إن معي لبصيرتي

ينبغي للمؤمن أن يكون ذا بصيرة في دينه ودنياه، وعليه أن يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله...


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

المقدمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله الطاهرين، أمّا بعد...

 

فإنَّه ينبغي للمؤمن أن يكون ذا بصيرة في دينه ودنياه، وعليه أن يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله, لتكون لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف، بين ما هو عدل وما هو ظلم، بين ما هو حقٌّ وما هو باطل, فيكون مصداقاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: "الْخَيْرُ مِنْه مَأْمُولٌ، والشَّرُّ مِنْه مَأْمُونٌ، إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ"[1] وبصيرته تهديه إلى الصراط المستقيم، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[2].


 


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران - قم، 1414ه‏، ط1، الخطبة رقم 193، من خطبة له عليه السلام يصف فيها المتّقين، ص305.

[2] سورة الملك، الآية 22.

 

6


1

المقدمة

والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يُمنةً ولا يُسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلِّها، الظاهرة منها والباطنة، وتَرْك المـُنهَيات جميعها كذلك.

 

وهذا الكتاب "إنَّ معي لَبصيرتي"، يبيّن معنى البصيرة وأهمِّيَّتها، ومكوِّناتها وموجباتها وموانعها، وكيفيَّة اكتسابها، ويشرح معنى الاستقامة، ويوضِّح سبلها، وموانع السير فيها، وآثارها، ومعنى الصراط المستقيم، مستفيداً ممَّا ورد في كتاب الله العزيز والسنَّة النبويَّة الشريفة، وأحاديث أهل العصمة والطهارة عليهم السلام، شارحاً كلامهم، ومبيِّناً رواياتهم بشكلٍ موجز ومتين، ومقسِّماً وعارضاً لاستنتاجاتٍ وخلاصات، بشكلٍ فنيٍّ ممنهج، يفي بوصول مضامين كلامهم عليهم السلام العالية إلى القارئ العزيز.

 

والحمد لله رب العالمين

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

7

 


2

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

الدرس الأوّل

 الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

 

محاور الموعظة:

• معنى البصيرة.

• أهمّيّة البصيرة.

• العامل على غير بصيرة.

• أعمى البصيرة في المفهوم القرآنيّ.

• تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

 

11


3

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

تصدير الموعظة:

روي عنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ: "الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً"[1].

 

معنى البصيرة

البصيرة هي القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الإنسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه، وهي ما نصطلح عليه اليوم ب(الوعي), فقد يكون الإنسان ذا بصرٍ حادّ، لكنّه ذو بصيرةٍ كليلة ضعيفة, ولذا يبيّن الله - جلّ وعلا - أنّ رؤية البصيرة أهمُّ بكثير من رؤية البصر، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[2].

 

يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "ذهاب البصر خير من عمى البصيرة"[3].


 


[1] الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي، صحّحَهُ وعلّق عليه عليّ أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1363ه. ش، ط5، ج1، ص43.

[2] سورة الحج، الآية 46.

[3] الواسطيّ، عليّ بن محمّد الليثيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، قم، ط1، ص 256.

 

13


4

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

أهمّيّة البصيرة

الشخص الذي يمتلك بصيرة، هو ذاك الإنسان العاقل الذي يَعي الواقع ويدركُه ويَعرِف الناس من حوله, أي إنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرِف، ما هو عدلٌ وما هو ظُلم، ما هو حقٌّ وما هو باطل، حسب تعبير الإمام عليّ عليه السلام: "الْخَيْرُ مِنْه مَأْمُولٌ والشَّرُّ مِنْه مَأْمُونٌ، إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ"[1], لأنّه مستقيم في فِكره وعمله.

 

وكما قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[2].

 

ومعنى الآية: منكّساً رأسه إلى الأرض, أي لا يُبصر الطريق، ولا من يستقبله، ولا ينظر أمامه ولا عن يمينه ولا عن شماله، فيعثر كلّ ساعة، ويخرّ على وجهه لوعورة طريقه واختلاف أجزائه انخفاضاً وارتفاعاً. فحاله نقيض حال من يمشي سويّاً،

 


[1] الرضيّ، السيّد محمّد بن حسين، نهج البلاغة،خُطَب الإمام عليّ عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران - قم، 1414ه‏، ط1، ص305، الخطبة 193.

[2] سورة الملك، الآية 22.

 

14


5

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

ولذلك قابله الله تعالى بقوله: ﴿أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا﴾, أي مستوياً قائماً يبصر الطريق وجميع جهاته، فيضع قدمه سالماً من العثار والخرور ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾, يعني مستوي الأجزاء والجهة. وقيل: "يراد الأعمى الَّذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسّف، فلا يزال ينكبّ على وجهه، وأنّه ليس كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي في الطريق المهتدي له"[1].

 

إنّ الذي يمشي سويّاً، ببصره وبصيرته، أهدى من المنكبّ على وجهه, لا ينتفع ببصره في المشي ولا ببصيرته, لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين, وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً. أما رأيتَ لو أنّ السائق غفل عن الطريق وشرد ذهنه إلى مكانٍ آخر، لم تنفعه عيناه في ضبط السَيْر حتّى يعود إلى وعيه؟ إذاً، فإنّ الاعتماد على البصر-حتّى في الأمور البصريّة - غير كافٍ, فأنت حينما ترى قصراً أثريّاً ترى منظره الخارجيّ، أي طراز البناء وشكله وهندسته، لكنّ


 


[1] الكاشانيّ، الملّا فتح الله، زبدة التفاسير، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1423ه، ط1، ج7، ص 133.

 

15


6

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

البصيرة تتدخّل لتنقلك إلى مَنْ بناه، ومَنْ سكنَه، لتحصل لديك حالة (الاعتبار) بالآثار.

 

الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

"الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً".

 

ومعنى الحديث: شبّه الإمام عليه السلام الجاهل العامل على غير بصيرة قلبيّة، ومعرفة يقينيّة بما يعلمه، بالسائر على غير الطريق المطلوب، تنفيراً بذلك التشبيه عن الجهل الموجِب لسقوط العمل عن درجة الاعتبار، وإيضاحاً للمقصود. وأشار إلى وجه التشبيه بقوله: "لا يزيده سرعة السَيْر إلاّ بُعداً", أي بُعداً عن المطلوب أو عن طريقه, إذ بُعده عن المطلوب بقَدر بُعدِه عن طريق ذلك المطلوب.

 

وسرّ ذلك، أنّ الطريق الذي يوصل إلى الحقّ هو طريق واحد، تحيط به طرق الباطل الكثيرة, فمن ضعفت بصيرته سوف تزلّ قدمه، ويختار طريقاً من طرق الباطل والضلال، وسوف يبتعد شيئاً فشيئاً عن طريق الحقّ.

 

 

16


7

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

أمّا العامل على بصيرة وهدًى، فهو يعمل بنور بصيرته وهديها، الذي يوصله إلى طريق الحقّ والهداية، فيترقّب أحوال نفسه، فيعرف ما يضرّه وما ينفعه، ليختار الثاني ويترك الأوّل، ثمّ يبقى على هذه الحالة، حتّى ينتهي طريقه ويحصل له القرب المطلوب، الذي هو لقاء الله تعالى[1].

 

أعمى البصيرة في المفهوم القرآنيّ

من المعروف أنّ المصطلحات تُعرَف بأضّدادها، فإذا عرفنا معنى "أعمى البصيرة" فسنعرف معنى البصيرة بشكلٍ أوضح، بل إنّ هذه الطريقة، أي معرفة الأشياء بأضّدادها، هي من الأساليب التربويّة التي اعتمدها القرآن الكريم في هداية الناس, أي لفْت الأنظار بذِكْر الموازنة بين الضّدين، وإثبات عدم المساواة بينهما ليأخذ بالقلوب نحو اختيار النافع والصالح، وترْك ما سِواه. وهناك آياتٌ كثيرة بيّنت هذا المفهوم، منها الآية السابقة، ومنها


 


[1] راجع: المازندرانيّ، محمّد صالح، شرح أصول الكافي، ج2، ضبط وتصحيح السيّد علي عاشور، مع تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 2000 م، ط1، ص 135.

 

17


8

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾[1], وغير ذلك من الآيات.

 

وإذا دقَّقنا النظر، في هذه الآية وغيرها من آي الذِّكر الحكيم، سنجد أنَّه لم يُرَدْ بالعمى - ولِنَقُل في أغلب الآيات القرآنيّة - المكفوف الذي ذهب بصرُه, وإنّما أُريدَ من العمى عمى البصيرة، أي العمى العقديّ، العمى المعنويّ، القلبيّ، الفكريّ، السياسيّ، وما شاكل ذلك.

 

تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾.


 


[1] سورة الإسراء، الآيتان 71 - 72.

 

18


9

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

يُستفاد من الآية الكريمة عدّة أمور، منها:

• المراد بإمام كلّ أناس في الآية، من ائتمّوا به، سواء كان إمام حقّ أو إمام باطل.

• المراد بالدعوة - على ما يُعطيه سياق الذيل - هو الإحضار, فهم محضرون بإمامهم، ثمّ يأخذ من اقتدى بإمامٍ حقّ كتابه بيمينه، ويظهر عمى من عَمِيَ عن معرفة الإمام الحقّ في الدنيا واتّباعه، هذا ما يُعطيه التدبُّر في الآية.

 

النتيجة

فالبصيرة مرجِعٌ لِرَفع الالتباس والغموض والحيْرة, أي إنّنا بحاجة إلى نور آخر نكشف به الظلمة العقليّة والروحيّة، وهذا النور هو ما نسمّيه (البصيرة) لرؤية الباطن.

 

من خلال البصيرة:

• يرى الإنسان حقائق الأشياء.

• يتوصّل المرء إلى مراد الله تعالى عبر العمل والطاعة ببصيرة، ومن دون هذه البصيرة لن يُفلح بذلك.

 

 

19

 


10

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

• يُدرك الإنسان الواقع بدقّة، فيحلّله بشكلٍ صحيح.

 

النقاط المستفادة من حديث: "العامل على غير بصيرة":

• طريق الحقّ واحد، وطُرُق الباطل متعدّدة.

• السَيْر على الطريق يحتاج إلى بصيرة كاشفة لمعالِمه، حتّى لا يتنكّب عن الطريق.

• أعمى البصيرة يتنكّب في سيَرْه عند أوّل الطريق، فلا تزيده كثرة السَيْر إلّا بُعداً.

 

 

20


11

الدرس الثاني: من هو البصير؟

الدرس الثاني

من هو البصير؟

 

 

محاور الموعظة

• وإنّ مَعي لَبَصيرتي.

• من هو البصير؟

• أعمى البصيرة في المفهوم القرآنيّ.

• تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

 

21


12

الدرس الأوّل: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ

تصدير الموعظة

قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "أَلَا وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَه واسْتَجْلَبَ خَيْلَه ورَجِلَه، وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي، مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي ولَا لُبِّسَ عَلَيَّ. وايْمُ اللَّه، لأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُه لَا يَصْدُرُونَ عَنْه ولَا يَعُودُونَ إِلَيْه"[1].

 

وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي

يُشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّ الشّيطان هو الباعث لهم[2] على مخالفة الحقّ، والجامع لهم على الباطل، بوسوسته وإغرائه وتزيينه الباطل في قلوبِهم، وأنّ هؤلاء أطاعوه وأجابوا دعوته وشاركوه في الدعاء إلى الباطل, فصاروا حزبه، قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ

 


[1] نهج البلاغة، خُطب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، الخطبة رقم 10 من خِطبة له عليه السلام يريد الشيطان أو يكّني به عن قوم، ص 54.

[2] المقصود بكلام أمير المؤمنين عليه السلام هم الناكثون.

 

23


13

الدرس الثاني: من هو البصير؟

وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا﴾[1], أي استخفِ من استطعت منهم أن تستفزّه بدعائك إلى الفساد.

 

ثمّ أشار عليه السلام إلى كمال عقلِه واستعدادِه بقوله: "وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي". يريد أنّ البصيرة التي كانت معي في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم تتغيّر.

 

ثمّ أكّد كمال عقلِه بالإشارة إلى عدم انخداعِه بخُدع الشّيطان، وبتلبيسه الباطل بصورة الحقّ، كما يلبِس على ذوي البصائر الضّعيفة وأُولي العقول السخيفة، سواء كانت مخادعته بغير وساطة، وهو المشار إليه بقوله: "مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي", أي لا يتلبّس على نفسي المطمئنّة ما تُلقيه إليها نفسي الأمّارة، أو بوساطة غيره، وهو المشار إليه بقوله: "ولَا لُبِّسَ عَلَيَّ", أي لم يحصل التلبيس عليّ من الخارج من جنود إبليس وأتباعه الذين تلقّفوا عنه الشّبه، وصار في قوّتهم أن يُلبِسوا الحقّ صورة الباطل[2].

 


[1] سورة الإسراء، الآية 64.

[2] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، المكتبة الإسلاميّة، إيران - طهران، 1400ه‏، ط4، ج3، ص 163.

 

24


14

الدرس الثاني: من هو البصير؟

والنتيجة المحصّلة من كلامه عليه السلام هو أنّي معي بصيرتي التي أُبصر بها الحقّ والهداية، وأفضحُ الباطل والضلالة "ما لبَّست ولا لُبِّس عليّ"، ما دلّستُ على أحد، ولا استطاع أحدٌ أن يُدلّس عليّ بسبب البصيرة التي أمتلكها, فمن يمتلك هذه القوّة النورانيّة لا يَخدع ولا يُخدع. وهذا يؤكّد أهمّيّة البصيرة في ردّ الشبهات وعدم الوقوع بالفِتن والانجرار وراء القوى الظلاميّة.

 

من هو البصير؟

من هو صاحب البصيرة عند الإمام عليّ عليه السلام؟

بيّن الإمام عليّ عليه السلام في خِطبة له صفات الغافلين. وفي مقارنة رائعة بين صفات الغافلين وصفات البصير الذي يُقابل الغافل، نستفيد الكثير من الصفات التي تحدّد من هو صاحب البصيرة عند أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال: "حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ واسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِيبِ غَفْلَتِهِمُ، اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً واسْتَدْبَرُوا مُقْبِلًا، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ ولَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ. إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ ونَفْسِي هَذِه

 

25

 


15

الدرس الثاني: من هو البصير؟

الْمَنْزِلَةَ، فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِه, فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، ونَظَرَ فَأَبْصَرَ، وانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً[1]، يَتَجَنَّبُ فِيه الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي والضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي، ولَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِه الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ"[2].

 

أي بعد حصول العِلْم لديه وفهمه لِما رآه وسمِعَه، فإنّه يعمل بما عَلِم ويختار الطريق الواضحة في سَيْره ويتجنّب الطُرُق المظلِمة, أي لايتبَع هواه فيهوى، لأنّ اتّباع الهوى يُردي.

 

ولِفَهْم من هو الإنسان البصير، لابدّ من ملاحظة الأمور الآتية:

أوّلا: الإمام عليّ عليه السلام صدّر هذا الفصل من الخِطبة ببيان صفة الغافلين عن أحوال الآخرة، والمتوغّلين والمشمّرين في طَلَب الدنيا.


 


[1] الجدَدَ - بفتحتين -: الأرض الصلبة المستوية التي يسهُل المشي فيها. ويتنكّب: عدَل وتجنّب. والغُواة - بالضم -: جمع غاوي اسم فاعل من غوى. وتعسّف في الحقّ أو القول: أخذه على غير هداية، أو حملَه على معنى لا تكون دلالته عليه ظاهرة.

[2] نهج البلاغة، خُطَب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، الخطبة 15، صفات الغافلين، ص 214.

 

26


16

الدرس الثاني: من هو البصير؟

ثانياً: حذّر الإمام عليّ عليه السلام من خطورة الغفلة، وهي من أشدِّ الحُجُب المانعة من التوجُّه إلى الله تعالى وأشبه بغطاءٍ على بصيرة الإنسان المؤمن.

 

ثالثاً: "إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ ونَفْسِي هَذِه الْمَنْزِلَةَ": أراد بها الحالة التي كان الموصوفون عليها من الغفلة والجهالة، وتشريك نفسه عليه السلام معهم في التحذير تطييباً لقلوب السامعين وتسكيناً لنفوسهم, ليكونوا إلى الانقياد والطاعة أقرب، وعن الإباء والنفرة أبعَد.

 

رابعاً: "فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِه": بأن يصرِفها فيما صرفها فيه أولوا الأبصار والفِكر، ويوجّهها إلى ما وجّهها إليه أرباب العقول والنظَر، وإليه أشار بقوله: (فإنّما البصير), "أي العارف بما يُصلِحُه ويفسِدُه والخبير المميّز بين ما يضرّه وينفعه"[1], لأنّه لا ينتفع بنفسه إلَّا البصير.

 

ثم شرَع عليه السلام ببيان صفات البصير. فالبصير عند الإمام عليّ عليه السلام فيه الصفات الآتية:


 


[1] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، مصدر سابق، ج9، ص 212.

 

27


17

الدرس الثاني: من هو البصير؟

الأوّل: ما ينفع المرء ويُصلحه

سَمِعَ فَتَفَكَّرَ: لا يكفي أن نستخدم أسماعنا كآلة مادّيّة، بل لا بدّ أن تقودنا هذه الالآت إلى التفكُّر الذي أمرَنا به القرآن الكريم في تضاعيف آياته الكريمة الذي يوصِلُنا إلى المعرفة.

 

ونَظَرَ فَأَبْصَرَ: أي استخدَم النظَر بطريقة صحيحة، فأوصلته إلى الإبصار، وبات يرى بعيْن حسّه وبصيرته, فيتوخّى المقاصد النافعة، فيُبصرها ويُدرك بعقله منها العِبَر.

 

وانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ: إنّ من استخدَم أدوات المعرفة بشكلٍ صحيح، فهو ينتفع بالعِبَر، وأصحاب البصيرة هم من يستفيدون من العِبَر.

 

سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً: إنّ من كانت صفاته ما تقدّم، فلن يمشي إلّا على أرضٍ صلْبة، وهو كناية عن المنهج المتّبَع, لأنّ أدوات المعرفة السابقة لا تكفي حتى تتشكّل لدينا الرؤية الصائبة والواضحة، إذ لا بدّ من منهج أو منظومة فكريّة شاملة نرجع إليها في التشخيص المــُـبْهم والمـُلْتَبس، وتحديد خياراتنا في ضوئِها.

 

28

 


18

الدرس الثاني: من هو البصير؟

يَتَجَنَّبُ فِيه الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي والضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي: وهذه نتيجة طبيعيّة لـِمَـن كان على بصيرة من أمرِه, فهي تجنّبُه الصرعة، أي الوقوع في البليّة في المهوى. ومعنى كلامه "المهاوي".

 

مأخوذ من المثل السائر: "من سلَك الجدَد، أَمِن العثار"، ومعنى الجدَد: الأرض المطمئنّة المستوية، قال الهروىّ: "جعل العرب سلوك الجدَد مثلاً لترك التصدّي للمهالك والتعرّض للمتالف, لأنّ الإنسان إذا لم يسلك إلّا الجدَد، أمِن العثار. ويُضرب هذا المثل فى طَلَبِ العافية"[1].

 

الثاني: ما يضرّ المرء ويفسِدُه

ولَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِه الْغُوَاةَ: جمع "غاوٍ"، وهو الضالّ عن طريق الهداية، أي لا يعينهم، باتّباع طريقهم، على ضدّ نفسه وهلاكها. الغواة هم الذين لا يرعوون عن الغيّ، وهو خِلاف الرُشْد فيما يتعلّق بالأمور الآتية:


 


[1] عليّ بن زيد البيهقيّ، معارِج نهج البلاغة، تحقيق محمّد تقي دانش پژوه، مكتبة آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّ، قُم المقدّسة، 1409ه، ط1، ص 250.

 

29


19

الدرس الثاني: من هو البصير؟

بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ: "فينبغي مراعاة الناس وقدراتهم بما يتعلّق بهذه الدرجات, فإنّ حمله على غير أهله قد يوجب النفور ممّن يقوله ويأمر به. وقد يكون المراد من التعسّف في الحقّ، التقصير في العمل به لعدم القدرة على تحمّله، والضعف عن أدائه، فسيتدخل الغواة - وهم تاركو الحقّ - ذلك، فكأن قد أعانهم على نفسه"[1].

 

أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ: أي يحرّف الكَلِم عن مواضعه، ويَكذِب مداراةً لهم ومنازلة أذواقهم، كأَنْ يقبَل بتحريف الكتاب أو السُّنّة سواء كان تحريفاً لفظيّاً أو معنويّاً.

 

أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ: أي يتكلَّف الخوف من قول الصّدق، وإن لم يكن خائفاً في الواقع، وعَود ضرَر التّحريف والتّخوف على المحرّف والمتخوّف لاستلزامها مداهنة الغواة، وقد ذمّ الله أقواماً بترك الصّدق والجهاد في الحقّ بقوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ﴾. "فاللَّازم على المرء أن لا تأخُذُه


 


[1] راجع: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، مركز النشر مكتب الاعلام الاسلامي - الحوزة العلميّة، إيران - قم، 1362 ش، ط1، ج3، ص 242.

 

30


20

الدرس الثاني: من هو البصير؟

في الله لومةَ لائم، ولا يكون له من ردْع من خالَف الحقّ وخابَط الغيّ وزجَره من أوهانٍ ولا إيهان"[1].

 

الدنيا منتهى بَصَرْ الأعمى

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى، لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً. والْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، والأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، والْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، والأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ"[2].

 

إنّ الغرَض من كلام الإمام هو التنفير من الدّنيا، وتوبيخ من قصُرَ نظره إليها, فاستعار وصْف الأعمى، وهو المستعار منه، للجاهل، وهو المستعار له. وإنّ الجامع بين العمَى والجهل هو قصور الجاهل عن إدراك الحقّ، كقصور عادم البصر عن إدراك المـُبصرات, وأمّا المستعار منه - أعني معدوم البصر- فهو لا يُبصر أصلاً، وهو تذييل لِكَوْن الدّنيا منتهى

 


[1] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، مصدر سابق، ج9، ص 214.

[2] نهج البلاغة، خُطَب الإمام عليّ عليه السلام، مصدر سابق، 132 ومن خِطبة له يَعِظ فيها ويَزْهَد في الدنيا، ص192.

 

31


21

الدرس الثاني: من هو البصير؟

بصره، وتوضيح وتفسير لها, والمقصود أنّ الجاهل لِكَوْن همّته مصروفة معطوفة إلى الدّنيا مقصورٌ نظرُه إليها غافلٌ عمّا عداها، غير ملتَفِت إلى أنّ وراءها الآخرة، وهى أوْلى بأن تُصرَف إليها الهِمم بما فيها ممّا تشتهيه الأنفُس وتلذّ الأعيُن من مزيد العوائِد والفوائِد والنِّعَم.

 

عمَى البصر وعمَى البصيرة

عمَى البصر: هو عمًى جزئيّ، يَفقد الإنسان فيه حاسّة النظَر، وقد تجد لديه قوّة في إحدى حواسِّه الأخرى، ومع ذلك فهو يُدرِك إصابته.

 

عمَى البصيرة: هو عمًى كلّيّ، يَفقد الإنسان فيه جميع حواسِّه دون أن يشعر، فالإصابة تكمن في مركز التحكُّم في الجسد، وهو القلب.

 

قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ في الجسد مُضغة، إذا صلُحَت صَلُح الجسد كلّه، وإذا فَسُدَت فَسُد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"[1].


 


[1] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لِدُرَر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج58، ص 23.

 

32


22

الدرس الثاني: من هو البصير؟

والمعنى: إنّ فساد القلب وميْله إلى الدنيا سيىؤدّي إلى فساد الأعضاء وعدم استخدامها فيما يرضي الله تعالى، وإذا صلُحَ القلب ومال إلى الحقّ، وصحّت الجوارح والأعضاء الظاهرة، صدرت منها الأعمال الصالحة.

 

 

33


23

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

الدرس الثالث

مكوّنات البصيرة

 

محاوِر الموعظة:

• مكوّنات البصيرة الإيمانيّة, الأصول الأساسيّة.

• مكوّنات البصيرة الإيمانيّة, الفروع والروافد.

 

35


24

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

تصدير الموعظة

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾[1]، وقال: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾[2].

 

كيف تتكوّن البصيرة الإيمانيّة؟

البصيرة الإيمانيّة هي التي تُضيء للإنسان المؤمن طريقه وتُبصّره العثرات التي تمنعه من السَيْر على الصراط المستقيم. وإنّ عمل البصيرة في القلب، هو أشبه بالكاشف الضوئيّ الذي يستعمله الإنسان في الظُلْمة الحالِكة لكي يرى طريقه ولا يتعثّر في مَشْيِه. فالبصيرة هي ذلك النور الذي يقذفه الله تعالى في قلوب المؤمنين المخلصين، والتي لا تتعلّق قلوبهم إلّا بالله تعالى، فيفرّقون بها بين الحقّ والباطل ويرَوْن النور نوراً

 


[1] سورة الحديد، الآية 28.

[2] سورة الأنفال، الآية 29.

 

37


25

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

والظُلْمة ظُلْمة. البصيرة هي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، فيرى الدنيا من غير زينة وزُبرج, أي كما زيّنها الشيطان للغاويْن، أو كما زيّنها هوى النفس في الأنفُس الضعيفة.

 

وهناك عدّة عوامل تُسْهِم، مجتمعةً، في تكوين البصيرة والوعي لدى الإنسان, وهو ما سنطرحه في هذا الدرس.

 

مكوّنات البصيرة الإيمانيّة، الأصول الأساسيّة

1- أدوات المعرفة طريق إلى الله:

إنّ الإنسانَ يُولَدُ كصفحةٍ بيضاء خاليةً من أيّ معارف أو علوم، وإنّما يحمل في ذاته الاستعداد لتلقّي هذه المعارف والعلوم، وهي الفطرة، وذلك كما قال الله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1].

 


[1] سورة النحل، الآية 78.

 

38


26

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

وعلى الإنسان أن يجعل هذه الحواسّ في مجال طاعة الله تعالى.

 

وقد بيّن القرآن الكريم أنّ تعطيل الحواسّ عن المعرفة الحقّة بالله تعالى يُلحِق الإنسان بالحيوانات، وربّما يكون شرّاً منها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[1]، فهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية, فشبّههم - سبحانه - بالأنعام التي لا تنتفع بهذه الحواسّ، بل هم أضلّ من الدواب, لأنّها قد تستجيب لراعيتها إذا دعاها، وإن لم تفقَه كلامه بخلاف هؤلاء، ولأنّها تفعل ما خُلقت له، إمّا بطبعها، وإمّا بتسخيرها, بخلاف الكافر أو الفاسق، فإنّه خُلِق ليعبد الله فكفَر وأشرَك، أو استخدم حواسّه في المعصية.

 


[1] سورة الأعراف، الآية 179.

 

39


27

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

2- الاهتداء بهَدْي الثقَلين:

مع أهمّيّة أدوات المعرفة السابقة، فهي لا تكفي حتى تتشكّل لدينا الرؤية الصائبة والواضحة, إذ لا بدّ من منهج أو منظومة فكريّة شاملة نرجع إليها في تشخيص الأمور المـُبهمة والمـُلتَبِسة، وتحديد خياراتنا المصيريّة والحسّاسة على ضوئها. ولا بدّ أن يكون هذا المنهج غير قابل للخطأ، وإلّا لا يصحُّ التمسُّك والاهتداء به. ولا يتوفّر هذا المنهج إلّا في رسالات السماء ومناهج الأنبياء عليهم السلام، والتي أعظمها وأهمّها منهج النبيّ الأعظمصلى الله عليه وآله وسلم المتمثّل باتّباع الثقلَين، وهما القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والآل عليهم السلام.

 

وفي وصيّة الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم: "يا هِشَامُ، مَا بَعَثَ اللَّه أَنْبِيَاءَه ورُسُلَه إِلَى عِبَادِه إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللَّه, فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً، وأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّه أَحْسَنُهُمْ عَقْلاً، وأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ. يَا هِشَامُ، إِنَّ لِلَّه عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ، حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ عليهم السلام..."[1].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 16.

 

40


28

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

3- التجربة:

التجارب، سواء كانت شخصيّة عشتها بنفسك، أو قام بها غيرك، فهي معلّم ناجح ومفيد. والناجحون هم الذين استفادوا من تجاربهم الفاشلة والناجحة على حدٍّ سواء.

 

ولذا، وردت عدّة روايات عن الإمام عليّ عليه السلام تفيد أهمّيّة التجربة، وإنّها من المصادر التي تكوِّن المعرفة والوعي عند الشخص، وبالتالي البصيرة.

 

قال عليه السلام : "في التجارب علم مُستأنف"[1].

 

وعنه أيضاً: "التّجارِبُ علمٌ مُستفادٌ"[2]. وقال عليه السلام لابنهِ عليه السلام: "فَبادَرْتُك بِالأَدَبِ قَبْل‏أَنْ يَقْسوَ قلبُكَ وَيَشتغِلَ لُبُّكَ, لتَستَقْبِلَ بجِدِّ رأيِكَ من الأمرِ ما قَد كَفاكَ أهلُ التَّجارِبِ بُغيَتَهُ وتَجرِبَتَهُ، فتكونَ قد كُفِيتَ مَؤونَةَ الطَّلَبِ وعُوفِيتَ مِن عِلاجِ التَّجرِبَةِ"[3].


 


[1] المصدر نفسه، ج8، ص 22.

[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 43.

[3] نهج البلاغة، خُطب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، رقم31 ومن وصيّة له عليه السلام للحسن بن عليّ عليه السلام، كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين، ص 393.

 

41


29

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

وقال عليه السلام: "مَن لَم يُجَرِّبِ الأُمورَ خُدِعَ، ومن صارع الحقّ صُرع"[1].

 

وقال عليه السلام: "مَن أحْكَمَ التَّجارِبَ سَلِمَ مِن المَعاطِبِ"[2].

 

وقال: "مَن غَنِيَ عَنِ التَّجارِبِ عَمِيَ عنِ العَواقِبِ"[3].

 

وقال: "رأيُ الرّجُلِ على قَدْرِ تَجرِبَتِهِ"[4].

 

4- توطيد العلاقة بالله تعالى (حبّ الله):

لا شكّ أنّ أدوات المعرفة من سَمْع وبصَرٍ وعقل، والمنهج الفكريّ والعمليّ الذي تمثّله العقيدة والشريعة والاهتداء بالثقَلين، والتجارب الإنسانيّة التي تمثّل حركة الإنسان في الحياة، كلّها تُسهم في صناعة الوعي والبصيرة، وتشييد أركانهما وتوطيدهما، لكنّ العلاقة الوطيدة مع الله عزّ وجلّ، سواء من خلال معرفته وحبّه وطاعته، أو من خلال اتّباع ما جاء به أنبياؤه، تفتح للبصيرة آفاقاً أوسع وأرحب، وهي من أهمّ


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص 420.

[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 431.

[3] المصدر نفسه، ص 461.

[4] المصدر نفسه، ص 269.

 

42


30

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

الأمور في تشكيل البصيرة، ومن دونها لا تُحقَّق البصيرة, لأنّها إفاضة نورانيّة من الله وتُفاض على العبد حينما يوطّد علاقته بالله تعالى، فإذا تأمّلنا الآيات الكريمة الآتية:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[1], والهداية إلى السُبُل بصيرة.

﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ﴾[2], والتقوى والورع بصيرة.

﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[3], والإيمان بصيرة.

 

مكوّنات البصيرة الإيمانيّة، الفروع والروافد

1- معرفة الزمان:

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "العالِمُ بِزَمانِهِ لا تَهجُمُ عَلَيهِ اللَّوابِسُ"[4]، واللوابس هي المـُبهمات أو المـُلتبسات من الأمور التي تحصل نتيجة عدم وضوح الرؤية


 


[1] سورة العنكبوت، الآية 69.

[2] سورة البقرة، الآية 282.

[3] سورة الكهف، الآية 13.

[4]الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 27.

 

43


31

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

وغياب القدرة على التشخيص، وكان يُقال لفاقد البصيرة: (إنّك ملبوس عليك), أي إنّ الالتباس قد غطّى على عينَي عقلك, فلم يَعُد يبصر أو يميّز جيِّداً.

 

2- التمييز بين الحقّ والباطل:

قد تلتبس الأمور والأشخاص والعناوين على بعض الأشخاص لأنّ قدرته على الفرز والتشخيص بين مَنْ هو صادق ومَنْ هو كاذب، أو مَنْ هو على حقّ ومَنْ هو على باطل، ضعيفة, لذلك تراه يقع فريسة الخداع والتضليل.

 

قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "لا يُعرف الحقّ بالرجال، بل يُعرف الرجال بالحقّ"[1]. فالمقياس هو الحقّ. نعم، يصبح الرجل مقياس الحقّ عندما يكون هو عين الحقّ، كما في قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يُبغض من عباده المائلين عن الحقّ، والحقّ مع عليّ، وعليّ مع الحقّ، فمن استبدل بعليّ غيره هلَك، وفاتته الدنيا والآخرة"[2].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج40، ص126.

[2] شاذان بن جبرئيل القمّيّ (ابن شاذان)، الروضة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، تحقيق علي الشكرچيّ، لا.ن، لا.م، 1423، ط1، ص 178.

 

44


32

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

3 - الحُكم بالدليل والبيّنة:

أصحاب البصائر هم أصحاب حُججٍ وبراهين وشواهد مُقنِعة، فهم لا ينطلقون إلّا من وعي ولا يتحرّكون إلّا بوعي، ولا يحكمون إلّا بدليل، ولا يشهدون إلّا على ما رأَوه بأمّ أعينهم.

 

قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[1].

 

قال تعالى في تفنيد عقائد الكفّار: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾[2].

 

4- التمييز بين (السماع) و(الرؤية):

بعض الناس يصدّقون كلّ ما يسمعون، ويسلّمون بكلّ ما يصل إلى أسماعهم، ويثقون بكلّ قَوْل من دون تمحيص ولا فحص دقيقٍ، لا للقائل ولا للقَوْل.

 


[1] سورة الإسراء، الآية 36.

[2] سورة الأنعام، الآية 116.

 

45


33

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

عن ميسر بن عبد العزيز، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام، وهو يقول: "سُئل أمير المؤمنين عليه السلام: كم بين الحقّ والباطل؟ فقال: أربع أصابع، ووضع أمير المؤمنين يده على أذنه وعينيه، فقال: ما رأتْهُ عيناك فهو الحقّ، وما سمِعَتْهُ أذناك فأكثرُه باطل"[1].

 

5- أن لا تكون "إمّعة":

لا يمكن أن تكون بصيراً واعياً، وأنت مكبّل تعيش الانقياد والتبعيّة لغيرك, فالوعي يتطلّب الهواء الطلق ليتنفّس فيه, لأنّ كلام الناس وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم تشكّل ضغوطاً وشروطاً قاهرة تَحُدُّ من حريّة التفكير واستقلاله. وإذا حدّدت الحريّة أو قيّدت البصيرة، فإنّها تكون بين خيارين: إمّا أن تُطفئ أنوارها لِتَغُطَّ في الظلام، وإمّا أن تكون "إمّعة" تساير الناس، والمسايرة انقياد أعمى وليس بصيرة.

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص 236.

 

46


34

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قال لرجل من أصحابه: "لا تكونّن إمّعة[1]، تقول: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس"[2].

 

6- الاختبار والتمحيص والفحص:

قال الحُكماء: وَجَبَ اختبار الرجل، ثمّ اختياره للصداقة, إذ اختياره قبل اختباره يجرّ سريعاً إلى وحشة الفراق وذلّ الانكسار، ثمّ بعد اختياره لا بدّ من الحزم وعدم الوثوق به كلّ الوثوق, فلا يظهر عليه جميع الأسرار، بل يحفظ منها ما يخاف اللوم وسوء العاقبة من إفشائه وانتشاره.

 

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام: "لا تسمِّ الرجل صديقاً، وسمّه معرفة، حتى تختبره بثلاث خصال: حتى تُغضِبه فتنظر غضبه يخرجه من حقّ إلى باطل، وتسافِر معه، وتخبره بالدينار والدرهم"[3].

 

 


[1] الإمّعة مخفّف "أنا معه".

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1379ه - 1338 ش، لا.ط، ص266.

[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، مصادقة الإخوان، إشراف السيّد عليّ الخراسانيّ الكاظميّ، مكتبة الإمام صاحب الزمان العامّة، لا.ت، لا.ط،ص72.

 

47


35

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

وعنه عليه السلام: "لَا تَثِقْ بِأَخِيكَ كُلَّ الثِّقَةِ, فَإِنَّ صِرْعَةَ الِاسْتِرْسَالِ لَنْ تُسْتَقَالَ"[1].

 

معنى الاسترسال الاستيناس والانبساط والطمأنينة فيما يحدث. والاستقالة هي طلب فسخ البيع، وهذا كمثل يُقال لمن دخَل في أمر من غير تأمُّل ورويّة، فوقع في مِحنة وبليّة، لا طريق إلى دفعِها وإقالتها، ولا سبيل إلى علاجها وإزالتها[2].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، بَابُ النَّوَادِرِ، ح 6، ص 672.

[2] محمّد صالح المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج11، ص 161.

 

48


36

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

الدرس الرابع:

 موجِبات البصيرة

 

محاور الموعظة:

• موجِبات البصيرة.

• موجِبات النور.

• موجِبات العمَى.

 

49


37

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

تصدير الموعظة

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اتّقوا فراسة المؤمن, فإنّه ينظر بنور الله".

 

موجبات البصيرة

1- التقوى:

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "...إِنَّ تَقْوَى اللَّه دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ، وبَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ، وشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ، وصَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ، وطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ، وجِلَاءُ عَشَا أَبْصَارِكُمْ، وأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ، وضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ..."[1].

 

يُبيّن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الخِطبة الشريفة ثِمار التقوى، فإنّ للتقوى ثماراً ومنافع عظيمة، منها ما هو مرتبط بموضوع بحثنا بالبصيرة، ومنها ما هو أعمُّ من ذلك. ومن هذه الثمار المرتِبطة بالبصيرة قوله: وبَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ, أي أبصار أفئدتكم من عمَى الجهل.


 


[1] نهج البلاغة، خُطب الإمام عليّ عليه السلام (تحقيق صالح)، مصدر سابق، الخطبة رقم 198 ومن خِطبة له ينبّه على إحاطة عِلْم اللَّه بالجزئيّات، ثمّ يحثّ على التقوى، ويبيّن فضل الإسلام والقرآن، ص 313.

 

51


38

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

بيان ذلك: إنّ حصول وصف العمى للأعمى لمّا كان موجباً لعجزه عن إدراكه للمحسوسات، وسبباً لضلاله عن الطريق، فكذلك حصول هذا الوصف للأفئدة الناشىء من اتّباع الهوى والانهماك في الشهوات، موجِبٌ لقصورها عن إدراك المعقولات، وعن الاهتداء إلى الصراط المستقيم. وكما أنّ بحسّ البصر يرتفع عمى الأبصار الظاهرة، ويحصل إدراك المحسوسات، فكذلك بالتقوى يرتفع عمى الأفئدة ويتمكَّن من إدراك المعقولات ويُهتدى إلى الصراط المستقيم، لكونِها مانعة من متابعة الهوى وانهماك الشهوات الموجِبَين لعماها، وهذا معنى كونها بصراً لعمى أبصار الأفئدة.

 

النتيجة: فكلّما طَهُر الإنسان وتجذّرت في نفسه مَلَكة التقوى، ازدادت بصيرته نفاذاً، وازداد توقُّداً.

 

2- ذِكْر الله تعالى:

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[1].

 


[1] سورة الأنفال، الآية 2.

 

52

 

 


39

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

ذِكْر الله عزّ وجلّ وعلاقته بالبصيرة:

يقول الإمام علي عليه السلام: "مَن ذَکَرَ اللَّهَ اِستَبصَر"[1].

 

عنه عليه السلام: "الذِّكرُ هِدايَةُ العُقولِ، وتَبصِرَةُ النُّفوسِ"[2].

 

عنه عليه السلام: "الذِّكرُ نورُ العَقلِ، وحَياةُ النُّفوسِ، وجِلاءُ الصُّدورِ"[3].

 

عنه عليه السلام: "الذِّكرُ يُؤنِسُ اللُّبَّ، ويُنيرُ القَلبَ، ويَستَنزِلُ الرَّحمَةَ"[4].

 

عنه عليه السلام: "الذِّكرُ جِلاءُ البَصائِرِ، ونورُ السَّرائِرِ"[5].

 

عنه عليه السلام: "ثَمَرَةُ الذِّكرِ استِنارَةُ القُلوبِ"[6].

 

3- الموعظة:

عن الإمام عليّ عليه السلام: "المَواعِظُ صِقالُ النُّفوسِ وجِلاءُ القُلوبِ"[7].

 

 


[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 429.

[2] التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، تصنيف غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، تحقيق وتصحيح مصطفى درايتيّ، ‏ مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1407ه‏، ط1، ص 189.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه.

[7] المصدر نفسه، ص 224.

 

53


40

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

وعنه عليه السلام في كِتابِهِ إلَى ابنِهِ الحَسَنِ عليه السلام: "أحيِ قَلبَكَ بِالمَوعِظَةِ"[1].

4- التفكُّر:

يقول الإمام عليّ عليه السلام: "مَن تَفَکَّرَ أبصَر"[2], أي أدرك بِعيْن بصيرته حقائق الأمور وعواقبها.

 

والمراد بالتفكُّر هنا هو ما وصفه الإمام عليه السلام بقوله: "والْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ"[3], المـُراد بالفِكر هنا القوّة المدركِة العاقلة التي إذا أعملَها الإنسان بعيداً عن الهوى والمحاكاة دلّت على الحقّ والصواب، وكنّى الإمام عليه السلام عن هذه الدلالة الصادقة بالمرآة الصافية التي تعكس الشيء كما هو في واقعه[4].

 

وفي الروايات الشريفة أنّ العبادة الأساسيّة هي التفكُّر، وأنّ هذا النوع من العبادة يؤدّي إلى زيادة البصيرة.


 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 392.

[2]المصدر نفسه، ص 402.

[3] المصدر نفسه، حِكَم أمير المؤمنين عليه السلام، حكمة رقم 5، ص469.

[4]محمّد جواد مغنيّة، في ظلال نهج البلاغة، انتشارات كلمة الحقّ، إيران، 1427، ط1، ج4، ص 219.

 

54


41

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: "لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ والصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ"[1].

 

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلَبِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قال: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يقول: "بِالْعَقْلِ اسْتُخْرِجَ غَوْرُ الْحِكْمَةِ، وبِالْحِكْمَةِ اسْتُخْرِجَ غَوْرُ الْعَقْلِ، وبِحُسْنِ السِّيَاسَةِ يَكُونُ الأَدَبُ الصَّالِحُ، قَالَ: وكَانَ يَقُولُ: التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ، كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ وقِلَّةِ التَّرَبُّصِ"[2].

 

"يعني أنّ التفكّر والتأمّل في الحوادث الواردة وتمييز الحقّ منها عن الباطل، والخطأ من الصواب "حياة", أي مُحيي لقلب البصير العاقل، أي ذو البصيرة الثاقبة، وكون التفكّر حياة لقلبه أنّه باعث له وحامل إيّاه على سلوك طريق الحقّ

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 55.

[2]ا لمصدر نفسه، ج1، ص 28.

 

55


42

الدرس الثالث: مكوّنات البصيرة

وجادّة الصواب سلوكاً كسلوك "الماشي في الظلمات بالنور", أي بذي النور، من مشعلٍ ونحوه، مع "حُسن التخلّص" من تلك الظلمات، أي اجتناب العوالي والوِهاد والوَعِر والحزن".

 

"وقلّة التربّص" والمكْث، أي إسراع الخروج من تلك الظلمات, فإنّه، وإن كان معه نور، لكنّه لا يأمن بسلوك العوالي والوِهاد وطول المكْث أن يُطفَئ ذلك النور الذي معه، فيبقى حيراناً لا يدري أين يذهب، كذلك العاقل البصير إذا وردت عليه الحوادث والشبهات، ولم يُعمل الفِكر في دفعها، ولم يُحسن التخلّص منها، باجتناب طرق الضلالة والتمسّك بسفن النجاة، ولم يُسرِع لذلك، بل تأنّى بحيث يستولي الشبه على قلبه، وتستحكم اللوابس في لبّه، فإنّه لا يأمن بذلك أن يُطفَئ نور عقله ويُخمد الهوى نبراس لبّه[1].

 

وهناك ترابطٌ واضح كما تقدّم بين البصيرة والنور, فإذا صحّ التعبير ممكن القول، إنّ البصيرة من مقولة النور فيمكن من

 


[1]العلويّ العامليّ، أحمد بن زين العابدين‏، الحاشية على أصول الكافي، تحقيق وتصحيح الحسينيّ الأشكوريّ، دار الحديث‏، إيران - قم‏، 1427ه‏، ط1، ص 54.

 

56


43

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

خلال هذا الترابط مراجعة الآيات والروايات التي تحدّثت عن موجبات النور تكون هي بنفسها موجبات البصيرة، وموجبات العمى أو الظُلمة هي موجبات عدم البصيرة، ونطرح نماذج من هذه العناوين:

موجبات النور - البصيرة

ومن موجبات النور، في الدنيا والآخرة، بحسب ما أفادت الروايات الشريفة:

1- تقوى الله: وقد تقدّم الكلام على التقوى ودورها في البصيرة.

 

2- الصلاة: وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصَّلاةُ نورُ المُؤمِنِ، والصَّلاةُ نورٌ مِنَ اللهِ"[1].

 

3- تلاوة القرآن: فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "عَلَيْكَ‏ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ‏، وَذِكْرِ اللَّهِ عزّ وجلّ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ، وَنُورٌ لَكَ فِي الْأَرْض"[2].

 

4- صلاة الليل: عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "ما تركتُ


 


[1] الميرزا النوريّ، حسين بن محمّد تقيّ‏، مُستدرَك الوسائل ومُستنبَط المسائل‏، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1408ه‏، ط1، ج3، ص 92.

[2]الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأماليّ، دار الثقافة، إيران - قم، 1414ه‏، ط1، ص 541.

 

57


44

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

صلاة الليل منذ سمعت قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الليل نور"، فقال ابن الكوّاء: ولا ليلة الهرير؟ قال: "ولا ليلة الهرير"[1].

 

5- تَرْك فضول الكلام: وهو مادّة أكثر أحاديث الناس في مجالسهم، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "أكثِر صمْتك يتوفّر فِكْرك، ويستَنِر قلبك، ويسلَم الناس من يديك"[2].

 

6- تجنّب ظُلم الآخرين: والآخرون المقصودون بالظلم يمكن أن يكونوا الأهل أو الزوجة أو الأولاد أو الجيران لتضييع حقوقهم أو عموم الناس عند عدم مراعاة الحقّ والعدل والإنصاف معهم، روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحبُّ أن أحشرَ يوم القيامة في النور، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تظلم أحداً تُحشر يوم القيامة في النور"[3].

 


[1] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، مصدر سابق، ج1، فصل في المسابقة بصالح الأعمال، ص 388.

[2] التميميّ الآمديّ، تصنيف غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، مصدر سابق، ص 216.

[3] ميزان الحكمة، محمّد الريشهريّ، ج4، نور المؤمنين في القيامة، ص 339.

 

58


45

الدرس الرابع: موجِبات البصيرة

موجِبات العمى - عدم البصيرة

ما يُوجب العمى يوم القيامة هو كلّ إعراض وصدود عن شرع الله وحُكمِه وعدم العمل بكتاب الله وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واتّباع أهل البيت عليهم السلام في كلّ شؤون الحياة.

 

وهناك روايات شخّصت بعض موارد هذا الإهمال للأوامر الإلهيّة الموجِب للعمى، منها:

ترْك الحجّ وهو مستطيع: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ وهُوَ صَحِيحٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ، فَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[1], قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّه! أَعْمَى؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَعْمَاه عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ"[2].

 


[1] سورة طه، الآية 124.

[2]الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، بَابُ مَنْ سَوَّفَ الْحَجَّ وهُوَ مُسْتَطِيعٌ، ح6، ص 269.

 

59


46

الدرس الخامس: موانع البصيرة

الدرس الخامس

موانع البصيرة

 

محاور الموعظة:

• الموانع الخارجيّة.

• الموانع الداخليّة.

 

61


47

الدرس الخامس: موانع البصيرة

تصدير الموعظة

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وإيَّاكَ والإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وحُبَّ, الإِطْرَاءِ, فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِه، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ..."[1].

 

موانع البصيرة

وموانع البصيرة متعدّدة، منها: حبّ الدنيا، السعي وراء الشهوات والملذّات، الفِتن والشُبهات، الغفلة، الأماني، وغير ذلك. ويمكن احتساب كلّ ما هو مضادّ للنور والبصيرة أنّه من موانع البصيرة، وإن كانت مانعيّته تختلف باختلاف درجته.

 

القسم الأوّل: الموانع الخارجيّة

1- الفِتنة واشتباه الحقّ بالباطل:

إنّ الفِتن بطبيعتها تعمل على حَجْب عيون البصيرة فتعميها، تمنعها من العمل أصلاً، أو بالحدّ الأدنى تُضعف قدرتها.

 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 53 من كتاب له عليه السلام كتبَهُ للأشتر النخعيّ – لمـّا ولّاه على مصر وأعمالها حين اضّطرب أمْرُ أميرها محمّد بن أبي بكر، وهو أطول عهْد كتبَه وأجمعه للمحاسن، ص 443.

 

63


48

الدرس الخامس: موانع البصيرة

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه. فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ[1] ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو -الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى"[2].

 

إنّ الفتنة تقع حينما يختلِط الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ، ويغدو التمييز بينهما دقيقٌ وصَعْب للغاية, لأنّه في مثل هذه الظروف لا تكون الأمور واضحة المعالِم, بمعنى أن يكون الحقّ في جهة والباطل في جهة أخرى. وما على الإنسان إلّا اتّباع الحقّ أو الباطل، بل تكون الأمور مختلَطة وغير واضحة, ولذا يحتاج الإنسان


 


[1] مجمع البحرين: الضغث: قبضة الحشيش المختلط رطبها ويابسها، ويقال ملء الكف من القضبان والحشيش.

[2] نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 50 من كلام له عليه السلام، وفيه بيان لما يخرب العالم به من الفتن وبيان هذه الفتن، ص 88.

 

64


49

الدرس الخامس: موانع البصيرة

إلى بصيرة قويّة تُمكّنه من تشخيص الأمور واتّخاذ الموقف المناسب. على كلّ حال، إنّ طبيعة عالم الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل.

 

ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد هو "يوم الفصل"، والذي كُرّر عدّة مرات، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار، ويُفصل فيه بين الصفوف.

 

2- الإعلام المضلِّل:

والإعلام المضلّل يعمل على عدّة محاور, وذلك لإبعاد الناس عن المنهج الحقّ.

 

فإذا رجعنا إلى التاريخ لنقرأ الصراع بين الحقّ والباطل، فسنجد نموذجاً لذلك ما استخدمه فرعون من طُرق إعلاميّة متعدّدة في معركته مع النبيّ موسى عليه السلام، ونورِد منها ما يأتي: تخويف الناس وبثّ الدعايات الكاذبة أو تفخيم بعض الحقائق، لِصَرْف الناس عن دينهم، ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ

 

65

 


50

الدرس الخامس: موانع البصيرة

دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[1].

 

- بثّ روح التشاؤم من موسى عليه السلام وأتباعه في الناس، والإيحاء بأنّهم هم سبب الوَيلات على المملكة وما فيها، ﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾[2].

 

وهذا ما يعتمده الإعلام المضلّل من خلال تنفير الناس من النهج الحقّ وإلحاق التُّهَم فيهم. ومن هنا يعمل الإعلام المضلّل على محاوِر متعدّدة لضرب الفِكر الإسلاميّ، وهذا يؤثّر بشكلٍ كبير على بصيرة المؤمن. ومن أهم هذه المحاور:

- الحرب الإعلاميّة على الهويّة الإسلاميّة، كما في الدعوة الصادرة من الغرب للعولمة وفصْل الدين عن الدولة، ودعوة بعض التافهين لتغريب المفاهيم والقِيَم الإسلاميّة.

 

- محاولة إسقاط الرموز الإسلاميّة، كما نراه في المحاولات

 


[1] سورة غافر، الآية 26.

[2] سورة الأعراف، الآية 131.

 

66


51

الدرس الخامس: موانع البصيرة

المتكرّرة والوضعيّة بالإساءة لشخصيّة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأفلام السينمائيّة والرسوم الكاريكاتوريّة.

 

- القيادة الضالّة والمضلِّلة، ومنها اختراع شخصيّات تحمِل طابعاً دينيّاً أو إيمانيّاً كَحالِ رؤوس التشيُّع الُّلندني، أو أمراء التكفير الذين يُضلّون الناس المؤمنين عن حقيقة الإيمان ويوجّهونهم نحو الدين المشوّه الذي يقدّم الإسلام بصورة قاتمة ومخيفة.

 

القسم الثاني: الموانع الداخليّة

1- الأماني:

يقول الله تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[1].

 

"الأماني" جمع "أمنية"، والمقصود بها هنا الرجاء الذي لا يتحقّق للإنسان. والأمل أو التمنّي إنّما يَنبع من محدوديّة قدرة الإنسان وضَعْفه. فإذا كانت له علاقة بالشيء ولم يستطع أن يبلُغَه

 

 


[1] سورة الحديد، الآية 14.

 

67


52

الدرس الخامس: موانع البصيرة

ويحقّقه فإنّه يأخذ صورة التمنّي عنده. وإذا استطاع الإنسان أن يحقّق كلّ ما يريده ويرغب فيه، لم يكن للتمنّي من معنى. وبالطبع، قد تكون أماني الإنسان، أحياناً، نابعة من روحه العالية، وباعثة على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسَيْره التكامليّ، كما لو تمنّى بأن يتقدّم الناس بالعِلْم والتقوى والشخصيّة والكرامة، إلّا أنّه كثيراً ما تكون هذه الأحلام والأماني كاذبة. وعلى العكس من الأماني الصادقة, فإنّها أساسٌ للغفلة والجهل والتخدير والتخلُّف، كما لو تمنّى الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم وأن يملك أموالاً طائلة وأن يحكُم الناس جميعاً...

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قلوب الجهّال تستفزّها الأطماع، وترتهنها المنى، وتستعلقها الخدائع"[1].

 

وعنه أنّه قال عليه السلام: "إنّ الطمع موردٌ غير مُصدِر، وضامنٌ غير وفيٌّ، وربّما شرق شارب الماء قبل ريّه. وكلّما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزيّة لفقِده. والأمانيُّ تُعمي أعين البصائر، والحظُّ يأتي من لا يأتيه"[2].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج19، ص35.

[2] نهج البلاغة، خُطَب الإمام عليّ (تحقيق صالح)، مصدر سابق، رقم 275، ص 524.

 

68


53

الدرس الخامس: موانع البصيرة

2- حبّ الدنيا:

عن الإمام عليّ عليه السلام: "لِحُبِّ الدُّنيا صَمَّتِ الأسمَاعُ عَن سَمَاعٍ الحِکمَهِ، وَعَمِيَتِ القُلُوبُ عَن نُور البَصيرَةِ"[1]. وفي المقابل، الزهد بالدنيا يؤدّي إلى البصيرة، يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن زَهَدَ في الدُّنيا عَلَّمَهُ الله بِلا تَعَلُّمٍ وَجَعَلَهُ بصيراً، وكشف عنه العمى"[2].

 

حبّ الدنيا رأسُ كلّ خطيئة، وأساس كلّ نقصان، ومن انطوى باطنه على حبّ الدنيا حتّى مال إلى شيء، لا ليتزوّد منها ويستعين بها على الآخرة، فلا يطمعنّ أن يصفو له لذّة المناجاة، ولن يشعر بروح وحقيقة العبادة, ولذا نرى الأدعية ركّزت على ضرورة إخراج حبّ الدنيا من القلب، "أَخرِج حبّ الدنيا من قلبي"[3].

 


[1] الّليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 404.

[2] السيّد حسن القبانجيّ، مسند الإمام عليّ عليه السلام، تحقيق الشيخ طاهر السلامي، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1421 - 2000م، ط1،ج10، ص 138.

[3] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد‏، نشر مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه‏، ط1‏، ج2، ص 591.

 

69


54

الدرس الخامس: موانع البصيرة

3- الغفلة:

قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[1].

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا علامة الغافل فأربعة: العمى، والسهو، والّلهو، والنسيان"[2].

 

وقد حذّر الإمام عليّ عليه السلام عن الغفلة ووصفها بأوصاف تبيّن خطورتها، منها: "دَوَامُ الغَفلَةِ يُعمِي البَصيرهَ"[3]، "من غَفِل جَهِل"، "الغفلة ضلالة"، "من غلبت عليه الغفلة مات قلبه"، "الغفلة ظُلمَة"[4].

 

الغفلة هي من الأمراض الخَطِرة، والتي تؤثّر على نفسيّة الإنسان وسلوكيّاته, ولذا عندما وصف الإمام عليّ عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه طبيب يعالج أمراض الناس الأخلاقيّة، ومن المواضع التي كان يتّبعها مواضع الغفلة، قال: "طَبِيبٌ دَوَّارٌ

 

 


[1] سورة ق، الآية 22.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 1، ص 122.

[3] الّليثي الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 250.

 [4]العِلْم والحكمة في الكتاب والسُنَّة، محمّد الريشهريّ، الغفلة، ص 167.

 

70


55

الدرس الخامس: موانع البصيرة

بِطِبِّه، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَه، وأَحْمَى مَوَاسِمَه، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْه، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وآذَانٍ صُمٍّ، وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِه مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ"[1].

 

ومواضع الغفلة ومواطن الحيْرة كناية عن قلوب الجهّال, فقوله: "دوّار بطبّه"، لأنّ الطبيب الدوّار أكثر تجربة، أو يكون قد عنى به أنّه يدور على من يُعالجه، لأنّ الصالحين يدورون على مرضى القلوب، فيعالجونهم. ويقال: "إنّ المسيح رُئي خارجاً من بيت مومسة، فقيل له: يا سيّدنا، أمثلُكَ يكون هاهنا؟! فقال: إنّما يأتي الطبيبُ المرضى".

 

والمراهم هي الأدوية المركّبة للجراحات والقروح. والمواسم هي حدائد يوسم بها الخيل وغيرها، ثمّ ذكر أنّه إنّما يعالج بذلك من يحتاج إليه، وهم أولو القلوب العمي، والآذان الصمّ، والألسنة البُكم, أي الخُرْس. وهذا تقسيم صحيح حاصر, لأنّ الضلال ومخالفة الحقّ يكون بثلاثة أمور: إمّا بجهل القلب،


 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، 108 ومن خِطبة له عليه السلام، وهي من خُطب الملاحم، فتنة بني أميّة، ص 156.

 

71


56

الدرس الخامس: موانع البصيرة

وإمّا بعدم سماع المواعظ والحُجج، أو بالإمساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذّكْر. فهذه أصول الضلال، وأمّا أفعال المعاصي ففروع عليها[1].


 


[1] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ‏، إيران - قم، 1404ه‏، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378ه - 1959م، ط1، ج7، ص 184.

 

72


57

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

الدرس السادس:

كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

 

 

محاور الموعظة:

• الموجبات العلميّة لِكَسْب البصيرة.

• الموجبات العمليّة لِكَسْب البصيرة.

 

73


58

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

تصدير الموعظة

عن الإمام الهادي عليه السلام أنّه قال: "لَولا مَن يَبقى بَعدَ غَيبَةِ قائِمِكُم عليه السلام مِنَ العُلَماءِ الدّاعينَ إلَيهِ، والدّالّينَ عَلَيهِ، والذّابّينَ عَن دينِهِ بِحُجَجِ اللهِ، والمُنقِذينَ لِضُعَفاءِ عِبادِ اللهِ مِن شِباكِ إبليسَ ومَرَدَتِهِ، ومِن فِخاخِ النَّواصِبِ، لَما بَقِيَ أحَدٌ إلاَّ ارتَدَّ عَن دينِ اللهِ، ولكِنَّهُمُ الَّذينَ يُمسِكونَ أزِمَّةَ قُلوبِ ضُعَفاءِ الشّيعَةِ، كَما يُمسِكُ صاحِبُ السَّفينَةِ سُكّانَها، أُولئِكَ هُمُ الأَفضَلونَ عِندَ اللهِ عزّ وجلّ"[1].

 

المبادىء الأساسيّة لِكَسْب البصيرة

هناك عدّة عناوين تُعدّ من المبادىء الأساسيّة لِكَسْب البصيرة[2]، وهي على نوعين: علميّة وعمليّة.


 


[1] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الفصول المهمّة في أصول الأئمّة، تحقيق وإشراف محمّد بن محمّد الحسين القائينيّ، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا عليه السلام، 1418 - 1376 ش، ط1، ج1، باب 35- استحباب هداية الناس إلى أحكام الدين ودفع الشكوك والشبهات عن المؤمنين، ح14، ص 604.

[2] استفدنا بعضاً من هذه العناوين من كتاب: زلال نگاه، (النظرة الصافية)، محمّد تقي مصباح اليزديّ، راهکاري کسب وارتقاي بصيرت.

 

75


59

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

الموجبات العلميّة

1- البناء العقائديّ المتين:

إنّ التعامل مع الظواهر الاجتماعيّة والفكريّة المختلفة والمتنوّعة يحتاج إلى بناء عقائديّ متين مبنيّ على أُسس سليمة ومرجعيّة حكيمة، وهي مرجعيّة القرآن والعِتْرة.

 

وإنّ ضُعف البناء العقائديّ سيؤدّي بالأفراد، وبالتالي بالمجتمع، إلى الانحراف والوقوع في شِراك إبليس وأعوانِه من الجنّ والإنس, أمّا إذا تعمَّقَت وتجذّرَت الروح الإيمانيّة في قلْب الإنسان المؤمن, فإنّه سيتجاوز العقَبات المختلِفة، الفكريّة والاجتماعيّة وغير ذلك، وسيخرج من الاختبارات والبلاءات مرفوع الرأس ومنتصراً بإذن الله تعالى.

 

2- التشخيص الصحيح والدقيق للحقّ والباطل:

هناك أمور عديدة نصّبها الله تعالى للبشر، لهدايتهم من جهة، وليفرّقوا بين الحقّ والباطل من جهة أخرى، منها:

أ- القرآن الكريم: ومن أسمائِه الفرقان، ومعنى الْفُرْقَانُ: كُلُّ مَا فُرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وهو ما جاء في قوله تعالى:

 

76


60

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[1], وقال: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾[2].

 

ب- الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[3], ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[4].

 

ج- أمير المؤمنين عليه السلام، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فألزموا عليّاً, فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل"[5].

 


[1] سورة البقرة، الآية 185.

[2] سورة الأنفال، الآية 29.

[3] سورة الحشر، الآية 7.

[4] سورة الفرقان، الآية 1.

[5] القندوزيّ، الشيخ سليمان بن إبراهيم الحنفي، ينابيع المودّة لذوي القربى، تحقيق السيّد علي جمال أشرف الحسينيّ، دار الأُسوة للطباعة والنشر، إيران - قم، 1416ه، ط1، ج2، المودّة السادسة: في أنّ عليّاً عليه السلام أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووزيره، وأنّ طاعته طاعة الله -تعالى-، ص 289.

 

77


61

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

د- أئمّة الهُدى عليهم السلام، فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال "إنّ الله لا يدع الأرض إلَّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردّهم، وإذا أنقصوا أكمله لهم، فقال: خذوه كاملًا، ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم، ولم يفرّق بين الحقّ والباطل"[1].

 

هـ- العلماء الأتقياء، وعلى رأسهم الوليّ الفقيه.

 

الموجبات العمليّة

1- السَيْر في طريق الحقّ والحقيقة:

إنّ من السُنَن الإلهيّة أنّ أيّ شخص ينتخب بإرادته طريقاً ما ويختاره، سواءٌ أكان طريق هدًى أم طريق ضلال، "فإنّ الله تعالى يمدّ الإنسان في أعماله، فإنّ جميع ما يتوقّف عليه العمل في تحقّقه من العلم والإرادة والأدوات البدنية والقوى العاملة والموادّ الخارجيّة التي يقع عليها العمل ويتصرّف فيها العامل والأسباب والشرائط المربوطة بها، كلّ ذلك أمور

 


[1] الصفّار، محمّد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلميّ، إيران - طهران، 1404ه - 1362ش، لا.ط، ص 351.

 

78


62

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

تكوينيّة لا صنع للإنسان فيها، ولو فقد كلّها أو بعضها لم يكن العمل، والله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله ويمدّ الإنسان بها بعطائه، ولو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله"[1]. وهذا ما نسمّيه حُسن الاختيار أو سوء الاختيار من العَبدى، ويأتي على طِبقه المدَد الإلهيّ.

 

يقول الله تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾[2], وقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾[3]. وما نريد قوله باختصار: إنّه، ومن أجل اكتساب البصيرة، فبالإضافة إلى الاستعداد الخاصّ الموجود عند الإنسان والمـُفاض عليه من الله تعالى، والذي يُمكّنه من إدراك الحقيقية، ينبغي على المؤمن تفعيل هذه البصيرة, وذلك من خلال وضعها في الطريق الصحيح، وهو ما قصدناه من السَيْر في طريق الحقّ والحقيقة.

 

 


[1] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدّرسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1417ه‏، ط5، ج13، ص66.

[2] سورة الإسراء، الآية 20.

[3] سورة محمّد، الآية 17.

 

79


63

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

2- تشخيص الواقع وتحديد الوظيفة المطلوبة:

قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[1].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "في كلّ وقتٍ عمل"[2].

 

إنّ على الإنسان أن يحدّد، وبشكلٍ دقيق، موقعه الخاصّ وموقعيّته التي على طبقها تُحدَّد وظيفته. فلكي أحدّد وظيفتي وتكليفي الشرعيّ, ينبغي الالتفات إلى أمور متعدّدة، منها:

أ- معرفة الزمان، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "والعالِم بزمانه لا تهجُم عليه اللوابس"[3].

ب- تحديد الموقعيّة الخاصّة التي تمكّنني من القيام بأيّ عمل يجب عليَّ القيام به.

ج- تحديد أهمّيّة العمل بالنسبة إلى البدائل الأخرى التي يُمكن القيام بها.


 


[1] سورة المـُلك، الآية 2.

[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص354.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، كتاب العقل والجهل، ج1، ص27.

 

80


64

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

د- تحديد الأولويّة التي تَحظى بها الوظيفة التي ينبغي عليَّ اختيارها.

هـ- انتخاب البديل المناسب والأوْلى، مع ملاحظة كلّ النقاط التي تقدّمت، حتّى يكون بيدي حجّة على عمَلي أمام الله تعالى.

فينبغي على الإنسان تشخيص الموضوع بشكلٍ دقيق وتحديد الوظيفة المناسبة، فمتى نستخدم الرحمة والرأفة؟ ومتى نستخدم الشدّة والغلظة؟ وهذا أمر مرتبط بالبصيرة، ولا بدّ من التعمّق والدقّة في قراءة السيرة النبويّة وسيرة الأئمّة الأطهار عليهم السلام, وذلك لفهم مواقفهم المختلفة ودراستها وتحليلها بشكلٍ جيّد حتّى نتمكّن من الاستفادة منها في المواقف المختلفة.

 

3- تجنّب الغرور وضُعف العزيمة:

هناك عاملان خطران على البصيرة، لا بدّ من تجنّبهما, لأنّهما يمنعنان من تشكيل بصيرة المؤمن، وهما: الغرور، والكسل وضعف العزيمة.

 

قال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ

 

81

 


65

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾[1], فالآية تتحدّث عن زمان النبيّ شُعيب وقومه، وهنا نرى أنّ السبب الأساسيّ لشقاء قوم النبيّ شُعيب وضلالهم، هو الاستكبار.

 

أمّا قولهم (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)، فلا يعني أنّ الّذين آمنوا مع النبيّ شُعيب كانوا على ملّة هؤلاء المستكبرين ودينهم، بل لأنّهم كانوا منسوبين إليهم وإلى هذه المدينة، ونعلم أنّ التكبّر وحبّ الذات يوجِب على الإنسان المتّصف بهذه الصفة أن يرى كلّ شيء متعلّقاً به، ومن ممتلكاته.

 

أمّا الكسل وضُعف العزيمة، فصحيح أنّه ليس بمستوى التكبّر والغرور، ولكنّه من ناحية النتيجة يمنع الإنسان من السعي إلى الحقّ، وبالتالي يُضعف البصيرة, لأنّه - كما تقدّم - فإنّ من مبادىء البصيرة السَيْر في طريق الحقّ والحقيقة.

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم والكسل! فإنّه من كَسُل لم يؤدِّ حقّ الله عزّ وجلّ"[2].


 


[1] سورة الأعراف، الآية 88.

[2]الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص65.

 

82


66

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

4- إرجاع المتشابهات للمحكمات واليقينيّات:

إنّ من طُرق الحفظ والصيانة من الخطأ في التفكير والتطبيق، ضرورة الالتفات إلى المفاهيم المحكمَة والمفاهيم المتشابهة والتمييز بينهما وإرجاع المحكَم إلى المتشابَه. وهذا ما يُعدّه علماء التفسير من العلوم الضروريّة التي أسّسها أهل البيت عليهم السلام، والتي لا يمكن تفسير القرآن من دون معرفتها, أي المحكم والمتشابَه، وضرورة إرجاع المحكم إلى المتشابَه.

 

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾[1].

 

وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من ردّ متشابه القرآن إلى محكَمِه، فقد هُدِي إلى صراطٍ مستقيم"[2].


 


[1] سورة آل عمران، الآية 7.

[2] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1414ه، ط2، ج27، ص115، ح22.

 

83


67

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

ولذا، فالقاعدة التي تنفع في تشكيل البصيرة هي أن ننطلق دائماً من الأمور المحكمة واليقينيّة حتّى نتمكّن، من خلاله، من إدراك القضايا المبهَمة والغامضة والمتشابهة، وفَهْمها وحلّها.

 

وهذا الطريق طريقٌ كلّيّ، ينفع في حلّ المسائل الفكريّة والتربويّة والاجتماعيّة كلّها. فمن ينطلق في حلِّهِ لقضيّةٍ ما من المتشابهات، فإنّه لن يصل إلى نتيجة. ولكنّه إن انطلق من المحكمات واليقينيّات سيتمكّن من حلّ القضايا المتشابهة. وفي حال كوْن القضيّة متشابهة، فعليه أن يُرجعها إلى المحكمة.

 

5- تقوية الدافعيّة النفسيّة تجاه الحقيقة:

من أجل كسْب البصيرة، لا تكفي القوّة الفكريّة وجوْدة الفَهم, لأنّه من الممكن أن تدلّني قوّة الفِكْر على الطريق الصحيح وتشخّص لي الباطل، ولكن هذا لا يعني السَيْر في طريق الحقّ وترك الباطل, لأنّ أيّ شخص يريد أن يتّخذ قراراً في أيّ أمر ويصمّم على فِعله لا تكفيه القوّة الفكريّة والمعرفة النظريّة، بل لا بدّ له من أن يلْحَظ قوّة الدافعيّة النفسيّة تجاه الحقيقة، والتي هي مسألة ضرورية للتحرُّك نحو الحقّ

 

84


68

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

وترك الباطل, لأنّ الكثير من الناس عندما يواجهون الأحداث المختلفة يواجهونها بطريقة اعتباطيّة ويفكّرون بالمنافع الشخصيّة والاجتماعيّة، ممّا يُبعدهم عن الحقّ والحقيقة.

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّه، مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْه وإِنْ نَقَصَه وكَرَثَه[1]، مِنَ الْبَاطِلِ وإِنْ جَرَّ إِلَيْه فَائِدَةً وزَادَه"[2].

 

الفِطنة والذكاء غير كافيين لوحدهما للسَيْر في طريق الحقّ والباطل ما لم تتوفّر الدافعيّة والنيّة الصافية نحو الحقيقة، بل قد يكون ضرَر الفِطنة عند من يستخدمونها في الحِيَل والمكْر والدهاء أشدّ خطراً ممّن لا يمتلكها أصلاً.

 

قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[3].

 

ولذا، من أجل كسب البصيرة، لا بدّ من القيام بالأمور الآتية:


 


[1] كَرَثَه، أي اشتدّ عليه الغمّ.

[2] نهج البلاغة، مصدر سابق، ص744.

[3] سورة الجاثية، الآية 23.

 

85


69

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

أ- الانطلاق من المحكمات واليقينيّات، وارجاع المتشابَه إلى المحكم.

ب- تمييز عناصر الحقّ المختلِطة بعناصر الباطل.

ج- تقوية النيّة والدافعيّة نحو الحقّ والحقيقة، وإصلاحها.

 

6- التصوّر الصحيح للمفاهيم الغامضة والمخادِعة:

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً, لأَنَّهَا تُشْبِه الْحَقَّ, فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّه، فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ ودَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى، وأَمَّا أَعْدَاءُ اللَّه، فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ، ودَلِيلُهُمُ الْعَمَى"[1].

 

إنّ من طُرق انحراف الإنسان ووقوعِه في يَدِ الشيطان وإيجاد غشاوة على بصيرته، ممّا يؤدّي إلى تشويش على قراراته وسيْره في طريق الحقّ ورفضه للباطل، هو سوء الاستفادة من المفاهيم الخاطئة، وبالأخصّ المفاهيم المزدوَجة والغامضة. وأحد من هذه المفاهيم هو مفهوم الحريّة الذي يروّج له المجتمع الغربيّ، ويصوّر أنّ القوانين والتشريعات الإسلاميّة تَحِدُّ من الحريّة أو تنافيها، في بعض الأحيان، كقوانين العقوبات

 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، ص81.

 

86


70

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

المختلفة التي أقرّها الإسلام. ويحاول بعض الشباب - عن وعيٍ أو عدم وعي - التحدّث بهذه المفاهيم وانتقاد المجتمعات الإسلاميّة لتطبيقها الأحكام الدينيّة، فيَرَوْن أنّ مفهوم الحرية والتحرّر الغربيّ هو أمرٌ منقوصٌ في المجتمعات الإسلاميّة.

 

ويجب القيام بالأمور الآتية:

أ- تصحيح المفاهيم الخاطئة، وبيان وجه التشويش فيها.

ب- ترسيخ المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة في عقول الناس وقلوبهم.

ج- تنمية شخصيّة المؤمن حتّى يشعر بأنّه مستغنٍ بما عنده من مفاهيم إسلاميّة صحيحة عمّا سواها.

 

7- أخْذ العِبَر من التاريخ:

يقول الله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ﴾[1].

 

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "واعْرِضْ عَلَيْه أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وذَكِّرْه بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ، وسِرْ فِي دِيَارِهِمْ

 


[1] سورة الروم، الآية 42.

 

87


71

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

وآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وعَمَّا انْتَقَلُوا وأَيْنَ حَلُّوا ونَزَلُوا, فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ, فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، ولَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ"[1].

 

والغرَض من كلامه، أن يعرض عليه أخبار الماضين، ويذكّره بما أصابهم، لينظر ما فعلوا وعمّا انتقلوا من الآثار العظيمة والملك الجسيم، فيحصّل من ذلك عِبرة وقياساً لحالِه بحالهِم، ويستقرب لحاقه بهم وصيرورته كأحدهم فيما صاروا إليه، ووجه التشبيه قُرب حالِه من حال أحدهم. وإليه الإشارة بالآية السابقة كقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا﴾[2], وغيرها من الآيات الكريمة المتقدّمة.

 

وعلى كلّ حال، من الواضح أنّ النّظر والاعتبار بأخبار الماضين يُضيء للإنسان طريقه المستقبليّ إذا أحسَن الاستفادة من التاريخ وقرأَهُ قراءةً صحيحة, ولذا فإنّ من مبادىء البصيرة هو أخْذ العِبْرة من الماضي والتدبّر والتعمّق في الأحداث.

 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 3 ومن وصيّة له عليه السلام للحسن بن عليّ عليهما السلام، كتبها إليه بحاضرين، عند انصرافه من صفّين، ص 392.

[2] سورة يوسف، الآية 109.

 

88


72

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

الدرس السابع:

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

 

 

محاور الموعظة:

• معنى الاستقامة، لغةً واصطلاحاً.

• أهمّيّة الاستقامة.

• إطلالة على آية الاستقامة.

 

91


73

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

تصدير الموعظة

قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[1].

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون"[2].

 

معنى الاستقامة لُغةً واصطلاحاً

الاستقامة (لغةً): مصدر استقام على وزن استفعل، وهو مأخوذ من مادّة (ق و م) قوم: أصلان صحيحان تدلّ على معنيَين:

أحدهما على جماعة من الناس، وربّما استعير في غيرهم. والآخر على انتصابٍ أو عزْم. فالأوّل، القوم، يقولون جمع امرئٍ، ولا يكون ذلك إلَّا للرجال, لا يسخر قومٌ من قوم ولا نساءٌ من نساء. ويقولون قوم وأقوام، وأقاوم جمع قوم. وأمّا


 


[1] سورة هود، الآية 112.

[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج6، ص 172.

 

93


74

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

الآخر، قام قياماً، إذا انتصب. ويكون قام بمعنى العزيمة[1].

 

و(اصطلاحاً): الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يُمنةً ولا يُسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلّها، الظاهرة منها والباطنة، وتَرْك المـُنهيات جميعها كذلك.

 

أهمّيّة الاستقامة

إنّ من أعظم النِعَم التي يُسديها الله -عزّ وجلّ-، ويَمنُّ بها على عباده، هي نعمة الاستقامة على دينه والسيْر على نهجه، والتمسُّك بالقرآن والعِترة -كما هو مضمون حديث الثقَلَين-. وهذا ما نفهمه من الهداية التي نطلبها من الله يوميّاً في صلواتنا الخمْس التي أوجبها الإسلام، فنعمة الهداية غاية كلّ مؤمن يريد سلوك الصراط المستقيم بهمّة عالية وعزيمةٍ صادقة، إذ لا يثبُت على ولاية المعصوم عليه السلام إلّا أصحاب الاستقامة.


 


[1] أحمد بن فارس بن زكريّا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1404ه‏، ط1، ج5، ص43.

 

94


75

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

من المعروف أنّ النفس الإنسانيّة، بطبيعتها، تَميل إلى الخير والاستقامة والصلاح، ولكن قد يحصل انحراف فيها بسبب النفس الأمّارة بالسوء والشرّ، حيث وسوسة الشيطان وأعوانه بالمرصاد, فلذلك تنزلق بصاحبها وتسير به في طريق معوجّ. من هنا، فإنّنا بحاجة كبيرة إلى اليقظة الدائمة خوفاً من الوقوع في الإثم، وهذا لا يكون إلّا بالاستقامة على دين الله، فهي التي تقوّم أنفسنا وتحميها من تلك الضلالات والمتاهات، قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾, وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾[1], وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[2].

 

وعلى هذا الأساس، لا بدّ أن نعرف معنى الاستقامة، وأهمّيّتها في حياة المؤمن، وسُبل تحصيلها ووسائلها وموانعها وثمراتها، وغير ذلك.


 


[1] سورة فصّلت، الآية 30.

[2] سورة الأحقاف، الآية 13.

 

95


76

الدرس السادس: كيف أكتَسِبُ البصيرة؟

وإذا دقّقنا في هذه الخِصلة الشريفة، أي الاستقامة، فسنجدها جامعة لكافّة أنواع التكاليف.

 

قال بعض العلماء: إنّ الطاعة لا تُعدّ طاعة وفضيلة ما لم تَستجمع أربعة معانٍ، هي من صفات صاحبها:

1- أن يكون عالـِماً بشرائطها.

2- أن يكون فاعلاً لها على سبيل الطوْع والاختيار.

3- ألّا يختارها إلّا لاعتقاد حُسنها في نفسها اعتقاداً راسخاً.

4- أن يدوم اختياره لذلك، فلا يزول.

 

فلن تُخلص الطاعة، ولن يستقيم السعي، إلّا بمجموع هذه الخِصال الشاقّة.

 

والاستقامة لا يُطيقها إلّا الأنبياء وأكابر الأولياء, لأنّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، بحيث لا يشوب معاملته مع الله فترة، ولا تصحَب مسيْرهُ إليه وقفة، يعتبر بما يرى في الدنيا من غير شهوة، ويتفكّر في المعاد من غير غفلة، يستقلّ الكثير من طاعته، إزراءً على نفسه، ويستعظم اليسير من

 

 

96

 


77

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

إحسان ربّه، إجلالاً لوجهه، ويُنصف من نفسه ولا ينتصف لها، ويعمل بجوارحه ولا يعمل بهواها، فإذا وُجدت فيه هذه الأمارات صار صاحب الاستقامة وأهل الكرامة[1].

 

وفي نهج البلاغة، من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام، قال: "وإِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّه وحُجَّتِه، قَالَ اللَّه تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾[2], وقَدْ قُلْتُمْ: رَبُّنَا اللَّه, فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِه، وعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِه، وعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِه..."[3].


إطلالة على آية الاستقامة

قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.

 

 


[1] ينظر: الشيرازيّ، السيّد علي خان المدنيّ، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين، تحقيق السيّد محسن الحسينيّ الأمينيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم‏، 1415ه، ط4، ج3، ص 310.

[2] سورة فصلت، الآية 30.

[3] نهج البلاغة، مصدر سابق، من خطبة له عليه السلام وفيها يَعِظ ويبيّن فضْل القرآن وينهى عن البدعة رقم 176، ص 253.

 

97


78

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

وجاء في الحديث: قال سفيان الثقفيّ: يا رسول اللَّه، قُل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال رسول اللَّه: "قل: آمنت باللَّه، ثم استقِم"[1].

 

فالاستقامة أن نقف عند حدود اللَّه، ولا ننحرف عن الحقّ إلى الباطل، وعن الهداية إلى الضلال، وأن نسير بعقيدتنا وعاطفتنا، وجميع أقوالنا وأفعالنا على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللَّه عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالّين[2].

 

ويختلف معنى الاستقامة باختلاف الجهة التي تُنسب إليها، فمعنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[3], أنّه يهدي إلى هذا الصراط، ويأمر به، وعلى أساسه يُثيب ويعاقب، وأنّ جميع أفعاله تعالى وِفق الحِكمة والمصلحة: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾[4], ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء

 


[1] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، حديث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ج3، ص 413.

[2]مغنيّة، محمّد جواد، التفسير الكاشف، دار العِلم للملايين، بيروت، 1981م، ط3، ج1، ص 27.

[3] سورة هود، الآية 56.

[4] سورة المؤمنون، الآية 115.

 

98


79

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾[1].

 

وإذا وصفتَ بالاستقامة عيناً من الأعيان، وقلتَ: إنّ هذا الشيء مستقيم, فمعناه أنّه قد وُضع في الموضع اللائق به, أمّا الإنسان المستقيم فأحسَنُ تحديدٍ له قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[2]. وأحسن القول، عند اللَّه ومن آمن به، هو هذا القرآن: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا﴾[3]. وأحسن القول، عند اللَّه والناس أجمعين والجاحدين، هو ما يستريح إليه الضمير العالميّ، لا ضمير اللصوص وسفّاكي الدماء[4].

 

ومن أهم أشكال الاستقامة هي نُصرة المظلوم والوقوف بوجه الظلم والظالمين, لذا قال الله تعالى في الآية التي تليها مباشرة ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾[5]. ولا

 


[1] سورة ص، الآية 27.

[2] سورة الزمر، الآية 18.

[3] سورة الزمر، الآية 23.

[4]الشيخ محمّد جواد مغنيّة، التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج 4، ص 273.

[5] سورة هود، الآية 113.

 

99


80

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

يختصّ الذين ظلموا بالمعتدين على الناس وحريّاتهم، وقد جاء في نهج البلاغة: "أَلَا وإِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ, فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ، وظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ، وظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ, فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّه، قَالَ اللَّه تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾[1], وأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ، فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَه عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ، وأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً"[2]. والمراد بالركون إلى الظالمين، في الآية الكريمة، هو ما يعمّ السكوت عنهم المنهيّ عنه، لوجوب النهي عن المنكر، وفي الحديث: "إذا رأى الناس المنكر بينهم، فلم يُنكروه يوشك أن يعمَّهم اللَّه بعقابه"[3]. وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "نُصرة المؤمن على المؤمن فريضة واجبة"[4].


 


[1] سورة النساء، الآية 48.

[2] نهج البلاغة، مصدر سابق، من خطبة له عليه السلام، وفيها يَعِظ ويبيّن فضل القرآن وينهى عن البدعة، رقم 176، ص 255.

[3] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج1، ص2.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ح36، ج97، ص 78.

 

100


81

الدرس السابع: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

تتلخّص الآية الكريمة في هذه الكلمات الأربع, وهي: الاستقامة، الإخلاص، قيادة المؤمنين، وعدم الطغيان والتجاوز. ومن دون ربط هذه الأمور بعضها إلى بعض، فإنّ النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كلّ جانب، من الداخل والخارج، واستفادوا من جميع الأساليب الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة... لا يكون سوى أوهام في مخيّلة المسلمين[1].

 


[1] الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج7، ص 81.

 

101


82

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

الدرس الثامن

الاستقامة في القرآن

 

محاور الموعظة:

• من آيات الاستقامة في القرآن الكريم.

 

103


83

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

تصدير الموعظة

قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1].

 

عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾, قال: "نحن السبيل، فمن أبى، فهذه السُّبُل"[2].

 

آيات الاستقامة في القرآن

عرَض القرآن الكريم مادّة الاستقامة، على اختلاف صياغاتها واشتقاقاتها[3] ستّاً وخمسين مرّة، على الشكل الآتي:

اسْتَقَامُوا: أربع مرّات[4]، يَسْتَقِيمَ: مرّة واحدة[5]، استقِم:

 


[1] سورة الأنعام، الآية 153.

[2] البحرانيّ، السيّد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، إيران - قم، ج2، ص 498.

[3] ينظر: عبد الباقي، محمّد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الكتب المصريّة، مصر، 1364ه، لا.ط، مادّة (قوم)، ص 579-581.

[4] سورة التوبة، الآية 7، وسورة فصّلت، الآية 30، وسورة الأحقاف، الآية 13، وسورة الجنّ، الآية 16.

[5] سورة التكوير، الآية 28.

 

105


84

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

مرّتان[1]، اسْتَقِيمَا: مرّة واحدة[2]، اسْتَقِيمُوا: مرّتان[3]، المستقيم: خمس مرّات[4]، مستقيم: ستّ وعشرون مرّة[5]، مستقيماً: ستّ مرّات[6]، الْقَيِّمِ: أربع مرّات[7]، قَيِّمًا: مرّة واحد[8]، قِيَمًا: مرّة واحدة[9]، الْقَيِّمَةِ: مرّة واحدة[10]، قَيِّمَةٌ: مرّة واحدة[11]، أَقْوَمُ: مرّة واحدة[12].

 

ونستعرض هنا بعضاً من هذه الآيات، مع تذييلها بشرح مبسّط يكشف عن مدلول الآية، والآيات التي أخترناها هي:

1- قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[13].

 

فإنّه لا معنى للدَّعوة دون استقامة، ولا معنى للتَّعاون الإسلاميّ دون استقامة، ولا معنى لأيّ عمل دون استقامة، فالرَّبط بين الدَّعوة والاستِقامة واضح، فلو أنَّه دعا ولم يسْتقِم فَدَعوتُهُ ساقِطة. فالآن، أيّ داعِيَة لو دعا ولم يسْتقم، فلا أحَدَ يعْبأ بِكَلامه إطلاقًا، ولا أحد يُفكِّر فيما يقول، والناس يتعلَّمون بأعْيُنِهم لا بِآذانهم، ولأنّ لغة العمل أبْلغُ من لغة القَول.

 

قال الإمام الصادق عليه السلام: "كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ


 


[1] سورة هود، الآية 112، وسورة الشورى، الآية 15.

[2] سورة يونس، الآية 89.

[3] سورة التوبة، الآية 7، وسورة فصّلت، الآية 6.

[4] سورة الفاتحة، الآية 6، وسورة الأعراف، الآية 16، وسورة الإسراء، الآية 35، وسورة الشعراء، الآية 182، وسورة الصافّات، الآية 118.

[5] سورة البقرة، الآيتان 142 و213، وسورة آل عمران، الآيتان 51 و101، وسورة المائدة، الآية 16، وسورة الأنعام، الآيات 39 و87 و161، وسورة يونس، الآية 25، وسورة هود الآية 56، وسورة الحجر، الآية 41، وسورة النحل، الآيتان 76 و121، وسورة مريم، الآية 36، وسورة الحجّ، الآيتان 54 و67، وسورة المؤمنون، الآية 73، وسورة النور، الآية 46، وسورة يس، الآيتان 4 و61، وسورة الشورى، الآية 52، وسورة الزخرف، الآيات 43 و61 و64، وسورة الأحقاف، الآية 30، وسورة المـُلك، الآية 22.

[6] سورة النساء، الآيتان 68 و175، وسورة الأنعام، الآيتان 126 و153، وسورة الفتح، الآيتان 2 و20.

[7] سورة التوبة، الآية 36، وسورة يوسف، الآية 40، وسورة الروم، الآيتان 30 و43.

[8] سورة الكهف، الآية 2.

[9] سورة الأنعام، الآية 161.

[10] سورة البيّنة، الآية 5.

[11] سورة البيّنة، الآية 3.

[12] سورة الإسراء، الآية 9.

[13] سورة الشورى، الآية 15.

 

106


85

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ والِاجْتِهَادَ والصَّلَاةَ والْخَيْرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ"[1].

 

2- قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[2].

 

تُبيّن الآية الكريمة أنّ الله تعالى استجاب لدعوة النبيّ موسى والنبيّ هارون عليهما السلام، لكن الآية الكريمة السابقة أشارت إلى أنّ الداعي كان النبيّ موسى عليه السلام فقط، وهارون عليه السلام يؤمّن (آمين) على دعائه[3].

 

أوضحت الآية الكريمة أنّ الدعوة قد استُجيبت، فيما يُروى، بعد أربعين سنة[4]. وأضافت إلى ذلك أمرَين:

أ- قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾, أي الزما ما أنتما عليه من الدعوة والحُجج والبراهين.


 


[1]الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 78.

[2] سورة يونس، الآية 89.

[3] ينظر: الفيض الكاشانيّ، تفسير الصافي، ج2، وتفسير الجلالين للسيّوطي.

[4] وهذا ما ذهب إليه الفَيْض الكاشانيّ في تفسير الصافي ج2، والسيوطيّ تفسير الجلالين والسيّد هاشم البحرانيّ في تفسير البرهان ج3.

 

107


86

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

ب- وقوله: ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾, أي طريقة الجهّال من قومك، والتي قد يكون أحد صوَرِها استعجال إجابة الدعوة، وفي هذا درسٌ لكلّ مؤمن يدعو ربَّه،حيث يستعجل الإجابة بجهله، والله تعالى يؤخّرها ويعجّلها لحكمته.

 

وكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: "اللَّهُمَّ، مُنَّ عَلَيَّ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ، والتَّفْوِيضِ إِلَيْكَ، والرِّضَا بِقَدَرِكَ، والتَّسْلِيمِ لأَمْرِكَ، حَتَّى لَا أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ، ولَا تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ"[1].

 

3 - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾[2].

 

والآية دليل واضح وقاطع على أنّ العمل هو الظاهرة الوحيدة التي تعكِس الإيمان باللَّه حقّاً وواقعاً، وأنّ أيّ إنسان

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، باب دعوات موجزات لجميع الحوائج، ح14، ج2، ص 581.

[2] سورة فصّلت، الآية 30.

 

108


87

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

يقول: أنا مؤمن، دون أن يُترجم إيمانه بالسلوك والعمل، في علاقته مع خالقه ومع نفسه ومجتمعه، فهو مفتر كذّاب[1].

 

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام: "اسْتَقَامُوا عَلَى الأَئِمَّةِ، وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ..."[2].

 

4 - قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[3].

 

لقد جُمعت في الواقع مراتب الإيمان كلّها والأعمال الصالحة كلّها في هاتَين الجملتين, لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة كلّها، وأصول العقائد كلّها ترجع إلى أصل التوحيد. كما إنّ الاستقامة والصبر والتحمّل والصمود أساس الأعمال الصالحة كلّها, لأنّنا نعلم أنّه يمكن تلخيص أعمال الخير كلّها في ثلاثة: "الصبر على الطاعة"، و"الصبر عن المعصية"، و"الصبر على المصيبة". وبناءً على هذا، فإنّ "المحسنين" هم السائرون على خطّ التوحيد من الناحية العقائديّة، وفي خطّ الاستقامة


 


[1] الشيخ محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج6، ص 490.

[2]الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، باب أنّ الطريقة التي حثّ على الاستقامة عليها ولاية عليّعليه السلام، ح2، ج1، ص 220.

[3] سورة الأحقاف، الآية 13.

 

109


88

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

والصبر من الناحية العمليّة. ومن البديهيّ أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل، ولا يغتمّون لما مضى[1].

 

5 - قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾[2]. أي لو استقام العُقلاء على طريقة الهدى واستمرّوا عليها وعمِلوا بموجبها, لجازاهم على ذلك بأن أسقاهم ماءً غدَقاً, أي كثيراً. وفي ذلك ترغيبٌ في الهدى[3].

 

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: "يَعْنِي لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ والأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهعليه السلام، وقَبِلُوا طَاعَتَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ ونَهْيِهِمْ، لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً, يَقُولُ: لأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الإِيمَانَ. والطَّرِيقَةُ هِيَ الإِيمَانُ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ والأَوْصِيَاءِ[4].

 

6- قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[5].


 


[1] الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج16، ص 261.

[2] سورة الجنّ، الآية 16.

[3] ابن شهر آشوب، متشابه القرآن ومختلفه، لا.م، لا.ن، 1328، لا.ط، ج1، ص 182.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، باب أنّ الطريقة التي حثّ على الاستقامة عليها ولاية عليّ عليه السلام، ح1، ج1، ص 220.

[5] سورة الإسراء، الآية 9.

 

110


89

الدرس الثامن: الاستقامة في القرآن

للّتي هي أقوم, أي للملّة أو الطريقة التي هي أقوم، ومعنى "يهدي" يُرشد ويوجب. وكلمة "أقوَم" تعني الأصلح والأنفع، وهي بتعميمها تشمل الأصلح في كلّ شيء، وفي كلّ زمانٍ ومكان، ولكلّ إنسان من غير استثناء. وهذه الآية دعوى صريحة وواضحة يسجّلها القرآن، ويؤمن بها كلّ مسلم.

 

وملخّصها أنّ الإسلام هو خير الأديان كلّها، أمّا الدليل على صحّة هذه الدعوى وصِدقها فهو القرآن بعقيدته وشريعته وسائر تعاليمه، بالإضافة إلى سيرة صاحب الرسالة محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الذي ملأ الأرض عِلماً وإيماناّ وبرّاً وعدلاً بعدما مُلِئت جهلاً وكفراً وفساداً، وقد أثبت العلماء هذه الحقيقة، ووضعوا لذلك مئات الأسفار في تفسير كلام اللَّه، وحديث رسول اللَّه وسيرته، وفي العقيدة والشريعة والأخلاق الاسلاميّة، وفيما حقّقه الإسلام في شتّى الميادين[1].

 


[1]الشيخ محمّد جواد مغنيّة، التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج5، ص 22.

 

111


90

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

الدرس التاسع

سُّبُل الاستقامة

 

 

محاور الموعظة:

• الاستقامة ونهج الإمام المعصوم.

• سُبُل تحصيل الاستقامة.

 

113


91

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

تصدير الموعظة

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾[1].

 

الاستقامة ونهج الإمام المعصوم

الاستقامة هي الطريق الذي يكون على خطٍّ سَوِيّ، وبه شُبّه طريق الحقّ، وهذا ما أشارت إليه آيات عديدة، كقوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾[2], ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾[3]... واستقامة الإنسان هي لزومه المنهج المستقيم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.

 

وممّا تقدّم في الدرس السابق، يتبيّن أنّ مسألة الاستقامة لا تنفكّ عن الإقرار بوحدانيّة الله تعالى لـِمَن يريد أن يصل إلى


 


[1] سورة فصّلت، الآية30.

[2] سورة الفاتحة، الآية 6.

[3] سورة الأنعام، الآية 153.

 

115


92

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

ما وعد الرحمن من النعيم الأبديّ، فهما متلازمتان، وهذا ما يدلّ عليه العطف المباشر بكلمة (ثُمَّ)، والتي تدلّ أيضاً على الاستمراريّة.

 

فالاستقامة هي الثبات على طريق الحقّ، واتّباعٌ للمنهج الإلهيّ الذي رسمه الأولياء الصالحون من الأنبياء والرسل وأوصيائهم عليهم السلام.

 

فالغاية من خلق البشر هي العبادة، ولا يتمّ ذلك إلاّ من جهة اتّخاذ الاستقامة منهَجاً، ولا يتأتّى ذلك بسهولة، ولكن بالصبر والثبات على أمور الدنيا، والتي يمكن تلخيصها بأمور ثلاثة، وهي: الصبر على البلاء، والصبر عن المعصية، والصبر على المصيبة. فمَن يجتازها، فقد وصل إلى مرحلة الاستقامة، ولا يقف عند هذا الحدّ، بل لا بدّ من المحافظة على هذه المرتبة التي وصل إليها، فصحيحٌ أنّ الوصول إلى القمّة أمرٌ صعب، إلّا أنّ المحافظة على هذا الفوز أمرٌ أصعَب بكثير، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ففي مجمع البيان، روى عن أَنَس، قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية، ثمّ قال: "قد

 

116

 


93

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

قالها ناس، ثمّ كفر أكثرهم، فمن قالها حتّى يموت، فهو ممّن استقام عليها"[1].

 

والمعنى: إنّ الذين قالوا: ربّنا، إقراراً بربوبيّته ووحدانيّته، ثمّ استقاموا على ولاية الأئمّة، وثبَتوا فيها إلى آخر العمر، تتنزّل عليهم الملائكة وقت الموت أو في القبر أو في تلك المواضع كلّها، ألّا تخافوا من لحوق المكروه والعقاب، ولا تحزنوا من خوْف فوات المرغوب والثواب، وأبشِروا بالجنّة التي كنتم توعَدون في الدنيا على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. والروايات الدالّة على سرور المؤمن،كلّ السرور، إذا بلغ النفس الحلقوم، أكثر من أن تحصى...[2].

 

وهذا لا يعني أنّ الولاية هي مجرّد لفظ يتلفّظ به المرء، بل لا بدّ من العمل بما يوافق ذلك، حتّى يكون على طريق


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، تفسير مجمع البيان، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1415 - 1995 م، ط1، ج9، ص 21.

[2] المازندرانيّ، مولي محمّد صالح، شرح أصول الكافي، تحقيق وتعليق الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421ه - 2000م، ط1، ج7، ص 74.

 

117


94

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

الاستقامة، وعندها يأتيه المدَد الغيبيّ الإلهيّ، فيثبت فؤاده ويأخذ بيده ليَصِل به إلى ساحة الرضا، بعيداً عن الغضب الإلهيّ، عند ذلك ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾.

 

النتيجة: إنّ الاستقامة بشكلٍ كلّيّ وعامّ تتحقّق من خلال أمرَين:

أولاً: الاعتقاد بإمامة المعصوم.

ثانياً: متابعة الإمام المعصوم، وهذا ما نقصده بولاية أهل البيت عليهم السلام.

 

سبُل تحصيل الاستقامة

1- الإيمان بالله والثبات على الحقّ:

عندما نراجع بعضاً من آيات القرآن، نجد أنّ مطلب أهل الإيمان، في ساحات المواجهة والصراع مع الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء والأعداء من الناس، هو طلب التثبيت من الله تعالى والعمل على تحصيل ذلك. قال تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا

 

 

118


95

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[1], وقال: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[2]. وقد وردت روايات كثيرة تتحدّث عن الثبات في عصر الغيبة، نذكُر منها: عن الإمام زين العابدين عليه السلام، قال: "من ثبُتَ على ولايتنا، في غيبة قائمنا، أعطاه الله أجر ألف شهيد، مثل شهداء بدر وأُحد"[3].

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "والذي بعثَني بالحقّ بشيراً، إنّ الثابتين على القول به في زمان غيبته، لأعزّ من الكبريت الأحمر"[4].

 


[1] سورة البقرة، الآية 250.

[2] سورة آل عمران، الآيتان 146 - 147.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ح 13، ج52، ص 125.

[4] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1405ه - 1363 ش، لا.ط، ح7، ص 288.

 

119


96

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "ستصيبكم شبهة فتبقَون بلا علم يُرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلّا من دعا بدعاء الغريق"، قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: "تقول: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك"[1]. وهناك عناوين متعدّدة، ذُكرت في الروايات، تساعد على تثبيت الإيمان، نذكُر منها:

أ- التقوى:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى، لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأَكْبَرِ، وتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ"[2].

 

ب- الورَع عن محارم الله:

عن الإمام الصادق عليه السلام، وقد سُئل عمّا يثبّت الإيمان في العبد، قال: "الذي يثبّته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع"[3].

 


[1] المصدر نفسه، ح49، ص 352.

[2] نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 45 من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ، ص 417.

[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، باب وجوب العفّة والورع عن المحرّمات وحفظ الفرج، ح (25824) 11، ج 20، ص358.

 

120


97

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

ج - العمل الصالح:

عن الإمام الصادق عليه السلام: "الإيمان لا يكون إلَّا بعمل، والعمل منه، ولا يثبت الإيمان إلَّا بالعمل"[1].

 

د- الزهد في الدنيا:

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من زهِدَ في الدنيا، ولم يجزع من ذلّها، ولم ينافس في عزّها، هداه الله بغير هداية من مخلوق، وعلّمه بغير تعليم، وأثبتَ الحِكمَة في صدره، وأجراها على لسانه"[2].

 

هـ - حبّ أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام:

عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما ثَبَّتَ الله حبَّ عليّ في قلب مؤمن، فزلَّت به قدم، إلا ثبَّتَها الله، وثبّت له قدم أخرى"[3].

 


[1] الحرّ العامليّ، هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة عليهم السلام، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة للآستانة الرضويّة المقدّسة، 1414ه، ط1، ح23، ج5، ص 537.

[2]العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ح155، ج75، ص 63.

[3]ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، تحقيق لجنة من أساتذة النجف الأشرف، 1376 - 1956 م، النجف الأشرف، مطبعة الحيدريّة، باب فيما يتعلّق بالآخرة من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، ج3، ص 3.

 

121


98

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أثبَتُكم على الصراط، أشدُّكم حبّاً لأهل بيتي"[1].

 

و- زيارة الإمام الحسين عليه السلام:

وفي الحديث "من زاره (أي الحسين) عليه السلام في بقيعه، ثبتت قدمه على الصراط يومَ تزلّ فيه الأقدام"[2].

 

2- التثبيت لطفٌ من الله:

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾[3], وقال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[4], وقال أيضاً: ﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾[5], وقال: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾[6].


 


[1] القندوزيّ، ينابيع المودّة لذوي القربى، تحقيق سيّد علي جمال أشرف الحسينيّ، أسوه، 1416ه، ط1، ج2، ص 70.

[2] الشيخ الصدوق، الأماليّ، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، قم، 1417ه، أخبار بما سيجري على الحسن والحسين عليهما السلام، ص177.

[3] سورة الإسراء، الآية 74.

[4] سورة النحل، الآية 102.

[5] سورة الأنفال، الآية 11.

[6] سورة الفرقان، الآية 32.

 

122


99

الدرس التاسع: سُّبُل الاستقامة

ولكنّه مع ذلك، في آية أخرى يشير إلى أنّ تثبيت الإيمان ينطلق من داخل النفس: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[1].

 

فإذا صدق العبد مع ربّه، وسعى بالدعاء والعمل للثبات على الإيمان والهدى، ثبّته الله تعالى وآمنه وأسعده في الدنيا والآخرة، قال الله عزّ وجلّ: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾[2].

 


[1] سورة البقرة، الآية 265.

[2] سورة إبراهيم، الآية 27.

 

123


100

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

الدرس العاشر

موانع الاستقامة

 

 

 

محاور الموعظة:

• عقبات الاستقامة وموانعها.

• موانع الاستقامة المعرفيّة.

• موانع الاستقامة السلوكيّة.

 

125


101

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

تصدير الموعظة

قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾[1].

 

عقبات الاستقامة وموانعها

إنّ السَّائرَ على الصراط المستقيم يَمرُّ في سَيْره وباستمرار بشبهاتٍ وشهوات تَصرِفه وتَحرِفه عن مساره هذا، وإنّ كُلَّ مَن يَنحرف عن الاستقامةِ، إمَّا أن يَنحرف عنها بشهوة أو أن يَنحرف عنها بشُبهة, والشَّهوةُ تُفضي بانحراف الإنسان بفساد عمله، والشُّبهة تحرف الإنسان بفساد علمه، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾[2], وجاء في حديث عبدِ الله بن مَسعود، قال: خَطَّ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا

 


[1] سورة آل عمران، الآية 14.

[2] سورة الأنعام، الآية 153.

 

127


102

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

سَبِيلُ الله"، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾[1], والشَّيطان الَّذي يدعُو إلى الانحِراف عن صراط الله المستقيم، دعوتُه إمَّا بشُبهة أو بشَهوة.

 

وعليه، يمكن وضع عقبات الاستقامة وموانعها ضمن محورَين:

• المحور الأوّل: موانع الاستقامة المعرفيّة.

• المحور الثاني: موانع الاستقامة السلوكيّة.

 

المحور الأوّل: موانع الاستقامة المعرفيّة

إذا تأمّلنا في قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾[2].

 

الصّراط المستقيم، وهو أحدّ من السيف وأدقّ من الشعر


 


[1] الدارمي، عبد الله بن الرحمن، سنن الدارمي، مطبعة الاعتدال، دمشق، 1349ه، لا.ط، ص67.

[2] سورة الفاتحة، الآيتان 6-7.

 

128


103

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

كما في بعض الروايات، كما إنّ صراط الآخرة كذلك, ولذا لا تزال في كلّ ركعة من الصلاة تقول: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾. ومن زلّ عن هذا الصراط في الدنيا زلّ عن صراط الآخرة، ومن أوضح طُرق الزلَل والانحراف عن طريقة الاستقامة والوصول إلى الصراط المستقيم, هو متابعة المغضوب عليهم والضالين, لأنّهم هم الذين يقابلون ﴿الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ في الآية الكريمة السابقة. ومِن أبرز مصاديق هؤلاء، اليهود, أنّهم قاموا بأساليب ووسائل ملتوية تستهدف معرفة الإنسان وفِكره، تماماً كما يفعل إبليس، من خلال حجبِه الحقيقة أمام إدراك الإنسان, إمّا بالتشكيك بها، أو بعرْض شيءٍ آخر يصوّره للإنسان على أنّه الحقيقة.

 

وهناك وسائل عديدة اعتمدها اليهود، واستهدفوا من خلالها المعرفة الإنسانيّة، نذكر منها:

الأولى: قَلْب الحقائق

زوّر اليهود الحقائق من خلال تحريف المستندات الإلهيّة، وإدخال نظريّات وأفكار فاسدة إلى المجتمع، وقد عبّر القرآن

 

129

 


104

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

الكريم عن تحريفهم هذا بقوله تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾[1]. وهذا التحريف قد يكون له جانبٌ لفظيّ، وقد يكون له جانبٌ معنويّ وعمليّ[2].

 

أمّا بثّ النظريّات والأفكار الفاسدة، فما زلنا نرى آثارها الماضية ونعيشها في حاضرنا، من خلال المناهج الدراسيّة والحملات الإعلاميّة والإصدارات المختلفة، وقد صرّح اليهود أنفسهم بدورهم هذا، فعن برتوكول حكماء بني صهيون: "أمّا شباب الغوييم، فقد فتنَّاهم في عقولهم، ودوَّخنا رؤوسهم، وأفسدناهم بتربيتنا إيّاهم على المبادئ والنظريّات التي نعلم أنَّها فاسدة، مع أنّنا نحن الذين لقنَّاهم ما تربّوا عليه"[3].

 

الثانية: التشكيك بالحقائق

وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم

 


[1] سورة النساء، الآية 46.

[2] الشيخ مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج3، ص 255.

[3] نويهض، عجاج، برتوكولات حكماء بني صهيون، طلاس، دمشق، 1989م، لا.ط، ج1، ص219.

 

130


105

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾[1].

 

وقال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾[2].

 

الثالثة: صرْف الناس عن الحقائق

وردَ في برتوكولات "حكماء صهيون": "لكي تبقى الجماهير في ضلال، لا تدري ما وراءها وما أمامها، ولا ما يُراد بها، فإنّنا سنعمل على زيادة صرْف أذهانها بإنشاء وسائل المباهج، والمسلّيات، والألعاب الفكِهة، وضروب أشكال الرياضة واللهو، وما به الغذاء لملذّاتها وشهواتها... والإكثار من القصور المزوّقة، والمباني المزركشة، ثمّ نجعل الصحف تدعو إلى مباريات فنّية رياضيّة، ومن كلّ جنس، فتتوجّه أذهانها إلى هذه الأمور وتنصرف عمّا هيّأناه، فنمضي به إلى حيث نريد"[3].


 


[1] سورة آل عمران، الآية 100.

[2] سورة البقرة، الآية 109.

[3] نويهض، عجاج، بروتوكولات حكماء صهيون، مصدر سابق، ج1، ص 241.

 

131


106

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

المحور الثاني: موانع الاستقامة السلوكيّة

قد لا يواجه الإنسان الذي يريد أن يتكامل مشكلة في المعرفة، فتأتي عقبة أخرى في مساره، هي محاولة ثنْيِه في سلوكه. فهناك عوائق وموانع كثيرة تمنع الإنسان من التوبة والرجوع إلى الصراط المستقيم، بعضها يؤثّر على أصل الاستقامة، كالشِرْك والكفر، وبعضها يؤثّر على ديمومة الاستقامة، كالمعاصي، وهذه الموانع تختلف من شخصٍ لآخر.

 

المانع الأول: الأمن من مكر الله

لا شكّ أنّ رحمة الله واسعة وعظيمة، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كُميل: "اللّهُمَّ، إِنِّي أَسأَلُكَ بِرحَمتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء"، إلاّ أنّه لا ينبغي للإنسان اتكالًا منه على هذه الرّحمة الواسعة، أن يصل إلى مرحلة الأمن من مكر الله تعالى، وهذا في الحقيقة من الموبقات الكبرى التي ما إن يقع المرء بها فإنّه يتقاعس عن العمل، وتضعف إرادته وهمّته تّجاه ما يرتقي به في طريق الاستقامة.

 

وبالإضافة إلى ذلك فإنّه تعالى يقول: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ

 

132

 

 


107

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾[1], فإنّه سبحانه في هذه الآية المباركة يخصّ رحمته الواسعة تلك بالمتّقين. فكيف للإنسان حينها أن تشمله رحمة الله إذا تمادى في غيّه، فهل سيكون ممّن تشملهم الرحمة حينئذٍ؟.

 

المانع الثاني: احتقار الذنوب

بعض الناس يرى نفسه على خير، ويأتيه الشيطان فيجعله يحتقر الذنوب التي يقترفها، فيراها قليلة يسيْرة هيّنة لا تستحقّ أن يتوب منها، فينحرف عن الصراط وخطّ الاستقامة.

 

قالَ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ! فإنّ لها من الله طالباً، وإنّها لتجتمع على المرء حتّى تُهلكه"[2]، ورُوي: "لا تنظر إلى الذنب وصِغَره، ولكن انظر من تعصي به, فإنّه الله العليّ العظيم!"[3].


 


[1] سورة الأعراف، الآية 156.

[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ح (20613) 11، ج15، ص 313.

[3] الحراني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1404ه - 1363ش، ط2، ص 5.

 

133


108

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

المانع الثالث: الاغترار بالأعمال الصالحة

على الإنسان المؤمن أن لا يغترّ ببعض أعماله وطاعاته، فكم من طاعة أهلكَت صاحبها إذا اغترّ بها وفرح! قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾[1].

 

لا بدّ للمؤمن من أن يبقى في حالة وجَلٍ من عمله, فلعلّه لم يُقبل، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾[2], ومن أوْضَح الآيات القرآنيّة في هذا المجال قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[3].

 

المانع الرابع: اليأس من رحمة الله تعالى

إنّ اليأس من رحمة الله هو من الكبائر المانعة من تكمِلة طريق الاستقامة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[4], وقال أيضاً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ


 


[1] سورة الأعراف، الآية 99.

[2] سورة المؤمنون، الآية 60.

[3] سورة المائدة، الآية 27.

[4] سورة يوسف، الآية 87.

 

134


109

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[1].

 

المانع الخامس: ضُعْف الإرادة مع طول الأمل

مِن الناس مَن يفكّر في الاستقامة، ويتمنّى أن يستقيم، ويحسد الناس المستقيمين على ما هم عليه من خير، لكنّه لا يتحرّك ولا يتقدّم, وما ذلك إلّا لضعف إرادته من جهة، ولتغلُّب الشيطان عليه من جهة أخرى, إذ غرّه بالتسويف وتطويل الأمل، فمنهم من يقول غداً أتوب، ومنهم من يقول الجمعة المقبلة، أو إذا جاء شهر رمضان، وهكذا...

 

قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[2].

 

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ, اتِّبَاعَ الْهَوَى وطُولَ الأَمَلِ, أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّه يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ"[3].


 


[1] سورة الزمر، الآية 53.

[2] سورة المؤمنون، الآيتان 99 - 100.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، باب اتّباع الهوى، ح3، ج2، ص 334-335.

 

135


110

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

المانع السادس: الاعتقاد بأنّ الاستقامة قد تمنع التمتّع بالدنيا

يتوهّم بعض الناس - لأسباب مختلفة ربّما - أنّه عندما يتوب ويستقيم ويصبح من روّاد بيت الله تعالى، سيصبح راهباً أو ملاكاً، حرام عليه الأكل والشرب والزواج، وحرام عليه أن يكسب المال والبيت الواسع والسيارة...

 

وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ أصل الزهد حُسن الرغبة فيما عند الله"[1].

 

فالزاهد، حقيقةً، من كان همّه طاعة الله ويرغب في مرضاته، فهو على حدّ سواء في الفقر والغنى، فلا يشغلهُ عن إقامة أحكام الدين وطاعة ربّ العالمين، لا مالٌ ولا بنون.

 

بل يمكننا الجزم بأنّ الزاهد الغنيّ خيرٌ من الزاهد الفقير، ويشهد لذلك ما ورد في الحديث عن أبي بصير، قال: "ذكرنا عند أبي جعفر عليه السلام مَن الأغنياء من الشيعة، فكأنّه كره ما سمع منّا فيهم"، ثمّ قال: "يا أبا محمّد،


 


[1] النوريّ الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص 47.

 

136


111

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

إذا كان المؤمن غنيّاً رحيماً وصولاً لأرحامه، له معروف إلى أصحابه، أعطاه الله أجر ما يُنفق في البِّر أجره مرّتين ضعفين, لأنّ الله -عزّ وجلّ- يقول في كتابه: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾[1],[2].

 

ومن هنا، يمكننا فهم ما ورد في المقولة المشهورة: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملِكُك شيء".

 

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام، قَالَ: "إِنَّ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ أَتَيْنَ رَسُولَ اللَّه، فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: إِنَّ زَوْجِي لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ، وقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّ زَوْجِي لَا يَشَمُّ الطِّيبَ، وقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّ زَوْجِي لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ, فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّه يَجُرُّ رِدَاءَه، حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّه وأَثْنَى عَلَيْه، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ مِنْ أَصْحَابِي؟! لَا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ، ولَا يَشَمُّونَ الطِّيبَ، ولَا يَأْتُونَ

 

 


[1] سورة سبأ، الآية 37.

[2] الشيخ الصدوق، عِلَل الشرائع، تحقيق وتقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1386 - 1966 م، ح 73، ج2، ص 604.

 

137


112

الدرس العاشر: موانع الاستقامة

النِّسَاءَ! أَمَا إِنِّي آكُلُ اللَّحْمَ، وأَشَمُّ الطِّيبَ، وآتِي النِّسَاءَ, فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[1].

 

وقال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[2].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، باب كراهية الرهبانيّة وترك الباه، ح5، ج5، ص 496.

[2] سورة الأعراف، الآية 32.

 

138


113

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

الدرس الحادي عشر

آثار الاستقامة

 

 

 

محاور الموعظة:

• آثار الاستقامة الفرديّة وثمراتها.

• آثار الاستقامة الاجتماعيّة وثمراتها.

 

139


114

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

تصدير الموعظة

قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾[1], كما قال: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[2], وقال: ﴿إِنَّا لَنَنلاصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾[3].

 

آثار الاستقامة الفرديّة وثمراتها

1- تولّي الملائكة وتنزّلها:

قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾.

 

تنزّلت عليهم ملائكة الرحمة بالسكينة والبشرى بأنّ اللَّه قد اطَّلع على عملهم، ورضي سعْيَهم، وأعدّ لهم مقاعد الكرامات التي وعدهم بها على ألسنة أنبيائه ورسله.

 

الملائكة تقول للمُخلصين قبل أن ينتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء، تقول لهم: نحن أولياؤكم في الدنيا, لأنّ الشيطان

 


[1] سورة المجادلة، الآية 21.

[2] سورة الصافات، الآية 173.

[3] سورة غافر، الآية 51.

 

141


115

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

كان يغريكم بالعدول عن صراط اللَّه المستقيم، ونحن ننهاكم عنه، وكنتم تسمعون لنا من دونه... وأيضا نحن أولياؤكم في الآخرة, لأنّنا نشهد لكم عند اللَّه بالإيمان والاستقامة[1].

 

2- عدم الخوف والحزن:

قال عزّ وجلّ: ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ ﴿أَلَّا تَخَافُوا﴾ ما تقدمون عليه ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ على ما خلَّفتم. والخوف: غمّ يلحق لتوقّع المكروه. والحزن: غمّ يلحق لوقوعه، من فوات نافع أو حصول ضارّ. والمعنى: إنّ اللَّه كتب لكم الأمن من كلّ غمّ، فلن تذوقوه أبدا[2].

 

3- البُشرى بالجنة:

قال سبحانه: ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾.

 

نقَل العلّامة المجلسيّ، في بحار الأنوار[3]، عن تفسير عليّ بن إبراهيم، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ


 


[1] الشيخ محمّد جواد مغنيّة، التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج 6، ص 491.

[2] الكاشانيّ، الملّا فتح الله، زبدة التفاسير، تحقيق مؤسّسة المعارف، مطبعة عترت، قم، 1423ه، ط1، ج6، ص 180.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ح36، ج6، ص166.

 

142


116

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

اسْتَقَامُوا﴾, أي على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام... ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾, قال: عند الموت...، ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، قال: كنّا نحرسكم من الشياطين...، ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾, أي عند الموت...، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾، يعني في الجنّة... ﴿نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾.

 

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾, قَالَ: "يَعْنِي لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ والأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِه عليهم السلام، وقَبِلُوا طَاعَتَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ ونَهْيِهِمْ، لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً، يَقُولُ: لأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الإِيمَانَ، والطَّرِيقَةُ هِيَ الإِيمَانُ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ والأَوْصِيَاءِ"[1].

 

وفي تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسيّ رحمه الله، في تفسير أهل البيت عليهم السلام، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، بَابُ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي حُثَّ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهَا وَلَايَةُ عَلِيٍّ عليه السلام، ح1، ج1، ص 220.

 

143


117

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

قول الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: "هو - والله - ما أنتم عليه، ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدَقا"[1].

 

وعن بريد العجليّ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "معناه لأفَدناهم عِلماً كثيراً، يتعلّمونه من الأئمّة"[2].

 

4- الهداية:

رُوي عَنِ النَّبِيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْه، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ من خشية اللهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ"[3].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ح32، ج2، ص 151.

[2] المصدر نفسه، ح33.

[3] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ح7، ص 343.

 

144


118

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

وقد دلّنا هذا الحديث الشريف على أعمال تؤدّي إلى الاستقامة، منها:

أ- أن يكون الإمام عادلاً، وعلى رأس هولاء حاكم المسلمين، وفي هذا الأمر بيان ضرورة تحلّي من لم يكن كذلك بالعدالة أيضاً، لـِما لها من ثمرات في الدنيا والآخرة.

 

ب- أن ينشأ الشابّ على طاعة الله، ومن نشأ في طاعة الله وعبادته كان من السهل عليه أن يستقيم في هذه الطريقة، وينال ثمرات عمله في الدنيا والآخرة.

 

ج- تعلّق القلب بالمساجد، وفي هذا الأمر بيان أهمّيّة ربط الناس بالمساجد, فإنّها مصنع تخريج الرجال، وإعداد الروّاد والقادة.

 

د- أن يكون الحبّ بين المتحابّين، خالِصاً لوجه الله تعالى، وهو ما ورد في الروايات بعنوان "الحبّ في الله والبُغض في الله"، فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام، قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّه وأَبْغَضَ لِلَّه وأَعْطَى لِلَّه، فَهُوَ مِمَّنْ كَمَلَ إِيمَانُه"[1].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، باب الحبّ في الله والبُغض في الله، ح1، ج2، ص 125.

 

145


119

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

هـ- أن يحرص المؤمن على كثْرة ذِكْر الله في الخلوات, فإنّ ذلك يدلّ على الخشية من الله ومراقَبَتِه.

 

و- أن يكون المؤمن عفيفاً مخافة الله تعالى، وإنّ أبرز مصداقٍ للعفّة في القرآن، هو نبيّ الله يوسف عليه السلام.

 

ز- أن يحرص المؤمن على صدقة السرّ, إذ تُشعره بقربه من خالقه، وتذكّره عند غفلته، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام: "يَا عَمَّارُ، الصَّدَقَةُ - واللَّهِ - فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ، وكَذَلِكَ - واللَّه - الْعِبَادَةُ فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعَلَانِيَةِ"[1].

 

آثار الاستقامة الاجتماعية وثمراتها

آثار الاستقامة الاجتماعية وثمراتها متعدّدة، نذكر منها:

1- سِعَة الرزق:

قال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾[2].

 


[1] المصدر نفسه، ج4، ص 8.

[2] سورة الجنّ، الآيتان 16 - 17.

 

146


120

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا﴾، أي الخلائق، سواء كانوا من الجنّ أو الإنس، ﴿عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾، والمراد بالطريقة شريعة الحقّ والعدل، لكانت النتيجة ﴿لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾، و﴿مَّاء غَدَقًا﴾ كناية عن الرخاء والسِعة في الرزق, لأنّ الماء أصل الحياة، و﴿الْفِتْنِةِ﴾ الاختبار. والمعنى: إنّ الناس لو آمنوا باللَّه حقّاً، وعمِلوا بشريعة العدل، وابتعدوا عن الجوْر والعدوان، لعاشوا في سِعَة ورخاء وأمْنٍ وأمان. ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾، أي في الرخاء، واللام في ﴿لِنَفْتِنَهُمْ﴾ للعاقبة، مثل: لِدُوا للموت، والمعنى أنّ اللَّه - سبحانه - يُغدِق النِعَم عليهم، ثمّ ينظر, فإنْ ازدادوا إيماناً به وإخلاصاً له كانوا من السعداء في الدنيا والآخرة، وإن غيّروا وبدّلوا، فهو لهم بالمرصاد، ﴿وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾[1], أي شديداً، وكلّ من ذُكِّر بالحقّ، فأعرض عنه، عذّبه اللَّه عذاباً أليماً[2].

 


[1] سورة الجن، الآية 17.

[2]الشيخ محمّد جواد مغنيّة، التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج7، ص 439.

 

147


121

الدرس الحادي عشر: آثار الاستقامة

2- النصر على الأعداء والتغلّب عليهم:

قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾[1].

 

يجازي الله تعالى أهل الاستقامة بالنصر على الأعداء، والتغلّب عليهم، وما ذلك إلّا ثمرة من ثمرات الاستقامة, ولذا أمرَ الله تعالى نبيّه والمؤمنين معهم بالاستقامة.

 

والآية واضحة بأنّ هناك نصْر وغلَبة في حال استقامتهم، أمّا من دون ذلك، وفي حال الطغيان، فلن يحصل أيّ نصرٍ أو غلَبة على الأعداء.

 


[1] سورة هود، الآيتان 112 - 113.

 

148


122

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

الدرس الثاني عشر

الصراط والاستقامة

 

محاور الموعظة:

• حقيقة الصراط في القرآن والروايات.

• الصراط والاستقامة.

• الصراط والطغيان.

• اهدِنا الصراط المستقيم.

 

149

 


123

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

تصدير الموعظة

عن الإمام علي عليه السلام: "اليمين والشمال مَضَلّة، والطريق الوسطى هي الجادّة, عليها باقي الكتاب وآثار النبوّة، ومنها مَنفَذ السنّة، وإليها مصير العاقبة"[1].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وإنّا وشيعتنا هُدِينا الصراطَ المستقيم"[2].

 

حقيقة الصراط في القرآن والروايات

الصراط، هو مفهومٌ جاء في المصادر الإسلاميّة في وصف موقف من مواقف القيامة، ويُراد به جسر فوق جهنّم، أدقّ من الشعر وأحَدُّ من السيف، يمرّ عليه كلّ إنسان، بعد مرحلة من مراحل الحساب. ووفقاً للروايات، هناك مواقف على الصراط يُسأل الإنسان فيها عن أعماله وعقائده، ويُحاسب عليها.

 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة رقم 16.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص246.

 

151


124

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

تختلف أحوال الناس في المرور على الصراط بحسب الأعمال والملَكات، وفي عقيدة الشيعة أنّ أهمّ ما يُسأل عنه على الصراط هو ولاية الأئمّة، باعتبارهم باب التوحيد.

 

قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾[1], وهذه المعرفة إنّما تحصل بالعِلم والعمل شيئاً فشيئاً، بحسب الاستكمالات العقليّة بمتابعة السُنن النبويّة والاهتداء بُهداه صلى الله عليه وآله وسلم، فالصراط بهذا المعنى، عبارة عن العلوم الحقّة والأعمال الصالحة، وبالجملة ما يشتمل عليه الشرع, فمجموع هذه المعارف الموجودة في الدِّين تمثِّل الصراط المستقيم[2].

 

عن المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصراط، قال: "هو الطريق إلى معرفة الله عزّ وجلّ، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة, فأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة، مَن عرفَه في

 


[1] سورة الشورى، الآيتان 52 - 53.

[2] الفيض الكاشانيّ، علم اليقين، مصدر سابق، ج 2، ص 966.

 

152


125

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

الدنيا واقتدى بهُداه، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، ومَن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدَمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنّم"[1].

قد أشارت الروايات أنّه دقيق وحادّ، فعن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "النّاس يمرّون على الصّراط طبقات، والصّراط أدقّ من الشّعر ومن حدّ السيف, فمنهم من يمرّ مثل البرق، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ حبواً، ومنهم من يمرّ مَشياً، ومنهم من يمرّ متعلّقاً، قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً"[2].

 

يقول الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن هذين الصراطَين: "فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا، فهو ما قَصُر عن الغلوّ، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يَعدِل إلى شيء من الباطل، وأمّا الطريق الآخر، فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة... الذي هو مستقيم"[3].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 8، ص 65، ح 2.

[2] المصدر نفسه، ص 64ــ65، ح1.

[3] المصدر نفسه، ج 24، ص 9.

 

153


126

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

الصراط والاستقامة

لقد بيّنت الآيات هذا المعاني، وشوّقت للسلوك في طريق الاستقامة والاستواء، كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[1], وفي قوله تعالى على لسان أحد الأنبياء عليهم السلام: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾[2], وفي قوله تعالى: ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا﴾[3], وقوله عزّ وجلّ مخاطباً النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[4], وكما تكون الهداية إلى الصراط هدايةَ إبانةٍ و كشف، تكون هداية إيصال وإبلاغ، عبّر عنها تعالى بقوله: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾[5].


 


[1] سورة آل عمران، الآية 101.

[2] سورة آل عمران، الآية 51.

[3] سورة الأنعام، الآية 126.

[4] سورة المؤمنون، الآية 73.

[5] سورة الحجّ، الآية 24.

 

154


127

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

تحذير من الانزلاق: إنّ الكشف عن سبيل الحقّ والهداية إلى الصراط المستقيم، يستَبطِن تحذيراً من مفارقة الاستقامة، واتّباع سبيل غير سبيل الله[1]، وتحذيراً من التفرّق ذات اليمين وذات الشمال، فتزلّ القدم بعد ثبوتها، وقد نصّت إحدى آيات القرآن المجيد على هذا التحذير الناهي عن الانزلاق من جادّة الصراط والانجرافَ في تيّارات السُبل الأخرى المـُلتوية المضلِّلة، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[2].

 

الصراط والطغيان

الطغيان والاستكبار على الله سبحانه في التعبير القرآنيّ هما من لوازم الخروج عن استقامة الصراط والوقوع في المزلاّت، ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ

 

 


[1] الطباطبائيّ، تفسير الميزان، مصدر سابق، ج 7، ص 392.

[2] سورة الأنعام، الآية 153.

 

155


128

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[1]. ومَن ينحرف عن صراط الله ويَتَعدَّ حدوده، فإنّما يكون قد تمرّد على الله. والتمرّد يعني - فيما يعني - أن يطغى المرء ويرى نفسه، عامداً أم غير عامد، أكبر من أن يُسالم الله، ويخضع لربوبيّته، فيكون قد استكبر على الله، تماماً كما فعل إبليس من قبلُ لمــّا طغى واستكبر على الله، فكان أباً لكلّ طغيان ولكلّ استكبار.

 

اهدنا الصراط المستقيم

قال تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.

الهداية هي طريق الذين استقاموا على الجادّة القويمة، وقد أُشير إلى منهجهم بالصراط المستقيم.

 

فما هو المراد من الصراط المستقيم؟

ذكَر بعض المفسّرين أنّ المراد منه هو الجسر هو المـُقام على نار جهنّم، ولا بدّ للمؤمن أن يسلكه في طريقه إلى الجنّة.

 

والذي يظهر أنّ كلمة الصراط وردَت في القرآن الكريم


 


[1] سورة هود، الآية 112.

 

156


129

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

في مواضع متعدّدة، وهذا يستدعي أن نُجري لها تفسيراً بالأسلوب نفسه الذي قدّمناه في تفسير الهداية والضلالة في القرآن الكريم, بمعنى أن نعمَد إلى التفسير الموضوعيّ، فنفسّر الصراط من خلال ذلك، فنقول:

الظاهر أنّ المراد منه هو الخطّ الذي تتحرّك فيه الأوامر والنواهي الإلهيّة، وتتمثّل فيه مناهجه، وتقع منه موقع الرضا, فهو طريق الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين الذي يمثّل إسلام القلب والوجه واللسان والكيان لله سبحانه.

 

فالصراط على هذا، عبارة عن المنهج، أو قل هو الدين الذي يطلبه الإنسان ليكون دستور حياته، ومنهج علاقاته الفرديّة والاجتماعيّة. ويُستفاد هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾[1], حيث جعل الدين هو الصراط المستقيم، وكذلك قوله تعالى:

 


[1] سورة الأنعام، الآية 161.

 

157


130

الدرس الثاني عشر: الصراط والاستقامة

﴿وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾[1], فجعل الصراط طريق الأنبياء والرسُل.

 

ثمّ إنّ عُمق الاستقامة يظهر في مضمونها, لأنّها تمثّل حركة المصلَحة التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - شاملة لجميع شؤون الإنسان في مفردات التشريع.

 

إنّ مسألة الاستقامة هي أساسٌ للأعمال الصالحة كلّها، ورُكنٌ أساس في امتثال كلّ طاعة واجتناب كلّ معصية، كما إنّها تُعدّ أحد العوامل المهمّة في دخول الجنّة، وقد تقدّم معنى الاستقامة.

 


[1] سورة الزخرف، الآية 61.

 

158


131
إن معي لبصيرتي