حديث الانطلاق

نظرة إلى الحياة العلميّة والسياسيّة للإمام الخمينيّ الراحل قدس سره...


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-03

النسخة: 0


الكاتب

جمعية مراكز الإمام الخميني الثقافية

مراكز ثقافية تعنى بحفظ نهج الإمام الخميني قدس سره ونشره من خلال إنشاء مراكز متخصصة بإقامة الندوات الفكرية واللقاءات الحوارية للنخب الثقافية والجامعية، وإنشاء المكتبات العامة للمطالعة، وتكريم شخصيات ثقافية، وإقامة دورات فكرية، وتوقيع كتب أدبية وفكرية، وإصدار سلاسل فكرية متنوعة لكبار العلماء والمفكرين.


المقدّمة

◄| المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين سيّدنا محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.

 

التاريخ مليء بالعظماء، الذين تركوا بصماتهم على صفحاته، وغيّروا في مساره ومنعطفاته، وتركوا أثراً بارزاً في مصير شعوبهم، فانتقلوا بهم من مرحلة إلى أخرى، ومن واقع إلى آخر. ولكن، قلّة هم القادة الذين عملوا لنجاة شعوبهم في البعدين، الدنيويّ والأخرويّ، قلّة هم الذين حملوا همّ الهداية والنهضة الإلهيّة، والأخذ بأيدي الشعوب من وحول الضلال، المادّيّ والمعنويّ.

 

الإمام الخمينيّ (قدس سره)، قطب عظيم، تمسّك بأوردة الحقّ، نموذجٌ وقدوة، جعل من القرآن والسنّة الشريفة مسلكاً عمليّاً، فكانت أفعاله تحاكي ما ورد من آيات وروايات، حمل آلام شعبه المظلوم، وعى الغاية والوسيلة، ومشى صلباً كجدّه الحسين عليه السلام، مؤدّياً لتكليفه الإلهيّ، متوكِّلاً على الله، غير آبهٍ بجبروت الاستكبار العالميّ، وافتتح عصراً جديداً متّسماً بروح العزّة والاستقلال والاستغناء والثقة بالذات والميل للقيم الإنسانيّة والعدالة والحرّيّة وأصوات الشعب.

آمن به الشعب الإيرانيّ قائداً رياديّاً، صدّقه، لبّى نداءه، فحقّق حلم الأنبياء عبر التاريخ، وأطلق الصحوة الإسلاميّة الكبرى، راسماً خطّ هذه المرحلة ومسارها تحت عنوان: عظمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن المحرومين والمستضعفين في العالم كلّه.

 

5


1

المقدّمة

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في هذا الإمام العظيم:

"سلب أعين المتجبّرين النوم الرغيد، وأشاع أنوار الأمل - وهي مفتاح جميع الانتصارات والتقدّم - في قلوب الشعوب. ولا شكّ بأنّ جميع أجهزة الاستكبار لن تستطيع التغلّب على البذور التي زرعها، وتحطيم الصرح الذي شيّده"[1].

 

وفي الذكرى الأربعين لانتصار هذه الثورة الإسلاميّة المباركة، بقيادة هذا الإمام العظيم، وتأديةً لأقلّ الواجب في حفظ مَنْ حطّم بنهضته الإلهيّة الإنسانيّة أصنام الظلم والاستكبار، يسرُّ مركز المعارف للتأليف والتحقيق أن ينشر هذا الكتاب القيّم "حديث الانطلاق"، الذي يستعرض أهمّ الوقائع والأحداث من حياة الإمام الخمينيّ قدس سره، منذ الولادة وحتّى الوفاة، ويشير إلى أهمّ المحطّات في حياته العلميّة والسياسيّة، لاحظاً الأصالة الفكريّة لدى الإمام، وتأثير الأبعاد العلميّة والمعنويّة على مسار حياته وجهاده.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 


[1] من ندائه للملتقى العام لقادة التعبئة 2/9/1368 (23/11/1989م).

 

6


2

تقديم

◄| تقديم

يستعرض الكتابُ، بنظرةٍ تحليليّةٍ - إلّا أنّها موجزةٌ وسريعةٌ -، الفصولَ والوقائعَ المهمّةَ من حياة الإمام الخمينيّ الراحل قدس سره، منذ الولادة وحتّى الوفاة. ومع أنّ تحديد معالِم أبعاد شخصيّة الإمام الخمينيّ، وبيان الفصول المهمّة في حياة شخصيّةٍ عظيمةٍ كشخصيّته، في مقالٍ أو كتابٍ، هو كالذي يحاول أن يصبّ البحر في جرّةٍ، بيد أنّه لا مفرّ من ذلك، خاصّةً وأنّ محبِّي الإمام ومريديه في أنحاء العالَم، لا يكفّون عن مطالبتنا بعرضٍ موجزٍ لسيرة حياة الإمام الراحل، والتعرّف إلى أهمّ محطّات حياته العلميّة والسياسيّة المباركة.

 

ولهذا، حرصنا - قدر الإمكان - على تجنّب الخوض في تفاصيل الحوادث وعرض الوثائق الخاصّة بها، إلّا في بعض المواضع الضروريّة. ولكن ذلك لا يمنع من تناولِ معظم الحوادث التي تتّصل بحياة الإمام، والتي لعبت دورًا في تحرّكه ومواقفه تجاه القضايا المهمّة، وكذلك التأكيد - لدى استعراض حياة الإمام - على أصالته الفكريّة، وإصرار سماحته على أولويّة التربية والتهذيب، وتأثير الأبعاد العلميّة والمعنويّة على مسار حياته وجهاده.

 

إنّ شموليّة شخصيّة الإمام الخمينيّ ووحدتها، وانسجام مذهبه الفكريّ، يدلّان على أنّ نهضته والثورة الإسلاميّة هما أبعد من أن يقتصرا على بلدٍ أو مجتمعٍ معيّنٍ. لذا، فإنّ دراسة مقطعٍ من مقاطع حياته، أو بُعدٍ من أبعاد شخصيّته، غير كافٍ للتعرّف على أفكاره ونهجه، ولا بدّ من تناول جميع جوانب حياته العقيديّة والإيمانيّة والعمليّة في مراحل حياته المختلفة. ويتعهّد هذا الكتاب إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على ذلك الأفق الرحب السامق. وقد حرصنا على عرض مجمل الحوادث والوقائع، وتحليل مواقف الأشخاص والتيّارات السياسيّة والفكريّة المنسجمة مع مواقف الإمام، المستلهمة من توجيهاته وإرشاداته.

 

7


3

تقديم

وأخيرًا، لا بدّ من الاعتراف مقدّمًا، بأنّ هذا البحث غير منزّهٍ عن الخطأ. لذا، ندعو المؤرّخين الملتزمين، وممّن هم على بصيرةٍ بالأسس الفكريّة للإمام الخمينيّ ويحيطون بحياته، تذكيرَنا بنواقص هذا البحث، وإرشادنا إلى أخطائه. والله وليّ التوفيق.

 

حميد الأنصاريّ

تشرين الثاني 1994م

 

8


4

يوم الكوثر

◄| يوم الكوثر

في النصف الثاني من عام 1320ه، وُلِدَ، في إيران، مولودٌ غيّر - فيما بعد - بثورته الإلهيّة، مصيَر إيران والعالَم الإسلاميّ، وفجّر ثورةً اصطفّت في وجهها، منذ البداية، القوى المهيمنةُ على العالَم، وأعداءُ حرّيّة الشعوب واستقلالها كافّةً، سعيًا للقضاء عليها. غير أنّهم عجزوا - بفضل الله ومنّه - عن مواجهة إنجازه العظيم، وخابوا في الإساءة إلى العقيدة والفكر الذي كان ينادي به ويدافع عنه.

 

وقتئذٍ، لم يكن أحدٌ يعلم أنّ العالَم سيتعرّف على هذا المولود، ذات يومٍ، باسم "الإمام الخمينيّ". مثلما لم يتصوّر أحدٌ، عندما بدأ ثورته، أنّه سيقف في مواجهة أعتى القوى العالَميّة، وسيدافع عن استقلال البلاد ومجد الأمّة الإسلاميّة، وسيمسي محيي دين الله في عصرٍ تُمسَخُ فيه القيم.

 

11

 


5

الخلفيّة التاريخيّة

◄| الخلفيّة التاريخيّة

العشرون من جمادى الآخرة هو "يومُ الكوثر". لمّا قضى أبناء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نحبَهم، فرح مشركو قريشٍ، راحوا يشنّعون برسول الله بأنّه أبتر، لا ذريّة له, فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنحَر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبتَرُ﴾[1]. فكان يوم العشرين من جمادى الآخرة يومَ تدفّق كوثر الولاية والإمامة على هذه الأرض، حيث وُلِدَت سيّدة نساء العالَمين، الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، ولتصبح - فيما بعد - زوج وأنيس إمام العدالة الإنسانيّة الخالد، واُمَّا لذرّيّةٍ تقف في طليعتها كواكب الإمامة الأحد عشر، الذين أضاؤوا طريق هداية الإنسانيّة، وكان كلُّ بُعدٍ من أبعاد حياتهم حكمةً إلهيّةً, فصُلحُهم وحربُهم، ومناجاتُهم وسكوتُهم، وعلمُهم وحلمُهم، وحياتُهم الحافلة بالمقاومة والعذاب والمختومة بالشهادة، وآخِرها غيبة المهديّ الموعود، كلّها حِكَمٌ إلهيّةٌ تدلّ على أنّ عِباد الله مسدَّدون في زمن التحدّي والتردّي وتكالب الزمان، وأنّ دعاة الحقّ ومنائر الهداية حاضرون دومًا، يمارسون دورَهم في هداية البشريّة، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة الله على خلقه أبدًا.

 

و مع بداية عصر الغيبة، تواصل الصراع الدائم بين الخير والشرّ. وجيلًا بعد جيلٍ، وقف الطغاةُ وعبدةُ المال والمفسدون في جبهة الظلام، وفي الجهة الأخرى، وقف المؤمنون والصالحون والأخيار في وادي النور، لتتواصل المواجهة فيما بينهم.

 


[1] سورة الكوثر، الآيات 1 - 3.

 

11


6

الخلفيّة التاريخيّة

كانت أنوار الوحي قد أضاءت آفاق العالَم، وزاد الإسلام من دائرة انتشاره، بعد أن وجد طريقه إلى قلوب عباد الله الأخيار، فضمّ ما حوله من الشرق، ووصل إلى قلب أوروبّا في الغرب، وشكّل حضارةً عظمى لم يسبق لها مثيلٌ، وشهدت البشريّة تحوّلًا عظيمًا في العلوم والآداب والثقافة والفنون، وفي مختلف مظاهر الحضارة الحقيقيّة, ذلك كلّه على أساسٍ محكمٍ من الإيمان والعقيدة. إذ كان تقبّلُ الفطرة السليمة لرسالة الرسول الأمين التحرّريّة، بدرجةٍ من العمق والسعة، بحيث عجزَ حكّام السوء، مع ما أوتوا من ظلمٍ وجورٍ، عن الوقوف في وجه تقدّم هذه الرسالة الإلهيّة.

 

كانت أوروبّا تحترق في بربريّة القرون الوسطى، وتخندق المادّيّون، المهيمِنون على عباد الله المظلومين في ذلك الجزء من العالَم، خلفَ الصليب, للحيلولة دون سطوع رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي بشَّر به السيّد المسيح عليه السلام، على دنياهم المظلمة, لكي لا تبور بضاعة الكنيسة التي أخذت تعرض، في القرون الوسطى، عقيدةً خاليةً من الروح، وتُقيم حكومة تفتيش العقائد الأوروبّيّة، التي عُدَّت – بحقٍّ - وصمة عارٍ في تاريخ البشريّة! وممّا يدعو إلى الحيرة والأسى معًا، هو أنّهم في الوقت ذاته الذي انتبهوا لأنفسهم وعزموا على القضاء على دين الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كانت قد اندلعت، في هذا الجزء من العالَم، نيرانُ النفاق ونزعةُ التسلّط، وسادت الفرقة والاختلاف.

 

وفي غضون ذلك، توفّرت جملةٌ من العوامل، ساعدت في ظهور أرضيّة التحوّلات العلميّة والصناعيّة في أوروبّا، واستحواذِ القوى والحكومات المعادية على التكنولوجيا ووسائل التقدّم. وأضفى انتشار العلوم والفنون الحديثة - الذي كان للحضارة الإسلاميّة دورٌ مهمٌّ ومصيريٌّ فيها - على المجتمع الأوروبّيّ البدائيّ المتخلّف، رونقًا خاصًّا. وبدلًا من أن يفكّر قادةُ البلدان الإسلاميّة بما يُصلِح حالهم وأحوال شعوبهم، رجّحوا الاستسلام للغفلة والتخلّف، بدلًا من المبادرة للعمل والاجتهاد, فنتج عن ذلك تنامي سطوة الأعداء يومًا بعد آخر، فانطلقوا يوسّعون من مناطق نفوذهم، حتّى باتت - مع الأسف - مناطقُ مترامية الأطراف من العالَم الإسلاميّ، تحت هيمنة الدول الاستعماريّة. وهكذا، تواصلت القصّة المؤلمة لسلطة القوّة والمال والكفر وتدخُّل المستعمرين السافر والخفيّ في مصير البلدان الإسلاميّة، عدّة قرونٍ.

 

وتوالت سلالات الملوك والسلاطين على الحكم في إيران. وعلى الرغم من الظلم والجور المتواصل، الذي مارسته هذه السلالات الحاكمة، إلّا أنّ الشعب الإيرانيّ المناضل، الذي لبّى – طواعيّةً - نداءَ

 

12

 


7

الخلفيّة التاريخيّة

التوحيد ورسالةَ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كان - حتّى وقتٍ متأخّرٍ - يرفع لواء الحضارة الإسلاميّة وثقافتها. غير أنّ ظلم الملوك، ودسائس الاستعمار الحديث، الذي هدف من ورائها إلى بثّ الفرقة والتنازع, كانا في تزايدٍ مطّردٍ، خاصّةً وأنّ الأعداء دخلوا الميدان - هذه المرّة - بوسائل جديدةٍ، وبذريعة الإعمار والتقدّم. وقد قادت خياناتُ السلاطين القاجار[1]، وما اقترن بها من اجتياحٍ للأراضي الإيرانيّة مِن قِبَل الإنجليز والروس القياصرة، إلى إيجاد ظروفٍ صعبةٍ وقاسيةٍ, إذ كانت سفارات الدول الاستعماريّة تتدخّل بشكلٍ سافرٍ في شؤون البلاد جميعها، بما في ذلك عزل أمراء البلاط والوزراء ومسؤولي المناصب العسكريّة الهامّة وتنصيبهم. كما تمّ، في هذه الفترة العصيبة، التخلّي عن مناطق شاسعةٍ من أرضنا الإسلاميّة إلى الأجانب، عبر اتّفاقياتٍ مشينةٍ، في وقتٍ كانت البلاد تشكو من انعدام الأمن والعدالة، وتفشّي الفساد الإداريّ.

 

وخلال هذه الأحداث، كشفت كلٌّ من فتوى العالِم المجاهد الكبير آية الله العظمىٰ الشيرازيّ، بشأن نهضة تحريم التبغ، والتي عُرِفَت بـ "حركة التنباكو"[2]، ودعواتِ الإصلاح التي أطلقها السيّد جمال الدين الأسد آبادي[3]، وقيامِ علماء الدين في إيران والنجف الأشرف بوجه الاستعمار البريطانيّ, كشفت عن مكانة علماء الإسلام، واقتدار المؤسّسة العلمائيّة الإسلاميّة في التأثير على مجرى الأحداث، الأمر الذي


 


[1] حكمت السلالة القاجاريّة إيرانَ ما يقارب القرن ونصف القرن، بدءًا من سنة 1193هـ، وحتّی سنة 1344هـ (1779 - 1925م). وخلال فترة حكمها، تخلّف الشعب الإيرانيّ عن ركب الحضارة، علی مختلف الأصعدة الاجتماعيّة والثقافيّة والسیاسيّة. كما إنّ الاتفاقیّات المذلّة، التي أُبرِمَت خلال هذه الفترة، مع الدول القويّة وقتئذٍ، أساءت إلی إيران، وسوّدت صفحات تاريخها. وبشكلٍ عامٍّ، يُعَدّ العصرُ القاجاريّ بدايةَ اتّساع النفوذ الغربيّ في إيران.

[2] انتفاضةٌ شهدتها إيران عامَي (1308 و1309هـ) (1891م)، جسّدت معارضةَ الشعب الإيرانيّ مَنحَ امتيازِ حصرِ تصنيع التبغ الإيرانيّ لإحدى الشركات البريطانيّة - شركة رجي -. وكانت الانتفاضة الشعبيّة الأولى في تاريخ إيران الحديث، التي كُلِّلَت بالنجاح، حيث انتهت بهزيمة الحكومة، وانتصار المعترضين في تحقيق مطالبهم بإلغاء الامتياز وإنهاء الاتّفاقيّة. وكان لفتوى المرجع الدينيّ الأعلى – وقتئذٍ - سماحة آية الله المیرزا محمّد حسن الشيرازيّ، بتحريم استعمال التبغ، دورٌ مصيريٌّ في تعزيز وحدة رجال الدين وأبناء الشعب، وترسيخ قوّتهم وصلابتهم في مواصلة الانتفاضة. ونتيجةً للاعتراضات الشعبية المتزايدة، اضطرّ ناصر الدين شاه – الملك - إلی إلغاء الاتّفاقيّة وتعويض الشركة البريطانيّة.

[3] السيّد جمال الدين الأسد آبادي، المعروف بالأفغانيّ (1254 - 1314 ه)، أحد أبرز علماء الدين المصلِحين، الذين لمع نجمهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلاديّ. عُرِف بفكره المتّقد، ووعيه المتقدّم، وتطلّعاته الحقّة في أفكاره ومعتقداته السياسیّة والاجتماعيّة والفلسفيّة. ودافع عن سيادة الديمقراطيّة في بلدان الشرق، وتوحيد صفوف المسلمين. وقام بتأسيس "الاتّحاد الإسلاميّ". خاض صراعًا مريرًا ضدّ السياسة الاستعماريّة البريطانيّة، واستبداد السلاطين العثمانيّين. وكان في تنقّلٍ دائمٍ بين بلدان الشرق والغرب، تحقيقًا لأهدافه وتطلّعاته.

أَصدر في باريس جريدة "العروة الوثقى"، واتّخذها منبرًا لمهاجمة سياسة الإنجليز في الشرق. كما كانت له نشاطاتٌ سياسيّةٌ وثقافيّةٌ في كلٍّ من القاهرة وإسطنبول والهند وأفغانستان، تركت تأثيرها بشدّةٍ في نفوس الناس. توجّه إلى لندن، بعد أن نفاه الملك ناصر الدين - للمرّة الثانية - عام 1306ه، وقام هناك بإصدار جريدة "ضياء الخافقَين"، باللغتَين العربيّة والإنجليزيّة، إلّا أنّه طُورِدَ ثانيةً، فاضطرّ إلى ترك أوروبّا والتوجّه إلى إسطنبول. وفي إسطنبول، أُلقِيَ القبض عليه بتحريضٍ من الحكومة الإيرانيّة، وأُودِعَ السجن، حتّی مات عام 1314ه.

 

13


8

الإمام الخمينيّ، من الولادة حتّى الهجرة إلى مدينه قمّ

جعل الإنجليز يدركون مكامن الخطر، ممّا دفعهم إلى ممارسة مختلف أنواع الحيل والدسائس, للتصدّي لعلماء الدين، وإشاعة سياسة الفصل بين الدين والسياسة, فظهرت حينها الماسونيّة، والمتغرّبون الجدد المتلبّسون بلباس الثقافة، الذين أضرم وجودهم النيران في المعركة المشتعلة داخل البلاد. هذا من جهةٍ، ومن أخرى، كان الملك مظفّر الدين القاجاريّ[1] يفتقد إلى أيّة قاعدة شعبيّةٍ بين أبناء شعبه. لذا، كان يتطلّع إلى البِلاطَين الروسيّ والإنجليزيّ. وبطبيعة الحال، كانت سائر البلاد الإسلاميّة تعيش حالًا مشابهةً مؤسفةً أيضًا.

 

◄| الإمام الخمينيّ، من الولادة حتّى الهجرة إلى مدينه قمّ

في مثل هذه الظروف، وُلِدَ روح الله الموسويّ الخمينيّ، في العشرين من جمادى الثانية، سنة 1320ه، الموافق 24 أيلول 1902م، في مدينة خمين - إحدى مدن المحافظة المركزيّة - في بيتٍ عُرِفَ بالعلم والتقوى والجهاد والهجرة، ومن أسرةٍ تنتسب إلى الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام، ورث منها سجايا آباءٍ وأجدادٍ سعوا جاهدين - جيلًا بعد جيلٍ - لهداية الناس، والنهل من المعارف الإلهيّة.

 

عاصر المرحومُ آية الله السيّد مصطفى الموسويّ - والد الإمام الخمينيّ - المرحومَ آية الله العظمى الميرزا الشيرازيّ (رَضيَ اللهُ عَنهُ). ودرس العلوم والمعارف الإسلاميّة في النجف الأشرف لعدّة سنواتٍ. وبعد أن بلغ مرتبة الاجتهاد، عاد إلى إيران، ليُقيم في خمين، ويصبح ملجأً وملاذًا وموجِّهًا للناس في أمور دينهم.


 


[1] مظفّر الدين القاجاريّ، خامس ملوك السلالة القاجاريّة. حكم إيران أحد عشر عامًا. وقد أدّى عدمُ صلاحيّته كحاكمٍ، وعدم لياقته للحكم، إلى إلحاق أضرار كبيرةٍ بالبلاد. سافر إلى أوروبّا عدّة مرّاتٍ، فاضطرّ إلى الاقتراض مرّتَين من روسيا القيصريّة, لتأمين نفقات سفراته الباهظة التكاليف, الأمر الذي اضطرّه إلى تفويض أمر جمارك الشمال وصيد الأسماك في بحر الخزر إلى الروس. كذلك، اضطرّ إلى تفويض أمر جمارك البلاد الجنوبيّة إلى الإنجليز، بعد أن اقترض منهم, ممّا عرّض البلاد إلى الإفلاس، واستتبع قيام الحركة الدستوريّة التي دفعته - نزولًا عند ضغط التحرّريّين، عام 1906 (1324ه) - إلى إصدار أوامره بتحوّل الملكيّة المستبدّة إلى ملكيّةٍ مشروطةٍ بالدستور. وبعد إمضائه الدستور، الذي تمّ إعداده مِن قِبَل مجلس الشورى الوطنيّ، توفّي في العام نفسه.

 

14


9

الإمام الخمينيّ، من الولادة حتّى الهجرة إلى مدينه قمّ

لم يُتمّ "روح الله" الخمسة أشهرٍ، حتّى استُشهد والدُه في طريقه من خمين إلى آراك، على يد قُطّاع الطرق والخوّانين المدعومين من قبل عملاء السلطة، انتقامًا من مساعيه في إحقاق الحقّ والوقوف في وجه الطغاة والظلمة. ويومها، توجّهت أسرة الشهيد إلى طهران -دار الحكومة آنذاك، وأصرّت على تنفيذ العدالة وإنزال القصاص بحقّ قاتليه.

 

وبذا، يكون الإمام الخمينيّ قد واجه، منذ طفولته، قسوةَ اليُتم، وأدرك مفهوم الشهادة.

 

بعد استشهاد والده، أمضى الإمام الخمينيّ طفولته في أحضان والدته السيّدة هاجر، سليلة العلم والتقوى - فهي من أحفاد المرحوم آية الله الخونساري، صاحب زبدة التصانيف - ورعاية عمّته المكرّمة "صاحبة خانم"، المرأة الشجاعة التقيّة. وفي سنّ الخامسة عشرة من عمره، حُرِمَ من نعمة هاتَين العزيزتين.

 

درس الإمام منذ نعومة أظفاره - مستفيدًا ممّا حباه الله من ذكاءٍ متّقدٍ - جانبًا من المعارف الشائعة في عصره ومقدّمات العلوم والسطوح المعروفة في الحوزات الدينيّة، مثل آداب اللغة العربيّة والمنطق والفقه والأصول، على أيدي أساتذة وعلماء منطقته،كالميرزا محمودٍ افتخار العلماء، والمرحوم الميرزا رضا النجفيّ الخمينيّ، والمرحوم الشيخ عليّ محمّدٍ البروجرديّ، والمرحوم الشيخ محمّدٍ الكلبايكانيّ، والمرحوم عبّاس الآراكيّ، وقبلَ هؤلاء، أخيه الأكبر آية الله السيّد مرتضى بسنديده، الذي أمضى عنده أكثر وقته الدراسيّ. سافر بعد ذلك، عام 1919م، إلى آراك, ليواصل دارسته الدينيّة في حوزتها.

 

 

15

 


10

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

◄| الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

بُعَيد انتقال آية الله العظمى الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ[1] (رحمه الله) إلى مدينة قمّ، التحق الإمام الخمينيّ بالحوزة العلميّة بقمّ، في رجب المرجّب عام 1340هـ، وطوى مراحل دراسته التكميليّة في الحوزة العلميّة، سريعًا، على أيدي أساتذتها. فقد أكمل كتاب "المطوّل" (في علم المعاني والبيان) على يد المرحوم الميرزا محمّد عليّ الأديب الطهرانيّ، كما أكمل دروس مرحلة السطوح على يد المرحوم آية الله السيّد محمّد تقي الخونساري، والمرحوم آية الله السيّد عليّ اليثربيّ الكاشانيّ. كذلك أتمَّ دروس خارج الفقه والأصول على زعيم الحوزة العلميّة في قمّ آية الله الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ (رضوان الله عليهم أجمعين).

 

إنَّ الروح المرهفة الوثّابة، التي كان الإمام الخمينيّ يتحلّى بها، دفعته إلى عدم الاكتفاء بإتقان آداب اللغة العربيّة والدروس الفقهيّة والأصوليّة، بل أن يتعدّاها إلى الفروع العلميّة الأخرى. ومن هنا، وتزامنًا مع دراسته للفقه والأصول على أيدي الفقهاء والمجتهدين، درس الرياضيّات والهيئة والفلسفة على المرحوم الحاجّ السيّد أبي الحسن الرفيعيّ القزوينيّ، ثمّ واصل دراستَها، مع العلوم المعنويّة والعرفانيّة لدى المرحوم الميرزا عليّ أكبر الحكيميّ اليزديّ. كما درس العروض والقوافي والفلسفة الإسلاميّة والفلسفة الغربيّة لدى المرحوم الشيخ محمّد رضا مسجد شاهي الأصفهانيّ، ودرس الأخلاق والعرفان لدى المرحوم

 


[1] آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ (1276 - 1355ه)، أحد الفقهاء الكبار ومراجع الشيعة العظام في القرن الرابع عشر الهجريّ. سافر إلی مدينتَي النجف الأشرف وسامرّاء في العراق، بعد أن أكمل دراسته لمقدّمات العلوم. وهناك، تتلمذ علی أساتذةٍ عظام، ونهل من علومهم الجمّة، حتّی بلغ مرتبة الاجتهاد. عاد إلى مدينة آراك عام 1332ه؛ ليدرس في حوزتها. وفي عام 1340 ه سافر إلى مدينة قمّ، وقرر الإقامة فيها، نزولًا عند رغبة علمائها. وأسّس الحوزة العلميّة فيها. وقد تربّى في حوزةٍ درّسه علماء كبارٌ يقف في طليعتهم سماحة الإمام الخمينيّ (قدس سره).

 

16


11

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

آية الله الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ، ثمّ درس أعلى مستويات العرفان النظريّ والعمليّ، ولمدّة ستّة أعوامٍ، عند المرحوم آية الله الميرزا محمّد عليّ الشاه آبادي (أعلى الله مقاماتهم أجمعين).

 

بعد وفاة آية الله العظمى الحائريّ اليزديّ، أثمرت الجهود، التي بذلها الإمام الخمينيّ برفقه عدّةٍ من المجتهدين في الحوزة العلميّة بقمّ، في إقناع آية الله العظمى البروجرديّ[1] للمجيء إلى قمّ وتسلّم زعامة الحوزة العلميّة فيها. وخلال هذه الفترة، عُرِفَ الإمام الخمينيّ بصفة أحد المدرّسين والمجتهدين وأُولي الرأي في الفقه والأصول والفلسفة والعرفان والأخلاق. وكان زهده وورعه وتعبّده وتقواه، يتردّد على لسان الخاصّة والعامّة.

 

إنّ هذه الخصال والسجايا الرفيعة، التي كانت حصيلة سنواتٍ طويلةٍ من المجاهدة والتريّض الشرعيّ وامتحان المفاهيم والأسس العرفانيّة في حياته العمليّة الشخصيّة والاجتماعيّة، ونهجَه السياسيّ، الذي جسّد -من خلاله- اعتقادَه الراسخ بحفظ كيان الحوزات العلميّة وقوّة الزعامة الدينيّة والعلماء، باعتبارهم الملاذ الوحيد للناس في تلك الأيّام المضطربة الخطيرة، جعلته دائمًا يوظّف علمه وفضله وجهوده في ترسيخ أسس الحوزة العلميّة الفتيّة في قمّ. فوقف، على الرغم من كلّ ما لديه من جدارةٍ واختلافٍ في وجهات النظر، يدعم مرجعيّة آية الله العظمى الحائريّ، ثمّ آية الله البروجرديّ (أعلى الله مقامهما)، وحتّى بعد وفاة آية الله البروجرديّ. وعلى الرغم من الإقبال الواسع عليه من قِبَل الطلّاب والفضلاء والمجتمع الإسلاميّ، كأحد مراجع التقليد، إلّا أنّه لم يخطُ أيّة خطوةٍ يُشَمُّ منها رائحة السعي لكسب المقام والزعامة، فكان دائمًا يحثّ محبّيه ومريديه على عدم الاهتمام بمثل هذه الأمور، بل إنّه أصرَّ على نهجه هذا، حتّى في الوقت الذي التفّ حوله وُعَاةُ المجتمع، باعتباره المنادي بالإسلام الحقّ، وأنّه يمثّل ضالّتهم المنشودة لتحقيق آمالهم، لِما كان عليه من التقوى والعلم والوعي، فلم يغيّر من سيرته ومنهجه قيد أنملةٍ، متمثّلًا قوله الذي كان يكرّره دائمًا: "إنّني أعتبر نفسي خادمًا وحارسًا للإسلام والشعب".

 


[1] وُلِدَ آية الله السيّد حسين  الطباطبائي البروجرديّ (رَحمَه اللهُ) في مدينة بروجرد، عام 1292ه، وبعد أن أنهى دراسة مقدّمات العلوم في حوزتها، انتقل إلى مدينة أصفهان، لمتابعة دراسته في حوزتها، حيث درس الفقه والأصول. ثمّ سافر إلى النجف الأشرف بالعراق عام 1319ه، وبقي فيها ثماني سنواتٍ يدرس ويدرّس. عاد عام 1328ه، ثمّ انتقل إلى مدينة مشهد. بعدها عاد إلى مدينة قمّ للإقامة فيها. تسنّم، بعد وفاة السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ، مقام المرجعية الدينية. توفّي عام 1380ه، عن عمرٍ ينيف علی التسعين، وترك وراءه العديد من المصنّفات، في الفلسفة والمنطق والفقه والأصول وعلم الرجال.

 

17


12

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

إنّه الرجل العظيم ذاته، الذي عاد في (1 شباط 1979م) إلى إيران، ليجد الملايين من أبناء الشعب، وقد اجتمعوا في أكبر مراسم استقبالٍ في التاريخ، احتفاءً بقدوم قائدهم. وحينما سأله أحدُ الصحفيّين بلا مقدّمةٍ: ما هو شعوركم وأنتم تعودون إلى بلادكم، بعد خمسة عشر عامًا، في ظلّ هذه الأبّهة؟ سمع منه جوابًا غير متوقع، إذ أجابه سماحتُه: لا شيء!

لقد توهّم ذلك الصحفيّ بأنّ الإمام الخمينيّ كسائر القادة السياسيّين الساعين إلى السلطة، ينسون أنفسهم في مثل هذه المواطن المثيرة، ويطيرون فرحًا، غير أنّ الجوابَ الذي سمعه، أوضحَ له بأنّ الإمام الخمينيّ من سنخ اخر.

 

كان الإمام الخمينيّ يعتقد بحقٍّ - كما أكّد ذلك مرّاتٍ ومرّاتٍ - بأنّ المعيار في سلوكه وتحرّكاته هو نيل رضا الخالق تعالى، والعمل بالتكليف، وأداء المسؤوليّة الشرعيّة. فهو يرى بأنّ الأمر سيّانٌ بالنسبة إليه، سواءٌ أكان في السجن والنفي، أو في ذروة القوّة والاقتدار، مادام تحرّكه في سبيل الله. أساسًا، إنّ سماحته كان قد أعرض - وقبل عقودٍ من ذلك التاريخ - عن الدنيا وما فيها، وسلكَ طريق الوصول والفناء في الله. ولعلَّ أجمل تفسيرٍ لردّه على سؤال الصحفيّ، يكمن في بيت الشعر الذي نظمه سماحته:

                         اذهب إلىٰ الخرابات واعتزلِ الخلق جميعًا

                                                        وعلِّق قلبك بالمطلق، واتركِ الباقي

 

 

مارس الإمام التدريس، خلال سنواتٍ طوال، في الحوزة العلميّة بقمّ، فدرّس عدّة دوراتٍ في الفقه والأصول والفلسفة والعرفان والأخلاق الإسلاميّة، في كلٍّ من المدرسة الفيضيّة والمسجد الأعظم ومسجد محمّديّة ومدرسة الحاجّ ملّاصادق ومسجد السلماسي وغيرها. كما مارس تدريس الفقه ومعارف أهل البيت (عليهِم السَّلاٰمُ) - وعلى أرفع المستويات - في الحوزة العلميّة بالنجف الأشرف، في مسجد الشيخ الأنصاريّ (رَحمَه اللهُ)، لِما يقارب الأربعة عشر عامًا. وفي النجف الأشرف، طرح - ولأوّل مرّةٍ - أُسُس الحكومة الإسلاميّة، عبر سلسلة دروسٍ ألقاها في موضوع ولاية الفقيه.

 

18

 


13

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

وعلى ما نقله طلّابُه، فإنّ حوزة الإمام الخمينيّ كانت تُعَدُّ من أسمى المراكز الدراسيّة، وقد تجاوز عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات - خلال السنوات التي قضاها في التدريس بقمّ - الألف طالبٍ، كان بينهم العشرات من المجتهدين المعروفين والمعترف باجتهادهم، فكانوا جميعًا ينهلون من مدرسته في الفقه والأصول. فكان من بركات ممارسته التدريس، أن تمكّن سماحتُه من تربية المئات، بل الآلاف -إذا أخذنا بنظر الاعتبار طول سنوات الدراسة - من العلماء والحكماء، ممّن أصبحوا بعد ذلك مشاعل وأعلامًا في الحوزات الدينيّة، ومجتهدين وفقهاء وعرفاء بارزين، ممّن يُشار إليهم بالبنان اليوم في حوزة قمّ العلميّة، وفي سائر المراكز الدينيّة. وإنّ مفكّرين كبار، أمثال العلّامة الأستاذ الشهيد مرتضى المطهّريّ[1] والشهيد المظلوم الدكتور بهشتي[2]، كانوا يفخرون دومًا بأنّهم نهلوا من محضر هذا العارف الكامل لسنواتٍ.

 

واليوم، فإنّ الوجوه اللامعة من العلماء، الذين يقودون مسيرة الثورة الإسلاميّة، ويوجّهون نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، هم من طلّابه وخرّيجي مدرسته الفقهيّة والسياسيّة.

 

هذا، وستكون لنا وقفةٌ عند خصائص ومميّزات مدرسة الإمام الخمينيّ في العلوم المختلفة، كما سنعرض في آخر الكتاب، وبشكلٍ مختصرٍ، إلى تعريف كتب الإمام ومؤلّفاته.

 

◄| الإمام الخمينيّ في خندق الجهاد والثورة

لقد كان لروحيّة النضال والجهاد في سبيل الله، جذورٌ تمتدُّ إلى الرؤية الاعتقاديّة والتربية والمحيط العائليّ والظروف السياسيّة والاجتماعيّة، التي أحاطت بحياة الإمام، إذ بدأ جهاده منذ صباه، وأخذ


 


[1] الأستاذ الشهيد مرتضى المطهّريّ، أحد أبرز وجوه علماء الدين المناضِلين، الذين أسدوا خدماتٍ جليلةٍ علی طريق تنوير جيل الثورة الإسلاميّة وتوعيته، في كلٍّ من الحوزة والجامعة. ورغم مرور أكثر من عقدٍ ونصفٍ علی استشهاد هذا العالِم المناضل، ما زالت مؤلّفاتُه تحتفظ بحيویّتها وجدّتها، وتمثّل حافزًا قويًّا في دفع الجيل الشابّ للالتزام والهداية. وفي ذروة نضال الشعب الإيرانيّ ضدّ النظام الشاهنشاهيّ، عيّنه قائد الثورة الإسلاميّة الكبير، سماحة الإمام الخمينيّ، رئيسًا لمجلس قيادة الثورة. استشهد الفيلسوف الإسلاميّ والعالِم المحقِّق الأستاذ مطهّريّ ليلة الثاني من أيار عام 1979م، علی يد أفراد منظّمة الفرقان المنحرفة، مخلّفًا وراءه تراثًا فكريًّا ضخمًا.

[2] الشهيد الدكتور محمّد حسين بهشتي، من علماء الدين المناضلين، ومن الوجوه العلميّة والسياسيّة للثورة الإسلاميّة. لعب دورًا كبيرًا في ترشيد الطاقات الثوريّة، وضمّها إلى تنظيمٍ أطلق عليه اسم "الحزب الجمهوريّ الإسلاميّ"، الذي أدّى دورًا مؤثِّرًا في إحباط دسائس الأعداء، التي استهدفت الثورة الإسلاميّة، خاصّةً في الأشهر الأولى من انتصارها. وكان الدكتور بهشتي أوّل شخصٍ عيّنه الإمام الخمينيّ رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى، لترتيب شؤون القضاء في البلاد، علی مختلف المستويات. استشهد الدكتور بهشتي في شهر أيلول/ سبتمبر عام 1981م، مع جمعٍ من مسؤولي نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، في حادث الانفجار الذي استهدف مقرّ الحزب الجمهوريّ الإسلاميّ، والذي دبّرته ونفّذته عناصر حركة المنافقين (منظّمة مجاهدي الشعب)، مخلّفًا وراءه مؤلّفاتٍ عديدةٍ في مختلف المجالات.

 

19


14

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

هذا الجهاد يتواصل ويتكامل بصورٍ مختلفةٍ إلى جنبِ تكاملِ الجوانب الروحيّة والعلميّة في شخصيّته من جهة، وتطوّر الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة في إيران والمجتمعات الإسلاميّة من جهةٍ أخرى. وفي عامَي 1961 و1962م، وفّرت أحداث مجالس الأقاليم والمدن[1] الفرصةَ ليلعبَ دورًا في قيادة حركة علماء الدين. وبهذا النحو، انطلقت انتفاضة الخامس عشر من خرداد (الخامس من حزيران 1963م)، التي شارك فيها العلماء وأبناء الشعب، معتمدةً على دعامتَين أساسيّتَين، أولاهما: قيادة الإمام المطلقة للحركة، وثانيتهما: إسلاميّة دوافع الانتفاضة وأهدافها وشعاراتها، لتمثّل فصلًا جديدًا في جهاد الشعب الإيرانيّ، ذلك الفصل الذي عُرِفَ، في العالَم أجمع، باسم "الثورة الإسلاميّة".

 

لقد ولد الإمام الخمينيّ في وقتٍ كانت إيران تمرُّ فيه بأقسى أدوار تاريخها. فالحركة الدستوريّة[2] تعرّضت للضياع، نتيجة دسائس عملاء الإنجليز ومعارضاتهم في البلاط القاجاريّ، والصراعات الداخليّة، وخيانة بعض المتغرّبين، وتعرّض العلماء -الذين كانوا يمثّلون طليعتها- إلى الإقصاء من ساحة الأحداث، بمختلف أنواع المكائد، ليعود النظام ملكيًّا مستبدًّا مرًّة أخرى. كذلك، فإنَّ الطبيعة العشائريّة التي كانت تتّسم بها العائلة القاجاريّة المالكة، وضعف الحكّام، وعدم صلاحيّتهم، أدّى إلى تدهورٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ شديدَين في إيران، وأطلقَ أيدي الإقطاعيّين والأشرار لسلب الأمن والأمان.

 

وفي ظروفٍ كهذه، كان العلماء يمثّلون الملاذَ الوحيد للناس، في مختلف المدن والمناطق. وكما أشرنا سابقًا، فقد شهد الإمام الخمينيّ، في طفولته، استشهاد والده، نتيجةً لدفاعه عن حقوقه وحقوق أهل منطقته، ووقوفه في وجه الإقطاعيّين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أسرة الإمام ألِفَت - في الحقيقة - الهجرةَ والجهادَ في سبيل الله، منذ القدم.


 


[1] قدّمت الحكومة الإيرانيّة، في 8/10/1963م، علی المصادقة علی لائحة الانتخابات المحلّيّة الخاصّة بمجالس الأقاليم والمدن، تنصّ علی حذف شرط الإسلام من الناخبين والمرشّحين، واستبدال اليمين الدستوریّة في مراسم التحليف بالكتاب السماويّ، بدلًا من القرآن الكريم. وقد عارض الإمام الخمينيّ ذلك بشدّةٍ، وجعل منه محفزًا لتأجيج انتفاضة الشعب ضدّ الحكومة.

[2] ساعد كلٌّ من تفاقم أوضاع إيران، أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واشتداد تذمّر الناس من ظلم الحكّام المستبدين وأعوانهم الخونة واضطهادهم، وضعف مظفر الدين شاه - الملك وقتئذٍ - وعدم كفاءته في إدارة شؤون البلاد، وصحوة الشعب، وتنامي وعيه، وتحرّك علماء الدين وطلبة العلوم الدينية؛ ساعد ذلك كلّه علی إعداد الأرضية لانطلاقة نهضةٍ، عُرفت بالحركة الدستوريّة، تُوِّجَت بعد نضالٍ طويلٍ بالنصر، عام 1906م.

وعلی الرغم من أنّ هذه النهضة لم تُوَجّه الوجهة الصحيحة، إلّا أنّها أوجدت تحوّلًا كبيرًا في تركيبة المجتمع الإيرانيّ، وأزالت الفوارق الطبقيّة، وصادرت نفوذ رجال الحكم والإقطاعيّين، وعملت علی سيادة القانون والعدالة. بيد أنّ الحركة الدستوريّة لم تحقّق أهدافها المرجوّة، نتيجةً لنفوذ العناصر المتغرّبة، وإبعاد رجال الدين عن المعترك السياسيّ والسلطة. ولم يمرّ وقتٌ طويلٌ، حتّی أعاد رضاخان -والد شاه إيران المخلوع- من خلال انقلابه، الحكم الوراثيّ إلى البلاد.

 

20


15

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

يستعرض الإمام الخمينيّ بعضَ ذكرياته عن الحرب العالَميّة الأوّلى - وكان حينها يبلغ من العمر اثني عشر عامًا - فيقول: "إنّني أتذكّر الحربين العالميّتَين كلتاهما... كنتُ صغيرًا، إلّا أنّي كنتُ أذهب إلى المدرسة، وقد رأيتُ الجنودَ الروس في المركز الذي كان في خُمَين. رأيتهم هناك، وأذكر كيف تعرّضَت بلادُنا للاجتياح في الحرب العالميّة الأوّلى".

 

وفي موضعٍ آخر، يذكر سماحته أسماء بعض الإقطاعيّين الظالمين الأشرار، الذين كانوا يمارسون النهب والاعتداء على أعراض الناس وأموالهم، مدعومين من قِبَل الحكومة المركزيّة:

"كنتُ في حربٍ منذ طفولتي... فقد كنّا نتعرّض لهجمات أشرارٍ من أمثال زلقي ورجب علي[1]، وكانت عندنا بندقيّةٌ. أذكر أنّي كنت أقارب البلوغ آنذاك، فكنت أذهب مع البقيّة، لاتّخاذ مواقعنا في الخنادق المُعَدّة للدفاع ضدّ هجوم أولئك الذين كانوا يقصدون الإغارة علينا. نعم، كنّا نذهب هناك ونتفقّد الخنادق".


 


[1] هما فئتان من الأشرار والإقطاعيّين الظالمين، كانتا تمارسان الظلم والنهب في المحافظة المركزيّة - 772 كم جنوب طهران- أثناء العهد القاجاريّ الذي تميّز بالفوضى.

 

21

 


16

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

و يقول سماحته في موضعٍ آخر:

"لقد كنّا مضطرّين إلى إعداد الخنادق في خمين -المنطقة التي كنّا نعيش فيها- وكانت عندي بندقيّةٌ، غير أنّي كنت لا أزال -حينها- يافعًا لم أناهز الثامنة عشرة بعد، وكنت أتدرّب على البندقيّة وأحملها بما يتناسب مع سنّي. نعم، كنّا نذهب للتحصّن في الخنادق، ونواجه هؤلاء الأشرار الذين كانوا يُغيرون علينا. لقد كان الوضع متّسمًا بالفوضى والهرج والمرج، ولم يكن لدى الحكومة المركزيّة القدرة على السيطرة على الأوضاع... وفجأةً، سيطروا على خمين، فهبّ الناس لمواجهتهم، وحملوا السلاح، وكنت من بين من حملوا السلاح".

 

كان انقلاب رضاخان[1] - في 22 شباط 1921م - مخطّطًا ومدعومًا من قبل الإنجليز، كما تشير إلى ذلك الوثائق التاريخيّة الثابتة والمؤكّدة. ومع أنّه قضى على الحكم القاجاريّ، ووضع حدًّا للقبليّة والخوّانين والأشرار، إلّا أنّه أقام حُكمًا مستبدًّا حكمت تحت مظلّته بضعُ مئاتِ العوائلِ، مصيرَ الشعب المظلوم. وتصدّت العائلة البهلويّة للعب دور الخوّانين والأشرار السابق.

 

سيطر رضاخان، طوال عقدَين من حكمه، على نصف الأراضي الزراعيّة في إيران، وثَبّتَ ملكيّتها له رسميًّا، وشكّل هيكلًا إداريًّا لإدارتها والمحافظة عليها، يفوق في تشكيلاته هيكليّة الوزارات الكبرى، وسعى في هذا السبيل - ما وسعه - إلى حلّ المشاكل القانونيّة المترتّبة على نقل ملكيّة الأراضي - حتّى الموقوفة منها - باسمه، فأصدر لذلك عشرات اللوائح والمصوّبات القانونيّة من المجالس البرلمانيّة الصوريّة، التي كان يأمر بتشكيلها. وقد شاع ذلك، إلى درجةٍ جعلت ما كُتِبَ عن حياته - من قِبَل مؤيّديه أو معارضيه - يدور في أغلبه حول أملاكه وما اقتناه من الحليّ والمجوهرات والشركات والمراكز التجاريّة والصناعيّة.

 


[1] رضاخان، والد محمّد رضا، شاه إيران المخلوع. نفّذ في إيران عام 1921م، طبقًا لمخطّط الحكومة البريطانيّة، انقلابًا عسكريًّا، وفي عام 1925، تربّع علي عرش السلطة. واستمرّ في الحكم ستّة عشر عامًا. من أولى الخطوات التي أقدم عليها، خلال فترة حكمه، منع تدريس القرآن والتعاليم الدينيّة وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، إضافةً إلى منعه إقامة الشعائر الدينيّة، في مختلف مدن البلاد.

 

22


17

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

كانت سياسة رضاخان الداخليّة ترتكز إلى أسسٍ ثلاثةٍ هي: الحكم العسكريّ والبوليسيّ العنيف، والمواجهة الشاملة للدين ورجاله، والعمالَة للغرب، وراح يصرّ عليها إلى أواخر عهده.

 

في مثل هذه الظروف، هبّ علماء الدين الإيرانيّون - الذين تعرّضوا للهجوم المتواصل من قبل الحكومات التي توالت على الحكم بعد الحركة الدستوريّة، فضلًا عما تعرّضوا له من قِبَل عملاء الإنجليز والمثقّفين من عملاء الغرب الفكريّين -للدفاع عن الإسلام وحفظ كيانهم وكرامتهم، إذ هاجر آية الله العظمى الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائريّ - نزولًا عند رغبة علماء قمّ الأعلام - إلى مدينة قمّ، تاركًا آراك، وبُعيد ذلك بفترةٍ وجيزةٍ، هاجر إليها الإمام الخمينيّ، الذي كان قد أنهى، وبسرعةٍ، دراسة المقدّمات والسطوح في الحوزة العلميّة في خمين وآراك. وهناك، ساهم – عمليًّا - بدورٍ فعّالٍ في تحكيم وجود الحوزة الفتيّة. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ، حتّى عُدَّ الإمام الخمينيّ من الفضلاء الأعلام في هذه الحوزة، واشتهر في مجالات العرفان والفلسفة والفقه والأصول.

 

وكما أسلفنا، إنّ حفظ كيان العلماء والمرجعيّة كان من الضرورات الملحّة آنذاك، وذلك لإفشال المخطّطات التي كان يُعِدّها رضاخان ومَن بعده، والتي كانت تستهدف علماء الدين، والحيلولة دون تحقيقهم أهدافهم المتوخّاة. وعلى هذا الأساس، نرى الإمام -وعلى الرغم ممّا كان بينه وبين آية الله العظمى الحائريّ، ومن بعده آية الله العظمى البروجرديّ، مِن اختلافٍ في وجهات النظر بشأن بعض المسائل حول كيفيّة مواجهة الحوزات العلميّة ومراجع التقليد للظروف المستجدّة، وحول دور العلماء بهذا الشأن- يقف، على الدوام، بقوّةٍ وحزمٍ إلى جانبهما، للدفاع عن المرجعيّة ودورها، طوال فترة زعامتهما.

 

كان الإمام الخمينيّ مولعًا بمتابعة القضايا السياسيّة والاجتماعيّة. وكان رضاخان قد أقدم في تلك السنوات، وبعد أن فرغ من تثبيت دعائم حكمه، على تنفيذ مخطّطٍ واسعٍ للقضاء على مظاهر الثقافة الإسلاميّة في المجتمع الإيرانيّ. ففضلًا عن ممارسة أنواع الضغوط ضدّ العلماء، أصدر أوامره بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينيّة، ومنع تدريس المسائل الدينيّة والقرآن، وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وروّج للهمس حول نزع الحجاب وفرض السفور على النساء الإيرانيّات المسلمات. وقبل أن يُتَرجم رضاخان أهدافه عمليًا على مستوىً واسعٍ، بادر علماء الدين الإيرانيّون الملتزمون للاعتراض على

 

23


18

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

ممارساته، بوحيٍ من معرفتهم بالأهداف غير المعلنة، التي كان رضاخان ينوي تحقيقها. وللاعتراض على بعض هذه الممارسات، أقدم بعض علماء أصفهان المتلزمين، بقيادة آية الله الحاجّ آغا نور الله أصفهاني عام 1927م، على الهجرة الجماعيّة إلى قمّ، للاعتصام فيها. وترافقت هذه الحركة مع هجرة العديد من العلماء من مدنٍ أخرى، إلى قمّ أيضًا. وبالفعل، فقد استمرّ هذا الاعتصام لمدّة مئةٍ وخمسة أيّامٍ (من 12 أيلول إلى 25 كانون الأوّل عام 1927م)، انتهى بعدها، بتراجع رضاخان -ولو في الظاهر- وتعهُّد رئيس الوزراء -آنذاك- (مُخبر السلطنة) بتلبية مطالب المعتصمين. وباستشهاد قائد الانتفاضة، في كانون الأوّل عام 1927، على يد عملاء رضاخان، انتهى الاعتصام عمليًّا.

 

أتاحت هذه الحركةُ الفرصةَ لطالب العلوم الدينيّة الشاب، روح الله الخمينيّ، الذي كان يتحلّى باللياقات والاستعدادات اللازمة للمواجهة والتصدّي، لأن يطّلع عن كثبٍ، ومن خلال حضوره المباشر في صُلْب تلك الحركة، على أساليب المواجهة، وما يتعرّض له العلماء من ظلمٍ، علاوةً على التعرّف على ملامح شخصيّة رضاخان أكثر فأكثر.

 

من جهةٍ أخرى، كانت قد حصلت، قبل أشهرٍ من هذه الحادثة، في آذار عام 1927م، مشادّةٌ كلاميّةٌ بين آية الله البافقيّ ورضاخان، حُوصِرَت على إثرها مدينةُ قمّ، من قِبَل قوّات الشرطة، وتعرّض العالِم المجاهد البافقيّ إلى الضرب والنفي إلى مدينة الريّ، بأمرٍ من رضاخان. هذه الحادثة والحوادث المشابهة، وما كان يحصل في المجالس التشريعيّة في تلك الأيّام -خصوصًا الحركة الجهاديّة الدؤوبة التي كان يمارسها المجاهد المعروف آية الله السيّد حسن المدرّس[1] - تركت تأثيرها على روح الإمام المرهفة الوثّابة.


 

[1] السيّد حسن المدرّس (1287 - 1357 ه)، أحد الوجوه السياسيّة - الدينيّة البارزة في تاريخ إيران المعاصر. أكمل دراسة مقدّمات العلوم في أصفهان، وواصل دراسته للعلوم الدينيّة في العتبات المقدّسة، علي يد أساتذةٍ كبار، أمثال الآخوند الخراسانيّ. وبعد حصوله علي مرتبة الاجتهاد، عاد إلى أصفهان، واشتغل بتدريس الفقه والأصول. عُيِّن عام 1328، في الدورة الثانية لمجلس الشورى الوطنيّ، عضوًا في لجنة الإشراف علي سنّ القوانين ومراقبتها، وذلك بطلبٍ من علماء النجف وإيران. كما تمّ انتخابه من قِبَل أبناء طهران، للدورة الثالثة من مجلس الشورى الوطنيّ. اعتُقِل ونُفِيَ خلال حوادث انقلاب رضاخان. وبعد إطلاق سراحه، تمّ انتخابه من قبل أبناء الشعب، للدورة الرابعة من مجلس الشورى الوطنيّ. وكان يتولّى قيادة المعارضة لرضاخان في المجلس. عارض بشدّةٍ محاولات رضاخان في تبديل الملكيّة المشروطة بالدستور إلى الجمهوريّة, ممّا دفع المجلس لرفضها وعدم المصادقة عليها. كذلك، واجه – بقوّةٍ - استبداد رضاخان وأهواءه؛ ممّا دفع رضاخان إلى دسّ أفرادٍ لاغتياله. إلّا أنّ محاولة الاغتيال فشلت في القضاء علي السيّد المدرّس، فاضطرّ إلى نفيه إلى خواف وكاشمر. وبعد أحد عشر عامًا علي نفيه، أمر رضاخان أعوانَه بدسّ السمّ إليه، فاستشهد أحد أبرز رجال إيران، في السابع والعشرين من شهر رمضان عام 1357 ه.

كان الشهيد المدرّس ذا خُلقٍ وعطفٍ شديدٍ. ورغم نفوذه السياسيّ والدينيّ، كانت حياته بسيطةً متواضعةً، وفي غاية الزهد. وكان الإمام الخمينيّ يكنّ له احترامًا كبيرًا. وبمناسبة إعادة بناء مقبرة الشهيد مدرّس، كتب قائد الثورة الإسلاميّة، يقول: لم يكن السيّد المدرّس يتردّد في إظهار الحقّ وإبطال الباطل، في وقتٍ كانت الأقلام محطَّمةً، والألسن معقودةً، والحناجر مكتومةً. لقد صمد هذا العالِم، ذو البنية والروح العظيمة المفعمة بالإيمان والصدق وقول الحقّ، ولسانٍ كَسَيفِ حيدرٍ الكرّار، صمد وصرخ بكلمة الحقّ، وفضح جرائم رضاخان، وبدّد أحلامه. وفي النهاية، قدّم روحه الطاهرة علي طريق الإسلام العزيز والشعب النبيل، حيث استشهد علي يد أعوان السلطة الشاهنشاهيّة الظالمة، ليلتحق بأجداده الطاهرين.

 

24


19

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

وحينما أصدر رضاخان أمرَه بفرض الامتحانات على طلّاب العلوم الدينيّة في الحوزة العلميّة بقمّ، هادفًا القضاء على الحوزة، انبرى الإمام الخمينيّ لفضح الأهداف الخفيّة لهذا الأمر، وتصدّى لمعارضته، وحذّر بعضَ العلماء المشهورين -الذين عدُّوا ذلك الأمر، ونتيجةً لسذاجتهم، أمرًا إصلاحيًّا- من مغبّة القبول به.

 

وللأسف، فإنّ المؤسّسة العلمائيّة الإيرانيّة كانت تعيش – آنذاك - حالةَ الانزواء، نتيجة الإعلام المكثّف الذي كانت تمارسه أجهزة النظام الدعائيّة، وبفعل الظروف والاختلافات والإحباطات التي نجمت عن الحركة الدستوريّة. وقد وصل الأمر إلى درجةِ أنّ بعضَ المنحرفين فكريًّا، وطلّابَ الراحة، والقشريّين، راح يعارض، بشدّةٍ، تدريسَ ودراسةَ بعض المواد الدراسيّة الحوزويّة، كالعرفان والفلسفة التي تؤدّي، بالنتيجة، إلى إثارة الوجدان، والبحث في المسائل والمصائب الواقعة.

 

وقد بلغ الضغطُ بهذا الاتّجاه حدًّا، عرّض الإمام الخمينيّ إلى تحمّل ما لا يُطاق، كي يُعطِّلوا درسه في الفلسفة والعرفان والأخلاق، الأمر الذي اضطرّه إلى إعطاء دروسه في الخفاء، فكان حصيلةُ تلك المساعي تربيةَ شخصيّاتٍ، من أمثال العلّامة الشهيد آية الله المطهّريّ.

 

ونتيجةً لمقاومة العلماء وأبناء الشعب الإيرانيّ، فشل رضاخان إلى حدٍّ كبيرٍ -على الرغم من كلّ ما أُوتِيَ من قوّةٍ- في تحقيق تطلّعاته، بالقضاء على الإسلام وفرض السفور ومنع الشعائر الدينيّة، وفي الكثير من الأحيان، اضطرّ إلى التراجع والانسحاب.

 

بعد وفاة آية الله العظمى الحائريّ (30/ 1/ 1937م)، واجهت الحوزة العلميّة في قمّ خطرَ التشتّت والانحلال. فبادر العلماء الملتزمون، وعلى مدى ثمانية أعوامٍ، لإدارة شؤونها، وفي مقدّمتهم أصحاب السماحة: السيّد محمّد الحجّة، والسيّد صدر الدين الصدر، والسيد محمّد تقي الخونساريّ (رضوان الله عليهم). وفي هذه الفترة، وخصوصًا بعد سقوط رضاخان، تهيّأت الظروف للمرجعيّة العليا، فاقتُرِحَ أن يُرفّع آية الله البروجرديّ، الذي كان من أبرز الشخصيّات العلميّة، لتسنّم مقام المرجعيّة، والحفاظ

 

25


20

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

الزمن، غير أنَّ الإمام الخمينيّ أصرَّ على البقاء، على الرغم من قسوة الظروف، وعلى الرغم من تألّمه ممّا حدث، وما تلاه من حوادث مشابهة، آمِلًا في وقوع حركة الوعي المرتقبة في الحوزة العلميّة.

 

قبل ثمانية أعوامٍ من ذلك التاريخ، وفي 1941م، كانت إيران قد تعرّضت للاحتلال، من قِبَل جيوش الحلفاء، وقد استسلم المستبِدُّ - الذي أمضى عشرين عامًا في تجهيز قوّاته المسلّحة، مُنفِقًا المبالغَ الطائلة، عسى أن يتمكّن، بواسطتها، من حبس الأنفاس في صدور أبناء شعبه - أمام هجمات الغزاة. ووفقًا لِما أقرّ به ابنُه محمّد رضا، فإنّ جنودَه قد بادروا للفرار من مختلف جبهات المواجهة، أمام أولى الإطلاقات التي أطلقتها قوّات الحلفاء، وقبل أن يتقابلوا معهم. وإثر ذلك، أُرغِم رضاخان على التنازل عن العرش، على الرغم من ادّعاءاته كلّها، وغادر البلاد مجبرًا.

 

كان ردّ الفعل الشعبيّ متناقضًا، فمن جانبٍ، كانت الجماهير تعيش الحزن والانكسار نتيجةَ اجتياح قوّات الحلفاء لأراضي بلادهم، وفي الوقت نفسه، كانت مشاعر السرور والفرح البالغ تعمّ الجميع، نتيجة سقوط المستبِدَ -الذي كانت أمواله المنقولة، التي جمعها من كدح الفقراء ومن سنين النهب للثروات الوطنيّة، تُجاوِز الستمئة وثمانين مليونًا من الريالات الإيرانيّة - في ذلك الوقت -.

 

صدر الأمر بتعيين الملك الجديد، من السفارة الإنجليزيّة، وبموافقة عضوٍ آخر من قوّات الحلفاء، وهو روسيا. وكان الاختيار قد وقع على محمّد رضا البهلويّ. وبذلك، بدأ فصلٌ جديدٌ من العذاب والعناء، استمرّ لسبعةٍ وثلاثين عامًا، تميّزت ببيع استقلال البلاد وعزّتها.

 

امتاز العامان الأوّلان، من حكومة محمّد رضا، بالتزلزل وعدم الاستقرار، الأمر الذي أتاح الفرصة للجميع بأن يلتقطوا أنفاسهم، فبادرت الأحزاب والشخصيّات السياسيّة إلى توضيح أهدافها ومراميها، فتوجّه بعضهم نحو القوميّة، التي كانت تتناغم مع أهداف الملك الشابّ، في حين توجّه جمعٌ آخر من السياسيّين نحو النفوذ في هيكل الدولة والتشكيلات التشريعيّة. وشهدت الساحة – آنذاك - غياب بعض العلماء المجاهِدين، من أمثال آية الله المدرّس، الذين كان وجودُهم – وقتئذٍ - سيمثّل دعامةً أساسيّةً لخيمة الثورة الشعبيّة، إذ تعرّضوا للتصفية الجسديّة على أيدي أزلام رضاخان. كذلك، فإنَّ الشيوعيّين والأحزاب السياسيّة المرتبطة بالخارج، كانت تُعلن عن مواقفها، بناءً على الأوامر الصادرة من موسكو وغيرها.

 

27

 


21

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

أمّا الحوزة العلميّة في تلك الأيّام، فقد كانت عاجزةً عن تحمّل مسؤوليّاتها الاجتماعيّة، ودخولِ ميدان الأحداث – كما أشرنا سابقًا -، وذلك نتيجةً للحملات المسعورة، التي شنّها رضاخان ضدّها، ونتيجةً لنفوذ الانتهازيّين والنفعيّين فيها، ممّن ساهموا في انزوائها وعزلها عن المجتمع.

 

ومن الطبيعيّ أن لا تكون تلك حالةً عامّةً شاملةً، فقد كان جمعٌ من الأخيار المجاهدين، من أمثال نوّاب الصفويّ[1] وأنصاره -ممّن كانوا يعتقدون بمبدأ تشكيل الحكومة الإسلاميّة- يعدّون العدّة في تلك الظروف المضطربة، استعدادًا لخوض مرحلة الجهاد المسلّح البطوليّ. وقد وصف الإمام الخمينيُّ غربةَ المجاهدين في سنوات الكبت والاختناق تلك، التي مرّت عليهم في عهد رضاخان، بأبياتٍ من الشعر، قال فيها:

أينَ نتوجَّهُ للشكوى مِنْ جَورِ رضاخان          وقد حُبِسَت الأنفاسُ في الصدور

كيف نصرّح ولم يبقَ من الأنفاس                ما يمكّننا من الصراخ!

 

انتهز الإمام الخمينيّ الفرصةَ المتاحةَ، فقام بتأليف كتابه "كشف الأسرار"، ونشره عام 1943م، الذي تعرّض فيه لذكر المآسي التي تميّزت بها فترة العشرين عامًا من الحكم البهلويّ، ودافع فيه عن الإسلام والمؤسّسة العلمائيّة، وأزال الشبهات التي أثارها المنحرِفون، ونوّه -في كتابه هذا- إلى فكرة الحكومة الإسلاميّة وضرورة النهوض لإقامتها.

 

ثمّ أصدر سماحتُه، وبعد عامٍ من ذلك التاريخ -نيسان 1944م-، ما يمكن اعتبارُه أوّل منشورٍ سياسيٍّ له، طالَبَ فيه -وبصراحةٍ- علماءَ الإسلام والأمّةَ الإسلاميّة، بالنهوض والانتفاضة العامّة. ويمكن القول: إنّ لهجة البيان ومضمونه وطبيعة المخاطَبين الذين خاطَبهم، تشير كلّها إلى أنَّ الإمام


 


[1] الشهيد السيّد مجتبى نوّاب صفويّ، أحد مؤسّسي منظمة "فدائيّي الإسلام"، التي تمّ تشكيلها عام 1944 م، والتي تُعتَبر من الحركات الدينيّة العريقة، التي آمنت بالإسلام ودور علماء الدين في قيادة الجماهير. ومن أبرز أعمالها تنفيذ عمليّتي اغتيال "عبد الحسين هجبر"، و"سپهبد رزمآرا"، رئيسَي وزراء البلاط الملكيّ. تمّ اعتقال الشهيد نوّاب صفويّ، وسائر أعضاء حركته، وقدموا لمحاكمةٍ صوريّةٍ قضت بإعدامهم.

 

28


22

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

لم يكن يتوقّع قيامًا وشيكًا من الحوزة في مثل تلك الظروف المؤسفة التي كانت تمرّ بها. وإنّ الدافع وراء إصرار هذا المنشور، كان دقّ أجراس الخطر، وتنبيه طلبة العلوم الدينيّة الشباب، لحقيقةِ ما يدور حولهم. وكما كان متوقّعًا، لم يتلقَّ الإمامُ جوابًا مناسبًا على دعوته للنهوض والانتفاضة، غير أنّ بصيص الأمل الذي دبّ في وجدان الطلبة، دفعهم للالتفاف حول الإمام، إذ وجدوا في محاضر دروسِه الأنس والحقيقة.

 

هذا، وكانت ملامح شخصيّة الإمام وموافقه السياسيّة قد اتّضحت، أكثر فأكثر، بعد تحرّكه الأخير. وبهذا النحو، كانت قد تشكّلت – بالتدريج - نواةٌ من تلامذة الإمام، ممّن يتّفقون معه في الفكر والرؤية، وكان لأغلبهم أدوارٌ هامّةٌ في أحداث انتفاضة الخامس من حزيران 1963م، وفي سنوات الاختناق التي تلتها.

 

وباختصارٍ، فإنّهم واصلوا مسيرتَهم مع الإمام، حتّى ما بعد الثورة، فمَن تمكّن منهم من العبور بسلامٍ من مضيق ما قبل الثورة، وخرج سالِمًا من المعتقلات وأنواع التعذيب - الذي كان المجاهدون يُعَرَّضون له - أدّى دورَه في المواقع الحسّاسة من هيكل النظام الإسلاميّ في أشدِّ الظروف حساسيّةً وحراجةً.

 

وطبقًا للوثائق التاريخيّة والمذكّرات المتوافرة، بذل سماحةُ الإمام جهدَه الجهيد في المجال الحوزويّ، خلال فترة مرجعيّة آية الله البروجرديّ (رَحمَه اللهُ) وزعامته - فضلًا عن ممارسته دوره المعهود في

 

 

29

 


23

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

التدريس والبحث وسائر المجالات المختلفة - للدفاع عن موقع المرجعيّة والحوزات العلميّة من جانبٍ، ونشر الوعي السياسيّ والاجتماعيّ وتحليلاته للمسائل السياسيّة الجارية، والمبادرة لإطلاق التحذيرات في الأوقات المناسبة حول أغراض النظام الملكيّ، والحيلولة دون نفوذ العناصر المنحرفة والمترفة إلى أوساط الحوزات العلميّة، من جانبٍ آخر.

 

وفي غضون ذلك، كان الإمام يواصل الاتّصالات بالشخصيّات السياسيّة الواعية في طهران، من أمثال آية الله الكاشانيّ، ويتابع الأحداث بدقّةٍ بشتّى السبل، بما في ذلك متابعة جلسات مجلس الشورى الوطنيّ، والنشرات المهمّة التي كانت تصدر وقتئذٍ.

 

عندما دبّ الهمس، عام 1949م، حول تشكيل المجلس التأسيسيّ، لتغيير الدستور وإطلاق العنان للشاه، أُشِيع بأنّ آية الله العظمى البروجرديّ كان راضيًا بتلك التغييرات المرتقبة، وأنّ مشاوراتٍ قد جرت بالفعل، بينه وبين بعض المسؤولين بهذا الشأن. تأثّر الإمام الخمينيّ لهذه الشائعة، فبادر للتحذير بصراحةٍ ووضوحٍ من مغبّة هذا الأمر، ثمّ بعث رسالةً مفتوحةً، أعدّها، بالتعاون مع بعض المراجع والعلماء الأعلام حينها، إلى آية الله البروجرديّ، يستطلع حقيقة الأمر، الأمر الذي دفع آية الله البروجرديّ إلى إصدار بيانٍ كذّب فيه وجود أيّ اتّفاقٍ. وفي الوقت نفسه، أصدر آية الله الكاشانيّ بيانًا، من منفاه في لبنان، طالب فيه بضرورة الوقوف في وجه القرارات والخطوات التي يزمع الملك القيام بها.

 

وحينما جرت انتخابات الدورة السادسة عشرة لمجلس الشورى الوطنيّ، تمَّ انتخاب آية الله الكاشانيّ من قِبَل أهالي طهران. وقد أدّى الائتلاف والتنسيق بين جناح آية الله الكاشانيّ والجبهة الوطنيّة إلى ترجيح كفّة الميزان لصالح أنصار نهضة تأميم النفط، ولغير صالح الملك. كذلك قام فدائيّو الإسلام - الذين كانوا يتمتّعون بدعم آية الله الكاشانيّ - بعدّة عمليّاتٍ خاطفةٍ لم يسبق لها مثيلٌ، تمَّ من خلالها إنزال ضرباتٍ موجعةٍ في هيكل الحكومة العميلة للملك.

 

واعتمادًا على هذا التأييد الذي توفّر له، استطاع الدكتور مصدّق أن يتسنّم قيادة البلاد، ثمّ انطلقت انتفاضةُ الثلاثين

 

30

 


24

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

من تير 1331 (12 تموز 1952م)[1] في طهران، فتلفّحت إيران بوشاح الفرح والسرور، نتيجة تحقّق مطلبها القديم بتأميم النفط. غير أنّه لم يمض وقتٌ طويلٌ، حتّى ظهرت ملامح عدم الانسجام في جبهة الائتلاف، وتفاقمت الاختلافات بين "فدائيّي الإسلام" وآية الله الكاشانيّ وقادة الجبهة الوطنيّة، إلى حدّ المواجهة أحيانًا، إذ أصرَّ المرحوم الكاشانيّ على رفض اقتراح دفع الغرامة للإنجليز في مقابل تأميم النفط، وكان يعتقد بأنّه على الإنجليز أنفسهم أن يدفعوا الغرامة لإيران، عن نهبهم النفط الإيرانيّ لمدّة خمسين عامًا. ولهذا السبب، حذّر سماحتُه الدكتور مصدّق – بشدّةٍ - من مغبّة التنازل أو المساومة في هذا الشأن.

من جانبٍ آخر، كان آية الله الكاشانيّ يعارض – بشدّةٍ - استبدال الإنجليز بالأمير كان والشركات الأميركيّة في مجال تعدين النفط وسائر المجالات الاقتصاديّة في البلاد. في حين أنّ الغالبيّة من المسؤولين في حكومة مصدّق، كانوا يميلون بصراحةٍ نحو هذا الاتّجاه.

 

كذلك، كانت مشاركة بعض العناصر غير الإسلاميّة في نهضة تأميم النفط، والاعتماد على

 


[1] خلال فترة رئاسة الدكتور مصدّق للحكومة، توالت المخطّطات والمؤامرات ضدّه، من قبل مختلف الأجنحة السياسيّة، وفي مقدّمتها البلاط الملكيّ، الذي سعى جاهدًا للإطاحة بحكومة الدكتور مصدّق. وحينما شعر مصدّق بذلك، طلب من الملك أن يفوّضه أمر وزارة الدفاع، ليتمكّن من السيطرة علي الأوضاع، غير أنّ الملك لم يعبأ بطلبه هذا؛ الأمر الذي دفع الدكتور مصدّق إلى تقديم استقالته في 16/7/ 1952 م، فبادر الملك، علي الفور، إلى تنصيب قوام السلطنة رئيسًا للحكومة. غير أنّه، وبمجرّد الإعلان عن ذلك، انتفضت الجماهير، وأصدر آية الله الكاشانيّ بيانًا أعلن فيه بصراحةٍ عن معارضته لتنصيب قوام السلطنة، كما أعلن سماحته، في مقابلةٍ أُجرِيَت معه، بأنّه سيُصدر حكمًا بإعلان الجهاد، وسيرتدي كفنًا ويتقدّم الجماهير للإطاحة بالحكومة، ما لم يُقَلْ قوام السلطنة من منصبه خلال مدّةٍ أقصاها ثمانٍ وأربعين ساعةً.

وبمجرّد اطّلاع الجماهير علي موقف آية الله الكاشانيّ الحازم، عطّلت الأسواق والمتاجر أعمالها، ونزلت الجماهير إلى الشوارع، مطالِبةً بإقالة قوام السلطنة، الذي بادر بدوره إلى إصدار الأوامر بإطلاق النار علي المتظاهرين، ممّا أسفر عن سقوط العديد من القتلى والجرحى من أبناء الشعب. وإثر ذلك، سارع ممثّلو الحكومة والملك إلى لقاء آية الله الكاشانيّ، لإقناعه بتهدئة الجماهير، غير أنّ سماحته أصرّ علي موقفه، وأکّد أنّه سيعلن فتوي? الجهاد، ما لم يُقَلْ قوام السلطنة من منصبه. ولمّا أحسّ الملك بتزلزل موقفه، أقال قوام السلطنة، وأعاد الدكتور مصدّق إلى رئاسة الوزراء، في 21/7/1952. وهكذا، مثّلت تلك الأيّام ذروة تواجد أبناء الشعب في ساحة الصراع وتلاحم القوي الدينية والوطنية النشطة وقتئذٍ.

 

31


25

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

حزب "تودة" الشيوعيّ، من جملة الأمور موضع الخلاف، إذ أدّى النفوذ المتزايد لتلك العناصر، إلى جنب تنامي صلاحيّات رئيس الوزراء، إلى تنامي وتيرة الإعلام المبرمج المعادي للإسلام، وبلوغ خيانات حزب تودة ذروتها، وانزواء التيّار المتديّن في النهضة، ممّا أتاح الفرصة لأميركا للقيام بانقلابها الناجح في 19 آب 1953م، وإعادة الملك، ليمسك بزمام السلطة المطلقة، والتخلّص من معارضيه.

 

ويتّضح، من خطابات الإمام، وكلماته التي ألقاها حول أحداث الانتفاضة الوطنيّة، بأنَّ سماحته كان مُدرِكًا هشاشة هذا الائتلاف مسبقًا.

 

حقّقت النهضة الوطنيّة انتصاراتٍ باهرةٍ على طريق تحقّق أهدافها المعادية للاستعمار، إلّا أنَّ عمليّة تأميم صناعة النفط، كانت تنطوي على ثغراتٍ مقطعيّةٍ وزمانيّةٍ حالت دون تحقيقها – منفردةً - ديمومةَ النهضة، على المدى البعيد. إنّ عدم إيمان التيّار الوطنيّ في النهضة، بالشعارات والأهداف المطروحة من قبل التيّار الدينيّ، الذي كان يحظى بتأييد الجماهير، وغياب القيادة الموحّدة، ونفوذ العناصر المنحرفة، وغياب الأهداف السياسيّة والثقافيّة المشتركة، التي باستطاعتها استقطاب الجماهير الإيرانيّة المسلمة على المدى البعيد، ناهيك عن التحرّكات الأميركيّة والضغوط الخارجيّة، هذا كلّه كان من جملة العوامل التي حالت دون إمكانيّة استمرار النهضة.

 

لقد مثّلت نهضة تأميم النفط صورةً مصغّرةً للظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي أحاطت بالحركة الدستوريّة، واتّسمت بنقاط قوّتها وضعفها نفسها. لذلك، واجهت المصير نفسه. حتّى التيّارات الدينيّة لم تكن تتّصف بوحدة النظر والدعم الشعبيّ. إذ إنّ نشاط حركة فدائيّي الإسلام، وكذلك مساعي آية الله الكاشانيّ، ليس فقط لم تكن تحظى بتأييد آية الله العظمي البروجرديّ -المرجع والزعيم القويّ آنذاك-، بل كانت تعصف بها خلافاتٌ حادّةٌ أيضًا.

 

وفي ظروفٍ كهذه، لم تتمكّن – أيضًا - المواقف الصريحة الداعمة، التي وقفتها شخصيّاتٌ معروفةٌ، من أمثال آية الله العظمى الخونساريّ في قمّ، والمواقف الضمنيّة المؤيّدة، من أمثال الإمام الخمينيّ، من التأثير في مجرى الأحداث.

 

على أيّة حالٍ، قبل أن يتذوّق الشعب الإيرانيّ حلاوة نهضة التأميم، فُوجِئ بطعم المرارة الناجمة

 

32


26

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

عن الاختلافات والحوادث المريرة اللاحقة، التي خُتِمَت بانقلاب التاسع عشر من آب. وعلى الرغم من أنَّ فدائيّي الإسلام لم يُلقوا السلاح، إلّا أنّهم، وبعد عامين، أي في 16 تشرين الثاني 1955م - نتيجةً لفشل عمليّة اغتيال حسين علاء، رئيس الوزراء – آنذاك - الذي كان يهمُّ بالسفر إلى بغداد للتوقيع على حلف بغداد (السنتو) - تعرّضوا للاعتقال، وحُكِمَ على قادتهم بالإعدام في محكمةٍ عسكريّةٍ سرّيّةٍ، وذلك في شهر كانون الأوّل من عام 1955م. ولم تثمر مساعي الإمام الخمينيّ وسائر العلماء للحيلولة دون تنفيذ حكم الإعدام بهم.

 

هذه الأحداث المريرة تركت أثرها على روح الإمام الخمينيّ المرهفة، إلّا أنّها مثّلت تجربةً قيّمةً للمراحل اللاحقة من حركته الجهاديّة.

 

أمّا الملك وبلاطه، فقد أصبحوا بعد الانقلاب - وفي ظروفٍ تختلف عن المرحلة السابقة - تحت الهيمنة الأميركيّة، إذ أخلى الإنجليزُ مواقعَهم للأمريكيّين. وبسرعةٍ، تمّ تأسيس دائرة الأمن "السافاك"[1] عام 1957م، وضرب المعارضين بقسوةٍ، وتشديد الحكم القمعيّ لإعداد الظروف الاجتماعيّة اللازمة لتنفيذ الإصلاحات الأميركيّة. وخلال الستّينيّات والسبعينيّات، راحت الشركات الأميركيّة تتسابق في التوجّه إلى


 


[1] "منظّمة المخابرات والأمن"، وباختصارٍ "السافاك"، أُسِّسَت في إيران، بأمرٍ من الملك محمّد رضا بهلويّ، بهدف مواجهة المعارضة الإسلاميّة والقضاء عليها. وكان لهذه المؤسّسة الأمنيّة، ارتباطٌ وثيقٌ مع منظّمة الاستخبارات الأميركيّة (CIA)، والاستخبارات الإسرائيليّة، "الموساد"، وكان أعضاء هذه المنظّمة يتصرّفون بقساوةٍ شديدةٍ مع السجناء السياسيّين؛ ممّا دفع بالأمين العام لمنظّمة العفو الدوليّة، عام 1965، أن يعلن: "إنّ ملف إيران في مجال حقوق الإنسان أسودٌ لدرجةٍ لا يعادله ملفُّ أيِّ دولةٍ في العالَم."

 

33


27

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

الخليج الفارسيّ، لاحتلال المواقع التي كان يتمتّع بها الاستعمار الإنجليزيّ. كذلك، فإنّ أجواء الحرب الباردة، والمنافسة الشديدة بين أميركا والاتّحاد السوفياتيّ، كانت قد زادت من حساسيّة منطقة الخليج الفارسيّ الاستراتيجيّة، وكانت أنظار البيت الأبيض تتطلّع إلى الثروات النفطيّة الإيرانيّة والإقليميّة. لذا، أقدم ساسة البيت الأبيض على تفويض شاه إيران لعبَ دور شرطيّ المنطقة، والحفاظ على مصالح الغرب فيها. وقد تمَّ ترجيحُه للعب هذا الدور على جميع الأنظمة الأخرى في المنطقة، من جميع الجهات. وكانت أميركا تسعى إلى تحقيق هدفٍ آخر من التحالف مع الشاه، وتوفير الدعم له. فالمواجهة بين الدول الإسلاميّة والكيان الإسرائيليّ الغاصب كانت أمرًا لا بدّ منه. لذا، فإنّ الطبيعة الخيانيّة للعائلة البهلويّة وشخصيّة الشاه محمّد رضا، اعتُبِرَت، في تصوّرهم، عوامل تساعد في إمكانيّة الاستفادة من النظام الملكيّ، لإيجاد شرخٍ في صفوف العالَم الإسلاميّ. وكان للنفط، في هذا المخطّط، دورٌ أساسيٌّ أيضًا، إذ إنّ أزمة الطاقة كانت الأمر الشاغل للغرب، في حالة وقوع مواجهةٍ عسكريّةٍ بين الدول النفطيّة الإسلاميّة وإسرائيل. لذا، فإنّ توسيع عمليّات التنقيب عن النفط في إيران، وزيادة استثماره، وتقوية النظام الملكيّ، كانت تُعَدُّ الضمانة الوحيدة للتقليل من الأزمة المتوقّعة في مثل هذه الظروف.

 

غير أنّ الهيكليّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التقليديّة في إيران، المعتمدة على الزراعة، بشكلٍ أساسيٍّ، كانت تُعتَبر عائقًا أساسيًّا أمام إجراء الإصلاحات الأميركيّة في إيران. فإيران كانت تفتقر، في تلك الظروف، إلى الاستعداد الكافي للتوسّع في إنتاج النفط وزيادة مدخولاتها النفطيّة من بيعه مستقبلًا ـ وهي الإيرادات التي كان ينبغي أن تُنفَق في شراء التجهيزات العسكريّة والسلع والبضائع الأميركيّة الأخرى. لذا، فقد انهالت اللوائح والمشاريع والاقتراحات على مجلسَي الشيوخ والشورى، لتغيير الظروف، وتهيئة الأرضيّة في إيران. واستنادًا لِما ورد في الاعترافات الصريحة التي أدلى بها مسؤولو النظام السابق، وكذلك ما أظهرته الوثائق والمستندات التي تمّت مصادرتُها من وكر التجسّس الأميركيّ (السفارة الأميركيّة السابقة) في إيران، فإنّ إعداد مضامين أغلب تلك اللوائح، كان يتمّ، إمّا في أميركا، أو في سفارتها في إيران.

 

فكان مشروع الإصلاح الزارعيّ[1] خطوةً اختباريّةً، أُريدَ بها إعداد الأرضيّة للمصادقة على أصول ثورة


 


[1] الإصلاح الزراعيّ، أو "إصلاح الأراضي"، هو أحد أسس السياسة الاستعماريّة الجديدة، التي جري تنفيذُها في جميع الدول الخاضعة للاستعمار. فمن أميركا الجنوبيّة، إلى آسيا وإفريقيا، قامت حكومات هذه الدول بتنفيذ هذه السياسة، بأمرٍ من الاستعمار، وبشكلٍ متشابهٍ.

إيران، بدوره، أعلن عام 1962م، عن برنامج إصلاح الأراضي، علي أنّه أوّل خطوةٍ في ثورته المزعومة "ثورة الملك والشعب"، هدف منها كسب ثقة الرأسماليّة الأميركيّة، وإثبات قبوله بالاستراتيجيّة الجديدة وتعاونه معها، وفتح سوقٍ جديدةٍ أمام الاقتصاد الغربيّ. كما هدف إلى التقليل من وخامة الأوضاع الداخليّة، والحدّ من تصاعد السخط الشعبيّ، الذي كان يهدّد باندلاع انفجاراتٍ اجتماعيّةٍ.

كان إصلاح الأراضي في إيران، في المجالَين التجاريّ والصناعيّ، يعتمد أساسًا علي الاستثمارات الأجنبيّة، والأميركيّة خصوصًا. وقد ألحق أضرارًا كبيرةً بالزراعة الإيرانيّة؛ ممّا أدّي إلى تحويل إيران، خلال سنواتٍ من تنفيذ هذه الخطّة، من بلدٍ مصدّرٍ للقمح، إلى بلدٍ مستوردٍ أساسيٍّ له. ومن جهةٍ أخري، أدّت هجرة أهالي القري إلى المدن، واستخدامهم كعمّالٍ رخيصي الأجرة لخدمة صناعات التجميع والخدمات؛ أدّت خلال أحد عشر عامًا من هذه السياسة الخاطئة، إلى تفريغ عشرين ألف قريةٍ إيرانيّةٍ من سكّانها.

 

34


28

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

الملك البيضاء. أجل، تمَّ اختيار المشروع، كأوّل خطوةٍ مدروسةٍ، إذ رافقت طرحَ مشروع الإصلاح الزراعيِّ حملةٌ دعائيّةٌ مكثّفةٌ، وشعاراتٌ طنّانةٌ، كالوقوف بوجه الباشوات والإقطاعيّين، وتقسيم الأراضي بين الفلّاحين المحرومين، وزيادة الإنتاج، وما شابه ذلك... ومن هنا، كانت المعارضة للأهداف الخفيّة لمشروع الإصلاح الزراعيّ، تُعَدُّ بمثابة دعم الإقطاعيّين وملّاكي الأراضي الكبار، وكانت تُقمَع بشدّةٍ.

 

تزامنت التحرّكات الأميركيّة والشاهنشاهيّة الجديدة عام 1961م، مع وقوع حادثتَين مؤلمتَين. ففي الثلاثين من آذار 1961م، التحق آيةُ الله العظمى السيّد البروجرديّ بالرفيق الأعلى، والذي أعادت خدماتُه الجليلة وشخصيّتُه العلميّة، للمرجعيّةِ، موقعَها المتميّزَ، باعتبارها أهمّ ملاذٍ دينيٍّ للجماهير، في ميدان الحياة الاجتماعيّة في إيران. فوجود سماحتِه، بذاته، كان يمثّل عائقًا أساسيًّا أمام تحقيق النظام الملكيّ لمخطّطاته. ومن هنا، اعتُبِرَت وفاتُه خسارةً لا تُعَوَّض. وبعد عامٍ تقريبًا، ودّع الحياة – أيضًا - العالِم المجاهد آية الله الكاشانيّ، الذي كان اسمُه، ذات يومٍ، يبعث الرعب في كيان الشاه.

أمّا الإمام الخمينيّ -وكما هو ديدنه- فإنّه لم يخطُ خطوةً واحدةً في سبيل المرجعيّة بعد وفاة آية الله البروجرديّ، على الرغم من التفاف مجتمع الحوزة العلميّة والجماهير حوله، بل رفض – بشدّةٍ - الاقتراحات والخطوات التي قام بها بعض أصحابه ومريديه في هذا الاتّجاه. وكان ذلك في وقتٍ كان الإمام الخمينيّ قد أتمَّ تعليقتَه على

 

35

 


29

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

كتاب العروة الوثقى، منذُ خمسة أعوامٍ قبل وفاة آية الله البروجرديّ. وفي تلك السنوات بالتحديد، كان سماحتُه قد كتب حاشيةً على كتاب وسيلة النجاة، لتكون رسالته العمليّة.

إنّ النظرة الزاهدة التي كان الإمام الخمينيّ يتحلّى بها تجاه الدنيا، وإعراضه عن المقامات والمناصب الاعتباريّة الدنيويّة، يمكن استشرافُها من بحوثه الأخلاقيّة والعرفانيّة المعمّقة، التي وسمت آثاره المكتوبة، كشرح الأربعين حديثًا، وسرِّ الصلاة، وآداب الصلاة، التي كان قد كتبها قبل سنواتٍ من ذلك التاريخ.

 

بعد ارتحال آية الله البروجرديّ، وتجزّؤ المرجعيّة الكبرى، أظهر النظام الملكيّ نشاطًا أكبر، واندفاعًا في تحقيق الإصلاحات التي كانت أميركا ترغب فيها، كما إنّه سعى، في الوقت ذاته، إلى إخراج المرجعيّة من إيران. غير أنّ النظام كان مخطئًا في حساباته.

 

ففي 8 تشرين الأوّل 1962م، صادقت وزارة أسد الله علم على تعديل لائحة مجالس الأقاليم والمدن، وتغيير بعض مضامينها، كاشتراط إسلاميّة المرشّحين، والقَسَم بالقرآن الكريم، واشتراط الذكورة في المرشّحين والناخبين. لقد كانت المصادقة على اشتراك النساء في الانتخابات، تُخفي وراءها أهدافًا أخرى. كما إنّ حذف وتغيير شرطَي الذكورة والإسلام، كان يُرادُ منه - على وجه الدقّة - إدخال العناصر البهائيّة في المراكز الحسّاسة من هيكل النظام الحاكم.

 

وكما أشرنا سابقًا، فإنّ دعم الملك للكيان الصهيونيّ، وتوسيع العلاقات الإيرانيّة الإسرائيليّة، كانت شروطًا أميركيّةً مقابل توفير الدعم للملك، ولتحقيق هذه الشروط، كان لا بدّ من زيادة نفوذ أتباع المسلك الاستعماريّ البهائيّ في السلطات الإيرانيّة الثلاث.

 

وبمحض انتشار خبر المصادقة على اللائحة المذكورة، بادر الإمامُ الخمينيّ ومجموعةٌ من العلماء

 

36


30

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

الأعلام في قمّ وطهران -وبعد التشاور- إلى إعلان معارضتهم العامّة والشامله لها.

 

كان للإمام الخمينيّ دورٌ فاعلٌ في توضيح الأهداف الحقيقيّة للنظام الملكيّ، والتنبيه إلى خطورة الرسالة الملقاة على عاتق العلماء والحوزات العلميّة في تلك الظروف.

 

أثارت البرقيّات والرسائل المفتوحة المتعرّضة، التي بعث بها العلماء إلى الملك وإلى رئيس الوزراء أسد الله علم، موجةً عارمةً من الدعم والتأييد لدى طبقات الشعب المختلفة. كما إنَّ برقيّات الإمام الخمينيّ، التي بعث بها إلى الملك ورئيس الوزراء، تميّزت باللهجة الحادّة والحازمة والمحذّرة. يقول سماحته في إحدى تلك البرقيات: "إنّني أنصحكم، مجدّدًا، بأن تطيعوا الله تعالى، وتنصاعوا للدستور، وأن تحذروا العواقب الوخيمة لمخالفتكم للقرآن وأحكام العلماء الأعلام وزعماء المسلمين، وانتهاك الدستور، فلا تعرِّضوا البلاد، عمدًا وبلا مبرّرٍ، للخطر، وإلّا، فإنّ علماء الإسلام سيقولون رأيهم فيكم".

 

بادر النظام الملكيُّ بادئَ الأمر إلى التهديد وتكثيف الإعلام المعادي ضدّ المؤسّسة العلمائيّة. وصرّح أسد الله علم في مقابلةٍ إذاعيّةٍ، أُجرِيَت معه بالقول: "إنَّ الحكومة لن تتراجع عن تنفيذ مشروعها الإصلاحيّ الذي بدأته".

 

ولكن، مع ذلك، فإنّ الحركة الشعبيّة تزايدت باطّرادٍ، فعُطِّلت الأسواق في طهران وقمّ وبعض المدن الأخرى، وتجمّع الناس في المساجد، للتعبير عن دعمهم وتأييدهم لحركة العلماء.

 

لم يمضِ أكثر من شهرٍ ونصفٍ على بداية الحادثة، حتّى تراجعت الحكومة عن تنفيذ مشروعها،

 

37

 


31

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

وأبرق الملك ورئيس وزرائه برسالتَيهما الجوابيّة إلى العلماء، هادفين التودّد إليهم وكسب رضاهم، غير أنّ النظام الملكيّ امتنع عن مخاطبة الإمام الخمينيّ، لِما عرفه من قوّة الشخصيّة وثباتها.

 

رأى بعضُ العلماء في الحوزة العلميّة بأنّ موقف الدولة هذا مقنعٌ، وطالبوا بوقف الانتفاضة، غير أنَّ الإمام الخمينيّ عارض ذلك بشدٍّة، فسماحتُه كان يعتقد بأنَّ على الحكومة أن تبادر لإلغاء لائحة مجالس الأقاليم والمدن بشكلٍ رسميٍّ وعلنيٍّ. ففي رسالته الجوابيّة على سؤال بعض الكسبة والتجّار من أهالي قمّ، حول لائحة مجالس الأقاليم والمدن، كان سماحته قد كشف النقاب عن الأهداف التي رامها النظام من وراء هذه اللائحة، وأشار إلى أنّ المقصود إدخالُ عناصر البهائيّين والجواسيس الإسرائيليّين في تركيبة النظام الإيرانيّ، إذ جاء في جانبٍ من رسالته: "إنَّ الشعب المسلم لن يسكت، ما لم تُتَدَارك هذه الأخطار. ولو رضي أحدٌ بالسكوت، فسيكون مسؤولًا أمام الله القادر، وسيُحكَم عليه بالزوال في هذا العالَم". كما حذّر سماحتُه، في الرسالة ذاتها، نُوّاب مجلسَي الشيوخ والشورى، من مغبّة التصويت لصالح هذه اللائحة، قائلًا: "إنّ الشعب المسلم وعلماء الإسلام أحياءٌ واعون، وإنّهم سيقطعون أيّ يدٍ خائنةٍ تمتد للمساس بأصول الإسلام وأعراض المسلمين".

 

وأخيرًا، أذعن النظام الملكيّ للهزيمة، ففي 28 تشرين الثاني 1962م، ألغت الحكومة اللائحة السابقة، وأبرقت إلى العلماء والمراجع في طهران وقمّ، تُعلِمُهم بالأمر. غير أنَّ الإمام الخمينيّ أصرَّ مجدّدًا على مواقفه السابقة، وأعلن في اجتماعٍ ضمّ العلماء الأعلام في قمّ، بأنّ إلغاء اللائحة بشكلٍ سرّيٍّ أمرٌ غير كافٍ، وأكّد بأنَّ الحركة ستتواصل، ما لم يُعلَن أمرُ الإلغاء في أجهزة الإعلام.

 

وفي اليوم التالي، أُعلِنَ خبر إلغاء لائحة مجالس الأقاليم والمدن في صُحف النظام، واحتفلت الجماهير بأوّل نصرٍ كبيرٍ تحقّق لها، بعد نهضة تأميم صناعة النفط.

 

وفي حديثٍ له، حيث يعيش الشعب أفراحه هذه، قال الإمام الخمينيّ: "الهزيمة الظاهريّة ليست مهمّة. المهمّ هو الهزيمة الروحيّة. وإنّ المرتبط بالله لا يُهزَم، بل الهزيمة لأولئك الذين تمثّل الدنيا غاية آمالهم... فالله لا يُهزَم. وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا... خلال الشهرَين الماضيَين اضطرّتني الأحداث إلى الاكتفاء بساعتَين من النوم يوميًّا... ومرّةً أخرى، إذ رأينا أنَّ شيطانًا من الخارج استهدف بلادنا، فنحن كما نحن، والدولة كما هي... النصيحة من الواجبات... فعلى العلماء أن ينصحوا الجميع،

 

38


32

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

بدءًا من الملك، وحتّى آخر فردٍ في البلاد...".

 

و هكذا، كانت حادثة لائحة مجالس الأقاليم والمدن تجربةً ناجحةً وهامّةً للشعب الإيرانيّ، خاصّةً وقد تُعُرِّف -من خلالها- على شخصيّةٍ تؤهّلها سجاياها لقيادة الأمّة الإسلاميّة.

 

وعلى الرغم من هزيمة الملك في حادثة مجالس الأقاليم والمدن، إلاّ أنّ أميركا واصلت الضغط عليه لتنفيذ الإصلاحات التي كانت تُخطِّط لها. وفي مطلع عام 1963م، أعلن الملك عن مبادئه الإصلاحيّة الستّة، وطالب بإجراء استفتاءٍ عامٍّ بشأنها. فأعلنت الأحزاب القوميّة عن موافقتها، من خلال رفعها لشعار "نعم للإصلاحات، لا للاستبداد". كما إنَّ الشيوعيّين أيضًا - وانطلاقًا من رؤيتهم بأنّ الإصلاحات الملكيّة ستسرّع من مسير ديالكتيكيّة النظام الإقطاعيّ نحو النظام الصناعيّ والرأسماليّ - أعلنوا عن موقفهم المنسجم مع الموقف الذي أعلنته إذاعة موسكو، واعتبروا أُسس الثورة البيضاء أُسسًا تقدّميّةً، وهم أنفسهم الذين نعتوا نهضة الخامس من حزيران بأنّها حركةٌ رجعيّةٌ استهدفت الدفاع عن الإقطاعيّين.

 

ومرّةً أخرى، دعا الإمام الخمينيّ المراجعَ والعلماء الأعلام في قمّ، لدراسة الموقف والنهوض ثانيةً. لكنَّ أولئك الذين كانوا يرَون المرجعيّة الدينيّة منحصرةً في مباشرة الأمور الدينيّة للناس، لا تَحَمُّل المسؤوليّة في مواجهة المصائب والنوازل التي تحلُّ بالأمّة الإسلاميّة، لم يَرُق لهم أمر النهوض. وعلى الرغم من أنَّ أهداف النظام الملكيّ غير المعلنة، من وراء ذلك الاستفتاء وتلك الإصلاحات، كانت واضحةً لشخص الإمام، وأنّ المواجهة أمرٌ لا بدَّ منه، إلّا أنَّ اجتماع العلماء قرّر، بالإجماع، فتحَ باب الحوار مع الشاه واستكشاف نواياه. كانت الرسائل المتبادلة بين الطرفين - الشاه والعلماء - تُرسَل بواسطة مبعوثَي الطرفين للتفاوض، وفي عدّة مراحل مكّوكيّةٍ. وفي لقائه لآية الله كمال وند، هدّد الملكُ بأنَّ الإصلاحات سيتمّ تنفيذُها بأيّ ثمنٍ، ولو كان بسفك الدماء وتخريب المساجد!

 

في الاجتماع اللاحق للعلماء الأعلام بقمّ، طالب الإمامُ بتحريم المشاركة في الاستفتاء العامّ الذي طرحه الملك، لكنَّ الجناح المحافظ، الذي كان حاضرًا في الاجتماع، عَدَّ المواجهة في تلك الظروف بمثابة "نطح الصخرة"، واعتبرها أمرًا عديم الجدوى. وأخيرًا، ونتيجةً لإصرار الإمام الخمينيّ وثباته على موقفه، تقرّر أن يقوم المراجع والعلماء بمعارضة الاستفتاء علنًا، وتحريم المشاركة فيه. وفي الثاني والعشرين من

 

39

 


33

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

 كانون الثاني عام 1962م، أصدر الإمام بيانًا شديد اللهجة، أدّى انتشارُه إلى تعطيل البازار المركزيّ بطهران، وخروج الجماهير في تظاهراتٍ معارِضةٍ، ردّ عليها رجال الشرطة. ومع اقتراب موعد الاستفتاء المفروض، اتّخذت المعارضةُ الشعبيّة أبعادًا جديدةً، ممّا اضطرّ الشاه، ولأجل التخفيف من حدّة المعارضة، إلى السفر إلى قمّ.

 

كان الإمام الخمينيّ يعارض -بشدّةٍ- فكرة خروج العلماء لاستقبال الشاه، بل وحرّم الخروج من المنازل والمدارس يوم وصوله إلى قمّ. وكان تأثير هذا التحريم كبيرًا، إلى درجةٍ جعلت المتولّي لحرم السيّدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، الذي يُعتَبَر أهمّ منصبٍ حكوميٍّ في المدينة، يمتنع عن الخروج لاستقبال الشاه، الأمر الذي أدّى إلى عزله عن منصبه.

 

ولدى وصوله، عبّر الشاه عن سخطه على علماء الدين والجماهير، بأشدّ العبارات سقوطًا وفظاظةً. عَبْرَ خطابُه الذي ألقاه في جمعٍ من الموظّفين الحكوميّين وعملاء النظام، الذين اصطحبهم معه من طهران.

وبعد يومَين من زيارة الملك لمدينة قمّ، أُجرِيَ الاستفتاء في وضعٍ مؤسفٍ، إذ لم يشارك فيه غير عناصر النظام وأزلامه. وقد سعى النظام، من خلال وسائل إعلامه - التي كانت تكرّر إذاعة برقيّات التهنئة التي بعث بها المسؤولون الأمريكيّون والدول الأوروبّيّة - إلى إخفاء فضيحته الناجمة عن إعراض الجماهير عن المشاركة في الاستفتاء.

 

واصل الإمام الخمينيّ فضحَ النظام وأغراضه ونواياه، من خلال الخطابات والبيانات. فكان ضمن ما أصدره، بيانٌ حازمٌ ومستدلٌّ، عُرِفَ فيما بعد بـ "بيان التسعة"، استعرض فيه مخالفات الملك وحكومته للدستور، وتوقّع فيه أن تؤدّي الإصلاحات الملكيّة إلى تدهور الزراعة وضياع استقلال البلاد، ورواج الفساد والفحشاء، كنتائج قطعيّةٍ مسلّمةٍ.

 

40


34

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

واستجابةً لاقتراح الإمام الخمينيّ، تمّ تحريم الاحتفال بعيد النوروز لعام 1342 (21 آذار 1963م)، اعتراضًا على ممارسات النظام. وقد أطلق الإمام الخمينيّ، في بيانه الذي أصدره بهذا الخصوص، عبارة "الثورة السوداء" على ما سُمِّي بـ "الثورة البيضاء"، كما إنّه فضح انصياع الملك للمخطّطات الأميركيّة الإسرائيليّة. وكان سماحته قد أعلن في هذا البيان: "وإنّي لا أرى حلًّا، سوى أن يُصار إلى إقالة هذه الحكومة المستبدّة، بجريرة مخالفة أحكام الإسلام وانتهاك الدستور، وتشكيل حكومةٍ ترتكز إلى أحكام الإسلام وتعي معاناة الشعب الإيرانيّ. اللهمّ لقد أدّيتُ واجبي ـ اللهم قد بلّغت. وإذا مُدَّ في عمري، فإنّي ساُواصل أداء تكليفي بإذن الله".

 

إنّ إدراك أهمّيّة هذا الكلام لا يتسنى إلّا لأولئك المطّلعين على السجون الرهيبة، والاضطهاد الذي كان سائدًا في تلك الايام، إذ كان أقلّ انتقادٍ يقود إلى السجن والتعذيب والنفي.

 

من جانبٍ آخر، فإنّ الشاه -الذي كان قد طمأنَ واشنطن بإعداد المجتمع الإيرانيّ لتقبّل الإصلاحات الأميركيّة، وأطلق على إصلاحاته اسم "الثورة البيضاء"- رأى أنّ معارضة العلماء له ستكلّفه ثمنًا باهظًا. لذا، شرعت أجهزة الإعلام بشنّ حملةٍ واسعةٍ ضدّ العلماء والإمام الخمينيّ، وقرّر الملك سحق النهضة.

وفي الثاني من فروردين 1342ش (22 آذار 1963م)، والذي صادف ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)[1]. هاجم أزلامُ النظام المسلّحون، متنكّرين بملابس مدنيّةٍ، تجمّعَ طلّاب العلوم الدينيّة في المدرسة الفيضيّة، ثمّ قامت قوّات الشرطة بالهجوم على المدرسة الفيضيّة، مستخدِمين أسلحتهم الناريّة، فقتلوا وجرحوا الكثير من الطلّاب. وفي الوقت ذاته، تعرّضت المدرسة الطالبيّة في تبريز لهجومٍ مماثلٍ. وفي غضون تلك الأحداث،


 


[1] جعفر بن محمّدٍ الصادق، الإمام السادس من أئمّة الشيعة (83 - 148 ه). أدّي دورًا عظيمًا في إحياء المعارف الإسلاميّة، وتشكيل حوزات الدرس، وتربية الطاقات المؤمنة، حتّي أخذ المذهب الشيعيّ يُنسَب إليه، ويُنعَت بالمذهب الجعفريّ.

 

41


35

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

 كان منزل الإمام الخمينيّ يستقبل كلّ يومٍ مجاميع كثيرةً من الثوريّين والجماهير الغاضبة، التي كانت تأتي للتعبير عن تضامنها وتعزيتها ودعمها للعلماء، وللاطّلاع على آثار جريمة النظام في قمّ.

وكان الإمام الخمينيّ يحمّل الملك شخصيًّا، وبصراحةٍ، أثناء خطاباته في الجماهير، المسؤوليّة الكاملة عن تلك الجرائم، وعن التحالف مع إسرائيل، ويحثُّ الجماهير على القيام. وفي خطابه، الذي ألقاه في الأوّل من نيسان عام 1963م، انتقد - بشدّةٍ - سكوت علماء قمّ والنجف وسائر البلاد الإسلاميّة إزاء جرائم الملك الأخيرة، قائلًا: "إنّ السكوت اليوم، يعني التضامن مع النظام المتجبّر".

 

و في اليوم التالي، أي في الثاني من نيسان عام 1963م، أصدر الإمام بيانه المعروف تحت عنوان "محبّة الملك تعني النهب". وقد وضع الإمام في بيانه هذا -الذي يُعَدُّ من أشدّ بياناته السياسيّة لهجةً- الملكَ في قفصِ الاتّهام، وأكَّد في خاتمة بيانه أنّ التقيّة في مثل هذه الظروف حرامٌ، وأنّ إظهار الحقائق واجبٌ "ولو بلغ ما بلغ". وخاطب الإمامُ الخمينيُّ، في بيانه هذا، الشاهَ وأزلامه، قائلًا: "لقد أعددت اليوم قلبي لتلقّي طعنات حرابِ أزلامِك، ولكنّي غير مستعدٍّ لقبول الظلم، ولن أرضى بالخضوع أمام تجبّر النظام".

 

كان الإمام الخمينيّ قد اختار طريقَه بوعيٍ، ولديه الآن حصيلةً غنيّةً من التجارب السياسيّة والمواقف الجهاديّة الحلوة والمرّة، ويرى أنَّ بانتظاره وقائع خطيرةً، وأنّ أمامه طريقًا محفوفًا بالمخاطر. غير أنّه لا يتحرّك بوحيٍ من الماضي أو المستقبل. إنّه يفكر دومًا بأداء الواجب الشرعيّ، رافعًا شعار "العمل بالتكليف ولو بلغ ما بلغ".

 

إنّ معنى "الهزيمة والنصر"، في منطق الإمام الخمينيّ، غيرُ ذلك الذي اعتاد عليه السياسيّون المحترفون. فهو، خلافًا لكثيرٍ من المناضلين المشهورين والقادة والأعلام من سياسيّي العالَم -الذين يدخلون أوّلًا الميدان السياسيّ بأيّة وسيلةٍ ودافعٍ، ثمّ يحرصون على مظهرهم السياسيّ ودورهم، وتتشكّل شخصيّتهم وسط ذلك الميدان المضطرب - دخل الميدان السياسيّ، ومارس دورَه القياديّ

 

42

 


36

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

للثورة الإسلاميّة في عام 1963م، بعد أن قطع شوطًا كبيرًا في مسيرة التهذيب وكسب الفضائل المعنويّة والمعارف الحقيقيّة بسطوحها العالية، ومارس الجهاد الأكبر لسنواتٍ طويلةٍ. فالإمام كان يعتقد بأنَّ بناء النفس والجهاد الذاتيّ مقدّمٌ على الجهاد الخارجيّ، حتّى إنّه كان يقول دومًا: بأنَّ العلوم المختلفة -بما في ذلك علم التوحيد - إذا لم تقترن بتهذيب النفس، فإنّها لن تكون سوى حجابٍ، ولن تقود إلى الحقيقة.

 

إنّ العبارات الحادّة التي ضمّنها الإمامُ بيانَه الصادر في 2 نيسان 1963م، وأشباهها التي وسمت الكثير من تراثه السياسيّ، لم تكن مناورةً سياسيّةً لإخراج مناوئيه من الساحة، بل إنّها كانت عرضًا لحقائق تنبع من أعماق وجود شخصيّةٍ ترى أنَّ العالَم محضر الله. فالإمام لم يكن يُكِنُّ لأحدٍ من خصومه، من أمثال محمّد رضا أو صدّامٍ أو كارتر أو ريغان وغيرهم ممّن وقفوا بوجهه خلال جهاده، حقدًا أو عداءً شخصيًّا. كان سماحتُه حريصًا على إنقاذ المجتمع البشريّ من سلطة أتباع الشيطان، وإعادة البشريّة إلى هويّتها الفطريّة الإلهيّة الرحمانيّة، وكان ينظر إلى الصراع من هذا المنظار. وقد حرص على الاعتقاد والعمل بهذه المبادئ، قبل أن يدعو غيرَه إليها.

 

وللوقوف على سرّ موفّقيّة الإمام الخمينيّ، ينبغي البحث في مجاهدته الطويلة لنفسه، وسعيه لبلوغ المعرفة الشهوديّة الحقيقيّة. فلا يمكن دَرْكُ دوافع الإمام الخمينيّ وأهدافه من نضاله السياسيّ، دون التأمّل في مراحل تكامل شخصيّته الروحيّة والمعنويّة والعلميّة.

 

لقد رأى العالَمُ الكثيرَ من العناصر التي ميّزت جهاده وثورته، إلاّ أنَّ ما يميّز نضال الإمام الخمينيّ، وما يميّز ثورتَه عن سائر الثورات، ويجعلها متّصلةً بثورات الأنبياء، هو أنَّ الشخصيّة التي فجّرت الثورة الإسلاميّة في القرن العشرين، وحسب ما يروي رفقاء دربه، لم تترك - طوال فترة ما قبل النهضة، حتّى انطلاقتها، ومن ذلك الوقت حتّى رحيله عن الدنيا - نافلة صلاة الليل والتهجّد ليلةً واحدةً، ناهيك عن الفرائض والواجبات. إنّه ذلك الرجل الذي جلس يردُّ على أسئلة العشرات من الصحفيّين والمصوّرين الذين اجتمعوا من أنحاء العالَم، في آخر لقاءٍ صحفيٍّ له في محلّ إقامته في "نوفل

 

43


37

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

لوشاتو"[1]، وما إن مرّت بضعُ دقائق، وحان موعد الصلاة، حتّى قام ليؤدّي صلاتَه، غير مكترث لذلك الجمع.

 

وللوقوف على سرِّ التأثير المميّز لبيانات الإمام وكلامه في الاستحواذ على مخاطبيه، إلى الحدِّ الذي يدفعهم إلى التضحية بأرواحهم، ينبغي البحث في أصالة فكره، والحزم في الرأي، والصدق الخالص معهم.

 

إنّ من أهمّ المزايا التي وسمت نهضة الإمام الخمينيّ، الإعلانَ عن نهجٍ واضحٍ في نضاله، واتّخاذَ مواقف واضحةٍ وصريحةٍ والثبات عليها، والحزمَ في التحرّك نحو الأهداف، وهي الأمور التي أقرّ بها العدوّ والصديق.

 

إنّ دراسة بيانات الإمام الخمينيّ ومواقفه السياسيّة، طوال فترة نضاله ضدّ الشاه وأميركا، ومقارنتها مع مواقف بعض الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والأحزاب والتجمّعات والتيّارات السياسيّة الأخرى، يُظهِر – بوضوحٍ - مدى ثبات الإمام على المضيّ نحو تحقيق أهدافه، وعزمه الراسخ على مواصلة النهضة.

 


[1] بعد اندلاع شرارة الثورة في إيران، عمل كلٌّ من النظام الشاهنشاهيّ ونظام البعث العراقيّ، علي تنسيق جهودهما في التضييق علي سماحة الإمام الخمينيّ، ووضع العراقيل في طريق نضاله. فبادرت منظّمة الأمن العراقيّة إلى محاصرة بيت الإمام في النجف، وحالت دون اتّصال الناس وعلماء الدين بسماحته. بيد أنّه لم تستطع هذه المضايقات أن تفتّ في عضد الإمام أو تقوده للتراجع عن الطريق الذي اختاره لنضاله، ولو خطوةً واحدةً؛ ممّا اضطرّه إلى ترك العراق والتوجّه إلى الكويت. إلّا أن الكويت لم تسمح للإمام بدخول أراضيها، فقرّر التوجّه إلى فرنسا والإقامة في قريةٍ تقع علي بعد 25 كم من باريس، تُدعى "نوفل لوشاتّو".

في نوفل لوشاتّو، وُضِع تحت تصرّف الإمام الخمينيّ (قدس سره) ومرافقيه، منزلان صغيران. كان المنزل الأوّل صغيرًا جدًّا، فخُصِّص لإقامة الإمام وأفراد عائلته. أمّا المنزل الثاني -وكان يقع في الجهة المقابلة للمنزل الأوّل- فقد خُصِّص للاجتماعات وللطلبة الجامعيّين الإيرانيّين ولأعضاء مكتب الإمام. وكان الإمام يقيم فيه صلاة الجماعة، كما كان يصلّي فيه نافلة الليل. كذلك، تمّ استئجار محلٍّ آخر كفندقٍ لاستراحة الطلبة الجامعيّين والضيوف الذين كانوا يفدون لزيارة الإمام الخمينيّ. وكان الشهيد مهديّ العراقيّ يتولّى مسؤوليّة إدارة هذا المحلّ. ونظرًا لضيق المكان، كان يقضي عشرون إلى ثلاثين شخصًا ليلتهم في غرفةٍ واحدةٍ. وكان لا يُسمَح للقادِمين لزيارة الإمام بالبقاء في هذا المكان أكثر من ليلتَين. وممّا يُذكَر، أنّ سماحة الإمام الراحل لم يكن يسمح بدفع بدل إيجار هذا المحلّ من سهم الإمام "الخمس"، لِمَا عُرِف عنه من دقّةٍ في صرف الحقوق الشرعيّة. لذا، كان المتموّلون من الإيرانيّين يتولّون دفع بدل الإيجار، توسعةً علي الطلبة الجامعيّين الإيرانيّين.

 

44


38

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

إنّ الوثائق التاريخيّة تشير – بوضوحٍ - كيف أنّ بعض الجماعات والأفراد، من أعلام السياسة والدين، دخلوا ساحة الصراع في بدايته، خلال أعوام 1961 – 1963م، وحتّى إنّه كانت لديهم مواقف متشدّدةٌ، ولكن، وبمجرّد تعرّضهم لأوّل ردّ فعلٍ من نظام الشاه، تراجعوا عن مواقفهم كلّها، واختار بعضُهم الانزواء والسكوت الطويل، الذي استمرّ حتّى أيّام بلوغ الثورة ذروتها، وانتصارها في عام 1979. كذلك، فإنّ عددًا منهم حاول الابتعاد لمسافةٍ كبيرةٍ عن المواقف التي اتّخذها قائد النهضة، واختار - بدلًا من الجهاد، والوقوف بوجه السياسات الاستعماريّة الأميركيّة في إيران، ومعارضة النظام الملكيّ المستبدّ، باعتباره السبب الأساسيّ لتسليط الأجانب على البلاد- اختار الانشغال بالمسائل الجزئيّة المعاصرة، ورفع الشعارات الفضفاضة، من قَبيل حريّة الانتخابات، أو تطبيق دستور السلطنة.

 

ولا يخفى على المطّلعين على أحداث التاريخ الإيرانيّ المعاصر، بأنّ رفع أمثال هذه الشعارات في تلك الأيّام، لم تكن له نتيجةٌ غير حرف مسار الانتفاضة الشعبيّة عن مواجهة العناصر الأصليّة. ومن هنا، نرى أنّ منظّمة الأمن "السافاك"، كانت قد بادرت إلى ترسيخ تلك التوجّهات وتشجيعها.

 

وفي هذا الوسط، أصرَّ الإمام الخمينيّ وأنصاره على مواصلة مسيرتهم، والثبات على مواقفهم، وتقديم التضحيات من أجل الأهداف التي كان قد أعلن عنها في بداية جهاده، على الرغم من الظروف الصعبة والأحداث العاصفة، التي كان الواحد منها يكفي لأن يكون سببًا مقبولًا لتغيير المواقف، واختيار العزلة والسكوت والاستسلام للنظام. وإنّ مثل هذا الصمود والاستقامة، لم يكن ممكنًا بغير الإيمان بالأصول والحقائق، التي تسمو على مقتضيات الظروف السياسيّة والاجتماعيّة آنذاك.

 

بدأ عام 1342 ش (1963م)، بتحريم مراسم الاحتفال بعيد النوروز (الربيع)، واصطبغ بدماء المظلومين، التي أُرِيقَت في الفيضيّة. فمن جانبٍ، كان الشاه يصرّ على تنفيذ الإصلاحات التي كانت تطالبُ بها أميركا، ومن جانبٍ آخر، أصرّ الإمام الخمينيّ على توعية الجماهير واستنهاضهم للوقوف بوجه التدخّلات الأميركيّة في الشؤون الداخليّة والخيانات التي يرتكبها الملك.

 

وفي الثالث من نيسان 1963م، أبرق آية الله العظمى الحكيم، من النجف، إلى العديد من العلماء والمراجع في إيران، يطالبهم بالهجرة الجماعيّة إلى النجف الأشرف. كان هذا الاقتراحُ يهدف إلى الحفاظ على حياة العلماء وكيان الحوزات العلميّة، وقد عبّر النظام الملكيّ، وعبر العديد من الممارسات، عن

 

45

 


39

الهجرة إلى قمّ، تحصيل الدروس التكميليّة وتدريس العلوم الإسلاميّة

غضبه واستنكاره لدعم علماء النجف وكربلاء وآية الله الحكيم، لنهضة العلماء في إيران. ومن أجل خلق جوٍّ من الرعب، والحؤول بين العلماء والإجابةِ على برقيّة آية الله الحكيم، بادر نظام الشاه إلى إرسال أفواجٍ من قوّات الأمن الداخليّ إلى مدينة قمّ، كما أرسل، في الوقت ذاته، وفدًا رسميًّا أخذ على عاتقه نقل رسالة التهديد الملكيّة إلى مراجع التقليد.

 

امتنع الإمام الخمينيّ عن استقبال هذا الوفد. وقد أشار سماحتُه إلى هذه القضيّة، في خطابه الذي ألقاه في 2/5/1963م، مشيرًا إلى الملِك بكلمةِ "التافه"، إذ قال: "إنّ هذا التافه، رأس هذه الحكومة الخبيثة، أرسل رئيس الشرطة إلى منازل المراجع -طبعًا، أنا لم أستقبلهم، وليتني فعلت، ليتني يومها سمحت لهم بدخول المنزل، ثمّ هشّمت أسنانهم- ليُبلِغوهم: إنّ الشاه قد أمرنا، إذا ما نطق أحدكم بشيءٍ، بأن نقوم بإرسال من يهدم بيوتكم، ويقتلكم، ويهتك أعراضكم!".

أبرق الإمام الخمينيّ برسالةٍ جوابيّةٍ إلى سماحة آية الله العظمى الحكيم، غير عابئٍ بتلك التهديدات، أكّد فيها أنّ الهجرة الجماعيّة من قِبَل العلماء، وإخلاء مواقعهم في الحوزة العلميّة بقمّ، يتعارض مع المصلحة الإسلاميّة. كتب الإمام في جانبٍ من هذه البرقيّة، يقول: "سوف نؤدّي تكليفَنا الإلهيّ، إن شاء الله، وسوف نُوَفَّق لإحدى الحُسنَيَين: إمّا قطع أيدي الخونة عن الإسلام والقرآن الكريم، أو مجاورة رحمة الحقّ - جلّ وعلا -. وإنّي "لَا أرَى الموتَ إلَا سعادةً، والحياةَ معَ الظالِميَن إلّا بَرَمًا""[1].

 

وفي بيانه الذي أصدره بتاريخ 2 نيسان 1963م، بمناسبة أربعينيّة شهداء فاجعة الفيضيّة،أكّد الإمام الخمينيّ وقوفَ العلماء والشعب الإيرانيّ إلى جانب قادة الدول الإسلاميّة والعربيّة ضدّ إسرائيل الغاصبة. وأدان الاتّفاقيات المبرمة بين الملك محمّد رضا وإسرائيل. وبذا، أوضح، منذ انطلاق نهضته، بأنَّ النهضة الإسلاميّة في إيران، ليست بمعزلٍ عن مصالح الأمّة الإسلاميّة، وأنّ نهضته، إنّما تهدف الإصلاح في العالَم الإسلاميّ كلّه، غير محدودةٍ بحدود إيران الجغرافيّة.


 


[1] يُنسَب هذا الحديث إلى الحسين بن عليٍّ  عليهما السلام، الإمام الثالث من أئمّة الشيعة.

 

46


40

انتفاضة الخامس من حزيران

كتب الإمام الخمينيّ، في رسالةٍ وجّهها إلى العلماء، يقول: "إنَّ الخطر الإسرائيليّ على الإسلام وإيران وشيكٌ للغاية. فالمعاهدة مع إسرائيل، في مقابل الدول الإسلاميّة، أُبرِمَت، أو على وشك ذلك. وبالسكوت والاعتزال، سنضيّع كلّ شيءٍ. إنّ للإسلام علينا حقًا. إنّ لنبيّ الإسلام علينا حقًا. ينبغي لعلماء الإسلام، وأتباع الدين المقدّس، أن يؤدّوا ما عليهم من دَينٍ لدينهم، في هذا الزمان الذي تتعرّض فيه الجهود المضنية كلّها، التي بذلها ذلك العظيم (صلى الله عليه وآله) للزوال. لقد صمّمْتُ على عدم التراجع، حتّى أُلزِمَ هذا النظام الفاسد حدَّه...".

 

◄| انتفاضة الخامس من حزيران

وفي حزيران عام 1963م، أطلَّ شهر محرّمٍ الحرام. فبادر الإمام الخمينيّ لاستثمار هذه الفرصة في تحريك الجماهير، ودفعها لمواجهة النظام الملكيّ المستبدّ. وفي عاشوراء، انطلق مئات الآلاف من المتظاهرين في طهران، وهم يحملون صور الإمام، وتجمّعوا أمام "قصر المرمر" (محلّ إقامة الملك)، وردّدوا - لأوّل مرّةٍ في العاصمة - شعار "الموت للديكتاتور!". ثمّ تلتها مظاهراتٌ أخرى في الأيّام اللاحقة، تجمّع فيها المتظاهرون في الجامعة والسوق المركزيّ (البازار)، وفي مقابل السفارة البريطانيّة، معلنين عن دعمهم لنهضة الإمام.

 

47


41

انتفاضة الخامس من حزيران

وفي عصر يوم عاشوراء، لعام 1383هـ (3 حزيران 1963م)، ألقى الإمام، في المدرسة الفيضيّة، خطابَه التاريخيّ، والذي كان البدايةَ لقيام الخامس من حزيران. وقد خصّص سماحتُه القسمَ الأعظم من خطابه لاستعراض المصائب التي ألحقتها العائلةُ البهلويّةُ بالبلاد، وفضح العلاقات السرّيّة بين الملك وإسرائيل. وفي هذا الخطاب، أطلق الإمامُ صرختَه، مخاطبًا الملك، بالقول: "أيّها السيّد، إنّي أنصحك! يا جناب الملك، يا حضرة الملك، إنّي أنصحك بأن تكفّ عن ممارساتك هذه! إنّهم يستغفلونك. ولستُ أرغب أن يبادر الجميعُ للتعبير عن شكرهم للهِ في اليوم الذي تُنَحَّى عن السلطة. فإذا كانوا يلقّنونك ما تقول، فإنّي أدعوك أن تفكّر قليلًا، واستمع لنصيحتي... فما هي العلاقة بين الملِك وإسرائيل، حتّى تطالبنا مديريّة الأمن بعدم التعرّض لإسرائيل؟ فهل الملِك إسرائيليٌّ؟".

 

وقع خطاب الإمام كالمطرقة على روح الملك، الذي كان ما أُصِيبَ به، من جنون القدرة والتكبّر الفرعونيّ، على لسان الخاصّة والعامّة. لذا، أصدر أوامره بكمّ صوت الثورة هذا، فبادرت قوّات أمنه أوّلًا، لاعتقال جمعٍ من أنصار الإمام، في ليلة الرابع من حزيران. وفي فجر يوم الخامس من حزيران، داهم المئات من رجال الكومندو، الذين تمَّ إرسالهم من طهران، منزلَ الإمام الخمينيّ لاعتقاله، في وقتٍ كان الإمامُ يؤدّي نافلة الليل، ونُقِلَ على الفور إلى طهران، لِيُودَع في معتقلِ "نادي الضبّاط"، ثمّ نُقِلَ في غروب ذلك اليوم إلى "سجن قصر".

 

48

 

 


42

انتفاضة الخامس من حزيران

انتشر خبر اعتقال الإمام بسرعةٍ في مدينة قمّ وضواحيها، فانطلق الرجال والنساء نحو منزل قائدهم، وهم يردّدون شعار "الموت أو الخمينيّ"، الذي ملأ أرجاء المدينة. وقد بلغ الغضب الشعبيّ حدًّا، دفع رجال الشرطة في البداية إلى الفرار، إلّا أنّهم عادوا لمواجهة الجماهير، بعد أن تسلّحوا بمختلف التجهيزات العسكريّة، وبعد أن تمّ إرسال قوّات دعمٍ من المعسكرات المحيطة بالمدينة.

 

وبينما كانت جموع الجماهير تغادر حرم حضرة المعصومة عليها السلام، فتحت قوّات النظام، التي استقرّت خارج الحرم المطهّر، نيرانَ أسلحتها الأوتوماتيكيّة. ولم تمضِ عدّة ساعاتٍ على المواجهة بين الجماهير وقوّات النظام، حتّى دار حمّام الدم في المدينة. ولم يكتفِ النظام بذلك، فقد أُرسِلَت عدّة طائراتٍ مقاتلةٍ للتحليق في سماء المدينة واختراق حاجز الصوت، لإدخال الرعب والهلع في قلوب الجماهير.

 

تمَّ مواجهة الانتفاضة بالسلاح والنار، للسيطرة على الأوضاع. بعدها، بادرت العجلات العسكريّة، إلى جمع أجساد الشهداء والجرحى من الشوارع والأزقّة، لنقلهم بسرعةٍ إلى أماكن غير معلومةٍ. وفي غروب ذلك اليوم، كانت مدينة قمّ تعيش حالة النكبة والحزن.

في صباح يوم الخامس من حزيران، كان خبر اعتقال الإمام قد وصل إلى طهران ومشهد وشيراز وسائر المدن، ممّا فجّر أوضاعًا مشابِهةً في تلك المدن. انطلقت مجاميع الناس، من أهالي "ورامين" والمناطق المحيطة بطهران، نحو العاصمة.

 

و لمّا كانت دبّابات النظام وأليّاته وقوّاته المسلّحة قد أحاطت بالعاصمة، للحيلولة دون

 

49


43

انتفاضة الخامس من حزيران

وصول المعارِضين إليها، فقد اشتبكت قوّات النظام مع تلك المجاميع في تقاطع "ورامين"، ممّا أدّى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى من الأهالي.

كذلك، أُقِيم تجمّعٌ جماهيريٌّ حاشدٌ في السوق المركزيّ بطهران، وفي مركز المدينة، راح يردّد شعار "الموت أو الخمينيّ"، وهو في طريقه إلى قصر الملك. كما انطلقت سيول الجماهير من جنوب مدينة طهران، متوجّهةً نحو مركز العاصمة، يتقدّمهم طيّب الحاجّ رضائيّ والحاجّ إسماعيل رضائيّ[1] - وهما اثنان من فتوّات منطقة جنوب طهران - وقد اعتُقِل هذين الأخوَين فيما بعد، وفي 2 تشرين الثاني 1963م، تمّ إعدامها ونفي أنصارهما إلى مدينة بندر عبّاس. لقد كشف النديم الدائم للملك (الفريق الركن حسين فردوست)[2]، في مذكّراته، النقابَ عن استخدام أفضل الخبرات الأمنيّة والسياسيّة الأميركيّة -آنذاك- للقضاء على الانتفاضة، وكذلك

 


[1] كان هذان الرجلان من المناضلين المتديّنين، وقد تمّ إعدامهم فجر الثاني من تشرين الثاني عام 1963، بتهمة المشاركة في انتفاضة الخامس من حزيران - 15 خرداد -. ويُذكَر أنّ الطيّب الحاجّ رضائي تمكّن من القضاء علي شعبان الجعفريّ -المعروف بالمجنون- ومجموعته، التي كانت تعمل لصالح النظام الملكيّ، وذلك خلال إحداث انتفاضة الخامس من حزيران. كما إنّ الحاجّ إسماعيل رضائي کان من المؤمنين التحرّريّين الطهرانيّين. هذا، وقد عرّض النظام الملكيّ الأخوين كليهما إلى أقسى أنواع التعذيب الروحيّ والجسديّ، مطالِبًا إيّاهما بالاعتراف باستلام الأموال من الإمام الخمينيّ. ولمّا عجزت عناصر النظام عن الحصول على اعترافٍ منهما، بادرت إلى قتلهما. وإثر انتشار خبر شهادتهما، عطّلت الحوزة العلمية دروسها. وفي اليوم السابع من استشهادهما، أصدرت جماعةٌ من المناضلين المعروفين والمتديّنين الملتزمين من الكَسَبة وعلماء الدين، بيانًا ذُيِّل باسم "الهيئات الإسلاميّة المؤتلفة"، جاء فيه: "... تمّ فجر يوم السبت، إعدام اثنين من أبطال إيران، اللذَين تحمّلا أشدّ أنواع التعذيب غير الإنسانيّ؛ لرفضهم الاعتراف الكاذب بما أملته عليهما مديريّة الأمن، والذي أُرِيدَ به الإساءة إلى علماء الدين. وسوف يبقي اسماهما علامةً مضيئةً تزيّن صفحات تاريخ الجهاد ضدّ الأجانب". وتجدر الإشارة إلى أنّ عدد المعتقلين في قضيّة الطيّب والحاجّ إسماعيل، كانوا سبعة عشر شخصًا، طالبت المحكمة العسكريّة التي قُدِّموا إليها بإنزال عقوبة الإعدام بهم جميعًا.

[2] دخل حسين فردوست، منذ طفولته، مدرسةً خاصّةً، تُسَمّي "مدرسة نظام"، كان رضاخان قد أمر بتأسيسها؛ لتعليم وليّ عهده محمّد رضا بهلويّ. وبذلك، توفّرت الفرصة لفردوست، منذ الطفولة، ليكون أحد أقرب أصدقاء محمّد رضا بهلويّ وأمين سرّه. وحينما أوفد وليّ العهد، محمّد رضا، إلى سويسرا, لإتمام دراسته، أوفد فردوست معه بشكلٍ رسميٍّ. وكان الصديق المقرّب لمحمّد رضا، خلال سنوات الدراسة في الخارج. وبصعود محمّد رضا إلى سدّة الحكم، كان فردوست إلى جانبه أيضًا، وكان الملك يقدّمه علي أنّه صديقه المقرّب.

كان الجنرال حسين فردوست يعمل عَمَلَ العين والأذن لمحمّد رضا بهلويّ. إذ كان يقف علي رأس أهمّ مؤسّسات النظام المخابراتيّة -مكتب المخابرات الخاصّ- وهي مؤسّسةٌ شخصيّةٌ للملك، هدفها جمع المعلومات له. وهي تمثّل قمّة الهرم الإداريّ لجميع منظومة المؤسّسات السياسيّة والمخابراتيّة للبلاد، بما في ذلك السافاك.

 

50


44

انتفاضة الخامس من حزيران

عن الهلع الذي أصاب الملك والبلاط وقادة الجيش والسافاك في تلك الساعات، وكيف اتّخذ الملك وخبراؤه قرار سحق الانتفاضة. يقول فردوست: "قلت لأويسي (قائد فرقة الحرس الخاصّ): بأنَّ السبيل الوحيد هو أن تقوم بتسليح جميع الطبّاخين والخدّام وعمّال التنظيف والحرّاس وغيرهم، الموجودين في فرقتك...".

كتب أسد الله علم، رئيس الوزراء، في مذكّراته، يصف ما خاطب به الملك ذلك اليوم، قائلًا: "لو كنّا تراجعنا، لكانت الفوضى عمّت إيران بأسرها، ولتعرّض نظامنا للسقوط المهين. وآنذاك، كنت قد ذكرت لكم -الملك- بأنّنا يجب أن نصرّ على مواجهة هذا الموقف، حتّى وإن تطلّب الأمر تنحيتي عن موقع المسؤوليّة، والإعلان عن استنكاركم لِما فعلت، ثمّ الحكم عليّ بالإعدام، وإلقاء تبعة ذلك على عاتقي من أجل إنقاذكم!".

 

على أيّة حال، أُعلِنَت الأحكام العرفيّة في الخامس من حزيران، في كلٍّ من طهران وقمّ. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ تظاهراتٍ واسعةٍ انطلقت في الأيّام اللاحقة، وكانت تنتهي كلّ مرّةٍ بالمواجهة الدامية.

 

كان الخامس من حزيران 1963م، يومَ انطلاقة الثورة الإسلاميّة للشعب الإيرانيّ.

 

بعد تسعة عشر يومًا من الاعتقال في سجن قصر، تمّ نقل الإمام الخمينيّ إلى معتقله الجديد في معسكر "عِشْرَتْ آباد".

 

51

 


45

انتفاضة الخامس من حزيران

بعد يومين من انتفاضة الخامس من حزيران، وصف الملكُ ذلك القيام الشعبيّ، بأنّه فوضى وعملٌ وحشيٌّ، نجم عن اتّحاد الرجعيّة السوداء والحمراء، وسعى لربط ما حدث بالخارج، ونسبه إلى أشخاصٍ، أمثال جمال عبد الناصر[1]. ولم يخفَ على أحدٍ حينها، تهافتُ الادّعاءات التي أطلقها الملك. وعلى العكس تمامًا من ادّعاءات الملك تلك، فإنّ حزب تودة، وسائر الشيوعيّين الإيرانيّين، أصرّوا في كتاباتهم ومواقفهم المعلنة، على إعادة وتكرار وجهة نظر موسكو حول أحداث الخامس من حزيران، والتي كانت تصرّح بها من خلال الإذاعة والصحف الصادرة في الاتّحاد السوفياتيّ، والمتمثّلة في اعتبار تلك الانتفاضة حركةً رجعيّةً عمياء، للوقوف بوجه الإصلاحات التقدّميّة التي كان الملك يرغب في تنفيذها.

 

كذلك، فإنّ أحدًا لم يصدّق الادّعاء الكاذب للملك، والذي أراد من خلاله توجيه الاتّهام إلى جمال عبد الناصر، على الرغم من محاولات السافاك ودسائسه كلّها في هذا السبيل. فالاستقلال التامّ لانتفاضة الخامس من حزيران، كان بدرجةٍ من الوضوح، لم تتمكّن معه أمثال هذه الترّهات الواهية من الطعن فيه.

 

وباعتقال قائد النهضة، وممارسة القتل الوحشيّ بحقّ الجماهير في الخامس من حزيران عام 1963م، تكون النهضة قد أُجهِضَت في الظاهر.

 

وفي محبسِه، امتنع الإمام الخمينيّ عن الردِّ على أسئلة المحقِّقين، معلنًا بوضوحٍ وشجاعةٍ، بأنَّ الهيئة الحاكمة في إيران والسلطة القضائيّة تفتقد بأجمعها إلى الشرعيّة القانونيّة والصلاحيّة الرسميّة. وفي زنزانته الانفراديّة في معسكر عشرت آباد، لم يفرّط الإمام الخمينيّ بالفرصة التي سنحت له، فراح يُكثِر من مطالعة كتب التاريخ المعاصر، منها: تاريخ الحركة الدستوريّة في إيران، وبعض مؤلّفات "جواهر لال نهرو".


 


[1] أحد رؤساء جمهوريّة مصر العربيّة. تولي الحكم عام 1954م. وبعد عامين من تولّيه الحكم، بادر إلى تأميم قناة السويس. خاض حرب الأيّام الستّة ضدّ العدوّ الصهيونيّ، وتوفّي عام 1970م، ودُفِنَ في مقرّ عمله.

 

52


46

انتفاضة الخامس من حزيران

بعد اعتقال سماحته، انطلقت الأصوات المعارضة الواسعة من قبل علماء الدين ومختلف طبقات الشعب، ومن شتّى أنحاء البلاد، مطالِبَةً بإطلاق سراح قائدها. فقام جمعٌ من العلماء الأعلام بالسفر إلى طهران، للإعلان عن معارضتهم لاعتقال الإمام. وكان الخوف من إقدام النظام على تصفية الإمام، يثير القلق بين الجماهير، ويدفعها لإظهار ردّ فعلٍ قويٍّ.

 

وقد تعرّض بعضُ العلماء، الذين تجمّعوا في طهران، لهجوم أزلام السافاك، وتمَّ اعتقالهم وإيداعهم السجن لمدّةٍ من الزمن.

 

وعندما رأى الشاهُ بأنَّ انتفاضة الخامس من حزيران وجّهَت ضربةً للاستقرار والضمانات التي أعطاها لأميركا، حاول أن يقلّل من أهمّيّة تلك الانتفاضة، ويُظهر بأنَّ الأوضاع عاديّةٌ وخاضعةٌ لسيطرته. من جانبٍ آخر، كان الغضب الجماهيريُّ، نتيجة استمرار اعتقال الإمام، في تنامٍ مطّردٍ. لذا، اضطرّ النظام، في الثاني من آب 1963م، إلى نقل الإمام من معتقله، ليُوضَعَ تحت الإقامة الجبريّة، في منزلٍ تحاصره قوّات الأمن في منطقة "الداوديّة" بطهران. وبمجرّد اطّلاع أهالي طهران على انتقال القائد، أخذوا يتوافدون إلى منطقة الداوديّة. ولم تمرَّ عدّة ساعاتٍ على تجمّع الأهالي، حتّى اضطرّ النظام إلى تفريق الجموع، ومحاصرة المنزل بشكلٍ علنيٍّ، بواسطة رجال الشرطة.

 

في مساء الثاني من آب، نشرت صحف النظام خبرًا مُختَلَقًا مُفتَعَلًا، يشير إلى التوصّل إلى اتّفاقٍ بين مراجع التقليد والمسؤولين في الحكومة، ولم يكن بمقدور الإمام الخمينيّ الاطّلاع على الخبر أو تكذيبه، غير أنّ العلماء الأعلام كذّبوا، من خلال بياناتٍ أصدروها آنئذٍ، وقوعَ مثل هذا الاتّفاق أو التفاهم. وقد تميّز البيان الذي أصدره آية الله المرعشيّ النجفيّ (رَحمَه اللهُ) بحدّةِ اللهجة، والتأكيد على فضح أساليب النظام، فكان من البيانات البالغة التأثير.

 

بعد هذه الأحداث، تمّ نقل الإمام، مخفورًا، إلى منزلٍ في محلّة "قيطريّة" بطهران، وبقي تحت الإقامة الجبريّة هناك، إلى يوم إطلاق سراحه في 7 نيسان 1964م.

 

و في الثلث الأوّل من عام 1964م، تصوّر النظام بأنَّ القسوة والحزم، اللذَين واجه بهما الجماهير في حادثة الخامس من حزيران، قد أدّيا إلى تنبيه الجماهير، ودفعا المجاهدين إلى اختيار جانب السكوت. لذا، حاول الإيحاء بأنّ وقائع العام الماضي قد تمّ نسيانها.

 

53

 


47

انتفاضة الخامس من حزيران

وفي مساء السابع من نيسان 1964م، تمَّ، ومن دون إعلانٍ مسبقٍ - إطلاق سراح الإمام الخمينيّ، ونقله إلى قمّ. وبمحض اطّلاع الجماهير على الأمر، عمّت مظاهرُ الفرح مدينةَ قمّ بأسرها، وأُقِيمَت الاحتفالاتُ البهيجة في المدرسة الفيضيّة وسائر الأماكن، ودامت عدّة أيّامٍ.

و لم تمرّ سوى ثلاثة أيّاٍم على إطلاق سراح الإمام الخمينيّ، حتّى بادر سماحتُه إلى إبطال التصوّرات والدعايات كلّها، التي روّج لها النظام، وذلك من خلال خطابه الثوريّ، الذي ألقاه بعد إطلاق سراحه مباشرةً، إذ جاء فيه: "لا معنى للاحتفال اليوم. مادام الشعب على قيد الحياة، فإنّه لن ينسى مصيبة الخامس من حزيران!".

 

وتناول قائد الثورة، في خطابه، أبعادَ انتفاضة 15 خرداد بالتفصيل. وفي ردّه على ما نشرته الصحف الأجيرة من أكاذيب، قال سماحته: "كتبوا في افتتاحيّة إحدى الصحف أن تفاهمًا قد حصل مع علماء الدين، وأنّ علماء الدين يؤيّدون ثورة الملِك والشعب البيضاء. أيّ ثورةٍ هذه؟ وأيّ شعبٍ؟ إنّ الخمينيّ لن يساومهم، حتّى وإن أعدموه... ولا يمكن تنفيذ الإصلاحات تحت أسنّة الحراب".

 

ولمّا كان السافاك قد أقدم على مؤامرة بثّ الفرقة وإيجاد شرخٍ في صفوف المجاهدين في الحوزة العلميّة -وذلك من خلال إيجاد الخلافات بين العلماء والمراجع- فقد تعرّض الإمام الخمينيّ في خطابه الذي ألقاه في المسجد الأعظم بقمّ، بتاريخ 15 نيسان 1964م، إلى هذه المسألة، هادفًا إحباط تلك المؤامرة، قائلًا: "إذا وجّه أحدهم إهانةً لي، أو لطمني على وجهي، أو صفع أولادي، أقسم بالله – تعالى - بأنّي لا أرضى أن يهبّ أحدٌ لمواجهته والدفاع عنّي، لست أرضى. إنّني أعلم بأنّ بعضهم يهدفون - إمّا عمدًا أو جهلًا - إلى بثّ الفرقة في هذا المجتمع. إنّني، ومن موقعي هذا، أُقبِّل أيادي جميع المراجع، مَن كان منهم هنا، أو في النجف، أو في سائر البلاد، في مشهد وطهران، وأينما كانوا. إنّي أُقبِّل أيادي جميع علماء الإسلام. إنّ هدفنا أسمى من هذه الأمور. إنّي أمدُّ يد الأخوّة إلى جميع الشعوب الإسلاميّة، وإلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها".

 

54

 


48

انتفاضة الخامس من حزيران

و في هذا الخطاب، كشف الإمام، أيضًا، النقابَ عن العلاقات السرّيّة بين الملك وإسرائيل، وأطلق صرخته: "أيّتها الجماهير، أيّها العالَم، اعلموا بأنَّ شعبنا يخالف أيَّ اتّفاقٍ مع إسرائيل. إنّ من يقوم بذلك هو ليس شعبنا، ليس علماءنا، فإنّ دينَنا يمنعنا من إبرام أيّ اتّفاق مع أعداء الإسلام".

 

وفي هذا الخطاب أيضًا، عبّر سماحته عن الملِك بكلمة "التافه"، فوجّه إليه الخطاب قائلًا: "لا يلتبس عليكم الأمر. فحتّى لو داهنَكم الخمينيّ، فإنَّ الأمّة الإسلاميّة لن تداهنكم. لا تتوهّموا، فإنّنا ما زلنا في الخندق نفسه، الذي كنّا فيه، نعارض اللوائح المخالفة للإسلام كلّها، ونقف في وجه تجبّركم... إنّ شعبنا المجيدَ مستاءٌ غاية الاستياء من إسرائيل وعملائها، ومن الحكومات التي تصالح إسرائيل".

 

وفي الذكرى السنويّة الأولى لانتفاضة الخامس من حزيران، أصدر الإمامُ وسائرُ المراجع بيانًا مشتركًا، كما صدرت بياناتٌ مستقلّةٌ عن الحوزات العلميّة، تمّ فيها تجليل ذكرى الانتفاضة، وأُعِلن يومُ ذكراها يومَ حدادٍ عامٍّ.

 

وفي شهر تمّوز، عام 1964م، تمّت محاكمة المجاهد الكبير آية الله الطالقانيّ[1] والمهندس مهدي


 


[1] آية الله السيّد محمود الطالقاني (1900 - 1979م)، أحد علماء الدين المناضلين الملتزمين. كان له دورٌ بارزٌ في نضال الشعب الإيرانيّ المسلم ضدّ الاستبداد والاستعمار. بعد إكمال تحصيله العلوم الإسلاميّة في المدرسة الرضويّة والفيضيّة، انتقل إلى طهران، عام 1938م، للاشتغال في تدريس المعارف الإسلاميّة، والتبليغ للإسلام الحنيف. اعتُقِل عام 1939م بتهمة معارضة النظام البهلويّ، وأُودِعَ السجن. باشر في إقامة دروسه الإسلاميّة في مسجد "هدايت" بطهران عام 1948م، فكان درسه محلًّا لتجمّع العناصر المثقّفة المتديّنة والطاقات الملتزمة من أعضاء الجبهة الوطنيّة، الأمر الذي انتهى فيما بعد، إلى تشكيل حركة "نهضة الحرّيّة".

سافر عامَي 1951 و1952م إلى مصر والأردن. كما ساهم في حركة المطالبة بتأميم النفط. اعتُقِلَ بعد انقلاب (28 مرداد) بتهمة التستّر علي نوّاب صفويّ، زعيم حركة فدائيّي الإسلام. من جملة نشاطاته السياسيّة البارزة، مساهمته في تأسيس حركة نهضة الحرّيّة عام 1960م، والتي كانت -في الحقيقة- تُعتَبَر انشقاقًا عن الجبهة الوطنيّة. غير أنّه، وقبل أحداث الخامس من حزيران، تمّ اعتقال مؤسِّسي حركة نهضة الحرّيّة، وتقديمهم للمحاكمة، بعد نهاية الأحداث، وصدرت بحقّهم أحكامٌ مختلفةٌ بالسجن، تصل إلى عشر سنواتٍ. وفي عام 1967م، تمّ إطلاق سراح السيّد الطالقانيّ، إلّا أنّه سرعان ما عاد النظام إلى نفيه إلى مدينة زابل، ثمّ إلى مدينة بافت كرمان عام 1971م. وفي عام 1975م، أُلقِيَ القبض عليه مجدّدًا، بسبب خيانة أحد المنافقين، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدّة عشرة أعوامٍ، وبقي في السجن حتي 9/ 11/1978م، حيث أُطلِقَ سراحه مع الشيخ المنتظريّ، وعددٌ من السجناء السياسيّين.

أمّا بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، فقد تمّ اختياره لرئاسة مجلس الثورة وعضويّة مجلس خبراء الدستور. كما أمَّ سماحتُه - بأمرٍ من الإمام الخمينيّ - أوّل صلاة جمعةٍ أُقِيمَت بعد انتصار الثورة في جامعة طهران، في تمّوز عام 1979م. ترك آية الله الطالقانيّ مؤلّفاتٍ عديدةٍ في مجال تفسير القرآن، ومختلف المعارف الإسلاميّة، والموضوعات الاجتماعيّة والسياسيّة.

 

55


49

مواجهة "لائحة الحصانة القضائيّة"

بازركان[1] - أحد قادة حركة تحرير إيران - والذين أعلنوا عن دعمهم لانتفاضة الخامس من حزيران، في محكمةٍ عسكريّةٍ، وحُكِمَ عليهم بالسجن لمددٍ طويلةٍ. فأصدر الإمام الخمينيّ بيانًا حذّر فيه الجماهير، قائلًا: "إنّ على المواطنين أن يتوقّعوا أيّامًا صعبةً". كما اقترح سماحتُه أن يعقد علماء الدين جلساتٍ أسبوعيّةٍ منتظمةٍ، لمتابعة أهداف النهضة، وتوجيه الحركة الشعبيّة.

 

◄| مواجهة "لائحة الحصانة القضائيّة"

وفي جانبٍ آخر، كان الملك - وتحت الضغط الأميركيّ - مصمّمًا على تنفيذ الإصلاحات التي أُعِدَّت في البيت الأبيض، متصوّرًا أنّ المذابح والمعتقلات والمحاكمات، قد أدّت إلى إزاحة ثقل قوّات المقاومة من طريقه. ولَمّا كان يُنتَظرُ من الإصلاحات أن تقود إلى تحقيق الهيمنة الأميركيّة على البلاد، وتمكينها من جلب خبرائها للتواجد بصورةٍ مباشرةٍ في سائر المجالات الاقتصاديّة والعسكريّة، وفي مختلف المواقع الحسّاسة في النظام الشاهنشاهيّ، فقد كان من الخطوات الأولى التي ينبغي تنفيذها، إزالةُ الموانع الحقوقيّة والقانونيّة أمام وجود القوّات الأميركيّة في إيران، وضمان أمنها، وإطلاق العنان لها. من هنا، احتلّ موضوعُ إحياء نظام الحصانة (الحصانة السياسيّة والدبلوماسيّة والقضائيّة للمواطنين الأمريكيّين في إيران) مكانَه في جدول الأعمال. فكان إقرار لائحة الحصانة، من قِبَلِ مجلسَي الشيوخ والشورى، رصاصةَ الخلاص التي أُطلِقَت على استقلال إيران المحاصرة المضطهدة.

 

 


[1] المهندس مهديّ بازركان (1907 – 1994م)، رأس، في عهد حكومة الدكتور مصدّق، مؤسّساتٍ عديدةٍ، منها مؤسّسة اسالة طهران، وشركة النفط الوطنيّة، ومؤسّسة المعاهد الفنّيّة، إضافةً إلى ممارسته التدريس الجامعيّ، ورئاسة كلّيّة الهندسة. كان له دورٌ بارزٌ في تأسيس حركة نهضة الحرّيّة في إيران. كما أمضى سنواتٍ عديدةٍ في سجون النظام الشاهنشاهيّ. وفيما كانت الثورة الإسلاميّة في ذروتها، كلّفه الإمام الخمينيّ، عام 1978م، بمتابعة إضراب عمّال شركة النفط الوطنيّة. كما أوكل إليه مهمّة تشكيل الحكومة المؤقّتة، بعد انتصار الثورة. وقدّم استقالتَه من رئاسة الحكومة، بعد يومٍ واحدٍ من احتلال الطلبة السائرين علي نهج الإمام، لوكر التجسّس الأميركيّ في طهران. بعدها، تمكّن من الفوز بمقعدٍ في مجلس الشوري الإسلاميّ، ممثّلًا عن أهالي طهران. توفّي عام 1944م، عن عمرٍ يناهز السابعة والثمانين، إثر أزمةٍ قلبيّةٍ ألمّت به. له مؤلّفاتٌ علميّةٌ عديدةٌ، منها: "المطهّرات في الإسلام"، و"الطريق الذي طُوِيَ" و"الدين في أوروبّا"، و"علميّة الماركسيّة" وكلّها باللغة الفارسيّة.

 

56


50

انتفاضة الخامس من حزيران

إنّ القسوة التي مُورِسَت في سحق المناضلين وسجنهم ونفيهم، والحكم البوليسيّ للملك، كانا قد حبسا الأنفاس في الصدور، وحالا دون أن يرتفع صوتٌ معارضٌ.

 

في هذا الجوّ المضطرب، عقد الإمام الخمينيّ العزمَ على أداء رسالته التاريخيّة، والانتفاضة مرّةً أخرى، فاختار يوم السادس والعشرين من تشرين الأوّل - يوم مولد الملِك، الذي كانت تقام فيه الاحتفالات الاستعراضيّة، وتُنفَق الأموال الطائلة - كيومٍ لفضح النظام. وقام بإبلاغ ذلك، عن طريق الرسائل والمبعوثين، إلى علماء المدن الأخرى.

 

وفي محاولةٍ لإخافة الإمام الخمينيّ، وثنيه عن عزمه على إلقاء خطابٍ في ذلك اليوم، قام الملِك بإرسال مبعوثه الخاصّ إلى قمّ. غير أنّ الإمام رفض استقباله، ممّا اضطرّ المبعوثُ إلى إبلاغ رسالة الملِك إلى السيّد مصطفى، نجل الإمام البكر.

 

وفي اليوم الموعود، ودون الاكتراث بالتهديدات، ألقى الإمام الخمينيّ واحدًا من أشهر خطاباته، في حشدٍ كبيرٍ من علماء الدين وأهالي مدينة قمّ وسائر المدن. كان ذلك الخطاب التاريخيّ - في الحقيقة- إدانةً للحكومة الأميركيّة على تدخّلاتها غير القانونيّة في شؤون البلد الإسلاميّ إيران، وفضحًا لخيانات الملك. ابتدأ الإمام -وبصلابةٍ لا تُوصَف - خطابَه، بهذه الكلمات: "... لقد سُحِقَت عزّتُنا! لقد صُودِرَت عظمةُ إيران ومجدها! لقد سُحِقَت عظمة الجيش الإيرانيّ! لقد طرحوا على المجلس قانونًا جديدًا، يُلحقنا بمعاهدة فيينّا، ويمنح المستشارين العسكريّين الأميركيّين وعوائلهم وموظّفيهم الفنّيّين والإداريّين وخدمِهم، حصانةً تحول دون محاكمتِهم إذا ارتكبوا أيّة جنايةٍ في إيران! أيّها السيّد، إنّي أحذّرك! أيّها الجيش الإيرانيّ، إنّي أحذّركم! أيّها السياسيّون الإيرانيّون، إنّي أحذّركم! أقسم بالله، مأثومٌ مَن لا يصرخ! والله، مَن لا يرفع صوتَه، يرتكب كبيرةً. يا قادة الإسلام، هبّوا لنجدة الإسلام! يا علماء النجف، أنقذوا الإسلام! يا علماء قمّ، لبّوا صرخة الإسلام!".

 

57

 


51

انتفاضة الخامس من حزيران

وفي هذا الخطاب بالذات، قال الإمام الخمينيّ مقولتَه المشهورة: "... أميركا أسوأ من إنجلترا، إنجلترا أسوأ من أميركا، والاتّحاد السوفياتيّ أسوأ من كليهما! بعضهم أسوأ من بعضٍ، بعضهم أخبث من بعضٍ. غير أنّنا اليوم، مضطرّون للوقوف بوجه هؤلاء الخبثاء، بوجه أميركا. فليعلم الرئيس الأميركيّ بأنّه أشدّ الناس بُغضًا لدى أبناء شعبنا. مصائبنا كلّها بسبب أميركا، مصائبنا كلّها بسبب إسرائيل، وإسرائيل ربيبة أميركا".

وفي اليوم ذاته (27 تشرين الأوّل 1964م)، أصدر الإمام الخمينيّ بيانًا ثوريًّا، كتب فيه: "ليعلم العالَم بأنّ المصائب والمشكلات كلّها، التي يتعرّض لها الشعب الإيرانيّ والشعوب الإسلاميّة، إنّما هي من الأجانب ومن أميركا. إنّ الشعوب الإسلاميّة مستاءةٌ من الأجانب عمومًا، ومن أميركا خصوصًا. أميركا التي تدعم إسرائيل وأنصارها، أميركا التي تسلّح إسرائيل لتشرّد العرب المسلمين".

 

وبذا، فقد أثمرت جهود الإمام الخمينيّ لفضح مؤامرة الحصانة، في دفع إيران إلى حافّة الثورة من جديدٍ، في تشرين الأوّل عام 1964م. غير أنّ الملِك بادر، وبسرعةٍ، إلى مواجهة الموقف، مستفيدًا من تجربته في انتفاضة الخامس من حزيران. هذا من جانبٍ. ومن جانبٍ آخر، كان العديد من العناصر الدينيّة والسياسيّة البارزة والمدافعة عن نهضة الإمام، يقبعون -في تلك الأيّام- في السجن أو المنفى. كذلك، فإنّ عددًا من مراجع التقليد والعلماء الأعلام، ممّن ساهموا في أحداث الخامس من حزيران، كانوا قد انسحبوا من الميدان تدريجيًّا، والتزموا الصمت، يدفعهم إلى ذلك الحفاظ على مصالحهم. وقد استمرّ الأمرُ بهذا النحو حتّى عام 1979م، عام انتصار الثورة.

 

من جانبٍ آخر، وبناءً على الوثائق التاريخيّة التي تمَّ نشرها بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، فإنّ بعضًا، من أمثال السيّد شريعتمداري، كانوا قد سعوا – وقتئذٍ - إلى دفع بعض أنصارهم ومؤيّديهم لانتحاء

 

58


52

نفي الإمام إلى تركيا

جانب الصمت، وعدم مناصرة دعوة الإمام الخمينيّ، مستفيدين من نفوذهم ومواقعهم، لتحقيق ذلك.

 

إنّ الخطر الأساسيّ الذي كان يهدّد النظام الملكيّ، هو وجود الإمام الخمينيّ، الذي لم تجد معه أيَّ حيلةٍ لإجباره على السكوت. فهو الآن، قائدٌ محبوبٌ ومعروفٌ لجميع المجاهدين من الشعب الإيرانيّ، وهو مرجع تقليدٍ لكثيرٍ من المسلمين. ولَمّا كانت التجربة السابقة قد أثبتت بأنّ اعتقالَه داخل البلاد سيضاعف من مشاكل النظام، ولَمّا كان الإقدام على تصفيته جسديًّا سيؤدّي إلى تفجير أوضاعٍ لا يمكن التنبّؤ بعواقبها، فقد اتّخذ النظام قرارًا بنفيِه إلى خارج البلاد.

 

◄| نفي الإمام إلى تركيا

في فجر الرابع من تشرين الثاني، عام 1964م، داهم رجال الكوماندو الموفدون من طهران، منزلَ الإمام الخمينيّ في قمّ لاعتقاله. واللافت أن سماحته كان، لدى اعتقاله، منهمِكًا في المناجاة وصلاة الليل، تمامًا كما كان حاله لدى اعتقاله في العام الماضي. وبعد ذلك، تمّ نقل الإمام، مباشرةً، إلى مطار "مهر آباد" الدوليّ، حيث كانت طائرةٌ عسكريّةٌ بانتظاره، فأقلّته - مخفورًا من قبل رجال الأمن والشرطة - إلى أنقرة، في تركياـ. وفي عصر اليوم نفسه، نشر السافاك، في الصحف المحليّة، خبر نفي الإمام، بتهمة التآمر على النظام.

 

وعلى الرغم من الجوّ الخانق الذي كان سائدًا آنذاك، انطلقت موجاتٌ من الاحتجاجات والاعتراضات، تجلّت في مظاهراتٍ عمّت السوق المركزيّ بطهران، وفي تعطيل الحوزة العلميّة دروسها لمدّةٍ طويلةٍ، وإرسال الطوامير والرسائل إلى المؤسّسات الدوليّة، وإلى مراجع التقليد.

 

59

 


53

نفي الإمام إلى تركيا

وكان آية الله الحاجّ مصطفى الخمينيّ قد اعتُقِل – أيضًا - في يوم اعتقال الإمام نفسه، وأُودِعَ السجن. وفي الثالث من كانون الثاني، عام 1965م، تمّ نفيُه إلى تركيا، ليلتحق بوالده.

 

كانت ظروف منفى الإمام في تركيا عصيبةً للغاية. فقد مُنِعَ الإمام، هناك، حتّى من ارتداء الزيّ العلمائيّ. غير أنّ أيًّا من تلك الضغوط الجسديّة والروحيّة، لم تفتَّ في عضد الإمام وتُجبره على الاستسلام.

 

كان أوّل محلٍّ لإقامة الإمام في تركيا، هو فندق "بولوار بالاس" في أنقرة، الغرفة رقم 514 من الطابق الرابع. ولأجل إخفاء محلّ إقامة الإمام، تمّ، في اليوم التالي، نقله إلى شارع أتاتورك. ثمّ نُقِلَ إلى مدينة "بورسا"، الواقعة على بعد 46 كم غرب أنقرة، في تشرين الثاني عام 1964م، لأجل عزله وقطع أيّ نوعٍ من الارتباط معه.

 

و في تلك المدّة، سُلِبَ الإمام إمكانيّة أيّ تحرّكٍ سياسيٍّ، ووُضِعَ تحت مراقبةٍ مباشرةٍ ومشدّدةٍ، من قِبَل رجال أمنٍ إيرانيّين، تمّ إرسالهم لهذا الغرض، بالتعاون والتنسيق مع قوّات الأمن التركيّة.

 

دامت إقامة الإمام في تركيا أحد عشر شهرًا، قام نظام الشاه خلالها - بسرعةٍ منقطة النظير - بتصفية بقايا المقاومة في إيران، وبادر -في غياب الإمام- إلى تنفيذ الإصلاحات التي رغبت أميركا في تنفيذها.

 

اضطرّ النظام -استجابةً لبعض الضغوط التي مارستها الجماهير وبعض العلماء- إلى السماح بسفر بعض الممثّلين عن الجماهير والعلماء، للاطمئنان على صحّة الإمام وسلامته.

 

60

 


54

ومن تركيا إلى العراق 61

وخلال مدّة إقامته في تركيا، أشار الإمامُ، ومن خلال الرسائل التي بعث بها إلى أقاربه ومؤيّديه وعلماء الحوزة، أشار -تلميحًا، وعن طريق الرمز والدعاء- إلى ثباتِه على مواقفه الجهاديّة، كما طلب إرسال بعض كتب الأدعية والكتب الفقهيّة إليه.

 

كانت فترة الإقامة الجبريّة في تركيا فرصةً ثمينةً للإمام، اغتنمها في تدوين كتابه القيّم "تحرير الوسيلة" -وهو الكتاب الحاوي لفتاوى الإمام الفقهيّة- ذكر فيها - ولأوّل مرّةٍ - مسائل تتعلّق بأحكام الجهاد والدفاع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسائل العمليّة الهامّة الأخرى، الأمور التي كانت - حتّى ذلك الوقت - منسيّةً، لا يتطرّق لذكرها أحد.

 

جديرٌ بالذكر أنّ آراء الإمام الاجتهاديّة في الفقه والأصول، كانت قد نُشِرَت - ومنذ سنواتٍ قبل رحيل آية الله البروجرديّ - في العديد من آثار الإمام ومؤلّفاته، التي سيأتي ذكرها في خاتمة هذا الكتاب.

 

| ومن تركيا إلى العراق

في الخامس من تشرين الأوّل عام 1965م، تمّ نقل الإمام الخمينيّ، بمعيّة نجله آية الله الحاجّ مصطفى الخمينيّ، من تركيا، إلى منفاه الجديد في العراق. ولا يسعُنا، في هذه العجالة، التعرّض بتفصيلٍ إلى عِلَلِ تغيير منفى الإمام الخمينيّ وأسبابه. ولكن، نشير باقتضابٍ إلى أنّها تمثّلت في الضغوط التي مارسها المتديّنون والحوزات العلميّة داخل البلاد، والمساعي والتظاهرات التي قام بها المسلمون خارج البلاد، من أجل إطلاق سراح الإمام. كذلك، حرص النظام الملكيّ على إظهار الأوضاع بالمظهر العاديّ، والتدليل على قدرة نظامه وثباته، للحصول على مزيدٍ من الدعم الأميركيّ. إضافةً، إلى المشاكل الأمنيّة المتفاقمة في تركيا، وتزايد الضغوط الداخليّة، من قبل الإسلاميّين، على الحكومة التركيّة. والأهمّ من ذلك كلّه، تصوّر نظام الشاه بأنّ الهدوء وعدم وجود الرغبة في التدخّل في الأمور السياسيّة، الذي كان يسود

 

61

 


55

ومن تركيا إلى العراق 61

الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، ووضع النظام الحاكم في بغداد، ذلك كلّه سيمثّل حواجز كبيرةً تَحدُّ من فعاليّات الإمام الخمينيّ.

 

بعد وصوله إلى بغداد، توجّه الإمام الخمينيّ لزيارة مراقد الأئمّة الأطهار في الكاظميّين وسامرّاء وكربلاء، ثمّ سافر، بعد أسبوعٍ واحدٍ، إلى محلّ إقامته الجديد، في مدينة النجف الأشرف.

 

إنّ الاستقبال الحاشد، الذي حظي به الإمام، من قِبَل طلبة العلوم الدينيّة وأبناء المدن المذكورة، كان يدلّ، بذاته، وخلافًا لتصوّرات الحكومة الإيرانيّة، بأنّ نداء نهضة الخامس عشر من خرداد وجد له أنصارًا في العراق والنجف الأشرف أيضًا.

 

و قد أثبت الإمام الخمينيّ - منذ بداية وجوده في العراق، وعبر لقائه المقتضب مع ممثّل الرئيس العراقيّ – آنذاك - (عبد السلام عارف)، ورفضه الاقتراح القاضي بعقد مؤتمرٍ صحفيٍّ وتلفزيونيٍّ - بأنه ليس ذلك الشخص الذي يرضى بأن يجعل من أصالة ثورته الإلهيّة ثمنًا للمصالحة بين نظامَي بغداد وطهران.

 

وقد بقي هذا المنحى من الاستقامة صفةً ملازمةً لنهج الإمام، طوال فترة إقامته في العراق. وبذلك، أثبت الإمام الخمينيّ بأنّه أحدُ أندر القادة السياسيّين في العالَم، ممّن لم يقبلوا -وهم في أشدّ حالات التعرّض للضغط والمشكلات- بالدخول في المهاترات السياسيّة المتعارَفة، والمساومة على أهدافه. كان يكفي -بعد ظهور المناوشات السياسيّة بين حكومتَي بغداد وطهران- أن يُعطيَ الإمامُ الخمينيّ موافقتَه المبدئيّةَ، حتّى تنهال عليه أنواع الإمكانات، لتوظيفها في نضاله ضدّ الشاه. غير أنّ الإمام لم يمتنع عن الإقدام على ذلك وحسب، وإنّما كان يقف في تلك المواطن على جبهتَين، لممارسة دوره الجهاديّ. وفي أحيانٍ عديدةٍ، بلغ الموقف حدَّ المواجهة والقيام، وضد النظام الحاكم في بغداد أيضًا!

 

وممّا لا شكّ فيه، لولا حنكة الإمام الخمينيّ وحيطته، لكادت الثورة الإسلاميّة أن تسير، منذ ذلك الوقت، في الطريق الذي طوته غالبيّة الحركات والجبهات والأحزاب السياسيّة الإيرانيّة لأكثر من مرّةٍ، والذي لم ينتهِ بها إلا إلى التبعيّة والخذلان.

 

إنّ الفترة الطويلة - والتي ناهزت الثلاثة عشر عامًا - التي أمضاها الإمام الخمينيّ في منفاه في النجف

 

62

 


56

ومن تركيا إلى العراق 61

الأشرف، بدأت في ظروفٍ - وإن كانت تبدو خاليةً من الضغوط والقيود المباشرة التي تعرّض لها في إيران وتركيا - إلّا أنَّ المعارضة والمحاولات التحبيطيّة والكلام الجارح الذي كان يصدر من بعض العلماء القشريّين وأهل الدنيا المتخفّين بلباس أهل الدين، كان بدرجةٍ من الاتّساع والإيذاء، جعلت الإمام يتحدّث -على الرغم ممّا عُرِفَ عنه من صبرٍ وحلمٍ- عن ظروف الجهاد العصيبة في تلك السنوات، بمرارةٍ بالغةٍ، كلّما مرّ ذكرها. لكنَّ أيًّا من تلك المصائب والمصاعب لم تستطع ثَنيَ الإمام عن مواصلة الطريق التي اختارها بوعيٍ وإدراكٍ.

 

كان الإمام قد أدرك مسبقًا، بأنّ الحديث عن الجهاد والدعوة للنهوض في ذلك الجوّ، فعلٌ غير مُجْدٍ. وكان يتوجّب عليه البدء من النقطة نفسها، التي ابتدأ منها في سنوات ما قبل انتفاضة الخامس من حزيران، في إيران والحوزة العلميّة بقمّ، بمعنى البدء بالإصلاح والتغيير التدريجيّ للظروف، وتربية جيلٍ بإمكانه أن يتحمّل مسؤوليّة رسالته، وتعليمه.

ومن هذا المنطلق، شرع الإمام بتدريس بحوث خارج الفقه، في مسجد الشيخ الأنصاريّ، في تشرين الثاني عام 1965م، على الرغم من الجهود المغرِضة التي بُذِلَت من أجل ثنيه عن ذلك. واستمرّ في إعطاء دروسه هذه، حتّى فترةِ ما قبل سفره إلى باريس.

 

وقد قادت المباني المتقَنة للإمام، في الفقه والأصول، وتسلّطه على مختلف فنون المعارف الإسلاميّة وأقسامها، بعد فترةٍ وجيزةٍ، إلى جعل درسِه وحوزتِه من أبرز الحوزات الدراسيّة في النجف الأشرف، كمًّا وكيفًا، على الرغم من ما بذله الرجعيّون من جهودٍ مثبطةٍ محبطةٍ. وكان يحضر درسَه الطلبة الإيرانيّون، والباكستانيّون والعراقيّون والأفغان، والهنود،

 

63

 


57

ومن تركيا إلى العراق 61

والخليجيّون، وغيرهم، لينهلوا من نبع علومه الدفّاق. وقد شجّع ذلك أنصارَ الإمام ومحبّيه، ممّن كانوا في إيران، إلى الهجرة الجماعيّة إلى النجف الأشرف. غير أنّ توصيات الإمام الخمينيّ بضرورة البقاء وحفظ الحوزات العلميّة في إيران، منعتهم من تنفيذ رغبتهم، وإن كان العديدُ من عاشقي الإمام الخمينيّ قد انطلقوا نحو النجف الأشرف. وقد ساعد ذلك، بالتدريج، في إيجاد بؤرةٍ لتجمّع الثوريّين المعتقِدين بنهج الإمام، الذين حملوا على عواتقهم - فيما بعد - مسؤوليّة إيصال بيانات الإمام النضاليّة، في سنوات الكبت والاضطهاد. ومنذ وصوله إلى النجف الأشرف، لم يقطع الإمام الخمينيّ ارتباطَه بالمجاهدين في داخل إيران، فقد اتّخذ من المبعوثين والرسائل وسيلةً لحفظ ارتباطه ذاك. وقد حرص على تضمين رسائله، التوصيات القيّمة، حول ضرورة الثبات على مواصلة النهضة، لتحقيق أهداف انتفاضة الخامس من حزيران. والعجيب أنّ كثيرًا من الرسائل التي كان يبعثها الإمام الخمينيّ، كانت تتضمّن الإشارة إلى قُربِ وقوع انفجارٍ عظيمٍ على الصعيد السياسيّ والاجتماعيّ في إيران، ومطالبة المجتمع العلمائيّ الإيرانيّ بإعداد العدّة لتحمّل مسؤوليّاته في هداية المجتمع في المستقبل، وفي وقتٍ كانت ظواهر الأمور تشير إلى انعدام الأمل بتغيّر الظروف السياسيّة والاجتماعيّة، وفي ظرفٍ كان النظام الملكيّ يبدو فيها أكثر اقتدارًا، نتيجة قضائه على جميع جيوب المعارضة الشعبيّة.

 

وبنفي الإمام الخمينيّ، وممارسة القمع والاضطهاد الشديدَين بحقّ المعارضة، ابتدأ أسوأ فصول حكومة الملك البوليسيّة. فقد تحوّل السافاك إلى وسيلةٍ لممارسة القدرة الملكيّة المطلقة، حيث بلغ الأمر حدًّا، جعل توظيف أصغر موظّفٍ في أبعد نقطةٍ من البلاد، مرتبطًا بموافقة جهاز السافاك. ولم يبقَ في هذا العهد، من السلطات الثلاث، إلّا أسماؤها، فقد كان الملك وبعض أفراد البلاط وأزلامه من الرجال والنساء، هم المسؤولون عن نشاطات البلاد كلّها. ولقد أكّدت اعترافات الملك - التي سطّرها في آخر كتابٍ أصدره، واللقاءات التي أُجرِيَت معه - وما كتبه أقرباؤه والمنسوبون إليه من موظّفي وأزلام البلاط، ومن أمراء الجيش وأقطاب النظام الآخرين، والتي نُشِرَت بعد سقوط النظام الملكيّ في إيران، وكذا الوثائق التي تمّت مصادرتها من السفارة الأميركيّة في إيران، أكّدت، بما لا يدع مجالًا للشكّ، أنّ الملك والبلاط لم يكونا سوى آلاتٍ مسلوبة الإرادة، لا غير، وأنّ ما كان يصدر عن البلاط والنظام الملكيّ، حتّى تعيين الوزراء وقادة الجيش وتنظيم اللوائح المهمّة، كان يتمّ بواسطة السفارة الأميركيّة، والإنجليزيّة أحيانًا. ونكتفي هنا بالإشارة إلى مقطَعَين ممّا كتبه الشاه، للتدليل على ذلك، كتب محمّد رضا، يقول: "كان سفراء

 

64


58

ومن تركيا إلى العراق 61

إنجلترا وأميركا يؤكّدون لنا في كلّ لقاءٍ بأنّنا سنقف إلى جانبك. وخلال خريف وشتاء عام 1978-1979م، شجّعونا على إيجاد جوٍّ سياسيٍّ مفتوحٍ... غالبًا ما كان السياسيّون أو المبعوثون الأمريكيّون، الذين كنتُ أستقبلهم، يشجّعونني على الثبات والصمود. ولكن، عندما سألت السفير الأميركيّ عن ذلك، أجابني بأنّه لم يتلقَّ - حتّى الآن - أمرًا بذلك... وقبل ذلك بعدّة أسابيع، عندما استقبلتُ مسؤول الاستخبارات الأميركيّة الجديد في طهران، دُهِشتُ لتصريحاته، تحدّثنا قليلًا عن الجوّ السياسيّ المفتوح، وإذا بي أنظر ابتسامةً عريضةً ترتسم على محيّاه... على أيّة حالٍ، إنّ أولئك الذين كانوا، لسنواتٍ طويلةٍ، حلفاءنا الأوفياء، كانوا يُضمِرون لنا عجائب غريبةً فاجؤونا بها".

 

الطريف أنّ الشاه حاول، في هذا الكتاب، الإيحاء بأنّ هذه العوامل والأسباب الخارجيّة المفاجئة، هي التي أدّت إلى سقوط نظامه، حتّى إنّه صرّح بأنّ الجنرال ربيعي - قائد القوّة الجوّيّة - قال للقضاة قبل إعدامه: "إنّ الجنرال هايزر، ألقى بالملِك خارج البلاد، كما يُلقي بفأرةٍ ميتةٍ!"، والحال أنّ حديثه هذا يُعتَبر بذاته تحريفًا للتاريخ، فطبقًا للوثائق والمستندات التي لا تُحصَى - وأهمّها وأوضحُها اعترافات الجنرال هايزر نفسه في كتابه- فإنّ من المؤكّد أنّ الجنرال هايزر كان قد وَفَدَ إلى طهران، من أجل الحفاظ على النظام الملكيّ، الذي كان يتهاوى تلك الأيّام، وكان بصدد تنظيم انقلابٍ عسكريٍّ للسيطرة على الأوضاع في تلك الفترة الحرجة.

 

وعلى فرض قبول ادّعائه هذا، فإنّ الملك، وخلافًا للاسم الذي اختاره لكتابه، لم يُعطِ أيَّ جوابٍ للتاريخ، وإلّا، فهل يمكن - مع تلك الادّعاءات كلّها التي كان يدّعيها، من قبيل مخاطبته لكورش بالقول: "نَمْ، فنحن يقظون!"، وغير ذلك ممّا أطلقه طوال 37 عامًا من حكومته- أن يتعامل مع استقلال بلاده بهذه الطريقة، بحيث يتمكّن جنرالٌ أميركيٌّ من الدرجة الثالثة أو الرابعة، خلال إقامته في طهران لعدّة أيّامٍ، من إلقائه كالفأرة الميتة خارج البلاد؟!

 

على أيّة حالٍ، فبعد ضرب انتفاضة الخامس من حزيران، ونفي الإمام من البلاد، لم يرَ الملك -حينها- أيَّ عقبةٍ أمامه، تحول بينه وبين تحقيق تطلّعاته. فقد وصلت الأمور في البلاد، إلى وضعٍ أصبحت بعضُ نساء البلاط يمارسن دورهنّ في عزل وتنصيب الوزراء والنوّاب والقضاة، حتّى أُطلِقَ على "أشرف بهلويّ"

 

 

65

 


59

ومن تركيا إلى العراق 61

أختُ الملك، لقبَ "الكلّ بالكل"، في وقتٍ كانت فضائحُها الأخلاقيّة وترؤّسها لعدّة عصاباتٍ تمارس تهريب المخدّرات تملأ الصحف والمجلّات الأجنبيّة. وإنّ اختيار أحد البهائيّين "أمير عباس هويدا" - الذي كان يردّد مقولته المشهورة دومًا: "روحي فداءً لجلالة الملك" - وبقاءه على سدّة رئاسة الوزراء الشكليّة، لا يعني سوى انعدام استقلال السلطات الحاكمة، وانعدام أيّ أثرٍ، وعلى أدنى المستويات، لدور الجماهير في السلطة.

 

كان الملك يسعى بقوّةٍ نحو التمدّن العظيم، الذي كان يتوهّمه. وراح يُنفِقُ من قُوت أبناء الشعب على الحضارة المرتكِزة على ترويج الثقافة الغربيّة، وشيوع التحلّل والتفسّخ الأخلاقيّ، والإغارة على الثروات الوطنيّة والقوميّة، عبر المئات من الشركات الأميركيّة والأوروبيّة في إيران، وتخريب البنية التحتيّة للزراعة الإيرانيّة المستقلّة نسبيًّا، وترحيل القوى المنتجة الإيرانيّة، إلى القوى والأرياف، وتحويلها إلى قوىً معطّلةٍ ومستهلكةٍ، وتوسيع الصناعات التجميعيّة الذيليّة وغير الضروريّة، وتجهيز محطات الإنذار المبكر ومحطات التنصّت والجاسوسيّة والقواعد العسكرية الأميركيّة في إيران وفي منطقة الخليج الفارسيّ، ونصبها.

 

ففي الفترة، من عام 1970 إلى 1977م وحدها، أُنفِقَ مبلغ 26.4 مليار دولارٍ من عائدات النفط على الواردات التسليحيّة الإيرانيّة من أميركا، وخلال عام 1980م وحده، كان الملك قد أبرم اتّفاقًا لاستيراد ما قيمته 12 مليار دولارٍ من الأسلحة الأميركيّة، الأمر الذي أُرِيد من خلاله -وبناءً على سياسة البيت الأبيض- الحفاظُ على المصالح الأميركيّة في منطقة الخليج الفارسيّ الحسّاسة، وهي مهمّةٌ أُنِيطَت – أيضًا - بالمستشارين الأمريكيّين، الذين بلغ عددهم -آنذاك- 60 ألف مستشارٍ.

كان نظام الشاه، وفي أوج ثباته، ودون أن يعاني من أيّة مشكلةٍ خارجيّةٍ، يبيع ستّة ملايين برميلٍ من النفط يوميًّا، في وقتٍ لم تكن نفوس إيران تتجاوز 33 مليون نسمةٍ، وكان سعر البرميل الواحد من النفط قد تجاوز الثلاثين دولارًا للبرميل الواحد، وذلك لأسبابٍ عديدةٍ، منها الحرب العربيّة الإسرائيليّة، والمساعي الغربيّة لتخزين كمّيّاتٍ أكبر من النفط، لأجل مواجهة التوقّف المحتمل في تدفّق النفط الإسلاميّ نحو الغرب، واحتمال تعاضد

 

66


60

ومن تركيا إلى العراق 61

أختُ الملك، لقبَ "الكلّ بالكل"، في وقتٍ كانت فضائحُها الأخلاقيّة وترؤّسها لعدّة عصاباتٍ تمارس تهريب المخدّرات تملأ الصحف والمجلّات الأجنبيّة. وإنّ اختيار أحد البهائيّين "أمير عباس هويدا" - الذي كان يردّد مقولته المشهورة دومًا: "روحي فداءً لجلالة الملك" - وبقاءه على سدّة رئاسة الوزراء الشكليّة، لا يعني سوى انعدام استقلال السلطات الحاكمة، وانعدام أيّ أثرٍ، وعلى أدنى المستويات، لدور الجماهير في السلطة.

 

كان الملك يسعى بقوّةٍ نحو التمدّن العظيم، الذي كان يتوهّمه. وراح يُنفِقُ من قُوت أبناء الشعب على الحضارة المرتكِزة على ترويج الثقافة الغربيّة، وشيوع التحلّل والتفسّخ الأخلاقيّ، والإغارة على الثروات الوطنيّة والقوميّة، عبر المئات من الشركات الأميركيّة والأوروبيّة في إيران، وتخريب البنية التحتيّة للزراعة الإيرانيّة المستقلّة نسبيًّا، وترحيل القوى المنتجة الإيرانيّة، إلى القوى والأرياف، وتحويلها إلى قوىً معطّلةٍ ومستهلكةٍ، وتوسيع الصناعات التجميعيّة الذيليّة وغير الضروريّة، وتجهيز محطات الإنذار المبكر ومحطات التنصّت والجاسوسيّة والقواعد العسكرية الأميركيّة في إيران وفي منطقة الخليج الفارسيّ، ونصبها.

 

ففي الفترة، من عام 1970 إلى 1977م وحدها، أُنفِقَ مبلغ 26.4 مليار دولارٍ من عائدات النفط على الواردات التسليحيّة الإيرانيّة من أميركا، وخلال عام 1980م وحده، كان الملك قد أبرم اتّفاقًا لاستيراد ما قيمته 12 مليار دولارٍ من الأسلحة الأميركيّة، الأمر الذي أُرِيد من خلاله -وبناءً على سياسة البيت الأبيض- الحفاظُ على المصالح الأميركيّة في منطقة الخليج الفارسيّ الحسّاسة، وهي مهمّةٌ أُنِيطَت – أيضًا - بالمستشارين الأمريكيّين، الذين بلغ عددهم -آنذاك- 60 ألف مستشارٍ.

كان نظام الشاه، وفي أوج ثباته، ودون أن يعاني من أيّة مشكلةٍ خارجيّةٍ، يبيع ستّة ملايين برميلٍ من النفط يوميًّا، في وقتٍ لم تكن نفوس إيران تتجاوز 33 مليون نسمةٍ، وكان سعر البرميل الواحد من النفط قد تجاوز الثلاثين دولارًا للبرميل الواحد، وذلك لأسبابٍ عديدةٍ، منها الحرب العربيّة الإسرائيليّة، والمساعي الغربيّة لتخزين كمّيّاتٍ أكبر من النفط، لأجل مواجهة التوقّف المحتمل في تدفّق النفط الإسلاميّ نحو الغرب، واحتمال تعاضد

 

66


60

ومن تركيا إلى العراق 61

الدول الإسلاميّة المُنتِجَة للنفط بوجه الغرب، في حين كانت العديد من طرق البلاد الرئيسيّة غيرَ معبّدةٍ، والقسم الأعظم من أبناء الشعب محرومًا من نعمة الكهرباء، بل من أبسط الحاجات الأساسيّة، والوضع الصحّيّ المطلوب.

في ذلك الوقت، وبينما كانت مناطق واسعةٌ من البلاد تعاني من ظروفٍ كالتي ذكرنا، كان عشرات الرؤساء والقادة والوزراء من البلدان الأخرى، يجتمعون في العاصمة طهران، لمشاهدة الاحتفالات بمناسبة مرور ألفين وخمسمئة عامٍ على بداية الامبراطوريّة الفارسيّة، ليسعدوا برؤية تلك الاحتفالات الأسطوريّة! ولَمّا كان المئات من العمّال والعاطلين المشرّدين يعيشون في الأقبية وأكواخ الصفيح، في جنوب طهران وشرقها وغربها ووسطها، في حالةٍ يُرثَى لها من الفقر والتردّي الصحّيّ، ولَمّا كان هذا الأمر من السعة والانتشار في طهران، إلى درجةٍ كبيرةٍ، فقد أُجبِرَ النظام، أثناء تلك الاحتفالات، على القيام بإحاطة هذه الأحياء -خصوصًا الواقعة منها على جانبَي الطرق التي تمرّ منها الوفود الأجنبيّة- بأسوارٍ جميلةٍ ومطليّةٍ، حتّى لا تظهر آثار التمدّن العظيم للعيان!

 

وفي تلك الأيّام، كانت العديد من المحلّات السكنيّة، في جنوب طهران وغربها، تفتقد إلى الماء الصالح للشرب. وقد وُضِعَ لكلّ مئة عائلةٍ ماسورةُ ماءٍ واحدةٍ، ليشربوا منها. وبلغ معدّل الأمّيّة في عام 1976م (52.9%)، بين من تتراوح أعمارهم بين السابعة وما فوق. وحينما فرّ الملِك من إيران، عام 1978م، كان قد مضى على ثورته البيضاء والإصلاحات المدعومة من قبل أميركا خمسة عشر عامًا. وخلال تلك المدّة، وعلى الرغم من إنتاج النفط وسائر الثروات الوطنيّة وبيعها بشكلٍ مسرفٍ، وعلى الرغم من

 

67


61

ومن تركيا إلى العراق 61

دعم الدول الأجنبيّة للنظام، فإنّ إيران لم تفشل في تحقيق استقلالها وحسب، وإنّما كانت التبعيّة الاقتصاديّة والزراعيّة والصناعيّة تزداد يومًا بعد آخر، وكان التدهور الاقتصاديّ والفقر وضياع العدالة يزداد باطّرادٍ. أمّا من الناحية السياسيّة، فقد حوّل الملِك إيرانَ، إلى أكثر بلدان العالَم عمالةً للغرب، وخصوصًا أميركا.

 

وعلى الرغم من الظروف الصعبة والمعقدة التي كان الإمام الخمينيّ يمرُّ بها في منفاه، فإنّه لم يكفّ عن الجهاد والوقوف بوجه النظام الملكيّ. وكان يبعث الأمل بالنصر المؤزّر في النفوس، من خلال خطاباته وبياناته. فقد كتب، في 16 نيسان 1967م، في بيانٍ، مخاطبًا الحوزات العلميّة: "إنّني أطمئنكم أيّها السادة المحترمون، وأطمئن الشعب الإيرانيّ، بأنّ النظام سوف يُهزَم. فإنّ أسلاف هذا النظام كانوا قد تلقّوا الصفعة من الإسلام، وهؤلاء – أيضًا - سينالون نصيبهم. استقيموا، ولا تستسلموا للظلم. إنّ هؤلاء راحلون، وأنتم الباقون... إنَّ هذه السيوف الصدئة سوف تعود إلى أغمادها... ".

 

وفي ذلك اليوم، كتب الإمام الخمينيّ رسالةً مفتوحةً إلى رئيس الوزراء أمير عبّاس هويدا، استعرض فيها ممارسات النظام المجرمة، وحذّره من الوقوف إلى جانب إسرائيل في مقابل الدول الإسلاميّة، قائلًا: "لا تعقدوا عهد الأخوّة مع إسرائيل، عدوّة الإسلام والمسلمين، التي شرّدت أكثر من مليون مسلمٍ. لا تُسيئوا إلى عواطف المسلمين. لا تُطلقوا يد إسرائيل وعملائها الخونة في أسواق المسلمين أكثر من هذا. لا تعرّضوا اقتصاد البلاد للخطر، من أجل إسرائيل وعملائها. لا تُضَحّوا بثقافتنا، من أجل أهوائكم... خافوا غضب الجبّار، واحذروا سخط الشعب... ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾[1].

 

غير أنَّ الشاه لم يكترث لتحذيرات الإمام الخمينيّ. وعلى الرغم من أنّ البلدان الإسلاميّة كانت على أعتاب حربٍ مع إسرائيل، كانت البضائع والسلع الإسرائيليّة رائجةً في السوق الإيرانيّة، وتتمتّع بدعمٍ خاصٍّ من النظام، فكانت أنواع الفواكه والموادّ الغذائيّة تُعرَض في الأسواق الإيرانيّة بأسعارٍ متدنّيّةٍ، نافست المنتجات الداخليّة، وعرّضتها للبوار.

 

وفي 7 حزيران 1967م، أصدر الإمامُ فتواه الثوريّة، بتحريم أيّ نوعٍ من العلاقة التجاريّة والسياسيّة


 


[1] سورة الفجر، الآية 14.

 

68


62

ومن تركيا إلى العراق 61

للدول الإسلاميّة مع إسرائيل، وحرّم شراء البضائع الإسرائيليّة، وذلك بمناسبة حرب الأيّام الستّة بين العرب وإسرائيل. وقد ألحقت الفتوى ضربةً قويّةً بالعلاقات المتنامية بين نظام الشاه وإسرائيل.

 

كذلك، مارس العلماء وطلبة العلوم الدينيّة في إيران، ضغوطًا ضدّ حكومة الشاه، من خلال إصدار البيانات، وتوزيع المنشورات، ممّا دفع النظامَ إلى ترجمة انتقامه عمليًّا، وذلك بالهجوم على منزل الإمام الخمينيّ في قمّ، ومصادرة الكثير من الوثائق والكتب الخاصّة به، ثمّ الهجوم على المدارس الإسلاميّة في المدينة، وجمع آثار الإمام الخمينيّ وصوره. وخلال هذه الهجمات، أُلقِيَ القبضُ على نجل الإمام الخمينيّ، حجّة الإسلام السيّد أحمد الخمينيّ، وكذا حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ حسن الصانعيّ، والمرحوم آية الله الإسلاميّ (وكيل الإمام في الاستفتاءات الشرعيّة). فقد أدّت جهودُهم، مع سائر أنصار الإمام الخمينيّ الثوريّين، إلى إفشال مخطّطات السافاك والنظام الملكيّ وممارساتهم، التي هدفت إلى قطع المرتّبات الشهريّة الموزّعة من قِبَل الإمام، والحؤول دون إرسال الحقوق الشرعيّة من قِبَل الجماهير إلى مرجعهم.

 

وكان السيّد أحمد -نجل الإمام- قد تعرّض، قبل مدّةٍ من ذلك، للاعتقال أثناء عودته من النجف، وذلك عند الحدود العراقيّة الإيرانيّة، بعد أن كان قد سافر من قمّ إلى النجف لاستلام رسائل الإمام الخمينيّ وأوامره حول مواصلة النهضة، وكيفيّة إدارة منزله في قمّ. وقد سِيقَ، بعد اعتقاله، إلى سجن "قزل قلعة"، وذلك أوائل عام 1967م.

 

واستنادًا إلى الوثائق التاريخيّة، التي تمَّ الحصول عليها من دوائر السافاك، فإنّ جهود منظّمة الأمن، تركّزت، في تلك الفترة، على قطع الارتباط بين الإمام ومقلِّديه في إيران، والحيلولة دون قيام الإمام بدفع المرتّبات الشهريّة إلى طلبته في الحوزة العلميّة بقمّ. وقد تظافرت وتواصلت، في غضون ذلك، جهود وكلاء الإمام الشرعيين في إيران، من أمثال ذوي السماحة: الإسلاميّ التربتيّ، والحاجّ الشيخ محمّد صادق

 

69


63

ومن تركيا إلى العراق 61

الطهرانيّ (الكرباسچي)، وآية الله البسنديده (شقيق الإمام الخمينيّ الأكبر)، على الرغم من التهديدات التي عرّضهم النظام لها، وعلى الرغم من تكرار اعتقالهم وإبعادهم. كذلك، ساهمت الجهود التي بذلها المسؤولون عن إدارة منزل الإمام في قمّ، والذي أصبح مقرًّا لإدارة النهضة - وكان يُدَار من قِبَل نجل الإمام الخمينيّ - في منع النظام من تحقيق أهدافه.

 

لقد كان السافاك يُبدي حساسيّةً كُبرى تجاه النشاطات الهادفة إلى إحياء اسم الإمام الخمينيّ، وذكره، وتنشيط دور منزله في قمّ، إلى درجةٍ دفعته إلى وضع منزله تحت الرقابة المتواصلة، عبر مجموعةٍ من عناصره، وبعض عناصر الشرطة، التي كانت تراقب المنزل طوال ساعات النهار، وقسمًا من ساعات الليل، وتحول دون تردّد المراجِعين والمقلِّدين على المنزل. غير أنّ المراجِعين والمقلِّدين كانوا يَفِدون على منزل الإمام في ساعاتٍ متأخّرةٍ من الليل، وذلك بعد ذهاب المأمورين، للحصول على الأجوبة والتوجيهات اللازمة.

 

في تلك الأيّام (حزيران 1967م)، كان النظام يفكّر في إعادة نفي الإمام الخمينيّ مجدّدًا، من النجف إلى الهند، إلّا أنّه لم يُكتَب لمخطّطه النجاح، نتيجة قيام العديد من مؤيّدي الإمام والتيّارات السياسيّة بمواجهته وفضحه داخل البلاد وخارجها.

 

وبمجيء حزب البعث (17 تموز 1968م) إلى السلطة في العراق، تضاعفت الضغوط والعقبات أمام نهضة الإمام الخمينيّ، وذلك للطبيعة العدائيّة التي يكنّها حزب البعث للحركات الإسلاميّة. غير أنّ الإمام لم يكفّ عن مواصلة النهضة، إذ منحته إقامته في النجف، ونهضة العالَم الإسلاميّ بشأن قضيّة الحرب بين العرب وإسرائيل، الفرصةَ لتوسيع نطاق جهاده، المتمثّل في إحياء الاعتقاد الدينيّ في عصر مظلوميّة الدين، والعثور على الهويّة، واستعادة الأمجاد السابقة، وتحقيق وحدة الأمّة الإسلاميّة، وعدم انحساره في مواجهة الشاه.

 

ففي لقائه مع ممثّل حركة فتحٍ الفلسطينيّة، في 11 تشرين الأوّل

 

70


64

ومن تركيا إلى العراق 61

1968م، أوضح الإمام الخمينيّ آراءه حول مختلف المسائل التي تهمُّ العالَم الإسلاميّ، وجهاد الشعب الفلسطينيّ، وأكّد في ذلك اللقاء وجوبَ تخصيص جزءٍ من مبالغ الزكاة للمجاهدين الفلسطينيّين.

 

في أوائل عام 1969م، اشتدّت الخلافات بين النظام الإيرانيّ ونظام حزب البعث الحاكم في العراق، حول الحدود المائيّة المشتركة بين البلدين. وقد بادر النظام العراقيّ – آنذاك - إلى ترحيل أعدادٍ كبيرةٍ من الإيرانيّين المقيمين في العراق، في ظروفٍ سيّئةٍ جدًّا، كما سعى جاهدًا لاستغلال العداء بين الإمام الخمينيّ والنظام الإيرانيّ. من جانبٍ آخر، كان شاه إيران يتحيّن الفرصة للعثور على أدنى مبرّرٍ للنيل من استقلال نهضة الإمام الخمينيّ. لكنَّ الإمام، وبحنكته المعهودة، وقف بوجه الدسائس التي كان النظامان كلاهما يحيكانها. وقد قام آية الله السيّد مصطفى الخمينيّ، ممثِّلًا عن والده، بتسليم مذكّرة احتجاجٍ على ترحيل الطلبة والكسبة الإيرانيّين المقيمين في العراق، إلى الرئيس العراقيّ أحمد حسن البكر، وسائر المسؤولين ممّن حضروا اللقاء، تضمّنت رفض أيّ نوعٍ من المصالحة والتنسيق بين الإمام الخمينيّ والنظام العراقيّ.

 

في 21 آب 1969م، قامت مجموعةٌ من الصهاينة المتطرّفين بإحراق جانبٍ من المسجد الأقصى. وعلى الفور، أعلن الشاه، الذي واجه ضغوطًا من الرأي العامّ، أعلن عن استعداده لتقبّل نفقات تعمير المسجد، وذلك في محاولةٍ للتخفيف من غضب المسلمين ضدّ إسرائيل. وفي هذه الأثناء، أصدر الإمام الخمينيّ بيانًا، فضح فيه مكائد الشاه، واقترح في المقابل: "ما دامت فلسطين محتلّةً، فعلى المسلمين أن لا يقوموا بإعادة بناء المسجد الأقصى وترميمه، فليتركوا هذه الجريمة التي ارتكبتها الصهيونيّة ماثلةً أمام أنظار المسلمين، لتكون سببًا لدفعهم نحو تحرير فلسطين".

 

إنّ أربعة أعوامٍ من التدريس، وجهود التوعية التي مارسها الإمام الخمينيّ، استطاعت أن تغيّر وضع الحوزة إلى حدٍّ ما. ففي عام 1969م، أصبح لدى الإمام مخاطَبين جددٌ من العراقيّين واللبنانيّين، ومن سائر بلاد المسلمين، ممّن اتّخذوا من نهضة الإمام الخمينيّ أُسوةً لهم، فضلًا عن الأعداد الكبيرة من المجاهدين داخل البلاد.

 

وفي مطلع عام 1970م، شرع الإمام بتدريس سلسلة بحوثه، حول الحكومة الإسلاميّة أو (ولاية الفقيه). وقد أدّى نشر هذه المجموعة من الأبحاث، في كتابٍ تحت عنوان "ولاية الفقيه أو الحكومة

 

71

 


65

ومن تركيا إلى العراق 61

الإسلاميّة" - في إيران والعراق ولبنان، وفي موسم الحجّ - إلى تفجير موجةٍ جديدةٍ من الحماس في صفوف المجاهدين. لقد عرض هذا الكتاب - وعلى لسان قائد الثورة - أبعاد الجهاد، وأهداف النهضة، والمباني الفقهيّة والأصولية والعقليّة للحكومة الإسلاميّة، والمباحث النظريّة التي تتناول أساليب الحكومة الإسلاميّة. في نيسان 1970م، نشرت الصحف الأميركيّة خبرَ وصول هيئةٍ رفيعة المستوى من الرأسماليّين الأمريكيّين، برئاسة روكفلر، إلى إيران. وقد وصل هذا الوفد، لتحرّي الطريقة التي يتمُّ من خلالها إعادة عائدات النفط الإيرانيّ إلى أميركا، فتلك العائدات كانت قد بدأت، منذ ذلك العام، بالتزايد بشكلٍ جنونيٍّ. لذا، صار لازمًا معرفة سبل مشاركة الشركات الأميركيّة في هذه الغنيمة.

وعلى الرغم من أنّ السافاك كان قد منع - منذ عدّة أشهرٍ - العديدَ من العلماء من أنصار الإمام الخمينيّ من ارتقاء المنبر، إلّا أنّ علماء الدين الملتزمين، وبعد اطّلاعهم على آراء الإمام حول مسألة الحكومة الإسلاميّة، اندفعوا إلى فضح مخطّطات الشاه، ومعارضة تزايد النفوذ الأميركيّ في إيران. وكان آية الله السعيديّ، من أشدِّ مؤيّدي الإمام معارضةً لِما كان يجري، ممّا عرّضه إلى الاعتقال، في شهر نيسان 1970م. ولم يمضِ على اعتقاله أكثر من عشرة أيّامٍ، حتّى فارق الحياة، نتيجة التعذيب الشديد الذي تعرّض له في دهاليز سجن قزل قلعة، على أيدي السافاك.

 

72

 


66

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

وعلى إثر شهادته، أصدر الإمام الخمينيّ بيانًا تأبينيًّا، خلّد فيه جهاد هذا الرجل، مؤكِّدًا من خلاله: "إنَّ المرحوم السعيديّ ليس وحدَه الذي سقط في سجنه معارِضًا لهذا الوضع المؤسف"، وقد جاء في هذا البيان أيضًا: "إنَّ الخبراء وأصحاب رؤوس الأموال الأمريكيّين، هجموا على إيران، باعتبارهم من أكبر المستثمرين الأجانب، وذلك لتكريس أسر الشعب الإيرانيّ المظلوم... إنّ أيّ اتّفاقٍ يُبرَم مع أصحاب رؤوس الأموال الأمريكيّين وسائر المستعمِرين، يخالف إرادة الشعب وأحكام الإسلام".

 

◄| الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

من أهمّ الحركات السياسيّة التي كان لها حضورٌ جدّيٌّ في ميدان الجهاد الشعبيّ، بعد انتفاضة الخامس من حزيران، وساهمت بفاعليّةٍ في مسيرة الثورة، حتّى انتصارها، وكانت سبّاقةً في متابعة تنفيذ أهداف النهضة، هي الحركة غير الحزبيّة والمستقلّة، التي مثّلها علماءُ الدين المؤمنون، بنهج الإمام الخمينيّ، ممّن كانوا يقودون الحركة الجهاديّة بأساليب وأشكال مختلفةٍ - وكان الإمام الخمينيّ يحدّد أطرها في كلّ مرحلةٍ من مراحل الجهاد - معتمِدِين في ذلك، على مواقعهم الدينيّة المتميّزة بين الجماهير، والعلاقات المباشرة التي كانت لهم مع مختلف شرائح الناس وطبقاتهم في المدن والقرى. إنّ المنع من ارتقاء المنبر الخطابيّ، والنفي إلى المناطق النائية، والاعتقال المتكرّر، وما يرافق ذلك من التعذيب الوحشيّ الذي قد يؤدّي إلى الشهادة في سجون النظام الملكيّ، أمورٌ كان علماء الدين الإيرانيّون الملتزمون قد أعدّوا أنفسهم لمواجهتها، بُعَيدَ انتفاضة الخامس من حزيران، دون أن تفتّ في عضدهم أو تمنعهم من السعي إلى تحقيق أهدافهم.

 

من جانبٍ آخر، وبعد انتفاضة الخامس من حزيران 1963م، قامت مجموعةٌ من الهيئات الدينيّة في طهران -تتكوّن، في الأساس، من الكسبة وجمعٍ من الشخصيّات العلمائيّة المؤمنة، بقيادة الإمام الخمينيّ ومرجعيّته - بتشكيل جمعيّةٍ باسم "الهيئات الإسلاميّة المؤتلِفة"، وكان جناحُها العسكريّ يماِرس نشاطَه على طريقة "فدائيّي الإسلام".

 

73

 


67

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

كان من أهمّ الأعمال التي قامت بها هذه الجمعيّة، اغتيال رئيس الوزراء "حسن عليّ منصور"، الذي قَبِلَ تحمّلِ عار المصادقة على "لائحة الحصانة"، أثناء فترة حكومته. وقد أقدم النظام الملكيّ على اعتقال عدّة عناصر مؤثّرةٍ من أفراد هذه الجمعيّة، عُقب عمليّة الاغتيال، وقام بإعدام بعضهم، والحكم على الآخرين بالسجن لمددٍ طويلةٍ. كان لأعضاء ومؤيّدي هذه الجمعيّة، دورٌ أساسيٌّ ومؤثِّرٌ، طوال فترة الجهاد، إذ أشرفوا على عمليّة طباعة بيانات الإمام الخمينيّ وتوزيعها، وتنسيق احتجاجات الكَسَبة والحرفيّين، كما كان لهم السهم الوافر في تنظيم المظاهرات والإضرابات في الأشهر الأخيرة من عمر النظام الملكيّ.

 

كذلك، أُعلِن عن تشكيل "حزب الشعوب الإسلاميّة"، من بعض العناصر العلمائيّة والجامعيّة، ومن سائر فئات الشعب، بعد انتفاضة الخامس من حزيران، بهدف مواجهة النظام عسكريًّا. وقد عكف هذا الحزب، فور تأسيسه، على تسليح عناصره وتدريبهم. غير أنّ قياداته انكشفت بعد فترةٍ من تأسيس الحزب، نتيجة تحرّي السافاك وملاحقته، فبادر -إثر ذلك- بعضُ قادة الحركة وأعضائها إلى الفرار، واللجوء إلى الجبال الواقعة شمال مدينة طهران. لكنّ محاصرة قوّات الشرطة لهم، وبشكل منظّمٍ، أوقعتهم في الأسر، فسِيقوا إلى السجون.

 

74


68

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

ومن بين الحركات والأحزاب السياسيّة، التي يمتدّ تاريخ تأسيسها إلى ما قبل انتفاضة حزيران 1963م، يمكن الإشارة إلى "حزب تودة" و"الجبهة الوطنيّة" و"حركة تحرير إيران".

 

أمّا "حزب تودة" الشيوعيّ، الذي كان متَّهَمًا، من قبل الجماهير، بالخيانة، فإنّه، من الناحية العمليّة، كان قد صالح النظام منذ مدّةٍ طويلةٍ سبقت انتفاضة الخامس من حزيران، ونقل تشكيلاته الحزبيّة إلى خارج البلاد، وكان يعيش حالةً دائمةً من الاختلافات الداخليّة، فضلًا عن أن العديد من قادته سقطوا بعد اعتقالهم، وتفرّغوا للتعاون مع النظام، وإلى حدّ قبول بعض المناصب السياسيّة والإداريّة في النظام الملكيّ. كانت السياسات التي انتهجها حزب تودة تابعةً بشكلٍ مباشرٍ للمواقف السياسيّة التي تصدر عن موسكو، علمًا أنّ سياسة الكرملين، خلال الخمس والعشرين عامًا الأخيرة من العهد الملكيّ، كانت قد تركّزت على حفظ العلاقات مع النظام، وعدم التفريط بالمنافع الاقتصاديّة السوفياتيّة في إيران. ومن هنا، اقتصرت نشاطات حزب تودة، خلال تلك الفترة، على إصدار البيانات السياسيّة، وامتلاك إذاعةٍ خارج البلاد، والتي لم تكن في الغالب سوى أداةٍ بيد موسكو، للضغط على النظام لتحقيق أهدافها.

 

الجبهة الوطنيّة أيضًا، وعلى الرغم من الموقع الذي تسنّمته في نهضة تأميم صناعة النفط، إلّا أنّها، بعد انقلاب 19 آب، تعرّضت للانزواء والانشقاقات والاختلافات الداخليّة، وقد انحصرت النشاطات الإعلاميّة المتفرّقة لأنصار الجبهة عمومًا، في الأوساط الطلّابيّة والاتّحادات، التي كانوا يشكّلونها خارج البلاد. وقد التزم أنصار الجبهة، من الإسلاميّين والجامعيّين -على الرغم من مواقف قادتهم- جانب التأييد والدعم لنهضة الإمام الخمينيّ.

 

أمّا حركة تحرير إيران، التي كانت تتمتّع بدعم المجاهد آية الله الطالقانيّ، فقد أعربت عن دعمها لانتفاضة الإمام الخمينيّ في الخامس من حزيران، وكانت قاعدةُ هذه الحركة منحصرةً بالعناصر المتديّنة في الجامعات، وبعض الجامعيّين الدارسين خارج البلاد. كما إنّها كانت تفتقد التشكيلات السياسيّة القادرة على توظيف الحركة الجهاديّة.

 

أمّا منظّمة "مجاهدي الشعب"، فقد كانت قد تشكّلت ما بين عامَي 1965 و1966م، بهدف الكفاح المسلّح ضدّ النظام الملكيّ. ونتيجةً للمعرفة السطحيّة التي كان يتّصف بها قادة هذه المنظّمة تجاه الإسلام، وقعت المنظّمة في فخّ الالتقاطيّة. ومع أنّها قدّمت تنظيمَها على أنّه تنظيمٌ إسلاميٌّ، إلّا أنّها كانت

 

75

 


69

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

تتعاطى في الخفاء بعضَ الأفكار الماركسيّة في الاقتصاد، وفي أساليب النضال.

 

وعلى الرغم من أنّ الانحرافات العقائديّة لهذه المنظّمة لم تكن قد اكتُشِفَت بعد، إلّا أنّ الإمام الخمينيّ امتنع عن دعمها وتأييدها، حتّى حينما ذهب ممثّل الحركة للقاء الإمام في النجف الأشرف، مطالبًا إيّاه بدعم الحركة، امتنع سماحتُه، موضِحًا انحرافاتها الفكريّة.

 

منظمة "فدائيّي الشعب"، أيضًا، كانت تمثّل – تنظميًّا - آخر تشكّلٍ من ائتلاف مجموعتَين ماركسيّتَين صغيرتَين، أُعلِنَ عن وجوده عام 1971م، واتّخذ الكفاح المسلح نهجًا لنضاله. جاء تشكيل هذه المنظّمة، أساسًا، بوحيٍ من الإحساس بالحقارة، الذي أصاب الشيوعيّين الإيرانيّين، نتيجة وضع حزب تودة، والخيانات التي ارتكبها من جهةٍ، وتفوّق تضحيات العلماء والعناصر الإسلاميّة في انتفاضة الخامس من حزيران من جهةٍ أخرى.

 

حرص التنظيمان كلاهما، في السنوات الأولى من تشكيلهما، على كسب عناصرهما وتدريبهم، ثمّ بادر بعد ذلك إلى القيام بعمليّاتٍ مسلّحةٍ محدودةٍ ومتفرّقةٍ، استطاع السافاك، بعدها، من تشخيص قياداتهم واعتقالهم، ممّا أدّى إلى تفكّك المنظّمتَين. وفيما عدا إعدام بعض قادتهما، فإنّ معظم الذين تمّ اعتقالهم من أتباعها، أعطوا تعهّدًا مكتوبًا للنظام، بالكفّ عن نشاطاتهم الحزبيّة، والاندماج في النظام. وعلى الرغم من أنّ السافاك قصد -من خلال المقابلات التلفزيونيّة التافهة التي أعدّها مع بعض عناصر التنظيمَين- تشويهَ صورة المجاهدين الحقيقيّين في أذهان الناس، إلّا أنّ تلك المقابلات التلفزيونيّة، والاعترافات المذهلة التي أقرّ بها أولئك، كشفت النقاب عن الانحرافات الأخلاقيّة والعقائديّة، والتصفيات الدمويّة التي كانت تعيشها تلك التنظيمات. وممّا تجدر الإشارة إليه، أنّ بعض المعتقلين من عناصر هذين التنظيمَين، أخذ على عاتقه مسؤوليّة التجسّس على المعتقلين السياسيّين المؤمنين بنهج الإمام الخمينيّ، لصالح السافاك.

 

على أيّة حالٍ، ففضلًا عن "الهيئات الإسلاميّة المؤتلِفة" و"حزب الشعوب الإسلاميّة"، كانت هناك مجاميع إسلاميّةٌ مجاهِدةٌ أخرى، مارست دورها في الدفاع عن نهضة الإمام الخمينيّ، بانتهاج أسلوب الكفاح المسلّح. ويمكن، على سبيل المثال، ذكر المجاميع السبعة التي انصهرت فيما بعد في تشكيلٍ

 

76

 


70

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

واحدٍ، وكذلك مجموعة رجل الدين المجاهد الشهيد عليّ أندرزكو[1].

 

في السنوات التي تلت انتفاضة حزيران 1963م، كان لمجموعةٍ تحمل اسم "رابطة الحجّتيّة"، نشاطٌ واضحٌ، مع أنّ تاريخ تشكيل هذه المجموعة يعود إلى سنواتٍ طويلةٍ سابقةٍ. وقد كان محور نشاطها يدور حول المواجهة الفكريّة للحركة البهائيّة في إيران. وعلى الرغم من التناقض الذي كان يبدو بين أهداف هذه المجموعة وتطلّعات النظام، باعتباره حامي البهائيّة، إلّا أنّ الواقع كان يحكي شيئًا آخر، ذلك أنّ رابطة الحجّتيّة وقادتها كانوا يشترطون، للانتماء إلى الحركة، عدم التدخّل في السياسة، الأمر الذي هيّأ للنظام ظروفًا مناسبةً، استطاع من خلالها تعطيل عددٍ كبيرٍ من الطاقات الدينيّة الفعّالة، وصرفها عن مواجهة العلّة والعامل الأساسيّ للفساد في إيران -السلطة الملكيّة العمليّة- وإشغالها بمواجهة المعلول، وبشكلٍ غير مؤثّرٍ أيضًا. وبهذا النحو، استطاعت رابطة الحجّتيّة من توسيع تشكيلاتها ودائرة نشاطاتها، دون أدنى مضايقةٍ من السافاك، بل كان ذلك يتمّ، في بعض المواطن، بدعمٍ من السافاك.

 

[1]

(28) المجاهد الشهيد السيّد عليّ أندرزكو (المعروف بالشيخ عباس الطهرانيّ)، أحد أبرز وأشهر وأطهر وأخلص المجاهدين في النضال الإيرانيّ المسلّح. بدأ الشهيد جهاده، منذ تأسيس حركة "فدائيّي الإسلام"، وكان علي معرفةٍ وثيقةٍ بالمرحوم نوّاب صفويّ، زعيم الحركة. انضمّ رسميًّا إلى هيئة "الجمعيّات الإسلاميّة المؤتلِفة"، التي بدأت جهادَها المسلّح بإعدام حسن عليّ منصور، رئيس الوزراء -وقتئذٍ- الذي تمّ في عهده الإعلان عن لائحة الحصانة القضائية المذلّة. وكان الشهيد أندرزكو من مخطِّطي ومنفِّذي عمليّة الإعدام الثوريّ، بحقّ حسن عليّ منصور. وقد بادر إلى الاختفاء، بعد تنفيذ العمليّة، فحُكِمَ عليه بالإعدام غيابيًّا. وتحوّل اختفاؤه إلى بدايةٍ لمرحلةٍ من النضال السرّيّ، ضدّ حكومة محمّد رضا البوليسيّة، استمرّت ثلاثة عشر عامًا. كانت حياة الشهيد أندرزكو، وعمليّات هروبه المتواصلة، بما يشبه الأسطورة، علي حدّ قول أصدقائه. ففي الوقت الذي جنّد السافاك وأجهزة الأمن والشرطة إمكانياتهم كلّها لملاحقة "مخرّبٍ" مسلّحٍ هاربٍ يُدعَى أندرزكو (المعروف بالشيخ الطهرانيّ)، في كلّ زقاقٍ ومدينةٍ من المدن الإيرانيّة، كان الشهيد يتحرّك بمنتهى الاطمئنان -الأمر الضروريّ لكلّ مؤمنٍ- وبشجاعةٍ وحزمٍ قلّ نظيرهما؛ فيؤدّي مهمّاته بدقّةٍ، ويخدع قوى الأمن، وينجو دومًا من الشباك التي كانوا ينصبونها له. فكان اختفاؤه لغزًا حيّر الصديق والعدوّ معًا. وفي كلّ مرّةٍ، كانت قوى الأمن تتمكّن من العثور علي خيطٍ يوصلها إليه، كان الشهيد يتمكّن من الابتعاد عن مكانه، قبل وصول قوّات السافاك إليه، مصطحِبًا عائلته معه، في أغلب الأحيان. لذا، يمكن اعتبارُه بحقٍّ، من أقدم وأحذق وأكثر المجاهدين خبرةً وتجربةً، ومن أشدّهم شوكةً في تاريخ النضال المسلّح الإيرانيّ المعاصر. وكان قد لُقِّبَ في السنوات الأخيرة من نضاله، بأنّه كارلوس إيران، إذ كان يحمل 23 بطاقةً شخصيّةً وجواز سفرٍ، بنحوٍ جعل عمليّة عبور الحدود، بالنسبة إليه، أسهل من شربة ماءٍ، كما ينقل العدوّ والصديق.

ويمكن اعتبار الشهيد أندرزكو أرشيفًا متنقّلًا في النشاطات الإسلاميّة للمجاميع الجهاديّة المسلّحة، بدءًا بنشاط الهيئات الإسلاميّة المؤتلِفة -اغتيال منصور- وحتّي آخر الساعات التي سقط فيها شهيدًا، بدرجةٍ يصعب استغناء حركةٍ أو منظّمةٍ إسلاميّةٍ مسلّحةٍ عن نشاطات الشهيد أندرزكو أو مساعداته لها.

لقد عجز السافاك عن اعتقاله، أو إلقاء القبض عليه، حتّي إنّه خصّص جائزةً لمن يساعد في إلقاء القبض عليه، حيًّا أو ميتًا. وفضلًا عن أهمّيّته كعنصر مواجهةٍ مسلّحٍ، فإنّ الشهيد كان يُعَدّ مصدرًا قيّمًا للمعلومات. لكنّه كان يُطمِئن أصحابه بثقةٍ، قائلًا: "اطمئنّوا، إنّني لن أقع في أيدي الأعداء حيًّا أبدًا. وإذا ما تمكّنوا منّي، فسأكون حينها جنازةً لا أكثر". وهكذا کان، فقد سقط شهيدًا في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1977م، مخضّبًا بدمه، ولقي ربّه صائمًا، ليلحق بقائمة شهداء الثورة الإسلاميّة.

 

77


71

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

وبعد قيام الإمام الخمينيّ بفضح حقيقة عقائد هذه الرابطة، انسحب منها العديد من أعضائها، والتحقوا بصفوف مؤيِّدي نهضة الإمام الخمينيّ، خصوصًا قُبَيل انتصار الثورة الإسلاميّة.

 

كانت رابطة الحجّتيّة تمارس دورَها في مواجهة البهائيّة، في المجال الفكريّ الثقافيّ، في حين أنَّ البهائيّة في العقود الأخيرة -سواءٌ في إيران أو سائر أنحاء العالَم- كانت تعمل كحزبٍ سياسيٍّ مرتبطٍ بإسرائيل، ومدعومٍ من قبل الصهاينة المقيمين في أميركا، ومن الطبيعيّ، ينبغي للمتصدّين لمواجهتها أن يأخذوا هذه الأمور في الحسبان.

 

ومنذ عام 1969م وما بعد، أصبحت المحاضرات والخطابات التي كان يلقيها أفرادٌ، من قَبيل: الأستاذ مطهّريّ، والدكتور مفتّح، والدكتور باهنر، والمهندس بازركان، والدكتور عليّ شريعتي، في المراكز الدينيّة في طهران، كمسجد قبا، ومسجد هدايت، ومركز التوحيد، وحسينيّة الإرشاد -على الخصوص-، محطّ أنظار العديد من المثقّفين المتديّنين والمسلمين الجامعيّين. فقد كرّس الأستاذ المطهّريّ -بوصفه فيلسوفًا وفقيهًا متميّزًا حضر لسنواتٍ طويلةٍ درس الإمام الخمينيّ والعلّامة الطباطبائيّ (رَحمَه اللهُ)- جُلّ اهتمامه، بعد عودته إلى طهران، لتبيين الأسس العقائديّة الإسلاميّة، وبلغةٍ معاصرةٍ، وتوعية الجيل الشابّ بانحرافات المدارس الإلحاديّة والالتقاطيّة. وقد عَدَّ الإمام الخمينيُّ جميعَ آثار الشهيد المطهّريّ، وبدون استثناءٍ، آثارًا مفيدةً، وجلّل ذكراه والخدمات القيّمة التي أسداها للإسلام والمسلمين.

 

أمّا الجاذبيّة التي ميّزت آثار الدكتور عليّ شريعتي آنذاك -ناهيك عن سحر قلمه، وأسلوبه الأدبيّ المتميّز - فهي ناشئةٌ من كونه مثقّفًا أكاديميًّا، تناول المقولات الدينيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة للمجتمع الإيرانيّ المسلم بنظرةٍ نقديّةٍ فاحصةٍ. وإنّ غياب أمثال هذه البحوث - وقتئذٍ - كان واضحًا بين أوساط الجيل الشابّ.

 

إنّ الدراسة المنصفة للوثائق والرسائل والمناقشات التي كانت للدكتور شريعتي مع السافاك، والتي تمّ نشرها أخيرًا، تؤكّد أنّ السافاك، ومع الأخذ بالاعتبار أنّ التفاف الشباب حول شريعتي يساعد كثيرًا في إبعادهم عن الاهتمام بالأفكار اليساريّة والشيوعيّة، كان يتوهّم أنّه بمواصلة حملاته الوحشيّة ضدّ رجال الدين التقليديّين، سيُهيّئ الأرضيّة لبثّ الفرقة والاختلاف

 

78


72

الأحزاب والحركات السياسيّة منذ انتفاضة 5 حزيران حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة

في صفوف العناصر المتديّنة. ومن هنا، امتنع السافاك، لسنواتٍ طويلةٍ، عن التعرّض لنشاطاته، ثمّ اضطرّوا في عام 1973م، إلى اعتقاله وإغلاق حسينيّة الإرشاد.

 

ومن الجدير بالذكر، أنّ الرسائل التي كتبها الأستاذ مطهّريّ وما خلّف من أوراقه المتبقّية، تشير إلى أنّ السبب في اعتزال الأستاذِ فعاليّات ونشاطات حسينيّة الإرشاد، يكمن في اعتقاده أنّ الثورة الثقافيّة والاجتماعيّة يجب أن تستند إلى أصالة الوحي وإلى الفكر الدينيّ المحض. لذا، فإنّ الأستاذ المطهّريّ كان يعتقد بأنّ تأثير الاتّجاهات الحديثة والتفسيرات الثوريّة للمسائل الدينيّة والمذهبيّة -غير المبنيّة على الأساس المذكور، والتي لا تتعاطى الأساليب التخصّصيّة في فهم استنباط الأحكام الدينيّة- سيكون مؤقّتًا سريع الزوال، وسيفتح الطريق أمام الالتقاط والخلط بين المقولات الدينيّة والأفكار الوضعيّة، الأمر الذي سيمهّد السبيل أمام نفوذ النظريات الفلسفيّة والاجتماعيّة الغربيّة ورسوخها.

 

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، وقفت بعض العناصر من الفئات المتطرّفة في مواجهة رجال الدين وقيادة الثورة، بذريعة الدفاع عن الدكتور شريعتي. وفي المقابل، أيضًا، فإنّ الكثير من أولئك الذين تعرّفوا على الدين والسياسة، من خلال آثار الدكتور شريعتي، وقفوا في صفّ المدافعين عن الثورة الإسلاميّة، ليؤدّوا دورهم، وهذا ما لا يمكن إنكاره، مهما كان الحكم على آثار الدكتور شريعتي.

 

واستنادًا إلى ما تقدّم، صدرت آراءٌ متباينةٌ حول دور الدكتور شريعتي، فبعضهم عدّه عامِلًا في تنفيذ الأهداف الثقافيّة لنظام الشاه، فيما اعتبره الكثيرون مفكِّرًا إسلاميًّا ثوريًّا، وأشاروا - مستندين إلى مذكّراته التي كتبها في أواخر حياته - إلى أنّه أقرَّ وأوصى أيضًا بضرورة تنقيح آثاره، وحذف بعض استنتاجاته السطحيّة وتفسيراته المغلوطة وإصلاحها. أمّا الإمام الخمينيّ، فقد أكّد في الكثير من خطاباته وبياناته في ذلك الوقت، على ضرورة الدفاع عن المواقف المقدامة لعلماء الدين المجاهدين الشيعة طوال التاريخ، والدفاع عن العلماء الأعلام، وردّ على الشكوك كلّها التي أُثِيرَت حول هذا الموضوع. وقد

 

79


73

الإمام الخمينيّ ومواصلة النضال (1971 - 1977م)

كرّر التحذير - في رسائله التي بعث بها إلى الاتّحادات الإسلاميّة للجامعيّين الدارسين في الخارج - من الاستنتاجات السطحيّة وغير المتخصّصة عن الإسلام، مُنبِّهًا في الوقت ذاته - وضمن تكريمه وتجليله للخدمات التي أسداها المفكِّرون المثقّفون المسلمون - إلى خطر المتحجّرين والقشريّين من علماء الدين، مؤكّدًا أيضًا على تجنّب طرح المسائل المثيرة للخلاف، والتمحور حول التكتّلات الحزبيّة، الأمر الذي يُعَدُّ مخالِفًا لمصالح الثورة.

 

◄| الإمام الخمينيّ ومواصلة النضال (1971 - 1977م)

في أواخر عام 1971م، تصاعدت وتيرة الخلافات بين نظام البعث العراقيّ ونظام الشاه، الأمر الذي أسفر عن ترحيل الآلاف من الإيرانيّين المقيمين في العراق، إلى بلدهم. وبهذا الشأن، أبرق الإمام الخمينيّ إلى الحكومة العراقيّة، وندّد – بشدّةٍ - بعمليّة التهجير تلك، وأعلن عن عزمه على مغادرة العراق، استنكارًا لممارسات الحكومة العراقيّة. غير أنّ النظام الحاكم في بغداد، منع الإمام من الخروج، تخوّفًا من النتائج التي قد تترتّب على خروجه.

 

من جانبٍ آخر، وتزامنًا مع زيادة إنتاج النفط وارتفاع أسعاره، في سنة 1971م وما بعد، أحسّ الشاه بقدرةٍ أكبر، فضاعف من وحشيّته في قمع المعارضين واضطهادهم، وخاض سباقًا جنونيًّا في شراء التجهيزات العسكريّة والسلع والبضائع الاستهلاكيّة الأميركيّة، وسرّع من إيجاد القواعد العسكريّة الأميركيّة العديدة داخل البلاد، وزاد من مستوى العلاقات التجاريّة والعسكريّة مع إسرائيل، وحمّل الشعب الإيرانيّ نفقاتٍ هائلةٍ، لإقامة

 

80

 


74

الإمام الخمينيّ ومواصلة النضال (1971 - 1977م)

الاحتفالات الأسطوريّة، في ذكرى مرور ألفين وخمسمئة عامٍ على نشوء الملكيّة في إيران[1]، والتي كان يحضرها العديد من قادة دول العالَم ورؤسائها. وقد جعل الشاه من هذه الاحتفالات استعراضًا للقدرة والثبات، اللذَين يتمتّع بهما النظام الملكيّ.

وقد ندّد الإمام الخمينيّ - وعَبْرَ بياناتٍ عديدةٍ - بهذه الاحتفالات المفروضة على الشعب، وكشف النقاب عن تخلّف البلاد، والحقائق المرّة التي حكمت المجتمع الإيرانيّ. وخلال الحرب العربيّة الإسرائيليّة الرابعة، وبينما كان الملك يمثّل الحاميَ المقتدر لإسرائيل، طالب الإمام الخمينيّ -عبر بيانٍ أصدره في تشرين الثاني 1973م، الشعب الإيرانيّ بالوقوف في وجه اعتداءات الكيان الصهيونيّ. كما أفتى - في هذا البيان أيضًا - بوجوب دعم الشعوب الإسلاميّة للمجاهدين الفلسطينيّين، مادّيًّا ومعنويًّا، وذلك عبر التبرّع بالدم، وإرسال الأسلحة والذخائر والموادّ الغذائيّة إلى المجاهدين المسلمين. كما أكدّ سماحته في بيانٍ آخر، على أنّ: "الأمّة الإسلاميّة لن ترى يومًا سعيدًا، ما لم تجتثّ جرثومة الفساد هذه (إسرائيل) من جذورها. وإنّ إيران لن تشمّ نسيم الحرّيّة، ما دامت مبتلاةً بهذه العائلة (البهلويّة) الفاسدة".

 


[1] بعد اعتقال الإمام الخمينيّ ونفيه عام 1963م، لجأ معارضو النظام الشاهنشاهيّ إلى النضال السرّيّ. ومنذ عام 1966م، حرص الملك، بدافع إظهار قوّته وسطوته وإلهاء أبناء الشعب، علي إقامة الاحتفالات في مختلف المناسبات. ومن أبرز الاحتفالات التي أقامها وأضخمها، الاحتفال الذي أُقِيم بمناسبة مرور ألفين وخمسمئة سنةٍ علي الإمبراطوريّة الفارسيّة. فلإقامة هذا الاحتفال - الذي وُصِفَ بأنّه أضخم استعراضٍ في العالَم- أمر الشاه بإقامة مدينةٍ كاملةٍ في الصحراء، بالقرب من آثار "تخت جمشيد". وقد حضر الاحتفال 90 ملكًا، وخمس ملكاتٍ، و21 أميرًا، وعددٌ كبيرٌ من رؤساء الجمهوريّات ورؤساء الحكومات ومعاونيهم. وقد تمّ في أيّام الاحتفال، تقديم الأطعمة المعدّة في مطاعم "ماكسيم" الفرنسيّة، علي أطباقٍ وأوانٍ وأباريق من أجود الأنواع المعروفة وأغلاها. كما أُقِيمَت في تلك المدينة الأسطوريّة، آلاف القصور السيّارة، والمخيّمات المجهّزة بأحدث الوسائل والأثاث والديكورات وأرقاها. كان هذا كلّه يجري في وقتٍ كانت الغالبيّة العظمى من أبناء الشعب الإيرانيّ تفتقر إلى أبسط الإمكانات الحياتيّة، كالماء والكهرباء والدواء. وقد كتبت، بهذا الصدد، مجلّةُ التايمز، في عددها الصادر في آب عام 1980م، تقول: "حتّي شهرزاد القاصّة، لا يمكنها وصف الأبّهة التي أُقِيمت بها احتفالات إحياء ذكرى الألفين وخمسمئة عامٍ علي الإمبراطورية الفارسيّة، إلى جوار خرائب "تخت جمشيد"، وإن استخدمت العبارات والأوصاف الأسطورية كلّها، التي ذكرت عنها في قصص ألف ليلةٍ وليلةٍ... عندما أقام الشاه هذه الاحتفالات، قدّم نفسه كوريثٍ لأعرق إمبراطوريّةٍ في العالم، تمكّنت من البقاء قرونًا متماديةً، بل إنّه رغب في الإشارة إلى أنّها ستبقى إلى آخر التاريخ. فمن ذا الذي خطر في ذهنه من الضيوف الموقّرين، أو تصوّر أنّ هذا التاريخ الإمبراطوريّ، سيُختَم بشخص محمّد رضا؟".

 

81


75

الإمام الخمينيّ ومواصلة النضال (1971 - 1977م)

وفي أواسط شهر آذار 1974م، تجلّت ديكتاتوريّة الملك في ذروتها، حينما أعلن عن تشكيل حزب البلاط "رستاخيز" (ويعني البعث)، واعتمد سياسة الحزب الواحد. فقد أعلن - عبر حديثٍ تلفزيونيٍّ - بأنّ على جميع أبناء الشعب الإيرانيّ أن ينتسبوا إلى هذا الحزب، وعلى المعارِضين أن يحصلوا على جوازات سفرٍ ويغادروا البلاد بأسرع وقتٍ.

 

وعلى الفور، أصدر الإمام الخمينيّ فتواه، التي جاء فيها: "نظرًا لمخالفة هذا الحزب للإسلام، ومصالح الشعب الإيرانيّ المسلم، يحرم على أبناء الشعب جميعًا الانتماء إليه، وإنّ الانتماء إليه يُعَدُّ إعانةً للظالم، ومشاركةً في القضاء على المسلمين، كما إنّ معارضته تُعَدُّ من أبرز مصاديق النهي عن المنكر".

 

كانت فتوى الإمام الخمينيّ وبعض علماء الإسلام فاعلةً ومؤثّرةً. وعلى الرغم من الإعلام المكثّف الذي كرّسه النظام، للحثّ على تقوية الحزب، إلّا أنّ النظام أعلن عن هزيمته رسميًّا، بحلّه الحزب بعد عدّة سنواتٍ.

كتب الإمام الخمينيّ، في جانبٍ آخر من بيانه هذا، يقول: "وأنا في غربتي هذه، يعصرني الألم والحسرة على الوضع المؤسف الذي يعيشه الشعب الإيرانيّ، وكم هو جميلٌ أن أكون في هذه الظروف الحسّاسة بين أبناء الشعب، أساهم معهم في هذا الجهاد المقدّس، من أجل إنقاذ الإسلام وإيران!".

 

وفي عام 1975م، وفي ذكرى انتفاضة حزيران، شهدت الفيضيّة، مجدّدًا، قيام الطلّاب الثوريّين، وانطلقت صرخات "يعيش الخمينيّ!" و"الموت لسلالة البهلويّ!"، لترنّ في أرجاء المدرسة، على مدى يومَين. ولمّا كانت الحركات والمنظّمات الفدائيّة قد تلاشت، وكانت الشخصيّات الدينيّة والسياسيّة المجاهِدة ترزح في سجون النظام، فقد مثّلت هذه الحركة الثوريّة صدمةً للملك والسافاك، فانطلقت قوّات الشرطة، لمحاصرة المدرسة الفيضيّة، ثمّ انهالت على طلبة العلوم الدينيّة بالضرب والشتم، بصورةٍ وحشيّةٍ، وألقت القبض على المعترضين جميعهم، واقتادتهم إلى السجون.

 

 

82


76

الإمام الخمينيّ ومواصلة النضال (1971 - 1977م)

وفي بيانٍ أصدره الإمام الخمينيّ بهذه المناسبة، أعرب عن تفاؤله لهذا الحادث، قائلًا: "على الرغم من المصائب كلّها، فإنَّ صحوة الشعب تبعث على الأمل! إنّ نهوضَ الجامعيّين، في مختلف أنحاء إيران - طبقًا لاعتراف الملك نفسه - ونهوضَ العلماء الأعلام وطلّاب المدارس ومختلف فئات الشعب، على الرغم من الضغوط والتجبّر كلّه، مقدّمةٌ لنيل الحرّيّة، والانعتاق من قيد الاستعمار".

وفي كلمةٍ بعثها إلى المؤتمر السنويّ للاتّحادات الإسلاميّة للجامعيّين الدارسين في أميركا وكندا، في 24 أيلول 1975م، كتب سماحتُه: "إنّ نقطة الأمل المضيئة التي أراها في أواخر عمري، هي هذا الوعي والصحوة، التي يتحلّى بها الجيل الشابّ، ونهضةُ المثقّفين التي تتنامى بشكلٍ سريعٍ، والتي ستحقّق أهدافها، بإذن الله – تعالى -، في قطع أيادي الأجانب، وبسط العدالة الإسلاميّة". إمعانًا في سياساته بمحاربة الدين، غيّر الملك، في آذار عام 1975م، بكلّ وقاحةٍ، التاريخَ الرسميّ المعتمَد في البلاد، من التاريخ الهجريّ القمريّ، إلى التاريخ الملكيّ لملوك الهخامنشة. وفي ردٍّ حاسمٍ، أفتى الإمام الخمينيّ بحرمة استخدام التاريخ الملكيّ.

 

وكما استقبلت الجماهير فتوى الإمام في تحريم الانتماء إلى حزب "رستاخيز"، حظيت فتواه في تحريم استخدام التاريخ الملكيّ الموهوم باستقبالٍ جماهيريٍّ كبيرٍ، وفضحت الحادثتان النظام الملكيّ، ممّا دفعه إلى التراجع عنه، عام 1987م، وإلغاء استخدام التاريخ الملكيّ.

من جانبٍ آخر، أنهت اتّفاقيّة الجزائر، عام 1975م - والتي وُقِّعَت بين الشاه وصدّام حسين (نائب رئيس الجمهوريّة العراقيّة آنذاك) - الخلافاتِ بين البلدَين بشكلٍ مؤقّتٍ، فقد رأت أميركا أنّ المنازعات والمناوشات بين بغداد وطهران -وقتئذٍ- أمرٌ يعرّض الاستقرار في المنطقة، وفي الخليج الفارسيّ، إلى الخطر. لذا، فقد تمّ عقد تلك الاتفاقيّة بشكلٍ رسميٍّ، بتدخّل الرئيس الجزائريّ، والرئيس المصريّ أنور السادات، الصديق الحميم لشاه إيران.

 

83


77

الإمام الخمينيّ ومواصلة النضال (1971 - 1977م)

أدّت أجواء التآلف بين حكّام بغداد وطهران، إلى مضاعفة العراقيل أمام مسير جهاد الإمام الخمينيّ. غير أنّ هذه الموانع، لم تتمكّن من ثنيه عن مواصلة جهاده الذي ابتدأه.

 

وفي تلك الأيّام، بعث السفير الإيرانيّ في العراق، تقريرًا وجّهه إلى قادة النظام الملكيّ، يقول فيه: "إنّ آية الله الخمينيّ لم يكفّ عن ممارسة نشاطاته في العراق، فهو ناشطٌ جدًّا في العمل على مواجهة النظام. يُرجَى إصدار أوامركم في هذا الخصوص، لتحديد موقفنا تجاهه".

 

وفي معرض جوابه على هذا التقرير، كتب الملك -بغضبٍ: "لقد قلتُ مرارًا: لا بدّ من خنق هذا الصوت"، غافلًا عن أنّ التقدير الإلهيّ أراد مصيرًا آخر لرسالة الإمام الخمينيّ، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾[1].

 

في عام 1976، وصل الديمقراطيّون إلى البيت الأبيض الأميركيّ، وضاعت المساهمات الماليّة التي قدمها شاه إيران إلى الجمهوريّين سدىً. وكان كارتر قد انتصر، من خلال شعارات حقوق الإنسان، والحدّ من تصدير الأسلحة إلى الخارج. وواضحٌ أنَّ هذه الشعارات، إنّما رُفِعَت لأجل الحدِّ من المشاعر العدائيّة تجاه أميركا - التي كانت تسود البلدان الأخرى، كإيران مثلًا - والتعتيمِ على الأزمة الاقتصاديّة التي كانت تعصف بأميركا، وزيادةِ الضغط على الاتّحاد السوفياتيّ (السابق)، للحصول على امتيازاتٍ أكثر في مفاوضات الحدِّ من الأسلحة النوويّة، التي كانت جاريةً – آنذاك - بين الطرفين.

 

بعد اتّضاح سياسات الديمقراطيّين في أميركا، قام الملك بالإعلان عن سياسة الفضاء السياسيّ المفتوح، وأقدم على إجراء تغييراتٍ وتبديلاتٍ في بيادقه.

 

وتشير الوثائق التي نُشِرَت بعد احتلال وكر التجسّس الأميركيّ (السفارة الأميركيّة في طهران)، إلى أنّ السياسة الأميركيّة، فيما يخصُّ إيران - والتي كان يضع إطارَها العامّ وزارةُ الخارجيّة الأميركيّة ووكالةُ المخابرات الأميركيّة CIA، وكانت تُبَلَّغ للسفارة في طهران - لم تتغيّر، فأميركا تدعم الملك ونظامه بالكامل، وإنّ الديمقراطيّين، أيضًا، يرون -كما هو الحال في السابق- بأنَّ الملك يمثّل عنصرًا أساسيًّا لحفظ المصالح الأميركيّة في منطقة الخليج الفارسيّ. لذا، استُثنِيَت إيران من قانون حظر تصدير الأسلحة.

 

وقد أوضح سفرُ كارتر وزوجته إلى طهران، والحديث الذي أدلى به، والتصريحات التي أعلن من


 


[1] سورة الصفّ، الآية 8.

 

84


78

بلوغ الثورة الإسلاميّة ذروتها عام 1977م، ونهضة الجماهير

خلالها عن الدعم المطلق الذي يوفّره البيت الأبيض للملك، بأنَّ الفضاء السياسيّ المفتوح، إنّما كان حركةً مسرحيّةً عابرةً.

 

◄| بلوغ الثورة الإسلاميّة ذروتها عام 1977م، ونهضة الجماهير

تمكّن الإمام الخمينيّ - الذي كان يتابع التحوّلات والأحداث الجارية في إيران والعالَم بدقّةٍ متناهيةٍ- من اغتنام الفرصة التي أُتِيحَت له، محقِّقًا الاستفادة القصوى منها. فقد أعلن، في بيانٍ أصدره في آب 1977م: "نظرًا للأوضاع الداخليّة والخارجيّة، وانتشار أنباء الجرائم التي يرتكبها النظام الحاكم في المحافل الدوليّة والصحافة الأجنبيّة، فإنّ الفرصة مؤاتيةٌ الآن، للتجمّعات العلميّة والثقافيّة وللوطنيّين والجامعيّين الدارسين في الخارج والداخل، وللاتّحادات الإسلاميّة - أينما كانت -، للمبادرة إلى الانتفاضة، دون خوفٍ، واغتنام هذه الفرصة".

 

وجاء في جانبٍ آخر من البيان ذاته: "إنّ التجاوز على حقوق مئات الملايين من المسلمين، وتحكيم حفنةٍ من الأوباش على مقدّراتهم، وإتاحة الفرصة للنظام الإيرانيّ غير الشرعيّ، وللكيان الإسرائيليّ الخاوي، ليغتصبا حقوق المسلمين، ويصادرا الحرّيّات، ويتعاملا مع الناس معاملةً وحشيّةً، كلّها جرائم ستثبت في سجلّ الرؤساء الأميركيّين".

 

تحوّلت شهادة آية الله السيّد مصطفى الخمينيّ[1]، في شهر تشرين الأوّل 1977م، والمراسم التأبينيّة


 

[1] الحاجّ السيّد مصطفى الخمينيّ، هو النجل الأكبر للإمام الخمينيّ (1930 - 1977م). ابتدأ دراسته العلوم الإسلاميّة، ولمّا يناهز الخامسة عشرة من عمره، فبلغ مرتبةَ الاجتهاد قبل أن يتمّ عقده الثالث. وقد تمكّن، وهو في سنّ الشباب، من التبحّر والإلمام الشامل في مختلف العلوم الإسلاميّة، إذ تتلمذ علي يد أساتذةٍ كبار، نظير سماحة الإمام الخمينيّ، والمرحوم آية الله البروجرديّ، والمرحوم السيّد محمّد الداماد.

أُلقِيَ القبض عليه في 4/ 11/ 1964م، وأُودِع السجن ثمانيةً وخمسين يومًا، أُطلِق سراحه بعدها، وأُعِيد إلى قمّ، ليجد في استقباله حشودًا من العلماء، وطلبة العلوم الدينيّة، وأبناء مدينة قمّ، خرجوا لاستقباله بمجرّد سماعهم نبأ إطلاق سراحه.

عُرِفَ سماحتُه -كما هو الحال مع والده- بروحه الجهاديّة المقدامة، واعتقاده الراسخ بحتميّة سقوط الحكومة البهلويّة، من خلال القيام الشعبيّ والعلمائيّ الشامل. وهو نفسه كان له في هذا الطريق جهادٌ طويلٌ. وفي العراق، كانت مديريّة الأمن العامّ العراقيّة تراقب الأوضاع عن كثبٍ، فقامت باستدعائه عام 1969م إلى قصر الرئاسة في بغداد، فالتقاه هناك الرئيس العراقيّ أحمد حسن البكر، الذي كان قد اطّلع علي لقاءاته السرّيّة مع آية الله السيّد الحكيم، وطالبه -مهدِّدًا إيّاه- بالموافقة علي التعاون مع النظام البعثيّ العراقيّ لمواجهة نظام الشاه في إيران. إلّا أنّ سماحة السيّد مصطفي? الخمينيّ رفض المقترَح العراقيّ كليًا، وقد أشاع النظام الإيرانيّ، حينها، أخبارًا تشير إلى تواطئه مع النظام العراقيّ.

استشهد السيّد مصطفى قبل عامٍ واحدٍ من انتصار الثورة الإسلاميّة، عن عمرٍ يناهز الثامنة والأربعين.

 

85


79

بلوغ الثورة الإسلاميّة ذروتها عام 1977م، ونهضة الجماهير

المهيبة التي أُقِيمَت له في إيران، إلى نقطة انطلاقٍ لتحرّك الحوزات العلميّة مجدّدًا، ونهضة المجتمع الإيرانيّ المتديّن. وقد عبّر الإمام الخمينيّ عن تلك الحادثة بـ"الألطاف الإلهيّة الخفيّة"، الأمرُ الذي أثار الدهشة والإعجاب. وقد حاول النظام الملكيّ حينها، الانتقامَ من الإمام، بنشر مقالةٍ موهِنَةٍ في صحيفة اطّلاعات. غير أنّ السحر انقلب على الساحر، إذ فجّرت المقالةُ انتفاضة التاسع من كانون الثاني عام 1978م، والتي استشهد فيها جمعٌ من الطلّاب الثوريّين. ومرّةً أخرى، أشعلت قمّ فتيل النهضة. وما هي إلاّ فترةٌ وجيزةٌ - وفي ظروفٍ اختلفت تمامًا عن الظروف التي انطلقت فيها انتفاضة حزيران 1963م - حتّى تضافرت حركة الجماهير وتكاتفت في مختلف أنحاء البلاد. حيث أدّت إقامة مراسم العزاء المتتالية، في اليوم الثالث والسابع والأربعين من سقوط الشهداء، إلى سريان لهيب الثورة إلى مدن البلاد الأخرى، كتبريز ويزد وجهرم وشيراز وأصفهان وطهران. وطوال هذه الفترة، كانت البيانات المتواصلة الصدور من الإمام الخمينيّ، وأشرطة تسجيل أحاديثه وخطاباته - والتي كان يدعو فيها الجماهيرَ إلى الثبات ومواصلة النهضة، حتّى القضاء على النظام الملكيّ، وتشكيل الحكومة الإسلاميّة - تُستَنْسَخُ وتُكَثّر على أيدي مؤيّديه وأنصاره، ويتمّ توزيعها في جميع أنحاء البلاد.

 

ومع الجرائم الوحشيّة كلّها، التي ارتكبها النظام الملكيّ، لم يتمكّن من إخماد لهيب الثورة المستعرة. وكانت أحابيله ودسائسه السياسيّة، ومناوراته العسكريّة، تبوء بالفشل، دون أن يكون لها دورٌ في تهدئة الغضب الجماهيريّ، بفعل بيانات الإمام التي كانت تكشف الخفايا، وترشد الجماهير إلى اتّخاذ الخطوات اللازمة في مسيرة تحرّكهم.

 

و لمّا لم ينفع تنصيب أحد التكنوقراطيّين المتغرّبين "جمشيد أموزكار" رئيسًا للوزراء، بدلًا عن "هويدا" - الذي عمل في خدمة الملك ثلاثة عشر عامًا - في إيجاد حلٍّ للمعضلة التي تعصب بالنظام، استبدل الملك بأموزكار أحدَ أعضاء المحافل الماسونيّة الاستعماريّة في إيران، فجاء "جعفر شريف

 

86


80

بلوغ الثورة الإسلاميّة ذروتها عام 1977م، ونهضة الجماهير

إمامي"، رافعًا شعار "حكومة المصالحة الوطنيّة". إلّا أنّ دسائسه ومساعيه في التفاوض مع شريعتمداري - الذي لمع نجمه مجدّدًا، باعتباره أحد القادة الدينيّين، وحرص النظام على تأييده ودعمه- لم تتمكّن من إيقاف التحرّك الجماهيريّ.

وفي عهد حكومته (شريف إمامي)، في الثامن من أيلول، ارتُكِبت المذبحة الجماعيّة الوحشيّة بحقّ الجماهير العزّل في ميدان جالة - الشهداء حاليًّا - في طهران. وأُعلِنَت -إثر ذلك - الأحكام العرفيّة في كلٍّ من طهران وإحدى عشرة محافظةٍ من محافظات البلاد الكبرى، لأجلٍ غير مسمًّى.

غير أنَّ الجماهير لم تعبأ بالأحكام العرفيّة، مستلهمةً شجاعتها من بيانات الإمام الخمينيّ، واستمرّت التظاهرات ليل نهارٍ، دون انقطاع، بل كانت في اتّساعٍ مستمرٍّ. إذ كانت نداءات (الله أكبر) و(الموت للشاه) و(يعيش الخمينيّ)، تُسمَع على مدار الساعة، ويرافقها – أحيانًا - أزيز الرصاص، الذي كان ينطلق من كلّ جهةٍ.

لقد قاد الإمام الخمينيّ نهضته، منذ البدء، مستلهِمًا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[1]، ومرجِّحًا الثورة الثقافيّة والتحوّل الاجتماعيّ، بواسطة الجماهير، على الثورة السياسيّة.


 


[1] سورة الرعد، الآية 11.

 

87


81

بلوغ الثورة الإسلاميّة ذروتها عام 1977م، ونهضة الجماهير

وكان سماحته يعتقد، في تلك الظروف التي كانت تمرّ بها إيران، بعدم جدوى النضال من خلال الأحزاب أو البرلمانات، وكذا بعدم جدوى الكفاح المسلّح، إذا ما جُرِّدَ من مشاركة الجماهير ودعمهم. وكان يرى التعبئة العسكريّة والجهاد العامّ المسلّح آخرَ السبل المتبقيّة، إذا ما فكّرت أميركا بالانقلاب العسكريّ.

 

كانت المساجد والمراكز الدينيّة بمثابة المعاقل الأساسيّة للثورة الإسلاميّة، والمنطلق لتحرّك الجماهير وتجمّعاتها. وكانت الشعارات التي تردّدها الجماهير، مزيجًا من التعاليم الدينيّة وإرشادات الإمام الخمينيّ. وخلال عامَي 1977 و1978م، عندما بلغت الثورة الإسلاميّة ذروتها، عادت الأحزاب والفئات السياسيّة للظهور من جديدٍ، وبأعدادٍ كبيرةٍ جدًّا، وقاعدةٍ ضئيلةٍ لا تُذكَر، ممّا جعلها تعيش في جذبٍ، حرمها إمكانيّة التأثير في مجرى الأحداث تمامًا، فاضطرّها إلى مجاراة الحركة الجماهيريّة الواسعة.

ويومها، نشطت الحركات والفصائل الجهاديّة المسلّحة، التي تمَّ تشكيلها بوحيٍ من الأهداف الإسلاميّة، واعتقاداتٍ راسخةٍ بنهج الإمام الخمينيّ. فكانت نشاطاتها تعبّر عن نهجٍ جهاديٍّ مستقلٍّ، بل تمثّل حركة حمايةٍ ودعمٍ لثورة الشعب العارمة.

وكان من الأساليب الموفّقة التي اتّبعها الإمام الخمينيّ في الجهاد ضدّ نظام الشاه، دعوته الجماهير إلى الإضرابات العامّة، وتوسيع مدارها. فقد شملت الإضرابات، في الأشهر الأخيرة من الثورة، مختلفَ أركان النظام، من وزاراتٍ ودوائر ومراكز عسكريّةٍ، حتّى امتدّ الأمر إلى عمّال شركة النفط الوطنيّة والبنوك ومراكز الدولة الحسّاسة وموظّفيها، الأمر الذي وجّه الضربة القاضية إلى جسد النظام.

 

88


82

انتقال الإمام الخمينيّ من العراق إلى باريس

◄|انتقال الإمام الخمينيّ من العراق إلى باريس

اتّفق الطرفان، في الاجتماع الذي عُقِدَ بين وزيرَي خارجيّة العراق وإيران في نيويورك، على إخراج الإمام الخمينيّ من العراق.

 

وفي الرابع من أيلول 1978م، حُوصِرَ منزل الإمام الخمينيّ في النجف، من قِبَل قوّات أمن النظام العراقيّ، ممّا فجّر غضب المسلمين في إيران والعراق وسائر البلدان. ففي لقائه الإمام، أبلغه رئيس دائرة الأمن العراقيّة، بأنَّ شرط إقامته في العراق، الكفُّ عن نشاطه الجهاديّ، وعدمُ التدخّل بالسياسة. وقد ردّ الإمام بحزمٍ على هذا الاقتراح، مُنَوِّهًا إلى إحساسه بالمسؤوليّة، قبال الأمّة الإسلاميّة، الأمر الذي يمنعه من السكوت أو عقد أيّ نوعٍ من المصالحة.

 

في الرابع من تشرين الأوّل من العام نفسه، غادر الإمام الخمينيّ النجف الأشرف، متوجّهًا إلى الكويت، غير أنَّ الكويت امتنعت عن استقباله، بإيعازٍ من النظام الإيرانيّ. عندها، اقترح بعضهم السفر إلى سوريا أو لبنان، غير أنّ الإمام الخمينيّ - وبعد التشاور مع نجله حجّة الإسلام الحاجّ السيّد أحمد الخمينيّ - قرّر السفر إلى باريس. وفي السادس من تشرين الأوّل عام 1978م، وصل الإمام الخمينيّ إلى باريس. وبعد يومَين من وصوله، انتقل إلى منزل أحد الإيرانيّين المقيمين في نوفل لوشاتّو (ضواحي باريس).

 

بعدها، قام موظّفو قصر الإليزيه بإبلاغ الإمام الخمينيّ بوجهة نظر الرئيس الفرنسيّ "جيسكار ديستان"، المتمثّلة بضرورة اجتناب الإمام الخمينيّ لأيّ نشاطٍ سياسيٍّ. وقد ردّ سماحتُه بحزمٍ، بأنّ هذا يتنافى ومزاعم الديمقراطيّة، وأنّه إذا اضطرّ للسفر من مطارٍ إلى مطارٍ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ، فإنّه لن يكفّ عن جهاده لتحقيق أهدافه.

كتب الرئيس الفرنسيّ، جيسكار ديستان، في مذكّراته، بأنّه كان حينها قد أصدر الأمرَ بإخراج الإمام الخمينيّ من فرنسا، لكنّه عدل عن قراره في آخر لحظةٍ، عندما حذّره ممثّلو النظام الإيرانيّ والسياسيّون الذين كانوا يعيشون أقصى حالات

 

89

 


83

انتقال الإمام الخمينيّ من العراق إلى باريس

القلق والاضطراب، من مغبّة وقوع ردِّ فعلٍ جماهيريٍّ يستحيل السيطرة عليه، وأنّهم غير مسؤولين – حينها - عمّا سيقع في إيران وفي أوروبّا.

وخلال مدّة إقامة الإمام في نوفل لوشاتّو، التي دامت أربعة أشهرٍ، تحوّلت تلك المدينة الصغيرة إلى أهمّ مركزٍ خبريٍّ في العالَم، وعرض الإمام الخمينيّ - من خلال اللقاءات الصحفيّة المتعدّدة التي أُجرِيَت معه - مختلف وجهات نظره حول الحكومة الإسلاميّة، وأهداف نهضته المستقبليّة، أمام العالَم أجمع. وبذلك، تعرّف الكثيرون على فكر الإمام وثورته. ومن هنا، ابتدأت قيادتُه لأصعب المراحل في النهضة الإسلاميّة الإيرانيّة.

 

لم تستطع حكومة شريف إمامي الصمودَ أكثر من شهرَين. وبعد سقوطها، كلّف الشاه "أزهاري" بتشكيل حكومةٍ عسكريّةٍ، فازدادت وتيرة المذابح، إلّا أنّها لم تستطع السيطرة على الجماهير. فطالب الشاهُ - بعد أن أُصِيبَ بالانهيار - السفيرَين الأميركيَّ والبريطانيَّ بحلٍّ للأزمة، إلّا أنَّ أيًّا من مقترحاتهما لم تُجدي نفعًا.

 

وفي يومَي تاسوعاء وعاشوراء، انطلقت المظاهرات المليونيّة في طهران وسائر المدن الأخرى، والتي اشتُهِرَت، فيما بعد، باسم "الاستفتاء غير الرسميّ مِن قِبَل الجماهير، ضدّ سلطة الملِك".

 

تمّ اقتراح شابور بختيار - أحد قادة الجبهة الوطنيّة، وآخر بيدقٍ من البيادق الأميركيّة - على الشاه لتعيينه رئيسًا للوزراء. ففي اجتماعهم الرباعيّ في غوادلوب، اتّفق قادة الدول الصناعيّة على دعم وزارة بختيار.

 

وبعد ذلك، وصل الجنرال هايزر (معاون قيادة حلف الناتو) إلى طهران، في مهمّةٍ سرّيّةٍ، استغرقت شهرَين. وقد كشف النقاب، في اعترافاته فيما بعد، عن أنّ مهمّته كانت تتمثّل في توفير دعم العسكريين وحمايتهم لبختيار، وتوفير الأمن لوزارته، وإفشال الإضرابات، وأخيرًا، الإعداد لانقلابٍ عسكريٍّ لإعادة الملك إلى السلطة بشكلٍ مشابهٍ لِمَا تمَّ في انقلاب 19 آب 1953م. غير أنّ بيانات الإمام الخمينيّ، التي أكّدت وجوب مواصلة الجهاد، أحبطت جميع مخطّطات النظام.

 

90


84

عودة الإمام بعد 14 عامًا من النفي

في مطلع عام 1979، شكّل الإمام الخمينيّ مجلس قيادة الثورة. كذلك، فإنّ الملك -أيضًا- وبعد تشكيل مجلس الوصاية على العرش، وحصول وزارة بختيار على ثقة أعضاء المجلس، فرّ من البلاد، في 16 كانون الأوّل 1978. وانتشر الخبر في طهران وسائر أنحاء إيران، وخرجت الجماهير إلى الشوارع تحتفل وتعبّر عن فرحها.

 

من جانبٍ آخر، لم تستطع اجتماعات هايزر المتواصلة بالمستشارين العسكريّين الأمريكيّين وقادة الجيش الشاهنشاهيّ، من مساعدة بختيار في التغلّب على الإضرابات وإنهاء الثورة الشعبيّة.

 

◄| عودة الإمام بعد 14 عامًا من النفي

شاع، في أواخر شهر كانون الأوّل، خبر عزم الإمام الخمينيّ على العودة إلى إيران. وكان كلّ من يسمع بالخبر تفيض عيناه بدموع الشوق. لقد عانت الجماهير أربعة عشر عامًا من الانتظار. بيد أن الجماهير والمحبّين كانوا في قلقٍ واضطرابٍ على حياة الإمام الخمينيّ، ذلك أنّ الحكومة العسكريّة العمليّة للملك، ما زالت في سدّة الحكم. لذلك، أوصى أصدقاءُ الإمام بتأخير السفر قليلًا، لتوفير الظروف المناسبة لحمايته.

 

من جانبٍ آخر، فإنَّ عودة الإمام إلى إيران في تلك الظروف، ولقاءه بالجماهير المليونيّة الثائرة، كان يعني -من وجهة نظر أميركا- النهاية الحتميّة للنظام الملكيّ. لذا، فقد اتّخذت خطواتٍ عديدةٍ، بدءًا من التهديد بتفجير الطائرة التي تقلّ الإمام، وانتهاءً بالقيام بانقلابٍ عسكريٍّ، ذلك كلّه لدفع الإمام إلى تأخير سفره، حتّى إنّ الرئيس الفرنسيّ – وقتئذٍ - قام بدور الوساطة، لكنَّ الإمام كان قد اتّخذ قراره النهائيّ، وأعلن - عبر بياناتٍ أصدرها للشعب الإيرانيّ - بأنّه يرغب أن يكون مع شعبه في هذه الأيّام المصيريّة الحاسمة.

 

91


85

عودة الإمام بعد 14 عامًا من النفي

أقدمت حكومة بختيار - بالتنسيق مع الجنرال هايزر - على إغلاق المطارات بوجه الرحلات الخارجيّة. وقد توجّهت الملايينُ من مختلف أنحاء البلاد، لتشارك في التظاهرات التي انطلقت في طهران، مطالِبَةً بفتح المطار. كما اجتمع جمعٌ من العلماء والشخصيّات السياسيّة في مسجد جامعة طهران، وأعلنوا عن اعتصامهم هناك، حتّى تُفتَح مدارج المطار. ولم تتمكّن حكومة بختيار من الصمود أكثر من عدّة أيّامٍ، ثمّ رضخت لمطالب الجماهير.

 

أخيرًا، وفي مطلع شهر شباط عام 1979م، وصل الإمام الخمينيّ إلى إيران، بعد أربعة عشر عامًا من فراق الوطن. وقد كان استقبال الجماهير لقائدها عظيمًا ومنقطع النظير، إلى درجةٍ لم تستطع، حتّى الشبكات الإعلاميّة الغربيّة، من إنكاره، إذ قدّرت وسائل الإعلام الغربيّة عددَ المستقبِلِين بين 4 و6 ملايين شخصٍ.

 

92


86

عودة الإمام بعد 14 عامًا من النفي

وما إن وصل الإمام، حتّى توجّهت الجموع من مطار طهران إلى مقبرة "جنّة الزهراء"، حيث مزار الشهداء، لتصغي لحديث قائدها التاريخيّ. في ذلك الحديث، أعلن الإمام، قائلًا: "سوف أقوم، بدعمٍ من هذا الشعب، بتشكيل الحكومة".

 

في بداية الأمر، اعتَبَر بختيارُ بأنَّ الإمام يمزح! وما هي إلّا أيّامٌ قلائل، حتّى أعلن الإمام الخمينيّ، في الخامس من شباط 1979م، عن تعيين "مهديّ بازركان" رئيسًا للحكومة المؤقّتة، بعد ترشيحه من قِبَل مجلس الثورة، وهو وجهٌ متديّنٌ معروفٌ، له ماضٍ جهاديٌّ، وخبرةٌ في حركة تأميم النفط.

 

وفي قرار التعيين، طالب الإمامُ الخمينيّ المهندسَ بازركان بتشكيل وزارته، دون أخذ العلاقات الحزبيّة بنظر الاعتبار، وذلك لإعداد التمهيدات اللازمة لإجراء استفتاءٍ شعبيٍّ، ثمّ إجراء الانتخابات، مُطالِبًا الجماهيرَ الإيرانيّة التعبيرَ عن رأيها، من خلال الانتخابات المزمع إجراؤها. فبادرت الجماهير للانطلاق في مظاهراتٍ حاشدةٍ عمّت البلاد بأسرها، للإعلان عن دعمها وتأييدها لقرار الإمام الخمينيّ.

 

أمّا الأحزاب والفصائل السياسيّة الأخرى - والتي كان قادتُها ومسؤولوها وأعضاؤها القليلون يخرجون من سجنهم ومعتقلاتهم ببركة نهضة الجماهير، وعلى عدّة مراحل - وفيما كان الشعب يقف على أعتاب النصر، راحت تتطلّع إلى الحصول على المكاسب، والمطالبة بسهمٍ أوفر لها في إرث الثورة. ومنذ تلك

 

93


87

عودة الإمام بعد 14 عامًا من النفي

الأيّام، ابتدأ الاصطفاف بوجه الثورة الإسلاميّة، بصفوفٍ امتلأت بعملاء النظام البائد، وأزلام السافاك، والشيوعيّين، ومجاهدي خلق (المنافقين).

 

◄| سقوط النظام الملكيّ وانتصار الثورة الإسلاميّة يوم الله 11 شباط

بايع منتسِبو القوّة الجوّيّة، في الثامن من شباط 1979م، الإمام الخمينيّ، في محلّ إقامته بالمدرسة العلويّة في طهران. وأصبح الجيش الملكيّ على حافّة السقوط الكامل. وقبل ذلك، كان العديدُ من الجنود والمراتب من المؤمنين، قد تركوا المعسكرات، التزامًا بفتوى الإمام، والتحقوا بصفوف الجماهير.

 

في التاسع من شباط، قام منتسِبُو القوّة الجوّيّة بالتمرّد في أهمّ قاعدةٍ لهم في طهران. وبادرت قوّات الحرس الملكيّ للقضاء على التمرّد، فهبّت الجماهير لدعم القوّات الثوريّة في القاعدة. وفي العاشر من

 

94


88

تشكيل الحكومة الإسلاميّة، واصطفاف الدول الاستعماريّة لمعاداتها

شباط، كان معظم مراكز الشرطة ومؤسّسات الدولة قد سقطت، الواحدة تلو الأخرى، بأيدي الجماهير. وفي بيانٍ عسكريٍّ له، أعلن القائد العسكريّ لمدينة طهران، عن تمديد ساعات منع التجوال إلى الساعة الرابعة بعد الظهر. وتزامنًا مع ذلك، عقد بختيار اجتماعًا طارئًا لمجلس أمن الدولة، وأصدر أوامره بالقيام بالانقلاب العسكريّ، الذي أعدّ له سلفًا، بالتنسيق مع الجنرال هايزر. من جانبٍ آخر، أصدر الإمام الخمينيّ بيانًا، دعا فيه أبناءَ طهران - وبدافع إحباط المؤامرة المبيّتة - للنزول إلى الشوارع وإلغاء قرار منع التجوال بشكلٍ عمليٍّ. فاندفعت الجماهير - شيبًا وشبّانًا، ونساءً وأطفالًا - إلى الشوارع، وشرعت بإعداد الخنادق. وما إن خرجت الدبّاباتُ والقوّاتُ العسكريّة المكلّفةُ بتنفيذ الانقلاب من معسكراتها، حتّى سيطرت الجماهير عليها، ومنعتها من مواصلة مسيرها، ففشل الانقلاب منذ ساعاته الأولى. وبذلك، سقط آخر معاقل النظام الملكيّ. وفي صباح الحادي عشر من شباط، أشرقت شمس انتصار نهضة الإمام الخمينيّ والثورة الإسلاميّة، لتعلن نهاية عهد حاكميّة الملوك الظالِمين في إيران.

 

◄| تشكيل الحكومة الإسلاميّة، واصطفاف الدول الاستعماريّة لمعاداتها

لم يكن تحقّق وعود الإمام الخمينيّ وانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، حادثةً داخليّةً لتغيير نظامٍ سياسيٍّ معيّنٍ، بل كان ذلك - وكما عبّر عنه الكثير من ساسة أميركا وإسرائيل وأوروبّا في مذكّراتهم التي كتبوها عن تلك الأيّام - زلزالًا مدمّرًا للعالَم الغربّي.

 

95


89

تشكيل الحكومة الإسلاميّة، واصطفاف الدول الاستعماريّة لمعاداتها

ففضلًا عن أنّ أميركا فقدت، بنجاحِ الثورة، أهمَّ موقعٍ جغرافيٍّ واقتصاديٍّ وعسكريٍّ لها، في إحدى أشدّ مناطق العالَم حساسيّةً، وفي بلدٍ كان يمتلك أطول حدودٍ مشتركةٍ مع منافسه الشرقيّ (الاتحاد السوفياتيّ السابق)، فإنّ أمواج هذا الانفجار الهائل، كانت قد هزّت الأنظمة العمليّة في البلدان الإسلاميّة والعربيّة، وأصابتها بالذعر الشديد.

 

كانت رسالة الثورة الإسلاميّة الأصيلة ذاتَ ماهيّةٍ ثقافيّةٍ بُنِيَت على الفكر الدينيّ والقيم المعنويّة. ومن هنا، كان انتصار الثورة يعني صدور رسالتها وقيمها، لتفجير موجةٍ من النهوض والتحرّر في البلدان الإسلاميّة والعالَم الثالث. وفي الفترة نفسها، التي حقّقت الثورة الإسلاميّة نصرها في إيران، سقط النظام العميل لأميركا في "نيكاراغوا". وفي أفغانستان، اضطرّ الاتّحاد السوفياتيّ إلى القيام بانقلابٍ دمويٍّ، دفع - على إثره - قوّاتِه العسكريّةَ لاحتلال تلك الدولة، للسيطرة على التحرّك الإسلاميّ. كما إنّ الجماهير العربيّة المسلمة في لبنان وفلسطين، احتفلت بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وابتدأت مرحلةً جديدةً من نضالها، مستلهِمَةً من الثورة الإسلاميّة أفكار وأساليب جديدة. كذلك، عادت الحياة إلى الحركات الإسلاميّة في مصر وتونس والجزائر والسودان والحجاز وتركيا.

 

بعد الحرب العالميّة الثانية، كان قد ساد العالَم نظامٌ ظالمٌ. فقد تمَّ تقسيم مناطق العالَم بين القوّتَين المنتصِرَتَين (الشرقيّة والغربيّة)، وأُوكِلَت مهمّة الحفاظ على هذا النظام المقيت، إلى حلفَي (وارشو) و(الناتو). ولم تستطع أيّة حركةٍ أو ثورةٍ في العالم الثالث، من تحقيق أيّ هدفٍ لها خارج هذا الإطار، ودون الارتباط بأحد القطبين الحاكمَين. ومع ذلك، حقّقت الثورة الإسلاميّة نصرها، في عالَمنا المعاصر، وفي منطقةٍ كان يعدّها الغربيّون منطقة أمنٍ لهم، وكان شعارُها "لا شرقيّةً لا غربيّةً".

 

لقد وقفت نهضة الإمام الخمينيّ - وبشكلٍ مباشرٍ - بوجه الامبرياليّة الأميركيّة، وألحقت الهزيمة بها، الأمر الذي جرَّد الشيوعيّين من سلاحهم، الذي كانوا يلوّحون به (الوقوف بوجه الإمبرياليّة). ولأوّل مرّةٍ، في العصر الحاضر، يُطرَح الدين كعاملٍ محرّكٍ في ميدان نضال الشعوب.

 

وعلى الرغم من مشاعر الشكّ والترديد، والمساعي التي بُذِلَت على المستوى الدوليّ، للحفاظ على نظام الشاه، وللحيلولة دون انتصار الإمام الخمينيّ في نهضة، حقّقت الثورة الإسلاميّة النصر في المرحلة الأولى من صراعها. ولهذا، فإنّ انتصارها كان يُعَدُّ معجزةً، أكثر منه تحوّلًا عاديًّا. وفيما عدا الإمام الخمينيّ

 

96

 


90

تشكيل الحكومة الإسلاميّة، واصطفاف الدول الاستعماريّة لمعاداتها

والجماهير المليونيّة التي آمنت بوعوده، بعيدًا عن التحليلات العاديّة، فإنّ معظم المحلّلين السياسيّين، وجميع الذين كان لهم دورٌ في الأحداث التي شهدتها إيران، كانوا يرون هذا الانتصار - حتّى في أواخر أيّام النظام البائد - أمرًا مستحيلًا.

 

لهذا، ابتدأت مشاعر الخصومة والعداء للنظام الإسلاميّ الفتيّ بالظهور والانتشار، منذ صباح الحادي عشر من شباط 1979م. وقد قادت أميركا جبهة الأعداء، وكان لبريطانيا وبعض دول أوروبّا وجميع الأنظمة العميلة للغرب، المشاركةُ الفعّالة في تلك المواجهة. كذلك، فإنّ الاتّحاد السوفياتيّ، ومن يدور في فلكه أيضًا، وقفوا إلى جنب الأمريكيّين في العديد من المواقف العدائيّة، ودعموا موقفهم، بسبب عدم ارتياحهم لِمَا وقع في إيران، وما نتج عنه من حاكميّة الدين.

ومن النماذج البارزة لهذه التحالفات، ما حصل من تحالف اليسار واليمين، ضدّ الثورة، داخل البلاد، الأمر الذي أظهرت الوثائق -فيما بعد- ارتباطهم بكلٍّ من سفارة الاتّحاد السوفياتيّ وأميركا. والأبرز من هذا، تضافر جهود الشرق والغرب في تسليح صدّامٍ ودعمه في حربه المفروضة ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

غير أنّ الإمام الخمينيّ مارس دورَه القياديّ، بالمنطق نفسه، الذي ابتدأ به قيادة النهضة وحيدًا قبل سنواتٍ، فقد قاد سفينة الثورة، وهي تعيش في خضمّ الفتن والضغوط الخارجيّة، رافعًا شعار "انتصار الدم على السيف". وكان على اعتقادٍ راسخٍ بأنَّ المجتمع الذي يؤمن بالشهادة، كأعلى درجةٍ من الكمال الروحيّ للإنسان، ويجاهد في سبيل الله، لا بدَّ أن ينتصر.

 

97

 


91

تشكيل الحكومة الإسلاميّة، واصطفاف الدول الاستعماريّة لمعاداتها

وكان الإمام الخمينيّ بصدد تعبئة الشعب الإيرانيّ لبناء البلاد، وتجسيد نموذج المجتمع الدينيّ السليم والمتطوّر أمام العالَم. وابتدأ جهادَ الشعب تحت شعار "جهاد البناء"، وانطلق الآلاف من المتخصّصين والمؤمنين بالثورة، إلى مختلف المناطق المحرومة والقرى المنتشرة على طول البلاد وعرضها، ليبدؤوا حركة إعمارٍ كبرى، تشمل شقّ الطرق، وبناء المراكز الصحّيّة، وإيصال الماء والكهرباء إلى مختلف مناطق البلاد. غير أنه لم يمرّ وقتٌ طويلٌ، حتّى أخذت أمواج الفتن والضغوط الخارجيّة تنهال على البلاد. فقد صمّمت أميركا على الاستفادة من طابورها الخامس في إيران، لإشغال النظام الإسلاميّ بمشكلاتٍ داخليّةٍ، وبثّ الفرقة والخلاف، لإيجاد الفرصة المناسبة لإسقاط النظام الفتيّ.

 

و قد عملت السفارة الأميركيّة بجِدٍّ، عن طريق بعض عناصر الحكومة المؤقتة، لتمهيد الطريق لمشاريعها المستقبليّة. وقد حقّقت بعض النجاح في ذلك أيضًا، فقد كانت حكومة السيّد بازركان تتالف من أفرادٍ، اتّسم أكثرهم بالتوجّهات القوميّة المحافظة. ولم يكن بمقدور هؤلاء هضم الظروف والضرورات الثوريّة، ودرك الإرشادات والأفكار السامية للإمام الخمينيّ. كذلك، فإنّ ضعف الحكومة المؤقّتة، وروح المماشاة التي كانت تتّسم بها، ساعد الفئات المعادية للثورة على إعادة تنظيم صفوفها بسرعةٍ فائقةٍ، مستفيدةً من المعونات الخارجيّة التي كانت تتلقّاها، ثمّ المبادرة إلى خلق التشنّجات في كنبد وكردستان وسائر المناطق.

 

كذلك، فإنّ النظام البعثيّ العراقيّ - الذي أُصِيب بالذعر من انتصار الصورة الإسلاميّة، أكثر من الأنظمة العربيّة الأخرى، نتيجة خوفه من إمكانيّة انتفاضة شعبه - بادر إلى تسليح العناصر المعادية للثورة في جنوب البلاد وفي كردستان. كما كان للسفارتَين الأميركيّة والسوفياتيّة نشاطٌ فعّالٌ في لمّ شمل أفراد السافاك، وبعض عناصر النظام السابق، وتحريك الفصائل الشيوعيّة ومجاهدي خلق (المنافقين)، للقيام بأعمالٍ مؤذيةٍ ضدّ الثورة. فقد قامت "منظّمة الفرقان" باغتيال عضوٍ مجلس الثورة العلامة، الشيخ مرتضى المطهّريّ في 2/5/ 1979م، وآية الله القاضي الطباطبائيّ في 1/11/1979م، والدكتور المفتّح في 19/12/1979م، واللواء القرنيّ رئيس أركان الجيش في 23/4/1979م، وفشلت في اغتيال الشيخ

 

98


92

تشكيل الحكومة الإسلاميّة، واصطفاف الدول الاستعماريّة لمعاداتها

الهاشميّ الرفسنجانيّ، والموسويّ الأردبيليّ.

 

وكان الإمام الخمينيّ يعتقد - نظرًا لمعرفته بالأيادي الخفيّة - بضرورة القضاء، بسرعةٍ وبحزمٍ، على أعداء الثورة، خصوصًا الاضطرابات التي وقعت في كردستان. غير أنَّ الحكومة المؤقّتة ضيّعت الفرصة بانشغالها بالمفاوضات العقيمة في كردستان، وتعاملها بلينٍ مع مثيري الاضطرابات، وهيّأت – عمليًّا - الأرضيّة لتفاقم الأوضاع.

من جانبٍ آخر، فإنَّ الاقتصاد الذي تركه النظام المباد، والمعتمِد كلّيًّا على واردات النفط، دفع أميركا وأوروبّا -المطّلعتَين على هذه الحقيقة- إلى دعم موقف النظام السعوديّ ومؤيّديه في منظمة "أوبّك"، لتخفيض أسعار النفط إلى أدنى مستوًى لها، ممّا ألحق أضرارًا بسوق النفط الإيرانيّ.

 

ومع وجود هذه المشاكل جميعها، لم يذعن الإمام الخمينيّ، ولم يرضخ لقبول المصالحة، ولم يتراجع عن مواقفه حتّى خطوةً واحدةً. فبادر إلى تشكيل المؤسّسات الثوريّة، لترميم ضعف الحكومة المؤقّتة، ولضمان ديمومة الثورة. وقد وقفت الجماهيرُ الإيرانيّة، بعزمٍ واستعدادٍ للتضحية دفاعًا عن الثورة. ولم يمضِ أكثر من شهرين على انتصار الثورة، حتّى صوّت 98.2% من أبناء الشعب في الاستفتاء الشعبيّ، الذي أُجرِيَ في الأوّل من نيسان 1979م، لصالح الجمهوريّة الإسلاميّة، في واحدةٍ من أكثر الانتخابات حرّيّةً في تاريخ إيران. وبعدها، أُجرِيَت الانتخابات، للمصادقة على الدستور، وانتخاب نوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ.

 

وكان الإمام الخمينيّ يتحدّث إلى محبّيه، الذين كانوا يزورونه يوميًّا في مقرّ إقامته بقمّ، وفي المدرسة

 

99


93

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

الفيضيّة، بما يدعم ويرسّخ أركان النظام الإسلاميّ، ويبيّن الأهداف والأولويّات في الحكومة الإسلاميّة، ويدفع الجماهير إلى الحضور الدائم في ميادين الأحداث. فقد سافر سماحتُه من طهران إلى قمّ، في الأوّل من آذار 1979م، وبقي هناك حتّى ألَمّت به الأزمة القلبيّة في 22 كانون الثاني 1980م. وبعد تسعةٍ وثلاثين يومًا من العلاج المتواصِل في مستشفى القلب في طهران، أقام سماحتُه في منزلٍ يقع بمنطقة دربند، ثمّ نُقِلَ في 27/5/1980م، ونزولًا عند رغبته، إلى منزلٍ بسيطٍ يمتلكه أحد علماء الدين (حجّة الإسلام السيّد مهديّ إمام جماراني)، في منطقة جماران، وبقي هنالك حتّى فارق الحياة.

 

◄| الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

أدّى نجاح الانتخابات ومشاركة الجماهير الواسعة فيها، إلى تبديد الآمال الأميركيّة الواهية في قرب سقوط النظام الإسلاميّ، الذي كانت وسائل الإعلام الغربيّة لا تكفّ عن ترديده، فضلًا عن البيانات التي كانت تصدرها التيّارات المعادية للثورة في الداخل. ولم تمتنع أميركا وأوروبّا من النزول عند مطالب الشعب والحكومة الإيرانيّة المشروعة، باسترداد الشاه والأموال والأرصدة الإيرانيّة المجمَّدة - التي تُقَدَّر بأكثر من 22 مليار دولارٍ - فحسب، بل وضعت إمكاناتٍ واسعةٍ تحت تصرّف أقطاب النظام الملكيّ البائد، اللاجئين إليها، لتوظيفها في مواجهة النظام الإسلاميّ الفتيّ. وقد أثارت هذه النشاطات الأميركيّة والممارسات العدائيّة للبيت الأبيض، غضبَ الشعب.

 

ففي عام 1979م، وعلى أعتاب الذكرى السنويّة لنفي الإمام الخمينيّ إلى تركيا (4 تشرين الأوّل)، شاع

 

100

 


94

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

خبر اللقاء السرّيّ بين بازركان وبريجنسكي (مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ آنذاك)، الذي جرى في الجزائر، ممّا دفع مجموعةً من الجامعيّين المسلمين الثوريّين -الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "الطلبة الجامعيّون السائرون على نهج الإمام الخمينيّ"- إلى احتلال السفارة الأميركيّة بطهران. وبعد القضاء على مقاومة حرس السفارة، قاموا بإلقاء القبض على الجواسيس الأمريكيّين. ثمّ عكفوا، بعدها، على نشر الوثائق التي عثروا عليها في السفارة الأميركيّة، في خمسين كتابًا، سُمِّيَت "وثائق وكر التجسّس الأميركيّ في إيران". وقد كشفت هذه الوثائقُ الدامغةُ النقابَ عن أسرار الجاسوسيّة الأميركيّة والتدخّلات التي قامت بها الإدارة الأميركيّة في مختلف نقاط العالَم، وأعلنت أسماء العديد من الرابطين والجواسيس لأميركا، ومختلف أساليب الجاسوسيّة والتحرّكات السياسيّة الأميركيّة في مناطق العالَم المختلفة.

 

مثّل احتلالُ السفارة الأميركيّة، التي عُرِفَت في ثقافة الثورة الإسلاميّة بـ "وكر التجسّس"، فضيحةً كبرى للحكومة الأميركيّة.

 

بعد يومٍ واحدٍ من احتلال السفارة الأميركيّة، سقطت حكومة السيّد بازركان، بعد قبول الإمام استقالتها، في وقت ٍكان بازركان يتوقّع ردّ فعلٍ آخر من الإمام، يتمثّل في ضغطه على الطلبة الجامعيّين لإخلاء السفارة الأميركيّة. غير أنّ الإمام الخمينيّ قَبِلَ استقالةَ الحكومة على الفور، غير مفرّطٍ بهذه

 

101

 


95

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

الفرصة السانحة، التي ستتيح له دفعَ الثوريّين إلى سدّة السلطة، وكفّ أيدي التيّار المحافظ، الذي عرّض البلاد خلال فترة حكومته الوجيزة إلى خطر أعداء الثورة، بسبب مواقفه الضعيفة في التعامل مع الأحداث.

 

دافع الإمام الخمينيّ عن حركة الطلبة الجامعيّين الثوريّة، وعَدَّ عملَهم ثورةً، تفوق في أهمّيّتها، الثورةَ الأولى! والحقّ أنّها كذلك. فقد كانت أميركا تقف إلى جانب النظام المقبور في الثورة الأولى، وكانت تُعلِن رسميًّا عن مواجهتها وعدائها للثورة الإسلاميّة، في حين أن الوثائق المصادَرَةَ من وكر التجسّس الأميركيّ، كشفت النقاب عن الدسائس التي حيكت ضدّ الثورة في الخفاء، وفضحت عملاءها في الداخل. بعد احتلال السفارة الأميركيّة، حاولت أميركا - بمختلف السبل - دفع إيران للتراجع عن موقفها، فقامت، ومن يدور في فلكها، بفرض الحصار الاقتصاديّ والسياسيّ – رسميًّا - على إيران، وابتدأت الجماهيرُ مرحلةَ مواجهة الحصار الاقتصاديّ والسياسيّ، مستلهِمَةً بيانات الإمام الخمينيّ وتوجيهاته، دون أن تفكّر في الاستسلام. وفشلت عمليّة إطلاق سراح الرهائن الأمريكيّين، بعد تحطّم الطائرات الأميركيّة في صحراء طبس، في حادثةٍ إعجازيّةٍ مدهشةٍ!

 

في الرابع والعشرين من نيسان 1980م، قامت ستّ طائراتٍ سمتيّةٍ، من طراز 130 C، بالهبوط في إحدى القواعد الأميركيّة السابقة في صحراء طبس شرقيّ إيران. وقد وقعت هذه الحادثة خلال رئاسة أبي الحسن بني صدر. وكان مقرّرًا أن تقوم الطائرات - بعد التزوّد بالوقود، والتحاق ثماني سمتيّاتٍ ميدانيّةٍ - بالتوجّه إلى طهران، لقصف منزل الإمام الخمينيّ، والمراكز الهامّة الأخرى، بالتعاون

 

102

 


96

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

مع بعض العملاء. غير أنّ عاصفةً طارئةً هبّت في الصحراء، أجبرت بعضَ الطائرات على العودة إلى حاملة الطائرات "نيميتس"، واضطرّت الباقيات إلى الهبوط الاضطراريّ في الصحراء. ونتيجةً لسوء الأحوال الجوّيّة، ارتطمت إحداها بأخرى، فانفجرت كلتاهما، وقُتِلَ على إثر ذلك ثمانيةُ أشخاصٍ من العسكريّين الأمريكيّين الغزاة، واضطرّ جيمي كارتر، رئيس الولايات المتّحدة، إلى الإعلان عن إيقاف العمليّات الفاشلة.

 

وبوفاة الملك محمّد رضا في مصر، في 27 تموز 1980م، انتفى - بشكلٍ عمليٍّ - أحدُ الشروط الإيرانيّة المتمثّلة في استرداد الملك، باعتباره أحد المجرمين الأصليّين في المذابح الجماعيّة التي ارتُكِبَت في إيران. وأخيرًا، وبعد 444 يومًا، تمَّ الإفراج عن الجواسيس الأمريكيّين، بوساطةٍ جزائريّةٍ، بعد إعلان أعضاء مجلس الشورى موافقتهم على اتّفاقيّة الجزائر، الموقّعة بين إيران وأميركا، والتي تعهّدت أميركا بموجبها، بعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة لإيران، وإعادة الأرصدة والأموال الإيرانيّة المجمّدة في مصارفها. إلّا أنّها لم تلتزم بأيٍّ منها.

 

إنّ أهمّ ما حقّقته عمليّة احتلال وكر التجسّس الأميركيّ، تمثّل في طعن الغرور الفرعونيّ الأميركيّ، وبعث الأمل في نفوس شعوب العالَم الثالث، بإمكانيّة الوقوف بوجه القوى العظمى، ناهيك عن ضمانة ديمومة الثورة الإسلاميّة في إيران.

 

103

 


97

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

بعد تلك الواقعة، انهارت الأبّهة الأميركيّة والقدرة الوهميّة - التي أُنفِقَ من أجل إظهارها المبالغ الطائلة، والجهود الإعلاميّة المكثّفة - وتعرّضت أميركا إلى صعوباتٍ ومشاكل عديدةٍ للسيطرة على العالَم الثالث فيما بعد.

 

في أوّل انتخاباتٍ لرئاسة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة (25/10/1980م)، والتي جرت في وقتٍ كان الإمام الخمينيّ طريح فراش المرض في مستشفى القلب بطهران، فاز السيّد أبو الحسن بني صدرٍ على منافسيه. وكان أبو الحسن قد عاد إلى إيران، قُبَيل انتصار الثورة الإسلاميّة، وقدّم نفسه، من خلال خطاباته وكتبه، على أنّه شخصٌ متديّنٌ وخبيرٌ اقتصاديٌّ لامعٌ. وفي مراسم أداء اليمين الدستوريّة لتولّي مهامّ عمله كرئيسٍ للجمهوريّة، قال الإمام: "إنّني أوصي السيّد بني صدرٍ بوصيّةٍ واحدةٍ، وهي موجّهةٌ للجميع أيضًا، أقول: حبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ"[1]. غير أنّ غرور بني صدرٍ ونزعته في التسلّط، حال دون التزامه بهذه النصيحة. لقد غرّته الآراء التي حصل عليها، ومنذ بداية حكومته، اعتمد معارضة اتّباع خط الإمام وعلماء الدين، وقد كان يعتقد -كما هو حال الحكومة المؤقّتة- بضرورة مسايرة الدول الكبرى، واعتماد أسلوب المناورات السياسيّة معها. أمّا على الصعيد الداخليّ، فقد بادر على الفور إلى عزل الطاقات الثوريّة، وإحلال العناصر المرتبطة بالفئات المعادية للثورة محلّها.

 

وفي عهده، احتلّ العراق مناطق شاسعةً من الأراضي الإيرانيّة، وعلى الأثر، قامت العناصر المرتبطة برئيس الجمهوريّة -التي كانت ترى وجودها مرتهنًا بزيادة المشكلات وإيجاد جوٍّ من التوتّر أمام النظام الإسلاميّ- بالحيلولة دون أداء المدافِعِين عن البلاد لدورهم بشكلٍ مناسبٍ، ومنع تسليحِ الجماهير وإتاحةِ الفرصة للحرس الثوريّ لأداء دوره الفاعل، مستفيدين في ذلك كلّه من منصب بني صدر، الذي

 


[1] الحديث يُنسَب إلى الإمام الصادق (عليه السلام).

 

104


98

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

كان قائدًا عامًّا للقوّات المسلّحة. وبذلك، تعرّضت الوحدة الوطنيّة إلى الخطر، نتيجة الخلافات التي أثارها بني صدر. وأخيرًا، أصدر الإمام الخمينيّ قرارَه المقتضب، في 10 حزيران 1981م، القاضي بعزل بني صدرٍ عن منصب القائد العامّ للقوّات المسلّحة، وتبعًا لذلك، صادقَ مجلس الشورى الإسلاميّ على عدم كفاءة بني صدرٍ كرئيسٍ للجمهوريّة.

 

بسقوط بني صدرٍ، بادر أعضاء ومؤيّدو منظّمة مجاهدي خلق (المنافقين) - الذين استغلّوا ضعف الحكومة المؤقّتة وما وفّره لهم بني صدرٍ من الدعم والحماية، لتقوية تشكيلاتهم وتوسيعها - إلى ممارسة اضطراباتٍ دمويّةٍ. إلّا أنّ جماهير طهران تمكّنوا من القضاء على مثيري الاضطرابات، وتمّ اعتقال العديد منهم. ومنذ ذلك الوقت، أقدم المنافقون، رسميًّا، على القيام بأعمالٍ مسلّحةٍ واغتيالاتٍ، وفي الوقت نفسه، بادر قادةُ التنظيم للاختفاء في أوكارهم، وقد تصدّر حزب الجمهورية الإسلاميّة قائمةَ المستهدَفين من قِبَل المنافقين.

 

تمّ تأسيس حزب الجمهوريّة الإسلاميّة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، بهمّة المخلِصين من ذوي السماحة، آية الله الخامنئيّ، والدكتور بهشتي، والدكتور باهنر، وهاشمي رفسنجانيّ، والموسويّ الأردبيليّ، بهدف احتواء الطاقات المؤمِنة بنهج الإمام الخمينيّ، ومواجهة تحرّكات التيّارات السياسيّة المعادية للثورة. وقد استطاع هذا الحزب، الذي حظي بدعم الإمام المعنويّ، أن يكسب أعدادًا كبيرةً من الأتباع والمؤيّدين في مختلف أنحاء البلاد، وبسرعةٍ كبيرةٍ، ويُمسي سدًّا أمام تطلّعات العناصر المعادية للثورة.

 

105


99

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

في السابع والعشرين من حزيران 1981م، جُرِحَ آية الله الخامنئيّ، إثر انفجار قنبلةٍ زرعها المنافقون، بينما كان يخطب بالجماهير المحتشدة في مسجد أبي ذرٍّ في طهران. وفي اليوم التالي، وقعت فاجعةٌ رهيبةٌ، حيث هزّ انفجارُ قنبلةٍ قويّةٍ زرعها أحد عملاء منظمة المنافقين، مقرّ حزب الجمهوريّة الإسلاميّة، وذلك خلال اجتماع أعضاء الحزب، ممّا أدّى إلى استشهاد اثنين وسبعين من خيرة الطاقات الثوريّة من عناصر النظام الإسلاميّ، ومن أنصار الإمام الخمينيّ، كان بينهم رئيس مجلس القضاء الأعلى الدكتور بهشتي، وعددٌ من الوزراء ونوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ، وجمعٌ من مسؤولي السلطة القضائيّة، وعددٌ آخر من المفكِّرين والكُتَّاب والطاقات الثوريّة الأخرى.

 

بعد شهرَين من هذه الفاجعة، وتحديدًا في الثلاثين من شهر آب 1981م، استُشهد السيّد محمّد عليّ رجائي - الوجه الثوريّ المحبوب لدى الجماهير، والذي انتُخِبَ لرئاسة الجمهوريّة بعد عزل بني صدرٍ ـ والدكتور محمّد جواد باهنر (رئيس الوزراء)، على إثر انفجار قنبلةٍ أخرى، زُرِعَت في المكان الذي كانا يجتمعان فيه.

 

إنّ قرار الإمام السريع والحازم بانتخاب المسؤولين وتنصيبهم لسدّ الفراغ الحاصل نتيجة سقوط هذا العدد من الشهداء، كان له بالغ الأثر في تهدئة الأوضاع، وإدخال اليأس في نفوس الأعداء، وإصابة المحافل الخبريّة والسياسيّة العالَميّة بالحيرة والذهول.

 

لولا إيمان الإمام الخمينيّ وصلابته المذهلة، ووعي الجماهير الإيرانيّة المؤمنة، لتمكّنت أيّ واحدةٍ من هذه الأحداث من إسقاط النظام الإسلاميّ. غير أنَّ بيانات الإمام الخمينيّ وخطاباته كانت، بعد كلّ حادثٍ من هذه الحوادث، تهدّئ روع الجماهير، وتسهّل عليها تحمّل المصائب، وتزيد من تصميم الجماهير على مواصلة طريقها. فبعد استشهاد الدكتور بهشتي، كانت الجماهير تهتف بشعار "ماذا تريد أميركا، إنّ إيران مليئةٌ بأمثال بهشتي"، والذي استلهمته من حديث الإمام، الذي كشف، من خلاله،

 

 

106


100

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

النقاب عن أنّ الأيادي الخفيّة للعدوّ الأصليّ (أميركا) تكمن وراء هذه الاغتيالات. من جانبٍ آخر، كان الإمام قد أكّد مرارًا أنّ الثورة الإسلاميّة لا تقوم على الأفراد، مهما كانت مواقعهم وأهمّيّتهم، وأنّ حافظ الثورة هو اللهُ وإيمانُ الجماهير المؤمنة.

 

إنّ أحد أبرز نجاحات الإمام الخمينيّ، تجسّد في قدرته على تنمية الوعي العامّ لدى الجماهير، وإيجاد الإحساس بالمسؤوليّة والقدرة على التحليل السياسيّ لدى أبناء الشعب، إزاء الوقائع والأحداث المعاصرة.

 

لسنواتٍ طوالٍ، كانت وسائل الإعلام الغربيّة تَعِدُ بحتميّة سقوطَ النظام الإسلاميّ بعد وفاة الإمام الخمينيّ، وقد طُرِحَ هذا الموضوع، حتّى في المؤتمرات التي عقدها المفكّرون الغربيّون، لدراسة الثورة الإسلاميّة، والملتقيات السياسيّة والمفاوضات التي كان يجريها الساسة الغربيّون، وبشكلٍ جدّيٍّ، واعتُبِرَ موضع قبول الجميع. وعلى هذا الأساس، أيضًا، قبعت الفئات المعادية للثورة في الداخل، في مكامنها، بانتظار ذلك اليوم الموعود. غير أنّ الدنيا شهدت كيف أنّ النظام الإسلاميّ لم يتعرّض لأدنى إرباكٍ بعد ارتحال سماحة الإمام الخمينيّ، وبذا، تبدّدت أحلامُهم وأمانيُّهم. والسبب في ذلك ما تقدّم، إذ تمكّن الإمام الخمينيّ من إعادة تربية الجيل الخامل واللامبالي -الذي جُرّ خلال الخمسين عامًا من حكم العائلة البهلويّة إلى التيه والضياع واليأس والقنوط- بنحوٍ جعلته قادرًا، وفي زمنٍ قياسيٍّ، من نبذ عاداته وعلاقاته الاجتماعيّة السابقة والاعتقادات الخاطئة الراسخة، واستبدال القيم والمثل السامية الجديدة في مختلف مناحي الحياة بها. وما اندفاع الآلاف من الشبّان الذين واجهوا العدوّ البعثيّ المعتدّي في جبهات القتال، لمدة ثمانية أعوامٍ متواصلةٍ، متحلّين بأعلى درجات المعنويّة والوعي، إلّا دليلٌ على هذا المعنى. وإنّ النماذج الكثيرة على مستوى وعيهم وشعورهم ومستوى إيمانهم ومعنويّاتهم، تتّضح في الوصايا المطبوعة للشهداء، فيما كان أكثرهم -إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بقليلٍ- تتهدّدهم أنواع المفاسد، ويحرّكهم إعلام السوء، وتتجاذبهم أنواع القوى التخديريّة.

 

ولعلَّ بعضهم ممّن يعاصر مجتمع عصر الإمام الخمينيّ عن قرب، يعتبر هذا الحديث نوعًا من المبالغة في عرض الحقائق، ناشئٌ عن فرط المحبّة للإمام وللثورة الإسلاميّة. لكنَّ الأمر ليس كذلك، فكثيٌر من الشواهد ما زالت حيّةً، والوثائق والمستندات الدامغة، من الكثرة بحيث إنّ إثبات هذا الأمر

 

107

 


101

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

لن يحتاج إلى طويل بحثٍ أو مناظرةٍ.

 

فإلى الآن، ما زالت الثقافة الاجتماعيّة الإيرانيّة الجديدة، تدفع الناسَ إلى تهنئة مَن فقد ابنًا على طريق تحقيق أهداف نهضة الإمام الخمينيّ، بدلًا من تعزيته ومواساته. إلى الآن، ما زال الكثيرُ من الآباء والأمّهات في إيران، ممّن فقدوا أعزّتهم في هذا الطريق، يجيبونك حينما تسألهم عن شعورهم: بأنّ ذلك فخرٌ للعائلة، وأنّه نعمةٌ من نِعَمِ الله.

 

ولعله من غير المعقول، بالنسبة للغربيّين، أن يقوم بعضُ أفرادِ العائلةِ بالإبلاغ عن أماكن اختفاء العديد من العناصر المضادّة للثورة والإرهابيّين المنافقين من أبنائهم، ومساعدة الآباء والأمّهات قوى الأمن في إلقاء القبض على أبنائهم.

 

وتتّضح أهمّيّةُ هذا الإحساس، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار شدّةَ الترابط العاطفيّ في العائلة الإيرانيّة، والذي لا يمكن مقارنته -على أيّ مستوًى- مع ما هو موجودٌ من العلاقة الباردة الخالية من الروح، لدى العائلة الغربيّة مثلًا.

 

فحتّى الآن، إذا سألت أيًّا من المقاتِلين، الذين ما زالوا يتذكّرون أيّام الجبهة، عن أشدّ الأيّام التي قضاها في الجبهة قسوةً؟ لأجابك أنّه يوم إعلان قبول قرار مجلس الأمن، والموافقة على وقف إطلاق النار. إنّ مشاعر الألم والحزن، التي انتابت قوّات التعبئة ذلك اليوم، لا يمكن وصفها ولا يمكن تصوّرها، ذلك كلّه لإحساسهم بأنّ "بابَ جنّةِ الشهداءِ" قد أُغلِق أمامهم، وأنّهم فقدوا الأمل بالالتحاق بقافلة الشهداء.

 

إنّ إيجاد تحوّلٍ روحيٍّ، كهذا، في مجتمعٍ ما، وتحريك أمواج الاندفاع نحو الإسلام في روح أمّةٍ من الأمم، ليس بالعمل السهل واليسير.

 

إنّ لبنان وملحمة حزب الله، نموذجٌ آخر على هذا التحوّل الذي ذكرناه. وخلافًا لِمَا يدّعيه الغرب عبر إعلامه، فإنّ تدخّل إيران ودعمَها لم يكن هو السبب في إيجاد هذا التحوّل، ذلك لأنّ لأميركا وأوروبّا والاتّحاد السوفياتيّ (السابق) حضورًا عميقًا وواسعًا ومباشرًا في لبنان، بيد أنّه لم يؤدِّ إلى شيءٍ. فالجامعة الأميركيّة في بيروت لها تاريخٌ طويلٌ، كما إنّ أميركا وأوروبّا أنزلت قوّاتها في لبنان، أثناء الأحداث التي

 

108

 

 


102

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

وقعت في لبنان. لقد كان لبنان - وحتّى وقتٍ قريبٍ - أكبر سوقٍ للسياسات الغربيّة في الشرق الأوسط. فما الذي أدّى إلى أن يتمكّن مجتمعٌ صغيرٌ -قياسًا إلى أعدائه- وفي بلدٍ محاصَرٍ من جميع الجهات، وله حدودٌ مشتركةٌ مع إسرائيل، وعلى الرغم من قلّة إمكاناته الدفاعيّة، من الوقوف بثباتٍ وقوّةٍ بنحوٍ يدفع القوّات الغربيّة إلى الإعلان رسميًّا عن فرارها من المنطقة، واضطرارها إلى تركها. واليوم أيضًا، وعلى الرغم من الضغوط الاقتصاديّة القاسية كلّها، والقصف والاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، ترى حزبَ الله يُثبِتُ وجودَه أمام الغرب، ويقاوم بشكلٍ منقطع النظير.

 

إنَّ السبب الحقيقيّ الذي يقف وراء ذلك كلّه، هو أنّ مسلمي لبنان - وبناءً على علاقاتهم الثقافيّة والعقائديّة القديمة - استطاعوا التعرّف على الإمام ودرك رسالته أسرع من سائر البلدان الإسلاميّة.

 

وبعد لبنان، شهدنا في فلسطين آثار هذا الفكر وهذه الرسالة، في انطلاقة "حركة حماسٍ" والحركات الإسلاميّة في سائر بلدان المسلمين... ذلك كلّه، نتيجة التأثّر المباشر أو غير المباشر، بأفكار الإمام الخمينيّ ورسالته الجهاديّة. وإنّ تحوّلًا كهذا، لا ينحصر في الفكر السياسيّ للإمام الخمينيّ ونوعيّة جهاده السياسيّ، فمدرسة الإمام الخمينيّ التربويّة، وقدرته في معرفة الإنسان، وفي معرفة المجتمع، هي التي ساهمت في إيجاد الأرضيّة المناسبة لوقوع مثل هذه التحوّلات. وللأسف، فإنّ أبعاد رؤية الإمام وآراءه حول الإنسان والمجتمع والتاريخ والتربية، لم تزل، حتّى الآن، متناثرةً غير مدوّنةٍ وغير معروفةٍ

 

109


103

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

كما ينبغي، فمدرسة الإمام في التربية وعلم الاجتماع، تختلف كثيرًا عمّا يُدرس تحت هذه العناوين في جامعات دول العالَم الثالث والبلدان الإسلاميّة.

 

إنَّ الأساس الذي ابتُنِيَت عليه نهضة الإمام الخمينيّ، إنّما يمتدّ إلى منهج الأنبياء، ذلك المنهج الذي استطاع أن يخلق من بعض العبيد المغمورين والمظلومين شخصيّاتٍ، من أمثال أبي ذرٍّ الغفاريّ، وسلمان المحمّديّ، وأن يجعل من المجتمع الجاهليّ قائدًا للمدنيّة والحضارة الإسلاميّة. بيد أنّ هذا المنهج أصبح منسيًّا في عصرنا الحاضر، وما نعرفه اليوم تحت عنوان العلوم الإنسانيّة المعاصرة، إنّما يهتمّ بتعريف الإنسان والعلاقات الإنسانيّة من وجهة نظر المدارس الوضعيّة الليبراليّة و"الإنسانيّة" الغربيّة، التي هي أيضًا وليدة عصر النهضة الصناعيّة، وانعكاسٌ للضياع وفقدان الهويّة الذاتيّة والأصالة، والقبول بأصالة المادّة وحاكميّة الآلة على الإنسان.

 

أعود للحديث عن كيفيّة قيادة الثورة في السنوات المشحونة بالاضطراب، التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة. فبعد فاجعة الثامن والعشرين من حزيران 1981م، واستشهاد العشرات من أنصار الإمام، ومن مسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة، تمكّن قادةُ منظّمة المنافقين من الفرار من البلاد، متوجّهين إلى باريس، برفقة رئيس الجمهوريّة المعزول، وذلك بارتدائهم الملابس النسائيّة، وبالتعاون والتنسيق مع بعض العملاء المندسّين في مطار طهران. فالطيّار الذي قاد الطائرة كان من الطيّارين المعتَمَدين لدى الشاه المخلوع، وهو نفسه الذي قاد طائرة الشاه، حينما فرّ من البلاد قبل سنواتٍ.

 

وخلافًا لادّعاءاتها في احترام حقوق الإنسان ومواجهتها للإرهاب، أعطت فرنسا حقّ اللجوء السياسيّ لأولئك الذين اعترفوا، في بياناتهم التي أصدروها، بضلوعهم - بل بمسؤوليّتهم - عن عمليّات الاغتيال والتفجير في الأماكن العامّة، التي وقعت في إيران.

 

ومنذ ذلك اليوم، بات المنافقون الفارّون إلى مختلف الدول الأوروبّيّة وأميركا، يتمتّعون بدعم تلك الدول وحمايتها. وطوال فترة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، اتّخذوا من العراق قاعدةً أساسيّةً لهم، بعد أن عقدوا صفقةً مع صدّام، وكانوا يمارسون دورهم، كجواسيس ومرتزقةٍ، يضعون معلوماتهم وإمكاناتهم كلّها تحت اختيار الجيش البعثيّ. وقد تلخّصت مهمّتهم الأساسيّة في جمع المعلومات عن جبهات القتال الإيرانيّة، بواسطة عملائهم المبثوثين في الداخل، وإعطاء المعلومات حول مواضع سقوط الصواريخ

 

110


104

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

العراقيّة، التي استهدفت المناطق السكنيّة في إيران، والتحقيق مع الأسرى الإيرانيّين، والمشاركة في العمليّات العسكريّة العراقيّة.

 

وفي عام 1988م، وبعد إعلان نهاية الحرب العراقيّة الإيرانيّة، قاد المنافقون هجومَهم الذي استهدف الدخول إلى عمق الأراضي الإيرانيّة، إلّا أنّه تمّ سحقهم في عمليات "المرصاد"، مخلِّفين وراءهم أكثر من ألف قتيلٍ على أرض المواجهة. وإنّ الضجّة المفتعلة التي تشنّها المنظّمات المرتبطة بأميركا في العالَم، ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، تحت ذريعة انتهاك حقوق الإنسان، غالبًا ما تغذّيها مزاعم هذه المنظّمة، للحصول على دعم الدول الغربيّة وتأييدها.

 

إنّ المنافقين (مجاهدي خلقٍ)، في نظر الشعب الإيرانيّ، هم من أكثر الجناة إجرامًا وانحطاطًا. وإنّ جرائم أشهر مجرمي التاريخ الإيرانيّ المعاصر، لم تصل إلى فظاعة جرائمهم. ففضلًا عن استشهاد 72 شخصًا من أكثر شخصيّات النظام محبوبيّةً لدى الناس، في انفجارِ مقرّ حزب الجمهوريّة الإسلاميّة، واستشهاد رئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء، أقدم المنافقون على اغتيال العديد من الشخصيّات، كآية الله الصدّوقيّ، إمام جمعة يزد، بتاريخ 2/7/1982م، وآية الله أشرفي الأصفهانيّ، إمام جمعة كرمانشاه، بتاريخ 15/10/1982م، وآية الله دستغيب، إمام جمعة شيراز، بتاريخ 11/12/1981م، وآية الله المدنيّ، إمام جمعة تبريز، بتاريخ 11/9/1981م، وآية الله القدّوسيّ واللواء الدستجرديّ، بتاريخ 5/9/1981م، وحجّة الإسلام هاشمي نجاد، بتاريخ 29/9/1981م، وعشرات الشخصيّات العلمائيّة ممّن كانت تستحوذ على قلوب الناس، في كلّ منطقةٍ

 

111


105

الثورة الثانية، احتلال وكر التجسّس الأميركيّ في إيران

من المناطق التي كانت تُمَارِس نشاطَها فيها، وممّن كان لها الحظّ الوافر في نهضة الإمام الخمينيّ.

 

وإضافةً إلى الوجوه السياسيّة والدينيّة البارزة، ومسؤولي النظام الإسلاميّ، فإنّ أعدادًا كبيرةً من الناس الأبرياء سقطوا مخضّبين بدمائهم، بجرم الدفاع عن ثورتهم وحمايتها، نتيجةً لعمليّاتٍ إرهابيةٍ، وتفجيراتٍ قام بها المنافقون في الأماكن العامّة (وكان آخرها القتل المفجع، الذي مارسه المنافقون بحق اثنين من القساوسة المسيحيّين، وتفجير قنبلةٍ في اليوم العاشر من محرّمٍ الحرام، جوار مرقد الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد، عام 1994م.

 

وممّا يجدر ذكره، أنّ أميركا وأوروبّا والمنظمات الدوليّة لم تختر السكوت أمام تلك الجرائم كلّها فحسب، وإنّما كانت تقدّم الملجأ والإمكانات للإرهابيّين، لمواصلة نشاطاتهم الإرهابيّة. وقد سبق لهم أن اتّخذوا موقفًا مشابِهًا من جرائم الشاه، بما يخالف ادّعاءاتهم. ولهذا السبب بالذات، لم يكن الإمام الخمينيّ يعتمد آراء ومواقف الدول الأجنبيّة والمنظّمات الدوليّة أساسًا للتقييم، أو انطلاقه للمواقف التي يتّخذها، سواءٌ أكان قبل انتصار الثورة أو بعدها. إذ كان سماحته يعتقد - وقد صرّح بذلك مرارًا عبر خطاباته- بأنّ هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن،

 

112


106

الحرب المفروضة، ثماني سنواتٍ من الدفاع المقدّس

ومنظّمة الدفاع عن حقوق الإنسان، ليست سوى أدواتٍ بأيدي المتسلّطين الدوليّين، تمامًا كادّعاء الشيوعيّين والاتّحاد السوفياتيّ، بحرّيّة الشعوب، ومناهضة الإمبرياليّة، والذي لا يتطلّعون من ورائه سوى تحقيق اهدافهم. بل وأكثر من ذلك، لفت الإمام الخمينيّ -وبناءً على هذه الحقائق- نظر مسؤولي النظام الإسلاميّ، إلى عيارٍ جديدٍ لتقييم مستوى أدائهم، بقوله: "في اليوم الذي تُبادِر فيه المؤسّساتُ الدوليّة وأميركا والغرب إلى مدحكم والاعتراف طواعيّةً بشرعيّتكم، وبثورتكم، عليكم أن تشكّوا في سلامة مسيرتكم وحقّانيّتكم!".

 

◄| الحرب المفروضة، ثماني سنواتٍ من الدفاع المقدّس

إنّ الفشل الذريع الذي مُنِيَ به المشروع الأميركيّ، الذي استهدف النظام الجمهوريّ الإسلاميّ، من خلال الحصار الاقتصاديّ والسياسيّ، وكذلك فشله في عمليّاتها العسكريّة، لإطلاق سراح الجواسيس الأمريكيّين، بالهبوط في صحراء طبس، بعد احتلال وكر التجسّس الأميركيّ، وإحباط مساعيها في فصل كردستان عن الوطن الأمّ، ذلك كلّه دفع الحكومة الأميركيّة، عام 1980م، إلى تجربة الهجوم العسكريّ المباشر، بيد أنَّ الموازنات الدوليّة بين الشرق والغرب، الحاكمةِ -آنذاك- حالت دون قيام أميركا بالهجوم المباشر بقوّاتها. فالرأي العامّ العالَميّ قد تأثّر – نسبيًّا - بأفكار الإمام الخمينيّ ونشاطاته السياسيّة، التي اطّلع على جزءٍ منها في فرنسا، وعبر الحوادث التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة، ممّا ساهم في كشف النقاب عن مظلوميّة إيران وحقّانيّة مطالب الشعب الإيراني، ثمّ دفع الرأي العام العالَميّ للتعاطف معه. كذلك، لم تكن ظروف الأنظمة المتزلزلة في الخليج الفارسيّ، تسمح باستيعاب ردود الفعل الناجمة عن الهجوم الأميركيّ المباشر.

 

لكلّ ذلك، تمَّ اختيار العراق، للقيام بدور إشعال هذه الحرب، وهو اختيارٌ محسوبٌ من النواحي كافّةً. فالعراق بلدٌ يسير في ركاب الاتّحاد السوفياتيّ، والكتلة الشرقيّة. ودخوله في حربٍ مع إيران، سيؤدّي إلى وقوف الاتّحاد

 

113


107

الحرب المفروضة، ثماني سنواتٍ من الدفاع المقدّس

السوفياتيّ والشيوعيّين إلى جانب صدّام، وبالنتيجة، إلى جانب أميركا وأوروبّا، ممّا سيمنع ظهورَ أيّة ردود فعلٍ سلبيّةٍ. كذلك، فإنّ العراقَ يُعَدُّ ثاني بلدٍ في المنطقة، من حيث الإمكانات التسليحيّة، وهو بلدٌ نفطيٌّ، يمكنه الصمود في حربٍ طويلة الأمد، اعتمادًا على ثرواته وعلى مساعدات دول الرجعيّة العربيّة في المنطقة، دون الاحتياج إلى دعم أميركا أو أوروبّا ماليًّا أو عسكريًّا، على الرغم من أنّ التوقّعات الأوّليّة لكلٍّ من أميركا وصدّامٍ، كانت تأمل بحربٍ قصيرة الأمد، تقود إلى القضاء على الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بسرعة خاطفة.

 

من جانبٍ آخر، ساعدت النزعة التسلّطيّة لصدّام، والنزاعات الحدوديّة السابقة بين العراق وإيران، إلى حدٍّ كبيرٍ، في دفع صدّامٍ إلى الاعتداء، واحتلال قسمٍ من الأراضي الإيرانيّة.

 

ومع أنّ العالَم امتنع عن قبول الأدلّة والوثائق التي قدّمتها إيران خلال الحرب، لإثبات مدّعاها في ضلوع أميركا وأوروبّا والاتّحاد السوفياتيّ في إشعال شرارة الحرب، فإنّ الأسرار التي انكشفت بعد حرب النفط بين أميركا وصدّام (حرب احتلال الكويت)، والوثائق التي نُشِرَت فيما بعد، أكّدت هذه الحقيقة، بما لا يدع مجالًا للشكّ.

 

على أيّة حالٍ، بدأ الهجوم العسكريّ العراقيّ (في 22 أيلول 1980م) على طول الحدود المشتركة البالغة 1280 كم، ومن أقصى نقطةٍ في الشمال الإيرانيّ إلى أدنى نقطةٍ - ميناء خرمشهر - في جنوبها. وتزامن الهجومُ البريُّ مع هجومٍ جوّيٍ طال مطار طهران، الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم ـ ومطارات المدن الإيرانيّة المهمّة الأخرى.

 

114


108

الحرب المفروضة، ثماني سنواتٍ من الدفاع المقدّس

و تمكّنت الماكنة العسكريّة الصدّاميّة -التي تمَّ إعدادُها، بمساعدة فرنسا وشركات الأسلحة الأميركيّة والإنجليزيّة والمعدّات العسكريّة الروسيّة، للقيام بهذا الهجوم- من النفوذ بسرعةٍ لعدّة كيلومتراتٍ داخل المحافظات الحدوديّة الخمس. وتعرّضت المقاومة الشعبيّة المحدودة إلى ضربةٍ قويّةٍ من قِبَلِ الجيش العراقيّ، نتيجة عنصر المباغتة الذي كان لصالح القوّات الغازيّة، ونظرًا لغياب التسليح والخبرة الكافيتَين. وبسرعةٍ مدهشةٍ، تمّ تخريب المدن والقرى المحتلّة، وتحوّلت إلى أنقاض، وشُرِّدَ مئات الآلاف من بيوتهم وقراهم ومدنهم.

 

أمّا الجيش الإيرانيّ، ونتيجةً لحوادث الثورة، فقد كان مصابًا بالإرباك والتفكّك، وكان يُمضي مراحلَه الأولى في إعادة البناء والتنظيم. فقد غادر الآلاف من الخبراء العسكريّين الأجانب - والأمريكيّون بالتحديد - إيران، بعد انتصار الثورة. كما إنّ العديد من التجهيزات العسكريّة المتطورة والطائرات الحديثة والصواريخ - التي كان الشعب الإيرانيّ قد دفع أثمانها من كَدِّهِ - تمَّ نقلُها، في الأيّام الأخيرة من حكومة النظام الملكيّ البائد - بمساعي الجنرال هايزر، التي استمرّت على مدى شهرين - إلى أميركا.

 

كذلك، فإنّ الحرس الثوريّ - الحديث العهد، والذي تمَّ تشكيله بناءً على بيانٍ أصدره سماحة الإمام - لم يكن يمتلك التجهيزات والخبرة الكافية في الأيّام الأولى من الحرب، مضافًا إلى أنّ صدّام حسين، كان يعلم بهذه التفاصيل كلّها، بناءً على المعلومات التي زوّدته بها أميركا وفرنسا وعملاء الطابور الخامس. لذا، كان قد أعدّ، حتّى خرائط "العراق الكبير"، مضيفًا فيها، إلى أراضي العراق الحاليّة، مناطق شاسعةً من محافظة خوزستان، ومن المحافظات الغربيّة الإيرانيّة. لقد كان واثقًا أنّ النظام الإسلاميّ عاجزٌ عن مواجهة هذا الجيش الجرّار، وسيُهزَم سريعًا، كما إنّ الاستكبار العالَميّ كان يدعمه ويقف وراءه.

 

لقد قُوبِل خبر اندلاع الحرب العراقيّة الإيرانيّة - على الرغم من أهمّيّته - بالصمت المطبق من قِبَلِ المنظّمات الدوليّة والقوى الكبرى كافةً. إنّ هذا السكوت المغرِض، والعداء المتأصّل في نفوس الدول الكبرى تجاه الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، والظروف التي كانت تمرّ بها البلاد، والقدرة العسكريّة البعثيّة، كلّها عوامل عقّدت عمليّة اتّخاذ القرار. ووقفت إيران إمام مفترق

 

115

 


109

الحرب المفروضة، ثماني سنواتٍ من الدفاع المقدّس

طريقَين، إمّا الإصرار على المقاومة في حربٍ غير متكافئةٍ يلفّها - حسب الظاهر - الغموض والإبهام، أو القبول بشروط أميركا واللجوء إليها للضغط على صدّام، وإجباره على الانسحاب. وكان الخيار الثاني يعني التخلّي عن الثورة وعن الإسلام.

 

غير أنَّ هذه الظروف، على الرغم من تعقيدها كلّه، لم تستطع أن تترك تأثيرها على الإمام الخمينيّ، في تشخيص مسؤوليّته واتّخاذ قراراته المصيريّة. لقد كان الإمام يؤمن بقوله تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ إيمانًا شهوديًّا. كما إنه كان قد طوى - وقبل أن يتسنّم مقام قيادة الأمّة بسنواتٍ - مراتب "الفناء في الله"[1]، ودرّس "الأسفار الأربعة"[2] - التي تمثّل هجرة الإنسان الكامل - لعدّة سنواتٍ، ناهيك عن أنّه قد طوى تلك الأسفار بمنتهى الكمال عمليًّا. هذا، فضلًا عن أنّ سماحته قد ضمّن رسالته العمليّة أحكام الجهاد والدفاع، كونها أحكامًا إلهيّةً لا يمكن تخطّيها. وإنّ بمقدور أيّ شخصٍ، لو كان محيطًا بأبعاد شخصيّة الإمام الخمينيّ وسيره التكامليّ، أن يحدس نوع المسار الذي اتّخذه الإمام عند المفترق الذي ذكرناه.

 

إنّ أوّل ردّ فعلٍ صدر عن الإمام، وأوّل بيانٍ أصدره، وأوّل حديثٍ ألقاه، بعد الحرب واعتداء الجيش العراقيّ، يثير الدهشة، ويستحقّ التأمّل، من حيث التعرّف على شخصيّة الإمام، ومنهجه في القيادة، وهو أمرٌ لا يتّسع المجال هنا للخوض في تفاصيله. لقد أصدر الإمام أمره - على الفور - بالمقاومة، وأشار في أوّل تحليلٍ له عن الهجوم، إلى تحميل أميركا المسؤوليّة الكاملة عن إشعال شرارة هذه الحرب، وطمأن الجماهير، بصراحةٍ، إلى أنّهم منتصرون لا محالة، وأنّ العدوّ مهزومٌ قطعًا، إذا كان نهوضهم لرّد العدوان من أجل الله، وعَدِّه تكليفًا شرعيًّا، على الرغم من أنّ الظروف كلّها كانت تبدو خلاف ذلك.


 


[1] "الفناء"، مصطلحٌ عرفانيٌّ يُراد به التعبير عن حالة فناء العبد في الحقّ "الله" -بمعنى فناء الجنبة البشريّة في الجنبة الربوبيّة، وهو نهاية سير العبد نحو الله- وبعد الربوبيّة يأتي دور العبوديّة، الذي تقرُّ فيه ذات العبد وتعترف- إذ إنّ سلوك العبد من مقام الذات نحو الكمالات، يبدأ بالصعود، حتّي يصل إلى مقام العلم بجميع الأسماء، عدا تلك التي خصّ الباري - تبارك وتعالى - بها ذاته. وما إن يصل العبد إلى هذا المقام، حتي تكون صفاته وأفعاله فانيةً في صفات الحقّ وأفعاله. وفي هذا المقام، يحصل له مقام "الفناء في الفناء"، الذي يمثّل مقام إخفاء الفناء.

[2] كتاب "الأسفار الأربعة" هو أحد كتب الفيلسوف الإسلاميّ الكبير صدر المتألّهين. يقسّم صدر المتألّهين المسائل الفلسفيّة -بوصفها نوعًا من السلوك المختصّ بالذهن- إلى أربعة أقسامٍ، هي: 1- السفر من الخلق إلى الحقّ: ويشمل الأمور التي تُعَدّ أساسًا ومقدّمةً لبحث التوحيد، وفي الحقيقة، سير الفكر البشريّ. 2- السير بالحقّ في الحقّ: ويشمل مباحث التوحيد ومعرفة الله وصفاته. 3- السير من الحقّ إلى الخلق بالحقّ: ويشمل مباحث الأفعال الإلهيّة. 4- السير في الخلق بالحقّ: ويشمل مباحث النفس والمعاد. ويُعَدّ الكتاب من أشهر كتب صدر المتألّهين، وأكثرها تداولًا في الحوزات العلميّة.

 

116


110

الحرب المفروضة، ثماني سنواتٍ من الدفاع المقدّس

وفي اليوم التالي من عدوان النظام العراقيّ على الأراضي الإيرانيّة، وجّه الإمام الخمينيّ بيانًا إلى الشعب الإيرانيّ المسلم، أوضح فيه الخطوط العامّة لكيفيّة إدارة الحرب وشؤون البلاد، ولخّص ذلك في سبعة بنودٍ قصيرةٍ غايةً في الإيجاز والدقّة. ثمّ أصدر، بعد ذلك، عدّة بياناتٍ، وجّهها إلى الجيش البعثيّ والشعب العراقيّ، لإتمام الحجّة عليهما. ثمّ شرع بإدارة الحرب وتوجيهها، لمدّة ثمانية أعوامٍ، بأسلوبٍ قلَّ نظيره.

 

في الأيّام الأوّلى من الحرب، توجّه عشرات الآلاف من أبناء الشعب إلى جبهات الحرب، متطوّعين -استجابةً لبيان الإمام- لمساعدة القوّات المسلحة. وتمَّ في المرحلة الأولى، إيقافُ تقدّم العدوّ، بفضل مقاومة المقاتلين المسلمين وتضحياتهم. كان القتال غير متكافئ إلى حدٍّ كبيرٍ. بَيد أنّ الإمام الخمينيّ، اتّكل -كعادته- على الله والمؤمنين به، فراح -وعبر البيانات والخطابات المتوالية- يهيّئ الأمّة لحربٍ طويلةٍ وعصيبةٍ، إذ إنّ سماحته كان يعتقد -مستندًا في ذلك إلى الآيات القرآنيّة الواضحة- بوجوب الدفاع حتّى إزالة العدوان ومعاقبة المعتدّي.

 

بعد عدّة أيّامٍ من بداية الحرب، خاطب الإمام الخمينيّ سفراء الدول الإسلاميّة المقيمين في طهران، بالقول: "إنّنا ندافع عن الإسلام. والمدافعون عن الإسلام يُضَحّون بأرواحهم وأموالهم وأعزّائهم من أجله، ولن يتراجعوا عن ذلك أبدًا".

 

في هذا اللقاء، وفي مناسباتٍ أخرى، ومن خلال رسائل خطّيّةٍ وبياناتٍ رسميّةٍ، طالب الإمامُ الخمينيّ قادةَ الدول الإسلاميّة أن يعملوا، إن كانوا يرَون في صدّام الملحد رجلًا مسلمًا بحكم الآية القرآنيّة التي تنصّ: ﴿أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾[1].

 

◄| لماذا استمرّت الحرب؟

كان صدّامٌ قد وعد قوّاته بانتصارٍ خاطفٍ لا يستغرق سوى ثلاثة أيّامٍ. لذا، لم يرَ الجيش العراقيّ ضرورةً للاستعداد لحربٍ طويلةٍ مدمّرةٍ. لكنَّ القوّات العراقيّة، فوجِئَت - وقبل أن تتمكّن من تحقيق أهدافها المرسومة - بصلابة مقاومة الشعب الإيرانيّ، وقوّة صموده. وانتهت مساعي القوّات العراقيّة

 


[1] سورة الحجرات، الآية 9.

 

117


111

لماذا استمرّت الحرب؟

لاختراق الخطوط الدفاعيّة، بالفشل، في كلّ مرّةٍ، بعد تحمّلها لخسائر فادحةٍ. ورويدًا رويدًا، اتّضح لأميركا خطأ حساباتها ومرارة هزيمتها. فبدأت مرحلةٌ جديدةٌ من الضغط السياسيّ ضدّ إيران، عن طريق المنظّمات الدوليّة والبلدان العربيّة. فهؤلاء، وبدلًا من إدانة المعتدي، بادروا إلى الضغط على إيران الإسلاميّة لقبول وقف إطلاق النار. والحال أنّ القبول بوقف إطلاق النار، في تلك الظروف، كان يعني مكافأة صدّامٍ المعتدي على عدوانه، وتحقيق هدفه وهدف أعداء الثورة، الذي عجزوا عن تحقيقه خلال جبهات الحرب.

 

إنّ إيران لم تشنّ الحرب لكي تبادر إلى إيقافِها، وقد وقفت بوجه المعتدي في أحلك الظروف لمنع المزيد من تقدّمه. كما إنّ العدوّ احتلّ عشرات المدن ومئات القرى ومساحاتٍ شاسعةً من المناطق النفطيّة في غرب البلاد وجنوبها، كما إنّ الحرب ليست دائرةً على طرفَي الحدود بين البلدين، حتّى يُصَار إلى مطالبة من وقع عليه الهجوم، بالقبولِ بوقف إطلاق النار. وعلى فرض أنّ صدّامًا لا يريد مِن وقف إطلاق النار التقاطَ أنفاسه واستعادة قواه لمعاودة المحاولة لتحقيق أهدافه، فإنّ قبول وقف إطلاق النار مِن قِبَل إيران، كان يعني أنّ القوّات العراقيّة المعتدية، ستبقى في عمق الأراضي الإيرانيّة، ممّا سيضطرّ الجمهوريّة الإسلاميّة إلى تقديم تنازلاتٍ كبيرةٍ، ولسنواتٍ عديدةٍ، حتّى تتمكّن من استرداد كلّ مترٍ مربّعٍ من أراضيها المحتلّة، وستُجبَر على استجداء المنظّمات الدوليّة والسماسرة السياسيّين، وأخيرًا، العامل الأصليّ لإشعال الحرب (أميركا)، لمساعدتها في استرداد أراضيها.

 

وهذا منطقٌ لا يرضاه أيُّ حرٍّ غيورٍ، ناهيك عن الإمام وجماهيره الذين خرجوا منتصرين للتوّ من معركة الثورة ضدّ أشدَّ الملوك استبدادًا في المنطقة.

 

هذا، فضلًا عن أنّ صدّامًا لم يقدّم أيّة ضماناتٍ في تلك المقترحات المطروحة كلّها، بشأن سرعة انسحابه من الأراضي الإيرانيّة، بل إنّه ادّعى، رسميًّا، بأنّ المناطق المحتلّة - وحتّى التي لم تقع تحت الاحتلال بعد - يجب أن تُلحَق بالأراضي العراقيّة! وهذا الادّعاء مشابهٌ لِمَا ادّعاه عند احتلاله الكويت، حينما أطلق عليها اسم المحافظة العراقيّة التاسعة عشرة!

 

والحقيقة أنّ أيًّا من الدول التي بادرت - بعد اتّضاح حقيقة عجز صدّامٍ عن إسقاط نظام الجمهوريّة الإسلاميّة - إلى الحديث عن وقف إطلاق النار، والضغط على إيران لقبول الصلح، لم يكونوا يرغبون

 

118

 


112

لماذا استمرّت الحرب؟

في السلام حقيقةً، وهم يعلمون مسبقًا، بأنَّ أيّ شعبٍ وأيّ بلدٍ لا يمكنه، في ظروفٍ كهذه، القبول بالاستسلام. والسلام كان، بالنسبة لهم، عصًا يسلّطونها على إيران، لعزلها وإزوائها. والأهمّ من ذلك كلّه، أنَّ الدول الرجعيّة العربيّة، كانت تهدف من ادّعاء السعي للسلام، وإيقاف إطلاق النار، التخفيفَ من حِدّة الضغط الذي كانت تتعرّض له من شعوبها الإسلاميّة، لممارستها الدعم والدفاع بإمكاناتها كلّها عن مُعتَدٍ معروفٍ كصدّامٍ، والوقوف بوجه بلدٍ سخّر وجودَه وإمكاناته كلّها للدفاع عن الإسلام.

 

إنّ أميركا، والدول الأوروبّيّة والعربيّة، لم تكن صادقةً في دعوتها للسلام. وإنّ أسطع دليلٍ على ذلك، والذي يغنينا عن عرض أيّة وثيقةٍ أو مستندٍ، هو أنَّ صدّامًا، وبعد أوّل سلسلةٍ من العمليّات العسكريّة الناجحة التي قامت بها إيران، في العام الثاني من الحرب، لم يتمكّن من الصمود حتّى لفترة شهرٍ واحدٍ، دون الاعتماد على المساعدات الماليّة الهائلة التي قدّمها له الشيوخ العرب، ودون الاستفادة من التجهيزات العسكريّة المتطوّرة التي قدّمتها له الدول الغربيّة. فلو كانوا صادقين في ادّعاءاتهم، لكفاهم قطع الإمدادات عن صدّامٍ، بدلًا من المشاركة في المقاطعة التسليحيّة والاقتصاديّة والنفطيّة ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.

 

إنّ جرم إيران هو أنّها قاومت العدوّ الذي غزا أرضها، وعرّض آلاف الأبرياء للمذابح البشعة خلال الأيّام الأولى من عدوانه، وشرّد مئات الآلاف عن ديارهم. وعلى الرغم من أنَّ الدول العربيّة، التي وقفت مع صدّامٍ، قدّمت اعتذاراتها الرسميّة إلى إيران -بعد احتلال صدّامٍ للكويت- وأقرّت بأخطائها، إلّا أنّ ذلك لا يقلّل من جسامة مسؤوليّتها وجريمتها مع الدول الغربيّة وصدّامٍ في استمرار الحرب، وإطالة أمدها.

 

وفي ضوء الاستدلالات التي تقدّمت، كان الإمام الخمينيّ يواجه الهيئات والوفود، التي كانت تفد إلى إيران، للتوسّط من أجل وقف إطلاق النار، ويعلن صراحةً بأنّه وشعبه سيواصلان الدفاع، حتّى إخراج

 

119


113

لماذا استمرّت الحرب؟

المعتدي، وإجباره على دفع خسائر هذه الحرب. غير أنّ الصخب الإعلاميّ الغربيّ كان شديدًا، بدرجةٍ حالت دون وصول صوت مظلوميّة الشعب الإيرانيّ إلى أسماع العالَم.

 

لقد قُلِبَت الحقائق شيئًا فشيئًا، وأُظهِرَت إيران على أنّها عدوانيّة الطبع، وأنّ صدّامًا راغبٌ في السلام. بيد أنّ هذه الضغوط، وهذا التزوير، عجز عن التأثير في موقف الإمام والشعب الإيرانيّ الصلب والثابت. وبعد عزل بني صدرٍ، ورسوخ نهج الإمام في أركان الجهاز التنفيذيّ، أخذت سلسلةُ عمليّة تحرير الأراضي المحتلةِ وتيرةً أسرع، بجهود الحرس الثوريّ.

 

120


114

لماذا استمرّت الحرب؟

قبل ذلك، كان أمر الإمام الخمينيّ، بإعلان التعبئة العامّة، وتشكيل جيش العشرين مليون، قد لقي ترحيبًا من الشبّان الثوريّين، وعمّت أنحاء إيران حركةٌ دؤوبةٌ تميّزت بإقامة الدورات التدريبيّة، وإيفاد الأفراد إلى جبهات القتال، وقادت الانتصاراتُ المتواليةُ لمقاتلي الحرس الثوريّ إلى ظهورِ آثارِ الاندحار والهزيمة في صفوف العدوّ البعثيّ، بشكلٍ جليٍّ. وبالتدريج، أخذ الوجهُ الحقيقيُّ لأميركا وحلفائها يظهرُ، فانهالت الأسلحة المتطوّرة - التي كان يتمّ بيعُها ضمن شروطٍ صعبةٍ ومفاوضاتٍ قد تستغرق عدّة سنواتٍ، حتّى في حالات السلم، ويمثّل تزويد البلدان بها نوعًا من الامتياز- بسرعةٍ على صدّامٍ، بما في ذلك صواريخ (كروز) وطائرات (السوبر اتندار) الفرنسيّة. كذلك، توافدت شحنات صواريخ (سكود) المتوسّطة المدى، وطائرات (الميغ 29)، وسائر التجهيزات العسكريّة الروسيّة على صدّامٍ، بلا انقطاعٍ، لتقوية ماكنته العسكريّة الحربيّة. حتّى إنّ تقنيّة زيادة مدى الصواريخ وموادّها الأوّليّة، وتقنيّة صناعة الموادّ الكيميائيّة، أُهدِيَت هي الأخرى مِن قِبَل الشركات الأميركيّة والأوروبّيّة إلى صدّامٍ، لكي يتمكّن من التفوّق على الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

وفي هذه الأثناء، أجبَرت أميركا المملكةَ العربيّة السعوديّة والكويت والإمارات العربيّة المتّحدة ودولَ الخليج الفارسيّ الأخرى، على تأمين ميزانيّة الحرب الصدّاميّة، وقد اعترفت هذه البلدان بذلك صراحةً أثناء الغزو العراقيّ للكويت. والعراق اليوم، مدينٌ بأكثر من 80 مليار دولارٍ لتلك الدول، عن المساعدات التي قدّمتها له طوال سنوات الحرب الثماني. أمّا مصر، ففضلًا عن تقديمها الطيّارين والطائرات، فقد أرسلت عدّة آلافٍ من الجنود المصريّين للمشاركة في الحرب، وكان للأردن دورٌ داعمٌ مشابهٌ.

 

القصف المكثّف للمدن والقرى والمراكز الاقتصاديّة، وإطلاق الصواريخ المخرّبة على الأحياء السكنيّة،

 

121


115

لماذا استمرّت الحرب؟

كانت حلقةً أخرى في سلسلة جرائم صدّامٍ، التي أغمض المجتمع الدوليّ والدول المتشدّقة بالدفاع عن حقوق الإنسان عيونَها عنها، وهيّأت، بدلًا من الشجب والاستنكار، وسائلَ تنفيذ تلك الجرائم لصدّامٍ. وكان ضحيّة تلك الاعتداءات، مئاتِ القتلى من الأطفال والنساء العزّل.

 

وقد قاد الإمام الخمينيّ الدفاعَ المقدّسَ للشعب الإيرانيّ، في ظروفٍ كانت إيران تعاني رسميًّا من الحصار التسليحيّ، الذي فرضته أميركا وأوروبّا، وكانت مضطرّةً، أحيانًا، للعمل لعدّة أشهرٍ من أجل الحصول على قطعة غيارٍ واحدةٍ لإحدى طائراتها. إنّ الكثير من دول العالَم، إمّا أنّها اختارت السكوت في مقابل تلك الاعتداءات، ومارست الضغط ضدّ إيران، أو إنّها وقفت رسميًّا إلى جانب صدّامٍ، ودافعت عنه. كما إن أكثر الدول المصنّعة للسلاح في العالَم - سواءٌ الشرقيّة أو الغربيّة - دعمت صدّامًا ووقفت إلى جانبه.

 

وقفت إيران وحيدةً فريدةً تدافع عن نفسها، ولم يكن للشعب من دعامةٍ يستند إليها، غير الإيمان بالله، والإمدادات الغيبيّة، وتوجيهات هذا العالِم الربّانيّ. والمدهش أنّ هذه الجبهة المظلومة الوحيدة، تمكّنت، في النهاية، من تحقيق النصر، وملاحقة العدوّ خطوةً بخطوةٍ، حتّى عقر داره.

 

ثماني سنواتٍ من حياة الإمام الخمينيّ، مضت في قيادة هذا الدفاع المقدّس. وممّا يُذكَر، أنّه في العام الثالث للحرب، وبعد نجاح عمليّات بيت المقدس الكبرى -حزيران عام 1982-م التي انتهت بتحرير ميناء خرّمشهر الاستراتيجيّ من أيدي القوّات العراقيّة، أبدى الإمامُ رغبتَه في ضرورة إنهاء الحرب، وحصر نشاط القوّات الإيرانيّة في الدفاع، إلّا أنّ مسؤولي النظام الإسلاميّ الملتزمين، بما في ذلك القادة العسكريّون والمسؤولون السياسيّون في البلاد، أعربوا للإمام - بعد دراسة الظروف السياسيّة والعسكريّة التي تمر بها البلاد، واوضاع الجبهات- عن اعتقادهم بضرورة مواصلة القتال، حتّى تحقيق الظروف المناسبة لإقامة سلامٍ دائمٍ. وقد دافعوا عن رأيهم هذا، بأنّ قسمًا من الأراضي الإيرانيّة ما زال تحت سيطرة القوّات العراقيّة المعتدية، كذلك، فإنّ صدّامًا، وعلى الرغم من الهزيمة الساحقة التي مُنِيَ بها بعد تحرير خرّمشهر، لم يكن مستعدًّا بعدُ لقبول الأمر الواقع، والتراجع عن أهدافه التوسّعيّة، فهو لم يكن يفكّر بالسلام، وإنّما كان يفكّر -نتيجةً لاعتماده على الدعم اللامتناهي الذي وفّرته له الدول الكبرى- بجبران هزيمته، وذلك عبر إعادة تسليح قوّاته، ومعاودة الهجوم العسكريّ على إيران. لذا، فإنّ

 

122

 


116

لماذا استمرّت الحرب؟

السلام في ظروفٍ كهذه لا يمكن الاطمئنان إليه، وإنّ صدّامًا ما يزال مصرًّا على ادّعاءاته السابقة. ومن هنا، فإنّ إيقاف الحرب من جانب إيران، سيجعل المدن المحرّرة والمناطق الحدوديّة، عرضةً للهجمات العراقيّة المحتملة في المستقبل، فتكون غير قادرةٍ على الدفاع عن نفسها.

 

استنادًا إلى الأدلّة المتقدّمة، ونظرًا لِما كانت تمارسه المنظّمات الدوليّة من الكيل بمكيالَين، وعدم قبولها بالشروط الإيرانيّة المنصفة لإنهاء الحرب، ومواصلة القِوى الكبرى دعمَ الماكنة العسكريّة العراقيّة وتقويتها، ذلك كلّه كان سببًا في دفع القائد والشعب الإيرانيّ، إلى القبول بمواصلة الدفاع المقدّس.

 

لم تؤدِّ المساعداتُ المختلفةُ التي كانت تُقَدَّم إلى صدّامٍ، إلى تغيير ظروف الحرب التي كانت تتبدّل بسرعةٍ لصالح جيش الإسلام. وتزامنًا مع تصعيد القصف الصاروخيّ للمناطق السكنيّة، اضطرّت أميركا للتدخّل في الحرب بصورةٍ مباشرةٍ، فتوجّهت حاملاتُ الطائرات والسفنُ الحربيّة الفرنسيّة والبريطانيّة والأميركيّة والروسيّة صوبَ مياه الخليج الفارسيّ. ولم يبقَ أمام أميركا من خيارٍ، سوى تدويل الحرب، وتوريط دولٍ أخرى فيها، فبدأت حرب ناقلات النفط. وقد تركّزت مهمّة القوّات الوافدة إلى المنطقة على منع تصدير النفط الإيرانيّ، وإيقاف السفن التجاريّة وتفتيشها، للحيلولة دون وصول الموادّ الأوّليّة والبضائع الأساسيّة إلى الجمهوريّة الإسلاميّة. وفي هذا الإطار، تعرّضت العديد من السفن النفطيّة الإيرانيّة إلى هجماتٍ صاروخيّةٍ وجوّيّةٍ، كما أُضرِمَت النار في الآبار النفطيّة الإيرانيّة، في مياه الخليج الفارسيّ، وبلغ الأمر بأميركا أن أقدمت على ارتكاب جريمةٍ مروّعةٍ، وذلك بإطلاقها صاروخَين من حاملة الطائرات (و ينسنس)، نحو طائرة (إيرباس) مدنيّةٍ، تابعةٍ لخطوط الجمهوريّة الإسلاميّة (الرحلة رقم 655)، في شهر تمّوز 1988م، فأسقطتها، ممّا أدّى إلى استشهاد جميع ركّابها، وراح ضحيّة الحادث 290 شخصًا من الأطفال والنساء والرجال. وقد لاذ العالَم الظالمَ والبعيدَ عن الحقّ، بالصمت إزاء هذه الجريمة البشعة، لمجرّد أنّها وقعت بحقّ أناسٍ كانوا ينادون بالإسلام، وهو في نظر الغرب جريمةٌ لا تُغتَفَر! وهي جريمة البوسنيّين المظلومين اليوم نفسها، فهم يتعرّضون للإبادة بسبب ذنبهم هذا.

 

أمّا صدّامٌ، فقد ختم صحيفة جرائمه الوحشيّة، في الحرب المفروضة، بجريمةٍ قلَّ نظيرُها في التاريخ، إذ قام بقصف مدينة "حلبجة" العراقيّة بالأسلحة الكيماويّة، الأمر الذي أدّى إلى مقتل أكثر

 

123

 


117

لماذا استمرّت الحرب؟

من خمسة آلاف مواطنٍ أعزل، كان أكثرهم من الأطفال والشيوخ. وأمام هذه الجريمة البشعة، التزمت الأممُ المتّحدة ومجلسُ الأمن الصمت، ولم تنبسا ببنت شفةٍ.

 

إنَّ تجحفل قوّات الغرب في الخليج الفارسيّ، وما حصل خلال الأشهر الثمانية الأخيرة من الحرب، لم يكن إلّا لأنّ جيش الإسلام كان في موقعٍ متفوّقٍ تمامًا، على جيش العدوّ الصدّاميّ، الذي فرّ من أغلب المناطق المحتلّة، إلى ما وراء الحدود.

 

إنّ خشية سقوط صدّام المحتمل على أيدي أبطال الإسلام، أو هزيمته على الأقلّ، هي التي دفعت القوى الكبرى إلى المبادرة لدعمه ومساعدته. وفي هذا المجال، انصبّت جهود أميركا وهيئة الأمم المتّحدة،

 

124

 


118

لماذا استمرّت الحرب؟

وخلافًا لنهجهم السابق، على السعي لسدِّ الطريق أمام تقدُّمِ المقاتِلين الإيرانيّين، والحيلولة دون سقوط صدّامٍ.

 

إنّ مصادقة مجلس الأمن على القرار 598 -الذي تضمّن بعضَ آراء إيران ومطالبها لإيقاف القتال، التي كانت قد أصرّت عليها منذ بدء الحرب، لكنَّ المنظّمات الدوليّة لم تقبل بها في السابق، أملًا بانتصار صدّامٍ- إنّ المصادقة على هذا القرار من جهةٍ، والجرائم البشعة التي ارتكبها مُشعِلُو الحرب في الأشهر الأخيرة من الحرب من جهةٍ أخرى، دفعت الإمام إلى إصدار أوامره إلى لجنةٍ من الخبراء العسكريّين والسياسيّين والاقتصاديّين الإيرانيّين الملتزمين، بدراسةِ المستجدّات على ساحة المواجهة. وبعد دراسةٍ مستفيضةٍ، قدّمت اللجنة تقريرَها، الذي تضمّن الإشارة إلى أنّ الوقت مناسبٌ لإيران لإثبات حقِّها في هذا الدفاع المقدّس، الذي دام ثمانية أعوامٍ، وإنّ عليها أن تقبل بإيقاف الحرب على أساس القرار 598.

 

وفي 20/7/1988م، أصدر الإمام بيانَه المعروف باسم "بيان الموافقة على القرار"، الذي يُعَدُّ من أبرز الأدلّة على كفاءة قيادته وإدارته، ففي هذا البيان، استعرض سماحتُه خلفيّات الحرب المفروضة وأبعادَها بشكلٍ جليٍّ، ورسم الخطوط المستقبليّة للنظام والثورة الإسلاميّة، في مختلف المجالات، بما في ذلك المواجهة مع القوى الكبرى، والإصرار على الأهداف والقيم التي جاءت بها الثورة. وإنّ نعت الإمام الخمينيّ قبولَه بالقرار بمثابة "تجرُّعِ السّمِّ الزعاف" بذاته، يحمل بين طيّاته حقائق خفيّةً، ويتضمّن دقائق كثيرةً لا يسعُ المجال هنا لذكرها. لذا، نكتفي بذكر مقطعٍ من بيان الإمام الخمينيّ هذا، الذي يقول فيه: "وأمّا فيما يتعلّق بقبول القرار الدوليّ، الذي يُعَدُّ في الحقيقة موضوعًا شديدَ المرارة، صعبَ الاستمراءِ للجميع، خصوصًا بالنسبة لي، هو أنّي، ولفترةٍ قريبةٍ، كنتُ أؤمن بنهج الدفاع والمواقف المعلنة سابقًا، وكنتُ أرى بأنَّ مصلحة النظام والبلاد والثورة، هي في تنفيذ تلك المواقف. غير أنّ الحوادث والعوامل - التي لا أرغب الخوض في تفاصيلها الآن، وآمل أن تتّضح

 

125

 


119

لماذا استمرّت الحرب؟

مستقبلًا - والآراء التي اتّفق عليها الخبراء السياسيّون والعسكريّون من ذوي المقامات الرفيعة في البلاد، ممّن أثق بتديّنهم وإخلاصهم وصدقهم، دفعتني إلى القبول بالقرار الدوليّ، والموافقة على وقف إطلاق النار. وإنّي أعتبر ذلك الآن، في مصلحة الثورة والنظام. والله يعلم بأنّه لو لم يكن الدافع بأن نضحّي جميعًا بعزّتنا وكرامتنا على طريق مصلحة الإسلام والمسلمين، فإنّني لم أكن لأقبل بهذا الأمر مطلقًا، ولكان الموت والشهادة أحلى مذاقًا بالنسبة لي. ولكن، ما العمل، ونحن جميعًا مطالَبون بالإذغان لِما يُرضي الله – تعالى -. ومن المؤكّد أنّ الشعب الإيرانيّ الشجاع كان، وسيبقى على نهجه هذا".

 

وتمامًا كما حذّر الإمام، مرارًا، من أنّ ادّعاءات صدّامٍ للسلام، لا تعدو كونها محاولةً لتضليل الرأي العامّ، فقد أثبت الواقع ذلك. فبعد قبول إيران بالقرار الدوليّ، بادر صدّام حسين إلى الهجوم مجدّدًا، وارتكاب حماقةٍ جديدةٍ باندفاعه في الجبهات الجنوبيّة لاحتلال الأراضي الإيرانيّة. غير أنّ انتشار بيان الإمام الحماسيّ والعاطفيّ، أدّى، مرّةً أخرى، إلى إيجاد موجةٍ من التطوّع في صفوف قوّات التعبئة، وتجمّع الطاقات الثوريّة المقاتِلة، من أقصى نقاط البلاد، للتوجّه إلى المناطق الجنوبيّة. وقد أدّت سرعة تحرّكهم وتنظيم قوّاتهم إلى تكبيد العدوّ خسائر فادحةً، ومسارعته للفرار، ولم يبقَ أمام صدّامٍ من طريقٍ، سوى القبول بالهزيمة.

 

وبذا، وبمشيئة الله، وكما وعد الإمام الخمينيّ، فإنّ الشعب الذي فُرِضَت عليه الحرب، استطاع فرض السلام على عدوّه - المغرور سابقًا، والخائب حاليًّا - بفضل تضحياته وبطولاته وملاحمه التي لم نرَ مثيلًا لها إلّا في الحروب التي خاضها المسلمون الأوائل، في عصر صدر الإسلام.

 

لقد شن صدّامٌ الحربَ، بإيعازٍ من أميركا، لتقسيم إيران، والقضاء على الثورة الإسلاميّة، إلّا أنّه اليوم، مضطرٌّ، ومن أجل حفظ حياته ونظامه المفروض على الشعب العراقيّ المظلوم، إلى القبول بشروط الشعب الإيرانيّ الثائر.

 

126

 


120

لماذا استمرّت الحرب؟

ومن عجائب فترة الدفاع المقدّس الطويلة، التي خاضها الشعب الإيرانيّ، هو أنّ الشعب الإيرانيّ لم يتخلَّ، طوال هذه الفترة، عن نشاطه لِبنَاء إيران وإعمار الدمار الذي ورثه من النظام السابق. وخلال الفترة ذاتها، وفضلًا عن إدارته شؤون الحرب على أحسن نحوٍ، واصل تنفيذ مشاريعه الكبرى في إعادة البناء وتحديث إيران، بدءًا من مشاريع بناء السدود وشقّ الطرق العظيمة، وانتهاءً بمشاريع توسيع الاكتشافات والاستثمارات النفطيّة، وتوسعة محطّات الطاقة، وتحسين الشؤون الزراعيّة، وزيادة عدد الجامعات ومراكز البحوث في البلاد، وبقيّة الشؤون الأخرى المرتبطة بالتنمية الوطنيّة.

 

وبهذا النحو، انتهت حرب الثماني سنواتٍ، دون أن ينجح مُشعِلُو فتيلها في تحقيق أيّ هدفٍ من أهدافهم. ولم يبقَ النظام الجمهوريّ الإسلاميّ قائمًا وحسب، وإنّما تمكّن، ومن خلال الوحدة الوطنيّة لجماهيره المسلِمة، من القضاء على الطابور الخامس داخل البلاد، وحكّم قدرتَه وسيادتَه على مختلف أنحاء البلاد. أمّا على الصعيد الخارجيّ، فقد ظهرت الجمهوريّة الإسلاميّة كقوّةٍ لا تُهزَم، تمكّنت من ترسيخ حضورها الفاعل على الصعيد الدوليّ، وإثبات حقّانيّتها، على الرغم من الأعوام الثمانية من الإعلام المعادي المكثّف، واستطاعت إبلاغ رسالتها للعالَم. وطبيعيٌّ أنّها دفعت من أجل نهجها هذا ثمنًا باهظًا: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[1].

 

إنَّ من أعظم ذنوب صدّامٍ وخياناته وجميع الحكومات العربيّة - الإسلاميّة الظاهر - التي شجّعته على الاعتداء، ودعمته طوال فترة الحرب، فضلًا عن خيانته في هدر الطاقات الإنسانيّة والاقتصاديّة العظيمة للبلدَين كلَيهما (إيران والعراق)، هي أنّه، بفرضه هذه الحرب المشؤومة، أرجأ تحقيق الوحدة الإسلاميّة والثورة الإسلاميّة الكبرى لسنواتٍ طويلةٍ، بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقّق بعد سقوط النظام الملكيّ في إيران، وعرّض صفوفَ المسلمين إلى الفرقة والتشتّت. وبدلًا من الضغط بقوّةٍ على يد الأخوّة التي مدّها الإمام الخمينيّ، بعد 11 شباط (يوم انتصار الثورة)، من خلال بياناته وأحاديثه، إلى الحكومات الإسلاميّة، وقبول دعوته للاتّحاد وحلّ مشكلات العالَم الإسلاميّ وتحرير القدس، تراها وقفت إلى جانب أساطين الكفر. ومن الطبيعيّ أنّ هذا الطريق لا يقود إلّا إلى التسليم المذلّ أمام إسرائيل، والاعتراف رسميًّا بوجود هذه الغدّة السرطانيّة، واستقبال عساكر الكفر في بلدانهم،


 


[1] سورة محمّد، الآية 7.

 

127


121

لماذا استمرّت الحرب؟

وتسخير ثرواتهم القوميّة وأراضيهم، وكرًا لأميركا، ليمكّنها من الاستقرار في قلب العالَم الإسلاميّ، وفي مهبط الوحي.

 

إنّ الهجوم الصدّاميّ المجنون على الكويت، وتدميرَه لكيان هذه الدولة، والنتائج المرّة التي أسفرت عن الاحتلال، من تخريب البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة للشعب العراقيّ، والحضور الدائم لأعداء الإسلام في المنطقة، ليس إلّا جزاءً لهذا الذنب الذي لا يُغتَفَر ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾[1].

 

بعد الاستقرار النسبيّ للسلام، حدّد الإمام الخمينيّ للمسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة، عبرَ بيانٍ أصدره في 3/10/1988م، يتألّف من تسعة بنودٍ، النهج والبرامج اللازمة لإعادة إعمار البلاد. ويكفي لاستشراف عمقِ تفكير الإمام، والمكانة التي يؤمن بها للقيم الأصيلة، مطالعةُ هذا البيان بدقّةٍ.

 

وبعد مرور عشرة أعوامٍ من تجربة النظام الجمهوريّ الإسلاميّ، أصدر الإمام الخمينيّ، في 24/2/1989م -بدافع تعديل ركائز نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وتكميلها- أوامرَه، ضمن رسالةٍ بعث بها إلى رئيس الجمهورِيّة -وقتئذٍ- (آية الله الخامنئيّ)، بتشكيل هيئةٍ تتولّى تعديل الدستور على أساس ثمانية محاور، حدّدها في الرسالة، أهمّها إصلاحُ الموادّ المتعلّقة بالشروط اللازم توافرها في القائد، وتوحيد السلطة المركزيّة في القوّة التنفيذيّة والقضائيّة والإذاعة والتلفزيون، وتحديد مسؤوليّات مجمّع تشخيص مصلحة النظام.

 

وقد تمَّ طرح الموادّ الدستوريّة المعدَّلة، للاستفتاء الشعبيّ، في 3/12/1989م (بعد رحيل الإمام)، وصوّت عليها أبناء الشعب بأغلبيّةٍ مطلقةٍ.

 


[1] سورة الحشر، الآية 2.

 

128


122

نبوءة الإمام الخمينيّ بانهيار الماركسيّة

◄|نبوءة الإمام الخمينيّ بانهيار الماركسيّة

قام غورباتشوف - آخر رؤساء الاتّحاد السوفياتيّ المنحلّ - بإصلاحاتٍ وتغييراتٍ في بنية القطب الشيوعيّ العالَميّ. ولم يزل المحلّلون السياسيّون وقادةُ الغرب ينظرون بعين الشكّ والترديد إلى خطواته تلك، دون أن يصدّقوا بأنَّ مثل هذه التحوّلات التي تجري في هذا النظام الإلحاديّ ذي السبعين عامًا، ستمتدّ إلى جذوره العميقة، وإنّ أقصى ما توقّعوه هو أن يقوم قادة الكرملين، في النهاية، بإهمال بعض العلاقات المباشرة بين بلدان الكتلة الشرقيّة والاتّحاد السوفياتيّ، للتخفيف من المشكلات الاقتصاديّة الداخليّة، وتأسيس نظامٍ جديدٍ للشيوعيّة، يقوم على قيادةٍ أكثر محدوديّةً للاتّحاد السوفياتيّ، ومسؤوليّةٍ أكبر للبلدان التي تدور في فلكها. في حين أنَّ الإمام الخمينيّ، وببصيرته التي عجز عن دركها المحللون المادّيّون، بعث برسالةٍ - وقتئذٍ (1/11/1989م) - إلى غورباتشوف، توقّع فيها انهيار الماركسيّة، حيث كتب يقول: "مِنَ الآن فصاعدًا، ينبغي أن يُبحَثَ عن الماركسيّةِ في متاحفِ التاريخِ السياسيّ للعالَم".

 

عرض الإمام الخمينيّ، في تلك الرسالة، أعمق التحليلات عن التحوّلات الجارية في الاتّحاد السوفياتيّ، وعبّر عمّا يجري بـ "صوت تهشّم عظام الماركسيّة". والمثير للدهشة، أنّ الرسالة تضمّنت نبوءةً أخرى مشوبةً بالحذر، ممّا يشير إلى إحاطة الإمام الخمينيّ بالظروف السياسيّة العالَميّة، إذ حذّر سماحته بوضوحٍ، من ارتماء الروس في أحضان الرياض الخادعة للرأسماليّين الغربيّين، والانخذاع بما تطرحه أميركا.

 

لقد طالب الإمام الخمينيّ غورباتشوف بالإيمان بالله، بدل تعليق الآمال على المادّيّين الغربيّي،ن معتمدًا في مطالبته على عرض المسائل الفلسفيّة والعرفانيّة العميقة، مشيرًا إلى فشل الشيوعيّين في سياستهم في محاربة الأديان. يقول الإمام في رسالته: "إنّ المشكلة الأساسيّة لبلدكم، لا تكمن في مسألة الملكيّة والاقتصاد والحرّيّة، بل في عدم الاعتقاد الحقيقيّ بالله، وهي المشكلة نفسُها التي يعاني منها الغرب، والتي جرّته إلى الابتذال، ووصلت، أو ستصل به، إلى طريقٍ مسدودٍ".

 

129


123

الدفاع عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والقيم الدينيّة

إلّا أنّ القادة السوفيات – للأسف - لم يحملوا نصائح الإمام وتحذيراته محلّ الجدّ، ممّا أتاح للشركات الأميركيّة والأوروبّيّة أن تجعل من روسيا مضمارًا لمطامعها الاقتصاديّة، وتُعرّضها لنوعٍ جديدٍ من الاستثمار، الذي لا يحمل معه سوى الظلام والانتهاء إلى الطريق المسدود، إلّا إذا أفاقت الجماهير الروسيّة، وعادت إلى رشدها.

 

ويُذكَر أنّ "شيفار دنادزه" - وزير خارجيّة الاتّحاد السوفياتيّ آنذاك - حينما قَدِمَ يحمل ردّ الرئيس السوفياتيّ إلى الإمام الخمينيّ، ذُهِلَ عندما رأى هذا العملاقَ الصلب الذي يوجّه التحذيرات بصراحةٍ عجيبةٍ، إلى قادةِ ثاني قوّةٍ في العالَم، يعيش في بيتٍ صغيرٍ بسيطٍ في جماران، وفي غرفةٍ لا تتجاوز مساحتُها 12 مترًا مربّعًا، مُكتفيًا بوسائل وأثاثٍ في منتهى البساطة، ودون وجود أيّ أثرٍ للمراسم والتشريفات المعمول بها. أذهله أن يرى الإمام جالِسًا باطمئنانٍ واستقامةٍ كالطود، يضع إلى جانبه نسخةً من القرآن الكريم، وسجّادة صلاةٍ، ومسبحةً، وعددًا من الصحف، ومذياعًا صغيرًا. وقد ازداد دهشةً، حينما التفتَ إلى أنّه لا يوجد كرسيٌّ آخر يجلس عليه المسؤول الكبير الذي يرافقه، وأنّ على الأخير أن يجلس على الأرض، ولو لمرّةٍ واحدةٍ! ولعلّ وزير الخارجيّة السوفياتيّ ظنّ بأنّ قدح الشاي، مع حبّتي السكّر - الذي قدّمه له الشيخ العجوز الذي كان في خدمة الإمام - كان أمرًا متعمّدًا واستثنائيًّا. غير أنّ الحقيقة غير ذلك، فالإمام لم يغيّر أسلوبَه في العيش ببساطةٍ، خلال جميع أدوار حياته، سواءٌ حينما كان وحيدًا ومغتربًا ومنفيًّا، أو خلال عهد زعامته الدينيّة وقيادتة السياسيّة، وحتّى آخر لحظةٍ من عمره. ولم يقبل لنفسه أن يغيّر من أسلوبه أمام المقامات الدنيويّة الاعتباريّة، مهما كبرت وعظمت.

 

◄| الدفاع عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والقيم الدينيّة

بعد توقّف الحرب العراقيّة الإيرانيّة، بدأ القادة السياسيّون الغربيّون نوعًا جديدًا من الهجوم على الإسلام الثوريّ، إذ أدرك هؤلاء الساسة -ومن خلال الحرب العراقيّة الإيرانيّة، والمواجهة التي وقعت بينهم وبين حزب الله لبنان، ومن انطلاقة المنظّمات الفلسطينيّة الإسلاميّة، والجهاد الإسلاميّ للأفغان، ومن عمليّة اغتيال السادات على أيدي المسلمين الثوريّين المصريّين في 6/10/1981م أدركوا بأنّ الحركة الإسلاميّة تتنامى بشكلٍ مطّردٍ، ولا يمكن القضاء عليها بالسلاح وبالأسلوب العسكريّ. لذا، لجؤوا إلى فتح جبهةٍ جديدةٍ، يكون الصراع فيها على أساسٍ معنويٍّ وثقافيٍّ وأيديولوجيٍّ. ولمّا كان بثّ الفرقة بين المسلمين

 

130

 


124

نبوءة الإمام الخمينيّ بانهيار الماركسيّة

بإيحاءٍ مذهبيٍّ وطائفيٍّ قد فقد بريقَه نتيجةً لوعي الإمام الخمينيّ ومسؤولي النظام الإسلاميّ، توجّه هؤلاء لضرب الجذور والأسس المحرِّكة لهذا التيّار، والتي تتمثّل في المباني الاعتقاديّة والمقدّسات، التي أدّى عشقُها إلى توحيد الأهداف والأساليب بين مختلف اتّجاهات الحركة الإسلاميّة. فكان تنظيم الكتاب المبتذل "الآيات الشيطانيّة" لمؤلّفه "سلمان رشدي"، ونشره، ودعم الدول الغربيّة له بشكلٍ رسميٍّ، بدايةً لفصلٍ جديدٍ من الهجوم الثقافيّ.

 

ولو لم تُبدِ الأمّة الإسلاميّة ردّةَ فعلٍ إزاء المساس بشخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لتمّ الاستيلاء على الخندق الأوّل من خنادقها الدفاعيّة، ولتمَّ بعد ذلك الهجومُ على الأسسس الدينيّة والمقدّسات والاعتقادات بالغيب وسائر القيم المعنويّة في المجتمعات الإسلاميّة، بمختلف الأساليب. إنّ هويّة الفكر الدينيّ، والهويّة التي توحّد الأمّة الإسلاميّة، إنّما تتشكّل من هذه المقدّسات، وإنّ التشكيك بها يؤدّي إلى تضييع الهويّة الذاتيّة للعالَم الإسلاميّ والحركات الإسلاميّة، ويجرّدها من أيّ سلاحٍ، في مقابل الهجوم الثقافيّ والأيديولوجيّ الغربيّ.

 

واستنادًا إلى الحقائق والأسباب التي تقدّمت، فجّر الإمام الخمينيّ، في 14/2/1989م، ثورةً أخرى، بإصداره حكمًا مختصرًا، أعلن فيه ارتداد سلمان رشدي، وحكم عليه وعلى من ينشر كتابه بالإعدام، إذا كان مطّلعًا على محتوى الكتاب الداعي للكفر.

 

هبّ المسلمون للوقوف في وجه الغرب، بصفوفٍ مرصوصةٍ، بصرف النظر عن مذاهبهم وألسنتهم وبلدانهم. وقد أظهرت الأحداث التي نتجت عن هذه الواقعة، المجتمعَ الإسلاميَّ على أنّه أمّةً واحدةً، وأنّ المسلمين -على الرغم من اختلافاتهم الداخليّة والجزئيّة- متى ما توفّرت لهم القيادة السليمة، استطاعوا أن يلعبوا دورًا فاعلًا في حركة إحياء القيم الدينيّة في مستقبل العالَم. كذلك، بدّد إصدار هذا الحكم التصوّرات الغربيّة الواهمة، حول تخلّي إيران عن أهدافها الإسلاميّة الثوريّة، بمجرّد قبولها بالقرار 598.

 

131

 


125

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

◄| السنوات الأخيرة من عمر الإمام

نقل المقرّبون من الإمام الخمينيّ، في مذكّراتهم، خواطر وذكرياتٍ عن حالات سماحته وروحيّته في أواخر عمره، تشير إلى أنّ سماحتَه كان يحسّ قربَ أجلِه ودنوّ موعد لقاء المحبوب. وبصرف النظر عن حالات الإمام العرفانيّة في تلك السنوات، فإنّ هناك سماتٍ وخصوصيّاتٍ اتّسمت بها خطاباتُه وأحاديثه، ميّزتها عن سابقاتها، نشير فيما يلي إلى نماذج منها.

 

وقعت، في تلك السنوات، حوادث عديدةً، ثَقُلَ أثرُها على روح الإمام وقلبه، إحداها استشهادُ عددٍ كبيرٍ من الحجّاج الإيرانيّين المظلومين، إلى جوار بيت الله، وفي موسم الحجّ لعام 1987م.

 

كان الإمام يعتقد بشدّةٍ -استنادًا إلى مئات الآيات القرآنيّة الصريحة، وسنّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة أئمّة الدين، وما لا يُحصَى من الروايات المأثورة عن المعصومين عليهم السلام- بأنّ السياسة جزءٌ من الدين، وأنّ عمليّة فصل السياسة عن الدين، التي شاعت خلال العقود الأخيرة من هذا القرن، إنّما روّج لها المستعمرون، وأنّ النتائج المشؤومة لهذا الفصل واضحةٌ في العالَم الإسلامي،ّ وبين أتباع سائر الأديان الإلهيّة.

 

كان الإمام الخمينيّ يعتقد بأنّ الإسلام دينٌ لهداية البشريّة، في جميع مراحل الحياة الفرديّة والاجتماعيّة وأبعادها وأدوارها. ولمّا كانت العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة جزءًا لا يتجزّأ من حياة البشر، فإنّ الإمام الخمينيّ كان يرى أنّ الإسلام، الذي يهتمّ بالجوانب العباديّة والأخلاقيّة الفرديّة فحسب، ويصدّ المسلمين عن تقرير مصيرهم وعن المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة، إسلامٌ محرّفٌ، وعلى حدّ تعبير سماحته، "إسلامٌ أميركيٌ". كما إنّ سماحتَه كان قد انطلق بنهضته على أساس فكرة عدم الانفصال بين الدين والسياسة، وواصلها على هذا الأساس أيضًا.

 

132


126

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

لقد بادر الإمام الخمينيّ، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة -فضلًا عن تشكيل الحكومة الإسلاميّة، بأسلوبٍ يختلف تمامًا عن الأنظمة السياسيّة المعاصرة، أوضح أركانَه وأصولَه دستورُ الجمهوريّة الإسلاميّة- إلى إحياء شعائر الإسلام الاجتماعيّة، وإعادة الروح السياسيّة للأحكام الإسلاميّة. وما إحياء مراسم صلاة الجمعة، ومراسم صلاة الأعياد الإسلاميّة الكبرى في مختلف أنحاء البلاد، وإقامتها، على أنّها عقيدةٌ عباديّةٌ سياسيّةٌ، وطرح المسائل والمشكلات التي يتعرّض لها المجتمع الإسلاميّ داخل البلاد وخارجها، في خُطَبِ صلوات الجمعة والأعياد الدينيّة، وتغيير أسلوب مراسم العزاء والرثاء ومحتواه، إلّا نماذج بارزةً على ذلك.

 

إنّ أحد أبرز إنجازات الإمام الخمينيّ، إحياءُ الحجّ الإبراهيميّ.

 

فإلى ما قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، كانت مراسم الحجّ - بوحيٍ من رؤيةٍ خاصّةٍ وتبعيّة حكّام البلدان الإسلاميّة، وبالأخصّ حكّام السعوديّة - تُقام سنويًا بعيدةً عن روحها الواقعيّة. فقد كان المسلمون يؤدّون مناسك الحجّ، وهم غافلون تمامًا عن فلسفة تشريع هذا التجمع الدينيّ السنويّ

 

133


127

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

الكبير. ومع أنّ الحجّ، كما نصّت عليه الآية القرآنيّة ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾[1]، يُعتَبَر من أبرز مظاهر التلاقي وإعلان البراءة من المشركين، إلّا أنّ الناظر إلى الحجّ لا يرى أيّ أثرٍ من طرحٍ لمشكلات العالَم الإسلاميّ والبراءة من المشركين، في وقتٍ تعيش المجتمعات الإسلاميّة أحلك الظروف، وتتعرّض لهجمات المستعمِرين وإسرائيل، من كلّ ناحيةٍ.

 

و بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أكَّد الإمام الخمينيّ -من خلال بياناته السنويّة، التي كان يوجّهها إلى الحجّاج في موسم الحجّ- على وجوب اهتمام المسلمين بالأمور السياسيّة للعالَم الإسلاميّ، واعتبار إعلان البراءة من المشركين ركناً من أركان الحجّ، وتوضيح مسؤوليّات الحجيج في هذا الخصوص. وبالتدريج، اتّخذ مؤتمر الحجّ العظيم شكلَه الحقيقيّ، وصارت مسيرة البراءة تُقَامُ سنويًا بمشاركة عشرات الآلاف من الحجّاج الإيرانيّين والمسلمين الثوريّين من البلدان الأخرى، يردّدون خلالَها شعاراتٍ تطالب بإعلان البراءة من أميركا والاتّحاد السوفياتيّ وإسرائيل، باعتبارها مصاديق بارزة للشرك والكفر العالَميّ، وتدعو المسلمين إلى الاتّحاد. وتزامنًا مع هذه المراسم، كانت تُقَام المؤتمرات لتبادل الآراء بين المسلمين، وتحرّي الحلول لمشكلاتهم، وتأخذ أبعادًا مختلفةً. وقد أدّى التأثير المذهل لهذه الخطوات، إلى دفع أميركا إلى زيادة ضغطها على حكومة السعوديّة، للحيلولة دون تنامي هذه الظاهرة أو إقامتها أساسًا.

 


[1] سورة المائدة، الآية 97.

 

134


128

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

وفي يوم الجمعة، السادس من ذي الحجة عام 1987م، وبينما كان أكثر من مئةٍ وخمسين ألف حاجٍّ مندفعين في شوارع مكة للمشاركة في مراسم البراءة من المشركين، أقدم رجال أمن الحكومة السعوديّة، السرّيّين والعلنيّين، على مهاجمة حشود الحجّاج، هجومًا يدلّل على سبق إصرارهم وترصّدهم، فوقع في هذه الحادثة المؤلمة أكثر من أربعمئة شهيدٍ من الحجّاج الإيرانيّين واللبنانيّين والفلسطينيّين والباكستانيّين والعراقيّين وغيرهم، وجُرِحَ أكثر من خمسة آلافٍ آخرين. كما تمّ اعتقال العديد من الأبرياء. وكان أكثر الشهداء والجرحى من النساء والشيوخ، ممّن عجزوا عن الفرار السريع من مكان المذبحة.

 

لقد ضُرِّجَ هؤلاء بدمائهم، بمنتهى المظلوميّة، بتهمة إعلانهم البراءة من المشركين. والأهمّ من ذلك، انتهاك حرمة الحرم الإلهيّ الآمن، في يوم الجمعة، وفي أيّام الحجّ المباركة، وفي الشهر الحرام.

 

إنّ آثار الغضب والألم كانت تعصر قلب الإمام الخمينيّ، لهذه الجرأة والوقاحة! إلّا أنّ مصالح الأمّة الإسلاميّة، وظروف العالَم الإسلاميّ منعته من القيام بأيّة خطوةٍ عمليّة، ممّا حبس الغمّ في داخله، وترك أثره على كلامه وبياناته، حتّى آخر عمره.

 

بعد عامٍ من هذه الواقعة، ونتيجةً لأسبابٍ استعرضناها فيما تقدّم، قبلت الجمهوريّة الإسلاميّة وحكومة العراق القرار 598 عمليًّا، وأنهيا الحرب المفروضة. وإنّ كلًّا من الملاحم البطوليّة، التي سطّرها جند الإسلام والمقاومة الشعبيّة الإيرانيّة الرائعة، خلال ثمانية أعوامٍ من الدفاع المقدّس، التي حالت

 

135


129

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

دون تحقيق الأعداء لأيٍّ من أهدافهم - التي أشعلوا الحرب بسببها- وتمكّن الشعب الإيرانيّ من طرد المعتدين من المدن والمناطق المحتلّة، عبر صراعٍ غير متكافئٍ تمامًا، وانتهاء الحرب بانتصار جند الإسلام، كلّها أمورٌ تدعو إلى البهجة والفخر، غير أنَّ الظروف والفجائع التي ظهرت قبل انتهاء الحرب، ومنها المجزرة الرهيبة التي وقعت في حلبجة، نتيجة القصف الكيميائيّ لهذه المدينة، من قِبَل الطائرات العراقيّة، والقصف الواسع للمناطق السكنيّة في إيران، ودعوة الدول التي تدّعي الإسلام، أميركا وأوروبّا للقدوم إلى الخليج الفارسي بناقلاتها الحربيّة، لحماية صدّامٍ وإسقاط الطائرة الإيرانيّة المدنيّة في الخليج الفارسيّ من قبل القوّات البحريّة الأميركيّة، كلّها أحداثٌ مؤلمةٌ تعصر قلبَ أيّ مسلمٍ غيورٍ، ناهيك عن رجلٍ طاهرٍ كالإمام الخمينيّ، الذي أوقف عمره لخير الأمّة الإسلاميّة وصلاحها، ونهض من أجل استعادة مجدها الضائع.

 

كان الإمام الخمينيّ يعاني الأمَرَّين ممّا كان يراه من وقوف الكثير من الدول الإسلاميّة -خلافًا لإرادة شعوبهم- مع أعداء الإسلام الحاقدين، ودعمهم للمعتدي، خصوصًا وأنّه كان يرى – بوضوحٍ - العواقب الوخيمة لهذا الدعم، وأنّه حذّر من مغبّة مواجهة النظام الإسلاميّ الإيرانيّ، وتقوية الحكّام البعثيّين، مشيرًا إلى أنّ هذا الأمر -فضلًا عن أنّه لن يحلّ مشكلةً من مشاكل العالَم الإسلاميّ- فإنّه سيؤدّي، في المستقبل القريب، إلى اكتواء هؤلاء الحكّام أنفسهم بالنار الكامنة تحت الرماد. وفيما يلي، نشير إلى نماذج من تلك النبوءة المدهشة التي وردت في حديثٍ ألقاه الإمام، قبل ثمانية أعوامٍ من الهجوم الصدّاميّ على الكويت 16/أيّار/1982م وطُبِعَ في السنة نفسها، في كتاب صحيفة النور (ج16، ص150). يقول سماحة الإمام، مخاطِبًا الدول العربيّة الداعمة لصدّامٍ: "على حكومات المنطقة أن تنتبه إلى أنّهم إنّما يُلقون بأنفسهم في التهلكة، من أجل أميركا أو غيرها من القوى الكبرى. لقد حذّرناهم مرارًا لئلّا يصبحوا أداةً بأيدي القوى الكبرى، وقد قلنا أكثر من مرّةٍ، أنّ صدّامًا، إذا تمكّن من النجاة من ورطته هذه، واستعادَ قوّتَه، فإنّه ليس بذلك الرجل الذي يُقَدِّر مواقفَكم ويحترم مساعداتكم. إنّه مصابٌ بجنون العظمة، ومن المحتّم أنّه سيبادر إلى الهجوم عليكم". كذلك، حذّر الإمام هذه الحكومات، في خطابه الذي ألقاه بتاريخ 2/11/1981م، قائلًا: "إنّني أنصح جميعَ حكومات المنطقة بأن يكفّوا عن دعم صدّامٍ، وأن يخشوا ذلك اليوم الذي يحّل فيه غضب الله عليهم".

 

136


130

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

والطريف أنّه لم يمرّ وقتٌ يُذكَر على رحيل هذا الرجل الربّانيّ، حتّى تحقّق ما قال، حيث أصبح أولئك -الذين اتّهموا إيران بأنّها ذات نزعةٍ عدوانيّةٍ، واعتبروا المعتدي المتجاوز هو الطرف الراغب بالسلام -أنفسُهم فريسةً للمتجاوِز والمعتدي، مع الفارق بين ما فعلوه، وبين ما فعلته إيران، إذ بادروا إلى الاستنجاد بالدول التي تُعَدُّ السبب الرئيسيّ لإشعال فتيل هذه الفتن والحروب كلّها.

 

إنّ عدم اكتراث الدول الإسلاميّة للاعتداءات الإسرائيليّة على جنوب لبنان، والجرائم التي ارتكبها الصهاينة هناك، والمواجهة القاسية للمسلمين المنتفضين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، والأسوأ من ذلك كلّه، حرص الدول العربيّة على إقامة ما يُسَمّى بالسلام مع إسرائيل، والكفّ عن السعي لتحرير القدس، هذه كلّها معاناةٌ أدمت قلب شيخ جماران. لقد أطلق سماحتُه صيحتَه -منذ شروعه بالنهضة لتحرير الأراضي الإسلاميّة من قبضة الصهاينة- بوجه إسرائيل وحاميها الأوّل (أميركا)، وبسبب ذلك بالذات، تمّ نفيُه إلى خارج بلاده أربعة عشر عامًا. كذلك، فإنّه خلال الفترة التي أعقبت انتصار الثورة الإسلاميّة، لم يألُ جُهدًا، ولم يدّخر وُسعًا، في تقديم الدعم المادّيّ والمعنويّ، لتحقيق ذلك الهدف.

 

واليوم، نرى قادة الدول الإسلاميّة، وقادة المنظّمات الفلسطينيّة، يهيّئون أنفسهم للتوقيع على وثيقة الاستسلام، في وقتٍ تغيّرت فيه الظروف لغير صالح أميركا وإسرائيل، نتيجة تنامي الصحوة الإسلاميّة بين الشبّان الفلسطينيّين، وفي مختلف أنحاء العالَم الإسلاميّ، وهي أمورٌ كانت تترك أسوأ الآثار على روحيّة الإمام. ولا شكّ في أنّه، في السنوات الأخيرة من عمره، كان يخصّص السهم الأوفر من مناجاته الليليّة للشكوى لله من تلك الأمور، والدعاء من أجل إصلاحها.

 

أمّا على الصعيد الداخليّ، فقد كانت الظروف التي أدّت إلى إقالة آية الله المنتظريّ عن منصبه في تولّي أمر القيادة بعد الإمام (28/3/1989م)، من جملة الحوادث المرّة الأخرى.

 

إنّ أحد أهمّ أصول دستور الجمهوريّة الإسلاميّة - الذي تمّ تدوينه وإقراره على أساس رؤية الإمام الخمينيّ- هو تشكيل مجلس الخبراء، لتعيين القائد، وتحديد صلاحيّات القيادة في النظام الإسلاميّ. والخبراء هم مجموعةٌ من الفقهاء والمجتهدين، الذين تتوفّر فيهم الشروط، يتمّ انتخابُهم من قِبَل

 

137


131

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

الجماهير بشكلٍ مباشرٍ، وبذا، تكون الجماهير مشاركةً ومشرفةً على أهمّ أمرٍ يرتبط بمصير المجتمع الإسلاميّ، أي القيادة، وذلك عن طريق رأي الخبراء.

 

صوّت أوّل مجلسٍ للخبراء، في جلسته المنعقدة في شهر تمّوز 1983م، على انتخاب آية الله المنتظريّ، لمقام نائب القائد، فهو من تلامذة الإمام الخمينيّ البارزين، ومن المجتهدين الذين كان لهم حضوٌر فاعلٌ في الدفاع عن انتفاضة الخامس من حزيران، وما تلاها من حوادث. ومن هنا، كان قد تعرّض - كما هو حال آية الله الطالقانيّ وسائر علماء الدين الثوريّين - للسجن، لفتراتٍ طويلةٍ في العهد الملكيّ البائد.

 

ففي آخر رسالةٍ بعث بها الإمام الخمينيّ إلى آية الله المنتظري - والتي أدّت إلى تقديم الأخير استقالته من منصبه - صرّح سماحتُه بأنّه كان معارِضًا لانتخاب المنتظريّ قائدًا للنظام الإسلاميّ من بعده، إذ كان يراه يفتقد إلى الطاقة اللازمة لتحمّل هذه المسؤوليّة الجسيمة والخطيرة والمعقّدة. وقد صرّح الإمام، في هذه الرسالة، بأنّ عدم اتخاذه موقفًا معارِضًا لمجلس الخبراء، إنّما كان لرغبته في عدم احتراق الحدود التي أقرّها القانون لمسؤوليّات ووظائف مجلس الخبراء، وهذا الأمر بذاته بالغُ الأهمّيّة في دلالته على أسلوب الإمام الخمينيّ في الإدارة، فهو يحترم قانون النظام الإسلاميّ ورأي الجماهير، ويلتزم به إلى الحدّ الذي يمنعه من إبداء رأيه ونظرته الشخصيّة، حتّى في أدقّ الظروف وأكثرها حساسيّةً، على الرغم من أنّ إبداءه لرأيه لن يؤدّي إلى وقوع أيّة مشكلةٍ، نتيجة المحبوبيّة والمقبوليّة التي يحظى بها لدى الجماهير ومسؤولي النظام.

 

وفي الرسالة نفسها، أكّد الإمام الخمينيّ - ضمن تعبيره عن محبّته للمنتظريّ - على أنّه يرى أنّ من الصالح له (المنتظريّ)، أن يكفّ عن تكرار اشتباهاته السابقة، وأن يطهّر بيتَه من الأفراد غير الصالحين، ويَحُول دون تردّد المعارِضين للنظام الإسلاميّ عليه، وأن يتفرّغ لإثراء البحوث الفقهيّة، وإتاحة الفرصة للحوزات للاستفادة من آرائه الفقهيّة.

 

138


132

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

وممّا يُذكَر، أنّ الإمام الخمينيّ، ليس فقط لم يصرّح بمعارضته لانتخاب المنتظريّ من قِبَل مجلس الخبراء، بل وبادر إلى تقوية وإصلاح نقاط ضعف المنتظريّ بجهده كلّه، وأناط به من المسؤوليّات والأمور المهمّة الكثير، لإكسابه التجربةَ الكافية، وإعداده لتحمّل مسؤوليّة القيادة الخطيرة. غير أنّ آثارَ حقيقةِ "فقدانِه الطاقةَ اللازمةَ لتحمّلِ مسؤوليّةِ هذا المقامِ الخطيرِ"، كانت تظهر -وللأسف- تدريجيًّا، الأمر الذي دفع العناصر غير الصالحة، التي تسلّلت إلى منزله، إلى استغلال ذلك -وقد أظهرت اعترافاتُهم التي أدلوا بها عبر التلفزيون عن سوء نواياهم وأهدافهم المشؤومة، التي كانوا يخطّطون لتنفيذها- حتّى بلغ الأمرُ حدًّا تجاوز عدم الالتزام بالنصائح المشفقة والحكيمة التي قدّمها الإمام الخمينيّ، والإصرار على الأسلوب الخاطئ.

 

لقد نصحه الإمام الخمينيّ مرّاتٍ عديدةٍ - عبر الرسائل تارةً، واللقاءات المباشرة تارةً أخرى - بضرورة تطهير منزله من تلك العناصر، والتعاون مع مسؤولي النظام المخلِصين.

 

ولكي ندرك المحطّات الحسّاسة في هذه الواقعة التاريخيّة، ومرارة الأثر الذي تركته على قلب الإمام، ولِوَعي مدى التزام الإمام بمصالح الأمّة، وعدم الأخذ بعين الاعتبار العلاقات العاطفيّة والشخصيّة في مقابل الأهداف المهمّة، نكتفي بنقل هذا المقطع من رسالة الإمام، التي بعث بها إلى ممّثلي مجلس الشورى وأعضاء الحكومة، بتاريخ 10 نيسان 1989م، وهو غنيٌّ عن أيّ تفسيرٍ أو تعليقٍ، يقول سماحته: "بلغني أنّكم لا تعلمون شيئًا حول قضيّة السيّد منتظري، وأنّكم تجهلون تفاصيلها. ولكن، ينبغي أن تعلموا أنّ والدَكم الشيخ بذلَ ما في وسعه كلّه، منذ أكثر من عامَين، عبر البيانات والرسائل، لتفادي وصول الأمر إلى ما وصل إليه، غير أنّه – وللأسف - لم يُوَفَّق في ذلك. من جانبٍ آخر، فإنّ المسؤوليّة الشرعيّة اقتضت اتّخاذ القرار المناسب لحفظ النظام والإسلام. لذا، فقد أقلتُ -بقلبٍ يعتصره الألم- وضحّيت بثمرة عمري (المنتظري)، من أجل مصلحة النظام والإسلام".

 

وبهذا النحو، تم التخلّص من إحدى المخاوف التي كانت تهدّد مستقبل النظام الإسلاميّ، بتدخّلٍ مباشرٍ من يد الإمام الخمينيّ الكفوءة المقتدرة. ولم يكن لهذا الأمر المعقّد أن يُحَلَّ إلّا بواسطة شخصيّةٍ كشخصيّة الإمام الخمينيّ.

 

والإمام الخمينيّ لم يوجّه حديثَه إلى الآخرين فقط، حينما يقول: "إنّ الثورة ليست مدينةً لأيّة فئةٍ"

 

139

 


133

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

و"لقد أعلنتُ – مرارًا - بأنّي لم أوقّع عقد أخوّةٍ مع أيّ أحدٍ مهما كان منصبه" و"إنّ الإطار لمحبّتي للآخرين، إنّما يتحدّد من خلال صحّة الطريق الذي ينتهجونه"، بل إنّه يشمل بذلك حتّى نفسه، ففي بيانه المعروف، الذي وجّهه للحوزات العلميّة، كتب يقول: "يعلم الله بأنّي لا أعتقد لنفسي بذرّةٍ من المصونيّة والحقّ والامتياز، وإنّي مستعدٌّ للمؤاخذة، إذا بدر منّي أيّ خلافٍ".

 

وكما أشرنا سابقًا، إنّ بيانات الإمام الخمينيّ وخطاباته خلال السنوات الأخيرة من عمره، تختلف عمّا كانت عليه في السابق، الأمر الذي يعبّر عن سعة أفقه وعمق إحساسه بالمسؤوليّة، بالنسبة للفترة التي ستلي غيابَه. فخلافًا لبياناته وأحاديثه في المراحل السابقة - والتي كانت تركّز أساسًا على توجيه الجماهير والمسؤولين فيما يتعلّق بالأحداث الجارية، والمواقف المطلوبة أمام المِحَن التي تتعرّض لها البلاد والعالَم الإسلاميّ - فإنّ بياناته في السنوات الأخيرة من عمره المبارك، كانت تتلخّص في استحضار الحوادث الماضية والحاليّة، وترسيم أبعاد المستقبل، وبيان تكاليف عموم المسلمين في قبال المسؤوليّات المستقبليّة، وبنحوٍ أشدّ وضوحًا من السابق.

 

بتعبيرٍ آخر، كان الإمام الخمينيّ يشعر بقرب أجله. لذا، سعى في السنوات الأخيرة من عمره الشريف، إلى التذكير بمجموعة القيم والمُثُل والأهداف التي شكّلت الأساس لانطلاق الثورة، وترسيم أولويّات النظام الجمهوريّ الإسلاميّ والثورة الإسلاميّة العالميّة، وتوضيحها، على أساس هذه القيم والأهداف.

 

لقد سعى الإمام الخمينيّ، من خلال هذه البيانات - وبطرح تقييمه عن مجمل العناصر الموجودة في المجتمع الإيرانيّ والعالَم الإسلاميّ، وكذلك تحليلاته عن الأنظمة الحاكمة في عالَمنا المعاصر - إلى توضيح الطريق أمام انتخاب مستقبل النظام واختياره، وتبيين تكليف كلّ شريحةٍ إزاء الظروف المستقبليّة، وفي غيابه.

 

وقبل عدّة سنواتٍ من رحيله، وتحديدًا في 15 شباط 1983م، كتب الإمام الخمينيّ وصيّتَه السياسيّة الإلهيّة، استنادًا إلى هذا المبدأ، وبوحيٍ

 

140


134

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

من هذا الدافع. وتُعَدّ هذه الوصيّة -التي طُبِعَت ونُشِرَت حتّى الآن بمختلف اللغات- نداءَ الإمام الأخير، المتضمّن أصول فكره وأهدافه وإرشاداته الخالدة لأنصاره ومحبّيه. إنّ كتابة وصيّةٍ بهذا النحو، وبهذه الأبعاد، عملٌ لم يسبق له مثيلٌ بين فقهاء الشيعة ومراجع التقليد، ودليلٌ على عمق اطّلاع الإمام على الحاجات الحاليّة والمستقبليّة للمجتمعات الإسلاميّة، وعلى شدّة إحساسه بالمسؤوليّة في هذا المجال.

 

إنّ بيانات الإمام الخمينيّ الأخيرة، هي -في الحقيقة- شرحٌ وتفسيرٌ للقيم التي دافع عنها في وصيّته، والأمور السياسيّة التي طرحها فيها.

 

ومن جملة الخصائص التي تميّزت بها بيانات الإمام في أواخر عمره، تأكيده على ضرورة التفات المسلمين إلى نوعين متضاربَين من الفكر الدينيّ والإسلاميّ. إذ إنّ سماحته - استنادًا للشواهد التاريخيّة العديدة - يعتقد بأنّ الإسلام وسائر الأديان الإلهيّة -منذ سحيق الزمان وحتّى اليوم- عُرِضَت بصورتَين متضادّتَين تمامًا. فمن جانبٍ، كان هناك الدين والإسلام المحرّف، الذي استغلّه الظالمون والمستعمِرون، والذي ابتدعه المتحجّرون والقشريّون من رجال الدين الكاذبين. ومن جانبٍ آخر، كان الدين والإسلام الحقيقيّ الذي حُفِظَ وانتُشِلَ من أحضان الخرافات والشعوذات، بدماء المجاهدين، والمساعي الحثيثة لعلماء الدين الملتزمين طوال التاريخ. وبذا، فإنّ أحد أسرار نجاح الإمام الخمينيّ بتحريك الأمّة الإسلاميّة، يتمثّل في قدرته على بيان التضادّ المستمرّ بين هذين النوعَين، وتوضيح سمات كلّ واحدٍ منهما.

 

كان الإمام الخمينيّ يعتقد بأنّ تجاهل هذه الحقيقة التاريخيّة، وعدم محاولة التعرّف عليها، هو الذي أدّى إلى نفوذ الاستعمار إلى البلدان الإسلاميّة، وابتعاد المسلمين عن عصور التحضّر والثقافة الباهرة التي كانوا عليها، ثمّ الابتلاء بالواقع الراهن، حيث نرى -للأسف- الحكومات الإسلاميّة التي رفع أسلافُها شعار "الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه" و﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾[1]، تستجدي اليوم أعداء الإسلام، من الكفّار والمشركين، لمواصلة حياتها، والحفاظ على حدودها.

 

كان الإمام الخمينيّ يعبّر عن الفهمَين المتباينَين للإسلام، في عصرنا الحاضر، بـ "الإسلام الأصيل" و"الإسلام الأميركيّ". إذ إنّه كان يعتقد بأنّ الإسلام الذي تُتَجاهل أحكامُه القرآنيّة المسلّمة وسنّة نبيّه


 


[1] سورة النساء، الآية 141.

 

141


135

السنوات الأخيرة من عمر الإمام 132

الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلّق بالمسؤوليّات الاجتماعيّة، والإسلام الذي تُترَك منه أبواب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعدالة الإسلاميّة، والأحكام المرتبطة بالعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المجتمع الإسلاميّ، ويَحُول دون مشاركة المسلمين في السياسة وفي تقرير مصيرهم، ويرى الدين يتلخّص في مجموعةٍ من الأذكار والعبادات الفرديّة، دون الالتفات إلى فلسفتها وروحها الحقيقيّة، إنّ مثل هذا الإسلام، هو الذي تدعو إليه أميركا ومن يدور في فلكها.

 

يستند سماحة الإمام في تحليله هذا، إلى ظواهر تاريخيّةٍ، وشواهد دامغةٍ، مستلّةٍ من الوضع الذي كانت عليه البلدان الإسلاميّة. فسماحته يعتقد بأنّ الاستعمار الحديث هو نتاجٌ لمساعي المستعمِرِين السابقين. إذ إنّهم سعوا إلى تغيير دين الجماهير المسلمة عن طريق المبشّرين المسيحيّين. ولمّا فشلوا في ذلك، حوّلوا مساعيهم - منذ ذلك الزمان، وحتّى الآن - لتنصبّ على إبطال مفعول الأحكام الإسلاميّة السامية، وتشويه الدين من الداخل. ونتيجة ذلك مشهودةٌ تمامًا، فجميع البلدان الإسلاميّة اليوم، تعتمد في أنظمتها وقوانينها الموضوعةِ، وأساليبها في القضاء، وفي هيكل النظام الحكوميّ، والقوانين السياسية والاجتماعية، على القوانين والأساليب الغربيّة المعادية للدين، والتي تتعارض - في ماهيّتها - مع القوانين المستندة إلى الوحي.

 

إنّ الإسلام الأميركيّ هو الذي يُتيح للثقافة الغربيّة ومفاسدها وتحلّلها النفوذَ إلى أعماق المجتمعات الإسلاميّة، ويهلك الحرث والنسل. الإسلام الأميركيّ هو الذي فسح المجال للحكومات العمليّة للأجانب، أن تمارس سلطتها على المسلمين، وتقف، باسم الإسلام، في مواجهة المسلمين الحقيقيّين، وتمدّ، في الوقت ذاته، يد الصداقة إلى إسرائيل وأميركا، أعداء الإسلام.

 

كان الإمام الخمينيّ، في بياناته الأخيرة، يؤكّد -بوضوحٍ أكبر- هذه الحقيقة، وهي أنّ الطريق الوحيد لإنقاذ البشريّة من مشكلاتها الراهنة، هو العودة إلى عصر الدين والاعتقاد الدينيّ، وأنّ السبيل الأوحد لتحرير البلدان الإسلاميّة من وضعها الحاليّ المؤسف، هو عودتها إلى الإسلام الأصيل، وإلى هويّتها الإسلاميّة المستقلة.

 

142

 


136

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

◄| نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

الآن، وحيث وصلنا في بحثنا هذا في استعراض المراحل التاريخيّة لحياة الإمام الخمينيّ، إلى الأيّام الأخيرة من عمره المبارك، لا يفوتنا أن نلقيَ نظرةً، ولو سريعةً، على أهمّ أبعاد فكره وأهدافه قدس سره.

 

بديهيٌّ أنّ تكوين صورةٍ واضحةٍ وكاملةٍ عن مبادئ الإمام الخمينيّ الاعتقاديّة وأهدافه، لا يتيسّر بدون مطالعة مؤلّفاته وأحاديثه، ودراسة سيرته العمليّة بدقّةٍ، الأمر الذي لا يتيسّر في هذه العجالة.


الإمام الخمينيّ شيعيُّ المذهب. يعتقد – بشدَّةٍ - بوحدة الأمّة الإسلاميّة (بصرف النظر عن توجّهاتهم المذهبيّة)، في مقابل المستعمِرين وأعداء الإسلام. فالدعوة إلى الوحدة تمثّل جانبًا مهمًّا من بياناته وخطاباته، وهو لا يجوّز أيّة حركةٍ تؤدّي إلى بثّ الفرقة في صفوف المسلمين، وتمهّد الطريق أمام المستعمرين لتحقيق هيمنتهم. لقد أوضح سماحته - من خلال إصدار الفتاوى المتميّزة، وعبر دعمه لإعلان أسبوع الوحدة بين المسلمين، الذي يُقَام في ذكرى ولادة النبيّ الأكرم، وإصدار البيانات المتواصلة - السبل العمليّة لتحقيق الوحدة بين الشيعة والسنّة. وقد أصرَّ على مواجهة ما يؤدّي إلى التفرقة والجدال بين الشيعة والسنّة، كلّه، طوال مدّة زعامته.

 

كان سماحته يعتقد بأنّ الإيمان بالله الواحد، والاعتقاد برسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، والإيمان بالقرآن المجيد، بصفته صحيفة الهداية الأبديّة، والاعتقاد بضرورات الدين وشعائره وأحكامه، كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ والجهاد، كلّها مرتكزاتٌ عمليّةٌ ثابتةٌ لتقارُب جميع المذاهب الإسلاميّة، وتوحيد صفوفها، في مقابل المشركين وأعداء الدين.

 

إنّ النهضة الإصلاحيّة للإمام الخمينيّ وبياناته، لم تقتصر على المجتمع الإيرانيّ وسائر المجتمعات الإسلاميّة. إذ إنّ سماحته كان يعتقد بأنّ الفطرة البشريّة لجميع الناس، إنّما خُلِقَت على أساس الالتفاف

 

143


137

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

حول مبدأ التوحيد والخير والحقيقة والعدالة، ولو أنّ المعرفة البشريّة العامّة تنامت، وتمّت السيطرة على شيطان النفس الأمّارة، وتمّ تضعيف شياطين الخارج، فإنّ آحاد المجتمع البشريّ سيتوجّهون نحو الله والحياة في أجواءٍ ملؤها العدالة والسلام.

 

على هذا الأساس، دعا الإمام الخمينيّ - في أغلب بياناته - المستضعفين والشعوب الأسيرة في بلدان العالَم الثالث، إلى الانتفاضة بوجه المستكبرين. وفي الأيّام الأولى من انتصار الثورة الإسلاميّة، دعا – بصراحةٍ - إلى فكرة إقامة حزبٍ عالَميٍّ للمستضعفين، ودافع عن هذه الفكرة. كما إنّ أوّل المؤتمرات العالَميّة التي ضمّت الحركات التحرّريّة، أُقِيم في إيران لأوّل مرّةٍ، خلال زعامة الإمام الخمينيّ.

 

لقد أكّد الإمام الخمينيّ مرارًا، أنّ الثورة الإسلاميّة، إنّما تعادي التطلّعات السلطويّة لقادة أميركا والغرب والاتّحاد السوفياتيّ (السابق)، لا شعوب تلك البلدان، التي وقعت هي الأخرى، ضحيّة الاستعمار الجديد.

 

كان شعار الإمام الخمينيّ، مقارعة الظالم والدفاع عن المظلوم، وكان يقول: "لا نَظلِم، ولا نرضخ لظلمِ الآخرين".

 

ولعلّ من المناسب هنا، أن ننقل الأسس الاعتقاديّة للإمام الخمينيّ، كما وردت على لسان سماحته، وهو يجيب عن سؤال مراسل صحيفة التايمز البريطانيّة، يقول سماحته: "إنّ اعتقادي واعتقاد المسلمين قاطبةً يتلخّص في المسائل التي أوردها القرآن الكريم، والتي أوضحها نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الحقّ من بعده، وأنّ أساس جميع تلك المعتقدات وأصلها - والذي يُعتَبَر أهمّ اعتقاداتنا وأسماها - هو مبدأ التوحيد. واستنادًا إلى هذا الأصل، فإنّنا نعتقد بأنّ خالقَ العالَم وجميع عوالم الوجود والإنسان، هو الله تبارك وتعالى، المطّلع على جميع الحقائق، والقادر على كلّ شيءٍ، ومالك كلّ شيءٍ. وهذا الأصل يعلّمنا بأنّه على الإنسان أن يسلّم فقط أمام ذات الله المقدّسة، وأن لا يُبدي الطاعة لأيّ إنسانٍ آخر، إلّا إذا كانت طاعته استمرارًا لطاعة الله. على هذا الأساس، فلا يحقّ لأيّ إنسانٍ أن يفرض على الآخرين الانصياع له. ومن هذا الأصل الاعتقاديّ، نتعلّم مبدأ حرّيّة الإنسان، وأنّه لا حقّ لأيّ إنسانٍ أن يسلب إنسانًا آخر، أو مجتمعًا، أو شعبًا، حقَّهم في الحرّيّة، أو أن يضع لهم قانونًا ينظّم سلوكَهم وعلاقاتهم، استنادًا إلى مقدارِ وعيه ومعرفته القاصرَين، أو استنادًا إلى

 

144

 


138

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

الإمام الخمينيّ يرى بأنّ الإسلام خاتم الأديان الإلهيّة، وأنّه يمثّل أسمى وأشمل العقائد الهادية. يقول سماحته، مؤكِّدًا: "إنّ الإسلام يقف على قمّة هرم الحضارة" و"إنّ النظام الحقوقيّ، في الإسلام، أرقى وأكمل وأشمل الأنظمة الحقوقيّة"... "في الإسلام، يوجد قانونٌ واحدٌ، وهو القانون الإلهيّ".

 

إنّ سماحته يرى، في الإسلام، دينَ العبادة والسياسة. يقول سماحته: "كان الإسلام من واضِعي أسس الحضارة الكبرى في العالَم".

 

كان سماحته يوصي أتباعَه بالقول: "إيّاكم والخلط بين القرآن المقدّس والدين الإسلاميّ، الذي يبعث على التحرّر، وبين العقائد الخاطئة المنحرفة التي ابتدعها الفكر البشريّ". ويقول قدس سره: "إنّ مشكلة المسلمين الكبرى، تكمن في تخلّيهم عن القرآن الكريم، والانضواء تحت لواء الآخرين". ويقول: "إنّ التشيّع - المذهب الثوريّ والامتداد الطبيعيّ للإسلام المحمّديّ الأصيل - كان دائمًا - مثلما كان الشيعة - هدفًا لحملات المستبدّين والمستعمِرين الغادرة".

 

لقد أكّد سماحتُه مِرارًا - حينما تحدّث عن أهداف نهضته، والباعث عليها - على القول: "إنّ أقصى ما نهدف إليه هو الإسلام".

 

146

 


139

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

فالإمام الخمينيّ يرى الثورة الإسلاميّة شعاعًا من الثورة الحسينيّة[1] الخالدة، التي انطلقت في عاشوراء، لإنقاذ الدين من قبضة المجرمين الظالمين، إذ يعتقد سماحته: "بأنّ الإسلام لم يأتِ لقومٍ دون غيرهم، ولا يفرّق بين الترك والفرس والعرب والعجم. الإسلام للجميع، ولا قيمةَ أو امتياز في نظامه للجنس أو اللون أو القبيلة أو اللغة"... "الجميع إخوةٌ متكافئون، فالكرامة فقط، وفقط في إطار التقوى، والتمايز إنّما يتمّ على أساس الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة".

 

ينظر الإمام الخمينيّ إلى الشهادة في سبيل الله على أنّها عزٌّ أبديٌّ، وفخرُ الأولياء، ومفتاحُ السعادة، ورمزُ النصر. ويرى الاندفاع إلى الشهادة ناتجًا عن حبّ الله. ويقول عن قيمة الشهادة وماهيّتها: "ما أشدَّ غفلة عبّاد الدنيا والجهلة، الذين يبحثون عن قيمة الشهادة ومعناها في صحائف الطبيعة، ويُنشِدون وصفَها في الأناشيد والملاحم والقصائد، ويستجدون في التخليل وكتاب التعقّل لاكتشافها، والحال أنّ حلَّ اللغز لا يتيسّر إلّا بالعشق".

 

بهذا المنطق، كان سماحته يقول: "أقول لكم، أيّها الإخوة المؤمنون: أن نموت على أيدي أميركا والاتّحاد السوفياتيّ المجرمَين، ونُمحَى من صفحة الوجود، ونلقى الله مخضّبين بدمائنا، مرفوعي الرأس، خيرٌ لنا من أن نعيش برفاهٍ، تحت لواء الجيش الأحمر الشرقيّ، والأسود الغربيّ".

 

كان الإمام الخمينيّ فيلسوفًا إلهيًّا، وعارفًا ربّانيًّا، وفقيهًا أصوليًّا، ومرجعًا للجماهير، وفي الوقت ذاته، زعيم الثورة الإسلاميّة، ومؤسس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. كان سماحته مطّلعًا على أسس الفلسفة الغربيّة، ومُتقِنًا لأسس المنطق والفلسفة الإسلاميّة - في اتّجاهَيها المشّائيّ والإشراقيّ - ومباحثهما. وربّما يمكن القول أنّ الفكر الفلسفيّ

 


[1] الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام)، أمّه فاطمة الزهراء(عليها السلام)، بضعة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الإمام الثالث من أئمّة الشيعة. وُلِدَ في المدينة المنوّرة، في السنة الرابعة للهجرة 625م. نشأ وترعرع في أحضان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورعاية أبيه العظيم. نهض عام 61ه، ضدّ حكومة يزيد بن معاوية، رغم قلّة أنصاره. فحصلت المواجهة بين أصحابه وجيوش يزيد في أرضٍ يُقَال لها كربلاء. استشهد الإمام الحسين في هذه الملحمة الدامية، برفقه أبنائه وأصحابه الاثنين والسبعين، وأخذ جيش يزيد عائلته وأهل بيته أسرى إلى الشام.

 

147


140

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

للإمام، يميل - إلى حدٍّ ما - إلى الفلسفة الشهوديّة والإشراقيّة، وبالأسلوب التوفيقيّ الذي اتّبعه الحكيم المتألّه، المرحوم ملاّ صدرا[1]، مع وجود بعض الاختلاف والفارق طبعًا.

 

درّس الإمام الخمينيّ الفلسفة، بمستوياتها العالية، لمدّة خمسة عشر عامًا. وقد عَدَّ سماحتُه الفلسفةَ بمنزلة السبيل لمعرفة مرحلةٍ ومرتبةٍ من حقائق الوجود والموجودات. ومن هنا، كانت نظرتُه الفلسفيّة لحقيقة الوجود ووحدته ومراتبه، متأثّرةً -بشدّةٍ- بمشربه العرفانيّ.

 

كان عرفان الإمام الخمينيّ يقوم على الآيات القرآنيّة وأحاديث أئمّة الدين وتعاليم أولياء الله، وفي إطار الشرع الإسلاميّ المطهّر. كان سماحتُه يعارض – بشدّةٍ - التصوّف السلبيّ، الذي يروّج بأنّ الدين والعقيدة منحصران في الأذكار والأوراد، ويدعو إلى الاعتزال والتخلّي عن أداء المسؤوليّات السياسيّة والاجتماعيّة. وكان سماحتُه يرى بأنّ معرفةَ النفس أساسٌ لمعرفة الله، وأنّ تهذيب نفوس البشر من الرذائل والمفاسد الأخلاقيّة، والسعيَ في اكتساب الفضائل، شرطٌ أساس لنيل معرفة الحقّ. كما إنّ بلوغ المعرفة الحقيقيّة والمقامات المعنويّة السامية، لا يتحقّق إلّا بطيّ الطريق التي طواها، وعلّمنا إيّاها الأنبياء العظام، وحجج الله في الأرض.


 


[1]  صدر المتألّهين الشيرازيّ، المشهور بالملّا صدرا، المتوفّي عام (1050ه)، والذي أسّس للحكمة المتعالية. ويُذكَر أنّ كلمة "الحكمة المتعالية" استُخدِمَت من قِبَل ابن سينا أيضًا، في كتابه "الإشارات". غير أنّ مدرسة ابن سينا لم تُعرَف قطّ باسم الحكمة المتعالية. وإنّ صدر المتألّهين هو الذي سمّى فلسفته بالحكمة المتعالية، فتميّزت فلسفتُه بذلك.

ومدرسة صدر المتألّهين الفلسفيّة تشبه المدرسة الإشراقيّة من حيث الأسلوب، بمعنى أنّه يعتقد بالاستدلال والكشف والشهود معًا، لكنّها تختلف عنها من الناحية الأصوليّة، ومن حيث الاستنتاجات. وفضلًا عمّا حقّقته مدرسة صدر المتألّهين من المسائل الخلافيّة بين المدرسة المشّائيّة والإشراقيّة، فإنّ المسائل الخلافيّة بين الفلسفة والعرفان، أو الفلسفة وعلم الكلام، قد حُلّت عند صدر المتألّهين تمامًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ فلسفة صدر المتألّهين ليست فلسفةً التقاطيّةً، وإنّما تمثّل نظامًا فلسفيًّا خاصًّا، وإن كانت الاتّجاهات الفكريّة الإسلاميّة قد أثّرت فيها.

تمكّن صدر المتألّهين من استيعاب ما وصل من الفلسفة عن قدماء اليونان، خصوصًا ما أُثِرَ عن أفلاطون وأرسطو، وكذلك استيعاب ما تركه حكماء المسلمين، أمثال الفارابيّ وابن سينا وشيخ الإشراق، وما أضافوه علي الفلسفة، مستعينًا علي ذلك بعرفانه الكبير، وقوّته وهدايته الباطنيّة. ثمّ لجأ إلى وضع أسسٍ جديدةٍ للفلسفة، تستند إلى أصولٍ وقواعد محكمةٍ وثابتةٍ، من حيث الاستدلال والبرهان. وقد تمكّن من نظم مسائل الفلسفة بأسلوبٍ رياضيٍ، يعتمد فيه كلُّ موضوعٍ علي الآخر، ويُستَنبط منه. وبذا، أخرج الفلسفة من طرق الاستدلال المتناثرة.

 

148


141

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

ولهذا، كان الإمام الخمينيّ لا يجوّز الأساليب والرياضات الخارجة عن إطار الشرع المنوّر، والأحكام الإلهيّة. كما إنّه يتنفّر من القشريّة، والتظاهر بالقدسيّة، والمراءات بالعرفان.

كان الإمام الخمينيّ يعتقد بأنّه ينبغي الاستعانة، في ساحة الجهاد الأكبر المحفوف بالمخاطر، والسير والسلوك، وفي وادي الأسفار الأربعة، بالمرشِدين الحقيقيّين، وأصحاب الكشف والكرامة الواقعيَّين، لا الأدعياء المحترفين المزيّفين. كذلك، ينبغي الارتباط بالولاية العظيمة، التي تمثّل سفينة النجاة. فكلّ ما يبلغه الإنسان عن غير هذا الطريق، هو ضلالٌ في ضلالٍ. وإنّ نَفْس الإمام المهذّبة، وروحه المتسامية، وطيّه الموفّق للمراحل العمليّة للسير والسلوك المعنويّ، هو بذاته أبلغ شاهدٍ على حقّانيّة نهجه.

 

نال الإمام الخمينيّ في هذا المسير مرتبةً من المقامات المعنويّة والإدراك الشهوديّ، وكان فانيًا في الله، حتّى إنّه كان ينالُه ما ينالُه من الاضطراب، في مقابل ادّعاء الحلّاجين[1]: "أنا الحقّ"، ليس لأنّ السذّج من الغرباء عن العرفان كانوا قد كفّروهم، بل لأنّهم كانوا يرَون في الوجود غير الحقّ أيضًا، ويدّعون "الإنّيّة" ووجود الواسطة. في حين أنّ الإمام يرى الحقّ – تعالى - وحده هو النور، وما عداه كلَّه ظلمةً، والظلمة تعني انعدام النور، والعدم لا يُعَدُّ وجودًا، وإنّ الوجود تجلّي الحقّ، ولاشيء سواه.

 

كان الإمام الخمينيّ - إضافةً إلى تعمّقه في الفلسفة والعرفان والتفسير والأخلاق وعلم الكلام الإسلاميّ - مجتهدًا بارزًا في الفقه والأصول، وقد درّس الفقه والأصول على أعلى المستويات، أكثر من ثلاثين عامًا. ويوجد الآن، فضلًا عن الكتب الفقهيّة والأصوليّة التي ألّفها سماحته، العشراتُ من تقريرات دروسه التي كتبها طلّابه.

                  

 


[1] حسين بن منصور، المعروف بالحلّاج. من عرفاء القرن الثالث الهجريّ (المتوفّي سنة 309ه / 922م). اعتُقِل بسبب ما كان يحمله من اعتقاداتٍ، وظلّ سجينًا عدّة سنواتٍ. ثمّ أصدر العلماء المعاصرون له فتويً بإعدامه؛ فجُلِد ألف جلدةٍ، ثمّ قُطِعَت سيقانُه، وحُرِق جسدُه، وذُرّ رمادُه في نهر دجلة. وإنّ من أبرز الاتّهامات التي وُجِّهَت إليه، وبقيت عالقةً في أذهان الناس، هو أنّه كان يقول في حال الجذبة: "أنا الحقّ".

 

149


142

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

ومن السمات التي امتازت بها مدرسة الإمام الفقهيّة، هو أنّه كان يؤمن بأصالةٍ خاصّةٍ للفقه والأصول، وكان يتحاشى خلط الاستنتاجات الكلاميّة والفلسفيّة والعرفانيّة مع الأحكام الفقهيّة، في مرحلة استنباط الأحكام.

 

كان سماحته يرى بأنّ حركيّة الفقه والأصول من مستلزمات الرؤية الاجتهاديّة، وأن لعنصري الزمان والمكان دورًا حيويًّا هامًّا في الاجتهاد، وأنّ عدم أخذهما بعين الاعتبار، يقود إلى العجز عن درك المسائل المستحدثة والحاجات المعاصرة، ويَحول دون تقديم الأجوبة المناسبة لها. وفي الوقت نفسه، كان سماحته يعتقد بأنّ حركيّة الفقه، ليس بمعنى تزلزل أسلوب الاستنباط والاجتهاد المتعارَف. ومن هنا، كان سماحته يؤكّد، في توصياته إلى الحوزات العلميّة، على ضرورة اعتماد الفقه التقليديّ، بمعنى حفظ أساليب ومناهج السلف الصالح في استنباط الأحكام، وكان يعتبر تخطّيها آفةً وخطرًا عظيمًا، يمهّد السبيل لظهور البِدَع.

 

كان سماحته يرغب في إصلاح الحوزات العلميّة وتطويرها في هذا الإطار، وكان سماحته يُعَدُّ من الروّاد في هذا المضمار. لقد مهّد سماحته الطريق - من خلال إصداره للفتاوى الثوريّة - أمام المجتهدين، لتغيير أفق نظرتهم، لتتّسع للمسائل الحيويّة والأساسيّة للمجتمع، وأثبت -من خلال إحيائه للأبواب المنسيّة في الفقه- أهمّيّة عنصرَي الزمان والمكان في الاجتهاد.

 

يقول سماحته: "إنّ الحكومة، بنظر المجتهد الحقيقيّ، هي تعبيرٌ عن الفلسفة العلميّة للفقه جميعًا، في مختلف زوايا الحياة البشريّة. الحكومة ترجمةٌ عمليّةٌ للفقه، في تعامله مع جميع المعضلات الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والثقافيّة.

 

فالفقه نظريّةٌ واقعيّةٌ وكاملةٌ لإدارة حياة الإنسان من المهد إلى اللحد".

 

وعلى أساس هذه النظرة، طرح الإمام الخمينيّ آراءه المتمثّلة في "إقامة الحكومة الإسلاميّة على أساس ولاية الفقيه في زمن الغيبة"، وجاهد من أجل تحقيقها سنواتٍ طوالٍ. وعلى الرغم من أنّ نظريّة ولاية الفقيه، عمومًا - بصرف النظر عن اختلاف الآراء في حدود صلاحيّات الوليّ الفقيه - تُعتَبَر أمرًا اتّفقت عليه آراء فقهاء

 

150


143

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

الشيعة، إلّا أنّ أبعادها لم تتعرّض للبحث، ولم تُتَح لها الفرصة للتحقيق العمليّ، نتيجة عدم توفّر الظروف المناسبة في الماضي. وعليه، فإنّ الإمام الخمينيّ يُعَدُّ أوّل فقيهٍ نجح، بعد قرونٍ، في تشكيل الحكومة الدينيّة المبنيّة على أساس قيادة المجتهد الجامع للشروط، والتي من جملتها: التهذيب، وصيانة النفس، والتدبير، والقدرة على إدارة المجتمع، والشجاعة، والعدالة، والخبرة، والاجتهاد في الأحكام الإلهيّة. يقول سماحته: "الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس".

 

في عقيدة الإمام، إنّ الحكومة الإسلاميّة -بصرف النظر عن التباين في الأهداف والغايات- تختلف عن الأنظمة السياسيّة المعاصرة، من حيث تشكيلاتها وأركانها أيضًا. ففي نظريّة الحكومة الإسلاميّة، تجد "الأكثريّةُ" مشروعيّتَها على أساس "الحقّ"، وتبعًا لذلك، فإنّ وجوب إعمال الولاية منوطٌ بتوافر شروطها، التي من جملتها قبول الرأي العامّ، الذي يتجلّى بالانتخاب المباشر المتعارَف، أو عن طريق اختيار الخبراء، وهم منتخَبو الشعب.

 

و على هذا الأساس، فإنّ من الطبيعيّ ان تكون العلاقة بين القائد والحكومة الإسلاميّة من جهةٍ، والجماهير من جهةٍ أخرى، علاقةً عميقةً واعتقاديّةً. ولهذا، كانت الحكومة التي أقامها الإمام وقادها، من أكثر أنواع الحكومات جماهيريّةً وشعبيّةً. ففي هذا الحكومة -وخلافًا للأنظمة السياسيّة جميعها الموجودة في العالَم - لا تنتهي مسؤوليّة الجماهير بعد أداء دورها في تعيين القائد وإجراء الانتخابات، بل إنّ حضورها في ميدان إدارة المجتمع الإسلاميّ، والمساهمة في النظام الإسلاميّ، يُضمَن لها، بوصفه تكليفًا شرعيًّا. فمن وجهة نظر الإمام الخمينيّ، إنّ الحكومة الإسلاميّة، إنّما تستند إلى العلاقة والثقة المتبادلة بين الجماهير والقائد الصالح. لذا، يقول سماحته: "إذا مارس الفقيه نوعًا من الاستبداد في أمرٍ ما، يسقط عنه مقام الولاية"، "إنّ القائد والقيادة ليست بالأمور المهمّة للفرد في ذاتها، في الأديان السماويّة، وفي الإسلام العظيم، حتّى تدفع الإنسان - لا سمح الله - إلى الغرور والعجب". من هذا المنطلق، كان سماحته يقول: "أن ينعتوني بخادم الشعب، أفضل من أن ينادوني بالقائد، فالمسألة ليست مسألة قيادةٍ، المهمّ هو الخدمة، لقد كلّفنا الإسلام بالخدمة". "إنّي أخٌ لأبناء الشعب الإيرانيّ، وأعتبر نفسي خادمًا وجنديًّا لهم". "شيءٌ واحدٌ يحكم في الإسلام، وهو القانون. في زمن النبيّ الأكرم، أيضًا، كان القانون هو الحاكم، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منفّذ القانون".

 

151


144

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

يقول الإمام الخمينيّ، مخاطبًا الحكومات التي ترى الحكم لها وحدها، وأنّها أفضل من الجماهير: "الحكومات أقلّيّةٌ ينبغي أن تكون في خدمة شعوبها. وإنّ هؤلاء لا يعون أنّه ينبغي للحكومة أن تكون خادمةً للشعب، لا حاكمًا عليه". "إنّ وعي الجماهير، ومشاركتها في نشاطات حكومتها المنتخبة، وممارسة الإشراف عليها، والانسجام معها، يُعَدُّ بذاته أكبر ضمانةٍ لحفظ الأمن في المجتمع".

 

إنّ الفارق واضحٌ بين هذه النظريّة، فيما يخصّ الحكومة والأمن القوميّ والاجتماعيّ، والنظريّات التي ترى -حتّى في أكثر الأنظمة السياسيّة ديمقراطيّةً- بأنّ الدولة والحكومة لا تعرف المصداقيّة، إلّا من خلال "القوّة" ووسائلها وأساليبها. ومن هنا، ترى أيضًا، أنّ أهمّ ركنٍ للأمن الاجتماعيّ، إنّما يكمن في هذه القدرة. يقول الإمام الخمينيّ: "إنّ أيّة قوّةٍ، مهما عظمت، معرّضةٌ للسقوط، إذا ما حُرِمَت الدعم الشعبيّ".

 

إنّ سقوط النظام الشيوعيّ -الذي كان يبدو قويًّا- من جهةٍ، واستقرار نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وثباته -على الرغم من عداء أعتى قِوى العالَم لها، وعلى الرغم من دخولها في حربٍ دامت ثمانية أعوامٍ- من جهةٍ أخرى، يُعَدُّ بذاته أنصع دليلٍ، وأقوى شاهدٍ على صحّة نظريّة الإمام الخمينيّ.

 

بديهيُّ أنّ نظريّة الإمام الخمينيّ بشأن الحكومة الإسلاميّة، ودور الجماهير وموقعهم فيها، لا ربط له - بتاتًا - بالقوميّة، بالمصطلح الشائع في الثقافة السياسيّة للعالَم. بل هي على النقيض منها تمامًا.

 

فالقوميّة، التي تظهر أحيانًا كأيديولوجيةٍ، تنتهي -وبصرف النظر عن عجزها على الصعيد العمليّ-

 

152

 


145

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

إلى نظامٍ يعادي القيم والمبادئ الإنسانيّة. ذلك لأن رؤيةً كهذه، إذا ما طرحت التصوّرات القوميّة لأيّ شعبٍ، كحقائق ينبغي الدفاع عنها، فهذا يعني أنّه لا توجد حقائق وقيمٌ ثابتةٌ، وسيكون هناك، من الحقائق والقيم، بعدد الشعوب والحدود الجغرافيّة والسياسيّة المتغيّرة، وإن مصطلحات، كالعدالة والسلام والحرّيّة ستتعدّد – أيضًا - بتعدّد الشعوب، وتتغيّر وتتضادّ بشكلٍ مستمرٍّ. ومن الطبيعيّ، في مثل هذه الظروف، أن يرى الشعب، الذي يتمتّع بقدرٍ أكبر من القدرة - لمختلف الأسباب - أنّ من حقّه المشروع، التسلّط على الشعوب الأكثر ضعفًا. ذلك أنّ القوميّة المتطرّفة، لا تعتقد سوى بتفوّق العنصر أو اللون أو اللغة أو الموقع الجغرافيّ والتاريخيّ. أمّا الإمام الخمينيّ، واستنادًا إلى الشواهد التاريخيّة، فقد كان يعتقد بأنّ ترويج (القوميّة) و(الشعوبيّة)، وتأسيس حركاتٍ داعيةٍ للقوميّة العربيّة والتركيّة والفارسيّة وأمثالها، في العالَم الثالث وفي البلدان الإسلاميّة، إنّما نتج عن محاولات المستعمرين ومساعيهم لتجزئة البلدان، وبثّ الفرقة والاختلاف بينها، وفرض تسلّطهم عليها.

 

يقول سماحته: "إنّ هدف القوى الكبرى وعملائها، في البلدان الإسلاميّة، يتمثّل في بثِّ الفرقة بين المسلمين -الذين آخى الله بينهم، وسمّى المؤمنين منهم بالإخوة - وفَصْلِهم عن بعضهم، باسم الشعب التركيّ، والشعب الكرديّ، والشعب العربيّ، والشعب الفارسيّ، بل وإيجاد العداوة بينهم. ومثل هذا، يتناقض مع النهج الإسلاميّ والقرآن الكريم تمامًا". ولهذا، حرص الإمام الخمينيّ على القول: "إنّ نهضتنا إسلاميّةٌ، قبل أن تكون إيرانيّةً".

 

يرى الإمام الخمينيّ انّ استقرار السلام الواقعيّ في العالَم، مع وجود القوى المتسلّطة المستكبرة، والقبول بوجودها وتسلّطها، ليس أكثر من خيالٍ محضٍ. يقول سماحته: "إنّ الأمن والسلام العالَميَّين، منوطان

 

153


146

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

بزوال المستكبرين، فما دام هؤلاء المتسلّطون المتوحّشون على هذه الأرض، لن ينال المستضعفون إرثَهم الذي وعدهم الله - تعالى - به". "إنّه يومٌ مباركٌ، ذلك اليوم الذي تزول فيه سلطة الناهبين الدوليّين عن شعبنا المظلوم وسائر الشعوب المستضعفة، وتتمكّن الشعوب من استعادة حقّها في تقرير مصيرها". "ربّما تُلحق أميركا هزيمةً بنا، ولكنّها لن تتمكّن من دحر ثورتنا. لذا، فإنّي واثقٌ من انتصارنا. إنّ الحكومة الأميركيّة لا تدرك معنى الشهادة".

يقول الإمام الخمينيّ عن ماهيّة الكيان الإسرائيليّ الغاصب ومَنشَئِه: "إنّ أميركا - الإرهابيّة بالطبع - هي التي أضرمت النار في العالَم بأسره. وإنّ ربيبتها الصهيونيّة العالَميّة، هي التي ارتكبت -لتحقيق أهدافها- جرائم تأنف الأقلام والألسن عن كتابتها وذكرها". "إنّ إسرائيل غاصبةٌ ومعتديةٌ بنظر الإسلام والمسلمين، واستنادًا إلى جميع الموازين الدوليّة". "إنّني أعتبر الاعتراف الرسميّ بإسرائيل فاجعةً بالنسبة للمسلمين، وانفجارًا بالنسبة للدول الإسلاميّة".

 

لقد أعلن الإمام الخمينيّ، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، آخرَ جمعةٍ من شهر رمضان المبارك، يومًا عالَميًّا للقدس، وطالبَ جميعَ المسلمين، بتنظيم المظاهرات، والإعلان عن تضامنهم مع المجاهدين الفلسطينيّين، في ذلك اليوم من كلّ عامٍ، ما دامت القدس رازحةً في قيود أعداء الإسلام.

 

يعتقد الإمام الخمينيّ، بأنّ الطريق الوحيد لتحرير القدس، والقضاء التامّ على إسرائيل، يتمثل في الإيمان بالله، واللجوء إلى الشهادة، والجهاد المسلّح.

 

يقول الإمام الخمينيّ، عن الشيوعيّة: "منذ بداية ظهور الشيوعيّة، كان أدعياؤها من أشدّ الحكومات استبدادًا وتسلّطًا في العالَم". ويقول سماحته، عن التقدّم الغربيّ: "إنّنا نقبل التقدّم الذي حقّقه الغرب، ولكنّنا نرفض الفساد الغربيّ الذي يَئِنُّون، هم أنفسهم، من آثاره المخرّبة". "التربية الغربيّة تجرّد الإنسانَ من إنسانيّته". "إنّنا لا نعارض الحضارة، وإنّما نعارض الحضارة

 

154


147

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

المستوردة". "إنّنا نريد حضارةً تقوم على أساس العزّة والإنسانيّة".

 

لقد أكّد الإمام، مرارًا، على الدور الأساسيّ للثقافة، وكان يقول: "الثقافة هي منطلقُ سعادةِ أيّ شعبٍ أو تعاسته... إنّ ما يبني الشعوب هو الثقافة الصحيحة". "إنّ الشبع الحيوانيّ ليس هو المِلاك، المِلاك هو كرامة الإنسان"، "ما دام الإنسان يصرّ على مواصلة حياته، تحت ظلّ السلاح، فليس بمقدوره أن يكون إنسانًا، ولن يتمكّن من بلوغ الأهداف الإنسانيّة". "احرصوا، من خلال البيان والقلم، أن تضعوا الأسلحة جانبًا. الميدانُ ميدانُ صراعٍ بالأقلام والعلوم والفكر".

 

يرى الإمام الخمينيّ، أنّ الفنّ المسخّر لخدمة الاستعمار والاستغلال، و"الفنّ من أجل الفنّ"، أمرٌ سلبيٌّ يفتقد إلى أيّة قيمةٍ. يقول سماحته: "الفنّ، في العرفان الإسلاميّ، تجلٍّ للعدالة والعزّة والإنصاف، وتجسيدٌ لمرارة الجوع التي يعاني منها المغضوب عليهم، من قِبَل أصحاب القدرة والمال".

 

كان الإمام الخمينيّ أستاذًا نموذجيًّا في حقل التعليم والتربية، سواءٌ في المجال النظريّ أو العمليّ. لقد نجح، بأساليبه التربويّة، في دفع مجتمعه إلى الانسجام مع نهضةٍ دينيّة كبرى، بعد أن كان قد جُرَّ، بفعل جرائم العائلة البهلويّة الخائنة وعملاء الفكر الغربيّ، نحو ثقافةٍ وقيمٍ منحطّةٍ، ورُوِّضَ على اللاأباليّة وعدم الاكثرات.

 

نقلوا أنّه خلال أحداث الخامس من حزيران عام 1963م، وفي تلك الظروف الاجتماعيّة المؤسفة وأجواء الكبت، قال بعضهم لسماحته: بأيّ أفرادٍ وأيِّ أملٍ تتطلّع لإقامة حكومة العدل؟ فأشار سماحته إلى مهدٍ ينام فيه طفلٌ صغيرٌ. والعجيب المدهش، أنّ الدور الأساسيّ في أحداث الثورة، بعد خمسة عشر عامًا من تاريخ تلك الحادثة، قام به الطلّاب والتلاميذ المسلمون الإيرانيّون!

 

كان الإمام يعتقد بأنّ مراقبة النفس، والسعي الدؤوب في تهذيبها من الأهواء النفسانيّة والشيطانيّة، في جميع مراحل

 

155


148

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

الحياة، يُعَدُّ ضرورةً لبلوغ الكمال الحقيقيّ. وكان يعتقد بأنّ التربية يجب أن تبدأ منذ الطفولة، وحتّى المراحل الثانويّة منها، يجب أن لا تغيب عن نظر الأمّ. لذا، كان يقول: "لا يوجد عملٌ أشرف من الأمومة". "إنّ أوّل مدرسةٍ للطفل هي حضن الأم".

 

كان الإمام يقول لمربّي المجتمع: "انتبهوا إلى أنّ المرحلة المدرسيّة أهمّ من المرحلة الجامعيّة، ذلك لأنّ النموّ العقليّ للأطفال، إنّما يتشكّل في تلك المرحلة". "إنّ المعلّم مؤتمنٌ على شيءٍ يختلف عن الأمانات كلّها، إنّه مؤتمنٌ على الإنسان". "إنّ أشكال السعادة والشقاء جميعها، إنّما تنبعث من المدارس، ومفتاح ذلك بأيدي المعلّمين".

 

يرى الإمام أنّ التعليم عمل الأنبياء، وأهمّ مسؤوليّةٍ تقع على عاتق المعلّم -بصرف النظر عن تقديمه العلوم المختلفة- هي هدايتُه المجتمعَ نحو الله.

 

الإمام يسمّي الإنسانَ "عصارة جميع موجودات العالَم!"، ويقول: "الإنسان أعجوبة، فمنه يمكن أن يُصنَع موجودٌ إلهيٌّ ملكوتيٌّ، أو موجودٌ جهنّميٌّ شيطانيٌّ".

 

ويقول: "بتربية الإنسان، يصلح العالَم". كما إنّه يعتبر التربية والتزكية مُقدَّمةً على التعليم، ويرى بأنّ المتعلّم، إذا لم يُقرِن تعلّمَه بتزكية النفس، فإنّه يصبح -على الرغم من سموّ العلم- مثل الآلة، في

 

156

 


149

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

خدمة الأهداف الشيطانيّة. وكان يقول: "إذا دخل العلمُ قلبًا قاسيًا، أو عقلًا فاسدًا من الناحية الأخلاقيّة، فإنّ ضررَه أشدُّ من الجهل".

 

إنّ أحد أهمّ منجزات نهضة الإمام الخمينيّ في إيران، تمثل في استعادة المرأة لدورها الفعّال في المجال الاجتماعيّ. ويمكن القول، بجرأةٍ: إن المرأة الإيرانيّة لم تبلغ، طوال التاريخ الإيرانيّ، هذا المستوى من الوعي السياسيّ العامّ، ولم يكن لها مثل دورها الآن في تقرير مصير البلاد. ففي ذروة انتفاضة الشعب ضدّ النظام الشاهنشاهيّ، كانت المرأة تتقدّم، جنبًا إلى جنب الرجل، بل وفي طليعته. وطوال الحرب العراقيّة المفروضة، قامت النساء المسلمات، في إيران، بدورٍ لا نظير له في الحروب المعاصرة، وذلك من خلال تهيئة الإمكانات لجبهات الحرب، وتشجيع إخوانهنّ وأزواجهنّ على المشاركة في الدفاع عن الإسلام والثورة، بل حتّى المشاركة المباشرة في توفير ما تحتاجه الخطوط الأماميّة للجبهة.

 

والآن أيضًا، فإنّ المرأة في المجتمع الإيرانيّ، تؤدّي دورها، جنبًا إلى جنب الرجل، في النشاطات الاجتماعيّة، وفي حقل التربية والتعليم، والجامعات، والمجالات الصحّيّة، وفي الدوائر الحكوميّة، وسائر المجالات.


في حين أنّ النساء، قبل انتصار الثورة الإسلاميّة - ونتيجةً للمحيط الفاسد الموبوء الذي أوجده النظام الملكيّ البائد - كنّ مضطرّاتٍ لالتزام المنزل، وكانت الكثير من الفتيات - خصوصًا في القرى - محروماتٍ من نعمة التعليم. أمّا أولئك اللاتي كانت الفرصُ متاحةً لهنّ في المدن الكبيرة لممارسة دورهنّ في النشاطات الاجتماعيّة، فقد انشغلن في مواجهة هجوم الثقافة المنحطّة، في ظروفٍ غايةٍ في التعقيد، للدفاع عن شرفهنّ وعفّتهنّ، في حين اضطرّت الأخريات إلى ترك العمل والدراسة بسبب ذلك.

 

إنّ التحوّل الذي شهده المجتمع النسويّ الإيرانيّ، مرهونٌ، وقبل كلّ شيءٍ، بنظرة الإمام الخمينيّ الخاصّة إلى شخصيّة المرأة ومنزلتها ودفاعه عن حقوقها. يقول سماحته:

 

157


150

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

"إنّ للمرأة، في النظام الإسلاميّ، الحقوقَ نفسها التي للرجل، بما في ذلك حقّ الدراسة، وحقّ العمل، وحقّ التملّك، وحقّ التصويت، وحقّ الترشيح". "لا يوجد فرقٌ بين الرجل والمرأة من ناحية الحقوق البشريّة، ذلك لأنّ كليهما إنسانٌ، وللمراة الحقّ في تقرير مصيرها، كالرجل تمامًا". ويقول سماحته: "إنّ ما يعارضه الإسلام ويعدّه حرامًا، هو الفساد، سواءٌ أكان من قِبَل المرأة أو الرجل". "إنّنا نريد للمرأة أن تتسنّم موقعها الإنسانيّ السامي، لا أن تكون ملعبةً... الإسلام لايريد للمرأة أن تكون شيئًا أو دميةً بيد الرجال، الإسلام يريد حفظ شخصيّة المرأة، ويهدف إلى أن يخلق منها إنسانًا جادًّا". "إنّ المراة، كالرجل، حرّةٌ في اختيار مصيرها، ونوع نشاطها". "إنّ الحرّيّة بالنمط الغربي - الذي يقود إلى ضياع الشبّان والفتية والفتيات - مرفوضةٌ بنظر الإسلام والعقل".

 

أمّا على الصعيد الاقتصاديّ، فقد كانت توصيات الإمام ومواقفه، تؤكّد، بشكلٍ عامٍّ، على تطبيق العدالة، ومنح الأولويّة لحقوق المحرومين والمستضعفين في المجتمع. إذ إنّ سماحته كان ينعت خِدمة المحرومين بأنّها "أعظم العبادات"، ويعتبر المحرومين أولياء نعمته ونعمة المجتمع. وإنّ أكثر ما أوصى به الإمام مسؤولي النظام الإسلاميّ، هو الاهتمام بشؤون الفقراء، وتجنّب أخلاق المترَفين. وكان سماحتُه يعتقد بأنّ الحكومة والمسؤولين خدّامٌ للشعب، ولا حقّ للخادم أن يطالب بإمكاناتٍ تفوق مخدوميه. يقول سماحته: "إنّ شعرةً من رأس أحد سكنة الأكواخ والأقبية، ومنجبي الشهداء، أشرف وأعزّ من القصور وسكانها جميعًا". "إنّ من هم معنا، إلى آخر الشوط، هم أولئك الذين تذوّقوا طعم الفقر والمحروميّة والاستضعاف". "في اليوم الذي تتوجّه حكومتُنا للاهتمام بالقصور الفخمة، علينا أن نقرأ الفاتحة على الحكومة والشعب معًا".

 

من سمات الإمام الخمينيّ البارزة، هي أنّ حديثَه ينبع دومًا من اعتقاده الراسخ بما يقول، وصدق ما يقول، وأنّه يطبّق ما يقول. لقد كانت حياة الإمام نموذجًا في الزهد والقناعة والبساطة. وهذا لا يقتصر على عهد مرجعيّته وقيادته فقط، وإنّما يمتدّ إلى عهد حكومته، فهو يرى أنّ على القائد أن يعيش حياةً بسيطةً، كحياةِ أبسطِ طبقات المجتمع، بل حتّى دون ذلك. وقد أصرَّ، طوال عمره المبارك، على الحياة الزاهدة. وعلى الرغم من أنّ ذكرياتٍ وخواطر كثيرةً كُتِبَت ونُشِرَت عن هذا الجانب من حياة الإمام، وإنّ ذكرها يتطلّب كتابًا ضخمًا، إلّا إنّه ما زال الكثير من أبعاد زهده وبساطة حياته مجهولًا حتّى الآن.

 

158

 


151

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

ولتوضيح بساطة حياة الإمام الخمينيّ، واعتقاده بضرورة الاحتياط الكامل في إنفاق بيت المال، يكفي أن نذكر أنّ المادة 142 من الدستور، التي اقتُرِحَت من قِبَل الإمام، تنصّ على أنّ ديوان القضاء العالي (المحكمة العليا في البلاد) مسؤولٌ عن حصر ممتلكات القائد والمسؤولين الحكوميّين الرفيعي المستوى، وتشخيصها، قبل وبعد تصدّيهم للمسؤوليّة، لضبط أيّة زيادةٍ تطرأ عليها دون حقٍّ. وقد بادر الإمام الخمينيّ إلى تسجيل ممتلكاته البسيطة كافّةً في كشفٍ رسميٍّ، بتاريخ 14/1/1981م، وسلّمها إلى ديوان القضاء العالي. ثمّ، وبعد وفاته مباشرةً، طالب نجلُه، من خلال رسالةٍ نشرتها الصحف المحلّيّة، السلطةَ القضائيّةَ بإعادة حصر ممتلكات الإمام وتشخيصها مجدّدًا، طبقًا للدستور.

 

وفي 2/7/1989م، أُعلِنَت نتيجة الحصر، في بيانٍ أصدره رئيس المحكمة العليا، صرّح فيه: بأنّ ممتلكات الإمام الخمينيّ البسيطة لم تبقَ على حالها وحسب، بل إنّها نقصت عمّا كانت عليه، فقطعة الأرض التي كان قد ورثها عن أبيه في خمين، وهبها في حياته إلى الفقراء في منطقته، فخرجت من ملكيّته. وأمواله غير المنقولة، تتمثّل في المنزل القديم الذي يمتلكه في قمّ، والذي كان، منذ عام 1964م -عام بدء النهضة - في خدمة أهداف النهضة، ومركزًا لتجمّع الطلبة والمراجعين من أبناء الشعب، وما زال -حتّى الآن- يفتقد صفة كونه مسكنًا.

 

كما ذُكر في الكشف المذكور -الذي تمّ تنظيمه عام 1981م، وأُعلِنَ عنه رسميًّا بعد وفاته- بأنّ ممتلكات الإمام تشمل الآتي: عددًا من الكتب، بعض الوسائل الأوّليّة المستعمَلة التي كانت في منزله، وهي تخصُّ زوجته، قطعتين من السجّاد المستعمل (وقد أوصى بإعطائها إلى الفقراء بعد وفاته). كما

 

159

 


152

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

أُشِيرَ إلى عدم وجود أثاثٍ شخصيٍّ، وعدم وجود أموالٍ شخصيّةٍ، وإن وُجِدَ مالٌ، فهو من الحقوق الشرعيّة التي يقدّمها المسلمون إلى الإمام، لإنفاقها في مواردها الشرعيّة المعيّنة، ولا حقّ للورثة فيها.

وعليه، فإنّ ما ورّثه هذا الرجل، الذي عمّر ما يناهز التسعين عامًا، وعاش يتمتّع بأقصى درجات المحبوبيّة مِن قِبَل الناس، يشمل الآتي: نظّاراتٍ، ومقرضة أظافر، ومشطًا، ومسبحةً، ومصحفًا، وسجّادة صلاةٍ، وعمامةً، وثيابَه الخاصّة، ومجموعةَ كتبٍ في مختلف العلوم الدينيّة.

 

ذلك كشفٌ بممتلكات رجلٍ لم يكن قائدًا لبلدٍ نفطيٍّ غنيٍّ يبلغ تعداد سكّانه عشرات الملايين فحسب، بل إنّه كان حاكِمًا على قلوب الملايين من الناس، ممّن وقفوا في صفوفٍ طويلةٍ ليتطوّعوا للشهادة، حينما أصدر أوامره بتشكيل قوّات التعبئة، للدفاع عن الإسلام. وهم أنفسهم، كتبوا الرسائل أو تجمّعوا أمام المستشفى التي رقد فيها الإمام، معلنين استعدادَهم للتبرّع بقلوبهم لسماحته.

 

إنّ سرّ هذه المحبوبيّة كلّها، يجب أن يُبحَث عنه في ذلك الإيمان الحقيقيّ والزهد والصدق.

 

كان الإمام الخمينيّ يعتقد – بشدَّةٍ - بأهمّيّة البرمجة لجوانب حياته، وبالنظم والانضباط. فهو يتوجّه للعبادة وذكر الحقّ وقراءة القرآن والدعاء والمطالعة في ساعاتٍ محدّدة من الليل والنهار. كما إنّ ممارسة المشي والانشغال بالذكر والتفكّر، كانت جزءًا من برنامجه اليوميّ. كان جدول أعماله حافلًا يفوق العديد من القادة السياسيّين -على الرغم من اقترابه من التسعين من العمر - ولم يكن يستغني عن الخدمة في سبيل الله - تعالى -، وخدمة المجتمع الإسلاميّ، وحلّ مشكلاته، حتّى في أشدّ الحوادث تعقيدًا. وعلاوةً على ممارسته المطالعة يوميًّا، كان يطّلع على أهمّ الأخبار والتقارير والصحف والمجلّات الرسميّة للبلاد، وعشرات الملفّات الخبريّة، ويستمع إلى أخبار الإذاعة والتلفزيون الإيرانيّة، وإلى التحليلات والتقارير والأخبار التي تذيعها الإذاعات الأجنبيّة باللغة الفارسيّة ليلًا، وعلى مختلف ساعات الليل،

 

160

 


153

نظرةٌ إلى اعتقادات الإمام الخمينيّ، وأهدافه، وتطلّعاته

ليُكَوّن صورةً عن الإعلام المعادي للثورة، ويفكّر في طريق مواجهته.

 

كذلك، فإنّ ازدحام جدول أعماله اليوميّ، وعقد الاجتماعات مع مسؤولي النظام الإسلاميّ، لم يَحُل أبدًا دون ارتباطه بالجماهير البسطاء، مَعين الثورة الإسلاميّة. وقد تمَّ جمع ما يزيد على 3700 لقاءٍ له مع الجماهير، في كتابٍ سُمِّيَ "محضر النور"، وذلك فقط في السنوات التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة، الأمر الذي يوضح عمق علاقة الإمام بجماهيره. لم يتّخذ الإمام أيّ قرارٍ يتعلق بمصير مجتمعه، ما لم يطرحه بصدقٍ مع أبناء الشعب. إذ كان يرى أنّ الجماهير تمثّل أهمّ شريحةٍ محترمةٍ لمعرفة الحقائق.

 

وجهٌ ذو ملامح وسيمةٍ عطوفةٍ، وتعابير حازمةٍ. نظراتٌ مفعمةٌ بالجاذبيّة، فيّاضةٌ بالمعنويّة. حينما تجلس الجماهير في محضره، تغرق، دون اختيارها، في جاذبيّةِ معنويّته، فتنطلق الدموع من عيون أكثر الحاضرين لاإراديًّا. إنّ للجماهير الإيرانيّة الحقَّ في دعائها الذي تعارفت عليه بعد انتصار الثورة، من التضرّع إلى الله بتحويل أعمارها إلى لحظاتٍ تُضافُ إلى عمر الإمام. فإذا كانَ العالَم البعيد عن المعنويّات قد غاب عنه ذلك، فإنّ هؤلاء - وهم الذين نشؤوا مع الإمام - يعرفون، عمليًّا، قدر اللحظات في عمر هذا العزيز، حيث أوقف حياتَه لله، ولخدمة خلق الله.

 

و مع أنّ عالَم الاستكبار ووسائل الإعلام الغربيّة قد ارتكبت ظلمًا كبيرًا بحقّ الإمام الخمينيّ، وقبله بحقّ البشريّة جمعاء، وشنّت لسنواتٍ حملةً مكثّفةً من الإعلام المضلّل، للنيل من شخصيّة الإمام وثورته الإسلاميّة، وحتّى إنّها ما زالت تواصل نهجها هذا، على الرغم من مرور أعوامٍ على رحيله، فإنّ عشرات المحطّات الإذاعيّة والتلفزيونيّة تبثّ اليوم برامجَها المعادية للثورة ولأهداف الإمام، باللغة الفارسيّة ليل نهارٍ، وعلى الرغم من أنّ إمكاناتٍ هائلةً قد وُضِعَت، في أميركا وأوروبّا، تحت تصرّف الفئات المعادية للثورة، بدءًا من أنصار الملكيّة، وانتهاءً باليساريّين ومجاهدي خلقٍ (المنافقين)، وعلى الرغم من أنّها سمحت - وما تزال - سنويًّا بنشر عشرات الكتب، ومئات المقالات والمنشورات، لقلب الحقائق المتعلّقة بنهضة الإمام الخمينيّ، إلّا أنّنا واثقون تمامًا، أنّ شمس الحقيقة ستبدِّدُ سُحب الخداع والتضليل.

 

لقد نجح العالَم الغربيّ -الذي أقام وجوده، منذ عدّة قرونٍ، وإلى الآن، على السعي في إحكام سلطته على سائر الشعوب واستغلالها، وخداع الرأي العامّ العالَميّ- في إدراك الخطر الحقيقيّ الذي يهدّده. وإلّا، فأيّ حرٍّ اطّلع على حياة الإمام الخمينيّ وبياناته، ثمّ لم يسلّم قلبَه طواعيّةً للسير على نهجه، ولم

 

161


154

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

ينتفض بوجه هذا النظام الحاكم على هذا العالَم؟!

 

حقًّا، لماذا يمنعون نشر وصيّة الإمام الخمينيّ ومطالعتها هي والكثير من آثاره وبياناته وخطاباته الأخرى، في أغلب الدول العربيّة والإسلاميّة، التي تعيش تحت سلطة الحكومات العمليّة، ويعتبرونه جُرمًا يطاله القانون؟ ولماذا هذا الدأب والتنسيق كلّه، على مستوى قادة العديد من الحكومات، للسيطرة على تسرّب مفاهيم الإمام الخمينيّ وأفكاره؟ ألم يكن سماحتُه يدافع عن الحقائق والقيم التي عانت البشريّة قرونًا بسبب فقدانها؟

 

إن كلّ من تعرّف على حياة الإمام الكريمة الطيّبة، وسمع بندائه، وعرف شخصيّته، يثق – تمامًا - أنّ المشعل الذي حمله سماحتُه لن يخبو، على الرغم من هذا الصخب المعادي وأعاصير التشويه والتحريف للحقائق كلّها ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[1].

 

◄| رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

[2]لقد بلّغ الإمام الخمينيّ قولًا، ومارس عمليًّا، جميع الأهداف والتطلّعات، وما كان ينبغي له قوله أو فعله كلّه، بل سخّر وجوده كلّه، على الصعيد العمليّ، من أجل تحقيق هذه الأهداف. والآن، وعلى أعتاب منتصف خرداد عام 1368هـ (أوائل حزيران 1989م)، أعدّ الإمام نفسَه للقاءِ عزيزٍ، أفنى عمره لكسب رضاه. ولم يَحنِ قامتَه لغيره، ولم تبكِ عيناه لسواه. وقد كانت أناشيدُه العرفانيّة كلّها تحكي ألم فراق المحبوب، وبيان تشوّقه للحظة وصاله. وها قد زُفَّت الآن لحظة الوصال، المؤنسة له، والعصيبة لأنصاره ومحبّيه، فقد كتب في وصيّته يقول: "بفؤادٍ وادعٍ، وقلبٍ مطمئنٍّ، ونفسٍ مبتهجةٍ، وضميرٍ يؤمّل فضلَ الله، أستودعكم أيّها الإخوة والأخوات، لأرحلَ إلى مقرّيَ الأبديّ،

 


[1] سورة الصفّ، الآية 8.

 

162


155

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

وأنا بحاجةٍ مبرمةٍ إلى صالح دعائكم. وأسال الله الرحمن الرحيم، أن يقبل عذري في نقصِ الخدمة، وفي القُصور والتقصير. وأرجو من أبناء الشعب أن يقبلوا عذري في كلّ نقصٍ وقصورٍ وتقصيرٍ، وأن يسيروا قدمًا بعزمٍ ومضاءٍ".

وحينما تقف الجماهير المحبّة للإمام جنب ضريحه، فإنّها تتمتم بهذه العبارات المتواضعة، لتجيب سماحته قائلةً: أيّها الإمام، عن أيّ قصورٍ أو تقصيرٍ تتحدّث؟! فعلى حدِّ علمنا وعلم آبائنا، وطبقًا لِمَا رأينا وسمعنا، إنّك كنت صلاحًا ونورًا وطهرًا خالصًا، "أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وجاهدت في الله حقّ جهاده"[1].

 

الغريب أنّ الإمام الخمينيّ، قال في إحدى قصائده التي نظمها قبل سنواتٍ من وفاته:

تمرّ السنون وتتوالى الحوادث

                      وأنا أنتظر الفرج في منتصف خرداد

 

وتتحدّث الأبيات التي سبقت هذا البيت عن ألم الهجران، والأمل بتحقّق لحظة الوصال.

 

وها هي لحظة وصال المحبوب قد حانت، في النصف من خرداد، عام 1989م.

 

قبل أيّامٍ معدودةٍ من رحيله، علمت الجماهير بمرض الإمام، وما أُجرِيَ له من عمليّةٍ جراحيّةٍ. إنّ الوضع الروحيّ للجماهير، في تلك الأيّام، يعجز الإنسان حقًّا عن وصفه، فمراسم الدعاء والتوسّل تجري في كلّ حدبٍ وصوبٍ، في المنازل والحسينيّات والتكايا والمساجد وفي مختلف أنحاء البلاد، بل في كلّ مكانٍ من العالَم وُجِدَ فيه محبٌّ للإمام.

 

ولعلّك، في تلك الأيّام، لا تكاد ترى أحدًا بمقدوره إخفاء آثار الحزن والغمّ عن محيّاه. العيون باكيةٌ، والقلوب متعلّقةٌ بجماران. الساعات تمرّ ببطءٍ شديدٍ، وإيران كلّها تلهج بالدعاء. الفريق الطبّيّ المشرف على علاج الإمام، استنفد ما في وسعه، غير أنّ إرادة الله تدفع


 


[1] مقطعٌ من نصِّ الزيارة الذي أُعِدّ لزيارة مرقد الإمام الخمينيّ (قدس سره).

 

163


156

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

المقادير باتّجاهٍ آخر: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *  ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾[1].

 

في تمام الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقةً قُبَيل منتصف الليل، من الثالث عشر من خرداد 1368 (حزيران 1989م)، حانت لحظة الوصال. وتوقّف القلب الذي أضاء قلوبَ الملايين بنورِ الله والمعنويّة.

 

في الأيّام التي لازم فيها سماحتُه فراشَ المستشفى، وضع محبّو الإمام عدسةً خفيّةً تصوّر الإمام في تلك الأيّام، وأثناء العمليّة الجراحيّة، ولحظة التحاقه بالرفيق الأعلى. وحينما بثّ التلفزيون الإيرانيّ جانبًا من حالات الإمام المعنويّة والاطمئنان الذي كان عليه، كادت القلوب تتفجّر من الشوق، بما يعجز أيّ وصفٍ عن التعبير عنه.

 

كانت الشفتان في ذكرٍ دائمٍ، وفي آخر ليلةٍ من عمره الشريف، وبينما كانت عدّة حقنٍ من الموادّ المغذّيّة موصولةً بذراعيه، قام ليلَتَها يؤدّي نافلة الليل، ويتلو القرآن. بَدَت على محيّاه، في الساعات الأخيرة، طمأنينةٌ وهدوءٌ ملَكُوتيّان، وكان يتمتم، بصورةٍ دائمةٍ بالشهادة بوحدانيّة الله، ويقرّ باعتقاده برسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى عرجت روحَه العظيمةَ إلى الملكوت الأعلى. فكانت الراحلةُ التي خلّفت في القلوب نارًا لا تخمد.

 

ولمّا أُذِيع خبرُ رحيل الإمام، حدث ما يشبه الزلزال العظيم، فتفجّرت الأحزان، وانفجرت العيون بالدموع، في إيران وفي كلّ مكانٍ وُجِدَ فيه من عَرَف الإمامَ، ونهل من فيض هدايته. وراح المحبّون يلطمون الرؤوس والوجوه، بما تعجز الأقلام، بل يعجز أيّ بيانٍ عن تصوير أبعاد ما حصل، وما تدفّق من أمواج الأحاسيس والمشاعر المتلاطمة.


 


[1] سورة الفجر، الآيتان 27 و28.

 

164


157

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

ويحقّ للشعب الإيرانيّ وللمسلمين الثوريّين هذا النحيب كلّه، والضجّة التي لم يسجّل التاريخ نموذجًا يضاهيها بالشدّة والعظمة، إذ إنّهم فقدوا عزيزًا، أعاد لهم عزّتهم المهدورة، وكفّ أيدي الملوك الظالمين والناهبين الأمريكيّين والغربيّين عن أراضيهم، وأحيا الإسلام، وحقّق للمسلمين المجد والعزّة، وأقام الجمهوريّة الإسلاميّة، ووقف بوجه القوى الشيطانيّة بثباتٍ، ليواجه مئات المؤامرات التي استهدفت إسقاط النظام، وقلب نظام الحكم، وإثارة الفتن في الداخل والخارج، طوال عشرة أعوامٍ. كذلك، قاد الدفاع المقدّس على مدى ثمانية أعوامٍ، في جبهةٍ واجه فيها عدوًّا كان يحظى، بشكلٍ صارخٍ، بدعم القِوى الشرقيّة والغربيّة الكبرى.

 

لقد فقدت الجماهيرُ قائدها المحبوب، ومرجعها الدينيّ، والمنادي بالإسلام الأصيل. ربّما يقف أولئك العاجزون عن درك واستيعاب هذه المفاهيم، حيارى، وهم يشاهدون حال الجماهير التي عرضتها الأفلام التلفزيونيّة، أثناء مراسم توديع الجثمان الطاهر للإمام الخمينيّ وتشييعه ودفنه. ولعلّهم يُصابون بالدهشة، إذا ما سمعوا بوفاة العشرات الذين لم يتمكّنوا من تحمّل ثقل الصدمة، فتوقّفت قلوبهم عن العمل، أو بسقوط العشرات الآخَرين مغشيًّا عليهم من شدّة الحزن، وتناقلتهم الأيدي فوق رؤوس أمواجٍ هائلةٍ من البشر، ليُنقَلوا إلى المستشفيات، إلى غير ذلك...

 

بيد أنّ أولئك الذين يعرفون معنى الحبّ، والذين امتحنت قلوبُهم لذّتَه، يرون ذلك كلّه أمرًا طبيعيًّا.

 

165

 


158

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

والحقّ أنّ الجماهير الإيرانيّة كانت مُحبّةً للإمام الخمينيّ، وما أجمل الشعار الذي رُفِعَ في الذكرى السنويّة لوفاته: "حبّ الخمينيّ، حبٌّ لكلِّ ما هو جميلٌ!".


في الرابع من حزيران 1989م، عقد مجلس خبراء القيادة جلسته الرسميّة، وبعد ان تليت وصيّة الإمام الخمينيّ من قبل آية الله الخامنئي ـ وقد استغرق قراءتها ساعتين ونصف الساعةـ ابتدا البحث والتشاور حول تعيين من يحلُّ محل الإمام الخمينيّ ليكون قائدًا للثورة الإسلاميّة، وبعد ساعات من البحث والنقاش تمّ وبالاجماع ترشيح آية الله السيّد على الخامنئي (رئيس الجمهوريّة انذاك) لتسنم هذا الموقع الخطير. واية الله الخامنئي هو أحد طلّاب الإمام الخمينيّ (قدس سره) ومن الوجوه البارزة في الثورة الإسلاميّة، ومن انصار انتفاضة الخامس من حزيران، وقف جنبًا إلى جنب سائر انصار الثورة حاملًا روحه في راحتيه طوال فترة نهضة الإمام وفي جميع الحوادث التي شهدتها الثورة.

 

سنواتٌ عديدةٌ، والغربيّون وعملاؤهم في الداخل، كانوا يؤمّلون أنفسهم بأيامِ ما بعد رحيل الإمام الخمينيّ، بعد أن يئسوا من إلحاق الهزيمة بالإمام في حياته. لكنَّ وعيَ الشعب الإيرانيّ وسرعة مجلس خبراء القيادة في اختيار الشخص المناسب للقيادة، ودعم أنصار الإمام لذلك، بدّد آمال أعداء الثورة. ولم يخب أملهم في أن تكون وفاة الإمام نهايةَ نهجه فحسب، بل إنّ عصر الإمام الخمينيّ -في الحقيقة- ابتدأ على نطاقٍ أوسع من السابق بعد وفاته. وهل يموت الفكر والصلاح والمعنويّة والحقيقة؟!

 

في يومِ وليلةِ الخامس من حزيران 1989م، تجمّع الملايين من أبناء طهران، والمعزّون من أبناء المدن والقرى، في مصلّى طهران الكبير ليُلقوا النظرةَ الأخيرة على الجثمان الطاهر، لرجلٍ أعاد، بنهضته وثورته، سيادةَ القيم والكرامة، في عصر الظلم الأسود، وفجّر في الدنيا نهضةَ التوجّه إلى الله، والعودة إلى الفطرة الإنسانيّة.

 

166

 


159

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

لم يكن ثمّة أيّ مظهرٍ من مظاهر المراسم التشريفاتيّة عديمة الروح. كلُّ شيءٍ كان جماهيريًّا تعبويًّا وعشقيًّا. وكان جثمان الإمام، الموشّح بالقماش الأخضر، موضوعًا على دكّةٍ عاليةٍ، يضيء كدرّةٍ نفيسةٍ، ويتحلّق حوله الملايينُ من أصحاب العزاء. وكان كلُّ واحدٍ من ذلك الجمع الغفير، يتمتم بحزنٍ مع إمامه الفقيد، ويذرف الدموع. امتلأ المكان والطرق السريعة المؤدّية إلى المصلّى بالجماهير الموشّحة بالسواد. ورُفِعَت أعلام العزاء على الأبواب والجدران، وانطلق صوتُ القرآن يُدوّي من مآذن المساجد والمراكز والدوائر والمنازل. وما إن هبط الليل، حتّى أُوقِدَت الشموع، تذكيرًا بالمِشعَل الذي أوقده الإمام، وأضاءت منطقة المصلّى وما حولها. تحلّقت العوائل المفجوعة حول شموعها، وهي ترنو إلى المرتفع النورانيّ، الذي رقد فيه إمامهم المحبوب.

 

لقد أحالت صرخات "يا حسين" - التي كانت تنطلق من التعبويّين، الذين شعروا باليُتم- المكانَ إلى عاشوراء جديدةٍ. هل حقًّا أنّ هذا الصوت الربّانيّ لم يعد ينطلق من حسينيّة جمران؟ بقيت الجموع المفجوعة تندب فقيدَها حتّى الصباح.

 

وفي الساعات الأولى من يوم السادس من حزيران، أدّى الملايين الصلاة على جثمانه الطاهر، بإمامة آية الله العظمى الكلبايكانيّ.

 

إنّ عظمة الموقف الحماسيّ، الذي جسّدته الحشود المليونيّة، التي هبّت لاستقبال الإمام الخمينيّ، في الثاني عشر من بهمن عام 1357ش (الأوّل من شباط عام 1979م)، وتكراره ثانيةً، وبنحوٍ أكثر أبّهةً وعظمةً، في مراسم تشييع جثمان الإمام الطاهر، لهي حقًّا من عجائب التاريخ! لقد قدّرت وكالات الأنباء العالَميّة الرسميّة، عام 1979، عددَ الذين جاؤوا لاستقبال الإمام، بستّة ملايين شخصٍ. أمّا الذين

 

167


160

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

شاركوا في مراسم التشييع، فقد قُدِّروا بتسعة ملايين شخصٍ. هذا في وقتٍ تضافرت جهودُ البلدان الغربيّة والشرقيّة، خلال الإحدى عشرة سنةً من قيادة الإمام، في تصعيد عدائها للجمهوريّة الإسلاميّة، وفُرِضَ عليها حربُ الثماني سنواتٍ، ومئات المؤامرات والدسائس الأخرى، وجرّعوا أبناء الشعب الإيرانيّ معاناةً ومعضلاتٍ كثيرةً، وأفقدوه أعزّةً لا يُحصَون في هذا الطريق. وقد كان ينبغي، في الحالة الطبيعية، أن يتعب أبناء الشعب ويفتر حماسهم تجاه ثورتهم، إلّا أنّ ذلك لم يتحقّق مطلقًا. إنّ الجيل الذي تربّى في مدرسة الإمام الخمينيّ، كان قد آمن، تمامًا، بمقولة الإمام التي يقول فيها: "إنّ القدرةَ على تحمّلِ المعاناةِ والآلامِ والتضحياتِ والحرمانِ، تتناسبُ مع عظمةِ الهدفِ وقيمتِه وسموِّه".

 

بدأت مراسم التشييع، فانطلقت الجموع الغفيرة، من مصلّى طهران، إلى مرقد الإمام، جوار مقبرة جنّة الزهراء (مزار الشهداء). وضجّت الجموعُ، أطفالًا ونساءً ورجالًا، وكأنّ أرواحَهم تُزهَق من أبدانهم. مرّت ساعاتٌ دون أن يتمكّن الجمع من الحركة، بسبب تدفّق الأحاسيس والمشاعر، التي يصعُب التحكّم بها، ممّا اضطرّ المسؤولون إلى حمل الجثمان الطاهر بطائرةٍ سمتيّةٍ، لِيُنقَل إلى مثواه الأخير.

 

ومع أنّهم كانوا قد وضعوا حواجز عاليةً للحيولة دون ازدحام المعزّين في محلّ الدفن، إلّا أنّه ما إن حطّت الطائرة على الأرض، حتّى اضطرب كلُّ شيءٍ. فقد تأجّجت نار الفراق في القلوب، وفجّر الإحساس

 

168

 


161

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

بالفراق الحزنَ والغضبَ، إلى درجةٍ جعلت جهودَ المكلَّفين كلَّها بإتمام عمليّة الدفن، تذهب سُدًى. وكان التلفزيون ينقل الوقائع في بثٍّ حيٍّ. وبصعوبةٍ بالغةٍ، تمّ استرداد الجثمان من أيدي الجماهير، وأُعِيدَ إلى الطائرة، وحُمِلَ من جديدٍ نحو حسينيّة جماران.

 

إنَّ أُولئك القابعين في الغرب، أو في ظلّ رؤيتهم الغربيّة، ممّن يرَون الحياة عبارةً عن نافذةٍ تطلّ على المال واللذة، وقد نسوا -في صخب الحياة الآليّة- الأصالةَ والحبَّ الحقيقيّ والقيم. لا يمكنهم أن يدركوا أبعاد ما يشاهدونه من صور تدفين جثمان الإمام الطاهر.

 

فلو سمح التضليل والتحريف ونعيق الإعلام المسموم لأعداء الحقيقة، بأن يطّلع هؤلاء على وصيّة الإمام فحسب، أو خطابٍ من خطاباته، بنحوٍ يتجرّدون فيه عن الخلفيّات المسبقة، وبوحيٍ من الإنصاف والفطرة والوجدان، فإنّهم، لا شكّ، سوف يغيّرون نظرتهم.

 

بعد أن تعذّر إتمام مراسم الدفن، نتيجةً لتدفّق مشاعر المعزّين، أعلنت الإذاعة، وعبر بيانٍ رسميٍّ، عن تأجيل المراسم إلى إشعارٍ آخر. غير أنّ المسؤولين كانوا على يقينٍ من أنّ مرور الوقت سيضاعف أعداد الوافِدين من عشّاق الإمام، من المدن والقرى البعيدة. لذا، اضطرّوا إلى اتمام

 

169


162

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

الدفن في عصر ذلك اليوم، مُتَحَمِّلين أشدّ المعاناة والصعوبات البالغة. وقد نقلت بعضُ وكالات الأنباء، جانبًا من تلك المراسم.

إنّ عشرات المجلّدات، التي ضمّت القصائد الشعريّة التي نظمها الإيرانيّون وغير الإيرانيّين، والتي تمّ جمعُها ونشُرها فيما بعد، تُعَدُّ، بذاتها، تعبيرًا عن طبيعة العواطف الجماهيريّة التي تفجّرت في تلك الأيّام. وكان من بينها، ما عُدَّ من أمّهات القصائد، ومن أروع الملاحم الشعريّة في الأدب الفارسيّ.

 

ومنذ ذلك اليوم، أخذت تُقَام مراسمُ العزاء، في الرابع من حزيران من كلّ عامٍ، وحتّى تاريخ كتابة هذه السطور، بالعظمة والأبّهة نفسها، التي أُقِيمَت بها في السنة الأولى.

 

وبهمّة عشّاق الإمام، تمّ تشييد مبنًى حول ضريحه المقدّس بسرعةٍ لا تُصَدَّق، كتعبيرٍ عن نوعٍ من وفاء الأمّة الإسلاميّة لهذا القائد المعنويّ العظيم، وترجمةٍ لخلوده الأبديّ. وأضحى مزارُه الشريف - خصوصًا في المناسبات الدينيّة - ملتقى أحبّائه وزوّاره، من أنحاء إيران، ومن سائر البلدان. وراحت الراية الحمراء، التي ترفرف فوق قبّة ضريحه، تُعِيد إلى الأذهان الرايةَ الحمراءَ لقبّة سيّد الشهداء، الحسين بن عليٍّ (عليْه السّلام)، وتُذكّر بأنّ النهضة العاشورائيّة للإمام الخمينيّ أيضًا -كما هو حال الثورة الحسينيّة - ستدفق دماءَ العزّة والإنسانيّة والاستقامة على دين الله، في عروق المسلمين الغيارى على مرّ التاريخ.

 

170


163

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

وهكذا، أضحى رحيلُ الإمام، كما كانت حياته، منشأً للصحوة والنهضة، وخلّد نهجَه وذكراه، لأنّه كان حقيقةً،

والحقيقةُ خالدةٌ ما خلد الدهر.

 

 

171

 

 

 

 

 

 

 

 

 


164

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

لقد كان سماحتُه تجلّيًا من تجلّيات "الكوثر". وإنّ كوثر الولاية متدفّقٌ أبدًا على مرّ العصور والأزمان. وستبقى حكايةُ هذا العبد الصالح خالدةً خلودَ الدهر.

 

والسلامُ عليهِ يومَ وُلِدَ وَيومَ ماتَ وَيومَ يُبعَثُ حيًّا!

 

172

 


165

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

◄| مؤلّفات الإمام الخمينيّ قدس سره

ترك الإمام الخمينيّ عشرات الكتب والمصنّفات القيّمة في البحوث الأخلاقيّة، والعرفانيّة، والفقهيّة، والأصوليّة، والفلسفيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، وإنّ الكثير منها لم يرَ النور حتّى الآن. وممّا يُؤسَف له، أنّ عددًا من رسائله ومؤلّفاته النفيسة، فُقِدَت أثناء الانتقال من منزلٍ مستأجرٍ إلى آخر، وخلال مداهمات أزلام السافاك المتكرّرة لمنزله ومكتبته الشخصيّة.

 

كان الإمام يمتلك خطًّا جميلًا، وكان يتّبع، في تأليفاته، قواعدَ التصنيف القديمة والنظم في الكتابة، ويتجنّب الإطالة. إنّ أسلوبه النثريّ، واستخدام المحسّنات البديعة، والإبداع في التراكيب والأساليب المحبّبة، التي كانت تتجلّى في بياناته السياسيّة والدينيّة، أحدث تحوّلًا في الأدبيّات الدينيّة والسياسيّة في إيران. وإن المفردات والتركيبات الخاصّة بالإمام، أصبحت اليوم متداولةَ الاستعمال في المتون الأدبيّة الفارسيّة، بل حتّى في عُرف المحاورات العامّة لدى الشعب الإيرانيّ. وممّا يُذكَر، أنّ بعض مؤلّفات الإمام، وتناسبًا مع موضوعها التخصّصيّ (الفقه، الأصول والعرفان)، كتب أساسًا باللغة العربيّة، كما إنّ بعضها كُتِبَ باللغة الفارسيّة.

 

وإضافةً إلى المؤلّفات العلميّة، كان لدى الإمام عددٌ من الرسائل العلميّة لبعض المفكّرين، تُعَدّ نسخًا خطّيّةً فريدةً، قام سماحته بإعادة كتابتها بخطًّ جميلٍ.

 

كُتِبَتْ بعضُ مؤلّفات الإمام الخمينيّ بأسلوبٍ وبطريقةٍ تخصّصيّةٍ بحتةٍ، بحيث يتعذّر فهم متونها وموضوعاتها دون الاستعانة بشرحِ أو تفسيرِ أساتذة ذلك العلم. وبعضها الآخر، كُتِبَ بأسلوبٍ بسيطٍ. فالكتب التي أُعِيدَ طباعتُها من قِبَلِ مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره مؤخّرًا، امتازت

 

173


166

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

بمزايا إيجابيةٍ كثيرةٍ، منها: التقديم والهوامش التوضيحيّة والفهارس التي أُضِيفَت إليها، كذلك دقّة طباعتها وصحّة متونها، وما أُرفِق بها من صورٍ عن أصلِ نسخِها الخطّيّة. ويُذكَر أنّ بعض آثار الإمام، قامت المؤسّسة بنشره لأوّل مرّةٍ، وما زالت بعض مصنّفات الإمام لم ترَ النور بعد، ويتمّ الآن تنظيمها، وكتابة توضيحاتٍ لها، وإعداد فهارس لها، لتجد طريقها إلى النشر.

 

نورد فيما يلي، تعريفًا بأسماء مؤلّفات الإمام الخمينيّ وتصانيفه، تبعًا لتاريخ كتابتها. وبطبيعة الحال، إنّ التعريف بأيّ واحدٍ من هذه المصنّفات، يتطلّب بحثًا مستقلًّا، وقد تمّ بالفعل إنجاز الكثير من ذلك، عبر مقالاتٍ وكتبٍ كثيرةٍ، نُحيل القارئَ إليها، إذا ما رغب في المزيد.

 

1- شرح دعاء السَحَر

كتابٌ يضمّ مسائل عرفانيّةً وفلسفيّةً وكلاميّةً عميقةً، اعتمد فيه الإمام الآياتِ القرآنيّة وروايات أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، في شرح دعاء المباهلة، المعروف بدعاء السحر. كتبه باللغة العربيّة عام 1347ه، وقام بترجمته إلى اللغة الفارسيّة سماحةُ السيّد أحمد الفهري، وطُبِعَ مرّاتٍ عديدةٍ، آخرها أصدرتها منشورات مؤسّسة اطّلاعات طهران عام 1991م. ويقع الكتاب في 239 صفحةً.

 

2- شرح حديث رأس الجالوت

شرحٌ لحديث رأس الجالوت (احتجاجات الإمام الرضا عليه السلام) على أصحاب الأديان المختلفة. من جملتها، احتجاجاته على اليهود في قضيّة رأس الجالوت. كتبه الإمام عام 1348ه (1929م)، وذكره مؤلّف كتاب "آئينة دانشوران" الذي نُشِرَ عام 1353هـ (1934م).

 

174


167

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

3- حاشية الإمام على شرح حديث رأس

الجالوت

إضافةً إلى الشرح الذي كتبه الإمام للحديث المذكور، وطُبِعَ في كتابٍ مستقلٍّ، كَتَب سماحتُه تعليقًا على شرح المرحوم القاضي سعيدٍ القمّيّ (من عرفاء القرن الحادي عشر) للحديث. وقد ذكره أيضًا، مؤلّف كتاب (آئينه دانشوران)، ومؤلّف كتاب الذريعة المرحوم الشيخ آغا بُزرك الطهرانيّ.

 

4- الحاشية على شرح الفوائد الرضويّة

في هذا الأثر العرفانيّ، كتب الإمام الخمينيّ آراءه على شكل حاشيةٍ لِكتابِ

"شرح الفوائد الرضويّة" للمرحوم القاضي سعيدٍ القمّيّ. وسوف يُنشَر هذا الكتابُ قريبًا، من قِبَل مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ  قدس سره.

 

5- شرح حديث جنود العقل والجهل

أثرٌ نفيسٌ في علم الأخلاق، يضمّ آراء الإمام الكلاميّة والأخلاقيّة والعرفانيّة بأسلوبٍ واضحٍ، وبذلك أتاح سماحتُه الفرصةَ لقِطاعٍ أوسع من الجماهير، للاستفادة منه، كما هي الحال مع كتاب "شرح الأربعين حديثًا". والكتاب الآن، في قسم الأبحاث التابع لمؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام، وستقوم المؤسّسة بنشره بعد الانتهاء من تنظيم هوامشه وفهارسه، ويُتَوَقّع أن يقع الكتاب في 800 صفحةٍ.

 

175


168

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

6- مصباح الهداية إلى الخلاقة والولاية

يُعتَبر هذا الكتاب من أعمق وألمع تصانيف العرفان الإسلاميّ في عصرنا الحاضر. فرغ الإمام من تأليفه عام 1349ه (1930م)، وهو في سنّ الثامنة والعشرين من عمره. آخر طبعات الكتاب صدرت عن منشورات مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام، عام 1993. يقع الكتاب في 315 صفحةً، ويضمّ مقدّمةً مُفصّلةً وتعريفًا بالأستاذ جلال الدين الأشتياني.

 

7- الحاشية على شرح فصوص الحِكَم

كتاب فصوص الحِكَم، من تأليف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربيّ، من عرفاء العالَم الإسلاميّ الكبار. وقد حظي بشروحٍ عديدةٍ، يُعَدُّ أفضلها شرحُ القيصريّ. كتب الإمام الخمينيّ عام 1355ه، حاشيةً باللغة العربيّة على شرح فصوص الحِكَم للقيصريّ، وهي توضح مدى إحاطة الإمام بآراء أساطين العرفان، نظير الشيخ الأكبر، والقونويّ الملّا عبد الرزّاق الكاشانيّ، والفرغانيّ، والعراقيّ، والقيصريّ. وقد طُبِعَ هذا الكتاب مع الحاشية على مصباح الأنس، في مجلّدٍ واحدٍ.

 

8- الحاشية على مصباح الأنس

كتاب "مصباح الأنس بين المعقول والمشهود" شرحٌ كتبه محمّد بن حمزة بن محمّدٍ الغفّاريّ، على كتاب "مفتاح الغيب" لأبي المعالي محمّد بن إسحاق القونويّ (من تلامذة محي الدين بن عربيّ البارزين)، الذي تناول موضوع العرفان النظريّ. وقد كتب الإمام الخمينيّ آراءه ونقدَه العلميّ على الكتاب، بشكلِ حاشيةٍ استوعبت ثلث الكتاب، وذلك عام 1355ه (1936م). طُبِعَت

 

176

 


169

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

الحاشيتان (على فصوص الحكم ومصباح الأنس) في كتابٍ واحدٍ، تحت عنوان "تعليقاتٌ على شرح فصوص الحِكَم ومصباح الأنس". ويقع الكتاب في 329 صفحةً، طبعته مؤسّسة "باسدار إسلام" في قمّ، عام 1986م.

 

9- شرح الأربعين حديثًا

"الأربعون حديثًا" أو "شرح الأربعين حديثًا"، أحد الآثار الأخلاقيّة والعرفانيّة النفيسة للإمام الخمينيّ. كتبه باللغة الفارسيّة، عام 1358هـ. ضمّ الكتاب أربعين حديثًا من أحاديث الأئمّة الأطهار، التي وردت في الكتاب الشريف "أصول الكافي" (الأحاديث الأربعة والثلاثون الأوّلى، عدا الحديث 11 في المسائل الأخلاقيّة، والأحاديث الستّة الأخيرة في المسائل الاعتقاديّة)، تمّ شرحها بصورةٍ مبسّطةٍ وبأسلوبٍ أدبيٍّ مؤثّرٍ. آخر طبعات الكتاب صدرت عن مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ عام 1993م. ويقع الكتاب في 900 صفحةٍ.

 

10- سرُّ الصلاة (صلاة العارفين ومعراج السالكين)

كتابٌ عرفانيٌّ عميقٌ، كتبه سماحة الإمام باللغة الفارسيّة، في بيان الأسرار المعنويّة والعرفانيّة للصلاة. وقد أتمّه عام 1358ه (1942م). ويمكن التعرّف على مدى إحاطة الإمام الخمينيّ بالعرفان النظريّ، وطيِّه مراتب العرفان العمليّ، من خلال بحوث هذا الكتاب العميقة والكتب التي مرّ ذكرها. صدرت آخر طبعات الكتاب عن مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام عام 1990م. ويقع الكتاب في 266 صفحةً، ويحتوي على مقدّمةٍ كتبها آية الله الجوادي الآمليّ، والعديدِ من الفهارس التوضيحيّة مع صورةٍ كاملةٍ من النسخة الخطّيّة للكتاب.

 

177

 


170

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

11- آداب الصلاة

صنّف سماحته هذا الكتاب عام 1361ه (1942م)، بُعَيد تأليف كتاب "سرّ الصلاة". وكتب سماحتُه في أوّل الكتاب يقول: "قبل فترةٍ قمتُ بتحرير رسالةٍ... ولأنّ الرسالة لاتناسب حال العامّة، قرّرت تأليف رسالةٍ أخرى لشرح الآداب القلبيّة لهذا المعراج الروحانيّ".

 

فهو، إذًا، شرحٌ مفصّلٌ لآداب الصلاة وأسرارها المعنويّة. والكتاب حافلٌ بالموضوعات الأخلاقيّة والعرفانيّة، وقد كتبه الإمام باللغة الفارسيّة. وصدرت آخر طبعاته عن مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام عام 1993م. ويقع الكتاب في 836 صفحةً، ويشتمل على مقدّمةٍ وفهارس وصورةٍ كاملةٍ عن النسخة الخطّيّة للكتاب. كما صدرت منه طبعةٌ أخرى تقع في 421 صفحةً لم تشتمل على الصورة الخطّيّة.

 

12- رسالة لقاء الله

رسالةٌ موجزةٌ كُتِبَت باللغة الفارسيّة، وتناولت المسائل العرفانيّة، وقد نُشِرَت من قِبَل مؤسّسة الفيض الكاشانيّ عام 1991 م، كمُلحقٍ لرسالة "لقاء الله"، التي ألّفها آية الله الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ (رَحمَه اللهُ).

 

13- الحاشية على الأسفار

قام الإمام الخمينيّ، طوال سنواتٍ عديدةٍ في قمّ، بتدريس كتاب "الأسفار الأربعة"، للفيلسوف الشهير صدر المتألّهين، وعلّق على بحوثه، إلّا أنّنا – للأسف - لم نعثر - حتّى الآن - على نسخةٍ من تعليقاته هذه. وتنوي مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، جمعَ ونشرَ مختاراتٍ من الآراء الفلسفيّة للإمام الخمينيّ، التي تمّ استقاؤها من تقريرات دروسه في الفلسفة من بعض تلامذته، لينتفع بها المجتمع الإسلاميّ.

 

178


171

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

14- كشف الأسرار

وهو كتابٌ سياسيٌّ عقائديٌّ واجتماعيٌّ، كتبه سماحته عام 1364ه (1944م)، أي بعد عامين من عزل رضاخان عن السلطة، ردّ فيه على ما أثاره أحد الوهابيّين من شبهاتٍ وتهمٍ باطلةٍ ضدّ الدين والعلماء، في كتابه "اسرار هزار ساله". وقد برهن الإمام، في كتابه هذا - استنادًا إلى الحقائق التاريخيّة، وضمن استعراض آراء فلاسفة اليونان القديمة ونقدها - على أنّ فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، أكّدوا على أحقّيّة التشيّع والدور الفاعل البنّاء لعلماء الإسلام.

 

وتناول الكتاب فكرة الحكومة الإسلاميّة وولاية الفقيه في عصر الغيبة، وفضح السياسات المعادية للدين، التي مارسها رضاخان ومن لفّ لفّه في البلدان الإسلاميّة آنذاك. ويقع الكتاب في 334 صفحةً.

 

15- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية (مجلّدان)

كتابٌ يتناول المباحث العقليّة في علم أصول الفقه، كتبه الإمام الخمينيّ باللغة العربيّة، بصورة حاشيةٍ على كتاب كفاية الأصول، لآية الله العظمى الآخوند الخراسانيّ (رَحمَه اللهُ). وقد انتهى من تأليفه عام 1368ه (1949م). يعكس الكتاب، مع كتاب "مناهج الوصول" والرسائل المستقلّة للإمام الخمينيّ في المسائل الأصوليّة -إلى حدٍّ كبيرٍ- آراء الإمام الخمينيّ ومدرسته الأصوليّة. طُبِع مؤخّرًا عام 1993م - ولأوّل مرّةٍ - في مجلّدين، من قِبَل مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ.

 

179

 


172

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

16- بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر

رسالةٌ تحقيقيّةٌ اجتهاديّةٌ، كتبها الإمام باللغة العربيّة، حول قاعدة "لا ضرر"، التي تُعتَبر من القواعد الفقهيّة المهمَة. أتمّ تأليفها في غرّة جمادى الأوّلى عام 1368ه (1950م). طُبِعَت هذه الرسالة مع عدّة رسائل أصوليّةٍ للإمام، في مجموعةٍ تحت عنوان "الرسائل"، عام 1358ه (1965م). وفي عام 1993م، طُبِعَت بشكلٍ مستقلٍّ، من قبل مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره)، مع مجموعةٍ من التعليقات والفهارس، وحملت الاسم نفسه.

 

17- رسالة الاستصحاب

رسالةٌ اجتهاديّةٌ مفصّلةٌ، كتبها سماحته باللغة العربيّة، حول بحث "الاستصحاب"، الذي يُعَدُّ من البحوث البالغة الأهمّيّة في علم أصول الفقه. أتمّ تأليفها عام 1370ه (1951م). ويقع الكتاب في 290 صفحةً. وقد تمّ نشره مع مجموعة "الرسائل" - التي ذُكِرَت - عام 1385هـ (1965م). وسيتمّ، قريبًا، طبع هذه الرسالة بشكلٍ مستقلٍّ ومنقّحٍ، من قِبَلِ مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره).

 

18- رسالةٌ في التعادل والتراجيح

كُتِبَت هذه الرسالة عام 1370ه (1951م). و"التعادل والتراجيح" من البحوث التكميليّة في علم أصول الفقه، التي تدور حول المِلاك في انتخاب الدليل إذا ما تعأرضت الأدلّة. طُبِعَت عام 1385هـ، أيضًا، ضمن مجموعة "الرسائل" المذكورة آنفًا.

 

180


173

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

19- رسالة الاجتهاد والتقليد

"الاجتهاد والتقليد"، أيضًا، من البحوث التكميليّة والمهمّة في علم أصول الفقه. وقد استدلّ الإمام الخمينيّ، في هذه الرسالة الاجتهاديّة، على آرائه. كُتِبَت هذه الرسالة عام 1370هـ، وطُبِعَت مع مجموعة "الرسائل".

 

20- مناهج الوصول إلى علم الأصول (مجلّدان)

كتابٌ تحقيقيٌّ واجتهاديٌّ في مباحث ألفاظ علم أصول الفقه، كتبه الإمام باللغة العربيّة بعد عام 1370هـ (1951م)، وصدر في مجلّدَين لأوّل مرّةٍ عام 1993م، مع تعليقاتٍ وفهارس ومقدّمةٍ كتبها آية الله فاضل اللنكرانيّ. وقد اهتمّت بطبعه مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره).

 

21- رسالةٌ في الطلب والإرادة

كتابٌ أصوليٌّ فلسفيٌّ وعرفانيٌّ، أتمّ الإمام الخمينيّ تأليفَه باللغة العربيّة، عام 1371هـ (1952م). طُبِعَت هذه الرسالة، مع ترجمةٍ لها باللغة الفارسيّة، في كتابٍ يقع في 157 صفحةً، عام 1983م، من قِبَل مركز المنشورات العلميّة والثقافيّة، بطهران.

 

22- رسالةٌ في التقيّة

رسالةٌ فقهيّةٌ واجتهاديّةٌ، كتبها الإمام باللغة العربيّة، في بحث "التقيّة"، عام 1372ه (1953م)، وبرهن فيها على أنّ فلسفة وجوب التقيّة، إنّما تدور حول حفظ الدين، لا محوه. طُبِعَت ضمن مجموعة "الرسائل"، عام 1385هـ في قمّ.

 

181


174

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

23- رسالةٌ في قاعدة من ملك

رسالةٌ اجتهاديّةٌ في القاعدة الفقهيّة الموسومة بـ "قاعدة من ملك"، وقد ذكرها مؤلّف كتاب آثار الحجّة (المطبوع سنة 1373ه 1954م).

 

24- رسالةٌ في تعيين الفجر في الليالي المقمرة

رسالةٌ فقهيّةٌ استدلاليّةٌ، في بيان كيفيّة تعيين طلوع الفجر في الليالي المقمِرة. طُبِعَت تحت هذا العنوان عام 1988م في قمّ.

 

25- كتاب الطهارة (4 مجلّدات)

كتابٌ يشتمل على بحوثٍ بشأن "الطهارة" - وهي من أبواب الفقه -، وقد كتبه الإمام الخمينيّ باللغة العربيّة، بين عامَي 1373 و1377هـ (1954 و1958م)، بأسلوبٍ فقهيٍّ استدلاليٍّ واجتهاديٍّ. يقع الكتاب في أربعة مجلّداتٍ، طُبِعَ مجلّدان منها عام 1367هـ في قمّ، والمجلّدان الآخران عام 1389ه في النجف الأشرف. ويتألّف الكتاب من 1202 صفحةٍ.

 

26- تعليقةٌ على العروة الوثقى

حاشية الإمام الخمينيّ على مسائل كتاب "العروة الوثقى" (كتاب آية الله العظمى السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ الشهير)، كتبها عام 1375ه (1956م). ويتضمّن الكتابُ فتاواى الإمام الفقهيّة في أبواب الفقه المختلفة. وقد طُبِعَ مستقلًّا ومع "العروة الوثقى" مرّاتٍ عدّةٍ.

 

182


175

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

27- المكاسب المحرّمة (مجلدان)

بحوثٌ اجتهاديّةٌ في الفقه الاستدلاليّ، تتناول أنواع المكاسب المحرّمة والمسائل المتعلّقة بهذا الأمر. كتبها الإمام الخمينيّ، في الفترة ما بين عامَي 1377 و1380هـ (1956 و1961م) باللغة العربيّة، وطُبِعَت عام 1381ه في مُجلّدَين، بلغت صفحاتهما 612 صفحةً. ويضمّ الكتاب بحوثًا طريفةً حول حكم الموسيقى والغناء والرسم والنحت.

 

28- تعليقةٌ على وسيلة النجاة

حاشيةٌ كتبها الإمام الخمينيّ على كتاب وسيلة النجاة (الرسالة العمليّة لآية الله العظمى السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ)، وقد تضمّنت فتاواه الفقهيّة على مسائل وسيلة النجاة.

 

29- رسالة نجاة العباد

رسالةٌ ضمّت فتاوى الإمام الخمينيّ في الأحكام الفقهيّة، كتبها باللغة الفارسيّة، ويبدو أنّ الكتاب كان في ثلاثة مجلّداتٍ، طُبِعَ المجلّد الثاني منها عام 1380هـ (1961م) في قمّ.

 

30ـ الحاشية على رسالة الإرث

حاشيةٌ كتبها الإمام الخمينيّ على "رسالة الإرث"، للمرحوم الحاجّ ملّا هاشم الخراسانيّ (صاحب كتاب "منتخب التواريخ")، وتضمّنت فتاواه الفقهيّة في أحكام الإرث. ويبدو أنّها طُبِعَت مع أصل الرسالة (باللغة الفارسيّة) في قمّ، بعد عام 1961م.

 

183

 


176

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

31- تقريرات درس الأصول لآية الله العظمى البروجرديّ

كتب الإمام الخمينيّ، في هذا الكتاب، تقريراتِه عن دروس الأصول، التي حضرها عند آية الله البروجرديّ، باللغة العربيّة. وتقوم مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره) بإعداد الكتاب للنشر للمرّة الأوّلى.

 

32- تحرير الوسيلة (مجلّدان)

كتابٌ يضمّ فتاوى الإمام الخمينيّ. كتبه باللغة العربيّة، أثناء وجوده في منفاه الأوّل – تركيا - بين عامَي 1964 و1965م. طُبِعَ، للمرّة الأوّلى، في مجلّدين (1309 صفحاتٍ) في النجف الأشرف، ثمّ أُعِيد طبعه لمرّاتٍ عديدةٍ في النجف وبيروت وإيران.

 

33- كتاب البيع (خمسة مجلّداتٍ)

أثرٌ نفيسٌ في الفقه الاستدلاليّ، يتناول الأبواب المختلفة المتعلّقة بالبيع والتجارة. كتبه سماحته في الفترة ما بين عامَي 1380 و1396هـ (1961 و1976م) في النجف الأشرف، وقد تمّ طبعه لأوّل مرّةٍ في النجف أيضًا. تقع المجلّدات الخمسة في 2371 صفحةً.

 

34- الحكومة الإسلاميّة أو ولاية الفقيه

طُبِعَ قبل انتصار الثورة وبعدها، ومرّاتٍ عدّةٍ باللغة العربيّة والفارسيّة. يضمّ الكتاب آراء الإمام الاجتهاديّة حول مبدأ الحكومة الإسلاميّة، وعدم إمكانيّة الفصل بين الدين والسياسة، وولاية الفقيه في زمن الغيبة. وهو، في الأصل، دروسٌ ألقاها الإمام على طلبته في النجف الأشرف عام 1969م.

 

184

 


177

مؤلّفات الإمام الخمينيّ (قدس سره)

أحدثُ طبعةٍ للكتاب، صدرت عام 1993م عن مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، وقد تضمّنت مقدّمةً وتوضيحاتٍ وفهارس.

 

35- كتاب الخلل في الصلاة

كتابٌ ضمّ آراء الإمام الخمينيّ الاجتهاديّة والاستدلاليّة، حول بحث الأحكام الفقهيّة بشأن الخلل في الصلاة. كتبه الإمام باللغة العربيّة، في السنوات الأخيرة من إقامته في النجف الأشرف. يقع الكتاب في 314 صفحةً، وتمّ طبعُه في قمّ.

 

36- الجهاد الاكبر (أو جهاد النفس)

دروسٌ للإمام الخمينيّ، حول ضرورة تهذيب النفس وأهمّيّته، ألقاها في النجف الأشرف.

 

في الوقت ذاته الذي تميّزت هذه الرسالة بالاختصار، حَوَت من المسائل الأخلاقيّة والتربويّة والسياسيّة الكثير. طُبِعَ الكتاب من قبل، على شكل ملحقٍ لكتاب ولاية الفقيه. وفي عام 1993م، صدرت له طبعةٌ منقّحةٌ ضمّت مقدّمةً وتوضيحاتٍ، أصدرتها مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره.

 

37- تقريرات دروس الإمام الخمينيّ

إضافةً إلى مؤلّفات الإمام الخمينيّ في بحوث الفقه والأصول، كُتِبَت العديد من التقريرات عن دروسه من قبل طلّابه، تمَّ طبعُ بعضها، وما زال بعضها الآخر ينتظر دورَه للنشر، لدى مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره.

 

185


178

رحيل الإمام الخمينيّ، وصال المحبوب، وفراق الأحبّة

38- توضيح المسائل (رسالةٌ عمليّةٌ)

كتابٌ يضمّ فتاوى الإمام الخمينيّ في أبواب الفقه المختلفة، كتبه سماحته باللغة الفارسيّة، ليكون رسالةً عمليّةً ينتفع بها مقلّدو الإمام. صدر الكتاب في طبعاتٍ عديدةٍ قبل انتصار الثورة وبعدها.

 

39- مناسك الحجّ

فتاوى الإمام الخمينيّ حول أعمال ومناسك الحجّ. صدرت آخر طبعةٍ له عام 1991م، عن مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام قدس سره. ويقع الكتاب في 272 صفحةً.

 

40- تفسير سورة الحمد

تفسيرٌ عرفانيٌّ لفاتحة الكتاب (سورة الحمد المباركة). وهو، في الأصل، محاضراتٌ ألقاها الإمام الخمينيّ عام 1980م، طُبِعَت فيما بعد، في كتابٍ، طبعاتٌ عديدةٌ حملت العنوان نفسه.

 

41- استفتاءات

مجموعةٌ من فتاوى الإمام الخمينيّ، ردّ بها على أسئلة المسلمين الشرعيّة في الأبواب الفقهيّة المختلفة، خصوصًا المسائل المستحدثة. وقد طُبِعَ منها، حتّى الآن، مجلّدان، من قِبَل رابطة مدرّسي الحوزة العلميّة في قمّ، وذلك في عامَي 1987 و1993م.

 

186


179

مؤلّفات الإمام الخمينيّ (قدس سره)

42- ديوان شعرٍ

نَظَمَ الإمام الخمينيّ، منذ شبابه، العديدَ من القصائد الشعريّة العرفانيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، غير أنّ القسم الأعظم منها فُقِدَ أثناء الانتقال من منزلٍ إلى منزلٍ، أو نتيجة مداهمة شرطة السافاك لمنزله ومصادرتهم لبعض محتويات مكتبته الشخصيّة. كما فُقِدَ بعضها الآخر لأسبابٍ أخرى. هذا وكانت للإمام قصائد عديدةٌ نَظَمَها بعد انتصار الثورة في قوالب شعريّةٍ مختلفةٍ، منها الغزل والرباعيّ والدوبيت وغيره.

 

جُمِعَت قصائد الإمام الأخيرة، وبعض ما تبقّى من القصائد القديمة، ونُشِرَت في كتابٍ مستقلٍّ أُطلِق عليه اسم "ديوان الإمام". وقبل نشر هذا الكتاب، كانت بعض قصائد الإمام قد نُشِرَت في كتبٍ مستقلّةٍ، حملت عناوين "طريق العشق" و"مستودع الأسرار" و"نقطة عطفٍ" و"كأس الحبّ".

 

ويجد القارئ، في مقدّمة الديوان، معلوماتٍ وافيةً حول أسلوب الإمام وطريقته في نظم أشعاره وتواريخ نظم قصائده. كذلك خُصِّص ملحق الديوان للحديث عن المعالِم الفنّيّة والأدبيّة لتلك القصائد أو الأشعار. يقع الديوان في 455 صفحةً، وطُبِعَ طباعةً فاخرةً، ونُشِرَت عام 1993م من قبل مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره). وأُعيد طبعه مرّاتٍ عدّةٍ.

 

ويُذكَر أنّ مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام قامت أيضًا بنشر كتابٍ تحقيقيٍّ حول شرح الاصطلاحات العرفانيّة التي استخدمها الإمام في أشعاره، حمل عنوان "معجم ديوان الإمام".

 

43- الرسائل العرفانيّة

كتب الإمام الخمينيّ رسائل عدّةً إلى أهل بيته وأرحامه، ضمّنها بعض الإشارات الأخلاقيّة والعرفانيّة والتربويّة، نجد نماذج منها في كتب "مستودع الأسرار" و"طريق العشق" و"نقطة عطفٍ"، التي قامت مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره) بطبعها ونشرها، وكذا كتاب "التجلّيات الرحمانيّة"، الذي قامت مؤسّسة شهداء الثورة الإسلاميّة بطبعه ونشره.

 

187


180

مؤلّفات الإمام الخمينيّ (قدس سره)

44- الوصيّة السياسيّة الإلهيّة

إنّ أحد أكثر بيانات الإمام الخمينيّ خلودًا - والذي خاطب به الأجيال الحاضرة واللاحقة- هو ما تضمّنته وصيّته السياسيّة الإلهيّة، إذ عرض الإمام فيها، ضمن توضيحه لعقائده الحقّة، أهمّ آرائه وإرشاداته بشأن القضايا السياسيّة والاجتماعيّة، في المجتمعات الإسلاميّة والمجتمع البشري عمومًا، في قالَبٍ من التحليلات الوثائقيّة والنصائح المشفقة.

 

طُبِعَت الوصيّة، حتّى الآن، ملايين النسخ، من قِبَل الكثير من دور النشر والمؤسسات الثوريّة وأنصار الإمام، وقد تُرجِمَت إلى اللغات المختلفة أيضًا. وأحدثُ هذه الطبعات، تلك التي صدرت عن مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ  قدس سره، والتي ضمّت، إضافةً إلى المتن الكامل للوصيّة وصورةٍ عن نسختها الخطّيّة، توضيحاتٍ حول تاريخ تدوين الوصيّة، وبعض أفكارها وموضوعاتها، مع فهارس موضوعيّةٍ وفهارس أخرى تحت عنوان "دراسةٌ موضوعيّةٌ للوصيّة السياسيّة الإلهيّة".

 

45- البيانات، والأحاديث، واللقاءات، والأحكام والرسائل (22 مجلدًا) (الأعمال الكاملة السياسيّة والاجتماعيّة للإمام الخمينيّ)

فضلًا عن الكتب التي أصدرها الإمام الخمينيّ، مثل "كشف الأسرار" و"الحكومة الإسلاميّة" و"الوصيّة السياسيّة الإلهيّة"، تطرّق سماحته إلى الكثير من آرائه وتوجيهاته السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، ضمن مئات الخطب والأحاديث والكلمات والأحكام والرسائل، على مدى سنوات الجهاد والفترة التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة. وقد صدرت هذه التوجيهات بصورٍ وعناوين مختلفةٍ.

 

188


181

مؤلّفات الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وتُعتَبر "صحيفة النور"، المؤلّفة من 22 مجلّدًا (ومجلّدٍ آخر، كمفتاحٍ للصحيفة)، أشمل كتابٍ تمّ نشره حتّى الآن، إذ دُرِجَ فيه معظمُ ما صدر عن الإمام، طبقًا لتتابعه الزمنيّ. ومن الطبيعيّ أنّ هناك الكثير من الآثار والرسائل والبيانات والأحكام الصادرة عنه، لم تُطبَع في هذه الدورة، وهي بذاتها تؤلّف عدّة مجلّداتٍ أخرى.

 

ويوجد، في الوقت الحاضر، في أرشيف مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره)، 1126 خطبةً، وما ينيف عن 470 حُكمًا، و367 رسالةً موجّهةً إلى شخصيّاتٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ خارج البلاد، و420 رسالةً موجّهةً إلى شخصيّاتٍ إيرانيّةٍ دينيّةٍ وسياسيّةٍ، وأكثر من 350 بيانًا، تعمل المؤسّسة على إعدادها للنشر، مع شروحٍ وتوضيحاتٍ، على مراحل، في كتابٍ أُطلِق عليه اسم "الكوثر". وقد صدر منه، حتّى الآن، خمسة مجلّداتٍ، بلغ عدد صفحاتها 3200 صفحةٍ، ضمّت كلًّا مِن: الكوثر "خلاصة بيانات الإمام منذ البدء وحتّى الوفاة"، وتقع في مجلّدَين، والكوثر "شرح وقائع الثورة الإسلاميّة منذ انطلاقتها وحتّى انتصارها في شباط 1979م"، وتقع في 3 مجلّداتٍ. كذلك عرضت مجلّة "حضور"، في عددَيها الخامس والسادس عام 1992م، في مقالةٍ حول ما صدر عن الإمام، أكثرَ من 230 عنوانًا من آثار الإمام الخمينيّ والأعمال التي كُتِبَت عن حياته وجهاده وأفكاره.

 

189

 


182
حديث الانطلاق