ذلك الدين القيّم

﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-06

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على خير خلقه محمّد المرسَل بدينه رحمةً للعالمين، وعلى آله الهداة الطيّبين الطاهرين.

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين القيّم، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

 

قال -تعالى-: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾1.

 

يذكر القرآن الكريم أنّ دينَ التوحيد الإسلام، مبنيٌّ على أساس الفطرة، وهو القيِّم على إصلاح الإنسانيّة وتقويم اعوجاجها وانحرافها. لذا، فإنّ إقامته والحفاظ عليه من أهمّ حقوق الإنسانيّة المشروعة، قال تعالى:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾2.

 

والحياة القيِّمة بسعادة الإنسان، هي التي تنطبق أعمالها

 


1- سورة يوسف، الآية 40.

2- سورة الروم، الآية 30.

 

8


1

المقدّمة

على الخلقة والفطرة انطباقا تامّاً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءاً صحيحاً.

 

ولذلك، شرّع الله سبحانه ما شرّعه من القوانين والسنن، واضعاً ذلك على أساس التوحيد والاعتقاد، والأخلاق والأفعال، وبعبارة أخرى: وضعَ التشريعَ مبنيّاً على أساس تعليم الناس وتعريفهم حقيقةَ أمرهم، من مبدئهم إلى معادهم، وأنّهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياةً تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل.

 

وفي كتابنا هذا "ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ"، جمعنا قبساً من شرائع هذا الدين القيّم، حيث استفدنا في الفصل ممّا ورد في خطبة سيّدة نساء العالمين عليها السلام في الاعتقادات والمعارف الحقّة، وفي الفصل الثاني أوردنا جملة من صفات المؤمنين وأخلاقهم التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه العظيم في نهج البلاغة، وفي الفصل الثالث تحدّثنا عن مجالس الطاعة والمعصية، علّنا نجمع الفائدة من هذه الفصول في سبيل بناء أنفسنا وإقامة ذلك الدين القيّم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

9


2

المحور الأوّل: معالم الدين

المحور الأوّل

معالم الدين

 

 

 

1- العقيدة الحقَّة.

2-  العبادة (1).

3-  العبادة (2).

4-  دعائم حفظ الإسلام.

 

10


3

المحور الأوّل: معالم الدين

ورد عن السيّدة الزهراء عليها السلام: "فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكيةً للنفس، ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب. وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونةً على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة، وبرّ الوالدين وقايةً من السخط، وصلة الأرحام منسأةً في العمر ومنماةً للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرم الله الشرك 

 

12


4

المحور الأوّل: معالم الدين

إخلاصاً له بالربوبيّة, فاتَّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به، ونهاكم عنه، فإنّه ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1"2.

 

 


1- سورة فاطر، الآية 28.

2- المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج6، ص107.

 

13


5

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

الموعظة الأولى:

العقيدة الحقَّة

 

تصدير الموعظة

ورد عن السيّدة الزهراء عليها السلام: "فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك... وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة... والعدل تنسيقاً للقلوب... وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة... فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به، ونهاكم عنه"1.

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص107.

 

 

14


6

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

أوّلاً: ضرورة الإيمان

"فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك"

العقيدة في الاصطلاح، هي ما عُقِد في القلب من أفكار ونظريّات وآراء، وهي في نظر المؤمن بها، لا تقبل الشكّ والارتياب، ولذا تُعتبر عقيدة، حيث تُحكِم سيطرتها على قلب الإنسان وعقله، فتوثقه وتربطه وتشدّه إليها، في شعوره وسلوكه وأفعاله.

 

والعقيدة الإسلاميّة تتمثّل بأصول خمسة، هي: التوحيد، العدل، النبوّة، الإمامة، المعاد.

 

وإذا أردنا النظر في مواضع العقيدة في الإنسان، فإنّنا نجدها في ناحيتين: العقل والقلب.

 

فالعقل، هو موضع صدور الفكر وحياكة رؤية الإنسان لنفسه والكون والحياة، ويمكننا القول: إنّ كلّ ما ينتجه العقل من فكر، فإنّه لا محالة إلّا أن يكون اعتقادًا، إذا ما قدّمه ضمن الأطر العقليّة الصحيحة.

 

أمّا القلب، وهو ممّا يمتاز به الإنسان، فهو مخلوق ذو شعور،

 

15


7

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

يغضب ويُحبّ ويبغض... وذلك كلّه يرتبط أيضاً، بشكل من الأشكال، بالعقيدة التي يؤمن بها، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾1، فمثل صاحب العقيدة الراسخة لا يخاف عند الشدائد والمصائب، بل يزداد إيماناً وصبراً.

 

فالإيمان يعمل على إزالة أنواع الشرك كلّها، حتّى يصبح توجّه الإنسان توجّهاً خالصاً لله تعالى خالق هذا الكون.

 

ثانياً: الإيمان بالله الواحد (نفي الشرك)

"وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة"

إنّ للشرك درجات ومراتب، ومنه الشرك في العبادة، أو بتعبير آخر الشرك بالربوبيّة، وقد حرّم الله -تعالى- هذا النوع من الشرك، لأنّه ينافي حقيقة العبادة.

 

يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال تصديقه توحيده، وكمال توحيده

 

 


1- سورة آل عمران، الآية 173.

 

16


8

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه"1.

 

يشير الإمام عليه السلام إلى أنّ أوّل الطريق للانطلاق مع العقيدة الحقّة هو الإيمان بالله تعالى، الواحد الأحد الذي لا شريك له، والإخلاص بالعمل له سبحانه وتعالى.

 

فالإيمان بالله، لا يكتمل ولا يكون صحيحاً، إلّا بتنزيهه عن الشرك الذي يحرف القلب والعقل عن مسارهما الطبيعيّ.

 

وعنه عليه السلام أنّه قال: "هلك العاملون إلّا العابدون، وهلك العابدون إلّا العاملون، وهلك العاملون إلّا الصادقون، وهلك الصادقون إلّا المخلصون، وهلك المخلصون إلّا المتّقون، وهلك المتّقون إلا الموقنون، وإنّ الموقنين لعلى خطر عظيم"2.

 

ثالثاً: ارتباط العمل بالعقيدة

"فاتَّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنَّ إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به، ونهاكم عنه"

 

 


1- الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد الرضيّ بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، شرح الشيخ محمّد عبده، دار الذخائر، إيران - قم، 1412هـ - 1370ش، ط1، ج1، ص15.

2- الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، ط1، ج1، ص100.

 

 

17


9

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

ينظر الإسلام إلى العقيدة على أنّها المعيار الأساس في قَبول الأعمال، فلا يكفي لكي ينال الإنسان الآثار المطلوبة من العمل أن يأتي به صحيحاً، دون أن يكون عن اعتقاد صحيح.

 

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "لا يَنْفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالجُحودِ عَمَلٌ"1.

 

ونجد في القرآن الكريم أنّ العمل الصالح مقرون بالإيمان، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾2.

 

إنّ فائدة العمل الّذي يقوم به الإنسان تكون بمدى ما له من تأثير على تكامل هذا الإنسان، ولا يكون العمل مؤثّراً في تكامل الإنسان، من دون عقيدة تحرّكه. فالإنسان الجاحد للحقّ والمنكر له أو الشاكّ فيه، كيف يمكن أن يكون عمله هذا مقبولاً عند الله ويترتّب عليه الثواب، وهو لا يؤمن من الأساس بوجود الله عزّ وجلّ؟!

 


1- المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، قدّم له العلم الحجّة السيّد مرتضى العسكريّ - إخراج ومقابلة وتصحيح السيّد هاشم الرسوليّ، دار الكتب الإسلاميّة، 1404 - 1363 ش، ط2، ج11، ص186.

2- سورة البقرة، الآية 82.

 

18


10

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

والإنسان الّذي يملك إيماناً حقيقيّاً ينعكس ذلك في حياته كلّها، فيجعلها في طاعة الله.

 

لذا، فإنّ أوّل الأسئلة الّتي يُسأل عنها هذا الإنسان بعد موته، وعند حضور الملكين إليه، هي: من ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟

 

أي، ما هي عقيدتك؟ وما هي الأفكار الّتي كانت تدفعك لكلّ عمل قمت به في هذه الدنيا؟

 

من هنا، وبعد أن أشارت السيّدة الزهراء عليها السلام إلى أهمّيّة الإيمان والعقيدة، أنهت كلامها بالوصيّة بالطاعة لله والعمل بما أمر الله والانتهاء عمّا نهى عنه، أي التقوى.

 

تقول عليها السلام: "فاتّقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنَّ إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله في ما أمركم به، ونهاكم عنه".

 

رابعاً: أثر طاعة المعصومين عليهم السلام

"وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة"

إنّ من أصول العقيدة الحقّة الإيمان بالإمامة لأهل البيت عليهم السلام.

 

19


11

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

وحيث علمنا بضرورة العقيدة والدين والإيمان بالله الواحد الأحد والعمل بما يريد، والنهي عما نهى، نسأل: مَن الذي يدلّنا على الله وأحكامه؟ وماذا يريد منّا، وما لا يريد؟

 

الّذي يدلّنا على ذلك هم أنبياء الله عليهم السلام، وخاتمهم النبيّ الأعظم محمّد  صلى الله عليه وآله وسلم، وبعده الأئمّة الأطهار عليهم السلام؛ فهم الامتداد للنبوّة والثقل الثاني بعد القرآن الكريم.

 

وإلى أهمّيّة دور الإيمان بإمامة أهل البيت عليهم السلام تشير السيّدة الزهراء عليها السلام بقولها: "... وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة".

 

إنّ أيّ أمّة لا يستقرّ وضعها ولا تتقدّم وتتطوّر إلّا بالنظام والوحدة، وهذا من بديهيّات الأمور التي لا نقاش فيها.

 

وطاعة أهل البيت وإمامتهم عليهم السلام هي سبب من أسباب تحقيق النظام والوحدة في الأمّة الإسلاميّة.

 

وإنّ في التاريخ الإسلاميّ مشاهد مأساويّة من هذه الناحية، حيث لم يتّبع المسلمون وصيّة رسول الله في أهل بيته، فابتعدوا عنهم، بل ظلموهم، بل قتلوهم، ومأساة عاشوراء أبرز شاهد على بُعْد المسلمين عن أهل البيت والأئمّة.

 

20


12

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

ولا يزال أثر الابتعاد عن أهل البيت عليهم السلام موجودًا في حاضرنا، حيث التخلّف والفرقة والحروب والفقر والظلم والجهل في البلاد الإسلاميّة.

 

خامساً: العدل

"والعدل تنسيقاً للقلوب"

قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1.

 

هذه الآية الكريمة تشير إلى هدف إرسال الأنبياء عليهم السلام، وهو إقامة العدل والقسط بين الناس.

 

والعدالة تحتاج في الواقع إلى نظام عادل يساوي بين الناس ولا يظلمهم، وبالتالي فإذا كانت طاعة أهل البيت عليهم السلام سبباً لإرساء النظام في الأمّة، فهذا يعني أنّهم سبب في تحقّق العدالة في المجتمع.

 

من هنا، أشارت السيّدة فاطمة عليها السلام إلى أهمّيّة العدالة قبل حديثها عن الإمامة، فقالت: "والعدل تنسيقاً للقلوب".

 

 


1- سورة الحديد، الآية 25.

 

 

21


13

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

1- عدالة أهل البيت تتحقّق بالمهديّ  عجل الله تعالى فرجه الشريف

لقد وعد اللهَ -تعالى- في كتبه السّماويّة، بإقامة الحكومة الإلهيّة على الأرض كلّها، ويمكن اعتبار ذلك نوعاً من الإنباء بالغيب بالنّسبة لتوفّر الأجواء المناسبة في المستقبل لتقبّل الدّين الحقّ، على نطاق واسع من المجتمع البشريّ، وحيث تتحقّق على أيدي أشخاص متميّزين - وبمعونة الإمدادات الغيبيّة الإلهيّة - إزالة العقبات والحواجز الّتي تحول دون إقامة الحكومة العالميّة، ونشر العدل والقسط في المجتمعات المظلومة والمستضعفة، والّتي ضاقت ذرعاً بجور الظّالمين، ويئست من المبادئ والأنظمة الحاكمة كلِّها، ويمكن اعتبار ذلك هو الهدف النّهائي لبعثة خاتم النبيّين  صلى الله عليه وآله وسلم، ودينه العالميّ والخالد، وذلك لأنّ الله قال في حقّه: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾1.

 

وإنّ هذا الهدف سيتحقّق بواسطة الإمام الثاني عشر، وهو المهديّ المنتظَر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهذه الفكرة قد ذُكرت في روايات متواترة.

 

 


1- سورة التوبة، الآية 33.

 

22


14

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

2- القرآن الكريم والوعد الإلهيّ

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾1.

 

وقد ورد هذا الوعد الإلهيّ في عدّة آيات، وممّا لا يقبل الشّكّ أنّه سيأتي اليوم الّذي يتحقّق فيه هذا الوعد الإلهيّ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾2.

 

وهذه الآية، وإن وردت في شأن بني إسرائيل واستيلائهم على زمام الأمور بعد تخلّصهم من قبضة الفراعنة، إلّا أنّ تعبير "وَنُرِيدُ" يشير إلى إرادة إلهيّة مستمرّة، ولذلك طُبِّقت في الكثير من الروايات على ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

وقد خاطب الله تعالى في موضع آخر المسلمين بقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي

 

 


1- سورة الأنبياء، الآية 105.

2- سورة القصص، الآية 5.

 

 

23


15

الموعظة الأولى: العقيدة الحقَّة

شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾1.

 

وجاء في بعض الروايات، أنّ المصداق الكامل لهذا الوعد سيتحقّق في زمان ظهور الإمام الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف بصورة كاملة. وهناك روايات أخرى طَبَّقت بعض الآيات على الإمام الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف2، نُعرِض عن ذكرها رعاية للاختصار والإيجاز3.

 

 


1-  سورة النور، الآية 55.

2- أمثال هذه الآيات: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾ سورة الأنفال، الآية 39 / ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ سورة التوبة، الآية 33 ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ سورة هود، الآية 86.

3- انظر: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 51، ص 44-64.

 

 

24


16

الموعظة الثانية: العبادة (1)

الموعظة الثانية:

العبادة (1)

 

تصدير الموعظة

 

"والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكيةً للنفس، ونماءً في الرزق".

 

 

 

25

 


17

الموعظة الثانية: العبادة (1)

أوّلاً: الصلاة

"والصلاة تنزيهًا لكم عن الكبر"

 

1- أهمّ الواجبات، الصلاة

إنَّ الصلاة التي هي مثال للتواصل بين المخلوق وخالقه، ومن أهمّ الواجبات الإسلاميّة، التي حثّ عليها الإسلام من خلال آيات القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، ولطالما تكرَّرت عبارة "أَقِيمُوا الصَّلَاةَ"، ودعا إلى المحافظة عليها، ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ﴾1.

 

وأكّد على فرضها بالتوقيت: ﴿فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾2.

 

وكان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعو ربّه: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾3.

 

وتحدّث القرآن عن اهتمام الأنبياء بالصلاة، فهذا النبيّ إسماعيل عليه السلام، يقول عنه القرآن: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ

 

 


1- سورة البقرة، الآية 238.

2- سورة النساء، الآية 103.

3- سورة إبراهيم، الآية 40.

 

26


18

الموعظة الثانية: العبادة (1)

وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾1.

 

وبدورهم، أكّد الأئمّة الأطهار عليهم السلام على أهميّة الصلاة في كثير من الروايات، فهي قرَّة عين الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قربان كلّ تقيّ، وخير موضوع، وأفضل الأعمال بعد المعرفة، وعمود الدِّين، وأوّل ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة، إلى آخر الأوصاف التي تشير إلى أهمّيّتها وعظمتها.

 

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "جعل الله جلّ ثناؤه قرّة عيني في الصلاة، وحبّب إليّ الصلاة كما حبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإنَّ الجائع إذا أكل شبع، وإنَّ الظمآن إذا شرب روى، وأنا لا أشبع من الصلاة"2.

 

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "الصلاة قربان كلّ تقيّ"3.

 

وعن أبي ذرّ الغفاريّ، قال: "... قلت: يا رسول الله، أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ قال: خير موضوع..."4.

 

 


1- سورة مريم، الآية 55.

2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص78.

3- الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج3، ص265.

4- الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1414ه، ط2، ج5، ص248.

 

 

27


19

الموعظة الثانية: العبادة (1)

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "الله الله في الصلاة! فإنّها عمود دينكم!"1.

 

وعنه عليه السلام: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ عمود الدين الصلاة، وهي أوّل ما ينظر فيه من عمل ابن آدم، فإنْ صحَّت نُظِر في عمله، وإن لم تصحّ لم يُنظر في بقيَّة عمله"2.

 

2- لماذا أمرنا الله بالصلاة؟

عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، قال: "خلق الله الخلق حيث خلقهم، غنيّاً عن طاعتهم، آمناً لمعصيتهم، لأنّه لا تضرُّه معصية من عصاه منهم، ولا تنفعه طاعة من أطاعه منهم"3.

 

إنّ الله -عزّ وجلّ- يعلم أنّنا في دار الدنيا قد تأخذنا مشاغل الحياة ومتاعبها وملذّاتها، حتّى تنسينا أنفسنا، ويأخذنا غرور الدنيا ولهوُها بعيداً عن الأمور التي خلقنا الله لأجلها. فننسى خالقنا ونضيع، فلا نتذوّق إلّا حلاوة الأمور الدنيويّة، ونغفل عن لذائـذ العبادة ومعرفـة الله.

 

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج3، ص77. 

2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج4، ص35.

3- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص160.

 

28


20

الموعظة الثانية: العبادة (1)

وإنّ الله سبحانه لا يريدنا أن نُحرَم هذه العطايا المعنوية، بل يريدنا أن نتذوّق حلاوة قربه ومعرفته، ويريد أن ينتشلنا من مراتع اللعب واللهو إلى الأنس بذكره وقربه ومعرفته. وهو يعلم أنّنا نحتاج إلى رابطة وثيقة بيننا وبينه، ولأجل ذلك شرّع لنا وسيلة لإدامة الرابطة بيننا وبينه، ألا وهي الصلاة.

 

فقال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي1.

 

إذاً، فالصلاة لتذكّر الله، وهو من أعظم النّعم، يقول الإمام السجّاد عليه السلام: "ومن أعظم النعم علينا، جريان ذكرك على ألسنتنا"2.

 

وفي الحقيقة، إنّ للصلاة فلسفتها وفوائدها الجمّة، وقد أشارت الآية الكريمة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾3،

 


1- سورة طه، الآية 14.

2- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، تحقيق السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ الأصفهانيّ، مؤسّسة الإمام المهديّ  عجل الله تعالى فرجه الشريف / مؤسّسة الأنصاريان للطباعة والنشر، إيران - قم، 1411هـ.، ط1، ص418.

3- سورة العنكبوت، الآية 45.

 

29


21

الموعظة الثانية: العبادة (1)

إلى جانب مهمّ من معطيات الصلاة، ألا وهو أثرها في الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

 

وتشير السيّدة الزهراء عليها السلام إلى إحدى فوائد الصلاة قائلةً: "والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر"، وذلك لما فيها من خضوعٍ وخشوعٍ لله عزّ وجلّ. لذا، فالصلاة لا تُؤتي أكلها إلّا بالخشوع وحضور القلب، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾1 ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ2.

 

3- تارك الصلاة

ورد العديد من الروايات التي تشير إلى أنّ ترك الصلاة عمداً من الكبائر، ولقد جاء الوعيد بالعذاب في القرآن الكريم لتارك الصلاة، قال سبحانه: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾3.

 

 


1- سورة المؤمنون، الآيتان 1 - 2.

2- سورة المؤمنون، الآية 9.

3- سورة المدّثر، الآيات 42 - 46.

 

30


22

الموعظة الثانية: العبادة (1)

ويقول أيضاً: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾1.

 

الويلُ هو شدّة العذاب، واسم لدركة من دركات جهنّم، أو اسم لوادٍ فيها، أو هو كلمة العذاب.

 

وعن السيّدة الزهراء عليها السلام أنَّها سألت أباها  صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: "يا أبتاه، ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة، من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشْرة خصلة، ستّ منها في دار الدُّنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.

 

فأمّا اللواتي تصيبه في دار الدُّنيا: فالأولى يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزّ وجلّ سيماء الصالحين من وجهه، وكلّ عمل يعمله لا يُؤجر عليه، ولا يُرفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظّ في دعاء الصالحين.

 

وأمّا اللواتي تصيبه عند موته، فأولاهنّ: أنّه يموت ذليلاً،

 


1- سورة الماعون، الآيات 4 - 7.

 

31


23

الموعظة الثانية: العبادة (1)

والثانية: يموت جائعاً، والثالثة: يموت عطشاناً، فلو سُقي من أنهار الدُّنيا لم يروَ عطشه.

 

وأمّا اللواتي تصيبه في قبره، فأولاهنّ: يوكّل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية: يضيِّق عليه قبره، والثالثة: تكون الظلمة في قبره.

 

وأمّا اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره، فأولاهنّ: أنّه يوكّل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية: يحاسبُ حساباً شديداً، والثالثة: لا ينظر الله إليه، ولا يزكِّيه، وله عذاب أليم"1.

 

4- الاستخفاف بالصلاة

لم تتحدّث الروايات عن تارك الصلاة فحسب، بل تحدّثت عن المستخفّ بها، وعن عواقب الاستخفاف، حيث إنّ الاستخفاف بها شكلٌ من أشكال الجحود وكفران النعمة، وقد يحرمه الاستخفافُ بها شفاعةَ النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم وآله، وقد يوصله إلى التجرّؤ على العظائم بعد أن يتملّكه الشيطان ويتجرّأ عليه.

 

عن أبي بصير، قال: دخلتُ على أمّ حميدة، أعزّيها بأبي عبد

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج80، ص21.

 

 

32


24

الموعظة الثانية: العبادة (1)

الله الصادق عليه السلام، فبكت وبكيتُ لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمد، لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه، ثمّ قال: "اجمعوا لي كلّ من بيني وبينه قرابة"، قالت: فلم نترك أحداً إلّا جمعناه، قالت: فنظر إليهم، ثمّ قال: "إنَّ شفاعتنا لا تنال مستخفِّاً بالصلاة"1.

 

وعنه أيضاً، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الشيطان هائباً لابن آدم، ذعِراً منه ما صلّى الصلوات الخمس لوقتهنّ، فإذا ضيّعهنّ اجترأ عليه، فأدخله في العظائم"2.

 

ومن مصاديق الاستخفاف بالصلاة الآتي:

تأخيرها عن أوّل وقتها، بلا عذر شرعيّ أو عرفيّ، بل من باب عدم الاهتمام بها.

 

ب- ترك تأديتها في الوقت بلا عذر شرعيّ، وإنْ قضاها بعد ذلك.

 

 


1- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ص572.

2- المصدر نفسه، ص572.

 

 

43


25

الموعظة الثانية: العبادة (1)

ج- أن يُصلّي بعض الأوقات، ويُهمِل أوقاتاً أخرى، فيؤدّيها وقت فراغه، ومتى كان مشغولاً بأمور دنيويّة يتركها.

 

د- أن لا يهتمّ بالصلاة، فينسى الإتيان بها، أو ينام عنها، بنحوٍ لو كانت من اهتماماته لما نسيها أو نام عنها.

 

ثانياً: الزكاة

"والزكاة تزكيةً للنفس ونماءً في الرزق"

إنّ منع الزكاة الواجبة، من الكبائر التي جاء الوعيد عليها بعذاب النار في عدّة مواضع من القرآن الكريم، كما استشهد الأئمّة عليهم السلام على ذلك بآية: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾1، وقد ورد في الروايات أنَّ المراد بالكنز في هذه الآية الشريفة كلّ ما لم تدفعه من الحقوق الواجبة فيه.

 

 


1- سورة التوبة، الآيتان 34 - 35.

 

34


26

الموعظة الثانية: العبادة (1)

وقال سبحانه: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾1.

 

1- سبب وجوب الزكاة

هناك حكمة في وجوب الزكاة وسائر الصدقات الواجبة، وقد أشير إلى بعضها في الروايات، منها:

أ- امتحان للأثرياء: في مَن هو أحبّ إليهم، الله تعالى أم الدنيا الفانية؟ وهل إيمانهم بالثواب والجزاء الإلهيّ هو إيمان صادق أم لا؟ وهل هم صادقون في ادّعاء العبوديّة لله، أم لا؟

 

ب- تنظيم أمر المعيشة للفقراء والمساكين والمحتاجين: عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء، ومعونة للفقراء، ولو أنَّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً واستغنى بما فرض الله له، وإنَّ الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلّا بذنوب الأغنياء، وحقيق على الله

 

 


1- سورة آل عمران، الآية 180.

 

35


27

الموعظة الثانية: العبادة (1)

أن يمنع رحمته ممّن منع حقّ الله في ماله، وأُقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق أنّه ما ضاع مال في برٍّ ولا بحر إلّا بترك الزكاة!"1.

 

ج- علاج للبخل، فإنّ علاج البخل إنّما هو ببذل المال مراراً حتّى يعتاد على السخاء والكرم، قال تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾2.

 

2- من الآثار الدنيويّة للزكاة

وإنَّ لمنع الزكاة آثاراً دنيويّة سلبيّة عديدة، فعن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا منعوا الزكاة، منعت الأرض بركتها من الثمار والمعادن كلّها"3.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ لله بقاعاً تُسمّى المنتقِمة، فإذا أعطى الله عبداً مالاً لم يخرج حقّ الله منه، سلَّط الله عليه بقعة من تلك البقاع، فأتلف المال فيها، ثمّ مات وتركها"4.

 

 


1- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9، ص12.

2- سورة الحشر، الآية 9.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص374.

4- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9، ص39.

 

36


28

الموعظة الثانية: العبادة (1)

وفي المقابل، إنّ معطي الزكاة يبارك الله في ماله في الدنيا، ويجازى حُسْناً في الآخرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾1، وقال: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾2.

 

وقال سبحانه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3.

 

تشير هذه الآية إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقيّة والاجتماعيّة للزكاة، حيث تقول: "تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"، فهي تطهّرهم من الرذائل الأخلاقيّة، ومن حبّ الدنيا وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق، وتزرع مكانها خلال الحبّ والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم.


 


1- سورة البقرة، الآية 276.

2- سورة سبأ، الآية 39.

3- سورة التوبة، الآية 103.

 

37


29

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

الموعظة الثالثة:

العبادة (2)

 

تصدير الموعظة

"والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين... والصبر معونةً على استيجاب الأجر".

 

38


30

المقدّمة

أوّلاً: الصوم

"والصيام تثبيتاً للإخلاص"

قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾1.

 

تبيّن هذه الآية المباركة وجوب الصيام على المؤمنين، وتنهي بتبيين الخطّ العريض لفلسفة الصيام، ألا وهو الوصول بالإنسان إلى مرحلة التقوى.

 

الآثار التربويّة والاجتماعيّة للصيام

إنّ أهمّ أبعاد الصوم هو البعدُ الأخلاقيّ التربويّ، فمن فوائد الصوم الهامّة "تلطيف" روح الإنسان، و"تقوية" إرادته، و"تعديل" غرائزه.

 

إنّ الأثر الروحيّ والمعنويّ للصوم يشكّل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة، فإنّ مثل الصائم كمثل الشجرة البريّة التي اعتادت على الرياح العاتية وحرارة الشمس المحرقة،

 

 


1- سورة البقرة، الآية 183.

 

39


31

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

وبرودة الطقس القاسية، فإنّها تصبح أقوى وأشدّ من تلك الوردة التي اعتادت على الاهتمام والرعاية الزائدة، فإنّنا نجدها رقيقة وسريعة العطب والتأثّر بأيّ عامل جوّيّ لم تكن معتادة عليه.

 

بعبارة موجزة: الصوم يرفع الإنسان إلى عالم الملائكة، وعبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تشير إلى هذه الحقائق.

 

عن الإمام عليّ عليه السلام، عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه سُئل عن طريق مجابهة الشيطان، فقال: "الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه"1.

 

وفي نهج البلاغة عرض لفلسفة العبادات، وفيه يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق"2، وهذا ما تشير إليه السيّدة الزهراء عليها السلام في قولها: "والصيام تثبيتاً للإخلاص".

 

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 96، ص 255.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص55.

 

40


32

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

ثانياً: الحجّ

"والحجّ تشييدًا للدين"

1- الاستخفاف بالحجّ

إنَّ وجوب الحجّ كوجوب الصلاة، من حيث كونه من ضروريّات الدين. وبذلك، فإنّ تارك الحجّ، إن تركه إنكارًا له، واستلزم إنكاره إنكار الشريعة، يعتبر كافراً. وأمّا إذا تركه، وهو معتقد بوجوبه، ولكن تركه تسامحاً أو إهمالاً أو بخلاً وانشغالاً بأمور الدنيا، فإنّ هذا الاستخفاف من كبائر الذنوب، وليس فقط ترك الحجّ كاملاً هو من الذنوب الكبيرة، بل إنّ تأخير الحجّ عن سنة الاستطاعة ذنبٌ كبير أيضاً، فمن كان مستطيعاً في موسم الحجّ وجب عليه الحجّ في تلك السنة، ويحرم عليه التأخير، قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾1.

 

2- من أسرار وجوب الحجّ

إنَّ الغرض من خلق الإنسان معرفة الله والوصول إلى قربه

 


1- سورة آل عمران، الآية 97.

 

 

41


33

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

ومحبّته والأنس معه، وهذا أمر موقوف على صفاء النفس وتجرّدها، وذلك موقوف على الابتعاد عن الشهوات، وكفّ النفس عن الهوى، والإعراض عن الدنيا المذمومة، ثمّ توجيه الجوارح والأعضاء إلى الله تعالى في الأعمال الشاقّة، والمداومة على ذكر الله.

 

من هنا، فقد فرض الله سبحانه العبادات التي تتضمّن هذه الأمور، ومنها الحجّ، والذي فيه ترك الوطن والأهل، ومشقّة البدن، وبذل المال، وقطع الآمال، وتحمّل المشاقّ، وتجديد الميثاق مع الله، والطواف، والدعاء، والصلاة...

 

وفيه أمور لم يعتدِ الناس عليها ولم يألفوها، وقد لا تدرك العقول حكمتها، مثل رمي الجمرات والهرولة بين الصفا والمروة، وبهذه الأعمال تظهر غاية العبوديّة، وكمال التواضع والمذلّة لله تعالى. فالعبوديّة الحقيقيّة هي أن لا يصدر الفعل عن سببٍ، سوى الإطاعة للمولى، ومن هنا قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص الحجّ: "لبيّك بحجّة حقّاً، تعبّداً ورِّقاً"1.

 

 


1- ابن ميثم البحرانيّ، شرح نهج البلاغة، مركز النشر مكتب الاعلام الإسلاميّ - الحوزة العلمية، إيران - قم، 1362 ش، ط1، ج‏1، ص‏ 227.

 

 

42


34

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

إذاً، فمثل هذه العبادة التي قد لا يُدرك العقلُ حكمتَها، هي أكمل في إظهار العبوديّة، وتعجُّب بعض الناس من هذه الأفعال ناشئ من جهلهم بأسرار العبوديّة، وهذا السرُّ موجود في فريضة الحجّ. وبالإضافة إلى أنَّ كلّ عمل من أعمال الحجّ هو نموذج لحالة من حالات الآخرة، أو متضمّن لأسرار أخرى، فإنّ الحجّ يتحقّق به اجتماع أهل العالم في موضع نزول الوحي ومهبط الملائكة، وحضورهم في خدمة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قبل كان هذا الموضع منزل خليل الله إبراهيم عليه السلام، وكان باستمرار منزل كثير من الأنبياء، من آدم وحتّى خاتم الأنبياء، وقد جعله الله تعالى بيتاً له، ودعا عباده لزيارته، وجعل أطرافه وحواليه حرماً، حرّم فيه صيد الحيوان، وقطع النبات إكراماً لبيته.

 

ومن أهمّ حِكَم الحجّ أنَّه مظهر لوحدة المسلمين على ربٍّ واحدٍ، وإشارة إلى قوَّتهم وعزّتهم لو اتّحدوا، وعزّة المسلمين وقوّتهم هو عزّة للدين الإسلاميّ وتشييد له.

 

وهذا ما تشير إليه سيّدتنا الزهراء عليها السلام بقولها: "والحجّ تشييداً للدين".

 

 

43


35

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

ثالثاً: الصبر

"والصبر معونة على استيجاب الأجر"

1- معنى الصبر

الصبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن، والمراد من الامتناع عن الشكوى، هو الشكوى إلى المخلوق، أمّا الشكوى عند الحقّ المتعالي وإظهار الجزع والفزع أمام قدسيّته، فلا يتنافى مع الصبر، فهذا النبيّ أيوب يشكو إلى الله سبحانه قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ1, على الرغم من أن الله تعالى أثنى عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾2, وقال النبيّ يعقوب عليه السلام ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾3, مع أنّه كان من الصابرين.

 

2- درجات الصبر

إنّ المفهوم من الأحاديث الشريفة أنّ للصبر درجات، ويختلف الأجر والثواب بحسب الدرجة، كما في الرواية عن

 

 


1- سورة ص، الآية 41.

2- سورة ص، الآية 44.

3- سورة يوسف، الآية 86.

 

44


36

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

أمير المؤمنين عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتّى يردها بحُسْن عزائها، كتب الله له ثلاثمئة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمئة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمئة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"1.

 

ويُفهم من هذا الحديث أنّ الصبر على المعصية أفضل من مراتب الصبر كلّها.

 

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: سيأتي على الناس زمان لا يُنال فيه المُلك إلّا بالقتل والتجبّر، ولا الغنى إلّا بالغضب والبخل، ولا المحبّة إلّا باستخراج الدين واتّباع الهوى،، فمن أدرك ذلك الزمان، فصبر على الفقر، وهو يقدر على الغنى، وصبر على البِغضة،

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص91.

 

45


37

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

وهو يقدر على المحبّة, وصبر على الذلّ، وهو يقدر على العزّ، أتاه الله ثواب خمسين صدِّيقاً ممَّن صدَّق بي"1.

 

3- نتائج الصبر

إنّ للصبر نتائج كثيرة، فهو مفتاح أبواب السعادات، وباعثٌ للنجاة من المهالك، يهوّن المصائب ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعثُ على استقلاليّة مملكة الرّوح.

 

كما أنّه يروّض النفس ويربّيها، فإذا صبر الإنسان حيناً من الوقت على مصائب الدهر، وعلى مشاقّ العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسيّة امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتحمّل الصعاب، تروّضت النفس شيئاً فشيئاً، واعتادت وتخلّت عن طغيانها، وحصلت للنفس صفات راسخة نورانيّة، بها يتجاوز الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة.

 

ولكلّ درجة من درجات الصبر فائدة خاصّة: فالصبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصبر على الطاعة يسبّب الاستيناس بالحقّ عزّ وجلّ، والصبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهيّ.

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص91.

 

46


38

الموعظة الثالثة: العبادة (2)

وللصبر في الآخرة ثواب جزيل وأجر جميل، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾1.

 

كما ورد في الحديث: "وطِّنوا أنفسكم على الصبر، تؤجروا"2. وهذا ما تشير إليه سيّدتنا الزهراء عليها السلام بقولها: "والصبر معونة على استيجاب الأجر"3.

 

ويتجسّد الصبرُ في عالم البرزخ بصورة بهيّة شريفة، ففي الرواية عن الصادق عليه السلام: "إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلّ عليه، ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونَكم صاحبَكم، فإنْ عجزتم منه، فأنا دونَه"4.

 


1- سورة الزمر، الآية 10.

2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج3، ص257.

3- العلّامة المجلسيّ، بحار الانوار، مصدر سابق، ج29، ص 223.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص90.

 

47


39

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

الموعظة الرابعة:

دعائم حفظ الإسلام

 

تصدير الموعظة

"والجهاد عزّاً للإسلام... والأمر بالمعروف مصلحةً للعامّة".

 

 

48


40

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

أوّلاً: الجهاد

"والجهاد عزّاً للإسلام"

1- الإنسان والجهاد

تميل غريزة الإنسان نحو الراحة والدِعة، وتكره كلّ ما يسلب منها الراحة ويورث العناء، وتبتعد تلقائيّاً عن الأمور الممزوجة بالمخاطر.

 

وإنّ أحكام الشريعة تضبط هذه الغرائز بما يتلاءم مع مصلحة الفرد والمجتمع على حدّ سواء.

 

ومن هنا كان تشريع الجهاد بما فيه من الآثار الهامّة، يقول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.

 

ويشير القرآن الكريم إلى أمثلة كثيرة لتخلّف الناس الجهاد والدفاع عن الأرض والعرض والكرامة، ففي سيرة بني إسرائيل أنّهم، وبعد النبي موسى عليه السلام، تخلّفوا

 

 


1- سورة البقرة، الآية 216.

 

 

49


41

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

عن الالتزام بهذا الواجب المقدّس، إلّا قليلاً منهم، يقول -تعالى-: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾1.

 

2- فضل الجهاد

تشير الكثير من الآيات القرآنيّة والروايات الشريفة إلى فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وتفضيل الإنسان المجاهد على القاعد عن القيام بواجبه في الدفاع عن أمّته ووطنه، يقول الله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾2.

 

وتشير بعض الروايات إلى المكانة المرموقة التي يحتلّها

 


1- سورة البقرة، الآية 246.

2- سورة النساء، الآية 95.

 

 

50


42

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

الجهاد في سبيل الله بين العبادات، فعن الإمام أبي جعفر عليه السلام، قال: "ألا أخبرك بالإسلام، أصله وفرعه وذروة سنامه"1؟ قلت: بلى، جُعِلت فداك! قال: "أمّا أصله فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة سنامه الجهاد"2.

 

يقول الشيخ الكلينيّ رحمه الله، تعليقًا على هذه الرواية: "الجهاد ذروة سنامه، لأنّه سبب لعلوّ الإسلام"3.

 

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

"أتى رجلٌ رسولَ الله  صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي راغب في الجهاد نشيط قال: فقال له النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم: فجاهد في سبيل الله، فإنّك إن تُقتَل تكنْ حيّاً عند الله تُرزق، وإنْ تمُت فقد وقع أجرك على الله، وإنْ رجعت رجعت من الذنوب كما وُلدت"4.

 

وللمجاهدين في سبيل الله تعالى مراتب عالية من

 

 


1- السنام هو المكان المرتفع في ظهر الجمل، وهي أعلى نقطة في الظهر، والتشبيه بالسنام في الرواية بل وذروة السنام، واضح في تبيان مكانة الجهاد في رأس هرم الشريعة.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 23 - 24.

3- المصدر نفسه، ج2، ص 25.

4- المصدر نفسه، ج2، ص 160.

 

51


43

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

الكرامة في الآخرة، منها ما أشار إليه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ جبرائيل أخبرني بأمر قرَّت به عيني وفرِح به قلبي، قال: يا محمّد، من غزا غزاة في سبيل الله من أمّتك، فما أصابه قطرة من السماء أو صداع، إلّا كانت له شهادة يوم القيامة"1.

 

3- لماذا فرض الله الجهاد؟

للجهاد في سبيل الله تعالى آثار كبيرة في الدنيا، فمن آثاره صلاح المجتمعات وتحريرها من العبوديّة لغير الله تعالى، وإخراجهم من ولايتهم للعبيد والملوك إلى رحب الإسلام وعزّته التي تعمّ الجميع على حدٍ سواء، وكذلك في الجهاد حفاظ على الدين والمؤمنين.

 

عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في رسالة إلى بعض خلفاء بني أميّة، يقول عليه السلام: "ومن ذلك ما ضيَّع الجهادَ الذي فضّله الله عزّ وجلّ على الأعمال، وفضّل عامله على العمّال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة والرحمة، لأنّه ظهر به الدين، وبه يُدفع عن الدين، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة بيعاً مفلحاً منجحاً، اشترط عليهم

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 8.

 

 

52

 


44

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

فيه حفظ الحدود، وأوّل ذلك الدعاء إلى طاعة الله عزّ وجلّ من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد"1.

 

4- الجهاد يورث المجد

يورث الجهاد الكرامة للأمّة، إذ إنّ الأمّة التي تجاهد وتحافظ على أرضها وكيانها من التدخّل الخارجيّ، والغزو العسكريّ والفكريّ والثقافيّ، أمّة عزيزة تتمتّع بأعلى معايير الكرامة، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "قال النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم: اغزوا، تورثوا أبناءكم مجداً".

 

5- الاستقلال والدفاع عن البلاد

إنّ الاستقلال له أهمّيّته الخاصّة في ظلّ أطماع المستعمرين الذين يحاولون السيطرة والتسلّط على ما هو لغيرهم. من هنا، كانت الحاجة لقوّة تمنع طمع الطامعين، وتضمن عدم تعدّيهم وتجاوزهم وإنّ في ترك الجهاد مذلّة الأمّة وانسلاخ العزّة والكرامة منها، وتخبّطها بالعار والفقر، يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

 

 


1-الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 3.

 

53


45

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

"أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وسوّغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها، والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء، وفارق الرضا، وديِّثَ بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد1، وأديل2 الحقّ منه بتضييع الجهاد، وسئم3 الخسف ومنع النصف"4.

 

وعن الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يُقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه، فإذا هو مفتوح، وهم متقلّدون بسيوفهم والجمع في الموقف، والملائكة ترحّب بهم، ثمّ قال: فمن ترك الجهاد ألبسه الله -عزّ وجلّ- ذلّاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه"5.

 


1- بالأسداد: أي سُدّت عليه الطرق وعميت عليه مذاهبه.

2- الإدالة: النصر والغلبة والدولة.

3- سئم الخسف: أي أوتي الذلّ، ويقال: سأمه خَسفاً، ويضمّ؛ أي أولاه ذلّاً وكلّفه المشقّة والذلّ.

4- والنصف، بكسر النون وضمها وبفتحتين، الإنصاف.

5- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 2.

 

54


46

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

وهذا ما تشير إليه السيّدة الزهراء عليها السلام بقولها: "والجهاد عزّاً للإسلام".

 

ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

"والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة"

1- أهمّيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الإسلاميّة، فبها صلاح المجتمع الإنسانيّ وحفظ الشريعة من التمزيق والتبديل، فالنهي عن المنكر يُحصّن الفرد والمجتمع والأمّة من الانحرافات السلوكيّة والروحيّة، والأمر بالمعروف يُكسب الفرد والمجتمع والأمّة الفضائل السلوكيّة والروحيّة.

 

وقد اهتمَّ القرآن الكريم بهذه الفريضة، واعتبرها سببًا للفلاح، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.

 

وهو ضمانة بقاء تعاليم الدِّين وقيمه حيّة، وبهِ أُقيمت

 


1- سورة آل عمران، الآية 104.

 

 

55


47

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

أركانه وفروعه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قِوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود"1.

 

2- دور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والصالحين

وقد التزم الأنبياء العظام والأئمّة عليهم السلام والصالحون بهذه الفريضة، فكانوا المصلِحين والآمرين بالمعروف والعدل والناهين عن المنكر، يقول أمير المؤمنين عليه السلام "واصطفى سبحانه من ولده (آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم"2.

 

وعنه عليه السلام في خصوص الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "بلّغ عن ربّه معذراً، ونصح لأمّته منذراً"3.

 

وعنه في خصوص نفسه عليه السلام: "وما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت..."4.

 

 


1- الشيخ محمّد الريشهريّ، ميزان الحكمة، تحقيق ونشر دار الحديث، لا.م، لا.ت، ط1،ج3، ص1940.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص24.

3- المصدر نفسه, ج1, ص 215.

4- الطبرسيّ، الشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج، تعليق السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386ه - 1966م، لا.ط، ج1، ص262.

 

 

56


48

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

وكذلك أبناء أمير المؤمنين المعصومين عليهم السلام، فقد حملوا لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما قام به الإمام الحسين الشهيد عليه السلام خير شاهدٍ ومثال، وهو القائل: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر..."1.

 

أمّا الصالحون، فمثالهم الأبرز في عصرنا الإمام الخمينيّ رحمه الله حيث حمل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبدّل دولةً من المنكر إلى المعروف، بإسقاط الشاه رمز المنكر والفساد وتأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

وممن المؤكّد أنّ كلَّ إنسان مؤمن مأمورٌ بهذه الفريضة، كلٌّ حسب استطاعته، يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾2.

 

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص330.

2- سورة التوبة، الآية 71.

 

 

57


49

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

3- الآثار الاجتماعيّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لعلّ أعظم الآثار والبركات التي تنتج عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تظهر من الناحية الاجتماعيّة، والتي اختصرتها السيّدة الزهراء عليها السلام بقولها: "والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة"، نذكر منها:

أ- تحقيق أهداف النبوّات

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشكّلان مقدّمة لتطبيق أحكام الإسلام، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الظالم ويستقيم الأمر"1.

 

فإنّ أهداف الأنبياء تتحقّق بتطبيق أحكام اللَّه وإجراء قوانين الإسلام. وعليه، فكلّ من يقوم بهذه الفريضة يشكل قوّة دافعة لإجراء هذه القوانين مع كونه أحد أجهزة الرقابة على ذلك.

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص56.

 

58


50

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

ب- العدالة الاجتماعيّة

إنّ توزيع الثروات بشكل عادل ومنع الظلم واستنقاذ الحقوق، هي الترجمة العمليّة لمقولة العدالة الاجتماعيّة، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "بها... تردّ المظالم...".

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفي‏ء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها"1، وفيها إشارة واضحة إلى حُسْن إدارة المال العام وتوزيع الثروة على مستحقيها ووضعها في محلها.

 

ج- الأمن

والأمن أمنان: داخليّ، قوامُه نزع أسباب الخلاف بوجود النظام العادل وحُسْن تطبيقه، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "بها... تأمن المذاهب...".

 

وخارجيّ يفترض جهوزيّة عالية لدى أبناء الأمّة للجهاد والدفاع وحماية النظام وحفظه، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "بها... يُنتصف من الظالم".

 

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج97، ص 79.

 

 

59


51

الموعظة الرابعة: دعائم حفظ الإسلام

د- قوّة المؤمنين وضعف المنافقين

من آثار هذه الفريضة، قوّة خطّ الإيمان في المجتمع ونصرة المؤمنين، بالتوازي مع إضعاف جبهة النفاق والمنافقين، عن الإمام عليّ عليه السلام: "فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين"1، وعنه عليه السلام أيضاً: "من نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين"2.

 

و- سلامة الأمّة وخيرها

يقول الإمام عليّ عليه السلام في العلّة التي لأجلها فرض اللَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "فرض الله... والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء"3.

 

وعليه، فإنّ الأثر لهذه الفريضة هو إيجاد مجتمع صالح يشكل بيئة نموذجيّة صالحة ومنيعة بما يجعل هذه الأمّة خير الأمم وخير المجتمعات، عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"4.

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص9.

2- المصدر نفسه، ج4، ص9.

3- المصدر نفسه، ج4، ص56.

4- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج16، ص124.

 

60


52

المحور الثاني: صفات المؤمنين في نهج البلاغة

المحور الثاني

صفات المؤمنين في نهج البلاغة

 

 

1. صفات المتَّقين (1).

2. صفات المتَّقين (2).

3. الأدب وحُسْن الخُلُق.

4. اجتناب الرذائل.

 

62


53

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

الموعظة الخامسة:

صفات المتّقين (1)

 

تصدير الموعظة

قال أمير المؤمنين عليه السلام، في وصفه للمتّقين، في خطبته المعروفة بخطبة المتّقين: "فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ"1.

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص160.

 

 

64


54

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

وسنتعرّض، في هذه الموعظة، لبعض ما أورده عليه السلام من صفاتِ المتّقين، لعلّنا نربّي أنفسنا ونحملها على الاتّصاف بهذه الفضائل، لنكون أحسن مثالٍ لشيعته ومواليه. وقد قال عليه السلام: "فإنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ العَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأُمُورِ"1.

 

ورُوِيَ في الكافي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إِنَّ شِيعَةَ عَلِيٍّ كَانُوا خُمْصَ‏ الْبُطُونِ،‏ ذُبُلَ الشِّفَاهِ، أَهْلَ رَأْفَةٍ وَعِلْمٍ وَحِلْمٍ، يُعْرَفُونَ بِالرَّهْبَانِيَّةِ، فَأَعِينُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ"2.

 

1- التقوى

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ﴾.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "التُّقَى رَئِيسُ الأَخْلَاقِ"4.

التقوى مَلَكةُ الاجتنابِ عن الرذائل والتحلَّي بالفضائل،

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص150.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، 233.

3- سورة البقرة، الآية 278.

4- ابن فهدٍ الحلّيّ، عدّة الداعي ونجاح الساعي، تصحيح أحمد الموحّديّ القمّيّ، مكتبة وجداني، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ص284.

 

 

65


55

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

فتأمر النفس بترك البخل ولبس الجود، وترك الفحشاء والتِزام الورع، فتكون رئيسها1.

 

سُئِلَ الإمام الصادق عليه السلام عن معنى التقوى، فقال: "أنْ لَا يَفْقِدَكَ اللهُ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَلَا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ"2.

 

2- منزلة التقوى

للتقوى منزلةٌ عظيمةٌ، وآثارٌ جليلةٌ، في الدنيا والآخرة، منها:

1- الآثار الدنيويّة.

2- الفَرَجُ والرزق.

 

قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾3.

 

تتحدّث هذه الآية الكريمة عن صفة لو تحلّى بها الإنسان أثمرت على مستويين:

الأوّل: رفع المشاكل والابتلاءات، أي "مَن يَتَّقِ اللَّهَ" ويتورّع عن محارمِه، ولم يتعدَّ حدودَه، واحترم شرائعَه فعمل بها،

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص96.

2- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيّد إبراهيم الميانجيّ، بنياد فرهنگ امام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، لا.م، لا.ت، ط4، ج21، ص489.

3- سورة الطلاق، الآيتان 2 - 3.

 

66


56

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

"يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً" من مضائقِ مشكلاتِ الحياةِ، فإنّ شريعته فطريّةٌ، يهدي بها اللهُ الإنسانَ إلى ما تستدعيه فطرتُه، وتقضي به حاجته، وتضمن سعادته في الدنيا والآخرة.

 

الثاني: سعة أبواب الرزق، فإنّ "مَن يَتَّقِ اللَّهَ"، "يَرْزُقْهُ" من الزوج والمال وما يفتقر إليه كلّه في طيب عيشِه وزكاة حياته، "مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" ولا يتوقّع، فلا يخفَ لمؤمنٍ أنّه إن اتّقى اللهَ واحترم حدودَه، حُرِمَ طِيبُ الحياة، وابتُلِيَ بضنك المعيشة، فإنّ الرزق مضمونٌ، والله على ما ضَمِنَه قادرٌ1.

 

3- إفاضة العلم

قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾2.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "عندما يقول الربّ -جلّ جلاله- في الآية الكريمة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾، فلأجل أنّ التقوى تُزَكّي النفس، وتربطها بعالَم الغيب المقدّس، ثمّ يكون التعليم الإلهيّ والإلقاء الرحمانيّ"3.

 


1- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج19، ص314. (بتصرّف)

2- سورة البقرة، الآية 282.

3- الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، الأربعون حديثاً، تعريب محمّد الغرويّ، مؤسّسة دار الكتاب الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1423ه، ط2، ص404.

 

67


57

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

4- الآثار الإيمانيّة

أ- سببُ قبول الأعمال: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾1.

 

ب- خير الزاد: قال تعالى: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾2.

 

ج- الأجر العظيم: قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾3.                                                                                                                                      .

 

د- الجنّة والمنزلة العظيمة: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾4.

 

هـ- اجتناب النار: قال تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى5.

 

الفضيلة

الفضيلة ضدّ النقيصة، وخلاف الرذيلة. وهي مشتقّةٌ من

 

 


1- سورة المائدة، الآية 27.

2- سورة البقرة، الآية 197.

3- سورة آل عمران، الآية 172.

4- سورة القمر، الآيتان 54 - 55.

5- سورة الليل، الآية 17.

 

 

68

 


58

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

الفضل، ومعناه - في اللغة - الزيادةُ على الحاجة، أو الإحسان ابتداءً بلا علّةٍ، أو ما بقي من الشيء. وفضيلة الشيء ميزتُه، أو كمالُه الخاصُّ به. يُقال: فضيلةُ السيفِ إحكامُ القطعِ.

 

والفضائلُ الأخلاقُ والصفاتُ الحسنةُ والحميدةُ التي تتّصف بها النفسُ.

 

أهل الفضائل

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "فالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ. مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ، لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"1.

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص160.

 

69


59

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

فاتّصفوا بالفضائل النفسانيّة، وتزيّنوا بمكارم الأخلاق، ومحامد الأوصاف، التي فصّلها عليه السلام بالبيان البديع:

منطقهم الصواب: والصواب ضدّ الخطأ، يعنى أنّهم لا يسكتون عمّا ينبغي أن يقال، فيكونون مفرّطين، ولا يقولون ما ينبغي أن يُسكَت عنه، فيكونون مُفرِطين.

 

ويُحتَمل أن يُرادَ به خصوص توحيد اللَّه تعالى وتمجيده والصّلاة على نبيّه، وبه فُسِّر في قوله سبحانه: ﴿لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾1.2

 

وعنه عليه السلام، في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفية: "وَمَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً أَحْسَن مِنَ الكَلَامِ، وَلَا أَقْبَح مِنْهُ، بِالكَلَامِ ابْيَضَّتِ الوُجُوهُ، وَبِالكَلَامِ اسْوَدَّتِ الوُجُوهُ"3.

 

ملبسهم الاقتصاد: أي التوسّط بين الإفراط والتفريط، يعني أنّ لباسهم ليس بثمينٍ جدّاً، مثل لباس المترفين المتكبِّرين، ولا بذلّة،ٍ كلِباسِ أهل الابتذال والخسّة والدناءة، بل متوسّطٌ بين الأمرَين4.

 

 


1- سورة النبأ، الآية 38.

2- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج12، ص117.

3- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج12، ص193.

4- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج12، ص117.

 

70


60

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾1.

 

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ لِمادّة اللباس وجنسِه وغلائه وزينته تأثيراً في النفوس، ومن هذه الجهة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَمَنْ لَبِسَ المُرْتَفِعَ مِنَ الثِّيَابِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّكَبُّرِ، وَلَا بُدَّ لِلْمُتَكَبِّرِ مِنَ النَّارِ"2"3

 

مشيهم التواضع: يعني أنّهم لا يمشون على وجه الأشر والبطر والخيلاء، لِنَهيِ اللَّه سبحانه عن المشي على هذا الوجه، في قوله: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾, وأمرِه بخلافه في قوله: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾4.

 

وقد رُوِيَ في الكافي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: "فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلى‏ دَاوُدَ عليه السلام: يَا دَاوُدُ، كَمَا أَنَّ‏ أَقْرَبَ‏

 

 


1- سورة الفرقان، الآية 67.

2- الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج3، ص257.

3- الإمام الخمينيّ، روح الله الموسويّ، معراج السالكين، ص98.

4- سورة لقمان، الآية 19.

 

71


61

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

النَّاسِ‏ مِنَ‏ اللَّهِ‏ الْمُتَوَاضِعُونَ‏، كَذلِكَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْمُتَكَبِّرُون‏"1.

 

غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم: امتثالاً لأمره تعالى به، في قوله: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾2, أي يغضّوا أبصارهم عمّا لا يحلّ لهم النظر إليه.

 

وفي الكافي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: "عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: كُلُّ‏ عَيْنٍ‏ بَاكِيَةٌ يَوْمَ‏ الْقِيَامَةِ، غَيْرَ ثَلَاثٍ: عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّه،ِ وَعَيْنٍ فَاضَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه،ِ وَعَيْنٍ غُضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّه‏"3.

 

وقفوا أسماعَهم على العلم النافع لهم: في الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن الإصغاء إلى اللَّغو والأباطيل، كالغيبة والغناء والفحش والخناء ونحوها. وقد وصفهم اللَّه سبحانه بذلك، في قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾4.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص124.

2- سورة النور، الآية 30.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص80.

4- سورة المؤمنون، الآية 3.

 

72


62

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

نزلت أنفسهم منهم في البلاء، كالَّذى نزلت في الرّخاء: يعني أنّهم موطِّنون أن0فسَهم على ما قدّره اللَّه في حقّهم من الشدّة والرخاء والسرّاء والضرّاء والضيق والسعة والمنحة والمحنة، ومحصّلُه وصفُهم بالرضاء بالقضاء.

 

رُوِيَ في الكافي، عن ابن سنانٍ، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: "قُلْتُ لَهُ: بِأَيِّ شَيْ‏ءٍ يُعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ؟ قَالَ عليه السلام: بِالتَّسْلِيمِ‏ لِلَّه،ِ‏ وَالرِّضَا فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ‏ مِنْ‏ سُرُورٍ أَوْ سَخَطٍ"1.

 

لَوْلَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ، لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ: رُوِيَ في الكافي، عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: "مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، خَافَ اللَّهَ، وَمَنْ خَافَ اللَّهَ، سَخَتْ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيَا"2.

 

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ: علماً منهم بأنّه سبحانه موصوفٌ بالعظمة والكبرياء والجلال،

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص63.

2- المصدر نفسه، ج2، ص68.

 

73

 

 


63

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

غالبٌ على الأشياء كلِّها، قادرٌ قاهرٌ عليها، وأنّ كلّ من سواه مقهورٌ تحت قدرته، داخرٌ ذليلٌ في قيد عبوديّته، فهو سبحانه عظيم السلطان، عظيم الشأن، وغيره أسيرٌ في ذلِّ الإمكان، مُفتَقِرٌ إليه، لا يقدر على شيءٍ إلَّا بإذنه.

 

وأشار عليه السلام بهذا الوصف، إلى شدّة يقين المتّقين، وغاية توكَّلهم، وأنّ اعتصامهم في أمورهم جميعها به، وتوكّلهم عليه، وأنّهم لا يهابون معه ممّن سواه.

 

رُوِيَ في الكافي، عن أبي بصيرٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: "لَيْسَ شَيْ‏ءٌ إِلَّا وَلَهُ حَدٌّ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! فَمَا حَدُّ التَّوَكُّلِ؟ قَالَ: الْيَقِينُ. قُلْتُ: فَمَا حَدُّ الْيَقِينِ قَالَ أَلَّا تَخَافَ مَعَ اللَّهِ شَيْئاً"1.

 

ولمّا ذكر شدّة اشتياق المتّقين إلى الجنّة وخوفهم من العقاب، أتبعه بقوله: "فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"2، إشارةً إلى أنّهم صاروا في مقام الرجاء والشوق إلى الثواب،

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص 143.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص161.

 

 

74


64

الموعظة الخامسة: صفات المتّقين (1)

وقوّة اليقين بحقائق وعده سبحانه، بمنزلةِ مَن رأى بحسِّ بصرِه الجنّةَ وسعادتَها، فتنعّموا فيها، والتذّوا بلذائذها، وفي مقام الخوف من النار والعقاب، وكمال اليقين بحقائق وعيده تعالى، بمنزلةِ مَن شاهد النّار وشقاوتها، فتعذّبوا بعذابها، وتألَّموا بآلامها.

 

ومحصّله جمعهم بين مرتبتَي الخوف والرجاء، وبلوغهم فيه إلى الغاية القصوى، وهي مرتبةُ عين اليقين، كما قال عليه السلام، مخبراً عن نفسه: "لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً"1.

 

 


1- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج12، ص119.

 

75


65

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

الموعظة السادسة:

صفات المتّقين (2)

 

 

تصدير الموعظة

يكمل أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه للمتّقين:

"قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا"1.

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص161.

 

76


66

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ: لِما غلب عليهم من الخوف:

رُوِيَ في الكافي عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: "صَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَعليه السلامبِالنَّاسِ الصُّبْحَ بِالْعِرَاقِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، وَعَظَهُمْ، فَبَكَى وَأَبْكَاهُمْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَاماً عَلَى عَهْدِ خَلِيلِي رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم، وَإِنَّهُمْ لَيُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ شُعْثاً غُبْراً خُمْصاً بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ، كَرُكَبِ الْمِعْزَى، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَقْدَامِهِمْ وَجِبَاهِهِمْ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْأَلُونَهُ فَكَاكَ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ مَعَ هَذَا، وَهُمْ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ"1.

 

شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ: لأنّ مبدأ الشرور والمفاسد كلِّها، ورأس كلِّ خطيئةٍ، هو حبُّ الدّنيا. والمتّقون زاهدون فيها، مُعرِضون عنها، مُجانِبون عن شرّها وفسادها.

 

وعنه عليه السلام: "بِئْسَ الزَّادُ إِلَى المَعَادِ العُدْوَانُ عَلَى العِبَادِ"2.

 

ويؤدّبنا الإمام زين العابدين عليه السلام بدعائه: "اللَّهُمَّ صَلِّ

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص236.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص49.

 

77


67

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي‏ التَّحَفُّظَ مِنَ‏ الْخَطَايَا، وَالِاحْتِرَاسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، حَتَّى أَكُونَ بِمَا يَرِدُ عَلَيَّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، عَامِلاً بِطَاعَتِكَ، مُؤْثِراً لِرِضَاكَ عَلَى مَا سِوَاهُمَا فِي الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَعْدَاءِ، حَتَّى يَأْمَنَ عَدُوِّي مِنْ ظُلْمِي وَجَوْرِي، وَيَيْأَسَ وَلِيِّي مِنْ مَيْلِي وَانْحِطَاطِ هَوَايَ"1.

 

أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ: لإتعاب أنفسِهم بالصيام والقيام، وقناعتهم بالقدر الضروريّ من الطعام.

 

حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ: لاقتصارهم، من حوائج الدنيا، على ضروريّاتها، وعدم طلبهم منها أكثر من البلاغ.

 

أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ: أي مصونةٌ عن المحرّمات، لكسرهم سورة القوّة الشهويّة.

 

فضل العفاف

1- أفضل العبادة: في الكافي، عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: "إِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ عِفَّةُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ"2.

 

 


1- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص110.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص79.

 

 

78


68

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

2- أجر الشهداء: "مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ، لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَة"1.

 

3- محبّة الله: عن أبي جعفرٍ عليه السلام: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَيِيَّ الْحَلِيمَ الْغَنِيَّ الْمُتَعَفِّف‏"2.

 

4- دخول الجنّة: "أَوَّلُ مَنْ يَدْخُل الجنَّةَ شَهِيدٌ... وَرَجُلٌ عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِبَادَةٍ"3.

 

صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة: يعني أنّهم صبروا في دار الدّنيا على طوارق المصائب، وعلى مشاقّ الطاعات، وعن لذّات المعاصي، بل احتملوا مكاره الدّنيا جميعها، واستعملوا الصبر في أهوالها جميعًا، فأوجب ذلك السعادة الدائمة في الدار الآخرة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾4.

 

وعن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: "الْجَنَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ‏ وَالصَّبْر،ِ فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي الدُّنْيَا، دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَجَهَنَّمُ مَحْفُوفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَات‏، فَمَنْ أَعْطى‏ نَفْسَهُ لَذَّتَهَا وَشَهْوَتَهَا، دَخَلَ النَّار"5.

 

مراتب الصبر

عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَة"6.

 

وفي وصف أيّام الصبر بالقصر، والراحة بالطول، تحريضٌ وترغيبٌ إليه. وأكَّد ذلك بقوله: "تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ"، فاستعار لفظ التجارة لاكتسابهم الراحة، في مقابل الصبر، ورُشِّحَ بلفظ الرّبح.

 

وكونها مُربِحَةً، باعتبار قصر مدّة الصبر على المكاره، وطول مدّة الراحة، وفناء الشهوات الدنيويّة واللَّذائذ النفسانيّة،

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387 - 1967، ط1، ص559.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص112.

3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص272.

4- سورة آل عمران، الآية 200.

5- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص72.

6- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص91.

 

79


69

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

وبقاء السعادات الأخرويّة، مضافةً إلى خساسةِ الأولى في نفسها وحقارتها، ونفاسة الثانية وشرافتها.

 

وأكَّد ثالثاً، بقوله: "يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ"، يعني أنّ فوزهم بتلك النعمة العظمى والسعادة الدائمة، قد حصل بتوفيق اللَّه سبحانه وتأييده ولطفه، ففيه إيماءٌ إلى توجّه العناية الربّانيّة إليهم، وشمول الألطاف الإلهيّة عليهم، وإلى كونهم بِعَين رحمة اللَّه وكرامته.

 

أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا: أي أرادت عجوزةُ الدنيا أن تفتنهم وتغرّهم، وأن يتزوّجوا بها، فأعرضوا عنها، وزهدوا فيها، بما كانوا يعرفونه من حالها، وأنّها قتّالةٌ، غوّالةٌ، ظاهرةُ الغرور، كاسفةُ النّور، يونق منظرُها، ويوبِق مخبرُها، قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزينتها، لا تفي بأحدٍ من أزواجها الباقية، كما لم تفِ بأزواجها الماضية1.

 

ومن خبر ضِرار بن ضمرة الضبابيَ، عند دخوله على معاوية، ومسألته له عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ‏

 


1- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج12، ص122.

 

 

80


70

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

فِي‏ بَعْضِ‏ مَوَاقِفِه، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ، قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ، وَيَقُولُ: يَا دُنْيَا، يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي، أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ لِي تَشَوَّقْتِ؟ لَا حَانَ حِينُكَ! هَيْهَاتَ! غُرِّي غَيْرِي، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا، فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ. آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الْمَجَازِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِد!"1.

 

حقيقة الدنيا

قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾2.

والله سبحانه مع ما يقرّر هذه الحياة الدنيا، يعدُّها - في مواضع كثيرة من كلامه - شيئاً رديّاً هيّناً، لا يعبأ بشأنه، كقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾3،

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص16.

2- سورة الأنعام، الآية 32.

3- سورة الرعد، الآية 26.

 

81


71

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

وقوله تعالى: ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾1 وقوله تعالى: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾2. فوصف الحياةَ الدنيا بهذه الأوصاف، فعدّها متاعاً، والمتاعُ ما يُقصَدُ لغيره، وعدّها عرضاً، والعرضُ ما يعترض ثمّ يزول، وعدّها زينةً، والزينة هو الجمال الذي يُضَمّ على الشيء ليُقصَد الشيء لأجله، فيقع غير ما قصد، ويقصد غير ما وقع، وعدّها لهواً، واللهوُ ما يلهيك ويشغلك بنفسه عمّا يهمّك، وعدّها لعباً، واللعبُ هو الفعل الذي يصدر لغايةٍ خياليّةٍ لا حقيقيّةٍ، وعدّها متاع الغرور، وهو ما يُغَرّ به الإنسان.

 

الحياة الحقيقيّة

ويفسّر هذه الآيات جميعها ويوضحها قولُه تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾3. يبيّن أنّ الحياة الدنيا، إنّما تُسلَب عنها حقيقةُ الحياة، أي كمالها، في مقابل ما تُثبَت للحياة الآخرة حقيقةُ

 

 


1- سورة النساء، الآية 94.

2- سورة الكهف، الآية 28.

3- سورة العنكبوت، الآية 64.

 

 

82


72

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

الحياة وكمالها، وهي الحياة التي لا موت بعدها، قال تعالى:

﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾1, وقال تعالى: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾2,  فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت، ولا يعترضهم نقصٌ في العيش وتنغّصٌ. لكنّ الأوّل من الوصفين - أعني الأمن - هو الخاصّيّة الحقيقيّة للحياة، الضروريّة له3.

 

حبّ الدنيا

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، حُبُّ الدُّنْيَا"4.

 

التعلّق بالدنيا

يصف أمير المؤمنين عليه السلام حال المتعلّقين بالدنيا، فيقول: "أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ، قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا. وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً، أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ

 

 


1- سورة الدخان, الآيتان: 55-56. 

2- سورة ق، الآية 35.

3- الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص330.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص315.

 

83


73

الموعظة السادسة: صفات المتّقين (2)

غَيْرِ صَحِيحَةٍ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا. حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وَحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا. لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ، وَلَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ..."1.

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص212.

 

84


74

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

الموعظة السابعة:

الأدب وحُسْن الخُلُق

 

 

تصدير الموعظة

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَكرَمُ الحَسَبِ حُسْنُ الخُلُقِ"1.

 

وعنه عليه السلام: "عَدَمُ الأَدَبِ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ"2.

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص396.

2- ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، إيران - قمّ، 1404ه‏، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابي الحلبيّ وشركاه، 1378ه - 1959م، ط1، ج20، ص258.

 

 

85


75

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

الخُلُق

في الكافي الشريف، بسنده عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً"1.

 

الخُلُق - بالضمّ - يُطلق على الملكات والصفات الراسخة في النفس، حسنةً كانت أم قبيحةً، وهي في قِبال الأعمال، ويُطلق حُسْنُ الخُلُق - غالباً - على ما يوجب حُسْنَ المعاشرة، ومخالطة الناس بالجميل2.

 

فحُسْن الخُلُق مع الناس، هو مخالطتهم على الوجه الحَسَن الجميل، والتودُّد إليهم، والاحتمال منهم، والإشفاق عليهم، والحلم، والصبر، وغير ذلك من محاسن الصفات.

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَكرَمُ الحَسَبِ حُسْنُ الخُلُقِ".

 

يُطلَق الحَسَبُ على معنيَين، الأوّل كلّ ما يُعَدّ من المآثر والمكارم، وهو يكون في الإنسان، وإن لم يكن لآبائه شرف، فيُقال: رجلٌ حسيب، أي كريم النفس، أمّا المعنى الثاني فيُطلق على الكفاية من المال وما يجرّ مجراه.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص99.

2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص373.

 

 

86


76

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

ويحسن تأويل الكلمة على حسب مفهومَي الحسب.

 

أمّا على المفهوم الأوّل، فالإمام عليه السلام وصف حُسْن الخُلُق بأفضليّة كَرَمِ ما يُعَدّ من المكارم، التي تُؤثَر عن الإنسان، حيث إنَّ أصول الفضائل الخُلُقيّة ثلاثةٌ: الحكمة، والعفّة، والشجاعة، ومجموعها العدالة. ثمّ إنّ الملكة التي للنفس، المسمّاة خُلُقاً، هي الأصل الذي تصدر عنه هذه الفضائل وأنواعها، ولا شكّ أن الأصل أشرف وأكرم من الفرع.

 

وأمّا على المفهوم الثاني، فهو أنّ حُسْنَ الخُلُق، لَمّا كان منبعاً لأصول الفضائل المذكورة، كان أكرمَ كفايةٍ تكون، إذ كان كفاية الجزء الباقي من الإنسان، وكان المالُ كفاية الجزء الحيوانيّ الفاني منه، والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربّك ثواباً وخيرٌ أملاً.

 

وفي هذه الكلمة، تنبيهٌ على مراعاة حُسْن الخُلُق إن كان موجوداً، وعلى الاجتهاد في اكتسابه إن كان مفقوداً، وذلك أنّه منشأٌ لجماع مكارم الأخلاق والفضائل، التي هي سببٌ للسعادة الباقية، والله وليّ الهداية1.

 

 


1- ابن ميثم البحرانيّ، شرح مئة كلمةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام، تصحيح وتعليق مير جلال الدين الحسينيّ الأرمويّ المحدّث، قمّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، لا.ت، لا.ط، ص97. (بتصرّفٍ)

 

 

87


77

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

الأدب

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَلَا مِيرَاثَ كَالأَدَبِ"1.

 

الأدب هو كلّ عملٍ مقبولٍ لدى العقل والشرع، إذا أُتِيَ به على أفضل الوجوه وأحسنها وأجملها. والإنسان ذو الأدب هو من تقع أفعاله وحركاته على أجمل الوجوه وألطفها.

 

أمّا الصفات التي تتعلق بصفاء الروح وكمال النفس وباطن الإنسان، كالسخاء، والشجاعة، والعدالة، والعفو، والرحم، وسائر الصفات الإنسانيّة، فإنّما هي "الأخلاق"2.

 

والأدب يُوَفَّق صاحبُه لنيل المقاصد والوصول إلى المآرب، فلا ميراث أنفع منه3. وقال ابن أبي الحديد، في شرحه: "فإنّي قرأتُ في حكم الفرس عن بزرجمهر: ما ورّثت الآباءُ أبناءَها شيئاً أفضل من الأدب، لأنّها إذا ورّثتها الأدبَ، اكتُسِب بالأدب

 

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص14.

2- الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، سنن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم (مع ملحقات)، تحقيق وإلحاق الشيخ محمّد هادي الفقهي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1419، لا.ط، ص7. (بتصرّفٍ قليلٍ).

3-حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج21، ص93.

 

88


78

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

المال، فإذا ورّثتها المالَ بلا أدبٍ، أتلفته بالجهل، وقعدت صفراً من المال والأدب"1.

 

تأديب النفس

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ، تَوَلَّوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا، وَاعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا"2.

 

وتأديب النفس وتزكيتُها يكون بتحليتها بالفضائل ومحاسن الأخلاق، وتنزيهها عن الرذائل ومساوئ الأخلاق. حتّى تصدر أفعاله على أحسن وجهٍ، وأكمل صورةٍ. وأفعال الإنسان هي ميزان الحساب يوم القيامة. قال تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾3.

 

وقد جعل سبحانه غايةَ الإنسان وما ينتهي إليه أمره ويستقرّ عليه عاقبته، من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة، مبنيّةً على أحوالٍ وأخلاقٍ نفسانيّةٍ مبنيّةٍ على أعمالٍ من الإنسان، تنقسم تلك الأعمال إلى صالحةٍ وطالحةٍ، وتقوىً

 

 


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج18، ص187.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص84.

3- سورة الزلزلة، الآيتان 7-8.

 

89


79

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

وفجورٍ، كما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾1.2

 

مكانة حُسْن الخُلُق

مدح الإسلام حُسْنَ الخُلُق مدحاً عظيماً، فاعتبره:

1-نصف الدين: عن الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "حُسْنُ الخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ"3.

 

2- أَكملُ الإيمان: عنه  صلى الله عليه وآله وسلم: "أَكْمَلُ المؤمِنِينَ إيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً"4.

 

3- رأس البرّ: عن الإمام عليٍّ عليه السلام: "حُسْنُ الخُلُقِ رَأسُ كُلِّ بِرٍّ"5.

 

 


1-سورة الشمس، الآيات7-10.

2- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج6، ص167.

3- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص30.

4- الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ، 1414، ط1، ص140.

5- الليثي الواسطيّ، الشيخ كافي الدين أبو الحسن عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص227.

 

90


80

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

4- عنوان صحيفة المؤمن: عن الإمام عليٍّ عليه السلام: "عُنْوَانُ صَحِيفَةِ المؤمِنَ حُسْنُ خُلُقِهِ"1.

 

ثواب الخُلُق الحَسَن

أكّدت الأحاديث الشريفة على عظيم الثواب على حُسْنُ الخُلُق:

1- أفضل الحسنات: ورد أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن أفضل الحسنات عند الله، فقال: "حُسْنُ الخُلُقِ، وَالتَّوَاضُعِ، وَالصَّبْرِ عَلَى البَلِيَّةِ، وَالرِّضَاءِ بِالقَضَاءِ"2.

 

2- أثقل ما في الميزان: عن الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا يُوضَعُ فِي مِيزَانِ امْرِئٍ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَفْضَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُق‏"3.

 

3- مزيل الحجاب عن رحمة الله: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "رَأَيْتُ رَجُلاً فِي الْمَنَامِ، جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَحْمَةِ اللَّهِ حِجَابٌ، فَجَاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَةِ اللَّه‏"4.

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص 392.

2- الريشهريّ، ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج1، ص 637.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 99.

4- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص 393.

 

91


81

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

4- ثواب المجاهد: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ، كَمَا يُعْطِي الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَغْدُو عَلَيْهِ وَيَرُوح‏"1.

 

5- القرب من رسول الله: عن النبيّ الأعظم  صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْلِساً، أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً، وَأَشَدُّكُمْ تَوَاضُعا"2.

 

آثار حُسْن الخُلُق

من الآثار الإيجابيّة التي أشارت إليها الأحاديث الشريفة:

1- رضا النفس: عن الإمام عليٍّ عليه السلام: "أَرْضَى النَّاس مَنْ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ رَضِيّةً"3.

2- يوجب المحبّة: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "حُسْنُ الخُلُق يثبِّتُ المودَّة"4.

 

 


1- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج12، ص151.

2- المصدر نفسه، ج15، ص378.

3- الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص120.

4- الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404ه - 1363ش، ط2،ص45.

 

92


82

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

3- يزيد في الرزق: وعن الإمام عليٍّ عليه السلام: "بحُسْنِ الأخلاق، تُدَرّ الّأرْزَاقِ"1.

 

4- يُعمِّر الديار: عن الإمام الصادق عليه السلام: "البرّ وحُسْنُ الخُلُق يُعمِّران الدِّيَار"2.

 

5- يطيل في العمر: من تكملة الرواية السابقة: "... ويزيدان في الأعمار"3.

 

آثار سوء الخُلُق

1- عذاب النفس: عن الإمام عليّ عليه السلام: "سُوءُ الْخُلُقِ نَكَدُ الْعَيْشِ وَعَذَابُ النَّفْس"4.

 

وسئل عليه السلام عن أَدْوَمِ الناس غمّاً، فقال: "أسْوَؤُهم خُلُقاً"5.

 

2- بُعد الناس: عن الإمام عليّ عليه السلام: "سُوءُ الخُلُقِ يُوحِشُ القريبَ، وُينفِّرُ البعيد"6.

 


1- الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص188.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص100.

3- المصدر نفسه.

4- الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص76.

5- البروجرديّ، السيّد حسين الطباطبائيّ، جامع أحاديث الشيعة، لا.ن، إيران - قمّ، 1399ه، لا.ط، ج13، ص512.

6- الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص77.

 

93


83

الموعظة السابعة: الأدب وحُسْن الخُلُق

3- ضيق الرزق: عن الإمام عليٍّ عليه السلام: "منْ سَاءَ خُلُقُه ضاق رزقُه"1.

 

4- فساد العمل: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ سوءَ الخُلُقٍ لَيُفسِدُ العمل، كما يُفسدُ الخلّ العسلَ"2.

 

5- حرمان التوبة: عن الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "أبى الله لصاحب الخُلُق السيّءِ بالتوبة، فقيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال  صلى الله عليه وآله وسلم: لأنّه إذا تاب مِنْ ذَنْبٍ، وقع في أعظم منه"3.

 

6- براءة النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم: عن الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "ثَلَاثٌ، مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا مِنَ اللَّهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: حِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ، وَحُسْنُ خُلُقٍ يَعِيشُ بِهِ، وَوَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"4.

 


1- الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص431.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص321.

3- المصدر نفسه، ج2، ص321.

4- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج20، ص360.

 

94


84

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

الموعظة الثامنة:

اجتناب الرذائل

 

تصدير الموعظة

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أيُّها النَّاس، تَوَلَّوْا مِنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا، وَاعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضَرَاوَةِ عَادَاتِهَا"1.

 

وعنه عليه السلام: "عَدَمُ الأدَبِ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ"2.

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص84.

2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج20، ص258.

 

95


85

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

ونحن ذاكرون لبعض الرذائل والصفات الذميمة، التي تحدّث عنها أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، والتي ينبغي للمؤمن اجتنابها والتنزّه عنها.

 

طول الأمل

وهو أن يُمَنّي الإنسان نفسَه بالبقاء في الدنيا، فيدوم حرصه عليها، ولا يتفكّر في رحيله عنها، فيُعرض عن الآخرة.

قال تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾1.

 

عاقبة طول الأمل

ومِن كلامٍ له عليه السلام، وفيه يحذّر من اتّباع الهوى وطول الأمل في الدنيا: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ"2.

 

 


1- سورة الحجر، الآية 3.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1 ص92.

 

96


86

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

اتّباع الهوى: والمراد به هو ميل النّفس الأمّارة بالسّوء إلى مقتضى طباعها من اللَّذات الدنيويّة، إلى حدّ الخروج عن قصد الشّريعة.

 

ومجامع الهوى خمسة أمورٍ، جَمَعَها قوله سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾1.

 

طول الأمل: والمراد بالأمل، تعلَّقُ النّفس بحصول محبوبٍ في المستقبل.

 

أمّا اتّباع الهوى، فيصدّ عن الحقّ، وذلك لأنّ اتّباع الهوى يوجِب صرف النّظر إلى الشهوات الدنيويّة، وقصر الهمّة في اللذات الفانية، وهو مستلزمٌ للإعراض عن الحقّ، وهو واضحٌ، لأنّ حبَّك للشيء صارفُك عمّا وراه، وشاغلُك عمّا عداه.

 

وأمّا طول الأمل، فيُنسي الآخرة، وذلك لما قد عرفت من أنّ طولَ الأمل عبارةٌ عن توقّع أمورٍ محبوبةٍ دنيويّةٍ، فهو يوجب دوام ملاحظتها، ودوامُ ملاحظتها مستلزمٌ لإعراضِ النّفس عن

 

 


1- سورة الحديد، الآية 20.

 

97


87

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

ملاحظة أحوال الآخرة، وهو مستعقِبٌ لانمحاء تصوّرها في الذّهن، وذلك معنى النّسيان لها1.

 

التكبّر

الكبرُ حالةٌ في النفس، تدعو إلى التعاظم على الغير والتعالي عليهم، لِما يراه الإنسان في نفسه من التفوّق على الآخرين والتقدّم عليهم.

 

والتكبّر صفةٌ قبيحةٌ من المهلكات:

1- توجب بغضَ الله: قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ2.

 

2- تدفع بالإنسان إلى الكفر: قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُون﴾3.

 

3- تورث النار: قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾4.

 


1- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص201.

2- سورة النحل، الآية 23.

3- سورة النحل، الآية 22.

4- سورة الزمر، الآية 60.

 

98


88

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

وفي الحديث، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِياً لِلْمُتَكَبِّرِينَ يُقَالُ لَهُ سَقَرُ شَكَا إِلَى اللَّهِ شِدَّةَ حَرِّهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فَأَذِنَ لَهُ فَتَنَفَّسَ فَأَحْرَقَ جَهَنَّم‏"1.

 

الكبرياء لله

قال تعالى: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾2, أي له الكبرياء في كلّ مكانٍ، فلا يتعالى عليه شيءٌ فيهما، ولا يستصغره شيءٌ، وتقديم الخبر في (له الكبرياء) يفيد الحصر3.

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ الَّذِي‏ لَبِسَ‏ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وجَعَلَهُمَا حِمًى وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ، وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ"4.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص310.

2- سورة الجاثية، الآية 37.

3- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج18، ص181.

4- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص138.

 

99


89

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

الاعتبار من إبليس

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ!"1.

 

وفي كلامٍ آخر له، عن حال إبليس، وقد استكبر وأبى السجود لآدم: "نَازَعَ‏ اللَّهَ‏ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ. أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ، وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَأَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً"2.

 

العجب

وهو استعظام نفسِه، لأجل ما يرى لها من صفة الكمال3.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَإِيَّاكَ‏ وَالْإِعْجَابَ‏ بِنَفْسِكَ،‏ وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ, فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص139.

2- المصدر نفسه، ص734.

3- النراقيّ، الشيخ محمّد مهديّ، جامع السعادات، تحقيق وتعليق السيّد محمّد كلانتر، تقديم الشيخ محمّد رضا المظفّر، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج1، ص307.

 

100


90

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِين‏"1.

 

مفاسد العجب

1- يوجب الهلاك: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ دَخَلَهُ العُجُبُ هَلَكَ".

 

2- يحبط الأعمال: عن الإمام الصادق عليه السلام، إنّ الشيطان يقول: "إِذَا اسْتَمْكَنْتُ‏ مِنِ‏ ابْنِ‏ آدَمَ‏ فِي ثَلَاثٍ، لَمْ أُبَالِ مَا عَمِلَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ: إِذَا اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذَنْبَهُ، وَدَخَلَهُ الْعُجْب‏"[2].

 

3- يستحوذ عليه الشيطان: في حديثٍ، عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، أنّ موسى بن عمران عليه السلام سأل الشيطان: "أَخْبِرْنِي‏ بِالذَّنْبِ‏ الَّذِي‏ إِذَا أَذْنَبَهُ‏ ابْنُ‏ آدَمَ‏، اسْتَحْوَذْتَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَصَغُرَ فِي عَيْنِهِ ذَنْبُه"3.

 


1- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج20، ص307.

2- الشيخ الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص98.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص314، ح8.

 

101


91

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

الحسد

وهو حالةٌ نفسيّةٌ يتمنّى صاحبها سلبَ الكمال والنعمة، التي يتصوّرهما، عند غيره1.

 

والحسد من ألأم الرذائل، وأبشع الصفات. ويكفي في ذمّه أنّ الله تعالى أمر بالاستعاذة من الحاسد، بعد الاستعاذة من شرّ ما خلق، قال تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾2.

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَلَا تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ، كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ‏"3.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أُصُولُ الْكُفْرِ ثَلَاثَةٌ: الْحِرْصُ وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْحَسَد"[4].

 

عواقب الحسد

1- يأكل الإيمان: كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام.

 

2- الهم والغمّ: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَا رَأَيْتُ ظَالِماً

 


1- لإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص97.

2- سورة الفلق، الآية 5.

3- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص151.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص289.

 

102


92

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنَ الْحَاسِدِ، نَفَسٌ دَائِمٌ، وَقَلْبٌ هَائِمٌ، وَحُزْنٌ لَازِم‏"1.

 

الرياء

الرياء هو إظهار شيءٍ من الأعمال الصالحة، أو الصفات الحميدة، أو العقائد الحقّة، وإبرازها، للناس، لأجل الحصول على منزلةٍ في قلوبهم، والاشتهار بينهم بالصلاح والاستقامة والتديّن، من دون أن تكون هناك نيّةٌ إلهيّةٌ صحيحةٌ.

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وَاعْمَلُوا فِي‏ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ، يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ‏ْ عَمِلَ لَهُ‏"2.

 

مفاسد الرياء

1- الشرك بالله: عن أبي عبد الله عليه السلام في (تفسير) قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾3, قال: "الرَّجُلُ

 


1- البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج13، ص551.

2- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص61.

3- سورة الكهف، الآية 110.

 

103


93

الموعظة الثامنة: اجتناب الرذائل

يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ، لَا يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِنَّمَا يَطْلبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ، يَشْتَهِي أَنْ يَسْمَعَ بِهِ النَّاسُ، فَهَذَا الَّذِي أَشْرَكَ بعبَادَةِ رَبِّهِ"1.

 

2- بطلان الأعمال وعدم قبولها: عن الإمام الصادق عليه السلام: "اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ هَذَا لِلَّهِ، وَلَا تَجْعَلُوهُ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ فَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّه‏"2.

 

وعنه عليه السلام، قال: "قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ المَلكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ العَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ، فَإِذَا صَعَدَ بِحَسَنَاتِهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينٍ، إِنَّهُ لَيْسَ إِيَّايَ أَرَادَ بِهَا"3.

 

 


1- الشيخ الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص79، ح6.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص293.

3- المصدر نفسه، ص295.

 

104


94

المحور الثالث: مجالس الطاعة ومجالس المعصية

المحور الثالث

مجالس الطاعة ومجالس المعصية

 

1- مجالس الطاعة (1).

2- مجالس الطاعة (2).

3- مجالس المعصية (1).

4- مجالس المعصية (2).

 

 

105


95

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

الموعظة التاسعة:

مجالس الطاعة (1)

 

 

تصدير الموعظة

قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾1.

 


1- سورة آل عمران، الآية 103.

 

 

107


96

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

يريد الله للإخوة المؤمنين أن يكونوا إخواناً متعاطفين متباذلين متواصلين متآلفين، من غير تفرقةٍ بين الغنيِّ والفقير، والقويِّ والضعيف، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾1.

 

ثمَّ إنّ التعاطف والتواصل من حقوق العشرة والصحبة، إذا كانا في جانب الدِين، وإلاّ فهجرة أهل الأهواء والبدع دائميّةٌ على مرِّ الأوقات، ما لم يظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحقِّ.

 

الاجتماع في الإسلام

الإسلام اجتماعيٌّ بجميع شؤونه. وقد شرّعَ الاجتماع في جوانب عديدةٍ، (في جميع ما يمكن أن يُؤَدّى بصفة الاجتماع)2، على نحو الوجوب أو الاستحباب.

 

شرّعَ الاجتماع، على نحو الوجوب، في الجهاد، إلى حدٍّ يكفي لنجاح الدفاع، وشرّعَ وجوب الصوم والحجّ – مثلاً - للمستطيع غير المعذور، ولازمه اجتماع الناس للصيام والحجّ، وتمّمَ ذلك بالعيدَين - الفطر والأضحى - والصلاة المشروعة فيهما.

 


1- سورة الحجرات، الآية 10.

2- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص126.

 

108


97

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

وشرَّعَ وجوبَ الصلوات اليوميّة عينيّاً، لكلّ مكلّفٍ، من غير أن يوجِب فيها جماعةً، وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كلّ أسبوعٍ مرّةً، صلاة جماعةٍ واحدةٍ في كلّ أربعة فراسخ.

 

وشرّع الاجتماع، بنحو الاستحباب، كصلاة الفريضة مع الجماعة، فإنّها مسنونةٌ مستحبّةٌ، غير أنّ السنّة جرت على أدائها جماعةً، وعلى الناس أن يقيموا السنّة. وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، في قومٍ من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: "لَيُوشِكُ قَوْمٌ يَدَعُونَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ، أَنْ نَأْمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُوضَعَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، فَتُوقَدَ عَلَيْهِمْ نَارٌ، فَتُحْرَقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُم‏". وهذا هو السبيل في جميع ما سنّه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب حفظ سنّته على المسلمين، بأيّة وسيلةٍ أمكنت لهم، وبأيّة قيمةٍ حصلت1.

 

اجتماع الإخوان

وَرَدَ التأكيد، في السنّة المطهّرة، على استحباب اجتماع الإخوان للعبادة، والصلاة، وقراءة القرآن، والدعاء، والطعام،

 


1- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص127. (بتصرّفٍ)

 

109


98

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

والذكر، والعلم، والتذاكر في الدين، والاجتماع للتحادث بنافع الحديث، وإحياء ذكر محمّدٍ وآل محمّدٍ عليهم السلام.

 

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمْ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا فِيهَا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرَّوْضَةُ؟ فَقَال:َ مَجَالِسُ الْمُؤْمِنِين‏"1.

 

وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "تَجْلِسُونَ وَتُحَدِّثُونَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تِلْكَ الْمَجَالِسُ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا... الحديث"2.

 

وعن ميسرٍ، عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "قال لي: أَتَخلُونَ وَتَحَدَّثُونَ تَقُولُونَ مَا شِئْتُمْ؟ فَقُلْتُ: إي واللهِ. فقالَ: أَمَا وَاللهِ، لَوَدَدْتُ أَنِّي مَعَكُمْ فِي بَعضِ تِلكَ المواطِنِ..."3.

 

آداب المجلس

للمجلس آدابٌ ولياقاتٌ، أَوْلَاها الشارع المقدّس اهتماماً

 


1- ابن إدريسَ الحلّيٍ، الشيخ أبو جعفر محمّد بن منصور بن أحمد، مستطرفات السرائر، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1411هـ، ط2، ص635.

2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج12، ص21.

3- المصدر نفسه.

 

110


99

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

خاصّاً في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، ليكون المجلس لائقاً بالمؤمنين، ومحطّ نظر الله - جلّ وعلا - ومشمولاً لرحمته ورضاه.

 

ومن هذه الآداب:

1- استقبال القبلة: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ شَرَفاً، وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَة"1.

 

2- التفسّح في المجلس: ومعناه التوسعة والإفساح للقادم، وترك التضييق على الآخرين.

 

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾2. وفسح الله له أن يوسع له في الجنّة3.

 

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، أن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "يَنْبَغِي لِلْجُلَسَاءِ فِي الصَّيْفِ، أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص128.

2- سورة المجادلة، الآية 11.

3- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج19، ص 188.

 

111


100

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

مِقْدَارُ عَظْمِ الذِّرَاعِ، لِئَلَّا يَشُقَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"1.

 

3- التواضع في اختيار مكان الجلوس: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا تُسْرِعَنَّ إِلَى أَرْفَعِ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ، خَيْرٌ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي تُحَطُّ عَنْه‏"2.

 

4- التأدّب في الجلوس: عن أمير المؤمنين عليه السلام، في أوصاف النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "وَمَا رُئِيَ مُقَدِّماً رِجْلهُ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ قَطُّ"3.

 

5- التأدّب في الحديث: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "وَلَا تَفَحَّشْ فِي مَجْلِسِكَ، لِكَيْلَا يَحْذَرُوكَ بِسُوءِ خُلُقِكَ، وَلَا تُنَاجِ مَعَ رَجُلٍ وَعِنْدَكَ آخَر"4.

 

6- إجابة الداعي: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا أَخَذَ الْقَوْمُ

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص662، ح8.

2- الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص523.

3- الطبرسيّ، الشيخ رضيّ الدين أبي نصرٍ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392ه - 1972م، ط6، ص23.

4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج11، ص371.

 

112


101

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

مَجَالِسَهُمْ، فَإِنْ دَعَا رَجُلٌ أَخَاهُ وَأَوْسَعَ لَهُ فِي مَجْلِسِهِ، فَلْيَأْتِهِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَرَامَةٌ أَكْرَمَهُ بِهَا أَخُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُوسِعْ لَهُ أَحَدٌ، فَلْيَنْظُرْ أَوْسَعَ مَكَانٍ يَجِدُهُ، فَلْيَجْلِسْ فِيه‏"1.

 

7- كتمان الأسرار: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَأْثَرَ عَنْ مُؤْمِنٍ- أَوْ قَالَ: عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ- قَبِيحاً"2.

 

من نجالس؟

1- من يذكّرنا بالله: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يَا رُوحَ اللَّهِ فَمَنْ نُجَالِسُ إِذاً؟ قَالَ: مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِكِمْ مَنْطِقُهُ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُه"‏[3].

 

2- جليس الخير: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "جَلِيسُ الْخَيْرِ نِعْمَةٌ، جَلِيسُ الشَّرِّ نَقِمَةٌ"4.

 


1- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج12، ص109.

2- الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص 572.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص39.

4- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص221.

 

113


102

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

3- الصالحون: عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "مَجَالِسُ الصَّالِحِينَ دَاعِيَةٌ إِلَى الصَّلَاح‏"1.

 

4- الحلماء: عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "جَالِسِ الحُلَمَاءَ، تَزْدَدْ حِلْماً"2.

 

5- العلماء: وعنه عليه السلام: "جَالِسِ الْعُلَمَاءَ تَسْعَد"3.

 

6- الحكماء: عنه عليه السلام: "جَالِسِ الْحُكَمَاءَ، يَكْمُلْ عَقْلُكَ، وَتَشْرُفْ نَفْسُكَ، وَيَنْتَفِ عَنْكَ جَهْلُك‏"4.

 

7- الفقراء: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "جَالِسِ الفُقَرَاءَ تَزْدَدْ شُكْراً"5.

 

إحياء أمر أهل البيت

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "تَجْلِسُونَ وَتُحَدِّثُونَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تِلْكَ الْمَجَالِسُ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللَّهُ مَنْ

 

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص141.

2- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص222.

3- المصدر نفسه، ص221.

4- المصدر نفسه، ص223.

5- المصدر نفسه.

 

114


103

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

أَحْيَا أَمْرَنَا. يَا فُضَيْلُ، مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ عَنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابِ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ".

 

أمرهم لا يموت

إنّ الموت يعرض على الفكر، كما يعرض على الأجساد، فهل فِكر أهل البيت ونهجهم في معرض الموت والزوال، حتّى أُمِرنا بإحياء أمرهم؟

 

إنّ أمرهم حيٌّ حقيقةً، ولا يعرض عليه الموت والفناء، فهم الثقل الأكبر، والله سبحانه يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾1.

 

وهم نور الله الذي لا يُطفأ، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾2.

 

لا يموت فكرهم، ولا ينتهي نهجهم، ولكن قد يعرض عليه الإهمال والهجر، ويتعرض للتشويه. وهذا ما أدركه الظالمون في

 


1- سورة الحجر، الآية 9.

2- سورة التوبة، الآية 32.

 

115


104

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

سلطة بني أميّة وبني العباس، بعدما عجزوا عن محو ذكرهم وإزالته، فسعوا لأن يكون فكر أهل البيت وذكرهم مهملاً بين المسلمين ومهجوراً، فمنعوا ذكر فضائلهم، والقضاء بحكمهم، ورواية حديثهم.

 

وقد صحّ أن بني أميّة منعوا من إظهار فضائل عليٍّ عليه السلام، وعاقبوا ذلك الراوي له، حتّى إنّ الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلّق بفضله، بل بشرائع الدين، لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: "عن أبي زينبٍ".

 

وروى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: "وددت أن أُترك فأحدِّث بفضائل عليّ بن أبي طالبٍ يوماً إلى الليل، وأنّ عنقي هذه ضُرِبَت بالسيف"...

 

ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سرّاً يعلمه من يعلمه، لم يُروَ في فضله حديثٌ، ولا عُرِفَت له منقبة1.2


 


1- أبو جعفرٍ الإسكافيّ، المعيار والموازنة، الشيخ محمّد باقر المحمودي، لا.ن، لا.م، 1402ه1981-م، ط1، انظر هامش ص294. (والمؤلّف من أهل السنة)

2- راجع: المحقّق البحرانيّ، الحدائق الناضرة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج2، هامش ص45، التعليقة على التمندل بعد الوضوء. والحسنيّ، السيّد هاشم معروف، تاريخ الفقه الجعفريّ، قدّم له محمّد جواد مغنيّة، دار النشر للجامعيّين، لا.ت، لا.ط، ص135. وغيرها.

 

116


105

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

ولا يزال يتردّد صدى صوت زينب عليها السلام، في مجلس يزيد: "فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللَّهِ، لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا"1.

 

حياة القلوب

قال الرضا عليه السلام: "مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا، فَبَكَى وَأَبْكَى، لَمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي الْعُيُونُ. وَمَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يُحْيَا فِيهِ أَمْرُنَا، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوب‏"2.

 

والله سبحانه يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾3.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام لما سأل عن هذه الآية، قال: "نَزَلَتْ فِي وِلَايَةِ عَلِيٍّ عليه السلام"4.

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص135.

2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج14، ص502.

3- سورة الأنفال، الآية 24.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص248.

 

117


106

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

وقال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا1.

 

كيف نحيي أمرهم؟

1- معرفتهم: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ بَيْتِي وَوَلَايَتِهِمْ، فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ الْخَيْرَ كُلَّه‏"2.

 

2- نشر علومهم وحديثهم: عن عبد السلام بن صالح الهرويّ، قال: "سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا. فَقُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا ويُعَلِّمُهَا النَّاسَ، فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا"3.

 

3- الاقتداء بهم: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ

 


1- سورة الأنعام، الآية 122.

2- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 561.

3- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص275.

 

118


107

الموعظة التاسعة: مجالس الطاعة (1)

مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِه‏"[1].

 

4- إقامة عزاء سيّد الشهداء عليه السلام: يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إن البكاء على الشهيد إحياءٌ للثورة... إنّهم يخشون هذا البكاء، لأنّ البكاء على المظلوم صرخةٌ بوجه الظالم، ولترتفع رايات عاشوراء المدماة أكثر فاكثر، معلنةً حلول يوم انتقام المظلوم من الظالم!"2.

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج3، ص70.

2- الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ قدس سره)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، إيران - طهران، 1430ه - 2009م، ط1، ج1، ص31.

 

119


108

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

الموعظة العاشرة:

مجالس الطاعة (2)

 

تصدير الموعظة

عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "مَجَالِسُ الصَّالِحِينَ دَاعِيَةٌ إِلَى الصَّلَاح‏"1.

 

ومن دعائه عليه السلام: "وَاعْمُرْ بِي مَجَالِسَ الصَّالِحِين‏"2.

 


1- ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول، مصدر سابق، ص283.

2- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، دعاؤه في طلب الستر والوقاية، ص194.

 

120


109

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

سنعرض في هذا الحديث لعددٍ من مجالس الطاعة التي تكون محطّ نظر الله تعالى ورحمته.

 

أوّلاً- مجلس العلم

طلب العلم

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. أَلَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْم‏"1.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ. أَلَا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ. إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ، وَضَمِنَهُ، وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ، فَاطْلُبُوه‏"2.

 

فضل العلم

قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾3.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص30.

2- المصدر نفسه.

3- سورة المجادلة، الآية 11.

 

121


110

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "الْكَمَالُ، كُلُّ الْكَمَالِ، التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ، وَتَقْدِيرُ الْمَعِيشَةِ"1.

 

وعنه عليه السلام، قال: "عَالِمٌ يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِد"2.

 

ثواب العلم

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْماً، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضاً بِهِ، وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلَادِرْهَماً، وَلَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"3.

 

مجالسة العلماء

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: قال

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص32.

2- المصدر نفسه.

3- المصدر نفسه، ص34.

 

122


111

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

الحواريون لعيسى عليه السلام: يَا رُوحَ اللَّهِ فَمَنْ نُجَالِسُ إِذاً؟ قَالَ: مَنْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِكِمْ مَنْطِقُهُ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُه"1.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "طوبَى لِمَن... جَالَسَ أَهْلَ الفِقْهِ وَالرَّحْمَةِ"2.

 

وعنه عليه السلام: "جَالِسْ أَهْلَ الْوَرَعِ وَالْحِكْمَةِ، وَأَكْثِرْ مُنَاقَشَتَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ جَاهِلاً عَلَّمُوكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَالِماً ازْدَدْتَ عِلْماً"3.

 

فائدة مجالسة العلماء

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "جَالِسِ الْعُلَمَاءَ تَسْعَدْ"4.

 

وعنه عليه السلام: "جَالِسِ الْعُلَمَاء،َ يَزْدَدْ عِلْمُكَ، وَيَحْسُنْ أَدَبُكَ، وَتَزْكُ نَفْسُك‏"5.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص39.

2- السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج13، ص496.

3- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص223.

4- المصدر نفسه، ص221.

5- المصدر نفسه، ص223.

 

123


112

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

وعنه عليه السلام: "جَالِسِ الْحُكَمَاءَ، يَكْمُلْ عَقْلُكَ، وَتَشْرُفْ نَفْسُكَ، وَيَنْتَفِ عَنْكَ جَهْلُك‏"1.

 

ثانياً- مجلس القرآن

فضل القرآن

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: فَإِذَا الْتَبَسَتْ‏ عَلَيْكُمُ‏ الْفِتَنُ،‏ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ2 مُصَدَّقٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ... فِيهِ مَصَابِيحُ الْهُدَى، وَمَنَارُ الْحِكْمَةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ3..."4.

 

تعلّم القرآن

"وتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّه أَحْسَنُ الْحَدِيثِ. وتَفَقَّهُوا فِيه، فَإِنَّه

 


1- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص223.

2- شافعٌ مُشَفَّعٌ؛ أي مقبول الشفاعة. ويقال: محل به إذا سعى به إلى السلطان، وهو ما حلّ ومحول وفى الدعاء: "فلا تجعله ماحلاً مصدّقاً"، ولعلّه من هنا قيل في معناه: يمحل بصاحبه؛ أي يسعى به إذا لم يتّبع ما فيه إلى الله -تعالى-"ٍ.

3- أي لمن عرف كيفيّة التعرّف وإشارات القرآن ونكات بيانه.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص598.

 

124


113

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

رَبِيعُ الْقُلُوبِ. واسْتَشْفُوا بِنُورِه، فَإِنَّه شِفَاءُ الصُّدُورِ. وأَحْسِنُوا تِلَاوَتَه، فَإِنَّه أَحْسَنُ الْقَصَصِ"1.

 

قراءة القرآن

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الْقُرْآنُ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ. فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً"2.

 

عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: "مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَائِماً فِي صَلَاتِهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةَ حَسَنَةٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ فِي صَلَاتِهِ جَالِساً، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسِينَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَهُ فِي غَيْرِ صَلَاتِهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَات‏"3.

 

البيوت التي يُقرَأ فيها القرآن

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَيُذْكَرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، تَكْثُرُ

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص216.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 609.

3- المصدر نفسه، ص611.

 

125

 


114

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

بَرَكَتُهُ، وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيُضِي‏ءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ، كَمَا يُضِي‏ءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَلَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، تَقِلُّ بَرَكَتُهُ، وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِين‏"1.

 

تعلّم القرآن

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "مَنْ‏ قَرَأَ الْقُرْآنَ‏ وَهُوَ شَابٌ‏ مُؤْمِنٌ، اخْتَلَطَ الْقُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ حَجِيزاً عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ كُلَّ عَامِلٍ قَدْ أَصَابَ أَجْرَ عَمَلِهِ، غَيْرَ عَامِلِي، فَبَلِّغْ بِهِ أَكْرَمَ عَطَايَاكَ. قَالَ‏: فَيَكْسُوهُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ حُلَّتَيْنِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ أَرْضَيْنَاكَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ الْقُرْآنُ: يَا رَبِّ، قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ لَهُ فِيمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيُعْطَى الْأَمْنَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِيَسَارِهِ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ آيةً فَاصْعَدْ دَرَجَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْنَا بِهِ وَأَرْضَيْنَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ وَمَنْ قَرَأَهُ كَثِيراً وَتَعَاهَدَهُ بِمَشَقَّةٍ مِنْ شِدَّةِ حِفْظِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَجْرَ هَذَا مَرَّتَيْنِ"2.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص610.

2- المصدر نفسه، ص604.

 

126


115

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

ثالثاً- مجلس الدعاء

فضل الدعاء

قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾1.

 

بيان الآية: أحسنُ بيانٍ لما اشتمل عليه من المضمون، وأرقّ أسلوبٍ وأجمله، فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالةٌ على كمال العناية بالأمر. ثمّ قوله عبادي - ولم يقل: الناس وما أشبهه - يزيد في هذه العناية. ثمّ حذف الواسطة في الجواب، حيث قال: فإنّي قريبٌ - ولم يقل: فقل إنّه قريبٌ. ثمّ التأكيد بـ (إنّ)، ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل الدالّ على القرب، ليدلّ على ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة على تجدّد الإجابة واستمرارها، حيث أتى بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب، أعني قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ بقوله: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيَّد به شيئاً، بل هو عينه، وفيه دلالةٌ

 


1- سورة البقرة، الآية 186.

 

127


116

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

على أنّ دعوة الداعِ مجابةٌ من غير شرطٍ وقيدٍ، كقوله -تعالى-: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فهذه سبع نكاتٍ في الآية، تنبّئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء، والعناية بها، مع كون الآية قد كُرِّرَ فيها - على إيجازها - ضمير المتكلّم، سبع مرّاٍت، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف1.

 

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾2.

 

عن حنّان بن سديرٍ، عن أبيه، قال: "قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: أَيُّ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُسْئَلَ وَيُطْلَبَ مِمَّا عِنْدَهُ. وَمَا أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَى اللَّهِ - عزَّ وَجَلَّ - مِمَّنْ يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْأَلُ مَا عِنْدَهُ"3.

 


1- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص31.

2- سورة غافر، الآية 60.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص466.

 

128


117

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

الاجتماع للدعاء

قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾1.

 

عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعَةُ رَهْطٍ قَطُّ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، فَدَعَوُا اللَّهَ، إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ إِجَابَةٍ"2.

 

وعنه عليه السلام، قال: "كَانَ أَبِي عليه السلام، إِذَا حَزَنَهُ أَمْرٌ، جَمَعَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، ثُمَّ دَعَا وَأَمَّنُوا"3.

 

وعنه عليه السلام، قال: "الدَّاعِي وَالْمُؤَمِّنُ فِي الْأَجْرِ شَرِيكَان‏"4.

 

الدعاء للإخوان

عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "أَوْشَكُ دَعْوَةٍ وَأَسْرَعُ إِجَابَةٍ دُعَاءُ الْمَرْءِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ"5.

 


1- سورة الكهف، الآية 28.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص487.

3- المصدر نفسه.

4- المصدر نفسه.

5- المصدر نفسه، ص507.

 

129


118

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

رابعاً - مجلس الذكر

 

فضيلة الذكر

قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾1.

 

وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا*  وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾2.

 

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى: أَكْثِرْ ذِكْرِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكُنْ عِنْدَ ذِكْرِي خَاشِعاً، وَعِنْدَ بَلَائِي صَابِراً، وَاطْمَئِنَّ عِنْدَ ذِكْرِي، وَاعْبُدْنِي، وَلَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. يَا مُوسَى، اجْعَلْنِي ذُخْرَكَ، وَضَعْ عِنْدِي كَنْزَكَ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ"3.

 

وعنه عليه السلام، قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاق‏"4.

 


1- سورة البقرة، الآية 152.

2- سورة الأحزاب، الآيتان41و42.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص497.

4- المصدر نفسه، ص500.

 

130


119

الموعظة العاشرة: مجالس الطاعة (2)

مجالس الذكر

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا قَعَدَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إِلَّا قَعَدَ مَعَهُمْ عِدَّةٌ مِنَ الْمَلَائِكَة"1.

 

وعنه عليه السلام، قال: "مَا مِنْ قَوْمٍ قَعَدُوا فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ قَامُوا، فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَة"2.

 

ذكر محمّدٍ وآل محمّدٍ

عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ، سِوَى الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِذَا مَرُّوا بِقَوْمٍ يَذْكُرُونَ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: قِفُوا، فَقَدْ أَصَبْتُمْ حَاجَتَكُمْ، فَيَجْلِسُونَ، فَيَتَفَقَّهُونَ مَعَهُمْ. فَإِذَا قَامُوا، عَادُوا مَرْضَاهُمْ، وَشَهِدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَتَعَاهَدُوا غَائِبَهُمْ. فَذَلِكَ الْمَجْلِسُ الَّذِي لَا يَشْقَى بِهِ جَلِيسٌ"3.

 


1- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص153.

2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص153.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 186.

 

131


120

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

الموعظة الحادية عشرة:

مجالس المعصية (1)

 

تصدير الموعظة

قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾1.

 


1- سورة النساء، الآية 140.

 

132


121

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: "لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْلِسَ مَجْلِساً يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِه‏"1.

 

مجالس المعصية:

وهي المجالس والاجتماعات التي تُرتَكب فيها المعاصي، كمجالس اللهو والغناء، والغيبة، ومجالس شرب الخمر.

 

النهي عن المشاركة في مجالس يعصى الله فيها

لقد ورد في الآية 68 من سورة الأنعام2 أمرٌ صريحٌ إلى النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم في أن يُعرِضَ عن أناسٍ يستهزئون بآيات القرآن، ويتكلّمون بما لا يليق. وطبيعيٌّ أنّ هذا الحكم لا ينحصر بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحده، بل يُعتَبر حكماً وأمراً عامّاً، يجب على المسلمين جميعاً اتّباعه. وقد جاء هذا الحكم على شكل خطابٍ موجّهٍ إلى النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم، وفلسفتُه جليّةٌ واضحةٌ، لأنّه يكون بمثابة كفاحٍ سلبيٍّ ضدّ مثل تلك الأعمال.

 

والآية هذه تكرّر الحكم المذكور مرّةً أخرى، وتحذّر

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 374.

2- قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ سورة الأنعام، الآية 68.

 

133


122

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

المسلمين، مُذكِّرةً إياهم بحكمٍ سابقٍ في القرآن، نُهِيَ فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يُستَهزأ فيها ويُكفر بالقرآن الكريم، حتّى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء، ويدخلوا في حديثٍ آخر.

 

إنّ الآية تخبرنا عن عدّة أمورٍ:

1- إنّ المشاركة في مجالس المعصية، تكون بمثابة المشاركة في ارتكاب المعصية، حتّى لو بقي المشارِكُ ساكتاً أو ساكناً، ولم يشارك في الاستهزاء بنفسه، لأنّ السكوت، في مثل هذه الأحوال، دليلٌ على رضا صاحبه بالذنب المرتَكَب.

 

2- لو تعذّر النهي عن المنكر بالشكل الإيجابيّ له، فلا بدّ أن يتحقّق النهي، ولو بالصورة السلبيّة، مثل أن يبتعد الإنسان عن مجالس المعصية، ويتجنّب الحضور فيها.

 

3- إنّ الذين يشجّعون أهل المعاصي، بسكوتهم وحضورهم في مجالس المعصية، إنّما يُجازون ويُعاقَبون بمثل عقاب العاصين أنفسهم.

 

4- إنّ المجاملة والمداهنة مع العاصين المذنبين، إنّما تدلّ

 

134


123

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

على وجود روح النفاق لدى الشخص المجامِل1.

 

عن شعيب العقرقوفي، قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّمَا عَنَى بِهَذَا إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّجُلَ الَّذِي يَجْحَدُ الْحَقَّ وَيُكَذِّبُ بِهِ وَيَقَعُ فِي الْأَئِمَّةِ، فَقُمْ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا تُقَاعِدْهُ، كَائِناً مَنْ كَان‏"2.

 

مجالسة أهل المعاصي

عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قال: "لَا تَصْحَبُوا أَهْلَ الْبِدَعِ، وَلَا تُجَالِسُوهُمْ، فَتَصِيرُوا عِنْدَ النَّاسِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم: الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِه"3.

 

عاقبة أهل الطاعة وأهل المعصية

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ، فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ، حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ

 


1- الشيرازيّ، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المُنزِل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قمّ، 1426ه، ط1، ج3، ص501. (باختصارٍ)

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 377.

3- المصدر نفسه، ص375.

 

135


124

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

الْحَالُ، وَلَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ، وَلَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ، وَلَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ، وَلَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ، وَغَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ وَمُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ وَلَهَبٌ سَاطِعٌ وَقَصِيفٌ هَائِلٌ، لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلَا يُفَادَى أَسِيرُهَا، وَلَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا. لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى، وَلَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى"1.

 

فأثابهم بجواره: قربه، وهي منزلةٌ من منازل الكمال.

 

وخلَّدهم في داره: الإضافة للتشريف والتكريم، وفيها تشويقٌ وترغيبٌ إلى هذه الدّار، ولاسيّما أنّها دار خلودٍ.

 

حيث لا يظعن النزال: أي لا يرتحل النازلون فيها عنها.

 

وغلّ الأيدي إلى الأعناق: بأغلالٍ وسلاسل من نارٍ، إشارةً إلى قوله تعالى: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾2.

 

ألبسهم سرابيل القطران: كما قال عزّ من قائلٍ: ﴿وَتَرَى

 


1- الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص214.

2- سورة غافر، الآيتان 71و 72.

 

136


125

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾1.

 

ومقطَّعات النّيران: قيل: المقطَّعاتُ كلُّ ثوبٍ يُقطَع، كالقميص والجبّة ونحوهما، لا ما لا يُقطَع، كالإزار والرّداء. ولعلّ السرّ في كون ثياب أهل النار مقطّعات، كونُها أشدّ في العذاب، لاشتمالها على جميع البدن. قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ﴾2.

 

في عذابٍ قد اشتدّ حرّه، وبابٍ قد أُطبِق على أهله: لكونهم في العذاب مخلَّدين، وفي النار محبوسين، ومن خروج الباب ممنوعين، فالأبواب عليهم مغلقةٌ، وأسباب الخروج بهم منقطعةٌ. قال سبحانه: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾3.

 

في نارٍ لها كلبٌ ولجبٌ ولهبٌ ساطعٌ: أي لها شدّةٌ وصوتٌ واشتعالٌ مرتفعٌ.

 


1- سورة إبراهيم، الآيتان 49 و 50.

2- سورة الحجّ، الآية 19.

3- سورة الحجّ، الآية 22.

 

137

 


126

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

وقصيف هائل: أي صوتٌ شديدٌ مخوّفٌ.

 

لا يظعن مقيمها: بل كلَّما أرادوا أن يخرجوا منها، أُعِيدُوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النّار الذي كنتم به تكذّبون.

 

ولا يُنادَى أسيرُها: أي لا يؤخذ عنه الفدية فيخلص،كأُسَراء الدّنيا.

 

ولا تُفصَمُ كبولُها: وقيودها، بل هي وثيقةٌ محكمةٌ.

 

لا مدّة للدّار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى: بل عذابها أبدىّ سرمديّ.

 

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "يُؤتَى بالموتِ يَوم القِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كبشٌ أَمْلَح، فَيُذْبَح بَيْنَ الجنّةِ والنّارِ، ويُقَالُ: يَا أهلَ الجنّة، خلودٌ بلا موتٍ، ويَا أهلَ النّارِ، خلودٌ بلا موتٍ"[1].

 

آثار المعصية

1- الفساد في الأرض: قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾2.

 

1-  حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج7، ص 363. (بتصرّفٍ قليل واختصار)

 


2- سورة الروم، الآية 41.

 

138


127

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

2- نزول العذاب: قال تعالى: ﴿َكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا﴾1.

 

3- إحباط الأعمال: قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾2.

 

4- قساوة القلب: قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾3.

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "قال: كَانَ أَبِي عليه السلام يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ أَفْسَدَ لِلْقَلْبِ، مِنْ خَطِيئَةٍ. إِنَّ الْقَلْبَ لَيُوَاقِعُ الْخَطِيئَةَ، فَمَا تَزَالُ بِهِ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ، فَيُصَيِّرَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَه‏"4.

 

وعنه عليه السلام "إِذَا أَذْنَبَ الرَّجُلُ، خَرَجَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ، انْمَحَتْ، وَإِنْ زَادَ، زَادَتْ، حَتَّى تَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدا"5.

 


1- سورة الطلاق، الآية 8.

2- سورة محمّد، الآية 28.

3- سورة البقرة، الآية 74.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص268.

5- المصدر نفسه، ص 271.

 

139


128

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

5- نقصان العمر: عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَنْ يَمُوتُ بِالذُّنُوبِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَمُوتُ بِالْآجَال‏"1.

 

6- نسيان العلم: عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "اتَّقُوا الذُّنُوبَ، فَإِنَّهَا مَمْحَقَةٌ لِلْخَيْرَاتِ. إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيَنْسَى بِهِ الْعِلْمَ الَّذِي كَانَ قَدْ عَلِمَه‏"2.

 

7- حرمان الرزق: عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُزْوى‏ عَنْهُ الرِّزْق‏"3.

 

8- حرمان الإجابة: عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "إِنَّ الْعَبْدَ يَسْأَلُ اللَّهَ الْحَاجَةَ، فَيَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ قَضَاؤُهَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، أَوْ إِلَى وَقْتٍ بَطِي‏ءٍ، فَيُذْنِبُ الْعَبْدُ ذَنْباً، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمَلَكِ لَا تَقْضِ حَاجَتَهُ، وَاحْرِمْهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِسَخَطِي، وَاسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ مِنِّي‏"4.

 


1- الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص 305.

2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص 377.

3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 270.

4- المصدر نفسه، ص271.

 

140


129

الموعظة الحادية عشرة: مجالس المعصية (1)

9- حرمان التوفيق للعبادة: عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إِنَّ الرَّجُلَ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُحْرَمُ صَلَاةَ اللَّيْلِ. وَإِنَّ الْعَمَلَ السَّيِّئَ أَسْرَعُ فِي صَاحِبِهِ مِنَ السِّكِّينِ فِي اللَّحْم‏"1.

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 272.

 

141


130

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

الموعظة الثانية عشرة:

مجالس المعصية (2)

 

تصدير الموعظة

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخرِ، فَلَا يَقومُ مَكانَ رِيبَةٍ"1.

 

عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسْ فِي مَجْلِسٍ يُسَبُّ فِيهِ إِمَامٌ أَوْ يُعَابُ فِيهِ مُسْلِم‏..."2.

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 378.

2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج16، ص266.

 

142


131

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

أوّلاً- مجلس اللهو والغناء

1- اللهو

قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ1.

 

اللهوُ ما يشغلُك عمّا يهمّك. ولهوُ الحديث هو الحديث الذي يُلهي عن الحقّ بنفسه، كالحكايات الخرافيّة والقصص الداعية إلى الفساد والفجور، أو بما يقارنه، كالتغنّي بالشعر أو بالملاهي والمزامير والمعازف، فذلك كلّه يشمله لهوُ الحديث.

 

وقوله: لِيُضِلَّ عن سبيل الله بغير علمٍ: مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآنَ الكريمَ، بما فيه من المعارف الحقّة الاعتقاديّة والعلميّة، وخاصّةً قصص الأنبياء وأممهم الخالية.

 

فإنّ لهوَ الحديث والأساطير المزوّقة المختلقة، تُعارِض - أوّلا - هذه القصص، ثمّ تهدم بنيان سائر المعارف الحقّة، وتوهنها في أنظار الناس2.

 

 


1- سورة لقمان، الآية 6.

2- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج16، ص210.

 

143


132

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

عنهم عليهم السلام، فيما وعظ الله عزّ وجلّ به عيسى عليه السلام: "يَا عِيسَى، كُنْ رَحِيماً مُتَرَحِّماً، وَكُنْ كَمَا تَشَاءُ أَنْ يَكُونَ الْعِبَادُ لَكَ. وَأَكْثِرْ ذِكْرَكَ الْمَوْتَ وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِينَ. وَلَا تَلْهُ، فَإِنَّ اللَّهْوَ يُفْسِدُ صَاحِبَهُ. وَلَا تَغْفُلْ، فَإِنَّ الْغَافِلَ مِنِّي بَعِيدٌ. وَاذْكُرْنِي بِالصَّالِحَات‏"1.

 

2- الغناء

الغناء هو مدّ الصوت وترجيعه بكيفيّةٍ خاصّةٍ مطربةٍ، تناسب مجالس اللهو، ومحافل الطرب، وآلات اللهو والملاهي2.

أحكام الغناء:

1- الغناء حرامٌ فعلُه وسماعُه والتكسُّبُ به... لا فرق بين استعماله في كلامٍ حقٍّ، من قراءة القرآن والدعاء والمرثيّة وغيره من شعرٍ أو نثرٍ، بل يتضاعف عقابَه لو استعمله فيما يُطاع به الله تعالى3.

 

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص134.

2- الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلمية، العراق - النجف، 1390ه.ق، ط2، ج1، ص497.

3- المصدر نفسه.

 

144


133

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

2- المحرّم من الموسيقى، إنّما هو الموسيقى المطربة اللهويّة المتناسبة مع مجالس اللهو والمعصية. وقد تكون لشخصيّة العازف، أو للكلام المصحوب بالألحان، أو للمكان، أو لسائر الظروف الأخرى، مدخليّةً في اندراج الموسيقى تحت الموسيقى المطربة اللهويّة المحرّمة، أو تحت عنوان الحرام الآخر، كما إذا صارت لأجل تلك الأمور، مؤديّةً إلى ترتّب مفسدةٍ1.

 

3- مجالس الغناء: لا تجوز المشاركة في مجلس المعصية، إذا كانت مستلزمةً لارتكاب الحرام، كاستماع الموسيقى المطربة اللهويّة المناسِبة لمجالس اللهو والعصيان، أو كانت ممّا يُنتَزع منها تأييد العصيان2.

 

حرمة الغناء في القرآن

لم تَرِدْ كلمة الغناء نصّاً في القرآن الكريم، لكنّ الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة - وهم أهل


 


1- الإمام الخامنئيّ، السيّد عليّ، أجوبة الاستفتاءات، دار النبأ للنشر والتوزيع، الكويت، 1415ه - 1995م، ط1، ج2، ص21، س45.

2- المصدر نفسه، ص118، س 350.145

 

145


134

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

 الذكر والراسخون في العلم - فسّرت عدداً من الآيات الكريمة به. وهذه الروايات بيّنت أنّ معنى الغناء في القرآن، أُدرِجَ تحت ثلاثة عناوين:

1- قول الزور: رُوِيَ في الكافي الشريف، بسنده، عن أبي بصيرٍ قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللهِ عزّ وجلّ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾1, قَالَ: الغِنَاءُ"2. ومثله غيره.

 

2- لهو الحديث: ورُوِيَ عن محمّد بن مسلمٍ، عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "الْغِنَاءُ مِمَّا وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ النَّارَ". وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾3"4. ومثله غيره.

 

3- اللغو: عن الإمام الصادق عليه السلام، لبعض أصحابه، وقد مرّ بالمغنّين: "كُونُوا كِرَاماً... أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ

 


1- سورة الحجّ، الآية 30.

2-الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص431.

3- سورة لقمان، الآية 6.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص431.

 

146


135

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾1"2.

 

أمّا الروايات الشريفة في حرمة الغناء، والنهي عنه، والتوعّد بالعذاب الشديد عليه، وبيان سوء عاقبته، فكثيرةٌ مستفيضةٌ.

 

عواقب الغناء

ضعف الإرادة: يقول الإمام الخمينيّ قدس سره، نقلاً عن أستاذه الشاه آبادي (أعلا الله مقامه): "إنّ أكثرَ ما يسبّبُ على فقدِ الإنسانِ العزمَ والإرادةَ هو الاستماع للغناء"3.

 

ولعلّه يشير إلى ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "مَنْ ضُرِبَ فِي بَيْتِهِ بَرْبَطٌ4 أَرْبَعِينَ يَوْماً، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ

 

 


1- سورة الفرقان، الآية 72.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص432.

3- الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص35. يقول قدس سره: "أيّها العزيز... اجتهد؛ لتصبح ذا عزمٍ وإرادةٍ، فإنّك إن رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقّق فيك العزم (على ترك المحرّمات)، فأنت إنسانٌ صوريٌّ بلا لبٍّ، ولن تُحشَر في ذلك العالَم على هيئة إنسانٍ, لأنّ ذلك العالَم هو محلّ كشف الباطن وظهور السريرة، وإنّ التجرّؤ على المعاصي يُفقِد الإنسانُ – تدريجاً - العزم، ويخطف منه هذا الجوهر الشريف".

4- نوعٌ من آلات العزف، وقيل: إنّه العود.

 

147


136

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

شَيْطَاناً... فَلَا يُبْقِي عُضْواً مِنْ أَعْضَائِهِ إِلَّا قَعَدَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، نُزِعَ مِنْهُ الْحَيَاءُ، وَلَمْ يُبَالِ مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ فِيه‏"1. وفي حديثٍ مثله أنّه تُنزَع منه الغيرة، فلا يغار.

 

2- يورِث النفاق: عن الإمام الصادق عليه السلام: "الغِنَاءُ عِشُّ النِّفَاقِ"2.

 

3- إعراض الله: عن أبي عبد الله عليه السلام، وقد سُئِلَ عن الغناء، فقال: "لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً، اللهُ مُعْرِضٌ عَنْ أَهْلِهَا"3.

 

ثانياً - مجلس الغيبة

الغيبة

وهي أن يُذكَر المؤمن بعيبٍ في غَيبَتِه، ممّا يكون مستوراً عن الناس، سواءٌ أكان بقصدِ الانتقاص منه أم لا... ولا فرق في الذكر، بين أن يكون بالقولِ أم بالفعلِ الحاكي عن وجود العيب"4.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص433.

2- المصدر نفسه، ج6، ص431.

3- المصدر نفسه، ص434.

4- السيستانيّ، السيّد عليّ الحسينيّ، منهاج الصالحين، مكتب آية الله العظمى السيّد السيستانيّ، إيران - قمّ، 1414، ط1، ج1، ص17.

 

148


137

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

عن داوود بن سرحانٍ، قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنِ الْغِيبَةِ، قَالَ: هُوَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ فِي دِينِهِ، مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَبُثَّ عَلَيْهِ أَمْراً قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِيهِ حَدٌّ"1 وغيره ممّا يوافق التعريف.

 

الغيبة من الكبائر

قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾2.

 

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا رَأَتْهُ عَيْنَاهُ وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾‏"3.4

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص357.

2- سورة الحجرات، الآية 12

3- سورة النور، الآية 19.

4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص357.

 

149


138

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

وظيفة السامع

عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: "مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ، فَنَصَرَهُ وَأَعَانَهُ، نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ، فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَلَمْ يُعِنْهُ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ وَعَوْنِهِ، إِلَّا خَفَضَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة"1.

 

كفّارة الغيبة

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: "سُئِلَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وآله وسلم: مَا كَفَّارَةُ الِاغْتِيَابِ؟ قَالَ: تَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِمَنِ اغْتَبْتَهُ، كُلَّمَا ذَكَرْتَهُ"2.

 

عواقب الغيبة

1- نقص الدين: عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وآله وسلم: الْغِيبَةُ أَسْرَعُ فِي دِينِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، مِنَ الْأَكِلَةِ فِي جَوْفِه‏"3.


 


1- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليٍّ بن بابويه، ثواب الأعمال، تقديم السيّد محمّد مهديّ السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1368 ش، ط2، ص148.

2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص357.

3- المصدر نفسه.

 

150


139

الموعظة الثانية عشرة: مجالس المعصية (2)

2- الخروج من ولاية الله: عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً، يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَهَدْمَ مُرُوءَتِهِ، لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ، فَلَا يَقْبَلُهُ الشَّيْطَانُ‏"1.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص358.

 

151


140
ذلك الدين القيّم