الفصيل الأول - الجزء الأول


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-09

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة الترجمة

مقدمة الترجمة

 

وأذّن مُؤذِّنٌ، ألا قوموا، يا فتيةَ الصحائف التي حَنّت وخَفّت،

فجاؤوه من كلّ فجٍّ عميق، صفًّا صفّا، وفصيلًا فصيلا.

 

وتهادَت أقلامهم النديّة من كفٍّ إلى كفّ، وما ثَقُلت رشاشاتهم من كتفٍ الى كتف. جمعوا الولاء من حقائب المدرسة إلى حقائب الهجرة، واقترن الصدى من أرواحهم نشيدًا رائدا: حيّ على الدفاع، وهيهات منا الذلة، وراية الانتظار.

 

حيَّ على العطش، وقيام الليل، وإيثار القمر، ولهفة عابِسٍ.

 

إنّهم مقاتلو "الفصيل الأول" يلبُّون النداء:

هذا يختلي بربِّه، وذاك يُقَلّبُ كتاب علومه ودفتر مدرسته على ضوءِ شمعةٍ، وكُوبِ شاي بلون الشفق.

 

هذا يُلحِدُ نفسه في حفرة بليلٍ، وتَخطُّ نبضاتُ قلبِه رسائلَ تشرق كالنجوم، فلا تخفى. وذاك تتيبّسُ أطرافُه في ليلٍ مُثلج مُنتظرًا دوره لِوُضوءِ صلاة مع النجوم، لتعبُر مناجاتُه الأثير، فلا تُمحى.

 

وآخر يكتب وصيته مع القمر بدموع يكفكفها ضوؤه في خجلٍ وغبطة، وشابٌّ يقتنصُ فرصةً فينْسَلُّ في عتمةٍ ليَغنمَ خدمةَ "صباغة الأحذية"، بعد طابورٍ ليليٍّ مزعجٍ أو مسيرٍ جبليٍّ مُضنٍ.

 

لو نظرتَ إليهم لألفَيتَ القبضات والجذب والعزم، وعنهم ما نَأَيْت.

 

ولو اطّلعتَ على فيض أفئدتهم، لَشممْتَ بخّور المناجاة في السحَرِ، ولأجلِ خِضَاب حرير الرّمل وفيت. ذلك بأنهم كتبوا ليتذكّروا يومًا، فأصبحوا هم الذكرى، التي لا تُنسى.

 

"لقد تناثرت وُرُوْدُ الفصيل الأول قبل أن تتفتّح"، لتترك شذاها هامسًا:"هو قتالٌ في الجبهة ونارٌ، وهو مدرسةٌ للنّفس وصفوفٌ وامتحان، وبقيّة سيف للحياة".

 

9

 


1

مقدمة الترجمة

هذا الكتاب..

 

كان عديد "الفصيل الأوّل" (29) عنصرًا من شباب التعبئة وتلاميذ المدارس، استُشهد (14) منهم في ليلة عملية (والفجر8)،.. نقرأ في الكتاب ذكريات الجرحى، وشهادات صدقٍ لأم شهيد وأبيه، وابنه وزوجته، ونستشعر أنسًا ملائكيًا سكنَ قلوب شهدائهم، ونجوى فتيةٍ أزهرت مع ورودِ "أروند"، وتأسرنا مشاهدُ من فكاهةٍ وعِشرةٍ طيبة، وألمِ فراقٍ لا يوصف، وروحٍ متيّمة بعشق أترابها!

 

تحدّث سماحة الإمام القائد[1]، مثنيًا على جماليّة الكتاب ومهارة مؤلِّفه قائلًا: " لقد قرأتُ مؤخّرًا كتابًا يشرحُ مجريات أيامٍ عدّة لواحدة من هجماتنا، وذلك على ألسنة الأفراد النّاجين من أحد الفصائل،..لقد ذهب هذا الكاتب والباحث، الموهوب جدًا، واستخرج جزئيات القضايا باستنطاق أولئك الأفراد حتى ألّف كتابًا من 700 صفحة، وهذا النوع من الأعمال هو حقًا وإنصافًا قيّمٌ للغاية" وقال أيضا[2]: "إنّ كتاب "الفصيل الأول" هو كتابٌ رائع جدًّا".

 

شكر وتقدير

يسرُّنا أن نقدّم للقراء الأعزاء، لرواد الأدب وللكتّاب، وخاصة الشباب، الإصدار الـ (24) في سلسلة "سادة القافلة" ومجموعة أدب الجبهة، ولا يسعنا إلّا أن نشكر كل من ساهم في إعداده وترجمته ليبصر النور بهذه الحلّة:

- الكاتب: الأستاذ أصغر كاظمي وفريق بحثه، الذين ابلوا بلاءً حسنًا في إعداد المقدمات اللازمة وكتابة النصوص بلغة واضحة ومضامين مترابطة ودقيقة[3].


 


[1] في لقاء مسؤولي النظام، 22/9/2007م.

[2] في لقاء قادة الحرس الثوري، أيار/2008م.

[3] تراجع التفاصيل في مقدمة المؤلف.

 

10


2

مقدمة الترجمة

- مكتب (أدب وفن المقاومة)، الذي يسهر على حماية ودعم هذا النوع من الإنتاج الأدبي في تاريخ الجبهة والدفاع المقدس.

 

- فريق الترجمة: د. محمد عليق[1]، الحاج علي مهدي[2]، والأخوات: حوراء طحيني[3]، فاطمة شوربا[4] وسمية يوسف[5]، إذ تظافرت جهودهم وقدموا نصوصًا متماسكة بلغة انسيابية جميلة، قريبة من السهل الممتنع.

 

- فريق الإعداد والتحرير في مركز المعارف للترجمة، حيث قُرِئت النصوص أكثر من مرّة، أحيانًا، مع مراجعات ومقارنات للنصوص باللغة الأصل، وأُنجزت صياغات وتحريرات لازمة، مع توحيد المصطلحات في كل الكتاب، وتحويل التواريخ الشمسية إلى الميلادية، والإشارة في هوامش توضيحية لبعض التّسميات والمعاني غير المألوفة لدى القارىء العربي. وقد وضعنا جدولًا بأهمّ الرتب العسكرية، والمصطلحات المفتاحية.

 

- السيدة نجوى الموسوي والحاجّة نهى عبد الله، حيث قدمتا قراءة تحريرية لمجموعة من الفصول واتحفتانا بملاحظاتهما القيمة.

 

- المدقق اللغوي: الحاج عدنان حمود.

- المخرج الفني ومعدّ الغلاف: الأخ علي عليق.

- ناشر النسخة الأصلية: مؤسسة (سوره مهر).

والشكر موصول لدار المعارف الإسلامية الثقافية في بيروت، ناشر النسخة العربية.

 

مركز المعارف للترجمة

حزيران – 2018

 


[1]  مترجم مقدمات الكتاب والمؤلف والفصول: (من 7 إلى 12).

[2] مترجم الفصول: 14/13/2/1.

[3] مترجمة الفصول: 6/5/4.

[4] مترجمة الفصل الثالث وملحق الصور، وراجعت ترجمة الفصول (1-2-4-5-6).

[5] مترجمة الفصلين الاخيرين: 16/15.

 

11


3

مقدمة الترجمة

• مصطلحات وكلمات مفتاحية:

- ليلة العمليات (ليلة الهجوم)

- المجمَّع التعليمي (مركز تقديم الامتحانات المدرسية)

- صباغة الأحذية/ماسح الأحذية

- تغيير سنة الولادة (تزوير بطاقة الهوية)

- إذاعة التعبئة/هوائيات التعبئة

- تسوية الحساب (معاملة المغادرة)

- روضة كلستاني (فصيل التلاميذ)

- نقطة الانتشار (مكان انطلاق القوات للالتحام بالعدو)

- عنبر/كوخ الاستشفاء (الدائرة الصحية)

- مركز معراج الشهداء (مكان تجميع اجساد الشهداء)

- المرسى (رصيف/ضفة النهر)

- تصفير السلاح (اختباره وضبطه)

- سحب الأقسام (جهوزية السلاح للرمي)

- دوشكا/رشاش(bkc)/كلاشنكوف(كلاش)

- التمويه والاستتار

- إجازة(ماذونية)

- طابور إزعاج/مسير ليلي

- التدريبات البرمائية

- ساحة المراسم الصباحية

- شيخ الفصيل/فيلسوف الفصيل

- مسعف/مساعد مسعف

- ناقل الجرحى

 

• بعض التشكيلات والرتب العسكرية:

- الفرقة == > عدة كتائب (أو وحدات)

- الكتيبة == > عدة سرايا

- السرية == > عدة فصائل

- الفصيل == > عدة مجموعات

- أركان الفرقة == > قادة الكتائب والوحدات اللوجستية.

- أركان (كادر) الكتيبة == > مسؤولو السرايا والفصائل

 

• أقسام أو وحدات لوجستية:

قسم التعاون (الأمانات)

قسم التجهيز والمؤن

الهندسة والتخريب

وحدة الإعلام

وحدة التثقيف والتبليغ

الاسعاف والدائرة الصحية

 

 

12


4

تمهيد

تمهيد

تعرّفت إلى كتيبة حمزة وذهبت إليها للمرة الأولى في شهر اسفند 1364هـ.ش. (آذار 1986م). في تلك الأيام، كنت أنا وصديقي في الدراسة الثانوية "أمير همايون صرافي"، نخدم في وحدة المدفعية في فرقة "27 محمد رسول الله"  صلى الله عليه وآله وسلم.

 

كان أمير أصغرَ منّي بسنتين. قال لي في أحد الأيام إنّ السيد "محمد كبريائي" - أستاذنا في مادة الرياضة - يخدم في كتيبة "حمزة"، ما رأيك أن نزوره معًا؟ كانت فرصةً للذهاب إلى مركز كتيبة حمزة ولقاء الأستاذ كبريائي. في تلك الزيارة حدّثنا شباب الكتيبة عن عمليات "والفجر 8" وذكرياتهم الحلوة والمرّة فيها.

 

كانت هذه الزيارة البسيطة بدايةً لتعرّفي إلى "الفصيل الأول" المشهور بـ"روضة كلستاني"، والذي كان أغلب عناصره من قوات التعبئة وتلاميذ المدارس من عمر 16 إلى 19 سنة.

 

في تلك الأيام في معسكر كارون، كانت كتائب وسرايا ووحدات الفرقة في مرحلة إعادة تشكيل واستراحة. وعلى هذا الأساس، لم أواجه أنا وأمير أي مشكلة في أخذ مأذونية لعدة ساعات كل بضعة أيام وتكرار الذهاب إلى مركز كتيبة حمزة. حتى إننا قضينا سهرة وليلة كاملة في ضيافة هذه الكتيبة. كذلك قام شباب الإعلام في الكتيبة بتزويدنا بأشرطة كاسيت مسجّلة بأحاديث ونداءات، إضافةً إلى ألبومات صور فوتوغرافية لشباب وشهداء عمليات "والفجر 8". تضاعفت رغبتي ومحبتي وانجذابي لمعرفة

 

13

 


5

تمهيد

تفاصيل أكثر عما جرى مع الفصيل الأول في كتيبة حمزة بعد رؤية صور هؤلاء الفتيان الطاهرين وسماع أصواتهم البريئة.

 

انتهت الحرب في شهر تير 1967هـ.ش (تموز 1988م) بعد الموافقة الإيرانية على القرار 598. ومنذ ذلك الحين، بدأتُ بجمع آثار وذكريات أولئك المقاتلين من ثكنة "دوكوهه". لا حرب الآن، لكن العائدين من الجبهات كُثُر، والكثير منهم مشتاق لرواية ذكرياته. كانوا يعيدون سرد تفاصيل كل ما حدث معهم بشوقٍ كبير وحماسةٍ لا توصف، وكنت أسعى لتسجيل كل شيء كما هو.

 

الفصل الرابع عشر في هذا الكتاب هو رواية علي شهبازي، وهو نتيجة الجهود التي بذلتها في تلك السنة.

 

في شهر فروردين 1369 هـ.ش. (نيسان 1990م) - أي بعد حوالي سنتين من انتهاء الحرب - سافرت إلى محافظة خوزستان في عطلة رأس السنة "النوروز" مع شباب كتيبة حمزة، مع أنّني لم أخدم في هذه الكتيبة سابقًا، وصلنا إلى معسكر كرخه. لم يعد هناك أي أثر من ساحة المراسم الصباحية ولا الخيام، لكن يوجد بالقرب من مكان خيام الفصيل الأول، حفرة تشبه القبر، وستقرأون ذكريات عنها لاحقًا.

 

تحدّثتُ مع شباب الفصيل الأول لساعات داخل الحفرة، فأعادوا لي سرد ذكريات ليلة العمليات*[1] المعروفة تلك. الفصل السادس من الكتاب هو رواية حسين كلستاني عن تلك الأيام والأجواء والأحوال.

 

منذ ستة عشر عامًا وحتى هذا اليوم الذي وصل فيه الكتاب إليكم، كنت مستغرقًا في العمل والتفكير والبحث، لتجميع الوثائق والمستندات، والكتابة والتحرير، وإعداد مقدمات هذا العمل. في البداية كنت مهتمًّا


 


[1] * أو: ليلة العملية. وقد استخدمنا صيغة الجمع في كل الكتاب.

 

14


6

تمهيد

بالمسائل العسكرية أكثر من الأبعاد الإنسانية، وبناءً على هذه الرؤية، أصدرت كتاب "من لندن إلى الفاو" وهو كتاب صغير الحجم حول ذكرياتي أنا ومقاتِلَيْن اثنين آخرين على الجبهة. "من لندن إلى الفاو"، ألقى نظرة مختصرة وقصيرة على شخصية "أمير همايون صراف" الذي استشهد في العام 1365 هـ.ش. (1986م) على جادة أم القصر أثناء خدمته في كتيبة حمزة بعنوان بريد السرية.

 

بدأ هذا العمل منذ أربعة أعوام، وكُتبتْ فصوله على أساس التعريف الذي ذُكر لمصطلح "الرواية من جديد" في المقدمة*[1]. الكتاب الذي بين أيديكم هو الجزء الأول من أصل جزءين، ويضمّ أحوال وأقوال الفصيل العسكري المتشكّل من 29 مقاتلًا، وقد شارك هذا الفصيل في مهمة في ليلة العمليات، وكان في انتظار كل واحد من شبابه مسيرٌ ومصيرٌ ما. بالطبع فالكتاب يروي القليل من ماضيهم وذكرياتهم - بقدر المستطاع - وبعضًا من مستقبلهم أيضًا لمن بقي على قيد الحياة بعد تلك الليلة.

 

لقد ساعد أشخاص كُثُر في إعداد هذا الكتاب، ومنهم الرُّواة وأُسَر شهداء الفصيل الأول العظيمة، فلهم كلّ الشكر والتقدير.

 

على امتداد هذا العمل، واجهتُ العديد من المشاكل التقنية والتنفيذية، وقد عمِلتُ على رفعها من خلال مشاورة السيد مرتضى سرهنكي والسيد علي رضا كمري والسيد محمد مهدي عقابي (مدقّق ومحرّر). أشكرهم جزيل الشكر على توجيهاتهم وإرشاداتهم في بعض المسائل الهامة وملاحظاتهم المفيدة.

 

كما أشكر جميع الذين ساعدوني فردًا فردًا:

 


[1] مقدمة المؤلف ص (17).

 

15


7

تمهيد

1- السيدة راحلة صبوري لتعاونها المستمر على مدى ثلاث سنوات من العمل الدؤوب، وحواراتها ومقابلاتها مع عوائل شهداء الفصيل الأول، وتدوين وتنظيم الحوارات، وإكمال الروايات ومراجعة النصوص، كذلك لها الشكر على تدقيق وتنقيح الكتاب وتحضير الوثائق والفهارس للصور.

 

2- السيد علي شهبازي والسيدة آمنة سادات رحيمي، على تجميع الوثائق ومستندات الشهداء ومقابلة أُسَرهم وأهاليهم.

 

3- السيد عباس واضح، على تصويره ضرائح الشهداء.

 

4- السيد عليرضا دانا، على كل جهوده في أعمال الحاسوب والوثائق الخطية والصور.

 

5- السيد عسكر عباس نجاد، على تنضيد نصوص الروايات.

 

 

                                                                                     أ. كاظمي

                                                                                     آبان 1385(ت1-2006م)

 

16

 


8

مقدمة المؤلف

أنت لجوج وعديم التجربة

لا تعرف أساليب الحرب والتجييش

(دانشنامه - فردوسي)

 

مقدمة المؤلف

"ليلة العمليات" رمزٌ وشاخص ومصطلح راجَ خلال سنوات الحرب الثماني بين عموم المقاتلين، وخاصة المتطوعين للمشاركة - أي التعبويّين -. وتُمثّل ليلةُ العمليات زاوية رؤية ومقاربة، يمكن الاطلاع من خلالها على عمق الحرب وأبعادها المتعدّدة.

 

تُعرف "رواية ليلة العمليات من جديد"*[1] وفق النظرة العسكرية البحتة: البحث في كيفية اتخاذ القرار وإبلاغ أوامر العمليات من مركز القيادة إلى المقرات والوحدات الفرعية، وتنفيذ عمليات الهجوم، وكذلك إرسال التقارير (التغذية الراجعة) إلى مركز القيادة.

 

ولكن في حربنا الدفاعية ضد الهجوم العراقي البعثي، فإنّ أبعاد وجوانب الحرب كانت أكثر تعقيدًا وأوسع معنًى من الحروب العادية والكلاسيكيّة ولا يمكن الاكتفاء فقط بتجميع المعطيات والمعلومات وتقديم الحسابات العدديّة والكميّة والمعادلات العسكريّة فيها.

 

لقد أدّت إرادة القتال والدافعية دورًا أساسيًّا ومحوريًّا في حسم نتائج العمليات العسكرية، وينبغي الاهتمام بهذا الجانب على المستوى


 


[1] * أو: إعادة رواية ليلة العمليات.

 

17


9

مقدمة المؤلف

الفردي والاجتماعي، الأمر الذي قلّما تمّ الإلتفات إليه: أن يقوم هذا الفتى أو الرجل العجوز، وهذا العامل أو التلميذ أو الطالب الجامعي، بما يحمله كل واحد منهم، من آمال وتعلّقات وذكريات، فينسلخ بقلبه عن مدينته ودياره وعمله ومعاشه ويضع روحه على كفّه، وينطلق مخلصًا من دون أي تردّد نحو مستقبلٍ ومصير جديد وغير متوقع.

 

ألا يجب، بعد مرور كل هذه السنوات المتمادية، أن نُمعن التفكير في الدافع الذي جعل هذا الفتى التعبوي ينطلق تطوّعًا وبرغبة واختيار نحو التضحية والفداء؟ ما السبب الذي دفع ذلك العجوز إلى ترك كل حياته وتحدّي المخاطر والأهوال؟ ألم يكن لآباء وأمهات وأخوات وأخوة وأصدقاء الفتية التعبويّين ولا لزوجات وأبناء وأقارب الكهول والشيوخ تأثير وتأثر بهذه الأحداث واختيار هذا الطريق؟ والآن أيضًا، أليس لهم دور وحضور؟

 

لهذا كله، تم اتخاذ قرار بالتعرف إلى أحوال وأخبار أصغر وحدة عسكرية مقاتلة "فصيل" في ليلة عمليات، بعد أن بقي شباب هذا الفصيل لمدة مع بعضهم البعض وعاشوا معًا أصدقاءَ ورفاقَ سلاح، ليتمّ جمع هذه الروايات ليتعرف هذا الجيل والجيل القادم إلى حكايا آلاف المقاتلين والتعبويين في الجبهة والحرب، من أين أتوا؟ ما هي أفكارهم؟ ماذا فعلوا؟

لكن من بين آلاف ليالي العمليات، أيُّ ليلة عمليات يمكنها أن تكون نموذجًا جيدًا وأرضيّة مناسبة لهذا التحقيق؟ ألا ينبغي الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها على العمليات السابقة والوحدات المشابهة؟

 

بناءً عليه، تم اختيار الوحدة المقاتلة، وكذلك ليلة العمليات (الهجوم) على أساس هذه الشروط الثلاثة:

 

18


10

مقدمة المؤلف

1- سنة العمليات، فلا تكون أول سنة للحرب ولا السنة الأخيرة، وذلك بسبب التجاذبات السياسية والعسكرية العديدة من طرفي الحرب، والتي أدت إلى نشوء أوضاع خاصة واستثنائية.

 

2- ألّا تكون العمليات المختارة صغيرة ومحدودة، لكي يُظهر التحقيق كل ظروف العمليات وأبعادها وتفاصيلها المختلفة.

 

3- أن تكون الوحدة العسكرية المختارة من القوات العادية المشاركة على الجبهة، ليتحلّى التحقيق بشمولية وعموميّة أكبر.

 

وبهذا القصد والنيّة، توجّه المؤلّف نحو الفصيل الأول الذي يكنّ المودة والإعجاب لمقاتليه منذ البداية. لذلك وقع الاختيار على كتيبة من فرقة (27 محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) لسهولة تحصيل المعلومات والإحصاءات والتشكيلات العسكرية، وأنّ الوصول إلى الرواة وعوائل شهداء هذه الكتيبة ميسّر أكثر من غيرها. ومع هذا فقد احتاج هذا التحقيق إلى سنوات لإنجازه.

 

في قوات المشاة، الفصيل هو الوحدة العسكرية والقتالية الأصغر. كما ذُكر في التمهيد لهذا الكتاب، الفصيل الأول هو أحد فصائل السرية الأول من كتيبة حمزة من الفرقة (27 محمد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الفصيل اِلْتَحَمَ مع القوات العراقية البعثيّة في عمليات "والفجر 8" على جادة أم القصر في عمق 18 كلم من خطوط تماس العدو وبالقرب من الحدود العراقية - الكويتيّة، في ليلة 24 بهمن 1364 هـ.ش. (13 شباط 1986م). اشتبكت كتيبة حمزة في تلك الليلة مع كتيبتين (مشاة ومدرعة) من قوات العدو وقد سقطت في تلك المواجهات الدامية أعداد كبيرة وخسائر مادية من كلا الطرفين.

 

بدأت هذه المعارك عند الساعة 10:20 ليلة 24/11/1364هـ.ش.

 

19


11

مقدمة المؤلف

- الموافقة للساعة 22:20 يوم 23/11/1364هـ.ش (12/شباط/1986). بالتوقيت العسكري- وارتقى 14 شهيدًا من الفصيل الأول في تلك الليلة، سبعة منهم استشهدوا عند بدء الهجوم وفي الدقائق العشر الأولى للاشتباك.

 

بعد إتمام السرية الأولى لعملها، انطلقت السريّتان الثانية والثالثة وتابعتا التقدم حتى الساعات الأولى من يوم 24/11/1364 هـ.ش.

 

خلال هذه الفترة -أي 90 دقيقة- استشهد 4 شباب آخرين من عناصر الفصيل الأول.

 

في هذا الوقت، وصلت الأوامر من مركز قيادة الفرقة إلى كتيبة حمزة، بالتراجع إلى مواقع الليلة الماضية، وقد تمّ تنفيذ هذا الأمر قبيل شروق شمس يوم 24/11/1364 هـ.ش. استشهد 3 من مقاتلي الفصيل الأول أيضًا خلال التراجع أو أثناء نقل الجرحى إلى الخطوط الخلفية.

 

بعد تلك الليلة، وفي عمليات أخرى، استشهد 4 شباب آخرين من عناصر الفصيل الأول. بقي من ذلك الفصيل أحد عشر شخصًا من أصل تسعة وعشرين.

 

في هذا التحقيق، تمّ إنجاز المراحل التالية بالالتفات إلى أهمية وأولوية مصادر البحث:

- إعداد الإحصاء والتشكيل العسكري للفصيل والقيام بمقابلات مع الرواة (لمدة سنتين).

لم يكن الوصول إلى المعلومات الأوّليّة للعناصر الشعبيّة المتطوّعة أمراً سهلاً. كانت تصفية الأمور واستقدام عناصر التعبئة تتمّ مرّة كلّ ثلاثة أشهر، فسهولة انتقال الأفراد بين الوحدات (الفصيل، السريّة، الكتيبة، وحتّى الفرقة)، وتغيّر مدّة دورة الخدمة من 45 يوماً إلى ثلاثة

 

20


12

مقدمة المؤلف

أشهر إلى سنة أو أكثر، وحصر تسجيل وأرشيف إحصاءات عناصر التعبئة في تصنيف الفرقة والكتيبة فحسب، وليس في الأقسام الأدنى منها كالسريّة والفصيل، كل ذلك كان من الأسباب والعوامل المعيقة لهكذا عمل.

 

من هنا، استغرق إنجاز الجزء الأوّل من العمل المهمّ والصعب سنتين -أي تهيئة الإحصاء والتصفيف العسكري للفصيل الأوّل-، وأُنجز ذلك بالصبر الكبير والدقّة اللازمة. وكما ستلاحظون، فإنّ الإحصاء والترتيب (التشكيل) العسكري، هو أساسُ تدوين فصول هذا الكتاب ورواياته. وعليه، فإنّ التناسب الموضعي لكلّ رواية (فصل) كان بنحو يُظهر عدم التناسق سريعاً بمجرّد تبديل فصل بآخر.

 

وفيما يلي جدول التشكيل العسكري للفصيل:

 

21

 


13

مقدمة المؤلف

13- رضا أنصارى

نقل الجرحى/منقذ (مساعد مسعف)

13- مهدي ملكى

نقل الجرحى/منقذ (مساعد مسعف)

14- حميد رضا رمضانى

معاون مسؤول الفصيل

14- حسين فياض

 

23


14

مقدمة المؤلف

2- نسخ وتصوير وثائق ومستندات متعلقة بالشهداء، بالتعاون مع مؤسسة الشهيد والجرحى والمضحّين والجرائد والصحف المعروفة، وصولًا للمعلومات المدوّنة على ضرائح الشهداء ومقابلة أُسَرِهِمْ. وكانت النتيجة:

• 1991 وثيقة خطّيّة

• 328 صورة فوتوغرافية

• 315 دقيقة تسجيل صوتي للشهداء

 

3- نسخ وتصوير وثائق عسكرية ومقابلات مع قادة وضباط، وقد رجعنا في هذه المرحلة إلى مراكز ومقرات عسكرية، ومن خلال تعاونهم معنا وضعنا في متناول فريق البحث مستندات مصنّفة ومؤرشفة لعمليات "والفجر8".

 

وكانت النتيجة:

1- 1422 ورقة وثائق ومستندات خطية

2- 59 ساعة تسجيل صوتي

3- 19 صورة جوية

 

وكما تلاحظون فإنّ العمل جرى على ثلاث مراحل وثلاثة مستويات متوازية. ومجموع المعطيات والمعلومات صدرت وستصدر في جزأين منفصلين. إعادة رواية ليلة العمليات هي العنوان المشترك والميزة الجامعة للجزأين، ولا تزال تستحق العمل عليها وإصدار مؤلفات أخرى عنها كي لا يبقى عند القارئ أي غموض وإبهام.

 

كمثالٍ بسيط وواضح، لنرويَ من جديد ما حدث ليلة العمليات (ليلة الهجوم) يمكننا أن نشبّهه بِسَهْم. عادةً ما يضع القادة في

 

24


15

مقدمة المؤلف

2- نسخ وتصوير وثائق ومستندات متعلقة بالشهداء، بالتعاون مع مؤسسة الشهيد والجرحى والمضحّين والجرائد والصحف المعروفة، وصولًا للمعلومات المدوّنة على ضرائح الشهداء ومقابلة أُسَرِهِمْ. وكانت النتيجة:

• 1991 وثيقة خطّيّة

• 328 صورة فوتوغرافية

• 315 دقيقة تسجيل صوتي للشهداء

 

3- نسخ وتصوير وثائق عسكرية ومقابلات مع قادة وضباط، وقد رجعنا في هذه المرحلة إلى مراكز ومقرات عسكرية، ومن خلال تعاونهم معنا وضعنا في متناول فريق البحث مستندات مصنّفة ومؤرشفة لعمليات "والفجر8".

 

وكانت النتيجة:

1- 1422 ورقة وثائق ومستندات خطية

2- 59 ساعة تسجيل صوتي

3- 19 صورة جوية

 

وكما تلاحظون فإنّ العمل جرى على ثلاث مراحل وثلاثة مستويات متوازية. ومجموع المعطيات والمعلومات صدرت وستصدر في جزأين منفصلين. إعادة رواية ليلة العمليات هي العنوان المشترك والميزة الجامعة للجزأين، ولا تزال تستحق العمل عليها وإصدار مؤلفات أخرى عنها كي لا يبقى عند القارئ أي غموض وإبهام.

 

كمثالٍ بسيط وواضح، لنرويَ من جديد ما حدث ليلة العمليات (ليلة الهجوم) يمكننا أن نشبّهه بِسَهْم. عادةً ما يضع القادة في

 

25


16

مقدمة المؤلف

فهو خلال الحرب والعمليات يعمل مع مقر القيادة على الحسابات العسكرية والكمية والعددية وفي الوقت نفسه يرافق سراياه وفصائله على جبهة القتال ضد العدو.

 

الكتاب الذي بين أيديكم هو "إعادة رواية ذكريات" ليلة عمليات (13 شباط 1986 - جادة أم القصر) والجزء الثاني منه سيضمّ وثائق ومستندات ليلة العمليات نفسها.

 

يقع هذا الكتاب في ثلاثة أقسام وستة عشر فصلًا:

القسم الأول يشمل 12 فصلًا، يحكي أحوال وأقوال عناصر الفصيل الأول. يروي أحد المقاتلين الباقين على قيد الحياة في كل فصيل ذكرياته ويتحدث عن شهيد أو شهيدين من أصدقائه المقرّبين ويذكر كل ما كان يعرفه.

 

القسم الثاني يضمّ فصلين، وهو على مستوى السرية الأولى حيث المذكرات اليومية لــ "عربعلي قابل" و"عبدالله قابل" حول أوضاع وأحوال الفصيل الأول والفصيل الثالث من السرية.

 

كذلك يقع القسم الثالث في فصلين، ويشمل رواية قائد السرية الثانية وقائد الكتيبة، يوضح هذا القسم أسلوب توجيه قوات الكتيبة وكيفية أدائهم في تلك الليلة.

 

في نهاية كل فصل، وُضعت وثائق الفصل، مستندات خطيّة وصور وتوضيحات تساعد القارئ على الاقتراب أكثر من الوقائع والأحداث والشخصيات المذكورة في الفصل (مذكرات وكتابات الشهداء أنفسهم ووصاياهم، ومقابلات بعض أفراد أسرهم).

 

بعض هذه الوثائق وكونها عامة وُضعت في ملحق آخر الكتاب.

 

في الختام نقول إنّ ذكريات وروايات المقاتلين التعبويّين قد ضمّت

 

26

 


17

مقدمة المؤلف

أفكارًا عميقة وأصليّة بلغةٍ بسيطة وكلمات عادية. هذه الذكريات ليست تاريخًا جامدًا للأحداث العسكرية، ولا أساطير وقصصًا من خيال، بل هي نصوص مفعمة بالمعرفة الدينيّة، ومنارات علم وهدى للناس، وتجسيد للشعب العظيم والمثالي صاحب الأهداف السامية.

 

 

أ.كاظمي

 

27


18

الفصل الأوّل - البستان

الراوي: محسن كودرزي

التشكيل[1]: رامي آر.بي.جي (B7), قائد المجموعة الأولى

تاريخ ومكان المقابلة الأولى: طهران, عام 1992م.

 

 

 

الفصل الأوّل*[2]

 

البستان

استلمتْ والدتي بطاقة هويّتي بعد سنوات من ولادتي. وسجّل مأمور نفوس مدينة آراك تاريخ ولادتي وتاريخ صدورها واحدًا. ترك هذا الحدث، الذي يبدو بسيطًا في الظاهر، أثرًا كبيرًا على مجريات حياتي كلها، بدءًا من الدراسة ووصولًا إلى خدمة العلم وذهابي إلى الجبهة والعمل والزواج و... عندما أسأل أمي كيف حصل هذا؟ تجيبني ببساطتها القروية: "يا بني! الذنب ليس ذنبي, قال لي الموظف ابصمي هنا لتحصلي على بطاقة هوية لابنك ففعلت".

 

التحقتُ للمرة الأولى بالجبهة في العام 1982م. كنتُ حينها في العشرين من العمر، لكنني اضطررت للحصول على موافقة أهلي الخطّية بسبب سنّي في بطاقة الهوية والتي لا تتعدّى 17 عامًا. عندما أخبرتُ أمي بالقضية وحصلتُ على بصمتها أسفل الاستمارة، قالت


 


[1] بمعنى الوظيفة والمهمة أو الصفة الحربية في المعركة. (المحرر)

[2] * الفصلان الأول والثاني، ترجمة: الحاج علي مهدي.

 

29


19

الفصل الأوّل - البستان

لي متجاهلة مشكلتي: "لقد جهد والدك كثيرًا لتشبَّ وتكبر، وقد أرضعتك حتى اشتدّ عودك.. أسأل الله حسن العاقبة لك يا بني، وأن تعود سالمًا".

 

ماذا كان عساي أن أقول لها بعد هذا الكلام؟

 

عندما كنت أملأ استمارة بعثة التعبئة الطلابية واجهتُ سؤالًا لا أزال أذكره:

- ما هو هدفك من الذهاب إلى الجبهة؟

 

أجبت:

- رضى الله.

 

هذا ما آمنت به حينذاك وما زلت أؤمن به. حقيقةً إنّه لأمر صعب المشاركة في المعارك مع توقّع الشهادة أو الأسر أو مقارعة الموت، إلا إذا كان الإنسان يتمتع بعقيدة كهذه وله هدف سامٍ ومقدّس.

 

في شتاء عام 1983م خضعت للتدريبات العسكرية, وشاركت في ذلك العام والعام الذي يليه في ثلاث عمليات كبيرة مع فرقة "27 محمد رسول الله".

 

في تلك الأعوام لم تكن الكتب والدفاتر والأقلام لتفارقني، وحملتها دائمًا بين أغراضي الخاصة. كنت أدرس الأول والثاني الثانوي متأخرًا عن أقراني. عندما كنت في طهران أيضًا، كنت أدرس في الدوام المسائي وأعمل نهارًا.

 

تمكّنت بفضل مرافقتي الدائمة للأقلام والأوراق من تدوين ذكرياتي عن الجبهة، ليس بشكل يومي طبعًا، بل مرّةً في الأسبوع وأحيانًا مرّة في الشهر، وأحيانًا أخرى بعد انتهاء العمليات. وقد احتفظت بثلاثة دفاتر من تلك المذكرات، مع أنّ مذكّرات عمليات "والفجر 8" ليست مفصّلة.

 

30

 


20

الفصل الأوّل - البستان

فيها 34 صفحة من دفتر ملاحظات صغير هي خلاصة ذكريات 6 أشهر في الجبهة وعمليات "والفجر 8"، لكن كل سطر وكل صفحة منها، عبارة عن ذكريات يوم أو أسبوع من تلك الفترة الزمنيّة. ولقد كتبت اعتمادًا على تلك السطور وعلى ذاكرتي أيضًا:

عام 1985م. التحقت للمرة الرابعة بالجبهة تطوّعًا. كنت على معرفة مسبقة بكتيبة حمزة وقائدها "أسد الله بازوكي"، الجريح المبتور اليد، وتعود معرفتي به إلى العام 1982م حيث كنت أخدم في الكتيبة التي قادها خلال عمليات "والفجر التمهيدية". وقد اعتدنا أن نلعب الكرة الطائرة في المعسكر في فترة ما قبل العمليات التي أصيب بها. كنت في العام 1984م رامي (آر بي جي) في كتيبته.

 

هذه التجربة قادتني إلى كتيبة حمزة مجددًا. في تلك الفترة, أي في شهر آب/أيلول من العام 1985م، كانت كتائب الفرقة مستقرة في معسكر "كوزران"[1]. عندما وصلت صباحًا إلى ساحة المعسكر رأيت "بازوكي" الذي ضمّني إلى صدره وقبّلني وقال:

- ليتك أسرعت في المجيء. كنت أريد أن أرسلك إلى الحج... لمَ لم تأتِ قبل هذا الوقت.

- أنت أكثر مني استحقاقًا لهذا, فقد قضيت كل تلك الأعوام في الجبهة.

- لا، لقد طلبوا أن يكون الشخص تعبويًّا. كنت أريد أن أرسلك أنت من هذه الكتيبة. فمن هو أكثر قدمًا منك؟ أنت تستحق الذهاب إلى الحج.

 

ذات مرة أهدى قائد الكتيبة لعناصره القدامى كتاب نهج البلاغة

 


[1] يقع معسكر كوزران غرب البلاد بين مدينتي كرمانشاه وإسلام آباد.

 

31


21

الفصل الأوّل - البستان

تقديرًا لجهودهم، وحذاءً رياضيًّا، وحصلت على نصيبي منهما أيضًا.

 

غالبًا ما خدمت في فصيل الإخلاص من السرية الأولى، المعروف بالفصيل الأول. وكنت أعرف من عناصره: محسن كلستاني, محمد أمين شيرازي, أصغر أهري وشابًّا أو اثنين آخرين.

 

عيّنني قائده "محسن كلستاني"، رامي آر.بي.جي في المجموعة الأولى لعلمه بخبرتي، فأن تكون "رامي آر. بي. جي" في المجموعة الأولى من الفصيل الأول في السريّة الأولى، يعني أن تكون في مقدّمة طابور الكتيبة. كانت هذه الفرصة مهمّة بالنسبة إلي - أنا الذي شاركت في إحدى العمليات كمساعد "رامي آر بي جي" ورميت في ثلاث عمليات أخرى ما يقارب الأربعين قذيفة صاروخيّة. فإن حصل مكروه, لا قدّر الله, لمسؤول الفصيل ومعاونه، ستقع مسؤولية العناصر على مسؤولَي المجموعتين في الفصيل، وكنت أنا أحدهما.

 

ذهبت ذات يوم برفقة "أصغر اهري" إلى مركز الخدمات الصحية التابع للفرقة لترميم أسناننا. تطلّب الوصول إلى سفح الجبل والذهاب إلى المركز والعودة منه نصف نهار. وذات مرة قصدنا كتيبة كميل، وكان قائدها الحاج محمود أميني يعرفني. سلّمت عليه وسألته عن أحواله، فبادلني السلام والتحية. ولما كان الحاج مشغولًا بالعمل على مدّ شبكة أنابيب لمصادر المياه كغيره من عناصر الكتيبة، قال عندما رآني: "كيف حال عنصرنا التعبوي السمكري؟".

 

كان الحاج يعلم بأنني عملت في طهران سمكريًّا إلى جانب دراستي.وقد ساعدته في هذا الأمر.

 

كانت كتيبتنا قد عادت لتوّها من مهمّة دفاعية في منطقة مهران، وقد أنهى عناصرها خدمتهم، فمرّت في مرحلة استراحة وإعادة هيكلة. لم يكن يوجد الكثير من العناصر في كتيبة "كميل" أيضًا. امتدت

 

32

 


22

الفصل الأوّل - البستان

فترة الاستراحة لشهر من الزمن، وتزامن ذلك مع أيام العزاء في شهر محرم الذي يصادف يوم مولدي في الثامن منه.

 

قلّما كان يعرف أحدنا تاريخ ميلاد الآخر، إلا أنني كنت أذكر يوم مولدي ممازحًا تارةً وجادًّا تارة أخرى، لتزامنه مع أيام عاشوراء بالتاريخ الهجري القمري:

- عليكم باللطم جيدًا الليلة, فقد وُلدت في مثل هذا اليوم قبل عشرين سنة.

 

كانت والدتي قد نذرت أن تستقبل مواكب اللطم والعزاء بالشراب في كلّ عام، وكنت دائمًا إلى جانبها. وعلى عكس تاريخ الميلاد, فإنّ ما دأبنا على حفظه في الذاكرة جيدًا وعملنا على استحضاره مرارًا وتكرارًا هو تاريخ استشهاد الرفاق وسيرتهم حتى لا يصبح الثأر لدمائهم قربة إلى الله طيّ النسيان.

 

في أسبوع الحرب من ذلك العام، أجرى قسم الإعلام للفرقة سباقًا امتد من مستهل طريق باختران (كرمانشاه) المعبّدة وصولًا إلى نقطة الحراسة في المعسكر, أي خمسة كيلومترات من الطريق الرملية، وقد شاركت فيه ولم أفز، إلا أنه شكّل فرصة جيدة لي لاختبار قدراتي الجسدية بعد الجرح الذي أصابني في فخذي خلال عمليّات بدر.

 

كان سعيد بور كريم مساعدي في رماية الآر.بي.جي, شابًّا ماهرًا ومفعمًا بالحيوية والنشاط، لا يتجاوز عمره الستة عشر أو السبعة عشر عامًا، وهو الولد البكر لأهله. كان نحيفًا ذا وجه طويل وعينين سوداوين يعلوهما حاجبان كثّان ومعقودان، وبالكاد ظهر شعر لحيته, وفي ذلك الطقس الجبلي البارد، لم تفارق القبّعة الصوفية رأسه. عندما استفسرت عن تاريخ حضوره في الجبهة قال:

- قضيت ستة أشهر تقريبًا في كردستان، شتاء وربيع 1985م،

 

33

 


23

الفصل الأوّل - البستان

والتحقت بكتيبة حمزة في أول الصيف.

 

قبل أن نغادر معسكر "كوزران" اقترحت أن نذهب لصيد الطيور, فرافقني محسن كلستاني وأصغر أهري وسعيد بور كريم. جُلنا حول القمة لفترة قبل أن أتمكن من إصابة طير بالرصاص، فذبحته كي لا يتعذب.

 

ولكنّ مشكلتنا الأساسية بدأت بعد عودتنا, فبور كريم الذي أراد أن يشوي الطير على النار أسهب بسرد ذكرياته عن بستان جدّه والسمك المشوي والدجاج المحشو بحيث سال لعابنا. اقترح أحدهم أن نقلي الطير بالزيت. كان لكل واحد في خيمة الفصيل رأي مختلف. ولكن ثمة شخص واحد عارض رأي الجميع، أصغر أهري. كنا نصفه بفيلسوف الفصيل لكثرة مطالعته الكتب ووضعه نظارة سميكة. قال إنّه لا يجوز أكل الطريدة التي اصطيدت بهدف التسلية، أو إنه مكروه في أحسن الأحوال ولا ينبغي على المجاهد في سبيل الله أن يأكل من لحم الصيد، بل عليه أن ينسّق مع الموظف الحكومي أو حارس الغابة أو على الأقل مع قائده قبل أن يقدم على الصيد وإطلاق النار. كان هذا رأيًا آخر.

 

لم يكن الأسبوع الأخير من شهر أيلول قد انقضى بعد، حين غادرنا معسكر "كوزران" واستقررنا في "دوكوهه" في مبنى كتيبة حمزة. بعد أيام، حصل تغيير جذري في الكتيبة. غادرها "أسد الله بازوكي" وحلّ مكانه الحاج أميني، كما حُلّت كتيبة كميل أيضًا، والتحق بعض عناصرها بكتيبة حمزة بقيادة الحاج أميني، والتحق البعض الآخر بكتائب أخرى، وأنهى آخرون خدمتهم.

 

لم يحصل أي تغيير على مستوى طاقم الكتيبة بعد قدوم الحاج أميني وبقي محسن كلستاني قائد الفصيل الأول. ذات يوم، أبلغنا قائد

 

34

 


24

الفصل الأوّل - البستان

 

الكتيبة الجديد أثناء البرنامج الصباحي، أنّ من أراد البقاء في الكتيبة عليه أن يمدّد فترة مأموريته ليمكث ثلاثة أشهر كاملة. حيث من المقرر أن تتمّ إعادة الهيكلة ليبدأ بعد ذلك التدريب العسكري.

 

من بين العناصر الجدد الذين التحقوا بالفصيل الأول في أواسط تشرين الأول، شاب طويل القامة، مفعم بالنشاط والحيوية يدعى أكبر مدني، ما إن نطق بأول كلمة حتى علمت من لكنته أنّه من أهل إحدى قرى "محلات" تُعرف بـ"تشهل رز"، وكان يقطن في حي "نظام آباد" في طهران. لم تكن المسافة بين مسقط رأسي "سربند" وهي من ضواحي مدينة أراك, وقرية "تشهل رز" تتجاوز الأربعين كيلومترًا، لكنّنا، تخطّينا هذه المسافة وأصبحنا صديقين حميمين. كان أصغر في السابعة عشرة من العمر، ويتابع تحصيله المدرسي في السنة الثالثة اقتصاد. سألته عن سوابق عمره في الجبهة فأجابني:

- لقد خدمت مرة في الربيع والصيف في كردستان وهذه هي تجربتي الثانية.

 

كان لسعيد بور كريم وأكبر مدني السيرة ذاتها في الجبهة، وكانت مهمّة كل منهما مساعد "رامي آر.بي. جي." لكن بعد فترة وجيزة، أي في شهر تشرين الثاني عندما ذهبت إلى معسكر "سفينة النجاة"، أصبح سعيد رامي آر.بي.جي. في المجموعة الثانية وأكبر مدني مساعده. غادرتْ كتيبة كميل ثكنة "دوكوهه" في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول متجهةً نحو معسكر "سفينة النجاة" الواقع على مسافة عشرين أو ثلاثين كيلومترًا شمال شرق الثكنة بالقرب من بحيرة سد (دز) حيث استقر الجميع.

 

كانت الخيام قد نصبت في صفٍّ واحد، بعضها إلى جانب بعض، بحيث تُفتح أبوابها إلى الشرق وتطل على البحيرة. أما جهتها الخلفية فكانت منطقة حرجية تمتدّ على مسافة عدة هكتارات، مليئة

 

35

 


25

الفصل الأوّل - البستان

بشجيرات المناطق الحارة التي تتميز بأوراقها الإبرية ويصل ارتفاعها إلى ثلاثة أمتار. على مسافة أبعد من هذه الأحراج، يمتد واد ومنحدر عميق إلى جانب سهل مرتفع أنشئ فيه مهبط للطائرات المروحية، دائرة إسمنتية كبيرة يتوسّطها حرف H أصفر اللون، وقد امتدت جادة ضيقة منه حتى المنشأة الأساسية لسد دز.

 

مع بدء التدريب في المعسكر الجديد، سيطر النظام والترتيب بشكل أكبر على أعمال الفصيل. أخذتُ على عاتقي تأمين الماء المغلي لإعداد الشاي لجميع العناصر. كنت أملأ الإبريق الكبير الخاص بالفصيل ثلاث مرات في اليوم وأضعه على موقد الحطب خلف الخيام في الحرج. لقد صنعت الموقد بنفسي مستذكرًا أيام الطفولة والموقد الذي لطالما استخدَمَتْهُ والدتي بينما كنت أنا أجمع لها الحطب.

 

احتجنا لإبريقين من الماء المغلي عند الفطور، ففي الصباح يحتسي كل شخص ما لا يقل عن كوبين من الشاي، وكل إبريق يتسع لسبعة أو ثمانية ليترات من الماء. عند الظهيرة والمساء اكتفينا بإبريق واحد. وقد تطلبت برودة ماء "دز" في فصل الخريف منا جهدًا مضاعفًا وكمية أكبر من الحطب ليغلي.

 

تميّزتُ بطريقتي الخاصة في تحضير الشاي، وعلمت أنّ ورقه يعطي اللون والطعم الرائعين عندما يُحضّر ببطء في إبريق الزجاج، فيما يختلف الأمر في الإبريق المعدني، فإذا وضعنا الشاي أثناء غلي الماء، يصبح طعمه مرًّا ولاذعًا. لذا كنت أرفع الإبريق عن النار وأضعه جانبًا حتى يهدأ غليانه، ثم أضيف أوراق الشاي المغسّلة بالماء البارد، ولا أضعه ثانية على النار، بل أتركه إلى جانب الموقد ليختمر ويصبح طعمه ألذّ، وأحرص على أن لا يبرُد ويفقد طعمه لعلمي بأنّ الإبريق المعدني (الألومينيوم) يخسر الحرارة ويبرد بنحو أسرع من الإبريق

 

36


26

الفصل الأوّل - البستان

المصنوع من الزجاج (أو الخزف).

 

ذات يوم، وبينما كنا ننتقل من قاعدة دوكوهه إلى معسكر "سفينة النجاة"، انقلب صندوق المواد التموينية التابع للفصيل رأسًا على عقب فاختلطت أوراق الشاي التي بداخله مع حبيبات مسحوق الغسيل. حفاظًا على أموال الجبهة, أخذ كل اثنين من الشباب كاسة مليئة من هذا الخليط وجلسا حول الخيمة يفصلان الحبيبات السوداء عن الحبيبات البيضاء. لم تتأثر الحبيبات البيضاء بما حصل، فهي بالنهاية لغسل الثياب، لكن بدا لنا حجم الكارثة عندما شربنا الشاي بنكهة مسحوق الغسيل، حتى قال أحد الشباب: "عندما نشرب الشاي تخرج الفقاقيع من أفواهنا".

 

في اليوم نفسه سنحت لي الفرصة لأستحضر، مع مساعدي أصغر أهري خارج الخيمة، ذكريات عمليّات بدر. في تلك العمليّات، اجتمعت أنا وأصغر ومحسن كلستاني في الفصيل نفسه، أي فصيل الإخلاص. ما لبث أن انضمّ إلينا سعيد بور كريم وأكبر مدني. كان الشباب متشوقين لسماع تجارب الزملاء وذكرياتهم القيّمة.

 

سأل بور كريم:

- هل حقًا اقتربتم من دجلة يا أخ كودرزي؟

 

أجبته بتأنٍّ:

- بالتأكيد. وبقينا هناك حتى الظهيرة حين جاءنا الأمر بالانسحاب فانسحبنا. ولو لم ننسحب لكان العدو شقّنا من جانبنا.

 

سأل مدني:

- يقولون إنّ الانسحاب صعب جدًا. وكأنّك تحمل عبئًا ثقيلًا على كاهلك. هل هذا صحيح؟

 

37

 


27

الفصل الأوّل - البستان

- قبل أن أخطو الخطوة الأولى على طريق الانسحاب سألت أصغر: ما هذا الغبار والعاصفة في مقابلنا؟

 

نظّف أصغر نظارته السميكة ببرودة أعصاب، ثم ألقى نظرةً هناك وقال: دبابات.

 

عندما سمعت بأنّ الدبابات قادمة وقد أمرنا القائد بالانسحاب أيضًا، شرعت بالركض إلى الخلف مباشرة. بعدما ركضت قليلًا سيطر عليّ عطش شديد حملني على التوقف لدى رؤيتي جسد شهيد في القناة. أخذت مطرة الماء خاصّته وخضضتها, فوجدتها ثقيلة ومليئة بالماء وكأنّه لم يشرب منها شربة واحدة. لقد أثلج الماء البارد حنجرتي ولكنه لم يقضِ على عطشي. كان لهذا العطش سبب آخر, فتلك العاصفة خلفنا لا تزال كالإعصار، عشرات الدبابات والآليات المصفّحة تلاحقنا وتكبّدنا الخسائر. حتى إنّ الذخيرة كانت على وشك النفاد من الشباب. استمررنا بالانسحاب من الظهيرة حتى المغرب وابتعدنا عن دجلة.. نعم للانسحاب طعم مرير ولاذع لا يعرفه إلا من سبق أن تذوّقه.

 

استفسر بور كريم: "وهل أصبتم أي دبابة لدى انسحابكم؟".

 

- كان معنا في فصيل الإخلاص رامي رشاش ماهر دهسته الدبابة لدى اقترابها من القناة وعبرت من فوقه. اقتربت الدبابات منّا كثيرًا بحيث لم يعد ينفع معها استعمال قذائف الآر.بي.جي, وأساسًا لم نكن نفكر حينها إلا في الهروب.

 

أراد العراقيون محاصرتنا ثم أسرنا، وجلّ ما أمكننا فعله هو الركض.

 

سألني مدني: "وهل رأيتم العراقيين؟".

 

- أثناء الانسحاب رأيت الأسرَ بأمّ عيني. لم يكن يفصلنا عن

 

38

 


28

الفصل الأوّل - البستان

العراقيين غير 50 مترًا. وكنتُ قد احتميتُ مستلقيًا في منخفض صغير، فتوقّعت أن يدْهمني أحدهم في أي لحظة فيقتلني أو يأسرني. أخرجت كل ما كان في جيبي: عملة ورقية من فئة الـ100 تومان, صورة للإمام الخميني, قصاصات من الورق الأبيض أو المكتوب عليه, بطاقتي الحربية و...ودسستها كلّها تحت التراب، لكنّني، تمكنت في النهاية من النجاة بحياتي.

 

سأل بور كريم ثانية: ماذا كان يفعل السيد محسن كلستاني؟ هل كان مسؤول الفصيل آنذاك أيضًا؟

 

- كان السيد محسن في عمليات بدر معاون مسؤول الفصيل، لكنّه برع في توجيه الشباب. لم يغمض له جفن لمدة 30 ساعة. منذ بدء العمليات حتى آخر لحظة من الانسحاب لم يذق طعم الراحة ولو للحظة. أثناء التراجع كان يتوقّف كل عدة أمتار ويصدر الأوامر بحسب وضعية العدو. أذكر جيدًا كيف كان يرفع رأسه ويظلّل عينيه بيديه اتّقاءً لأشعة الشمس، كي يتمكن من رؤية العدو جيدًا، وأحيانًا يمسح العرق عن جبينه بكوفيته، من دون أن يغيب عن وجهه مدى قلقه على سلامة الشباب.

 

سأل مدني: "سيد محسن! ألم تنل نصيبك من كلّ ذلك الرصاص والشظايا؟".

 

- بلى, أصبتُ قبيل الغروب وقد شارف الانسحاب على نهايته، فسحبني الشباب إلى مكان آمن خلف السواتر الترابية. لو أنني جرحت قبل ذلك بنصف ساعة لما كنت معكم الآن، ولكنتُ إما أُسرت، أو أُلحقت بالدار الآخرة برصاصة خلاص عراقية.

 

استوضح بور كريم: "كيف جُرحتَ؟".

 

39

 


29

الفصل الأوّل - البستان

- كنت أنكفئ للوراء عندما طالني رشق من الرصاص من الخلف واستقر في فخذي من أعلاه إلى أسفله. رغم أنّ جرحي نزف كثيرًا، لكن لم يُصب الشريان والعصب في قدمي بأذى. أمضيت فترة من الراحة طيلة ربيع وصيف عام 1985م، وها أنا الآن معكم.

 

أثناء التدريب على العمليات البحرية وعند ركوبنا الزوارق، كان يجب علينا ارتداء سترة النجاة، وقد توافر لدينا نوعان منها: الأول أجنبي ومخصّص للمدرّبين، والثاني وطني يرتديه المتدربون والكتائب، وهو عبارة عن ثوب من طبقتين من القماش الذي يستعمل عادة في صناعة المعاطف الواقية من المطر، بينهما قطع من الفلّين المضغوط. النوع الأجنبي يغلق بواسطة سحّاب بينما النوع الوطني يغلق عبر ربطه بإحكام على الجسد بواسطة ثلاثة أشرطة من القماش. تستطيع السُّتر الأجنبية الصنع أن تحمل جسمًا فوق الماء يصل وزنه إلى150 كلغ، ولكن النوع الإيراني كان بإمكانه حمل 100 (كيلوغرامًا) من الوزن لفترة محدودة، إذ إنّ الفلّين كان يمتص المياه خلال ساعة أو ساعتين فتنعدم مع ذلك إمكانيّة عوم الجسم. وقد نبّهنا المدربون إلى أنّه في حال وقع أحدنا في الماء وهو يعلم أنه سوف يبقى لساعة من الزمن على الأقل، عليه أن يتخلّص أولًا من العتاد ثم من السلاح كي لا يغرق، ويتمكّن من العوم.

 

كان سعيد بور كريم سباحًا ماهرًا وملمًّا بقيادة الزورق أيضًا. تعلّم هذه الأمور في أوائل شبابه عندما كان يذهب في الصيف إلى بستان جده في "بابلسر" بلدة والدَيه. إضافة إلى ذلك، كان حلاقًا ماهرًا، وقد شذّب ذات مرة شعر رأسي ولحيتي بالمشط والمقص. أخبرني عندما سألته عن كيفية تعلمه لهذه المهنة فأجاب: "عمل أبي حلاقًا لسنوات، وامتلك صالون حلاقة خاصًّا به، وكان دومًا يقصّ شعري

 

40


30

الفصل الأوّل - البستان

بشكل دائري على جبهتي لأن أمي تحبه هكذا".

 

في بادئ الأمر، لم يعرف مهنته أحدٌ سوى القليل من عناصر الفصيل، فلم يكن يقصده الكثيرون لقص الشعر، لكن في ما بعد ذاع صيته حتى أصبح الجميع يعرفه بالحلّاق.

 

كانت المسافة التي تفصل بين معسكر "سفينة النجاة" وقاعدة "دوكوهه" لا تتعدّى ثلاثة أرباع الساعة بالسيارة، فكان قادة الفرقة الكبار يأتون أحيانًا لتفقّد معسكرنا: نائب قائد الفرقة, السيد رضا دستفاره وبازوكي. وجاء ذات مرة الشيخ بروازي من قبل الوحدة العقائدية-السياسية[1] في الفرقة إلى المعسكر أيضًا، كان عالم دين ومجاهدًا تعبويًّا أيضًا، ويرافق قوات الهجوم في ليالي العمليات. التقيت به للمرة الأولى في معسكر قلاجه قبيل عمليات "والفجر4" عام 1983م. وفي ليلة الهجوم كان موجودًا على مرتفع 1904 (كاني مانكا) في طابور الكتيبة، شأنه شأن جميع التعبويين. وقد شهد بطولات وشهادة "مهدي خندان", قائد لواء عمار. بعد شهادة "خندان" لقّبه الحاج همت بأسد الجبال، وقد روى الشيخ لعناصر الفرقة المجتمعين في حسينية دوكوهه تفاصيل شهادته، وأخبرنا أنّ جسده لا يزال فوق مرتفع1904 على الأسلاك الشائكة وسط حقل الألغام.

 

في ذلك اليوم كان الشيخ "بروازي" يتكلم في جمع المتدربين في معسكر "سفينة النجاة" بشغف وحماسة، حتى غمرني الشوق والحماسة لسماع ذكريات الحرب عن لسان السباقين إلى الجبهات كأولئك الأصغر منّي سنًّا. كان الشيخ يورد أيضًا من حين لآخر ضمن حديثه، بعضًا من ذكرياته عن الجبهة ويشفي غليلنا. في ذلك اليوم،

 

 


[1] مشابهة للوحدة الثقافية، مهمّتها التبليغ الثقافي وتعزيز الوعي السياسي وتقوية البناء العقائدي والايماني لدى المقاتلين. (المحرر).

 

41

 

 


31

الفصل الأوّل - البستان

ارتفع صوت صفارات الإنذار من الراديو ليقاطع كلامه، وبدأت مضادات الطيران ترعد وتمطر السماء بنيرانها, لكنّ الشباب لم يحرّكوا ساكنًا، وألحّوا عليه ليكمل كلامه.

 

ذهبت في أحد الأيام لأجمع الحطب لإشعال الموقد، فعلقت قدمي بالأسلاك الشائكة وتمزق البنطال والجلد واللحم. تمكّنت من السيطرة على النزيف بسرعة وواصلت عملي وحضّرت المياه المغلية من دون أن أدع أحدًا يعلم ما حصل، لكن الأمر لم ينته هنا، فقد التهب جرحي بعد يومين وتورمت قدمي حتى أصبحت بحجم صندوق كبريت! ولم أعد أتمكن من انتعال الحذاء العسكري، فصرت أتجنّب النزول في الماء. بعد مضي أسبوع، تمكّنت من الركض بشكل طبيعي.

 

كانت الخيام في المعسكر مجهّزة بالطاقة الكهربائية، ما مكّن الشباب ليلًا من الدرس مجتمعين تحت ضوء المصباح الكهربائي المؤنس. واظب محسن عليان نجادي وسعيد بور كريم على الدراسة معًا. أما أنا فلم أكن أرغب بذلك بسبب عدم التناسب بين عمري والمرحلة الدراسية التي كنت فيها, ولو أنّني كنت قد تابعت كأقراني، لكان من المفترض أن أكون في السنة الأخيرة من دراستي الجامعية. لكن رؤية شغفهم بالدراسة وحبهم لها، دفعتني رويدًا رويدًا نحو الدرس والبحث والكتاب والامتحانات. رحت أروي لأولئك الشباب مذكراتي عن الحرب، وأتعلّم منهم حب الدرس وطلب العلم.

 

ذات مرة، وكعادتنا، كنّا عائدين في القوارب منهكين من التدريبات البرمائيّة. قال القائد: "اطمئنوا يا شباب، لن تعودوا اليوم إلى الماء ثانية ولن تتلقّوا أي تدريب مائي آخر...". لم يكد ينهي جملته حتى ألقى مسعف الفصيل الأول فجأةً بنفسه في الماء في إشارة منه إلى أننا لا نزال جاهزين للمزيد من التدريب. تعالت ضحكات الشباب من

 

42

 


32

الفصل الأوّل - البستان

فعلته هذه، وأحسّ الجميع بأنّ التعب قد زال عنهم.

 

بقينا في معسكر سفينة النجاة مدة أسبوعين، ثم حصل الجميع على إجازة (مأذونية)، فأمضينا أسبوعًا أو عشرة أيام من الاستراحة في طهران قضيناها في زيارة الأهل والأصدقاء.

 

بمناسبة أسبوع التعبئة، في تشرين الثاني من ذلك العام، أقام قسم الإعلام في الفرقة معرضًا ثقافيًّا - عسكريًّا، وقد عرّجنا عليه أيضًا. أصبح الفصيل الأول يعجّ بالشباب اليافعين المفعمين بالحيوية والنشاط والفضول، الذين التحقوا للمرة الأولى بالجبهة، أو تقرّر أن يشاركوا للمرة الأولى في عمليات كبيرة.

 

في ظهيرة يوم من الأيام، انشغل محسن كلستاني كعادته بترتيب المائدة، وكان قد وضع طنجرة الأرز واليخنة والملاعق والصحون بعضها إلى جانب بعض. قبل ذلك بفترة، حينما كنّا معًا في حسينية الحاج "همت" في ثكنة "دوكوهه" لمحت في يده سبحة خشبية بنية اللون حُفرت على حباتها خطوط رفيعة. استحييت حينها أن أسأله من أين اشتريتها وكم هو سعرها, ولكن هنا لم أعد أحتمل السكوت, فتخطيت حاجز الخجل وسألته: "من أين اشتريت هذه السبحة؟".

 

عندما شاهد إعجابي بها أعطانيها وقال: "هي طوع اليد".

 

أيّدت كلامه واستفسرت: "من أين اشتريتها وبكم؟".

 

نظر إلي نظرة ذات معنى وقال: "ولِم تريد أن تشتري سبحة, أليس معك واحدة الآن؟". فهمت ما يقصده ولكن متأخرًا. ليتني انتبهت قبل أن أسأله أنه قد يعطيني إياها ولا يستردّها. فقد أبى بعد ذلك أن يأخذها مهما حاولتُ أن أرجعها وقال:

- يكفيني أن تذكرني ولو لمرة واحدة أثناء ذكرك لله. كانت سبحة

 

43

 


33

الفصل الأوّل - البستان

صنعت حباتها من الخشب المعطّر. وقد احتفظتُ بها لسنوات.

 

هذه المرة أيضًا، لم نبقَ لوقت طويل في "دو كوهه". من المزايا الجيدة للجبهة والحرب ألّا يتعلّق قلب الإنسان بأي مكان. كنّا جائلين مخفّين ننتظر نداء الرحيل من هذا المخيّم إلى تلك الثكنة، ومن هذه المنطقة إلى تلك الجبهة.

 

غادرتْ مجموعة مؤلفة من عشرة إلى خمسة عشر عنصرًا القاعدة قبل الآخرين لتجهيز المخيّم الجديد. كنتُ أيضًا إلى جانبهم كعنصر من الفصيل الأوّل. كان المخيّم الجديد يُستحدث على ضفة نهر آخر إلى الغرب من القاعدة، وتحديدًا في الجهة المقابلة لمخيّم سفينة النجاة الذي أنشئ شرقيّ القاعدة قبل ذلك بمدة. امتدّ نهر كرخة من الشمال إلى الجنوب، وكذلك كان امتداد القاعدة القائمة على الجهة الغربية للنهر. بدا محل إقامة المخيم على شكل ممرّ كبير، امتد بين مرتفعات حاصرته من جهات ثلاث، ونهر كرخة الممتدّ إلى الشرق منه. مخيّم أرضه صخريّة مليئة بالأخاديد الضيقة والطويلة، وينتشر في محيطه البعوض، صغيره وكبيره.

 

كان يخصّص لكل كتيبة ثلاثون خيمة، تتّسع كل واحدة منها لخمسة عشر مقاتلًا، فتُعطى لكل مجموعة مؤلفة من ثلاثين شابًّا خيمتان متلاصقتان. وبهذا، تحصل السرايا القتالية الثلاث على ثماني عشرة خيمة، بينما تتوزع الخيم الاثنتا عشرة الباقية على أركان الكتيبة وأركان وتجهيزات السرايا الثلاث: الإعلام، شؤون الأفراد، الدائرة الصحّية، الدعم، التسليح وغيرها. كانت الخيم تنصب على مسافات متباعدة تصل إلى خمسين مترًا مراعاةً للسلامة وللحؤول دون وقوع خسائر إذا ما تعرّض المعسكر للقصف الجوي. تمّ اختيار حسينية الكتيبة وساحة التجمّع الصباحي في مكان يناسب جميع الخيم.

 

44


34

الفصل الأوّل - البستان

كنّا خمسة عشر شابًّا مشغولين بتجهيز باحة خيم الكتيبة، ومن بيننا "حسن أميري فر" الذي التحق بالكتيبة للتوّ، وأصبح عضو أركان في السريّة الأولى. بجهوده وتعاون وحدة الهندسة في الفرقة، بدأت الجرافات بالعمل فأنشأت باحة جيدة. استفدنا كثيرًا من تجربة أميري فر وخبرته في ترسيم حدود السرايا ومكان خيم الفصائل. كان سائق الجرافة رهن إشارة العم حسن. فكان يمهّد الأرض التي يشير إليها لتصبح صالحة لنصب الخيام. قامت الجرافة أيضًا بإحداث حفرة كبيرة إلى جانب الطريق الرملي لتكون مستقرًّا لمياه مجاري المراحيض. كما تمّ وضع خزّانات المياه إلى جانب الطريق ليتمكّن سقّاؤو الفرقة من ملئها بسهولة. كانت غرف المراحيض مصنوعة من ألواح بلاستيكيّة، فيما صُنعت كراسيها من القصدير. قبل إحداث هذه المراحيض، كان عناصر مجموعة التجهيز يذهبون إلى أحد الأخاديد يحملون بأيديهم إبريقًا من الماء ليقضوا حاجاتهم في مكان خفيّ ثم يعودون أدراجهم.

 

استغرقت أعمال تجهيز باحة الكتيبة عدة أيام. اجتمعنا في خيمة التجهيزات في يوم جمعة. كنت منهكًا من أعمال النهار المضنية فصلّيت وتناولت طعام الغداء وجلست لأرتاح قليلًا. كان طعام الغداء "قورمه سبزي"، سكبت مرق الطعام على ما التصق من الأرز في قعر القدر وتلذّذت بتناوله. كان راديو شباب التجهيزات يبثّ عبر الأثير برنامج "قصة ظهر الجمعة". كان المذيع يحكي قصة أحد الأبطال وينشد أشعارًا ملحميّة:

لكي تسهّل الموت على نفسك اجعل الموت أيضًا يخاف منك

 

لقد تسلّل بيت الشعر هذا إلى أعماق قلبي، وترنّمتُ به مرات ومرات. لعل استئناسي ببيت الشعر هذا سببه أني اقتربت من الموت

 

45


35

الفصل الأوّل - البستان

قبل ذلك مرات عدة. كان هذا البيت يحكي حال شباب التعبئة الذين كانوا يمضون إلى الموت بمحض إرادتهم.

 

وقع نظري على "حسن أميري فر" قابعًا منطويًا على نفسه. أردت أن أشرع بالحديث معه فلم أفلح. كان جالسًا في زاوية الخيمة ساكتًا وغارقًا في ذاته وأفكاره. أخيرًا دفعني فضولي لأعرف سبب قلقه، إنه مولوده الجديد الذي ينتظر قدومه بعد عدة أسابيع. سيصبح حسن أبًا عن قريب.

 

أخيرًا، في صباح أحد الأيام وصل عناصر الكتيبة. أضفى ضجيجهم وهمهمتهم البهجة والنشاط على المخيّم. وخاصّة وَجْدُ ونشاط الشباب الفضوليّين وكثيري الكلام من الفصيل الأوّل الذين كانوا قد قدّموا امتحاناتهم الدراسية على نحو جيد وحصلوا على علامات ممتازة. رأيت سعيد بور كريم وعليان نجادي يطلع أحدهما الآخر على بطاقة علاماته.

 

كانت التدريبات والتمرينات العسكرية تُتابع بجديّة في مخيّم كرخة. التحق عناصر جدد بفصيلنا وانضموا إلى تشكيلنا العسكري. كان حسين كلستاني أخو محسن أحد هؤلاء، وقد أصبح مسؤول المجموعة الثانية في الفصيل.

 

كذلك انضم مسؤول المجموعة السابق سعيد بور كريم إلى المجموعة الأولى، وأصبح رامي الـ "آر بي جي" الثاني فيها، والعنصر الرابع الذي يقف خلفي في الطابور.

 

استمرّ هذا التشكيل حتى شهر بهمن (شباط 1986م)، وقد شارك رماة الآر بي جي من الفصيل الأوّل في العمليات بهذا التشكيل.

 

ذات يوم، طلب مني محسن كلستاني أن أذهب برفقة "أحمدي

 

46


36

الفصل الأوّل - البستان

زاده" و"علي قابل" إلى ثكنة دوكوهه، وكانت "كتيبة سلمان" قد استقرت هناك مؤخّرًا، وتقرّر أن يخطّط أحمدي زاده على جدران القاعدة ويرسم عليها، فكتب اسم الكتيبة بخطّ عريض فوق بوابة المبنى الرئيسة ورسم على الجدران عدة رسومات أخرى.

 

وَصَلْنا إلى دوكوهه والأمطار تتساقط بغزارة، بقينا يومين ننتظر توقف هطول المطر.

 

كان أحمدي زاده المجاهد الفنان في فصيلنا. وهو قبل سنوات نشط في قسم الإعلام في الفرقة. ومن آثاره أنّه ترك عددًا من الرسومات والتخطيطات على جدران القاعدة.

 

مرّت ثلاثة أيام حتى أصبح الطقس مناسبًا. حصلنا على علب التلوين وريشات الرسم الرفيعة والعريضة من قسم الإعلام في الفرقة وبدأ العمل. بعد ظهر ذلك اليوم، انتهى عمل التخطيط على البوابة الرئيسة، وبعد أن وضع "أحمدي زاده" اللمسة الأخيرة بريشته، أدار ظهره للحائط متوجّهًا نحونا سائلًا: "ما رأيكم يا شباب؟ لقد فرغت من تخطيطها".

 

أجابه قابل بجديّة: "أحمد، ألا ترى؟ لقد أخطأت.. كتبت "سولمان" بدل "سلمان".

 

استدار أحمد مضطربًا ليقرأ ما خطّته يداه. فكاد أن يسقط من الأعلى إلى الأرض. وجد أن كتابته صحيحة فضحكنا جميعًا. غرقت في التفكير: أحيانًا يكون الإنسان قريبًا من شيء ما ولا يراه أو ربما لا يراه. اليوم عندما أتأمّل أدرك كم كانت عظيمة تلك الليالي والأيام، وكيف أعمت الغفلة بصيرتنا عن إدراكها.

 

في خيمة الفصيل، طالعتنا أذواق متعدّدة في قراءة الكتب، وكان

 

47

 


37

الفصل الأوّل - البستان

معلومًا توجّه كل فئة. كان معاوني الأول "أصغر أهري" يطالع الكتب الفلسفية بالإضافة إلى كتب الشهيد مطهري. وكنتُ وأصغر كلّما أردنا الرجوع إلى أحد كتب الشهيد مطهري نقول: لنذهب إلى الغواص! هذا الاصطلاح مستوحى من كلام للعلامة الطباطبائي قاله في حق تلميذه الشهيد مطهري: "مطهري غواص بحر العلم الإلهي اللا محدود".

 

أعطيت أصغر كتاب نهج البلاغة، الذي كان أسد الله بازوكي قد أهداني إياه، لمطالعته قدر المستطاع. كانت حقيبة أصغر الشخصية عبارة عن مكتبة نقالة يحملها معه من مخيّم إلى آخر. من بين تلك الكتب، بضعة كتب حول مسائل التوحيد، فكان يقرأ منها أحاديث ممتعة ويشرحها لنا. أحيانًا، كان سعيد بوركريم ينضمّ إلى محفلنا في زاوية الخيمة ويقول: أعطونا نحن الأميّين شيئًا من كتبكم هذه لكي نحظى بنصيب من العلم!

 

هذه قصة آخر الخيمة، أمّا أوّلها فكان المكان الخاص بمسؤول الفصيل، والمكان الذي تُتلى فيه آيات القرآن بكثرة. اعتاد محسن كلستاني نفسه تلاوة القرآن بقراءات عدة، وأخوه حسين يتمتّع مثله بحالات عرفانيّة. فيما ظلّ وسط الخيمة مكانًا للتلاميذ المشغولين بدروسهم وواجباتهم المدرسية. بالطبع كانوا أحيانًا ينظرون إلى تلك الجهة من الخيمة حيث يجلس قرّاء القرآن، وأحيانًا أخرى ينظرون منصتين إلى الجهة المقابلة حيث يستقرّ باحثو الفلسفة. وهذا من شدّة فضولهم وحبّهم للاطّلاع والمعرفة.

 

كانت ليالي الشتاء طويلة وباردة. في أحد مسيرات الفصيل الليلية لاحظتُ أن أحد الفتيان غالبًا ما يجتاحه النوم في كل مراحل المسير، وكان يجرّ الطابور وراءه إلى المتاهات. لقد أنهك السهر المتواصل قواه. في صباح اليوم التالي رأيت مسؤول الفصيل وقد جلس إلى جانب

 

48

 


38

الفصل الأوّل - البستان

محمد عليان نجادي يداوي بثوره.

 

كانت العناكب والعقارب موجودة بكثرة في هذا المخيّم، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى القمامة التي كانت تُرمى على أطرافه. في أحد الأيام، التقط الشباب عقربًا وصبّوا زيت المصباح حوله ثم أضرموا النار. عندما وجد العقرب نفسه محاصرًا في النار ولا سبيل له للفرار، لدغ نفسه بذيله السام ومات على الفور. قال أحد الشباب ممازحًا: لقد انتحر الساموراي خاصّتنا!

 

كانت ليالي المخيّم مليئة بالأسرار. في الأسبوع الواحد عادةً كنّا نرتاح عدة ليالٍ، فلا تمرين أو تدريب قتاليًّا، ونذهب ثلاث ليالٍ في مسيرات ونتدرّب على القتال الليلي. كان كلّ واحد منّا يقضي ليالي الاستراحة على طريقته. فحفر بعضهم حفرًا شبيهة بالقبر بالقرب من المخيّم حيث كانوا يحيون الليل بالعبادة فيها. كان ذكر الله وذكر الموت يمتزجان في تلك الحفر فيضفيان على النفس صفاءً جميلًا. تقريبًا من بداية شهر كانون الثاني وما تلاه، كنا نرى بعض الشباب وقد التجأوا إلى تلك الحفر يناجون الله سبحانه وتعالى.

 

شعورٌ عجيب يغمرُ الإنسان في القبر. فيتحرّر من أسر جسده وتسمو روحه المتفلّتة من التعلقات الدنيويّة لتسبح في فضاء ذكر الله تعالى، وقد تزهو وتزدان أحيانًا لتغدو كمولود جديد.

 

وبالتأكيد، كانت هذه التهجّدات تُقام بالخفاء. لم يكن أحد من أفراد الفصيل يعلم من هم أهل العبادة والتهجّد فيها. كنّا نرى الشباب الذين يحيون الليل بالعبادة مفعمين بالحيوية والنشاط خلال النهار، فلا يتبادر إلى ذهن أحدٍ أنّ فلانًا قد أحيا ليله بالعبادة.

 

في الأيام المشمسة، كان الشباب يلعبون كرة القدم. كان أكبر مدني من محبّي هذه اللعبة أيضًا ومن مشجّعي "نادي الاستقلال". كان ظاهرُ

 

49

 


39

الفصل الأوّل - البستان

كفّي الأيمن وباطنه مليئين بخدوش رافقتني كذكرى من جراحات أصبْتُ بها قبل عامين. كنت فقدت إصبعين من أصابع يدي، الأمر الذي كان يثير فضول الشباب اليافعين ليعلموا متى وأين وكيف تعرّضت للإصابة. في آخر المطاف، لم يعد مجديًا أو مبرّرًا تهرّبي من الإجابة. في أحد الأيام، أجبرني سعيد بور كريم على أن أخبره بالقصة: "في خريف العام 1983م، كنت في كتيبة حمزة. وحينها كان حسن زماني قائدًا للكتيبة. وكان من المقرّر أن نقوم بعمليات في الجهة اليسرى لمرتفعات 1904 "كاني مانكا" . كنت أحمل قاذف (آر بي جي) ورشاش كلاشنكوف. وكذلك أعلم أنّ للرشاش والقنابل اليدوية فعالية كبيرة. فقد كانت منطقة العمليات منطقة جبلية، وهذا ما حصل بالفعل. في منتصف الطريق إلى القمة، نفد الرصاص من رشاشي وكنت حتى ذلك الوقت قد رميت عدة قذائف (B7). كان الرصاص على اختلاف أنواعه من السلاح الخفيف إلى الرشاش الرباعي (شيلكا) يتساقط بغزارة فوق رؤوسنا من أعلى القمة 1904. كنت أصعد إلى الأعلى زحفًا تارةً وماشيًا مشية البطة تارة أخرى. وفجأة رأيت هوائي جهاز لاسلكي أمام عيني.

 

كان جهازًا عراقيًّا. ربما من ذلك المكان أو من مكان آخر كان وابل الرصاص يُطْلَق باتجاهنا. عبرت الرصاصات من جانب بطني وصدري، واصطدمت بقاذف الآر بي جي. أفلتُّ القاذف من يدي بعد تعرّضه للصدمة، ليقع في داخل الأخدود والوادي العميق الذي كنت بمحاذاته. للحظة، ظننت أنّ يدي قد قُطعت من المعصم. ألقيت نظرة إلى يدي، فوجدت أنّ قفّازي المحبوك قد أبقى على أشلاء أصابعي المتناثرة. انقلبت أحوالي بعد أن رأيت قطع اللحم والعظام. رجعت خمسين مترًا إلى الوراء. كان طابور الفصيل موجودًا هناك. لم أجد مسعفًا. ربط أحد الشباب يدي بالكوفية ورجعت إلى الخلف. في ذلك

 

50


40

وثائق الفصل الأول

المنحدر الجبلي، أصابت شظية أخرى رأسي لكنّها لم تكن إصابة بالغة.

 

سأل سعيد: "هل أحضرت معك قطع أصابعك المقطوعة أم تركتها هناك؟".

 

- رأيت إحدى القطع وقعت على الأرض. كانت قد وقعت بينما كنت أقلِبُ يدي لأرى ظاهرها. كان الوقت ليلًا والأرض مغطّاة بأوراق الخريف المتساقطة، لذلك كان البحث من دون جدوى.

 

حصلتُ على إعفاء من خدمة العلم بسبب الجراحات التي أصبت بها في هذه العملية، ولكني رغم ذلك استأنفت مشاركتي في الجبهة بشكل تطوّعي.

 

الآن وقد شرع الباب للكلام، وصل الدور إلى سعيد ليخبرني بما لم يقله من قبل. علمت أنّ والده كان ناشطًا سياسيًّا ضد النظام الملكي قبل الثورة، وقد دخل إلى السجن بضعة أشهر. تحدث سعيد عن حقبة سجن والده فقال: "عندما ذهبتُ إلى لقاء والدي للمرة الأولى قابلته من خلف الزجاج، وكان يلبس لباسًا عجيبًا. تحدثت معه بواسطة سماعة الهاتف، كان صوته تعبًا وحزينًا وقد وقف خلفه سجّان سمين، كان يستطيع سماع الأحاديث التي تجري بسهولة. كان والدي يواسيني ويصبّرني بصوته الضعيف: عزيزي سعيد، لا تقلق، لا شيء مهمًّا. عندما أعود ستدرك أني لم أَعْتَدِ على منزل أحد، وأني لست لصًّا، ولم أحتل على أحد.. اصبر حتى أعود إلى المنزل فلديّ الكثير من الكلام لأقوله لك. لم أكن أتجاوز العشر سنوات آنذاك. لم أكن أصدّق ما أرى، ولم أكن أدرك جيدًا ما الذي يحدث حولي. هززت برأسي ولم أنطق بكلمة".

 

بعد ظهر يوم آخر، رآني محسن كلستاني في ساحة الكتيبة وطلب

 

51


41

الفصل الأوّل - البستان

مني أن أجد سعيد بور كريم وأرسله إليه. دخلت إلى الخيمة. كان سعيد نائمًا شأنه شأن الكثيرين. في الليلة السابقة، كانت الكتيبة قد ذهبت في مسير ليلي وأضحى الجميع متعبين. ناديت سعيد مرة، مرتين، عدة مرات، ولكن لا حياة لمن تنادي. كان نومه ثقيلًا، إلا أنّه لم يكن لديّ حيلة سوى أن أضربه على جانبه بإصبعي المبتور جزئيًّا. انتفض فجأة من مكانه وسأل: ماذا حصل؟

 

- محسن يريدك، هيا انهض.

 

قام من مكانه، ولكنّه قبل أن يذهب توجّه إليّ قائلًا: "إن ضربتني مرة أخرى بإصبعك الحديدي هذا، لن أعفو عنك.. ولن أسامحك. لن أرضى حتى أقتصّ منك".

 

كنت أملك يدين قويّتين فقد كنت أعمل بالزراعة منذ طفولتي، وبعد ذلك أصبحت أكثر قوة بعد أن عملت بالسمكرية. لا أدري لماذا لم أعد أشعر بقوة ضرباتي بعد بتر عدة أصابع من يدي. كنت قد ضربت بور كريم ممازحًا مرات عدة بإصبعي المبتور هذا، فكان يردّد ويقول: هذا إصبع حديدي.

 

عند الغروب، تقابلنا مرة أخرى في مكان الوضوء. كان يسبغ وضوءه. ضربته مرة أخرى بإصبعي على جانبه وقلت: "خذ هذا.. ألا تسامحني وتعفو عنّي؟".

 

بعد أن تلقّى مني ضربة أو ضربتين، اضطرّ إلى القول: "كلا، أنا أعفو عنك.. أساسًا سأكون سعيدًا إذا وجّهت إليّ ضربات أكثر"، ولكن بعد أن أنهى وضوءه وذهب وابتعد عني صرخ قائلًا: "أنا لست راضيًا، لا أسامحك".

 

في أواسط شهر كانون الثاني، حصل أفراد الكتيبة على إجازة لمدة

 

52

 


42

الفصل الأوّل - البستان

أسبوع. ذهبنا إلى طهران ورجعنا. أدركت خلال هذا الأسبوع مدى حبي لأصدقائي في الفصيل الأوّل وتعلّقي بهم. أين العيش في المدينة من العيش في تلك الطبيعة الجميلة، حيث لا ساعة ذات عقارب، والعيش مع ساعة الشمس التي في ذروة سطوعها لا يفصلنا عنها سوى طبقة رقيقة من قماش الخيم والشوادر.

 

في منتصف الليل، سمعتُ أصواتًا من زاوية الخيمة. دققت جيدًا، وجدت ثلاثة أشخاص من بينهم سعيد بور كريم، يذكرون الله سبحانه وهم نيام، كانوا غارقين في النوم، لكن نداءات "يا علي" و"يا مهدي", و.. كانت تُسمع من شفاههم. هذا هو الفرق بين العيش في المدينة حيث تنقضي أيامها بمشاهدة الأفلام السينمائية والتلفاز، والعيش في الجبهة حيث توصل لياليها وأيامها بصلاة الليل وسورة الواقعة ودعاءي كميل والتوسل.

 

أواخر شهر كانون الثاني، ذهبنا إلى حقل الرماية لتصفير أسلحتنا[1]. في كرخة حقلان للرماية، كان الأوّل إلى جانب النهر تستخدمه أغلب الكتائب، فيقف الرماة على الطرف الأول من النهر ويطلقون رصاصهم إلى الطرف الآخر منه، وكان يبدو كلوحة عمودية تشبه لوحات الرماية. أما الحقل الثاني فكان خارج ساحة الكتيبة ويبعد مسافة كبيرة عن مقرّ الكتائب، وقد جرّب عناصر كتيبتنا حقلي الرماية كليهما.

 

في شهر كانون الثاني كنّا نذهب إلى حقل الرماية الأول، بينما تدرّبنا في شهر شباط في الحقل الثاني، وهو منطقة جميلة وجذابة تحتوي على أرض مستوية وتلّة يتوسطهما أخدود عميق. وقفنا فوق الأرض المستوية


 


[1] تصفير السلاح: مصطلح عسكري يتعلق بإعداد تنظيمات السلاح لتصبح أكثر دقة (الكلاش مثلا: ابرة شعيرة لوحة مسافات ..).(المحرر).

 

53


43

الفصل الأوّل - البستان

واستهدفنا التلة وأطلقنا الرصاص نحوها. طبعًا، قبل ذلك خلال المناورات الليلية عبرنا هذا الأخدود العميق عدة مرات وحينها كانوا يطلقون الرصاص فوق رؤوسنا كي نصبح جاهزين لأهوال ليلة العمليات وكوارثها. أطلق القناصة رصاصاتهم وأنا بدوري قبل أن أطلق قذيفة الآر بي جي أجبت عن تساؤلات مساعدي رماة الآر بي جي بالنحو التالي:

تتألف قذيفة الآر بي جي من قسمين: القذيفة وحشوتها، اللتين تتصلان ببعضهما البعض. بعد ذلك توضع القذيفة في داخل القاذف. وأثناء وضعها يجب الانتباه والتدقيق حتى يدخل مسمار القذيفة إلى داخل الفتحة المخصّصة له. أما في الليل، عندما لا يمكن رؤية المسمار علينا تحريك القذيفة يمينًا ويسارًا إلى أن يدخل في الفتحة. في هذه الحال تصبح القذيفة ثابتة ومستقرّة داخل القاذف ويكون الصاعق أمام الناقر. بعد ذلك، نضع القاذف على الكتف بشكل أفقي ونسدّد باتجاه الهدف. عليكم أن تنتبهوا إلى ما وراء ظهوركم، فالنار التي تخرج تحرق كل شيء حتى مسافة أربعة أمتار وتؤذي حتى مسافة عشرة أمتار.

 

بالتزامن مع كلامي هذا، لقّمت قاذفي، سدّدت، ملأت الفراغ من الزناد[1] بعد ذلك قلت مباشرةً: "النار الخلفية للقاذف خطرة.. انتبهوا جيّدًا. يجب على مساعدي رماة الآر بي جي الانتباه إلى الأمام وإلى خلف ظهورهم أيضًا. فالكثير من عناصرنا جرحوا بهذه النار الخلفيّة نفسها فاضطروا لمغادرة الخط الأمامي والتراجع إلى الخطوط الخلفية".

 

سدّد سعيد بور كريم بشكل دقيق ورمى بدقة متناهية، ولم يخطئ الإصابة إلا قليلًا. كذلك رمى إمام الصلاة في الفصيل الحاج علي رحيمي بسلاح الكلاشنكوف وكان رجلًا متقدّمًا بالسنّ.


 


[1] مصطلح يُقال عند وضع الإصبع أمام زناد الإطلاق وتثبيتها عليه، استعداداً لإطلاق النار.

 

54


44

الفصل الأوّل - البستان

كانت معنويات الجميع مرتفعة جدًا في حقل الرماية.

 

أخيرًا وصل الدور إلى صخب قسم "تعاون"[1] الكتيبة: تسليم الأغراض الشخصية وحقائب الشباب. كانت مشاهد مؤثرة، مشاهد تحضير الحقائب وكتابة الوصايا ووضعها بداخلها أو تسليمها لتعاون الكتيبة. وخاصّةً عندما كنت ترى شابًّا يافعًا اشتدّ عوده حديثًا يستقبل الموت بشهامة، وقد أمسك بيده قلمًا وورقة كأنه عالم حكيم يكتب أطروحته بعد عمر أمضاه بالجهد والبحث والتحقيق.

 

في ذلك العام، أحضر شباب الإعلام[2] في الفرقة دفاتر صغيرة لكتابة الوصايا، كانت تحوي عشر أوراق بحجم نصف ورقة الملف. كانت صفحات الدفتر زرقاء ذات لون جميل وقد رُسم في أسفلها طائر. كتب الكثيرون من أفراد الفصيل وصاياهم على هذه الدفاتر. أما غلاف الدفتر فكان مصنوعًا من النايلون ليبقى محميًّا وسالمًا.

 

رأيت أكبر مدني في ذلك اليوم غارقًا في تفكيره. بعد أن أنهى كتابة وصيته جلست إلى جانبه في زاوية الخيمة. ما إن رآني حتى قال: "لا أعلم كيف سيؤول حال والدتي عندما تقرأ وصيتي.. لا شكّ أنها ستبكي كثيرًا كما في المرة السابقة".

 

قلتُ ممازحًا: "وكم مرة استشهدت قبل ذلك؟".

 

قال بعد تريّث: "هذه هي الوصية الرابعة التي أكتبها. الأولى كتبتُها في المنزل، عندما أردت الالتحاق بالجبهة أول مرة ووضعتها في المطبخ تحت فرن الغاز. عندما أتذكر ذلك أبدأ بالضحك. فعندما عدت

 

 


[1] قسم مهمّته حفظ الأمانات وإعادتها عند الانتهاء من العملية.

[2] القسم المعني بإحياء المناسبات والشعائر وإقامة مجالس العزاء، وصلاة الجماعة والدعاء، وكتابة الشعارات وإعداد اللوحات الإعلامية واليافطات والكتب والدفاتر وسائر المهام ذات الطابع الإعلامي.

 

55


45

الفصل الأوّل - البستان

إلى المنزل في الإجازة، عانقتني والدتي بشدة وبكت. كانت قد وجدت وصيتي حين كانت تنظف أرض المطبخ وقرأتها".

 

قلت: "لم يحصل شيء.. هذه المرة أيضًا نذهب معًا إلى العمليات ثم نعود إلى البيت. بالطبع قبل أن نذهب إلى طهران، علينا أن نعرّج قليلًا على آراك لنقوم ببعض أعمال الزراعة معًا. ألستَ أنت من كان يريد أن يغرس شجيرات باسم أصدقائك الشهداء؟ لم يحن وقت الاستشهاد بعد، دع ذلك لوقت لاحق".

 

بعد أصغر أهري كان أحمد أحمدي زاده معاوني الثاني، فنان مبدع وصاحب ذوق رفيع. التقط لي صورتين: إحداهما باللباس العسكري والأخرى باللباس المدني. كانت هذه الصورة تجمعني ووالدتي وقد التقطناها أثناء زيارة الإمام الرضا  عليه السلام، وهي الصورة الوحيدة التي نجت وبقيت سليمة من فيلم مؤلف من ست وثلاثين صورة. أحد أجزاء هذه الصورة كان داكنًا فيما كان الجزء الآخر مضيئًا. قصّ الجزء الداكن منها بالمقصّ، وكان الجزء المتعلّق بوالدتي وأعاده إليّ. في اليوم الثامن من شهر بهمن (29 ك2) طلب منّي أن أكتب شيئًا على دفتر مذكّراته. وأشار عليّ بأن أكتب كلماتي في صفحتين، كان قد ألصق الصورتين عليهما.

 

برأيي، لم تكن الكتابة عملًا سهلًا. بالنسبة إليّ كان العمل في مدّ الأنابيب أسهل منها. في بداية الأمر لم أعرف ماذا أكتب، ولكن، فيما بعد، حُلّت المشكلة دفعةً واحدة. كنت قبل مدة قد قرأت مع الأستاذ أصغر أهري -فيلسوف الفصيل- كتابًا من تأليف الأستاذ مطهري بعنوان "الإنسان الكامل". فجأةً لمع في ذهني مطلب من ذلك الكتاب وبدأت بالكتابة:

 

56

 


46

الفصل الأوّل - البستان

"باسم خالق عالم الوجود

السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين

 

أليس من الواجب أن يكون فرحُ الإنسان وسعادته في العقيدة والطريق الذي يختاره؟ إذًا أي عقيدة نختار حتى نبقى دائمًا أكثر حيوية وتفاؤلًا وتكون صحة هذه العقيدة واضحة لدينا؟ هذه العقيدة هي الإسلام فقط. الإسلام دين كامل والإنسان الكامل ينمو في ربوع الإسلام.

 

لقد رُوِيَ هذا الدين القيّم بالدماء، والشهادة في هذه العقيدة انتصار. على هذا الأساس، يكون الإنسان منتصرًا عندما يجد نفسه معتمدًا على العقيدة عند الموت، لا أن يتصوّر الموت المرحلة الأخيرة، حتى إذا ما حضره يشعر أنّه قد وصل إلى طريق مسدود ويرى نفسه في معرض الفناء. الشهادة هي دفاع عن العقيدة وإيمان بالله. رصيدُ دين الإسلام هو عريضة وُقّعت بالدم وما زالت. وامتداد هذه العريضة يغطّي الكرة الأرضية، ودم الحسين  عليه السلام أفضل توقيع فيها. الإمام الحسين هو من أوضح معارف الإسلام وأكمل معالمه، وهو أجمل زهرة في بستان الشهداء. في الآخرة، يُحشر الإنسان مع من يحبّ. أولئك الذين يريدون أن يحشروا مع الإمام الحسين يجب أن يكونوا مثله، قد عرفوا العالم، أن يكونوا أحرارًا وأصحاب بصيرة ويؤمنون بالله سبحانه.

 

إذا كنتَ في الدنيا سالكًا طريق الحسين  عليه السلام ستكون يوم القيامة أيضًا خلفه، وكل من يريد أن يتعرف إلى عقيدتنا عليه أن يعرف عقيدة الإمام الحسين  عليه السلام فهي أساس عقيدتنا وهي من عند الله.

 

إلهي، اجعلنا من جنود ابن الإمام الحسين  عليه السلام.

كما قال الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف: (لئن جفّ دمعي) لأبكينّ عليك بدل الدمع دما.

 

                               والسلام.

                             محسن كودرزي 28/1/1986

 

57

 


47

الفصل الأوّل - البستان

عند الغروب، أعدْتُ دفتر أحمدي زاده إليه.

 

في الأيام الأخيرة لوجودنا في مخيم كرخة، كل شيء كان لافتًا. لعلّ أحدًا لن يصدق بأنّنا كنّا نستمتع بكل شيء بشكل من الأشكال، حتى بمشقّة ذهابنا إلى المرحاض، حيث كنّا نجد الأباريق إلى جانب الحمام وقد ملئت بالماء. في مواقع أخرى كان علينا التقاط إبريق فارغ من المرحاض وقطع مسافة خمسين إلى ستين مترًا لنصل إلى خزان المياه فنملأه ثم نعود إلى المرحاض، أما الآن فالحال قد تغيّرت. كان الشباب المخلصون يملأون الأباريق ليستخدمها الآخرون.

 

كان سعيد بور كريم يملك دفترًا مؤلفًا من أربعين ورقة يكتب فيه خواطره. ذات يوم، عندما قلّب أوراق دفتره أمامي لفت انتباهي وجود قصائد جميلة فيه. دوّنتُ إحدى هذه القصائد التي تقول:

اسمعي يا أمي

من خلف الدشمة

أكتب رسالة

بعين باكية

سلام على وجهك المشرق الجميل أوّلًا

وقسمًا بقلبك الطاهر ثانيًا

لا تقلقي عليّ يا أمي

إنّ صوتك يخفق في قلبي

في الليالي التي لا أنام فيها

أراك في منامي

من بين الحدائق الصخرية

أقطف لك وردة من رصاص

 

58


48

الفصل الأوّل - البستان

صار لأيام "كرخه" لون آخر، وأصبحت لياليها أكثر جاذبية. فقبل ساعة من أذان الصبح، حين يكون نوم الليل لذيذًا، كان عدد كبير من أفراد الفصيل يستيقظون، البعض منهم يصلّون صلاة الليل في حسينية الكتيبة حيث لا غطاء سوى السماء، ولا جدار يقيهم هواء الشتاء البارد، والبعض الآخر يذهبون إلى الأخاديد القريبة ليحظوا بخلوة عشق مع معشوقهم. القبور أيضًا لم تبق غريبة مهجورة، فكان لها مرتادوها، واحدٌ يذهب ليأتي آخر مكانه. كنا نشهد حالات تبدو الآن، حتى بالنسبة إلينا، أشبه بالأساطير!

 

استمرّ بعض شباب الفصيل مشغولين بدراستهم إلى اليوم الأخير، حيث سلّمنا التجهيزات والحقائب والأغراض الشخصية إلى تعاون الكتيبة، حتى إنّ شابًّا أو اثنين منهم حملوا معهم كتبًا دراسية ليستأنفوا درسهم في المخيّم اللاحق فيكونوا، بعد انتهاء العمليات، مستعدّين للامتحان. أحضر سعيد بور كريم أيضًا كتاب مادة الفيزياء ودفتر تمارينها معه ليعوّض ما فاته، فقد حصل على علامة متدنية ورسب في امتحان هذه المادة الذي قدّمه في كانون الأوّل.

 

من بين عناصر الفصيل كان أربعة أو خمسة شباب فقط يزيد عمرهم عن العشرين عامًا. وكنت أنا أحدهم، تاريخ ولادة محسن كلستاني العام 1961، أي كنتُ وإياه في السنّ نفسها وليس كما دُوّن في هويتي. كانت تربطني بمحسن علاقة ودية وحميمة. كان دائمًا يشير بيده إلى نفسه وإليّ ويقول: "إنّ الله يحب المحْسِنَيْن".

 

كان حسين كلستاني يتمتّع بالروحيّة نفسها التي يتمتّع بها أخوه. في الأيام الأخيرة عندما أُبلغنا بوجوب ترك المخيم، لم يعد حسين يتناول سوى القليل من الطعام. فكان يتناول لقمات معدودة، ومن ثم - ولذريعة ما - يتنحّى عن المائدة جانبًا. بسبب سلوكه هذا، سألته ذات

 

59


49

الفصل الأوّل - البستان

مرة ممازحًا:

- يا أخي، لماذا لا تتناول إلا القليل من الطعام؟ هذا العرفان وهذا الزهد سيفعلان بك فعلهما في آخر المطاف!

 

أجاب حسين بلهجة قاطعة:

- وهل الزهد في أن تنقص وجبتي عدة ملاعق؟! لا رغبة لي في الطعام.

 

أجبته ضاحكًا: وكم هي وجبة طعام الفرقة حتى تنقص منها عدة ملاعق؟ إن لم تأكل هذا المقدار الذي تمتنع عنه ستصاب بالوهن والضعف في ليلة العمليات.. وستقصّر في عملك.

 

بعد أيام، صرتُ للمرة الثانية في عداد عناصر الفريق الذي ذهب قبل الآخرين إلى المخيم التالي كي يُجهز خيم الكتيبة.

أقيم مخيم كارون في وسط بستان النخيل. بقينا هناك ما بين الأسبوع والعشرة أيام، كان الطقس فيها باردًا وماطرًا. في الأيام التي خيّم عليها الطقس الغائم والضبابي كنا في مأمن من خطر القصف الجوي. مَوّهنا[1] الخيم بالطريقة ذاتها التي موّهنا فيها خيم المعسكر السابق، استخدمنا في هذا المكان أوراق النخيل اليابسة التي كانت تنتشر بوفرة على أرض المخيم.

 

استمرت أعمال التدريب والتمرين في هذا المخيم أيضًا، فقد تدرّبنا على مواجهة الهجمات الكيميائية وقمنا بمناورة لاحتلال جسر.

 

تضرّر مقاتلونا كثيرًا من الهجمات الكيماوية العنيفة خلال عمليات بدر التي نُفّذت في شهر آذار من العام المنصرم.

 

لهذا السبب


 


[1] التمويه والاستتار: مصطلح عسكري، وهو من أعمال التكتيك في الحرب، بمعنى استخدام عناصر الطبيعة المحيطة لإخفاء الخيم والآليات عن أنظار العدو. (المحرر).

 

60


50

الفصل الأوّل - البستان

كانت القيادة تؤكد كثيرًا على تدريب الشباب على طرق مواجهة هذه الهجمات. ذات مرة، كنّا في مخيم كرخه وذهبنا إلى غرفة الغاز واضعين الأقنعة، وهي غرفة مقفلة لا تحوي نوافذ، تُرمى بداخلها عدة قنابل مسيّلة للدموع. خلال هذا التمرين سيشعر كل من لم يضع القناع بالنحو المطلوب على وجهه بحرقة في عينيه وصدره. كان تدريبًا جيدًا لمواجهة غازات قنابل العدو القاسية التي لا سبيل للمزاح معها، ولم تكن لتُرمى إلا من أجل القتل.

 

استؤنفت هذه الإجراءات بإصرار أكبر خلال التدريبات في مخيم كارون. فقد كان خطر الهجوم على المخيم داهمًا أيضًا. وكان لزامًا علينا جميعًا في أي مكان كنا، أثناء الوضوء والصلاة ليلًا ونهارًا أن يكون القناع إلى جانبنا. سمعتُ أنهم عاقبوا أحد الشباب من السرية الثانية بإنزاله في مياه نهر كارون الباردة لأنه لم يكن يحمل معه قناعه. وحتى لا يشعر قائد السرية بالخجل فقد نزل معه إلى الماء أيضًا. لقد كان هذا خطرًا يوجب على الجميع أن يأخذوه على محمل الجد.

 

في إحدى الليالي، ركضنا من مقرّ تجهيزات الفرقة إلى خيم كتيبة حمزة التي تبعد مسافة سبعة كيلومترات أو أكثر، ونحن نضع الأقنعة على وجوهنا ونحمل تجهيزاتنا الأخرى. في وسط الطريق، أصابتني حال اختناق، ولكني لم أنزع قناعي وأبقيته على حاله، فنحن سندخل بعد أيام ساحة مليئة بالأخطار وحينها قد تأخذ الأمور منحًى جديًّا. كنت أشعر وكأنّ عينيّ تخرجان من مكانهما، وحتمًا قد أُصيبتا بالاحمرار. كان المنفذ الوحيد للهواء النظيف إلى أفواهنا فتحة مصفاة القناع، الأمر الذي يُعدّ بحد ذاته نوعًا من القيود، قيودٌ كان علينا أن نتدرّب عليها ونتكيّف معها حتى لا تنقطع أنفاسنا أثناء الهجوم الحقيقي.

 

61


51

الفصل الأوّل - البستان

وُزّعت الذخائر في كارون، وذهبنا مرة أخرى إلى حقل الرماية. وبالرغم من أنّ هذه التدريبات كانت مكلفة إلا أنها ضرورية لتصفير السلاح. ومن حسنات ومزايا هذه التدريبات أيضًا أنّ آذاننا أصبحت تألف صوت الرماية المكثّفة وتتحضّر لها. كانت أصوات الانفجارات والرمايات المتنوّعة في ليلة الهجوم تؤثر على أعصاب المقاتل ونفسيته، فإذا كان قليل التحمّل سينهزم ويفقد معنوياته. هذه التدريبات كانت تؤمن الجهوزية والاستنفار للحضور في ساحات الخطر، خطر الموت والأسر وخطر الإصابة بالجراح و..

 

لعلّ حقل الرماية هو المكان الأفضل للقيام بالتدريبات العسكرية وتكرارها. هناك طلب مني سعيد بور كريم وأكبر مدني وعدد من مساعدي رماة الآر بي جي أن أتحدث إليهم. قلت: "أكثر الدبابات العراقية من نوع تي 55 وتي 62، تبلغ سماكة درع الدبابة من الأمام عشرين سنتيمترًا ومن الجوانب 16.5 سنتم. إذا تمّ استهداف دبابة العدو من الجانب أو من الخلف فإنها ستنفجر بشكل مؤكد. تبلغ سماكة درع برج الدبابة من الخلف 4.5 سنتم فقط. تحمل الدبابة 43 قذيفة من أنواع مختلفة، ضد الدروع وضد الأفراد وقذائف عادية. بعد كل عملية إطلاق تستغرق عملية التذخير دقيقة واحدة لتصبح الدبابة جاهزة لعملية إطلاق جديدة. خلال هذه الفترة يكون رامي الآر بي جي في مواجهة مع الرشاش والدوشكا الموجودين على الدبابة، وبذلك فإنه يستطيع الاقتراب منها إذ إن التراب والغبار المتصاعدين بعد عملية الإطلاق يشكّلان حائلًا يمنع رؤية راميَي الرشاش والدوشكا العراقيين له".

 

سأل بور كريم: "حتى الآن كم هو عدد القذائف التي أطلقها الأخ كودرزي؟".

 

62

 


52

الفصل الأوّل - البستان

أردت أن أتهرّب من الجواب بالمزاح، ولكنّ استماع الشباب لكلامي وإصغاءهم الجدّي دفعاني لأقول: "تسعون قذيفة أو ربما مئة. لقد أطلقت في عملية بدر ثلاثين قذيفة بشكل مؤكد".

 

سأل أحد الإخوة: "إذا أطلق رامي الآر بي جي عددًا كبيرًا من القذائف هل يخرج الدم من أذنيه؟".

 

- أجل، إذا أطلقت عشرين أو ثلاثين قذيفة بشكل متوالٍ يتمزّق غشاء أذنك، يجب أن يكون فمك مفتوحًا حتى ينخفض أثر الصدمة على أذنيك، كما تستطيع أن تضع قطنًا أو قطعة قماش أو أي شيء آخر داخل أذنيك للتقليل من أثر الموجة الانفجارية للقذيفة، ولكن عليك الانتباه بأن لا تغلق أذنيك بشكل كليّ لأنّك في هذه الحال سوف لن تسمع صوت قذيفة الهاون التي يطلقها العدو فتستشهد.

- هل تعطّل قاذفك إلى الآن؟

 

- في إحدى العمليات، أصبح القاذف ساخنًا إلى درجة ذابت الفرشاة البلاستيكية الخاصة بتنظيفه عندما وضعتها في داخله، ما اضطرني إلى وضعه جانبًا واستخدام قاذف آخر.

 

في كارون، ولمّا كانت ذخائرنا بحوزتنا وكنا نحملها معنا أراد محسن أن يكون الشباب حذرين ومتنبهين إلى ذخائرهم كي لا يقع حادث سيّئ، لذلك طلب من الرجل المسنّ في الفصيل الحاج علي رحيمي أن يرمي قنبلة بين رتل الشباب الجالسين. ما إن رأى الشباب القنبلة حتى تفرّق جمعهم وبدأوا بالزحف على أرض المخيّم الموحلة ولكن القنبلة لم تنفجر لأنه كان قد نزع الصاعق منها قبل رميها. بعد هذا التدريب، أدرك الجميع ضرورة الانتباه إلى ذخائرهم والمحافظة على أرواح الآخرين. قبل ذلك بمدة، عندما كنا في كرخة،

 

63

 


53

الفصل الأوّل - البستان

استشهد أحد الشباب أثناء مناورة الكتيبة، ولم يكن محسن يريد لهذه الفاجعة أن تتكرّر.

 

شاركت جميع السرايا والكتائب في مناورة السيطرة على الجسر. في هذه المناورة، هاجمنا من إحدى ضفاف كارون الساحل المقابل حيث مكان استقرار العدو الافتراضي، وسيطرنا على الجسر في ساحل العدو. في هذه المناورة التي أطلق عليها اسم "سربل خرگيري" غطّى الوحل معظم الشباب من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم.

 

كانت بعض التدريبات تُجرى على مستوى سرية أو فصيل أيضًا. ذات ليلة أصدر محسن كلستاني أمرًا بأن ننام حتى الصباح ونحن نضع الأقنعة على وجوهنا. هذا الإصرار أدّى إلى أن يصطحب الشباب أقنعتهم معهم أينما حلّوا، حتى أثناء ذهابهم إلى المرحاض.

 

في ظهر أحد الأيام، عندما كنا نقيم صلاة الجماعة خارج الخيمة في الفضاء الطلق، وصل إلى مسامعنا هدير المضادات الجوية، بعد ذلك بقليل رأينا المقاتلات العراقية فوق رؤوسنا، تَفَرَّقنا بناءً لأمر نائب قائد الكتيبة. فجأةً وخلال ثوانٍ قليلة، استطاع أربعمئة من الشباب أن يختبئوا في ثنايا وزوايا الباحة ويختار كل واحد منهم ملجأً لحفظ نفسه وروحه، كان حسين كلستاني أمامي، وقد انزلقت قدمه في حفرة وكادت أن تلتوي أو تنكسر.

 

قلت له: "لقد كنت محظوظًا! لو وقعت أرضًا وأصبت بكسر في قدمك لحرمت من المشاركة في العمليات ولأصبحت جليس الخيمة أو مستلقيًا على سرير المستوصف".

 

أمسك بيدي وقال: "عندئذ كنت سأمسك بك لنقع على الأرض معًا، فلا أملّ من الوحدة إذ سنكون معًا في المستوصف".

 

64

 


54

الفصل الأوّل - البستان

الله، فإنّ أمامكم حربًا صعبة وكبيرة. قال القادة: "يمكن للمرضى والضعفاء أن لا يلتحقوا بالعمليات".

 

أظنّه كان عصر اليوم التاسع من شهر شباط، عندما ركبنا في الشاحنات المغطّاة وغادرنا كارون خفية إلى مقصد مجهول. وسبب الانتقال بهذا النحو هو صرف نظر الطابور الخامس (عملاء العدو) عن إجراء انتقال القوات حتى لا ينكشف أمر العمليات. ولكي لا يشتمّ الطابور الخامس رائحة وجود المقاتلين داخل الشاحنات أُلصقتْ على جميع الآليات لافتات كُتب عليها: "هدية أهالي (المدينة الفلانية) إلى جبهات النور ضد الظلمة". لا أذكر ماذا كُتِب بالضبط: أهالي كرج أو كهكلوية وبوير أحمد. حان موعد الانطلاق، وحتى ذلك الحين لم تستطع حتى هوائيات التعبئة[1] اكتشاف المقصد الذي نذهب إليه. لم يكن أحد يعلم إلى أين نحن ذاهبون.

 

ومراعاةً للمسائل الأمنيّة، لم يكن يُسمح لأحد بأن يكشف ستائر الشاحنة ليلقي نظرة عابرة أو ينظر إلى الخارج. كذلك كان ممنوعًا ارتفاع الأصوات والضجيج. لذلك جلسنا على أرض الشاحنة كالأولاد المهذبين وبدأنا بتناول البرتقال، وعندما وصلنا إلى مقصدنا كنا قد أتينا على صندوق البرتقال بأكمله. طبعًا بدأ الشباب بالمزاح في وسط الطريق، لكن بهدوء وبصوت منخفض لم يعلُ فوق صوت هدير الشاحنة. وحيث كانوا قد وضعونا مكان البضائع المفترضة المهداة، بدأ أحدٌ يقول أنا كيس العدس، ومن كثرة ما أطعمونا الفاصولياء قال شخص آخر أنا أيضًا كيس الفاصولياء الحمراء، وبدأ آخر بالثغاء كالخروف، وآخر يُصدر نقيقًا كالدجاجة فقد كان من المعتاد أن يقدموا لنا الدجاج في


 


[1] وسيردُ في الفصول اللاحقة مصطلح إذاعة التعبئة، كناية عن تناقل للأخبار بين المقاتلين التعبويين خاصة، حماسةً منهم للمشاركة في العمليات. (المحرر).

 

66


55

الفصل الأوّل - البستان

ليلة الهجوم. في ذلك اليوم كتبتُ في دفتر مذكراتي:

"وصلنا إلى نهر بهمن شير في جنوب آبادان. ترجّلنا من الشاحنات وعبرنا الجسر فوق النهر في صف واحد. في الطرف الآخر من النهر، انحرفنا إلى جهة اليسار وتقدمنا بمحاذاة طريق بين أشجار النخيل. وصلنا إلى منازل قرية قد خلت من قاطنيها. دخل فصيلنا إلى أحد المنازل. نزعنا عنا تجهيزاتنا، أقمنا الصلاة وبتنا ليلتنا هناك".

 

كانت شاحنتنا قد وصلت إلى القرية قبل الشاحنات الأخرى بوقت ليس بالقليل. كنت وأصغر علي آبادي مسؤولَيْ حراسة منزل الفصيل في تلك الليلة. وَزّع قسم التجهيزات في الكتيبة الفاكهة المعلبة على الأفراد فحصل كلّ فرد على علبة منها بدلًا من طعام العشاء.

 

ما إن حلّ الصباح حتى علمنا أنّ الهجوم الكبير الموعود قد بدأ. وقد تأكّد هذا الخبر بتقديمهم لنا الدجاج على الغداء. كتبت في بقية مذكراتي عن ذلك اليوم: "تجهّزنا للانطلاق إلى الخط الأمامي. سرنا مشيًا على الجادة الرئيسة وركبنا الشاحنات. كانت العمليات قد بدأت في الليلة السابقة. في الطريق إلى الخط الأمامي كانت قذائف المدفعية وصواريخ الكاتيوشا تسقط إلى جانبَي الجادة فتهتزّ الشاحنة بشدة عند كل انفجار. لقد بدأت اللعبة من جديد، وأصبحت القلوب أكثر توجّهًا إلى الله. بدأ شخص يرفع الأذان. بينما كان الحاج رحيمي بدوره يقرأ آية الكرسي ويهمس بها في آذان الشباب ويدعو الله سبحانه فيمنح بذلك قلوب الجميع قوّةً وثباتًا. وصلنا إلى ضفة نهر أروند بحمد الله سالمين. زحفنا بين أشجار النخيل لنصل إلى الهنغارات[1] التي كانت قد استحدثت قبل ذلك. استقرت كل سرية في هنغارين".


 


[1] مستوعبات مستطيلة الشكل، مشابهة للعنابر المشيدة من ألواح المعدن، ومسقوفة بشكل يحميها من المطر والحر.(المحرر).

 

67


56

الفصل الأوّل - البستان

عند الغروب، أرادوا نقلنا إلى الطرف الآخر من نهر أروند، لكن لمّا كان عديد القوات الموجودة هناك كافيًا تريّثوا في ذلك إلى وقت لاحق. قضينا ليلتنا داخل الهنغارات.

 

بقي البعض جالسًا أو واقفًا ويأخذ غفوةً إلى جانب باب الهنغار، ليهنأ الآخرون ويرتاحوا بنومهم. كانت الحراسة في تلك الليلة تطوّعًا.

 

في الصباح، كان الجميع ينتظر الأوامر. البعض منهم كان يجول في الباحة ويقضي بعض الأمور الشخصية. عند الثامنة صباحًا، أُصيبت إحدى مقاتلات العدو بنيران الدفاع الجوّي بشكل مفاجئ فاحترقت وسقطت.

 

فرح الجميع وأطلقوا صيحات التكبير. كانت كاميرتي معطّلة. أدركتُ ذلك عندما أردت أن ألتقط صورًا للشباب في الشاحنة. ذهبتْ هذه الفرصة الجيدة للتصوير. وحتى لا أنشغل بالكاميرا المعطلة أودعتُها لدى الأخ أحمد مسؤول تسليح الكتيبة آنذاك. كتبت عنواني وألصقته على الكاميرا وقلت له إن حدث لي شيء أن يرسل الكاميرا إلى العنوان المدوّن عليها.

 

صنعتُ لنفسي قبعة من كيس الخيش. كانت هذه القبعة القماشية تُدفئ رأسي من جهة وتؤمّن لي الاستتار من جهة أخرى. في ذلك اليوم، أي في الحادي عشر من شباط، ركبنا الحافلة لننتقل إلى مَرْسَى*[1] الوحدة البحرية ونتوجه من هناك إلى أرض العراق.

 

كتبت في مذكراتي عن عبورنا لنهر أروند في ذلك اليوم: "وصلنا إلى ضفة نهر أروند، ركبنا الزورق وتوجهنا إلى الطرف الآخر من النهر. ابتعدنا عن شاطئ أروند الخطر وجلسنا في صف إلى جانب


 


[1] * رصيف على ضفة النهر ترسو فيه القوارب.(المحرر).

 

68


57

الفصل الأوّل - البستان

طريق معبّد في القسم الشرقي من مدينة الفاو. كان شباب الفصيل يمزحون ويقولون لنذهب إلى القهوة وإلى مطعم الكباب. في هذه الأجواء صدرت الأوامر بالتحرك. استعدّ الطابور وتحرّك. دخلنا إلى مبانٍ إسمنتيّة للاستراحة. وضعنا تجهيزاتنا على الأرض لنزيل التعب عن أنفسنا. وصل طعام العشاء أيضًا، همبرغر وكبيس الخيار. أقمنا الصلاة وانتظرنا".

 

نحن الذين شهدنا عمليات بدر نشعر اليوم بحلاوة النصر جيّدًا. ففي شتاء العام الفائت عبرت الدبابات العراقية فوق أجساد قواتنا واليوم، وفي ميناء الفاو، تمتلئ أرض العدو بجثث قتلاه.

 

قلت لمحسن كلستاني: "لا قدّر الله أن يكون علينا الذهاب إلى السينما أيضًا؟ قطعًا يوجد عدد من الصالات الجيدة في مدينة بهذا الحجم وهذا الجمال! كنا نفرّ من الأفلام الفارسية والآن نُبتلى بالأفلام العربية!".

 

قال محسن: "كلا، لقد أخطأت.. لقد جئتَ إلى هنا حتى تصبح ممثلًا. هذا الفيلم الذي نقوم بتمثيله يشاهده العالم بأسره، الجميع يترقّب كي يعرف من سيكون الفائز!".

- إذًا علينا أن نؤدي دورنا جيدًا.

- أجل، إن مثّلْتَ جيّدًا تصبح نجمًا وتذهب إلى السماء.

 

بعد عدة ليال، أدّى محسن المشهد الأخير في الحياة، أي الموت، أو قُل إنه اتخذ من الموت ألعوبة وغدا نجمًا في السماء.

كان الطقس في تلك الليلة باردًا جدًّا. لم يكن للمبنى الذي استقررنا فيه نوافذ وأبواب. وكان البرد القارس ينخر عظامنا. كنا سبعة أشخاص. وضعنا غطاءً على أرجلنا وجلسنا القرفصاء لنستريح.

 

69

 


58

الفصل الأوّل - البستان

كنّا نرتجف من شدة البرد وسُلب النوم من أعيننا. وعلى تلك الحال، بين النوم واليقظة تذكرتُ أيام طفولتي حين كنت أعيش في القرية وكان طقس الشتاء في آراك لا يُحتمل. كنت أغطّي صدري بلحاف الكرسي[1] وأمدّ رجلي حتى تصل إلى المنقل. أنظر إلى النافذة التي تعلو الباب وأرى من خلالها حبات الثلج الصغيرة منها والكبيرة تتساقط متراقصة فأغوص في بحر من الأفكار. إلى الأسفل من مقبرة القرية، كان هناك مكان مناسب للتزحلق. عندما يتوقف تساقط الثلج كنا نصنع خطوطًا وقنوات للانزلاق على الثلج لنلعب ونلعب حتى نتعب، ثم نذهب مرة أخرى إلى كرسي الجدة للتدفئة ولنتناول من زبيبها أشهى طعام عرفته أيام الطفولة.

 

بقيّة مذكراتي عن ذلك اليوم كانت بهذا النحو: "بعد أن انقضى الليل أكثر من نصفه، جاءنا الأمر بالتحرك وركبنا في الشاحنات العراقية التي غنمناها قبل ذلك. تقدمنا إلى مقربة من القاعدة الصاروخية العراقية. وقفنا في رتل واحد. كان الفصيل الأوّل يقف في مقدمة رتل الكتيبة. كنا جاهزين للاشتباك. ذهبنا إلى الجهة اليمنى من الجادة المعبّدة واختبأنا إلى جانب الساتر الترابي. جلستُ أنا وأصغر أهري القرفصاء في دشمة تشبه باب البئر[2] حتى الصباح".

 

كانت قطعة من الإسفنج موجودة على أرض الدشمة وقد امتصّت من داخلها الرطوبة الموجودة في التراب.

 

بعد حوالي ساعتين من الجلوس عليها تأثّرت أرجلنا بالرطوبة


 


[1] الكرسي (أو منضدة التدفئة): وسيلة مشهورة في القرى والأرياف الإيرانيّة. يوضع منقل كبير مليء بالجمر تحت طاولة، ويُفرش عليها لحاف كبير، يجلس أفراد العائلة حول الطاولة ويتغطّون باللحاف فيشعرون بدفء كبير.(المحرر).

[2] يُطلق عليها أيضًا: دشمة برميليّة.

 

70


59

الفصل الأوّل - البستان

الموجودة. وفي ذلك الطقس البارد لم تعد ركَبُنا تقوى على الحركة. لم يقتصر الأمر على الركب، بل يَبِسَت كل أطرافنا. أردت أن أخرج من الدشمة فلم أستطع. ساعدني أصغر أهري على ذلك. حتى خارج الدشمة لم تستوِ قدماي بشكل كامل. كانتا قد تنمّلتا وسرى الألم فيهما من أعلاهما إلى أسفلهما.

 

فجأةً، في ذلك الظلام ظهر أكبر مدني. ما إن وقع نظره على عدد من الأشخاص الذين توسّدوا جانب الطريق سألني: "من أي فرقة هؤلاء الشباب؟".

 

قلت بهدوء وارتياح: "هم من فرقة الشهداء".

 

عندما طلع النهار جاءني قائلًا: "أخ كودرزي، هؤلاء شهداء".

- قلت لك إنهم من فرقة الشهداء.

 

في تلك الليلة، كانت كتيبة حمزة قوة احتياط، ولحسن الحظ لم يتم استخدامها حتى طلوع الصباح. بعد انجلاء الظلمة، رأينا مكان تموضعنا وموقعنا بشكل أفضل. كانت الكتيبة قد تموضعت إلى جهة اليسار من جادة البصرة شمالي جادة أم القصر. لاحقًا أدركت أنّ ذلك المكان كان قاعدة الفاو الصاروخية المهجورة.

 

كانت المعركة الرئيسة قائمة في جادة البصرة، بعد أن حلّ الصباح، وبسبب قربنا من منطقة الاشتباكات تعرّضنا لنيران المدفعية والهاون وأُصيب عدد منّا بجراح.

 

لم يحن وقت الظهيرة من اليوم الثاني عشر من شهر شباط حتى جاءنا أمر من القيادة يقضي بتبديل الأماكن. كنّا نشاهد المعركة التي تجري في جادة البصرة بأعيننا وكانت تشبه الأفلام السينمائية. في أحد مشاهدها، رأينا القوات البعثية في حافلة كانت تقلّهم إلى

 

71

 


60

الفصل الأوّل - البستان

خطوطهم الأمامية، فاستهدفتها قواتنا بقاذف (آر بي جي) ما أدّى إلى احتراق ثلاثين عسكريًّا منهم كحدّ أدنى. لم تكد سيارة (جيب) القيادة العراقية ترى هذا المشهد حتى استدارت في مكانها ولاذت بالفرار. تخيّلت لبرهة أني أجلس في البيت تحت كرسي التدفئة أشاهد فيلمًا سينمائيًّا مشوّقًا مليئًا بالحركة عالي الجودة في التصوير. في ذلك الموقف جاءت آلة تصوير العم حسن لتضفي لذة على لذّتنا وتجعل من تلك المشاهد الممتعة أكثر جاذبيّة. قبل الظهر، لذنا بكتف جادة أم القصر حتى لا يُصاب أفراد الكتيبة بمكروه. كانت جادة أم القصر تبدو أكثر هدوءًا من جادة البصرة الاستراتيجية.

 

وعن هذا الانتقال كتبتُ في دفتر مذكراتي: "انجلت الظلمة وطلع النهار واشتدّت نيران العدو الذي كان يُمطرنا بالقذائف المدفعيّة وقذائف الهاون. أُصيب عدد من الأفراد بجراح. بقينا إلى جانب الطريق حتى قرابة الظهر، ولم يكن بالإمكان أن نمكث أكثر. تقدمنا حتى جادة أم القصر وتمترسنا في موضع يُسمّى "موضع عبد الله". كان علينا أن ننقل أكياس الرمل من الطرف الآخر من الجادة لبناء الدشم حيث كان الخطر داهمًا. لأنّ جادة أم القصر كانت أيضًا تحت مرمى نيران العدو. بنينا الدشم إلى جانب الجادة المعبّدة التي كانت تعجّ بالحركة ذهابًا وإيابًا.

 

بعد ظهر ذلك اليوم، جاء أحد الإخوة حاملًا معه سطلًا من الحليب وسألنا: "أيها الإخوة، هل تشربون الحليب؟".

 

لم نصدق ما نسمع ونرى، ولم نسأل عن مصدر الحليب، أخذنا منه السطل وشربنا، لقد كان لذيذًا جدًّا، أو لعلّه بدا كذلك.

 

بقينا من صباح ذلك اليوم حتى غروبه، في محيط القاعدة الصاروخية المهجورة. لاحقًا قمنا بجولة على أطراف الطريق لنجد

 

72


61

الفصل الأوّل - البستان

في دشم المؤن والتجهيزات العراقية الحليب المجفّف والبسكويت والشكولاتة فأغثنا بها بطوننا.

 

في ذلك اليوم، كان طعام الغداء والعشاء معلّبات الباذنجان المتبّل وسمك التونة بالإضافة إلى خبز اللواش (المرقوق) اليابس. كان كل واحد منا يحمل معه ملعقة صغيرة مثنية الطرف وكنّا نضعها في جيبنا كالقلم. عندما كنا في كرخه وزّع محسن كلستاني الملاعق، التي كان قد أحضرها أحد الإخوة معه من طهران، على جميع الأفراد. لم يكن ممكنًا ثني الملاعق الموجودة لدى قسم التجهيزات، كانت لتنكسر. في ذلك اليوم، أفادتنا الملاعق المثنيّة الطرف.

 

قبل الانطلاق، قاموا بتوزيع الذخائر علينا مجدّدًا.. مع أنّ أحدًا منّا حتى ذلك الحين لم يكن قد استخدم شيئًا من ذخائره. إلّا أنّ القادة كانوا يؤكدون على الأفراد أن يحملوا معهم ما استطاعوا من الذخائر وخصوصًا قذائف الآر بي جي.

 

كتبتُ في دفتري عن غروب اليوم الثاني عشر من شهر شباط: "كنّا نصلّي صلاة المغرب عندما جاء الأخ مجتهدي وقال: لتقف وُرُود الفصيل الأوّل. تجهّزنا بعتادنا وقمنا من مكاننا وانطلقنا. كان الجميع في حال من الذكر والدعاء، يناجون الله تعالى. قبل انطلاقنا بساعة، كان أخو علي قابل التوأم قد أُصيب بجراح. أراد علي أن يراه، لم يُسمح له بذلك. لم يكن لقاؤهما في هذه الدنيا متاحًا ولكن سرعان ما التقيا في العالم الآخر".

 

توقّف الطابور عند مثلّث مصنع الملح. اجتمع جميع القادة تحت جسر صغير. وجدت الفرصة سانحة فقلت لأصغر أهري: "سأنام قليلًا". قال: "لك ذلك".

 

73

 


62

الفصل الأوّل - البستان

منذ العام 83، حين أُصبت بتلك الشظية في رأسي، وأنا أشعر -من حين لآخر- بألم عجيب فيه، لم أجد له علاجًا سوى النوم.

 

لقد لطف الله تعالى بي، فكان الحلّ لذلك الألم الذي يأتيني من غير موعد أن أنام قليلًا بعد أن توقّف الطابور عن الحركة.

 

لم يكن البرد القارس والرطوبة ليمنحاني الراحة التي أحتاجها، وعلى الرغم من ذلك فقد زال الألم من رأسي. في تلك الدقائق المعدودة بين النوم واليقظة، تذكّرت أمورًا كثيرة: لحاف الكرسي في آراك، شاي وزبيب الجدة، تصاعد بخار الشاي في الهواء، والدفء اللذيذ والممتع حول كرسي التدفئة و..

 

لم تكن المسافة من مثلّث مصنع الملح حتى الجبهة الأمامية ونقطة انتشار السرية الأولى طويلة، كانت كيلومترًا واحدًا، أقل أو أكثر بقليل، قطعناها خلال نصف ساعة. خلال هذه الفترة الوجيزة استحضرت في ذهني توصيات قادتنا: "بعد أن تعبروا فوق الساتر الترابي وتتقدموا حوالي مئتي متر إلى الأمام، سترون عددًا من الدبابات المحترقة وعددًا آخر سالمًا.. انتبهوا، فلا تطلقوا النيران باتجاه المحترقة منها فتذهب الذخائر هدرًا. بعد انكسار خط العدو الدفاعي عليكم التقدم إلى الأمام مسافة خمسة كيلومترات حتى تصلوا إلى جسر هو الهدف من عمليات هذه الليلة".

 

كانت جبهتنا الأمامية حيث نقطة انتشار[1] القوات عبارة عن ساتر ترابي صغير وقليل الارتفاع متعامد مع طريق "أم القصر" المعبّد. كان الحاج أميني قائد الكتيبة هناك. كان عليه أن يبقى هو في تلك النقطة فيما تتقدّم السرية الأولى إلى الأمام لكسر خط العدو الدفاعي. وكان


 


[1] أي نقطة الافتراق وانتشار الرتل لأخذ مواقع قتاليّة وبدء الهجوم.

 

74


63

الفصل الأوّل - البستان

مسؤول السرية الأولى إلى جانبه دائمًا. في تلك الليلة الشتوية الباردة، كان خط الجبهة الأمامي غارقًا في السكون، وأي سكون! سكون ما قبل بدء الهجوم وإطلاق النيران. مسح الحاج أميني العرق عن جبينه بكوفيته، فهو لم يهدأ ولم يقرّ لحظة. لم يكن قائد الكتيبة وحده يترقّب البدء بالعمليات، سائر القادة في الفرقة كانوا كذلك. هل ينكسر الخط الدفاعي للعدو؟ هل سنصل إلى الجسر الكبير على جادة أم القصر؟

 

في تلك الأثناء، شُكّلت مجموعة "القوات الخاصة" أو ما يُسمّى بقوات التدخّل. تم اختيار أكثر أفراد هذه المجموعة من الفصيل الأوّل. كانت مهمة القوات الخاصة البدء بالهجوم وتوجيه الضربة الأولى للعدو. تمّ اختياري أنا وحسين كلستاني -وكلانا مسؤولا مجموعتي الفصيل الأول- كأعضاء في المجموعة الخاصة، وكان لكل رامي (آر بي جي) مساعد واحد فقط. كان مسؤول السرية نفسه مسؤولًا عن المجموعة الخاصة ويتحرك خلف عناصر استطلاع العمليات. بعد كسر الخط الدفاعي الأول للعدو، تقدّم بقية شباب الفصيل إلى ساحة المعركة. كان الجهد ينصب على التقليل من الخسائر قدر الإمكان. لذلك كان الثقل الاكبر على كاهل ستة إلى سبعة أشخاص، بذلوا جهودًا مضاعفة. كتبت في دفتر مذكراتي عن تلك اللحظات: "عندما أردنا الانتشار عند الساتر الترابي، رأيت شخصًا طويل القامة واقفًا إلى جانب طابورنا بأقدام راسخة في الأرض. قلت لأصغر: "هذا الأخ هو أسد الله بازوكي. إنه قائد جدير وشجاع وخبير. تقدمنا نحن إلى الأمام فيما بقوا هم في نقطة محدّدة, كنا جميعًا نتقدم زحفًا. زحفنا في المستنقع إلى الجهة اليسرى من الجادة فامتلأت أجسادنا بالطين الممزوج بالملح. في تلك الأثناء رأيت شخصًا يريد أن يتخطّاني، إنّه العم حسن. فسحتُ له الطريق فتقدّم إلى مقدمة الطابور. مضت

 

75

 


64

الفصل الأوّل - البستان

دقائق ثم طلبوا من عناصر التخريب أن يتقدّموا إلى الأمام. بالطبع، كل ذلك بالإشارة، فقد كان السكوت مخيّمًا على كل شيء".

 

كان خط الدفاع العراقي الأول قد أقيم عند فجوة[1] موجودة على الطريق المعبّد. ولعلّ عناصر التخريب هم الذين استحدثوا هذه الفجوة الليلة الماضية لكي لا تتمكّن الدبابات العراقية من التقدم على الجادة المعبّدة بسهولة. وبهذا الإجراء كانت الدبابة تقع في قعر الفجوة فيقوم شبابنا باستهدافها من خلف ساترنا الترابي. بجانب تلك الفجوة، كانت تُرى قطع كبيرة من الإسفلت وأكياس الخيش الممزّقة وألواح مكسورة، كأنّ دشمة تجمّع عراقية أو اثنتين كانتا قائمتين هناك وقد تهدّمتا. كنّا منبطحين أرضًا ننتظر الأمر ببدء الهجوم، فجأةً رأيت الألواح المنحنية والملتوية تهتزّ، أمعنت النظر جيدًا فوجدت سنجابًا يتحرّك هناك. عندما وقعت عيناي على هذا الحيوان، غرقت في بحر من الأفكار وقلت في نفسي ليس معلومًا إلام سيؤول مصيري ومصيره بعد ساعة من الآن. فهو غير مكترث لأنّه لا يعلم في قلب أي معركة يلعب، بينما أنا قد استحضرت حتى هذه اللحظة قصة ليلة الهجوم مرات عدة وما كنتُ أعلمه فقط أنّ أحدًا لا يمكنه التنبّؤ بشيء عن اللحظات القادمة. علينا أن نعير جماجمنا لله.

 

خيّم صمت عجيب على المكان والزمان، إنّه هدوء ما قبل العاصفة. كان يتناهى إلى مسامعي صوت عقارب ساعة العم حسن. هل حقًّا بعد دقائق أو لحظات معدودة، من المقرّر لهذه المنطقة التي يخيّم عليها الهدوء والسكون أن تتحوّل إلى جهنم من الدخان والرصاص والنار والدم الممزوج بالتراب؟ كتبتُ في دفتر مذكراتي ما يلي: "كان صوت تلقيم رشاشات الدوشكا العراقية يصل إلى مسامعنا،


 


[1] فجوة: حفرة واسعة أدنى من مستوى الأرض، تُبطئ حركة الدبابات أو تعيقها.

 

76


65

الفصل الأوّل - البستان

وكذلك الصوت الناجم عن نقل صناديق الذخائر. فجأة، يُكسر جدار الصمت ونعبر الساتر الترابي كالبرق ونهجم على العدو. كان تحرّكي من الجهة اليسرى للجادة، وكان المستنقع والأرض الموحلة إلى الجهة اليمنى منها، ها هو صوت العراقيّين يخترق مسامعنا، أصوات وهمهمات متداخلة تحكي عن خوفهم واضطرابهم. كان أصغر أهري خلفي كالعادة. كنت أحمل قاذف آر بي جي، ملقّمًا وجاهزًا للرماية. العم حسن يحدّق بدشمة دوشكا العدو ليجد المكان المناسب لضربته الناجعة. بعد دراسة وضعية دشمة الدوشكا وتقدير الموقف، توجهت للعم حسن بهدوء وقلت له ممازحًا: "رامي الدوشكا ينتظرنا".

 

ردّ العم حسن عليّ بنظرة وابتسامة. بعد لحظات تقدّم خطوتين إلى الأمام وبدأ الاشتباك: انفجرت القنابل وتحرّك الشباب من أماكنهم مطلقين صيحات التكبير المترافقة مع رمايات رصاص ورشاشات غزيرة.

 

إلى الجهة اليمنى من الجادة، وجدتُ مكانًا ملائمًا جدًّا للرماية. في حال انحناء، وضعتُ ركبتي على الأرض وسدّدت القذيفة الأولى باتجاه الدبابات الأمامية وأطلقتها. أصابت القذيفة الصاروخيّة جانب الدبابة. كان أصغر إلى جانبي، أخذت منه قذيفة أخرى ولقّمت قاذفي ثم تقدمت خطوات عدة إلى الأمام لكي أستهدف الدبابات الخلفية. ترافق تقدّمي إلى الأمام مع ابتعادي عن أصغر. كان هذا الحوار الأخير الذي دار بيننا:

سألني أصغر: "هل لديك قذائف".

- أجل.

 

كانت جعبتي لا تزال مليئة بالقذائف - طبعًا بقيت على حالها - ومرة أخرى جثوت على ركبتي وسدّدت على الدبابة الثانية أو الثالثة

 

77

 


66

الفصل الأوّل - البستان

الموجودة على الجادة لأرميها من الجانب الأيمن، لكنّي لم أطلق القذيفة، أُصبت بالجراح.

 

كتبت عن إصابتي في دفتر مذكراتي:

"جلست على ركبتي لأرمي قذيفة الآر بي جي. لم أكد أفرغ من التسديد حتى افترقنا أنا وسلاحي كلٌّ إلى جهة. وقعت أرضًا على وجهي. وكأنّ شيئًا كالخنجر أو السكين قد أصابني بضلعي ويدي اليمنى من الخلف. أردت النهوض من مكاني فلم أستطع. لقد سبّبت لي هاتان الضربتان الدوار. تذكرت جراحاتي السابقة، واستعدت وعيي سريعًا. بدايةً، فكرت ماذا سأصنع بجعبتي المليئة بالذخائر. كان عليّ نزعها عنّي حتى لا أُصاب بمكروه في حال انفجرت القذائف بداخلها. لم يكن عملًا سهلًا فلم يكن باستطاعتي الالتفات إلى الخلف. أصبت بصدمة، انقلبت على ظهري وأخرجت يدي السليمة من رباط جعبة الظهر. لم أعد أشعر بيدي اليمنى. سحبت جسمي على الأرض لكي أبتعد عن جعبة الظهر وأوصلت نفسي إلى الطريق. كانت الطريق أشبه بجحيم حقيقيّ. الرصاص الخطّاط يرتطم بالجادّة كحبّات البرد أثناء سقوطها، ثم يرجع بحركات ارتداديّة. ورشقات الرصاص من الدشم العراقية تشبه الشرارات المنبعثة من مشعل دوار. حوالي مئة متر إلى الأمام، كانت الاشتباكات تتواصل بعنف. خلال هذه الفترة سقط كثيرون إلى الأرض. لفّ الغموض المكان، فقد اختلط جرحانا وشهداؤنا مع القتلى العراقيّين. أصبحت أنفاسي تضعف أكثر فأكثر. لم أعرف ماذا أصنع في ذلك الصخب والضوضاء. فجأةً رآني العم حسن وقال لي: اذهب إلى أسفل الطريق فالمكان خطر هنا..".

 

أومأت برأسي موافقًا. لم أكن أقوى على الكلام لأنّ رئتي قد ثُقبت. ذهب العم حسن. كانت القوات تتقدم إلى الأمام من الجهة اليسرى

 

78

 


67

الفصل الأوّل - البستان

للطريق. ضغطت بيدي على جرح رئتي وناديت المسعف بصوت خافت..

 

كادت روحي أن تزهق بسبب هذه الكلمة. في تلك الأثناء تعرّف "علي شهبازي" إليّ. عندما رأيته أدركت أنّ فصائل "السريّة الأولى" الثلاثة قد انخرطت بالاشتباكات التي استمرّت لخمس دقائق، فعليّ هو مسعف الفصيل الثالث. قال: "أخ كودرزي، سأضمّد الآن جراحك، أين محل إصابتك؟".

 

أجبته بهدوء: "في أسفل كتفي من الخلف".

 

بدايةً فكّ أحزمة عتادي وحزام الوسط. شعرت بأنّي خفيف جدًّا، بعد ذلك مباشرة قصّ قميصي من الخلف بالمقصّ كي يجد جرحي. أغلق ثقب الجرح بدقّة وإحكام حتى لا يتعرّض للهواء. تحسّن تنفّسي بعد أن أغلق جرحي، ولفّ أطرافه بإحكام بالضمّاد الطبّي والشرائط اللاصقة. زال الثقل عن رأسي، كأنّ الدم قد وصل إلى دماغي. قال: "إنّ جرحك عميق، انتبه لنفسك. هل تعاني من إصابة أخرى؟".

 

- أجل، تعرضت لإصابة في أعلى كتفي أيضًا. لا أشعر بيدي هذه وكأنّها ليست لي..

 

ضمّد أعلى كتفي الأيمن أيضًا وربطه ومضى. شعرت بعد ذهابه أنّني أصبحت بحالٍ أفضل، لقد أعادني إلى الحياة بيده الحاذقة. في هذه الأثناء، رآني اثنان من "حاملي الجرحى" فتقدّما نحوي. نمت على وجهي على حمّالتهما. كان المشهد الأخير الذي علق في ذهني من تلك الليلة: "أنّ السماء تمطر رصاصًا أحمر فيما تنفجر قذائف الآر بي جي العراقية في محيطنا بالقرب منّا". كتبت هذه الجملة في صفحة من دفتر مذكراتي عن ذلك اليوم.

 

كان أحد ناقِلَيْ الجرحى رجلًا مسنًّا. أرادا أن ينقلاني إلى الخلف

 

79

 


68

الفصل الأوّل - البستان

عبر الطريق فقلت لهما: "لنمشِ أسفل الطريق، فالسير على الطريق محفوف بالمخاطر".

 

وافقاني الرأي ونزلا. بعد مئة متر إلى الأمام، وصلنا إلى إحدى غرف الحراسة. لم أكن قد رأيتها أثناء انطلاقنا إلى العمليات. وأبقياني على الحمّالة إلى جانب تلك الغرفة الصغيرة.

 

انتظرتُ وصول سيارة الإسعاف الصحّي للفرقة. في هذه الفترة، جاء إليّ أحد المقاتلين وألقى نظرة إلى جرحي. ولما كنت نائمًا على وجهي لم أُبدِ اهتمامًا بما يقوم به. لعلّه ظنّ نفسه طبيبًا جرّاحًا عندما مدّ يده إلى جرحي وفتحه ونظر إليه نظرةً عميقة وطويلة. استغرق عمله وقتًا ليس بالقليل، فبدأت أنزف من جديد لتسوء حالي مرة أخرى وأشعر بصعوبة في التنفّس. عندما رآني مجهول الهويّة ذاك كيف أتخبّط وأتمتم بكلمات لم يفهمها، كفّ يد فضوله عنّي، لكن بعد فوات الأوان، فلم يستطع أن يضمّد الجرح كما كان عليه سابقًا. وعدت أشعر بثقل في رأسي كأنّه أسطوانة من حديد. لم يكن الأوكسيجين يصل إلى خلايا دماغي. فبتُّ أشعر بالدوار والهذيان. على الرغم من حالي هذه، أدركت أنّ أشخاصًا رفعوا حمّالتي عن الأرض ووضعوني داخل سيارة الإسعاف. بالإضافة إليّ، كان هناك أبٌ وابنه قد ركبا في سيارة الإسعاف، كلاهما كان جريحًا. وكل واحد منهما قلق على الآخر. الوالد يردّد دائمًا على مسامع ابنه: جُعلت فداك، والولد يسأل عن حال أبيه.. ولا أذكر شيئًا غير ذلك.

 

عندما فتحت عينيّ وجدت نفسي ممدّدًا على سرير في عنبر[1] صغير على الساحل الغربي لنهر أروند، كنت لا أزال أشعر بالدوار


 


[1] يشبه الخيمة أو الكوخ، مسقوف بالألواح الخشبيّة أو المعدنيّة، كذلك جدرانه.

 

80


69

الفصل الأوّل - البستان

ولم أسترجع كامل وعيي. أذكر فقط أنّي قلت للطبيب: "أيها الطبيب، أرسلني إلى الخلف سريعًا.. رجاءً أرسلني سريعًا".

 

بدأوا بمداواة جرحي مرّة أخرى في عنبر استشفاء الفرقة. ولكنّهم هذه المرة أغلقوا فتحة الجرح بالقماش المعقّم بإحكام، واستخدموا لاصقًا وعصبةً ليغلقوا منافذ الهواء بالكامل.

 

هذا هو الشتاء الثالث الذي أُصاب فيه بالجراح، فأُراكم تجربة فوق تجربة. قلت في نفسي: "يا هذا! غيّر مهنتك من العمل في مدّ الأنابيب إلى الطب. آن الأوان - بعد أن أُصبت بالجراح ثلاث مرات - أن تكون لنفسك - وللآخرين بالطبع - طبيبًا متخصّصًا بجراحات اليد والرأس والأرجل، وقد أُضيف إليها الآن جرح الرئة.

 

كنت ملقًى على الحمّالة أنتظر القارب على رصيف المَرْسَى المزدحم. طال الأمر قليلًا ولم يصل الدور إليّ. قلت للربّان: "يا أخي، أنا أيضًا موجود هنا، ذهب الجميع وما زلت هنا!".

 

عندما رفع شخصان حمّالتي وأدخلاها إلى القارب بشكل مائل، ابتعد القارب عن الرصيف فأفلتت الحمّالة من يد أحدهما وسقطتُ على أرض القارب بشدة. مرة أخرى تحرك جرحي وخرج عن ثباته وبدأت أنفاسي تتقطّع وشعرت بضيق في صدري. كنت أعي حركة القارب، لكنّ أحوالي تبدّلت، فقد فعلت الضربة فعلتها.

 

عندما وصلنا إلى ساحلنا الشرقي وجدت أنّ الربان متريّث ويدور بالقارب في مكانه. علا صوت الجميع:

- يا أخانا، أنزلنا من القارب، ثم دُر بعد ذلك ما بدا لك.

- لكنّ الرصيف مزدحم.

 

قلت: إذًا اذهب إلى رصيف آخر.. أنزلنا حيث أمكنك ذلك.

 

81

 


70

الفصل الأوّل - البستان

إن استمررتَ على هذا المنوال تزهق أرواح الشباب، إنّ حال بعض المصابين حرجة.

 

سمع كلامي وقاد القارب نحو رصيف آخر. ابتعدنا قليلًا، وبمجرّد وصولنا إلى المَرْسى أنزلونا من القارب ومن ثم صعدنا عدة درجات لنصل إلى اليابسة وركبنا سيارة الإسعاف مباشرةً. ساءت حالي بعد أن وقعتُ على أرضيّة القارب، وساءت أكثر بسبب تحرّك سيارة الإسعاف. كان أسفل الحمّالة يصطدم بأرضيّة الإسعاف لتستقرّ الضربة في صدري. كاد أن يُغمى عليّ. كانت عضلات ظهري ورجلي تنقبض ثم ترتخي بشكل مستمر. اصطدمت رجلي مرات عدة بباب الإسعاف بشدة. أصبتُ بضيق في التنفّس حتى صرتُ كأنّي أتنفّس تحت الماء. شعرت أنّ أحدًا ما قد سلّط ضوء مصباح يدوي على عيني. أجل، كنت أفقد وعيي ثم أستفيق، وكان المسعف بدوره يسلّط نور المصباح اليدوي على عيني ليرى إن كنت ما زلت على قيد الحياة أم لا. عندما رآني أبتسم قال لسائق سيارة الإسعاف: "لا تتوقف.. تحرّك.. ما زال حيًّا". يظهر أنه كان قد طلب من السائق قبل ذلك أن يتوقّف لكي يسارع في نجدتي.

 

في مستشفى الزهراء  عليه السلام الميداني، تابعوا علاجي، كان مستشفًى مجهّزًا. في داخل الرواق، غُطّيت وجوه أجساد الشهداء بالقماش الأبيض. شعرت أنّ الدم ينساب قطرة قطرة من حمّالتي. كم كان الموت والحياة قريبًا أحدهما من الآخر في تلك اللحظات، ولكن من جهتي، لم أشعر بشيء خاص، كنت فقط أفكر برضى الله والإمام الحسين  عليه السلام: صحيح أنّنا لم نكن يوم عاشوراء حاضرين في كربلاء لننصر الإمام الحسين، ولكنّنا اليوم ننصر الإمام الخميني كي يبقى دين الله عزيزًا.

 

 

82

 


71

الفصل الأوّل - البستان

بعد أن أُدخلتُ الغرفة، وضعوا زجاجة فارغة من الهواء على أضلاعي، على موضع الثقب في رئتي ونظفوا جرحي. كما وضعوا قناع الأوكسيجين على فمي، لكن من دون جدوى، إذ لم يكن هناك حل لأنفاسي المتقطّعة. كنت أقول للممرّض والطبيب بشكل لا إرادي: "أشعر بألم شديد". كان عدة أشخاص يعملون على معالجة جراحات رئتي ويدي. توقعتُ أن أرتاح من الألم الشديد عندما حقنوني بإبرة موصولة إلى كيس من المصل. كان هناك أيضًا شباب من قسم التعاون الذين تسلّموا أغراضي الشخصية ونزعوا ساعتي من يدي وسجّلوا تفاصيل الحادثة. حينها، وقفوا لدقائق إلى جانب سريري ثم رحلوا.

 

لقد فعلت بي الحقنة فعلتها عندما استعدت وعيي علمت أنّني نمت لساعات. لم أكد أدرك ما يدور حولي حتى طلبت من الممرض ترابًا للتيمّم. سأل الممرّض: "ماذا تريد أن تصنع بتراب التيمّم؟".

- تكاد تفوتني صلاة الصبح.

 

ضحك وقال: "يا أخي، الساعة الآن الحادية عشرة صباحًا".

 

قضيت صلاة الصبح يوم 13/2/1986 عند الساعة الحادية عشرة صباحًا. لم يمضِ وقت طويل حتى نُقلتُ بالمروحية إلى مدينة الأهواز. بعد أن ارتفعت المروحية عن الأرض شعرت بضغط على قفصي الصدري وغبت عن الوعي. حصل الشيء ذاته أيضًا أثناء هبوط المروحية في مدينة الأهواز، لم نمكث طويلًا هناك فقد ركبنا طائرة متوجّهة إلى مدينة مشهد في غروب ذلك اليوم أي في الثالث عشر من شهر شباط. ليلًا أدخلوني إلى مستشفى القائم في المدينة.

 

في الرابع عشر من شهر شباط، وضعوني في إحدى غرف المستشفى، تحتوي سريرين أحدهما ما يزال خاليًا، الأمر الذي لم يدم طويلًا

 

83

 


72

الفصل الأوّل - البستان

أخيرًا، وصلت إلى طهران في الأسبوع الأخير من شهر شباط. رأيت حسين دستواره، كانت ذكرى تقطيب جرحي لا تزال عالقةً في ذهنه. قال: "يا أخ كودرزي، في كل مرة أتذكّر فيها تلك الحادثة أشعر وكأنّ الألم يلفّ جميع أنحاء بدني.. كيف استطعتَ تحمّل ذلك الألم؟".

 

كانت الأخبار الأخرى أيضًا تصلنا تباعًا: لقد دُفن سعيد بوركريم مؤخّرًا. كان والده يتمنى أن يحمل بيده مشطًا ومقصًّا ليزيّن شعر ابنه في يوم عرسه، ولكن هيهات. قيل إنّ يوم استرجاع الجثمان كان في السادس عشر من شهر شباط، ما يعني أنّ جثمانه بقي لأيام بين جثث العراقيين. كان جثمان "أكبر مدني" كجثمان بوركريم تماماً، فقد أُصيب كلاهما برصاص وشظايا من جهة الفخذ. لقد استشهد رامي الآر بي جي ومساعده كلاهما بالطريقة ذاتها، ولا عجب في ذلك. قبل العمليات كنتُ قد اتفقت مع أكبر أن نقوم بزيارة خاطفة إلى آراك عند أول فرصة متاحة. أردت أن أذهب إلى "تشهل رز" فيما أراد هو أن يكون له بستان تحمل كل شجرة فيه اسم أحد الشهداء.

 

لم تتوقف الأخبار عند هذا الحد، فقد نال شرف الشهادة كلٌّ من: مسؤول الفصيل الأوّل المخلص محسن كلستاني وإمام الصلاة في الفصيل الحاج علي رحيمي والأخوين التوأمين علي وعبد الله قابل. كذلك نال وسام الشهادة العم حسن مسؤول السرية الأولى. كذلك وصلنا في العشرين من شهر آذار خبر مفاده أنّ الجريح أسد الله بازوكي - قائد كتيبة حمزة السابق - قد نال شرف الشهادة أيضًا.

 

كتبتُ القسم الأخير من ذكريات عمليات "والفجر8" في يوم كنت فيه عازمًا على الذهاب مرة أخرى إلى الجبهة. السطر الأخير من ذكريات الفاو في دفتري الصغير جاء كما يلي: "كانت أوراق مؤسسة الشهيد والرعاية الصحية للمنطقة الأولى "ثار الله" معي. ها أنا أعود

 

85

 


73

الفصل الأوّل - البستان

إلى الجبهة من جديد. قطار طهران - الجنوب، الساعة 7.5، الصالة رقم 1، الكرسي رقم 484 بتاريخ 3/5/1986 محطة آراك".

 

مرة أخرى انضممتُ إلى الفصيل الأوّل في شهر نيسان من العام 1986. تلقيت من قائد كتيبة حمزة درعًا تقديريّة بسبب مشاركتي في عمليات "والفجر 8" وأصبحت مسؤول الفصيل لمدة شهرين تقريبًا. كان مسؤول الفصيل قد استشهد وأُصيب نائبه إصابة أدّت إلى بتر قدمه. لهذا، قبلت بمسؤولية الفصيل بشكل مؤقت. من بين العناصر القدامى كان أصغر أهري، أحمد أحمدي زاده، سيروس مهدي بور، ورضا أنصاري ما زالوا موجودين في الفصيل.

 

لقد راكم رضا أنصاري تجربة بعد تجربة في خوض غمار العمليات، ولكنه مرة أخرى عمل ناقلًا للجرحى في الفصيل الأوّل. فهو لم يكن يرغب بحمل السلاح وآثر حمل النقالة. كان قد أُصيب في العام 1986 في منطقة عمليات مهران برصاصة في رأسه عند الغروب، وكان بقاؤه على قيد الحياة أشبه بالمعجزة. كان الدم يتدفّق من الثقب الصغير في رأسه، فيما المسعف مشغول بتضميد جرحه وقد أحضرتُ الحمّالة. كان بدنه يرتجف كارتجاف العصفور تحت المطر في وقت كانت درجة الحرارة في مدينة مهران في ذلك الصيف الحار تزيد على أربعين ونيّف. توقّفت يده عن العمل إثر تلك الإصابة، ولم يمنعه ذلك من العودة إلى الجبهة مرة أخرى في العام نفسه. حقًّا كانت الحرب شيئًا عجيبًا، حيث ترى شابًّا يافعًا هادئ الطباع مثخنًا بالجراح والآلام يعود من جديد إلى ساحة القتال تطوّعًا ولا يأبى أن يفدي دينه ووطنه بروحه العزيزة. كم أضحى الموت لعبةً سهلةً وبسيطة بين أيدي أولئك الشباب. إنّ تذكّر تلك الذكريات في هذا الزمن يوقد في القلب شوقًا ممزوجًا بالأسى.

 

لقد بقي لي من محسن كلستاني عدة تذكارات: سجادة صلاة ممسوحة بضريح الإمام الثامن عليه السلام، ومنديل جيب بخلفيّة زرقاء مُزيَّن بورود تشبه أغصان الأرز المتدلّية وسُبحة صُنعت حباتها من الخشب المعطّر.

 

في تلك الأيام، كان كل همّي وسعيي أن ألتحق بالجبهة، لأقتل أو أُقتل. أما اليوم فإنّ جهدي ينصبّ على عمارة الأرض والطبيعة لأحافظ عليها خضراء نَضِرة. لقد تناثرت ورود الفصيل الأوّل قبل أن تتفتّح، فيما ستبقى هذه الأرض بأشجارها وجبالها وأوديتها وترابها وسمائها الجميلة خالدةً أبد الدهر.

 

في هذه الأيام، أملك بستانًا في مسقط رأسي وقريتي الجميلة سربند في مدينة آراك، بستان كأنه من نسج الخيال والأحلام، تحمل كل شجرة فيه ذكرى واسم شهيد معروف: أكبر مدني، سعيد بور كريم، محسن كلستاني، السيد حسن رضي و..

 

86

 


74

وثائق الفصل الأول

وثائق الفصل الأول

 

الرقم

الاسم والشهرة

الوثائق المكتوبة

الصور

الوثائق غير المكتوبة

1

محسن كودرزي

383

13

مقابلة لمدة 275 دقيقة

2

الشهيد سعيد بور كريم

43

15

مقابلة لمدة 85 دقيقة مع العائلة

3

الشهيد أكبر مدني

48

13

مقابلة لمدة 95 دقيقة مع العائلة

 

من مجموع وثائق هذا الفصل أُدرج في هذا القسم تسع وعشرون ورقة من الوثائق المكتوبة وتسع صور.

 

محسن كودرزي

المعلومات الشخصيّة

- حائز درجة دبلوم في الرياضيات والفيزياء (الشهادة الثانوية)، متأهل، له ولدان، موظف في وزارة الدفاع.

 

- تاريخ ومحل الولادة: العام 1964 في مدينة آراك.

 

- مدة المشاركة في الجبهة ونوعها: أربعون شهرًا خدمة تعبوية (تشكيل التعبئة).

 

- العمليات التي شارك فيها والتصنيف العسكري: عملية "والفجر التمهيدية" (مساعد رامي آر بي جي)، عملية "والفجر1" (رامي آر بي

 

 

87

 


75

وثائق الفصل الأول

جي)، عملية "والفجر 4" (رامي آر بي جي)، عملية "والفجر 8" (رامي آر بي جي)، عملية "كربلاء1" معاون الفصيل، عملية "بيت المقدس 2" (عنصر قناص)، عملية "بيت المقدس 4" (الوحدة البحرية).

 

- سجل الجراحات: قطع إصبعين من اليد اليمنى وإصابة في اليد اليسرى (عام 1983)، إصابة في أعلى الفخذين (عام 1983)، جرح بليغ في الصدر (ثقب) وإصابة في الكتف الأيمن (عام 1986)، إصابة في الرجل اليسرى (عام 1988).

 

- النسبة المئوية للإعاقة: خمسون%

 

88

 

 


76

وثائق الفصل الأول

2-6 مقابلة مع والدة الشهيد سعيد بور كريم

كان سعيد مولودنا الأوّل، وقد أسميناه "سعيد" لأنّه وُلد في أجواء عيد النوروز (رأس السنة الهجريّة الشمسيّة). كان بشوش الوجه وكأنّ البسمة تعلو شفتيه باستمرار حتى في منامه. وكما يقول القدماء، الأطفال يلعبون مع الملائكة خلال نومهم.

 

لسعيد أخَوان وأخت أصغر منه. كان أبوه يعمل في الحلاقة. وحيث إنّ سعيد قليلُ الشعر في مقدمة رأسه كان والده يحلق شعر رأسه بشكل دائري ليصبح أشبه بمظلّة تغطّي رأسه الأمر الذي كان يعجبني. كبر سعيد في ظروف صعبة. كان والده يشارك في النضال ضدّ النظام الملكي البهلوي. واعتقل على يد لجنة مكافحة المخرّبين وزُجّ به في السجن لمدة. كان سعيد يحب ركوب الدراجة الهوائية فاشترى له والده دراجة مرتين. مع أنّه كان كثير اللعب إلا أنّه كان يبدي اهتمامًا بدروسه وفروضه، لذا لم أكن أشعر بالقلق من هذه الجهة.

 

عندما انتصرت الثورة ظننت أنّي سأنعم بعيشٍ هادئ. ولكنّ والد سعيد التحق بالجبهة بعد بدء الحرب. كان سعيد آنذاك في السادسة عشرة من عمره، وسرعان ما تأثر بسلوك والده. كان سعيد شجاعًا وجريئًا بشكل لافت. فقد غيّر تاريخ ولادته من العام 1969 إلى 1967م على صورة بطاقة هويته وسجّل اسمه في مقرّ التعبئة بعد أن زوّر رسالة موافقة الأهل. خضع لدورة تدريب عسكري في طهران، وكان يأتي إلى المنزل في كل يوم جمعة. في نهاية المطاف تمكّن من الحصول على موافقتي وموافقة والده للمشاركة في الجبهة.

 

كان خال سعيد حاضرًا في الجبهة أيضًا. فكنت مرتاحة البال من

 

 

96


77

وثائق الفصل الأول

هذه الجهة، فخاله ووالده كلاهما سينتبهان له. خدم سعيد في منطقة كردستان مدة ستة أشهر.

 

كان من عادة العائلة الذهاب كل عام إلى "بابلسر" حيث يملك جدّ سعيد بستانًا كبيرًا. كان سعيد سبّاحًا وربّانًا ماهرًا، يسبح في الماء كالسمكة. في مازندران، كنّا نعدّ سمكًا محشوًّا بخضار بلديّة تشبه النعناع. في كل مرة يكون الطعام فيها سمكًا يبدأ بالتقاط نثرات منه*[1] ولا يتوقف فأُصاب باليأس منه. كان يقول: "ماذا أفعل؟ أنا أعشق السمك".

 

ذات مرة قلت لسعيد ووالده: إذا أردتما الالتحاق بالجبهة فليبقَ أحدكما في المنزل، لا تذهبا معًا. هكذا كانا يتسابقان للمشاركة في الجبهة ويتناقشان حول هذا الموضوع. في كل مرة كنت أسأل فيها سعيد: "ماذا تصنع في الجبهة؟"، كان يجيبني بين الضحك والجدّ: "أقوم بالسقاية يا أمي".

 

في إجازته الأخيرة، ذهب ثلاثة أيام لزيارة الإمام الرضا  عليه السلام. وعند عودته من مدينة مشهد، أحضر الهدايا لنا جميعًا. عندما استلمت هديّتي قبّلت وجهه. نظر في عينيّ وقال: "أنت أفضل أم على وجه المعمورة. سامحيني يا أمي العزيزة". قلت له: "يا عزيزي، أنا أسامحك؟! حتى الآن لم أصنع شيئًا من أجلك، لقد قلّت مشاغلنا هذه الأيام، وأريد الاهتمام بك أكثر".

 

قال: "كل ما لديّ هو ببركة جهودكم، كبرتُ وتعلّمت والآن أذهب إلى الحرب..". شعرت بالغصّة وقلت: "ولدي العزيز، لا يصيبنّك أي


 


[1] * عند إعداده وسكبه في الصحون.

 

97


78

وثائق الفصل الأول

مكروه، سأموت إن حدث لك شيء".

 

قال: إنّ الله تعالى يصبّر المجاهدين وعوائل الشهداء، الأمهات دائمًا يقلن هذا.

 

كانت عمليات الفاو قد بدأت عندما رأيت ذات ليلة في عالم الرؤيا كلبًا مفترسًا كبيرًا يلحق بسعيد ويعضّ رجله. نهضت من نومي وأنا أصرخ من الهلع. بعد أسبوع من هذه الرؤيا أتانا خبر استشهاد سعيد. عندما أحضروا جسده وجدتهم قد ربطوا فخذه بالكوفية. كان قد استشهد من شدة النزف.

 

في مراسم دفنه، نظرت عدة مرات إلى وجه سعيد، كانت البسمة تعلو شفتيه كالطفل الذي يلاعب الملائكة في منامه. مسحتُ بيدي على شعره، على رأسه ووجهه. كنت أتمنّى أن أراه مرتديًا بدلة عرسه، لكنّه اختار الذهاب إلى الجبهة ليفارقنا في آخر المطاف بثوب مخضّب بالدم والتراب.

 

عندما سألت عن كيفيّة استشهاده قال لي زملاؤه كان سعيد رامي آر بي جي.

 

أدركت أخيرًا أيّ عمل صعب كان على عاتق سعيد في الجبهة.

 

استشهد سعيد ورفيقه أكبر مدني جنبًا إلى جنب. كان مدني مساعدًا له. أُصيب كلاهما برصاص العدو بالخاصرة والرجل لتشبّ النار في حقيبة ذخائر أكبر ويستشهد على الفور، بعد ذلك بقليل استشهد سعيد من شدة النزف.

 

بعد شهادة سعيد تعرّفت أكثر إلى عائلة الشهيد مدني، فقد دُفن شهيدانا في الصفّ ذاته في قطعة واحدة، الواحد إلى جانب الآخر.

 

 

98


79

وثائق الفصل الأول

3-5 مقابلة مع والدة الشهيد أكبر مدني

وُلد ابني الرابع في قرية "تشهل رز" التابعة لمدينة محلات. أسميناه "أكبر". عندما قصدنا مدينة طهران للإقامة هناك لم يكن قد مضى عام على ولادته. استأجرنا منزلًا، ومنذ ذلك الحين نسكن في مدينة طهران. في القرية، كان والد أكبر يعمل في الزراعة والبستنة. أمّا في طهران فقد فتح دكانًا لبيع المواد الغذائيّة، وشيئًا فشيئًا تحسّنت معيشتنا، لكن "أكبر" بقي دائمًا محبًّا للعمل في البستنة ويترقّب ذهابنا إلى القرية في كل سنة. في المدرسة، لم يكن أكبر محل ثقة الأساتذة فحسب، بل كان كذلك بالنسبة إلى مدير المدرسة أيضًا، لذلك غدا مسؤولًا عن بيع أصناف المتجر في المدرسة. كان أكبر يحب التخطيط. وعلى الرغم من أنه لم يكن لديه معلّم خاص كان فنّانَ خطّ بإمكانه أن يخطّط بالخط العريض بشكل جيّد. بالنسبة إلى الثياب، كان لباسه عاديًّا، وكان يفضّل الأحذية والثياب البسيطة على الأجناس الثمينة والفاخرة. كان طعامه المفضّل الجبن والخبز البلدي والقروي، يتناولهما بشهيّة. في إحدى السنوات ابتعتُ له كتبًا جديدة في بداية العام الدراسي، وبعد مضيّ عدة أشهر وجدت أنّ كتبه كلّها صارت قديمة. ما القصة؟ كان أكبر قد أهدى كتبه إلى أحد التلامذة فاضطر إلى تأمين كتب مستعملة ليدرس فيها.

 

في بداية السنة الثانوية الثانية، أراد الالتحاق بالجبهة. لم يكن عمره يزيد عن ستة عشر عامًا. رفضت أنا وأبوه هذا الأمر. زوّر نسخة عن بطاقة هويّته الشخصيّة ما أتاح له تسجيل اسمه في مقرّ التعبئة. ولكنّه اعتذر منّي ومن والده قبل التحاقه بجبهة كردستان عن هذه الفعلة التي قام بها، ثم ذهب بعد ذلك.

 

 

105

 


80

وثائق الفصل الأول

في الشتاء، كانت خدمته في جبال كردستان الباردة. مضت فترة لم يتّصل بنا هاتفيًّا ولم يرسل لنا أيّ رسالة. نفد صبرنا في آخر المطاف، فذهب والده إلى كردستان ليطمئن إليه، وأرسلتُ له مع والده حذاءً كتّانيًّا ليؤمّن الراحة له في الجبهة. عندما عاد من كردستان كان جسمه مثخنًا بالجراح ومليئًا بالبثور، كان يعاني من تقرّحات جلديّة دائمة. فبسبب البرد القارس كان المقاتلون يمضون معظم أوقاتهم داخل الدشمة حيث لا مراعاة لأمورهم الصحيّة.

 

لم ينتعل أكبر الحذاء الكتّاني الذي اشتريته له، وأحضره معه إلى المنزل وقال: "أمي، أوصلي هذا إلى مركز إمداد الجبهة، فالمقاتلون الآخرون أكثر حاجة منّي إلى هذا الحذاء. عندما حصل على راتبه الأوّل من التعبئة، أعطى جزءًا منه للفقراء واشترى بما تبقّى هديّة لأخته الصغيرة. لقد غيّرت الجبهة خُلُقَ ابني وسلوكه بالكامل. كان يقرأ القرآن والدعاء كلما سنحت له فرصة. في منتصف إحدى الليالي سمعت صوت بكاء يأتي من غرفة أكبر. قلقتُ ودخلت إلى غرفته بشكل مفاجئ، أضأت المصباح لأجد أكبر قد جلس في إحدى زوايا الغرفة يصلّي صلاة الليل ويبكي. كان وجهه رطبًا، احتضنته ووضعت وجهه على وجهي وقلت: "لمَ تبكي يا ولدي؟ ادّخِر دموعك هذه لتذرفها على قبري".

 

- أطال الله عمرك يا أماه.. ما هذا الكلام!

 

قبّلت وجهه وجبهته مرة أخرى. بالنهاية ماذا تستطيع الأم أن تقول؟ كنت أفتخر بأكبر. حتى إنّي قبّلت يده وقلت: "أنت مجاهد يا ولدي".

 

قبّل جبهتي وقال: "أمي الحبيبة، كل ما أنا عليه هو من لطفك وببركة دعائك لي".

 

106

 


81

وثائق الفصل الأول

في خريف العام 1985 وشتاء 1986 كان أكبر موجودًا في الجبهة. في إحدى إجازاته التي أتى بها إلى المنزل كان قد خضّب يديه ورجليه بالحنّاء. قلت له: "ما الذي يجري في الجبهة يا ولدي؟".

- نخضّب أنفسنا استعدادًا لليلة الهجوم.

- سأصنع لك الحنّاء بنفسي ليلة عرسك.

 

ثم أشرتُ إلى السجادة الملفوفة في زاوية الغرفة وقلت: "اذهب وارجع سالمًا إن شاء الله.. لقد خصّصت هذه السجادة لبيتك".

 

احمرّت وجنتا أكبر وأطرق برأسه إلى الأرض. لم أكن لأشبع من رؤيته. فقد قصّ شعره مؤخّرًا وخضّب نفسه بالحنّاء.

 

حقًّا كان يبدو كعريس. كان شباب القرية في عمر أكبر ينتقلون إلى بيت الزوجية.

 

أعطاني مالًا لأشتري له قطعة من القماش وقال: "سأعود بعد مضيّ أربعين يومًا".

 

في اليوم الأخير من إجازته، قدّمت له الجبن والزبدة والخبز البلدي. أكل بشهية وقال: "في هذه الأيام عديد القوات في الجبهة كبير. فهم كما يقول الشباب لا يأنفون أكل الخبز اليابس والمتعفّن، يأتون بالجبن من المصانع ولا مذاق له. فضلًا عن أنّهم لا يقدمون لنا إلا اليسير من الطعام".

 

عند خروجه جعلت القرآن فوق رأسه فمرّ من تحته ولكنّه لم يسمح لي أن أصبّ الماء خلفه. وقال: "أمي، سأعود بعد أربعين يومًا".

 

أثناء الوداع، رجع مرات عدة ورمقني بنظراته. كانت تلك المرة الأخيرة التي رأيته فيها. في اليوم التالي لذهابه بدأت أعدّ الأيام حتى يرجع ولدي من الجبهة.

 

107

 


82

وثائق الفصل الأول

ذات يوم، بثّت الإذاعة موسيقى العمليات العسكريّة. لقد تحرّرت الفاو. كانت أخته الصغيرة قد رأت في عالم الرؤيا أنّ أخاها قد استشهد، وقد حصل ذلك قبل أن يصلنا خبر استشهاده. أقلقتني رؤيا الطفلة ذات الخمس سنوات وأصبحتُ أعدّ الأيام بصعوبة إلى أن أتانا خبر استشهاده في اليوم السادس أو السابع والأربعين.

 

كانت ثيابه محترقة وكذلك بدنه. كأنّ نارًا شبّت فيه من ظهره إلى أسفل قدميه. كما إنّ جزءًا من لحم فخذه لم يكن موجودًا، أما وجهه فكان سالمًا. احتضنته وتذكرت صلواته في الليل. قلت له: "ألم تعدني بأنّك ستعود بعد أربعين يومًا؟ يا ولدي، يا أكبري..".

 

لقد أرّقني بُعد ولدي وغيابه عنّي. كان العام 1364ش. يشارف على نهايته (آذار 1986)، نفد صبري ولم يعد يهدأ لي روع. وكنت كلّما يمضي يوم أزداد شوقًا إليه. رأيت أكبر ذات ليلة في عالم الرؤيا: ذهبت برفقته إلى بستان كبير، البستان الذي لطالما تمنّاه، فيه أشجار كبيرة مليئة بالثمار، وعينٌ ماؤها عذب زلال. جلسنا في غرفة وسط البستان قد فُرشت أرضها بسجّادة كبيرة واسعة، هي ذاتها تلك السجادة المحبوكة يدويًّا والتي كنت قد اشتريتها لمنزل ابني.

 

فرحتُ كثيرًا. عندها جاءت فتاة جميلة تلبس عباءة بيضاء وجلست إلى جانب ولدي، وبدآ بالترحيب والاهتمام بي.

 

لا أنسى أبدًا رؤيا ولدي وذلك البستان الجميل، لقد كان كلّ شيء تمامًا كما أراده أن يكون. مذّاك نسيت حزني وألمي. لا أعلم كيف، ولكنّي سلّمت ابني "أكبر" لله. وكنت أعلم أنّه يعيش مع الملائكة في السماء.

 

108

 


83

الفصل الثاني - المغمور

الفصل الثاني

المغمور[1]

التحقتُ بالجبهة مباشرةً بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة. كانوا يرسلون الملتحقين الجدد إلى منطقة كردستان. خدمت عدة أشهر في غربي البلاد خلال العام 1983م. في العام 1984م عند ذهابي إلى الجبهة التحقتُ بكتيبة المشاة والاقتحام، أي كتيبة حمزة في فرقة "محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، السرية الأولى، فصيل الإيمان.

 

كان ابن عمّي مسعود أهري يرغب أيضًا في الالتحاق بالجبهة، ولكنه كان صغير السن ولا يستطيع الالتحاق من دون تحصيل موافقة خطيّة من والديه. كان يدرس في الصف الثانوي الأوّل ويعيش في منطقة فرديس التابعة لمدينة كرج. قبل انتصار الثورة، عشنا في منزل واحد في منطقة "مجيدية" في مدينة طهران. كنتُ أكبره بثلاث أو أربع سنوات، ولم يكن طوله يتجاوز كتفي. لم أكن أنا ومسعود من عائلة واحدة فحسب بل كنا صديقين حميمين.


 


[1] - أو: خامل الذكر.

 

111


84

الفصل الثاني - المغمور

في خريف العام 1984 التقيتُ بمسعود في إحدى إجازاتي، وطلب منّي أن أساعده ليلتحق بالجبهة. كان عمّي معارضًا لذهابه ولم يكن ليوافق أبدًا. في تلك الأيام المعدودة لم تأتِ مساعيَّ بنتيجة، حتى أنّ عمّي كان منزعجًا من محاولاتي هذه. عندما أدركتُ صعوبة الموقف، اتفقتُ مع مسعود أن أساعده خلال وجودي في الجبهة، إما هاتفيًّا أو من خلال الرسائل المرمّزة، وإلا لو لم تكن الرسائل كذلك ووقعت في يد عمي لأحدثت مشكلة.

 

لم تكن زوجة عمّي متشدّدة في مسألة التحاق ابنها بالجبهة، فهي كانت تعلم أنّه سيكون إلى جانبي هناك. أمّا عمّي، نظرًا لعمله في المستشفيات الحكومية مساعدَ طبيب، فقد عايش آلام ومعاناة عدد كبير من الجرحى، فلم يرغب أن يلقى ابنه الأكبر مصيرهم، ويُبتلى بهذه البلاءات، خاصة أن أحوالهم المعيشية كانت قد تحسنت في الفترة الأخيرة بعد سنوات مديدة من المصاعب والعناء. كان عمّي يقول لمسعود: "ولدي العزيز، احصل على شهادة الثانوية العامة ومن ثم اذهب إلى الجبهة.. هذه الحرب مستمرّة حتى المستقبل البعيد..".

 

بطبيعة الحال، لم يكن عمّي غريبًا عن الحرب والجبهة، فقد كانت طبيعة عمله تقتضي أن يخدم شهرًا من كل عام في مستشفى أو مستوصف في مناطق الحرب. لكن تلك السنة مرّت بصعوبة على عائلة مسعود، فقد استشهد خاله في الهويزة.

 

كتبت لمسعود عدة رسائل أثناء حضوري في الجبهة، وذكرت له ما أعرفه عن الجبهة وشرحت له أوضاعها، لكن بسبب صغر سنّه لم يكن متاحًا له أن يلتحق بالجبهة بالطرق الطبيعية. أوصيته في آخر رسالة بعثتها له أن: عليك التلاعب بصورة الهوية. طبعًا لم أرسل له هذه الوصيّة بشكل صريح، إنّما بشكل مرمّز. بعد أن عمل مسعود

 

 

112

 


85

الفصل الثاني - المغمور

بنصيحتي أصبحت سنة ولادته في الصورة المنسوخة عن هويته 1967 بدلًا من 1969م. وهكذا أصبح عمره على الهويّة أكثر بسنتين من عمره الواقعي. بعد ذلك سجّل اسمه في مقرّ التعبئة والتحق بالتدريب العسكري. أدرك والده ذلك بعد فوات الأوان، ولكن مسعود ولكي يطيّب خاطر والده ويحصل على رضاه، اختار خلال خضوعه للتدريبات العسكرية اختصاص الإسعاف الحربي، وبإقدامه على هذا الخيار، برهن لوالده عن رغبته بالعمل في المجال الطبّي.

 

يُذكر أنّه قَبْل التحاقه بالتدريبات العسكرية وخلال عدة فصول صيفيّة مضت، كان مسعود قد زاول عملًا في الصيدلية وكان ذلك بناءً على طلب والده. لهذا السبب، اكتسب خبرةً بالأدوية والأدوات الطبيّة، وعندما أنهى دورة الإسعاف الحربي خلال التدريبات العسكريّة كان يُعدّ حينها مسعفًا ماهرًا وذا خبرة وتجربة.

 

أخيرًا في شتاء العام 1985، تحقّق حلم مسعود مع وصوله إلى ثكنة "دوكوهه"، وأصبحنا نخدم معًا في الكتيبة والسرية ذاتها. في تلك السنة نُفّذت عمليات بدر، ومن خلالها عرفتُ "مسعود" أكثر من ذي قبل. في ليلة الهجوم، تقدّمنا كيلومترات إلى الأمام ووصلنا إلى قلب العدو. لكن بسبب الأزمة التي تعرّضت لها الكتائب المجاورة صدرت الأوامر بالانسحاب. وصلنا إلى قرية عراقية وتوقفنا فيها لفترة قصيرة. استغلّ مسعود هذه الفرصة ليهتم بالجرحى فغيّر ضمادات جراح من كانت جراحهم عميقة.

 

استأنفنا سيرنا من جديد، وقبيل الغروب عندما أَنْهَكَنا التعب، احتمينا خلف ساتر ترابي يبعد مسافة خمسمئة متر إلى الخلف من تلك القرية. فيما كان الجنود البعثيّون يتعقّبوننا، وكان علينا أن نستقرّ في مكان مناسب. خلف هذا الساتر، راح مسعود يقلّب حقيبة إسعافه،

 

113


86

الفصل الثاني - المغمور

قال لي وقد بدا الاستياء على وجهه:

- .. المقصّ.. لقد فقدت مقصّي.. لقد بقي في تلك القرية بكل تأكيد. عليّ أن أذهب لإحضاره.

- أولا ترى البعثيّين؟ عشر دقائق ويسيطرون على المنطقة هناك.

 

كان الاضطراب والفوضى يلفّان الكتيبة، ونحن مشغولون بالانسحاب، بينما يصرّ مسعود على أن يحضر مقصه ويقول:

- ماذا عساي أفعل من دون مقصّ.. لا أملك سلاحًا، لا يصحّ أن لا أهتم بالجرحى.. عَمَلُ المسعف لا يتمّ من دون مقصّ.

 

فجأةً وضع يده على كتفي وقال: "قل للقائد سأعود حالًا". قال هذا ومضى مسرعًا كسهمٍ انطلق من كبد القوس.

 

أطلق البعثيّون وابلًا من الرصاص، ولكنّه تمكّن من التنقّل بسرعة ورشاقة داخل القنوات والخنادق ليصل إلى القرية ويعود حاملًا مقصّه. ألقيت نظرةً على طوله وقامته فوجدته رفيع البنية ولمّا يصبح عريض المنكبين بعد، ولكنّي غبطته على شجاعته والتزامه ومعرفته بمسؤوليّته.

 

في تلك الليلة، كان علينا أن نقوم بالحراسة لحفظ الأمن. بعد تحديد المسؤول نوبات الحراسة بيننا. كانت نوبتي قبل نوبة مسعود التي تبدأ بعد منتصف الليل قبيل السحر، إذ إنّ مكان استراحتنا في الخندق نفسه. انتهت نوبتي في وسط الليل وحانت نوبة مسعود. كنت أهمّ بإيقاظه، لكنّ قلبي لم يطاوعني، فقد كان غارقًا في نومه الهادئ رغم دويّ انفجارات قذائف الهاون التي كانت تتساقط فوق رؤوسنا فلا تدع أحدًا ينام ملء عينيه. ومسعود ملتحف بجدار الخندق حتى بان جزء من رأسه خارجه. فجأةً، سقطت قذيفة هاون إلى جانب رأسه بالضبط، فأصابت شظايا منها بدنه ليستيقظ من نومه مشوّشًا

 

114

 


87

الفصل الثاني - المغمور

مرتعدًا ومصدومًا. كانت الدماء تتدفّق من ثقب دائري صغير في رأسه مصدرةً صوت بقبقة. قَلِقتُ عليه، وعندما ضمّد المسعف الآخر جرحه ناديته مضطربًا، لكن كأنه لم يسمع صوتي أو لم يعرفني، كان فمه وفكّه يرتجفان بشكل واضح.

 

بعد أن فرغ المسعف من عمله نقله إلى الخلف. لم يتبقّ إلا القليل حتى يطلع الفجر. أدّيت صلاة الصبح من دون مسعود ودعوت الله كثيرًا ليمنحه الشفاء، ربما كنتُ أجد نفسي مطالبًا أمام والديه بشكل من الأشكال. فأنا من عمل على إحضاره إلى الجبهة.

 

بعدما وصلتْ عمليات بدر إلى خواتيمها ذهبت في إجازة إلى طهران وكرج. كانت حال مسعود قد تحسّنت، فلحسن الحظ كانت الشظيّة قد حفّت برأسه ولم تخترق الجمجمة، إذ كان رأسه ملفوفًا بعصابة دائرية كبيرة. قلت له ملاطفًا:

- لقد أصبحت شيخًا يا مسعود؟!

- الجبهة جامعة وحوزة علمية وهذه شهادتها!

 

اطمأننتُ عندما رأيته. لم أكن لأحتمل النظر في عيني أمّه إن أصابه مكروه. يومذاك كانت أمّه قد أعدّت الحلوى التي كان مسعود يحبّها كثيرًا، حتى إنّه كان يعدّها بنفسه أحيانًا. ذات مرة صنع حلوى بالعسل، لم تكن دسمة كثيرًا ولا حُلوة كثيرًا، وأثناء إعداد تلك الحلوى كان مسعود وأمه يرتجزان ويتفاخران، وصادف أن كنتُ الحكم في هذه المنافسة.

 

خلال الشهرين الأوّلين من ربيع العام 1985م، كان مسعود يعاني من آلام رأس عجيبة أثّرت على عينيه أيضًا، فكانتا تؤلمانه بشدّة. الأمر الذي جعل والده يراقبه ليلًا ونهارًا، ويُخضع كلّ خبراته الطبيّة عليه

 

 

115

 


88

الفصل الثاني - المغمور

عسى أن تتحسّن حاله. في أحد الأيام، أخبرني عمّي قصة حدثت مع مسعود عندما كان له من العمر اثنا عشر عامًا، رافقه إلى المستوصف فساءت حاله متأثّرًا من رؤية الدم في غرفة العمليات العياديّة.

 

بعد مشاركته الأولى والقيّمة في الجبهة وفي عملية بدر، غدا مسعود شخصًا آخر، أصبح رجلًا صقلته التجربة وصار ذا خبرة. ومنذ ذلك الحين لم يعد يحتاج إلى مساعدتي أثناء خدمته في الكتيبة العسكرية. لقد كان مسعفًا ماهرًا وخبيرًا، لم يكتفِ بعمله مسعفًا، ففي ذلك العام خدم في اختصاصات أخرى أيضًا. انتهت إجازتي في شهر نيسان وعادت كتيبة حمزة إلى الثكنة. كانت إجازة لخمسة عشر يومًا كفيلة برفع عناء العمليات عنّا. وبعدها بشهر، رأيت "مسعود" في الكتيبة فسألته:

- لماذا لم تأخذ فترة استراحة؟

- لقد انتهت إجازتي المرضيّة.

- كان بإمكانك أن تسوّي حسابك في الجبهة فترتاح أكثر، ثم تلتحق من جديد بعد شهر أو شهرين.

- كلا، كان عليّ أن آتي، لا أستطيع البقاء بعيدًا عن الجبهة. يقولون إنّ عمليّة كبيرة ستُنفّذ قريبًا.

- هل عمّي وزوجة عمّي موافقان؟

- لقد اعتادا على طبيعتي وسلوكي. لقد وعدتهما أن أعود سريعًا.

 

كانت الكتيبة بحاجة إلى إعادة تأهيل بعد العمليّة. تمّ اختيار حوالي ثلاثين عنصرًا من الشباب للتدرّب على الغطس. كنت واحدًا منهم. كان مسعود يرغب بالانضمام إلينا أيضًا، لكن لم يتسنّ له ذلك، وبالرغم من أنّه كان سبّاحًا ماهرًا يجيد سباحة الضفدع والزحف وكذلك كان يستطيع حبس نفسه جيّدًا، إلا أنّهم قالوا إنّ

 

 

116


89

الفصل الثاني - المغمور

تدريب الغطس غير مناسب لمن هم دون الثمانية عشر عامًا، لا يمكنه الالتحاق. أصرّ مسعود ولم يُفلح.

 

ذهبت إلى ميناء بوشهر ومكثنا هناك أسبوعين للتدرّب على الغطس. وقد كان هناك وحدات كثيرة من الحرس والجيش وقد جُهّزت بتجهيزات كثيرة. وبعد انتهاء دورة التدريب رجعتُ إلى ثكنة دوكوهه.

 

خلال هذه المدة درس مسعود دروسه للسنة الثانية من العلوم الاختباريّة، وقد سُرّ عمّي بسماعه هذا الخبر، وكان ذلك جليًّا في رسائله. طار مسعود من الفرح إذ استطاع أن يكسب رضى والديه. لقد بلغ مناه فصار يتابع درسه ويشارك في الجبهة.

 

قبل عملية بدر كانت الفصائل في الكتيبة تسمّى بأسماء من قبيل الإيمان والإخلاص و.. تغيّرت هذه الأسماء في صيف العام 1985 بعد إعادة تأهيل الكتيبة، فصارت: الفصيل الأوّل والثاني والثالث. الفصيل الأوّل هو ذاته فصيل الإخلاص القديم. وقد سبق لنا أنا ومسعود أن خدمنا في فصيلي الإيمان والإخلاص حيث كان محسن كلستاني معاونًا في الفصيل الأوّل الذي كان يخدم فيه عناصر قدامى أمثال محمد أمين شريعتي وغلام رضا نعمتي. كانا كلاهما تلميذين وكانا زميلَي دراسة مع مسعود. بالإضافة إلى الطب، كان مسعود يحب الأدب كثيرًا، ولطالما كتب نصوصًا إنشائية جميلة. أذكر أنّه في المرحلة المتوسطة كتب الجملة التالية: "لقد كتبتُ كتابًا وبعته بأربعة عشر تومانًا"، ما زلت أذكر الجملة التي كتبها. قالت زوجة عمّي لمسعود: "ولدي، ما هذا الهراء الذي تكتبه، متى بعت كتابًا ولم أحط علمًا بذلك؟!". أنا أيضًا آزرت زوجة عمّي بالقول: "أيّها السيد الكاتب، هل تريد أن تنهب أموال الناس بطباعتك للكتاب؟ أي قيمة هذه؟ وماذا

 

117

 


90

الفصل الثاني - المغمور

كتبت ليكون باهظ الثمن هكذا؟".

 

التحق عدة أشخاص من منطقة مجيدية بالفصيل الأوّل: "محمد عليان نجادي، سعيد بوركريم، أحمد أحمدي زاده والأخوان عبدالله وعرب علي قابل". غدا الفصيل الأوّل جمعًا حميمًا بالنسبة لي ولمسعود بعد التحاق أبناء منطقتنا بنا. من جهة أخرى كان كل هؤلاء الشباب تلامذة. كنّا في فصل الصيف وفي العطلة المدرسية، وكان من الطبيعي أن يلتحق تلامذة كُثُر بالجبهة.

 

في أواسط شهر تموز التحقت الكتيبة بدورة دفاعية في مدينة مهران. استغرقت الدورة شهرًا كاملًا وكانت شاقّة. آنذاك، في حرّ تموز وآب أُصيبَ الكثير من الشباب بضربة شمس. كانوا يقدمون لنا شيئًا يسيرًا من الطعام والماء البارد. مع انتهاء هذه الدورة غدا مسعود جلدًا وعظمًا بعد أن كان نحيلًا هزيلًا.

 

مرة أخرى حصلنا على إجازة، وفي القطار قلت لمسعود: "كم أشتهي الحلوى التي تعدّ في بيتكم.. صحنان لي وآخران لك، لقد عانينا من الجوع إلى درجة أصبحنا نخال أنفسنا غيلانًا لا يكفيهم من الطعام إلا الكثير الكثير.

 

في أحد أيام الإجازة، ذهبنا برفقة مجموعة من شباب محلّتنا الذين يخدمون في الفصيل الأول إلى قطعة الشهداء في مقبرة "جنة الزهراء". قرأنا الفاتحة وطلبنا المدد من أرواح الشهداء العظيمة لتعيننا على تحمّل صعوبات الجبهة. يومذاك، مضافًا إليّ ومسعود، كان الأخوان قابل وعليان نجادي، وبور كريم حاضرين أيضًا[1].


 


[1] حتى نهاية ذلك العام الشمسي (20 آذار 1986)، كانت أرواح جميع رفاقي في تلك الفترة قد رقدت بسلام في تلك القطعة نفسها، كانوا جميعًا يصغرونني سنًّا، وقد أدّوا دينهم إلى الشهداء.

 

118


91

الفصل الثاني - المغمور

قال أحد الشباب - لا أذكر من كان بالتحديد - جملة جميلة:

- لن نستطيع يومًا أداء حق الشهداء علينا.

 

كما قصدنا زيارة مراقد الشهداء رجائي وباهنر وشهداء الحزب الجمهوري الإسلامي. بعد انقضاء الإجازة رجعنا إلى ثكنة دوكوهه. هناك تقرّر أن نغادر مكاننا ونذهب إلى مخيّم الفرقة في "كوزران". استغرقت عملية الانتقال أربعًا وعشرين ساعة. طبعًا قبل ذلك قام عناصر التجهيزات في الكتيبة بنصب الخيم في ذلك المخيّم الجبلي، مخيّم في وسط الطريق بين كرمانشاه وإسلام آباد، في قلب الجبل حيث الهواء منعش وعليل.

 

لم يكن عديد الكتيبة مكتملًا، فالكتيبة بحاجة إلى عناصر وإعادة تأهيل. لهذا السبب، لم يكن برنامج الدورات العسكرية والتدريبات ضاغطًا. تزامنت الأيام الأولى لوجودنا في "كوزران" مع "أسبوع الحرب" وأيضًا مع بدء شهر محرم الحرام.

 

جاء محسن كودرزي في أواخر شهر شهريور (19-21 أيلول) إلى الفصيل الأوّل. وقد كان مصابًا بجراح في عملية بدر. كان راميًا ماهرًا للآر بي جي، وذا خبرة وتجربة متراكمة من مشاركته في عمليات عدة، وهو من العناصر القدامى في الكتيبة. عندما انضمّ إلى الفصيل الأوّل استقبله محسن كلستاني استقبالًا حارًّا. أصبح رامي (آر بي جي) ومسؤول المجموعة الأولى في الفصيل وغدوتُ أنا مساعده.

 

يُعتبر مسؤول المجموعة الأولى العنصر الثالث بعد مسؤول الفصيل ونائبه ويقع على عاتقه مهمة توجيه الفصيل. في عملية بدر كنت أيضًا مساعد رامي (آر بي جي) وبقيت في هذه المهمّة إلى العملية القادمة.

 

مضى الأسبوع الأوّل من شهر تشرين الأول، أصبح الطقس الجبلي

 

119

 


92

الفصل الثاني - المغمور

باردًا، فرجعنا إلى ثكنة دوكوهه. في هذه الأثناء، أصبح محسن كلستاني مسؤولًا للفصيل الأوّل الذي كان يعجّ بالشباب اليافعين وقد ازداد عددهم أيضًا.

 

انضمّ مهدي كبير زاده إلى الفصيل في شهر تشرين الأول. لم يلبث الأمر طويلًا حتّى أصبح هو ومسعود صديقين حميمين. كان هذان الاثنان دومًا إلى جانب بعضهما البعض في المجموعة. فقد كان سعيد بوركريم رامي الـ(آر بي جي) الثاني في المجموعة الأولى، ويساعده مهدي كبير زاده ومسعود أهري، لهذا سرعان ما توافقا وأصبحا صديقين حميمين.

 

لقد جمعت الجبهة أناسًا كثيرين، إلّا أنّ حال الودّ والأنس لم تكن لتحصل بين أي شخصين بسهولة وكان لا بدّ من سبب لتتأصل هذه المودّة والألفة وتتعمّق. لقد كان كبير زاده في كتيبة حمزة في صيف وربيع العام 1985. لكن العلاقة التي أتحدّث عنها حدثت في هذه الفترة. أنا أيضًا كنت المساعد الأوّل لكودرزي. وصحيح أنّي رأيته من قبل في عملية بدر إلا أن معرفتي ازدادت به في هذه العملية. كان كودرزي فتًى قرويًّا ذا بنية جسديّة قويّة وقد استهدف حوالي عشر دبابات حتى ذلك الحين.

 

تغيّر قائد الكتيبة في شهر تشرين الأوّل، والتحق بالكتيبة عناصر إضافيّون، وأصبحت جاهزة للتدريبات العسكرية. كما تقرّر أن نغادر الثكنة بأسرع وقت ممكن، إلا أنّ حدثًا مثيرًا حصل لرامي (آر بي جي) الفصيل سعيد بور كريم:

جلس بوركريم على سطح مبنى الكتيبة تخنقه الغصّة. لقد جاء أحد أقربائه - ويُحتمل أن يكون خاله - ليرجعه إلى البيت. بدا جليًّا وطبقًا لتقرير وكالة أنباء التعبئة أنّ خال بوركريم كان على معرفة

 

120

 


93

الفصل الثاني - المغمور

بقائد الفرقة الذي أصدر أمرًا لمسؤولي الكتيبة يقضي بتسوية حساب[1] بوركريم وقد وصل هذا الأمر إلى مسامعه. مكثتُ قليلًا ثم صعدت إلى السطح. كان مساعداه، مهدي ومسعود، يهدّئان من روعه ويواسيانه، فيما كان سعيد يتكلّم بشكل متقطّع.

 

قال مسعود: "يا أخي، ليس في الأمر غصّة.. لقد مضت عدة أشهر على حضورك في الجبهة، جاهدت في الخطوط الدفاعية الأماميّة.. اذهب واسترح قليلًا وعد بعد ذلك".

 

أجابه سعيد: "العمليّة.. العمليّة قريبة.. أريد في ليلة الهجوم أن.."، لم يكد يكمل كلامه حتى أجهش بالبكاء.

 

قال مهدي: "يا أخ بوركريم، احترام الكبار واجب، اذهب واحصل على رضاهم وموافقتهم وَعُدْ بعد ذلك.. ربما تعود في آخر فصل الخريف".

 

قال سعيد: "إذا كان احترام الكبار واجبًا لماذا لا تذهبون أنتم إلى بيوتكم؟ لقد كنتُ سيّئ الحظ إذ..".

 

كان خال بوركريم ينتظر في غرفة مسؤول الكتيبة، ريثما يُحضِرْ سعيد حقيبته وأغراضه الشخصية لينطلقا معًا، ولكن "سعيد" لم يوافق بعد. قال مسعود: "يا أخ بوركريم، إن ذهبتَ إلى التعبئة في منطقتك تستطيع أن تقوم بعمل يوازي الجبهة، ذات ليلة من شتاء العام الماضي كنتُ في الحسينية، غلبني النعاس في آخر الليل فغفوتُ إلى جانب المدفئة. وأي نومة كانت! عند منتصف الليل، جاء والداي في أثري هلعين. كان والدي غاضبًا بحيث لم أنبس ببنت شفة. وَعَدْتُهم


 


[1] أي معاملة مغادرة الجبهة، لمن يريد تسوية أوضاعه والعودة إلى بيته بعد أن أدّى خدمته في الجبهة.

 

121


94

الفصل الثاني - المغمور

 بأن لا أعود إلى البيت متأخرًا بعدها.

 

ولكي أحثّ مسعود على الكلام أكثر، وحتى يتغيّر مزاج سعيد، قلت: "ألم يعاقبك والدك".

 

قال مسعود: "بعد ليال، ذهبت مرة أخرى إلى مركز التعبئة. أنا أيضًا كنت سيّئ الحظ مثلك: كان من المقرّر أن يبقى والدي مناوبًا تلك الليلة في المستوصف حيث يعمل، ولكنّي لم أعلم ماذا حصل، لقد حضر إلى البيت فجأة، ولمّا رأى أنّي لست في المنزل وقد أخلفتُ بوعدي حضر إلى مقرّ التعبئة، أخذ برأسي وجرّني بقوة إلى البيت. في تلك الليلة سُجنتُ لساعة في غرفة الزهور الزجاجيّة، عسى أن أُخْرِج من رأسي حبّي للتعبئة وشغفي بها. ولكن هل حصل ذلك؟ لا لم يحصل لأني الآن بينكم". رسم كلام مسعود ومهدي العذب والجميل بسمة الرضى على شفتي بوركريم. وانقضى الأمر على خير بعد تدخّل معاون قائد الكتيبة، فقد وعد سعيد خالَه أن لا يبقى في الجبهة أكثر من ثلاثة أشهر، هذا أوّلًا، وثانيًا أن يُعوّض دروسه المدرسيّة التي فاتته أثناء خدمته في الجبهة. غمرت الفرحة رامي الـ(آر بي جي) ومساعدَيه في ذلك اليوم. اجتهدوا في دروسهم جيدًا في الأيام التالية، وحصلوا على علامات جيدة في امتحانات آخر السنة. كنت شاهدًا على جهودهم وسعيهم، وأحيانًا كنت أساعدهم في دروسهم وحلّ تمارينهم.

 

أخيرًا قصدت الكتيبة الشاطئ الغربي لبحيرة "سد دز" لإجراء دورة تدريبيّة على الأعمال البرمائية. لم يكن الخضوع لهذه الدورة صعبًا عليّ كثيرًا، إذ كنت شاركت في دورة الغطس قبل ستة أشهر في بوشهر. لكنّ غرق أحد شباب الكتيبة في البحيرة كان من حوادث هذه الدورة الأليمة. كنت أعرفه قبل ذلك، فقد شاركنا في دورة الغطس معًا. كان يعاني من مرض الصرع. في أحد الأيام وأثناء السباحة في

 

 

 

122


95

الفصل الثاني - المغمور

مياه "دز" الباردة أصيبَ بنوبة عصبية. كانت الزوارق قريبة منه إلا أنّ أحدًا لم يكن على علم بمرضه. وعلى مرأى من أعين الجميع تخدّرت يداه ورجلاه وغرق في الماء. بعدها، انتبه الشباب وغطس في الماء من يستطيع منهم حبس أنفاسه إلى عمق عشرة أو خمسة عشر مترًا، ولكنّه كان قد نزل إلى مكان أكثر عمقًا. حاولوا مرارًا فلم يجدوه وبعد ساعة طفا جثمانه على وجه الماء.

 

كان إلقاء المحاضرات واحدًا من برامج خيمة الفصيل الأوّل. فقد كان شباب الفصيل يختارون موضوعًا بشكل انتقائي ويتبادلون الحديث حوله لمدة عشرين دقيقة أو نصف ساعة. كنتُ مشهورًا في تلك الأيام بلقب فيلسوف الفصيل. والأصحّ أن يطلقوا عليّ لقب: المتفلسف أو قارئ الفلسفة أو الأخ الكثير الكلام، لأني كنت أحبّ أن أفهم فلسفة أي شيء وأن أناقش حوله. في تلك الأيام، كانت حقيبتي الشخصية مليئة بالكتب الفلسفية وخاصّة كتب الأستاذ مطهري، وقد زاد وزنها بسبب الكتب، لا بسبب اللباس والأطعمة. كان كتاب "توحيد المفضّل" المنقول عن الإمام الصادق عليه السلام من الكتب التي ترافقني دائمًا. ولقد قرأت خلال خطبتي في مخيّم "سفينة النجاة" فقرات من هذا الكتاب: "انظر يا مفضّل.. كيف جُعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء، ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهنّ، كاليدين والرجلين، فتعترضهما الآفات".

 

كان مهدي كبير زاده شابًّا نشيطًا وحيويًّا وفي الوقت نفسه، دقيقًا وعميق التفكير. ولما كان الشباب يطلقون عليّ لقب الفيلسوف، وكان بدوره يرى الكتب الفلسفية بحوزتي، أصبح ذلك مدعاةً لكي يتعرّف إليّ أكثر. كان يسعى إلى معرفة علّة الوجود وغايته. هو كمسعود وطئت قدماه الجبهة للمرة الأولى في شتاء العام 1985. وكان قد سبق

 

123


96

الفصل الثاني - المغمور

له أن خدم في كردستان لأشهر عدة، إلّا أنّه لم يشارك في أي عملية إلى حينها. كان مهدي ومسعود كلاهما من مواليد العام 1969. ذات يوم استعار مهدي كتاب "توحيد المفضّل" منّي وطالعه. كان الكتاب نثريًّا وقديمًا تصعب قراءته وفهم مطالبه. عندما تناقشنا معًا حول مواضيع الكتاب أدركت مدى إحاطته بعمق هذه المواضيع.

 

كان مهدي يدرس في مهنيّة الشهيد باهنر للعلوم الكهربائيّة في منطقة جسر ستارخان. وكان يتوق إلى أن يصبح مهندسًا، ويتجادل في كل يوم مع مسعود الذي كان بدوره يتطلّع إلى أن يغدو طبيبًا، فكنت أقول لهما: "حاليًّا، لا أنت مهندس ولا أنت طبيب. عليكما أن تتدرّبا على الاصطفاف في الصفوف العسكرية وأنتما تنتعلان الحذاء العسكريّ في هذه الجبهات. في الوقت الحاضر، نحن الثلاثة نعمل كمساعدي رامي (آر بي جي)، وعلينا أن نلحق بالرامي حتى نصل إلى البصرة وبغداد".

 

كان مهدي ماهرًا جدًّا في صبغ الأحذية. ذات يوم صبغ أحذية جميع أفراد المجموعة الأولى. طبعًا كان رضا أنصاري الذي يعمل ناقلًا للجرحى في المجموعة الأولى يهتم بصباغة أحذية أفراد الفصيل. أثناء التدريبات البرمائيّة، كانت الأحذية تبتلّ بالماء كل يوم، وكان الشباب يلقون أحذيتهم في فترة بعد الظهر تحت أشعة الشمس حتى تجفّ. ما يؤدي إلى تشقّقها واهترائها سريعًا. كان مهدي كبير زادة ورضا أنصاري يصبغان ثلاثين زوجًا من الأحذية مرتين كل أسبوع. وبعد كل عملية صباغة، كان وجهاهما وأيديهما تبدو عجيبة غريبة.

 

في أربعين الإمام الحسين عليه السلام رأينا الشيخ بروازي، هو أحد محاربي الفرقة القدامى وعالم الدين صاحب الخبرة.

 

كان محسن كودرزي يعرفه جيدًا. حتى إنّه دوّن مطالب عنه في

 

124

 


97

الفصل الثاني - المغمور

دفتر ملاحظاته للعام 1983. كان يحتفظ بكنز من ذكريات عن الشهيد همّت والشهداء القادة الآخرين في الفرقة، وكلّما سنحت له فرصة كان يتلو هذه الذكريات علينا. بقيت جملة سمعتها منه عالقة في ذهني، تركتْ فيّ أثرًا بالغًا آنذاك: "أيها الأخوة المجاهدون، إن فاتتكم الصلاة أو الصوم فيمكنكم قضاؤهما، وبذلك توفون الدين الذي عليكم، أمّا إن فاتتكم عملية ما، فلن تتوافر فرصة أفضل لتؤدّوها.. لقد أُنجزت عملية بيت المقدس، وكذلك عمليات مسلم و"والفجر 4" وخيبر وبدر.. تنبّهوا وأنجزوا مهامّكم اليوميّة. إذا ما انتهت الحرب ولم ينجز أحدكم مهمته، لن يعود الندم عليه بأي فائدة".

 

أصغى مهدي ومسعود جيّدًا إلى هذه الكلمات، وذهبا إلى الشيخ بعد فراغه من الخطبة.

 

استمرّ الحوار والبحث بيني وبين مهدي في خيمة الفصيل حول أسرار الخلق، ولم ينقطع حتى في أيام التدريبات البرمائية الصعبة. صحيح أنّه صغير السنّ، ولكنه كان يطرح أسئلة مهمّة وكثيرة. أعطيته جميع الكتب التي أملك -تقريبًا- ليقرأها، لكن لم يكن لعطشه وأسئلته نهاية. لقد كان يبحث عن طرق الوصول إلى السعادة والخلاص، بفضول جدير بالثناء.

 

في أحد التدريبات، التقطنا صورًا كثيرة، فمهدي كان يملك آلة تصوير، وقد التقط الصور لجميع المواقف، الفردية منها والجماعية. أحيانًا كنت آخذ أنا أو مسعود آلة التصوير لنلتقط صورًا يكون مهدي حاضرًا فيها. لاحقًا علمنا أنّ عددًا من صور تلك الدورة تعرّض للضوء أو احترق ولم يبقَ سوى القليل منها.

 

رجعنا إلى دوكوهه بعد انتهاء التدريبات البرمائية. في اليومين المتبقّيين إلى حين موعد الإجازة، أصبح مسعود ومهدي زبونين دائمين

 

125


98

الفصل الثاني - المغمور

لدى الوحدة الثقافية[1]، وبدآ بطرح أسئلتهما على الشيخ بروازي. كنت فقط على علم بتردّدهما إلى الشيخ، ولا علم لي بماهية مواضيع البحث والنقاش.

 

توجّهنا إلى طهران في إجازة في أواخر شهر تشرين الثاني. حصل كلٌّ من مهدي ومسعود على عنوان منزل صاحبه ورقم هاتفه حيث التقيا مرات في طهران. كانا يتفقان على موعد في ساحة آزادي (الحريّة) لينطلقا من هناك إلى لقاء الشيخ بروازي. عندما رجعنا من إجازتنا قال لي مسعود: "لقد ذهبت أنا ومهدي برفقة الشيخ بروازي إلى حوزة أمين الدولة العلميّة للقاء الشيخ حق شناس. وكان رجلًا عجوزًا، طاعنًا في السنّ وعارفًا، يناهز السبعين عامًا. لقد أعطانا أنا ومهدي ثلاثة توجيهات كوسيلة للنجاة: "-1 لا تكذبوا -2 لا تغتابوا، وإن صادف وُجودكم في مجلس غيبة اتركوا ذلك المجلس -3 تجهّزوا للصلاة وتوجّهوا إليها قبل الأذان".

 

لم يكن لفضول ذينك الاثنين حدود، وقد أدرك الشيخ بروازي تعطّشهما إلى العلم فأرسلهما إلى أستاذ خبير. بالطبع كانا يعملان بتلك الإرشادات وبما يستمعان من توصيات. لم تكن آذانهما أبوابًا ونوافذ، فصارا يسبغان وضوءهما مع اقتراب وقت الأذان ويشتغلان بالعبادة والصلاة قبل رفعه بعشر دقائق أو ربع ساعة.

 

في بدايات شهر كانون الأول، انصبّ اهتمام أكثر شباب الفصيل على التحضير للامتحانات المدرسيّة. كانت غرفة فصيلنا مليئة دائمًا بالأوراق والكتب والدفاتر والأقلام. وكان البعض يدرس على السطح حيث يمكن التركيز أكثر في المذاكرة. ولمّا كانت السريّة الأولى تقيم في


 


[1] واحد عقيدتي - سياسي.

 

126


99

الفصل الثاني - المغمور

الطابقين الخامس والأخير من المبنى، كان الشباب يصلون بسهولة إلى السطح. فكانوا يأخذون معهم غطاءً وينشغلون لساعات بالدرس وحلّ التمارين.

 

ذات يوم جمعة، ذهبت مع مسعود إلى أنديمشك حيث كان عمّي (والد مسعود) يخدم لمدة شهر في أحد مستوصفاتها، وقد اختار مدينة أنديمشك ليكون قريبًا من مسعود. توجّهنا إلى مستشفى الشهيد كلانتري، كانت الغرفة التي يعمل فيها عمي مزدحمة بالناس العاديّين وجرحى الحرب. عندما رأى مسعود أشرق وجهه وزال التعب عنه. عانقنا كلينا، ثم انتظرت ومسعود في غرفة أخرى ريثما ينهي عمّي عمله ويوافينا.

 

حللنا ضيوفًا عند عمّي على الغداء. استضافنا بحفاوة والتقطنا الصور معًا. في فناء المستشفى أشعل سيجارته وقال: "إذًا أنت تدرس في الجبهة؟ يا أصغر ساعد مسعود كي يصبح طبيبًا. فالأطبّاء يعيشون حياةً طيبة ورغيدة".

 

قال مسعود وهو ينظر إلى سيجارة أبيه: "أبي العزيز، ماذا يحصل لو أوصى الأطباء بدواء ولم يتناوله المريض؟ أنا أعدك أن أدرس دروسي، ولكن في المقابل عدني بأن تقلع عن التدخين فهو مضرّ بصحّتك!".

 

ثم أردف مازحًا: "يا أبي، املأ عينيك بالنظر إليّ كي لا تحزن إن قُطّعت يومًا إربًا إربًا".

 

انتزع منّي عمي القلِق عهدًا بأن أحرص على أن يتوخّى مسعود الحذر ليلة الهجوم. لقد ورث مسعود عن أبيه الجديّة والانضباط، واتّصف أيضًا بهدوء أمّه. في نهاية لقائنا لم يستطع عمي إلا أن يعانق

 

127


100

الفصل الثاني - المغمور

ولده مجدّدًا. كأنّه أخذ كلام ابنه على محمل الجدّ، أو وقع في قلبه أنّ شيئًا ما سيحدث. في العشر الأواخر من شهر كانون الأول غادرتْ كتيبة حمزة الثكنة متوجّهةً إلى كرخة حيث كان مخيّم الفرقة الشتوي بانتظارنا. مخيّم جديد أقيم إلى جانب نهر كرخة الهائج.

 

استُؤنفت في المخيّم الجديد التدريبات العسكرية والتمرينات الرياضية والمناورات والمسيرات. في تلك الأيام كان طقس كرخة ماطرًا. استخدمنا النايلون لتغطية الخيم ذات القماش المشمّع، ثم طليناها بالوحل، ووضعنا فوقها كومات من القشّ اليابس لنحجبها عن أعين العدو. ليلًا كنّا نُشعِل مدفأتين نفطيّتين في كل خيمة لنجبر برودة ليالي كرخة على التراجع والانحسار. وإبريق الشاي لم يفارق المدفأة ليكون الماء المغلي جاهزًا لإعداد الشاي عند اللزوم.

 

كان الشباب يبادرون لإنجاز الأعمال داخل خيمة الفصيل. فكانت خيمتهم نظيفة ومرتبة على الدوام. وكان مسؤول الفصيل الأخ كلستاني مبادرًا أكثر من الآخرين. كما كانت الرياضة والليونة الصباحيّة مهمة جدًّا في ذلك الطقس البارد وتبعث الدفء والحيويّة في الشباب.

 

كان التدريب والتمرين العسكري اعتياديًّا لأمثالي، بينما لم يكن كذلك بالنسبة لأكثر شباب الفصيل، الذين التحقوا بالجبهة للمرة الأولى، ولم يشاركوا في العمليات العسكرية من قبل، فكان ذلك مشوّقًا بالنسبة إليهم. كان صغار السنّ يعتبرونني ومحسن كودرزي من القدامى في الفصيل، وقد اكتسبَ محسن خبرة عسكرية وميدانيّة جيدة بينما كنتُ مشهورًا في الفلسفة والتنظير.

 

في طقس شهر كانون الثاني البارد ذاك، اشترينا اللّفْتَ مرات عدة وقمنا بطهوه باستخدام مدافئ الكاز التي بحوزتنا. كانت رائحة اللفت تنتشر في أنحاء الخيمة فتزيد من شهيّتنا ورغبتنا في تناول

 

128


101

الفصل الثاني - المغمور

الطعام. كذلك رجع بعض الشبّان من الذين امتنعوا بادئ الأمر عن تناول اللفت عن قرارهم، بعد أن استمعوا إلى كلام من هم أكبر منهم سنًّا في الفصيل فأدركوا أنّ للّفت فوائد وعلموا أنه يحتوي على مادة البنسلين ويمنع الإصابة بالزكام و..

 

كان إمام الصلاة في خيمة الفصيل حاجًّا مسنًّا. في بعض الأحيان حين تمطر بشدّة، كانت صلاة الجماعة تقام في خيمة الفصيل بإمامة الحاج رحيمي. كان الشباب يجلّونه ويكنّون له احترامًا خاصًّا. كانوا أيضًا يمازحونه ويحادثونه. ذات يوم حدث تحدّ بين نعمتي وبوركريم وبدآ المصارعة. ثم انضمّ إليهما الباقون كلّهم، وراحوا يتصارعون اثنين اثنين، وتحوّلت الخيمة إلى حلبة للمصارعة. تذمّر الحاج رحيمي من هذا العمل وقال: "ليس لائقًا أن تُحدِثوا كل هذا الضجيج وفي الخيمة رجل عجوز".

 

أجابه أحد الشباب بلسانه العذب: "يا حاج لقد جُلتَ العالم في شبابك، وتمتّعت بملذّات هذه الدنيا، والآن أتيت إلى هنا لكي تستشهد وتذهب إلى الجنّة. بعبارة أخرى، لقد نلت سعادة الدنيا والآخرة. دعنا نرفّه عن أنفسنا في هذه الأيام الباقية فغدًا نمضي إلى حيث الشهادة".

 

أجاب الحاج رحيمي، الذي كان يرى شباب الفصيل كأحفاده، بمودّة ولطف قائلًا: " يا ولدي العزيز، أسأل الله أن يطيل في عمرك فتصبح أنت أيضًا كبيرًا في السنّ.. وأنتم أيضًا تمضون وتعيشون أيام شبابكم.. أنتم أيها الشباب نور عيوني..".

 

كان رجلًا جليل القدر. الأجدر برجل في عمره وسنّه أن يكون في ذلك الشتاء البارد جالسًا حول كرسيّ التدفئة، فيمدّ رجليه تحته لينعم بالدفء ويتسلّى بالبزورات وحبّات الحلوى ويلاعب أحفاده

 

129

 


102

الفصل الثاني - المغمور

ويناغيهم، ولكنّه أتى إلى الجبهة ليفدي بروحه ويتحدّى الصعوبات التي تثقل حتّى ظهور الشباب!

 

كان لمسؤول الفصيل تعلّق خاصّ بعملية "والفجر 4"، كانت شغفه. لعلّها تركت أثرًا كبيرًا فيه. فكان كلما سنحت له الفرصة يترنّم بذكريات كثيرة حول هذه العملية، تارة عن أحداثها العسكرية، وأخرى عن تجاربها النفسية والمعنوية. كما كان لدى محسن كودرزي الكثير من الذكريات عن تلك العملية. لقد بُتِرَتْ أجزاءٌ من أصابعه في عملية "والفجر 4". لطالما كان شيخ الفرقة الحاج بروازي يذكر تلك العملية بالثناء والتعظيم أيضًا. حتى ذلك الحين كنتُ قد سمعت قصة استشهاد مهدي خندان من لسان الشيخ عدة مرات. كان واقفًا ووقع على هيئة الصليب على الشريط الشائك وسط حقل الألغام.

 

كنّا في كل ليلة، نرتّل سورة الواقعة ونقرأها معًا قبل المبيت. كانت تستغرق عشر دقائق إلى ربع ساعة. لم يكن مهدي كبير زاده ماهرًا في قراءة القرآن فحسب، بل كان أيضًا بارعًا في الترتيل. وقد نال عدة جوائز في مسابقات القرآن التي كانت تُقام في المدرسة وفي مسجد الحيّ.

 

أما "حسن قابل أعلا" فكان عنصر التخريب في الفصيل، شابًّا يافعًا مفعمًا بالحماسة والحيويّة. عندما أردنا أن نغطّي خيمتنا بالنايلون حين وصلنا إلى كرخه، تسلّق سريعًا وبخفّة فوق قضبان الخيمة. مع أنّه الأصغر قامة وبنية بيننا، إلا أنّه لم يكن له نظير في الهمّة والحركة. ذات يوم سأل حسن مسؤولَ الفصيل قائلًا: "يا أخ كلستاني، لماذا لا نعمل أكثر على الفنون العسكريّة؟ يجب أن نتعرّف إلى جميع الأسلحة..".

 

كنت جالسًا إلى جانب محسن عندما أجابه: "الأهم من السلاح

 

130

 


103

الفصل الثاني - المغمور

هو ذاك المقاتل الذي يستخدمه. بالنسبة للمقاتل فإنّ تقوية النفس والدافع والإرادة مهمّة بقدر أهمية التدريب العسكري. لو أنّ أحدًا امتلك أكثر الأسلحة تقدّمًا وخضع لأفضل أنواع التدريبات فلن ينجز الأعمال من دون المعنويات وقوة العزم والحافز..".

 

أجرت كتيبة حمزة مناورات واسعة وطويلة الأمد أثناء تمركزها في مخيّم كرخة. كان بعضها مناورات مدتها اثنتا عشرة ساعة، ومناورة واحدة استغرقت أربعًا وعشرين ساعة وقد قطعنا خلالها مسافةً تقدّر بحوالي ثلاثين كيلومترًا. في إحدى تلك المناورات وبسبب الإخفاق وعدم توخّي الحذر ورعاية الاحتياط خلال رمي إحدى القنابل، سقط لنا شهيد وأُصيب عنصر آخر بجراح. كان الشهيد من وحدة الإسناد. وقد أقام عناصر الإسناد مجلس فاتحة له في حسينيّة الكتيبة وشارك جميع الإخوة فيه.

 

كانت المناورات تُقام أحيانًا بقوام سريّة، وأخرى على مستوى الفصيل. في إحدى مناورات الفصيل الليليّة، أعطى مسؤول الفصيل درسًا في علم النجوم، ودرسًا آخر في معرفة الله سبحانه وتعالى. يُعدّ التعرّف إلى المجموعات الفلكيّة وكيفيّة الاستدلال على الجهات باستخدامها ليلًا من الفنون العسكرية المهمّة التي تزيد حظوظ نجاحنا أثناء تنفيذ المهام، إذ كانت معظم هجماتنا على جبهة العدو تُنفّذ في ظلمة الليل. أما درس معرفة الله سبحانه فقد كان من شأنه أن يجعل قلوبنا وأرواحنا أكثر ثباتًا ورسوخًا في هذا الطريق الذي سلكناه. كان مسؤول الفصيل يهتم بتدعيم قوة أجسادنا وأرواحنا على السواء. لهذا كانت نهاية التدريبات العسكريّة تترافق دومًا مع الأناشيد أو الدعاء أو مجالس العزاء. كان عملنا ينتهي مع حلول وقت صلاة الليل أحيانًا، وحينها كان مسؤول الفصيل يسمح بأداء صلاة

 

 

131


104

الفصل الثاني - المغمور

الليل في قلب الطبيعة لنعود بعد الفراغ منها إلى خيمتنا.

 

كانت التدريبات العسكريّة تستأنف على اختلاف أنواعها: الحرب الجبليّة ومعرفة خط الرأس الجغرافي والعسكري، مواجهة الهجمات الكيماويّة وغرف الغاز، التعرّف إلى أنواع الأسلحة، وفكّ وتركيب قطع الدوشكا، وأنواع المتفجّرات كالألغام وسواها.

 

في أحد الأيام وأثناء عودته من الإجازة، أحضر أحد الشباب إلى المخيّم كيسًا من خضار أنديمشك. شارك جميع الشباب في تنظيف الخضار وغسلها. كان مهدي كبيرزاده خبيرًا في أنواع الخضار وخواصّها وفوائدها، وكان أيضًا يغسلها بنحو جيّد. كان يقول: تحتوي طبخة الـ"سبزى قورمة"*[1] على أربعة أنواع من الخضار، ولا فرق بين الأرز المطبوخ بالخضار والعجّة المطبوخة بالخضار، وكلاهما واحد...

 

نفد صبري ولم أعد أحتمل، سألته: "لعلّك بائع خضار لتعرف كل هذه التفاصيل؟".

 

أجابني بهدوء مبتسمًا: "لقد عملت في بيع الخضار لسنتين. كان والدي يملك دكانًا وكنت أساعده في فصل الصيف". عندما تحدّث عن والده أخبرني أنّهم من يزد، وعلمتُ أنّ والده عمل في مجالات شتّى: بيع الخضار، بيع الحلوى، وبيع المكسّرات والبذور. كان دكان والده يقع في أول جادة "كشاورز"، وكان مهدي وأخوه الأكبر يساعدان والدهما.

 

تزيّنت مائدة طعام الفصيل في ذلك اليوم بصحون الخضار الفاخرة، فتذكّر الجميع منازلهم وأمهاتهم وطعامهنّ على مائدتيّ الغداء والعشاء. كلٌّ منهم كان يتحدّث عن ذكريات منزله وطعام


 


[1] * أكلة إيرانية تشبه يخنة الخضار.

 

132


105

الفصل الثاني - المغمور

والدته. تذكّر مسعود الحلوى التي تصنعها أمه في المنزل وكان يخبر مهدي عنها. أيضًا كان مهدي يقول إنّ "القورمة سبزى" التي تعدّها أمّه لا يعلو عليها شيء، فهي تضع فيها كميّة وافية من ورق "الكراث" وتعدّها بتأنّ وتمهّل، كما تضع فيها السمن بالمقدار اللازم. لقد تجلّى العيش في الفصيل في ذلك اليوم بمظهر آخر. حقًّا كم كان ذكر البيت والعائلة عزيزًا!

 

بالقرب من خيمة الفصيل، استُحْدِثت حفر على شكل قبور. كنت أعلم أن عددًا من الشباب كانوا يجلسون في تلك القبور بعد منتصف الليل إلى السحر ويناجون الله تعالى. كانوا ينامون فيها أحيانًا ليتعبّدوا إلى الله بذكرهم الموت. ذات ليلة، أردت أن أجرّب لذّة الآخرين تلك. كانت الغيوم أحيانًا تحجب القمر، وأحيانًا أخرى يظهر بنوره البرّاق. ردّدت فقرات من مناجاة الأمير عليه السلام، ودعاء أبي حمزة الثمالي، كانتْ قد علقت في ذهني من كثرة ما قرأناها بين جموعنا. نتأت من جدران القبر حجارة صغيرة وكبيرة، وفُتحت فوق رأسي نافذة مكشوفة إلى السماء المليئة بالنجوم. أغمضتُ عيني لبرهة واسترجعت شريط حياتي بتمامه، وحين فتحت عينيّ كان جلّ أملي معلّقًا على لطف الله تعالى. الله الذي كنت غافلًا عنه في تلك الليالي البهيّة والمليئة بالأسرار والمناجاة، وعن لذّة أهل الليل من عباده. كم كانت لذّة ذكر الله تعالى تبعث على الدفء والأمل في ظلمة تلك الليلة الباردة حيث كنتُ وحيدًا داخل الحفرة الترابية الرطبة. لقد كانت تلك الليلة أنيسة إلى درجة جعلتني أعيد الكرّة مرات ومرات.

 

في منتصف شهر كانون الثاني، حصل جميع عناصر الكتيبة على إجازة لمدة أسبوع، وانطلقنا إلى مدينة طهران. لم يأتِ مهدي برفقتنا. ما إن وصلنا إلى طهران حتى ذهب مسعود إلى كرج فيما قصدتُ

 

133


106

الفصل الثاني - المغمور

وزملائي في الفصيل من أهل حي المجيديّة (القصر الملكي)، أجل لقد كان منزلنا مقارنةً بالجبهة كقصر ابنة ملك الحوريات في القصة الأسطورية (شاه يريان).

 

مرة أخرى تأخذني والدتي في حضنها الدافئ. وأرى والدي صاحب الهمّة العالية. ومرة أخرى أنام لليالٍ نومًا هادئًا مريحًا على فراشي الناعم وقد لبست ثيابي المنزلية. مرة أخرى أجلس إلى مائدة وقد تزيّنت بالسلطة والخضار والفاكهة وخبز البربري أو الحصوي*[1].. تذكرت مزاح أحد الشباب عندما كان يقول:

- لا يدرك قدر الخبز البربري إلا من أكل خبز اللواش!

 

في اليوم الأول من الإجازة، وقع حادث عجيب وغير متوقّع لمسعود. بعد أن فارقنا في محطة القطار، ذهب إلى كرج فرأى أمام باب المنزل شاحنة مليئة بالأثاث والأمتعة. بدا الأثاث معروفًا له فتصوّر أنّ أهل بيته يقومون بنقل أثاثهم وتساءل: إذًا لماذا لا يوجد أحد من أهل البيت مع الأثاث؟ صعد إلى الطابق الثالث ليجد باب المنزل مفتوحًا وقد كُسرت النافذة. هناك في الأعلى، أدرك ما الذي يحدث وقبل أن يرجع إلى الأسفل فرّ اللصوص حاملين معهم نصف أثاث المنزل بالإضافة إلى جهاز[2]1 أخته. بادر مسعود مخبرًا الجيران، ولكن بعد فوات الأوان فلم يتمكّنوا من إيجاد الأثاث ولا الجهاز أبدًا. لم تحمل إجازة مسعود الأخيرة معها خبرًا طيّبًا له.

 

مع قطار العودة، تلذّذ الجميع بتناول الحلوى الطيبة التي أحضرها مسعود معه.

 


 


[1] * خبز السنكك، ويخبز على الحصى في تنور على درجة حرارة عالية.

[2] أو الجهيزيّة: ما يدّخره الأهل من أثاث وأدوات مطبخ لابنتهم إلى حين زواجها.

 

134


107

الفصل الثاني - المغمور

في كرخه التقيتُ مهدي كبير زاده بعد مضيّ أسبوع. كنت مشتاقًا إليه. بالإضافة إلى مهدي، بقي آخرون في الجبهة ولم يأخذوا مأذونيات، أحدهم محمد جواد نصيري بور مساعد رامي الـ(آر بي جي) في المجموعة الثانية، وقد تعمّقت معرفتي به بعد مضيّ حوالي أسبوعين.

 

سألت مهدي لماذا لم تأتِ برفقتنا في مأذونيّة، فأجاب:

- إنّ والدتي مريضة تعاني من الربو ومن أمراض القلب. فإذا طلبت مني أثناء الإجازة أن لا أعود إلى الجبهة، كيف لي أن أرفض طلبها! ولأنّ مأموريّة الأشهر الثلاثة قد انتهت فليس لي عذر بعدها لكي أعود إلى الجبهة.

 

- لكن لو ذهبت ورأيت عائلتك لكانت معنوياتك ارتفعت لأنّك بذلك تكون قد أدخلت السرور على قلب والدتك!

أشار إلى ساعته اليدويّة وقال: هذه الهدية جلبتها أمي من مكة المكرمة. إنها متعلّقة بي أكثر من إخوتي وأخواتي، وبدوري لا أقوى على رؤيتها مريضة. أحيانًا أتساءل: ماذا لو أُصبتُ بجراح وجاءت والدتي لعيادتي، سوف تفقد وعيها بكل تأكيد، فما الذي سيحصل لها إن استشهدت؟

 

منذ الإجازة السابقة في أواخر شهر تشرين الثاني وحتى عودتنا من مأذونية شهر كانون الثاني، مضى قرابة الأربعين يومًا، وخلال الأيام الأربعين هذه، تبدّلت أخلاق مهدي وسلوكياته كثيرًا. لم يكن يكذب، كانت وصيّة أستاذه له بأن لا يتفوّه كذبًا، وكان مهدي قلقًا من هذه الجهة أنّه ماذا لو ذهب إلى البيت ووجّهت إليه والدته سؤالًا واضطرّ أن يجيبها كذبًا. كأن تسأل مثلًا أنّه هل انتهت مهمّتك

 

 

135

 


108

الفصل الثاني - المغمور

للأشهر الثلاثة؟! وهو الذي يريد أن يبقى في الجبهة، سيتردّد حينها بين الكذب وقول الحقيقة.

 

كان مهدي يسبغ الوضوء قبل الأذان بنصف ساعة ويستعدّ للصلاة. ولطالما فعل ذلك قبل سماع صوت المؤذّن. كان من عادة الشباب أنهم ينشغلون بلعب كرة القدم حتى حلول وقت الأذان، ولكن مهدي كان يعتذر منهم ويخرج من الملعب قبل الأذان بربع ساعة أو عشرين دقيقة.

 

كان مهدي يمازح الشباب، يحدّثهم ويضحك ويطلق النكات، لكنّه لم يكن يغتاب أحدًا أو يسمع الغيبة بحق أحد. لم يزل ثابتًا على تلك الوصايا والعهود الثلاثة التي قطعها على نفسه.

 

في أيام الإجازة تلك، سلّم شباب الإعلام في الفرقة رسالة من تلميذ طهراني في الصف الثاني الابتدائي إلى مهدي. كان التلاميذ يكتبون هذه الرسائل للمقاتلين، ولم يكن معلومًا إلى يد أي مقاتل ستصل. كان ممّا كُتب في تلك الرسالة:

"بعد السلام على الإخوة الذين يحاربون في جبهات الحق ضدّ الباطل ولا يخافون أو يخشون شيئًا. نحن أيضًا نحارب في متاريس مدرستنا العدو الخبيث لا سيّما أمريكا. أيها الأخ العزيز، أتمنّى أن تكون بخير وعافية، وأن تكون في أمان الله المتعال. يا أخي، لطالما أحببتُ الالتحاق بالجبهة، وأن أكون جنبًا إلى جنب في مقارعة هذا العدو البغيض..".

 

كاتب الرسالة داود فارسيان من مدرسة الشهيد أزكلي، المنطقة التربوية الرابعة في مدينة طهران.

 

في العشرة الأواخر من شهر كانون الثاني، كان لمنطقة كرخة طابع آخر.

 

 

136

 


109

الفصل الثاني - المغمور

دبّ فيها نشاط وحركة أوحيا باقتراب بدء العملية. كان الجميع يحضّرون أنفسهم للّيلة الموعودة. وكما يقول الشباب، تفوح رائحة الدجاج المطبوخ بالأرز.

 

كان سلاحي الفردي رشاش كلاشنكوف بأخمص (كعب) خشبي. نظّفته ودهنته بالزيت مرات عدة. ذات يوم، ذهبنا إلى حقل الرماية لنرمي الرصاص ونصفّر البنادق. رميت بضعة مماشط حتى تمكنت من تصفير البندقية بشكل دقيق. وقد عقد كودرزي الذي كان صاحب خبرة في رماية الـ(آر بي جي) جلسةً تدريبيّة لمساعديه: أنا و"أحمدي زاده" و"لك علي آبادي". شدّد على أنّ عملَ مساعد رامي الـ(آر بي جي) لا يقلّ أهمية عن عمل الرامي نفسه. إذا لم يكن ثمة مساعد لرامي الـ(آر بي جي) فإنّه سيرهق سريعًا وستذهب قذائفه هدرًا. يستطيع المساعد أن يساعد الرامي في بلوغ الهدف، كذلك فإنّه يؤمن له الوقاية اللازمة أثناء عملية التسديد والاستهداف. خلال هذه الرماية، أطلق كل مساعد قذيفتي آر بي جي.

 

بعد حقل الرماية، أصبحنا جاهزين لمغادرة المخيّم. جاء تعميم مفاده أنّ قسم "التعاون" في الفرقة سيستلم الأمتعة الشخصيّة والزائدة.

 

كانت الحقائب الشخصية لشباب فصيلنا ثقيلة بسبب الكتب والدفاتر. كذلك كان لاعبو كرة القدم يحملون أحذية رياضيّة. عندما سلّمنا هذه الأغراض إلى قسم التعاون (الأمانات)، أصبحت خيمتنا أكثر اتساعًا ومتاعنا خفيفًا!

 

في الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني ركبنا الباصات تاركين كرخه باتجاه مخيم كارون. في أول الليل دخلنا الخيم التي عَمِل على نصبها عدة إخوة قبل وصولنا، ولم تكن بعد جاهزة للاستراحة بشكل

 

137

 


110

الفصل الثاني - المغمور

كامل. كان الطين يملأ المكان بالقرب من الخيم وحولها، وعندما يصله الماء يصبح وحلًا وطينًا، ما يصعّب المشي عليه.

 

في الأيام الثلاثة الأولى لوجودنا في المخيّم كان الطقس ماطرًا، فانصبّت جهود الشباب على تحسين الوضع داخل الخيم. وسنحت الفرصة للتحاور والتعارف أكثر، فتجاذبَ الإخوة الأحاديث فيما بينهم، إذ لم يعد هناك درس ولا تدريب ولا مناورة.

 

في أحد الأيام تذكر مهدي كبير زاده أمّه بشكل لافت. حينها، كانت عملية تبادل الرسائل متوقّفة حتى انتهاء العملية العسكرية، ولم يكن مسموحًا لأحد مغادرة المخيّم. كان مسعود جالسًا إلى جانب مهدي، وكانا يتجاذبان حديث الذكريات. أنا أيضًا كنت أستمع إلى حديثهما. مهدي ومسعود ولد كلاهما في السنة ذاتها، وفي الشهر ذاته، آب من العام 1969. كان كلاهما يتحدّث عن شغبه ومكره وعن حنان والدته. قال مهدي:

- كان عمري عشر سنوات، عندما كنّا نعيش في محلّة هاشمي بالقرب من مطار مهر آباد. أحيانًا كنت أذهب حتى أسوار المطار لأتفرّج على الطائرات. كانت توجد ملاعب ترابيّة كثيرة في تلك المنطقة حيث كنّا نلعب حتى الغروب. في إحدى ليالي الصيف لعبنا حتى العاشرة مساءً. عندما رجعت إلى البيت كان الجميع ينتظرني. لقد قلب والدي المحلّة رأسًا على عقب بحثًا عنّي. ما إن وقع نظرهما عليّ، حتى أمسكا بأذني وراحا يفركانها حتى أجهشتُ بالبكاء.

 

- "هل آلمتك كثيرًا؟ هل غدت أذنك حمراء؟" سأله مسعود.

 

- لكنّي لم أكن لأقلع عن مثل تلك المشاغبات. لم يمضِ أسبوع حتى رجعتُ في إحدى الليالي متأخّرًا إلى المنزل. كان شباب محلّتنا يلعبون

 

 

 

138

 


111

الفصل الثاني - المغمور

حتى الثانية عشرة ليلًا، وأحببت أنا أن ألعب معهم.. وعندما رجعت إلى البيت في تلك الليلة كان الوضع سيّئًا جدًّا، سيّئًا إلى درجة أنّ والديّ كانا قد تفقّدا جميع المستشفيات وأخبرا المخفر أنّي قد ضعت. حتى إنّهما أرادا الذهاب إلى مركز الطب الشرعي عسى أن يجدا جثّتي هناك! فإذا بي أظهر أمامهما.

- لقد عوقبت بكل تأكيد!؟ سأله مسعود.

- في تلك الليلة أحمتْ والدتي ملعقتين ولسعت بهما باطن قدميّ.

- هل كانت ساخنة جدًّا؟ لا بدّ أنّ جلدك خرج مع الملعقة؟

- لم أستطع الوقوف حتى ظهر اليوم التالي، فما بالك بانتعال الحذاء والنعلين؟ بقيتُ عدة أيام حبيس المنزل.

 

أصبح الطقس مشمسًا في كارون، وبدأت التدريبات العسكريّة والبدنيّة من جديد. كان علينا أن نحافظ على لياقتنا الجسدية، فلا نضعف ولا يصيبنا وهن ونفقد جهوزيتنا. فاستأنفتُ الرياضة وحركات الليونة.

 

كان محمد جواد نصيري بور العنصر الثاني في المجموعة الثانية من حيث الترتيب، فيما كنت أنا العنصر الثاني في المجموعة الأولى. عندما كان الفصيل يصطفّ في الرتل كنتُ وجواد نقف كتفًا إلى كتف. كان جواد مساعدًا لحسين كلستاني. في أحد الأيام طلب منّي أن أكتب له شيئًا للذكرى وقال: يا أخ أهري، اكتب لي نصيحة وجملة تبقى كذكرى.

 

قبلتُ وكتبت له عدّة أسطر مستخدمًا قلم الحبر الناشف الذي يرافقني على الدوام: "بسم الله الرحمن الرحيم. على الإنسان في أي عمل يريد القيام به أن يكون لديه وعي ومعرفة حتى ينجح هذا العمل.

 

139

 


112

الفصل الثاني - المغمور

ليس لخلق الإنسان هدف سوى التقرب إلى الله تعالى، وعلى الإنسان أن يجهد ويسعى بشكل مستمر لهذا الهدف. إذا أراد الإنسان أن يقطع هذا الطريق عليه أن يعتقد بأصول الدين بواسطة الاستدلال، وأن لا يشوب اعتقاده أي شك. وأيضًا عليه أن يكون مجتهدًا في فروع الدين أو يقلّد فيها. أسأل الله أن يرزقنا حسن العاقبة. 2/2/1986. الحقير أصغر أهري".

 

لقد مضى على تلك المذكّرات المدوّنة حوالي العشرين سنة. عندما أقرأ اليوم ما خطّت يداي آنذاك أجد أنّ الشباب لم يكونوا يطلقون عليّ اسم "فيلسوف الفصيل" عبثًا. كم كانت هذه الكلمات راسخة في ذهني في تلك الأيام وكم كنت أنظر إلى الأشياء من خلالها.

 

في كارون، شذّب الكثير من المقاتلين أصحاب اللحى الكثيفة لحاهم. لم تبرز هذه الظاهرة كثيرًا في خيمتنا التي كان أكثر قاطنيها من الأحداث وكان الحاج رحيمي الشخص الوحيد الذي له لحية طويلة وقد قام بتقصيرها. كان هذا الإجراء بناءً لأمر القيادة، وذلك للاستخدام الأكمل للقناع أثناء الهجوم الكيماوي. كان القناع يفقد فعاليّته بوجود اللحية الطويلة. وكان لزامًا أن يلتصق القناع بالوجه بشكل محكم.

 

كنت قد شَهدتُ خلال عملية بدر هجمات العدو الكيماويّة الشرسة، وكان هذا الأمر أحد عوامل الإخفاق في تلك العملية، وأكثر الشهداء فيها سقطوا بسبب الهجوم الكيماوي، وقليل منهم من استشهد بشظيّة أو رصاصة. لهذا السبب وللتمرّن على الوضعيّة ونحن نضع الأقنعة على وجوهنا، قمنا بمسيرٍ استغرق ست إلى سبع ساعات، حتى انقطعت أنفاس الجميع.

 

كان سعيد بوركريم حلّاقًا جيّدًا. وقد ورث هذه المهنة عن أبيه،

 

140


113

الفصل الثاني - المغمور

وكان يساعد الفصائل والسرايا الأخرى في هذا المجال. أُخذ التهديد بالهجمات الكيماويّة على محمل الجدّ، وكان قادة الكتيبة يشرفون بأنفسهم على هذه الإجراءات (تقصير اللحى)، إلى درجة أنّهم كانوا يعاقبون المتخلّفين فيها.

 

كانت كمية الطعام قليلة في كارون. أذكر أننا عندما كنا في كرخه من قبل، كنّا نأكل أحيانًا الخبز اليابس أو المتعفّن، فكان الجوع يأخذ منا مأخذه ويفعل بنا فعله. كان الشباب يجهّزون بطونهم للدجاج الذي سيُقدّم في ليلة الهجوم، ولهذا السبب كانوا ينتظرون تلك الليلة أيضًا.

 

في يوم من الأيام وأثناء تناول الشاي بعد الغداء، تحدّثت أنا ومسعود ومهدي حول موضوع الطعام الشهيّ. تبيّن لنا أنّ مهدي قد أحرز المرتبة الأولى في مسابقة سرعة الأكل في بيته وبين أقربائه. بحسب قوله، كان يأكل صحنًا مليئًا بالأرز ويخنة الـ(قورمه سبزي) خلال دقيقتين، وبإمكانه تناول الطعام مستخدمًا ملعقتين في آن واحد. لم يكن ممكنًا التأكّد من صحّة هذا الادّعاء أو بطلانه.

 

لم يكد اسم الـ(قورمه سبزي) يذكر حتى سال لعاب مسعود، لعلّه بسماعه لاسم الـ(قورمه سبزي) تذكّر الحلوى التي تُصنع في منزله. الحق يقال إنّني أنا أيضًا كنت وما زلت أحب يخنة الـ(قورمه سبزي) كثيرًا، ولقد عانت معدتي ما عانت طوال ذلك اليوم. ليلًا، كان طعام العشاء: كاسة من الحساء ونصف رغيف من الخبز لكل شخصين، كاسة من الحساء أي ثلثاها فقط. لم تكن الكمّية بالشيء الكثير، ولكنها كانت كافية لتشعل المسابقة. قلت لمسعود: "كم دقيقة تستغرق لتأكل هذه الكاسة؟".

 

ألقى نظرة على الكاسة والحساء وقال: "إذا استخدمت ملعقتين أنهيها قبل أن تعدّ حتى العشرين، أو خلال نصف دقيقة كحدّ أقصى".

 

141

 


114

الفصل الثاني - المغمور

قلت ممازحًا مع شيء من الجدّيّة: "لن أشاركك أي كاسة أبدًا".

 

في أحد الأيام كنّا في مناورة برمائيّة في نهر كارون، كانت تذكيرًا لتدريبات مخيم "سفينة النجاة" التي أُقيمت عند سدّ دز وها هي الآن تنفّذ في نهر كارون من جديد. ركبنا زوارق الوحدة البحريّة في الفرقة. اتّسع عشرون إلى خمسة وعشرين زورقًا كبيرًا لجميع أفراد الكتيبة. كان الجميع يرتدون سترة النجاة. تقدمنا عدة كيلومترات على طول النهر، وترجّلنا سريعًا على شاطئه الشرقي حيث جبهة العدو المفترض، ونفّذنا هجومًا عليه. وهو ما يُعرف اصطلاحًا باحتلال رأس جسر، وبعد احتلال منطقة العدو ركبنا مرة أخرى الزوارق عائدين إلى الشاطئ الغربي لنهر كارون. كان هذا تدريبًا أدركنا أهميته والحكمة منه بكل وجودنا بعد أسبوع وذلك عندما عبرت الزوارق تحت القصف الجوّي للعدو نهر أروند الهائج والمخيف، والذي يبلغ عرضه نحو كيلومتر واحد من ضفّة إلى أخرى.

 

كان أحمد أحمدي زاده المساعدُ الثاني لمحسن كودرزي هو الإسناد الذي يقف خلفي مباشرةً. في أحد الأيام طلب منّي أن أخطّ له شيئًا للذكرى. فيما كنت معروفًا بفيلسوف الفصيل، كان يطلَق عليه لقب "فنّان الفصيل". كان رسّامًا ومصمّمًا وخطّاطًا، وهو الذي خطّ عبارة "كتيبة حمزة" أعلى البوابة الرئيسة لمبنى الكتيبة في ثكنة دوكوهه. هل حقًّا كتابةُ فيلسوفٍ لفنّان جديرةٌ بالقراءة؟

 

كان الشباب قد قالوا قبل ذلك إنّ لأحمدي زاده دفترًا خاصًّا من الصور والذكريات المخطوطة. كان قد ألصق صورتي على صفحة وطلب منّي في ذلك اليوم أن أكتب له فيها كلمات للذكرى. لقد كانت هذه الفكرة ابتكارًا خاصًّا بفنّان فصيلنا، إذ لم أرَ شيئًا يماثلها قبل ذلك أو بعده. كتبت له في ذلك اليوم:

 

 

142

 


115

الفصل الثاني - المغمور

"بسم الله الرحمن الرحيم،

سلام عليكم بما صبرتم

بعد السلام والتحية على إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ونائبه بالحق الإمام الخميني وأمة حزب الله. يا إلهي، أعنّا على مواجهة الواقع، وأعطِ القوة لهذا العبد الضعيف حتى يستطيع التحمّل، ومن ثم ثبّت قدميه. أسأل الله تعالى أن يصل إلى الكمال الإنساني المتعالي والذي لا يتحقّق إلا بالتقرب منك. آمين يا رب العالمين.

 

ما إن يضع الإنسان قدمه في هذه الدنيا ويأتي إلى عالم الوجود حتى يبدأ بطرح أسئلة على نفسه، ومن ثم يبحث عن إجاباتها: ما هو الهدف وراء هذا الخلق؟ لماذا خُلِقْتُ أنا الإنسان وإلى أين أمضي.. ولأنه يشعر بالحاجة في نفسه يبحث عمّن هو غير محتاج ليعطيه ويجعله غنيًّا عن الآخرين. تراه كالتائه في صحراء واسعة مظلمة ينظر حوله بعيون محدقة يملأها الشوق والوله بحثًا عن ضالّته. في هذه الأثناء وعندما يشعر الإنسان بالعجز والحاجة يلطف به صانع العالم وخالق الوجود... المرشد والإمام الداخلي للإنسان هما العقل والقلب، يأخذان على عاتقهما القيادة والهداية لسفينة الوجود. والمرشد الخارجي: الأنبياء والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليه السلام والقرآن الكريم، هم الذين يضعون الإنسان على الصراط المستقيم ويحفظونه ويثبّتونه عليه.

 

أسأل الله تعالى أن يلهمنا طريق الحقّ فنلزمه، وأن نبقى ثابتين عليه حتى نفوز وتكون عاقبة أمورنا إلى خير.

إلهي إلهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني.

الحقير أصغر أهري، مخيم كارون 18/11/1364"[1]


 


[1] 7-2-1986م.

 

143


116

الفصل الثاني - المغمور

في الأيام الأخيرة في مخيم كارون وُزّعت الذخائر والمؤن الحربيّة. ورفعنا مصفاة الهواء التدريبيّة للقناع جانبًا لتحلّ محلّها المصفاة العمليّة. كما تفقّد الشباب ما ينقصهم من تجهيزات وقاموا بإصلاح ما يلزم، علبة الإسعاف الكيماوي، علبة الإسعاف العادي، مخازن الرصاص، الحقيبة، مطرة المياه..

 

مرة جديدة قصدنا حقل الرماية في كارون للقيام بعملية التصفير الأخيرة لأسلحتنا، وربما أيضا لكي تعتاد آذاننا على صوت الرماية الكثيفة للرصاص التي كانت تبدو مهولة أحيانًا.

 

في هذه العملية لم يُجهّز الشباب بالمعاطف والخوذ المعدنيّة. في العمليات السابقة، كانت هذه من التجهيزات الفردية، ولكنها الآن ليست كذلك. ربما لم تكن متاحة حتى يتم توزيعها أو ربما كان تخفيف الحمل هو السبب وراء إغفالها. على كل حال، لو كان مسعود يعتمر خوذة معدنيّة لما سقط شهيدًا بإصابة في رأسه. تبقى هذه من التمنيات التي لا طائل منها.

 

كانت نظارتي مربوطة بربطة مطاطية. تفقّدتها جيّدًا حتى لا تكون رخوةً أو مهترئة في بعض أنحائها، فمن دونها لن أشعر بالراحة، إذ سيخيّم الظلام على كل المكان. ولأكون مطمئن البال في ليلة الهجوم عندما نضطر للصّعود والهبوط أحيانًا وللتحرّك منحني الظهور والزحف أحيانًا أخرى، أحكمتُ ربطة نظارتي وجعلتها من طبقتين.

 

عندما أنهيتُ عملي، ذهبت إلى مهدي. كان جالسًا في زاوية الخيمة يصلح قميصه الترابي اللون. وكم كان صبورًا حتى يحضر إبرة وخيطًا إلى كارون. قلت له: "يا أخي، لا تهتمّ كثيرًا بهذا القميص، سيتمزّق إربًا إربًا في ليلة الهجوم". أجابني:

 

 

144

 


117

الفصل الثاني - المغمور

- إن لم يكن نظيفًا لن يصل الرصاص والشظايا إليه. أريد أن أكون لافتًا يُشار إليّ بالبنان حتى يسدّد البعثيّون نحوي.

 

آنذاك ثبّت الزر السفلي في قميصه بإحكام، المكان عينه حيث أصابته الرصاصات البعثيّة بعد عدة ليال.

 

ذات يوم جاء الحاج بخشي إلى كتيبة حمزة وأحضر معه البسكويت والشوكولاتة وبعض النقولات الأخرى. كان هذا الرجل يطلق الهتافات ويدخل السرور على قلب الشباب ويرفع من معنوياتهم. لقد تحلّق الجميع حول آلية "الجيب" خاصّته حيث كان يطلق الشعارات الحماسيّة ويوزّع النقولات (الحلوى) المختلفة على الشباب. لقد كان قنبلةً من المعنويات والحيويّة.

 

أثناء وجودنا في كارون، وخلال الأسبوعين اللذين قضيناهما هناك كانت الثعالب والكلاب والخنازير تفرض سيطرتها على المخيّم ليلًا. في إحدى الليالي كان نُباح الكلاب وضباح الثعالب يتسلّل إلى مسامعنا. كنت أنا ومسعود نجلس جنبًا إلى جنب نتسامر. سألت مسعود: كانت زوجة عمّي تحكي عن جروٍ أحْضَرْتَه أنت إلى المنزل. كأنّك كنت قد ذهبت لشراء.. هل تذكر القصة؟

 

رتّب مسعود حقيبة الـ(آر بي جي) وقال:

- في أحد أيام الشتاء الباردة عندما كان الثلج والجليد يكسوان الشارع والزقاق، أرسلتني والدتي لشراء الخبز. كان لي من العمر عشر سنوات. في طريق العودة، رأيت جروًا نحيفًا بأذنين متدلّيتين، وقد انكمش على نفسه في إحدى الزوايا. كانت درجة الحرارة تحت الصفر وقد غطّى الجليد كل مكان. مسحتُ بيدي على رأسه ووجهه بهدوء. كان يرتجف بشدة فخشيت أن يلقى حتفه. أشفقت عليه فلففته

 

145

 


118

الفصل الثاني - المغمور

بشالي الطويل ليشعر بالدفء وحملته إلى المنزل.

 

سألته: "كم يومًا احتفظت به؟".

 

أجابني: "احتفظت به أيامًا عدة في فناء المنزل وسردابه. بعد أن تحسّنت حاله ذهب ليمرح ويلعب وكان كلّما لمحني في الزقاق لحق بي وشرع بالنباح كأنّه يريد رد الجميل وتعويض ملاطفتي له. مرّت أسابيع وبعد ذلك لم أره في حيّنا قط.

 

كان الطقس في تلك الأيام غائمًا وكنّا ننتظر الأمر بالتحرّك. كان شباب الإعلام يسجّلون رسائل ووصايا شباب الكتيبة على أشرطة الكاسيت. في ذلك اليوم تم تسجيل رسائل مجموعة من الشباب ومن بينهم محسن كلستاني.

 

أخيرًا، ركبنا في شاحنة قد غُطّيت خلفيّتها بالقماش المشمّع، ونحن بدورنا فرشنا غطاءً على أرضيّتها. أثناء ركوبنا لفتنا بيت الشعر الذي كتب على مؤخّرة الشاحنة: "شهامة مع الأصدقاء/ مداراة مع الأعداء". للكلمات التي تُكتب على مؤخرة الشاحنات ثقافتها الخاصة. أحيانًا تكون زبدة لكلام، وأحيانًا أخرى تحكي عن تجارب السفر، ومرة تعبّر عن إيمان وعقيدة وأخرى تكون مثلًا أو بيت شعر بليغًا و.. انطلقنا مع غروب الشمس. كان في انتظارنا داخل الشاحنة صندوقٌ من الفواكه، أثناء مسيرنا أتينا على آخره. ولما انتصف الليل توقفت الشاحنة عن الحركة. أُزيح القماش المشمّع عن قسمها الخلفي وترجّلنا عند بيوت قرويّة بين بساتين النخيل بالقرب من نهر "بهمن شير".

 

كانت تلك البيوت القروية لافتة ومثيرة للاهتمام. فأرض غرفها ترتفع مترًا فوق الأرض، لم تكن الغرف تحوي أي أثاث. فرشنا الأغطية التي أحضرناها معنا على أرضيّة الغرف لنستريح قليلًا، عسانا ننسى

 

146

 


119

الفصل الثاني - المغمور

آلام عظامنا الناجمة عن ركوب الشاحنة والمسير. استلقى بعض الشباب وهم ينتعلون أحذيتهم العسكريّة. في وسط تلك الليلة وزّع عناصر التجهيز الفواكه المعلّبة لإسكات صراخ بطوننا الجائعة. كان التفاح المعلّب من نصيبي، فيما نال مسعود الكرز المعلّب. ناداني من بعيد: أصغر، هل تأكل الكرز؟

 

رمقته بنظرة، كان أشبه بأخ أحبّه، وقد امتلأ وجهه شوقًا قلّ نظيره. انطلق نحوي كعصفور خفيف الجناح قبل أن أجيبه، كان قلبي يرتعش خشية أن لا أراه بعد اليوم. قلت بهدوء: كلا عزيزي مسعود، لقد تناولت فاكهتي المعلّبة.

 

تلك الليلة، لم يهدأ صوت إطلاق قذائف المدفعيّة للحظة، كأنّها كانت ليلة البدء بالعمليّة. بان البِشْر على وجه مسعود لأنه شارك في عملية للمرّة الثانية في حياته، لقد بذل كل ما في وسعه وتخطّى كل الصعاب ليُدْرِك تلك الليلة. كان رذاذ المطر يتساقط ثم يتوقف. مع بزوغ الصباح، أراد الشباب أن يجولوا في المنطقة ليتعرفوا إلى المكان الذي حلّوا فيه، ويستكشفوا ما الذي يدور حولهم، ولكن أوامر المسؤولين اقتضت بأن لا يبتعد أحد عن مكان تموضع الكتيبة. قبل حلول الظهر جاء نبأ يعلن عن بدء عملية "والفجر 8"، سُرّ الشباب وفرحوا.

 

أخيرًا جاء دور ذاك "الدجاج بالأرز" الأسطوري، هذه المرة قدّموه لنا على مائدة الغداء. كان مهدي كبير زاده مشغولًا بتناول طعامه، بينما لم أكن قد بدأت بعد. مددتُ يدي نحوه حاملًا ملعقتي المنحنية وقلت:

- يا أخي، خذ هذه الملعقة وتناول طعامك بملعقتين في آن واحد.

- لهذا الطعام مذاق مختلف. سأتناوله بهدوء لأستمتع به أكثر،

 

147

 


120

الفصل الثاني - المغمور

فإنّ طعام الجنّة لا يُتناول على عجل.

 

بعد الظهر، صعدنا الشاحنات وغادرنا "بهمن شير". هذه المرة وقفنا في الجزء الخلفي من الشاحنة المكشوفة نشاهد منطقة العمليات. عند الغروب ترجّلنا بجانب عنابر أُقيمت في منطقة "أروند كنار". كان عدد العنابر قليلًا، فنام الشباب من جلوس. كذلك نام البعض الآخر في أكياس النوم خارج العنابر.

 

كان يوم الحادي عشر من شهر شباط، الذكرى السنويّة لانتصار الثورة. حوّلت المقاتلات البعثيّة السماء الزرقاء سوداء، وكانت المضادات الجويّة تتصدّى لها بشكل متواصل. ومن حين إلى آخر كان يطلق صاروخ جوّي ضد المقاتلات المغيرة، الأمر الذي لم نشهده من قبل. لم يكن لبطاريات الدفاع الجوي هذا الحجم والتنوّع من النيران في عملية بدر. كان مسار صواريخنا واضحًا بشكل كامل حتى وصولها إلى المقاتلة الصدّاميّة. وقد شهدنا بأعيننا في ذلك اليوم سقوط إحدى مقاتلاتهم فصدحت حناجرنا بصيحات التكبير.

 

مضينا بعد الظهر إلى جانب أحد الأنهر وعبرنا عند الغروب نهر أروند. عندما رأيت النهر وتيّاراته الدوّارة، وأنا الذي خضعت من قبل لتدريبات الغطس، أدركت مدى أهمية التدريبات البرمائيّة وضرورتها. كان أمرًا صائبًا أن يخضع جميع المقاتلين لدورة التدريب على الغوص.

 

ترجّلنا عند الشاطئ الغربي لنهر أروند، لكننا لم نلحظ أي وجود للعدو هناك، فقد قاموا بعمليات تطهير للمنطقة خلال الليالي السابقة. نبّهنا المسؤولون إلى أنّ البعثيّين يختبئون داخل البيوت، وفي المخابئ داخل المدينة وقد يُلحقون بنا الخسائر.

 

148

 


121

الفصل الثاني - المغمور

في ليلة الثاني عشر من شهر شباط، تموضعنا في أحد بيوت الفاو، لم تكن هذه البيوت قرويّة كتلك التي رأيناها في بهمن شير بل اتّخذت شكلًا وطرازًا مدنيًّا وصُمّمت من قبل مهندسين، وكانت في الأغلب مؤلّفة من طبقة واحدة، وهي تابعة لشركة النفط العراقيّة. كما كانت هناك صالة سينما بين تلك البيوت. قمنا بتفقّد غرف المنزل باستخدام مصباح مهدي كبير زاده اليدوي. بدا واضحًا أنّ حياةً مترفة كانت قائمة في ذلك البيت. في تلك الأنحاء، وجدنا أحذيةً ونعالًا قديمة وأغراضًا منزلية متنوّعة. كما كان يوجد تنور لصناعة الخبز. وكنا قبل ذلك قد رأينا تنورًا في المنزل القروي في بهمن شير. إلى جانب التنور وجدنا دراجة هوائيّة بمقود ودواليب ملتوية وحقيبة ظهر. راح مهدي يتفحّص الدراجة بدقّة، فأدركت حينها أنّه خبير بأنواع الدراجات. دقّق أكثر في ماركتها. سألته: "هل تريد أن تشتريها حتى تتفحّصها بهذا الشكل؟". قال: "كلا، بل أريد أن أحصل عليها كغنيمة، فأقودها ليلة الهجوم وأهجم بها على دبابات العدو".

 

لم نبتعد كثيرًا عن غرفة الفصيل الأوّل، كنّا قطعنا حوالي خمسين مترًا عندما قال مهدي:

- لقد حصلت على جائزة في مباراة سباق الدراجات في محلّتنا. كنت أركب الدراجة منذ أن كان لي من العمر عشر سنوات، واكتسبت المهارة بسرعة. عام 79 أو 80، اشترى لي والدي درّاجة رياضيّة فرنسيّة مزوّدة بمبدّل للسرعة من رجل هنديّ بمبلغ 450 تومانًا، تحمل ماركة "آروسا". كانت مذهلة. عندما كنت أقودها كان يشار إليّ بالبنان. كنت أيضًا أملك دراجة أخرى بمقود عادي (المقود الشبيه بأذني الأرنب).

 

أثناء وجودنا في الفاو، قُدّم لنا الهمبرغر بالسمن طعامًا على 

 

149


122

الفصل الثاني - المغمور

مائدة العشاء. ساعدتُ في توزيع الوجبات، بعد ذلك تناولت وجبتي. لم يتناول البعض طعامهم حتى تكون بطونهم خفيفة أثناء الهجوم، ويتمكّنوا من التحرّك بشكل مريح. لعلّهم أيضًا كانوا يخشون العواقب الوخيمة لنوع دسم كهذا من الطعام، ولم يكن خوفهم هذا عبثًا. فقد ساءت حال عنصر تخريب الفصيل حسن قابل، وانقضى الأمر على خير، ولم نضطر لحمله إلى مستوصف الفرقة.

 

كانت ليلة الأربعاء ودعاء التوسّل. لم يكن يفصلنا عن الخط الأمامي للمعركة سوى عدة كيلومترات، حتى إنّه كان من الممكن أن يكون البعثيّون قد تخفّوا على مسافات قريبة. افتتحنا بقراءة الدعاء. كم كان مؤنسًا دعاء التوسّل في أرض العدو، في ليلة مظلمة وغامضة، وعلى مسافة قريبة من العدو الذي نترقّب المواجهة معه، ترافقها أصوات متنوّعة لمدافع تعزف على إيقاع الموت والحياة التي تناغمت مع نور القنابل المضيئة بالأبيض ووميض النيران الحمراء الملتهبة في مخازن النفط التي تسطع علينا من النافذة إلى داخل الغرفة. كان هذا الدعاء هو الدعاء الأخير للفصيل جماعةً.

 

وصلت الشاحنات في منتصف الليل. ركبنا وانطلقنا إلى الخط الأمامي على جادة الفاو–أم القصر التي تقع غرب مدينة الفاو. استطعنا تحديد جهة حركة الشاحنات من خلال وميض النيران الحمراء المنبعثة من تلك المخازن. تسلّلت الشاحنات إلى الأمام بأضواء مطفأة وبهدوء كامل مدة ساعة ثمّ ترجّلنا منها.

 

وقفنا صفًّا إلى يمين الجادة وتقدّمنا مئات الأمتار إلى الأمام. ثم ابتعدنا عن الجادة وتموضعنا خلف ساتر ترابي. كان الطقس باردًا ورطبًا، والصقيع ينفذ إلى لبّ عظامنا. وجد محسن كودرزي قطعةً من الاسفنج فوضعها على أرضيّة المتراس تحت أرجلنا. كنت أرتدي

 

 

150


123

الفصل الثاني - المغمور

سترة واقية من المطر وأرتجف من شدة الصقيع. كانت نيران الهاون الصداميّة تطلق بشكل عشوائيّ ومن دون هدف محدّد.

 

بعد أن أسفر الصبح عرفنا في أي مكان من العالم نحن، فارتاح بالنا من هذه الجهة. كانت نظارتي قد ابتلّت بالندى في وقت السحر فمسحتها بطرف قميصي. لم نكن نبعد كثيرًا عن الخليج الفارسي، إذ إنّ المياه تحيط بنا من جهات ثلاث: نهر أروند وخليج عبدالله والخليج الفارسي. قُدّم لنا البسكويت كوجبة للفطور ولكن من دون الشاي. كنت أرغب أن أشرب الشاي. لقد اعتدت على تناوله على مائدة الفطور.

 

كان بعض من المقاتلين القدامى يغلون الماء في علبة المعلبات الفارغة أو في المطرة المعدنيّة لإعداد الشاي. لقد كانوا يحملون معهم قطع السكّر والشاي اليابس دائمًا. إن لقب "شارب الشاي" يناسب أفرادًا كهؤلاء ولا يليق بأمثالي أنا الذي كنت أنظر إلى السماء مترقّبًا عساها تمطر شايًا في مكان ما!

 

اشتدّت نيران البعثيّين عند الساعة التاسعة والعشر دقائق صباحًا. قام العدو الذي كان يستقرّ على بعد كيلومترات من جادة أم القصر بهجوم معاكس على جادة البصرة، وضرب نقطة ارتكازنا. كانت النيران تنهمر فوق رؤوسنا، فانتقلنا من الساتر الترابي على يمين الجادة إلى المنزلق الترابي عند الجهة اليسرى منها.

 

على الغداء قدّم لنا الباذنجان المتبّل المعلّب وسمك التونة وخبز الـ(الّلواش). تناولنا وجبة خفيفة حتى نقوى في ليلة الهجوم. كان يفصلني متراسان عن مهدي ومسعود. تفقّدت مسعود وسألته عن أحواله. وجدت أنهما لم يكملا طعامهما. سألته: "لماذا لا تأكلان؟ لن

 

 

151


124

الفصل الثاني - المغمور

تقويا على العمل ليلة الهجوم..".

- أنا أكلت حصّتي، ولكن مهدي لم يأكل.

 

قلت لمهدي: "لماذا لا تأكل؟ لن يتوافر لك شيءٌ آخر هنا".

- لي ذكرى سيّئة مع المعلّبات. في شتاء العام الماضي عندما كنت في كردستان، أُغْلِقت طريق المقرّ بسبب الثلوج والعاصفة الثلجيّة فتناولنا المعلبات والخبز المتعفّن لأسابيع. كان الطعام حينها الباذنجان المتبّل أيضًا، فساءت حالي وأُدْخِلت المستشفى. عانيت من إسهال دموي قادني إلى مدينة طهران حيث نقلت إلى مستشفى نجميّة التابع للحرس.

- أيّها الشجاع! كم أسبوعًا حصلت على إجازة مرضيّة؟

 

- ما قبلت الإجازة المرضيّة وما ذهبت إلى البيت. حتى إنّ عائلتي لم تعلم بوجودي في طهران وفي المستشفى. عدت إلى كردستان من المستشفى مباشرةً.

 

سأل مسعود: ما كان ليحصل لو كنت أخبرت عائلتك؟

- أمي ليست على ما يرام.. لو رأتني مريضًا على سرير المستشفى لما سمحت بعودتي إلى الجبهة، وبهذا لكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي ألتحق فيها بالجبهة.

 

وبعد الظهر، وزّع قسم التجهيزات في الكتيبة تفاحًا أصفر. أعتقد أنّ مسعود لم يتناول تفاحته، وأعطاها لمهدي كي يسدّ جوعه. طبعًا، في ظهر ذلك اليوم ذاته أتيت أنا ومسعود على ما تبقّى من المعلبات حتى لا تذهب هدرًا.

 

قبل أن ننطلق أعطونا ذخائر إضافية. إذ كانت الأوامر بأن لا يتقدم أحد إلى الأمام بأيدٍ فارغة. حتى إنّ البعض قاموا بحمل البطاريات - بالرغم من ثقلها - لمساعدة عامل اللاسلكي.

 

 

152

 


125

الفصل الثاني - المغمور

انطلقنا في تلك الليلة بعد صلاتي المغرب والعشاء. تقدّمنا في طابورين على الكتفين الترابيّتين لجادة أم القصر المعبّدة نحو الخط الأمامي. في ظلمة ذلك الليل، لم يكن شيء يضيء سوى قذائف الهاون بالرغم من أنها كانت تعيق حركة قواتنا.

 

إلّا أنّ الطابور كان يتوقف فينزل الجميع أرضًا مع صفير كل قذيفة، ثم يستأنفون حركتهم بعد الانفجار مباشرةً.

 

استغرق الأمر ساعة إلى ساعتين حتى وصلنا إلى الخط الأمامي عند مثلّث مصنع الملح. توقف الطابور قبل المثلّث بمئة متر. كانت كتيبة أنصار الرسول قد استقرّت قبلنا هناك. مكثنا ساعة من الزمن. كان محسن كودرزي يعاني ألمًا في رأسه. قال لي: "يا أصغر، أريد أن أغفو قليلًا.. لا تنسَ أن توقظني". ربما كان ألم رأسه بسبب الموجات الانفجارية، أو لأنّه أطلق عددًا كبيرًا من قذائف ال ـ(آر بي جي). بقيت منتبهًا كي لا يبقى نائمًا ويتأخر عن الطابور.

 

عقد قادة الفرقة جلسة تحت جسر صغير على جادة أم القصر. حُدّدت مهمة كتيبة حمزة بعد جلسة مطوّلة عقدت في غرفة الحرب الميدانيّة تلك: ضرب خط العدو والتقدم من الجبهة الأمامية حتى الجسر الكبير على جادة الفاو-أم القصر. طريق بطول ستة كيلومترات.

 

لإتمام هذه المهمة كان لا بد لعناصر التخريب في الفرقة من تفجير الجسر، وإذا ما تمّ ذلك لن يكون الدفاع النهاريّ صعبًا علينا. تمّ التبليغ بمهمة الكتيبة، قام مسؤولو الفصائل والسرايا بالتنسيقات الأخيرة فيما بينهم. كذلك انشغل الشباب بوداع وتقبيل أعزّائهم. أنا بدوري قبّلت وجوه كل من محسن كودرزي وأحمدي زاده ولك علي آبادي وبوركريم وكبير زاده. قبّلت وجه مهدي كبير زاده من الجهتين، وكان قد عصّب رأسه بعصابة حمراء كُتب عليها "يا مهدي". قبّلته

 

153

 


126

الفصل الثاني - المغمور

وطلبت منه الشفاعة. كان مسعود الشخص الأخير الذي ذهبت لرؤيته. عندما احتضنته كان الطابور قد بدأ بالحركة. فجأةً شعرت باضطراب أربكني وسيطر عليّ فلا قدّر الله أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي أرى فيها ابن عمّي. كان مستبشرًا فرحًا. ما زالت صورة بسمته البريئة مرتسمة في ذاكرتي. لم أدر ماذا أفعل غير تقبيله وماذا أقول غير طلب الشفاعة ولأجل أن أكلمه أكثر ولا يكون جل حديثنا صمتًا أوصيته بعدّة توصيات عسكرية: "ابقَ خلف بوركريم، لا تنفصل عن الطابور، انتبه.. عزيزي مسعود.. انتبه". ولم يجر على لساني كلام آخر. أصبحتُ خالي الذهن كليًّا، وإن كنت قد تفوّهت بكلمة أخرى فإنّي لا أذكرها الآن.

 

كان الطابور ما زال يتقدم إلى الأمام. عبرنا مثلّث مصنع الملح أيضًا. بعد نصف ساعة وصلنا إلى الساتر الترابي عند الخط الأمامي، أي إلى مقدمة جبهة جادة أم القصر. بمبادرة من مسؤول السرية تمّ تشكيل مجموعة اقتحام خاصة، فانضممتُ إليها مع: محسن كودرزي، حسين كلستاني، نصيري بور، مسؤول السرية وعنصر من عناصر معلومات العمليات.

 

انطلقت السرية الأولى من نقطة انتشارها. سارع طابور السرية من الجهة اليمنى للجادة إلى الجهة اليسرى منها. لم تكن المسافة التي تفصلنا عن خط دفاع العدو الأوّل وكمينه طويلة. صرنا نتقدّم منحني الظهر ونمشي مشية البطّة ونتقدّم زحفًا. توقّفنا لدقائق قرب فجوةٍ على الطريق المعبّدة. في هذه الجهة عمّ المكان سكون مهيب، أمّا من الجهة الأخرى، وعلى مسافة عشرين إلى ثلاثين مترًا فكانت أصوات البعثيّين وجلبتهم تتناهى إلى مسامعنا.

 

فجأةً تفرّق الطابور من مكانه إثر انفجار قنبلة وإطلاق قذيفة

 

154

 


127

الفصل الثاني - المغمور

(آر بي جي) ووابل من الرصاص. كنت أركّز بكل وجودي على محسن كودرزي. لقد أطلق قذيفة (آر بي جي) في الدقيقة الأولى لبدء الاشتباك. ناولته قذيفة أخرى فوضعها سريعًا في داخل القبضة وأكملنا المسير.

 

كانت نيران البعثيّين هائلة لا مثيل لها. كأنهم لم يؤخذوا على حين غرّة، بل كانوا مستعدين وجاهزين.

 

لم أعلم ماذا حصل، لقد أضعتُ محسن كودرزي بعد عبورنا عدة متاريس. لاحقًا أدركت أنه قد ذهب إلى الجهة اليمنى من الجادة فيما بقيت أنا في الجهة اليسرى. كان عناصر الفصيل الأول والفصيلين الآخرين من السرية الأولى يتقدمون إلى الأمام. أطلقت النار على عدة متاريس ظنّا مني أن جنودًا بعثيّين موجودون بداخلها فأفرغت قرابة المخزنين من الرصاص. دقّقت كثيرًا ولم أجد كودرزي. كان جلّ همّي أن أجده لأسانده. وأزيز الرصاص من حولي لا يتوقف. القنبلة تنفجر تلو القنبلة، من الأمام والخلف، من اليمين واليسار. يعبر الجنود إلى جانبي ويتقدمون إلى الأمام، لكن خطوة إثر خطوة.

 

كنت أتقدم فوق الجادة المعبّدة وأطلق من حين لآخر رشقات من الرصاص على جوانبي. في إحدى المرات ضغطت على الزناد فانطلقت عدة رصاصات إلى أن فرغ مخزني. كان عليّ أن أبدّل المخزن. على ما يبدو أنّ ذلك المتراس إلى الجهة اليمنى كان مليئًا بالبعثيّين. ينبغي أن أرسلهم جميعًا إلى الجحيم. حملتُ مخزنًا محشوًّا بالرصاص في يدي، ولم أكد أسمع صوت طقّته وهو يستقرّ في مكانه من البندقيّة حتى تغيّرت الأحوال، فقد انفجر شيء ما خلفي. شيء كان أكبر من قنبلة عادية، وجّهت شظاياه ضربة قاسية إلى يدي. تسمّرت في مكاني. لم أشعر بالألم. نظرت إلى الجهة الخلفيّة من ساعدي الأيمن فوجدت

 

 

155

 


128

الفصل الثاني - المغمور

جرحًا عميقًا. لقد انفصل اللحم عن العضل حتى امتلأ قميصي دمًا. جلست وأخذت سلاحي بيدي اليسرى. شعرت بالألم بعد أن رأيت الجرح. لم يكن هناك مكان مناسب للجلوس على الجادة. احتميت بكتف الجادة الترابيّة وجلست في أسفلها. قلت في نفسي: وهل هذا وقت الإصابة بالجراح؟ عليك أن تفرغ مخزنك في أولئك الذين لا أبا لهم!.. كم انتظرت للمشاركة في هذه العملية وترقّبت هذه اللحظات، ما كان يجب أن أنهار بهذه السرعة.. جالسًا، وضعت المخزن في سلاحي وثبّتّه بالاستعانة بقدميّ، ثم أطلقت - غاضبًا - رصاصاته كلّها نحو ذلك المتراس. شعرت بعرق بارد على جبهتي، وقد صبغ الدم كل ملابسي. سألت نفسي: هل أستطيع -وأنا على هذه الحال- أن أقوم بعمل آخر سوى الانتظار؟

 

فجأةً وصل أحمدي زاده لنجدتي. فكّ حزام جعبة قاذف الـ(آر بي جي) فأصبحت خفيفًا. ثم أخرج علبة الإسعاف الفردية من جعبتي وضمّد جراحي. لقد أظهر فنّان الفصيل أنّه مسعفٌ جيّدٌ، وقد أثبت أنّه حاضر في الوقت المناسب.

 

لم يكن يعلم شيئًا عن محسن كودرزي، كذلك لا أعلم شيئًا عن أصغر لك علي آبادي. كأنّ الجميع أضاعوا بعضهم البعض منذ بداية المعركة. طلب منّي قنبلة، فقلت: لديّ اثنتان، خذ من جعبتي..

 

أخذ القنابل وحقيبة ذخائر الـ(آر بي جي) وأيضًا مخازن سلاحي ومضى. وقبل أن يبتعد قلت له: عزيزي أحمد، الجهة اليمنى مليئة بمتاريس البعثيّين، اذهب من الجهة اليسرى.. تلك الجهة أكثر أمنًا.

 

لا أدري إن كان سمع كلامي كلّه أم لا. كنت أرى وميض نار يتوهّج من بعيد، لعلّها آليات العدو التي كانت تحترق. شعرت بدوار في رأسي. وقد امتلأت نظارتي بالدخان والتراب. لم أنظّفها، فقد كانت مربوطة

 

 

156


129

الفصل الثاني - المغمور

بربطة مطاطيّة ولم يكن بالإمكان تنظيفها بيد واحدة. اكتفيت بذلك المقدار من الرؤية وتوجّهت من الجهة اليسرى للجادة، أي خور خليج عبدالله، نحو الخلف، وسلكت طريق العودة. مشيت ومشيت حتى وصلت إلى طابور لقوّاتنا الصديقة، كانوا عناصر السرية الثانية. سألني الأخ قيومي مسؤول السرية: ماذا يحدث في الأمام؟ كيف هو وضع العدو؟

 

- الجهة اليمنى من الجادة مليئة بالبعثيّين. ينتشر العدو بكثرة داخل المتاريس والبيوت المرقّطة.. على الجادة أيضًا يوجد دبابات وناقلات جند على مدى النظر.. أعتقد أنّ الوضع على هذا المنوال وصولًا إلى الجسر.. نيران العراقيّين كثيفة، ولكن مع كل هذه الأوضاع اقتحم عناصر السرية الأولى خط الدفاع البعثي.

 

استمع قيومي إلى كلامي، كلمةً كلمة. ربّت على كتفي اليسرى ونهض من مكانه ومضى برفقة طابور سريّته. خرج الدم من الضمّادة التي ربطها أحمدي زاده قبل ذلك وتخثّر. وصلتُ منهكًا إلى نقطة انتشار الكتيبة المزدحمة. الجميع يسارعون إلى مساعدة جرحى السرية الأولى وسحب الشهداء إلى الخلف. بينما كان طابور السريّة الثالثة جاهزًا ينتظر الأمر بالتقدم. نظرتُ حولي عساي أجد حلًّا: أين سيارة الإسعاف؟ أين دشمة مستوصف الكتيبة؟.. وأنا أنتظر جوابًا عن أسئلتي هذه، شغّل سائق الدراجة الذي يقف إلى جانبي دراجته وقال: يا أخي، اركب.. أنا ذاهب إلى الخلف..

 

ركبت خلفه على الدراجة النارية وأمسكت به بيدي اليسرى بإحكام. خشيت أن أُصاب بالدوار فأقع أرضًا، لأنّ الدراجة كانت تسير بسرعة وقد أُطفئ ضوؤها. جعلني الجلوس خلف السائق لنصف ساعة أرتجف من شدة البرد الذي حال دون إصابتي بالدوار.

 

157


130

الفصل الثاني - المغمور

وصلنا إلى مقرّ الفرقة الكائن على ضفّة نهر أروند. دلّني سائق الدراجة على العنبر المخصّص لمستوصف الفرقة، فيما ذهب هو إلى منشأة أبعد بقليل أعتقد أنها وحدة التجهيزات.

 

فور دخولي المستوصف وجدت مصباحًا خافتًا ضوؤه. كان يبدو كقاعة كبيرة بسقف محكم. أما المسعفون فنائمون. حين أوشكت أن أفقد وعيي أيقظتهم بصوتي العالي: ألا يوجد أحد هنا ليأتي لنجدتي؟

 

جاؤوا وهم يتثاءبون. ذهب أحدهم إلى خارج العنبر فأضيئت الصالة بعد أن ارتفع صوت مولّد الكهرباء. ها أنا الآن أدرك ماذا يدور حولي، صالة كبيرة وأسرّة كثيرة. في الدقائق المعدودة تلك، وصل عددٌ آخر من الجرحى، كانت أوضاعهم حرجة. استلقيت على أحد الأسرّة. نظر مساعد الطبيب النعسان إلى جرح يدي، غيّر الرباط وحقنني بإبرة مسكّن. لم أعد أرى بشكل واضح. أصبح كل شيء معتمًا وصرت أرى الأشياء مزدوجة وثلاثيّة و..

 

تناثرت قطرات الماء على وجهي فأدركت أنني على متن المركب. عندما وصلنا إلى الضفة الشرقية من نهر أروند، وُضعتُ في سيارة إسعاف ونُقلت إلى مستشفى فاطمة الزهراء عليها السلام. هناك بحث الممرضون في جيوبي ليجدوا بطاقة هويتي. سألوا أيضًا عن بياناتي الشخصيّة، بعد ذلك علّقوا مصلًا إلى يدي وبقيت ضمادة جرحي على حالها ولم تُبدّل، الضمّادة ذاتها التي ربطها أحمدي زاده.

 

حتى اليوم الثالث عشر من شهر شباط، بقيت راقدًا في مستشفى الشهيد بقائي في مدينة الأهواز. هناك التقيت أحد عناصر الكتيبة القدامى. كان من المسؤولين وأصحاب الخبرة، على معرفة جيدة بمسعود، وقد علمت منه أنّ "مسعود" قد أُصيب بجراح. حتى ذلك الحين كان الخبر الوحيد المؤكّد أنّه لم يبق من كتيبة حمزة سوى

 

158


131

الفصل الثاني - المغمور

فصيل أو فصيلين سالمين من مجموع القوات، وكذلك علمت أنّ أكثر الجرحى كانوا من السريّة الأولى.

 

انتقلت في الرابع عشر من شهر شباط إلى مستشفى "أمير كبير" في مدينة آراك. أثناء ترجّلي من الباص الذي ينقل الجرحى أمسكتْ ممرّضة بيدي كي لا أقع على الأرض. تراجعت فورًا إلى الخلف. لم تكن من محارمي وأنا من جرحى الحرب. أضف إلى ذلك إنّي لم أكن بحاجة إلى مساعدتها. لقد كانت السيدة الأولى التي أراها بعد فترة طويلة من وجودي في الجبهة. كأنّي أُصبت فجأةً بصعقة كهربائيّة.

 

في مستشفى آراك لم يغيّروا ضمادة جرحي أيضًا. لقد مضى على هذه الضمادة ثمانٍ وأربعون ساعة من دون تغيير، إنّها ذكرى من أحمدي زاده. أنا الذي لا أفقه شيئًا كنت أعلم أنّ عليهم أن يفكّوا الضمادة ويعالجوا الجرح من الالتهابات، ويغسلوه ويلفّوه من جديد بالشاش المعقّم، ولكنهم لم يفعلوا. كنت أدخل إلى مستشفى ثم أخرج منه لأنتقل إلى آخر. في اليوم التالي - الخامس عشر من شهر شباط - نُقلت من آراك إلى مستشفى في مدينة كرج. هناك انكسر الطلسم الذي رافق جرحي، فقد فكّوا الضمادة وعالجوه من الالتهابات، ثم ضمّدوه مرة أخرى. عندما رأيت الشاش القديم والممزّق والممزوج بالدم تذكرت جادة الفاو-أم القصر. لقد شخّص الطبيب حالي، وقال إنني كنت محظوظًا إذ لم يصل الضرر إلى عظمي.

 

غادرت مستشفى كرج في السابع عشر من شهر شباط وتوجهت إلى منزلي في محلة مجيدية في مدينة طهران.

 

حتّى تلك اللحظة لم يصلني خبر مؤكد عن مسعود، لكنّ مهدي كبير زادة قد نال شرف الشهادة. سمعت أنّ رصاصةً أصابته في ظهره وخرجت من بطنه، وقد ضمّد المسعف جرحه في المكان ذاته حيث ضمّد

 

159


132

الفصل الثاني - المغمور

أحمدي زاده جرحي، ولكنّه كان قد أُصيب في مكان آخر من جسده: في كتفه. لقد وجدوا جثّته الممرّغة بالطين في حفرة غمرتها المياه.

 

سمعتُ أنّ جنود العدو أثناء تقدّم الأخوة اختبأوا تحت الدبابات وناقلات الجند فيما تظاهر البعض منهم بالموت واستهدفوا شبابنا من خلف ظهورهم. يبدو أنّ مهدي قد استشهد بهذه الطريقة.

 

لم أستطع المشاركة في مراسم تأبين مهدي أو الذهاب إلى منزله. لقد سلبني جرح يدي الراحة. خطر ببالي أن أذهب إلى مستشفى نجميّة في شارع حافظ. تمّت معاينتي وهناك أدخلت المستشفى. أُخرجت الشظيّة من جرحي في عمليّة جراحيّة.

 

في ذلك اليوم، جاء خبر استشهاد مسعود، وسُلّم جثمانه إلى عائلة عمّي. أي جثمان هذا الذي أتكلّم عنه، كان مجرّد رِجْلٍ من جسد. لم ينبئوني بخبر استشهاده لأني لم أكن على ما يرام. وعندما تحسنت أحوالي أخبروني بذكرى مرور أسبوع على دفنه. بعد عشرة أيام خرجت من المستشفى وذهبت مباشرة إلى منزل عمّي الكائن في محلّة فرديس في مدينة كرج.

 

عُلّقت اللافتات وقطع القماش الأسود على باب منزل عمّي وجدرانه. خنقتني العبرة. لم أكن أصدّق أن أحيا لأرى هذا المشهد. رحل ابن عمّي وصديقي الوفيّ والمخلص وزميلي في القتال وما زلتُ هنا. كنّا قد ترافقنا في هذا الدرب، لكنّي رجعت وحيدًا ذليلًا.

 

هو أيضًا مضى وحيدًا، لقد عادت رجله فقط. منحني الرأس، قدّمتُ واجب العزاء لعمّي وزوجته. أطلعوني على صورة رجله المدفونة تحت التراب. الذكرى الوحيدة التي بقيت من ذلك المدلّل صاحب الوجه الحسن الذي مضى بسرعة وثبات. تعجبت من رؤية هذه الصورة: هذه لم تكن رجل مسعود، فرجله لم تكن كثيفة الشعر هكذا. إنّها رِجل رجل

 

160

 


133

الفصل الثاني - المغمور

في العقد الثالث من عمره ولا تعود لشاب يافع في السادسة عشرة من العمر. لذا من الواضح أنّ حجمها وشكلها لم يكونا متناسبين مع بنية مسعود الجسديّة. تذكرت أيام ذهبنا معًا إلى المسبح، وحين شاركنا في التدريبات البرمائيّة. تأملت الصورة لنصف ساعة.. تمعّنت واستحضرت الذكريات وفكرت مليًّا و.. وأخيرًا لُذْتُ بالصمت.

 

في أوّل فرصة تسنّت لي سارعت إلى مقبرة جنة الزهراء حيث دُفن أصحابي، ذهبت إلى القطعة 26، الصف 84، الرقم 41، إنّه المكان الذي دُفنت فيه تلك الرجل. جلست إلى جانب القبر وقرأت سورة الفاتحة، لكنّ قلبي كان يشهد بأنّ الصورة تلك لم تكن صورة رجل مسعود. أصابني القلق والاضطراب، ربما يكون مسعود قد أُصيب بجراح وهو بحاجة إلى مساعدتي.

 

لم تفارقني هذه الشبهة، يجب أن أدفعها بشكل من الأشكال، فحدّثت نفسي: أما كانوا يطلقون عليك لقب فيلسوف الفصيل!؟ أيها السيد الفيلسوف، يجب أن يُكشف سرّ هذه الجثّة!

 

فور عودتي إلى المنزل. ذهبتُ في طلب أحمدي زاده الذي أُصيب بجراح بعد أن ضمّد جرحي. قصصتُ عليه قصة تلك الرِجل المجهولة. كان أحمدي زاده قد سمع أنّ "مسعود" تعرّض لضربة على رأسه ولعصف انفجاري، وأنه كان قد نُقل في سيارة الإسعاف. زادتني مقولة أحمدي زاده تصميمًا على التحقيق.

 

وكانت قد عُلّقت قلادة على تلك الرِجل. لا بدّ أنّ أحدًا ما حصل على هذه القلادة وعلّقها على تلك الرِجل بعد شهادة صاحبها الذي تقطّع جسده. لم أستسلم ولم أتعب من التحقيق، انطلقت بالقطار في بداية شهر آذار من العام 1986 نحو منطقة الجنوب. ركبت باصًا صغيرًا من محطة القطار في الأهواز، ومن ثم شاحنة تويوتا صغيرة

 

161

 


134

الفصل الثاني - المغمور

حتى أصل إلى مقر الفرقة في مخيم كارون.

 

بدايةً ذهبت إلى وحدة "تعاون" الفرقة. أشارت إحصاءات الوحدة إلى أنّ مسعود قد جُرح وتمّ نقله إلى مستشفى آية الله كاشاني في مدينة أصفهان، فهممتُ بمراجعة قسم إحصاء الأفراد في الفرقة. هناك كانت الإحصاءات تشير إلى إصابة مسعود بالجراح وشهادته بعد ذلك.

 

قمت بعدها بزيارة قصيرة إلى كتيبة حمزة. الحمد لله، لم تكن مزدحمة. بدا لي أنّ العناصر الموجودين داخل الخيم مجهولون بالنسبة لي. لقد تمّ حلّ كتائب من الفرقة ليحلّ مكانها كتائب قتاليّة، وكتائب خدمات ودعم قتاليّ أخرى. وجدت مهدي بور وأنصاري ورمضاني في خيمة الفصيل الأوّل. كانوا قد أُصيبوا أيضًا بجراح، ولكنهم لم يغادروا منطقة القتال فجراحهم كانت طفيفة.

 

أخبرتهم القصة العجيبة المليئة بالألغاز التي تشغل ذهني، وطلبت مساعدتهم في حلّها، اتّفقت آراؤنا جميعًا بأنّ مسعود أُصيب بجراح ونُقل إلى الخلف. كنت أرغب أن أبقى لوقتٍ أطول معهم في خيمة الفصيل، لكن لم يكن لديّ متسع من الوقت. ذهبت بعدها في زيارة خاطفة إلى ثكنة دوكوهه. قطعت المسافة بين ثكنة دوكوهه ومخيم كارون مرات عدة. كنت آمل أن أرى قدامى مقاتلي الكتيبة عسى أن أحصل على خبر جديد عن مسعود.

 

تكلّلت جهودي بالنجاح نوعًا ما. فقد أكّد عدة أشخاص آخرين أنّ مسعود قد أُصيب برأسه. قال أحدهم: كان مسعود يقف إلى جانب ناقلة جند بعثيّة وفجأة انفجرت بما فيها من ذخائر. ونتيجة ذلك الانفجار تعرّض مسعود لضربة في رأسه جعلته يترنّح في مكانه، ولكن الشباب قدّموا له المساعدة على الفور ونقلوه إلى الخلف.

 

استغرق الأمر أسبوعًا كاملًا حتى بحثت في جميع مستشفيات

 

162

 


135

الفصل الثاني - المغمور

مدينة الأهواز وتفقّدت جميع الجثث التي لم يُعرف أصحابها، لكنّي لم أجد "مسعود" بينها. أحيانًا كنت أعتقد أنه ربما أثناء الانفجار والعصف الانفجاري وقعت القلادة من عنق مسعود، ولكن من الذي التقطها وعلّقها إلى تلك الرِجل؟ أحيانًا أخرى كنت أحدس أنّه ربما تعرضت جنازة مسعود أثناء وجودها في داخل الإسعاف لغارة جويّة وتقطعت إربًا إربًا في مكانها واحترقت. لم يفارقني سيل الخواطر.

 

تحدّثت إلى عامل بريد الكتيبة. هو أيضًا رأى "مسعود" مصابًا بجراحٍ ونَقَلَه بنفسه إلى داخل الإسعاف. تيقّنت حينها أنّ جثة مسعود ما زالت سالمة إن كان قد استشهد. ركنتُ إلى زاوية وبدأت بتجميع اللغز -وكأنّه قطع البازل- الذي كنت قد ألّفته بنفسي. وضعت الفلسفة جانبًا لأتحوّل إلى محقّق. لم يفارقني وجه مسعود أبدًا. لربّما كان الآن فاقد الوعي أو مجهول الهويّة في زاوية ما داخل أحد المستشفيات. دعوتُ الله أن يوفّقني مرة أخرى لتقبيل وجهه. كانت آخر مرة رأيته فيها واحتضنته عند مثلّث مصنع الملح. في تلك اللحظة كان كل منّا قد وعد الآخر بالشفاعة، كان ذلك قبل بدء الهجوم بساعة واحدة أو أقل.

 

عندما عدت إلى طهران، حصلت على إحصائية الجرحى والشهداء من جمعية الهلال الأحمر في طهران. كما وجدت اسمي والطريقة التي أُصبت بها في تلك القائمة الطويلة. فهمت وقلت في نفسي: إذًا هذه إحصائيّة دقيقة. بحثت جيّدًا لأجد أيضًا اسم مسعود! كان اسمه بين أسماء الجرحى الذين أُدخلوا مستشفى آية الله كاشاني في مدينة أصفهان. اتصلت بالمستشفى هاتفيًّا. استغرق الأمر ساعات ليؤكّدوا لي في نهاية المطاف أنّ مسعود كان هناك في اليوم الثالث عشر من شهر شباط، وقد استشهد بسبب الجرح في رأسه.

 

حينئذٍ، تيقّنت أنّه قد استشهد. لم أكن قد صدّقت بعد خبر

 

163


136

الفصل الثاني - المغمور

استشهاده يوم شاركت في مراسم تأبينه، ولكن ما إن وضعت سمّاعة الهاتف في مكانها حتى خنقتني العبرة. لقد تأكدت من شهادة مسعود! حقيقة حلوة ومرة. طبعًا كنت سعيدًا لأني استطعت بدقّة وإصرار أن أكشف عن حقيقة كبرى. كما أخبرني مسؤول ثلاجة الموتى في مستشفى آية الله كاشاني أنّ جثة مسعود قد نُقلت إلى مركز الطب الشرعي في طهران قبل شهر. فذهبت سريعًا إلى مركز الطب الشرعي، وعندما أحضر موظف المركز ملف الشهيد مسعود أهري أمامي بدأ يتحدث بما يعتلج في صدره وقال: "متى يتّضح ما يجب القيام به تجاه هذا الشهيد؟.. لا أعلم".

 

سألته مستغربًا: "ماذا حصل؟ ما القصة؟".

- قبل عدة أسابيع نُقلت جثة أهري من أصفهان إلى طهران فقمت بإرسالها إلى كرج قبل عشرين يومًا، ولكنّها رُدّت إلى هنا. قالوا إنّه قد تمّ تسليم جثة أهري إلى عائلته في مدينة كرج وهذه ليست بجثّته. فقمت بمقارنة بياناته الشخصية مع عنوان المنزل وكانت النتيجة مطابقة.

 

قلتُ له:

- هذا هو عنوان منزله نفسه.. إذًا لماذا لم تُبدِ إصرارًا؟

 

- أرسلت الجثة مرة أخرى إلى كرج ولكنهم أرجعوها من جديد. والآن لا تستطيع أن تأخذ الجثة، فلستم وحدكم من يدّعي أنها تعود لابنهم. أجابني الموظف.

 

- وكيف ذلك؟ سألته.

 

- توجد عائلة أخرى مازندرانية فُقد ابنها، وتدّعي أنّ هذه الجثّة تعود له وتريد أن تأخذها. هم الآن يملأون استمارة الاستلام. لو كنت تأخرت وأتيت في الغد لوجدت أنّ الجثّة قد دُفنت في مدينة ساري.

 

164

 


137

الفصل الثاني - المغمور

دخلتُ لأعاين جثّة مسعود. كان قد أُصيب بشدة في رأسه من جهة الخلف، وكأنّ جمجمته قد انكسرت. تحقّقت من محفظة الوثائق المرفقة بالجثة، كان عنوان المنزل المكتوب على البطاقة دقيقًا وصحيحًا. عدا هذه البطاقة كان قرآن مسعود الجيبي وساعته اليدويّة المعفّرة بالدماء في داخل المحفظة. هي الساعة ذاتها التي كان والده قد أهداه إياها.

 

آسفًا للمصير الذي لاقاه جثمان مسعود، شكرت موظف مركز الطب الشرعي وأسرعت قاصدًا مدينة كرج. لم يكن تضييع الوقت مسموحًا. عمّي وزوجته ليس لديهما أي فكرة عن كل هذه التفاصيل، وخلال الطريق رحتُ أفكر من أين سأبدأ بالحديث معهما وماذا أقول؟ حقًّا كيف لي أن أُفهم أبًا وأمًّا مفجوعين بولدهما أنّ الرِجل المدفونة ليست جزءًا من جثة ولدكما المقطّعة، وأنّ جثة مسعود سليمة وتامة وما زالت في برّاد حفظ الموتى في مركز الطب الشرعي في مدينة طهران، وأنّ الجثة قد أُرسلت مرتين إلى كرج وعادت أدراجها، وأنّ ثمة عائلة أخرى من مازندران تدّعي أن الجثة تعود لولدها، وإذا لم يسرعوا عليهم استخراج جثّته لاحقًا من داخل قبر في مقبرة في مدينة ساري و.. حقًّا، إن كان عمّي على قدر من التنظيم والدقّة ولديه خبرة في مجال الطب كيف ولماذا أخطأ خطأً كهذا؟

 

لم يتحمّل رأسي كل هذه الأسئلة والتحليلات، فأطلعت والدي على القصة كاملة، وانطلق معي إلى كرج كي يساعدني في هذه المهمة الصعبة. فالأخ وأخوه قادران حتمًا أن يفهما لغة بعضهما البعض على النحو المطلوب. تعجّب عمي عندما رآني مع والدي، خصوصًا أننا كنا قد وصلنا معًا وعلى حين غرة. تحدثنا وتحدثنا بما بدا لنا من كلام

 

165

 


138

الفصل الثاني - المغمور

حتى اقتنع عمّي بأنّ تلك الرِجل المليئة بالشعر لا تعود لمسعود و.. كأنّ جبلًا كبيرًا زال عن كاهلي.

 

وفي صباح اليوم التالي ذهبنا برفقة عمّي وزوجته إلى مركز الطب الشرعي في طهران. كان على الوالدين أن يتعرّفا إلى الجثمان حتى يُحرز الاستلام شروطه القانونيّة. مع أنّه مضى ثلاثون إلى أربعين يومًا على استشهاد مسعود إلا أنّ لون الجثة لم يتغيّر. كان الأب والأم متفاجئين ينظران بدهشة إلى تلك الجثة. إلى أن انفجرت زوجة عمّي بالبكاء وأراحت نفسها، وهذا معناه أنّ الأم قد تعرّفت إلى ولدها.

 

وبدوره تحقّق عمّي من أسنان مسعود. كان ناب مسعود الأيمن يعلو السنّ المجاور له. رأى عمّي ذلك فتعرّف هو الآخر إلى جثة ولده. كما إنّ الوثائق المرفقة بالجثة كانت بذاتها شهادة صريحة. مع كل هذا كانت العائلة المازندرانية ما زالت مصرّة على طلبها. وكانت قد حضرت برفقة جماعة كبيرة لاستقبال الجثمان باحترام ونقله إلى مدينة ساري تمهيدًا لمراسم التشييع والدفن، وقد جُهّزت التدابير اللازمة لذلك، كما كانوا على عجلة لإتمام هذا الأمر بالرغم من عدم صوابيّته. صاح الطبيب الشّرعي في وجوهنا قائلًا: ينبغي من أجل الحكم الصائب والصحيح ورفع الاختلاف أن تخضع الجثة لفحص الحمض النووي. عاد عمّي وزوجته إلى كرج ليصحّحوا الاشتباه الذي وقعوا فيه، وليخبروا الأقارب بالموضوع ويتّخذوا الإجراءات اللازمة ليوم التّشييع والدفن والتأبين. بعد يومين أدلى الطبيب الشرعي بإفادته، وحدّد العائلة التي تعود الجثّة لها. لقد رقّ قلبي لتلك العائلة المازندرانية فقد مضت ستة أشهر على استشهاد عزيزهم وكانوا يبحثون عن جثّة ما -بأعين مغمّضة- لدفنها عسى أن يبعث ذلك الطمأنينة في قلوبهم وأرواحهم.

 

166

 


139

الفصل الثاني - المغمور

وقبل حلول عيد النوروز وعلى مشارف العام 1365ش (21 آذار 86م) دفنت جثة مسعود وأُقيم حفل تأبينيّ له. وهذه المرة دُفن مسعود بتاريخ 24/12/1364 (15 آذار 1986) في القطعة 53 من مقبرة جنة الزهراء. وقد وضعت بلاطة جديدة على ذلك القبر السابق في القطعة 26 مهرت بعبارة "الشهيد المجهول". "الشهيد المجهول" يعني جثمانًا عزيزًا لأب وأم ما زالا يطرقان هذا الباب وذاك ويجولان هذا الزقاق وذاك بحثًا عن فلذة كبدهما. جرحٌ موجع ما زال يسحق أرواح وقلوب عائلات كثيرة ويخنقها! وهل يكون هذا جزاء مثل هذه الأمهات؟

 

لقد مضت سنوات على تلك الحرب الفتّاكة التي نشأت من عصبيّة جاهليّة لنَذْل حكم أرض الجوار، وفي الوقت عينه كانت امتحانًا لرجولة واستقامة أصحاب الشهامة من أبناء أرضنا الأبيّة. والآن يجب أن يحاكِموا ألعوبة الاستعمار تلك، طبعًا إن سمح بذلك الموصومون بالعار والخزي.

 

قبل سنوات خلت، رأى أحد أهالي فرديس في عالم الرؤيا أنه يجب تبديل بلاط قبر تلك الرجل المدفونة. لقد فسرنا تلك الرؤيا بأنّ تلك الرِجل هي الجزء الوحيد المتبقّي من جثمان عزيز على قلب والدة ما زالت تترقّب جسده بفارغ الصبر. لقد بدّل ذلك الشخص بلاطة القبر الأسود بحجر ثمين ملوّن بالأبيض والأحمر. ما زلت أزور القطعة 53 في مقبرة جنة الزهراء في طهران مرة على الأقل في السنة، ولم أنسَ أبدًا القطعة 26.

 

لقد سكن في القطعة 53 أعزائي من السنوات الغابرة، مسعود أهري، مهدي كبير زاده وآخرون كثر.

 

بقي شريط مسجّل من مسعود أوصى فيه بوصاياه، إلّا أنّ وصاياه المكتوبة بخط يده لم يصلنا منها شيء.

 

167

 


140

وثائق الفصل الثاني

وثائق الفصل الثاني

 

من مجموع وثائق هذا الفصل نورد في هذا القسم 19 ورقة من الوثائق المكتوبة و13 صورة:

1 - أصغر علي محمد بوراهر

1-1 المعلومات الشخصية

- حائز دبلومًا في الرياضيات ودبلومًا في الاقتصاد(الشهادة الثانوية)، متأهل، وله ثلاثة أولاد، المهنة حرة.

 

- محل وتاريخ الولادة: اهر، العام 1969.

 

- مدة المشاركة في الجبهة وطريقة الانتساب: اثنان وخمسون شهرًا من الخدمة في صفوف التعبئة.

 

 

168

 


141

وثائق الفصل الثاني

- تاريخ الخبرة العمليّة والتشكيل العسكري: بوكان، سنة 1983 (عنصر قناص)، عملية بدر (مساعد رامي رشاش BKC)، جبهة دفاع مهران، العام 1985 (مساعد رامي آر بي جي)، عملية والفجر8 (مساعد رامي آر بي جي)، جبهة دفاع الفاو، العام 1986 (مساعد رامي آر بي جي)، عملية كربلاء1 (مساعد رامي آر بي جي)، عملية كربلاء5 (مسؤول فصيل)، عملية نصر7 (قسم الإعلام في الكتيبة)، عملية بيت المقدس2 (إعلام الكتيبة)، عملية بيت المقدس4 (الإعلام في الكتيبة)، عملية مرصاد، (الإعلام في الكتيبة).

 

- عدد الإصابات: إصابة الساعد والكتف اليمنى (1985)، قطع عصب السياتيك في الرجل اليسرى (1986)، إصابة بالقصف الكيماوي في الرئة والجلد (1988).

 

- نسبة الإصابة المئوية: 45 %.

 

169

 

 

 

 

 

 


142

وثائق الفصل الثاني

2-4 الوصيّة

هذا المتن تمّ إفراغه من شريط مسجّل.

 

أتمنى أن أزور سيدي الحسين بن علي عليه السلام عند استشهادي.

 

والدي العزيز، آمل أن لا تحزن على فراقي ولا تجزع وأن لا تبكي وتنتحب، فيكون بكاؤك وحزنك سببًا لسعادة أعدائنا.

والدي العزيز، لا أدري كيف أشكرك إذ أوصلتني إلى هذا العمر وربّيتني فلساني عاجز عن تقدير محبّتكم ولطفكم وتعبكم وعذابكم في سبيل تربيتي.

 

آمل أن لا تسأموا من الحياة لعدم وجودي بينكم. يا والدي، يا نور منزلنا، أتمنى أن تعلم أنّ الله تعالى يبتليكم ويمتحنكم، وعليكم أن تشكروه وتكونوا فخورين أنّ ولدكم نال سعادة الاستشهاد في سبيل الإسلام والدفاع عن الأهداف السامية.

 

يا والدي العزيز، يا عزيز قلبي أطلب منك متوسّلًا إليك أن تعفو عني وتسامحني إن كنت قد أسأت إليك من حين لآخر.

 

السلام على أولئك المرابطين على الثغور، في منزل الصيحات والسكون حيث رائحة الطراوة ورائحة التراب. أجل، إن رائحة التراب تفوح من الأصحاب هنا، ولم يكن عبثًا أن أطلق النبي محمد  صلى الله عليه وآله وسلم على الإمام علي  عليه السلام لقب أبي تراب. لقد كان علي  عليه السلام يأنس بالتراب، يأنس بالظلمة ويأنس ببستان النخيل.

 

إلهي إنّ قلبي يعتصر ألمًا، ما زلت أترقب هذه اللحظة الحلوة وأنتظرها منذ أمد بعيد، وكم من الليالي غفت عيناي وأنا أهيم في بحرها عشقًا.

 

172

 


143

وثائق الفصل الثاني

2-5 مقابلة مع أم الشهيد

رُزقت بمولودي الثاني وكان صبيًّا. وُلد مسعود في العام 1969. كان طفلًا هادئًا ذا صدر رحب. كان قليل المشاغبة والأذى. وكان يساعدني وأخته في أعمال المنزل. ولمّا كان يحب الخياطة وطهو الطعام، فقد كان يحمل معه في أسفاره دائمًا إبرةً وخيطًا وينجز أعمال الخياطة الصغيرة بنفسه.

 

عند انتصار الثورة، كان لمسعود تسع سنين من العمر فقط، ومع هذا كان يشارك في التظاهرات جنبًا إلى جنب معنا، أنا ووالده.

 

في شهر شباط من ذلك العام (1979)، صرف مسعود جميع مدخراته واشترى قطنًا ودواءً أحمر ليتبرّع به للمسجد. أراد أن يقدم شيئًا للشعب والثورة.

 

كان والد مسعود مساعد طبيب وموظّفًا رسميًّا في الدولة. أتينا إلى كرج في العام 1979-1980 وأقمنا فيها. توظّف والده في مستشفى كمالي في كرج. أحيانًا كان مسعود يذهب لزيارته في مكان عمله، ولكن طبعه لم يكن موافقًا لعمل والده، إذ لم يكن يتحمّل رؤية الجروح والدم والمرض.

 

وعندما بلغ الخامسة عشرة، بدأ يتردّد إلى المسجد ومركز تعبئة المحلّة إلى أن التحق بالجبهة. شارك إلى جانب ابن عمّه في العمليات، وأُصيب بجراح في رأسه وجمجمته. أحيانًا لم يكن ينام ليلًا من شدة الوجع، فكان والده يضطرّ إلى حقنه بإبرة مسكّن للألم. في العام 1985انتقلت أخت مسعود إلى بيت الزوجيّة. قلت لمسعود يا ولدي بعد هذا العرس يأتي دور خطبتك".

 

كان مسعود خجولًا فطأطأ رأسه إلى الأرض. مع أنّه لم ينه المرحلة

 

173


144

وثائق الفصل الثاني

المتوسطة بعدُ، وعليه أن يكمل تعليمه ويلتحق بالجامعة، فأردت أن أحول دون التحاقه بالجبهة التي لم يكن شيءٌ ليعيقه عنها، إلّا أنّ شيئًا لم يحصل. في إجازته الأخيرة لم أهتم به كما يجب، على الرغم من بقائه في المنزل مدة أسبوع. وذلك بسبب حادثة اللصوص الذين دخلوا إلى منزلنا وسرقوا الأمتعة والأثاث. في تلك الأيام التي أهملته فيها، وجدته يهتم بطائر سنونو كان يأتي كل يوم ويجول في فناء البيت. الطائر المسكين، كان جناحه مكسورًا ولم يكن يقوى على الطيران بسهولة. كان مسعود يرمي الحبوب للطائر فيلتقطها ويزقزق.

 

في اليوم الأخير صنعنا الحلوى معًا. كانت حلوى لذيذة. ولكن مذاقها كان مرًّا بالنسبة لي بعد أن تفوّه مسعود بكلماته: إنها حلوى استشهادي.

 

قال مسعود جملته هذه ولا أدري لما وقع في قلبي أني لن أرى ولدي بعد الآن. لم أتناول شيئًا من تلك الحلوى. حملها ولدي معه في طريق عودته إلى الجبهة ليتناولها مع رفاقه في القطار. كانت تلك الحلوى الأكثر حلاوةً بالنسبة لولدي.

 

عندما رحل مسعود إلى الجبهة صرت أضع الحبوب لطائر السنونو ذاك، ولكني نسيت كل شيء بعد سماعي خبر استشهاده. لقد صُدمت أنا وزوجي واعترتنا حال من الاضطراب الروحي والنفسي إلى درجة أنّنا لم نلتفت إلى أنّ الجثة التي استلمناها لم تكن لمسعود. عندما جاء ابن عمّه التفت إلى الخطأ الحاصل، وبعد مدة رأيت جثّته. أُعلنت الجثة السابقة جثّةً لشهيد مجهول الهوية، فيما وارينا جثمان مسعود في الثرى.

 

في شتاء العام التالي أتى ذلك الطائر مرة أخرى إلى منزلنا، كان يحطّ فوق شجرة التوت ويزقزق. كنت أضع له الحبوب ويبدأ هو

 

 

174


145

وثائق الفصل الثاني

بالتغريد. لسنوات عدة وفي كل شتاء كنت أذكر ولدي عندما أرى ذلك السنونو. كان مسعود عطوفًا وحسّاسًا. لم يؤذ أحدًا طوال حياته التي استمرت ستة عشر عامًا. بعد شهادته سمعنا عن مآثر حنانه وعطفه. عندما استشهد جاء أستاذه في المرحلة الابتدائية من طهران إلى كرج لمقابلتنا. قال إنّه خلال السنوات التي كنت فيها أستاذًا لمسعود، كان يهدي الحليب الذي يقدّمونه له في الصف إلى الفقراء والمحتاجين.لم يكن عيشنا في الماضي وحتى الآن عيش رفاهية وترف، كانت دائمًا معيشة عادية، ولكن ولدي كان حنونًا، لم يكن يشرب الحليب، وكان يقدّمه للأطفال الذين هم بحاجة إلى الطعام.

 

 

175


146

وثائق الفصل الثاني

3-6 مقابلة مع والد الشهيد

ولد مهدي في صيف العام 1969، كان الولد الثالث في العائلة وله أخ وأخت يكبرانه سنًّا. الأمهات هنّ الأكثر معرفة بطفولة أبنائهنّ، ولكن والدة مهدي لم تعش بعده طويلًا. ولو كانت حاضرة بيننا اليوم لأخبرتنا الكثير الكثير.

 

كان ولدي مؤمنًا ومنظّمًا جدًّا فلا أذكر أنه ذهب إلى فراشه يومًا من دون أن ينظّف أسنانه. حتى إنّه كان ينظّف أسنانه قبل الصلاة، وكان فمه طيب الرائحة دائمًا.

 

عندما كان يدرس في المرحلة المتوسّطة، جاءني يومًا وسألني: والدي العزيز، هل دفعت خمس أموالك؟".

 

أهل يزد ملتزمون جدًّا بالمسائل الشرعية، أنا أيضًا كنت كذلك. بدايةً تعجبت وحملت كلامه على نحو المزاح وقلت: يا ولدي لم أدفع، هذه السنة لم أدفع خمس أموالي.

 

منذ اليوم التالي امتنع مهدي عن تناول الطعام. أساسًا لم يخطر على بالي السبب. بعد يومين من الإضراب عن الطعام أخبرني مهدي بالسبب، وأدركت أنّه كان بسبب جوابي ذاك حول موضوع الخمس! سألته من علّمك هذا الأمر حتى لا تتناول الطعام.

 

- أستاذي في المدرسة.

 

في اليوم التالي ذهبتُ إلى المدرسة وتحدثت إلى أستاذ مهدي. مددتُ إليه يديّ وقلت: "انظر.. انظر، لقد سعيت وتعبت سنوات بهاتين اليدين. انظر إلى أنسجة يدي. لقد عملت، وأسّست معيشتي وربّيت أولادي بالمال الحلال. لماذا تعلّمهم كذبًا؟ لقد أصغى ابني إلى كلامك وامتنع عن الطعام حتى برزت أضلاعه. أنت مقصّر في محضر الله ورسوله".

 

179

 


147

الفصل الثالث - المتآخيتان

الراوي: أصغر لك علي آبادي

التشكيل: مساعد ثالث لـ "رامي آر بي جي"، المجموعة الأولى

تاريخ ومحلّ إجراء المقابلة الأولى: طهران 2003م.

 

 

 

الفصل الثالث*[1]

المتآخيتان

وُلدت بالقرب من نهر أروند، في محلّة "مولوي"، إحدى ضواحي "خرّمشهر"، وتُسمّى أيضًا "سن تاب". كان نهر "أروند" من وَسَمَ طفولتي بالهدوء، وها أنا الآن أستحضر ذكرياتٍ عنه. شهدتْ حياتي تقلّبات كثيرة، لكنّني لم أتنكّر لأصْلِي وماضيّ، ولم أنقطع عنه يومًا. مع أنّي أعيش اليوم وأعمل في طهران في مؤسّسة المرافئ والملاحة، لكنّي ما زلت أحنّ إلى الماء والساحل والبحر وهوائه الرطب، كما إنّني على صلة به. يقع منزلنا بالقرب من مديريّة مرفأ "خرّمشهر"، التي كان أبي موظّفًا فيها. كان راضيًا عن عمله في المرفأ ويحبّه. سمعنا منذ الصغر باسم العراق، البلد الجار الذي يفصلنا عنه نهر "أروند" الجميل. كما كنّا على مقربة من "شلمجه"، فإلى الجهة الغربيّة من محلّة "مولوي"، تقع "درب فعليّة" و"صد دستگاه" ثم محلّة "الجسر الجديد" التي تؤدّي إلى مركز "شلمجه" الحدوديّ. كان ساحل نهر


 


[1] * ترجمة الحاجة فاطمة شوربا

 

182


148

الفصل الثالث - المتآخيتان

"كارون" جميلًا وساحرًا، يحوي ممشًى كبيرًا وسوقًا صغيرًا، يبيع فيه الباعة الجائلون وبائعو الخرضوات البضاعة الأجنبيّة. يسبح الأولاد في هذا النهر ويرفّهون عن أنفسهم. أمّا السيّاح فكانوا يصعدون عن طريق منصّة خاصّة بالمسافرين على متن المراكب ويقومون بجولة سياحيّة في نهر "كارون"، ويصلون أحيانًا إلى منطقة "حفّار"، حيث ملتقى نهر "كارون" بـنهر "بهمن شير"، ومن ثمّ يعودون. يُطلق على هذا السوق والساحل والمنصّة "لب كارون". وقد تعلّمت السباحة في تلك المنطقة في سنّ السابعة أو الثامنة. كانت مياهها موحلة، وفيها دوّارات مائيّة، لكن لم يكن بيدنا حيلة، سوى المخاطرة والنزول إلى الماء من أجل الترفيه عن أنفسنا. فالسباحة في نهر "كارون المعطاء"، لا تكلّفنا شيئًا مقارنة بالسباحة في مسابح المدن النظيفة والفخمة. كانت خرّمشهر مدينة عامرة وجميلة، وقد عشت فيها أربعة عشر عامًا بسعادة عارمة. كان العراقيّون يتردّدون بحرّيّة إلى جزيرة "مينو" الواقعة بالقرب من "آبادان". جزيرة واسعة مليئة بأشجار النخيل، كانت في أيّام "النوروز" وخاصّة في "يوم الطبيعة" ملاذًا لأهل الترفيه والتسلية والنزهات.

 

بعد سنتين (تقريبًا) من انتصار الثورة، أقبل الصيف حارًّا جدًّا، لم أشهد مثله طوال سنيّ حياتي. وكنّا كلّ سنة بعد امتحانات آخر العام الدراسي، نسافر إلى طهران لنرفّه عن أنفسنا ونتخلّص من ذلك الحرّ والرطوبة التي تقطع الأنفاس، لكن تلك السنة، ذهبت أمّي وبعض إخوتي فقط، أمّا أنا وأختي الكبرى، فبقينا مع أبي. مضى شهران من فصل الصيف، بدأنا نسمع أصوات طلقات رصاص في الليل وأحيانًا في النهار، وذلك كما كنّا نسمعها أيّام الثورة ولياليها. بدت الأوضاع غير طبيعيّة، ولا يمكن التنبّؤ بما قد يحدث. حتى في

 

183

 


149

الفصل الثالث - المتآخيتان

أواخر شهر آب بدأ بعض الأهالي يتركون المنطقة بحجّة عدم الأمن. جاء عمّي إلى بيتنا في أواسط شهر أيلول، إذ كان يشكو من ألم في كليتيه ولم يعد المسكّن يفيده. كانت أسرته تقطن في "أزنا"، وقد جاء لإجراء عمليّة استئصال حصى الكلية في خرّمشهر، حيث المستشفيات فيها أكثر تجهيزًا. في ذلك اليوم، قُصفت الأحياء المحاذية لنا، أي "درب فعليّة"، و"صد دستگاه". ذهبت وعمّي إلى هناك. لم أكن أتجاوز حينها الأربعة عشر عامًا، ولم أكن قد رأيت مثل هذه المشاهد المرعبة من قبل، جثث تحت الأنقاض، واختلاط الدم بالتراب والضحايا.

 

في تلك الأيّام العاصفة، قصد عمّي مستشفى "خرّمشهر" مرّة أو مرّتين، إلّا أنّه لم يأخذ جوابًا حاسمًا فيما يتعلّق بدخوله المستشفى وتحديد يوم لإجراء العمليّة، فبقي عندنا. وذات ليلة، بينما كنّا جميعًا في البيت مجتمعين حول بعضنا البعض، فتحت الحديث:

- أبي، لقد رحل الكثير من الناس عن المدينة، فلنرحل نحن أيضًا!

 

ردّت أختي: "فلنذهب إلى طهران لمدّة أسبوع، نرفّه فيه عن أنفسنا إلى حين تفتح المدارس أبوابها، ومن ثم نعود".

 

أما عمّي الذي كان يحاول التكيّف مع مرضه، فقد ظلّ ساكتًا. أجاب والدي بجدّيّة: "لا يمكن ذلك.. فإدارة المرفأ لا تعطي مأذونيّة لأحد. بعض الموظّفين ذهبوا من دون مأذونيّة وتوقّفتْ نصف أعمال الميناء.. إنْ ذهبنا، أفْقِد عملي".. لم يكن أبي يريد أن يفقد عمله ويكون عالةً على الآخرين، فما لبث وضعنا أن تحسّن بعد سنوات من الصبر والتحمّل.

 

صَدَمَ خبرُ الغارة على مطار "مهر آباد" في طهران الجميع، فقد بدأت الحرب العراقيّة - الإيرانيّة رسميًّا. قُطعت الاتّصالات بين

 

183

 


150

الفصل الثالث - المتآخيتان

المدن. وانشغل أهل خرّمشهر ليلًا نهارًا بمتابعة الأخبار والاطمئنان عن بعضهم البعض. كانت أصوات القصف الأرضي والجوّي تُدوّي بشكل متواصل في المدينة. في 21 أيلول لم تفتح أيّ مدرسة أبوابها. كنت حينها سأباشر دراسة الصفّ الثالث المتوسّط ولم أفعل. حتّى إنّي تركت في المدينة بعض الكتب الدراسيّة التي كنت قد اشتريتها مسبقًا.

 

تعرّض زقاقنا في أواخر شهر أيلول للقصف، حتى إنّ أعمدة بيتنا قد تخلخلت وانكسر زجاج بعض النوافذ. في ذلك اليوم عاد أبي إلى البيت مسرعًا، ما زال مصرًّا على بقائنا في المدينة، واعتقد أنّ هذا الوضع سرعان ما سينتهي. وبرغم التردّد الذي كنّا نسمعه في صوته، لكنّه كان متمسّكًا بعمله كثيرًا. وهو حتمًا كان يعلم أنّ هذه ليست لعبة تنتهي ببضع دقائق. في تلك الأيّام تذوّقنا بكلّ وجودنا الطعم المرّ لكلمتي "العدوّ" و"الحرب" اللتين سمعناهما في القصص.

 

كانت الحرب تلقي بظلالها على حياتنا كلّها، القصف والقنص، نقص المياه والكهرباء، القلق والاضطراب.. والتشرّد.

 

كما زاد من غصّتنا عدم معرفة أيّ خبر عن أمّي وإخوتي وأخواتي.

 

لم تقصف مدفعيّة العدوّ مخازن الجمارك والمرفأ، بينما قصفت الأماكن المزدحمة في المدينة بشكل متواصل. كان من الواضح أنّهم يريدون تهجير السكّان من المدينة، ليستطيعوا السطو بسهولة على بضائع المرفأ السالمة وسرقتها، مرفأ "خرّمشهر" الذي كان أكبر مرافئ إيران في تلك الفترة. أمّا في العلن وأمام الرأي العام، فكانوا يطلقون عبر الإذاعة العراقيّة شعارات قومية كاذبة مثل: على الشعب العربي أن ينهض ويستفيق. يا عرب إيران، انهضوا وحقّقوا استقلالكم...!

 

كان نصف سكّان المدينة قد رحلوا عنها. فتركها كلّ منهم راكبًا وسيلة النقل التي توافرت لديه. العرب أنفسهم هاجروا، كما إنّ

 

185

 


151

الفصل الثالث - المتآخيتان

القذائف المدفعيّة وصواريخ الطائرات لم تكن لتميّز بين عربي أو غيره، كانت تقتل وتدمّر فقط. وأنا في بداية سنّ المراهقة تلك أدركتُ أنّ شعارات العراقيّين كاذبة جوفاء. لم يكن والداي عربًا، لكن كانت تربطنا علاقة جيّدة بعرب "خوزستان"، وكنّا ملمّين باللغة العربيّة شيئًا ما. كانت أمّي تعجن الطحين وتخبزه في التنّور مع جيراننا العرب. لا أذكر اليوم الذي غادرنا فيه "خرّمشهر". فلم يكد ينتهي شهر أيلول، حتّى بدأوا يزرعون القنابل الموقوتة في المدينة، ويفجرونها. كان القلق والخوف يسيطران على المدينة بشكل مطلق. ما إن صرف عمّي النظر عن علاج كليته وأراد المغادرة، حتّى عزمنا على الرحيل معه. لم نكن نملك سيّارة، وكان ينبغي علينا إيجاد وسيلة نقل. يومها، كان أحد الجيران قد أحضر شاحنة وحمّل أثاث بيته فيها. سألته: "إلى أين أنت ذاهب؟".

 

قال: "الأمر واضح.. إلى الأهواز".

 

لم يكن والدي في البيت، فقلت لعمّي وأختي:

- هناك شاحنة متوجّهة إلى الأهواز.. ما رأيكما أن نذهب بها أيضًا؟

 

وافقا. فانطلقتُ بذلك النعل البلاستيكي والملابس التي كنتُ أرتديها، وكذلك فعلتْ أختي. صعدنا إلى صندوق الشاحنة من دون أن نحمل معنا شيئًا. ما إن أقلعتْ حتّى انقبض قلبي. فأثناء المغادرة كنت أعاين المدينة من أعلى الشاحنة، والنار والدخان ينبعثان من كلّ أرجائها. وتشرّد الناس حاملين معهم أثاثهم خارج المدينة وداخلها. عند رؤيتي لمشاهد ذلك اليوم، أدركتُ كم كانت أوضاعهم سيّئة. يعلم الله لو لم تكن تلك الشاحنة موجودة، أو لم أطلب من جارنا أن يحملنا معه خارج المدينة، ماذا كان سيحلّ بنا.

 

186

 


152

الفصل الثالث - المتآخيتان

ترجّلنا من الشاحنة في "الأهواز". وكانت هي أيضًا غير مستقرّة، فالحرب كانت حديث الساعة. انطلقنا مباشرة نحو "أزنا"، وحللت أنا وأختي ضيفين على بيت عمّي. والأمر الجيّد الآخر الذي حدث حينها، أنّ أمّي عادت من طهران إلى بيت عمّي ولم تتوجّه مباشرة إلى "خرّمشهر".

 

اجتمعت العائلة كلّها، إلا أنّ هاتف "خرّمشهر" بقي إمّا مشغولًا أو مقطوعًا، فلم نستطع الاتّصال بوالدي. وقد ذهبتُ مرّة إلى "الأهواز" لأنتقل منها إلى "خرّمشهر" وأستعلم عن والدي، لكنّي لم أفلح. فالسير من "خرّمشهر" إلى "الأهواز" كان في اتّجاه واحد إجباري. وجميع الناس يأتون من هناك قاصدين المدن الأخرى، وما خلا الجنود والمقاتلين لم يكن أحد يصل إلى تلك الناحية. كما إنّ الاتّصال الهاتفي من "الأهواز" لم يكن متاحًا أيضًا، لذا، رجعت إلى "أزنا". كنّا جميعًا قلقين على أبي. مضى الأسبوع الأوّل من شهر تشرين الأوّل، وكنّا نتابع أخبار "خرّمشهر" و"الأهواز" لحظة بلحظة، فنسلّي أنفسنا بهذه الطريقة وكلّنا أمل أنّ أبي ما زال على قيد الحياة. كان طقس "أزنا" جبليًّا، فهي باردة في بداية فصل الخريف. كنت قد زرتُ عمّي عدّة مرّات من قبل، فقد كان أبي من "لك لرستان" وذهب لسنوات للعمل في خرّمشهر قبل أن أولد، ونستقرّ هناك. بدأ الدهر يظهر لنا أنّ أيّامنا الحلوة القصيرة قد ولّت، وأنّ عائلتنا قد تشرّدت. بعد عشرة أيّام من الانتظار، اتّصل والدي بنا فعمّت الفرحة الجميع. كان قد خرج عن طريق "آبادان" إلى بندر "ماهشهر". فقد احتلّ العراقيّون طريق خرّمشهر- الأهواز ثم قطعوها. وصل والدي ذات يوم إلى منزل عمّي، وأقمنا عندهم لمدّة. اتّضح من أحاديث والديّ المطوّلة أنّهما يفتّشان عن

 

187


153

الفصل الثالث - المتآخيتان

حلّ لحياتنا: المنزل، المستلزمات، الأثاث، المدرسة، العمل، تأمين النفقات و... ولربّما العشرات من المشاكل المعقّدة الأخرى، الصغيرة منها والكبيرة. كان ذلك الخريف صعبًا، لا أنسى أبدًا خريف العام 1980م. رغم إصرار عمّي على بقائنا في "أزنا"، لكنّ أبي لم يقبل. بالنهاية، توجّهنا إلى طهران. كان والداي يريدان شراء منزل مهما كان صغيرًا، وذلك حتّى إذا ما توافر لهما مدخولٌ لا يصرفانه كلّه على دفع إيجار المنزل.

 

باعت أمّي كلّ ما لديها من حليّ ومجوهرات. ومن بينها قطعة ذهب صغيرة، كانت هدية والدي إليها في يوم زواجهما وأصرّ على عدم بيعها. لكنّ أمّي قالت: "لا ينبغي لنا أن نحمّل أنفسنا أعباء القروض.. إن كان لدينا سقفٌ وبيت يؤوينا، فإنّ باقي الأمور تُحلّ بعونه تعالى، هذه الحليّ نعود ونشتريها يومًا".. اشترينا منزلًا بمساحة 70 مترًا في محلّة "يافت آباد" في طهران. المنزل الذي بقي لمدّة خاليًا من دون أثاث. فقد صُرفت كلّ أموال والديّ على شراء المنزل، كان عَلَيّ أن أعمل لتدور عجلة الحياة. أمّا عن المدرسة، فلم أذهب إليها، مضى أكثر من نصف الخريف، ولم يتحدّد مصير دراستنا وما يجب علينا فعله. بالنهاية، التحقت بمدرسة ليليّة. فكنت في النهار أعمل، وفي الليل أدرس في المدرسة، وكلا الأمرين كانا ناقصين. فقد تنقّلت بين عدّة معامل صغيرة، وكنت أتقاضى راتبًا يوميًّا أو شهريًّا، كما إنّي تعلّمت مهنًا كثيرة.

 

انقضى العام 1980، عام تشرّدنا وحياتنا في المدينة والمحلّة الجديدة. كما حلّ العام 1981 وانقضى. حتى إنّي لم ألتفت إلى مرور الأيّام والأسابيع والأشهر، فكنت إمّا أعمل أو أدرس. لكن، حين فُكّ الحصار عن "آبادان"، تذكّرنا "خرّمشهر" وبيتنا. فـ"طريق القدس"

 

188


154

الفصل الثالث - المتآخيتان

و"الفتح المبين" اسمان لعمليّتين عسكريّتين كبيرتين، قامت بهما القّوات الإيرانيّة في "خوزستان"، ووجّهت ضربة قاصمة للقوّات البعثية العراقيّة، إذ أجبرتها على الانسحاب. في أواخر شهر نيسان من العام 1982، بدأت "عمليّات بيت المقدس". كان للتقارير الواردة في الإذاعة والتلفزيون عن هذه العمليّات طعمها الخاصّ بالنسبة لنا. في تلك الفترة، كان بعض من هم في سنّي في المدرسة لا يعلمون في أيّ محافظة تقع "خرّمشهر"، أمّا أنا فكنت أعرف الكثير عن "كارون" و"شلمجه" و"بهمن شير" و"جفير" و"كرخه" و"الهور العظيم" و... وأحفظها بكلّ جوارحي. والأهمّ من هذا، أنّ وجودي كلّه كان هناك. عندما كانت التقارير تذكر أنّ المجاهدين عبروا هذا الطريق، أو هذه المنطقة أو.. واقتربوا من "خرّمشهر"، كانت ترتسم تلك المشاهد في مخيّلتي وأستحضرها بحنين. وقد أحيا خبر تحرير طريق الأهواز - خرّمشهر، في ذهني من جديد صورة محلّة "مولوي" بشكل جليّ. هل سأتمكّن ثانيةً من رؤية ذلك الزقاق والمحلّة والبيوت عن قرب، وأن أسير فيها، أركض، وأتنفّس؟

 

عندما تحرّرت "القلعة الحدوديّة"، و"پل نو"، وجادّة "شلمجه"، وضرب المجاهدون طوقًا على "خرّمشهر" من جميع الجهات، بدا الانتصار قطعيًّا. في البلاغات الإيرانيّة التالية، تمّ الإعلان عن وقوع عدد كبير من الجنود العراقيّين، وهم بالملابس الداخليّة أسرى في أيدي قوّات الإسلام، طابور لا نهاية له ممّن غرّر بهم النظام البعثي. وقد عرض التلفزيون الإيراني أيضًا مشاهد مبهجة لهذا الانتصار، وتحرّر المسجد الجامع في "خرّمشهر"، على الرغم من الدمار الذي حلّ به. كان الحديث بين الأقارب والأصدقاء يدور حول "خرّمشهر" وتحريرها. قرّر البعض العودة إليها مباشرةً. وهذا تحديدًا ما أراده والدي،

 

 

189


155

الفصل الثالث - المتآخيتان

وذلك ليرى ما حلّ بالبيت وأثاثه.

 

بعد تحرير "خرّمشهر"، وفي صيف العام 1982، بدأت عمليّات رمضان الكبرى، التي كانت تهدف للوصول إلى مشارف البصرة. تمكّن المجاهدون في هذه العمليّات من التقدّم إلى ناحية "موقع زيد" والاقتراب من شمال شرق البصرة، ولو استطاعوا عبور "قناة السمك" لوصلوا إلى "تنومه"، التي تشكّل نصف البصرة وتقع إلى الشرق من نهر أروند. والبصرة هي مرفأ كبير ذو قسمين يفصل بينهما نهر أروند. القسم الأكبر منهما يقع إلى غرب النهر، والنصف الأصغر إلى شرقه على مقربة من الحدود الإيرانيّة. تبعد خرّمشهر عن البصرة40 كيلومترًا. إنّهما المدينتان الأختان. حينذاك كان أبي يقول منتقدًا: عجبًا لهاتين الأختين كيف دارت بينهما هذه الحرب الشرسة!

 

كنت أتابع التقارير الواردة عن عمليّات رمضان. كنت قد كبرت وأدركت الأحداث التي تدور حولي، وأخبار البلد صارت مهمّة في نظري. كانت هذه العمليّات عبارة عن مراحل، واستمرّت لأسابيع كعمليّات "بيت المقدس"، لكنّ القادة لم يحقّقوا فيها نتائج مهمّة.

 

كما ذكرت التقارير التلفزيونيّة أنّ المجاهدين لم يصلوا إلى البصرة، لكنّهم حتمًا قد وجّهوا صفعةً للقوّات العراقيّة. فقد سدّدت قوّاتنا ضربات لهم على حساب كلّ ذلك الدمار والمجازر والنهب والأذى الذي أوقعوه بـ"خرّمشهر" وسائر المناطق، فدكّت قواعدهم العسكريّة في "تنومه"، كما شُلّت الحياة في القسم الأكبر من "البصرة".

 

في العام 1982م سمعت قصصًا كثيرة عن مرحلة الأسر وكيفيّة تحرير "خرّمشهر". وهذه واحدة منها قد قصّها على مسامعي أحد أبناء مدينتنا المشرّدين:

"عندما احتلّ العراقيّون "خرّمشهر"، بدأوا بنهب المدينة وسرقتها.

 

190

 


156

الفصل الثالث - المتآخيتان

وكان الضبّاط يقومون بالسرقة أوّلًا ومن ثمّ يتبعهم العناصر. ثمّة ضابط عراقيّ حمل معه أغراضًا وأموالًا كثيرة. وحمّل أثاث عدّة بيوت ما زالت جديدة، في شاحنة ثم نقلها إلى بيته في العراق. وبعد عدّة أشهر، استطاع أن يزوّج ابنه بهذا الأثاث. فمن عادة العرب أن يكون الجهاز على عاتق الرجل. فأصبح أثاث بيوت خرّمشهر جهازًا للعريس، لكنّ حياة هذين العروسين لم تستمرّ لسنة واحدة، حيث مات العريس وجُنّت العروس. كان جميع أهالي المحلّة يعرفون السبب والعلّة وراء ذلك البلاء".

 

في العام 1983م، التحقت للمرّة الأولى بالجبهة وبحرس "گيلان غرب". وكان لي حينها من العمر سبعة عشر عامًا، حيث كان يمكنني الالتحاق من دون إذن والديّ. وهما لم يمانعا ذلك. في ذلك العام بقيت في الجبهة لأشهر، في قسم الدفاع الجوّي التابع للفرقة "27 محمّد رسول الله"  صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وأيضًا انشغلت في طهران بالعمل والدراسة الليليّة، لكنّ حادثة وقعت لي في تلك السنة. ففي معمل الصحون، علقت ثلاثة من أصابع يدي اليسرى تحت الآلة فقُطعت عقدة من كلّ منها. وأصابع يدي الأربعة الآن بالطول نفسه.

 

فليلة ما قبل الحادثة، بقيت حتى منتصف الليل أدرس. وأثناء العمل صباحًا، كان كلّ تركيزي على الكتاب! كان لدينا امتحان في مادّة التاريخ التي لم يعلق منها شيء في ذهني. كنت أستذكر هذا الملك وتلك المعركة حتّى حدث ما حدث.

في العام 1985م، كان عليّ الذهاب للخدمة الإجباريّة، التي أُعفيت منها بسبب تلك الإصابة (في أصابعي). إلّا أنّي لم أترك الجبهة. ففي شتاء ذلك العام، التحقت مرّة جديدة بالجبهة. وهذه المرّة وقعت

 

191


157

الفصل الثالث - المتآخيتان

القرعة عليّ في إحدى كتائب المشاة القتاليّة والهجوميّة: الفصيل الثاني من السريّة الأولى لكتيبة "حمزة".

 

حينذاك، كانت الكتيبة قد عادت للتوّ من خطّ الدفاع، وكان عناصرها القدامى الذين انتهت مأموريّتهم يقومون بمعاملات إنهاء الخدمة. فملأتُ وعددًا آخر من العناصر أماكنهم الشاغرة، وأصبحت مساعد رامي آر بي جي.

 

كان "كوزران" المخيّم الصيفي للفرقة فبقينا هناك لمدّة. كان شباب الفصيل الأوّل يمكثون في الخيمة المحاذية لنا، ولم أكن على معرفة جيدة بهم. وبعد شهر، التحقتُ بذلك الفصيل. كانت الكتيبة في وضعية إعادة الهيكلة، لم تكن لتُجرى الكثير من الدورات التدريبيّة والتمارين العسكريّة. وقد توافرت لي في تلك الفترة، فرصة جيّدة للدرس. كنت أدرس العلوم الإنسانيّة، وكان صديقي أمير عباس رحيمي يدرس اختصاص الكهرباء في المهنيّة. وحيث كنت معتادًا على الدرس الليلي، فسرعان ما كنت أدخل في جوّ الدرس، وذلك بتعاون الآخرين الذين كانوا يهيّئون أجواء الدراسة في الخيم. أخذت الكتب الدراسيّة من المجمع التعليمي، ودوّنت موعد الامتحانات.

 

في العشر الأوائل من محرّم الحرام، كنّا نسافر إلى باختران (كرمانشاه). وكان أمير عباس يظهر حماسة كبيرة في إقامة مراسم العزاء، وكان يحمل معه راية عزاء الهيئة، فكانت لافتة للنظر وهي في يده بقامته الطويلة تلك.

 

في شهر أيلول انتقلنا إلى "دوكوهه" واستقررنا في مبنى كتيبة "حمزة". في تلك الأثناء جرى تبديل في قيادة الكتيبة وقادة السرايا وبعض الأفراد. فانتقلت أنا بدوري إلى الفصيل الأوّل. قال قائد الكتيبة الجديد: "على من يريد البقاء في الكتيبة أن يتعهّد من الآن

 

 

192


158

الفصل الثالث - المتآخيتان

بالحضور لثلاثة أشهر. التدريبات العسكريّة والتمارين سرعان ما ستبدأ وستكون جدّيّة". بانتقالنا إلى ضفّة بحيرة سدّ "دز"، بدأت التدريبات العسكريّة للكتيبة، وكانت تدريبات على العمليّات البرمائيّة.

 

كنت في الفصيل الأوّل إلى جانب صديقين من أصدقائي: "مهدي كبيرزاده" و"أمير عباس رحيمي". كان مهدي مساعد رامي (آر بي جي)، وأمير عباس عنصر إشارة، وقد انتقلت وإيّاهما من الفصيل الثاني إلى الفصيل الأوّل. ومع أنّ "أمير" كان يصغرني بسنوات، إلّا أنّه كان طويل القامة، فكنت لا أكاد أصل إلى كتفه.

 

منذ البداية كان واضحًا بأنّ الفصيل الأوّل مختلف عن الفصائل الأخرى. في الفصيل السابق كنت الوحيد الذي يفتح كتابًا ويقوم بالدرس، لكن في هذا الفصيل كان حمل الكتاب والقلم أمرًا عاديًّا، وذلك لكثرة ما كان يضمّ من التلامذة. والأمر الآخر هو أنّ معظمهم كان مثلي لم يشارك بعد في العمليّات الكبرى. وعلى الرغم من أنّها كانت المرّة الثالثة التي ألتحق فيها بالجبهة، لم أكن قد شاركت فعليًّا في أيّ من العمليّات. الملاحظة الأخرى، أنّ طقس "خوزستان" كان طقسًا جديدًا وغريبًا بالنسبة لشباب طهران، الأمر الذي كان عاديًّا بالنسبة لي.

 

في أواخر شهر تشرين الأوّل استقررنا في مخيّم "سفينة النجاة" أو موقع الشهيد "نادري"، مخيّم التدريب على العمليّات البرمائيّة. أثناء هذا الانتقال، اختلطت علبتان من الشاي ومسحوق الغسيل ببعضهما البعض. استشار قائد الفصيل الإخوة هل نرميهما أم لا؟ اتّفقت آراء الجميع على أن يجلس كلّ شخصين حول صحن من هذا الخليط، فيلتقطا حبّات الشاي من مسحوق الغسيل للحيلولة دون الوقوع في الإسراف.

 

تذكّرت حينها أيّام كنّا نعيش في "خرّمشهر"، حيث كان شاي

 

193


159

الفصل الثالث - المتآخيتان

"آسام" والشاي السيلاني مُفَضَّلَيْن في سوق المرفأ. وكانا زهيدي الثمن ويمكن للجميع الحصول عليهما. وحيث اعتدت منذ الصغر على شرب الشاي المستورد من الخارج، كنت قادرًا بمجرّد إلقاء نظرة تمييز الشاي الجيّد من غيره. فالشاي الجيّد له لون شراب الكرز وطعمه، ليس بالحلو ولا بالمرّ، ويمكن تناوله من دون السكّر. وقد اعتاد عرب مدينتنا أن يشربوا الشاي الغليظ في فناجين صغيرة، أمّا نحن حيث كنّا عائلة لوريّة، فكنّا نشرب الشاي كالأتراك في أكواب كبيرة. كنا قد اعتدنا في طهران على شرب الشاي الإيراني، أمّا هنا فعلينا أن نشرب الشاي مخلوطًا بمسحوق الغسيل. قلت في نفسي: أين كنت وأين صرت! عسى الله أن يمضي آتي الأيّام بخير!

 

كنّا نسبح في بحيرة سدّ "دز" العميقة مرتدين سترة النجاة. أثناء فترة التدريب، تعلّمنا وتدرّبنا على الهجوم من الضفّة إلى البحيرة، وبالعكس. وكانت طريقة التمويه في هذه الدورة التمرّغ بالوحل، الأمر الذي كان الإخوة يعرفون اللعب به جيّدًا. قبل هذه الدورة لم أكن قد سبحتُ ليلًا، لكن في نهاية الدورة صرت قادرًا على السباحة ليلًا مسافة خمسمائة إلى ستمائة متر في البحيرة. فقد كنّا نذهب ليلًا إلى تلك الناحية من البحيرة المضاءة بالكشّافات الضوئيّة، ومن دون استراحة كنّا نسبح ونجذّف بأيدينا وأرجلنا ونتقدّم في ذلك الماء البارد الذي ينخر صقيعُهُ العظام.

 

كان صيد السمك في بحيرة سدّ "دز" وسيلة تسليتنا، وكنت بدوري بارعًا في هذا الأمر. فقد كنّا نصنع من أشرطة الهاتف المفتولة صنّارة صيد ونجلس على الضفّة منتظرين السمك. كان هذا الأمر ممتعًا إلى درجة، بحيث كان الإخوة بدل أخذ إجازة ليوم في المدينة، يذهبون إلى البحيرة ويصطادون السمك هناك.

 

194


160

الفصل الثالث - المتآخيتان

ذات يوم شعرت بألم شديد في أذني. ذهبت إلى المركز الصحّي في الكتيبة، فنقلوني إلى مستشفى "أنديمشك". ما إن عاينني طبيب المستشفى حتّى قال: "تعاني من التهاب شديد في أذنك". وقد ارتفعت حرارتي بشدّة. ولكون المستشفى هناك غير مجهّز بالمعدّات الكافية، نُقلت من هناك بعد حقني بحقنة إلى مستشفى الشهيد "شمران" في "الأهواز". قيل لي هناك إنّ طبلة أذني قد ثُقبت بثقوب كبيرة وصغيرة. مكثتُ هناك مدّة 48 ساعة أُعطيت فيها الأدوية المسكّنة والمضادّة للالتهاب.

 

بعد خروجي من المستشفى، في طريق العودة إلى المخيّم، عرّجت لساعات على منزل أختي في "أنديمشك"، التي انتقلت منذ عدّة سنوات مع زوجها للعيش في هذه المدينة. واستضافوني عندهم على الغداء، سألتهم عن أحوال أمي وأبي، وطلبت منهم أن يخبروهما عن هذا اللقاء.

 

بعد عدّة أيّام، ومع انتهاء الدورة التدريبيّة، تركت الكتيبة مخيّم "سفينة النجاة" وعادت إلى "دوكوهه"، وأُرسل جميع عناصرها في مأذونيّة. فعدت برفقة الإخوة في أواخر شهر تشرين الثاني إلى طهران بالقطار.

 

كان الحديث يدور في كلّ مكان حول عمليّات مصيريّة وحاسمة، سواء في الجبهة أم في طهران. كما كان سيتمّ إيفاد بعثة كبيرة إلى الجبهة. فبعد عمليّات "رمضان" و"خيبر" و"بدر" كان الجميع مستعدًّا ومنتظرًا لهجوم ينهي الحرب. كما كان أبي يحكي قصصًا عن قتال المتآخيتين - أي خرّمشهر والبصرة - كان قد سمعها من أبيه وأجداده، كما إنّي قرأت بعضًا منها في الكتب. كان أبي يقول: "إنّ الإيراني والمسلم لا يرضخ للذلّ والأسر. والإيراني عزيز أمام العدوّ... وهذه العزّة مقدّسة".

 

 

195


161

الفصل الثالث - المتآخيتان

انقضت مأذونيّة الأسبوع بسرعة، وعدنا إلى ثكنة "دوكوهه". كان ذلك في 18 - 19 شهر كانون الأوّل وعلى مقربة من فترة الامتحانات. كانت أرض غرفة الفصيل الأوّل مفروشة دومًا بالكتب والدفاتر والأوراق والأقلام. وحكت تقارير إذاعة التعبئة أنّ المخيّم التالي للفرقة سيكون في "كرخه". فـ"محمّد قمصري"، مساعد رامي الرشاش في الفصيل الأوّل، وأخوه الأكبر الذي يعمل في وحدة الهندسة للفرقة، قد أخبر أنّهم يعملون على إنشاء طريق وباحة للكتائب في المخيّم الجديد. ولقد عملت هوائيّات التعبئة هذه المرّة بدقّة، فبعد أسبوع، وبعد الامتحانات، انتقل مقرّنا إلى مخيّم "كرخه". لكن، في خريف ذلك العام، كانت خوزستان تعاني جفافًا، فعوّضت السماء ذلك في الشتاء، فقد تواصل انهمار المطر، بحيث تبلّلت خيمنا، بطّانيّاتنا.. وكلّ وسائلنا. ذات يوم، حين رأينا الجوّ مشمسًا، رحنا نعالج أسقف الخيم وأرضها وجوانبها: فحفرنا قناة للمياه حول الخيمة، وضعنا شرشفًا من النايلون على سقفها. جفّفنا البطّانيّات المبلّلة تحت أشعّة الشمس، وفرشنا عدّة طبقات من أقمشة الخيام على أرض الخيمة.

 

بعد استقرارنا في مخيّم "كرخه"، بدأت التدريبات العسكريّة من جديد، الصفوف الصباحيّة وصفوف فترة بعد الظهر. كان مدرّب الكتيبة ذا خبرة وتجربة. كانت قد نشرت الصحف والمجلّات في تلك الفترة، أنّه قد حاز المرتبة الأولى في مسابقات الرماية على محافظة طهران. كما كنّا نقوم بمسير ليلي خفيف وصعب عدّة مرّات في الأسبوع. فأصبح المسير الليلي مسافة عشرة أو خمسة عشر كيلومترًا في منحدرات "كرخه"، والبقاء مستيقظين حتّى السحر أمرًا عاديًّا بالنسبة لنا.

 

ذات ليلة، خلال المسير، غفا من ورائي "سعيد پور كريم" رامي

 

196

 


162

الفصل الثالث - المتآخيتان

ال ـ(آر بي جي) الثاني في الفصيل الأوّل. وكنت أنتبه إلى الشخص الذي يسير أمامي أي "أحمد أحمدي زاده" وكذلك إلى "پور كريم" الذي كان يسير وهو نائم ويتأخّر عن الطابور. كما كان "مهدي كبير زاده" ينتبه لـ"پور کريم" حتّى لا يغفو وينقطع الطابور. حتمًا، لم يكن يقع إلى الخلف دائمًا، ذات مرّة، وقع إلى الأمام فاصطدم وجهه بعقب بندقيّتي الخشبي، فطار النوم من عينيه. وقبل ذلك وقع عدّة مرّات في حضن "كبير زاده". كان "پور کريم" وثلاثة من مساعديه ـ "مهدي كبير زاده" و"مسعود أهري" و"أكبر مدني" ـ جميعهم تلامذة ومن الذين يهتمّون بدراستهم، ومن مواليد العام 1969م، فكانوا في السنّ نفسها وفي الصف نفسه (وبالطبع، ترافقوا على درب دار الآخرة).

 

في يوم من الأيّام، ذهبت في مأذونيّة إلى المدينة، فقصدت منزل أختي في "أنديمشك". عند العودة، اشتريت علبة حلويّات وعدّة كيلوات من اللفت. وكان أحد معارفي في إحدى المأذونيّات إلى طهران، قد أعطاني مبلغًا من المال لأصرفه على المجاهدين، فصرفته بهذه الطريقة.

 

عدت يومها إلى الخيمة بيدين ممتلئتين. بعد مدّة قليلة، ملأ بخار اللفت ورائحته الخيمة. انزعج شخص أو شخصان، لكنّهما تحمّلا ذلك.

 

تذكّر الجميع بيوتهم وأمّهاتهم. فقال أحدهم إنّ أمّي تطبخ اللفت من دون ماء... كانت ترشّ الملح في قعر القدر وتضع اللفت على الملح ليُطبخ بمائه. وآخر قال: أنا أحبّ حساء اللفت كثيرًا. أمّا ذاك الذي لا يحبّ اللفت فقال: أفضّل أن أُحقن بحقنة بنسيلين على أن أتذوّق اللفت.

 

سُررتُ حين ذكّرت الإخوة بأمّهاتهم، وشُرّع الباب للحديث، فبدأ كلّ منهم يتحدّث عن ذكرى له مع اللفت، وسررتُ أيضًا لكوني أنفقت المال بنحو جيّد وفي مكانه المناسب. فيما بعد، رويت لصاحب المال

 

197

 


163

الفصل الثالث - المتآخيتان

قصة ذلك اليوم "اللفتي" فضحك وسُرّ لذلك.

 

كنّا في الأيّام الممطرة نؤدّي صلاتنا جماعة داخل الخيمة. كان "أمير عباس رحيمي"، عامل الإشارة (اللاسلكي) في المجموعة، يؤذّن للصلاة، ويكبّر في صلاة الجماعة. مع أنّ نَفَسه كان قصيرًا، لكنّه يمتلك صوتًا جميلًا. كان الإخوة يسخرون من صوته المتقطّع، ومع ذاك كان يتابع عمله من دون اكتراث لهم. ذات مرّة وجدته غائبًا، فشرعت بالأذان وقمت بالتكبير في صلاة الجماعة، وذلك لمرّة واحدة فقط.

 

صباح ذات جمعة ذهبت مع بعض شباب الفصيل في مأذونيّة، إلى بيت أختي في المدينة. وقد استضافتهم أختي بنحو لائق، وعدنا عصرًا إلى كرخة. قضينا وقتًا ممتعًا. كما علمنا بأنّ والد "مسعود أهري" يعمل في مستشفى "أنديمشك". كان الوالد يعمل مساعد طبيب، والابن مجاهدًا، وكلاهما كانا في منطقة القتال. بالطبع، كانت مأموريّة الوالد تشارف على الانتهاء، وسرعان ما سيعود إلى طهران.

 

في التدريبات العسكريّة، كان قادة الكتائب يؤكّدون كثيرًا على أهميّة تعلّم طرق مواجهة الهجوم بالأسلحة الكيميائيّة. فكانوا يدرّبوننا على كيفيّة استعمال القناع واللباس الواقيين مرارًا وتكرارًا.

 

في خيمة الفصيل الأوّل، كثيرًا ما كانت تُقام حلقات الأدعية، فكنّا نقرأ دعاء التوسّل كلّ ليلة أربعاء، ودعاء كميل كلّ ليلة جمعة، وكنّا نقرأ كلّ ليلة قبل النوم سورة الواقعة جماعةً. وكان للمعنويّات في هذا الفصيل جوّ خاصّ، لربّما كان السبب في ذلك أنّ معظم أفراده كانوا من الفتيان. كان الفصيل الأوّل معروفًا بفصيل أولاد الحضانة.

 

إلى جانب خيمة الفصيل، توجد حفر شبيهة بالقبور. كان البعض ينزلون في منتصف الليل، إلى هذه الحفر بالتناوب، للصلاة والدعاء

 

198

 


164

الفصل الثالث - المتآخيتان

والمناجاة. دخلت ذات ليلة بعد نوبة حراستي قبرًا من تلك القبور، ودعوت بكلّ دعاء حفظته عن ظهر قلب. لم يكن المرء يستطيع في تلك الحفرة سوى الجلوس أو النوم. وهذا الجمود يتسبّب بنفوذ البرد إلى الجسد. بدأت أرتجف من البرد، أو ربّما خوفًا من الوحدة.

 

تذكّرت يومًا لا بدّ آتٍ، حيث سأُدفن في التراب. كانت الحجب تزول عن عيني. لربّما هذه هي الحكمة من فعل الشباب: "موتوا قبل أن تموتوا".

 

في خيمة الفصيل، كانت تُقام أنشطة منها المضافات. فكان الفصيل الآخر يحلّ ضيفًا علينا وقت الغداء أو العشاء، وحتمًا كنّا بالمقابل نُستضاف. وبهذا العمل الجميل، الذي يُحدث تغييرًا للأجواء، ويدخل السرور على قلوب الإخوة، تزداد المحبّة والألفة فيما بينهم، ونتعرّف إلى الشباب أكثر، ونتعرّف إلى وجوههم وأصواتهم، لتبقى العمليّات ليلة الهجوم أكثر أمنًا و... والمحصّلة أنّ هذه اللقاءات كانت تأتي بالخير الكثير. كما قال أحد أصحاب الخبرة إنّه ينبغي للمقاتلين في العمليّات الجبليّة أن يتعرّفوا إلى بعضهم البعض، وذلك حتّى لا يأتي المخترقون من المنافقين ويُضِلّوا الطابور في كمائنهم. طعامنا في هذه الضيافات كان طعام الكتيبة نفسه، فكان الضيوف يأتون بصحونهم وطعامهم للمضيف، ومن ثمّ يأتون كالناس المحترمين ساعة الغداء أو العشاء، فيسلّمون على بعضهم البعض، ثم يطلقون الصلوات، ويتناولون طعامهم، يتحلّقون حول بعضهم البعض، فيمزحون ويمرحون ويتبادلون الخبرات و... ومن ثمّ ينصرفون.

 

بالطبع، كانوا يسترجعون بعد ذلك صحونهم نظيفة. أحيانًا، كان المضيف يقدّم لضيفه العزيز الحلوى أو الفاكهة أو الخضار أو أي طعام إضافي كان يجلبه على نفقته الخاصّة من المدينة.

 

في المرّة الأخيرة، غادرنا في أواسط شهر كانون الثاني في مأذونيّة

 

199

 


165

الفصل الثالث - المتآخيتان

لمدّة أسبوع ثم عدنا. وللمرّة الثانية وصلنا خبر جديد عبر هوائيّات التعبئة أنّه علينا الانتقال بسرعة. بعد مدّة قليلة، ثبت الخبر رسميًّا. فانتقلنا في الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني إلى حقل الرماية.

 

أطلقت الرصاص برشّاشي "الكلاشنكوف" وصفّرته. ولأنّي كنت مساعد رامي آر بي جي، أطلقت أيضًا قذيفة آر بي جي، لكنّها لم تكن رمية مسدّدة كفاية. شرح لي "گودرزي" الذي كان رامي آر بي جي، وقائد مجموعتنا، إشكالات رميتي. كانت يده مثل يدي ينقصها بعض أطراف الأصابع، حيث فقدها في الجبهة، فيما فقدتها أنا في معمل الصحون. وقد أُصيب في عمليّات "والفجر 4". كان الإخوة يقولون إنّه قد أصاب حتى الآن عشر دبّابات للعدوّ. توجّه "گودرزي" إلينا وقال:

- إنّ عمل مساعد رامي الـ(آر بي جي) لا يقتصر على حمل الذخائر. عليه أن يراقب كلّ شيء بدقّة، سواء الدبّابات أم قوّات العدوّ. إنّ رامي الـ(آر بي جي) لا يمكنه العمل من دون مساعد حاذق ودقيق. كما ينبغي على المساعدين أيضًا أن ينتبهوا للنيران المنبعثة من عقب القبضة، ذلك أنّ رامي الـ(آر بي جي) لا يركّز حواسّه عند التسديد والإطلاق على ما وراءه، لذا عليهم أن ينتبهوا لهذه المسألة...

 

قبل مغادرة "كرخه"، خطّ الإخوة رسائلهم الأخيرة، والبعض منهم كتب وصيّته، كلّه مكتوب بعد عدّة أيّام من الصفاء والخلوة مع النفس. للبعض منهم كانت المرّة الأولى التي يكتب فيها وصيّته. الرسالة الأخيرة في السادسة أو السابعة عشرة من عمرنا. وقبل مغادرتنا، استلم "تعاون الكتيبة" الأغراض الإضافيّة للإخوة، ثم انطلقنا.

 

انتقلنا من "كرخه" إلى مخيّم آخر في "دارخوين" على ضفّة نهر "كارون". وكانت تبعد عن "خرّمشهر"، مسقط رأسي، ما بين الثلاثين

 

200


166

الفصل الثالث - المتآخيتان

والأربعين كيلومترًا. حملتني رائحة "كارون" العطرة إلى أيّام الطفولة، رائحة خليط الماء والتراب وبساتين النخيل. في الليل، كانت تلمع في الأفق الغربي هالة من النور. قلت للإخوة إنّ هذه أنوار مدينة "البصرة". رسمت مثلّثًا على البطّانيّة أو على الأرض، لا أذكر، وقلت:

- هنا مخيّم الفرقة، وهنا "البصرة"، وهنا "خرّمشهر".

 

المسافة من هنا إلى خرّمشهر تعادل المسافة من هنا إلى البصرة.

 

لم يكن يُرى من خرّمشهر أيّ نور، لكنّ ليالي أختها البصرة كانت مضاءة ومنيرة. فهذه كانت خربة ومهدّمة، وتلك عامرة.

 

اعتصر قلبي ألمًا. فمنذ شهر أيلول من العام 1980 إلى ذلك الحين، لم أكن قد رأيت مسقط رأسي، وكنت مشتاقًا إليه كثيرًا. والآن، من المفترض أن يتّضح أفق الحرب في هذا المكان. فالبصرة هي ميدان الانتصار أو الهزيمة لكلا الطرفين في هذه الحرب. لذا كان الطرفان يوليان أهمّيّة كبيرة لهذه المنطقة.

 

كان شباب الفصيل في أعلى درجات الحماسة. فجسّد كلّ منهم حماسته بطريقة ما. طلب "محمّد جواد نصيري" الذي كان يفوق الجميع -وأنا من جملتهم- بحسن تفكيره وذوقه، أن أكتب له بعض العبارات على دفتر المذكّرات. وقبل أن أكتب سألته: "هل كتب لك الإخوة الآخرون؟".

 

قال: "يا أخ "لك"، أنت الشخص الثاني الذي يكتب لي".

 

فكتبت له هذه الكلمات:

"ينبغي للإنسان أن يعمل من أجل رضى الله، وأن يؤمن بأنّ الله ناظر إلى أعماله، فيمنع نفسه عن كلّ عمل ينهى الآخرين عنه، وعن كلّ عمل يعتبره هو مخالفة من الآخرين، عليه أن يعتبره مخالفة

 

201


167

الفصل الثالث - المتآخيتان

بالنسبة له أيضًا. وعلى الإنسان أن يكون هو نفسه في كلّ حالاته، أي أن لا يكون ذا وجهين. وأن تكون أخلاقه وأعماله واحدة مع الجميع، بحيث تكون محبّته على مستوى واحد للجميع. وأن يبقى حتّى النهاية في طريق الله، ولا ينحرف عن هذا الطريق. أسألكم الدعاء".

 

أصغر لك علي آبادي، 31/1/1986.

 

في صباح أحد الأيّام الباكر، وبينما كنّا واقفين في صفّ المراسم الصباحيّة، هاجمتنا مجموعة من الخنازير البرّيّة، لكن لحسن الحظّ أنّ أحدًا لم يُصب بأذًى. كنّا قد سمعنا ليلًا أصوات عواء بنات آوى، وعلى ما يبدو أنّها عرفت أنّه يمكنها أن تجد طعامًا لها في هذه الناحية ممّا بقي من طعام الإخوة.

 

في "كارون"، أجرينا مناورة برمائيّة. ركبنا الزوارق من على منصّة الوحدة البحريّة للفرقة، وهاجمنا العدوّ الافتراضي في الضفّة المقابلة. استمرّت مناورة احتلال نقطة العبور هذه من الساعة العاشرة صباحًا إلى وقت متأخّر من فترة ما بعد الظهر. تبلّلت كلّ ملابسنا وتمرّغت بالطين. وحين أنهينا المناورة عدنا إلى الخيم، كانت أطراف الخيم ملأى بالألبسة المغسولة والمنشورة على الحبال، بحيث لم يعد بالإمكان السير بسهولة في فنائه.

 

بعد العودة، جمع "رضا أنصاري" الذي كان مسؤولًا عن نقل جرحى المجموعة الأولى من فصيلنا - وكان آذريًّا زنجانيًّا[1]، وقد ترعرع في طهران - أحذيتنا العسكريّة واشتغل بتلميعها. فكان الإخوة يسمّونه على سبيل المزاح: السيّد رضا واكسي[2] الذي طالما قدّم هذه الخدمة


 


[1] نسبة إلى آذربايجان وزنجان.

[2] ماسح الأحذية.

 

202


168

الفصل الثالث - المتآخيتان

للإخوة، بمساعدة "مهدي كبير زاده". هذان الإثنان كانا منهكين جدًّا من المناورة كما بقيّة الإخوة، لكنّهما أخجلا جميع الاخوة بعملهما هذا. خلال ساعتين كانت جميع الأحذية العسكريّة ملمّعة وجاهزة.

 

كان في الفرقة عدد من المجاهدين الكبار في السنّ، الذين كانوا بشكل ما، يمدّون الإخوة بالمعنويّات. في الأيّام الأخيرة، وقبل مغادرتنا مخيّم "كارون"، حضر الحاجّ "بخشي"، وعمو "حسن" إلى فناء كتيبتنا. وعمو حسن هذا غير عمو حسن قائد السريّة الأولى في كتيبتنا. كان الحاجّ "بخشي" يوزّع الكعك والفطائر المحلّاة والبسكويت بين الإخوة ويحلّي أفواههم، وهو يطلق الشعارات ويردّد الإخوة من ورائه. أمّا عمو حسن فكان يوزّع الحنّاء على الإخوة. كانت لحيته البيضاء تضفي السكينة على المرء، ويداه المباركتان تمدّان الأخوة بالحنّاء، حنّاء ليلة الوصال واحتفال الشهادة أو الولادة الثانية.

 

بالنهاية، تركنا "كارون"، بعد "ميدان تير" بجعبة مليئة بالذخائر. يومها، كان الطقس غائمًا، فصعدنا في صندوق شاحنة مغطّى بشادر وانطلقنا إلى مكان مجهول. فهوائيّات التعبئة لم توفّق هذه المرّة بالحصول على الأخبار. كما لم يكن مسموحًا لأحد أن يرفع الشادر عن الجهة الخلفيّة للشاحنة. وهكذا لم نتمكّن من معرفة إلى أين نحن ذاهبون.

 

لكنّ الفضول لم يتركنا وشأننا. لقد كان الشادر فوق رأسنا مثقوبًا بعدّة ثقوب كبيرة وصغيرة بمقدار عملة معدنيّة أو ممحاة قلم الرصاص. لم يرفع أحد الشادر، لكن، لم نتحمّل أن نغضّ النظر عن إلقاء نظرة من تلك الثقوب.

 

سألني قائد الفصيل الأول "محسن كودرزي": "يا أخ "لك"، قل لنا أين نحن؟ فأنت من أبناء خرّمشهر.. وتعرف المنطقة هنا ككفّ يدك". ألقيت نظرة إلى الخارج وقلت: "جادة الأهواز ـ آبادان".

 

203

 


169

الفصل الثالث - المتآخيتان

قرابة الغروب، سأل الإخوة مجدّدًا: "يا أخ "لك"، أين نحن الآن؟".

 

قلت: "آبادان".

 

كنّا في جادّة مطار "آبادان". مرّت الشاحنة بمحاذاة المدينة، وتابعت طريقها نحو جنوب "آبادان"، أي نحو "بهمن شير".

 

ترجّلنا من الشاحنة في عتمة الليلة. تحرّكنا وانطلقنا مشيًا على الأقدام بضع مئات من الأمتار حتّى وصلنا إلى مقرّ الكتيبة. كانت السماء ترسل بعض الرذاذ، والأرض موحلة ورطبة. وصلنا إلى بيوت قرويّة على ضفّة نهر "بهمن شير"، فاستقرّ فصيلنا في أحد هذه البيوت.

 

كان لدينا في المخيّم كما في المخيّمات السابقة برنامج للحراسة. أعلن موزّع الحراسة في تلك الليلة، لائحة الحراسة الليليّة. فجاء اسمي ضمن الأشخاص الأُوَل. وقد أكّد مسؤولو السرايا والفصائل أيضًا على عدم السماح لأيّ غريب بالدخول إلى نطاق بيوت القرية، وعلى أن لا يدخل أحدٌ من عناصر الفصيل إلى بساتين النخيل الواقعة في محيطنا. لكنّني لاحظتُ أثناء الحراسة، مجموعات تتحرّك في الفناء بين بيوت القرية. بعد البحث والتدقيق، علمتُ أنّ شاحنة إحدى الفصائل قد تأخّرت في الوصول، وأن لا داعي للقلق.

 

بقي كثيرون في تلك الليلة مستيقظين حتّى الصباح. فمن شدّة شوقهم وفرحهم للمشاركة في العمليات لم يتمكّنوا من النوم ليلة الهجوم. استلقى عدد منهم على البطّانيّات المفروشة في أرض الغرفة.

 

طوال تلك الليلة كنّا نسمع أصوات نيران قواتنا إلى أن حلّ الصباح. كما أشارت وَمَضات القنابل المضيئة إلى أنّ معركة كبيرة تدور في جزيرة "أمّ الرصاص"، ومعركة أخرى يدور رحاها في جنوب جزيرة "آبادان". أمّا الكتيبة فكانت تبعد عن المعركتين قرابة العشرين كيلومترًا.

 

204

 


170

الفصل الثالث - المتآخيتان

عندما طلع الصباح، حضر قادة الكتيبة لتوجيهنا وإعطاء التعليمات. واتّضح أنّ العمليّات الحاليّة تجري في مدينة "الفاو" العراقيّة، وأنّها بدأت بالأمس، وأنّ فرقتنا ستهجم اليوم في المرحلة الثانية من العمليّات على خطّ دفاع العدو، وأنّ كتيبة "حمزة" مستعدّة تنتظر وصول الأوامر من المقرّ و..

 

قُدّم لنا على الغداء يومذاك "تشلو مرغ" (الأرزّ بالدجاج). وإمضاء الموافقة عليه كان عبر الجلبة والتهليل والحركة والحماسة. ذكّرتني أشعّة الشمس الدافئة، بالأيّام السعيدة التي أمضيتها في هذه المناطق. كنت قد قضيت بعض عطل "النوروز" مع الأهل في جزيرة "آبادان" وعلى ضفّة نهر "أروند". وعندما أقارن تلك الأيّام الجميلة بالأوضاع الراهنة، كنت آسف بشدّة، حيث سيطرت "الضباع الغريبة" على هذه الطبيعة الجميلة. حينذاك كان العراقيّون يتردّدون بحرّيّة إلى جزيرة "مينو"، والإيرانيّون في تلك الناحية، وها هم الآن جيراننا عديمو الأصل قد هجموا على أرضنا معلنين العداوة.

 

عصر ذلك اليوم، تركنا البيت القروي، وعند المساء تموضعنا في خنادق على ضفّة نهر "أروند". كان ذلك عشيّة الثاني والعشرين من بهمن[1]. سمعنا عبر الراديو ومكبّر صوت الإعلام، بأخبار العمليّات. كما شهدنا بأنفسنا تزايد الغارات الجويّة للمقاتلات العراقيّة التي قصفت منذ الصباح إلى الغروب، المنطقة الواقعة إلى جانب نهر أروند والساحل الشرقي والغربي منه الذي كان بأيدينا، عدّة مرّات.

 

قبيل الغروب، عبرنا تحت القصف الجوّي للعدوّ، نهر "أروند" الهائج من ضفّة إلى أخرى، ألف متر من الماء العميق والهائج. وبفضل الله وصلنا جميعًا سالمين إلى الساحل الغربي منه. ولما أظلم الجوّ ومع


 


[1] 11 شباط، ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

 

205


171

الفصل الثالث - المتآخيتان

الأذان مكثنا في أحد البيوت الساحليّة. وطبقًا لأوامر قائد الفصيل، كان علينا التيمّم للصلاة. فقد نحتاج الماء الموجود في القرب للشرب. وقع نظري على تنّور للخبز في ناحية من نواحي البيت. فقد كان لدينا اثنان مثله في خرّمشهر، واحد في الفناء، وواحد على سطح المنزل. كان تنّورًا طينيًّا خمريّ اللون يبلغ قطره مترًا، وقد نصب فوق التراب. ولأنّ أرض خوزستان كانت رطبة، كانوا يبنون التنور على الأرض.

 

حين ضربت بيدي على التراب لأتيمّم، اعترتني حال عجيبة: هل ستُقبل صلاتي؟ فهذا بيت أحد العراقيّين.. أوَليس هذا التراب الذي أتيمّم به مغصوبًا؟ و.. تذكّرت أيّام احتلال "خرّمشهر"، وجثث النساء والأطفال المعفّرة بالدماء والتراب التي هرّبت النوم من عينيّ لمدّة مديدة، ومخازنهم الملأى بصنوف البضائع والمواد التي سطا عليها العراقيّون. وها هي "الفاو" الآن تدفع ثمن مقابل ما نُهب من "خرّمشهر". وهذا جرى من دون أي عملية سلب ونهب أو قتل وإراقة للدماء وأيّ ظلم وفساد.. تيمّمت ببال مطمئنّ وأدّيت صلاتي.

 

بقينا في ذلك البيت الساحلي إلى منتصف الليل، حيث صدرت الأوامر بالتحرّك. وكانت الشاحنات التي تخرجنا من الفاو شاحنات غنمتها قوّات الإسلام في المعارك. فسارت بنا مطفأة المصابيح. كان خطّ المواجهة على بعد عدّة كيلومترات منّا. فعمد مسؤولو الفصيل والسريّة إلى توجيهنا وإعطائنا التعليمات حول المنطقة ومهمّتنا من وقت لآخر. كانت كتيبة "حمزة" يومذاك تشكّل الاحتياط في العمليّات لكتيبتين من كتائب الفرقة هما، "أنصار الرسول"  صلى الله عليه وآله وسلمو"مالك الأشتر".

 

ترجّلنا من الشاحنات في مكان ما. كنّا قد ابتعدنا عن "الفاو" مسافة 10 كيلومترات. كانت المدينة تبدو واضحة. فالنيران المشتعلة في آبار النفط فيها والتي امتدّت ألسنتها عشرات الأمتار إلى السماء،

 

206

 


172

الفصل الثالث - المتآخيتان

كانت تبيّن بوضوح موقعيّة المدينة. لم نرتدِ في ذلك الطقس البارد المعاطف، إنّما السترات الواقية من المطر وحسب. أنهكنا البرد ونخر عظامنا، فَلُذْنا بجانب الساتر اتّقاءً للبرد وللخطر المحتمل.

 

ما إن أسفر الصباح، حتّى بدأ هجوم القوّات العراقيّة. كنّا حينذاك إلى الجهة اليمنى من الجادّة الإسفلتيّة لـ"أمّ القصر". وقبل حلول الظهر، تقدّمنا خمسمائة متر إلى الأمام، ومن ثم انتقلنا إلى الجهة اليسرى من الجادّة، إذ إنّها الأكثر أمنًا. لم نستطع سوى أن نلوذ بأسفل الجادّة الترابي منها. لكن على بعد عشرين مترًا فقط من تلك الناحية، يبدأ مستنقع ويمتدّ حتي يصل إلى الخليج. وكان يُطلق على تلك المنطقة قاعدة الصواريخ.

 

كان يوم الثاني عشر من شباط للعام 1986. تيمّمنا أيضًا وأدّينا صلاتي الظهر والعصر من جلوس في الدشم التي بنيناها بأنفسنا. وكان طعام الغداء لكلّ شخصين علبة من سمك التونة. وكان في تلك الناحية محلّ مهجور لبيع السمانة وجد فيه الإخوة صندوقًا من المياه الغازيّة، فأخذوها وشربوها.

 

بعد ظهر ذلك اليوم، عادوا ووزّعوا الذخائر الإضافيّة علينا. وقال المسؤولون، ليحمل كلّ شخص ما استطاع من الذخائر. فحملتُ وكلّ واحد من مساعِدَيْ رماة الـ(آر بي جي) الآخرَيْن قذيفة (آر بي جي) أخرى في يدنا الخالية. قبل الغروب، ودّعنا بعضنا البعض وطلبنا المسامحة. لكن عادت وتسنّت لنا فرصة أخرى، وحصل تأخير في المهمّة. أقمنا صلاتي المغرب والعشاء في المكان نفسه، ومن ثمّ انطلق طابور الكتيبة سيرًا على الأقدام، ليتوقّف بعد ساعتين إلى الجهة اليمنى من الجادّة في مكان ما، علمنا فيما بعد أنّه مثلّث مصنع الملح.

 

اجتمع قادة الفرقة الكبار، مع قادة السرايا والفصائل كلّهم تحت

 

207

 


173

الفصل الثالث - المتآخيتان

جسر إسمنتي صغير اتّخِذَ كمجرى للماء. طال اجتماعهم لمدّة، ومن ثمّ قام المسؤولون بإعطاء التعليمات لعناصرهم. قال قائد الفصيل الأوّل:

- هناك عدد من الدبّابات السالمة وعدد من الدبّابات المدمّرة على الجادّة. بحال تمكّنت كتيبة "حمزة" من تدمير تلك الدبابات السالمة، أو أخذها غنائم، ستتمّكن بكلّ سهولة من الوصول إلى جسر "أمّ القصر" الكبير..

 

وهكذا، تسنّت لنا فرصة أخرى لتوديع بعضنا البعض، إضافةً إلى "أحمدي زاده" و"أصغر أهري" و"كودرزي" حيث كنّا في مجموعة واحدة، ودّعت كلًّا من "پور كريم" و"كبير زاده" و"مسعود أهري"، و"أكبر مدني" و"أمير عباس رحيمي". حين أراد أمير عباس تقبيلي أحنى رأسه بشكل كبير ليصبح في موازاتي وقال: يا أخ "لك"، لا تحرمنا من شفاعتك، واذكرنا..

 

أخيرًا، انطلق طابور الكتيبة من مثلّث مصنع الملح. لم تكن تفصلنا عن الخطّ الأمامي مسافة كبيرة. بعد نصف ساعة، أصبحنا في ساتر نقطة الانتشار مستعدّين للهجوم. كانت السريّة الأولى طليعة الكتيبة، والفصيل الأوّل طليعة هذه السريّة، كما كانت مجموعة تتألّف من سبعة أو ثمانية عناصر تتقدّم الفصيل. وكان "محسن كودرزي" و"أصغر أهري" في عداد هذه المجموعة. وطبقًا لخطّة المناورة، كان على قائد السريّة أن يتقدّم مع مجموعة الطليعة، ويكسر خطّ الكمين وخطّ الدفاع الأوّل للقوّات العراقيّة، ليدخل بعده باقي عناصر الفصيل الأوّل المعركة، ومن ثمّ سائر الفصائل.

 

عندما تركت السريّة الأولى ساتر الخطّ الأمامي، كان العناصر إلى الجهة اليمنى للجادّة. تقدّمنا بهدوء ومنحني الظهر، حتّى وصلنا إلى الجادّة. عبرناها ورحنا نتقدّم في الجهة اليسرى منها.

 

208

 


174

الفصل الثالث - المتآخيتان

أصبحنا على مسافة قريبة جدًّا من خطّ الدفاع العراقي، بحيث كنّا نسمع أصواتهم. ولو كنت دقّقت السمع لاستطعت فهم ما يقولون، لكنّ أصوات المحرّكات وجنازير الدبّابات لم تدع أحدًا يسمع شيئًا. كنت أسير منحنيًا خلف "أحمدي زاده"، وخلفي "سعيد پور كريم". كان "كاكاوند" وهو من الفصيل الثاني في عداد المجموعة الأماميّة كونه من رماة الـ(آر بي جي) الماهرين. كان عدد العراقيّين كبيرًا. لم تكد المواجهة تبدأ حتّى أدركت ذلك. وكانت جبهتهم تزداد وضوحًا تحت وهج القنابل المضيئة. فكانت في الجهة اليمنى التي كنّا نتقدّم فيها مترًا فمترًا، أعمدة كهرباء، وكان بإمكاننا من خلال المسافة التي تفصل بين هذه الأعمدة، التحقّق جيّدًا من المسافة الفاصلة بين طابور السريّة الأولى والقوّات العراقيّة، ولم تكن تتجاوز الخمسين مترًا.

 

وكان أحد أعمدة الكهرباء خلفي تمامًا، والعمود التالي كان أمامي عند الخطّ المتقدّم لقوات العدوّ وبعض الدشم. وعليه، فالمسافة بيننا وبينهم كانت قرابة الخمسين مترًا.

 

أبلغني "أحمدي زاده" بأنّه علينا التأهّب للهجوم. أبلغت بدوري الشخص الذي يليني. بعد ثوانٍ، انطلق الرصاص. وأطلق أحد رماة الـ(آر بي جي)، الذي كان صديقًا قديمًا لـ "كاكاوند"، النار فوق رؤوس الإخوة الذين كانوا في الطابور، فانبطحنا جميعًا أرضًا. ومع إطلاقه، استنار الليل المظلم في لحظة واحدة، وصمّ سمعي صوت الصفير.

 

في الدقيقة الأولى تلك، أضعت "أحمدي زاده". فعندما نهضت من مكاني وركضت، غاب عن نظري. فنيران العراقيّين شديدة. وكأنّهم كانوا متيقّظين ومستعدّين، إذ حرثت نيران رشّاشاتهم سطح الجادّة. وكان عليّ إيجاد مجموعتي. فتّشتُ عن: محسن، أصغر، أحمد، لم أجد أيًّا منهم. تقدّمت من الجهة اليسرى للجادّة، كانت الطريق والأرض

 

209

 


175

الفصل الثالث - المتآخيتان

مليئتين بالقتلى والجرحى. لا أعلم إن كانوا عراقيّين أم إيرانيّين. ما كان عليّ الاهتمام بذلك. عبرت عدّة دشم للعراقيّين مدمّرة وسالمة وصامتة، فرأيت أحدهم جالسًا وهو يدير ظهره لي.

 

كان يضع خوذةً معدنيّة على رأسه ويرتدي لباس الكومندوس. أحسستُ بخطر داهم. كان رشّاشي جاهزًا للرمي. أمعنت النظر، كان يوجد على بزّته درجة عسكريّة، وكان يقوم بأشياء وراء بعضها البعض، وكأنّه كان يلقّم قاذف آر بي جي. لم يكن بيني وبينه أكثر من نصف متر، نهضت وصحت فيه مصدومًا: أنت إيرانيّ أم عراقي؟... تفاجأ هو أيضًا وصاح. تأكّدت أنّه ليس إيرانيًّا. فجأةً استدار بسرعة وأمسك بفوّهة سلاحي. عندما سحب البندقيّة، كانت يدي على الزناد، سرعان ما ضغطت وأفرغت وابلًا من النيران في صدره. كنت لا أزال مشوّشًا من بدنه القوي وشاربيه العريضين، حين شقّ وابل سلاحي مقدّمة بدنه من صدره إلى بطنه. جحظت عيناه. ولم يفلت البندقيّة، أحسست بسخونة تسري في جميع أنحاء جسدي. كان واقفًا ويشخر شخيرًا عاليًا.

 

مرّ الوقت ببطء. لربّما استغرق الوقت نصف دقيقة حتّى سقط ذلك الغول الضخم أرضًا. سقط، لكنّه لا يزال يريد الاستيلاء على سلاحي.

 

أراد ذلك، لكنّ أصابعه ارتخت ولم يعد بها من قوّة. فجأة سقط ومات.

 

تقدّمتُ أكثر، رأيت أحد عناصر الفصيل الثاني.

 

لا أذكر اسمه. كان مصدومًا فقال باضطراب:

- لقد استُشهد الجميع.. ارمِ على أولاد الحرام هؤلاء..

 

الملاعين، ليسوا واحدًا أو اثنين.. كلّما رمينا عليهم ازداد عددهم..

 

أشار بيده إلى الجهة اليمنى. فهمتُ بأنّ تعداد القوّات العراقيّة

 

210


176

الفصل الثالث - المتآخيتان

في تلك الناحية أكثر من الجهة اليسرى. تقدّمت وأفرغت عددًا من مخازن الرصاص على الدشم الموجودة على الناحيتين. لم أجد أثرًا لـ"كودرزي"، "أهري" أو "أحمدي".

 

لم ينقطع أزيز الرصاص الذي كان يمرّ من جانبيّ كل لحظة. كنت أتقدّمُ منحنيَ الظهر، إلى أن رأيت أحد عناصر الفصيل الأوّل، وكان مصابًا. لا أذكر اسمه وشكله. كان مصابًا في رجله ووركه بشظايا يدويّة. ضمّد المسعف جرحه. كان يهمّ بالرجوع إلى الخطوط الخلفيّة، فقال لي:

- يا أخ "لك"، لا ترمِ القنابل.. ستتشظّى كلّها، وتصيب شبابنا..

 

فهمت أنّه أُصيب من قنبلة صديقة. سألته: "ماذا حدث هنا؟".

 

قال بصوت متقطّع: "التحمنا بالعراقيّين.. المواجهة في المقدّمة وجهًا لوجه.. فاحذر من العراقيّين، ومن نيران شبابنا أيضًا"..

 

حان وقت الوداع، كان عليه أن يرجع إلى الخطوط الخلفيّة، أما أنا فعليّ أن أتقدّم إلى الأمام. في تلك الدقائق المعدودة، التقط كلّ منّا أنفاسه قليلًا. ابتعد عنّي، فتقدّمت شيئًا فشيئًا بحذر. إلى الأمام، كان يوجد تلّة ترابيّة صغيرة، يتراوح طولها ما بين الخمسة والستّة أمتار، بارتفاع متر ونصف، تنخفض قليلًا عن سطح الطريق الإسفلتيّة وكتفها.

 

كان ينبغي عليّ أيضًا أن أعبرها ثم أتابع طريقي. ربّما تقدّمت ما بين المئة والمئة والخمسين مترًا في جبهة العدوّ. كانت هذه التلّة الترابيّة متعامدة مع الطريق، أما إلى الجهة الأخرى منها فيوجد مستنقع. اقتربت منه، لكنّي حيث كنت أعلم أنّ المواجهة أصبحت وجهًا لوجه، رحت أتقدّم بحذر وبكامل الاستعداد. في المقدّمة، كان الالتحام مع البعثيّين مشهودًا. توجّهت مرّات عدّة نحو الجادّة لأستكشف وأشرف

 

211

 


177

الفصل الثالث - المتآخيتان

على الجهات من حولي، مع أنّ الذهاب إلى الجادّة كان خطرًا. قلت في نفسي: إن عبرت هذه التلّة، ونزلت عن الجادّة، وتقدّمت نحو الجهة اليسرى، سيكون الأمر أكثر أمنًا، لكن ما إن تقدّمت أربعة أو خمسة أمتار إلى جانب التلّة، حتّى شخَص عراقيّ أمامي، كان يكمن في ذلك المكان. لما رآني اقتربت، أطلق النار صوبي. كان رشّاشي أيضًا جاهزًا للرمي. صوّبت سلاحي نحوه لتكون فوّهته موجّهة إلى صدره مباشرة، لكنّه سبقني وأطلق الرصاص. رأيت النيران تنبعث من فوّهة اللهب إلى الجوانب. لم أعرف، ولم أذكر إن كنت رميت أم لا، لكنّي أحسست بالنصف الأسفل من جسدي يشتعل. شعرت حينها برعشة قويّة في جسدي وعظم ساقي، وكأنّ طلقة مدفعيّة أصابت رجلي اليمنى.

 

أحسستُ بالعالم يدور من حولي، وتكوّمت فجأة على نفسي ككيس نايلون أُلقي في النار، إلى أن تلاشيت. سقطت من أعلى الجادّة إلى تلك الجهة التي أطلق الجندي العراقي النار عليّ منها. كما تمرّغ وجهي وامتلأ رأسي بالتراب. كنت أشاهد وجهه المنحوس بشكل ضبابي. كان يعتمر خوذة، وتبدو ضحكته مرعبة بشاربيه العريضين. رحت أنتظر رصاصة الخلاص، لكنّه اختفى فجأةً ورحل. كلّ هذا حصل في أقلّ من دقيقة. رحل هو، وبقيت وحدي مع رجلي المكسورة.

 

في البداية، ظننت بأنّ رجلي قد قُطعت، لكن حين مددت يدي وتحسّست رجلي، أمدّني ذلك بالقوّة وسيطرت على نفسي. ورحت أخاطبها مؤنّبًا: أصغر، لقد أُصبت، وأصبحت جريح حرب... لا تخف!

 

وصل المسعف. كان "سيروس مهدي پور" مسعف فصيلنا. فكّ في البداية المعدّات وجعبة ذخائر الـ(آر بي جي) عن ظهري. ومن ثمّ الحزام العسكري، رفع قميصي إلى الأعلى، وأنزل سروالي إلى الأسفل قليلًا، ليجد مكان الإصابة. لم يجد شيئًا. استخرج مقصًّا من

 

212

 


178

الفصل الثالث - المتآخيتان

حقيبته وراح يقصّ به بنطالي إلى أن وصل إلى مكان الإصابة فقال:

- أخ لك، لم تصب بأي أذى.. لقد أصبح هؤلاء الأعداء وقحين، علينا أن نلقيهم جميعًا في هذا الخليج!

 

كان يمدّني بالقوّة ويشجّعني. ولم ينقص من معنويّاته كثرة القتلى والجرحى الذين شاهدهم، بل كان يمدّني بالمعنويّات ويقول:

- من حسن حظّك أنّها لم تصل إلى الشريان الرئيسي، وإلّا لكان الدم نزف منك كما يتدفّق الماء من خرطوم المياه! ألقيت نظرة على جرحي قبل أن يضمّده. كان اللحم والجلد والعظم مختلطًا بعضه ببعض بمقدار راحة اليد. وكأنّه فُرم بماكينة فرم اللحم.

 

حينما أنهى "سيروس" تضميد جرحي ذهب لإسعاف الجرحى الآخرين.

 

بعدها بقليل، ضغطت بكلتا راحتيّ على الأرض، لأنهض متّكئًا على بندقيّتي، لكنّني لم أستطع ذلك من شدّة الوجع، فعدت وجلست في أرضي. كنت قد جُرحت وعليّ تصديق ذلك بالرغم من صعوبة الأمر. فقدت قوّة الدقائق الخمس السابقة وطاقتها كلّيًّا. فقبل دقائق معدودة كنت أسير على قدميّ وأجري. أقفز، لكن الآن لم أعد أستطيع النوم براحة.

تركت سلاحي وذخائري ومعدّاتي في مكانها ورحت أزحف باتّجاه الخطوط الخلفيّة. بالاعتماد على يديّ رفعت نفسي عن الأرض قليلًا، ورحت أتقدّم. كنت أسحب رجليّ على الأرض، وأذكر لحظة بلحظة ذلك الجنديّ العراقي وشاربيه وضحكته، فترتعد فرائصي لذلك.

 

قلت في نفسي ليتني أحضرت سلاحي معي، فلربّما صادفت مرّة أخرى واحدًا من أولئك الغيلان. كنت قد ابتعدت عن سلاحي مسافة عشرة أمتار. عشرة أمتار في تلك الأوضاع كانت كألف متر، بل أكثر.

 

213


179

الفصل الثالث - المتآخيتان

زحفت عدّة أقدام أخرى، بل عدّة أيدٍ، فلم يبقَ أثر من بنطال علي. فقد قصّ "سيروس" نصفه ليجد مكان الإصابة، والنصف الآخر تلاشى مع هذه الأمتار العشرة التي زحفتها. حمدت الله سبحانه أن كان قميصي طويلًا يسترني حتى نصف ساقي الأعلى. تابعت مسيري، لم يكن صائبًا انتظار ناقلي الجرحى، ففي طريق العودة كنت قد شاهدت الكثير من الجرحى، كم يوجد من ناقلي الجرحى في الفصيل أو السريّة؟ فإن رجعت مائة متر إلى الوراء، لوصلت إلى مكان المواجهة، ومائة متر أخرى إلى الوراء أصل إلى نقطة الانتشار.

 

في معمعة التحليل والسير تلك، أنجدني "حميد رمضاني" أحد ناقلي الجرحى في فريقنا. لم يكن معه حمّالة، وكان وحيدًا.

حملني على ظهره وانطلق. كنت أرتجف من البرد. بينما كان أحد قادة السرايا ما زال يعطي الأوامر بالتقدّم:

- أيّها الإخوة، انهضوا.. لِمَ قعدتم.. تقدّموا إلى الأمام..

 

إلى حينها، كانت السريّة الثانية للكتيبة قد دخلت المعركة. مضى نصف ساعة على بداية الهجوم، فسمعت من العناصر المتأهّبين للهجوم بأنّ لدى القوّات العراقيّة على الجادّة، رتلًا من الدبّابات وناقلات الجند المدرّعة. وقد قيل لنا قبل الهجوم إنّه يوجد على الجادّة عدد من الدبّابات المحترقة والسليمة فقط. وكان من حقّ العناصر الحديثة العهد بالجبهة أن تتردّد في التقدّم إلى الأمام. فالمعلومات التي وصلت إليها كانت إمّا ناقصة أو مغلوطة، وقد أدركوا ذلك، ولحظة بلحظة كان يُنقل جرحى من أمثالي، من خطوط المواجهة، وبدورهم يخبرون عن المواجهة المباشرة التي تجري وجهًا لوجه هناك.فقلّت ثقتهم بفريق المعلومات، وازداد الغموض فيما يتعلّق بالتكليف الملقى على عاتقهم، وخوفهم من ازدياد عدد الجرحى كان في مكانه.

 

214

 


180

الفصل الثالث - المتآخيتان

كانت نيران العراقيّين شديدة، فكان الرصاص الغزير يمرّ من فوق الجادّة وعلى جانبيها ويُسمع أزيزه. فعلى مسافة خمسمائة متر إلى الأمام كانت القيامة قائمة، وأنا لا أزال محمولًا على ظهر "حميد رمضاني" متوجهًا إلى الخطوط الخلفيّة. احترق قلبي على "رمضاني"، وكذا على الجرحى الذين كنّا نمرّ بإزائهم. قلت له:

- أخ رمضاني! أنزلني أرضًا، سأذهب بنفسي شيئًا فشيئًا إلى الخطوط الخلفيّة....

 

لم يكترث رمضاني لقولي، وتابع راكضًا. نقلني مائة متر إلى الخلف، ثم أنزلني أرضًا. أما هناك فيوجد ناقلو جرحى آخرون. طلبت من رمضاني أن يؤمّن لي بطّانيّة أو كوفيّة أو أيّ شيء آخر لأستر بها ساقيّ. فأعطاني قطعة من القماش. عند ذاك، وضعوني على الحمّالة ونقلوني إلى الخلف إلى فناء مليء بالشهداء والجرحى.

 

مُلئت سيّارة أو سيّارتا إسعاف بالجرحى، وانطلقتا. ثم مُلئت سيّارة إسعاف ثالثة، أمّا أنا فأدخلوني بعد جهد إلى سيّارة الإسعاف وأغلقوا بابها بعد عسر ومشقّة وانطلقنا.

 

مع كلّ حركة لسيّارة الإسعاف، كانت تتعالى أصوات الجرحى. لم يكن بي من رمق حتّى للصراخ والأنين. سرنا قرابة نصف ساعة إلى أن توقّفت سيّارة الإسعاف، وفُتح بابها. بعدما وضعوني أرضًا، نُقلت إلى داخل قاعة كبيرة مضاءة بمصابيح كهربائيّة. ما إن تمدّدت على السرير حتّى وقع نظري على "حسن قابل أعلا" الذي أُصيب بشظيّة في بطنه وكانت حاله سيّئة. بعدما ضمّد مساعد الطبيب في المستوصف جرحه، انتقل إلى الجريح التالي. بعد فترة، جاء دوري وضمّد جرحي. قال أحد شباب الفصيل الثاني وكان من رفاقي القدامى، بين المزح والجدّ:

- سمعت أنّك كنت واقفًا وسط الطريق، وتنزل البلاء على رؤوس العراقيّين برصاص الكلاشنكوف...

 

215

 


181

الفصل الثالث - المتآخيتان

أجبته بابتسامة رسمتها على شفتيّ. وكأنّ الحقنة التي حقنوني بها قد بدأ مفعولها، فخفّفت وجعي، وجعلتني مشوّشًا.

 

بعدها بقليل، نُقلت إلى رصيف المنصّة، ووُضعت في قارب. لم يكن هناك مسافة كبيرة بين المستوصف والساحل. توقّف القارب إلى الجهة الأخرى من الساحل الإيراني. أنزلوني من القارب ووضعوني داخل سيّارة إسعاف. غبت عن الوعي. حين فتحت عينيّ وجدت نفسي في مستشفى ميداني. وهناك سألوني عن اسمي وبعض الأسئلة الأخرى، ومن ثمّ نقلوني مباشرة بحافلة فُرّغت من المقاعد وجُهّزت بالمعدّات الطبّيّة. كما كانت تحتوي على مقاعد للجرحى العاديّين، وأماكن لتوضع فيها حمّالات الجرحى من ذوي الإصابات البالغة.

 

قبل طلوع الصبح بساعة واحدة فقط، كنت في حال بين النوم واليقظة، وما زال أثر المسكّن والتعب يفعلان فعلهما بي، وإذا بالحافلة ترتجّ بنا جرّاء صدمة قوّية، فارتفعت أصوات الجميع. انقلب كلّ شيء في الحافلة بعضه على بعض: الجرحى، والحمّالات. على ما يبدو أنّ السائق غلبه النعاس فاصطدم بساتر ترابيّ. كان ذلك في سحر الثالث عشر من شباط، واليوم الثالث للعمليّات. فغاب بعض الجرحى عن الوعي، وكنت أنا من بينهم. حين فتحت عينيّ، وجدت نفسي في مستشفى الشهيد "بقائي" في "الأهواز"، كان الصبح قد أسفر. حين رأوني أفقت، نقلوني لإجراء بعض صور الأشعّة. كما نقلوني مرّة إلى غرفة قريبة من غرفة العمليّات.

 

نظرت في زاوية الغرفة التي تُجمّع فيها بعض الأيدي والأرجل المبتورة وقد تجمّد الدم عليها. فشعرت بالغثيان، وكدت أغيب عن

 

216

 


182

الفصل الثالث - المتآخيتان

الوعي. لقد خطر على بالي فجأة، أنّ هذه الأطراف المقطوعة كانت قبل ساعات أعضاءً لبدن شخص ما. ساءت حالي كثيرًا وانتشر الألم في جميع أنحاء جسدي. ألقيت نظرة على رجلي المصابة، ورحت أتحسّسها وأضغط عليها برجلي الأخرى. شعرت بالخوف من أن يبتروا رجلي، وصرت لا إراديًّا أقول لمن حولي:

- بالله عليكم، أخرجوني من هنا.. أنا سليم معافًى.. خذوني..

 

لم يكترث الممرّضون، الذين اعتادوا على مثل هذه الاستغاثات، لكلامي. وقالوا لي إنّه لا يوجد قرار أصلًا بإجراء عمليّة لك، وإنّهم يريدون فقط أن يجروا صورة أخرى لرجلي. وكانوا قبل نقلي لإجراء الصورة قد أفرغوا مثانتي عن طريق الميل. فجاءت نتيجة المعاينة والصورة بلزوم نقلي إلى مستشفى أكثر تجهيزًا. فاتّجهنا إلى مطار الأهواز الذي كانت حركة الملاحة فيه معطّلة.

 

وبعد انتظار فترة طويلة، صعدنا إلى طائرة (C130) وانطلقنا. وفي الطائرة، سمعت أنّ طائرة أخرى قد سقطت جرّاء إصابتها برصاص العدوّ، وكان على متنها قيادات رسميّة وعسكريّة.

 

حطّت طائرتنا في مطار "رشت"، وكانت تلك الطائرة الأولى التي أركبها. وبالرغم من إصابتي كنت أستمتع بصعودها وهبوطها. أُدخلت إلى أحد مستشفيات "رشت". كنت أشعر بألم شديد. ولم يكن أحد يكترث لآلام الجرحى. وأخيرًا، من شدّة ما صرخت وأنّيت جاءني الممرّضون بالطبيب. بعد معاينة الصور وجد أنّ رصاصة قد استقرّت فوق الفقرة السفلى من ظهري. فأعطاني حينها حقنة مسكّن، ونُقلت في ذلك اليوم نفسه إلى غرفة العمليات، فأُجريتْ لي عمليّة جراحيّة سريعة استخرجوا فيها تلك الرصاصة من بدني. باستخراج الرصاصة، خفّ الألم، وارتاح بالي وبال الطبيب، لكنّ الطبيب غفل عن

 

217


183

الفصل الثالث - المتآخيتان

حوضي المكسور، وكانت آخر كلماته: "سيّد "لك علي آبادي" بعد أيّام قلائل ستتمكّن من المشي على قدميك مثلي تمامًا، لكن لا تستعجل.. عليك الآن أن تمشي بهدوء وتحرّك رجلك دومًا"..

 

شكرت الطبيب، لكنّي حدّثت نفسي: كيف لي أن أسير بعد عدّة أيّام مثلك بهذا الحوض المكسور؟!

 

قبل مغادرة مستشفى "رشت"، أجريت اتّصالًا هاتفيًّا بطهران، وأخبرت العائلة بإصابتي. ظنّوا بأنّني أتكلّم من "خوزستان". وتعجّبوا حين أخبرتهم بأنّني في "رشت". قبل مغادرة المستشفى أيضًا، التقيتُ بأحد جرحى كتيبة "حمزة"، ذلك الجريح نفسه الذي أُصيب بقنبلة يدويّة صديقة، والتقيت به ليلة الهجوم.. كنّا متيقّنين بأنّ البعثيين العراقيّين كانوا ليلة الهجوم على علم به، فتظاهروا بعدم ذلك، واستهدفوا شبابنا من الخلف. وما وصلنا من أخبار يومها أنّ كتيبة "حمزة" لم تتمّكن تلك الليلة من الوصول إلى جسر جادّة "أمّ القصر" المشهور، وأنّه لم يبقَ سالمًا من عناصر الكتيبة سوى فصيل أو فصيلين.

 

كنت أتوكّأ على عكّاز حين قرعتُ جرس البيت في محلّة "يافت آباد" في طهران. فتحت أمّي الباب، صُدمتْ لرؤيتي، وراحت تنظر إليّ فحسب. بناءً على تعليمات الطبيب "الرشتي" كنت أمشي على رجلي وأتحمّل الألم الذي كان يسبّبه المشي. وهكذا فعلتُ في الأيّام اللاحقة. لكنّ أمّي وأخي لم يحتملا رؤيتي أتألّم، وأقنعاني باستشارة طبيب آخر. ذهبت إلى مؤسّسة الشهيد، فحوّلوني إلى مستشفى "أختر" في جسر "الرومي"، فركبت الحافلة برفقة أمّي وأخي واتّجهنا إليه.

 

بعد معاينة طبيب المستشفى وإجراء صورة شعاعيّة أخرى لي، أجلسني على كرسي، ومن ثمّ مدّدني على سرير وقال: "لا ينبغي لك أن تخطو عليها ولو خطوة واحدة!".

 

418

 


184

الفصل الثالث - المتآخيتان

تذكّرت الطبيب "الرشتي" وأوجاع الأيّام القلائل التي عانيتها جرّاء المشي عليها. كنت مسرورًا كوني أعمل بتعليماته، وأظنّ بأنّ هذا الألم هو أيضًا علامة على التحسّن.

 

أُدخلتُ إلى المستشفى. خضعت لعمليّة جراحيّة في حوضي الذي عطّله لي العدوّ، لكنّ آثار المشي السيّئة على رجلي بناءً على تعليمات الطبيب "الرشتي" لم تفارقني أبدًا. وقد خضعت في تلك العمليّة لمخدّرٍ عامّ واستغرقت ساعات، كونها عمليّة صعبة. بعد العمليّة، تذكّرت خيمة الفصيل الأوّل، وأصدقائي الحميمين، فقرأت سورة الواقعة التي كنت أحفظها عن ظهر قلب، لأخفّف من أوجاع ما بعد العمليّة، لكنّ الوجع لم يبارحني. كنت أصيح للممرّضين بأن يحقنوني حقنة مسكّن. وقد علّقوا إلى رجلي وزنًا يبلغ عشرين "باوندًا" وكان عليّ تحمّله لأشهر.

 

بقيت في المستشفى من 29 شباط إلى السادس من أيلول من العام 1986م، مع ذلك الوزن الثقيل الذي كان أحيانًا يسحبني ببدني ذي الخمسين كيلوغرامًا، إلى أسفل السرير. وكذلك تابعت دراستي في هذه الأشهر الستّة، وصمتُ أيضًا بعد استشارة الطبيب وسماحه لي بذلك.

 

زارني في تلك الفترة في المستشفى "أحمدي زاده" الذي كان قد أُصيب أيضًا. علمت منه بأنّ "پوركريم" وثلاثة من مساعديه قد استُشهدوا. لقد كان "أحمدي زاده" الشخص الذي يتقدّمني في الطابور، و"پوركريم" ومساعدوه من خلفي.

 

في شتاء العام 87، نُفّذت عمليّات "كربلاء5"، وأثناء هذه العمليّات اقترب مجاهدونا من البوّابة الشرقيّة لـ"البصرة". في عمليّات "خيبر" في العام 1983 اقتربنا أيضًا من البوّابة الشماليّة للبصرة، كما اقتربنا خلال عمليّات "والفجر8" من البوّابة الجنوبيّة لها. أما في العام86،

 

419


185

الفصل الثالث - المتآخيتان

فحاولت قوّاتنا أيضًا التقدّم إلى البوّابة الشرقيّة، الطريق الأقرب والأصعب للوصول إلى البصرة. لم يكن هناك نهاية لحروب المدينتين المتآخيتين.

 

في أشهر الحرب الأخيرة، أي في ربيع العام 1988، وعلى الرغم من إصابتي، ذهبت إلى الجبهة مجدّدًا. وكان العراقيّون حينذاك قد أصبحوا وقحين للغاية، فكانوا يقصفون المدن وأهاليها بالصواريخ خاصّة العاصمة طهران. لم أكن أستطيع أن أكون مع المجاهدين ليلة الهجوم. لهذا السبب، انضممت إلى الوحدة البحريّة، العودة إلى عهد الطفولة، إلى "أروند" والمراكب والسمك. ففي الوحدة البحريّة أدّيت عملي بنحو جيّد.

 

في العام 88، برزت مطامع العراقيّين من جديد، فعادوا واحتلّوا طريق "الأهواز - خرّمشهر"، ووصلوا إلى مشارف خرّمشهر كما فعلوا في العام1980م. لكنّ جهوزية المجاهدين وهمّتهم العالية لم تسمحا بذلك. بعد عدّة أشهر آل مصير الحرب إلى ما تعلمون*[1].

 

هذه هي الحرب، لكنّها بالنسبة لي ولأمثالي من الجرحى الذين تركت أثارًا في أجسادهم وأرواحهم، ولعوائل كثيرة قدّموا فلذات أكبادهم فداءً لأمر الإمام و... لم تنتهِ. سيبقى على الأقلّ، جرح رجلي اليمنى معي إلى آخر العمر. يقول الأطبّاء إنّ المادّة اللزجة الموجودة في مفصل وركي ستجفّ مع مرور الوقت. وإنّ حركة رجلي في منتصف العمر وما بعده ـ إذا ما عشت إلى ذلك الوقت ـ ستكون مصحوبة بألم شديد، وحينها ينبغي أن أخضع لعمليّة زرع ورك صناعي. إلى حينها، ستنطبع في ذاكرتي، أحيانًا في الليل، وأحيانًا أخرى في النهار، تلك


 


[1] * الموافقة على القرار 598 وتوقف الحرب.

 

220


186

الفصل الثالث - المتآخيتان

الضحكة المنحوسة المسمّة لذلك البعثيّ ذي الشارب العريض، الذي رماني تلك الليلة، وستطلّ صورته على مخيّلتي من وقت لآخر. ولقد استحضرت حتى اليوم تلك الذكرى التي لا تتعدّى الثواني القليلة، مئات المرّات، وفي كلّ مرّة تأتي وتغيب. أحيانًا أقول، ليتني كنت أسرع منه وضغطتُ على الزناد قَبْلَه، وأحيانًا أخرى أقول: ليتني كنت قُتلت حينها ونلت فخر الشهادة في سبيل الدين والوطن.

 

اليوم، حينما أسير في طرقات "خرّمشهر"، وعلى الرغم من أنّي أعرج في المشي، لكنّني أشعر برضًى كبير. ولو لم يقدّم في ذلك اليوم أفراد من أمثالي، أرواحهم على طبق الإخلاص عشقًا لبسمة الإمام، لربّما كان أُطلق على خرّمشهر العزيزة اليوم اسم المحمّرة[1]. لقد حملت القليل من آثار الحرب على عاتقي، لكنّ ابني اليوم يتمشّى على ساحل "خرّمشهر" الجميل بحرّيّة. وينمو ويترعرع في أرض أبيه العزيزة الخارجة من بين الدمار والدماء، وهل هذا بالشيء القليل؟


 


[1] كما يسمّيها العراقيّون.

 

221


187

وثائق الفصل الثالث

وثائق الفصل الثالث

 

الصف

الاسم والشهرة

الوثائق المكتوبة

الصور

الوثائق غير المكتوبة

1

أصغر لك علي آبادي

2

1

125 دقيقة حوار

 

ورد في مجموع وثائق هذا الفصل، وثيقتان ورقيّتان وصورة فوتوغرافيّة.

 

1- أصغر لك علي آبادي

1-1 معلومات شخصيّة

- حائز إجازة في العلوم الاجتماعيّة، متأهّل وله ولدان، موظّف في مديريّة المرافئ والملاحة.

- تاريخ ومحلّ الولادة: خرّمشهر 1966.

- مدّة الحضور في الجبهة ونوع العضويّة: ستّة عشر شهرًا في التعبئة.

العمليّات التي شارك فيها والمهام العسكريّة: كيلان غرب، 1983 (قنّاص)، شيخ سله 1984 (الدفاع الجوّيّ)، عمليّات والفجر 8 (مساعد رامي آر بي جي)، دفاعات شاخ شميران، 1988 (الوحدة البحريّة).

 

 

222


188

وثائق الفصل الثالث

- إصابات سابقة: كسر في الورك ومفصل الرجل اليمنى (1986).

- درجة الإصابة: 25%.

 

 

223


189

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

الفصل الرابع*[1]

 

الخوذة المعدنية[2]

والدي! كانت إجازتي الأخيرة قبل تنفيذ العملية، حين جئتُ إلى المنزل قبل شهرين تمامًا، أي في أواسط شهر كانون الثاني. مكثتُ أسبوعًا فقط. وعندما رجعتُ إلى معسكر "كرخه"، لم نبقَ طويلًا، قصدنا ميدان الرماية حيث كتب الإخوة وصاياهم، سلّموا حقائبهم لـ"تعاون"[3]2 الفرقة وغادروا "كرخه".

 

مضينا إلى معسكر "كارون" على متن حافلات عليها لافتات: "زيارة تفقدية لعمّال المصنع إلى الجبهة"، بمعنى أنّه لا يوجد في الحافلات مقاتلون. أسدلَ الإخوة الستائر علينا، وارتدى الجالسون في المقدمة


 


[1] * الفصول (4-5-6) ترجمة: حوراء طحيني، دقق الترجمة: فاطمة شوربا.

[2]  تمّ تدوين هذا الفصل على أساس أشرطة التسجيل التي أعدّها والد الشهيد سيروس مهديبور. قال السيد مهديبور: "كلّما رجع سيروس من الجبهة، كنت أستمع بشوق لمذكراته، وأضع آلة تسجيل تحت ملاءة من دون أن ينتبه بالطبع، أشغّلها، أجرّه إلى الحديث وأسجّل ما يقول". وردت المقابلة التي أجريت مع السيد مهديبور من ضمن وثائق الفصل.

[3] هو المركز الذي يعنى باستلام الأمانات من سلاح وأغراض خاصة بالمقاتلين، وأيضًا يؤمّن الخدمات الطبية اللازمة، إضافة إلى تسلّم أجساد الشهداء تمهيدًا لتسليمها إلى أهلها.(المحرّر).

 

224


190

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

ثيابًا عاديّة غير عسكرية.. فلربّما كَمَنَ لنا جاسوسٌ أو الطابور الخامس وأفشى أمرنا، هكذا افتُضح أمر عملية "بدر"، حيث كان العدوّ متربّصًا ليلة العملية وأجبرَنا على الانسحاب، وقدّمنا حينها الكثير من الخسائر. أمّا في عملية "والفجر 8"، فقد تمّت حماية المعلومات بشكل متقن، ولهذا نجحنا في السيطرة على "الفاو".

 

استقررنا في معسكر "كارون" في جنوب "الأهواز".

 

والدي! هل تذكر أيام عطلة النيروز عام 1974م أو 1975م؟ حين ذهبنا إلى "الأهواز" و"آبادان" وركبنا القوارب في نهر "كارون"؟ لقد حافظتْ بساتين النخيل على جمالها ذاك. كلّما نظرت إلى "كارون" استحضرتُ ذكريات تلك السنوات، حين لم أكن قد تجاوزت العاشرة أو الثانية عشرة من عمري.. كانت رحلة الحرب بالنسبة إليّ أيضًا رحلة مليئة بالمخاطر والتجارب، ووجدت في الجبهة رجالًا عظماء.

 

يشبه معسكر "كارون" منطقة العمليات إلى حدّ كبير. تابعنا هناك سلسلة تدريبات عسكرية، ركبنا الزوارق ونفّذنا مناورة برمائية. ولأنّ البعثيّين استخدموا الكثير من القنابل الكيميائية في عمليّة بدر، ركّزت القيادة في المناورات والتدريبات على كيفية مواجهة الهجوم الكيميائي. حتى إنّنا تدرّبنا على استخدام القناع الواقي أثناء النوم لنكون على أعلى جهوزية إذا اقتضت الحاجة.

 

عملت وحدة الوقاية في المعلومات بشكل جديّ، بحيث لم يسمحوا للشباب بإرسال وصاياهم التي كتبوها في معسكر "كارون" إلى "طهران" قبل البدء بتنفيذ العملية.

 

بعدها، اختبرنا في "كارون" عتادنا لآخر مرّة، ثم ذهبنا مرّة واحدة إلى ميدان الرماية. كنت أحمل حقيبة ظهر ملأى بالعدّة والعتاد،

 

225

 


191

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

إضافة إلى قارورتي ماء. فكان الشباب يمازحونني قائلين: كان يجب أن أُعْطَى عربة يد لأضع فيها حمولتي. سلّمونا كلّ التجهيزات ما عدا الخوذة المعدنية، لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الشباب سيرمونها جانبًا، فعلًا، لم يكن أيٌّ منّا يضع خوذة على رأسه.

 

غادرنا "كارون" في يوم غائم، فلم تتمكّن طائرات العدوّ العسكرية من التقاط الصور من الفضاء. لم يكن ثمّة حافلات، وركبنا هذه المرّة الشاحنات بعد أن غطّوها بقطعة من القماش المشمّع، وألصقوا عليها لافتة مكتوبًا فيها: "هدايا الشعب إلى جبهة الحق في مواجهة الباطل". برأيي حتى عناصر الدرك في جادّة "الأهواز" لم ينتبهوا إلى عمليّة انتقال الكتائب. هذا أفضل، فلطالما وُجد جواسيس أو طابور خامس. كان القادة متيقّظين إلى المسائل الأمنية والوقائية بشكل جيّد، ولأنّنا عندما وصلنا إلى "بهمن شير" استقررنا في بيوتات القرية التي غادرها سكانها قبل ستة أشهر أو سنة، لم يكن العدوّ ليلتفت إلى وجود الكتيبة، حتى لو التقط صورًا من الجو. كما لم يُسمح للشباب بالانتشار قرب النهر أو في بستان النخيل.

 

في تلك الليلة، حين كنّا في "بهمن شير"، انطلقت عمليات "والفجر8" الكبرى. وفي صباح اليوم التالي، أُخبِرنا بتفاصيلها. لم يكن العناصر على علم، حتى تلك اللحظة، بمكانها. في ذلك النهار، طرق اسم "الفاو" مسامعهم للمرة الأولى. وبسبب هذه السِرّيّة، لم يُفتضح أمر العملية، ولذلك تحرّرت "الفاو".

 

في ذلك اليوم يا والدي، قدّموا لنا على وجبة الغداء "جلومرغ" دجاج مع الأرز. كانت المرّة الأولى التي يشارك فيها أغلب الشباب في عملية، وقد نال إعجابهم مذاق الـ"جلومرغ". وبعد الظهر نُقلنا إلى "أروند كنار" وجمّعونا في عنبرٍ بالكاد اتّسع لنا.

 

226

 


192

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

مع حلول الحادي عشر من شهر شباط، ظهرت الكثير من المقاتلات العراقية في سماء المنطقة وقصفت المكان. عبرت كتيبتنا "أروند" ذلك النهار. لقد تعذّر علينا عبور النهر يومها بسبب سرعة المياه وضغطها. فمكثنا قرب الشاطئ، إلى أن تمكنّا – أخيرًا - مع الغروب من الوصول إلى الساحل الغربي، أي مدينة "الفاو".

 

كانت الفاو مدينة عسكرية لم يسكنها مدنيّون عاديّون. وبينما كنّا نمشي في طريق "الفاو" الساحلي، ظهرت آلية كبيرة غنمها الشباب، تُستخدم لإطلاق الصواريخ. ربّما كانت أكبر آلية عسكرية غنمناها في الحرب. لقد أخفاها الشباب بين أشجار النخيل ووضعوا لها حارسًا.

 

وصلنا عند أذان المغرب إلى منزل خالٍ، استرحنا فيه حتى منتصف الليل. وبعد منتصف الليل أحضر الشباب شاحنة كانوا قد غنموها، ركبناها وانطلقت مُطفَأة المصابيح، لنصل إلى الصحراء بعد مسير. إنّها جادّة "أم القصر".

 

تصل جادّة "أم القصر" ميناء "الفاو" بميناء "أم القصر"، جادّة إسفلتية لكنّها قليلة العرض، وقد وُضع على أحد طرفيها الموانع كالأسلاك الشائكة والعوائق الحديدية المتشعّبة.

 

والدي! تلك الجادّة تشبه جادّتنا الأولمبية تمامًا، طولًا وعرضًا. يقع على يسارها "خليج وخور[1] عبد الله"، وقد وضع العدو هذه الموانع خوفًا من أيّ هجوم محتمل بالحوّامة أو القوارب، من البحر على اليابسة.

 

قامت كتائب الفرقة بعمل جيّد في تلك الليلة. وبقيت كتيبتنا كتيبة احتياط، ولم يكن ثمّة حاجة لتقدّمها أكثر، فلبثنا هناك حتى صباح


 


[1] الخور أو مَصَبّ النهر هو مسطح مائي ساحلي يأخذ شكل خليج شبه مغلق، يصب فيه نهر أو مجرى مائي من جهة، ويتصل بالبحر من الجهة الأخرى، تمتزج فيه المياه المالحة بالمياه العذبة.

 

227


193

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

اليوم الثاني عشر من شباط.

 

مع إشراقة الشمس، اتّضح لنا أين نحن، إنّها قاعدة صاروخية مهجورة. لقد سيطر شباب الفرقة في اليوم نفسه وفي نقطة متقدّمة أكثر على قاعدة صاروخية أخرى فعّالة. كان للعدو في "الفاو" ثلاث قواعد صاروخية، اثنتان منها فعّالة، وكانوا يستطيعون بصواريخهم البعيدة المدى استهداف ميناءي "خارك" و"لنكه"[1] النفطيين بسفنهما. لذا كان أحد أهداف العملية القضاء على هذه القواعد والصواريخ. من الأهداف البعيدة للعملية أيضًا، إفهام الكويتيين أنّنا بتنا جيرانهم، وإن لم يلتزموا الحياد ويكفّوا عن تقديم الدعم لصدام، فسنسوّي حسابنا معهم، فجزيرة "بوبيان" الكويتية قريبة منّا، ويمكن في الليل رؤية أنوارها في الأفق. كما تبعد جادّة "أم القصر" 7 أو 8 كلم عن الحدود العراقية - الكويتية.

 

قضينا اليوم الثاني عشر قرب جادّة "أم القصر" حتى المساء. لم نكن نبعد كثيرًا عن الخطّ الأمامي وساحة المعركة. تقدّمنا سيرًا على الأقدام، وعند مثلث مصنع الملح صدرت الأوامر لنا باقتحام الخطّ. كانت الأوامر تقضي بأن تتقدّمَ كتيبتنا حتى جسر جادّة "أم القصر" الكبير وتسيطرَ على الجادّة وتطهّرها. أظنّ أنّ المسافة حتى تلك النقطة بلغت حوالي 10 كلم، وإذا ما استطعنا هدم ذلك الجسر الإسمنتي، فسوف تنعم الجادّة بالأمن الكامل. لكن لم يتمّ توجيه الشباب بشكل دقيق. ربّما قادتهم أيضًا لم يكونوا على علم بوضع هذه الكيلومترات العشرة. كانوا قد ألقوا نظرة عبر المناظير في النهار، ورصدوا أربع أو خمس دبابات سليمة في الجادّة وبعض الدبابات المحترقة. هذه هي كل المعلومات التي قدّموها لنا قبل الهجوم وكانت خاطئة بالطبع.


 


[1] موانئ إيرانية في الخليج الفارسي.

 

228


194

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

بعد أن تلقينا التعليمات اللازمة في مثلث مصنع الملح، انطلقنا إلى ساحة المعركة. تحرّكت السرية الأولى. وحيث إنّنا في الفصيل الأول، هاجمنا خطّ العدوّ قبل سائر الفصائل والسرايا. تقدّمنا ببطء، زحفًا وبمشية القرفصاء، إلى أن تناهى إلى أسماعنا أصوات جنازير الدبابات وحتى صياح القادة البعثيّين وصراخهم. كنت في ذلك الرتل، وربّما تقدّمني عشرون شخصًا. هناك عرفت أنّ البعثيّين يخِطّون القيام بهجوم معاكس. قلت للواقف أمامي:

- وكأنّ العراقيين يستعدّون لهجوم معاكس في الغد، لكنّنا سنباغتهم اليوم ونقتحم خطّهم حتى لا يتمكّنوا غدًا من الهجوم...

 

عندما همَّ الإنصات إلى أصواتهم والجلبة الغريبة التي تصدر عنهم، بدأ الهجوم، انفجار القنابل، إطلاق الرصاص،... وسمعنا نداء "الله أكبر" من شخص أو شخصين. بلغ عدد شباب السرية مئة شخص، وكان علينا العمل على وجه السرعة وإلا انتبه العدوّ لنا وتأهّب لمواجهتنا. برزَ الشباب بهجومهم تمامًا كما الهنود الحمر في الأفلام الأمريكية.

 

أمرنا مسؤول الفصيل بأن نذهب إلى الجهة اليمنى من الجادّة، فتوجّهت إلى هناك مع اثنين من فريق الإنقاذ[1]. كنت وذانك الاثنان ماهرين في عملنا. لم أرَ أحدًا ناحية الجادّة. دقّقت النظر، فوجدت شبابنا خلفنا موجّهين سلاحهم ناحيتنا. كادوا يشتبهون بيننا وبين الأعداء، فانبطحنا أرضًا إلى أن وصلوا إلينا وعرفونا.

 

كانت ليلة مظلمة غاب فيها نور القمر، فلم يكن أحدٌ يرى أمامه على مسافة بضعة أمتار إلا إذا أُلقيت قنبلة مضيئة على مقربة منه. كان

 


[1] حميد رضا رمضاني ورضا أنصاري (شهيد).

 

229


195

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

الشباب يرمون بـ"الآر بي جي" والكلاشينكوف على التوالي. لقد خضنا حربًا قاسية. كنتُ مسعفًا وأتقدّم خلف الطابور مع اثنين من فريق الإنقاذ، حيث رأيت العديد من العناصر أرضًا. كنت أستطيع تمييزهم فيما إذا كانوا من شبابنا أم من الأعداء من خلال كوفيّاتهم ولباسهم.

 

أنرت المصباح اليدوي، وجدت الشخص الأوّل شهيدًا، والثاني نائمًا على بطنه. قلبته على ظهره فوجدته بعثيًّا، كان ميتًا. كانت بزّات العراقيين جديدة، وأحذيتهم العسكرية جميلة، بنية اللون وجديدة. كانوا حليقي الذقون دون الشوارب. تقدّمنا أكثر، وجدت (مساعد) رامي "الآر بي جي" في الفصيل[1] وقد جرح. لقد أصابت رصاصة ساقه وفتّتت عظمه. لحسن الحظّ لم يصب العصب أو الوريد. قصصتُ كلّ بنطاله لأستطيع الوصول إلى مكان الإصابة، ثمّ ضمّدت جرحه وحَمَلَه المنقذ[2].

 

إلى الأمام أكثر، سقط جريحٌ عراقي. ما إن رآنا حتى راح يئنّ ويولول، ربّما ظنّ أنّني جئت لأرمي عليه رصاصة الخلاص. لم يكن يعلم أنّني مسعفٌ إيراني، والمسعفون الإيرانيون لا يحملون سلاحًا. قلت في نفسي: "يجب أن أذهب إلى ناحية أخرى، فلا يجب أن ينتبه إلى أنّني أعزل". وهذا ما فعلته. ربّما كان يحمل قنبلة أو مسدّسًا، وإذا ما أدرك أنّني أعزل قد يؤذيني.

 

بحثت في الخلف عن كلاشينكوف لكنّي لم أعثر على واحد. فجأة رأيت عالم الدين الشّاب وكان مبلِّغ الكتيبة ويؤمّ الصلوات. لم أتوّقع رؤيته. كان وحيدًا وتائهًا. لقد تقدّمت السريّة أكثر فأكثر، وهو الذي يقف في آخر الرتل بقي في مكانه. راح يمشي تائهًا هنا وهناك بين القتلى والجرحى لا يدري ما يفعل. ناديته: "يا حاج، أعطني سلاحك".


 


[1] أصغر لكعلي آبادي.

[2] حميد رضا رمضاني/ مساعد المسعف.

 

230


196

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

الشباب يرمون بـ"الآر بي جي" والكلاشينكوف على التوالي. لقد خضنا حربًا قاسية. كنتُ مسعفًا وأتقدّم خلف الطابور مع اثنين من فريق الإنقاذ، حيث رأيت العديد من العناصر أرضًا. كنت أستطيع تمييزهم فيما إذا كانوا من شبابنا أم من الأعداء من خلال كوفيّاتهم ولباسهم.

 

أنرت المصباح اليدوي، وجدت الشخص الأوّل شهيدًا، والثاني نائمًا على بطنه. قلبته على ظهره فوجدته بعثيًّا، كان ميتًا. كانت بزّات العراقيين جديدة، وأحذيتهم العسكرية جميلة، بنية اللون وجديدة. كانوا حليقي الذقون دون الشوارب. تقدّمنا أكثر، وجدت (مساعد) رامي "الآر بي جي" في الفصيل[1] وقد جرح. لقد أصابت رصاصة ساقه وفتّتت عظمه. لحسن الحظّ لم يصب العصب أو الوريد. قصصتُ كلّ بنطاله لأستطيع الوصول إلى مكان الإصابة، ثمّ ضمّدت جرحه وحَمَلَه المنقذ[2].

 

إلى الأمام أكثر، سقط جريحٌ عراقي. ما إن رآنا حتى راح يئنّ ويولول، ربّما ظنّ أنّني جئت لأرمي عليه رصاصة الخلاص. لم يكن يعلم أنّني مسعفٌ إيراني، والمسعفون الإيرانيون لا يحملون سلاحًا. قلت في نفسي: "يجب أن أذهب إلى ناحية أخرى، فلا يجب أن ينتبه إلى أنّني أعزل". وهذا ما فعلته. ربّما كان يحمل قنبلة أو مسدّسًا، وإذا ما أدرك أنّني أعزل قد يؤذيني.

 

بحثت في الخلف عن كلاشينكوف لكنّي لم أعثر على واحد. فجأة رأيت عالم الدين الشّاب وكان مبلِّغ الكتيبة ويؤمّ الصلوات. لم أتوّقع رؤيته. كان وحيدًا وتائهًا. لقد تقدّمت السريّة أكثر فأكثر، وهو الذي يقف في آخر الرتل بقي في مكانه. راح يمشي تائهًا هنا وهناك بين القتلى والجرحى لا يدري ما يفعل. ناديته: "يا حاج، أعطني سلاحك".

 


[1] أصغر لكعلي آبادي.

[2] حميد رضا رمضاني/ مساعد المسعف.

 

231


197

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

كان جبينه يتصبّب عرقًا في طقس كانون الثاني القارس. وكأنّ أعصابه توترت، وبدا وجهه غير عادي. ربّما غضب بسبب صراخي. لقد صحتُ في وجه من لا يسمع في خيمة التبليغ سوى من يناديه سماحة الشيخ، ولم يكن أحد ليجرؤ على القول له: "ما أحلى الكحل بعينيك".

 

إلى الأمام أكثر رأينا من جديد بعثيًّا وقد سقط أرضًا، جسدًا بلا رأس. قلت في نفسي: "ماذا سيحصل إن رآه الحاج؟". لم أجد أمامي فرصة للقيام بتدبير مناسب. قلت له فقط: "لا حاجة لتطلق النار على هذا فهو بلا رأس...".

 

نظر مرعوبًا إلى الجسد الملقى بلا رأس وإلى أوردته المقطوعة وقال متمتمًا: بلا رأس... بلا رأس...

 

أطفأتُ المصباح وتابعت طريقي، لكنّ الشيخ وقف مبهوتًا. أنا أيضًا رحت بالطبع أفكر في ذلك المشهد. لقد قُطع رأسٌ أنيق ومهندم، وهذا ما بدا عجيبًا في تلك المعمعة. بعد نصف ساعة وجدنا رأسه على مسافة 50م، ما جعل هذه الأحداث أكثر غرابةً وذهولًا.

 

لقد رأينا عددًا آخر من جرحى العدو المتظاهرين بالموت، وشاهدنا كثيرًا من أجساد شهدائنا. كانت الجادّة المعبّدة وأطرافها ملأى بالشهداء والجرحى من شبابنا، وقد وقع عدد منهم قرب برميل متفجّر. حدث أن رأيت أحد الشهداء وهو يشتعل. لقد صبّوا موادّ محترقة على جسده وصارت عظام قفصه الصدري مثل قنديل وقّاد، وراحت النيران تتصاعد من بينها. لم يتبقّ على جسده شيء من اللحم والجلد إلا على رأسه ورجليه وكانت تنبعث منها رائحة الحريق.

 

لقد سقط عدد من الجرحى الإيرانيين بعضهم قرب البعض الآخر. قمت مباشرة بتضميد جراحهم. وعندما أنهيت تضميد جراح الجريح

 

232

 


198

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

الثاني ووقفت، لم أرَ الشيخ[1]. كان قد غادر[2]. لم يكن لديّ الوقت الكافي لأبحث عنه أيضًا، فباشرت بتضميد جراح الجريح الثالث.

 

من جديد، صرت وحيدًا. وتوجّب عليّ تضميد جراح الجرحى والتنبّه لأيّ هجوم محتمل من الأعداء أيضًا. في تلك الليلة، كان في المجموعة الأولى من الفصيل الأوّل مسعف واحد هو أنا، ومعي منقذ مساعد[3]. وقد انسحب المساعد الثاني بعد أن تعب وأصيب بعصف انفجار. قلت للمساعد:

- لا تستطيع بمفردك أن تسحب الجريح إلى الخلف.. ابحث عن شخص يأخذ بطرف الحمّالة الآخر... يستطيع بعض ذوي الجراح الطفيفة مساعدتك.

 

بذل المسكين الكثير من الجهد. كان كلّما ذهب إلى الخلف اصطحب معه جريحًا إصابته سطحية وآخر إصابته خطيرة. تناولت كلاشينكوفًا من على الأرض. اختلط العدّو بالصديق. لم يعد واضحًا هل العدوّ أمامي أم خلفي. كان البعض يخادعون ويحتالون. يضعون البندقية على الصدور وهي معدّة للإطلاق، ويتظاهرون بالموت، ونحن لا نستطيع تمييز الحيّ عن الميّت بين كلّ هذه الأجساد المضرّجة بالدماء.

 

لقد زرعت هذه الحيلة الاضطراب بين شبابنا. هناك، رأيت شابًّا


 


[1] يبدو ان الشيخ لم يكن مقتنعًا منذ البداية ‎بهذه المهمة حتى مع احتمال الخطر من المتظاهرين بالموت  ولربما أصيب بصدمة فقرر الانكفاء. هنا لا بد من الاشارة الى وجود هفوات ومشاكل في الحرب منها مسألة التعامل مع جرحى العدو الخطرين خاصة أثناء المعركة وتعقّد أحوالها، وقد يكون القرار من القائد الميداني هو التخلص منهم بهذه الطريقة وقد يكون الامر متروكا للمقاتلين.(المحرر). 

[2] بعد العملية، رأيته في صلاة الجمعة في طهران. قلت له بصراحة ووضوح وبلا خجل: "لقد تذاكيت أيها الشيخ.. تركتني وحيدًا وذهبت". أجاب: "أخ سيروس، لقد ذهبت لأقدّم تقريرًا للإخوة في الخلف عمّا يجري".

[3] حميد رضا رمضاني.

 

233


199

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

يافعًا يئنّ ويولول. قلت في نفسي إنّه جريح حتمًا، لكن عندما أنرت المصباح عرفت أنّه ليس بجريح ولا حتى مصابًا بموجة انفجارية. عرفت أنّه أصيب بصدمة. كان غاضبًا. هدّأت من روعه وقلت له:

- قف، لنذهب معًا ونقضي على الصدّاميّين...


حتى اللحظة، كانت قد باشرت السرايا الثلاث العمل معًا. ولقد شاهدتُ طابورهم أثناء التقدّم، نظم السرايا والفصائل. لكن سرعان ما تفرّقوا وتدهورت معنوياتهم، وقد ساهمت حيلة العراقيين بهذا الأمر.

 

تابعت سيري مع الشابّ الذي هدّأتْه كلماتي. عندما فطن إلى حيلة العراقيين استطاع السيطرة على نفسه. بعد مسافة بضعة أقدام، كنت منشغلًا بتضميد جراح أحدهم، بينما هو يراقب الجهات الأربع بدقّة وقلق كبيرين. لقد أراد الاقتصاص للشهداء والجرحى من الصدّاميّين المخادعين. كنت منشغلًا بتضميد الجرحى باستخدام العصابات والضمادات ومصباح الجيب، مطمئنّ البال إلى أنّه يراقب المحيط. ها أنا وجدت مساعدًا من جديد وتحرّرتُ من وحدتي. وبينما كان ذهني مشغولًا بهذه الفكرة، إذا بي فجأة أسمع صراخًا:

- إيراني أنت أم عراقي؟.. إيراني أم عراقي؟

 

التفتُّ حيث ينظر، رأيت دشمة صغيرة على مسافة 10 أو 15م، بضعة أكياس تدشيم مصفوفة بعضها فوق بعض، وخوذة معدنية تظهر فوقها ثم تختفي.

 

لم أكن قد أنهيت عملي بعد. نظر إليّ الشابّ المندفع وتوجّه نحو تلك الدشمة. أراد الهجوم عليها. لم أمنعه، لكنّني لم أكن أستطيع مرافقته، فلَمْ أُنْهِ عملي بعد.

 

234

 


200

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

ومع دويّ انفجار قنبلة تناهى إلى سمعي صوت يقول بالفارسية:

- آخ يا أمي...

 

ذلك الذي يعتمر الخوذة، كان إيرانيًّا. قلت لذلك الشابّ اليافع:

- كان إيرانيًّا... حسنًا فعلنا... الجرحى قلّة، وأضيف هذا إليهم... اذهب إليه حتى أوافيك...

 

ما إن أنهيت معالجة الجريح الذي بين يديّ، حتى حملت الحقيبة وتوجّهت مسرعًا ناحية الجريح الجديد، لكن قبل أن أضمّد جراحه صحت فيه بغضب:

- ما هذه الخوذة التي تضعها على رأسك؟ أَوَلَم يقولوا لا تضعوا الخوذات المعدنية على رؤوسكم؟ أعجبك الوضع الآن؟

لم ينبس ببنت شفة. فقط رفع القبعة عن رأسه. أما أنا ففتحت حقيبتي وباشرت العمل. عندما قصصت ملابسه، وجدت أنها قنبلة ضد الدروع، ولو كانت قنبلة ضدّ الأفراد لانتهى أمره. كان محظوظًا. امتلأ ظهره وبعض نواحي جسده بشظايا الخردق التي تجاوزت الجلد ووصلت إلى اللحم، فتركت في جسده جراحًا كثيرة، لكنّها لم تكن عميقة. أجريت اللازم للجرح، ضمّدته بضمادة كبيرة وعريضة حتى توقف النزف.

 

عندما أنهيت تضميد جرحه، أكّدت عليه مجدّدًا أن لا يضع تلك الخوذة المعدنية على رأسه. ذلك أنّ الكتيبة لم تُعطِ خوذات لأيّ عنصر، وكان من الطبيعي أن يظنّه الإخوة عراقيًّا.

 

تقدّمنا أكثر. على مقربة من بعض الدبابات المحترقة وجدنا عددًا من الأفراد أرضًا. رحت أسلّط الضوء عليهم فردًا فردًا، من كان من شبابنا ضمّدتُ جراحه. كانوا جرحى، لكنّهم بقوا أرضًا بسبب النقص

 

235

 


201

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

في عدد المنقذين المساعدين. قلت في نفسي: "إنّ عملك هذا بلا فائدة، إذا ما بقي الجرحى أرضًا فسوف يستشهدون حتمًا".

 

بقي مرافقي هناك قرب الجرحى بينما ذهبتُ أنا لأقدّم تقريرًا للقائد حول وضعهم ومن ثم أعود. كانت دبابات العدو وناقلات جنده مصطفّة بعضها خلف بعض. رأيت قادتنا في مقدمة الطابور جالسين تحت مقدّمة إحدى ناقلات الجند. أعلمت السيد مجتهدي[1] بصعوبة الأوضاع. فقال:

- الآن أجري اتصالًا عبر اللاسلكي.

 

والدي! لقد حصلتُ على تكليفي وعدت إلى الجرحى. لقد أثمرت رسالة السيد، وسرعان ما وصلت سرية من المنقذين. أما ذاك الشاب فتركني وحيدًا كما عالم الدين. قال لي الجريح الذي احتجت إلى 15 دقيقة لتضميد جراحه: "لقد رجع صديقك ومعاونك إلى الخلف لطلب المساعدة".

 

كان عناصر كتيبة "أنصار الرسول" متموضعين في مثلث مصنع الملح. حضروا لمساعدة جرحى كتيبة "حمزة". الجميع كان يحمل الحمّالات، من العنصر البسيط حتى القائد. وتمّ نقل الجرحى بسرعة وجاء دور الشهداء. وعلى وجه السرعة كلّما أنهيت تضميد جراح أحدهم نقلوه فورًا إلى الخلف.

 

تعبتُ تلك الليلة لكثرة ما ضمّدت من جراح. شعرت بالملل. رغبت بإطلاق الصواريخ وتفجير الدشم والدبابات كي أطرد الملل قليلًا وأشفي غليل كلّ هؤلاء الجرحى والشهداء. عاهدت نفسي على أن أطلق بضع قذائف "آربي جي" ثم أعود لمتابعة عملي، أي مساعدة الجرحى.


 


[1] السيد محمد مجتهدي، نائب قائد الكتيبة.

 

236


202

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

عرفتُ من الجرحى الذين كانوا يصِلون من الخلف أنّ شباب السريتين الثانية والثالثة يعملون على تطهير ذلك الرتل الآلي من الميمنة والميسرة. ذهبت إلى هناك. لم يكن رتل دبابات العدو وناقلات جنده قد تضرّر بشكل كبير. ربما هدف المسؤولون إلى ذلك لأخذها غنائم. كانت الجادّة وبقية الطابور تَظْهران بوضوح في الضوء الناجم عن احتراق الآليات التي دمّرها الإخوة. لقد وقعت اشتباكات عنيفة وواسعة النطاق.

 

كلّما تقدّمتُ إلى الأمام وجدت الأوضاع أكثر تعقيدًا. ولم يكن واضحًا أيّ مكان تمّ تطهيره وأيّ مكان لم يُطهَّر بعد. وبينما أنا أعبر من قرب دبابة وإذ بنور قويّ يشعّ أمام ناظري، وأسمع صوتًا عجيبًا وتنفجر الدبابة. رميت بنفسي مباشرة على الأرض. لكن كان الوقت قد تأخر ولم يكن لذلك من فائدة. شعرت بقدمي تحترق وثُقِب بنطالي. رفعته حتى ساقي. أجل. لقد أصبت. أصبت في هجوم لشبابنا. لقد اخترقت الشظية جلدي ووصلت إلى اللحم. ضمّدتها بسرعة.

- والدي! انظر هنا... لا تزال الشظية في قدمي.

 

تراجعت إلى الخلف وأنا أعرج، جريحًا ومن دون أن أطلق ولو صاروخًا واحدًا. ربّما ما كان عليّ أن أترك عملي وأذهب لصيد الدبابات. ربّما.. وصلت إلى أوّل الرتل. كان السيد مجتهدي هناك. قلت له: "لقد أصيبت قدمي بشظية. لا أستطيع إخلاء الجرحى والشهداء. ولكن أستطيع القيام بأيّ عمل آخر توكله لي...".

 

أجاب غاضبًا: "أنت نفسك مصاب.. امضِ إلى الخلف على قدميك ما استطعت حتى لا يضطروا لنقلك على حمّالة".

 

كان صاحب خبرة هامة وقد خاض العديد من العمليات. سرعان

 

237

 


203

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

ما صحّت توقّعاته. بدأت قدمي تؤلمني بشدّة.

 

أمسكت بطرف حمالة لأقدم مساعدة ما، لكنني أنا نفسي كنت عاجزًا. أعطيت الحمالة لأحدهم وجلست أستريح.

تابعت طريقي من جديد بهدوء وتأنٍّ. وبينما كنت أستريح في إحدى الممرّات، رأيت مجدّدًا ذلك الرأس المقطوع على بعد متر أو مترين منّي. ما الحكمة في ذلك؟ لا أعلم. تعجّبت... وتابعت طريقي. وصلت إلى ساترنا الترابي. وكان مزدحمًا.

 

والدي! لقد عمل الشباب تلك الليلة بشكل نوعيّ. كان رامي رشاش الـBKC يقف وسط الجادّة وتحت نيران العدوّ مثل غصن الشمشاد، ويصبّ حمم النيران على رؤوس الأعداء. كان معاونه يناوله (الشرشور) وهو يرمي. عندما نفدَت الذخيرة لدى رامي الفصيل، رماه العراقيون، فاستشهد[1] وجُرح معاونه[2] أيضًا، وقد أصبح ضريرًا بالكامل ولم أذهب لعيادته بعد.

 

كانت المخاطرة الكبرى تلك الليلة عندما التحمنا بالبعثيّين، حيث استشهد عددٌ منا وجُرح عدد منهم على يد شبابنا. لم نكن ندري من أي جهة تُطلق نيران العدوّ. فالرصاص ينهمر من كلّ جهة. وعند انفجار أي دبابة أو ناقلة جند تتطاير شظاياها في كل ناحية، بحيث لم تكن تميّز بين نيران الصديق والعدو. وهكذا جُرحتُ أنا. بيد أنّ أحد شباب الكتيبة أحرق تلك الدبابة. لحدّ الآن لم أفهم كيف تفجّرت بقنبلة أم بقذيفة "آر بي جي". وأكّد العناصر القدامى في الكتيبة من ذوي الخبرة أنّ نيران العدو في تلك الليلة كانت أعنف نيران شهدوها.


 


[1] غلام رضا نعمتي (بقي جسده مفقودًا).

[2] الجريح علي بي بي جاني

 

238


204

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

والدي! تصوّر أنّ مئتي دبابة وناقلة جند اصطفّت في جادّة ضيّقة جدًّا وطولها كطول المسافة الممتدة من هنا حتى المدينة الأولمبية[1]. الدبابات تقف الواحدة تلو الأخرى، ولكي تعبرَ من بينها لا بدّ أن تمرَّ بشكل جانبي. في تلك الليلة كانت كتيبة حمزة هي الفِداء. لو لم نقم بهجوم على الخطّ العراقي لسقطت كلّ جادّة "أم القصر" وربّما خسرنا العملية كلها.

 

لقد عانى الجرحى كثيرًا ريثما نُقلوا إلى الخلف، وذلك لقلّة سيارات الإسعاف وشاحنات التويوتا الصغيرة، إلى أن بادر نائب قائد الفرقة "الحاج رضا دستواره" بنقل الجرحى بنفسه في جِيب القيادة: على المقاعد، على القماش المشمّع، وحتى على غطاء محرك السيارة وفي كلّ شبر خالٍ كان يضع الجرحى وينقلهم إلى الخلف. ولولا سرعته في نقل الجرحى في ذلك الصقيع لكانوا استشهدوا.

 

"حسين دستواره" -الأخ الأصغر للحاج "رضا دستواره"- كان في كتيبتنا، وقد جُرح في تلك الليلة الباردة. وُضِع في البراد كسائر الشهداء لأنّه كان فاقد الوعي، وهناك تنبّهوا أنّ جسده لا يزال دافئًا فنقلوه إلى المستشفى.

 

كنت لا أزال في الساتر الترابي في الخطّ الأمامي ولمّا يأخذوني إلى الخلف بعد. سيارات الإسعاف قليلة وقد تعطّل جيب "رضا دستواره". حاول مرّات عدّة تشغيل محرّك الجيب، لكن من دون جدوى، حتى كادت بطاريته تفرغ بسبب كل هذه المحاولات الملحّة. قلت له:

- يا أخي، تكاد بطارية السيارة تفرغ.. يجب أن ندفعها.. افتح غطاء المحرك وألقِ نظرة. لربّما كان خرطومٌ أو شريطٌ ما مقطوعًا...


 


[1] تبلغ المسافة من منزل الشهيد مهديبور حتى القرية الأولمبية حوالي 500م.

 

239


205

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

ألقينا حمّالة نقل الجرحى التي كانت على غطاء المحرك جانبًا، وأنرتُ المصباح اليدوي. كان السائق إما تعبًا وإما لا يدري كيف يصلح السيارة. اتكأتُ بقدمي المجروحة على السيارة، وألقيت نظرة على المحرّك في تلك العتمة. تفقّدت أولًا خرطوم الوقود فوجدته سليمًا. ثم أمسكت بطرف البوجيات وقلت للسائق:

- أدر المحرك، وأنا سأمسك أسلاك البوجيات والموزّع...

 

حاول ثلاث أو أربع مرات تشغيل المحرك، وعندما ثَبَّتُّ سلك الموزع في مكانه اشتغل. أغلقتُ الغطاء، وضعتُ الحمالة عليه، وانطلق السائق بسرعة.

 

كانت حال معظم الجرحى وخيمة، وها قد وصل الدور إليّ. بالطبع قمتُ بتضميد جراحهم حتى وأنا على تلك الحال. لم يكن هناك أيّ شخص يمكنه مساعدتي، فقد قدّم كلّ فرد ما أمكنه من عون. توجّب علينا تثبيت الخطّ الأمامي قبل الصباح.

 

قبل أن أغادر الخطّ الأمامي، علمتُ أنّ خطّ الفرقة سيكون الخطّ السابق نفسه، أي المكان الذي بدأنا منه الهجوم. اضطرّ شباب الكتيبة الذين تقدّموا، إلى الرجوع إلى الخلف. كان من المقرّر أن تتمّ السيطرة على جسر جادّة "أم القصر" الكبير، لكن لم يحصل ذلك. من الطبيعي أن تحصل مع القادة أخطاء كهذه عندما يقومون بإعطاء التعليمات اللازمة للعملية، وذلك لنقصٍ معيّن في المعلومات. قالوا إنّ الهدف لا يبعد أكثر من كيلومترين، وعند بدء المسير، أدركنا أنّ الله وحده يعلم كم هي المسافة التي قطعناها سيرًا على الأقدام! اكتشفنا صباح يوم العملية أنّنا قطعنا 10 كلم مشيًا، وهذا ما حصل في عملية "بدر" حيث لم يحسبوا المسافة بدقة. قالوا لكتيبة "حمزة" ليلة العملية إنّه يوجد في جادّة أم القصر أربع أو خمس دبابات سليمة... وحذارِ الاشتباه بين

 

240

 


206

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

الدبابات السليمة والمحترقة. هكذا كان التوجيه للعناصر، كما أفهموهم أنّهم إذا ما دمّروا هذه الدبابات لن يواجهوا أيّ عائق في الوصول إلى الجسر. على أيّ حال، لقد أَنْجَزَت الكتيبة عملاً جيّداً في تلك الليلة. حتى إنّني سمعت بأنّ الشباب وصلوا قرب الجسر. كانت قد بقيت دوشكا واحدة أمامهم (في مواجهتهم) لينجزوا المهمّة، فجاء الأمر أنّ هذا يكفي لهذه الليلة وعليكم إخلاء الجرحى والشهداء والانسحاب.

 

بقيتُ منتظرًا بلا عمل ريثما يتمّ نقلي إلى الخلف. كانت المسافة كبيرة جدًّا بين خطّ الفرقة الأمامي ونقطة الاسعاف والطوارئ. برأيي إنّ شباب الإسعاف فوجئوا أيضًا إذ لم يتوقّعوا سقوط هذا العدد الهائل من الجرحى. كان على عناصر الإسعاف أن ينصِبوا خيمة أو عنبرًا على مقربة من خطّ الفرقة الأمامي ليتمكّنوا من معالجة الجرحى بشكل أسرع. في تلك الليلة استغرق الأمر ساعة كاملة لتقطع سيارة الإسعاف مسافة 14-15 كلم وهي مُطفأة المصابيح.

 

أحد الذين ضمّدت جراحهم كان شابًّا متعلّمًا، قد داس على لغم ضدّ الأفراد فبُترت رجلاه. وأثناء تضميد جراحه علمتُ أنه يدرس العلوم الطبية، فقد بدأ يوجّهني إلى كيفيّة تضميد رجله المبتورة. ضمّدت جرحه بشكل متقن وتمكّنت من خلال إرشاداته وتجربتي الخاصة من إيقاف النزف، لكنّه ما لبث أن استشهد بسبب الصقيع والتأخير في نقله إلى الخلف.

 

كان عنبر الإسعاف قرب الماء. نُقلتُ إلى "الأهواز" بعد أن عبرنا النهر، وفي مستشفى "الأهواز" نظرتُ إلى ملابسي، فوجدتها مضرجة بالدماء. عندما رأى الممرضون حالي وهَيْأتي، توجّهوا إليّ بسرعة، لكنّني طلبت منهم أن يهتموا بسائر الجرحى، فحالي جيّدة...

 

في مستشفى "الشهيد بقائي" في الأهواز صادفتُ أحد أصدقائي

 

241


207

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

القدامى وزميل الدراسة في المرحلة الثانوية. لحسن الحظّ كان طبيبًا يخدم في المستشفى. طلبتُ منه ملابس جديدة، وعندما أحضرها، غسلت يديّ ووجهي وارتديتها. ثمّ همّ بمعالجة جرح قدمي وغيّر الضماد.

 

تماثلتُ للشفاء بسرعة. ورأيت هناك أيضًا "حميد رضا رمضاني". كان السيد "مجتهدي" أيضًا قد أصيب بجراح طفيفة، وعندما رأى أنّ طبيب المستشفى هو صديقي قال لي:

- سيروس، لديك واسطة في كلّ مكان...

 

أراد الطبيب نزع الشظية من قدمي بعملية جراحية عيادية، لكنّني لم أوافق، وقلت له مازحًا:

- دعها سوف تخرج بنفسها...

 

كانت معلوماتي الطبية متواضعة، التفتُّ إلى أنّ الشظية لحظة الإصابة كانت حامية، لأن المسافة بين المكان الذي أقف فيه ومكان الانفجار لم تكن كبيرة، فأصابتني الشظية وكانت حامية جدًّا حتى ساورني الشعور بأنّ قدمي تحترق، وبسبب تلك الحرارة تعقّم مكان الإصابة ولم يلتهب. لو أجروا لي عملية جراحية عيادية، وأخرجوا تلك الشظية مع أنّها ليست كبيرة نسبيًّا، لأُجْبِرْتُ على الاستراحة أيامًا عدّة حتى يتحسّن مكان الجرح، حتى إنّني كنت سأُجْبر أيضًا على الذهاب إلى "طهران" لأستريح أسبوعًا. وللحيلولة دون هذه المعمعة كلّها، لم أدعهم يلمسون مكان الإصابة، خاصّة أنّه لم يُصب بالتهاب أيضًا. قلت للأطباء الذين كانوا إلى جانبي:

- لقد بُترت يد أحدهم لكنّه صَمَدَ ولم يتحرّك من الدشمة، وأنا إصابتي لا تُذكر. وأعرف مجاهدًا قُطع رأسه لكنّه لم يغادر الخطّ

 

242


208

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

الأمامي... والآن تريدونني أن أذهب إلى طهران بسبب شظية صغيرة؟ ستطردني أمي من المنزل...

 

أقنعت الأطباء بحلاوة لساني بأن يسمحوا لي بالذهاب. استطاع السيد مجتهدي، كونه قائدًا، الخروج من المستشفى بسرعة. لم تكن إصابته عميقة. عدتُ والمساعد المنقذ بطريقة ما إلى منطقة العمليات والخطّ الأمامي.

 

عند ظهر الثالث عشر من شباط كنت في جادّة "أم القصر" إلى جانب شباب الكتيبة، وها قد وصل السيد مجتهدي قبلي بحوالي الساعة. ولا يزال هناك عدد من العناصر سالمين، فصيل أو فصيلان. وكان قد استشهد من الفصيل الأول تلك الليلة 14 مقاتلاً.

 

والدي! إنّ سجلّ الإحصاء الخاص بالفصيل الأول معي... لقد استشهد منهم 14 شخصًا من أصل 30.

 

قمنا بمهمة الدفاع لليلتين في القاعدة الصاروخية قرب الحدود المائية للعراق مع الكويت. وضعنا حرّاسًا على الشاطئ لصدّ أيّ هجوم محتمل من جهة الماء. كانت قاعدة الصواريخ خطّنا الثاني في الجبهة، لتصبح المسافة بيننا وبين جادّة "أم القصر" بضعة كيلومترات. كانت الجادّة الخطّ الأول وهي ساحة المعركة.

 

بعد يوم أو يومين وصل خبر مفاده أنّ كتيبة "سلمان" هاجمت الخط. دخلت كتيبة "سلمان" المعركة حديثًا واستطاعت التقدّم، لكنها لم تصل إلى الجسر. فقد واجهوا أرتال الدبابات وناقلات الجند وتفرّق جمعهم. فيما كانت كتيبتنا لا تزال تدافع في شاطئ "خور عبد الله"، لكن كتائب الفرقة (الأخرى) أبيدت، وأصبحت خالية من العناصر.

 

في أحد الأيام قال لنا قائد الكتيبة:

 

 

243


209

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

- نريد عناصر متطوعين، لا أحد مجبرٌ على العمل...

 

تطوّعتُ، وتطوع من الكتيبة كلّها 10 أو 20 شخصًا. كان من المقرّر أن تهاجم كتيبة "حبيب" الخطّ وتتقدّم حتى الجسر. لم أعد مسعفًا. قال القائد إنّه ليس ثمّة حاجة للمسعفين. أصبحت رامي "آر بي جي" وشكلت مجموعة مع ثلاثة مساعدين.

 

في ظلمة ليل الثامن عشر من شباط، نُقلنا إلى الخطّ الأمامي على متن شاحنة صغيرة، وعادت بعدها آلية الكتيبة إلى القاعدة الصاروخية. تقرّر أن نلتحق بكتيبة حبيب وأن نتقيّد بكل أوامرهم.

 

كانت نيران العدو عنيفة جدًّا. عزمتُ و"رمضاني" على الدخول إلى إحدى الدشم. كان فيها عدد من الأفراد، ووجدنا فسحة لنا نحن الاثنين، لكنهم رفضوا. شعرت بالغثيان لما رأيته من شدّة خوفهم. قلت لأحدهم وقد حشر نفسه داخل الدشمة:

- أنا مستعدٌّ للمضيّ تحت مرمى النيران، وأن تصيبني الشظايا ولا أراك وأنت ترتعد إلى هذا الحدّ...

 

كانت دشمتهم مسقوفة ومحكمة البناء.

 

ابتعدنا عن المكان. كان "رمضاني" شابًّا شجاعًا لا يعرف الخوف. بنينا معًا دشمة. لم نجد معولًا أو مجرفة، لكنّنا حفرنا حفرة بكل ما وصل إلى متناول أيدينا ولُذنا إليها.

 

كانت نيران العدو تُصبّ فوق رؤوسنا بكل أنواعها: هاون 60ملم و120ملم، قذائف الدبابات المباشرة، الدوشكا والغرينوف والكلاشينكوف... ولم يكن المحيط المتواجدون فيه واسعًا كثيرًا. بلغ عرض ساترنا الترابي أضعاف عرض الجادّة وانتصب فيها كعمود. ملأت المكان رائحة انفجار القذائف وصواريخ الدبابات، وانتشرت في

 

244

 


210

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

كل ناحية رائحة البارود والحريق وغطّاها الدخان، كانت الانفجارات قريبة منّا إلى درجة أن غطّى الغبار والتراب فيها كامل وجوهنا ورؤوسنا منذ الساعة الأولى، لقد أصبحنا شعثًا غبرًا.

 

في تلك الليلة، كان من المقرّر أن تعمل فرقتا "27 محمد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم" وفرقة "17 علي بن أبي طالب عليه السلام" معًا. وكان معنا عددٌ من مجاهدي "قم". كنّا خلف الساتر حين عبر من قربنا بسرعة رتل من العناصر وهاجموا قلب جبهة العدوّ. إنّهم شباب "قم"، كانوا جميعًا يعتمرون خوذات معدنية. ما إن عبروا الساتر حتى تفرّق جمعهم، وبقي بعضهم -ربّما سرية بأكملها- خلف الساتر. وعلى ما يبدو أنّها كانت سرية احتياط.

 

لقد كُشف أمر تلك الليلة، وعمل شباب "قم" بسرعة كبيرة، وواجههم العدو بنيران جهنمية أيضًا. لم يستطع أحدٌ مغادرة الدشمة. على ما يبدو أنّ جميع الذين تقدّموا ليصلوا إلى الجسر استشهدوا. لقد رأيت أجسادهم بنفسي صباح يوم العملية، أجساد تفترش الأرض من أمام الساتر الترابي وعلى رؤوسها خوذات معدنية.

 

وصلت كتيبة "حبيب" إلى الخطّ في وقت متأخر، وكان عناصرها مربكين. بقينا نحن العشرين شخصًا المساندين في كتيبة حمزة في الدشمة عاطلين من العمل بانتظار أوامر المسؤولين. لم يكن لانتظارنا أيّ فائدة. لقد اختلّ نظم وحداتنا بسبب نيران العدوّ الكثيفة، وتثبّطت همم الجميع عن القيام بالهجوم.

 

لم أعد أشعر بقدمي المجروحة. حرّكتها في مكانها لكن بلا فائدة. شعرت بخدر مزعج جدًّا فيها. كنت أعلم بأنّي لو أخرجتها من الدشمة لأصيبت بشظية. فالانفجارات والشظايا والدخان والغبار والتراب ملأت الأنحاء. في النهاية انبطحتُ على تلك الحال لعلّ الدم يجري

 

245

 


211

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

فيها بشكل جيد، لكن لم تمضِ عشر أو عشرون ثانية حتى أصابتها شظية ساخنة جدًّا. لحسن حظي لم تكن كبيرة، وكانت كسكين ساخن ارتطمت بقدمي من الجهة المسطحة فيها. قلت لرمضاني:

- رمضاني، وكأنّ شظية أصابتني...

- دعني أرى ما حصل...

 

أدنيتُ يدي من مكان الجرح. كانت الشظية الساخنة ملتصقة بجلدي. انتزعتها ورميتها باتجاه "رمضاني". قال:

- لقد احترقت يدي... ماذا تفعل؟

 

قلتُ ضاحكًا:

- أَوَلَم تُرِد أن تنظر ما الذي أصابني؟ انظر الآن.

 

والدي! لحسن الحظّ كان جرحي طفيفًا للمرّة الثانية. حتى إنّ الجرح لم ينزف. لقد احترق جلدي والقليل من لحم قدمي، وتجوّف الجرح واحمرّ، لكنّني استطعت البقاء في الخطّ.

 

أحد القادة من فرقة "علي بن أبي طالب عليه السلام" – وهو من "آراك" وربّما كان معاون قائد كتيبة أو مسؤول سرية، أعلن الجهوزية فيمن بقي من عناصره، وأعطاهم الأمر بالهجوم. نادى بصوت مرتفع:

- اليوم يجب أن نقضي على البعثيّين... سوف نتقدّم حتى نصل إلى الجسر.

 

كان رجلًا غيورًا ولا يقبل التراجع والاستسلام. تقدّموا، ولم نعلم بعد عنهم شيئًا.

 

لم يعد إلينا أيّ قائد من كتيبة "حبيب"، ولم نعلم شيئًا أيضًا عن شباب "قم".

 

246

 


212

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

أشرقت الشمس. ألقيتُ نظرة على المساحة الممتدّة من الساتر الترابي حتى الخطّ العراقي، شاهدتُ أعدادًا هائلة من الخوذات المعدنية ملقاةً على الأرض، وعددًا كبيرًا من الأجساد.

 

عند حلول المساء توجّهنا نحو الخطّ. عندما رأيت العراقيين عرفت أنّ الوضع سيّئ. لقد جُرح عددٌ من أولئك العشرين الذين رافقوني في كتيبة "حمزة". سألني من بقي سالمًا منهم:

- مهدي بور، ماذا نفعل؟ ما هو تكليفنا؟

 

كنت مثلهم، تعبًا وعاجزًا. أجبتهم:

- لماذا تسألونني أنا؟ أنا مسعف، لست بقائد... افعلوا ما شئتم...

 

لقد غضبتُ كثيرًا يا والدي! قلت ذلك، لكنّني لم أستطع الجلوس مكتوف اليدين. وإلا سوف نستشهد تلقائيًّا نحن الاثني عشر شخصًا المتبقّين أو نُجرح. حدّثتُ نفسي: في النهاية سننسحب ويحاكموننا ميدانيًّا، عند ذلك سأقول إنّني مسعف، وإنّهم انسحبوا من تلقاء أنفسهم. هذا هو الفيلم الذي أعددته في ذهني.

 

استجمعت أفكاري، وحدّدتُ المسافة الفاصلة عن الجبهة العراقية بشكل جيّد كي أتمكّن من اتخاذ القرار الصائب. وخطّ العراقيين يعجّ بالعناصر والتجهيزات والآليات المدرّعة، أمّا من ناحيتنا، فلم تكن تُطلق ولا حتى رصاصة واحدة اتجاههم. كانوا يتحرّكون في خطّهم بكلّ جرأة، أمّا نحن، فلم نكن نستطيع حتى التململ لشدّة الرصاص والشظايا.

 

في النهاية عندما قرّرنا الانسحاب، كانت لنا دبابة واحدة تمنع تقدّم العراقيين. كان خطّنا خاليًا تقريبًا، أما تلك الدبابة فلم تتوقف لحظةً عن إطلاق النار. غادرت الخطّ الأمامي وتبعني عشرة من

 

247

 


213

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

شباب "حمزة". كنت في طليعة المنسحبين، وتراجعنا بضعة كيلومترات سيرًا على الأقدام.

 

عندما وصلنا إلى قاعدة الصواريخ وساحل "خور عبد الله"، التقيتُ بقائد كتيبة "حمزة". رويت له خائفًا ما حصل. توقّعت أن يقول "لقد أخطأتَ إذ انسحبت مع هؤلاء العناصر..."، وهيّأت له جوابًا "لم يكن ممكنًا القيام بأيّ فعل أيّها القائد"، أو "ما شأني أنا... هم تبعوني"، إلا أنّ القائد قال كلامًا خالف توقعاتي. لقد أثنى عليّ لأنّني أنقذت حياة الشباب. منذ ذلك اليوم صرت مسؤول الفصيل الأوّل.

 

في ذلك اليوم وصل خبر مفاده أنّ العراق قام بهجوم معاكس، فتراجع خطّ الفرقة في جادّة "أم القصر" قليلًا. بعد الظهر، تحوّل الطقس فجأة إلى غائم. زحفت غيمة سوداء من جهة الغرب و"خور عبد الله" حتى سماء جادّة "أم القصر"، تشبه مخلب القطّ، ثم راحت تمطر، وترعد وتبرق بشدّة... انهمرت الأمطار بغزارة حتى ملأت السيول كلّ مكان. ثم بلغنا خبر أنّ هجوم العراق المعاكس قد انتهى. لقد فقدت الدبابات وناقلات جند العدو فعاليتها بسبب السيول التي اجتاحت الطرقات.

 

كان يوم الثامن عشر من شباط بنهاره وليله يومًا شاقًّا وحافلًا بالنسبة لي. لم أشعر في ذلك اليوم بالهدوء إلا بعد أن أذن القادة لنا بكتابة الرسائل، فأخذت ورقة من دشمة الإعلام، وكتبت لك بضع كلمات. لقد انقضى ذلك اليوم الصعب على خير.

 

كانت مياه الشرب قليلة، وبقينا عطاشى أغلب الأوقات. كانت مياه البحر شديدة الملوحة، لذا أُنشئ مصنع للملح في "الفاو"، يقع بين جادتي "الفاو- البصرة" و"الفاو- أم القصر". كانت مياه المصنع تمرّ من تحت ذلك الجسر الإسمنتي الكبير الذي يشكل الهدف النهائي

 

248

 


214

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

للفرقة. وبما أنّني أصبحت مسؤول الفصيل الأول، قمت بتوزيع ما تبقّى من المياه بين الشباب. قال لي أحد الشباب مازحًا:

- مهدي بور، هل أصبحت كيزيد؟ لماذا تعطي الواحد منّا هذه الكمية القليلة من الماء؟

 

في الأيام الأخيرة، صاروا يعطوننا الماء في أكياس من النايلون تتسع لليتر واحد، بينما كانوا سابقًا يوزعونه في قوارير تتسع لعشرين ليترًا. تشبه أكياس النايلون هذه تلك التي يبيعون فيها الحليب. عندما رأيتها للمرّة الأولى ظننت أنهم يوزّعون الحليب علينا، لكن عندما تناولت القليل من ذلك الكيس عرفت أنّه ماء. كانت تلك المرّة الأولى التي يوصلون فيها الماء إلى الجبهة بهذه الطريقة. وكانت فكرة جيدة.

 

والدي! لقد قمت في الجبهة بكلّ المهمات، ولم أجلس لحظة واحدة بلا عمل. قبل البدء بتنفيذ عملية "والفجر 8" كنت أعطي الدروس للشباب في خيام معسكر "كرخه" وفي ثكنة "دوكوهه"، أما ليلة العملية فكنت مسعفًا. في الخطّ الأمامي، أصلحت سيارة الجيب الخاصة بالقائد وصرت عاملَ ميكانيك. حتى إنّني قمت بطبخ الطعام في الجبهة. حين بقينا لمدّة أسبوع أو عشرة أيام في قاعدة الصواريخ في خطّ الدفاع الساحلي، اقتصر طعامنا على المعلبات وحسب، علب الفاصوليا والباذنجان، وإذا حالفنا الحظّ فعلب التونة. بالطبع غنمنا الكثير من دشم العدو. وجدتُ فيها الأرز والزيت فقمت بإعداد الطعام للشباب، شيئًا يشبه "الإستانبولي بالأرز"[1]، ووجدتُ مرطبان صلصة فأضفته إلى الأرز. لم يترك الشباب حبّة ممّا التصق منه في قعر القدر حتى ما احترق منه. في إحدى المرّات أيضًا قمت بإصلاح كاميون "أيفا" كنّا قد غنمناه، إضافة إلى سيارة إسعاف من نوع "لاند روفر". كان التقنيّون


 


[1] نوع من الطعام المعروف في ايران ويعد من الأرز واللحم والبصل والزعفران.

 

249


215

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

قلّة، فقمت بأيّ عمل أستطيع القيام به كي تتيسّر الأمور. حتى إنّني ذات مرّة أصلحت قطعة دفاع جوي غنمناها من العراقيين. وجدنا في القاعدة الصاروخية مضادًّا للطيران أحادي السبطانة روسي الصنع، وإلى جانبه دشمة ملأى بالذخائر. نظرت إليه فوجدت جميع قطعه سالمة ما عدا العتلة[1] الموصولة بالمقبض، قد اعوجّت فتعطل عن العمل. أخرجتُ اللولب المكسور بواسطة مسمار فولاذي كبير وجلّست العتلة بالمطرقة، وأعدتها إلى مكانها، ثم استخدمت ذلك المسمار الفولاذي بدلًا من اللولب أيضًا.

 

استغرق الأمر ساعتين لإصلاحها. هيّأت ذخائرها وجلست خلفها. ما إن أطلقت الطلقة الأولى في السماء حتى صاح مسؤولها "يا أخي، هذا بيت المال... لا تسرف منه...". تركت القطعة من دون أن أنطق بكلمة وذهبت. لم يكن أحد يقترب منها وهي معطّلة، وعندما أصلحتها صار لها صاحب!

 

والدي! لديّ الكثير من الذكريات عن ذلك اليوم. في إحدى المرّات رأيت أسيرين عراقيين، أُسِرا في جادّة "أم القصر". رأيتهما عندما كانا يخضعان للتحقيق الأولي. كان أحدهما يتكلم التركية. فهمت كلامه إلى حدٍّ ما. كان يقول: "أنا خجل... لقد أحضروني إلى هنا بالقوة... أنا لست سوى مستخدَم..." ثم أشار إلى الأسير الآخر وقال بغضب:

- العرب.. كلّ شيء سببه هؤلاء العرب.. العراقيون التركمان لا يتدخلون بشؤون الإيرانيين..

 

كان الأسير التركي من "كركوك"، أما الثاني فكأنّه كان بعثيًّا، إذ لم يندم على أيّ فعل قام به. عندما رأى الشباب تعاطُف الأسير الأوّل


 


[1] الحلقة أو الوصلة.

 

250


216

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

معنا وما تكلّم به ضدّ صدام، قدّموا له الفواكه المعلبة.

 

والدي! لم أكن حتى ذلك الحين قد رأيت تركمانيًّا عراقيًّا.

 

كان عمداء وضباط الجيش العراقي يقتلون جنودهم ومرؤوسيهم. لقد شهدت ذلك بنفسي. استهدف دفاعنا الجوي طائرة هليكوبتر عراقية وأصابها في ذنبها، فراحت تدور حول نفسها. استطاع الطيار أن يهبط بالطائرة لأنّ جسمها كان لا يزال سليمًا تقريبًا ولم يتأذّ كثيرًا. لكن ما إن اقترب من الأرض حتى انفجرت في الهواء بعد إصابتها بصاروخ هيلوكوبتر عراقية أخرى. وهكذا، إذا ما أرادوا تسليم أنفسهم وإعطاء غنائم للإيرانيين، كان قادتهم البعثيون يقتلونهم فورًا.

 

بقيتْ كتيبة "حمزة" يومين في منطقة العمليات ثم عادت مع سائر الكتائب إلى معسكر "كارون". بدأ العمل على إعادة تشكيل الكتيبة في أواخر آذار. وعاد عدد من الجرحى إلى الكتيبة، غادرها بعض الذين شعروا بالتعب، والتحق بها عدد من العناصر الجدد أيضًا. في الحقيقة، لقد دُمجت كتائب الفرقة بعضها ببعض، وحُلّت كلّ كتيبة استشهد معظم قادتها.

 

كتبت لكم رسالة وأنا في "كارون". أعطيت للشباب رقم هاتف التعبئة في مسجد المحلّة ليُطَمئنوكم عن حالتي. ثم عرفت لاحقًا أنّهم اتصلوا بالمنزل.

 

بقينا في "كارون" مدّة أسبوعين أو ثلاثة، ثم أرسلونا من جديد إلى "الفاو" وجادّة "أم القصر" للدفاع عن الخطّ. عندما وصلت الكتيبة إلى "الفاو" استقرّت في مدرسة المدينة. كنت مسؤول الفصيل الأول. راح الشباب يمزحون:

 

251

 


217

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

- أخ مهدي بور، نحن حيثما ذهبنا وجدنا مدرسة أمامنا، لقد خرجنا من مدرسة طهران، وها نخن الآن على مقاعد الدراسة في الفاو!

 

كانت مدرسة "الفاو" كبيرة. وجدنا الدفاتر والكتب وحتى أوراق الامتحانات على الأرض. راح الشباب ينظرون إلى علامات الطلاب ويبدون رأيهم حولها.

 

بقينا ليلة في تلك المدرسة. قال بعضهم إنّها مدرسة للصبيان، وعارضهم آخرون وقالوا إنها للبنات. في النهاية اتفقوا على أنّ المدارس في العراق مختلطة.

 

بقينا خمسة أو ستة أيام في خطّ الدفاع في جادّة "أم القصر". لم يقم العدو في تلك المدّة بهجوم معاكس، إلا أنّ نيران مدافعهم ودباباتهم المباشرة لم تهدأ. كانت دشمنا صغيرة لكنّها محكمة. لم يعد هناك إسفلت في جادّة "أم القصر". لقد قام فريق الهندسة العسكرية بقلب الإسفلت وجمع التراب الذي تحته لينشئ ساترًا ترابيًّا.

 

هناك، تذكّرت انسحابي من المعركة في الثامن عشر من شباط الماضي. كانت ساحة المعركة تبعد يومذاك عن جادّة "أم القصر" كيلومترًا واحدًا ونصف الكيلومتر. فأرجعنا خطّ الدفاع حينها مسافةً مماثلة، وبذلك صرنا نبعد عن ذلك الجسر ثلاثة كيلومترات.

 

عندما انتهت مهمة الكتيبة الدفاعية، عبرنا نهر "أروند" وذهبنا إلى عنابر "أروندكنار". بقينا هناك عاطلين من العمل أيامًا عدّة، وقضينا ليلة الرأس السنة الهجرية - الشمسية الجديدة (النوروز). أنهيت خدمتي في الكتيبة في الرابع من نيسان وها أنا الآن بينكم في المنزل.

 

والدي! لا يزال جيش العدو يظنّ أنّه يستطيع استرجاع "الفاو". إنهم

 

252

 


218

الفصل الرابع - الخوذة المعدنية

ينتظرون تحسّن أحوال الطقس لتجفّ مستنقعات "خور عبد الله"، عندها ستتمكن الدبابات وناقلات الجند من المناورة من دون عوائق. ولقد رأيت العراقيين في هجومهم يتقدّمون جماعات جماعات، فتغرز أحذيتهم العسكرية في الوحول ويعجزون عن الحركة، ويُقتلون جماعات جماعات، لكنّ قادتهم كانوا يصدرون الأوامر بالهجوم مجدّدًا!

 

يريد صدام استرجاع "الفاو" ولو أدّى ذلك إلى القضاء على الجيش العراقي بأكمله.

 

والدي! ادعُ الله أن يحفظ مجاهدينا في "الفاو". ما زال سؤال حول منطقة العمليات قائمًا: هل يستطيع الإيرانيون الاحتفاظ بالفاو فيما لو جفّت المستنقعات؟

 

والدي! بما أنّ العطلة قد انتهت، أريد العودة إلى الجبهة مجدّدًا. لقد قدّمنا الكثير من الدماء لتحقيق النصر. ورحل عنّا نحن الثلاثين عنصرًا في الفصيل الأول، أربعة عشر شهيدًا. عليّ أن أبذل ما في وسعي للحفاظ على النصر. لقد سرّح قادةُ الكتائب الشبابَ الذين انتهت خدمتهم في شهر آذار، لكنهم قالوا لهم إنّ الجبهة تحتاجهم.

 

والدي! أريد العودة.

 

 

253


219

وثائق الفصل الرابع

وثائق الفصل الرابع

 

 

 

 

ورد في هذا القسم من مجموع وثائق الفصل، 26 وثيقة خطية، و5 صور:

1 - الشهيد سيروس مهدي بور

 

254

 


220

وثائق الفصل الرابع

1-7 مقابلة مع والد الشهيد

احتلّ الحلفاء الأراضي الإيرانية في الحرب العالمية الثانية. كنت حينها في ريعان الشباب وأعيش في أردبيل. لم تشارك إيران في الحرب بشكل مباشر، لكن، لا أحد ينسى عذابات ومشقّة تلك السنوات.

 

وُلِد سيروس، أول أبنائي، في 18 آذار 1964م. في ذلك العام، كان الإمام الخميني قد قال:

- أنصاري هم في المهود الآن...

 

اليوم، أرى في سيروس الناصر الوفي للإمام الخميني. كنت كلّما نظرت إليه منذ طفولته، يتبادر إلى ذهني كلام الإمام.

 

259

 


221

وثائق الفصل الرابع

في 5 حزيران 1964م، التقطنا أول صورة له، وخلف الصورة كتبت له للذكرى:

"في هذا اليوم، كنت تبلغ من العمر فقط 3 أشهر و15 يومًا. كنت طفلًا طيّبًا وهادئًا جدًّا. لم تنظر بشكل مباشر أثناء التصوير، وتضايقتَ كثيرًا من حرارة ضوء الكاميرا، لكن، ما شاء الله، تحمّلت وصبرت، أساسًا لم تكن قد تعلّمت البكاء. لذا، نحبّك كثيرًا أنا وأمك. كن عاشقًا لوطنك حتى يحبكَ مجتمعك. كن دائمًا صادقًا ومستقيمًا في حياتك كي تكون عاقبتك حسنة في هذه الدنيا وفي الآخرة".

 

أبوك، أبوذر، 5 حزيران 1964م

 

في ريعان شبابه، كان سيروس مندفعًا وخلوقًا ومُدركًا. أخبرني خبّاز الحيّ عن صدقه وأمانته التالي: اشترى مني سيروس الخبز وأرجعت له بقية المال، لكن وكأنّني اشتبهت فيها. عاد هو من منتصف الطريق وأرجع إليّ ما زاد من مال، بينما بعض الأولاد يختلسون المال بمجرّد أن أغفل قليلًا.

 

أحبّ سيروس ركوب الدراجة الهوائية. وعشق الدراسة والرياضة في آن. في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، عام 1981-1982م حصل على شهادة البكالوريا في الرياضيات والفيزياء. شارك في امتحان الدخول إلى الكلية العسكريّة وإلى جامعة إعداد المعلمين، وقُبِلَ في الاثنتين معًا. ولأنه كان يحب التدريس، فقد تسجّل في جامعة الشهيد بهشتي لإعداد المعلمين.

 

عام 1983م، وبالتزامن مع عامه الدراسي الأول في الجامعة، كان سيروس من ضمن مجموعة الطلاب التي أُرسلت إلى الجبهة. ولأنه كان من ذوي الاختصاصات الجامعية، فقد أصبحت مهمته

 

260

 


222

وثائق الفصل الرابع

التخصّصية الإسعاف الحربي ليتمكن من الخدمة في الجبهة بنحو أفضل. شارك في عملية خيبر، وعندما علمتُ بعودته سالمًا من العملية ذبحتُ تحت قدميه خروفًا كأضحية عنه.

 

كان العام 1984 عامًا حافلًا بالإنجازات بالنسبة له. فكان يُدرّس في المدرسة الابتدائية ويتابع تحصيله العلمي في الجامعة. كما شارك في شتاء ذلك العام (85) في عملية "بدر". برغم شجاعته ونشاطه الكبيرين، كان مسعفًا أيضًا، فحمل بيده في ليالي الهجوم، حقيبة الإسعاف بدل السلاح. تردّد محسن كلستاني - مسؤول الفصيل الأول الذي يخدم فيه سيروس- كثيرًا إلى منزلنا. كانا صديقين حميمين.

 

عام 1985 شارك في المباراة العامة، وقُبل في اختصاص تدريس الرياضيات للمرحلة الثانوية. كان يدرس في جامعة إعداد المعلمين في اختصاص التعليم الابتدائي. ثالث عملية كبيرة شارك فيها سيروس كانت عملية "والفجر8". جُرح مرتين في ساحة المعركة بجراح سطحية، لكنّه لم يعد إلى طهران للاستراحة. لقد أقنع الأطباء أنّه يجب أن يعود إلى منطقة العملية.

 

عام 1986م أمضى كل أوقاته في الجبهة، أي بقي في الجبهة تسعة أشهر متتالية، من أيلول 1985م حتى أيار 1986م. بقي فقط في صيف ذلك العام في طهران لأنني ذهبت لأداء فريضة الحج.

 

كان يولي اهتمامًا خاصًّا لعملية "والفجر 8" وشهدائها الذين دفنوا في القطعة 53 من "بهشت زهرا" (جنة الزهراء). وقد قال لي مرّات عدّة: "أبي، أنا قلق من أن تمتلئ القطعة 53 ولا يبقى لي مكان فيها".

 

دفن شهداء الفصيل الأول في القطعة 53، وتحقّقت أمنية ولدي في أواخر الخريف، حيث استشهد في خط الدفاع في مهران إثر إصابته

 

261

 


223

وثائق الفصل الرابع

بشظية في قلبه. كانت ثياب إحرامي كفنه، وغسّلتُ رأسه ووجهه بماء زمزم. كان سيروس الناصر والوفيّ للإمام. يشهد قلبي على ذلك منذ أن كان طفلًا، وفي اللحظة التي أهالوا عليه التراب فيها، كنت أفكر بذلك أيضًا.

 

كانت حرب الثماني سنوات مع النظام البعثي العراقي حربًا كبيرة. لم نكابد من الصعوبات والمشقات ما يوازي حجم وضخامة تلك الحرب. عندما احتل الحلفاء إيران، كان خبز الناس اليومي وحياتهم بأيدي الأجانب، لكن في حرب السنوات الثماني هذه، عانينا كل هذه المشقات بإرادتنا. كنّا ندفع غرامة استقلالنا. لقد كابد وتحمّل ولدي المشاقّ 23 شهرًا في سبيل استقلال إيران وحرية الفكر والدين، وفي النهاية قدّم روحه في هذا السبيل.

 

كنتُ كلّما رجع سيروس من تنفيذ عمليةٍ، أستمعُ إلى مذكراته بشوق وأسجلها. بالطبع لم يكن يرغب بذلك، فكنت أضع آلة التسجيل تحت ملاءة أو أيّ قطعة قماش أخرى، وأجرّه إلى الحديث. ما قرأتموه هو ما تمّ "تفريغه" من شريطي تسجيل لحديث (ساعة لكل شريط) بعد حذف بعض الموارد. أعددتُ هذين الشريطين في شباط أو آذار 1986م. آمل أن نتمكّن في فرصة أخرى من الحديث عن مذكرات سيروس حول عمليات "خيبر" و"بدر". فقد كان سيروس مسعفًا أيضًا في تلك العمليات. بالمناسبة، أين هم المجاهدون الذين أنقذهم سيروس من الهلكة بمحبته وشجاعته، كما بضماداته ومقصه و..؟

 

262

 


224

الفصل الخامس - العنقاء

 الراوي: حميد رضا رمضاني

التشكيل: مساعد مسعف في المجموعة الأولى

تاريخ ومكان أول مقابلة: 2004 – طهران

 

الفصل الخامس

العنقاء

عندما أنظر إلى تحليق الطيور، تمرّ في خاطري ذكريات السنوات التي قضيتها في الجبهة والحرب.

 

في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، كنت أربّي طيورًا مختلفة في باحة منزلنا وعلى سطحه، كما كان عندي ببغاء ناطق أحتفظ به في غرفتي.

 

وبما أنّي أصغر إخوتي، فقد حظيتُ بمحبة خاصّة من أمي. لقد ذهب أخواي الأكبر مني سنًّا إلى الجبهة وجرح أحدهما، فالأوّل أمضى فترة الخدمة العسكرية في الجيش مع القوات الجوية، والثاني التحق بالجبهة تطوّعًا.

 

لم يعارض والداي ذهابي إلى الجبهة بشكل جديّ، لكنّهما طلبا منّي أن أهتمّ أولًا بمدرستي وواجباتي المدرسية، الأمر الذي لم يكن يستهويني كثيرًا. كنت أرغب بمتابعة دراستي بعد المرحلة المتوسطة في مجال العلوم الإنسانية، وقد تأخرت عن رفاقي دراسيًّا، والسبب

 

 

264


225

الفصل الخامس - العنقاء

في ذلك تلك الطيور. إذًا، تلك الطيور وعدم الرغبة بالمدرسة، جعلا والديّ يمانعان التحاقي بالجبهة شيئًا ما.

 

ذات يوم، قلبت الحمامات البيتَ رأسًا على عقب، وبدأ ببغائي بالثرثرة فنفد صبر أمي وقالت:

- حميد، لم أعد أستطيع التحمّل أكثر من هذا.. ليتك تذهب إلى الجبهة لأرتاح من هذه الطيور.. أيّ حياة هي هذه الحياة؟!

 

استغللت الفرصة وقلت لها:

- أأذهبُ إلى الجبهة؟!

- اذهب.. لكن خذها معك!

 

ذهبت في الأسبوع التالي إلى مقرّ التعبئة ودوّنت اسمي للالتحاق بدورة عسكرية. وعندما أخبرتهم لاحقًا في المنزل بما جرى قالت لي والدتي بمحبة وحنان:

- لقد جُرح أخوك، وتريد أنت الذهاب إلى الجبهة أيضًا؟! لا يزال الوقت مبكرًا لذلك.. عندما يحين الوقت تذهب لأداء الخدمة العسكرية.

 

أصرّ والدي أيضًا على متابعة دراستي والاهتمام بواجباتي المدرسية. ساندني أخواي، واستطاعا أن يقنعا والدَيَّ بالأمر، فذهبتُ برضاهما إلى ثكنة التدريب. في فترة غيابي عن المنزل، راحت والدتي تقدّم الحبوب والماء للطيور وكأنّها صارت عزيزة أكثر على قلبها.

 

في خريف العام 1984م وبعد أن أنهيت فترة التدريب، خدمتُ في "سقز" و"بوكان" في "كردستان". طوال هذه الفترة اهتمّت والدتي جيّدًا بطيوري وأحبّتها، فقد أحيت ذكراي في المنزل وعوّضت عن غيابي.

 

في آذار العام 1985م التحقتُ بالجبهة مرة أخرى، لكن هذه المرّة

 

265

 


226

الفصل الخامس - العنقاء

ذهبت إلى الجنوب. في طريق "طهران-انديمشك"، تعرّفت في القطار إلى الجالس قربي في المقصورة، ويدعى "أمير عباس رحيمي". كان عباس طويل القامة لكنّه صغير السنّ، ولمّا تنبت لحيته بعد.

 

عندما سألته عن تجربته في الجبهة أخبرني أنّه خدم صيف العام الفائت في الحراسة في جزيرة "مينو"، حيث كان الطقس حارًّا و.. و... وراح يتحدّث عن نفسه. سرعان ما أصبح على علاقة وطيدة ليس معي وحسب، بل مع جميع الركّاب. لاحقًا ازدادت معرفتي به أكثر فأكثر، ففي الثكنة عندما فرزوا العناصر الجدد، أُلحقتُ وأمير عباس بالسرية الثانية من كتيبة "حمزة".

 

في ربيع العام 1985م لم تقع أحداث هامّة. انقضى ربيع الكتيبة في التدرّب على العمليات البرمائية قرب نهر "دز"، وذهب بعض العناصر إلى "بوشهر" للتدرّب على الغوص. مدّدنا مأموريتنا، أنا و"أمير عباس", ثلاثة أشهر إضافية، فترة فصل الصيف. وذهبت الكتيبة في حزيران - تموز إلى خطّ الدفاع في "مهران". ما زلتُ أذكر ثلاثة أمور خلال هذه المرحلة ترتبط بأمير عباس: الخنازير، والفئران والصيد.

 

الخنازير: وجدنا الكثير من الخنازير البرية في خط الدفاع في مهران، حيوان خطير يمكنه إيذاء الناس بخطمه[1]، فهو يستطيع أكل الجلد واللحم والعظم دفعة واحدة. في أحد الأيام، حذّروا الجميع من وجود أنثى خنزير جريحة تجول في المنطقة وقد قُتل اثنان من صغارها. عند المساء، خرج "أمير عباس" من الدشمة بعد تناوله طعام العشاء. كنّا قد تكلّمنا كثيرًا عن الخنزير قبل ذلك، فصار شغله الشاغل. لم تمضِ لحظات على خروجه من الدشمة حتى عاد هلعًا، وصوت


 


[1] أنف الحيوان.

 

266


227

الفصل الخامس - العنقاء

الخنزير - خنزيره - يبلغ عنان السماء. توجّه مباشرة إلى سلاحه، أعدّه للإطلاق وذهب ليقتل الخنزير. لحقنا به مذهولين. أطلق النار على الساتر الترابي الواقع في مقابل الدشمة. لم نرَ هناك شيئًا سوى ظلّه. عكس نور القمر وضوء الدشمة ظلّ أمير عباس على الساتر الترابي فراح يطلق عليه النار. جاء الشباب من الدشم المجاورة على أثر سماعهم صوت الرصاص ليتفرّجوا، لكنّه لم يُعر اهتمامًا لأحد، وظلّ يصرخ ما يقارب الدقيقة "خنزير خنزير" ويطلق النار.. إلى أن شعر بالهدوء. لكن لم يكن هناك أيّ خنزير.

 

الفئران: كان في "مهران" الكثير من الفئران، الكبيرة منها والصغيرة، وكانت هذه تتردّد داخل الدشم حيث كانت أبواب جحور بعضها داخل الدشم نفسها. كان "أمير عباس" ينزعج كثيرًا من الفئران، وما إن يرى واحدة منها حتى يبدأ بالصراخ ويخيف الجميع معه. وكأنّ الفئران فهمت ذلك، فصارت تقصده أكثر من غيره، حتى صار صياح "أمير عباس" في نومه ويقظته أمرًا عاديًّا بالنسبة إلى شباب دشمتنا والدشم الأخرى.

 

الصيد: كان الطعام قليلًا في خطّ الدفاع، والطقس الحارّ والمُرهق يكاد يذيب اللحم على أجساد الشباب. عانينا الجوع شهرًا كاملًا حتى انتهت مهمّة الكتيبة. في الأيام الأخيرة حيث أصبحنا على معرفة بالمنطقة، صرنا نصطاد الحجل والدرّاج لنسدّ بهما جوعنا. بالطبع نبّهنا عالم الدين الموجود معنا في الكتيبة إلى أنّ لحم ما نصطاده لهوًا هو حرام، ويحلّ لنا فقط في حال الجوع. قال له أمير عباس، عندما تقدمون بطيخة وزنها 10 كلغ لـ 15 شخصًا، فلن يكون أمامهم خيارٌ سوى الصيد. كانت أيام الدفاع الأخيرة حافلة بالعمل والتسلية، كانت جبهةَ وميدانَ صيدٍ أحببته.

 

267

 


228

الفصل الخامس - العنقاء

منذ ذلك الصيف، بدأت و"أمير عباس" نتزاور فيما بيننا. كان منزلنا في "طهران الجديدة" أي شرق "طهران"، ومنزلهم في "صادقية" - وكانت تُدعى حينذاك "آرياشهر" - في غرب "طهران".

 

عندما ذهبت إلى منزلهم وجدت غرفة "أمير عباس" ملأى بالأدوات الكهربائية: الراديوهات الكبيرة المفكّكة، وتلفاز صغير متلاشٍ. كان يدرس الكهرباء في المهنيّة - السنة الرابعة، وأحد دروسه هو فكّ وإصلاح الأدوات الكهربائية.

 

عندما أتى "أمير" إلى منزلنا، سرعان ما أنِس به ببغائي الناطق. كان الببغاء يردّد اسمه بشكل جيد، وهو يضحك من صوته، ويقول له: "إن عضضتني سأعضّك".

 

فيجيبه الببغاء: "سأعضّك... سأعضّك...".

 

ويضحك أمير حتى يغشى عليه من الضحك. كان الببغاء يطير حول "أمير" ومن تحت ذراعيه.

 

تعرّفت من خلال هذه الزيارات المتبادلة، إلى روح "أمير عباس" اللطيفة وقلبه المفعم بالمحبة، وكذلك إلى سيرة حياته العجيبة.

 

في أواسط أيلول، وبعد ستّة أشهر من الخدمة، سوّيت أموري وبقيت في طهران حتى كانون الأول لأتوجه من جديد إلى الجبهة وألتحق بكتيبة "حمزة". أما "أمير عباس" فقد بقي في الجبهة طوال هذه المدّة وفي كتيبة "حمزة".

 

التحقت هذه المرة بالسرية الأولى، لأنّ "أمير عباس" كان في الفصيل الأول فيها. التقيت الأخ "محسن كلستاني" مسؤول الفصيل، وبعد السلام والسؤال عن الأحوال، سألني عن تجربتي وخدمتي في الجبهة، وأخبرته أنّني كنت حارسًا في مخفر الشرطة العسكرية وقناصًا.

 

268

 


229

الفصل الخامس - العنقاء

اقترح عليّ أن أكون في عداد المنقذين وقبلت. أمّا "أمير عباس" فبقي عنصر إشارة بسبب حبّه للأدوات الكهربائية والإلكترونية، وبمجرّد انضمامي إلى الفصيل قدّم لي تقريرًا عن الأيام التي غبت فيها:

- أغلب الشباب في الفصيل هم تلامذة وفي مثل سنّي. ندرس دروسنا معًا، ونحلّ التمارين الصعبة بالتعاون فيما بيننا و...

 

بمجرّد أن رأيت شباب الفصيل الأول تحمّست للدراسة. كنت في الثالث الثانوي. ذهبت إلى المجمع العلمي في "دوكوهه"، سجّلت اسمي، واستعرت بعض الكتب الدراسية. وعندما طلبتُ من عائلتي في رسالة، إرسال بعض الكتيبات لي فرحوا وتعجبوا كيف أنّ هذا الولد الذي كان يلعب بالطيور صار تلميذًا مجتهدًا عندما ذهب إلى الجبهة.

بما أنّني مساعد مسعف، كان مكاني في الطابور خلف المسعف، "سيروس مهدي بور". يكبرني "سيروس" بسنتين، وهو طالب في جامعة إعداد المعلمين ويدرّس في إحدى المدارس، وبالطبع كان يعطي الدروس لشباب الفصيل أيضًا. وقد تمكنّا بفضل وجوده معنا من معالجة المشاكل الدراسية التي تواجهنا بسرعة. فالأخ المعلم كان حاضرًا دائمًا معنا وفي كلّ مكان.

 

كان "سيروس" قويّ البنية ورياضيًّا. شارك في عمليات بدر، وكان رامي "آر بي جي" ماهرًا، لكن بما أنّه شارك في دورة إسعاف ومن ذوي الاختصاصات الجامعية، فقد أوكلوا إليه مهمة مسعف ووافق. كنّا نميّزه من خلال قبعته الزرقاء التي حاكتها والدته له، وكان لا يخلعها أبدًا.

 

خلفي في الطابور كان "رضا أنصاري"، زميلي في العمل الذي كنت أتشارك معه بحمل الحمّالة نفسها. كان "رضا" مستدير الوجه كثيف

 

269

 


230

الفصل الخامس - العنقاء

الحاجبين قد نبت شارباه للتوّ، أما لهجته فكانت آذرية زنجانية، ويمكن من خلال مقارنتها بلهجة "مهدي بور" ملاحظة الفروقات بين اللهجات الآذرية، مع أنّ الاثنين وُلِدا في "طهران".

 

كان "رضا" يبلغ من العمر 17 عامًا، وقد شارك قبل سنتين في عمليات "والفجر 4"، أي عندما كان في الخامسة عشرة من عمره. بالطبع، لم يستطع الالتحاق بالجبهة بسهولة آنذاك. كان يتحدّث دائمًا عن قائد يدعى السيد "أبو الفضل كاظمي"[1]، ولا تزال علاقتهما مستمرّة حتى الآن عبر الرسائل بعد أن أنهى خدمته، فـ"رضا" يكتب له، و"كاظمي" يجيب على رسائله.

 

يذكر كلٌّ من "رضا أنصاري" ومسؤول الفصيل، عمليات "والفجر 4" بكلّ عظمة وفخر. وطالما تحدّث "محسن كلستاني" في جمع الشباب عن معركة "كاني مانكا" ومما قاله:

- إنّ مجاهدي "والفجر 4" هم أكثر التعبويين إخلاصًا.

 

في أواسط العام 1986، غادرت كتيبة "حمزة" الثكنة نحو "كرخه". وهناك واجهتنا مشاكل كثيرة في الأيام الأولى لوصولنا إلى الخيام بسبب الطقس الماطر، فلم تُجرَ أيّ تدريبات، ولا حتى تابعنا واجباتنا المدرسية. أرادت السماء أن تعوّض نقص الأمطار في فصل الخريف. لكنّ الخيام لم تكن معدّة لمثل هذا الطقس. فغطيناها بقطع بلاستيكية كي لا تنفذ المياه إليها من ثقوبها الصغيرة والكبيرة، وحفرنا حولها قنوات لتكون مجرى للمياه حتى لا تتسرب إلى داخل الخيمة فيبتل ترابها، كما صففنا حولها أكياسًا


 


[1] راوي كتاب: زقاق نقاشها, سادة القافلة 23.

 

270


231

الفصل الخامس - العنقاء

من التراب حتى لا تقتلعها الرياح الشديدة. ولإخفاء الخيام، أخذنا من قسم الدعم والتجهيز أكياسًا قصصناها لتصبح ذات وجه واحد ووصلنا بعضها ببعضٍ بمكبس الأحذية الكتانية، وفرشناها فوق القطع البلاستيكية التي غطينا بها الخيام، حتى لا يلفت انعكاس الضوء عليها نظر الطيارين في حال قام العدوّ بهجوم جوي.

 

عانينا في الليالي الثلاث الأولى من البرد والرطوبة الشديدين، لكنّ الحياة هناك صارت أكثر متعة عندما تحسن الجو داخل الخيمة، فأصبح دافئًا شيئًا فشيئًا، وانخفضت الرطوبة بعد أن استخدمنا المدافئ النفطية. كان نصيب كلّ فصيل مدفأتين تبقيان مشتعلتين ليلًا ونهارًا وعلى كليهما إبريق ماء لمنع جفاف الهواء داخل الخيمة. وهكذا، كان الماء المغليّ جاهزًا دومًا لتحضير الشاي.

 

بعد أن قمنا بتجهيز الخيام على هذا النحو، توقف هطول الأمطار. قال مسؤول الفصيل: "ادعوا أن يهطل المطر لنرى ما إذا كان عملنا جيّدًا ومتينًا، وهل ستنفذ المياه إلى داخل الخيام أم لا".

 

في تلك الليلة، استجيب دعاء مسؤول الفصيل، لتهطل الأمطار بعد يوم مشمس وجميل، وأيّ أمطار! قلت للأخ "كلستاني": "وكأنّ السماء ألقت كل ما فيها دفعة واحدة! عجيب دعاؤك يا أخ محسن". أجاب: " لقد استجاب الله لهؤلاء الشباب. لأنّهم ما زالوا صغارًا في السنّ ولم يرتكبوا أيّ ذنوب بعد، فقد استجاب الله دعاءهم وأفاض علينا من رحمته".

 

بقيت أرض الخيام جافّة تمامًا، فعلمنا أننا أنجزنا عملنا بالنحو الصحيح.

 

بعد أن استقررنا بشكل كامل، بدأت التمارين العسكرية والتدريبات على القتال الليلي، في الأسابيع الأولى، كانت التدريبات تشمل الكتيبة

 

271


232

الفصل الخامس - العنقاء

بأكملها، ثم السرية، فالفصيل. كان جميع العناصر يتمتعون بروح قتالية جيّدة، ويرغبون أن يكونوا في طليعة المشاركين في الهجوم الكبير، فشاركوا في هذه التدريبات بكلّ حماسة وشوق. كما استمرّت صفوف "مهدي بور" الدراسية في أوقات الفراغ. وفي معسكر "كرخه" ذاك، قدّمتُ وسائر شباب الفصيل امتحاناتنا ونجحت في المواد كلّها، الخبر الذي أفرح عائلتي.

 

في أحد الأيام، رأيت أمير عباس مضطربًا وقلقًا. سألته عن السبب فقال:

- أريد أن أذهب إلى طهران لمدّة 48 ساعة.

- هل حصلت مشكلة ما؟ ماذا جرى؟

- ليست مشكلة كبيرة. سأذهب وأعود بسرعة. يجب أن أعطي المال لأحدهم.

 

ذهب وسرعان ما عاد. لم أكن أسأله شيئًا عن حياته الخاصة ومشاكله. أحيانًا كان هو يبدأ الحديث ويتكلّم بشيء ما. انزعجتُ عندما علمت أنّ والديه منفصلان أحدهما عن الآخر. لقد عاش لسنوات من دون أب ومن دون أم، تزوج كلاهما بعد الانفصال. لديه أخت شقيقة وأخوان غير شقيقين من جهة أبيه، وكانت شقيقته مقبلة على الزواج. لم يتمكن من المشاركة في مراسم عقد قرانها في شهر أيلول، وهو الآن يريد مساعدتها في تحضير جهاز عرسها[1]. لقد قدّم لها راتبه وكلّ ما ادّخره، تمكن بكل ذلك المبلغ من شراء غسالة لها.

 

كان "أمير عباس" في أيام الإجازات يذهب لرؤية والدته ووالده. لديه من جهة أمه أخ شقيق أيضًا وعدد من الإخوة والأخوات غير الأشقاء،


 


[1] ما تحضّره العروس وأسرتها من أثاث وأدوات مطبخ... ويقال لها: "جهيزيه".

 

272


233

الفصل الخامس - العنقاء

وقد استشهد أخوه الأكبر غير الشقيق. لقد عانى منذ الصغر من ألم انفصال الأم والأب. كان صغير السنّ، لكنّه مفعم بالنشاط والحيوية، اشتدّ عوده قبل الكثيرين من أبناء جيله. لقد أصبح رجلًا بكلّ ما للكلمة من معنى بالرغم من صغر سنّه وصوته الرقيق ووجهه الطفولي.

 

عند غروب يوم الجمعة، عدت وأمير عباس من إجازتنا إلى المعسكر. وبسبب عدم وجود السيارات، أجبرنا على قطع الطريق الرملي الممتدّ من المعسكر حتى مركز الكتيبة سيرًا على الأقدام. وصلنا إلى مكان يقال إنّه كان مقبرة للعراقيين يقع على مسافة بضعة كيلومترات من نقطة حراسة المعسكر. هناك سمعنا عواء بنات آوى والذئاب. لم نهتمّ للمسألة بادئ الأمر، لكنّ الأصوات بدأت تعلو وتقترب. بدأتُ بالصلوات على محمد وآل محمد لإبعاد شرّها، أما أمير عباس فشرع بقراءة آية الكرسي. لم يكد يصل إلى آخر الآية حتى ظهرت شاحنة صغيرة من منعطف الطريق. ركبنا فيها، ومشينا مسافة مئة متر، ولم نكد نصل إلى المنعطف التالي، حتى لحق بنا قطيع من الحيوانات المتوحشة. إنّه "القيوط"[1]، حيوان بين الذئب والثعلب. عندما رآها السائق، ضغط على دواسة البنزين بشدّة وسار بسرعة أكبر لنأمن شرّها. قلت لأمير:

- ليتك قرأت آية الكرسي في وقت أبكر.

- لو أنّنا لعبنا معها، لم يكن ذلك بالأمر السيّئ.. كنّا تسلّينا قليلًا..

 

أوصلتنا شاحنة التويوتا - التابعة لكتيبة "مالك" - حتى نقطة تبعد 500م عن خيام كتيبة "حمزة". أكملنا بقية الطريق سيرًا على الأقدام. كان صوت القرآن والأذان يتناهى إلى أسماعنا من كلّ مكان، حيث


 


[1] ويقال له الوعوع أو الذئب البري أو ذئب السهول.. ويعرف بعوائه الغريب المخيف الذي يسمع عادة في فترة المساء والليل والصباح الباكر.

 

273


234

الفصل الخامس - العنقاء

قام إعلام كلّ كتيبة ببثّ قراءة القرآن عبر مكبرات الصوت. كان أمير عباس مسرورًا وبدأ بقراءة العزاء. لم يكن صوته مناسبًا للعزاء، وكان عليه أن يشدّ على حنجرته حين القراءة فيما كان صوته ناعمًا ورقيقًا. قلت له:

- إذا ما بُثَّ صوتك عبر مكبّر الصوت، لخلا المعسكر دفعة واحدة.

- حقًّا... لهذه الدرجة صوتي سيّئ؟

- ألا تعلم؟... سجّله لمرّة واحدة، واستمع بنفسك لتدرك ماذا تفعل![1]

 

أصبح "رضا أنصاري" "رضا الصبّاغ". كان يصبغ وحده وأحيانًا بمساعدة "مهدي كبيرزاده"، 30 زوجًا من الأحذية العسكرية بكلّ جَلَد. وإذا ما استغرق كلّ زوج دقيقة ونصف دقيقة من الوقت، لاحتاج إلى ساعة ونصف ليعيد هذه الأحذية جديدة.

 

بعد انتهاء العمل، يصبح شكل "رضا" لافتًا، فيصبح ذلك الوجه الأبيض الزنجاني بلون الفحم، كما وجوه أصحاب البشرة الداكنة.

 

كان "رضا" خبيرًا في الصباغة. في البداية ينظّف الحذاء بمنديل جاف ليزيل التراب والغبار عنه، ومن ثم يدهن الصباغ عليه بأصابعه أو بفرشاة صغيرة حتى يمتصّه الجلد، وبعد 5 أو 6 دقائق، يمسحه بفرشاة كبيرة ليصبح برّاقًا.

 

كنت و"رضا" زملاء دراسة تقريبًا. أنا في التاسع الأساسي، فيما هو قد أنهى هذه المرحلة للتوّ لينتقل إلى المرحلة الثانوية. كنت أكبر منه بعامين ومتأخرًا عنه بصف واحد. كنّا عندما نتحدّث عن اختيار


 


[1] حمل مزاحي هذا على محمل الجدّ وقام بهذا الأمر, في آخر إجازة, سجّل صوته مع مارش وتقليد صوت إطلاق رصاص.

 

274


235

الفصل الخامس - العنقاء

اختصاصنا، نتفق على رأي واحد وهو متابعة الدراسة في مجال العلوم الإنسانية. تميّز "رضا" بطبعه الهادئ ورقّة قلبه. ربّما لهذا السبب عمل مساعد مسعف، فهو لم يكن يتحمّل رؤية أحدهم يتألم. عمل مساعد المسعف عمل مضنٍ، ليس فيه حماسة ولا إطلاق نار. كان "رضا" يفتخر ومن دون أي ادّعاء، بصباغته لأحذية الشباب العسكرية.

 

في أحد الأيام ذهبت و"رضا أنصاري" إلى "أنديمشك ودزفول". قمنا بجولة في المدينة ثم ذهبنا إلى سوق للفواكه والخضار. عندما وقع نظري على الخضار اشتهيتها بشكل غريب. فمطبخ الفرقة لم يقدّم لنا حتى ذلك الحين شيئًا منها مع الطعام. أحيانًا كانوا يقدّمون التفاح أو البرتقال. سألت عن سعر الخضار التي بقيت منذ الصباح ولم تجد لها مشتريًا، وكان البائع يريد إغلاق المحل والمغادرة. أردت شراء بضع رزم لا أكثر، لكنّه قال لي إن أخذتَها كلّها أحتسبها بنصف قيمتها:

- أعطني 20 تومانًا وخذها كلّها.

 

20 تومانًا تعني كل ما معي من مال، قلتُ في نفسي: لا أحد يعلم أين سأكون في الأسبوع القادم، وعليه، ربّما لن يفيدني المال حينها.

 

عارضني رضا قائلاً:

- كيف سنأخذ كلّ هذه الخضروات معنا؟ إنّها 30 كلغ...

- عزيزي رضا، أنا وأنت سوف ننقل الجرحى ليلة العمليات إلى هذه الناحية وتلك، لا تستدعي الثلاثون كيلوغرامًا كلّ هذا "النقّ"!

 

أعطانا البائع كيسًا لنضع فيه الخضروات. ملأنا الكيس، وحملناه إلى شارع المدينة الرئيس. لحسن حظّنا، وصلت سيارة كتيبتنا وتوقفت عندما رأت وجوهنا المألوفة. وصلنا إلى خيام الفصيل الأول بعد ساعة. بالطبع قبل أن ننزل، أعطينا السائق أجرته رزمة من البقل

 

275


236

الفصل الخامس - العنقاء

والريحان والفجل، مع أنّه لا حاجة لذلك.

 

عندما رأى مسؤول الفصيل ذلك الكيس المليء بالخضروات تعجّب في البداية، ثم ضحك وشكرنا. مددنا "شرشف السفرة"، وجلس جميع الشباب لتنظيف الخضار. كان للعشاء ذلك اليوم نكهة أخرى أضفتها هذه الخضروات. تذكر جميع الشباب بيوتهم وموائد أمهاتهم. أعطينا سائر الفصائل بعضًا من الخضروات المغسولة، وبقي لنا منها ما يكفي لغداء اليوم التالي. كم كان لخضروات العشرين تومانًا من بركة، ربّما سبب ذلك أنّ الشباب نظفوها مع ذكر الصلاة على محمد وآل محمد.

 

تحوّل عملنا هذا إلى سنّة، طبّقتها الفصائل الأخرى في الأيام والأسابيع التالية، وتشهد على ذلك مخلّفات الخضار في نفايات الكتيبة.

 

في إحدى المرّات، طوينا مسافة 35 كلم من مقر الكتيبة إلى جسر "كرخه" حيث "المحطّة الصلواتية"[1] على طريق "انديمشك - دهلران" ذهابًا وإيابًا، كنّا بكامل تجهيزاتنا وقد استغرق الأمر 15 ساعة. عندما وصلنا إلى خيام الكتيبة ظننّا أنّ الأمر قد انتهى، لكنّ مسؤول السرية أعلن عن اجتماع في حسينية الكتيبة. في تلك الليلة، تدرّبنا على السهر. تناولنا طعام العشاء وصلينا الفريضة، لكنّ أحدًا لم ينم. قال مسؤول السرية فيما يخصّ هذا الأمر:

- إذا لم تتعودوا على السهر في الليل، سوف يأتي العراقيون ويقطعون آذانكم ويقدمونها هدايا لقادتهم!

 

 


[1] المحطة الصلواتية هي محطة تُنصب عند مفارق الطرق في أيام محرّم الحرام، تُقدّم فيها العصائر والشاي والماء وأمور أخرى، ويُطلب من المنتفع منها إطلاق الصلوات محمد وآل محمد.

 

276


237

الفصل الخامس - العنقاء

عشنا في الجبهة الجوع والعطش والتعب، وأضف إلى ذلك سهر الليالي. لقد تحمّلنا وتقبّلنا كلّ الصعاب. كان الطعام عند الظهر والمساء قليلًا، أما طعام الفطور، فكان في أغلب الأوقات خبز "لواش" (المرقوق) وقطعة صغيرة من الجبن. ربّما تناولنا المربّى مع الزبدة مرّة كلّ عشرة أيام.

 

في أحد الأيام، تناولنا على الفطور الزبدة والمربى. وضعنا المربّى داخل وعاء ليأكل منه عدد من الأفراد. ما إن تناولت اللقمة الأولى حتى راودني شعور غريب، يختلف هذا المربى عن غيره. دققت في نكهة اللقمة الثانية أكثر. أما اللقمة الثالثة فأكلتها بعد أن شممت رائحتها... ولم أعد أحتمل أكثر. تركت السفرة وتوجهت نحو مسؤول الدعم في الفصيل لأرى مرطبان المربى. كان مرطبانًا زجاجيًّا كبيرًا من مربى الجزر وفيه القليل من اللوز والفستق المبشور، وتفوح منه رائحة الزعفران وماء الورد: إنّها رائحة مربى منزلنا. ولقد كتب على المرطبان: "تقدمة من مدرسة أنصار الإمام الخميني، منطقة التعليم والتربية 13". ذهبت إلى تجهيزات السرية، فوجدت هذه العبارة مكتوبة أيضًا على صندوق الكارتون الكبير. لقد دفعني هذا الفطور الذي كان بنكهة منزلنا، إلى التفكر.

 

بالقرب من خيمة الفصيل الأول كانت توجد حفرة شبيهة بالقبر، يتعبّد فيها بعض الشباب ليلًا. أنا أيضًا في إحدى الليالي أمضيت بضع ساعات فيها. هناك تشعر باللذة كما الخوف، لذة القرب من الله والخوف من المجهول. لم أكن قد جرّبت هذا الشعور الجميل من قبل. كنت فقط قد رأيتهم يضعون الأجساد في القبر. وعندما نمت فيه، خفت من أن ينسدّ بابه وأبقى حبيس التراب.

 

في صباح اليوم التالي، قرّرت و"أمير عباس" أن نلتقط صورة

 

277

 


238

الفصل الخامس - العنقاء

القبر. نزل هو إلى داخل الحفرة وغطّى جسده بقطعة من المشمّع. كان برفقتنا أيضًا "محمد أمين شيرازي". جلس عند حافّة القبر، والتقط صورة له ولأمير. كان ذلك أغرب شيء نصوّره حتى ذلك الحين[1].

 

في المعسكر، كان كل فصيل يحلّ ضيفًا على الفصيل الآخر، الأمر الذي وطّد العلاقات بين الفصائل، وجعل الشباب يتعرّفون إلى بعضهم البعض، ويحفظون أصوات بعضهم البعض ووجوههم بنحو أفضل، ما يحول دون الوقوع في مشاكل أمنية ليلة العمليات. كان قادة الكتيبة الكبار يحضرون أيضًا الجلسات، ويروون للشباب تجاربهم في العمليات.

 

في ذلك اليوم اغتنمت الفرصة لأتحدّث إلى مسؤول الفصيل. فقلت له:

- ليتني التحقت بالجبهة في وقت أبكر. ليتني زوّرت صورة هويتي. أتحسّر على تلك الأيام التي انقضت ولم أشهدها. ليتني شاركت في عمليات "والفجر 4". ليتني...

 

قال "محسن كلستاني":

- تكون السمكة طازجة عندما تصطادها من الماء. إذا عرفت أنت قيمة هذه الأيام والليالي واستفدت منها وحفظت ذكراها في عقلك وقلبك، فسوف تنتفع كثيرًا منها ولن تتأسف عليها...

 

عُرِف الفصيل الأول بـ"روضة الأطفال". كان أفراد الفصائل الأخرى يمزحون معنا دائمًا بهذا الكلام.


 


[1] بعد شهادة أمير عباس، أخبرت والده وأخته بذلك. لو لم تكن الصورة موجودة ربّما لم يصدّقوا أنّه جرّب النوم في القبر. في آخر إجازة لنا، ذهبنا معًا إلى "بهشت زهرا". نام هناك في أحد القبور، وقام بتلقين نفسه، اسمع، افهم يا أمير عباس رحيمي، يا بن عباس...

 

278


239

الفصل الخامس - العنقاء

في إحدى المرّات، عندما كان عدد من القادة مجتمعين في خيمة فصيلنا ودخلتُ أنا، قال لي أحدهم:

- حميد، لماذا رافقت هؤلاء الصغار؟ هل أصبح هؤلاء الأقزام مقاتلين؟ لا يوجد في تجهيزات الفرقة ملابس وأحذية مناسبة لهم...

 

أجبته قاصدًا المزاح والجدّ في آن:

- على العناصر القدامى في الجبهة أن يتعلّموا الرجولة من هؤلاء الصغار... لقد جئتُ إلى المكان المناسب.

 

ضحكنا جميعًا.

 

في أحد الأيام، سرَتْ في الكتيبة شائعة تقول إنّه لا ينبغي للمجاهدين اليافعين أن يخدموا في كتائب الاقتحام وعليهم أن ينهوا خدمتهم ويلتحقوا بكتائب ووحدات الدعم. تسببت هذه الشائعة بثورة، لكنّها لحسن الحظّ بقيت في إطار الشائعة ولم تُطبّق عمليًّا.

 

كان أحد الشباب في الفصيل الأول يملك مذياعًا صغيرًا يعمل بواسطة بطاريات AA. بالطبع كان "إعلام الكتيبة" يبثّ يوميًّا أخبار الساعة الثانية في الساحة عبر مكبّرات الصوت، لكن الشباب في بعض الأحيان كانوا يفضّلون الاستماع إلى برامج إذاعية أخرى. تعطّل هذا المذياع مرّات عدّة، وكان "أمير عباس" يعيد إليه الحياة ويصلحه بالأدوات البسيطة التي يملكها. وكلّما كان صوت المذياع يبدأ بالخشخشة، يقول الشباب أعطوه لمهندس الفصيل.

 

كان في الفصيل الأول أيضًا حلّاق، هو "سعيد بوركريم". تعرّفت إليه في العام 1984م وخدم معي في كردستان. كما التقيته في بعثة آذار أو ربّما نيسان من عام 1985م. التحق حينها بالسريّة الأولى وأنا بالسرية الثانية. في "كرخه" اجتمعنا معًا في سرية واحدة وفصيل

 

279

 


240

الفصل الخامس - العنقاء

واحد ومجموعة واحدة. كان رامي "آر بي جي" في المجموعة الأولى ومعه ثلاثة مساعدين. أحضر قادة الكتيبة لحلّاق الكتيبة أدوات الحلاقة من طهران: ماكينة حلاقة يدوية، مشط، مقصّ، مئزر وفرشاة، فحلّاق الفصيل لم يكن يملك سوى مقصّ، كان لمسعفينا.

 

كان "سعيد بوركريم" كالكثير من الشباب، مخلصًا ومتواضعًا. فإضافة إلى الحلاقة، كان خادمَ الفصيل الأول، ويغسل الأطباق المتّسخة في أغلب الأوقات. أراد بأيّ طريقة أن يخدم الشباب.

 

في أحد الأيام أصررت على مسؤول الفصيل لأغسل الأطباق بعد طعام الغداء والعشاء. وافق الأخ "كلستاني" وقال لـ"بوركريم":

- سيساعدك رمضاني اليوم.

 

قال منزعجًا:

- الأطباق نصيبي دومًا، ولا يستحقّ هذا العمل أن يساعدني فيه أحد.

 

قلت لـ"بور كريم":

- أردت أن أقوم بعمل ما لمرّة واحدة بعد أسابيع وشهور، وأنت لا تسمح بذلك؟ يجب أن أحصل اليوم على بعض الأجر والثواب. لا يصحّ أن يكون الأجر كلّه لك.

 

قَبِل حلّاق الفصيل وخادمه أن أساعده في ذلك اليوم. بالطبع قام هو بالعمل الصعب، نظّف الأواني بالماء والصابون، وأنا غسلتها بالماء.

 

في أحد الأيام، عندما ذهبت إلى المدينة في إجازة، طلب مني أن أشتري له الشوكولا وأعطاني ثمنها. اشتريتها من "دزفول" وسلمتها له. بعد بضعة أيام، ألححت عليه ليخبرني كيف وجد مذاقها. عندما ماطل في الإجابة أدركت أنّ لهذه الشوكولا لغزًا وقصة ما، وعرفت في النهاية أنّه لم يطلبها لنفسه بل لغيره، ربّما لـ"أكبر مدني" الذي كان

 

280

 


241

الفصل الخامس - العنقاء

مساعده وتجمعهما صداقة حميمة.

 

سألته: "لِمَ لم تشترِ اثنتين واحدة لك والثانية لغيرك".

 

قال: "أساسًا أنا لا أرغب بالشوكولا. وإذا ما أطلقت العنان لنفسي بأكل الشوكولا فلن أتمكن من وضع حدٍّ لذلك. كانت تلك الواحدة كافية".

- الآن وقد جرى ما جرى، ستكون ضيفي في المرّة القادمة... أنا سأشتري لك الشوكولا.

- إذا أردت أن تشتري فاشترِ ثلاثين قطعة... لا أقبل بواحدة.

- تعني لجميع أفراد الفصيل؟

 

سألته هذا السؤال، ولم أتابع مسألة الشوكولا لأنّني صرفت أكثر مالي على الخضروات.

 

في أواسط كانون الثاني، أخذنا إجازة لمدّة أسبوع. وصلنا صباح يوم الجمعة إلى طهران، ذهب البعض مباشرة من محطة القطار لأداء صلاة الجمعة، أما أنا فتوجهت إلى المنزل.

 

عندما وصلت إلى بيتنا، وجدت مائدة الفطور لا تزال ممدودة. تذكّرت عند رؤيتها مربّى الجزر وأخبرت أمي بما جرى. فكّرتْ قليلًا وتذكرتْ ما حصل:

- لقد فهمتَ الموضوع جيّدًا.. طلب مني شباب المدرسة في المحلّة أن أساعدهم في إعداد مربى الجزر. اشتروا الجزر وقطعوه، وطبخته أنا في القدر.. وعندما قمت بتعبئة المربى، تذكرتكَ كثيرًا وقلت ليت ابني معي يأكل من هذا المربى.

 

قلت: "أمي العزيزة، لقد استجاب الله دعاءك.. كم كان لذيذًا ذلك المربى!".

 

281

 


242

الفصل الخامس - العنقاء

قالت: "ولدي العزيز، أنت كل ما أملك في هذه الحياة... هل يمكن أن تقوم أمٌّ بإعداد الطعام ولا تتذكر أبناءها؟".

 

تحقّقت أمنية والدتي بسهولة، وأنا الذي كنت أتصور أنّني أصنع المفاخر عندما أقرأ بعض الأدعية من مفاتيح الجنان في الجبهة. لقد أدركت خطأي هذا. إنّ أبي وأمي أكثر تديّنًا وأكثر قربًا إلى الله منّي.

 

عندما انتهت إجازتي، أعطتني أمي صندوقين فيهما ثلاثون أو أربعون "مرطبان كبيس" لأسلّمهم للمجاهدين. لقد جاءت لوداعي عند محطة القطار. أخذ "مسعود أهري" أحد الصندوقين منها ليوصله إلى داخل المحطّة. كان لتناول الكبيس في الشتاء لذّة خاصّة. وزّع الأخ "كلستاني" الكبيس على الفصائل، ووصل لكلّ فصيل حصة. في المرّة السابقة أضفى المربّى الذي أعدّته أمي رونقًا خاصًّا إلى فطورنا، والآن ميّز الكبيس الذي أعدّته لنا طعام الغداء والعشاء.

 

في أحد الأيام، ذهبت ورضا إلى خيمة الإسعاف نبحث عن حمّالة تكون قبضتها جيّدة. وجدنا 10 أو 15 حمّالة. بحثنا قليلًا، أشار "رضا" إلى واحدة وقال:

- إنّها عراقية...

 

حملتُها، كانت خفيفة ومريحة. وكان سطحها مصنوعًا من البلاستيك ولا يمتصّ الدم. لو كان من القماش المشمّع، لصارت ثقيلة بسبب الرطوبة.

 

خرجنا من خيمة الإسعاف. قلت للأخ "كلستاني" إنّنا وجدنا حمّالة جيّدة. طلب منّا إيجاد واحدة مثلها. عدنا إلى الخيمة، بحثنا كثيرًا ولم نجد أيّ واحدة أخرى. أشار إلينا الأخ "كلستاني" أن نعطيها للشيخ "رحيمي". أعطيناه إياها، وأخذنا بدلًا منها حمّالة ثقيلة. قال رضا:

 

282

 


243

الفصل الخامس - العنقاء

- عندما نذهب لتنفيذ العمليات، سنقترض من العراقيين واحدة! بالقوة سنقترضها!

- أخ رضا، المهم أن يشاء الله، ونذهب لتنفيذ العمليات...

 

في أحد الأيام ذهبنا إلى ميدان الرماية، وحيث كنت ورضا مسعفين، أخذنا معنا الحمّالة. قال لنا الإخوة ممازحين: "إن هاجمكم العراقيون، اضربوهم بالحمّالة على رؤوسهم". بالطبع قمنا نحن المنقذين بتفريغ مخزن رصاص لنتعلم إطلاق النار، لكن باستخدام بنادق الآخرين.

 

بعد كلّ هذه المدّة، أدركت بأنّ الأخ الأكبر لـ"رضا أنصاري" شهيد. رأيته يكتب رسالة، وإذ به عندما حدّد عنوان المرسِل والمرسَل إليه يكتب: "زقاق الشهيد علي أنصاري". سألته عن ذلك فأجاب: "لقد استشهد علي في عمليات تحرير خرمشهر".

 

في الأيام الأخيرة لوجودنا في "كرخه"، قدّموا لنا مرات عدّة، البرتقال مع طعام الغداء. راح "رضا" يقشّر البرتقال بكل صبر وأناة ويقطعه ويستلذّ بتناوله. قال:

- في إحدى المرات أكلت كيلوغرامًا من البرتقال. لو كان هناك أربعة أنواع من الفاكهة لقضيت على البرتقال أولًا ثم أكلتُ باقي الفاكهة.

 

راج عمل "رضا الصباغ". لقد وجد لنفسه عملًا جيّدًا ملأ به كل وقت فراغه. ولأنّ أحذية الشباب العسكرية كانت دائمًا بحاجة للصباغة، فقد صار يحمل معه عدة الصباغة إلى أيّ معسكر ذهب.

 

كتب أغلب الإخوة وصاياهم في معسكر "كرخه"، وكذلك أنا، وسلّمنا أغراضنا الشخصية لـ "تعاون" الكتيبة. وكانت قد وصلت إلى مقرّ

 

283

 


244

الفصل الخامس - العنقاء

الكتيبة شاحنة لنقل الحقائب، وقد جُهّزت ببراد لنقل اللحوم تمويهًا حتى لا يرتاب أحد بالأمر. علّقنا مازحين: "شاحنة لحم شباب البلد".

 

وضعت وصيتي في الحقيبة، إضافة إلى كتابي ودفتري وأشياء أخرى، واحتفظت معي فقط بخاتم، ومحفظة المال وفيها بعض الأوراق النقدية الصغيرة، كما حملت معي السبحة وسجادّة الصلاة التي أهدانيها "أمير عباس رحيمي".

 

في ذلك اليوم، تحدّثنا مع مسؤول الفصيل وتمازحنا حول موضوع الشهادة. بالطبع تحقّق بعض المزاح وصار جِدًّا. لقد أخبرنا "محسن كلستاني" أنّه سيستشهد، لكنّني قلت له: "أنا لن أستشهد... لن أستشهد في الهجوم المرتقب".

- لماذا أنت واثق إلى هذا الحدّ أخ رمضاني؟

- أمي... أمي تحبني كثيرًا، وكذلك أنا. ودعاء الأمّ مستجاب. إذا دعت لي فسأستشهد حتمًا، وإن لم تفعل فلن يكون ذلك.

 

عندما قلت ما قلت، علّق مازحًا أو جادًّا:

- لن تستشهد، لكن ستصاب بشظية لن تتمكن معها من القيام!

 

انتهى حديثنا بالضحك.

 

في آخر ليلة أربعاء قضيناه في "كرخة"، أقمنا مراسم دعاء التوسل في خيمة الفصيل، وقرأ كلّ فقرة من فقرات الدعاء الأربع عشرة، أربعة عشر مجاهدًا استشهدوا جميعًا: "أمير عباس رحيمي، سعيد بور كريم، أكبر مدني، محسن كلستاني و..." لم أقرأ دعاء التوسل تلك الليلة لا أنا ولا "رضا أنصاري"، لكن بعد سنة، التحق "رضا" بقافلة أصدقائه الشهداء.

 

ذهبنا من معسكر "كرخه" إلى "كارون". لقد تمّ إخفاء خيام

 

284

 


245

الفصل الخامس - العنقاء

المعسكر الجديد بين بساتين النخيل. وهناك، قمنا بمناورة للتدرّب على مواجهة الهجوم بالسلاح الكيميائي. كانت مناورة على مستوى الكتيبة، وبكامل التجهيزات العسكرية. ارتدينا السترات الواقية من المطر، ووضعنا القناع الواقي على وجوهنا. مشينا على هذه الحالة حوالي 10-15 كلم، وعبرنا ثلاثة سواتر ترابية. عند الساتر الترابي الثالث انقطع نفس الجميع. حتى مسؤول الفصيل انخطف لون وجهه. لقد كان "محسن كلستاني" جريح حرب.

 

قال "سيروس مهدي بور" الواقف أمامي مباشرة:

- لقد تضخّمت رئاتنا... احبس نفسك تصبح حالك أفضل.

 

فعلت، لكن لم يتحسن الوضع. لم أستطع حبس نفسي لأكثر من دقيقة، وكدت أموت بسبب ضيق التنفس.

 

في كارون، أصدر مسؤول الكتيبة أمرًا بوجوب تقصير الجميع شعور رؤوسهم ولحاهم الطويلة. مع هذا الأمر، ازدهر عمل حلاق الفصيل. منذ أن كثرت الحملات العراقية بالسلاح الكيميائي كَثُر عمل الحلاقين أيضًا. توجّب على معظم شباب الفصيل الأول حلاقة شعورهم. الشخص الوحيد في الفصيل الذي كانت لحيته طويلة هو الشيخ رحيمي - وهو منقذ في المجموعة الثانية - وقد عمل بهذا القرار أيضًا.

 

في هذا المعسكر، إذا ما كتب أي ّشخص رسالة لا تُرسل إلى أهله، لكنّهم كانوا يُسلَّمون الرسائل المرسلة منهم إلينا. وصلني وأمير عباس رسالتان. كانت رسالتي من أخي. كنت وأمير عباس نقرأ رسائلنا دائمًا بصوت مرتفع. أعجبت رسالة أخي "أمير عباس" كثيرًا لأنّها كانت مثل مقالات الجرائد. إضافة إلى دعواته لنصر المجاهدين الإيرانيين، فقد ذكر أخي في رسالته الحركات التحرّرية في العالم واحدة واحدة:

 

285

 


246

الفصل الخامس - العنقاء

فلسطين، أريتريا، فيليبين، كوبا و... أما "أمير عباس" الذي كان متكئًا على نخلة قرب النهر، فقد قرأ رسالته على عجل ومن دون تدقيق ومزّقها ورماها في الماء. على الرغم من صغر سنّه كان لديه الكثير من المشاكل يتحدّث عنها متى شاء، ولم أكن أسأله شيئًا عنها.

 

في مناورة أخرى حملت اسم "احتلال الجسر"[1]، تبلل الكثير من الشباب بالماء وغطاهم الوحل من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم. نُفذّت المناورة بالزوارق في نهر كارون، وقد ارتدى الجميع سترات النجاة. كان علينا احتلال رأس جسر ساحلي في ضفة العدو المفترض لإنزال القوات. كان ساحل كارون موحلًا بحيث تنزلق عليه الأحذية العسكرية. لقد عانى الشباب من المشاكل عند ركوبهم الزوارق ونزولهم المتكرر منها، وقد ساعدتُ من علق في الوحل بواسطة الحمالة. استمرّت المناورة ساعات عدّة، وأغنت تجاربنا أكثر.

 

بعد المناورة بدأ عمل الصباغة. فقد تضاعف وزن كل فردة حذاء عسكري لكثرة ما علق عليها من وحول. كان رضا بحاجة إلى عدد من قطع القماش الجافة فأحضرتها له، وقد ساعده "مهدي كبير زاده" في عمله ولم يكن ثمّة حاجة إلي.

 

نفّذنا عددًا من المناورات أيضًا على مستوى السرية والفصيل. في إحدى مناورات الفصيل، اصطدمنا بين الأعشاب والقصب بخنزير كبير الخطم، هجم فجأة وسط الطابور حيث كنت. بادر "سيروس مهدي بور" إلى العمل قبلي، أخذ مني الحمالة وضرب بها خطم الخنزير الذي أوشك أن يعضّ قدم أحد الشباب. قلت في نفسي يكفي أن نضرب رأس العراقيين بهذه الحمالة. في هذه الأجواء، تذكر أمير


 


[1]  القيام بإنزال برمائي قرب ضفة العدوّ لتأمين نقطة انطلاق آمنة للقوات.

 

286


247

الفصل الخامس - العنقاء

عباس خنزير مهران، فراح يزهو بالشجاعة.

 

في أحد الأيام جاء إليّ "محمد جواد نصيري بور" - وهو في المجموعة الثانية في الفصيل - وكنت كالعادة جالسًا و"أمير عباس" في الخيمة. كان يحمل بيده دفترًا صغيرًا. قلب عدة أوراق حتى وصل إلى واحدة بيضاء، وطلب منّي ومن أمير أن نكتب له شيئًا للذكرى. انشغلت وأمير عباس بالمجاملة، أنت اكتب، بل أنت اكتب. بدأت أنا بالكتابة بعد إصراره على ذلك كوني أكبر منه بسنتين.

 

"باسمه تعالى. السلام على إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وإمام الأمة وأمة الإمام. أرجو من جميع الذين يقرأون ما أخطّ، أن يكونوا أتباعًا للإمام، وأن لا يقصّروا في الجهاد رغم ما فيه من صعاب. لا تدعوا نور الحسين عليه السلام يخمد في وجودكم. مع أمنياتي بنصر مجاهدي الإسلام وطول عمر الإمام. 5/3/1986. حميد رضا رمضاني".

 

قرأ أمير عباس ما كتبت، وقرأت ما كتبه:

"بسم الله الرحمن الرحيم. ساعة بعد ساعة، يقترب وقت العمليات، وينقبض قلبي في كل لحظة أكثر فأكثر. لا رجاء لي سوى رحمة الله وفضله. أنا أسعى لأحفظ وجوه الشباب، فهذه الليلة هي الليلة الأخيرة. ربّما لن نراهم ثانية مجتمعين وسعداء وسالمين. إنّ قلبي يتألم. لكن أيّ كلام يعبّر عما يختلج داخل هذا القلب ويبلسم جرحه. العيون، بحر الدموع العاشقة: مولاي حسين، أين أنت، المرقد وكربلاء هما حجّة وذريعة. أمير عباس رحيمي. 5/3/1956".

 

كان "نصير بور" مساعد رامي "آر بي جي"، وشابًّا منظّمًا في الفصيل. عندما أخذ منا الدفتر سأَلَنا عن تاريخ ميلادنا وسجّله أعلى الصفحة التي كتبنا عليها المذكرات، مع المهمة الموكلة إلينا حينها.

 

 

287

 


248

الفصل الخامس - العنقاء

كانت صفحتي في مقابل صفحة "أمير عباس".

 

في أحد الأيام، كان مسؤول الفصيل جالسًا وحيدًا خارج الخيمة. يحمل التراب بيده ويقبضها، ثم يفتح أصابعه بهدوء وروية ليتساقط التراب الرملي أرضًا. اغتنمت الفرصة وسألته:

- ماذا ترى أخ محسن؟

 

قال:

- تراب الجبهة هذا مقدس، مبارك.. يجب السجود عليه، تمامًا كما تراب كربلاء[1].

 

قبل مغادرتنا "كارون"، أخبرني "أمير عباس" بقصة الرسالة التي مزقها. قال إنّ أخته الأكبر منه قد تزوجت قبل فترة، وطلبوا منه الآن أن يتزوج ويبنيَ حياته المستقلّة، ولم يكن قد أنهى بعدُ السنة الرابعة في المعهد الفني. كان يعشق الجبهة والمجاهدين ولا يفكر في شيء سواهم.

 

وصلنا إلى مرحلة توزيع العتاد والحصص الغذائية. وبما أنّني لم أكن أملك سلاحًا أخذت بضع قنابل فقط، لأنّ حقيبتي يجب أن تبقى خفيفة كي أستطيع حمل الجرحى. كانت الحصة الغذائية عبارة عن الشوكولا الجافة التي تزوّد الجسم بالقوة والطاقة، الفاكهة المعلبة، البسكويت والقليل من الخبز اليابس الذي يشبه الخبز المحلي. وضعت القليل منه في فمي، لا بدّ من ترطيبه في الفم ليمكن مضغه، ولو مضغته بسرعة لجُرح فمي.

 

كان "أمير عباس" يحمل سلاحًا مع أنّه عنصر إشارة في الفصيل. يُتقن عناصر الإشارة في الفصائل عملهم، ويظلّون مستعدين لتقديم


 


[1]  في تلك الأيام، صنع المجاهدون من تراب الجبهة سجدات لهم، واستمرّ هذا العمل بعد الحرب.

 

288


249

الفصل الخامس - العنقاء

العون لعناصر الإشارة في السرية في حال تعرّضهم لأيّ حدث. أما في الظروف العادية فيكونون قنّاصين.

 

كان "أمير عباس" يملك عُصابة خضراء اللون مكتوب عليها: "نحو الحرم الحسيني". كما كان يحمل سكينًا صغيرًا يستخدمه في فتح علب الفواكه والأغذية المعلّبة وغير ذلك من الأعمال، إضافة إلى قطعة من الكحول الجامد التي يمكن بواسطتها غليَ إبريق صغير من المياه، أو إضاءة دشمة صغيرة مظلمة لمدّة معينة. كان يحمل أيضًا قلم رصاص مبريًّا من الطرفين، وهو أداة ضرورية لعناصر الإشارة، فرشاة صغيرة يرتّب بها شعره الكستنائي، وأدوات الإسعاف كاللصاق والضمادة.

 

أحيانًا كنت أجلس إلى جانبه وأنظر إليه. لا تزال تلك الخصال والحركات في ذاكرتي رغم مرور الزمن. أنظر إليه وينقبض قلبي حين أفكر ماذا سيحلّ به.

 

غادرنا المعسكر في يوم غائم. كانوا قد أحضروا شاحنة مغطاة من الخلف لنقلنا. ركبنا فيها وتوجهنا في عتمة الليل نحو "بهمن شير". على ضفة النهر، وفي بساتين النخيل والبيوتات القروية، وصلنا الليل بالصباح، وأي وصال! كثيرون لم يتمكنوا من النوم. فمنطقة العمليات تبعد 30-40 كلم عنّا، وأصوات إطلاق النار والانفجارات ظلّت تتناهى إلى مسامعنا طوال الليل.

 

مع حلول النهار، اختلست النظر إلى غرف ذلك البيت القروي. كنت وحيدًا. كانت الأوامر قد صدرت بمنع تجوالنا في الساحات المكشوفة، لكنّهم لم يمنعوا تجوالنا في الغرف. وجدت المنزل خاليًا تقريبًا من الأثاث. فوق أحد الرفوف رأيت دفترًا مدرسيًّا فتصفّحته. كما وجدت قوسًا وسهمًا مصنوعين يدويًّا معلّقين بمسمار إلى الحائط: القوس

 

289

 


250

الفصل الخامس - العنقاء

مصنوع من خشبتين وقطعة من الكاوتشوك الداخلي لعجلة السيارة. وضعت حصاة داخل ثنية الكاوتشوك وشددته في مقابل الحائط. أعجبتني متانته. في تلك اللحظة، دخل الغرفة مسؤول الفصيل. أمسك القوس والسهم، دقق فيه جيّدًا وقال: "إنه متقن...".

 

كان قد شدّ القوس والسهم إلى حده الأقصى حين فتح أخوه "حسين" باب الغرفة، الذي ما إن رأى المشهد حتى أغلق الباب وانسحب فورًا. سألته:

- لماذا حصل هذا أخ كلستاني؟ أين ذهب حسين؟ لم يسلّم حتى وأغلق الباب وذهب...

- كنت وحسين نلعب معًا، وقد جرحته مرّات عدة. في إحدى المرات دخل الغرفة كما الآن فصوّبت على قدمه ببندقية "خردق" فتمزّق جلده ولحمه وبدأ ينزف. منذ ذلك اليوم صار حسين يحمل مزاحي على محمل الجدّ. ولو كنت مكانه لفعلت الأمر ذاته.

 

في ذلك اليوم قدّموا لنا الدجاج بالأرز على الغداء، وفي الليل، الليلة الثانية للعمليات، تقرّر أن تقتحم فرقة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم[1] خطّ العدو.

 

بعد الظهر، وفي الساحة نفسها لذلك البيت القروي، قام القادة الكبار بشرح منطقة العمليات للعناصر. كانت المرّة الأولى التي نسمع فيها باسم "الفاو". اقتضت الخطة أن تنفّذ كتائب الفرقة عملياتها في جادّة "أم القصر- الفاو".

 

عند الغروب، ركبنا الشاحنات. كانت العمليات قد بدأت ولم يعد ثمّة حاجة للاستتار والعمل السري. استطعنا أن نرى من أين ننطلق وإلى أين نذهب. أثناء الانتقال السابق من منطقة إلى أخرى، لم يكن


 


[1] 1 فرقة: 27 محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

290


251

الفصل الخامس - العنقاء

مسموحًا لأحد بالتكلم بصوت مرتفع، لأنهم وضعوا على الشاحنة لافتة مكتوبًا عليها: "هدايا إلى المجاهدين". لم تعد الضوضاء أمرًا هامًّا هذه المرة.

 

ارتفعت الأصوات والنيران من نقطتين حدوديّتين، إحداهما جزيرة أم الرصاص القريبة من آبادان حيث كانت العمليات إلهائية، والأخرى في الفاو.

 

من الأمور اللافتة أيضًا هي صداقة "سيروس مهدي بور" و"سهيل مولايي". ربّما كان "سهيل" أصغر فرد في الفصيل الأول وآخر تلميذ التحق به، وكانت مهمته عنصرًا من عناصر التجهيزات. لم يكن قد خضع لتدريبات عسكرية، ولم يشارك في أيّ من العمليات السابقة. لاحظت أنّ "سيروس مهدي بور" يوليه محبّة خاصة. سألته عن السبب فقال:

- في عمليات بدر، كان لديّ صديق عزيز في نفس عمر سهيل ويشبهه أيضًا. طلب مني عدة مرات قبل العمليات إن أنا استشهدت فاسحب جسدي إلى الخلف. كرّر هذا مرارًا حتى وعدته بأن أفعل ذلك مع أنّ العمليات وتوقيتها لم يكونا محسومين بعد. خلاصة الأمر، نُفّذت العمليات، واستشهد هو وبقي جسده قرب دجلة.

- أخ مهدي بور، هذه هي الحرب. أنت لم تقصّر. لو استطعت لسحبت جسده حتمًا.

 

أخفض رأسه وقال:

- ربما كنت أستطيع... لا يزال وجهه أمام ناظريّ، وعندما رأيت "سهيل" شعرت وكأنّني رأيته هو.

 

طوال الطريق التي استمرّت لساعات، جلس "سهيل" و"سيروس" جنبًا إلى جنب وراحا يتبادلان الحديث. وصلنا إلى مكان رأينا فيه

 

291

 


252

الفصل الخامس - العنقاء

زورقًا غارقًا في نهر كبير. كان نصفه في الماء ونصفه خارجه. قال سهيل لسيروس بكلّ محبة:

- انظر يا أخي... جمال هذا الزورق وهو ينام في الماء... وكأنّها لوحة فنية...

- أجل عزيزي سهيل، بستان النخيل والمياه والزورق، كلّ هذا رائع... وكأنّ المرء يحلم...

 

في الطريق، استأذن "أمير عباس" من مسؤول الفصيل وقرأ دعاء الفرج، وتابعنا معه نحن أيضًا. من جديد، أسعدَ أمير عباس المسافرين على الرغم من رداءة صوته ونفسه القصير. ولقد تلعثم مرّات عدة أيضًا، لكن لم يلحظ أحد ذلك مع صوت الشاحنة والانفجارات. كنت قربه، وبعد الدعاء بدأت المزاح فقلت له:

- لن تكون ضليعًا بكلّ الأمور! عنصر إشارة، مهندس، والآن مدّاح وقارئ دعاء في الفصيل.

 

أخذ نفسًا عميقًا وقال:

- يا عزيزي المنقذ! ستكون أنت ليلة العمليات عاطلًا من العمل ونحن سنتقدّم إلى الأمام. اجلس حينها والعب بالتراب!

 

وصلنا إلى عنابر "أروند كنار" أول الليل. كانت مستوعبات حديديّة متينة لكنّها ليست واسعة كفاية. اضطررنا لأن ننام جالسين. اتكأت وأمير أحدنا على الآخر ونمنا حتى الصباح، لكن لم نكن مرتاحين. فقد استقرّ قرابة الـ40-50 شخصًا في مساحة قدرها 30 مترًا مربعًا، واستيقظ الجميع في الصباح وركابهم تؤلمهم، لكنّ أحدًا لم يفكر في ركبته من شدّة حماسته وشوقه للعمليات.

 

إنّه الحادي عشر من شباط 1986م. كانت البرامج الخاصّة بذكرى

 

292

 


253

الفصل الخامس - العنقاء

الانتصار تُبثّ عبر المذياع، وكذلك مارش عمليات "والفجر 8". في تلك الأثناء، سقطت مقاتلة عراقيّة أمام أعين الشباب. أمسك "أمير عباس" بكوفيّته وراح يلوّح بها في الهواء، رفع "رضا أنصاري" صوته بالصلاة على محمد وآل محمد، وأخذ "سعيد بوركريم" يكبّر بصوت مرتفع، فيما تابع "أكبر مدني" سقوط الطائرة وطيارها بإصبعه.

 

تركنا العنابر بعد الظهر. مشينا قرابة النصف ساعة بالشاحنة حتى وصلنا المرفأ حيث ترجّلنا، وبقينا ننتظر قرب نهر كبير يصب في "أروند". كان المرفأ يعجّ بالقوات والقصف الجوي لا يتوقف. لم يكن في المرفأ تجهيزات للركوب والنزول، وكان عبارة عن منزل قرويٍ خربٍ تقفُ قربه الزوارق ليركب فيها الأفراد وينزلوا منها.

 

بقينا هناك حوالي الساعة أو الساعتين. غابت الشمس خلف بساتين النخيل، واستمرّ الهجوم الجوي، لكن بوتيرة أقل. في النهاية وصل الدور إلينا وركبنا الزوارق. ارتدينا سترات النجاة، وأعطى شباب التجهيزات في الكتيبة كلًّا منّا علبة تونة. قال "رضا أنصاري": "لولا العمليات لما وصل إلينا شيء من التونة".

 

ركب في كلّ زورق أقلّ من عشرة شباب ليتوجه السائق مباشرة نحو الغرب. سقطت بعض القذائف والصواريخ حولنا لكنّنا لم نُصب بأي أذى. كان الساحل الغربي تمامًا كالساحل الشرقي. رست الزوارق قرب جذع نخلة وضعوه لهذه الغاية، وما إن وصلنا حتى خلعنا سترات النجاة ونزلنا. صدر الأمر بعدم انفصال أحد عن الطابور لأنّ المنطقة لم تُطهّر بعد. على بعد مئات الأمتار تقع جادّة العراق الساحلية، وهي جادّة معبّدة بشكل جيد، وتتفرّع منها أزقّة متعدّدة. كنّا في القسم الشرقي لمدينة "الفاو".

 

293

 


254

الفصل الخامس - العنقاء

مع حلول الليل تموضعنا في بيت مهجور. أول عمل قام به "أمير عباس" هو تجواله في الغرف حيث وجد صاعقًا في إحداها. اختلف "حسن قابل أعلا" و"محمد عليان نجادي" وهما المخرّبان في الفصيل، حول المواد المتفجرة التي أُعِدّ لها هذا الصاعق. أعطى أمير عباس رأيه أيضًا، فأخذته جانبًا وقلت له:

- يا أخي، أنت مهندس كهرباء، ولستَ مهندس تخريب!

 

كان الجميع فضوليّين، ويريدون معرفة كلّ شيء، وإبداء رأيهم حول كلّ شيء.

 

تيمّمنا لأداء فريضتي المغرب والعشاء، لأنّ أوامر القيادة قضت بعدم استخدام مياه مطراتنا إلا للشرب. بعد الصلاة تناولنا طعام العشاء، ثم قرأنا دعاء التوسل. كانت ليلة الأربعاء. تلا "محسن كلستاني" في تلك الليلة أنشودة "الدشمة" التي يحبّها الكثير من المجاهدين. ردّدها محسن كثيرًا وفرح بها الشباب: (وترجمتها):

"أيتها الدشمة، أيتها الدشمة

أيتها الدشمة، أيتها الدشمة، سأبقى هنا

ما لم أصل إلى كربلاء، سأبقى هنا

يا رفيقي، يا رفيقي سأبقى هنا

ما لم أصل إلى كربلاء، سأبقى هنا

لا تحزني يا أمّي على فراقي

لأنّ المهدي سيأتي لزيارتي

المهدي بن فاطمة سيعينني

ولأنّ المولى معي سأبقى هنا

 

294


255

الفصل الخامس - العنقاء

أيتها الدشمة، أيتها الدشمة

إذا ذهبتُ يا أمي، إلى الملكوت يا أمي

إذا ذهبتُ يا أمي، نحو أحبائي

ذهابي يا أمي العزيزة يعني بقائي

أيتها الدشمة، أيتها الدشمة

يا قائد الفرقة، يا حامل راية الفرقة

إذا ذهبتُ يا أمي، أكون قد بقيتُ

أيتها الدشمة، أيتها الدشمة

لقد رحل أحبائي، زهور حديقتي

أصبحت غيمة بلا أمطار،

ذهب الأحبة وأنا أخشى البقاء

أيتها الدشمة، أيتها الدشمة".

 

كنا نستمع إلى الأنشودة ونكرّرها بالتزامن مع أصوات الرصاص والانفجارات القريبة والبعيدة.

 

في ليلة العمليات راودني شعور غريب اختلطت فيه مشاعر الخوف والأمل، وأفكار عن الموت والحياة، الله والشيطان. فقبل أن يحترق جسد الإنسان في نار الحرب، تُصقل روحه في النار. وخاصية النار هي أن تزيح الجلد جانبًا وتظهر الماهية. يستطيع الإنسان أن يختبر نفسه بالنار ويرى حقيقة ذاته.

 

بقينا في "الفاو" وفي ذلك المنزل المهجور حتى منتصف الليل. صادف أن وَجَدَ أحد الشباب بطانية، فجلسنا نحن السبعة أو الثمانية أفراد وغطينا أقدامنا بها.

 

295

 


256

الفصل الخامس - العنقاء

وصلت الشاحنة، وصدر الأمر بالتحرك. في كل مرّة أكون أنا أول من يركب أو رضا أنصاري، ثم نأخذ الحمّالة ليركب الشخص التالي. ما هي إلّا دقائق، حتى ركب جميع الشباب في الشاحنة وانطلقنا. سارت مدّة ساعة ومصابيحها مطفأة حتى توقفت على بعد 10 كلم من "الفاو" ونزلنا منها. رأينا بوضوح نيران مخازن النفط الضخمة وعرفنا بالضبط موقع المدينة. تقع جادّة "الفاو-أم القصر" إلى الغرب -أو الشمال الغربي - من مدينة الفاو.

 

استقررنا خلف ساتر ترابي قريب من الجادّة. كان هواء السحر باردًا ينخر العظام. لم يستطع بعض الشباب النوم من الصقيع، وتمكنوا بطريقة وأخرى من اغتنام بطانية من الدشم العراقية.

 

كنت ورضا أنصاري معًا في دشمة هي عبارة عن حفرة بعمق متر ونصف المتر ومكشوفة السقف، تشبه حفرة الثعلب. جلسنا القرفصاء وبقينا حتى الصباح من دون غطاء نرتجف من البرد.

 

مع طلوع الصباح اشتدّت غزارة النيران. لم يكن الخطّ الأمامي لجادّة "الفاو - البصرة" الاستراتيجي يبعد عنا كثيرًا. ربما كيلومترًا واحدًا. جاء إلينا مسؤول الفصيل وقال:

- أخ رمضاني وأخ أنصاري أحضِرا الحمالة وتعالا.

 

مشينا خلف الأخ كلستاني. كان أحد شباب السريّة الثالثة قد أصيب وضمّد المسعف جراحه. لم أفهم لِمَ لَمْ ينقله المنقذ في فصيله أو سريته، ولم نسأل الأخ كلستاني عن الأمر أيضًا. أوصلنا ذلك الجريح الذي أصيب بشظية إلى أول جادّة "أم القصر"، مسافة لا تتعدّى المئتي متر، ثم عدنا إلى دشمتنا.

 

بعد ظهر الثاني عشر من شباط، نقلنا نقطة تموضعنا من الساتر

 

296

 


257

الفصل الخامس - العنقاء

الترابي يمين الجادّة إلى الكتف الترابيّة من الجادّة، على مسافة 500م من الخطّ السابق. اشتدّت الاشتباكات في جادّة "البصرة" الاستراتيجية إلى حدها الأقصى، واستبسل الطرفان في القتال، أما جادّة "أم القصر" فكانت أكثر أمنًا وهدوءًا.

 

كانوا قد وضعوا جثمان شهيد قرب جادّة أم القصر لتنقله سيارة ما إلى الخلف. ذهب "أمير عباس" وقبّل وجهه، وكذلك فعل اثنان آخران[1].

 

كانت الأرض إلى يمين الجادة أكثر جفافًا من يسارها الذي يتصل بالخليج وبخور عبد الله الذي كان عبارة عن مستنقعات وطوفان للماء. إلى الجهة اليمنى للجادّة، نصبت صورة كبيرة لصدّام يمكن رؤيتها عن بعد مئة متر.

 

قبل الظهر، ناداني مسؤول الفصيل أنا والأخ مهدي بور. ذهبنا ثلاثتنا إلى مخزن تجهيزات عراقي. وجدنا المخزن مليئًا بالمعاطف والبطانيات الجديدة. نصف البطانيات كانت خضراء اللون، ونصفها الآخر مُخطّطًا باللونين الأخضر والأبيض. كما وجدنا الكثير من صناديق المعلبات، معلبات اللحم الأحمر أو اليخنة.

 

قام "سيروس مهدي بور" بجولة في قسم الدعم الطبي في المخزن، وفتش الصناديق واحدًا واحدًا، ثم أخذ بعض علب الدواء الخاصة بمنع التقيؤ وأقراص تعقيم المياه. ووجدنا في زاوية من زوايا المخزن بعض الحمالات فقلت:

- هذه غنيمتي أنا ورضا أنصاري.

 

كما أخذ الأخ "كلستاني" بعض علب الحليب، فخرج كلّ واحد منا من


 


[1] لم يستمرّ لقاء الشهادة حتى الصباح.

 

297


258

الفصل الخامس - العنقاء

المخزن يحمل معه غرضًا. بعد فترة، كان كل شباب الفصيل يشربون الحليب. عندما رأى أفراد الفصائل الأخرى ذلك قالوا: "عليكم أن تشربوا الحليب. فإن لم يكن في روضة الأطفال حليب لما كانت روضة أطفال... اشربوا الحليب لتكبروا... أنتم في سن النمو... يجب أن تنمو عظامكم..."، وما إلى هنالك من هذا الكلام.

 

بعد الظهر، بنى الأخ "كلستاني" مرحاضًا بواسطة بعض أكياس التراب وقطعة أو قطعتين من الصفيح، وساعدته في آخر عمله. كانت مياه الصرف الصحي تذهب نحو المستنقع. لقد أُنجز عمل هام وبسرعة بهمّة مسؤول الفصيل. قلت له:

- من غير المعلوم إلى متى سنبقى هنا. قد تصدر الأوامر بالتحرّك في هذه اللحظة... لماذا بذلت كل هذا الجهد؟؟!

أجاب:

- حتى لو لم نستفد منه نحن، فستأتي كتائب أخرى قد تستفيد منه. لقد بدأت العمليات للتو، وسيكون ها هنا عمل إلى ما بعد فترة طويلة.

 

كان كلامه صحيحًا، ولم أستطع إدراك ذلك بنفسي[1].

 

عند الغروب، اجتمع "رضا أنصاري" والحاج "محمد بروازي" في لقاء سريع. كان بروازي في كتيبة "مالك"، وجاء مع عدد من قادة الكتيبة إلى نقطة تمركز كتيبة "حمزة". في تلك الدقائق القليلة، تحدث الاثنان حول السيد "أبي الفضل كاظمي" الذي يكنّ له "رضا" محبّة خاصة، كما تحدثا حول العمليات الجارية. كان صوت الحاج مسموعًا:


 


[1] استشهد في تلك الليلة، لكن العمليات استمرّت لأسابيع، وربما استفاد من هذا المرحاض الكثير من العناصر.

 

298


259

الفصل الخامس - العنقاء

- قامت فرقة "الرسول" بعمل جيّد جدًّا، لكن الاشتباكات في جادّة "البصرة" أكثر أهمية. إذا سقطت تلك الجادّة فسيضيق نطاق عمل الفرقة من الخلف. لقد أحضر العراقيون آليات مدرّعة إلى كلّ المحاور، لكن الدبابات ليس لديها قدرة كبيرة على المناورة، وهي تستطيع العمل فقط في الطرق الرئيسية والمعبّدة، لذا يستخدم القادة العراقيون أكثر الآليات المدرعة التي يعادل وزن الواحدة منها وزن نصف دبابة وتستطيع المناورة بشكل أكبر...

 

قبل الوداع، تحدّث رضا والحاج ببضع كلمات آذرية لم أفهمها. ثم قبّل أحدهما الآخر وذهب الحاج.

 

تيمّمنا، أقمنا صلاتي المغرب والعشاء في الدشمة من جلوس، ثم انطلقنا سيرًا على الأقدام في طابور. لم يعد ثمّة حاجة للشاحنة فالخطّ الأمامي لم يعد يبعد عنا كثيرًا. كما اشتدّت كثافة نيران العدو، ولم يعد التنقل بالآليات آمنًا. مشينا ساعة أو ساعتين حتى توقف طابور الكتيبة.

 

وصلنا إلى مقربة من مثلث مصنع الملح حيث مكان استقرار كتيبة "أنصار الرسول". كان عدد من قادة الفرقة الكبار مجتمعين تحت جسر إسمنتي، صغير وآمن. تمرّ المياه السطحية تحته من الجهة اليمنى للجادّة إلى الجهة اليسرى لتصبّ في مياه الأنهار والخليج.

 

بعد ساعة أبلغونا الخبر الحاسم وقالوا إنّ الكتيبة ستباشر العمل بعد ساعة أو ساعتين وستتقدّم مسافة 5-6 كلم في جادّة أم القصر. كما أوصانا القادة أن نتحرك على الجانب الأيمن للجادّة لأنّه جاف. وحيث كنت وأنصاري غير مسلَّحَين، لم نعتنِ كثيرًا بوضعية الدشم والدبابات العراقية. إذ تبدأ مهمتنا عندما يُصاب أحد رفاقنا، وذلك

 

299

 


260

الفصل الخامس - العنقاء

بعد أن يقوم المسعف بتضميد جرحه. كما توجّه الأخ كلستاني إلى الجميع وقال:

- قبل الانطلاق، تأكدوا أنكم سحبتم "أقسام" بنادقكم لتكونوا مستعدّين. لا يمكن سحب الأقسام أمام العراقيين. هناك يمكن فقط تحرير عتلة "الأمان"، وبهدوء ومن دون أيّ ضوضاء.

 

في تلك الليلة، كان القمر هلالًا، وقد سيطر الظلام الحالك على المكان في اللحظة التي استعددنا فيها للاشتباك. كانت ليلة مظلمة كالقطران الأسود. لقد أكد علينا مسؤول الفصيل أن نحافظ على عنصر المباغتة. كان مع "سيروس مهدي بور" الذي يتقدمني مباشرة في الطابور، ساعة غطيناها بقطعة قماش سميكة.

 

عند التاسعة تقريبًا، قبّل الجميع بعضهم بعضًا. قبّلتُ أولًا "أنصاري" و"مهدي بور" اللذين كانا بقربي ثم البقية. لقد أحنى "أمير عباس" رأسه كثيرًا لأتمكن من تقبيل وجهه. كان هذا آخر لقاء لنا. قلت له: "انتبه لنفسك... لا تنسَ أن تشفع لنا...".

 

هو أيضًا طلب مني الشفاعة. قبّلت جبينه أيضًا. لم يكن لدينا الكثير من الوقت. كنا نتحدث ونقبّل وجوه بعضنا البعض.

 

فجأة صدر الأمر بالتحرك. عبرنا من مثلث مصنع الملح. كان الفصيل الأول في مقدمة طابور الكتيبة. وصلنا إلى الساتر الترابي القريب من ساحة المعركة. استعدّت السرية الأولى للانتشار. بقيت سريتان خلف الساتر حتى نقتحم نحن الخطّ الأول ويكملوا هم عملنا. عبرنا الساتر بمشية القرفصاء من الجهة اليمنى للجادّة نحو الجهة اليسرى. ثم أكملنا زحفًا وبمشية البطة. كانت المسافة بين ساترنا الترابي والعدو 150م. قطعنا هذه المسافة القليلة بحذر، وصوت العراقيين يتناهى إلى مسامعنا.

 

300

 


261

الفصل الخامس - العنقاء

بدأ الهجوم دفعة واحدة ووثب طابور الفصيل. كانت نيران العراقيين غزيرة منذ البداية. كان الطابور يتقدّم مثل الأفعى. المقاتلون في الأمام ونحن المسعفين والمنقذين من خلفهم. أول عمل لي ولـ"رضا" كان حمل شهيد من الفصيل الثالث. كان نفسه مسعفًا وأعرفه جيدًا، إذ تردد كثيرًا إلى فصيلنا. استشهد على الإسفلت. شعرت بالخوف والذهول، لكن، لأنّني كنت قد أوصيت رضا أنّه كلّما رأيتني مذهولًا ومبهوتًا فاصرخ في وجهي، صاح بي:

- لماذا التأخير يا حميد؟ احمل الشهيد... اسحبه من كتفيه...

 

كانت عيناي على جسد الشهيد وأذناي مع صياح "رضا". غلب صياح "رضا". حملناه أولًا، ثم سحبناه إلى أسفل الجادّة. أنار "سيروس" مباشرة المصباح، تفحّص بؤبؤ عينيه، تفقّد نبضه وقال:

- لقد استشهد... خذوه إلى الخلف.

 

أصيب برصاصة في رأسه فاستشهد على الفور. وكان قد أصيب في عمليات بدر بالكيميائي فخفّ الشعر على رأسه ووجهه.

 

سحبنا جسده حتى الساتر الترابي عند نقطة الانتشار. كان المكان مزدحمًا. وضعناه أرضًا وعدنا بالحمالة. اتفقتُ ورضا أن نسحبَ الجرحى أولًا ثم الشهداء.

 

لقد جرح "حسين كلستاني" لكنه لم يرضَ أن ننقله على الحمالة. كان جرح قدمه عميقًا.

 

قال: "اذهبوا واهتموا بالبقية".

 

أصررت عليه فلم يقبل. لكن قبل ذهابنا سَأَلَنا: "ألا تعلمون شيئًا عن محسن؟".

 

قلت له: "لا. لم نره... بالطبع هو في المقدّمة".

 

301


262

الفصل الخامس - العنقاء

تابعنا طريقنا، وسحب "حسين" نفسه سحبًا إلى الخلف.

 

ذهبنا مباشرة نحو الجريح التالي. وضعناه على الحمالة التي أمسكها رضا أنصاري من الأمام وأنا من الخلف. لم نكد نخطو عدة خطوات حتى أطلقت رصاصة خطاط بشكل أفقي وعبرت من قربنا، خلف رأسي بالضبط. سقطت الرصاصة في المياه وانطفأت. أراد عراقيٌّ أن يقتلنا برصاصة خطّاط لكنّه لم ينجح في ذلك. كان الجريح الذي نقلناه حلاق الكتيبة. أوصلناه إلى مركز الإسعاف وعدنا إلى ساحة المعركة.

 

كان مركز الإسعاف عبارة عن كشك حراسة في الساتر الترابي الذي انتشرنا منه والقريب من ساحة المعركة، وقد نصبه "علي شهبازي" المسعف في الفصيل الثالث. في بداية الاشتباك جرح شخص أو شخصان فضمّد "علي" جراحهما هناك قبل أن تأتي سيارة الإسعاف وتنقلهما إلى الخلف.

 

بعد كلّ هذا الذهاب والإياب فقدنا أثر "سيروس مهدي بور"، فرُحنا نبحث بين المجاهدين عن شخص يعتمر قبّعة زرقاء مُحاكة يدويًّا، القبعة التي كانت دائمًا على رأس "سيروس". في تلك الليلة أضعناه عدة مرّات ومن ثمّ وجدناه. كنّا مرتبطين به لأنّه كان يتوجب عليّ وعلى رضا نقل الجرحى الذين يضمّد جراحهم إلى الخلف، وكنّا نعمل وفق أوامره كي لا يبقى أيّ جريح أرضًا. فالمسعف هو من يحدّد الجريح الذي ينبغي أن يتمّ سحبه أولًا من ساحة المعركة.

 

في قلب المعركة، رأيت حسن قابل أعلا -متخصّص التخريب في فصيلنا - ممدّدًا إلى جانب عدد من الدبابات وناقلات الجند المدمرة. وكان إلى جانبه منقذان آخران لكنّهما لم يمتلكا الجرأة ليضعاه على الحمالة. لقد جُرح في بطنه، وضُمّد مكان الجرح حتى الصدر.

 

302

 


263

الفصل الخامس - العنقاء

يبدو أنّ مسعف المجموعة الثانية في فصيلنا هو من ضمد جرحه. كان يتألم كثيرًا، ويصرخ كلّما أرادوا رفعه عن الأرض. لم أهتمّ لصراخه، تعاونّا معًا ووضعناه على الحمالة لينقله منقذان آخران.

 

ذهبت أنا ورضا ناحية جريح آخر. كان قد استشهد شابّان من فصيلنا. إلى الأمام أكثر وجدنا جريحًا سحبناه إلى الخلف على الحمالة. كان سيّئ الحال مثل "قابل أعلا". وضعناه وهو على الحمالة في مركز الإسعاف أرضًا، لكنّنا لم نجد حمالة أخرى. كان عدد الجرحى والشهداء كبيرًا بحيث لم تعد الحمالات تكفي. انتظرنا قليلًا ثم عدنا إلى مكان الاشتباك من دون حمالة.

 

أصيب "أصغر لك علي آبادي" برصاصة في حوضه وساقه. حملته على ظهري. كان أصغر أحد مهجّري الحرب في خرمشهر، حيث خسر منزله وحياته وانتقل للعيش في طهران. وبينما أنا أسير به شيئًا فشيئًا، راحت تتساقط قطع بنطاله الممزق حتى بانت كل ساقه. في مركز الإسعاف طُلب منّي أن أجد له بطانية أو قماشًا ليغطي بها قدميه. بحثت في المكان ووجدت له غطاءً.

 

عدت فورًا، مع حمّالة هذه المرة. كان رضا قد أوصل جريحًا آخر أيضًا، فرجعنا معًا إلى ساحة الاشتباك.

 

وجدنا جريحًا آخر دفع به عصف الانفجار إلى المياه الراكدة والمالحة يسار الجادّة. كان يصرخ: "احترقت... احترقت يا أخي...". تغلغل الملح إلى جرحه وصار يحرقه. ظلّ يصرخ طوال الطريق ولم نتمكن من فعل شيء لأجله.

 

تعبت أكتافنا وأصابعنا. كانت قبضات بعض الحمالات خشبية، يسهل العمل بها حيث تلتصق بأيدينا بشكل جيد. أما الحمالات ذات

 

303

 


264

الفصل الخامس - العنقاء

القبضات البلاستيكية، فكانت تنزلق في أيدينا عندما تتعرق، ويُتعبنا حملها جدًّا، وهناك حمالات لا قبضة لها أساسًا.

 

عندما نقلنا الجريح الأوّل، كنّا في غاية النشاط. كان الجريح قادرًا على الكلام، تحدثت ورضا معه قليلًا لعلّنا نهدّئ من روعه. أحيانا كانوا يزوّدوننا بالأخبار التي تهمّنا ويضعوننا في أجواء المعركة. قال لنا أحدهم:

- كان العراقيون اليوم ينتظرون هجومنا. أول قنبلة رميناها تلقاها مغوار عراقي ورماها إلى زاوية ما!

 

حدّثنا آخر عن أرتال آليات العدوّ وقواته المدرعة وقال:

- لا يمكن إحصاء الدبابات وناقلات الجند...

 

رأينا "حسين كلستاني" ثانية وهو يجرّ نفسه جرًّا إلى الخلف. كان شاحب الوجه، لكنّه استطاع الوصول إلى نقطة الانتشار. تمكن من قطع مسافة 150م خلال عشرين دقيقة.

 

فجأة وصل عدد من المنقذين من كتيبة "حمزة". تعرّف أحدهم إلى "حسين كلستاني" الذي قَبِلَ أخيرًا أن ينقلوه إلى الخلف على متن حمالة. لكنه قَبْل أن يذهب سأل مجدّدًا عن أحوال أخيه. قلت له:

- لقد جرح لكنّني لم أره.

 

سأل بقلق:

- لم تره أنت بنفسك؟

- لا، عزيزي حسين... لا تقلق. سأجده بأي طريقة وأنقله إلى الخلف.

 

تابعت أنا ورضا عملنا. كنّا كلّ ربع ساعة نسحب جريحًا إلى الخلف ثم نعود. أصبح قميصي رطبًا من شدة التعرّق في تلك الليلة الشتوية

 

304


265

الفصل الخامس - العنقاء

الباردة. كان عملنا مجهدًا. كنت أحيانًا أمسك بالحمالة من الأمام وأحيانًا يمسكها رضا. فهي من الأمام أثقل، فكنتُ أصرّ على حملها من الأمام ورضا يجيب:

- يا عم، يمكنني رفعها.. لم أتعب بعد.

 

كانت كلمة "يا عمّ" لازمة في كلامه.

 

في إحدى المرّات، وبينما نحن عائدان إلى ساحة المعركة، وإذ برضا يلمح حذاءً عسكريًّا لأحد القتلى العراقيين، لونه أبيض وبنيّ. قلت له:

- إن أعجبك سأجلبه لك.

- كلا، ولكنّه يلبس حذاءً عجيبًا! كيف يصبغونه؟

 

وضعت الحمالة الخالية على الأرض وقلت:

- بالطبع لدى العراقيين عنصر متخصّص بصباغة الأحذية، لكن عمله أصعب من عمل رضا الصباغ لأن أحذيتهم ذات لونين.

 

ضحك "رضا" وتابعنا عملنا من دون أيّ تلكّؤ.

 

نقلنا من جديد جريحًا آخر. بدأ التعب يغلب علينا، ولم نعد نستطيع - كما في البداية - المحافظة على توازن الحمالة. كان رفع حمالات الألمنيوم ذات السطح البلاستيكي، أسهل من حمل تلك الحديدية ذات السطح المصنوع من القماش المشمّع، والتي يشقّ رفعها، وخاصة إذا كان الجريح ضخم الجثة. أحيانًا كان رفع مثل هذه الحمالات - خاصةً إذا تبلل سطحها بالدم - يستلزم وجود ثلاثة أو أربعة أشخاص.

 

مع مرور الوقت وتقدّم المعارك، تضاعفت المسافة الفاصلة بين ساحة المعركة ومركز الإسعاف، فصرنا نتعب من الذهاب والإياب المتكررَين. تعبنا جسديًّا ومعنويًّا أيضًا لكثرة ما رأينا من الجرحى والجراح.

 

305


266

الفصل الخامس - العنقاء

أخيرًا وصلنا إلى عمق جبهة العدو. هناك، رأينا بأمّ العين أرتال الدبابات وناقلات الجند التي تحدّث عنها الجرحى قبل ذلك. كانت الآليات مصطفّة على جانبي الطريق وذلك لفسح المجال أمام أيّ آلية تريد العبور وسط الجادّة. نظرت إلى تجهيزات العدو، رأيت عشر ناقلات جند ودبابة واحدة. تذكرت كلام الحاج "بروازي" حين قال إنّ العدو يستخدم الآليات الخفيفة بشكل أكبر.

 

في تلك الليلة التحمنا مع العراقيين. أخفى بعضهم نفسه وتظاهر آخرون بالموت. رأيت مجموعة من العراقيين وقد اختبأوا تحت ناقلة جند ووجدوا لأنفسهم مكانًا جيّدًا هناك بين جنازيرها. دللت مجموعة من شبابنا بينهم رماة رشاش و"آربي جي" عليهم وتابعت عملي[1].

 

منذ الساعة الأولى لبدء العمليات، نزلت كلّ الفصائل والسرايا في كتيبة "حمزة" إلى ساحة المعركة، إضافة إلى قوات مساندة من كتيبة "الأنصار". لكن، ولأنّنا التحمنا مع العراقيين، لم يعد لقوات التعزيز أي فائدة. كانت كلّ مجموعة تدخل ساحة المعركة يختلّ نظمها منذ الدقيقة الأولى. لم يكن أحد يعلم إن كان العراقيون خلفه أم أمامه أم إلى جانبه. قاتل الشباب متفرّقين، وأرادوا التقدم فقط، ولم يلتفتوا إلى جانبهم أو خلفهم.

 

عندما حان وقت نقل الشهداء، توجب علينا إنارة المصباح اليدوي للتأكد فيما إذا كان الجسد جسد شهيد أو قتيل عراقي، لكن بعض الأجساد كانت قد تلاشت.

 

فجأةً، وسط رتل آليات العدو، رأيت أحدهم وقد اتكأ على عجلة

 


[1] في مساء اليوم التالي، رأيت أحد أفراد تلك المجموعة في مستشفى الأهواز. قال: "عندما تركناك، ذهبنا في أثر أولئك العراقيين، لقد قتلناهم جميعًا، وأطلق أحدهم ثلاث طلقات على قدمي من رشاشه وأصابني".

 

306


267

الفصل الخامس - العنقاء

ناقلة جند. ظننته جريحًا في البداية وعرفت أنّه من شبابنا بسبب جسمه الصغير ولباسه الزيتي اللون. أنرت المصباح على وجهه، وجدته شابًّا يافعًا لا يتجاوز الـ17 من عمره ولمّا تنبت لحيته بعد. كان يحمل شيئًا في يده. دققت النظر، كانت صورة الإمام، وكأنّه أخرجها في اللحظات الأخيرة وقبّلها. مدّدته على الأرض وأنا في حيرة من أمري، ونقلته إلى الخلف بمساعدة "رضا".

 

في طريق العودة رأينا في ساحة المعركة رأسًا مقطوعًا. لم يكن واضحًا في ظلمة الليل أهو رأس عراقي أم رأس أحد شبابنا. أنرت المصباح على وجهه، فعرفت أنه عراقي بسبب شاربيه الكثيفين ولأنّه كان حليق الذقن. كان حاجباه كثيفين وعيناه جاحظتين[1].

 

من بين جرحى الفصيل الذين نقلتهم أنا و"رضا" إلى الخلف، كان معاون مسؤول الفصيل "حسين فياض". كلّ ما كان يعلمه أن الأخ "كلستاني" جُرح، وقد سمع ذلك من الشباب أيضًا. قلت له: "لقد جرح حسين كلستاني. ألم يخبرك الشباب أيّ كلستاني جرح؟".

 

مع أنه كان يتألم كثيرًا من جرح قدمه، إلا أنه أجاب: "لا، لم يقولوا. ربما كلاهما جرح".

 

بعد أن أوصلنا "فياض" إلى مركز الإسعاف عدنا مجدّدًا إلى الساحة. وبينما نحن نبحث عن الجرحى والشهداء، وإذ بنا نرى مجموعة من مجاهدي كتيبة "حمزة" متسمّرين في أماكنهم، ومتحلّقين حول قائدهم في زاوية ما. ولأنّ عملي مع الجرحى، كنت أعلم بأنّ المجاهد تنهار معنوياته أحيانًا، وحيث كان صوتي لا يصل إلى تلك المسافة، ناديت ورضا في الوقت نفسه:


 


[1] لا يزال جسدي يرتجف من تلك النظرات المخيفة حتى بعد عشرين عامًا.

 

307


268

الفصل الخامس - العنقاء

- أيها الإخوة، قوموا... لقد فرّ العراقيون... لاحقوهم... سوف ننتصر إن شاء الله...

 

أجابني أحدهم بهدوء وكان ممدّدًا على الأرض:

- لقد قُتل الجميع، وارتفعوا شهداء.

 

قاطعته قائلًا:

- قوموا... لقد انتصرنا... لو كان العراقيون في هذه النواحي لرموني... وها أنا أقف أمامكم الآن؟

 

نظروا في وجوه بعضهم البعض وصدقوا كلامي. بعد أن وقف أول شخص منهم لحقه الجميع، وانطلقوا. انطلقوا هم، وتابعت أنا و"رضا" عملنا. وبينما انهمكت بعملي فكرت بخوفهم، وأعطيتهم الحقّ في ذلك. إنّهم شباب السرية الثالثة الذين شاهدوا جرحى السريّتين الأخريين وشهداءهما فأصابهم الخوف. ربما لو كانت السرية الأولى تعمل مكانهم لأصابتها الحال نفسها.

 

فجأةً رأيت جريحًا يحترق صدره. ربما كان رامي "الآر بي جي" أو مساعده. كانت النيران تخرج من قفصه الصدري ومع ذلك يتابع طريقه. كم كان مشهدًا غريبًا وعجيبًا.

 

في تلك الليلة كنت أنا أيضًا على وشك الاحتراق. أثناء جولاتي تلك التي نسيت عددها، وبينما كنت أتقدّم إلى الأمام، وإذ بأحد الإخوة يطلق قذيفة "آر بي جي" وهو يجلس القرفصاء في أعلى الجادّة فيما كنت مع "رضا" في أسفلها وأنا متأخرٌ عنه قليلًا. لم يتأذّ "أنصاري" لكنّني كنت على وشك الاحتراق بالكامل. كنتُ محظوظًا إذ أصبت بعصف الانفجار فقط، وبقيتُ لحظات مضطربًا وأشعر بالدوار. سلّمت "رضا" الحمالة وتابعتُ طريقي بمساعدته.

 

308

 


269

الفصل الخامس - العنقاء

أخذ مني التعب كلّ مأخذ، وتعب رضا أكثر مني. راح يكلم نفسه: "يا عمّ، لقد سقط هنا كل هؤلاء الشهداء... نحن أيضًا سنستشهد... الشهداء في السماء... اللعنة على البعثيين... يا عمّ، الجادّة لا تتّسع لكلّ هذه الدبابات.. يا عمّ...". كاد الضغط النفسي يقضي عليه. كانت أيدينا وأرجلنا معفّرة بالدماء، وقد مسحنا رأسينا ووجهينا مرّات ومرّات بهذه الأيدي المدماة، كما تعفّرت ملابسنا بالدم. آذت رائحة الدم نفوسنا وأتعبتها. شحب وجه "رضا" وصار لونه بلون الجصّ وعليه بقع من الدماء الجافة. رقّ قلبي له، فصرت أرفع الحمالة من الأمام لأخفف عنه قليلًا. في النهاية طلبت منه أن يستريح فقبل، وصرت أذهب وحدي إلى الأمام.

 

كان الساتر الترابي في ساحة المعركة مكانًا آمنًا بنظري. كنت كلّما ذهبت إلى ساحة المعركة تغيّرت أحوالي. لم تكن الدشم والدبابات وناقلات الجند قد طُهّرت بعد، وكان من المحتمل في كل لحظة أن يطلق العراقيون النار علينا من الأمام، أو الخلف، أو الميمنة أو الميسرة. كنت أرى جسدي على الحمالة في كلّ مرة أنقل جريحًا أو شهيدًا عليها، وأفكر للحظة: رمضاني، ربّما بعد لحظة أو دقيقة أخرى تكون أنت ممدّدًا على هذه الحمالة... ومن ثم أنسى.

 

كنت كلّما تقدّمت إلى الأمام تسارعت دقّات قلبي وتيبّست شفتاي أكثر، وللتغلب على هذه الحال، صرت أقرأ القرآن وأردّد الأذكار المختلفة. وفي طريق العودة يهدأ قلبي ولا أعود أشعر بالعطش مع أنّني أرفع حمالة ثقيلة جدًّا.

 

وأخيرًا لم يبق أيّ جريح أرضًا، شعرت بالراحة لأنّ رضا أيضًا كان في مكان آمن. قرّرت التقدم إلى الأمام لأرى عن قرب مكان الاشتباك مع العراقيين. بين أرتال آليات العدو، وجدت شباب التجهيزات على

 

309

 


270

الفصل الخامس - العنقاء

يمين الجادّة يخوضون اشتباكات عنيفة مع العدو. عندما وصلت إليهم، انزعجوا وغضبوا كثيرًا لمّا رأوا أنني لا أحمل سلاحًا وقالوا: "أين بندقيتك؟".

 

حين رجعت إلى الخلف لأحضر السلاح، التقيت بـ"سيروس مهدي بور" وقد جرح. كان قد أصيب بشظية في قدمه فصلت قطعة من جلده ولحمه، ورغم ذلك كان يسير على قدميه. عندما رآني طلب مني المصباح اليدوي. وحيث كنت قرّرت أن أرتاح وأصبح رامي رشاش، أعطيته مصباحي اليدوي الصغير وتابعت طريقي بحثًا عن بندقية.

 

على يمين الجادّة وقرب تجمّع المياه، وجدت عدة قطع من الكلاشينكوف لم يُسحب أقسام أيًّ منها. ووجدت على الإسفلت كلاشنكوفًا بقبضة خشبية، سحبت الأقسام فدخلت الطلقة إلى حجرة النار، أخذت بعض مماشط الرصاص من قتيل عراقي. كانت مدماة لكنها غير موحلة. عندما رأيت عناصر الدعم في كتيبة "الأنصار" قادمين لإخلاء الشهداء، ومعهم الحمالات، ارتاح بالي، وتوجهت إلى الخطّ الأمامي حاملًا بندقيتي حتى وصلت إلى رتل الآليات.

 

في الخط الأمامي للاشتباك تفاجأت بجيب قيادة يتوجه نحونا ومصابيحه مضاءة. كان في الجيب عسكري واحد غير السائق يقف في الخلف ويطلق النار عشوائيًّا من مسدس يحمله. عندما أصبح على مسافة 100م من الشباب، راحوا جميعهم يطلقون عليه النار من اليمين واليسار. سقط ذلك الشخص وانحرفت السيارة نحو المستنقع وارتفع صوت بوقها، وكأنّ جسد السائق قد وقع على المقود.

 

كان الطرفان مضطربَين ويطلقان النار عشوائيًّا. لم يتبقَّ أمام كتيبة "حمزة" سوى بضعة كيلومترات للوصول إلى هدفها النهائي جادّة "أم القصر"، لكنّ عناصرها لم يعودوا متماسكين. ربّما ظنّ قائد

 

310


271

الفصل الخامس - العنقاء

الجيب السيّئ الحظ أيضًا أنه يتحرك في جبهته فتقدّم بكلّ جرأة وهو يضيء المصابيح.

 

قليلًا إلى الأمام، وجدت الإخوة يخوضون اشتباكات عنيفة، على مسافة خمسين مترًا من دشم العدوّ. أطلق أحد الإخوة قذيفة "آر بي جي" ناحيتها، وما إن فعل حتى ارتفع صوت من خلفه: "احترقت... احترقت...". لم يكن هناك من مسعف. تقدّمت قليلًا، رأيت أحد الإخوة وقد احترق وجهه وشعره وجفونه. ضمدت جراح وجهه باستخدام حقيبة الإسعاف الفردية التي يحملها الشباب. أصيب بعصف الانفجار أيضًا. لم يعر اهتمامًا لكلامي. ظلّ يردد: "يجب أن يُقتل العراقيون... سنستشهد جميعنا...".

 

صحت في وجهه: "يا أخي، ارجع إلى الخلف... ليس لديك هنا أي عمل تقوم به".

 

كان يحدّق في وجهي. تابعت قائلًا:

- هل فهمت؟ إن بقيت هنا لتوجّب علينا نقلك إلى الخلف بالحمالة. وهذا يعني المزيد من المتاعب للإخوة. اذهب بنفسك إلى الخلف... أنا سأبعد العراقيين وأطردهم من هنا. اذهب أنت... يا أخي، اذهب إلى الخلف... اذهب...

أخيرًا فهم كلامي. أخذت منه المزيد من الذخائر وذهب في طريقه.

 

كنت عنصرًا حرًّا، أذهب أينما أشاء. ألقيت بنظري مرّات عدّة إلى هذه الجهة من الجادّة وتلك، وجدتُ أنّ جبهة العدو تصبح أكثر تماسكًا. كان رامي دوشكا عراقي، وربما كانت دوشكا دبابات، يرمي بعنف: يمنة ويسرة وبغزارة. فجأة رأيت عنصر إشارة وعدة أجهزة

 

311

 


272

الفصل الخامس - العنقاء

لاسلكية. ربما كان قائد السرية الثانية أو الثالثة. تذكرت مباشرة "أمير عباس رحيمي"، عنصر الإشارة في الفصيل، عنصر إشارة من دون لاسلكي! لم أكن أعرف عنه شيئًا. دعوت الله أن يكون بخير. ما إن رآني ذاك المسؤول حتى أنّبني بشدّة قائلًا: "لا يفيد هنا الكلاشنكوف... لماذا لا تحمل الآر بي جي؟". ربّما ظنّني من قوات "الأنصار" الذين قدمت مجموعة منهم من رماة "الآر بي جي" والرشاش لمساندة كتيبة "حمزة". كان منزعجًا وغاضبًا لكن لم ينتهِ الأمر هنا، وكأنّه لم يجد أحدًا ليصبّ جام غضبه عليه فصاح بي قائلًا:

- اذهب وأسكت الدوشكا... تجلس هنا؟ اذهب إلى الأمام...

 

أطعتُ الأمر، وتقدّمتُ إلى الأمام. لم يكن الإخوة هناك يحملون "آر بي جي". سألت أحدهم من أين يمكن لي أن أحضر قذيفة فأجابني منزعجًا:

- من المقبرة...

 

لم يكن لبقائي هناك أيّ فائدة. فنيران العراقيين تشتدّ أكثر في كلّ لحظة، والجميع ينتظر الذخائر، إذ لا يمكن تحقيق أي إنجاز بالكلاشنكوف. ذهبت إلى الخلف لأحضر الذخائر، عند رتل الآليات المتروكة والمبعثرة، مع أنّ الأوامر تمنع ذلك لأنّ المنطقة كانت خطرة ولم تطهّر بعد. هناك، وقع نظري على عجوز ملقًى على ظهره وسط الجادّة. كان الشيخ "رحيمي" صاحبنا، المنقذ في المجموعة الثانية في الفصيل الأول، والذي كان أحيانًا يؤمّ الصلاة فينا. تذكرت أيام "كارون" حين قالوا إنّ على الجميع تقصير لحاهم وقد فعل هو أيضًا. نظرت إلى وجهه، كان شارباه كثيفين، ووجهه سليمًا. وكأنّه أصيب برصاصة أو شظية في رأسه من الخلف. كان جسده لا يزال دافئًا، ربّما لم يمضِ خمس أو ست دقائق على تلك الحادثة. تبيّن لي من

 

312

 


273

الفصل الخامس - العنقاء

القذائف التي يحملها، أنّه مثلي، جاء لإحضار الذخائر. أخذتها منه وعدت أدراجي، وشريط حياته وشهادته يمرّ أمام عينيّ: عجوز في الستين أو السبعين من العمر، وإمام الجمعة الذي كان يحترمنا دائمًا نحن الأصغر منه سنًّا، وينادي الواحد منّا بالسيد فلان.

 

أوصلت الذخائر. فرح الشباب كثيرًا، لكنّ العدو أصبح أكثر قوة من ذي قبل. بدأ الإخوة يتهامسون حول ضرورة الانسحاب. كان بعض العراقيين قد تقدموا أكثر. دخلت إلى إحدى الدشم، وكان أحد الشباب قد اشتبك مع جندي عراقي. لم تكن المسافة الفاصلة بيننا وبينهم تتجاوز السبعة أمتار. حضّرت القنبلة، كانت حلقتها في إصبعي حين أخذ العراقي زمام المبادرة. سمعت صوت سقوط القنبلة، لكنّني لم أجد فرصة للقيام بردّ فعل. انفجرت القنبلة بينما كنت أجلس القرفصاء في الدشمة التي يبلغ عمقها نصف المتر. بقيت يداي وقدماي سالمة لكنّ شظية أصابت رأسي، فأصبتُ بالدوار والذهول وكأنّ أحدهم ضرب رأسي بمطرقة من حديد. لا أعلم كم مرّ من الوقت حتى استعدت تركيزي وعرفت أنّني جرحت.

 

لم أعلم متى رفعت يدي ووضعتها على جرح رأسي، لكن لما نظرت إليها رأيت كفي وأصابعي مخضّبة بالدم الساخن والبخار يتصاعد منه. نظرت حولي، كان قد ذهب الشاب الذي كان بجانبي في الدشمة. لم يكن هناك أحد ليقدم لي المساعدة. كانت قطرات الدماء تتساقط من وجهي، مسحت من جديد بيدي على الجرح، لم يكن جرحًا عميقًا، وكأنّ جلدي خدش فقط. لما ارتحت قليلًا رجعت إلى الخلف.

 

على جانب الطريق رأيت الشباب ومعهم أسير عراقي يفوق حجمه حجمي مرتين، كانوا يمسكون بياقته ويجرّونه معهم. بدأت أشعر بالضعف، كنت قد لففتُ ضمادة على رأسي ومع ذلك لا يزال جرحي

 

313

 

 


274

الفصل الخامس - العنقاء

ينزف. لم يكن للتوقف أيّ فائدة، تابعت طريقي حتى وصلت إلى مركز الإسعاف. وجدت "علي شهبازي" لا يزال هناك. أنار المصباح على رأسي ليعاين جرحي. كنت أشعر بالوهن والاضطراب. تكلم معي رغم التعب الذي يشعر به. "رمضاني... العراقيون... كلستاني...". كنت أسمع كلمة من كلماته ولا أسمع الأخرى. كنت بين النوم واليقظة، وحسين فياض لا يزال هناك، وكأنّ سيارات الإسعاف كانت قليلة فكان هناك الكثير من الجرحى ينتظرون نقلهم إلى الخلف.

 

أخيرًا وصلت سيارة جيب. قيل إنها سيارة "رضا دستفاره"، وتقوم مقام سيارة الإسعاف، وقد وضعوا الجرحى في كلّ مكان فيها، في القسم الأمامي وفي الخلف، على الصندوق الأمامي وحتى على سطح الصندوق الخلفي. ولأنّ حالي كانت أحسن من حال الآخرين جلست على المقعد الأمامي كي لا أحتلّ حيّزًا كبيرًا من المكان. بعد أن امتلأت السيارة بالجرحى انطلقت في طريقها.

 

لم تكن المسافة بعيدة من ساحة المعركة حتى مثلث مصنع الملح. توقف الجيب في المثلث لإنزال الجرحى هناك حيث نقطة التجمع. كان عناصر كتيبة "الأنصار" موجودين هناك أيضًا. وضعوا الشهداء والجرحى بالقرب من بعض الغرف الصغيرة المصنوعة من الخشب والحصير. كان في المثلث أيضًا كشك للشرطة العسكرية العراقية لونه أحمر فاقع.

 

رأيت "سيروس مهدي بور" و"رضا أنصاريان". سأل "سيروس":

- أنصاري، أنت أيضًا جرحت؟

 

أجبت: "أوليس المنقذ إنسانًا؟!".

 

قلت لرضا: "إذا عُدنا، سيكون لدينا الكثير من العمل".

 

314

 


275

الفصل الخامس - العنقاء

قال: "ماذا تقول يا حميد؟ لقد استشهد الجميع!.. لم يعد هناك من فصيل...".

- هذه هي العادة. تخلو خيمة الفصيل ليلة العمليات ثم تمتلئ من جديد.

- لا. يا حسرتاه على أولئك الشباب... أنا لن أصبغ حتى حذائي بعد اليوم.

 

شدّ أصابع يديه لا إراديًّا وقبض كفّه، ربما كان لا يزال يتألم. لقد خلّفنا وراءنا معركة قاسية.

 

لم يجلس "سيروس" بلا عمل. كان حقًّا ذا طاقة لا تنضب، فعلى الرغم من كونه جريحًا، راح ينير المصباح اليدوي على الأجساد، لعلّ أحدهم كان فاقدًا للوعي وظنّه الشباب في ظلمة الليل شهيدًا. ساعدته في عمله. كنّا نتفحّص العيون، فإن تحرك البؤبؤ عرفنا أنّه لا يزال فيه عِرق ينبض، وإلا انتقلنا إلى التالي.

 

كانت إصابات بعض الأجساد بليغة إلى درجة لم نكن مضطرين إلى التأكد من وضعها. فبعضها قطع نصفين وبقي موصولًا بالقليل من اللحم والجلد. وبعضها طار الجزء الأكبر من الرأس وبقي منه الأذن والعين فقط.

 

رأينا بين الجرحى "حسين دستفاره" أخا السيد "رضا" نائب قائد الفرقة. كان "حسين" يتردّد كثيرًا إلى فصيلنا. وقد أصيب برصاصة في وسط صدره وخرجت من الجهة الأخرى، ولو كان تعرض صدره للهواء لاستشهد فورًا.

 

بقينا في المثلث نصف ساعة. امتلأت إحدى سيارات الإسعاف وذهبت، وملأ الجرحى أيضًا شاحنة تويوتا صغيرة وانطلقت بهم.

 

 

315

 


276

الفصل الخامس - العنقاء

ركبت و"رضا" و"حسين دستفاره" و"سيروس" الآلية السادسة أو السابعة، كانت شاحنة جلسنا في قسمها الخلفي ملتصقين ببعضنا البعض. تركنا ساحة المعركة قبل أذان الصبح بساعة أو ساعتين. كان معنا جريحان هما أب وابنه، وقد تمدّد الابن في الشاحنة بسبب سوء وضعه، ووضع الأب رأس ابنه في حجره وراح يهدّئ من روعه:

- تحمّل يا بني... كدنا نصل... لم يبقَ أمامنا الكثير... أمك تنتظرك... سوف نذهب معًا إلى المنزل.

 

كل هذا والابن يسأل رغم الألم الذي يقاسيه:

- أبي، قل الحقيقة.. هل جرحك عميق؟

 

كانت حال العشق بين الأب وابنه لافتة ومؤثّرة. الأب يداعب شعر ابنه ويمسح دماء جرحه بكوفيته، والابن يردد "بابا، بابا" يريد الاطمئنان إلى صحة والده. ومع أنّهما كانا منشغلين ببعضهما البعض، لكنّ معنوياتنا ارتفعت كثيرًا لرؤيتهما.

 

كان عنبر الإسعاف الطبّي الخاص بالفرقة قرب "أروند" شرق "الفاو". توقفت الشاحنة هناك. تعاونّا جميعًا لإنزال الابن الجريح بسرعة، وظلّ الوالد قرب حمّالته. قاموا بمعاينته في العنبر، ثم قاموا بمعاينة الجرحى الآخرين.

 

كان الكثير من الجرحى داخل عنبر الإسعاف وخارجه ينتظرون وصول الزوارق للعودة إلى الأراضي الإيرانية، ومن بينهم "حسن قابل أعلا" الذي كان يعاني من نزف في جرح بطنه ويشعر بالنعاس في ذلك الطقس البارد، لكن لو غفا لاستشهد حتمًا. جلست قربه ورحت أحدثه، إلا أنّه لم يكن يسمعني. رفعت صوتي، فسمع وراح يتمتم. عرفت أنه لم ينم بعد. كذلك كانت حال "حسين فياض"، فرحت أتحدّث إليه أيضًا.

 

316

 


277

الفصل الخامس - العنقاء

لم يكن "سيروس مهدي بور" يجلس عاطلًا من العمل. قال لي: "أنا أساعد الطبيب في العنبر. هل هناك أي مشكلة؟".

 

قلت: "عزيزي سيروس، يكاد النوم يغلب على الشباب".

- تكلم معهم. إن لم يجيبوك اصفعهم على وجوههم.

- أصفعهم؟!

- أجل. يجب أن تكون صفعة قوية حتى يفتحوا أعينهم.

 

أجبرت على فعل ذلك مع كليهما حتى لا يغلب عليهما النوم. لقد أضعفهما الطقس البارد. أخيرًا وصل شباب الوحدة البحرية في زورق "لاندكرافت" كبير. ما إن توقف حتى ركبنا فيه بعد أن نقلنا إليه الشباب وانطلقنا. في الطريق، ظلّ "سيروس" يتحدث إلى الجرحى وأحيانًا كان يصفعهم كي لا يغلبهم النوم.

 

عندما وصلنا نزلنا من الزورق ثمّ ركبنا في سيارات الإسعاف إلى مستشفى "فاطمة الزهراء" الميداني، الاسم الذي كان كلمة السرّ لعمليات "والفجر 8".

 

في المستشفى سجلوا أسماءنا وعناويننا وأسماء الوحدات التي نعمل فيها وتفاصيل الإصابات. كنا هناك نحمل القناع الواقي والسترات الواقية من المطر لأنّ الهجوم بالسلاح الكيميائي محتمل أكثر من الخطّ الأمامي. قام بمعاينتي طبيب يرتدي ثوبًا أخضر كما في غرف العمليات، ثم علّق لي مصلًا كان أثره سريعًا كمن يصب الماء على النار. شعرت بالانتعاش وأنّني استعدت قواي بعد أن كدت أنهار جسديًّا. آخر وجبة جيّدة تناولتها كانت ذاك الدجاج بالأرز، وبعد نقل كلّ هؤلاء الجرحى والشهداء أُرهقت تمامًا، وها هو المصل الآن يعيد لي طاقتي التي فقدتها.

 

317


278

الفصل الخامس - العنقاء

كان "سيروس" أحد الذين حافظوا على نشاطهم من بين رفاقي، أما "رضا أنصاري" فقد ضعف قليلًا مع أنه لم يصب بأي جرح وساء وضعه النفسي، فوضعوا له مصلًا وعاد إلى منطقة العمليات. فجأة رأيت ذلك الجريح الذي سقط في المياه المالحة. المسكين مع أنّه لم يكن ينزف إلا أنه كان يردّد باستمرار: احترقت. عاينه الطبيب وذهب. ظلّ يتألم وكان يشعر بالوهن. قلت للممرض:

- أخي العزيز، هذا الجريح يتألم... يحتاج إلى مسكّن.

 

أجاب تعبًا وممتعضًا:

- كلّ الجرحى يتألّمون.

- لكن هذا الأخ سقط في المياه المالحة. اغسلوا جرحه وأعطوه مسكّنًا...

 

تعجّب من الأمر، وقبِل بأن يحقنه بإبرة مسكّن إذا وجد فرصة لذلك.

 

قلت: "أخي، سأحضّره الآن، وأنت حضّر الحقنة. ظلّ هذا المسكين يئنّ لست ساعات متواصلة".

 

هدأ الجريح المسكين عندما حُقن بمسكّن قوي. كان الممرّض المسكين على حق، إذ لم يكن قد جلس أو هدأ لحظة واحدة حتى الرابعة صباحًا.

 

في صباح الثالث عشر من شباط، انتقلتُ أنا وسيروس بحافلة نقل الجرحى إلى مستشفى في الأهواز. كانت حالي جيدة جدًّا حتى ذلك الوقت. وأخيرًا أصبحنا في المدينة بعيدًا عن الخطوط الخلفية، ولم نعد نحمل القناع الواقي ومعطف المطر. كان مستشفًى كبيرًا، أعمدته كبيرة كأعمدة الملاعب. هناك، جاءنا أحد الأطباء وهو من معارف

 

318

 


279

الفصل الخامس - العنقاء

"سيروس". بعد السلام والسؤال عن الأحوال تابَعَنا هو. أحضروا لي ولـ"سيروس" ولبعض المرضى الذين كانوا يرقدون إلى جانبنا العصير والبسكويت والفواكه المعلبة. كنّا جائعين، أكلنا بشهية كبيرة كلّ ما قدّموه لنا، تمامًا كالعائدين من الحرب!

 

تحّسنت حالي، ورحت أتمشّى في ممرّ المستشفى. استطاع "سيروس" المشي أيضًا مع أنه كان مصابًا في قدمه. غسل الممرّضون جرحينا وضمّدوهما من جديد بضمادات معقمة. عندما نزع الممرض ضمادة جرحي، مسحت بيدي على رأسي وتلمست الشظايا الصغيرة تحت أصابعي.

 

عندما جاء الطبيب، طلب إجراء صور لي ولـ"سيروس" ليتبيّن إلى أيّ درجة غاصت الشظايا في رأسي وفي قدم "سيروس". كان إلى جانبنا في الغرفة أيضًا معاون قائد الكتيبة. مع أنّ حاله كحالنا، فقد سمح له الطبيب بمغادرة المستشفى. قال لنا قبل أن يغادر: "أنتما اذهبا إلى طهران للاستراحة. يجب أن تستريحا قليلًا".

 

لم نعلم إن كان يمزح أو يتكلم جادًّا، لكنّني أجبته: "سيد، اذهب أنت إلى الخطوط الأمامية، وسنكون في أثرك".

 

عندما ذهب السيد لم يعد "سيروس" يحتمل، فقال لصديقه الطبيب:

- عزيزي، لا تستحقّ شظية صغيرة كلّ هذا. لقد قُطِعتْ يد أحد المجاهدين فصار يقاتل بيده الأخرى. دعنا نذهب إلى الجبهة...

 

أيّدت كلام "سيروس" قائلًا:

- لو كان جرح رأسي عميقًا أيضًا لكنتُ تقيأت. لم أتعرض لارتجاج دماغي، إنه جرح سطحي. ليتني عدت إلى الجبهة عندما كنت في ذلك المستشفى الميداني...

 

319

 


280

الفصل الخامس - العنقاء

سمع الأطباء الذين ينبغي أن يمضوا إذن خروجي وسيروس من المستشفى كلامنا، بعد أن راح "سيروس" يمشي على قدم واحدة وهو يحرّك الأخرى إلى الأمام والخلف ليؤكد كلامه للأطباء، ورحت أنا أحرك رقبتي بشكل دائري لأؤكد لهم أنني لا أشعر بالدوار.

 

في النهاية حصلنا على إذن بالخروج. عندما نظرنا إلى أنفسنا في المرآة أدركنا بأنّ الأطباء كانوا على حقّ عندما اعتبرونا من الجرحى السيّئي الحال! قبل الانطلاق غسلنا رأسينا ووجهينا ونزعنا بقع الدم المتيبسة عن ملابسنا. كان حذائي معفرًا بالدم والتراب. تذكّرت "رضا أنصاري"، صبّاغ الفصيل الذي كان حتمًا قد وصل إلى الكتيبة وكانت حاله أفضل من حالي أنا و"سيروس".

 

كنّا مضطرين لعبور أحياء وشوارع الأهواز للوصول إلى جادّة خرمشهر، حيث راحت النساء والأولاد في المدينة يرمقوننا بنظرات خاصة، فقد بدا شكلنا لافتًا جدًّا، ثياب معفّرة بالدم والتراب ورأس مضمّد، وهيئة الحرب واضحة علينا.

 

ركبنا في أول شاحنة صغيرة خاصة بالحرس. قال السائق: "أنا ذاهب إلى خرمشهر".

 

قال "سيروس": "يجب أن لا نتأخر، سنذهب إلى خرمشهر. المسافة من هناك إلى آبادان ليست طويلة".

 

التقيت في الشاحنة بأحد الأصدقاء من "كيلان"، وكنت قد تعرفت إليه في المستشفى، حيث أُحضر إلى هناك بعد إصابته بالسلاح الكيميائي. كان قد استحمّ وغيّر ملابسه، وكان ذاهبًا إلى مقرّ وحدته.

 

في "خرمشهر" ترجّلنا نحن الثلاثة من الشاحنة. كان المجاهد الكيلاني يحمل آلة تصوير فالتقط صورة لي ولـ"سيروس" على جادة

 

320

 


281

الفصل الخامس - العنقاء

"خرمشهر"، ثم سجّل عناوين منازلنا ليرسل لنا هذه الصورة[1]. تابعنا طريقنا إلى "آبادان" ومن هناك إلى "أروندكنار". في الطريق عبرنا من المكان الذي كنّا قد قطعناه سابقًا بعد ظهر العاشر من شباط، إنّها البحيرة التي غرق فيها زورق. تذكّر "سيروس" "سهيل مولايي" الذي أخبرونا بشهادته ليلة الهجوم وما قاله حينها:

- أخي سيروس، انظر إلى جمال هذا الزورق وهو ينام في الماء... وكأنّها لوحة فنان...

 

وصلنا إلى "أروندكنار". قبل أن ننزل من الشاحنة، شممنا رائحة ثوم فاسد. نسينا حين خرجنا من المستشفى أن نأخذ القناع الواقي والسترات الواقية من المطر، وها نحن الآن بدأنا نشعر بألم في الرأس. من المؤكّد أنها مخلفات الهجوم الكيميائي الذي شُنّ في الصباح أو قبل ساعات من الآن، لكنّ هذا المقدار القليل من الغاز كان كفيلًا بترك أثره علينا فبدأنا مباشرة بالتقيؤ. غطّينا أنوفنا وأفواهنا بالكوفيات لنقلّل قدر الإمكان من استنشاق كميات أكبر من الغاز، أما السائق وبعض الركاب فكانوا يضعون الأقنعة منذ البداية. وعندما عرف السائق بأننا لا نحمل أقنعة واقية، انطلق مسرعًا للابتعاد عن منطقة الخطر بأسرع ما يمكن. ؟أشارت الساعة إلى الثانية عشرة، كان خوفنا من سرعة السيارة أكثر من آثار الكيميائي، لكن، نجونا في النهاية بأرواحنا.

 

في الخطّ الخلفي للفرقة عرفنا أنّ كتيبة حمزة لا تزال في "الفاو". ركبنا القارب وتوجهنا إلى هناك. هذه المرة رأينا المدينة مضاءة، مدينة كبيرة، بيوتها بيضاء اللون ويقع فيها ميناء "تشلتشراغ".

 

 


[1] استلمت الصورة في عيد النوروز عام 1986م.

 

321


282

الفصل الخامس - العنقاء

تقدمنا حتى وصلنا إلى الصورة الكبيرة لصدام التي كانت علامة جيدة بالنسبة إلينا. عند الظهر التقينا بشباب "حمزة"، في النقطة نفسها التي كانوا فيها بالأمس. وجدنا السيد "مجتهدي" يتحدث إلى عناصر الكتيبة الذين بلغ عددهم 40 أو 50 عنصرًا.

 

بعد أن أنهى كلامه سلّم علينا بحرارة وسألنا متعجّبًا:

- كيف نجوتم من هناك؟ يجب أن تكونوا في طهران الآن وليس هنا! الأمان من زهور الفصيل الأول!

 

"زهور الفصيل الأول"، هذه الجملة كانت محطّ كلام السيد مجتهدي عندما يتحدث عن شباب فصيلنا.

 

ثم ربّت على كتفي ووضع اليد الأخرى على رأس "مهدي بور" وقال:

- أخ سيروس، أريد منك إحصاءً تفصيليًّا لشباب الفصيل الأول.

 

أنجز "سيروس" الإحصاء حول الشهداء والجرحى والأحياء في اليوم ذاته. ومع أنّ المعلومات كانت متضاربة، إلا أنّه جمعها كلّها وسجّلها، وأكثر من ساعده في ذلك هو "علي شهبازي" مسعف الفصيل الأول، الذي كانت تقع على عاتقه مهمة الاهتمام بالجرحى في غرفة صغيرة عند نقطة الانتشار. كانت حسنته أنه يعرف كل شباب فصيلنا، لأنه خدم معنا في الصيف والخريف الماضيين.

 

بعد ظهر اليوم نفسه، تمّ تسليم إحصاء الفصيل الأول إلى قائد الكتيبة. الشهداء هم: "أمير عباس رحيمي" الذي أصيب بشظية في مؤخرة رأسه فاستشهد على الفور، "سعيد بوركريم" و"أكبر مدني" وكانا خادمَي الفصيل، وتربط بينهما علاقة خاصة واستشهدا معًا، "بوركريم" حلّاق الفصيل و"مدني" الذي كان يملأ سرًّا أباريق المياه. كما استشهد "محسن كلستاني" لكنّنا لم نعرف هذا يومذاك لأنّ أخاه

 

322


283

الفصل الخامس - العنقاء

"حسين" قد جرح أيضًا، فاختلط الأمر على الشباب.

 

اجتمع كلّ عناصر الكتيبة ليلة 14 شباط في عنبر كبير، وأصدر السيد مجتهدي أمرًا بعدم خروج أحد منه بسبب نيران العدو الشديدة، وخاصة أنّ العدو كان قد حدّد زوايا الدشم بالدقة وراح يقصفها بشدة.

 

في تلك الليلة وصلت التعزيزات من كتيبة "سلمان". قال أحدهم لي ولـ"سيروس" على مدخل العنبر:

- سمعت أنّ الكثير من شباب حمزة استشهدوا... سوف نذهب وننتقم لهم.

 

أمسك "سيروس" بقرآن صغير بيده وراح عناصر كتيبة "سلمان" يعبرون من تحته.

 

في الليلة التالية هاجمت كتيبة "سلمان" خط العدو. كانت مهمّتها استكمال مهمّتنا والوصول إلى جسر جادّة "الفاو-أم القصر".

 

عند غروب اليوم الخامس عشر، انتقلنا نحن عناصر كتيبة "حمزة" الخمسين أو الستين فردًا، بشاحنات تويوتا إلى القاعدة الصاروخية في خور "عبد الله" التي كانت خطّ الفرقة الساحلي، وتقدّمنا مسافة 6 كيلومترات إلى الأمام. في تلك الليلة وقعت معركة طاحنة في الجادّة شاهدناها من بُعد، ووصلتنا أخبارها بالتفصيل. وَسَعَتْ الفرقة بكل ما تملك من قوة للتقدم بضعة كيلومترات، لكنها لم تصل إلى ذلك الجسر الكبير، وبقي أمامها 1500م.

 

بعد هذا التقدم لكتيبة "سلمان"، أخذتُ و"سيروس" و"رضا أنصاري" الإذن من مسؤولي الكتيبة للذهاب إلى المنطقة التي نفذنا فيها العمليات لنراها في وضح النهار، تلك المنطقة التي دخلناها أول

 

323


284

الفصل الخامس - العنقاء

الليل، ومن ثمّ خرجنا منها في الليلة نفسها بعد كل تلك الأحداث.

 

في منطقة مثلث مصنع الملح التي يطلقون عليها اسم "مثلث محتشم"، نُصبت لوحة كُتب عليها: نحو الخطّ الأمامي لفرقة (27) محمد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم / إعلام الفرقة"، كما وُضع على اللوحة سهمٌ يُظهر طول جادّة أم القصر. بقيت كتيبة "الأنصار" في هذه المنطقة تدافع أسبوعًا كاملًا بقيادة الحاج "جعفر محتشم"، كما كانت إلى جانب كتيبة "مسلم" ليلة الهجوم.

 

تقدمنا أكثر من جهة يمين الجادّة إلى حيث تقدّمنا في ليلة هجوم الكتيبة. كان ذلك مع بزوغ الفجر، ومع ذلك شاهدنا كلّ المنطقة بوضوح. وصلنا إلى الساتر الذي انتشرنا منه وساحة المعركة في تلك الليلة، لكنّنا لم نجد أثرًا للساتر ولا للشق في الجادّة ولا لغرفة إسعاف "علي شهبازي". وعرفنا من الآثار المتبقّية بأنّ قذيفة أو صاروخًا أطاحت بالمكان.

 

تابعنا تقدّمنا ووصلنا إلى النقطة التي كان العدوّ يكمن فيها تلك الليلة أي شقّ الجادّة الثاني. في تلك الليلة، سقط جرحى وشهداء الفصيل الأول في هذه المئتي متر الأولى. إلى الأمام أكثر، كان موقف تلك الدبابات وناقلات الجند. قلت لسيروس:

- ألم يكن من الأفضل لو تقدم الشباب من يمين الجادّة؟

- هذا ما حصل. فقد كانت المياه تغمر المنطقة في يسار الجادّة ولم يستطع الشباب العمل جيدًا.

- كان يجب علينا أن نبدأ من يمين الجادّة وتطهّر مجموعة من الشباب المنطقة في يسارها...

 

أيّد "سيروس" كلامي، أما رضا فلم ينطق بكلمة، واكتفى بالتأمّل

 

324

 


285

الفصل الخامس - العنقاء

في أماكن الاشتباك والأماكن التي استشهد فيها الشباب. تركناه وشأنه، لكن تمنّينا أن يبكي لعلّ قلبه يهدأ قليلًا!

 

على يمين الجادّة وحيث استشهد شباب الفصيل الأول تمامًا، وجدنا غرفة صغيرة مليئة بالطيور. فتحت باب الغرفة الإسمنتية الذي كان مغلقًا بسلك معدني وأنا في غاية الدهشة. كان سقف الغرفة مصنوعًا من الصفيح المضلّع وشبابيكه عبارة عن شبك من الأسلاك المعدنية. لم نصدق أنّ هذه الغرفة الصغيرة لم تتضرّر في تلك الليالي الحامية.

 

وجدنا العديد من الحمام الأبيض والبني والملون يطير في القفص هنا وهناك. دخل "سيروس" و"رضا" خلفي إلى القفص. تذكرت كباب الطيور في مهران فقلت لسيروس مازحًا: "شباب، سيكون لدينا الليلة كباب". لم ينطق "سيروس" بحرف، وراح "أنصاري" يلاعب الطيور. فجأة سقطت قذيفة في المنطقة فانطلق الحمام خارج القفص.

 

تقدمنا أكثر، فوصلنا إلى المكان الذي جُرحنا فيه، حيث الجيب المنقلب رأسًا على عقب والذي لا يزال صوت بوقه في أذنيّ.

 

لم نكمل طريقنا إلى الأمام أكثر. فقد تقدّمنا إلى مسافة كيلومتر أو كيلومترين عن ساحة المعركة. ولمّا أردنا الرجوع، ركبنا شاحنة صغيرة متوجهة إلى مقصدنا ووصلنا بسرعة إلى القاعدة الصاروخية.

 

تُعرف القاعدة الصاروخية بقاعدة "ذوزونقه" (شبه المنحرف) أيضًا. وهذه شكّلت مكانًا آمنًا. لم يكن الدفاع في تلك المنطقة صعبًا كثيرًا، حيث إنّ الساحل كان عبارة عن مستنقع ولم يكن العدو يستطيع إنزال قواته هناك.

 

كان قسم التموين والتجهيزات في الكتيبة ضعيفًا، فقد كانت

 

325


286

الفصل الخامس - العنقاء

غالونات الماء قليلة، وكانوا يوزّعون القوارير علينا، أما الطعام فاقتصر على المعلبات. لذا، دخلنا الدشم العراقية وغنمنا منها بعض الحصص الغذائية. كما وجدنا أيضًا فرشاة وصِباغًا فبدأ عمل رضا الصبّاغ، تنظيف الأحذية العسكرية وتلميعها في وقت ومكان لا أحد يفكر فيهما بهذا الموضوع أساسًا. فكان أول ما يصبغ أحذية الشباب ومن ثمّ حذاءه.

 

لم تكن حال رضا جيدة. تحدّث "سيروس" إليه واستنتج أنّه أصيب بالكيميائي، فأوصاه بالذهاب إلى الطوارئ لكنّه لم يقبل. كما خلصت أنا وسيروس إلى نتيجة مفادها أنه بعد العودة من المستشفى دخل إلى منطقة ملوثة.

 

تحدّث السيد "مجتهدي" مع رضا وأقنعه بالذهاب إلى مركز إسعاف الفرقة وأن ينتظرنا بعد ذلك في معسكر "كارون".

 

كان يحتاج لاستراحة وكانت هذه حاجة الجميع بالطبع[1].

 

لكن، جرت الأمور بطريقة أخرى. فبعد أن غادر رضا، تطوعتُ و"سيروس" و"علي شهبازي" لمساعدة كتيبة "حبيب" التي كان من المقرر أن تنفذ العمليات والتحقنا بها مساءً. لم تعد مهمتي مساعد مسعف، وحملت السلاح بدلًا عن الحمّالة، وحقيبة ذخائر "آربي جي" حيث صرت مساعد "سيروس" الذي كان رامي آر بي جي. عشية 18 شباط، أصبح من كانا المسعف والمنقذ في المجموعة الأولى من الفصيل الأول لعدة ليال، رامي "آربي جي" ومساعده، هكذا اقتضت الظروف.

 

نُقل المتطوعون إلى الأمام بشاحنة "تويوتا" من تلك الشاحنات الجديدة التي كان الشباب يسمّونها بانكي. في الخط الأمامي في جادّة


 


[1] قبل نهاية الأسبوع ذهبنا جميعنا إلى كارون.

 

326


287

الفصل الخامس - العنقاء

أم القصر، ترجلنا من الشاحنة. كنّا حوالي 15 شابًّا ومن دون مسؤول. التجأنا إلى خلف الساتر الترابي. كان من المقرر في تلك الليلة إنهاء المهمة التي لم تتحقق بعد وهي الوصول إلى ذلك الجسر، لكنّنا عرفنا منذ وصولنا أن أمامنا ليلة حامية. قلت "لسيروس":

- نسأل الله ما فيه خير. لا أظنّ أنّنا سنشهد شروق الشمس.

 

لم نجد أي دشمة خالية. حتى لو وجدنا مكانًا لنا في بعض الدشم، لم يكونوا ليفسحوا لنا نحن الذين بَدَوْنا غرباء بنظرهم كي نأوي إليها. لكن "سيروس"، ومن دون أيّ تأخير أو امتعاض، بحث عن مجرفة وبدأ بحفر ساتر ترابي، وساعده رفاقنا في ذلك. لم ننتظر الأوامر من أحد. بعد إنهاء العمل بالحفرة داخل الساتر الترابي لجأنا إليها.

 

كنّا بانتظار بدء الهجوم.. وطال الانتظار. وصل طابور من المجاهدين وتقدم إلى الأمام إلى قلب العدو. أعتقد أنهم استشهدوا جميعًا أو جرحوا. ثم سمعنا هدير دبابة. ظنّناها في البداية عراقية. كنا نتحدث حول الدبابة وكونها عراقية، وإذ بشيء ينفجر قربنا. إنها دبابتنا تطلق النار من فوق رؤوسنا. كنّا مشوّشين. لم نعد نشعر بآذاننا أو عيوننا. لقد عطّل الضوء الخارج من فوهة الدبابة وصوت إطلاق القذيفة أسماعنا وأبصارنا. كل ما كنت أعرفه أنني قرب "سيروس".

 

بعد أن هدأ "مهدي بور" قليلًا، أنّب طاقم الدبابة لأنهم أطلقوا النار من على هذه المسافة القريبة ولم يحتاطوا، فقال رامي المدفعية إن الأوامر اقتضت ذلك.

 

طالت تلك الليلة كثيرًا. كانت ليلة غريبة ومربكة. استشهد بعض شبابنا وجرح آخرون وعادوا إلى الخلف. كما جُرح "سيروس" لكنّه لم يرجع. فقد كان الشباب يسمعون كلامه، ويكفي دليلًا على الإرباك في

 

327

 


288

الفصل الخامس - العنقاء

تلك الليلة أن أصبحتُ معاون القائد أي "سيروس".

 

في فجر الثامن عشر من شباط سقط خطنا الأمامي وتقدم العراقيون كيلومترًا أو كيلومترين. وبفضل قيادة "سيروس" وتدبيره، خرج شباب "حمزة" من ساحة المعركة قبل تقدّم العراقيين. وصل عددنا نحن الخمسة عشر إلى عشرة. جمع "سيروس" هؤلاء العشرة وعدنا. تقدم هو الطابور وكنت أنا الفرد الأخير. عدنا سيرًا على الأقدام حتى وصلنا إلى القاعدة الصاروخية. ظنّ "سيروس" أنهم سيوبّخونه على فعلته هذه، لكن السيد مجتهدي أثنى عليه.

 

ظهر اليوم الثامن عشر هطلت الأمطار بغزارة. استرحنا يومها، فقد أمضينا يومًا وليلة قاسيين. أثناء الاستراحة، روى لي "سيروس" ذكرياته عن عمليات بدر، وكيف غلب عليه النوم قرب القتلى العراقيين لشدة التعب، حتى غطى التراب الناجم عن انفجار القذائف كامل جسمه، فظنه الشباب في "تعاون" الفرقة شهيدًا، وحين سحبوه من تحت التراب نهض فخافوا وفرّوا من بين يديه.

 

ألف سلام على فئران "مهران"، فقد كانت فئران "الفاو" قططًا بالنسبة إليها، وإذا ما تعرّضت لأحد آذته بشدة.

 

كان الطعام قليلًا في هذه الناحية من "أروند"، كذلك الماء والذخائر، وتحمّل الشباب هذه الظروف لأكثر من أسبوع.

 

أما الطقس فكان في الليل باردًا جدًّا. كنّا نرتدي المعاطف العراقية ونذهب إلى ساحل خور عبد الله للحراسة تحسّبًا لأي هجوم من قبل مغاوير العدو. كانت نيران العراقيين تزداد شدّة ليلة بعد ليلة طوال الفترة التي قضيناها في القاعدة الصاروخية، ومن بين الصواريخ التي استخدموها كانت الصواريخ الفرنسية أو النمساوية التي يعرف مسارها بسبب لهيبها الخلفي، وقد انفجر بعضها بالقرب من عنبرنا لكنّ أحدًا لم يصب بأذى.

 

328

 


289

الفصل الخامس - العنقاء

في اليوم التالي، استهدفت قواتنا طائرة مقاتلة عراقية كانت تغير فوق رؤوسنا فقفز طياراها مباشرة. فُتحت مظلة أحدهما ولم تفتح مظلة الآخر، ولا يزال صياحه وصراخه المرعب يرنّ في أذني، حتى وقع أرضًا وتمزق إربًا. صدرت الأوامر بعدم إطلاق النار على الطيار الآخر وبإحضاره أسيرًا. فذهبت مجموعة في أثره حتى سحبوه من بين الوحل وأحضروه.

 

في اليوم نفسه انفجرت بعض القذائف الزمنية[1] في الهواء، ما تسبب بمقتل بجعة كانت تطير في المنطقة. احتضنتها، فوجدتها مصابة بشظية في بطنها وكانت أجنحتها البيضاء ملطخة بالدماء، كان هذا نصيبها في تلك المعركة.

 

في أواسط آذار، أصدر السيد "مجتهدي" أمرًا يقضي بأن نجمع عدّتنا وعتادنا ونتهيّأ للتحرك، ليس إلى الخطّ الأمامي، بل إلى الخلف هذه المرة، للاستراحة وإعادة هيكلة الفرقة. قبل أن نغادر القاعدة الصاروخية، تحوّل الطقس إلى غائم، وتساقطت الأمطار لساعات طويلة. أصبحت كل مستنقعات خور عبد الله الجافة موحلة ووصلت المياه إلى مشارف الدشم وعنابر المقر. فرح السيد لأن العراقيين لن يتمكنوا من التقدم والقيام بهجوم معاكس حتى بعد عدة أيام.

 

لم يكن انتقال كتيبة "حمزة" عملًا شاقًّا، لأنّ عدد أفرادها لم يكن يتجاوز عدد أفراد السرية الواحدة. عَبَرنا "أروند" وعدنا إلى العنابر في "أروندكنار". ما إن دخلنا العنابر حتى هاجت أحزاننا وتجدّدت أشواقنا لرفاقنا الشهداء. هنا، نمت أنا و"أمير عباس رحيمي" جالسَين قرب بعضنا البعض. مرّت في خاطرنا ذكريات كلّ أصدقائنا، ولم نجد غير الدعاء وزيارة عاشوراء وسيلة للتخفيف من حزننا وغمّنا.


 


[1]  لها صاعق وقتي.

 

329


290

الفصل الخامس - العنقاء

بقينا في العنابر ليلة واحدة. في صباح اليوم التالي وقبل أن نغادر "أروندكنار" ذهبت مع "سيروس" إلى عنبر "معراج الشهداء" القريب من عنبرنا. يعمل هناك شابٌّ يافع يبلغ من العمر 15 عامًا، وهو في السنّ نفسها لـ"سهيل مولايي" ويشبهه أيضًا، كانت مهمته لفّ أجساد الشهداء، وعلى حدّ قول أحدهم، لفّ الشوكولا. كان جريئًا. أما أنا عندما كنت في مثل سنّه وأنا في طهران كنت أخاف من الأموات ولا أنام الليل، أما هو بالرغم من صغر سنه كان يربط عشرات الأجساد مع أن بعضها كان مقطّعًا إربًا، أو تطايرت بعض أعضائه.

 

كانت الدماء المتخثرة والمتيبسة تغطي أرض المكان. شاب تعبوي يرتب الأجساد المقطعة، فيضع اليد والقدم المقطوعتين مكانهما، ويغلق كيس البلاستيك من الجهتين كما يلفون قطع الشوكولا. كانت تؤذينا رائحة المواد المعقّمة التي يرشونها من حين لآخر بمضخة يدوية.

 

عدنا إلى العنبر فوجدنا حافلة ملطخة بالطين متوقفة هناك، وكانت مساحة الرؤية أمام السائق صغيرة أيضًا بما يكفي ليرى طريقه فقط. وهكذا، غادرنا "أروندكنار" ومنطقة عمليات "والفجر 8" تاركين خلفنا مئات الذكريات. وصلنا إلى الخيام. عشنا لحظات عجيبة حين دخولنا إليها. لقد تجدّدت أحزاننا على غربة رفاقنا. لم يكن تعاون الكتيبة قد أرسل بعد أغراض الشهداء والجرحى الشخصية إلى منازل ذويهم. قمت أنا و"سيروس"، وبناءً لأمر القيادة، بمساعدتهم في تنظيم عمليات التسليم هذه وفقًا للائحة التي أعدها "سيروس" من قبل. كان مسؤول الفصيل "محسن كلستاني" قد جمع أغراضه في كيس بلاستيكي قديم، كتاب القرآن والدعاء، سجّادة الصلاة والقميص الأخضر الذي كانت أخته قد أهدته إياه ولا تزال تفوح منه تلك الرائحة الطيبة.

 

330

 


291

الفصل الخامس - العنقاء

ألقينا نظرة على أغراض الجميع للتأكد من خلوّها من أي ذخيرة أو أداة عسكرية، ثم أحكمنا إغلاقها وسجلنا اسم صاحبها وعنوانه عليها بدقة لتُسلّم إلى ذويه.

 

عندما وصلنا إلى أغراض "أمير عباس" الشخصية، لم أتمالك دموعي. وببكائي، غصّ كلّ من "رضا أنصاري" و"سيروس" أيضًا بالبكاء. مع أنّ صوت "سيروس" لم يكن شجيًّا، إلا أنّه بدأ ينشد: "أين أنتم أيها الشهداء الربانيون/ يا من تبحثون عن البلاء في صحراء كربلاء/ أين أنتِ أيتها الأرواح اللطيفة العاشقة/ الأكثر تحليقًا وسموًّا من طيور السماء...".

 

في تلك الأثناء، سررتُ عندما بدأ "رضا أنصاري" بالبكاء، ولم أكن قد رأيته يبكي من قبل لشدة تماسكه. عندما بكى هو شعرت أنا أيضًا بالخفة. رحنا نبكي نحن الثلاثة حتى هدأت قلوبنا. بعد أن بكى رضا راح يتكلم كثيرًا، تحدثنا وتحدثنا حتى بدأنا بالمزاح. توجب علينا أن نفرغ الغمّ المودع في قلوبنا بأيّ طريقة كانت وإلا مِتْنا كمدًا. يصعب التصديق أنّه لم يبقَ من خيمة تحوي ثلاثين نفرًا، سوى ثلاثة سالمين. وأيّ سلامة تلك، كنا ثلاثتنا مصابين في أجسادنا وقلوبنا.

 

كانت هذه حال أكثر الخيام، وأكثر من قدّم الشهداء والجرحى كانت السرية الأولى بحيث صرنا نجتمع، نحن من تبقى من الفصائل الثلاثة، في مكان واحد. وبينما كنّا في الخيمة، وقع نظري أنا ورضا على قدم مع جوارب موضوعة في كيس جانبًا. ذهلنا، وفكرنا ماذا تفعل هذه القدم المبتورة هنا. تقدمت منها بحذر ولمستها. من شدّة ذهولي وتعجّبي لم ألتفت إلى قساوتها وصلابتها. عندما سحبتها خارج الكيس اتضح الأمر لنا، فبدأنا بالضحك. عرفنا لاحقًا بأنّ الجريح الذي يكون أحد أطرافه مبتورًا، عندما يأتي إلى الجبهة ينزع

 

331

 


292

الفصل الخامس - العنقاء

الطرف الصناعي، (للمحافظة عليه)، لئلّا يحرم من العمليات إذا ما أصاب الطرف سوء.

 

في اليوم التالي، أثناء المراسم الصباحية، أعلن السيد مجتهدي أمام القلّة ممن بقوا من كتيبة "حمزة" أنّه يمكن للإخوة الذين انتهت مأموريتهم، تسوية أمورهم والانصراف إلى منازلهم، وأنّ عمليات "والفجر 8" مستمرة بالطبع، وأنّ أمن الفاو يتهدّده خطر جدي بسبب احتمال هجوم عراقي معاكس.

 

عمد بعض التعبويين إلى تصفية أمورهم. وجاء في الوقت نفسه عدد من ذوي الجراح السطحية إلى "كارون"، من بينهم "حسين دستفاره" الذي جاء بلباس المستشفى. كما جاء إلى هناك أيضًا بعض الشباب من الكتائب المنحلّة في الفرقة -سلمان ومسلم- لإعادة هيكلة كتيبة "حمزة". وعُدّت كتيبة حبيب من الكتائب التي هي في طور إعادة الهيكلة أيضًا. وهكذا، أعيد تشكيل كتيبة "حمزة" بفصائل مؤلفة من عشرين عنصرًا. فلم يكن لرامي "الآر بي جي" ورامي الرشاش أكثر من مساعدين في الهيكلية الجديدة.

 

بعد التنظيم، أُعطيَ لعناصر الكتيبة إجازة قصيرة داخل المدينة، فحضرت عدة حافلات صغيرة صباح أحد الأيام، وأقلّت الشباب إلى الأهواز. قمنا بجولة في المدينة وأجرينا اتصالات هاتفية، تناولنا طعام الغداء واستحممنا... كان الحمام بالمياه الدافئة غنيمة بالنسبة إلى أجسادنا المدماة والمعفرة بالتراب والتّعِبة وخاصة أن الاستحمام في المعسكر، وبمياه باردة أيضًا، كان يتطلّب منّا الانتظار لنصف ساعة للحصول على دور. في الحمام رأيت قدم "سيروس" المجروحة، تعجبت من شدّة تحمله، كان جزءٌ من عضلة ساقه بحجم كفّ اليد مزرقًّا.

 

في طريق العودة إلى المخيم، ركبنا شاحنة تويوتا "لاندكروز" في

 

332

 


293

الفصل الخامس - العنقاء

طريق "دارخوين" الرملية. كانت الدماء تملأ أرض الشاحنة، أخبرَنا السائق أنه نقل شهيدًا للتوّ. انطلقنا عند الغروب. كانت أصوات بنات آوى تتناهى إلى مسامعنا مع غروب شمس ذلك النهار. لقد شدّت رائحة الدم الرطب الحيوانات المتوحشة فلحقت بالشاحنة. زاد السائق من السرعة فلم تتمكن من اللحاق بنا. فكرت في نفسي أن لا قدّر الله أن أعتاد أنا أيضًا هذه الدماء ورائحتها ولونها وأصبح متوحشًا مثل هذه الحيوانات!

 

في المعسكر رأيت "أصغر أهري". كان يمضي فترة نقاهة بعد جرح أصيب به في ذراعه اليمنى. وقد رجع مع أنّ حاله لم تكن جيدة، لكن ليس لمرافقتنا، إنّما للاستعلام عن حال ابن عمه "مسعود أهري" الذي دُفنت قدم وردت بإسمه، فساوره الشك حول الأمر. أطلعته أنا ورضا وسيروس وآخرون على ما عندنا من معلومات، واتفقنا نحن الثلاثة على أنه لم يُصب بإصابة بليغة، وكان "سيروس" على يقين بأنه لم يضمّد جرحه، وكذلك أكدتُ أنا ورضا أننا لم ننقله إلى الخلف. لم يمكث أصغر فترة طويلة هناك، فبعد أن حصل على هذه المعلومات تابع جولته ليأتي بالخبر اليقين.

 

من جديد، ذهبت الكتيبة في مأمورية دفاعية إلى جادّة "أم القصر" لمدة 5 أيام، إلا أنّها استغرقت بين الذهاب والإياب والتوقف والانتظار خمسة عشر يومًا. كانت نيران العدو كثيفة في هذه الفترة. وقد تغيّر خطّ الدفاع حينها عمّا كان في 18 شباط. لم يقم العراقيون بهجوم معاكس أثناء وجودنا هناك، وسمعنا أنهم قاموا بهجوم معاكس واسع قبل ذلك في الفترة التي كانت كتيبة "الأنصار" تؤدي مأموريتها الدفاعية.

 

في ليلة رأس السنة الهجريّة الشمسيّة الجديدة كنا في "أروندكنار" نقرأ دعاء تحويل السنة. وقد أقامت وحدتا المدفعية والميني كاتيوشا

 

333

 


294

الفصل الخامس - العنقاء

احتفالًا كبيرًا للعراقيين مساء ذلك اليوم!

 

عندما عدنا من خط الدفاع، سوّيت أموري، فقد شملتني الخدمة الإلزامية، وكان عليّ التقدّم بأوراقي الخاصة للالتحاق بالخدمة. كنت أريد تأدية خدمتي في "كميته انقلاب إسلامي" (لجنة الثورة الإسلاميّة)[1].

 

وصلت إلى طهران قبل انتهاء عطلة الأيام الخمسة الأولى من بداية العام. كان والديّ وإخوتي قلقين عليّ، ذلك أنّ أخبار الإذاعة والتلفزيون كلّها كانت حول أحداث "الفاو"، ومع أنني تواصلت هاتفيًّا مع والدتي قبل عدة أسابيع، إلا أنها لم تكن لتشعر بالاطمئنان قبل أن تراني.

 

قام جميع أفراد العائلة برعاية طيوري خلال تلك الفترة الطويلة. وجدت قفص الحمائم والكنارات مليئًا بالدُّخن[2] والقمح. في قفص الكنارات بذور الكتان وفي قفص الببغاء بذور دوار الشمس. لقد اعترتني سعادة عارمة عندما سمعت صوت الببغاء. كان يقلّد صوتي:

- أمير، شهيد... أمير، شهيد...

 

كل من في البيت كان يعرف "أمير عباس"، وحزنوا كثيرًا لشهادته. بين صوري، رأت أمي صورة "مسعود أهري" الذي كان قد أخذ صندوق الكبيس منها في آخر إجازة. قلت لها: "أمي، لقد استشهد هذا الشاب أيضًا". اغرورقت عيناها بالدموع عندما سمعت هذا الخبر وراحت تردد: "إنّ لوعة فقد الشباب صعبة. أسأل الله أن يربط على قلب والدته".


 


[1] هي لجنة أنشئت قبيل انتصار الثورة وقبل تشكيل الشرطة، كانت مهمتها الحفاظ على الأمن في المدن، إلى جانب مهامّ أخرى.

[2] millet/ نبات عشبي له حبٌّ كالسمسم.

 

334


295

الفصل الخامس - العنقاء

عاد "سيروس" و"رضا" أيضًا إلى طهران. كانت الكتيبة قد أعطت إجازة للجميع. ذهبتُ في أحد الأيام إلى محلة "صادقية"، شارع الشهيد "سعيد كلاب"، مجمع "كلستان" لزيارة عائلة "أمير عباس". وكنت قد ذهبت في الصيف الماضي مرّات عدة إلى هذا العنوان. كان والد أمير عباس وأخته يعرفاني جيّدًا. أخبرتهم بعض الذكريات عن أمير عباس، وقد لفتتهما قصة نومه في القبر.

 

وذهبتُ في أحد الأيام إلى مقبرة "بهشت زهرا" (جنة الزهراء). تذكرت العام الماضي عندما نام أمير عباس في أحد القبور. كانت القطعة المدفون فيها يومذاك مزدحمة. قصدت قبره. أذكر أنه حينذاك نام في قبر قرب الإسفلت. ومع أنّ معالم هذه القطعة تغيرت كثيرًا إلا أنني عرفت الناحية التي نام فيها.

 

أحيانًا كنت أقوم لوحدي وأحيانًا برفقة "سيروس" و"رضا" بزيارات لعوائل شهداء الفصيل الأول ومن بين هؤلاء الشهداء "بوركريم" و"مدني" اللذين يقع منزلاهما شرق طهران بالقرب من بعضهما البعض. كان ذلك في العيد الأول بعد شهادتهم، وكانت زيارتهم واجبة.

 

قدّمت أوراقي الخاصة وصرت مستعدًّا للالتحاق بالخدمة، ومن حسن الحظّ تبيّن أنّه كان أمامي متّسعٌ من الوقت قبل الموعد، فعدت مجدّدًا إلى الجبهة وكان ذلك في 9/4/1986م. وهذه المرة أيضا التحقت بكتيبة "حمزة"، لكن، في السرية الثانية، لأن السرية الأولى كانت قد تركت ثكنة "دوكوهه" متوجهة نحو منطقة عمليات "والفجر8". رافقني في هذه الرحلة أخي الأكبر، فعدنا في عداد السرية الأولى إلى منطقة العمليات وإلى مدينة "الفاو" بتاريخ (16/4/1986م). كنّا في القاعدة الصاروخية في "خور عبد الله" في احتياط السرية الأولى. مساء العشرين من نيسان أرسلونا جميعًا إلى الخطّ الأمامي. كان

 

 

335


296

الفصل الخامس - العنقاء

العراقيون قد بدأوا هجومًا معاكسًا واسعًا في جادّة أم القصر وكافة المحاور الأساسية في المنطقة. قبل مغادرة المنطقة، نلت بالطبع نصيبي، القليل من غاز الأعصاب. لم أكترث بذلك حينها، لكنّني بعد 24ساعة بدأت أشعر بألم في الرأس.

 

تلاحقت هجمات الجيش العراقي تلك الليلة واستمرّت حتى السحر. هاجموا وقُتلوا، ثم عاودوا هجومهم من كافّة الجهات وبشكل متواصل. قبل بزوغ شمس الصباح لاحظنا أنّ بعض الجنود العراقيين يتظاهرون بالموت أمام الساتر الترابي. كانوا لا يستطيعون التقدم، ولو تراجعوا لقتلوا بنيران أصدقائهم، لذا تظاهروا بالموت بانتظار انتهاء المعارك وعودة الهدوء. في ذلك اليوم أسرنا أحدهم ومع أنّنا كنّا نعاني نقصًا في الطعام، قدّمنا له الماء والبسكويت.

 

فجأة سقط أحد الشباب بنيران القناصة، فضحك الأسير العراقي. قبل ذلك أصيب كتف أحد الشباب برصاصة أيضًا. وبينما أنا ذاهب إليه، انفجرت قذيفة على مقربة مني. طرت في الهواء وارتطمت بالأرض بشدّة. نظرت حولي مشوّشًا ومضطربًا، كان التراب والغبار يملآن المكان. أحسست بأنّ رجلي أصيبت، حرّكتها وحددت مكان الإصابة. خلال لحظات تورّمت رجلي وصارت كبالون. أردت ربطها بحزام ليتوقف النزف، فإذا بها صارت نصفين. بالإضافة إليّ، أصيب أحدهم بعصف الانفجار وجرح. ناديت المسعف كي يأتي لمساعدتنا. لقد جرح عدة أفراد في تلك اللحظة: بين المُصاب برصاص القنص في دشمة محفورة على سفح الساتر الترابي في جبينه وكانت حاله سيّئة، والمُصاب بكتفه، وأنا من انكسر عظم ساقي، وذلك الذي أصيب معي. جاء المسعف. عندما جلس قربي قلت له: "يا أخي، اذهب وعاين ذلك الشاب أولًا".

 

336

 


297

الفصل الخامس - العنقاء

ذهب فما لبث أن عاد: "انتهى أمره. لقد أصيب بشظية في رأسه".

 

لكنّ الجريح كان ينظر إليّ وإلى المسعف بعينين نصف مفتوحتين، ويسمع كلامنا حتمًا، فهو لم يكن يبتعد عنا كثيرًا. أنا على الأرض وهو في عمق الساتر الترابي. لم يكن يقوى حتى على تحريك رأسه. كان فقط يتأملني ويتأمل المسعف وهو يضمد جرحي. أما أنا فركزت كلّ حواسي على عينيه نصف المفتوحتين. ظلّ يسرح فيّ وأنا أحدق في عينيه حتى رأيت الدمع يجتمع في زاوية عينه وجفونه تهتز قليلًا. كان شابًّا يافعًا مستدير الوجه. انحدرت دمعته على وجنته، فعرفت أنّ به رمقًا. تفطّر قلبي لأجله حتى إنّي نسيت كسر قدمي.

 

على بعد عدة أمتار، تسلل الأسير العراقي إلى زاوية وكان يضحك ضحكة استهزاء. قال المسعف: "لا تنزعج يا أخي... أعرف ماذا سأفعل بهذا اللقيط... سآخذه إلى "أروند" زحفًا.

 

حتى تلك اللحظة، لم يكن أخي قد انتبه إلى إصابتي. جاء المنقذون ووضعوني على الحمالة. أخيرًا، سقط الخياط في إبريق الماء، وحكاية ذلك الخياط مشهورة، حيث كان يجلس على باب دكانه الذي كان قريبًا من المقبرة، فكان كلّما رأى جنازة تُنقل إلى المقبرة يرمي حجرًا في إبريق الماء، ومن ثم حين يأتي آخر الشهر يفرغ هذه الحصوات من الإبريق ويعدّها. ذات يوم، لم يُرَ الخياط عند باب الدكان، وحين سألوا عنه، أجاب أحدهم: لقد سقط الخياط أيضًا في إبريق الماء. وها أنا الآن المنقذ أتسبّب بالمتاعب للمنقذين. كان نصيبي أن أحمل ذكرى من جادّة "أم القصر" طيلة حياتي. وبينما أنا في الشاحنة، كانت قدمي تؤلمني بشدة مع كل اهتزاز. قلت للجريح الذي يجاورني:

- يا أخي، إذا نزعت الحذاء من قدمي سأدعو لك. إنّه ثقيل جدّا.

 

عندما نزعه من قدمي ارتحت من وزن 5 كلغ.

 

337

 


298

الفصل الخامس - العنقاء

سرنا وسرنا حتى وصلنا إلى مستشفى في الأهواز حيث أُجريت لي عملية جراحية في رجلي المكسورة. عندما استعدتُ وعيي رحت أصرخ من الألم حتى علم بالأمر كل من في الغرف المجاورة. أمر لي الطبيب بحقنة مسكن قوي هدأت ألمي، لكن الألم تكرر من جديد، وأصابني بشدّة في سائر أنحاء جسدي ولم يفارقني. أخيرًا نطقت وأخبرتهم بأنني تنشّقت المواد الكيميائية قبل أن أجرح.

 

سألني الطبيب: "ما كانت رائحتها".

- ثوم وبصل.

 

عندما سمع بذلك بدأ بعلاج تلك الإصابة.

 

نُقلت من الأهواز إلى مشهد وأدخلت إلى قسم الولادة! فكنت أسمع صراخ النساء اللاتي يلدن، وأشمّ من الطابق السفلي حيث المطبخ، رائحة الثوم والبصل التي زادت حالي سوءًا. طلبت من ممثل مؤسسة الشهيد الذي كانوا ينادونه بالسيد، عدة مرّات قائلًا: أقسم عليك بجدك إلّا أخرجتني من هنا وتركتني أعود إلى طهران، وإلا جُننت.

 

في أحد الأيام دخل أحد الممرضين غرفتي حاملًا بيده قطاعة أسلاك. في البداية ظننت أنه جاء لإنجاز عمل ما في الكهرباء، لكنه أقبل إلي، أزاح الملاءة عني وراح يقطع الأسلاك التي في قدمي ففهمت القضية متأخرًا. عديم الإنصاف راح يقطعها من دون تغييبي عن الوعي أو تخدير. رحت أصرخ... لكن، وكأنّ أحدًا لم يكن يسمع صوتي الذي ضاع بين أصوات النساء الولّادات.

 

في صباح اليوم التالي نُقلتُ إلى مستشفى "بهارلو" في مستديرة "راه آهن" في طهران. أعلمت عائلتي بذلك عند أول فرصة سنحت لي. بالطبع كانوا يعلمون بإصابتي ولكنهم لا يعلمون أين أنا. كانوا يبحثون عني منذ يومين حين أخبرهم أخي بإصابتي.

 

 

338

 


299

الفصل الخامس - العنقاء

في مستشفى "بهارلو" عُرض ملفي على لجنة طبية. لقد أصبت بجراح مختلفة، ووصل الالتهاب في فخذي إلى القسم الأسفل من ساقي أي القدم. الالتهاب الأخضر، أي أسوأ أنواع الالتهاب. قيل إنهم سيقطعون ساقي، لكن لم أعلم من أين بالضبط. قال الأطباء لو تصدّوا للأمر كما ينبغي في مستشفى مشهد لما ساء الوضع إلى هذه الدرجة. صرت أصارع بين الموت والحياة على سرير المستشفى، وأنتظر في كل لحظة خبرًا جديدًا. تذكرت تلك الرجل التي رأيتها في كيس أحد الأفراد وخفت منها في البداية، أن ماذا تفعل هذه هناك ثم علمت أنها صناعية، وضحكت. لقد أعادتني لعبة الدهر إلى ذكرى تلك الرجل الصناعية.

 

في الأسبوع الأول في مستشفى "بهارلو"، علّقت إلى رجلي أثقال فلم أعد أستطيع حتى أن أنام على جنبي، وبقيت على هذه الحال لأسابيع عدّة. لقد قصرت عظمة رجلي، وكان الهدف من هذه الأثقال أن لا تبقى قصيرة عند معالجة العظم.

 

لقد بذلت الممرضة في المستشفى جهودًا كبيرة من أجلي، فقد أمل الأطباء بأن أنجو من قطع رجلي في حال تناول أدوية الالتهاب القوية وتنظيف الجرح بشكل دائم، فكانت في كلّ مرّة تغسل جرحي بدقة بالغة، وأحيانًا تقطع اللحم الميت وتخرج القيح من بين الأنسجة، كانت الممرضة تعمل برغبة وصبر. وأحيانًا كانت تخدّرني كليًّا أو جزئيًّا عندما تغسل الجرح وتنزع اللحم الإضافي. استمرّت بهذا العمل حتى بدأ الالتهاب في ساقي يقلّ شيئًا فشيئًا.

 

في أحد الأيام جاء "سيروس" و"رضا" لعيادتي. كانا لا يزالان في الفصيل الأول من السرية الأولى في كتيبة "حمزة". سألتهما: "من هو مسؤول الفصيل؟".

 

339

 


300

الفصل الخامس - العنقاء

أجاب "سيروس": "محسن كودرزي".

 

أصبح قائد المجموعة - وهو بمنزلة نائب مسؤول الفصيل ومعاونه - مسؤولَ الفصيل.

 

علمت بعد فترة أنهم أقاموا جلسة قرآن ودعاء في خيمة الفصيل على نية شفائي. لقد خدمت في كتيبة حمزة لسنة كاملة، وصرت أُعدّ من قدامى الكتيبة. للأسف قد أُصبْتُ الآن. عاهدت نفسي على أن أعود إلى الجبهة.

 

في أيار أو ربّما حزيران من العام 1986م تحسن وضعي النفسي والجسدي، لكنّ الأثقال كانت لا تزال معلقة إلى ساقي. عندما لاحت إشارات خروجي من المستشفى قلت لأمي: "بمجرّد أن تتحسّن حالي، سأذهب إلى الجبهة".

 

أجابت فورًا: "أنت تخطئ في ذلك... أخوك في الجبهة، هذا يكفي، لقد تعطلّت إحدى رجليك، تريد أن تتعطّل رجلك الأخرى أيضًا؟".

 

في طريق العودة إلى المنزل عبرت من مستديرة "راه آهن". فلاحت أمام ناظري هناك الكثير من الذكريات. كانت كل رجلي مجصصة إلى أعلى الفخذ، ولم يكن معلومًا متى أستطيع العودة إلى الجبهة ثانية.

 

بقيت رجلي مجصصة طوال الصيف. في أواسط حزيران أُخبِرتُ بأن رضا أنصاري أصيب بشظية في رأسه، وهو في مهران، ما أدّى إلى إصابته بشلل نصفي. لم أستطع زيارته، لكنّني اتصلت به في مستشفى الإمام الخميني للاطمئنان إلى أحواله. كان ذلك الحياء لا يزال يغلب على صوته. تذكرت قلة كلامه وانزواءه، على عكس "أمير عباس رحيمي" الذي كان يضجّ حيوية ونشاطًا. قلت في نفسي إنّ اجتماع أنواع مختلفة من البشر بطباع وأعمار مختلفة أيضًا في خيمة فصيل واحد تربطهم كلّ هذه المحبة والعاطفة والمواساة لهو من معجزات الجبهة.

 

340

 


301

الفصل الخامس - العنقاء

في آخر اتصال مع رضا أنصاري قلت له:

- لا تعمل بعد الآن منقذًا... إنّه لعمل صعب. احمل رشاشك بيدك وتقدّم.

 

لم يكن يحب السلاح. أجابني:

- سأكون مسعفًا هذه المرة. لا أستطيع المرور قرب الجرحى مرور الكرام. إن لم أستطع رفع الحمالة فبإمكاني تضميد الجراح.

 

لم يكن يحبّ الرصاص. في تلك الليلة حين أفرغ كلّ واحد من العناصر عدة مخازن رصاص وأطلق عدة قذائف "آر بي جي"، لم يطلق هو حتى رصاصة واحدة، وعوض ذلك، بذل كل جهده للاهتمام بالجرحى.

 

منذ أيلول 1986 وحتى آذار 1987، كان كل من "رضا" و"سيروس" في الجبهة. استشهد "سيروس" قبل "رضا"، في المكان نفسه الذي جرح فيه رضا قبل عدة أشهر، أي مرتفعات "قلاويزان" في "مهران".

 

في آخر أيام الخريف حيث الطقس بارد والسماء صافية، وقد غطت الثلوج الأرض، وارينا "سيروس" في الثرى في الليلة التي تعرف بـ "شب يلدا"[1].

 

في كانون الثاني أو شباط من العام 1987م وصلنا خبر شهادة رضا أنصاري. لقد أصابت الرصاصة صدره هذه المرة، وجعلت ذلك القلب الآمن أكثر أمانًا. رأسه في الصيف وقلبه في الخريف، كانا هدفًا لحقد الأعداء وشظاياهم. أصبح رضا الشهيد الثاني في العائلة. كان قد التحق بالجبهة تطوّعًا بكامل وعيه وإرادته، ونال هناك أقصى درجات السعادة.


 


[1] هي أطول ليلة في السنة وهي ليلة الانقلاب الشتوي. (أوّل ليلة في فصل الشتاء=21 كانون الأوّل).

 

341


302

الفصل الخامس - العنقاء

في السنة الأخيرة للحرب، وُفّقت في الذهاب إلى الجبهة، لكنني لم أتعرض لأحداث كثيرة، إلى أن انتهت حرب الثماني سنوات في صيف 1988م.

 

بعد 12 سنة، أي في العام 2000م، ولد ابني البكر. تذكرت الشهداء وأصدقائي الذين رحلوا خاصة أمير عباس الذي لم أنسه يومًا طوال هذه السنوات بعد الحرب، وقد سميت ابني على اسمه. فزوجتي وأمي وغيرهما ممّن سمعوا مني ذكريات الفصيل الأول، لم يعارضوا اختياري لهذا الاسم الجميل.

 

اليوم، عندما يقف الببغاء على كتف ابني أمير ويردّد اسمه، أتذكر أمير عباس رحيمي. لا أزال أقتني الطيور وأحبها وهي تطير في السماء بخفة. أنا أيضًا رغبت في أيام الدفاع المقدس أن أحلّق في السماء وأصبح من أهلها، لكن لم يحصل ذلك. الحقيقة أنني لم أطلب الشهادة من كلّ قلبي، أما "أمير عباس رحيمي" فأرادها وكانت قدره. كلّ من أراد حلّق عاليًا، لكنّني بقيت.

 

أنا على يقين بأنّ باب السماء في متناول يد كلٍّ منّا. يجب أن نكون متيقّظين. يجب أن نموت قبل أن نموت. يجب أن نحاسب أنفسنا، فإنّ باب السعادة قريب منا، على مسافة خطوة واحدة. علينا أن ندوس على نفسنا الأمارة بقوّة فنصل إلى الشهادة.. إلى الشهود. إذا ما قمنا بهذه الخطوة ستُفتح أبواب السماء مباشرة.

 

342

 


303

وثائق الفصل الخامس

وثائق الفصل الخامس

 

 

 

 

ورد في هذا القسم من مجموع وثائق الفصل، 17 وثيقة خطية، و14 صورة:

1- حميد رضا رمضاني

1-1 المواصفات

- شهادة الثانوية العامة في العلوم الإنسانية، متأهل وله ولدان، موظف في مكتب البريد في طهران.

- تاريخ ومحلّ الولادة: طهران، 1965م.

- مدة الحضور في الجبهة ونوع العضوية: 32 شهرًا في صفوف التعبئة.

- العمليات التي شارك فيها والمهام الموكلة إليه: بوكان، 1984م (قناص)، خطوط الدفاع في مهران، 1985م (قناص)، عمليات "والفجر 8 (منقذ)، الدفاع في الفاو، 1986م (مساعد رامي آر بي

 

343

 


304

وثائق الفصل الخامس

جي)، عمليات مرصاد (قناص).

- الجراح التي أصيب بها: في الرأس والوجه (1985م)، كسر في عظم الفخذ وجرح في ساق القدم اليسرى وإصابة بغاز الأعصاب (1986م).

- درجة الجراح: 30%.

 

1-2 آخر الكلام

 

344


305

وثائق الفصل الخامس

2-7 المذكرات

النسخة المكتوبة بخطّ اليد غير موجودة لدينا.

 

ربما كانت هذه الليلة الأخيرة في معسكر "كرخة"، حيث تلحظ لدى الشباب حالات مختلفة، يعجز القلم عن وصفها. كان لدى الشباب اليوم مسير وإطلاق نار وأعمال عسكرية منذ 6.30 صباحًا وحتى 2.30 بعد الظهر. لم يكن هناك طعام فطور، أما طعام الغداء فكان عبارة عن الخبز، الماء، حلاوة الطحينة والقليل من الزبيب. الجميع كانوا متعبين ومرهقين جسديًّا. عند أذان المغرب، لم تكن تجد موطئ قدم في الحسينية. كان هناك كلمة مقتضبة بين الصلاتين، فتساقطت أولى قطرات الدموع على الأرض. وبعد صلاة العشاء، شعر الجميع بأنّ هذا المجلس هو الأخير الذي يجمعهم جنبًا إلى جنب.

 

الأشعار التي دُوّن اسمي تحتها هي أشعاري. قال لي البعض إنه لا يمكن قراءتها أمام الملأ لأنها من دون وزن وقافية. يجب الالتفات

 

348

 


306

وثائق الفصل الخامس

إلى أنني لم أنشدها لتقرأ في أيّ مكان، لقد أردت أن أخرِج مكنونات قلبي، وفي هذا المجال قال لي أحدهم من الجيد لو أنك تناجي الله بما يختلج في صدرك. قلت له: يا عبد الله، أنت مثل ذلك الطفل الصغير الذي ما إن يصيبه قليل من الأذى حتى يشكو الأمر إلى أمه فتضمّه إلى صدرها فورًا. أنت قريب من الله لدرجة أنك تخبره بما يهمّك بكل سهولة، أما أنا، وبسبب الحجب التي تملأ قلبي، فمجبر على التعبير بهذه الطريقة.

 

2-8 الوصية

النسخة المكتوبة بخط اليد غير موجودة لدينا.

 

لا أعلم كيف أخبر عوائل الشهداء العظام وغيرهم بشهادة ابن لهم أو زوج، أو أخ، لكنّني هنا أشير إلى موضوع واحد وهو أنّ هذا امتحان كبير. نحن نُمتحن في كل خطوة نخطوها. من جديد، أنا أدعو في محضر الربّ الرحمن، بحق مظلومية هؤلاء الشباب في الجبهة، وقطرات دموع المجاهدين المتناثرة في جوف الليل على تراب الجبهة المقدس أو على أسلحتهم، وبحق آخر كلمة نطقت بها أجسادهم المزيّنة بالدماء: السلام عليك يا حسين، أن يمنّ بالصبر والمعرفة على كافة العوائل التي قدّمت القرابين لله. في النهاية أشير إلى مسألتين وأنهي وصيتي، الأولى هي يا عوائل الشهداء، عندما تقتلعون جزءًا من أرواحكم وعمركم بكل إيثار وتقدمونه قربانًا إلى الله، لا تظنوا أن هذه الهدية سوف تبقى بلا جواب. أول جواب لله هو أنه سيختم دعوته لكم بختم الدم على أجساد أبنائكم. أنا لا أعلم ماذا يمكن أن يحصل لي بعد العمليات: هل أؤسر، أو أستشهد أو أجرح أو أصاب بعاهة، لكنني أطلب من الله إذا أمهلني مرة أخرى أن يعلم أنني لن أستمرّ في هذه الدنيا إلا بحبال الصبر.

 

349


307

وثائق الفصل الخامس

2-9 مقابلة مع أخت الشهيد

أنا البنت البكر في العائلة واسمي آرزو. ولد أخي عام 1968م في طهران. كان والديّ على علاقة خاصة بالإمام علي عليه السلاموأهل بيته وخاصة بأبي الفضل، لذا أسموا أخي "أمير عباس". كان والدي يعمل في دائرة تسجيل الوثائق الرسمية، وكانت أمي ربة منزل من أهالي يزد. عشت وأخي طفولة جميلة. كنّا نذهب معًا إلى الدكان ونشتري بمصروفنا الحليب والكيك ونأكلهما. كان أمير عباس يحب هذا النوع من الطعام. أمضينا مرحلة جميلة، لكنّ والديّ انفصلا عن بعضهما البعض، وأسَّسَ كل منهما حياته المستقلة. بقيت ذكرى الحليب والكيك عالقة في ذاكرتي منذ تلك الأيام. كنت في العاشرة من عمري تقريبًا وأمير في الخامسة.

 

في العاشرة من عمره، تلقى أمير هدية من أمه هي عبارة عن بندقية خردق. ذات مرة، ذهبنا معًا إلى الصيد واصطدنا طير حمام. عندما رأى دماءه شرع بالبكاء وندم على عمله، ثم قمنا بدفنه معًا.

 

عندما كان في المدرسة، إنتسب إلى الكشافة، وكم كانت ربطة الفولار الخاصة بثياب الكشافة ذات اللون الأبيض لائقة به. كما كان يحب كثيرًا الأعمال التقنية والكهربائية، كنا نناديه: السيد المهندس. في أحد الأيام فكّك مذياعًا قديمًا وخربًا ليتعرّف إلى نظامه. بسبب هذه الرغبة، اختار في المرحلة الثانوية تخصص الكهرباء الفنية. في تلك السنوات، صنع ساعة تقرأ الأذان لم يكن لها مثيل في تلك الفترة. كان والدي يشجعه أيضًا ويؤمّن له الكثير من الأدوات.

 

في بدايات شبابه كان يحب الملابس ذات اللون الأخضر وبلون الكريم، لكن عندما كبر أكثر وخاصة عندما ذهب إلى الجبهة، صار يحب اللون الرمادي.

 

350

 


308

وثائق الفصل الخامس

كان في السادسة عشرة من عمره عندما التحق بالجبهة لأول مرة. ذهب في بداية الصيف وعاد عند بدء العام الدراسي خريف 1984م. أحدثت الجبهة وأجواؤها وشباب التعبئة تغييرات أساسية في شخصيته. لم يصبر حتى انتهاء العام الدراسي ليلتحق مجدّدًا بالجبهة، فالتحق بها بعد عطلة عيد النيروز عام 1985م وبقي حتى آذار العام 1986م ميقات شهادته.

 

عندما كان يأتي في إجازة، كان يحدثنا عن الجبهة ويذكر شباب التعبئة بكثير من الثناء والإكبار. وكان يجيد تقليد أصوات الرصاص والانفجارات التي يسمعها في الجبهة. وبقي شريط مسجّل له يقلد فيه صوت المارش العسكري وتقارير العمليات، وكذلك صوت إطلاق النار وانفجار الصواريخ والقذائف.

 

عام 1985م انتقلت إلى بيت الزوجية لكنّ "أمير عباس" لم يتمكن من المشاركة في حفل زفافي لأنه كان في الجبهة. وعندما عاد، قدّم لي هدية عبارة عن غسالة، طقم صحون ملامين وعلبة أشرطة. كان من الواضح أنه أصبح رجلًا. فقد وضع كل ما حصل عليه من حقوق في عام كامل لشراء هذه الهدية. عندما قدّمت له حلوى العرس، طلب الحليب أيضًا. فتناولنا معًا الحليب والكيك كما في أيام الطفولة.

 

وأما بالنسبة لذكرى "شير يكدست": كان أمير عباس يعشق قادة الجبهة، ويختزن في ذاكرته الكثير من الذكريات عن قائد يدعى "شير يكدست" (الأسد ذو اليد الواحدة) يذكرها بالتفصيل الممل. البطل الذي واجه العدو بصلابة ولم يكن له نظير في الرجولة والمروءة. بعد شهادة أمير عباس سمعت أن اسمه هو بازوكي، قائدٌ بيد واحدة، حيث قطعت يده الأخرى في الجبهة، واسمه الصغير أسد الله، وتعني

 

351

 


309

وثائق الفصل الخامس

بالفارسية "شير خدا". استشهد "شير يكدست" في شتاء العام 1986م في معركة الفاو.

 

في آخر إجازة له، ذهب أمير عباس لزيارة والدي ووالدتي التي أحضرت البقلاوة له من يزد. كنا في شهر كانون الثاني أو شباط وقد أعدت له أمي حساء الرمان الذي يحب. تناولت معه طعام الغداء يومها، وكنت معه حين ودّع والدي. لقد كان شخصًا آخر، رأيت هذا التغيير في وجهه بوضوح. في الفترة نفسها التي كان فيها في الجبهة، رأيت في المنام أنه استشهد، المنام الذي تحقق بعد مدة.

 

كان لديه ألبوم يحوي مجموعة من الطوابع احتفظ به منذ المرحلة المتوسطة، وقبل الذهاب قال لي: "هذا الألبوم لك يا أختي. مضافًا إلى لوحة وبعض الكتب الدراسية. فلتكن ذكرى منّي لك".

 

قلت: "إن شاء الله سوف تعود... نريد أن نأكل مجدّدًا الكيك مع الحليب".

 

عندما كان يرتدي ثياب الجبهة والحذاء العسكري استعدادًا للذهاب إلى الجبهة قال: "انظري إلي جيّدًا... لن تريني ثانية يا أختي. سأذكرك دائمًا".

 

لم أتفاجأ حين سمعت خبر شهادة أمير عباس. وكأنني كنت أعلم من قبل بأنه سيستشهد. كنت ذلك اليوم في الشهر الأخير من حملي، ولم أستطع المشاركة بمراسم تشييعه ودفنه. لكن، عند الغروب، وحين خَلَتْ قطعة الشهداء من الناس، ذهبت إلى قبره، جلست عنده وأفرغت آلامي وأشواقي دموعًا تناثرت على تراب قبره. لم يكن أخي وحسب، بل صديقي ومودع أسراري ومسكّن آلامي، لقد أحسست بوحدة عجيبة بعد رحيله. لا أزال أفتقده إلى الآن، ولن يملأ أحد الفراغ الذي خلّفه.

 

352

 


310

وثائق الفصل الخامس

لقد مضى عشرون عامًا على ذلك الفراق، ولا أزال في كلّ عام في الثالث عشر من شباط أوزّع عن روحه الكيك والحليب ذوي الطعم نفسه الذي أحببناه في طفولتنا أنا وأمير عباس.

 

 

 

352

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


311

وثائق الفصل الخامس

3-4 مقابلة مع والدة الشهيد

في الحرب العراقية - الإيرانية ذهب ولداي إلى الجبهة تطوعًا واستشهدا. استشهد الأول في عمليات تحرير خرّمشهر سنة 1982م. وبعد سنة على شهادته، أراد رضا الالتحاق بالجبهة! لكن عارضتُ ووالده الأمر. كان حينها في الخامسة عشرة من عمره. أراني بيانًا للإمام الخميني حول الفتاوى الخاصة بالحرب لا أزال أحتفظ به، وقرأ واحدة منها على مسامعي:

سؤال: "هل يجب في الظروف الحالية تحصيل رضا الوالدين للذهاب إلى الجبهة؟".

 

الإمام: "الذهاب إلى الجبهة هو أمر واجب ما دامت الجبهة بحاجة إلى العناصر، ولا يشترط إذن الوالدين في ذلك".

 

كان رضا عطوفًا ورقيق القلب، ولم يكن يرغب بالالتحاق بالجبهة من دون موافقتنا أو في حال انزعاجنا من ذلك. ظلّ يحوم حولي وحول والده كفراشة حتى وقّعنا رسالة الموافقة على ذلك، ليلتحق بالجبهة في صيف 1984م، وبقي هناك حتى انتهاء عمليات "والفجر 4".


قبل ذلك، كانت شهادة علي- الأخ الأكبر لرضا - الحدث الوحيد الهام والمصيري في حياتنا الهادئة، الحادثة التي تركت أثرًا كبيرًا على أخلاق رضا وسلوكه.

 

كان مستوى رضا في المدرسة عاديًّا إلى متوسط، علاماته ليست مرتفعة ولا منخفضة. كان يتابع واجباته المدرسية، لكن عندما ذهب إلى الجبهة، بدا أنه لن يتمكن من الاهتمام بدروسه كما في السابق.

 

المرة الثانية التي التحق فيها بالجبهة كانت في العام 1985م، وظلّ يتابع دروسه هناك. شارك حينها في عمليات "والفجر 8" وحصل على

 

356

 


312

وثائق الفصل الخامس

علامات مرتفعة في امتحاناته أيضًا.

 

في تموز من العام 1986م أصيب بشظية في رأسه خلفت في جسمه آثارًا وخيمة. بعد أسبوع من إصابته حين علمنا بالخبر، ذهبنا لزيارته في المستشفى. كان كلّ رأسه مضمّدًا، ولم يكن يرى شيئًا. لقد أصابت الشظية الجانب الأيسر من رأسه فأصيب الجانب الأيمن من جسمه بالشلل الكامل. كان يعاني ألمًا شديدًا يصعب وصفه، ولا طاقة لي على تحمّله. عندما أخرجوه من غرفة العمليات، قطّع الملاءة الموضوعة على السرير إربًا إربًا لشدّة ألمه الذي لم تؤثر فيه حتى المسكنات القوية.

 

بقيت معه في المستشفى ليلًا ونهارًا. بعد أسابيع عدّة تحسنت حاله قليلًا، لكنّه ظلّ فاقدًا للبصر. بالطبع خفّ ألمه وصار يستطيع النوم لساعات في الليل والنهار. ذات يوم، جلست قربه بعد أن استيقظ من النوم، لم أهمس بكلمة، لكنه عرف أنني بجانبه فقال: "سلام ماما".

- يا روح أمّك، هل نمت جيّدًا.

- أجل.

 

لم أتحمل أكثر وسألته: "عزيزي رضا، كيف علمت أنني بقربك؟ فأنا لم أنطق بكلمة. كما إنّني سألت الممرضين، ألم يحدث أن اشتبهت يومًا بيني وبينهم؟".

 

- وهل الأمهات فقط يعرفن رائحة أبنائهنّ؟ الأولاد أيضًا يشعرون بوجود أمهاتهم من رائحتهن، وتشهد قلوبهم أنّ أمهاتهم إلى جانبهم.

 

حضنته، وقبّلت رأسه ووجهه وجبينه المضمّد. ورحت أبكي وأبكي حتى شعرت بالراحة. في تلك الأثناء قال لي:

- أمي العزيزة، إنّ النظر إلى وجه الوالدين له ثواب عند الله. للأسف صرت محرومًا من هذا الثواب.

 

357

 


313

وثائق الفصل الخامس

واسيته وقلت: "إن الله يستجيب حتمًا دعاء الأم بحقّ ولدها".

 

أعلم أن أصدقاءه في الجبهة قد دعوا له، وأنا ووالده دعونا له أيضًا. كنت أدعو له وأذكره عندما كان يصلي صلاة الليل.

 

أخيرًا تحسنت حاله وعاد إليه بصره، لكنّه صار يجلس على كرسي متحرّك. أحضرناه إلى المنزل في أواخر الصيف. كان على قدر من الحياء بحيث إنّه لم يكن يذهب إلى المرحاض في حال غياب والده. عرفت ذلك بعد مدة. كنت متعجّبة كيف أنه ذهب إلى الجبهة والخط الأمامي. فقد كان قلبه ينفطر لو رأى جرحًا صغيرًا. أنا على يقين أنه لم يسكن قلبه شيء سوى المحبة.

 

في خريف العام 1986م تحسنت حاله أكثر، لكنّ يده ظلت مشلولة وصار جريح حرب. عندما تمكن من الوقوف على قدميه عاد ثانية إلى الجبهة. في آخر إجازة أعددت له "دندونك"[1]، الطعام الذي أحبّه منذ الطفولة. تناوله بشهيّة.

 

عندما أراد العودة وكان ينتعل حذاءه، رأيت أنه لم يتعافَ بالكامل بعد، فقد استغرق وقتًا في ربط شريط حذائه.

 

ذهب، وعاد جسده. دُفِن ولدي في "بهشت زهرا". لقد أعدتُ تلك الأمانتين إلى الله وأفتخر بقصصهما واسميهما وذكراهما.


 


[1] نوع من الحساء الرائج في إيران يطبخ عندما ينبت السنّ الأول للطفل، ويعتقد الإيرانيون بأنه يساعد في نمو أسنان الطفل.

 

358


314

وثائق الفصل الخامس

الفصل السادس

 

حدائق جنّتية

أنهيت دورة الخدمة الإلزاميّة في الجيش عام 1985م. في الأيام الأخيرة، كان كلّ زملائي يتحدثون عن مشاريعهم المستقبلية: أحدهم يريد البحث عن عمل، وآخر سيسعى للزواج وتشكيل عائلة، وشابٌّ يفكر في متابعة تحصيله الدراسي. أنا أيضًا توجّب عليّ اختيار الطريق الذي أريد.

 

كان أخي "محسن" يكبرني بسنتين، وقد أنهى خدمته أيضًا قبلي بسنتين والتحق بالجبهة تطوّعًا. اخترت مساري أنا أيضًا، وقررت أن أرافق أخي "محسن" وأكون إلى جانبه. لذا، التحقت بالجبهة عبر مقرّ التعبئة في العاشر من تشرين الثاني عام 1985م.

 

ذهبت إلى ثكنة "دوكوهه" - التي تبعد قليلًا عن "انديمشك" - والتحقت بكتيبة حمزة التابعة لفرقة "محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" التي يخدم فيها "محسن". بالطبع لم يكن في مبنى الكتيبة يومذاك أحدٌ سوى "علي ميركياني" معاون الكتيبة. عندما قدّمت له نفسي قال:

 

360

 


315

الفصل السادس - حدائق جنّتية

- لقد أنهت الكتيبة للتوّ دورة تدريبية برمائية، وسيعود الشباب إلى دوكوهه في الغد أو بعد الغد.

 

وبناءً عليه، بقيت أنتظر عودة الكتيبة.

 

أدركت من تعامل معاون الكتيبة الذي يعرف "محسن" ويكنّ له مودة خاصة، أنّه ظنّ بأنني من قدامى المحاربين في الجبهة كـ"محسن"، وجئتُ لتولّي مسؤولية فيها، لكنني أنا نفسي كنت أعلم أنني شاركت فقط في عمليات "بدر"، ولم أكن مقاتلًا حينها، بل في الوحدة العقائدية - السياسية في اللواء المجوقل 55 في "شيراز". لم أجعل "ميركياني" حينها يغيّر تلك الصورة التي يحملها عني.

 

وصلت الكتيبة، والتحقتُ بالفصيل الأول في السرية الأولى الذي كان أخي مسؤوله، وقد تحدّث عنه سابقًا أثناء إجازاته. صرت الآن أرى أمام عينيّ ما سمعته من قبل، والوحيد الذي كنت أعرفه من بين عناصر الفصيل هو "محمد أمين شيرازي" الذي تعرّفت إليه عن طريق "محسن".

 

كان مبنى كتيبة "حمزة" مثل مباني الكتائب الأخرى مؤلفًا من خمس طبقات، وقد استقرّت السريّة الأولى في الطابق الخامس، وتقع غرفة الفصيل الأوّل على يمين السلالم.

 

لم تبقَ الكتيبة في ثكنة "دوكوهه" لأكثر من بضع ليالٍ، وذهب العناصر في إجازة لمدّة أسبوع إلى "طهران". أمّا أنا حيث كنت قد وصلت للتوّ، فقد بقيت في الثكنة مع شابين آخرين كانا قد بقيا فيها لأسباب خاصة، وهما "سعيد بور كريم" و"محمد عليان نجادي".

 

كان هذان الاثنان وغيرهما من شباب الفصيل يمضون أكثر أوقاتهم في الدرس والمذاكرة. ربما لهذا السبب لم يأخذا إجازة، فقد

 

361

 

361

 


316

الفصل السادس - حدائق جنّتية

كنّا في أواخر شهر تشرين الثاني والامتحانات على الأبواب.

 

بعد أسبوع عاد الشباب، وازدحمت جميع الغرف. لم تكن مهمتي قد تحدّدت حتى ذلك الوقت. وبحسب ما كان يراه "محسن" من المصلحة، صرت رامي "آر بي جي" وقائدًا للمجموعة الثانية، أي الشخص الرابع في الفصيل من حيث المسؤولية، مسؤول الفصيل، معاون الفصيل، قائد المجموعة الأولى وقائد المجموعة الثانية. كان أغلب عناصر الفصيل أحداثًا، وكنت الوحيد من بينهم ممّن سبق لي المشاركة في عمليات "بدر". أما "محسن كودرزي" قائد المجموعة الأولى في الفصيل فقد شارك في الكثير من العمليات، ودمّر العديد من الدبابات العراقية حتى ذلك الوقت.

 

اخترت مساعِديَّ بعد مشورة "محسن"، وهم على الترتيب: "محمد جواد نصيري بور"، "السيد حسن رضي" و"عرب علي قابل". ولازمني هؤلاء الثلاثة دومًا ليكونوا ليلة العمليات إلى جانبي ويساندوني.

 

في تشرين الثاني أو ربما كانون الأول، أقام إعلام الفرقة بمناسبة أسبوع التعبئة معرضًا في المكان الذي تقام فيه المراسم الصباحية في الثكنة، لاقى استحسان شباب الفصيل الذين شاهدوا في المعرض الأدوات العسكرية عن قرب وتلمّسوها، ولم يكونوا قبل ذلك قد رأوا غير صورها في مسجد المحلّة. كان ذلك رائعًا بالنسبة إليهم.

 

كان في غرفة الفصيل الأول خزانة كما في سائر الغرف، لكنها مختلفة من الداخل. لقد صنع الشباب من صناديق الذخائر مكتبة صغيرة خاصة، وكان عدد الكتب كبيرًا إلى درجة أنّهم صفّوا ما تبقّى منها في صندوق آخر وضعوه في كوة أعلى الخزانة.

 

لم تكن الثكنة مكانًا مناسبًا لتنفيذ مناورات أو تدريبات قاسية، لذا

 

362

 


317

الفصل السادس - حدائق جنّتية

غالبًا ما استفاد الشباب من وقتهم في الدراسة. عندما كانوا يجتمعون للدراسة، كانت البطانيات الموضوعة على أرض الغرفة تمتلئ بالكتب والدفاتر وأقلام الحبر والرصاص... بحيث يصعب عليك الانتقال داخل الغرفة من جهة إلى أخرى.

 

صرنا في هذه الحالات نذهب من الشرفة إلى غرفة الفصيل الثاني، ومن هناك إلى الممرّ لنصل إلى الجهة الأخرى من غرفتنا.

 

يقع مبنى المجمع العلمي للمجاهدين شمال المكان المخصص للمراسم الصباحية، ومن هناك كان يحصل الشباب على كتبهم الدراسية. كما كان يوجد في المجمع العديد من المعلمين الذين يعملون على حلّ إشكالاتهم العلمية. بالطبع كان لنا في الفصيل أستاذنا الخاص بنا، وهو "سيروس مهدي بور"، مسعف الفصيل، والطالب في جامعة إعداد المعلمين، فكان يعالج إشكالات الشباب قدر استطاعته.

 

في أواسط كانون الثاني(1986) اقترب وقت الامتحانات، فبقي عدد من الشباب في الثكنة لتقديم امتحاناتهم. أما نحن فكنّا قد ذهبنا سابقًا إلى معسكر "كرخه" للمشاركة بالتمرينات العسكرية استعدادًا للعمليات القادمة. وهناك استقررنا في الخيام ولم يعد ثمّة أبنية وغرف.

 

كان "محمد أمين شيرازي" في السابعة عشرة من عمره، وهو فتًى أسمر البشرة، التحق للمرّة الأولى بالجبهة بعد أن زوّر صورة هويته، وشارك في عمليات "بدر" إلى جانب أخي "محسن". أصيبت يده اليسرى بجراح بليغة في هذه العملية، فأُعفي من الخدمة الإلزامية في الجيش بسبب هذه الإصابة. وبسبب حيويته ونشاطه وضعف يده اليسرى، أوكل إليه "محسن" مهمة البريد في الفصيل. عرفت بعد فترة أنّ أخاه "مهران" قد فُقد أثره في هذه العمليات أيضًا. كان منزلهم في محلّة "نازي آباد" في طهران.

 

 

363

 


318

الفصل السادس - حدائق جنّتية

في معسكر "كرخه"، تابعنا التمرينات العسكرية بجديّة تامة. كان لدينا يوميًّا ساعات من الأنشطة العسكرية. في هذه المرحلة، أدركت الفروقات بين الجيش والحرس في موضوع التدريب. فغالبًا ما يركزون في الجيش على جانب المراسم والتشريفات الشكلية كتنكيب السلاح وتقديمه وغير ذلك... أما في الحرس والتعبئة، فكان هناك جانب عملي وقتالي.

 

قضى أخي "محسن" خدمته الإلزامية في الجيش، في فرقة "سنندج 28". لقد ذكر في كلامه مرّات عدّة قائدًا يدعى العقيد "شيرازي"[1] قلّما يعرفه شباب التعبئة، لكن بما أنّني أنهيتُ خدمتي الإلزامية أيضًا، فقد سمعت باسمه مرّات عدة، وهناك عرفت أنّه قدّم خدمة كبيرة في "كردستان". وبعد أن تعرّف إلى "محسن"، صار يكنّ له محبة خاصة، وأوكل إليه مهمة في الوحدة العقائدية - السياسية. انتهت خدمة "محسن" في شتاء 1983م، لكنه بقي في الجبهة عنصر تعبئة، وشارك خلال هذه المدّة بعدة عمليات منها: "والفجر التمهيدية"، "والفجر1"، "والفجر 4"، "خيبر" و"بدر".

 

قبل الخدمة الإلزامية، عمل "محسن" في أعمال كثيرة. لقد وقف على قدميه مذ كان في الثانية عشرة من عمره، وإضافة إلى متابعة دراسته، فقد ساعد العائلة في تأمين أمور المعيشة. عمل لمدّة في شركة لنسج الصوف إلى جانب والدي، وفي فترة أخرى عمل في حدادة وبويا السيارات، وبرع في هذه المهنة بحيث أنه صار يصلح السيارة المتهالكة لتعود جديدة.

 

كان يعشق الدرس أيضًا، وكثيرًا ما تحدّث المعلمون عن ذكائه


 


[1] الفريق أوّل الشهيد علي صيّاد شيرازي.

 

364


319

الفصل السادس - حدائق جنّتية

وجِدّه، لكنّ القدر خبّأ له مصيرًا آخر، ولم يتمكن من متابعة تحصيله الدراسي.

 

اشتهر مسؤول الفصيل الأول في السّرية الأولى من كتيبة حمزة بـ"الأخ صباحنا". كان يكرّر في المراسم الصباحية التي تقيمها الفرقة دعاءً اختاره بنفسه، رغم أنه باللغة العربية، لكنّه سهل الفهم. بالطبع لم يدّعِ أخي في أيّ وقت أنّه من ألّف هذا الدعاء، رغم أنه لم يُذكر في أيّ كتاب. ذات يوم، بعد الانتهاء من قراءة آيات من القرآن الكريم في المراسم الصباحية، قرأ "محسن" هذا الدعاء بصوته الجميل، وكرّر الجميع معه جمله، واحدة تلو الأخرى:

"اللهم اجعل صباحنا صباح الأبرار

ولا تجعل صباحنا صباح الأشرار

اللهم اجعل صباحنا صباح المقبولين

ولا تجعل صباحنا صباح المطرودين

اللهم اجعل صباحنا صباح الصالحين

ولا تجعل صباحنا صباح الطالحين

اللهم اجعل صباحنا صباح الخير والسعادة

ولا تجعل صباحنا صباح الشر والشقاوة

 

يا عزيز يا غفار، اغفر ذنوبي كلها وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات بحرمة محمد وآله".

 

إضافة لقراءة القرآن والدعاء في المراسم الصباحية، كان "محسن" مدّاحًا أيضًا، يعاون "محسن كربلائي" الذي اشتهر بـ"عمو حسن"[1]،


 


[1] شهيد. عمو حسن الستيني هذا هو غير عمو حسن -مسؤول السرية الأولى- الذي كان تزوج حديثًا، وَوُلِدَ ابنه في شتاء ذلك العام.

 

365


320

الفصل السادس - حدائق جنّتية

ذلك العجوز الستيني الذي كان يكنّ له محبة خاصة ويتبارى معه في إلقاء الشعر. أحيانًا كانا يجلسان معًا لساعات ويتبادلان الأحاديث ويضحكان، وأحيانًا أخرى كان أحدهما يقرأ العزاء للآخر ويبكيان. أما نحن فكنّا نكتفي بمشاهدة لحظاتهما الجميلة من البعيد.

 

خرجنا ذات ليلة من الخيمة إذ كان لدى الفصيل مناورة. أصدر "محسن" أمر الاصطفاف:

- تأهّب...

 

كنت الوحيد الذي أجاب بصوت مرتفع:

- الله...

 

قلتها، وعرفت أنني أخطأت إذ أجبت في الليل، لكن فات الأوان. لقد عاقبني "محسن" بالزحف مسافة 30-40 مترًا، عقوبة لها صعوبتها الخاصة، إضافة إلى أنها كانت على مرأى الجميع. برأيي لو أنّ أحدًا آخر ارتكب هذا الخطأ، لعاقبه بالوقوف والقعود عشر مرّات أو خمس عشرة مرة.

 

كان طقس المعسكر باردًا حتى داخل الخيام. كنّا في آخر الشهر الأول من فصل الشتاء، فكان أغلب الشباب يرتدون السترات الواقية للمطر، إذ لم يؤمّن الدعم المعاطف الكافية للجميع.

 

تابع الشباب دراستهم هنا أيضًا كما في "دوكوهه"، لكن ليس بالقدر نفسه، وذلك بسبب عدم توافر الإضاءة المناسبة، كما إنّ ضغط الأعمال العسكرية كان أكبر، ومع ذلك لم يتخلوا عن دراستهم. وقد اهتم معلّم الفصيل كثيرًا بمساعدتهم تعليميًّا.

 

ذات يوم، غادر خمسة أو ستة شباب خيمة الفصيل إلى المجمّع العلمي لتقديم الامتحانات حاملين أقلامهم ودفاترهم. بعد دقائق

 

366

 


321

الفصل السادس - حدائق جنّتية

على خروجهم تحول الطقس إلى غائم، وراحت الأمطار تتساقط بغزارة حتى ملأت السيول كلّ مكان. قَلِقْنا نحن الذين بقينا في الخيمة عليهم، أن كيف سيقطعون مسافة عدة كيلومترات من المجمّع إلى خيام الكتيبة. وقف "سعيد بوركريم" وقال:

- كل من لديه معطف أو سترة واقية من المطر، فليعطني إياه لأوصله إلى الشباب.

 

حضّرنا كيسًا من الملابس الدافئة، وانطلق سعيد بعد أن حصّن نفسه بالملابس جيّدًا. عاد الجميع بعد ربع ساعة ولم يمرض أحد بسبب تلك الأمطار.

 

عندما وصل الشباب، جفّفوا ملابسهم مستعينين بالمدفأة النفطية. كان "محمد أمين شيرازي" ضمن تلك المجموعة. مع أنه متأخر قليلًا عن أقرانه، كان يدرس بشكل جيّد مع الشباب. كان من المفترض أن يكون في الصف الثاني أو الثالث الثانوي، لكنه في الثامن الأساسي. وأكثر ما كان يحب مادة الأدب الفارسي. كنت أعلم أنّ كلا والديه معلمان.

 

في كانون الأول، طلب إعلام الفرقة من كل كتيبة أن تُعرّف عن عدد من التعبويين القدامى وذوي التفكير الحسن فيها ليتمّ تكريمهم في مراسم اختيار التعبوي النموذجي. كان "أحمدي زاده" أحد الذين اختيروا من كتيبتنا، لكنه لم يكن يقبل باستلام جائزته.

 

ذات يوم، أُعلنت في المراسم الصباحية أسماء التعبويّين النموذجيّين في الكتائب، وتسلّموا جوائزهم من قائد الفرقة الأخ "كوثري". مساء ذلك اليوم، ناداني أحدهم من خارج الخيمة. خرجت، لكن لم أعرف المنادي. عرّفت عن نفسي، فقال:

 

367

 


322

الفصل السادس - حدائق جنّتية

- طلب منّي أحد الأخوة أن أسلّمك هذا.

 

أخذت الأمانة وتعجبت من الأمر. كانت جائزة التعبوي النموذجي. أدركت أنها لـ"أحمدي زاده". ذهبت إليه، إذ كنت أعلم أين يختلي بنفسه، في منحدر قرب الخيمة. وجدته هناك. ربتُّ بيدي على كتفه وقلت له:

- ما هذا الذي قمت به؟

 

كما العادة أجاب وهو مطأطئ رأسه خجلًا:

- أخ "كلستاني"، أنت الذي تستحق هذه الهدية وليس أنا. هذه الجائزة من حقك.

 

كانت طباعه اللطيفة أرقّ من ورق الأزهار. لم أؤذه (بالكلام)، لكنّني بقيت أتحدث إليه حتى جعلته يوافق على استلام الجائزة التي كانت من حقه.

 

استمرّت التدريبات والتمارين العسكرية طوال اليوم، خاصة في الليل حيث كنا ننفّذ أغلب المناورات ليلًا. صرنا نشرب القهوة في خيمة الفصيل عند منتصف الليل لكي يتمكّن الشباب من مقاومة النعاس. كان مسؤول الفصيل يشتريها مع السكر بماله الخاص ويعدّها فيشرب منها مع من يرغب. لقد اشتهر شباب الفصيل الأول بشرب القهوة حتى صار مسؤولو السّرية الأولى، ومعاون الكتيبة، وأحيانًا قائد الكتيبة، يأتون إلى خيمتنا لارتشافها معنا. بالطبع كان فتيان الفصيل يلتحقون أحيانًا بجمع شاربي القهوة كي يتمكنوا من الدرس ليلًا.

 

كنّا نتناول القهوة على باب خيمة الفصيل بينما معظم الشباب نائمون، حيث صناديق التجهيز والمكان الذي ينام فيه مسؤول الفصيل ومعاونه. ولأنّنا كنّا نجلس على باب الخيمة، لم نكن نتسبب بأيّ إزعاج

 

368

 


323

الفصل السادس - حدائق جنّتية

للآخرين. كان عنصر البريد أكثر من يشاركنا شرب القهوة لأنّ مكان نومه قرب مسؤول الفصيل، وكان يشربها مع الكثير من السكر. بالطبع كنّا نقتصد في تناول السكر حتى لا نعاني نقصًا في حصصنا التموينية. أما الضيوف، فكان كلٌ منهم يحضر معه حصته منه.

 

كان معاوني "جواد" من مواليد طهران، إلا أن لهجته الكيلانية ظلّت واضحة. أما "حسن"، فكان قصير القامة لكنّه عريض المنكبين. تميّز "علي" أيضًا بلهجته اليزدية، وكان عندما نشعر بالجوع أحيانًا، يحدّثنا عن الكيك اليزدي والبقلاوة والـ"قطاب"[1] لنهدأ قليلًا. كان أحيانًا في الصباح والمساء يفتح دفترًا ويكتب فيه بعض السطور، وعندما ينتهي من عمله هذا، يغلق قلم الحبر الأزرق خاصته، ويضعه مع الدفتر في المحفظة إلى المرّة القادمة. كان علي أيضًا مصارعًا ماهرًا ويحبّ هذه الرياضة. أحيانًا كان يتصارع مع رامي الـB.K.Cفي الفصيل "غلام رضا نعمتي". لقد أتقن فنون المصارعة، زير يك خم وفتيله پيچ و... سألته ذات يوم:

- علي، أين تعلمت هذا الفن؟

- أنا أمارس هذه الرياضة في المنزل، مع أبي وأخي.

- تتصارع مع أبيك أيضًا؟

- أجل، يتقن أبي هذا الفن... وقد تعلّمته منه.

 

كان المساعدون الثلاثة لي تلامذة مدرسة، كنت و"أصغر أهري" - فيلسوف الفصيل - فقط من نحمل شهادة الثانوية العامة بين رماة "الآر بي جي" ومساعديهم. فجميعهم لم يبلغوا الثامنة عشرة من العمر بعد. فكانوا يدرسون وفي الوقت عينه لم يتخلّوا عن شغبهم.

 

 


[1] نوع من الخبز الذي يعد من صفار البيض واللبن وماء الزهر والهيل.

 

369


324

الفصل السادس - حدائق جنّتية

لقد قاموا بتمديد الكهرباء إلى خيام الكتيبة، فكانت تضاء المصابيح فيها من السابعة حتى العاشرة مساءً. صار الشباب يستغلون هذه الفترة في ليالي الشتاء الطويلة ويجدّون في دراستهم. لقد ملّ الجميع من نور الفانوس الأصفر والخفيف، لكن بعد أسبوع احترق المحرك الكهربائي الخاص بالكتيبة، وعادت الفوانيس لتستحوذ على اهتمامهم.

 

كان "محسن" يستخدم عطرًا اسمه "شيبر" معبّأً في قارورة خضراء اللون، وتختلف رائحته عن رائحة العطور المعروفة، واعتاد أن يلفّ حول رقبته شالًا طويلًا أسود اللون، مزركشة أطرافه باللون الأخضر، وقد اشتراه من أمام مقام "سبزقبا"[1] في "دزفول"، وابتاع منه أيضًا لعدد من الشباب.

 

كان "محسن" يكنّ محبّة خاصة لكلّ أفراد الفصيل فتية وكهولًا، وكانوا يبادلونه هذه المحبة ويعملون بأوامره بكل طيب خاطر. ذات ليلة كنّا ننفّذ مناورة في الفصيل، عندما أصدر مسؤول الفصيل أمرًا يقضي بعدم الاستفادة من مياه المطرات. صدر هذا الأمر والشباب في قمة التعب، بعد أن صعدوا الجبال ونزلوا الوديان وتعرقوا كثيًرا. فجأة أمسك أحد الشباب في طابور الفصيل مطرته إذ لم يعد يقوى على احتمال العطش، فقال له الواقف خلفه:

- يا أخ لا تخالف الأوامر!

 

في تلك الليلة، ساد الصمت وخيّم على الأجواء، فتناهى قوله إلى مسامعي وانتبهت له. نظرت إليه، وفي النهاية، عدل ذلك الشاب عن رغبته بشرب الماء وأرجع المطرة إلى مكانها.


 


[1] نسبة لمحمد بن موسى الكاظم عليه السلام.

 

370


325

الفصل السادس - حدائق جنّتية

ذات ليلة، كنت قد غفوت لتوّي وغرقت في سبات عميق، وإذ بصوت يناديني، وبعد أن استعدت تركيزي عرفت أنه صوت "مسعود أهري". خرجت من الخيمة فوجدت "محمد قمصري" معه أيضًا. بعد التحية والسلام، شعرت بأنهما يرغبان بأن أرافقهما. تبعتهما من دون أن أنطق بكلمة، وبعد مئة متر توقفنا عند منحدر واد. في تلك الليلة المظلمة بدا ذلك الوادي المليء بالأخاديد مرعبًا. دققت النظر فرأيت حفرة تشبه القبر. ذهلت، وظننت أنني أحلم عندما رأيت "محمد قمصري" يضع قدمه في الحفرة وينام فيها باتجاه القبلة. جلس "مسعود أهري" قربي وراح يتمتم بخشوع:

"...وأسألك الأمان يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم...".

 

لم أكن قد رأيت مثل هذا المشهد قبل تلك الليلة. لقد اشتبه هذان الاثنان بيني وبين أخي، وربما ظنوا أنني مثله تعلّمت قراءة الأدعية والعزاء، وأستطيع مساعدتهم في هذه الأمسية. لقد أخطأوا الظنّ فقد كنت أنا المحتاج إليهما. كان "محمد" يذرف الدموع وهو ممدّد في تلك الحفرة و"مسعود" يذرفها وهو إلى جانبي.

 

بات الهلال يظهر حينًا ويختفي حينًا آخر خلف الغيوم. بعد مدة خرج "محمد" من الحفرة وأخذ "مسعود" مكانه، وجاء دوري بعده وتمدّدت داخل القبر. كان بصيص النور المتأتي من الهلال كفيلًا بمنحي القوة، فقد كانت ظلمة القبر مرعبة بكل ما للكلمة من معنى. هذه المرة، كنت أنا في الأسفل وذانك الملاكان السماويان جالسان عند حافة الحفرة يبكيان.

 

صباح اليوم التالي، انتشر خبر مفاده أن قائد الكتيبة قرر إعفاء الشباب دون السابعة عشرة من الخدمة. قلبت هذه الشائعة خيمة

 

371

 


326

الفصل السادس - حدائق جنّتية

الفصيل رأسًا على عقب. شائعة ربما سرت من كتيبة أخرى، أو أنّ أحدهم أراد المزاح فتسبب بفوضى عارمة إلى حين معرفة الحقيقة. توجه الفتية بالشكاوى إلى كل من "محسن" ومعاون الفصيل حسين فياض:

- ليس من الإنصاف أنّنا تدربنا كل هذا التدريب وسهرنا الليالي ولا نكون معكم ليلة الهجوم...

- صحيح أن لحانا لما تنبت بعد، لكن متى تخلفنا عن شباب الكتيبة؟..

- لو لم ننشغل بالدراسة إلى هذه الدرجة لما حصل ما حصل.. القادة على حق.. في أي فصيل تجد كل هذه الكتب والدفاتر والأقلام؟

- لنذهب جميعًا ونشتكي عند الحاج كوثري. إن قائد الفرقة سيقبل حتمًا وسيعيدنا إلى الكتيبة...

- أفكر أن نذهب مباشرة من هنا إلى مطبخ الفرقة. لأننا قصار القامة، فيضعون كلّ واحد منّا في قِدْر ويعطوننا الإسفنج ومسحوق التنظيف لنغسله. في منزلنا لا نتعرّف على شيء ولا نقوم بأي عمل، والآن علينا أن نغسل قدور الفرقة...

 

سيطرت هذه الشائعة على أجواء الفصيل إلى أن عاد قادة الفرقة عند غروب ذلك اليوم من جلسة مطولة وكذّبوا تلك الأخبار، فاستعادت خيمة الفصيل هدوءها من جديد.

 

عانينا من نقص في التموين على مستوى الفصيل، وظهر هذا النقص واضحًا على مستوى كل الفرقة، وفي الكتائب أكثر منه في الوحدات. في البداية عندما جئنا إلى "كرخه"، كنّا ندّخر الخبز اليابس ولا نرميه، وبعد عدة أسابيع، عندما كان الجوع يغلبنا بشدّة، كنّا نأكل أحيانًا من ذلك الخبز.

 

 

372

 

 


327

وثائق الفصل السادس

بالطبع أنا اعتدت على قلة الطعام. كان قائد المجموعة الأولى "محسن كودرزي" يمازحني أحيانًا ويقول:

- حسين، إن لم تأكل جيّدًا ستفقد القدرة على القتال ليلة الهجوم.. كُل القليل من الطعام لتقتات وتتمكن من القتال بشكل أفضل.

 

ثمّة ليلة من ليالي "كرخه" لن أنساها أبدًا، هي تلك التي حفر فيها فتية الفصيل حفرة قرب الخيمة تشبه القبر، ونام فيها كلّ منا بضع دقائق.

 

في تلك الليلة سادت حال معنوية عجيبة على مسؤول الفصيل والشباب، فقرأوا زيارة عاشوراء داخل الخيمة ثم خرجوا منها. كنّا نسمع أصواتهم بوضوح داخل الخيمة حيث بقيت أنا وتسعة آخرون فقط. أحدهم ظلّ ساجدًا على الأرض لساعة كاملة، وآخر جلس مثلي ثانيًا ركبتيه إلى صدره، واثنان آخران تمدّدا وغطّيا وجهيهما ببطانية. أظن أن أحدًا لم يغفُ تلك الليلة.

 

روى لهم "محسن" في الخارج قصصًا عن عمليّات "والفجر 4" وحدثّهم عن معنويّات المجاهدين حينها، وقرأ لهم أيضًا مناجاة الإمام علي  عليه السلام.

 

نحن الذين كنّا داخل الخيمة سمعنا صوت المناجاة، وفي الوقت نفسه كنّا نسمع طرقات المعول والمجرفة، فاستطعنا أن نخمّن ما الذي يحصل خارجًا. استمرّ الشباب في مناجاتهم حتى قبيل السحر، حين خرجت من الخيمة لأتوضّأ، رأيت تلك الحفرة، كانت أكبر بكثير من حفرة "محمد" و"مسعود".

 

"محمود أستاذ نظري"[1] تلميذٌ تعبوي في السرية الثانية، ويقال إنّ


 


[1] استشهد في عمليات "والفجر 8".

 

373


328

الفصل السادس - حدائق جنّتية

وضع والده المالي جيّد. كان يكنّ محبة خاصّة لمحسن وللفصيل الأول، وصار يأتي إلى خيمتنا من حين لآخر ويجلس معه، فكانا أحيانًا يقرآن القرآن والدعاء معًا، ويتناوبان على قراءته آية آيةً أو سطرًا سطرًا، وأحيانًا يتباريان في إنشاد الشعر.

 

ذات يوم جاء إليّ "أحمد أحمدي زاده" الذي اختير تعبويًّا نموذجيًّا حاملًا معه دفترًا وطلب مني أن أكتب له على دفتر المذكرات، فكتبت له بعض العبارات في معسكر "كرخه" يوم الثلاثاء 7/1/1986، عند الثامنة وخمس وأربعين دقيقة.

في أواسط كانون الثاني أعطت الكتيبة إجازة للشباب. عندما وصلنا إلى طهران، ذهبت و"محسن" وعددًا آخر من شباب الفصيل إلى مشهد بعد أن قضينا يومين في المنزل. استغرقت الرحلة ليلتين ذهابًا وإيابًا بالقطار. عندما نظرت إلى الزخارف في صحن حرم الإمام الثامن قلت لـ"محسن":

- لقد أنجزوا عملًا رائعًا...

- روعته في أنّ أحدًا لا يستطيع رؤية نفسه من خلال هذا الزجاج المتكسّر. عندما يدخل الزائر إلى الحرم يجب أن يكون متواضعًا وكسير القلب حتى يتمكن من رؤية الحبيب.

لقد رأيت أنا ظاهر ذلك العمل لكنّ "محسن" انتبه إلى أسراره الخفية. ولأنّه كان علينا العودة بسرعة، سألت:

- كيف كانت الزيارة؟ ألم يكن وقتها ضيّقًا؟ ليتنا بقينا أكثر!

- كانت جيدة. لقد قلت كلامًا للإمام الرضا هذه المرّة، وسوف يستجيب الله لطلبي إن شاء الله!

 

لم أتمالك نفسي فسألت: "ماذا قلت للإمام الرضا؟".

 

374

 


329

الفصل السادس - حدائق جنّتية

هزّ رأسه وتهرّب من الإجابة بنظرة منه[1].

 

عندما أردنا العودة إلى الجبهة، أكثرَ والداي من التوصية لي ولـ"محسن" بأن ننتبه إلى أنفسنا. في ذلك الشتاء، كنّا في الجبهة ثلاثة إخوة، وقد عاشت أمي أوقاتًا عصيبة حينها.

 

في "كرخه"، أكّد القادة على وجوب أن تكون الكتيبة على جهوزية تامّة لتتمكّن من تسلّم مهمة هامّة في العمليات القادمة. لهذا قمنا بالكثير من التمارين في الأيام التالية، وتألّقنا في آخر مناورة للكتيبة في "كرخه" وهي عبور كتيبة مؤلفة من 300 عنصر في ممرات ومنحدرات مليئة بالحصى مع أقلّ ضوضاء ممكنة. كان العناصر مدربين بالكامل وجاهزين للعمليات.

 

في النهاية أُبلغنا بلزوم إجراء آخر اتصال وكتابة آخر رسالة لأنه عندما نغادر هذا المعسكر لن يكون هناك إمكانية للتواصل مع الأهل. كتب الشباب وصاياهم الأخيرة في معسكر "كرخه"، طلب مني مساعد رامي "الآر بي جي" في الفصيل أن أكتب له في بداية وصيته آية "ولا تحسبنّ الذين قتلوا..." من دون خطأ. وأمضى شابٌّ آخر ساعات على مدى يومين في كتابة وصيته، لربّما محاها مرات عدّة وأعاد كتابتها. كان في كل فرصة يختلي بنفسه ويكتب[2].

 

في آخر ثلاثاء، قرأنا دعاء التوسل في الفصيل. كان هذا الدعاء مختلفًا عن غيره، وقرأه أربعة عشر شابًّا، كل واحد مقطعًا[3].

 

ذات يوم سلّم الشباب أغراضهم الشخصية لـ"تعاون" الفرقة. رأيت


 


[1] لم يمض شهر حتى حصلت على الجواب، كان قد طلب من الإمام الشهادة.

[2] بعد شهادته، قرأت وصيته في طهران. كانت مؤلفة من 8 أو 9 صفحات مكتوبة بخط صغير.

[3] استشهد من فصيلنا في عمليات "والفجر 8" هؤلاء الأربعة عشر أنفسهم فقط.

 

375


330

الفصل السادس - حدائق جنّتية

"محسن" عند غروب ذلك اليوم غارقًا في التفكير. جلست قربه وقلت:

- ليتنا بقينا أكثر في كرخه!

- إن شاء الله نذهب، ونعود مجدّدًا إلى هذا المعسكر.

 

وقتها، طلب مني أن أخطب الفتاة التي يحبها في حال استشهد. أساسًا كنّا قد اتفقنا أنّ من يرجع سالمًا يتزوجها. كان قلبه لا يزال متعلقًا بها. فكرت بها، إنها فتاة طاهرة ومؤمنة وأصيلة. استغربت اقتراحه، لكن قبلت به ليرتاح باله.

 

قبل مغادرة "كرخه" ذهبنا إلى ميدان الرماية، فقام "محمد أمين شيرازي" بإطلاق النار من رشاشه، وكان من حين لآخر يدلّك مرفقه. لقد كان وأخوه التوأم - مهران - جريحين، أصيب هو في مرفق يده، أما أخوه فقد بترت قدمه. كما فُقد أثر أخيه الأكبر مجيد في عمليات "بدر". كانت حماسته ونشاطه للمشاركة في العمليات القادمة يرفعان من معنوياتنا.

 

أخيرًا غادرنا "كرخه" بالحافلة بعد أن أقمنا صلاة الظهرين وتناولنا طعام الغداء، ووصلنا ليلًا إلى المخيم التالي. عندما انعطفت الحافلة شرقًا، عرفنا من خلال تجربتنا في العمليات السابقة ورؤيتنا لمنطقة الجفير، أنّنا لن نذهب إلى هناك. تقدّمت الحافلات حتى بساتين النخيل على ضفاف "كارون". توزّعنا في عتمة الليل على خيام المعسكر الجديد الذي حمل اسم معسكر "كارون".

 

في اليوم التالي، جاء إليّ مخرّب الفصيل "حسن قابل أعلا" وكان صغيرًا في السنّ، طالبًا مني كتابة مذكرات له. قلت له:

- أين الدفتر؟

 

أعطاني دفترًا صغيرًا كرزي اللون، حمدت الله أنّه كان صغيرًا على

 

376

 


331

الفصل السادس - حدائق جنّتية

عكس دفتر "أحمدي زاده". قلت:

- أخ حسن، وكأنني أول من يكتب... ألا يمكن أن تعطي دفترك لصديق مؤمن طاهر القلب يفتتحه؟

 

أجاب بسرعة بديهته: "ومن أجد أفضل منك ليكتب لي شيئًا من المضامين العرفانية؟ ابدأ أنت، وسيمتلئ الدفتر بسرعة إن شاء الله".

 

"مهدي كبير زاده" هو مساعد رامي "الآر بي جي" في الفصيل، ولهجته يزدية مثل "علي قابل". ذات يوم، وبينما كنّا جالسين في الخيمة، أريته قميصي القديم والبالي، الموصول بعضه ببعض وقلت له:

- هل نبدّل قمصاننا؟

- لا مشكلة أخ كلستاني.

 

كان قميصه أفضل من قميصي. ارتديته، فوجدته ضيّقًا بعض الشيء، كما وجد قميصي واسعًا عليه بعض الشيء.

 

ابتسمنا، وكانت تلك علامة الرضى بهذه المبادلة، عندها سلّمت "مهدي" ما في جيب قميصه، ووجدت بين أغراضه مصباح جيب وخيطًا وإبرة. قلت له: "هذان الإبرة والخيط يفيدانك كثيرًا وأنت ترتدي ذاك القميص".

 

قال مهدي: "أنا أيضًا خياط ماهر. أخيط القميص وأصلحه فيصبح أفضل مما كان عليه من قبل".

 

هكذا تبادلت ومهدي التذكارات.

 

ذات يوم نفذنا مناورة في بساتين النخيل للتدرّب على مواجهة الهجوم الكيميائي. وكنّا قد نفّذنا سابقًا مناورة أخرى في "كرخه" للغاية نفسها، لكن استخدام القناع الواقي هنا كان أصعب بسبب الطقس الحار والرطب. كانت المناورة عبارة عن المسير لساعات بتجهيزات كاملة واضعين القناع الواقي. لقد شاركت الكتيبة كلّها في

 

377

 


332

الفصل السادس - حدائق جنّتية

هذه المناورة وانقطع نفس الجميع فيها.

 

لم تكن صداقتي العميقة بـ"شيرازي" خافية على أحد. في ذلك اليوم، الرابع من كانون الثاني، كتبت مذكرات لمساعدي "جواد نصيري بور". وعندما طلب منّا كتابة مذكرات له بدأت المجاملات:

- اُكتب أخ محمد، أنت ابدأ بالكتابة.

- أخ كلستاني، الأكبر سنًّا أولًا. ابدأ أنت بالكتابة.

 

في النهاية أخذ "شيرازي" الدفتر وكتبت أنا من بعده. بالطبع بعد أن أخذ منّي عهدًا أن لا أقرأ ما كتب، وكتبنا نحن الاثنان مذكراتنا في أول صفحتين متقابلتين، تمامًا كما كنّا دائمًا في صداقتنا أحدنا إلى جانب الآخر.

 

في ذلك اليوم نفسه، تحدثتُ مع "محمد أمين" حول أخيه التوأم الذي جاء إلى "دوكوهه" بقدمه المبتورة. سألته:

- من وُلد قبل الآخر.

- أولا ترى أنّني دائمًا على عجلة من أمري ولا أثبت في مكان واحد؟ من الواضح أنني ولدت قبله!

 

ثم سألني:

- أخ كلستاني، هل حدث أن تشاجرت مع الأخ محسن وتضاربتما؟

 

- ضرب، لا. لكن جَرَحَ أحدنا الآخر بالقوس والنشاب أو ببندقية الخردق.

 

- إن شاء الله يسامحني مهران. لقد تضاربنا كثيرًا. لأنني أكبر منه ببضع ثوان، كنت أظلمه دائمًا، وهو لا ينطق بكلمة لكي يضع حدًّا للشرّ.

 

378

 


333

الفصل السادس - حدائق جنّتية

- أن يكون لك أخ توأم له نكهة خاصة أيضًا!

 

- كنّا دائمًا معًا في المدرسة والصف، وأحيانًا كنّا نرتدي الملابس نفسها. في طفولتنا، كان يصعب تمييز أحدنا عن الآخر، لكن عندما كبرنا، صارت الاختلافات واضحة بيننا.

 

- الآن من السهل تمييزكما. أنت يدك معلقة إلى رقبتك، وهو يحمل العصا. بالمناسبة، أين دفنت قدمَه المبتورة؟

 

- في مستشفى شيراز. أحيانًا يذهب ويقرأ الفاتحة لها.

 

بقينا في "كارون" أسبوعين نفذنا فيهما عدة مناورات برمائية، كما ذهبنا إلى ميدان الرماية مرة واحدة. كان لدينا نوبات حراسة ليلًا. ذات ليلة وقعت نوبة حراستي من الثانية بعد منتصف الليل حتى الرابعة فجرًا. أيقظني مسؤول الحراسة في الوقت المحدّد. وكان من عادتنا أن نتوضأ بعد الاستيقاظ. أثناء الحراسة، دخلت إلى الخيمة مرّات عدة، فوجدت الشباب يغطون في نوم عميق. في إحدى المرات، وقد بقيت ساعة واحدة لصلاة الليل، وجدت البعض مستيقظين. سمعت صوت ذكر. دققت جيّدًا، إنّه ليس صوت أولئك المستيقظين، بل النائمين، يردّدون أثناء نومهم ذكر "يا فاطمة، يا فاطمة"، "يا حسين، يا حسين" و... كان ذلك عجيبًا ودفعني إلى التأمل، فمن كثرة ذكرهم لله وأوليائه نهارًا وبسبب نومهم على وضوء، صار ذكر الله يجري على ألسنتهم ليلًا وهم نائمون. كان أولئك الفتية يعدّونني زاهدًا وعارفًا لأنني آكل أقلّ منهم ببضع لقيمات، لكن العارف الحقيقي كان هم. كانت قلوبهم وأرواحهم نورانية. ولو لم يكونوا كذلك، لما استطاعوا تحمّل كل تلك الصعوبات والمشقات.

 

قبل مغادرة معسكر "كارون"، سجل شباب الإعلام رسالة لكل

 

379

 


334

الفصل السادس - حدائق جنّتية

مجاهد. كنت قرب "محسن" عندما وصل الدور إليه. ولقد سمعت ذلك الصوت مرات عدة:

"أنا، محسن كلستاني، التحقت بالجبهة عبر مقرّ سيد الشهداء عليه السلام، وأخدم في فرقة "محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كتيبة حمزة سيد الشهداء عليه السلام، السرية الأولى، الفصيل الأول. الآن، في بساتين النخيل هذه، وفي هذه الليلة المظلمة، ينهمك الشباب بجمع عدّتهم وعتادهم للعمليات. من الممكن أن يصدر الأمر بالتحرك في أيّ لحظة. لا أحد منّا يعلم شيئًا عن مستقبل هذه المعركة، ولا أحد يعلم كم سيستشهد من مجموع الثلاثين شابًّا ونيّفًا من هذه المجموعة. يعيش الشباب الآن مشاعر مختلفة عن الأيام العادية، ولا شكّ في ذلك. إن شاء الله نحن جميعنا ذاهبون إلى النصر وبكل شوق".

 

بعد ظهر أحد الأيام، غادرنا معسكر "كارون" في شاحنات مغطاة من الخلف. كان المخيم التالي عبارة عن بيوتات قروية على ضفاف نهر "بهمنشير". اجتمع فصيلنا في أحد المنازل وبقينا فيه حتى الصباح. بدأت عمليات "والفجر 8" في تلك الليلة نفسها. في اليوم التالي قدّموا لنا على الغداء الدجاج بالأرز، كيسًا لكل شخص. وكما هي العادة أعطيت طعامي للآخرين. أكل "محسن كودرزي" بضع ملاعق من الأرز وقطعة صغيرة من الدجاج من حصتي. قلت له: "أخ محسن تناول المزيد منه".

 

لم يقبل وقال: "إن لم تتناول طعامك، فلن تقوى على القتال ليلة الهجوم".

 

أشرتُ إلى سبابته وقلت: "إذا ضربتَ العراقيين بإصبعك الحديدي هذا، سأترك "الآر بي جي" جانبًا وأصبح مساعد مسعف".

 

380

 


335

الفصل السادس - حدائق جنّتية

كان "كودرزي" قرويًّا قويّ البنية رغم صغر حجمه. فقد أجزاءً من إصبعيه في عمليات "والفجر4"، لكنّ سبّابة تلك اليد المصابة بقيت سالمة وقوية إلى درجة سمّاه الشباب صاحب "الإصبع الحديدي".

 

غادرنا البيوت القرويّة وتوجّهنا بالشاحنات إلى عنابر "أروند كنار". كانت العمليات قد بدأت ولم يعد هناك من حاجة للعمل السري. لقد استطعنا ونحن في الشاحنة رؤية بساتين النخيل الموجودة في المنطقة.

 

كانت العنابر قليلة، لكنّ مهندسي الفرقة قاموا بعمل جيّد إذ أحكموا بناءها، وغمروا سطحها بالتراب. نمنا داخل العنابر جلوسًا أما بعض الشباب فأمضوا الليل خارجها في أكياس النوم مستيقظين حتى الصباح.

 

عند الصباح، رأيت "سهيل مولايي" قد أحضر معه كتاب الرياضيات إلى هناك، وانشغل بحلّ المسائل الرياضية. لقد جلس على باب العنبر ليتمكن من الرؤية بشكل جيد فلم أزاحمه في ظل معمعة العمليات التي كنا نعيشها.

 

في الحادي عشر من شباط اشتدت حدّة الغارات الجوية العراقية، وأبلت مضادّاتنا الجويّة بلاءً حسنًا في صدّها. أقمنا صلاة الظهر جماعة في العنبر، ولأنّ المكان ضيّق، بالكاد اتّسع لصفوف المصلين. جلت بنظري على الأصدقاء، بدا "محمد عليان نجادي" و"سعيد بور كريم" سعيدين. كانا متبسّمين في الصلاة أيضًا، ولا يمكن وصف سعادتهما وحماستهما. وكأنّ السعادة كانت جزءًا من مهامّهما. بدا القادة أيضًا سعداء كالتعبويين. لم يخفِ السّيد "مجتهدي" -معاون الكتيبة - سعادته هذه أيضًا. كان يمازح الشباب بأسلوبه اللطيف. ذات مرّة عندما رآني و"محسن" معًا قال:

 

381

 


336

الفصل السادس - حدائق جنّتية

- بعد الشهادة سأراكما أنتما الاثنين.

 

أجاب "محسن":

- إن لم يأخذ السادة بأيدينا سنبقى في مكاننا إلى الأبد.

 

غادرنا العنابر بعد ظهر ذلك اليوم نحو رصيف المَرسى الذي يبعد عنّا كيلومترات عدّة، يقع هذا المرسى قرب نهر يصل عرضه إلى عشرة أمتار وإلى جانبه بيت خربٍ إلى حدٍّ ما. انتشر شباب الكتيبة حول ذلك البيت، قرب النهر وعلى الجادة الرملية، وراحوا يركبون الزوارق مجموعة تلو الأخرى. فكان كلّ زورق ينقل مجموعة.

 

عند غروب الحادي عشر من شباط، انتظم فصيلنا في طابور في الجادة الساحلية المعبدة في "الفاو". انطلقنا سيرًا على الأقدام. مشينا مئات الأمتار حتى وصلنا إلى سكن حكومي غرفه خالية واستقررنا فيه. تناولنا هناك طعام العشاء وهو عبارة عن الهمبرغر وكبيس الخيار مع خبز الـ"لواش". قال "محسن" للشباب بناءً على خبرته:

- من الأفضل أن تتناولوا الخبز وحده.

 

لا أحد يعلم متى تمّ طهي هذا الطعام، من أين أتى وكم بقي في الطريق وما جرى عليه حتى وصل إلى أيدينا. فكان العقل يحكم بأن نعمل وفق ما قاله أخي.

 

في تلك الليلة، رأيت "حسن قابل أعلا" يتلوّى من ألم في معدته وقد شحب وجهه. عندما قال له "محسن" إنّ باستطاعته عدم المشاركة في الهجوم ساء وضعه أكثر، قلقًا من أن لا يتمكن من مرافقة الشباب.

 

أقبلت ليلة الأربعاء ودعاء التوسل. قرأ الشباب الدعاء بتجهيزاتهم العسكرية الكاملة، حتى إنّهم ظلّوا يرتدون الأحذية العسكرية. كان لذلك الدعاء في تلك المنطقة صفاء من نوع آخر.

 

382

 


337

الفصل السادس - حدائق جنّتية

عند الواحدة بعد منتصف الليل، انتقلت كلّ الكتيبة إلى الأمام بشاحنات كانت قد غنمتها سابقًا. في اليوم التالي أي الثاني عشر من شباط، كنّا قرب جادة "الفاو-أم القصر"، على بعد مسافة 10-12 كلم من مدينة "الفاو". لقد جرح اثنان من الشباب ذلك اليوم، إذ كنّا في خطّ المعركة الثاني، وعرضة لهجمات العدو الجوية والبرية. بقينا هناك طوال النهار، حيث تقدمت الكتيبة مباشرة بعد أداء فريضتي المغرب والعشاء سيرًا على الأقدام، تحت جنح الظلام.

 

توقّفنا قرابة الساعة في نقطة عرفنا فيما بعد أنّها مثلث مصنع الملح، وذلك ليقوم قادة الكتيبة بالتنسيق مع قادة الفرقة، وقد حضر "محسن" مع سائر المسؤولين الكبار جلسة التنسيق هذه. في تلك الجلسة حُسم أمر عمليات كتيبة "حمزة" وتمّ توجيه قادتها وإعطاؤهم التفاصيل عن منطقة العدوّ.

 

كان هدف الهجوم هو احتلال كيلومترات عدة من جادة "الفاو-أم القصر" والوصول إلى جسر الجادة الكبير المستحدث فوق قناة كبيرة، والذي يصل طرفي الجادة بعضهما ببعض. فإذا ما تمّ تفجير ذلك الجسر تمكنّا من تأمين خطّ دفاع "الفرقة 27" بالكامل، وكذلك تأمين الجناح الأيسر لعمليات "الفجر 8" بتمامه.

 

لم يستغرق توجيه العناصر حول منطقة العمليات أكثر من عشرين دقيقة. قالوا لنا إنه يوجد على الجادة بعض الدبابات المحترقة وعدد سليم منها، فحاذروا من أن تشتبهوا بالهدف وترموا الدبابات المحترقة فتذهب ذخيرتكم هدرًا. كما قيل لنا إنّ الكتائب التي عملت في الليلتين السابقتين لم تواجه الكثير من المشاكل، وإنّ منطقة العمليات هي في عمق الأراضي العراقية وعلى الحدود مع الكويت، لذا فلا يوجد فيها حقول ألغام، كما لم يجد العراقيون فرصة لتفخيخها وتحصينها...

 

 

383

 


338

الفصل السادس - حدائق جنّتية

قبّل الشباب وجوه بعضهم البعض وطلبوا المسامحة من بعضهم بعضًا. كما تحدّث السيد "مجتهدي" معاون الكتيبة ببضع كلمات إلى شباب السرايا التي دخلت العمل بالترتيب وفقًا لرقمها، وقال:

- لا تنسَ ذكر الله. لا تنسَ "يا زهراء". لا تنسَ تجربة العمليات السابقة. لا يجب أن تغترّ باقتحام خطّ العدو الأول. يجب أن تهيّئ نفسك لهجوم معاكس عنيف. يجب أن تذكر الله دائمًا وتطلب العون منه... وإلّا لن يتحقّق أيّ تقدّم...

 

أكملنا طريقنا وأصبح مثلث مصنع الملح خلفنا. وصلنا إلى خطنا الأمامي من جهة اليمين بعد أن قطعنا مسافة كيلومتر واحد. كان عدد العناصر المستقرّين هناك قليلاً. لتجنب الخسائر الناجمة عن نيران صديقة، نقلوا العناصر إلى مثلث مصنع الملح لكي لا يجرح أحد عبثًا أثناء هجوم كتيبة حمزة. نسّق القادة معًا، وتابعوا بدقة آخر أخبار الجبهة. حينذاك شكّل مسؤول السرية الأولى مجموعة خاصة مؤلفة من سبعة أشخاص من بينهم أنا و"محسن كودرزي"، مهمتها اقتحام خط العدو. تقدّم الأخ "مهدي" عناصر هذه المجموعة، وهو من عناصر معلومات عمليات الفرقة، ومهمته توجيه وقيادة عناصرها. قلت لـ"محمد جواد نصيري بور" وهو مساعدي الأول:

- جواد، راقبني، وأينما ذهبت اتبعني...

 

اقتضت مهمتنا تجاوز خط كمين العدو وتدمير تلك الدبابات السليمة كي لا يتأذى العناصر الآخرون ويقوموا بتنفيذ مهمتهم الأساسية.

 

كانت السرية الأولى تغادر نقطة الانتشار عندما اختفى الهلال قبل ساعة من منتصف الليل. لا تتجاوز المسافة الفاصلة بين خطّنا

 

 

384


339

الفصل السادس - حدائق جنّتية

وخط العدو أكثر من مئة وبضعة أمتار. والعلامتان المميّزتان لهذين الخطين هما حفرتان كبيرتان وعميقتان وسط الجادة المعبّدة. تقدم عناصر الطابور منحني الظهور من يمين الجادة، مشوا عليها ونزلوا إلى يسارها. هناك، صرنا نسمع أصوات العراقيين بوضوح. أكملنا طريقنا بمشية البطة وزحفًا حتى وصلنا إلى الشق الكبير من الجادّة الذي كان على ميمنتنا. فجأة توقف عنصر المعلومات الذي يتقدم الطابور زحفًا عن الحركة، فقد وصل إلى حقل ألغام. قام عنصر التخريب بفتح طريق بين الأسلاك الشائكة والألغام. كانت الألغام متناثرة على الأرض وواضحة للعيان.

 

تابعنا طريقنا من جديد زحفًا حتى وصلنا إلى مقربة من دشم العراقيين. همس الأخ "مهدي" في أذني:

- عندما أرمي القنبلة، إذا أُطلقت النار من دشمة العدو فارمها مباشرة وحطّمها. إن تأخرتَ في العمل سيأخذ العراقيون زمام المبادرة ويسيطرون على الميدان...

 

كانت المسافة الفاصلة بيننا وبين الدشمة تتراوح بين الـ20 و30 م. تحت ضوء القنابل التي أنارت سماء المنطقة البعيدة، حدّدتُ بدقة مكان الدشمة والدشم التي بقربها. فجأة كبّر أحدهم ورمى قنبلة تلك الناحية. أعلم أنّ الأخ "مهدي" لم يقم بالأمر. لقد بدأت العمليات قبل لحظات من الموعد المقرر.

 

كان العراقيون في الجهة المقابلة حاضرين لمواجهتنا، وذلك إلى درجة التقط فيها أحدهم القنبلة بيده - وكان يضع على وجهه قناعًا واقيًا - ورماها ناحية المستنقع، ثم راح يطلق النار من رشاشه بغزارة على طابورنا. استشهد عنصر المعلومات على الفور. لقد مزقت الرصاصات صدره وأصابت اثنتان منها قدمي. كنت قد وقفت لأرمي قذيفة "آر بي

 

 

385

 


340

الفصل السادس - حدائق جنّتية

جي" لكنّه سبقني بالمبادرة. لم أستسلم. يجب أن تُفجّرَ تلك الدشمة، وإلا فقد الشباب روحية الهجوم. لم أهتمّ بجرحي وضغطت على الزناد، لتستقرّ القذيفة في قلب الدشمة وتدمرها. مع هذه الضربة القوية، ارتفعت معنويات عناصر الطابور من خلفي وانطلقوا.

 

انقضت الدقيقة الأولى لمصلحتنا: شهيد وجريح، مقابل دشمة وعدد من القتلى العراقيين. شكرت الله إذ لم يقع الشباب فريسة للخوف في بداية العمليات. تابعت طريقي على الرغم من نزيف قدمي. كان جسمي لا يزال دافئًا وأستطيع العمل. ما إن مشيت حتى نهض "جواد نصيري بور" خلفي وتقدّمنا معًا. عندما تجاوزنا الدشمة المدمّرة شاهدنا أشلاء العراقيين. قليلًا إلى الأمام، فقدتُ أثر "جواد". كان نظم (صفّ) الشباب قد اختلّ، وقد جلس عمو حسن قائد السرية الأولى على الجادة وراح يوجّه الشباب ويقودهم. فجأة رأيت "علي قابل". لقد استطاع بذكائه الوصول إليّ في كل تلك المعمعة. سألته عن "حسن رضي" الذي لم نكن نعلم أين هو. تابعت طريقي مع "قابل". قررت الذهاب إلى الجادة المعبدة لأستطيع رؤية الهدف بشكل أفضل. صعدت من كتف الجادّة الرملي ووضعت قدمي على الإسفلت ولم أكد أخطو بضع خطوات حتى سمعت آهات من خلفي. لقد أصيب "قابل" برصاصة عندما كان يصعد من جانب الجادة الرملي نحو الطريق، ولمّا تطأ قدمه الإسفلت بعد، فانزلق ووقع على جانب الجادّة الرملي واستشهد. لقد مزقت رصاصات عدة بطنه وصدره. لم أتأخر عنده كثيرًا، وبقيت من دون مساعد، فإذا ما انتهت الذخائر من عندي، توجّب عليّ الحصول على غيرها. بدأت قدمي تؤلمني. كان رامي B.K.C يرمي بغزارة من داخل دشمة وسط مستنقع خور "عبد الله" وتشرف بشكل كامل على الجادة. ولربما كان هذا الرامي

 

386

 


341

الفصل السادس - حدائق جنّتية

هو نفسه من قتل "قابل". وضعت القذيفة الثانية في القبضة وسحبت الأمّان. كنت أجلس القرفصاء، فإذا بي أقف منتصب القامة على الجادة. صوّبت ورميت. وتزامنًا مع رميتي أُطلقت قذيفة أخرى على نفس الجهة. احتملت من ظلّ الرامي أن يكون "بوركريم". ومع انفجار هاتين القذيفتين توقفت نيران الرشاش لمدة.

 

عندما انخفضت حدّة نيران العدو تقدّم الشباب أكثر، لكنّ هذا الهدوء لم يستمرّ طويلًا. من الواضح أنهم كانوا يطلقون النار برعب واضطراب كي لا يقترب حملةُ القنابل من دشمتهم.

 

إلى الأمام أكثر وجدنا عددًا من الدبابات وناقلات الجند المحترقة، والكثير من العراقيين يحومون حول حطامها كالصراصير. هيّأت القبضة للقذيفة التالية. كنت أبتعد عن الهدف 30 مترًا. صوبت وأطلقت النار. لم ترتطم القذيفة بالدبابة لكنها أصابت عددًا من العراقيين فعلا صراخهم وعويلهم في المكان.

 

نفدت القذائف لديّ. فجأة رأيت معاون الفصيل الأخ "فياض". سألته من دون تفكير: "هل معك قذائف؟".

 

جلس على الفور بقربي وأخرج من جعبته ثلاث قذائف، جهّزها وأعطاني إياها. ثم قال لي:

- لقد أرهقتِ الدوشكا الواقعة إلى اليسار منّا الإخوة.

- أجل، إنها تضرب بعنف، ولم تسكت لحظة واحدة حتى الساعة.

- يجب أن تُسكَت بأيّ طريقة.

- لن أسمح لهم بأن ينجوا بحياتهم...

 

ذهب فياض ليتفقد أحوال سائر الإخوة.

 

ركزت كل حواسي على دشمة الدوشكا الواقعة إلى يسار الجادّة

 

387


342

الفصل السادس - حدائق جنّتية

خلف دشمة رامي الـB.K.C. كان من الصعب استهدافها، ورصاصها ينهمر كحبات سكر النبات في الهواء. حددتُ مكان الهدف بدقة، يجب أن أرمي بشكل مقوّس لأصيبه. كانت المسافة حتى تلك النقطة 100م. هيأت القبضة ووقفت. لم أكن أملك سوى تلك القذيفة التي أعطانيها فياض، ولا ينبغي أن تذهب هدرًا. لو التقيت بأحد مساعديّ لارتاح بالي. وبينما أنا أدقق النظر ثانية بدشمة الدوشكا للوصول إلى أفضل حال للإطلاق، وإذ بي أشعر برعشة في بدني وأطير في الهواء. كانت قوة الرصاصة التي أصابت ركبتي اليمنى قوية بحيث جعلتني أدور مرات عدّة في الهواء. قبل ثانية كنت واقفًا على الأرض وبعد ثانية انقلبت رأسًا على عقب، ووجدتني مرميًّا على ظهري. أما قبضة "الآر بي جي" فأفلتت من يدي منذ البداية. شعرت بدوار شديد ولم أعد أرى ما حولي بوضوح. كنت مشتّت الحواس. لم أعلم ما الذي جرى لي وأين أنا. استجمعت أفكاري واسترجعت الأحداث في ذهني: أنا، حسين كلستاني.. رامي "آر بي جي" في المجموعة الثانية من الفصيل الأول... أردت إطلاق قذيفة "آر بي جي" في جادة "أم القصر"... أجل، كنت أريد إطلاق قذيفة "آر بي جي" فأصبت برصاصة.. أجل، لقد جرحت...

 

رفعت جسمي قليلًا متكئًا على مرفقي، وصوت القصف يتناهى خفيفًا إلى مسامعي. شعرت بطنين في أذني ولم أعد أرى سوى الظّلمة. رصاصة واحدة قلبت أحوالي، تذكّرت من أزيز الرصاصات العابرة قرب رأسي وأذني أنّه كان من المقرر أن أدمّر دشمة الدوشكا. بعدها، وقع نظري على جرح ساقي، رأيت الدّم يتدفّق من بنطالي الممزّق. شعرت بالخوف. قلت في نفسي: حسين، ستقطع قدمك. حرّكت إصبع قدمي لأرى إن كان العصب سالمًا أم لا. وجدته سليمًا. تناولت الشال

 

388


343

الفصل السادس - حدائق جنّتية

الذي أهدتنيه أختي وربطت به رجلي أعلى الجرح، كان يتمدّد عند الشدّ لأنه محاك. خفّ النزيف لكنّه لم ينقطع.

 

جاء أحدهم نحوي، وهو "جلايري" من شباب التجهيز. عرفني في تلك المعركة المظلمة من نظرة واحدة. جفف عرق جبينه وراح يواسيني: "أخ كلستاني، لا شيء مهمًّا، سوف تتحسن...".

 

قلت: "أنا بخير. لا تنشغل بي.. اذهب إلى الأمام".

- ألا تريد مساعدة؟

- اهتمّ أنت بعملك.. الآن يأتي المسعف...

 

وقف ليذهب، لكن، لم يكد يخطو بضع خطوات حتى سقط فجأة. ناديته، لم أسمع جوابًا. يبدو أنه أصيب برأسه وصدره فلم يتمكن حتى من إجابتي، وسقط على الإسفلت على مسافة عشرة أمتار مني.

 

رأيت "عبدالله قابل" الذي يخدم في الفصيل الثالث. لقد استشهد أخوه "علي" في اللحظات الأولى من المواجهة ولم يعلم بذلك، ولم يسأل هو شيئًا أيضًا. سألني فقط: "أخ كلستاني أين الآر بي جي خاصتك؟".

 

أشرت بيدي وقلت له: "هناك...خذها".

 

كان على عجلة من أمره ولم يكن ينبغي عليّ أن أؤخره أنا أيضًا. أخذ "الآر بي جي" وذهب[1].

 

في تلك الليلة جرحتُ مرّتين وكنت حاضرًا للشهادة، إذ لم يكن ثمة مسافة بيني وبين الموت. من بين كل ذلك الرصاص الذي عبر من قربي، كان يكفي أن تصيب رصاصة واحدة، وواحدة فقط، رأسي أو قلبي، لكن هيهات. كان الرصاص يأتي ويذهب، وكان نصيبي من كل ذلك الرصاص ثلاثة جراح.


 


[1] استشهد في تلك الليلة أيضًا.

 

389


344

الفصل السادس - حدائق جنّتية

رأيت أخي "محسن" للحظات. كان يضع حول رأسه كوفيته السّوداء وأطرافها تتطاير في الهواء. لم يكن يبعد عني أكثر من عدة أمتار، لكنه لم يرني. كانت تقع على عاتقه مسؤولية ثقيلة ولم أرد مزاحمته. كان يكفيني أن أراه سالمًا معافى. كانت دشمة الدوشكا إلى يسار الجادة لا تزال نشطة، الأمر الذي أقلقه بشدة. وكأنه لم يعد يحتمل كل تلك الوقاحة. عبر من قربي وتوجه ناحية الدّبابات المحترقة حيث لم يعد هناك عراقيّون. رأيت "محسن" للمرة الأخيرة يبدل مخزن الرصاص ثم اختفى عن ناظريّ بعد ذلك بين الدبابات.

 

جلس "حميد رمضاني" - مساعد المسعف في الفصيل - قربي. أراد مساعدتي لكني لم أقبل، فقد كنت أستطيع أن أضمّد جرحي بنفسي. أرسلته في أثر الجرحى السيّئي الحال وقلت له:

- اذهب واهتمّ بالجرحى الآخرين. أنا أستطيع أن أنسحب إلى الخلف بنفسي. إن لم أستطع تعال لمساعدتي.

 

ذهب. كنت قد استعدتُ تركيزي، فتخلصت من عتادي وشعرت بالراحة. وضعت حقيبة الظهر والقنابل والمطرة و... على الأرض لأتمكن من سحب نفسي بسهولة على الجادة. لكن عند أول حركة عاد النزف للجرح.

 

بينما أنا على هذه الحال، عبرتْ قرب الجادة قوات جديدة من السّرية الثانية وتقدمت إلى الأمام. كان مسؤول السرية مطلعًا على الأوضاع من خلال اللاسلكي. لقد دخلت سريتنا العمل بمعلومات ناقصة، أما هم فقد نزلوا إلى ساحة المعركة بعد دراسة معلوماتنا.

 

عندما عبر الطابور المؤلّف من مئة عنصر جاء أحدهم نحوي وكان في آخر الطابور، كان المسعف. أخرج المقص من الحقيبة ونظّف

 

390

 


345

الفصل السادس - حدائق جنّتية

الجرح، ثم ضمّده بلفافات معقّمة، وحين اطمأننت بأنّه ضمّد جرحي جيّدًا نزعت الشال عن قدمي.

 

عندما ذهب المسعف انسحبت إلى الخلف بالاعتماد على مرفقيّ. زحفت إلى طرف الجادة وأكملت متدحرجًا على المنحدر. لم يكن للبقاء في تلك المعركة أيّ فائدة، فلم أعد أستطيع القيام بأيّ عمل، ولو أنني غبت عن الوعي فسوف أشغل المسعفين بنقلي إلى الخلف.

 

بعد أن تقدمت 20 مترًا، رأيت جريحًا يلفظ أنفاسه الأخيرة. فهمت من الكلمات القليلة التي نطق بها أنه أصيب برصاص متفجر. يبدو أنه مزّق بطنه. كان ينظر إلى جرحه حين قال: "حبيبي حسين... حبيبي حسين" واستشهد[1].

 

كانت الطريق تعجّ بالشهداء والجرحى. رآني رمضاني للمرّة الثانية وقال لي:

- أخ كلستاني، دعني أنقلك إلى الخلف. لا تقسُ على نفسك إلى هذه الدرجة.

- رمضاني، اذهب إلى الأمام... فهناك في الأمام القيامة قائمة. اذهب وساعد ذوي الإصابات البليغة... اذهب...

- أنت نفسك حالك سيّئة. لو كان هناك مرآة لرأيت كيف أصبح لون وجهك بلون الجصّ.

- حسنًا، ريثما تذهب وتنقل جريحًا آخر إلى الخلف، أكون قد تهيّأت لأنام على الحمّالة.

 

ذهب رمضاني من جديد، وبقيت أنا ومصيبتي... لقد خدّرت برودة الليل قدمي، ونخرت عظامي بسبب رطوبة التربة من تحتي.


 


[1] الشّهيد شادلو.

 

391


346

الفصل السادس - حدائق جنّتية

كان الهواء اللاذع يهب من الخليج، وعليّ التحرك، لكن، لم أستطع حتى الوقوف.

 

مجدّدًا رحتُ أسحب نفسي سحبًا إلى الخلف. وصلت إلى تلك الدشمة التي دمرتُها في بداية الاشتباك بالـ"آر بي جي".

 

رأيت هناك قتيلين عراقيين. وصل طابور آخر، إنها السرية الثالثة من كتيبة "حمزة".

 

حكت الأخبار عن وجود عشرات الدبابات وناقلات الجند على الجادة، وليس بضع دبابات فقط. وقد دخلت كتيبة "حمزة" لوحدها ساحة المواجهة قبال عدد من الكتائب العراقية الآلية والمدرعة، فكان الطرفان يقاتلان بكل ما يملكان من قوة.

 

على أثر السرية الثالثة وصلت قوات دعم من كتيبة "أنصار الرسول". فعمد مساعدو المسعفين لديهم إلى مساعدتي وسائر الجرحى ونقلونا إلى نقطة الانتشار. وجدت "علي شهبازي" منشغلًا بخدمة الجرحى في مركز الإسعاف، والمركز عبارة عن غرفة صغيرة من الإسمنت، لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار، توزع الجرحى داخلها وخارجها.

 

انهارت قواي ولم أعد قادرًا على الرؤية من جديد. بالطبع رآني "شهبازي" من تلك الغرفة الإسمنتية وعالج جُرحي، ولكني لم أنتبه لذلك، ربما كنت نائمًا أو فاقدًا للوعي.

 

استيقظتُ عندما رفعوني عن الأرض، ووضعوني على الصندوق الأمامي لسيّارة الجيب. كان صندوق السيارة ساخنًا فراقَني ذلك. لقد غطّوا الجرحى الآخرين ببطانية لكنني لم أكن بحاجة لواحدة. في ذلك الصقيع، كان للجلوس على الصندوق الأمامي لجيب عسكريّ في أرض العدو متعة خاصة، كما في الأفلام. لقد وضعوا جريحًا أيضًا على القماش المشمّع الذي يغطون به سقف الجيب. كان مكانه أكثر

 

392

 


347

الفصل السادس - حدائق جنّتية

أمنًا، فقد تقعّر القماش المشمّع تحته على سقف الجيب بحيث صار محميًّا، أما أنا فكانت دعسة فرامل واحدة أو الوقوع في حفرة على الطريق كفيلة بإسقاطي عن الصندوق وتحطيمي. لكن كان علينا الخروج من تلك المعركة بأي طريقة، وقد خرجنا.

 

انطلق سائق الجيب في طريقه فارتفعت حرارة المحرك. كانت ارتجاجاته الكثيرة تزيد من آلام ركبتي، وشعرت بتلك الآلام تنتشر في كل أنحاء جسدي. وصلنا إلى مثلث طرق أنزلونا فيه، وأركبونا في سيارة إسعاف. انطلقنا من جديد وعادت الارتجاجات ومعها الآلام. لقد غبت عن الوعي غير مرّة. في إحدى المرّات استعدت وعيي بعد أن رشوا وجهي بالماء. فتحت عينيّ فلاحت أمامي السماء المزينة بالنجوم. كنتُ أسمع صوت محرك زورق فعرفت أنني لم أعد في سيارة الإسعاف. رغبت بالنوم مجدّدًا، لكنّ قطرات الماء المستقرّة على وجهي منعتني من ذلك. في تلك الأثناء التفتّ إلى شجار دائر على متن الزورق، وأدركت أنّ أسيرًا عراقيًّا موجود معنا. كان أحد الجرحى غاضبًا وربما أصيب بعصف انفجار، وأراد أن يرمي الأسير في الماء، لكنّ ربّان الزورق منعه من ذلك.

 

عندما وصلنا إلى المرفأ، أخرجوني من الزورق ونقلوني إلى سيارة إسعاف. غبت عن الوعي مجدّدًا ولم أستيقظ إلا في مستشفى "فاطمة الزهراء عليها السلام" الميداني. سألني الممرضون أسئلة عدة لكي يتمكنوا من تشخيص حالي. لم أجد شالي، ربما رموه بعيدًا.

 

عاين الطبيب رجلي ووصف لي حُقنًا عدّة. حُقنتُ بها. فهمت من كلامه أنّ "صابونة ركبتي" قد تأذّت كثيرًا ويجب إجراء عملية جراحية لها. إلا أنّه وبسبب دقة العملية لم يكن من الممكن إجراؤها في ذلك المكان، كما قاموا بتضميد جراحاتي الأخرى.

 

393

 


348

الفصل السادس - حدائق جنّتية

نُقلنا من مطار "الأهواز" إلى "شيراز" في طائرة عسكرية حرّكت ارتجاجاتها آلامي من جديد، ولم تخفّف من حدتها حتى المسكنات القوية.

 

في "شيراز" وضعوني في ممر المستشفى إذ لم يكن ثمّة غرفة شاغرة. بقيتُ ليلتين ونهارًا واحدًا على سرير متحرك في ذلك الممر. لم تدعني أنوار المصابيح الفضيّة (الفلوريسون) أنام خلال كل تلك الفترة. لقد فتحوا ضمّادات جرحي مرتين أو ثلاثًا، نظّفوه، ولفّوه من جديد بضمّادات معقمة. كما جبّروا ركبتي أيضًا لكي تثبت ويخفّ الألم. لم يأخذوني إلى غرفة العمليات في "شيراز".

 

ذات مرّة تذكرت كلام "محمد أمين شيرازي" حول أخيه "مهران" الذي أجروا له عملية جراحية في "شيراز" وبتروا قدمه. أحيانًا كنت عندما أتصور ما حلّ به أتصبب عرقًا.

 

نُقلت من ذاك الممر إلى المطار، ومن هناك إلى "طهران" ومستشفى "الشهيد شمران" في مستديرة "نوبنياد". هناك، تابعوا علاجي بشكل جدي. لم أكن حتى ذلك الحين قد أخبرتُ عائلتي بإصابتي، ولا حتى عندما حضّروني لإجراء العملية الجراحية. قلت للمرضة التي رافقتني إلى غرفة العمليات:

- ما حاجة هذا الجرح الصغير إلى غرفة عمليات؟ أيام قليلة ويتحسن...

 

أزاحت الممرضة قطعة القماش عن جرحي، وخدشت الجلد قليلًا بشفرة فتدفّق القيح والدم منه، ما يعني أنّ جرحي قديم وقد التهب، ولا خيار أمامنا سوى الجراحة.

 

كانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى غرفة العمليات وأتعرّض

 

394

 


349

الفصل السادس - حدائق جنّتية

للتخدير. لم يكن معي أحد. استعدتُ وعيي في غرفة الإنعاش. بين النوم واليقظة، رأيت حلمًا حلوًا ومرًّا: أخي محسن يقف قرب سريري من جهة، وعمو حسن مسؤول السرية الثانية يقف من الجهة الأخرى[1]. اصطحبني هذان الاثنان وهما يرتديان الزي العسكري، من غرفة الإنعاش إلى الغرف العادية. وجدت إلى جانب سريري باقة من الزهور الحمراء والبيضاء ملأ أريجها كلّ كياني. كنت أشعر براحة وخفّة كبيرتين، ولم أعد أشعر بألم ركبتي...

 

لكنّ الواقع كان مختلفًا. عندما استعدت وعيي، تجمّع الممرضون حولي على أثر صراخي من شدة الألم. وظلّوا يتردّدون إلى غرفتي ويحقنوني بالمسكنات، لكنّ ألمي لم يهدأ إلا بعد ساعات. في هذه العملية أزالوا التقيحات من جرحي ونظفوه لكي يتجنبوا بتر قدمي.

 

في الأسبوع الثالث من شهر شباط، أبلغتُ عائلتي بأمر إصابتي. تظاهرت أمي وأختي بأنهما لا تعلمان شيئًا عن أخي "محسن": "لقد جرح مثلك حتمًا ولا يريد أن يعلم أحد بذلك".

 

حاولا عبثًا إخفاء السرّ عني لكنني جاريتهما وقلت:

- أجل لقد جرح حتمًا. يجب أن نبحث عنه لنجده[2].

 

في الليلة السابعة من استشهاده أعلموني بالخبر، فطلبت إذنًا للخروج من المستشفى وشاركت في مراسم تأبينه وأنا على كرسيّ متحرك. ولقد جُرح أيضًا أخونا الأصغر "حسن". وهكذا، قدمت عائلتنا في عمليات "والفجر 8" شهيدًا وجريحين.

 

عندما زرت "محسن"، خطر في بالي تلقائيًّا دعاء الصباح، ذلك


 


[1] لم أكن أعلم حتى تلك اللحظة أن هذين الاثنين قد استشهدا.

[2] دفن محسن في التاسع عشر من شباط في "تشهاردانكه".

 

395


350

الفصل السادس - حدائق جنّتية

الدعاء الذي كان يحبه ويردده، كما رحت أردّد أشعاره أيضًا. أخيرًا، أصبح بمقدوره النوم براحة. طوال تلك الشهور التي قضيناها معًا في الفصيل الأول، كنت أرى عينيه تعبتين وحمراوين من قلّة النوم، وها هو الآن ينام بهدوء واطمئنان في قلب التراب، وكان علينا نحن أن نتحمل ألم البقاء إلى وقت غير معلوم، وربما يطول.

 

فيما يخص شهادة "محسن" سمعت أنّه كان متوجهًا مع مجموعة ناحية دشمة الدوشكا إلى يسار الجادة، تلك التي أردتُ تدميرها فأصبتُ وأنا أسدّد القاذف نحوها. فجأة صاح لتحفيز الشباب: "أبو عبد الله ينتظر... شباب إلى الأمام". مع صيحته هذه هاجم الجميع الدشمة، ولكنّه أصيب برصاصة. يقول الشباب الذين كانوا إلى جانبه إنّه في اللحظات الأخيرة ردّد "يا زهراء" مرات عدّة ثم استشهد.

 

بقيت في المستشفى حتى تموز 1986م. كان الشباب يأتون لعيادتي: "أحمدي زاده، مهدي بور، رمضاني، شهبازي، نصيري بور، كودرزي وأهري"، وآخرون غيرهم. أظهر الأصدقاء الذين خسروا "محسن" محبةً خاصة لي وكأنّهم وجدوا ضالّتهم بي.

 

لقد استشهد "محمد أمين شيرازي" أيضًا مباشرةً بعد إصابته بشظية في صدره. كانت آلام ركبتي تذكرني به وبطاقته التي دفعته للمجيء إلى الجبهة بمرفقه المصاب. كنت أظن أن ألم المرفق بسيط، وفي تلك الأيام والليالي الكثيرة التي قضيتها في فترة نقاهة علمت أنّ تفكيري كان سطحيًّا، وأنه وآخرين مثله تميزوا برقيّ في التفكير ورحابة صدر وقابلية لعطاء غير محدود. قررت وأنا في المستشفى أن تكون عائلة "شيرازي" هي الأولى التي أزورها بين عوائل الشهداء. لقد تحمّلَتْ خلال عامٍ واحد ألم فراق اثنين من أبنائها، كما بُترت قدم "مهرانها".

 

396

 


351

الفصل السادس - حدائق جنّتية

"الدكتور صولتي" اسم لن أنساه أبدًا. إنّه الطبيب الذي أدين لجهوده الكبيرة في سلامتي، ولو لم يكن موجودًا لربما بُترت رجلي من فوق الركبة. لقد أجرى سبع عمليات جراحية في ركبتي، واحدة كلّ ثلاثة أسابيع. علمت في تلك الأيام أنّ جراحة الركبة هي من أعقد العمليات في جراحة العظم، وشاهدت خلال سنوات الحرب أنّ العديد من المجاهدين خسروا أرجلهم بسبب مشاكل مشابهة لمشكلتي أو حتى أسهل منها. لكنّ الطبيب "صولتي" بمهارته وصبره حافظ على رجلي لسنوات طويلة.

 

في العملية الجراحية الثانية، وضعوا الأسلاك المعدنية في صابونة ركبتي. في الثالثة، نزعوا اللحم والجلد من نواحٍ أخرى في جسدي وزرعوهما مكان الجرح. في الرابعة والخامسة، قصوا اللحم الزائد لتأخذ الساق شكلها المقوّس، وفي الأخيرة أخرجوا الأسلاك من ركبتي. وهكذا، فقد صنع لي الدكتور "صولتي" ركبة جديدة من لحمي وجلدي، وأعاد ترميم نسبة الـ90% المتلاشي فيها.

 

في أواخر العام 1986م بدأت المشي مستخدمًا العصا، وذهبت لزيارة عوائل الشهداء. في شتاء العام 1987 ولد ابن "حسن أميري فر" - عمو حسن نفسه - لكنّ الوالد لم يرَ ولده ابن الشهرين سوى أسبوع واحد. لقد استشهد أيضًا كل من "أكبر مدني"، "محمد عليان نجادي" و"سعيد بور كريم" معًا، وهم من أصدقائي الحميمين.

 

ذات ليلة في "دوكوهه"، كنّا على سطح مبنى الكتيبة حين قال لي "عليان نجادي":

- أخ كلستاني، أريد أن أترك هذه الكتيبة.

 

- لماذا يا محمد؟ وإلى أين تريد الذهاب؟ هل حصل شيء؟

 

397

 


352

الفصل السادس - حدائق جنّتية

- لم أعد أستطيع البقاء هنا. لقد تعلق قلبي كثيرًا بشباب الفصيل. لا أستطيع أن أراهم يستشهدون أو حتى يجرحون وأبقى واقفًا على قدمي. ماذا أفعل إن استشهد بور كريم؟ ماذا أفعل إن استشهد مدني؟ إذا...

 

- ستبقون جميعًا سالمين إن شاء الله ولن يحدث شيء. وإذا ما حصل، سنستشهد معًا إن شاء الله.

 

كان شباب الفصيل الأول نموذجًا في التضحية والإيثار. كانت أرواحهم شامخة، لكنّ أعمارهم الصغيرة لم تُظهر ذلك. لقد حلّق أولئك الفتية الأربعة عشر الذين قرأوا فقرات دعاء التوسل تلك الليلة إلى السماوات، ولم يتذوّقوا مرارة فراق الأحبة والرفاق. كانت قلوب هؤلاء التعبويين الذين قاتلوا العدوّ بالصواريخ والقنابل، أرقّ من أوراق الزهور. كان هؤلاء الفتية الغيارى، الذين اشتبكوا مع مغاوير العدو وذابَ لحمُهم عن عظمهم كي لا ينتصر العدو، بواسلَ، لكنّ صفةَ "صبورين" تليق بهم أكثر.

 

قال لي "جواد نصيري بور" الذي فقدته ليلة الهجوم: "كنت أقتفي أثرك تمامًا، إلى أن ناداني مسؤول السرية وكان جالسًا على الجادة، وطلب مني التوجه إليه بإشارة من يده. لقد أرسلني إلى مكان آخر. أردت العودة إليك مباشرة لكن لم يتسنّ لي ذلك وأصبت".

 

لقد جرح أخي "محسن" مرتين من قبل: في عمليات "والفجر 4"، برصاصات كلاشينكوف أصابت كتفه وصدره، وفي عمليات "بدر" بشظايا صغيرة أصابت وجهه وعينه وأذنه، بقي أشهرًا قيد العلاج.

 

ذهبت في شتاء العام 1987م إلى الجبهة مجدّدًا، وبقيت هناك حتى نهاية الحرب. أصبت في قدمي اليسرى عام 1986م وفي بطني

 

398

 


353

الفصل السادس - حدائق جنّتية

وقدمي اليمنى عام 1987م، لكنّ أيًّا من هاتين الإصابتين لم تكن مشابهة لإصابتي في عملية "والفجر 8".

 

عندما انتهت الحرب أصبتُ بالحيرة والضياع. لم أكن قد فكرت حتى ذلك الحين أبدًا بهذا اليوم، وماذا سأفعل إذا ما انتهت الحرب، لكنها انتهت فجأة. وبعد عام التحق إمام الشهداء بالرفيق الأعلى فاكتملت حيرتنا.

 

كانت الشهادة قدر "محسن"، وقدري أنا البقاء. توجّب عليّ الوفاء بالعهد الذي قطعته له. ذهبت إلى الفتاة التي حدّثني عنها، حدّدنا موعدًا وبدأنا حياتنا المشتركة. قررنا أن نذهب في أول يوم من حياتنا المشتركة لزيارة ضريحه. ذهبنا، حاملين معنا باقة من الورود الحمراء التي كان يحبها كثيرًا وكان قد حملها معه حين ذهب لخطبة الفتاة التي يحب.

 

عندما ولد ابني البكر أسميته "محسن". أحيانًا نذهب معًا إلى ضريح عمّه "محسن"، وهو راضٍ لكونه يحمل اسمه.

 

399

 


354

وثائق الفصل السادس

وثائق الفصل السادس

 

 

ورد في هذا القسم من مجموع وثائق الفصل، 30 وثيقة خطية، و10 صور:

1- حسين كلستاني

1-1 العلومات الشخصية:

- شهادة الثانوية العامة في العلوم الطبيعية، متأهل وله ولدان، موظف في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

- تاريخ ومحلّ الولادة: 1963م، طهران.

- مدة الحضور في الجبهة ونوع العضوية: 24 شهرًا خدمة علم، و36 شهرًا في صفوف التعبئة.

- العمليات التي شارك فيها والمهام الموكلة إليه: عمليات بدر (مسؤول ثقافي)، المشاركة في مهمة دفاعية في مهران، 1985 (رامي آر بي جي)، عمليات "والفجر 8" (رامي آر بي جي)، عمليات "كربلاء 5"

 

400


355

وثائق الفصل السادس

(مسؤول فصيل)، عمليات "كربلاء 8" (مسؤول فصيل)، عمليات "بيت المقدس 2" (مسؤول فصيل)، عمليات "بيت المقدس 4" (معاون سرية)، المشاركة في مهمة دفاعية في شاخ شميران (معاون سرية)، عمليات مرصاد (معاون سرية).

 

- الإصابات: الإصابة في صابونة الركبة في القدم اليمنى (1986)، إصابة في القدم اليسرى (1986)، إصابة في البطن (1987)، إصابة في القدم اليمنى (1987)، إصابة في الظهر (1987)، إصابة في القدم اليسرى (1987).

 

401

 


356

وثائق الفصل السادس

2-7 الوصية

لا ينبغي لأحد أن يتحسّر على فقد الشهيد في هذه الدنيا، لأنه قد وصل إلى المعشوق الأزلي الذي رعاه مذ خرج من بطن أمه. إنّ اليوم الذي استشهدتُ فيه لهو يوم عرسي، والدشمة التي عرجتْ فيها روحي إلى السماء لهي حجرة عرسي، وتلك الملابس التي تعفرتْ بدمائي لهي بدلة عرسي.

 

أطلب منكم أن تقيموا لي مجلسًا بسيطًا يليق بشأننا، وأن لا تكثروا من المصاريف الإضافية، وتساعدوا الفقراء بدلًا من ذلك، وإذا ما ذرفتم دمعة من أعينكم فلتكن على مصيبة أبي عبد الله عليه السلام ولتبكوا للسيدة زينب عليها السلام والأيتام وضلع الزهراء المكسور عليها السلام، وإن لم تذرفوا الدموع لهذه الأسرة وما حلّ بها، فابكوا لأنفسكم لأنّكم لا قدر الله قد تكونون بعيدين عن أهل البيت عليهم السلام، وغير ملتفتين إلى أنّ مصائبهم هي أعظم من كلّ المصائب الأخرى.

 

أخيرًا، أقول لكم، أنا خادمكم الصغير وأخوكم الحقير، هذه الكلمات، وأطلب منكم أنا العاجز بعض الأمور:

1- أن تدعوا لإمامكم العزيز في كلّ زمان وفي كلّ عبادة.

2- أن تبذلوا ما باستطاعتكم في سبيل استمرارية الثورة الإسلامية وتصدير هذه الثورة.

3- أن تسعوا للمشاركة في كل جبهات الحق ضدّ الباطل، سواء في الخطوط الأمامية أو خلف الجبهة، بمالكم أو حتى أرواحكم.

 

408

 


357

وثائق الفصل السادس

2-8 مقابلة مع أخت الشهيد

أنا الابنة البكر للعائلة، ومحسن الابن البكر لها. أكبرُ محسن بسنتين، وهو أول فتى. ولأنّني الفتاة الوحيدة في العائلة، كان إخوتي يكنّون لي احترامًا خاصًّا، وجعلوني موضع أسرارهم، خاصة محسن الذي كنت رفيقته، وأعلم تفاصيل حياته بحلوها ومرّها.

 

كانت الفترة التي قضاها محسن في المرحلة الابتدائية حافلة بالذكريات الحلوة. تميّز محسن بالذكاء الحادّ والحيوية والنشاط، وكان يفهم دروسه من أدنى إشارة من المعلم. كان المعلمون راضين عن أخلاقه ودروسه. أحبّ "محسن" أيضًا أصدقاءه كثيرًا، وكان يشارك في مباريات كرة القدم في المحلّة والمدرسة وغيرها من الأماكن، ويعود إلى المنزل محمّلًا بالهدايا.

 

درس "محسن" المرحلة المتوسطة ليلًا، الأمر الذي أثّر كثيرًا على تحصيله العلمي. لقد عمل في شركة "جهان" لنسج الصوف إلى جانب الوالد لمساعدته في تأمين شؤون المعيشة، وذلك من الصباح حتى الغروب، وتابع دروسه ليلًا.

 

عُرف منذ مطلع شبابه بالجدّ والاجتهاد. وكان وقته موزّعًا بين العمل وممارسة الرياضة، وما زلت أحتفظ بقفازات الملاكمة خاصته. في أحد الأيام ظلّ يضرب كيس الملاكمة حتى مزّقه. هذا الإنسان نفسه الذي يمتلئ حيوية ونشاطًا، تراه يجلس لساعات خلف السنطور ويعزف عليه أجمل الألحان بالمضراب. ذلك السنطور الذي صنعه بنفسه من لوح من الخشب ومسامير وأوتار. ومن ثم يستغرق في العمل في حدادة وبويا السيارات. يقول رب عمله: "كنتُ في المحل أم لم أكن يعمل محسن بنَفَس واحد. إنه يختلف عن سائر التلاميذ (الذين يتعلمون المهنة). وعندما أكون في المحل أستريح أكثر مما لو كنت خارجه".

 

 

409


358

وثائق الفصل السادس

بسبب استغراقه في العمل لم يستطع إكمال المرحلة المتوسطة.

 

كان أخواي الآخران كمحسن، يمتلئان حماسةً وحيوية. في أحد أيام الشتاء، طردهم والدي ثلاثتهم من المنزل بسبب شغبهم. كان شَعر "محسن" حينها كثيفًا ومجعدًا. أخذ تشادور من ابن جارنا وقرع جرس المنزل. ظنّ أبي أنّ جارتنا قد أتت لزيارتنا، فطأطأ رأسه. قال محسن بصوت ناعم: "ألن تستقبل ضيوفًا يا حاج؟"، لم يلتفت أبي للمسألة بادئ الأمر، وتكلم معه ببضع كلمات، لكن في النهاية، أضحك محسن بلسانه العذب الوالد، ثم عفا عنهم بعد تدخلي أنا وأمي. باشر محسن نشاطاته في المسجد تزامنًا مع اندلاع الثورة، وعندما اندلعت الحرب التحق بخدمة العلم وخدم في كردستان عامين كاملين. وقد نقل عن هذه المرحلة قصصًا كثيرة حول شجاعة العقيد "شيرازي" وهو الشهيد "علي صياد شيرازي" نفسه.

 

انتهت خدمة محسن لكنّه بقي في الجبهة. وقد أثرت فيه أخلاق العقيد "شيرازي" وسلوكه كثيرًا. في العام 1983م عاد إلى المنزل بعد تنفيذ عملية كبيرة وقد عقد كوفية سوداء على رأسه. كان على غير حال. أراد الذهاب إلى الحمام، رأيت قميصه الداخلي مدمّى. سألته عن ما جرى، فأراني شظية كبيرة بحجم عملة نقديّة أصابته.

 

في العام 1984م جرح في عمليات بدر أيضًا. وفي العام 1985 قلت له:

- أخي، ألم يكن من المقرر أن تتزوج بعد إنهائك الخدمة الإلزامية في الجيش، وأن تنصرف إلى حياتك الخاصة؟

- لكن من التي ستعيش معي؟ فأنا دائم الحضور في الجبهة، وضيف مؤقت هنا.

- أنت قل من التي تريدها وإن قُدّر لك فستكون زوجتك. يجب أن

 

410

 


359

وثائق الفصل السادس

تبدأ من مكان ما. لقد مضت سنتان على إنهائك الخدمة الإلزامية ولم تتقدّم حتى لخطبة إحداهن.

 

في صيف ذلك العام، ذهبنا لنطلب يد إحداهنّ لمحسن، لكن الجواب أتى بالنفي. أراد والدا الفتاة أن يتعرفوا أكثر إلى محسن، لكنه لم يتسنّ له البقاء أكثر. استشهد محسن في شتاء العام 1986م وشارك في مراسم دفنه الكثير من المدّاحين، إضافة إلى هيئات اللطم في المحلّة. وأقيمت له مراسم عظيمة. بعد الانتهاء من مراسم العزاء، قال بعض الجيران إنّ "محسن" كان يساعدهم في تأمين تكلفة إيجار المنزل أو مصاريفهم اليومية.

 

طيّب الله روحه لقد عرفناه أكثر بعد رحيله.

 

2-9 عنوان القبر

طهران، تشهار دانكه، مقبرة الشهداء في إمام زاده (حفيد الإمام) عبّاس.

 

411

 


360

وثائق الفصل السادس

3-7 الوصية:

النسخة المكتوبة بخط اليد غير مقروءة

 

يا شعب إيران المسلم، الإسلام يحتاج إليكم، القرآن اليوم يحتاج إليكم وشيخ القرآن والإسلام والجمهورية الإسلامية الحقيقي أي الإمام الخميني يحتاج إليكم. فلننهض ولندافع بملء جوارحنا عن إمامنا وننصره ونقول له لبيك.

 

أيها الإمام، لقد عشقتك، وسلكت بناءً لأمرك سبيل الثورة فداءً للإسلام والقرآن العزيزين على قلبك، وما أجمل ذلك اليوم الذي نلتُ فيه الشهادة في سبيل الإسلام والثورة. أنصحكم يا إخوتي يا أبناء الشعب الإيراني نصيحة أخوية، وأطلب منكم أنا العاجز أن تكونوا مع الإمام ولا تنحرفوا عنه، وأن لا تصغوا إلى كلام أعداء الثورة.

 

أما لأبي العزيز والعطوف فأقول:

أبي، لقد بذلت الكثير من أجلي. أبي العظيم، مع أنني لم أردّ لك جميل ما بذلت، لكن افتخر يا أبي بأنك كنت إبراهيميًا، وقدمت إسماعيلك قربة إلى الله. وافخر واعلم بأنّ ابنك سلك السبيل الذي أردت، وسار في الطريق الذي سار فيه إسماعيل. أبي سامحني لأنني لم أكن ابنًا جيدًا لك.

 

وأما أنت يا أمي, يا عظيمة في الصلابة والتضحية! أعلم أنك ستحزنين لشهادتي، لكنك لن تكوني منزعجة. لأنك مدركة وواعية، ولأنّ الزهراء وزينب عليهما السلام ستفرحان لشهادتي في سبيل الله والإسلام. أمي لطالما كانت أمنيتي أن أرضيك دائمًا. كوني راضية وارضي عني فـأنا بحاجة ماسة إلى دعائك.

 

416


361

وثائق الفصل السادس

 

3-8 مقابلة مع والدة الشهيد

محمد ومهران توأمان. في آخر شهر من حملي أخبرني الأطباء أن احتمال بقاء التوأم حيًّا، وحتى احتمال بقائي أنا حيّة هو احتمال ضعيف. نذرتُ حينها أن أقدّم أضحية. كانت أوضاعنا المادية ضيقة قليلًا ذلك الوقت ولا أستطيع أن أذهب إلى مستشفى مجهّز (بآلات حديثة) حين ولادتي. كنتُ وزوجي معلّمَين ونعمل معًا لنؤمن تكاليف حياتنا المشتركة. بفضل الله ولد ابناي بخير وعافية ووفيت أنا بنذري، ووزّعنا لحم الأضحية على الفقراء والمساكين.

 

كان محمد هو المولود الأول، وكذلك كان على عجلة من أمره دائمًا في الحياة، ويمتلئ نشاطًا وحيوية وفعالية. في إحدى المرات وقع عن سقف المنزل لكنه لم يصب بسوء والحمد لله. وبرغم كلّ ذلك الشغب كان يخاف من الظلمة، فكنت دومًا أضيء الأنوار ليلًا لأجله. وظلّ على هذه الحال حتى مطلع شبابه. عندما بدأت الثورة واندلعت الحرب وما تبعها من أحداث التحق بصفوف التعبئة في المحلة، ثم بالجبهة.

 

في العام 1984م، كان مجيد الأخ الأكبر لمحمد ومهران في الجبهة.

 

417

 


362

وثائق الفصل السادس

لقد سعى هذان الاثنان أيضًا للحصول على موافقتي وموافقة والدهما للذهاب إلى الجبهة لكنّ جهودهما لم تجد نفعًا. في النهاية تمكّنا من الذهاب إلى الجبهة بعد أن زوّرا نسخة عن الهوية. في ذلك العام تعرفت إلى "محسن كلستاني" رفيق ابني في الجهاد، وقد حلّ ضيفًا علينا مرات عدة.

 

في عمليات بدر فُقِدَ أثر مجيد كما بترت قدم مهران.

 

في العام 1985م عانيت الكثير بسبب غياب محمد عني حيث كان في الجبهة. كان يعشق السَّلَطَة الشيرازية، وفي آخر إجازة له أعددت له "سرگنجشكي" مع الأرز بالملفوف[1] التي يحبها كثيرًا. لقد أكل كل الطعام الذي سكبته له حتى إنّه شرب ماء الحصرم الموجود في السلطة. لم أره يأكل بهذه الشهية منذ فترة طويلة.

 

في تلك الإجازة ذاتها أعطى محمد أخته سبّحة وقارورة عطر وقال:

- هاتان الاثنتان أمانة لديك لتضعيهما في قبري.

 

عندما عاد جسد محمد أعطانا الطبيب الشرعي الأغراض التي كان يحملها، وجدت بينها صورة مجيد ومهران. كان محمد ومهران شديدي التعلق ببعضهما البعض وكثيري المزاح. حتى عندما فقد مهران قدمه ظلّا يتصارعان معًا، ويشاكس أحدهما الآخر.

 

دفن محمد في 16/2/1986م ووضعنا إلى جانبه تلك السبحة وقارورة العطر. ما بين شهري شباط من العام 1985م وشباط 1986م، فقدت ولدًا، واستشهد آخر وجرح ثالث. كانت من أقسى سنوات عمري، ولن أنساها ما حييت.

ما زلت إلى الآن أنتظر عودة جسد مجيد.


 


[1] الكفتة المعدّة على شكل كرات صغيرة بحجم رأس العصفور، وتطبخ مع الأرز وبعض أنواع الخضار.

 

418


363

الفصل السابع - ساعة يد

الفصل السابع[1]

 

ساعة يد

عندما كنت فتًى، لطالما سمعت أبي يتحدّث عن ذكرياته بشغف وتأثّر، ذكرياتٌ تعود لزمن الكفاح في الغابات، رواها لنا مرّات ومرّات، راغبًا من صميم قلبه، بأن نصغي لها، نحن الصبيان، بتفاصيلها وبكل شوق ولهفة.

 

تتلخّص ذكريات أبي بأنّ والده – جدّي - وهو من "ماسولة" في "كيلان" كان من مقاتلي الغابات، يعيش في الغابة بشكل سرّي، فكان أبي - وهو فتى في مقتبل العمر - يزوّده بالأخبار والطعام:

خلال اضطرابات آذربيجان، يضطر والدنا للهجرة من الغابة إلى "رشت". وهناك يفتح دكانًا في بازار المدينة.

 

كانت ظروف الحرب العالمية الكبرى تلقي بظلالها الثقيلة على إيران، أوضاعٌ صعبة قاسية، عانى الناس فيها من فقدان الأمن


 


[1] الفصول: 7 إلى 12 ترجمة د. محمد عليق.

 

420


364

الفصل السابع - ساعة يد

والأمان ومن القحط والفقر الشديد. في تلك السنوات، خضعت تبريز ومناطق شمال غرب البلاد لاحتلال الروس، فيما كان الإنكليز والأميركيون يسرحون ويمرحون في خوزستان والجنوب. لقد نهض أبي وبذل جهودًا كبيرة في مواجهة الظلم والتسلط، ما جعل أسرتنا تتهجّر لفترات طويلة من مدينة إلى أخرى.

 

على الرغم من أنّ المعيشة في "رشت" لم تكن بشكل مخفي، إلا أنها لم تستمر طويلًا، ليتوجّه بعدها إلى طهران، لكن الأوضاع في العاصمة أيضًا لم تكن مستقرّة. فقد كانت أسرتنا وفي أثناء انقلاب 28 مرداد 1332هـ.ش (19 آب 1953م) تسكن بالقرب من ميدان الإعدام، هذا المكان الذي كان يشهد بين فترة وأخرى، تجمعات وتظاهرات لمؤيدي مصدق وكذلك لمعارضيه.

 

استمرت الصعوبات والمشقات لدى أبي والعائلة من ذلك الزمان وحتى قيام الثورة، لتبدأ بعد انتصار الثورة تحركات العناصر المعادية للجمهورية الإسلاميّة وبعدها الحرب المفروضة، فلم يحقّق والدي أمنيته القديمة بشيء من الراحة والهدوء والاستقرار!

 

وكأنّ هذه الأمنية كانت لكل الشعب الإيراني وليست له فقط، تشبه السمكة الزلقة التي يصعب الإمساك بها طوال تلك السنوات، كأنّ الأمر لا يزال كذلك الآن أيضًا!

 

كان أبي يُعيل أسرة مؤلفة من أحد عشر فردًا، وأنا فيها الصبي الأوسط بين خمسة صبيان، إضافة إلى أربع بنات. عندما بلغت سن السادسة عشرة، أردت أن أذهب إلى الجبهة، لكن أبي رفض إمضاء ورقة الموافقة. كان مقر التعبئة يرفض استقبال أحد للالتحاق بالقتال من دون هذه الموافقة. صار العمل التطوعي في التعبئة أهمّ شيء في حياتي. رسبت في عدة مواد دراسية في تلك السنة، فكانت النتيجة

 

421

 


365

الفصل السابع - ساعة يد

الرسوب في العام الدراسي. انتسبت بعدها إلى مدرسة مسائية والتحقت بمعهد مهني كي أنهي فيه المرحلة المتوسطة. كان والدي قلقًا عليّ ومنزعجًا من تدنّي مستواي الدراسي. ولهذا لم يكن يسمح لي بالالتحاق بجبهات القتال. أما أنا فكنت أصرّ وأصرّ على قراري. حين حلّ صيف العام 1982م، استطاعت أمّي أن تقنعه بالأمر، ليوقّع أخيرًا ورقة الموافقة. قالت له:

- يا رجل! أنت نفسك في شبابك كنت مثل جواد، بل أكثر حماسةً ولهفة منه أيضًا! حين كنتَ تذهب إلى الغابة لوحدك، كم كان عمرك؟ من الذي كان يخالفك ويمنعك؟ والآن في هذه الأوضاع، لماذا تريد من ابنك أن يبقى هادئًا وقاعدًا في المنزل؟

 

تمكّنتْ أمي بكلامها الجميل هذا، أن تحيي الذكريات الكامنة لدى أبي، وأن تنفض الغبار المتراكم على روحيّته ومشاعره الشبابية، وهكذا حققت لي أمنيتي التي كنت أنتظرها منذ وقت طويل.

 

ذهبتُ إلى الجبهة للمرة الأولى عن طريق "هيئة دعم الجبهة والحرب" وجهاد البناء. كان عملي هناك في بناء الدشم وتلحيم الحديد. استمرت المرابطة أربعين يومًا وعدت بعدها إلى المنزل.

 

المرة الثانية، كانت بعد عام، حيث التحقت فورًا بالمدرسة كي لا يزيد غضب أبي وينزعج من تأخري الدراسي.

 

في صيف العام 1984م كانت مرابطتي الثالثة، ولأنّ ملفّي العسكري في مقر التعبئة يشمل مشاركتين سابقتين في الجبهة، فقد حصلتُ على بطاقة "لبيك يا خميني"، أي إنني بعد هذا، لن أحتاج إلى إذن والديّ للذهاب إلى الجبهة.

 

في يوم الوداع، أهدتني والدتي كوفيتها العربية، وكان والدايَّ قد

 

422

 


366

الفصل السابع - ساعة يد

ذهبا لحج بيت الله الحرام في العام 1979م، وقد اشترت أمي من هناك خمس كوفيات عربية وباركتها بالأماكن المقدسة. كانت تلك الكوفيات أكبر من الكوفيات الإيرانية وأنعم ملمسًا وأغلى ثمنًا. في المرابطة الماضية وعند توديعي للأصدقاء، أهديت كوفيتي لأحدهم، حيث لاحظت أنه معجب بها ويتمنى الحصول عليها, هذه المرة، أهدتني أمّي كوفيتها التي كانت تستعملها أحيانًا كسجادة صلاة.

 

في ذلك الصيف، قضيت عدّة أشهر في مركز اتصالات فرقة سيد الشهداء العاشرة وفي خوزستان. صار الذهاب للجبهة عاديًّا بالنسبة لي، وكنت مسرورًا لهذا الأمر.

 

حلّ صيف العام 1985م، وعدت مجددًا للجبهة.

 

أخذت معي هذه المرة أيضًا كوفيّة والدتي، ولكني قلّما استخدمتها كي لا تنكشف كالكوفية السابقة. تمّ فرزي هذه المرة إلى فرقة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث كانت المأمورية في الفصيل الثالث للسرية الأولى في كتيبة حمزة.

أمضت كتيبة حمزة كل شهر مرداد (تموز-آب) بطقسه الحار ورياحه المحرقة في الخط الدفاعي لمنطقة "مهران". في أيام المأذونيات، كنت أكثر ما أقضي وقتي مع إحدى أخواتي، والتي عمرها قريب من عمري وهي تحب كثيرًا التعرف إلى أحداث الجبهة، كنت أجالسها وأروي لها ما كان يدور معي هناك، أما هي فلم تكن ترتوي ولا تملّ من الاستماع لهذه الذكريات.

 

عندما انتهت مأذونيتي وأردت الرجوع للجبهة، قال لي والدي بكل حزم: "جواد، ارجع قبل أواخر "شهريور" (أيلول)، فإن درسك أهم وأوجب حاليًا من وجودك في الجبهة".

 

ولكن.. انتهى "شهريور" وكنت لا أزال في الجبهة، إنها أيام

 

423


367

الفصل السابع - ساعة يد

عاشوراء حيث مجالس العزاء واللطم في الجبهة لها طعم آخر ولذة مميزة، لم أكن أستطيع تركها والرجوع إلى طهران. وروحية ومعنويات شباب كتيبة المشاة والهجوم عالية وتختلف عن كتائب الدعم اللوجستي والإسناد.

 

بعد الأسبوع الأول من "مهر" (تشرين الأول) رجعنا من المعسكر الصيفي إلى ثكنة "دوكوهه". في منتصف الشهر، تم تبديل قادة الكتائب والسرايا. فعملت أنا خلال هذه التغييرات على الانتقال من الفصيل الثالث إلى الفصيل الأول في السرية نفسها، حيث كنتُ على معرفة وتواصل مع شباب الفصيل الأول من قبل. كل شباب السرية كانوا يعرفون "محسن كلستاني" الذي أصبح مسؤول الفصيل الأول. كان يقرأ القرآن ودعاء الصباح خلال المراسم الصباحية، وبالحدّ الأدنى كانت الفرقة كلها قد تعرّفت إلى صوته.

 

أعلن قائد الكتيبة الجديد في أول خطاب له: إن على قوات التعبئة أن تقوم بتسوية أمورها والرحيل أو تمديد مدة مرابطتها لثلاثة أشهر أخرى، فالكتيبة في طور إعادة البناء، ولديها برامج تعليمية وتدريبية واسعة، وعليه لا يمكن لأحد أن يطلب تسوية حسابه والرحيل خلال المراحل الآتية..

 

اتصلت بالمنزل وأخبرتهم بأني سأبقى طوال فصل الخريف في الجبهة، تكلّمت أوّلًا مع أختي ثمّ مع أمّي. وهما تكلّمتا كثيرًا مع أبي حتى وافق على بقائي، لكنه أخذ مني تعهّدًا بأن أعوّض ما تأخر عليّ من دروس عندما أرجع.

 

كنت في الفصيل الأول مساعد رامي (آر بي جي) أيضًا، ولكن مساعدًا ثانيًا هذه المرة. في الفصيل السابق كنت مساعدًا ثالثًا. أغلب التعبويين كانوا رماة (آر بي جي) أو مساعدي رماة (BKC) وما شابه.

 

 

424


368

الفصل السابع - ساعة يد

كان عدد الدبابات والملالات المجهّزة في الجيش العراقي، لا يترك لنا مجالًا سوى قبول هذه المهمة.

 

توجهنا في الأسبوع الأخير لشهر "آبان" (تشرين الأول) من ثكنة "دوكوهه" إلى شاطئ بحيرة سد "دز" للتدرب على القتال البرمائي.

 

كان المقاتلون الإيرانيون، خلال العمليات السابقة، أي "بدر" و"خيبر" في "هور العظيم"، قد تمكنوا من الدخول إلى الأراضي العراقية بالعبور من هذه المستنقعات. لم أكن قد رأيت منطقة "الهور" قبل ذلك، لكني كنت أتصوّرها شبيهة بمستنقع "انزلي" في منطقتنا الشمالية، في الواقع لم يكن في "الهور" تلك الخضرة والبرودة الموجودة في مستنقعنا. وكوني على معرفة جيدة بأنواع السباحة وقيادة المراكب، فقد كانت أيام الدورة الأولى سهلة جدًا بالنسبة لي.

 

في الأسبوع الأوّل لشهر تشرين الثاني، بدأ التدريب التخصّصي، تمارين الهجوم من اليابسة إلى الماء الحار ومن الماء إلى اليابسة. كان الماء الصافي والبارد للبحيرة يمنح أجسامنا انتعاشًا وحيوية لذيذة. وبالتأكيد فإن التدريب فيه ما فيه من متاعب ومشاق، لكن كان لدينا الفرصة للتسلية والترفيه، صنعتُ صنارة صيد بواسطة دبوس صغير، وصرت أصطاد الأسماك بواسطته من البحيرة، استخدمنا سلك جهاز اللاسلكي الهوائي بدل خشبة الصيد والدبوس كصنارة، نضع فيها ما تيسر كطعم، وكانت النتيجة: سمكة طازجة في كل عشرين دقيقة تقريبًا!

 

كانت لهجتي ذات الأصول "الكيلانية" ومهاراتي في الصيد والسباحة، وبدون ادعاء وتفاخر، أسبابًا أثبتت للشباب بأني رفيق ومساعد مناسب لهم. كانوا يأتون إليّ ليسألوني عن مشكلاتهم في الصيد وأنواع الأسماك والصنارات، فكنت أحلّها لهم وأعلّمهم ممّا أعرف.

 

 

425


369

الفصل السابع - ساعة يد

أتقن "حسن قابل أعلا"، الذي كان خبير الهندسة (التخريب) في الفصيل، صيد السمك بسرعة. استطاع في يوم واحد، وبدل ذهابه في مأذونيته، أن يتصيّد حوالي خمسين سمكة صغيرة!

 

بعد تعليم صيد السمك، وصلنا إلى دروس إعداد وجبات السمك المتنوعة، السمك المشوي، المقلي، المحشي..

 

كان الشباب يشكّون الأسماك بحربة الكلاشنكوف ويشوونها على موقد الحطب. وبهذه الطريقة لم يعانِ أحد من الجوع طوال هذه المدة التدريبية.

 

كانت تمارين الخطابة، من برامج وأعمال الفصيل الأخرى، كان على كل واحد من الشباب أن يختار الموضوع الذي يرغب ويحضّر نفسه ويخطب فينا لمدة نصف ساعة. قام "علي بي بي جاني" وكان مساعد رامي رشاش فكانت محاضرته حول رشاش الـ"BKC"، أغلب الشباب كانوا يخطبون حول مواضيع دينية ومعنوية، ولهذا فإن خطبة "علي" بقيت حاضرة في ذهني أكثر من غيرها.

 

يوم تركنا شاطئ بحيرة سد "دز" كان لدينا جميعنا، سلّة ذكريات جميلة من التعليم والترفيه والأحداث التي مرّت علينا هناك.

 

قطعنا في ذلك اليوم، مسير ساعة، من البحيرة وحتى ثكنة "دوكوهه" راكبين في القسم الخلفي من شاحنة عبرت تلك الطريق الترابية المليئة بالحفر والمنعطفات الحادة، لنصل إلى مركز الكتيبة بذكرى طيبة. رجعتُ بعدها في مأذونية إلى المنزل، فرح أبي كثيرًا حين علم بأني أتابع دراستي وواجباتي المدرسية في الجبهة. وكانت "زوادتي" عند رجوعي إلى الجبهة عدة كتب ودفاتر مقررات دراسية. كان شهر "آذر" (تشرين الثاني-كانون الأول) على الأبواب ومعه امتحانات الثلث الأول من العام الدراسي.

 

426

 


370

الفصل السابع - ساعة يد

في المرابطات السابقة لم أكن على معرفة وثيقة بالمجمع التعليمي للمقاتلين، كنت قد سمعت باسمه فقط. لكن هذه المرة وبسبب تشكيلي في الفصيل الأول، وهو فصيل طلّابي بامتياز، زادت محبتي ورغبتي بالدرس، وكذلك تواصلي المستمر مع "مجمع الشهيد همت التعليمي". كان شباب الفصيل الأول مميزين باهتمامهم بدروسهم ومتألقين كذلك في التدريب العسكري.

 

قبل أن أودّع الأهل وأغادر المنزل، ألقيتُ نظرة على صورتي في المرآة! كلا، لم أكن أنا جواد السابق. لم يختلف طولي وجسمي كثيرًا، بدا الظاهر كما هو، لكنّي أنا نفسي قد تغيّرت. أعادت الحرب تشكيلي وبناء روحي من جديد. صرت أشعر في داخلي بقوة رجولية. تلك الأيام وفي سنّ التاسعة عشرة صرتُ أستطيع تحمّل أيام من الجوع والعطش وساعات من صعود الجبال والمرتفعات الشاهقة.

 

عندما رجعنا من المأذونية، كانت قوات جديدة قد أُرسلت من طهران أيضًا، من الشباب الجدد، "حسين كلستاني" -شقيق مسؤول الفصيل- الذي كان رامي آر بي جي، ويتولّى مسؤولية المجموعة الثانية، وصرت أنا مساعده الأول. المساعدان الآخران هما "السيد حسن رضي" و"علي قابلي"، وقد بقينا على هذا التشكيل والمسؤوليات حتى ليلة الهجوم، كنا نحافظ على هذا الترتيب حتى عند النوم! فقد كنت أنام بين حسين وحسن!

 

في تلك الأيام تعمّقت صداقتي كثيرًا مع "محمد قمصري" الذي كان مساعد رامي رشاش. لا أدري كيف وقعت محبته بقلبي. كانت لحيته خفيفة وشاربه رفيعًا، يصغرني بثلاث سنوات، كان حينها في السادسة عشرة. نحن الاثنان كنا مرسلين من ثكنة "مالك الأشتر". وكانت قصة حصوله على موافقة أهله شبيهة لما حدث معي، سألته:

 

427

 


371

الفصل السابع - ساعة يد

- متى أتيت إلى الجبهة للمرة الأولى؟

- السنة الماضية، (83 - 1984م).

- وأين كانت خدمتك؟

- جنوب الأهواز "جاده آبادان" في مركز الطاقة النووية.

- الطاقة النووية؟

- نعم، في مبنى كبير وعجيب، مهجور وغير مكتمل البناء. وقد حوّله الشباب إلى ثكنة عسكرية. كانت جدرانه المتينة من الإسمنت المسلح.

- أنا كذلك قد خدمت عدة أشهر في "الأهواز" في العام 1983م، كنت حارسًا لمقر.

- من أي منطقة في طهران؟

- أنا من ميدان "خراسان"، شارع "عارف".

- وأنا من شارع القوة الجوية الخامسة في "بيروزي".

 

كان يريد الالتحاق بالصف الأول مهني من اختصاص الكهرباء وأنا كنت في الثالث مهني، ما جعل صداقتنا أقوى وتواصلنا أكبر. صرنا نراجع دروسنا معًا، كان لدينا فرصة عشرة أيام للامتحانات، ولأن الكتيبة كانت تنتظر الأوامر بالانتقال إلى مكان آخر، فلم يكن لدينا أعمال عسكرية تشغلنا عن الدرس.

 

في أحد الامتحانات، وَسْوَسَ لي الشيطان - كما في طهران - بأن أغشّ! مجرد أن غلبني الشيطان وحاولت أن أنقل إجابة أسئلة المسابقة، وقع نظري على "محمد قمصري" الذي كان جالسًا خارج القاعة ينتظرني لنعود معًا إلى مبنى الكتيبة، انتبه لنيتي السيئة وقطّب حاجبيه انزعاجًا، ندمتُ فورًا في تلك اللحظة وخشيت أن تؤثر

 

 

428

 


372

الفصل السابع - ساعة يد

هذه المسألة على صداقتنا وعلاقتنا. حين انتهى وقت الامتحان، قال لي محمد: "يا أخ جواد، أنت مقاتل تمرّغ أنف العدو بالتراب، هل تظن أنك عاجز عن النجاح في هذه الدروس؟ أنت قادر حتمًا!".

 

لم أفكّر بعدها بالفشل والنقل أبدًا، مع أن "محمد" كان أصغر سنًا مني، إلا أنني استمعت لنصيحته. نجحت في تلك الدورة بثلاث مواد، وكانت لدي علامة متدنية في مادة واحدة، كنت راضيًا عن المجهود الذي بذلته، أخبرت أهلي بنجاحي فورًا.

 

في طهران وفي بيتنا بالتحديد، كان هناك أخبار أجمل أيضًا، مراسم خطوبة وأفراح وحلويات. في يوم 24 آذر 1364 هـ. ش. (كانون الأول 1985م) وصلتني برقية هذا نصها: "السرية الأولى، الفصيل الأول، التعبوي "محمد جواد نصيري بور"، السلام عليك يا سيد جواد. ليلة الجمعة مراسم خطوبة "بروين"، يجب أن تكون عندنا نهار الأربعاء، بتاريخ 27/9/1985. نصيري".

 

لكن الثكنة، كانت تضجّ بالحديث عن الانتقال إلى المعسكر الجديد والعمليات القريبة. تم تكليف قسم التجهيزات بتفقد الأسلحة والعتاد، ورفع النواقص والمعدّات اللازمة للشباب.

 

كنت أرغب ومن صميم قلبي بأن أكون قربهم في مراسم خطوبة أختي، تلك الغالية التي كنت كلما ذهبت إلى طهران، تجالسني كي أروي لها كل ذكرياتي على الجبهة من أَلِفها إلى يائها.

 

تردّدتُ واحترت بين رغبة قلبي وواجبي، فاخترت الجبهة. اتصلت هاتفيًا بالمنزل وأخبرتهم بأني لن آتي، فلا ينتظروني. وعدتهم أيضًا بأني سأشارك في مراسم عقد القران والعرس إن شاء الله.

 

في يوم من أيام الخريف، انتقلنا من "دوكوهه". تحركنا حتى وصلنا إلى معسكر "كرخه" في جو عاصف ماطر، والتجأنا إلى الخيام. كان

 

429

 


373

الفصل السابع - ساعة يد

الماء قد بلّل أرض الخيام، وكانت نقاط الماء تتساقط من عدة نقاط مشققة من أعلى الخيمة.

 

كانت الخيمة تحتاج إلى الكثير من العمل والصيانة لتناسِبَ بقاءنا فيها ليلًا نهارًا، وكان فصل الشتاء على الأبواب.

 

في يوم مشمس، قمنا بترتيب الخيمة وصيانتها جيدًا، عندما ارتاح بال المسؤولين من وضع سكن الشباب وظروفهم بدأت التمرينات بشكل جدي. كان لدينا صفوف تعليميّة وتدريبيّة يوميّة على استخدام مختلف أنواع الأسلحة.

 

في "كرخه" تذوقتُ لذّة الصلاة وصرت أبتهج بها أكثر فأكثر. قبلها، كنت أصلي المستحبات وصلاة الليل، ولكن كان لهذه العبادة لذة من نوع آخر هناك، حيث كان أغلب الشباب يقومون لصلاة الليل. كنت في بعض الليالي أصلي ثلاث ركعات، وعندما تكون همّتي أعلى ولا أكون متعبًا، أصلي إحدى عشرة ركعة. استيقاظ عدد كبير من الشباب قبل ساعات من أذان وصلاة الصبح، أثّر على حالي المعنوية كثيرًا. كان محمد قمصري، ومن بين جميع شباب الفصيل، أعسر اليد. كان معي ومعه بندقيتا كلاشنكوف خشبيًّا الأخمص.

 

أجريت معه مرة مسابقة في فك وتركيب الكلاشنكوف.

 

كان عقرب الثواني في ساعته أدق من ساعتي، كما إنّ زجاجها أنظف. اتفقنا أن نعيّر الوقت على ساعته. بدأتُ أنا أولًا واستغرقتُ مئة ثانية. ثم قام محمد ففكّ وركّب.. استغرق مئة وثلاثين ثانية. كنت أعرف أن أهل الخبرة يمكنهم القيام بهذا في أقل من تسعين ثانية.

 

جاءنا في أحد الأيام شابّ لا نعرفه، ألقى نظرة داخل الخيمة

 

430

 


374

الفصل السابع - ساعة يد

وسأل:

- أيها الشباب، هل رأيتم قمصري؟

- إنه مع الشباب يتمشون قرب المنخفض المحاذي.

 

عندما عاد محمد بعد حوالي ساعة، سألته عن ذلك الغريب إن كان وجده أو لا، قال:

- لم يكن غريبًا، إنه أخي الأكبر.

- قلت في نفسي كم يشبهك حتى إنّ صوته يشبه صوتك، هو في أي كتيبة؟ يبدو من هيئته بأنه قائد!

- في وحدة الهندسة العسكرية. هم الذين شقّوا طرقات هذا المعسكر وعبّدوها.

- كم أخ وأخت لديك؟

- نحن تسعة أبناء وبنات.

- بطاقة تموينكم مثل بطاقتنا: أحد عشر شخصًا.

 

كان محمد الصبي الرابع والابن السادس في أسرته.

 

حدّثته ذلك اليوم عن خطوبة أختي وما حدث حينها. أحضر أخو محمد له عدة قوارير من عطر الورد الحمدي وورود "مريم" من بلدة قمصري في "كاشان"، وقام محمد برش العطر على كل الشباب.

 

مضى أسبوعان على قدومنا إلي معسكر "كرخه"، جهّز شباب فصلينا بالقرب من الخيمة أمكنة الدعاء والمناجاة والخلوة مع الله. كان قمصري أيضًا يذهب أحيانًا بعد منتصف الليل إلى مكان بالقرب من المنخفض، بين فصيلنا وخيمة الفصيل الثاني، في عمق المنخفض كان يوجد حفرة تشبه القبر وتشكّل مكانًا نموذجيًا للدعاء والبكاء

 

431

 


375

الفصل السابع - ساعة يد

والأنس بالله. لأني كنت أعرف ماذا يفعل هناك، لم أكن أسأله أو أتطفّل عليه كي لا أزاحم هدوء خياله وراحة باله.

 

في إحدى الليالي، قام مسؤول الفصيل، وبمساعدة بعض الشباب، بحفر حفرة مشابهة لتلك الموجودة في المنخفض. كان حينها يقرأ للشباب مناجاة الإمام علي عليه السلام في مسجد الكوفة. ثم صار يروي للشباب أحوال شهداء الحرب، حدّثهم بشكل خاص عن شهداء عمليات "والفجر4"، كانوا يستمعون إليه بتأثّر وهم يعمّقون الحفرة بمعاولهم ورفوشهم.

 

بعد انتهائهم من عملهم في تلك الليلة، نمت أنا أيضًا في ذلك القبر عدة دقائق.

 

ما أجملها من حال معنوية! في حفرة كهذه، وسط التراب ينسى الإنسان غروره، ولا يفكر أبدًا بالماديات. يصبح كل همّه وأمانيه أن يضع رِجله على التراب مرة أخرى ويتحرّر من تلك الحفرة. حيث يكون عاهد الله: إن حرّره منها، فإنه سيفعل هذه الأمور وتلك الأعمال. وهكذا، فقد كان الشباب وفي كل مرة يعودون من ذلك الموت الاختياري إلى الدنيا، يبذلون كل جهودهم للوفاء بما عاهدوا الله عليه. هذا العمل كان يوصلهم لله بشكل سريع. وهل هناك شيء لقهر نفس الإنسان أفضل من الموت حقًّا؟!

 

تركت الأحوال المعنوية والروحانية لشباب الفصيل الأول أثرًا كبيرًا عليّ، كان أكثر من تأثري بجهود الشباب للدرس والنجاح أو التمرينات التي كانوا يقومون بها للانتصار في العمليات العسكرية.

 

في النصف الثاني لشهر "دي" (كانون الثاني) وصلتني رسالة من أختي، تحدّد فيها تاريخ عقد القران ومراسم العرس، تاريخ لا أنساه

 

432


376

الفصل السابع - ساعة يد

وهو 26 دي 1364هـ ش (16 ك2 1986). كان لدي أسبوع واحد للعودة إلى طهران. كنت أحب كثيرًا أن أحضر في ذلك العرس، لكن كان عندي امتحان حساب (رياضيات فنية)، تلك المادة التي كنت قد رسبت فيها في شهر "ك 1". إلى أن حلّ الامتحان كنتُ قد درست كثيرًا دروس تلك المادة وكذلك "قمصري" و"عليان نجادي" قد بذلا جهودًا مضنية لمساعدتي في النجاح. كنتُ أنا أحلّ التمرينات وهما يقومان بتصحيح الإشكالات الواردة.

 

في اليوم الموعود، ذهبتُ إلى المجمّع التعليمي، وصلت فلم أجد أحدًا، سألت الأخ الموجود هناك:

- هل تم تغيير ساعة الامتحان؟

- كلا يا أخي.

- لماذا لا يوجد أحد للامتحان؟

- أي امتحان؟

- الحساب، للسنة الدراسية الثالثة.

- لقد تأخرت كثيرًا يا أخي، لقد انتهى..

 

ثم أشار إلى ورقة تاريخ الامتحانات وأوقاتها. كنت قد اشتبهت في التاريخ والوقت!

 

عندما رجعت إلى الخيمة سألني "عليان نجادي":

- كيف كان الامتحان؟

 

حدّثته بما حصل معي.

 

بعد يأسي من الامتحان، ذهبت إلى مسؤول الفصيل والسرية وقسم الاستقطاب في الكتيبة لأحصل على مأذونية أشارك فيها على

 

433

 


377

الفصل السابع - ساعة يد

الأقل في مراسم عرس أختي، لكن حتى هذا لم يعد ممكنًا أيضًا!

 

كانت الكتيبة في وضعية "نصف جهوزية" ولا يمكن إعطاء مأذونيات حتى لمدّة 48 ساعة! مضت الأيام ثقيلة محمولة بالهموم والغصّات وأنا لا أزال في الجبهة. وكان جواب قائد الكتيبة مشابهًا لمن سبقه: لا يمكن، إلا بالتنسيق مع أركان الفرقة.

 

وأخيرًا حلّ اليوم الموعود في 26 دي (16 ك2) وأنا في معسكر "كرخه". لم تثمر جهودي لأخذ المأذونية. ومن جهة أخرى كنت أستحي من الاتصال بأختي للاعتذار منها وإخبارها أين أنا. قلت في نفسي: ما دُمْتُ هنا، فهي لا شك ستفكّر في كل الذكريات التي رويتها لها، وستدرك لوحدها وضعي، وتعرف لماذا لم أرجع إلى طهران للمشاركة في عرسها.

 

كان القليل من الخبز يصل للفصيل. كنا نذهب أحيانًا إلى مراكز تجهيز كتيبتنا والكتائب الأخرى ونأخذ منها بقايا الخبز اليابس، ونحضرها إلى المخيم ثم نفرزها، فيأكل الشباب البقايا السليمة منها. في أوضاع القحط تلك، قامت الكتيبة في أحد الأيام بتنفيذ تمرين على التخشّن وتحمّل الجوع والعطش، فلم نتناول الفطور ولا الغداء، أمضينا النهار كله حتى المساء على قطع خبز صغيرة وأكواب قليلة من الماء.

 

تعوّدنا أن نبقى على وضوء وطهارة. في المناورات الليلية كان مسؤول "الفصيل الأول" يسمح لمن يرغب في أداء صلاة الليل. فيأخذ زاوية ويقف للصلاة. وأنا كذلك كنت أفرش كوفية أمي المباركة وأصلي عليها.

 

بعد أيامٍ من تاريخ 26 "دي" وبعدما فشلت كل جهودي في أخذ

 

434

 


378

الفصل السابع - ساعة يد

مأذونية، وقُضي الأمر وحصل ما حصل، إذا بالكتيبة تمنح جميع العناصر مأذونيات! أنا استحييت من مواجهة أختي، فلم آخذ مأذونيتي ولم أذهب إلى طهران! لكن "محمد" ذهب وحضر حفل عرس أخيه.

 

في تلك الأيام الخمسة أو الستة، كانت خيمة الفصيل وباحتها خالية، لم يكن هناك أحد، ومع ذلك كانوا يرسلون كميات كبيرة من الطعام. كنت أملأ النهار والليل بالدرس والدعاء. لم يكن هناك من يُنافس على القبر المحاذي لخيمة الفصيل، فكنت أحلّ ضيفًا عليه في كل ليلة للدعاء والمناجاة، أجلس في القبر وأدعو، أنام فيه وأدعو. أمضي ساعة في تلك الحفرة.

 

الأنس بالتراب جعلني أتخفّف من كل الأثقال وأكسر القيود والأغلال.

 

يوم عاد الأصحاب والأحباب، حين أردت في الليل أن أقوم بما تعودت عليه من الدعاء في القبر، لم أتمكّن، فالضيوف كُثر، وكلهم عادوا من ظلمات المدينة بشوق ولهفة أكثر منّي. تركت لهم لذّة القبر حيث كنت أعلم بحاجتهم إليها أكثر من حاجتي حينها. استمرت هذه الزحمة الليليّة على القبر طوال الأيام العشرة، حيث تركنا بعدها معسكر "كرخه" مع تلك الذكريات التي لا يمكن أن تتكرر ويصعب وصفها. في تلك الليالي العشر لم أوفّق حتى لمرة واحدة للخلوة مع الله في ذلك القبر.

 

ذهبنا في أحد الأيام إلى حقل الرماية. وهذا يدلّ على اقتراب موعد العمليات. أطلق كل واحد من الرماة ومساعديهم قذيفة آر بي جي. هناك قام حسين كلستاني، وكان لديه خبرة وتجربة في عمليات بدر، فأوضح لنا عدّة أمور هامة، وروى لنا مجريات عمليات

 

435

 


379

الفصل السابع - ساعة يد

بدر ومواجهة الدبابات باللحم الحي، وكيف انتهت بالانتصار على الدبابات العراقية.

 

كذلك فإنّ "قمصري" الذي كان مساعدَ رامي رشاش، قام بإطلاق الكثير من الرصاص وهو في وضعيات الجلوس والانبطاح. كان على جميع المساعدين التدرب على الرماية بسلاح الرامي، كي يتابعوا المعركة إذا جُرح هو أو استشهد -لا سمح الله - فلا يبقى سلاحه على الأرض.

 

جاء وقت كتابة الوصية. كتبت وصيتي ووضعتها في حقيبتي، تلك الحقيبة الثقيلة المليئة بالكتب والدفاتر. أخذت منها دفتر مذكراتٍ وقلّمًا وسلّمت الباقي لمركز تعاون الفرقة (الأمانات).

 

في صيف ذلك العام، وخاصة في خط "مهران" الدفاعي، حيث كانت أول تجربة لي على خطوط التماس ومناطق العمليات، تعوّدت أن أكتب مذكراتي يوميًا. دوّنت في تلك الدورة ذكريات واحد وثلاثين يومًا. وكنت أنوي أن أتابع هذه العادة، ولكن.. لم أتمكّن! فمن جهة كان ضغط العمل العسكري، ومن جهة أخرى الواجبات المدرسية فلم تسمح لي الفرصة والوقت الكافي. عندما رحلنا عن معسكر "كرخة" قررت أن أعود للكتابة، ولهذا أخذت معي دفتر مذكراتي، الذي كان هدية من الحرس الثوري.

 

عندما غادرنا المعسكر، أخذنا البطانيات وأوعية الطعام كذلك، فلم يبق سوى الخيمة، لا شيء سواها. وضعنا ما استطعنا من الأغراض في الباص وما بقي حملناه في شاحنة الدعم وانطلقنا. كان يوجد لافتة على إحدى الشاحنات كُتب عليها: هدية أهالي.. إلى جبهات النور ضد الظلام"، وكان نصيب شباب فصيلنا، وأغلبهم صغار السن، هذه اللافتة من شركة "مينو" لتتحلّى قلوبهم بذكرى طعم ذلك البسكويت اللذيذ!

 

436

 


380

الفصل السابع - ساعة يد

غادرنا معسكر كرخه بعد الظهر لنصل عند الغروب إلى "الأهواز"، رؤية لوحات الجادة المرحبة والمعلنة وصولنا للأهواز، أعادتني بالذكرى إلى ما قبل سنتين، حين جئنا مع وفد التعبئة الطلابية إلى الجبهة، وأمضينا الصيف الحارق في صحارى الأهواز. فكّرت في نفسي: مضت سنتان، ولكني كبرت أكثر من سنتين، وها أنا أنطلق بخبرتي وتجاربي الجديدة نحو العمليات العسكرية الكبرى.

 

وصلنا في ظلام الليل إلى شاطئ "كارون"، يوجد مسافة حوالي المئة متر بين مكان توقّف الباص والخيام. وكانت الأرض رطبة ولزجة تحت أقدامنا، فكنّا نسير وتنزلق أحذيتنا العسكرية ونتعثّر مرة بعد أخرى. قطعنا هذه المسافة عدة مرات لتفريغ حمولة الباص. كانت أشجار النخل تحيط بخيمتنا من كل الجوانب، كان اسم النخيل ومنظره يحييان في أذهاننا قصصًا وذكريات عميقة. كم يحلو الدعاء في تلك الأجواء الجميلة.

 

منتصف ليل اليوم الثاني لوصولنا، طلب مني "محمد قمصري" أن أرافقه لخارج الخيمة كي ندعو معًا. كذلك جاء السيد حسن رضي معنا فصرنا ثلاثة. جلسنا بالقرب من نخلة على شاطئ النهر وتلونا الدعاء باتجاه القبلة. وكان مصباح "قمصري" يساعدنا على قراءة خط الكتاب. كانت مياه "كارون" تجري هادئة بانسياب، ولكنّ صمتها كان يخفي تلاطمًا عميقًا في داخلها، تمامًا كالتعبويين الذين أتوا من أماكن بعيدة، وحلّوا ضيوفًا في دعوة لا يُعلم آخرها ولا يدرك مصيرهم فيها، على الرغم من ظاهرها الهادئ الساكن. في قلوبهم أفكار ومشاعر تشتعل شوقًا وحبًّا، قد يظهر القليل من تجلياتها عند الصلاة والدعاء.

 

دعونا بعضنا البعض لقراءة زيارة عاشوراء، فكانت من نصيب

 

437

 


381

الفصل السابع - ساعة يد

"محمد" وبدأ..

- السلام عليك يا أبا عبد الله. السلام عليك يا بن رسول الله. السلام عليك يا ابن أمير المؤمنين..

 

لم يكن قد أكمل عدة أسطر حتى اجتاحته أمواج الدموع فلم يستطع أن يكمل. كان بكاؤه الحارق يمنع الكلمات من الخروج من فمه..

 

أكملتُ الزيارة وطلبت من السيد حسن بعد أسطر قليلة أن يتابع.. وهو كذلك لم يستطع أن يقرأ إلا القليل. فعُدت لأكمل:

"السلام عليك وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليكم مني جميعًا سلام الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار.."

 

في الختام، سجدنا نحن الثلاثة وشكرنا الله على توفيق الزيارة ولو عن بعد:

- اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم. الحمد لله على عظيم رزيتي..

 

لم أكن أعرف اللطم وقراءة العزاء، ولكني وبشكل لا إرادي أنشدت عدة أبيات شعرية وصرنا نلطم معًا.

 

انتهينا فكانت وجوهنا مبللة بالدموع. توضأنا بماء "كارون" ورجعنا إلى خيمتنا.

 

قررت هذه المرة، وبدل أن أملأ دفتر مذكراتي بذكرياتي أنا، أن أطلب من أصدقائي أن يكتبوا لي كلمات للذكرى. وعليه صرتُ أكتب مذكراتي على الصفحات اليمنى وتركت الصفحات اليسرى من الدفتر لكتابة الأصدقاء.

 

كان "حسن قابل أعلا" أول من كتب لي، ولكنه طلب مني أن أكتب له حكمة أو موعظة ليتذكرني كلما قرأها. تبادلنا الدفاتر، وجلس

 

438

 


382

الفصل السابع - ساعة يد

كل واحد منا في زاوية للكتابة. بعد قليل من التفكير والتأمل، كتبت له ما يلي:

"أنا أحقر من أن أنصحك، لأني أستمدّ منك ومن أمثالك المعنويات وأتّخذكم نموذجًا وقدوة لي في الكثير من الأبعاد.

 

عندما أنظر إليك بدقّة، فإنني أتعالى روحيًا، ولكني سأذكر لك حكمة تنفعك في دنياك وآخرتك. وهي أن تسعى بأن تتخذ من الأشخاص الأفضل منك قدوة وتنتفع منهم في جميع الأعمال، وخاصة في تلك الأعمال التي تقربك من الله، والنصيحة الثانية أن تصلي صلاة الليل، فهي تقرب الإنسان من الله. اطلب من الله كل ما تريد، وإن شاء الله سيحقق دعاءك. إن شاء الله أن يشفع بعضنا لبعض في ذلك العالم. معسكر "قاصدي كربلاء" 11/11/1364 هـ. ش. (31/1/1986م) "محمد جواد نصيري بور".

 

في ذلك اليوم كتب لي ثلاثة من الشباب، "محمد قمصري" كان الثالث. عندما أعاد لي الدفتر، كتب في أعلى الصفحة "المساعد الثاني لرامي الرشاش، محمد قمصري" كان يومًا مثمرًا وكنت مسرورًا لهذه الفكرة.

 

في اليوم الثاني عشر من شهر بهمن، كتب لي اثنان، في الثالث عشر كتب شاب واحد فقط.

 

في الرابع عشر والخامس عشر قمنا بمناورات للتدرّب على مواجهة الهجوم الكيميائي، كنّا جميعًا متعبين جدًّا. فلم يفكّر أحد بالكتابة. أمطرت السماء في اليوم السادس عشر من بهمن فعوّضتُ عما فاتني من الأيام الماضية، قَبَعَ أغلب الشباب داخل الخيمة، ولم يخرجوا إلّا لمراسم الدعاء عند الصباح والغروب، استطعت يومها أن أدفع عشرة من الشباب ليكتبوا لي كلمات للذكرى على دفتري الذي كنت آخذه من أحدهم وأعطيه للآخر. كلٌّ منهم كان يقضي نصف ساعة في التفكير

 

439

 


383

الفصل السابع - ساعة يد

ليكتب عدة أسطر. أمطار الله باركت في عملي هذا!

 

وحتى انتهاء يوم السابع عشر من بهمن كان سبعة عشر شابًا قد كتبوا لي. "محمد قمصري" كتب أولًا في الحادي عشر وثانيًا في السادس عشر من "بهمن".. حين وصل دور "سعيد بوركريم" للكتابة، أخذ الدفتر، كتب "بسم الله" في أعلى الصفحة، ثم قال لي:

- جواد، سأكتب لك، ولكن ليس الآن، يجب أن أفكّر أولًا. دع الشباب يكتبون، سأكتب أنا بعدهم.

 

- حسنًا، إن كان الأمر هكذا، سأترك لك صفحتين فارغتين.

 

كتبتُ في ذلك اليوم، في أعلى الصفحة التي كتب عليها "بسم الله" "الأخ سعيد بوركريم" وقلت لنفسي، عندما نملأ صفحته سأكتب "رامي (آر بي جي) المجموعة الأولى في الفصيل الأول"، وسأسأله عن تاريخ ولادته وأكتبه، لكن هذا لم يحصل. بقيت الصفحتان خاليتين حتى الآن.

 

ذهبنا في معسكر "كارون" أيضًا إلى حقل الرماية. حيث أدركنا يومها أن بعض القذائف معطّلة ويجب أن تُفرَز وتَتمّ صيانتها.

 

وكذلك قامت الكتيبة بمناورة معارك برمائية، هجوم بالزوارق من هذا الشاطئ إلى الشاطئ الآخر واحتلال الجسر ومواجهة العدو الافتراضي، وكلّها مراجعة لما تعلّمناه في الدورة قرب سدّ "دز".

 

كان الهجوم قد تقرّر وصار حتميًا. غادرت عدّة كتائب معسكر كارون. كانت "وكالة أنباء التعبئة" تنقل الأخبار ساعة بساعة. مغادرة الكتائب للمعسكر، كانت تدل بوضوح على أن العمليات المنتظرة ستبدأ خلال ليالٍ قليلة. بدأ العدّ العكسي للانفجار الجديد.

 

في أحد الأيام لاحظت أن "محمد قمصري" صامت بشكل لافت،

 

440

 


384

الفصل السابع - ساعة يد

رأيته عدة مرات وقد جلس لوحده وغرق في التفكير. لم أعكّر عليه خلوته، لكن نفد صبري بعد الظهر، فجلست إلى جانبه. كان هادئًا جدًّا. لم أقل له شيئًا وانتظرت أن يبادرني بالكلام، قلت في نفسي إن لم يتكلّم خلال دقائق، سأتركه ولن أخرّب عليه خلوته. أخيرًا نطق وقال:

- أخي جواد، هل تظن أنني سأستشهد في هذه العمليات؟ هل أنا لائق بالشهادة؟

- إن شاء الله أنت لائق بها، ولكن الحرب طويلة ولا تزال الفرص كثيرة للشهادة، علينا أن نخدم ونقاتل ولنستشهد آخر الحرب!

- جواد، لا أعتقد بأني سأكون معكم في العمليات الأخرى!

- إن شاء الله لن يحدث لك شيء، ستذهب وتعود سالمًا معافى.

- جواد، منذ سنة بالضبط وقبل أن آتي للجبهة، رأيت في المنام سيدًا يرتدي ثيابًا خضراء اللون. كان وجهه نورانيًا لدرجة لم أستطع النظر إليه، قال لأخي الأكبر: هيا بنا نذهب معًا، لكن أخي تردد قليلًا وقال ما معناه "لديّ الكثير من الأعمال المتبقية ويجب أن أنهيها أولًا"[1].

- برأيك من هو هذا السيد؟ إمام الزمان أو الإمام الحسين؟

- لا أعلم، وعلى أي حال فقد كان مفعمًا بالنور. عندما رأيت أن أخي لم يذهب معه، قمت أنا ومشيت وراءه، شعرت بأنني تخفّفت كثيرًا وحلّقت وصولًا إلى السماء بسهولة ويسر ثم لم أستوعب شيئًا بعدها. اليوم وبعد سنة من ذلك المنام، ما زلت أشعر بهذه الخفّة والراحة. لقد منحني ذلك السيد يقينًا وهدوءًا ما زلت أعيشه حتى الآن.

 

بقيت صامتًا، كان ينطق بكلمات لم أكن أدركها ولا أستوعبها


 


[1] هذا الأخ الأكبر لمحمد جُرح في تلك السنة (1984م) ولدى محمد أخ جريح آخر أصيب في العام (1981م).

 

441


385

الفصل السابع - ساعة يد

بعقلي، كنت أنظر إليه وأحدّق به مندهشًا.

 

قبل أن نغادر مخيم "كارون"، اغتسلت غسل الشهادة، وارتديت ملابس جديدة وتعطّرت بتلك العطور التي أحضرها "محمد قمصري"، ثم تبادلنا ساعَتَيْنا أنا و"محمد" كي نتذكّر بعضنا إن حدث لأحدنا شيء ما. كانت ساعته أفضل من ساعتي، فيها عقارب وأرقام أيضًا. أعطيته ساعتي القديمة التي أستخدمها منذ عشر سنوات وأخذت منه ساعته ذات الشريط الجلدي الجديد. ثم قبّلنا بعضنا البعض، وتعاهدنا أن يشفع كلّ منا لصاحبه، إن استشهد ودخل الجنة أوّلًا.

 

غادرنا معسكر كارون بعد ظهر يوم غائم. كانت الشمس مختفية وراء الغيوم، حين صعدنا إلى القسم الخلفي للشاحنة، حيث كان مغطّىً بإحكام، كي يقينا البرد والمطر، ويخفينا عن أعين الطابور الخامس وعملاء العدو من ناحية أخرى.

 

عندما ترجّلنا من الشاحنة، كان المطر يتساقط خفيفًا هادئًا. عبرنا من مدينة "بهمن شير" وتموضعنا في بيت قروي في تلك المنطقة. كان صوت مدافع قواتنا يطرق أسماعنا عن بعد. أمضينا تلك الليلة على أصوات القذائف والصواريخ، والتي رافقها بالطبع أنغام الدعاء لنصرة مقاتلينا على الجبهات. بدأت عمليات "والفجر8" ظهيرة اليوم الحادي والعشرين من "بهمن" (10 شباط). كان الغداء وجبة أرز ودجاج في كيس من النايلون! طالما كنت أشارك "حسين كلستاني" طعامه. هذه المرّة أيضًا أنهيت وجبتي وحللت ضيفًا على كيسه!

 

أهل الخبرة والتجربة كانوا يحملون معهم دومًا ملعقة تُطوى وتوضع في الجيبة. من لم يكن طوى ملعقته حتى ذلك الحين، طواها كي لا تقع من جيبه أثناء الحركة والزحف والقفز. كان بعض المقاتلين يحملون رفشًا صغيرًا كالذي يستعمله البستاني لحفر الخنادق، وهو من النوع

 

442


386

الفصل السابع - ساعة يد

الذي يمكن تعليق فانوس صغير به، هذا الرفش خفيف وعملي وعلى العكس من الرفش العسكري الثقيل الوزن، والذي يحتاج إلى وضعه في حقيبة، ويأخذ مكانًا كبيرًا فيها.

 

بعد ظهر اليوم الحادي والعشرين من بهمن، تركنا منطقة "بهمن شير" وتوجّهنا بشاحنة إلى "أروند كنار"، حيث أمضينا الليلة في عنبر حديدي كبير.

 

صبيحة اليوم الثاني والعشرين من بهمن، طرق أسماعنا صوت المارشات العسكرية من مكبر صوت إعلام الكتيبة فتغيّرت أحوالنا وارتفعت معنوياتنا. بعد الظهر ذهبنا إلى أروند ووصلنا إلى مرسى الفرقة خلال نصف ساعة، ولكن بقينا حوالي الساعة ننتظر ركوب الزورق. كانت طائرات العدو تتحكم بالوضع وتُغير على المنطقة بين فترة وأخرى. ولهذا فقد كانت عمليات النقل هناك تتم بحذر واحتياط شديد حفاظًا على أرواح الشباب.

 

على مشارف الغروب، جاء دورنا وصعدنا الزورق تحت وابل قصف العدو وبركة الصلوات على محمد وآله، حين وصلنا إلى الطرف الآخر من "أروند" وانتظمنا في قطار مرصوص على الساحل الغربي لمدينة "الفاو" على الطريق الساحلي باتجاه الشمال لنستقر بعد مئات الأمتار في مبنى مهجور.

 

كانت الليلة ليلة أربعاء، صلينا وتعشينا وقرأنا دعاء التوسل. في منتصف الليل وصلت الشاحنات إلى مدخل المبنى، صعدنا إليها وتقدمنا للأمام. كان خط الاشتباكات في الشمال الغربي "للفاو"، وكانت المخازن النفطية للمدينة تشتعل وراءنا.

 

عندما ابتعدنا عدة كيلومترات عن مدينة "الفاو"، وقفت الشاحنات إلى جانب الجادة الإسفلتية، فترجلنا منها.

 

 

443

 


387

الفصل السابع - ساعة يد

في تلك الليلة، كانت قوات كتيبتي مالك و"أنصار الرسول" تخوض معارك هجومية، وكانت كتيبتنا تشكل قوات احتياط لها. بقينا حتى الصباح في الجهة الشمالية لجادة "الفاو أم القصر". كنت أنا وحسين كلستاني متموضعين في خندق - حفرة "جُحر الثعلب".

 

كان التراب مبلّلًا تحت أقدامنا، والطقس باردًا والرياح رطبة. لم أكن أرتدي لباسًا يُدفئني، اكتفيت بكوفية أمي التي ربطتُها على خصري، بقيت أرتجف بردًا حتى الصباح. معطف فرو كان أغلى أمنياتي! أما "حسين"، فإما أنّ طاقة تحمّله كانت أكثر مني، وإما أنّه يستحي أن يظهر نفسه ضعيفًا أمام البرد! كانت أطرافي تهتز فلا أقوى على ضبطها، وأخيرًا وجدت علم إيران في ذلك الظلام فتدثّرت به لعلّي أحظى بقليل من الدفء.

 

كان طعام الغداء معلبات سمك السردين. أما الشرب فكان بأوعية "غالونات" عشرين ليترًا. كان القصف مستمرًّا ولم يكن مسموحًا لأحد الخروج من الخندق - الحفرة. تمّ إبلاغنا بأمر تعميق حفر الخنادق لعلّها تغطّي تمام أجسامنا. بدأت أنا وحسين نحفر بالرفش الصغير. حفرنا وحفرنا حتى غَمَرَنا الخندق ولم يعد يظهر منا إلّا الرؤوس! عند كل صوت صفير قذيفة كنّا ننخفض أكثر كي لا نصاب بالشظايا.

 

عند الغروب، أحضر جماعة الدعم ذخائر وعتادًا إضافيًّا وقالوا: كل من يقدر، فليحمل معه قذيفة آر بي جي، فكل قذيفة إضافية تساوي إعطاب دبابة إضافية للعدو، استلمت أنا وحسين كلستاني كمية من الذخيرة، كانت مجموعتنا تحمل معها 17 أو 18 قذيفة آر بي جي. وحملت أنا مع القذائف بندقية وقاذفًا إضافيًّا، وكان معي ما يكفي من قنابل يدوية. تفقدت عتادي وسلاحي للمرة الأخيرة، وأحكمت ربط شالي وحزامي على خصري كي لا يعيقني شيء أثناء الحركة.

 

444

 


388

الفصل السابع - ساعة يد

كان زجاج الساعة التي أخذتها من "قمصري" يعكس النور، فقمت بمسحها بالوحل حتى غطّاها، لكني عدت فقلقت وفكرت أن الوحل سيجف ويقع حتمًا. وجدت قطعة خيش فربطت بها الساعة كلها وارتاح بالي.

 

قبل صلاة المغرب والعشاء وصل الأمر بأنه فور الانتهاء من الصلاة يجب أن نتحرك. وعليه بدأنا بتقبيل ومعانقة بعضنا البعض. أول من قبّلت كان "حسين كلستاني" وطلبت منه المسامحة وقلت له:

"أخ حسين، أنت رئيس مجموعتي، إياك أن تنسى! أنا بحاجة ماسة إلى شفاعتك".

 

فقال لي بعطف وحنان: "أخ جواد، أنت مساعدي، فلا تتركني هناك لوحدي وتنساني عندما تصل للجنة ونعيمها!".

 

ثم قبّلت "رضي" و"قابل" و"قمصري" الذي كان العطر يفوح من ملابسه وبدنه. قلت له:

- محمد، ما أجمل رائحتك!

- بالأمس فرغت كل قوارير العطر.

- على كل حال، أريج عطرك جميل.

- أخ جواد، سامحني وادع لي...

 

تلك الليلة، كانت آخر مرة أرى فيها وجهه الجميل والضاحك، كانت عصابة "يا حسين شهيد" الحمراء تجعل وجهه آية في الحسن والجاذبية. كل الشباب عند الغروب كانوا يبدون بشكل مدهش، متخفّفين ومرتاحين. كلهم كانوا يعرفون، خطوات قليلة تفصلهم عن الموت والخوف والجراح والأسر، لكنهم كانوا يضحكون مستبشرين.

 

بعد الصلاة، انتظمنا في قطار مرصوص. توقّفنا عدّة مرّات على

 

445


389

الفصل السابع - ساعة يد

الطريق، ولكن لمدة قصيرة. أغلب التوقف كان بسبب القنابل المضيئة. إحدى المرات توقفنا حوالي ساعتين. عرفنا فيما بعد أنّنا على مثلث مصنع الملح، وأن قادة الأركان كانوا مجتمعين، بعد انتهاء الجلسة، تمّ إعلان بدء الهجوم بشكل حاسم، وجاء أمر العمليات "بعد نقطة الانتشار، وعلى جادة "أم القصر"، هناك مجموعة من الدبابات، ويجب أن تتقدّموا حتى الجسر الكبير. الجسر ضخم لدرجة لا تحتاجون معها لما يدلّكم عليه، هنا وفي اليوم الرابع والعشرين سيتم تشكيل خط دفاعي للفرقة وستتقدم كل القوات إلى ما وراء الجسر وقناة الماء التي تغذّي مصنع الملح". حوالي الساعة العشرة ليلًا، عاد القطار المرصوص ليتحرك بريادة السرية الأولى، كان الفصيل الأول هو العمود الفقري للسرية.

 

في نقطة الانتشار، تم تشكيل قوة خاصة لكسر خط تماس العدو من خلال ضرب الدبابات الأمامية، كنت أنا وحسين كلستاني من أعضاء هذه الفرقة المؤلفة من سبعة أو ثمانية مقاتلين.

 

بعد ربع ساعة عبرت السرية نقطة "الانتشار"، زحفتُ وراء حسين حتى وصلنا إلى ميدان "الفاو". تم حل مشكلة الألغام خلال دقائق معدودة. لحظات وبدأ إطلاق النار. أطلق "حسين" أول قذيفة (آر بي جي) على الدشم العراقية. تقدم الشباب بوضعية القرفصاء نحو مواقع العدو.. بدأ الهجوم.

 

جهّز حسين القذيفة الثانية، لكنّ نيران العراقيين الغزيرة لم تسمح بالإطلاق. منذ اللحظة الأولى، بدا واضحًا أن العدو كان مستعدًّا وجاهزًا وكأنه على علم بالهجوم. بعد تقدّم خمسين أو ستين مترًا لم يعد الفصيل متشكّلًا على هيئته الأولى، انتشر الشباب، أما أنا فبقيت وراء حسين الذي كان مواجهًا للدشمة التي تطلق علينا رصاص

 

446

 


390

الفصل السابع - ساعة يد

"كاليبر50" الواقعة على الجهة اليسرى والموحلة من الجادة. في هذه الأثناء ناداني مسؤول السرية. كان الشباب ورائي مشغولين بالاشتباك تحت إمرته. كان حسين مشغولًا بالتصويب فلم تسنح لي الفرصة لإخباره بالتحاقي تلبية لأمر مسؤول السرية. ذهبت نحو الجادة كما طلب مني "عمو حسن". كانت هذه غلطتي الأولى في تلك الليلة. قال لي "عمو حسن" أن أطلق عدة مماشط نحو الدشمة العراقية، فرميت على ناحية اليمين حيث المكان مسوّر بأسلاك معدنية.

 

أثناء الرمي لم أكن أفكر لا بحسين ولا بـ"عمو حسن"، كان همي الأول والأخير أن أنفّذ الأمر المكلّف به. كنت أطلق النار قائمًا وقاعدًا على الهدف الذي تفصلني عنه مسافة أربعين مترًا، في هذه الحال، سمعت أحدهم يسألني:

- يا أخ، هل معك ممشط رصاص إضافي؟

 

قلت في نفسي: ممشط؟ لم تكد تمضي خمس دقائق حتى نفدت ذخيرته، لكني قلت له:

- نعم.

 

بقي ينتظر أن أناوله الممشط، لكنّ الممشط كان معلّقًا بسلك في جعبتي ولم يسهل عليّ نزعه. في تلك اللحظات، جاء مقاتل آخر، وقف بالقرب منا، كان رامي آر بي جي، قد جهّز نفسه لإطلاق قذيفة. وقف وألقى نظره على الأسلاك المعدنية. أشرت إلى الشاب الذي طلب الرصاص مني:

- فلنذهب يسارًا وهناك أعطيك من الجعبة..

 

لم يكن ينبغي أن أقوم بهذا على الجادة. ركض وركضت، قلت في نفسي لا شك بأنّه منتبه لنا، وأنّه سيصوب لعدة ثوانٍ فنكون عبرنا

 

447

 


391

الفصل السابع - ساعة يد

من ورائه، لكن فجأة ملأ وهجٌ منيرٌ عينيَّ وحرق هواءٌ ساخن جسمي، رماني الضغط للأعلى ثم سقطت على الأرض. كان ظهري يؤلمني بشدّة، رأسي وعيني كذلك. أحسست أن بؤبؤ عيني اليمين قد انقلب. كأن النجوم كانت تلمع ثم تنطفئ أمامي. خفت أن أفتح عيني. لم أعد أشعر بكل الجانب الأيمن من جسدي. بحثت بيدي اليسرى حولي، كان التراب تحتي مبلّلا بالمياه. وفوق هذا كله، شعرت بدوخة في رأسي من شدة الضربة. أدركت من الماء والوحل تحتي، بأنني قد وقعت على الجهة اليسرى من الجادة، حيث كنت متجهًا لأعطي الممشط لذلك الشاب الذي لا أعرفه. هذه هي كل القصة، جُرحت هناك. كانت جراح شفتي وذقني سطحية، ولكنّ جراح عيني وأذني عميقة، لم أكن أشعر حينها بألم شديد، ربما لأنّ الجراح لا تزال ساخنة، كان حزام السلاح ملتفًا حول يدي، ولكن لم أستطع تحريكها. لم أكن أسمع أي صوت بإحدى أذني، استطعت تحريك قدميّ. فتحت عيني اليسرى بهدوء وبطء شديد. لم تكن تؤلمني، وكنت أرى فيها، سحبت نفسي ببطء حتى وصلت إلى الأرض الجافة قرب الجادة. فككت حزام السلاح من حول يدي. كانت كوفية أمي هي قطعة القماش النظيفة الوحيدة معي، وضعتها على عيني اليمنى فأحسست بشيء من الاطمئنان والسكينة.

 

لم يكن هناك أثر لذلك المقاتل الذي رمى قذيفة الآر بي جي، وكذلك الشاب الذي طلب مني الممشط ركض ليتابع مهامه، وبقيت وحدي في تلك المعركة. كان هناك مقاتلون يركضون من هنا وهناك، ولكنّ أحدًا لم ينتبه لي.

 

كانت ملابسي مبلّلة والطقس باردًا والرياح تهب عليّ. كانت برودة الطقس ونزيف الدماء تكاد تقضي على كل طاقتي.

 

فقررتُ التحرك فورًا قبل أن تخور قواي. عدم الحركة بالنسبة لي

 

448

 


392

الفصل السابع - ساعة يد

كان مساويًا للموت المحتّم. خلّصت نفسي من ثقل العتاد والذخائر، تركت حقيبة القذائف والقنابل اليدوية واحتفظت ببندقيتي وقنبلة واحدة وقناع الحرب الكيميائية. نهضت قليلا كي أنطلق. كان رصاص العراقيّين لا يزال منهمرًا، على الرغم أن قواتنا قد أجبرتهم على التراجع نحو مئة متر للوراء. بللت الدماء المنهمرة من عيني الكوفية، وسالت نحو يدي. كنت أنظر بعين واحدة وأرى جثث القتلى على الأرض وأتقدم للأمام. كان واضحًا من لباس البعض بأنهم من قوات المغاوير العراقية.

 

كذلك شاهدت أجساد بعض شهدائنا التي أخفى الظلام ملامحها فلا تميّز أحدها عن الآخر. كنت أخطو بصعوبة بالغة وأشعر أني سأسقط على الأرض مع كل خطوة. لم أكترث بعشرات الطلقات والرصاص المنهمر حولي. فجأة لمحتُ من بعيد مسعفين معهما حمّالة، وهما يدعواني وينادياني نحوهما في الجهة المقابلة من الجادة. زحفت بسرعة وقطعت الجادة عرضيًا حتى وصلت إليهما، كانت رصاصات العدو لا تزال تحفر الإسفلت حولنا.

 

ألقيتُ بسلاحي على الأرض وارتميت على الحمّالة وصرت أحدّق بعين واحدة في سماء الليل المتلاطمة. هدأ قلبي عند التأمل في النجوم المتألقة رغم ضوضاء الأصوات والأنوار تلك. كنت غارقًا في منظر التجلّيات السماوية حين توقف المسعفان عند نقطة انتشار السرية قرب كوخ الإسعافات الأولية، ووضعا الحمالة على الأرض. قمت ودخلت إلى الكوخ، كان "علي شهبازي" هناك، تعرّفت إليه يومًا ما في الفصيل الثالث حيث خدمنا معًا. كان يضع مصباحًا في فمه ويتفقد جراح الشباب ويقوم بتضميدها بما تيسّر.

 

بعد أن عاين بضعة جرحى وصل إليّ. أمسكتُ مصباحه بيدي

 

449

 


393

الفصل السابع - ساعة يد

اليسرى ووجهت الضوء على وجهي. سلّم عليّ وسألني:

- هل أصبت برصاصة أو شظية؟

- لا أعلم أظن أنها نيران شهب الآر بي جي.

- الجراح فقط أصابت وجهك؟

- ضغط الانفجار أصاب يدي وكتفي وأذني، لكنّ وضعها الآن أحسن. لعلّ هناك إصابة في عنقي أو كتفي، انظر أنت لتعرف.

 

حين أنهى تضميد جرح عيني، خاطبني مثل الأطباء المحترفين:

- جواد، لا شيء مهمًّا. بعد أيام قليلة ستكون قادرًا على رؤية الطرف الآخر من الخندق.

 

هل كان صادقًا في كلامه أم أنه أراد رفع معنوياتي، لا أعلم، ولكن بعد قليل هاجمني هاجسُ الخوفِ من العمى فاضطرب قلبي، تكررت هذه الوسوسة مراتٍ ثم تركني وشأني!

 

خرجتُ من الكوخ وجلست جانبًا أنتظر سيارة الإسعاف. طال جلوسي وانتظاري. شدة البرد والضعف الناتج عن النزيف جعلاني أغفو وأنام. استيقظتُ فوجدت نفسي على تخت. في تلك اللحظات كان الطبيب يُعاين عيني السليمة. لم ألتفت للمكان ولا للزمان. لمّا ذهب الطبيب سألت الممرّض: لماذا تمزّق قميصي؟ أجاب:

- كان مبلّلًا بالدماء فاعتقدنا بوجود إصابات أخرى، لكن لا يوجد..

 

لم أجد كوفية أمي. لا أعلم بالضبط أين فقدتها.

 

أخرجوني من المستوعب المعدني. كانت رائحة "أروند" تصل إلى مشامي. ومع أنهم غطّوني ببطانية، إلّا أني كنت أرتجف من البرد. وضعوني داخل زورق، انطلقت في طريق العودة. صوت هدير محرّك

 

450

 


394

الفصل السابع - ساعة يد

الزورق وقطرات رذاذ الماء التي تلفح وجهي، ذكّراني بأيام طفولتي ومستنقع "أنزلي" وصيد الطيور. كنا نركض في الحقول الخضراء ونلعب بوحول المستنقع الطينية.

 

م تستغرق هذه "النقاهة" أكثر من نصف ساعة. أخرجوني من الزورق مباشرة إلى سيارة إٍسعاف قد تم تمويه زجاجها بالوحول وصار داخلها مظلمًا. كانت خضّة قويّة كفيلة بأن أغيب عن الوعي وخضّة أخرى توقظني مجدّدًا، حتى وصلنا إلى مستشفى "فاطمة الزهراء" الميداني وهو عنبر كبير ذو تجهيزات طبية جيدة.

 

هناك شكّلوا لي ملف إصابة، أخذوا مني أغراضي ليعيدوها لي فيما بعد، وألبسوني لباس المستشفى. وقع نظري على ساعة "محمد قمصري"، فتذكرته وناجيت في سرّي: يا إلهي، ترى هل محمد الآن سالم أو جريح؟ لعل نصيبه الشهادة! ما كانت أجمل رائحته في تلك الليلة! قلت وقلت.. ودعوت في قلبي بأن يعود كل الشباب سالمين وأن يكون البعثيون قد انهزموا وانتصرنا في هذه العمليات.

 

نقلوني بعدها من المستشفى الميداني في "آبادان" إلى الأهواز، في الرابع والعشرين من بهمن (13 شباط) كنت في مستشفى الشهيد بقائي في الأهواز، في صالة كبيرة مليئة بالجرحى. هناك التقيت بمعاون الفصيل – الأخ حسين فياض - الذي كانت عظام ساقه قد تكسّرت. سلّمت عليه وسألته عن أحواله من بعيد.

 

أفقت من غيبوبتي على صوت هدير محرك طائرة "سي 130"، هناك في أعالي السماء كانت أبواب الطائرة الخلفية مفتوحة وصوت المحركات والمراوح يصم الآذان. كان للسماء منظر مختلف وانطباع آخر، بعين واحدة مبصرة انجذبتُ لجمال السماء حتى تمكّنت الأدوية المسكّنة منّي مجددًا، فأطبقت أجفاني وغفوت. حتى ذلك الوقت كنت

 

451

 


395

الفصل السابع - ساعة يد

أؤدي الصلاة فقط بقول "الله أكبر" في قلبي. قلت في نفسي: يا إلهي، اقبل مني هذا القليل ثم غفوت مجددًا.

 

استيقظت في مستشفى، إنّه مستشفى الإمام الرضا عليه السلام في مشهد. كان السكون مخيّمًا على الممرّ. كان الممرّضون مشغولين بمعالجة وتفحّص جراحات وجهي ورقبتي وعيني وأذني. أخرج أحدهم قطعة معدنية، ولعلها كانت شظية قنبلة كبيرة أو شظية "بلاتين" من تحت الجلد ورماها في وعاء معدني. ما زال صوت رنين ارتطامها بذلك الوعاء يتردّد في أذني حتى الآن! هذه الشظية جاءت لتؤكد بأن إصابتي لم تكن ناتجة من شهب نار الآر بي جي الخلفي فقط، ولكن لم نعرف نوع هذه الشظية.

 

بعد شروق شمس يوم الخامس والعشرين من "بهمن" (14 شباط)، تمّ نقلي إلى قسم العيون في المستشفى. كان الصمت المطبق في المستشفى يؤذيني، وكذلك صوت اصطكاك دواليب سريري مع الأرض.

 

حين استقررت، طلبت وعاءً للتبول. كان قد مضى عليّ حوالي ثلاثين ساعة لم أذهب خلالها لدورة المياه. حين صليت الصبح، قالت لي إحدى الممرضات:

- يا أخي، ألا تريد أن تخبر عائلتك بإصابتك؟ أعطني رقم هاتفكم لأطلبه لكم.

 

فكّرت قليلًا ثم قلت لها:

- كلا يا أختي، لا أريد أن أزعج أحدًا.

 

لكنّ الممرضة أصرت عليّ بأن أخبر أحدًا من معارفي.

 

حينها أعطيتها رقم صديق كنت قد تآخيت معه، كان الوقت

 

452

 


396

الفصل السابع - ساعة يد

باكرًا وغير مناسب للاتصال، غفوتُ مجددًا. كنت لا أزال نائمًا حين اتصلت الممرضة بصديقي وأخبرته بإصابتي. جاء الطبيب لمعاينتي عند الظهر، استيقظت من نومي، بعد الفحص قرر أنه يجب إدخالي إلى غرفة العمليات لإجراء عملية عاجلة. في اليوم التالي تم تخديري بشكل كامل. بعد العملية جاء الطبيب وقال لي:

- ماذا فعلت بوجهك ورقبتك؟ أرهقتني حتى سحبت كل هذا الوحل والدم من جسمك.

 

رويتُ له قصة إصابتي وكيف سقطت على الأرض الموحلة فكان يواسيني بلهجته الخراسانية ويقول لي إنّ بصري سيعود إلى عيني المصابة. تذكرت كلام "علي شهبازي" في كوخ الإسعافات وتطمينه لي أيضًا.

 

بعد الظهر، رأيت أخي الأكبر ووالدتي قد دخلا فجأة إلى غرفتي في المستشفى! أين طهران من مشهد؟ وبالأصل كيف عرفوا بأني جريح هنا؟ اختلطت عليّ مشاعر الصدمة والفرح.

 

ماذا أريد أكثر من هذا؟ لم أكن قد رأيتهم منذ ثلاثة أشهر والآن وقد جُرحت، لا يوجد دواء أفضل من رؤية الأهل. عندما عانقتني أمي قبّلتْ وجهي وضمّتني إلى حضنها شعرت بأني طفل صغير وهو بأمسّ الحاجة إلى حضن أمه. تركت نفسي في حضنها وغمرني الرضى والسرور.

 

تلك الليلة كانت ليلة مفعمة بالهدوء فقد زرت حرم الإمام الثامن والتقيت بأمي وأخي، نمت ليلتها براحة لم أكن قد ذقتها منذ بدأ التحضير للعمليات وشوق المشاركة فيها وحتى ذلك اليوم. بعد يومين من تلك الليلة كانت ليلة الجمعة، وقد أخذوا الجرحى لزيارة الإمام الرضا عليه السلام. رجوتهم مجدّدًا بإصرار حتى أخذوني مرة أخرى، قالت

 

 

453


397

الفصل السابع - ساعة يد

لي الممرضة: "يا أخي، اترك الجرحى الآخرين يزورون ليصل الدور للجميع".

- أنا لم يعد لدي كيس مصل ولا أريد الجلوس في الباص. أَذهبُ واقفًا.

 

ذهبتُ لزيارة الإمام مرة أخرى، شعرت بالراحة أكثر فأكثر.

 

وجدتُ الإمام يواسيني ويقوّيني، فعاهدته قائلًا: "إذا شفعتَ لي عند الله فوهبني الشفاء والقوة، سأرجع للجبهة مجددًا وألتحق بالخدمة".

 

كان الحرم مزدحمًا أكثر من المرة السابقة، وكان الزوار يطلقون الصلوات على محمد وآله بمجرد أن يرونا ويَدْعون لنا بالشفاء والنصر.

 

في أحد الأيام، التقيت في المستشفى صدفةً بـ"علي بي بي جان" الذي كان مساعد رامي وقد أصيبت عيناه، فسلّمنا على بعضنا البعض بحرارة، وجلسنا نسترجع ذكرياتنا بفرح وسرور. كان قد جُرح في تلك الليلة نفسها، حيث سبقني بمئات الأمتار وسقط جريحًا بين جحافل الدبابات العراقية، وقد روى لي قصصًا عجيبة لا تُصدّق حدثت معهم في تلك الليلة، ولكن حتى الآن لم ينقل لي أي خبر عن "محمد قمصري"، كان قد انفصل عنه في أول تلك الليلة وعند بدء الهجوم.

 

صباح اليوم التالي، غادرتُ المستشفى بعد توديع "بي بي جان" والجريح المجاور لي في غرفتي، الذي فقد بصره نهائيًا، وهو فتى تعبوي في السادسة عشرة من العمر، وقد جُرح خلال مشاركته في عمليات في جزيرة أم الرصاص.

 

صعدت إلى الطائرة وحدي، لم أكن أعلم بأن أمي وأخي هما أيضًا

 

454

 


398

الفصل السابع - ساعة يد

على متن الطائرة نفسها. عندما وصلت إلى البيت كانا في استقبالي. أوصلتني سيارة الإٍسعاف التابعة للجنة إخلاء الجرحى من مطار "مهر آباد - طهران" إلى المنزل: شارع بيروزي (الانتصار)، شارع القوة الجوية الفرعي الخامس، ...

 

أمام الباب، انتابني شعور عجيب، خرجتُ من هذا المنزل في الخريف الماضي بكامل صحتي وها أنا أعود في أواخر "بهمن" (20شباط) جريحًا. كنت أستشعر الرجولة والنخوة في داخلي، لقد كبرتُ وخطوت للأمام في سبيل الدين والوطن وجُرحت في هذا الطريق.

 

كان الجميع بانتظاري داخل البيت، هبّوا لاستقبالي عندما قرعت جرس الباب، كان أبي أول من احتضنني وعانقني، خجلتُ كثيرًا لأنه قام لاستقبالي، وخيرًا فعل حين استمع لكلام أمي ولم يذهب إلى مشهد، وإلا لكنت ذبت من الخجل! ارتفعت معنوياتي كثيرًا عند رؤية الأهل والأحبّة، واستعدت روحيتي وحيويتي. كنت أنظر إلى الجدران والأبواب وإلى كل شيء بنظرة جديدة مختلفة. كذلك إخوتي وأخواتي، كانوا يظهرون محبتهم وحنانهم بشكل آخر.

 

تابعتُ معالجة عيني وأذني في طهران، أجريتُ فحوصات وتحاليل كثيرة ومتنوعة ولم تستقر آراء الأطباء على رأي واحد! بعضهم طلب عملية جراحية، ولكن متى وأين؟ لم يكن هناك جواب موحّد، أحدهم قال يجب إرساله إلى خارج البلاد. وقال أحدهم إنّ الوقت لا يهم ويمكن إجراء العملية هنا في إيران. أما أحدهم فكان يرى أنه لا فرق إن كانت العملية الآن أو في المستقبل، سواء في إيران أو في الخارج، لأن بصري لن يعود لتلك العين أبدًا!

 

لم تكن زاوية رؤيتي من عيني اليسرى كافية! كنت أضطر لأن أدير

 

455

 


399

الفصل السابع - ساعة يد

رأسي كلّه إلى اليمين كي أرى الأشياء في تلك الجهة. كانت رقبتي تؤلمني وأتعب من الالتفات أحيانًا، أصطدم بالمارة على الرصيف فأعتذر منهم وأتابع المسير.

 

أخبار عمليات "فتح الفاو" كانت تتوالى باستمرار على الإذاعة والتلفاز، فكنت أتابعها بشوق ولهفة. وكانت تختلف عن كل العمليات السابقة بالنسبة لي، كنت أعتبر نفسي شريكًا في هذه العمليات. ما زلت أتابع العلاج، لم تصل جهودي ومحاولتي للسفر إلى الخارج للعلاج إلى أي نتيجة، وبشكل تدريجي بدأت أتعوّد على الحياة بعين واحدة.

 

في منتصف شهر آذار 1986م رأيت "حسين كلستاني" في صلاة الجمعة، كان قد جُرح أيضًا ويمشي مستعينًا بعصا. وقد خرج من المستشفى للمشاركة في الصلاة ومن ثم العودة للعلاج. تعانقنا وقبّلنا بعضنا البعض، قال حسين:

- جواد، أخي كنت مساعدي فكيف تركتني وحيدًا في ليلة الهجوم؟ حين ذهبتَ أنتَ أصبتُ في قدمي.

 

- أخ حسين، لم تصل قوة العدو إلى عظام قدمك، أنت كنت رئيسي ومسؤولي، فأين كنتَ حين أصبتُ أنا في عيني؟!

بعد المزاح والضحك، أخبرته بكل ما حدث لي في تلك الليلة.. فاقتنع بأني قمت بالواجب بتلبية طلب مسؤول السرية، وأن عملي صحيح فلم يعد عاتبًا عليّ.

 

التقيت بالشباب، ومعهم وصلني خبر شهادة "محمد قمصري"، ذهبت لزيارة ضريحه في "بهشت زهراء". كان شاهد قبره مثله تفوح منه رائحة الورد وأريج الأزهار. كذلك كان السيد "حسن رضي"

 

456

 


400

الفصل السابع - ساعة يد

و"علي قابل" قد استشهدا. قال الشباب إنّ "علي شهبازي" قد وصل إلى محمد بعد إصابته وأرسله على حمالة إلى الخلف، كذلك رووا أنّ الرصاصات والشظايا، مزّقت شرايينه، وقد استشهد في تلك الليلة من شدة النزيف. قال بعضهم بأنه وصل إلى المستشفى الميداني وحتى إلى الأهواز ثم استشهد هناك، وحكى الذين كانوا في مراسم دفنه وتشييعه بأنهم قد عطّروه بعطر "كاشان" بعد تغسيله وقبل دفنه، كان العطر يفوح ويملأ الأجواء قرب ضريحه.

 

كان زمان نقاهتي واستراحتي الذي حدّده الأطباء قد شارف على نهايته، ولم أقم بشيء للعلاج النهائي لعيني. كانت الضمادة البيضاء لا تفارق وجهي. لا أعرف ماذا حدث، اتخذتُ قرارًا مفاجئًا بالذهاب إلى الجبهة. حين أفصحتُ عن نيتي هذه لأمي ومن ثم لأبي، ترددا قليلًا، ثم اضطرا للقبول بعد إصراري الشديد.

 

حملتُ التقرير الطبي وركبت قطار "انديمشك" من محطة السكك الحديدية متجهًا نحو "دوكوهه". إنها الأيام الأخيرة لشهر فروردين 1365هـ ش(منتصف نيسان 1986م) لم تكن القوات موجودة في مبنى كتيبة "حمزة". كان الشباب في مهمة دفاعية. ذهبت مع شباب التجهيز والدعم إلى الخط الدفاعي على جادة "الفاو- أم القصر". قضينا ليلة في مخيّم "أروند كنار". في صباح اليوم التالي، التقيتُ بـ"هادي قيّومي" الذي كان مسؤول السرية الثانية، قلت له إنّي من أفراد الفصيل الأول، وإنّ استراحتي العلاجية قد انتهت وأتيت للالتحاق بالفصيل. قال لي:

- الفصيل الأول موجود حاليًّا في مكان لا يمكن الوصول إليه، الأفضل أن تلتحق بالفصيل الثالث.

 

لم أقبل بهذا الاقتراح، كنت مصرًّا على الالتحاق بالفصيل الأول، حين رأى عنادي وإصراري على موقفي، رضخ للأمر الواقع وقال:

 

457

 


401

الفصل السابع - ساعة يد

- لا بأس.

 

بعد ساعة، كنتُ أسير على تلك الجادة الدامية المليئة بالأخطار والمغامرات، هناك وأنا أنظر إليها، تداعت في ذهني ألف ذكرى وذكرى. لم أكن لأصدق أنني هنا مجدّدًا، هذه الجادة التي لا شيء منها الآن يشبه ما كانت عليه منذ شهرين، لا يوجد أي أثر للإسفلت! وكأنّ أحدهم جاء وفلح تلك الجادة. تذكّرت الطبيب وكلامه. من أين له أن يعرف بأنني قد رجعت وبعين واحدة إلى المكان الذي جرحت فيه.

 

لم يكن قد بقي من الفصيل الأول سوى اسمه. لم يكن هناك أحد من شباب الفصيل الذين أعرفهم. لم يرجع سواي! كنت الوحيد ورجعت كي أرى إن كان بقي أحدٌ من جرحى الفصيل لنتابع معًا ونستعيد ذكرياتنا الماضية. لعلّ عنادي هو الذي دفعني للرجوع، كي أُثبت أني ما زلت حيًا! ها أنا صامد أتابع القتال في هذا الطريق.

 

منتصف ليل التاسع عشر من نيسان، شنّ العراقيّون هجومًا مباغتًا، ضربوا خط الدشم المزدوجة. حين وقع الهجوم، كنت في قناة الخط الأمامية التي تمتد على مسافة مئتي متر، ومنها خمسون مترًا بلا عمق، كان الشباب يعبرونها زحفًا. بعد وقتٍ قصير من الاشتباك نَفَدَتْ الذخيرة، تمّ تكليفي أنا وثلاثة شباب بتأمين الذخيرة من الجهة الأخرى للجادة.

 

عبرنا القناة ركضًا خافضي الرؤوس وزحفًا أحيانًا أخرى، حتى وصلنا إلى خندق الذخيرة في جادة "أم القصر"، حملت أنا جُعْبَتَيْ رصاص تزن كل منهما حوالي سبعة كيلوغرامات، وانطلقنا راجعين. دخل رفاقي القناة وركضت أنا خلفهم، لكني شعرت بالتعب بسرعة لم أعد أتمتع بالطاقة والصحة كما كنت قبل شهرين. كنت أرتطم

 

458

 


402

الفصل السابع - ساعة يد

باستمرار بجوانب الخندق أو أتعثّر بالأشياء على أرض القناة. كان نَفَسي ينقطع بسرعة، تقدّم رفاقي وبقيت في الخلف. كنت أستطيع أن أناديهم، ولكن لم أفعل. كنت أعلم أن المقاتلين ينتظرون الذخيرة بفارغ الصبر والخطر!

 

وصلتُ حاملًا الجعبتين إلى المنطقة غير العميقة في الخندق. كانت طلقات الرصاص تنهمر وتصفر حول رأسي وجسدي. تابعت زحفًا للأمام. كنت أستريح أحيانًا في الحفر التي أحدثتها القذائف ثم أتابع، وأحيانًا أضطر إلى سحب الجعب على الأرض. كان قد بقي من الطريق نصفها حين فقدت كل طاقتي. كنت داخل حفرة كبيرة من آثار القصف، أحاول أن أفكّر بحلّ مشكلتي. وجدتُ شريطًا أبيض من أشرطة المعبر، أخذته فربطت طرفه بالجعبتين والطرف الآخر بخصري. صرت أزحف على الأرض ساحبًا الذخائر ورائي. وصلت إلى القسم العميق ومن ثم إلى مكان الشباب. في تلك الليلة، كررت هذا المسير مرات عديدة لإيصال العتاد إلى الشباب، كانت تجربة مختلفة ومخاطر جديدة كل مرة. في وقت السحر، تمكّن شبابنا من أسر بضعة جنود عراقيين.

 

وكانت الحرب المفروضة حربًا ضخمة وطويلة. استمرت لسنوات وسنوات. ذهبت خلالها إلى الجبهة مرات عديدة وشاركت في عدد من العمليات. ما بقي لي من الحرب هو كتابات الشهداء الذين سجّلوا لي كلمات للذكرى على دفتري. أعتبرها قيّمة جدًّا. وكذلك ساعة يد الشهيد قمصري، كانت تذكرني به وبجميع الأصدقاء المحبوبين. حين ذكرت لحسين كلستاني قصّة الساعة قال لي بأنه هو أيضًا أخذ قميصًا من "مهدي كبير زاده" للذكرى. كنّا نُسرّ ونفرح برؤية هذه الأشياء ونستعيد ذكرياتنا التي نُحدّث بها الأصدقاء والأقارب من

 

459

 


403

الفصل السابع - ساعة يد

وقت لآخر، البعض منهم لا يُظهر أي رغبة في الاستماع لها! ولكني أتحدث وأعيد أخبارها. حين كنت لا أزال فتى صغيرًا، كان أبي يحدثنا عن ذكريات حرب الغابات، وعن قيمة الحياة بعزّة وشرف. وماذا فعل هو في رحلة الفتوة والشباب لتحقيق هذا الهدف و...

 

والآن، ها أنا أحمل ذكريات من هذه الحرب التي سجّلت نقطة تحوّل في التاريخ المعاصر، ولديّ من الدروس ما أقوله للأجيال القادمة.

 

الآن أفهم جيدًا لماذا كان أبي يصرّ علينا ويرغب بشدة في أن نجلس حوله ونستمع إليه متحدثًا عن ذكريات الحرب.

والآن أرغب ومن صميم قلبي في أن يجلس الجميع حولنا ليستمعوا بكل اهتمام وشغف إلى ذكريات حربنا لتبقى إيران ويبقى الإيمان.

 

460

 


404

وثائق الفصل السابع

وثائق الفصل السابع

 

 

 

 

 

من مجموع وثائق ومستندات الفصل، أُدرجت في هذا القسم 18 ورقة كوثيقة مكتوبة، و7 صور:

1- محمّد جواد نصيري بور

1-1 المعلومات الشخصية

- بكالوريا فنّيّة، متأهّل وله ولدان، موظّف في شركة دانا للتأمين.

- تاريخ ومحلّ الولادة: طهران 1344 (1965).

- مدّة الحضور في الجبهة ونوعيّة المشاركة (الصفة): 32 شهرًا كمتطوّع في التعبئة.

- العمليّات التي شارك فيها والرتبة العسكريّة: خوزستان 1984(الاتّصالات)، مهمّة دفاعيّة في مهران، 1985 (مساعد رامي آر بي جي)، عمليّات والفجر 8 (مساعد رامي آر بي جي)، مهمّة دفاعيّة في الفاو (مساعد رامي آر

 

461


405

الفصل السابع - ساعة يد

بي جي)، عمليّات كربلاء 1 (مساعد رامي آر بي جي)، عمليّات كربلاء 5 (مساعد رامي آر بي جي)، عمليّات نصر 7 (مساعد رامي آر بي جي)، عمليّات بيت المقدس (تجهيزات الفصيل).

 

- الإصابات: إصابة في العين اليمنى وإفراغ محتواها، التعرّض لعصف انفجار وتأثير ذلك على رقبته وأذنه اليمنى (1985)، إصابة في كلتا يديه (1986)، وإصابة في كلتا رجليه (1367).

 

462


406

وثائق الفصل السابع

2-6 مقابلة مع أخي الشهيد

كان أخي "محمد" في طفولته نشيطًا حيويًا مفعمًا بالحركة. لم يظهر رغبته بالدرس والمدرسة، لكنه كان ماهرًا جدًّا في لعبة "كرة الطاولة"، وقيادة الدراجات الهوائية وكرة القدم. وعلى الرغم من أنه كان أعسر اليد، إلاّ أنه كان يفوز غالبًا في مباريات "كرة الطاولة". وكذلك في "كرة القدم" كان يركل الطابة بقدمه اليسرى بشكل احترافي. سرق لص دراجته الهوائية، ولكنّ أبي عاد فاشترى له دراجة غيرها.

 

التحقتُ أنا في العام 1981م بالجبهة. كان "محمد" يطلب مني باستمرار أن أحدثه عن ذكريات الجبهة ومغامراتها، وقد حدثته مطولًا عن مشاركتي في المعارك وكيفية إصابتي. نحن لدينا أيضًا أخ جريح آخر أصيب في العام 1984م.

 

كان محمد غالبًا ما يعطّر نفسه بعطور "قمصر كاشتان" التي كانت متوافرة في المنزل باستمرار. في العام 1985 ورغم مشاركته على الجبهات، إلاّ أنه عاد فتعلّقَ بالدرس وطَلَبِ العلم، وهذا ما أثار تعجبي.

 

كنت في تلك الأيام أخدم في وحدة الهندسة في "الفرقة 27 محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حين زرته في موقعنا إحدى المرات، فهمتُ سر هذه العلاقة الجديدة والقويّة بالدرس! أكثر الشباب في فصيلهم كانوا من الطلاب والمتابعين في المجمع التعليمي للمقاتلين. حتى إنّ فصيلهم كان يضمّ معلّمين أيضًا.

 

آخر مرّة جاء فيها "محمد" إلى المنزل، كان في مراسم زواج أخينا "حميد". فرح الجميع بحضوره. شارك في التهاني، ولكنه لم يحضر عند إجراء العقد، سألته: "لماذا لم تأتِ؟"، قال: لأن المائدة كان عليها بصل فلم أحضر!

 

466


407

وثائق الفصل السابع

تهرب من الإجابة عن سؤالي يومها بالمزاح والضحك، لكن بعد شهادته وجدنا شريط كاسيت كان قد سجلّه في نفس وقت المراسم، سجّل عليه وصيته وزيارة عاشوراء أيضًا.

 

في ليلة العمليات، التي أصيب فيها، نقلوه إلى مستشفى "الأهواز"، لكنه لم يرغب بإخبار العائلة بإصابته، وكأنه كان ينوي الرجوع من المستشفى للجبهة فورًا ، الأمر الذي طالما فعله التعبويون. ولكنه بسبب شدة جراحه ونزيف دمائه، نال مقام الشهادة.

 

عند استشهاده كان يضع خاتمي وساعة ليست له، تمّ غسل جثمانه وتكفينه وتشييعه يوم 29/11/1364 هـ. ش (شباط 1986م).

 

كان يبلغ من العمر السادسة عشرة عند استشهاده، وُلد في شهر "مهر" (تشرين الأول 1969)، ولبّى نداء الحق في 24/11/1364هـ (13 شباط 1986م).

 

2-7 عنوان القبر

طهران، بهشت زهراء، القطعة 53، الصف 84، رقم 1.

 

 

467

 


408

الفصل الثامن - الظلال

الفصل الثامن

الظلال

نحن أربعة إخوة، وأنا الصبي الأصغر بينهم. في الثانية عشرة من عمري بدأت الحرب. كنا نعيش في طهران. قبل الحرب، أحببتُ أن أصبح عسكريًّا حين أكبر. فكّرت أن أعمل كوالدي في نسج الجوارب،

وكذلك كلما رأيت جنديًّا في الشارع كنت أشعر باحترام كبير له في قلبي. رسمت في خيالي مستقبلًا أكونُ فيه جنديًّا قبل الظهر، وأعمل في مصنع نسج الجوارب بعد الظهر!

 

أحببت الدرس والمدرسة، وكذلك كنت ماهرًا في الأشغال اليدوية. صنعت مرة من دينامو الدراجة الهوائية المحترق شيئًا يشبه آلة "السنتور الموسيقية". ولا يزال صدى أنغامها العذبة يتردد في أذني حتى الآن.

 

كنت أحبّ بعض الأساتذة، المهن والفنون، العلوم والآداب، والتاريخ ولكني لم أحب بعض الأساتذة أو موادهم.. كالرياضيات مثلًا.

 

468

 


409

الفصل الثامن - الظلال

ما بقي في مخيّلتي من السنوات الأولى للحرب (1980-1981) مجرّد ظلال باهتة ألوانها. كنت لا أزال في أجواء ما بين الطفولة والفتوة الأولى. لكن صيف 1982 كان له وقع آخر. فقد أخذني أخي، الذي كان يتولى مسؤولية كبيرة في الجيش، معه إلى "خوزستان" وجبهة "عين خوش" حيث تحققت هناك أمنيتي التي حلمتُ بها منذ سنوات. كنت حينها في الرابعة عشرة من عمري، وتعرفت إلى خط التماس

والخندق، وأنواع الأسلحة والقنابل، وكنت أحيانًا أدخل إلى دشمة القيادة وأستمتع بصوت جهاز اللاسلكي.

 

رجعت في آخر الصيف إلى طهران، لكي أقدّم امتحانات الإكمال. بعد أيام معدودة في أيلول 1982م استشهد أخي في جبهة "عين خوش" نفسها وعم الحزن والحداد منزلنا. ضعفتْ رغبتي بالدرس والمدرسة. أمضيتُ العام الدراسي (82-83م) بصعوبة بالغة ونجاح بسيط.

 

في العام 1984م اتخذت قراري الحاسم بالالتحاق بالجبهة في تلك الأيام، كان أحد إخوتي يخدم في الجبهة أيضًا. أخذتُ ورقة الموافقة من أبي وذهبت وسجّلت اسمي في مقرّ التعبئة، وبعد فترة وصلتني رسالة من المقر بأن أستعد للالتحاق في دورة تدريبية في التاريخ الفلاني.

 

أمام مدخل ثكنة التدريب، كان يقف عسكري طويل القامة منعني من الدخول قائلًا: "لا تزال صغير السن، لا يمكنك الالتحاق! " تصبّب العرق باردًا على جبيني. قرأت له مجالس العزاء. لكن لم تنزل له أي دمعة من عينه! .. خطر في بالي أن أقفز عن الحائط متجاوزًا الأسلاك الشائكة، ولكن هيهات.. العملية شبه مستحيلة! انتظرت بعيدًا، بعد لحظات ابتعد الجندي من أمام المدخل، قررت أن أقذف قلبي بالبحر وأجرّب حظي وليحصل ما يحصل! عبرْتُ الخانة الأولى بنجاح. ما فهمته بأن ذلك الحارس قد تعمّد الذهاب قليلًا كي

 

469


410

الفصل الثامن - الظلال

أتمكن من الدخول، فقلت له "تحياتي المخلصة لك يا أخي، أجرك على الإمام الحسين" ودعوت له من قلبي أن يستشهد.

 

وقفتُ مع حشود الشباب القادمين للدورة التدريبية. قيل إنّ ممثل الإمام يخطب الآن في الشباب، ذلك الخطيب نفسه تقدّم من أحد الفتيان الذي يبدو صغير السن وأخذه جانبًا! عاد قلبي يخفق رعبًا مرة أخرى.

إنها الخانة الثانية! سألتُ شابًّا بجانبي: - هل هذا الشيخ هو ممثل الإمام حقًّا؟!

 

هزّ برأسه وقال:

- لا أعلم، عندنا يقولون عن كل شيخ معمّم بأنه ممثل للإمام، لعلّه هكذا..

 

خطر ببالي أن أخفي نفسي بين الجموع. يجب أن أذهب للجبهة مهما حصل، ولعل الانتقام لأخي - بالحد الأدنى - كان يدفعني ويحركني للأمام.

 

وعلى الرغم أن قامتي طويلة وجسمي ضخم، إلا أنّ وجهي الناعم والأجرد من اللحية كان يوحي بالطفولة.

 

كان "صاحبنا" يتقدم بين الصف ويأخذ بعض الفتيان جانبًا. هَجَمَتْ آلاف الأفكار على ذهني، لا شأن لي الآن بفنون إلقاء القنابل والرمي بالكلاشنكوف، .. لكن كيف يتجرأون على هؤلاء الفتيان، فنحن تركنا درسنا وحياتنا وتوجهنا لساحات الخطر دفاعًا عن الدين والوطن.

 

وَيْحَهم ماذا يفعلون بنا!

 

وقفتُ مرارًا على أطراف أصابع قدمي واسترقت النظر لأرى أين أصبح ذلك "المختار" الذي يجول ويدور للفصل والطرد؟! كنت

 

470


411

الفصل الثامن - الظلال

أعود فأخبّئ رأسي بسرعة كي لا يراني. بقيت أهرب وأغيّر مكاني في الصفوف حتى تجاوزت الخانة الثانية بصعوبة بالغة.

بدأت الدورة التدريبيّة الثالثة والأربعين في ثكنة الإمام الحسين  عليه السلام في طهران، واكتسبنا فيها، خلال 45 يومًا، مقدارًا كبيرًا من التجارب الجديدة.

 

في عصر يوم خميس خريفي، أعطونا مأذونية لمدة أربعة وعشرين ساعة كي نطلّ على أهلنا ونودّعهم قبيل الالتحاق بالجبهة. وعلى الرغم من أن أخي قد استشهد، وأخي الآخر في الجبهة، إلا أنّ تصرّف أبي كان منطقيًّا جدًا، فقال:

- يجب علينا أن ندافع عن ديننا ووطننا..

 

لكنّ أمي كانت قلقة مضطربة. حين نظرتُ إلى وجهها الحنون، قلت في نفسي: أمي، هنيئًا لكِ على صبرك الكبير!

 

بعد إقامة مراسم خاصة، تحركنا بالباص من وكر التجسس "السفارة الأميركية" إلى "كردستان"، ثم فُرِزنا إلى ثكنة في "سقز" في ذلك الشتاء القارس، كان أنفي يتورّم من شدة الصقيع فلا أعود أشعر بوجوده أصلًا! كنا نضع يدنا على الحديد فتلتصق. كان رذاذ الجليد يلفح الوجوه فيجرحَها بقسوته. كان الشتاء بكل تجلياته هو الحاكم المطلق في تلك المنطقة.

 

انتهت مهمتي هناك في شهر شباط 1985م، غادرنا "سقز" وهي لا تزال في أوج صقيعها الشتوي.

 

بعد الرجوع إلى طهران، كان الالتحاق بالجبهة يشغل ذهني وبالي. لم أعد متحمّسًا للدرس ولا راغبًا بالدراسة. كنت أساعد أبي في بعض الأيام فأشتغل معه على آلات نسج الجوارب.

 

471


412

الفصل الثامن - الظلال

في شهر تموز 1985م، اشتدّ شوقي وحماستي للجبهة والحرب. هذه المرة لم يكن مطلوبًا ورقة موافقة الأب. انطلقت في تلك الأيام، وكانت مرابطتي هذه المرة في "خوزستان"، حيث التحقت بفرقة "27 محمد رسول الله" (صلى الله عليه وآله) في ثكنة "دوكوهه"، كان أخي الأكبر هناك أيضًا, ظننتُ أن كتيبة المشاة كانت أفضل للخدمة. قال لي أخي:

- هناك مشاق ومصاعب كثيرة في كتيبة المشاة... يوميًّا يوجد تمرين عسكري وصفوف تعليمية ومناورة كل عدة أيام، ولكن في ليلة الهجوم والعمليات يمكنك الالتحاق والاشتباك مع البعثيّين، وتصفية الحساب معهم..

 

وهذا ما اخترته، فالتحقت بكتيبة حمزة، السرية الأولى، الفصيل الأول الذي كان يطلق عليه في تلك الأيام اسم "فصيل الإخلاص"، وجرى تشكيلي مسعفًا لحمل الجرحى. كان "أسد اللهي" مسؤول الفصيل، يعاونه "محسن كلستاني".

 

في ذلك الوقت، كانت السرية تستعدّ للانتقال إلى خط "مهران" للقيام بمهمّة دفاعية. قضينا كل تلك الدورة في حرارة "مهران" اللاهبة التي تُنضج الرطب. كنت أحيانًا أتذكّر صقيع "كردستان" في ظل تلك الحرارة المرتفعة وأتحسّر طويلًا، ليت نسيمًا لطيفًا يهب من كردستان نحونا، وليت قليلًا من الريح الصحراوية الساخنة هنا يصل إلى تلك الجبال الجليدية!

 

جعلتني أجواء الحرب والبرد والحرّ في هذه المدّة القصيرة، كالثوب البالي! أربعة أشهر من الخريف والشتاء القارس واللباس المتراكم فوق بعضه البعض والارتجاف بردًا تحت اللحاف والبطانية، وها أنا الآن وسط الصحراء اللاهبة والجفاف المحرق، الذي يشوي الجسم كالكباب!

 

472

 


413

الفصل الثامن - الظلال

كانت الشمس تُحرق رقابنا بأشعتها الشائكة. فتصبغ بشرة الشباب البيضاء فيستحيلون سُمرًا ثم سُودًا كالفحم!

 

بعد ظهر أحد الأيام الحارة، شعرتُ بهبوب نسيم لطيف من جهة العراق، انتبهت كثيرًا وفتحت أنفي ورئتيّ وتنشقت هذا الهواء العليل بكل ما استطعت من قوة. بعد عدّة دقائق ساءت حالي فجأة. شعرت بدوخة في رأسي وبدأ نظري يُظلم. كان جسدي ساخنًا جدًّا، لكني أرتجف من داخلي، كان نَفَسِي يضيق حتى غبت عن الوعي.

 

عندما وقعت على الأرض، جاء الشباب وتجمّعوا حولي فورًا. كنت لا أبصر إلا ظلالًا تتحرك حولي. لم أحدّد من هم، حملوني ووضعوني داخل سيارة إٍسعاف. تحركت الإسعاف ببطء في ذلك الطقس الرملي العاصف.

 

بعدما فحصني الطبيب في هنكار المستوصف، وضعوا لي مصلًا في يدي. كان ضغط دمي قد انخفض فجأة إلى مستوى متدنٍّ، كان الطبيب يكرر سؤاله للمسعف الممرض: كيف بقي هذا على قيد الحياة؟!

 

كنت أنظر إلى نقاط المصل تنزل واحدة واحدة، حتى غفوت. عندما استيقظت من نومي، كانت الأجواء خارج المستوعب لا تزال منيرة والنهار لم ينتهِ بعد. النهارات الصيفية طويلة لا تكاد تعرف الغروب. قبل مغيب الشمس كانت حالي قد تحسّنت، وخاصة بعد تناول عصير الفاكهة.

 

قبل أن أغادر المستوصف فهمت بأن ذلك الهواء هو رياح السموم القاتلة، وهي رياح استوائية تهب من صحراء السعودية المحرقة، فتقوم بتجفيف جسم الإنسان خلال دقائق وتوقف حركة القلب! في ظروف كهذه يجب على الإنسان أن يستلقي أرضًا ويكتم أنفاسه،

 

473

 


414

الفصل الثامن - الظلال

ولكنني فعلت العكس تمامًا، واستنشقت هذا الهواء بعمق لعلّي أبرّد نفسي قليلًا. كنت قبل تلك الحادثة قد فقدت عدة كيلوغرامات من وزني بسبب قلة الطعام.

 

حتى الثلج كان يذوب فور توزيعه لنا. لعلّي لو كنت أقوى بقليل لكنت استطعت مقاومة رياح السموم أكثر.

 

بعد ظهر أحد الأيام، كنت لوحدي في الخندق الأمامي على خط التماس، في دشمة واحدة متقدمة جدًّا وقريبة من المواقع العراقية. كانت نوبة حراستي حتى غروب الشمس. قبل دقائق من انتهاء حراستي، سمعت صوت رصاص قريبًا. في البداية احتملت أن يكون تمشيطًا عاديًّا قبل الغروب، ولكن بعد لحظات، فُتحت أبواب جهنم! سقطت ثلاث قذائف هاون 120 ملمترًا بالقرب من دشمتي المكشوفة. انبطحت على أرض الدشمة، عندما توقف القصف، رفعت رأسي ونظرت على مستوى الأرض. كان التراب والغبار يملآن الأجواء، ورائحة البارود تخنق الأنفاس. فجأة وصل صوت خافت إلى مسمعي: علي! هل أنت سالم؟ أين أنت.. عزيزي علي..

 

كان الغبار قد غطّى وجهي وما زال الهواء ترابيًّا حين وصل شباب الفصيل. تفحصوني جيدًا بحثًا عن جرح ما، ولكن لم يعثروا على شيء. كان "غلام رضا نعمتي" أكثرهم قلقًا عليّ، رامي الرشاش ذو الوجه البشر المبتسم، والذي كان أسرع من الجميع في التعرف إلى الشباب ومصادقتهم بكل حب وعفوية.

 

كان "غلام رضا" من مواليد 1968م، في نفس عمري. وجهه طويل وكذلك أنفه، كان شعره ناعمًا ويتدلّى من جانب أذنيه وحتى كتفيه تقريبًا، وشاربه خفيفًا في أول نموّه. كنت أعلم بأنه شارك سابقًا ولعدة

 

474

 


415

الفصل الثامن - الظلال

أشهر من عام 1983م على الجبهات، ولكنه لم يترك الدراسة وطالما شاهدته على خط الدفاع حاملًا الكتب والدفاتر. بعض الشباب في الصف الثانوي الرابع، كانوا يدرسون للامتحان الرسمي (البكالوريا) على الجبهة أيضًا.

 

تعيش في صحارى "مهران" العقارب والرتيلاء بشكل كبير. في منتصف الليل وبعد رجوعي من دشمة الحراسة، رأيت رتيلاء برية كبيرة، وقد حلّت ضيفة على دشمتنا!

 

قتلتها فورًا. استيقظ الشباب على صوتي وضجّتي وألقوا "جثة" الرتيلاء في الخارج، ولكن مغامرات تلك الليلة لم تنته عند هذا، فقد خطر على بالي فجأةً خطّة شيطانية.

 

أخذت عدة بحصات من أرض الدشمة وانتظرت حتى غفت العيون مجددًا. صرت أرمي البحص على الشباب في أنحاء الدشمة. ارتفعت الأصوات: رتيلاء... رتيلاء!

 

ثم فعلتها بهم ثانية حتى افتضحت خطتي، فأقام لي الشباب حينها "حفلة البطانية!" ويبدو أني كنت بحاجة لكل هذه الضربات والكفوف والركلات لكي أتمكن من النوم المريح!

 

بعدها بعدة ليال، وفيما كنت أغطّ في نوم عميق في الدشمة نفسها، ناداني أحدهم صارخًا:

- انهض يا علي.. هيا قم.. خطر!

 

فتحت عينيّ.. استطعت بواسطة نور المصباح الخافت والمعلق بالسقف أن ألمح ظل شبح أسود فوق صدري، كان عقربًا يتمشّى على صدري ويحرّك ذيله باحثًا عن مكانًا يلسع فيه! ارتفعت حرارتي فجأة، ثم تداركت الأمر وتجاوزت حال الرعب والاضطراب، قذفت العقرب

 

 

475


416

الفصل الثامن - الظلال

جانبًا فقضى عليه الشباب فورًا.

 

كان الشباب أحيانًا، خلال النهار يطلّون على خرابات مدينة "مهران" القريبة من خط الدفاع. كان شباب فصيلنا أكثر فضولًا وحيوية من باقي الفصائل، بسبب صغر سنهم.

 

تركنا خط دفاع "مهران" في نهاية شهر مرداد (آب)، وأخذنا مأذونية أسبوع من "دوكوهه" فرجعنا إلى طهران. بعد عودتنا للمرابطة لم نستقر في الثكنة، بل انتقلنا إلى معسكر الفرقة الصيفي في "كوزران" حيث كان الجوّ معتدلًا مائلًا للبرد، فكنّا نتغطّى بالبطانيات عند النوم. نسينا رياح "مهران" الحارة. لم يمض أسبوع هناك حتى طلبتُ مأذونية ليومين، كي أشارك في مراسم الذكرى السنوية لأخي الشهيد، أخذت الموافقة من الكتيبة وذهبت إلى طهران ورجعت.

 

في التشكيل الجديد، كنت هذه المرة مساعد "سعيد بوركريم" رامي الآر بي جي. كنت قد تدرّبت على قاذف الآر بي جي عندما كنا في "كردستان"، والتقطتُ عدة صور "استعراضية" وأنا أصوّب نحو الهدف. والحال أنّ سعيد كان قلّما يسمح لأحد بالاقتراب من القاذف ويقول:

- إن تعطّل زناد قبضة القاذف، فلن ينفع بعدها في شيء.

 

ولعلّي لو كنت أنا مكانه لقمت بهذا الأمر نفسه!

 

جاء "شهريور" (آب/أيلول)، إنه شهر الامتحانات الدراسية. كانت الكتيبة في حال استراحة، والمسؤولون لا يطلبون مهامّ صعبة من الشباب.

 

كان "نعمتي" يقضي أغلب أوقاته في الدرس داخل الخيمة أو تحت شجرة البلوط. وقد تَصادَف "شهريور" مع شهر محرم، فكان الشباب

 

 

476


417

الفصل الثامن - الظلال

بحال معنوية مميزة. كان "نعمتي" يحفظ مقطعًا من الشعر، ويكرره أمامنا أحيانًا:

 

"يا إلهي لا تمتني في فراشي

                       بل وفقني لأموت في الخندق في سبيلك

كم أودّ أن أقضي نحبي بين النار والرصاص

                      بعيدًا عن المنزل وعن أمي وأختي

أريد أن أطهّر أرض إيران من الأعداء

                      وأستشهد في درب الإسلام والحرية

 

بعد أيام من بداية شهر "مهر" (أواخر أيلول) انطلقنا من معسكر "كوزران" نحو ثكنة "دوكوهه". وصلنا إلى هناك في منتصف الليل. كان الجو لا يزال ساخنًا في تلك الساعة، كم يحلو الماء البارد للإنسان!

 

شهدَت الأيام التالية تحوّلات عديدة في كتيبة "حمزة"، حتى إنّ قائد الكتيبة قد تبدّل، فصار "محسن كلستاني" مسؤولنا بدل "أسد اللهي". أعلن القائد الجديد بأنه على كل من يريد البقاء في الكتيبة، أن يمدد مرابطته ثلاثة أشهر جديدة. بعض التعبويين قاموا بتسوية حسابهم وعادوا إلى طهران، وبعضهم انتقل إلى كتائب أخرى.

 

حلّت أجواء جديدة في الفصيل الأول تحت قيادة محسن كلستاني. امتلأ الفصيل بالفتيان التلاميذ. وبما أننا كنا في خط "مهران" في الفصيل، صرنا نُعتبر من "قدامى المحاربين" وصارت علاقتنا نحن القدامى أكثر قوة وعاطفة. في أحد الأيام أخذ "سعيد بوركريم" مأذونية وذهب إلى مدينة "دزفول"، طلبتُ منه أن يشتري لي مصباحًا يدويًّا، فاشترى لي واحدًا بسعر ثلاثين تومانًا. لم يقبل أن يأخذ المال،

 

 

477


418

الفصل الثامن - الظلال

وقال لي إنّه هدية منه، ولكني رفضت.

 

كنا في الليل ننام بقرب بعضنا البعض. كان أحيانًا يهزّ قدمي بإبهام قدمه ويقول: علي، هل أنت نائم؟ غفوت؟ قم لا تنم!

 

كان يتمتع بحسّ الدعابة والمزاح اللطيف. أصبحنا صديقين مقرّبين لدرجة أننا أجرينا "مؤاخاة" فيما بيننا.

 

كان في الثكنة ضفادع كثيرة! كانت أصواتها تسمع من كل حدب وصوب في الليالي الهادئة. كنا نشاكسها فندخل في مسابقة للوثب الطويل معها أو ننافسها بالنقيق حتى يغطّي صوتنا صوتها، لنعرف من صوته أجمل وأطول!

 

تركنا الثكنة في شهر "آبان" (بداية تشرين الأول)، نحو معسكر تدريب العمليات البرمائية "سفينة النجاة" حيث بقينا هناك لفترة، تعلمنا فيها السباحة والغوص وقيادة الزوارق والاستتار و...

 

كنا جالسين في الخيمة في أحد الأيام، وإذ بـ"علي قابل" يدخل ويعطيني دفترًا كي أكتب له كلامًا للذكرى. تعجّبت من الأمر في البداية، لكني عندما رأيت وجهه البريء وضحكته الجميلة، لم أستطع رفض طلبه. أخذت الدفتر الصغير، ضغطت كثيرًا على "مخّي" لأتمكن من إبداع عبارات أكتبها له، لكن من دون جدوى! لم يخطر شيء على بالي. لهذا فقد كتبت له:

"بسم الله. أنا "علي بي بي جان" لأني لا أملك أي كلام للذكرى، فقد كتبت هذه الكلمات بخطّي لتبقى للذكرى! الأخ "قابل" هو فتى طيب ومخلص وإسلامي، ويصلّي صلاة الليل، وهو كالورد لطفًا وكماء الورد صفاءً. الساعة الخامسة إلا ربعًا 17/8/64 هـ (8/11/1985م).

 

بعد عدة أيام - كان قلمي قد تحرّر من عقاله واستأنس بالكتابة -

 

478

 


419

الفصل الثامن - الظلال

كتبت رسالة إلى الله!

 

"لا أعلم ماذا أفعل. يا الله، اهدني وعلّمني. إذا أحب الصديق صديقه، فعليه أن يحبه ويبادله الحب من كل قلبه وروحه. أنا أريد الوصول إلى من لا أعرف إن كان يحب أم لا! لا أعلم ماذا أفعل. مهجّر من مكان لآخر. أرجو أن يعين الله من كان مثلي، ويعينني أنا أيضًا.

 

أحب أن يكون الصديق كالمرآة

                           يريني عيوبي أمام وجهي

ولا يكون كالمشط يتكلم ورائي

                         بألف لسان عن كل شعرة وشعرة!

 

انتهت دورة التدريب البرمائي. أعطونا مأذونية لمدة أسبوع. كنت أقضي نهاراتي في محل أبي. إحدى المرات دخلت صبيّة إلى المحل وأرادت شراء جوارب شفافة، ولأني احتملت أنها تريدها لنفسها وستلبسها أمام الناس من غير المحارم، طلبت منها سعرًا باهظًا حتى خرجت من المحل متعجّبة مستنكرة! لم أرد أن أصبح شريكًا لها في ذنبها المحتمل.

 

أيام المأذونيّة، كانت أمي تحضر لي كل يوم على الفطور صحن عسل. من شدّة حبي للعسل، أطلقوا عليّ لقب "بانزي"، وهو دب في الصور المتحركة كان يعشق العسل ويتمتع بجسم قوي. في أحد أيام العطلة أيضًا. ذهبت مع أخي وأخواتي البنات إلى السينما. شاهدنا فيلم "الذئب التائه"، وهو قصة مقاتل "ساموراي" يريد الانتقام لزوجته التي قتلتها عصابة من الأشرار.

 

كذلك ذهبنا مرّة إلى "بهشت زهراء" وزرنا ضريح أخي الشهيد. كنت أفكر بيني وبين نفسي، قد تكون هذه المرة الأخيرة التي أرى أهلي

 

 

479

 


420

الفصل الثامن - الظلال

فيها، قد أستشهد أو أقع في الأسر، فهذه الاحتمالات ليست بعيدة عن مسافر مثلي.

 

مضت أيام المأذونية بسرعة. عدت مجددًا إلى "دوكوهه"، كانت الثكنة مزدحمة جدًّا هذه المرة. ذهبت في صباح أحد الأيام إلى الحمام، فوقعت ساعتي في مكان تغيير الملابس، انكسرت وتناثرت قطعها وعقاربها في كل حدب وصوب، قمت فقط بتكنيس زجاجها كي لا يجرح قدم أحد.

 

أقيم معرض أسبوع التعبئة "بسيج" في الثكنة، وقد عُرض فيه مجسم لعمليات "خيبر وبدر". أوضح لنا هذا المجسّم تفاصيل العمليات، ومقدار المسافة التي قطعها المقاتلون للوصول إلى الخط الأول للعدو.

تقع "هور العظم" بين "البصرة" و"بغداد" وكانت السيطرة عليها تمثل خطرًا كبيرًا على التواصل بين هاتين المدينتين المهمتين.

 

وكذلك كان في المعرض مجسّم لجثمان شهيد مسجًّى على الأرض ملفوفًا بالعلم الإيراني. عندما رجعنا إلى مبنى الكتيبة، استلقى "نعمتي" على الأرض مثل ذلك الشهيد وغطيناه بعلم أخضر. وقف بعض الشباب لقراءة الفاتحة عن روحه. وقام أحدهم بالتقاط الصور الفوتوغرافية لهذه الواقعة!

 

كان لدى كتيبة حمزة ملعب كرة قدم جيّد، قطعة أرض معبدة بالإسفلت خلف الجدار الغربي للمبنى. معنا في الفصيل، كان هناك العديد من اللاعبين الأقوياء، "شيرازي وكلستاني ونعمتي وقمصري وقابل أعلا وبوركريم وعليان نجادي وقابل"، جميعهم كانوا يتمتعون بمهارات عالية في هذه اللعبة.

 

ولأني لم أكن خبيرًا بفنون إمرار الكرة والمناورة بها، كنت أعطيها للآخرين فور وصولها إلى قدمي. كان شيرازي يتقن هذه الفنون،

 

480


421

الفصل الثامن - الظلال

سواء في الدفاع أو الهجوم.

 

وكان من مشجّعي فريق "ملوان بندرانزلي" (قبطان مرفأ أنزلي) كانت المباريات تنتهي أحيانًا على ود وصفاء وأحيانًا بمشاجرات وزعل! حين يحتفظ أحد الشباب بالطابة لنفسه فلا يُمرّها لأحد أو... حدث هذا مرة معنا، خرجت غاضبًا من اللعبة وضربت بقدمي كومة بحص من بقايا الدشم، فطار حجر منها وأصاب الهرة التي كانت تطوف دومًا حول المبنى، سالبًا منها لذّة نوم قيلولة بعد الظهر!

 

في النصف الثاني من شهر "آذر" (كانون الأوّل) جاءت إلى الثكنة قوافل "راهيان كربلا" (السائرون إلى كربلاء)، وجرت تغييرات ومناقلات في كل الكتائب والسرايا والفصائل.

 

فصرت أنا المساعد الأول لرامي الرشاش في الفصيل "غلام رضا نعمتي" وحلّ "قمصري" مساعدًا ثانيًا. سألني "محسن كلستاني" عن خبراتي السابقة في الرماية بالرشاش المتوسط، فقلت له إنّني قد تدربت عليه بشكل جيد في دورة تدريبية في "كردستان".

 

كنت أنا ونعمتي وقمصري من المحاربين القدامى، وقد خدم كل منا في كتيبة حمزة ستة أشهر على أقل تقدير. وهكذا تشكّل فريق جيد لرماية الرشاش المتوسط.

 

كان رامي الرشاش في فصيلنا مشغولًا في شهر "آذر" بمراجعة دروسه. فكان يجلس في زاوية الغرفة، يقرأ في الكتب ويحل التمرينات. كنت في المرحلة المتوسطة وهو في المرحلة الثانوية ولهذا كنت أتجنّب إزعاجه وتشتيت تركيزه على الدرس.

 

كنت جالسًا إلى جانبه إحدى المرات، لاحظت أنه يرغب في الحديث، قلبتُ أوراق الكتاب الذي كان بين يديه وسألته:

 

481

 


422

الفصل الثامن - الظلال

- "غلام رضا" ماذا تحب أن تصبح في المستقبل؟

 

أجاب فورًا: تعبوي!

- غير التعبوي، إن لم يكن هناك حرب، فماذا ستفعل؟

 

- مهندس.. مهندس مدني... متخصّص في شق الطرق.. أحبّ أن أعبّد الجادات في المدن الصغيرة والقرى النائية فتزدهر تلك المناطق.

 

- لا شك أنك ستذهب إلى صومعة سرا وقرى محافظة "كيلان" وتبني هناك البيوت والطرق؟

 

- لمَ لا؟ أي مكان أفضل من "كيلان"؟ هناك آكل السمك وأبني الجادات والمباني..

 

كُتب على آخر صفحة من ذلك الكتاب اسم "جعفر نعمتي" وعلى الصفحة الأولى اسم "غلام رضا نعمتي". سألته متعجبًا: "هل هذا الكتاب لك أم لجعفر؟ هل هو أخوك؟".

 

قال ضاحكًا: "هذا الكتاب لجعفر ولغلام رضا أيضًا، لقد تشاركنا في شرائه".

 

لم أستوعب جوابه. تابع قائلًا: "إذا استشهد جعفر فماذا تقول؟".

 

قلت فورًا: "أنت مثلي إذًا، أخو شهيد؟".

 

أجاب: "كلا يا أخي، جعفر هو نفسه غلام رضا. أمي تناديني باسم جعفر".

 

كان أخوه - واسمه "محرم" - تعبويًّا أيضًا ويأتي أحيانًا لزيارته.

 

سألته: "هل واجهت مشكلة في المرابطة الأولى؟".

- لم يكن أبي موافقًا على التحاقي بالجبهة، وكان يريد أن أتابع دراستي. أخذت موافقةً من أمي، لكنّهم لم يقبلوا بها في مقرّ التعبئة.

 

482

 


423

الفصل الثامن - الظلال

فقمت بتزوير تاريخ الولادة في صورة تذكرة الهوية والتحقت بالتعبئة، وأتيت للجبهة!

 

في بداية النصف الثاني من شهر (ك1)، كانت الكتيبة قد استعدّت للانتقال إلى المعسكر الجديد. استلم كل عناصر الكتيبة أسلحتهم. عندما استلم "غلام رضا" رشاشه، كان مسرورًا جدًّا، تفحّص الرشاش ثم قال "هو نفسه"، سألته ماذا تعني؟

 

أشار إلى قبضة الرشاش وقال هذا هو نفس الرشاش الذي كان معي في "مهران"، وهو ممتاز في التصويب والرمي.

 

وهذه العلامة على قبضته التي أعرفه بها. استعملته لمدة شهر في "مهران".

 

كان معسكرنا الجديد بالقرب من نهر "كرخة". بعد مجيئنا بأيام وصل التلاميذ. كانوا قد بقوا في "دوكوهه" ليقدّموا امتحاناتهم. عندما التقيت "نعمتي" سألته فورًا:

- كيف كانت الامتحانات؟

- جيدة وإن شاء الله سأنجح. أجّلت إحدى المواد فلم أشارك في تقديم امتحانها.

- أحسنت عملًا. من الأفضل أن تأخذ علامة جيدة أو ممتازة.

- نعم. إذا أخذت علامة متدنية ونجحت بصعوبة فأكون كالذي قدمه في الهواء، كالشاب السليم القوي الذي جاء إلى الجبهة، ولكنه في الخط الثاني أو الثالث، فلو بقي في المنزل لكان أفضل له.

 

أيّدت فكرته وأخبرته عن قصة أولئك الذين ركبوا على ظهر الثور ليأتوا إلى كربلاء لنصرة الإمام الحسين عليه السلام!

 

سألني: "ركبوا على الثور؟".

 

483

 


424

الفصل الثامن - الظلال

قلت له: "نعم، من لم يستوعب الدرس جيدًا، فمن الأفضل له أن لا يشارك في الامتحان".

 

تمّ وضع عدّة علامات أهدافًا للرماية في ساحة المراسم الصباحية لكتيبة "حمزة"، اهتم البعض بتجهيز الحسينية. بدأ التدريب العسكري في وقت مبكر جدًّا.

 

كان يدير الصفوف مدرّبون ماهرون. شرح لنا أحدهم مجموعة معلومات هامة وتجارب مفيدة حول معرفة أنواع قذائف الآر بي جي. استطاع أحدهم إصابة طلقة كلاشنكوف فارغة عن بعد عشرة أمتار. في هذه الدورة، حضر من طهران عدّة مدّاحين. لكنّ أسلوبهم في العزاء واللطميات والموالد كان مختلفًا عما تعوّدنا عليه، فقد كانوا يسرعون في إلقائهم بشكل غريب ومختلف عن مجالس ولطميات "محسن كلستاني". الإلقاء الهادئ كان يدخل إلى عقولنا وقلوبنا ويجعلنا نسير مع المجلس واللطمية. انتقد بعض الشباب أسلوب هؤلاء المدّاحين. وحاصل الأمر أن حضورهم في الكتيبة لم يكن موفقًا ومؤثّرًا كما يجب، فتركوا المعسكر ورحلوا.

 

في تلك الأيام، التحق "مجيد مجيديان" أيضًا بفصيلنا، وأصبح المساعد الثالث لرامي الرشاش. صار لدى "نعمتي" الآن ثلاثة مساعدين. كان مجيد من مواليد 1969م ولكي يتمكن من المجيء للجبهة، لم يفعل كبعض الشباب الذين زوّروا صورة فوتوكوبي عن تذكرة الهوية، بل قام وبفعل احترافي بتزوير أصل تذكرة الهوية وبدّل تاريخ ولادته من 1969 إلى 1967م. كان من شباب منطقة "منيرية" في طهران، ومحط كلامه المتكرر "الله وكيلك" لم يكن يظهر أي ود ورغبة بالكتب والدرس والدفاتر وفي المقابل كان من عشاق لعب كرة القدم.

 

في إحدى الليالي، كنت بالقرب من خزّان المياه، فإذا بي ألمح قائد

 

484

 


425

الفصل الثامن - الظلال

الكتيبة ومساعده يقتربان وهما مشغولان بالحديث بحرارة، اختبأت وراء الخزان وجمعت بعض الحصى وصرت أرشقهما بها! عندما سمعا صوت سقوط الحصى سكتا قليلًا، ثم تابعا حوارهما. فعدت وكررت هذه الألاعيب الشيطانية, في الليلة التالية ازدادت جرأتي فقمت بهذا الأمر نفسه مع "عمو حسن" قائد سريتنا، ولكن يبدو أنه رآني واكتشف أمري، حيث قام في الصباح التالي، بفصلي عن الصف المرصوص وقال لي:

- عليك أن تصعد من هنا إلى رأس الجبل ثم تعود بسرعة! نفذت الأمر واستغرق ذهابي وإيابي حوالي نصف الساعة، كنت نشيطًا ومتحمّسًا ولا أخاف من العقوبات.

 

كان مسؤول فصيلنا "محسن كلستاني"، ولأجل التعرف أكثر إلى تجارب وخبرة الشباب العسكرية السابقة والاطلاع على شخصياتهم ومعنوياتهم، يتقرّب من الشباب فيصادقهم ويتحدّث إليهم ويستمع إلى كلامهم بكل محبة وحنان. إضافة إلى الجلسات العامة، كان يلتقي بكل واحد من الشباب على انفراد. استفرد بي إحدى المرات وتحادثنا طويلًا كالأصدقاء المقربين. كان يهدف إلى التعرف إلى مميزات الشباب ومعنوياتهم، فيحدد بالتالي مهماتهم وفعاليتهم. بعض الشباب كان شجاعًا وبعضهم ليس كذلك. ومن خلال الحوار معهم، كان يريد التخطيط ليحدد ماذا يوكل من مهام ومسؤوليات لكل منهم خلال العمليات.

 

كان لديه برنامج آخر، طلب من الشباب أن يحضّر كل واحد منهم لخطبة أو محاضرة يلقيها علينا بعد المطالعة والإعداد الجيد. حين جاء دوري تحدثّت عن رشاش "BKC" ومميزاته وكيفية استخدامه وكل ما أعرف عنه. أغلب الشباب كانوا يتناولون في خطاباتهم

 

485


426

الفصل الثامن - الظلال

المواضيع الدينية والمعنوية ولهذا كان موضوعي جديدًا ولافتًا للنظر.

 

كان في فصيلنا فلاحون ومنشدون وقراء عزاء ودعاء، كانت تُقام مراسم دعاء التوسل ودعاء كميل، كل ليلة أربعاء وجمعة. جاء دور امتحاننا في هذا المجال، طلب "محسن" من الشباب أن يقرأ كل واحد منهم قسمًا من الدعاء، وهكذا اتسمت المراسم بحيوية ونضارة جديدة مميزة.

 

أظهر نعمتي بأنه يتمتع بلياقة وكفاءة في هذا العمل أكثر من باقي الشباب، أحدهم وهو "أمير عباس رحيمي" صوته لم يكن رخيمًا جدًّا، ولكنه كان يرفع الأذان وينشد المدائح واللطميات أحيانًا، حنجرته لم تكن ذات صوت جذاب، كان يقلّد وبصوت جيد أصوات إطلاق رصاص الدوشكا والرشاشات وانفجار قذيفة الهاون (60) و(120) ملم! وأنا الذي كنت خبيرًا بصوت الـ"BKC" أعترف بأنه كان يؤدّي صوته من دون أي نقص ولا اختلاف أبدًا!

 

كان لدى نعمتي دفتر أشعار ضخم. كنت أجلس معه أحيانًا ونقرأ الأشعار معًا، وعلى الرغم من أنه مدح صوتي وطريقة إنشادي، ولكني وبعد عدة تجارب أدركت أني لست مناسبًا لهذه الأمور. جلسات الخطابة ودروس المديح والدعاء بعد العزاء، كانت تُظهر الطاقات والقابليات الكامنة لدى الشباب، وكذلك تزيد ثقتهم بأنفسهم. بالنهاية، كل إنسان يعرف جيدًا ماذا لديه، وماذا يوجد في جعبته، وما يليق بالعرض أمام الآخرين.

 

من التدريبات العسكرية التي كنّا نجريها في معسكر "كرخه" كان تمرين للكتيبة على تحمّل الجوع. حيث كان يتم تخفيف الوجبات الغذائية لمدة 48 ساعة. فيكون نصيبنا رغيفَ خبز وكوبَ ماء في كل وجبة. ويتم توزيع الطعام العادي فقط على الذين يعانون من القرحة، فكانوا يتناولون

 

486

 


427

الفصل الثامن - الظلال

طعامهم وحدهم داخل الخيام. يقول قدامى المحاربين إنّ الشباب في عمليات (والفجر1)، صمدوا من دون طعام لمدة أربعة أو خمسة أيام في قناة "فكّه"، كان أحدهم يرطّب قشر الفستق بلعابه ثم يأكله.

 

تلقّينا في المعسكر دروسًا عن الفلك والنجوم (طبغرافيا). في إحدى الليالي ذات السماء الصافية الخالية من الغيوم، قمنا بمسير ليلي، وهناك على تلّة مرتفعة، عرّفنا مسؤول الفصيل الأول إلى الصور الفلكية المختلفة، وأساليب معرفة جهة الشمال عبر النجوم. كانت تلك الليلة الصيفية هي آخر ذكرى جميلة حول السماء في الليل!

 

في منتصف ليلة أخرى، أيقظني "قمصري" من النوم وخرجنا من الخيمة. وجدتُ هناك مجموعة شباب، بينهم "محمود أستاد نظري" من شباب - السرية الثانية - أيضًا. كانت عيناه كبيرتين وذات لون جميل، وكان رفيقًا حميمًا لـ"محسن كلستاني"، قاما معًا بحفر ما يشبه القبر.

 

ساعدتهم قليلًا بإخراج التراب من الحفرة بالرفش، ثم نمت داخل القبر. كان الشباب يترنّمون بمناجاة الأمير، فيصل صوتهم الهادئ إلى مسامعي في تلك الحفرة.

 

في إحدى الليالي، كان الشباب قد ذهبوا إلى تمارين ليلية وبقيت في الخيمة وحدي بعدما أخذت إذنًا بالاستراحة من إرهاق ألمّ بي، عندما ذهبوا انتابني شعور سيئ. كنت قد تعودت على جَمْعَة الشباب، فلم نكن نفترق عن بعضنا البعض حتى للحظات. كان الصمت السائد في الخيمة يبعث على التخيلات والأوهام. قلت في نفسي: ليتني ارتديت ملابس أكثر لأشعر بالدفء وذهبت مع الشباب. لم أستطع النوم. صرت أتذكر البيت والأهل. طالت رحلة الذكريات حتى سمعت

 

487

 


428

الفصل الثامن - الظلال

أصوات أقدام الشباب أمام الخيمة، عادوا بعد أربع أو خمس ساعات من التدريب، وبسبب حالة مرضي، زادت ملابسي المتسخة وكنت قد وضعتها على حقيبتي كي أغسلها في أقرب فرصة، نظرت فإذا هي قد اختفت! كان "قمصري" أو "نعمتي" قد أخذها وغسلها، فهمت القصة عندما شاهدت الثياب منشورة على حبل الغسيل والمياه تقطر منها.

 

خلال إحدى المناورات الليلية للكتيبة، استشهد أحد الشباب المتخصّصين بالمواد المتفجرة. كانت حادثة مفجعة ومفاجئة أحزنت الجميع. أقيمت للشهيد مراسم عزاء في حسينية الكتيبة. بعد تلك الحادثة، أصبح التصرف بالعتاد والذخائر منحصر بالقادة. هكذا أخبرنا مسؤول فصيلنا بعدها بيوم، وجدت بالصدفة طلقة رشاش غير منفجرة في التراب، فنظّفتها وسلّمتها إلى مسؤول الفصيل.

 

أثناء المسيرات الطويلة، كنا في مجموعة الرمي، نتناوب على حمل الرشّاش بسبب ثقل وزنه، وبهذا الأسلوب تعوّد كل أفراد المجموعة على حمله كي لا يتعبوا خلال العمليات. كان كلّ منا يحمله على كتفه لمدة نصف ساعة، ثمّ يسلّمه للمقاتل الآخر.

 

في إحدى المرات كنا متراصفين في الطابور، حين أعطانا مسؤول الفصيل أمر "استرحْ". ناولني نعمتي الرشاش وقال: "انظر كم هو خفيف!".

 

أخذته بصعوبة في يديّ وقلت له: "ريش النعام هذا! وزنه أربعة عشر كيلوغرامًا!".

 

رجعنا للمأذونية وعاد لي عسل الفطور وطعام أمي ومحلّ نسيج أبي. آخر صورة أحملها في ذاكرتي عن وجه أمي وأبي ترجع إلى تلك الأيام، أمي وقد حضرت وجبة "أشكنة" وتضعها على المائدة، وأبي وهو

 

488

 


429

الفصل الثامن - الظلال

يعمل في نسج الجوارب، أهداني حينها جوارب شتوية بيضاء.

 

آخر يوم من تلك العطلة، ركب نعمتي القطار من محطة "قم"، كان قد وصل مسبقًا لزيارة السيدة المعصومة (سلام الله عليها).

 

حين وصلنا إلى "كرخه" ذهبنا إلى ميدان الرماية، ورميتُ ببندقية كلاشنكوف. عُدنا إلى الخيام بعد أمر الاستراحة. كان الشباب مسرورين ويتبادلون المزاح والنّكات.

 

كتبنا رسائلنا الأخيرة إلى أهالينا في الأسبوع الأول من شهر "بهمن" (أواخر ك2)، بعدها لم يعد مسموحًا إرسال الرسائل. كان قلمي قد انتهى حبره. أعارني "مهدي كبيرزاده" قلمه الرصاص الأوتوماتيكي كي أكتب رسالتي، رفض أن يسترجعه، قائلًا:

- علي، إنه هدية مني لك.. لا قيمة له مقابل صداقتك..

 

أخذتُ من قسم الإعلام في الكتيبة، ورقة لأكتب وصيتي. أعطيتها أولًا "لحسين كلستاني" ليكتب لي بخطّه الجميل في أولها آية "ولا تحسبن الذين قتلوا..."، أتبعتها بجملة الشهيد بهشتي "سنبقى قامات التاريخ الشامخة الخالدة". ثم بقيتُ لساعاتٍ حتى أنهيت كتابتها. بعض الشباب بقي مشغولًا يومًا كاملًا لينهي كتابة وصيته في عدّة صفحات.

 

في ذلك اليوم، سلّمنا كل أغراضنا لقسم الأمانات في الفرقة. سلّم الكثير من التلاميذ كتبهم ودفاترهم أيضًا، فلم يعد بعد ذلك اليوم فرصة للدرس ولا أثر للدراسة.

 

كان شهر (ك2) قد انتهى، حين تركنا معسكر "كرخه" إلى محطتنا التالية.

 

كان الطقس في معسكر "كارون" باردًا وممطرًا مثل "كرخه"، لكنّ أرض "كارون" كانت رملية لا صخر فيها ولا أحجار. إن وضعت قدمك،

 

489

 


430

الفصل الثامن - الظلال

من دون مراعاة الاحتياط ستنزلق وتقع أيضًا. كان لدينا فراغ هناك أكثر من "كرخة". لا مسافات طويلة تفصل بين الخيام. كانت أشجار النخل هناك تشكل الاستتار الطبيعي لنا، وقلّما كنا نذهب للمناطق المكشوفة، كي لا يرانا العدو ويكشف أمرنا.

 

في هذا المعسكر ذهبنا مرة أخرى إلى ميدان الرماية وتدرّبنا على الرماية بأسلحتنا. كذلك أجرينا مناورة عبور الزوارق من نهر "كارون" ومناورة أخرى لمواجهة الهجوم الكيميائي. كانت الأوامر العامة تقضي بحمل القناع وإبقائه معنا حتى في الحمام أو في أوقات الدعاء والنوم! وللتمرين أكثر. نمنا إحدى الليالي ونحن نضع القناع على وجوهنا. كل هذا التشدد والاحتياط، بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدناها خلال هجمات العدو المتوحش بالأسلحة الكيمائية المحرمة دوليًّا.

 

في أحد الأيام، جاء "محمد جواد نصيري بور" الذي كان رامي آر بي جي، وأعطاني دفتره كي أكتب له كلمات للذكرى، لعله كان قد سمع بأنني كتبت لـ"قابل" سابقًا في دورة العمليات البرمائية. كتبت "لمحمد جواد" هذه الأسطر:

"سلام على الشعب الإيراني المربّي للشهداء وتحية للإمام الخميني. لديّ نصيحة عامة، أن يقوم الإنسان بكل ما يفعله فقط لأجل الله وكلما خطر على باله أن يرتكب معصية، أن يفكر بالشهداء والجرحى والمعوّقين، فإنه لن يذنب بعدها أبدًا. خلاصة الكلام: يجب علينا أن لا ننسى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الحديث عن الإمام الصادق  عليه السلام بأن جبرائيل قال للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هنيئًا لمن كان ذكره دومًا قول لا إله إلا الله وحده وحده وحده. 5/2/1985م.".

 

مع حبّي علي

 

490


431

الفصل الثامن - الظلال

جاء وقت حمل الزوّادة! أي العتاد والذخائر والوجبات الخاصة للمعارك. أخذتُ طلقات الرشاش ورتبتها في أسطوانتين، ثم جهّزت "شرشور" مئة طلقة حول أكتافي وخصري. وهكذا فعل مساعدا الرامي الآخران. كذلك ملأتُ جعبتي بمماشط كلاشنكوف وقنابل يدوية ورصاص رشاش متوسط.

 

تمّ توزيع ثلاثة أكياس خيش ورفش صغير للحفر وبناء الدشم، وكانت الوجبات العسكرية الخاصة: بسكويت جاف، شوكولا عسكرية، عصير فاكهة، تمر وخبز محمّص. يجب المحافظة عليها للأوقات الصعبة أو المحاصرة. كان حملنا ضخمًا وثقيلًا، بحيث صار منظرنا عجيبًا غريبًا عندما تجهّزنا ووَقَفْنا! لم يبقَ أي مكان خالٍ على صدورنا وخصورنا.

 

حين أنهيت التجهيز، رأيت "نعمتي" لوحده في الخيمة فانشغلنا بالكلام، سألني أولًا:

- ماذا يعمل والدك ؟

 

أشرتُ إلى جواربي الجديدة وقلت له: "هل ترى هذا؟ إنه من عمل والدي، هل هو جيد؟". ثمّ سألته:

- أين يعمل والدك؟

- في مصنع "سايبا".

- سايبا؟

- مصنع سيارات الـ"رينو"، في جادة "كرج" القديمة.

- هل لديك أخوة غير "محرم"؟

- نعم، لديّ أخ وأخت أكبر مني.

 

491

 


432

الفصل الثامن - الظلال

انتعشتْ حالُ الحشرية لديّ، فسألته: "هل هي في المنزل أو متزوجة!".

- أختي تزوجت السنة الماضية. صهري كان معلّمي في الثانوية.

 

في التاسع عشر أو العشرين من "بهمن" (9 شباط) عاد الكلام عن الانتقال إلى مكان آخر، بعد عشرة أيام من الاستقرار هناك. هذه المرة، وَضَعْنا كل أغراضنا الشخصية في أكياس خاصة، كتبتُ على كيسي: علي بي بي جاني، كتيبة حمزة، السرية الأولى، الفصيل الأول، مساعد رامي رشاش.. ثم كتبتُ تحتها رقمي المتسلسل. أمام الخيام، كان قسم الإعلام في الفرقة، يجري مقابلات مع المقاتلين، وكان صوت لطميات "آهنكران" يصدحُ من مكبّر صوت إعلام الكتيبة. بعد الظهر، وصلت الشاحنات. كان الجو غائمًا ولا أثر للشمس التي أخفت نفسها وراء الغيوم طوال ذلك النهار.

 

صَعَدَ عناصر كل فصيل إلى شاحنة. فرشنا بطانيات على أرض خلفيَّة الشاحنة. جاءت الأوامر صارمة بعدم فتح غطاء الخلفية أبدًا كي لا يتم كشف العمليات. تم توزيع برتقال على الشباب أثناء الانتقال، قضينا على صندوق برتقال، ووضعنا القشور في الصندوق الفارغ.

 

لم نكن نعلم إلى أين نتّجه، لكنّ أحد الشباب، وهو من منطقة "خوزستان" استرق النظر من ثقب غطاء الشاحنة وقال إنّنا بالقرب من "آبادان".

 

حين ترجّلنا من الشاحنة ليلًا. كان المطر يتساقط خفيفًا كالرذاذ. كانت أشجار النخل الجميلة تحيط بنا من كل الجهات. مشينا في صف مرصوص لعدة مئات من الأمتار حتى وصلنا إلى بيوت قروية. قيل لنا إننا في إحدى القرى المحاذية لضفّة نهر "بهمن شير".

 

492


433

الفصل الثامن - الظلال

في تلك الليلة، كانت أصوات انفجارات القذائف تُسمع من مكان بعيد. استلقى الشباب واستراحوا على بطانياتهم لعدة ساعات حتى الصباح. بعضهم بقي مستيقظًا ولم ينم. كانت حماسة العمليات تبقيهم أَرِقين شوقًا ولهفةً.

 

صباح ذلك اليوم، شاهدنا نهر "بهمن شير" بأعيننا. لم تكن هناك مسافة طويلة بيننا وبين النهر. كانت الأوامر حازمة في عدم التجوال في مناطق مكشوفة قرب النهر، كي لا يحدّد العدو مكان تموضع قواتنا بواسطة تصويره الجوي.

 

يومها، وصلتنا بعض المعلومات القليلة عن عمليات "والفجر8"، عرفنا فقط بأن مقاتلينا قد سيطروا على مدينة "الفاو" العراقية، وأن فرقة "27 محمد رسول الله"  صلى الله عليه وآله وسلم ستتحرك داخل خطوط العدو وفي عمق الجبهة في المرحلة الثانية من العمليات.

 

كان طعام الغداء الدجاج والأرز، وهذا يدلّ أن العمليات قد بدأت بالأمس. بعد الظهر علمنا أن كتيبة عمار -الكتيبة الأولى في الفرقة - قد بدأت منذ مساء الأمس في الهجوم. جُلت أنا ونعمتي في محيط البيوت.

لاحظنا أن التمر ما زال على أشجار النخيل، وإن كان يابسًا وجافًّا، كان قد مضى على موسم قطافه أكثر من ستة أشهر ولا يزال على الشجر.

 

قال "نعمتي":

- اِنْزَع القِشر وكُل اللب.

- هذا ليس سمكة كي ننزع القشر! نغسلها ثم نأكلها.

- اقفز إلى النهر بسرعة، اغسلها وتعال.

- انزل إلى النهر، ثم لا يُسمح لي بالمشاركة في العمليات؟ مستعد

 

493

 


434

الفصل الثامن - الظلال

لأن آكل التمر بوسخه ولا أتخلّف عن العمليّة.

 

فعلتُ كما كان نعمتي يفعل، نزعت القشر عن التمرات وصرت آكلها.

 

كان اللب لا يزال يحتفظ بنضارته وطعمه اللذيذ.

 

بعد ظهر ذلك اليوم، جاء "أستاذ نظري" إلينا. لم يكن مكانهم يبعد عنا أكثر من 30 أو 40 مترًا. عندما رآني سلّم علي. سألني:

- ما هي أخبار العمليات؟ هل قال لكم "محسن" شيئًا؟

 

أجبته على الفور:

- يا أخي، "قالوا لا تقل".

 

ضحك واتّجه حيث أشرتُ له بيدي، نحو "محسن كلستاني".

 

بعدها، عادت الشاحنات مجددًا، ولكن من دون غطاء هذه المرّة. تجمّع كل فصيلين في شاحنة، وانطلقتْ على الجادات والشوارع الترابية والإسفلتية بين النخيل، بعد عدة ساعات وصلنا إلى باحة محاطة بالنخل أيضًا.

 

كانت ليلة (11 شباط) وذكرى انتصار الثورة. نمنا في تلك الليلة داخل هنكار، وبشكل مضغوط جدًا، بين جالس ومستلقٍ في ازدحام شديد.

 

في الصباح، شهِدْنا هجوم أعداد كبيرة من الطائرات العراقية. وكأنهم قد انتبهوا للتو بأنهم قد خسروا "الفاو". ذهبنا بعد الظهر إلى منصّة، قال أحد الشباب إنّ اسمها "منصة أمير المؤمنين"، عبارة عن منزل طيني مهجور قرب النهر. هناك ارتدى الشباب ستر النجاة وركبوا زورقًا. كانت السماء صافية جدًّا ذلك الوقت، لكنّ الشمس كانت تغرب في طيّات الأفق. لم يكن قد بقي لوقت الغروب أكثر من نصف ساعة. لم ينقطع قصف العدو حتى لدقيقة واحدة! كانت

 

494

 


435

الفصل الثامن - الظلال

دفاعاتنا الجوية مستمرة في الرمي عاليًا. نزل الزورق أكثر فأكثر في ماء نهر "أروند"، مثل عصفور صغير وقع بين مخالب طير جارح. تمتمت شفتاي عفويًّا بذكر الله.

 

كان العبور من ذلك النهر، اجتيازًا لخطر عظيم تم بلطف الله، ليستقر الزورق على الشاطئ الغربي للنهر، ولتطأ أقدامنا الأرض العراقية.

 

لففتُ رأسي بكوفيتي السوداء ليبقى دافئًا. كان البرد لاذعًا وقت الغروب. تحركت صفوف الشباب بموازاة النهر وعلى امتداد الجهة الشمالية على الجادة الساحلية. مشينا حتى وصلنا إلى مبانٍ وفيلات من طابق واحد. تَشابه تلك الوحدات السكنية يدل على أنها تابعة للحكومة. كانت خالية من قاطنيها. فور وصولنا إلى المجمع، قسّم مسؤول الفصيل مهام الحراسة والنوبات على الشباب. لم تكن المدينة قد ظهرت بشكل كامل، واحتمالات الخطر لا تزال موجودة. تيمّمنا ونحن ننتعل الأحذية العسكرية، صلّينا المغرب والعشاء، أراد أحد الشباب خلع حذائه فقال له آخر:

- يا أخ، لا ترتكب ذنبًا! إن لم تطع أوامر المسؤول فإن صلاتك هذه غير مقبولة.

 

تمّ ترتيب كل شيء بسرعة وتجهّز الفصيل بانتظار الأوامر.

 

جاء التبليغ بأن استريحوا عدّة ساعات.

 

انشغل الشباب بقراءة دعاء التوسل، أجواء معنوية وأحوال روحية لا يمكن وصفها. كان دعاء التوسل هذا، مختلفًا ومميّزًا عن كل دعاء توسل قرأناه أو سمعناه طوال الأشهر الثمانية السابقة. داخل مدينة مظلمة وسط الدخان والقذائف، في قلب العدو، كان الحصن الوحيد

 

495

 


436

الفصل الثامن - الظلال

لهؤلاء الفتيان، هو الدعاء لله، والتوسل والاستمداد من الله القادر الحنون.. وكفى!

 

في تلك الأجواء لم نكن نشعر بأي خوف في قلوبنا من كل تلك المخاطر المهولة، ولا نرى في كل هذا الدخان والقصف والانفجارات سوى نُمُورٍ من ورق!

 

في منتصف الليل، هَدَرَ مجددًا صوت الشاحنات. لكن هذه المرة كانت الشاحنات غنائم من العدو. كلما كان الشباب يسمعون صوت شاحنات تقترب، يسارعون إلى تقبيل وتوديع بعضهم البعض وطلب المسامحة والشفاعة. لم نكن نعلم حين نَنْزِل من الشاحنات ونفترق عن بعضنا البعض، ماذا سيحلّ بنا وأي أحداث ستقع بعدها، لم يكن لدينا سوى هذا الشوق والحماسة. سرنا في الشاحنات حوالي الساعة، كاد دخان الشاحنات يقتلنا حيث أحرق عيوننا وخنق أنفاسنا! عوادم دخان الشاحنات العراقية كانت فوق حجرة السائق ودخانها يتجه نحو الركّاب في الخلف.

 

ترجلنا، وقتَ سحر ليلة (12 شباط)، بالقرب من جادة صحراوية معبّدة، جادة "الفاو - أم القصر" التي سمعنا باسمها قبل يومين حين كنّا في المنزل القروي في "بهمن شير".

 

كان تموضعنا في دشمة أمامية، إلى يمين الجادة. في ظلمة الليل، استقررنا في خنادق صغيرة، كل اثنين في خندق. لا سقف فوق رؤوسنا ولو بمقدار غطاء خلفية الشاحنة! بقينا محافظين على اصطفافنا التنظيمي في الخنادق. كنت أنا و"نعمتي" في خندق واحد، و"قمصري" وجواديان في خندق قريب منا. بعد ساعات حلّ وقت أذان الصبح.

 

صلّينا الصبح بتيمّم ومن قعود. عند بدء تساقط قذائف العدو مع أول شروق الشمس، صدر الأمر بالتراجع نحو الجادة فرجعنا. كان

 

496

 


437

الفصل الثامن - الظلال

هناك على الجانب الأيسر للجادة، خنادق أيضًا.

 

حفرنا برفوشنا الصغيرة أرض الخنادق كي نزيد عمقها. فجأة تذكّرت حديقة بيتنا الصغيرة، التي كنتُ ألعب بترابها، أعمّر ثم أهدم. مع أن الجوّ كان باردًا، إلا أن الشمس كانت تسطع وتتوهج في السماء، التي كانت صافية خالية من أي أثر للغيوم. بدا السهل مجردًا من أي حركة. كان خط التماس واشتباكاته تشمل كل مكان. كان بعض الشباب يشاهدون تفاصيل أكثر بواسطة مناظيرهم. حيث الجنود العراقيّون ينتشرون في كل حدب وصوب، كذلك بعض أجساد شهداء الفرقة تم وضعها إلى جنب الجادة كي تُنْقل بالسيارات إلى الخطوط الخلفية. قبّل محسن و"حسين كلستاني" وجه أحد الشهداء، كان شابًّا في أوائل عشرينيّاته. ولحيته خفيفة، كانت رصاصة قد أصابت قلبه.

 

لمحتُ حقيبةً بالقرب من خندقنا. ظننتُ أولًا بأنها فارغة، لكن عندما نظرت داخلها وجدت بطاريات لاسلكي وَوَجَبات عسكرية وكوفية، وأغراضًا صغيرة أخرى. سلّمتُ الحقيبة إلى مسؤول الفصيل.

 

كان غذاؤنا ذلك اليوم، معلبات باذنجان، وهو يناسب ذلك البرد. تقاسمت أنا و"نعمتي" علبة واحدة، بالطبع مع الغبار الذي حطّ على الطعام. كذلك حصلنا على علبة لحم من معلّبات غنائم من العدو، لكننا لم نرغب بتناولها ولا شعرنا حتى باشتهاءٍ لتذوقها.

 

تم توزيع تفاحة لكل مقاتل أيضًا. غسلت تفاحتي بمسير الماء الذي كان يجري بانسياب قرب الجادة من جهة مصنع الملح، وبدأت بقضمها. لم تكن تفاحة، بل كتلة ملح! أعدت تنظيفها بكوفيتي المتَّسِخَة، وأكلتها ببطء شديد.

 

497

 


438

الفصل الثامن - الظلال

حتى اليوم، ما زالت رائحة التفاح وظلاله تذكرني بتلك التفاحة.

 

في ذلك اليوم، التقيت بأخي، الذي كان يقاتل ضمن وحدة مدفعية الفرقة. كان قد جاء هو ورفاقه لنقل القذائف والمواقع والذخائر العراقية قبل أن تنفجر بالقصف العراقي. قال لي:

- الليلة ستقومون بهجوم. عليكم أن تستخدموا كل ما تعلمتموه وتدربتم عليه لضرب العدو وإجباره على التراجع.

- هل يقصف شباب الإٍسناد الناري القوات العراقية؟

- جادة أم القصر في عمق جبهة العدو وقرب الحدود العراقية ولا يصل إليها مدى مدفعيتنا. ولم يتم إحضار المدفعية الثقيلة من أروند إلى هنا حتى الآن. حاليًّا، نقصف المنطقة هناك براجمات الكاتيوشا الصغيرة.

- حسنًا، ومتى سيحضرون المدفعية إلى هذه الجهة؟

- حتى اليوم لم نتمكّن من هذا، فهي تحتاج إلى زوارق خاصة كبيرة. أظن أنَّ نَقلها يحتاج إلى بضعة أيام.

- لماذا لا تستخدمون مدافع العراقيّين هذه؟

- لا يمكن استخدامها لعمليات كتيبة حمزة، ولكن غدًا وبعده، سنُنزل جهنّم على رؤوس الأعداء، ما لا عينٌ رأت ولا خطرَ على بال!

 

لم يبق سوى دقائق معدودة للغروب. كانت السماء لوحة جميلة. والشمس في أفق السهل تلقي برأسها على وسادة حمراء. كلما كانت تقترب أكثر من الأفق، تغرق أكثر في هالة من الخيال الساحر. كنت أنا ونعمتي في الخندق، نحدّق بانجذابٍ في تلك اللوحة. بين خط نظرنا والشمس، كان "محسن كلستاني" مستلقيًا على الأرض، يستريح استعدادًا لليلةٍ عاصفة.

 

عند الغروب، تم توزيع عتادٍ وذخائر إضافية. كانت التعليمات بأن نحمل منها ما استطعنا، أخذتُ طلقاتٍ لبندقية الكلاشنكوف

 

498

 


439

الفصل الثامن - الظلال

وللرشاش أيضًا، كذلك بطارية لاسلكي احتياطية لعامل الإِشارة. كادت جعبتي تنفجر. إنها الليلة المنتظرة، وعلينا أن نقوم بكل ما نستطيع من قوة.

 

كنت مشغولًا بترتيب عتادي، فجأة اختفت الشمس الجميلة من السماء نهائيًّا. وكأنها قد ذهبت لتنام. لكنّ الأفق ما زال يتوهج بألوان حمراء وبرتقالية وبنفسجية تميل للأصفر. صلّينا المغرب والعشاء، وكانت هذه اللوحة الخلابة الخيالية تتألق في زاوية من أبصارنا.

 

تحركنا فور إتمام الصلاة. انطلقنا في صفٍ مرصوص، يعرف كل منا مكانه فيه. حلّ الظلام وكانت القنابل المضيئة تنير السماء من فترة لأخرى، كلما اشتدّ الظلام ازدادت القنابل المضيئة.

 

كلّما صفرت قذيفة مدفعية، كان الصف يجلس احتماءً من شر الشظايا. كان هطول أمطار القذائف يشتد مع مضي الوقت. مشينا أكثر من ساعة، جلسنا فيها ونهضنا مرات عدة إلى أن وصلنا إلى مكان طال توقفنا فيه كثيرًا. وَصَلَنا خبرٌ من إذاعة التعبئة بأن القادة يعقدون جلسة، وأن مكان توقفنا الآن هو "مصنع الملح".

 

أُعلن الخبر المنتظر، هجوم كتيبة "حمزة" على خط التماس... عمّ الفرح بين الشباب. ثم صدرت التعليمات وفقًا للقادة وتقارير الاستطلاع بتدمير ست أو سبع دبابات عراقية على الجادة بعضها معطل وبعضها سليم. هدف الهجوم السيطرة على الجسر البعيد في الجهة الأمامية. حين انتهى المسؤول من شرح المهمّة المطلوبة. سأله أحدهم:

- الجسر؟ أي جسر؟ كيف هُوَ وكيف سنعرفه؟

 

قال نعمتي: إنه جسر، مجرد جسرٍ ليس له مواصفات، هناك جادة وعليها جسر. نقاتل ونتقدّم حتى نصل إلى جسر!

 

499

 


440

الفصل الثامن - الظلال

قال "قمصري": عندما نرى المياه من طرفي الجادة، سندرك بأننا واقفون على جسر. حينها نكمل في معرفة مواصفات الجسر المطلوب: حديدي أو ترابي أو إسمنتي!

 

ازدحم سوق التوديع والتقبيل وطلب الشفاعة. في تلك الأجواء قال لي "نعمتي":

- علي، عندما يقلّ عدد الدبابات العراقية فهذا يعني أن عدد قواتهم كبير! لعلهم يريدون مواجهتنا بأفراد المشاة.

- وهذا يعني أن مجموعة رامي الرشاش سيكون لها الدور الحاسم القاصم!

- يجب علينا توخي الدقة الشديدة. انتبه وافتح عينيك جيدًا. إنْ لمحتهم قبلي فأخبرني بسرعة كي أعاجلهم بالرمي.

- لن نترك منهم أي مبشّر!

 

حينها توجه "نعمتي" إلى كل عناصر المجموعة:

- إذا سقطتُ أنا أرضًا، يستلم "علي" الرشاش، وإذا سقط علي يأخذه "محمد"، وإذا وقع "محمد" يتابع "مجيد". يجب أن يصدح هذا الرشاش ويغنّي للعراقيين حتى الصباح. الأمر المهم أن يتولى أحدكم إسعاف رفيقه حتى وصول المسعفين الحربيين. فليكن تركيزنا بدقة على العدو وعلى عملنا الحساس أولًا. إذا سنحت الفرصة نساعد المجموعات الأخرى..

 

حين أنهى مسؤول مجموعتنا كلامه، احتضنّا بعضنا بعضًا مجددًا. لم يكن معلومًا ماذا سيحلّ بِجَمْعِنا بعد ساعة من الآن.

 

انطلق صفّ الكتيبة نحو نقطة الانتشار. كان مسؤول الفصيل يدور مثل الفراشة حول الشباب. قادة الفرقة يتحركون، كلٌّ مع عامل

 

 

500


441

الفصل الثامن - الظلال

إشارته الحامل للّاسلكي، مع مسؤول كتيبة حمزة. هذه الكتيبة التي تحولت إلى قلب الفرقة النابض وعينها ومصباحها المنير. وصلنا بعد نصف ساعة إلى خندق قليل الارتفاع، هو نقطة انتشار ومركز الدعم الحربي لخط تماس إيران مع جادة "الفاو - أم القصر".

 

حان وقت الانتشار. قيل إن خط العدو لا يبعد عنّا أكثر من 200 متر. السرية الأولى هي الأكثر عددًا، الفصيل الأول في المقدمة. كلما اقتربنا من خط المواجهة كان الصف يتبدل من شكله العمودي إلى شكل أفقي. بدأنا نتقدم زحفًا. حتى صرنا نسمع أصوات العراقيين وهم يتحدثون مع بعضهم البعض. لم يكن كلامًا عاديًّا، بل صرخات وقهقهة، لعلّه صوت فرح أو سُكر أو شكلٍ من الحرب النفسية.

 

أخذتُ ألفّ كوفيتي على رقبتي جيدًا. كنت لا أزال أشدّها حين بدأ إطلاق النار. كان هذا إيذانًا للقوات، نهض الشباب، وأنا سرت منحنيًا وراء نعمتي. صرنا على الجادة. من أول الاشتباك كانت نيران العدو غزيرة جدًّا. كان "عمو حسن" يوجّه الشباب وهو يقف منحنيًا وسط الطريق:

- تقدموا.. تقدموا.. انتبهوا إلى ذلك الخندق وتلك الدشمة.. أيها المسعف اذهب إلى هناك..

 

تقدم رتل الفصيل الأول بجانبه، وانطلق للأمام، كلما مرّ شابّ قرب "عمّو حسن" كان "العم" يُربّت على كتفه وكأنه يقول له: "بالتوفيق.. أسرع.. لا تقف هنا أبدًا!!".

 

عندما ابتعدنا عن "عمو حسن"، بدأ رشاش "نعمتي" يشتغل راميًا الدشم على الجهة اليمنى. كنت أنا أدخل "شرشور" الرشاش بيدي اليسرى داخل الأسطوانة.

 

تقدم نعمتي قليلًا فتحركت معه. هذه المرة كان يوزع الرمي بين

 

501

 


442

الفصل الثامن - الظلال

اليمين واليسار، دُشم الجهة اليمنى كانت أكثر وأشد غزارة نيران. تقدمنا معًا ونحن في حال الرمي المتواصل. كانت الطلقات تضرب جوانب الدشم فنسمع صدى ارتطامها. أحيانًا كانت تنطلق رصاصات خطاط من الرشاش فترسم سهمًا ناريًّا في ظلام الليل. كان العدو يقاوم وكنا مستشرسين في القتال. لعل تقدُّمنا في المئة متر الأولى، شهد مئات الانفجارات وآلاف الطلقات، لكن لم يكن شيء ليمنعنا عن التقدم.

 

قمنا مرات عدة بالتحرك إلى جانب الجادة ثم العودة إلى وسطها، كنتُ أتعثّر أحيانًا على التراب فأقع ثم أقوم مسرعًا لأتابع، فيما كان كل تركيز نعمتي على مواقع العدو، كنت أستمر في تذخير الرشاش كي لا ينقطع صوت غنائه!

 

أخذ "نعمتي" الشريط كلّه مني مرات عدّة كي يتحرّك براحة وسرعة, ألقى شريط "الشرشور" ذا المئة طلقة على كتفه وهجم لوحده على دشم العراقيين.

 

وصلنا إلى مكان فيه ملالات عراقية محترقة وتقدمنا من أمامها. كانت الخسائر كبيرة من الجهتين. رجعتُ لحظة إلى الوراء، فلم أجد "قمصري" و"جواديان" ورائي. وهذا يعني أننا سنواجه نقصًا في الذخيرة. فإما أن أرجع إليهما، وإما أن يقتصد "نعمتي" أكثر في إطلاق النار حتى نكون قد وجدناهما.

 

وصلنا إلى صفّ مجنزرات العدو. دبابات وملالات لا تُعدّ ولا تُحصى. كان "نعمتي" يبحث بين كل هذه الآليات عن مقاتل من جنود العدو كي يصطاده. فجأة لمحتُ الشيخ رحيمي أمام جماعة فصيلنا وهو يقاتل بشجاعة وعزم لافت.

 

وقع جريح عراقي على الشريط الشائك. كان جسمه متلاشيًا مهشّمًا من خصره حتى قدميه. كان يرفع يده ويصرخ بكلام لم نفهمه. كان يتألم كثيرًا. أطلق "نعمتي"

 

502


443

الفصل الثامن - الظلال

عليه قنبلة بدل رصاصة الرحمة. قلت له:

- ليتك رميته برصاصة وتركت القنبلة اليدوية للدبابات..

 

فجأة انفجر برميل "كاز" فارتفعت ألسنة اللهب عاليًا. كأننا صرنا مختلطين بالقوات المعادية. فالعراقيون كانوا حولنا من كل جانب. كنّا قد وصلنا كمجموعة صغيرة إلى رتل مؤلّل ومعزّز للبعثيّين، والمنطقة لم تُطهّر بعد. لم يكن صف الدبابات لينتهي. ولعلّه امتدّ حتى الجسر. كانوا أخبرونا بوجود ست - سبع دبابات، فوجدناها ستين دبابة وربَّما أكثر. نظرتُ إلى عمق جبهة العدو، يمكن تحديد قاعدة الكاتيوشا من خلال حركة شهب النار، كان هدفهم امتداد مثلث طرق مصنع الملح. كنت أعلم أننا وفي مواجهة أسلحتهم البعيدة المدى، لم نكن نملك سوى الكاتيوشا الصغيرة.

 

كانت رائحة الدخان والنار والبارود والدم والكاز والزيت والتراب، تختلط معًا لتملأ المشام، لكن عقلنا مازال يعمل ونعرف ماذا يجب أن نفعل. لم تنفذ ذخيرتنا بعد. كنت قد وصلتُ شريطَيْ (150 طلقة) ببعضهما، ومع أني كنت أعلم بأن هكذا شريط طويل غير ملائم للهجوم وينفع أكثر لخط الدفاع. لكنه كان آخر ما تبقى لدينا ويجب أن نقتصد في الرمي.

 

كان "نعمتي" يتابع صيده بين الدبابات وعلى الجادة. يهدأ حينًا ويرمي رشقًا أحيانًا. كانت ظلال العراقيين لا تزال تتحرك بسرعة. عبرنا عن عدة ملالات ودبابات لا تزال سليمة. أصواتُ عراقيين تُسمع من داخلها وخارجها. شارفت طلقات الرشاش على نهايتها. جلس "نعمتي" متعبًا في زاوية. قلت له "لم يبق لدينا سوى 30 أو 40 طلقة".

 

سأل: هذا آخر شريط؟

 

503

 


444

الفصل الثامن - الظلال

- نعم، هذا آخر شريط.. يجب أن نتحلّى بالقناعة!

 

فجأة لمحت "غولًا" عراقيًّا بين الدبابات. كان أعلى مني ومن "نعمتي" بحوالي متر! صُدِمنا في نهاية الأمر. رفع بندقيته، ولكن نعمتي كان أذكى منه، فسارعه بعشر - خمس عشرة طلقة في صدره. ارتجف جسمه بشدة وسقط على الأرض.

 

وكان هناك غيره الكثير من أمامنا وورائنا. فلا طريق للتقدم ولا طريق للرجوع. لم نجد حلًا إلاّ الاستلقاء على الأرض، تصنّعنا الموت وألقينا بأنفسنا على إسفلت الجادة كالقتلى لكي لا تظهر ظلالنا. همس "نعمتي" في أذني:

- لا تقلق.. سيأتي الشباب الآن ويخلصوننا..

 

كانت ظلال الرعب تركض هنا وهناك, تقترب أحيانًا وتبتعد أحيانًا أخرى. كنتُ أشعر بقوّة نبضات قلبي في كل وجودي.

 

خفتُ كثيرًا وسال عرق بارد على جبيني. لم أكن أجرؤ على القيام بأي حركة، حتى تحريك إصبع يدي! فكيف بأن أمسح عرق جبيني بيدي.

 

كان أحد العسكريين البعثيين يصرخ على الجنود، وآخر - أقصر قامة منه - يتحرك في كل حدب وصوب، فجأة أطلق كل رصاصات ممشط بندقيته، لعله أراد رفع معنويات الجنود أو تخويفهم من التراجع.

غيّر ممشطه وعاد فأخذ الأقسام مجددًا. حركت وجهي قليلًا على الإسفلت كي أتمكن من الرؤية بشكل أوضح. فجأة، وسط كل هذه المعمعة والخطر، تذكرت بيتنا وفناء حديقته الصغيرة، تذكرت اللعب والفطور والقفز و... ليقطع فجأةً صوت صفير قذيفة (آر بي جي) عليّ حبل ذكرياتي، وأعود إلى "الفاو". صار واضحًا أن شبابنا

 

504

 


445

الفصل الثامن - الظلال

قد وصلوا وأصبحوا قريبين منا. كذلك كنا نسمع أصوات جنود العدو من مكان قريب، أصوات وقْعِ أقدامهم وصراخهم أيضًا.

 

قال نعمتي:

- فلنزحف إلى جانب الطريق. هنا في الوسط سيُقضى علينا..

- أين نذهب؟ نحن أموات! إذا تحركنا، سيقضون علينا فورًا..

- يجب ألّا نبقى هنا، هكذا سنقتل برصاص العدو أو رصاص شبابنا!

 

قالها وتحرك بسرعة. سحب نفسه نحو ملالتين بالقرب منا. إذا صرنا بينهما سيكون وضعنا أفضل. زحفت أنا أيضًا، لم أكن قد تحركت إلا قليلًا، حتى لمحت ظلًّا من ظلال الشؤم- يتجه نحونا. أحدهم اقترب منّا.. فجأة لمَعَ نور قوي في عيني وصمّ أذنَيَّ صوتُ انفجار. شعرت بأن أحدًا يسحب شريط الرشاش من يدي. كنت مصدومًا لا أستوعب ماذا حدث ولكن لساني لم يقدر على الكلام. لم أكن أعلم هل أتابع تمثيل دور الميت أو أسعى لأفهم من "نعمتي" حقيقة ما حدث. ملأ الألم والخيال ذهني. كنتُ أظن أن ظِلال الشؤم لا تزال فوق رأسي فلم أتمكن حتى من تحريك أجفان عينيّ، خوفًا أن يلاحظوا حركتها أو يسمعوا صوتها! لم أكن أرى شيئًا. قلت لنفسي: هذا طبيعي، فالظلام يلف كل شيء. نحن في ليلة الهجوم. أخذني خيالي إلى سجن بغداد ومعتقل الإمام السابع! في هذه الأثناء سمعت صوتًا أعرفه:

- تقدّم للأمام، العراقيون يهربون.. يا حسين.. هيا يا أخي.

 

صاح مقاتل آخر: يوجد جريح هنا أيضًا..

 

شعرتُ بهدوء عظيم، مع أن وجعي كان شديدًا جدًّا. لم أستوعب بعدها كم ساعة مضى حتى نقلوني من هناك إلى الخطوط الخلفية.

 

 

505


446

الفصل الثامن - الظلال

كنت في حال بين اليقظة والنوم. أسمع أصواتًا حينًا، وأغرق أحيانًا بالحوار مع نفسي، ولكني لم أكن أرى شيئًا.

 

كنت أستجمع وعيي، شعرت أن مسعفًا يتفقد جراح وجهي وعينيّ ويضع مرهمًا عليها. لم أكن أعرف صوته، وكذلك هو لم يكن يعرفني. سألني:

- أنت من أي سرية؟

- السرية الأولى، الفصيل الأول..

 

قدرتي على الكلام مدَّتني بالمعنويات، تمامًا كالطفل الصغير الذي ينطق بجملة لأول مرة. حين أنهى عمله قال:

- سيأتي الشباب الآن لنقلك إلى الخلف.

 

انتظرت حتى وصل شباب الإٍسعاف. قال أحدهم:

- ارفعوه من ناحية كتفيه، انتبهوا على وجهه ورأسه..

 

قال آخر: "إنه ثقيل جدًا.. كيف ننقله؟"

 

أجابه الأول بصوت هادئ وحنون "أنا أعرف أنك متعب، ولكن إن جاء هذا الشاب الذي لا يراك الآن في يوم القيامة، فهل ستقدر على النظر في عينيه؟!".

 

كانوا ثلاثة مسعفين، أمسك أحدهم الحمالة من الوراء وأخذ الاثنان الآخران بها من الأمام. ضحكت في سِرّي وقلت لنفسي: إذا لم يأخذوني هم، فأنا أذهب لوحدي، لدي قدمان. لم ينزف سوى القليل من دمي.

أمشي حتى نهر "أروند" ثم أسبح نحو الضفة الأخرى.. لم تكن التخيلات تتركني.

 

كانت الحمّالة تتحرك والفوضى الذهنية تملأ بصري وسمعي حتى قال أحدهم:

 

506

 


447

الفصل الثامن - الظلال

- أخي، ضعه هنا.. إنه آخر الطريق.. الآن، تأتي السيارة و.. جاءت سيارة الإسعاف، وضعوني فيها. غطّوني أيضًا بشرشف. لم يكن الطريق طويلًا. أنزلوني مجددًا، كانت روائح الأدوية والكحول المعقمة تملأ المكان. حقنوني هناك بعدة إبر. ثم عادوا فأخذوني بسيارة إلى نهر "أروند" وهناك عبرنا المياه بقارب. كانت رائحة النهر الجميلة تدغدغ مشامي وقطرات رذاذ الماء تلاعب وجهي. كنت أشعر بعجز عن تحريك إحدى يديّ، لعل الإرهاق هو السبب، ولكن ليس مهمًّا، المشكلة كانت في عينيّ وحال الاحتراق الشديد فيهما.

 

على الضفة الأخرى للنهر، وضعوني مجددًا في سيارة إسعاف وانطلقنا نحو المستشفى. كان مزدحمًا جدًّا. أصوات الصراخ والأنين تملأ مسامعي. كان الأطباء يأتون ويذهبون، لكنّ وقتًا طويلًا مرّ عليّ ولم يتفقدني أحد. بدأت أفقد طاقتي وصبري، صرخت:

- لماذا لا يأتي أحد إليّ؟!

 

جاء أحدهم وقال لي:

- يا أخي، أنت وصلتَ للتوّ.. اصبر قليلًا.. لا تقلق.. سيتحسّن وضعك وتعود سالمًا معافى!

 

تساءلت في نفسي: ترى هل أعود حقًّا كما كنت من قبل؟ هل أعود إلى الفصيل وأشارك في العمليات مع الشباب؟ فكّرت وتخيّلت وتكلّمت مع نفسي حتى غبتُ عن الوعي... وعدت فاستعدت وعيي مجددًا.

 

أخرجوني مجددًا من هناك وأخذوني في سيارة أخرى. فجأة سمعت صوتًا قويًا يمزق الأسماع. صوت شفرات مروحية. أصعدوني إلى الطائرة وانطلقنا في السماء. حطّت المروحية بعد مدة. نقلوني إلى طائرة نفاثة هذه المرة. حتى استقررنا على الأرض بعد طيران طويل.

 

507

 


448

الفصل الثامن - الظلال

سألت من كان معي ولا أراه:

- أين نحن الآن يا أخي؟

- في مشهد.. نحن في مطار مشهد.

 

حين استعدت وعيي، وجدت نفسي نائمًا على سرير مستشفى. شعرت أن هناك من يحاول إيقاظي. حين استوعبت الوضع، سمعت أحدًا يسألني:

- يا أخ، أعطني رقم هاتفكم كي أخبر أهلك بإصابتك..

 

لم يعلم بأنه أيقظني من النوم لأن وجهي وعينيّ مغطّاة بالضمّادات.

 

سألني مجددًا:

- لا شك أن أمك وأباك ينتظرانك.. أعطني رقمكم كي أطلبه لك.

 

سألتُ: أين نحن؟

- مستشفى الإمام الرضا.

- هل الآن ليل أم نهار؟

- في الليل.

- رقم الهاتف.. رقم الهاتف..

 

تذكرت رقم أحد الأصدقاء، قلته ثم غفوت مجددًا.

 

كان الطبيب أو الممرض يأتي كل فترة للمعاينة والفحص ويقول لمن يرافقه شيئًا ما ثم يذهبان. كان الجميع يواسيني بأنه ليس أمرًا خطيرًا ويجب أن أتحمّل هذه المدة، أيامًا أو أسبوعًا أو عشرة أيام.

 

في أحد الأيام، شممتُ رائحة أخرى في الغرفة سألت:

- من هنا؟ أنت أيتها السيدة الممرضة؟

 

ارتفع صوت بكاء أعرفه. نعم، إنها أمي. عانقتني وضمتني إلى

 

508

 


449

الفصل الثامن - الظلال

حضنها مثل طفل صغير. هدأت نفسي واستكانت للقائها. لم تنطق بأي كلمة. لعلها كانت تنظر إلي وتحدق فقط.

 

كان أبي معها أيضًا عانقني وقال:

- كيف حالك يا ولدي؟ منذ متى وأنت هنا؟ ليتك أخبرتنا قبل الآن!

 

كان صوت أمي يرتجف. أحضرت لي عسلًا من منطقة "خوانسار".

 

قال أبي بحنان:

- فطورك غدًا سيكون عسلًا فاخرًا!

 

عندما قام الطبيب بنزع الضماد عن عينيّ لأول مرة، تألمت بشدة. بعدها، حرك لي أجفاني كي يفحصني، ثم غسل لي عينيّ وأعاد تضميدهما بعد وضع الأدوية المعقمة والمرهم عليهما.

 

عاد الوجع ليشتدّ كثيرًا ولم يخفّ إلا بإبرة مسكّن.

 

كان قد مضى أسبوع على إصابتي وانتقالي آلاف الكيلومترات من مكان إلى مكان، قالوا لي إنهم يريدون غسل شعر رأسي. كنت قد غسلته آخر مرة في "كارون"، في حمام المعسكر حيث استحممت بعد انتظار دوري لمدة ساعة أمام الحمام!

 

سألني الممرض الذي يغسل شعري:

- ماذا تفعل هذه الشظايا والتراب والقطران في رأسك؟

 

أجبته:

- لقد أصبت وسقطت على إسفلت الجادة في العراق قرب الحدود الكويتية.

- وإلى أين لم تذهب! بهذا العمر الصغير جُلت في كل العالم!

 

509

 


450

الفصل الثامن - الظلال

انتابني شعور جيد وأحسست براحة عندما غسل شعري. كان وجهي مغطًّى بالضمادات، والماء النازل على رأسي يمنحني نشاطًا وحيوية. كان طعام الغداء يومها "كفتة". ما إن فاحت رائحته، اشتهيت الأكل. قبلها كنت أتناول السوائل فقط، لكنّ أمي قامت يومها بتصغير قطع الطعام وتلقيمي إياها بهدوء، وهكذا خرجتُ من حال الصدمة واضطراب الإصابة.

 

كنت إلى ما قبل وصولي لمستشفى الرضا، كلما استعدتُ وعيي وتذكرت الصلاة، أقول "الله أكبر" وعدة مرات "سبحان الله"، لكن عندما استقر وضعي نسبيًّا في مشهد، صرت أصلي أولًا بدون وضوء، وكانت صلاتي عبارة عن بعض أجزاء أذكار الصلاة. ثم تمكنت من الوضوء وصليت قاعدًا وقائمًا. ساعدني لقاء أمي وأبي لأتحسن بسرعة. ارتفعت معنوياتي وصرتُ أقف وأمشي. سألت أحد الأطفال في ممر المستشفى:

- كيف يبدو شكل رأسي؟

- مثل قجة بيضاء وتصدر أصواتًا من فمها..!

 

ضحكت كثيرًا من تعبيره البريء. بدأت أتعوّد على التحرك والتعرف إلى الأشياء من دون حاسة النظر، يجب أن أحل مشكلاتي وأدبّر شؤوني من دون عينين، أن أمشي من دون عينين، أن أعرف الوقت إن كان صباحًا أو مساءً، .. كان عملًا شاقًا ولكن لا بد منه! ولم يكن هذا هو كل المشكلة، كنت لا أزال، عندما أقف أو أحرك عينيّ في الحدقة أو عندما أحرك رأسي، أشعر بألم شديد في عينيّ وتسوء حالي كلها. الظلال أيضًا، لا تفارقني ولا تتركني وشأني. في الليل شاهدت ظلًا من ظلال الشؤم تلك، هاجمني وألقى قنبلة يدوية نحو

 

510

 


451

الفصل الثامن - الظلال

وجهي فانفجرت وقلعت عيني. استيقظت من نومي مرعوبًا صارخًا.. أنادي للمرضات، فكانت إحداهنّ تواسيني قائلةً:

- بعمرك الفتِيّ هذا، مكانك الطبيعي في المدرسة وعلى مقاعد الدراسة، وليس في جبهات الحرب!

 

لم يطل انقطاعي عن أخبار الحرب والعمليات. في أحد الأيام سمعت صوتًا معروفًا يقول لي:

- ماذا تفعل هنا يا بطل؟!

 

كان جواد نصيري بور، مساعد رامي الآر بي جي في فصيلنا. فرحتُ لسماع صوته، وأمسكتُ يده ضاغطًا عليها بشوق.

 

سألته:

- جواد، متى وكيف جُرحت؟

- لقد أصبت في الدقائق الأولى للهجوم، ولأني كنت قادرًا على المشي، رجعت للخطوط الخلفية ولم أنتظر شباب الإسعاف الحربي.

- وما أخبار "جلّ الخالق"؟

 

كنت أقصد مسؤول الفصيل الذي كان يردّد دائمًا "جلّ الخالق"! أجاب:

- أخبرونا أولًا أنه خرج، ثم قيل بعد ذلك إنّه استشهد!

 

في الليلة الأخيرة لي في مستشفى الإمام الرضا عليه السلام، شاهدت في نومي أني أطرقُ بابًا لحديقة كبيرة ذات ألوان وأزهار جميلة جدًّا. وكان النور يشعّ بين الأوراق ويلمع فوق الأرض. كان ضياء الشمس يؤذي عيني بقوته. التجأت إلى ظلال الأشجار بالقرب من نبع ماء، ثم التقيت في هذه الحديقة الكبيرة التي لا انتهاء لها، بأخي الشهيد، عانقني وهو يبكي. كنت أتكلم معه ولكنه كان يحدّق بعينيّ ولا يتكلم،

 

511


452

الفصل الثامن - الظلال

فقط كان ينظر إلي. في تلك اللحظة، شعرت بأني لن أبصر بعدها أبدًا، على الرغم من كلام الأطباء والأصدقاء بأني سأشفى وأعود سالمًا معافى. شعرت بأنّي قدمتُ عينيّ هدية لله. قلت لأخي الشهيد:

"لقد نفد صبري. أنا مستعد للموت، ولكن بشرط أن أرى. لا أستطيع أن أبقى كل عمري هكذا، لا يمكنني تحمل شفقة الآخرين. يجب أن أبصر". في لحظة الوداع، طلبت منه أن أبقى معه في تلك الحديقة الغنّاء، لكنه لم يرد عليّ، رجعت إلى مدينة الظلال.

 

رجعت بالطائرة من "مشهد" إلى "طهران". في "طهران" أدركت أنهم في المستشفى في "مشهد" لم يقوموا سوى بغسل عينيّ وتعقيمهما وإعطائي مضادات للالتهابات فقط. أُجْرِيَت لي عملية جراحية في مستشفى "الفارابي" في طهران، لكن لم تتحسّن الرؤية في عينيّ. ثم قرّر الفريق الطبي بأنّ عينيّ تحتاجان إلى علاج بأشعة الليزر، وبما أنّ هناك ضغطًا وعددًا كبيرًا من الإصابات السابقة التي تنتظر دورها في هذا النوع من العلاج، تم إرسالي إلى بريطانيا. في يوم27 اسفند 1364هـ (18/3/1986)، وهكذا، أجريت لي عملية بواسطة أشعة الليزر في مستشفى في بريطانيا، وهناك فقدت بصري بشكل نهائي ودائم. ولعلي لو بقيت في إيران منتظرًا دوري في العلاج لكان الوضع مختلفًا، ربّما!

 

في طهران بدأت أسمع أخبار الأصدقاء في فصيلنا خبرًا تلو خبرٍ. فقد استشهد "شيرازي" و"حسين رضي"، وكنت قد رأيتهما أثناء التقدم إلى جانب "أعلا". "حسن قابل أعلا" أصيب بجراح خطيرة وهو يُعالج في المستشفى.

 

كذلك أصيب "مجيد جواديان" بشظية في رأسه ولكن وضعه تحسّن. سمعت في بريطانيا خبر شهادة "محمد قمصري" من الجريح

 

512

 


453

الفصل الثامن - الظلال

الذي كان معي في غرفة المستشفى. قبل العملية الجراحية وفي تلك الغربة، كنت أتذكره دائمًا حتى صار أنيسي في تلك المدة.

 

في إحدى الليالي رأيت "حسين رضي" في المنام. قلت له:

- حسين، أنت استشهدت، ولكني لا أستطيع زيارة ضريحك أريد زيارة قبرك، ولا أريد أن أطلب مساعدة من أحد.. سامحني..

 

في المنزل، كنت أمرّ أحيانًا من أمام المرآة، فيخطر في بالي ذكريات الماضي حين كنت أمشط شعري وأرتب قميصي أمامها، ولكن الآن لا شأن لي بالمرآة. إن خرجت أحيانًا من المنزل - وغالبًا لزيارة الطبيب - كان الآخرون يهتمون بترتيب شكلي ولباسي.

 

رأيت "محمد قمصري" في منامي مرة -كان حلمًا جميلًا وكأنه جاء لمحاربة تلك الكوابيس والظلال- كان في غرفة فخمة تشبه غرف القصور الأسطورية. إلى جانبه امرأة تشبه النساء الأسطوريات أيضًا.

نظرت إليها، كان شعرها أسود وعيناها كبيرتين وسوداوين.. وانتهى الحلم.

 

كنتُ أستعين بيديّ للمشي في البيت، ببطء أولًا ثم أُسرع شيئًا فشيئًا. في أحد الأيام، ذهبتُ مع أخي - الذي كان في وحدة المدفعية - إلى ضرائح الشهداء. قرأتُ الفاتحة على قبور اثني عشر شهيدًا من شهداء الفصيل الأول. أمّا الشهيد الثالث عشر، وكان ضريحه في منطقة "جهار دانكه" هو "محسن كلستاني" مسؤول الفصيل.

 

آخر خبر كان لدي عن "نعمتي" يعود إلى تلك اللحظات الأخيرة على إسفلت جادة "الفاو - أم القصر" حين تصنّعنا أننا ميّتين، ومن ثم زحفنا نحو الملالات.

 

بعد فترة، التقيت "محرم" شقيق ""نعمتي"، الذي كان بدوره في

 

513

 


454

الفصل الثامن - الظلال

السرية الأولى تلك الليلة. أخبرني عن نعمتي فقال:

- في تلك الليلة، تقدّم الشباب وتجاوزوا صف الدبابات والملالات العراقية واقتربوا من الجسر، نفدت منهم الذخائر، فرجعت أنا لتأمين الذخيرة. رأيتُ "غلام رضا" بين الملالات. كان قد لفّ قدمه بضمادات ويحاول الانسحاب. سألته: "هل تريد مساعدة؟ هل أحملك للخطوط الخلفية؟".

 

ومع أنه كان منهكًا، إلا أنه لم يسمح لي بمساعدته وقال: "أنت تابع تأمين الذخيرة". فجأة أُطلق رصاص باتجاهنا، أدركت أن أحدًا ما يكمن لنا تحت الملالة. أجلستُ "غلام رضا" جانبًا، وسارعت لملاحقة ذلك الجندي البعثي، رميتُه فوقع في أرضه. عندما رجعت انفجرت إحدى الملالات بالذخائر التي كانت فيها، فغبت عن الوعي وسقطت أرضًا. استعدت وعيي عندما كانوا ينقلونني بالزورق إلى ضفة "أروند" الأخرى. فلم أعرف ماذا حدث لأخي. بعد أسابيع، بحثت عنه في كل المستشفيات ومراكز "معراج الشهداء"، ولكني لم أجده ولم أعرف ماذا حلّ به.

 

سألته: "وكيف علمتم بشهادته بعدها؟ من الذي أخبركم؟". قال: "كان اسم "غلام رضا" بين لوائح المفقودين في ثكنة "المقداد". رجعت إلى السرية وسألت الجميع عنه لكن من دون جدوى. لم يره أحد منهم".

 

- هل أقمتم له مراسم؟

- نعم، ذكرى الثالث وذكرى الأسبوع والأربعين.

 

في العام 1986م عزمت مجددًا على الالتحاق، وكان عليّ أن أُرضي الجميع بذلك. عادت أمي للقلق مرّة أخرى. وعدتُها أن أخدم في الخطوط الخلفية وفي مجال الدعم.

 

514

 


455

الفصل الثامن - الظلال

في تلك السنة التي جرت فيها عمليات كربلاء 4 وكربلاء 5 وكربلاء 8، كنتُ عامل الإشارة في قسم المدفعية في الفرقة، وأحفظ كل الشيفرات والرموز وأجلس مرابطًا أمام جهاز اللاسلكي.

 

في العام 1987م ذهبت أيضًا إلى الجبهة. وفي السنة التالية انتهت الحرب. انتهت، لكن آثارها ونتائجها بقيت ولا تزال، لكل إيران، لهذا الجيل وللأجيال القادمة، لعوائل المضحين والشهداء والأسرى و..

 

بعد الحرب، علمت بأن "مجيد جواديان" -المساعد الثالث لرامي الرشاش- قد تعرّض لكمين من العصابات المعادية للثورة في "سقز كردستان" واستشهد، وقد دُفن في "القطعة 53" إلى جانب رفاقه شهداء الفصيل. لم يبق حيًّا من مجموعة الأربعة تلك سواي وأنا بهذا الوضع.

 

ما زلت أحيا مع آثار الحرب التي انتهت بحسب الظاهر. أودّ أن أنساها ولكنّي لا أستطيع. وكأنني حتى الآن لم أستطع تقبل وضعي، فلم أرغب بتعلم خط "بريل" ولم أكمل دراستي. الآن وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على تلك الحادثة، أودّ أن أكمل دراستي أو أن أشغّل معمل نسيج الجوارب الذي كنت أحلم به وأنا صغير. لعله الآن، وقد أصبح عندي ثلاثة أبناء وكل حياتهم مرتبطة بالدرس والكتب والدفاتر، دفعني التفكير بتأمين حياة أفضل لهم، لأن أعود للعلم ومتابعة الدراسة. ربما سأستخدم العصا أيضًا، التي رفضتُ استخدامها حتى في الجبهة سنة 86 و87م. لعلكم تعتبرون هذه السنوات العشرين، برزخًا طويلًا قد صنعته لنفسي، ولعلّه لم يطل عند البعض سوى ليوم أو أسبوع أو شهر. ربما كان يجب عليّ أن أتكيّف منذ وقت طويل مع كثير من الأشياء.. وربما ولعله.. ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟

 

لقد عشت مع الظلال بدءًا من ليلة 12/2/1986، ليس مع ظلال الشؤم التي كانت تركض في تلك الليلة بكل اتجاه على تلك الجادة،

 

515

 


456

الفصل الثامن - الظلال

بل إنّني أرسم في ذهني ظلالًا لكل من أتواصل معه وأسمعه. كلما تكلمت مع أحد أخلق له دورًا عبر ظل في ذهني وكأنني أتحدث مع شخص يشبهه.

 

واليوم ها أنا أسأل نفسي، هل ذلك الشخص الذي يرى بعينيه، ولكنه لم يرَ حادثة كبرى لهذه الحرب، كان وما زال يبصر أكثر مني؟ وهل ما يراه هو اليوم الأرض والسماء والبيت والشوارع والسيارات و.. ظلال، أم أنها الحقائق الموجودة في ذهني؟

 

إنّني حيّ وأحب من الآن فصاعدًا أن أعيش، ليس مع ظواهر الدنيا الملوّنة، وإنما مع باطن الخلق النوراني، وأنا أعلم جيدًا أنّ هذه هي الحياة الحقيقية.

 

516

 


457

وثائق الفصل الثامن

وثائق الفصل الثامن

 

 

 

 

من مجموع مستندات الفصل، أُدرج في هذا القسم 21 ورقة من الوثائق المكتوبة، و10 صور:

1- علي بي بي جاني

1-1 المعلومات الشخصيّة

- حائز على الشهادة المتوسّطة، متأهّل وله ثلاثة أولاد، يعمل في مؤسّسة الجرحى.

- تاريخ ومحلّ الولادة: طهران 1968.

- مدّة الحضور في الجبهة ونوعيّة المشاركة (الصفة): 36 شهرًا متطوّعًا في التعبئة.

- العمليّات التي شارك فيها والرتب العسكريّة: مهمّة دفاعيّة في فكّة، 1982 (وحدة الاتّصالات والإشارة)، سقّز، 1984 (مساعد رامي

 

517

 


458

وثائق الفصل الثامن

آر بي جي)، مهمّة دفاعيّة في مهران، 1985 (مساعد رامي آر بي جي)، عمليّات والفجر 8 (مساعد رامي رشّاش ثقيل)، عمليّات كربلاء5 (وحدة الاتّصالات) ، عملّيات كربلاء 8 (وحدة الاتّصالات)، عمليّات نصر (وحدة الاتّصالات)، عمليّات بيت المقدس 4 (وحدة الاتّصالات).

 

عدد الإصابات: الإصابة في كلتا عينيه وتفريغهما، وإصابة في وجهه.

 

- درجة الإصابة: 70%.

 

518


459

وثائق الفصل الثامن

آر بي جي)، مهمّة دفاعيّة في مهران، 1985 (مساعد رامي آر بي جي)، عمليّات والفجر 8 (مساعد رامي رشّاش ثقيل)، عمليّات كربلاء5 (وحدة الاتّصالات) ، عملّيات كربلاء 8 (وحدة الاتّصالات)، عمليّات نصر (وحدة الاتّصالات)، عمليّات بيت المقدس 4 (وحدة الاتّصالات).

 

عدد الإصابات: الإصابة في كلتا عينيه وتفريغهما، وإصابة في وجهه.

 

- درجة الإصابة: 70%.

 

518


459

وثائق الفصل الثامن

2-5 مقابلة مع أمّ الشهيد

ولد غلامرضا الولد الثالث من أولادي في أواخر فصل الشتاء في مستشفى فرح[1] في طهران. وبعده بسنة وُلد محرّم. كان هذان الأخوان يشبهان بعضهما البعض كثيرًا. إنّنا من أهل "صومعه سرا" من توابع "كيلان". عندما كان غلامرضا في الثالثة من عمره، لم يكن يحبّ كثيرًا الذهاب معنا إلى السهل لزراعة الأرزّ، وكان يخاف من البقر والغنم، لذا، غالبًا ما كان يبقى في منزل جدّه وإلى جانبه.

 

صباح ذات يوم، أفاق من النوم، وبمجرّد أن تناول اللقمة الأولى، حتّى بدأ يسعل سعالًا حادًّا، بحيث احمرّ وجهه وازرقّت شفتاه. قال لي الجيران إنّه مصاب بالسعال الديكي. وقد وصف له كبار السنّ عشبة، لكنّ ذلك لم يجدِ نفعًا. توصّلنا بعد عدّة أيّام إلى أنّه يصاب بهذه الحالة جرّاء تناوله للجبن. فأخذناه إلى طبيب في "صومعه سرا" وتحسّنت حاله.


 


[1] يُعرف اليوم بمستشفى الشهيد "أكبر آبادي".

 

522


460

وثائق الفصل الثامن

كان غلامرضا طفلًا هادئًا ولطيفًا، لم أذكر أنّني اشتريت له يومًا لعبةً ليلعب بها. كان يتسلّى ويمضي وقته باللعب في تراب الحديقة وصناعة الآنية والصحون الطينيّة منه. بقينا في "صومعه سرا" إلى أن صار في الصفّ الثاني الابتدائي، فانتقلنا بعدها إلى العيش في طهران، حيث عمل والده في معمل "ملّي" لصناعة الأحذية.

 

كان غلامرضا يتابع دراسته في المرحلة المتوسّطة حين بدأت أحداث الثورة، فكان يحمل هو ومحرّم العصيّ والدواليب وينزلان إلى الشارع. بعد المرحلة التكميليّة، التحق بأحد المعاهد الفنيّة، فكان يتابع دروسه جيّدًا، ويحبّ رسم الخرائط. وما زالت المسطرة والطاولة التي كان يرسم عليها موجودتين إلى الآن كذكرى منه.

 

لم يكن من أهل الأزقّة والشوارع. بل كان يقضي أوقات فراغه في المسجد. وفي شهر رمضان كان يبقى في المسجد إلى وقت السحر، وحين العودة، كان يسلّط ضوء مصباحه اليدويّ على نوافذ بيوت أصدقائه ليوقظهم إلى السحور وصلاة الصبح. لم يكن قد أتمّ الخامسة عشرة من عمره، حين قرّر الالتحاق بالجبهة. قال له والده: ما زلت طفلًا، عليك الاهتمام بدراستك، لكنّ غلامرضا لم يكن ليتخلّى عن هذا الأمر. فكان دائمًا يحوم حولي ويلحّ عليّ ويرجوني لأقنع والده بذلك. لم أره يومًا مصرًّا على أمر ومتحمّسًا له كما كان مصرًّا ومتشوّقًا للذهاب إلى الجبهة. لم أرد أن أكسر قلبه وأزعجه. وقّعت على ورقة موافقة الأهل، وذهب. لا أعلم كم يومًا وشهرًا خدم في كردستان، ذلك أنّ كلّ يوم كان يمضي وكأنّه شهر. في تلك السنة نفسها، التحق محرّم أيضًا بالجبهة بعد أن تلاعب ببطاقة هويّته. كان غلامرضا يرسل لي في الأسبوع رسالة أو رسالتين. أحيانًا كان يكتب لي رسالة خاصّة ويقول: مزّقيها ما إن تقرأيها وارمها بعيدًا.

 

523

 


461

وثائق الفصل الثامن

ذات يوم، استفقت من النوم باكرًا. وضعتُ دجاجة كبيرة في القدر لأطبخ "الفسنجون". وكان غلامرضا يحبّ هذه الطبخة كثيرًا. قرابة الظهر، جاءت إليّ إحدى الجارات تركض مضطربة وهي تقول: "أعطني البشارة، فقد عاد ابنك محرّم". لقد خطر ببالي أن أطبخ الفسنجون منذ الصباح الباكر. وضعت "تشادوري" على رأسي وخرجت. وحين وصلتُ إلى منتصف الزقاق وجدت أنّ العائد غلامرضا لا محرّم. كان يحمل حقيبته على ظهره. شكرت الله تعالى على أنّه سالم. كان هذان الاثنان شبيهين ببعضهما البعض، بحيث كان الجيران يشتبهون فيما بينهما.

 

عندما جاء في المأذونيّة، لاحظت أنّه يطأطئ رأسه أكثر من ذي قبل. في المنزل كان يرتدي السروال العسكري والقميص الداخلي اللذين أعطوهما له في الجبهة. وكما هي عادته، كان يُساعدني في أعمال البيت. يغسل ملابسه بنفسه وينشرها على حبل الغسيل لتجفّ. كان هو ومحرّم ينامان في الليل إلى جانبي، هو من جهة ومحرّم من الجهة الأخرى. أحيانًا كنت أمسح بيدي على رأسيهما وأقول في نفسي: بما أنّكما تحبّان الجبهة إلى هذا الحدّ، فسأتحمّل عناء البعد عنكما.

 

مضت أيّام مأذونيّة غلامرضا بسرعة كبيرة. قال لي حين المغادرة:

- إذا ما أراد الله وعدت سالمًا، فلن أعود إلى الجبهة مجدّدًا، بل سأنصرف إلى متابعة دراستي وشؤون حياتي. أغلقت حقيبته، ومشينا معًا صوب الباب. قال:

- أمّي، لا داعي لخروجك، سأذهب بنفسي.

 

بعدها خرج مسرعًا وأغلق الباب وراءه. كان ظرف الماء في يدي. أردت أن أريق الماء خلفه. لففت "تشادوري" تحت إبطي، فتحت الباب وخرجت إلى الزقاق. كان قد ابتعد كثيرًا.

 

524


462

وثائق الفصل الثامن

أرقت الماء خلفه، وقرأت "قل هو الله أحد". استدار ونظر إليّ. ما إن استدار حتّى سقط ظرف الماء من يدي، وشعرت وكأنّ أطرافي قد شُلّت. لا أعلم لِمَ لم أندم حينذاك على موافقتي على ذهابه.

 

بعد ساعة، انطلق محرّم أيضًا نحو الجبهة.

 

أرقت الماء خلفه. لكنّني كنت أشعر بالسكينة تجاهه.

 

في أوائل شهر شباط، كنّا ذات ليلة نشاهد التلفاز، فإذا بابني الأكبر يقول لي: "أمّي، هذا الفيلم هو عن عمليّات الفاو. وغلامرضا ومحّرم يشاركان فيها".

 

أحسست باضطراب في قلبي ومن دون إرادة منّي استسلمت للبكاء. ومنذ حينها رحت أنتحب وأدعو وأنتظر طوال يومي رسالة أو برقيّة أو خبرًا عنهما.

 

بعد 45 يومًا من ذهابهما، عاد محرّم إلى البيت جريحًا، وقال: "لقد جُرح غلامرضا في انفجار للذخيرة، لكنّ رفاقه لم يستطيعوا نقله معهم". ومن اليوم التالي، أصبح دأبنا اليومي تفقّد المستشفيات وبرّادات حفظ الموتى لنحصل على خبر عن غلامرضا. وكنّا نذهب كلّ يوم إلى مؤسّسة الشهيد ونتفحّص الأجساد المحترقة والمقطوعة الرؤوس والمتلاشية. وننظر بدقّة في الطول، البنية، شكل الوجه، الشعر، العينين، الحاجبين، وكلّ ما يقع عليه النظر، لنعثر على علامة له، لكنّ أيًّا من هذه الأجساد لم يكن لغلامرضا.. لقد ضاع غلامرضا! كان الأمل واليأس يتجاذباننا إذ وصلنا خبر بأنّه تمّ إحضار أجساد ثلاثة شهداء من دون مشخّصات ولا بلاكّات. أحد هذه الأجساد كان محترقًا وغير واضح المعالم. نظرت إليه مرّة أو مرّتين بشكل سريع وكشحت بوجهي عنه. كان بطول غلامرضا، ووجهه وعنقه شبيهان

 

 

525


463

وثائق الفصل الثامن

بوجهه. كان عليّ أن أضع هويّة بطاقته إلى جانبه أو أن أعقد إيشاربي على عضده، ما يعني أنّ الجسد يعود لنا. كنت متردّدة. لم أعرف ماذا أفعل، لكنّني في النهاية استسلمت لمتابعة الانتظار وعدت إلى البيت وأنا أنتحب، لكنّني ندمت حين عودتي. كأنّه كان هو. بعد الظهر، عدت إلى مؤسّسة الشهيد، طالبة من المسؤولين هناك السماح لي برؤية الجثّة مجدّدًا، لكن كان الوقت قد فات. فقد جاءت عائلة أخرى واستلمته. أقمنا لغلامرضا مراسم اليوم الثالث والأسبوع. كما اتّخذنا له قبرًا خاليًا في "بهشت زهراء". منذ سنوات تشكّل قطعة البلاط هذه السلوى لنا. إنّني اليوم، في كلّ مرّة أذهب إلى "بهشت زهراء" أشعر أنّ كلّ شهيد يرقد تحت التراب، وخاصّة الشهيد المجهول الهويّة، هو ابني. أقبّل قبورهم وأشتمّها، وأحدّثهم عن غلامرضا.

 

 

526

 


464

وثائق الفصل الثامن

3-4 مقابلة مع أمّ الشهيد

وُلد مجيد في شهر تير (حزيران/تموز) من العام 1348(1969). وهو الابن الخامس من أبنائي. لم يكن لديه رغبة بمواصلة تعليمه. عندما بلغ الثانية عشرة، اشتريت له أرنبًا أبيض اللون من أصفهان، فكان يطعمه الجزر والخضار ويلاعبه. ذات يوم مات الأرنب المسكين فجأةً فحزِن عليه كثيرًا وبقي لأيّام يبكي عليه. كان لوالد مجيد كشك صغير في ميدان منيريّة يبيع فيه المجلّات والعصائر والمشروبات الغازيّة والنقولات، فكان مجيد غالبًا ما يذهب ويساعد والده في عمله. التحق للمرّة الأولى بالجبهة في العام 1984 حيث تلاعب ببطاقة هويّته وذهب، ما خلق له فيما بعد مشاكل في دائرة الأحوال الشخصيّة.

 

كان والده يحبّه حبًّا جمًّا، لذا أعطاه خاتمه العقيق وسبحة الشيخ مقصود خاصّته. عندما كان مجيد ينزعج من شيء ما كان ذلك يظهر عليه بطريقة خاصّة، فيطوي لسانه داخل حلقه ويلصقه بسقفه ولا ينبس ببنت شفة. وهكذا كان يفعل حين كان يُصيبه ألمٌ ما.

 

ذهب مجيد أربع مرّات إلى الجبهة. المرّة الأولى له كانت في كردستان، الثانية التحق بكتيبة حمزة التابعة لفرقة محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها أصيب بإصابة طفيفة في رأسه وتعرّض لعصف انفجار. كما خدم في العامين 86 و87 في كردستان. المرّة الأخيرة التي ذهب فيها إلى الجبهة كانت في شهر أيّار من العام 1987. كان يخدم في مدينة سقّز حين وصلنا خبر شهادته في أواخر شهر تموز من العام نفسه. وقع هو وبعض رفاقه في كمين نصبه لهم أعداء الثورة وهم يركبون سيّارة للحرس. حيث أصاب السيّارة صاروخ مباشر فأصيبوا جميعًا. لربّما كانت وصيّته بحوزته، لذا لم نعثر عليها. عندما نظرت إلى وجهه المحترق، التفتّ إلى لسانه وقد طواه

 

528

 


465

وثائق الفصل الثامن

في حلقه وألصقه بسقفه، حتمًا كان يتألّم.

 

بعد خمسة عشر شهرًا من الخدمة التطوّعيّة في الجبهة، نال مجيد مقام الشهادة الرفيع، التي نالها قبله أخوه حسين. فسمّي شارع "قلمستان" باسمي هذين الشهيدين، لوحة معدنيّة تجسّد ذكرى هذين الشهيدين على جدار بارد.

 

529


466
الفصيل الأول - الجزء الأول