الرسول الأكرم


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-08

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

الفهرس

5

المقدّمة

7

الفصل الأوّل:سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

11

أ تزكية النفوس

13

ب إيجاد الوحدة

16

ج مواجهة الظلم والجهل

16

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

19

المنزلة الخاصّة للصلاة في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله

29

الفصل الثالث: مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبويّة

33

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

39

العطف الشديد

43

همُّ الهداية ونجاة البشريّة

46

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله

53

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

59

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

67

المصادر

75

 

 

 

 

 

 

6


2

المقدمة

 المقدمة

 
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾1.
 
لقد أطلق قائد الثورة الإسلاميّة في إيران على سنة 1385هـ. ش (2006م) عنوان سنة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ووُصفت هذه الفكرة بأنّها إبداعيّة؛ نظراً إلى أنّها قد تزامنت مع التحوّلات والتغيّرات الكبرى الّتي شهدها العالَم بشكل عامّ والعالَم الإسلاميّ بشكل خاصّ. وأتت هذه الخطوة على ضوء المعرفة العميقة والدقيقة لمشكلات واحتياجات العالَم الإسلاميّ في هذا التوقيت الحسّاس.
 
هذه الحركة الخلّاقة بعثت روحاً جديدة في جسم ووجدان العالَم الواعي، وحفّزته على السير والاقتداء والتأسّي بالأبعاد الشامخة لشخصيّة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وقد أدرك الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ الشعب الإيرانيّ كما شعوب العالَم الّتي تنشد العدالة والإخاء، يحتاج اليوم وأكثر من أيّ وقت 
 
 
 

1- سورة التوبة، الآية: 128.
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 مضى إلى أن يتعلّم من دروس هذا النبيّ في الأخلاق والرحمة والكرامة. وفي التعلّم كما في الوحدة والعزّة والجهاد والمقاومة يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله:

 
"نحن المسلمون واجبنا أن نقتدي بهذا العظيم، يقول الله سبحانه ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾1. يجب أن نقتدي ونهتدي ونتأسّى بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فلا يكفي أن نقتدي بصلاة ركعات عدّة، وإنّما الواجب أن نقتدي بسلوكنا وأقوالنا، بعلاقتنا فيما بيننا، وبتعاملنا مع الآخر، ولا يتيسّر كلّ هذا إلّا من خلال معرفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"2.
 
إنّ ما سنستعرضه في هذا الكتاب هو جزء يسير من محطّات عاشها النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، حيث سنسلّط الضوء على بعض أبعاد شخصيّته الاجتماعية، والّتي أشار إليها الإمام الخمينيّ قدس سره في مناسبات مختلفة سواء في كتبه الّتي ألفها أم في أقواله وخطبه المتعدّدة. ويضمّ هذا الكتاب سبعة فصول بحسب الترتيب:
 
1 ـ سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
2 ـ العبوديّة والتسليم.
 
3 ـ مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبويّة.
 
4 ـ الرحمة والمحبّة النبويّة.
 
 
 

1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
2- خطاب قائد الثورة في صلاة الجمعة، 7 صفر، 1421هـ.ق. 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

المقدمة

 5 ـ تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.


6 ـ العيش البسيط.

7 ـ المساواة الإسلامية كما جسّدها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

ويمكن القول إنّ العنوان الأخير هو الركيزة الأهمّ في أصول الحكومة الإسلاميّة والسياسية النبويّة، وسوف نرى في هذا القسم أن سلوك وتعامل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، مع أصحابه وعامّة الناس كان على أساس العدالة والمساواة، وباعتباره القائد الأوّل والكبير للعالَم الإسلامي كان يراعي أصول العدالة في جميع شؤون حياته المباركة، حتّى على مستوى المجالسة والحديث مع الآخرين والنظر إليهم.

ومن المتوقّع أن تتمّ الاستفادة من هذا الكتاب، لعلّه يُشكّل أرضيّة صلبة وواضحة للمضيّ وفق السيرة النبويّة لكلّ الراغبين بالاهتداء والاقتداء بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
9

5

الفصل الأوّل: سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

 الفصل الأول: سبب بعثة النبيّ الأعظم

 
 
أ- تزكية النفوس
ب ـ إيجاد الوحدة
ج ـ مواجهة الظلم والجهل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

6

الفصل الأوّل: سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

 أ- تزكية النفوس

 
جهد الإمام الخمينيّ قدس سره على امتداد عمره المبارك في جميع أقواله ورسائله وخطاباته وكتبه، عندما كان يتعرّض لسيرة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أن يبيّن مطالب جليلة ترتبط بالأهداف الإلهيّة لبعثته صلى الله عليه وآله وسلم، وتُعبّر في الوقت ذاته عن عمق إيمان الإمام قدس سره وتعلّقه بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كما تعبّر أيضاً عن تصميمه الراسخ وإصراره على مواصلة طريق تحقيق الأهداف الإلهيّة والّتي تجلّت في بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
يقول الإمام دام ظله:
 
"إنّ أوّل آية - حسبما ينقل لنا التاريخ والروايات - نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي آية ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، حيث تلاها جبرائيل عليه السلام على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا فيها إلى القراءة والتعلّم.
 
فابتدأ نزول الوحي بسورة أوّلها آية ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾1، وجاء في نفس هذه السورة: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾2. هذه السورة هي أوّل ما نزل من الوحي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أوّل
 
 

1- سورة العلق, الآية 1.
2- سورة العلق، الآيتان: 6 ـ 7.
 
 
 
 
 
 
 
13

 


7

الفصل الأوّل: سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

 ما نزل منها الآيتان: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾. نتعلّم من هاتين الآيتين أنّ وجود الطغيان والطاغوت من الأشياء الّتي تحتلّ قائمة الأمور، فمن أجل سحق الطاغوت يجب تعليم الكتاب والحكمة وتعلّم الكتاب والحكمة والتزكية. فالإنسان ما دام إنساناً مجرّد أن يستغني فإنّه يطغى، فلو استغنى ماليّاً يطغى بهذا المقدار، ولو استغنى علميّاً يطغى بهذا المقدار، ولو حصل على مقام يطغى بهذا المقدار.

 
ففرعون يُسمّيه الله تبارك وتعالى طاغية لأنّه حصل على المقام، ولم يكن في حصوله غاية إلهيّة، فأوصله هذا المقام إلى الطغيان. فالأشخاص الّذين يحصلون على متاع الدنيا بدون تزكية النفس، فمهما حصلوا فإنّ طغيانهم سوف يزداد. وإنّ وبال هذا المال وهذا المنال وهذا المقام وهذا الجاه وهذا المنصب، من الأشياء الّتي تُعرّض الإنسان للمتاعب والصعوبات في الحياة الدنيا، وهي في الآخرة أكثر. إنّ هدف البعثة هو أن تخلّصنا من هذا الطغيان بأن نزكّي أنفسنا ونصفّيها ونخلّصها من هذه الظلمات. فلو حصل هذا التوفيق للجميع، ستضحى الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن، وتجلّياً لنور الحقّ. كلّ الخلافات الموجودة بين البشر، كلّ الخلافات الموجودة بين السلاطين، كلّ الخلافات الموجودة بين الأقوياء هي بسبب الطغيان الموجود في النفوس.
 
ومردّ هذا إلى أنّ الإنسان يرى لنفسه مقاماً ومنصباً، لذلك يطغى، وحيث إنّه يطغى، يكون الطغيان سببَ تجاوزه. وعندما يحصل
 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

الفصل الأوّل: سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

 التجاوز يحصل الخلاف، ولا فرق في ذلك بين مرتبة طغيان دنيا أو مرتبة طغيان عليا؛ ففي المرتبة الصغيرة كأن يحصل الخلاف في قرية مّا بين أفرادها بسبب الطغيان، وفي مرتبة أعلى إذا حصل الخلاف سيكون الطغيان أكثر.

 
فرعون الّذي طغى قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾1. إنّ هذه النزعة التجاوزية موجودة عند الجميع لا في فرعون وحده, فلو اعتلى إنسان ما وارتفع فوق رؤوس البشر فسوف يقول: أنا ربّكم الأعلى. غاية البعثة هي السيطرة على نفوس العاصين ونفوس الطغاة والمتمرّدين والواغلين في العصيان والطغيان والتمرّد، ودفع هذه النفوس إلى التزكية.
 
إنّ سبب كلّ الخلافات الموجودة بين بني الإنسان عدم تزكية النفوس. وهدف البعثة هو دعوتهم إلى التزكية، فبواسطتها يتعلّمون الحكمة ويتعلّمون القرآن والكتاب أيضاً. وإذا زكت النفوس سينتفي الطغيان"2.
 
في مكان آخر، يرى الإمام الخمينيّ دام ظله أنّ هدف البعثة هو تعليم الكتاب والحكمة وتهذيب النفوس، يقول حول ذلك:
 
"إنّ أساس بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو من أجل التربية والتعليم. فالنبيّ يتلو الآيات، والآيات هي العلوم التي ينظر من خلالها إلى كلّ شيء 
 
 
 

1- سورة النازعات، الآية: 24.
2- صحيفة الإمام، ج 14، ص 391 ـ 389، خطاب الإمام في جمع من أهالي تبريز بتاريخ 11 خرداد، 1360 هـ. ش الموافق 27 رجب 1401هـ. ق.
 
 
 
 
 
 
 
15

9

الفصل الأوّل: سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

 على أنّه آية. يتلو الآيات عليهم ويزكّيهم ويطهّر نفوسهم، وبعد أن يطهّرهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، فالتربية سابقة على التعليم، وإذا لم تسبق التعليم ينبغي أن تواكبه، وأن تكون الأولويّة لها"1.


ب ـ إيجاد الوحدة

هدف آخر من أهداف البعثة عرضه الإمام الخمينيّ دام ظله في رسائله وخطبه وأقواله، مستمدّاً ذلك من القرآن الكريم، حيث يؤكّد على أنّ هدف البعثة هو إيجاد الوحدة بين بني البشر في جميع أرجاء الأرض، يقول الإمام دام ظله في إحدى خطبه:

"يريد نبيّ الإسلام أن يوحّد الكلمة في جميع أصقاع العالَم. يريد أن تنضوي جميع مسالك الدنيا تحت كلمة التوحيد. يريد أن تعمّ كلمة التوحيد جميع أرجاء العالَم المأهول"2.

ج ـ مواجهة الظلم والجهل

"إنّ بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت من أجل رفع الظلم عن الناس، من أجل أن يستطيع الناس أن يواجهوا القوى الكبرى، كانت البعثة من أجل نجاة أخلاق الناس ونفوسهم وأرواحهم وأجسادهم من الظلمات، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، يخرجهم إلى نور
 
 
 
 
 
 
 
16

10

الفصل الأوّل: سبب بعثة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله

 العلم، يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العدالة ويدلهم على الطريق، ليقول لهم إنّ جميع المسلمين إخوة يجب عليهم أن يتّحدوا جميعاً ولا يتفرّقوا"1.

 
وفي موضع آخر يشير الإمام دام ظله إلى مدى تحمّل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لأنواع الألم والمصاعب في طريق تحمّل المسؤوليّة الخطيرة للرسالة، فيقول: "لاحظوا أنتم جيّداً كيف أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد تحمّل أكثر من الجميع من أجل تربية الناس، من أجل أن ينقذ هؤلاء المظلومين من أيدي الظالمين"2.
 
 

1- صحيفة الإمام، ح 13، ص 435 ـ 434.
2- م.ن، ج13، ص 233، خطاب الإمام بمسؤولي القوّة القضائية، بتاريخ 19، 10، 1361هـ. ش. 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 

 

 
المنزلة الخاصّة للصلاة في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

12

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 يُعتبر التسليم والعبوديّة من الصفات البارزة للنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ورد ذلك في عدد من الآيات القرآنية، حيث أشارت الآيات إلى هذه الفضيلة الأخلاقية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 
فالله المتعال وصف عبودية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأوصاف جميلة ومتعدّدة كـ "عبدنا"، "أعبد"، "عابد" وأمثال ذلك، فعلى سبيل المثال جاء في إحدى الآيات القرآنيّة: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾1
 
فعبادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت عبادة استثنائيّة، حيث كان الكثير من الأعمال المستحبّة لنا واجباً على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالله المتعال يأمر النبيّ بأن يتهجّد في الليل ويحييه بأداء النوافل، حيث يقول: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾2.
 
فالله يأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يحيي قسطاً من الليل يشتغل فيه بالعبادة ويؤدّي فيه نافلة خاصّة به، لينال عند الله المقام المحمود. فصلاة الليل المستحبّة لنا هي واجبة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوبها أُنيط بمسؤولية الرسالة الثقيلة الّتي ألقيت على عاتقه صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 23.
2- سورة الإسراء، الآية: 79.
 
 
 
 
 
 
21

13

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 فالنبيّ في مقام عبوديّة الله كان المصداق الأوّل والأسوة الأولى لجميع عباد الرحمان، وفي ذلك يصفه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وسيّد عباده"1.

 
والإمام الخميني قدس سره في أقواله المتعدّدة عندما يتعرّض إلى المقام السامي لعبوديّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصفه بأنّه العنوان لـ "عبد الله الحقيقيّ" وأنّه "صاحب مقام العبوديّة المطلقة".
 
يقول الإمام قدس سره في ذلك:
"لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العبوديّة المطلقة هي من أعلى مراتب الكمال ومن أرفع مقامات الإنسانيّة. ولا نصيب لأحد من البشر منها سوى أكمل خلق الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وسائر الأولياء الكُمّل عليهم السلام تبعاً له. أمّا من سواهم فقدم عبوديّتهم عوجاء وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة بأسباب أخرى.
 
ولمّا كان من غير الممكن الوصول إلى المعراج الحقيقيّ المطلق إلّا بقدم العبوديّة، نرى أنّ قدم العبوديّة وجذبة الربوبيّة هي الّتي أسْرَت بتلك الذات المقدّسة إلى معراج القرب والوصول، لذا قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ...﴾، ولهذا أيضاً كان تأكيد العبوديّة قبل الرسالة في تشهّد الصلاة الّذي يمثّل الرجوع من الفناء المطلق المتحقّق في السجدة. ولعلّ في ذلك أيضاً إشارة إلى أنّ مقام الرسالة بالنتيجة هو ثمرة لجوهرة العبوديّة"2.
 
 

1- نهج البلاغة، خطبة 214.
2- آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 10.
 
 
 
 
 
 
 
22

14

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 الإمام الخمينيّ قدس سره في مكان آخر يصف التسليم والعبوديّة لعبد الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: "... فإذا تحقّق للسائل مقام الاسميّة، رأى نفسه مستغرقاً في مقام الألوهيّة.. " العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة"1، ورأى نفسه اسم الله وعلامة الله وفانياً في الله، ورأى سائر الموجودات على هذه الحالة. وإذا أصبح الوليّ كاملاً أصبح متحقّقاً بالاسم المطلق ووصل إلى التحقّق بالعبوديّة المطلقة فصار عبداً حقيقيّاً لله.

 
ويمكن أن يكون استخدام وصف العبد في الآية الكريمة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ...﴾ ناشئاً من كونه عروجاً إلى معراج القرب وأفق القدس ومحفل الأنس، وذلك بقدم العبوديّة والافتقار وإزاحة غبار "الإنّية" و "الأنا" والاستقلال.
 
كما أن الشهادة بالرسالة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في التشهّد وبعد الشهادة الإقرار بعبوديّته صلى الله عليه وآله وسلم لله تعالى هي لكون العبوديّة مرقاة الرسالة. والصلاة هي معراج المؤمنين، ومظهر معراج النبوّة يكون البدء بها بعد رفع الحجب بـ "بسم الله" وذاك هو حقيقة العبوديّة "فسبحان الذي أٍسرى بنبيّه بمرقاة العبوديّة المطلقة" حيث جذبه الله بقدم العبوديّة إلى أفق الأحديّة، وحدّده من مملكة الملك والملكوت، ومملكة الجبروت واللاّهوت، إلى معراج القرب بسمة من سمات الله وبمرقاة التحقّق باسم الله إذ إنّ باطن ذلك هو العبوديّة"2.
 
 

1- مصباح الشريعة، منسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، باب 100.
2- سرّ الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 89 ـ 90.
 
 
 
 
 
 
23

15

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 إنّ نفس هذا العشق اللّامتناهي للعبوديّة والتسليم للذّات الأقدس الإلهيّة كانت السبب في بلوغ النبيّ أعلى درجة من الكمال الإنسانيّ الّتي أشاد بها الباري سبحانه بقوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾1.

 
الإمام الخمينيّ قدس سره يصف حال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومقام عبوديّته فيقول:
 
"إنّ سرّ حلقة أهل المعرفة وخلاصة أصحاب المحبّة والحقيقة في: أبيت عند ربّي يُطعمني ويسقيني"2.
 
"إلهي أيّ خلوة أنسٍ معك أُتيحت لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم في دار أنس الخلوات؟، وأيّ طعامٍ وشرابٍ هُيّئ بيدك لهذا الموجود الشريف فأطعمته وسقيته حتّى طوى وترك كلّ العوالم، فطرب طرباً قدسياً وقال: "لي مع الله وقتٌ لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيٌّ مرسل"3؟ 
 
هل هذا الوقت من أوقات عالَم الدنيا والآخرة، أو هو وقت الخلوة في مرتبة ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ وطرح الكونين؟ فموسى عليه السلام كليم الله صام أربعين يوماً لينال لقاء الله في الميقات، فقال الله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾4، ومع ذلك فإنّه لم يرق إلى الميقات
 
 
 

1- سورة النجم، الآيتان: 8 ـ 9.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 7، ص 377، صحيح البخاري، ج 4، ص 251، كتاب التمنّي.
3- عوالي اللآلي، الإحسائيّ، ج 4، ص 7، ح 7، أيضاً: بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 18، ص 360، كتاب تاريخ النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم، باب إثبات المعراج.
4- سورة الأعراف، الآية: 142.
 
 
 
 
 
 
 
24

16

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

  المحمديّ ولم يكمل الوقت الأحمديّ..."1.

 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لمقام شدّة عبادة ورياضة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
 
"إنّ حضرة النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد في القيام لله حتّى تورّمت قدماه المباركتان فأنزل الحقّ المقدّس جلّ جلاله آية: ﴿طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾"2.
 
وفي تعليق للإمام على هذه الآية ينقل رواية عن باقر العلوم عليه السلام تشير إلى معنى هذه الآية:
 
قال الإمام الباقر عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتعبُ نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟ قال الإمام الباقر عليه السلام: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه فانزل الله سبحانه وتعالى:  ﴿طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾3.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرح هذا الحديث:
 
"اعلم أنّ عائشة قد حسبت أنّ سرّ العبادات ينحصر في الخوف من العذاب أو في محو السيّئات، وتصوّرت أنّ عبادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مثل عبادة كافّة الناس، ولهذا بادرت إلى الاعتراض عليه قائلة: لماذا تجهد
 
 

1- آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 110.
2- سورة طه، الآيتان: 1 ـ 2.
3- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 337.
 
 
 
 
 
 
 
25

 


17

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 نفسك؟ وقد نشأ هذا الظنّ من جرّاء جهلها لمقام العبادة والعبوديّة ولمقام النبوّة والرسالة، حيث لم تعرف بأنّ عبادة العبيد والأُجراء بعيدة عن ساحة قدسه، وأنّ عظمة الرّب، وشكر نعمه اللامتناهية قد سلبت الراحة والقرار من حضرته صلوات الله عليه، بل إنّ عبادة الأولياء الخلّص انتقاش للتجلّيات اللامتناهية للمحبوب، كما أشير إليه في الصلاة المعراجيّة1. إنّ الأولياء عليهم السلام رغم أنّهم ينصهرون في الجمال والجلال، ويفنون في الصفات والذّات، لا يغفلون عن كلّ مرحلة من مراحل العبوديّة. وإنّ حركات أبدانهم تتبع حركاتهم العشقيّة الروحيّة، وهي تتبع كيفيّة ظهور جمال المحبوب، ولكن لا يمكن التحدّث مع عائشة بجواب مفحم بل اقتصر عليه الصلاة والسلام على جواب مقنع، حيث بيّن مرتبة من المراتب النازلة للعبادة حتّى تعرف هذا المقدار بأنّ عباداته صلى الله عليه وآله وسلم ليست لهذه الأمور الدنيّة الحقيرة"2.

 
"روى المرحوم الطبرسيّ في كتابه الاحتجاج بسندٍ ينتهي إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ولقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه، يقوم الليل أجمع حتّى عُوتب في ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ بل لتسعد به"3.
 
وفي رواية أخرى عن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "إنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فلم
 
 

1- انظر: علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج2، ص 312، باب أوّل، ح1.
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 349 ـ 350.
3- الاحتجاج ، الشيخ الطبرسيّ، ج 1، ص 326.
 
 
 
 
 
 
26

18

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 يدع الاجتهاد له وتعبّد بأبي هو وأمّي حتّى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟"1.

 
وروي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع إحدى رجليه في العبادة، كي يزيد تعبه وجهده، فأنزل الله عليه هذه الآية المباركة2.
 
وقال بعض المفسِّرين: هو جواب للمشركين حين قالوا إنّه شقيّ، فقال سبحانه: يا رجل ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾"3.
 
وقال شيخنا العارف الكامل الشاه آبادي:4 "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما دعا الناس إلى رسالته ولم يجد الإصغاء المطلوب والدخول في دين الله حسب المستوى المرغوب فيه، أبدى احتمالاً في نفسه وهو النقص في دعوته ـ الداعي ـ فانصرف إلى ترويض نفسه طيلة عشرة أعوام حتّى ورمت قدماه ، فنزلت هذا الآية المباركة مخاطبة إيّاه ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، إنّك طاهرٌ وهادٍ، ولا يوجد عيب ونقص فيك، بل إنّ النقيصة في الناس ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾"5.
 
 
 

1- كحل البصر، الشيخ عباس القميّ، ص 78.
2- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسيّ, ج7، ص 2، ذيل تفسير أول سورة طه.
3- م. ن، سورة طه، الآية: 1 ـ 2، بنقل عن حسن البصري.
4- آية الله الميرزا محمد علي الشاه آبادي (1292 ـ 1369ق) فقيه، أصولي، عارف، فيلسوف عاش في القرن الرابع عشر الهجري. تتلمذ الإمام الخميني قدس سرهعلى يديه في دروس العرفان والأخلاق في مدينة قم، من كتبه شذرات المعارف، الإنسان والفطرة، القرآن والعترة.
5- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ، ص 351 ـ 352.
 
 
 
 
 
 
 
27

19

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 وذكرت عدّة روايات عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يوصي فيها أتباعه بالاستغفار وطلب المغفرة من الذنوب والخطايا. ويُعلّق الإمام قدس سره في كتاباته على هذه السيرة العملية لنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم فيقول:

 
"بالرغم من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان وجوده إلهيّاً كان يقول: "إنّه ليغانّ على قلبي وإنّي لأستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة"1، إنّ نفس الاختلاط والمعاملة مع الأشخاص غير الصالحين يوجب هذه الكدورة. فلو أنّ محبّاً كان دائم الحضور عند معشوقه، وأتى إليه شخص طيّب وصحيح وأراد أن يسأل سؤالاً، لكان ردّه بمقدار مرتبة وصول العاشق وحضوره. إنّ نفس السائل بنظر العاشق من المظاهر، لذا فإنّه يردّه بمقدار ما له من الحضور "إنّه ليغانّ على قلبي وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة". كذلك كان ينقل عن النبيّ أنّ الاشتغال بهذه الأمور يشكّل حجاباً للإنسان وعلينا أن نُخرج أنفسنا من هذا الحجاب"2.
 
"المسألة مسألة كبيرة، فهؤلاء حقيقةً لا يرون أنفسهم مقابل عظمة الله ولا يحسبون لها أيّ حساب، فكلّ شيء ما عدا الله سبحانه باطل. فهؤلاء عندما يتوجّهون إلى عالم الكثرة ولو أنّهم توجّهوا إلى أمور كلّفهم الله بها يرون أنفسهم من العصاة، لذلك كان يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يقول: "إنّه ليغانّ على قلبي وإنّي لأستغفر
 
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 321، بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 24، ص 204.
2- تفسير سورة الحمد، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 148 ـ 149.
 
 
 
 
 
 
 
28

20

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 الله في كلّ يوم سبعين مرّة" فهؤلاء (أولياء الله)1 لا ينشغلون بالمسائل الّتي ننشغل بها. هؤلاء في ضيافة الله تعالى بل أكثر من ضيافة الله تعالى. كانت تحصل لهم الكدورة بالرغم من أنّهم كانوا في محضر الله وفي حال دعوة الناس، لأنّهم يرومون كمال الانقطاع إلى الله، ويُكدّر عليهم توجّههم إلى عالم الشهادة والمظاهر وإن كانت إلهيّة، فكانوا يرون (عدم الانقطاع) ذنباً عظيماً لا يُغفر. فالتوجّه إلى الملكوت وما فوق الملكوت بالنسبة إليهم دار الغرور، فقط كُمّل الأولياء هم الذين يتوجّهون إلى الله تعالى فقط بكمال الانقطاع ولا دور حتّى لضيافة الله"2.

 
المنزلة الخاصّة للصلاة في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
 
إذا ما طالعنا بدقّة السيرة النبويّة ندرك جيّداً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يولي الصلاة وثقافتها أهميّة كبيرة، وكان العاشق المتيّم بها، ففي خطابه لأبي ذرّ الغفاريّ يعتبر الصلاة قرّة عينه، يقول صلى الله عليه وآله وسلم له:
 
"يا أبا ذرّ! جعل الله جلّ ثناؤه قرّة عيني في الصلاة، وحبّبها إليّ كما حبَّبَ إلى الجائع الطعام وإلى الظمآن الماء، وإنّ الجائع إذا أكل شبع، وإنّ الظمآن إذا شرب روي، وأنا لا أشبع من الصلاة"3.
 
ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في وصفه لحالات النبيّ العرفانية
 
 

1- إيضاح من المترجم.
2- صحيفة الإمام، ج 20، ص 269.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 74، ص 77 ـ 78، أيضاً: جامع الأحاديث، المرعشي النجفي، ج 2، ح 27.
 
 
 
 
 
 
 
29

 


21

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 حين كان صلى الله عليه وآله وسلم يقضي تلك الأوقات الملكوتيّة لصلاته: "نُقل عن إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدّث معنا ونتحدّث معه، ولكن عندما يحين وقت الصلاة فكان كأنّنا لا نعرفه ولا يعرفنا، يترك كلّ شيء من أجل الاشتغال بالصلاة والإقبال على الله"1.

 
ولدينا الكثير من الروايات الّتي توضح لنا حال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أثناء عبادته ودعائه ومناجاته في الليل. وفي كلمات الإمام قدس سره إشارات إلى بعض هذه الروايات، فعلى سبيل المثال يتحدّث الإمام قدس سره عن ديدن أهل الهدى في صلاتهم وصيامهم فيقول:
 
"كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يضع في الليل ماء وضوئه ومسواكه تحت وسادة رأسه المبارك، ويغطّي وعاء ماء الوضوء، فإذا ما استيقظ في الليل استعمل المسواك وتوضّأ وصلّى أربع ركعات ثمّ نام، وبعد برهة يقوم مجدّداً ويستعمل المسواك ويتوضّأ ثمّ يصلّي"2.
 
كذلك يذكر الإمام قدس سره في وصفه لصيام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخصوص السيرة النبويّة في أعمال الأسبوع فيقول:
 
"وأمّا السنّة الثانية للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فهي الصيام ثلاثة أيّام في الأسبوع. وقد ورد في فضل ذلك ما يتجاوز أربعين رواية.3
 
 
 

1- انظر، مستدرك الوسائل، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، ج 4، ص 100، باب 2، ح 17، آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 111.
2- وسائل الشيعة،الحرّ العامليّ، ج7، ص 303، باب 7، ص 77 - 78، ج1، من أبواب الصوم المندوب.
3- م.ن، ج7، ص 303 - 321، باب 7-12، من أبواب الصوم المندوب.
 
 
 
 
 
 
 
 
30

22

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 وحصل خلاف لدى العلماء الأعلام حول كيفيّة ذلك. والّذي يشتهر بينهم ويتطابق مع الأحاديث الكثيرة، ويتّفق مع عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نهاية عمره الشريف، وعمل أئمّة الهدى، هو صوم ثلاثة أيّام في الشهر الواحد هي: أوّل خميس من الشهر، وهو يوم عرض الأعمال، والأربعاء الأوّل من العشرة الثانية وهو يوم نحسٍ مستمرّ، ويوم نزول العذاب، والخميس الأخير من الشهر الّذي هو يوم عرض الأعمال أيضاً.1 وفي الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام:... لأنّ من قبلنا من الأمم كانوا إذا نزل على أحدهم العذاب، نزل في هذه الأيّام فصام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأيّام لأنّها الأيّام المخوفة"2.

 
وقد ورد أنّ العذاب في الأقوام الماضين كان إذا نزل بهم نزل في الأيّام الّتي تمّ فيها فتح مكّة3. وكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تلك الأيّام المخوفة4.
 
ويُنقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه في إحدى الحروب نام الجميع، بينما بقي النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مستيقظاً، مشغولاً بالعبادة ومناجاة الله حتّى الصباح: "لقد رأينا وما فينا قائم إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة يصلّي ويبكي حتّى أصبح"5.
 
وأبو ذرّ الغفاريّ الّذي كان مثالاً للزهد والعبوديّة عندما يتحدّث
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج 7، ص 304 - 306، الباب 7، من أبواب الصوم المندوب، ح2، 5، 6 و 8.
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره, ص 487 - 488.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج7، ص303.
4- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره, ص 487 ـ 488.
5- السيرة النبوية، ابن كثير، ج2، ص401.
 
 
 
 
 
 
 
31

23

الفصل الثاني: التسليم والعبوديّة لله

 عن عبادة وصلاة وقيام الليل عند الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، يحدّث بأنّه في إحدى الليالي كان يصلّي خلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فما زال قائماً حتّى تعب أبو ذرّ وأسند رأسه إلى الحائط.

 
نعم، إنّ هذا القيام وصلاة الليل ومناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي الّتي استحقّ بها نيل المقام المحمود، مقام الشفاعة يوم القيامة، لذلك خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴾1.
 
 
  

1- سورة الإسراء، الآية: 79.
 
 
 
 
 
 
 
32

24

الفصل الثالث: مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبويّة

 الفصل الثالث: مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبوية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

33


25

الفصل الثالث: مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبويّة

 كان النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو الحافظ على الدوام للحدود الإلهيّة والحارس لها والقيّم عليها. ويحدّثنا الإمام عليّ عليه السلام عن سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: "لا يقصر عن الحقّ ولا يجوزه الدِّين"1.

 
فما كان ليترك حقّاً أبداً أو يتعدّى ويتجاوز حدود وموازين الدِّين، وفي ذلك يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:
 
"القانون هو الّذي يحكم في الإسلام. والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخلّف أبداً عن القانون الإلهيّ، فهو تابع له، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ 2"3.
 
وإذا ما طالعنا سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم سنجد الحقيقة الّتي تواجهنا دائماً وهي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم الامتداد لتأدية الرسالة الإلهيّة، فهو المتّبع والحافظ للحدود الإلهيّة الّتي لم يتجاوزها وكان دائماً يوصي الآخرين بها.
 
 

1- الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمّد بن سور، ج1، ص 424.
2- سورة الحاقّة، الآيات: 44 ـ 46.
3- صحيفة الإمام، ج 10، ص 310 و 311.
 
 
 
 
 
 
35

26

الفصل الثالث: مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبويّة

 يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في ذكره لهذه الخصيصة الأخلاقيّة الّتي تميّزت بها شخصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

 
"في باب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذُكر أنّه لم يطلب شيئاً لنفسه أو يردّ مظلمة عنها، فإذا ما هُتكت محارم الله تعالى، فإنّه كان يغضب لله تبارك وتعالى"1.
 
وحول احترام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتزامه القوانين والموازين الإلهيّة يقول الإمام قدس سره: "إنّ حكم الله وقانون الإسلام يجري على جميع الأفراد في الحكومة الإسلاميّة، فهو يشمل جميع الأفراد من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى خلفائه عليهم السلام وسائر أفراد المسلمين بدون استثناء"2.
 
ويقول في موضع آخر:
 
"إنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون. هي حاكميّة القوانين الإلهيّة من القرآن والسنّة. والدولة تابعة للقانون أيضاً. فنفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تابع للقانون وكذلك نفس أمير المؤمنين عليه السلام كان تابعاً للقانون أيضاً، فما كانوا ليتخلّفوا عن القانون طرفة عين أبداً، وما كانوا يستطيعون ذلك لو أرادوا"3.
 
بلا شكّ ينتظم الفرد والمجتمع ويحلّ القانون والنظام والسكينة
 
 

1- شرح حديث جنود العقل والجهل، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، ص 244.
2- الحكومة الإسلامية، ص 44 ـ 45.
3- صحيفة الإمام، ج 11، ص 22، خطاب الإمام أمام أعضاء لجنة الإعلام والثقافة الإسلامية، وجمعية «شيروخورشيد» خرّم آباد، بتاريخ 18/8/1358هـ. ش.
 
 
 
 
 
 
36

27

الفصل الثالث: مركزيّة القانون والحاكميّة في السيرة النبويّة

 مكان الفوضى والظلم والقلق في ظلّ حفظ الحدود الإلهيّة واحترام القوانين الربّانية. ويحدّثنا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عن آثار وبركات حفظ القانون والحدود الإلهيّة إن على مستوى الفرد أو على مستوى العلاقات الاجتماعية فيقول عليه السلام:

 
"لو حفظتم حدود الله سبحانه لعجّل لكم من فضله الموعود"1. فالإمام عليه السلام يقول لنا إنّكم إذا حفظتم الحدود الإلهيّة، فإنّ وعد الله بإنزال فضله وإتمام نعمته وإسباغها سيتحقّق سريعاً.
 
يشير الإمام الخمينيّ قدس سره في مواضع كثيرة إلى تبعيّة الأئمّة المعصومين عليهم السلام للقوانين الإلهيّة، يقول في ذلك:
 
"إنّ نبيّ الإسلام وأئمّة الإسلام وخلفاء الإسلام كانوا دائماً المطيعين والخاضعين والمسلّمين للقانون"2.
 
"لقد تحقّقت في صدر الإسلام الحكومة الإسلامية الأصيلة مرّتين، الأولى زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والثانية في كوفة عليّ بن أبي طالب عليه السلام عندما تولّى الخلافة. في كلتا التجربتين تجلّت القيم المعنويّة للحكومة الإلهيّة، فمن جهة تحقّقت حكومة العدل الإلهيّ ومن جهة أخرى كان الحاكم لا يتخلّف عن الالتزام بالقانون ذرّة واحدة، فكلا الحكومتين كانتا حكومتي القانون"3.
 
 
 

1- غرر الحكم، الآمدي، ج 2، ص 605.
2- صحيفة الإمام، ج 14، ص 414.
3- م.ن، ج 11، ص 1، مقابلة مع التلفزيون الألماني بتاريخ 17/8/1358 هـ. ش.
 
 
 
 
 
 
 
37

28

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 

 

 
العطف الشديد 

همُّ هداية ونجاة البشريّة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

29

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 إنّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو الإنسان الكامل الجامع لتمام الكمالات والفضائل الأخلاقيّة. ويكفي للإشارة إلى علوّ منزلته وعظمتها خطاب الباري المتعال له في القرآن الكريم، إذ وصف وجوده المطهّر بأنّه رحمة لجميع الناس وخاطبه بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾1.

 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في خصوص رحمة ومحبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "... إنّ أعلى من مرتبة (غلبة العقل على جميع القوى) هو أن تصبغ القوّة العاقلة بالصبغة الإلهيّة وأن تتعلّق قوّة العشق بالكمال الإلهيّ المطلق، بحيث إنّ أيّ عمل يُعجن بالحبّ الإلهيّ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾2.
 
طبعاً إنّ هذا المقام لا يتيسّر لأيّ كان. إنّها مرتبة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، مرتبة ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾. بحيث لو نظر إلى الحجر لنظر نظرة عطوفة لأنّه سيجد فيه أثر المحبوب، حتّى نظرته لأبي جهل كانت نظرة الرحمة وقتله له كان رصاصة الرحمة، لأنّه كان يعلم أنّ بقاء أبي جهل في دار الدنيا يعني زيادة في خسرانه، لأنّ نظم الأمور ورعاية حقوق الآخرين يلقي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسؤوليّة قطع العضو
 
 

1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- سورة البقرة، الآية: 115.
 
 
 
 
 
 
 
41

30

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 الفاسد والّذي سيمتدّ فساده إلى الآخرين. كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعمل وفق القانون الإلهيّ ونحن أيضاً تابعون للقانون وما يفرضه علينا من التولّي والتبرّؤ.

 
فالنبيّ كان ﴿رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾. ونحن نعيش في هذا العالَم تحت ظلّ الرحمة الإلهيّة، تحت ظلّ النور الطاهر لمحمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم"1.
 
ما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يغضب يوماً من الناس. كان يستمع لهم بسعة صدر، ويدعوهم دائماً إلى التعامل بالرحمة والعطف والمحبّة فيما بينهم، وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم كما نُقل عنه: "والّذي نفسي بيده لا يضع الله الرحمة إلّا على رحيم"2.
 
كان يقسم بأنّ الرحمة الإلهيّة لن تكون نصيب إلّا من كان رحيماً. وحين سأله المسلمون قائلين: يا رسول الله هل نحن رحماء؟، أجابهم: "ليس الّذي يرحم نفسه وأهله خاصّة، ولكن الّذي يرحم المسلمين"3.
 
فالرحمة الإلهيّة تشمل من عمّت رحمته المسلمين لا ذلك الذي اقتصرت رحمته على نفسه أو على أهل بيته. 
 
وبعد ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قال تعالى: "إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا"4.
 
 

1- النبوّة في رؤية الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 397 ـ 398، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ.
2- مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، ج 9، ص 54، باب 107، الحديث الثالث.
3- م. ن.
4- م. ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
42

31

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 كانت علاقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه تتجاوز مثل علاقة الناس مع بعضهم بعضاً. كان الأب الرحيم بأولاده الّذي يحرص على استقامتهم وسعادتهم، وفي ذلك يقول الإمام قدس سره:

 
"كيف كان نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع أصحابه؟ في نفس الوقت الّذي يُظهر فيه الشدّة على الكفّار بعد أن ييأس من هدايتهم ويناصبونه العداء، كان كالأب الرحيم بأصحابه وأتباعه بل وأكثر من أب رحيم"1.
 
العطف الشديد
 
منذ بدء الخليقة وحتّى نهايتها، لا يوجد بين عباد الله من هو أعطف وأرأف من حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. هذا العطف والرأفة الخاصّان به علّقا قلوب الناس به، ففتح القلوب لتدخل إليها الهداية الإلهيّة. وما كان تأذّيه الشديد إلّا لأنّ بعضهم أضلّوا طريق الهداية أو لأنّ بعضهم الآخر قبع في ظلمات الجهل والضلال.
 
الإمام الخمينيّ قدس سره يشير في إحدى خطبه إلى هذه الخصوصية في شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
 
"كان نبيّ الإسلام يحزن للناس الّذين لم يهتدوا، بحيث إنّ الله تبارك وتعالى كان يُواسيه في ذلك. وقد بلغ حزنه حتّى شقّ الأمر عليه فخاطبه الله تبارك وتعالى في القرآن بأنّا لم نرسل إليك القرآن
 
 
 

1- صحيفة الإمام، ج 9، ص 329، خطاب الإمام في لقاء مع إخوة وأخوات إيرانيين يقيمون في الكويت، بتاريخ 2/6/1358هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
43

32

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

  لتشقى من أجل الناس. كان حزنه ألماً على شعوب الأرض كحزن الأب على أولاده، وكان يحزن على الكافرين عندما يراهم حيث لم يهتدوا ويسيروا على الفطرة الإنسانيّة التي خلقهم الله عليها"1.

 
"فالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يحزن لهؤلاء الكافرين لأنّهم لم يهتدوا إلى الإسلام وإلى الإيمان. وقد جاء في الآية الشريفة: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾2، إنّك تريد أن يهتدي الجميع إلى نور الإيمان.... أن يكون للجميع نور يمشون به، فلو كان الأمر كذلك لانتهت النزاعات في الأرض. لو جُمع الأنبياء عليهم السلام في مكان واحد لما حدث بينهم أيّ نزاع، افترضوا أنّ الأولياء والأنبياء عليهم السلام قد جمعهم الله في عالم الدنيا في وقت واحد، لما تنازعوا فيما بينهم، لأنّ منشأ النزاع هو الميل نحو الأنانيّة"3.
 
"نُقل أنّ النبيّ مرّ على جمع أُسروا يجرّون في الأصفاد فقال: يجب أن تجُرَّ هذه السلاسل هؤلاء إلى الجنّة. كان النبيّ يتأذّى لحال هؤلاء لأنّهم لم يهتدوا وأُسروا، حتّى خاطبه الله تبارك وتعالى ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾4. فالقضيّة قضيّة الإيمان وليست المسألة أن يتسلّط أحد في بلد على رقاب الناس"5.
 
 
 

1- صحيفة الإمام، ج 15، ص 392، بتاريخ 33/ 10/ 1360 هـ.ش.
2- سورة فاطر، الآية: 8.
3- صحيفة الإمام، ج11، ص 380 ـ 381.
4- سورة الكهف، الآية: 6.
5- صحيفة الإمام، ج 12، ص 508.
 
 
 
 
 
 
 
44

33

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 "كان النبيّ الأكرم يتأسّف على المشركين الّذين سيُدخلون أنفسهم النار. وكان يحزن عليهم. فالإسلام هو دين الرحمة"1.

 
القرآن الكريم هكذا عرّف ووصف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه نفحة الرحمة للناس جميعاً، يقول تعالى:
 
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾2.
 
فهذا النبيّ الّذي أُرسل إليكم والّذي يألم لألمكم ويُجهد نفسه لجهدكم، هذا الرسول يصرُّ على هدايتكم، وسبب هذا الإصرار أنّه رحيم بكم رؤوف بالمؤمنين، وقد بلغ من شدّة حزنه أن عرّض نفسه للتهلكة، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في ذلك:
 
"لقد بلغت شدّة شفقة ورأفة هذا العظيم منتهى المدى، حيث تُبيِّن حاله الآية الشريفة الأولى من سورة الشعراء: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾3. وجاء أيضاً في أوائل سورة الكهف:
 
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾4.
 
سبحان الله! لقد ضاق الأمر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لشدّة تأسّفه على حال الكفّار والجاحدين للحقّ ولشدّة تمنّيه السعادة لعباد الله، حتّى اقتضت الساحة الإلهيّة أن تواسيه وتخفّف عنه وتحفظ هذا القلب 
 
 
 

1- سيماء المعصومين في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، ص97.
2- سورة التوبة، الآية: 128.
3- سورة الشعراء، الآية: 3.
4- سورة الكهف، الآية: 6.
 
 
 
 
 
 
45

34

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 اللطيف من أن يهلك من شدّة الهمّ والحزن على هؤلاء الجهلاء سيّئي الحظّ"1.

 
همُّ الهداية ونجاة البشريّة
 
إن شدّة ارتباط ومحبّة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للصديق والعدوّ كانت من أجل إرادة الخير والصلاح للمجتمع، ولتأمين السعادة والطمأنينة للبشر. وإذا ما وجدنا في حالات خاصّة أنّ هذا العظيم اضطّر إلى استعمال القوّة "السلاح" فإنّما كان من أجل الدفاع عن كيان الأمّة الإسلاميّة، والّذي ينتهي في الحقيقة إلى إرادة الخير والصلاح للمجتمع. الإمام الخمينيّ قدس سره يقول في هذا المجال:
 
"كما كان نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ورحيماً بالمؤمنين، كان كذلك للكافرين، بمعنى أنّه كان يحزن على الكفّار لبقائهم على كفرهم الّذي سيؤدّي بهم إلى جهنّم، فهو قد أُرسل لينجّي هؤلاء الكفّار وهؤلاء العصاة، والله قد خاطبه بسبب حزنه هذا فقال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾2، كأنّك تريد أن تهلك نفسك بسبب أنّهم لم يؤمنوا ولم ينالوا حظ ّالنجاة. يروي لنا التاريخ أنّه عندما مرَّ جمعٌ أُسروا في إحدى الحروب بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُجرّون بالسلاسل، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنّ هذه السلاسل يجب أن يُجرّوا بها إلى الجنّة، لذلك علينا الآن أن
 
 
 

1- شرح حديث جنود العقل والجهل،الإمام الخميني قدس سره, ص 234 ـ 235.
2- سورة الكهف، الآية: 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
46

35

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 نأتي بهم ونهديهم. لقد كان نوراً للهداية، سموحاً مع المؤمنين ومع الآخرين إلّا الذين كانوا يشكّلون غدّةً سرطانيّة، فكان عليه استئصالها من المجتمع"1.

 
"إذا أراد الشخص السالك أن يجد حقيقة تسميته، يجب أن يُوصل رحمات الحقّ إلى قلبه حتّى تتحقّق صفة الرحمة الرحمانيّة والرحمة الرحيميّة. وعلامة ذلك أن يجد في قلبه ذلك الأثر فينظر إلى عباد الله بعين العناية ويطلب الخير والصلاح للجميع. وبهذه العناية نظر الأنبياء العظام والأولياء الكُمّل عليهم السلام. إلّا أنّ ذلك كان على وجهين، فمن جهة راموا سعادة المجتمع والعائلة وسعوا لتحقيق المدينة الفاضلة، ومن جهة أخرى أرادوا سعادة الشخص (الفرد) أيضاً، حيث العلاقة والارتباط الكامل بين كلا الوجهين. والقوانين الإلهيّة شُرِّعت على أيديهم وتمَّ كذلك إنفاذها وتطبيقها، من أجل كمال السعادتين (الفرد والمجتمع)2. ويظهر أن تطبيق القصاص وإجراء الحدود والتعذيرات وأمثال ذلك، قد أُسّس للوصول إلى المدينة الفاضلة. لذا كانت كلا السعادتين مطلوبة واللتان تُسهمان في تربية النفس وكمالها، حتّى أولئك الّذين لم يروا نور الإيمان وقُتلوا بجهاد المسلمين وغير ذلك، مثل يهود بني قريظة ـ لقد كان قتلهم بالنسبة إليهم فيه صلاحهم وإصلاحهم. ويمكن أن يقال إنّ الرحمة الكاملة للنبيّ الخاتم اقتضت قتلهم، فكلّ 
 
 
 

1- النبوّة في رؤية الإمام الخميني قدس سره، ص 396.
2- إيضاح من المترجم.
 
 
 
 
 
 
 
40

36

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 يوم كانوا سيبقون في هذا العالَم سيجرّون فيه على أنفسهم أنواع العذاب الإضافيّة، حيث لا يمكن قياس كلّ الحياة الدنيا بيوم من عذاب ومصاعب الآخرة. وهذا البيان واضح للّذين يُدركون ميزان العذاب والعقاب في الآخرة وارتباطه بأسبابه ومسبّباته، لذا فإنّ السيف الّذي سُلّط على رقاب يهود بني قريظة كان سيفاً أقرب إلى أفق الرحمة منه إلى دائرة العذاب"1.

 

 
لنرَ رسول الإسلام الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في حرب أُحُد، ففي الوقت الّذي شُقّت فيه جبهته المباركة وكُسرت أسنانه، والدماء تسيل من جراحاته من رأسه ووجهه، كان نفس ذلك الأب الرحيم الّذي أراد دائماً الخير والصلاح لأولاده، حيث رفع يديه في تلك الحالة بالدعاء وقال: "اللهمّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون"2.
 
وروي أنّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم طلبوا منه أن يلعن المشركين ليحلّ عليهم العذاب كما دعا نبيّ الله نوح عليه السلام على قومهفهلكوا، فأجابهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي لم أُبعث لَعّاناً، ولكنّي بُعثت داعياً ورحمةً..."4.
 
فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبعث لهلاك الناس حتّى وإن ضلّوا، وإنّما لأجل دعوتهم إلى الهداية والرفق بهم، لذلك نراه في تلك الحالة يرفع يديه ليدعو الله لهم أن يهديهم فهم لا يعلمون.
 
 

1- آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 236 ـ 237.
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 192.
3- ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾سورة نوح، الآية: 26.
4- سنن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، السيّد محمّد حسين الطبطبائي، ص413.
 
 
 
 
 
 
 
 
48

37

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 الإمام الخمينيّ قدس سره في رسالته الأخلاقيّة العرفانيّة الّتي كتبها لابنه المرحوم السيّد أحمد الخمينيّ، أشار إلى أسف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على قومه الّذين عميت بصيرتهم ولم يهتدوا، حيث يقول الإمام قدس سره:

 
"حقيقةً لا أجد سبباً يدعو النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يحزن ويتأسّف على المشركين الّذين لم يؤمنوا إلى الحدّ الّذي يصل فيه إلى مستوى هلاك نفسه، بحيث خوطب بخطاب ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾1، سوى أنّه كان يشتعل بحبّ عباد الله عشقاً، ومن يعشق الله يعشق تجلّياته. لذلك كان يألم لأولائك الّذين احتجبوا بحجب ظلمات الأنانيّة وتاهوا في منزلقات النفوس الشيطانية، بحيث انتهت بهم أعمالهم وما كسبت أيديهم إلى شقائهم ودخولهم النار، لأنّه كان يرى نفسه أنّه أُرسل إلى الجميع من أجل سعادتهم، في حين أنّ المنحرفين والمشركين كانوا يبادلونه العداوة والبغضاء"2.
 
وبالرغم من جميع المصاعب والمتاعب والأذى الّذي ألحقه كفّار مكّة بالنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لم يألُ جهداً ولا ترك واجباً في طريق هداية وإصلاح مجتمعه، وبمقدار ما كانت المضايقات تزداد، بمقدار ما كان حبّه ولطفه يزداد لعباد الله.
 
وحول هذه الميزة الخاصّة الّتي امتاز بها نبيّ الإسلام الكريم يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:
 
 
 

1- سورة الكهف، الآية: 6.
2- صحيفة الإمام، ج 16، ص 216 ـ 217.
 
 
 
 
 
 
 
49

38

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 "رويَ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"1. يرجع هذا المعنى إلى أنّ أيّ شخص يستطيع أن يدرك أكثر عظمة وجلال الربوبيّة والمقام المقدّس للحقّ ـ جلّ وعلا ـ سيتأثّر ويتأذّى أكثر من تجرّؤ أولائك العصاة من العباد على هتك الحرمة. وأيّ شخص أيضاً سيكون أكثر حبّاً وحرصاً ورحمةً بعباد الله، سيحزن أكثر إذا انحرفوا وانتهوا إلى الشقاء. ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان أكمل من سائر الأنبياء والأولياء عليهم السلام في بلوغ المقامات المعنوية والعروج في مدارج الكمال كان أكثر تأثّراً وحزناً"2.

 
"إنّ محنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت أشدّ من الجميع، لأنّ ما وصل إليه النبيّ وأدركه من المعارف القرآنية لن يجد من يبيّنه لنا إلّا إذا كان ممّن نال مقام الولاية التامّة.
 
لعلّ من معاني "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت" إذا ما صحَّ نقلها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هي الحسرة الّتي يعيشها شخص ما إذا ما أراد أن يُبيّن أو يوصل شيئاً، لكنّه لا يقدر على ذلك، بمعنى أنّه لا يجد طريقاً لإيصال الناس إلى ما وصل إليه هو، ولذلك يحزن ويتأذّى بالأخصّ إذا كان ما وصل إليه فوق مستوى ما وصل إليه الآخرون ويريد أن يبلّغ هذا الأمور الّتي وصل إليها، كالأب الّذي يتأثّر ويحزن على ولده الأعمى الّذي لا يستطيع رؤية نور الشمس"3.
 
 

1- الجامع الصغير، السيوطي، ج 2، ص 144، بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 39، ص 56، باب 73، ح 15.
2- النبوّة في رؤية الإمام الخميني قدس سره، ص 421.
3- تفسير سورة الحمد، ص 141.
 
 
 
 
 
 
50

39

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

"كان الأنبياء عليهم السلام يأسفون للناس الّذين لا يعيشون العبوديّة لله تعالى مع أنّهم خُلقوا لها، فيرون أنفسهم مستغنين ومستقلّين فيفسدون في الأرض. وأرجّح أن يكون معنى "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"1 هذا المعنى. وأرجّح أنّ المعرفة الّتي كانت عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن عندهم، وكذلك المقامات الّتي وصل إليها لم يصلوا هم إليها لذلك كان يتأذّى من ارتكابهم للمعاصي. فلو أنّ إنساناً سُلب حقّاً في أقصى العالَم، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأسى له ليس من باب أنّه ابن مدينته أو ابن جلدته، أو أنّه يعيش في مملكته وإنّما من باب أنّ الظلم قد وقع على إنسان في هذه الدنيا"2

 

في حوادث فتح مكّة، عندما دخلها المسلمون في أوج عزّتهم واقتدارهم، كان سعد بن عبّادة الخزرجيّ حامل لواء الأنصار يردّد بصوت عالٍ: "اليوم يومُ الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة"3، فاليوم يوم سفك الدماء، واليوم يوم الانتقام وإباحة الدم والمال. سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا النداء، فاضطرب اضطراباً عظيماً وأمر الإمام عليّاً عليه السلام أن يأخذ الراية ويمسك بزمام الأمور وعزل سعد عنها.

 

 


1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج3، ص247.

2- صحيفة الإمام، ج19، ص205.

3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 21، ص105.

 
 
 
 
 
 
51

40

الفصل الرابع: الرحمة والمحبّة النبويّة

 على الرغم من كلّ الأذى والألم الّذي ألحقه كفّار قريش في حقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، كان الجميع يتوقّع أن ينتصر هؤلاء لمظلوميّتهم وينتقموا ممّن ظلمهم من أهالي مكّة، لكنّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين أن يدخلوا مكّة بمظهر الرحمة والرأفة، وأصدر عفواً عامّاً وقال مقولته المشهورة: "اليوم يوم المرحمة"1.

 
 
 

1- المغازي، الواقدي، ج2، ص822.
 
 
 
 
 
 
 
 
52

41

الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله

 الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

53


42

الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله

 واحدة من أبرز الميّزات الأخلاقيّة الّتي امتاز بها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن الآخرين كانت فضيلة التواضع، بحيث تناقل الركبان الأحاديث عن أدبه واحترامه حقوق عباد الله، فما كان يرضى لنفسه مع علوّ شأنه أن يكون له كما للحكّام والطواغيت من مظاهر الأبّهة والعلوّ.

 
فلم يعد يخفى على أحد من حكّام العالَم نمط الحياة البسيطة والمتواضعة الّتي كان يعيشها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ومع هذا الحال فإنّ هذا القائد الإلهيّ استطاع بتلك الإمكانيّات المحدودة الماديّة وبدون تلك المظاهر الدنيويّة المزخرفة أن يترك تأثيراً عظيماً في قلوب أبنائه وأصحابه. وقد كان متواضعاً بشكل متساوٍ مع الجميع فلم يكن ليفرّق بين الطبقات المختلفة، بين الغنيّ والفقير، بين الأسود والأبيض، بين المولى والعبد فكان الجميع عنده على حدٍّ سواء.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المضمار:
 
"ورد في الحديث1 أنّ جبرائيل عليه السلام قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم، فتواضع صلى الله عليه وآله وسلم ورفض قبولها، وافتخر بفقره"2.
 
 
 

1- أمالي الصدوق، المجلس 69، ح2. بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج16، ص266.
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص242.
 
 
 
 
 
 
 
55

43

الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله

 "النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان علمه من الوحي الإلهيّ، وكانت روحه من العظمة بحيث إنّها بمفردها غلبت نفسيّات كلّ البشر، إنّ هذا النبيّ قد وضع جميع العادات الجاهليّة والأديان الباطلة تحت قدميه، ونسخ جميع الكتب، واختتم حلقة النبوّة بشخصه الكريم. وكان هو سلطان الدنيا والآخرة والمتصرّف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر من أيّ شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراماً، وإذا دخل مجلساً لم يتصدّره، ويتناول الطعام جالساً على الأرض، قائلاً: إنّني عبدٌ، آكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد1.
 
لقد نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ أن يركب الحمار من دون سرج، وأن يتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبيد. وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام ويرقّع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، ويحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين ويأكل معهم2. هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنّه فضلاً عن مقامه المعنويّ كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهريّة"3.
 
 

1- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسيّ، ص12.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج16، ص226.
3- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 95 ـ 96.
 
 
 
 
 
 
56

44

الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله

 وفي خصوص تواضع النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كتب المؤرّخون أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان هو من يسبق ويبتدئ الناس بالسلام، بغضّ النظر عن الطرف الآخر أكان صغيراً أم كبيراً، غنيّاً أم فقيراً، عالماً أم أميّاً.

 
فالبرغم من مقامه السامي كان يتواضع لأقلّ واحد من الناس حتّى لُقّب بـ "خاضع الطرف"، فكان دائم النظر إلى الأرض ولم يكن ليرفع رأسه كثيراً، فقد كان يرى أنّه دائم الحضور أمام ساحة الحقّ وأنّ الله سبحانه وتعالى ناظر إلى جميع أعماله، فكان يخشى الغفلة عن الحقّ ولو لبرهة يسيرة. ولهذا المعنى يشير الإمام الخمينيّ قدس سره فيقول:
 
"لقد كانت سيرة الأنبياء عليهم السلام وتعاليمهم هي الوقوف بحزم في وجه الطواغيت، والتواضع للضعفاء والفقراء والمستضعفين. فقد ورد أنّ العرب كانوا إذا وفدوا على مسجد الرسول يسألون الناس "أيُّكم محمّد؟" في الوقت الّذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأس الحكومة الّتي تمّ تشكيلها في المدينة، هكذا كانت الأمور في المدينة. في المقابل ما كان ليخضع لأيّ قدرة بلغت ما بلغت لأنّه كان يرى الله تعالى ويستمدّ منه القدرة والقوّة، لأنّه صاحب القدرة والغنى الحقيقيّين بالأصالة لذا ما كان النبيّ ليخضع لأيّ مقتدرٍ بالتبع"1.
 
لقد كان مقدار تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبساطة عيشه أنّه ما كان يتكلّف
 
 
 

1- صحيفة الإمام، ج 16، ص 451. 
 
 
 
 
 
 
 
57

45

الفصل الخامس: تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله

 مكان الجلوس في أيّ محفل أو مجلس، فما كان يرى أنّ الجلوس في صدر المجلس أو في وسطه أو آخره يشكّل ميزة اجتماعيّة أو يشكّل تهديداً لشأنه ومنزلته، فكان يتجنّب الجلوس في صدر المجلس..

 

 

 

 

58


46

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

 الفصل السادس: حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم البسيطة والمتواضعة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

59


47

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

 من الصفات العظيمة الّتي تحلّى بها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم العيش البسيط والتواضع من غير تكلّف، كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على رأس الهرم القياديّ للمجتمع الإسلاميّ، لا بل القائد الكبير والمبعوث الإلهيّ لهذا المجتمع، فبيده كانت مقاليد الأمور وزمامها. ومع ذلك كان يحسب نفسه كسائر الناس، يساويها مع أصحاب الطبقة الدنيا من المجتمع الإسلاميّ.

بدون رياء وبدون تشريفات وبرتوكولات كان يتناول طعامه مع العبيد، يجلس وينهض بلا تكلّف. يلبس لباساً متواضعاً وخشناً، لم يفتخر يوماً بلباس أو نسب أو حسب. وقد وصفوا هذه الحياة البسيطة لنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا:
 
"يجلس بالأرض، ويأكل طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ ويركب الحمار، ويردف بعده، ويلعق أصابعه، وكان يقول: من يرغب عن سنّتي فليس منّي"1.
 
بهذا كان يتّصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته المتواضعة، في الوقت الّذي كان فيه أصحاب الثروات والأغنياء في عصره يرتدون أفخر الألبسة من الحرير والكتّان والجلود، ويركبون الجياد الغالية الأثمان، ويتّخذون لأنفسهم خدماً وحشماً. لقد رسم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بذلك
 
 

1- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 1، ص 372.
 
 
 
 
 
 
 
61

48

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

 قدوةً وسنّة للأجيال القادمة في التواضع والعيش البسيط. ويصف الإمام الخمينيّ قدس سره هذه الحياة البسيطة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيقول:

 
"لقد نقل لنا رواة السيرة النبويّة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ وضعه المادّيّ في المدينة كان أقلّ من بقيّة الناس، فكان يسكن في غرفة بنيت من التراب مجاورة للمسجد، كان يركب الحمار ويردف وراءه، وكان يُنتقد ويُشكل عليه، لكنّه أراد تربية المجتمع. واليوم نفتقد هذا النموذج بيننا، فلا يوجد رئيس أو حاكم لدولة أو مدينة أو قرية، يستطيع أن يسلك هذا السلوك مع جماعته. لقد كان المسجد يُشكّل مركز الحكومة، وكانت الناس تجتمع فيه من أجل التداول في أوضاعهم، فكانوا إذا دخل عليهم وافد من خارج المدينة، لا يستطيع أن يميّز بين الحاكم منهم والمحكوم، لذلك كان يسأل أيُّكم محمّد؟ فلم يكن يمتاز عن غيره، بل لم يكن يملك شيئاً لأنّه كان ينفق كلّ ذلك على الفقراء والمساكين والضعفاء، إلى حدٍّ عجز الناس عن وصف هذا السلوك العظيم"1.
 
هذه هي حياة شخص كان يملك حقّ التصرّف ببيت مال المسلمين لكنّه مع ذلك كان يصرف أمواله الشخصيّة لتحرير العبيد وعتقهم، وليشبع بطون الجياع ويكسو العراة.
 
كان من شدّة تواضعه وبساطة لباسه لا يُعرف من بين جموع أصحابه ولا يتميّز عنهم بأيّ شيء، وإذا ما دخل رجل غريب ذلك
 
 
 

1- صحيفة الإمام، ج 4، ص 219 ـ 220.
 
 
 
 
 
 
 
62

49

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

 المجلس لم يكن يستطيع تمييز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن بقيّة أصحابه، يقول أبو ذرّ الغفاريّ واصفاً ذلك:

 
"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب، فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل"1.
 
الإمام الخمينيّ قدس سره بالاستناد إلى هذه الرواية في وصف طبيعة حياة الرسول البسيطة يقول:
 
"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في مركز الحكومة، حيث اتّسعت الحكومة، كان يدخل العربيّ مجالس المدينة ومجلس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيجد الأصحاب يتحدّثون فيما بينهم. ما كان يستطيع أن يعرف من هو الحاكم منهم ولا من هم المحكومون"2.
 
"كذلك كان الخلفاء والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام كانوا يعيشون حياة حتّى أقلّ من حياة البساطة وشظف العيش"3.
 
نُقلت روايات كثيرة تحدّثت عن أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس مع أفراد البادية بدون تكلّف ولا تشريفات رسميّة، ويتحدّث معهم، لم يدّخر أو يكنز المال، وعاش حياة البساطة سواء في مكّة أو في المدينة، ويروي لنا التاريخ أنّه لم يدّخر حتّى قطعة أرض صغيرة لنفسه.
 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في وصف تلك الحياة البسيطة للرسول:
 
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 16، ص 229، رواية 35.
2- صحيفة الإمام، ج 18، ص 279.
3- م.ن، ج 19، ص 318.
 
 
 
 
 
 
 
63

50

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

 "ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري، ويردفُ خلفه..."1.

 
عاش الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المنوال ليقتدي به الرؤساء والناس في سيرته النظريّة والعمليّة، فيبتعدوا عن التجمّلات الماديّة والتعلّق بالرزق والمفاخر الدنيويّة، وبذلك يستطيع أن يصل المجتمع إذا ما اقتدى بهذا النور والقدوة الحسنة إلى الكمال الإنسانيّ والإلهيّ.
 
إنّ النفس الفاقدة لعطاء الوجود متى تستطيع أن تفيض الوجود لغيرها2.
 
يورد الإمام الخمينيّ قدس سره في لقائه بجمع من مسؤولي النظام في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وصايا هامّة فيقول:
 
"يعتقد بعض الناس أنّ الرفاه المادّيّ وحيازة الأموال والأراضي والحدائق، وحسابات البنوك قد تجلب السعادة للإنسان. لكنّ هذا خطأ يرتكبه الإنسان، فيتوهّم أنّ السعادة هي بامتلاك الحدائق والأراضي وجمع الثروة والإتجار. عندما ندرس حالة الفقراء والمساكين الّذين يسكنون بيوت متواضعة نجدهم قد نالوا حظّاً من السعادة يفوق الّذين يسكنون القصور، بل قد لا نجدها في القصور. لقد كان هناك بيت متواضع في صدر الإسلام يتكوّن من أربعة أفراد، إنّه بيت فاطمة الزهراء عليها السلام، بيت أبسط من هذه
 
 

1- نهج البلاغة، خطبة 159.
2- شعر فارسي "ذات نا يافته ازهستى بخش كى تواند كه شود هستى بخش؟".
 
 
 
 
 
 
 
64

51

الفصل السادس: حياة الرسول البسيطة والمتواضعة

 البيوت، لكنّ هذا البيت كان يحمل سرّاً ملأت بركاته كلّ أرجاء العالم بالنور. إنّ الإنسان يحتاج إلى جهد كبير ليقطع هذا الطريق الطويل ويصل إلى بركات ساكني هذا الكوخ المتواضع، المتواضع ماديّاً، لكن روحيّة هذا البيت بلغت أقصى المدى فلا تصل إليها حتّى الملائكة. لقد كانت نوراً شعّ على جميع بلاد المسلمين ومثالاً تربويّاً ملأت بركاته جميع الأرجاء وخاصّة بلادنا.

 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان يرأس كلّ شيء كان يعيش في بيت لا يمكن أن نساويه بغرفة واحدة متوسّطة الحال مشابهة في مجتمعنا. كان في هذا البيت حجرات متعدّدة الوظائف ومتواضعة. هذا الإنسان المتعالي في مقامه كان نوره يشعّ من هذه الحجرة المتواضعة1 ليصل إلى عالَم الملك والملكوت، ولتتّسع آثار هذه الحجرة التربوية إلى جميع أرجاء العالَم. صحيح أنّه لحدّ الآن ما أراده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التربية لم يتحقّق بعد ولم تصل إليه البشريّة، لأنّ النموذج الّذي رسمه سيتحقّق بشكل كبير على يد الخلف الصالح المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف عندما يأتي، ويحقّق بيديه المباركتين ذلك"2.
 
"كان الوضع المعيشيّ للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في غاية البساطة، فلم يستفد أبداً من مقامه ومنصبه لنفع مادّي شخصيّ، فلم يترك إرثاً ماديّاً خلفه، لم يترك إلّا العلم الّذي هو أشرف الأمور، خاصّة العلم الإلهيّ الّذي هو من عند الله تعالى"3.
 
 
 

1- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، ج 8، ص 164 ـ 168.
2- صحيفة الإمام، ج 17، ص 373 ـ 474.
3- الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني قدس سره, ص 103 ـ 104.
 
 
 
 
 
 
65

52

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 الفصل السابع: المساواة الإسلاميّة في السيرة النبويّة صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

67


53

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 إنّ الدِّين الإسلاميّ المبين قد رفض كلّ التصرّفات المؤدّية إلى الاستكبار والتفاخر والتمييز العنصريّ، واعتبر أنّ العمل الصالح والعلم والمعرفة والتقوى هي معايير الأفضليّة والقيمة الإنسانيّة.

 
فالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فتح مكّة واستقرّت فيها الحياة المدنيّة الإسلاميّة. ومن أجل إرساء قيم تحقيق العدالة وإحياء المساواة الإسلاميّة بين الناس خاطبهم قائلاً:
 
"أيّها الناس!ألا إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا عجميّ على عربيّ، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلّا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟
 
قالوا: نعم.
 
قال: ليبلّغ الشاهد الغائب"1.
 
إنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبل بأيّ امتياز لأحد على أساس العرق أو الانتماء القوميّ أو القبليّ، بل كانت الألوان والأعراق واللّغات والناس وملل الدنيا واحدةً في نظره، واعتبر أنّ قيمة الإنسان تكمن في عمله وتقواه. يقول الإمام الخمينيّ فدس سره في ذلك:
 
"إنّ قيمة الإنسان كما جاء على لسان الأنبياء وأولياء الله عليهم السلام،
 
 

1-     تفسير القرطبي، ج 16، ص 342، تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 33.
 
 
 
 
 
 
69

54

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 وعلى رأسهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن الكريم، منوطة بالعلم والتقوى، فالمعيار والقيمة للعلم والتقوى معاً، فلا يوجد قيمة حقيقيّة للعلم وحده، ولا يوجد قيمة حقيقية للتقوى وحدها"1.

 
"اذهبوا وطالعوا سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان المؤسّس الأوّل للكيان الإسلاميّ والجهاديّ الأوّل. هل كان طالب سلطة وحكم؟ انظروا إلى أصحابه وأتباعه ستجدون الأسود والأبيض، الجميع كان يجلس حول الجميع لا يوجد من يجلس في الأعلى أو في الأسفل أو هنا أو هناك"2.
 
إنّ تعامل وسلوك النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه وكافّة الناس كان على أساس المساواة في جميع شؤون الحياة، حتّى على مستوى المجالسة والحديث والنظر، فهو لم يكن لينظر إلى فرد ويستثني آخر، بل كان يحادث ويخاطب الجميع.
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
 
"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقسِمُ لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة"3.
 
الإمام الخمينيّ فدس سره أشار إلى هذه الميزة الأخلاقيّة والسلوك النبويّ في أقوال متعدّدة، فقد تطرّق إلى ذلك أثناء خطابه بحضور جمع من الشباب الفرنسيّين قائلاً:
 
 
 

1- صحيفة الإمام، ج 17، ص 185.
2- م.ن، ج 12، ص 509.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص671.
 
 
 
 
 
 
70

55

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 "إنّ الحاكم الإسلاميّ ليس كرؤساء الجمهوريّات والسلاطين الآخرين. إنّ الحاكم الإسلاميّ هو الّذي يقصد المسجد الصغير في محلّته ويستمع إلى حديث الناس ولا يميّز بين فقير وغنيّ فكلّهم سواسية. فالأغنياء كانوا كبقيّة الناس يجتمعون في المسجد، والشخص الغريب إذا دخل عليهم لا يعرف من هو الرئيس ومن هو المرؤوس منهم، من هو صاحب المقام ومن هو من عامّة الشعب. كان لباسهم مثل لباس الناس وسلوكهم مثل بقيّة الناس، وفي إجراء العدالة، إذا ادّعى أحد أفراد المجتمع على حاكم المسلمين، كان القاضي يُحضر حاكم المسلمين إلى جانب المدّعي"1.

 
"إنّ الأفراد الّذين حكموا البلاد الإسلاميّة من الحجاز إلى مصر وأفريقيا والعراق وإيران حتّى قسم من البلاد الأوروبيّة، لم تكن معاملتهم مع الرعيّة شأن الحاكم مع المحكوم، حتّى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعامل مع الرعيّة كما يتعاملون مع بعضهم بعضاً، فلم يكن عنده بيت للإمارة، ولم يكن في المحافل العموميّة له مجلس خاصّ، ولم يكن في عرف الناس حينها من يجلس في الأعلى ومن يجلس في الأسفل"2.
 
إنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان الأسوة الحسنة والقدوة المثلى للناس في حياته. كان كسائر الأفراد يبتعد عن أيّ سلوك يؤدّي إلى نفور
 
 
 

1- سمات المعصومين في فكر الإمام الخميني قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام، ص 99 ـ 100، الطبعة الثالثة.
2- م. ن، ص 100.
 
 
 
 
 
 
71

56

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 الجمهور المخاطَب منه. فقد نُقل عن تصرّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أثناء سفر له مع أصحابه، توقّفوا في وسط الطريق ليتناولوا الطعام، وأرادوا ذبح إحدى المواشي من أجل طعام الغداء، قال رجل من القوم: عليّ ذبحها، وقال الآخر: عليّ سلخها، وقال الآخر: عليّ قطعها، وقال الآخر: عليّ طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليّ أن القط لكم الحطب، فقالوا: يا رسول الله لا تتعبنّ - بآبائنا وأمهاتنا أنت - نحن نكفيك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: عرفت أنّكم تكفوني ولكنّ الله عزّ وجلّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم، فقام صلى الله عليه وآله وسلم يلقط الحطب لهم1.

 
يقول الإمام الخمينيّ الراحل فدس سره في ذلك:
 
"النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي وقف في وجه قريش كان من قريش أيضاً، لكنّه كان يعدّ نفسه من طبقات الناس العاديّة رغم أنّه كان من الأشراف وصاحب عشيرة لم يكن يملك شيئاً. والّذين اجتمعوا حوله كانوا من الدرجة الثالثة وكانوا فقراء لا يملكون شيئاً، حتّى أنّ الرسول نفسه لم يكن يملك منزلاً، كان يملك غرفة مصنوعة من ألياف النخل، حتّى مسجده كان كذلك"2.
 
فالنظرة العميقة إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلهمنا دروساً تحمل في مضامينها العبر، فعلى الرغم من أنّه كان على رأس هرم الحكم الإسلاميّ لكنّه كان يساوي نفسه مع الآخرين أمام القانون، وعندما حانت أيّام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأخيرة من عمره المبارك، دخل المسجد
 
 
 

1- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص252.
2- صحيفة الإمام، ج 8، ص 456 ـ 457.
 
 
 
 
 
 
72

57

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 ورأسه معصوب بقطعة من قماش متّكئاً على الإمام عليّ عليه السلام والعبّاس، وقام خطيباً وقال:

 
"أيّها الناس! فإنّه قد حان منّي خفوق بين أظهركم، فمن كانت له عندي عدة فليأتني أعطه إيّاها، ومن كان له عليّ دينٌ فليخبرني به. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إنّي لي عندك عدة إنّي تزوّجت فوعدتني أن تعطيني ثلاثة أواقٍ، فقال: انحلها يا فضل"1.
 
وفي آخر جمعة لثلاثة أيّام خلت قبل وفاته حضر إلى المسجد وقال: "أيّها الناس، من كان عنده شيء فليؤدّه ولا يقول فضوح الدنيا، ألا وإنّ فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة"2.
 
فنهض سوادة بن قيس وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كنّا عائدين من حرب الطائف وكنت تمتطي الجمل، رفعت السوط لتضرب الجمل فأصاب بطني وأنا أريد القصاص، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن احضروا السوط، ورفع قميصه وطلب ردّ القصاص، عندها امتلأت عيون أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دموعاً وامتلأت قلوبهم على سوادة بن قيس، عندها تقدّم سوادة وقبّل بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي تلك اللحظة دعا رسول الله له وقال: "اللهم اعف عن سوادة بن قيس، كما عفا عن نبيّك محمّد"3.
 
يعلّق الإمام الخمينيّ فدس سره على هذه الحادثة فيقول:
 
 

1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 335.
2- تاريخ الطبري، ج 3، ص 19.
3- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 1، ص 235.
 
 
 
 
 
 
 
73

58

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 "إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آواخر عمره قال: إذا كان لكم أيّ حقٍّ عليّ فتقدّموا وخذوه، فانبرى أحد المسلمين قائلاً: يوجد لديّ حقّ عليك، في يوم من الأيّام وقع سوطك على كتفي، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعال واقتصّ منّي اضربني كما ضربتك.

 
فقال الرجل اكشف لي عن كتفك، فقد كان كتفي مكشوفاً فكشف له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن كتفه، فتقدّم العربي وقبّل كتف الرسول المباركة. أيّ ديمقراطيّة هذه، وأيّ سلطان عدل وأيّ رئيس دولة يعطي هذا الحقّ"1.
 
 
 
 

1- كوثر، خلاصة أقوال الإمام الخميني قدس سره، ج1، ص 157.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

59

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

  المصادر 

 
ـ آداب الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره، الطبعة الثالثة، 1372ش.

ـ الآمالي، الشيخ الصدوق (محمد بن بابويه القمّي)، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، 1400ق.

ـ الاحتجاج على أهل اللجاج، أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، مكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1383ش.

ـ الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، عبد الرحمان السيوطي، بيروت، دار الفكر، 1981م.

ـ الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد، بيروت، دار صادر.

ـ المغازي، الواقدي، بيروت، عالم الكتاب، الطبعة الثانية.

ـ الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره، الطبعة الخامسة، 1376ش.

ـ بحار الأنوار، العلّامة محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، الطبعة الثانية، 1403ق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

60

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 ـ تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني، انتشارات جامعة المدرسين في قم، الطبعة الثانية.


ـ تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، انتشارات إسلامية، الطبعة الرابعة.

ـ تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1985م.

ـ تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك)، أبو جعفر محمد بن جديد الطبري، بيروت، 1987م.

ـ سرُّ الصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره ، بيام آزادى، طهران، الطبعة الأولى، 1360ش، النسخة الفارسية.

ـ سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلمّ عند الإمام الخمينيّ قدس سره، مصطفى دلشاه تهراني، مؤسسة بزركداشت إمام خميني، طهران 1385ش. (النسخة الفارسية).

ـ سمات المعصومين في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، تبيان، كتاب 12، الطبعة الثالثة. (النسخة الفارسية).

ـ سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلمّ، السيّد محمّد حسين الطبطبائي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قمّ، رمضان 1419.

ـ شرح جنود العقل والجهل، الإمام الخمينيّ قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره، طهران، الطبعة الخامسة.

ـ صحيفة الإمام، روح الله الخمينيّ قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر آثار
 
 
 
 
 
 
76

61

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 الإمام الخمينيّ قدس سره، طهران.


ـ صحيح البخاري، الحافظ أبو عبد الله البخاري الجعفي، بيروت، دار القلم، 1992م.

ـ صحيح مسلم، أبو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري، دار إحياء التراث العربي، 1987م.

ـ علل الشرائع، أبو جعفر محمد بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق)، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1386ق.

ـ عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، محمد بن علي بن إبراهيم الإحسائي، مطبعة سيد الشهداء، قم 1403ق.

ـ غرر الحكم ودرر الكلم، الآمدي، دار الكتاب، قم.

ـ فروع الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، دار صعب، بيروت، الطبعة الثالثة.

ـ قصص الأبرار، مرتضى مطهري، انتشارات صدرا، قم، 1339ش.

ـ كحل البصر في سيرة سيد البشر، عباس بن محمد رضا القمي انتشارات الرسول المصطفى، قم، 1404ق.

ـ مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت، الطبعة الثانية.

ـ مكارم الأخلاق، رضى الدين أبو نصر حسن بن فضل الطبرسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1392ق.

ـ مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، انتشارات علامه، قم.
 
 
 
 
 
 
 
77

62

الفصل السابع: المساواة الإسلاميّ في السيرة النبويّة

 ـ مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة المنسوب إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، مؤسسة الأعلمي المطبوعات، بيروت، 1400ق.


ـ نهج البلاغة، مجموعة خطب الإمام علي، صبحي الصالح، قمّ، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره.

ـ ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية، الإمام الخمينيّ قدس سره، طباعة قم، 1356.

ـ وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، دار إحياء التراث العربي، لبنان.
 
 
 
 
 
 
78

63
الرسول الأكرم