الغزو الثقافي والتبادل الثقافي


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-10

النسخة: 0


الكاتب

جمعية مراكز الإمام الخميني الثقافية

مراكز ثقافية تعنى بحفظ نهج الإمام الخميني قدس سره ونشره من خلال إنشاء مراكز متخصصة بإقامة الندوات الفكرية واللقاءات الحوارية للنخب الثقافية والجامعية، وإنشاء المكتبات العامة للمطالعة، وتكريم شخصيات ثقافية، وإقامة دورات فكرية، وتوقيع كتب أدبية وفكرية، وإصدار سلاسل فكرية متنوعة لكبار العلماء والمفكرين.


المقدمة

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

يفترض في الكثير من البحوث انها تتجاوز البديهيات وتكف عن الشروع من الصفر دائماً. ولكن يبدو أن هذا الأمر غير ممكن بالأخص في المسائل التي تُثير جدلاً، فإذا وجدت- مثلاً- مَن لا يزال يناقش في جدوى دوام التحديث وفق النماذج الموروثة التي ألفها عالمنا العربي- الإسلامي من مشروع التحديث الغربي، ومَن لا يزال يشك في ان أزمة الديمقراطية وحقوق الإنسان تعود أصلاً إلى أزمة الشرعية السياسية في المنطقة، وإذا رأيت من لا يزال يجادل في دور الثقافة والمثقف متغافلاً عن أزمة الثقافة والمثقف التي يمكن أن تنتهي أهم عناصرها إلى مخلفات التكوين وطبيعة علاقة المثقف مع السلطة والمجتمع، إذا رأيت من يتجاوز كل ذلك في هذه القضايا ونظائرها، فانك تحس بالحاجة إلى تأكيد البديهيات والتذكير بها وأحياناً اثباتها والبرهنة عليها، وقد قيل: من أشكل المشكلات اثبات البديهيات.

في قضية مثل الغزو الثقافي نجد أنفسنا مضطرين للانطلاق من تأكيد البديهيات والتذكير بها قبل أن ندخل إلى التحليل، لاسيّما مع تشابك وجهات النظر التي يذهب بعضها إلى ان القضية متكلفة ومبالغ 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

 فيها، أو انها وهمية مصطنعة، إذ لا مجال في عالم اليوم الذي تتواصل فيه الثقافات وتتفاعل انماط السلوك الإنساني للحديث عن "غزو ثقافي" بالأخص بعد أن سقطت الجدران والأسوار الحديدية التي كانت تحيط ببعض البلدان "ولم يعد أحد بقادر على رفع سياج حول بلده" على حد تعبير إدغار بيزاني مدير معهد العالم العربي في حديث له عن جانب من جوانب القضية1.

 
إلتباسان
 
يبدو ان هناك التباسين لعبا دورهما في تعويم قضية الغزو الثقافي الذي يتعرض له العالم العربي- الإسلامي عامة، ليس من الآن وانما من يوم أن فقد مؤهلات القدرة والقوة والمعرفة وصار أسير الضعف والتبعيات. وبقدر ما يبدو هذان الالتباسان شكليان إلاّ ان لهما الدور المهم في دفع التيار الناكر للغزو إلى التشنج وأحياناً السخرية التي لا يمكن أن تعود إلاّ بالضرر على الجميع.
 
والالتباسان هذان، هما:
أولاً: ان الإسلاميين هُم الذين تبنّوا قضية الغزو الثقافي وحملوا رايتها باكراً. ومفاد مقالتهم انَّ العالم العربي- الإسلامي واقع في معرض مخططات الغرب وأهدافه لاستلاب مجتمعاته والنيل من دينها وقيمها وثقافتها وسلوكها وهويتها، وان الغرب يهدف من الغزو ابقاء سمة التخلف مستمرة في هذا الجزء من العالم.
 
 
 
 

1- مجلة فلسطين الثورة، العدد الصادر بتاريخ 28 آذار 1993 تقرير عن مؤتمر راما للسمعيات البصرية الذي عقد في باريس.
 
 
 
 
 
 
 
6

 


2

المقدمة

 ثانياً: ان الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم تكاد أن تكون الدولة الوحيدة من بلاد العالم الإسلامي التي تتبنّى القضية رسمياً وتحمل رايتها وتدعو لمواجهة التغريب وموجات الغزو على أساس تخطيط جاد وموحد تقف من ورائه دولة.


فرفع الإسلاميين لشعار القضية وتبنّي إيران لها اليوم هما سببان ألّبا الذهنية العامة لبعض الاتجاهات الثقافية والرسمية، حتى باتت لا تنظر إليها في حجمها الحقيقي ولا تمنحها الاهتمام الذي تستحقه. بل ذهبت بعض التيارات الثقافية في المنطقة العربية- الإسلامية لحمل قضية الغزو الثقافي في طرح الإسلاميين، على انها قضية آيديولوجية غير واقعية تُرفع كشعار في ادارة الإسلاميين لمعركتهم الفكرية والاجتماعية مع الاتجاهات الأُخر وبالذات الاتجاهات العلمانية.

وفي مسألة إيران ذهبت الأغلبية إلى ان القادة الفكريين والسياسيين في البلد مدفوعون لطرح قضية الغزو الثقافي كشعار أيضاً يهدف إلى دوام أوار المعركة بين مشروع الثورة الإسلامية والمشروع الغربي، وخلصوا ببساطة عجيبة إلى ان الطرح في إيران هو الآخر طرح آيديولوجي (غير واقعي أو مضخّم على أقل تقدير، يستبطن غير ما يعلن) يهدف تحقيق غايات سياسية واجتماعية، وان الغزو الثقافي مسألة وهمية مختلقة لا اثر لها ولا وجود في الواقع الخارجي، وهي لا تعدو أن تكون أداة وحسب.

من المؤكد اننا نتفهم بعض المواقف التي انطلقت من الآخرين وهي تقر بالغزو الثقافي كقضية حقيقية لها واقعها وأطرافها، بيد انها لم تبغ الاصطفاف مع الإسلاميين خشية مما سجلته بعض أطروحاتهم 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

 من ضيق نظر في رفض كل شيء والتنكر لجميع الرؤى بذريعة الغزو الثقافي، حتى غدا الغزو الثقافي- في بعض أطروحات الإسلاميين- تهمة جاهزة للحدّ من التفاعل الثقافي في الخلاق وقيداً على الابداع، وتبريراً للانزواء والتقوقع، ومثابة لتسويغ الكسل عن العمل الثقافي الجاد الذي تحتاج إليه مجتمعاتنا.


لطمأنة هؤلاء ستطالعنا هذه الرؤية التي يضمها الكتاب بنصوص صريحة أكدت مراراً ان الغزو الثقافي لا ينبغي ان يتحوّل إلى حربة لضرب التفاعل المشروع وضروب الابداع، ولا أن يكون قيداً على التبادل الثقافي المتكافىء مع العالم، كما لا يجوز ان يتحوّل إلى ذريعة لتبرير الكسل عن الانتاج الثقافي والاكتفاء بما هو موجود والانكفاء في دائرة العزلة والتقوقع.

اطروحات الآخرين

لكي نعالج الالتباسين الآنفين سوف نختار طريقاً سهلاً وموضوعياً في اعادة بناء القضية. فبدلاً من أن ندخل في نقاش مع الآخرين حيال ما يسوقه الإسلاميون من حجج وبراهين وما يستندون إليه من وقائع في الحديث عن الغزو الثقافي سواء تعلق الأمر بإيران أو ببلدان العالم الإسلامي الأُخرى، بدلاً من ذلك كلّه سنوجه أنظار الرافضين لوجود الغزو الثقافي، وأُولئك المتحاملين على الإسلاميين وهم يرمونهم باختلاق القضية لتحقيق أغراض آيديولوجية تفرضها ظروف الصراع الداخلي مع التيارات الأُخر، إلى بلدان أُخرى من العالم تشاركنا رفع شعار الغزو الثقافي، وتتبنى القضية بشكل جاد وبحساسية ربما توازي 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

المقدمة

 في بعض البلدان (كفرنسا وألمانيا من البلدان الأوربية) درجة الحساسية التي بلغتها القضية في منطقتنا. فببساطة تعضدها الوقائع والأرقام نجد ان أُوربا تتحدّث صراحة عن غزو ثقافي أمريكي، برغم ان أوروبا تشترك مع أمريكا في بناء حضاري موحد. ليس هذا وحده، انما تكتسب قضية الغزو الثقافي الأمريكي لأوروبا أهمية استثنائية متزايدة في بلدين: الأول فرنسا، والثاني ألمانيا.


وبالنسبة إلى روسيا- وهي مركز من مراكز القوة العالمية لا يُستهان به- نلمس عموماً وجود تيار مهم في محتواه الثقافي والفكري وفي مضمونه الاجتماعي والسياسي يحذّر من الغزو الثقافي الأمريكي بل حتى الأوروبي، وينبّه إلى المخاطر الشديدة المترتبة على الانفتاح، ويدعو في المقابل إلى احياء الهوية والثقافة السلافية بحيث تكون هي المنحدر الذي تلتقي فيه الأُمة الروسية في بناء هويتها المتميزة وذاتيتها وثقافتها الخاصة.

ضمن هذه الرؤية بالذات، وليس لأسباب اقتصادية محضة- كما درجت العادة في قول ذلك- تتوزع الاتجاهات السياسية في روسيا، بين تيارين، يدعو الأول للانفتاح على أمريكا وأوروبا دون أن يبدي حساسية خاصة بشأن مسألة الثقافة القومية والهوية والانتماء السلافيين، فيما يدعو الثاني لالتزام النزعة القومية المحضة كأسلوب من أساليب حماية الثقافة والذات القومية.

هذا في أوروبا وروسيا، أمّا في اليابان، فانَّ الياباني قد يسمح- قد سمح فعلاً- ضمن تكتيكات السياسة والمصالح الاقتصادية الوطنية بتحوّل نسبي لميزان التبادل التجاري مع أمريكا ومع أوربا، بيد انه لا
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المقدمة

 يسمح باختراق منظومته الثقافية والقيمية الخاصة التي ما برحت تجمع اليابانيين في اطار نسيج اجتماعي متين، ما يزال يستعصي على أدوات الاختراق الأمريكي- الأوروبي. فما لبث الياباني مع كل التقدم الذي أحرزه البلد وبرغم مظاهر التحديث والأوربة والأمركة منشداً إلى ثقافته الخاصة، وما يزال الأمريكي يعيش حيرة كبيرة في فهم هذا اللغز: كيف يكون الياباني بمثل هذه الذهنية الخلاقة في الانتاج والتقنية، وبمثل هذه القدرة المذهلة في التأقلم مع مظاهر التحديث الطاغية، وإلى جوار ذلك يعيش هذا الاصرار الكبير على الالتحام مع ثقافته الخاصة وتقاليده وأعرافه.


وإذا تركنا هذا الصف من العالم المتقدم ونظرنا إلى الرقعة التي يطلق عليها العالم الثالث واعتبرناالصين- تجاوزاً- في عداده، لرأينا ان بقاعاً كثيرة من هذه الرقعة الممتدة تتحدث عن مخاطر الغزو الثقافي وتؤكد في مقابل ذلك على نزوعات خاصة للهوية والذات والثقافة القومية تلجأ إليها وتحتمي بها.

يتبيّن من حصيلة العرض السريع ان قضية الغزو الثقافي هي قضية واقعية حقيقية يعيشها العالم على مستوى عالمي. وهي من ثمَّ لا تقتصر على إيران وحدها ولا على الإسلاميين دون خلق اللَّه الآخرين!

الفوارق

الذي يبدو من سياق هذا العرض ان أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تطرح حتى الآن شعار الغزو الثقافي ولا تعاني من قضية على هذا المستوى. والباعث لذلك ليست أسباب نفسية وتأريخية كما 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

المقدمة

 اعتدنا أن نقول، حيث تفتقد أمريكا إلى العمق الحضاري والهوية التأريخية المتميزة اللتين تخشا عليهما ازاء تهديدات الثقافات الأُخرى، وحسب، وانما أيضاً لأنها تملك مقدرات السلطة في مجالات القوة والقدرة والمعرفة، والمتفوق لا يطرح عادة شعار الغزو ولا يهابه، بل هو الذي يغزو.


وهذه حقيقة ينبغي أن تكون حاضرة في وعينا، وعلينا أن لا نغيّبها وسط لغة الشكوى والتظلم والبكاء على الأمجاد التأريخية الدارسة، فلا سبيل إلى صدّ الغزو الثقافي، إلاّ بتحقيق شروط النهضة واحراز التقدم على الصعيد الموضوعي. ورحم اللَّه السيد محمد حسين الطباطبائي المفسّر القرآني الكبير، حيث كتب: "وانما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية، من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عي ولا نصب، ولا تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد، والمسعى قد يخيب، ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية.

أجل، لا فرق بين المشروع سواء أكان منحدره من منطلق الخير أو من منطلق الشرّ، فكلاهما يحتاج إلى الهمة والتوفر على اسبابه الموضوعية التي تحرز الغلبة وتضمن التفوق فيه.

وعودة مجدّدة إلى السياق حيث نجد ان الكثير من بلدان العالم من بينها دول متقدمة تشاركنا الحديث عن الغزو الثقافي. أجل، ما يختلف هو مستوى الطرح وطبيعة فهم القضية وزاوية النظر إليها، مضافاً لتفاوت البواعث والمبررات. فحين نرى المانيا تهتم بموضوع الغزو الثقافي الأمريكي بالذات، علينا ان لا ننس تلك النزعة التأريخية في 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المقدمة

 هذا البلد العريق إلى هوية المانية تكون قاعدة ومظلة ليست للحضارة الأوروبية وحدها وانما للعالم أجمع. وهذا النزوع تغلّف في حياة الألمان بالفلسفة والفكر والسياسة حيث أُصطنعت تيارات فلسفية وفكرية لتبريره.


في فرنسا يترافق الحديث المكثّف عن مخاطر الغزو الثقافي الأمريكي مع نزعة مماثلة تعبِّر الفرانكفونية عن أحد مظاهرها.

وفي العالم الإسلامي يتلازم الحديث عن الغزو الثقافي الآخر مع نزوع لتأكيد الهوية الإسلامية، ليس ذلك وحسب، بل اعتبار الإسلام قاعدة لنهوض العالم الإسلامي، ومنطلقاً لاشعاع قيم الخير والإنسانية على العالم أجمع، كون الإسلام وحي اللَّه وآخر رسالات السماء إلى الأرض.

هذه كلها- وثَمَّ غيرها أيضاً- فوارق موجودة لا مجال لانكارها والنظر لقضية الغزو من خلال رؤية نمطية واحدة. وما يهمنا منها هو دلالتها الأكيدة على وجود قضية واقعية وحقيقية تتداولها بلدان العالم تحت عنوان: الغزو الثقافي.

وإليكم فرنسا كمثال يسبق حتى المثال الإسلامي في إيران.

المثال الفرنسي

المثال الفرنسي في حديثه عن محاولات الغزو الثقافي الأمريكي في سلخ الهوية الثقافية المميزة لفرنسا وأوروبا، يعطينا بكثافة معطياته من أرقام وشهادات رجال الفكر والسياسة، صور جلية وواضحة وبالألوان أيضاً عن تقاسيم الموضوع الذي نتحدث عنه.
 
 
 
 
 
 
12

8

المقدمة

 تشير بعض الدراسات ان موضوع الغزو الثقافي طرق الساحة الأوروبية للمرة الأولى مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي فتحت أبواب القارة على المشاريع الأمريكية.

 
وفي نهاية السبعينات صدرت كتب فرنسية متعددة عن الموضوع، من بينها "الحرب الثقافية" لهنري غوبار، و"فرنسا المستعمَرة" (بفتح الميم) لجاك تيبو. وفي مطلع الثمانينات شرعت الصحف الفرنسية بسلسلة من المعالجات باتجاه القضية، كان من بينها المقال الذي كتبه رئيس تحرير لوموند (عدد 4/7/1980) بعنوان: "حيث تنتصر أمريكا".
 
ماذا أرادت ان تقول الأصوات الفرنسية من خلال ذلك؟ يجيب دارس عربي عن السؤال: "ان القاسم المشترك الأعظم بينها هو لفت النظر بالحاح وتحذير إلى مخاطر الغزو الثقافي الأمريكي على فرنسا والدول الأوربية الأُخرى، وتهديدها لهوياتها الثقافية ومسخها التدريجي للمواطن الأوروبي ليصبح تدريجياً عاشقاً ومقلداً لنموذج الحياة الأمريكي، ببنطلون "الجينز" والثياب المزركشة والكوكاكولا والهامبرغر و"الديسكو" الصاخبة، و"السوبرمان" والعنف والانحلال الجنسي والعبثية واللامبالاة والضياع، وليكون ضحية الاعلانات التجارية المثيرة"1.
 
 
 

1- الغزو الثقافي ومقاومته، الدكتور عزيز الحاج، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983، ص20. سنعتمد على الكتاب في نقل بعض النصوص، ومؤلفه، بالمناسبة، لا يمت للإسلاميين بصلة، بل بدأ شيوعياً قبل أن يتحول الى صفوف البعث العراقي، والمهم أنه استفاد من سنوات مكوثه في باريس ممثلاً للعراق في اليونيسكو ليكتب بعض فصول كتابه المشار إليه.
 
 
 
 
 
 
 
13

9

المقدمة

 أما غوبار مؤلف كتاب "الحرب الثقافية" فيستخدم تعبير "المطرقة الثقافية الأمريكية" التي ما فتئت تضرب وتدق منذ عام 5491، حتى تحقق ما يراه استسلاماً ثقافياً فرنسياً وأوروبياً في كل ميدان. ثم يضيف: وباسم "الجديد.. الجديد دائماً" يتم استيراد آخر التقليعات الثقافية الأمريكية1.

 
وفي مكان آخر من كتابه يسجّل مؤلف "الحرب الثقافية" انَّ "هذه الحرب هي أخطر والعن من الحرب الساخنة، لأن الأخيرة تعبىء الجماهير بينما الأولى تشل الارادات حيث تتسلل بمكر وتدريجياً، وتدق بمطرقتها بالحاح واستمرار على الأذهان والعقول والأذواق فتسممها ليصبح المرء عبد قيم وأخلاقيات مستوردة غريبة". ازاء ذلك أصبح "استسلام الأوربيين أمام طريقة الحياة الأمريكية يتجلى في كل مكان: في أسلوب الاستهلاك والملبس ووسائل اللهو، وحتى في الجامعة2.
 
وفي مقال رئيس تحرير لوموند تجد ما يشير إلى مصاعب أمريكا العالمية، ولكن باستثناء الميدان الثقافي الذي تتقدم فيه "فلغتها وقيمها ونتاجاتها الثقافية والفنية أخذت تهدّد بلدان العالم كلّه في هويتها الثقافية". ثم تستمر الدراسات بعد ذلك بذكر معطيات خطيرة عن هيمنة اللغة الأمريكية (الانجليزية) على الفضاء الثقافي والعلمي في فرنسا حيث 60% من الباحثين في البلدان الناطقة بالفرنسية يستعملون مصادر انكليزية، وان من (615) بحثاً أعده (586) باحثاً فرنسياً لم ينشر منها بالفرنسية غير (142) فقط.
 
 
 
 

1- المصدر السابق، ص22.
2- الحرب الثقافية، هني غوبار، عن الغزو الثقافي ومقاومته، ص20.
 
 
 
 
 
 
14

10

المقدمة

 وبعد اللغة يستعرض جوانب الموسيقى والفن والغناء والسينما والاذاعة والتلفزيون.

 
ثم يخلص هؤلاء الباحثون في تحليل بنية الغزو الثقافي الأمريكي، إلى أنه لا يعود إلى أسباب التفوق التقني، وانما "لأنَّ هذه الهيمنة هي نتاج سلطان جهاز اقتصادي وقوة نظام آيديولوجي واستراتيجية جيش ثقافي هائل"1.
 
وعلى الصعيد السياسي الرسمي أبدى الرئيس الفرنسي ديستان في نيسان 1976 قلقه لتدهور الانتاج الفرنسي التلفزيوني وطغيان الانتـــاج الأمريكـي فــي التلفزيـــون الفرنسـي. وفــي حـزيران 1979 حذّر تقريـر لمجلـس الشيـوخ الفرنسـي من عواقب الوضـع السـيء للتلفزيـون الفرنسي اثر أمركــة البرامـج التلفزيونيـة كأحــد أهــم أسبـاب المشكلة.
 
وفي تشرين الأول عام 1989 شهدت باريس اجتماعاً لخبراء ومختصين في الاعلام بحثوا إمكانية وضع حد للتدفق الثقافي الأمريكي احادي الجانب الذي ينهمر خلال الشبكات الفرنسية. وفي هذا الاجتماع شارك الرئيس ميتران بكلمة أعرب فيها عن خشيته على الهوية الفرنسية والأوروبية وقال: انها في خطر، فمن مجموع (125) ألف ساعة بث تلفزيوني فرنسي لا تزيد حصة الانتاج الفرنسي على (20) ألف ساعة فقط والباقي أمريكي2.
 
 
 
 

1- تنظر المعطيات في: الغزو الثقافي ومقاومته، مصدر سابق، ص22- 28.
2- مجلة كيان، العدد الأول، تشرين الأول 1991، ندوة عن الهجوم الثقافي شارك فيها حسين قوتلي، طلال عتريسي، ميشيل نوفل وأحمد موصللي، ص6، بالفارسية.
 
 
 
 
 
 
 
15

11

المقدمة

 وآخر رقم نقتبسه من مؤتمر مؤسسة راما التي انشأت عام 1990 للعمل في مجال "السمعيات البصرية والسينما" حيث اشار ادغار بيزاني رئيس معهد العالم العربي (مؤسسة فرنسية) في مؤتمر عقد في باريس في آذار 1993، ان فرنسا تتعرض هي الأُخرى- كالعالم العربي- إلى الغزو الأمريكي في المجال السمعي البصري. بل ذهب وزير خارجية فرنسا الأسبق كلود شيسون في كلمته إلى القول نصاً: "اننا- العرب والفرنسيين- نواجه مأزقاً متشابهاً بفعل الأمريكان، فما علينا إلاّ أن نوحد جهودنا لنوجد حالة توازن وتعاون وانفتاح متزن، بدلاً من التقوقع أو الاستمرار فقط بالتذمر، وانما يجب أخذ المبادرة وذلك قبل فوات الأوان"1.

 
تحديدات ضرورية
 
نسعى في هذه الفقرة ان نعطي خلفية ولو إجمالية لمقولة الغزو الثقافي كما أُثيرت وتبلورت في إيران خلال السنوات الأخيرة. ففي 6- حزيران- 1992 التقى آية اللَّه السيد علي الخامنئي بجمع من المفكرين والباحثين والمسؤولين في الأجهزة الثقافية والفنية والإعلامية، وقد دار الحديث في هذا اللقاء عن الغزو الثقافي بلغة صريحة دالة وأرقام مبسوطة.
 
لنا أن نوضح ان حديث السيد الخامنئي هذا جاء إثر احتدام النقاش في وسائل الاعلام الداخلية عن شيوع مظاهر مكثّفة في 
 
 
 
 

1- مجلة فلسطين الثورة، العدد الصادر بتاريخ 28- آذار- 1993، ملخص عن المؤتمر.

 
 
 
 
 
 
16

12

المقدمة

 الشارع هي خلاف قيم المجتمع وفي تعارض مع مشروع الثورة الإسلامية، مضافاً إلى انها تعكس مظاهر بارزة للتغريب.

 
ورغم ان حديث آية اللَّه السيد الخامنئي فتح المجال لتناول أكثر صراحة وجرأة لموضوع الغزو الثقافي ودوره في تشويه السلوك الاجتماعي وهدر طاقات الشباب أو تحييدها، إلاّ ان الاطار العام للقضية بقي في حدود النقاط التالية:
 
أولاً: يبدو بديهياً ان تكون إيران التي يقوم كيانها السياسي على مشروع الثورة الإسلامية مستهدفة بفعل غربي، وذلك على قاعدة الصراع بين الإسلام والغرب الذي يُفسّر بدوره في ضوء التضاد بين الفكرين والثقافتين الغربية والإسلامية. وهذا الاستهداف سيكون ناجزاً ما دامت إيران متمسكة بمبادىء نهضة الإمام الخميني، تطرّد نسبته مع قدر الالتزام بمنطلقات الفكر الخميني، ويخف بمقدار الابتعاد عن ذلك الفكر.
 
ثانياً: ازدادت الهجمة الثقافية واكتسبت طابع الخطة المبرمجة بعد نهاية حرب السنوات الثماني. وبذلك يكتب أحد الدارسين لمقولة الغزو الثقافي: "لم يكن هدوء صوت المدافع ليعلن عن نهاية الحرب، بل كان اشارة إلى بداية الحرب الحقيقية"1.
 
وهذا أمر طبيعي ونتيجة منطقية للنقطة الأولى، فلطالما ظلت إيران مشروعاً قائماً على أساس الإسلام ومرتكزات الفكر الخميني 
 
 
 

1- تهاجم فرهنكي ونقش تاريخي روشنفكران الغزو الثقافي والدور التاريخي للمثقفين، اسماعيل شفيعي سروستاني، مؤسسة كيهان للصحافة، طهران 1993، ص5، بالفارسية.
 
 
 
 
 
 
 
17

13

المقدمة

 سيتواصل استهدافها، وسيكون تخفيف الضغط عنها علامة على ابتعادها عن مرتكزات الفكر الخميني.


ثالثاً: في الأوقات العادية يكون من السهل التمييز بين الأفكار والمواقف والمصطلحات، بيد ان الأمر يتطلب جهوداً مضاعفة في أوقات الأزمة. وفي المسألة الثقافية حصل خلط كبير- ولا يزال- بين الغزو الثقافي والتبادل الثقافي، فبقدر ما ان الأول هو خطيئة تحتاج إلى كفاح ومواجهة فانَّ الثاني فضيلة تحتاج إلى ان تدخل حياتنا الثقافية.

لذلك دأبت الأطراف المعنية- وبالأخص الرؤية التي يحويها هذا الكتاب- إلى التزام الحذر على أساس التمييز بين الغزو والتبادل، وألاّ يُصار إلى الرفض المطلق وتبرير حالات الكسل والتقاعس باسـم الخوف من الغزو الثقافي، ولا أيضاً تحويل المقولة إلى عصا غليظة يهوى بها على الرؤوس لقمع الابداع والحدّ من الحريات وتسويغ الجمود والتقوقع، تماماً كما من الضروري أن لا يورّط المجتمع بمتاهات مظلمة باسم الانفتاح والتبادل الثقافيين. فحالتا التطرف مرفوضتان كلتاهما.

رابعاً: يتحرك الغزو الثقافي في أوساط المجتمع الإيراني عبر جبهتين. في الداخل عبر النخب الثقافية التي تنحدر من ذات المبادىء التي نهضت بها النخبة الثقافية في التاريخ الإيراني الحديث منذ قرن ونصف تقريباً. ومن الخارج عبر التهديدات الثقافية الغربية لقيم وسلوك المجتمع في الثقافة والسلوك الاجتماعي وفي الاقتصاد أيضاً عبر طغيان النزعة الاستهلاكية.
 
 
 
 
 
 
 
 
18

14

المقدمة

 وقد لاقا العاملان الداخلي والخارجي أرضية مساعدة في أجواء إقتصاد السوق الذي ازدهر خلال السنوات الأخيرة، وراح يُعزز ذات النتائج الخطرة التي يستبطنها هذا النمط من الممارسة الاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية علاوة على نتائج إضافية ناتجة عن الطابع الطفيلي القشري لهذه الممارسة التي بقيت على السطح واكتست طابعاً مظهرياً في بعض أجزائها لعدم توافر إمكانات تحقيقها في العمق1.

 
خامساً: الذي يسترعي الانتباه ان الخطر الثقافي وهو يصدر من الجبهتين لا يمثل تهديداً يعتد به على الصعيد الفكري المباشر، وانما تنصب نتائجه في تأثيرات بليغة على السلوك الاجتماعي وبالأخص فئات الشباب في العاصمة والمدن الكبرى.
 
ومرد ذلك ثقافياً يعود أولاً إلى طبيعة فكر النخبة، ففكر النخبة محدود التأثير على الدوام لا يتسم بالمرونة ويفتقر في الغالب إلى العملية والوضوح، لذلك لا تستسيغه الجماهير العريضة ولا تتفاعل معه.
 
 
 

1- سجل السيد مير حسين الموسوي رئيس وزراء الجمهورية الاسلامية في سني الحرب، اشارات تحليلية ونقدية نافذة لتبعات اقتصاد السوق وسياسة الانفتاح الاقتصادي على الصعيدين الاجتماعي والثقافي في مدارسة مهمة أثارت أصداء واسعة ونشرت كاملة في بعض الصحف من بينها كيهان هوائي، بالفارسية، العدد الصادر بتاريخ 11- آذار- 1998.
 فقد أشارت في مدارسته الى التحولات التي أصابت نظام القيم في المجتمع كأثر مباشر لاقتصاد السوق، حيث ترسخت التوجهات الى أصالة اللذة. وطغت النزعة الاستهلاكية من دون أن تملك الوضعية الاقتصادية للبلد إمكانات الاستجابة لمتطلباتها على نحو عادل بين جميع أبناء الشعب، مما قاد- كأثر إضافي- الى بروز تشققات اجتماعية حادة بين من يملك الثروة الكافية للاستجابة الى النزعة الاستهلاكية وبين من لا يملك.
 
 
 
 
 
 
 
 
19

15

المقدمة

 وفكر النخبة الثقافية في إيران لا يختلف عن غيره، بل يزداد عجزه وانحساره ويفقد قدرته على أن يتحول إلى تيار مؤثر في فكر الناس إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجوانب الأُخرى.


وأما ثانياً: فإنَّ المجتمع الإيراني يسجّل بحصيلة المقاييس المتوفرة خصوصية واضحة في الالتزام الديني والارتباط المذهبي والولاء للفقهاء والعلماء. وعناصر مثل هذه الخصوصية وفرت بشكل عام جداراً عازلاً حال دون تأثير فكر النخبة التغريبي على عقول الناس، وان كان التغريب قد نفذ عبر المظاهر السلوكية. 

وهذا العامل ربما يفسّر لنا بعض مظاهر الازدواج التي تجمع في الشخص الواحد بين العقيدة الإيمانية والولاء المذهبي والديني وبين مظاهر السلوك التغريبي.

هذا على الصعيد الثقافي، وأما على الصعيد الاقتصادي فان السبب وراء تراجع الصبغة الفكرية للغزو الثقافي وتأكد مظاهره السلوكية ورسوخها بين الشباب خاصة في العاصمة والمدن الكبرى، فيعود إلى الازدهار المالي، حيث تستقطب العاصمة ومراكز المدن الكبرى قدراً كبيراً من الانشطة الاقتصادية حتى لو كانت طفيلية وكاذبة. وفي ظل هذا الازدهار تتدفق الأموال التي تجلب مع غياب الانفاق الرشيد مظاهر التغريب، وتكون أرضية مساعدة لتضعضع الالتزام وتصدع المنظومة القيمية، ومن ثم رواج المظاهر السلوكية للغزو الثقافي.

السبب الآخر وربما الأهم في عدم اكتساب الغزو الثقافي الداخلي والخارجي لصبغة فكرية في إيران، فيعود في المرحلة الراهنة على
 
 
 
 
 
 
 
20

16

المقدمة

  الأقل، إلى وجود الدولة الإسلامية. فما يهدف إليه الغزو هو خلخلة البناء الاجتماعي لمجتمع الدولة وهزّ الثقة في صحة الاختيار الإسلامي الماثل في الكيان السياسي الراهن.


ومعنى ذلك ان المعركة تستهدف تحقيق أغراض عملية، لذلك يتوجه الغزو إلى الواقع مباشرة ليقارع الدولة على أرضها ويحاول ضربها في مواطن قوتها. بعبارة أوضح، يهدف الغزو تحييد قطاعات من الشعب ولا سيّما قطاعات الشباب وعزلها عن الدولة من خلال تحويلها إلى فئات عاطلة فاسدة ومخربة أيضاً.

والمعركة حين تبلغ هذه المرحلة تكون خطيرة، لأن الصراع على الأرض مباشرة، والإنسان عرضة لاغراءات عملية ولإفساد سلوكي، لا يفلح الفكر لوحده في مواجهته بل لابدّ من تحصين الأرض، وتأمين حاجات المجتمع كي لا ينفلت الإنسان ولا ينهزم أمام غزو الواقع.

من هنا لا يكفي في مواجهة هذا الضرب من الغزو ان نتحدث فقط عن دوافعه ووسائله، ولا أن نؤلف الكتب نمجّد فيها بالإسلام وندين الغرب، فهذه جميعاً وسائل تدخل في شروط المرحلة الأولى في صدّ الغزو. أما المرحلة التالية فهي تحتاج إلى عمل وإلى انجازات يشهدها الواقع على الأرض ويستفيد منها الإنسان مُباشرة.

فالشباب الذي تحاصره أفلام الفيديو وتنهمر عليه الصور الماجنة في المدرسة والشارع وخلوات البيت، وتوفر بين يديه أنواع المخدرات، يحتاج حتى يملك الضمانة لعدم الانحدار في شباك العدو، إلى شروط موضوعية وأعمال ناجزة على أرض الواقع، من زواج وعمل ورفاه معقول، بالاضافة إلى الحصانة الأخلاقية والوازع الديني، بل لنقل إنَّ 
 
 
 
 
 
 
21

17

المقدمة

 الوازع الديني والحصانة الأخلاقية يتصلبان من خلال الشروط الموضوعية وعبرها.


هذه هي القاعدة العامة التي تحكم المساحة العريضة من الناس، وان كان للاستثناءات موقعها.

ولاستهداف الغزو الثقافي سلوك الإنسان على الأرض، ولأنَّ الخطة الغربية ترمي زعزعة ثقة الإنسان الإيراني بكيانه السياسي القائم في محاولة لتذويب قناعته بجدوى المشروع الخميني، نجد ان تأثيرات هذا الغزو تكاد تنحصر راهناً على محيط العاصمة والجامعات والشرائح الممعنة في الطابع المدني وبالذات في المدن الكبرى، تساعد على امتدادها النتائج الطفيلية لاقتصاد السوق. أما الفئات الاجتماعية العريضة في الأرياف والمدن الصغيرة فلا زالت ثقافة التغريب وتأثيرات الغزو الثقافي عاجزة حتى اللحظة عن اختراقها.

هذه النقاط الخمسة توجز لنا محددات القضية التي تشتهر في إيران الآن بقضية الغزو الثقافي.

معنى الغزو الثقافي

طالما كنّا مع الغزو الثقافي أمام ظاهرة اجتماعية وسلوكية أكثر من كوننا أمام حالة فكرية، فاننا سنبتعد عن التحديدات النظرية الصارمة التي تلتزم بها الأُطر الأكاديمية في البحث.

فحين نتحدث عن معنى الغزو الثقافي فلا نبـحث عن تعـريف أكاديمي، وانما نتقصى الظاهـرة كمـا تتحـرك فـي المحيـط الاجتماعي وتعكـس حركتهـا ومضمونهـا بأوضـح مـا يـدل عليهـا. أي اننا نستخدم 
 
 
 
 
 
 
 
22

18

المقدمة

 التعريف لأغراض اجرائية تنفيذية تفي برصد الظواهر وتقريب مضامينـها إلينـا. ولنتذكـر جيـداً ان كتّابـاً مرموقـين كالـذين أشرنا لبعضهم حين تحدثنـا عـن قضيـة الغـزو الثقافـي الأمريكـي للمجتمع الفــرنســي، يكتفــون بمثـــل هـــذه البيانـات الاجرائيـة التـي تفـي بايصال المدلول إلى القارىء. لأن المهم لدى أولئـك التنبيـه إلــى الخطـر، وليس ممارسة استعراض القوة كما هو شأن بعض الباحثين فـي عالمنا الإسلامي الذين اهتموا في القضايا التي يطرقونها بالتأسيس والتأصيل المنهجيين أكثر من اهتمامهم بأزمـة الواقـع ونظرية الحل.


يلخص لنا المسؤول الأول في البلد آية اللَّه السيد علي الخامنئي مؤدّى الغزو الثقافي الذي يتعرض إليه المجتمع الإيراني، بقوله: "أما معنى الهجوم الثقافي فهو أن تشن قوة سياسية أو اقتصادية حرباً على المبادىء الثقافية لشعب من الشعوب، لتنفيذ أهدافها الخاصة والتحكم بمصير ذلك الشعب. انهم يفرضون بالقوة عقائد جديدة على تلك الدولة وعلى شعبها من أجل ترسيخها بدلاً من ثقافة ومعتقدات ذلك الشعب"، ثم يضيف: "الهدف من الهجوم الثقافي هو اجتثاث أصول الثقافة الوطنية والقضاء عليها".

أحمد توكلي الوزير السابق في حكومة المهندس مير حسين الموسوي والمرشح الأقوى الذي نافس الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني في الدورة السادسة لانتخابات الرئاسة (حزيران 1993) وحاز على ثلاثة ملايين صوت، حدّد معنى الغزو ومصداقه في برنامجه الانتخابي على نحو واضح، حين أعاد الغزو إلى طبيعة الصراع بين الإسلام والغرب
 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

المقدمة

  في برنامجه الانتخابي على نحو واضح، بين "ثقافة (إسلامية) تدّعي ان بإمكانها ان تقول كلمة جديدة في عالم اليوم ازاء سلطة الثقافة الغربية المادية وهيمنتها".

 
ثم أوضح انّ هذا الصراع اكتسب بعد انهيار الشيوعية أبعاداً متقدمة. ومن الطبيعي أن تكون إيران المرتبطة بالمشروع الخميني أول ما يُستهدف.
 
من مظاهر الحملة على إيران، التركيز على الجانب الدنيوي المفرط في المعاش، وجرّ المجتمع للروح الاستهلاكية، وتحريك الشهوات واثارتها على صعيد الأخلاق الفردية.
 
وفي الجانب السياسي التركيز على ما يطرح تحت عنوان عجز نظام ولاية الفقيه عن ادارة الدولة، وعدم كفاية الأحكام والقيم الإسلامية في ادارة المجتمع، وبكلمة عدم كفاية المشروع الخميني. وما يعتقده السيد أحمد توكلي، ان العلوم الاجتماعية هي واحدة من ذرائع هؤلاء في تحقيق أهداف هذا الجانب من الغزو1.
 
رئيس الجمهورية السابق هاشمي رفسنجاني وأحد القيادات البارزة في البلد أوضح في مؤتمر صحفي، ان هناك نظرة قاصرة في الداخل تتعامل بسذاجة وسطحية مع قضية الغزو، سواء أكان ذلك على مستوى ادراك بواعث القضية أم على مستوى رصد مظاهرها.
 
والذي يؤكد عليه رفسنجاني وكذلك أكثر من مسؤول بارز في البلد، 
 
 
 

1- مقتبس من نص برنامجه الانتخابي، صحيفة رسالت، العدد الصادر بتاريخ 2 ذي الحجة 1413هـ، بالفارسية.
 
 
 
 
 
 
 
24

20

المقدمة

 ان مظاهر عدم الالتزام الكامل بالحجاب هي ليست الغزو الثقافي، وان كانت بحدّ ذاتها ظاهرة سلبية يمكن أن تكون احدى أدوات الغزو، وانما "المسألة أكثر عمقاً وجذرية من هذا المظهر بكثير. فالغزو يهدف ان يسلبنا شبابنا ويقطعهم عنا من الجذور، ونحن في المجلس الأعلى للثقافة وفي المراكز الأُخرى نحاول أن نواجه الظاهرة بشكل جاد، بيد إنّا نواجه مع الأسف نظرة تتسم بالكثير من السطحية".

 
وعند هذه النقطة- استهداف الشباب- يلتقي الشيخ رفسنجاني مع آية اللَّه الخامنئي الذي يقول صراحة: "لو انهم أرادوا أن يحاصروا الشاب الذي سبق أن ذهب إلى الجبهة، فانهم يعطونه في البداية جهاز فيديو، ثم يثيرون شهوته بوضع الأفلام الجنسية القذرة في متناول يده، ثم يجرّونه إلى عدة مجالس لهو وفجور...، أنا م وليلة إلاّ ونسمع بأخبار من هذا القبيل"1.
 
أما كتاب "الهجوم الثقافي" الصادر عن مؤسسة كيهان الصحفية، فيعطي صورة مجسمة لضخامة النشاط المعادي للمجتمع حين يعكس مصاديق الغزو والنيل من قيم المجتمع واختراق سلوكه، كما يلي: "توزيع ألوف أجهزة الفيديو بالشكل الذي تحوّل فيه هذا الجهاز إلى واحد من المصادر الأصيلة للتغذية الثقافية، وبث الملايين من أفلام الفيديو، ونشر الملايين من المجلات والكتب الأدبية والثقافية التي تعدّ مصداقاً تاماً وبارزاً من مصاديق "كتب الضلال"، وانتشار الحلويات المغلفة 
 
 
 

1- خطاب 6 حزيران 1992، والذي ستأتي ترجمته في هذا الكتاب.
 
 
 
 
 
 
 
25

21

المقدمة

 بصور مبتذلة بين الأطفال والشباب الغافل عما يراد به، وشيوع الملصقات التي تحمل صور مبتذلة لأبطال السينما التجارية التركية والهندية والأمريكية، وطبع العلامات (تجارية أو ملصقات على الملابس والسيارات) التي تحمل دلالات نفي الهوية، وتصميم الأشكال التي ترمز إلى ثقافة الأجنبي، وتحوّل ملابس الأطفال والشباب إلى لوحة اعلان سيّارة، هي جميعها أمثلة بارزة للهجوم الثقافي الذي يهدف إلى قطع الشاب تدريجياً عن هويته المعنوية والوطنية، وأفقاده عنصر الثقة بنفسه والاعتماد على ذاته، وربطه ببهارج دنيا الغرب الملونة حتى يتحوّل الغرب إلى قبلة آمال ينزع إليها ويصبو لها.

 
ومن الطبيعي ان هذا الجيش المهاجم إذا نجح في حملته فسوف لن يحتاج حتى إلى اطلاق رصاصة واحدة"1.
 
حقيقة أم وَهم؟
 
قد يخطر في ذهن البعض ان في الأمر مبالغة ما، وان هذه المظاهر وغيرها هي محطات يمر بها الشباب في حياته قبل أن يرسو على طموحات ناضجة ويبلغ الرشد المطلوب. وقد يتعلل البعض انَّ هذه المظاهر باتت صوراً مألوفة للحياة في المجتمعات الإسلامية في جميع بلاد المسلمين.
 
ولا يتصور البعض ان اشاعة هذه البضاعة الاستهلاكية المفسدة تتم بدوافع تجارية محضة وبهدف استبقاء أكبر قدر من الأرباح دون أن 
 
 
 

1- الهجوم الثقافي والدور التاريخي للثقفيين، مصدر سابق، ص7.
 
 
 
 
 
 
26

22

المقدمة

 تهدف ابتداءً إلى تحقيق مرامي النيل من قيم المجتمع وسلوكه عبر ما يطلق عليه الغزو الثقافي.


أخيراً قد يقال: ان المسألة بكاملها تنطوي على ضرب من التهويل يحاول أن يخفي جوانب التقصير عن النهوض بأعباء البناء والتغيير الثقافي والاجتماعي. 
ومن ثمَّ تحولت هذه المظاهر إلى مجرد وسيلة لتسويغ التقاعس عن الانتاج الثقافي وتوفير شروط الخصوبة الثقافية والاجتماعية في مجتمع المسلمين عامة، ومجتمع الدولة الإسلامية خاصة.

إذا شئنا ان نناقش بعض علامات الاستفهام هذه لاحتجنا أن نعود إلى لغة البديهيات التي طوينا الحديث عنها في بدء هذه المقدمة. وانما نكتفي بالتذكير بما يلي:
1- الغزو الثقافي هو قضية عالمية تعاني منه المجتمعات بأغلبها. وبالنسبة لنا نحن المسلمون، فنحن في مرمى الآخرين، وبالذات في مرمى الحضارة الغربية، لا فرق في أن تكون دوافع الغرب اقتصادية أو حضارية، وانما العبرة بوجود القصد المسبق والخطة المدبّرة، وواقع المجتمعات الإسلامية حتى في أشدّ بلاد المسلمين تقليدية ومحافظة خير شاهد على ما نقول.

2- أما بشأن إيران فأعتقد ان الجميع يعرف ان لها حساباً خاصاً بعد ان فاحت أجواءها بعطر نهضة الإمام روح اللَّه الموسوي الخميني. فالغرب ومن يتحالف ويلتقي معه لا يألوا جهداً في استخدام جميع الوسائل المتاحة للتأثير على التجربة الإسلامية وتذويبها. المطلوب صراحة هو وأد المشروع الخميني والقضاء على الآمال التي أوجدها 
 
 
 
 
 
 
27

23

المقدمة

 في دنيا المسلمين. وكل شيء سينتهي أو يخف إذا ما أيقن الغرب وحلفاؤه ومن يلتقي معه من أي مشرب كان وفي كل مكان، انطفاء شعلة النور التي أوقدها الإمام الخميني.

 
وبعدُ ما أحرانا ان نتمثل كلاماً لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، وهو يهتف بنا "من نام لم يُنم عنه"، فحتى لو كنا في غفلة فان عدونا لن يغفل عنا أبداً.
 
وإذا رغب البعض بمزيد من الأرقام فسأترجم مقطعاً من خطاب أدلى به السيد الخامنئي- وهو المسؤول الأول في البلد- تحدث فيه بصراحة شديدة عن مظاهر الغزو، وعودة هذه المظاهر إلى خطة مدبّرة تتحرك ببواعث غير مالية، حيث قال: "انظروا إلى أعمال هؤلاء المهربين، وتلك الفئة التي توزّع أفلام الفيديو وأشرطة الأفلام الجنسية، والصور والكتب المثيرة للشهوة، ومجلات العري والاثارة، فستجدون انها لا تحقق لهم ربحاً تجارياً. وأنا أقول هذا الكلام من خلال معرفة مباشرة بالحقائق. فالمال والربح يتوافران لهؤلاء من غير هذا الطريق، وانما يقوم هؤلاء بهذه الأعمال تنفيذاً لخطة مدبّرة تهدف بث الفساد واشاعة الشهوة بين المجتمع الإيراني وبالأخص في أوساط الشباب وبين العوائل"1.
 
3- أجل، يبقى من بين الاستفهامات المشار إليها آنفاً، الاستفهام الأخير الذي يتضمن شيئاً كثيراً من الحقيقة. فالجميع يعترف- أو الأغلبية- أنّ قضية الغزو الثقافي سُطّحت في إيران وفي العالم 
 
 
 

1- من خطاب سماحته في يوم الأربعاء، 2 ذي الحجة 1414هـ، تنظر الصحف المحلية.
 
 
 
 
 
 
28

24

المقدمة

 الإسلامي، وانه مازالت هناك أشواط تفصلنا عن تحصين الداخل عبر بنائه وتأمين احتياجاته.


وعلى الصعيد النظري نعترف ان هناك من يريد أن يصطاد في الماء العكر، فيتوارى خلف مقولة الغزو الثقافي لتغطية العجز وتبرير الجمود ومنع التبادل الثقافي المتوازن القائم على أساس النديّة، وضرب الحريات الطبيعية، كما ثَمَّ من يتخفى وراء مقولة التفاعل الثقافي لتذويب مقومات الذات ومرتكزات أصالتها.
لذلك كان لا بدَّ أن نرسم الحدود واضحة بين المقولات انطلاقاً من الرؤية التي يضمها هذا الكتاب.

التفاعل الثقافي والغزو الثقافي

بعضهم يتجاوز الاستفزاز ولا يكتفي به، ويتحوّل إلى الارهاب الفكري وغير الفكري في طرح القضايا الثقافية ذات المساس بالمجتمع. وهؤلاء حين تترقبهم من بعيد تجدهم أحرص الناس على الدعوة إلى الحوار العقلاني والتغنّي بالعقلانية، ولكن حين تقترب منهم وتتفحص مقولاتهم وتفككها جيداً تألفهم ارهابيين من الطراز الأول. فهم يمارسون الارهاب الفكري بأبشع صوره، تارة بالرمي بالتجهيل، وتارة بالتضخيم والتهويل، وتارة ثالثة باقحام مناهج وسوق مصطلحات لا دخل لها بالموضوع، وربما لم يقف كاتبها على محتواها بشكل تام!

موضوع الغزو الثقافي فـي السـاحـة العربيـة وفـي بـلاد المسلـمين تعدّى دائرة الحوار الفاعل ليدخل دائرة المزايدة المشار إليهـا. حصل ذلك على مستوى المقولة ذاتها فيما تدل عليه من مواقف ازاء ثقافة
 
 
 
 
 
 
29

25

المقدمة

 الغرب. إذ لا يمكن الحديث عن الغزو الفكري والثقافي لبلاد المسلمين دون ان يرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً برؤية معينة للغرب عامة ولثقافته وفكره خاصة.


وثَمَّ من يتجافى عن حقائق الواقع لدوافع كرّرنا الاشارة إليها فيما سبق، فيشهّر مقولة ضرورة التفاعل ليواري مقولة الغزو، أو يذهب إلى ان الغزو وسيلة الضعيف للتغطية على صنعه وعجزه، وكأنه بذلك يقدم فتوحات عجز عنها الآخرون!

بديهي ان الغزو يحكي ضعفاً والضعيف هو الذي يغزى. وطبيعي ان هناك من يتوكأ على مقولة الغزو ليبرّر تقاعسه وجموده ليثني حركة الابداع ويحول دون تفتح الحريات وايناعها.

تعيش بلاد المسلمين حال ضعف مشهود لا مجال لانكاره. وهذه الحالة ليست وليدة الساعة بل تتلابس في خلفيتها مجموعة من العوامل. وعلى أرضية الضعف وجد التيار الفكري المضاد طريقه إلى المسلمين وتبلور مصطلح الغزو الثقافي أو الغزو الفكري.

ومع ذلك تجد من يتحرك ضدَّ البداهة ويروم حجب الشمس بغربال.

بديهي نجانب الانصاف إذا وضعنا الجميع في دائرة واحدة دون تمييز. ومع ذلك من المفيد أن نمرّ- سريعاً- على الذين يمارسون ارهاب الفكر بمقولات الفكر وبغيرها، ليحجبوا واقعاً يظل يفرض نفسه على الدوام.

ذهب بعضهم انه لا معنى للغزو الثقافي أو الفكري، ولا معنى للأفكار المستوردة، لأن الغزو مصطلح عسكري، والاستيراد مصطلح اقتصادي!

يكتب أحدهم معبراً عن رأيه: "اني أستبعد مصطلح الغزو لأنه محض عسكري". ثم يوضح: "ان مصطلح الغزو هو عديم القيمة في 
 
 
 
 
 
 
 
30

26

المقدمة

 تفسير العلاقة بين الثقافات والأفكار. فهو مصطلح عسكري ينطوي على معاني القهر والغلبة"1.

 
وتحت عنوان "المسلمون والأفكار المستوردة" يناقش مفكر عربي بارز المصطلح ويردّ عليه بالطريقة التالية: "إن المستورد في الأصل صفة تتعلق بميدان التجارة، والتجارة الخارجية بالذات". ثم يضيف: "والنتيجة التي نخلص إليها من هذه المقدمة هي ان تعبير (الأفكار المستوردة) تعبير مجازي، ينقل إلى ميدان الفكر لفظاً ينتمي في الأصل إلى ميدان الاقتصاد والتبادل التجاري"2.
 
عجيب أمر هؤلاء وهم لا يكفون في لغتهم الحديثة عن استخدام مصطلحات، مثل: حفريات المعرفة، منتجات العقل، تقنيات، آليات، البيئة الفكرية، مع ان الحفريات تختص بعلم الأرض، والمنتجات مصطلح اقتصادي، والتقنيات والآليات من مصطلحات علم الميكانيك، والبيئة من مصطلحات الجغرافيا؟!
 
ويحمل بعضهم على الغزو الثقافي لكونه شعاراً آيديولوجياً يخدم أغراضاً سياسية3، ويغطي على واقع ضعيف، حيث تعدّ المقولة "دليل قصور عقلي وخواء فكري"4.
 
 
 

1- الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكّرة، علي حرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، ن1995 ص211.
2- الصحوة الاسلامية في ميزان العقل، د.فؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، 1985.
3- ينظر صادق جلال العظم في "ذهنية التحريم"، وكمال عبد اللطيف في "التجديد الثقافي: ملاحظات أولية حول مفهوم الغزو الثقافي"، المستقبل العربي.
4- علي حرب، المصدر السابق، ص212.

 
 
 
 
 
31

27

المقدمة

 ولا ندري إذا كان الاستخدام الخاطىء والتوظيف السياسي يغيران من الواقع شيئاً أم لا؟


كل مصطلح مرشح للاستخدام الخاطىء وللتوظيف السياسي أيضاً، بيد ان ذلك لم ولن يمنع البشر من معالجة واقعهم، كما ان التزوير وان كان يحجب الحقائق ويدلس على وعي الناس لزمن، إلاّ انه لا يقوى على تغيير الواقع.

ثم لماذا يستمرىء بعض المثقفين في الساحة، حديثاً عن الهوية يتزايد في المانيا، وآخر في الغزو الأمريكي للثقافة الفرنسية تتصاعد وتيرته باطراد في فرنسا، ويذعن بأصالة اليابان وذاتيتها وخصوصيتها، ولكن ينكر على العالم الإسلامي وعلى المسلمين حقهم في ذلك؟

بشأن هذه الالتباسات وفي طليعتها الفارق بين الغزو والتبادل الثقافيين، والموقف من ثقافة الغرب وعلومه سنقدم رؤية نستمد عناصرها من نصوص الكتاب الذي بين أيدينا.

عناصر الرؤية

لكي نعين القارىء على اختصار المسافة، نشير إلى أهم أفكار الرؤية التي يطويها الكتاب كما يلي:

أولاً: نحن إيرانيون مسلمون، كلمات تتردّد بكثرة في طيّ هذه النصوص. ولكن لا تعني لا الإسلامية ولا الإيرانية ان تنأى عن التعلّم من الآخر. فالآخرون لهم أشياء وأفكار جيدة، وان كان من الأفضل تذويب ما يكتسب من الآخرين في بنية الثقافة الذاتية. نقرأ: "نحن 
 
 
 
 
 
 
32

28

المقدمة

 إيرانيون، علينا إذن ان نبحث عما يرتبط بنا، ونعثر عليه. بديهي هذا لا يعني ان لا نتعلم من محاسن الآخرين، فالإنسان يتعلم مما عند الآخرين من محاسن واشياء جيدة، ولكن من الأفضل ان يذوّب ما يكسبه في ثقافته، ثم يستفيد منه"1.

 
ثانياً: لا ضير من أخذ ثقافة الأخرين بشرط أن نملك حرية الاختيار، وتكون لنا القدرة على الهضم فنأخذ ما ينفعنا "لقد تحدثت مرّة عن الثقافة وقلت لا ضير من أخذ ثقافة الآخرين، ولكن على نحو يتم التمييز بين كيفيتين".
 
الذي نرفضه هو القسر والاجبار في تلقي ثقافة الآخر، وإذا كان الآخر عدواً، فلنا أن نتصور ماذا يدفع لنا من ثقافته.
 
ثالثاً: الغزو الثقافي وان كان يأتي من جهة الغرب، إلاّ انه يتحرك بآليات محلية ويسري ثم يستفحل على أرضية ضعفنا في الداخل. بل لا معنى للغزو من دون ضعفن، فلضعفنا وبضعفنا يتم الغزو، وضعفنا هو أرضية الغازي. وطريق المواجهة لا يتمثل بتشييد السدود وحدها ووضع المتاريس بل بإبداع الفكر وابتكار الحلول وبناء الواقع وتقوية البناء، أي بتجاوز الضعف وتماسك الداخل فكرياً وموضوعياً.
 
رابعاً: ليس لدينا حساسية من الغرب لكونه غرباً، بل نحن نعترف بتقدمه، والأكثر من ذلك بوجود أفكار ومنتجات مفيدة في حضارته، بل نسعى إليها بجد، ولكن بشرط أن نملك حرية الاختيار، لا أن يدفع لنا الآخر ما يشاء، كيف يشاء من ثقافة إستهلاكية مسخ، تأتينا باسم 
 
 
 

1- هذا النص لآية الله الخامنئي، والنصوص الآتية مقتبسة من الكتاب الذي بين أيدينا، وستأتي ترجمتها كاملة مع الاشارة الى مصدرها.
 
 
 
 
 
 
33

29

المقدمة

 الحداثة وغيرها، "لو عثرنا في معارف الغرب، على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء، إذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال مع ثقافة الغرب إذ علينا أن نتعامل معها تعامل الجسم الحي تعاملاً عضوياً، نأخذ ما يفيدنا ونلفظ ما لا ينفعنا".


وفي اتجاه أوضح يسجّل النص: "وإذا شئنا الانصاف، فان ثقافة الغرب الآن تنطوي على عناصر ايجابية مفيدة، وهي مصيرية بالنسبة إلينا.. علينا ان نجذبها ونتعلمها.. الأشياء النافعة في ثقافة الغرب كثيرة.. لذلك كله ينبغي ان نأخذ العناصر الايجابية في ثقافتهم ونستفيد منها".

وعن العلم وحاجتنا الماسة إليه يشير النص صراحة: "يحصل أحياناً أن يكون العلم بيد أعدائنا، فنذهب إليهم وننحني أمامهم لكسبه، ليس في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأناً من ان ينصرف عنه الإنسان لعداوة مع من يستحوذ عليه".

بيد انه لا يحسن ان نتعامل مع ثقافة الغرب وكأننا فارغون من أي شيء، تماماً كالطبل الأجوف أو الورقة البيضاء! "لا يصح لنا ان نتعامل مع ثقافة الآخر تعامل الإنسان الخالي من أي شيء.. الفاقد لكل خلفية، كما لا يصح ان نتعامل معها تعامل الإنسان الحائر الثمل المدهوش".

خامساً: الانفتاح شرط في كسب المناعة "إذا انفتح مجتمع ما على المعارف والمعلومات، فستزداد مناعته مقابل العدو". والتواصل مع ثقافات الشعوب فرصة لانماء الحياة الثقافية وإخصابها "الاستفادة من ثقافة الآخرين أمر يبعث على التكامل".
 
 
 
 
 
 
34

30

المقدمة

 سادساً: يــتركـز هجـوم النـص علـى دعـاة التغـريـب الأوائـل في إيــران، فأولئـك مهمــا كـانـت ظروفهـم، جنحـوا إلـى التعميـم، ودعـوا إلى تغريب إيران بحسب نص تعبير احدهـم، ظاهـراً وباطنـاً، في الثقافة والمعاش واللباس1. وهذا المسخ لم يعد يرضاه لشعبه الآن أعتى دعاة العالمية.

 
ولو كان روّاد التغريب الأوائل قد اكتفوا بالدعوة لكسب العلم الغربي لما اعترض عليهم أحد "نحن الآن نعلنها صراحة، ان العالم شهد تقدماً في العلوم، وابقانا متخلفين قرنين أو ثلاثة قرون عن ركبه". وأولئك الرموز والروّاد الأوائل من دعاة ربط إيران بالغرب "لم يدعوا مواطنيهم الإيرانيين أبداً إلى كسب ما يستطيعون كسبه من العلم الغربي. ولو كانوا قد دعوا إلى ذلك لاستقبلنا دعوتهم".
 
سابعاً: أخيراً، بين الغزو والتبادل أو التفاعل الثقافي خطوط ينبغي ان تكون واضحة. فالغزو فرض وقسر، والتبادل اختيار. والغزو يفرض على الأمة لاستئصال ثقافتها، والتبادل ضرورة للتكامل.
 
والغزو يكون في حال الضعف، في حين يقوم التبادل على الندّية والتكافؤ. وفيما يلي النصوص الدالة على هذه المعاني أوضح دلالة:
"ثمَّ فارق بين الغزو الثقافي، وبين التفاعل أو التبادل الثقافي.. 
 
 
 

1- يعود هذا النص للسيد حسن تقي زاده 1878- 1969) الذي يعد من أبرز رموز التغريب في إيران، إن لم يكن أبرزهم على الاطلاق بعد ملكم خان. انخرط في مطلع حياته في سلك الدراسات الحوزوية، وقطع شوطاً كبيراً في الدرس الحوزوي قبل أن ينقلب الى داعية للتغريب.
 
 
 
 
 
 
35

31

المقدمة

 التفاعل الثقافي يعبّر عن ضرورة تحتاج إليها الشعوب، فليس ثمَّ شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن التعلّم من معارف الشعوب الأخرى، بما في ذلك الثقافة والمسائل التي تندرج في العنوان الثقافي".


"ان حالة التفاعل والتبادل هذه باتت أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقى الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحياة والتجدّد".

"الهدف من التبادل الثقافي هو اثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف لاستئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها. وفي مسار عملية التبادل الثقافي تأخذ الأُمة ما تراه لائقاً جيداً من ثقافة الآخرين، وما تميل هي إليه. افرضوا- مثلاً- ان الشعب الإيراني رأى في الشعوب الأوروبية انها تتسم بصفات العناد والمثابرة (بمعنى الصبر والمجاهدة والاصرار على انجاز العلم) والتوثب وروح المغامرة، فلو انه أخذ هذه الصفات عنها، لكان ذلك أمراً حسناً".

"التبادل الثقافي هو مبادرة تنطلق من جانبنا، أما الغزو فهو مبادرة يمسك العدو بزمامها ويمارس عبرها الهجوم ضدّن، لكي يستأصل ثقافتنا الذاتية. لذلك نعد التبادل الثقافي إيجابياً، أما الغزو فهو ممارسة سلبية.

ومن جهة أُخرى، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوة الأمة وقدرتها وامتلائها، أما الغزو فيكون في زمن ضعف الأمة وهزالها".
 
 
 
 
 
 
36

32

المقدمة

 هذا الكتاب 

 
على مدى بضع سنوات طرح آية اللَّه السيد الخامنئي رؤية حيال مقولة الغزو الثقافي، وظلّ يتابع الموضوع خلال هذه المدّة، حتى تجمعت من حصيلة هذه المتابعة نصوص شكّلت كتاباً ضخماً حمل عنوان "الثقافة والغزو الثقافي"1.
 
ما يميّز رؤية السيد الخامنئي هو اللغة المباشرة والتوجه نحو الواقع، لماذا؟ لأن سماحته لا يُمارس مسؤوليته في هذا المضمار من واقع انه منظر ثقافي، بل من واقع كونه مسؤولاً.
 
ومع ذلك لم نجد هذه الرؤية غائبة تماماً عن مرتكزاتها الثقافية كما في معالجة مفهوم الغزو الثقافي والتمييز بين هذه المقولة ومقولة التفاعل أو التبادل الثقافي، والموقف من الغرب ومعطياته العلمية والثقافية، وما يتخلل الموضوع من عشرات الأفكار الأخرى، كما سيلمس القارىء في النصوص.
 
ولما كان الكتاب ضخماً في حجمه الأصلي، فقد بادرنا إلى توزيعه على ثلاثة أجزاء، شجعنا على ذلك توزع مادته على ثلاثة محاور، هي:
1- بعد مقدمات تمهيدية في معنى الغزو الثقافي والفرق بينه وبين التفاعل الثقافي، تناول المحور الأول موضوع الغزو الثقافي للعالم الإسلامي ولإيران قبل الثورة الإسلامية وبالأخص بعدها.
 
2- أكبَّ المحور الثاني على اضاءة المشهد من خلال رسم خطوط 
 
 
 

1- مرهنك وتهاجم فرهنكي،مختارات من كلام القائد المعظّم سماحة آية الله الخامنئي، تنظيم واصدار مؤسسة الوثائق الثقافية للثورة الاسلامية التابعة لوزارة الثقافة والارشاد الاسلامي، لطبعة الثانية، طهران، شتاء 1994، 442 صفحة من القطع الكبير
 
 
 
 
 
 
37

33

المقدمة

 واضحة في طبيعة الوظيفة التي ينبغي أن ينهض بها الشعب ويضطلع بها المسؤولون في مواجهة الغزو الثقافي.


3- أما المحور الثالث فقد تناول مفصلاً مهام الأجهزة الثقافية ورسالة المراكز الفنية والأدبية في مواجهة هذا المعضل.

لقد توفر هذا الكتاب على تغطية المحور الأول آملين ان يتبعه الجزءان الآخران في أقرب فرصة ممكنة ان شاء اللَّه.

تبقى الاشارة الأساسية التي تمثل جوهر عمل المترجم، ان آية اللَّه السيد الخامنئي لم يكتب هذه النصوص مباشرة لكي تكون كتاب، بل هي مقتطفات من خطابات وبيانات صدرت من قبل سماحته في مناسبات مختلفة، آملين ملاحظة الفرق بين النص المكتوب لغرض التأليف وبين الكلام المقول.

وبشأن "دار الولاية" فقد انبثقت المؤسسة على خلفية أن تكون مشروعاً إسلامياً ثقافياً واعلامياً يتحرك في أفق يطمح ان يسد جزءاً من الحاجات الثقافية ويستجيب لشيء من الهموم الاعلامية في حياة المسلمين.

وعلى خلفية هذا الشاغل يساور المؤسسة طموح إلى بناء جسر بين الثقافة الإسلامية المكتوبة بالعربية وتلك المكتوبة بالفارسية، لغرض التفاعل والتكامل بين ساحات الفكر الإسلامي، بعيداً عن لغة الاقصاء التي تتوسل بذرائع واهية في تسويغ الالغاء وبناء الأسوار العازلة على أُسس مذهبية أو لغوية أو اقليمية! وفي طريق هذا الطموح قدمت "دار الولاية" بعض الأعمال، تضيف إليها هذه المبادرة الجديدة، وما قد يستجد مستقبلاً من مشاريع.
 
 
 
 
 
 
 
38

34

المقدمة

 آمل أن يكون هذا الجهد في عداد الكلمة الطيبة السديدة التي تنفع المسلمين بحيث لا يتحوّل وبالاً على صاحبه يوم تُبلى السرائر، وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته المعصومين.

 


وآخر دعوانا ان الحمد للَّه رب العالمين.
جواد علي كسار (خالد توفيق)
1- ربيع الأول-1419 هـ
 
 
 
 
 
 
 
39

35

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 1- مفهوم الغزو الثقافي

 
(1) معنى الغزو الثقافي والمرادُ منه، هو ان تقوم مجموعة سياسية أو اقتصادية بالهجوم على الأُسس والمقومات الثقافية لأمة من الأمم، بقصد تحقيق مآربها، ووضع تلك الأمة في إطار تبعيتها. وفي سياق هذا الغزو تعمد المجموعة الغازية إلى أن تُحِلَّ في ذلك البلد وبالقسر، معتقدات وثقافة جديدة، مكان الثقافة والمعتقدات الوطنية لتلك الأمة1.
a(2) الغزو الثقافي كالعمل الثقافي، إذ هو ممارسة تتسم بالهدوء وعدم اثارة الضجيج ولفت الانتباه2.
 
(3) يروم الغزو الثقافي ان يسلخ الجيل الجديد عن معتقداته بضروبها المختلفة. فهو من ناحية يهزّ قناعة هذا الجيل بمعتقده الديني، ويقطعه
 
 
 

1- خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
2- خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
 
 
 
 
 
 
 
43

36

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 من ناحية ثانية عن الاعتقاد بالأصول الثورية، ويهدف من ناحية ثالثة إلى قلعه عن هذا الطراز من الفكر الفعّال الذي دفع الاستكبار والقدرات الكبرى لاستشعار حالة الخوف والخطر1.

 
(4) في عملية الغزو الثقافي يقوم العدو بدفع ذلك الجزء من ثقافته الذي يرغب هو بدفعه، إلى البلد الذي يروم غزوه، ويغذي الأمة التي يستهدفها بما يريد.. 
ومعلوم ماذا يريد العدو وما الذي يرغب فيه2.
 
(5) يقوم الغزو الثقافي- وهو المصطلح الذي كررته مراراً وأشعر أزاءه بحساسية خاصة تملأ وجودي وتأخذ بكياني قلباً وروحاً- على ركنين، جديرين باهتمامكم:
الركن الأول: ويتمثل في استبدال الثقافة المحلية (الثقافة الوطنية الخاصة) بالثقافة الأجنبية. وهذه الممارسة هي في واقعها استمرار لتلك السياسة التي كانت قائمة في العهد البهلوي، وكان يُروَّجُ لها بشكل كبير، وتشيع على نطاق واسع من دون أن يكون ثمة حاجز أو رادع،. ثم ما لبثت ان انقطعت- بحمد اللَّه- مع انتصار الثورة الإسلامية، بَيدَانّهم لازالوا يمارسون الضغوط من أجل استئناف ذلك المسار في ترويج الثقافة الأجنبية واشاعتها.
 
الركن الثاني: ويتمثل في الهجوم الثقافي على الجمهورية الإسلامية،
 
 
 
 

1- من حديث قائد الثورة مع وزير التربية والتعليم ومعاونيه، 25/01/1370.
2- خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الإعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
 
 
 
 
 
 
 
44

37

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 وقيم هذه الجمهورية وقيم شعبها، بوسائل مختلفة، من مصاديقها في داخل بلدنا انتاج الأفلام والمسلسلات التمثيلية التي تتسق مع أهدافهم، ونشر الكتب والمجلات التي تغذى بتوجيه خارجي1.

 
2- أهمية الإيمان بوجود الغزو الثقافي وضرورة النهوض لمواجهته
 
(1) علينا أن نصدّق حقاً، ونقتنع بأننا عُرضة اليوم لأمواج مُتدافعة من ضروب الغزو الثقافي2.
 
(2) اننا اليوم عُرضة من كل جهة لسهام خصومنا من الأعداء الأصليين في العالم، ولعدونا الثقافي الذي يحمل علينا من كل صوب. والخصومة الثقافية ضدّنا تستهدفنا على أرضية ثقافتنا العامة، وعلى صعيد ضرب ذهنية الشعب والنيل من جهده الثقافي، كما انها تستهدفنا على صعيد النشاط التعليمي وجهدنا في تربية القوى الإنسانية، وذلك لكي يحولوا دون بلوغنا مقاصدنا3.
 
(3) أعتقد انّ هناك هجوماً (ثقافياً) شاملاً ومنظماً ومخطّط له ضدنا. بديهي انَّ الثورة لم تستطع في البداية ان تجذب فئات المثقفين والفنانين، وهم ممّن لا ينسجم مع الدين والإيمان والعلماء. نعم، ثمَّ 
 
 
 

(3-2-1)- حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 21/9/1368.
 
 
 
 
 
 
 
45

38

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 مجموعة من أولئك استطاعت الثورة أن تجذبهم نظراً لما يتحلّوا به من وجدان يقظ، وبقيت المجموعة الأُخرى في العزلة بعيداً ولم تستطع الثورة أن تجذبهم.


وقصة هؤلاء أنّ أحداً منهم لم يكن يجرؤ في السنوات الأولى من عمر الثورة على عمل أدنى شيء. ومردّ ذلك يعود إلى طبيعة هؤلاء.. فأنا أعرف أكثرهم عن قرب قبل الثورة.. هم يتهيبون الأخطار، وينأون بأنفسهم عن خوض الميادين الصعبة. لذلك لم يكن لهذه الفئة خطر يذكر. لقد دفع الحماس الثوري الذي ترافق مع بداية الثورة، هذه المجموعة إلى ان تختار العزلة والقعود في الدار، والاستغراق في الذات والانطواء عليها، والاختباء وراء همومها، بحيث لم يكن يصدر عنهم في الأكثر إلاّ همسات تشهدها حلقاتهم الخاصة في البيوت وخلف الجدران، يتباحثون خلالها همومهم الشخصية.

بيد أنهم عادوا ليدخولا الساحة تدريجياً. أصدروا في البداية نشرة، ثم عادوا لممارسة الكتابة والخطابة والشعر، وشجعهم كلام قيل من أحد بنفعهم، فتشجعوا أكثر حين لم يجدوا أحداً يعترض عليهم.. حينئذ أحسّوا انه يمكنهم العمل في مثل هذا الجوّ بشكل مُنظّم ومخطط.

كان مبتغاهم أن يكسبوا الخطوط الخلفية للثورة إلى صفّهم. وإذا عرفنا انَّ الخط الأول يتمثل بالمسؤولين ومن يرتبط بهم، فإنَّ الخطوط الخلفية تتمثل بالقاعدة الشعبية العريضة والعظمة فهدفهم إذن كسب الجمهور العريض من أبناء الشعب.

كان منطقهم يقوم على أساس التفكير التالي: إذا استطعنا أن نكسب الى صفنا هذه القاعدة الشعبية العريضة التي تدين بالولاء
 
 
 
 
 
 
 
46

39

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 للمسؤولين، ونقطعها عنهم، فإن كل شيء سينتهي وهذا تفكير صحيح وصائب.


فإذا كان قُدِّر لهذا التيار أن ينجز هذا الهدف، لكان قد ألحق بالثورة ضربة موجعة. فإذا قُدِّر لهؤلاء ان يهيمنوا فعلاً على أفكار وقلوب ورغبات الخطوط الخلفية (الجماهير) ويتحكّموا أحياناً بمسار الاختيارات العقلانية (أي: المواقف) للقاعدة الشعبية، وأن ينجحوا في جذبها، ومن ثَمَّ سوقها نحو اتجاه معين، لاستطاعوا فعلاً ان يهيمنوا عليها.

وَهذا تفكير صحيح، لكن هل استطاعوا فعل ذلك؟ أقول: كلا. ومرده ان تقديرهم كان ساذجاً سطحياً منذ البداية، ولكن على أي حال، خيّل إليهم انهم يستطيعون، فشرعوا بالعمل!

هدفوا في البداية ان ينفذوا إلى السينما والمطبوعات، بل وحتى إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التي تملكها الدولة، وجهدوا أن يكون لهم حضورهم في كلّ جزء من المجال الثقافي، وان يكون منهم رجل في كلّ نشاط ووجود ثقافي.

تحركوا أولاً بلباس النشاط الثقافي المحض، ولكنهم عادوا الآن ليخوضوا المسائل السياسية. فبادروا إلى توجيه نقدهم إلى الدولة والنظام، بل وضعوا الخلفية الأساسية التي تقوم عليها مشروعية النظام، في دائرة السؤال والاستفهام.

هذا هو الذي حصل، وهو أمر خطير جداً. وحينما نصفه بأنه خطير جداً لا نعني أنه لا علاج له، أو انه صعب العلاج. كلا، فعلاجه في غاية السهولة واليسر، بشرط ان يشعر المريض وكذلك الطبيب بأنّ هناك مرضاً بالفعل. فمع استشعار المرض والاحساس به، يكون العلاج سهلاً.
 
 
 
 
 
 
 
47

40

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 انّ الخطر هو ان نجهل أنا وأنتم ما يدور، ولا نستشعر وجود شيء.

 
نحن ننتمي إلى الصفّ الثقافي، وبذلك لنا قدرة التمييز الثقافي. والذي يعيش في الجوّ الثقافي ويستنشق هواءه، لا حاجة به إلى اللمس حتى يفهم الشيء ويستشعر وجوده-ـ انما يكفيه حسّه الثقافي الخاص-ـ.
 
يجب أن يعرف هذه الحقيقة ويدرك مغزاها الكتّاب الصحفيون ومؤسساتنا الثقافية من قبيل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ووزارة الارشاد، ومؤسسة الاعلام الإسلامي، والتربية والتعليم والجهات الأُخرى!
 
بديهي ان تكوين هؤلاء (النفسي والداخلي) وطبيعتهم ليست طبيعة مؤمنة صلبة، لذا فهم ينسحبون إلى الوراء بأقل اشارة.. كلامهم وان كانّ جميل المظهر، إلاّ أنه لا يقوم على بُنية إيمانية ومرتكز عقائدي.
 
وفي الحقيقة، هذه صفة الكتّاب والمثقفين من ذوي المنهج المادي، فهم حين تنظر إليهم من بُعد، تجدهم يجيدون الكلام، تظهر عليهم الحماسة الفائضة، حتى كأنهم يتحدثون من أعماق نفوسهم، بيدَ انك حين تقترب منهم لا تجد شيئاً، فكلامهم لا يزيد عن لقلقة لسان، وليس له مستقر أبعد من ذلك.
 
كتب الكثيرُ من هؤلاء عن الاستعمار والصهيونية والظلم وما شاكل ذلك، ولكنه لم يكن على استعداد ان يتحرك خطوة، ويكون مع الشعب في الميدان، بل كان يطعن الجمهور.
 
هؤلاء أسرى الأهواء النفسانية، غرقى بأوهام ذواتهم1.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في عدد من مسؤولي الجمهورية الإسلامية، 23/5/1370.
 
 
 
 
 
 
 
48

41

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (4) علينا أن نتعاطى مع مسألة الغزو الثقافي بجد، وبوصفها مقولة حقيقية. فالمعركة الثقافية ضدَّ الفكر الإسلامي والجمهورية الإسلامية، هي مسألة تنطوي على فروع وشُعب مُتعدِّدة. وإذا شاء الإنسان ان يتوفر على احصائها والبحث فيها، فسيجد انها مفتوحة على مجال واسع جداً.


لو افترضنا على سبيل المثال، انَّ الفكر السياسي الإسلامي أصبح عُرضة للشكوك ولعلامات الاستفهام في الصحف والدوريات، وفي الكتب المختلفة، والمترجمات وحتى في عملية تدوين التأريخ، فستكون تبعات ذلك خطيرة حينئذ، لأنَّ هذه الثورة ركيزتها الأولى مباني الفكر السياسي الإسلامي، فإذا لم يكن الإسلام ينطوي على فكر سياسي، لم يكن ثمة معنى لثورة تقوم على أساس الإسلام، ومن ثم لما انبثق نظام يقوم على أساس مباني (أُصول ومرتكزات) ذلك الفكر.

وفي كل الأحوال، فقد تشكل هذا النظام وابتنى على أساس الفكر السياسي الإسلامي، وهو يتحرك في ضوئه. لذلك لا معنى أن نتصوّر بأن يبقى هذا الفكر السياسي من دون معارض، بل ثمَّ أزاءه أفكار ومدارس ورؤى واتجاهات سياسية أُخرى.

اننا نشهد اليوم الكثير من البحوث والمقالات والكتب والتواريخ وحتى السّيَر الذاتية وتراجم الشخصيات، وهي تنهض لمواجهة هذه الصيغة من الفكر السياسي الذي يقوم عليه نظام الجمهورية الإسلامية.

بديهي اننا لا نستغرب أن ينهض أحد المعارضين الفكريين (للنظام)
 
 
 
 
 
 
49

42

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 ويقوم بكتابة مقال أو تأليف كتاب، فهذا السلوك متوقع، وينبغي علينا أن لا نضيق به، ولا نقع في ردّ فعل شديد إزاءَ ذلك. بل يمكن أن يقوم أحدهم بوضع كتاب ضدَّ التوحيد نفسه، وهذا أمرٌ طبيعي! فهم يكتبون ضدَّ التوحيد، ونَحنُ نكتب في التوحيد.

بيدَ انَّ المسألة تكتسب شكلاً آخر حينما نضع الأعمال المتفرقة هذه إلى جوار بعضها البعض. إذ نكتشف بالتأمل ان هذه الممارسات لم تكن وليدة صدفة محضة، بل هي بمجموعها تصدر عن خطة محسوبة، وان ثمة ارادة تحرّك القضية برمتها.. وهي في الواقع جزء من النشاط السياسي لمواجهة الفكر السياسي الإسلامي على صعيد حركة المطبوعات.

ثمة أشكال أُخرى لحركة المواجهة هذه، تتمثل هذه المرَّة بإثارة علامات الاستفهام حيال عقائد الإسلام الأساسية، والردّ عليها بشكل يكشف عن ذكاء ومَكر. يحصل ذلك من خلال الكتب العامة، والكتب والملازم الدراسية، ومن خلال صفوف الدرس نفسها.

إلا انَّ الشكل الأساس والأهم الذي تتلوّن به حركة المواجهة ضدَّ الفكر السياسي الإسلامي، والذي يُعَدّ من أهم عناصر الغزو الثقافي، يتمثل ببذل الجهود لجرّ جيل الشباب نحو مستنقع الفساد والابتذال.

والذي يبعث على الأسف، اننا حينما نتحدَّث عن الغزو الثقافي وضرورة مواجهته، وعن النهي عن المنكر، فانَّ ذهنية الناس تنصرف في الغالب نحو مصاديق صغيرة، بتأثير السوابق الذهنية أو أية مؤثرات أُخرى.

وثمة نتيجتان سلبيتان تترتبان على هذا التداعي الذهني، هما:
الأولى: ان مجموعة من الناس السطحيين لا تلبث أن تحصر
 
 
 
 
 
 
50

43

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 القضية في حدود هذه المصاديق الصغيرة، فيعبّئوا جهودهم ويستهلكوها في حدود هذه الأمثلة والوقائع الصغيرة العابرة، التي لا أهمية لها.


الثانية: حين يرى مفكرو المجتمع وقواه الثقافية الخلاّقة، انَّ القضية تقتصر على مثل هذه المسائل التي لا شأن ولا أهمية لها، ترى اهتمامهم يتضاءل بأهمية القضية الأساسية المتمثلة بالغزو الثقافي.

وهذا ما يبعث على القلق.

على سبيل المثال يمكن ان تتجلى قضية الغزو الثقافي في سلوك بعض النساء (المتبرجات) من خلال طبيعة زينتهن ولباسهن وكيفية حركتهن في الشارع، من دون أن يُعير أحد هذا المنكر الاهتمام الذي يستحقه، ولكن القضية لا تقتصر على ذلك، بل تنطوي على أبعاد أعمق، إذ هي تكشف في حقيقتها عن وجود جبهة واسعة من قبل العدو، يوظّف فيها الوسائل المؤثرة، الخطيرة والفاعلة، ويستفيد من العلم والتقنيّة، في مواجهة الجمهورية الإسلامية من خلال الغزو الثقافي.
تحتاج هذه الحركة إلى مواجهة جادَّة، وإذا لم تُواجه بحركة مضادَّة، فهي مُنتصرة بلا ريب.

والذي أؤمن به شخصياً، اننا إذا لم نتحرك بذكاء في مواجهة موجات هذا الغزو، بحيث نوظّف له الوسائل الصحيحة الناجحة، ونعتمد الحكمة والتدبير، فانَّ آثاره ستكون خطيرة جداً ومدمِّرة.

علينا إذن ان نتعاطى مع هذه القضية، وان نتجنب إعمال الأذواق والأمزجة الخاصة. فإذا كان لمسؤول في أحد مجالاتنا الثقافية، ذوق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

44

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 خاص ومزاج خاص أزاء مسألة معينة، فلا ينبغي ان يتحوَّل هذا الذوق أو المزاج إلى معيار خاص وملاك في الموضوع. وانما ينبغي رؤية الخطر بحجمه الحقيقي، وادراك ما ينطوي عليه من أهمية1.

 
(5) الغزو الثقافي الذي أكّدنا عليه مراراً، هو تعبير عن قضية واقعية واضحة، لا يسعنا ان نقضي على وجودها عملياً بمجرد إنكارها. الغزو الثقافي هو واقع قائم وموجود، وإذا أنكرناه نكون مصداقاً لكلام أمير المؤمنين علي (صلوات اللَّه عليه) حيث يقول: "وَمَن نام لم يُنم عنه". فإذا غفلت أو أخذك النوم وأنت في خندقك، فذلك لا يعني أبداً أن عدوّك في الخندق المقابل اعتراه النعاس وأخذه النوم أيضاً.
 
لذلك يجب أن تحرص على ان تستيقظ وتخرج من حال الغفلة!
 
علينا ان ننتبه أنَّ الثورة الثقافية في خطر. كما انَّ أصل ثقافتنا الوطنية والإسلامية هي تحت طائلة تهديد الأعداء2.
 
(6)لا يسعنا ان ننكر ما هو موجود واضح للعيان (يعني به مظاهر الغزو الثقافي) في الجامعة وخارج الجامعة، بل وحتى في وسائلنا الاعلامية وأجهزة الاتصال العامة التي تختص بنا. كما لا يسعنا ان ننكر ما هو موجود في ثنايا الكتب التي تؤلف، وتلك التي تُترجم.. وفي الشعر الذي ينظم ويلقى.. وفي البرامج الثقافية العالمية.. التي تبدو
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
2- المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
52

45

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 في الظاهر وكأنّها لا صلة لها بنا.. مما يحيط باخباره السادة الحضور، لكونهم من العناصر الثقافية.

 
ثمَّ تهيّؤ واستعداد ثقافي في كلّ مكان ضدّ الثورة. وهذا الاستعداد من الخطورة بمكان.. وهو لا يشبه ما كانَ موجوداً قبل مائة عام مثلاً.
 
أجل، قبل مائة عام كان هُناك غزو ثقافي ضد الإسلام، ولكن ليس على الشاكلة التي هو عليها الآن. والفارق بين الحالتين يمكن أن نوضحه بمثال، فعندما يواجه الإنسان عدواً كسولاً لا همة له، سيكون على ضرب من الاستعداد العسكري يختلف تمام الاختلاف عن الاستعداد والتجهيز العسكري الذي يتحلى به الإنسان عند مواجهته لعدو يقظ منتبه.
 
كان العالمُ الإسلامي يومذاك يغطّ في سبات عميق، ويعيش حالة خدر بل كان ثملاً غائباً عن الوعي. لذلك كان العدو يكتفي آنذاك بضربات يوجهها إلى الجسم الإسلامي في بعض الأحيان، أو انه يزرق (سمومه) في دمائه وينتهي كلّ شيء. أمّا اليوم فإنَّ الإسلام- وهو العدو الرئيس لدنيا الغرب- أضحى يقظاً.. الإسلام اليوم أمسى ذكره يترافق مع ذكرى مواقف ممتدة لا تنتهي، كتلك التي تنطوي عليها شخصية مثل شخصية الإمام الخميني (رضوان اللَّه عليه).. وَله اليوم كلّ هذه الذخائر الثورية.. والشباب الملتزم.
 
هذه الحالة لا تسمح للآخر أن يتعاطى مع الإسلام اليوم باهمال وعدم جديّة1.
 
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية، 20/9/1370.
 
 
 
 
 
 
 
53

46

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (7) ثمَّ اليوم غزو ثقافي عظيم يمارس ضدَّ الإسلام وفي مواجهته. وهذا الهجوم الواسع لا يقتصر على الثورة الإسلامية ولا يستهدفها لوحدها، بل هو يتعدّاها إلى الإسلام نفسه.


يكتسب الغزو الثقافي الآن، لشدّته، وضعاً استثنائياً عجيباً، وهو يمتد على أبعاد وسيعة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً.. وهذا الهجوم لا يقتصر على أحد، بل هو ينال حتى صيغة الإسلام السائد بين جماهير الناس (ما يعرف بالإسلام الشعبي) في الجزائر مثلاً.

أجل، الصيغة الوحيدة المستثناة من الهجوم، هي صيغة الإسلام المرتبط بالاجهزة الاستعمارية، والأجهزة السعودية.

فالمواقع التي ترتبط بهذه الصيغ- من الإسلام- هي وحدها المستثناة من الهجوم.

وإذا كان الهجوم لا يوفّر الإسلام بمعنى كونه عقيدة شعبية لعامة الناس، فما بالك بالإسلام الأصيل.. الإسلام الثوري.. الإسلام بالفهم الإيراني (الإسلام الإيراني) على حدّ تعبيرهم.

الممارسات التي تسمعون بها حيال موقف فرنسا من حجاب الطالبات، لا تعدو أن تكون شرارة، وجذوة تتقد تحت الرماد، تنذر بآتٍ عظيم لا زال خفياً وراء الستار. المسألة في قضية الطالبات المحجبات لا تقتصر كما يزعمون على دولة علمانية ترفض وجود المحجبات، بل تأخذ بُعداً أعمق.

ينتابهم احساس عميق، بأنَّ الإسلام يمثّل خطراً بالنسبة إليهم. وليس في هذه المسألة جديد، وانما لها خلفية في الهند. فقد ذكرتُ
 
 
 
 
 
 
54

47

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 في كتابي- ولا تحضرني العبارة نصاً الآن- انَّ أحد حكّام الهند قبل الاستقلال، أي قبل سنة 1947، كان قد ذكر في أوائل نفوذ الانكليز إلى شبه القارة، ان مشكلتهم الأساسية هم المسلمون. 


وعليه، فإنَّ أول ما يجب أن يقوموا به هو قمع المسلمين واستئصالهم، كي يخلو لهم الجو.. ولا بدّ انكم سمعتم بمقولة غلادستون الذي أعلنها صريحة: "يجب أن يمحى هذا القرآن من الوجود".

انهم إذاً يخشون الإسلام منذ قديم الزمان ويهابونه، ويتمثلونه خطراً عليهم.

وهذا الشعور لم ينشأ من فراغ، أو من لا شيء، بل لأُمور لمسوها في حركة الإسلام. فهم اطلعوا على سبيل المثال، على حركة "التنباك" (التبغ) وقضايا أُخرى جرت في الهند وأفغانستان وإيران ومصر، بيد انه سرعان ما غفلوا عما يمثله الإسلام من خطر على منافعهم، ولَم يعد الاستعمار يبدي حساسية كبيرة ازاءه.

والسبب في ذلك يعود إلى انَّ المسار الإسلامي لم يكن فعلاً ملموساً، مما أدّى إلى ان يغفل الاستكبار عن الإسلام لفترة.

حالة الغفلة هذه لم تمكث طويلاً، فبعد مرور عدّة عقود انتصرت الثورة الإسلامية، مما أدّى إلى أن يعود الاستعمار إلى ذاكرته، ويستحضر ما كان قد حفظه في ارشيفه وخزائنه من معلومات، جمعها عن المسلمين، بواسطة مفكريه وجواسيسه، ثم عاد ليضيف إلى هذا الخزين حصيلة بحوثه التحليلية الجديدة.. ومن هذه الزاوية بالذات ننظر إلى ما تقوم به "إسرائيل" على سبيل المثال، من المبادرة لعقد مؤتمر حول الإسلام، أو حول الإسلام في إيران، أو حول التشيّع.
 
 
 
 
 
 
55

48

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 فأمثال هذه النشاطات تتحرك في المسار الذي يركز معلومات الغرب ويزيدها حيال الإسلام.


لقد تحرك الغرب والعالم الرأسمالي للحفاظ على وجوده بكل ما يملك، وتوسَّل بالطريقة العلمية في توجيه الأحداث العالمية. ومردّ ذلك انه يعرف، بأنه إذا لم يفكر.. ولم يستخدم الأرقام والاحصائيات.. ولم يستشرف المستقبل.. ويستشعر حالة القلق، فسيمنى بضربة تنال من وجوده.

وقد وُضعت في هذا المضمار، بين يدي الأجهزة الاستكبارية أرقى المؤسسات البحثية، وأفضل الخبرات الفكرية، التي أخذ يوظفها للتخطيط لقضاياه على المدى البعيد. هُم منهمكون مُنذ عقد ونصف أو عقدين، أو أكثر من ذلك في التخطيط والتفكير ووضع البرامج.
المهم انَّ هذه الأجهزة دخلت حال الاستنفار حين أحسَّت انَّ الإسلام- وهو الخطر القديم الذي يخاف منه الاستعمار ويخشاه- عاد إلى الساحة في إيران، بقدرة عظيمة.
لكي تدركوا وطأة عودة الإسلام على الاستعمار والغرب، أعود قليلاً إلى مثال يمكن أن تقاس عليه أوضاعهم وما ألمَّ بهم بعد انتصار الثورة. ففي عام (63) أو (73) وقع انقلاب عسكري في العراق أطاح بالملك فيصل ونوري السعيد، فجاءت ردّة فعل الانكليز والجهاز الاستعماري عنيفة لا توصف. ومما يذكره ايدن رئيس وزراء بريطانيا في مذكراته، انه كان يمضي فترة استراحة آخر الاسبوع، في جزيرة، حين سمع بالخبر، فأحسَّ حينها- وكما يقول- وكأنَّ ضربة موجعة نزلت على دماغه، وانَّ الدنيا أخذت تدور برأسه.. لا أتذكر الآن نصّ تعبيره بيدَ انه كانَ يدور حول هذا المضمون.
 
 
 
 
 
 
 
56

49

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 ثم توالت على هذا المنوال، كتابات الانكليز بعد ايدن في كتب المذكرات وغيرها، وهي تؤكد لعدّة سنوات على حجم الضربة وشدّتها.


وَلكم الآن أن تقارنوا بين واقعة بحجم الثورة الإسلامية، وَبين انقلاب عسكري، لتدركوا ثقل الوطأة التي ألّمت بالاستعمار.

لم يتحملوا انقلاباً عسكرياً عادياً، لجهة ان العراق كان مستعمرة انكليزية، مع انه كان للأجهزة الاستعمارية نفسها يد في هذا الانقلاب كما تأكدَّ فيما بعد.. 

وبالرغم أيضاً من ان التبعات التي ترتبت عليه، والتي ظهرت بعد عشرين أو ثلاثين سنة، متمثلة في طبيعة الحكم الراهن الذي يسيطر على العراق.

طبيعي لا يمكن قياس حدث الثورة الإسلامية بانقلاب عسكري، ولكن قارنوا بين الواقعتين، لتدركوا ماذا دهى الاستكبار.

لقد وضعت الثورة الإسلامية بانتصارها، حيثية النظام القيمي للاستعمار الغربي والعالم الرأسمالي، في دائرة الشك والسؤال، وبالتالي أخذت تُهدّد مستقبلهم بالكامل. ولما كانت الثورة قد نهضت على أساس الإسلام، فانَّ معنى ذلك انَّ الثورة أضحت مشروعاً ممكناً بالقوة، وقابلة للتحقّق الفعلي في كل مكان يتواجد فيه المسلمون، كما رأوا ذلك فيما بعد في نماذج وأحداث مختلفة.

لقد نهض الإسلام في مدار المحور الإسلامي برمته، من أفغانستان حتى اندونيسيا، مروراً بماليزيا ومصر وتونس وجميع البلدان الأُخرى، حتى تلك التي يسود فيها ما يطلق عليها الأنظمة الثورية كالجزائر أو ليبيا.. فالإسلام على امتداد هذه الرقعة، كان ولا يزال ينادي: هل مِن مُبارز. وعلى حدِّ كلمته تتحدَّد ملامح خريطة المستقبل في هذه البلدان.
 
 
 
 
 
 
57

50

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 بعثت هذه الحالة من النهوض، في كيان العالم الرأسمالي الاستكباري، احساساً بالخوف، دفعهم لتظافر الأيدي واجتماعها في مواجهة الإسلام.


وكذا كان الحال في العالم الاشتراكي، ولكن على نحوٍ آخر. ومردّ ذلك انَّ العالم الاشتراكي تنقصه الأدوات الفكرية اللازمة، وهو بالتالي يفتقر إلى النظرة المستقبلية التي يتحلى بها الغرب في هذا المضمار. وسبب هذا التخلف يعود إلى أنَّ الأرقام وتخزين المعلومات والاحصائيات المتخصصة، وبحوث التنبؤات ( بالمستقبل) هي جميعها جزء من الحضارة الصناعية. وتخلُّف المعسكر الشرقي في هذا المضمار يتناسب مع نسبة تخلفه عن الغربيين في المجال الصناعي والتقني.

لذلك كلّه لم يكن انتباه المعسكر الشرقي (للانبعاث الإسلامي) على قدر انتباه الغرب ويقظته.

علاوة على ذلك، كان ثمة احساس يُخامر المعسكر الشرقي يوحي لهم بمنافع مُشتركة مع الثورة.. فالمعسكر الاشتراكي رأى صدمة الغرب من الثورة، فخيّل إليه انَّ هذه الحالة ايجابية بالنسبة إليه.

لقد انتهت الآن قصة الغرب والشرق، ولم يعد ثمة معنى للمعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. فالاتحاد السوفياتي انتهى، وتلاشى تبعاً له المعسكر الشرقي، لُيسدل الستار بذلك على التطلعات الماركسية، ويغلق ملف الاشتراكية.

وفي كل الأحوال، يستهدف التفكير المضاد (الغربي- الاستعماري) الإسلام الأصيل وإذا شئنا أن نكون أكثر دقة، فهو يستهدف الدين
 
 
 
 
 
 
 
58

51

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الأصيل والذي نعنيه بالدين الأصيل النقي، هو نمط من الفكر يتجاوز الثورة الإسلامية. فالهجوم المضاد لا يقتصر على الثورة وحدها، بل هو يستهدف الإسلام برمته.. وهو يستهدف في وجه من الوجوه، أي دين يحسّ (الغرب) انه ينطوي على أصالة.


ومعنى ذلك، انَّ رجل الدين المسيحي في أمريكا اللاتينية، مغضوب عليه بنفس الدرجة التي يُغضب فيها على العلماء الثوريين المصريين أو التونسيين.

مثل هذه الحالة من الأصالة والنقاء الديني مستهدفة في أنحاء العالم كافة، بيدَ أنَّ المركز الأصلي (الأساس) لها في إيران. وقد انتبه (الغرب) إلى ان إيران أضحت هي الموطن الأصيل لهذه الحالة.

يمكن تصوير الموقف الآن بوجود جبهة ثقافية عظيمة تتعاضد في دعمها السياسة والتقنيَّة والمال وضروب الدعم الأُخرى، وهي اليوم تنحدر كالسيل ضدّنا. 
وهذه الحرب ليست حرباً عسكرية، ومن ثمَّ لا أثر للتعبئة العسكرية العامة في مواجهتها.. الخطير فيها اننا في اللحظة التي ننتبه إلى آثارها نكون قد أُصبنا بها وشملنا بلاؤها.

الغزو الثقافي يشبه قنبلة كيميائية تنفلق غلسة دون أن يحسّ بها أحد، ولكن بعد انفجارها ببضع ساعات، ترى الوجوه والأيدي قد أصيبت جميعاً.

يتحرك الغزو الثقافي المعادي على نفس هذه الشاكلة، إذ نراه فجأة وقد ظهرت علائمه وأنبثت آثاره في مدارسنا وشوارعنا وجبهاتنا، وفي حوزاتنا ومدارسنا.. 
بتنا الآن نرى شيئاً من هذه العلامات وستبرز هذه المظاهر في المستقبل أكثر.
 
 
 
 
 
 
 
59

52

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 من علامات الحالة اليوم، هي طبع كتاب هنا، وانتاج فيلم هُناك، ونفوذ الفيديو إلى البلد. والمستهدفون هُم نحنُ والإسلام والثورة.

 
أمّا بصدد مُواجهة الغزو الثقافي وصدّه، فلا ينبغي ان نشك في أننا بحاجة إلى المال والميزانية الخاصة، وإلى إمكانات الدولة ودعمها السياسي. بيَد انَّ الدولة تريد من اعطاء المال وتقديم الدعم، ان توجد تياراً فكرياً، ولكن أين يُنتج هذا الفكر وكيف1؟
 
(8) بات العدو يؤكد الآن أكثر ما يكون على الغزو الثقافي. حين أنظر الآن إلى المشهد، من موقعي كإنسان أُمارس الثقافة والسياسة، أجد انَّ المعركة محتدمة بينك.. 
 
أنت أيّها الشعب الإيراني الذي تأخذ جانب الإسلام والمستضعفين، وتعادي الاستكبار في العالم، وبين أعدائك من أركان جبهة الاستكبار، المعادين للإسلام، وذيولهم من الأرذال الذين دفعتهم مصالحهم الشخصية وأهواؤهم النفسية، لكي يكونوا بوقاً للاستكبار ومطايا له.. الصراع ناشبٌ بين الطرفين.
 
لقد انتهت الحرب المسلّحة، ولو استطاع الاستكبار العالمي لاشعل شرارة الحرب العسكرية ضدّنا مرةً أُخرى. بيدَ أنها ليست مهمة سهلة بالنسبة إليه.. ولكن انبثقت بديلاً عن الحرب، حالة من الصراع الفكري والحرب الثقافية السياسية.. فكل إنسان له دراية بالاخبار واحاطة ذهنية بما يجري في العالم، يستطيع ان يلمس مِن خلال نظرة يلقيها على الساحة، ان العدو بصدد أن ينفذ عن طريق الوسائل
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى عدد من فضلاء الحوزة العلمية في مدينة قم، 7/9/1368.
 
 
 
 
 
 
60

53

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الثقافية، ويمارس أكثر ضغوطاته بهذا الأُسلوب.. وهذا الأمر يبدو من المسلّمات.

 
انّهم ليسوا قلّة أولئك المأجورون من حملة الأقلام والمتعلمين الذين باعوا دينهم وتجاوزوا وجدانهم وضميرهم، وجَلسوا على مائدة الفساد الاستكباري، وراحوا يحققون بأقلامهم مآرب الاستكبار، وبعض جماعاتهم تمارس نشاطها ولا تزال في داخل البلد1.
 
(9) هناك في أمريكا الآن مجاميع.. تستلم الأموال.. تأخذ الأموال من صدام، وتنشط ضدَّ الجمهورية الإسلامية.. وهي تحتاج إلى غطاء ثقافي تتستر به.. 
واصدار مجلة هناك، وكتاب روائي هُنا، هو الذي يوفّر الغطاء المطلوب. انهم يستهدفون تهيئة الساحة من خلال النشاط الثقافي.
 
ومن الخطأ ان ينظر إلى ممارسات هؤلاء على أنّها نشاط ثقافي محض.. وفي الواقع لو كانت هذه أعمال ثقافية محضة، فهي تحتاج أيضاً إلى تعبئة المؤمنين إزاءها، ومواجهته، لكونها تمارس تخريباً ثقافياً.
 
بيدَ انّها ليست ممارسة ثقافية محضة، بل هي ممارسة ثقافية سياسية، وهي ممارسة اقتصادية في جهة من الجهات، لأنها مدعومة من الشركات.. ومن أجهزة الاستكبار.. حتى إذا ما توارت العوامل
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء مع عدد من المعلمين ومسؤولي الشؤون الثقافية، 12/2/1369.
 
 
 
 
 
 
 
61

54

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الحقيقية عن الواجهة وانسحبت إلى الوراء، ظهرت الأعمال بالصورة (الثقافية) التي نعاينها.

 
وَمردّ ذلك ان الخط الأول الذي يكون في مواجهة الشعب، لا يمكن إلاّ أن يكون بهذه الكيفية.. فالقاعدة الجماهيرية العريضة لا تُواجه بالدبابة والمدفع والرشاش، وانما بالكتاب والمجلة والقلم1. (أي بالتخريب الثقافي).
 
(10) أضحى الإسلام اليوم، بالفهم الثوري، أو بحسب تعبير الإمام الراحل، الإسلام المحمّدي الأصيل، حضوره بازاء جميع مظاهر استعراض القوة التي تمارس استكبارياً، بحيث يخشاه الأعداء. فها هو ذا الإسلام يجذب إليه الشعوب، بحيث انك حيثما تتنقل في بقاع العالم الإسلامي أو غير الإسلامي، تجد أعداداً كبيرة من الناس.. من الشباب، يدفعهم الشوق إليه- الشوق إلى هذا الشبح الذي يسمع به ويلمسه عن بعد- وقد عقدوا الآمال عليه. ومرد هذه الحالة إلى انّ الإسلام أضحى الآن الخندق الوحيد الذي بقي يواجه الاستكبار بمثل هذه العظمة والجلال، ويقارع الشيطان وأحابيله.
 
وأضحى العداء نتيجة ذلك، أكثر عمقاً وتجذراً للإسلام وللنظام السياسي الذي يحمي حقيقته ويروّج له ويرفع لواءه.. وفي الواقع هذا هو الجانب الآخر في القضية.
 
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء مع قسم الأدب والفن في الدوائر الأدبية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي، 22/6/1371.
 
 
 
 
 
 
 
62

55

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 ومعنى هذا، ان علينا ان ننتظر عداءاً عميقاً جاداً ومعقّداً من جهة الاستكبار. ولمّا كانَ من المستبعد ان يتجسَّد هذا العداء في شكل هجوم عسكري مسلّح، بلحاظ التجارب السابقة. لذا من المحتمل جداً ان يُلجأ إلى خيارات أُخرى للمواجهة، منها تضييق حلقة الحصار الاقتصادي، وزيادة الضغط السياسي، وممارسة الضغوط عبر ترويج مراكز الفساد والابتذال في الداخل.

 
إن حديثي مكرراً عن وجود مؤامرة ثقافية.. أراها رأي العين.. واتمثلها مجسدة أمامي، هو حديث يستند إلى الأدلة وليس محض شعار. وهذه المقدمات (التي تبرز على السطح الآن) يمكن ان تؤكد ادعاءنا وتقرّبه كثيراً إلى الأذهان.. هذا الادّعاء القائل انَّ العدو اليوم يخوض حرباً ثقافية ضدّنا بتمام المعنى، يوجهها في الداخل بأساليب ذكية جداً1.
 
(11) يعود مبعث تأكيدي على الغزو الثقافي إلى انه يُشكّل جبهة لم تُكتَشف بعد.. وإذا لم نكتشف الجبهة التي يتحرك مِن خلالها العدو، وتتجمع عناصره عندها.. 
وإذا لم نعرف نقطة نفوذه، فكيف يمكننا ان نمارس الدفاع؟ الأمور الضرورية للمجتمع الآن والتي ينبغي ان لا تهمل في مثل هذه الأوضاع، هي أولاً حفظ التوجهات، وثانياً حفظ الإيمان، ثم ثالثاً عدم نسيان العدو والغفلة عن خصومته2.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في تجمع أئمة الجمعة، 25/6/1370.
2- حديث قائد الثورة في لقائه مع قادة الحرس الثوري، 26/6/1371.
 
 
 
 
 
 
 
63

56

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (12) يحصل أحياناً وان تبعث بعض الأحاديث على الملل لكثرة تكرارها وعدم التعاطي العميق معها.. وعدم الاقدام على انجاز الأعمال التي تتطلبها، واتخاذ المواقف التي تستحقها.. وكذلك التعاطي السطحي العابر معها.

 
في مثل هذه الحالة يشعر الإنسان ان تكرار مثل هذه الأحاديث يبعث فعلاً على الملالة. والمتصوّر- لدى البعض- ان مصطلح الغزو الثقافي هو على هذا الغرار.. لذلك لا ينبغي تكراره، في حين أعتقد انَّ هذه القضية ليست من سنخ القضايا التكرارية، ولا يمكن تجاوزها بهذه السهولة.
 
وبالنسبة لي، وان كنت لا أملك الوقت الكافي، إلاّ اني في الغالب أتصفّح المجلات التي تصدر والكتب التي تُطبع، وعلى الأخص الكتب الأدبية والثقافية، وأمرّ على المقالات الجيدة بيدَ اني لا ألحظ إلاّ القليل من الاهتمام بقضية المواجهة الثقافية، رغم انها تتحرك في اطار جبهة، تمارس عملها ضدّنا، وتشن الهجوم علينا بشكل منظّم ومخطّط.
 
ورغم انجاز الكثير من الخطوات في هذا المضمار، إلا اننا لم نصل في الدفاع إلى مستوى تشكيل حركة منظمة وتيار فاعل، لذلك يشعر الإنسان بالخطر.
وما ننتظره هو ان تحاط هذه القضايا حقاً بالاهتمام الجاد وبالمثابرة1.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى مجلس الثورة الثقافية، 9/9/1371.
 
 
 
 
 
64

57

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (13) بادر العدو في البرهة الراهنة إلى تشكيل جبهة واسعة، وظّف فيها أدوات ووسائل مؤثرة، خطيرة وفاعلة، مستفيداً في تعضيدها من العلم والتقنيَّة. وهدف هذه الجبهة هو شنّ هجوم ثقافي شامل ضدّ الجمهورية الإسلامية. طبيعي ان مواجهة هذا الهجوم الثقافي الخطير جداً، والمدمِّر يحتاج إلى ذكاء.. وإلى توظيف أدوات ووسائل مشابهة لما يستخدمه العدو، أو ما يكون بديلاً فاعلاً لها1.

 
(14) الحرب الثقافية تواجـه بمثلهـا. فالفعل الثقافي.. والهجـــــوم الثقافي لا يمكن أن يُواجه بالبندقية.. بل القلم هو الذي يحلّ هُنا مكان البندقية2.
 
(15) أُريد أن أوصي الكتّاب وأهل الرأي وحملة الأقلام.. وأصحاب المنابر الاعلامية، ان لا يخشوا الرأي المخالف.. ترى لماذا يجب ان نهاب الرأي الآخر؟ 
اننا أصحاب منطق وحجة واستدلال.. وكلامنا لا يقتصر قبوله على شعبنا وحده، بل نحن نوجهه إلى مئات الملايين من المسلمين وغير المسلمين.. وحين يكون الكلام منطقياً مدعماً بالحجة والدليل، فلماذا إذاً نهاب الرأي الآخر ونخشى من إنسانٍ يبدي رأياً معارضاً؟!
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى مجلس الثورة الثقافية، 9/9/1371.
2- حديث قائد الثورة في لقاء مع عدد من المعلمين ومسؤولي الشؤون الثقافية، 12/2/1369.

 
 
 
 
 
 
65

58

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 أجل، أي كلام يجانب الصواب، يجب أن يُردّ عليه، ولا يبقى هكذا دون جواب، ولكن بشرط أن لا نحيد عن جادّة الأدب1.

 
مقولة الثقافة تختلف عن مقولة ساحة المعركة، والمقولة الثقافية لا تخضع للعصا والسوط (القمع والقوة)، فكل ميدان يتطلب أداة وسلاحاً من سنخه. ونحنُ لسنا قلقين حتى مما يقوم به المعارضون للجمهورية الإسلامية، من حشدٍ لأساليب فكرية دقيقة، ووسائل وأدوات ثقافية، في توجيه الحملة المعارضة لها، وشنّ الحملات الفكرية ضدّها، وبث الأفكار التي تختلف معها.
 
وبالنسبة لي شخصياً، لستُ غير قلق وحسب، بل أشعر بالفرح في بعض الأوقات، لما يتسّب به طرح الفكر المعارض من بث حركة في المجتمع، تعدّ مغنماً بالنسبة لنا.. لذلك لا نستاء من هذه الحالة بل نستقبلها. ولكن شرط أن يكون إلى جوارها تيار (نقدي) من بين الأدباء والمثقفين والكتّاب والشعراء والفنانين والسينمائيين والأساتذة والعلماء، يتحرك بشكل جبهة عريضة لمواجهة الهجوم الثقافي الذي يوجه العدو مساره...
 
والمسألة جدُّ مهمة.. انها ترتبط بايران والإسلام، فالعدو يبغي العبث بأعزّ ثروات الأمّة.. يريد أن يسخر منها، لذلك علينا أن نبادر لايجاد الجبهة الثقافية، وأن نضع المتاريس الثقافية... فاليوم عمل ومثابرة.. وعلى كلّ مستطيع ذي استعداد أن يبادر للعمل في المجال الثقافي.. لا سيّما وأن هُناك الكثير ممّا يجب عمله في هذا المضمار.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء مع عدد من المعلمين ومسؤولي الشؤون الثقافية، 12/2/1369.
 
 
 
 
 
 
 
66

59

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 من الضروري أن نتحرك، وأن نبادر في هذا المجال، وأنا أوجّه خطابي إلى جميع أهل الفكر والثقافة، والأدب والفن، والعلم والمعرفة1.

 
3- الفوارق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي
 
(1) نحنُ إيرانيون.. فعلينا إذاً أن نبحث عما يتصل بنا، ونعثر عليه. بديهي هذا لا يعني أن لا نتعلّم من محاسن الآخرين. فالإنسان يتعلّم مما لدى الآخرين من محاسن وأشياء جيدة، ولكن من الأفضل أن يذوّب ما يكسبه داخل إطاره الثقافي، ثم يستفيد منه.
 
لقد تحدّثت مرَّة عن الثقافة، وقلت لا ضير من تلقي ثقافة الآخرين، ولكن على نحوٍ يتم فيه التمييز بين كيفيتين. ولتقريب المسألة نضرب لها مثالاً من عمل جسم الانسان... فجسم الإنسان يتعاطى مع العناصر الغريبة عنه بكيفيتين.. في الكيفية الأولى يتناول الإنسان طعاماً يحوي فيتامينات مختلفة، فيخلط الطعام باللعاب ويدفعه إلى داخل المعدة. وحينئذٍ تمتص المعدة ما تراه مفيداً مناسباً للجسم، وتترك الباقي، فتدفعه وتلفظه.
 
هذا هو التعاطي الايجابي. وبإزائه ثمة نوع آخر من التعاطي، إذ نأتي بالإنسان ونرسف يديه بالقيود، ثم نحقن في بدنه مادة لا يريدها ولا يرغب بها هذه الحالة هي غير الحالة الأولى في التعاطي مع العناصر الغريبة عن الجسم، وكان يمكن للمسألة أن تهون لو أن الحقن في الحالة الثانية، يتم من قبل طبيب عارف، وحريص على الإنسان.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى مجموعة من شعراء وأُدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
 
 
 
 
 
 
 
67

60

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 ولكن ماذا لو كان هذا الطبيب عدواً، فماذا تراه يحقن بجسم خصمه؟


هذا المثال، يلخص قصتنا مع الثقافة الغربية، فنحن اليوم مع الأسف، نستهلك الثقافة الأجنبية، وهي تجدُ طريقها سالكاً إلى أجسامنا، من دون أن يصدر عنّا ردّ فعل.

وهذا هو ما يصطلح عليه بالغزو الثقافي.

يتخيل بعضهم إنه هو المعني بالقضية. في حين إنَّ المسألة تأخذ بعداً آخر، فالغزو الثقافي يأتينا من جهة معادية.. من جهة الغرب، وعلينا أن نستيقظ ونعي المسألة.. فنحن لا يسعنا أن نقول للعدو لا تتعامل معنا بعداوة وخصومة، لأنَّ العداوة من طبيعة العدو. لذلك لا نملك، أنا وأنتم، سوى أن نستقيظ ونلتزم جانب الحذر.

أجل لو عثرنا في معارف الغرب على ما يناسبنا، فعلينا أن نجذبه، ونتعاطى معه كما يتعاطى الإنسان السليم مع الغذاء، إذ هو يجذب المفيد لجسمه ويدفع الضار. وكذا الحال- مع منتجات ثقافة الغرب- إذ علينا أن نتعامل معها تعامل الجسم السليم الحي.. نأخذ ما يفيدنا ونلفظ ما لا ينفعنا.

في ضوء ذلك، لا يصح أن نتعامل مع ثقافة الآخر، تعامل الإنسان الفارغ، الخالي من أي شيء.. الفاقد لكل خلفية، كما لا يصح أن نتعامل معها تعامل الإنسان الحائر الثَّمِل.

لا أدري ماذا دهانا، حتى تُحقن الثقافة الغربية بمثل هذا الشكل في أبداننا، في حين إننا نملك إمكانية الاختيار؟ ما هو حاصل الآن أن موج الثقافة الغربية يغزونا وينفذ في وجودنا من خلال الراديو
 
 
 
 
 
 
 
68

61

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 والتلفزيون وكتب الموضة والموديلات والمجلات، ومن خلال الموج الدعائي والصخب الاعلامي1.

 
إذا انفتح مجتمع ما على المعارف، فستزداد مناعته في مقابل العدو. وإذا كان للمجتمع رغبة وولع في العلم، فسيبادر حين يتواصل مع البلاد والمجتمعات الأخرى، لكسب العلم وأخذه منها.
 
لقد مارست القدرات الاستعمارية نشاطها في إيران منذ سنوات بعيدة، وعندما جاء الحديث عن التبادل والتفاعل فيما بين بلدنا والبلدان الأخرى. رأينا المسألة تأخذ مساراً ضاراً. فبدلاً من أن نعرض ثقافتنا العظيمة أمام العالم ليتعلّم الآخرون منها، ونستفيد نحن في المقابل من علوم الآخرين، رأينا أنفسنا نعرض صناعتنا اليدوية مثلاً في معارض الآخرين، ونعطيهم نفطنا لكي يدير عجلة مصانعهم، وبالمقابل، نبقى جلوساً هكذا بانتظار أن يهبونا ثقافتهم الفاسدة!.
 
هذه هي خلاصة قصة طلائع دعوة ارتباط إيران ثقافياً مع الغرب. فأولئك الرموز والروّاد الأوائل، لم يَدْعوا مواطنيهم الايرانيين أبداً إلى كسب ما يستطيعون كسبه من العلم من الغرب. ولو كانوا قد دعوا إلى ذلك لاستقبلنا دعوتهم.
 
ونحنُ الآن نعلنها بصراحة.. إن العالم شهد تقدماً في العلوم، وأبقانا متخلفين قرنين أو ثلاثة قرون عن ركبه.. علينا أن نلحق بالركب ونبلغ التقدم... علينا أن نستفيد من علومهم ونكتسبها. الدعاة الأوائل لارتباط إيران والتحاقها بالغرب (المتغربون الأوائل) لم يقولوا هذا،
 
 
 

1- حديث قائد الثورة لأعضاء اللجنة المركزية لجمعية النساء، 15/2/1371.

 
 
 
 
 
 
69

62

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 وإنما دعوا إلى أن تلتحق إيران بالغرب ظاهراً وباطناً.. في الشكل والمظهر.. وفي اللباس.. وأن تكتسب شكلاً غربياً في الأخلاق وفي الارتباطات والعلاقات اللامشروعة وفي كلّ شيء.

 
وقد لمسنا تبعات هذا الارتباط غير السليم أواخر العهد الملكي المنحوس، وما زالت رواسب ذلك العهد- في مجتمعنا- حتى الآن.
 
التعليم والتعلم أمران ضروريان.. وعلى كل واحد منّا أن يتعلّم.. فحين نعود إلى الاسلام في الحديث المشهور "اطلبوا العلم ولو في الصين"، نجد أنه لم يكن ثمَّ ما هو أبعد منها، من البلدان عن وطن المسلمين. ومؤدى المثال أن يكابد المسلم المشاق ليكسب العلم وليتعلّم.
 
هكذا علّم النبي المسلمين.. ونحنُ اليوم على هذه العقيدة.. علينا أن نستفيد من جميع العلوم، ولكن بشرط أن يكون مبتغانا تعلم العلم ونيله، وليس كسب مفاسد الأخلاق.. التلوّث الأخلاقي.. الادمان.. الأمراض الخطيرة المميتة كالطاعون الأمريكي المسمى بالأيدز، وبقية ضروب المفاسد الأخلاقية.
 
ينبغي أن ينفتح المحيط الاجتماعي على قضية التعليم، بحيث يشيع حالة التعليم والتعلّم وتنشط في أجوائنا. بديهي إننا نحتاج إلى التربية والتهذيب الاخلاقيين إلى جوار التعليم. ولو سلكنا الطريق السليم في التعليم، فهو ينطوي على التزكية1.
 
(3) يحصل أحياناً وأن يكون العلم بيد أعدائنا، فنذهب إليهم وننحني
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء مع أبناء الشعب بمناسبة يوم العمال، 9/2/1971.
 
 
 
 
 
 
 
70

63

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 أمامهم لكسبه.. ليسَ في ذلك ضير، فالعلم أرفع شأناً من أن ينصرف عنه الإنسان لعداوة مع من يستحوذ عليه ولكن ما نريد الوقوف عنده هو أن يخضع الانسان إلى تأثير العدو ويكون تابعاً له وتحت سلطته، وذلك في المسائل التي لا تنتسب إلى العلم.. 

أي في السياسة والثقافة وما شابه ذلك.
 
ما يريدونه لما يطلق عليه بالعالم الثالث، وما يخططون له، هو التبعية الثقافية والسياسية. لقد رتبوا الأمور على نحو لا يتم فيه تبادل العلم والتقنيَّة.
 
ويمكن أن ندرج معضلة فرار العقول وهجرة الأدمغة، التي يعاني منها العالم المتخلّف منذ عشرات السنين، في هذا المضمار.. فهم يخطفون أفضل الطاقات والعقول التي تتحلّى بها بلادنا، بل ولم يسمحوا- في إطار إبقاء حالة التخلّف وترسيخ التبعية- للطاقات المستعدّة التي تلقت تعليمها في العالم الثالث نفسه، أن تعود للخدمة إلى بلادها1.
 
(4) ثمّ فارق بين الغزو الثقافي وبين التفاعل أو التبادل الثقافي. يُعبّر التفاعل الثقافي عن ضرورة تحتاج إليها الشعوب. فليس ثمة شعب من الشعوب يستطيع الاستغناء عن الافادة من معارف الشعوب الأخرى.. والثقافة والمسائل التي تندرج في العنوان الثقافي هي من بين ذلك.
 
لقد كان مسار التاريخ كاشفاً أبداً، عن حالة التفاعل هذه ويشهد عليها.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى مجلس الثورة الثقافية، 20/9/1370.
 
 
 
 
 
 
 
71

64

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 قادت العلاقة بين الشعوب والتواصل فيما بينها، إلى التفاعل فيما بينها على صعيد آداب العشرة.. الأخلاقيات العامة.. العلم.. شكل اللباس.. طراز الحياة.. اللغة.. 

المعارف.. والدين. وهذا الضرب من التفاعل يفوق في أهميته عملية التبادل الاقتصادي والسلعي.
 
شهدنا طوال التأريخ أمثلة قادَ فيها التفاعل (التبادل) الثقافي إلى تغيير دين بلد بأكمله. فالذي حصل على سبيل المثال في شرق آسيا، أي في شرق المنطقة الإسلامية، هو دخول الإسلام إلى بلاد من أمثال أندونيسيا وماليزيا. وأجزاء مهمة من شبه القارة، عن طريق أفراد قلائل (آحاد) من الشعب الإيراني. وَلم يتم نشر الإسلام هُناك عن طريق ممارسة المبلغين للدعوة.. وإنما تحوّل الشعب الأندونيسي الذي ربّما يعد اليوم أكبر الشعوب الإسلامية، إلى الإسلام عن طريق حركة التجار والسيّاح الإيرانيين.
 
إذن لم يصل الاسلام إلى تلك المنطقة للمرة الأولى، لا عن طريق الدعاة والمبلغين الدينيين، ولا عن طريق السيف والحرب، بل كانت الفضيلة لعملية التزاور والتبادل الثقافي.
 
لماذا نذهب بعيداً، ونحن نجد أن شعبنا تعلّم أشياء كثيرة طوال تأريخه من الأمم الأخرى. وحالة التفاعل هذه تعدّ أمراً ضرورياً للعالم برمته، لكي تبقى الحياة الثقافية والمعرفية نابضة بالحركة والحيوية والتجدّد.
 
هذا هو ما نعنيه بالتبادل الثقافي الايجابي والمطلوب1.
 
 
 

1- خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
 
 
 
 
 
 
 
72

65

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (5) الهدف من التبادل الثقافي هو اثراء الثقافة الوطنية وسوقها نحو التكامل. أما الغزو الثقافي فهو يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاثها.


في مسار عملية التبادل، تأخذ الأمة ما تراه لائقاً جيداً من ثقافة الآخرين، وما هو مورد علاقة بالنسبة إليها.

افرضوا مثلاً.. إن الشعب الإيراني رأى في الشعوب الأوروبية إنها تتصف بالمثابرة (بمعنى الصبر والاصرار على انجاز الشيء) والتوثّب وروح المغامرة، فلو إنه أخذ هذه الصفات منها، لكان ذلك أمراً حسناً.

وفي مثال آخر، نرى أنَّ الإيراني حين يذهب إلى أقصى نقاط شرق آسيا يجد الناس تتحلى بالاحساس بالمسؤولية، وبوجدان يقظ في الانكباب على العمل.. 
وبالمثابرة والانضباط والنظم.. وتظهر شوقاً وافراً للعمل.. تستثمر الوقت وتقدّر قيمته.. تتبادل المحبة فيما بينها، وتتحلى بالأدب، فلو أنه اكتسب منها هذه الخصال لكان ذلك أمراً حسناً.

يبادر الشعب في التبادل الثقافي إلى النقاط الايجابية، وما يقود إلى تكامل ثقافته واثرائها فيستعمله، تماماً كالإنسان الذي يُصاب بالضعف في بدنه، فينكب على تناول الغذاء الجيّد أو الدواء المناسب، لكي يتعافى وتعود إليه السلامة مجدداً.

أمّا في الغزو الثقافي، فإنَّ الأمة المستهدفة بالغزو تُغذى بأمور سلبية وثقافة ضارَّة. على سبيل المثال، عندما بدأ الغزو الثقافي الأوروبي لبلدنا، لم يصطحب الأوربيون معهم قيماً من قبيل روحية احترام قيمة الوقت.. الشجاعة والاقدام.. تحمل الأخطار في مواجهة
 
 
 
 
 
 
 
73

66

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الأمور.. وروحية التدقيق والمثابرة في البحث العلمي، ولم يريدوا لشعبنا أن يتربى على هذه القيم ويتبعها، لكي لا يكون الشعب الإيراني شعباً يتحلى بالمسؤولية وبضمير يقظ في الانكباب على العمل.. ولا أن يتصف بالمثابرة العلمية.

 
كلّ الذي جلبوه إلى هذه البلاد هو التحلّل والاباحية الجنسية1.
 
(6) إذا شئنا أن نشبّه الشعب الذي يتلقى ثقافة الآخر في إطار التبادل الثقافي، بمثال من الحياة الإنسانية، فيمكن أن نستفيد من حالة انسان يذهب إلى السوق وينتخب ما يشاء من الطعام والدواء. أمّا في الغزو الثقافي، فإنَّ الشعب المستهدف يكون كالمريض الذي سقط إلى الأرض لا يقوى على الحراك. ثم يأتي إليه العدو مُنتهزاً الفرصة، ويحقنه بدواء، وحينئذٍ علينا أن نعرف طبيعة الدواء الذي يحقنه العدو في جسم خصمه؟
 
الفرق واضح بين الحالتين.. بين أن تنتخب الدواء أو الغذاء المناسب لحاجة بدنك، وبين أن يختار لك عدوّك.
 
وعليه، يكون التبادل الثقافي هو مبادرة تنطلق من عندنا، أما الغزو فهو مُبادرة يمسك بها العدو، ومعركة يشنها العدو ضدّنا، كي يستأصل ثقافتنا الذاتية. لذلك نعد التبادل الثقافي ايجابياً، أما الغزو الثقافي فهو أمر سلبي.
 
 
 

1- خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
 
 
 
 
 
 
 
74

67

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 ومن جهة أخرى، ينطلق مسار التبادل الثقافي في زمن قوة الأمة واقتدارها وامتلائها، أما الغزو فيحصل في زمن ضعف الأمة وهزالها1.

 
(7) الاستفادة من ثقافة الآخرين هو أمر يبعث على التكامل. ولكن ثمَّ فرق بين حالة يمتلك فيها الإنسان حرية انتخاب الطعام أو الدواء الذي يوائم جسمه وصحته، بحيث يختار ما يحتاج إليه من بين مئات الأطعمة والأدوية، بمعرفة ويقظة ووعي، وبين أن يُجبر على طعام أو دواء يسبب له ضرراً. ليفترض أحدنا أنه بحاجة إلى فيتامين (C) فحينئذٍ ينصرف للبحث عنه، ثم يتناوله على قدر حاجة جسمه له. وهذ فعل ايجابي، لا ضير فيه، حتى لو كان من منتجات الأجانب وصناعتهم.
 
وثمة إلى جوار هذه الحالة، حالة ثانية يسقط فيها الإنسان مغشياً عليه، فيأتي أحدهم ويحقن جسمه بدواء ما.. لا نعرف طبيعة هذا الدواء.. ولا مقداره وكميته.. 
وفيما إذا كان نافعاً ومفيداً.. أو مخدراً ضاراً أو سماً ذعافاً، في مثل هذه الحالة يسقط الاختيار ولا يكون ثمة معنى للانتخاب.
 
هذه أمور ينبغي أن ننتبه إليها، فالذي كان يحصل في العهد البهلوي البائد هو ممارسة من هذا القبيل، حيث كان الشعب يغذّى بثقافة الأجانب. بمعنى إنَّ أخذ ثقافة الآخر في الماضي لم يكن بهدف
 
 
 
 

1- خطاب قائد الثورة في العاملين بالحقل الاعلامي والمسؤولين عن دوائر التربية والتعليم، 21/5/1371.
 
 
 
 
 
 
75

68

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

  تحقيق التكامل، بل بهدف اغراق الشعب بمستهلكات الثقافة الأجنبية التي لا قيمة لها.

 
والشكلُ السليم هو أن يكون ثمة اختيار وانتخاب، لكن لم يكن للشعب اختيار في المسألة.
 
وإذا شئنا الانصاف، فإنَّ ثقافة الغرب الآن، تنطوي على عناصر ايجابية مفيدة.. وهذه مصيرية بالنسبة إلينا.. علينا أن نجذبها ونتعلمها.. الأشياء النافعة في ثقافة الغرب كثيرة.. وإذا لم يكن ثمة وجود لهذه الأشياء النافعة لم يكن الغرب يصل إلى ما وصل إليه اليوم.
 
الفساد الواسع الذي يضرب ببجرانه المحيط الغربي، وكان يفترض أن يأتي على الغرب، ويستأصل وجوده من الجذور، إلاّ أنَّ سبب بقاء كيانه واستمراره يعودُ إلى وجود عناصر، هي حقاً عناصر متينة في وجودهم، من قبيل إن انسانهم انسان منظم.. مثابر.. كثير العمل.. لا يتعب.. عنده اصرار.
 
لذلك كله يجب علينا أن نأخذ العناصر الايجابية في ثقافتهم ونستفيد منها1.
 
(8) حين نعود إلى أولئك الذين فتحوا أبواب البلد طوال سنوات متمادية أمام الثقافة الغربية، لا يصح أن نقول أنهم لم يكونوا يعرفوا (طبيعة) الثقافة الوافدة، ولم يدركوا الموقف، وأنهم أُخذوا بالأمر الواقع واضطروا لقبول هذه الثقافة المستوردة التي دخلت إلى ايران. أبداً، بل
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء أعضاء القسم الأدبي في الدائرة الأدبية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي، 12- 7- 1372.
 
 
 
 
 
 
76

69

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 أقبلوا عليها لسبب كونها ثقافة أجنبية.. وهم من عباد الأجنبي ومحبيه.. يعيشون إحساساً بالاستلاب والتعاسة في ذواتهم.. لذلك فتحوا أبواب البلاد، وأضحى مثلهم- في ذلك التنصل من ذواتهم والانسلاخ عنها والميل إلى عبادة الأجنبي، الغربي تحديداً- مثل الطفل الجاهل الذي لا يقيم وزناً لقيم أبيه، وإنما تدفعه الجهالة للارتباط بشخص بعيد، وللميل إليه، رغم أنه أقل وأضعف من أبيه1.

 
(9) هناك فرق بين العلم والتقينَّة وتبعاتهما، وبين الثقافة. فهما مقولتان منفصلتان، وإن كان العلم يعدّ فرعاً من الثقافة. فالثقافة بمعناها الخاص، هي بالنسبة لأمة من الأمم، عبارة عن الأفكار والمعتقدات والسنن والآداب والذهنية العامة، والذخائر الفكرية والعقلية لتلك الأمة.
 
ومن هذه الجهة بالذات لسنا فقط غير متأخرين عن ركب العالم المتقدم علمياً وتقنياً، بل نحن متفوقون عليهم في الكثير من هذه الجهات.
 
بديهي لا نريد أن ننساق وراء التهويل والمبالغة ولا أن نسقط في هوّة الأحكام المطلقة، فالأجانب والأوروبيون بالذات متقدمون علينا في بعض فروع الثقافة2.
 
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء علماء تبريز، 5/5/1372.
2- حديث قائد الثورة في لقاء علماء تبريز، 5/5/1372.
 
 
 
 
 
 
 
 
77

70

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 4- الخلفية التأريخية والجذور العلمية والثقافية لإيران المسلمة

 
(1)نحن شعب عريق فلماذا نخاف؟ لنا إمكانات كثيرة.. وشعبنا يتحلّى باستعدادات علمية وله الكثير من الذخائر المادية، بالاضافة إلى خلفيته التأريخية والجذور العلمية والثقافية التي يستند إليها.. وعندنا ما هو أهم من ذلك.. الإيمان الاسلامي والتوكل على الله.
 
شعبنا شعب مستقل، يجب عليه أن يتكىء على نفسه.. وعلى المسؤولين أن يعتمدوا على استعداد الشعب وقابليته، ولا يمدّوا يد الحاجة إلى العدو.. العدو ينتظر من الشعب الملتف حول القرآن والإسلام، أن يظهر ضعفه وعجزه، وعلينا أن لا نعطي العدو مثل هذه الفرصة.. بحيث يشعر أنَّ الضعف يدبّ بيننا. بين صفوف شعبنا شباب له استعداد ومؤهلات علمية.. روح الابتكار متوفرة بكثرة في شعبنا... وهذا الشعب يستطيع أن ينهض ويعتمد على نفسه ويقف على قدميه.
 
إنهم على عداء مع الإسلام.. والذي ينصب العداء للمؤمنين بالإسلام لن يمدّ يد العون إلى المؤمنين.. هذه حقيقة يجب أن يعيها جميع المسؤولين في القطاعات المختلفة.
 
لا نملك إلاّ أن نعتمد على أنفسنا.. ونتكىء على ذخائرنا العلمية والقدرات المادية، وثروات أرضنا. طبيعي لا يجب أن نغلق باب التبادل التجاري، ولكن علينا في الوقت نفسه أن لا نستسلم أمام العدو، ونُقهر بإزاء قدرته1.
 
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء أئمة الجمعة والجماعة والعلماء وجمع من أبناء الشعب، 10/4/1371.
 
 
 
 
 
 
78

71

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 إنّه أمرٌ يبعث على الأسف الشديد (أن تبرز مظاهر الغزو الثقافي وتميل بعض التيارات إلى الغرب) في شعب مثل شعبنا، له خلفية حضارية وثقافية ومعرفية عريقة.. إن جزءاً من عراقة شعبنا تمتد طوال 1300 سنة بعد دخول الاسلام، وهذه الفترة مملؤة حقاً، بالإنجازات والنقاط المضيئة.

 
لا نملك المعلومات الكافية عن فترة ما قبل الإسلام، بيدَ إنّا نفهم اجمالاً، إن شعباً بهذه الخصوصيات، كانت له و- لا بدّ- ثقافة بالغة.
 
ما يعنينا هو تأريخ الاسلام، فببركة الإسلام برز الشعب الإيراني وأظهر نبوغاً وتميزاً.. فعادت انجازاته ومآثره لتعم ليس دنيا الإسلام وحده، بل العالم بأسره.. وقد دوّن التأريخ مآثره وخطّها سطراً سطراً.
 
وإذا كنا في غفلة عن هذه المسألة، فبمقدورنا أن نعود إلى التأريخ كي نتلمسها1.
 
(ونبقى في هذا المضمار لنشير إلى نقطتين لهما صلة بالموضوع، هما:
أ- الصلة التاريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما.
ب- التفتح العلمي هدف أساسي للثورة الإسلامية في إيران).
 
أ- الصلة التاريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما
 
(1) مضى ألف عام والعلم والدين توأمان يعيش أحدهما إلى كنف
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء أعضاء القسم الأدبي في الدائرة الأدبية التابعة لمنظمة الاعلام الإسلامي، 12/7/1372.

 
 
 
 
 
79

72

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الآخر في تاريخ هذا البلد. فلم يكن كبار العلماء في تاريخنا من أطباء بارزين.. وفلكيين كبار.. ورياضيين نوابغ، وغيرهم ممن زالت أسماؤهم معروفة واكتشافاتهم متداولة في العالم، سوى علماء بالله.. أصحاب دين ومفكرين دينيين.


حين نأتي إلى ابن سينا على سبيل المثال، الذي لا زال كتابه في الطبّ يُعدّ كتاباً علمياً حياً، وكانت له آثار بارزة في مختلف الشؤون خلال ألف عام، بحيث أضحى له حضوره كوجه لامع في تاريخ البشر، وفي مختلف ضروب المعرفة، وكان اسمه متداولاً وما يزال، وقد ارتبطت باسمه بعض الانجازات العلمية في تاريخ العلم.. حين نأتي إليه نجده من العلماء بالله.. والمفكرين الدينيين.

والذي نراه أن ثمة عاملين كان لهما أثرهما في تخلف المجتمع الاسلامي، وبقائه بمعزل عن ركب التقدم:
الأول: نظرة سوء الظن والشك، التي استحوذت على موقف علماء الدين إزاء العلم، وذلك بعد أن أضحى الغربيون مهيمنين على ناصية العلم الطبيعي في العالم. 
فموقف الريبة من الغرب دفع بعلماء الدين إلى رفض (العلم الغربي) ونبذة من الساحة.

الثاني: إنَّ العدو الكافر لم يكن على استعداد ليسمح لعلمه أن ينفذ إلى داخل الحوزات العلمية التي تعدّ مركزاً للدين.

كان أحدهما يفرّ من الآخر وأصبحا عدوين. ومردّ ذلك أن (العلم الغربي) تحوّل في كلّ جزء من العالم، ومنه العالم الاسلامي، إلى سلاح بيد السياسات المضادة للدين.

كان القرن التاسع الذي بلغ البحث العلمي فيـه أوجَـه في الغـرب،
 
 
 
 
 
 
80

73

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 هو قرن الانفصال عن الديـن، وطـرده مـن معـترك الحيـاة. وقد أثر هذا المسار على بلادنا، فكان أن أُرسيت دعائم الجامعة على أسس غير دينية، مما أدّى بالعلماء إلى أن يصدّوا عنها، وفي الوقت نفسه صدّت الجامعة عن العلماء والحوزات العلمية- ووقعت القطيعة بين الاثنين-.


 
لقد كان لهذه الظاهرة المؤلمة تبعات سيئة على الحوزة العلمية.. لأنها صرفت علماء الدين للاهتمام بالمسائل الدينية الذهنية (النظرية) والاقتصـار عليهـا وحـدها.. صـاروا فـي عـزلـة عـن التحـولات التي تطرأ على الدنيا من حولهم، وبقي مسار التقدم العلمي المطّرد خافياً عليهم.
 
لقد اختفت إثر ذلك روح التحوّل (التجدّد) في فقه الإسلام، وغابت هذه الحركية في استنباط الأحكام الدينية، داخل الحوزات1*.
 
وبذلك بقيت الحوزات بعيدة عن وقائع الحياة والتحولات العظيمة التي شهدها المحيط العالمي.. وانشغلت في الغالب بسلسلة من المسائل الفقهية الفرعية، مما أدّى في نهاية المطاف إلى ترك أمهات مسائل الفقه من قبيل قضايا الجهاد.. تأسيس الحكومة، اقتصاديات المجتمع الإسلامي، وكل ما يدخل في فقه الدولة (فقه الحكومة) بحيث أضحى هذا اللون من ضروب الفقه منزوياً، بل نسياً منسياً. لقد توفر جلّ
 
 

*-لقد كانت روحية التحول هذه مشهودة في فقه الإسلام، وهو يتواصل مع التحولات العالمية العظيمة، ذلك أن المراد من الفقه ن يفي بحاجات المجتمع الذي يقوم على أساس القرآن والسنّة.
1- حديث قائد الثورة إلى مجموعة من شعراء وأدباء وفناني تبريز، 5/5/1372.
 
 
 
 
 
 
 
81

74

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 اهتمام (القوم) على المسائل الفرعية، وعلى فروع الفروع، في حين بقيت الوقائع المهمة وقضايا الحياة الملحة بعيدة في الأغلب عن مدار الاهتمام. وكانت هذه ضربة ألمّت بالحوزات العلمية.

 
لقد استغلت التيارات السياسية هذه الحالة وعززت انفصال الحوزة عن الحياة من خلال الدعاية، وعبر توظيف أساليب شيطانية في هذا المضمار.
 
أما الجامعات التي أُسست على أساس أن تكون اللبنة الأولى في صرح القطيعة مع الحوزات العلمية ومع الدين، فقد وقعت بيد حثالة تفتقر إلى الدين والأخلاق الإسلامية، وتفتقد المؤهلات السياسية، وبعيدة عن النظم1.
 
(2) علينا أن ننمّي الروح العلمية بحيث تنبث روحية التطلّع العلمي بين جميع المستويات في المجتمع. فالتوجه نحو العلم (روحية التطلع العلمي) هي مسألة في غاية الأهمية. بديهي يتوهم بعضهم خطأً أنَّ التوجه نحو العلم لا يتوافق مع التوجه نحو الدين.
 
لقد شهدنا في السنوات الأخيرة دعوات بعضها ينطوي على غرض سياسي، وبعضها خالٍ من الغرض السياسي.. نحن نعرف هؤلاء، فقد يخفى الهدف السياسي على عامة الشعب، بيدَ إنّا نعرف ماذا يهدف فلان من دعوته، ونحدس سريعاً ما الذي يريده، لأنّنا أدرى بسوابقه وأعرف بها.
 
المهم أن بعضهم يروّج التوجه نحو العلم ليحقق غرضاً مؤدّاه: إن
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في مجموعة من العلماء والجامعيين والطلاب، 29/9/1368.
 
 
 
 
 
 
 
82

75

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 التوجه الذي يشهده مجتمعنا نحو الدين في الوقت الحاضر يتنافى مع التوجه نحو العلم، ومن ثمَّ يمكن صدم وعي الناس الديني من خلال ترويج الروح العلمية واشاعة العلم!.


هؤلاء على خطأ.. فإذا كان منظورهم من الدين هو الإسلام الذي ننتمي إليه، فهذا الدين هو الذي صنع الثورة.. وربى المقاتلين لميادين القتال. وهو الدين الذي يدعوا الناس إلى العلم.

فحينما نعود ونفحص عن العلة التي جعلـت المسلمـين يحملون مشعل العلم ويمسكون به في العالم، طوال عدّة قرون، ويمثلوه على أعلى مستوى، نجدها متمثلة بهذا الدين، بالإسلام، فالأسماء التي لمعت بين الفارابي وحتى الخواجه نصير الديـن الطوـسي، هم ثمـرة هذه القرون..

وما يهمنا الاشارة إليه أنَّ رؤى أمثال الخوارزمي أو ابن سينا لم تنسخ في مجال اختصاصها (العلمي) الذي تحركت فيه، وهي لم تبطل، بل هي صحيحة، وإن استكملت برؤى جديدة، كانت تلك أساسها.. قد انبثقت من الإسلام برمتها.

كان الاسلام هو العامل الأساس الذي رفع المسلمين إلى ذروة العلم.

إنكم تعرفون إن أوروبا شهدت في قرون ضديتها للدين، ظهور روّاد العلم وهم من الحملة الأوائل لمشعل العلم الديني أيضاً.. من هؤلاء روجر بيكون الذي كان قسيساً فرانسيسياً (نسبة إلى سان فرانسيس القديس:1182-1226)- والفرانسيسيون جماعة من القساوسة الزهّاد الذين كانوا يتبعون سان فرانسيس، الذي كان بدوره قديساً معروفاً تنسب إليه مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية لميلهم إلى اطلاق
 
 
 
 
 
 
83

76

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الأسماء المقدسة على المدن. كان سان فرانسيس هذا قديساً معروفاً، عاداه جهاز البابا لما كان يبديه من نقد لبذخ الجهاز، عداوةً شديدة. وكان مبعث العداوة موقف القسيس فرانسيس المعارض لمظاهر الجاه والثراء والبذخ في جهاز البابا، وميله إلى الزهد-.


وإذا أردنا على سبيل المثال أن نعثر من بين الفرق الإسلامية على مثال لروجر بيكون، فهو يشبه فرقة (دراويش خاكساري) من الصوفية، الذين كان عملهم الدروشة. وفي مجال القسوسة برز روجر بيكون من روّاد العلم، الذي ربما كان في القرن الثالث عشر.

ومعنى ذلك إن أول التجليات العلميـة الـتي ظهـرت في أوروبـا وقادت في نهاية المطاف إلى التحوّل العلمي الذي شهدته هذه القارة، حصل من قبل شخصيات دينية... شخصيات دينية متفتحة وليست متبلدة الذهن.. هذه الشخصيات هي التي أوقدت أُولى جذوات التحوّل العلمي.

وحينما نعود إلى ابن سينا- الشخصية المنبثة من داخل تربتنا الإسلامية- نجده هو الآخر عالماً دينياً، بل كان كما نعرف، وكما يظهر من كتابه "الاشارات" عارفاً بمعنى من المعاني.

كذلك كان غيره... فالبيروني مثلاً هو عالم ديني، رغم تفوقه في الرياضيات والنجوم وعلوم أخرى، وكان من الشخصيات اللامعة.. أو البهائي الذي كان " آخوند- ملاّ" عالمَ دين فقيهاً بمعنى الكلمة ومن أهل العبادة والتهجّد أيضاً.. والذي حصل في عصر الشيخ البهائي إنَّ العلوم الدينية اكتسبت مسيرها العلمائي الصنفي الذي هي عليه الآن، وذلك خلافاً لما كانت عليه قبل ذلك، إذ كانت لا تقتصر معارف عالم 
 
 
 
 
 
 
84

77

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الدين على أصناف العلوم (الرسمية المتداولة) في الصنف العلمائي- الحوزوي اليوم- بل كان عالم الدين عارفاً بجميع العلوم والفنون (العلوم الدينية وغيرها) فابن سينا مثلاً كان له تلاميذ في الفلسفة كما كان له تلاميذ في الطب.

أما الشيخ البهائي فقد برز في بيئة كانت فيها العلوم قد انفصلت بحيث أضحى العالم الديني مختصاً بتحصيل لون معين من المعرفة (الدروس الرسمية المتعارفة حوزوياً) وعليه أن يعتلي المنبر ويقوم في المحراب وحسب.

وحين نرجع إلى أبي ريحان- مثلاً- نجد من بين مؤلفاته كتاب "تحقيق ما للهند"، والعنوان في الواقع جزء من بيت شعر نصه:
تحقيـق مــا للهنـد من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة

لم تكن الروح الدينية إذاً على تنافٍ مع الروح العلمية، بل كانت سنداً لها.

ينبغي لكم أن تنموا الروح العلمية في المجتمع وتزيدوا من التوجه نحو العلم.

إن هذا الكون يقوم على قاعدة وله قانون ينبسط على جميع أجزائه، وقد أمرنا الدين أن نكشف عن هذا القانون كي يكون بمقدورنا أن نـديــر الوجــود.. ومـردّ ذلـك أنّ الانسـان خلـق لكي يكون حـاكمـاً للأرض ومسخــراً لمـا فيهـا وتحتهـا، لا أن يكون محكومـاً مـن قبلها.

لذلك لا يمكن للإنسان أن يتمثل موقع الحاكمية ومركز الخلافة في الأرض، هذا الموقع الذي يعكس فلسفة وجوده والوظيفة الأصيلة التي
 
 
 
 
 
 
85

78

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 يجب أن ينهض بها، من دون أن يعرف قوانين الأرض.. قوانين الطبيعة. فما لم يكشف الإنسان عن هذه القوانين لا يستطيع أن يحقق حاكميته (خلافته).. وهذه القوانين تعرف بالعلم.. وعليه تكون الروح العلمية من الأهداف المهمة1.

 
ب- ازدهار العلم هدف أساسي للثورة الإسلامية
 
(1) تملك هذه الأمة استعدادات بزغت طوال سنوات متمادية، بيدَ أن السؤال: ما الذي حال بينها وبين ذلك، بحيث أضحت متخلّفة عن ركب العلم وقافلة المعرفة قرنين وربما أكثر؟ يعود سبب ذلك يقيناً إلى الأيدي غير الأمينة التي تسلطت على الأمة، السلاطين المستبدون الظلمة الذين استحوذوا عليها طوال هذه السنين، هم سبب البلاء الذي نزل على البلد. فلو قدِّر أن انبثقت حكومة إسلامية أخذت على عاتقها تنفيذ أحكام الاسلام وقوانينه لزالت الموانع من أمام الناس.
 
والثورة الإسلامية في إيران، يجب عليها في الواقع، أن تنهض بهذا الدور الكبير وأن تحقق المعجزة في هذا المضمار2.
 
(2) من الأهداف الأساسية للثورة هو تنمية الروح العلمية، وبسط العلم، وزيادة التوجه نحو التحقيق، وتفتح الاستعدادات الإنسانية، وتوسيع
 
 
 

1- حديث قائد الثورة إلى القسم العلمي التابع للاذاعة، 15/11/1370.
2- حديث قائد الثورة في لقاء عدد من العشائر وعوائل الشهداء، والعاملين في جهاد البناء والمتضررين من الزلزلة، 28/4/1370.
 
 
 
 
 
 
 
86

79

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 مدارات الوعي والمعرفة العامة. فالمجتمع الذي ينشده الإسلام، هو المجتمع الذي يستطيع أن يستخرج كنوز الفكر الإنساني ويوظّف الطاقة الذهنية للبشر، التي تعد أثمن الثروات الوطنية لأيّ مجتمع.

 
والمجتمع الإسلامي هو الذي يستطيع أن يستأصل جذور الأمية والجهل، وتفلح فيه المدارس في جذب جميع الأطفال والأزهار المتفتحة.. بحيث تكتسب مراكزه المعرفية والعلمية من حوزات وجامعات رونقاً خاصاً، وتنشط فيه مراكز التحقيق والبحث، ويكتسب الكتاب موقعاً مميزاً بحيث تروج القراءة في كلّ مكان.. وفي أوساط الجميع.
 
تنطوي المطبوعات في المجتمع الإسلامي على مادة ثرية وهي تقوم ببث الوعي.. ينهض الأساتذة والعلماء في ممارسة عملهم بنشاط وحيوية، وتفيض روحية المبدعين والفنانين والكتّاب بالحركية والدفىء.
 
إنّ المسافة شاسعة الآن بين ما نحن فيه وبين الوضع الذي يريده لنا الاسلام. ولكن المهم، إنَّ هذا الطريق قابل للطي بحيث يمكن ردم الفجوة.
 
على إيران الإسلامية أن تثبت اليوم إنها ما زالت قادرة على تنمية الاستعدادات العلمية وتربية النابغين، وإن قرنين من الاستبداد والاستعمار، لم يقضيا على الجوهر الذاتي لهذا الشعب1.
 
فإذا كان التسلط الاستبدادي والاستعمارُ قد منعا تفتح
 
 
 
 

1- خطاب قائد الثورة في الذكرى السنوية الاولى لوفاة الامام الخميني(رحمه الله)، 10/3/1369
 
 
 
 
 
 
87

80

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الاستعدادات خلال القرنين الماضيين، فيجب أن نتدارك التخلف الذي أصابنا، في ظلال عصر الحرية واليقظة الذي نحياه ببركة الثورة الإسلامية.

 
(3) تعرفون إن مسار العلم يتقدم إلى الامام بحركة مطّردة. ومثل (الشعوب) التي تريد أن تلحق بالركب مثل انسان يريد أن يلحق بسيارة تسير وهو يسعى وراءها ماشياً على قدميه، وآخر يتوسل بالدراجة الهوائية لكي يبلغها. بديهي أن صاحب الدراجة أوفر حظاً في اللحاق بالسيارة، في حين ستكون الفاصلة كبيرة بالنسبة للذي يقطع المسافة مشياً.
 
ومع ذلك فالسيارة في هذا المثال ليست نهاية المطاف بالنسبة للتقدم العلمي، بل تأتي بعدها مرحلة الطائرة حيث تزداد سرعة المسير مئات المرّات.
 
والسؤال: ماذا علينا أن نفعل والمسافة تزداد لحظة بعد أخرى بيننا وبين البلدان المتقدمة؟ علينا أن نختصر الطريق، وأن نستفيد من جميع الاستعدادات الكامنة في البلد. ولا يمكن تحقيق ذلك، إلاّ إذا عاش البلد حالة صميمية في حركته، وفي مواجهته للأعداء وللسياسات الاستعمارية، مما لا يمكن أن نرجوه حاضراً ومستقبلاً إلاّ في ظلال الثورة وبركاتها.
 
هذه الروح ضرورية لمستقبل البلد.. وإذا قدّر لكم النهوض بهذه المسؤولية، فسيكون الأجر الالهي العظيم من نصيبكم.. وأقول حقاً ستعجز الملائكة الكرام عن احصاء ثوابكم1.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقائه مع مسؤولي محافظة جهارمحال وبختياري، 16/7/1371.

 
 
 
 
 
88

81

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 5- مسؤولية الشباب الخطيرة في تحقيق النمو العلمي والتقدم الصناعي في البلد

 
(1) إنّ ما تحقق للجمهورية الإسلامية الآن، إنما جاء بفضل همة أبنائها.. بحيث لم تضطر للانحناء أمام أحد في العالم. طبيعي إننا استفدنا- ونستفيد بعد ذلك- من التقنية العالمية الحديثة ولكن بعزة.. وفي الوقت نفسه يوجد أمل يحدونا، هو أن يكون جلّ اعتمادنا على قوانا الذاتية وقدراتنا الداخلية في ايران الإسلامية العزيزة.. وتقع المسؤولية على عاتق شبابنا والعقول المفكّرة.. والأيدي الماهرة.. والهمم الكبيرة المبدعة المبتكرة في تزويدنا بما نحتاج إليه.
 
لا أملك إلاّ أن أدعو أبناء هذا البلد الشجعان في أن يعتمدوا على أنفسهم.
 
وهذا لا يعني أن ننغلق ونسد الأبواب ونرفع الجدران من حولنا، بحيث لا نستفيد من التقنيّة ومعطيات التقدم العلمي. كلا، فالعلم والتقنيَّة هما من المعطيات العامة للبشرية جميعاً.. فالبشر شركاء في ذلك كافة، وليس لأحد أن يحتكرهما أو يمن بهما على الآخرين.
 
لقد ساهمت الانسانية بأجمعها في اكتمال المدنية المعاصرة وما يزال لها دورها في ذلك.
 
إننا لن نغلق الأبواب على أنفسنا، بل نعدّ- الانفتاح- حقّنا الطبيعي1.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة الى مجموعة من طياري القوة الجوية التابعة للجيش، 18/7/1371
 
 
 
 
 
 
89

82

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (2) لسنا ممن يعارض الاستفادة من علم الآخرين وتجارب البلدان والشعوب الأخرى. وإنما غاية ما نقوله، إن هذا البلد ينبغي أن يُبنى بيد أبنائه ومن قبلهم.. 

الأجنبي لا يتحرق قلبه لبناء بلدكم. لذلك عليكم أنتم، أيها الإيرانيون من شباب وعلماء ومتخصصين وعقول خبيرة، وكل من له قدرة، أن تبذلوا همتكم مع أبناء القاعدة الشعبية العريضة في بناء البلد.
 
بديهي إنَّ هذا لا يعني عدم الافادة من تجارب الآخرين وعلومهم واختصاصاتهم.. فلن نغلق باب التعلم من الآخرين وننغلق على أنفسنا.. بل نسعى لتحصيل أي علم مفيد أو تجربة نافعة في الشرق والغرب، وفي أي مكان من العالم، ونستخدمها لما يفيدنا.
 
وهذا المنحى يعبِّر عن حكم الإسلام في هذا المضمار، فالإسلام لا يعارض الاستفادة من الآخرين، إلاّ أن كلمتنا الأساس وما نسعى إليه الآن هو أن تتحملوا- أنتم- المسؤولية40.
 
(3) أحمد الله أنكم من أهل العلم.. وربما تعرفون أفضل مني ما كان عليه الماضي العلمي لايران.. كان ماضياً يبعث على المجد وملء الافتخار. إذا شاء أحدهم الآن أن يستقل شيئاً ويستحقره ينسبهُ إلى القرون الوسطى، متغافلاً أنَّ القرون الوسطى في الوقت الذي كانت
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقاء عدد من العشائر وعوائل الشهداء والعاملين في جهاد البناء والمتضررين من الزلزلة، 28/4/1370.
 
 
 
 
 
90

83

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 عصور عار لأوروبا، كانت بالنسبة إلينا عصور فخر ونور. حين نعود إلى ما كتبه كريستيان سن المؤرخ المعروف عن التمدن الإسلامي في القرن الهجري الرابع، نراه يذكر أنَّ المحيط الإسلامي كان سوقاً مزدهرة بالعلم في الدنيا، ويعتقد أنّ النقطة المركزية في هذا المحيط هي إيران، يعني أصفهان والري وفارس وخراسان وهرات وغير ذلك، مما كان مركزاً يبث العلم إلى أرجاء العالم.


بيد أنَّ الذي يؤسف له حاضراً، إن أبناء هذا الجيل لا يعرفون ذلك.. لا أقصد أنهم يجهلون مثل هذا الكلام، فهم سمعوا به وقرؤوه في الكتب، ولكن المشكلة أنهم ينظرون بعين الانكار وعدم التصديق.. تستولي على هذا الجيل والذي سبقه روح عدم التصديق والقبول بما كان عليه ماضي ايران.

ومردّ حالة الشك هذه هو هيمنة الحضارة الغربية.. وهذه التقنيّة التي ترمي بهيبتها على كل شيء وتملأ الجوّ العام، بالشكل الذي لا يجرؤ معه على مجرد النظر إلى أُصوله!.

ليس ثمَّ شك في أنَّ العلم اليوم بيد أولئك، ولكن- المشكلة- إنهم يبتغون نفي السوابق العلمية للأمم الأخرى.. ويحصل في بعض نقاط العالم التي ذهب الأوروبيون- للاغارة عليها- أن يلغي هؤلاء الغربيون الحضارة المحلية لتلك المناطق، كما حصل في بعض أقاليم أمريكا اللاتينية (البيرو كمثال).

أذكر على سبيل المثال، أنّ رئيس البيرو- الذي انتهت دورته الرئاسية العام الماضي- حدّثني مرة، أن آثار الحفريات والبحوث، أثبتت أنَّ للبيرو في السابق حضارة كانت قائمة.
 
 
 
 
 
91

84

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 الكلام نفسه يصح بالنسبة إلينا، على العهد السلجوقي، الذي لم يترك أي أثر يدل عليه.

 
ومعنى ذلك أنَّ البيرو- على سبيل المثال- كانت كبلد تتمتع قبل 500 سنة بحكم مقتدر.. له علم وثروة، أما الآن فانظروا إلى موقعها على خريطة العالم.. إنها لا تملك شيئاً. ما فعله هؤلاء إنهم قطعوا شعب البيرو عن ماضيه.. بحيث لم يعد له أي اطلاع على تاريخه. وإذا قدّر وإن كانت هناك حاجة لانجاز الحفريات، فقد قام أولئك- المستعمرون- بهذه العملية، وما بقي مما لا قيمة له، تركوه وراءَهم فأخذ يشتغل به أهل البلد.
 
هذه الممارسة لا يمكن أن تنجح داخل ايران، مع وجود هذه الكتب والآثار العلمية والتأريخية البارزة، ولكنهم نجحوا في محو آثارها من الأذهان- مسخوا وعي الجيل الماضي وقطعوه عن ماضيه- وعليكم الآن تقع مسؤولية وصل الجيل بماضيه.
 
لقد نهض مشاهير العالم ببعض هذه المهمة (من خلال ما كتبوه عن الخلفية العلمية للبلد) ولكن- والحق يقال- ينبغي أن تعطى هذه المسألة الأهمية التي تليق بها.. 
على الجيل الجديد أن يحيط بماضيه ويعيه، لأن له دخلاً في تقدمنا العلمي.
 
فإذا وعى الجيل الراهن أنه ينتمي إلى تأريخ له مثل تلك الاستعدادات، سينظر إلى المستقبل بأُفق آخر. أمّا إذا تصوّر أن كل ما هو موجود فهو بيد الأوروبيين وحدهم وحسب، وعليه أن يسعى أبداً وراء أوربا، فسيكون لذلك أثر آخر على منحاه في طيّ مسير التقدم العلمي1.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة الى القسم العلمي التابع لاذاعة الجمهورية الاسلامية، 15/11/1370.
 
 
 
 
 
 
92

85

مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو والتبادل الثقافي

 (4) إنّ واحدة من القضايا التي تمثل هاجساً للعالم المعاصر، هو أن لا يسمحوا للنظم الثورية أن تأخذ حظّها من التقدم العلمي.. وهذه الحساسية تتضاعف إزاء بلد كبلدنا. ومردّ ذلك أنَّ الاستعمار وأميركا والصهاينة- وهم مهندسو الفساد في العالم- يعيشون هاجساً إزاء الإسلام والثورة الإسلامية، لم ولن يعيشوه مع أية ثورة أخرى.

 
إن الذي يمكن أن تكون له يد في تنمية العلم في هذا البلد، عليه أن يعيش الاحساس بالمسؤولية بشكل مضاعف.. فالعدو لا يريد لنا أن نقف على أقدامنا. ولن نقف على أقدامنا إلاّ إذا نبع العلم وتفجّر من داخلنا، بحيث لا نمدّ يد الاستجداء إلى الأعداء1.
 
 
 

1- حديث قائد الثورة في لقائه مع محموعة من العلماء والجامعيين والطلاب، 29/1/1368.
 
 
 
 
 
 
93

86

الفهرس

 الفهرس

مقدمة المترجم

5

مفهوم الغزو الثقافي

43

أهمية الإيمان بوجود الغزو الثقافي وضرورة النهوض لمواجهته

45

الفوارق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي

67

الخلفية التاريخية والجذور العلمية والثقافية لإيران المسلمة

78

أ- الصلة التأريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما

79

ب- ازدهار العلم هدف أساسي للثورة الإسلامية

86

مسؤوليات الشباب الخطيرة في تحقيق النمو العلمي والتقدم الصناعي

89

 

 

 

 

 

 

95


87
الغزو الثقافي والتبادل الثقافي