المقدمة 

 لهذا ومن خلال ما تقدّم تنجلي الصورة أكثر في أهمية الترابط والتعاون بين هذين الأمرين، فمهما كانت المقاومة سامية وشريفة وفاعلة إذا لم يرافقها عمل بمستواها لجهة التأريخ والتخليد فإنها لن تسمو بقيمتها الأصيلة السمو المناسب، وتصبح على هذا الأساس مسؤولية الأدب والأدباء كبيرة حيث يفترض أن يُعمل على استخراج المفاهيم الأساسية للمقاومة وتبيين الأسباب والأهداف والغايات والحفاظ على المصطلحات التي يتركها العمل المقاوم كالشهادة وغيرها...

 كلمة الافتتاح

 الذي يؤكد الصدق والجدارة ذلك لأن الأمة التي لا تضحي من أجل ذاتها وهويتها ليست جديرة بالحياة فضلاً عن البقاء.

 مهمتان أساسيتان

 النتائج الباهرة التي حصلنا عليها بفعل المقاومة ومجاهديها، من خلال هذه النظرة الفاحصة والثاقبة يمكننا أن ندرك المهمة التي قام بها ثلة من العلماء والأساتذة والمثقفين الذين كانوا يقومون بدور بث العقيدة وروح التضحية والثبات من الموقع الجهادي المباشر، وإن مجرد التدقيق في عطاءٍ جليل للشهيد السيد عباس الموسوي ه، والشيخ راغب حرب وغيرهم من استشهدوا أو لم يستشهدوا ممن عُرفوا أو لم يعرفوا يلفتنا إلى طبيعة المهمة الثقافية الشاقة في ظروف غير مؤاتية وبيئة غير مساعدة، فيا تُرى أية ثقافة ستقدم لهذا الجيل المحاصر والمتعب والمثقل بالنكبات دون أن يكون فعله ردة فعل فقط بل ليكون منسجماً في إطار مشروع متكامل، كيف ستقنعه والهزيمة والإحباط يلفان كل حياته وهو منذ أن فتح عينه على هذه الدنيا تطفأ في وجهه كل ملامح الأمل والطموح وهو يرى عدوه يتغطرس في كل شيء ويسيطر على كل شيء.. في مثل هذه الأوضاع لا يكفي أن تحدثه عن موسى والسحرة وعن إبراهيم والنمرود وعن عيسى واليهود وعن محمد بن عبد الله وحصار الشعب أو المدينة لأنه كان يعلم أن هذه المعارف كانت موجودة ولربما بشكل أفضل عند من سبقه في التجربة ولم يفلح، في مثل هذه الأوضاع كان المطلوب أن تقدم له نماذج فعلية تقتدي بموسى وإبراهيم وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. كان المطلوب أن تدفع في هذه التجربة بكل قوة الثقافة والتاريخ ودفع الروح من أجل إخراج الفكر والانتماء إلى حيز الواقع لتقدم تجربة حية مصحوبة بعلامات الصحة وشواهد الصدق، نعم إن العمل الثقافي الذي اختارته المقاومة قد لا يكون مألوفاً في أسلوبه عند أهل الثقافة وبحسب الأعراف السائدة، وأحياناً كثيرة والى أيامنا هذه نسمع انتقادات توجه لهذه الثقافة التي تغاير المصطلحات والأنماط التقليدية الموجودة ونحن وإن كنا لا نلوم البعض لأننا نقدر حجم المؤثرات البيئية والمتغيرات الفاعلة والمتراكمة لكن كنا ندرك أيضاً أن الثقافة الأصيلة بمعنى الانتماء الحضاري الفعلي هي دور قبل أن تكون مصطلحاً وهي رسالة قبل أن تكون تقليداً وهي ذات غاية سلوكية وعملية قبل أن تكون نقاشاً ذاتياً أو ذهنياً.

 الأبطال من الشهداء والمقاومين ذوي العزم والصبر والإقدام.. ومن النقاط الهامة والمثيرة في هذه المجال هو هذا التوازن الذي حفظته المقاومة بثقافتها لتبقى في منأى عن الشطط الذي يتعرض له عادة من يقوم بهذا الدور الجهادي والذي يواجه ضغوطات هائلة وهذا ما تجلى بوضوح من خلال اندماج المقاومة مع أهلها والأبرز هو ما حصل بعد التحرير مباشرة حيث تقدمت الرحمة والاستيعاب والمصلحة على ما عداها من مفاهيم تحضُر في مثل هذه الحالات كالانتقام والثأر، وكأنه تلبية للنداء "اليوم يوم المرحمة"، هذا المشهد الغريب على أبناء الوطن والمجتمع والذي جسد القدوة الصالحة في الانقياد التام للفكر والشريعة هو أحد أهم التعابير عن صدقية المقاومة وثقافة أبنائها الملتزمين ليثبتوا للعالم كله الذي كان يراقب هذه اللحظة أن المقاومة ليست رد فعل فحسب بل هي مشروع كامل ليرتكز على ثوابت فكرية ودينية ووطنية جامعة ولعل هذا التوازن هو أحد الأسباب الرئيسية التي حافظت المقاومة من خلالها على حيويتها وتألقها بل تمكنت أن تثبت كذب بعض الأدعياء الذين كانوا يصرون على وصفها بنعوت سيئة ويريدون إظهارها بموقع المهدد للآخرين ومصالحهم فإذا بها أحرص على الوطن والمجتمع والناس من كل هؤلاء، إذا كان القتال بذاته دفاعاً عن المقدسات وفي وجه الاحتلال يقتضي إظهار جانب القوة التسليحية والتخطيطية والإعلامية فان التجربة أثبتت أن المقاومة تمتلك مخزوناً ثقافياً ايجابياً هائلاً يفتح القلوب على الآخرين ويمد الأيدي إليهم ويحترم آرائهم دون أن تلزم أحداً بموقفها ودون أن تتخلى عن دورها.

 يتمكنوا أن يفعلوه بالسلاح والمجازر على مدى أكثر من عشرين عام لن يتمكنوا أن يحققوه اليوم بالضغط السياسي والتهويل وذلك لأننا ندرك طبيعة المواجهة كما ندرك نقاط ضعفهم جيداً وكلما مرت الأيام تأكد لهم بشكل أوضح وأجلى إن المقاومة متجذّرة في مجتمعنا لأنها ذات امتداد ثقافي وحضاري فهي ليست فكرة طارئة منقطعة الجذور بل هي شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وتأكد لهم أيضاً أن المقاومة التي تمثل هذا الوجدان الوطني وهذه الثقافة الأصيلة هي اثبت واكبر من أن تمحى بقرار دولي أو ضغوطات ظرفية وها هم اليوم يقرون ضمناً بعدم إمكانية اقتلاع المقاومة حينما يتحدثون عن تمثيلها الشعبي الذي فرض نفسه وعن مشاركتها الحكومية التي لا يمكن تجاوز حقها فيه ونحن نعلم جيداً أنهم لو كانوا قادرين على قهر المقاومة وسلاحها وأبنائها بالقوة لما ترددوا لحظة واحدة بينما المقاومة ما زالت حاضرة في الساحة وقد حققت أولى إنجازاتها في هذه المواجهة السياسية من خلال الانتخابات النيابية حيث حصلت على تأييداٍ واسعٍ ودخلت إلى الحكومة ورأسها مرفوع وعزيزة بينما أمريكا تموت بغيظها وتنفرد في موقفها وواهم من يظن أن المقاومة ستتخلى عن دورها الطليعي في حمل هم الأمة والوطن وان التاريخ والتجارب علمتنا جيداً أن ثقافة البقاء مرهونه بثقافة المقاومة واعتقد أن هذا ما يخيفهم وما يجعلنا مطمئنين في آنٍ واحد.

15

 شعر المقاومة(*)

 هناك نمط آخر من الشعر المقاوم يمثله الشعر الفلسطيني من خلال أبرز رموزه: درويش والقاسم وزيّاد ودحبور والمناصرة وشعر الجنوب اللبناني على العموم ويتجلّى بمعنى الالتحام بالأرض وتمجيد العناصر. هنا شعر المقاومة هو شعر التحام دموي بالمكان.

 الخصوص، وشاميّة على الإجمال، وليست كروم التين والزيتون في فلسطين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم "والتين والزيتون وطورِ سينين، وهذا البلد الأمين" سوى جزء تاريخي ومقدّس منها... فثمة إذن، حراسةٌ للمكان، قريبة من السحر أو القداسة أو بالمعنى السياسي الحديث، ثمّة تعلّقٌ بالوطن والدفاع عنه حتى الموت، فليس سوانا أَحَدٌ ليُطيّبَ خاطر الغسق، وليمسح الغبار عن جبين الحجارة، والعرَقَ المتحدّر عن زنود الحطّابين... وليس سوانا أحد ليستقبل أول النهار في القرى الجنوبيّة، وليودعه حين يأتي المساء... وهذا ليس شعر إقامة فحسب، بل هو شعر مقاومة وصمود.

 من البيّن أيضاً، أنّ هذا الشعر بدوره، هو شعر إقامة في المكان... تمَّ خلال عملية اندراج جسدي أو تجسّدي incarnation, وتبادل أدوار، بين عناصر التراب وجوارح الشاعر، والتحام أخير ونهائي بين الإنسان والأرض يصل لحدود الإتحاد الصوفي... وهو شعر مقاومة أيضاً.

 ليس لنا سكن في أي مكان آخر إلا فوق هذا التراب بالذات أو تحته.

 فأية قدرة توليدية خُصّ بها هذا الشاعر، لكي يخترق بالكلمات، واللَعِبِ الطفولي، عناصر الطبيعة الأولية، وليفاجئ الحياة بحياة أخرى في القصيدة (لعلّها أجمل) ويفاجئ المكان (بمكان آخر لعلّه أطرف وأجمل...) وكل ذلك مردّه للروح المبدع للشاعر... ذاك الروح الذي قال فيه غارسيا لوركا: "الروح المبدع هو القوّة الخفيّة التي قال عنها "باغانيني" بأنه يُحْسَبُ بها كل إنسان ولم يعرفها فيلسوف. وتجلّي الروح المبدع يستلزم تغييراً مشعّاً للأشكال والطرز القديمة ويهب إحساساً بالنضرة، جديداً كل الجدّة، كوردة تخلق حديثاً... كمعجزة... ويولّد في النهاية ما يشبه الحماسة الدينية... صرخة تواصل مع اللَّه من خلال الحواس"...

 تَغَرّبَ لا مُسْتعظماً غير نفسه        ولا قابلاً إلاّ لخالقه حكما

 الكلمات، ولبُوسات متباينة بين دخول في جوف تاريخي أو أسطوري تارةً، ولجوء لنصّ وثني طوراً، أو إنشاد بناياتٍ كثيرة، في معظم الأحيان.

 حسناً...

 المحور الثاني: المقاومة وحركة الإنتاج الشعري (الناحية النظرية)

 حققت انتصاراً في ساحة المواجهة، كانتصار المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، أو تباشير انتصار، كما هي الحال في فلسطين ،إلا أنها لم تحسم الصراع، وسنظلّ ننتظر انتصاراً آخر يجب أن تحققه المقاومة على المستوى الثقافي.

 إسلاماً على مقياس المصالح الأمريكية الإسرائيلية، تريد أمريكا أن تصوغ أسلاماً حديثاً يناسبها. فما بالنا لا نصوغ ثقافة إسلامية حديثة تخرجنا من مأزقنا وتفوّت الفرصة على أمريكا، وعلى المختنقين بثقافة إسلامية ليست من الإسلام في شيء.

 الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية الوطنية والأجنبية. والمقاومة الثقافية اللغوية التي يمارسها النص الشعري هي وجه آخر للمقاومة العسكرية، الثقافية، السياسية التي تنم داخل المرجع الواقعي. وتذهب "جوليا كريستيفا" بعيداً في هذا الأمر حين ترى في السيمائي وجهاً آخر للإيديولوجي. فالايدولوجيا عندها، هي أساس كل الأنظمة العلامية لغوية علمية كانت أم سيمائية. ذلك أن الايدولوجيا وحدها، عندما تصيب تحوّلاً أو تجدداً، تستطيع أن تعيد الحساب مع علاماتنا اللغوية ومصطلحاتنا، تعطيها أبعاداً دلالية جديدة منتمية إليها. فالايدولوجيا نظام علامي خاص. وعلاماتنا اللغوية ومصطلحاتنا الحالية الوجه الآخر لحياتنا الثقافية الحالية المرتكزة بشكل أساسي إلى الثقافة الغربية لا تعيش حياة أدبية سوية تتعامل بشكل سويّ مع الأنظمة السيمائية المتولدة عنها ما أريد الوصول إليه أن الدلالية التي يمتلكها شعراؤنا ليست دلالية مبنية على حياة ثقافية متسلسلة سوية. وهذا ما يجعلها تعيش مأزقاً إبداعياً.

 الأركان الثلاثة النص

 صاحبها بأنه شاعر كبير. والشاعر الإسلامي الصاعد إما آخذ بالنظام العلامي اليساري والمرحلة لم تعد مرحلة اليسار، وإما آخذ بالنظام العلامي الإسلامي المنتمي إلى ثقافة لم ترتقِ بعد إلى المستوى المطلوب منها في هذه المرحلة. وهو في الحالين غير قادر مهما علا شأنه البلاغي أن ينتج لنا قصيدة رائعة.

 الإبداع الشعري وفعل المقاومة

 التجربة اللبنانية

 وسجل جهاز تخطيط القلب قيامها من الغيبوبة والعدم!

 المقاومة وتغيير الوقع

 التأثير الأقوى كان للمقاومة، الشعر صدى.. مجرد صدى يرتفع ويخفت بحسب شدة انتماء الشاعر إلى زمنه، والى المكان ودولة الحرية المنتظرة!..

 ماذا نملك؟

 تجربة الشيخ فضل مخدر

 ورأى آخرون أن الشعر يكتب للشعر لا لغيره كمنزلٍ أو نابعٍ كما هو يتجاوز المقاييس والأحاسيس الأخرى ليبقى في ذاته تعبيراً خاصاً لا يهم إن مرّ على الآذان أو الأفئدة أو تفاعل بين متصلين أم قرّ على وريقات قلب شاعره.

 وعندما تقف على نفسك تدور في دائرة من العجز كما حدث يوم التحرير، وتقصر الكلمات والأوزان عن مقاربة عظمة هذا الحدث، وتبحث لنفسك عن عذر انقباض كلماتك وانخفاض نبضاتك وارتفاع وتيرة نشوتك في آن معاً لا يمكنك إلا أن تقول:

 كَلَّ ثِقْلُ القُيودِ مِنّا وَمَلّتْ             لَدَغَاتُ السِّياطِ جِلْداً وَجَلْدا

 مداخلات الجلسة الأولى

 انياً ـ أعتبر أن الشاعر مدعوم من خلال المخيلة ومن خلال كونه سارق النار المقدسة كما سماه اليونان فله أن يبتدع بالكلمات والمخيلة واقع آخر قد يفوق الواقع الحقيقي والمطلوب فيه أن يباهي به الواقع الحقيقي لذلك فلا أحد قال أو قرر بأن الشاعر هو صدى للواقع.

 هذه المرتبة الرفيعة. برأيي أن لكل موقعه ودوره في بناء المجتمع والجدل بين الحدث الوقائعي المرجع والمتخيل قائم منذ القديم وأن ما ذكره الدكتور شمس الدين أن الشعر الذي يُدرس جامعياً إنما هو شعر المديح والمراثي فحسب، أود أن يستمحيني عذراً لو قلت أنه لا يعرف ما يُدّرس فقاطعه الدكتور شمس الدين وقال: أنا لم أقل هذا الكلام؟ وإنما قلت أن الشعر العربي الحديث بمجمله يميل إلى الاكتئاب والرثاء والمراثي للهزائم العربية وليس فرحاً بالانتصار والشاعر الوحيد الذي كانت أشعاره تتسم بالفرح والانتصار هو شاعر إحيائي انتحر واسمه خليل حاوي إذن الخط العام هو خط مأساوي وليس خط فرح بسبب الواقع وهذا ما قلته وأنا أرجو الفرح على كل حال فردّ د. زراقط حول ما يتعلق بالشعر المقاوم وتعريفه فسأتحدث بعد قليل حول ما في (الجلسة المقررة) وإنما ما أود قوله الآن أن التعريف العام للشعر هو أن كل شعر حقيقة هو شعر مقاوم.

 والأفكار القومية وشعر المقاومة الفلسطينية كان شعراً رسالياً بمعنى من المعاني وأن شعراء عرب آخرين كان يدينون بالفكر القومي فدخول العقيدة الإسلامية على المقاومة لم يكن لدى عدد كبير من الشعراء واضحاً من أشعارهم فأرجو توضيح ذلك؟

 لا لن أنسى لغتي أبداً أو أُبدل حرفاً من ذهب

 حتى ربما كان المثقف في كثير من الأحيان كما نشهد يميز بالثقافة حتى لو كان شاعراً كأدونيس وغيره ربما كانت ميزة الثقافة العامة العالمية تغلب على شاعريته في أغلب الأحيان فأصبح هناك نوعاً من التماهي بين المثقف والشعر فلا هناك شاعر غير مثقف بحدود هذه الثقافة كيف تتجدد؟ إذا كانت الثقافة إسلامية فما هي الثقافة الجديدة؟ وكيف تجدد هذه الثقافة؟.

 البطولية وما هي المعايير التي ينبغي التقيد بها والحدود التي لا يجوز تخطيها؟

 وله قدرات البشر وبطلك يكون إنساناً نقدسه ونحترمه.

 مراهقة إلى الشباب فتكون لديه المواقف والكلمات فالكلمة هي سلاح والإمام الخميني كلمته مشهورة وموقفه مشهور كذلك كلمات الإمام الصادق عليه السلام كلها مدوية إلى الآن إذن الكملة أقوى شيء ونحن نعلم أن الفرنسيين حركهم الشعراء بكلماتهم وكذلك الإمام الحسين وكلماته أيضاً، إذن الفكر الإسلامي هو الذي صنع عاشوراء وأن الفكر النهضوي هو الذي حرك الفرنسيين وأن الفكر الخميني هو الذي صنع الدولة لتتحدى أكبر قوى استكبار في العالم.

 منتدى وخصوصاً أن المرحلة مرحلة مقاومة.

 الجلسة الثانية: 

 بعضهم الشعر والرواية والشعر بشكل خاص من هذه الالتزام، أي أن الشعر تحديداً كان عند أكثر الدعاة إلى الأدب الملتزم عصياناً عن الالتزام، لأنه فعل حرية وفعل إبداع والإبداع لا يكون بلا حرية، إن الإبداع فعل حرية وهل كان هذا هو المقصود بالأدب المقاوم؟

 الصهيوني في الجنوب انتصار المقاومة الإسلامية وبطولات أهل الجنوب وأهل البقاع الغربي وأهل لبنان كل لبنان لا يمكن إطلاقاً أن لا يأتي أفقها، أن لا تشع أنوارها في المستقبل بإنتاجات كبيرة ولعل ما تناقشونه في هذه الندوة الكريمة من مظاهر الأدب المقاوم هو يعني الوليد الأول أو اللبنة الأولى في الطريق الطويل تُعيَّد بأفكار المبدعين من الأدباء والشعراء المقاومين.

 الرواية المقاومة - دراسة في الإنتاج الروائي

 نبيلة، يحدوها النزوع إلى النضال والتضحية ونشدان الحرية ورفض الظلم والعدوان على كل مستوى. وتدخل الرواية، بهذه الصفات، صميم الأدب السياسي، الذي ليس إلاّ وجهاً من وجوه العمل النضالي.

 ممثلةً بالابن حسين، والرغبة في الاندماج بعلية القوم ممثلةً بالابن يوسف، بينما كانت تعصف بالجنوب أحداث خطيرة هي أحداث التناوب بين الفلسطينيين وجيش لبنان الجنوبي وإسرائيل، تلك الأحداث التي انبثقت منها المقاومة الإسلامية المظفّرة.

 القرن الماضي وسبعيناته، وعاش الفلاح اللبناني الفقيرُ مناخاتها.

 اليساريين عن الملكية الخاصة المتعلّقة بالعقارات، واضحُ الغمز باتجاه الملكية الزراعية في الجنوب اللبناني، حيث تستأثرُ القلةُ بالكثير، من دون أن تبقي للكثرة إلا القليل. وبذلك يكون يوسف، وفق هذه النظرة، مُضلّلاً.

 عندما يستنكرُ ما يقومُ به الفدائيون: "ماذا يفيدنا استثارةُ إسرائيل في كل فترة، غير قصفها لقرانا، والإغارة عليها أحياناً، وهدم بيوتنا، وقتل أبنائنا، وترويع نسائنا وأطفالنا".

 المقاومة ومستقبل الرواية

 قد يقال: إن هناك روايات كثيرة وكبرى. في الحقيقة أنه كان من الانجازات الكبرى ما مثَّل تحولات من طور إلى طور تحولات لا تنفك عن الاستمرار في آلية تمثل آلية الحياة التي لا تنفك عن التجدد؛ ذلك ان الرواية تصدر عن الحياة وتغيرها في آن. تصدر عن المرجع متمثِّلةً إياه ومتمثلة له في بنية روائية تعادله وتغايره في آن. ولعل هذا الفهم هو الذي يجعل الرواية أكثر الأنواع الأدبية تمثُلاً للمقاومة وتمثيلاً لها. إذن يقتضي الموضوع الذي نتحدَّث عنه الكلام ليس على ما أنجز في الرواية، وليس أيضاً على ما ينجز الآن، وإنما على ما سينجز، أي يقتضي الكلام ليس على الماضي، أو تاريخ الرواية المقاومة وتبين خصائص هذه الرواية على مستوى البُنى والرؤى، وأيضاً ليس على الحاضر، على الواقع، أي أن الكلام ينبغي أن يكون ليس دراسة للنصوص وإنما كلام على المستقبل، على ما سوف ينجز، أي يجب أن يكون الكلام استشرافاً لما سوف ينجز.

 بهذا المعنى هي سعي الإنسان إلى مقاومة كل ما يعوِّق وصوله إلى هذا الموقع وكل ما يعوق أداءه هذا الدور. إذن كل رواية تمثل هذا النوع من السعي هي رواية مقاومة. بهذا المعنى، أيضاً، أقول: إن كل أدب حقيقي هو أدب مقاوم، والمقاومة هنا هي التي تحدد مستقبل الرواية، إذ إن لكل عصر معوقاته، والرواية هي النوع الأدبي القادر على تمثل الواقع الأدبي الجديد وتمثيله بوصفها النوع الأدبي المتجدد، فالمقاومة إذن هي دائماً مقاومة جديدة لمعوقات جديدة، لأن معوقات العصر هي معوقات مستجدة.

 إشكاليات كتابة الرواية

 تجربتي في الكتابة

 ثانياً: المقاومة:

 تشبه غربتي في هذا العالم القاسي والموحش.

 مداخلات الجلسة الثانية

 تحاكيها حياة من نوع جديد. قال الباقر د "من تعلّم العلم ليباري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار" إذن من يكتب ويعرف أنه يكتب بهدف سامي ونبيل ينأى عن الشهرة فذلك هو المقاوم الحقيقي للرواية والأدب والذي سيستمر بإذن الله.

 أنها صياغة لوقائع ثم عاد وقال في التعليق والحواشي أن الشعر والأدب ليس انعكاساً لواقع فكيف يكون ذلك؟ هل هو صياغة للواقع أم أنه رؤية لواقع؟ ربما كان الأدب في عصرنا إذا كان أدباً حقيقياً هو الأدب الذي يؤسس لما نأمل وفق رؤيتنا وأيديولوجيتنا التي نحملها.

 الجلسة الثالثة

 التكريم والتعظيم

 بالآخر تنظيمياً، هذه القصة عموماً مأخوذ فيها القصة مع الأبطال، والأبطال مذكورين فيها ومثال على ذلك القصص التي تتعلق بتاريخ الأنبياء مثلاً أو بمريم أو بيحيىد أو بزكريا د أيضاً ذكر (موسى د وعيسى د) أي ذكر الأشخاص بالضبط، حين نقرأ هذه القصص والتي تنتجه هذه القصة هو أمران:

  انتصرت لأجلهم أو انتصرت لهم هناك عدة أسباب في هذا الأمر وأنا أذكر البعض اليسير من الأسباب، والسبب الرئيس في الموضوع أن المقاومة في بيئة اجتماعية وسياسية معقّدة وفي  سياقٍ سياسي معقّد وفي مجتمع سياسي ملّتبس على المستوى الفكري وعلى المستوى السياسي، حتى استطاعت المقاومة أن تشكّل رأياً عاماً بنسبة معنية كان هذا الأمر في وقت متأخر جداً لذلك أقول أن المقاومة بترتيب الموضوع فقط لم تتمكن إلى الآن أن تصبح بمستوى قضية فلسطين بالتأثير ولم يتناولها المجتمع اللبناني ولا المجتمع العربي بأدبياته على أنها القضية التي تُحدث هذه التحولات السياسية أو النفسية أو الروحية بالتالي لم تلقِ بثقلها على الأدب العام وإذا جمعنا الأدبيات اللبنانية على الأقل أو الأدبيات العربية على الأقل حتى الأدبيات السياسية أو الفنية نرى ما هو موقع المقاومة في هذه الأدبيات فنرى المظلومية ودرجة هذه المظلومية، في موضوع القصة القصيرة، أنتهي من حيث بدأت أن القصة القصيرة أو القصة الطويلة في المقاومة هي جزء من المقاومة، والمقاومة  كلها قصة لأنها  مجموعة أحداث، نحن لا نكتب عن المقاومة روايات خيالية وإنما  روايات وأحداث فعلية وواقعية فالقصة هي جزء من هذه البنية وجزء من هذه المهمة أنا أدعو لأن نتعاطى مع أحداث هذه القصة في كل حدثٍ فيها هو قصة وهناك قصة في قصص المقاومة نستطيع أن نقسّمها فنقول أنّ بالمقاومة قصص كبرى لم يُذكر الأبطال فيها ولا نعرف أبطالها لكن هناك قصص في المقاومة أبطالها موجودين، الأمر الآخر هو التعميم (تعميم هذه القصة) ونحن نعرف تماماً ما هو حجم تأثير هذه القصة في صنع التحولات الإيمانية والروحية عند الناس خصوصاً قصص الشهداء التي تأتي في سياق وصايا شهداء أو حياة الشهداء، وتعميم القصة المكتوبة لكن أنا أُلفت النظر أننا نعيش في عصر التواصل بين القضية والمجتمع ليست فقط الكلمة المكتوبة وإنما الكلمة المرئية والمسموعة أن تحوّل القصة من المكتوب إلى المرئي والمسموع وحجم التعميم هنا يكون نسبته أعلى وأرفع.

84

 الاتجاه المقاوم في القصة القصيرة في لبنان

 القصيرة عند كل من أحمد سويد وعبد المجيد زراقط وعلي حجازي.

 للانتهاء, فهي مجال للاستثارة، وربما كان اللواذ بها من الغارات، حافزاً على الفعل، لأنها تذكر بالمصير المحتوم، مهما امتد بالإنسان الأجل، ولجوء الأحياء إليها، تعبير عن موتهم الحقيقي، فالأولى تركها والعودة إلى القرية حتى ولو أصبحت يباباً" وكأن هذه العودة تعني استئناف الحياة الطبيعية في ظل الخطر، كما تعني الولادة من جديد، لكن المخاض عسير، فالشعور بالخطر، ما زال فردياً، وما زال صابر يعاني من كوابيس الرعب والجنون، وما زال يلقي بالمسؤولية على الوطن، متهماً إياه بالجبن مردداً "الجبان هو وطني... الجبان هو وطني".

 والأدهم أبو طراف في الوقت نفسه من رجالات المقاومة، فبيته ملاذهم في السماء، حيث يعرض على مسامعهم تحركات العدو، كما سمع عنا أو شاهدها، ويضع نفسه، وخبرته بالمسالك الوعرة والطرق الخفية بين أيديهم، وبينه وبين نفسه، يظل حذراً من العبسي اعتماداً على سوء ظن المختار.

 طويلاً، بين الطمأنينة التي كانت عنوان كيان الأسرة وبنيانها، والقلق الذي بدأت عليه النفوس، بسبب تداعيات الحياة التي فرضتها المقاومة.

 اجتاح المنزل بأسره، ولا يستجيب لرغبة والده بالرحيل؟! وفي الوقت نفسه لمن يترك هذه الأزهار التي غرس ورودها، واعتنى بنموها، فهي غرسه الجميل وحلمه المحقق، وبين هذين المتنازعين، كانت الغلبة للبقاء على الرحيل، وللأزهار على الرصاص، وللحياة على الموت، ومن المفارقات اللافتة في هذه القصة، أن فوارغ طلقات المدافع، هي الأواني المستخدمة في زرع الورود، وبالرغم من شفافية الواقع، إلاّ أن القصة ذات بعد إنساني لا يمكن تجاوزه، فهذا المواطن قادر من موقع التجذر على أن يستبدل البناء بالدمار وأن يزرع الحياة في أوعية الموت، وهذه الحقيقة تسطع مرة أخرى في قصة "من يوميات الحاجة أم محمد" حين تنشغل تلك الأم الصبور عن القلق على مصير ابنها، بلملمة ما يهتم به من بقايا القنابل المضيئة، يحتفظ بها الأطفال على سبيل التذكار، ويتخذون منها دمى وألعاباً، كما يحاول الكبار أن يزينوا بها صدور غرف الاستقبال متخذين منها وسائل للزينة أو أواني للأزهار.

 مبادر، ومتعاون مع المقاومة، وهذه المقاومة، يدفع المواطنون أعباءها دماء وأرزاقاً، وأبو محمد الذي يعرف بلدته الخالصة، وكان يزورها دورياً قبل الشريط الشائك. يسبح بأحلامه بعيداً، ولا يعي ما حوله، بعدما أخذ بخبر اعتقال الأستاذ، ولم يستفق من شروده، إلاّ على قذائف القصف وتفرق الرجال من ساحة لقرية.

 الظروف، فيعرف الابن حقيقة شعورها، ويجد في هذه المعرفة حافزاً له على تفعيل المقاومة، "واللَّه أعرف سر بقائك... إلى أين تذهبين؟ أين تجدين بيتاً؟ الأبنية كثيرة، لكنها ليست بيتك، ليس فيها ماء وضوئك، وزاوية صلاتك... وجيب سبحتك... وأكياس مؤونتك... وأمكنة مر بها الحبايب وعاشوا فيها".

 ثالثاً ـ علي حجازي:

 هم فيه، كمؤشر على تجذر الحالة، واشتداد ساعد المقاومة، وهو ما شعر به الأهلون، فأولوا أبناءهم الثقة. وبينما أيمن ابن الثانية عشرة يتنظر "كانت البندقية تلمع في يد والده وهو يقول له: أيمن... خذ يا أيمن... هذه بندقيتك يا حبيب".

 عنه، وليتني أعلم، وليته يسمح لي بالعمل معه..."... ولا تنتهي هذه القصة إلا بعد أن ينال المقاومون من دورية العدو، ويتخلف سمير عن فلول الهاربين ليقع بين يدي زوجته، التي كثيراً ما كانت تبصق في وجهه معنفة إياه: "عد عن غيك يا... وهذه المرة وصلت مع النسوة، ولما رأت "سمير" هجمت عليه، فظن أنها ستساعده ولو مرة واحدة، إلا أنها غرزت أصابعها في عنقه جيداً.

 الفتية، الذين منحوني اليوم درساً في حب الأرض وعيدانها".

 الخاتمة:

 والوطنية، وبذلك يعطي قيمته كاملة حين يصل إلى جمهوره".

 تلخيص

 وثنائية اللالقاء بين العرب والغرب والبحث عن حضارة بديلة وخسارة الوطن لأبنائه.

 بحسب اختصاصه. ونجاحه مرهون بمدى استفادته من الدائرة التي أحدثها، وإخفاقه يكون نتيجة لسوء تعامله مع الآخرين.. ولشدّ ما يحتاج إلى التعاون مع سواه عند الخطر، أو عندما تمثُل أمامه عقبات يستحيل عليه تخطيها بمفرده¹.. والتعاطي الحضاري في تجارب الشعوب قد وَسَمَ مناطق العالم بسمات التقارب والانسجام والعمل المشترك.. هناك دائماً إعلان دائم عن صانع حضاري قريب من المنابع التي أمدّت الإنسانية بكثير من صفحات المعرفة والتحضر والفكر الإنساني.. كما أنّ هناك إعلاناً دائماً عن التقارب والتعاون الإنساني.

 الحقيقة لم يتفق المنظِّرون على فهم واحد يحددون به معنى الحضارة، فهي قد تعني جانبين: الأول: هو الثقافي ـ العالم ـ العقلي أي الذات، والثاني هو العادات والآثار أي الموضوع¹.. وقد ينحصر مفهوم الحضارة في الإبداع الروحي المادي لشعب ما، ويتواصل هذا الإبداع من شعب إلى آخر ومن عصر إلى عصر. ومن المنطق ألا يكون الصراع في هذا الإبداع المتواصل. ومن هذا المنطق لا يقوم الصراع بين الحضارات وإنما يكون بين الأفراد والجماعات حين تتنازعهم المصالح فيما بينهم.. وهذا يؤدي إلى نتيجة وهي: لا وجود لحوار ولا لصراع بين الحضارات، وإنما توجد علاقات بين هذه الحضارات.. والحضارة هي نتاج بشري.. والبشر متنوّعون مختلفون في صناعتهم كلّ شيء.. لذلك تعدّدت الحضارات وتنوّعت وتعايشت وتبادلت الخبرات واستفاد اللاحق من السالف.. وبهذا المعنى يمكن أن تكون الحضارة متغيّرة في زمن متغيّر.. هي آنيّة ومتجدّدة لا تركن إلى الديمومة في آنيتها بل هي منفتحة على كل جديد، جديدها وجديد الآخرين، ما يوافق مسيرتها التاريخية وآنها ومستقبلها، وما يحمي الإنسانية من غوائل الصدام والنزاع الذي ليس حضارياً في أي وجه من وجوهه إلا ما كان منه في السبيل الأفضل وسبيل خير الإنسانية..

 الحوار. لِمَ هو اليوم بالذات؟ ولِمَ يتخذ هذا الطابع الإلحاحي في زمن العولمة؟ أصحيح أنّ صراع الحضارات يحصل اليوم على غير صعيد وأصبحنا بحاجة إلى حوار لرأب الصدع وإيقاف ويلات صراع الحضارات؟

 برزتا بحدّة بعد اتضاح تيار العولمة على أثر انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وتفرّد قطب العولمة الرئيس بالقرار الدولي واحتكار القوى المختلفة على مختلف الصعد. وهو ما نظّر له كلّ من فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" وصموئيل هنتغتون في كتابه "صدام الحضارات"..

 الحضارات إلا من قبيل الوهم المسوّغ اجتياح العولمة للعالم وتفرّدها بالقرار واحتكارها السلاح والقوة والتكنولوجيا والثقافة والاقتصاد والسياسة.. في ظلّ لا تكافؤ بينها وبين أقطار العالم المنفردة خصوصاً ما سمي بدول العالم الثالث¹.. التي هي في ترهل وقصور عن اللحاق بالعالمي الجديد. فإن الواقع يشير بعمق إلى المشكلات الحادة التي تعاني منها. ولقد حاولت أن تقوم بعمليات التحوّل والبناء لاسيّما في المستويين الاقتصادي والثقافي، لكن مباشرة العولمة في خطة التدمير الشاملة للاقتصادات في زمن قصور الشعوب عن هذا السباق جعلت الأمر صعباً، حيث تدمّر الحضارات والثقافات والاقتصادات والنظم السياسية والقيم الثابتة للشعوب من تعلّق بالأرض والتراث والأديان والعادات الروابط الأسرية وتتفيه علاقات اجتماعية نمت وعاشت عبر الزمن، وهدم الكرامات وزحزحة بعض المقامات.. "فالأطر القديمة تفتّت دون أن تنجز المؤسسات الجديدة إقامة سلطتها، ولا يزال الجديد يحمل في طياته بقايا القديم"².

 وتبقى مقولة صدام الحضارات مفتعلة إلى أن يثبت العكس، فليس هناك صدام بين الصيني والعربي أو بين أي أمتين من الأمم.. ما هو موجود هو استعمار واحتلال ونهب ثروات وسيطرة، لن نقول إنّه لا يؤثر في الحضارات، بل إنّه يجمّدها أو يؤخّرها أو يقلل من أهميتها لكنه لا يلغيها.. والجديد الذي تطلع به الحضارة الإنسانية لخير البشر هو الذي يبقى وهو ملك البشرية جمعاء.. هكذا كان التاريخ، شعب يستفيد من آخر.. وهكذا استفاد الغرب من العرب لدى مباشرته نهضته في المفاصل التاريخية المختلفة لاسيّما حضور العرب إلى الأندلس وإبّان النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر (1453).

 الأيام عن لسان الخيّرين في الإنسانية..

 وليس أدلّ على هذا الأدب ما يُعكس في وسائل الإعلام التي غزت كلّ دار على وجه الأرض.. يتمثّل في شرائط الخيالة والمسلسلات الفارغة المحتوى الإنساني.. حيث يتسمّر الإنسان قسراً أمام الشاشات (الإذاعة المرئية، الفضائيات، الحواسيب، الانترنت...).. يتلقّى ما يتلقاه من برامج مهيأة ومفروضة عليه، في شبه استهلاك لذيذ ومشوّق ينسيه واقعه ومشكلاته ويدفعه إلى أن يكون كونياً بحسب ما ترتئيه العولمة، بعيداً من القراءة والمطالعة وصنع الواقع والمصير¹.. وهو همّ آخر يعاني منه الأدب على غير صعيد، ليس مجال بحثه الآن..

 كان الأدب متسع الآفاق واسع المدارك متعدّد الاتجاهات، تلقّح الأدب العربي بجملة من اللقاحات الغربية التي لم تكن وحيدة الجانب.. لقد تواجد الفرنسي إلى جانب الإنكليزي والألماني والروسي والصيني والياباني والسلافي.. وإلى جانب العربي الذي بقي متمسكاً بمزاعمه وتقاليده الأدبية.. لكنه اقتنع بضرورة الاستفادة من آخر ما توصلت إليه الإنسانية في ميادين الأدب: صوغاً ومضموناً¹.

 والمهمّة ميسّرة بفضل عوامل متعددة سادت في زمن الانبعاث وزمن النهضة.. وكانت ضرورية للنهوض.. أما في الثانية، حيث بدت نوايا الغرب الاستعمارية في العالم العربي وانكشف على حقيقته: استعماري يمتهن التدمير والحروب والقتل.. وما حضارته سوى وجه آخر يستعمله ليتمكن من الاستيلاء والسيطرة على كل شيء.. وهو ما أدّى إلى دفع الروّاد في الثقافة العربية إلى إعادة النظر في مجمل مواقفهم من الغرب وحضارته، فدخل وعيهم في مرحلة جديدة من النقد والتبصّر فيما يستقونه.. والتفتوا إلى تاريخهم وحضارتهم وتراثهم وواقعهم.. وتجسّد ذلك على شكل خوف من الغرب وثقة بما لديهم. وتبيّن لهؤلاء أنّ الغرب ذو وجهين متناقضين، وأنّ مؤثراته التي يجلبها للمستعمرات أغلبها بهرج وقشور، أما تبشيره بثقافته وقيمه فهي لزعزعة تراث المنطقة العربية وهدم كيانها الحضاري الموحد أكثر منه نشراً مخلصاً للفكر الإنساني الحديث المتحرر. وعلى الرغم من هذين النوعين من المثاقفة لم ينقطع قسم كبير من العرب عن الدعوة إلى الأخذ من الحضارة الغربية مستندة إلى أصلها الصحيح، أي إلى حرية البحث ونزاهة العلم¹.. وهو ما أعلنه الإمام الشيخ محمد عبده في قوله الشهير: "إن الحضارة الصحيحة تتوافق مع الإسلام"²، وهو بعكس ما ذهب إليه تلامذته الذين مالوا بطرف المعادلة قائلين: "إنّ الإسلام يتوافق مع ما تأتي به الحضارة"³.

 كان الصدام الحضاري مبكراً جداً، ولم يترك أي مجال للحوار من أجل التعايش السلمي بفضل الحكم المسبق على عبثية مثل هذا الحوار بين الشعوب وحضاراتها.. وإن كان هنتغتون قد حكم على المهمة الحضارية الغربية بالفشل قديماً وزجّها في أتون التوليد الخائب للمثاقفة فإنّ نظريته نفسها هي ما ينبغي الحكم عليها بالإخفاق والتوليد الخائب..

 هذا انعكاس لمظاهر الحياة المختلفة بما فيها النفسية والعقائدية والاجتماعية والاقتصادية .. هي ارتباط بالإنسان وممارسته على وجه الأرض وهو يواجه مبهمات الحياة وصريحها.. فصارت له حكايا وقصص، وصارت له حافظة وتاريخ يذكره حيث شاء حتى أصبح "أول آداب الأمم والشعوب هو القصص"¹. ومن هنا وهناك، من هذا القوم وذاك ينتج القصص ويتوحد بشكل أساطير وطقوس وتقاليد، ومن أنّ العوامل البشرية التي تتفق حيناً وتختلف حيناً آخر تنتج نوعاً من القصص تجمع بينه جامعة النفسية البشرية، وتفرّق بينه العوامل الإقليمية المحلية، إنّ القصص الشعبي هو في الواقع بقايا الأساطير والملاحم التي سادت العصور القديمة، ثم أهملته الطبقات الخاصة بعد نموّها في العصور المتأخرة، ولكن الطبقات العامة احتفظت به وكيّفته وفق بيئاتها الجديدة"². وأنّ العرب حين تأثروا بثقافات الأمم الأخرى تأثّروا بألوان هذه الثقافات جميعاً، وأخذوا منها جميعاً: علماً وأدباً وقصصاً وفناً ونظماً وعادات وأفكاراً وتقاليد كما حصل للأمم والشعوب التي تأثّرت بالعرب أنفسهم³. ويعتقد مارون عبّود "أنّ العرب هم الذين علّموا الغرب القصة وإن لم يكتبوها كما تكتب اليوم"⁴.. وبهذا تغدو "ألف ليلة وليلة" و "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" و"كليلة ودمنة" وسواها أمثلة على اتفاق الشعوب في تراثها القصصي ومزاجها الفني، وأن ما ورد في القرآن الكريم من قصص عن الشعوب المختلفة لدليل ساطع على توحد المشاعر الإنسانية وتبادلها الثقافي والمعرفي وحوارها الحضاري المستمر.. ولقد أتيح لـ"ألف ليلة وليلة" المسلية الانتشار في أنحاء العالم منذ عدة قرون مما لم يتح لأي نتاج عربي آخر.. فقد ترجمت إلى معظم اللغات العالمية وتأثّر بها كتّاب العالم وأدباؤه منذ أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة، وأصبحت معيناً يستقون منه الأفكار والخيالات التي لا حدود لها. وبلغ إعجاب كتاب أوروبا بها أن فيلسوفاً ومفكراً مثل فولتير قد قرأ الكتاب خمس عشرة مرة حيث انطبعت قصصه في ذاكرته⁵.. ومنذ أن ترجمها الأديب الفرنسي انطوان غالان إلى الفرنسية في العام 1704، أخذت تترجم إلى سائر اللغات الأوروبية، بل أنّ دراسات حديثة قد اتجهت إلى

 الاعتقاد بأنّ تأثيرها في الأدب الأوروبي سابق على ترجمة غالان بكثير ويعود إلى القرون الوسطى. ولقد رأى الباحث الأسباني في كتابه "أصول الرواية" أنها انتقلت إلى الأدب الأسباني في وقت مبكر وأثّرت فيه. ونقل الأديب الأسباني لوك دي فيغا حكاية الجارية "تودّد" تحت اسم الجارية "تيودور"¹.. ولقد تأثرت مجموعة من القصص الألماني بحكايا "ألف ليلة وليلة" وترجمت إلى معظم اللغات الأوروبية الكبرى. ولا تزال أروج القصص الشعبية حتى اليوم تلك القصص التي تحت عنوان "حكايات الأطفال والبيت" للأخوين "غريم". وقد اعترف المؤلفان أنهما استمدا الحكايات من "ألف ليلة وليلة" عن طريق المشافهة². كما يثبت الباحث جوردان أن قصة هاربت دي ميتز، وهي ملحمة بطولية أُنشئت في نهاية القرن الثاني عشر، أنّ ثمّة تشابهاً لا شك فيه بينها وبين حكاية "نور الدين" في "ألف ليلة وليلة"، كما تأثر بها الشاعر الألماني الفرنسي معاً ألبرت فون شامو، كما تأثر بها أيضاً كريستوف ماري فلن، وهو شاعر ألماني آخر من عصر التنوير، نظم قصيدة بعنوان "حكاية الشتاء" اعترف أنه اقتبسها عن حكاية "الصياد والعفريت" من "ألف ليلة وليلة"³.

 إبّان نهضتهم الحديثة قد حاولوا إحياء التراث العربي، وصحيح أنهم حاولوا الربط ما بين هذا التراث، خصوصاً الحكائي منه، وبين العصر الحديث، متوسلين إلى ذلك بعض التجارب القديمة في هذا المجال، فكتبوا على غرار المقامة¹.. لكنّهم وجدوا أنّ الميدان الحضاري الإنساني قد سبقهم في هذا الفن، فطوّرت أشكاله ومضامينه وأهدافه وطرقه وأساليبه.. ومع أنّ ناصيف اليازجي بقي في أسر الأساليب القديمة للمقامة، إلا أن أحمد فارس الشدياق الذي أفاد من ثقافة الغرب وتعمق في معرفة التراث وحاول تطويع اللغة لتجاري العصر "قد خطا بالمقامة أولى خطواتها نحو القصة، لا في تركيب أحداثها فقط بل في لغتها أيضاً"².

 مال الأسلوب، رواية ترسم لوحة ساطعة للمجتمع المعاصر في سياق تطوره"¹.

 القسم الثاني: نماذج من رواية الحوار الحضاري الحديثة:

 الأنموذج الأول: "نادية" ليوسف السباعي أو الصدام الحضاري

 سبقت الثورة وأدّت إليها. وكتبت هذه القصة التي جرت حوادثها في الفترة التي تلت الثورة، والتي امتلأت بالحوادث الضخمة التي انتهت ببور سعيد، مستعيناً على كتابتها بملهمة.. كان لها الفضل الأكبر في كتابة هذه القصة. تلك الملهمة هي نادية التي لقيتها في قمم الألب العليا، والتي لولاها ما عرفت الكثير من تلك المعالم الإنسانية والطبيعية التي سجلتها في هذه القصة والتي كانت بالنسبة لي الدعائم الكبرى التي حملت هذه الأحداث التاريخية التي حاولت تسجيلها.."¹.

 الرواية وسطحيتها وعزمه على تناول موضوع المقارنة بين ما للشرق وما للغرب وقع في تناقض لدى عرضه هذه الشخصيات..

 غطّت القبعة نصف وجهها. وكانت الصورة مع صورة أخرى خشبية بارزة لكوخ فوق جبال الجليد هي كل بقايا ذكريات الأم الفرنسية من وطنها القديم"¹..

 الرواية صدرت في زمن كانت الازدواجية في الشخصية بين الشرق والغرب قد بدأت تضمحل.. واقتنع الإنسان بأنّ أي حضارة صحيحة هي ملك البشرية جمعاء، وأنّ ما نقبل عليه من فنون وآداب وسلوك وقيم.. غدا أكثر تحديداً.. فالشعوب لا تتخلى عن خصوصياتها، كما أنها لا ترفض المفيد لها في تجارب الآخرين.. وكأني بالسباعي يفرض على شخصياته ما يؤمن به هو، أو ما يريد إعلانه في تلك الحقبة التاريخية من صعود المدّ القومي العربي واعتزازه بعروبته في وجه الاعتداءات السافرة على الأرض العربية وشعبها وخيراتها..

 بهذا الأنموذج هو إسفاف بالمصري نفسه واختياره طريقة حياته للتزاوج بالحضارة الغربية علماً منه أنه أحبّ الفتاة لورا وأعجبته واقتنع بشراكتها في بناء أسرة جديدة.. وهو ما لم يدركه السباعي في إصراره على إبراز التوليد الخائب للمزاوجة بين الحضارتين العربية والغربية متغاضياً عن النماذج الكثيرة التي نصادفها في حياتنا من أناس تزوجوا من غربيات ويعشن باطمئنان، وأنموذج د. طه حسين في الأيام واضح كلّ الوضوح في سوزي الزوجة التي كانت بمثابة عينيه وسبيله إلى العبقرية في حسبانه أن الحضارة الصحيحة تتوافق مع الميول الإنسانية ورغباتها وتفكيرها وتطلعاتها من أجل مجتمع أفضل ولكن ليست على حساب ما لديه.. ويصيب السباعي في قوله على لسان التوأمتين: "إنّ وصولنا إلى جاب لا يعني انقطاع إحساسنا بمصر"¹.

 إسرائيل وانكلترا.. إنّي أحب روسيا لأنها تعاوننا وليس هناك عاقل يقول لك أكره من يعاونك"¹.

 "يكرهوننا لأننا نحارب الاستعمار، إنهم يكرهون تأييدنا للجزائريين ومساعدتنا في ثورتهم ضد الفرنسيين"¹.

 الصهيوني وأراد استرداد حقوقه.. وهي المعادلة نفسها التي طرحها الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، عندما وقف الإنكليزي يتهم السوداني بأنه اعتدى على أرضه التي سلبه إياها بالقوة.. هي دوّامة الموقف الغربي الاستعماري الذي يدّعي أن لديه مهمة حضارية في بلادنا يريد فرضها بالحديد والنار والقهر بعيداً من مصالح الشعوب الأصلية وقريباً من نوازعه المدمرة التي ليست من الحضارة في شيء.

 إن المشكلة الأساسية المعلقة بين الشعوب هي كرامة الإنسان والموقف منها.. ولا يعتقد عاقل بأنّ الحروب والاعتداءات والهيمنة تحلّ هذه الإشكالية.. من لا يعمل على رفع الغبن اللاحق بالإنسان لا يعمل من أجله.. ومسائل الإنسانية لا تحلّ إلا بالحوار الحضاري والتعايش السلمي.. وما تفوه به بعض شخصيات رواية السباعي "نادية" هي في بعضها من صميم الموقف العربي من الإنسان والمعتدي عليه.. فعندما تقول منى: "إنني لا أريد أن أسمع شيئاً عن أمريكا"¹ لأن أميركا همجية، قول يجد مسوّغه في الموقف الأمريكي نفسه من العرب وقضاياهم. وهو موقف مستمرّ منذ اعترافها بالكيان الصهيوني إلى الحملة الشرسة التي تقودها ضد العرب اليوم.. إنّ منى تريد أن تقول: إنّ أميركا همجية: "لأنها سحبت قرض السدّ العالي الذي نبني عليه آمالنا"²، همجية لأنها أرادت تجويع المصري والتحكم به ومنع الحياة الحرّة الكريمة عنه: "أجل أملنا أن يحيا أربعة وعشرون مليوناً كما يحيا الآدميون.. يأكلون لقمة طيبة ويشربون ماء نقياً ويقطنون في مسكن نظيف..."³.

 وتأميمها.. "هذه سرقة، هذه همجية"، ليردّ العربي: "السرقة هي ما تفعلونه منذ مائة عام، والهمجية هي ما تفعلونه في الجزائر"¹.

 وهو الكلام الإيجابي المنتظر من غربية حملت بعض لقاح الشرق وعكست نزعات متأصلة في الإنسان، أيّ إنسان، سواء أكان غربياً أم شرقياً، المهم المحبة والسلام والتعايش بين الشعوب...

 والإقلاع.. رواية الرحلة من القرية الملتصقة بالبداية الحضارية، إلى العالم الجديد الذي قطع شوطاً كبيراً في مضمار الحضارة . رحلة السذاجة إلى التعقيد ومعرض الانبهار الإنساني المغلق أمام مظاهر الرقي الإنسانية الأخرى.. فالإقلاع هو معرض الحضارة الجديدة وحديث حول أسباب الهجرة والحرب في مقدمتها والغرب مسببها.. رواية مآسي الحرب الأهلية اللبنانية وهرب الإنسان من وطيسها واستقرار الوجدان في مسالك الحنين والشوق واللهفة على الوطن والأرض.

 أسباب الهجرة:

 في أعلى منّا غير وجه ربك العلي القدير.. انبسطي يا أمّ نبيل (زوجته)، انبسطي مسافرة إلى كندا في بناية من طابقين، ونحن كل عمرنا في الجورة¹، ساكنين في طابق واحد، لمين يصير هالعز؟.."²..

 يحصل لولا تعاون حفنة من الحكام معه، فجنوا على الوطن وأبنائه..

 الزرع الهجين والضياع:

 وجاء الغرب ليزيد في مأساتهم¹، فأصبحوا كالهرّ الذي يلحس المبرد فيلعق دمه ظناً منه أنّه يقتات بدم جديد فيخسر كينونته إلى الأبد..

 فهم لشمولية المسألة "مشكلة الجيل الثاني بوجه عام ليست مشكلة لغة، بقدر ما هي مشكلة اجتماعية إنتمائية"¹.. وما الانتماء وما اللغة؟ أمران يتمم أحدهما الآخر، إن طرح مشكلة الانتماء بهذه السذاجة يقوّض كلّ شيء، يبدأ من الصفر حتى النهاية.. فبمجرّد طرح قضية الانتماء إلى مجتمع آخر والتخلي عن المجتمع الأصلي يعني إنكار الهويّة والجذور والأصول وكل ما يتعلق بالإنسان لاسيّما لغته وخصوصياته..

 مستمراً.. وهو ما يزيد تفاقم المشكلة لأنّ الدافع الاقتصادي هو الأساس، هو المحوّل هؤلاء إلى فريسة تقع في حبائل المال والتغرّب ونسيان الوطن والهوية القومية..

 وسياسيّيها واقتصاديّيها.. وإذا كانت محاولة السيطرة الأحادية الجانب تعود إلى زمن أبعد من نهايات القرن العشرين، فإنّ إرهاصاتها بدأت منذ ما قبل هذا الزمن، والتخريب الاقتصادي لبعض الدول يبدأ من ذلك الزمن أيضاً.. وإذا كان الحديث عن لبنان مثلاً، فإنّ أزمته بدأت في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وظلّ الإلحاح على تخريب اقتصاده إلى زمننا هذا، حيث نجد فصول تطبيق تعليمات صندوق النقد الدولي تتوالى فصلاً بعد فصل.. ولقد تبع ذلك انكسار في البنيات المتعددة واختلطت كثير من الأوراق وغدت بعض المفاهيم قلقة مضطربة لاسيّما في موضوع الانتماء إلى الوطن والعروبة عموماً.

 تسطير حياة خارج المجتمع، نجاح في الانفصال عن المجتمعٍ الأصل، نجاح الغرب في مصادرة الطاقات الوطنية.. تحوّل حضاري من دون حسبان للأصل الحضاري.. وهكذا، لا يبقى إلا غير القادرين على الهجرة، من يتشبثون بأرضهم، وهم بدورهم تطالهم العولمة في أوطانهم، حتى في بيوتهم وطريقة حياتهم.. ولا يبقى إلا العجائز الذين انتقلوا إلى مجتمع جديد ولم ينجحوا في إيجاد التواصل والاستمرار معه، حيث تصبح اللغة الغربية هي الجسد الذي يستطيع أن يصل الأجيال أو يفصل بينها¹. حتى أنّ كلمة في التخاطب تغرس مسافة جديدة في الابتعاد من "جورة السنديان" الوطن الأم².

 ينبغي أن يبقى.. معادلة يشهدها رضوان في كل ما يصادفه من رموز حضارية وفي كل من يلتقي به سواء أكان من بلاده أم من بلاد الاغتراب.. والغريب أنّ هؤلاء المهاجرين يتعملقون أيضاً كالغربيين، يضاهونهم في كل شيء، لاسيّما في ميادين العمل المختلفة: الوظيفية والرسمية والحرّة.. ولا غرابة أن يبدأ التأريخ للهجرة بأحد المواطنين، يوم تسلّم منصب مختار، فيصنفون الأحداث قبل أو خلال أو بعد عهد المختار¹..

 الذي قضى عمره يداعب تراب أرضه، فلم يجد من هذه الرعاية قيد أنملة في بلاده، إلى القول، "الله يبارك بها الدولة! هذا سبب العمران الحقيقي..."¹..

 جانبها، حشرة تسعى، ومن دماغ تلك الحشرة انبثقت البنايات، الناطحات السحاب¹ والجسور المعلقة وكلّ غرائب الفنّ الهندسي والسيارة الأميركية الفخمة تتململ كالأفعى.."²، الأمر الذي يضطر رضوان، المقلع بعكس الزمن إلى القول: "النظر يتعب.. كيف بيلحّق الإنسان يتفرج على هالدنيا؟"³، وهو الاندهاش الذي لم يبده أنموذج علي مبارك في روايته "علم الدين"، الصادرة في منتصف القرن التاسع عشر عندما وقف أمام الحضارة الغربية في باريس.. بل ظلّت حضارته العربية ماثلة في حواره مع الغربيين وفي مشاهداته لمنجزاته، حيث كان فضل السبق يكون دائماً للعرب، وحيث يبدو الغرب مطوّراً لما بدأوه.. وهو بخلاف رضوان، المواطن اللبناني، ابن القرية، ذي العمر المديد، والذي شهد تطور بعض المدن اللبنانية، لاسيّما بيروت حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين، بيروت التي كانت تضاهي بمنشآتها كبريات العواصم الغربية.. لم تحضر في ذهن رضوان ولم تحضر الحضارة العربية بتاتاً.. تحوّل رضوان إلى صفر حضاري يرى المباني ذات الأدوار المتعددة ويدهش لرؤيتها.. وهو مشهد يبرز ضآلة الشرقي أمام المنجزات الحضارية الإنسانية التي كان له باع طويل في إنشائها.

 تجربته الأحادية الجانب، وكأنه ينحت في صخرة الحضارة ليأخذ منها ما يشاء ويبني مداميك جديدة فيها.. وهو مثال نجده في راجي المنتصر على غربته¹.. وفي أمثاله الذين صاروا حكايا على ألسنة الناس: "في الواقع معظمهم هكذا، رأيتهم هنا، في هذه البلاد، مثله ينطحون الصخر، ولا يبالون. على سواعد الروّاد أمثاله قامت أمريكا، هم وضعوا أسس النجاح، منهم مَنْ وصل، ولامس أنامله أطراف السحب، وكثيرون خرّوا على الطريق، المنافسة شرسة والحياة صعبة، وأميركا فريسة الشاطر"²..

 حقيقتها، تتفهه وتظهر قزميته أمام التقدم الهائل في حقل الفضاء، لتظهر الفرق الشاسع في تفكير الشرقي والآخر الغربي.. وهي لا تبدو في ذلك مظهراً من مظاهر التقاء الشرق بالغرب، بل لا يعنيها من الشرق شيء، لأنه ليس عنده هذا الشيء، ما يعنيها حالتها الجديدة، انتصار الغرب المجسّد في شخصيتها على كل المستويات المادية والمعنوية.

 قرية، غير محدّد ، زمن مقطوع من أزمان متطاولة في القدم، يرتاح أمام سذاجة نادرة من الصعب أن تجدها في زمننا المعاصر، خصوصاً في لبنان الذي عرف فصولاً من الحضارة المعاصرة، واختلطت القرية بالمدينة لقرب المسافة المكانية وسرعة الانتقال وتواجد وسائل الإعلام في كل بيت وهجرة كثير من القرويين إلى المدن، إن لم يكن المسنّون فأبناؤهم جرياً وراء فرص العمل.. ضيق المسافة ألغى بعض فوارق الزمن.. ورضوان أنموذج ضيّق إلى أبعد الحدود مع أنه رمز تراثي لا يمثّل كل رموز التراث أيضاً.. لذلك كان انبهاره أمام كل شيء حتى من الآلات الزراعية الجديدة المتوافرة حوله في كلّ من البقاع والجنوب اللبناني..

 تقديم مفهوم الزمن في الرواية.. بين القرية والمدينة اللبنانيتين مسافة حضارية مختزلة حتى التوحد، وبين لبنان والعالم أيضاً مسافة مختزلة أيضاً، إن لم نقل إلى حدّ التطابق، فعلى الأقل هي قريبة مما يجري في هذا العالم، ربما تصح المقارنة مع بعض البلدان العربية الأخرى، لكنّ الزمن الحديث يبدو أنّه واحد، والمعارف الإنسانية متقاربة وفي متناول الجميع، يأخذ الإنسان ما يريد منها أو ما يستطيع أخذه نسبياً أو يتعرّف إليها ويقف منها موقفاً مغايراً.. الحضارة الإنسانية غدت في القرن العشرين ملك جميع الناس، واقتربت المسافات وأي جهل بفرع من فروع الحضارة يعدّ قصوراً عن اللحاق بالركب الإنساني المعاصر.. لذلك، فإنّ معظم نماذج الرواية بدت غير مشغولة بتوليد حضارة جديدة، ولم يعنها إلا المال.. وبذلك أصبح معادلاً للحضارة المادية التافهة التي تعدّ جمع الثروة من أسباب الحضارة، ضاربة بعرض الحائط القيم الإنسانية.. على الرغم من بروز هذه النماذج في غير موضع من الرواية، قلقة، مشتتة، تعاني من الانفصام الوجودي.. لكنّها لم تثمّر هذا القلق وترفعه إلى سدّة القضايا التي تهم توحد العالمين في شبه حوار متكافئ يفيء على الدنيا بالخير العميم.. لكنّ سكان هذه المدن الحضارية الجديدة، كما وصفتهم الأديبة نصر الله: "لا يلتفتون إلى الوراء، أنظارهم مشدودة أبداً إلى الأمام.. أبداً إلى الأمام"¹.. ومهاجرون من هذا القبيل لا يلتفتون إلى الوراء.. إلى حضارتهم وتاريخهم وبلادهم.. وإن بدا عكس ذلك فهو من قبيل التمني في العودة إلى الوطن ولما يصادفه هؤلاء من عقبات امتزاجهم بالمجتمعات الجديدة التي لا تنفك ترفض حسبانهم أناساً منها: "كلنا مرتبطون بالرحم الذي حملنا، ومهما تملّكنا هنا من أرض ومخازن لن نشعر يوماً بأنّ التربة تربتنا"².

 في صدر بيته عنواناً للتفاؤل، بعكس الشرقي الذي لا يرى فيهما إلا شؤماً ونحساً¹.. ويصبح موضع تندّر ويوسم بالخرافي: "تفاءل يا رجل، أنت في بلاد خلعت عن جسدها الخرافات، وهي تعيش في الواقع الملموس، ولا دخل للتقاليد الموروثة والمعتقدات القديمة وحكايات الماضي، في مسيرتها، أنت يا رجل في بلاد الحاضر"².. وبلاد الحاضر، هي الغرب بكل ما فيه، وحيد الجانب، بعيد عما في الشرق.. إنه الحضارة الجديدة التي يبحث عنها هؤلاء، تلغي كل ما لديهم من قيم وعادات وأديان وتقاليد ولغة وتاريخ وتراث وتطلعات.. فلا واجب تعزية للميت، ولا بكاء عليه، بل تحجّر مشاعر.. لا مشاركة في الأفراح والأعراس.. لا تشديد على الأبناء ضمن الأسرة.. "عادات تخلّينا عنها من زمان، مثل ما أنت شايف"³.

 النموذج الثالث: "الأشجار واغتيال مرزوق"¹ لعبد الرحمن منيف أو ثورة العربي على نفسه وعلى الآخر

 قد لا تكون حبكة الرواية هنا بهذه البساطة، فقسمها الأول غنيّ بالرموز والحوار الداخلي والحدث الممّهد لما سيأتي في القسم الأخير من الرواية.. إنّ رمزية الأشجار تعني النمو والخصب وقلعها يعني بتر الحياة وتوقفها. وإلياس نخلة ومرزوق (لاحظ اسم مرزوق الدال على الرزق من الأشجار ونخلة دلالة على الأشجار أيضاً) ومنصور أسماء ـ رموز تختزل في واحد لتروي رواية أزمة العربي في دياره.. تتجمّع لتعطي منصور عبد السلام المسوّغ لطرح حواره الداخلي ومن ثم مع الآخرين حول أسئلة كثيرة حول ما يجري في بلاده.. وما يجري هو محاولات منع القدرات على الحياة: ابتداء من الشجرة الخصبة وقطعها واغتيال صاحبها مرزوق مروراً بحب إلياس نخلة أرض بلاده وأشجاره وصولاً إلى أزمة منصور الراحل إلى الغرب بحثاً عن رزق، بعدما سُدت عليه المنافذ في بلاده عمداً لأنّه طامح إلى التغيير..

 أخرى¹.. موضوع الحرارة والثلج من منظور جنسي حيناً ومن منظور واقعي حيناً آخر.. وهي فكرة ترمز إلى إيجاد تعادلية في العلاقات.. جبل الثلج يحنُّ إلى جبل النار (رواية موسم الهجرة إلى الشمال)، فمتى التقى النار والثلج تتوحد الحرارة وتعود الحياة إلى طبيعتها بين كل من الشرق والغرب.. لكنّ مصطفى سعيد² أبطل هذه المعادلة وأثبت عقم إيجاد مثل هذه التعادلية ما دام الغرب لا يأتي إلى الشرق إلا غازياً.. وهو أمر استدركه منصور عبد السلام بقوله: "ليست بلادنا مثل بلادكم"³، ليختصر النزوات والأحلام التي تترى على مخيلة عشيقته كاترين: "الناس عندنا لا يرقصون إلا في المناسبات، وفي هذه المناسبات يرقصون بشكل وحشي تماماً مثل الغجر"⁴.. طرح لا يخلو من تشاؤم من آثار الصدمة التي تلقاها في بلاده.. لأنه يعلم أنّ الغربي يتمسّك بحريته: "ولكن أريد أن أرقص متى أشاء وبالطريقة التي تعلّمتها"⁵.. وهو الأمر الذي يقلق منصور: الحرية والإرادة.. هو الأمر الذي فصله من عمله وشرّده وألجأه إلى الغرب، بمجرّد أنه فكر أن يكون حرّاً.. وعلى الرغم من واقعيته المشوبة بالتشاؤم، حاول أن يقنع كاترين بلا جدوى المحاولة للعيش في الشرق.. لذلك كانت تردّ باستهجان: "ولكنك تشبهني في كل شيء يا منصور، في الأكل والرقص والموسيقى"⁶.. وهذا بالتحديد ما يقلق منصور.. لأنها ترى أمامها أنموذجاً مختلفاً.. عاش في الغرب وتعلّم أساليب حياته وأتقنها.. العربي يتعلم بسرعة، يحنّ إلى الحضارة.. أما الغربي باعتقاد منصور فإنّه سيسير بخط معاكس من الحضارة إلى التخلّف.. وهنا تكمن صعوبة الحياة، وصعوبة الالتقاء بين الشرق والغرب. فمنصور قد قطع أشواطاً كبيرة، تعوّد على حياة الغرب، وتقبّل حواره الحضاري.. سلك سلوكه وغدا من الصعب أن يعيش في بلاده.. لذلك هو منبوذ ومطرود بحكم أفكاره الثورية وما تلقاه من علوم في الغرب: "تعوّدت على حياتكم، أصبحت واحداً منكم"⁷.. وهو بعكس بيتر ماكدونالد⁸ الذي تعذّر عليه أن يكون مثل العرب، لأنّه جاء محمّلاً بأفكار مسبقة

 عنهم مفادها أنهم همجيون متخلّفون وينبغي ترويضهم بالاستيلاء على بلادهم وضمّها إلى الاستعمار.. لذلك أخفقت مهمته التي حاول فيها تجميد الشرق على الرغم من حرارته.. أما اعتراف منصور لكاترين: "أنتم في نهاية الحضارة، وتسأمون، ما نقول نحن؟ الأشياء التي تكرهينها نشتاق إليها في بلادنا، نموت من أجل أن تكون، والأشياء التي لا نحبها تتلهفين لكي تريها"¹، المسألة أصبحت لدى الغربية اكتشافاً، مغامرة في المجهول، وليس رغبة واقتناعاً.. ذلك أنّها من أسئلتها تبدو غير ملمة بشيء عن الشرق، إنّها مجرّد نزوة: "ولكن لست أفهم الاختلاف بين حياتنا وحياتكم؟ ألا تأكلون مثلنا؟ ألا تنجبون الأولاد وتعملون وترقصون؟"، "نفعل هذا كلّه، ونفعل أشياء أخرى أيضاً زيادة على ما نفعل"، "نعم أي شيء مثلاً"، "نكذب، نؤجّل أعمال اليوم إلى الغد، نضرب زوجاتنا، ننام بعد الظهر، نطيع القوادين والسماسرة والمشعوذين.."².

 منطقي: "لأنّ حياتنا تافهة ونحتاج إلى أن تدمّر، أن تحرق"¹.. وهذا لن يتسنى في نظر منصور إلا بثورة تلغي العلاقات الجائرة القائمة وتقيم علاقات إنتاجية جديدة تؤمّن مكاناً لكل مواطن: أكره طريقة الحياة والعلاقات في بلادنا، ولن تزول هذه إلا بثورة تحرق كل شيء"²..

 الغرب مع إنكاره هذا الأخذ، وحالة بعض الحكام الذين يريدون تطور بلادهم.. كلّها مسائل معلقة.. ينبغي حسم الكثير منها.. بينما الغرب قطع أشواطاً كبيرة.. صادق مع نفسه، يعرف ما يريد.. لديه الكثير من مظاهر الإقناع للآخرين.. فكيف يلتقي الشرق بالغرب إذاً؟ يقول منصور برمزية تامة للشرق: "أنا قاطع طريق، أنا بحّار تائه.. ولكن يجب أن تتعرّى الأشياء.. أن يزول الوهم، وبعدها يمكن أن نتحدث.. يمكن أن نقضي وقتاً ممتعاً، وغداً عندما نفترق، نشدّ على أيدي بعضنا، ونحنّ لهذا الفراق، ولكن لا نستطيع أن نفعل شيئاً آخر، ولو فعلنا لكنّا حمقى"¹.. فأي محاولة للالتقاء تصبح بنظر منصور ضرباً من الحمق والجنون، أي خطوة نحو اندماج الشرق بالغرب إنما هو إسهام في البعد والهرب من الالتقاء: "يجب أن تعرفي أننا من عالمين مختلفين، التقينا في نقطة، ولكن لكل عالم منّا رحلته، سيظل يمشي إلى آخر الدنيا، إلى آخر الحياة دون أن نلتقي مرة أخرى.."².

 مبرماً.. ماتت لديه المحاولات الآيلة إلى التلقيح الحضاري.. أخفقت في نظره.. لأنّ الغرب غير قادر على الحياة في الشرق، تماماً كفقير تزوّج من غنيّة.. بينما الشرق "المتخلف"!!! المتشوّق إلى تطبيق الحضارة أي حضارة، حضارته أم حضارة سواه، لا يهمّ ما دامت هناك عوائق محلية تمنعه من الإقبال على أيّ نوع من التحضّر: "أنت لا تصلحين لأن تذهبي معي، مهما حاولت أن تقولي الآن، وأنا لا أستطيع أن أبقى هنا، لأنّ عليّ واجبات هناك.."¹.

 قراره وتبدو شخصيته مكتملة ويتوحد أبناؤه ويقدّمون مشروعهم الحضاري المشترك الذي لا يزال في طيّ النسيان أو ليست هناك إرادة لإنجازه.. ومنصور واحد من الوسطاء في هذا المشروع، يعمل مترجماً في إحدى الشركات الفرنسية.. يمكن أن يكون صلة الوصل بين العالمين، لأنه مقبول على الأقل من الطرف الثاني (الغرب).. يقوم بعمله بشغف وعن جدارة، وآفاقه مفتوحة في هذا الطرف ورؤساؤه يحترمونه ولا يعترضون على آرائه، يقول لرئيسه في العمل: "قد تستغرب إذا قلت لك إنّي أكنّ احتراماً عميقاً لك، يصل حدود الحب، وهذا الشعور لا أكنّه لأحد في وطني! ألأنك أنقذتني، فسحت لي مجال العمل؟ لا أدري.."¹.. وعندما تسلّم عمله لأول مرة في الغرب، شعر بارتياح عميق.. لم يشعر بمثيله في بلاده القلقة المضطربة التي أودت به إلى السجن والحصار.. لذلك كان يعلن أمام رفاقه في العمل الجديد "ولقد خرجت أخيراً من الحصار"².. وبهذا سيكون شيئاً مميزاً.. ولقد ظهر ذلك عندما قدّم المسيو دونال منصوراً إلى زملائه الذين سيتعاملون معه، كان مليء الثقة بأنّ منصور هذا، ليس كالشرقيين ولا كالغربيين.. إنّه شيء خارج هذين الإطارين.. إنه شيء جديد حاول الشرق الوصول إليه وقطع مسافة معينة به، كما قصّر الغرب عن أن يعود إلى الوراء ويتمشرق كلياً، فغدا "المسيو منصور لقاء الشرق والغرب، سيكون لسان الجميع، سيكون عربياً وفرنسياً في وقت واحد.."³.. وتلك هي المهمة المرسومة لمنصور: الصلة بين فرنسا والعمال العرب الذين يعملون هناك.. مهمته "الفَرْنَسَة" إذا صح التعبير، نقل ما يريده الغرب إلى ثلّة جديدة من الشرقيين. وهناك، في فرنسا، تبدأ فلسفة منصور.. يبدأها بأساليب الحياة العامة: الخمر وأنواعه: "الخمر يا مسيو دونال أقرب إلى القلب، بارد وجبار، ثم أنّه رمز الشرق، كما الكونياك رمز لفرنسا، ونحن نشربه كي نمتلك الجرأة لمواجهة كل شيء: النساء، القيظ والمحققين، ليس هذا فقط وإنما لمواجهة كل شيء في هذا الشرق اللعين، أنتم تشربون لكي تفرحوا، نحن نشرب لكي نتخدّر.. أنتم تشربون من أجل أن تتألق أرواحكم، أن تزهر، أما نحن، في الشرق اللعين، موطن الكآبة والخنافس السوداء، فنشرب لكي نغرق وننسى"⁴.

 واللجوء إلى الخمرة من أجل النسيان والتخدّر، فإنّ الخطوة الثانية هي التدمير، محاولة لرسم النهايات في بلاده: "آن لنا أن نحتفل بنهاية الحياة على هذه البقعة من الأرض التي يسمّونها الشرق"¹. "ونحن في الشرق لا نُحتمل فقط وإنما نهوى أن نعذّب أنفسنا، الشرق موطن الاحتمال، لقد تحوّل الشرق إلى حمار.."².. "لماذا يجوع الإنسان في وطنه؟ لماذا يجعلونه يكفر بكل شيء"³.

 تكون إنساناً فقط"¹، والإنسان لا يموت في نظر منصور، ذلك ما بحث عنه في الشرق والغرب، الإنسان السويّ الذي جُبل على العدالة وحبّ الخير لبني البشر أيّاً كان موطنهم: "لكنّ مرزوقاً لا يموت"².. ويعي سابعاً: أن الحضارة الحقيقية هي الأساس، الحضارة الحقيقية سواء أكانت في الشرق أم في الغرب.. ما يسمّونه هو الداء الفتاك المعذّب والمريح للإنسانية.. الحضارة المزيّفة ما يقتل الأبرياء ويشرّد الضعفاء: "نعم الحضارة كفيلة بأن تعالج كل شيء، بما في ذلك مكافحة الذباب وقتل الناس"³.. ويعي ثامناً: أنّ الغنى هو في الوعي والتبشير به، وبلاده أحق به من سواها.. فعندما سيعود إلى بلاده سيكون غنياً قادراً على فعل شيء، على خدمة الإنسان هناك: "عندما أعود للوطن سأمتلك مكتبة تحوي المراجع المهمة. وسوف أكب على هذه المراجع ليل نهار حتى استخرج الحقائق، الحقائق تفرح الناس"⁴.. ويعي تاسعاً: أن للشرق حضارة عميقة الجذور، لكنها مخفية، غير معمول بها.. يجني عليها أبناؤها كما يجني عليها الغرب.. وهي رمز لمنصور في مشروعه الحضاري التنويري، وعلامة بارزة في حواره الحضاري المفتوح مع الغرب.. ففي انهماكه في عمله يتذكّر شرقه، يرى الصحراء التي يعمل فيها، جرداء لا يزيّنها النخيل، يودّ لو يزرع نخلة كي يعيش اللحظات قرب وطنه بل في أعماقه..وجود النخلة استحضار لحضارة الشرق في حوار منصور، وإلحاح على هذه الرمزية التي تبدو طريقاً واضحاً لتعامل الشرق مع الآخرين الذين إذا أحبوا إقامة حوار مع أبنائه عليهم أن يعترفوا بفضله وبما عنده، وأن ينزعوا المطامع من صدورهم ويتخلوا عن نزعة الاستعلاء وإلغاء الشعوب: "أريد الآن إجازة لأذهب إلى المدينة وأشتري نخلة"5 بهذا الإعلان يعبّر منصور عن حضور الشرق الدائم في شخصيته، وما ثورته على نفسه وعلى الآخر إلا من قبيل الدعوة إلى البناء والتقدّم اللذين افتقدهما في بلاده وبلاد الآخر..

 النموذج الرابع: رواية "في سبيل الوطن" لزهير صادق رضا أو المقاومة

 قبل حاكم النجف البريطاني، فيهان ويضرب ويسجن.. الأمر الذي استدعى حضور أحد أبنائه لإنقاذه، فيقاوم الاحتلال ببسالة حتى يقبض عليه ويضرب ويعذّب ويقتاد إلى السجن.. وسرعان ما تسري أخبار الحادثة في المدينة المقدّسة، فيهبّ الناس لمقاومة الانكليز وتحرير أسيرهم.. يستطيع الابن الهرب بمساعدة المقاومين، لكنّ العجوز يبقى في السجن ويقتل تشفياً وانتقاماً من ابنه والناس الذين احتشدوا وقاوموا لتحريره.. تبدأ بعدئذ سلسلة من الأحداث التي تعكس بطولة أبناء النجف وصمودهم وتصميمهم على طرد المستعمر..

 باعتلاء وينظر إلى الآخرين بدونية، ظناً منه انه من جبلة أخرى.. أعلى مقاماً وأكثر حضارة وتفوّقاً في جميع الميادين.. لا يراعي في سلوكه تأثير ما يبدر منه على الآخرين.. غير عابئ بأوضاعهم سواء أكانوا أطفالاً أم عجائز أم نساء.. ما يهمّه قسمته التي جعلها لنفسه قسراً أو حقاَ له على الآخرين.. فيستبيح بذلك العبث بأرواحهم وممتلكاتهم وثرواتهم.. "نظر إليه (إلى العجوز) الرجل (مدير الشرطة) بكثير من الاحتقار، ثم بصق على الأرض مشيراً إلى تفاهته وخسّته.. ولم يطق مدير الشرطة صبراً على هذا، بل صرخ برجال شرطته يطلب منهم الإجهاز عليه.. فهجم عليه هجمة رجل واحد، وانهالوا عليه ضرباً بالسياط، والعجوز يحاول أن يدافع عن نفسه ويتحاشى ضرباتهم الموجعة"¹.

 الخشب في ساحة النجف الكبرى لمدة ثلاثة أيام، ليراها أهل النجف، ويكون بذلك صاحبها مثلاً يحتذي لمن تسوّل له نفسه العبث والوقوف بوجه حكومة صاحب الجلالة"¹.

 العاطلين عن العمل.. فأمعن في خططه انطلاقاً من هذه الحالة التي أوجدها، وهو مؤمن أنه سيجد جائعاً يغريه الطعام من أجل خيانة بلده.. فبعد أن قتل الحاكم العجوز، حين لم يفلح في القبض على ابنه فاضل المقاوم، حاول بالمال تنفيذ مآربه: "المال سيد الحلول كما قضينا على أبيه بوساطة روبيات، كذلك نستطيع أن نقضي عليه عن طريق وضع جائزة مالية للذي يأتي برأسه حياً أو ميتاً"¹.

 ترزح تحت الطغيان.. وليس لهم أي نية في أيّ توسع إقليمي"¹.

 حيث تتجمع وتتقدم فتخوض أشرس المعارك لتخليص هذا الشاب من براثن الاحتلال وإخراجه من الزنزانة.. وتتوالى عمليات المقاومة ضد الاحتلال، وتشترك فيها جميع الفئات الشعبية لاسيما رجال الدين، الذين يحثون الشعب على الدفاع عن التراب ومن هؤلاء العلامة الشيخ محمد مهدي الجزائري الذي يخطب محرضاً: "يا رفاق الدين والسلاح.. ليكن هذا اليوم ثورة على المحتل الغاصب الذي تشبث بأرضنا وخيراتنا.. وليعلم الجميع أن الجمعية التي ننتمي إليها والتي ظلت دائماً وأبداً صوت الوطنيين والمظلومين من أبناء هذا الوطن.. قد قررت الإقدام على خطوات جديدة في صالح الوطن..".

 حكومتكم تسوم شعبنا العذاب أين هو مارشالكم.. إنه لا يستطيع أ، ينقذكم بل لا يستطيع شيئاً لكم أو من أجل حرّيتكم، انّه وحش لا يفكر إلا في نفسه وأطماعه"¹.

 من انتصارات وما أنزلت بالمحتلين من خسائر على مدى سنوات طويلة، وفي معظم الانتفاضات الشعبية العربية.. لذلك كان الجهاد سبيلاً إلى التحرير، تنبع أواصره من الوجدان والقلب لتتحول إلى فعل يدافع عن القيم والدين والخصوصية والتراب.. يؤكد الزعيم الوطني السيد مهدي آل سليمان هذا التوجه بقوله أمام الجموع المحتشدة والمصرة على المواجهة: "إنّ الله جلّ جلاله لم يخلقنا لنكون عبيداً لحكومة الاحتلال.. بينما هم الأسياد.. ولا أسياد في هذا المكان.. إننا أصحاب حق وهم أصحاب باطل.. والباطل دائماً الخاسر.. ولا نصر بغير جهاد، والجهاد سبيل من سبل الوصول إلى الجنة دار الخالدين الأبديين"¹.

 على بال من أساليب الحضارة لاسيّما علاقة الرجل بالمرأة، والعربي بالغرب، والغربي بالعربي.. ونقلت التيارات الفكرية والسياسية..إلخ.

 وطرحت رواية "الإقلاع عكس الزمن"، مشكلة الهجرة إلى الغرب وخسارة المواطن العربي هويته وخصوصياته وأرضه وثقافته وتاريخه وانغماسه كلياً في الغرب..

 "الإقلاع عكس الزمن" والبعض الآخر رافض بحدّة تحدّيات الغرب وأساليبه كما في "نادية"..

 في تجربة الكتابة ... كتابة القصَّة القصيرة

 ومشاوير وسهرات ... كان عليه في مهمة أولى أن يقرأ لجده، وكان رحمه الله رجلاً تقياً مستنيراً، ومن يسهر معه أدعية، وخصوصاً دعاء كميل ليلة الجمعة. ونصوصاً من نهج البلاغة وقصصاً كان يقتنيها الجد او يشتريها بناء لنصائح زواره ورواد مجلسه ومنها على ما أذكر قصة الآخذ بالثأر وسيرة النظام وروايات تاريخ الإسلام ...

 فنشأت الحاجة إلى التعبير تلقائياً، وكانت تلبي كتابات على أوراق تُطوى أو كتابات في موضوعات إنشاء تطول وتقول ما يراه بعض المعلمين خروجاً على الموضوع وعلى المرحلة العمرية ولا يزال يذكر أنَّه كتب دفتراً كاملاً من ست عشرة صفحة في موضوع واحد، وقد احتفظ به معلم اللغة العربية آنذاك الأستاذ عبد الحميد بعلبكي ولا يزال في حوزته حتى الآن ولم يعده إليه. ثم جاءت فرصة كان على الفتى أن يغتنمها، وخصوصاً أن كثيراً من التحدي قد رافقها، في تلك السنة قررت إدارة المدرسة أن تقيم احتفالاً خطابياً بمناسبة عيد الاستقلال، وخصصت كلمة للطلاب يلقيها أحدهم، وأعلنت أن اختياره سيكون من طريق اختيار أفضل كلمة تقدم إلى لجنة عينتها لتنظيم الاحتفال.

 ينعطف، ... المهم هو ان البدايات كالمرحلة التي أشرت الى ملامحها تؤتي ثماراً ليست ثماراً مباشرة وإنما ثمار مختزنة مثل مياه الينبوع تتجمع ولا تلبث ان تنبجس ذات يوم أو حين يحفزها مثير، وهي كما قلت آنفاً لا تنفك عن التطور.

 اللبنانية، وأخفقت مشاريع التغيير، وحولت مسارات الطرق في منعطفات تفضي إلى مزيد من الخيبات ...