(4) نهضة عاشوراء


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-01

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


مقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

يقول الإمام الخامني دام ظله: "إنّ عاشوراء ليست حادثة صرفة, عاشوراء عبارة عن ثقافة, عن حركة عن خطٍّ دائم وقدوة ساطعة للأمّة الإسلاميّة. لقد رسم أبو عبد الله عليه السلام بحركته هذه - التي كانت واضحة من حيث التوجيه العقليّ والمنطقيّ في زمانه - خطّاً للأمّة الإسلاميّة ومضى, وهذا الأمر ليس عبارة عن الشهادة فقط, بل هو أمر عميق جدّاً ومركّب من عناصر متعدّدة"1.

ولأنّ قضيّة عاشوراء بهذه الأهميّة فإنّ هذا الأمر يُلقي على عاتقنا مسؤوليّة خاصّة في كيفيّة التعاطي مع هذه الحادثة الاستثنائيّة, إن من حيث المضمون أو المنهج أو التحليل والدراسة أو الاستفادة على صعيد الدروس والعبر.. أو غيرها من الجوانب.. ولا ينبغي الاكتفاء بعرض الحادثة كما ذكرها المؤرّخون والرواة, فإنّها - وعلى ما في هذا العرض من غثٍّ وسمين لدى بعضهم أحياناً - ستتحوّل حينئذٍ إلى مجرّد حدث تاريخيّ لا يربط الماضي بالحاضر, ولا يستشرف المستقبل, وهو ما يتنافى مع عاشوراء التي ينظر إليها كنهج وإلى كربلاء التي يرتبط فيها كقضيّة.
 

1- من كتاب أحيوا أمرنا الصادر عن معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ.
 
 
 
 
 
11

1

مقدمة

 وقد قام العديد من العلماء والمحقّقين والباحثين وعلى طول التاريخ بتقديم الشيء الكثير على صعيد البحث والتحقيق والدراسة, غير أنّ أهميّة هذه الواقعة وعمق أبعادها وتجذّرها في الوجدان وعظيم ما تحمله من دلالات, جعل منها معيناً لا ينضب ماؤه ولا يرتوي ورّاده, فبالرغم من جميع ما قدّم إلى الآن, تبقى الكثير من الجوانب التي يجد القارئ أو الباحث أو المحقّق أنّها لا زالت بحاجة إلى بحث وتمحيص, وتحليل وتعميق..


ومن هنا جاء اهتمامنا في معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ بالجانب البحثيّ والتحقيقيّ العاشورائيّ, والذي عزمنا على العمل عليه من خلال أمرين: الأوّل: الندوات واللقاءات, والثاني: الكتب والإصدارت.

ولهذا قمنا بإعداد هذا الكتاب الجديد تحت عنوان: "الكتاب العاشورائيّ بحوث ودراسات", والذي نضع بين القرّاء والخطباء الجزء الرابع منه على أمل أن يوفّقنا الله سبحانه لنتحفهم بأجزاء أخرى لاحقاً إن شاء الله تعالى.

عملنا في هذا الكتاب:
ونلفت نظر القارئ الكريم إلى الآتي:
1- إنّ هذا الكتاب يأتي كجزء من سلسلة لمجموعة من الدراسات والبحوث المتعلّقة بالشأن العاشورائيّ الحسينيّ يصدرها المعهد تباعاً, والذي يضمّ موضوعات مختلفة ومتنوّعة, وقد يحتوي على ملف أو أكثر أو على موضوعات متفرّقة.

2- يتضمّن هذا الكتاب ثمانية بحوث ودراسات, خمسٌ منها تمّ تعريبه من اللغة الفارسيّة, وثلاثٌ منها كُتبت باللغة العربيّة.

3- لقد جاء النص المعرَّب مع شيء من التصرف بالحذف والتبديل أو التقديم 
 
 
 
 
 
 
12

2

مقدمة

 والتأخير أو التغيير في الأسلوب أو صياغة العبارة, حسبما اقتضته الضرورة أو استدعته السياسات المعتمدة للنص في المعهد.


4- اخترنا بعض العناوين التي يكثر الحديث أو التساؤل حولها, ويستفيد من الإجابة عنها القارئ والباحث على حدٍّ سواء, مع إمكان أن يتمّ التعرّض للموضوع نفسه في بحث أو دراسة أخرى في إصدارات أخرى.

5- آثرنا عدم التعليق أو النقد لما جاء في بعض هذه البحوث والدراسات, رغم مخالفتنا في الرأي له, وذلك إفساحاً منّا في المجال للأخذ والردّ العلميّ, والذي لا يصل إلى حدّ التشكيك والتضعيف.

6- إنّ هذه البحوث قد كتبها مجموعة من الباحثين والمحقّقين كما أشرنا, ومن هنا فإنّها تعبرّ عن رأي أصحابها ولا تعبّر بالضرورة عن رأي المعهد.

وختاماً فإنّنا نطلب من القرّاء والخطباء والباحثين الأعزّاء تزويدنا بملاحظاتهم وإرشاداتهم البنّاءة, سائلين المولى تعالى أن يتقبّل منّا هذا العمل القليل, ويثيبنا عليه الثواب الجزيل بمنّه وكرمه, ويجعله ذخراً لمن ساهم فيه في نشره وحشره, وأن يحظى بالقبول والرضا من ساحة مولانا ومرتجانا بقيّة الله في أرضه عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 

معهد سيّد الشهداء عليه السلام
للمنبر الحسينيّ
 
 
 
 
 
13

3

حجّيّة التاريخ

 حجّيّة التاريخ1


تمهيد:
علم التاريخ هو ذلك العلم الذي وُضع لدراسة ما يتعلّق بماضي الشعوب وأحوالهم في أيّامهم السالفة، وهو يركّز على الهويّة التي كان يحملها كلّ شعبٍ من الشعوب في الماضي في مقابل أجيال الحاضر والمستقبل. فالتاريخ كمصباحٍ منير يضيء للأجيال اللّاحقة طريقها، من خلال ما يتيحه لها من القراءة والتدبّر في أحوال أسلافهم، ودراسة تجارب الماضين، والاطّلاع على نجاحاتهم وإخفاقاتهم، وهزائمهم وانتصاراتهم، والاستفادة من هذه التجارب بما تقدّمه من دروسٍ وعبر. وهذا يُتيح للأجيال اللّاحقة - من جهةٍ - أن يتعرّفوا بشكلٍ أفضل على حقيقة هويّتهم، ويتفطّنوا إلى ما هم يمتلكونه فعلاً من امتيازاتٍ وأمور إيجابيّة ونقاط قوّة فيتمكّنوا من توظيفها وتثميرها في حياتهم. و- من جهةٍ أُخرى - يُتيح لهم أن يجتنبوا الوقوع في أخطاء الماضين وسقطاتهم أو تكرار تجاربهم الفاشلة.

لكنّ الواضح جدّاً هو أنّ تحقيق هذه الغاية، وإمكان الاستفادة من هذا العلم، يتوقَّفان بالدرجة الأُولى على إثبات أنّ أخبار التاريخ ومرويّاته تتمتّع بدرجةٍ معتدٍّ بها من الحجّيّة والاعتبار، بحيث يمكن الاحتجاج بهذه المرويّات والأخبار والاعتماد عليها والاستدلال بها عند اللّزوم.
 

1- لبعض الباحثين في قسم التحقيق التاريخي.
 
 
 
 
 
9

4

حجّيّة التاريخ

 وفي هذا المجال، نجد أنّ كثيراً من الباحثين لم يتردّدوا في الحكم بحجّيّة المرويّات والنقولات التاريخيّة فيما إذا كانت هذه المرويّات والنقولات مراعيةً للضوابط والمعايير اللّازمة للنقل التاريخيّ، وحكموا بأنّها - والحال هذه - تكون محكومةً بالصحّة والاعتبار. لكنّنا في المقابل - أيضاً - وجدنا البعض من الباحثين يفتحون باب التشكيك في هذا المجال، وذلك من خلال ادّعاء أنّ التاريخ لا ينبغي إدراجه في مقولة "العلم"، بل هو ينتمي إلى مقولة "الفنّ"، زاعمين أنّ من أبرز خصوصيّات العلم خصوصيّة الكشف عن الواقع كما هو، والحال أنّ التاريخ يختلف في هذه الجهة عن العلوم الطبيعيّة، إذ إنّ الموضوع في هذه العلوم يكون في العادة من الأمور القابلة للمشاهدة والتي يمكن إخضاعها للاختبار والتجربة. وأمّا موضوع علم التاريخ، والذي هو موضوع بحث المؤرّخ، فهو عبارة عن الوقائع التي لا تعلّق لها إلّا بالزمن الماضي، وليس لها حضور فعليّ راهن عند المؤرّخ لكي تكون قابلةً لإخضاعها للتجربة والاختبار مجدّداً، ذلك لأنّ المؤرّخ - في الغالب - لم يكن حاضراً ومعاصراً للأحداث والوقائع التاريخيّة التي يرويها، وهي لم تصل إليه بشكلٍ مباشر، بل إنّما اعتمد في نقلها والإخبار عنها على وساطةٍ أو وسائط عديدة. وعلى هذا الأساس، يحتاج المؤرّخ - عادةً - في دراسته لأيّ حقبةٍ من حقبات التاريخ إلى الاعتماد على الوثائق والمستندات الواصلة إليه من تلك الحقبة نفسها، ليتسنّى له من خلال دراستها والتمعّن فيها أن يوظّفها في عمله التاريخيّ.


إشكاليّات وسلبيّات في مواجهة العمل التاريخيّ:
لكنّ هذا النحو وهذا الطور من العمل التاريخيّ تواجهه - بشكلٍ عامّ - إشكالات عديدة:
1- أنّ غالبيّة الذين كتبوا لنا التاريخ كانوا من أتباع وحواشي الطبقة التي كانت
 
 
 
 
 
 
10

5

حجّيّة التاريخ

 حاكمة، ما جعل كتاباتهم ونقولاتهم التاريخيّة تتّسم بأنّها تصبّ في إطار التأييد والمدح لتلك الطبقة ولكلّ الجهاز الحاكم، وفي المقابل، في إطار الذمّ والإدانة للمناوئين الذين كانوا معارضين لسلطة هؤلاء، كما أنّه كان من الطبيعيّ أن نجد هذه الكتابات تتجاهل وتتغاضى تماماً عن الجوانب المظلمة لهؤلاء الحكّام، من ظلاماتٍ واعتداءات وخيانات وغير ذلك، وأن لا تتعرّض لشيءٍ من ذلك أبداً. وعلى هذا الأساس، فإنّ أيّ عملٍ تاريخيّ كان نتاجاً لتوصيةٍ من الحكّام أنفسهم، أو كان معمولاً لخدمة أهواء وأغراض الحاكم، ويركّز على فتوحات حكّام الجور وانتصاراتهم في مواجهة أعدائهم، ويعمل لتبييض صورتهم وصورة عائلاتهم، ويُبرز حسناتهم، ويتحدّث عن رغد عيشهم، ووفور حظّهم، ويتجاهل تماماً المصائب والمشكلات اليوميّة التي كانت تواجه مخالفيهم والمعارضين لسلطتهم والمنتقدين لحكمهم وسياساتهم الظالمة، أو إن كان يذكر شيئاً من هذا فإنّما يذكره في سياق الذمّ والتوهين. مثل هذا العمل التاريخيّ ليس له اعتبار، وليس له قيمة تُذكر، ذلك لأنّه مجبول بالكذب والأخبار الموضوعة، مليء بالتزييف والافتراءات.


2- حتّى لو لم يكن المؤرّخ تابعاً للجهاز الحاكم، ولم ينطلق في كتابته للتاريخ من تبعيّته للسلطة أو بإيعازٍ منها، فهو - على الأقلّ - سيكون تابعاً لفرقةٍ أو مذهبٍ أو إقليم معيّن، أو لقبيلةٍ أو لحزبٍ ما، وهكذا، وبالتالي: فإنّه في إعداد واختيار الموادّ التاريخيّة التي يريد أن يُدرجها في كتابه، سوف يكون محكوماً للفكر والعقيدة أو الآراء التي تنسجم وتتوافق مع القبيلة أو الحزب أو المذهب الذي هو ينتمي إليه. وما سينجم عن ذلك أنّه سيعمد إلى حذف الكثير من مجريات الأحداث والوقائع التي لا تنسجم مع معتقداته وآرائه، أو التي لا ترتبط باختصاصه وتوجّهاته، وسيسدل في كتابه عليها ستاراً من
 
 
 
 
 
 
 
11

6

حجّيّة التاريخ

 النسيان، والحال أنّ هذه الأحداث والوقائع التي حُذفت وأُسدل عليها ستار النسيان كان لها دور كبير ومؤثّر في إزاحة الإبهام والغموض عن كثيرٍ من الوقائع والمجريات، وفي تكميل الوعي والموقف تجاهها، وفي تقديم قراءةٍ متكاملة وتفسيرٍ متناسق لتسلسل الأحداث، وبالتالي: سيؤثّر على وصول الأجيال اللّاحقة من المؤرّخين والباحثين إلى استنتاجٍ وحكمٍ نهائيّ بشأن حادثةٍ وواقعةٍ معيّنة من حوادث التاريخ ووقائعه.


3- عَمَد بعض كتبة التاريخ، ونتيجةً لخشيتهم من أن يتعرّضوا لسهام اللّوم والتجريح، أو لخشيتهم على أصحاب النفوذ والسلطة من أن ينتفض النّاس ضدّهم ويُعلنوا الثورة عليهم، أو لخشيتهم من تحرّك العامّة وقيامهم بخطواتٍ لا تُحمد عقباها بالنسبة إليهم، عمدوا إلى التغطية والتعمية على الكثير من الحقائق التاريخيّة، من خلال إثارتهم غبار الدسّ والتحريف والتزوير، ولم يريدوا للأجيال اللّاحقة أنّ تقف على حقيقة ما جرى في صفحات التاريخ، أو أنّهم لم يستطيعوا أن يعرضوا لهذه الأجيال مجريات الواقع كما حدث.

4- وحتّى لو فرضنا أنّ المؤرّخ لم يكن مبتلىً بشيءٍ من هذه المشكلات المشار إليها، فإنّه من الممكن أن يكون مبتلىً بمشكلةٍ أُخرى، وهي أن لا يكون في نقله لأصل الوقائع التاريخيّة، أو لتفاصيلها وجزئيّاتها، قد راعى الدقّة اللّازمة والمطلوبة في هذا المجال. يعود السبب في ذلك إلى أنّ المؤرّخ إذا كان ممّن عايش الحادثة وعاصرها فمن الممكن كثيراً أنّه لم يكن قد شاهدها وعاينها، أو لم يكن قد قرأ أبعادها، بشكلٍ صحيح من جميع جوانبها وزواياها، أو أنّه حين أراد أن يدوّن خبر هذه الحادثة من الممكن أنّها لم تكن حاضرةً في ذهنه بجميع تفاصيلها. وأمّا إذا كان ناقلاً لها عن شخصٍ آخر، فمن الممكن
 
 
 
 
 
 
 
 
12

7

حجّيّة التاريخ

 أن لا يكون قد سمع جيّداً الخبر الذي نقله ذلك الشخص، أو أنّه حين تدوينه لذلك الخبر لم يكن مستحضراً في باله لجميع تفاصيل ذلك الخبر.

يُضاف إلى ذلك: أنّ المؤرّخ في كثيرٍ من الأحيان قد ينظر إلى الواقعة من منظار العاطفة والأحاسيس، الأمر الذي يدفعه أيضاً إلى أن يبتعد عن نقل الوقائع كما هي.

هذه الإشكالات والسلبيّات دفعت بالبعض في مجال قراءة التاريخ إلى أن يفقدوا ثقتهم بالمؤرّخين أو أن يُعرضوا عن الاعتماد عليهم، وذهبوا إلى الاعتقاد بأنّ التاريخ ليس "علماً"، وإنّما هو من مقولة "الفنّ"، بل جعلوه شعبةً من شعب "الآداب"1، وانطلقوا في ذلك من منطلق أنّ الفنّ هو عبارة عن خلق شيءٍ وإبداعه على النحو الذي يريده الفنّان ويشتهيه، فالمؤرّخ أيضاً هو فنّان قام بإبداع وخلق شيءٍ بما ينسجم مع ميوله ورغباته الداخليّة، أو بما ينسجم مع من أوعز إليه بكتابة التاريخ من الحكّام وأهل السلطة والنفوذ. 

وعلى هذا الأساس، يتحوّل عمل المؤرّخ - في النتيجة - إلى عملٍ فنّيٍّ، شأنه في ذلك شأن سائر الروائع الفنّيّة التي تعكس بعض التجلّيات الفرديّة للوقائع والحقائق الخارجيّة، والتي يكون اعتمادها على قوّة الخيال وسعته عند الإنسان أكثر من أيّ شيءٍ آخر2.

ومن هنا، فحتّى لو سلّمنا وقبلنا بأنّ أكثر المؤرّخين كانوا أمناء في حفظ ونقل الموادّ التاريخيّة، وأنّهم لم يتصرّفوا فيها ولم يغيّروا شيئاً في نقلهم لها، فإنّهم- بتعبير الفلاسفة- كانوا مضطرّين إلى أن يتصرّفوا ويتدخّلوا- على الأقلّ- في الصورة التي ألبسوها لهذه الموادّ التي نقلوها في كتبهم.
 

1- فيليسيان شالاي، التعرّف على الأسلوب العلميّ أو فلسفة العلوم شناخت روش علمى يا فلسفه علوم-، ترجمة: يحيى مهدويّ، طهران، جامعة طهران، 1347 هـ ش، ص211.
2- المصدر نفسه: ص210.
 
 
 
 
13

8

حجّيّة التاريخ

 الإجابة عن الإشكاليّات:

وفي مقام الجواب عن التساؤلات أو الإشكالات الثلاثة الأُولى ينبغي أن يُقال:
أوّلاً: نستطيع أن نجد على امتداد التاريخ عدداً من المؤرّخين الذين التزموا بما يمليه عليهم ضميرهم ووجدانهم فنقلوا حوادث التاريخ ووقائعه تماماً كما حصلت، من دون أن يعبأوا أصلاً بميول ورغبات الحكّام وأهل السلطة في زمانهم، وأيضاً بعيداً عن العصبيّات والمصالح الشخصيّة أو الفئويّة الضيّقة، وبعيداً عن الخوف من جلبة العوامّ أو تحرّكاتهم. ومن هنا، ليس من الجائز إطلاق التهمة جزافاً بحقّ أفراد المؤرّخين جميعاً بأنّهم في نقلهم للوقائع والأحداث قد تابعوا رغباتهم وأهواءهم، وانقادوا لمصالحهم الشخصيّة، أو لمصالح ورغبات الجهاز الحاكم، أو بأنّهم قد تأثّروا بالمزاج العامّ لعامّة النّاس.

ثانياً: إنّ كثيراً من الوقائع، وبسبب الملابسات التي اكتنفت بها، وزمان وكيفيّة وقوعها، لا يمكن- إلى حدٍّ كبير- أن تنالها يد الوضع والدسّ والتزوير من قِبَل أيّ مؤرّخ، مهما كانت الدواعي إلى الدسّ والتزوير، سواء كانت لمصالح وأهواء شخصيّة أو لتوجّهات مذهبيّة، وبخاصّةٍ القضايا التي تُنقل إلينا بنحو التواتر، فهذه - في العادة - لا يكون هناك سبيل لتطرّق التحريف والدسّ إليها.

على سبيل المثال، بالرغم من هيمنة مدرستين فكريّتين على الساحة التاريخيّة الإسلاميّة، المدرستان السنّيّة والشيعيّة، وبالرغم من أنّ بعض موادّ التاريخ تصبّ في صالح إحدى هاتين الفرقتين، وفي ضرر الفرقة الأُخرى، لكنّ هناك العديد من المشتركات التي يمكن العثور عليها في كتب التاريخ الإسلاميّ.

أضف إلى ذلك، أنّ جملةً من الحوادث التاريخيّة هي بحيث لا يوجد الداعي أساساً لتطرّق الدسّ والتحريف إليها، أو أنّ احتمالهما ضعيف فيها، ولا ترديد في الوثوق بالأخبار الناقلة لها والاعتماد عليها والبناء على صحّتها.
 
 
 
 
 
14

9

حجّيّة التاريخ

 ثالثاً: لدى الإنسان من الفطرة ما يجعله غير قادرٍ على تحمّل إخفاء الحقيقة إلى الأبد، ذلك أنّ كتمان الحقائق والوقائع إنّما ينشأ عن بعض الأغراض والمصالح والعصبيّات المذهبيّة والفئويّة التي قد تطرأ للبشر، والتي تبقى في إطار الأمور العارضة والمؤقّتة، بمعنى: أنّ هذه الأغراض والعصبيّات شبيهة بتلك السحب السوداء التي لا تستطيع أن تحجب نور شمس الحقيقة إلّا لفترةٍ وجيزة وقصيرةٍ جدّاً، ثمّ سرعان ما تنكشح وتتلاشى. والحقيقة هكذا أيضاً، لا يمكن حجب ضيائها طويلاً، بل سرعان ما يعود ضياؤها ليُظهر نفسه، إمّا بشكلٍ تامّ، أو نصف تامّ.


وعلى هذا الأساس، من الممكن أن يمتنع مؤرّخ ما عن بيان كثيرٍ من وقائع التاريخ التي تتعلّق ببعض الأشخاص أو الأحداث، بسبب أغراضٍ له أو مصالح يراعيها أو لظروفٍ معيّنة، بل من الممكن - لنفس السبب - أن ينقل كثيراً من الوقائع والأحداث بشكلٍ مزوّرٍ ومدسوس، لكن وبالنظر إلى أنّ هذه الأغراض، أو هذه الظروف ومصالح الأشخاص التي كان يراعيها، ليست باقيةً وخالدة، بل يمكن زوالها وتغيّرها بتغيّر الظروف والأوضاع أو حتّى بالانزواء والابتعاد عن طبقة الحكّام وعائلاتهم، أو بموت هؤلاء، فإنّ كتمان الحقائق وإخفاء الوقائع لا يمكن أن يستمرّ ويبقى لأكثر من جيلٍ أو جيلين، وسيعود بياض الحقيقة الناصع للظهور بالنسبة إلى الأجيال الآتية.

ومن هنا، تصحّ المقولة التي تقول "لا يمكن الاستمرار بخداع الجميع إلى الأبد"، ولا يمكن إخفاء الحقيقة بشأن حادثةٍ تاريخيّة ما عن الأجيال كافّةً1.

وأمّا الجواب عن الشبهة الرابعة، فينبغي أن يُقال: إنّ المفكّرين وأصحاب الرأي في القضايا التاريخيّة لا يتلقّون بالقبول كلّ ما قاله أو كتبه أيّ واحدٍ من
 

1- قبسات من فلسفة التاريخ اقتباس از فلسفه تاريخ-، الشيخ مرتضى مطهّري، الطبعة الأُولى، قم، صدرا، 1369 هـ ش، ج1، ص127 ـ 130.
 
 
 
 
15

10

حجّيّة التاريخ

 المؤرّخين وكتبة التاريخ، بل يشترطون للأخذ بالنقولات التاريخيّة والاعتماد عليها شروطاً ومعايير في المؤرّخ نفسه، من بينها: العدالة، والضبط، والقدرة على تشخيص الأخبار المقبولة وتمييزها من المردودة، والقدرة على التمييز بين الرواة الضعفاء وبين ذوي المراتب العالية منهم1، إضافةً إلى الورع والتقوى2 وغير ذلك.


يُضاف إلى ذلك أنّهم ذكروا شروطاً ومعايير يجب توفّرها في نفس الأخبار والنقولات التاريخيّة، ومن شأن هذه الشروط والمعايير إذا ما تمّ تفعيلها أن ترفع مشكلات الاعتماد على النقولات التاريخيّة أو - على الأقلّ - أن تقلّص هذه المشكلات إلى حدّها الأدنى3.

النقطة الأُخرى المهمّة في هذا المجال هي أنّ نقولات المؤرّخين وإخباراتهم، وإن كانت في كثيرٍ من الموارد غير قطعيّة، بل ظنّيّة أو احتماليّة، لكن لمّا كانت قوّة وقيمة احتمالات الصحّة فيها مرتفعة ومعتدّاً بها، فلا يمكن - عادةً - التشكيك في صحّتها.

وفي هذا المجال، كتب فيليسيان شالاي4: "إنّ إمكانيّة الوقوع في الخلط والتخبّط والأخطاء الكثيرة التي لا تخلو منها كلّ هذه الأشكال المختلفة من النقولات والاستنتاجات التاريخيّة، تؤدّي إلى أن تكون النتائج التي يصل إليها المؤرّخون غير يقينيّة وغير قطعيّة،
 

1- شمس الدّين محمّد بن عبد الرحمن السخاويّ، الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التواريخ، طُبع في "علم تاريخ در كستره تمدن اسلامى" علم التاريخ في ربوع الحضارة الإسلاميّة-، صادق آئينهوند، الطبعة الأُولى، كلّيّة العلوم الإنسانيّة والدراسات الثقافيّة، 1377 هـ ش، ج2، ص315.
2- المصدر نفسه، ص316.
3- راجع: تاريخ الغيبة الصغرى، السيّد محمّد الصدر، الطبعة الثانية، غير مؤرّخة، منشورات مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، 1400 هـ، ص28 ـ 30.
4 -FeLicien Challaye
 
 
 
 
16

11

حجّيّة التاريخ

 لكنّ قوّة الاحتمال في معظم هذه النتائج هي بحيث يبدو التشكيك والتردّد في صحّة هذه الاستنتاجات أمراً غير مقبول وغير معقول على الإطلاق"1.


التأريخ علم أو فن؟:
وأمّا ادّعاء أنّ التاريخ لا بدّ من إدراجه في مقولة الفنّ، لا العلم (للسبب الذي أشرنا إليه آنفاً)، فهو وإن كان لا يمكن إنكاره وإبطاله من بعض الجهات، لكن من جهاتٍ أُخرى يبدو التاريخ أقرب إلى العلم منه إلى الفنّ. ومن بين هذه الجهات: أنّ التاريخ - هو أيضاً - كسائر العلوم، باحث عن الحقيقة ساعٍ إلى الكشف عنها، والحقيقة هي محلّ اهتمام المؤرّخ، أكثر من الجوانب الجماليّة والفنّيّة2. ومن هنا، فإنّ الروح العلميّة والنقديّة لدى المؤرّخ ينبغي أن تكون من
 

1- المصدر نفسه، ص222.
2- من هذا القبيل: مؤلّفات لباحثين من أمثال الملّا حسين واعظ الكاشفيّ، صاحب كتاب "روضة الشهداء"، من أعلام أوائل القرن العاشر، وذبيح الله منصوريّ، المعاصر، فهي وإن اتّسمت بجماليّة أدبيّة، وتمتّعت بأسلوبٍ قصصيّ جذّاب، حيث إنّ أصحابها كانوا يهدفون من تصنيفهم لها إلى تأليف كتابٍ أدبيٍّ شيّق وممتع يجذب القرّاء لتصفّحه، لكن حيث إنّهم لم يراعوا في هذه المصنّفات أصول وضوابط الكتابة والنقل التاريخيّ، فإنّنا نجد هذه المصنّفات وأمثالها فاقدةً للقيمة والاعتبار في المحافل العلميّة التي تهتمّ بالشأن التاريخيّ. لكن في المقابل، نجد أنّ التواريخ التي راعى فيها أصحابها أصول ومعايير الكتابة التاريخيّة، قد اكتسبت مكانةً وقيمةً خاصّةً في المحافل العلميّة. فمثلاً: نجد أنّ الواقديّ في كتابه "المغازي"، ولشدّة حرصه على أن يقدّم عرضاً دقيقاً وافياً لأحداث الحروب والوقائع، يستعين في النقل بأخبارٍ ونقولاتٍ رواها عن رواةٍ من أبناء الصحابة والشهداء وأقاربهم، ولم يكتفِ بذلك، بل إنّه أيضاً سافر إلى الأمكنة والميادين التي كانت الحروب قد حصلت فيها، من أجل معاينة تلك الأمكنة عن كثب. أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأُولى، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1417 هـ، ج3، ص215. أبو الفتح محمّد بن سيّد النّاس، عيون الأثر، تعليق إبراهيم محمّد رمضان، الطبعة الأُولى، بيروت، دار القلم، 1414 هـ، ج1، ص22-. أو مثلاً تاريخ البيهقيّ الذي أخذ مؤلّفه فيه على نفسه أنّ كلّ ما يورده فيه من الأخبار هو إمّا ممّا عاينه هو شخصيّاً أو ممّا سمعه ورواه عن الثقات أبو الفضل محمّد بن الحسين البيهقيّ، تاريخ البيهقيّ، تصحيح علي أكبر فيّاض، الطبعة الثانية، مشهد، جامعة فردوسي، 1356 هـ ش، ص905-. وأخيراً، نشير إلى المقريزيّ، الذي اعتمد في النقولات التي أوردها في كتابه على طرقٍ ثلاث: 1 ـ النقل من الكتب المؤلّفة والمصنّفة. 2ـ النقل عن أخبارٍ كان قد سمعها من أساتذة هذا العلم وكبار علمائه. 3 ـ ما شاهده هو شخصيّاً. أحمد بن عليّ عبد القادر المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، لبنان، مكتبة إحياء العلوم، غير مؤرّخة، ص7-.
 
 
 
 
17

12

حجّيّة التاريخ

  اللّوازم التي لا يمكن أن تنفكّ عن عمله التاريخيّ، وعلى المؤرّخ أن يعتمد أسلوباً ومنهجاً واضحاً ومحدّداً في دراساته وأبحاثه1.


ثَمَّ فرق آخر بين التاريخ والفنّ: أنّ الفنّان يبيّن ويحكي لنا عن الأمور التي هو يراها، وأمّا المؤرّخ فإنّه، بالإضافة إلى ذلك لا بدّ له من الوثوق بأنّ هذا الذي هو يراه هو الحقيقة نفسها.

وكذلك، فإنّ الفنّ ينقل ويصوّر لنا الأشياء كما يمكن لها أن تكون، وأمّا التاريخ فهو إنّما ينقل ويصوّر لنا الأشياء كما هي في الحقيقة والواقع2.

وعلى هذا الأساس، يكون التاريخ من جملة العلوم، لكنّه ليس كعلم النجوم الذي تحصل نتائجه من طريق المشاهدة والمعاينة، ولا هو أيضاً كعلم الكيمياء الذي تحصل نتائجه من طريق التجربة والاختبار، وإنّما هو علم يمكن تحصيل نتائجه من طريق النقد والتحليل3.
 

1- فيليسيان شالاي، المصدر نفسه، ص211.
2- عبد الحسين زرين كوب، تاريخ در ترازو التاريخ في الميزان -، طهران، انتشارات أمير كبير، 1370 هـ ش، ص133.
3- محمّد فتحي، عثمان، المدخل إلى التاريخ الإسلاميّ، بيروت، دار النفائس، 1412 هـ، ص32.
 
 
 
 
18

13

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

منهج النقل للرواية العاشورائيّة1

مدخل
دأب بنو الإنسان منذ بدء الخليقة على التواصل بين الأجيال المتعاقبة والأقوام المختلفة في الأزمنة السالفة، ومعرفة أخبار هذه الأُمم وما حصل فيها من وقائع وأحداث، بدافع حبّ الاطّلاع المغروس في فطرة الإنسان، وكان هذا التواصل عادةً ما يحصل عبر رواية أخبار الماضين وتناقلها جيلاً عن جيل، أو مشاهدة آثارهم وما تركوه من وثائق ومستندات.

لقد كان لأدوات هذا الارتباط أهمّيّة بالغة في ربط الماضي - بكلّ ما يحمل من قيمة معرفيّة كبيرة - بالحاضر والتأثير فيه من أجل صنع مستقبل أفضل، وذلك من خلال استيعاب دروس الماضي وتحليلها واستخلاص العِبَر منها، وكذلك فهم رسالات السماء التي جاء بها الأنبياء وأبلغوها للبشريّة على مرّ التاريخ، وأمروا بالالتزام بما جاء بها من تعاليم وتوصيات.

مضافاً إلى أنّ الماضي كثيراً ما يضمّ في طياته وقائع وأحداثاً تاريخيّة مهمّة تحمل دلالات اجتماعيّة وإصلاحيّة قام بأعبائها أشخاص ثوريّون ومصلحون أرادوا إنقاذ أممهم ومجتمعاتهم من خطر الانحراف عن جادّة الصواب. ولا نكون مجانبين للصواب إذا ما قلنا: إنّ النهضة الاجتماعيّة الإصلاحيّة التي قادها سبط النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام تقف
 
 

1- الشيخ مشتاق الساعدي. مجلة الإصلاح الحسيني, الصادرة عن مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية, التابعة للعتبة الحسينية -.
 
 
 
 
19

14

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 في مقدِّمة النهضات والثورات، بل لا تمتلك أيّ حركة اجتماعيّة - لإصلاح المجتمع وإعادته إلى المسار الصحيح- ما تمتلكه النهضة الحسينيّة، بأبعادها ومعطياتها المختلفة، التي لم تستطع البشريّة حتّى اليوم إدراكها وفهمها، فلكي تصل عاشوراء الحسين عليه السلام إلى الأجيال لتنهل منها لا بدّ من نقل أحداثها ووقائعها ورسائلها بطرق وقنوات ممنهجة ومدروسة، تخضع للميزان العلميّ والعقلائيّ والشرعيّ، من هنا انبثقت فكرة التعرُّف على الميزان العلميّ الذي يلزم الباحث معرفته في قضيّة عاشوراء، الذي بموجبه يتمّ قبول أو طرح روايات وأخبار النهضة الحسينيّة.


إنّ معرفة الميزان الصحيح الذي توزن به المادة والحدث العاشورائيّ، أمر يحوز أهمّيّة فائقة على صعيد عرض أحداث عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام، وله أثر كبير في إثبات بعض ما يُنقل ويُروى من تاريخ عاشوراء وأحداثها، والذي سيمثّل مادة أوّلية للنثر أو الشعر أو القصّة أو الإنتاج السينمائيّ أو المسرحيّ أو غير ذلك، وأيضاً إثبات ما يمارس من مصاديق الشعائر الحسينيّة ودفع الإشكال عنها.

فإذا أردنا ذكر حدثٍ من أحداث ملحمة عاشوراء، فما هو الميزان الذي يبيح لنا - كخطباء أو شعراء أو أدباء - أن ننقل ذلك الحدث أو ننسبه إلى فاعله؟ بحيث لا ينطبق على ناقله عنوان الكذب في النقل، الذي حرّمته الشريعة المقدّسة بصورة مطلقة، وتشتدّ الحرمة فيما لو كان النقل عن المعصوم، وذلك لخصوصيّة العصمة والقداسة الموجودة في بعض أشخاص ملحمة عاشوراء، إذ لا يجوز نسبة أي شيء إليهم ما لم يكن هناك دليل وحجّة على ذلك، كما في شخص قائد الملحمة الإمام الحسين وابنه الإمام زين العابدين عليهما السلام، إذ إنّ عنوان الإمامة والعصمة يضفي عليهما أحكاماً خاصّة، من حيث نسبة قول أو فعل أو تقرير إليهم، كما هو مقرّر في علمي الفقه والكلام.
 
 
 
 
 
 
20

15

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 موازين ومناهج القبول والردّ في العلوم

تفرض طبيعة كلّ علم - وخاصّيّته وما له من غاية ووظيفة - أن يكون له منهج وميزان خاصّ تخضع له عمليّة الاستدلال في ذلك العلم، وتحكّم قوانينه وموازينه في القبول والردّ. وإنّ هذه الموازين والمناهج العلميّة يختلف بعضها عن البعض الآخر - بطبيعة الحال- من حيث التشدّد أو التساهل، فبعضها يتشدّد كثيراً، كما في المنهج العقديّ والكلاميّ، وبعضها يتساهل قليلاً في قبوله للخبر أو الرواية كالمنهج الفقهيّ، وبعضها أكثر اتّساعاً في تعامله مع الأخبار والروايات، كما هو الحال في ميزان المنهج التاريخيّ، وستأتي الإشارة إلى ضوابط وموازين كلّ واحد من هذه المناهج، وكيفيّة تطبيقها على أحداث عاشوراء، لمعرفة ما هو المعيار والميزان في نسبة فعل أو قول أو أيّ شيء آخر إلى ذوات ملحمة كربلاء.

وبعبارة أوضح: ما هو ميزان التعامل في نقل روايات وأحداث عاشوراء؟ فهل نتعامل مع النقل للوقائع معاملة القضايا أو المسائل العقائديّة؟ أو نتعامل معها معاملة المسائل الفقهيّة أو التاريخيّة؟ أو ماذا؟

الخلط بين المناهج في التعامل مع أحداث عاشوراء
بعد أن عرفنا أنّ لكلّ علم منهجه الخاصّ وضوابطه المحددة، فإنّ حصول أيّ خلط بينها سوف يؤدّي إلى انحرافات وعواقب وخيمة، تلقي بظلالها على كثير من الأحكام والموضوعات الشرعيّة من جهة، وتؤدّي إلى نزاعات علميّة من جهة أُخرى، وهو ما يسمّى بـالخلط في المنهج حسب الاصطلاح المعاصر.

وبسبب الخلط بين المناهج الثلاثة - العقديّ والفقهيّ والتاريخيّ - وضوابطها أصبح عندنا اتجاهان غير معتدلين في القبول والرفض لوقائع كربلاء ورواياتها:
 
 
 
 
21

16

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 الأوّل: المنهج المتشدِّد

وهو ما ذهب إليه بعض الباحثين من تفنيد أكثر أحداث عاشوراء، وذلك بعد أن قاسها بمقياس لم يوضع لأجلها، ووزنها بغير ميزانها، إذ إنّه عامل كلّ الأحداث معاملة الرواية في باب العقائد أو الفقه، واشترط ضوابط العِلمين في كلّ الروايات العاشورائيّة. ولعلّنا نجد هذا المنهج متَّبعاً في كتاب الملحمة الحسينيّة للشهيد مطهري رحمه الله، وكذا لدى بعض الكتَّاب المعاصرين.

الثاني: المنهج المتساهل
وهو ما انتهجه بعضٌ آخر من الباحثين، كبعض الخطباء والكتَّاب وأرباب المقاتل وبعض المحدِّثين، الذين توسَّعوا في تلقي ما نُقل في كتُب السير والتأريخ حول واقعة الطفّ بالقبول، ولم يعيروا أهمّيّة واضحة للتفريق بين المناهج المتقدِّمة في تقبُّلهم لتلك الأحداث، فأرسلوها إرسال المسلَّمات من خلال الاعتماد في كلّ المنقولات العاشورائيّة على ميزان التاريخ فقط، فوزنوا كلّ الأحداث بالميزان الأسهل، وأخذوا كلّ ما ذكره التاريخ.

وبذلك وقع الفريقان بين إفراط بالقبول أو إفراط بالرفض، والحال أنّ الطريقة المثلى هي الوسطيّة التي سنتعرَّف عليها من خلال البحث، حيث إنّنا سنتبنّى التفصيل في روايات عاشوراء.

موازين العلوم والرواية العاشورائيّة
قبل أن نعطي نتيجة حول الميزان في قبول الروايات العاشورائيّة لا بدّ أن نستعرض المناهج والموازين في قبول النقل في العلوم الثلاثة: الكلام والفقه والتاريخ ونحدّد الميزان الذي يمكن أن نحاكم تلك الروايات العاشورائيّة على أساسه:
 
 
 
 
 
22

17

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 أوّلاً: المنهج أو الميزان في البحث العقديّ الكلاميّ

إنّ المنهج في نقل الرواية في باب الأمور الاعتقاديّة المتعلِّقة بالبحث عن أصول الدّين الإسلاميّ: التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد وتفريعاتها - ممّا يمكن إثباتها عن طريق النقل - يختلف عن مناهج نقل الرواية في فروع الدّين والمسائل الفقهيّة، كما ويختلف عنه في نقل الرواية التاريخيّة، فهو المنهج الأكثر تشدّداً بالنقل، إذ إنّ الرواية في باب العقائد التي تثبت بها أمور عقائديّة، لا بدّ أن تكون بدرجة القطع والعلم بصدورها عن المعصومين، لأنّ الأمور العقائديّة لا تبنى على الظنّ والتخرُّص، فإنّهما لا يغنيان عن الحقّ شيئاً.

وبعبارة أُخرى: إنّ الذي يُطالب به المكلَّف في باب العقائد هو عقد القلب القطعيّ على الاعتقاد بالأصول الخمسة وتفريعاتها، ومن دون أيّ ريب أو شكٍّ، وهذا لا يحصل من الظنِّ.

وهذا الرأي ذهب إليه مشهور علماء الإماميّة، فقالوا: إنّ مطلق الأمور العقائديّة لا تثبت إلّا باليقين، واليقين لا يحصل بالخبر الظنّي، كخبر الواحد، وإنّما يحصل بالخبر القطعيّ كالخبر المتواتر، أو المحفوف بقرائن قطعيّة1.

وخالف بعض الأعلام، ففصّلوا بين إثبات العقائد الأساسيّة والرئيسة وبين إثبات العقائد الثانويّة الفرعيّة، فقالوا: إنّ العقائد الأساسيّة لا تثبت إلّا بالخبر القطعيّ واليقينيّ، وأمّا العقائد الفرعيّة والتفصيليّة فيمكن إثباتها بالخبر الظنّي الحجّة، وهو خبر الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره.

وذهب إلى هذا القول جملة من المحقِّقين، منهم: المحقِّق الطوسيّ رحمه
 

1- الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول تقريرات بحث السيّد محمّد باقر الصدر  قدس سره: ج4، ص327.
 
 
 
 
23

18

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 الله، والعلاّمة المجلسيّ رحمه الله، والشيخ البهائيّ رحمه الله، وغيرهم1، وتبنّاه من المعاصرين أستاذ أساتذتنا السيّد المحقِّق الخوئيّ قدس سره في كتابه مصباح الأصول، في بحثه حول حجيّة الظنّ في غير الأحكام2.


وتبنّاه أيضاً بعض مشايخنا المعاصرين، كالشيخ الأستاذ محمّد السند في بحثه الأصوليّ، وفي كتابه الشعائر الحسينيّة3. وهذا الميزان لا يجري في نقل كلّ الروايات التي تنقل إلينا واقعة كربلاء، إذ إنّ تلك الروايات تنقل لنا أحداثاً تاريخيّة في غالبها.

نعم، إذا كانت تلك الروايات تنقل لنا ما يتعلّق بالعقيدة والاعتقاد، كالحديث عمّا يتعلَّق بعصمة الإمام الحسين عليه السلام، أو العدل الإلهيّ، وما جرى من محن وابتلاءات على آل البيت عليهم السلام، وربطه بواقعة وأحداث كربلاء، أو ما يخصّ الشفاعة، أو رجعة الإمام الحسين عليه السلام4 أو غيرها، فإنّ كلّ ذلك يوزن بوزان المنهج العقائديّ، وعليه يكون الميزان العقائديّ جارياً في بعض أحداث ووقائع عاشوراء المحتوية على ما يرتبط بالعقيدة والاعتقاد فقط، دون النقول الأُخرى.

وإليك جملة من التطبيقات الكليّة التي لا بدّ من أن توزن بالميزان العقديّ:
الأوّل: كلُّ ما يُنقل عن الإمام الحسين عليه السلام فيما يخصّ العقيدة والاعتقاد،
 

1- اُنظر: الموسويّ، رياض، الشعائر الحسينيّة بين الآصالة والتجديد محاضرات الشيخ محمّد السند: ج1، ص239.
2- الحسينيّ، محمّد سرور، مصباح الأصول تقريرات بحث المحقّق السيّد الخوئيّ  قدس سره: ج2، ص238.
3- اُنظر: الموسويّ، رياض، الشعائر الحسينيّة بين الآصالة والتجديد محاضرات الشيخ محمّد السند: ج1 ص240.
4- فقد وردت مجموعة من الروايات التي تنصّ على رجعة الإمام الحسين عليه السلام، كما أخرج الكلينيّ في الكافي، بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيهِم) - قال: "خروج الحسين عليه السلام في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهّب، لكلّ بيضة وجهان، المؤدّون إلى النّاس أنّ هذا الحسين قد خرج، حتّى لا يشكّ المؤمنون فيه، وأنّه ليس بدجّال ولا شيطان، والحجّة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرّت المعرفة في قلوب المؤمنين أنّه الحسين عليه السلام، جاء الحجّةَ الموتُ، فيكون الذي يغسّله ويكفّنه ويحنّطه ويُلحده في حفرته الحسين بن عليّ عليهما السلام, ولا يلي الوصيّ إلّا الوصي". الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص206.
 
 
 
 
 
24

19

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 كقضيّة الإمامة والوصيّة، كما في قوله عليه السلام: "فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين المصدِّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه؟"1.


أو أنّ الخروج عليه كفر، باعتباره إماماً مفترض الطاعة، كما في قوله عليه السلام: "ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين"2.

أو وجوب نصرته عليه السلام حين طلب النصـرة، كما في الرواية التي يرويها كثير من المؤرّخين عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ ابني هذا يُقتل بأرض يُقال لها: كربلاء. فمَن شهد ذلك منكم فلينصره"3.

الثاني: كلُّ ما يُنقل عن الإمام السجَّاد عليه السلام من روايات أو مواقف تندرج تحت القضايا العقديّة، ومن أمثلة ذلك: ما نقله صاحب البحار من خطبة الإمام السجَّاد عليه السلام في مجلس يزيد: "فإن زعمتَ أنّه جَدُّك، فقد كذبتَ وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جَدّي، فلِمَ قتلتَ عترته"4.

الثالث: كلّ ما ينقله الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه من روايات تُبيِّن مواقف عقديّة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين أو الحسن عليهم السلام، ومن أمثلة ذلك: ما استشهد به الإمام الحسين عليه السلام من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أوَ لم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟!
 

1- المفيد، محمّد بن محمّد، الإرشاد: ج2، ص97.
2- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص6.
3- اُنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ص224. والعسقلانيّ ابن حجر، أُسد الغابة: ج1، ص123.
4- اُنظر: المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص139.
 
 
 
 
25

20

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله، ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذّبتموني، فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبا سعيد الخدريّ، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!"1.


الرابع: كلّ ما صدر عن السيّدة زينب عليها السلام من نقول أو أفعال تنقلهما عن الإمامين الحسين والسجَّاد عليهم السلام، ومن أمثلة ذلك: ما نقلته السيّدة زينب عن الإمام السجَّاد عليه السلام أنّه قال لها: "اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة، فَهِمَةٌ غير مفهَّمة"2.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما رُوي عن السيّدة زينب من أنّ الإمامة للإمام السجَّاد بعد أبيه عليهما السلام، وأن الإمام زين العابدين عليه السلام طلب من عمّته سيفاً ليقاتل مع أبيه الحسين عليه السلام، فقال الحسين عليه السلام لأُخته: "يا أُم كلثوم، خذيه لئلّا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"3.

أو أنّ مَن قاتل الإمام الحسين عليه السلام خالد في النّار، كقول الصدِّيقة زينب عليها السلام: "بئس ما قدّمت لكم أنفسهم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون"4.

الخامس: كلُّ ما يُنقل من روايات تمسّ أو تنافي عصمة الإمام الحسين والإمام السجَّاد عليهما السلام، باعتبار دخول مسألة العصمة في مبحث الإمامة.
 

1- المفيد، محمّد بن محمّد، الإرشاد: ج2، ص97.
2- الطبرسيّ، أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج: ص166 ط النجف.
3- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص46.
4- الحلّي، ابن نما، مثير الأحزان: ص40.
 
 
 
 
 
26

21

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 السادس: ما يُنقل عن السيّدة زينب عليها السلام أو بعض أصحاب الإمام الحسين عليه السلام من أُمور عقديّة، بمرأى ومسمع من المعصوم عليه السلام، كما في قولها عليها السلام لشخص أراد أن يأخذ إحدى بنات الإمام الحسين عليه السلام في مجلس يزيد، بعد أن أقرّ بصحّة السبي: "ما جعل الله لك ذلك، إلّا أن تخرج من ملَّتنا وتدين بغير ديننا..."1.


فهذه التطبيقات الكليّة - التي يجدها الباحث والمتتبّع والسامع لوقائع عاشوراء- وما يندرج تحتها من أمثلة كثيرة لا بدّ أن توزن بمعايير وضوابط البحث العقائديّ، ولا يصحُّ النقل بشكل قطعيّ ما لم تخضع لذلك الميزان.

ثانياً: المنهج أو الميزان في البحث الفقهيّ
وهذا المنهج يُعنى بنقل الرواية في باب الأحكام الشرعيّة الفرعيّة - المسطور في كتب الفقه الإسلاميّ - وهو المنهج الأقلّ تشدّداً في النقل من المنهج العقائديّ، لأنّه يقبل الخبر الظنّي المعتبر، كخبر الواحد الثقة، أو الخبر الموثوق بصدوره من خلال مجموعة عوامل تفيد الاطمئنان أو الوثوق بالصدور2.

وبيان ذلك يتوقَّف على استيضاح مقدّمة:
وهي أنّنا نعلم إجمالاً بأنّ بعض الأخبار الواصلة إلينا مدسوس ومكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، ولهذا التزوير والوضع تاريخ طويل لا يسع ذكره هنا، وقد مورس بأيادٍ خبيثة أكثرها خارجيّة، وكذا من خلال بعض السلطات الحاكمة وبعض المرتزقة، ويعود زمن هذا الوضع والتزوير إلى بداية
 

1- الحلّي، ابن نما، مثير الأحزان: ص136.
2- الأيروانيّ، محمّد باقر، دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة: ص49.
 
 
 
 
27

22

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 الدعوة، حتّى إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد صرّح في غير موطن بذلك، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: "... وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى عَهْدِهِ حتّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: أَيُّهَا النّاس، قَدْ كَثُرَتْ عليّ الْكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عليّ مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النّار. ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ من بَعْدِه‏"1.


وعليه، فإنّ منهج فقهاء أهل البيت في الاستنباط الفقهيّ والتشريعيّ لا يعتمد على كلّ الروايات الواصلة إليهم، لأنّهم يعلمون إجمالاً أنّ بعض ما وصل من روايات موضوع ومكذوب عليهم، لذا فإنّ منهج البحث في نقل الرواية المتعلِّقة بإثبات حكم شرعيّ فرعيّ يعتمد على أُسس وقوانين مدوَّنة تفصيلاً في علمي الرجال والحديث، ونحن نكتفي بذكر ملخَّص من ذلك، فنقول: إنّ الروايات تنقسم إلى أربعة أقسام:
1ـ الرواية الصحيحة: وهي الرواية التي يكون جميع رواتها عدولاً إماميّة اثني عشريّة.

2ـ الرواية الموثّقة: وهي الرواية التي يكون جميع أو بعض رواتها ثقات، وإن لم يكونوا إماميّة اثنى عشريّة، وكانوا من أبناء العامّة الثابتة وثاقتهم، أو زيديّة، أو إسماعيليّة أو غيرهم، إذا كانوا ثقات.

3ـ الرواية الحسنة: وهي الرواية التي في سندها راوٍ إماميّ، ولكنّه ممدوح ولم يرد فيه توثيق.

4ـ الرواية الضعيفة: وهي الرواية التي يكون راويها منصوصاً على ضعفه، أو مجهول الحال، فيعامَل معاملة الضعيف2.
 

1- الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص62.
2- اُنظر: الأيروانيّ، محمّد باقر، دروس تمهيديّة في القواعد الرجاليّة: ص47.
 
 
 
 
28

23

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 والمشهور يرى اعتبار الروايات الثلاث الأُولى دون الأخيرة1، ففي إثبات حكم شرعيّ لا بدّ من وصول الرواية إلينا بطريق معتبر وحجّة، لكي نعتمد عليها في مقام الاستنباط.


والروايات التي تكون حجّة في الأحكام على صنفين:
الصنف الأوّل: أن يكون الخبر واصلاً إلينا بالعلم والقطع، وهو الخبر المتواتر، ونسبة تلك الأخبار قليلة جداً.

الصنف الثاني: الخبر الواصل إلينا بالظنّ المعتبر الذي جعله الشارع حجّة، وتحصيل ذلك بأحد مبنيين:
الأوّل: مبنى الوثاقة
وهو ما ذهب إليه بعض الأعلام المعاصرين، كالسيّد الخوئيّ قدس سره وجملة من تلاميذه، وحاصله: أنّ الخبر المعتبر في الفقه ما كان رواته منصوصاً على وثاقتهم، إمّا بالتوثيقات الخاصّة، كنصّ الإمام عليه السلام أو نصّ أحد الرجاليّين المتقدّمين، كالطوسيّ أو النجاشيّ على وثاقة راوٍ معيّن، أو بالتوثيقات العامّة، ككبرى وثاقة كلّ مَن ورد في إسناد تفسير القمّي، أو في نوادر الحكمة أو غير ذلك، كما هو مفصّل في محلِّه من علم الأصول والرجال2. أمّا غير ذلك، فلا ثبوت للأحكام الفقهيّة به.

الثاني: مبنى الوثوق بالصدور
وهو ما ذهب إليه مشهور الفقهاء - كالسيّد الحكيم والسيّد البروجرديّ والسيّد السيستانيّ وبعض أساتذتنا المعاصرين، وهو الصحيح - من أنّ الوثوق
 

1- اُنظر: الحسينيّ، محمّد سرور، مصباح الأصول تقريرات بحث المحقّق السيّد الخوئيّ  قدس سره: ج2، ص200.
2- المصدر نفسه: ج2، ص225.
 
 
 
29

24

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 بالصدور يكفي في اعتبار الرواية، ومعنى الوثوق بالصدور هو: تجميع قرائن من داخل الخبر وخارجه تفيد اطمئناناً بأنّ الخبر قد صدر عن المعصوم، وإن لم يكن كلّ رواته في سلسلة السند منصوصي الوثاقة، فالحجّة هو حصول الاطمئنان والوثوق بأنّ الخبر صادر عنهم، وتكون حينئذٍ وثاقة الرواة إحدى أمارات تحصيل الوثوق بالصدور1.


وعلى كلا المبنيين - خصوصاً الأوّل منهما - لا يُهمَلُ الخبر الضعيف كلّيّاً ويُعامَلُ معاملة غير الصادر، بل لعلّه صادر ولكن لم يثبت لنا طريق لاعتباره. وبعبارة أُخرى: كون الخبر ضعيفاً لا يدلّ على نفي صدوره عن المعصوم بشكل قطعيّ، بل لعلّه صدر ولا وسيلة لإثباته.

وهذا يستدعي عدم طرح الأحاديث الضعيفة كلّيّاً، للقاعدة التي أسّسها علماء الأصول من حرمة ردِّ الخبر الضعيف2، إذ يمكن الاستفادة منه في إثبات مستحبّ أو مكروه، طبقاً لقاعدة التسامح في أدلّة السنن، التي يبني عليها بعض الأعلام، كما يمكن إثبات حصول التواتر أو الاستفاضة به.

والروايات العاشورائيّة لا تخضع لهذا الميزان على نحو كلّي، وإنّما يشملها فيما إذا كانت تلك الروايات تؤسِّس لحكم شرعيّ، أو تنسب فعلاً أو قولاً لمعصوم كالإمام الحسين أو الإمام السجّاد عليهما السلام.
 

1- اُنظر: الهمدانيّ، مصباح الفقيه: ج1، ص34. والحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى: ج9، ص248. والسبحانيّ، جعفر، الرسائل الأربع: ج3، ص69 حيث ينقل رأي السيّد البروجرديّ. والأيروانيّ، محمّد باقر، دروس تمهيديّة في القواعد الرجاليّة: ص207.
2- اُنظر: العامليّ، محمّد بن مكّي الشهيد الأوّل، غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج1 ص103. والسند، محمّد، بحوث في مباني علم الرجال: ج1، ص74.
 
 
 
 
30

25

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 نعم، بعض الروايات الضعيفة التي تنقل أفعال الإمام الحسين عليه السلام لا ينبغي طرحها، بل يُبحث عن قرائن أُخرى لإثباتها، خصوصاً على مبنى الوثوق بالصدور، كما أشرنا سابقاً. فمثلاً: إذا نقل ابن عساكر في تاريخه حدثاً عن كربلاء، وتكرّر النقل من مؤرِّخ آخر للحدث نفسه، كما لو نقل الخوارزميّ والرازي نفس الحدث، فلا يُقال: إنّ أخبارهم ضعيفة ولا يؤخذ بها، لأنّ الخبر الضعيف لا يعني أنّه مدسوس، فلو حصل لنا اطمئنان أو وثوق بالصدور أصبح حجّة، وحصول ذلك الوثوق بسبب قرائن من داخل النصّ، كعلوِّ بلاغته، أو إخباره عن المغيّبات وغيرهما، أو من خارج النصّ، كما هو مبحوث في علم الدراية والرجال.


وخلاصة الكلام في موردنا هذا هو: أنّ روايات عاشوراء إنّما توزن بالميزان الفقهيّ إذا كانت حاوية على مسائل فقهيّة.

وإليك بعض التطبيقات الكليّة التي لا بدّ أن توزن بميزان الفقه:
1ـ كلّ ما يتعلّق بالمسائل التي تخصّ الحلال والحرام، كالصلاة التي صلاّها الإمام الحسين عليه السلام حال الحرب صلاة الخوف، وطلبه الهدنة المؤقّتة من القوم حتّى يصلّي، فقد روي أنّه عندما ذكّره أحد أصحابه بالصلاة، قال له الإمام عليه السلام: "... ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين. نعم، هذا أوّل وقتها". ثمّ قال: "سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي"1.

ومن ذلك أيضاً: مسألة خروجه عليه السلام يوم التروية، كما ذكر المؤرّخون2، حيث ذكروا أنّ خروجه كان بسبب الاضطرار، فيبحث في أصل جواز الخروج وعدمه، وبناءً على الجواز، هل يجوز الخروج مطلقاً أو بشرط الاضطرار؟ ونحو ذلك.
 

1- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص21.
2- اُنظر: الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص70. والسيّد شرف الدّين، المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: ص209.
 
 
 
 
31

26

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 ومنه: مسألة مشروعيّة الإذن بترك الجهاد معه عليه السلام والترخيص من قبله بالنجاة - حيث يُبحث في صلاحيّة وليّ الأمر بترك الجهاد والإذن بالانصـراف - فروي في ثمرات الأعواد قوله عليه السلام: "يا أصحابي، إنّ هؤلاء يُريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يصلوا إليكم، فالنجاة النجاة! وأنتم في حِلٍّ منّي، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلّكم"1.


ومنه: مسألة إصرار الإمام الحسين عليه السلام على عدم بدء الحرب، وإنّما بدأت من جهة جيش العدوّ2.

ومنه: قبول التوبة حتّى بعد ارتكاب ما هو سبب لقتل الحسين عليه السلام، كما في التوبة التي سألها الحرّ مخاطباً الإمام عليه السلام: هل لي من توبة؟ فقال عليه السلام: "نعم، يتوب الله عليك"3.

2ـ كلّ ما ينسب إلى الإمام الحسين عليه السلام- وإن لم يكن مسألة فقهيّة- من قول أو فعل أو تقرير، وذلك لخصوصيّة العصمة.

3ـ كلّ ما يرويه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام أو أهل بيته أو السيّدة زينب عليها السلام، من أقوال أو أفعال عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام، للخصوصيّة نفسها.

4ـ كلّ ما يُروى عن الإمام السجَّاد عليه السلام من قول أو فعل - سواء كان فقهيّاً أو
 

1- اُنظر: الهاشميّ، عليّ بن الحسين، ثمرات الأعواد: ج1 ص258.
2- اُنظر: الحلّي، ابن نما، مثير الأحزان: ص56.
3- اُنظر: المصدر نفسه: 59.
 
 
 
 
32

27

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 غير فقهيّ1- لعدم جواز نسبة شيء إليه بشكل قطعيّ إلّا بحجّة شرعيّة، لأنّ الإسناد إليه إسناد إلى الشارع المقدّس2، ومثال ذلك: ما نقل بعض الكتّاب والمؤرّخين كالدربنديّ في أسرار الشهادة والسيّد المقرَّم في كتابه زين العابدين3: من أنّ الشهداء دفنوا في حفرة واحدة بتقرير من الإمام السجّاد عليه السلام. وهذا النقل يستدعي إثبات ذلك برواية مسندة، إذ إنّه حكم فقهيّ من جهة، وإنّ أكثر الفقهاء بين مانع من الدفن الجماعيّ في قبر واحد، وبين قائل بالكراهة، ويُستفاد ذلك من عبارة صاحب الجواهر، حيث قال: ومنها، أي المكروهات، دفن ميتين ابتداءً في قبر واحد بلا خلاف أجده بين مَن تعرَّض له - من ابن حمزة والفاضلين والشهيد وغيرهم - عدا ابن سعيد في الجامع فنهى، ولعلّه يريدها للأصل وضعف المرسل عنهم عليهم السلام لا يُدفن في قبر واحد اثنان عن إفادة غير الكراهة، فلا وجه للحرمة حينئذٍ، كما لا وجه للتوقُّف في الكراهة بعد ما عرفت، مع إمكان تأيده زيادة على المسامحة فيه بأولويّته من كراهة جمعهما في جنازة واحدة المنصوص عليها في الوسيلة والمعتبر، وعن المبسوط والنهاية وغيرهما، المدلول عليها في الجملة بمكاتبة الصفّار لأبي عليه السلام وباحتمال تأذّي أحدهما بالآخر، وافتضاحه عنده"4.

 


1- كما روى أبو مخنف، قال: "حدَّثني الحارث بن كعب وأبو الضحّاك، عن عليّ بن الحسين بن عليّ، قال: إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي صبيحتها، وعمّتي زينب عندي تمرِّضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له وعنده حوى مولى أبي ذرٍّ الغفاريّ، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالأَصِيلِ   يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَمِنْ خَليلِ

وَالدَّهْرُ لَايَقْنَعُ بِالبَدِيلِ        مِنْ صَاحِبٍ أَوْ طَالِبٍ قَتيلِ

وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكُ السَّبيلِ    وَإِنَمَا الأَمْرُ إِلَى الجَلِيلِ

قال: فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها، فعرفت ما أراد؛ فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أنّ البلاء قد نزل...". أبو مخنف، مقتل الحسين: ص111.

2- الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الأصول الحلقة الثالثة: ص69.

3- اُنظر: الدربنديّ، أسرار الشهادة: ج3، ص170. وأيضاً: المقرَّم، عبد الرزاق، الإمام زين العابدين: ص402.

 

4- النجفيّ، محمّد حسن، جواهر الكلام: ج4، ص341.

 

 

 

33


28

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 5ـ كلّ ما ينقله شهداء الطفّ من روايات ينسبونها إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أو أمير المؤمنين عليه السلام، كما في نقل بعض أصحاب الإمام الحسين عليه السلام لأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


6ـ كلّ ما تنقله السيّدة زينب من أقوال عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو أمير المؤمنين أو الزهراء عليهما السلام، كما في نقلها لوصيّة الزهراء عليها السلام عندما ترى الحسين وحيداً، فتشمّه في نحره وتقبّله في صدره1.

فهذه الكليّات - وما يندرج تحتها من روايات - تحكي أحكاماً فقهيّة لا بدّ أن تخضع لموازين قبول الرواية في الفقه، ولا تصحّ نسبتها بشكل قطعيّ ما لم تتوفَّر تلك الموازين.

ثالثاً: المنهج أو الميزان في البحث التاريخيّ
إنّ الميزان في نقل الرواية والحدث التاريخيّ أقلّ تشدداً منه في المنهجين والميزانين المتقدّمين، حيث يُقبل النقل فيه حتّى بالخبر الضعيف ما دام له مصدر، أو منشأ مذكور في كتب التاريخ والتراجم، ولم يعلم أنّه من وضع الوضّاعين، فهو أوسع من المنهجين السابقين في دائرة القبول وعدم الطرح.

فضابطة النقل في هذا العلم هي: أن يكون الحدث المنقول مكتوباً في مصدر تاريخيّ، وصل إلينا بطريق مشهور ومعتمد عند فئة من النّاس، ولم يتعمّد كاتبُه تزييف الحقائق.

وعادةً ما تكون الكتب التاريخيّة - بل الأصل فيها - خالية من طرق الإسناد، والمعوَّل عندهم هو اعتبار كونها قديمة ومشتهرة، وكاتبها متخصّص وموضوعيّ في النقل2.
 

1- اُنظر: الهاشميّ، عليّ بن الحسين، ثمرات الأعواد: ج1، ص31.
2- اُنظر: الموسويّ، رياض، الشعائر الحسينيّة بين الآصالة والتجديد محاضرات الشيخ محمّد السند: ج1، ص230.
 
 
 
 
34

29

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 فالمؤرِّخ يصوِّر الحدث من خلال روايات ومشاهدات وقرائن وتحليل، فيرسم صورة للحدث التاريخيّ بمنظاره.


وفي الحقيقة هناك أُسلوبان أساسيَّان في النقل التاريخيّ:
الأُسلوب الأوّل: هو الأسلوب السرديّ، وهو ما يغلب على الكتب التاريخيّة القديمة، فهي سرديّة نقليّة فقط، بدون أن يكون للمؤرِّخ أيّ بصمات غير نقل الأحداث التي شاهدها، أو نُقلت إليه، فينقلها كما هي بألفاظها وكلماتها، كما في تاريخ الطبريّ وغيره.

الأُسلوب الثاني: وهو الأُسلوب العقليّ، والذي هو عبارة عن المنهج التحليليّ والاستنباطيّ، وهو منهج متّبع عند بعض المؤرِّخين، فيربط في هذا الأُسلوب بين الأحداث ويرسم أحداثاً وتحليلات لا يراها غيره، فيصيغها بصياغات فنّيّة وأدبيّة مع التحليل والتأويل والربط بين مجمل الأحداث والاعتماد على القرائن1.

ورواية الشعائر أكثرها من الأُسلوب الأوّل من المنهج التاريخيّ وبعضها من الثاني، فلذا تُعامل روايات وأحداث الملحمة الحسينيّة كما تُعامل روايات التاريخ، فكما أنّنا لا نطلب الأسانيد في نقل حادثةٍ تاريخيّة ما، كذلك لا نطلب أسانيد لإثبات حادثة عاشوراء ووقائعها.

نعم، ما كان متعلّقاً بباب الأحكام وأُصول الاعتقاد يُحاكم بموازين المنهجين العقائديّ والفقهيّ.

ولا حاجة لذكر التطبيقات العاشورائيّة في هذا المنهج التاريخيّ، لأنّها الأكثر في الروايات والأحداث.
 

1- اُنظر: مطهريّ، مرتضى، المجتمع والتاريخ: ص65.
 
 
 
 
35

30

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 النتيجة:

إنّ روايات عاشوراء ما دام غالبها روايات داخلة في المنهج التاريخيّ، فهي تُقاس بالمقياس التاريخيّ لا غير، أمّا ما كان فيه مساس بالعقيدة أو الفقه فيُقاس بمقياس ومنهج علمَي الكلام والفقه.

النقل التاريخيّ بأُسلوب أدبيّ
وهناك أُسلوب آخر أقرب إلى المنهج التاريخيّ النقليّ، وهو منهج التعبير الأدبيّ والإبداعيّ- سواء كان بنحو القصّة أو الشعر أو غيرهما- الذي شاع كثيراً في التمثيل الدراميّ والسينمائيّ والمسرحيّ والشعريّ.

والفرق بين هذا الأُسلوب والمنهج التاريخيّ: أنّ المؤرِّخ ينقل في مقام الإخبار عن واقع ما، أمّا في المنهج القصصيّ، فلا يقول القاصّ: إنّي أخبر عن الواقع، وإنّما أُريد أن أُصوّر الحدث التاريخيّ الواصل إليّ بصورةٍ أكثر تأثيراً، وبأدوات تخيّليّة وفنيّة ومجازيّة وكنائيّة.

وهذا الأُسلوب ليس غريباً أو بعيداً عن الحدث التاريخيّ، بل هو مرتبط به ارتباطاً ما، وحاكياً عنه بوجه آخر، فهو كالمدلول الالتزاميّ له.

ومن أهمّ أمثلته لسان الحال الذي شاع ذكره بين الخطباء والشعراء، ومثاله البارز: ما أنشأه دعبل الخزاعيّ من شعرٍ بحضرة الإمام الرضا عليه السلام، عندما صوَّر حضور الزهراء عليها السلام في الطفّ تصويراً قصصيّاً، على أنّه ليس في مقام الإخبار، وإنّما هو تصوير لشخصيّة حقيقيّة بتصوير افتراضيّ، لذا صدّر القصيدة بحرف لو، فقال:
أَفَاطِمُ لَوْخِلْتِ الحُسَيْنَ مُجَدَّلاً      وَقَدْ مَاتَ عَطْشَاناً بِشَطِّ فُرَاتِ
إذن للطمت الخدّ فاطم عِنْدَهُ      وَأَجْرَيْتِ دَمْعَ العَيْنِ فِي الوَجَنَاتِ
 
 
 
 
 
 
37

31

منهج النقل للرواية العاشورائيّة

 فهو ليس في مقام الإخبار الحقيقيّ عن الحدث، بل في مقام الشعر والافتراض، ولكنّ الأشخاص في هذا التصوير أشخاص حقيقيّون، فلا يقال له: إنّك كاذب.


ولهذا الفنّ وأمثاله ضوابط وشروط وأحكام، تحتاج إلى بحث مستقلّ.
 
 
 
 
 
38

32

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة1


1- مقتل أبي مخنف الأزديّ الكوفيّ أشهر المقاتل الحسينيّة
تقديم
كان أبو مخنف في زمانه شيخ المؤرِّخين في الكوفة، وكان من أشدّ المؤرِّخين اهتماماً بجمع وتدوين أخبار كربلاء، وقد حاول أن يُحيط بأدقِّ التفاصيل المرتبطة بهذه الواقعة، فشملت أخباره أحداث ووقائع يوم عاشوراء، وما سبقه من إرهاصات وتمهيدات، وما تلاه من أحداث ووقائع السبي.

وقد روى محمّد باقر القائنيّ في كتابه الكبريت الأحمر: "أنّه أعطى قباءه - وهو بُرد يمانيٌّ نفيس - ثمناً لكتابة أبيات من الشعر منسوبة لسيّد الشهداء عليه السلام"2.

وهذه الرواية- إن صحّت- تكشف عن حرصه الشديد وتطلّعه إلى التقاط كلِّ شاردة وواردة حول هذه الواقعة.

وكما حاول أبو مخنف أن يُحيط بأدقِّ تفاصيل أحداث ووقائع كربلاء، فقد حاول - أيضاً - أن يستند في عمله إلى المنابع الأُولى المتمثّلة في الرواة الأوائل الذين عايشوا الأحداث وباشروها، كعقبة بن سمعان مولى الرباب
 

1- الشيخ عامر الجابريّ. (مجلة الإصلاح الحسيني, الصادرة عن مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية, التابعة للعتبة الحسينية).
2- القائنيّ، محمّد باقر، الكبريت الأحمر: ج1، ص43.
 
 
 
 
 
39

 


33

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

  زوجة الحسين عليه السلام1، ودلهم بنت عمرو زوجة زهير بن القين2، وجعفر بن حذيفة الطائيّ3, وعقبة بن أبي العيزار4، ويحيى ابن هانئ بن عروة المراديّ5، وغيرهم.


وإذا تعذر الاتّصال بالراوي المباشر لعدم معاصرته - أو للبعد المكاني - كان أبو مخنف يتّصل بمَن اتّصل بالرواة المباشرين (بلا وساطة)، كما اتّصل بسليمان بن أبي راشد الأزديّ للوصول إلى أخبار حميد بن مسلم الأزديّ6، أو (بوساطة) كما أخذ أخبار عبد الله بن سليم والمذريّ بن المشمعل الأسديّين7، عن أبي جناب الكلبيّ، عن عديّ بن حرملة الأسديّ عنهما8.

من هنا، فقد جاءت روايات مقتل أبي مخنف غنيّة في تفاصيلها وإحاطتها بالجزئيّات، مسندةً متّصلةً موثوقةً في مآخذها ومنابعها، ولذا أصبح مقتله من
 

1- هو مولى الرباب بنت امرئ القيس الكلبيّة زوجة الحسين عليه السلام، وقد صاحب الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى كربلاء، ولم يُفارقه حتّى قتل عليه السلام، ولكنّه لم يوفّق لنيل الشهادة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام، ولم يكن له دورٌ قتاليّ أصلاً، وبعد انتهاء المعركة وقع في الأسر، فعرضوه على ابن سعد، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا عبد مملوك. فخلّى سبيله، وأصبح بعد ذلك من رواة واقعة الطفّ، وقد حرص أبو مخنف على الاتّصال به والأخذ منه. هذا ما استفدناه من مواضع عدّة من تاريخ الطبريّ: ج4، ص260، وص313، وص347.
2- روى عنها أبو مخنف خبراً واحداً حول التحاق زوجها زهير بالحسين عليه السلام، وهو يرويه عنها مباشرة. اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج4، ص298.
3- اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص281. وابن أبي حاتم، الجرح والتعديل: ج2، ص476: "جعفر بن حذيفة من آل عامر بن جوين بن عائذ بن قيس الجرمى، كان مع عليّ يوم صفّين، روى عنه أبو مخنف لوط بن يحيى..."، وعدّه ابن حبان في الثقات. اُنظر: ابن حبّان، ثقات ابن حبّان: ج4، ص105.
4- اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج4، ص304.
5- ويحيى هذا وإن كان أبوه من رموز الثورة وقياديّيها إلّا أنّ أُمّه روعة كانت أخت عمرو بن الحجّاج، وكان مشدوداً إلى خاله، وكان معه في كربلاء في عسكر عمر بن سعد، وكان معه أيضاً في قتاله ضدّ المختار تحت إمرة عبد الله بن مطيع والي الكوفة من قِبَل ابن الزبير. اُنظر: المصدر السابق: ج6، ص331، وص504.
6- اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص311، وص312، وص314، وص326، وص334، وص340، وص341، وص344، وص345، وص347.
7- وكانا مهتمّين بمتابعة أخبار النهضة، كما صرّحا بذلك حيث قالا: "لمّا قضينا حجّنالم يكن لنا همّة إلّا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه". اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص229.
8- اُنظر أخبارهما في تاريخ الطبريّ: ج4، ص289، وص290، وص299، وص300، وص302.
 
 
 
 
 
40

34

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 أشهر المقاتل الحسينيّة، وأكثرها اعتماداً لدى المؤرِّخين على مرِّ العصور.


وسنعود سريعاً للحديث عن مقتل أبي مخنف بشيءٍ من التفصيل، ولكن بعد أن نكون قد ترجمنا لأبي مِخْنَف، وحملنا فكرة كافية عن شخصيّته.

البحث الأوّل: ترجمته
1ـ اسمه، نسبه، كُنيته
هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح النون) بن سليم1 (بضمّ السين وفتح اللام وسكون الياء) أو سالم2 أو سليمان3، الأزديّ الغامديّ (أبو مِخْنَف).

وهو مشتهر بكُنيته (أبو مخنف)، ويخطئ بعض الخطباء في تلفُّظ كلمة (مخنف)، والصحيح ما أثبتناه: (بكسر الميم وسكون الخاء وفتح النون) على وزن (منبر)، كما ضبطه أئمّة اللغة، وجهابذة علم الأنساب، وفحول فنّ المؤتلف والمختلف.
 

1- هكذا ضُبط في أكثر المصادر من الفريقين. اُنظر: الكلبيّ، نسب معد واليمن الكبير: ج2، ص482. ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج1، ص787. الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج4، ص546. الطبريّ، المنتخب من ذيل المذيّل: ص47. ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب: ج8، ص3673. ابن عبد البرّ، الاستيعاب: ج4، ص1476. ابن حجر، الإصابة: ج6، ص46. ابن قتيبة، المعارف: ص537. ابن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب: ج1، ص529. ابن الأثير، أُسد الغابة: ج4، ص352. ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج10، ص78. العينيّ، بدر الدّين، مغاني الأخبار: ج3، ص408. الباباني، هدية العارفين: ج1، ص444. حسن زاده آملي، أضبط المقال في ضبط أسماء الرجال: ص119. القمّي، الكنى والألقاب: ج1، ص155.
2- كما في رجال النجاشيّ: ص320، مع أنّه عدّ من كُتبه بعد ذلك: كتاب أخبار مخنف بن سليم؛ ولذا احتمل بعض الباحثين أنّه من تصحيف النسّاخ، وممَّن تابع النجاشيّ في ذلك: العلّامة الحلّي في إيضاح الاشتباه: ص359، والتفرشيّ في نقد الرجال: ج4، ص74.
3- كما في معجم الأدباء للحمويّ: ج5، ص2252، وتابعه على ذلك: ابن شاكر في فوات الوفيات: ج3، ص325. وعبد السلام عبّاس الوجيه في معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين: ص262، وعمر كحّالة في معجم المؤلّفين: ج8، ص157.
 
 
 
 
41

35

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 قال ابن دريد: "مخنف: مِفعل من قولهم: خنَفَ الرجلُ بأنفه، إذا أمالَه من كِبْر. والفرس خانف وخَنُوف، إذا أمالَ رأسَه في جريه أو تقريبه. والخِنَاف: ضربٌ من سير الإبل. والخَنيف: ثوب من كَتّان خشن. والجمع خُنُف، شبيهٌ بالخَيْش. ويقال: خَنفْتُ الأُتْرُجَّة، إذا قطعتها، والواحد مَن قَطْعها خَنِيفٌ أيضاً"1.


والأزديّ: بفتح الألف وسكون الزاي وكسر الدال، نسبة إلى أزد شنوءة، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ2.

قال الجوهريّ: "والشَّنُوْءَةُ - على فَعُوْلَةٍ -: التقَزّز وهو التباعد من الأدناس، تقول: رجل فيه شَنُوْءَةٌ، ومنه أزْدُ شَنُوءَةَ وهم حي من اليمن، يُنسب إليهم شَنَئيٌّ، قال ابن السِّكيت: ربما قالوا: أزدُ شَنُوَّةَ - بالتشديد غير مَهْمُوزةٍ - ويُنسب إليها شَنَوِيٌّ"3.

والغامديّ: بفتح الغين وكسر الميم والدال، هذه النسبة إلى غامد بطن من الأزد، واسم غامد- كما في أُسد الغابة-: عمرو بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد. وهو معدود في أهل الحجاز، سكن الطائف4.

آل مخنف بن سليم زعماء الأزد في الكوفة
يبدو أنّ مخنف بن سليم هو أوّل مَن دخل في الإسلام من أسلاف أبي مخنف، وكانت له صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ نزل الكوفة بعد ذلك، وهو
 

1- ابن دريد، الاشتقاق: ص493.
2- اُنظر: السمعانيّ، أنساب السمعانيّ: ج1، ص180.
3- الجوهريّ، الصحاح: ج2، ص64. مادة (شنأ).
4- اُنظر: ابن الأثير، أُسد الغابة: ج2، ص397.
 
 
 
42

36

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 نقيب الأزديّين فيها1، وكان في الكوفة جبّانة (مقبرة) تعرف بـ(جبّانة مخنف بن سليم)2.


وقد عدّه الشيخ في رجاله في طبقة أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام3، بل عدّه ابن داود من خواصّ أصحابه4.

وكان حامل راية الأزد من أهل الكوفة في وقعة الجمل، وقيل: "إنّه قُتل يومئذٍ"5، ولم يثبت، فإنّ الأخبار الدالّة على حياته بعد وقعة الجمل من الكثرة بحيث يسقط معها هذا القول عن الاعتبار التاريخيّ، ومنها على سبيل المثال:
1ـ روى نصر بن مزاحم المنقريّ: أنّ عليّاً عليه السلام استعمله على أصفهان وهَمَدان بعد الجمل6.

2ـ وذكر المنقريّ أيضاً: أنّه لمّا أراد عليّ عليه السلام المسير إلى أهل الشام، كتب إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم كتاباً، يذكِّره فيه بفريضة الجهاد، ويخبره بنيّته في المسير إلى أهل الشام، ويصف له فيه ظلم بني أُميّة وانحرافهم عن النهج الإسلاميّ العادل، وفي آخر الكتاب: "فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك، وأقبل إلينا لعلّك تلقى هذا العدو المُحِلّ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجامع الحقّ وتباين الباطل، فإنّه لا غناء بنا ولا بك عن أجر الجهاد. وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"7.
 

1- اُنظر: ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج6، ص109.
2- اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج7، ص183.
3- اُنظر: الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص58.
4- اُنظر: ابن داود، رجال ابن داود: ص187.
5- اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج4، ص521.
6- اُنظر: المنقريّ، وقعة صفّين: ص11.
7- المصدر السابق: ص104 ـ ص105.
 
 
 
 
43

37

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ثمَّ أردف المنقريّ قائلاً: "فاستعمل مِخْنَفٌ على أصبهان الحارثَ بن أبي الحارث بن الربيع، واستعمل على هَمَدان سعيدَ بن وهب - وكلاهما من قومه - وأقبل حتّى شهد مع عليّ صفّين"1.


3ـ وذكر الطبريّ في أحداث سنة 39ه أنّ معاوية قد بعث النعمان بن بشير في ألفي رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب مسلحة لعليّ عليه السلام في ألف رجل، فأذن لهم، فأتوا الكوفة، وأتاه النعمان، ولم يبقَ معه إلّا مائة رجل، فكتب مالك إلى أمير المؤمنين عليه السلام يخبره بما جرى، فخطب عليّ عليه السلام النّاس، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، فأمر مالك أصحابه أن يجعلوا جُدُر القرية في ظهورهم، واقتتلوا.

وكتب إلى مخنف بن سليم يسأله أن يمدّه، وهو قريب منه، فوجّه إليه ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلاً، فانتهوا إلى مالك وأصحابه، وقد كسروا جفون سيوفهم، واستقتلوا، فلمّا رآهم أهل الشام وذلك عند المساء، ظنّوا أنّ لهم مدداً فانهزموا2.

قال محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ- بعد أن نقل ما نقلناه وما لم ننقله من الأحاديث الدالّة على بقاء مخنف بن سليم حيّاً بعد الجمل -: "فهذه الأحاديث كلّها تصرّح بحياة جدّه مِخْنَف بن سُلَيْم بعد الجمل، بل حتّى بعد صفّين، فإنّ غارات معاوية إنّما كانت سنة (39 ه) بعد وقعة صفّين (37 ه)، بينما تنفرد تلك الرواية بأنّه قُتل يوم الجمل كما سلف آنفاً، ولم يفطن الطبريّ لذلك، فلم يعلّق عليه بشيء مع تصريحه في (ذيل المذيّل) بحياته إلى سنة 80 ه"3.
 

1- اُنظر: المنقريّ، وقعة صفّين: ص105.
2- اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج5، ص133.
3- أبو مخنف، وقعة الطفّ: ص23، تحقيق محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ.
 
 
 
 
44

38

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ونحن نؤيّده فيما ذهب إليه من بقاء مخنف بن سليم بعد الجمل، بل حتّى بعد صفّين كما قال، غير أنّنا لا نوافقه على عدم التفات الطبريّ إلى ذلك، فإنّ منهج الطبريّ في تاريخه هو نقل جميع الروايات المختلفة ووجهات النظر المتباينة حول الحادث، بغضّ النظر عن موافقتها للعقل والفكر أو عدم موافقتها، وبصرف النظر عن انسجامها مع الثوابت التاريخيّة أو عدم انسجامها، فعدم تعليق الطبريّ على ما شذّ من النقول التاريخيّة هو الموافق للنهج الذي ألزم نفسه السير عليه في مقدّمة الكتاب حيث يقول: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ممّا يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يؤتَ في ذلك من قِبَلنا، وإنّما أتى من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنّما أديّنا ذلك على نحو ما أُدّي إلينا"1.


أمّا في منتخب ذيل المذيّل، فلم يظهر منه أنّه يسير على المنهج نفسه، بل الظاهر خلافه، وأنّ الآراء الموجودة فيه تمثِّل مختارات الطبريّ ممّا قيل في وفيات الصحابة والتابعين.

وعليه، فلا منافاة بين تصريح الطبريّ في منتخب ذيل المذيّل بحياته إلى سنة 80ه، وبين نقله لخبر مقتله في يوم الجمل في تاريخه، ما دام لكلٍّ من الكتابين منهجه الخاصّ وأُسلوبه المتميِّز.

وقد انفرد ابن حجر (ت 852ه) فذكر أنّ مخنف بن سليم كان ممَّن خرج مع سليمان بن صرد في وقعة عين الوردة، وقُتل بها سنة 64ه2، ونحن نستبعد هذا الخبر ونشكّك به لسببين:
 

1- الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج1، ص8.
2- اُنظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج10، ص78.
 
 
 
 
45

39

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 1ـ إنّ ابن حجر لم يعيّن لنا المصدر الذي استقى منه هذا الخبر، وقد تتبّعنا كتب قدامى الأخباريّين والمؤرِّخين، فلم نعثر له على قائل قبل ابن حجر.


2ـ إنّ مخنف بن سليم لم يكن شخصاً عاديّاً من عامّة المجتمع، وإنّما كان زعيم الأزديّين في الكوفة، وأحد رجالات الشيعة البارزين، ولو كان حاضراً في معركة عين الوردة، وقُتل بها- كما زعم ابن حجر- لذَكَر ذلك المؤرِّخون الذين رووا أحداث ووقائع هذه المعركة.

وكان لمخنف بن سليم - على ما ذكره الطبريّ - إخوة ثلاثة يُقال لأحدهم: عبد شمس، قُتل يوم النخيلة، والصقعب وعبد الله، قُتلا يوم الجمل1.

ومن أبرز أولاد مخنف بن سليم عبد الرحمن بن مخنف زعيم الأزديّين في الكوفة، وأبرز قيادات الكوفة في زمانه، وكان إلى جانب أبيه مع أمير المؤمنين عليه السلام في حربه ضدّ أهل الشام2، إلّا أنّه تحوَّل بعد ذلك إلى الخطّ المعادي للعلويّين، فعندما خرج المختار وقف عبد الرحمن ضدّه مع عبد الله بن مطيع، وكان في ليلة خروج المختار متمركزاً مع اتباعه في جبّانة (مقبرة) مراد3.

وحينما سار إبراهيم بن مالك الأشتر يريد الموصل، وتواطأ أهل الكوفة على حرب المختار، كان عبد الرحمن ممَّن خرج ضدّه4.

وقبيل حدوث وقعة المذار - التي وقعت بين أنصار المختار بقيادة أحمر بن شميط وأنصار مصعب بن الزبير بقيادة المهلّب بن أبي صفرة - دعا مصعب بن الزبير عبد الرحمن بن مخنف، فقال له: ائت الكوفة مستخفياً حتّى تُخرج
 

1- اُنظر: الطبريّ، منتخب ذيل المذيّل: ص47.
2- اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج5، ص133.
3- اُنظر: البلاذريّ، أنساب الأشراف: ج6، ص389.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج6، ص398.
 
 
 
 
46

40

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 إلي مَن استطعت إخراجه، وخذِّل النّاس عن المختار. فمضى حتّى نزل منزله سرّاً فلم يظهر1.


وفي زمان عبد الملك بن مروان، في سنة75ه ناهض عبد الرحمن بن مِخْنَف والمهلَّب بن أبي صفرة الأزارقة برامهرمز، بكتاب الحجّاج إليهما لعشر بقين من شعبان، فأجْلَوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، وخرج القوم كأنّهم على حامية، حتّى نزلوا سابور بأرضٍ منها يُقال لها: كازرون. وسار المهلَّب وعبد الرحمن بن مخنف حتّى نزلوا بهم في أوّل رمضان، فخندق المهلَّب عليه، فذكر أهل البصرة أنّ المهلَّب قال لعبد الرحمن بن مِخْنَف: إن رأيت أن تُخندق عليك فافعل. وإنّ أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنّما خندقنا سيوفنا. وإنّ الخوارج زحفوا إلى المهلَّب ليلاً ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أُناس من أصحابه فقُتل، وقُتل أصحابه حوله2.

وأمّا سعيد بن مخنف الجدّ المباشر للوط، فلم أعثر له على ذكر عدا وروده في سلسلة نسب أبي مخنف، على أنّ بعض المصادر قد أسقطته من سلسلة نسب أبي مخنف وذكرت نسبه هكذا: (لوط بن يحيى بن مخنف)3، فجعلت مخنف الجدّ المباشر للوط.

وأمّا يحيى والد لوط، فلم أجد له ترجمة خاصّة، ولم أعرف عنه شيئاً سوى عدِّ الطوسيّ له في طبقة أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام4، وقول ابن شهر آشوب في
 

1- اُنظر: البلاذريّ، أنساب الأشراف: ج6، ص429.
2- اُنظر: الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج6، ص111ـ 112. ابن الجوزيّ، المنتظم: ج6، ص165.
3- اُنظر: الحمويّ، معجم الأدباء: ج5، ص2252، وتابعه على ذلك: ابن شاكر، فوات الوفيات: ج3، ص325. عبد السلام بن عبّاس الوجيه، معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين: ص262. عمر كحّالة، معجم المؤلّفين: ج8، ص157.
4- لم يذكر الطوسيّ ذلك في ترجمة خاصّة ليحيى، وإنّما ذكره ضمن ترجمته لأبي مخنف، حيث قال ـ بعد أن ذكر أبا مخنف في طبقة أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مجاراةً للكشّي ـ: "وعندي أنّ هذا غلط، لأنّ لوط بن يحيى لم يلقَ أمير المؤمنين عليه السلام، وكان أبوه يحيى من أصحابه". الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص57.
 
 
 
 
47

41

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 معالم العلماء: إنّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام1.


وهذا يعني أنّ ولادته كانت قبل عام40ه، بفترة تؤهِّله لتلقّي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام المستشهَد في هذا العامّ، وأنّه كان حيّاً بعد سنة 50ه، وهي السنة التي استُشهِد فيها الإمام الحسن عليه السلام.

وممّا ينبغي أن يُشار إليه: أنّ جلّ مَن ترجم لمخنف بن سُلَيْم أشار إلى أنّ من ولده (أبو مخنف) لوط بن بن يحيى صاحب الترجمة، ممّا يدلّل على أنّه أشهر شخصيّة في هذا البيت.

2ـ ولادته ونشأته
لُقِّب أبو مخنف بـ(الكوفيّ) في عدّة مصادر2، وما ذلك إلّا لكونه كوفيَّ المولد، ولا نقاش في ذلك، كما لا نقاش في كونه نشأ وتعلّم في الكوفة أيضاً، كما يشهد بذلك التأمّل في كثرة مشايخه وأساتذته من أهل الكوفة، وإنّما ينحصر الكلام في زمان ولادته، إذ لا يوجد نصّ يُعتمد عليه في تحديدها، وإنّما يتوفّر في أيدينا معطيان تاريخيّان نستطيع أن نستنتج في ضوئهما أنّ ولادته كانت في بداية خمسينيّات القرن الهجريّ الأوّل، وهما:
المعطى الأوّل: قد مرّ علينا أنّ والده يحيى كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ـ بحسب الطوسيّ وابن شهر آشوب ـ وقد قال الطوسيّ عن أبي مخنف: إنّه "لم يلقَ أمير المؤمنين عليه السلام"3، فقد نفى اللقاء الذي هو أعمّ من تلقّي الحديث، وهذا يعني أنّ أبا مخنف لم يكن قد ولد في حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وإنّ ولادته كانت بعد عام 40ه الذي هو عام مقتله عليه السلام.
 

1- اُنظر: ابن شهر آشوب، معالم العلماء: ص129ـ ص130.
2- اُنظر ـ على سبيل المثال لا الحصرـ: الذهبيّ، سير أعلام النبلاء: ج13، ص342. الذهبيّ، تاريخ الإسلام: ج9، ص581. ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: ج7، ص241. الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد: ج3، ص562.
3- الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص57.
 
 
 
 
48

42

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 المعطى الثاني: عرفنا الآن أنّ أبا مخنف قد ولد بعد عام 40ه، فنقول: إنّه قد ولد قبل عام 50ه، فهذا هو المنسجم مع ذكره في طبقة أصحاب الحسن عليه السلام1 المتوفّى في هذا العام، فإذا عرفنا أنّ عدَّ الشخص من أصحاب الإمام عليه السلام معناه أنّه قد سمع حديثه ووعاه، فلا بدّ لنا أن نفترض أنّ ولادة أبي مخنف كانت في بداية الأربعينيّات 41 أو 42 أو43ه ـ مثلاً ـ لكي يكون صبيّاً مميّزاً على أقلّ تقدير في نهايات حياة الإمام الحسن عليه السلام.


ويمكن أن ندعم هذا الرأي ونؤكّده بأمرين:
الأمر الأوّل: إنّ هذا الرأي ينسجم مع إدراك أبي مخنف لعددٍ من رواة الطفّ المباشرين، ونقله عنهم بلا وساطة، كعقبة بن سمعان، ودلهم بنت عمرو زوجة زهير بن القين وغيرهما.

الأمر الثاني: إنّ هذا الرأي ينسجم مع كون المشهور في وفاة أبي مخنف هو عام 157ه ـ كما سيأتي في آخر الترجمة ـ فإنّ عمره سيكون حين وفاته 120سنة أو أقلّ بقليل، وليس في هذا شذوذ أو مخالفة للمألوف من معدل الأعمار في تلك الأزمان.

3ـ مكانته العلميّة، طبقته، مصنّفاته
يُعدّ أبو مخنف من كبار الأخباريّين والمؤرِّخين الأوائل الذين سارعوا إلى كتابة التاريخ الإسلاميّ، وقد تركّز نشاطه على تاريخ العراق بصورة خاصّة، كما انصبّت جهوده على الأحداث التي وقعت بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أواخر العهد الأُمويّ.
 

1- الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص70.
 
 
 
 
49

43

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 قال ابن النديم: "قرأت بخطّ أحمد بن الحارث الخزّاز، قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائنيّ بأمر خراسان والهند وفارس، والواقديّ بالحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام"1.


وأخبار العراق وفتوحها هي تعبير آخر عن تاريخ التشيّع، إذ ارتبط التشيّع منذ بدايات وجوده، كقوّة اجتماعيّة، بالعراق، ومن هنا قال فلهاوزن: "وأبو مخنف هو أَثْبَتُ حجّة... في تاريخ الشيعة، طالما اتّصل بالكوفة، والطبريّ يكاد لا يعتمد على غيره في ذكر أخبارهم وما أطولها"2.

وقد تركّزت جهود أبي مخنف على جمع وتدوين أخبار الكوفة بنحو خاصّ، حتّى وصفه النجاشيّ بكونه: "شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم"3، والكوفة كانت آنذاك مركز التشيّع وجمجمة العراق، وحينما يكون أبو مخنف شيخ مؤرِّخيها فهذا يعني أنّه شيخ مؤرِّخي أهل العراق بشكل عامّ، أو يكون من كبار مؤرِّخي العراق على أقلّ تقدير.

إلّا أنّه ممّا ينبغي أن يُشار إليه: أنّ علاقة أبي مخنف بالتشيّع ربما تكون علاقة علميّة، وليست روحيّة، وإذا ما قيل: إنّه (من مؤرِّخي الشيعة) فقد يكون المقصود أنّه من المهتمّين بتاريخ الشيعة وجمع أخبارهم، وليس بالضرورة أن يكون المقصود من هكذا عبارة أنّه كان شيعيّاً بالمعنى الخاصّ للتشيّع.

أمّا طبقة أبي مخنف، فلا يمكن ضبطها من خلال ملاحظة أساتذته وشيوخه، إذ اختُلف في ذلك اختلافاً كبيراً، فقد عدّه الكشّي في طبقة أصحاب
 

1- ابن النديم، الفهرست: ص122.
2- يوليوس فلهاوزن، الخوارج والشيعة، ترجمه عن الألمانيّة الدكتور عبد الرحمن بدويّ: ص113.
3- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص320.
 
 
 
 
50

44

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الإمام عليّ عليه السلام، ونفى الطوسيّ ذلك1، وأثبت صحبته للحسنين عليهما السلام2، ونفى النجاشيّ أن تكون له صحبة مع الإمام الباقر عليه السلام، فضلاً عمَّن سبقه من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وعدَّه من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام3.


وعليه، فلا يمكن أن نضبط طبقة أبي مخنف من خلال أساتذته وشيوخه مع الاختلاف المشار إليه، والقدر المتيقّن أنّه من طبقة أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، مع احتمال أن يكون من طبقةٍ أقدم، وإنّما يمكن تحديد طبقته من خلال ملاحظة الآخذين عنه والمتتلمذين على يديه، ومنهم:
1ـ أبو المنذر، هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ (ت 204أو 206ه)، النسّابة المشهور4، وهو الراوي لمقتله كما سنبيِّن.

2ـ أبو الفضل، نصر بن مزاحم بن سيّار المنقريّ (ت 212ه)5، صاحب كتاب وقعة صفّين، وقد أخطأ ابن النديم في عدِّ نصر بن مزاحم من طبقة أبي مخنف6.

3ـ أبو الحسن، عليّ بن محمّد المدائنيّ (ت 225ه)، المؤرِّخ المعروف7.

فهؤلاء الثلاثة هم من كبار الأخباريّين والمؤرِّخين الذين برزوا في نهايات المائة الثانية وبدايات المائة الثالثة، وهم من تلاميذ أبي مخنف، فيكون أبو مخنف في الطبقة التي فوقهم، مع أنّه لا مانع من أن يندرج في طبقات أعلى أيضاً لو احتملنا طول عمره وأنّه قد ولد في خمسينيّات القرن الهجريّ الأوّل، كما احتملنا ذلك عند الحديث عن ولادته ونشأته.
 

1- اُنظر: الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص57.
2- المصدر السابق: ص70، وص79.
3- اُنظر: النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص320.
4- اُنظر: الذهبيّ، سير أعلام النبلاء:ج10، ص101.
5- اُنظر: الصدوق، أمالي الصدوق: ص142. المجلسيّ، بحار الأنوار: ج23، ص49.
6- اُنظر: ابن النديم، الفهرست: ص122.
7- اُنظر: الذهبيّ، ميزان الاعتدال: ج3، ص420. الذهبيّ، سير أعلام النبلاء: ج7، ص302.
 
 
 
51

45

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وقد صنّف أبو مخنف كُتُباً كثيرة يطول تعدادها، وقد ذكرها النجاشيّ في رجاله1، وابن النديم في فهرسته2، والحمويّ في معجمه3، والصفديّ في وافيه4، منها: كتاب المغازي، كتاب السقيفة، كتاب الردّة، كتاب فتوح الإسلام، كتاب فتوح العراق، كتاب فتوح خراسان، كتاب الشورى، كتاب قتل عثمان، كتاب الجمل، كتاب صفّين، كتاب النهر، كتاب الحكمين، كتاب الغارات، كتاب مقتل أمير المؤمنين عليه السلام، كتاب قتل الحسن عليه السلام، كتاب قتل الحسين عليه السلام، كتاب مقتل حجر بن عدي، كتاب أخبار زياد، كتاب أخبار المختار، كتاب أخبار الحجّاج، كتاب أخبار مطرف بن المغيرة بن شعبة، كتاب أخبار آل مخنف بن سليم، كتاب أخبار الحريث بن أسد الناجي وخروجه.


إلّا أن كُتُب أبي مخنف ومصنّفاته قد أُبيدت عن بكرة أبيها، ولم يتبقَّ منها سوى ما نقلته الموسوعات التاريخيّة المتأخِّرة عن عصر أبي مخنف، كموسوعة تاريخ الرسل والملوك للطبريّ (ت 310ه) التي نقلت عن أبي مخنف ما ينيف على (500) رواية في موضوعات مختلفة، حيث تحتلّ الروايات التي تتحدَّث عن عهد خلافة الإمام عليّ عليه السلام المرتبة الأُولى، فقد بلغت (126) رواية، تعقبها (118) رواية حول حادثة كربلاء، و(124) رواية تناولت ثورة المختار5.

وقد حاول العديد من الباحثين والمحقّقين إحياء تراث أبي مخنف، من خلال استخراج مرويّاته من بطون المدوَّنات التاريخيّة: كمحاولة حسن الغفاريّ، ومحمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ في إحيائهما كتاب مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف، حيث كتب الأوّل مقتل الحسين عليه السلام وكتب الآخر وقعة الطفّ،
 

1- اُنظر: النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص320.
2- اُنظر: ابن النديم، الفهرست: ص122.
3- اُنظر: الحمويّ، معجم الأدباء: ج5، ص2253.
4- اُنظر: الصفديّ، الوافي بالوفيات: ج24، ص306.
5- اُنظر: جليل تاري، حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف، ترجمة أحمد الفاضل: ص13.
 
 
 
 
52

46

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وكلاهما متّخذان من تاريخ الطبريّ، ومحاولة جليل تاري في كتابه (حقائق السقيفة في دراسة رواية أبي مخنف) الذي حاول فيها إحياء كتاب السقيفة على ما يبدو، ومحاولة الباحث السعوديّ يحيى اليحيى في دراسته المسمّاة بـ (عصر الخلافة الراشدة) والتي حاول أن يدرس فيها، دراسة نقديّة، مرويّات أبي مخنف في تاريخ الطبريّ، والمختصّة بهذه الحقبة.


4ـ مذهبه ومعتقده
إنّ التأمّل في مرويّات أبي مخنف، وما نقله من فضائل ومحاسن أهل البيت عليهم السلام، ومثالب وقبائح أعدائهم، وتركيزه البالغ على تاريخ التشيّع هو الذي قاد بعض الباحثين والمحقّقين إلى القول بإماميّته.

كما أنّ التأمّل في مرويّات أُخرى لأبي مخنف تتقاطع مع الإيمان بعصمة الأئمّة عليهم السلام هو الذي أرغم بعض الباحثين والمحقّقين على التوقّف عن القول بإماميّته1.

والذي يبدو لي، بعد الوقوف طويلاً على هذا الموضوع، أنّ أبا مخنف لم يكن إماميّاً، وإنّما كان شيعيّاً بالمعنى العامّ للتشيّع، والمساوي للميل والمودّة الشديدة لأهل البيت عليهم السلام، وهذا ما صرّح به ابن أبي الحديد المعتزليّ (ت 655ه) بقوله: "وأبو مخنف من المحدِّثين، وممَّن يرى صحّة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها"2.
 

1- ومن تلك الروايات ما نقله أبو مخنف ـ لمّا خطب الحسين عليه السلام وسمع أخواته خطبته ـ "صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العبّاس بن عليّ وعليّاً ابنه، وقال لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن. قال: فلمّا ذهبا ليسكتاهن، قال: لا يبعد ابن عبّاس. قال: فظننا أنّه إنّما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنّه قد كان نهاه أن يخرج بهن...". الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج5، ص424.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج1، ص147.
 
 
 
 
53

47

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وهذا الكلام ذكره ابن أبي الحديد بعد أن نقل عن أبي مخنف أشعاراً وأراجيز تضمنت أنّ عليّاً عليه السلام وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المعلوم أنّ الوصيّة لديهم لا تساوي الاستخلاف.


قال ابن أبي الحديد: "أمّا الوصيّة، فلا ريب عندنا أنّ عليّاً عليه السلام كان وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن خالف في ذلك مَن هو منسوب عندنا إلى العناد، ولسنا نعني بالوصيّة النصّ والخلافة، ولكن أُموراً أُخرى لعلّها، إذا لمُحت، أشرف وأجل"1.

ومن هنا، فإنّ تعجّب المامقاني من نفي ابن أبي الحديد لإماميّة أبي مخنف في غير محلّه حينما قال: "والعجب العجاب أنّ ابن أبي الحديد نطق بما سمعت، بعد أن روى أشعاراً في أنّ عليّاً عليه السلام وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"2، إذ لا منافاة بين القول بالوصيّة وبين القول بأنّ صحّة الإمامة بالاختيار، بحسب تفسير القوم لمفهوم الوصيّة.

والقول بعامّية أبي مخنف هو ما يظهر من الشيخ المفيد (ت 413ه) أيضاً في كتابه الجَمَل، فبعد أن نقل أخبار الجَمَل عن أبي مخنف وغيره من المؤرِّخين، قال: "فهذه جملة من أخبار البصرة ـ وسبب فتنتها ومقالات أصحاب الآراء في حُكم الفتنة بها ـ قد أوردناها على سبيل الاختصار، وأثبَتنا ما أثبَتنا من الأخبار عن رجال العامّة دون الخاصّة، ولم نثبت في ذلك ما روته كتب الشيعة"3.

ومن المعلوم أن الشيخ المفيد من متقدِّمي علمائنا، وهو أخبر بحال أبي مخنف، ومن المرجّح أنّه استند في الحكم بعامّيته على شواهد حسّية، وليست حدْسيّة.
 

1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج1، ص140ـ ص141.
2- المامقانيّ، تنقيح المقال: ج2، ص44.
3- المفيد، الجمل: ص225.
 
 
 
 
54

48

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ويمكن تأكيد هذا الرأي ودعمه بعدّة قرائن ـ وإن كانت جميعاً قابلةً للنقاش:

القرينة الأُولى: قد يُستدلّ على عدم تشيّع أبي مخنف بالمصطلح الخاصّ للتشيّع بندرة روايته عن الأئمّة عليهم السلام، مع معاصرته لأربعة منهم هم: السجّاد، والباقر، والصادق، والكاظم عليهم السلام، "وهذا ممّا قد يدلّنا على أنّه لم يكن شيعيّاً، ومن صحابة الأئمّة عليهم السلام بالمعنى المصطلح الشيعيّ الإماميّ، الذي يعبّر عنه العامّة بـ (الرافضيّ)، وإنّما كان شيعيّاً في الرأي والهوى كأكثر الكوفيّين، غير رافض لمذهب عامّة المسلمين آنذاك"1.

ولكن هذه القرينة قابلة للنقاش، فإنّ ندرة الرواية عن الأئمّة عليهم السلام ليست بالضرورة مباينة للتشيّع بالمصطلح الخاصّ له، كما أنّ كثرة الرواية عنهم عليهم السلام، ليست مساوية له أيضاً، وإنّما الصحيح أنّ النسبة بين ندرة الرواية وعدم التشيّع هي (العموم والخصوص من وجه)، فقد يكون الراوي مقلّاً وهو من الشيعة بالمصطلح الخاصّ، وقد يكون الراوي مكثراً وهو ليس منهم، والنماذج على ذلك كثيرة يمكن استخراجها بسهولة من كُتب الرجال.

القرينة الثانية: قال اليوسفيّ الغرويّ: "وقد يكون ممّا يؤيّد هذا "يعني كونه غير إماميّ": أنّ أحداً من العامّة لم يرمِه بالرفض، كما هو المعروف من مصطلحهم: أنّهم لا يقصدون بالتشيّع سوى الميل إلى أهل‏ البيت عليهم السلام، وأمّا مَن علموا من اتّباع أهل البيت عليهم السلام في مذهبه فإنّهم يرمونه بالرفض لا التشيّع فحسب، وهذا هو الفارق في مصطلحهم بين الموردين"2.
 

1- أبو مخنف، وقعة الطفّ، تحقيق محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ: ص28.
2- المصدر السابق: ص28.
 
 
 
 
55

49

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ويمكن أن يناقش في ذلك من جهتين:

الجهة الأُولى: إنّ قوله: "إنّ أحداً من العامّة لم يرمِه بالرفض". غير تامّ، فقد وصفه الذهبيّ بذلك في كتابه تاريخ الإسلام، فقال: "أبو مخنف الكوفيّ الرافضيّ الأخباريّ صاحب هاتيك التصانيف"1.

الجهة الثانية: إنّ تفسيره للتشيّع، عند العامّة، بالميل إلى أهل البيت عليهم السلام غير دقيق، والصحيح أنّ التشيّع في اصطلاحهم: تارة يُستخدم بمعنى الميل إلى أهل البيت عليهم السلام، وهذا لا يؤدّي إلى ردّ الرواية لديهم، وأُخرى يستخدم بما يساوي الإيمان بالإمامة، وهذا ما يُطلق عليه أيضاً الرفض، وهو ما يؤدّي إلى ردّ الرواية عندهم.

ويمكن القول: إنّ إطلاق لفظة (الشيعيّ) على أبي مخنف هي بالمعنى الثاني دون الأوّل، وذلك لعدّة شواهد:
الشاهد الأوّل: إنّ ابن عديّ قبل أن يصف أبا مخنف بكونه (شيعيّاً) قدَّم هذه العبارة: "حدَّث بأخبار مَن تقدَّم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم". ثمَّ قال ـ بلا فصل: "وهو شيعيّ محترق"2، فإنّ الدليل لديهم على تشيّعه هو تناوله لسلفهم ونقله لمخازيهم ومثالبهم، فهذا شاهد على أنّ تشيّعه بمعنى الرفض لا الميل.

الشاهد الثاني: لو كان تشيّعه بمعنى الميل لما أدّى ذلك إلى ردّ روايته، مع أنّهم أجمعوا على ردّها، فيشهد هذا على أنّ تشيّعه بمعنى الرفض.

الشاهد الثالث: ما نقلناه من وصف الذهبي له بـ(الرافضيّ)، فإنّه قرينة على أنّ مراد أسلافه من تشيّع أبي مخنف هو التشيّع بمعنى الرفض لا مجرّد الميل.
 

1- الذهبيّ، تاريخ الإسلام: ج9، ص581.
2- ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: ج7، ص241.
 
 
 
 
56

50

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 القرينة الثالثة: قال التستريّ: "ولم يذكره" أي: لم يذكر أبا مخنف" ابنُ قتيبة وابن النديم في الشيعة، مع عقد باب في كتاب كلٍّ منهما للشيعة، ولو كان إماميّاً لأشار إليه أحدهم، بل ظاهر سكوتهم عامّيته"1.


وهذه القرينة لا تصمد أمام النقاش أيضاً لـمَن خبر منهجيّ ابن قتيبة وابن النديم في كتابيهما المعارف والفهرست، فإنّهما لم يقسّما أبحاث كتابيهما تقسيماً منطقيّاً يمنع من تداخل الأقسام، فليس هناك أساس واحد قُسِّمت في ضوئه المباحث، كما أنّهما لم يقصدا الاستيعاب في كلِّ قسم.

فلو أتينا إلى كتاب المعارف لابن قتيبة لوجدنا أبا مخنف مذكوراً في باب (النسّابون وأصحاب الأخبار)2، ثمَّ بعد ذلك دخل في تعداد الفِرَق، وذُكر من ضمن الفِرَق (الشيعة)، وذكر (42) رجلاً ممَّن يُحسَبون على التشيّع3، وأهمل العديد من الشخصيّات المعاصرة لهؤلاء المذكورين، فهل يُعدُّ إهمالهم قرينة على عدم تشيّعهم؟!

وحينما نأتي إلى كتاب الفهرست لابن النديم نجده قد قسَّم كتابه إلى عشر مقالات، وجعل المقالة الثالثة (في أخبار الأخباريّين والنسّابين وأصحاب الأحداث والآيات)، وقسّمها إلى ثلاثة فنون، فجعل الفنّ الأوّل (في أخبار الأخباريّين والنسّابين وأصحاب السِّيَر والأحداث وأسماء كتبهم)، بغضّ النظر عن اتّجاهاتهم وميولهم العقديّة والمذهبيّة، ثمّ ذكر (أبا مخنف) كأحد أعمدة هذا الفنّ4.
 

1- التستريّ، قاموس الرجال: ج7، ص477.
2- اُنظر: ابن قتيبة، المعارف: ص537.
3- اُنظر: المصدر السابق: ص624.
4- اُنظر: ابن النديم، الفهرست: ص122.
 
 
 
 
57

51

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ولم يخصِّص ابن النديم بعد ذلك باباً خاصّاً بعلماء الشيعة بمختلف تخصُّصاتهم في العلوم، لكي يكون إهمال أبي مخنف وعدم ذكره في هذا الباب قرينة على عدم تشيّعه كما زعم التستريّ، وإنّما خصَّص الفنّ الثاني من المقالة الخامسة (في أخبار متكلّمي الشيعة والإماميّة والزيديّة)، ثمَّ خصَّص الفنّ الخامس من المقالة السادسة (في أخبار فقهاء الشيعة وأسماء كتبهم)1.


ومن المعلوم أنّ أبا مخنف ليس من حملة هذين الفنّين لكي يكون إهماله مؤشّراً على عدم تشيّعه.

وهناك قرائن أُخر يمكن أن يُستفاد منها عدم إماميّة أبي مخنف صرفنا النظر عنها خوفاً من الإطالة.

وخلاصة القول في مذهب أبي مخنف ومعتقده: أنّه كان شيعيّاً بالمعنى العامّ للتشيّع، وأمّا إماميّته فلم يقم عندنا دليل قاطع عليها، ولم يصرِّح بها أحد من علمائنا المتقدِّمين.

5ـ وثاقته وعدالته
بالرغم من الخلاف الذي أشرنا إليه حول مذهب أبي مخنف ومعتقده، غير أنّ الطائفة تكاد تتّفق كلمة رجاليّيها على قبول مرويّاته الفقهيّة، فضلاً عن التاريخيّة.

ولعلَّ الأصل في ذلك هو قول شيخ الرجاليّين النجاشيّ فيه: "أبو مخنف شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يُسكن إلى ما يرويه"2.
 

1- اُنظر: ابن النديم، الفهرست: ص10.
2- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص320 ـ 321.
 
 
 
58

52

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وهذا الذي قاله النجاشيّ يوافقه عليه أغلب الرجاليّين: كالعلّامة الحلّي (ت726ه) في خلاصة الأقوال1، والتفرشيّ في نقد الرجال2، والسيّد البروجرديّ (ت1313ه) في طرائف المقال3، والمحقق السيّد الخوئيّ في معجم رجال الحديث4، والشبستريّ في كتابه (الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام)5.


فجميع هؤلاء وغيرهم قد نعتوه بما نعته به النجاشيّ في قوله: "وكان يُسكن إلى ما يرويه"، مع أنّ شيخ الطائفة قد أهمل أبا مخنف، ولم يحكم عليه بجرح ولا تعديل، غير أنّ ذلك لم يمنع أغلب الرجاليّين من متابعة رأي النجاشيّ فيه، وذلك لسببين:
السبب الأوّل: إنّ الطوسيّ وإن لم يوثِّق أبا مخنف، إلّا أنّه لم يطعن عليه أيضاً، ولم يقل: إنّه مجهول الحال، والمهمَل غير المجهول، الذي صرح علماء الرجال بجهالة حاله، فالمهمَل لا توصف روايته بضعف أو صحّة أو توثيق أو حسن، ما لم تتبيّن حاله من جهة تتبّع القرائن والمؤشّرات، وقد كان ابن داود يعمل بخبر المهمَل كما يعمل بخبر الممدوح6.

السبب الثاني: لو تنزّلنا وقلنا: بأنّ سكوت الطوسيّ يُعدّ جرحاً بأبي مخنف، فإنّنا في هذه الحالة سنقدِّم رأي النجاشيّ على رأي الشيخ أيضاً، وذلك لاتّفاقهم على تقديمه عند المعارضة، "بل الظاهر منهم تقديم قوله ولو كان ظاهراً
 

1- اُنظر: الحلّي، خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: ص234.
2- اُنظر: التفرشيّ، نقد الرجال: ج4، ص75.
3- اُنظر: البروجرديّ، طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال: ج1، ص566.
4- اُنظر: الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج15، ص142.
5- اُنظر: الشبستري، الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام: ج1، ص625.
6- قال ابن داود في رجاله: ص29: "الجزء الأوّل من الكتاب في ذكر الممدوحين ومَن لم يضعّفهم الأصحاب فيما علمته"، ويفهم منه أنّه يعمل بخبر الراوي المهمَل كما يعمل بخبر الراوي الممدوح.
 
 
 
 
59

53

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 على قول غيره من أئمّة الرجال في مقام المعارضة في الجرح والتعديل، ولو كان نصّاً"1.


قال الشهيد الثاني: "وظاهر حال النجاشيّ أنّه أضبط الجماعة، وأعرفهم بحال الرجال"2.

وقال حفيده الشيخ محمّد بن الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ـ بعد ذكر كلاميّ النجاشيّ والشيخ في سماعة ـ: "... والنجاشيّ يُقدَّم على الشيخ في هذه المقامات، كما يعلم بالممارسة"3.

وقال الميرزا محمّد الإستراباديّ في ترجمة سليمان بن صالح الجصّاص: "ولا يخفى تخالف ما بين طريقي الشيخ والنجاشيّ، ولعلّ النجاشيّ أثبت"4.

بقيت نكتة مهمّة ينبغي أن يُشار إليها: وهي أنّ عبارة: "وكان يُسكن إلى ما يرويه", تُعدّ من ألفاظ المدح من المرتبة الثانية عند الدرائيّين5، والمعروف عند الرجاليّين والدرائيّين، منّا، أنّ الراوي الممدوح تُعتبر مرويّاته من قسم الحسن إن كان إماميّاً، ومن قسم الموثَّق إن كان على غير نهج الإماميّة، وفي ضوء الخلاف المتقدِّم حول عقيدة أبي مخنف، فإنّ أحاديثه تكون إمّا من قسم الحسن لـمَن يرى إماميّته، وإمّا من قسم الموثّق لمن يرى عاميّته، وممّا يهوِّن الخطب أنّ كليهما ممّا يُحتجّ به.

هذا كلّه في رجالنا، وأمّا أهل السنّة فقد أجمع أئمّة الرجال منهم على تضعيفه وترك روايته.
 

1- النوريّ، خاتمة المستدرك: ج3، ص147.
2- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام: ج7، ص467.
3- النوريّ، خاتمة المستدرك: ج3، ص147، نقلاً عن كتاب شرح الاستبصار المخطوط لحفيد الشهيد الثاني.
4- الإستراباديّ، منهج المقال: ص174.
5- اُنظر: الصدر، حسن، نهاية الدراية: ص399.
 
 
 
60

54

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 قال يحيى بن معين: "ليس بثقة"، وقال مرّة: "ليس بشيء"، وقال أبو حاتم الرازيّ: "متروك الحديث"، وقال الدارقطنيّ: "ضعيف"1.


وقال ابن عدي بعد أن نقل رأي يحيى بن معين في أبي مخنف: "وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمّة، فإنّ لوط بن يحيى معروف بكُنيته وباسمه. حدَّث بأخبار مَن تقدَّم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم..."2.

وبهذا يتّضح السبب الذي تركوا حديث أبي مخنف من أجله، وهو ميله ومودّته لأهل البيت عليهم السلام من جانب، ونقله لمثالب ومخازي أعدائهم من جانب آخر.

ومع هذا الإعراض عن مرويّات أبي مخنف فيما يخصّ الفقه والعقيدة، غير أنّهم قد اعتمدوا عليه اعتماداً منقطع النظير في مرويّاته التاريخيّة، لا سيّما الطبريّ الذي شحن موسوعته التاريخيّة الكبرى بمرويّات أبي مخنف.

قال عنه ابن كثير: "وهو أحد أئمّة هذا الشأن"3، وقال عنه أيضاً: "وقد كان شيعيّاً، وهو ضعيف الحديث عند الأئمّة، ولكنّه أخباريّ حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنِّفين في هذا الشأن ممّن بعده"4.

6ـ وفاته
توفِّي أبو مخنف سنة (157ه) كما في تاريخ مولد العلماء ووفياتهم للربعيّ
 

1- اُنظر: ابن الجوزيّ، الضعفاء والمتروكون: ج3، ص28.
2- ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: ج7، ص241.
3- ابن كثير، البداية والنهاية: ج7، ص343.
4- المصدر السابق: ج8، ص220.
 
 
 
 
61

55

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 (ت279ه)1، ومعجم الأُدباء للحمويّ (ت626ه)2، وسير أعلام النبلاء3، وتاريخ الإسلام4 للذهبيّ(ت748ه)، والوافي بالوفيات لصلاح الدّين الصفديّ (ت764ه)5، والذريعة للطهرانيّ (ت1389ه)6، والأعلام لخير الدّين الزركليّ الدمشقيّ (ت1396ه)7، ومعجم المؤلّفين لعمر كحّالة (ت 1408ه)8، وغير ذلك من مصادر ومراجع.


ولعلّ الجميع قد نهلوا هذا القول من مصدر واحد هو تاريخ مولد العلماء ووفياتهم للربعيّ (ت 279ه)، نظراً لكونه أقدم مَن صرّح بهذا القول بحسب تتبّعنا للمصادر والمراجع التي تعرَّضت لوفاة أبي مخنف.

وفي قبال هذا القول يوجد قولان ضعيفان، وغير مشهورين:
القول الأوّل: إنّه توفّي قبل سنة (170ه)، وهو قول الذهبيّ في ميزان الاعتدال9، ويلاحظ عليه:
1ـ إنّه لم يذكر الحادثة التي بسببها استنتج كون وفاته قبل سنة (170ه)، وهذا الإشكال لا يرد على أصحاب القول الأوّل، لأنّهم قد استندوا إلى قول الربعيّ المتوفّى عام 279ه، وهو يحكم عن حسٍّ لا عن حدْس، فإنّه لا يفصله عن أبي مخنف سوى طبقة واحدة، فهو من طبقة تلاميذ تلاميذ أبي مخنف، أو قل: هو من أقران أحفاده، بخلاف الذهبيّ (ت748ه)، الذي يفصله عن أبي
 

1- الربعيّ، تاريخ مولد العلماء ووفياتهم: ج1، ص366.
2- الحمويّ، معجم الأدباء: ج5، ص2252.
3- الذهبيّ، سير أعلام النبلاء: ج13، ص342.
4- الذهبيّ، تاريخ الإسلام: ج9، ص581.
5- الصفديّ، الوافي بالوفيات: ج24، ص306.
6- اُنظر: الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج1، ص312، ص324، ص327، ص331، ص333، ص335.
7- الزركليّ، الأعلام: ج5، ص254.
8- عمر كحّالة، معجم المؤلّفين: ج8، ص157.
9- الذهبيّ، ميزان الاعتدال: ج3، ص420.
 
 
 
 
62

56

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 مخنف قرابة خمسة قرون.


2ـ إنّه مخالف لما اشتُهر من كون وفاته سنة (157ه)، بل هو مخالف لما ذهب إليه الذهبيّ نفسه في سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام كما مرّ.

القول الثاني: إنّه توفّي سنة (175ه)، ذكر ذلك إسماعيل باشا البغداديّ (ت1339ه)، ولم يُشر إلى مستنده في هذا القول، ولولا أنّه قد أكّد على ذلك ثلاث مرّات، مرّتين في إيضاح المكنون1، ومرّة واحدة في هدية العارفين2، ولولا أنّه قد ذكر ذلك (رقماً وكتابةً) في المواضع الثلاثة، لولا ذلك لقلنا: بحصول تصحيف للتشابه الكبير بين الرقم (175) والرقم (157).

البحث الثاني: كتابه (مقتل الحسين عليه السلام)
الحديث حول مقتل أبي مخنف حديث ذو شجون، والإحاطة به من جميع الجهات تحتاج إلى بحث مستقلّ ودراسة مفردة، ولذا سنحاول أن نتحدَّث بإيجاز عن عدّة أُمور أساسيّة ورئيسيّة حول هذا المقتل:
الأمر الأوّل: إنّه لا ريب ولا شبهة في أنّ أبا مخنف قد كتب كتاباً حول واقعة الطفّ أسماه مقتل أو قتل الحسين عليه السلام.

فقد ذكره ابن النديم (ت 438ه) في قائمة كتبه، وذكر أنّ اسمه مقتل الحسين عليه السلام3، ولعلّ ابن النديم هو أقدم مَن نصّ على وجود كتاب لأبي مخنف في مقتل الحسين عليه السلام.

وذكره النجاشيّ (ت 450ه) كذلك في قائمة مصنّفاته، وذكر أنّ اسمه قتل الحسين عليه السلام، ثمَّ ذكر طريقه إلى هذا الكتاب وسائر كتب أبي مخنف،
 

1- البغداديّ، إسماعيل، إيضاح المكنون: ج2، ص178 ـ289.
2- البغداديّ، إسماعيل، هدية العارفين: ص841.
3- اُنظر: ابن النديم، الفهرست: ص122.
 
 
 
 
63

57

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 فقال: "أخبرنا أحمد بن عليّ بن نوح، قال: حدَّثنا عبد الجبّار بن شيران الساكن بنهر جطا (خطى)، قال: حدَّثنا محمّد بن زكريا بن دينار الغلابي، قال: حدَّثنا عبد الله بن الضحّاك المراديّ، قال: حدَّثنا هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، عن أبي مخنف"1.


وقد ذكره الطوسيّ (ت460ه) أيضاً في الفهرست، وذكر أنّ اسمه مقتل الحسين عليه السلام، ثمَّ ذكر طريقه إلى مصنّفات أبي مخنف بما فيها كتاب المقتل، فقال: "أخبرنا بها أحمد بن عبدون، والحسين بن عبيد الله جميعاً، عن أبي بكر الدوريّ، عن القاضي أبي بكر أحمد بن كامل، عن محمّد بن موسى بن حمّاد، عن ابن أبي السري محمّد، قال أخبرنا هشام بن محمّد الكلبيّ، عنه..."2.

ثمَّ جاء بعدهما ابن شهر آشوب (ت 588ه) فأكَّد لنا وجود هذا الكتاب في قائمة كتب أبي مخنف، فقال. بعد التعريف بأبي مخنف،: "له كُتُب كثيرة في السير، كمقتل الحسين عليه السلام"3.

وممّن ذكره أيضاً الحمويّ (ت 626ه) في معجم الأدباء، وهو يذكر ذلك عن محمّد بن إسحاق4.

فهذه أهمّ النصوص الأصيلة الموجودة في هذا المجال، وقد اخترناها من أشهر المصادر في عالم الفهارس ومعاجم المؤلّفات، وجميعها صرّحت بوجود كتاب لأبي مخنف في مقتل الحسين عليه السلام، وهناك نصوص أُخرى صرّحت بوجود هذا الكتاب في قائمة أبي مخنف، ولكنّها بأجمعها تنهل من المصادر التي ذكرناها.
 

1- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص320.
2- الطوسيّ، الفهرست: ص129.
3- ابن شهر آشوب، معالم العلماء: ص129.
4- اُنظر: الحمويّ، معجم الأُدباء: ج5، ص2253.
 
 
 
 
64

58

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الأمر الثاني: ذهب بعض الباحثين إلى القول: بأنّ مقتل أبي مخنف هو أقدم المقاتل الحسينيّة وأسبقها.


قال محمّد مهدي شمس الدّين: "فكُتُب المقتل تصلح أن تكون موضوعاً لدراسة علميّة واسعة وعميقة تشتمل على تاريخ نشوء هذا النوع من كتابة التاريخ وتطوّره، ومنهجه ومحتوياته، ونوعيّات المؤلّفين، والأُسلوب الذي كتب به، وتطوّر هذا الأُسلوب خلال العصور، وعلاقة هذا الأُسلوب بلغة الكتابة في المجالات الأُخرى، واللغات التي كتبت بها (العربيّة، والفارسيّة، والتركيّة، والأردو، وغيرها) والمحتوى الشعريّ لهذه الكتب التي بدأت، فيما نحسب، بأبي مخنف ولم تنته بعد..."1.

وقال اليوسفيّ الغرويّ: "وكذلك بقيت هذه الحادثة الأليمة في سنة ٦١ﻫ، أحاديث شجون تتناقلها الألسن نقلاً عن الذين كانوا قد شهدوا المعركة، أو الحوادث السّابقة عليها أو التالية لها، كسائر أحاديث المغازي والحروب في الإسلام... حتّى انبرى لها في أوائل المئة الثانية للهجرة أبو مِخْنف، لوط بن يحيى بن سعيد بن مِخْنف بن سليم الأزديّ الغامديّ الكوفيّ (ت ١٥٨ﻫ)، فجمعها من أفواه الرواة وأودعها كتاباً أسماه: (كتاب مقتل الحسين عليه السلام) كما في قائمة كُتبه. فكان أوّل كتاب في تاريخ هذه الحادثة العظمى على الإطلاق"2.

ونحن لا نوافق على ما ذهب إليه هذان المحقّقان وغيرهما، فقد أثبتنا، في بحوثنا السابقة، أنّ أوّل مَن كتب في المقتل الحسينيّ هو الأصبغ بن نباتة، ثمَّ جاء بعده جابر بن يزيد الجعفيّ، ثمَّ جاء بعدهما عمّار الدهنيّ، فلا يكون أبو
 

1- شمس الدّين، محمّد مهدي، أنصار الحسين عليه السلام: ص33.
2- أبو مخنف، وقعة الطفّ: ص16ـ ص17. تحقيق: محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ.
 
 
 
 
65

59

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 مخنف هو أوّل مَن كتب في المقتل الحسينيّ، وإن جرى ذكر ذلك على بعض الألسن.


الأمر الثالث: إنّ مقتل أبي مخنف مفقود، ولم يصل إلينا منه إلّا ما انتقل إلينا عِبر مطاوي الكتب، وفي ضوئه، فإنّ المقتل المتداول بين النّاس والمنسوب لأبي مخنف، ليس له بإجماع المحقّقين.

يقول السيّد عبد الحسين شرف الدّين: "ولا يخفى أنّ الكتاب المتداول في مقتله عليه السلام، المنسوب إلى أبي مِخْنف قد اشتمل على كثير من الأحاديث التي لا علم لأبي مِخْنَف به، وإنّما هي مكذوبة على الرجل، وقد كثرت عليه الكذّابة وهذا شاهد على جلالته"1.

ويقول الشيخ عبّاس القمّي: "وليعلم أنّ لأبي مِخْنف كُتُباً كثيرةً في التاريخ والسير، منها كتاب: مقتل الحسين عليه السلام الذي نقل عنه أعاظم العلماء المتقدِّمين واعتمدوا عليه... ولكن للأسف أنّه فُقد ولا يوجد منه نسخة، وأمّا المقتل الذي بأيدينا ويُنسب إليه، فليس له، بل ولا لأحد من المؤرِّخين المعتمدين، ومَن أراد تصديق ذلك، فليقابل ما في هذا المقتل وما نقله الطبريّ وغيره عنه حتّى يعلم ذلك، وقد بيّنت ذلك في نفس المهموم، في طرمّاح بن عدي، والله العالم"2.

ويقول اليوسفيّ الغرويّ: "تتداول الأيدي والمطابع في هذه العهود المتأخّرة كتاباً في مقتل الحسين"، نُسب إلى أبي مخنف، ومن المعلوم الواضح أنّه ليس لأبي مخنف، وإنّما هو من جمعِ جامعٍ غير أبي مخنف، ولا يُدرى بالضبط متى؟ وأين؟ وممّن وجد هذا الكتاب؟ ومتى طبع لأوّل مرّة؟"3.
 

1- شرف الدّين، عبد الحسين، مؤلّفو الشيعة في صدر الإسلام: ص42.
2- القمّي، الكنى والألقاب: ج1، ص55.
3- أبو مخنف، وقعة الطفّ: ص32. تحقيق: محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ.
 
 
 
 
66

60

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 أقول: ولكن صاحب الذريعة قد صرّح بأنّ الطبعة الأُولى لهذا المقتل كانت على الحجر في بمبئي منضمّاً إلى المجلّد العاشر من (البحار) في سنة ١٢٨٧ﻫ1.


ثمَّ أُعيدت طباعته على الحجر مرّتين: الأُولى في بمبئي عام ١٣٢٦ﻫ، منضمّاً إلى مثير الأحزان واللهوف، كما نصّ على ذلك التبريزيّ في مرآة الكتب2، والأُخرى في النجف الأشرف عام ١٣٥٣ﻫ، كما صرّح بذلك الأمينيّ في معجم المطبوعات النجفيّة3.

وللمقتل المتداول علامتان أساسيّتان يمكن معرفته من خلالهما:
العلامة الأُولى: من خلال العنوان، حيث إنّ هذه النسخة عادةً ما تُطبع بعنوان (مقتل الحسين عليه السلام ومصرع أهل بيته وأصحابه في كربلاء).

العلامة الأُخرى: من خلال الكلمات الأُولى فيه، حيث يبدأ بهذه الكلمات: "قال أبو مخنف: حدَّثنا أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ...".

وهذه الكلمات هي أوّل مؤاخذة على هذا المقتل، فإنّ أبا مخنف هو شيخ هشام بن محمّد وأُستاذه، فكيف يصحّ أن يحدِّث الأستاذ عن التلميذ؟!

الأمر الرابع: أشرنا في الأمر السابق إلى أنّ الباحثين المحقّقين قد أجمعوا على ضياع مقتل أبي مخنف، وأنّه لم يصلنا منه إلّا ما نقله المؤرِّخون عن هذا المقتل، والمعروف بين المحقّقين أنّ أقدم نصٍّ نقل مرويّات هذا المقتل هو كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبريّ (ت٣١٠ﻫ).
 

1- اُنظر: الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج22، ص27.
2- اُنظر: التبريزيّ، مرآة الكتب: ج1، ص434.
3- اُنظر: الأمينيّ، معجم المطبوعات النجفيّة: ص131.
 
 
 
 
67

61

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 يقول اليوسفيّ الغرويّ: "وأقدم نصّ معروف لدينا ممّن نقل أحاديث هشام الكلبيّ في كتابه عن أبي مِخْنَف هو: تاريخ أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ (٣١٠ﻫ)، وهو لمْ يُفرِد لها تأليفاً خاصّاً، وإنّما ذكر الوقعة في أثناء تاريخه لحوادث سنة (٦٠ ـ ٦١ﻫ)"1.


ويقول حسن غفّاري: "... أردت أن أجمع الأخبار الواردة في مقتل مولانا الشهيد أبي عبد الله الحسين، روحي له الفداء- بحيث كان كلّ مَن نظر فيه وتأمّل في مضامينه أغناه عن الرجوع إلى سائر المقاتل. وبينا أنا كنت مشغولاً بذلك بان لي أنّ من جملة المقاتل التي استندوا إليها ونقلوا عنها مقتل أبي مخنف المشهور بين الخواصّ والعوامّ، ونقل مهرة الفنّ عنه في زبرهم القديمة، كمحمّد بن جرير الطبريّ في كتابه تاريخ الأُمم والملوك..."2.

ويتكوّن مقتل أبي مخنف المستخرَج من تاريخ الطبريّ - بحسب ما حقّقه اليوسفيّ الغرويّ - من ٦٥ حديثاً مسنداً3، رواها أبو مخنف بالمباشرة وبالوساطة عن ٣٩ راوياً، وقد وضع اليوسفيّ الغرويّ ستّ قوائم تفصيليّة بأسماء الرواة الوسائط بين أبي مخنف والأحداث، ووضع أمام اسم كلّ راوٍ منهم الحديث الذي رواه، فكانت هذه القوائم هي في حدّ ذاتها فهرستاً لأحاديث الكتاب أيضاً4. وتتوّزع هذه الأحاديث المتناثرة في الطبريّ على حوادث المعركة وما قبلها وما بعدها، بشكل يغطّي أكثر التفاصيل، ويجيب عن أغلب التساؤلات التي تشغل الباحث، ومن هنا أمكن إعادة تنسيقها وتشكيلها
 

1- أبو مخنف، وقعة الطفّ: ص18، تحقيق: محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ.
2- أبو مخنف، مقتل الحسين عليه السلام: ص386، تحقيق: حسن الغفّاريّ.
3- مرّ علينا عند الحديث عن مصنّفات أبي مخنف أنّ مرويَّاته حول كربلاء تبلغ (118)، وهذا الرقم بملاحظة تقطيع بعض الروايات، وعدِّ كلّ مقطعٍ روايةً، فالمسألة نسبيّة.
4- اُنظر: أبو مخنف، وقعة الطفّ: ص40, 81. تحقيق: محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ.
 
 
 
68

62

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 بحسب التسلسل الزمنيّ للأحداث والخروج بمقتل متكامل أو شبه متكامل.


ولذا، قام المحقّقان الميرزا حسن الغفّاري والشيخ اليوسفيّ الغرويّ بالتصدّي لإحياء مقتل أبي مخنف من خلال العمل على استخراج روايات أبي مخنف من تاريخ الطبريّ، ثمَّ تنسيقها بحسب تسلسل الأحداث ووضعها في كتاب مفرد يكون بديلاً من الطبعة المتداولة بين النّاس.

فكتب الأوّل مقتل الحسين عليه السلام، وكتب الثاني وقعة الطفّ، وكلاهما مستخرَجان من تاريخ الطبريّ.

طريق الطبريّ إلى مقتل أبي مخنف:
طريق الطبريّ إلى مقتل أبي مخنف هو أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، الكوفيّ (ت ٢٠٦ﻫ).

ولا ريب في أنّ الطبريّ لم يتّصل بهشام بن محمّد، فقد توفّي الأخير قبل ولادة الطبريّ بحوالي ١٨ عاماً، ومع ذلك نجد أنّ الطبريّ - في أحداث سنتي ٦٠، ٦١ ﻫ - يسند مرويّاته إلى هشام من دون أن يذكر الوساطة بينهما، ويمكن أن نتصوّر في هذا الخصوص ثلاث فرضيَّات:
الفرضيّة الأُولى: أن نقول بانقطاع السند بين الطبريّ وهشام الكلبيّ، وبالتالي سنحكم على مجموع روايات الطبريّ عن أبي مخنف بالإرسال، فتكون ضعيفة بحسب المقاييس الفقهيّة، لأنّنا نجهل الوساطة بينهما.
ولو أردنا أن نتكلّم بلغة مبسَّطة وواضحة للجميع نقول: بما أنّنا نجهل الوساطة التي نقلت مقتل أبي مخنف من هشام إلى الطبريّ، فلا يمكننا الجزم بنسبة هذا المقتل إلى أبي مخنف، فلا تكون قيمته التاريخيّة أفضل من المقتل المتداول.

الفرضيّة الثانية: ما ذكره اليوسفيّ الغرويّ ومفاده: أنّ الطبريّ كان يمتلك
 
 
 
 
 
 
69

63

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 نسخة من مقتل أبي مخنف، فكان ينقل من الكتاب بشكل مباشر، وكان يعزّز ذلك بمرويَّات من هذا المقتل، وردت إليه عن طريق تلميذه هشام، ولا يعيِّن لنا مَن حدَّثه عن هشام1.


وفي ضوء هذه الفرضيّة، يكون دور هشام بن محمّد دوراً هامشيّاً، والمصدر الأساسيّ الذي اعتمده الطبريّ هو كتاب مقتل أبي مخنف نفسه.

وممّا يعزّز هذه الفرضيّة، أنّ الطبريّ كثيراً ما يتجاوز هشام ويحدِّث عن أبي مخنف بالمباشرة، فيقول - مثلاً -: "وقال: أبو مخنف".

الفرضيّة الثالثة: وهو ما توصَّلنا إليه في المقام، فنحن نرى أنّ طريق الطبريّ إلى هشام بن محمّد معروف، فإنّ الطبريّ يروي عن الحارث بن محمّد (ت ٢٨٢ﻫ)2، عن محمّد بن سعد صاحب الطبقات (ت ٢٣٠ﻫ)، عن هشام بن محمّد، عن أبي مخنف.

وليس للطبري طريق إلى هشام غير ما ذكرنا، وقد صرَّح الطبريّ بذلك في ستّة موارد في الجزء الأوّل من تاريخه3، وبعد أن صار طريقه معروفاً إلى هشام بن محمّد، بدأ يسند إلى هشام بن محمّد بقوله - مثلاً -: "حُدِّثتُ". بصيغة المبني للمجهول، وهذه الطريقة في الاختصار تُسمَّى في علم الرجال
 

1- اُنظر: أبو مخنف، وقعة الطفّ: ص18ـ ص19، تحقيق: محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ.
2- الحارث بن محمّد ابن أبي أسامة داهر التميميّ: من حفّاظ الحديث، له (مسند) لم يرتّبه، ولِد سنة 186ه وتوفّي سنة 282 ه، سمع يزيد بن هارون وعبد الوهاب الخفّاف والواقديّ ومحمّد بن سعد وغيرهم، وروى عنه أبو جعفر الطبريّ، وأبو بكر بن خلاد، وأبو بكر الشافعيّ وخلق كثير. وثّقه أكثر أهل الحديث، ومنهم الدارقطنيّ، وهو راوي كتاب الطبقات عن أُستاذه محمّد بن سعد. اُنظر ترجمته في: ابن حبّان، ثقات ابن حبّان: ج8، ص183. الذهبيّ، المغني في الضعفاء: ج1، ص143. البغداديّ، تاريخ بغداد: ج9، ص114. الذهبيّ، تذكرة الحفّاظ: ج2، ص145. الذهبيّ، ميزان الاعتدال: ج1، ص442. السيوطيّ، طبقات الحفّاظ: ج1، ص276. الصفديّ، الوافي بالوفيات: ج11، ص200. الزركليّ، الأعلام: ج2، ص157. عمر كحّالة، معجم المؤلّفين: ج3، ص176. وغير ذلك من المصادر والمراجع.
3- اُنظر: تاريخ الطبريّ: ج1، ص120، ص127، ص152، ص160، ص206، ص209.
 
 
 
 
70

64

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 بـ (التعليق)، وهي طريقة معروفة بينهم، لا سيَّما بين المتقدِّمين.


قال صاحب المعالم في منتقى الجمان: "اعلم أنّه اتّفق لبعض الأصحاب توهُّم الانقطاع في جملة من أسانيد الكافي، لغفلتهم عن ملاحظة بنائه لكثير منها على طرق سابقة، وهي طريقة معروفة بين القدماء، والعجب أنّ الشيخ رحمه الله ربما غفل عن مراعاتها، فأورد الإسناد من الكافي بصورته ووصله بطرقه عن الكلينيّ من غير ذكر للوساطة المتروكة، فيصير الإسناد في رواية الشيخ له منقطعاً، ولكن مراجعة الكافي تفيد وصله. ومنشأ التوهّم الذي أشرنا إليه فَقْدُ الممارسة المطّلعة على التزام تلك الطريقة..."1.

يقول جعفر السبحانيّ، حول طريقة الكلينيّ في الإسناد -: "... قد يحذف الكلينيّ صدر السند في خبرٍ مبتنياً على الخبر الذي قبله، وهذا ما يُعبَّر عنه في كلام أهل الدراية بالتعليق، فمثلاً يقول في الخبر الأوّل من الباب: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس.. وفي الخبر الثاني منه: ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطيّة، عن عمر بن يزيد. أو يقول في الخبر الأوّل من الباب: عليّ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله صاحب السابريّ.. وفي الخبر الثاني منه: ابن أبي عمير، عن ابن رئاب، عن إسماعيل بن الفضل. وفي الخبر الثالث منه: ابن أبي عمير، عن حفص بن البختريّ، عن أبي عبد الله عليه السلام..."2.

وعلى هذا الأساس، أيضاً، نفسِّر إسناد الطبريّ إلى أبي مخنف مباشرة، فإنّه لم يسند إليه إلّا بعد أن صار واضحاً أنّه يروي عنه بوساطة هشام.

وفي ضوء هذه الفرضيّة تتهاوى الفرضيّتان السابقتان، وإن كنّا في الوقت
 

1- حسن (صاحب المعالم)، منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان: ج1، ص24, 25.
2- السبحانيّ، كليّات في علم الرجال: ص450.
 
 
 
 
71

65

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 نفسه لا نمانع من وصول كتاب مقتل أبي مخنف إلى الطبريّ، من خلال هذا الطريق عينه.


الأمر الخامس: أشرنا، فيما مضى، إلى أنّ أقدم نصٍّ تاريخي يحتوي على نقولات من مقتل أبي مخنف هو تاريخ الطبريّ، وهذا لا يعني أنّه النصّ الوحيد، فهناك العديد من النصوص التي اشتملت على مرويّات من هذا المقتل، وهذه النصوص على أنواع:
النوع الأوّل: ما لم يكن طريقه إلى مقتل أبي مخنف يمرّ بالطبريّ، كالبلاذريّ (ت٢٧٩ﻫ) في أنساب الأشراف، وابن أعثم الكوفي (ت نحو٣١٤ﻫ) في الفتوح، والمسعوديّ (ت٣٤٥ﻫ) في مروج الذهب، وأبي الفرج الأصفهانيّ (ت٣٥٦ﻫ) في مقاتل الطالبيّين، وغيرهم ممّن نقل عن أبي مخنف عن غير طريق الطبريّ.

ويمكن عدّ المفيد (ت٤١٣ﻫ) في الإرشاد، وسبط ابن الجوزيّ (ت٦٥٤ﻫ) في التذكرة منهم، فإنّهما لا ينقلان عن مقتل أبي مخنف عن طريق الطبريّ على ما يبدو. ففي هذه الكتب وأمثالها يجد الباحث شذرات مبثوثة من هذا المقتل يمكن اقتصاصها وإضافتها إلى مقتل أبي مخنف المستخرَج من الطبريّ.

النوع الثاني: ما كان معتمداً على نسخة الطبريّ من المؤرّخين المتأخّرين عنه، كابن الأثير(ت٦٣٠ﻫ) في الكامل في التاريخ، والذهبيّ (ت٧٤٨ﻫ) في تاريخ الإسلام، وابن كثير(ت٧٧٤ﻫ) في البداية والنهاية، وابن شهر آشوب (ت٥٨٨ﻫ) في مناقب آل أبي طالب، فإنّ لكلّ واحد من هؤلاء طريقه الخاصّ إلى تاريخ الطبريّ، وبعض هذه النسخ غير مطابقة لنسخة الطبريّ المتداولة في بعض الموارد.

وبالتالي، فإنّ المتتبّع لا يعدم، من خلال المقارنة، من التقاط بعض العبارات
 
 
 
 
 
72

66

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الحسينيّة على الإطلاق. وقد جاءت هذه الأهمّية والشهرة ممَّا تضمّنه هذا المقتل من تفاصيل تكاد تكون مفقودة في غيره، وممّا سلكه من طريق علميّ في جمع أخباره وتدوينها، وهو طريق الإسناد المعمول به بين المحدّثين.


٦- مقتل أبي مخنف مفقود في هذا العصر، ولم يتبقَّ منه سوى ما نقله المؤرِّخون المتأخرّون عنه، وفي مقدّمتهم الطبريّ في تاريخه الكبير، وأمّا النسخة المتداولة فهي منحولة عليه بإجماع المحقّقين.

٧- تمكنّا من العثور على الوساطة المفقودة بين الطبريّ وهشام بن محمّد الكلبيّ راوي مقتل أبي مخنف، وبذلك سددنا الطريق على مَن أراد أن يطعن بمرويَّات هذا المقتل بكونها مراسيل، ولا أتصوّر أنّ أحداً من الباحثين والمحقّقين قد سبقنا إلى هذه النتيجة المهمّة.

٨- أثبتنا أنّ تاريخ الطبريّ ليس هو النصّ الوحيد المتضمِّن لمرويَّات أبي مخنف، وهذه النصوص بعضها لا يمرّ بالطبريّ، وينهل من أبي مخنف مباشرة، وبعضها ينهل من الطبريّ، ولكنّها تحتوي على زيادات غير موجودة في المطبوعة المتداولة، وبعضها عبارة عن نسخ من هذا المقتل لا تتطابق مع نسخة الطبريّ، والنسخة المتداولة، وبهذا نكون قد أعنَّا الباحثين والمحقّقين المختصّين في هذا الشأن على التوصّل إلى إمكانيّة كتابة مقتل أبي مخنف بصورة أوسع من الصورة المستخرَجة من تاريخ الطبريّ.

٢- مقتل الأصبغ بن نباتة التميميّ الكوفيّ أقدم المقاتل الحسينيّة
تقديم
أُصيبت حركة تدوين الحديث والتاريخ، عند عامّة المسلمين، بحالة من الركود والكساد، استمرّت مُدّة تربو على قرن من الزمان بعد رحيل الرسول
 
 
 
 
 
72

67

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الساقطة من تاريخ الطبريّ، وهي وإن كانت نادرة جدّاً،إلّا أنّنا بحاجة إليها أيضاً، فلعلَّ فيها سدّاً لثغرة مهمّة في التاريخ الكربلائيّ.


النوع الثالث: نسخ من مقتل أبي مخنف لا تتطابق مع نسخة الطبريّ، ولا مع الطبعة المتداولة، وأبرز نماذج ذلك نسختان:
١ـ نسخة القندوزيّ (ت١٢٩٤ﻫ) في ينابيع المودّة: 
فقد خصَّص الباب الحادي والستّين من الجزء الثالث من كتابه لما أورده أبو مخنف، وعند المقارنة يتّضح للباحث عدم تطابق هذه النسخة مع النسخة الشائعة المتداولة ولا نسخة الطبريّ، كما اتّضح لنا عند التحقيق أنّ هذه النسخة لا يمكن أن تكون ملفّقة من النسختين لانفرادها بالعديد من الموارد، مع أنّه يقول في صدر الباب: "الباب الحادي والستّون في إيراد ما في الكتاب المسمَّى بـ(مقتل أبي مخنف)، الذي ذكر فيه شهادة الحسين وأصحابه مفصّلاً..."1.

وهذا النصّ صريح بأنّه ينقل عن كتابٍ كان لديه اسمه (مقتل أبي مخنف)، فتكون هذه نسخة ثالثة من مقتل أبي مخنف ينبغي للباحثين والمحقّقين أن يلتفتوا إليها.

٢ـ نسخة إعجاز حسين النيسابوريّ الكنتوريّ (ت١٢٨٦ﻫ): 
قال في كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب والأسفار: "مقتل الحسين عليه السلام للوط بن يحيى بن سعيد بن مِخْنَف (بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح النون) بن سالم الأزديّ الغامديّ أوّله: قال أبو منذر هشام بن السائب الكلبيّ: أخبرنا أبو عبد الله بن الجاسر، قال أخبرنا أبو مخنف لوط بن يحيى الأزديّ إلخ"2.
 

1- القندوزيّ، ينابيع المودّة: ج3، ص53.
2- النيسابوريّ الكنتوريّ، كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب والأسفار: ص545.
 
 
 
 
73

68

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ولا ريب في أنّ هذا المقتل الذي يتحدَّث عنه صاحب (كشف الحجب) غير المقتل المشهور، لأنّ أوّله، كما مرَّ علينا، هكذا: "قال أبو مخنف: حدَّثنا أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ...".


وممّا لا بدّ أن يُشار إليه: هو أنّ صاحب (كشف الحجب) من العلماء المحقّقين والمنقِّبين في الآثار، حيث يقول عنه شهاب الدّين الحسينيّ المرعشيّ النجفيّ: "واعلم أنّه سافر إلى العراق، وزار المشاهد المشرَّفة، واجتمع بعلمائها فأفاد واستفاد، وكثرت مجالسته مع العلّامة الحاجّ الميرزا حسين النوريّ شيخ مشايخنا في الرواية، وجمع هناك عدّة كُتب، ومن نفائس المخطوطات، فجاء بها إلى خزانة كُتب أخيه صاحب العبقات"1.

ولا يخفى أنّ عصر صاحب (كشف الحجب) هو عصر اكتشاف الأُصول المندثرة، وقد اكتُشفت في هذه الفترة العديد من الكتب التراثيّة المفقودة2، ولذا لا نستبعد أن تكون نسخة صاحب (كشف الحجب) من بين تلك الأُصول المكتَشفة في تلك الفترة، ولكنّنا، مع شديد الأسف، لا نعلم شيئاً عن مصير تلك النسخة.

إنّ هاتين النسختين، نسخة ينابيع المودّة ونسخة كشف الحجب والأستار، هما أبرز نماذج نسخ مقتل أبي مخنف، التي لا تطابق نسخة الطبريّ، ولا النسخة المتداولة، ويظهر من خلال التأمّل في منقولات صاحب أسرار الشهادة عن مقتل أبي مخنف، ومقارنتها بالمقتل المتداول، ونسخة الطبريّ، وجود نسخ متعددة لمقتل أبي مخنف، ويبدو أنّ الدربنديّ كان ملتفتاً إلى ذلك، حيث يقول في بعض تلك الموارد: "وفي نسخة من نسخ كتاب أبي مخنف هكذا..."3.
 

1- النيسابوريّ الكنتوريّ، كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب والأسفار،(مقدمة الكتاب): ص3.
2- اُنظر: حبّ الله، حيدر، نظرية السنّة في الفكر الإماميّ: ص276.
3- الدربنديّ، أسرار الشهادة: ج3، ص465.
 
 
 
 
74

69

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 فهذه العبارة تدلّ بوضوح على تعدّد نسخ مقتل أبي مخنف، وأنّ صاحب أسرار الشهادة كان ملتفتاً إلى هذا التعدّد.


وفي ضوء هذه الحقائق التي ذكرناها، فإنّنا نرى أنّه يمكن، مع مضاعفة الجهود، أن يُكتب مقتل أبي مخنف بحجم أكبر من المقتل المستخرَج من تاريخ الطبريّ.

خاتمة بأهمّ نتائج البحث
في ختام بحثنا،حول أبي مخنف ومقتله، نرى أنّه من تمام البحث أن نقوم بتلخيص أهمّ النتائج التي خرجنا بها:
١- إنّ أبا مخنف لوط بن يحيى الكوفيّ الأزديّ هو من أعلام القرنين الأوّل والثاني الهجريّين.

٢- كان أبو مخنف من كبار الأخباريّين والمؤرِّخين في عصره، وقد اختصّ بتاريخ العراق والتشيّع في الفترة التي تلت رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أواخر العصر الأُمويّ، وقد عُدَّ أعلم المؤرِّخين بتاريخ العراق والتشيّع فيما يخصّ هذه الفترة.

٣- كان أبو مخنف شديد الولاء والمحبّة لأهل البيت عليهم السلام، متجاهراً في نقل مخازي أعدائهم إلى الحدّ الذي أوهم بعض الباحثين بكونه إماميّاً، مع أنّه لم يكن على مذهب أهل البيت عليهم السلام، ولكنّه لم يكن متعصّباً.

٤- تكاد تتّفق كلمة الرجاليّين منّا على توثيق أبي مخنف، وقبول مرويّاته، وفي المقابل تكاد تتّفق كلمة مخالفينا على ترك أبي مخنف وتضعيفه، ومع ذلك فقد أجمع المؤرِّخون من الفريقين على عدم الاستغناء عنه فيما يخصّ مرويّاته التاريخيّة.

٥- يُعتبر أبو مخنف من أهمّ مؤرِّخي واقعة الطفّ، ويُعتبر مقتله أشهر المقاتل
 
 
 
 
 
75

70

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، خلقتها حملة ممنهجة تقودها السلطات الحاكمة، لأسباب ودواع نضرب عن ذكرها صفحاً، ما هيّأ الأرضيّة لنموِّ ثقافة العزوف عن الكتابة والتدوين، بل كراهية ذلك بين علماء المسلمين الأوائل. رُوي عن الزهريّ المتوفّى سنة ١٢٤هـ أنّه قال: "كنّا نكره كتابة العلم حتّى أكرهنا عليه السلطان، فكرهنا أن نمنعه أحداً"1. وحتّى بعد رفع الحظر عن الكتابة بقرار حكوميّ أيضاً لم تأخذ مداها الأرحب، لتجذُّر ظاهرة المنع في الذهنيّة الإسلاميّة العامّة، قال الخطيب البغداديّ المتوفّى ٤٦٣هـ: "ولم يكن العلم مدوّناً أصنافاً، ولا مؤلّفاً كتباً وأبواباً في زمن المتقدّمين من الصحابة والتابعين، وإنما فُعل ذلك من بعدهم"2.


ولكن نجد هذه الصورة مختلفة تماماً عند أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، المستنيرين بهدي رسول الله وأهل بيته الذين كانوا يحثّون على كتابة العلم وضبطه، خوفاً عليه من الدروس والضياع3، فعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله: "قيّد العلم". قلت: ما تقييده؟ قال: "الكتاب"4، وعن أبي عبد الله عليه السلام: "اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا"5، فكثرت الكتب والمصنّفات التي ألّفها أتباع أهل البيت عليهم السلام وفي مختلف العلوم، كالحديث والتفسير والتاريخ وغيرها، ولذا من غير الممكن أن تغيب حادثة في حجم واقعة كربلاء عن ساحة اهتماماتهم، فسارعوا إلى ضبط أحداثها وتفاصيلها، وعُرفت
 

1- الدارميّ، عبد الله بن الرحمن، سنن الدارميّ: ج1، ص110.
2- الخطيب البغداديّ، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: ج2، ص280.
3- نعم، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه نهى عن الكتابة، وهي روايات إمّا مقيّدة بزمن معيّن، أو مورد خاصّ، وإمّا أنّها موضوعة ، لوجود روايات كثيرة عنهصلى الله عليه وآله وسلموعن أهل بيته تأمر بالكتابة، ولانتشار كتابة الحديث وسائر العلوم عند كثير من المسلمين كشيعة أهل البيت عليهم السلام.
4- الطبرانيّ، المعجم الأوسط: ج1، ص259.
 
 
 
 
77

71

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الكتب المؤلَّفة في هذا المجال بالمقاتل، كونها تؤرّخ لمقتل الحسين عليه السلام. وأوّل مَن ألّف في مقتل الإمام الحسين عليه السلام هو الأصبغ بن نباتة التميميّ، من أعلام القرن الأوّل الهجريّ، فلذا يعدّ مقتله أقدم عمل تدوينيّ قام به مؤرّخ حول مقتل الحسين عليه السلام وأحداث ووقائع كربلاء. إلّا أنّه من المؤسف حقّاً أن نقول: إنّ هذا المقتل قد فُقِدَ واندثر بشكل كامل، ولم يبقَ منه عين ولا أثر.


والأغرب من ذلك كلّه أنّك لا تجد مَن ينقل عن هذا المقتل، بالرغم من بقائه في متناول العلماء مدّة تزيد على ثلاثة قرون، كما سنُبيّن من خلال البحث.

والصفحات القليلة التالية هي نتاج ليالٍ وأيّام من البحث المستمرّ، كنت خلالها أحفر في بطون كتب التاريخ وأنقّب فيما وصلنا من نصوص حول الأصبغ ومقتله، بغية الوصول إلى بصيص أمل في هذا المجال.

وقد أرغمتنا نَدرة الوثائق التاريخيّة، المتوفّرة في هذا الجانب، على التوسُّع قليلاً في التحليل والاستنتاج، لترميم وترقيع الكثير من الجوانب المرتبطة بترجمة الأصبغ ومقتله المفقود، لنخرج بصورة مقبولة ومقروءة.

والبحث عن هذا المقتل المفقود يُراد منه، من وجهة نظرنا، تحقيق أربعة أهداف على الأقلّ:
الهدف الأوّل: هو الهدف النظريّ البحت، فالتعرّف على صاحب أوّل عمل تدوينيّ حول واقعة كربلاء، هو مطلب علميّ يستحقُّ البحث والدراسة، بغضّ النظر عمّا سيترتَّب على هذا المطلب من آثار ميدانيّة وعمليّة. وقد دأب أصحاب التراجم والرجال على ذكر كلّ ما يتعلّق بالمترجَم له من مؤلَّفات وغيرها، ممّا له دور في إبراز شخصيّة صاحب الترجمة علميّاً، وإن لم يكن ذلك الكتاب قد وصل إليهم.
 
 
 
 
 
78

72

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الهدف الثاني: هو تقديم الشكر والعرفان لهذا المؤرّخ المسلم الإماميّ، لما بذله من جهد، وقدّم ما عليه في رصد وملاحقة وجمع وتدوين روايات كربلاء ووقائعها، ولكنّ الأقدار قد حالت بينه وبين وصول مقتله إلينا. وهل من الإنصاف أن نتنكّر لريادة هذا الرجل وأسبقيّته في هذا الميدان، بحجّة أن لا فائدة عمليّة مرجوّة من هذا العمل؟!


الهدف الثالث: إنّنا إذا أثبتنا أنّ هذا المدوّن في المقاتل هو أوّل مدوّن في تاريخ الإسلام، كما سيتّضح، فستتعزّز المقالة المعروفة بأنّ الشيعة لهم مساهمة كبرى في تأسيس العلوم الإسلاميّة.

الهدف الرابع: هو أنّنا نستطيع أن ندّعي أنّ لهذا البحث أثراً عمليّاً، فإنّنا نحتمل أنَّ روايات مقتل الأصبغ لم تُهمل، بل تسلّلت إلى المدوّنات التاريخيّة من دون الإشارة إلى أن مصدرها هو مقتل الأصبغ، خصوصاً وأنّه قد بقي موجوداً في الأوساط لعدّة قرون. وإنّا وإن كنّا لا نستطيع تحديد تلك المدوّنات ومواضع نقلها من هذا المقتل، إلّا أنّ ديدن العلماء في التأليف هو الاستفادة من مؤلَّفات السابقين، ولا أقلّ من أنّ الأصبغ بتأليفه للمقتل قد ألهمَ الآخرين تأليف المقاتل.

وعلى كلّ حال، ينبغي لنا الآن أن نترجم للأصبغ، ثمّ نحاول أن نُسلّط الضوء على مقتله، فنقسِمَ البحث إلى قسمين:
الأوّل: في ترجمته.
والثاني: في مقتله.
 
 
 
 
 
79

73

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 القسم الأوّل: ترجمة الأصبغ بن نباتة

اسمه ونسبه
هوالأصبغ، بـالألف واللام، كما هو شائع على الألسن، وكما عنونتْ له الكثير من المصادر1، أو أصبغ بتعريته منهما، كما هو معنون في مصادر أُخرى2- بن نُباتة بن الحارث، بن عمرو بن فاتك بن عامر3، التميميّ الحنظليّ، الدارميّ المُجاشعيّ، أبو القاسم الكوفيّ4.

والتميميّ: بفتح التاء وكسر الميم وسكون الياء، نسبةً إلى تميم التي تنتسب إليها عدّة من القبائل العربيّة المعروفة، والمنتسب إليها جماعة من الصحابة والتابعين5، ولا زالت هذه القبائل موجودة إلى يومنا هذا، بل في بعض الروايات ما يُشير إلى بقائها إلى زمان ظهور القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث ورد في عدّة أحاديث: أنّ
 

1- الكلينيّ، الكافي: ج1، ص52.
2- ممّن عنون له بالألف واللام من الشيعة: الطوسيّ في اختيار معرفة الرجال رجال الكشّي: ج1، ص220 برقم164. والنجاشيّ في كتابه رجال النجاشيّ: ص68 برقم5. والطوسيّ في فهرست الطوسيّ: ص58 برقم911. ومعالم العلماء: ص63 برقم38. والبرقيّ في كتابه رجال البرقيّ: ص6. والعلّامة الحلّي في إيضاح الاشتباه: ص80 برقم2، وفي الخلاصة: ص24 برقم9 أيضاً. وابن داود في كتابه رجال ابن داود: ص52 برقم204. والشيخ حسن صاحب المعالم في التحرير الطاووسيّ: ص77 برقم47. والسيّد الخوئيّ في معجم رجال الحديث:ج4، ص132 برقم1517. وأمّا من العامّة فنذكر: ابن سعد في كتابه طبقات ابن سعد: ج6، ص229. وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة: ج1، ص347 برقم471. والنسائيّ في الضعفاء والمتروكين: ج1، ص156 برقم64. وابن شاهين في تاريخ أسماء الضعفاء والكذّابين: ص82 برقم642.
3- ممّن عنون له بتعريته من الألف واللام من الشيعة: الطوسيّ في رجال الطوسيّ: ص34 برقم2 عنونه بـدون ألف ولام بخلاف ما فعل في الفهرست، وأحمد بن عبد الرضا البصريّ في فائق المقال في الحديث والرجال: برقم55.
ومن العامّة: البخاريّ في التاريخ الكبير: ج2، ص35 برقم1595. الرازيّ في الجرح والتعديل: ج2، ص319 برقم1213. والعقيليّ في كتابه ضعفاء العقيليّ: ج1، ص129. وابن عدي في كتابه الكامل في الضعفاء: ج1، ص407. وابن حبّان في كتابه المجروحين: ج1، ص173. والمزّي في تهذيب الكمال: ج3، ص308 برقم537. وابن حجر في تهذيب التهذيب: ج1، ص362 برقم658. والذهبيّ في ميزان الاعتدال: ج1، ص271 برقم1014. والعجليّ في الثقات: ص233برقم 113.
4- اُنظر: ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج6، ص247 برقم2232.
5- اُنظر: المزّي، تهذيب الكمال للمزّي: ج3، ص308 برقم537.
 
 
 
 
80

74

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 صاحب راية المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف رجل من تميم، يقال له: شعيب بن صالح التميميّ1.


والحنظليّ: بفتح الحاء وسكون النون وفتح الظاء، نسبةً إلى حنظلة، بطن من تميم، وهو حنظلة بن مالك، بن زيد بن مناة، بن تميم2.

والدارميّ: بفتح الدّال وكسر الراء، هذه النسبة إلى بني دارم، وهو دارم بن مالك بن حنظلة3.

والمُجاشعيّ: بضمّ الميم، وفتح الجيم، وكسر الشين، هذه النسبة إلى بني مُجاشِع، وهو مجاشع بن دارم4.

قال صاحب الاشتقاق: "... واشتقاق الأصبغ من قولهم: فرس أصبغ، والأنثى صبغاء، وهو الذي طرف ذنبه بياض. والصبغ معروف. وثوب صبيغ ومصبوغ. ونُباتة: فُعالة من النبت"5.

وقد كان الأصبغ من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان من المعدودين من شرطة الخميس الذين ضمنوا لأمير المؤمنين عليه السلام الذبح وضمن لهم الفتح، "وكان من ذخائر عليٍّ، ممّن قد بايعه على الموت، وكان من فرسان أهل العراق، وكان عليّ عليه السلام يضنُّ به على الحرب والقتال"6.

ولادته ونشأته
إنَّ مَن طالع كتب السيرة والتاريخ والتراجم يلاحظ أنّ أكثر المشاهير في التاريخ، من علماء وأُدباء وملوك وأُمراء وغيرهم، لا يعرف المؤرّخون تواريخ ولادتهم، وغاية ما يتمكّنون منه هو تحديد وفياتهم، ولذا نجد أنّ هناك عدداً
 

1 اُنظر: السمعانيّ، أنساب السمعانيّ: ج1، ص478.
2- اُنظر: السيوطيّ، العرف الورديّ في أخبار المهدي: ص99. والمجلسيّ، بحار الأنوار: ج53، ص35.
3- اُنظر: ابن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب: ج1، ص396.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص484.
5- اُنظر: المصدر السابق: ج3، ص164.
6- ابن دريد، الاشتقاق: ص243.
7- المنقريّ، وقعة صفّين: ص443.
 
 
 
 
81

75

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 من المؤرّخين قد ألّفوا كُتباً في الوفيات: كوفيات المصريّين لأبي إسحاق الحَبَّال ت٤١٨هـ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ت٦٨١هـ، والوافي بالوفيات للصفديّ ت٧٦٤هـ، والوفيات لابن رافع السلاميّ ت٧٧٤هـ، والوفيات لابن قنفذ ت٨١٠هـ، بينما لا نجد مَن ألّف في المواليد إلّا نادراً، كمولد العلماء ووفياتهم للربعيّ ت٣٩٧هـ.


والسبب في ذلك، أنّ كلّ شخص من هؤلاء العظماء يولَد كما تولَد ملايين الأطفال من عامّة البشر، فلا تُبادر أُسرته أو مجتمعه، في الأزمنة القديمة، إلى تسجيل زمان ولادته، فهم لا يعلمون الغيب كي يتنبّؤوا بأنّ هذا الطفل أو ذاك سيكون له شأن أو منزلة رفيعة في المستقبل.

وقد يلجأ بعض الباحثين، في مثل هذه الحالات، إلى الاعتماد على بعض القرائن والمؤشِّرات العقليّة والتاريخيّة، لتخمين فترة زمنيّة معيّنة وقعت فيها ولادة الشخصيّة المترجَم لها، كما لو عرفنا تاريخ وفاة والدة المترجَم له، فإنّ ولادته ستكون حتماً قبل هذا التاريخ، أو عرفنا تاريخ وفاة والده، فإنّنا سنعلم أنّ ولادته كانت قبل هذا التاريخ أو بعده بأشهُر، لاحتمال أن يكون قد توفِّي والده بعد الحمل وقبل الولادة، وهكذا...

وفيما يخصُّ المترجَم له: فإنّنا لم نعثر على نصّ يحدّد لنا زمان ولادته بالدّقة، غير أنّنا نستطيع القول: إنّ ولادته كانت في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يدلّنا على ذلك ما رواه ابن عساكر، بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة أنّه قال: "إنّا لَجُلُوسٌ ذات يوم عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام في خلافة أبي بكر، إذ أقبل رجل من حضرموت لم أرَ رجلاً قطّ أنكر منه ولا أطول..."1.

فهذا النصّ يدلّ على أنّ الأصبغ كان رجلاً أو صبيّاً مميّزاً، على أقلّ تقدير،
 

1- ابن عساكر، تاريخ ابن عساكر: ج36، ص138.
 
 
 
 
82

76

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 في زمان خلافة أبي بكر، وبما أنّ خلافته لم تمتد لأزيد من سنتين وعدّة أشهُر1، فيكون الأصبغ قد أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا عنون له ابن حجر في الإصابة في ضوء هذا المؤشّر2.


وممّا يدعم ذلك ما وصفه به نصر بن مزاحم المنقريّ، بعد إحدى مبارزاته في صفّين، حيث قال: "فرجع الأصبغ وقد خضب سيفه دماً ورمحه، وكان شيخاً ناسكاً عابداً"3.

فإنّ لفظة الشيخ لا تطلق في اللغة إلّا على من ظهر عليه الشيب، أو تجاوز الـ٥٠ أو ٥١ عاماً4، وهذا يعني أنّه قد بلغ هذه السنّ، أو قاربها أو تجاوزها، في وقعة صفّين التي حصلت سنة ٣٧هـ.

وعلى أيَّة حال، فإنّ هذا النصّ الذي أسنده ابن عساكر إلى الأصبغ يرشدنا إلى ملازمته لأمير المؤمنين عليه السلام، ومتابعته له في مرحلة مبكرة جدّاً من حياته، قبل تولّيه الخلافة، ممّا يؤكّد إخلاص الأصبغ وعمق ولائه لأمير المؤمنين عليه السلام، وأنّه لم يكن يتحرّك بدافع دنيويّ أو سياسيّ أو مصلحيّ.

وقد بقي الأصبغ، كما تشير النصوص، في شرف هذه الصحبة إلى آخر لحظة من لحظات حياة أمير المؤمنين عليه السلام، فقد انتقل معه إلى العراق، وشهد معه وقعة الجمل وصفّين5، وحينما نزل أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة واتخذها عاصمة للدولة الإسلاميّة، استقرّ معه فيها، متتلمذاً على يديه، مقتفياً أثره، مستضيئاً بنور علمه. وفي هذا الصدد نُقل عنه أنّه قال: "حفظت
 

1- اُنظر: المصدر السابق: ج30، ص50ـ53. ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: ج4، ص150.
2- اُنظر: ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة: ج1، ص347.
3- المنقريّ، وقعة صفّين: ص443.
4- اُنظر: الزبيديّ، تاج العروس من جواهر القاموس: ج7، ص286، مادّة شيخ.
5- اُنظر ـ حول حضوره الجمل ـ: المدنيّ، ضامن بن شدقم، وقعة الجمل: ص46. واُنظر ـ حول حضوره صفّين ـ: المنقريّ، وقعة صفّين: ص604.
 
 
 
 
83

77

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلّا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب عليه السلام"1.


وتُشير بعض النصوص إلى انتقال الأصبغ من الكوفة إلى المدائن في الأيّام الأخيرة من ولاية سلمان الفارسيّ عليها2، ولا تُسعفنا النصوص في تحديد المهمّة التي أُنيطت بالأصبغ في المدائن.

وكيفما كان، فالذي يظهر من نصوص أُخرى أن مكثه في المدائن لم يدُم طويلاً، إذ وجدناه حاضراً في الكوفة في شهر رمضان من عام ٤٠ هـ، وهو الشهر الذي قُتِل فيه أمير المؤمنين عليه السلام3، وقد كان حاضراً في الليلة التي ضُرب فيها أمير المؤمنين عليه السلام معه في بيته4.

ولا تهدينا النصوص إلى معرفة ما آل إليه أمر الأصبغ بعد رحيل أمير المؤمنين عليه السلام، ولا نعرف شيئاً كثيراً عن طبيعة علاقته بالأئمّة عليهم السلام من بعده، كما أنّ الأخبار لا تفيدنا بشيءٍ عن نشاطه في الكوفة بعد غياب أمير المؤمنين عليه السلام عنها.

والمظنون أنّه قد كرّس جهده وما بقي من عمره، في نشر التشيّع وترويج أُصوله وأُسسه ومفاهيمه، من خلال ما سمعه ووعاه من أمير المؤمنين عليه السلام، نتلمّس ذلك ونتحسّسه من خلال ما نقله الرواة عنه من أحاديث في العقيدة والفقه، والتفسير والأخلاق، والعرفان و... والذي أعتقده أنّه لم يُهاجر من الكوفة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، وإنّما بقي فيها إلى آخر لحظات عمره.
 

1- المجلسيّ، بحار الأنوار: ج41، ص146.
2- اُنظر: المصدر السابق: ج22، ص374. وفيه يقول الأصبغ: "كنت مع سلمان الفارسي رحمه الله وهو أمير المدائن في زمان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام".
3- اُنظر: المصدر السابق: ج42، ص193. وفيه يقول الأصبغ: "خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام في الشهر الذي قُتل فيه فقال: أتاكم شهر رمضان وهو سيّد الشهور...".
4- اُنظر: الطوسيّ، الأمالي: ص123.
 
 
 
 
84

78

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 مكانته العلميّة

كان الأصبغ رجلاً فاضلاً، كما عبّر عنه المفيد في الاختصاص1- وهو من الأوصاف التي تُطلق على أهل العلم في عرفهم، وفي معالم العلماء لابن شهر آشوب: "إنّ أوّل مَن صنّف فيه "يعني في الإسلام" أمير المؤمنين عليه السلام... ثمّ سلمان، ثمّ أبو ذر، ثمّ الأصبغ بن نباتة..."2.

ويمكن أن نلمس الجانب العلميّ في شخصيّة الأصبغ من خلال مرويّاته الكثيرة في فنون العلم: الفقه والتفسير والحِكَم وغيرها، فقد كان كثير الرواية، متقناً في حديثه، وكان أكثر رواياته عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقد روى عن الصحابة، وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فضائل عليّ عليه السلام. وله روايات في فضل الشيعة، كما في اختصاص المفيد وغيره3.

أمّا طبقته، فقد عدّه الطوسيّ في رجاله من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ عاد مرّةً أُخرى وعدّه من أصحاب الإمام الحسن عليه السلام4.

وقد عدَّه ابن حجر من الطبقة الثالثة، المشتملة على أسماء الطبقة الوسطى من التابعين5، بل احتمل في الإصابة، كما ألمحنا، أن يكون مُدركاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تكون له صُحبة.

ووقع الأصبغ في إسناد اثنتين وستّين رواية في الكتب الأربعة عدا ما روي في غيرها، فبعنوان
 

1- اُنظر: المفيد، الاختصاص: ص65.
2- ابن شهر آشوب، معالم العلماء: ص38.
3- اُنظر: الأبطحيّ، تهذيب المقال: ج1، ص93 في الهامش.
4- اُنظر: الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص34ـ65.
5- اُنظر: ابن حجر، تقريب التهذيب: ج1، ص107.
 
 
 
 
85

79

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 الأصبغ بن نباتة وقع في إسناد ستّ وخمسين رواية، وبعنوان الأصبغ في إسناد خمس روايات، وبعنوان أصبغ بن نباتة الحنظليّ في إسناد رواية واحدة1.


روى عنه أبو الجارود زياد بن منذر، وأبو حمزة الثماليّ، وأبو الصباح الكنانيّ، والحارث بن المغيرة، وخالد النوفليّ، وسعد بن طريف، وعبد الحميد الطائيّ، وعبد الله بن جرير العبديّ، ومحمّد بن داود الغنويّ، ومحمّد بن الفرات، ومسمع، والأجلح بن عبد الله الكنديّ، وثابت بن أسلم البنانيّ، ورزين بيّاع الأنماط، وسعيد بن مينا، وعليّ بن الحزور، وفطر بن خليفة، ومحمّد بن السائب الكلبيّ، والوليد بن عبدة الكوفيّ، ويحيى بن أبي الهيثم العطّار، وآخرون2.

والأصبغ هو مَن روى عهد مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين عليه السلام لمّا ولاّه مصر، وروى، أيضاً، وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة، كما ذكر ذلك شيخ الطائفة الطوسيّ في فهرسته، فقال: "أخبرنا بالعهد ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن، عن الحميريّ، عن هارون بن مسلم والحسن بن ظريف جميعاً، عن الحسين بن علوان الكلبيّ، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وأمّا الوصيّة، فأخبرنا بها الحسين بن عبيد الله، عن الدوريّ، عن محمّد بن أحمد بن أبي الثلج، عن جعفر بن محمّد الحسينيّ، عن عليّ بن عبدك الصوفيّ، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ، قال: كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده محمّد بن الحنفيّة بوصيّته"3.
 

1- اُنظر: الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج4، ص135ـ136.
2- اُنظر: الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج4، ص135. المزي، تهذيب الكمال: ج3، ص308 برقم537.
3- الطوسيّ، الفهرست: ص37ـ38.
 
 
 
 
86

80

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وروى الطوسيّ عنه أيضاً مقتل الحسين عليه السلام كما سيأتي عمّا قريب.


وقد روى الأصبغ أيضاً القضايا التي حكم فيها أمير المؤمنين عليه السلام، وهي برواية إبراهيم بن هاشم القمّي، وتوجد نسخة منه في مكتبة جامعة طهران برقم٣٩١٥، وبتاريخ ١٠٦٤هـ، ونسخة في تركيا مكتبة حميديّة رقم١٤٤٧، من ١٤٩ آ، ١٥٣ آ، وهي بعنوان أقضية أمير المؤمنين عليه السلام.

وكانت لدى السيّد محسن الأمين العامليّ، صاحب أعيان الشيعة، نسخة ثمينة من هذا الكتاب، ضمن مجموعة عليها تواريخ سنة٤١٠ و٤٢٠، باسم: عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه السلام ومسائله أدرجها في كتاب ألّفه باسم عجائب أحكام وقضايا ومسائل أمير المؤمنين عليه السلام1.

مذهبه ومعتقده
لا ينبغي التوقّف في القول بتشيّع الأصبغ وموالاته لأهل البيت عليهم السلام، بل لا ينبغي التردّد في كونه من الناشرين لمذهبهم والمروّجين لفكرهم، ويمكن للقارئ الكريم أن يتأكّد من ذلك من خلال ما بثّه الأصبغ من روايات تحمل فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم وفضائل شيعتهم ومحبّيهم.

ونحن نكتفي هنا بإيراد رواية واحدة، رواها الصدوق رحمه الله بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة أنّه قال: "خرج علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم، ويده في يد ابنه الحسن عليه السلام، وهو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، ويدي في يده هكذا، وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا، وهو إمام كلّ مسلم، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي. ألا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم ابني هذا، وهو إمام كلّ مؤمن، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنّه سيُظلَم بعدي كما ظُلمت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 

1- اُنظر: الجلاليّ، تدوين السنّة الشريفة: ص140.
 
 
 
87

81

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين، المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، أما إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة. ومن بعد الحسين تسعة من صُلبه، خلفاء في أرضه، وحججه على عباده، وأمناؤه على وحيه، وأئمّة المسلمين، وقادة المؤمنين، وسادة المتّقين، تاسعهم القائم الذي يملأ الله به الأرض نوراً بعد ظُلمتها، وعدلاً بعد جورها، وعلماً بعد جهلها، والذي بعث أخي محمّداً بالنبوّة واختصّني بالإمامة، لقد نزل بذلك الوحي من السماء على لسان الروح الأمين جبرئيل، ولقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا عنده، عن الأئمّة بعده، فقال للسائل: والسماء ذات البروج، إنّ عددهم بعدد البروج، وربّ الليالي والأيّام والشهور، إنّ عددهم كعدد الشهور. فقال السائل: فمَن هم يا رسول الله؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على رأسي، فقال: أوّلهم هذا، وآخرهم المهديّ، مَن والاهم فقد والاني، ومَن عاداهم فقد عاداني، ومَن أحبّهم فقد أحبّني، ومَن أبغضهم فقد أبغضني، ومَن أنكرهم فقد أنكرني، ومَن عرفهم فقد عرفني، بهم يحفظ الله دينه، وبهم يُعمِّر بلاده، وبهم يرزق عباده، وبهم نزل القطر من السماء، وبهم يُخرِج بركات الأرض، هؤلاء أصفيائي وخلفائي، وأئمّة المسلمين، وموالي المؤمنين"1.


والمحتوى العقديّ الذي تحمله هذه الرواية ونظائرها ممّا كان ينشره الأصبغ بين النّاس، هو جوهر العقيدة الإماميّة ومحورها، ومن هنا عبّر عنه الرجاليّون بألفاظ دالَّة على عمق تشيّعه ورسوخ عقيدته في أهل البيت عليهم السلام، فقد عبّر عنه النجاشيّ - ووافقه على ذلك الطوسيّ- بقوله: "كان من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام "2، وقال عنه المفيد: "وكان من شرطة الخميس"3،
 

1- الصدوق، كمال الدّين وتمام النعمة: ص259ـ260.
2- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص68.
3- المفيد، الاختصاص: ص2.
 
 
 
 
 
88

82

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وهذه العبارة لا تُطلق إلّا على خيار شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، والمقصود بالخميس: الجيش، سُمّي به، لأنّه مقسوم على خمسة أقسام: المقدّمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب، وهم ستّة آلاف رجل أو خمسة آلاف، وهم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين قال لهم: "تشرّطوا فأنا أُشارطكم على الجنّة، ولست أُشارطكم على ذهبٍ ولا فضّة"1.


روى الكشّي عن محمّد بن مسعود، قال: "حدّثني عليّ بن الحسين، عن مروك بن عبيد، قال: حدّثني إبراهيم بن أبي البلاد، عن رجل، عن الأصبغ، قال: قلت له: كيف سُمّيتم شرطة الخميس يا أصبغ؟ قال: إنّا ضمنّا له الذبح، وضمن لنا الفتح"2.

هذا من زاوية أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أمّا من زاوية أهل السنّة، فتكاد تتّفق كلمتهم على تشيُّعه ونسبته إلى الشيعة، فهذا ابن قتيبة يعدُّه من رجال الشيعة3، وقال ابن سعد: "كان شيعيّاً"4، وقال ابن حجر: "رُمِيَ بالرفض"5، وقال العقيليّ: "كوفيّ كان يقول بالرجعة"6، وهي من مختصّات الشيعة. وقال ابن حبان: "وهو ممن فُتِنَ بحبّ عليّ عليه السلام "7، وقال الخركوشيّ عنه إنّه من الشيعة المحترقين8.
 

1- اُنظر: المصدر السابق: ص2ـ3.
2- الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال رجال الكشّي: ص320.
3- اُنظر: ابن قتيبة، المعارف: ص624.
4- ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج6، ص247.
5- ابن حجر، تقريب التهذيب: ج1، ص113.
6- العقيليّ، الضعفاء: ج1، ص129.
7- ابن حبّان، المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين: ج1، ص174.
8- اُنظر: الخركوشيّ، شرف المصطفى: ج5، ص358.
 
 
 
89

83

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وثاقته وعدالته

قلنا، فيما تقدّم: إنّ الأصبغ من المعدودين من شرطة الخميس، وقد تحدّثنا عن معنى هذه العبارة وعن دلالتها على تشيُّع من أُطلقت في حقّه، ونريد أن نُضيف الآن بأنّها قد تدلّ على الوثاقة، أيضاً، كما صرّح به صاحب سماء المقال بقوله: "ثمّ إنّه لا يخفى أنّها "يعني عبارة شرطة الخميس" تدلّ على غاية قوّة إيمان مَن ذُكِر في حقّه... كما أنّ الظاهر دلالتها على الوثاقة، كما جرى عليه جمع من الطائفة...1.

ولا كلام في كون الأصبغ من المعدودين من شرطة الخميس، كما نصّ على ذلك المفيد، بل نصّت على ذلك جملة من المصادر من الفريقين2، وإنّما الكلام كلّ الكلام في دلالة هذه العبارة على وثاقة مَن أُطلقت في حقّه.

والواقع: أنّ العبارة لا تدلّ بذاتها على التوثيق، وإن دلّت على التشيّع، وإنّما اكتسبت هذه الحمولة، وصارت تدلّ على التوثيق من خلال الروايات المادحة لـشرطة الخميس، وهي بأجمعها ضعيفة كما صرّح بذلك السيّد الخوئيّ3.

ومن هنا، لم ينصّ النجاشيّ والطوسيّ على عدالة الأصبغ، واكتفيا بالتعبير عنه بأنّه: "من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام"، وهذا التعبير لا يدلّ، عند الرجاليّين، على أكثر من المدح والحُسْن4، ونعته العلّامة الحلّي في الخلاصة
 

1- الكلباسيّ، سماء المقال في علم الرجال: ج2، ص248.
2- ممّن نصّ على ذلك ـ بالإضافة إلى المفيد في الاختصاص ـ: الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال رجال الكشّي: ص320. ابن سعد، طبقات ابن سعد: ج6، ص225. المنقريّ، وقعة صفّين: ص406.
3- اُنظر: الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج4، ص134.
4- اُنظر: الغفّاريّ، دراسات في علم الدراية: ص115. قال ـ حول دلالة هذا اللفظ ـ: "وأمّا قولهم: خاصّي، فإن أُريد به ما يراد من قولهم من خاصّة الإمام الفلانيّ عليه السلام، دلّ على المدح المعتدّ به وأفاد الحُسن، وإن أُريد ما قابل قولهم: عامّي كما هو الأظهر، لم يُفد إلّا كونه إماميّاً، وعند الإطلاق يكون الأمر فيه مشتبهاً، وتعين الأخذ منه بالقدر المتيقّن...".
 
 
 
 
 
90

84

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 بـلفظ "وهو مشكور"1 بعد ما ذكره في القسم المخصَّص للرواة المعتمد عليهم، وهو من الألفاظ التي تُفيد المدح، كما في الراشحة الثانية عشرة من الرواشح السماويّة2، واعتبره صاحب نهاية الدراية من ألفاظ المدح من المرتبة الثانية3، ومثله ما وصفه به فائق المقال، حيث قال عنه: "وكان جليل القدر خيّراً"4، وهو من تعابير المدح أيضاً دون التوثيق، وكذا صنع السيّد الخوئيّ، إذ وصفه بقوله: "وهو من المتقدّمين، من سلفنا الصالحين"5، وهذه الكلمات لا تدلّ على غير المدح أيضاً، كما لا يخفى على مَن تتبّع كُتب وكلمات أرباب الرجال ومصطلحاتهم.


ويتلخّص ممّا تقدّم، أنّ المستقَرَّ عليه هو أنّ الرجل من الممدوحين في رجالنا، ولم يُصرِّح أحد منهم بتوثيقه وتعديله، غير أنّ النّفس غير راضية بما قالوه، ونحن نرى وثاقته ونرجّح عدالته لوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الرجل قد تكرّر اسمه في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ كان حيّاً سنة 307هـ، وهذا الوجه حجّة على مَن يذهب إلى وثاقة جميع مَن وقع في إسناد هذا التفسير.

الوجه الثاني: ورود اسمه في إسناد كامل الزيارات، فهو أيضاً موثَّق عند مَن يرى وثاقة جميع الواقعين في سلسلة الإسناد.

الوجه الثالث: أنّنا نرفض القوالب التي وضعها علماء الدراية في تحديدهم لألفاظ الجرح والتعديل، ونقول: بأنّ عبارة "من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام"
 

1- الحلّي، خلاصة الأقوال: ص77.
2- اُنظر: الداماد، الرواشح السماويّة: ص53.
3- اُنظر: الصدر، نهاية الدراية: ص399.
4- البصريّ، أحمد بن عبد الرضا، فائق المقال: برقم155.
5- الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج4، ص132 برقم1517.
 
 
 
 
91

85

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 تدلّ على التوثيق، بل هي من أرفع عبارات التوثيق، ويتّضح ذلك من خلال عرض العبارة على العُرْف العامّ1.


الوجه الرابع2: وهو مبنيٌّ على مسلك الاطمئنان المتاخم للعلم الحاصل من ملاحظة مجموع الأوصاف التي وصفها به علماء الرجال والتاريخ، ومجموع ما قيل عنه وما صدر عنه.

فإنّ كلّ مفردة وإن لم تُفِد الوثوق والاطمئنان النوعيّ، إلّا أنّها بمجموعها قد تُفيد العلم، أو على الأقلّ الاطمئنان، بوثاقته، بل بما هو فوق الوثاقة، أي الدرجات العالية منها.

فلو ضممنا قول النجاشيّ والطوسيّ: "كان من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام"، وكذا عبارة: "مشكور"، و"كان جليل القدر خيّراً"، و"من المتقدّمين من سلفنا الصالحين..." وغيرها.

وكذلك وقوعه في إسناد كامل الزيارات، وتفسير عليّ بن إبراهيم، وإن لم نقل بوثاقة جميع مَن ورد في إسنادهما على المبنى فرضاً، ثمّ ضممنا إلى ذلك كلّه ما وصفه به علماء الرجال من أهل السنّة، كقول ابن حبان: "وهو ممّن فُتِنَ بحبّ عليّ عليه السلام"3، وتوثيق العجليّ له، بل وابن عديّ، رغم أنّ ذلك على خلاف القاعدة منهم.

وضممنا إلى ذلك أيضاً ما ذُكِرَ له من الأوصاف والأعمال والمواقف: مثل كونه من شرطة الخميس، وكونه راوياً لمقتل سيّد الشهداء عليه السلام، وكونه الراوي لعهد الأشتر عن أمير المؤمنين عليه السلام، وكونه الراوي لوصيّة أمير
 

1- وهذا الوجه سمعته من أُستاذنا سماحة السيّد مرتضى الشيرازي دام ظله في خارج الفقه.
2- وهذا الوجه أيضاً من إفادات سماحة السيّد الأُستاذ دام ظله.
3- ابن حبّان، المجروحين: ج1، ص174.
 
 
 
 
92

86

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 المؤمنين عليه السلام إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة، وروايته لمجموعة من الأخبار التي تدلّ على مكانته وكمال معرفته، كروايته لخبر أُويس القرنيّ ومبايعته لأمير المؤمنين عليه السلام1، ورواية أبي الجارود عنه في قوله: "ألا إنّ سيوفنا على عواتقنا فمَن أُومي إليه "أي مَن أومأ إليه أمير المؤمنين عليه السلام ضربناه بها"2، وروايته قضيّة دخول حارث الهمدانيّ على أمير المؤمنين عليه السلام وقوله عليه السلام له: "يا حار همدان مَن يَمُت يرني..."3.


إذا ضممنا ذلك بعضه إلى بعض، فالظاهر أنّه يُطمأن، من دون شكّ، بوثاقته سواء قلنا: بأنّ الاطمئنان الشخصيّ حجّة، أم قلنا: بأنّ الحجّة هي للاطمئنان النوعيّ أي: حصول الوثوق النوعيّ من المجموع، وإن لم يحصل للشخص نفسه اطمئنان شخصيّ فإنّ العقلاء، بملاحظتهم مجموع ذلك، يحصل لهم الاطمئنان بوثاقته، فحجيّة هذا الظنّ الحاصل من المجموع مستندة إلى بناء العقلاء، كما يمكن إسنادها إلى أنّها نوع استبانة، بل من أظهر مصاديقها "والأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين أو تقوم البيّنة"، كما تشملها آية النبأ، بلحاظ التعليل فيها.

هذه بعض الوجوه، ولعلَّ المتتبّع يجد وجوهاً أُخر يُستفاد منها توثيق الأصبغ.

أمّا علماء رجال السنَّة، فقد ذهب أكثرهم إلى ردِّ روايته ونكارة حديثه4، ولم يوثّقه منهم سوى العجليّ الذي قال عنه: "كوفيّ، تابعيّ، ثقة"5، وتوسّط في أمره ابن عديّ، فقبل روايته وجعل الإنكار من جهة مَن روى عنه، فقال: "وإذا حدّث عن الأصبغ ثقة، فهو عندي لا بأس بروايته، وإنّما الإنكار من جهة من
 

1- اُنظر: الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال رجال الكشّي: ج1، ص315.
2- المصدر السابق: ص320.
3- المفيد، آمالي المفيد: ص5ـ6. الطوسيّ، آمالي الطوسيّ: ص626ـ627.
4- اُنظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج1، ص362 برقم658.
5- العجليّ، ثقات العجليّ: ج1، ص233 برقم233.
 
 
 
 
93

87

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 روى عنه، لأنّ الراوي عنه لعلّه يكون ضعيفاً"1.


وفي الحقيقة: إنّ الباحث لو فتّش عن سبب مقنع لتضعيف الأصبغ وجرحه، فلن يجد سوى حُبّه لأمير المؤمنين عليه السلام وعشقه له، ونقله لفضائله ومناقبه، وهذا ما صرّح به ابن حبان جهاراً نهاراً، حيث قال: "وهو ممَّن فُتن بحُبّ عليّ، أتى بالطامَّات في الروايات، فاستحقَّ من أجلها الترك"2.

فقد تبيّن السبب إذن، فلم يكن الأصبغ تاركاً للصلاة، ولا شارباً للخمر، ولا زانياً ولا ولا... وإنّما كان ذنبه الوحيد هو افتتانه بحُبّ أمير المؤمنين عليه السلام، ونقله لما يُغيظ ابن حبان ومَن على شاكلته "فالصواب ما قاله العجليّ، من أنّه ثقة، وأشار إليه إبن عديّ بقوله: لا بأس بروايته. وجعل الإنكار من جهة مَن روى عنه، ولا يلتفت إلى قدح مَن قدح فيه، لأنّ الجرح إنّما يُقدّم على التعديل إذا لم يكن الجرح مستنداً إلى سبب عُلِمَ فساده"3.

وفاته
نصّ النجاشيّ، ومن بعده الطوسيّ، على أنّ الأصبع قد عمَّر بعد أمير المؤمنين عليه السلام، ولكنّهما لم يُحدِّدا لنا سنة وفاته4.

ولا يوجد ما نستند إليه في تحديد سنة وفاة الأصبغ عدا أمرين:
أ- ذكْر الذهبيّ له في تاريخه في الطبقة الحادية عشرة، بحسب تقسيمه للطبقات في هذا الكتاب. وقد حصر وفيات هذه الطبقة بين عامي 101،120هـ5.

ب- وضْع ابن حجر له في تقريب التهذيب في الطبقة الثالثة، كما تقدّم. وقد
 

1- ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: ج1، ص401.
2- ابن حبّان، المجروحين: ج1، ص174.
3- الأمين، أعيان الشيعة: ج3، ص466.
4- اُنظر: النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص8 برقم5. الطوسيّ، الفهرست: ص37 برقم109.
5- اُنظر: الذهبيّ، تاريخ الإسلام: ج7، ص7ـ28.
 
 
 
 
94

88

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 صرّح في مقدّمة الكتاب بأنّ المعدودين في الطبقة الثالثة إلى آخر الثامنة كلّهم من المتوفَّين بعد المائة الأُولى للهجرة1.


وفي ضوء ذلك، ذكر الطهرانيّ أنّ وفاته كانت بعد عام مائة للهجرة، وقد أشار إلى ذلك مرّتين: تارة عند ذكره لكتابة الأصبغ عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر2، وأُخرى عند ذكره لكتابته وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة3.

القسم الثاني: مقتل الحسين عليه السلام للأصبغ بن نباتة
يظهر من التتبّع أنّ الأصبغ بن نباتة هو أوّل مَن كتب في مقتل الحسين عليه السلام، وكتابه أسبق كتب المقاتل4، بل الظاهر أنّه أوّل مؤرّخي واقعة الطفّ على الإطلاق. فكتابه كان يحوي أقدم مادّة تاريخيّة مسجّلة عن واقعة الطفّ، لأنّه كان معاصراً للواقعة.

الشيخ الطوسيّ وكتاب مقتل الأصبغ
لعلّ المصدر الوحيد الذي أشار إلى وجود كتاب باسم مقتل الحسين عليه السلام للأصبغ بن نباتة هو كتاب الفهرست للشيخ الطوسيّ رحمه الله ت460هـ ـ فبعد أن ذكر أنّ من كتبه عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر، ووصيّته إلى محمّد بن الحنفيّة، قال: "وروى الدوريّ عنه أيضاً مقتل الحسين بن عليّ عليه السلام، عن أحمد بن محمّد بن سعيد، عن أحمد بن يوسف الجعفيّ، عن محمّد بن يزيد النخعيّ، عن أحمد بن الحسين، عن أبي الجارود، عن الأصبغ، وذكر الحديث بطوله"5.
 

1- اُنظر: ابن حجر، تقريب التهذيب: ج1، ص26
2- اُنظر: الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة: ج15، ص362.
3- المصدر السابق: ج25، ص105.
4- اُنظر: المصدر السابق: ج22، ص24.
5- الطوسيّ، الفهرست: ص38.
 
 
 
95

89

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 رجال السند الواقعون بين الشيخ والأصبغ

والرواة الظاهرون في سند هذا الحديث ستّة رجال:
1ـ الدوريّ.
2ـ أحمد بن محمّد بن سعيد.
3ـ أحمد بن يوسف الجعفيّ.
4ـ محمّد بن يزيد النخعيّ.
5ـ أحمد بن الحسين.
6ـ أبو الجارود.

والدوريّ أقربهم إلى الشيخ، والشيخ لا يروي عنه مباشرة، بل يروي عنه بوساطة شيخه الحسين بن عبيد الله الغضائريّ، وإنّما لم يصرّح بالوساطة لوضوحها في ذهن المتتبّع لأسانيد الشيخ، وهذه الطريقة تُسمَّى في فنّ الرجال بـ التعليق.

وعلى أساس ذلك، يكون عدد الرجال الواقعين في السند، بين الشيخ والأصبغ، سبعة رجال، سنحاول فيما يلي أن نقف على كلّ واحد منهم والتعريف به تعريفاً مقتضباً، تمهيداً لاستنتاج بعض النتائج التاريخيّة المهمّة التي ترتبط بمقتل الأصبغ.

1ـ الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائريّ
وهو شيخ النجاشيّ، فقد ذكره في الرجال قائلاً: "الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائريّ أبو عبد الله، شيخنا رحمه الله"، ثمّ قال بعد أن ذكر عدداً من كتبه: "أجازنا جميعها وجميع رواياته، عن شيوخه، ومات رحمه الله في نصف صَفر، سنة إحدى عشرة وأربعمائة"1.
 

1- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص69 برقم166.
 
 
 
 
96

90

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 أقول: وقد ثبت في محلّه من علم الرجال وثاقة جميع شيوخ النجاشيّ1.


وهو من مشايخ الطوسيّ أيضاً، وقد ذكره في رجاله في باب من لم يروِ عنهم عليهم السلام ووصفه بكثير السماع بالرجال، وقال: إنّ له تصانيف ذكرها في الفهرست2، ولكنَّ النسخ الموجودة من الفهرست لا تحتوي على ترجمة للغضائريّ، وقد احتمل السيّد الخوئيّ سقوطها منها، وأنّها كانت موجودة في نسخة الأصل، فإنّ جلالة مقام الشيخ تأبى أن يخبر بشيء لا أصل له3.

أقول: ما ذهب إليه السيّد الخوئيّ من سقوط ترجمة الغضائريّ من الفهرست يحلّ لنا إحدى الإشكاليّات التي ابتُلينا بها في بعض الرجال الذين لم يُتطرّق إليهم في الموسوعات الرجاليّة، أعني إشكاليّة إعراض الأُصول الرجاليّة عن ترجمة عدد كبير من الرواة والشخصيّات العلميّة، إذ من المحتمل أن تكون قد سقطت تراجمهم من النسخ الأصليّة للأُصول، كما سقطت ترجمة الغضائريّ من رجال الشيخ، وفي ضوء هذا الاحتمال لا يكون عدم الترجمة للراوي, بالضرورة, مساوياً للتقليل من شأنه والحطّ من أهمّيّته.

2ـ الدوريّ
هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن جُلّين الدّوريّ. أبو بكر الوّراق 299ـ379هـ، من أهل بغداد4، قال فيه النجاشيّ: "كان من أصحابنا، ثقة في حديثه، مسكوناً إلى روايته. لا نعرف له إلّا كتاباً واحداً، في طرق ردّ الشمس..."5.
 

1- اُنظر: حول ذلك الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج1، ص50.
2- اُنظر: الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص470 برقم52.
3- اُنظر: الخوئيّ، معجم رجال الحديث: ج7، ص23.
4- اُنظر: ـ حول سكناه بغداد وتحديثه بها ـ: الذهبيّ، ميزان الاعتدال: ج1، ص109. ابن حجر، تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: ج2، ص510.
5- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص85 برقم205.
 
 
 
 
97

91

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 3ـ أحمد بن محمّد بن سعيد

وهو المعروف بـابن عُقدة 249ـ 233هـ، وهذا رجل جليل القدر، معظّم عند جميع فرق المسلمين، مشهور بالحفظ، وكان كوفيّاً زيديّاً جاروديّاً بقي على ذلك حتّى مات1.

قال عنه الطوسيّ في الفهرست: "وأمره في الثقة والجلالة وعِظم الحفظ أشهر مِن أن يُذكر"2، وقال النعمانيّ في غيبته: "وهذا الرجل ممَّن لا يُطعن عليه في الثقة، ولا في العِلم بالحديث والرجال الناقلين له"3.

4ـ أحمد بن يوسف الجعفيّ... - بعد271 هـ 4
وهو من أهل الكوفة ومن شيوخ ابن عُقدة، وقد ذكر النجاشيّ اسمه ونسبه بشكل مفصّل في ترجمة الحسن بن عليّ ابن أبي حمزة البطائنيّ قال: "وله (يعني للبطائنيّ) كتاب فضائل القرآن، أخبرناه أحمد بن محمّد بن هارون، عن أحمد بن محمّد بن سعيد، قال: حدّثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب بن حمزة بن زياد الجعفيّ القصبانيّ، يُعرف بابن الجلا الحلا بعرزم..."5.

5ـ محمّد بن يزيد النخعيّ
لم يعنون له النجاشيّ، وهو شيخ أحمد بن يوسف، وتلميذ أحمد بن الحسين، كما يبدو من هذا السند، وقد روى عن سيف بن عميرة، كما في ترجمة أبان بن تغلب من رجال النجاشيّ6.
 

1- اُنظر: المصدر السابق: ص94 برقم233.
2- الطوسيّ، الفهرست: ص28 برقم76.
3- النعمانيّ، الغيبة: ص25.
4- يدلّنا على ذلك ما نقله النجاشيّ في رجاله: ص11 في ترجمة أبان بن تغلب، عن أبي الحسن أحمد بن الحسين أنّه قال: "وقع إلي بخطّ أبي العبّاس بن سعيد، قال: حدّثنا أبو الحسين أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفيّ، من كتابه في شوّال سنة إحدى وسبعين ومائتين".
5- اُنظر: النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص37.
6- اُنظر: المصدر السابق: ص11.
 
 
 
 
98

92

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 أما الشيخ الطوسيّ، فقد ذكر عشرة أشخاص بعنوان محمّد بن يزيد، سبعة منهم يمكن تمييز بعضهم من البعض الآخر، كما يمكن تمييزهم من المترجَم له، وذلك من خلال ملاحظة الصفات والأحوال التي ذكرها في تراجمهم1، والثلاثة الباقون وإن كان يمكن تمييز أحدهم من الآخر بوضوح، إلّا أنّ كلّ واحد منهم إذا قارنّاه بصاحبنا فإنّنا لا نجد ما يميّزه منه، فسواء اعتمدنا على المؤشّرات اللفظيّة، أو المؤشّرات الخارجيّة لا ينفعنا ذلك. وعليه، فيمكن القول: إنّه مشترك بين هؤلاء الثلاثة2.


وخلاصة الكلام في محمّد بن يزيد النخعيّ: أنّه مشترك بين مجهول الحال ومهمَليَن.

6ـ أحمد بن الحسين
لا يوجد له ذكر في الرجال، بل ليس له ذكر في غير هذا الموضع على الإطلاق، وقال الأبطحيّ في تهذيب المقال: "وأحمد بن الحسين مشترك بين الضعيف وغيره"3، إلّا أنّنا لا نوافقه على ذلك، فإنّ الذين يشتركون مع المترجَم له في اسمه واسم أبيه ممّن عنونت لهم الأُصول الرجاليّة كلّهم معروفون بصفات وأحوال ومؤشّرات خارجيّة، نستبعد معها احتمال الاتحاد بين المترجَم له وكلّ واحد منهم.

فالصحيح ما ذكرناه: من عدم عنونة المترجَم له في كتب الرجال، وأخمّن أنّه كان زيديّاً جاروديّاً من أتباع أبي الجارود، وقد لا يكون له نشاط علميّ سوى نقله لهذا المقتل، ولهذا السبب أعرضوا عن ترجمته.
 

1- اُنظر: الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص304 ـ 305 ـ 359 ـ 360 ـ 361.
2- اُنظر: المصدر السابق: ص304ـ 359ـ361.
3- الأبطحيّ، تهذيب المقال: ج1، ص196.
 
 
 
 
99

93

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 7ـ أبو الجارود

وهو زياد بن المنذر الهمدانيّ الكوفيّ، وإليه تُنسب الزيديّة الجاروديّة، قال عنه النجاشيّ: "كان من أصحاب أبي جعفر، وروى عن أبي عبد الله عليه السلام، وتغيّر لما خرج زيد رضي الله عنه"1.

وهذا الذي ذكره النجاشيّ يؤكّده الطوسيّ بقوله: "زياد بن المنذر أبو الجارود الهمدانيّ، الحوفيّ الكوفيّ، تابعيّ زيديّ أعمى، إليه تُنسب الجاروديّة منهم"2.

فإنّ هذا النصّ الذي نقلناه عن الشيخ وإن لم يُشر إلى إماميّته قبل خروج زيد، ولكنّه يؤكّد على ما ذكره النجاشيّ من اعتناقه لمذهب الزيديّة، ويظهر منهما استمراره على هذا الحال إلى آخر عمره.

وقد أورد الصدوق روايتين تدلّان دلالةً واضحة على رجوع أبي الجارود إلى مذهب الإماميّة في آخر حياته3.

نتائج مترتّبة على البحث في رجال السند
حينما نتأمّل في سلسلة هذا السند نستنتج الأُمور التالية:
1ـ أنّ هذا المقتل قد كُتب في الكوفة، وأملاه الأصبغ فيها، حيث تلقاه زياد بن المنذر من الأصبغ، وهو من أهل الكوفة، ومن الغريب ألّا يروي هذا المقتل عن الأصبغ غير هذا الرجل، لا سيّما أنّ القاسم بن الأصبغ بن نباتة كان مهتمّاً, على ما يبدو, بموضوع روايات كربلاء كما سنُشير.

2ـ من المرجّح أنّ هذا المقتل قد بقي محبوساً في الكوفة يتوارثه تلاميذ الأصبغ، فمن أبي الجارود إلى أحمد بن الحسين، إلى محمّد بن يزيد
 

1- النجاشيّ، رجال النجاشيّ: ص170.
2- الطوسيّ، رجال الطوسيّ: ص122.
3- اُنظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج2، ص52 الحديث 6و7.
 
 
 
 
 
100

94

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 النخعيّ، إلى أحمد بن يوسف الجعفيّ الذي كان حيّاً عام271هـ، بمعنى أنّه قد بقي حوالي170عاماً في الكوفة، أي: أربعة أجيال تقريباً.


3ـ أنّ الذي نقل هذا المقتل إلى بغداد هو ابن عُقدة الذي كان زيديّاً جاروديّاً حتّى مات، وهذا ما يجعلنا نرجّح بأنّ الواقعين في السند بين أبي الجارود وابن عُقدة كلّهم من الزيديّة الجاروديّة، ممّا قد يفسّر لنا عدم النقل عن هذا المقتل خلال تلك الفترة، فقد كان هذا المقتل محبوساً في الكوفة عند أتباع أبي الجارود، وهؤلاء بدورهم كانوا مُنشغلين عن نشره بالدفاع عن مذهبهم الذي كان لا يزال فتيّاً في تلك الفترة، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، فإنّ انتماءهم الفكريّ والمذهبيّ سيكون مانعاً من الاتصال بهم لدى الكثير من المؤرّخين، ممّن يختلف معهم في المذهب.

وعلى أيّة حال، فقد انتقل هذا المقتل إلى بغداد قبل عام333هـ، وهي سنة وفاة ابن عقدة، وقد بقي متداولاً هناك إلى أن وصل إلى يد شيخ الطائفة الطوسيّ ت460هـ.

وكلُّ من قرأ التأريخ يبدو له السبب واضحاً في انتقال هذا المقتل إلى بغداد في هذه الفترة بالذات، ففيها, وتحديداً عام 320هـ, كان مبدأ قيام الدولة البويهيّة الشيعيّة، فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران: كفارس، وكرمان، وبلاد الجبل، وهمدان، وأصفهان، والري1، وفي هذه الفترة أيضاً أظهر الشيعة ما كان مدفوناً من تراثهم، واستطاعوا أن يُعيدوا الحياة لهذا التراث، وقام العلماء ببذل جهود جبّارة في تنظيم ونشر وترويج فكر أهل البيت عليهم السلام في تلك الفترة.
 
 

1- اُنظر: السبحانيّ، أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة: ص94.
 
 
 
 
 
101

95

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 بقاء مقتل الأصبغ لأكثر من ثلاثة قرون قبل فقدانه

ذكرنا فيما تقدّم أنّ مقتل الأصبغ قد بقي إلى أيّام شيخ الطائفة الطوسيّ ت460هـ، أي: ما يزيد على ثلاثة قرون، وقد بقي حوالي نصف هذه المدّة في الكوفة، منحصراً بين تلامذة أبي الجارود من الزيديّة، ثمّ نقله ابن عُقدة إلى بغداد في بدايات الحكم البويهيّ، ثمّ وصل إلى الدوريّ، فابن الغضائريّ، فالطوسيّ، وربما كانت هناك نسخة من هذا المقتل في المكتبة العامّة التي أنشأها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، وكانت من دُور العلم المهمّة في بغداد، بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة 381 هـ، على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون العبّاسيّ.

قال ياقوت الحمويّ: "وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة"1.

وعند مجيء طغرل بيك السلجوقيّ أُحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما أُحرق من محال الكرخ، ثمّ توسَّعت الفتنة، فدخلوا دار شيخ الطائفة، فأحرقوا كتبه وكرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس2.

قال ابن الجوزيّ في حوادث سنة 449 ه‍: "وفي صَفر هذه السنة كُبست دار أبي جعفر الطوسيّ متكلّم الشيعة في الكرخ، وأُخذ ما وُجِد من دفاتره وكرسيّ يجلس عليه للكلام، وأُخرج إلى الكرخ وأُضيف إليه ثلاث مجانيق بيض، كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة، فأُحرق الجميع"3.
 

1- الحمويّ، معجم البلدان: ج1، ص534.
2- اُنظر: السبحانيّ، أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة: ص56.
3- ابن الجوزيّ، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم: ج16، ص17.
 
 
 
 
102

96

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 من هنا، فنحن نرجّح أن مقتل الأصبغ قد أُتلِف فيما أُتلِف في الحملة السلجوقيّة التي تسبّبت بتدمير عدد هائل من الأُصول الشيعيّة، وفي مقدّمتها الأُصول الأربعمائة التي كانت موجودة في هذه المكتبة.


وقد كان الطوسيّ, بعد انتقاله إلى النجف, منهمكاً بإعادة ما يمكن إعادته من هذا التراث التالف. ولا ريب في أنّ الشغل الشاغل له هو التركيز على الجانب العقديّ والفقهيّ من هذا التراث، وسيكون التركيز على الجانب التاريخيّ تركيزاً هامشيّاً، وممّا يدعم ذلك أنّ الطوسيّ نفسه كان له مقتل، كما صرّح بذلك في الفهرست عند ترجمته لنفسه1، وقد فُقِد هذا المقتل أيضاً، ولعلّه أيضاً ممّا أُتلف في هذه الحملة، إلّا أنّ الوقت لم يكن يسمح للشيخ الطوسيّ رحمه الله بإعادة كتابته.

هل بقي شيء من مقتل الأصبغ؟
ذكر السيّد محمّد طاهر الياسريّ الحسينيّ روايتين عن القاسم بن الأصبغ، روى إحداهما الطبريّ والأُخرى أبو الفرج، واحتمل كونهما ممّا نقله القاسم عن مقتل والده2، فتكون الروايتان, بحسب هذا الاحتمال, هما بقيّة هذا المقتل، وسنورد الروايتين ثمّ نناقش في ذلك:
الرواية الأُولى: روى الطبريّ، عن هشام الكلبيّ، بسنده عن القاسم بن الأصبغ بن نُباتة، قال: "حدّثني مَن شهد الحسين عليه السلام في عسكره أنّ حسيناً حين غُلِب على عسكره ركب المسنّاة يريد الفرات، قال: فقال رجل من بني أبان بن دارم: ويلكم! حُولوا بينه وبين الماء لا تتام إليه شيعته. قال:
 

1- اُنظر: الطوسيّ، الفهرست: ص161.
2- اُنظر: الياسريّ، محمّد طاهر، مقدّمة في مقتل الحسين عليه السلام المبحث الأوّل: مصادر النصّ التاريخيّ النسخة المعتمدة على الموقع الرسميّ له.
 
 
 
 
103

97

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 وضرب فرسه، واتّبعه النّاس حتّى حالوا بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهمّ، أظمه. قال: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته في حنك الحسين، قال: فانتزع الحسين السهم، ثمّ بسط كفّيه فامتلأت دماً، ثمّ قال الحسين: اللهمّ، إنّي أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك. قال: فو الله، إن مكث الرجل إلّا يسيراً حتّى صبّ الله عليه الظمأ، فجعل لا يروى. قال القاسم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمَن يروح عنه والماء يُبرَّد له فيه السكَّر وعساس فيها اللبن، وقلال فيها الماء، وإنّه ليقول: ويلكم! اسقوني، قتلني الظمأ! فيُعطى القلَّة أو العِسّ كان مروّياً أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فيه اضطجع الهنيهة ثمّ يقول: ويلكم! اسقوني، قتلني الظمأ، قال: فو الله، ما لبث إلّا يسيراً حتّى انقدّ بطنه انقداد بطن البعير"1.


الرواية الثانية: روى أبو الفرج الأصفهانيّ، عن المدائنيّ، بسنده إلى القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: "رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلاً، شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك! قال: إنّي قتلت شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلّا أتاني فيأخذ بتلابيبي، حتّى يأتي جهنّم، فيدفعني فيها، فأصيح، فما يبقى أحد في الحيّ إلّا سمع صياحي. قال: والمقتول العبّاس بن عليّ عليه السلام"2.

والمتأمّل في سند الروايتين لا يرى وجهاً لما احتمله الحسينيّ، من كون هاتين الروايتين ممّا تبقَّى من آثار مقتل الأصبغ بن نباتة رضوان الله عليه.

أمّا رواية الطبريّ، فهي صريحة في كون منبع الرواية هو أحد الرواة الذين كانوا في الطفّ، وظاهر الرواية أنّ القاسم يروي عن هذا الراوي مباشرة، ولا
 

1- الطبريّ، تاريخ الطبريّ: ج5، ص450.
2- الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين: ص118.
 
 
 
 
104

98

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 علاقة لأبيه بالموضوع، لا من قريب ولا من بعيد.


وأمّا رواية المقاتل، فهي أشدّ صراحة في ذلك، حيث ذكر فيها أنّ القاسم هو الراوي المباشر لهذا الخبر.

نعم يمكن أن يقال: إنّ القاسم نفسه كان أحد المصادر التي اغترف منها الأصبغ في مقتله، وحينئذٍ يتّجه هذا الاحتمال، وهو ما يُسمّى عند علماء الدراية بـرواية الأكابر عن الأصاغر1، ولكن هذا الكلام هو بمثابة ارتفاع المانع لا بمنزلة المقتضي، أي: أنّه لا مانع من رواية الوالد عن ولده، وإن كان ذلك نادراً، ولكن وقوع ذلك وتحقّقه بالفعل يحتاج إلى دليل، وهو مفقود في مورد بحثنا. 

ومهما يكن، فإنّ في هاتين الروايتين إشارة إلى اهتمام آل الأصبغ بجمع أخبار كربلاء، وملاحقتها من منابعها ومصادرها الأُولى.

نتائج البحث
في نهاية المطاف نأمل أن نكون قد أعطينا هذا الموضوع ما يستحقّه من البحث والدراسة، ونرجو أن تكون هذه السطور قد أضاءت بعض الزوايا المظلمة المرتبطة بالأصبغ ومقتله، وقد كانت أهمّ النتائج التي توصَّلنا إليها في هذه الجولة هي:
أوّلاً: أنّ الأصبغ بن نباتة هو من كبار محدّثي الإماميّة في القرن الأوّل وبدايات القرن الثاني، وقد كان له شرف الريادة والمبادرة إلى الكتابة حول واقعة كربلاء.

ثانياً: أنّ مقتله هو أقدم المقاتل الحسينيّة، وكان يتضمّن أقدم مادّة تاريخيّة حول هذه الواقعة.
 
 

1- اُنظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للسيوطيّ النوع الحادي والأربعون رواية الأكابر عن الأصاغر: ج2، ص712.
 
 
 
 
 
105

99

دراسة في مجموعة من المقاتل الحسينيّة

 ثالثاً: أنّ هذا المقتل قد بقي إلى منتصف القرن الخامس الهجريّ، وقد رجّحنا أنّه قد أُتلِف في الحملة السلجوقيّة التي قضت على الدولة البويهيّة.


رابعاً: أنّنا لم نعثر على منقولات من هذا المقتل في المدوّنات التاريخيّة التي تأخّرت عنه، ممّا يعني أنّ هذا المقتل قد ضاع بشكل نهائيّ.
 
 
 
 
 
 
106

100

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته1


مدخل
هو أحمد بن واضح اليعقوبيّ المتوفّى في أواخر القرن الثالث الهجريّ، من كبار مؤرّخي المسلمين وعلمائهم وجغرافيّيهم. وبالرغم ممّا بلغه من شهرة واسعة، لكنّه بقي مجهولاً لا نعرف الكثير عنه، فالرجل - أساساً - لم يتحدّث عن نفسه كثيراً، ولعلّه هو من كان راغباً في أن يبقى غير معروف.

ومن الإشارات القليلة التي تركها لنا اليعقوبيّ في كتبه حول حياته المليئة بالأحداث، نستطيع أن نعرف عنه أنّه ترك مسقط رأسه بغداد وهو في عنفوان الشباب، ليجوب الأرض طولاً وعرضاً في أسفار بعيدة. ولأنّه كان بحّاثةً، فقد كانت سفراته هذه ممتزجةً بالبحث والتحقيق والدراسة.

ترك اليعقوبيّ مؤلّفات كثيرة، لكن لم يُعرف ولم يبقَ في المتناول منها اليوم إلّا كتب ثلاثة، هي: كتاب التاريخ، وكتاب البلدان، وكتاب مشاكلة النّاس لزمانهم. وتمتاز هذه الكتب الثلاثة فيما بينها، فهي قد تناولت مجالاتٍ مختلفة من العلوم الإنسانيّة، هي التاريخ والجغرافيا والاجتماعيّات.
 

1- حامد منتظريّ مقدّم.
 
 
 
 
107

101

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وفي هذه المقالة نسعى إلى تسليط الضوء على حياة اليعقوبيّ ومؤلّفاته، ومن هنا فهي تنقسم إلى قسمين، أحدهما يرتبط بسيرة اليعقوبيّ وحياته، والآخر نتحدّث فيه عن أعماله ومؤلّفاته. والبحث في القسم الأوّل يتناول جملةً من المسائل، منها: نسبه، ومذهبه، وحياته. وأمّا في الثاني، فنتعرّف بالتفصيل على كتابَيه القيّميّن، أعني: كتاب التاريخ وكتاب البلدان، وذلك بعد إعطاء لمحة إجماليّة عن عموم مؤلّفاته. 


وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كاتب هذه السطور عازم, إن شاء الله, على كتابة بحثٍ مستقلٍّ حول كتاب اليعقوبيّ الآخر، أعني: كتاب مشاكلة النّاس لزمانهم، وحول نظريّة اليعقوبيّ في علم الاجتماع التي ضمّنها كتابه هذا.

1- اليعقوبيّ، ترجمته وسيرته
أ ـ اسمه ونسبه وصفاته: ذُكر اسم اليعقوبيّ في مصادر التاريخ وكتب التراجم كالتالي: "أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح"1. لكنّ الاسم الذي يُعرف به اليوم هو "اليعقوبيّ" أو "ابن اليعقوبيّ"2، وهو اسم لم يكن يُعرف به في كتب المتقدّمين، وكأنّه إنّما اشتهر به بعد انتشار كتبه وآثاره في العصور الأخيرة3، وإنّما كان يُعرف فيما سبق باسم "ابن واضح"4.
 

1- ياقوت، الحمويّ، معجم الادباء ج 5(دار احياء التراث العربيّ بلا تاريخ) ص153، عمر رضا كحّالة، معجم المؤلّفين ج1(بيروت مؤسّسة الرسالة 1414 هجريّ1993 م) الطبعة الأولى، ص102.
2- عمر رضا كحّالة، المصدر نفسه، ص 102.
3- أحمد بن أبي يعقوب (اليعقوبيّ) البلدان، ترجمة محمّد بن إبراهيم آيتي،(طهران شركة الانتشارات العلميّة والثقافيّة)، 1381، الطبعة الرابعة، مقدّمة المترجم ص9 و 10.
4- عمر رضا كحّالة، المصدر نفسه، ص102.
 
 
 
 
108

102

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 إنّ توصيف رجلٍ ما بمثل لفظ "اليعقوبيّ" يدلّ عادةً على أنّ في أجداد هذا الرجل وأسلافه من كان يُسمّى "يعقوب"1، لكنّ الرجل الذي نتحدّث عنه هنا ليس كذلك، فأغلب الظنّ أنّه إنّما أخذ هذا الوصف من كنية أبيه أبي يعقوب. وعلى هذا الأساس، فإنّنا نحتمل قويّاً أنّ كنية "أبي يعقوب" قد تحوّلت بمرور الزمان إلى "اليعقوبيّ"، ثمّ بسب شهرته العلميّة, أو السياسيّة غلب هذا الاسم أيضاً على ولده2. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ اسم "اليعقوبيّ"3 قد ورد في مواضع كثيرةٍ من الفصل الذي أُلحق بكتابه "البلدان"4.


هذا, وبالإضافة إلى الاسمين المذكورين أعلاه - وهما اليعقوبيّ وابن واضح- فقد كان للرجل أسماء وألقاب أُخرى عُرف بها أيضاً، وهي: العبّاسيّ، والكاتب، والأخباريّ5.

أمّا لقب "العبّاسيّ" فالظاهر أنّ اشتهاره به هو نسبةً إلى خلفاء بني العبّاس، لكنّ الواقع أنّ هذا اللّقب قد أُطلق على جدّه "واضح"، الذي عُرف عنه أنّه كان من الموالين للمنصور العبّاسيّ، ومن هنا، وبالنظر إلى هذه العلاقة بين جدّه وبين المنصور، والتي كانت في القوّة كعلاقة النسب6، جرى إطلاق اللّقب
 

1- راجع، أبو سعد بن عبد الكريم بن محمّد السمعانيّ، الأنساب،ج 5 (بيروت دار الفكر 1419ه 1998م الطبعة الاولى، ص669.
2- ياسين إبراهيم عليّ الجعفريّ، اليعقوبيّ المؤرّخ والجغرافيّ، (بغداد دار الرشيد للنشر 1980م) ص20؛ حسين عاصي، اليعقوبيّ عصره سيرة حياته منهجه التاريخي، (بيروت دار المكتب العلميّ،1413 ه 1992م) ص36.
3- وبطبيعة الحال، إنّ هذا الفصل ليس جزءاً من المتن الأساسيّ للكتاب، ويتضمّن أخبار المؤلّفين القدامى لآثار اليعقوبيّ المتعدّدة؛ راجع أحمد بن يعقوب (اليعقوبيّ)، البلدان، تصحيح محمّد صادق آل بحر العلوم (النجف: المكتبة الرضويّة بلا تاريخ، ص118، هامش المصحّح.
4- راجع، نفس المصدر، ص، 118 ـ 132.
5- راجع، ياقوت الحمويّ، نفس المصدر، ج5، ص153. عمر رضا كحّالة، نفس المصدر ج1، ص102.
6- المولى في عرف العرب أنفسهم (مولى القوم من أنفسهم. والولاء لحمة كلحمة النسب) جواد عليّ، المفصّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، ج4 (بيروت: دارالعلم للملايين ـ بغداد: مكتبة النهضة، 1980م، الطبعة الثالثة)، ص368.
 
 
 
 
109

103

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 المذكور على واضح، وأُدرج في نسبه، وسرى ذلك لاحقاً إلى المترجَم له في حديثنا1.


وأمّا لقب "الكاتب"، والذي يظهر أنّ إطلاقه عليه كان شائعاً وكثيراً2، فيعود إلى أنّ المترجم له كان يتولّى منصب الكتابة - التدريس- في بلاط بعض الحكّام والولاة. ومثله أيضاً: لقب "الأخباريّ"، الذي يعود إلى أنّه كان مؤرّخاً عالماً بالأخبار والآثار والمنقولات التاريخيّة3.

وقد كان لليعقوبيّ أيضاً لقبان آخران يُعرف بهما، وهما: "الأصفهانيّ" و"المصريّ"، فلقب "الأصفهانيّ" نظراً إلى أنّه من أصول إيرانيّة، وهو من أهل أصفهان. وأمّا "المصريّ"، فجاء من كونه قد أقام في مصر مدّةً طويلةً من الزمن4.

واللافت هنا أنّ أبا المنصور الثعالبيّ (متوفّى سنة 429 هـ) ذكر في كتابه "يتيمة الدهر" أسماء شعراء أصفهان، وقد ذكر من بينهم: أحمد بن واضح (اليعقوبيّ)5، كما سمّاه كلّ من المسعوديّ وحاجّي خليفة بـ "المصريّ"6.

ب ـ حياته وسيرته: لا بدّ لنا من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أنّ المعلومات المتوفّرة حول حياة اليعقوبيّ قليلة جدّاً، فلم يَرِد في مصادر التاريخ شيء عن سيرته، كما لم يذكر عن نفسه شيئاً في آثاره ومؤلّفاته التي خلّفها، وكأنّه
 

1- ياسين إبراهيم على الجعفريّ، نفس المصدر، ص22، حسين عاصي، نفس المصدر، ص37 ـ 38، صادق آئينهوند (الأستاذ)، علم تاريخ در اسلام، طهران: وزارة الإرشاد إسلاميّ؛1360هـ ش، الطبعة الأُولى، ص368.
2- لمعرفة بعض موارد استعمال هذا اللقب راجع: اليعقوبيّ، نفس المصدر، صص 118-132 (الإلحاقات).
3- رسول جعفريان (الأستاذ)، منابع تاريخ اسلام (قم: انصاريان، 1376، الطبعة الأولى)، صص 154 ـ 155.
4- اليعقوبيّ، المصدر نفسه (الترجمة الفارسيّة)، مقدّمة المترجم، الصفحتان 9 و11.
5- أبو منصور عبد الملك الثعالبىّ النيشابوريّ، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، ج3، تحقيق مفيد محمّد قميحة (بيروت: دارالكتب العلميّة، 1420 ق / 2000م،الطبعة الأولى)، ص349.
6- راجع: اليعقوبيّ، نفس المصدر(الترجمه فارسيّة)، مقدّمة المترجم، ص11.
 
 
 
 
110

104

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 كان يتجنّب الحديث عن نفسه ترفّعاً عن الشهرة1.


ولكن مع هذا، فإنّنا وجدنا في الفترة الأخيرة اهتماماً ملحوظاً بآثار اليعقوبيّ، فمن جهةٍ، اهتمّ جملة من المستشرقين من أمثال (دخويه الهولنديّ 1836 ـ 1909م)، و(هوستما الهولنديّ 1851ـ 1943م) و(جوينبول الهولنديّ 1802 ـ 1861م) و(سارتن وويليام ميلوارد) بطبع آثاره والبحث والتدقيق في أحواله وسيرته. ومن جهة أخرى، فقد سعى اثنان من الباحثين العرب إلى تأليف كتابين مستقلّين أوردا فيهما ما يعين في التعرّف على اليعقوبيّ ومؤلّفاته. أحدهما: ياسين إبراهيم عليّ الجعفريّ في كتابه "اليعقوبيّ: المؤرّخ والجغرافيّ"، والآخر: حسين عاصي في كتابه: "اليعقوبيّ، عصره- سيرة حياته- منهجه التاريخيّ"2.

الأمر المؤكّد أنّ أحمد بن واضح اليعقوبيّ عاش في القرن الثالث الهجريّ، لكنّ تاريخ ولادته غير معلوم لنا، بل كلّ ما نعلمه أنّ وفاته كانت في أواخر القرن الثالث. ويعتقد ياقوت الحموي (ت 626 هـ) أنّ وفاة اليعقوبيّ كانت في العام (284 هـ)3. ومع هذا، فقد جاء في الملحقات المنضمّة إلى كتاب البلدان - الذي كتبه اليعقوبيّ -. "لمّا كانت ليلة عيد الفطر من سنة 292، تذكّرت ما كان فيه آل ابن طولون في مثل هذه اللّيلة من الزيّ الحسن بالسلاح..."4. وهذا الخبر - على تقدير صحّته - دليل واضح على أنّ اليعقوبيّ كان قد عاش إلى التاريخ المذكور، وأنّه قد مات بعد ذلك، وعليه: فإنّ تاريخ وفاته الدقيق سوف يبقى غير معلوم أيضاً. وإن كان يمكن لنا أن نحدس بأنّه كان في أواخر القرن
 

1- راجع: ياسين إبراهيم عليّ الجعفريّ، نفس المصدر، ص23؛حسين عاصي، نفس المصدر، ص38.
2- أثبت حسين عاصي في كتابه بعض المطالب، وقد حرّرها ياسين عليّ الجعفريّ، ولكن للأسف، خلا هذا الكتاب من الهوامش.
3- ياقوت الحمويّ، نفس المصدر، ج5، ص154.
4- اليعقوبيّ، نفس المصدر (عربى)، ص131.
 
 
 
 
 
111

 


105

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 الثالث الهجريّ، إذ لا يوجد له ذكر ولا أثر فيما بعد ذلك من الأزمنة.


وبعد هذا، سنتابع الكلام في هذه المقالة في التعرّف على مؤلّفات اليعقوبيّ. ونشير هنا - بشكل مجمل - إلى أنّ جميع الكتب الثلاثة التي تركها كان قد ألّفها في النصف الثاني من القرن الثالث، كما أنّ أقدم وأشهر كتاب له هو تاريخ اليعقوبيّ الذي ينتهي بذكر حوادث العام 259 هـ1.

وأمّا بالنسبة إلى مسقط رأس اليعقوبيّ، فينبغي أن يُعلم أنّ المظنون قويّاً أنّ ولادته كانت في مدينة بغداد2، وإن كان هذا الأمر لم يُذكر ولم يُصرّح به في شيءٍ من المصادر التاريخيّة المعتبرة. لكنّ اليعقوبيّ حينما تعرّض للحديث عن بغداد في كتابه البلدان ذكر أنّ أجداده وأقاربه كانوا يقطنونها، وأنّ أحد أجداده، وهو المسمّى واضحاً- وهو من موالي المنصور العبّاسي - كان قد تولّى هندسة وإدارة ربع معيّن من مدينة بغداد حين تأسيسها3، وعلى هذا الأساس، لا يكون بعيداً ادّعاء أنّ اليعقوبيّ نفسه قد وُلد فيها، وذلك نظراً إلى أنّها كانت مقرّاً وموطناً دائماً لأجداده وأقاربه.

ومن الجدير ذكره أنّ بغداد كانت في زمن اليعقوبيّ - كما في كثيرٍ من الحقبات والعصور التاريخيّة - مدينةً ذات جاذبيّة قويّة، ومحطّاً لأنظار الجميع، وقد اعتبرها اليعقوبيّ نفسه مدينة منقطعة النظير4. لكن، ومع كلّ هذه الجاذبيّة5، لم تستطع مدينة بغداد أن تحتفظ باليعقوبيّ فيها لمدّة طويلةٍ من الزمن، إذ كان لدى الرجل من حبّ الاكتشاف والبحث عن الحقيقة، ما جعله يجوب البلدان طولاً وعرضاً من أجل رصد ومتابعة الأخبار والأحداث الجارية.
 

1- راجع: أحمد بن أبي يعقوب (اليعقوبيّ)، تاريخ اليعقوبيّ، ج2 (بيروت: دار صادر، بلا تاريخ)، ص511.
2- راجع: رسول جعفريان، نفس المصدر، ص154.
3- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسى)، ص5 و10.
4- نفس المصدر، ص4.
5- للتعرّف على روعة مدينة بغداد في عصر اليعقوبيّ، راجع: نفس المصدر، ص4 ـ 5.
 
 
 
 
112

106

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وفي هذا المجال، يقول اليعقوبيّ: "إنّي عُنيت في عنفوان شبابي، وعند احتيال سنّي، وحدّة ذهني، بعلم أخبار البلدان، ومسافة ما بين كلّ بلدٍ وبلد، لأنّي سافرت حديث السنّ، واتّصلت أسفاري، ودام تغرّبي..."1.


وبعد كلّ هذا، فإنّه سيظهر لنا من خلال تعرّفنا على العصر الذي عاش فيه اليعقوبيّ أنّ بغداد في تلك الآونة كانت مركزاً لحكومة خلفاء اتّسموا بالضعف الشديد، وكان الحكم العبّاسيّ آنذاك يعاني أوضاعاً مزرية، وفي هذا الوقت، برزت في شرق وغرب البلاد الإسلاميّة حكومات وممالك شبه مستقلّة، وقد عاش اليعقوبيّ تحت حماية بعض تلك الحكومات في المرحلتين المختلفتين من حياته خلال المقطعين الزمنيّين المذكورين.

ثمّ وبعد خروج اليعقوبيّ من مدينة بغداد، توجّه أوّلاً نحو الشرق. فقد نقل ابن فقيه في مختصر كتاب البلدان عن أحمد بن واضح أنّه قد أقام مدّةً طويلة في أرمينيا، وأنّه كان كاتباً لبعض ملوكها وولاتها2، ثمّ انتقل بعد ذلك إلى خراسان وتولّى عملاً في دولة الطاهريّين (205 ـ 259 هـ)3، حيث أخذ بتأليف كتاب مستقلّ عنهم4، وكان بدؤه بتأليف هذا الكتاب في العام 260 هـ - أي بعد زوال دولتهم -، لينتقل اليعقوبيّ بعدها إلى الهند، ومن ثمّ إلى مصر وبلاد المغرب. وذلك في المرحلة الثانية من حياته، حيث نال المنزلة والرفعة عند السلالة الطولونية (254 ـ 292 هـ). والظاهر: أنّ وفاته كانت في مصر أو في المغرب5.
 

1- للتعرّف على روعة مدينة بغداد في عصر اليعقوبيّ، راجع: نفس المصدر، ص1.
2- راجع: أحمد بن واضح اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج1، ترجمة محمّد إبراهيم آيتى (طهران: شركة المنشورات العلميّة والثقافيّة، ط 1366 هـ ش، الطبعة الخامسة)، مقدّمة المترجم، ص23.
3- راجع: حسين عاصي، نفس المصدر، ص41.
4- راجع: تاريخ اليعقوبيّ، (عربي)، ج2، ص422.
5- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسى)، مقدّمة المترجم، ص10 ـ 11.
 
 
 
113

107

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 ومن هنا، فنحن لا علم لنا بالدقّة بالمنزلة التي حصل عليها اليعقوبيّ في تلك البقاع، يعود ذلك لفقدان المعلومات اللّازمة لهذا الشأن. وإن كان يمكن لنا قبل هذا أن نتحدّث عن مكانة واضح جدّ اليعقوبيّ وحظوته وقرب منزلته لدى خلفاء بني العبّاس. والذي ينبغي أن يُعلم هنا أنّ واضحاً كان لديه من الشهرة والمكانة - كما أسلفنا - إلى درجة أن يُعرف اليعقوبيّ بـ ابن واضح لمكان انتسابه اليه، وعلى هذا الأساس، ومن أجل التعرّف أكثر على اليعقوبيّ، لا بدّ لنا من أن نتعرّف أكثر على واضح هذا، بالإضافة إلى الآخرين ممّن انتسب إليهم من آبائه، فنقول: عُيّن واضح من قبل المنصور العبّاسيّ (136 ـ 158هـ) متولّياً على إمارة أرمينيا وآذربيجان، وبقي فيها متولّياً عليها حتّى سنة (158هـ)1، وعليه، فمن المحتمل أن يكون وجود اليعقوبيّ في هذه المنطقة- كما أشرنا قبل قليل- عائداً إلى كون جدّه على رأس السلطة فيها.


ثمّ في العام (162هـ)، وبعد تجربةٍ له في حكومة المنصور العبّاسيّ، استلم واضح إمارة مصر في زمن المهديّ العبّاسيّ (158 ـ 169 هـ) لمدّةٍ قصيرة لا تتجاوز الأربعة الأشهُر2.

ومن الصفات التي اتّصف بها واضح: حزمه وصرامته في معالجة الأمور، وهو قد تعامل مع أهل مصر بهذا الحزم، وبتلك الشدّة، ما دفع بهم إلى شكايته إلى المهديّ العبّاسيّ، الذي استجاب لهم فعزله عن ولايته. غير أنّه مع ذلك،
 

1- تاريخ اليعقوبيّ، (عربي). ج2، ص372.
2- محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الامم والملوك (تاريخ الطبريّ)، ج8، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم (بيروت: روائع التراث العربيّ، بلا تاريخ)، ص143؛جمال الدّين يوسف بن تغري بردي، النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، ج2 (قاهره: وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، 1383 ق / 1963م)، ص40؛زامباور، أنساب الخلفاء والعمّال والتسلسل التاريخيّ للحوادث الإسلاميّة،، ترجمة محمّد جواد مشكور (طهران:مكتبة خيام، 1356)، ص39.
 
 
 
 
114

108

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 بقي في منصب مسؤول ديوان البريد1 في مصر، والذي يُعدّ من المناصب الرفيعة فيها2، واستمرّ في هذا المنصب حتّى سنة 169 هـ، حينما استطاع العبّاسيّون في زمن الهادي العبّاسيّ (196 ـ 170) أن يقضوا على ثورة الحسين بن عليّ بن الحسن المعروف بـ شهيد فخ، وكان إدريس بن عبد الله بن الحسن قد تمكّن من الفرار من قبضة العبّاسيين، واستطاع الوصول إلى مصر، ليهرب مرّةً ثانية بمساعدة واضح إلى المغرب، حيث قام هناك بتأسيس الدولة الإدريسيّة (172 ـ 375 هـ). لكن، ومن جانب آخر، قد دفع واضح حياته ثمناً لهذا الفعل، حيث أُمر بقتله في سنة 169 هـ، جاء ذلك بأمرٍ من خليفة ذلك العصر الهادي العبّاسيّ3. وهذا ما أوضحه محمّد بن جرير الطبريّ (224 ـ310 هـ) وحكى عنه بشكل صريح، قائلاً: إنّ واضحاً هذا كان رافضيّاً - شيعيّاً -4.


ومن هنا، يمكن الاعتقاد بأنّ هذه النهاية الدمويّة التي كانت لواضح جدّ اليعقوبيّ قد كانت سبباً لفتور وتدهور العلاقات - على الأقلّ لفترةٍ من الزمن- بين السلطة العبّاسيّة من جهة وبين أسرة اليعقوبيّ من جهة أُخرى.

وفي هذا السياق، يمكن أن يُثار السؤال التالي، وهو: أنّه لماذا لم يأتِ اليعقوبيّ في تاريخه على قصّة مساعدة جدّه واضح لإدريس على الهرب؟5، مع العلم بأنّ تاريخ اليعقوبيّ مليء وحافل بالأمور التي توضّح ميله إلى التشيّع؟
 

1- مسؤول البريد في كلّ منطقة هو من يتكفّل باستلام وتوزيع الرسائل التي تصل من كلّ المناطق إلى هناك، وله وظيفة أخرى وهي أنّه ينقل إلى الخليفة عين تلك الرسائل وأخبار المنطقة أو فهارسها، واختيار حرس الطرقات وتعيين السفراء في جميع المناطق كانت كلّها بيده. راجع: آدام متز، الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ،ج 1، ترجمه عليّ رضا ذكاوتي قراكزلو (طهران: امير كبير، 1362،الطبعة الأولى)، ص97.
2- ابن تغري بردي، نفس المصدر، ج2، ص40.
3- الطبريّ، نفس المصدر، ج8، ص198؛ابن تغري بردي، نفس المصدر، ج2، صص 40 ـ 41.
4- عبارة الطبريّ هي: "كان رافضيّاً خبيثاً". الطبريّ، نفس المصدر، ج8، ص198.
5- اليعقوبيّ: تاريخه، ذكر فرار إدريس إلى مغرب. إلّا أنّه هنا لم يذكر له دوراً واضحاً في تهريبه. راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص405.
 
 
 
 
115

109

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وفي ضوء ما تقدّم، يبدو من الممكن جدّاً أن تكون العلاقة بين أسرة اليعقوبيّ وبين السلطة العبّاسيّة قد عادت إلى صفوها بعد وفاة واضح، الأمر الذي دفع باليعقوبيّ إلى التغاضي عن تلك الحادثة وإغفالها وعدم التصريح بها.


وعلى كلّ حال، فقد بات من المعلوم أنّ والد اليعقوبيّ كان يشغل منصب ديوان البريد1، وإن لم يعرف في أيّ البلاد كان، ومن هو الحاكم الذي ولّاه ذلك المنصب.

وأمّا فيما يرتبط بشخص اليعقوبيّ، فإنّ اشتهاره بلقب الكاتب - كما أشرنا آنفاً - كأنّه كان لممارسته أعمالاً وشؤوناً ذات سمةٍ إداريّة وديوانيّة، وأساساً، فإنّ أسرة اليعقوبيّ عامّةً كانت تُعرف بلقب "الكُتّاب" (جمع كاتب)، حيث عُرف عنهم العمل في دواوين الخلفاء والحكّام2.

وفي هذا المجال، ينبغي أن نعلم أنّ لقب "الكاتب" كان على امتداد تاريخ الحضارة الإسلاميّة عرضةً للتحوّل والتبدّل على صعيد المفهوم، ففي العصر الأمويّ، وفي أُولى مراحل إنشاء ديوان الإمارة الإسلاميّة، كان منصب الكتابة بمثابة منصب الوزارة، ومقدّمة للوصول إليها، ثمّ بعد تأسيس منصب الوزارة في العصر العبّاسيّ، فقد بدأ يبرز هناك كاتب - أو أكثر- لتولّي شؤون الكتابة والتعليم، وقد كان هؤلاء يُعدّون من جملة مساعدي الوزراء ومستشاريهم3. وفي تلك الحقبة من الزمن،كان منصبا الكتابة والوزارة يتّصلان ويرتبطان ارتباطاً وثيقاً، إلى حدّ أنّ أبا عبد الله محمّد بن جهشياري المتوفّى سنة (331
 

1- ياسين الجعفريّ، نفس المصدر، ص26، حسين عاصي، نفس المصدر، ص40 ـ 41.
2- شاكر مصطفى، التاريخ العربيّ والمؤرّخون: دراسة فى تطوّر علم التاريخ ومعرفة رجاله في الإسلام، ج1، (بيروت، دار العلم للملايين، 1983م، الطبعة الثالثة)، ص249 ـ 250.
3- راجع: حامد منتظرى مقدّم، "الوزارة في تاريخ إيران (القرون الأولى إسلاميّة) كيهان انديشه، شماره 84 (خرداد وتير 1378ش)، ص42.
 
 
 
 
116

110

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 هـ) أطلق على كتابه اسم كتاب "الوزراء والكتّاب". 


ومع هذا كلّه، فقد تحدّث آدم متز في كتابه "الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع" عن تحوّل مفهوميّ كبير طرأ على مفهوم الكاتب، فبرأيه أنّ مفهوم "الكاتب" كان يُطلق في القرن الثالث على ما يقابل مفهوم "العالِم"، حتّى إنّهم كانوا يُطلقون على العلماء المختصّين بالعلوم الدنيويّة اسم "الكتّاب"، فيما كان يُعرف العلماء المختصّون بالعلوم الدّينيّة، أعني الفقهاء، باسم "العلماء"1.

ومن هنا، يمكن أن يقال إنّ نسبة الكتابة إلى اليعقوبيّ، كانت بحسب هذا المفهوم الرائج والمتداول، وبسبب تصدّيه لأمور الديوان، ولأنّ أجداده كانوا يشغلون هذه المناصب الحكوميّة، فقد تهيّأت له الأرضيّة للدخول في هذا المضمار. وفي حقيقة الأمر، إنّ المناصب والمقامات في تلك الحقبة التاريخيّة كانت- إلى حدٍّ كبير- مناصب متوارثة2، هذا من جهة, ومن جهة أُخرى، فإنّ منهج اليعقوبيّ في تدوين وكتابة التاريخ يعدّ خير دليلٍ على هذا الأمر، حيث نجده في تاريخه يولي اهتماماً كبيراً للكتب والمراسلات الحكوميّة، وقد نقل متون المراسلات والأوامر الحكوميّة بدقّة متناهية. ومن هنا يمكن القول بوضوح بأنّ مثل هذا الاهتمام البالغ، ومثل هذا الحرص على الدقّة في نقل هذه النصوص لا يمكن أن يحصل في العادة إلّا ممّن كان متولّياً لمنصب الكتابة، ومشتغلاً بها فعلاً3. نقول هذا رغم أنّنا لا نعلم أنّ استلامه لهذا المنصب كان في عهد أيٍّ من الحكومات التي عاصرها. ولعلّ من غير البعيد أن يكون اشتغاله به في عهد بعضٍ من تلك الدول والحكومات المحلّيّة التي نشأت، كدولة الطاهريّين أو الطولونيّين.
 

1- آدام متز، نفس المصدر، ج1، صص 200ـ 201.
2- راجع: نفس المصدر، ص111.
3- راجع: ياسين الجعفريّ، نفس المصدر، ص27؛ حسين عاصي، نفس المصدر، ص41.
 
 
 
117

111

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وفي ختام هذا المقطع من البحث، واعتماداً على ما أشرنا إليه آنفاً من مزايا اليعقوبيّ وأوصافه، وبالتحديد: كونه محبّاً للاكتشاف وباحثاً عن الحقيقة متقصّياً لها في أسفاره المتعدّدة، نقول: إنّ فهم شخصيّة اليعقوبيّ بشكلٍ أوضح، والوقوف على حقيقة هذه الصفات والمزايا يجعلنا بحاجةٍ هنا إلى أن ننقل مقطعاً من كلامه، حيث قال متحدّثاً عن أسفاره: "فكنتُ متى لقيتُ رجلاً من تلك البلدان، سألته عن وطنه ومصره، فإذا ذكر لي محلّ داره، وموضع قراره، سألته عن بلده ذلك.. لدته، ما هي؟ وزرعه ما هو؟ وساكنيه من هم من عرب أو عجم... شرب أهله، حتّى أسأل عن لباسهم، ودياناتهم ومقالاتهم والغالبين عليه و..."1.


وينبغي لنا أن نعرف سبقت الإشارة إلى أنّ الثعالبيّ قد أورد اسمه في زمرة شعراء أصفهان2، كما نُقل لنا أيضاً بعض من شعره في آخر الملحقات المنضمّة إلى كتابه كتاب البلدان3.

ج ـ عصر اليعقوبيّ: عرفنا فيما سبق أنّ أحمد بن واضح كان يعيش في القرن الثالث الهجريّ، وكانت وفاته في آخره. وفي مقام التعرّف على هذه الحقبة الزمنيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّها كانت تُعرف بـ العصر العبّاسيّ الثاني، وقد كانت الصفة العامّة التي تميّزت بها هذه الحقبة هي تسلّط الترك فيها على الحكم وشؤون الخلافة4.

وعن هذه الفترة من الحكم العبّاسيّ، كتب محمّد بن عليّ بن طباطبا (660 ـ 709) قائلاً: "فكان الخليفة في يدهم (الترك) كالأسير، إن شاؤوا أبقوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه"5. كما ذكر هذا المؤرّخ المذكور أيضاً في سيرة
 

1- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، ص1 ـ 2.
2- الثعالبيّ، مصدر سابق، ج3، ص349.
3- اليعقوبيّ، (البلدان ـ عربي)، ص131 و132.
4- راجع: حسين عاصي، مصدر سابق، ص5.
5- محمّد بن عليّ بن طباطبا (ابن طقطقا)، الفخريّ في الآداب السلطانيّة والدول الإسلاميّه (قم: منشورات الشريف الرضيّ، 1372ش، أوفست)، ص243.
 
 
 
 
118

112

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وأحوال المعتزّ العبّاسيّ (251 ـ 255 هـ) - الذي كانت خلافته خلال تلك الفترة - أنّه لمّا جلس على سرير الخلافة، قعد خواصّه وأحضروا المنجّمين، وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعلم من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته! فقالوا له: فكم تقول إنّه يعيش؟ وكم يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك. فلم يبقَ في المجلس إلّا من ضحك1.


وهذا النصّ دليل واضح على مستوى تردّي أوضاع الخلافة آنذاك.

في ظلّ هذه الظروف الصعبة التي كانت تمرّ بها الدولة العبّاسيّة، أخذ وجودها في المناطق التابعة لها يضعف شيئاً فشيئاً، حتّى لم يعد لها وجود فيها إلّا بالاسم فقط، ما أدّى إلى ظهور دويلاتٍ وحكومات مناطقيّة. حافظت هذه الدويلات على الانتماء الشكليّ إلى الدولة العبّاسيّة، لكن انقيادها لأوامر الخليفة لم يتجاوز أدنى المستويات، وكان بمقدار الضرورة فقط. وقد أشرنا فيما سبق من هذه المقالة إلى أنّ اليعقوبيّ عايش اثنتين من هذه الدويلات، وهي الدولة الطاهريّة والدولة الطولونيّة. وفي هذا السياق، أسقط الطاهريّون (205 ـ 259 هـ)، الذين كانوا يحكمون في خراسان، اسم الخليفة العبّاسيّ من واحدةٍ من خطبهم2، لكنّهم بعد ذلك عادوا ليكتسبوا شرعيّتهم تحت شعار الطاعة للخلافة. وكذلك صنع الطولونيّون (254 ـ 292 هـ)، الذين سكنوا مصر والشام وأنشأوا لهم هناك دولة شبه مستقلّة، لكنّها مع ذلك بقيت تحافظ على علاقات شكليّةٍ مع دولة الخلافة3.

ومن هنا يمكن القول: إنّ اليعقوبيّ الذي نشأ في هذه الأجواء البعيدة عن نفوذ الخلافة، استطاع أن يتفرّغ لتأليف كتبه العلميّة في محيطٍ يتّسم - إلى حدٍّ
 

1- نفس المصدر.
2- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربى)، ج2، ص457.
3- راجع: أحمد مختار العباديّ، فى التاريخ العبّاسيّ والفاطميّ (بيروت: دار النهضة العربيّة، بلا تاريخ)، ص129.
 
 
 
 
 
119

113

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 ما - بالحرّيّة والاستقلاليّة1.


والآن، وبعد أن ألقينا نظرةً إجماليّة على الأجواء السياسيّة التي كانت سائدةً في عصر اليعقوبيّ، لا بدّ لنا من معرفة أنّ حياته العلميّة لم تبلغ أوجها وذروتها إلّا في القسم الثاني من القرن الثالث، إذ سيتّضح فيما يأتي، عند الحديث عن مؤلّفات اليعقوبيّ وكتبه، أنّ الكتب الثلاثة التي خلّفها قد دُوّنت جميعها في تلك الحقبة. 

ولعلّ من اللافت للنظر هنا أنّ هذه الفترة من التاريخ الإسلاميّ شهدت وجود مؤرّخين آخرين غير اليعقوبيّ، وهم عبارة عن:
1- عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري (213 ـ 276 هـ). وكتبه المعروفة في مجال التاريخ هي: كتاب المعارف، وكتاب عيون الأخبار، وكتاب الإمامة والسياسة2.

2- أحمد بن يحيى البلاذري (279 هـ). وكتبه المعروفة في مجال التاريخ هي: كتاب فتوح البلدان، وكتاب أنساب الأشراف3.

3- أبو حنيفة أحمد بن داود الدّينوريّ (282 هـ)، وكتابه المعروف في مجال التاريخ هو: الأخبار الطوال4.

وللأسف الشديد، ونتيجةً لعدم توفّر المعلومات الكافية عن حياة اليعقوبيّ، فإنّنا لا نعلم ما إذا كان اليعقوبيّ - الذي كان معاصراً لهؤلاء المؤرّخين- قد
 

1- وينبغي أن يُعلم أنّ البعض هنا يظنّ بأنّ اليعقوبيّ تسامح في ذكر أخبار العبّاسيّين. راجع: شاكر مصطفى، نفس المصدر، ج1، ص252. مع أنّ اليعقوبيّ ذكر مثالبهم صراحةً.
2- راجع: خير الدّين الزركليّ، الأعلام، قاموس تراجم...، ج4 (بيروت: دار العلم للملايين، 1989، الطبعة الثامنة)، ص137. مع العلم بأنّ كتاب الإمامة والسياسة منسوب إلى ابن قتيبه، وإن كان في الواقع يوجد شكّ في هذه النسبة.
3- راجع: نفس المصدر، ج1، ص267.
4- راجع: نفس المصدر، ص123.
 
 
 
 
 
120

 


114

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 جالسهم وحدّثهم أم لا، ولا نعلم ما إذا كان قد جرى حوار ومراسلات بينه وبينهم أم لا؟ لكن، على أيّ حال، فإنّ ما عُرف به اليعقوبيّ من الشغف والحرص على تقصّي ومعرفة الأخبار التاريخيّة، يجعلنا نظنّ بأنّه كان على علاقة بهولاء المؤرّخين، كما بغيرهم أيضاً. أضف إلى ذلك، أنّ اليعقوبيّ - كما سنبيّن لاحقا ً- استطاع في النصف الثاني من القرن الثالث أن يؤلّف كتابه في التاريخ، والذي كتبه بأسلوبٍ بديع، حتّى عُرف هذا الكتاب في أوساط المؤرّخين المسلمين بأنّه أوّل كتاب يُصنّف في مجال التاريخ العامّ.


دـ مذهبه: لا شكّ ولا ريب أنّ أحمد بن واضح اليعقوبيّ كان من أتباع مدرسة ومذهب التشيّع. وقد ذكرنا سابقاً أنّ جدّه واضحاً كان شيعيّ المذهب أيضاً، وأنّه قد دفع حياته ثمناً لمساعدته إدريس بن عبد الله بن الحسن بالهرب إلى المغرب1. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يقال: إنّ وجود التشيّع في أسرة اليعقوبيّ أمر متأصّل، وله جذور قديمة، لكن مع ذلك، فقد كان اليعقوبيّ وآباؤه من أعوان الخلفاء العبّاسيّين، وغيرهم من الملوك والحكّام، والذين كانوا - إجمالاً - ينتمون إلى أهل السنّة، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ التشيّع في أسرة اليعقوبيّ كان من النوع المعتدل, وبعيداً عن العصبيّة. مع العلم بأنّ تلك الفترة أيضاً شهدت وجود عددٍ من أتباع مذهب الشيعة الاماميّة في عداد المشتغلين ببعض المناصب والإدارات في الدولة العبّاسيّة، رغم معروفيّتهم بالتشيّع. ولعلّ من أبرز الأمثلة على ذلك عليّ بن يقطين الذي تولّى منصباً في الدولة العبّاسيّة بناءً على أمرٍ من الإمام موسى الكاظم2 عليه السلام.
 

1- راجع: الطبريّ، مصدر سابق، ج8، ص198.
2- راجع: رسول جعفريان، مصدر سابق، ص155.
 
 
 
 
121

115

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 إنّ قراءة تاريخ اليعقوبيّ ترشد - بوضوح - إلى أنّ هذا الكتاب قد صُنّف بميولٍ شيعيّة، وأنّ كاتبه لم يعمل أصلاً على إخفاء هذا الميل لديه1، فهو قد تحدّث بوضوحٍ عن كلٍّ من حديث الغدير، وحديث الثقلين2. وعندما تعرّض لذكر الخلفاء الراشدين لم يُطلق على أحدٍ منهم اسم "أمير المؤمنين" باستثناء عليّ بن أبي طالب عليه السلام3. وفيما يرتبط بحادثة السقيفة أيضاً، نقل اليعقوبيّ أخباراً تنسجم وتتّفق مع الأخبار التي نقلها الشيعة في هذه الحادثة4. وقد أكّد فرانتس روزنتال على تشيّع اليعقوبيّ، مستنداً في ذلك إلى أنّ هذا الأخير كان يعطي الأولويّة للروايات والنقولات الشيعيّة5.


ومن هذا المنطلق، فإنّ ما صنعه العلّامة السيّد محسن الأمين (1282 ـ 1371 هـ) في كتابه "أعيان الشيعة" من عدّ اليعقوبيّ في عداد كبار الشخصيّات المرموقة يمثّل عملاً صائباً وصحيحاً6، وكذلك أيضاً يُعدّ صحيحاً ودقيقاً ما صنعه العلّامة محسن بن عليّ الطهرانيّ المعروف بـ آقا بزرك (1293 ـ 1389
 

1- راجع: شاكر مصطفى، نفس المصدر، ج1، ص152.
2- راجع: اليعقوبيّ، نفس المصدر، ج2، ص112.
3- راجع: صادق آئينه وند، نفس المصدر، ص70.
4- راجع: اليعقوبيّ، نفس المصدر، ج2، ص123 ـ 126؛لمعرفة مدى اعتبار رواية اليعقوبيّ بالنسبة إلى السقيفة، راجع: حسين محمّد الجعفريّ، تشيع در مسير تاريخ، ترجمة سيد محمّد تقى آيت اللهى (طهران: مركز نشر الثقافة الإسلاميّة، 1374،الطبعة الثامنة)، ص54 ـ 56.
5- فرانتس روزنتال، تاريخ تاريخ نكارى در اسلام، ج1، ترجمة أسد الله آزاد (مشهد: مؤسّسة وطباعة انتشارات عتبة قدس الرضوي، 1366، الطبعة الثانية)، ص156. قال فرانتس روزنتال في توصيف المؤرّخين من أتباع غير المذهب السنّي (الشيعة): "إنّ السلاح الأساس الذي يملكه المؤرّخ الشيعيّ هو الحرّية في حذف مادّةٍ ما كان قد أخذها من المصادر، أو إضافة مادّةٍ كان قد أخذها من مصادر أخرى، الأمر الذي لم يكن يُعدّ دائماً عملاً تاريخيّاً بحسب المفهوم الواقعيّ للعمل التاريخيّ، لكنّ مثل هذا العمل كان متوقّعاً منه، ويمكن لنا أن نقف على مدى عملانيّة هذا النهج، بالإضافة إلى التنقيحات المعتدلة، في كتاب تاريخ اليعقوبيّ..". نفس المصدر، ج1، ص79. ويأمل مؤلّف هذه المقالة في مجال آخر، ومن خلال الردّ على هذا الكلام، و التأكيد على الإنصاف العلميّ لليعقوبيّ، أن ينتقد كلام روزنتال هذا بالتحقيق والتدقيق في مضمون متن تاريخ اليعقوبيّ.
6- راجع: السيّد محسن الأمين، أعيان الشيعه، ج3، تحقيق حسن الأمين (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، بلا تاريخ)، ص201 ـ 203.
 
 
 
 
122

116

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 هـ) في كتابه "الذريعة إلى تصانيف الشيعة"، من ذكره كتاب "تاريخ اليعقوبيّ" في عداد المصنّفات والكتب الشيعيّة1.


وهنا، وبعد أن عرفنا أنّ اليعقوبيّ ينتمي إلى التشيّع، يمكن أن يُطرح السؤال التالي، وهو أنّه إلى أيّ فرقةٍ من فرق الشيعة كان هذا الانتماء؟

وفي معرض الجواب عن هذا السؤال، ونظراً إلى قلّة المعلومات الصريحة المتوفّرة عن حياة اليعقوبيّ، لا نجد لنا مفرّاً من العودة إلى كتبه ومؤلّفاته. وهنا تحديداً، وبالرجوع إلى تاريخ العقوبي، يمكن لنا أن نقف على أمرٍ مهمّ ولافت جدّاً، وهو أنّ اليعقوبيّ عندما كان بصدد الحديث عن تواريخ الخلفاء، تعرّض لأحوال الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، وتحت عنوان خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وخلافة الحسن بن عليّ عليه السلام، تعرّض للحديث عن سيرة هذين الإمامين العظيمين عليهما السلام، ثمّ تناول سيرة الخلفاء واحداً واحداً منتهجاً في ذلك أسلوب التاريخ السياسيّ، ثمّ في الوقت عينه، تحدّث بشكلٍ موجزٍ في أبحاثٍ مستقلّةٍ من كتابه عن كلّ واحدٍ من الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، ذاكراً في ذلك عناوين متعدّدة، منها: وفاة الحسن بن عليّ عليه السلام، مقتل الحسين بن عليّ عليه السلام، وفاة عليّ بن الحسين عليه السلام، وفاة أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، وفاة أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليه السلام، وفاة موسى بن جعفر عليه السلام، وفاة الرضا عليّ عليه السلام2، ونقل جملةً من كلماتهم عليهم السلام. ثمّ ذكر خبر وفاة الإمام الهادي عليه السلام ضمن أخبار المعتزّ العبّاسيّ3.
 

1- راجع: آقا بزرك الطهرانى، الذريعة إلى تصانيف الشيعه، ج3 (بيروت: دار الأضواء، بلا تاريخ)، ص296 ـ 297.
2- الموارد المذكورة، في فهرس كتاب تاريخ اليعقوبيّ (نهاية المجلّد الثاني )، يمكن الإشارة إليها بشكل واضح راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص515 ـ 516.
3- راجع: نفس المصدر، ص503.
 
 
 
 
123

117

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وفي نفس السياق، يمكن ملاحظة أنّ اليعقوبيّ لم يأتِ في تاريخه على ذكر سيرة ووفاة الإمامين العظيمين الإمام الجواد عليه السلام والإمام العسكريّ عليه السلام، لكن مع العلم بأنّ وفاة الإمام العسكريّ عليه السلام كانت في العام 260 هـ، أي أنّها حدثت بعد فراغ اليعقوبيّ من تأليف الكتاب ـ في سنة 259 هـ ـ.


وعلى كلّ حال، فإنّ اليعقوبيّ قد أولى اهتماماً كبيراً بالحديث عن جميع الأئمّة الأطهار تقريباً، وهذا الاهتمام، إلى جانب تأكيد اليعقوبيّ البالغ على الدور الذي قام به الأئمّة على صعيد تطوّر العلم والحكمة، يمكن أن يُعدّ دليلاً واضحاً على أنّ اليعقوبيّ كان يرى نفسه من أتباع هؤلاء الأئمّة، وأنّه كان إماميّ المذهب1، ولا سيّما أنّه لا يوجد لدينا في المقابل أيّ دليلٍ يدلّ على أنّ اليعقوبيّ كان يميل إلى أيٍّ من الفرق الشيعيّة الأُخرى، من الزيديّة أو الإسماعيليّة أو غيرهما، بل على العكس من ذلك، فإنّنا نرى أنّ اليعقوبيّ لم يسلّط الضوء كثيراً على ثورة زيد، ولم يتحدّث كثيراً عن إسماعيل، الأمر الذي يصلح دليلاً على أنّه لم يكن له ميل إلى تلك الفرق2.

2- أعمال اليعقوبيّ ومؤلّفاته
والآن، وبعد أن تعرّفنا على نبذةٍ من سيرة اليعقوبيّ، تصل النوبة للتعرّف على كتاباته وآثاره العلميّة، والتي تحتوي على عددٍ من المؤلّفات التاريخيّة والجغرافيّة.

في كتابه "معجم البلدان"، تحدّث ياقوت الحمويّ (المتوفّى سنة 262 هـ) عن اليعقوبيّ ومصنّفاته، فذكرها على الشكل التالي: 
1- كتاب التاريخ، كتاب كبير.
 

1- راجع: فرانتس روزنتال، نفس المصدر، ج1، ص156.
2- و راجع هنا أيضاً: رسول جعفريان، نفس المصدر، ص155 ـ 156.
 
 
 
 
124

118

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 2- كتاب أسماء البلدان، مجلّد واحد.

3- كتاب في أخبار الأمم السالفة، كتاب صغير الحجم.
4- كتاب مشاكلة النّاس لزمانهم1.

بدوره، لم يذكر عمر كحالة في كتابه "معجم المؤلفين" لليعقوبيّ إلّا هذه الكتب الأربعة2. ولكن، واستناداً إلى بعض الدراسات التي أُجريت، فقد أشار إلى أنّ لليعقوبيّ مؤلّفاتٍ أُخرى زائداً على العناوين المذكورة، وهي كالتالي:
5- كتاب فتوحات وإنجازات طاهر بن الحسين، والذي صرّح هو بتصنيفه3.

6- جغرافيا الإمبراطوريّة البيزنطيّة4.

7- فتح أفريقيا وأخبارها5، أو تاريخ فتوحات أفريقيا6، والذي صرّح اليعقوبيّ نفسه بأنّه قد صنّفه7، وإن كان بعضهم عنون هذا الكتاب باسمٍ آخر، وهو: فتوح المغرب8.

8- كتاب الممالك والمسالك، والذي قد صُرّح في الملحقات المنضمّة إلى كتاب البلدان أنّه من المصنّفات التي تركها اليعقوبيّ9. وذهب العلّامة السيّد محسن الأمين إلى اعتبار هذا الكتاب مصنّفاً مستقلّاً10.
 

1- ياقوت الحمويّ، نفس المصدر، ج5، ص153 ـ 154. وقد تحدّث عن حجم الكتب الثلاثة الأُولى، نقلاً عن هذا المصدر.
2- عمر رضا كحّالة، نفس المصدر، ج1، ص102.
3- اليعقوبيّ (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص442.
4- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، مقدّمة المترجم، ص11.
5- رسول جعفريان، نفس المصدر، ص156.
6- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، مقدّمة المترجم، ص11.
7- اليعقوبيّ، (البلدان ـ عربي)، ص109.
8- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسي)، ج1، مقدّمة المترجم، ص21.
9- "حكى أحمد بن يعقوب صاحب كتاب المسالك والممالك..". اليعقوبيّ، (البلدان ـ عربي) ص118.
10- السيّد محسن الأمين، نفس المصدر، ج3، ص202.
 
 
 
 
 
125

119

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 9- كتاب ملوك الروم، والذي ألّفه اليعقوبيّ خلال فترة إقامته في أرمينيا - قبل العام 260 هـ - 1، وقد صرّح هو نفسه بتأليفه له2.


وعلى هذا الأساس، تكون مصنّفات اليعقوبيّ وكتبه قد بلغت التسعة، لكن، وللأسف الشديد، لم يتبقّ من هذه الكتب التسعة في متناول أيدينا إلّا ثلاثة فقط، وهي: كتاب التاريخ (تاريخ اليعقوبيّ)، كتاب البلدان (أسماء البلدان)، وكتاب مشاكلة النّاس لزمانهم.

أمّا كتاب التاريخ، بطبعته الموجودة حاليّاً، فينتهي بذكر آخر أحداث سنة 259 هـ3. وأمّا كتاب مشاكلة النّاس لزمانهم فقد انتهى إلى أخبار المعتضد الخليفة العبّاسيّ (279 ـ 289 هـ) 4. وأمّا بالنسبة إلى تاريخ تأليفه لكتاب البلدان فسيأتي الحديث عنه مفصّلاً، وإنّما نقول هنا - على سبيل الإجمال - بأنّ هذا الكتاب قد تمّ الفراغ من تدوينه في واحدةٍ من السنوات التالية، وهي: 278 أو 279 أو 292 هـ.

والذي لا شكّ فيه أنّ هذه الكتب الثلاثة التي خلّفها اليعقوبيّ تدلّ بوضوح على أنّ مؤلّفها كان عالماً فذّاً وذا باعٍ في ثلاثةٍ من فروع العلوم الإنسانيّة، وهي: التاريخ، والجغرافيا، والاجتماعيّات.

ففي كتاب مشاكلة النّاس لزمانهم، ابتكر اليعقوبيّ نظريّةً جديدةً في علم الاجتماع، تقوم هذه النظريّة على فكرة أنّ النّاس يشاكلون حكّامهم. وقد أتقن اليعقوبيّ صناعة هذه النظريّة وأحكم بنيانها بدقّة، الأمر الذي دفع مؤلّف هذه المقالة إلى التفكير بقراءة هذا الكتاب، وتحليل هذه النظريّة بشكلٍ تفصيليّ
 

1- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، مقدّمة المترجم، ص12.
2- اليعقوبيّ، (البلدان ـ عربي)، ص85.
3- راجع نهاية المجلّد الثاني من كتاب تاريخ اليعقوبيّ.
4- راجع كتاب مشاكلة النّاس لزمانهم.
 
 
 
 
126

120

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وفي دراسةٍ مستقلّة. والذي يجب أن نعرفه الآن هو أنّ هذا الكتاب، رغم ما له من قيمة كبيرة، لكنّه بقي مجهولاً وغير معروف، ولم يحظَ بنفس درجة الاشتهار والمعروفيّة التي بلغها كتابا اليعقوبيّ الآخران - أعني: التاريخ والبلدان -، ولعلّ بقاء هذا الكتاب تحت ستار المجهوليّة عائد إلى أنّ القرّاء وروّاد الكتب- في الأزمنة الماضية - لم يمتلكوا معرفةً وأنساً بمسائل علم الاجتماع وأبحاثه. كما يُحتمل أيضاً أن يكون عدم الاهتمام الكافي بهذا الكتاب مردّه إلى كونه كتاباً صغير الحجم، ما جعل الآخرين يغفلون عنه وعن تدارس ما جاء فيه.


هذا, ومن نافلة القول أنّ تأكيدنا هنا على أهمّيّة وقيمة كتاب مشاكلة النّاس لزمانهم لا يعني - على الإطلاق - أنّنا بصدد الدعوة إلى التغاضي عن كتب اليعقوبيّ الأُخرى أو إغفالها وعدم الاهتمام بها، بل إنّ لكلٍّ من كتابيه الآخرين (التاريخ والبلدان) مجاله العلميّ الخاصّ، الذي يختلف به عن الآخر، (فالأوّل مجاله التاريخ، والثاني مجاله الجغرافيا)، وكلّ منهما هو من أقدم الكتب وأكثرها اعتباراً في مجاله، بحيث لا يستطيع أيّ باحث في ذاك المجال أن يستغني عن الرجوع إليه.

وبناءً على هذا، فنحن في تتمّة هذه المقالة نسعى إلى التعريف بهذين الكتابين، كلّ على حدة:
أ- التعريف بكتاب التاريخ:
لا شكّ في أنّ هذا الكتاب يُعدّ أشهر كتب اليعقوبيّ على الإطلاق. ومن هنا، ولحسن الحظّ، وُجدت أبحاث كثيرة تتناول بالدراسة - تفصيلاً - الأسلوب والنهج الذي اتّبعه اليعقوبيّ في تدوين هذا الكتاب1. وقد ذُكر هذا الكتاب في الكتب والمصادر المتعدّدة التي تعرّضت له بأسماء وعناوين مختلفة، من قبيل:
 

1- راجع: ياسين الجعفريّ، نفس المصدر، ص73 ـ 92؛ حسين عاصي، نفس المصدر، ص61 ـ 112.
 
 
 
 
127

121

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 تاريخ ابن واضح، أخبار العبّاسية، التاريخ الكبير، تاريخ العالم و... 1. لكنّ الاسم الأكثر رواجاً لهذا الكتاب اليوم هو "تاريخ اليعقوبيّ".


وينبغي أن يُعلم هنا أنّه قد وقع الخلاف بينهم في تاريخ وزمان تأليف هذا الكتاب. لكن بعد الالتفات إلى أنّ هذا الكتاب ينتهي بأحداث سنة 259 هـ، يبدو لنا تاريخ فراغ اليعقوبيّ من تأليف هذا الكتاب كان قريباً من هذا الوقت، حيث كان لا يزال يعيش في شرق العالم الإسلاميّ2.

يتألّف كتاب تاريخ اليعقوبيّ في الأصل من قسمين، أحدهما منفصل عن الآخر، وبحسب تعبير المؤلّف نفسه: هو كتاب يحتوي على كتابين3. لكنّ الذي يُؤسف له، أنّ ثمّة نقصاً في مواضع من هذا الكتاب، بكلا قسميه، ومن بين هذه المواضع: ما في أوّل الكتاب - وتحديداً: في بداية القسم الأوّل منه -، حيث يُلاحَظ أنّ هذا القسم الأوّل يخلو من ديباجة المؤلّف وهي مفقودة بحسب النسخة الموجودة منه، في حين يحتوي القسم الثاني في بدايته على ديباجةٍ له، وفيما يلي نصّها:
"إنّه لما انقضى كتابنا الأوّل الذي اختصرنا فيه ابتداء كون الدنيا وأخبار الأوائل من الأمم المتقدّمة والممالك المتفرّقة والأسباب المتشعّبة، ألّفْنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدّمون من علماء الرواة وأصحاب السير والأخبار والتأريخات، ولم نذهب إلى التفرّد بكتاب نصنّفه ونتكلّف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا، لكنّا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات، لأنّا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم، وفي السنن والأعمال، وزاد بعضهم ونقص البعض، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا ممّا جاء به كلّ
 

1- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسي)، ج1، مقدّمة المترجم، ص24 و 25.
2- نفس المصدر، ص26 و 27.
3- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص5.
 
 
 
 
 
128

122

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 امرىءٍ، لأنّ الواحد منهم لا يحيط بكلّ العلم"1.


احتوى القسم الأوّل من كتاب تاريخ اليعقوبيّ على جملةٍ من العناوين، الكبيرة والفرعيّة، ونستطيع أن نتعرّف على هذه العناوين في ضمن فصولٍ ثلاثةٍ كلّيّة2:
1- تاريخ الأنبياء عليهم السلام.

2- تاريخ الملوك والأمم السابقة (كملوك السريان، وملوك نينوى، وملوك بابل، وملوك الهند، واليونان، والروم، وإيران، والصين، ومصر، والبربر، وأفريقيا، والحبشة، والسودان، واليمن، والشام والحيرة).

3- تاريخ العرب قبل الإسلام (عصر الجاهليّة).

وعلى هذا الأساس، يظهر لنا بشكلٍ واضح أنّ هذا القسم المشار إليه من تاريخ اليعقوبيّ، يعدّ في الواقع كتاباً في التاريخ العالميّ3، وفي التاريخ العامّ لمرحلة ما قبل الإسلام. ونظراً إلى أنّ كتاب اليعقوبيّ هذا متقدّم تأليفاً وتصنيفاً وزماناً على سائر الكتب التي تناولت هذا المجال، ككتاب محمّد بن جرير الطبريّ (242 ـ 310 هـ)، أو كتاب عليّ بن الحسين المسعودي (المتوفّى سنة 345 أو 346 هـ)، يمكن القول بسبق اليعقوبيّ وكونه في الطبقة متقدّماً على سائر المؤرّخين المسلمين.

وينبغي أن نعلم، أنّه إذا لاحظنا أحياناً أنّ في الأخبار التي ذكرها اليعقوبيّ في القسم الأوّل من كتابه شيئاً من الخرافات والأساطير4، فهذا - في
 

1- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسي) ج1، ص355. والجدير بالذكر أنّ المجلّد الثاني من متن كتاب تاريخ اليعقوبيّ، في الترجمة الفارسيّة، يبدأ من ص355 للمجلّد الأوّل.
2- ذهب العلّامة السيّد محسن الأمين إلى أنّ القسم الأوّل من كتاب تاريخ اليعقوبيّ يحتوي على ستّة أبواب. راجع: السيّد محسن الامين، مصدر سابق، ج3، ص202.
3- راجع أيضاً: شاكر مصطفى، نفس المصدر، ج1، ص250 و253.
4- راجع: نفس المصدر.
 
 
 
 
129

123

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 الحقيقة - يرجع إلى أنّ اليعقوبيّ - وكذا غيره من المؤرّخين المسلمين كالطبريّ والمسعودي وغيرهما - لم تتوفّر هذه الأخبار لديهم إلّا في المراحل البدائيّة للعلم والتصنيف، ولم تكن بأيديهم من آليّات البحث العلميّ وأدوات الدراسة والتحقيق ما هو متاح لنا في زماننا اليوم من الآليّات والأدوات والوسائل المتطوّرة. وهذا يعني أنّ اليعقوبيّ قد بذل قصارى جهده في سبيل أنّ يعرض الأخبار والنقولات قبل تدوينها وتصنيفها على ميزان العقل والمنطق. كما نراه يكتب عند حديثه عن ملوك فارس: "فارس تدّعي لملوكها أموراً كثيرة ممّا لا يقبل مثلها، من الزيادة في الخلقة، حتّى يكون للواحد عدّة أفواه وعيون، ويكون للآخر وجه من نحاس، ويكون على كتفي آخر حيّتان تطعمان أدمغة الرجال، وطول المدّة في العمر، ودفع الموت عن النّاس، وأشباه ذلك ممّا تدفعه العقول ويجري فيه مجرى اللّعبات والهزل، وممّا لا حقيقة له. ولم يزل أهل العقول والمعرفة من العجم، ومن له شرف، والبيت الرفيع من أبناء ملوكهم ودهاقينهم، وذوي الرواية والأدب، لا يحقّقون هذا ولا يصحّحونه ولا يقولونه"1.


وكما قلنا سابقاً، فإنّ ديباجة اليعقوبيّ على القسم الثاني للكتاب موجودة وواصلة إلينا، وهو قد ذكر فيها الرواة والمؤرّخين الذين أخذ عنهم الأخبار في هذا القسم المذكور من كتابه2

وأمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل من الكتاب - والذي هو موضع كلامنا هنا فعلاً -، فللأسف الشديد قد سقطت ديباجة المؤلف على هذا القسم من المتن، فلا سبيل لنا لكي نعلم ما هي المصادر التي اعتمد عليها اليعقوبيّ في تأليف هذا القسم، وإن كنّا نستطيع أن نستنتج
 

1- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسي)، ج1، ص193.
2- في القسم الثاني من الكتاب ومصادره سنبحث عنها بالتفصيل.
 
 
 
 
130

124

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 من تنوّع المطالب والمواضيع التي اشتمل عليها أنّ اليعقوبيّ كان يمتلك العديد من المصادر التي أخذ منها.


وقد شهدنا في دراسات متأخّرة على وجود مساعٍ للتعرّف على المصادر التي اعتمد عليها اليعقوبيّ في القسم الأوّل. وقد عبّر العلّامة السيّد محسن الأمين عن العناوين والمطالب التي ورد ذكرها في هذا القسم من كتاب اليعقوبيّ، وهي: ما يرتبط بتاريخ الأنبياء عليهم السلام، وما يرتبط بتاريخ بعض الملوك والشخصيّات والأمم السابقين عموماً، عبّر عنها بـ التاريخ القديم، وذكر أنّ أخبار هذه العناوين مستقاة من مصادر الموسويّين (اليهود)1، وعلى الأرجح، فهو كان يقصد بهذه المصادر الكتاب المقدس نفسه - أي: العهد القديم والعهد الجديد -. في حين أنّ دراساتٍ أُخرى أكثر تفصيلاً في هذا المجال، كتلك التي قام بها المستشرق الهولنديّ هوتسما (1851ـ 1943 م)، في مقدّمته التي كتبها على تاريخ اليعقوبيّ، أظهرت أنّ المصادر التي استند إليها اليعقوبيّ في تدوينه لتاريخ بني إسرائيل أو تاريخ الأنبياء عليهم السلام، تمثّلت تحديداً في الكتاب المقدّس، أي: نسخ الكتاب المقدّس التي كانت رائجةً ومتداولةً في بلاد المشرق، كما تمثّلت أيضاً في الأدب العرفانيّ لذلك العصر والذي كان اليعقوبيّ مطّلعاً عليه. كما مال هوتسما إلى الاعتقاد بأنّ من جملة المصادر الأساسيّة التي استقى منها اليعقوبيّ كثيراً من أخباره كان كتاباً بعنوان "كهف الكنوز"(sepluncathesaurorum)، والذي دعاه إلى اختيار هذا الرأي هو ما قام به من مقارنةٍ للترجمة الألمانيّة لهذا الكتاب بالأخبار والنقولات الواردة في القسم الأوّل من كتاب تاريخ اليعقوبيّ2.
 

1- السيّد محسن الأمين، نفس المصدر، ج3، ص202.
2- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسي)، ج1، مقدّمة المترجم، ص30 و 31 (نقلاً عن مقدّمة هوتسما على التاريخ).
 
 
 
131

125

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 كما ذهب هوتسما أيضاً إلى أنّ اليعقوبيّ اعتمد في نقله للأخبار التي ترتبط بتاريخ العرب قبل الإسلام (العصر الجاهليّ) وتاريخ بعض الملوك والأمم السابقة: كملوك اليمن، والشام، والحيرة، وكندة، اعتمد على نقولات أشخاصٍ كـ هشام بن محمّد بن سائب الكلبيّ، وعيسى بن يزيد بن دأب، وهيثم بن عديّ، والمدائنيّ والذي أتى على ذكر اسمه في مقدّمة القسم الثاني1.


وأمّا بالنسة إلى المقاطع أو الفصول الأُخرى التي اشتمل عليها هذا القسم الأوّل، - ومن جملتها ما يرتبط بـ تاريخ الهند القديم، والصين، واليونان، والروم، وإيران و...- فليس لدينا أيّ دليلٍ يخوّلنا معرفة المصادر التي استند إليها اليعقوبيّ في تدوين هذا القسم. هوتسما نفسه لم يستطع أنّ يتعرّف على شيءٍ من تلك المصادر، لكنّه مع ذلك اعترف بأنّ "المعلومات والأخبار والعناوين والمواضيع التي تناولها اليعقوبيّ في هذا القسم، كائناً ما كان مصدرها ومستندها، فإنّ اليعقوبيّ يُعدّ أفضل من كثيرٍ غيره من المؤرّخين بالنظر إلى موادّ الأخبار التي نقلها، وخلوّها إلى حدٍّ كبير من الخرافات والأساطير التي لا أساس لها"2.

وعلى هذا الأساس، من الطبيعيّ أن تكون المعلومات الموجودة في تاريخ اليعقوبيّ موضع نظرٍ واهتمام في الدراسات والأبحاث التي تجري في أيّ مجال من مجالات التاريخ العالميّ. 

واللافت هنا أنّ المستشرق الدانماركيّ كريستن سان، المختصّ بالتاريخ الساساني، والذي ألّف كتباً في هذا المجال، اعتبر أنّ تاريخ اليعقوبيّ من بين كلّ كتب التاريخ الموجودة لمؤرّخي العرب والإيرانيّين هو أوّل المصادر المعتبرة فيما يرتبط بتاريخ الساسانيّين3.
 

1- نفس المصدر، ص33 (نقلاً عن مقدّمة هوتسما على التاريخ).
2- نفس المصدر، ص33 (نقلاً عن مقدّمة هوتسما على التاريخ).
3- راجع: آرتور كريستن سن، ايران در زمان ساسانيان، ترجمة رشيد ياسمي (طهران: دنياى كتاب، 1372،الطبعة الثامنة)، ص110.
 
 
 
 
132

126

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 ومن بين الأخبار والمعلومات القيّمة جدّاً التي اشتمل عليها القسم الأوّل من تاريخ اليعقوبيّ، يمكن الإشارة - على سبيل المثال - إلى ما ذكره اليعقوبيّ ممّا له علاقة باليونانيّين، من الإشارة إلى كتبٍ معرفيّةٍ جامعة ألّفها جمع من علماء اليونان، ككتابي بقراط1 وجالينوس2 في علم الطبّ، أو كتب ذيمقراطيس3، وإقليدس4، ونيقوماخوس5، وأرسطو6، وبطليموس7، في الحكمة والرياضيّات. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ اليعقوبيّ تحدّث عن علماء اليونان وكتبهم ومؤلّفاتهم قبل أن يأتي أصلاً على ذكر ملوكهم.


ومن هنا، وبناءً على أنّ اليعقوبيّ كان يقدّم الحديث عن الكتب والمؤلّفات العلميّة على الحديث عن أخبار الملوك والحكّام، لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ اليعقوبيّ في تدوينه للتاريخ كان في الواقع مهتمّاً بالجانب الثقافيّ - الحضاريّ أكثر من اهتمامه بالجانب السياسيّ8، إلى حدّ أنّ فرانتس روزنتال يعترف بأنّ أخبار التاريخ الثقافيّ كثيراً ما تأخذ مكان أخبار التاريخ السياسيّ في تاريخ اليعقوبيّ9. وفي هذا الإطار، يمكن أن نلاحظ- بوضوح- أنّ اليعقوبيّ في سياق عرضه لتاريخ الأمم والشعوب السابقة تحدّث عن العديد من الجوانب وضمّن أخباره العديد من الموادّ العلميّة والحضاريّة المتنوّعة، ومن هنا، فقد وُصف
 

1- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج1، ص95 ـ 114.
2- راجع: نفس المصدر، ص114 ـ 118.
3- راجع: نفس المصدر، ص119.
4- نفس المصدر، ص120 ـ 123.
5- راجع: نفس المصدر، ص123 ـ 126.
6- راجع: نفس المصدر، ص127 ـ 133.
7- راجع: نفس المصدر، ص133 ـ 143.
8- للمطالعة أكثر في هذا المجال، راجع: ياسين الجعفريّ، نفس المصدر، ص98 ـ 104؛ شاكر مصطفى، نفس المصدر، ج1، ص250.
9- فرانتس روزنتال، نفس المصدر، ج1، ص155 ـ 156.
 
 
 
133

127

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 تاريخ اليعقوبيّ بأنّه موسوعة علميّة تاريخيّة1.


وفي هذا المجال، نوافق ما ذهب إليه شاكر مصطفى حينما قال: إنّ هذا الحجم الكبير للمعلومات التي أوردها اليعقوبيّ في كتابه هو في الحقيقة حصيلة أسفاره الطويلة والبعيدة في طلب العلم والمعرفة2.

والآن، وبعد أن تعرّفنا على القسم الأوّل من تاريخ اليعقوبيّ، نتعرّف أيضاً، وبشكلٍ إجماليّ، على القسم الآخر من الكتاب:
وقد قلنا سابقاً إنّ ديباجة اليعقوبيّ على القسم الثاني من الكتاب- لحسن الحظّ- موجودة وفي متناول أيدينا، ونستطيع من خلال قراءتها أن نتعرّف على المنهج الذي اعتمده في هذا القسم، وعلى محتواه، وعلى الرواة الذين استند إليهم فيه. كما تحتوي هذه الديباجة- المقدّمة أيضاً على حكمٍ وأقوال مأثورة - من بينها ما نقله عن أمير المؤمنين عليه السلام في فضيلة العلم وطلبه 3:
القسم الثاني من تاريخ اليعقوبيّ تناول فيه التاريخ الإسلاميّ خاصّةً، بدءاً بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهاءً بخلافة المعتمد العبّاسيّ، لينتهي بذكر حوادث العام 259 هـ. وقد أشار اليعقوبيّ نفسه في ديباجة هذا القسم إلى هذا المحتوى، إذ قال: "أبتدئ كتابنا هذا من مولد رسول الله وخبره في حال بعد حال ووقت بعد وقت إلى أن قبضه الله إليه، وأخبار الخلفاء بعده وسيرة خليفة بعد خليفة وفتوحه، وما كان منه وعمل به في أيّامه وسِني ولايته"4.
 

1- راجع: هـ. آ. ر. كيب، تطور تدوين التاريخ في الإاسلام تاريخ نكارى در اسلام (مجموعه مقالات)، ترجمة وتدوين يعقوب آزند (طهران: نشر كستره، 1361،الطبعة الأولى)، ص22.
2- راجع: شاكر مصطفى، نفس المصدر،ج1، ص249 ـ 250.
3- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص5.
4- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسي)، ج1، ص356 ـ 357.
 
 
 
 
134

128

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 لذلك، وبحسب هذا التصريح من قبل اليعقوبيّ، وبحسب دراستنا للقسم الثاني من تاريخه، يمكن القول بأنّ اليعقوبيّ رتّب هذا القسم من كتابه على أساس فترات حكم الحكّام المسلمين، من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مروراً بالخلفاء واحداً تلو الآخر. ومن هنا يمكن أن يُعدّ هذا القسم من الكتاب كتاباً في التاريخ السياسيّ، وإن كان لم يغفل عن سائر الجوانب التاريخيّة الاُخرى أيضاً، بل هو قد اهتمّ في هذا القسم، كما في القسم الأوّل، بالجوانب الثقافيّة والحضاريّة اهتماماً بالغاً1. وعلى كلّ حال، فلا يسعنا هنا أن نقبل ما ذكره بعض الباحثين من أنّ تدوين هذا القسم وترتيبه جاء مبنيّاً على مراعاة التسلسل الزمنيّ للأحداث2، وذلك لأنّ الترتيب الذي يلحظ التسلسل الزمنيّ للأحداث إنّما يسرد الأحداث ويستعرضها كما وقعت، عاماً بعد عام، ولا يكون البناء فيها على ملاحظة الحكّام وفترات حكمهم.


إلى هنا نكون قد تعرّفنا على أسلوب اليعقوبيّ ومنهجه في ترتيب الأحداث وتنظيم المواضيع التاريخيّة، ويبقى أن نتعرّف على أسلوبه ومنهجه في تدوينه للتاريخ، وذلك من خلال كيفيّة تأليفه للكتاب ونقله للأخبار فيه3، يحدّثنا هو في هذا المجال، يقول: "قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنّا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال، وزاد بعضهم ونقص بعض، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا ممّا جاء به كلّ امرئ منهم"4.
 

1- فرانتس روزنتال، نفس المصدر، ج1، ص155 ـ 156.
2- سيد صادق سجادي وهادي عالم زاده، تاريخ نكارى در اسلام (طهران:مؤسسة مطالعة وتدوين كتب العلوم الإنسانيّة الجامعيّة "سمت" 1375ش الطبعة الأولى) ص118.
3- لمعرفة الفرق بين"الطريقة"و" المنهج" راجع: نفس المصدر، ص37، الهامش 1 وص 70.
4- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص5.
 
 
 
 
135

129

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وهنا، لا بدّ لنا أن نعلم بأنّ اليعقوبيّ قد استند في تأليف كتابه إلى العديد من المصادر، ولكن من دون أن يذكر سلسلة الإسناد، لذلك جاء عمله في هذا الكتاب مشابهاً لعمل الدّينوريّ (المتوفّى سنة 282 هـ) في كتابه "الأخبار الطوال"، وكذلك لعمل المسعوديّ (المتوفّى سنة 345 أو 346 هـ) في كتابه "مروج الذهب"، مخالفاً بذلك ما صنعه الطبريّ في تاريخه. 


وقد عُبّر عن منهج اليعقوبيّ هذا بـ المنهج التاريخيّ - في مقابل المنهج الحديثيّ -1. وبحسب التعبير المتداول يمكن لنا أن نعتبر أنّ منهج اليعقوبيّ في تدوين التاريخ يعتمد من بين المناهج الثلاثة: الروائيّ، والتحليليّ، والتركيبيّ، على المنهج التركيبيّ2، حيث إنّه وبدل أن يذكر الروايات والأسانيد المختلفة لحدث واحد يذكره في خبرٍ واحد، بعد أن يقوم بمقايسةٍ ومقارنةٍ وتوفيقٍ بين العديد من الروايات، ومن الواضح جدّاً أنّ قيام المؤلّف بانتقاء الروايات وتمحيصها وإعادة صياغتها عبر المقايسة والمقارنة والتحليل هو أمر لا يخلو من صعوبة3.

وأمّا ما يرتبط بمنهجه في السبك والصياغة، فهناك أمر مهمّ يمكن ملاحظته أيضاً، وهو رعايته للإيجاز والاختصار، وقد كتب في ديباجته على القسم الثاني: "وقد جعلناه كتاباً مختصراً، وحذفنا الأشعار والأخبار الطويلة"4. كما اعتمد اليعقوبيّ أيضاً نفس هذا الأسلوب في تأليفه لكتابه الآخر المعروف "البلدان"، وهو قد سمّاه في الأصل بـ "مختصر أخبار البلدان"5. واللافت هنا، أنّ اليعقوبيّ في مقدّمته على القسم الثاني من كتاب التاريخ، وفي ديباجته التي كتبها على كتاب البلدان أيضاً، نقل كلاماً عن بعض الحكماء، جاء فيه:
 
 

1- راجع: رسول جعفريان، نفس المصدر، ص157.
2- سيد صادق سجادي وهادي عالم زاده، نفس المصدر، ص43 ـ 44.
3- نفس المصدر، ص44.
4- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص6.
5- سنتعرّف في هذه المقالة على كتاب البلدان بالتفصيل.
 
 
 
 
136

130

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 "ليس طلبي للعلم طمعاً في بلوغ قاصيته، والاستيلاء على غايته، ولكن ألتمس شيئاً لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه"1.


ومن خلال المقارنة بين تاريخ اليعقوبيّ وبين سائر الكتب التاريخيّة، نجد أنّ اليعقوبيّ قد تمكّن من الحصول على أخبار فريدة نكاد لا نعثر عليها في الكتب الأُخرى، يعود السبب في ذلك إلى توفّر بعض المصادر لديه. كما أنّ من اللافت للنظر حجم الوثائق الرسميّة الموجودة في هذا الكتاب، والتي لا نشاهد مثيلاتها في الكتب الأُخرى، وقد ورد فيه أكثر من 460 رسالة ومكاتبة، وهو وإن كان لم يشر إلّا إلى البعض منها، لكنّ في مواضع أُخرى من الكتاب كان يذكر متون هذه الرسائل. أضف إلى هذا أنّ بعض الأخبار التي نقلها اليعقوبيّ في تاريخه تختلف عمّا هو متداول من الأخبار في سائر الكتب والمصادر، ومن الممكن أن ترشد الباحث المتتبّع إلى الواقع والحقيقة2، كما أنّ تاريخ اليعقوبيّ كان في بعض الأحيان يشتمل على معلومات تاريخيّة لا وجود لها أصلاً في شيءٍ من المصادر الأُخرى، وقد تفرّد هو وحده بنقلها3.

ورغم حرص اليعقوبيّ في تاريخه على مراعاة أسلوب الإيجاز والاختصار، لكنّه مع ذلك استطاع أن يستعرض أهمّ الإنجازات والخطوات والمواقف التي قام بها كلّ خليفةٍ تحدّث عنه في كتابه، وصبّ ذلك في قالبٍ من الأخبار والتقارير والنقولات الواضحة والبيّنة. كما نجده يهتمّ أيضاً بالجانب الأخلاقيّ، حتّى ليشعر القارئ للكتاب كأنّ الفائدة والغرض من علم التاريخ إنّما هو الالتفات إلى هذه الجوانب الأخلاقيّة والتربويّة4. ومن اللافت للانتباه أيضاً، أنّ اليعقوبيّ
 

1- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص5 و (البلدان ـ فارسي)، ص2.
2- راجع: رسول جعفريان، نفس المصدر، ص158.
3- راجع: شاكر مصطفى، نفس المصدر، ج1، ص252.
4- راجع: المصدر نفسه.
 
 
 
 
137

131

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 الذي عاش في العصر العبّاسيّ الثاني - كما ذكرنا مراراً -، استطاع أن يتنبّه للضعف الشديد الذي كان يعاني منه خلفاء وملوك عصره، فما كان منه إلّا أن كان يصرّح بذكر أسماء أولئك الرجال الذين كانوا يهيمنون على مواقف الخليفة وتصرّفاته1.


وآخر النقاط المهمّة التي يمكن ملاحظتها في مقدّمة اليعقوبيّ على القسم الثاني من تاريخه، هي فهرست أسماء الرجال الذين روى عنهم جملةً من الأخبار، وهم على الترتيب التالي:
1- إسحاق بن سليمان بن عليّ الهاشميّ (من أشياخ بني هاشم).

2- أبو البختريّ وهب بن وهب القرشيّ (عن جعفر بن محمّد وغيره من رجال حديثه).

3- أبان بن عثمان (عن جعفر بن محمّد).

4- محمّد بن عمر الواقديّ (عن موسى بن عقبة وغيره من رجال حديثه).

5- عبد الملك بن هشام (عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمّد بن إسحاق المطلبيّ).

6- أبو حسان الزياديّ (عن أبي المنذر الكلبيّ وغيره من رجاله).

7- عيسى بن يزيد بن دأب. 

8- الهيثم بن عديّ الطائيّ (عن عبد الله بن عبّاس الهمدانيّ).

9- محمّد بن كثير القرشيّ ( عن أبي صالح وغيره من رجاله).

10- عليّ بن محمّد بن عبد الله بن أبي سيف المدائنيّ.

11- أبو معشر المدنيّ.
 

1- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص470، 478، 483، 492، 493.
 
 
 
 
138

132

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 12- محمّد بن موسى الخوارزميّ المنجّم.


13- ما شاء الله، الحاسب في طوالع السنين والأوقات1.

وبالوقوف على هذا الفهرس نستطيع أن نستنتج أنّ اليعقوبيّ اعتمد في تدوين كتابه على كبار المؤرّخين المسلمين، وإن كانت مآخذه والمصادر التي اعتمد عليها لا تقتصر على المذكورين في هذا الفهرست، وقد أكّد اليعقوبيّ نفسه، بعد ذكره لهذا الفهرست، أنّه اعتمد في النقل على غير هؤلاء أيضاً2.

وفي ختام هذا المقطع من المقالة، لا بدّ لنا أن نعلم أنّ كتاب "تاريخ اليعقوبيّ" كان قد طبع ونشر للمرّة الأُولى في العام 1883ميلادي (1301 هـ) في هولندا، من قبل المستشرق الهولندي هوتسما ( 1851 ـ 1943 م)، وقد نشره آنذاك في مجلّدين، وقد ضمّ إلى المجلّد الأوّل مقدّمةً باللّغة اللّاتينيّة في التعريف باليعقوبيّ وفي عمله في تحقيق الكتاب. ثمّ طُبع بعد ذلك للمرّة الثانية في مجلّداتٍ ثلاثة في النجف الأشرف - تقديم وتعليق السيّد محمّد صادق بحر العلوم -، كان ذلك في سنة 1358هجري. وأمّا الطبعة المتداولة اليوم، فتقع في مجلّدين، وقد تمّ نشرها من قبل دار صادر في بيروت3. وأمّا الطبعة الفارسيّة، فهي من ترجمة محمّد إبراهيم آيتي، وطبعت في مجلّدين، وحملت عنوان "تاريخ اليعقوبيّ"4، ثمّ نُشر لاحقاً كتاب بعنوان "فهارس تاريخ اليعقوبيّ" في قم المقدّسة، اشتمل على فهرس مفصّلٍ ودقيق عن مطالب هذا الكتاب القيّم5.
 

1- اليعقوبيّ، (التاريخ ـ عربي)، ج2، ص6.
2- نفس المصدر.
3- راجع: اليعقوبيّ، (التاريخ ـ فارسى) ج1، مقدّمة المترجم، ص35، رسول جعفريان، نفس المصدر، ص156ـ 157.
4- طهران: شركة النشر العلميّ والثقافيّ 1341، الطبعة الأولى.
5- قم: مركز البحوث الكمبيوتريّة للعلوم الإسلاميّة، 1376 هـ. ش.
 
 
 
 
139

133

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 ب- التعرّف على كتاب البلدان:

هذا الكتاب المهمّ صنّفه اليعقوبيّ في مجال الجغرافيا، وهو- بلا شك - يُعدّ من المصادر الأساسيّة الجغرافيّة والتاريخيّة - على مستوى البلاد الإسلاميّ -. وقد كُتبت العديد من الدراسات الموسّعة حول المنهج الذي اتّبعه اليعقوبيّ في تأليفه لهذا الكتاب1. وعلى هذا الأساس، بات من المعلوم أنّ اليعقوبيّ من خلال تدوينه لكتاب "التاريخ" أظهر أنّه مؤرّخ قدير، كما أنّ من خلال تأليفه لكتاب "البلدان" أثبت تبحّره في مجال الجغرافيا أيضاً. ويمكن القول بأنّ اليعقوبيّ ترك لنا - كما هو شأن العلماء الكبار - كتاباً عظيماً في الجغرافيا، واستطاع أن يؤثّر في كثيرٍ من علماء الجغرافيا المسلمين ممّن جاؤوا بعده، ومن بينهم - مثلاً -: عليّ بن الحسين المسعوديّ ( المتوفّى سنة 345 أو 346 هـ)2.

كما يُعدّ هذا الكتاب أيضاً من أوائل المصنّفات الإسلاميّة التي أُلّفت في مجال معرفة البلدان والبقاع3، وإن كان هناك علماء مسلمون آخرون في مجال الجغرافيا: كابن خرداذبه وقدامة بن جعفر، تقدّموا على اليعقوبيّ في مجال التصنيف الجغرافيّ، حيث يعود تأليف الأوّل لكتابه إلى العام 250 هـ، ويعود تأليف الثاني لكتابه إلى العام 266 هـ4، لكنّ كتاب اليعقوبيّ امتاز من هذه المؤلّفات بما برز فيه من اهتمامٍ بمعرفة تاريخ وماضي البلدان التي تحدّث عنها، ومن هنا، يُعدّ كتابه كتاباً فريداً من نوعه في هذا المضمار، وهو متقدّم على سائر الكتب التي تناولت الجانب الجغرافيّ.
 

1- راجع: ياسين الجعفريّ، نفس المصدر، ص193 ـ 218.
2- راجع: نفس المصدر، ص219 ـ 240.
3- محمّد عبد الكريم الوافي، منهج البحث فى التاريخ والتدوين التاريخيّ عند العرب (بنغازى: منشورات جامعه قاريونس، 1990الطبعة الأولى)، ص225.
4- راجع: لسترنج، جغرافياى تاريخى سرزمين هاى خلافت شرقى، ترجمة محمود عرفان (طهران: شركة النشر العلميّ والثقافيّ، 1376، الطبعة الثالثة)، بعد ص23 (تتمّة المقدّمة).
 
 
 
 
140

134

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 لكن، وللأسف الشديد، فإنّ كتاب "البلدان" لليعقوبيّ لم يصل إلينا بشكل مكتمل، حيث فُقد منه جملة من فصوله المهمّة، وتحديداً تلك التي ترتبط بالحديث عن البصرة والحجاز والهند والصين وبيزنطية وأرمينيا1، غير أنّ هذا لم يمنع من أن يتوفّر كتاب اليعقوبيّ هذا على معلوماتٍ ومعطياتٍ يكاد لا يمكن الحصول عليها من كتابٍ أو مصدر آخر2


ولحسن الحظّ، فإنّ الديباجة التي كتبها اليعقوبيّ على هذا الكتاب لا تزال موجودة، وهو قد ضمّنها العديد من المسائل القيّمة فيما يرتبط بكيفيّة تصنيفه لهذا الكتاب.

وقد ذكروا أنّ اليعقوبيّ بدأ بتصنيف هذا الكتاب بعد العودة من رحلاته المختلفة التي قام بها في أرمينيا وخراسان والهند ومصر، وكان ذلك في العام 278 ـ 279 هـ حين إقامته في مصر. ولعلّ الدليل على هذا الكلام هو قول اليعقوبيّ نفسه في كتاب البلدان3: "المدّة التي تفصل بين بناء سرّ من رأى وعمارتها وبين تصنيفي لهذا الكتاب بنفسي خمسة وخمسون (55) عاماً"4. ومن هنا، يمكن اعتبار هذا التاريخ هو التاريخ النهائيّ لتدوين كتاب البلدان، قال بعد ذكر أسفاره الطويلة والبعيدة، والتي جمع فيها أخباره من سؤال النّاس الذين التقى بهم في بلدان مختلفة: "ثمّ أثبتُّ كلّ ما يخبرني به من أثق بصدقه، وأستظهر بمسألة قومٍ بعد قوم، حتّى سألتُ خلقاً كثيراً، وعالَماً من النّاس، في الموسم وغير الموسم، من أهل المشرق والمغرب، وكتبتُ أخبارهم، ورويتُ أحاديثهم... إلى أن يقول: فلم أزل أكتب هذه الأخبار وأؤلّف هذا الكتاب دهراً طويلاً، وأضيف كلّ خبر إلى بلده، وكلّ ما أسمع به من ثقات
 

1- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي) مقدّمة المترجم، ص12.
2- راجع: لسترنج، نفس المصدر، ص13.
3- راجع: اليعقوبيّ (البلدان ـ فارسي)، مقدّمة المترجم، ص12.
4- نفس المصدر، ص32؛ وهذا مبني على أنّ مدينة سامراء قد بنيت في عصر المعتصم العبّاسيّ سنة 223 أو 224 هجريّة.
 
 
 
 
141

135

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 أهل الأمصار إلى ما تقدّمت عندي معرفته"1. وفي هذا الضوء، يمكن لنا أن نستنتج أنّ اليعقوبيّ قد فرغ من تصنيف كتاب البلدان خلال أسفاره التي قام بها، تلك الأسفار الطويلة التي ختمها بالإقامة في مصر، وكان فراغه من تأليفه حوالي سنة 278 هـ، أو 279 هـ.


لكن ومع هذا كلّه، وكما تقدّمت الإشارة إليه، فإنّنا نجد في فصل الملحقات المنضمّة إلى كتاب البلدان - في القسم الأخير منه - خبراً عن لسان اليعقوبيّ نفسه يذكر فيه صراحةً العام 292 هـ2. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفصل الذي فيه هذه الملحقات المذكورة اشتمل على أخبارٍ لمصنّفين من المتقدّمين مأخوذة من آثار اليعقوبيّ المختلفة3. وعلى هذا الأساس، فلا يسعنا إلّا أن نعتبر الخبر المذكور خارجاً عن متن كتاب البلدان.

وبالنظر إلى ذلك، فإذا قيل بأنّ هذا الخبر المذكور وارد في نسخة قديمة من كتاب البلدان، لكنّه غير وارد في النسخة المصحّحة - الطبعة الحاليّة -، إذا قيل بذلك، فيمكن أن يُضاف - ولو على سبيل الاحتمال- إلى تواريخ الفراغ من تأليف هذا الكتاب، يمكن أن تُضاف سنة 292 هـ إلى العامين 278 هـ و 279 هـ.

وعلى كلّ حال، وبالالتفات إلى ما ذكرناه من كلام اليعقوبيّ الموجز، يمكن لنا أن نعتبر أنّ كتاب البلدان هو حصيلة أسفاره العلميّة، وكما قلنا سابقاً، فإنّ اليعقوبيّ لم يتحدّث عن نفسه كثيراً، غير أنّه قد صرّح في ديباجة هذا الكتاب بأنّه قد قام بأسفار طويلة في عنفوان شبابه، وبقي متغرّباً عن وطنه لمدّةٍ طويلة، وتحمّل الصعاب وكابد المشاقّ، شوقاً منه إلى معرفة أخبار البلاد
 

1- راجع: اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، ص2.
2- راجع: اليعقوبيّ، (البلدان ـ عربي)، ص131.
3- راجع: نفس المصدر، ص118، الهامش المصحّح.
 
 
 
 
142

136

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 والمسافات بينها1. وهذا كلّه وإن كان يعكس صورة الإنسان الرحّالة، لكنّ أهمّيّة اليعقوبيّ لا تقتصر على أسفاره الطويلة والصعوبات التي كابدها، بل تكمن أيضاً في كيفيّة قيامه بهذه الأسفار، حيث قد بدت فيه واضحاً شخصيّة الباحث المحقّق أيضاً، وقد كان هذا أمراً طبيعيّاً بالقياس إلى أسفاره العلميّة، والتي سأل فيها أناساً كثيرين عن أمور كثيرة، وحصل على معلوماته من قنواتٍ متعدّدة، ثمّ أثبتها في كتابه بعد تقييمها وضبطها ومحاكمتها. وفي هذا يقول اليعقوبيّ - ما نصّه -: "فكنتُ متى لقيتُ رجلاً من تلك البلدان، سألته عن وطنه ومصره، فإذا ذكر لي محلّ داره، وموضع قراره، سألته عن بلده ذلك.. لدته، ما هي؟ وزرعه ما هو؟ وساكنيه من هم من عرب أو عجم... شرب أهله، حتّى أسأل عن لباسهم، ودياناتهم ومقالاتهم والغالبين عليه و... مسافة ذلك البلد، وما يقرب منه من البلدان.. والرواحل، ثمّ أثبتُّ كلّ ما يخبرني به من أثق بصدقه، وأستظهر بمسألة قومٍ بعد قوم، حتّى سألتُ خلقاً كثيراً، وعالَماً من النّاس، في الموسم وغير الموسم، من أهل المشرق والمغرب، وكتبتُ أخبارهم، ورويتُ أحاديثهم، وذكرت من فتح بلداً بلداً، وجنّد مصراً مصراً، من الخلفاء والأمراء، ومبلغ خراجه، وما يرتفع من أمواله"2. وبالرغم من أنّ اليعقوبيّ لم يدوّن مذكراته في أسفاره تلك، أو على الأقلّ: نحن لا نعلم عنها شيئاً، لكنّ كتاب البلدان الذي هو حصيلة تلك الأسفار يمكن اعتباره تلك التحفة القيّمة التي تركها لنا اليعقوبيّ وقدّمت لنا هذا الكمّ الهائل من المعلومات النافعة. ولا شكّ في أنّ اليعقوبيّ قد حصل على معلومات كثيرة وواسعة، لكنّ تدقيقه في تدوينها وتمحصيه لها أدّى إلى أن يكون الكتاب جذّاباً لقرّائه، خالياً من كلّ تشويشٍ وملل.


1- راجع: يعقوبي، (البلدان ـ فارسي)، ص1.

 

2- نفس المصدر، ص1 ـ 2.

 

 

 

143


137

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وقد قلنا فيما سبق: إنّ كتاب البلدان لم يصل إلينا بتمامه، فلا يسعنا أن نعرف حجمه الكامل. غير أنّ اليعقوبيّ كان قد صرّح بأنّه قد ألّفه مختصراً1، وقال - متواضعاً بما يدلّ على قدره وعلمه -: "وعلمْتُ أنّه لا يحيط المخلوق بالغاية، ولا يبلغ البشر النهاية، وليست شريعة لا بدّ من تمامها، ولا دين لا يكمل إلّا بالإحاطة به، وقد يقول أهل العلم في علم أهل الدّين الذي هو الفقه: مختصر كتاب فلان الفقيه، ويقول أهل الأدب في كتب الآداب، مثل اللّغة والنحو والمغازي والأخبار والسير: مختصر كتاب كذا، فجعلنا هذا الكتاب مختصراً لأخبار البلدان، فإن وقف أحد من أخبار بلد ممّا ذكرنا على ما لم نضمّنه كتابنا هذا، فلم نقصد أن يحيط بكلّ شيء"2.


وكتب في القسم الأخير من ديباجته على كتاب البلدان، والتي أشار فيها إلى محتوى كتابه: "وقد ذكرتُ أسماء الأمصار والأجناد والكوَر وما في كلّ مصرٍ من المدن والأقاليم والطساسيج ومن يسكنه ويغلب عليه، ويترأّس فيه من قبائل العرب، وأجناس العجم، ومسافة ما بين البلد، والمصر والمصر، ومن فتحه من قادة جيوش الإسلام، وتأريخ ذلك في سنته، وأوقاته، ومبلغ خراجه، وسهله، وجبله، وبرّه، وبحره، وهوائه في شدّة حرّه، وبرده، ومياهه، وشربه"3.

وقد استهلّ كتاب البلدان بعد الفراغ من الديباجة بوصف مدينة بغداد، وبعدها بوصف مدينة سامرّاء، بحكم كونهما عاصمتين لدولة الخلافة العبّاسيّة4. ثمّ بعد ذلك تحدّث عن سائر البلدان والأمصار في أقسام أربعة (أربعة أرباع)،
 

1- و كان الكلام أكثر في القسم الثاني من كتاب التاريخ عن مبنى اليعقوبيّ في الاختصار.
2- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، ص2.
3- نفس المصدر، ص3.
4- نفس المصدر، ص32.
 
 
 
 
144

138

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 وهذه الأرباع بعد جعل بغداد هي المحور، عبارة عن ربع الشمال، وربع الجنوب، وربع المشرق، وربع المغرب. وبالطبع، فإنّ العناوين العامّة الموجودة في الكتاب عبر عنها بالربع، لكنّها تحتوي على ثلاثة عناوين، لا أربعة، وهي بالترتيب العناوين التالية: ربع المشرق، ربع الجنوب، ربع الشمال1، وقد اشتمل ربع الشمال على ربع المغرب2، فمن المحتمل جدّاً أن يكون العنوان العامّ لربع المغرب قد سقط من ضمن الفصول والمقاطع التي سقطت من الكتاب3، ومن هنا أُدرجت مواضيعه تحت عنوان ربع الشمال.


وكما أشرنا مراراً، ففي نهاية الطبعة الموجودة من الكتاب هناك ضميمة تحت عنوان "ملحقات"، والتي تشمل أخبار المؤلّفين القدامى عن آثار اليعقوبيّ المتعدّدة4.

والآن وبعد التعرّف إجمالاً على منهج اليعقوبيّ في تدوين كتاب البلدان وترتيب محتواه، لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الاسم الدقيق للكتاب كما ورد في الديباجة - التي لم يتمّ التركيز عليها كثيراً - هو "مختصر البلدان"5، وعلى هذا الأساس، فإنّ عنوان "أسماء البلدان" الذي أطلقه ياقوت الحمويّ (المتوفّى سنة 626 هـ) على هذا الكتاب6 لا يمكن اعتباره عنواناً دقيقاً وصحيحاً. وكيفما كان، فإنّ هذا الكتاب قد طُبع اليوم تحت عنوان "كتاب البلدان"، وهو الاسم الذي بات يُعرف به.
 

1- راجع: اليعقوبيّ، (البلدان ـ عربي)، ص35، 72، 82.
2- راجع: نفس المصدر، ص82 ـ 117.
3- راجع: نفس المصدر، ص85، الهامش رقم1.
4- راجع: نفس المصدر، ص118 ـ 132.
5- راجع: اليعقوبيّ. (البلدان ـ فارسي)، ص2 ومقدّمة المترجم، ص12.
6- ياقوت الحمويّ، نفس المصدر، ج5، ص154.
 
 
 
 
145

139

أحمد بن واضح اليعقوبيّ - جولة في حياته ومؤلّفاته

 "كتاب البلدان" بشكله الحاليّ، طُبع للمرّة الأُولى في العام 1891 م، باهتمام المستشرق الهولنديّ جوينبول(junyboll)، ثمّ طبع في المرّة الثانية من ضمن عدّة كتب جغرافية من قبل دخويه في ليدن1. ثمّ أُعيدت طباعته في النجف الأشرف مع مقدّمة مختصرة - للسيّد محمّد صادق آل بحر العلوم -2.


و قد ترجم هذا الكتاب - لحدّ الآن - عن لغته الأصليّة العربيّة إلى لغتين:
1ـ فقد تُرجم إلى الفرنسيّة من قبل ويت (weit) ونشر في العام 1927 3.
2ـ وتُرجم إلى الفارسيّة من قبل الدكتور محمّد إبراهيم آيتي تحت عنوان البلدان، وقد كانت طبعته الأُولى في السنة 1343 هجريّة شمسيّة4.
 

1- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي) مقدّمة المترجم، ص12.
2- النجف الأشرف: المكتبة المرتضويّة ومطبعتها الحيدريّة، بلا تاريخ.
3- اليعقوبيّ، (البلدان ـ فارسي)، مقدّمة المترجم، ص13.
4- طهران: شركة النشر العلميّ والثقافيّ، 1343، الطبعة الأولى ـ 1381الطبعة الرابعة.
 
 
 
 
146

140

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 من اقتراب أجله دخل إلى منزله وأرسل إلى وجوه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم فأحضرهم، ثمّ أرسل إلى جاثليق النصارى فدعاه، فلمّا دخل عليه أمره بالجلوس فجلس، ثمّ قال: يا جاثليق! اصدقني عمّا أسألك عنه، قال: سل يا أمير المؤمنين! قال: تجدون نعت نبيّنا في الإنجيل؟ قال: نعم، إنّي لأجده فارقليط، قال عمر: وما معنى ذلك؟ قال الجاثليق: معناه أنّه يفرق بين الحقّ والباطل، فقال عمر ومن حضر: الحمد لله الذي جعلنا من أمّته، ولكن كيف تجدنا في كتابكم؟ فقال الجاثليق: أجد بعد محمّد رجلاً عظيم الذكر مبارك الأمر، فقال عمر: يرحم الله أبا بكر! قال: ثمّ ماذا ويحك يا جاثليق؟ فقال: من بعده قرن من حديد قويّ شديد، قال عمر: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ من بعده خليفة يؤثر أقاربه على من سواهم، قال: فنظر إلى عثمان بن عفان، قال: ثمّ ماذا ويحك يا جاثليق؟ قال: ثمّ سيف مسلول ودم مهراق، قال: فضرب عمر بإحدى يديه على الأُخرى، ثمّ التفت إلى عثمان فقال: أبا عمرو! اتّقِ الله عزّ وجلّ! وإن وليت هذا الأمر من بعدي فلا تحملنّ آل معيط على رقاب المسلمين، وأنت يا أبا الحسن فاتّقِ الله! وإن وليت هذا الأمر من بعدي فلا تحملنّ آل أبي لهب على رقاب النّاس1.


3- خبر إقامة الجنّ العزاء على عمر حتّى كان صوتهم يصل إلى مسامع أهل المدينة2.

4- خبر مدح عليّ بن أبي طالب عليه السلام وثنائه على عمر، بما يظهر منه التأييد المطلق له، وبخاصّةٍ ما زعمه من قوله فيه: والله ما من أحدٍ من عباد الله عزّ وجلّ أحبّ إليّ من أن ألقى الله عزّ وجلّ بمثل عمله من هذا المجيء بين أظهركم.
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج2، ص87.
2- المصدر نفسه، ص93.
 
 
 
125

141

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء 1


تلخيص وتقديم
إنّ جولةً على كتب التراجم والببلوغرافيا في القرنين الثالث والرابع الهجريّ تكشف بوضوح عن أنّ كتاب "الفتوح" ومؤلّفه لم يحظيا بالمكانة التي تليق بهما. فإنّنا لا نستطيع أن نجد ترجمةً دقيقةً لابن أعثم الكوفيّ، ولا نستطيع أن نقف بدقّة على سمات شخصيّته، أو على مذهبه، أو سائر مؤلّفاته، أو سائر الجوانب في سيرته وحياته.

وتأتي هذه الدراسة التي بين يدي القارئ الكريم للتعريف بكتاب "الفتوح"، والحديث عن أحوال مؤلّفه.

ومع أنّ البعض حاول أن يهمّش كتاب الفتوح، نظراً لاشتماله على أخبارٍ ونقولاتٍ لا تنسجم ولا تتلاءم مع معتقدات مذهب التسنّن، لكنّنا مع ذلك نستطيع أن نستنتج من نفس هذا الكتاب أنّ مؤلّفه كان في الحقيقة والواقع من أتباع مدرسة الخلفاء، بل ومن الشديدين في ذلك. ومع أنّ ابن أعثم لا يكشف لنا, بالشكل الكافي, عن المصادر التي اعتمد عليها في أخباره، لكنّ كتاب "الفتوح" مع ذلك يقدّم لقرّائه نوعاً من الاطمئنان العرفيّ إلى ما اشتمل
 

1- نعمت الله صفري فروشاني، محمد علي توحيدي.
 
 
 
 
147

142

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 عليه من أخبار، ويعود الفضل في ذلك إلى تخصّص مؤلّفه بهذا المجال، وكون الكتاب كتاباً تخصّصيّاً، وكون الأخبار الواردة فيه متناسبة من ناحية الهندسة التاريخيّة للأحداث.


كلمات مفتاحيّة: ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، مذهب، تاريخ، وثائق، واقعة كربلاء.

مقدّمة
يُعدّ وجود المصادر والمنابع التاريخيّة واحداً من الأمور الضروريّة والأساسيّة للغاية في إعادة خلق وتصوير الحوادث والوقائع التاريخيّة. وبعد بدء مرحلة التأريخ للأحداث، صحيح أنّ المصادر غير المدوّنة لم تفقد أهمّيّتها، لكنّها لا تملك نفس أهمّيّة وقيمة المصادر المدوّنة والمكتوبة، لجهة الشفافيّة وبيان التفاصيل ودائرة الشمول. وإنّ كلّ أمّةٍ أو شعبٍ يملك مصادر مدوّنةً تتحدّث عن تاريخ أسلافه، القدماء منهم والمتأخّرين، يمكن له أن يتعرّف على ماضيه بشكلٍ أفضل وأدقّ بكثيرٍ من أولئك الذين يفتقدون وجود مثل هذه الكتب والمصادر التاريخيّة المدوّنة. وفي هذا المجال، يمكن لنا أن نمتلك الجرأة الكافية لندّعي أنّه لا يوجد دين أو أمّة تمتلك ما يمتلكه الإسلام والمسلمون من المصادر التاريخيّة المكتوبة. وبديهيّ أنّ المقصود من المصادر التاريخيّة هو تلك الكتب التي أُلّفت لعرض أحداث التاريخ ووقائعه.

وبالرغم من كثرة المصادر المكتوبة في تاريخ الإسلام، فإنّ هذه المصادر لم تخلُ من الكثير من المشكلات والسلبيّات، ويمكن أن نعدّ من بين هذه النواقص: الأخبار والنقولات النابعة من التعصّب المذهبيّ، والتفرقة السياسيّة، وإثارة النزاعات القبليّة بما يخدم موقف الحكّام و..1.
 

1- رسول جعفريان، منابع تاريخ اسلام، ص88 ـ 98.
 
 
 
148

143

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 ومن هنا، فقد عدّوا التفرقة وسلطة حكّام الجور والاستبداد من أهمّ العوامل التي أدّت إلى التحريف والانحراف في مجال تدوين التاريخ الإسلاميّ1، وقد انعكس ذلك بشكلٍ سلبيٍّ جدّاً على واقع المصادر المدوّنة في تاريخ الإسلام، فبدت فيها أنفاس الطائفيّة والمذهبيّة، إن من جهة تحريف الوقائع التاريخيّة، أو من جهة إنكار وتجاهل بعض الوقائع التاريخيّة. وإنّ كتاب "الفتوح"، هذا الكتاب القديم، والقيّم في بابه، هو من جملة الكتب التي لم تبقَ بمأمنٍ ومنأى عن أعراض هذا النفس الطائفيّ وتداعياته، ولأنّه اشتمل على بعض العناوين التي يمكن أن يُستشعَر منها توجّه شيعيّ لدى مؤلّفه، فقد جرى التعامل مع هذا الكتاب بنوعٍ من القسوة، وجرى اعتباره كتاباً ضعيفاً2. ويمكن أن نعزو السبب في رمي هذا الكتاب بالضعف إلى نقله لبعض الأحداث التاريخيّة وعرضه لها بما لا يتماشى مع مذاق المذهب السنّيّ3.


وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ أكثر المؤرّخين المسلمين هم من أتباع فرقةٍ خاصّة، فمن البديهيّ أن يثير ذلك بعض القلق في نفوس أتباع الفرق المخالفة لهم فيما يرتبط بنقل كافّة الأحداث والوقائع والمقاطع الحسّاسة من تاريخ الإسلام، من قبيل واقعة الغدير، وحادثة السقيفة، وأمثالهما، وأن يكون التحريف الحاصل بنظرهم في هذه الحوادث، أو إنكارها، أو السكوت عن بعض تفاصيلها، باعثاً لديهم على عدم تقبّل هذه الأخبار، وعدم الركون والاطمئنان إليها. ومن هنا، يبدو من الضروريّ جدّاً أن نتعرّض بالدراسة لكتبٍ ككتاب الفتوح لابن أعثم، الذي نقل وقائع وأحداثاً سكت عنها غيره من المؤرّخين من أهل السنّة، وأن نتعرّف أكثر على ما جاء فيه. أضف إلى ذلك، أنّ كتاب
 

2- أبو الفضل شكوري، در آمدى بر تاريخ نكري و تاريخ نكاري مسلمانان، ص77.
3- المصدر نفسه.
4- محيي الدّين المامقانيّ، مستدرك تنقيح المقال، ج5، ص135.
 
 
 
 
149

144

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الفتوح يُعدّ من المصادر القديمة في مجال تاريخ الإسلام التي لو استطعنا أن نُثبت مدى إتقانه واعتباره من الناحية التاريخيّة لكان دليلاً إضافيّاً على صدق ما يدّعيه الشيعة في موارد متعدّدة، حيث إنّه يقترب إلى حدٍّ ما من كثيرٍ من دعاواهم التاريخيّة.


وهنا، وانطلاقاً من هذه الضرورة التي رأيناها، عقدنا الدراسة في هذا المقال، على أن يكون الهدف هو التعرّف على كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفيّ، وإجراء دراسة إجماليّة في بعض مقاطعه التي أرّخ فيها لوقعة كربلاء. وفي هذا الضوء، يمكن لنا أن نطرح السؤال الأصليّ والأسئلة الفرعيّة في هذا البحث على الشكل التالي:
السؤال الأصليّ: من هو ابن أعثم الكوفيّ، وما هي الموقعيّة والمكانة التي يحتلّها كتاب الفتوح؟

الأسئلة الفرعيّة:
1- ما هي الصفات الحقيقيّة التي حملتها شخصيّة ابن أعثم؟

2- في أيّ حقبةٍ زمنيّة كان يعيش؟

3- ما هو مذهب ابن أعثم؟

4- ما هي المطالب التي تضمّنها كتاب الفتوح؟

5- ما هو الأسلوب المعتمد في كتاب الفتوح؟

6- ما هو النسق الذي اعتُمد في تنظيم المباحث الواردة في كتاب الفتوح؟

7- ما هو حال المصادر والمسانيد التي استند إليها كتاب الفتوح؟

8- ما هي درجة اعتبار كتاب الفتوح؟ و...
 
 
 
 
 
150

145

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 وها نحن نقسّم مقالتنا هذه إلى قسمين، نتحدّث في القسم الأوّل منهما عن ابن أعثم الكوفيّ وكتابه الفتوح، ونتعرّض في القسم الثاني للحديث عن ما ذكره ابن أعثم حول واقعة كربلاء وثورة الإمام الحسين عليه السلام.


أ- ابن أعثم الكوفيّ وكتاب الفتوح
1 ـ ابن أعثم الكوفيّ
لا نعرف الكثير عن ابن أعثم الكوفيّ، وقد سكتت عنه أكثر كتب التراجم، كما أنّ الذين تعرّضوا لترجمته منهم لم يقدّموا لنا معلوماتٍ دقيقة ترتبط بحياة الرجل. ومن هنا، فلا نجد اتّفاقاً بينهم حتّى على اسمه ونسبه، بل نُقل في هذا المجال أقوال مختلفة. فذكره بعضهم باسم محمّد بن عليّ بن أعثم الكوفيّ1، وبعضهم باسم أحمد بن أعثم الكوفيّ2، وفي قولٍ ثالثٍ حصل ترديد بين كلا هذين الاسمين: محمّد وأحمد، فذُكر اسمه على الشكل التالي: محمّد بن عليّ (أبو محمّد أحمد بن عليّ) المعروف بـ ابن أعثم الكوفيّ، أو أبو محمّد أحمد (محمّد) ابن عليّ الكوفيّ3. وذُكر اسمه في قولٍ رابع بعنوان: أحمد بن محمّد بن عليّ بن أكثم الكوفيّ، وقيل: إنّه يُكنّى بـ (أبي محمّد)4. والذي يُستفاد من مجموع أقوال العلماء هو أنّ (أعثم) هو لقب والد ابن أعثم وجدّه الأوّل والثاني. وحسبما ورد في معجم الأدباء لياقوت الحمويّ فإنّ ابن أعثم يُسمّى أحمد5. ويؤيّد ذلك ما ذُكر في أقوالٍ أُخرى، كقول بروكلمان في تاريخ الأدب العربيّ6، وعليّ أكبر دهخدا في لغت نامه دهخدا7. وهذا الكلام من ياقوت يمكن أن
 

1- علي أكبر دهخدا، لغت نامه دهخدا، ج2، ص291.
2- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
3- حاجي خليفة، كشف الظنون، ج2، ص227.
4- خير الدّين الزركليّ، الأعلام، ج1، ص206.
5- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
6- نقلاً عن: محمّد جبر أبي سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص39.
7- علي أكبر دهخدا، لغتنامه دهخدا، ج2، ص291.
 
 
 
151

146

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 يكون صحيحاً، لأنّه من الناحية الزمنيّة كان أقرب إلى عصر ابن أعثم، وهو أوّل من اعتنى بالتأريخ لابن أعثم وذكره في كتابه معجم الأدباء. أضف إلى ذلك، أنّ من المحتمل أن يكون (محمّد) تصحيفاً لـ (أبو محمّد)، ويكون (أبو محمّد) كنيةً لابن أعثم1. ويدلّ تلقيب الرجل بـ (الكوفيّ) على أنّ ابن أعثم كان من أهل الكوفة، وإذا نظرنا إلى مدحه لقبيلة الأزد، فيمكن أن نعدّ الرجل أزديّ النسب2.


لم يُنقل لنا شيء عن حياة وأحوال ابن أعثم، كما أنّ تاريخ ولادته غير معلوم لدينا. وما ذُكر عنه في عديد المصادر، وبصورةٍ مختلفٍ فيها أيضاً، إنّما هو تاريخ وفاته. حيث ذكر بعضهم أنّ وفاته كانت سنة 214 هـ3، وذكر آخرون أنّها كانت سنة 314 هـ4. وبالنظر إلى المساحة الزمنيّة التي يغطّيها كتاب الفتوح، والتي تمتدّ من زمن خلافة أبي بكر إلى عصر المقتدر العبّاسيّ، نستطيع أن نجزم بأنّ وفاة ابن أعثم لم تكن سنة 214 هـ قطعاً. كما أنّ ياقوت الحمويّ ذكر أنّ لابن أعثم كتابين، أحدهما باسم كتاب الفتوح، وتمتدّ أحداثه إلى أيّام هارون الرشيد، والآخر باسم كتاب التاريخ، وتمتدّ أحداثه من عهد المأمون إلى آخر عهد المقتدر5، الأمر الذي يجعلنا نجزم بأنّ تاريخ وفاة ابن أعثم لم يكن أيضاً سنة 314 هـ، وذلك لأنّ مقتل المقتدر العبّاسيّ كان في العام 320 هـ، الأمر الذي يحتّم أن تكون وفاة ابن أعثم بعد سنة 320 هـ6.
 

1- الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج3، ص221.
2- محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص45.
3- دائرة المعارف الشيعيّة، ج1، ص303.
4- الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج3، ص221.
5- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
6- محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص44.
 
 
 
152

147

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 1ـ 1 مذهب ابن أعثم

هذا الاختلاف والتعدّد في الأقوال حول هويّة ابن أعثم وتاريخ وفاته انسحب أيضاً خلافاً حول مذهبه. ففي كثيرٍ من المصادر عُدّ ابن أعثم شيعيّاً، وأصرّ جملة من أهل السنّة على دعوى تشيّعه استناداً إلى وجود أخبارٍ تفرّد بنقلها في كتابه1. كما أنّ كبار علماء التراجم من الشيعة أكّدوا على تشيّع الرجل2. وعدّه القاضي نور الله التستري من أتباع المذهب الشافعيّ3، وهناك من صرّح أيضاً بكون ابن أعثم سنّيّاً4، وقد ذكر العلّامة المجلسيّ كتاب الفتوح بوصفه واحداً من المصادر التي اعتمد عليها في كتابه بحار الأنوار، عادّاً إيّاه من كتب أهل السنّة (العامّة)5.

وبما أنّ شيئاً لم يصل إلينا عن سيرة وحياة ابن أعثم وأحواله، فإنّ الطريق الوحيد المتاح لنا للتعرّف على مذهبه يكمن في الرجوع إلى ما أورده هو في كتابه. وقد استُدلّ لتشيّع ابن أعثم بفقراتٍ مأخوذة من كتاب الفتوح، ومن بينها: أنّه أكثر من الثناء على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وطعن في جميع من كان مخالفاً لعليّ عليه السلام، كما أنّه قدّم صورةً سلبيّةً لكلٍّ من عثمان وعائشة، وأورد في كتابه أخباراً تضع فكرة عدالة الصحابة تحت مطرقة المساءلة6.

لكنّ الاستدلال بهذه الفقرات وحدها من كتاب ابن أعثم ليس بمجرّده كافياً لإثبات تشيّع الرجل، ذلك لأنّ الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام وإن كان يشغل حيّزاً كبيراً من كتاب الفتوح، حيث خُصّص له العديد من الفقرات والمقاطع
 

1- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
2- الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج3، ص220.
3- القاضي نور الله الشوشتريّ، مجالس المؤمنين، ج1، ص278.
4- محيي الدّين المامقانيّ، مستدرك تنقيح المقال، ج5، ص335.
5- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص25.
6- محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص138 ـ 164.
 
 
 
153

148

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 من الكتاب، لكنّ الكتاب اشتمل أيضاً على الثناء والمديح لأبي بكر وعمر، وذكر فضائلهما، بما يزيد على ما ذكره في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام، كما أنّه نقل فيهما أخباراً لا تنسجم ولا تتماشى مع المعتقد الشيعيّ. 


ومن هنا نقول: إنّ الكتاب اشتمل على العديد من الموارد التي تؤشّر إلى تسنّن ابن أعثم، نشير إلى جملةٍ منها فيما يلي:
1- خبر عجيب في دفن أبي بكر (لمّا دنت الوفاة من أبي بكر) دعا بابنته عائشة فقال لها: يا بنيّة إنّ على أبيكِ ديناً لا يجده، فهل أنتِ مؤدّيته من بعدي؟ فقالت: نعم يا أبتِ، ولمَ لا أؤدّيه؟ فقال: إنّه قد دنا الأمر وأرجف الأجل، فإذا أنا متّ فاغسلوني وكفّنوني وحنّطوني وصلّوا عليّ ثمّ ائتوا بي إلى قبر حبيبي محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فاستأذنوا وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر بالباب، فإن أذن لكم في دفني إلى جانبه فادفنوني، وإن لم يُؤذن لكم في ذلك فأتوا بي إلى مقابر المسلمين، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون1.

وفي خبرٍ آخر:
أنّه يوم وفاة أبي بكر هاج النّاس وماجوا في المدينة، وعلا البكاء والنحيب، وكان يوماً مشهوداً لا يعدله إلّا يوم وفاة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فلمّا غسّلوه وحنّطوه وكفّنوه وصلّوا عليه أخرجوه إلى الروضة الشريفة ووضعوه على الأرض، وكان النّاس في انتظار ما يحدث، فلمّا وقفوا على الباب سقط القفل وانفتح الباب وإذا بهاتفٍ يهتف من القبر: أدخِلوا الحبيب إلى الحبيب، فإنّ الحبيب إلى ‏الحبيب مشتاق2.

2- خبر عجيب آخر في آخر عمر الخليفة الثاني: لمّا تأكّد عمر بن الخطّاب
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج1، ص155.
2- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ترجمة مستوفى هروى،، ص80.
 
 
 
154

149

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 5- زيادة عبارة "وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين" في وصيّة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة، وأنّه جاء في هذه الوصيّة: أن يعمل بسيرة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي عليّ وسيرة الخلفاء الراشدين1. هذا مع قطع النظر عن ملاحظاتٍ أُخرى، فإنّ القبول بهذا الخبر الذي نقله ابن أعثم في وصيّة الإمام الحسين عليه السلام يؤدّي إلى القبول بمفارقةٍ تاريخيّةٍ واضحة، إذ طبقاً لما رواه ابن أعثم، فإنّ الحسين بن عليّ أوصى باتّباع سيرة أبيه عليّ وسيرة الخلفاء الراشدين، مع أنّ أباه عليّ بن أبي طالب عليه السلام تمنّع عن قبول الخلافة على شرط اتّباع سيرة الشيخين في شورى الستّة التي كان قد دعا إليها عمر2.


6- إطلاق اسم "الروافض" على الشيعة، واتّهامهم بتهمٍ باطلة في حادثة السقيفة. نعم، هذا المورد لم نجده في كتاب الفتوح، لكنّه موجود في ترجمته الفارسيّة3.

7- كيفيّة ذكر ابن أعثم لاسم النبيّ الأكرم والخلفاء الراشدين، وكيفيّة إطلاقه للألقاب والجمل الدعائيّة المعترضة فيهم، والذي ينسجم مع طريقة علماء العامّة في هذا المجال4.

النقطة التي يمكن أن تكون إلى حدٍّ ما مساعدةً على توضيح المسألة هي أنّه وبالرغم من أنّ كلمة "شيعة" خلال المراحل التاريخيّة المختلفة كانت تنصرف إلى كلّ من كان يعتقد بالإمامة والخلافة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام نصّاً
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج5، ص34.
2- محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص233.
3- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ترجمة مستوفى هروى،، ص8.
4- عليّ غلامي دهقي "بررسي تطبيقي و مقايسهاي فتوح ابن اعثم باترجمه فارسي آن" (دراسة تطبيقيّة مقارنة بين فتوح ابن أعثم وبين ترجمته الفارسيّة، مجلّة تاريخ در آينه پزوهش، پيش شماره 1، خريف سنة 1381 هـ ش، ص200.
 
 
 
 
156

150

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 ووصيّةً، أو, بعبارةٍ أُخرى, إلى كلّ من كان يعتقد، فضلاً عن عصمة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، بالتنصيص على عليّ عليه السلام من قبل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه الإمام والخليفة له من بعده بلا فصل1، سواء كان هذا الاعتقاد مبنيّاً على وجود النصّ الجليّ، كما هو رأي غالبيّة الشيعة، أو مبنيّاً على وجود النصّ الخفيّ، كما قال به الزيديّ2. بالرغم من ذلك كلّه، فإنّ هذه الكلمة ـ "الشيعة" ـ كانت تُطلق في اصطلاح المتقدّمين من علماء الرجال والتراجم من أهل السنّة على معنىً أوسع من ذلك، حيث كانت تُطلق حتّى على جملةٍ من الفرق التي كانت تعتقد اعتقاداً كاملاً بخلافة الشيخين، بل ولم يكن لها اعتقاد أيضاً بعصمة الأنبياء والأئمّة، ولا بالتنصيص على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وإنّما كان يُطلق عليهم وصف الشيعة من باب أنّهم يقدّمون عليّاً عليه السلام على عثمان، أو يُظهرون الحبّ والمودّة لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نظير سفيان الثوريّ الذي كان من شيوخ الإفتاء بالعراق، وكان يفتي على المباني الفقهيّة عند أهل السنّة، لكنّ ابن قتيبة, مع ذلك, عدّه من زمرة الشيعة3. كما نجد أيضاً ابن النديم صاحب الفهرست، يعدّ الشافعيّ، وهو إمام أحد المذاهب الفقهيّة الأربعة عن أهل السنّة، شيعيّاً، ويقول في حقّه: "كان الشافعيّ شديداً في التشيّع"4


مع العلم بأنّه لا يوجد أدنى شكٍّ في تسنّن سفيان الثوريّ والشافعيّ وأمثالهما، لكنّ مجرّد المحبّة لأهل البيت عليهم السلام كان كافياً لتصحيح إطلاق كلمة الشيعة عليهم، الأمر الذي يكشف عن سعة المعنى المستعمل فيه لفظ "الشيعة" في ذلك الزمان، بحيث كان هذا اللّفظ يحكي عن المحبّين لأهل البيت عليهم السلام، لا
 

1- عبد الكريم الشهرستانيّ، الملل و النحل، ج1، ص31.
2- محمّد جواد مشكور، تاريخ الشيعة والفرق الإسلاميّة حتّى القرن الرابع، ص45.
3- ابن قتيبة الدّينوريّ، المعارف، ص624.
4- ابن النديم، الفهرست، ص259.
 
 
 
157

151

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 عن الشيعة بالمعنى العقائديّ المصطلح في زماننا.


وفي الحروب التي دارت زمن أمير المؤمنين عليه السلام، وبخاصّةٍ حرب صفّين، نجد أنّ أكثر الجند الذين كانوا معه عليه السلام هم من الأشخاص الذين كانوا يقولون بخلافة الشيخين، باستثناء عددٍ قليلٍ من خواصّ الشيعة1. وفي هذا الضوء، يمكن لنا أن نصنّف ابن أعثم الكوفيّ على أنّه شيعيّ، لكن من النوع الذي كان يرى إمامة الشيخين، غير أنّه على المستوى الفقهيّ والكلاميّ كان تابعاً بالكامل لمدرسة التسنّن، وفي الوقت عينه كان يكنّ محبّةً لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبخاصّةٍ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لا أن نصنّفه شيعيّاً بالمعنى الخاصّ للشيعة.

ومن جملة الأدلّة التي تمسّك البعض بها لإثبات تشيّع ابن أعثم أنّه نقل جملةً من الوقائع المنافية لعدالة الصحابة. ولكن في هذا المجال ينبغي أن يُقال:
أوّلاً: إنّ وضع مبدأ عدالة الصحابة تحت مجهر المساءلة من خلال نقل وقائع تاريخيّة لا يكفي بمجرّده لإثبات أنّ الناقل من المغرضين تجاه الصحابة. أضف إلى ذلك أنّ القبول بعدالة جميع الصحابة هو محلّ بحثٍ وتأمّل كبيرين، حتّى أنّ فرقة المعتزلة, وهي واحدة من الفرقتين الكلاميّتين البارزتين عند أهل السنّة, أنكروا ثبوت العدالة لجميع الصحابة، حيث قالوا: "الصحابة عدول إلّا من قاتل عليّاً"2.

2ـ 1 كتب ومؤلّفات ابن أعثم الكوفيّ
ذُكر لابن أعثم الكوفيّ ثلاثة مؤلّفات، هي: الفتوح، والمألوف، والتاريخ3.
 

1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج15، ص185.
2- محمّد جبر أبو سعدة، ابن أعثم الكوفيّ ومنهجه التاريخيّ، ص138.
3- دائرة المعارف الشيعيّة، ج1، ص303.
 
 
 
158

152

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 لكنّ ما وصلنا من هذه الثلاثة واحد فقط، وهو كتاب الفتوح. وقد ورد في معجم الأدباء أنّ ابن أعثم لم يكن له سوى كتابين، وأنّ ياقوت الحمويّ قد رأى كلا الكتابين، أحدهما: كتاب الفتوح، الذي تضمّن أخباراً حتّى عصر هارون الرشيد، والآخر: كتاب التاريخ، الذي يبدأ بعصر المأمون وينتهي إلى آخر عصر المقتدر1. لكن تبقى نقطة، وهي حجم ومدى شموليّة كتاب الفتوح، الذي يبدأ من زمن خلافة أبي بكر ويستمرّ حتّى خلافة المستعين بالله. هذا في وقتٍ صرّح فيه ياقوت الحمويّ بأنّ كتاب الفتوح استمرّ حتّى عهد هارون الرشيد.


2- كتاب الفتوح
لتدوين التاريخ الإسلاميّ الكثير من الفروع، والكثير من الأبواب، ولعلّ أهمّ هذه الفروع هو ما يرتبط بتدوين أخبار الفتوح. الفتوح جمع فتح، ويُطلق في اصطلاح علم التاريخ الإسلاميّ على كيفيّة استيلاء المسلمين أو تصرّفهم بأراضي غير المسلمين2. ومع أنّ كتاب الفتوح لابن أعثم تناول موضوع فتوحات البلدان في طيّاته، وتحدّث عن الفتوحات التي حدثت في عصر الخلفاء الأوائل وبعد ذلك بقليل، لكن مع ذلك يمكن عدّه كتاباً كسائر كتب التاريخ الإسلاميّ العامّ، كـ تاريخ الطبريّ، والأخبار الطوال، والكامل لابن الأثير وغيرها3.

وقد سُمّي كتاب الفتوح في بعض المصادر باسم فتوح الإسلام4، وفي بعضٍ آخر باسم فتوح الشام5. وسمّاه العلّامة المجلسيّ في كتابه بحار الأنوار باسم
 

1- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
2- صادق آئينه وند، علم تاريخ در كستره تمدن اسلامي (علم التاريخ في نطاق الحضارة الإسلاميّة)، ج1، ص292.
3- عليّ غلاميدهقي، "بررسي تطبيقي و مقايسهاي فتوح ابناعثم با ترجمه فارسي آن"، (دراسة تطبيقيّة مقارنة بين فتوح ابن أعثم وبين ترجمته الفارسيّة، مجلّة تاريخ درآيينه پزوهش، پيششماره1، خريف 81، ص194.
4- الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ، الذريعة، ج16، ص119.
5- حاجي خليفه، كشف الظنون، ج2، ص225.
 
 
 
 
159

153

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 تاريخ الفتوح1، وسمّاه ياقوت الحمويّ كتاب الفتوح، وأضاف: كتاب الفتوح المعروف والمشهور2. وقد حُفظت النسخة الخطّيّة من كتاب الفتوح في مكتبة اسطنبول في مجلّدين، ذيل أحمد 3، برقم 29563. غير أنّ المتن الذي هو مورد دراستنا في هذا المقال هو النسخة التي طبعتها دار الأضواء البيروتيّة في العام 1411 هـ / 1991م، بتحقيق عليّ شيري، في ضمن مجلّداتٍ تسعة، تاسعها خُصّص لذكر فهرستٍ للمطالب الواردة في الكتاب، وتشكّل الثمانية الأُولى متن الكتاب الأصليّ، والتي ورد في كلٍّ منها أخبار لمرحلةٍ تاريخيّة محدّدة.


يبدأ المجلّد الأوّل من أخبار سقيفة بني ساعدة، وما جرى من أحداثٍ رافقت تولّي أبي بكر للخلافة، وحروب الردّة، وخلافة عمر، والأحداث التي حصلت في عهده. واشتمل المجلّد الثاني على تتمّة في أخبار عهد عمر، ثمّ خلافة عثمان، وبدء عهد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. وتناول المجلّد الثالث أخبار خلافة عليّ عليه السلام والأحداث التي جرت في تلك الحقبة. وفي المجلّد الرابع تتمّة في أخبار خلافة الإمام عليّ عليه السلام، ثمّ خلافة الإمام الحسن وحادثة صلحه مع معاوية، واستمرّ حتّى بدء ثورة الإمام الحسين عليه السلام. وتناول المجلّد الخامس أحداث ثورة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة شهادته، وتحدّث في قسمٍ منه عن عبد الله بن الزبير وخلافة مروان بن الحكم. وأمّا المجلّد السادس، فقد اشتمل على أخبار وقائع صغيرة وكبيرة مختلفة، كأخبار الأزارقة، وحادثة المهلّب، وثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفيّ، وأخبار محمّد بن الحنفيّة، وقسمٍ من أخبار خلافة عبد الملك بن مروان. وتعرّض في المجلّد
 

1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص25.
2- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
3- محمّد حسين روحاني، "تاريخ اعثمكوفي وترجمهآن" (تاريخ وترجمة ابن أعثم الكوفيّ)، مجلة راهنماى كتاب، رقم166، ص452.
 
 
 
 
160

154

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 السابع لأخبار ثلاثةٍ من خلفاء بني أميّة، وهم عبد الملك بن مروان، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز. وفي النهاية، بدأ المجلّد الثامن من أخبار خلافة يزيد بن عبد الملك، ثمّ خلافة هشام بن عبد الملك، وإمارة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثمّ خروج العبّاسيّين على المروانيّين، وتشكّل الدولة العبّاسيّة، ثمّ خلافة المنصور العبّاسيّ، فالمهديّ، فالهادي، فخلافة هارون الرشيد، ثمّ خلافة الأمين، وخلافة المأمون، وخلافة المعتصم. وضمّنه إشاراتٍ إلى كلٍّ من هارون والواثق والمتوكّل والمنتصر، واختتمه بأخبار وصول المستعين بالله إلى الخلافة.


وكما أشرنا، فإنّ ياقوت الحمويّ ذكر أنّ كتاب الفتوح يحتوي أخباراً حتّى أيّام هارون الرشيد1، غير أنّ كتاب الفتوح الموجود حاليّاً اشتمل على أكثر بكثيرٍ ممّا أخبرنا به الحمويّ، إذ جاء شاملاً لأخبارٍ امتدّت حتّى أيّام خلافة المستعين بالله. وحتّى لو قلنا بأنّه جرى دمج الكتابين: الفتوح والتاريخ، أحدهما بالآخر، وأُخرجا لنا في قالب كتابٍ واحدٍ حمل اسم كتاب الفتوح، فإنّه مع ذلك يبقى الإشكال، ذلك لأنّ كتاب التاريخ استمرّ حتّى آخر عهد المقتدر2، والحال أنّ كتاب الفتوح الموجود حاليّاً لا يذهب أبعد من عهد المستعين بالله. اللّهمّ إلّا أن يُقال: إنّ كتاب التاريخ قد أُرفق بذيل كتاب الفتوح، وشكّلا معاً كتاباً واحداً شاملاً لآخر عهد المقتدر. لكنّ الذي يُستفاد من آخر كتاب الفتوح الموجود حاليّاً بين أيدينا أنّ شخصاً يُدعى محمّد بن عليّ بن محمّد الطبنذي كان هو من أعاد كتابته واستنساخه، ومن المحتمل أنّ المستنسخ المذكور كان قد أودعه في مجلّدين حتّى عصر المستعين بالله، لكنّه لم يتمكّن من إتمام نسخه، إمّا أنّه لم يوفّق لإتمامه، أو أنّه كان قد نسخه في مجلّد مستقلّ غير أنّه لم يصل إلينا.
 

1- ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج1، ص429.
2- المصدر نفسه.
 
 
 
 
161

155

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 1 ـ 2 الاستفادة من الترجمة الفارسيّة لكتاب الفتوح في التحقيق الجديد للمتن العربيّ لهذا الكتاب

في العام 596 هـ / 1200م قام محمّد بن أحمد المستوفي الهرويّ بترجمة كتاب الفتوح ونقله إلى اللّغة الفارسيّة، وقدّم هذا الكتاب للصدر افتخار أكابر خوارزم، وهو علاء الدّين تكش، أو علاء الدّين محمّد الخوارزمشاهي1. هذا ما احتمله محمّد حسين روحانيّ2. وقد طُبعت هذه الترجمة في طبعة مفتخرة، وهي تُعتبر نوعاً من الترجمة الحرّة، وهي تحظى بدرجةٍ عالية من الأهمّيّة الأدبيّة. وتُختتم هذه الترجمة لكتاب الفتوح بأخبار الأحداث المرتبطة بقيام الإمام الحسين عليه السلام. هذه الترجمة لكتاب الفتوح يمكن أن تكون مكمّلةً للمتن العربيّ لهذا الكتاب، والذي كان بمرور الأيّام عرضةً للعديد من المشاكل والنواقص. وفي تحقيقه لكتاب الفتوح، اعتمد الأستاذ عليّ شيري على هذه الترجمة لأجل تعويض النقص الموجود في جملةٍ من الموارد، ولهذا السبب، فإنّنا نجد مقاطع كثيرة من مجلّدات كتاب الفتوح مأخوذة من النصّ الفارسيّ، فمثلاً: نجد في المجلّد الأوّل موْرِدَيْن من الفارسيّة: (المورد الأوّل، يبدأ من صفحة 91 بالكتاب الذي أرسله أبو بكر إلى خالد بن الوليد وأمره إيّاه بالتوجّه إلى العراق، ويستمرّ حتّى صفحة 100. والمورد الثاني، يبدأ من صفحة 319 برسالة الخليفة الثاني إلى يزيد بن أبي سفيان وعيّاض بن غنم الفهريّ بالشام، ويستمرّ حتّى ما قبل انتهاء المجلّد الأوّل بقليل). وفي المجلّد الثاني، نجد موارد متعدّدة بالفارسيّة: المورد الأوّل من صفحة 95، والذي يبدأ بحادثة قتل عمر وانعقاد الخلافة لعثمان ويستمرّ حتّى صفحة 107. والمورد الثاني يبدأ من
 

1- محمّد حسين الجلاليّ، فهرس التراث، ج1، ص345.
2- محمّد حسين روحاني، "تاريخ اعثمكوفي وترجمهآن" (تاريخ وترجمة ابن أعثم الكوفيّ)، مجلة راهنماى كتاب، رقم166، ص460.
 
 
 
 
162

156

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 صفحة 193 بكتاب عثمان إلى مالك الأشتر وما جرى قبل ذلك بقليل، ويستمرّ حتّى صفحة 208. والمورد الثالث بلغ حدود صفحة ونصف الصفحة تقريباً، ونجده في الصفحتين 242 و 243 بعد حادثة قتل عثمان. الأمر الذي يكشف عن أنّ كتاب الفتوح الموجود حاليّاً لم يأتِ شاملاً لجميع ما ورد في المتن الأصليّ للكتاب. كما أنّ السيّد ابن طاووس نقل مورداً من كتاب الفتوح، لكن لا يمكن العثور عليه في النسخة الحاليّة من الكتاب1.


2 ـ 2 خصائص العرض التاريخيّ في كتاب الفتوح
في كتابة التاريخ الإسلاميّ، توجد طريقتان لتنظيم الموادّ التاريخيّة: طريقة استعراض الأحداث التاريخيّة بحسب سِني وقوعها. وطريقة العرض الموضوعيّ للموادّ. فبحسب الطريقة الأُولى، تكون السنوات هي المحور الذي على أساسه يتمّ تنظيم الموادّ والأخبار التاريخيّة، فتُذكر الحوادث والوقائع بترتيب حصولها في السنوات. وأمّا في الطريقة الثانية، فيُصار إلى اعتماد محاور أُخرى، كالشخصيّات المهمّة، أو العائلات والأسر، أو الدول والحكومات، أو الحروب والمقاتل، أو الفتوح، أو الطبقات، أو الأنساب، أو المدن، أو... ويمكن أن نشير إلى جملةٍ من الكتب التي اعتمدت الطريقة الموضوعيّة في العرض التاريخيّ، ككتاب المعارف لابن قتيبة، ومروج الذهب للمسعوديّ2، ومقتل الحسين، وواقعة صفّين، ومقاتل الطالبيّين، وفتوح البلدان، وأمثالها3.

وكتاب الفتوح هو واحد من الكتب التي اعتمدت هذه الطريقة أيضاً، فلا مدخليّة للسنوات في تدوين الأخبار وعرضها، وإنّما اعتمد الكتاب تاريخ الخلفاء
 

1- اتان كلبرك، كتابخانه ابن طاووس (مكتبة ابن طاووس)، ترجمة علي قلي قرايي و رسول جعفريان، ص562.
2- محمّد جبر أبو سعيدة، ابن أعثم الكوفيّ و منهجه التاريخيّ، ص119.
3- صادق سجّادي و هادي عالم زاده، تاريخ نكاري در اسلام (كتابة التاريخ في الإسلام)، ص112ـ 115.
 
 
 
 
163

157

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 وفتوحاتهم وحروبهم محوراً لتنظيم الأخبار التي أتى على ذكرها. وإذا جاز لنا أن نعتبر قول ابن أعثم "وقد جمعتُ كلّ ما سمعته منه من أخبار متفرّقة، ثمّ رتّبتها وألّفتها على نسقٍ واحد"1، إذا جاز لنا أن نعتبره إشارةً من ابن أعثم إلى اعتماده الطريقة التركيبيّة في عرض الأخبار والموادّ، فإنّه يمكن لنا أن نصف أسلوب العرض التاريخيّ في كتاب الفتوح بأنّه أسلوب تركيبيّ.


3 ـ 2 الأسانيد والمصادر
بالرغم من الرواج الكبير لظاهرة ذكر سلسلة الأسانيد والمصادر المعتمد عليها في نقل الأخبار التاريخيّة في القرنين الثالث والرابع الهجريّين، وجري عادة المؤرّخين على التصريح بأسماء الشيوخ المحدّثين والمؤرّخين، فإنّ ابن أعثم الكوفيّ ابتعد عن هذه الطريقة، ولم يعتمد عليها، وإنّ ترك اعتماده على ذكر سلسلة الأسانيد والمصادر والكتب التي كان يستقي أخباره منها، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ ابن أعثم كان من المؤرّخين الذين لا يرون أهمّيّةً لذكر المصادر والكتب والأسانيد. وإن كان كثير من الأخبار التي أوردها في كتاب الفتوح يمكن العثور عليها بسهولة في كتب المدائنيّ وأبي مخنف ونصر بن مزاحم وهشام الكلبيّ وآخرين. كما أنّ ابن أعثم نفسه قد أشار في بعض الموارد إلى جملةٍ من المصادر والمسانيد التي اعتمد عليها في النقل، ويمكن بالتتبّع في الكتاب الوقوف على هذه المصادر. وفي هذا المقطع من الدراسة، نشير إلى أسماء الأشخاص الذين نقل ابن أعثم أخباراً عنهم مصرّحاً بلفظ "حدّثني" في حقّهم:
1- جعال بن أسيد السكاسكيّ (عن أبيه أسيد بن علقمة)2.
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج2، ص344 و 147.
2- المصدر نفسه، ص230 و 270.
 
 
 
164

158

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 2- نعيم بن مزاحم1.


3- إسحاق بن يوسف الفزاريّ2.

4- عليّ بن عاصم3.

5- هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ4.

6- أبو الحسن عليّ بن محمّد المدائنيّ5.

7- عثمان بن سليم6.

8- لوط بن يحيى بن سعيد الأزديّ (أبو مخنف)7.

9- عبد الحميد بن جعفر8.

10- أبو عبد الله محمّد بن عمر الواقديّ9.

11- أبو يزيد المهليّ10.

12- إبراهيم بن عبد الله بن العلاء القرشيّ11.

13- أبو حاتم سهل بن محمّد الصانع12.

14- عبد الله بن عبد الرحمن الخزاعيّ13.
 
 

1- المصدر نفسه، ص344 و 347. وقد نقل ابن أعثم عن هذا الشخص روايتين، إحداهما في بداية خلافة عثمان، والأُخرى في وقعة صفّين.
2- المصدر نفسه، ص342 ـ 347، نقل عنه خبراً في بداية خلافة عثمان، وخبراً في حرب الجمل.
3- المصدر نفسه، ج4، ص209، نقل عن هذا الشخص روايةً في ابتداء مقتل مسلم بن عقيل.
4- المصدر نفسه، ج2، ص147.
5- المصدر نفسه، ج8، ص159.
6- المصدر نفسه، ج2، ص147.
7- المصدر نفسه.
8- المصدر نفسه.
9- المصدر نفسه.
10- المصدر نفسه، ج8، ص288.
11- المصدر نفسه، ص82.
12- المصدر نفسه، ج4، ص209.
13- المصدر نفسه، ج8، ص312.
 
 
 
165

159

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 15- عبد الله بن محمّد البلويّ1.

 


16- سليم2.

نقل ابن أعثم عن هؤلاء الأشخاص أخباراً، وعبّر عن ذلك بلفظ "حدّثني"، وهو في اصطلاح علم الحديث، دالّ على أنّه نقل عنهم بغير وساطة، والمراد منه أنّ الراوي قد سمع هذا المتن المكتوب عن شيخه، وهو ما يُعبّر عنه أيضاً بـ السماع3. مع أنّ نقل ابن أعثم حديثاً عن كثير من هؤلاء بالسماع والنقل المباشرين يُعدّ أمراً غير ممكنٍ في العادة من ناحيةٍ زمنيّة، فإنّ جعال بن أسيد السكاسكيّ, مثلاً, هو ابن أسيد بن علقمة، من أصحاب عيّاض بن غنم الفهريّ، المتوفّى سنة 20 للهجرة، كما أنّ عبد الحميد بن جعفر توفّي سنة 153 هـ، وتوفّي هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ عام 204 هـ4، وكانت وفاة محمّد بن عمر الواقديّ سنة 207 هـ5، وتوفّي المدائنيّ سنة 225 هـ6.

نعم، من المحتمل جدّاً أن يكون النّاسخ أو الشخص الذي أعاد كتابة الفتوح قد استبدل هذه التعبيرات واستخدمها دون التفاتٍ منه إلى المصطلحات الحديثيّة والرجاليّة، أو أنّه أضاف تعبيرات لم تكن موجودةً في النصّ الأصليّ للكتاب. فإذا صحّ ذلك، أمكن القول بأنّ كتاب الفتوح واجد لمعايير الصحّة في النقل والعرض التاريخيّين، إذ بعد الالتفات إلى كون المؤلّف نفسه من المتخصّصين في هذا المجال، وكون الكتاب نفسه يُعدّ كتاباً تخصّصيّاً في العرض التاريخيّ، والتناسب
 
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص36. نقل عن هذا الشخص روايةً في حوادث ما بعد صفّين. وقال الذهبيّ: إنّ عبد الله بن محمّد البلويّ كان يضع الحديث على عمّار بن يزيد. انظر: الذهبيّ، ميزان الاعتدال، ج2، ص391.
2- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج2، ص344.
3- صادق سجّادي و هادي عالم زاده، تاريخ نكاري در اسلام، (تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام)، ص38.
4- ابن حجر العسقلانيّ، تهذيب التهذيب، ج6، ص196.
5- ابن حجر العسقلانيّ، تهذيب التهذيب، ج9، ص317.
6- صادق سجّادي و هادي عالم زاده، تاريخ نكاري در اسلام، (تاريخ كتابة التاريخ في الإسلام)، ص63.
 
 
 
 
166

160

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الهندسيّ القائم بين مختلف الأخبار التاريخيّة التي أوردها، فإنّ الاطمئنان العرفيّ، الذي هو أهمّ معايير صحّة النقل التاريخيّ يحصل لدى القارئ بلا شكّ. وإنّ الأخبار التاريخيّة التي نُقلت في كتاب الفتوح، من ناحية اعتبارها وقدرتها على بعث الاطمئنان بصحّتها في نفس القارئ، ينبغي أن تُعدّ في درجة الروايات والأخبار الواردة في الكتب التاريخيّة غير المسندة، كما في كتاب الأخبار الطوال أو تاريخ اليعقوبيّ، وإلّا، كان هذا من الترجيح بلا مرجّح، ذلك لأنّ احتمال الوضع والتأليف والكذب موجود في جميع هذه الكتب غير المسندة، أضف إلى ذلك: أنّ اتّهام ابن أعثم بأنّه كان "قصّاصاً" ما هو إلّا اتّهام وجّهه إليه بعض المخالفين له والمنزعجين من الأخبار التي نقلها في كتابه بغرض الطعن فيه.


ب- نظرة إجماليّة إلى بعض أخبار كتاب الفتوح في باب واقعة كربلاء
خصّص ابن أعثم الكوفيّ قسماً معتدّاً به من كتاب الفتوح لنقل الأخبار والروايات المتعلّقة بحادثة كربلاء. وبصرف النظر عن صحّة أو سقم رواياته في هذا الباب، فإنّ سعة وتفصيل الروايات التي نقلها ابن أعثم في خصوص واقعة كربلاء، تُعدّ أمراً لافتاً للنظر، ولا سيّما أنّ هذا الكتاب يعود إلى القرنين الثالث والرابع الهجريّين. وفي هذا المجال، إنّ استعراض كافّة الروايات والأخبار التي نقلها ابن أعثم في باب واقعة كربلاء ليس أمراً متاحاً ومتيسّراً، مضافاً إلى أنّه من غير المناسب التعرّض له في قسمٍ فرعيٍّ من هذه الدراسة، بل إنّ البحث عنها يحتاج إلى متّسع أكبر وإلى دراساتٍ ومقالات أُخرى. ومن هنا، فإنّنا نكتفي في المقام بنظرةٍ إجماليّة إلى جملةٍ من هذه الأخبار.

1- إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة الإمام الحسين عليه السلام
يبدأ الحديث عن واقعة كربلاء في كتاب الفتوح برواية إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن شهادة
 
 
 
 
 
167

161

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الإمام الحسين عليه السلام. ومع أنّ هذا الحديث قد ذُكر في مصادر عديدة برواية أمّ الفضل، زوجة العبّاس بن عبد المطّلب، وأمّ سلمة، زوج النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم1، لكنّه في الفتوح ذكر هذا الحديث بشكلٍ مفصّلٍ جدّاً، وبأشكالٍ مختلفة:

عن ابن عفّان، عن أمّ الفضل بنت الحارث بن حزن امرأة العبّاس بن عبد المطلب أنّها قالت: رأيتُ في منامي رؤيا هالتني وأفزعتني، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! رأيتُ كأنّ قطعةً من جسدك قد قطعت فوضعت في حجري، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: خيراً رأيت يا أمّ الفضل! إن صدَقَتْ رؤياكِ فإنّ فاطمة حامل، وستلد غلاماً فأدفعه إليك لترضعيه. قالت أمّ الفضل: فوضعت فاطمة بعد ذلك غلاماً، فسمّي بالحسين، ودفعه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليّ فكنتُ أرضعه، قالت أمّ الفضل: فدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والحسين في حجري فأخذه وجعل يلاعبه وهو مسرور به، قالت أمّ الفضل: فبال الحسين فقطر من بوله على ثوب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقرصته فبكى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مهلاً يا أمّ الفضل! فهذا الذي أصاب ثوبي يغسل، وقد أوجعت ابني. قالت: فتركته في حجره وقمت لآتيه بماءٍ أغسل ثوبه، فلمّا جئتُ نظرتُ إليه وعيناه تذرفان بالدموع فقلت: فداك أبي وأمّي يا رسول الله! دفعتُه إليك وأنتَ به مسرور ثمّ رجعت إليكم وعيناك تذرفان بالدموع! فلماذا يا رسول الله؟ فقال: نعم يا أمّ الفضل! أتاني جبريل فأخبرني أن أمّتي تقتل ولدي هذا بشطّ الفرات، وقد أتاني بتربة حمراء2.

وقد نقل هذا الخبر أيضاً بطريقةٍ أُخرى عن ابن عبّاس، مفادها: أنّه رأى جبريل وجمعاً من الملائكة وفدوا على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم و...
 

1- راجع على سبيل المثال: البيهقيّ، دلائل النبوّة، ج6، ص468 / ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص218 / الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص129 / ابن كثير، البداية والنهاية، ج6، ص230.
2- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج4، ص323.
 
 
 
 
168

162

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 وروى أيضاً عن شرحبيل بن أبي عون:

إنّ الملك الذي جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان ملك البحار، وذلك أنّ ملكاً من ملائكة الفراديس نزل إلى البحر الأعظم ثمّ نشر أجنحته عليه وصاح صيحة وقال: يا أصحاب البحار! البسوا ثياب الحزن فإنّ فرخ محمّد مذبوح مقتول، ثمّ جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا حبيب الله! يقتتل على هذه الأرض فرقتان من أمّتك، إحداهما ظالمة معتدية فاسقة، يقتلون فرخك الحسين ابن ابنتك بأرض كرب وبلاء، وهذه تربته يا محمّد1!

وفي الخبر أيضاً عن شرحبيل بن أبي عون:
فلمّا أتى على الحسين من مولده سنة كاملة هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر ملكاً، أحدهم على صورة الأسد، والثاني على صورة الثور، والثالث على صورة التنّين، والرابع على صورة ولد آدم، والباقون الثمانية على صور شتّى محمرّة وجوههم، قد نشروا أجنحتهم وهم يقولون: يا محمّد! إنّه سينزل بولدك الحسين ابن فاطمة ما نزل بأبيك من قابيل، وسيعطي هابيل أخو قابيل، وسيحمل على قاتله مثل وزر قابيل2.

وقد ورد حديث إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة الإمام الحسين عليه السلام في مصادر متعدّدة، فمن هنا لا يمكن الشكّ في أصل وقوع ذلك، وفي الروايات التي نقلها ابن أعثم ذُكر هذا الحديث بصورٍ مختلفة، أُشير في جميعها إلى قاتل الإمام الحسين عليه السلام والوزر العظيم الذي عليه. نعم، من الصعب القبول بجميع الأخبار التي نقلها في الفتوح عن هذه الحادثة، وبخاصّةٍ أنّ ابن أعثم قد مضى في السرد القصصيّ بعيداً، حيث أورد خبراً مضمونه أنّ الملائكة تشكّلت على
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ص324.
2- المصدر نفسه.
 
 
 
 
169

163

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 صور حيواناتٍ مفترسةٍ وأليفة، إضافةً إلى أنّه كيف استطاع الراوي أن يعرف أنّ هذه الحيوانات التي حضرت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت من الملائكة؟ وكذلك في الخبر الذي نقله أنّ ابن عبّاس ادّعى رؤية جبريل، يُطرح السؤال التالي، وهو أنّ ابن عبّاس هل كانت لديه القدرة واقعاً على أن يرى ملك الوحي؟ وكذلك، فهل كان ابن أبي عون، الذي قال: إنّه رأى ملك البحار نزل إلى البحر الأعظم وفرش جناحيه عليه وأعلن العزاء في سكّان هذا البحر، هل كانت لديه هو أيضاً القدرة المعنويّة إلى هذا الحدّ بحيث يستطيع أن يرى الملك، وأن يرى البحر الأعظم من مكانه في الحجاز، تلك الجزيرة الجافّة؟! و...


2- وصيّة معاوية لابنه يزيد في الإمام الحسين عليه السلام
بعد حديثه عن واقعة أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد، ينتهي ابن أعثم إلى واقعة موت معاوية، وخلال حديثه عن الأحداث التي ترافقت مع موت معاوية، يتعرّض للحديث عن وصيّته، ويذكر فيها: أنّ معاوية أوصى يزيدَ بشأن الإمام الحسين عليه السلام وقال له:
وأمّا الحسين بن عليّ فأوه أوه يا يزيد! ماذا أقول لك فيه! فاحذر أن لا يتعرّض لك ومدّ له حبلاً طويلاً وذره يضرب في الأرض حيث شاء ولا تؤذه، ولكن أرعد له وأبرق، وإيّاك والمكاشفة له في محاربة سلّ سيف أو محاربة طعن رمح، ثمّ أعطه ووقّره وبجّله، فإن حال أحد من أهل بيته فوسّع عليهم وأرضهم فإنّهم أهل بيت لا يرضيهم إلّا الرضا، ولا يسعهم إلّا المنزلة الرفيعة، وإيّاك يا بني أن تلقى الله بدمه فتكون من الهالكين، فإنّ ابن عبّاس حدّثني فقال: إنّي حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في السياق وقد ضمّ الحسين بن عليّ إلى صدره وهو يقول: هذا من أطائب أرومتي وأنوار عترتي وخيار ذرّيتي، لا بارك الله فيمن لا يحفظه بعدي! قال ابن عبّاس: ثمّ أغمي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ثمّ أفاق وقال: يا حسين!
 
 
 
 
 
 
 
170

164

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 إنّ لي ولقاتلك يوم القيامة مقاماً بين يدي ربّي وخصومة، وقد طابت نفسي إذ جعلني الله خصيماً لمن قتلك يوم القيامة. يا بنيّ! هذا حديث ابن عبّاس، وأنا أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمّ أنّه قال: أتاني جبريل يوما فخبّرني وقال: يا محمّد! إنّ أمّتك ستقتل ابنك حسيناً، وقاتله لعين هذه الأمّة، ولقد لعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يا بنيّ قاتل الحسين مراراً، فانظر لنفسك ثمّ انظر أن لا يتعرض له بأذيّة، فحقّه والله يا بنيّ عظيم، ولقد رأيتني كيف كنت أحتمله في حياتي وأضع له رقبتي وهو يواجهني بالكلام الذي يمضّني ويؤلم قلبي، فلا أجيبه ولا أقدر له على حيلة، فإنّه بقيّة أهل الأرض في يومه هذا، وقد أعذر من أنذر1.


هذه الوصيّة من معاوية إلى ابنه يزيد والتي يطلب منه فيها أن يُحسن معاملة الإمام الحسين قد نُقلت في غير هذا الكتاب من الكتب والمصادر، لكنّ الخبر الذي نقلها ابن أعثم بوساطته له لون ورائحة خاصّة، بحيث يمكن لنا أن نحمله على ميلٍ منه إلى المبالغة. ذلك أنّ هذه الوصيّة من معاوية إلى يزيد في شأن الإمام الحسين عليه السلام هي, بلا شكٍّ ولا ريب, تأتي في سياق تعليم معاوية لولده يزيد كيفيّة ممارسة حيل السياسة ومكرها، يريد أن يقول له: يا يزيد، إذا أردت لحكمك أن يقوم ويستمرّ فإنّ عليك أن تداري الحسين بن عليّ، لا أنّ معاوية أوصى يزيدَ بذلك من باب أنّه كان حقيقةً يعتقد ويدرك حرمة الإمام الحسين وعظمة مقامه. وإذا كان معاوية يرى حرمة الإمام عليه السلام ويعتقد أنّ له هذا المقام العظيم، فلماذا إذاً لم يتنازل له عن سدّة الحكم والخلافة؟ ولماذا إذاً أقدم هو على اغتيال الإمام الحسن عليه السلام وقتله؟ وفي تاريخ الطبريّ والأخبار الطوال نُقلت وصيّة معاوية إلى يزيد باللّفظ التالي: "... وأعلِماه أنّي لسْتُ أخاف عليه إلّا أربعة رجال:
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ص349 ـ 350.
 
 
 
 
171

165

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. فأمّا الحسين بن عليّ فأحسب أهل العراق غير تاركيه حتّى يُخرجوه، فإن فعل، فظفرْتَ به، فاصفح عنه"1.


3- رؤيا الإمام الحسين عليه السلام بجنب قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
خرج الحسين بن عليّ من منزله ذات ليلة وأتى إلى قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! أنا الحسين ابن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك وسبطك في الخلف الذي خلفت على أمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك ـ صلى الله عليك وسلّم ـ. ثمّ وثب قائماً، وصفّ قدميه، ولم يزل راكعاً وساجداً. قال: وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين لينظر هل خرج من المدينة أم لا، فلم يصبه في منزله فقال: الحمد لله الذي لم يطالبني الله عزّ وجلّ بدمه! وظنّ أنّه خرج من المدينة. قال: ورجع الحسين إلى منزله مع الصبح، فلمّا كانت اللّيلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: اللّهمّ! إنّ هذا قبر نبيّك محمّد وأنا ابن بنت محمّد وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ! وإنّي أحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه ما اخترت من أمري هذا ما هو لك رضا. قال: ثمّ جعل الحسين يبكي حتّى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتّى ضمّ الحسين إلى صدره وقبّل بين عينيه وقال: يا بنيّ! يا حسين! كأنّك عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي وأنت في ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي،
 

1- أبو حنيفة الدّينوريّ، الأخبار الطوال، ترجمة محمود مهدوي دامغانيّ، ص274 / محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص322.
 
 
 
 
172

166

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله من خلاق، حبيبي يا حسين! إنّ أباك وأمّك (وأخاك) قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجاتٍ لن تنالها إلّا بالشهادة. قال: فجعل الحسين ينظر في منامه إلى جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع كلامه وهو يقول: يا جدّاه! لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا أبداً فخذني إليك واجعلني معك إلى منزلك. قال: فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يا حسين! إنّه لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى ترزق الشهادة وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة. قال: فانتبه الحسين من نومه فزعاً مذعوراً، فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب، فلم يكن ذلك اليوم في شرق ولا غرب أشدّ غمّاً من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا أكثر منه باكياً وباكية1.


ومع أنّ خبر منام الإمام الحسين عليه السلام لم يرد ذكر له في جملةٍ من المصادر كـ تاريخ الطبريّ والأخبار الطوال، لكنّ كتباً آخر نقلته2. وقد نقله الشيخ الصدوق في كتاب الأمالي مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام3. وقد نقل ابن شهر آشوب حادثة رؤيا الإمام الحسين عليه السلام مسنداً إيّاها إلى جماعةٍ فيهم ابن بابويه القمّيّ والسيّد الجرجانيّ وعبد الله بن حنبل الشاكريّ وشاكر بن غنمة وأبو الفضل الهاشميّ وآخرون4. فمن ناحية صحّة النقل التاريخيّ الظاهر أنّه يمكن الاطمئنان إلى أصل وقوع هذه الحادثة، بدليل نقل أمالي الصدوق ومناقب ابن شهر آشوب لها، لكنّ الكيفيّة التي رواها بها ابن أعثم أكثر ما تنسجم مع دعوى الذين لا يرون في فلسفة قيام الإمام الحسين عليه السلام إلّا أنّه قام لأجل الاستشهاد فقط، علماً بأنّ كلمات وخطابات
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج5، ص18 ـ 19.
2- تاريخ امام حسين عليه السلام، ج1 ص290 ـ 298، سازمان پزوهش و برنامه ريزي آموزش وزارت آموزش و پرورش.
3- الشيخ الصدوق، كتاب الأمالي، ترجمة كمرى اى، ص152.
4- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص88 ـ 89.
 
 
 
 
173

167

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الإمام الحسين عليه السلام تقودنا إلى شيءٍ آخر مختلفٍ تماماً. وإذا كان الغرض من قيام الإمام الحسين عليه السلام هو طلب الشهادة فقط فلماذا إذاً عزم على الانصراف والرجوع إلى المدينة عندما قابل جيش الحرّ الرياحيّ؟1.


4- وصيّة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة
كتب الإمام الحسين عليه السلام في وصيّته إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب لأخيه محمّد ابن الحنفيّة المعروف ولد عليّ بن أبي طالب رضيّ الله عنه: إنّ الحسين بن عليّ يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عنده، وأنّ الجنّة حقّ والنّار حقّ. وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين رضي الله عنهم2.

خبر الحديث الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام وبين أخيه محمّد بن الحنفيّة حين حركته من المدينة إلى مكّة نُقل في العديد من الكتب والمصادر. وقد نصحه محمّد بن الحنفيّة بأن لا يخرج، وما شاكل ذلك، وشكره الإمام عليه السلام على النصح، وتحدّث معه بكلامٍ رقيق3. لكنّ وصيّة الإمام عليه السلام لمحمّد بن الحنفيّة بهذا النحو المدوّن في كتاب الفتوح لا يمكن العثور عليه في أيّ كتابٍ أو مصدرٍ آخر. نعم، نقله الخوارزميّ في مقتله4، لكنّه بحسب الظاهر أخذه من
 
 

1- محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص34.
2- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج5، ص34.
3- الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص33.
4- الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ص33.
 
 
 
 
174

168

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 كتاب ابن أعثم. وأمّا هذه العبارة الموجودة في رواية ابن أعثم، وهي عبارة "وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين"، فليس لها عين ولا أثر في خبر مناقب ابن شهر آشوب، ولا في بحار الأنوار، ولا في أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين العامليّ1.


5- جملة من الحوادث التي جرت خلال المسير من مكّة إلى العراق
بعد خبر مفصّل نقله ابن أعثم عن ورود الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة، وتفاصيل ترتبط بمدّة إقامته عليه السلام في مكّة، والوقائع التي جرت في خلال ذلك، وتفصيل رسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وردّه على رسائلهم، وإرساله مسلم بن عقيل إلى الكوفة. وبحسب خبر ابن أعثم، فإنّ الإمام عليه السلام كان لا يزال في مكّة حين بلغه خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المذحجيّ. وأمّا خبر سفر الإمام من مكّة إلى العراق فقد نقله ابن أعثم بالكيفيّة التالية:
قال: وخرج الحسين من مكّة يوم الثلاثاء، يوم التروية، لثلاثٍ مضين من ذي الحجّة، ومعه اثنان وثمانون رجلاً من شيعته وأهل بيته... وسار الحسين حتّى نزل الخزيميّة وأقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب بنت عليّ، فقالت: يا أخي! ألا أخبرك بشيءٍ سمعْتُه البارحة؟ فقال الحسين: وما ذاك؟ فقالت: خرجْتُ في بعض اللّيل لقضاء حاجة، فسمعْتُ هاتفاً... فقال لها الحسين: يا أختاه! المقضيّ هو كائن. قال: وسار الحسين حتّى نزل الثعلبيّة، وذلك في وقت الظهيرة، فنزل وترك أصحابه، ثمّ وضع الحسين رأسه ونام، ثمّ انتبه من نومه باكياً، فقال له ابنه: ما لك تبكي يا أبتِ لا أبكى الله لك عيناً؟ فقال الحسين: يا بنيّ إنّها ساعة لا تكذب فيها الرؤيا، أُعلمك أنّي رأيتُ فارساً
 

1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص329 ـ 330 / السيّد محسن الأمين العامليّ، أعيان الشيعة، ج1، ص588 / ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص89.
 
 
 
 
175

169

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 على فرس حتّى وقف عليّ فقال: يا حسين! إنّكم تُسرعون المسير والمنايا بكم تسرع إلى الجنّة، فعلمْتُ أنّ أنفسنا قد نُعيت إلينا. فقال له ابنه: يا أبتِ ألسنا على الحقّ؟ قال: بلى يا بنيّ والذي ترجع العباد إليه! فقال عليّ رضي الله عنه: إذاً لا نبالي بالموت... قال: وسار الحسين حتّى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه. فسلّم ثمّ دنا منه فقبّل يده، فقال الحسين: من أين أقبلت يا أبا فراس؟ فقال: من الكوفة يا بن بنت رسول الله! فقال: كيف خلّفت أهل الكوفة؟ فقال: خلّفت النّاس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والله يفعل في خلقه ما يشاء! فقال: صدقت وبررت، إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء وربّنا تعالى كلّ يوم هو في شأن، فإن نزل القضاء بما نحبّ فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحقّ نيّته، فقال الفرزدق: يا بن بنت رسول الله! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم قد قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل و شيعته؟ قال: فاستعبر الحسين بالبكاء ثمّ قال: رحم الله مسلماً!... قال: وسار الحسين عليه السلام حتّى نزل في قصر بني مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب ورمح منصوب وسيف معلّق وفرس واقف على مذوده، فقال الحسين: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لرجلٍ يقال له عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ... فقام الحسين ثمّ صار إليه.. ودعاه إلى نصرته1.


ومن الأخبار التي رواها ابن أعثم بالتفصيل ما يتعلّق بالتقاء ركب الإمام عليه السلام مع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وخطاب الإمام عليه السلام في محفل جيش الحرّ، والحوار الذي دار بينه وبين الحرّ، وغير ذلك من الحوادث التي جرت بين الإمام وبين جيش الحرّ، وصولاً إلى اقتراب الإمام الحسين عليه السلام من نينوى2. وطبقاً لنقل ابن أعثم، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام بعد اقترابه
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج5، ص120 ـ 132.
2- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ص134 ـ 242.
 
 
 
 
176

170

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 من نينوى، كتب رسالةً إلى الكوفيّين الذين كان يظنّ فيهم الثبات على رأيهم. وفي هذه الرسالة ذكر الإمام عليه السلام أسماء جماعةٍ منهم سليمان بن صرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال و... وذكّرهم بالعهود والمواثيق وبالرسائل التي كانوا أرسلوها إليه، مذكّراً إيّاهم بقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: "فقد علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام، أو تاركاً لعهد الله ومخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بقولٍ ولا فعل، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله".


ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهّر الصيداويّ وأمره أن يسير إلى الكوفة1.

هذا الجزء من أخبار ابن أعثم في جملةٍ من موارده لا ينسجم مع ما ورد في مصادر أُخرى. فعلى سبيل المثال، طبقاً للخبر الذي نقله ابن أعثم، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام كان لا يزال في مكّة حين تلقّى خبر شهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المذحجيّ، مع أنّ الوارد في أخبار أُخرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام تلقّى خبر شهادة مسلم بينما كان سائراً على الطريق من مكّة إلى العراق (في الثعلبيّة أو في زرود)2. وإنّ عزم الإمام وإصراره على السفر إلى العراق يؤكّد هذا الأمر، وهو أنّه لم يتلقّ خبر شهادة مسلم وهو في مكّة، وإلّا، فإنّ خبر استشهاد مسلم كان سيؤثّر في قرار الإمام عليه السلام، وعلى الأقلّ، كان سيؤخّر سفره إلى العراق. وكذلك، فبحسب خبر ابن أعثم، محلّ لقاء الإمام مع الفرزدق الشاعر كان في منزل شقوق، بينما ذُكر في مصادر أُخرى أنّ اللّقاء
 

1- المصدر نفسه، ص142 ـ 145.
2- الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص379 / أبو حنيفة الدّينوريّ، الأخبار الطوال، ص274 / ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص42.
 
 
 
 
177

171

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 كان في الصفاح1، وقد ورد في الشعر المنسوب إلى الفرزدق ذكر الصفاح، حيث قال: "لقيت الحسين بأرض الصفاح..."2


وكذلك ورد في خبر ابن أعثم أنّ الإمام عليه السلام بعث برسالته إلى الكوفيّين بينما كان قريباً من أرض نينوى، مع أنّ الموجود في رواية الطبريّ وغيره أنّ الإمام قد بعث بهذه الرسالة إلى الكوفيّين في منزل حاجز أو حاجر3، وبينما كان خبر استشهاد مسلم لم يبلغه بعد، يعني أنّه في الواقع كان قد أرسل بهذه الرسالة جواباً على رسالة مسلم إليه، والتي كان يحثّ فيها الإمام عليه السلام على الخروج إلى العراق4. كما أنّ مضمون هذه الرسالة، طبقاً لرواية ابن أعثم، يختلف عمّا ورد بشأنها في مصادر أُخرى. فمثلاً: الحديث الذي تلاه الإمام عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد تلاه في خطابٍ له بجيش الحرّ في منطقة بيضة5. وكذلك، فإنّ حادثة الرؤيا التي رآها الإمام وسماعه صوت هاتفٍ ينادي: إنّكم تُسرعون المسير والمنايا بكم تسرع إلى الجنّة.. هذه الحادثة بحسب نقل الطبريّ لها كانت قد حصلت على مشارف "قصر بني مقاتل"6، بينما نقل ابن أعثم حصولها عند منزل "الثعلبيّة".

6- يوم عاشوراء في رواية ابن أعثم
تحدّث ابن أعثم عن عدم تكافؤ عدديّ بين المعسكرين كان واضحاً وجليّاً منذ بداية المعركة، قال: فوثب أصحاب الحسين فخرجوا من باب خندقهم،
 

1- الطبريّ، المصدر نفسه، ج5، ص386/ أبو حنيفة الدّينوريّ، المصدر نفسه، ص246/ ابن الأثير، المصدر نفسه، ج4، ص16.
2- محمّد تقي بحر العلوم، مقتل الحسين عليه السلام، ص176، في الهامش.
3- الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص395/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص70 / البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص166. والمذكور في أنساب الأشراف هو "حاجز"، وفي الأخبار الطوال "بطن الرمّة"، ص246.
4- الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص40.
5- محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص188 ـ 210.
6- المصدر نفسه، ص407.
 
 
 
 
178

172

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 وهم يومئذٍ اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، والقوم اثنان وعشرون ألفاً لا يزيدون ولا ينقصون، فحمل بعضهم على بعض فاقتتلوا ساعة من النهار حملة واحدة، حتّى قتل من أصحاب الحسين نيّف وخمسون رجلاً ـ رحمة الله عليهم ـ... قال: ثمّ صاح الحسين: أما من مغيثٍ يغيثنا لوجه الله؟ أما من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟


قال: فإذا الحرّ بن يزيد الرياحيّ قد أقبل يركض فرسه حتّى وقف بين يدي الحسين رضي الله عنه، فقال: يا ابن بنت رسول الله! كنت أوّل من خرج عليك، أفتأذن لي أن أكون أوّل مقتول بين يديك، لعلّي أبلغ بذلك درجة الشهداء فألحق بجدّك صلى الله عليه وآله وسلم! فقال الحسين: يا أخي! إن تبت كنت ممّن تاب الله عليهم، إنّ الله هو التوّاب الرحيم.

وبعد انقضاء المعركة الأُولى، بقي من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام رجال قلائل أخذوا يبرزون إلى الميدان فارساً بعد فارس، وراجلاً بعد راجل، حتّى استُشهدوا. وكان أوّل من تقدّم إلى القوم الحرّ بن يزيد الرياحيّ واستشهد بعد أن قاتل جيش ابن سعد، ثمّ برز إلى الميدان برير بن خضير الهمدانيّ. وبعده كان وهب بن عبد الله الكلبيّ ثالث من برز لقتال القوم، حتّى أُثخن بالجراح، واستشهد. وكان الرابع خالد بن وهب، والخامس شعبة بن حنظلة التميميّ، ثمّ برز بالترتيب: عمرو بن عبد الله المذحجيّ، ومسلم بن عوسجة الأسديّ، وعبد الرحمن بن عبد الله، وقرّة بن أبي قرّة الغفاريّ، ومالك بن أنس الباهليّ، وعمرو بن مطاع الجعفيّ، وحبيب بن مظاهر الأسديّ، وحويّ مولى أبي ذرّ الغفاريّ، وأنيس بن معقل الأصبحيّ، ويزيد بن مهاجر الجعفيّ، والحجّاج بن مسروق، وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وزهير بن القين البجليّ، وهلال بن رافع البجليّ، وجنادة بن الحارث الأنصاريّ، وعمرو بن جنادة، برزوا كلّهم إلى
 
 
 
 
 
179

173

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الميدان وقاتلوا حتّى قُتلوا...


وأمّا الذين استشهدوا في ركاب الإمام الحسين عليه السلام من بني هاشم، فأوّلهم عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثمّ برز إلى الميدان ثانياً وثالثاً جعفر بن عقيل وعبد الرحمن بن عقيل، حتّى استشهدا، وبعدهم بالترتيب برز محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وعمر بن عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عليّ بن أبي طالب، وجعفر بن عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عليّ بن أبي طالب، والعبّاس بن عليّ بن أبي طالب، و عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، برزوا جميعاً إلى ميدان القتال وقاتلوا حتّى قُتلوا1.

وفي هذا القسم ممّا نقله ابن أعثم يمكن الوقوف على جملةٍ من الموارد التي لا تنسجم مع ما ورد في كتبٍ ومصادر أُخرى. فعلى سبيل المثال، روى ابن أعثم أنّ عبد الله بن مسلم بن عقيل كان أوّل الشهداء من بني هاشم، مع أنّ الذي ورد في مصادر أُخرى هو أنّ عليّ بن الحسين كان أوّل من برز إلى الميدان وأوّل من قضى شهيداً من بني هاشم2. ولم يذكر ابن أعثم من أولاد الإمام الحسن عليه السلام الذين استشهدوا في كربلاء سوى عبد الله بن الحسن، بينما نجد في مصادر أُخرى ذكراً لثلاثةٍ من أولاده عليه السلام، وهم عبد الله بن الحسن والقاسم بن الحسن وأبو بكر بن الحسن، وثلاثتهم قضوا شهداء في كربلاء3. وفي خبر ابن أعثم، ذُكر أنّ للإمام الحسين عليه السلام ولدين باسم عليّ، أحدهما كان في السابعة من عمره، والآخر كان رضيعاً، واستشهد في حضن أبيه الإمام الحسين عليه السلام. ولكن في المصادر الأُخرى، ذُكر أنّ اسم الطفل الرضيع
 

1- ابن أعثم الكوفيّ، كتاب الفتوح، ج5، ص188 ـ 210.
2- أبو حنيفة الدّينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.
3- الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص467/ الشيخ المفيد، الإرشاد، ج، ص125.
 
 
 
180

174

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 الذي استشهد في كربلاء كان يُدعى عبد الله. وكذلك، فإنّ الذي بقي حيّاً أيضاً من أولاد الإمام الحسين عليه السلام هو الإمام السجّاد عليه السلام، والذي ذكر الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد، والطبرسيّ في كتابه إعلام الورى، أنّه هو المسمّى بـ عليّ الأكبر، وقد كان عمره في كربلاء 23 عاماً، لأنّ ولادته كانت سنة 38 للهجرة، والشابّ الذي استشهد في كربلاء هو عليّ الأصغر، والطفل الشهيد هو عبد الله. نعم، أكثر المؤرّخين على الاعتقاد بأنّ عليّ الأكبر هو الذي استشهد بكربلاء، وأنّ الإمام زين العابدين عليه السلام هو عليّ الأصغر، وأمّا أنّه عليه السلام كان يبلغ من العمر سبع سنواتٍ في كربلاء، فهذا أمر لا حقيقة له.


تعقيب واستنتاج
اتّضح أنّ الرأي الذي نختاره أنّ الشخص المدعوّ بـ ابن أعثم هو أبو محمّد أحمد بن أعثم الكوفيّ، وينتهي نسبه إلى قبيلة أزد. وهو في عين أنّه كان يعيش الحبّ والمودّة لأهل البيت عليهم السلام، قد كان شديداً في اتّباع مدرسة الخلفاء. وبعبارةٍ أُخرى، في عين التشيّع العاطفيّ الذي كان لديه، فيمكن لنا أن نصنّفه بأنّه من أهل السنّة. ويُعدّ كتاب الفتوح أهمّ كتب ابن أعثم الكوفيّ، وهو كتاب مرتّب ومنسّق على الطريقة الموضوعيّة، كما أنّه, حسبما صرّح به المؤلّف نفسه, اعتمد الأسلوب التركيبيّ في عرض الأحداث والوقائع.

وبالرغم من أنّ الأخبار والروايات والنقولات التاريخيّة التي نقلها ابن أعثم في كتاب الفتوح موجودة أيضاً في كتب المدائنيّ وأبي مخنف ونصر بن مزاحم المنقريّ وهشام الكلبيّ وآخرين، لكنّ ابن أعثم لم يُصرّح, كما ينبغي, بالكتب والمصادر التي اعتمد عليها في النقل، غير أنّ تخصّص الرجل في المجال التاريخيّ، وكون الكتاب نفسه كتاباً تخصّصيّاً، والتناسب الهندسيّ للنقولات التاريخيّة الواردة فيه، يمكن له أن يعطي اطمئناناً عرفيّاً بأنّ الكتاب واجد لأهمّ
 
 
 
 
 
181

175

نقد وتقييم لكتاب "الفتوح" في ضوء تعامله مع حادثة كربلاء

 معايير الصحّة في النقل التاريخيّ. كما أنّ دراسة رواية حادثة كربلاء في كتاب الفتوح ترشد، وبوضوح، إلى وجود فوارق واختلافاتٍ بينه وبين سائر الكتب والمصادر، ولو كانت فوارق جزئيّة ومحدودة.

 

 

 

 

 

 

182


176

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ1


تلخيص وتقديم
تتوزّع مقالتنا هذه على قسمين. في قسمها الأوّل، نتعرّض للتعريف بشخصيّة الخوارزميّ ومكانته العلميّة وأساتذته وتلامذته ومؤلّفاته. بينما نتعرّض في القسم الثاني منها للحديث عن مقتل الخوارزميّ، ونجري مقارنةً بينه وبين مقتل أبي مخنف، والقسم المتعلّق بأحداث كربلاء من كتاب الفتوح لابن الأعثم. وفي هذه الدراسة المقارنة ندرس وجوه الاختلاف، ووجوه الشبه، ونقاط القوّة ونقاط الضعف في كتاب مقتل الخوارزميّ بالقياس إلى هذين الكتابين اللّذين أشرنا إليهما.

التعريف بكتاب مقتل الحسين عليه السلام
مقدّمة
من بين كتب المقاتل التي تتحدّث عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام، يحتلّ كتاب مقتل الحسين عليه السلام، من تأليف أبي المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ (المتوفّى سنة 568 هـ) مكانةً خاصّةً بين علماء المسلمين، وبخاصّةٍ علماء
 

1- محسن رنجبر, العضو بالهيئة العلميّة لدى مؤسّسة الإمام الخميني قدس سره للدراسات والأبحاث.
 
 
 
 
183

177

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 المسلمين الشيعة، حتّى إنّ كتاب مقتل الخوارزميّ هو المرجع المعتمد من قِبَل علماء الشيعة مباشرةً بعد كتاب المقتل لأبي مخنف، نظراً لإتقانه وقيمته العلميّة عندهم من بين كلّ الكتب والمؤلّفات التي صنّفها مؤرّخون من أهل السنّة والتي تؤرّخ لأحداث واقعة عاشوراء.


وقد وزّعنا هذا المقال على قسمين، خصَّصنا القسم الأوّل منهما للحديث عن سيرة الخوارزميّ وشخصيّته العلميّة ومصنّفاته التي تركها، فيما خصَّصنا القسم الثاني لإجراء دراسةٍ بنيويّة وتحليل شامل لكتاب مقتل الخوارزميّ. وإضافةً إلى ذلك، ولمّا كان الخوارزميّ قد اعتمد في نقله لأحداث ثورة كربلاء إلى ما قبل يوم عاشوراء- في الأغلب- على الأخبار التي أوردها ابن الأعثم في مقتله، ورتّب كتابه على طبق ترتيب هذا المقتل، آثرنا أن نجري مقارنةً في هذا المجال بين ما نقله الخوارزميّ، وبين ما جاء في الأخبار التي رواها ابن الأعثم، لندرس الفروقات والنواقص والإضافات. كما أنّه اعتمد في نقل حوادث يوم عاشوراء وما بعده، بالإضافة إلى ما نقله من مقتل ابن الأعثم، وسيره على وفق ترتيب كتابه (وإن كان هو لم يُشر إلى ذلك)، اعتمد على الأخبار التي أوردها أبو مخنف في كتابه المقتل.

أ- قراءة في شخصيّة ومؤلّفات الخوارزميّ
1ـ اسم الخوارزميّ وهويّته
هو موفّق1 بن أحمد بن محمّد2 البكريّ الحنفيّ المعروف بـ أخطب
 

1- واشتبه بعضهم فأثبت اسمه بلفظ "موفّق الدّين". راجع: محمّد بن عبد الحيّ اللكنوي الهندي، الفوائد البهيّة في تراجم الحنفيّة.
2- وذكر بعضهم أنّ اسم الخوارزميّ هو إسحاق، وكنيته أبو سعيد. راجع: ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء، ج19، ص212. جلال الدّين عبد الرحمن السيوطيّ، بغية الوعاة في طبقات اللّغويّين والنحاة، ج2، ص401. محمّد باقر الموسويّ الخوانساريّ الأصفهانيّ، روضات الجنّات، ج8، ص124. العلّامة الأمينيّ، الغدير، ج4، ص398. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أكثر الذين تعرّضوا لترجمة حياة الرجل ذكروا أنّ اسم جدّه كان محمّداً، فالذي يبدو لنا هو أنّ هذا الرأي قريب إلى الصواب.
 
 
 
 
184

178

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 خوارزم، وهو الفقيه، والخطيب، والقاضي، والأديب، والشاعر، الملقّب بـ صدر الأئمّة1، وخليفة الزمخشريّ. وُلد حوالي سنة 484 هـ2، وتوفّي في العام 568 هـ3. كنيته المشهورة هي أبو المؤيّد، وإن كان قد عُرف بكنىً أُخرى أيضاً، وهي: أبو محمّد4، وأبو الوليد5. ولم تتوفّر معلومات كافية بشأن مسقط رأس الخوارزميّ، وأنّه هل كانت ولادته في خوارزم، أم في مكّة، كما جاء في بعض المصادر من أنّه مكّيّ الأصل6، أم في مكانٍ آخر أساساً؟ كما أنّ الذين تعرّضوا للحديث عن حالاته العلميّة اكتفوا أيضاً بذكر بعض النقاط المجملة والمختصرة عن مراحل حياته والجهود العلميّة التي بذلها، من قبيل أنّه درس اللّغة العربيّة عند شيخه جار الله الزمخشريّ7، أو أنّه كان شيخاً للأستاذ ناصر بن عبد السيّد المطرزي الخوارزميّ، أو أنّه روى مصنّفات محمّد بن الحسن عن لسان نجم الدّين عمر بن محمّد بن أحمد النسفيّ8، أو أنّه سافر طلباً للحديث إلى مناطق فارس والعراق والحجاز ومصر والشام، أو أنّه كانت له رسائل ومكاتبات مع علماء عصره الذين أجازوه نقل الحديث عنهم، كما

 


1- ونقل بعضهم، كالقرشيّ (عبد القادر بن أبي الوفاء، القرشيّ، الجواهر المضيئة، ج2، ص188)، و الفاسيّ (تقيّ الدّين محمّد بن أحمد الحسنيّ الفاسيّ المكّي، العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، ج7، ص310)، أنّه كان يُلقّب بـ "خطيب خوارزم"، وليس هناك فرق شاسع بين التعبيرين. نعم، الذين استخدموا أفعل التفضيل في حكاية اللّقب الذي كان يُلقّب به إنّما كان مقصودهم تعظيم الرجل وتكريمه والتصريح بتبحّره في إنشاء الخطبة، راجع: الخوارزميّ، المناقب، مقدّمة آية الله الشيخ جعفر السبحانيّ، ص17.

2- القرشيّ، مصدر سابق، ج2، ص188. السيوطيّ، مصدر سابق، ج2، ص401، ومحمود بن سليمان الكفويّ، أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان، نقلاً عن: مير حامد النيشابوريّ الهنديّ، عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار عليهم السلام، ج6، ص296.

3- جمال الدّين أبو الحسن عليّ بن يوسف القفطيّ، إنباه الرواة على أنباه النحاة، ج3، ص232، القرشيّ، مصدر سابق، ج2، ص188، والفاسيّ، مصدر سابق، ج7، ص310.

4- الأمينيّ، مصدر سابق، ج4، ص398.

5- إسماعيل باشا البغداديّ، هديّة العارفين، ج2، ص482.

6- القفطيّ، مصدر سابق، ج3، ص232.

7- السيوطيّ، مصدر سابق، ج2، ص401، والقرشيّ، مصدر سابق، ج2، ص188.

 

11- القرشيّ، مصدر سابق، ج2، ص188.

 

 

185


179

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 أنّه - بدوره - أجازهم نقل الحديث والرواية عنه1.


كان للخوارزميّ أخ أكبر منه، أشار إليه هو في مقتله بقوله: "أخبرنا الإمام الأجلّ الكبير، أخي سراج الدّين، ركن الإسلام، شمس الأئمّة، إمام الحرمين، أبو الفرج محمّد بن أحمد المالكيّ"2.

2ـ الخوارزميّ ومنزلته العلميّة في أوساط العلماء
أقرّ بمنزلة الخوارزميّ ومكانته العلميّة السامية وسعة علمه وإحاطته وبراعته في العديد من العلوم جملة كبيرة من العلماء، من الذين عاصروه، أو من الذين تأخّروا عنه وتعرّفوا عليه من خلال مصنّفاته ومؤلّفاته، وذكروا في حقّه شتّى عبارات المدح والثناء. ولا يختصّ ذلك بعلماء مدرسة أهل السنّة، بل إنّ بعض العلماء والمفكّرين من مدرسة أهل البيت عليهم السلام أدلوا بدلوهم في هذا المجال، وذكروا في حقّه عبارات المدح والتمجيد والتبجيل. نشير فيما يلي إلى جملةٍ من هذه الكلمات التي قيلت في حقّ الرجل:
أ ـ القفطيّ (568 ـ 646 هـ)، قال في حقّ الخوارزميّ:
"الموفّق بن أحمد بن محمّد المكّيّ الأصل، أبو المؤيّد خطيب خوارزم أديب فاضل، له معرفة تامّة بالأدب والفقه يخطب بجامع خوارزم سنين كثيرة وينشئ الخطب به. أقرأ النّاس علم العربيّة وغيره، وتخرج به عالم في الآداب. منهم أبو الفتح ناصر بن أبي المكارم المطرزي الخوارزميّ"3.
 

1- أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ، (أخطب خوارزم)، مقتل الحسين، مقدّمة المحقّق، ص9 ـ 10. السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ، أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة، طُبع في: مجلّة تراثنا، السنة السادسة، العدد 23، 1411 هـ، القسم الرابع، ص79.
2- الخوارزميّ، مقتل الحسين، ج1، ص15.
3- القفطيّ، مصدر سابق، ج3، ص232. وقد ذكر تقيّ الدّين الفاسيّ (775 ـ 832 هـ) ما يقرب من هذه العبارات في حقّ الخوارزميّ، راجع: المصدر نفسه، ج7، ص310.
 
 
 
186

180

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 ب ـ وقال الحافظ السيوطيّ فيه ناقلاً عن الصفديّ:

"الموفّق بن أحمد بن أبي سعيد إسحاق أبو المؤيّد المعروف بأخطب خوارزم. قال الصفديّ: كان متمكّناً في العربيّة غزير العلم فقيهاً فاضلاً أديباً شاعراً قرأ على الزمخشريّ وله خطب وشعر"1.

ج ـ وقال العلّامة الأمينيّ رحمه الله:
"الحافظ أبو المؤيد وأبو محمّد موفّق بن أحمد بن أبي سعيد إسحاق ابن المؤيد المكّي الحنفيّ المعروف بأخطب خوارزم، كان فقيهاً غزير العلم، حافظاً طائل الشهرة محدّثاً كثير الطرق، خطيباً طائر الصيت، متمكّناً في العربيّة، خبيراً على السيرة والتاريخ، أديباً شاعراً له خطب وشعر مدوّن"2.

3ـ مذهب الخوارزميّ:
في عصر الخوارزميّ، كان المذهب الأكثر رواجاً في خراسان الكبرى وما وراء النهر، ومن بينها منطقة خوارزم، هو المذهب الحنفيّ. وقد كان الخوارزميّ في الفروع من أتباع هذا المذهب. وقد كتب الخوارزميّ كتابه "مناقب أبي حنيفة" الذي تحدّث فيه عن فضائل أبي حنيفة، وأنشد فيه قصيدةً مطوّلةً في مدحه والثناء عليه، وهذا ما يُعدّ شاهداً قويّاً على اتّباعه للمذهب الحنفيّ. لكنّه - مع كلّ ذلك - كان ميّالاً إلى التشيّع، ومحبّاً لأهل البيت عليهم السلام.

4ـ آثار ومؤلّفات الخوارزميّ:
ألّف الخوارزميّ خلال حياته كتباً ومؤلّفات في تاريخ وفضائل ومناقب
 

1- السيوطيّ، مصدر سابق، ج2، ص401.
2- ج1، 815، الأمينيّ، مصدر سابق، ج4، 398. وللتعرّف على المصادر التي تعرّضت لترجمة حياته، راجع: مقدّمة السيّد محمّد رضا الموسويّ خرسان على كتاب المناقب، ص27 ـ 28، والسيّد عبد العزيز الطباطبائيّ، أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة، طُبع في مجلّة تراثنا، ص83 ـ 84.
 
 
 
187

181

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 أهل البيت عليهم السلام. وقد جاءت أسامي هذه الكتب والمؤلّفات التي ألّفها في الموسوعات والكتب على الشكل التالي:

1- الأربعين في مناقب النبيّ الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ووصيّه أمير المؤمنين عليه السلام. وقد نقل ابن شهر آشوب في مناقبه الكثير من الروايات1 التي أوردها الخوارزميّ في هذا الكتاب. كما أشار الخوارزميّ نفسه أيضاً إلى هذا الكتاب في كتابيه المقتل والمناقب.

2- فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، المعروف بـ المناقب، وهو كتاب مطبوع.

3- مناقب الإمام أبي حنيفة، طُبع في حيدر آباد، سنة 1321 هـ، مع مناقب الكردريّ، في مجلّدين.

4- مقتل أمير المؤمنين عليه السلام2.

5- مقتل الحسين عليه السلام، في مجلّدين، وهو الكتاب الذي نبحث عنه في هذا المقال.

6- المسانيد على البخاريّ3.

7- كتاب ردّ الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام4.

8- كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه السلام5.

9- ديوان من الشعر. ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون أنّ له ديواناً من الشعر
 

1- أبو جعفر محمّد بن عليّ بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص11، 161، 205، و 211.
2- تحدّث الميرزا عبد الله الأفنديّ في رياض العلماء عن هذا الكتاب: ج5، القسم الثاني، ص339، نقلاً عن: الخوارزميّ، المناقب، مقدّمة السيّد الموسويّ خرسان، ص23.
3- محمّد تقي دانش پروه، فهرست كتابخانه اهدائى مشكات، ج3، ق 3، ص1569، نقلاً عن: الخوارزميّ، المناقب، مقدّمة السيّد الموسويّ خرسان، ص2، وكذلك توجد نسخة منه في مكتبة جامعة طهران، الخوارزميّ، المناقب، مقدّمة الشيخ جعفر السبحانيّ، ص23.
4- نقلاً عن كتاب مناقب آل أبي طالب، ج2، ص390.
5- المصدر نفسه.
 
 
 
 
188

182

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الجيّد، وأنّه كان في الشعر ندّاً لمعاصريه1.


10- الكفاية في علم الإعراب2، وقد رتّب كتابه هذا على ترتيب كتاب المفصّل للزمخشريّ في الأسماء والأفعال والحروف. وقد ذكر بعض المحقّقين المعاصرين أنّ هناك نسخةً باقيةً من هذا الكتاب من القرن التاسع الهجريّ، وهي موجودة في مكتبة جامعة طهران برقم 6967. كما أنّ هناك نسخةً أُخرى منه في مكتبة المدرسة الفيضيّة3.

5ـ شيوخ الخوارزميّ وأساتذته:
استطاع المترجمون لحياة الخوارزميّ أن يعثروا على أسماء العديد من الأساتذة والشيوخ الذين تتلمذ الخوارزميّ عليهم. فقد عدّ العلّامة الأمينيّ اسم 35 شيخاً من شيوخه4. واستطاع محقّق آخر، من خلال بذل المزيد من الجهد والبحث، أن يعدّ اسم 65 شخصاً من أساتذته وشيوخه5.

6ـ تلامذة الخوارزميّ:
يُعلم من قول القفطيّ فيه: "أقرأ النّاس في علم العربيّة وغيره، وتخرج به عالم في الآداب"، أنّ الخوارزميّ كان ناجحاً وموفّقاً في مجال تربية وتعليم تلامذته، وأنّ الكثيرين من طلّاب العلم قد استفادوا من نمير علمه. أكثر الذين ترجموا له عدّوا من تلامذته ناصر بن عبد السيّد المطرزي، لكن لم يذكروا ولا
 

1- مصطفى بن عبد الله القسطنطينيّ الحنفيّ (الشهير بـ ملّا كاتب الجلبيّ، والمعروف بـ حاجي خليفة)، كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون، ج1، ص524. نعم، في الطبعات اللّاحقة من هذا الكتاب، إمّا أنّه لم يُؤتَ أصلاً على ذكر اسم هذا الديوان، وإمّا أنّه عندما يُذكر اسمه، فإنّ عبارة "له ديوان من الشعر الجيّد" تُنسب إلى شخصٍ آخر غير الخوارزميّ.
2- المصدر نفسه، ج2، ص1498.
3- السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ، أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربيّة، طُبع في مجلّة تراثنا، ص81.
4- الأمينيّ، مصدر سابق، ج4، ص399 ـ 401.
5- الخوارزميّ، المناقب، مقدّمة محمّد رضا الموسويّ، ص17 ـ 20.
 
 
 
 
189

183

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 توجد معلومات كافية بشأن أسماء سائر التلامذة الذين درسوا عليه. نعم، ذكر بعض المحقّقين المعاصرين أسماء سبعة1 إلى تسعةٍ2 من تلامذته.


7ـ طبعات كتابه المقتل:
إلى يومنا هذا، طُبع كتاب مقتل الخوارزميّ ثلاث مرّاتٍ بتقديم وتحقيق الشيخ محمّد السماويّ3، وكانت طبعته الأُولى في النجف الأشرف في العام 1367 هـ بمطبعة الزهراء، وجاءت طبعته الثانية بوساطة مكتبة المفيد عام 1399 هـ (أوفست عن الطبعة الأُولى بالحجم الوزيريّ)، فيما جاءت طبعته الأخيرة باهتمام دار أنوار الهدى في العام 1418 هـ 4.

كتاب نور الأئمّة هل هو ترجمة لمقتل الخوارزميّ؟
في كتابه روضة الشهداء، وفي معرض روايته لأخبار ثورة عاشوراء، أشار كمال الدّين الحسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ (المتوفّى سنة 910 هـ) إلى كتابٍ باسم "نور الأئمّة"، ناسباً إيّاه إلى مؤلّفه الخوارزميّ، وناقلاً منه العديد من
 

1- الأمينيّ، مصدر سابق، ج4، ص401 ـ 402.
2- الخوارزميّ، المناقب، مقدّمة الموسويّ خرسان، ص21 ـ 22.
3- وعن كيفيّة حصوله على النسخة الخطّيّة من هذا الكتاب يقول: "وأمّا نسخته، فإنّي استجلبتها من تبريز للاستنساخ عليها، وكان كتبها السيّد الفاضل السيّد محمّد المهدي بن عليّ بن يوسف الحسنيّ الطباطبائيّ سنة ستّ وثلاثمائة وألف من الهجرة على نسخة بخطّ السيّد العالم الفاضل محمّد بن الحسين العميديّ النجفيّ، كتبها سنة ستّ وثمانين وتسعمائة في قزوين، وكانت هذه النسخة التي بخطّ محمّد المهديّ الطباطبائيّ سمعت بها قبل عشر سنين وأنّها موجودة في تبريز، فكلّفت جملةً من الأفاضل باستنساخها لقلّة وجودها أو لعدمه في العراق، فلم يتهيّأ لي ذلك، فبقيت مشغوفاً بها حتّى هيّأ الله تعالى لي العلّامة الفاضل الجليل الشيخ عبد الحسين ابن الشيخ أحمد الأمينيّ التبريزيّ صاحب شهداء الفضيلة والغدير وغيرهما، سلّمه الله، فذاكرته بهذا الكتاب فوعدني أن يكلّف من يستنسخه على يد والده الفاضل الشيخ أحمد الأمينيّ سلّمه الله، ولتقاه وحبّه آل بيت الله كتب إلى أبيه وأكّد، فما هو إلّا أن استعاره أبوه للاستنساخ، ثمّ عزم على زيارة النجف، فاستأذن من صاحبه أن يصحبه ذهاباً وإياباً وضمن له سلامته، فأتى به وتفضّل عليّ بأن أستنسخه بيدي ويبقى مدّة الاستنساخ ثمّ يعود به إلى صاحبه. فاستنسخته في شهر بحمد الله ومنّه، فجاءت هذه النسخة صحيحة كاملة... مقدّمة المحقّق، ص2.
4-حول النسخ الخطّيّة لكتاب مقتل الخوارزميّ راجع: السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ، مصدر سابق، ص82.
 
 
 
 
190

184

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الأخبار في مواضع كثيرة من كتابه. فالسؤال الذي يُطرح هنا هو أنّ هذا الكتاب المذكور هل هو ترجمة لنفس مقتل الخوارزميّ، أم أنّ للخوارزميّ مقتلاً آخر كان قد ألّفه لأهل اللّسان الفارسيّ؟


لكن لا يمكن من خلال الدراسة والمقارنة الإجماليّة التي أُجريت الوصول إلى جوابٍ واضح ومحدّد عن هذا السؤال، ذلك لأنّ بعض ما نقله الكاشفيّ عن هذا الكتاب يشبه الأخبار التي أوردها الخوارزميّ في مقتله1، لكنّ بعض الأخبار الأُخرى التي نقلها عنه هي إمّا لا وجود لها أصلاً في مقتل الخوارزميّ2، أو أنها لا تشبه أبداً النصوص العربيّة الواردة في هذا المقتل، من الأشعار والأراجيز وما إلى ذلك، بل هي شبيهة بالترجمة الفارسيّة لهذه الأشعار والأراجيز3.

ب- قراءة4 في كتاب مقتل الحسين عليه السلام
كتاب مقتل الحسين عليه السلام كتاب تاريخيّ روائيّ، اشتمل على روايات وأخبار ونقولات تاريخيّة، جاءت - في الأعمّ الأغلب - مقرونةً في الكتاب بذكر سلسلة السند إليها. 

معظم ما جاء في هذا الكتاب من الفصل التاسع وحتّى آخر الفصل الحادي عشر (والذي يبدأ من حادثة طلب معاوية البيعة ليزيد، ويختتم بشهادة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في كربلاء) مأخوذ من كتاب "الفتوح" لابن أعثم.
 

1- لاحظ على سبيل المثال الصفحات 205، 260، 269، 287 ـ 289، 295، 364، 381، و 391، من كتاب روضة الشهداء، وقارن ـ بالترتيب ـ بينها وبين الصفحات 283، 335، 350، من المجلّد الأوّل، والصفحات 11 ـ 14، 17، 46 ـ 47، 64، 65، و 82 ـ 83، من كتاب المقتل للخوارزميّ.
2- راجع: الصفحات 259، 297، 271 و 353.
3- لاحظ الصفحات 299، 315 ـ 316، 337، 344، و 346، من روضة الشهداء، وقارن ـ بالترتيب ـ بينها وبين الصفحات 338 من الجزء الأوّل، و 31، 37 ـ 38، من الجزء الثاني، من مقتل الخوارزميّ.
4- مستندنا في دراسة مقتل الخوارزميّ على النسخة المطبوعة من قبل منشورات دار أنوار الهدى في العام 1418 هـ، وفي مقارنته مع كتاب الفتوح، على طبعة 1411 هـ، طباعة دار الأضواء، وتحقيق عليّ شيري، والمستند في أخبار أبي مخنف على المجلّد الخامس من تاريخ الأمم والملوك للطبريّ، تحقيق أبي الفضل إبراهيم.
 
 
 
 
191

185

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 وقد صرّح الخوارزميّ نفسه بهذا الأمر في غير موضعٍ من كتابه.


وأمّا مشايخ الرواية الذين اعتمد عليهم الخوارزميّ في النقل، بل أكثر النقل عنهم في كتابه هذا، فهم عبارة عن: العلّامة جار الله محمود بن عمر الزمخشريّ (المتوفّى سنة 538 هـ)، وأبو منصور شهردار بن شيرويه الديلميّ (المتوفّى سنة 558 هـ)، والحسن بن أحمد العطّار الهمدانيّ (المتوفّى سنة 544 هـ)، وأبو الحسن عليّ بن أحمد العاصميّ.

كتاب مقتل الحسين ألّفه الخوارزميّ بعد كتابه الآخر الذي سمّاه "الأربعين". وما يؤيّد هذا المدّعى أنّ الخوارزميّ في مواضع عديدة من كتاب المقتل1 يحيل القارئ ويرجعه إلى الكتاب المذكور. لكن لم يظهر لنا أنّ الخوارزميّ هل ألّف كتاب المقتل بعد كتابه الآخر المعروف بـ "المناقب" أم لا. وفي هذا المجال، احتمل القزويني- المحقّق والكاتب المعاصر- أن يكون كتاب المقتل قد أُلّف بعد كتاب المناقب2.

1ـ درجة اعتبار أخبار الخوارزميّ ونقولاته
أورد الخوارزميّ في كتاب المقتل روايات وأخباراً عديدة، تلقّاها هو بالقبول. لكنّه بحسب الظاهر وفي موردٍ واحد فقط (ج 2، ص 4، في ذيل الرواية الأُولى)، أشار إلى ضعف روايةٍ من الروايات، ناقلاً تضعيفها عن قول بعضهم، وأمّا في سائر الموارد الأُخرى، فلا نجده يتعرّض لدارسة الأسانيد أو نقدها، ولا لدراسة متون الروايات ونقدها. ومن هنا، فإنّ هذا الكتاب وإن كان محلّ اهتمام الشيعة، ومرجعهم الذي استندوا إليه في الكثير من الموارد، إلَّا أنَّ هذا لا ينافي أنّ بعض رواياته هي- برأي الشيعة - روايات موضوعة فاقدة للاعتبار ولا يمكن
 

1- راجع: نهاية الفصل الأوّل، ج1، ص21، ونهاية الفصل الرابع، ج1، ص50.
2- مقالات القزوينيّ، ج2، ص278.
 
 
 
192

186

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الاستناد إليها. نشير فيما يلي إلى نماذج من هذه الروايات:

1- رواية أنّ أفضل النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر وعمر1!

2- رواية أنّ أبا بكر صلّى على جنازة السيّدة الزهراء عليها السلام، وأنّه مع عليّ وعمر وعدّةٍ آخرين من قاموا بدفنها2!

3- الرواية التي ترغّب وتحثّ على الصيام في يوم عاشوراء3!

4- الرواية التي دلّت على كون عاشوراء عيداً، بل بمثابة سبعين عيداً4!

5- الخبر الذي نقله عن عمر بن عبد العزيز، وفيه أنّ عمر رأى في المنام كأنّ القيامة قد قامت، وعُرض النّاس للحساب، وبعد حسابٍ يسير للخلفاء الثلاثة الأُوَل، أُمر بإدخالهم إلى الجنّة5!

2ـ تعريف إجماليّ بفصول كتاب مقتل الخوارزميّ
يحتوي كتاب مقتل الحسين عليه السلام على مقدّمة وخمسة عشر فصلاً، وهو مطبوع في مجلّدٍ واحد مؤلّفٍ من جزأين. اشتمل الجزء الأوّل من هذا الكتاب، على عشرة فصول، وعلى القسم الأوّل من الفصل الحادي عشر. فيما اشتمل الجزء الثاني على القسم الثاني من الفصل الحادي عشر إضافةً إلى الفصول الأربعة الأُخرى. وإليك عناوين هذه الفصول.

في الجزء الأوّل: في ذكر شيءٍ من فضائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، في ذكر شيءٍ من فضائل خديجة بنت خويلد، في ذكر شيءٍ من فضائل فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أمّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، في أنموذج من
 

1- مقتل الحسين، ج1، الفصل 4، ص76، ح23.
2- المصدر نفسه، ج1، الفصل 5، ص132.
3- المصدر نفسه، ج2، الفصل 11، ص4.
4- المصدر نفسه، ج2، الفصل 11، ص6.
5- المصدر نفسه، ج2، الفصل 12، ص98.
 
 
 
 
193

187

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، في فضائل فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في فضائل الحسن والحسين عليهما السلام، في فضائل الحسين عليه السلام الخاصّة به، في إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسين عليه السلام وأحواله، في بيان ما جرى بينه وبين الوليد بن عتبة ومروان بن الحكم بالمدينة في حياة معاوية وبعد وفاته، في ما جرى من أحوال الحسين عليه السلام مدّة مقامة بمكّة وما ورده من كتب أهل الكوفة وإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة ومقتله بها قدّس سرّه، في خروج الحسين عليه السلام من مكّة إلى العراق وما جرى عليه في طريقه ونزوله بالطفّ من كربلاء ومقتله عليه السلام (القسم الأوّل).


وفي الجزء الثاني من الكتاب: في بيان عقوبة قاتل الحسين عليه السلام وخاذله وما له من الجزاء، في ذكر بعض ما قيل فيه من المراثي، في زيارة تربته صلوات الله عليه وفضلها، في ذكر انتقام المختار بن أبي عبيد الثقفيّ من قاتلي الحسين عليه السلام، ثمّ في ختام هذا الفصل ذكر الخوارزميّ خبر مقتل مصعب وعبد الله ابني الزبير.

وحيث إنّ الحديث عن خروج الإمام الحسين عليه السلام في كتاب مقتل الخوارزميّ بدأ في الفصل التاسع من الكتاب، فإنّ هذه الدراسة التي بين أيدينا والمقارنة التي نحن بصدد إجرائها ستكون مقصورةً على الفصل التاسع من الكتاب وصولاً إلى خاتمة الفصل الحادي عشر منه، والذي ينتهي بالحوادث التي جرت معه عليه السلام في كربلاء.

ونبدأ هنا بالتعريف بما جاء في هذه الفصول المذكورة من كتاب مقتل الإمام الحسين عليه السلام للخوارزميّ، لننتهي لاحقاً إلى مقارنة ما ورد فيها بما جاء في كتاب الفتوح لابن الأعثم.
 
 
 
 
 
 
194

188

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الفصل التاسع: خصّ الخوارزميّ هذا الفصل لبيان ما جرى بين الإمام الحسين عليه السلام وبين الوليد بن عتبة ومروان بن الحكم بالمدينة، وطلب حاكم المدينة من الإمام الحسين عليه السلام البيعة بأمرٍ من معاوية. وفي مجموع هذا الفصل، ينقل الخوارزميّ عشر روايات، سبع من هذه الروايات هي من الأخبار القصيرة، حيث لم تستغرق أكثر من صفحتين من مجموع الصفحات الـ 24 التي بلغها هذا الفصل. ستّ من هذه الروايات العشر رواها عن أحد مشايخه، ويُدعى: شهردار بن شيرويه الديلميّ، الذي- وبحسب الظاهر- كان قد بعث بهذه الأخبار من همدان إلى الخوارزميّ مكاتبةً، بناءً على طلبٍ من الأخير. ثمّ في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل ينقل الخوارزميّ خبراً قصيراً عن رجلٍ باسم أبي سعيد المقبري1.


وأمّا الأخبار الثلاثة الأُخرى، والتي تُعدّ طويلة إلى حدٍّ ما، فقد رواها عن ابن أعثم.

في الخبر الأوّل الذي نقله عن ابن أعثم، يشير الخوارزميّ إلى حادثة الكتاب الذي بعث به معاوية إلى مروان، والذي يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة، وخبر اعتراض عبد الرحمن بن أبي بكر على ذلك وعدم موافقته عليه2.

وأمّا الخبر الثاني، فقد ضمّنه الخوارزميّ حادثة مرض معاوية بعد عودته من سفره الأخير إلى الحجّ، ونصيحته ووصيّته لولده يزيد، ولا سيّما فيما يتّصل بالذين كانوا يعارضون أخذ البيعة له، ثمّ في النهاية، خبر موت معاوية وجلوس يزيد على العرش بدلاً منه، وإرساله كتاباً إلى الوليد بن عتبة بأخذ البيعة له من أهل المدينة. كما تضمّن هذا الخبر أيضاً الحديث عن أمرٍ سرّيٍّ كان أوعز به يزيد إلى الوليد بأن لا يتورّع عن قتل كلٍّ من الإمام الحسين عليه السلام وعبد
 

1- مقتل الحسين، ج1، ص270.
2- الخوارزميّ، المصدر نفسه، ج1، ص252 ـ 253.
 
 
 
 
195

 


189

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر في حال تخلّفهم وامتناعهم عن مبايعته1.


وأمّا الخبر الثالث، فهو تتمّة لهذا الخبر الثاني، أي: ما يرتبط بردّة فعل الوليد على الكتاب الذي بعثه إليه يزيد، وطلبه المشورة من مروان، وما صنعه مروان في هذا المجال، ثمّ لاحقاً الحديث عن حضور الإمام الحسين عليه السلام عند الوليد و... وصولاً إلى خبر خروج الإمام عليه السلام من المدينة ودخوله إلى مكّة2.

الفصل العاشر: يتألّف الفصل العاشر من 38 صفحة، لكنّ الخوارزميّ خصّ 37 من هذه الصفحات الـ 38 لنقل أخبار وروايات ابن أعثم3، مقتصراً على أخبارٍ ثلاثة فقط (بما لا يتجاوز الصفحة الواحدة) عن رجلٍ آخر من مشايخه يُدعى عليّ بن أحمد العاصميّ.

الفصل الحادي عشر: وزّع الخوارزميّ هذا الفصل على قسمين. استعرض في القسم الأوّل منهما سبعة أخبارٍ تضمّنت خبر خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة، والأحداث التي جرت معه أثناء الطريق حتّى وصوله إلى أرض كربلاء، مضافاً إلى الأحداث التي جرت معه خلال أيّام إقامته في كربلاء حتّى صبح يوم عاشوراء. ثلاثة من هذه الأخبار نقلها عن عليّ بن أحمد العاصميّ. استوعبت هذه الأخبار الثلاثة صفحتين فقط، رغم أنّ عدد صفحات هذا الفصل يبلغ 42 صفحة، وأمّا بقيّة الأخبار (باستثناء عددٍ قليل من الأخبار القصيرة الأُخرى التي أوردها في ردّ أو تأييد روايات ابن أعثم) فرواه عن ابن أعثم الكوفيّ.
 

1- الخوارزميّ، المصدر نفسه، ص254 ـ 262.
2- المصدر نفسه، 263 ـ 274.
3- وإن كان في ثنايا بعض هذه الصفحات التي نقل فيها روايات ابن أعثم قد ذكر روايات قصيرة أُخرى في تأييد أو ردّ أخبار ابن أعثم.
 
 
 
 
196

190

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

وفي القسم الثاني من الفصل الحادي عشر، (والذي استوعب 89 صفحة من الجزء الثاني من الكتاب) يتعرّض الخوارزميّ لحادثة عاشوراء حتّى انتهاء تلك الواقعة بشهادة الإمام الحسين عليه السلام ووقوع البقيّة من أهل البيت عليهم السلام في الأسر. وفي الصفحات الأُولى من هذا القسم، ينقل الخوارزميّ ستّ روايات حول ثواب الصيام في يوم عاشوراء، وأنّ يوم عاشوراء يصادف أحداثاً وتواريخ مهمّة في حياة الأنبياء عليهم السلام. ثمّ يتابع الخوارزميّ، ولكن هذه المرّة على غير عادته في الفصول السابقة (حيث كان يعتمد في الأعمّ الأغلب على أخبار هذه الواقعة في النقل عن ابن أعثم)، فيأتي على ذكر أخبارٍ متعدّدة ومتنوّعة عن العديد من الرواة حول يوم عاشوراء والحوادث التي وقعت بعده. وفي بعض هذه الأخبار التي ينقلها حول واقعة عاشوراء، نراه يروي عن أشخاصٍ هم بدورهم ينقلون عن رجلٍ يُدعى أبا طالب يحيى بن الحسين بن هارون، وهو من أحفاد الإمام زين العابدين عليه السلام، كما أنّ يحيى بن الحسين هذا يروي أيضاً عن رواةٍ آخرين1. وكذلك، نجد الخوارزميّ متأثّراً بروايات ابن أعثم في ترتيب خروج أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ومن كان معه من فرسان بني هاشم إلى ميدان القتال والأبيات التي ارتجزها كلّ واحدٍ منهم، وما أبلاه كلّ منهم في القتال، وفي النهاية: ما يرتبط بشهادة كلّ واحدٍ منهم2، بالإضافة إلى الحوادث التي جرت بعد يوم عاشوراء، ووقوع أهل البيت عليهم السلام في الأسر، وأخذهم إلى الكوفة والشام، ثمّ لاحقاً إرجاعهم إلى المدينة، غير أنّه رغم تأثّره في ذلك كلّه بروايات ابن أعثم، نجده ينقل معظم حوادث يوم الواقعة عن أبي مخنف3.

 


1- الخوارزميّ، مصدر سابق، ج2، ص8 ـ 9.

2- راجع الجدول رقم1.

 

3- الخوارزميّ، المصدر نفسه، ج2، ص11 ـ 41.

 

 

197


191

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 وهنا، في هذا المقطع من مقالنا هذا، نأخذ، وبشكلٍ موجز، بمقارنة الأخبار التي أوردها الخوارزميّ بالأخبار التي رواها ابن أعثم (ابتداءً من الفصل التاسع وحتّى نهاية الفصل الحادي عشر). وإضافةً إلى ذلك، ولمّا كان معظم الأخبار التي أوردها الخوارزميّ حول يوم عاشوراء في القسم الثاني من الفصل الحادي عشر قد نقلها عن أبي مخنف، فإنّنا أيضاً نعرض بالدراسة لأخبار الخوارزميّ هذه ونقارنها بروايات أبي مخنف التي أوردها الطبريّ في تاريخه.


3 ـ دراسة ميدانيّة ومقارنة بين مقتل الخوارزميّ ومقتل ابن أعثم
قبل الشروع بالمقارنة والمقايسة بين الكتابين ضمن الفصول التي أشرنا إليها، نشير هنا ونلفت الانتباه إلى نقطة على درجةٍ عالية من الأهمّيّة، وهي أنّنا بالتدقيق في نقل الخوارزميّ وابن أعثم، ومقارنة كلٍّ منهما بالآخر، نصل بوضوح إلى النتيجة التالية، وهي أنّ نقولات الخوارزميّ في الكثير من الموارد جاءت مشتملةً على زياداتٍ، وأحياناً على نقائص، بالنسبة إلى أخبار وروايات ابن أعثم. 

وما يمكن أن يكون سبباً لذلك أمران: 
الأمر الأوّل: أنّ كتاب الفتوح لابن أعثم له نسخ عديدة، وهذه النسخ - إلى حدٍّ ما - متفاوتة فيما بينها، وهي في بعض الموارد جاءت مشتملةً على إضافات، وفي بعضها الآخر كان فيها نقائص. يشهد لهذا المدّعى: اختلاف النسخ الموجودة بين أيدينا حاليّاً عن النقولات التي رواها الخوارزميّ عن ابن أعثم. والنموذج البارز في هذا المجال، الاختلاف والتفاوت الحاصل بين الأشعار الموجودة في فتوح ابن أعثم مع تلك التي نجدها في مقتل الخوارزميّ من الناحية الكمّيّة والمضمونيّة.
 
 
 
 
198

192

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الأمر الثاني: أنّ الخوارزميّ كان خطيباً، ومن أهل المنبر، فيحتمل كثيراً أنّه، وبوحيٍ من هذا المنصب أو هذه الحرفة، كان قد أعمل شيئاً من التصرّف في أخبار وروايات ابن أعثم، فأحدث فيها تغييراتٍ كمّيّة، وأحياناً كيفيّة، سعى من خلالها إلى جعل هذه الحادثة تبدو للقارئ أكثر منطقيّةً، وأكثر تقبّلاً، وأكثر جاذبيّةً. وإن كان الحدّ الذي بلغه هذا الفعل لم يؤدِّ في الكثير من الموارد إلى التحريف أو التشويه في أصل الحادثة.


أضف إلى ذلك، أنّ طبيعة كثير من القضايا والحوادث التاريخيّة أنّها عندما تتقادم عليها الأيّام ويعلوها غبار الزمن ويأتي مؤلّفو القرون الآتية ليُدخلوها إلى مسرح الحياة العلميّة، فكلّما ازداد بُعد هؤلاء عن زمان الواقعة كلّما كانت هذه الواقعة في معرض أن تلحق بها إضافات وزيادات وعناصر جديدة لم يكن لها وجود أصلاً, في الحادثة بحسب ما جاء في المصادر والنقولات القديمة التي نقلتها.

وقد أشرنا إلى أنّ أكثر ما استفاده الخوارزميّ, فيما نقله من أحداث واقعة كربلاء حتّى ما قبل يوم عاشوراء,كان من كتاب الفتوح لابن أعثم. لكنّ الملاحَظ في أخباره ونقولاته عندما نعرضها على أخبار ابن أعثم أنّها تشتمل على زيادات وإضافات تارةً، ونواقص أحياناً، والعديد من الفوارق من جهات أُخرى، نشير فيما يأتي إلى أهمّ هذه الموارد:
 
 
 
 
 
 
199

193

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 أ ـ الإضافات وجهات الاختلاف بين أخبار الخوارزميّ وأخبار ابن أعثم:

بالرغم من تصريح الخوارزميّ بأنّه قد اعتمد في كتابه على أخبارٍ أخذها عن ابن أعثم، إلّا أنّ جملةً من الحوادث التي أوردها في كتابه هي إمّا غير موجودةٍ في النسخ الموجودة والواصلة إلينا من كتاب الفتوح، أو أنّها وردت فيه بشكلٍ مختصر وموجز، ومن بين هذه الموارد:
1- في بداية الفصل العاشر (ج 1، ص 277)، في خبر نزول الإمام الحسين عليه السلام المدينة، يشير الخوارزميّ إلى محلّ سكن الإمام عليه السلام بالمدينة، وأنّ حاكم مكّة كان قد عارض نزول الإمام عليه السلام بمكّة، والحال أنّ ابن أعثم لم يُشر إلى شيءٍ من ذلك.

2- في خبر خروج مسلم بن عقيل إلى الكوفة، نقل الخوارزميّ أنّ مسلماً كان قد رأى في الطريق رجلاً يرمي الصيد، وأنّه تفاءل واستبشر بتمكّن هذا الرجل من صيده (ص 286)، والحال أنّ هذا الخبر ليس له في فتوح ابن أعثم عين ولا أثر.

3- نقل الخوارزميّ خبر مشاورة يزيد لسرجون مولى أبيه معاوية للبحث عن حلٍّ لأزمة الكوفة، كما نقل نصّ الكتاب الذي بعثه يزيد إلى عبيد الله بن زياد والذي ولّاه به على الكوفة، وجاء نقل الخوارزميّ لذلك أكثر تفصيلاً ومع تفاوتٍ واختلافٍ عمّا هو الموجود في نقل ابن أعثم (ص 287).

4- في خبر الهجوم الذي شنّه مسلم بن عقيل على دار الإمارة بالكوفة، ذكر الخوارزميّ الشعار الذي رفعه أصحاب مسلم، مع تسمية القادة لكلّ كتيبةٍ من جيش مسلم (ص 297 ـ 298)، مع أنّ ابن أعثم لم يُورد شيئاً من ذلك.

5- رغم أنّ الخوارزميّ في نقله للحادثة التي فيها تفصيل كيفيّة وقوع مسلم بن عقيل في الأسر بدأ بنفس ما بدأ به ابن أعثم (ج 5، ص 54) من أنّ مسلماً طُعن وأصابته الجراح، فسقط عن جواده إلى الأرض، فأُخذ أسيراً، لكنّ الخوارزميّ لم يكتفِ بذلك، بل يُحتمل أنّه لم يعتمد على هذا الذي نقله، ونقل روايةً أُخرى مفادها أنّ مسلماً رمى بسيفه وسلّم نفسه لهم بعدما أعطاه محمّد بن الأشعث أمانه. وجاء في هذه الرواية خبر أنّ مسلماً طلب من ابن الأشعث أن يبعث برجلٍ إلى الإمام الحسين عليه السلام يُخبره بخبر أهل الكوفة
 
 
 
 
 
200

194

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 وغدرهم به وانقلابهم عليه ويطلب منه الرجوع عن الكوفة (ص 303)، وهو ما لا نجده أصلاً فيما رواه ابن أعثم.


6- نقل الخوارزميّ الحوار الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام وبين ابن عبّاس، والذي يطلب فيه الأخير من الإمام عليه السلام عدم الذهاب إلى العراق، لكنّه أورده مع تفاوتٍ وتقديم وتأخير عمّا هو موجود في كتاب ابن أعثم. (ص 310).

7- الحوار الذي دار بين عبد الله بن مطيع وبين الإمام الحسين عليه السلام والذي يطلب فيه عدم التوجّه إلى العراق. (ص 310).

8- كلام عبد الله بن الزبير للإمام الحسين عليه السلام وحثّه إيّاه على الخروج إلى العراق. (ص 311).

9- رفض أصحاب عمرو بن سعيد (حاكم مكّة والمدينة) خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة. (ص 317).

10- حادثة اعتراض الإمام الحسين عليه السلام بمحلّة التنعيم للعير التي كانت تحمل المال والحلل إلى يزيد بن معاوية وأخذه ذلك كلّه. (ص 317).

11- حادثة نصيحة الإمام الحسين عليه السلام بشأن كيفيّة سقاية جيش الحرّ الرياحي وسقاية خيلهم وأفراسهم. (ص 329 ـ 330).

12- كلام برير بن خضير الهمداني الذي أعلن فيه وفاءه للإمام الحسين عليه السلام. (ص 337).

13- المقولة الشهيرة للإمام الحسين عليه السلام: "النّاس عبيد الدنيا...". (ص 337).

14- روى الخوارزميّ ردّة فعل السيّدة زينب عليها السلام عندما سمعت أخاها الإمام
 
 
 
 
201

195

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الحسين عليه السلام يُنشد الأبيات "يا دهر أفٍّ لك من خليل..."، لكنّه بدأ هذه الرواية بنقلها أوّلاً عن لسان الإمام زين العابدين عليه السلام، ثمّ نقل الخبر بعد ذلك كما نقله ابن أعثم، وهو أكثر تفصيلاً ممّا كان قد ذكره أوّلاً. (ص 338 ـ 339).


15- اقتراح الطرمّاح بن عديّ الطائيّ على الإمام الحسين عليه السلام بأن ينزل في أحياء طيء، فإنّه يقوم بين يديه عليه السلام خمسة آلاف فارس يقاتلون عنه، ورفض الإمام عليه السلام لهذا الاقتراح. (ص 339).

16- نقل مضمون رسالة عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد، (وأنّه كان قد أرسل رسولاً إلى الإمام الحسين عليه السلام يسأله فيها عن العلّة التي لأجلها قدم عليه السلام إلى العراق، وما أجابه الإمام عليه السلام)، وردّ عبيد الله بن زياد على هذه الرسالة. (ص 343).

17- حادثة وكيفيّة حفر الإمام الحسين عليه السلام بئراً، وعلم عبيد الله بن زياد بذلك (ص 346)، في حين أنّ ابن أعثم اقتصر على نقل أنّ عبيد الله بن زياد تناهى إليه خبر بأنّ الإمام عليه السلام قد حفر بئراً. (ص 92).

18- في حادثة خروج ثلاثين رجلاً مع أبي الفضل العبّاس طلباً للماء ونجاحهم في ذلك، أضاف الخوارزميّ هذا التعبير في حقّ العبّاس عليه السلام، فقال: "ولقّب يومئذٍ العبّاس: السقّاء". (ص 347).

19- الحوار الذي دار يوم عاشوراء بين الإمام الحسين عليه وبين كلٍّ من سعد بن عبد الله الحنفيّ وزهير بن القين وبرير بن خضير، وإعلان هؤلاء الوفاء للإمام عليه السلام، واقتراح برير على الإمام عليه السلام أن يخرج للحديث مع عمر بن سعد، وموافقة الإمام عليه السلام على هذا الاقتراح، وتأنيبه لعمر بن سعد ونهيه إيّاه عن منع الماء عن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وعن الحرب
 
 
 
 
202

196

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 مع الإمام عليه السلام، وردّ عمر بن سعد على كلام الإمام عليه السلام (ص 350 ـ 351). مع أنّ ابن أعثم لم يذكر سوى أنّ بريراً خرج إلى عمر بن سعد مبعوثاً من الإمام عليه السلام، وأنّه دار حوار قصير بين برير وعمر بن سعد، وردّ عليه الأخير بردٍّ مقتضب. (ص 96).


20- نقل الخوارزميّ أنّ بريراً عندما كان يخاطب جيش عمر بن سعد ردّ عليه رجل من الأعداء فقال لبرير: لا نفقه ما تقول، كما نقل خبر إعلان برير البراءة من جيش عمر بن سعد (ص 357)، وهذا لا وجود لشيءٍ منه في كتاب ابن أعثم.

21- في حادثة طلب الإمام الحسين عليه السلام يوم التاسع من محرّم من جيش الأعداء أن يمهلوه، وإرساله أخاه أبا الفضل العبّاس عليه السلام إليهم بهذا الشأن، أورد الخوارزميّ العبارة التالية عن لسان الإمام عليه السلام مخاطباً بها أخاه: "لعلّنا نصلّي لربّنا ليلتنا هذه وندعو الله ونستعفيه ونستنصره على هؤلاء القوم"، (ص 354). مع العلم بأنّ هذه الجملة لم ترد فيما نقله ابن أعثم.

22- خطبة الإمام الحسين عليه السلام التي ألقاها أمام جيش الأعداء، وردّ الشمر على الإمام عليه السلام، ثمّ كلام الإمام الحسين عليه السلام مجدّداً، ومقولته الشهيرة: "والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد" (ص 357 ـ 358).

23- كيفيّة مبارزة واستشهاد عبد الله بن عمير الكلبيّ (ج 2، ص 11)، إضافةً إلى ما جرى أثناء المبارزة، وصولاً- في النهاية- إلى شهادة رجلٍ باسم وهب بن عبد الله بن عمير الكلبيّ، والذي كان ابن أعثم قد ذكر اسمه. (ج 5، ص 104).
 
 
 
 
 
203

197

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 24- مبارزة برير ليزيد بن معقل قبل مبارزته لبجير بن أوس الضبّي (ص 14 ـ 15).


25- اقتراح عمرو بن الحجّاج على عمر بن سعد بأن يرموا جيش الإمام الحسين عليه السلام بالحجارة، ووصف ابن الحجّاج لأصحاب الإمام عليه السلام بالمارقين والخوارج، وردّ الإمام الحسين عليه السلام عليه. (ص 18).

26- كيفيّة شهادة مسلم بن عوسجة مع مزيدٍ من التفصيل. (ص 18 ـ 19).

27- هجوم جيش عمر بن سعد من الميمنة والميسرة، وفشل هذه الحملة. (ص 19).

28- تذكير أبي ثمامة الصائديّ للإمام الحسين عليه السلام بحلول وقت صلاة الظهر، ودعاء الإمام عليه السلام في حقّه. (ص 19).

29- إقامة الإمام الحسين عليه السلام صلاة الظهر على هيئة صلاة الخائف، واستشهاد سعيد بن عبد الله الحنفيّ من أثر السهام التي أصابته (ص 19 ـ 20).

30- خبر استشهاد حبيب بن مظاهر. (ص 22).

31- خبر آخر (زائداً على خبر ابن أعثم) بشأن زهير بن القين. (ص 24).

32- خبر مختلف عن مصير من حمل رأس حبيب بن مظاهر إلى قصر عبيد الله بن زياد1. (ص 22).

33- زيادة على فهرست أسماء الشهداء الذي ذكره ابن أعثم (يُراجع: الجدول رقم 1).
 
 

1- يُقارن بخبر أبي مخنف: الطبريّ، ج5، ص440. 
 
 
204

198

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 34- تتميم خبر استشهاد القاسم بن الحسن اعتماداً على نقل حميد بن مسلم الذي أورده أبو مخنف في مقتله. (ص 31 ـ 32).


35- ذكر وصف "السقّاء" في حقّ أبي الفضل العبّاس عليه السلام، وزيادة كلام الإمام الحسين عليه السلام عند استشهاده: "الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي". (ص 34).

36- نقل الخوارزميّ حادثة خروج عليّ الأكبر إلى ميدان القتال، وأنّ الإمام الحسين عليه السلام وضع لسانه في فم عليّ الأكبر، وأعطاه خاتمه ليضعه في فمه كي يخفّف به العطش عن نفسه، وهذا كلّه زائد على ما كان ابن أعثم قد نقله في كتابه. (ص 35).

37- كيفيّة استشهاد عليّ الأكبر عليه السلام، ولعن الإمام الحسين عليه السلام لجيش الأعداء، وقوله مخاطباً ولده الأكبر: "على الدنيا بعدك العفا"، ومناداة الحوراء زينب عليها السلام بالويل والثبور عند اطّلاعها على خبر شهادة عليّ الأكبر عليه السلام، ثمّ أخذ جثمان عليّ الأكبر عليه السلام ونقلها إلى المخيّم، ونيّة الإمام زين العابدين عليه السلام الخروج إلى ميدان القتال، وممانعة الإمام الحسين عليه السلام من ذلك. (ص 36).

38- روى الخوارزميّ كيفيّة مبارزة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده بروايةٍ تختلف عن رواية ابن أعثم، وتحتوي على تفاصيل لم يذكرها الأخير فيما رواه. (ص 38 ـ 41). وفي هذا السياق، نرى الخوارزميّ أيضاً ينقل أخباراً أُخرى، من بينها: خبر أبي مخنف الذي نقله عن حميد بن مسلم حول كلام الحوراء زينب عليها السلام الذي خاطبت به عمر بن سعد: "أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟". (ص 40). كما أنّه روى روايةً عن الإمام الصادق عليه السلام حول عدد جراحات الإمام الحسين عليه السلام والطعنات التي تعرّض لها، مع
 
 
 
 
 
205

199

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 تسمية الأشخاص الذين أغاروا على الإمام الحسين عليه السلام لنهب ثيابه وأغراضه الشخصيّة، وأيضاً ارتفاع غبرةٍ شديدة مظلمة في السماء بعد استشهاد الإمام عليه السلام. (ص 42).


39- اقتراح جماعة من عسكر الأعداء على شمر بن ذي الجوشن بأن يقتل الإمام زين العابدين عليه السلام، ومعارضة عمر بن سعد لذلك، وأمره بإعادة الأشياء التي غنموها بالإغارة وقاموا بنهبها من أهل البيت عليهم السلام إليهم. (ص 43).

40- خبر أنّهم داسوا بالخيول على أجساد الشهداء. (ص 43).

41- دفن جيش عمر بن سعد لأجساد القتلى منهم، وترك جسد الإمام الحسين عليه السلام وأجساد أصحابه، حتّى أتى أفراد من قبيلة بني أسد فقاموا هم بدفنهم. (ص 44).

42- المرور بقافلة الأسر والسبي قريباً من جثث الشهداء، وصياح النساء من حرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعويلهنّ، وصيحة الحوراء زينب عليها السلام: "... هذا حسين بالعراء...". (ص 44 ـ 45).

43- دخول الأسرى إلى الكوفة والإمام زين العابدين عليه السلام مقيَّدٌ بالسلاسل والأغلال. (ص 45).

44- اعتراض كلٍّ من زيد بن أرقم وأنس بن مالك على عبيد الله بن زياد إذ كان ينكت بقضيبه فم وثنايا أبي عبد الله عليه السلام. (ص 50 ـ 51).

45- في إحصاء عدد الشهداء من أهل البيت. (ص 52 ـ 54).

46- خبر تضييق المتوكّل العبّاسي الخناق على زوّار قبر الإمام الحسين عليه السلام، وأمره بهدم القبر وتخريبه، وحبّ وإحسان ولده المنتصر لآل أبي طالب. (ص 254).
 
 
 
 
 
206

200

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 47- خبر فرار طفلين من أحفاد جعفر بن أبي طالب من جيش عبيد الله بن زياد، وصولاً إلى اعتقالهما وخبر استشهادهما. (ص 54 ـ 58).


48- خبر دخول سهل بن سعد الساعديّ إلى الشام، ومشاهدته أهل تلك المدينة فرحين مستبشرين، وقد علّقوا المصابيح والديباج، بمناسبة دخول قافلة السبي إلى دمشق الشام. (ص 67 ـ 68).

49- رؤية رسول ملك الروم رأس الإمام الحسين عليه السلام وقد وضعه يزيد بين يديه، وتوبيخ الرسول ليزيد، ثمّ إخباره إيّاه بحديث كنيسة حافر، وصولاً في النهاية إلى خبر مقتله بأمرٍ من يزيد. (ص 80 ـ 81).

50- أقوال مختلفة في محلّ دفن رأس الإمام الحسين عليه السلام. (ص 83 ـ 84).

51- إقامة نساء بني هاشم مآتم العزاء. (ص 84).

52- خطبة عمرو بن سعيد حاكم المدينة ودفاعه عن عمل يزيد بعد وصول خبر استشهاد الإمام الحسين عليه السلام إلى المدينة. (ص 85).

53- بعث يزيد بن معاوية برسالة إلى ابن عبّاس يشكره فيها على عدم تقديمه العون لعبد الله بن الزبير في حركته، وردّ ابن عبّاس عليه بردٍّ قاسٍ مفحم. (ص 85 ـ 87).

54- دعوة يزيد محمّد بن الحنفيّة للقدوم عليه بالشام، وقبول ابن الحنفيّة لهذه الدعوة، وأيضاً خبر حضور جماعةٍ آخرين عند يزيد، من بينهم المنذر بن الزبير وعبد الله بن عمر و... (ص 90).

وكذلك أيضاً في كثير من الأشعار التي أوردها الخوارزميّ في مقتله بمناسباتٍ وأحداث مختلفة، فإنّه بالرغم من أنّه نقلها عن ابن أعثم إلّا أنّنا نجد فيها إضافاتٍ ونواقص واختلافات عمّا ذكره ابن أعثم في كتابه. انظر- على سبيل
 
 
 
 
 
207

201

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 المثال - الأشعار الواردة في الصفحات التالية من كتاب المقتل: 301، 310، 333 من الجزء الأوّل، و 15، 6، 21 ـ 22، 25، من الجزء الثاني، وقارنها على الترتيب بالصفحات الآتية من المجلّد الخامس من كتاب الفتوح لابن أعثم: 54، 62، 79، إلى 80، 84، 103، 104، 106، 107 ـ 110، لترى الاختلافات القائمة بين النقلين.


ب- النواقص والموارد التي فيها حذف وإسقاط:
لم يَخْلُ ما نقله الخوارزميّ من أخبار واقعة عاشوراء عن رواية ابن أعثم من نواقص وموارد فيها حذف وإسقاط، ويمكن أن يعود ذلك إلى أسبابٍ عديدة، نشير فيما يأتي إلى أهمّ هذه الأسباب:
1- الإيجاز في الكتابة: وعلى سبيل المثال نذكر هنا بعضاً من هذه الموارد:
أـ في حادثة موت معاوية، نقل ابن أعثم أنّ ابنه يزيد بعد أن عرف بموته أتى إلى قبر أبيه وأنشد أبياتاً من الشعر في رثائه، وقد أورد ابن أعثم هذه الأبيات (ج 5، ص 6 ـ 7)، وأمّا الخوارزميّ فلم يأتِ على ذكرها.

ب ـ أوجز الخوارزميّ في نقله وتوصيفه كيفيّة استقبال أهل الشام ليزيد بن معاوية بعد موت أبيه، وما جرى من تهنئتهم إيّاه بالملك والخلافة وتعزيتهم إيّاه بفقده أباه، (الفصل التاسع، ج 1، ص 261). وهذا على خلاف ما صنعه ابن أعثم (ج 5، ص 7).

ج ـ في خبر دخول عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، وإلقائه الخطبة التي هدّد بها جمع الكوفيّين، اكتفى الخوارزميّ - خلافاً لابن أعثم- بالإشارة إلى الخطبة التي ألقاها عبيد الله في اليوم الأوّل من وصوله، ولم يتعرّض أصلاً للخطبة الثانية. (الفصل العاشر، ج 1، ص 290).

دـ نقل ابن أعثم بشكلٍ مفصّل الكلام الذي دار بين عبد الله بن عبّاس وبين
 
 
 
 
 
208

202

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 الإمام الحسين عليه السلام والذي نهاه فيه ابن عبّاس عن الذهاب إلى العراق (ص 65 ـ 66)، وأمّا الخوارزميّ، فاكتفى بالإشارة إلى ذلك مختصراً. (الفصل العاشر، ج 1، ص 310).


2- مخالفة الخوارزميّ لابن أعثم في الأفكار والمعتقدات: الذي يبدو لنا أنّ من جملة الأسباب التي دعت الخوارزميّ إلى أن لا ينقل في كتابه جميع ما رواه ابن أعثم هو عدم انسجام بعض روايات الأخير مع ما يعتقده الخوارزميّ ويراه، ما يجعلها - بالتالي - غير صحيحة بنظر الخوارزميّ. وربما يكون من هذا القبيل: عدم إشارة الخوارزميّ أصلاً إلى ما رواه ابن أعثم من أنّ يزيد بن معاوية بعد أن مات أبوه وجاء النّاس لبيعته أخذ يمدح أباه ويذكره بما ليس فيه، فصاح به صائح من أقاصي النّاس وقال: كذبت والله يا عدوّ الله.. ثمّ قام رجل من شيعة يزيد فأنشد أبياتاً في مدح يزيد رادّاً بذلك على ذلك الرجل الذي صاح مكذّباً ليزيد، فأمر له يزيد بجائزة حسناء. (ج 5، ص 8).

3- عدم ارتباط بعض الروايات بالموضوع الذي يكتب عنه الخوارزميّ: إذا كان الخوارزميّ في جملةٍ من الموارد يُهمل الحديث عن بعض الحوادث والوقائع، فإنّ السبب في ذلك هو عدم وجود صلةٍ بين هذه الحوادث وبين أحداث قيام وخروج الإمام الحسين عليه السلام. على سبيل المثال، نراه لا يأتي في كتابه على ذكر حادثة إحضار الوليد بن عتبة لعبد الله بن الزبير، وفراره إلى مكّة وما فعله الوليد تجاه ذلك، مع أنّ ابن أعثم كان قد خصّص صفحتين من كتابه لنقل خبر هذه الحادثة (ج 5، ص 14 ـ 16).

4- عدم مراعاة الخوارزميّ للنظم والترتيب الذي اتّبعه ابن أعثم: لم يُراعِ الخوارزميّ في بعض المواضع الترتيب والنظم الذي كان ابن أعثم قد اعتمده في تدوين واستعراض الأحداث المرتبطة بواقعة عاشوراء، ومن هذا القبيل يمكن الإشارة إلى الموارد الآتية:
 
 
 
 
 
209

203

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 أـ في الفصل الحادي عشر، لم يعتمد الخوارزميّ نفس الترتيب الذي اعتمده ابن أعثم في بيان المنازل الواقعة على الطريق من مكّة إلى الكوفة، وفي خبر لقاءات الإمام الحسين عليه السلام بأشخاصٍ مختلفين، بل اعتمد ترتيباً آخر وأسلوباً آخر في العرض. فهو بدأ بنقل خبر لقاء الإمام الحسين عليه السلام بالفرزدق في منزل الشقوق، ثمّ لقائه عليه السلام بزهير بن القين، عند نزوله عليه السلام في منازل الخزيميّة والثعلبيّة، ثمّ في النهاية لقائه عليه السلام بأبي هرّة الأزديّ. (ص 321 ـ 325)، مع أنّ ابن أعثم، بعد خبر رسالة الوليد بن عتبة إلى عبيد الله بن زياد والتي أنبأه فيها بنبأ خروج الإمام الحسين عليه السلام وارتحاله إلى العراق، نقل أنّ الإمام الحسين عليه السلام نزل في منازل الخزيميّة والثعلبيّة، ثمّ بعد ذلك أشار إلى خبر لقاء الإمام الحسين عليه السلام بالفرزدق في منزل الشقوق1. (ج 5، ص 70 ـ 73).


ب ـ بحسب ما نقله الخوارزميّ، فإنّ الحرّ بن يزيد الرياحي ردّ على الخطبة التي ألقاها الإمام الحسين عليه السلام بعدما صلّى- أي: الإمام عليه السلام- صلاة الظهر، (ص 331). وأمّا ما نقله ابن أعثم فيدلّ على أنّ الحرّ سكت في مقابل خطبة الإمام الحسين عليه السلام بعد صلاة الظهر، وأرجأ جواب الحرّ على الإمام عليه السلام إلى ما بعد خطبته عليه السلام عقيب صلاة العصر. (ج 5، ص 77).

ج ـ روى الخوارزميّ خبر استشهاد سعيد بن عبد الله الحنفيّ بعد خبر استشهاد الحجّاج بن مسروق وزهير بن القين (ج 2، ص 24)، مع أنّ ابن أعثم أورد في كتابه أنّ استشهاده كان قبل استشهاد زهير وبعد استشهاد ابن مسروق (ج 5، ص 109).
 

1- نعم، أورد الخوارزميّ خبراً آخر نقلاً عن عليّ بن أحمد العاصميّ، مفاده أنّ الفرزدق التقى بالإمام عليه السلام في منزل الصفاح. ج1، ص319.
 
 
 
 
210

204

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 5- الاختلاف في ضبط الأسامي: على مستوى ضبط أسماء الرجال نستطيع أن نشاهد اختلافاً في بعض الموارد بين مقتل الخوارزميّ وبين ما ذكره ابن أعثم. وفي بعض هذه الموارد، يعود السبب في هذه الاختلافات إلى التشابه في اللّفظ، وبالتالي، إلى فرض حصول الخطأ في نقل النسّاخ. ومن هذا القبيل يمكن أن نشير إلى الموارد التالية:

أ- ضبط ابن أعثم اسم صاحب الدار الذي نزله مسلم بن عقيل في الأيّام الأُولى من دخوله إلى الكوفة بلفظ سالم بن المسيّب (ج 5، ص 33)، وأمّا الخوارزميّ، فضبطه بلفظ مسلم بن المسيّب (ص 286).

ب- ضبط ابن أعثم اسم ابنة المنذر بن جارود، وهي زوجة عبيد الله بن زياد، بلفظ حومة (ص 37)، فيما أثبتها الخوارزميّ بلفظ بحرة (ص 288).

ج- أثبت الخوارزميّ (ومثله أبو مخنف) اسم الرجل الذي أرسله عمر بن سعد ليسأل الإمام الحسين عليه السلام عن علّة قدومه إلى العراق بلفظ كثير بن عبد الله الشعبيّ (ص 341)، مع أنّ ابن أعثم نقل أنّ اسمه هو فلان بن عبد الله السبيعيّ (ص 86).

د- في خبر التحاق الكوفيّين بجيش عمر بن سعد، وبالرغم من أنّ الخوارزميّ اعتمد نفس العدد الذي نقله ابن أعثم، لكنّه في بعض الموارد أثبت أسماء بعض قادة جند ابن سعد بنحوٍ مختلف عمّا أورده وأثبته ابن أعثم. فبينما أثبت ابن أعثم الأسماء التالية بهذه الألفاظ: شمر بن ذي الجوشن السلوليّ، وزيد بن ركاب الكلبيّ، والمصاب الماري، ونصر بن حربة (ص 89)، أثبتها الخوارزميّ بهذه الألفاظ - وبالترتيب -: شمر بن ذي الجوشن الضبابيّ، ويزيد بن ركاب الكلبيّ، وفلان المازنيّ، ونصر بن فلان (ص 344).

هـ- أثبت الخوارزميّ اسم قائد كتيبة العدوّ الذي أرسله للقاء حبيب بن مظاهر
 
 
 
 
 
 
211

205

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 والقبيلة التي تأتمر بأمره من بني أسد بلفظ الأزرق بن الحرث الصدائيّ (ص 346)، خلافاً لابن أعثم الذي ضبط اسمه بلفظ الأزرق بن حرب الصيداويّ (ص 91).


و- في مقتل الخوارزميّ ضُبط اسم الرجل الذي أعطى الأمان لأولاد أمّ البنين بلفظ عبد الله بن المحل بن حرام العامريّ (ص 348)، وأمّا ابن أعثم، فضبط اسمه بلفظ عبد الله بن حزام العامريّ (ص 93).

ز- أورد الخوارزميّ اسم ذلك الرجل من جند الأعداء الذي قام بسبّ الإمام الحسين عليه السلام، ولعنه الإمام عليه السلام في معرض ردّه عليه، أورده الخوارزميّ بلفظ مالك بن جريرة (ج 1، ص 352)، وفي موضعٍ آخر أثبت اسمه بلفظ ابن حويزة (ج 2، ص 107)، مع أنّ ابن أعثم ذكر في تسميته مالك بن جوزة (ص 96).

ح- نقل الخوارزميّ أنّ مولى أبي ذرّ كان اسمه جون (ج 2، ص 23)، فيما أثبته ابن أعثم بلفظ حُوَيّ (ص 108)، وإن كان نقل الخوارزميّ هذا ينسجم مع ما أثبته أبو الفرج الأصفهانيّ نقلاً عن أبي مخنف1. وأمّا ما أثبته ابن أعثم فينسجم مع ما نقله الطبريّ عن أبي مخنف2.

6- الاختلاف في نقل الأعداد والأرقام: في خبر اقتراح حبيب بن مظاهر على الإمام الحسين عليه السلام أن يطلب له العون من قبيلة بني أسد والتحاق تسعين نفراً منهم بحبيب، روى الخوارزميّ في تعداد الرجال الذين وقفوا في مواجهة الأفراد الذين التحقوا بحبيب أنّهم بلغوا أربعمائة رجلٍ (ص 346)، وهو رقم أكثر انسجاماً مع الواقع، خلافاً لابن أعثم الذي ذكر في تعدادهم أنّهم بلغوا أربعة آلاف رجل (ص 91).
 

1- أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص75.
2- ابن أعثم، مصدر سابق، ج5، ص420.
 
 
 
 
212

206

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 7- تصحيح بعض الأسماء والمرويّات التاريخيّة: نجد الخوارزميّ في جملةٍ من الموارد يصحّح بعض الأسماء، أو بعض العبارات، التي أوردها ابن أعثم بشكلٍ خاطئ، نشير هنا إلى بعض تلك الموارد:

أ- بدلاً من هلال بن رافع البجليّ (الفتوح، ج 5، ص 109)، ضبط الخوارزميّ اسم الرجل بلفظ نافع بن هلال (ج 2، ص 18، و 24).

ب- في خبر مبارزة عليّ الأكبر عليه السلام لجيش عمر بن سعد، روى ابن أعثم عدداً كبيراً من قتلى الأعداء الذين أرداهم عليّ الأكبر، فقال: "فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ أهل الشام" (ص 115)، لكن حيث إنّ جيش عمر بن سعد لم يكن فيه أحد من الشاميّين، ولم يتشكّل إلّا من الكوفيّين، غيّر الخوارزميّ هذه العبارة المذكورة وصحّحها، فأتى بلفظ "أهل الكوفة"، بدلاً من لفظ "أهل الشام"1 (ص 35).

8- اشتباهه في ضبط بعض الأسماء: رغم الجهد الكبير الذي بذله الخوارزميّ في ضبط الأسماء بشكلٍ صحيح، لكنّه في بعض الموارد لم يدقّق جيّداً في ضبط أسامي الأشخاص، كما نجد ذلك في الموارد الآتية:
أ- الاسم الصحيح لحاكم مكّة والمدينة في ذلك الزمان هو عمرو بن سعيد بن العاص، لكنّ الخوارزميّ بدلاً من أن يُثبته بهذا اللّفظ ضبطه بلفظ عمر بن سعد بن أبي وقّاص.

ب- أثبت الخوارزميّ في مواضع عديدة (كما فعل ابن أعثم أيضاً، ج 5، ص 30 و 98) اسم واحدٍ من الجند في جيش عمر بن سعد بلفظ عروة بن قيس2 (الصفحتان
 

1- لكن مع ذلك يمكن أن يكون تعبير ابن أعثم, باعتبارٍ آخر, صحيحاً وأكثر فنّيّةً، حيث إنّ الكوفيّين أقدموا على هذا الفعل بأمرٍ من يزيد، وهم كانوا في الواقع جزءاً من جيش يزيد، وجيش الشام.
2- راجع: الإرشاد، ج2، ص38، الهامش رقم1.
 
 
 
 
 
213

207

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 341 و 354)، مع أنّ الصحيح في تسميته أنّه عزرة بن قيس. وإن كان الخوارزميّ في موضعٍ آخر أثبت اسم هذا الرجل بلفظ عزرة بن قيس (ص 283).


ج- أثبت الخوارزميّ اسم أبي ثمامة عمرو (عمر) بن عبد الله الصائديّ في موضعٍ من كتابه بلفظ: أبي ثمامة بن عمر الصائديّ (ج 1، ص 297)، وأثبته في موضعٍ آخر بلفظ أبي ثمامة الصيداويّ (ج 2، ص 20).

9- التكرار والخلط في بعض الأسماء والحوادث: وقع الخوارزميّ في نقله لبعض الحوادث والوقائع في فخّ التكرار أو الخلط، نذكر من باب المثال الموارد التالية:
أ. خبر مبارزة واستشهاد نافع بن هلال، ذكرها الخوارزميّ (ص 18 و 24).

ب. ذكر الخوارزميّ اسم رجلين، أحدهما: عبد الله بن عمير الكلبيّ (ج 2، ص 11)، ووهب بن عبد الله الكلبيّ (ص 15 ـ 16)، وعدّهما في أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ناقلاً كيفيّة مبارزة واستشهاد هذين الرجلين، مع أنّه في المصادر القديمة المعتبرة، التاريخيّة منها والرجاليّة، ومن بينها كتاب المقتل لأبي مخنف، لم يُذكر في أصحاب الإمام الحسين عليه السلام سوى عبد الله بن عمير الكلبيّ1. وفي هذا المجال، وقع الخوارزميّ في خلطٍ آخر
 
 

1- محمّد تقي التستريّ، قاموس الرجال، ج6، ص544 ـ 546، و ج10، ص448، 450، 452، و 456، ولهذا المؤلّف نفسه: الأخبار الدخيلة، ص68. وذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى استبعاد أن يكون هناك رجلان يحملان نفس الاسم ونفس المواصفات ويكونان كلاهما من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ ذكر في سبب هذا الخلط والخطأ ما نصّه (مترجماً): إنّ ما تسبّب لدى المؤرّخين وأرباب المقاتل بهذا الخطأ هو أنّ عبد الله بن عمير كان يُكنّى أبا وهب، وكانت زوجته تُكنّى أمّ وهب، غاية الأمر: أنّهم كانوا في النقل أقلّ اعتناءً بكنية عبد الله نفسه من كنية زوجته أمّ وهب، ثمّ بعد ذلك التفتوا إلى أنّه في أحداث عاشوراء يُؤتى على ذكر أمّ وهب التي برزت إلى الميدان و... ثمّ خمّنوا أنّ أمّ وهب هذه، التي تُنسب إليها هذه الصفات وهذه الأفعال هي أمّ وهب الذي كان حاضراً بنفسه في كربلاء والذي استشهد مع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ تدريجيّاً تحوّل عبد الله بن عمير من أبي وهب الكلبيّ إلى وهب الكلبيّ، وانتقل هذا الخبر بمرور الزمان من كتاب إلى كتاب. في حين إنّ أمّ وهب هي زوجة عبد الله بن عمير الشهيد، وليست أمّه؛ إذ هو يُكنّى أبا وهب، وقد كانت أمّه حاضرةً أيضاً في كربلاء، ودعا لها الإمام عليه السلام وعزّاها وصبّرها، لكنّها لم تكن تُكنّى أمّ وهب، ولو كانت لها كنية، فإنّها كانت ستكنّى نسبةً إلى ابنها، أي: أمّ عبد الله. انظر: محمّد صادق نجمى، سخنان حسين بن علي عليه السلام از مدينه تا كربلا، ص196 ـ 197.
 
 
 
 
 
 
214

208

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 أيضاً، ذلك أنّه عمد إلى ما ورد في المصادر القديمة والموثوقة من خبر مبارزة عبد الله بن عمير وما صنعته زوجته ونسبه إلى وهب بن عبد الله. كما أنّه أيضاً عدّ أمّ وهب زوجة عبد الله أمّاً لوهبٍ هذا. (ص 15 ـ 16).


أضف إلى ذلك أنّ الخوارزميّ في موضعٍ آخر1 نقل خبر استشهاد شابٍّ بما يشبه إلى حدٍّ كبير جدّاً خبر كيفيّة مبارزة عبد الله بن عمير واستشهاده!

ج- تحدّث الخوارزميّ في موضعٍ من كتابه عن بروز رجلٍ إلى الميدان باسم يزيد بن مهاصر الجعفيّ، وروى خبر استشهاده (ج 2، ص 23)، ثمّ في موضعٍ آخر يذكر هذا الرجل نفسه باسم يزيد بن زياد أبي الشعثاء، وأنّه كان يرمي بسهامه جماعةً من جيش الأعداء حتّى حملوا عليه فقتلوه (ص 29)، مع أنّ هذين الاسمين يعودان إلى شخصٍ واحد، اسمه: يزيد بن زياد بن مهاصر أبو الشعثاء الكنديّ البهدليّ2.

4ـ دراسة تطبيقيّة ومقارنة ميدانيّة بين مقتل الخوارزميّ ومقتل أبي مخنف
تقدّمت الإشارة إلى أنّ الخوارزميّ عند تأليفه للقسم الثاني من الفصل الحادي عشر من كتابه، وهو الذي عقده للحديث عن حوادث يوم عاشوراء، اعتمد في النقل كثيراً على مقتل أبي مخنف. نشير فيما يلي إلى أهمّ موارد التشابه بين هذا القسم من مقتل الخوارزميّ وبين مقتل أبي مخنف:
1- كيفيّة مبارزة واستشهاد عبد الله بن عمير الكلبيّ (ص 11).

2- حادثة التحاق الحرّ الرياحيّ بمعسكر الإمام الحسين عليه السلام (ص 12 ـ 13).

3- بروز برير إلى الميدان وخبر كيفيّة قتاله ومبارزته. (ص 14 ـ 15).
 

1- الخوارزميّ، مصدر سابق، ج2، ص25 ـ 26.
2- راجع أيضاً: محمّد تقي التستريّ، قاموس الرجال، ج11، ص101 ـ 103. وقد حصل هذا الخلط أيضاً للعلّامة المجلسيّ رحمه الله، فراجع: بحار الأنوار، ج45، ص30.
 
 
 
 
215

209

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 4- كيفيّة مبارزة مسلم بن عوسجة ونافع بن هلال وخبر استشهاد مسلم. (ص 18 ـ 19).


5- اقتراح عمرو بن الحجّاج على عمر بن سعد بأن يرموا الحجارة على جيش الإمام الحسين عليه السلام، ووصفه لأصحاب الإمام عليه السلام بالخوارج، وردّ الإمام عليه السلام عليه. (ص 18).

6- الحوار الذي دار بين برير وبين يزيد بن معقل، من جيش الأعداء، (باختصار)، ومبارزته في الميدان، وكيفيّة استشهاده. (ص 14 ـ 15).

7- تذكير أبي ثمامة الصائديّ للإمام الحسين عليه السلام باقتراب حلول وقت صلاة الظهر، ودعاء الإمام عليه السلام في حقّه، وإقامة صلاة الخوف. (ص 20).

8- كيفيّة مبارزة عابس بن أبي شبيب الشاكريّ (ص 26 ـ 27).

9- مبارزة واستشهاد الأخوين الغفاريّين. (ص 27).

10- مبارزة سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع واستشهادهما. (ص 27 ـ 28).

11- خروج حنظلة بن أسعد الشباميّ إلى الميدان ومبارزته واستشهاده. (ص 28).

12- حادثة استشهاد عليّ الأكبر ولعن الإمام الحسين عليه السلام لقاتله واضطراب السيّدة زينب عليها السلام و.. (ص 36).

13- العبارة الشهيرة للإمام الحسين عليه السلام: "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد...". (ص 38).

14- اضطراب السيّدة زينب عليها السلام وعويلها على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. (ص 43).
 
 
 
 
 
216

210

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 15- حادثة الهجوم على الخيام بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وتعرّض القوم فيها للإمام زين العابدين عليه السلام وتهديدهم إيّاه بالقتل. (ص 45).


16- كلام عبيد الله بن زياد الذي خاطب به أهل البيت عليهم السلام، والردّ المفحم على كلامه على لسان السيّدة زينب عليها السلام، وغضب عبيد الله على أثر سماعه لكلامها. (ص 47).

17- اعتراض عبد الله بن عفيف الأزديّ على انتهاك عبيد الله بن زياد لحرمة رأس الإمام الحسين عليه السلام، ووضع جلاوزة عبيد الله إيّاه تحت المراقبة، وصولاً إلى استشهاده في نهاية المطاف (ص 59 ـ 62). جدير بالذكر أنّ هذا الخبر ممّا اختصّ بنقله أبو مخنف.

18- خبر زحر بن قيس الذي روى فيه كيفيّة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه على أيدي جيش عمر بن سعد، وإظهار يزيد بن معاوية الندامة على هذا الفعل، وإلصاقه تهمة قتل الإمام الحسين عليه السلام بعبيد الله بن زياد، ثمّ توهين يزيد للرأس الشريف. (ص 62 ـ 64).

19- حادثة طلب رجل من أهل الشام من يزيد بأن يهب له فاطمة بنت الإمام الحسين عليه السلام، وموقف السيّدة زينب عليها السلام الحاسم من ذلك. (ص 69 ـ 70).

20- احتجاج الإمام زين العابدين عليه السلام على يزيد، وردّه المفحم على كلام يزيد. وإن كان الخوارزميّ قد أورد هذا الخبر بصورةٍ أكثر تفصيلاً. (ص 70 ـ 71).

21- بكاء النسوة من آل معاوية على الإمام الحسين عليه السلام وإقامتهنّ المآتم مدّة ثلاثة أيّام، ودعوة يزيد لعمرو بن الحسن بن عليّ عليه السلام (أثبت الخوارزميّ اسمه بلفظ عليّ) أن يقاتل ولداً له اسمه خالد. (ص 82).
 
 
 
 
 
217

211

مع الخوارزميّ في مقتله قراءة في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزميّ

 22- إظهار يزيد مجدّداً الندامة على قتل الإمام الحسين عليه السلام، ولعنه عبيد الله بن زياد في محضر الإمام زين العابدين عليه السلام، وتسييره أهل البيت عليهم السلام نحو المدينة، وتلطّف رسول يزيد بهم، ووصل أهل البيت عليهم السلام له بسبب معاملته الحسنة لهم. (ص 82 ـ 83).


23. إقامة عبد الله بن جعفر مأتم الحزن والعزاء، وخروج بنت عقيل بن أبي طالب في نساء من قومها وإنشادها الشعر في التفجّع والبكاء1. (ص 84).

5ـ الأخبار التي نقلها الخوارزميّ عن هشام الكلبيّ2 من غير مقتل أبي مخنف

نقل الخوارزميّ أكثر من مورد روايات عن هشام (تلميذ أبي مخنف)، وهو ينقلها عن غير أبي مخنف، ومن هذه الموارد:
1- حادثة افتخار يزيد بنسبه، نقلاً عن عوانة بن الحكم (ص 64).

2- بكاء النساء من بني هاشم وإقامتهنّ المآتم عند ورود أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة، واستهزاء عمرو بن سعيد، حاكم المدينة، متمثّلاً بأبياتٍ عن عمرو بن معدي كرب. (ص 84).
 

1- ذكر الشيخ المفيد أنّ اسمها أمّ لقمان، وأنّ من خرجن معها من النسوة هنّ أخواتها، وهنّ أم هاني وأسماء ورملة وزينب. انظر: الإرشاد، ج2، ص124.
2- هشام بن محمّد بن سائب بن بشر (المعروف بـ هشام الكلبيّ)، النسّابة، العالم بالتاريخ، المشهور بالعلم والفضل، من أتباع مذهب أهل بيت النبوّة، كان الإمام الصادق عليه السلام يقرّبه ويدنيه. راجع: أبا العبّاس أحمد بن عليّ النجاشيّ، رجال النجاشيّ، ص434.
 
 
 
 
218

212

مقارنة تطبيقيّة1 لفهرست أسماء شهداء كربلاء في مقتل الخوارزميّ2

 مقارنة تطبيقيّة1 لفهرست أسماء شهداء كربلاء  في مقتل الخوارزميّ2


الجدول رقم 1
فهرست الشهداء من الأصحاب في كربلاء
 
الرقم مقتل الخوارزميّ مقتل ابن أعثم مقتل أبي مخنف (برواية الطبريّ)
1 عبد الله بن عمير الكلبيّ الحرّ بن زياد الرياحيّ عبد الله بن عمير الكلبيّ
2 الحرّ بن زياد الرياحيّ برير بن حضير الهمدانيّ برير بن حضير
3 برير بن خضير الهمدانيّ وهب بن عبد الله بن عمير الكلبيّ
عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاريّ
وهب بن عبد الله بن حباب الكلبيّ
4 وهب بن عبد الله بن جناب الكلبيّ عمرو بن خالد الأزدي مسلم بن عوسجة الأسديّ
5 عمرو بن خالد الأزديّ خالد بن عمرو بن خالد الأزديّ حبيب بن مظاهر الأنصاريّ
6 خالد بن عمرو بن خالد الأزديّ شعبة بن حنظلة التميميّ الحرّ بن يزيد الرياحيّ
7 سعد بن حنظلة التميميّ عمرو بن عبد الله المذحجيّ زهير بن القين

 


1- مستندنا في هذه المقارنة هو الرجوع إلى مقتل الخوارزميّ، طباعة منشورات أنوار الهدى، 1418 هـ، وطبعتان من كتاب الفتوح لابن أعثم، وهما طبعة دار الأضواء، 1411 هـ، وطبعة دار الفكر، 1420 هـ، وقد أشرنا في هذا الجدول إلى ما بين نسختي كتاب الفتوح باختصارين، فجعلنا (ن. ض) للإشارة إلى نسخة دار الأضواء، و(ن. ف) للإشارة إلى نسخة دار الفكر. كما أنّ مستندنا في استخراج الأسماء من مقتل أبي مخنف على تاريخ الأمم والملوك للطبريّ، تحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم (11 مجلّداً)، المجلّد الخامس.

2- مستندنا في استخراج أسامي الشهداء من كتاب مقتل الخوارزميّ، ج2، ص11, 29، ومن فتوح ابن أعثم، ج5، ص101 ـ 110.

 

 

219


213

مقارنة تطبيقيّة1 لفهرست أسماء شهداء كربلاء في مقتل الخوارزميّ2

 
الرقم مقتل الخوارزميّ مقتل ابن أعثم مقتل أبي مخنف (برواية الطبريّ)
8 عمير بن عبد الله المذحجيّ  مسلم بن عوسجة الأسديّ نافع بن هلال الجمليّ
9 مسلم بن عوسجة الأسديّ عبد الرحمن بن عبد الله اليزنيّ عبد الله بن عزرة الغفاريّ
10 نافع بن هلال الجمليّ يحيى بن سليم المازنيّ عبد الرحمن بن عزرة الغفاريّ
11 عبد الرحمن بن عبد الله اليزنيّ قرّة بن أبي قرّة الغفاريّ سيف بن الحارث بن سُريع الجابريّ
12 يحيى بن سليم المازنيّ مالك بن أنس الباهليّ مالك بن عبد بن سُريع الجابريّ
13 قرّة بن أبي قرّة الغفاريّ عمرو بن مطاع الجعفيّ حنظلة بن أسعد الشباميّ
14 مالك بن أنس الباهليّ حبيب بن مظاهر الأسديّ
عابس بن أبي شبيب الشاكريّ
حبيب بن مظهر الأسديّ
15 عمر بن مطاع الجعفيّ حُويّ مولى أبي ذرّ الغفاريّ شوذب بن عبد الله الهمدانيّ الشاكريّ
(مولى شاكر)
16 حبيب بن مظاهر الأسديّ أنيس بن معقل الأصبحيّ يزيد بن زياد بن مهاصر (أبو الشعثاء الكنديّ)
17 جون مولى أبي ذرّ الغفاريّ يزيد بن (زياد بن) مهاصر الجعفيّ
جابر بن الحارث السلمانيّ
بريد بن مهاصر الجعفيّ
18 أنيس بن معقل الأصبحيّ الحجّاج بن مسروق مجمّع بن عبد الله العائذيّ
19 يزيد بن مهاصر الجعفيّ
أو أبو الشعثاء يزيد بن زياد
سعيد بن عبد الله الحنفيّ عمر بن خالد الصيداويّ
20 الحجّاج بن مسروق
مؤذّن الإمام الحسين عليه السلام
زهير بن القين البجليّ سعد مولى عمر بن خالد
21 زهير بن القين البجليّ هلال بن رافع البجليّ سويد بن عمرو بن أبي مطاع الخثعمي
22 سعيد بن عبد الله الحنفيّ جنادة بن الحارث الأنصاريّ بشير بن عمرو الحضرميّ
 
 
 
 
 
 
 
220

214

مقارنة تطبيقيّة1 لفهرست أسماء شهداء كربلاء في مقتل الخوارزميّ2

 
 
 
 
الرقم مقتل الخوارزميّ مقتل ابن أعثم مقتل أبي مخنف (برواية الطبريّ)
23 جنادة بن الحرث الأنصاريّ عمرو بن جنادة أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائديّ
24 هلال بن نافع حُويّ مولى أبي ذرّ  
25 عمرو بن جنادة الحجّاج بن مسروق الجعفيّ  
26 عمرو بن قرظة الأنصاريّ سعيد بن عبد الله الحنفيّ  
27 عبد الرحمن بن عروة عبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاريّ  
28 عابس بن شبيب الشاكريّ  منجح مولى الإمام الحسين عليه السلام  
29 شوذب مولى شاكر    
30 عبد الله الغفاريّ    
31 عبد الرحمن الغفاريّ    
32 سيف بن الحرث بن سريع الجابريّ    
33 مالك بن عبد الله بن سريع الجابريّ    
34 الغلام التركيّ مولى الإمام الحسين عليه السلام    
35 عمر بن خالد الصيداويّ    
36 حنظلة بن أسعد العجليّ الشباميّ  
 
 
 
 
 
 
 
221

215

مقارنة تطبيقيّة1 لفهرست أسماء شهداء كربلاء في مقتل الخوارزميّ2

 الجدول رقم 2


فهرست أسماء الشهداء من بني هاشم في كربلاء1
 
الرقم مقتل الخوارزميّ مقتل ابن أعثم مقتل أبي مخنف(برواية الطبريّ)
1 عبد الله بن مسلم بن عقيل عبد الله بن مسلم بن عقيل عليّ بن الحسين الأكبر عليه السلام
2 جعفر بن عقيل بن أبي طالب جعفر بن عقيل بن أبي طالب القاسم بن الحسن عليه السلام
3 عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب عبد الله بن عليّ عليه السلام
4 محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جعفر بن عليّ عليه السلام
5 عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عثمان بن عليّ عليه السلام
6 القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام العبّاس بن عليّ عليه السلام  
7 عبد الله بن الحسن عليه السلام عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام محمّد بن عليّ عليه السلام
8 عبد الله بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام عبد الله بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام عبد الله بن الحسين عليه السلام
كنيته أبو بكر
 
 
 

1- ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا الفهرست مستخرج من مقتل الخوارزميّ، ج2، ص30 ـ 36، ومن فتوح ابن أعثم، ج5، 110 ـ 115. وعلى هذا الأساس، وكما يمكن ملاحظته، فإنّ الخوارزميّ أتى على ذكر كافّة أسماء الشهداء من بني هاشم الذين نقلهم ابن أعثم، ولم يزد على الأسماء التي ذكرها ابن أعثم إلّا اسم القاسم بن الحسن عليه السلام، والطفّل الرضيع. وأمّا بالنسبة إلى ما نقله أبو مخنف، فإنّه أنقص اسماً واحداً من أسماء الشهداء من بني هاشم، وفي الكثير من الموارد أورد أسماء الشهداء كما أوردها أبو مخنف. موارد الاختلاف الوحيدة تمثّلت في أنّ أبا مخنف عدّ من شهداء بني هاشم كلّاً من عبد الله بن الحسين عليه السلام، وعبد الله بن عقيل بن أبي طالب، ومحمّد بن أبي سعيد بن عقيل، وأبي بكر بن الحسن بن عليّ عليه السلام. وأمّا الخوارزميّ، فإنّه استبدل بهؤلاء الأربعة أشخاصاً ثلاثةً آخرين عدّهم في الشهداء من أهل البيت عليهم السلام، وهم عليّ بن الحسين الرضيع، وعمر بن عليّ عليه السلام، وطفل من الأطفال. وأمّا إذا اعتمدنا على الخبر الوارد في الصفحة 53 من المقتل، والذي جُعل فيه عدد شهداء بني هاشم (باستثناء الإمام الحسين عليه السلام ومسلم بن عقيل) 25 نفراً، فإنّ عدد شهداء بني هاشم في كربلاء بالنسبة إلى ما ذكره أبو مخنف سيكون أكبر بكثير.
 
 
 
 
222

216

مقارنة تطبيقيّة1 لفهرست أسماء شهداء كربلاء في مقتل الخوارزميّ2

 
 
 
 
الرقم مقتل الخوارزميّ مقتل ابن أعثم مقتل أبي مخنف (برواية الطبريّ)
9 عمر بن عليّ عليه السلام عمر بن عليّ عليه السلام عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
10 عثمان بن عليّ عليه السلام عثمان بن عليّ عليه السلام محمّد بن عبد الله بن جعفر أبي طالب
11 جعفر بن عليّ عليه السلام جعفر بن عليّ عليه السلام عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب
12 عبد الله بن عليّ عليه السلام عبد الله بن عليّ عليه السلام جعفر بن عقيل بن أبي طالب
13 العبّاس بن عليّ عليه السلام العبّاس بن عليّ عليه السلام عبد الله بن عقيل بن أبي طالب
14 عليّ بن الحسين عليه السلام عليّ بن الحسين عليه السلام عبد الله بن مسلم بن عقيل
15 عليّ (بن الحسين) الطفل عليّ (بن الحسين) الرضيع محمّد بن أبي سعيد بن عقيل
16 الطفل أبو بكر بن الحسن بن عليّ عليه السلام    
17 عبد الله بن الحسن بن عليّ عليه السلام    
 
 
 
 
 
223

217

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع1


تمهيد:
من الموضوعات المتعلّقة بـفقه الشعائر الحسينيّة الذي شاع كثيراً في أدب الطفّ شعراً ونثراً، وأصبح مادّةً إلقائيّةً إنشاديّة، أو كتابيّةً هو: موضوع لسان الحال، فقد وُظّف في كثيرٍ من الموارد المتعلّقة بالشعائر الحسينيّة، كما في كلمات الخطباء، وشعر الشعراء، ونتاجات أقلام الكتَّاب والباحثين، فلعلّك لا تجد شاعراً أو خطيباً في قصيدته، أو مجلسه إلّا ويصوّر لك بلسان الحال ما حلّ برموز كربلاء ومَن يرتبط بهم, بل ولسان حال السيّدة الزهراء عليها السلام، وسائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام وغيرهم.

ولذلك، وقع الكلام في مشروعيّة هذا الأُسلوب الأدبيّ، وتصوير حال أشخاص الطفّ بصورةٍ عامّةٍ، وما يزيد الأمر تعقيداً هو ما يتمتّع به بعض شخوص الطفّ من سمة العصمة، وعلو المقام، ورفعة المنزلة، فلذا قد يصعب معرفة حالهم، وإدراك آفاق تفكيرهم، وما يتّخذونه من مواقف، أو ما يقولونه من كلمات تجاه الأحداث التي تجري عليهم، فمن ثَمَّ يصوّر الشاعر أو الناثر لسان حالهم، كتعبير عمّا كانوا سيقولونه بلسان المقال والكلام، أو ما سيفعلونه من تصرّفات ومواقف عمليّة تجاه الوقائع، والأحداث التي أحاطت بهم يوم عاشوراء، ومن أهمّها مصرع سيّد الشهداء عليه السلام..
 

1- الشيخ مشتاق الساعديّ. (مجلة الإصلاح الحسيني, الصادرة عن مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية, التابعة للعتبة الحسينية).
 
 
 
 
225

218

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 وفي الحقيقة هناك اتّجاهان في أصل جواز لسان الحال في أدب الطفّ، خصوصاً إذا كان لسان حال المعصومين ـ كالزهراء، والحسين، والسجَّاد صلوات الله عليهم ـ:

اتّجاه ذهب إلى المنع من تصوير لسان الحال، والاقتصار على لسان المقال.

واتّجاه آخر أصرّ على المشروعيّة والجواز، كرديف للسان المقال، بل وصف بعضهم لسان الحال بأنّه أصدق من لسان المقال.

ولكلا الاتّجاهين أصحابه وأنصاره، وأدلّته، وبياناته، وسنقف على ذلك مفصَّلاً إن شاء الله تعالى في طيّات الكلام.

بعد أنّ تبيّن لنا أنّ هذه المسألة محلّ ابتلاء، أصبح هناك سبب وجيه لبحثها وتنقيحها، والوقوف على حقيقتها. ويزيد الأمر أهميّة أنّها من المسائل غير المبحوثة على مستوى التنظير والتوجيه الفقهيّ، فهي أقرب إلى كونها من المسائل المستحدثة، وأغلب مَن ذكرها لم يُفصّل فيها، وإنّما أجاب عنها على شكل فتوى بالجواز أو عدمه، وبيّنها بالإشارات الإجماليّة بحيث لا يتمكّن القارئ من معرفتها، وتبقى التساؤلات والاستفسارات تجول في ذهنه، ولا يجد لها جواباً.

وفي هذا المقال نحاول الوقوف على أهمّ مفاصل هذه المسألة، لتكون باكورة عملٍ، وهيكلة بحثٍ، لمَن يريد دراستها وبلورتها تفصيلاً.

معنى لسان الحال
لا نجد في معاجم اللغة العربيّة أي إشارة إلى تركيب لسان الحال بهذا العنوان، وإنّما شاع وانتشر في التعابير العربيّة شعراً ونثراً، بوصفه أُسلوب بيان لما يقتضيه حال المتكلّم، من خلال الاطّلاع على مجمل أفعاله، أو حركاته، أو تقاسيم وجهه، أو أُفق تفكيره، أو غير ذلك ممّا هو غير لسان المقال والكلام.
 
 
 
 
 
226

219

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 فكلّ ما يصدر عن الإنسان من كلام مُصاغ بصياغات لفظيّة يسمّى ذلك: لسان مقال، وبتعبير آخر: هو لساننا الذي ننطق به، أو مجمل ما تنطق به الشفتان من كلام أمام النّاس، فيُؤخذ حينئذٍ بظهورات لفظ المتكلّم سواء كانت له أم عليه، ويُعرف من خلاله مراداته الاستعماليّة والجديّة إذا كان في مقام البيان.


وفي قبال ذلك يقع لسان الحال الذي يمكن أن نعرّفه بأنّه لسان تَصرُّفنا في واقع الأمر من حركاتٍ، وسكناتٍ، وإشاراتٍ، ومواقفَ ممّا نفعله في حياتنا وعلاقاتنا بالآخرين، كتصرّفاتنا الشخصيّة، ومعاشرتنا للنّاس، ومجمل كلماتنا الأُخريات خصوصاً في مواقف مشابهة للموقف المحكيّ، يقرأها المقابل ويصيغها بصياغاتٍ أدبيّةٍ، مجازيةٍ تحكي لسان مقالنا، أو تُقرِّب منه، بأُسلوبٍ أدبيّ فنيّ مجازيّ, بلا دعوى كونها لسان مقال.

ولعلّ أقدم النصوص التي عَرّفت لسان الحال هي ما ذكره الغزّالي، حيث قال: "هو نطق وراء نطق المقال، يُشبه قول القائل حكايةً لكلام الوتد والحائط، قال الجدار للوتد: لِمَ تشقّني؟ فقال: سل مَن يدقني"1.

وعرّفه العلّامة الطباطبائيّ، فقال عنه: "انكشاف المعنى عن الشيء لدلالة صفةٍ من صفاته، وحالٍ من أحواله عليه سواء شعر به أم لا"2.

أمّا كمصطلح، فقد وردت لفظة لسان الحال في بعض أبيات الشعر العربيّ، ومن تلك الأبيات قول الشاعر:
قِفْ بالدِّيَارِ وَسَلْهُمْ عَنْ أَهَالِيهَا          عَسَى تَرُدُّ جَوَاباً إِذْ تُنَادِيهَا
 

1- الغزاليّ، أبو حامد، إحياء علوم الدّين: ج1، ص178.
2- الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص308.
 
 
 
 
227

220

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 وَاسْتَفْهِمَنْ مِنْ لِسَانِ الْحَالِ مَا فَعَلَتْ    أَيْدِي الْخُطُوبِ وَمَاذَا أَبْرَمَتْ فِيهَا1


وقال آخر:
فَدُهِشْتُ بَيْنَ جَمَالِهِ وَجَلالِهِ             وَغَدَا لِسَانُ الحَالِ عَنِّي مُخْبِرَا2

وما يَصوغه المقابل, كالشاعر، أو الكاتب, من ألفاظ إنّما تحكي لسان حال المتكلّم في واقعةٍ ما، فيما لو أراد الكلام في تلك الواقعة، فالمتصدّي للسان الحال هو غير المتكلّم بطبيعة الحال، ودوره إبراز كلمات يَدّعي أنّها تُعبّر أو تُطابق كلام المتكلّم في حال كلامه. وهذه التعابير نتاج ما يقتضيه حال المتكلّم، وتقاسيم وجهه، ومجموع كلماته الأُخريات، أو معرفة المتكلّم له، أو من خلال قراءة معرفيّة بشخص المتكلّم، ومواقفه الأُخر التي نطق بها، فمن مجموع ذلك يستنبط صياغات يدّعي تجوُّزاً أنّها كلمات المتكلّم فيما لو كان تكلَّم حال حصول الواقعة، ولا يدّعي أنّها كلماته حقيقة، كي يقال: إنّها كذب، بل يقول: هي تصوير مجازيّ، وأدبيّ لِما يقوله القائل لو أراد القول.

فيكون لسان الحال من باب التعبيرات الأدبيّة الفنيّة المجازيّة، والكنائيّة التي تحكي مُرادات وكلمات الشخص الذي لم يتكلّم في واقعةٍ ما، بأُسلوبٍ فنّي رائع وجميل، يَصوغه الشاعر أو الأديب.

وهو أُسلوب أدبيّ عريق، إذ لا نجد شعراً من الأشعار العربيّة في كلّ العصور الأدبيّة ابتداءً من عصر ما قَبل الإسلام المسمّى بالعصر الجاهليّ في كتب الأدب، ومروراً بالإسلاميّ، فالأُمويّ، فالعبّاسيّ، وانتهاءً بالشعر الحديث
 

1- البحرانيّ، يوسف، كشكول البحرانيّ: ج1، ص430.
2- الآلوسيّ، محمود، روح المعاني: ج9، ص55.
 
 
 
 
228

221

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 والمعاصر ـ إلّا وقد حوى روائع من لسان الحال.


ثُمّ إنّ لسان الحال قد ورد في كثير من الروايات التي نقلها بعض المحدّثين في كتبهم ومعاجمهم الروائيّة، كما سنبيّن لاحقاً.

كما أنّ بعض المفسّرين قديماً وحديثاً، وكذا بعض الباحثين والمهتمّين بالشأن القرآنيّ, قالوا بوجود لسان الحال في بعض الآيات القرآنيّة الكريمة، كتعبير عن لسان حال بعض الأفراد، وما كانوا ليقولوا لو نطقوا بلسان المقال، بل إنّ بعض الباحثين أدخل بعض القصص القرآنيّ، والمثل القرآنيّ في لسان الحال1.

لسان الحال في النصوص الشرعيّة
هناك نماذج من النصوص الشرعيّة، كالآيات الكريمة، والروايات، والأشعار التي وردت عن آل البيت عليهم السلام، أو بحضورهم وتقريرهم، والتي استُعمل فيها لسان الحال، كأُسلوب بيانيّ أدبيّ، وهذا له فائدة في دعم أصل مشروعيّة لسان الحال، بوصفه أُسلوباً للبيان والتخاطب، وأنّه أُسلوب مشروع، وليس داخلاً في عنوان الكذب والخيال، ولذلك يُسوّغ من حيث الأصل استخدام هذا الأُسلوب في المحاورات بصورةٍ عامّةٍ، وفي الأدب الحسينيّ, شعراً أو نثراً, بصورةٍ خاصّةٍ. وإنّما يُبحث في موانع الاستعمال أو العناوين الطارئة التي قد تُحرِّمه, فيكون عَرض ذلك بعنوان مدخل لبيان الحكم في المسألة.

وعليه، فنتكلّم في محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: لسان الحال في القرآن الكريم
ذهب بعض المفسّرين والباحثين إلى وجود أُسلوب لسان الحال في النصّ القرآنيّ الشريف، وذلك في آياتٍ عديدةٍ، إمّا بشكلٍ قطعيّ، أو بنحو أحد
 

1- استفدنا ذلك من محضر درس سماحة الشيخ محمّد السند، في محاضرة خاصّة حول عاشوراء.
 
 
 
 
229

222

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 المحتملات، أو بنحو الأُطروحة. بل وسّع بعض الباحثين الأمر فذكر أنّ كثيراً من القصص والأمثال القرآنيّة قد وردت بهذا الأُسلوب البيانيّ، قال شيخنا الأُستاذ محمّد السند: "... وهذا باب استعمله القرآن، وهو وحيٌ وحيانيّ إلهيّ، فإنّ ضرب الأمثال في الكتاب العزيز لا حدّ له وفرةً وكثرةً مع أنّ المثل لا يراد الإخبار بمفاده المطابقيّ، بل المراد الجديّ منه المعنى المبطن والكنائيّ الذي يغاير المعنى المطابقيّ لسطح المثل، بل قد ضرب القرآن للنّاس من كلّ مثل.


نعم، ليس القرآن كلّه من قَبيل المثل والأمثال، كما تَوهّم بعضٌ، بل هو أحد الأبواب الثمانية لأُسلوب القرآن، والحكمة في هذا الأُسلوب والنمط من الاستعمال أُمور كثيرة:
منها: إنّ كثيراً من المعاني ليست حسيّة مرئيّة، بل هي من شؤون الرّوح وحالات النفس والخواطر القلبيّة، وغيرها من الأفعال التي ليست من عالم المادّة المحسوسة المرئيّة المسموعة الملموسة، بل هي من مشهد نفسانيّ، ومشهد روحيّ، ومشاهد عقليّة، ونفحات قلبيّة، وهي أوسع شأناً، وأكبر واقعيّةً من العالم المرئيّ المحسوس، ولا بدّ من الإخبار عنه وانعكاسه إلى الآخرين، ولا يتأتّى إلّا بأنماط أُخر، أحد نماذجها أُسلوب المثل والتمثيل، ولسان الحال يلتقي معه في ذلك"1.

وهنا نَعرض بشكل مجمل بعض الآيات التي قيل بورودها بلسان الحال لا لسان المقال، مع استعراض آراء بعض المفسّرين في هذا المجال:
 

1- استفدنا ذلك أيضاً من محضر درس سماحته، في محاضرات خاصّة حول عاشوراء.
 
 
 
 
230

223

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 الآية الأُولى: قوله تعالى: ﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾1.


ذكر بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية أنّها جاءت: "حكاية لما قال لهم نبيّهم، أو لسان الحال، أو دلالة بأنّهم كانوا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك"2.

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ3.

أشار المفسّرون إلى وجوه عديدة في الآية الكريمة، واحتمل بعضهم أنّها وردت بلسان الحال, وبذلك قال الشيخ مغنيّة: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾، أي: مع النسوة والأطفال والعجزة. 

ولم يبيّن سبحانه مَن الذي قال لهم هذا، هل هي أنفسهم الأمَّارة، أو لسان الحال، أو بعضهم لبعض؟ الله العالم"4.

الآية الثالثة: قوله عزَّ وجلّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ5.

يعتقد بعض المفسّرين بوجود احتمال لسان الحال في الآية الكريمة، بل جزم به بعضهم، أو جعله الاحتمال الأقوى, وهو ما بيّنه السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ بقوله: "وعلى هذا، يكون قولهم: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾ من قَبيل القول بلسان الحال، أو إسناد للازم القول إلى القائل بالملزوم، حيث اعترفوا بحاجاتهم، ولزمه الاعتراف بمَن يحتاجون إليه، والفرق بين لسان الحال، والقول بلازم القول:
 

1- سبأ: آية15.
2- البيضاويّ، عبد الله بن محمّد، أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاويّ): ج4، ص396. واُنظر: الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن تفسير جوامع الجامع: ج3، ص95.
3- سورة التوبة, الآية:46.
4- مغنية، محمّد جواد، تفسير الكاشف:ج4، ص50.
5- سورة الأعراف, الآية:172.
 
 
 
 
231

224

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 أنّ الأوّل: انكشاف المعنى عن الشيء، لدلالة صفة من صفاته وحال من أحواله عليه، سواء شعر به أم لا. كما تُفصح آثار الديار الخَرِبة عن حال ساكنيها، وكيف لعب الدهر بهم، وعدت عادية الأيّام عليهم، فأسكنت أجراسهم، وأخمدت أنفاسهم. وكما يتكلّم سيماء البائس المسكين عن فقره ومسكنته وسوء حاله.


والثاني: انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلّمه بما يدلّ عليه بالالتزام.

فعلى أحد هذين النوعين من القول ـ أعني: القول بلسان الحال والقول بالاستلزام ـ يحمل اعترافهم المحكيّ بقوله تعالى: ﴿قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾، والأوّل أقرب وأنسب، فإنّه لا يكتفي في مقام الشهادة إلّا بالصريح منها، المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.

ومن المعلوم أنّ هذه الشهادة على أيّ نحو تحقّقت، فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾، فالظاهر أنّه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، ولذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المسألة والمجاوبة، فإنّ الكلام الإلهيّ يُكشف به عن المقاصد الإلهيّة بالفعل، والإيجاد كلام حقيقيّ, وإن كان بنحو التحليل, كما تقدّم مراراً في مباحثنا السابقة, فليكن هنا قوله: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ﴾، وقولهم: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾ من ذاك القبيل?"1.

الآية الرابعة: قوله عزَّ مَن قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ2.

يظهر من كلام بعض المفسّرين المعاصرين الجزم بأنّ الآية المباركة وردت بلسان الحال, ومنهم الشيخ مكارم الشيرازيّ في تفسيره الأمثل، قال: "...كما
 

1- الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج8، ص308.
2- سورة فصّلت, الآية:11.
 
 
 
 
232

225

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 ورد في القرآن الكريم التعبير عن لسان الحال، كالآية 11 من سورة فصّلت، إذ جاء فيها: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾"1.


وقال المحدّث الكاشانيّ في المحجّة البيضاء: "القسم الخامس: أن يُعبّر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يُدرك السرّ فيه، وهذا كقول القائل: قال الجدار للوتد: لِمَ تشقّني؟ قال: سل مَن يدقّني فلم يتركني ورائي، الحجر الَّذي ورائي. فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدّر لهما حياةً وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه الأرض، وتُجيب بصوت وحرف، وتقول: أتينا طائعين. والبصير يعلم أنّ ذلك لسان الحال، وأنّه نبأ عن كونها مسخّرة بالضرورة ومضطرّة إلى التسخّر"2.

الآية الخامسة: قوله سبحانه:.. ﴿...وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا...3.

احتمل بعض المفسّرين بأنّ الشاهد في هذه الآية كان لسان الحال، ولكنّه ناقش هذا الاحتمال وضعّفه، وهذا ما جاء في تفسير الأمثل، حيث قال: "الاحتمال الثالث: إنّ الشاهد هو القدّ في الثوب الذي تكلّم بلسان الحال، ولكن مع ملاحظة كلمة من أهلها يضعّف هذا الاحتمال، بل ينفيه!"4.

الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
 

1- الشيرازيّ، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج5، ص289.
2- الكاشانيّ، محسن، المحجّة البيضاء: ج1، ص274.
3- سورة يوسف, الآية:26.
4- الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج7، ص194.
 
 
 
 
233

226

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ1.


ذكر بعض الفقهاء أنّ الآية جاءت بلسان الحال، ومنهم الشيخ جواد التبريزيّ، الذي قال في كتابه الأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة: "وأمّا التعبير عن ذهابه بقوله سبحانه: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾، فهو من قَبيل بيان لسان الحال، وأنّ فعله، فعل مَن يظنّ ذلك"2.

الآية السابعة: قوله عزَّ وجلّ: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ3.

قال الشيخ المكارم في تفسيره الأمثل: "وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تُخَاطَبُ النّار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتُجيب على الخطاب؟!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:
الأُولى: إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه، وبيان لسان الحال! أي: إنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تُجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثانية: إنّ الدّار الآخرة دار حياة واقعيّة، فحتّى الموجودات الماديّة كالجنّة والنّار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين، وجهنّم تنتظر المجرمين.
وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا عجب أن تكون الجنّة والنّار كذلك!

بل ـ وحسب اعتقاد بعض المفسّرين ـ إنّ ذرات هذا العالم جميعها لها إدراك
 

1- سورة الأنبياء, الآية:87.
2- التبريزيّ، جواد، الأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة: ص32.
3- سورة ق, الآية:30.
 
 
 
 
234

227

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 وإحساس خاصّ، ولذلك فهي تُسبّح الله وتَحمَدُه، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن، كالآية44 من سورة الإسراء.


والثالثة: إنّ المخاطَبين هم خزنة النّار، وهم الذين يردّون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلّا أنّ التفسير الأوّل أنسب كما يبدو!"1.

هذه بعض الآيات التي احتُمل أنّ فيها لسان الحال، أو جُزِمَ بوجود لسان الحال فيها, وهناك آيات أُخريات احتُمل فيها لسان الحال، يجدها المتتبّع للتفاسير، لم نذكرها حذراً من الإطالة.

كما أنّ الآيات التي احتوت على القصص والأمثال، حملها بعض الباحثين على ورود بعضها بلسان الحال، ويمكن الاطّلاع على تفاصيل ذلك في كتب التفاسير وكتب القصص القرآنيّ والأمثال في القرآن.

وبذلك يكون أُسلوب لسان الحال أُسلوباً قرآنيّاً في الجملة، قد استُخدم للتعبير عن حقائق ببيانات بلاغيّة ومجازيّة.

المحور الثاني: لسان الحال في الروايات
الدليل الثاني على أصل مشروعيّة لسان الحال هو استعماله في الروايات الشريفة، وهناك نحوان لذلك الاستعمال:
أحدهما: ما ورد في الروايات من التعبير بـلسان الحال نصّاً.

والآخر: الأساليب البيانيّة في الروايات، المحمولة على لسان الحال، وإليك بيان كلا النحوين:
 

1- الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج17، ص47.
 
 
 
 
235

228

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 النحو الأوّل: الروايات المصرّحة بلسان الحال

لقد ورد تركيب لسان الحال نصّاً في بعض الروايات، كأُسلوب صادق للبيان، ووصف في بعض مضامينها بأنّه أصدق من لسان المقال، ولعلّ وجه أصدقيّته: أنّ في لسان المقال يمكن للمتكلّم أن يقول ما لا يريد فعلاً، فيكذب بكلامه, أمّا لسان الحال فهو تعبير قهريّ غالباً عن لسان الحقيقة التي يُخبِّئها الإنسان في قلبه ووجدانه، وقد عبّر عن هذا الأمر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه"1.

وهذا التعبير قد ورد في عدّة روايات:
منها: ما رواه الليثيّ في عيون الحكم والمواعظ، عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لسان الحال أصدق من لسان المقال"2.

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، قال: "أصدق المقال، ما نطق به لسان الحال"3.

النحو الثاني: الروايات المحمولة على لسان الحال
هناك مجموعة من الروايات يدلّ مضمونها ـ بنحو الظهور، أو الاحتمال ـ على لسان الحال، وفي هذا النحو مئات الروايات المبثوثة في المجامع الروائيّة، ونحن ننقل بعضاً من تلك الروايات اختصاراً:
الرواية الأُولى: ما رواه الكلينيّ بسنده عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال: جُعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه. يعني في الميثاق"4.
 

1- خطب الإمام عليّ عليه السلام، نهج البلاغة: ج4، ص7.
2- الليثيّ، عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ: ص420.
3- الريشهريّ، محمّد، ميزان الحكمة: ج2، ص1574.
4- الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص12.
 
 
 
 
236

229

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 وقد شرح العلّامة المجلسيّ الرواية، فقال: "بيان: أي تعلّقت الأرواح بتلك الذرّ، وجعل فيهم العقل، وآلة السمع، وآلة النطق، حتّى فهموا الخطاب وأجابوا وهم ذرّ"1.


ولكن السيّد الطباطبائيّ ردّ على ذلك بقوله: "ظاهر الرواية لسان الحال، أو أنّهم كانوا على خلقةٍ لو نزلوا منزل الدنيا، ظهر ذلك منهم في صورة السؤال والجواب، وأمّا ما ذكره رحمه الله فبعيد عن سياق الخبر، ولو صحّ لكان هو الخلق الدنيويّ بعينه"2.

الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق في كتابَي التوحيد وعيون أخبار الرضا عليه السلام, بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ لله عزَّ وجلّ عموداً من ياقوتة حمراء، رأسه تحت العرش، وأسفله على ظهر الحوت في الأرض السابعة السفلى. فإذا قال العبد: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له, اهتزّ العرش، وتحرّك العمود، وتحرّك الحوت، فيقول الله تبارك وتعالى: اسكُن يا عرشي. فيقول: كيف أسكُن وأنت لم تغفر لقائلها؟! فيقول الله تبارك وتعالى: اشهدوا سكّان سماواتي أنّي قد غفرت لقائلها"3.

الرواية الثالثة: ما جاء من روايات في وداع شهر رمضان المبارك، التي حمل بعض العلماء معنى الوداع فيها على لسان الحال، قال السيّد ابن طاووس في الإقبال: "إنْ سأل سائل فقال: ما معنى الوداع لشهر رمضان وليس هو من الحيوان الذي يخاطب أو يعقل ما يقال له باللسان؟! فاعلم أنّ عادة ذوي العقول قبل الرسول، ومع الرسول، وبعد الرسول، يخاطبون الدّيار
 

1- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج5، ص257.
2- المصدر السابق: هامش ص57.
3- الصدوق، محمّد بن عليّ، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج2، ص34.
 
 
 
 
237

230

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 والأوطان، والشباب وأوقات الصفا والأمان والإحسان ببيان المقال، وهو محادثة لها بلسان الحال.


فلمّا جاء أدب الإسلام أمضى ما شهدت بجوازه من ذلك أحكام العقول والأفهام، ونطق به مقدّس القرآن المجيد، فقال جلّ جلاله: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾

فأخبر أنّ جهنّم ردّ(ت) الجواب بالمقال، وهو إشارة إلى لسان الحال، وذُكر كثيراً في القرآن الشريف المجيد، وفي كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، وكلام أهل التعريف، فلا يحتاج ذوو الألباب إلى الإطالة في الجواب. 

فلمّا كان شهر رمضان قد صاحبه ذوو العناية به من أهل الإسلام والإيمان، أفضل لهم من صحبة الدّيار والمنازل، وأنفع من الأهل وأرفع من الأعيان والأمثال، اقتضت دواعي لسان الحال أن يودّع عند الفراق والانفصال"1.

الرواية الرابعة: ما رواه الرازي في تفسيره من أنّ: "موسى عليه السلام كلّم البحر، قال له: انفلق لي لأعبر عليك. فقال البحر: لا يمرُّ عليّ رجل عاص".

ثمّ قال الرّازيّ: "وعند المعتزلة أنّ ذلك على لسان الحال، لا لسان المقال. والله العالم"2.

وغير ذلك من الروايات الدَّالة على وجود مثل هذا الأُسلوب في البيان والتعبير، وهو دليل آخر على أصل مشروعيّة لسان الحال.

المحور الثالث: لسان الحال في الأشعار المنسوبة إلى آل البيت عليهم السلام
لا شكّ في شيوع لسان الحال في الأدب العربيّ شعراً ونثراً، باعتباره أُسلوب بيان استُخدم في مئات القصائد، وعشرات المقاطع النثريّة، والمتتبّع للأدب
 

1- ابن طاووس، عليّ موسى، إقبال الأعمال: ج1، ص419ـ420.
2- الرازيّ، فخر الدّين، تفسير الرازيّ: ج22، ص94.
 
 
 
 
 
238

231

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 العربيّ يجد ذلك واضحاً، ونذكر على نحو الاختصار مثالاً للشعر، ومثالاً للنثر ممّا ورد بلسان الحال، فمن الشعر قول الشاعر ـ وهو يحكي لسان حال ثلاث أخوات لاقاهنّ في الطريق -:

قَالَتِ الْكُبْرَى أَتَعْرِفْنَ الْفَتَى        قَالَتِ الْوُسْطَى نَعَمْ هَذَا عُمَرْ
قَالَتِ الْصُّغْرَى وَقَدْ تَيَّمْتُهَا         قَدْ عَرِفْنَاهُ وَهَلْ يَخْفَى الْقَمَرْ1

ومن النثر قول القائل: "سَلِ الأرضَ، فقل: مَن أَجْرَى أنهارك، وَغَرَس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تُجبك حواراً أجابتك اعتباراً"2.

وليس هدفنا استعراض لسان الحال في الأدب العربيّ، لأنّه خارج عن محلّ الكلام، وإنّما هدفنا هو ذكر الأشعار التي وردت بأُسلوب لسان الحال، إمّا بنحو الإلقاء من قِبَل أهل البيت عليهم السلام، أو التي أُلقيت في حضرتهم ولم يعترضوا عليها، وهذا النحو من الشعر له شواهد تناقلتها كتب الحديث والتأريخ والأدب، وهو كما يدلّ على أصل مشروعيّة هذا الأُسلوب البيانيّ، كذلك يدلّ على مشروعيّة استعمال أُسلوب لسان الحال في خصوص الأشعار التي يكتبها شعراء آل البيت عليهم السلام في أدب الطفّ، ومن هذه الموارد:
الأوّل: ما نُسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً الزهراء عليها السلام عندما كان يزور قبرها الطاهر:
مَالِي وَقَفْتُ عَلَى الْقُبُورِ مُسَلِّماً        قَبْرَ الْحَبِيبِ فَلَمْ يُرَدَّ جَوَابِي
 

1- الأصفهانيّ، أبو الفرج، الأغاني: ج1، ص116.
2- الجاحظ، البيان والتبيين: ص58.
 
 
 
 
 
239

232

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 أَحَبِيبُ مَا لَكَ لَا تَرُدُّ جَوَابَنَا           أَنَسِيتَ بَعْدِي خُلَّةَ الْأَحْبَابِ

قَالَ الْحَبِيبُ وَكَيْفَ لِي بِجَوَابِكُمْ       وَأَنَا رَهِينُ جنَاَدِلٍ وَتُرَابِ
أَكَلَ التُّرَابُ مَحَاسِنِي فَنَسِيْتُكُمْ        وَحُجِبْتُ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ أَتْرَابِي
فَعَلَيكُمُ مِنِّي السَّلَامُ تَقَطَّعَتْ           عَنّي وَعَنْكُمْ خُلَّةُ الْأَحْبَابِ1

الثاني: ما أنشده دعبل الخزاعيّ شاعر أهل البيت عليهم السلام عندما خاطبه الإمام الرضا عليه السلام قائلاً: "يا دعبل، ارثِ الحسين، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً، فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت. قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي، وأنشأت أقول:
أَفَاطِمُ لَوْ خِلْتِ الْحُسَيْنَ مُجَدَّلاً          وَقَدْ مَاتَ عَطْشَانًا بِشَطِّ فُرَاتِ
إِذًا لَلَطَمْتِ الْخَدَّ فَاطِمُ عِنْدَهُ             وَأَجْرَيْتِ دَمْعَ الْعَيْنِ فِي الوَجَنَاتِ
أَفَاطِمُ قُومِي يَا ابْنَةَ الْخَيْرِ وَاْندُبِي       نُجُومَ سَمَاوَاتٍ بِأَرْضِ فَلَاةِ
قُبُورٌ بِكُوفَانٍ وَأُخْرَى بِطَيْبَةٍ             وَأُخْرَى بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي
 

1- اُنظر: المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص217.
 
 
 
 
240

233

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 قُبُورٌ بِبَطْنِ النَّهْرِ مِنْ جَنْبِ كَرْبَلَا       مُعَرَّسُهُمْ فِيهَا بِشَطِّ فُرَاتِ"1


الثالث: ما أنشده الإمام الهادي عليه السلام من قصيدة أمام المتوكّل العبّاسيّ، وقد حوت لسان الحال:
وهي ما رواه المجلسيّ قائلاً: "قال المسعوديّ في مروج الذهب: سُعي إلى المتوكّل بعليّ بن محمّد الجواد عليهما السلام أنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً، فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصا وهو متوجّه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن. فحُمل على حاله تلك إلى المتوكّل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقر(أ) القرآن مستقبل القبلة. وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال: والله، ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني. فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً. فقال عليه السلام: إنّي قليل الرواية للشعر. فقال: لا بدّ. فأنشده عليه السلام وهو جالس عنده:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ            غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ القُلَلُ
وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ             وَأُسْكِنُوا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
 

1- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص257.
 
 
 
 
241

234

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ دَفْنِهِمُ               أَيْنَ الْأَسَاوِرُ وَالتِّيْجَانُ وَالْحُلَلُ

أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً              مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ            تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ تَقْتَتِلُ
قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْراً وَقَدْ شَرِبُوا         وَأَصْبَحُوا الْيَوْمَ بَعْدَ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا

... فأشفق كلّ مَن حضر على عليّ، وظنّ أنّ بادرة تبدر منه إليه، قال: والله، لقد بكى المتوكّل بكاءً طويلاً حتّى بلّت دموعه لحيته، وبكى مَن حضره، ثُمّ أمر برفع الشراب، ثُمّ قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فأمر بدفعها إليه، وردّه إلى منزله من ساعته مكرّماً"1.

إلى غير ذلك من الشواهد التي يجدها المتتبّع لكتب الحديث والتاريخ والأدب.

لسان الحال في الميزان الفقهيّ
من المسائل المستحدثة في فقه الشعائر الحسينيّة، مسألة استخدام لسان الحال في مصاديق الشعائر، سواء نثراً أو شعراً أو خطابةً، وقد شاع استخدام هذا الأُسلوب وانتشر بين شعراء الطفّ وخطبائه بصورة ملحوظة خصوصاً بين المعاصرين، وبذلك انفتح نقاش فقهيّ في المسألة من حيث المشروعيّة وعدمها.
 

1- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج50، ص213.
 
 
 
 
242

235

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 وتخالفت بذلك آراء الفقهاء بين مجوّز ومانع، والمسألة باعتبارها مستحدَثة لم تُطرح إلى الآن على مستوى التنظير والاستدلال الفقهيّ الموسّع، وإنّما طُرحت على مستوى الفتوى، وطبيعة الفتوى لا تسلّط الضوء على الأدلّة، وإنّما يُعطي الفقيه من خلالها موقفاً عمليّاً بقالب قانونيّ مقتضب، لكي يطبّقه المكلّف أو السائل، ولا يتصدّى لبيان أدلّة الحكم، ومَن تصدّى لذلك، فإنّه لم يبيّنه إلّا بشكل مجمل.


أقوال الفقهاء في لسان الحال
تنقسم أقوال الفقهاء في مسألة لسان الحال إلى قسمين: قسم ذهب إلى المنع. وآخر جوّز مثل هذا الأُسلوب، ولكن بشروط معيّنة:
القول الأوّل: المنع
أبرز مَن ذهب إلى المنع هو الشهيد السيّد محمّد الصدر قدس سره، في كتابه أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام، حيث تبنَّى القول بعدم جوازه بعد أن أورد جملة من الإشكالات، وبما أنّ كتابه ليس كتاباً فتوائيّاً، بل كان بحثاً تأريخيّاً، فلا نستطيع أن نجزم بأنّ فتواه في ذلك هي المنع مطلقاً، ولم نجد فيما بحثنا فتوى له بذلك.
أدلّة المانعين
لقد طُرِحت في هذا المجال مجموعة من الشواهد والأدلّة، نشير فيما يلي إلى بعضها:
الدليل الأوّل: ما قد يظهر من كلمات بعض الأعلام، وهو أنّ لسان الحال نوع من الكذب والمبالغة، وهو غير جائز في الشريعة المقدّسة، خصوصاً إذا كان على الذوات المقدّسة، كالنبيّ الأعظم، أو أمير المؤمنين، أو السيّدة الزهراء، أو الأئمّة من أبنائها المعصومين عليهم السلام1.
 

1- الصدر، محمّد محمّد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام: ص152.
 
 
 
 
243

236

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 ويمكن أن يُلاحظ عليه:

1ـ أنّ لسان الحال ليس داخلاً في الكذب، فهو وإن لم يكن تعبيراً حقيقيّاً عن مقال الإنسان، إلّا أنّه تعبير مجازيّ، وليس أُسلوب المجاز أُسلوباً داخلاً في الكذب، كيف ذا وقد وردت آيات، وروايات بهذا الأُسلوب؟!

2ـ إنّ لسان الحال إنّما يقال: إنّه كذب. لو كان كاتبه يدّعي أنّه يُعبّر عن حال الآخرين بنحو المطابقة والحقيقة، ولكن القائل للسان الحال لا يدّعي الحقيقة، وإنّما يدّعي تصويراً مجازيّاً ادعائيّاً فنّيّاً لِما سيقوله الآخرون لو نطقوا به، فلا يقول المنشئ للسان الحال: إنّ هذا نصّ وحقيقة ما أراد قوله الآخر، وإنّما يقول: إنّي من خلال قرائن حاليّة ومقاليّة، أدّعي أنّه لو تكلّم لقال ما عبّرتُ به عن كلامه.

3ـ إنّ الشعر الذي صوّر فيه دعبل حال السيّدة الزهراء عليها السلام، فيما لو كانت حاضرة في واقعة الطفّ، كان فيه لسان الحال واضحاً، وكان هذا التصوير بمرأى ومسمع من الإمام الرضا عليه السلام، فلو كان فيه كذب على الزهراء لَما سكت عنه الإمام المعصوم عليه السلام.

الدليل الثاني: وهو ما قد يظهر أيضاً من بعض كلمات السيّد محمّد الصدر قدس سره: وهو أنّنا لا يمكن أن نعلم حال المعصومين، ولا أصحابهم، ولا نسائهم، لكي نصوّر لسان حالهم للآخرين، وذلك لعلوّ مكانتهم من جهة، واختلاف الزمكانيّة بيننا وبينهم من جهة أُخرى، ولذلك نحن جاهلون بلسان حالهم، وإنّما يجوز لسان الحال مع العلم بالمطابقة لواقع ما عبر عنه بلسان الحال1.
 

1- الصدر، محمّد محمّد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام: ص152.
 
 
 
244

237

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 ويُلاحَظُ عليه:

1ـ أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى، إذ إنّ تصوير لسان الحال قد يكون لأشخاص غير معصومين كانوا حاضرين في الطفّ، كلسان حال أصحاب الحسين عليه السلام، أو القاسم، أو رملة، أو الرباب، أو غيرهم من الأشخاص.

2ـ إنّ الذوات المعصومة ـ كالنبيّ الأعظم، وأمير المؤمنين، والزهراء، والأئمّة المعصومين عليهم السلام ـ وإن كانت منازلهم عالية ومقاماتهم سامية إلّا أنّ هذا لا يمنع من وجود معرفة بسيطة بهم، من خلال كلماتهم، ومواقفهم، وسيرتهم، تجعل الشاعر يعلم لسان حالهم في الجملة.

3ـ لو سلّمنا بعدم العلم بحالهم بصورة دقيقة، فلا أقلّ من كفاية الاطمئنان بأنّ لسان حالهم كان كذا، من خلال مجموع القرائن، ولا شكّ في أنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة معتمدة، فهو كافٍ في جواز تصوير حال المعصومين عليهم السلام.

فالشاعر أو الناثر يكفيه الوثوق والاطمئنان في تصوير لسان حال المعصومين، مع كون الاطمئنان ناشئاً من قرائن، وشواهد قوليّة وفعليّة وسلوكيّة، قد قاموا بها في مواطن أُخر.

4ـ إنّ دعبل الخزاعيّ قد صوّر حال الزهراء عليها السلام، ولم يعترض عليه الإمام الرضا عليه السلام، بأنّك لا تستطيع معرفة حالها عليها السلام.

5ـ إنّ طبيعة الأُسلوب البلاغيّ في لسان الحال تقتضي البيان بصورة تتضمّن نحواً من أنحاء التصوير المجازيّ، ولا يصحّ مقايسته بالأساليب الحقيقيّة للبيان، فقرينة كونه مجازاً يَفهم منها المتلقّي كون الشاعر في مقام نقل تصوّراته عن الحادثة، لا نقل واقع الحادثة حرفيّاً.

الدليل الثالث: ما ذكره أيضاً السيّد الصدر قدس سره، وهو أنّ لسان الحال
 
 
 
 
 
245

238

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 إنّما يُعبّر به عن الأقوال، لا عن الأفعال، والحال أنّنا نرى أنّ الشعراء ينقلون الأعمّ من الأقوال والأفعال، ويصوّرونها بلسان الحال1.


ويُلاحَظُ عليه:
1ـ أنّ المتتبّع لهذا الأُسلوب ـ خصوصاً بما قدّمناه من تعريف ـ يرى أنّ لسان الحال يُعبّر فيه عن كلّ ما ليس هو بلسان مقال، سواء كان فعلاً، أو حركةً، أو إشارةً، أو كلاماً، في غير موطن الواقعة.

2ـ أنّ الرواية الشريفة التي تفيد: "ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه"، تُبيّن أنّ إحدى طرائق معرفة ما أضمر الإنسان, من كلام ومواقف, يُقرأ ويُعرف من خلال صفحات الوجه، وما يكون في صفحات الوجه من تغيُّر اللون أو الهيئة، إنّما هو من سنخ الأفعال لا الأقوال.

3ـ لو لم نقبل الأمرين، فلا أقلَّ من وجوب إبراز ما يدلُّ على لا بدّيّة كون لسان الحال للأقوال، لا للأفعال، وليس هنا ما يحصر هذا الأُسلوب بذلك.

وبدفع هذه الإشكالات نبقى على أصل مشروعيّة أُسلوب لسان الحال.

القول الثاني: الجواز
ذهب إلى الجواز أكثر المعاصرين من علمائنا الأعلام، كالسيّد الخوئيّ وأكثر تلامذته، منهم: السيّد السيستانيّ، وأُستاذنا الشيخ الفيّاض، والشيخ جواد التبريزيّ، والشيخ الوحيد، كما ذهب إلى ذلك أيضاً أُستاذنا الشيخ محمّد السند.

والذاهبون إلى الجواز وإن اتّحدوا في النتيجة، لكنّهم اختلفوا في الشروط التي إذا ما اجتمعت جاز هذا الأُسلوب، كما سيتضح.
 
 

1- الصدر، محمّد محمّد صادق، أضواء على ثورة الإمام الحسين عليه السلام: ص153.
 
 
 
 
246

239

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 فتوى السيّد الخوئيّ

لعلّ أقدم فتوى ـ حسب تتبّعي في هذه المسألة، هو ما صدر عن السيّد أبي القاسم الخوئيّ قدس سره  جواباً عن استفتاء رُفع إليه، ونصّه: "بعض القصائد التي تُذكر في مصيبة سيّد الشهداء عليه السلام تُنسَب للإمام الحسين عليه السلام، أو لزينب عليها السلام، أو للإمام السجّاد عليه السلام، دون الإشارة إلى أنّ هذه الأبيات عن لسان حالهم، نعم، بعض النّاس يَعرف كون ذلك عن لسان الحال، وبعضهم الآخر لا يعرف ذلك، فما هو الحكم

فأجاب السيّد الخوئيّ قدس سره: "لا بأس، ما لم يقصد واقع النسبة إليهم"1.

تحليل فتوى السيّد الخوئيّ
إنّ فتوى السيّد الخوئيّ قدس سره دَّالة على الجواز، بشرط عدم قصد المقرئ أو الملقي لذلك الشعر أو النثر واقع النسبة إلى من حُكي لسان حالهم كالإمام السجّاد، أو السيّدة زينب، أو غيرهما, أي: إنّه قصد التعبير عن لسان حالهم، ولم يقصد لسان مقالهم، أو أنّهم تكلّموا هكذا.

هذا فيما إذا كانت القصيدة, أو المادّة النثريّة, لا إشارة فيها إلى لسان الحال، لا لفظاً ولا مقاماً.

وأمّا لو تضمّنت الإشارة إلى لسان الحال، من خلال إخبار السامع بأنّ القصيدة, مثلاً, دالّة على لسان الحال، كما اعتاد الخطباء على القول: بأنّ لسان حال السيّدة الزهراء كذا وكذا، أو لسان حال الحسين كذا وكذا، وهكذا، أو احتوت القصيدة على دلائل لفظيّة، أو سياقيّة دالة على أنّها لسان حال، لا لسان مقال، كتصديرها بـليتني، أو لولا، أو لو، أو غيرها من القرائن اللفظيّة،
 

1- الخوئيّ، أبو القاسم، صراط النجاة: ج2، ص443.
 
 
 
 
247

240

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 أو المقاميّة، فلا إشكال بالجواز.


فالسيّد الخوئيّ قدس سره جَوّز لسان الحال، إذا كان المقابل المستمع يَعرف أنّ هذا لسان حال، لا لسان مقال، بل جوّزه حتّى إذا لم يعلم السامع بأنّ هذا لسان حال، بشرط أن لا يكون الملقي للشعر أو النثر قد قصد أن ما يلقيه لسان مقال، لأنّ قَصْدَ ذلك يُوقع الملقي بالكذب، إذ إنّهم لم يقولوا ذلك واقعاً، بل إنّ الملقي أو الشاعر صوّر حالهم بذلك التصوير المجازيّ.

فتوى السيّد السيستانيّ
توالت الأجوبة حول هذه المسألة من بعض الفقهاء الأعلام، من تلامذة السيّد الخوئيّ قدس سره، كالسيّد السيستانيّ الذي سُئل: أنّه "هل يجوز التكلّم بلسان المعصومين عليهم السلام بالقصائد الحسينيّة، بحيث يطلق الكاتب عِنان خياله في تصوير الأحداث، واختلاق الكلام والمواقف؟ وهل يجوز تداولها بين المؤمنين؟".

فأجاب سماحته قائلاً: "باسمه تعالى: إنّما يجوز التكلّم بلسان حال المعصومين، فيما يُعتبر تمثيلاً صادقاً لأحوالهم ـ وفق المعايير الأدبيّة المتعارفة في أمثال ذلك ـ من دون إساءة إلى مقامهم الشريف، ومن ثَمّ يجب على المتكلّم بلسان الحال الاطلاع على الحوادث التاريخيّة، واستنطاق أحوالهم من خلالها، لتجسيدها بصورة أدبيّة مناسبة، بعيداً عمّا يُعتبر من قَبيل المبالغة والاختلاق، والكذب بالمقياس الأوَّلي، كما أنّ جواز تداولها يخضع للمقاييس التي أشرنا إليها"1.
 

1- موقع السيّد السيستانيّ الرسميّ، أسئلة حول الشعائر.
 
 
 
 
248

241

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 تحليل فتوى السيّد السيستانيّ

ذهب السيّد السيستانيّ إلى جواز لسان الحال، ولكن جعل شروطاً لمشروعيّته، إذا لم تتوفّر تلك الشروط، فلا يجوز مثل هذا الأُسلوب إنشاء وتأليفاً، ولا إلقاءً وتداولاً.

وهذه الشروط يمكن تلخيصها بالنحو التالي:
الشرط الأوّل: أن يكون في لسان الحال تصوير صادق وحقيقيّ لأحوال المعصومين عليهم السلام، بعيداً عن الخيال والمبالغة والكذب، وإلّا كان ممنوعاً.

الشرط الثاني: أن يراعي الشاعر, أو الناثر, المعايير الأدبيّة المتعارفة عند الأدباء في كتابة لسان الحال.

الشرط الثالث: أن يكون القائل بلسان الحال مطّلعاً على الحوادث التاريخيّة والشخصيّة للواقعة، أو الشخص الذي ينطق بلسان حاله.

وعليه، فالسيّد السيستانيّ جعل معايير ثلاثة لمشروعيّة هذا الأُسلوب الأدبيّ، فيما إذا كُتِب بلسان حال المعصومين.

أدلّة المجوّزين
تبيّن ممّا مرّ أنّ أُسلوب لسان الحال أُسلوب بلاغيّ، استخدمه القرآن الكريم في بعض آياته الكريمة، كما نصّ على ذلك كثير من المفسّرين، كما أنّ الروايات جاءت بهذا الأُسلوب في كثير من مضامينها، ومن هذين المصدرين يتبيّن أصل مشروعيّة لسان الحال، وصحّة استعماله شرعاً.

وهذه الصحّة في الاستعمال اعتضدت بورود أشعار مشهورة النسبة لآل البيت عليهم السلام، أو قِيلت بحضرتهم، وكان لسان الحال واضحاً فيها.

ويعضد الجواز أيضاً أنّ الأشعار التي كانت متداولة في زمانهم، والتي حوت
 
 
 
 
249

242

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

لسان الحال، لم يصدر ردع من قِبلهم عنها، وهذا يكشف عن وجود سيرة قائمة وممضاة على مشروعيّة استخدام لسان الحال.

بل يمكن القول: إنّ الارتكاز في الجواز بمكان من الإمكان، بحيث لم تُثَرْ مسألة المنع عن مثل هذا الأُسلوب البيانيّ.

نعم، يمكن أن يقال بوجود بعض المحاذير التي قد تجعل ممنوعيّة لسان الحال واضحة، أو تجعل قيوداً عديدة للحاكمين بالجواز.

الرأي المختار في المسألة
نقلنا فيما سبق فتاوى بعض الأعلام المجوّزين للسان الحال، وهم وإن اتفقوا على الجواز، إلّا أنّهم اختلفوا في عدد الشروط المجيزة للسان الحال، فذهب السيّد الخوئيّ إلى الجواز بشرط واحد، وذهب السيّد السيستانيّ إلى الجواز بثلاثة شروط كما ذكرنا آنفا، فما هو الصحيح في المقام؟

إنّ الذي نراه صحيحاً في المقام هو مشروعيّة لسان الحال بشروط أربعة، وهي كالآتي:
الشرط الأوّل: أن يأتي الشاعر أو الكاتب بدوالَّ لفظيّة أو مقاميّة، تجعل المستمع يعلم أو يطمئن أنّ هذا القول بلسان الحال، لا بلسان المقال، وهذا الشرط نابع من لزوم دفع الإيهام عن المستمع بأنّ ما يقال ليس لسان مقال، حتّى لا يدخل في إطار الكذب.

ومن هذه الدلائل اللفظيّة تضمين الكلام لفظة لو، أو لولا، أو غيرها من الدوالِّ اللفظيّة أو المقاميّة، أو قول الشاعر قبل القصيدة بأنّ لسان حال فلان كذا وكذا.

وهذا التعبير واضح في قصيدة دعبل الخزاعيّ حيث قال: "أَفَاطِمُ لَوْ خِلْتِ
 
 
 
 
 
 
250

 


243

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 الْحُسَيْنَ..."، فقد أورد كلمة لو كدالّ لفظيّ على كون التصوير, افتراضيّاً, لسان حال, وليس حضوراً فعليّاً، وكلاماً مقاليّاً من قِبل الزهراء عليها السلام.


الشرط الثاني: أن تكون المضامين النثريّة أو الشعريّة مناسبة لحال أو شأن أو مقام المقول عن لسانه، فلو نَقل المتكلّم لسان حال المعصوم, مثلاً, فإنّه يجب عليه أن يبتعد عن كلّ ما يَمسُّ المعصوم، من جهة عقديّة أو فقهيّة أو أخلاقيّة، وذلك لحرمة إسناد ما ينافي هذه الأُمور إلى لإمام المعصوم، بل حتّى إلى غير المعصوم من الأشخاص الذين لهم منزلة دينيّة، أو قداسة.

الشرط الثالث: أن يكون الأديب مطّلعاً على تأريخ الحوادث والشخصيّات، وكذا على أقوالهم، بحيث يَحصل له وثوق أو اطمئنان بأنّ لسان حالهم هكذا، أمّا لو كان لا علم له بالأحداث أو الشخصيّات التي يريد تصويرها، فكيف يصوّر لسان حالها وهي مجهولة الحال والمقال بالنسبة إليه؟!

الشرط الرابع: أن يكون هناك أصلٌ تأريخيٌّ، أو فقهيٌّ، أو غير ذلك ـ كما أشرنا إلى ذلك في بحث منهج النقل في العدد السابق من هذه المجلّةـ يجعله الشاعر مادّةً أوليّةً ويَبني عليها لسان الحال، لا أن يكون لسان حاله مبنيّاً على شيء لا واقع له، فمثلاً: واقعة الطفّ ومقتل الحسين أمر واقع، فعندما صوّره دعبل الخزاعيّ بلسان الحال، كان تصويراً لأمر حاصل بصورة فنيّة.

فإذا توفّرت هذه الشروط، قلنا بمشروعيّة لسان الحال في الأشعار التي تصوّر لنا لسان حال أصحابها، الذين تكلّم الشعراء عن لسانهم في واقعة الطفّ وأشخاصها.

بل قد يُقال باستحباب هكذا إنشاء للشعر، لكونه مشمولاً لأدلّة استحباب إنشاء الشعر رثاءً ومدحاً في آل البيت ونصرتهم، أو لأنّه مادّة إلقائيّة لكثير من الشعائر، كالخطابة الحسينيّة ومجالس الرثاء والعزاء، فيدخل بعنوان قاعدة الشعائر الحسينيّة التي بُحثت في محلّها.
 
 
 
 
 
 
251

244

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 مثالان تطبيقيّان

سننقل فيما يلي مقطعين شعريّين، بوصفهما مثالين لِما تداوله الشعراء من الكلام بلسان الحال، وهما يحتويان على شروط الجواز, لهذا الأُسلوب البلاغيّ التصويريّ, التي ذكرناها.

المثال الأوّل
قول الشاعر مصِّوراً لسان حال الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً أبا الفضل العبّاس:
عبّاس كَبْشَ كَتيبَتِي وكنَانَتي            وسَرِيَّ قَوْمِي بَلْ أَعَزَّ حُصُونِي
يَا سَاعِدِي في كُلِّ مُعتَرَكٍ بهِ           أسْطُو وَسَيْفُ حِمَايَتِي بِيَمِينِي
لِمَنِ الِّلوَا أُعْطِي وَمَنْ هُوَ جَامِعٌ       شَمْلِي وَفِي ضَنَكِ الزِّحَامِ يَقيِنِي
أَمُنَازِلَ الأقْرَانِ حَامِلَ رايتِي          ورُوَاقَ أَخْبِيَتِي وبَابَ شُؤُونِي
عبّاسُ تَسْمَعُ زَينبَاً تَدْعوُكَ مَن         لِي يا حِمَايَ إِذَا الْعِدَى نَهَرُونِي
أَوَلَسْتَ تَسْمَعُ مَا تَقُولُ سُكَينَةٌ         عَمَّاهُ يَوْمَ الْأَسْرِ مَنْ يَحْمِينِي1
 

1- شبَّر، جواد، أدب الطفّ: ج7، ص113. والقصيدة للشيخ حسن قطفان النجفيّ.
 
 
 
 
 
252

245

لسان الحال في أدب الطفّ بين المشروعيّة والمنع

 المثال الثاني

قول الشاعر مصوّراً لسان حال السيّدة زينب عليها السلام مخاطبة الإمام الحسين عليه السلام:
 
فَـأَتَتْه زَيْـنَبُ بِـالْجَوَادِ تَقُودُهُ   
وَتَـُقُولُ قَدْ قَطَّعْتَ قَلْبِيَ يَا أَخِي     
فَلِمَنْ تُنَادِي وَالْحُمَاةُ عَلَى الثَّرَى    
مَـا فِـي الْخِيَامِ وَقَدْ تَفَانَى أَهْلُهَا  
أَرَأَيْـتَ أُخـتاً قَـدَّمَتْ لِشَقِيْقِهَا   
فَـتَبَادَرْت مِـْنُه الدُّمُوعُ وَقَالَ يَا
فَبَكَتْ وَقَالَتْ يَا بْنَ أُمِي لِيْسَ لِي   
يَا نُورَ عَيْنِي يَا حُشَاشَةَ مُهْجَتِي
وَرَنَـتْ إِلَـى نَحْوِ الْخِيَامِ بِعَوْلَةٍ
قُومُوا إِلَى التَّوْدِيعِ إِنّ أَخِي دَعاَ
أَللهُ مَـا حَـالُ العَلِيْلِ وَقَدْ رَأَى
فَـيَقُومُ طَـوْراً ثُـمَّ يَـكْبُو تَارَةً
فَـغَدَا يُـنَادِي وَالـدُّمُوعُ بَوَادِرٌ
وَالـدَّمْعُ مِـنْ ذِكْرِ الْفِرَاقِ يَسِيْلُ
حُـْزناً فَـيَا لَيْتَ الْجِبَالَ تَزُولُ 
صَـرْعَى وَمِـنْهُمْ لَا يُبَلُّ غَلِيلُ   
إلّا نِـسَـاءٌ وُلَّـهٌ وَعَـلِـيلُ 
فَـرَسَ الْمَنُونِ وَلَا حِمًى وَكَفِيلُ
أُخْـتَاهُ صَـبْراً فَالْمُصَابُ جَلِيلُ      
وَعَلَيْكَ مَا الصَّبْرُ الجَمِيلِ جَمِيلُ    
مَـنْ لِـلْنِّسَاءِ الـضَّائِعَاتِ دَلِيلُ
عُظْمَى تَصُبُّ الدَّمْعَ وَهْيَ تَقُولُ
بِـجَـوَادِهِ إِنَّ الْـِفرَاقَ طَـِويلُ
تِـلْكَ الْـمَدَامِعَ لِـلْوَدَاعِ تَسِيلُ
وَعَـرَاهُ مِـنْ ذِكْرِ الوَدَاعِ نُحُولُ
هَلْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحُسَيْنِ سَبِيلُ
1
 
 

1- ابن نصّار، محمّد بن نصّار، النصاريّات الكبرى: ص58
 
 
 
253

246

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء1


تمهيد
إنّ التاريخ مرآة صافية للحصول على بعض الحقائق, ويُستفاد منه في علم الرجال وفي التراجم كثيراً, فإنّه وبدون الاستناد إلى التاريخ لن تكون ترجمة الأفراد ممكنة ومتيسّرة كما ينبغي. 

وفي هذه المقالة سنسعى إلى بحث عدّة أخطاء وقعت حول بعض الأفراد, ممّن قيل إنّهم في تعداد شهداء كربلاء. ونخلص في النتيجة إلى أنّ بعض الكتب الرجاليّة عدَّت بعض أعداء الإمام الحسين عليه السلام في من استُشهدوا معه في كربلاء. من هنا كان ينبغي القيام بمراجعة جامعة وعامّة ودقيقة حول تاريخ المعصومين عليهم السلام, خاصّة حول واقعة كربلاء.

مقدّمة
يُعتبر التاريخ المصدر الأساس في الحصول على الوقائع والأحداث الماضية, بهدف الوصول إلى الحقيقة. وهو يسهِّل ذلك الهدف بشكل كبير، كما ويقوم بدور كبير ومؤثّر في تسليط الضوء على العُقد الأساسيّة غير الواضحة.

وعلم الرجال يستند إلى التاريخ في المعرفة والتوثيق والتضعيف, وشرح أحوال وأخبار الأفراد, والتعرّف إلى النقيّ من غير النقيّ. وقد استفاد علماء الرجال بمراجعتهم المتون التاريخيّة المعتبرة في معرفة كثير من الرواة، ولا
 

1- إبراهيم صالحي نجف آبادي.
 
 
 
 
255

247

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 يزالون يستفيدون منه كذلك.


ورغم ذلك ولأسباب كثيرة, منها الرجوع إلى مصادر ضعيفة, وعدم التتبّع الدقيق واللازم, وعدم الرجوع إلى المصادر التاريخيّة القديمة, والاكتفاء بالمصادر المتأخّرة, و... فقد تجد في الكتب الرجاليّة أفراداً تمَّت ترجمتهم على غير حقيقتهم التاريخيّة. 

وفي بحثنا حول بعض شهداء كربلاء, استنتجنا أنّ بعض ما في الكتب الرجاليّة المتأخّرة, يخالف ما ورد في المصادر التاريخيّة المعتبرة, وهنا نشير إلى ثلاث فئات من أولئك الأفراد:
الفئة الأولى: من كان حاضراً في كربلاء برفقة الإمام الحسين عليه السلام, ولكنّه لم يُستَشهد, ورغم ذلك فقد أوردته بعض الكتب الرجاليّة المتأخّرة على أنّه في تعداد شهداء كربلاء, ومنهم عقبة بن سمعان.

الفئة الثانية: من كان منهم حاضراً في كربلاء, ولكنّه وقف ضدّ سيّد الشهداء في الحرب، وقد وردت أسماؤهم في بعض الكتب الرجاليّة المتأخّرة على أنّهم من جملة شهداء كربلاء، وقد كُتبت أسماؤهم في الروضة الحسينيّة بين أسماء شهداء كربلاء، ومنهم بكير بن حي, وأبو الجُنوب, وأخوه سعيد بن الحارث, وهلال بن نافع, ويحيى بن هاني.

الفئة الثالثة: من كان في إثبات حضوره في كربلاء إشكال واضح، وقد ورد في كتب الرجال المتأخّرة أنّهم من جملة أنصار الإمام الحسين عليه السلام، ولكنّهم وبعد سنوات من واقعة كربلاء كانوا في جملة من وقف في ساحة العمل السياسيّ مع أعداء أهل البيت عليهم السلام خدمة للظالمين. وقد ورد في بعض الكتب الرجاليّة أنّهم كانوا في جملة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام, وفي تعداد شهداء كربلاء، ومنهم جبلة بن عبد الله.
 
 
 
 
256

248

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 ومن الجدير القول, إنّ هذه الموارد لم ترد حصراً في الكتب الرجاليّة فحسب، بل وردت في كتب سيرة سيّد الشهداء كذلك، وفي بعض كتب دائرة المعارف, ولكنّنا في هذه المقالة سنحصر البحث في الكتب الرجاليّة. 


وهنا نعرض تفصيل آراء أصحاب الرجال ونقد ما يلزم نقده منها.

1- عُقبَة بن سِمعان
من جملة من صرَّح بعض الرجاليّين بشهادته في كربلاء, عُقبة بن سمعان. 

وبالرجوع إلى المصادر والمتون القديمة, فإنّ عقبة بن سمعان كان مولى للرباب، وكان برفقة الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى العراق وحتّى يوم عاشوراء, ولم يكن من جملة الشهداء في كربلاء بل وقع أسيراً في يد ابن سعد.

قال آية الله السيّد الخوئيّ:
عقبة بن سمعان:
من أصحاب الحسين عليه السلام، رجال الشيخ (27)، (ولم يصرح بشهادته). واستشهد بين يدي الحسين عليه السلام، ووقع التسليم عليه في الزيارة الرجبيّة. وعن بعض المؤرّخين من العامّة أنّه فرّ من المعركة ونجا1.

يقول آية الله نمازي أيضاً:
عقبة بن سمعان مولى رباب بنت امرئ القيس، من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام, وكان معه في كربلاء, واستشهد معه في يوم عاشوراء. كما ذكره في عداد الشهداء في الزيارة الرجبيّة وكذا في زيارة النصف من شعبان2.
 

1- الخوئيّ, معجم رجال الحديث, ج12, ص170.
2- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج5, ص248, رقم9434.
 
 
 
 
257

249

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 وقد صرَّح العلّامة المامقانيّ بأسره وعدم استشهاده ولذا فقد وقع في الشكّ والتردّد1.

 
وقد ذكره السيّد الخوئيّ في رجاله على أنّه من جملة أنصار الإمام الحسين عليه السلام, وذكره الطبريّ ومؤرّخون آخرون ممّن تكلّموا في واقعة كربلاء هذا الموضوع.

ونتيجة قولهم إنّ عقبة بن سمعان كان عبداً للرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام, وأنّه كان يحافظ على الخيل، وبعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ركب عقبة جواداً وفرَّ هارباً, فأسره أهل الكوفة ظنّاً منهم أنّ عقبة بن سمعان مولى الرباب بنت امرئ القيس الكلبيّة زوجة الإمام الحسين عليه السلام، ومن هنا تركوه. وكان من جملة رواة واقعة كربلاء، وكان ينقل بعض أخبار الواقعة, ومع ذلك فقد بقي حاله مجهولاً, بل قد تخلَّف عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام وهو ما يجعلنا نشكّ ونتردّد في حاله.

وقد ذكره في أسماء الشهداء السيّد ابن طاووس في الزيارة الرجبيّة2، والشهيد الأوّل أيضاً3 في زيارة الإمام الحسين عليه السلام وسائر الشهداء, وسلَّموا عليه. بينما لم يكن عقبة من الشهداء، بل إنّ عمر بن سعد أطلقه. فالقول إنّ الزيارة الرجبيّة والزيارة التي نقلها الشهيد الأوّل قد سلَّمت على غير الشهداء أيضاً, أمر مشكلٌ يصعب حلُّه.

ولكنَّ هذا الإشكال غير وارد، وذلك أنّه ورد في كلتا الزيارتين: "ثمّ التفت فسلَّم على الشهداء". وهذه العبارة تعني أنّ من سلَّم عليهم في الزيارة, كانوا من جملة الشهداء.
 

1- المامقانيّ, تنقيح المقال في علم الرجال, ج2, ص254, الطبعة الحجريّة.
2- ابن طاووس, إقبال الأعمال, ج3 ص344.
3- الشهيد الأوّل, المزار, ص151.
 
 
 
258

250

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 أضف إلى ذلك أنه قد ورد في الزيارة الرجبيّة السلام على جبلة بن عوف, وسليمان بن عوف الحضرميّ، وورد في المزار السلام على سليمان بن عوف الحضرميّ كذلك. وقد صرَّحت الكتب التاريخيّة القديمة وأرباب المقاتل بأنّ سليمان بن عوف الحضرميّ قاتل سليمان مولى الإمام الحسين عليه السلام, كما ذكروا أنّ جبلة بن عبد الله كان بعد واقعة كربلاء في عداد أعداء أهل البيت عليهم السلام.


أضف إلى ذلك كلّه, أنّ العلّامة التستريّ في ترجمته لعقبة بن سمعان, وبعد ذكر الحوادث التي نقلها عنه, وكلّها تشير إلى كونه حيّاً بعد عاشوراء، قال: والغريب أنّه (مع كونه حيّاً) قد ورد في الزيارة الرجبيّة: ثمّ التفت إلى الشهداء وقل: السلام على عقبة بن سمعان.

وهذا برغم كون عقبة ليس من جملة الشهداء، وذكر اسمه أو اسم جبلة بن عبد الله وسليمان بن عوف في تعداد الشهداء في الزيارة المذكورة لا معنى له، بل هو بعيد ولا يمكن حمله على وجه صحيح.

وينقل أبو مخنف والطبريّ عن عقبة بن سمعان قوله: صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكّة, ومن مكّة إلى العراق, ولم أفارقه حتّى قُتل, وليس من مخاطبته النّاس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق, ولا في عسكره إلى يوم مقتله إلّا وقد سمعتها, ألا- والله- ما أعطاهم ما يتذاكر النّاس وما يزعمون, من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية, ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين, ولكنّه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتّى ننظر ما يصير أمر النّاس1.
 

1- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص313.
 
 
 
259

251

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

وعليه فعقبة بن سمعان أحد رواة حوادث عاشوراء, وينقل عنه أبو مخنف في مقتله, والطبريّ في كتابه, وقائع عن حركة الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى يوم عاشوراء1, ومن جملة ذلك قصّة قصر بن مقاتل, ومنام الإمام الحسين عليه السلام, وأنّ ابنه عليّ الأكبر خاطبه بقوله: أولسنا على الحقّ2...

أو قصّة خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة, وممانعة رُسُل عمرو بن سعيد بن العاص. قال: عن عقبة بن سمعان قال: لما خرج الحسين من مكّة اعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص, عليهم يحيى بن سعيد, فقالوا له: انصرف أين تذهب؟! فأبى عليهم ومضى, وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط, ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويّاً, ومضى الحسين عليه السلام على وجهه, فنادوه: يا حسين! ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة؟!3..

أو قول الإمام للحرّ حين التقى به:.. وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا, وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم, وقدمت به عليّ رسلكم, انصرفت عنكم, فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر, فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان, أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ, فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنشرها بين أيديهم4.

ويتبيّن إلى هنا, أنّ عقبة بن سمعان كان من جملة من خرج مع الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى يوم عاشوراء، وأنّه كان بعد ذلك على قيد الحياة.
 

1- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص289.
2- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص308.
3- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص289.
4- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص303.
 
 
 
 
260

252

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 فيرد الإشكال على أولئك الذين قالوا إنّه استُشهد في كربلاء, ولا يصحّ أيضاً ما ورد في الزيارة الرجبيّة من قوله: ثمّ التفت فسلّم على الشهداء وقل: السلام على عقبة.. وعلى جبلة بن سليمان, وذلك أنّ عقبة نقل بعد كربلاء بعض حوادث ووقائع عاشوراء، وأنّ جبلة وسليمان كانا من جملة الأعداء.


وبالاستناد إلى المتون التاريخيّة, فإنّ عقبة بن سمعان أُسر يوم عاشوراء, وأطلقه عمر بن سعد لأنّه مولى الرباب، وعبارة التاريخ في هذا المورد هكذا: وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان, وكان مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبيّة, وهي أم سكينة بنت الحسين, فقال له: ما أنت؟ قال: أنا عبد مملوك, فخلّى سبيله, فلم ينج منهم أحد غيره1...

ويرجع هذا المتن إلى ما قبل سنة 157هجريّة, وعليه فإنّ عقبة بن سمعان لم يكن من جملة الشهداء, خلافاً لما ورد في بعض الكتب الرجاليّة المتأخّرة، بل كان بعد كربلاء على قيد الحياة.

2- بُكير بن حَي التيميّ
ومن جملة الأسماء التي وقع فيها الخطأ فذكرت من جملة الشهداء يوم كربلاء, اسم بكير.

ونشير إلى ما ورد في بعض الكتب الرجاليّة, ومن ذلك رأي العلّامة المامقانيّ وآية الله نمازي2 الذي كتب يقول: قال أهل السيرة: بكر بن حي بن تيم بن ثعلبة التيميّ، وهو من قبيلة بني تيم الله، وقد خرج إلى الحرب مع عمر بن سعد حتّى إذا اشتعلت الحرب مال إلى الإمام عليه السلام, فكان معه ودافع عنه ونال شرف الشهادة, وكتب العلّامة التستريّ بعد ذكر ذلك يقول: مستند هذا القول
 

1- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص347, وانظر: البلاذريّ, أنساب الأشراف, ج3, ص205.
2- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج2, ص51.
 
 
 
261

253

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 غير واضح لنستطيع النظر فيه.


ويظهر أنّ أوّل من عدَّ بكر بن حي في جملة الشهداء هو الفضيل بن الزبير, فذكره مع شرح مختصر في كتاب تسمية من قُتل مع الحسين عليه السلام1

وكتب حول هذا الموضوع يقول: وبكر بن حي من بني تيم بن ثعلبة وقد استُشهد. 

وقد ذكر هذا الموضوع صاحب الحدائق الورديّة2, ومن بعده جرى ذكره في باب الإضافات والنِّسب, وليس في كتب التاريخ فحسب, بل في سائر الكتب الأخرى.

ومن الجدير ذكره أنّه بناء على المصادر الأوليّة والمعتبرة, فإنّ اسم الشخص المذكور هو بكير لا بكر. وقد ورد في كتب السيرة والمقاتل القديمة أنّ اسم بكير كان في جملة جيش عمر بن سعد, وقد صرَّح أهل السيرة والمؤرّخون كأبي مخنف أنّ: شمر بن ذي الجوشن -وكان قائد ميسرة عمر بن سعد- حمل على ميسرة عسكر الإمام الحسين عليه السلام، وحمل هاني بن ثبيت الحضرميّ وبكير بن حي التيميّ, وهو من تيم الله بن ثعلبة, فاجتمعوا على عبد الله بن عمير الكلبيّ, وهو من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام, فقتلوه3.

وبناء على نقل المؤرّخين الأوائل فإنّ بكير بن حي كان من أعداء الإمام الحسين عليه السلام, وقد توجّه إلى كربلاء لقتاله، وقد اشترك على ما قالوا في قتل أحد أصحاب الإمام عليه السلام, وعليه، فلا وجه لوجود اسمه في جملة شهداء كربلاء.
 

1- مجلّة تراثنا, العدد الثاني, تسمية من قتل مع الإمام الحسين عليه السلام, تحقيق السيّد محمّد رضا الجلاليّ, ص154, رقم59.
2- المحلّى, حميد بن أحمد بن محمّد, الحدائق الورديّة في مناقب أئمّة الزيديّة, ج3, ص25.
3- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص332.
 
 
 
 
262

254

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 3- أبو الجنوب

من جملة من ورد اسمه في بعض كتب معرفة الرجال على أنّه أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام شخص باسم أبي الجنوب، (وقد ورد خطأ في الكتب باسم أبي الحتوف). وهو في الواقع من جملة أعداء الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وكان في جملة عسكر ابن سعد, رغم ذكر اسمه في تعداد الشهداء. ولكن بالاستناد إلى المتون التاريخيّة والمقاتل القديمة فإنّه من أعداء الإمام الحسين عليه السلام، وسنعرض فيما يلي بحثاً وإثباتاً لذلك.

كتب العلّامة المامقانيّ في تنقيح المقال حول الشخص المترجَم له يقول: 
أبو الحتوف، وقد مرَّ في ترجمة أخيه سعد بن الحرث بن سلمة الأنصاريّ العجلانيّ, بيان كونهما جميعاً من شهداء الطف رضوان الله عليهما, وكفى بذلك شاهداً على الوثاقة1.

وقد أكَّد هذا الكلام في ترجمة سعد بن الحرث بن سلمة أيضاً.

وكتب آية الله نمازي في الموضوع يقول: سعد بن الحارث بن سلمة الأنصاريّ أخو أبي الحتوف الجعفيّ, وقد خرج من الكوفة مع عمر بن سعد, فلمّا سمع مناشدة الإمام الحسين عليه السلام وسمع بكاء أهل بيته, التحق بالإمام الحسين عليه السلام ونال شرف الشهادة، يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً2.

وكتب المحقّق التستريّ يقول: أبو الحتوف, مرَّ في أخيه سعد بن الحارث الأنصاريّ كونهما من شهداء الطفّ, أقول: مرّ عدم إتيانه بمستند فليس بمعتمد3.
 

1- المامقانيّ, تنقيح المقال في علم الرجال, ج3, ص10, من فصل الكنى, الطبعة الحجريّة.
2- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج4 ص27.
3- التستريّ, قاموس الرجال, ج11, ص271.
 
 
 
 
263

255

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 وينبغي القول فيما ورد آنفاً من المواضيع المذكورة: إنّ عدَّه من جملة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام غير صحيح، وهو مخالف لما ورد في المتون التاريخيّة المعتبرة, وينبغي أن نذكر هنا عدّة نكات هامّة: 

أ- ورد في الكتب الرجاليّة والكتب الأخرى أنّ اسم والد سعد هو الحرث. وهو مخالف لما ورد في كتاب تسمية من قُتل مع الإمام الحسين عليه السلام, وهو من تأليف الفضيل بن الزبير, وهو متقدّم يرجع إلى القرن الثاني الهجريّ1, وقد ورد فيه أنّ اسمه هو سعد بن الحارث, لا سعد بن الحرث!. وعليه, فإنّه لا مجال لإثبات أخوَّتهما, وذلك أنّ اسم والد أبي الجنوب هو الحرث, واسم والد سعد هو الحارث.

ب- ينبغي الالتفات فيما يخصّ أبا الجنوب, أنّ اسمه عبد الرحمن بن زياد، ولذلك فلا رابطة أخوَّة بين سعد بن الحارث وبين عبد الرحمن بن زياد, أضف إلى ذلك, أنّ حضور عبد الرحمن في كربلاء هو من مسلّمات التاريخ، بينما لم يرد اسم سعد بن الحارث على أنّه من جملة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في أي كتاب معتبر.

ويمكن أن يُشكل على ذلك, بأنّه قد ورد في كتاب تسمية من قُتل مع الإمام الحسين عليه السلام وفي الحدائق الورديّة, اسم هذا الشخص في عداد شهداء كربلاء.

والجواب عنه: أنّ كتب الرجال والتاريخ صرَّحت بأنّ سعد بن الحارث الأنصاريّ قُتل مع الإمام عليّ عليه السلام في حرب صفّين2.
 

1- مجلّة تراثنا, العدد الثاني, تسمية من قتل مع الإمام الحسين عليه السلام, تحقيق السيّد محمّد رضا الجلاليّ, ص154.
2- أنظر على سبيل المثال: ابن الأثير, أسد الغابة في معرفة الصحابة, ج2, ص272, ابن عبد ربّه, الإستيعاب في معرفة الأصحاب, ج2, ص583, البغداديّ, محمّد بن حبيب, المحبّر, ص290, الطبريّ, المنتخب من ذيل المذيّل, ص146, ابن سعد, الطبقات الكبرى, ج5, ص82.
 
 
 
 
264

256

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 ج- فيما يخصّ أبا الحتوف أيضاً, لا بدّ من البحث فيه من وجهين: الأوّل: بالنسبة إلى كنيته. والثاني: هل إنّ ما قيل فيه من أنّه كان من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام مطابق للواقع أم لا؟.


فأمّا كنيته فينبغي القول: إنّ كنيته أبو الجنوب لا أبو الحتوف, ويظهر أنّ منشأ هذا الخطأ هو كتاب تسمية من قتل مع الإمام الحسين عليه السلام, حيث ذكر القصّة السالفة الذكر آنفاً, ثمّ سرى ذلك فيما بعد إلى كتاب الحدائق الورديّة في مناقب أئمّة الزيديّة, من تأليف حميد بن أحمد (م 652هـ. ق.) وإلى الكتب الرجاليّة كذلك.

وبناء على نقل أهل السيرة, وعلى ما ورد في الكتب التاريخيّة القديمة, فإنّ الشخص الذي كان حاضراً في كربلاء ووقف حاملاً سيفه ضدّ سيّد الشهداء عليه السلام هو أبو الجنوب.

وينقل الطبريّ (م 310هـ. ق) عن أبي مخنف قوله: ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن, أقبل في نفر نحو من عشرة من رجالة أهل الكوفة, قِبَلَ منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله, فمشى نحوه فحالوا بينه وبين رحله, فقال الحسين: ويلكم إن لم يكن لكم دين, وكنتم لا تخافون يوم المعاد, فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب, امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم, فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة, قال: وأقدم عليه بالرجالة, منهم أبو الجنوب واسمه عبد الرحمن الجعفيّ, والقشعم ابن عمرو بن يزيد الجعفيّ, وصالح بن وهب اليزنيّ, وسنان بن أنس النخعيّ, وخولي ابن يزيد الأصبحيّ, فجعل شمر بن ذي الجوشن يحرّضهم, فمرّ بأبي الجنوب وهو شاكٌّ في السلاح, فقال له: أقدم عليه, قال: وما يمنعك أن تقدم عليه أنت؟ فقال له شمر: ألي تقول ذا؟! قال: وأنت لي تقول ذا؟! فاستبَّا, فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعاً -: والله
 
 
 
 
265

257

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 لهممت أن أخضخض السنان في عينك, قال: فانصرف عنه شمر, وقال: والله لئن قدرت على أن أضرّك لأضرَّنك, قال: ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن, أقبل في الرجالة نحو الحسين, فأخذ الحسين يشدّ عليهم فينكشفون عنه, ثمّ إنّهم أحاطوا به إحاطة1...


ويكتب ابن الأثير في ذيل كلمة "الناجي" :... ناجية بن مالك بن حريم بن جعفى بطن من جعفى منهم أبو الجنوب لعنه الله وهو عبد الرحمن بن زياد بن زهير بن خنساء ابن كعب بن الحارث بن سعد بن ناجية شهد قتل الحسين عليه السلام وأخذ جملاً من جماله يستقي عليه الماء فسمّاه حسيناً2.

وأغار بعد العصر على ناقة للحسين عليه السلام, وكان يحمل عليها الماء ويسمّيها الحسين.

وعليه فإنّ اسم هذا الرجل هو عبد الرحمن بن زياد الجعفيّ، وكنيته أبو الجنوب لا أبو الحتوف, كما ورد في الكتب الرجاليّة المذكورة.

وهنا نكتة أخرى مفادها أنّه وفي يوم عاشوراء في كربلاء وبعد سقوط الإمام الحسين عليه السلام إلى الأرض أمر الشمر الملعون بالحملة.. ويكتب ابن شهر آشوب (م 588) حول ذلك قائلاً: 
فقال شمر: ما وقوفكم وما تنتظرون بالرجل وقد أثخنته السهام؟! احملوا عليه, ثكلتكم أمّهاتكم، فحملوا عليه من كلّ جانب، فرماه أبو الحتوف الجعفيّ في جبينه، والحصين ابن نمير في فيه، وأبو أيوب الغنويّ بسهم مسموم في حلقه. فقال عليه السلام: بسم الله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله3..
 

1- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص344.
2- ابن الأثير, اللباب في تهذيب الأنساب, ج3, ص287.
3- ابن شهر آشوب, مناقب آل أبي طالب, ج3, ص258.
 
 
 
266

258

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 وينقل الخوارزميّ (م 568هـ. ق.) في مقتله, أنّ أبا الحتوف رمى الإمام بسهم في جبهته الشريفة1... وقد نقل كثير من المتقدّمين وأهل السيرة هذه القصّة, وذكروا أسماء بعض من وردت أسماؤهم فيما سبق, ولكن لم يذكر أحد منهم اسم أبي الحتوف.


وينبغي القول في وجه جمع بين أطراف البحث أنّه: بالالتفات إلى بعض المصادر الأوّليّة المعتبرة, التي أوردت أن أبا الجنوب كان إلى جانب شمر عصر يوم عاشوراء, وأنّه كان يحادثه أو أنّه كان شاهد قتل الإمام، وبالتأمّل في الكتب التي لم تذكر اسمه يمكن القول: 
إنّ أبا الجنوب كان شهد قتل الإمام عليه السلام, وبالاستناد إلى ما ورد في كتب السيرة فإنّ أبا الجنوب كان من جملة أعداء الإمام الحسين عليه السلام, وبالتالي فإنّ ذكر اسمه في عداد شهداء كربلاء وأنّه كان ممّن فدى الإمام الحسين عليه السلام غير صحيح, ولذا فإنّ ما ورد في الكتب الرجاليّة بحاجة إلى إعادة النظر بشكل جدّي.

د- سعيد بن حارث الأنصاريّ كتب المامقانيّ في ترجمته لسعد بن الحرث بن سلمة: وهذا الرجل هو وأخوه أبو الحتوف2 وكانا في الكوفة رأيهما رأي الخوارج فخرجا مع عمر بن سعد إلى حرب الحسين عليه السلام فلمّا سمعا استنصاره وصريخ النساء والأطفال لسماع استنصاره نالتهما الهداية الإلهيّة وتوفيق السعادة فقالا: إنّا نقول لا حكم إلّا لله ولا طاعة لمن عصاه، وهذا الحسين بن بنت نبيّنا محمّد ونحن نرجو شفاعة جدّه يوم القيامة, فكيف نقاتله وهو بهذا الحال لا ناصر له ولا معين؟! فمالا بسيفيهما بين يديه
 
 

1- الخوارزميّ, مقتل الحسين عليه السلام, ج2, ص38.
2- جاء في هامش تنقيح المقال: هو غير أبي الحتوف الجعفيّ الملعون الضارب للحجر, منه قدس سره.
 
 
 
267

259

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 على أعدائه, وجعلا يقاتلان قريباً منه, حتّى قتلا جمعاً وجرحا آخرين, ثمّ قُتلا معًا في مكان واحد، رضوان الله عليهما1, وختم لهما بالسعادة الأبديّة بعد ما كانا من المحكِّمة، وإنّما الأمور بخواتيمها.


وكتب آية الله نمازي في هذا الصدد يقول: 
سعد بن الحرث وأخوه أبو الحتوف خرجا من الكوفة مع عمر بن سعد, ولمّا سمع سعد وأخوه أبو الحتوف النداء من الحسين والصراخ من عياله التحقا به، يا ليتني كنت معهم فافوز فوزاً عظيماً2.

وينبغي الالتفات والتذكير بأنّه طبقاً لما ورد في تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام, وهو من أوّل المصادر في هذا الموضوع, ذكر أنّ اسم هذا الرجل هو سعد بن الحارث3, لا سعد بن الحرث, الذي صرَّح به بعض الأعاظم. وبغضّ النظر عن ذلك, فإنّه- كما سبق- كان أبو الجنوب حاضراً في كربلاء وقاتل الإمام عليه السلام, ولكن هل كان سعد حاضراً في كربلاء أم لم يكن كذلك؟. وأنّه هل كان مع سيّد الشهداء؟ أو كان من جملة جيش عمر بن سعد؟. وهذا ما لم يرد حوله كلام ثابت في المصادر القديمة والمعتبرة.

وقد ورد في تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام للفضيل, وهو ممّا تفرَّد به. ومن هنا فلا يمكن الاعتماد عليه.

وقد أخذ عنه ذلك مؤلّف الحدائق الورديّة4, أضف إلى ذلك أنّنا قلنا أنّهما لم يكونا أخَوَين.
 

1- المامقانيّ, تنقيح المقال في علم الرجال, ج2, ص12, الطبعة الحجريّة.
2- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج4, ص27.
3- مجلّة تراثنا, العدد الثاني, تسمية من قتل مع الإمام الحسين عليه السلام, تحقيق السيّد محمّد رضا الجلاليّ, ص154.
4- المحلّى, حميد بن أحمد بن محمّد, الحدائق الورديّة في مناقب أئمّة الزيديّة, ج3, ص25.
 
 
 
268

260

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 وبشهادة التاريخ فقد ورد اسم رجل واحد باسم سعد بن الحارث الأنصاريّ, وقد استُشهد مع أمير المؤمنين في حرب صفّين.


وقد صرَّح ابن سعد (م 230هـ. ق.) في بيان نسب سعد بن الحارث, فقال: سعد بن الحارث قُتل مع أمير المؤمنين في حرب صفّين1.

وقد صرَّح بعض الأعاظم بأنّ: سعد بن الحارث أدرك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقتل في حرب صفّين2, وعليه، فلا معنى لما ذُكر أنّ سعداً قتل في وقعة الطفّ. وقد يُقال إنّ المقصود من سعد رجل آخر غير سعد هذا, وهو شخص آخر باسم سعيد بن الحارث الأنصاريّ.

وهذا الكلام صحيح أيضاً, وذلك أنّ سعيد بن الحارث الأنصاريّ كان من مشاهير التابعين وقد عُمّر طويلاً ومات سنة 120 هجريّة تقريباً3.

والنتيجة أنّ كلام مؤلّف تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام, والمؤلّفات التي اتبعته على ذلك, التي ذكرت أخوَّته مع أبي الحتوف (أبو الجنوب) وحضوره في كربلاء, وتحولّه إلى معسكر الإمام الحسين عليه السلام و... كلّه غير صحيح أصلاً. وكذلك لا صحّة لعدِّه في جملة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام.

هـ يحيى بن هاني : عدَّ بعض متأخّري علم الرجال يحيى من جملة شهداء كربلاء, وبدون أي مستند يُذكر4. ولكن هذا القول مخالفٌ لما ورد في المتون التاريخيّة القديمة.
 

1- ابن سعد, الطبقات الكبرى, ج5, ص82.
2- الأمينيّ, الغدير, ج9, ص365.
3- الذهبيّ, سير أعلام النبلاء, ج5, ص164.
4- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج8, 238.
 
 
 
269

261

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 كتب العلّامة المامقانيّ حول الموضوع يقول:

يحيى بن هاني بن عروة المراديّ العطيفيّ - نسبة إلى بني عطيف بطن من مراد- وقد ذكر أهل السير: أنّه لمّا قتل هاني مع مسلم بن عقيل فرّ ابنه يحيى واختفى عند قومه خوفاً من ابن زياد, فلمّا سمع بنزول الحسين عليه السلام بكربلاء, جاء وانضمّ إليه ولزمه إلى أن شبّ القتال يوم الطفّ، فتقدّم وقتل من القوم رجالاً كثيرة، ثمّ نال شرف الشهادة رضوان الله عليه1.

ويقول آية الله نمازي مستنداً إلى كلام المامقانيّ: يحييى بن هاني بن عروة المراديّ, من شهداء الطفّ كما ذكره العلّامة المامقانيّ2.

ولكنّنا عند مراجعة الكتب القديمة, نجد أنّ يحيى لم يكن من الشهداء، وليس ذلك فحسب، بل كان من جملة رواة حوادث كربلاء أيضاً! أضف إلى ذلك, أنّه كان في كربلاء من جملة أصحاب عمر بن سعد, ووقف ضدّ الإمام الحسين عليه السلام. وهو في كتب الفريقين من رواة أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وقد نقل بعض حوادث كربلاء, ومنها حملة نافع بن هلال, أو بعض حوادث ثورة المختار الثقفيّ. وعليه، لا يمكن أن يكون يحيى بن هاني في عداد شهداء كربلاء. أضف إلى ذلك, أنّ إثبات كونه ابن هاني بن عروة, الشخص المعروف, هذا نفسه أمر يحتاج إلى مزيد من الدّقّة والتأمّل.

و- هلال بن نافع: يكتب آية الله نمازي قائلاً: لم يذكر الرجاليّون اسمه، ولكنّه من شهداء كربلاء.

فقد نقل السيّد أنّ هلال ابن نافع قال للإمام الحسين عليه السلام: والله ما
 

1- المامقانيّ, تنقيح المقال في علم الرجال, ج3, ص322, الطبعة الحجريّة.
2- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج8, ص239.
 
 
 
270

262

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 كرهنا لقاء ربّنا إنَّا على نيّاتنا و بصائرنا1. وعلى ما في المناقب فهي كلمات تدلّ على كمال وعظمة قائلها. وهو الذي خرج إلى المشرعة في جوف الليل برفقة العبّاس عليه السلام لطلب الماء, وكان له كلام مع عمرو بن الحجّاج2.


وهو ممّن ذكرهم الإمام الحسين عليه السلام, حينما ناشد الأصحاب نصرته وهم على الثرى, وذلك على ما أشار إليه أبو مخنف في مقتله.

وهلال بن نافع هذا غير نافع بن هلال الذي كان في عسكر عمر بن سعد, وطلب من عمر أن يأتي ببعض الماء للإمام الحسين عليه السلام، وليس هو من نقل صورة الإمام الحسين عليه السلام وهو يجود بنفسه في آخر لحظات حياته الشريفة3.

يقول ابن نما الحلّي في مثير الأحزان: فبينا الحسين عليه السلام في الطريق, إذ طلع عليه ركب أقبلوا من الكوفة, فإذا فيهم هلال بن نافع الجمليّ وعمرو بن خالد فسألهم عن خبر النّاس فقالوا: أمّا - والله - الأشراف فقد استمالهم ابن زياد بالأموال فهم عليك, وأمّا سائر النّاس فأفئدتهم لك وسيوفهم مشهورة عليك4...

وفي قصّة كربلاء كذلك كان هلال بن نافع في عسكر ابن سعد، وهو من نقل ما كانت عليه شهادة الإمام عليه السلام في لحظاته الأخيرة، قال:
إنّي لواقف في عسكر عمر بن سعد إذ صرخ صارخ: أبشر أيّها الأمير, قد قُتل الحسين, فبرزت بين الصفّين وأنّه ليجود بنفسه, فو الله ما رأيت أحسن منه, ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيبته عن الفكرة في قتله. وطلب منهم ماء
 

1- ابن طاووس, الملهوف على قتلى الطفوف, ص138.
2- المجلسيّ, بحار الأنوار, ج44, ص388.
3- الحلّي, ابن نما, مثير الأحزان, ص57.
4- الحلّي, ابن نما, مثير الأحزان, ص31.
 
 
 
271

263

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 فقال له رجل: والله لا تذوقه حتّى ترد الحامية, فتشرب من حميمها, فقال: بل أرد على جدّي رسول الله, وأسكن معه في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وأشرب من ماء غير آسن, وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي. فغضبوا بأجمعهم حتّى كأنّ الرحمة سُلبت من قلوبهم1.


وهذا الكلام لم نجده في كتب التاريخ كالطبريّ, ولكن ذكره ابن نما الحلّي والسيّد ابن طاووس2. فإذا بنينا على قبول واحد منهما, فالرأي أنّ قولهما له من الاعتبار ما ليس لغيرهما من الكتَّاب الآخرين.

والمسألة الأخرى القابلة للتأمّل في كلام آية الله نمازي, هي استناده إلى كلام أو بعبارة أوضح استناده إلى مجلس عزاء مجعول ومنسوب بعد سنوات طويلة من كربلاء, وهو لا يعدو سوى مجلس عزاء انتصاراً لسيّد الشهداء.

نسبة إلى سيّد الشهداء غير صحيحة 
ينسب بعضهم - ومنهم آية الله نمازي - موضوعاً إلى سيّد الشهداء هو أكثر شبهاً بمجالس العزاء منه إلى المتن والحقيقة التاريخيّة، فمن الأدلّة التي أوردها واستند إليها في إثبات استشهاد هلال بن نافع ما يلي:
وهو ممّن ذكره الحسين عليه السلام حين الاستنصار، كما نقله أبو مخنف في مقتله3.

ولبيان حقيقة الأمر ينبغي القول إنّ عدداً من المتأخّرين يعتقدون أنّ الإمـام الحـسـين عليه السلام نظر حوله يوم عاشوراء ثمّ نادى: يا مسلم بن عقيل... ويا هلال بن نافع... يا فرسان الصفاء ويا أبطال الهيجاء!. ما لي أناديكم فلا
 

1- الحلّي, ابن نما, مثير الأحزان, ص57.
2- الحلّي, ابن نما, مثير الأحزان, ص57, ابن طاووس, اللهوف, ص75- 76.
3- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج8, 166.
 
 
 
272

264

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 تسمعون... ولا تجيبون...


وهذا الكلام لا وجود له في أي كتاب معتبر وقديم, وبناء على ما وجدناه فإنّ منشأ هذا الكلام هو كتاب ناسخ التواريخ وهو من تأليف الميرزا محمّد تقي سبهر (م 1297). وقد أورده بدون دليل يستند إليه, وحتّى لو كان دليلاً ضعيفاً.

قال نقلاً عن الإمام الحسين عليه السلام, تحت عنوان "استغاثة الحسين بالشهداء من أصحاب القلوب الحيّة":
وعند ذلك نظر يميناً وشمالاً فرأى أخوانه وأولاده على الثرى وغارقين في الدما، فنادى: يا مسلم بنعقيل، ويا هاني بن عروة، ويا حبيب بن مظاهر، يا زهير بن القين، يا يزيد بن مظاهر، يا يحيى بن كثير، يا هلال بن نافع، يا إبراهيم بن حصين، يا عمير بن مطاع، يا أسد الكلبيّ، يا عبد الله بن عقيل، يا مسلم بن عوسجه، يا داود بن طرماح، يا حرَّ الرياحيّ ويا عليّ بن حسين، ياأبطال الصفا ويا فرسان الهيجا, ما لي أناديكم فلا تجيبون؟!. وأدعوكم فلا تستجيبون؟!. أأنتم نائمون، أم عن نصرة إمامكم تقصّرون؟!. هذه نساء الرسول قد أصابهنَّ الذبول، وعلاهنَّ لفقدكم النحول. يا كرام. قوموا من نومكم ودافعوا عن حرم الرسول وادفعوا الطغاة اللئام، كلّا بل صرعكم ريب المنون وغدر بكم الدهر الخؤون وإلّا فأنتم عن نصرتي لا تقصرون،... وبكم لاحقون وإنّا لله وإنّا إليه راجعون1.. 

فأمّا قول المرحوم سبهر فهو غير قابل للاعتماد, وليس في هذا المورد فحسب, بل في أكثر من مورد آخر كذلك. وذلك للأسباب التالية:
 

1- سبهر, الميرزا محمّد تقي, ناسخ التواريخ, حياة الإمام سيّد الشهداء الحسين عليه السلام, ج2, ص449, ترجمة وتحقيق سيّد عليّ جمال أشرف.
 
 
 
 
273

265

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 1- عدم دقّة الكاتب في ضبط الأسماء, فجعل مثلاً عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ عبد الله الحرّ.


3- عدم ذكره للمصدر من تاريخ معتبر وفي موارد كثيرة ومنها في مورد البحث.

4- ذكره مواضيع لم ترد في التواريخ المعتبرة.

5- كتب مؤلّف ناسخ التواريخ هنا يقول: إنّ الإمام الحسين عليه السلام خاطب أصحابه وهم غارقون بالدماء: لِمَ لا تسمعون. بينما نجد أنّ مسلم بن عقيل وهاني بن عروة قُتلا في الكوفة. فعبارة ما لي أناديكم فلا تجيبوني، وأدعوكم فلا تسمعون؟! أنتم نيام أرجوكم تنتبهون, لا معنى لها في المقام حيث الخطاب لمن كان في كربلاء غارقاً في دمه.

وبناء على هذا النقل فإنّ سيّد الشهداء عليه السلام خاطب الشهداء بقوله: بل غدر بكم الدهر الخؤون. بينما شأن الإمام وصبره أرقى من أن يتهم الأيّام بالخيانة.

أخطأ المرحوم سبهر في كتابه خطأ آخر, فذكر أنّ هلال بن نافع من جملة شهداء كربلاء, بينما هلال بن نافع كان من أصحاب عمر بن سعد, وقد نقلوا عنه بعض ما جرى في كربلاء. 

والمقصود أنّ صاحب ناسخ التواريخ وفي النصّ المتقدّم ذكر هلال بن نافع, فجعله مورد خطاب الإمام أن: قم فانصر إمامك, وذلك بزعم أنّه من شهداء كربلاء. وعليه فلا تصحّ نسبة هذا النصّ إلى الإمام الحسين عليه السلام. وإن كان لسان الحال فهو جيّد, لكن شرط أن يُحذف منه أمثال هلال بن نافع.

ودليل آخر ذكره آية الله نمازي ومفاده أنّ هلال بن نافع "هو من خرج في جوف الليل إلى المشرعة برفقة العبّاس عليه السلام لطلب الماء وتكلّم مع عمرو بن الحجّاج"1.
 

1- النمازيّ الشاهروديّ, الشيخ عليّ, مستدركات علم رجال الحديث, ج8, 166.
 
 
 
274

266

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 بينما نجد أنّه طبقاً للنقل التاريخيّ المعتبر, كان المذكور نافع بن هلال لا هلال بن نافع، وكان بعد كربلاء وواقعة عاشوراء على قيد الحياة، وقد شهد آخر لحظات من عمر الإمام الحسين عليه السلام وتحدّث عن ذلك.


من هنا فإنّ قول بعض الرجاليّين المبنيّ على استشهاد هلال بن نافع مع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام قول غير قابل للقبول.

ز- جبلة بن عبد الله: استند بعض الرجاليّين من المتأخّرين إلى الزيارة الرجبيّة, فعدُّوا جبلة بن عبد الله في عداد شهداء كربلاء1. فقد ذكرت بعض كتب الرجال أنّ: "جبلة بن عبد الله فدى بروحه إمام زمانه وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولذا فممّا يليق به جعله في أعلى مراتب الوثاقة والتجليل والاحترام". وقد ذكروا أنّ منشأ هذا الكلام ومنبعه الأساس هو السلام الوارد في الزيارة الرجبيّة: السَّلامُ عَلى جَبَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللّه.

ويرى أولئك الرجاليّون أنّ جبلة بن عبد الله من جملة أتباع أهل البيت عليهم السلام, ومن جملة شهداء كربلاء. ولكن هذا الكلام لا يصحّ أصلاً, بل هو مخالف لما ورد في المتون التاريخيّة المعتبرة، والدليل على ذلك أمران:

الأمر الأوّل: حول متن ومصدر هذا الادعاء أساساً يعني الزيارة الرجبيّة, وهي المصدر الوحيد الذي استند إليه المتأخّرون, ممّن جعل أحد أعداء أهل البيت عليهم السلام في جملة شهداء كربلاء. 

كما أنّ كافّة الكتَّاب المذكورين استندوا فعلاً إلى الزيارة الرجبيّة في التصريح بهذا القول.
 

1- الخوئيّ, معجم رجال الحديث, ج4, ص354.
 
 
 
275

267

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 نظرة موجزة إلى الزيارة الرجبيّة

يُحتمل بشكل قويّ أنّ السيّد ابن طاووس كان أوّل من ذكر الزيارة الرجبيّة في كتابه إقبال الأعمال, ولم يسندها إلى أي راوٍ أو إمام, قال: هذه الزيارة ممّا يزار بها الحسين عليه السلام1.

وقد نسب العلّامة المامقانيّ في ذيل اسم عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب هذه الزيارة إلى الإمام, حيث قال عنه إنّه نال شرف تسليم الإمام عليه السلام في الزيارة الرجبيّة2. وقد سلَّم عليه الإمام في الزيارة الرجبيّة.

ويظهر أنّ هذا الكلام لا يصحّ, وذلك لأنّ السيّد ابن طاووس لم ينسب هذه الزيارة إلى إمام ولا إلى غيره, فَنَقْلُ الزيارة عن لسانه هو على أنّها زيارة معتاد عليها في زمانه, فقد قال: "فيما نذكره من لفظ زيارة الحسين عليه السلام في النصف من شعبان، أقول: إنّ هذه الزيارة ممّا يزار بها الحسين عليه السلام أوّل رجب أيضاً"3...

وكما سبق وأشرنا, فإنّ السيّد لم يذكر نسبة الزيارة إلى أي إمام أو أي أحد آخر أو ناحية, ويُحتمل بشكل قويّ أن تكون ألفاظ هذه الزيارة ممّا يزار به الحسين عليه السلام, وقد أُخذ ممّا تتداوله الألسن. ولهذا فإنّ السيّد الخوئيّ في ذيل اسم سعد بن عبد الله, عدَّ سعداً من جملة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام, فقال: "... وفي الزيارة الرجبيّة: سعيد بن عبد الله الحنفيّ وسندها أيضاً ضعيف"4. وبرأيي أنّ الزيارة لا سند لها أصلاً ليصل الدور إلى البحث في
 

1- ابن طاووس, إقبال الأعمال, ج3 ص341.
2- المامقانيّ, تنقيح المقال في علم الرجال, ج2, ص240- 241, الطبعة الحجريّة.
3- ابن طاووس, إقبال الأعمال, ج3 ص341.
4- الخوئيّ, معجم رجال الحديث, ج9, ص76.
 
 
 
 
276

268

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 القوّة والضعف. ومن ناحية أخرى فقد وقع التسليم في هذه الزيارة على عقبة بن سمعان بينما هو لم يكن من الشهداء, بل خلّى سبيله عمر بن سعد كما ذكرنا. 


أو وقع التسليم كذلك على بعض أعداء أهل البيت, كجبلة بن عبد الله وسليمان بن عوف, ومن ذلك يلاحظ أيضاً سهو القلم أو اللسان في هذه الزيارة وليس محلّ بحثه في هذا الكتاب.
وهكذا يتبيّن أنّ هذه الزيارة غير قابلة للاستناد عليها للحصول على أسماء شهداء كربلاء وحتّى مع قوله ثمّ التفت فسلَّم على الشهداء.

الأمر الثاني: أنّه بمراجعة الكتب التاريخيّة القديمة والمعتبرة نجد أنّ:
جبلة بن عبد الله عاش في عصر الإمام الحسين عليه السلام وعصر الإمام السجّاد عليه السلام, خلافاً لما هو المدّعى هنا, ولم يكن من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام أصلاً، بل وكان بعد واقعة كربلاء وعند قيام ثورة التوّابين بقيادة سليمان بن صرد, قائداً من قادة جيش عبيد الله بن زياد يومذاك. ثمّ إنّ جبلة بن عبد الله كان قائد ميمنة الجيش, وكان في جمادى الأولى من سنة 65 (هـ. ق.) تحت قيادة ابن زياد مع حصين بن نمير وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميريّ، وأدهم بن محرز باهليّ وربيعة بن مخارق الغنويّ, وهم جميعاً من ألدّ أعداء أهل البيت عليهم السلام فواجهوا التوّابين في معركة عين الوردة.

ومن الجدير بالذكر أنّه بإضافة كنية الخثعميّ إلى جبلة بن عبد الله, يمكن التفريق بين جبلة بن عبد الله, وجبلة بن عبد الله الخثعميّ الذي كان في عِداد شهداء كربلاء, وكان من محبّي أهل البيت عليهم السلام، بينما كان جبلة بن عبد الله من أشدّ أعدائهم.

وقد ذكر المؤرّخ الكبير الطبريّ في ذيل حوادث سنة 65 (هـ. ق.), عند
 
 
 
 
 
277

269

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 كلامه حول قصّة التوّابين وما جرى عليهم, اسم جبلة بن عبد الله بإضافة الخثعميّ إليه1، وبعد عدّة صفحات ذكر اسم جبلة بن عبد الله بدون كنية الخثعميّ2.


وكذلك ابن الأثير في حوداث نفس السنة, ذكر اسم جبلة بن عبد الله بإضافة الخثعميّ إليه3، وبعد صفحتين ذكره بدون كنية الخثعميّ4. وعليه فإنّ جبلة بن عبد الله بإضافة الخثعميّ إليه أو بدون تلك الإضافة, هو من جملة أعداء أهل بيت الرسالة عليهم السلام وليس من جملة شهداء كربلاء.

وقد كان جبلة بن عبد الله على قيد الحياة بعدها, وكان يعتاش من خدمته لأعداء أهل البيت عليهم السلام.

وخلاصة القول بالنسبة إلى الزيارة الرجبيّة: إنّ الرجاليّين لا يستطيعون الاعتماد عليها, ولا سيّما أنّه قد صرَّح بتضعيفها بعض الأعاظم, وهي في مصدرها الأصلي لم يسندها المؤلّف إلى أي إمام، وأنّ اسم هذا الشخص ورد في جملة أعداء أهل البيت عليهم السلام.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ التاريخ صرَّح أنّ هذا الشخص كان سنة 65 هجريّة في عداد أعداء أهل البيت عليهم السلام.

ومن هنا فإنّ ما ذكره بعضهم من أنّه ينبغي عدّ هذا الرجل في أعلى مراتب الوثاقة والجلالة, كلام غير مقبول ولا يمكن توجيهه.
 

1- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص461.
2- الطبريّ, تاريخ الطبريّ, ج4, ص464.
3- ابن الأثير, الكامل في التاريخ, ج4, ص180.
4- ابن الأثير, الكامل في التاريخ, ج4, ص182.
 
 
 
 
278

270

تصحيح لبعض الأسماء من شهداء كربلاء

 النتيجة

بناء على ما ذكرنا فإنّنا نستطيع القول إنّ علم الرجال علم تخصّصي، وإنّ كلّ من يضع قدمه في هذا الوادي- إضافة إلى كونه مكتسباً للمقدّمات اللازمة لهذا العلم- عليه أن يرجع إلى المصادر القديمة الأوّليّة, والمصادر المعتبرة والقويّة فيترجم الأفراد بتتبّع دقيق.

ويظهر أنّه في ترجمة الأفراد لا يكفي الاستناد إلى المصادر المتأخّرة، بل قد يكون في بعض الموارد مشكلاً جدّاً. وإنّ ما تقدّم إلى الآن كان حول شهداء كربلاء، بينما لا يخفى أنّ علم الرجال يتناول ترجمة أفرادٍ من الصحابة إلى القرون التالية بعد الهجرة.

وقد وقعت هذه الأخطاء كذلك في ترجمة صحابة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, وقد كتب العلّامة العسكريّ كتاباً عنوانه مئة وخمسون صحابيّاً مُختَلَقاً, وعلى الأقلّ فلا بدّ من التتبّع الدقيق والوسيع على هذا المنوال فيما يرجع أصحاب المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام.

وعلى أيّة حال, فإنّ التاريخ في أكثر من مورد يُعتبر مرآة لكافّة الأفراد, بل هو مؤثّر في ترجمة الأفراد في علم الرجال, ويعمل على حلّ العقد العالقة, وعلى الرجاليّين قبل الشروع في كتابة التراجم أن يلتفتوا إلى التاريخ بعمقٍ وبحث واسع أيضاً, لكيلا يضعوا العدوّ الملعون في منزلة الشهيد في كربلاء، وأن لا يُثبتوا الاسم من الزيارات المنقولة، وألّا يثبتوا الاسم كذلك من مجالس العزاء!.

والكلمة الأخيرة أنّ الواقع أمر مشكلٌ جدّاً، بل ويذهب إلى أوسع ممّا تصوّرناه مشكلاً، وبقليل من التأمّل فيما ذكرناه يتبيّن أنّ هذه الفئة من الرجاليّين المحترمين قد صرَّحوا بما نقلناه بسبب اعتمادهم على المصادر الضعيفة كالزيارة الرجبيّة، وباستنادهم الصرف إلى بعض الكتب الرجاليّة المتأخّرة وعدم الرجوع إلى كتب التاريخ.
 
 
 
 
 
 
279

271
(4) نهضة عاشوراء