ملحمة تلّة برهاني


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-04

النسخة: 2017


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 إشارة

يتحدّث سماحة الإمام الخامنئي عن الوجه الآخر لمكتسبات الحرب، الثقافية والأدبية، ويوصي بالعمل على استخراجها، والحفاظ عليها، وتبيين موقعها في مصادر قوة المجتمع وثروات البلاد. ففي "أمسية ذكريات الحرب" تحدّث سماحته مع الكتّاب وأهل الفن والأدب حول ذكريات الحرب ودور العاملين عليها قائلًا: "..هذه الكتب التي تُؤلَّف مهمّة، هي كتبٌ قيّمة، وليست مجرد أعمالٍ فنية وحسب.. هذا الفيلم الذي يخرجه هذا السيد، وهذا الكتاب الذي يكتبه ذلك السيد، هو في الواقع، بمنزلة ضخّ إسمنتٍ في هذه الأركان والأعمدة وجعلها أكثر متانةً وخلودًا.. هذه الذكريات ثروة وطنية، وليست ملكًا للشخص الذي رواها، بل هي ملكٌ للجميع. يجب على الجميع أن يرووا هذه الذكريات، يجب أن يكتبوها ..يجب ذكر أصل الواقع كما هو، وكما حدث فعلًا. إنّ ما وقع هو فاخرٌ وجميلٌ وإعجازيّ إلى درجةٍ لا يحتاج معها إلى أيّ مبالغة.. ينبغي الحديث والرواية بالشيء الذي حدث، وإحياؤه، واستخدام الأساليب الفنيّة من أجل التعبير الأبلغ والبيان الأفضل.. وليعلم الذين يقومون بأعمال في هذا المجال- سواء في مجال الكتابة والأدب، أو في مجال الأفلام والسينما وأمثالها - أن هذا العمل الذي يقومون به إنما هو حسنة، إنّه إنفاق معنوي كبير. إنكم تمنحون الرزق للناس.. إنكم واسطة الرزق الإلهي والرزق 
 
 
 
 
7

1

مقدمة

 المعنوي لهم. اعرفوا قدر هذا الأمر!.."1.


مضافًا إلى وصاياه في مناسبات أخرى2 وملاحظاته الدقيقة التي يدوّنها على مجموعة مختارة من كتب روايات الدفاع المقدس، يظهر بوضوح أنّه يرى هذا القضية من المسلّمات، ويُظهِر بشأنها هواجسَ عديدة، لعلّ أهمها:
- رواية هذه الذكريات وتدوينها، وقد عدّها كنوزًا وثروات، يجب الحفاظ عليها واستثمارها كنتاجات ثقافية، "حتى لا نضطر إلى الاستيراد من الخارج"، واعتبرها من أيام الله التي يجب التذكير بها دائماً.

- إخراجها وتظهيرها بقوالب أدبية وفنية بأفضل الطرق والأساليب، وقد اعتبر هذا العمل حسنةً ورزقًا معنويًا كبيرًا، وإنفاقًا على الناس،..وأنها من الأمور التي توجب ازدهار الفن والأدب، حيث قال سماحته:.. "فأجمل الروايات وأفضل الأفلام، ولعله أجمل الشعر، قد أُنشد وقيل وأُنتج وظهر في زمن الحرب وبمناسبة الحروب.. ".

- ترجمتها ونشرها وترويجها، إذ قال:.. "عندما أقرأ هذه الأعمال، أعتقد أنه لو نشرنا هذه الكتيّبات والكتب، بغية تعريف العالم إلى مفاهيم الثورة فلن يكون ذلك عملًا قليلًا..". وكذلك دعوته الدائمة إلى إحياء قيمة القراءة وترويج عادة المطالعة في المجتمع أضعافًا مضاعفة، تقتضي الترويج والنشر، فهذا رزق الناس-كما عبر سماحته- فكيف نوصله إليهم؟!.
 

1- كلمته في أمسية ذكريات الحرب مخاطبًا الفنانين والكتاب والرواة والمخرجين السينمائيين في (24-5-2017م)، في ذكرى تحرير خرمشهر..
2- يراجع : كتاب نسائم الذكريات الندية (2017)، و"أنا والكتاب" (2012)، دار المعارف الإسلامية الثقافية.
 
 
 
8

2

مقدمة

 القارئ العزيز، دأبَ أعداءُ الثورة الإسلامية، على محاربتها في المحاور والميادين، خلال الحرب المفروضة عليها. ثم عملوا بكل قدراتهم وملء مكرهم، على منع وصول أخبار وقيم وعِبَر "الدفاع المقدّس" للشباب والأجيال. وقد استمرّوا الآن يسعون في حربٍ من نوع آخر ليمنعوا تدفق النبع في الجداول.


يريدون إطفاء شمس الثورة المتوهّجة..
إلا أن لتلك الشمس أشعة تشرق،
من قلوب صافية تفقه معنى الجهادَين.
ومن نفوس أبية تسطِّر الصبر إنجازات في الدساكر.
ومن أبدانٍ ما ضعفت عما قويت عليه العزائم.

من هنا كانت هذه الانطلاقة للمساهمة باستقرار القيم الإنسانية أمام الأعين،.. قيمٌ ترتفع لتحاكينا كقراء باحثين عن معالم جديدة من "أدب الحرب" في قالبٍ من تشويقٍ، وسبكٍ سهلٍ ممتنع، وحدثٍ قويّ، وشخصيةٍ نامية متطوِّرة، وفضاء مختلف لزمانٍ ومكان حقيقيين. 

وفي كشفٍ عن واقع ناصع غير مجتَزَأٍ، من خلال إرادات استُمِدَّت من إرادة الجبّار الجميل (سبحانه)، فأدركت الطريق وفهمت الحياة، وجعلتنا نشاهد كيف يبزغُ الحبُّ بين النار والدخان، ويُزهر الوردُ من تراب المعارك. وتكتب الحياة لمقاتل جريح.. من معبر إلى آخر ليروي "ملحمة تلة برهاني".

رواية ذكريات هي،.. كأنها اللحظة تخطفُ الأنفاس، وتبعثُ النحيبَ من صميم الوجدان. تفرضُ نفسها أمامك بلوحاتٍ تجسِّد بالخطّ الواضح عشق القائد، وائتلاف سواعد العاشقين.
 
 
 
 
 
 
9

3

مقدمة

 تُثير حواسَك بالألوان النارية من قلب المعركة.


حتى لكأنك تزحف مع "حميد" ورفاقه. وتصرخ مع "برهاني" وسريّته. وتستمع إلى أنفاس مفقودي الأثر وهم يلثمون عند الرحيل أيدي الوالدَين العطوفَين.

وتَجُوبُ متفكرًا في جراحات أصحاب قلوب يفقهون بها. لتتساءل: 
ألا يدافعُ السلاح بوعي، إن فُرضَتْ حربٌ؟
ألا يصبرُ الوجعُ بحكمةٍ، إن حوصر المقاتلون؟
أفلا يتكاملُ غذاءُ الروح، إن جاع البدن؟
كيف ذلك؟ ..لنقرأ ملحمة "التلة الثالثة". ولنستنطق الحروف.

شكر وتقدير
يسر مركز المعارف للترجمة أن يقدّم هذا الإصدار الجديد في سلسلة سادة القافلة "ملحمة تلة برهاني البطولية" التي تصدر تباعًا، ضمن مجموعة أدب الجبهة، ولا يسعنا إلا أن نشكر كل من ساهم في إعداد هذا العمل ليبصر النور بهذه الحلة: مؤلف الكتاب - المقاتل والمبلّغ والجريح - السيد حميد طالقاني، المترجمة: د.أميمة عليق. فاطمة منصور ونجوى ا-لموسوي في المراجعة والتحرير، المدقق اللغوي: عدنان حمود. المخرج الفني: علي عليق، وكذلك الشكر موصول للإخوة في دار المعارف الإسلامية الثقافية الذين نشروا الكتاب، والناشر الأساس للنسخة الفارسية: دار(عماد فردا).

مركز المعارف للترجمة
19 شهر رمضان1438هـ
 
 
 
 
10

4

مقدمة

 المقدّمة

باسم الله تعالى ذكره، على أمل نيل رضاه، وبدافع الامتثال للواجب الشرعي، حملت القلم سلاحًا كي أنقل رسالة دماء وبسالة الأعزاء الذين أداروا ظهورهم لكل ما عداه، في عصر طلب السلطة والتسلّط والفساد والمال، وحلّقوا نحوه مخفّين ونورانيّين.

مرّت مدة كنت أشعر فيها بثقل هذه الأمانة على ظهري، لكنّني وجدت قلمي قاصرًا عن رسم وبيان عمق القيم التي أوجدوها. كانت أمهات الشهداء قدوات الإنسانية شبيهات زينب في عصرنا، يأتين إليّ ويؤكّدن عليّ: "إن الله قد حماك ورافقك في تلك الطريق الخطرة كي توصل رسالة دم أبنائنا الأعزاء، فلماذا تختم على فمك وتختار السكوت، وتتخلّى عن هذه المسؤوليّة؟". في المقابل، لم يكن عندي سوى الشعور بالخجل وعجز القلم والبيان لأواجِههُنّ به. لكن ما الذي يمكنني القيام به؟ أنا عاجز، والمسؤوليّة خطيرة.

وها أنا أتمسّك بهذا الواجب، وأملي الوحيد أن تكون هذه الخطوة بابًا لكل من يخبّئون في صدورهم زاوية من تاريخ السنوات الثماني لدفاع هذه الأمّة المقدّس، وهم يمتنعون لسبب ما عن تدوين ما يجب نقله من هذا التاريخ، للأجيال القادمة ليبقى منشورًا للجهاد والدفاع عن الحقّ. إنهم من جهة وثائق حيّة ومحقّة لهذا الدفاع، ومن جهة أخرى، هم شهود لإثبات العداوة والبغضاء واستنكار وحشية الأعداء الذين لم يتوقّفوا يومًا عن مهاجمتنا طيلة تلك السنوات.
 
 
 
 
 
11

5

مقدمة

 وأنا أرى أنّ تسجيل وعرض تفاصيل أحداث الحرب هو واجب شرعي، سواء بالنسبة إلى من كان لديه مسؤوليّة رسميّة في هذا المجال، أو بالنسبة إلى المجاهدين الذين شاركوا في ذلك الدفاع، كلٌّ بطريقته، والشهود الأحياء على كل لحظة من لحظات ملحمة السنوات الثماني البطولية، وأعتقد أنّ التقصير في هذا المجال، هو خيانة كبرى للأجيال العطشى التي ستأتي في المستقبل وتحتاج للاطّلاع على التاريخ المكتوب لهذه الحرب، كي تؤسّس لبناء مجتمع جديد.


السيّد حميد رضا طالقاني
 
 
 
 
 
12

6

الأول

 الأول


مع اندلاع الحرب المفروضة على إيران الإسلامية، بدأت تصلني أخبار متتالية عن "إخواني القرآنيين"1 الذين تسلّحوا بهدف الدفاع عن النظام الإسلامي - الحديث الولادة - وكانوا يتوجهون نحو الحدود النورانية. لذلك قررت ترك أعمالي في "تبريز" والتوجّه إلى أصفهان، كي أبدأ هجرة جديدة مع أحبائي، وقد قضينا ردحًا من الزمن، وكبرنا وتكاملنا معًا، وكي لا أتخلّف عن قافلة العشق والتضحية.

بعودتي إلى أصفهان، صرت أقصد كل ليلة مقبرة "روضة الشهداء"، أحبائنا الأطهار، مع "إخواني القرآنيين"، لنقيم هناك محفل قرآن ودعاء، ونسترجع الذكريات الجميلة، ونستذكر أخلاق إخواننا العالية.

لم أعد أحتمل البقاء في أصفهان. فقد كانت أعماق قلبي تضجّ بالأفكار المتضاربة ليلًا نهارًا. كنت أشعر أن البقاء هو معصية وخطيئة. قرّرت التوجّه إلى الجبهة وعرضت الأمر على أمي وأبي. أما أبي، ذلك الرجل المخلص والمؤمن، فقد اختار رضى الله وأوكلني إليه، لكنني واجهت معارضة شديدة من أمي. بعد أن عرفت بقراري، راحت تبكي ليلًا ونهارًا. كانت تركع أمامي منتحبة بينما جسمها يرتجف والدموع تترقرق من عينيها، ترجوني كي أتراجع عن قراري. وتردّد:
 
 

1- تسمية أطلقها الكاتب على زملائه في الجلسات القرآنية.
 
 
 
13

7

الأول

 "لو كان لدي عدّة شبّان، لما جزعت. لكن ليس لديّ سواك".


في النهاية، كانت أخواتي يقمن بإبعادها عنوةً. مضت عدة أيام على هذا المنوال، حتى مرضت أمي وخضعت للعلاج لفترة. نصحني أخواتي بطمأنتها وإخبارها أنني تراجعت عن قراري في التوجّه إلى الجبهة، وذلك كي لا أصبح فريسة للشعور بالذنب والندم طيلة حياتي. كنت كمن هو واقف على مفرق طريقين، ضائع ولا أعرف أي سبيلٍ أختار. فلجأت إلى القرآن الكريم الذي هو دليلي ومؤنسي الدائم. اتّصلت بالحاج "صدّيقي" أحد العلماء المتبحّرين بالاستخارة. من دون أن يعلم ما هي نيّتي، استخار ثم نصحني قائلًا: "اتّخذتَ قرارًا لأجل الله ولا عمل اليوم أفضل مما تنوي القيام به، لكن حاول استرضاء أمك وأبيك".

سجدتُ لله شاكرًا، لأنه دلّني على الطريق بهذا الوضوح. عدت إلى المنزل، وأخبرت أمي وهي على فراش المرض، أنني تراجعت عن قراري بالذهاب إلى الجبهة.

في أصفهان، تفرّغت من جديد لإقامة الجلسات القرآنيّة ودروس أصول العقائد. سعيت خلال هذه الدروس إلى تشجيع الشباب للتوجه إلى الجبهة لمقاومة الأعداء. لم يكن يمرّ شهر إلّا وأرى أحد أحبائي القرآنيين مضرّجًا بالدماء، أو أستقبل جثمانه الطاهر، وأقصد مقبرة جنّة الشهداء لأذرف دموع الحسرة على قبره. كنت أحتضنهم قبل ذهابهم وأصحبهم إلى محطة انطلاقهم مودّعًا، وأغرس نظرات حسرتي على الجادة التي يرحلون منها، ولا أنتظر طويلًا حتى أضمّ أجسادهم المضرّجة بدمائها. صار عدد ضرائح أصدقائي في مقبرة الشهداء في أصفهان كبيرًا لدرجة أننا كنا نقضي وقتًا طويلًا جدًّا حين نذهب إلى هناك لأننا نتوقف عند قبر كل واحد منهم لإهدائه سورة الفاتحة.
 
 
 
 
 
14

8

الأول

 نعم، لقد رحل أصدقائي واحدًا تلو الآخر، وتركوني مع قلب محترق على فراقهم وكبدٍ متفطّر لبُعدهم. أحبائي الشهيد حميد سليماني، الشهيد بهرام أرجاوند، الشهيد رضا بور علي، الشهيد محسن جواني، الشهيد حميد سفيد دشتي، الشهيد علي رضا عاملي، الشهيد داريوش عسكري، الشهيد هادي موسوي، الشهيد محسن أدهم، الشهيد عباس مهاجر حجازي، الشهيد مسعود مهدوي، الشهيد مجيد نيلي بور، الشهيد جواد علاقه مندان، الشهيد رضا بخشي، الشهيد علي رضا ثابت راسخ، الشهيد محمد حسين حريري، والعشرات من الأعزاء من رفاقي القرآنيين الذين سالت دماؤهم على طريق العشق الإلهي، فتوضأوا بها كي يعرجوا وتركونا وحيدين مع الحطام الفاني لهذه الدنيا.


ومضت الأيام وأنا غارقٌ بالحرقة والحسرة: حرقة الحزن على الأحباء، وحسرة التخلّف عن قافلة العشق.

من بين الأحباء "ناصر منشئي" جار الطفولة ورفيق لَعِبي الذي صار صديقي المقرّب وصاحبي في الجلسات القرآنية. كان لناصر أخ صغير يدعى "نادر"، يسعى دومًا لتقريبه من علوم القرآن والمعارف الإسلامية وتحبيبه بهما. كلما شاركنا في جلسة قرآنية كان ناصر يصطحب أخاه معه، ويُظهر مدى اهتمامه به وقلقه على تربيته. بعد أن أنهى ناصر دراسته الثانوية، تمّ قبوله في كلية الزراعة، فاضطر إلى ترك أصفهان والتوجه إلى "كرج". في اليوم الذي غادر فيه، زارنا في البيت برفقة "نادر" وألحّ عليّ للاهتمام بـ "نادر" في غيابه وأخذه معي إلى الجلسات القرآنية كافة. بعد استقراره في "كرج"، لم يتوقف ناصر عن مكاتبتي، والاستفسار بقلق عن أحوال نادر الروحية والفكرية، وعن تطوره بشكل عام. أنا أيضًا سعيتُ قدر الإمكان للالتزام بعهودي والوفاء بها.
 
 
 
 
 
15

9

الأول

 خلال تحصيله الدراسي في "كرج"، تطوّع "ناصر" أيضًا في "جهاد البناء"، وكتب لي متحدّثًا عن الحرمان الذي يعاني منه القرويّون حوالي مدينة "كرج"، ووصف النشاطات والأعمال التي كان يقوم بها لإعمار ومساعدة هذه القرى. كان يقضي معظم لياليه مع هؤلاء القرويّين، كما أخبرني كيف استحدث مع رفاقه حمامًا عموميًّا لأهالي "زكي آباد" و"ساوجبلاغ".


مرّت الأيام، وفي النهاية صدر الإذن بعروج ناصر، وها هو بستانيّ الكون، يقطف هذه الوردة التي أوشكت على التفتح من البستان المحمّدي. استشهد "ناصر منشئي" على طريق رفع الحرمان عن القرى، ملتحقًا ببارئه على أثر حادث سير، فائزًا بسعادة لقاء الحبيب التي طالما تمنّاها. لكنه هزّ قلوب رفاقه القرآنيين، وكان أكثر من تأثر لفراقه شقيقه "نادر" الذي كان شابًّا لم يتخطَّ السادسة عشرة من العمر. لقد انضوى في حداد على فقدان أخٍ كان في الواقع مرشده وهاديه. على الرغم من أنه قد أسس لحياة أخيه القرآنية، لكن شهادة "ناصر" أدّت إلى تحوّل أساسي في فكر وحياة هذا الأخ الأصغر. وقد أدركت بعدها مدى الصعوبة والحمل الثقيل الذي تضاعف مئات المرات على أكتافي، وصرت أفكر كيف يمكنني أن أملأ مكان "ناصر" في حياة أخيه.

على الرغم من التحوّل الأساسي الذي طرأ على حياة "نادر" بعد شهادة أخيه، إلا أنه صار أكثر حزنًا ووحدة. لذلك سعيت بكل ما أوتيت أن أستفيد من شهادة ناصر من أجل تربية "نادر" وتكامله، وليكتسب الجدارة لإكمال طريق أخيه. لأسابيع بعد شهادة "ناصر"، لم أترك أخاه لحظة واحدة قط. كنت أصحبه يوميًّا إلى مقبرة الشهداء في أصفهان وأتبادل الحديث معه بالقرب من ضريح أخيه. ثم أؤكّد
 
 
 
 
16

10

الأول

 له وأطمئنه أنني لن أتركه وحيدًا وسأكون أخًا له، وسأحاول قدر المستطاع أن أقوم بالواجب الذي أوكله إليّ "ناصر" مع إصراري على صعوبة الأمر.. لم يمر وقت طويل، حتى شعرت أن "نادر" بدأ ينظر إليّ بعيني أخ شفيق له، يستطيع ملء مكان "ناصر" في حياته. فطلب مني عهد الأخوّة، وتلقّفت ذلك بكل رضى وبأيدٍ مفتوحة وأحضان دافئة. فتعاهدنا على البقاء معًا مهما تبدّلت الأحوال والظروف.


بعد العلاقة الحنون التي أخذت تقوى بيننا، نسيت أنا أيضًا شعوري بالحرمان من الأخ، فقد وجدته حقًّا أخًا لي. كانت علاقتنا الروحية والعاطفية صعبة الوصف، لدرجة أنه حيثما أكُنْ، يَكُنْ "نادر" وحيثما يُوجَدْ نادر أُوْجَد أنا. منذ أن تعاهدنا صرتُ بئر أسراره، إذ كان يستشيرني في أصغر الأمور ويراجعني في أبسط المشاكل.

تحوّل العام 1360 هـ.ش/ 1981م. إلى عام مليء بالمغامرات والخطر بالنسبة إلى نادر حين كاد أن ينهي دراسته في المرحلة الثانوية. فقد خضع لامتحان صعب قدّره له الباري عزّ وجلّ، فشارك فيه وخرج منه مرفوع الرأس منتصرًا. هو الذي كبر مع القرآن والإسلام، انتصر في الجهاد العظيم مع النفس، وها هو يختار الآخرة والعقبى على الدنيا ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾ (الضحى/ 4).

على الرغم من الحياة المرفّهة المريحة التي كانت متوافرة له، إلا أنه وبكل حسم وحزم أدار ظهره لها وفضّل الحياة البسيطة على الحياة المبهرة والمليئة بالزينة الدنيوية. وها هو يختار العيش في مكان متواضع بسيط بأقل الإمكانات وأبسط وسائل الحياة، ليكون كأخيه "ناصر" رفيقًا للمحرومين ومواسيًا لهم. في أواخر العام 1981م. وبمساعدة أحد أصدقائه القرآنيين، سكن في غرفة صغيرة في بيت الطلبة في جامعة أصفهان متماشيًا مع حياته البسيطة. والتزامًا
 
 
 
 
 
17

11

الأول

 بالعهد الذي قطعته على نفسي بمواكبة نادر في كل الأحوال، لم أستطع أن أتركه في هذه الظروف الحساسة، فاستأذنت أمي وأبي وذهبت إلى جامعة أصفهان حيث سكنت معه في غرفته الصغيرة وتقاسمت معه الأفراح والأتراح خلال هذه المدة الوجيزة.


مرّ وقت قصير، وها هي حُمّى الذهاب إلى الجبهة ترتفع لدى "نادر". ولأنّ ظروفه صعبة وقاسية، لم أجد أيّ مصلحة له في أن يلتحق بالجبهة في هذه الأوضاع. كان لا يزال في السنة الثانوية الرابعة. وكنت أتابع بقلق وضعه الدراسي، فعليه الاستعداد للامتحان الرسمي (الكونكور). ففكرت بالقيام بحركة تشجيعية له خلال عطلة العيد (النوروز)1، بدفعه للانتساب إلى دورة تقوية تأهيلية لإحراز علامات عالية تخوّله اختيار اختصاص مميّز في الجامعة. طلبت منه الانتظار عدة أشهر، عندها نتوجّه معًا إلى الجبهة بعد تقديمه الامتحانات، لكن، ظهر لي أن لا طاقة لديه على الانتظار. كان يفصلنا عن عيد النوروز خمسة عشر يومًا، حين أيقنت أنه اتّخذ قراره الحاسم بالذهاب إلى الجبهة.

لم أقبل بقراره ورفضتُه بشدة. كانت هذه المرة الأولى التي نتشاجر فيها، لقد اتخذ نادر قراره وأصرّ عليه. حاولت أن أنبّهه إلى الخطر الذي ينتظره وأن حياته لم تعد تخصّه وحده، وذكّرته بعهد الأخوّة الذي قطعناه معًا: "أولم نقل إنّنا لن يفترق أحدنا عن الآخر مهما كانت الظروف والأحوال؟". لكنه لم يكن يعي ما أبوح به. إذ راح يستمع إلى نداء الروح الذي يعده بالارتواء من أحوال أخرى. حين أنصت إلى كلامي جيدًا قال: "أنت تعتقد أن الدرس مهم جدًّا وضروري بالنسبة إليّ الآن؟ أوافقك الرأي. لكن من يستطيع أن يدرس في أيام العيد؟ لا قدرة ولا ميل
 

1- بداية فصل الربيع ورأس السنة الإيرانية.
 
 
 
18

12

الأول

 لي للدرس. جسمي هنا وروحي في الجبهة". ثم قال لي متوسّلًا: "أعدك بالعودة سريعًا، سأبقى فقط عشرين يومًا. وسأعود فور انتهاء عطلة النوروز. وسأتسمّر أمام كتبي كما تتمنى أنت. أعدُك بذلك".


بعد الجدال بين أخذ وردّ، استنتجت أن لا أُذُنَ صاغية لكلامي. قررت أن ألجأ إلى طريقة أخرى محاولًا منعه من الذهاب. ربما من خلال إظهار انزعاجي وعدم رضاي عن قراره. ظننتُ أن هذه الطريقة قد تدفعه لإعادة النظر بالقضية كاملة حين يلاحظ أن علاقتي به - التي جعلتنا كشقيقين - بدأت تضعف بسبب موقفه المتعنّت وقد يتراجع. لذلك تجاهلته لليالٍ وأيام عديدة، لكن تجاهلي له ذهب مع الريح. وها هو في العشرين من إسفند/ 11 آذار يودّعني ببرودة وينطلق نحو الجهاد الأصغر.

بعد سفره، باتت أيامي مشحونة بالحزن والقلق. صار شعوري بالمسؤولية تجاه "نادر"، الممزوج بالغم والتبرّم، يثقل كاهلي. تمنيت لو أستطيع الطيران لأوافيه حيث هو. لكنّ السدّ الذي لطالما منعني من الذهاب إلى الجبهة، ما زال واقفًا صامدًا أمامي. كنت مشتّت البال، أريد القيام بعمل كبير، لكن لا أعرف كيف السبيل إليه؟

في يوم من أيام العام 1360 هـ.ش/1981م. لفتت نظري لوحةُ الحائط في المسجد، وُضِع عليها استفتاء، حيث ورد جواب الإمام الخميني قدس سره أن رضى الأم والأب في هذا المجال ليس شرطًا في جواز الالتحاق بالجبهة. حطّمت هذه الفتوى الجدار النفسي الذي كان يأسرني، وأيقنتُ أنّ واجبي هو الذهاب، على الرغم من انزعاج أمي عرفت أن لا مسؤولية تقع على عاتقي تجاه رفضها.

قصدت مركز التعبئة وسجلت اسمي للتوجه إلى الجبهة. بعد الانتهاء من تجهيز ملفي، وكلّ المقدّمات الضروريّة، وأضحى من
 
 
 
 
 
19

13

الأول

 المفترض الانطلاق في اليوم التالي، لذلك أُعطيتُ حقنة الكزاز أيضًا. غمرتني الفرحة والسعادة، فأسرعت إلى البيت كي أجهّز أمتعة السفر. حاولت السيطرة على مشاعري والتصرّف بشكل طبيعي كي لا تلتفت أمي إلى الأمر. دخلت البيت بهدوء، وسلّمت عليها حيث كانت منشغلة ببعض الأعمال. حاولت بدوري إنهاء بعض الأمور الخاصة. لحظات قليلة، وها هي أمي تتوقّف عن العمل لتنظر إليّ، فشعرت أنها عرفت كل شيء. حاولت أن أفهم كيف عرفت، لكن من دون فائدة. بدأ سلوك أمي يتغيّر شيئًا فشيئًا، فاقتربت مني بتؤدة وجلست بجانبي وقالت لي بنغمة حنونة: "حميد، لماذا أخذت حقنة؟".


أدركت مباشرةً أنّ أمي كشفت أمري بسبب رائحة المطهّر القوية (السبيرتو)، وهذا يعني قراري الذهاب إلى الجبهة. لمتُ نفسي كثيرًا لقلة احتياطي. ثم من دون مقدمات تكرّرت أحداث العام 1980. بدأت تبكي بشدّة لدرجة أنني صرت أبكي معها. وها هنّ أخواتي، يشتركن في المشهد لدرجة يعجز اللسان عن وصف ما حصل. في ذلك اليوم، لم تتركني أمي لحظة واحدة، وكانت تراقب كل خطوة أخطوها وتسعى بين الفينة والفينة أن تتكلّم معي وتضغط عليّ عاطفيًا لعلّي أتراجع عن قراري. باختصار، كانت ترفض فكرة ذهابي إلى الجبهة وتحاول منعي بشتّى الوسائل. وهذه المرة أيضًا، تخلّيت عن واجبي بينما ملأ قلبي حزن لا يوصف.

كان نوروز العام 1361هـ.ش/ 22 آذار 1982م. عام الاضطراب والحسرة بالنسبة إليّ. حلّ فصل الربيع، وتبدّلت الطبيعة وتغيّر العالم، في حين كنت جالسًا مع همّي وغمّي، أحسد "نادر" وبقية الأصدقاء الأحرار والمُخِفّين، الذين أسرعوا إلى الجبهة من دون أن يقف في طريقهم مانع. كنت قلقًا على "نادر" ولا أعرف ما الذي عليّ القيام به؟
 
 
 
 
 
20

14

الأول

 بدأنا نسمع أخبار الانتصارات العظيمة لجنود الإسلام في عمليات "الفتح المبين" التي انطلقت في الأيام الأولى من العام 1361ه.ش./ أواخر آذار 1982م. والتي استردّت أغلب أراضي الإسلام وأرجعتها إلى الحاكمية الإسلامية، توجهت إلى الشوارع مثل بقية الناس للمشاركة في احتفالات النصر. لكن لم يدم هذا الفرح والنشاط كثيرًا، لأنه في الثامن من فروردين/ 28 آذار 1982م. وصلني خبر شهادة أخي الوحيد. لقد استشهد حبيبي "نادر" في عمليات "الفتح المبين"، وسلّمني للعزاء والأحزان. لا أستطيع أن أعبّر عمّا حلّ بي في تلك الأيام. لكن، قد يكفي القول إنّني كنت أمضي الليالي والأيام عند ضريح "نادر" وأبكي من دون توقّف. لقد انشغل فكري في تلك الأيام بذكرياتي معه، بلحظات صداقتنا الحميمة، بأخلاقه وسلوكه وكلامه وفي الوقت نفسه بمظلوميته وطهارته وصفائه.


على كل حال، كان العام 1982م. عام البكاء والحزن بالنسبة إليّ. فقد أظلمت دنياي، وكنت أشعر بوطأة ثقيلة على صدري. كما كنت أشعر بالخجل من نفسي، وأنفر من كل ما له رائحة دنيوية.

في الليل، كان "نادر" مؤنسي في أحلامي. إلى أن شاهدتُ في الرؤيا، أنّنا معًا في غرفته في السكن الجامعي في جامعة أصفهان. كنت مفترشًا الأرض أكتب شيئًا ما، و"نادر" يرتّب ثيابه أمام خزانته. تذكّرت فجأة أنّه شهيد. توقّفتُ عن الكتابة، نظرتُ إليه من دون أن أتلفّظ بكلمة وصرت أبكي. لم أكن أريد أن أزيح نظري عنه. بكيت وبكيت حتى انتبه لي، فنظر إليّ، وابتسم ابتسامة جذّابة، ثم اقترب مني وجلس إلى جانبي وأمسك بيديّ. لم تفارق الابتسامة وجهه ولو للحظة واحدة. قلت له بصعوبة: "نادر، صرتُ وحيدًا، خذني معك". ولم يسمح لي البكاء بمتابعة الكلام.
 
 
 
 
21

15

الأول

 كان "نادر" يضحك وينظر في عينيّ مباشرة. ثم قال لي: "يا سيد حميد، أنا لم أذهب إلى أيّ مكان. صدِّقني إنني معك دومًا. لمَ كلُّ هذا البكاء. لمَ تذرف كل هذه الدموع؟ بالله عليك، اهدأ. لقد جهّزت لك بطاقة سفر. ليس لك فقط، بل لكلّ الشباب. لماذا تتحسّر بهذه الشدّة؟".


استيقظت من النوم. بعد هذا الحلم، تغيّرت حالي. لقد وعدني "نادر" باصطحابي إليه، كما أخبرني أنه جهّز بطاقة سفري. لقد كان لكلامه أثره العميق عليّ. شعرت أن العبء قد انزاح عن كاهلي وصار لي أمل بمستقبلي! لأنني تأكّدت أنني سألتحق بـ"أخي العزيز" في النهاية.
 
 
 
 
 
22

16

الثاني

 الثاني


أُعيد في العام 1361 هـ.ش/ 1982م فتح الجامعات. ذهبت إلى "تبريز" وطلبت نقلي إلى جامعة "صنعتي أصفهان" (أصفهان الصناعيّة). تمّت الموافقة وانتقلت إلى تلك الجامعة. انتهت تلك السنة بمشكلاتها كافة، لتفسح المجال لسنة أخرى تليها 1362هـ.ش/1983م. عندما بدأت السنة، شعرت أنّ صبري بدأ ينفد، وقرّرت مرّة ثانية أن أحيي نيتي بالذهاب إلى الجبهة.

لحسن حظّي، اتُّخذت إجراءات وتسهيلات كثيرة لذهاب طلاب الجامعة إلى الجبهة من دون أن تتأثّر دراستهم. لذلك سجلت اسمي بكل سهولة لدى شباب التعبئة. هذه المرة لم أشرك أمي وأبي في قراراتي، فلم أخبرهم بذلك. كان من المفترض أن ننطلق بعد أسبوع. فذهبت إلى السوق واشتريت حقيبة لأغراضي، ووضعتها في منزل أحد رفاقي القرآنيين، الذي يسكن بالقرب من بيتنا، كي لا يطّلع أهلي على ما أنوي القيام به. كنت كل ليلة وبسريّة تامة، وحين تسنح الفرصة أنقل ثوبًا أو غرضًا من أغراض سفري إلى بيت رفيقي لأضعه في حقيبتي. وها هي حقيبة السفر قد اكتملت. توجّهت إلى دكان أبي وأخبرته بموعد رحيلي. وافق أبي على ذهابي بكل صبر وثبات، لكنّه ذكّرني فقط بمشكلة أمي وطباعها. قلت له: "لكنني لا أستطيع أن أبقى جالسًا، وأرى شباب الناس يتنافسون في طريق الشهادة، وأنا لا أستشعر أيّ مسؤولية. أنت وليّي شرعًا، وبحمد الله أذنت لي . إن شعور
 
 
 
 
23

17

الثاني

 الأمومة شيء، والواجب الشرعي شيء آخر. إن أحوال أمي طبيعية، لكن لا يمكنني الاستسلام لهذه المشاعر الطاهرة. إن ما سأقوم به هو واجب شرعي، ولا يمكن مقارنته بعاطفة أم تجاه ابنها. حاول يا أبي العزيز تهدئتها في غيابي"..


حين رجعت إلى البيت، كنت مفعمًا بسعادة عارمة بسبب رضى والدي، لكن من دون أن يزول قلقي الكبير على أمي لأنني تأكّدت أن رحيلي سيؤدّي إلى مرضها. قررت أن أترك لها رسالة قد تقلّل بعد رحيلي من اضطرابها. في تلك الليلة، تظاهرت بأنني أدرس، وكنت في الحقيقة أكتب لها هذه الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

أمي الأعزّ من روحي، أرجو تقبّل هذا السلام الدافئ من ابنك الوحيد. أمي الحبيبة، قد لا تكون حالك طبيعية وأنت تقرأين رسالتي، لكن لماذا؟ إنه السؤال الذي طالما شغلني، ولم أستطع أن أجد له جوابًا. فكيف يمكنني أن أترك واجبًا ذكره الإمام دومًا على أنه كفائي، من أجل مشاعرك الطاهرة؟ أمي، بمَ أختلف أنا عن بقية الشباب؟ فهل دمي أكثر حمرة من دمهم؟ هل هناك عذر واحد معقول يوجب ترك فريضة؟ أولا تعرفين العديد من الأمهات اللواتي أرسلن ابنهن الوحيد إلى الجبهة؟

أمي الحبيبة! أولستِ تحبّين الإمام إلى أبعد حد؟ ألم تدعي ليلًا ونهارًا لشفائه حين كان مريضًا؟ ألستِ أنتِ من تعتقدين أنّ اتباع الإمام واجب شرعي؟ إذًا، بمَ ستجيبين الإمام يوم القيامة؟

أمي الطيبة! إذا كنتِ غير راضية عن ذهابي إلى الجبهة، فلماذا ربيتِني على هذا النحو؟ إذا كنتِ تطمحين أن أكون كبقية الشباب المدلّل
 
 
 
 
 
24

18

الثاني

 والجاهل والذي يهرب من الخدمة، ويضيّع وقته على الأمور الباطلة، وأن أجلس تحت قدميك وينشرح قلبي بمشاعرك وأحاسيسك، فلماذا لم تربّني كي أكون مثلهم؟ لماذا ضخّيتِ في عروقي الحرقة على الحسين، منذ الأيام الأولى لطفولتي؟ لماذا كنتِ تُجلسينني في حضنك وأنت تسمعين عزاء الحسين عليه السلام، وتسكبين الدمع لمصيبة أهل البيت عليهم السلام، فتمسحين وجهي بدموعك؟ لماذا حرّكتِ قلبي بحرقة كي أكون حسينيًّا؟ لماذا جعلتني آنس بآيات القرآن، آية، آية، وهي تتحدّث عن الجهاد والإيثار والتضحية؟ لماذا أذقتِني حلاوة العبادة والدعاء والخلوة مع الله؟ كان عليك أن تربيني بطريقة يصعب عليّ فيها الابتعاد عنك ولو للحظة واحدة! كان عليك بدل التأكيد عليّ بأن أتوخّى الدقة في اختيار الأصدقاء لدرجة الوسوسة، أن تتركي لي الحريّة في هذا الأمر كي أقضي وقتي مع الشباب الطائش والجاهل ومع الأوباش!!


أمي الحبيبة! هل نسيتِ منامَك حين كنتِ حاملًا بي؟ قلتِ إنّكِ شاهدتِ ابنك على حصان أبيض، وعلى رأسه عمامة بيضاء، يحمل علم لا إله إلا الله الأحمر، ويتقدّم جيش التوحيد؟ أوَليست ظروف اليوم خير تعبير لتلك الرؤيا؟

لكن يا أمي الأعز من روحي! أقبّل يديك، وأشكرك على كل ما تحمّلتِه في سبيل تربيتي تربية إسلامية وقرآنية. على الرغم من أنني لن أستطيع أبدًا أن أردّ جميلك وأعوّض تعبك. أعتقد أنك بعد تنشئتك لي على هذا النحو، لن تتوقعي مني اللامبالاة والانزواء.

على كل حال، أرجوك ألا تفتحي باب قلبك للقلق، لأنني لست ذاهبًا للقتال في الجبهة. لكنني سأكون في وحدة التثقيف العقائدي، وسأكون في خدمة المجاهدين من خلال تدريس صفوف القرآن والأحكام،
 
 
 
 
 
25

19

الثاني

 ولا علاقة لي بالخطوط الأمامية. أعتذر منك، لأنني رحلت من دون توديعك، وأطلب المسامحة على كل شيء. جُلّ ما أتوقعه أن تصبري وألا تجزعي كما يريد الله ويرضى. سأسعى جاهدًا كي أتّصل بكم في أقرب وقت. ليحفظكم الله وإلى اللقاء. ابنكم حميد".


في الصباح الباكر، كالعادة، ارتديتُ ثيابي للذهاب إلى الجامعة، حملتُ دفتري وكتابي ثم توجّهت إلى غرفة أبي لتوديعه. أخفى أبي دموعه عني وهو يحتضنني بعيدًا عن عينيّ أمي وقرأ لي دعاء السفر، ثم قال: "أوكلتك لله، انتبه لنفسك".

أعطيت الرسالة لأبي، وقلت له: "سلّمها لأمي عصر هذا اليوم. كي لا تنزعج منك، لأنك أخفيت الأمر عنها، قل لها إنّ أحد أصدقائي أعطاك إياها في المسجد".

بعد أن ودّعت أبي، وبشكل طبيعي جدًّا مررت في الحديقة وأنا ألقي التحية على أمي وسائر أفراد أسرتي. توجّهت بعدها إلى منزل صديقي حيث تركت حقيبة سفري. التقيته وترافقنا معًا إلى مركز الحرس. كان بعض رفاقي القرآنيين مجتمعين هناك لوداعنا ومشايعتنا.

إنها الثامنة صباحًا، في الأول من تير/23 أيار، ها أنا أتوجّه إلى مضافة العشق وينتابني شعور بأنني أحلّق من شدة الفرح الذي يغمر قلبي. نقلونا في البداية بالحافلة إلى ثكنة "15 خرداد" في أصفهان، كي ننجز ترتيبات سفرنا التي تشمل فرز القوات وفق الاستعدادات، والتلقيح ضد الكزاز، وارتداء البدلة العسكرية. طالت تلك الخطوات حتى العصر من ذلك اليوم. كانت هذه الساعات صعبة ومليئة بالتوتر بالنسبة إلي، لم يُفارقني هاجس أن تطّلع أمي على خبر ذهابي قبل أن نخرج من أصفهان بلحظة واحدة فتقصد الثكنة وتمنعني من الذهاب. لذلك كلما ارتفع مكبر الصوت لاستدعاء أحد يدقّ قلبي هلعًا وأشعر
 
 
 
 
 
 
26

20

الثاني

 كأنني أرتجف من رأسي إلى قدمي.


لكن على كل حال، مرّ الأمر على خير، وها نحن في عصر ذلك اليوم نسير على طريق الجبهة. في صباح اليوم التالي، وعند شروق الشمس، وصلنا إلى "الأهواز". نقلونا في البداية إلى ثكنة الشهيد "صدوقي". حين دخلنا إلى هناك شعرت وكأنني ألتحق بمخيم "أبي عبد الله". كان هناك عدد كبير من المقاتلين، يفترشون العشب ويتناولون الفطور: الخبز والجبن والبطيخ. دعونا للانضمام إليهم، ولكن بما أن القلق على حال أمي لم يفارقني، قصدت مكان الهاتف قبل تناول الفطور واتصلت بالبيت. كما كنت أتوقع، ساءت أحوال أمي بعد ذهابي. تحدّثت مع أبي في البداية، ثم طلبت منه أن يعطي الهاتف لأمي لكنها رفضت الكلام معي، فقال لي أبي: "لا تسمح ظروفها الآن بالحديث معك".

عندها قلت له: "طمئنها أنني سأنتبه لنفسي، وسأخدم في وحدة التثقيف العقائدي في فيلق الإمام الحسين عليه السلام، ولن أتوجّه إلى الخطوط الأمامية"، لكن لم تكن طمأنة أمي بهذا الشكل أمرًا يمكن تحقيقه بالنسبة إلي. فمن هو الذي يقطع كل هذا الطريق ويرضى في المقابل بعدم الاستفادة من هذا الفيض العظيم؟ لقد طمأنت أمي كي أخفّف من قلقها عليّ، وسأعتبر كذبتي كذبة مصلحة، ولم أكذب إلّا لأنني اضطررت اضطرارًا شديدًا.

في ذلك اليوم، وبعد تناولنا الفطور، توجهنا نحو مكانِ وجود فرقة "الإمام الحسين" عليه السلام، ما إن دخلت المقر وشاهدت الإخوة المقاتلين، شعرت بحمل ينزاح عن قلبي، وبهدوء وطمأنينة أعجز عن وصفهما. فللمرة الأولى وبعد انتظار طويل، أضع قدميّ في المكان الذي مرت منه قوافل "إخواني القرآنيين" في طريق عروجهم. وكأنني في مخيم أبي
 
 
 
 
27

21

الثاني

 عبد الله الحسين عليه السلام.


تداعت إليّ مشاهد المعسكر الحسيني لدى رؤيتي شوق وحماسة ونشاط الإخوة. ليس المكان هنا للنظريات، فللعقيدة فيه بعدٌ آخر. هؤلاء المغمورون بالفرح والسرور، الذين يأتون إلى هذا المقام والموقع، وكأنّ كلَّ واحد منهم تجلٍّ وتجسيد لما كتب عنه لسنوات علماء الإسلام الكبار.

تقدّمت مع الإخوة الذين رافقتهم من أصفهان، للالتحاق بالكتائب العسكرية ولتسجيل أسمائنا في وحدة استقطاب وتشكيل قوات الفرقة.

اقترن وصولنا مع ذهاب قادة الفرقة في مأذونية، حيث توجّه معظمهم إلى مدنهم. لذلك طلبوا منا العمل في وحدات الفرقة المتنوعة إلى أن يعود قادة الكتائب العسكريّة. وجدت هذه الفرصة غنيمة كي أوفي بالوعد الذي قطعته لأمي. لذلك اخترت وحدة التثقيف العقائدي.

ما إن التحقت بالوحدة، حتى أيقنت أن عملي ينحصر في مدينة "دارخوئين" ولا علاقة له بخنادق1 الخطوط الأمامية. هنا طلبت من مسؤول الوحدة أن يرسلني إلى الجبهة الأمامية كموفد ثقافي لتأسيس خندق "وحدة التثقيف العقائدي" هناك، وقد وافق على طلبي. لذلك توجّهت مع أحد الإخوة إلى الخطّ الأمامي.

كانت وحدة الإعلام تتولى أعمال التثقيف العقائدي. لذلك قررت من خلال إحداث هذه الوحدة وفصلها عن وحدة الإعلام أن أتولى مسؤوليتها بشكل مستقل. تعاونت مع أحد الشباب وأنهينا الخندق في يوم واحد. فصار عملنا هناك تعليم القرآن والتجويد، الأحكام والمعارف الإسلامية، ومحو الأمية للإخوة الذين لا يجيدون القراءة والكتابة.
 
 

1- كان "جان بناهي" يبني هذه الخنادق بالاستفادة الصحيحة من الأرض والتضاريس، حيث ساعدت كثيرًا في الاختباء وفي حفظ قدرات قواتنا.
 
 
 
 
28

22

الثاني

 بعد أن أنجزنا بناء الخندق، زرنا الخنادق كافة لجمع المعلومات والإحصاءات وتسجيل الأسماء. ثم نظّمنا توزيع الصفوف وفق مستويات الإخوة. وطلبنا من الفرقة استقدام أحد علماء الدين. وهكذا، كانت عشرات الصفوف تتعلّم طيلة النهار.


كان للخطّ الأمامي أجواؤه الخاصة. حين يخرج المقاتلون من خنادقهم ومواقعهم للوضوء، وخاصة عند المغرب، حين تحلو، بسبب الطقس اللطيف، مشاهدة الغروب الجذّاب للشمس، رغم نيران القصف المشتدّة بالقرب منا، إنّما من دون أن يصاب أحد.

مَرضّتُ بشدة بسبب "ضربة شمس" بعد عشرة أيام من الخدمة المتواصلة في الخطوط الأمامية، كنت مجبرًا يوميًّا على البقاء حوالي الساعة في غرفة طوارئ المنطقة كي أتلقّى العلاج ويفرغ كيس المصل. إلى أن طلب الطبيب من الوحدة، إرجاعي إلى مركز الفرقة. وهكذا اضطررت للعودة إلى وحدة التثقيف العقائدي في مدينة "دارخوئين".

في تلك الأيام، التحق بالفرقة اثنان من علماء الدين الآتين من أصفهان وتقدّما للعمل في الوحدة. أحدهما: حجّة الإسلام "أحمد تركان". خلال الأيام التي قضيتها معه، استطعت أن أتلمس النبوغ والاستعداد العلمي الخاص لديه. فانجذبت إليه بسبب حسن أخلاقه وتصرفاته اللطيفة واللائقة. لم يمضِ كثير من الوقت قبل أن أكتشف أنه عالم عارف، يقضي ردحًا من الوقت ليلًا في زاوية خاصّة للصلاة والدعاء والمناجاة مع الله. لكن وللأسف، حرمتُ من فيض رفقته سريعًا، فقد كان مصرًّا على الانتقال إلى الخطوط الأمامية للتبليغ والتدريس.
 
 
 
 
 
29

23

الثالث

 الثالث


مرّ حوالي الشهر على وجودنا في الجبهة. كنت أنتظر تشكيل الكتائب العسكرية في أي وقت، إلى أن قُدّر لي لقاء الأخ "محمد علاقه مندان" من أصدقائي "القرآنيين" في أصفهان. أخبرني عن تجهيز وتشكيل كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، فأظهرت شوقي ورغبتي للالتحاق بها. كان "محمد" قائد إحدى السرايا في كتيبة الإمام الحسين التابعة لفرقة "14 الإمام الحسين".

في البداية، اعترض مسؤول وحدة التثقيف العقائدي على انتقالي. لكنني تمكّنت بما ملكت من وسائل أن أقنعه. ثم التقيت قائد السرية وعرّفته بنفسي، واستقررت في الموقع الخاص بسكن الكتيبة. تتشكّل كتيبة الإمام الحسين عليه السلام من ثلاث سرايا: "ميثم" و"المقداد" من شباب تعبئة أصفهان، أما سرية "مالك الأشتر" فكانت لتعبئة "كاشان". تضم كل سرية تسعين فردًا. بدأتُ الخدمة في سرية "ميثم" قناصًا، بقيادة الأخ "مرتضى يزد خواستي"، وكان الأخ "محمد علاقه مندان" نائبه، بينما تولّى الأخ "عباس قرباني" قيادة الكتيبة، يعاونه الأخوان "حسين برهاني" و"مهدي شفيعيون".

كنا نستيقظ كل يوم قبل أذان الفجر، لأداء صلاة الجماعة. بعدها، نشارك في المراسم الصباحية للفرقة. حيث كانت كل الوحدات تصطف بشكل منظّم، وتحمل أعلامًا ملونة. بعد تلاوة القرآن والاستماع إلى كلمة مختصرة لأحد علماء الدين، نبدأ بالركض وبتمارين اللياقة
 
 
 
 
 
30

24

الثالث

 البدنية، وبتعلّم بعض التكتيكات العسكرية، ثم نعود بعدها إلى محل الاستراحة (المنامة). لتُفرَش مائدة الطعام ويجتمع شباب الوحدة كافة، من قادة وعناصر عاديين لتناول الفطور.


بعد عدة أيام، تمّ تسليح كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. كنا في شهر رمضان المبارك، حيث غرقت المدينة في أجواء معنوية جميلة. لكن، بسبب عدم استقرارنا هناك وعدم وضوح أمر ذهابنا أو بقائنا، كنا في الواقع مسافرين فلم نكن نستطيع الصيام. كانت ليالي المدينة معنوية ونورانية. كنا نصلّي في مسجد أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت حال الإخوة المقاتلين غير قابلة للوصف.

أمرٌ وحيد كان يزعجني بشدة في تلك الفترة، وخاصة في مسجد أمير المؤمنين عليه السلام، هو النشاطات السياسية لمجموعة السيد مهدي هاشمي، المدعومة في ذلك الزمان من الشيخ منتظري (خليفة الإمام آنذاك) والشيخ طاهري (إمام جمعة أصفهان السابق)، حيث كانت هذه المجموعة تتمتّع بنفوذ واسع في فرقة "14 الإمام الحسين" عليه السلام.

في السنوات الأولى لانتصار الثورة، وبعد الاطّلاع على مواقف وأنشطة هذه الفرقة الفاسدة والمخيفة بالإضافة إلى سعيها لبث الفتنة، توصّلت إلى فهم ماهيتها. وبسبب دعم الشيخين منتظري وطاهري التام لمهدي هاشمي، لم أكن مرتاحًا ومطمئنًّا لهما. كانت مجموعة مهدي هاشمي تستغل فرصة اجتماع الشباب وقت الصلاة لمباشرة أنشطتها السياسية وبث الفُرقة والنزاع بين المقاتلين. على الرغم من أنهم كانوا يلتزمون الصمت، ولا يعبّرون عن آرائهم بما يتعلّق بالإمام ويظهرون الاحترام له، لكنهم كانوا يبالغون في إظهار المحبة والدعم للشيخ منتظري، ولا يتوقّفون عن رفع الصلوات على محمد وآل محمد، وتوزيع النذورات ليحفظه الله ويسلّمه ويطيل عمره
 
 
 
 
 
31

25

الثالث

 وليقضي على أعدائه ومخالفيه. كانوا يركّزون على البراءة من "هيئة الحجتيّة"1 ومحبّيهم، على الرغم من أن الحجتيين وأنصارهم لا وجود لهم في الجبهة، بالإضافة إلى أن لهذه الفرقة عقيدة ترفض دعم ومساعدة النظام الإسلامي أو الحضور في الجبهة، بل هي تعتبر هذه الأمور حرامًا.


لذلك لم يكن اللعن المتتالي من قبل جماعة مهدي هاشمي الذي ينزل على رأس الحجّتيين، وخاصة في الجبهات، سوى غطاء لطرد وقمع مخالفي فرقتهم، حيث كانوا يتهمون كل من لا يوافقهم الرأي وكل من ينتقدهم انتقادًا بسيطًا بولائه للحجّتية، وهذه كانت هراوتهم للقمع. على سبيل المثال، كانوا يتّهمون بعض الأشخاص كالشهيد "آية الله الدكتور بهشتي" أو حجة الإسلام الحاج "مصطفى رداني بور" القائدين البارزين في فرقة "14 الإمام الحسين"، واللذين سعيا إلى عزل وتحجيم هذه الجماعة، بأنهما من الوجوه الأساسية في الحجّتية.

على كل حال، كانت الخطابات الحادّة والباعثة على التفرقة لبعض الخطباء الذين كانوا يحضرون باستمرار ويلقون خطابات في المسجد، تسيء إلى الحال المعنوية لصلاة الجماعة، على الرغم من أنّ الإمام الخميني قد منع أي نشاطات سياسيّة أو حوارات مثيرة للاختلاف في الجبهات. لذلك كان المجاهدون ذوو البصيرة ـ وتعبّدًا منهم بكلام
 

1- فرقة عقائدية اتخذت منحًى تفريطيًا في ما يتعلق بالتمهيد لظهور صاحب الأمر (عج)، نشأت عام 1953 بعد الانقلاب على مصدّق، بهدف مواجهة فرقة البهائية، لكنّها لم تواجه أساس البهائية ولم تتعرض لزعمائها وقادتها، وكانت تعقد جلساتها بحرية تامة في ظل حماية وسكوت نظام الشاه. انحرفت عن مسارها بعد أن استقطبت جماعةً من الناس والشباب، ووصل بها الأمر إلى أن تعارض قيام الجمهورية الإسلامية ولم تؤمن بولاية الفقيه وادّعت فصل الدين عن السياسة، ودعت إلى القعود وعدم مواجهة الباطل والفساد ريثما يظهر صاحب الزمان (عج) ليقوم هو بالأمر.
 
 
 
 
32

26

الثالث

 الإمام ـ يتحمّلون كثيرًا، يصبرون على الأذى ولا يظهرون أي ردّ فعل.


في ليلة من تلك الليالي، بعد إقامة صلاتي المغرب والعشاء، أُحضرت الكتيبة فجأة، وركب الشباب في الحافلات التي انطلقت تحت جنح الظلام. لم يكن أحد يعرف إلى أين نتوجّه. اعتقد معظمنا أنهم ينقلوننا إلى الخطوط الأمامية في جبهة الجنوب للمشاركة في العمليات. كانت حركتنا سرّية بالكامل، كي لا يكشفها العدو. لكن في منتصف الطريق، تمّ إخبارنا أننا متجّهون إلى منطقة الغرب. في صبيحة اليوم التالي، وصلنا إلى "سنندج".

نقلونا إلى ثكنة "محمّد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم في "سنندج". كانت مركزًا تدريبيًّا، تتلقّى فيه قوات تعبئة كردستان التدريبات العسكرية. بعد دخولنا، تم إسكاننا في المنامات التابعة للثكنة، وبدأنا منذ اليوم التالي المشاركة بالبرامج الصباحية وبالتدريبات التكتيكية والدروس العقائدية للكتيبة.

كل فجر، ومباشرة بعد الأذان، تقام صلاة الجماعة، لتنطلق الكتيبة بعدها وبشكل منظّم بهدف تسلق الجبال، والمشي إلى التلال والجبال المحيطة بسنندج للمحافظة على اللياقة البدنية. توصّل الجميع إلى استنتاج أن العمليات التالية ستكون في غرب البلاد. وقد أكّدت التمارين الصعبة والمسيرات الجبلية الطويلة هذا الأمر. فقد سعى القادة من خلال هذه التدريبات إلى تجهيز الشباب للقتال في مناطق جبلية. بعد طلب وإصرار الأخ "علاقه مندان"، أُوكلت إليّ مهمة التثقيف العقائدي في الكتيبة.

كل صباح، وبعد تناول الفطور، وعصر كل يوم كان لديّ صفوف
 
 
 
 
 
33

27

الثالث

 تثقيف عقائدي، يشارك فيها الأفراد بحماسة كبيرة، حيث كنت أتناول مواضيع منظّمة حول الأحكام والأصول العقائدية. بالإضافة إلى هاتين الجلستين، باشرتُ بصفٍّ قرآني للإخوة غير القادرين على قراءة القرآن، وقد لاقى قبولًا واسعًا بين الشباب المقاتلين.


سررت كثيرًا بالتوجّه القويّ لأبناء المعسكر نحو المسائل العقائدية. حيث كانوا يراجعونني أثناء الاستراحات، كي يسألوني عن بعض المعضلات والمسائل الثقافية المعقدة، وقد اقترح بعضهم تشكيل صف اختياري لمناقشة المسائل الأكثر تعقيدًا. لكن ضغط البرامج العسكرية في الكتيبة لم يسمح أبدًا بإقامة صف كهذا.

شاركت الكتيبة بأكملها، أي حوالي الـ300 شاب، في الصفوف المتنوعة، لذلك كنا مجبرين على متابعة دروسنا في باحة الثكنة على العشب. في صباح أحد الأيام، كنت منشغلًا بالتدريس، حين رأيت حجّة الإسلام "أحمد تركان" يقترب منا، إلى أن وصل إلينا وجلس مع الشباب على الأرض.

بعد الصف، تكلمت معه وأخبرني أنه تحمّل الكثير من الصعاب والمشكلات بسبب عشقه للمشاركة في العمليات والوصول إلى "سنندج"، والالتحاق بكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". لذلك توجهنا معًا إلى الأخ "عباس قرباني"، قائد الكتيبة، الذي وافق على طلب التحاق الأخ "تركان" بنا.

بعد ذلك، سلّمت صفوف العقائد كلها للأخ تركان، لكنني نزولًا عند رغبته استمررت في صفوف تعليم قراءة القرآن. كما تولى هو إمامة صلاة الجماعة في الكتيبة. لكنه على الرغم من المسؤوليات الجسيمة التي تولاها، إلا أنه كان كأي عنصر عادي في الكتيبة يشارك في تنفيذ كافة النشاطات، كالبرنامج الصباحي، التكتيك، التدريب الليلي و...
 
 
 
 
 
34

28

الثالث

 في الليالي الـ19، 21، 23 و27 من شهر رمضان المبارك، سيطر على الثكنة صخب عجيب غريب. كان شباب كل سرية، وبعد تناول العشاء، يجتمعون أمام منامتهم ويبدأون باللطم، وبعد أن يجولوا في الثكنة، يلتقون أمام المصلّى ويبدأون بقراءة العزاء. كان لهذه المراسم حال معنوية مؤثّرة، لدرجة أنّ بعض الشباب كان يغيب خلالها عن الوعي للحظات.
 
بعد الانتهاء من المراسم، كان حجة الإسلام "تركان" يوضح للشباب الأعمال المستحبة الخاصة بكل ليلة من ليالي القدر. فيبادر الشباب ويُغطّون قسمًا كبيرًا من أرض الباحة الخاصة بالمراسم الصباحية ببساط (موكيت) ويضيئون المكان في الخارج، ليستمر معظمهم حتى الصباح في الإحياء والقيام بالأعمال المستحبة لليلة القدر.

أينما أجلتَ نظرك، رأيت في كل زاوية مقاتلًا عاشقًا، لامس وجهه التراب، ويتجاذب الحديث ويتبادل أسرار القلب بعرفان مع محبوبه. كانت حال الأخ "تركان" الأكثر لفتًا للنظر من بين الجميع. إن القلم والبيان يعجز عن وصف هذه الأحوال والأجواء العرفانية التي كانت تظلّل ثكنة "محمّد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم في ليالي القدر.

كانت الحال المعنوية لأعزاء كـ"علاقه مندان"، "رهنما"، "صيادزاده"، "فرهنك"، وآخرين كثر -لو ذكرتُ أسماءهم لطال الكلام- لافتة للنظر ومثيرة للدهشة. هؤلاء، مع صغر سنّهم، أقبلوا على العبادة بحرقة وشوق، وكأنهم قضوا سنوات طويلة في السير والسلوك في وادي العشق والعرفان. طيلة هذه المدة، أرسلت رسائل عديدة لعائلتي، حاولت فيها، من خلال تبرير حضوري في الجبهة، أن أقنع أمي بما أفعله. طيلة فترة وجودي في مدينة "دارخوئين"، كنت أتصل بأمي أسبوعيًا. في البداية، كانت ترفض الكلام معي، لكنها استسلمت في النهاية. صارت خلال مكالمتي الهاتفية تؤكّد عليّ أن
 
 
 
 
 
35

29

الثالث

 أنتبه لنفسي وتُحذّرني من الذهاب إلى الخطّ الأمامي.


منذ أن انتقلنا إلى "سنندج"، وتنفيذًا لأوامر القادة، ولأجل المحافظة على السريّة العسكرية، تمّ قطع الاتصالات مع المحافظات الأخرى، لأن وجود كتيبتنا في غرب البلاد يعتبر من الأسرار العسكرية. لذلك لم أستطع مطلقًا التواصل مع أمي وأبي. كانت الرسائل التي يرسلها إلينا أهلنا إلى عنواننا السابق في مدينة دارخوئين، تصل إلينا إلا أننا لم نستطع الرد عليها. لذلك قلقت جدًا، لأنني كنت أعرف أن عدم الرد على الرسائل سيلقي في أذهانهم آلاف الاحتمالات، ما سيزيد من قلقهم علينا. لكن لا سبيل لنا سوى الصبر والانتظار.

كانت البرامج العسكرية للكتيبة متنوعة ومؤثّرة جدًّا. بعد ظهر كل يوم، على رأس الساعة الرابعة، كانت كل سريّة، مع قائدها تجتمع في زاوية من الثكنة، وبكل تنظيم تخضع للتدريبات التكتيكية والعسكرية. كان تدريس هذه البرامج يتمّ بشكل كلاسيكي ومنظّم جدًّا. كان الإخوة من ذوي التجربة، أي الذين شاركوا في العمليات المختلفة منذ بداية الحرب، ينقلون تجاربهم إلى البقية، ويشرحون كيفية فك وجمع أنواع الأسلحة، وتخطّي الحواجز المتعددة، ويعرّفونهم إلى أنواع الألغام وآليّة اكتشافها وتعطيلها، وكيفية استخدام اللاسلكي والبوصلة والإسعافات الأولية. وزِد على ذلك، في بعض الليالي، ومن دون إخبارنا سلفًا، كانت تُجرى مناورات ليلية ومفاجئة أو ما يسمونه بطابور الإزعاج الليلي. تركت هذه الليالي في أذهاننا الكثير من الذكريات الجميلة...

فجأة، في منتصف بعض الليالي، بينما يرتاح المقاتلون بهناء وهدوء في أسرّتهم، ولا علم لديهم بأيّ أمر، يهجم القادة وبقية القوات وفقَ خطّةٍ مسبقة، إلى مكان النوم ويبدأون بإطلاق النار في الهواء، والصراخ وبإحداث الضجيج، فيبدو كأن العدو قد هجم بشكل
 
 
 
 
 
36

30

الثالث

 مفاجئ. أثناء هذه الحال، يتمّ قطع الكهرباء عن الثكنة، فتغرق عندها في ظلام دامس. يستيقظ الشباب من نومهم مذعورين، ويبدأون بالركض في الاتجاهات كافة. ويملأ صوت الانفجارات وصراخ القادة وضجيجهم الثكنة بأكملها وكذلك غرف الاستراحة والنوم. يتوجّب على كل مقاتل، وهو يشعر بالنعاس التام وسط العتمة أن يرتدي لباسه وينتعل حذاءه خلال دقيقتين فقط، وعلاوة على ذلك، عليه أن يرتب سريره، ويغادر إلى الخارج بحذائه العسكري وتجهيزاته ووسائله الكاملة، ليقف في مكانه المحدّد في السريّة كما يصطف دومًا.


في هذه الأجواء المليئة بالتوتر والفوضى، كان الشباب يصطدم أحيانًا بعضهم ببعض ويقعون أرضًا. بينما القادة لا يتوقفون عن إصدار أوامرهم للشباب كي يسرعوا في الاصطفاف خارجًا في أماكنهم المعهودة. إن هدف هذه البرامج هو تعويد الشباب على التنظيم والعمل بسرعة ومعرفة الأماكن الدقيقة حيث يوضّبون ألبستهم وأحذيتهم وتجهيزاتهم العسكرية، وتدريبهم على عدم التوتر والضياع مهما كانت الظروف.

في الليلة الأولى لمثل هذه التدريبات ولأن الشباب لم يكونوا على علم بما قد يحصل، تعرضوا لمواقف مضحكة جدًّا. فحين تمّ الاصطفاف في الخارج وأضيئت الثكنة، لم تكن الكتيبة تشبه بأي شكل من الأشكال أي كتيبة عسكرية. فبعضٌ كانوا حفاة، وآخرون ينتعلون فردة حذاء واحدة، وبعضٌ آخر من دون سلاح، في حين حمل عدد من الشباب أسلحتهم فوق ألبستهم الداخلية، ووقفوا وهم يتراصفون، لم يقف إلا القليل من دون نقص في التجهيزات وفي المكان المحدّد ضمن صف الكتيبة!

عند الاختبار، يتفحّص قائد كل سريّة شبابه واحدًا تلو الآخر، ويفصل الذين حضروا بشكل كامل عن البقية، ثم يكافئهم فتكون
 
 
 
 
 
37

31

الثالث

 جائزتهم العودة إلى النوم والراحة. أما أنا والبقية، فقد نلنا عقابنا إذا صحّ القول: قضاء الليل في الزحف والركض حتى الصباح و.. هذا الأمر دفع بعض الشباب للنوم بلباسهم الكامل، وبعضهم الآخر مع أسلحتهم وأحذيتهم العسكرية، وبعضهم اتّخذ أغراضه وسائد يتكئ عليها للنوم، وهو يحتضن أسلحته. حتى إذا ما تعرضوا لطابور إزعاج، لا يواجهون أي مشكلة.


في بعض الأحيان، كان هدف المناورة العسكرية الليلية أو طابور الإزعاج هو الحفاظ على اللياقة البدنية للشباب. بحيث إنّه في مثل تلك الحالات، كانوا يوقظون الكتيبة في ساعات الليل الأولى لينطلق الشباب في مسير على مرتفعات "سنندج". قد يستمر هذا المسير أحيانًا حتى الصباح، فيصلّي المقاتلون صلاة الصبح جماعة خارج الثكنة.

في إحدى تلك الليالي، قطعت الكتيبة تلة من التلال ذات منحدر حادّ جدًّا وخطر، ثم اضطررنا لعبور ماء نهر، بعمق حوالي المترين. كانت المياه في تلك الساعة من الليل باردة جدًّا، وعلى الإخوة عبورها محاولين رفع أسلحتهم كي لا تتبلّل، ولهذا قطعوا النهر بصعوبة كبيرة. بعد ذلك، أمر قائد الكتيبة قادة السرايا كافة بتفحّص معدات وأسلحة عناصرهم. فتبيّن أنّ أغلبهم فقدوا بعض المعدات والأسلحة كالقنابل اليدوية، الأمشاط، الجزمات العسكرية، كما فقد بعض رماة الـ (B7) قذائفهم وترك أحد المسعفين حمّالته في ماء النهر.

أمر الأخ قرباني بعض الشباب بالنزول إلى أعماق الماء والبحث عن المعدات والأسلحة المفقودة. فقاموا بمحاولات عدّة، واستطاعوا إخراج عدد قليل من المعدات. عندئذ، قفز الأخ قرباني إلى الماء بملابسه
 
 
 
 
 
38

32

الثالث

 الكاملة، وكان في كل مرة يقفز فيها إلى قعر النهر يرجع مع بعض القنابل والأغراض الأخرى. مع أنّه كان يبقى تحت الماء لمدة طويلة للدرجة التي تثير القلق. وهكذا، خلال فترة قصيرة أخرج كل ما غرق في النهر، وبعد التأكد من اكتمال المعدات والأسلحة، استأنفنا مسيرنا.


كان للأخ "عباس قرباني" شخصية عجيبة، وبدت قيادة الكتيبة لائقة به بالفعل. ولذا تأثّر به بعض المقاتلين لدرجة أنّهم كانوا يكررون القول إنه لا أحد لديه القدرة على النظر إلى عيني عباس قرباني بشكل مباشر لأن لديه هيبة خاصة، وكان كلامه ونظراته يؤثران على الجميع من دون استثناء. إضافة إلى ذلك، فإنّ جسمه كان قويًّا مليئًا بالعضلات، ونظرته نافذة، أمّا سيماه فرجولية وحاسمة، وحين كان يخطب بالشباب، ينصت الجميع إليه، وينفّذون أوامره بعشق ومحبة. أما مساعدوه فكان كل واحد منهم يتمتع بجزء من هذه الميزات.

أحسست أنّ الليالي والأيام تمر مصحوبة بذكريات لا تنسى. وبينما مكثت كتيبة "الإمام الحسين" عليه السلام في حال انتظار وترقّب، كان الشباب يشكون من تأخّر العمليات، ولا ينفكّون يسألون قادتهم عن الموضوع. مرّ حوالي الشهر على حضوري في الجبهة، وقد سمعت نبأ انطلاق عمليات (والفجر2) في منطقة "بيرانشهر"، وتناهى إليّ أخبار الملحمة البطولية التي سطّرها المقاتلون "الشيرازيون".

صحيح أنّ هذا الخبر قد أفرح الجميع، لكن الشكوى تضاعفت مع التساؤل عن السبب الذي منع كتيبتنا من المشاركة في هذه العمليات على الرغم من استعدادها التام لذلك، ولهذا استمر الضغط على القادة لنقل الكتيبة إلى تلك المنطقة كقوات دعم ومساندة، وبالتالي أن
 
 
 
 
 
39

33

الثالث

 تبقى هناك لإكمال العمليات. طلب الأخ "عباس قرباني" من الشباب أن يحافظوا على استعدادهم ووعدهم خيرًا بأن يسعى لأخذ التكليف من القيادة. وضجّ الشباب بهذا الخبر، فبدأوا بتنظيف أسلحتهم في أماكن استراحتهم ونومهم بينما شرع آخرون بتجهيز حقائبهم.


في اليوم التالي، آخر تير 1362/ 22 تموز 1983، أثناء المراسم الصباحية، جاء الخبر المؤسف: لا حاجة لكتيبتنا في هذه العمليات، لذلك فليستعدّ شباب الكتيبة لأخذ مأذونية لأسبوع كامل. صُدم الجميع عند سماعهم هذا القرار. أما أنا فبالإضافة إلى انزعاجي الشديد، لأنني لا أميل أبدًا للعودة إلى أصفهان، كنت أعرف أنني إذا ما عدت إلى البيت ستنطلق من جديد المشاجرات والمشكلات السابقة، ولن تسمح أمي لي بالعودة إلى الجبهة مرّة ثانية.

يظهر أنّ القادة كان لديهم قوات كافية لهذه العمليات. لذلك قرروا أن تشارك كتيبتنا في العمليات التالية. توجهت إلى الأخ "عباس قرباني" كي أستأذنه للبقاء في الثكنة إلى أن يعود الشباب من مأذونيتهم.

استعدّ الجميع للمأذونية، ودخلت الحافلات إلى الثكنة لنقل الشباب. كنت متوجهًا إلى خيمة الأخ "قرباني" وأنا قلق من أن يرفض طلبي. اقتربت من مقرّ القيادة الواقع في وسط الثكنة. حين وصلت إلى باب الخيمة قلت: "يا أخ قرباني، هل تسمح؟".

- تفضّل إلى الداخل.

ما إن دخلت إلى الخيمة، حتى وقف في مكانه، وسلّم عليّ وهو يشدّ على يدي. وفي هذه الحال، نظرت إلى الجهة الأخرى من الخيمة، فرأيت الأخ "حسين خرازي"، قائد فيلق "14 الإمام الحسين" عليه السلام وهو يجلس متربّعًا على الأرض، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة لطيفة.
 
 
 
 
 
 
40

34

الثالث

 هذا اللقاء المفاجئ مع قيادة الفرقة، جعلني أشعر بإرباك وتوتر، وقلت: "سلام يا سيد خرازي..". فأجابني بتواضع عجيب وهو يقف من مكانه: "سلام عليك يا أخي".


قرّبني الأخ "قرباني" منه ممسكًا بيدي، وخاطبه وهو يعرّفه إليّ ويصفني له ببعض الجمل. فسلّم علي الأخ خرازي بحرارة ودعاني للجلوس. وقبل أن أتفوّه بأي كلمة، نظر الأخ قرباني إلى قائد الفرقة وقال: "كما قلت لكم، حين أبلغتهم خبر المأذونية انزعج الكثير منهم، والأخ طالقاني كان من أكثرهم اعتراضًا وقد بدا الانزعاج واضحًا على وجهه".

ابتسم الأخ "خرازي" وقال: "إذًا، إذا ما أعلمته بخبر إلغاء المأذونية سيفرح كثيرًا".

وضع قائد كتيبتنا كوبًا من الشاي أمامي وقال لي مبتسمًا: "نعم يا أخ طالقاني، أخيرًا، وبجهد الأخ "خرازي" الذي استطاع أن يقنع المسؤولين باستعداد كتيبتنا الكامل للعمليات، سنتوجّه اليوم إلى الخطّ الأمامي". كدت أطير من الفرح. على هذه الحال عبّرت عن شعوري، وشربت كوب الشاي، ثم طلبت الإذن للانصراف. عندها، سألني الأخ قرباني: "ألم يكن لديك عمل معي؟ هل نسيت؟".

- لا، لقد انتفى الموضوع.

- إذًا لو سمحت، أبلغ قادة السرايا جميعًا بالنيابة عني، أن يجمعوا قواتهم في الباحة الخارجية لأن الأخ "خرازي" يريد أن يتكلم معهم.

- على عيني.

ودّعته وتوجّهت نحو مكان استراحتي (المنامة)، وأوصلت رسالة الأخ قرباني لقادة السرايا.
 
 
 
 
 
41

35

الثالث

 لم تمضِ دقائق قليلة حتى كانت الكتيبة في الباحة الخارجية على استعداد لسماع الأخ خرازي. تحدّث عن المساعي التي قام بها لإقناع المسؤولين بالسماح لكتيبة "الإمام الحسين" عليه السلام بالمشاركة في العمليات، وأبلغنا أنهم وافقوا على تلك المشاركة ومتابعتها حتى النهاية. وهنا طلب الأخ خرازي من الشباب أن يستعدوا، ويحملوا كامل عتادهم خلال نصف ساعة للتوجّه إلى الخطوط الأمامية.


ما إن أنهى قائد الفرقة كلامه، حتى بُثّت روح جديدة في قلوب الشباب. فهجموا جميعًا نحو أماكن استراحتهم حيث كانت أغراضهم. وها هم في النهاية وبعد شهر من المثابرة والمسير وعدم النوم يقطفون ثمار جهودهم. جاء عدد من مساعدي الأخ "خرازي" ليستلموا الأغراض الشخصية للشباب. كان كل مقاتل يتحدّث مع نفسه ويناجيها فرحًا. لن يصدّق أحد أن هؤلاء الشباب هم أنفسهم ذوو الوجوه التي كانت عابسة منذ ساعة، ومنزعجة من المأذونية. سألت نفسي: "أين يمكن أن تجد في هذه الدنيا جيشًا متحمّسًا لهذه الدرجة للقتال والجهاد؟".

في أقل من خمس دقائق، فرغت قاعات الاستراحة (المنامات) نهائيًا من أصحابها. وأينما جلت بنظرك ترَ مقاتلًا صلبًا، واقفًا بالقرب من حقيبته وأغراضه وقد غاص في أعماق نفسه وهو يكتب رسالته التي يعتقد أنّها الأخيرة. في الحقيقة، إنّ هذه الرسائل هي منشورات للقيم الراقية لهذا الشعب، ولبناء المستقبل الآتي، وقد كُتبت بأيدي ممثلي جيل الثورة وهم في لحظة إيثارهم وتضحياتهم. نعم، يكتب هؤلاء المقاتلون الأعزاء رسائلهم الأخيرة، ويخبئونها في ملابسهم الشخصية، حتى إذا عادت حقيبة أغراضهم وحدها، تصير رسائلهم نورًا يضيء طريق المجتمع وعائلاتهم والأجيال القادمة.
 
 
 
 
42

36

الثالث

 في هذه الأجواء، حين اختليت بنفسي في إحدى الزوايا، ومن دون قرار مني، رحت أستعرض أحداث حياتي، وتجسّد أمامي كلٌّ من أبي، أمي، عائلتي، أصدقائي القرآنيين، نادر، ناصر، الجميع، الجميع. سألت نفسي: "هل يمكن أن أصدّق أنني جدير بالقرب الإلهي؟ ماذا لو كان الحلم الذي أخبرني به نادر سوف يتحقّق الآن؟ هل حان الوقت حقًّا للركوب في المركب الذي حجز بطاقته لي نادر من قبل؟".


في تلك اللحظة، ومن خلال تحليل باطني، وصلت إلى هذه النتيجة أنني لم أُجهّز أي زاد للوصول إلى هذا المقام. إذًا هل ستشملني رحمة الله وعنايته؟ فجأة، تناهى إلى سمعي صوت قارئ قرآن وهو يتلو عبر مكبر الصوت في الثكنة: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. (الزمر/ 53). هذه المرة أيضًا، شعرت وكأنّ القرآن يخاطبني. كنت أضع رأسي على ركبتي، فصارت الدموع تسيل وتجري بهدوء نحو الأرض. فرجوت ربّي قائلًا: "يا إلهي، لست آيسًا، لكنك في هذه الآية خاطبت عبادك، فهل أنا من عبادك يا ترى؟ يا إلهي، يداي فارغتان. لكن هل يمكن أن نقارن بين عملنا ورحمتك؟ ليس من الصعب أبدًا بالنسبة إليك أن تمحو بقلم العفو في لحظة واحدة عمرًا من الخطأ والذنوب لعبد وجهه أسود. فيا إلهي! طهّرني من كلّ ما قمتُ به وارحمني..!".

ثم تابعت الاستماع إلى القارئ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ...﴾. (الزمر/ 54).

لم تكن المرة الوحيدة التي أعتقد فيها أن القرآن يخاطبني، لكنني، أحسست أنني لم أستمتع إلى هذا الحد بسماع القرآن كما الآن. في النهاية، قررت مثل الباقين أن أنقل المشاعر التي تغمرني الآن على
 
 
 
 
43

37

الثالث

 الورقة، لعلّها تكون وسيلة تلهم أهلي الصبر، وسببًا لهداية رفاق دربي.


كتبت رسالة طويلة نسبيًا. قدّرت أتعاب أبي وأمي التي كانت من دون مقابل، وطلبت منهما بإصرار أن يصبرا على هذا الفراق الظاهري. ثم هنّأتهما بنفسي لأنّهما قدّما ابنهما الوحيد على طريق الحبيب. الخطاب الأساسي في الرسالة وجّهته إلى أمي. في هذه اللحظات الصافية، حيث تتجلّى العاطفة والمشاعر، حلّقت قريحة الشعر لديّ، وحاولت نظم بعض الأبيات التي تلخّص كلّ ما أردت قوله لأمي، فافتتحت كلامي بالأبيات التالية: (ترجمة الشعر)
"يا أمي، هذه الليلة أيضًا لمع في ذهني شوق الرحيل
في فضاء قلبي، هذه الليلة يغني ناي الوصال
لقد رحل أصدقائي وأصحابي يا أمي
وأنا لديّ في بستان الشهادة سرو الدلال
لقد تعبت من ضوضاء المدينة يا أمي
بينما في الصحراء عندي ألف صديق وحافظ أسرار
خلاصة روحك ترافقني صوت قرآن وحافظ1

سُكْرِي أخذته من الكتاب ومن خواجة شيراز
لقد كررتِ في أذن روحي قصة عن الروح الأصيلة للحق
ولذلك سُحرت بهذا الحق، وصرت أعزف لحن وصله
تخليت عن كل تعلقاتي وتعلقت بمولى عشقي
اِنأَسَرَ قلبي لوجه كالقمر كالسرو المدلل
خذ قلبي مني فقد قررت الذهاب وعدم العودة
قفص قلبي يضيق بي أريد أن أحلّق"
 

2- حافظ الشيرازي
 
 
 
 
44

38

الثالث

 ثم تابعت الكتابة:

يا أمي، أنت الأعزّ من روحي، قلت لك إنني ذاهب إلى وحدة التثقيف العقائدي. صدّقيني لم أكذب عليك. أولًا، حين وصلت إلى هنا، بقيت مدّة أخدم في هذه الوحدة، كان الخطّ الأمامي للجبهة هو غاية الدروس العقائدية. فأولئك الذين أمضوا عمرًا يدرسون الفقه والأصول، والفلسفة والعرفان، وعلم الكلام، عليهم أن يخرجوا مرفوعي الرأس من امتحان الجبهة، وإذا تزلزلت أقدامهم في هذا المسير، أقسم، والله شاهد على قسمي هذا، إنّهم قضوا عمرهم في المكان الخاطئ. يا أمي! لقد أتيت إلى الجبهة كي أجد نفسي لأنّ: "من عرف نفسه فقد عرف ربه". أتيت كي أشهد عدل الله في السير والسلوك وليس في العقل والأفكار.

إلى متى علينا الجلوس، نقرأ ونطالع تاريخ الأنبياء الأطهار الذين قضوا عمرهم في الجهاد والإيثار، من دون أن نتعلّم الدرس منهم؟ لقد أتيت إلى الجبهة كي أشهد عن قرب نبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يعتبر الجهاد فخر أمّته. لقد أتيت إلى الجبهة كي ألبّي نداء إمامٍ أحيا ثقافة الولاية في مجتمعٍ كان غارقًا في الظلم والجهل، إمام أدخل من جديد شعاع الأمل إلى نافذة قلب مُنْتَظري الحرية والعدالة والفلاح، وأحيا الطريق الأحمر للأئمّة الشهداء عليهم السلام، وبعد 1400 سنة من الركود والجمود حرّك من جديد هذا الجيل. لقد أتيت كي لا أكون مصداقًا لأولئك الذين عرفوا أنّ إمامهم يطلب النصرة، ومع ذلك بقوا داخل قوقعة نفوسهم وزحفوا نحو زخارف الدنيا. أتيتُ باختياري للموت بشرف لأصرخ: "يا أيها الناس النائمون، إن هذه الدنيا الترابية ليست سوى جسرٍ للعبور، وليست منزلًا للإقامة والبقاء! أتيت لعلّي ألوّن انتظاري بدمائي...
 
 
 
 
 
45

39

الثالث

 أمي العزيزة، هل يمكن أن يضع الإنسان قدمه في بستان الجبهة، ثم يفرّ من موقد العشق الدافئ، أي مواجهة الأعداء وجهًا لوجه؟".


في هذه الرسالة، كتبت كلّ ما اعتبرته مهمًّا، وخاطبتُ كلّ من يهمّني أمره، ثم وضعت الرسالة في حقيبتي وسلّمتها إلى "معاونية الفرقة".

كانت الكتيبة في باحة التمرينات الصباحية، قد صارت مستعدّة للانطلاق، وأضافت الأعلام الملوّنة التي يحملها الشباب أبّهة على هذا المشهد الحماسي، ومن جهة أخرى كان مكبّر الصوت في الثكنة يتعالى منه نشيد : "مع مسير القافلة، احزموا الأمتعة أيّها الرفاق، جيش الله، في قلبه حبّ الله.".. وإذا ما نظرت إلى وجوه الشباب، رأيت ابتسامة عريضة وفَرْحة ظاهرة. حتى الإخوة الذين كانت بسمتُهم قد انمحت عن وجوههم، تلقاهم اليوم نشيطين سعداء.

كنت ترى في كل زاوية من الثكنة، مجموعة من المقاتلين، وهم يلتقطون الصور التذكارية. لكن إذا دقّقت النظر في أرجاء المكان ونظرت جيدًا، ستجد أحيانًا صديقين حميمين، يتحادثان بجدية، وينظر أحدهما إلى الآخر وكأنّهما حبيبان لم يلتقيا منذ سنوات، يستمعان بشوق إلى كل كلمة تصدر من أحدهما، ثم يحتضن أحدهما الآخر، ويفهمان بالدموع ما تعجز عنه الكلمات.

وقف الشباب الذين يخدمون في الثكنة ينظرون إلى هذا المشهد المليء بالشوق والعاطفة بتعجب وحيرة!

رأيت عمال المطبخ، وقد انزوى كلٌّ منهم حزينًا مهمومًا. بينما الأكثر رقة فيهم، كان يبكي بهدوء ويحاول جاهدًا إخفاء دموعه.

هل تتّجه كتيبة "الإمام الحسين" عليه السلام حقيقة إلى كربلاء؟ تمّ تقسيم الكتيبة إلى صفوف متراصّة حسب السرايا. تحرّك قائد كل
 
 
 
 
 
 
46

40

الثالث

 سريّة، فلحقه شبابه بانضباط لافت للنظر. توقّفت الكتيبة أمام باب الثكنة. أمر القادة الجميع بالجلوس على الأرض، كي يتمكّنوا من إحصائهم والتأكّد من كافة الأمور. اقترب الأخ "محمد علاقه مندان" منّي وقال لي: "لدي عمل خاص معك، هل يمكنك المجيء؟". وقفت بسرعة وتوجّهت معه إلى إحدى الزوايا. أمسك بيديّ وضغط عليهما، ثم بدأ يكلّمني بجدية لم أكن أتوقعها، فقال: "يا سيد طالقاني، إنني متأكّد أنك من الذين سيستشهدون. أنت تعرف كم بقيت في الجبهة. لدرجة لا أستطيع عدّ العمليات التي شاركت فيها. في كل مرة كنت أجيء إلى الجبهة مع عشرات الأصدقاء المقربين، فيسرعون هم للقاء الله لأعود أنا وحيدًا. يا سيد طالقاني، لقد ضاقت الدنيا بي. لا أمنية لي سوى الشهادة في سبيل الله. كلما كنت أرجع إلى أصفهان، كنت أخجل من نفسي، لم أكن أستطيع أن أنظر في عيون أمهات الشهداء وآبائهم وعوائلهم. بالطبع، أنا متيقن أنّني لست جديرًا بهذا الفيض، ولذلك فإنّ دعائي لا يستجاب. لكن لديّ رجاء واحد منك. وأقسم بالله عليك، حين تلتقي بالشهداء وخاصّة الشهيد بهشتي، أنقل سلامي إليهم جميعًا، واطلب منهم أن يشفعوا لي. وأن يتوسطوا لي عند الله، كي يتقبلني أنا أيضًا..".


أطرقتُ برأسي لشدة خجلي، وحاولتُ جاهدًا أن أجيبه، لكنني لم أستطع. كانت شفتاي ترتجفان والدموع ظلّت محبوسة في عيني، وكان لا يزال يشدّ على يديّ ويكرّر: "عدني أنك ستفعل ما طلبته منك، عدني بذلك..".

اختنقت بعبراتي، ولم أستطع أن أسيطر على نفسي وفجأة أجهشت بالبكاء. ثم احتضنته وصرت أنوح بصوتٍ عالٍ. مرت لحظات على هذه الحال ولم أفهم ساعتئذٍ كيف يمكن أن أكون جديرًا بالشهادة، في
 
 
 
 
 
 
47

41

الثالث

 حين أنّ ذلك الـ"علاقه مندان"1 الذي قدم إلى الجبهة عشرات المرات ـ وكما يقول الشباب لا يوجد عضو سالم في جسده ـ ليس جديرًا بهذا الأمر؟! وهو الذي اعتبر بكائي في حضنه موافقة على ما طلبه، فعدنا معًا إلى السريّة.


أصبحت الكتيبة جاهزة للتحرك، في الوقت نفسه، اصطفّ الطباخون وعمال الثكنة على جانبي الحافلات فظهروا كأنهم شارعٌ طويلٌ، يحمل معظمهم الورود والقرآن، وصار الشباب يمرّون من تحت القرآن ثم يركبون الحافلات. وهكذا تحرّكت الحافلات متوجهة إلى مطار سنندج.

كان عمال المطار أيضًا في استقبال المقاتلين وفي أيديهم الورود، وهم يصرخون بصوت واحد: "يا أخي المجاهد... ليحفظك الله". كانت في انتظارنا طائرات عسكرية كبيرة (C-130). وسرعان ما ركبت كل سريّة إحدى الطائرات متوجّهة إلى مدينة أرومية.

ظهيرة ذلك اليوم، أي اليوم الأخير من شهر تير (20 تموز) وصلنا إلى أرومية. وحين كنا ننزل من الطائرة، تهادى صوت الأذان إلى مسامعنا، بعد لحظات استقبَلنا العمال وأفراد غرفة الطوارئ في مطار أرومية بحرارة. وبعد استراحة قصيرة، صلينا جماعة بإمامة حجة الإسلام "أحمد تركان"، ثم بعدها تناولنا الغداء معهم.

عند الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر، انتقلنا في حافلات إلى مدينة "بيرانشهر". أي إلى المحور الذي يشهد منذ عدة ليالٍ عمليات "والفجر2". هناك ضجّت المدينة بالحركة والحماسة. كان المقاتلون الذين يملأون الشاحنات في حال ذهاب وإياب وتسمع من
 

1- "علاقهمند" تعني: راغب، محبّ، مهتم، وقد أورد الكاتب اسم عائلته هنا بنحو التفخيم قاصدًا: "أما ذاك الراغب..".
 
 
 
48

42

الثالث

 المئذنة أناشيد النصر والصرخات العسكرية التي كانت تضيف على الأجواء حماسةً ونشاطًا وشوقًا كبيرًا. وعلى تلك الحال نقلوا كتيبتنا مباشرة إلى ثكنة بيرانشهر حيث امتلأت بالمقاتلين الذين لا يهدأون عن الحركة ولو للحظة واحدة. وكل واحد منهم مشغول بعمله. هنا لا تستطيع التمييز بين شباب التعبئة أو الحرس أو الجيش، وكأنهم جميعًا يدًا بيد يستعدون لعمل عظيم. لم يكن يفصلنا الكثير من الوقت عن غياب الشمس، حين طلبوا من كتيبتنا أن تصطفّ. كان في داخل الثكنة عدد من الشاحنات المستعدة للتحرك، ثم أعطيت الأوامر للركوب فيها. عندها أدركنا جميعًا أن الليلة هي الليلة الموعودة.


كنت واقفًا في زاوية الشاحنة، بينما كنت أشاهد قرص الشمس الأحمر في الأفق الذي يتزايد احمراره شيئًا فشيئًا. هل يا ترى ستكون هذه هي المرة الأخيرة التي أشاهد فيها منظر الغروب؟

لم تكن العتمة قد لفّت المكان بشكل كامل بعد، حين انطلقت الشاحنات بسرعة، وقد تجمع الشباب الموجودون في الثكنة على الجانبين يودّعوننا ويدعون لنا. ومن غير إرادة مني، بدأت أذرف دموع الشوق. شعرت من أعماق قلبي أنه عليّ أن أكون شاكرًا لهذا التوفيق الذي خصّني الله به، لكنني لم أجد الكلمة المناسبة التي تعبر عن عمق شعوري هذا. فتجلّى هذا الإحساس من خلال دموعي النازلة على خديّ. شعرت للحظة أنني لم أكن قط قريبًا من "نادر" كما أنا الآن. وكأنه موجود الآن قربي بوجهه الباسم، وهو يتحدث معي.

عدت إلى نفسي بعد رحلة المشاعر هذه ونظرت حولي. كانت أحوال الشباب تشبه حالي. فهنا مجموعة منهم تجلس في زاوية الشاحنة، وهي تنشد بصوتٍ عالٍ: "يا جيش صاحب الزمان... استعد... استعد".

راحت الشاحنات تتقدّم بصف منتظم بعضها خلف بعض. لم يمر
 
 
 
 
 
49

43

الثالث

 وقت طويل إذ بنا ندخل إلى جادة ترابية. عرفت من شكل الطريق وميزاتها أنّ شباب جهاد البناء قاموا باستحداثها خلال أيام العمليات السابقة. إن انحدار الجادة القوي، يشير إلى أنها سوف تؤدي بنا إلى مرتفعات عالية حيث جرت العمليات. رويدًا رويدًا دخلنا إلى مناطق تم تحريرها حديثًا خلال الليالي السابقة. فالخنادق، والدبابات المحترقة، وسيارات الجيب المدمرة تحكي هول وعظمة ما قام به المنتصرون لدين الله. إن الانحدار القوي للطريق والازدحام الشديد عليها جعلا الشاحنات تتقدّم ببطء والسيارات العسكرية المتنوعة كانت في حال ذهاب وإياب. بعد مضيّ ساعة أو أكثر وصلنا إلى نهاية الجادة حيث تقع المرتفعات التي حرّرها المقاتلون خلال المرحلة الأولى من العمليات. وتنفيذًا لأوامر القادة ترجّلنا من الشاحنات. نظم كل قائد سريّة، شباب سريّته وبدأنا نمشي بخط مستقيم.


طيلة المسير، كنت أرى جرافات الجهاد (جهاد البناء)، وهي تحفر بجد على الرغم من عتمة الليل، كي تستحدث طريقًا يصل إلى المواقع الأمامية للمقاتلين. وصلنا إلى أعلى نقطة لهذه المرتفعات. كانت تُسمَع أصوات انفجار القنابل وقذائف المدفعية، على مسافة بعيدة نسبيًّا، بينما القنابل المضيئة توضح خطّ التماس بين القوات المتقاتلة. ومن المكان الذي وصلنا إليه أمكننا رؤية الرصاص المنطلق من الجهتين بوضوح، فهو يشبه الشهب. حينئذٍ توقفت الكتيبة، وبأمر من القادة جلسنا على الأرض.

بعد وقت قصير، رأيت قائد الفرقة أي الأخ "حسين خرازي". كان يريد أن يخطب فينا. وقف على صخرة وصار يلفت نظرنا إلى أهمية المنطقة الموجودين فيها. قال: "يا إخوتي الأعزاء، الليلة لدينا عمل كبير جدًا. الإمام والأمة بالانتظار، على كلٍّ منّا أن يبذل كل جهده، ويستخدم
 
 
 
 
 
 
50

44

الثالث

 كل قدراته كي نتقدم إن شاء الله بسرعة، ونفرح قلب الإمام والأمة..".


كانت تلوح آثار التعب على وجوه الشباب، فالكتيبة ما زالت في حال انتقال من مكان إلى آخر منذ الصباح. بعد حديث الأخ "خرازي"، استلم الأخ "عباس قرباني" الكلام. في ذلك الوقت نظرت حولي، رأيت معظم الشباب قد غرقوا في النوم. طلب منا الأخ "قرباني" أن نكون على أتم الاستعداد للعمليات بعد انتهائنا من الصلاة. فتناولنا العشاء الذي كان عبارة عن خبز محلّي يابس ومعلبات سمك. ظلّت آثار التعب والإرهاق بادية بوضوح على الوجوه. فأدرك القادة أن الشباب غير قادرين على القيام بالعمليات وهم على هذه الحال. فطلبوا منا العودة إلى الشاحنات وانطلقت بنا وسارت مسافة قصيرة، حيث وصلنا إلى مبنى إسمنتي كبير. تبيّن أنّ هذا المبنى في الواقع، كان مطعمًا ومكانًا لاستراحة القادة العراقيين، وقد سيطر عليه الآن جنود الإسلام. لكنّ المبنى بات مدمّرًا ومليئًا بالردم نتيجة المعارك التي جرت في الليالي الماضية. إنّما مهما تكن الحال، فمن المفترض أن ننام الليلة في هذا المبنى.
 
 
 
 
 
51

45

الرابع

 الرابع


في اليوم الأول من مرداد/ 22 تموز، استفقنا عند أذان الصبح. وبعد إقامة الصلاة، أوصانا القادة بالعودة إلى النوم ثانية. إلّا أنه عند الساعة الثامنة، قفزنا من فراشنا على صوت الرشاشات المتواصل. في البداية، تصوّرت أنّ العراقيين قد هجموا علينا، لكن تبيّن أنّهم في الحقيقة شبابنا وهم يتصدّون لسربٍ من الطائرات العراقية التي تحوم حولنا على ارتفاع منخفض. بعد الفطور، قمتُ وبعض الشباب نجول على الدشم والخنادق العراقية الخالية بالقرب من موقعنا.

وجدنا في هذه الخنادق الكثير من الأغراض. أكثر ما لفت نظرنا زجاجات المشروبات الكحولية، وأدوات القمار والمجلات المبتذلة الكثيرة الموجودة هناك. جمعها الشباب وأحرقوها فورًا. كانت الطائرات العراقية، تحلّق كل خمس عشرة دقيقة، فوق موقعنا على ارتفاع منخفض، وترمي بشكل عشوائي عددًا من الصواريخ والقنابل العنقودية وزخّات من الرشاشات. إلّا أنّنا طيلة المدة التي قضيناها هناك، لم نشهد أي إصابة في صفوفنا جراء الطلعات والقصف، وهذا دليل واضح على خوف الطيارين العراقيين وجبنهم.

بعد صلاة الظهيرة، تمّ إحضار طناجر الطعام الضخمة في سيارات الـ"بيك أب" حيث وُزّعت على الشباب "القِيمة"1. ما إن انتهينا من
 
 

1- نوع طعام مشهور في إيران، يُطبخ من الحمص واللحم والأرز.
 
 
 
 
52

46

الرابع

 تناول غدائنا، وتنفيذًا لأوامر القادة، ركبنا الشاحنات المتوجهة إلى "بيرانشهر". في ذلك الحين، سيطر القلق على الشباب خشية إلغاء العمليات، لأننا في الواقع كنّا نترك الخطوط الأمامية متجهين نحو الخطوط الخلفية للجبهة. وصلنا إلى ثكنة "بيرانشهر" حوالي الثالثة بعد الظهر. ترجّلت كتيبتنا في المرجة الخضراء للثكنة. في المقابل، أعاد حضور القادة في تلك الباحة الأمل للشباب لأن وجودهم يشير إلى التحضير لعمل مهم. بعد أن جلسنا بشكل منظم على الأرض، وقف قادة الكتيبة خلف الأخ "حسين خرازي" ووجهًا لوجه أمامنا. همس الأخ "عباس قرباني" في أذن الأخ "يزدخواستي". فاقترب "يزدخواستي" منّا، وجلس بالقرب من الأخ "تركان" وقال له: "يا سيد تركان، يطلب منك الأخ قرباني أن تخطب أمام الكتيبة لبثّ الحماسة في قلوب الشباب وتشجيعهم ليستعدّوا للعمليات".


بعد لحظات، استدار الأخ "تركاني" نحوي حيث كنت جالسًا وراءه، وقال لي: "يا أخ طالقاني! أشعر أنني غير مستعد أبدًا، أرجوك أن تتولى هذه المهمة بدلًا عني وتخطب في الشباب".

تغيرت حال "تركان" منذ يومين ، كان يتمتم طيلة الوقت، وبدا منطويًا على نفسه. وهكذا وقَفْتُ أمام الكتيبة وبدأت أتحدّث عن الجهاد وفضيلته في الرؤية القرآنية من خلال عرض بعض الآيات الكريمة. استمرّت كلمتي حوالي نصف الساعة. ومن ثمّ جاء أحد الطيارين من القوّة البرية، وقال إنه من المفترض أن تنتقل الكتيبة بالمروحيات ليتم إنزالها في منطقة العمليات، وأخذ يشرح لنا كيفية صعود المروحية والنزول منها ومراعاة قواعد الأمان والاحتياط. بعد أن أنهى تعليماته، طلب منّا التأكّد من الأغراض والتجهيزات الخاصة بكل واحد. 

ملأنا "مطراتنا" بالمياه، لأننا قد لا نحصل على الماء إلّا بعد
 
 
 
 
53

47

الرابع

 انتهاء العمليات. ثم أرشدونا إلى مدرج المطار في الثكنة.


كانت في انتظارنا أربع مروحيات عسكرية (هيليكوبتر)، تحمّل كلٌّ منها عشرة شباب من التعبئة، تنقلهم إلى منطقة العمليات لتعود وتحمل غيرهم. كان دوري في المرّة الثانية.

كانت المروحیات تحاول التحليق على ارتفاع منخفض جدًّا، وهي تجتاز الجبال والتلال والمرتفعات المتعددة، وبعد حوالي عشرين دقيقة من التحليق، حطّت بنا على سلسلة جبال - عرفنا فيما بعد أنها "مرتفعات 2519" - لكنها لم تستطع ملامسة الأرض، فطُلب من الشباب القفز منها عن ارتفاع مترين تقريبًا.

تقع "مرتفعات 2519" خلف ثكنة "الحاج عمران" العراقية التي فتحها شباب "لواء المهدي" من تعبئة شيراز، خلال المرحلة الأولى من عمليات "والفجر2" بالإضافة إلى ضلعي هذه المرتفعات.

ما إن ترجّلنا من المروحية ولم تكد أقدامنا تلامس الأرض، حتى انفجر بالقرب منا عدد من قذائف الهاون 60. ويبدو أنّ العدو عرف بنقل القوات من أصوات هدير المروحيات، فأمطر المنطقة بالقذائف. واستشهد شابان وجرح خمسة، لكن بعدها، نقلنا القادة إلى نقاط آمنة. حوالي الخامسة بعد الظهر، انتهت عملية الإنزال وانقسم الشباب فورًا إلى مجموعات متفاوتة العدد من ثلاثة أو أربعة أو خمسة أفراد، وتمركزوا في أماكن متعدّدة من المرتفعات بالانتظار. انشغل كل واحد منهم بعمل ما. كان بعضهم يتحدّث بحرارة، وبعضهم الآخر يحمل قرآن الجيب الصغير ليقرأ آياته، وآخرون تعلّق نظرهم بالأفق وغرقوا في تفكير عميق...

أحد الشباب خلفنا، كان يطلق النكات، ويضحك بصوت عال. من
 
 
 
 
 
54

48

الرابع

 أجل ذلك وجّه الأخ "تورجي زاده" الكلام له قائلًا: "ألا يجدر بك أن تردّد أحد الأذكار أو التسابيح، بدل هذا الكلام المضحك، فقد يكون هذا الغروب آخر غروب نشهده في حياتنا".


فأجابه: "في الحقيقة، أنا لست من أهل المزاح، ولكنّني لا أعرف لماذا أشعر برغبة في الضحك من كل قلبي".

قبل أن تحلّ العتمة، كتبتُ رسالة أخرى إلى أمي وأبي وعائلتي، ووضعتها في جيبي، كي تصل إليهم إذا ما وفقت لنيل الشهادة، ونُقل جثماني إلى أصفهان.

كانت الساعات تمر مسرعة. فحوالي العاشرة مساء، أصدر القادة أوامرهم لنا بالتجمع. فقد توقفت نيران الأعداء وصارت المنطقة هادئة. فأُعطي الأمر لننتظم، فاصطفت كلّ سريّة على حدة. وشرع كلّ قائد بالكلام مع أحبائه المقاتلين. وكلامهم يوحي أن دقائق معدودة تفصلنا عن بدء العمليات. وزيادة على ذلك، حاول الأخ "يزد خواستي"، أن يذكّرنا بشكل سريع وموجز بكل تعليمات وتقنيات الدورة التدريبيّة التي شرحها لنا في ثكنة "سنندج". وبالطبع حدّثنا عن الصبر، المقاومة، الإيثار، عشق الشهادة وباختصار عن كل ما هو سرّ انتصارنا. ثم قال: "ألتمس المسامحة من الأصدقاء كافة فقد يكون قد صدر مني في هذه الفترة خطأ أو اشتباه. فالبشر يخطئون. من الممكن أن أكون قد تكلّمت بكلام أزعج ـ لا سمح الله ـ عزيزًا بينكم.. ها أنا الآن أرجو منكم المسامحة...". بعد ذلك، التفّ حوله الشباب، وشرع في وصف منطقة العمليات، ونوع تلك العمليات والعمل الخاص بسريّتنا.

كانت ليلة جميلة، ونسيم عليل يتهادى لترقص على نغماته الأعلام الملونة. بينما تضفي السماء المقمرة على المرتفعات منظرًا خلابًا.
 
 
 
 
55

49

الرابع

 كان قائد سريّتنا "مرتضى يزد خواستي"، يتحدّث بشكل جدّي وحازم وباعث للأمل في الوقت نفسه. وكان أبناء أبي عبد الله الحسين عليه السلام، الذين قضوا أيامًا وليالي من الانتظار، يستمعون له بإنصاتٍ ودقة. عند ختام كلامه، توجّه للشباب قائلًا: "أيها الإخوة، بما أن الوقت ضيق، أنهوا أعمالكم بسرعة. وفي الوقت عينه تفحّصوا أغراضكم. إذا كان ينقصكم أيّ شيء راجعوني".


سرّح السريّة لربع ساعة كي ينهي الشباب أعمالهم الخاصة. لكن الجميع اختار الانزواء كل واحد في زاوية مخفية قدر المستطاع عن الآخرين لإقامة صلاة العشق. كان لهذه الصلاة طعم مختلف عن كلّ ما صلّيته من قبل. أقسم إنني لا أستطيع أن أسطّر بالحبر وصف حال ركعتي صلاة العشق هذه. لأنني لا أستطيع العثور على عبارات قادرة على وصفها. أقتصر على القول إنها كانت صلاة فناء. ليست فناء الأنا والـ"نحن"، بل فناء كل ما يتعلّق خاطري به. في تلك الصلاة فقد كل شيء قيمته، صار بلا قيمة، بلا أي قيمة. وكأنه الذي هو كل القيمة (الله)، لا يصبح معه لأي شيء قيمة. كانت هذه الصلاة، صلاة شهود، شهود عظمة الوجود الواحد، المعبود لعظمته وجلاله. هذه العظمة التي تجلّت في الموجودات الأخرى فجعلتها آيات وجوده وأسمائه.

كنت قد قرأت في الكثير من الكتب، واستمعت إلى عدد من العلماء الكبار عن حلاوة صلاة أولياء الله، لكنني لم أدرك معناها إلا في تلك الليلة. على الرغم من أنني كنت أظن أن لهذه الحلاوة مراتب ودرجات، وهي لأهل المعرفة تتناسب مع مرتبتهم. ولا أتردّد إن قلت: إن إدراكي لهذه الحلاوة - وبما أنني لم أصعد أي درجة في درجات المعرفة - هو المستوى الأدنى في الإدراك. تلك اللّذة التي تذوّقتها في تلك الصلاة، لم أتذوّق نظيرًا لها من قبل، حتى يومي هذا، وأنا أسكب
 
 
 
 
 
56

50

الرابع

 خمر قلبي في هذه الصحيفة.


سمعت من أحد العلماء العظام أن أهل العيش واللذّة والحياة والقدرة، لو تذوّقوا مرة واحدة حلاوة صلاة العرفاء، لتركوا كل لذّاتهم الوهمية تلك ولولّوا وجوههم شطر لذّة الصلاة هذه. كانت صلاة تلك الليلة من الصلوات التي كلّما اقتربت من تشهّدها وتسليمها انقبض قلبك حزنًا. مع كل كلمة تجري على لسان هؤلاء المصلّين العاشقين، تسيل الدموع مرتجفة على الخدود، وتغسل عنها غبار الدنيا العالقة زورًا على وجوههم، لتنجلي صورهم بماء وجوههم الرقراقة. قد يكون هذا الشاب الولهان في تلك الصلاة، خير مصداق للآية: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون، 2).

على كل حال، في تلك الليلة، تغلبت على صعوبة وتعاسة ورعب انتظار عمرٍ بأكمله لليلة أو يوم يصطادني الموت فيه، وتلذّذت بحلاوة الاختيار الشهم لـ"ذهابي لاصطياد الموت".

منذ سنوات، في إحدى الجلسات القرآنية نقلت للشباب أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تسلية أمتي الجهاد في سبيل الله"، لكنني لم أتلقّف معناها إلا في تلك الليلة.

أينما أجلت النظر، رأيت أخًا وقد قبّل جبهته التراب يذرف الدموع وهو يردّد الدعاء بحرقة.

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة، حين اقتحم صوت القادة خلوة احتفال هؤلاء الشباب العاشقين، ليدعوهم إلى جلسة سماع ورقص في ميدان المعركة مع عفاريت وشياطين الأرض.

اصطفت السرايا الثلاث كل سرية في خطّ واحد، في نظام مرصوص، ثم نزولًا عند أوامر القادة جلسنا على الأرض جميعًا. بدأ قادة كل سريّة
 
 
 
 
57

51

الرابع

 بعدّ الشباب وتفقّدهم. ثم بدأوا بتذكيرهم بالنقاط الأساسية. بعدها، كان دعاء قائد الفيلق لنا بالتوفيق، وانطلقنا نحو الهدف المحدّد.


إن "مرتفعات 2519" عبارة عن سلسلتين متوازيتين، تقعان بعد ثكنة "الحاج عمران". تنتهي هذه المرتفعات بجادة إمداد مهمة للأعداء، إذ يعتمدون عليها لإمداد فرقهم وقواتهم البرية.
 
كان لهذه الجادة أهمية بالغة بالنسبة إلينا، لأنّنا بالسيطرة عليها، نحمي بشكل نهائي ثكنة "الحاج عمران" من هجمات وضربات العدو، وفي الوقت نفسه، تصبح المرتفعات الاستراتيجية في المنطقة المشرفة على مدن شمال العراق، تحت سيطرة جنود الإسلام. في الحقيقة، إن هذه الجادة هي الأمل الوحيد للعراقيين للسيطرة على ثكنة "الحاج عمران" وحماية المدن الشمالية. ولكي نستطيع نحن الوصول إلى تلك الجادة، كنا مجبرين على عبور الوادي الضيق بين سلسلتي الجبال هذه، والسيطرة على العوائق والدشم التي استحدثتها القوات العراقية هناك.

يُسمّى هذا المعبر "دربند" أو "دربندي خان" وهو يمتد مسافة تتراوح بين ثمانية عشر إلى عشرين كيلومترًا في عمق الأراضي العراقية. داخل هذا الوادي، يقع في هذا المعبر ــ المتشكّل من التقاء سلسلتي مرتفعات 2519 ــ ثلاث تلال بارتفاع تقريبي يتراوح بين السبعمئة إلى الألف متر، حيث بنى العراقيون على قمة كل تلّة، مركزًا صغيرًا لقواتهم، يهدفون من خلاله إلى حماية المعبر ومنع جنود الإسلام من المرور عبره، وبالتالي الوصول إلى جادة الإمداد لهم. هذه المراكز الثلاثة محميّة بموانع عدّة كحقول ألغام واسعة ومملّحة1، أسلاك
 
 

1- معدّة للانفجار.
 
 
 
 
58

52

الرابع

 شائكة دائرية، ودشم متعددة للكمائن.


من المفترض أن يقترب المجاهدون بكل هدوء وصمت من مواقع الأعداء، ليكون الهجوم النهائي الصاعق متزامنًا مع اكتشاف العدو لتسلل الشباب داخل المعبر، ومن خلال عامل المباغتة نخفّف من الخسائر.

مع بداية حركة السريّة، حاولنا جاهدين ضبط حركة أقدامنا، والمشي بانحناء كامل. كانت مهمّة سريتيّ "مقداد" و"مالك الأشتر" السيطرة على التلّتين الأولى والثانية. أما مأموريّتنا في سريّة ميثم، فكانت السيطرة على التلة الثالثة، أي التلة الأخيرة المتوغّلة في عمق الأراضي العراقية، وبالتالي المشرفة بالكامل على جادة الإمداد. وهكذا تم إرشاد كل سريّة باتجاه هدفها.

العدو الذي كان يتوقع قيامنا بهذه العمليات لاكتشافه صوت المروحيات، كان يراقب المنطقة منذ ساعات الليل الأولى ويرمي القنابل المضيئة من دون توقّف. ولذلك على الرغم من الحرص الشديد الذي كان يتوخاه المقاتلون، والتحرك بهدوء وسكون كاملين، ما إن اجتاز الشباب أعلى قمة في "مرتفعات 2519" وفور توجّههم نحو المعبر في أسفل الوادي، حتى أمطر العدو المنطقة بالنيران.

ونظرًا لذلك لم تنقطع - ولو للحظة - انفجارات القنابل اليدوية والمدفعية وصواريخ الميني كاتيوشا. وأضاءت القنابل المضيئة المنطقة بشكل كامل، واستهدف العدو مسير السريّة بالقنابل المزدوجة الانفجار. في البداية كنا نقصد التوجه إلى عمق الوادي ونتخطّى سفح التلة الأولى ثم الثانية، لنصعد بعدها التلة الثالثة ونهجم على الموقع العراقي في الأعلى. كنا نسير على منحدر قوي. في المقابل، كان القادة يضاعفون من سرعة حركة السريّة لتحقيق أهدافنا في وقت أقصر
 
 
 
 
 
59

53

الرابع

 وسلب المبادرة من العدو.


أدّى المنحدر القوي من جهة، وسرعة السريّة من جهة أخرى، إلى وقوع الشباب أرضًا، فكان كل مقاتل يقع، يرتطم به آخر وراءه ويفقد السيطرة على حركته، ومع ذلك، كنا نقف مرة ثانية ونكمل المسير.

كانت القنابل والقذائف المدفعية، تسقط على جانبي مسير الشباب، وتمر الشظايا وهي تصفر بالقرب منا، وأحيانًا توقع عزيزًا على الأرض. مرات عدّة سمعت صفير الشظية وهي تمر على مسافة لا تتعدى المليمترات، حتى إنّني شعرت مرارًا بحرارتها. ملأ المكان أصوات الانفجارات وطلقات الرشاشات المترافقة مع الصرخات الحماسية "الله أكبر" و"لا إله إلا الله" التي كان يطلقها المقاتلون.

على رأس المسير، كان الأخ "سهمي" (المساعد الثاني لقائد السريّة) يتبعه الأخ "علاقه مندان" (مساعد قائد السريّة) وبعدهما حجة الإسلام "تركان" الذي كان يرتدي بدلة عسكرية والعمامة على رأسه، وكنت أنا وراءهم جميعًا.

أحيانًا، كانت الشظايا تصيب مقاتلًا فيرتمي أرضًا سابحًا في دمائه، فيمر الشباب بالقرب منه ساعين إلى ملء الفراغ الذي تركه في صفهم.

خلال عشرين دقيقة وصلت السريّة إلى عمق الوادي، وبدأ بعدها صعود التلة الثالثة. كان العدو قد نصب على قمة التلة كمائن متعددة، اعترضت مسير الشباب بنيران الرشاشات من جهات مختلفة. على الرغم من ذلك، استطاع رماة الـ(B7)، من خلال أخذهم مسافة من مسير الشباب وبإشراف الأخ "سهمي"، ضرب دشم وكمائن الأعداء كافة.

بعد ذلك، وبصعوبة كبيرة، اقترب الشباب من موقع الأعداء الذي كان في أعلى نقطة من التلة. وقد سُيّج بثلاث طبقات من
 
 
 
 
 
60

54

الرابع

 الأسلاك الشائكة التي تبعد تقريبًا بين العشرة والعشرين مترًا عنه. العبور عن هذه الأسلاك العالية أمر صعب جدًّا، وخاصة أن رماة الرشاشات الأربعة المتمركزين داخل الموقع يستهدفون محيط التلّة من الجهات كافة. ما إن وصلتُ إلى الأسلاك الشائكة، حتى توقفت السريّة، ثم تمدد الشباب أرضًا وهم يرمون الموقع محاولين إيقاف نيران الرشاشات.


أدّى تجمّع قواتنا حول موقع الأعداء إلى سقوط الكثير من الخسائر. استمر انهمار الرصاص والقنابل بلا رحمة، وهذه المرة استهدفت البقعة الصغيرة التي لجأ إليها الشباب، لتحوّلها أمواج الانفجارات إلى جهنم من الدخان والنار. كانت القذائف تنفجر بفواصل زمنية متقاربة، لدرجة كنت أشعر خلالها أنني فقدت سمعي وأصواتها الشديدة جعلت أذنيّ تصفران بشدة.

تمددت على الأرض، وألصقت وجهي بالتراب، كي أحمي رأسي وجسمي من رصاص الرشاشات التي كانت تزعق فوقي. في الوقت نفسه كنت أراقب بدقة ما يحصل حولي كي أعرف تكليفي وأتقدّم في الوقت المناسب. فجأة، اندلعت النيران في فسحة واسعة بالقرب مني، وارتفع لهيبها نحو السماء. تدحرجت بسرعة وأبعدت نفسي عن اللهب. كانت التلة تحترق من كل الجهات، فأضيف ضوء الحريق إلى نور القنابل المضيئة التي يرميها العدو. أصبح المكان منيرًا، واستفاد العدو في هذه اللحظات بكل ما يملك من قدرات، لدرجة أنه بدأ يقصف الشباب بالـ"دوشكا" التي عادة ما تستعمل كمضاد للطائرات. كانت قذائف الدوشكا الملتهبة، بصوتها القوي ورشقاتها المتتالية، تتطاير فوق رؤوسنا. لم يكن بمقدور أحد القيام بأي عمل. كان العجز يسيطر على سريّتنا في وقت صار اتخاذ القرار من أصعب الأمور.

إن تمركز سريّتنا في هذا المكان بالذات ولوقت طويل، أدّى إلى تناثر
 
 
 
 
61

55

الرابع

 عدد من البراعم المتفتحة حديثًا، واستشهادهم بالقرب منّا. ، رأيت أحد الإخوة من رماة الـ(B7) بجانبي الذي كان يتحيّن الفرصة ليهدم دشمة الدوشكا في موقع العدو. رفع صدره فجأة وتوكأ على ركبته وركّز على الدوشكا، لكن قبل أن يرمي، أصابه رشاش العدو ومزق صدره وسبح في دمائه أمام ناظري. كانت الدماء تفور من صدره على التراب على نغمة دقات قلبه. أُعدمت الحيلة، واستشهد الشاب بعد لحظات.


رأيت بالقرب منه مقاتلًا كان مساعده، وشهِد بتأثر كبير شهادته. سحب الـ(B7) من تحت جثمان رفيقه وصوّب بدقة على إحدى دشم الأعداء وأخمد نيرانها. عندها، قفز عن الأرض وهو يصرخ مبتهجًا: "الله أكبر، الله أكبر..".

ثم احتضن جثمان صديقه النازف وصار يتكلّم معه مرددًا: "عزيزي ممد1 هل رأيت؟ لقد دمرته! فرحتَ أليس كذلك؟ انتقمت لك. انظر جيدًا، لا تذهب ـ إيه، لقد وعدتني، علينا أن نرحل معًا. إذًا ابقَ هنا، لا تخذلني، امنحني الفرصة كي أمحو بعضهم عن وجه الأرض ثم نرحل معًا".. ومن دون تأخير لفّ حزام السلاح على كتفه ورقبته وحملهما على ظهره وزحف على الأرض وهو يردد بسم الله، بحثًا عن وضعية أفضل تساعده على ضرب الدشم التي يخرج منها الرصاص. غاب عن نظري لحظات قليلة، لكن حين استطعت رؤيته كان يستعد لرمي الـ(B7)، وألسنة النار ترتفع من حقيبة ظهره المليئة بقذائف (B7) والقنابل. كان الشباب يشهدون هذا المنظر بقلق، وصاروا يصرخون محاولين مساعدته وإرشاده في هذا الوضع. دهمته النار من الخلف، ولكن ما كان بمقدوره، ولا بمقدور غيره أن يفعل شيئًا. وها هو هذا الشاب الحرّ يستشهد حين انفجرت حقيبة ظهره
 
 

1- تحبيب لمحمد.
 
 
 
 
62

56

الرابع

 المليئة بالقنابل. ويكون "ممد" قد وفى بوعده.


ليس للبقاء في هذه البقعة إلا هذه النتيجة: لا بد أن نزيل العوائق التي نصبها العدو بالتضحية والشجاعة، وبالتالي أن نخمد مصادر إطلاق نيران الدوشكا والرشاشات في الدشم، وإلا استشهد الشباب واحدًا تلو الآخر خلف الأسلاك الشائكة.

توصل القادة أيضًا إلى هذه القناعة، فصاروا بنداءاتهم المتكرّرة، يطلبون من الشباب الوقوف دفعة واحدة عن الأرض والهجوم على الموقع بأي طريقة. لكنّ ارتفاع الأسلاك الشائكة الدائرية من جهة، وحقل الألغام خلفها الذي يزيد عرضه عن أربعة أمتار من جهة أخرى، والنيران الثقيلة للرشاشات والدوشكا، بالإضافة إلى المدفعية والـ"ميني كاتيوشا" التي كان مصدرها جادة إمداد الأعداء والجهة المقابلة لمرتفعات 2519، كل هذه جعلت السيطرة على الموقع أمرًا غير ممكن. لكن في النهاية، وفي هذه المرة أيضًا، استطاعت إرادة أبناء الخميني الكبير، الذي سَخِرَ من القوى العالمية العظمى لسنوات، أن تصنع المعجزة وتثبت أن لا سدود وموانع يمكنها أن تقف أمام إيمانهم الخالص والأصيل.

يمكنني أن أقول إنّ تضحية وإيثار عارفَين عزيزَين وأقصد بهما "رهنما" و"علاقه مندان"، كسرت هذا الحاجز، فهما جعلا ينابيع الإيمان والإيثار تفيض في وجود الشباب كافة. فقد اتفقا أن يرتميا ويتمدّدا معًا على الأسلاك الشائكة، وبهذا يشكّلان جسرًا لعبور المقاتلين. وفي لحظة واحدة قفز هذان العزيزان قفزة عالية معًا وتمدّدا على الأسلاك الدائرية، ومن خلال الضغط عليها قلّلا من ارتفاعها.

خفّضت هذه التضحية من ارتفاع هذا الحاجز إلى أقل من النصف. وهكذا، بينما كان "رهنما" و"علاقه مندان" ممددين على
 
 
 
 
 
63

57

الرابع

 الأسلاك، طلبا بإصرار من الشباب أن يعبروا عليهما واحدًا تلو الآخر. وعلاوة على ذلك تقدّم اثنان أو ثلاثة من الشباب، واستبقوا البقية إلى التضحية بقاماتهم الشامخة، وفتحوا معبرًا في حقل الألغام بأجسادهم. بينما وقف آخرون فوق الأسلاك الشائكة الدائرية وجعلوا جزءًا منها قابلًا للعبور أيضًا.


في هذه اللحظة، هزّت صرخات تكبير المجاهدين الجبال والوادي. راح صدى التكبير يتردّد في الجبال وكأنّ مئات الأفراد يكبّرون. لم يكن الشباب قد وصلوا إلى حائط الموقع بعد، عندما أصاب العراقيّين الرعب من صوت التكبير، ففرّوا نازلين في المنحدر إلى أسفل التلة، وهكذا سقط الموقع.

انشغلت مجموعة من الشباب بقيادة "حسين برهاني" بتطهير الدشم. كانوا يرمون القنابل اليدوية إلى داخلها من دون الدخول إليها. بينما قامت مجموعة أخرى بقيادة "علاقه مندان" و"سهمي" بملاحقة العراقيين. ساعد لون القمصان البيض (الثياب الداخلية) التي كان يرتديها العراقيون المرتزقة، الشباب على تمييز الفارين منهم في عتمة الليل واستهدافهم بسهولة، فهلكت مجموعة أخرى من العراقيين.

على كل حال، وُفِّقت سريّة "ميثم" من كتيبة "الإمام الحسين" عليه السلام في السيطرة على التلة الثالثة لمعبر "دربند"، الذي كان العائق الأخير أمام السيطرة على جادة إمداد الأعداء. لكنّ عدد جرحانا كان كبيرًا.

بعد الاستقرار في الموقع، حاولت أن أتفقّد الشباب واحدًا واحدًا كي أطمئن الى سلامتهم، وكنت توّاقًا لأطمئن إلى "سهمي"، "علاقه مندان"، "تركان"، "تورجي زاده" و"برهاني"، وقد شكرت الله كثيرًا على سلامة هؤلاء الأعزاء. لكنني بحثت كثيرًا عن "يزدخواستي" (قائد السريّة) إلا أنني لم أجده بين الشباب. توجّهت إلى "علاقه
 
 
 
 
64

58

الرابع

 مندان" لأستفسر عنه. بحال من القلق قال لي: "لا تقلق، منذ البداية حين نزلنا المنحدر، أصيب بشظية في قدمه، ومن المؤكّد أنه نُقِل إلى الخطوط الخلفية".


بشكل طبيعي ومن دون أيّ تأخير نظّم الأخ "برهاني" برنامج المرابطة ووزّعه على الشباب. إذ عليهم الحراسة بالتناوب داخل الدشم التي أوجدها العدو حول الموقع وداخله، وذلك استعدادًا لأي هجوم مضاد. وبالطبع، فإنّ الجميع كان يجزم بهجوم كهذا.

جهدت مجموعة من الشباب بنقل الجرحى المنتشرين على التلة إلى الداخل. ثم جُمعت أجساد الشهداء ومُدّدت في مكان مناسب في الموقع.

استمرت قذائف الأعداء بالتساقط علينا، وكان معظمها يصيب الموقع مباشرة، ويجرح أو يقتل عددًا من الأعزاء.

كان الموقع يتشكّل من ستّ دشم تقريبًا على شكل غرف مدعّمة يبلغ ارتفاعها مترين تقريبًا عن أرض التلة موزّعة في زوايا الموقع الأربع، يلفت نظرك دشم خاصة بالرشاشات حيث نُصبَ على كلّ منها رشاش. وفي وسط الموقع منصة "دوشكا" لحماية الموقع من غارات الطائرات.

بعد أن تأكّد الأعداء من سيطرة الشباب الكاملة على الموقع، ولأنهم يملكون الإحداثية الخاصة به، كانت قنابلهم ومدفعيتهم تصيب هدفها بشكل دقيق جدًّا. لذلك خيّم الدخان على الموقع وانتشرت النار.

لم يهدأ شبابنا بل باتوا في حال نشاط عجيب، وعلى الرغم من القصف والنيران لم يتوقّفوا لحظة عن إحضار الجرحى والشهداء إلى الدشم داخل الموقع. كما كان المسعفون يقومون بتضميد الجراح من دون توقّف. في البداية، امتلأت ثلاث أو أربع دشم بالجرحى ذوي الإصابات الخطيرة المحتاجين إلى عناية خاصة. ارتفع عدد الجرحى
 
 
 
 
65

59

الرابع

 لدرجة كبيرة جعلت المسعفين لا يعرفون بمن يبدأون، وخاصة أن العدد ظلّ يزداد باستمرار.


كان الليل قد حلّ حين ناداني الأخ "حسين برهاني". اقتربت منه فقال لي: "إن التلة المنخفضة الارتفاع التي تفصلنا عن جادة الإمداد، هي الطريق الذي يمكن للعدو أن يباغتنا منه. لذلك سأنطلق مع عدد من الشباب لتطهيرها. أنت أيضًا تعال معنا".

ذهبنا مباشرة. كان "علاقه مندان"، "سهمي"، "صيادزاده" وعدد آخر من الإخوة مستعدين للانطلاق. انتشرنا ثم تحرّكنا، وبدأنا ننزل المنحدر. بعد حوالي عشر دقائق، وصلنا إلى المكان المقصود. لكنّ العدو كان قد أخلى هذه التلة الصغيرة أيضًا، وكذلك الدشم المحيطة بها.

أبقى الأخ "برهاني" على اثنين من الشباب في المكان وقفل الباقون عائدين. حين وصلنا إلى الموقع، عرفنا من صوت الانفجار المخيف، ومن النار التي اندلعت منه ومن الدخان الذي غطى المكان، أن العدو قد كثف قصفه علينا. لم تكن تفصلنا عن الموقع إلا عشرون مترًا، حتى انهمرت علينا عشرات من قذائف الهاون. يعتقد الأخ "سهمي" أن العدو يراقبنا من قمم مرتفعات 2519. لذلك حاولنا جاهدين الوصول إلى الموقع بأسرع ما يمكننا. لكن على بعد عدة أمتار من الموقع، أُصبتُ بشظيّة في كاحلي فوقعتُ على الأرض. نزفت قدمي بشدة وسالت الدماء داخل "البوط" العسكري. تبع ذلك سقوط قذيفة بالقرب مني وجُرح زِنْد يدي، وفار الدم منها. كما أُصبت بالدوار لشدة ضغط الانفجار. فجأة، أدركت ما حصل حين سمعت صوت "علاقه مندان" يناديني من الداخل. سحبت نفسي سحبًا حتى وصلت إلى حائط الموقع، وبعدها بمساعدة "علاقه مندان" تم نقلي إلى إحدى دشم الجرحى. في الممر داخل الدشمة، رأيت حجة الإسلام "تركان" ممدّدًا على الأرض يئنّ
 
 
 
 
 
66

60

الرابع

 لشدة جراحه، حيث أصيب في قدميه بجروح بالغة، ويحاول بعض الإخوة سحبه إلى داخل الدشمة، لكنّ أنينه كان يرتفع ويزداد صراخه مع كل حركة. حاول "علاقه مندان" نقلي من فوق "تركان" لكن للأسف ارتطمت قدمي بركبة "تركان" فصرخ صرخة فظيعة.


كان الأخ "رهنما" يداويني داخل الدشمة ويخبرني في الوقت نفسه كيف أصيب حجة الإسلام "تركان": "حين كان تركان على سطح الموقع، سقطت قذيفة أمام قدميه مباشرة وأصابته بجراح بالغة. كُسِرت قدماه الاثنتان وقطعت شرايينه وأعصابه، وعند أقل حركة، يتألّم بشدّة في كل جسمه".

لطالما رأيتُ صبر "تركان" وهدوءه، ولم يكن صراخُه وأنينه إلّا لشدة الألم الذي سلبه القدرة على التحمّل. كان يصرخ مطالبًا أحد الإخوة الذي يحاول سحبه إلى الداخل، بتركه لحاله. لكن في النهاية، لم نعرف كيف استطاعوا نقله إلى الداخل، ومدّدوه على أحد الأسرّة.

على ما يبدو، كانت هذه الدشمة التي يبلغ طولها وعرضها (4*5م) تقريبًا، دشمةً لنوم واستراحة الجنود. فعلى امتداد الجدران، ثبتوا ألواحًا خشبية ضخمة مترابطة لتكوّن سريرًا كبيرًا ليصبح مكانًا مريحًا لنوم حوالي 15 فردًا. أما السقف المحدّب للدشمة، فقد بُني من جذوع أشجار ضخمة، تم تطيينها باللِبن والتبن. وفي وسط الدشمة، جذعا شجرتين ضخمتين، بمنزلة عمودين يحملان السقف ويحميانه. باختصار، كانت دشمة متينة وقوية. يتدلّى من سقفها عدد من الفوانيس الزيتية، كما ثُبِّت على الزوايا الأربع مسامير كبيرة لتعليق الملابس ما زال عليها بعض حقائب العراقيين. وجملة القول إنه، بصعوبة كبيرة أدخل الإخوة "تركان" إلى الدشمة ومدّدوه على السرير بالقرب من الباب، وكان يفصلني عنه الأخ "محمد رضا تورجي زاده"
 
 
 
 
 
67

61

الرابع

 الذي تمدّد بجانبه وقد أصيب بخطورة في قدميه. ويقول المسعفون إنّ قدمه مكسورة.


كانت الدماء تنزف بشدة من جرح قدم "تركان". قُطعت شرايين قدم هذا العالم الفاضل، ومَزَّقتَ عظامه المكسورة في كلتا قدميه، عضلات فخذه التي برزت من مكانها، لدرجة جعلت المسعفين يتضايقون جدًّا لرؤيتهم هذه الجراح. باءت كل محاولاتهم لإيقاف نزف جراح قدمه بالفشل، ما زاد منسوب القلق عليه، لأنه إذا استمر نزفه، فلا شك أنّه سيستشهد. قام المسعفون بكل ما استطاعوا فعله، لكن من دون جدوى. كانوا يبدّلون "الحرامات" المليئة بالدماء التي يضعونها تحت قدميه بين الحين والآخر. لكنهم سرعان ما وصلوا إلى هذه القناعة، أن لا داعي لوضع الحرامات تحت قدميه، لأن الجرحى كان عددهم في ازدياد. كان تركان يصرخ من شدة الألم، وقد تأثر الشباب جميعًا لوضعه. أما المسعفون الذين لم يستطيعوا القيام بأي عمل له، فتركوه وانطلقوا لمساعدة باقي الجرحى. لشدة النزيف، شعر بالعطش، فكان يطلب الماء متوسّلًا، بينما كان المسعفون يخبرونه أن الماء سيزيد من نزيفه.

في لحظات الفجر الأولى حيث يتماوج الضوء مع الظلام، دخل "حسين برهاني" إلى الدشمة وجلس على حافة السرير عند قدميّ. أدرتُ وجهي بصعوبة، وقربت رأسي منه. كان الحزن والتأثر باديين على وجهه وكان يتكئ على يده، وينظر إلى الأرض. سألته: "يا أخ برهاني، هل حصل شيء؟".

فانتبه لحاله فجأة، ثم ابتسم وقال: "لا شيء يا أخ طالقاني، يقولون إن الحرب بدأت".

ضحكت وقلت: "حسنًا، اعتقدت حين رأيتك أن سفنكم قد غرقت في البحر".
 
 
 
 
 
68

62

الرابع

 ابتسم قليلًا إلّا أنّ سحنة وجهه قد تغيّرت من جديد ثم نظر إلى الأرض وقال: "نعم، إنها الحرب، في الحرب إما أن تَقتل أو تُقتَل، إما أن تتقدّم أو ترجع إلى الخلف".


- حسنًا، ماذا تقصد؟

- لا شيء، أقصد أنه لم يحصل شيء مهمٌ، فقط "علاقه مندان" ذهب أيضًا.

صُدمت للحظات، وسألت وأنا لا أصدّق ما أسمعه: "إلى أين ذهب؟".

- إلى حيث تمنى دومًا، لكن أرجوك يا أخ طالقاني لا ترفع صوتك أبدًا، قد تضعف معنويات الشباب.

وبينما كان ينظر إلى ردّ فعلي بنظرته الحادة، وقف وتوجّه نحو مدخل الدشمة. ما إن تقدّم خطوتين حتى دخل أحد الإخوة مسرعًا من الباب وقال بصوت عالٍ: "يا شباب، استشهد علاقه مندان أيضًا".

تسمّر "برهاني" في مكانه للحظات، لكنه وبعد أن امتلأت الدشمة بأصوات الشباب المصدومين بالخبر، تقدّم من الشاب بهدوء وقال له: "إذًا جنابك مسؤول نشرة الأخبار؟"، ثم ترك الدشمة. بعد أن التفت الشاب لخطئه، سكت لحظات، ثم خرج من الدشمة مسرعًا.

كان خبر شهادة "علاقه مندان" مؤلمًا جدًّا للجميع وخاصة لي أنا. لقد هزّني هذا الخبر لدرجة أنني لم أعِ ما يدور حولي، وعندما استوعبتُ ما حصل، تطلّعت حولي فلم أرَ سوى النظرات المصدومة المفجوعة. نعم، "محمد علاقه مندان" هذا القائد الشاب، النشيط، صاحب الخبرة، المتفاني، المتدين، العارف والمتحمس، رحل إلى المعراج. كانت أخلاقه لا تترك أي شكوى أو عدم رضى عند أي أحد.
 
 
 
 
 
69

63

الرابع

  فالجميع مقرّبون منه، ويطرحون معه أكثر مسائل حياتهم خصوصية. كان قائدًا في الوقت الذي يتميز به بالصلابة والأبهة الضروريتين لأي مسؤول، كان يتّصف بالليونة وحسن الخلق والحميمية أيضًا.


إنّ معرفتي بـ"علاقه مندان" لا تعود إلى الجبهة فقط. بل تعرفت إليه منذ أيام الشباب الأولى ومشاركته النشيطة في جلسات القرآن. كان جارنا في حي "أمير كبير"، شارع "فروغي".

الله وحده يعلم كم كان "علاقه مندان" لطيفًا ومقرّبًا من القلوب. من الطبيعي أن يملك الكثير من الناس الطيبين صفات متشابهة، لكنّ بعضهم يكون مميّزًا وطيبتهم خاصة، يصعب أن نجد نظيرًا لها، وكان شهيدنا من بين هؤلاء. لا إراديًّا، صرت أبكي لذكراه. ما زال صوته في أذني وهو يحدثني بإصرار: "يا أخ طالقاني! أنا متأكد أنك ستستشهد، بلِّغ سلامنا للشهيد المظلوم بهشتي و...".. بينما كنت أبكي بحرارة وبصمت، قلت في نفسي: "يا علاقه مندان، أنا أعرف أنك هنا وترانا. هل عرفت الآن من يستحقّ الشهادة؟ إذًا، بلِّغ سلامنا للمظلوم بهشتي".
 
 
 
 
70

64

الخامس

 الخامس


بدأت تباشير الصباح تلوح في الأفق، وها هي الشمس تسرع في المجيء لعلّها تكون شاهدة على الملحمة البطولية للمعفّرين بالدماء، الذين تنام أجسادهم الطاهرة بوجوه نورانية مطمئنة حول الموقع، وكأنهم بابتساماتهم المرسومة على شفاههم، يسخرون من النائمين الغافلين في هذه الدنيا.

انتهى العمل في نقل الجرحى إلى الخنادق. ولم تعد تُرى خارج الموقع إلا الأجساد الطاهرة المضرّجة بالدماء لأحبابنا الشهداء، وأصحاب القامات الشامخة للشهود الذين كانوا يتمركزون خلف جدران الموقع والخنادق والكمائن المحيطة به ويشاركون في حراسة الملحمة التي سطرها إخوانهم الشهداء. ولا شيء آخر. نيران العدو وقذائفه مستمرة في التساقط. غطّت هالة من الغبار والدخان سطح التلة. وبين الحين والآخر، يتم اختيار الأكثر إخلاصًا من بين المقاتلين ليوقّع على صدره بالخط الأحمر "سندَ فوزه".

كنت أرغب كثيرًا بأن أعرف كيف استشهد الأخ "علاقهمندان". ما إن دخل "مسعود رهنما" إلى داخل الدشمة حتى ناديته وسألته: "أخ راهنما! هل رأيت علاقهمندان؟".
- نعم رأيته.

- كيف استشهد؟
 
 
 
 
71

65

الخامس

 - قبل طلوع الشمس، رأيته يصلّي الصبح. ثم شاهدته يتمتم بدعاء ووجهه على التراب. حين بدأت الشمس بالشروق، عدت ومررت من هناك لكنني فقدته. ظننت أنه أنهى صلاته وتوجّه نحو عمله. في هذه اللحظة، لفت نظري ضوضاء الشباب، فتوجهت نحوهم، رأيت "علاقه مندان" على الأرض والإخوة مجتمعين حوله. لقد شقّت صدره شظية كبيرة واستشهد على الفور. وغطّت الدماء كل ملابسه، وبوجه بشوش نوراني غطّ في نومه الأبدي.


طلع الصباح بالكامل، وعلى الرغم من كثرة الشهداء والجرحى كان جو من الانتصار يسيطر على التلة. فالكل مشغول، بجدية لا توصف، بالقيام بالأعمال التي أوكلها لهم الأخ "برهاني". كان "برهاني"، منذ انطلاق العمليات قلقًا من الهجمات الارتدادية للعدو، فكان يجهّز الشباب لصد مثل هذه الهجمات من الجهات كافة.

لم تكن قد مرّت ساعة بعد على طلوع الصباح حين أشار تجدّد القصف المدفعي للعدو إلى بداية الهجمة الارتدادية. كانت القذائف تسقط بدقة كبيرة على أماكن وجود إخواننا، وغطّى الغبار والدخان المكان بأكمله. لم أكن أملك أي معلومات وأي تفاصيل عمّا يحصل في الخارج حول هجمة العدو، لكنّي عرفت أخبارها من صراخ المقاتلين والصوت العالي للأخ "برهاني" الذي كان يدير حركة الشباب ويعطيهم أوامره، بالإضافة إلى دخولهم وخروجهم من الدشمة.

مع بداية تساقط القذائف الدقيقة والمدروسة والممهدة للهجوم، بدأ العدو يتقدّم صعودًا إلى أعلى التلة. وما أثار تعجب الأخ "برهاني" بشكل كبير هو سقوط القذائف من كل الجهات بالإضافة إلى صعود الجنود العراقيين من كل الجهات أيضًا، في الوقت الذي، كان من
 
 
 
 
72

66

الخامس

 المفترض أن تكون الهجمة الارتدادية من جهة جادة الإمداد فقط. لأنه وفق الخطط السابقة، كنا نظن أن شباب كتيبتنا قد سيطروا على التلال الثلاث المشرفة على المعبر، ويبقى محور التماس الوحيد مع العدو هو منحدر التلة الذي يتصل بجادة الإمداد التي يعتمد عليها العدو. اتصل الأخ "حسين برهاني" بمركز القيادة الموجود على مرتفعات 2519 عبر اللاسلكي ورفع لهم تقريرًا بما يحصل عندنا. أوضح مركز القيادة الوضع، مع وصيته لنا بالمحافظة على هدوئنا وثباتنا لأنّ شباب سريّتيّ "المقداد" و"مالك الأشتر"، وبسبب الظروف الخاصة للتلة، وكثافة النيران التي كانت تتساقط عليها، لم يستطيعوا السيطرة على التلتين الأولى والثانية، وبالتالي تراجعوا إلى مرتفعات 2519، وهكذا كانت التلة الوحيدة التي فتحت وحررت خلال عمليات الليلة السابقة هي التلة الثالثة. في الحقيقة، كنا محاصرين من الجهات كافة، ولم تخبرنا القيادة بما حصل ليلة البارحة كي لا يفقد الشباب معنوياتهم.


لا شكّ أنّ حضورنا على التلة الثالثة أدّى إلى الحد من الارتباط البري للعدو مع التلتين الأولى والثانية اللتين كانتا ما تزالان تحت تصرف القوات العراقية. كما إنّ وجودنا على التلة الثالثة بات يشكّل خطرًا جديًا على مواقع العراقيين الموجودين على التلتين الأولى والثانية. طلب الأخ برهاني من مركز القيادة أن يقصف القوات العراقية التي تصعد التلة في محاولة لإبطاء تقدمها نحونا، وإن كان في الإمكان إرسال قوات دعم لنا، فالقوات الموجودة على التلة لم تكن كافية للدفاع عنها، لأنه لم يبقَ من التسعين مقاتلًا في الكتيبة إلا خمسون شابًّا لديهم القدرة العسكرية، أمّا البقية فقد جرحوا أو استشهدوا. أخبر القادة المستقرون على مرتفعات 2519 الأخ "برهاني"، أن لا مجال بالمطلق
 
 
 
 
73

67

الخامس

 لإرسال الدعم، لأنه من غير الممكن الوصول إلينا. لأن مرور قوة الدعم من المعبر والوصول إلى التلة الثالثة يوجب الاشتباك مع العراقيين الذين يحاصرونها بالكامل. بعبارة أخرى إن المعبر ما زال في يد العراقيين، ولا نسيطر نحن إلا على التلة الثالثة. طلب المركز منّا الصمود بكل قوتنا أمام هذه الهجمة الارتدادية وإجبار العدو على الفرار.


فهم الشباب أن المقاومة الآن هي مصيرية. لأنه إذا ما سيطر العدو على التلة، لن تذهب فقط كل جهود السريّة وخاصة جهود الشهداء الأحباء سدًى، بل إذا سقط الشباب بيد العراقيين فسيكون مصيرهم طبق العادة التي يتبعها العدو، القتل، وبالتالي ستكون مجزرة دموية.

دبّت حماسة لا توصف، ونشاط كبير بين الإخوة. بدأ الشباب الذين كانوا متمركزين في مواقعهم، يمطرون العراقيين بالأسلحة الرشاشة والكلاشينكوف خاصة. وصار من الواضح، أن مصدر القذائف المدفعية والقنابل المتنوعة التي تسقط على تلتنا هو جادة الإمداد والتلّتان الأولى والثانية، ولا خيار لنا إلا المقاومة. استمرّ العراقيون بالتقدم مسرعين إلى أن صارت المسافة التي تفصلهم عن حائط الموقع لا تتعدّى العشرين مترًا. ولهذا السبب أدّت كثافة نيران الشباب من جهة، وسيطرة الخوف والرعب على العراقيين العملاء من جهة أخرى، إلى سقوطهم في مستنقع القتال، وبالتالي استمرار الاشتباكات لأكثر من ساعة ومن مسافة قريبة. كان شبابنا الذين يتموضعون في أماكن عالية، لديهم فرصة أفضل من العراقيين القادمين من الأسفل، فهم يراقبون كل حركة ويصوّبون بدقة على جنود العدو. استمرت المعركة بقوة، ولم ينقطع صوت الرصاص لحظةً واحدة. حاول مركز القيادة من خلال اتصالاته اللاسلكية المستمرة رفع معنويات الشباب وحثّهم على المقاومة بكل قواهم.
 
 
 
 
74

68

الخامس

 لم تملك القوات العراقية الجبانة، الجرأة على الهجوم المفاجئ على الموقع. وعلى ما يبدو كانوا يعقدون الأمل على أمرين: الأول هو القصف المدفعي المستمر، والثاني هو نفاد الذخيرة من شبابنا.


استمرّ هذا الوضع لساعات، واستطاع شبابنا بثباتهم أن يرسلوا عددًا من هؤلاء إلى جهنم. لكن في النهاية أيقن العدو أنه بحاجة لتدخل القوات الجوية. وها هي المروحيات وطائرات الـ"ميغ" العراقية تنفذ مناورة فوق المنطقة. اقتربت المروحيات بسهولة كبيرة من التلة ورمت صواريخها، لتترك المجال بين الحين والآخر للطائرات الحربية (الميغ) لقصف التلة. كان يبدو العدو مربكًا ويشعر بالضياع لدرجة أنّ معظم الصواريخ التي رماها سقطت خارج المقر. على الرغم من إدراكه أن قواتنا متعبة وإمكاناتنا العسكرية محدودة، كان مقاتلوه خائفين فلم تجرؤ طائرة الميغ على الاقتراب من التلة على الرغم من علمهم بعدم امتلاكنا للمضادات، لذلك كانت ترمي من أماكن بعيدة. وكان ارتفاع صوت التكبير والتهليل من شبابنا مثيرًا للدهشة، فقد علمنا بعد لحظات أنّ طائرات الميغ قد قصفت خطأً مواقع العراقيين.

كانت اللحظات تمر بطيئة جدًّا على الجرحى الذين لم يكن نصيبهم من كل ما يحصل سوى الأصوات المرعبة للانفجارات والرشاشات وصوت الطائرات الراعدة. تحولت دشمتنا إلى محفل للدعاء والمناجاة حيث كان كل جريح يردد دعاءه بكل عشق ومحبة. وأحيانًا يتهادى إلى مسامعنا صوت مجموعة من الجرحى يقرأون معًا دعاء الفرج، وكان يمتزج مع أصوات الانفجارات أحيانًا أخرى. كان كل واحد يقرأ من ذاكرته مقطعًا، فيرافقه الباقون ويردّدون خلفه. ما أحلى المناجاة هنا، كانت لا توصف. سالت الدموع على وجنات هؤلاء العاشقين المضحّين الذين منعتهم جراحهم من الوقوف والمشاركة في
 
 
 
 
75

69

الخامس

 المعركة، فتسلحوا بالدعاء والمناجاة. لا مفر أمامي من الاعتراف أنني كلما أصل إلى هذه الذكرى، أشعر بالعجز وأكتشف ضعف قلمي عن وصف ما حلّ بهؤلاء العرفاء وبقلوبهم المفطورة. في تلك اللحظات، كان الجرحى يؤمنون أنه كلما ازداد دعاؤهم وارتفعت أصوات مناجاتهم، تراجع عدد القذائف المتساقطة على الشباب، وكلما خفّ دعاؤهم تضاعفت القذائف.


مرت ساعات أربع على بدء الهجمة الارتدادية للعراقيين. كان القادة قلقين جدًّا وعلى الأخص الأخ "حسين برهاني". كانت أمشاط (مخازن) أسلحة الشباب الرشاشة تخلو من الرصاص واحدًا تلو الآخر. والقنابل اليدوية والـ (B7) توشك على النفاد، بينما ينتظر العراقيون الفرصة للانقضاض علينا. لذلك أمر الأخ "برهاني" الشباب بعدم إطلاق أي رصاصة إلا في الحالات الطارئة كي يتم الاستفادة من الذخيرة على أفضل وجه.

لم تمر لحظات على تعميم هذا الأمر، حتى تدنّى مستوى إطلاق النار، ولكن بعد مدة قصيرة جدًا، ارتفع صوت رشقات العراقيين. فقد اعتقد العراقيون أن سبب توقفنا عن إطلاق النار هو نفاد ذخيرة جيش الإسلام، وأن التلة على وشك السقوط. لذلك سارعوا إلى تكثيف القصف كي يُضعفوا معنويات الشباب ويجبروهم على الاستسلام. استمر هذا الوضع بالتصاعد لمدة ربع ساعة. كان صوت تهليل العراقيين يصل إلينا واضحًا وممزوجًا بصوت الرصاص والقنابل، أما شبابنا فكانوا لا يطلقون النار إلا في حالات نادرة.

شيئًا فشيئًا، اطمأنّ العراقيون من أنّ ذخيرتنا قد نفدت، لذلك قرّروا القيام بهجوم مفاجئ علينا. وفي لحظة واحدة، خرج المهلّلون من مواقعهم وتوجّهوا ناحية الموقع. ما إن رأى شبابنا العراقيين وهم
 
 
 
 
 
76

70

الخامس

 يتقدّمون، حتى أمطروهم بالرصاص ما أدّى إلى هلاك العشرات منهم. أدرك العدو بسرعة أنه قد وقع في الفخ، وأنّ توقّف رمي الرصاص من معسكرنا لم يكن سوى تكتيك. ارتفع صوت التكبير من شبابنا وملأ المكان. كان العراقيون يفرّون يمنةً ويسرةً وفي كل اتجاه. ومن استطاع منهم الوصول إلى الأسلاك الشائكة المحيطة بالموقع أرداهم رصاص الشباب وأطاح بهم. أحد العراقيين استطاع أن يتسلّل بين الأسلاك الشائكة ويخرج منها، لكنه داس على أحد الألغام وهلك بطريقة فظيعة. كان الأخ "راهنما" يقول: "لقد دخل العدو إلى منطقة الألغام التي تخطّيناها بسلامة البارحة، وكأنّ الألغام أيضًا تنفّذ أمر الله بإغراق قوات الكفر بدمائهم".


بعد تلك الهجمة، لاذ العراقيون بالفرار، وكانوا ينحدرون عن التلة مسرعين. ولاحقهم بعض الشباب إلى وسط التلة، واصطادوهم واحدًا تلو الآخر.

بعد هذا الانتصار المدهش الذي كان بالطبع نتيجة المدد الإلهي، أقرّ الشباب الذين سالت دموعهم لشدة الفرح، واعترفوا أن مدد الله وعونه هو الذي أنجانا. كان التعبويون الشجعان يدخلون إلى دشمتنا واحدًا تلو الآخر وعلى وجوههم البشوشة، المغطاة بالغبار صورة نورانية ثابتة، وهم يصفون بحرارة وحماسة قصة الانتصار والنصرة الإلهية.

كيف يمكننا أن نصدّق أن مجموعة لا تتعدّى الأربعين شخصًا لم تغمض أجفانها منذ أكثر من أربع وعشرين ساعة، وكانت قد قضت ليلة مليئة بالأحداث المتعبة، والتي كان أكثر سلاحها تطورًا هو الكلاشينكوف. هذه المجموعة القليلة استطاعت أن تركّع كتيبة من الجيش العراقي مسلحة بأحدث الأسلحة، وذات تجربة وباع طويل في
 
 
 
 
 
77

71

الخامس

 الحرب. والتي تدعمها أنواع من الأسلحة كالمدفعية الثقيلة والهاون، والأهم من كل ذلك المروحيات وطائرات الميغ. كيف تبرّر التحاليل العسكرية ما حصل؟ وهكذا، تهادى إلى الأسماع من خارج الدشمة صوت الحمد والثناء من مقاتلينا. دفع صوت بكاء أحد الشباب الذي هو بكاء الشوق وهو يناجي الله ويشكره بصوت عالٍ، إلى أن يُبكي الجرحى في الداخل.


دخل الأخ "حسين برهاني" بهيبته التي لا توصف، وبسمة النصر تعلو وجهه، دخل إلى دشمتنا ثم جلس في إحدى الزوايا وقال بهدوء ولكن بكل جدية: "يا شباب، إن الدعاء كيمياء. لا تظنّوا للحظة أننا قاتلنا كما يجب، لا، لكنّ بكاءكم وتوسلكم ودعاءكم حسم المعركة. إنّ كمية الأسلحة التي بأيدي أعدائنا تتعدّى أسلحتنا بأضعاف مضاعفة. نحن لن نستطيع بهذه الأسلحة أن نتقدّم إلى أي مكان. إن كل نصر ما هو إلا نتيجة للدعاء والمناجاة ولارتباط الناس بالله، وفقط بهذا السلاح نستطيع أن نغيّر الدنيا، ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾(البقرة، 249).

بعد لحظات من السكوت المتزامن مع التفكّر قال "برهاني": "إن من أخرج العراقيين من مواقعهم هو الله. وإلا لو صمدوا زيادة عشر دقائق لسقطت التلة".

سأل أحدنا: "هل استشهد أحد من الشباب؟".

قال "برهاني": "لقد قتل أكثر من ستين عراقيًا، وجرح حوالي ضعفي هذا العدد. وتوزّعت جثث العراقيين على سفوح التلة".

ركع "برهاني" على ركبتيه، ثم تناول كوفيته، وربطها حول خصره وقال: "لكنّ عملنا لم ينتهِ بعد. يجب ألا نطمئن على وضعنا، ففي كل
 
 
 
 
78

 


72

الخامس

 لحظة من الممكن أن يستعيد العراقيون قوّتهم ثم يعودوا إلينا. عندها لن نستطيع أن نصمد أكثر من نصف ساعة، بالطبع إذا لم تدعوا لنا". ثم بخطوات ثابتة خرج من الدشمة بعد أن أجال بنظره على الجميع.


منذ أن أصيب حجّة الإسلام "تركان"، كانت أحواله عجيبة. لقد نزف كثيرًا وتغطى سريره بالدماء. خلال ساعات الصباح الأولى، لم يعد في وضعه الطبيعي. كأنه لم يكن يسمع ما نقوله، كما لو أنّه في عالم آخر. لم يكن يهدأ للحظة، وعلى الرغم من إغمائه كان يتحدّث بصوت عالٍ على غير إرادة منه. من الطبيعي أن يهذي الجريح أو المريض، لكن ما أثار تعجب الجميع انّ كلام "تركان" لم يكن يشبه الهذيان. فكلامه في ذلك الوضع الدقيق يدلّ على مدى أنسه بالقرآن الكريم وبأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام خلال حياته القصيرة هذه. كان مغمض العينين ولا يجيبنا، بل كان يتحدث بكلام من هنا وهناك. وبين الحين والآخر يتوقف عن الكلام، ليستجدي الماء بصوت مؤلم، ثم يعود بعدها للوعظ والخطابة. على ما يبدو ـ حتى في هذه اللحظات الصعبة ـ لن يتخلّى عن الرسالة التي يحملها عالم الدين، فقد كان يخطب موضحًا بعض الأحكام ويؤكّد على فضيلة صلاة الجماعة وأحكام الصلاة وآدابها. وكان أحيانًا يشرع بتلاوة آيات من القرآن الكريم وهو يتنفس بصعوبة ثم يترجمها ويشرحها. ظننت أنه عاد إلى وعيه لأن كلامه واضح وعميق وقوي، لكن حين كلّمته لم يجبني، فعرفت أنه ما زال غائبًا عن الوعي. كان "تركان" يستند أثناء خطابه إلى أحاديث المعصومين عليهم السلام، ويذكر بين الحين والآخر مصدر الحديث، والذي كان في معظم الأحيان من بحار الأنوار للعلامة المجلسي.
 
 
 
 
79

73

الخامس

 في إحدى المرات حين دخل "برهاني" ليطمئن الى أوضاع الجرحى في الدشمة، قال له أحد الإخوة: "لا تقلقوا علينا، فنحن لا نجلس هنا من دون عمل، إنّنا حاضرون في صفّ حجة الإسلام "تركان" نستمع طيلة الوقت إلى خطاباته القيّمة".


انقضى نصف النهار تقريبًا. قام الشباب بعمليتين كبيرتين خلال أقل من عشر ساعات. ظهر التعب الشديد والنعاس على وجوه المقاتلين كافة. انقضى على المرة الأخيرة التي تناولنا خلالها الطعام ما يقارب الخمس عشرة ساعة. وبدأ العطش والجوع يضغطان على الشباب بشكل لا يوصف. كان الحر شديدًا ولم ترحم أشعة الشمس اللاسعة الأحبة على التلة، خاصة أولئك الذين تمركزوا في أماكن غير مسقوفة أو كانوا خارج الملجأ.

قصفُ الأعداء ظلّ مستمرًّا والقنابل وقذائف الهاون بقيت تهزّ التلة باستمرار. يمكننا تحمّل الجوع، لكن ماذا نفعل بالعطش الذي يؤذي الإخوة وخاصة الجرحى منهم، الذين يعانون من عطش شديد بسبب النزيف، في الوقت الذي نفد الماء من الجميع. كلّ الماء الذي كان بحوزة الشباب عند انطلاق العمليات عبارة عن "مطرة" ماء عسكرية لكل مقاتل، تَسع بضعة أكواب من الماء. شرب الشباب جميعًا كل ماء المطرة أثناء العمليات وفي الساعات الأولى للهجمة.

بعض الشباب لديهم خبز يابس ومكسّرات، لكن بسبب العطش، لا يمكن تناولها لأنها ستزيد عطشنا. في إحدى المرات التي زارنا الأخ "برهاني" داخل الدشمة أحضر عددًا من علب السمك التي حصل عليها من دشم العراقيين، لكن لم يستطع أحدٌ من الجرحى تناولها لأن حلوقهم جافة بشدة، وإذا أكلنا أي شيء فإنّه سيزيد وضعنا سوءًا.

كان يُسمع من زوايا الثكنة وغرفها صوت أنين طلب الماء. كل
 
 
 
 
 
80

74

الخامس

 المطرات خالية، والحصول على الماء غير ممكن. قال شاب إنه يوجد في الثكنة أحد خزانات المياه، لكن العراقيين أثناء انسحابهم أطلقوا الرصاص عليه ليفرغوه، ثم وضعوا فيه مسحوقًا لغسيل الملابس كي لا نتمكن من الاستفادة من الماء الباقي. لقد تأثرت كثيرًا من صوت الشباب وأنينهم. قلت لأحد الشباب الأصحّاء: "إذا التقيت الأخ "حسين سهمي"، قل له إنّني أريد الكلام معه".


بعد دقائق، جاء "سهمي" وجلس بالقرب مني. قلت له: "يا أخ "سهمي"، لا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي. يجب القيام بعمل ما. حاول أن تجد حلًّا".

وضع رأسه بين يديه ثم أجابني: "يا أخ طالقاني، والله لا يمكن فعل أي شيء. هناك جدول ماء في أسفل التلة، لكن العراقيين تحصّنوا حوله كي يمنعونا من الاقتراب منه. ما إن نترك دشمنا وخنادقنا حتى يستهدفونا بقناصاتهم. كنت أفكّر بطريقة ما منذ فترة، لكن لا خيار سوى التحمّل. والله إن الشباب الذين يحرسون تحت أشعة الشمس يلفظون أنفاسهم الأخيرة ويلهثون من شدّة الحر. أنت قل لنا ماذا نفعل؟".

قلت له: "ماذا ننتظر؟ إذا استمر الوضع على هذه الحال، سنموت جميعًا. والعدو في الوقت نفسه لن يجلس مكتوف الأيدي. تواصلوا مع المركز واطلبوا منهم حلًّا ما. لو عاد العدو، لن يكون لنا أيّ قدرة على المقاومة مع حالنا هذه".

قال "سهمي": "لقد اتصلت بالمركز وأخبرتهم بكل شيء. لكنهم مثلنا، ليس بيدهم حيلة. ولا سبيل لهم للوصول إلينا. لقد سدّ العدو الطريق بيننا وبينهم. يقول شباب المقرّ أن نصبر حتى المساء وسيرسلون لنا قوات وغذاءً".
 
 
 
 
81

75

الخامس

 جلس "سهمي" للحظات ليشاهد وضع الجرحى الذين يتأوّهون ويئنون لشدة العطش.


من خارج الدشمة، ظلّ يتهادى إلى الأسماع صوت طلب الماء. كانت التلة تلتهب تحت أشعة شمس الصيف الحارقة. وقف "سهمي" والحزن يموج على وجهه، وقال لي بصوت خافت: "قد يكون هناك بعض الماء في قِرَب (مطرات) الشهداء، سأذهب وأفتش قليلًا".

ذهب "سهمي" ومرَّت ساعة من الانتظار المرير. تحوّل الأنين والتأوّه إلى صراخ. بعض الجرحى الذين لم يعد لديهم القدرة على التحمّل بدأوا يبكون بصوت عال. بعد ساعة تقريبًا، عاد الأخ "سهمي" وبيده قربة ماء، يرافقه الأخ "برهاني". تقدّم نحوي وأعطاني القربة وقال لي: "يا أخ طالقاني، جمعنا الماء الذي بقي في قِرَب الشهداء وحصلنا على هذه الكمية فقط".

أما الأخ "برهاني"، فقد وجّه كلامه لنا قائلًا بصوت عال: "الإخوة السالمون، لن يشربوا الماء. هذه القربة خاصة بالجرحى. كل ساعة أعطوا للجريح مقدار غطاء القربة من الماء. إلى أن يحلّ الليل ويصلنا الماء والطعام إن شاء الله".

قلت للأخ "سهمي" بهدوء: "وماذا عن الجرحى في بقية الدشم؟" قال: "لقد أخذنا لهم القليل أيضًا".

وهكذا، صرت مسؤول تقسيم الماء، وتنفيذًا للأوامر، يجب إعطاء كل جريح قطرات من الماء في غطاء القربة. كيف يستطيع هذا الماء القليل أن يروي الإخوة الجرحى؟ حين خرج "برهاني" و"سهمي" من الدشمة، نظرت حولي. كان كل الجرحى قد رفعوا رؤوسهم عن الفراش حيث يتمدّدون، ويصوّبون نظرهم إلى قربة الماء في يدي. لم
 
 
 
 
82

76

الخامس

 يكن هناك مجال للتأجيل، فبدأت أسحب نفسي بصعوبة على ركبتي، وتوجّهت نحو باب الدشمة لأبدأ من هناك بالإخوة الجالسين أمام الباب. لكن الأخ الذي وصلت إليه رفض أن يشرب الماء، وطلب مني البدء من الناحية الأخرى. لكنّ الأخ الثاني رفض كذلك شرب الماء والثالث والرابع ومن يليهم. لم يقبل أيٌّ منهم أن يكون أوّل من يشرب الماء. في النهاية، اقترحت عليهم أن أبدأ في كل مرة من جهة، وأن أختار أنا الجهة التي أبدأ منها، فوافق الجميع.


هكذا، توجّهت إلى الجرحى واحدًا واحدًا، وأعطيتهم مقدار غطاء من الماء في أفواههم. على الرغم من أن الماء كان حارًّا، شرب الشباب هذه النقاط القليلة من الماء بلذّة خاصة، وبقوا يتحسّسونها مدة طويلة.

حوالي العشرين جريحًا كانوا ممدّدين بعضهم قرب بعض داخل الدشمة. بعد أن أنهيت الدورة الأولى على الجرحى، تبيّنت أن ثلث الماء قد نفد. فأدركت عندها أن الماء سيفقد بعد ساعتين تقريبًا. حين عدت إلى مكاني الأول، قال لي أحد الجرحى الجالسين أمامي: "لم تشرب، أليس كذلك؟".

ما إن سمع بقية الجرحى كلامه، حتى التفتوا تجاهي، فابتسمت لدقتهم في مراقبة ما قمت به، فشربت بدوري غطاء ماء. في الواقع، لا تكفي هذه الكمية من الماء لإرواء عطشنا، لكنها تعتبر مساعدًا في تهدئة العطش وتمرين النفس. لذلك استمرّ أنين الشباب وطلبهم للماء، فكانوا يسألون عن الوقت باستمرار لمعرفة الزمان الموعود لشرب نصيبهم من الماء.

على الرغم من العطش والضعف والإنهاك، لم ينسَ الشباب المقاتلون الصلاة في أول الوقت. صوت الأذان الذي رفعه أحد شباب التعبئة في الخارج، لفت نظرنا إلى أن وقت الصلاة قد حان. فتوجّه
 
 
 
 
 
 
 
83

77

الخامس

 الشباب الجرحى جميعًا للتيمُّم على الأرض الترابية للدشمة.


خلال فترة ـ الشهرين ـ التي استأنستُ فيها بشباب كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، لم يحصل أبدًا أن أذّن الجميع للصلاة، بل كان أحدهم يؤذّن ويستمع إليه الباقون. لكن في ذلك اليوم، تحمّس الجميع للأذان، الشباب داخل الدشمة وخارجها أيضًا. اشتاقوا لرفعه معًا وبصوت عالٍ. هزّ صوت الأذان التلة، وارتطم بالصخور والجبال، ليرجع الصدى قويًّا، وكأنّ جيشًا كاملًا من آلاف المقاتلين يرفع الأذان. بعدها بدأنا بإقامة صلاتي الظهر والعصر قصرًا، صلاة كانت بألف صلاة وتختلف عن كل ما صلّيناه من قبل، صلاة لذّتها تضع علامة استفهام واضحة حول أي لذّة أخرى.

أشارت الساعة إلى الثانية بعد الظهر، وقد ازدادت حرارة الطقس كثيرًا. في هذا الوقت، دخل أحد الشباب المرابطين في الخارج تحت أشعة الشمس إلى الدشمة وهو يتنفس بصعوبة ويلهث وقد أعياه الحر. بسرعة خلع ثيابه العسكرية، كما خلع قميصه القطني الأبيض، وارتمى على تراب الدشمة كي يخفّف من حدّة عطشه، وبعد دقائق، حين ارتاح قليلًا وقف في مكانه. فطلب عدد من الجرحى الذين كانوا يشاهدون هذه الحادثة أن أقدّم له بعض الماء الذي قد يخفّف من إحساسه بالعطش. لكنه رفض هذا الأمر مباشرة، وقال إنّ مخالفة أمر القائد حرام.

طلب أحد الشباب أن أعطيه حصّته من الماء الذي كان سيحصل عليه في المرة القادمة، ورحّب عدد آخر من الشباب بالفكرة، لكنه قال وهو يرتدي ملابسه: "لا، يا أخ طالقاني، أنا لست وحدي، فكل الشباب المرابطين في الخارج هم مثلي. لكنّ قدرتي على التحمّل أقلّ من قدرتهم فدخلت إلى الدشمة وقمت بما رأيتموه. لقد اتخذنا القرار
 
 
 
 
84

78

الخامس

 بألا نشرب الماء إلّا إذا توافر بكمية تكفي الجميع". ثم خرج مسرعًا من الدشمة.


ازداد عطش حجّة الإسلام "تركان" بشدة، وكان يردد طالبًا الماء بصوته الخافت وأنفاسه السريعة. في المرة الأولى التي أردت أن أعطيه الماء، لم يفتح فمه مطلقًا، برغم محاولاتي المتكرّرة. تقدم الأخ "محمدرضا تورجي زاده" لمساعدتي، ففتح بيده فم "تركان" وسكبت الماء داخل فمه. ابتلع الماء بشهية خاصة، لكنني لم أكد أبتعد عنه بضعة أقدام حتى عاد يئن طالبًا الماء.

حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، بدأت أشعر أن كلام "تركان" قد فقد اتزانه. فقد صار يتحدّث بصعوبة شديدة، ولم يعد أحد قادرًا على سماعه سوى الجرحى الممدّدين بالقرب منه فقط. صار جسم "تركان" ينتفض بشدة، وصرنا نسمع صوت أنفاسه. كما اختلف نوع كلامه. فهو لم يعد يتحدّث عن الأحكام والقرآن. لكن بدا وكأنه يتحدّث مع أحدهم، ويجيب عن أسئلته. فيجيب بنعم أو لا، وكأن أحدهم كان يستفسر منه عن أمر ما. حين أردت أن أعطيه الماء في المرة الثالثة، سكبته في فمه، على الرغم أنّ عينيه كانتا مغلقتين، قال لي بحدّة: "يا قليل الإنصاف، أتعطيني هذه الكمية القليلة من الماء؟ إنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام واقف بالقرب مني ويمسك بيده كأسًا من الماء يريد أن يعطيني إياه. وأنت تعطيني هذا المقدار فقط؟".

سمع بعض الإخوة الجرحى كلامه هذا، شرعوا بالبكاء رغمًا عنهم، وتناقلوا كلام "تركان" من واحد إلى آخر فضجّت الدشمة به. أدركت أنها اللحظات الأخيرة من حياته، لقد قرأت من قبل في الكتب، أن الإنسان يموت بالطريقة نفسها التي عاش بها. وكما يموت يبعث يوم القيامة. فلو عاش مؤمنًا سيموت مؤمنًا، ولو قضى حياته
 
 
 
 
85

79

الخامس

 بالشهوات، سيستأنس حين موته بشياطين الشهوة.


كما قرأت أن الإنسان يموت مع الأمنية التي لطالما تمناها في حياته. فلو تمنى المال والمنال والجاه والمقام، فسيموت بحسرتها، ولو كان مشتاقًا مثلًا لرؤية جمال أحد الأئمة فسيستأنس به حين موته1.

أجل، لقد كان "تركان" العزيز ضيفًا على الإمام الحسن المجتبى عليه السلام. أن يذكر "تركان" الإمام الحسن عليه السلام في هذا الوقت، كان هذا بالنسبة إلي أمرًا صادمًا وذا عبرة. لأنني تذكرت أنه خلال خطبه في ثكنة "محمد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم، كان "تركان" أكثر من يذكر الإمام الحسن عليه السلام. وحين يذكر اسمه عليه السلام تتغير أحواله. لقد سمعت مرارًا صفات الإمام الحسن عليه السلام ومظلوميته عن لسان "تركان". كان في ختام معظم خطبه يقرأ عزاء الإمام الحسن عليه السلام ويبكي بشدة ثم يربطه بعزاء الإمام الحسين عليه السلام. سمعتُ مرارًا عن لسانه أن مظلومية الإمام الحسن عليه السلام ليست أقل من مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه. تداعت إلى ذهني وإلى أذهان الجرحى الذين سمعوا كلام "تركان" في لحظاته الأخيرة، محبته وانجذابه للإمام الحسن عليه السلام، وكنّا متأكّدين في هذه اللحظة أن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام يسهر على "تركان" العزيز.

استمرَّ "تركان" في الكلام وحاول الجرحى كافة الإنصات إلى حديثه. بعد لحظات، تغيرت نبرته وكأن أحدًا قد سأله سؤالًا ما، فقال: "لا لم أصلِّ" ثم قال: "على عيني، الآن سأصلي". ثم بدأ بإقامة الصلاة، بعدها وهو ممدّد على هذه الحال، قرأ أذكار الصلاة بصعوبة. أحيانًا، كان يصمت بين الركعات ويبدو التدهور ظاهرًا عليه، لكن حين نحرك رأسه قليلًا، كان يعاود الصلاة. قال الجرحى بدهشة إنّ هناك من يلقّنه كلمات الصلاة. وعلى هذا النحو، صلّى
 
 

1- الرجوع إلى المجلد الثالث من بحار الأنوار، باب ملك الموت.
 
 
 
86

80

الخامس

 "تركان" ـ في الوقت الذي لم يكن يملك أي قدرة ـ بشكل دقيق ومن دون خطأ، صلاتين من ركعتين قصرًا. كانت الساعة حوالي الرابعة بعد الظهر، حين قال تركان: "على عيني، الآن" ثم نطق بالشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله وأشهد أن عليًّا ولي الله". ثم صار يكرّر ذكر لا إله إلا الله، لكن بشكل متقطع. في هذه الأثناء، وضع يده اليمنى على رأسه وسكت.


اعتقدتُ أنه غاب عن الوعي من جديد. قلت للأخ "تورجي زاده": "أظن أنه غاب عن الوعي".

عندها قاس نبضه، وبعد لحظات قال لي بهدوء: "لا، لقد استشهد".

أجل، وهكذا كان، لقد نال الأخ حجّة الإسلام "أحمد تركان"، بكل إخلاصه وشهامته، متخفّفًا وطاهرًا، لقاء المعشوق، وستبقى ذكراه للأبد قدوة لأتباع الدين المحمّدي الطاهر.

ما زال الأخ برهاني قلقًا، فكل دقيقة تمرّ كان من الممكن أن يجمع العدو قدراته ويرجع إلينا. فذهاب المروحيات وإيابها ورميها لعلب كبيرة من الذخائر والأغذية على مكان وجود الأعداء، إنما هو مؤشر يدلّ على أن العراقيين يجدّدون قواهم للقيام بحملة ارتدادية جديدة. لكن في المقابل، إن الذخائر الموجودة معنا لم تكن تكفي حتى لنصف ساعة من المقاومة، ومن جهة أخرى فلا يترك التعب، وقلة النوم، والعطش، والجوع الشديد، والعدد القليل للمقاتلين، أيّ أمل في المقاومة.

كانت مروحيات الدعم العراقية تطير على ارتفاع منخفض جدًّا بالقرب من التلة. طلب الإخوة رماة الـ(B7) من الأخ "برهاني" أن يسمح لهم باستهداف إحدى المروحيات. في الوقت الذي لم يبقَ لدينا
 
 
 
 
87

81

الخامس

 إلّا ستة صواريخ الـ(B7). لذلك واجههم الأخ "برهاني" برفض قاطع، وقال لهم: "إن احتمال إصابة المروحية ضعيف جدًّا، ومن الأفضل الاحتفاظ بالصواريخ لاستعمالها في رد الهجمة المحتملة للعدو علينا".


لكن إصرار رماة الـ(B7) أقنع الأخ "برهاني" وها هو يسمح لهم برمي صاروخ واحد، ولكن على شرط أن يرميه الأخ "أبو القاسم فرهنك" والاحتفاظ بما تبقّى من الصواريخ للحالات الضرورية. لم يعد يفصلنا عن الغروب سوى وقت قصير جدًّا. إلّا أنّ الأخ "فرهنك" رمى إحدى المروحيات العراقية بدقة شديدة. قال "سهمي": "لقد دخل الصاروخ بالتحديد إلى غرفة الطيّار وانفجر هناك".

كانت المروحيّة تشتعل فوق المعبر، ولمّا ارتطمت بالصخور سقطت وسط المعبر وانفجرت مصدرةً صوتًا رهيبًا. في الوقت نفسه، وبعد لحظات معدودة فقط، اشتعلت العلبة الكبيرة التي كانت تحوي الذخائر، وانفجرت أيضًا وارتفعت ألسنة اللهب الطويلة إلى السماء. هزّ صوت تكبير الشباب، المعبر، وشاركهم الجرحى برفع أصواتهم بالتكبير أيضًا. لقد أدّى دمار هذه المروحية إلى رفع معنويات الشباب والجرحى الذين كانوا بسبب الإصابة من جهة، والتعب وقلة النوم من جهة أخرى، غير قادرين على الحركة.

اتصل الأخ "برهاني" لاسلكيًا بالإخوة في مركز القيادة، ونقل إليهم تقرير هذه العملية السريعة، كما أخبرهم بالأوضاع كافة حول السريّة والموقع. وذكّرهم بقلة العديد، والحاجة الماسة للذخيرة، شدّة العطش والجوع والتعب التي يعاني الشباب منها، كما أكّد لهم أن العدو يجمع قواه من جديد، وأنّنا نتوقّع حملة ارتدادية في أي لحظة.

أجاب مركز القيادة أن لا داعي للقلق أبدًا، لأن خطّة كسر الحصار وتحرير المعبر بالكامل قد أعدّت. وأوضح الأخ "حسين خرازي" أن
 
 
 
 
88

82

الخامس

 كتيبة "يا زهراء" عليها السلام جاهزة في الوقت الحالي للعمليات، وإن شاء الله سيباشر الشباب التحرّك في ساعات الليل الأولى، وسيلتفون حول المرتفعات من طريق غير معروف، وسيصلون بالتالي حوالي العاشرة إلى التلة الثالثة، وسيصحبون معهم الأغذية والذخائر وقوات الدعم، ثم يشاركون في تحرير التلتَّين الأولى والثانية.


انتشر الخبر بسرعة بين الشباب، وقد أفرحهم ذلك كثيرًا. فخفّ شعور العطش والجوع، وصار الجميع يتحدّثون عن وصول كتيبة يا زهراء عليها السلام.

بدأ الظلام يرخي سدوله ببطء، وانشغل الشباب بالصلاة. إنّ ما مرّ على العاشقين في اليوم والليلة السابقة، ليس سوى المعجزة نفسها، وظهور القدرة الإلهية الدائمة. على الرغم من الشهداء الكثر الذين قدّمناهم في سبيل الله، إلّا أنّ الجميع كان راضيًا وشاكرًا، لأن ما تمّ إنجازه على يد مجموعة محدودة، في هذه الظروف القاسية، لم يكن متوقّعًا، لذلك كنّا متيقنين أن الله سبحانه وتعالى حامينا وحارسنا.

لم يكن أحدٌ منّا يستطيع أن يتوقّع ما سيحلّ علينا في الأيام الآتية، لكن بالنسبة إلى هذا الجمع العاشق الذي لم يخطُ خطوة في هذا الطريق إلّا لأجل رضى الله، لا يهمّ ما الذي سيحصل فيما بعد. لذلك كانت مناجاة هذه المجموعة الوالهة شكرًا على النعم السابقة، ودعاءً لمزيد من النصر في الأيام اللاحقة. لم يكن جيش الله يفكر إلّا بعزة وبنصر دين الله، وهذا بحدّ ذاته غنيمة ورأس مال ثمين، لأن هذا الأمر يعطي قدرة وتفوّقًا على كل القوى الأخرى. ورأس مال كهذا لا يمكن لأحد الحصول عليه ولا تصوّره. وشرع الجميع يدعو لكتيبة "يا زهراء" عليها السلام كي يحفظها الله من أعين الأعداء، ويوصلها بخير إلى التلة.

كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساءً، حين اتصل بنا الأخ "حسين
 
 
 
 
89

83

الخامس

 خرازي" وقال: "الآن تحرّكت كتيبة يا زهراء عليها السلام، وستصل إلى التلة في غضون ساعتين".


صار عملنا جميعًا على التلة الدعاء لشباب كتيبة يا زهراء، كي يصلوا بسلام، ويوفقهم الله في مأموريتهم الصعبة هذه. مرّت ساعة على هذه الحال، قرّر الأخ "برهاني" عند الساعة التاسعة مساءً، أن يرسل ثلاثة من الشباب كي يستقبلوا الكتيبة القادمة ويرشدوها إلى التلة. قال الأخ "برهاني": "إنّ المسير الذي تمّ تعيينه لكتيبة يا زهراء عليها السلام خطر للغاية وصعب العبور".

في الحقيقة، ستدور الكتيبة حول مرتفعات 2519، وسيصلون عبر طريق صعبة شديدة الانحدار إلى المعبر، ثم سوف يصعدون من الجهة الأكثر انحدارًا إلى أعلى التلة. لقد تمّ اختيار هذا الطريق كي تعبره الكتيبة، لأنه يسمح لها بالوصول إلى المعبر من دون المرور بالقرب من التلتين الأولى والثانية، وبالتالي تجنّب الاشتباك مع العراقيين. كان الوقت يمر بطيئًا، والكل يعدّ اللحظات للوقت الموعود، أي الساعة العاشرة.

ها هي الساعة المنتظرة تدقّ. لكن لا أثر لكتيبة يا زهراء عليها السلام حتى الآن. كل الشباب قلقون ويدعون أن تصل الكتيبة إلى التلة بسلامة من دون أي مشاكل. غير أنّ الانتظار طال وطال. لم يستطع الأخ "برهاني" أن يهدأ أو يسكن أبدًا. مرّت اللحظات والثواني ببطء شديد. ثم تحوّلت إلى ساعة وساعات، ولا خبر عن كتيبة يا زهراء عليها السلام ولا أثر لها. كان الأخ "برهاني" على اتصال دائم مع مركز القيادة، لكن لم يكن بمقدورهم القيام بشيء. إلى أن أخبرنا الأخ "خرازي": "لقد ضلّت الكتيبة طريقها، ولم تستطع العثور على الطريق الصحيح الذي كان من المفترض الانحدار منه إلى المعبر".

كان من المؤكد بالنسبة إلينا أنه إذا لم تصل كتيبة يا زهراء عليها السلام الليلة، فإنّ شهادتنا ستكون حتمية، حتى لو لم يهجم علينا الأعداء، فسنستشهد من الجوع والعطش، مع أنّ الهجمة الارتدادية للأعداء هي أمر أكيد. بالإضافة إلى ذلك كله، فإنّ شباب كتيبة يا زهراء عليها السلام
 
 
 
 
90

84

الخامس

 في خطر كبير، لأنهم إذا ما بقوا ضائعين، فما إن يطلع الصباح، حتى يراهم العدو، ويصبحوا في مرمى نيرانه المباشرة.


لم تكن تفصلنا عن الثالثة بعد منتصف الليل إلا دقائق معدودة، حين سمعنا من البعيد أصوات رشاشات وانفجار قنابل الأعداء، ما أقلق الشباب كثيرًا. قال الأخ "برهاني" والاضطراب الشديد بادٍ على وجهه: "لا بد وأن الشباب قد اشتبكوا مع الأعداء".

يبدو أنّ الفرق العديدة من جيش العدو المنتشرة على أطراف المعبر والكامنة في الخنادق هناك، اكتشفت الكتيبة وهي تحاول الاقتراب من التلة، وبدأت بإمطارها بالنيران. ثمّ استهدف العدو تلك المنطقة بمدفعيته الثقيلة.

لم يكن باليد حيلة، ولا عمل يمكن القيام به سوى الدعاء والتوسل. استمرّ تبادل النيران لساعة تقريبًا، على أثر الرصاص الكثيف والانفجارات القوية أضيء المكان حولنا، وهذا الأمر إنما يدلّ على شدة الاشتباكات والمعارك.

حوالي الساعة الرابعة فجرًا، بشّرنا الشباب المنشغلون بالمرابطة على التلة باقتراب كتيبة يا زهراء عليها السلام. فانطلق الأخ "برهاني" وعدد من الشباب لاستقبال الكتيبة. وباختصار، وصل شباب الكتيبة إلى التلة بعد ثماني ساعات من المشي المضني والمنهك، وبعد خوض معركة حامية مع العدو. وهكذا، وصل الشباب إلى الموقع، وجوههم مغطاة بالغبار، بعضهم كان مجروحًا والدماء تسيل منه، ما إن دخلوا حتى تمدّد كلٌّ منهم على الأرض في إحدى الزوايا. بين أفراد الكتيبة، حوالي
 
 
 
 
 
91

85

الخامس

 العشرين جريحًا ينزفون، تمّ توزيعهم على دشم الجرحى، وقد تمدّد عدد منهم بصعوبة في دشمتنا. انطلق الأخ "برهاني" وشباب الإسعاف مباشرة لتضميد جراحهم. عرفت فيما بعد أنّ عددًا من أفراد كتيبة يا زهراء عليها السلام قد استشهد أثناء الاشتباكات، وبقيت أجسادهم على أرض المعركة. كذلك فإنّ المسعفين أحضروا الجرحى بصعوبة كبيرة على الحمالات إلى التلة.


من بين الجرحى، رأيت الأخ "صفاتاج"، قائد الكتيبة المعروف، وكان مميزًا وذا تجربة، وتناقل العوام والخواص أخبار شجاعته في الجبهات. لقد سمعت اسمه مرات عدة. أحضروه إلى دشمتنا، ممددًا على حمّالة، والأخ "برهاني" يدور حوله بقلق. كانت الدشمة مليئة بالجرحى، لا مكان لأي شخص إضافي، لكن الجثمان الطاهر لحجة الإسلام "تركان"، لا يزال في الداخل. أمر الأخ "برهاني" أن يُنقل إلى الخارج، وهكذا فُسح المجال للأخ "صفاتاج" كي يتمدّد مكانه. أصابت شظية كبيرة كتفه الأيسر فشقته حتى النخاع، وأوجدت جرحًا كبيرًا فيه، أدّى إلى نزيف حاد للدماء. كما إن شدة الانفجار قد أثرت على النظام العصبي لديه، فشُلّت أعضاؤه كافة، وكان فقط يحرك عينيه وينظر إلى كل من حوله. علاوة على ذلك كان عاجزًا عن تحريك لسانه، وكان يصدر أصواتًا غير مفهومة من حلقه يصعب سماعها.

كان جرحى سريّة "ميثم"، الذين قضوا يومًا وليلة من دون ماء ولا طعام، يتوقّعون الحصول على الماء والغذاء مع دخول كل جريح من كتيبة يا زهراء عليها السلام، لذلك كانوا يحدّقون بنظراتهم في كل من يدخل الدشمة، لكن من دون أن يطلبوا شيئًا بشكل واضح لشعورهم بالخجل من هذا الأمر. في إحدى المرات، حين دخل الأخ "برهاني" إلى دشمتنا، سأله بعض الشباب في الوقت نفسه عن الماء والطعام. فأجاب محاولًا
 
 
 
 
92

86

الخامس

 إنهاء الأمر بلهجة حاسمة: "بعد ثماني ساعات من المشي والاشتباك مع الأعداء، هل تتوقّعون أن يحضروا الماء والطعام أيضًا؟".


عرفنا جميعًا أن لا خبر عن الماء والطعام، وتيقّنا أن يومًا آخر صعبًا ومنهكًا بانتظارنا. فيما بعد، أخبرنا شباب الكتيبة عما حصل معهم خلال مسيرهم. قال أحدهم: "كانت الخطة تقتضي أن نصيب عصفورين بحجر واحد، الأول: إنقاذكم من العطش والجوع، والثاني كسر حصار التلة الثالثة، والمحافظة على سَرِيّة "ميثم" وعلى التلة التي تمّت السيطرة عليها من قبل، ثم الهجوم على التلتين الأولى والثانية، من المحور الذي لا يمكن للأعداء تصوره أي من محور التلة الثالثة بالتزامن مع هجوم قواتنا الموجودة على "مرتفعات 2519"، فنفاجئ العدو ويتحرّر بالتالي كل المعبر. لقد صُمِّمَ البرنامج بشكل دقيق وكان هذا أفضل عمل يمكن القيام به.

فمنذ عصر البارحة، وجّه القادة الكتيبة1. ومن فوق المرتفعات جعلونا نشاهد ونتعرف إلى المنطقة كلها. انطلقنا عند الثامنة مساءً. وُزّعت الأغراض على اثني عشر بغلًا حملت أوعية الغذاء الكبيرة، قربات ماء وذخائر متنوعة. بعد أن قطعنا مسافة طويلة التفتنا إلى أننا أضعنا المحور الذي كان من المفترض أن ننحدر منه باتجاه أسفل المرتفعات. تباينت الاقتراحات بين الاستمرار في التقدّم إلى الأمام، والعودة مسافة قصيرة إلى الخلف، لأننا تخطينا المكان الذي علينا العبور منه. لكن الأخ "صفاتاج"، اعتقد أنّه علينا الاستمرار في التقدّم، ولهذا مهما كنّا نتقدّم فإنّنا لم نصل إلى المكان المنشود. ولذا قرّر قادة الكتيبة ومساعدوهم أن ننزل إلى أسفل المرتفعات من النقطة التي وصلناها، وكانت شديدة الانحدار لدرجة لا توصف ولا يمكن عبورها.
 

1- بمعنى أنهم أحاطوها بالمعلومات والتفاصيل والمهمات والأعمال المقبلة.
 
 
 
 
93

87

الخامس

 رحنا ننزل ببطء. ولم تكن البغال مستعدة للتحرك إلى الأمام. فمنذ الدقائق الأولى لمحاولاتنا، انزلق بغلان نحو الأسفل وسقطت حمولتهما معهما وخسرنا ما على ظهريهما من الماء والطعام. أما بقية البغال، فقد تسمّرت في مكانها ورفضت أن تتحرّك لا نحو الأسفل ولا باتجاه الأعلى. باءت كل محاولاتنا لدفعها على الحركة بالفشل. إلى أن اضطررنا في النهاية إلى تقسيم الحمولة على الشباب، وتركنا البغال هناك لحالها. كان عبور تلك المنطقة صعبًا جدًّا حتى لو لم نكن نحمل شيئًا، فكيف إذا كنا نريد نقل أوعية الطعام الكبيرة وقِربًا تَسَعُ عشرين ليترًا من الماء، وكميات من الذخائر.


باختصار، خلال المسير، انزلق عدد من قرب الماء وأوعية الطعام إلى أسفل الوادي. استغرق نزولنا عن المرتفعات حوالي الساعتين، وكنا قد خسرنا معظم ما كنا نحمله. حين وصلنا إلى السفح، لم نعرف بأي اتجاه علينا الذهاب للوصول إلى تلّتكم. توقفت الكتيبة هناك. انفصل عنا ثلاثة شباب كي يبحثوا عن المسير، وعادوا بعد نصف ساعة ليخبرونا أنهم وجدوا الطريق. انطلقت الكتيبة من جديد وصعدنا مسافة طويلة جدًّا ذات انحدار شديد، بعد ثلاثة أرباع الساعة من المشي المستمر، فجأة فُتحت نيران رشاشات العدو من جهات عدّة علينا، وأدّت إلى تفرق الشباب. ركض كل واحد باتجاه ليجد ملجأ له. لم نكن نقصد الاشتباك مع العدو، بل حاول القادة إلهاءه كي يصل باقي الشباب إلى التلة. لكن الدشم العراقية المحميّة بالأسلحة الثقيلة التي ترميها علينا من جهة، والانتشار الدقيق لهذه الدشم في أماكن عدة، فاجأنا ومنعنا من أي حركة من جهة أخرى، لذا طال اشتباكنا. إلى أن طلب القادة من الإخوة الإسراع في الابتعاد عن أماكن العراقيين والتوجه نحو أعلى التلة. اختار كلّ منا بشكل
 
 
 
 
94

88

الخامس

 فردي الطريق الذي وجده مناسبًا، وتوجه نحو الأعلى. باختصار، أدت هذه الاشتباكات إلى فقداننا لما تبقى معنا من أوعية طعام وبقيت قُربات الماء الكبيرة التي كان يحمل كلًّا منها شابان، في أرض المعركة، ولم يكن بالإمكان العودة مرة ثانية لإحضارها...".


اقتنع كل الشباب أن كتيبة يا زهراء عليها السلام قد قامت بكل جهدها كي تنجز المأمورية المطلوبة منها، وصار واضحًا أمامنا أن غدًا صعبًا في انتظارنا، غدًا سيقضي علينا بعطشه وجوعه.

حمل أفراد كتيبة يا زهراء بعض المكسرات والفاكهة المجففة، فوزّعوها علينا وصرنا نأكلها بشهية لا توصف. لكن حين عرف الأخ "برهاني" بما حصل منعهم عن هذا العمل، فكلّما خفّ جوعنا بهذه الأطعمة سيزداد عطشنا أكثر فأكثر.

لاحظنا خجل الذين لم ينجحوا في إحضار الماء والطعام لنا. فحين شاهدوا الوجوه الشاحبة والأجساد الضعيفة العطشى وتلوّي الجائعين من ألم المعدة، شعروا أيضًا بالذنب وصاروا يحاولون توضيح ما حصل معهم. على الرغم من أن المسألة قد حُسمت لدينا بأنهم ليسوا السبب في عدم حصولنا على الماء والطعام. كانت قرباتهم تحوي نصف كميّات الماء. فقاموا بتقديم ما تبقّى من الماء لهم على طبق الإخلاص لا سيما للجرحى. فشرب معظمهم، لكن القادة انزعجوا من هذا الموضوع، وطلبوا الاحتفاظ بالماء لمقاتلي الكتيبة لأنهم قد يحتاجونه أثناء محاولة فك الحصار عن التلة. كان هذا السبب مقنعًا للغاية، لأن كسر الحصار أكثر أهمية بمراتب من تسكين عطش بعض الجرحى.

انتشرت قوات كتيبة يا زهراء عليها السلام في زوايا الموقع، وغطّت في نوم هانئ على الأرض لشدة التعب والإنهاك. أدرك العدو الآن أن كتيبة أخرى قد انضمّت إلى قواتنا. صار عدد الشباب في الموقع كبيرًا لدرجة
 
 
 
 
95

89

الخامس

 جعلت حركة الذهاب والإياب أمرًا صعبًا، وهذا ما استغله العدو مباشرة ووجّه نيرانه باتجاهنا. وأينما دكّت مدفعيته الثقيلة التلة أصابت عددًا من الجرحى وأوقعت الشهداء بسبب الازدحام.


عند اقتراب الصباح، تضاعف حجم القصف علينا، وتزايد قلق القادة كثيرًا لهذا الأمر. فإنّ بقاء الكتيبة في الموقع، يعد انتحارًا جماعيًا وسيؤدّي إلى مجزرة لا محالة. ومن جهة أخرى، لم يبقَ سوى ساعة لطلوع الصباح، ولا وقتَ كافيًا لكتيبة يا زهراء عليها السلاملإنجاز مأموريتها على أكمل وجه.

كانوا ينتظرون أوامر قائد الفرقة. لم يكن أحد منهم يعرف إن كان تمّ القيام بعمليات على التلتين الأولى والثانية أم لا! من الممكن أن القادة كانوا ينتظرون مصير كتيبة يا زهراء عليها السلام. على كل حال، كنت متأكدًا أن الموضوع انتهى، وأن القيام بعمليات خلال هذه الفرصة البسيطة أمر غير ممكن. لأنه إذا أرادت الكتيبة أن تهجم على التلة الثانية فهي بحاجة إلى أكثر من ساعة سيرًا على الأقدام للوصول إلى هناك، وهذا يعني، أن مواجهتنا ستكون مع طلوع الصباح، ولنفترض أن كتيبة يا زهراء عليها السلام، قد نجحت في مهمتها، فإن التلة الأولى ستكون لا تزال تحت سيطرة الأعداء، وفي النهاية علاوة على أننا لن نستطيع كسر حصار تلّتنا، فإنه سيتم محاصرة كتيبة يا زهراء عليها السلام.

إذا ما تخطّينا كل هذه الاحتمالات، فإنّ الكتيبة لم تكن مستعدّةً للقيام بأي عمليات. فكل الشباب كانوا يغطّون في نوم عميق ما عدا القادة. لم يُبقِ التعب الشديد رمقًا لدى المقاتلين بعد ثماني ساعات من المشي في مسير جبلي وسط مرتفعات صعبة الانحدار، زد على ذلك الاشتباكات مع قوات الأعداء.

كان ذهني مشغولًا بالبحث عن الإجابة عن السؤال التالي: "هل
 
 
 
 
96

90

الخامس

 سيتمكّن الشباب من إنجاز مهمتهم بنجاح ويتمّ تحرير المعبر؟". يبدو هذا الأمر بعيد المنال، كما إنّ الخسارة تعني القضاء على الكتيبة وسقوط أفرادها بين جريح وشهيد وأسير. كنت جالسًا في زاوية من الدشمة غارقًا في أفكاري القلقة. سألت نفسي فجأة: "ولكن ما الذي يجب أن نفعله؟" إذا كان من المفترض ألا تقوم الكتيبة بأي عمليات، فعليها البقاء هنا. لكن هذا الأمر أيضًا يعني القضاء عليها، لأن تجمّع الشباب وبأعداد كبيرة في مكان واحد في مرمى نيران المدفعية الثقيلة للعدو، سيؤدّي إلى تفتّت الكتيبة لا محالة.


كنت غارقًا في أفكاري هذه والحزن يسيطر عليّ، حين أعادني إلى الواقع صوت الأخ "برهاني" الذي كان يتصل بمركز القيادة الموجود على مرتفعات 2519. توصّل الأخ "برهاني" إلى النتائج نفسها التي وصلت إليها، وكان يريد أن يضع الأخ "حسين خرازي" في الأجواء ويطلب التكليف منه.

بعد لحظات، اتصل الأخ "خرازي" وطلب أن تستعد كتيبة يا زهراء عليها السلام للانطلاق قبل طلوع الضوء، والعودة من الطريق الذي جاءت منه، على أن يبقى الجرحى فقط بالإضافة إلى عشرين مقاتلًا وكمية من الذخائر. وعلى باقي الشباب الإسراع في العودة إلى المرتفعات، إلى أن يتم تحرير المعبر في الليلة التالية إن شاء الله.

كان إيقاظ شباب الكتيبة عملًا صعبًا بالفعل. لكن في النهاية ها هم يستيقظون ويتوجّهون نحو المرتفعات. هذه المرة أطلق القادة نيرانًا من الرصاص الخطاط كي يدلّوهم بهذه الطريقة إلى طريق العودة، ويصلوا بأسرع ما يمكن إلى الخطوط الخلفية.

كان هذا من أكثر القرارات منطقية. لكن، هناك مسألة لم تحلّ بالنسبة إلي، وهي المصير الذي ينتظرنا عند طلوع الصباح، وما
 
 
 
 
 
97

91

الخامس

 الذي سيحصل لنا؟ كان الهدف من بقائنا هو الدفاع عن التلة الثالثة، أي التلة حيث نحن الآن، ولكن هل ستستطيع القوات الموجودة هنا، وفي الظروف الراهنة، أن تحافظ على التلة حتى حلول الليلة التالية؟ تدنّى عدد القوات السليمة إلى الحد الأدنى، فيما هم يعانون منذ أكثر من ثلاثين ساعة من الجوع والعطش والأرق والتعب.


على الرغم من امتلاكنا الآن للذخائر التي أحضرها شباب كتيبة يا زهراء عليها السلام، لكن هل ستستطيع قواتنا صدّ أي هجوم جديّ تقوم به القوات العراقية الحاضرة بكل قوّتها ونشاطها، والمسلحة حتى العظم، والتي تتلقّى الدعم من الأرض والجو؟ برأيي إن الجواب سلبيّ.

بعد كل هذه الأفكار التي كانت تتلاطم في رأسي، توصّلت إلى أنّ بقاءنا في التلة لن يؤدي إلى خسارتنا التلة وعدم قدرتنا على الدفاع عنها فحسب، بل سيؤدّي إلى شهادة الشباب كافة السالمين منهم والجرحى. لذلك أعتقد أن القرار الأكثر منطقية في مثل هذا الوضع هو مرافقة شباب كتيبة يا زهراء وترك التلة للعودة إلى المرتفعات على أن يتم التخطيط بشكل أكثر دقة للهجوم على التلة من جديد. لذلك شعرت أنه من واجبي أن أناقش هذه الفكرة مع الأخ "برهاني". طلبت منه القدوم إليّ، وحاولت أن أكلّمه بصوت لا يسمعه أحد حولنا. بعد أن استمع "برهاني" إلى كلامي، تفاجأ كثيرًا، وأجابني بدهشة: "يا أخ طالقاني، لماذا تقول هذا الكلام؟ هل من الممكن أن نترك التلة التي قدّمنا في سبيل تحريرها ستين أو سبعين شهيدًا من شبابنا؟ نتركها هكذا ونذهب؟ لنفترض على سبيل المثال أن ترك التلة هو أفضل خيار لدينا، كيف سيمكننا أن ننقل هؤلاء الجرحى جميعًا، ومعظمهم لا يستطيع الحركة، فكيف بهم الوصول إلى تلك المرتفعات؟ وفضلًا عن ذلك، هل تستطيع قواتنا العطشى والجائعة والمنهكة من التعب وقلة
 
 
 
 
98

92

الخامس

 النوم أن تمشي لأكثر من ساعتين؟ ولنكن أكثر دقة لتتسلق الجبال لأكثر من ساعتين؟ إن اقتراحك غير عملي أبدًا".


سكت "برهاني" وهو يضع رأسه بين يديه؟ قلت: "اُنظر، إن هدفكم الأساسي أنت وقيادة الفرقة هو الاحتفاظ بهذه التلة. لكن برأيي ما سيحصل غدًا واضح كالشمس بالنسبة إلي، لن نستطيع الاحتفاظ بالتلة في هذه الظروف التي نمر بها. في الغد سيموت الشباب من العطش، إن هجمة العدو ستختلف كثيرًا عن الهجمة الارتدادية التي قام بها البارحة، فهم سيهجمون ضمن خطة أكثر دقة وبقوات كثيرة العدد وكمّية ذخيرة وافرة. لهذا السبب لن نستطيع الاحتفاظ بالتلة. حسنًا، حين يكون الوصول إلى الهدف الأساسي، أمرًا محالًا، أليس من الأفضل أن نفكّر بالمحافظة على أرواح الجرحى وباقي الشباب؟ في الغد، لن تسقط التلة فقط، بل سنستشهد جميعًا. وهل بهذه الطريقة ننقذ حياة الشباب؟ أما بالنسبة إلى الجرحى، فعلى شباب كتيبة يا زهراء عليها السلام تقديم المساعدة قليلًا، إذ يحمل كلّ شابين جريحًا. أما بالنسبة إلى قدرة الشباب على تسلق الجبال، علينا الاعتراف أنه إذا كنا نفترض أننا سنصمد عشرين ساعة إلى أن يأتي الدعم مرة أخرى، فنحن بالتأكيد قادرون على المشي عبر الجبال لساعتين أو ثلاث".

أجاب قائد السرية: "أنا متأكد أن الأخ "خرازي" لن يوافق على هذا الأمر". أجبته: "في هذه الظروف، أنت مخوّل لاتخاذ القرار المستقل. لديك السلطة المطلقة. لقد كنت حاضرًا ليلًا ونهارًا وبشكل مباشر في أرض المعركة، تعرف ظروف المنطقة ووضع القوات. الكثير من الأمور التي تلمسها أنت، هم لا يرونها. أنت مسؤول عن شبابك، وإذا اتخذت هذا القرار، كن واثقًا أن لا أحد يستطيع الاعتراض عليك. لأن العقل يقول لنا إن التلة ستسقط غدًا ولن نستطيع الاحتفاظ بها".
 
 
 
99

93

الخامس

 أجابني "برهاني" وهو يقف ليترك مكانه إنّما التردّد بادٍ في كلامه: "يا أخ طالقاني، لا أعرف ماذا أفعل. أنا متردّد جدًّا! اصبر قليلًا وسنرى ماذا سيحصل". ثم خرج مسرعًا من الدشمة. وتفهّمت جيدًا ظروفه. إذ إنّ اتخاذ القرار في مثل هذه الظروف أمر صعب. على الأقل، فهمت الحِمل الثقيل الذي يحمله على ظهره. بعد دقائق عرفت من أصوات القادة وضجيجهم، وهم ينقلون القوات إلى خارج الموقع، أن الأخ "برهاني" رجّح كفّة بقائنا على كفّة الرحيل.


إن الفائدة الوحيدة التي كسبتها سريّة ميثم من مجيء كتيبة يا زهراء عليها السلام كانت الحصول على عشرين مقاتلًا على أهبة الاستعداد والنشاط، تطوّعوا للبقاء معنا على التلة، وكذلك في الذخيرة التي أحضروها معهم وصار لدينا عدد كبير من الأمشاط وقذائف الـ(B7) والقنابل اليدوية وعدد من بنادق القناصة مع الرصاص الخاص بها. كما فاز المسعفون بكمية من الأدوية والوسائل اللازمة لهم في معالجة الجرحى. بعد ساعة من ذهاب كتيبة يا زهراء عليها السلام، جاء الأخ "برهاني" إلى الدشمة وفي يده قِربتان من الماء، نظر إليّ نظرة ذات مغزى. جلس بالقرب منّي، وقال بلهجة هادئة: "لقد اتّصلت مرة ثانية بالأخ "خرازي"، لم يجد مصلحة في تركنا للتلة. لقد تكيّفنا مع كل أنواع العذابات، ومن الأفضل أن نصبر اليوم أيضًا. وكل ما يحصل لنا هو في عين الله..".

- التوكّل على الله! في الحقيقة كل ما قلته لك واقترحته عليك ليس عمليًّا، فبعد خروجك بقليل انتابني شعور بالتردّد مرة ثانية. إن شاء الله يمر اليوم أيضًا على خير وسلامة، ويحلّ الليل وبفضل المدد الإلهي يختم كل شيء بخير وعافية".

- وإن لم يحصل ما نتوقّع، فلا اعتراض...
 
 
 
 
100

94

الخامس

 ثم وضع القربتين بالقرب مني وقال لي: "بأي شكل من الأشكال، حصلت على الماء من كتيبة يا زهراء عليها السلام وقسّمته على الدشم. هاتان القربتان هما من نصيبكم. مع الأخذ بعين الاعتبار أن لا ماء سواهما، حاول توزيعه بطريقة يسعفنا فيها الماء حتى ساعات ما بعد الظهر. وعلى فكرة، من الأفضل ألا تبدأ منذ الآن، بل اصبر قدر المستطاع، وحين يصبح الجو حارًّا ويضعف تحمّل الشباب، وزّع كمية من الماء عليهم. وكالبارحة، لا تقدّم ماءً للشباب السالمين، بل للجرحى فقط بمقدار غطاء قربة الماء فقط".


كان نزيف جرح "صفاتاج" ما يزال مستمرًّا، والتف حوله عدد من المسعفين القلقين عليه يحاولون إيقاف النزيف. لقد ضمّدوا جرحه مرات عدة، لكن الدم لم ينقطع. بعد ساعة، من محاولات عدة، نجحوا في إيقاف النزيف ومدّدوه على أحد الأسرّة.

كان كل الشباب متأكّدين أنه مع طلوع الصباح سيقوم العدو بهجمة ارتدادية، ولذلك كان الأخ "برهاني" لا يتوقّف عن الحركة وعن التنقل بين الدشم وبين الشباب.

فاجأني جهده ومثابرته بشدّة. بالرغم من أنّه كان أكثر من يركض ويتنقل، لم يسترح للحظة وعلى عكس البقية خلال الأيام السابقة، لم أره يشكو من تعب أو جوع أو عطش.

كان يقضي النهار بطوله تحت أشعة الشمس الحارقة، وطيلة الليل لا يركن في مكان، بل كان دائم الحركة من هنا إلى هناك. وها هو إلى الآن يبدو كمقاتل وصل لتوّه إلى المنطقة ولا يتوقف عن العمل. لقد قام بكل التحضيرات اللازمة لصدّ أي هجوم. بنى بمساعدة الشباب دشمًا جديدة حول التلة ووزّع الشباب فيها وحدّد للجميع المكان الذي يجب أن يلتزم به.
 
 
 
 
101

95

الخامس

 علينا أن نحمي التلة بأي طريقة ممكنة، إلى أن يأتي المساء، لأنه الحل الوحيد والطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نحافظ بها على كل التضحيات التي قدّمناها ولا تذهب هباءً. فإذا ما ضعف المقاتلون الأعزاء قليلًا أمام الأعداء، سيقع الشباب جميعًا بأيدي السفاحين البعثيين وستكون مجزرة دامية.


بدأنا يومًا جديدًا بانتظار هجمة ارتداديّة للأعداء.
 
 
 
 
102

96

السادس

 السادس


الجميع كان يدرك أنّ يومًا صعبًا بانتظارنا، فما إن طلع الصباح حتى طلب الإخوة الجرحى حصّتهم من الماء. على الرغم من أن الطقس ما زال معتدلًا ولم تبدأ الحرارة بالارتفاع، إلا أننا كنا نشعر بعطش لا يوصف. فأنا جفّت شفتاي ويبس لساني وكنت بالكاد أستطيع الكلام. أمّا الجرحى، فكان وضع الإخوة ذوي الإصابات الشديدة صعبًا للغاية. ولذا نزلت بأطرافهم رجفة شديدة، وكانت أجسادهم تهتز كلها. غمر البياض وجوه الشباب، ما أفقدهم القدرة على إغماض أجفانهم.

لم يسلم الشباب الأعزاء من ألم المعدة الذي سيطر عليهم منذ الليلة السابقة، وكان بعضهم يتلوّى من شدة الألم. في حين كان الجرحى الذين ازداد عددهم ينادونني باستمرار، ويصرّون عليّ للبدء بتوزيع الماء. لكنني بدلًا من ذلك صرت أشرح لهم أن الطقس ما زال معتدلًا حتى الآن، وبالتالي علينا تحمّل شدّة العطش قليلًا. لم يكن لدينا سوى قِربتين من الماء لا تكفيان لإرواء القليل لا سيّما بعد أن ازداد عدد الجرحى عما كان عليه في اليوم السابق. وعندما كنت أخلو مع نفسي، وأقوم بحساب بسيط، أصل إلى النتيجة التالية أن ماء القربتين لن يكفينا سوى لخمس ساعات. إذا بدأت بتوزيع الماء منذ ساعات الصباح الأولى، ستنتهي الكمية عند الظهر تمامًا أو بعد وقت الظهيرة بقليل، أي في "عز" الحر، وسيكون تحمّل العطش في ذلك
 
 
 
 
103

97

السادس

 الوقت أشدّ صعوبة من تحمّله في ساعات الصباح. ولم يعد بوسعي سوى أن أضع خاتمة لإصرارهم وطلبهم المتكرر للماء فقلت بنبرة حاسمة: "لا ماء قبل الساعة التاسعة، ولا فائدة من إصرار أيّ منكم على ذلك".


لحسن الحظ، طال انتظارنا لهجمة الأعداء الارتدادية. استمرت نيران الأعداء في استهدافنا بشكل عادي ومنظّم. فكانت قذائف الأعداء تسقط أحيانًا حول الموقع، ونسمع صوت انفجارها، بيد أنّ الشباب كانوا مسرورين جدًّا لأن العراقيين لم ينفذوا هجومهم الموعود، من دون معرفة سبب التأخير. وكنا نأمل أن يستمرّ الوضع على هذه الحال، على الأقل حتى المساء، وحلول ظلمة الليل، فتبدأ عمليات بقية الكتائب، وننجو من حصار الأعداء.

إنّ ما كان يعاني منه الجرحى أفقدهم كلّ قدرة لديهم، ولم تنقطع أصواتهم عن المطالبة بالماء. كنّا نسمع: ماء... ماء... مجبولة بالدمع والأنين، في كل زاوية من الدشمة، وتتداعى معه مشاهد خيام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وعطش أهل بيته وأولاده في أرض الطف في كربلاء. وبالطبع كان صوت الجرحى وأنينهم يظهر مدى ضعف أجسامهم وما أضناها من التعب.

وكما وعدتهم، بدأت بتوزيع الماء، عند الساعة التاسعة وتنفيذًا لأوامر الأخ برهاني، كانت حصة كل جريح، مقدار غطاء القربة من الماء، كنت أضعه في فم الجريح مباشرة. لكن لا يكاد يمرّ إلا وقت يسير، حتى يشتدّ عليهم العطش من جديد. وكأن لا أثر يذكر لما شربوه على الإطلاق.

كانت ساعات النهار تمر ببطء شديد. لماذا لا يهجم الأعداء؟ وما الخطّة التي تدور في رؤوسهم؟... هذه الأسئلة وغيرها كان الشباب
 
 
 
 
104

98

السادس

 يتبادلونها في أحاديثهم. وكلّما تقدّم الوقت، يصبح الطقس أشدّ حرًّا من ذي قبل، ويصبح الجميع معه أكثر إرهاقًا وتعبًا وعطشًا. ولذا كان يُسمع بين الحين والآخر صوت بكاء بعض الجرحى الأعزاء الذين لم يكن باستطاعتهم أن يتحمّلوا المزيد من الألم. فيرتفع بكاؤهم ويسمعه الموجودون في الخارج.


مهما حاولت لن أستطيع أبدًا أن أصوّر مشهد العطش والجوع والإنهاك وألم المعدة وأثر السهر عند هؤلاء الأعزاء. إنه اليوم الثالث من مرداد (25 تموز). وقد مرت أكثر من أربعين ساعة على المرة الأخيرة التي تناولنا فيها طعامًا وماءً بما يكفي. كان الجريح "محمد إسماعيل صياد زاده" ممدّدًا بالقرب منّي، هو شابّ في السادسة عشرة من عمره، لقد تحدثت عنه سابقًا. حين كنّا في ثكنة "سنندج"، قال الجميع إنّ صياد زاده هو "فكاهي" الكتيبة (ملح الكتيبة). كان شابًّا نشيطًا للغاية، مهذبًا خلوقًا وصاحب نكتة، ولم تفارق البسمة شفتيه. على الرغم من عمره الصغير، إلا أنّه عُرف مثابرًا وجدّيًّا، صاحب رأي ثابت وقيم راسخة. كان ينسجم مع الجميع وبعد أول تعارف معه يصبح مقربًا جدًّا من الآخر. جمعت بينه وبين الجميع ألفة خاصة وصداقة جميلة، وأنا شخصيًا كان لي نصيب من هذه الصداقة. في ثكنة "محمّد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم، رابطنا معًا وحرسنا ليلًا في إحدى جهات الثكنة. حين كنا نتمشى، قال لي: "يا أخ طالقاني، كم تقدّر لي من العمر؟".

- حوالي العشرين عامًا.

ضحك وأضاف قائلًا: "الكل يظن أنني في العشرين من عمري، في الحقيقة إنّ طول قامتي يخدع الجميع. فعمري هو ستة عشر عامًا لا أكثر. في البداية، خفتُ كثيرًا ألا يسمح لي قادة التعبئة بالتوجه نحو
 
 
 
 
105

99

السادس

 الجبهة، لكن جسمي هذا ساعدني وغشّهم..".


على الرغم من صِغَرِ سنّه، كان طويل القامة ورجولي الطلّة. كنا نتحدث معًا خلال الليل، ويخبرني عن أحواله وعائلته. علاوة عن حياته الشخصية. قال لي: "كان أبي في الجيش. في أيام الشاه، واجه النظام الحاكم، لذلك آذوه كثيرًا".

أخبرني عن نفي والده، وعن الظلم الذي لحق به من رجال الشاه في تبريز وأصفهان... وها هو صياد الذي أصيب في فخذه ومفصل يده ورأسه ووجهه، ممدّد بالقرب مني. بين الحين والآخر، أنظر إلى وجهه البريء لعلّ ابتسامته الدائمة ترفع من معنوياتي. غطّت بقع الدم الجافة وجهه بالكامل، وقد عالج المسعفون جراح رأسه وضمدوها بشكل جيّد. لكنّ العطش والإنهاك أذبلا وجهه النشيط والحيوي. كان يحاول النوم باستمرار، عسى أن يخفّ شعوره بالعطش والألم. قلت له: "يا صياد، ما أجمل أن تقول شيئًا يُضحك الجميع!".

أجابني بصوت ضعيف، وابتسامة باردة تعلو وجهه: "لا مانع لدي، ولكن من لديه القدرة على الضحك؟".

ولا عجب في أن يكون هو أيضًا لا طاقة له على الكلام. الله وحده يعلم، مدى إخلاص وبراءة هذا الشاب ذي الستة عشر ربيعًا. أنا أعتقد أنّنا لا نرى منظرًا في الحياة أجمل وأكثر جاذبية من وجه شابّ طاهر ومخلص. ما زالت ذكرى "صياد" وسلوكه وخلقه تعيش في مكان جميل من ذهني، وفي كل مرة أفكّر به، أتأثّر بأخلاقه، أمّا صفاؤه الباطني فيحيل نفسي إلى محكمة العقل.

كان عطش "صياد" غير قابل للوصف. فقد كان من الجرحى الذين نزفوا دمًا كثيرًا ولهذا كان وضعه صعبًا جدًّا. في صباح ذلك اليوم،
 
 
 
106

100

السادس

 حين أردت توزيع حصّة الماء الأولى على الجرحى، بمساعدة ركبتي استطعت أن أسحب نفسي، وأتوجّه إلى باب الدشمة حيث يتمدّد أحد الجرحى الأعزاء هناك لأبدأ الجولة منه. فجأة لفت نظري الأخ "صياد" يجر نفسه بصعوبة على الأرض وهو يتعقّبني ويقترب مني!


قلت له: "صياد، إلى أين أنت قادم؟".

أجاب وهو ينظر إليّ بوجهه البريء: "لا شيء، هكذا، قم بعملك ولا تكترث بي".

في الحقيقة لم أفهم ما يريده، لكنني لم أكن أنوي أن أدقق فيما يفعله أكثر من ذلك كي لا أزعجه. كنت متأكدًا أنه يهدف إلى شيء ما، كي يتبعني بهذه الطريقة. حين وصلت إلى الجريح الأول ووضعت كمية الماء الخاصة به في فمه، وأردت أن أنتقل إلى الجريح الثاني، ناداني صياد الذي كان خلفي مباشرة. التفتُّ إليه بسرعة وقلت له: "ماذا تريد يا صياد؟".

أجابني وهو ينظر إليّ بتردد وخجل شديدين : "اسمعني يا أخ طالقاني، إذا لم يكن هناك مانع، حين تعطي كل جريح غطاء القربة من الماء ويشربها، هل يمكنك أن تمرر لي الغطاء الفارغ، لعلّه يكون قد بقي فيه ولو نقطة واحدة من الماء، فأشربها".

نظرت إليه بتعجب. وما لبثت أن تغيّرت أحوالي، وصارت الدموع تنهمر من عينيّ بلا إرادة مني ولم أستطع أن أضبط نفسي، فبكيت بمرارة وهدوء. أما صيّاد الذي شعر بالخجل، قال لي بصوت بريء ومتلعثم: "حسنًا، لماذا حزنت هكذا؟ إذا كان هناك مشكلة، فلا تعطني الماء". بحركة من رأسي أفهمته أنني لم أتضايق مما طلبه، ثم قدّمت له الغطاء الفارغ لقربة الماء. تناول الغطاء بيديه المرتجفتين،
 
 
 
 
107

101

السادس

 نظر إليه بدقة، رفعه فوق وجهه، فتح فمه واسعًا، صبر للحظات حتى تنزل النقطة الأخيرة في فمه، ثم ردّ إليّ الغطاء وهو يتلذّذ بأقصى وقتٍ بهذه النقطة الغالية. وممّا يثير العجب أنّه كان يكرّر هذا الأمر بالقرب من كل جريح.


حين وصل الدور إلى صياد ليتناول حصته من الماء. عاد إلى مكانه، جلس بهدوء. وضعت له الماء في غطاء القربة وأعطيته إياه. قال لي: "لو سمحت لي، أريد أن أشرب هذا الماء على مهلي، ببطء شديد.

قلت: "لا مشكلة في الأمر".

لذلك بمساعدة لسانه، شرب قطرة قطرة، وكل نقطة ماء ارتشفها بلذة خاصة حين يبلعها فكأنّما يشرب كأسًا كبيرة من الماء الرقراق. استمرّ صياد لدقائق في شرب هذا الماء القليل. وتكرّر هذا المشهد طيلة النهار، كلّما وزعت الماء على الجرحى.

أعترف بعجزي عن نقل مدى الألم والمعاناة التي عاشها الجرحى بسبب العطش. لقد سمع الناس الكثير من الكلام عن العطش، وتحدثوا كثيرًا عنه وما زالوا، ولكن هل استطاعوا أن يدركوا يومًا الألم الناشئ من شدة العطش؟

يكاد أن يكون كل واحد منّا قد جرّب العطش، وأدرك مدى صعوبته إذا ما دام لأربع ساعات أو أكثر، لكن لا يمكن مقارنة هذه الحال وما شابهها بتلك التي يعيشها المرء بعد يومين وليلتين من العطش الدائم، ومن استمرار النزيف الشديد للدماء إثر الجراح التي تعرّض لها هؤلاء الشباب.

عند الظهيرة، صار الطقس حارًّا جدًّا. وشعرت أنني أتنفس بصعوبة كبيرة. علمًا بأنّ التنفّس في مثل هذا الطقس يزيد من جفاف
 
 
 
 
108

102

السادس

 حلقنا. نفدت كمية الماء في إحدى قربات الماء. لكن ما زال لدينا واحدة، في الوقت الذي ما زالت تفصلنا ساعة كاملة عن وقت الظهيرة. لذلك أدركت أن هذه القربة ستفرغ عند الساعة الثانية بعد الظهر. بينما أنا غارق بهذا التفكير إذ دخل الأخ برهاني إلى الدشمة، وكانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها آثار التعب والعطش بادية على وجهه. جلس بالقرب مني قليلًا وقال لي بقلق: "إن معظم الشباب في الخارج، قد أُنهكوا تمامًا تحت أشعة الشمس الحارة... فليرحمنا الله".


كان "برهاني" يتنفس بسرعة، وبما أنه جلس بالقرب منّي، استطعت أن أتوقّع شدة الحر خارج الدشمة وذلك من الحرارة التي كانت تتوهج من ملابسه. قلت له: "ما زال هناك قِربة ماء. إذا كنت ترى من المصلحة أن يشربها الشباب في الخارج، خذها لعلّها تخفّف من عطشهم".

رفض "برهاني" فكرتي رفضًا قاطعًا وقال: "لن يؤدّي هذا الأمر إلى أيّ نتيجة. فهذا الماء لن يحل أيّ مشكلة أوّلًا، وثانيًا، سوف يزيد من عطش الشباب. وزيادةً على ذلك، إذا لم يحصل الجرحى على الماء، سيستشهدون خلال بضع ساعات".

سكتنا نحن الاثنان للحظات، وغرقت في تفكير عميق. كم تمنّيت حينئذٍ لو تمكّنت أن أجد حلًّا مناسبًا لهذه المشكلة. صحت فجأة: "يا أخ "برهاني"، أليس من الأفضل لو يخلع الشباب في الخارج بدلاتهم العسكرية، فيخف شعورهم بالحر قليلًا؟".

قال "برهاني": "لا، بل سيزداد الأمر سوءًا. لأن الشمس ستحرق جلودهم". ووقف في مكانه ثمّ انسلّ من الدشمة بهدوء. فيما خلع معظم الجرحى أحذيتهم وقمصانهم العسكرية وكذلك فعلت الأمر نفسه.
 
 
 
 
109

103

السادس

 كان بعض الجرحى بحاجة إلى عمليات جراحية فورية، ولم يكن باستطاعة شباب الإمداد القيام بأي عمل إضافي. في هذه اللحظات التي يزداد فيها الحر لدرجة لا يمكن تحملها، صار الجرحى يغيبون عن الوعي واحد تلو الآخر، وازداد احتمال شهادتهم أكثر فأكثر. وأحد هؤلاء الجرحى الأعزاء، بدت الجراح تغطّي معظم جسده. فحين خلع بدلته العسكرية، كانت اللفافات البيضاء تغطي جسده بالكامل. ولا يظهر من وجهه سوى عينيه وفمه ولحيته. كانت جراحه بليغة بحيث إنّ المسعفين لم يتمكّنوا من نقله ليتمدّد على سرير، فبقي على أرض الدشمة يئن بصوت مسموع.


كان يشعر بالعطش أكثر من غيره. ويصرخ أحيانًا بصوت عالٍ باكيًا ويطلب الماء متوسّلًا. وعندما حان وقت التوزيع، فكان أوّل من تجرّع حصّته، وما إن وصلت إلى الجريح الثاني، حتّى بدأ يضطرب مرة أخرى وارتفع صوته عاليًا. ضاق الجرحى ذرعًا من صراخه وصاروا يطالبونه بالتوقّف عن الصراخ محاولين بكلامهم تهدئته وإسكاته. قال له أحد الشباب بلهجة حنون: "يا أخي، لست وحدك العطشان، كلنا مثلك. لا فائدة من الصراخ والضجيج. على الأقل، اخفض صوت أنينك كالبقية".

لكنه لم يأبه أبدًا لملاحظات الشباب، وأكمل صراخه الممزوج بالبكاء. وظلّ كذلك إلى أن أثار صوته غضب بعض الجرحى، فطلبوا منه بحدّة أن يهدأ. قال أحد الشباب بانزعاج: "يا أخ طالقاني، لا أريد أن أشرب الماء بعد الآن. أعطه حصتي لأرى إن كان سيسكت أم لا". هذا الكلام حفّز الآخرين ليطلبوا منّي أيضًا أن أعطيه حصتهم من الماء". لكن هل يجوز لي أن أقوم بهذا العمل؟ لذلك قرّرت أن أتحدث معه بنفسي، لعلّ كلامي يلقى عنده آذانًا صاغية. ولذلك طلبت الهدوء
 
 
 
 
110

104

السادس

 من الجميع، اقتربت منه وجلست إلى جانبه.


في البداية، ظنّ أنني أتيت لأعطيه الماء، لذلك رفع رأسه مباشرة عن الأرض. لكنه حين لم يرَ القربة بيدي، عرف أن هدفي شيء آخر. وضعت رأسه على ركبتي بهدوء، في الوقت الذي بدأت أزيل بقع الدماء الجافة عن لحيته، قلت له: "يا أخي، حاول أن تسمع جيدًا ما أقوله، ألم نقتدِ كلنا بأبي عبد الله الحسين عليه السلام؟ في الأصل، لماذا أتينا نحن وأنت إلى الجبهة؟ وفي سبيل أي هدف؟ ألم تقل إنّنا لن نكون كأهل الكوفة الذين سمعوا نداء: هل من ناصر ينصرني لكنهم لم يلبّوا؟ لن نكون بلا وفاء. ألم نذرف الدموع عمرًا ونحن نتمنى لو كنا في ذلك العالم، وكنّا في صحراء كربلاء الحسين عليه السلام لننصره؟ ألم نقطع وعدًا على أنفسنا أننا سنتحمل كل الصعاب والمشقّات، حتى آخر رمق من حياتنا وأن لا نتخلى عن روحنا الحسينية، وأن نكون مثل الحسين عليه السلام لا ننحني مهما كانت الظروف، وألّا نرتدي ثوب الذلة مطلقًا".

كان يستمع لكلامي بانتباه، ويجيب عن أسئلتي بحركاتٍ من رأسه. ولمّا رأيته متجاوبًا، أكملت كلامي قائلًا: "ألم يتحمّل الإمام الحسين عليه السلام مع أهله وأصحابه العطش والجوع في تلك الأرض الحارَّة لثلاثة أيام وليالٍ متتالية؟ هل يمكنك أن تتخيّل حين كان الإمام الحسين عليه السلام يدخل إلى الخيمة ويتجمّع حوله الأطفال الصغار ليطلبوا منه الماء، ما الذي كان يحصل لقلبه الرؤوف. لكنّ أبا عبد الله الحسين عليه السلام، في تلك الظروف الصعبة لم يقم سوى بالتسليم لأمر الله، ولم يطلب سوى رضى الله. كيف يمكننا نحن أن ندّعي أننا نقتدي بالإمام الحسين عليه السلام، ولا نستطيع في المصائب أن نصبر ونتحمّل ذرّة مما تحمّله وصبره عليه السلام. هذه المصاعب التي تحمّلناها خلال اليومين السابقين، لا يمكن مقارنتها أبدًا بمصائب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. لم يشرب مولانا ومقتدانا مع أهل بيته
 
 
 
 
111

105

السادس

 وعياله خلال ثلاثة أيام وليال أيّ نقطة من الماء. حيث إنّه لم يكن في مكان معتدل نسبيًّا كالذي نحن فيه، بل في أرض محروقة حارقة ككربلاء. لكن الحمد لله، ما زال وضعنا جيدًا هنا. نشرب غطاء قربة من الماء بين الحين والآخر. بالإضافة إلى أن هذه المنطقة هي شمال العراق والحرّ يمكن تحمّله. يا أخي، اليوم هو يوم امتحاننا. فلقد أراد الله لنا نحن بالميثاق الذي تعاهدنا عليه، والادّعاء الذي ادّعيناه، أن يبتلينا اليوم. لا أحد يعلم كم بقي من أعمارنا، قد يكون هذا اليوم هو يومنا الأخير، في هذه الحال، لم يبقَ الكثير من الوقت لختام هذا الامتحان الإلهي، لذلك ابقَ على عهدك، وحاول أن تتحمّل عسى الله أن يحتسبك من أنصار أبي عبد الله الحسين عليه السلام".


عرفت أن كلامي قد أثّر فيه بشكل عميق. إذ بدأت قطرات الدمع تسيل على وجنتيه من دون أن يتفوّه بأي كلمة. بعد لحظات قال وصوته يرتجف: "يا أخي، لمن تقول هذا الكلام؟ يا ويلتي، أين أنا من الإمام الحسين ومن أهل بيته عليهم السلام؟ أنا لا أليق بهذا أبدًا...؟". بعد ذلك سكت وهو يبكي بهدوء.

منذ تلك اللحظة، هدأ ولم أعد أسمعه حتّى إنّني صرت أراه أحيانًا يتلوّى من شدة الألم والعطش من دون أن يتفوّه بكلمة، وكان يسيطر على صوته بصعوبة كبيرة. والعجيب في الأمر أنه لم يعد يطلب الماء، وأحيانًا كان يُسمع صوت بكائه قليلًا فقط. مرّت دقائق على هذه الحال إلى أن حان دور توزيع الماء مرة ثانية. من جديد وكالعادة، توجّهت أوّل الأمر نحوه كي أعطيه حصته من الماء، جلست بالقرب منه، وقلت له: "يا أخي، قم لتشرب الماء".

كان يتألم لشدة العطش، بيد أنه انفجر بالبكاء فعلا صوته وهو يردّد بشكل متواصل: "لا، لا، لا أريد الماء، لا أريد ...".
 
 
 
 
112

106

السادس

 توسّلت إليه مرارًا كي يشرب الماء، لكنّه رفض. فقلت له: "ولكن لماذا؟".


أجابني: "لأنني أريد أن أتحمّل العطش كأطفال الإمام الحسين عليه السلام"!.

تحدثت معه قليلًا على أمل أن أقنعه بشرب قليل من الماء. لكن في هذه المرّة لم يكن كلامي مؤثرًّا أبدًا. أخذ بعض الجرحى يرجونه كي يأخذ الماء. لكن كلّ محاولاتهم لم تعطِ نتيجة. عرفت أنه قد اتخّذ قراره. وحين ابتعدت قليلًا عنه سمعته يقول: "أريد أن يرويني، ذلك الذي روى الإمام الحسين عليه السلام".

منذ أن قرّر "صيّاد" الامتناع عن شرب الماء، لم يعد يتناول منه شيئًا، وعندما حان الظهر وعلى الرغم من الأوقات الصعبة والمنهكة التي تمر علينا، إلا أننا كنا جميعًا مسرورين وراضين بسبب عدم بدء الهجمة العراقية علينا. وكنا ندعو طيلة الوقت أن يستمر الوضع على ما هو عليه إلى أن يحلّ الليل.

في هذه الأثناء، تناهى إلى أسماعنا صوتٌ رخيم لأحد الشباب الأعزاء وهو يؤذّن. كان يرفع الأذان بصوته الجميل والجذاب والمرتعش في الوقت نفسه، وهو إن دلّ على شيء إنما يدلّ على شدة عطشه وتعبه. كان صوت العاشقين المخلصين الطاهرين، يشق الوادي ويتردّد على طول قامة الجبال العالية، ليرجع صداه في الآفاق ويتردّد في المنطقة كلها.

خلق صوت الأذان نشاطًا وحماسةً خاصةً بين الشباب، وكاليوم السابق دفعهم جميعًا للمشاركة في مراسم رفعه معًا. إنّما هذه المرة كانت الأصوات مرتعشة ومتعبة. وكأنهم مع كل مقطع من الأذان يستعيدون المبادئ التي قدّموا أرواحهم على طبق من الإخلاص لأجل تحقّقها.
 
 
 
 
113

107

السادس

إن هذا المنظر الجميل جسّد أمامي الرسالة التي أرادت الثورة الإسلامية أن تنقلها إلى عالم الكفر. القامة العملاقة للثورة التي كانت معجزة عصر الغفلة، والفساد، والنهب، والتي وقفت في وجه الكفار، والأسوأ من ذلك كان (من أولئك المفترض أنهم) جيوش المسلمين الذين وضعوا نقاب النفاق على وجوههم، والآن من تحت حصار هذه المجموعة الشيطانية1، رُفِع صوت مبدأ الفطرة الإنسانية المدفونة منذ قرون تحت صدأ الجهل، على رمح مئذنة التشيّع العلوي، وهزّ بالتالي أساس أقوى أبنية فرعون في أقصى نقاط العالم.

وها هم هؤلاء المقاتلون المدهشون الذين يمثّلون هذه الثورة، يرفعون أذان العشق على مئذنة فتحوها بدماء أعز شباب هذه الثورة المحاصرين من ممثلي الكفر والنفاق المدجّجين بأنواع الأسلحة المهداة لهم من كل المستكبرين في العالم. هؤلاء الشبان يريدون أن يثبتوا أنّه في أصعب الظروف وتحت شتّى أنواع الضغوطات يمكن بل يجب العيش مع القيم والأصول الإلهية.

لقد نفخ صوت الأذان روحًا جديدة في وجود المقاتلين الأعزاء. تفتحت ورود الذكر على الشفاه الجافة لهؤلاء العرفاء والنازفة أحيانًا. بدأوا يسحبون أنفسهم شيئًا فشيئًا إلى وسط الدشمة كي يتيمّموا من التراب في وسطها، وليرجعوا كلٌّ إلى مكانه ليصلي بالطريقة التي تسمح له بذلك. لقد قرأت من قبل وسمعت أنه في يوم عاشوراء، حين ذَكّرَ أحد الأصحاب بحلول وقت الصلاة، دعا له أبو عبد الله الحسين عليه السلام، أن يجعله الله من المصلّين، وأمر عندها بإقامة الصلاة. تفاجأ أحدهم من أداء الفريضة في هذا الحرّ الشديد وتحت مطر الرماح. فأجابه
 
 

1- يردّ الكاتب بلغة استنكارية على النعوت والأوصاف التي كان يطلقها نظام صدام وحماة الجيش البعثي العراقي آنذاك (المعارف للترجمة).
 
 
 
 
114

108

السادس

 الحسين عليه السلام أنهم إنّما يقاتلون لأجل الصلاة. وهكذا وقف لإقامتها.


أنا أيضًا شرعت بالصلاة في زاوية من زوايا الدشمة. كنت قد بدأت بركعات العصر حين اشتدّ القصف فجأة علينا. كانت قذائف العدو، تنزل الواحدة تلو الأخرى على سقف الدشمة وجدرانها، وما هي إلّا لحظات حتى ملأ الغبار والدخان كل المكان، ما جعل الجميع يسعلون بشدة. صمّ آذاننا صوت الانفجارات الشديدة الناتجة عن القذائف المدفعية التي كانت تسقط باستمرار على الموقع. هذه النيران تنبئنا أن العدو قد باشر بهجمته الارتدادية علينا، وهذه النيران ما هي إلا مقدّمة للهجوم المباشر على التلة. كانت المدفعية الثقيلة تتناوب القصف، وتنهال قذائف الستين والثمانين والمئة والعشرين ميليمترًا، بفواصل زمنية متقاربة، لتنفجر على التلة. لم يسبق خلال اليومين السابقين، وحتى خلال الهجمة الارتدادية الأولى أن استهدفت التلة بكمية من النيران بهذا الحجم. عشرات قذائف المدفعية الثقيلة، بالإضافة إلى عدد من صواريخ الكاتيوشا، كانت تستهدف الموقع من كلّ الجهات جعلت الجميع مصدومًا ومشتتًا. هذه النيران الفظيعة، دلّت على أن العدو يعتمد طريقة جديدة في الهجوم هذه المرة، تختلف كثيرًا عن أسلوبه في الهجمة السابقة.

كانت أصوات المقاتلين المشغولين في الخارج بالدفاع تصل إلى الآذان. منذ اللحظة الأولى للهجمة أضيف إلينا عدد من الجرحى الذين تراكموا على أرض الدشمة وفي الممر الذي يوصل إليها. بدا الأمر واضحًا بالنسبة إليّ وضوح الشمس: إنّنا لن نستطيع الصمود والمقاومة حتى حلول الليل، وعاجلًا أم آجلًا ستسقط التلة. وسط كلّ هذا الضجيج، كان يُسمع صوت دعاء الشباب وتوسلهم أيضًا. فلم يكن بمقدور الجرحى القيام بأي عمل سوى رفع أيديهم، والدعاء إلى
 
 
 
 
115

109

السادس

 الله تعالى وطلب المدد والنصرة من المعصومين عليهم السلام. كان نداء: يا مهدي... يا مهدي... ينطلق من كل جهة واتجاه.


لم تكد تمرّ ساعة على بدء هجوم الأعداء، إلّا وكان الماء في القربة الثانية قد نفد كلّيًّا. لذلك بات مصير الجرحى وخيمًا جدًّا. نيران العدو ما زالت تتساقط باستمرار، وتخلق حقلًا جهنميًّا من الدخان والغبار والرمال حولنا. في المقابل، استعدّ الشباب للمواجهة المباشرة مع الأعداء من أي جهة كانت. لكن لا خبر عن العدو، فقط نيرانه المستمرة والشديدة تشعل الباحة حول الموقع. كانت القذائف تسقط على سطح الدشمة كلّ دقيقة، فتملأ رائحة الغبار والتراب والبارود المكان بأكمله. بحيث شعرت أن الدشمة قد انهارت على رؤوسنا، لكن بعد انجلاء الغبار، عرفت أنني كنت مخطئًا. كان الجميع يسعلون باستمرار. أخذ الجرحى يعانون من صعوبة في التنفس بسبب الدخان ورائحة البارود.

لم يلبث أن بدأ خبر شهادة الأعزاء المقاتلين ينتشر وينتقل من شخص لآخر إلى أن وصل إلى الجرحى أيضًا. فما يحصل كان فاجعة حقيقية، ويعجز الكلام بالفعل عن وصف وبيان ما يحدث. فما كاد العدو يذوق مرارة ضربات الشباب له خلال الهجمة الأولى، حتى أدرك أن قواته عاجزة عن المواجهة المباشرة وجهًا لوجه مع رجالنا الشجعان. ولذلك قرّر أن يتبع طريقة جديدة تدل على مدى ضعف القوات العراقية وجبنها، مع أنّها كانت مسلحة حتى العظام. فبدل أن يرسل كتائبه البرية لمهاجمة التلة رأيناه يلجأ إلى الحرب عن بعد، اعتقادًا منه أن قواتنا سوف تنهار نهائيًا، وعندها يجد الفرصة المناسبة للهجوم والسيطرة على التلة.

أثناء الهجمة الأولى، لم يقصف العدو دشمنا بهذا الحجم الكثيف
 
 
 
 
116

110

السادس

 من القذائف، بل أرسل قواته البرية الجبانة منذ البداية ما جعل شبابنا الشجعان يردّونهم واحدًا تلو الآخر، وبالتالي فشل هجومهم السابق والمختلف عن هجوم اليوم، إذ لا يوجد أي عراقي في المنطقة كلها، وعشرات قذائف المدفعية وصواريخ الكاتيوشا والقنابل المتعددة تنهمر بغزارة على أطراف الموقع كلّها.


كان الوقت متاحًا للعدو كي يقضي على قواتنا، لذلك لم يستعجل أبدًا لدفع قواته البرية إلى المعركة. وظلّت طائرات الاستطلاع تقترب من التلة وتنقل التقارير عن تحركات المقاتلين وعدد الشباب القادرين على القتال.

كانت هذه هي الخطة اللئيمة التي اعتمدها العدو وراح ينفّذها جيدًا، لأنّه أدرك أنّ إرسال مقاتليه إلى أرض المعركة، يعني ضعف احتمال السيطرة على التلة، والسبب أنّ شبابنا في الأعلى يشرفون على المنطقة بشكل كامل، وسيصطادون كل من يصعد نحوهم. لكن في هذا الوضع كانت أسلحة شبابنا وقناصاتهم ساكتة وعاطلة من العمل، لأنه ما من هدف أمامهم للتصويب عليه، أضحى انتظار الشباب للمعركة وجهًا لوجه بلا فائدة، فالعدو لم يتوقف مطلقًا عن استهداف الموقع بالنيران. وكأنك تشهد يوم القيامة على التلة. في كل مرة كانوا ينقلون لنا خبر شهادة أحد الأعزاء. إنّ ما كنّا نعانيه من عطش وجوع وتعب وألم المعدة لا يمكن مقارنته بما يحصل الآن.

استمر قصف الأعداء ساعات وساعات. إلى أن صرنا جميعًا على يقين من شهادتنا المؤكدة. لذلك تغيّر سلوكنا وكلامنا ليكون استعدادنا لائقًا للتمهيد لسفر الآخرة، لذلك صار أكثر الأذكار ترديدًا على الشفاه الجافة لهؤلاء الشباب النورانيين ذكر الشهادتين. لكن ليس بالطريقة نفسها التي يقولها الناس كل يوم صباحًا وظهرًا ومساء.
 
 
 
 
 
117

111

السادس

 إن ضعف اللغة وضيق معانيها (رغم كل قدراتها)، يقف حائلًا يمنعنا من التعبير عن حقيقة ما حصل في تلك الساعات القليلة لهؤلاء الأعزاء العاشقين. كان يسمع في كل مكان المناجاة مع الحق، ونداءات "يا مهدي" عجل الله تعلى فرجه الشريف، وكان النظر إلى الدنيا يختلف كثيرًا. وكأنّه قد كُشف الغطاء عمّا كنتَ في السابق قد سمعته وحسب، لتراه الآن عيانًا. لقد سمعت كلامًا كثيرًا عن قيمة الدنيا الفانية. إنْ على لسان الناس العاديين الذين يتحسّرون على الزمن الذي ولّى، أو على لسان الناصحين الذين يذكّروننا دومًا بمعرفة أهمية العمر والوقت وكيفية الاستفادة منهما على أحسن وجه. لكنني الآن، أرى بوضوح القيمة الحقيقية للدنيا فهي لا تساوي شيئًا. إن كل المسلمين يدعون الله ليلًا ونهارًا، لكن هل يدعونه كما يدعوه هؤلاء الشباب الآن الذين تنازلوا عن أرواحهم هنا؟ إن القرآن الكريم صوّر لنا أولئك الذين يدعون الله بإخلاص وهم في السفينة العائمة على وجه الماء، والمسافرة في البحر. فتفاجئها عاصفة هوجاء ما يعرّض ركابها لخطر الموت، فعبّرت الآيات عن تلك الحال بأنّ هؤلاء في هذه الظروف يدعون الله بإخلاص: "هو الذي يسيّركم في البر والبحر حتى إذا ﴿كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾. (يونس /22، 23). هكذا كانت مناجاة أبناء هذه الأمة وهم يرزحون تحت النيران. نحن نعلم بأنّ العراقيين كانوا مستقرين في هذا الموقع، فهم يعرفون إحداثياته، لذلك كانت قذائفهم تسقط بدقة بالغة علينا، وكذلك تسقط على الجهات الأربع من سقف الدشمة

 

 

 

118


112

السادس

 وكأن العدو يهدف إلى إسقاط السقف وتدمير الدشمة ليدفن قوات الإسلام تحت الركام.


خلال هذا القصف العنيف، استشهد أعزاء كثر كـ: حميد إيهامي، محمد علي حاج ندا علي، مرتضى صاحبي الأصفهاني، "أبو القاسم" فرهنك باردهاي، مسعود رهنما، السيد قاسم حسيني سده، حيدر قرباني، محمد محسن عليخاني، محمد مروج وعدد آخر من الشباب. أثر فينا كثيرًا خبر شهادة الأخ "مسعود رهنما"، الشاب العارف والعاشق لزيارة عاشوراء. خلال وجودنا في ثكنة "سنندج" برفقة الكتيبة، كان يشجع الجميع على قراءة زيارة عاشوراء دائمًا. كان يعتقد أن لهذه الزيارة أسرارًا كثيرة، وتأثيراتها المعنوية لا حدّ لها.

"مسعود رهنما"، الذي كان أمين سرّ ومسعف الكتيبة، جرح في الهجمة الأولى في رأسه، لكنّه لم يقبل أبدًا أن يبقى في دشمة الجرحى، وبقي طيلة اليومين السابقين يحمل سلاحه بيده ويلفّ رأسه بعصبة من القماش الأبيض، ويتنقّل في الموقع ويدافع عن التلة، وعند الحاجة، يسرع إلى مساعدة المصابين. وها هو في النهاية نال أجر أتعابه وجراحه وتضحياته إثر إصابته بشظيّة. أسرع للقاء الله بعد ظهر هذا اليوم.

غطّى الغبار والدخان كل الدشمة واختلطت أصوات أنين الشباب وبكائهم وهم يطلبون الماء مع صوت سعالهم جراء الغبار. في الساعة الرابعة بعد الظهر، أخبرونا أن سقف إحدى الدشم قد سقط على الجرحى الأعزاء والكل بقي تحت الركام. ولم تكد تمرّ نصف ساعة على هذا الخبر، حتى أصابت قذيفة دشمتنا فانهارت جهة من السقف، ولكنّه بقي معلقًا من الجهة الأخرى. كان عدد من الجرحى ممددين على الأرض تحت التراب والحجارة التي سقطت، فسحبوا
 
 
 
 
119

113

السادس

 أنفسهم بصعوبة كبيرة وتوجهوا إلى الناحية الأخرى أي باتجاه الباب.


تنبّهت لمصابٍ علق رأسه تحت الحجارة، من دون حراك. توجّهت إليه بسرعة، وأنا أحبو على ركبتي، وبذلت جهدًا شاقًّا، وسحبته من تحت الركام، ثم اقتربت من رأسه واكتشفت أن شظية كبيرة قد شقت جبينه الأيسر. وبعد أن تنفس بعمق مرات عدّة، أسرع إلى لقاء الحق براحة وخفَّة.

ظلّ الخطر محدقًا، فقد سقطت قذيفة أخرى على سطح الدشمة، وبالفعل دمرت نصفه. صارت الأعمدة الخشبية الضخمة التي استعملت في البناء تنكسر، عمودًا تلو الآخر. كان البقاء في الدشمة في هذه الأحوال خطرًا جدًّا، لأنه في أيّ لحظة كان من الممكن أن تنهدم بالكامل، وتقضي على حوالي عشرين جريحًا ممدّدين بعضهم قرب بعض على الأرض.

من جهة أخرى، كانت المغادرة أمرًا مستحيلًا. لأنّ القصف ينصبّ في كل مكان، ويُغرق أولياء الله بالدماء، فلم يبقَ أمام الجرحى سوى ممر الخروج من الدشمة، فتوجّهوا إليه وانحشروا جميعًا في ذلك المكان الضيق. أنا أيضًا وبما أنّني لم أجد مكانًا أستلقي فيه، وقفت في الممر على قدم واحدة متكئًا إلى الحائط. بعض الإخوة نقلوا بصعوبة كبيرة الأخ "صفاتاج" الذي لم تكن لديه أيّ قدرة أو إرادة على الحركة، إلى مدخل الدشمة. كان "صفاتاج" يحرّك عينيه إلى اليمين واليسار، وكالبُكم يصدر أصواتًا غير مفهومة.

تراكم الجرحى في الممر، بعضهم يجلس على قدم الآخر، أو يدوس على يده، وتتعالى الأصوات طلبًا للنجدة. فتمّ تغيير أماكنهم وتحريكهم مرات عدّة حتى استطاعوا الاستقرار في ذلك الممر الضيق بهدوء.
 
 
 
 
120

114

السادس

 مرت فترة زمنية ولم أملك أي خبر عن الأخ "برهاني". كنت قلقًا جدًّا على حاله. فالقائد في مثل هذه الأوضاع، هو قوة القلب بالنسبة إلى عناصره، وبوجوده يشعر الجميع بالأمان. كنت أسأل الشباب واحدًا تلو الآخر عنه، لكن الجميع أبلغوني أنهم لم يروه ولا يعرفون شيئًا عنه. في هذه اللحظات سمعت صوته، وهو يوزّع المهام على الشباب، فشكرت الله كثيرًا على سلامته.


نيران الأعداء، لم تهدأ أبدًا، بل على العكس من ذلك كانت تشتد مع الوقت، والكل ينتظر اللحظات الحاسمة. لكن ما لبثت أن دمرت قذيفة الجزء الآخر من السقف فسقط على بعض الإخوة الجرحى، وردم عددًا منهم. كانت أصوات أنينهم تنبعث من تحت الركام.

كنت أحد الجرحى الذين سارعوا إلى مدّ يد المساعدة، فأزلنا التراب والحجارة وقطع الخشب المتراكمة عليهم وسحبناهم من تحتها، كان من بين هؤلاء الأعزاء، عجوز في السبعين من عمره، حين أخرجناه كان يبكي بشدة وفي الوقت نفسه لا يتوقّف عن تكرار الذكر والدعاء.

هل بقي لنا قدرة على المقاومة حتى المساء؟ وما زالت تفصلنا عن الليل ساعات عدة. في الوقت الذي لا يتعدّى عدد المقاتلين السالمين عدد أصابع اليدين. في ظلّ هذه الأوضاع، لا معنى للمقاومة فالعدو يقصف بالمدفعية، وإذا استمر على هذا المنوال لساعة أخرى، فسنستشهد جميعًا هنا.

حوالي الساعة السادسة عصرًا، عرفنا أن عددًا آخر من السالمين قد استشهد بينما جرح آخرون بحيث إنّهم لم يعودوا قادرين على حمل السلاح والاستمرار في المقاومة. والعدو بات يعرف هذا الأمر جيدًا فطائرات استطلاعه تحلّق على ارتفاع منخفض، وتنقل له كل ما يحصل، لذلك بدأت تلوح مجموعات من القوات العراقية وهي تتقدّم نحو التلة.
 
 
 
 
 
121

115

السادس

 يبدو أنّ هدفهم كان السيطرة على التلة وإسقاطها قبل حلول المساء. وزّع الأخ "برهاني" بعض الشباب على أطراف التلة، لعلّهم يستطيعون الحؤول دون التقدّم السريع لقوات الأعداء باتجاه الموقع. بعد الظهر، هدأت أصوات القصف. لكن منذ العصر، عادت رشاشاتنا تزغرد وترمي مشاة الأعداء المتقدّمين نحو التلة برصاصها. ما زال دويّ القصف الثقيل للأعداء مستمرًا، واختلطت أصوات القذائف المدفعية مع رصاص الرشاشات والكلاشينكوف التي يطلقها الشباب. حاصرت عشرات المجموعات العراقية التلة من كل الجهات، وتحرّكت بسرعة كبيرة نحو الأعلى. أما شجعان جيش الإسلام الذين يحملون دماءهم على أكفهم، والذين لم يبقَ منهم سوى ثمانية مقاتلين، ومع الظروف القاسية التي تحملوها خلال اليومين السابقين من الجوع والعطش والمشاكل الجسدية والجراح، فقد وقفوا بوجه زحف عشرات المجموعات العراقية المكتملة التجهيز وقاوموا ببسالة، وتمكّنوا من القضاء على العشرات منهم. أجبرت هذه المقاومة الشجاعة القوات العراقية على التقدم إلى التلّة زحفًا على الصدور، استمرّت هذه المقاومة مدّة ساعة تقريبًا.


رحلت الشمس خجلة لتختبئ خلف التلال، كي لا تكون شاهدة لمدة أطول على غرق أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في الدماء. شَعَرتُ أنّ إطلاق الرصاص قد خفّ. فاستنتجت أنّ عددًا من الإخوة في الخارج قد استشهد أيضًا. وبعدها مباشرة تهادى إلى سمعي، الصوت المرتفع لتهليل وقهقهة العراقيين فعرفت أنّهم قد اقتربوا كثيرًا من الموقع.

غرقت في بحر من التفكير، وصرت أتخيل ما سيحصل بعد وقت قصير جدًّا. تصوّرت العراقيين وهم يدخلون إلى الموقع فرحين مهلّلين، يطلقون نيران رشاشاتهم في كل اتجاه. كما تصوّرت الأيدي والأقدام
 
 
 
 
122

116

السادس

 والأصابع التي ستتطاير في أنحاء الدشمة جراء رمي القنابل اليدوية داخل الممر حيث كان الجرحى.


ولمّا خلصت إلى هذا التصوّر، قلت في نفسي: وما الذي تفعله الآن، هل تريد أن تشهد كل هذه الفجائع، ثم تقضي بشظية طائشة أو رصاصة الرحمة التي سيطلقها على رأسك بعثيّ وعميل، لتموت هنا؟

من أجل ذلك، قرّرت الخروج من الدشمة وحمل السلاح بيدي، ومباشرة الدفاع. وصرخت بصوت عالٍ: "يا شباب، إذا سكتنا ووضعنا يدًا على يد، بعد لحظات سيقف العراقيون فوق رؤوسنا، وسيطلقون رصاصة الرحمة على كل جريح. فمن الأفضل أن يحمل كلّ منّا سلاحه، وينطلق للمواجهة ويستشهد مرفوع الرأس". قلت هذا ومشيت.

لا مجال لأي تفكير أو تردد. فبعد لحظات، ستسقط التلة، وسنستشهد جميعًا. قلت في نفسي: إنّ الحركة والعمل في هذه اللحظات الأخيرة، خير من الجلوس وانتظار الموت. لذلك خرجت من الدشمة بجهدٍ مضنٍ وصعوبة كبيرة. ما إن أوشكت أن أصبح خارجًا، حتى سمعت صوت "صيادزاده" وهو يقول لي: "طالقاني، أرجوك لا تذهب، عد إلى هنا، عد". لكنني أكملت طريقي من دون أن أكترث لما قاله.

غابت الشمس بالكامل وراء الجبال. ولم يعد يسمع سوى بعض طلقات الكلاشينكوف من معسكرنا. كانت الساعة تقارب السابعة والنصف، ولم يبق إلّا وقت قصير جدًّا حتى تحلّ العتمة. حينها خفّت نيران الأعداء كثيرًا، ولكن بين الحين والآخر ظلّت تنفجر قنبلة هنا أو هناك داخل الموقع. نظرًا لتمركز العراقيين على مسافة قريبة جدًّا من موقعنا.

كانت أصوات تهليلهم وصراخهم تسمع في الأرجاء. وكأنهم بهذا
 
 
 
 
 
123

117

السادس

 يطلبون منا الاستسلام لهم. أمّا في الخارج، فقد كنت على موعد مع مشهد فظيع يدمي القلب. فالدشم التي تتوزّع على أنحاء الموقع، لم يبقَ منها سوى أكوام من الخشب والتراب والردم. وملأت رائحة البارود المكان بأكمله.


من تحت الركام، تسرّب صوت أنين الجرحى الحزين، وأكثر ما سمعته كان نداءات الأحباء الذين سقطوا على الأرض وهم غير قادرين على الحركة ويردّدون فقط "يا مهدي يا مهدي".
في ساحة الموقع، انتشرت أجساد كثيرة، في مشهد مريع، وقد تراكم بعضها على بعض، فيما لم يعد يظهر من عدد منها إلّا البقايا. كنت أنظر حولي مصدومًا ومبهوتًا، بين تلك الأجساد تستطيع أن ترى الأيدي والأرجل المنفصلة عنها والوجوه المشوّهة والأحشاء الخارجة من الأجساد. ما رأيته كان شبيهًا بما كنّا نسمعه في مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام وما نقرأه عما حصل في كربلاء عصر عاشوراء.

لم أتمالك نفسي وصرت أبكي وأردّد: يا إلهي، هذه الأجساد المقطّعة وهذه الأيدي والأرجل المنفصلة عن أبدانها هي لأكثر شباب ورجال أمة الخميني طهارة وإخلاصًا، وتمّ تقديمها لرفع دينك ونشر القيم التي تريدها أنت، إلهي تقبّل هذه القرابين، وحقّق أمنيات وطموحات إمام هؤلاء الشهداء.

رأيتُ أحد الشباب بين الأجساد وقد وقع على وجهه، وارتمى فوقه جثمان شهيد يثقل كاهله. كنت أسمع صوت أنينه الضعيف. إذًا هو ما زال على قيد الحياة. اعتقدت في البداية، أنه يئن ولا يستطيع الحركة بسبب ثقل جسد الشهيد عليه. لكن حين لمحت قدمه، عرفت أن القنبلة اليدوية قد أصابت قدمه مباشرة، وهو في اللحظات الأخيرة من حياته.
 
 
 
 
124

118

السادس

 إن الأجساد الغارقة في الدم لأعزاء هذه الأمة، خلقت مشهدًا مؤلمًا وحزينًا. أحيانًا، كانت تُسمع من تحتهم أصوات أنين واستغاثات الجرحى. وإنّ تراكم الضحايا على التلة جعل التنقّل هناك صعبًا جدًا. ولا يمكنك ذلك إلّا إذا دست على هذه الأجساد الطاهرة لفلذات أكباد هذه الأمة. كان عدد الأجساد بالقرب من جدران الموقع أكثر بكثير. وكانت الأجساد المقطّعة لعشاق الحسين عليه السلام، تجعل مشهد أرض كربلاء في عاشوراء الحسين عليه السلام يتداعى إلى الأذهان.


على كل حال، استطعت بصعوبة أن أوصل نفسي إلى زاوية من زوايا الموقع، وأنا أعرج وأسحب قدمي ورائي، وأدوس على الأجساد الطاهرة. هناك لفت نظري كلاشينكوف إلى جانب شهيد يلفّه النور ويسافر في نوم العشق الهادئ. حملته، كان مشطه ممتلئًا. والى جواره أيضًا، قنبلة يدوية مرمية على الأرض. أخذتها معي وتوجهت نحو جدار الموقع، وقد انهدم نصفه تقريبًا، من جراء القصف المدفعي. تموضعت خلفه، وكي أتأكد من أنّ المكان آمن، أجلت بنظري على الموقع كله.

في الجهات الثلاث للموقع، تمركز ثلاثة شباب كانوا يدافعون بكل عزم ويمطرون المنطقة التي تمتدّ أمامهم بالنار، وكانوا يغيرون الأمشاط التي تفرغ بأخرى ملأى. أيقنتُ أننا نحن الأربعة كنا الوحيدين الذين يدافعون عن الموقع. في هذه اللحظة انضمّ إلينا الأخ "صياد زاده" الذي أتى وهو يجرّ نفسه فوق الشهداء، ويمسك بيده سلاحًا. ثم يقف على بعد أمتار مني، ويبدأ بالدفاع.

سارعت لإجراء كشف وتفقّد للقوات العراقية فرفعت رأسي بهدوء وأجلت بنظري سريعًا إلى الخارج. على بعد قرابة الستة أمتار من جدار الموقع، رأيت ثلاثة أو أربعة عراقيين يزحفون بحرص باتجاهنا.
 
 
 
 
125

119

السادس

 ما إن رأوني حتى تراجعوا إلى الخلف، واحتموا بصخرة كبيرة كانت قريبة منهم، واختبأوا هناك. بدأت أرمي على تلك الصخرة الكبيرة، وحاولت أن أرسم خطًّا من النار يجعلهم يتوقفون عن الاقتراب منا. بين الحين والآخر، صار هؤلاء يرفعون أسلحتهم بخوف من فوق الصخرة، ويطلقون النار عشوائيًا.


بقينا نتناوش على هذه الحال، إلى أن بقي عدد محدود من الرصاصات في مشط سلاحي. ولكي أحتاط من نفاد ذخيرتي، أخذت أنظر حولي بحثًا عن مشط مليء بين أسلحة الشهداء من غير أن أبعد نظري عن الصخرة الكبيرة. وجدت كلاشينكوفًا جاهزًا وممتلئًا بين أجساد الشهداء، وبقيت أطلق النار على الصخرة. حانت منّي التفاتة إلى "صياد زاده" فوجدته مرتميًا على الأرض. بعد أن أصابت رصاصة جبينه النوراني واخترقته وتوجّه مباشرة للقاء الله. أيقنت أنّه لا مجال للتوقف أبدًا، فأكملت إطلاق النار بسرعة.

استشعر العراقيون أن عدد قواتنا وصل إلى حدّه الأدنى، لأنّ إطلاق النار من قبلنا صار بدوره محدودًا جدًا. فتقدموا إلى مسافة لا تتعدّى الخمسة أمتار عن حائط الموقع، وكانوا ينتظرون توقّف دفاع الشباب بشكل كامل من محاورنا المتعدّدة. على الرغم من أن عدد القوات العراقية، يفوق عددنا بكثير، لكنّهم كانوا يخافون من التقدّم نحونا من أي جهة كانت، فتسمروا أمامنا في أماكنهم ولم يجرؤوا على التقدّم أبدًا.

فجأة، اندلعت حرب من نوع آخر، ملأت تكبيرات جرحانا التلة بالكامل. لعلّهم كانوا يقصدون أن يُظهروا للأعداء أن عددنا كبير جدًّا وأنّ الشباب ما زالوا يقاومون، لذلك ازداد صوت التكبير قوة. وجاء الردّ على تلك الخطوة مباشرة حين ارتفع تهليل العراقيين،
 
 
 
 
126

120

السادس

 الذين هدفوا من عملهم هذا أن يطمسوا صوت التكبير من جهة، وإضعاف معنوياتنا من جهة أخرى.


استمرّت قذائف العراقيين تسقط واحدة تلو الأخرى على الموقع. وخلا مشط سلاحي من الرصاص، لكنني على الفور وجدت مشطًا آخر وتجهّزت لإطلاق النيران مرة أخرى. لكن حصل ما لم أكن أتوقعه إذ وقف أحد العراقيين من خلف الصخرة، وبسرعة رمى قنبلة يدوية تجاهي. في اللحظة نفسها، كنت قد أطلقت الرصاص عليه، ففقد توازنه، ورأيته بعيني كيف وقع وتدحرج نحو الخلف. لكن القنبلة التي رماها، تخطت جدار الموقع وانفجرت على بعد نصف متر من يدي اليمنى.

شعرت بدوار بسبب ضغط الانفجار، ولم أستطع أن أميّز المكان حولي. لكن عندما عدت إلى تركيزي، ظننت أنّ القنبلة لم تصبني بأي أذى. وتفاجأت كثيرًا بما حصل لأنّه من المفترض أن تصيبني الشظايا في وجهي ورأسي وصدري. فشكرت الله على عنايته ومساعدته الحتمية لي، وقررت متابعة إطلاق النار. لكن يدي لم تسعفني في الضغط على الزناد، حاولت ولم أستطع.

بينما كنت مشغولًا في محاولة إطلاق النار، وقع نظري على معصم يدي اليمنى، ورأيت جرحًا كبيرًا مفتوحًا يتدفّق منه دم غزير. كان النزيف شديدًا بحيث إنّ الدم كان يفور من شرياني إلى الخارج. لذلك عرفت عندها أنني لن أستطيع إطلاق النار، بدأت الإطلاق بيدي اليسرى في الهواء. كي لا يلتفت العراقيون أنني أبتعد عن الجدار، وبالفعل كنت أتراجع خلف جدار الموقع.

ساد لون الغروب شيئًا فشيئًا. بينما كنت أتنقل فوق أجساد الشهداء، وقع نظري على الجسد الطاهر للقائد الباسل الأخ "حسين
 
 
 
 
 
127

121

السادس

 برهاني"، شاهدته ممدّدًا على صدره، وقد غرق بهدوء وعزة في نوم العشق العميق. إلى جانب الجثمان الطاهر لـ"برهاني"، لفت انتباهي جهاز لاسلكي القيادة، وما زال يسمع منه صوت القادة الموجودين الآن على المرتفعات، وهم يوجّهون رسائلهم لنا. أمسكت جهاز اللاسلكي، ووضعته في زاوية من زوايا الموقع وصوّبت عليه، ثم أطلقت عدة رصاصات كي أُعطّله. ثم حاولت أن أُعطّل تنظيماته (أرقامه السرية) حتى لا يعرف العراقيّون موقع قواتنا على مرتفعات 2519 في حال وقع الجهاز بأيديهم.


كان منظرًا مرعبًا. كيفما نظرت، يطالعني جسد أحد الأصدقاء الأعزاء وهو غارق في دمائه، وأعرف أنه استشهد. لم يتوقف نزيف يدي، وكنت متأكدًا أنني إن لم أستشهد على يد العراقيين فسوف أستشهد بسبب جرحي ونزيفه المستمر. في البداية، جلست في إحدى زوايا الموقع متكئًا إلى الجدار المنهدم. ما زال الإخوة الثلاثة ثابتين في أماكنهم يطلقون منها النار. فكرت في نفسي أن لا مفرّ من المصير المحتوم، وعليّ أن أجلس مكاني بانتظار العراقيين الذين سيأتون، ولن يحصل إلا ما يريده الله. إذا قُتلت، سأكون قد وصلت إلى مبتغاي الذي طالما تمنيته منذ سنوات. ولو أنّني وقعت في الأسر، فلا حيلة لي ويكون الخير فيما وقع. في الحقيقة، كنت أدرك أنّ العراقيين سيقتلوننا جميعًا، لأنني كنت جريحًا والعراقيون لا يرحمون جرحاهم فكيف يمكن أن نتوقع أن يرحمونا. بالإضافة إلى أننا في منطقة جبلية، وكنت قد سمعت أنّ أعداءنا يقتلون كل الأسرى في الجبال، لأن نقلهم من هناك إلى الخطوط الخلفية كان أمرًا صعبًا للغاية، ولن يكون رصيدًا مفيدًا أو نافعًا بالنسبة إليهم.

إنّ تصوّر هذا المشهد في أن أبقى جالسًا حتى يأتي البعثيون وأشاهد
 
 
 
 
128

122

السادس

 وجوههم الكريهة ثم يطلقوا عليّ رصاصة الرحمة كان يزعجني كثيرًا، لأنّني أعرف بالمقارنة أنّ أجر المقاتل الذي يستشهد أثناء القتال يختلف من الأرض إلى السماء عن أجر الجالس في زاوية ينتظر العدو ليقضي عليه برصاصة لأنّه ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.(النساء، 95)، لذلك حملت الكلاشينكوف بيدي الأخرى وضعت إصبع يدي اليسرى على الزناد ووجهت السلاح باتجاه المكان الذي أحتمل أن يظهر منه العدو. لأنني قررت أن أطلق النار ما إن أرى أول جندي يقترب نحوي وسأكمل إطلاق كل رصاصاتي إلى أن أصل في النهاية إلى الشهادة.


أعتقد أنّها كانت لحظات عجيبة، تراءت مشاهد أحداث حياتي أمام ناظري واحدًا تلو الآخر، وجه أبي النوراني والمتوكّل دومًا الزاهد والصبور، وأمي القلقة والمتوتّرة. يا إلهي، كيف سيتحمّلان خبر شهادتي! وما الذي سيحصل لأمي؟ لقد وعدتها بأنّني لا دخل لي بكل ما يتعلّق بالخط الأمامي للجبهة، ولكن ها أنا اليوم جالس بين جمع من الشهداء، جريحًا وعاجزًا عن الحركة، وهناك على بعد أمتار مني عدد من الضباع العطشى لدمائي. يا إلهي! لقد أخللت بوعدي لأمي لأنني كنت أريد أن أجرّب الطيران والتحليق بين هذه الطيور العاشقة. فهل يا تُرى أستحق عقوبتك لقيامي بهذا العمل؟ يا إلهي، لقد أفهمتني في الاستخارة أن لا عمل أفضل من الذهاب إلى الجبهة، وطلبتَ مني أن أُرضي أمي وأبي. يا ربي! لقد رضي أبي الذي هو وليّي الشرعي، لكن أمي لم تكن لترضى بأي شكل من الأشكال. لقد التزمتُ بأمر مرجع تقليدي، الذي هو ولي الأمر ونائب الإمام الواجب الطاعة، والذي لم يجعل رضى الوالدين شرطًا للقيام بهذا الأمر. لذلك، لا أستحق العقوبة ولا المحاسبة أبدًا.
 
 
 
 
 
129

123

السادس

 على الرغم من ذلك، كنت قلقًا جدًّا على أمي، كنت أتخيّل وجهها حين تسمع نبأ شهادتي وأراها وهي تقع على الأرض منهارة... ويا إلهي! إنني أوكلك بها كي تحميها من أيّ أذى. هي الملاك الأحنّ والأرقّ الذي أعطيتني إياه وهي الشخص الأعز على قلبي...


بدأت وجوه أخواتي، وأصدقائي في الجلسات القرآنية، وشهداء حي "فروغي"، وشارع "أمير كبير"، "نادر" و"ناصر" و....تمر أمام عيني على التوالي. شعرت وكأنّ كل أصدقائي الشهداء موجودون حولي، وكان أجمل إحساس شعرت به هو دفء وجود "نادر" بابتسامته المليحة، وهو يحتضنني، و...

في الوقت نفسه سيطر القلق عليّ. فلحظة اللقاء باتت قريبة جدًا. إنّها اللحظة ـ التي شئنا أم أبينا ـ نعيش لأجلها، وما كان يشغلني في هذه اللحظة هو الهدية التي سأحملها معي من هذا السفر؟!

عندما وصلت إلى هذا الحد، تيقّنت أن سلّتي فارغة ونزح العرق على جبيني من الخجل. بماذا يجب أن أتباهى؟ بالصلوات التي أقمتها كيفما كان وفقط لأجل التكليف، أم بالأيام التي لم يبق منها سوى ذكريات العطش والجوع؟..

من جهة أخرى، كانت الذنوب التي بقيت من دون توبة أو استغفار تتجسّد بأشكال واضحة أمام عينيّ. وهذه الأحوال التي دهمتني، والتفكّر بها، جعلتني أصرخ من أعماق قلبي قائلًا: "يا إلهي! لم أكن عند حسن ظنك. يا إلهي! حين أنظر إلى يديّ الخاليتين أشعر بالخجل، لكن حين أرى يديك الرحيمتين، يمتلئ قلبي بالأمل. يا إلهي! أنت علّمتني في قصة "حبيب النجار" أن المسافر إليك حتى لو كان من أقرب المقربين، غفرانك هو أفضل رأسمال له، لأنه حين وصل إلى الشهادة "قيل ادخل الجنة". ورافقته ملائكتك إلى الجنة. ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ *
 
 
 
 
130

124

السادس

 بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ (يس/27). لم يباهِ أحدًا قط بأعماله الصالحة. بل كل المقامات التي وهبتها له ناشئة من مغفرتك وليس من شيء آخر. يا إلهي! أرجوك أن تغرقني في بحر مغفرتك، وارحمني برحمتك وكرمك، وليس بما أملكه أنا، واجعلني من المكرمين. يا إلهي! سمعت عن لسان رسولك أنه قال: إنّ أول نقطة دم تنزل من الشهيد على الأرض، تغفر كل ذنوبه. فهل تشملنا هذه الرحمة يا ترى؟


في غمرة هذه المناجاة، خلتُ صوت أستاذي الذي علّمني القرآن ـ المرحوم "ضيائي" ـ قد بلغ مسامع روحي وهو يقول: "يا شباب! عيشوا بالطريقة التي تسمح لكم إذا ما أغمضتم عن هذه الدنيا بأن تنفتح أعينكم على عيني الرسولصلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام والملائكة هناك، وهم يقولون لكم بشوق وسرور: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ وتجيبونهم : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾. (الزمر/74)

لا سمح الله ولا تكونوا ممن يُقال لهم: "ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها..". يا إلهي أي التجربتين سأمر بها بعد لحظات؟

انقطع حبل أفكاري هذه عند سقوط قنبلة يدوية على بعد أمتار منّي. بعدها سمعت صوت أحد الشباب المدافعين عن الموقع وهو يقول: "لقد فرغت أمشاطي، العراقيون يرمون القنابل، يا شباب، هيا بنا نرحل، لا فائدة من البقاء".

لم أعد أذكر اسمه، لكن ما أعرفه عنه أنه من شباب القوات الجوية في الجيش، وقيل إنّه قبطان مروحية. لكنّه تطوّع مع التعبويين وجاء إلى الجبهة. كان يقول إنّه يعمل منفردًا بشكل خاص في الموقع الثامن. كان طويل القامة، قوي البنية، أسمر الوجه. أعمت إحدى الشظايا عينه اليمنى فاختفى جرحه تحت الدماء الجافّة. لم أفهم ما كان يقصده! فهل كان هناك من طريق للفرار؟ سأله أحد الشباب
 
 
 
 
131

125

السادس

 متعجّبًا وهو يطلق النار: "إلى أين نذهب؟" فأجاب قائلًا: "باتجاه المنحدر.. المنحدر. .".


حين سمعت هذه الكلمة، تذكرت ليلة العمليات وقبل دقائق من النزول عن مرتفعات 2519، حين كان "يزدخواستي" يشرح عن المنطقة، كرّر لنا مرات عدّة محذرًا: إنّ إحدى جهات الموقع في التلّة الثالثة هي عبارة عن منحدر خطر جدًا، وعلى الجميع الانتباه وعدم الاقتراب منه.

في الحقيقة، إنّ المنحدر هو المكان الوحيد الذي لا يستطيع العراقيون مهاجمتنا منه. وكان اقتراح الشاب التعبوي أن يرمي الشباب السالمون أنفسهم من على المنحدر. في الوقت الذي لم يتوقّف عن تكرار اقتراحه وطلبه، كان يقترب مني أحيانًا ليتناول ما تبقّى من القنابل اليدوية بالقرب من أجساد الشهداء، ثم يسحب عتلة الأمان ويرميها إلى خارج الموقع.

حين مرّ بالقرب مني، نظر إليّ متعجبًا ومتردّدًا في آن وسألني: "لماذا ما زلت جالسًا هنا؟ العراقيون آتون. إن المحافظة على الروح واجب. يا الله..".

- لقد قطع شريان يدي، وسأموت خلال دقائق.

- لكن هذا أفضل من أن تموت على يد العراقيين برصاصة الرحمة.

قال ذلك واتّجه ناحية المنحدر الشديد. استمرّ الشابّان المستبسلان في زاويتي الموقع في إطلاق النار. لكن في الوقت نفسه، لم يتوقّفا عن مراقبته.

يا إلهي! ساعدني، ما هو تكليفي؟ أيهما أفضل؟ البقاء والموت على يد العراقيين أو الرحيل والشهادة بسبب الوقوع عن المنحدر أو بسبب استمرار النزيف؟!
 
 
 
 
132

126

السادس

 في النهاية، لم أعرف لماذا اعتمدت الخيار الثاني. على ما يبدو، كي أكون بذلت ما في وسعي ولم أبقَ جالسًا عاجزًا في مكاني. وهكذا وقفت وتوجهت نحو دشمة الجرحى وأنا أسحب قدمي ورائي. أدخلت رأسي في ممرّ الدشمة المهدّم ورأيت الجرحى، وهم ينظرون إليّ بقلق. قلت لهم: "يا شباب! لا مجال للتفكير. قوموا، قفوا، ما هي إلّا دقائق معدودة حتى يصل العراقيون، يجب أن نهرب من ناحية المنحدر".


ازداد تهليل العراقيين وصراخهم. لكنهم كانوا جبناء فهم لم يجرؤوا إلى الآن على الدخول إلى الموقع. الوحيد الذي استجاب لطلبي كان "تورجيزاده". فصار يشجّع بقية الجرحى للقيام، لكن أنّى لهم ذلك فبعضهم لا يستطيع الحراك بسبب شدة الجراح أو الإصابة في النخاع الشوكي. واثنان منهم اعتبروا القفز عن المنحدر انتحارًا فرفضوا الأمر رفضًا قاطعًا.

أمام إصراري أنا و"تورجيزاده" والتمنّي والإلحاح في الرجاء، لم نُقابَل بردّ، وإنّما بنظرات بريئة ومن بينهم الأخ "صفاتاج"، الذي لم يكن قادرًا على الإتيان بأي حركة، قمنا بالتوديع ونحن خارجون. كانت قدم "تورجيزاده" مكسورة بسبب إصابتها بشظية، وكان يتحرّك مستندًا إلى قدم واحدة.

حين وصلنا إلى باحة الموقع، طلبنا من الأخوين المواظبين على إطلاق النار في الخارج أن يتركا كل شيء ويلوذا بالفرار عن طريق المنحدر. صارا يقتربان منّا ببطءٍ وهما يستمران في إطلاق النار في الهواء. وتوجّهنا معا نحن الأربعة إلى الجهة التي ما زال يسمع منها صوت التعبوي الشاب، وهو ينادينا للمجيء ناحية المنحدر.

سيطر على كل وجودي رعب شديد. حين رأيت مقدار الانحدار لدرجة استبعدت الوصول بسلامة إلى الأسفل. يمكن القول إنّ زاوية
 
 
 
133

127

السادس

 هذه الناحية من المنحدر تتعدّى السبعين أو الثمانين درجة، وإذا ما نظرت من الأعلى لا يمكن إلا أن يسيطر عليك هول المشهد.


لكن لا مفر سوى ذلك، علينا أن نرمي بأنفسنا إلى الأسفل. كان النزيف متدفّقًا بقوة. أدركت من كثرة الدماء أنّ الشريان الغليظ مقطوع، ولن يؤدي استمرار النزيف إلا إلى الموت الأكيد. لا يوجد أي بصيص أمل. لكن قدرة داخلية كانت تدعوني للقفز عن المنحدر من دون تردد. كان الشاب التعبوي (في الجيش) قد قفز قبل وصولنا، وما زال الغبار والتراب يتصاعدان من المكان الذي ارتمى منه. وها هم الشباب يقفزون واحدًا تلو الآخر ولم أتأخّر عن اللحاق بهم، تجرّأت على القفز وكأنني أُجذب إلى الأسفل من دون إرادة مني، كنت أسقط بسرعة كبيرة. وأحيانًا أقفز فوق الصخور، ثم أقع على المنحدر، وفي بعض الأماكن حيث الانحدار شديد كنت كمن يطير في الهواء، ثم يسقط سقطة حرة ليرتمي بشدة على إحدى الصخور. صرتُ أشعر بحريق في كل جسمي جراء ذلك الارتطام بالصخور والحجارة والتراب، أغمضتُ عيني وأسلمت نفسي للمنحدر. فقدت الشعور بما أقوم به، ولم أعد أحس إلا بالحرقة التي تتمدّد على كل جلدي. قطعت مسافة طويلة على هذه الحال. مرّت حوالي عشر دقائق على هذا المنوال إلى أن توقفت برهة لأنّني علقت بغصن شجرة، وبعد أن انكسر عدت إلى السقوط لأجد نفسي وسط ماء بارد.

بدأ الظلام يغطّي المكان بهدوء وبسكون. كنت أستطيع رؤية ما حولي بصعوبة. بعد لحظات من تفحّص المكان، عرفت أنني سقطت وسط أشجار كثيرة كأنها حرج. وتحت قدمي رمل وتراب ناعم تغطيها المياه لا تزيد سماكتها عن السنتيمتر الواحد أو السنتيمترين.

كان خلفي صخرة كبيرة متكئة على المنحدر بدت كأنّها جدار
 
 
 
 
 
134

128

السادس

 للتلة. وأمامي حرج صغير يمتد على طول الوادي، كان شديد الانحدار وتغطّي أرضه الصخور والكثير من الحجارة. في ذلك المكان، كان الماء البارد أكثر شيء دغدغ مشاعري وهو يسيل بدلال وفرح. لا أعتقد أن كلمة العطش تفي بالغرض، لأنّ ما كنت أشعر به هو اللهيب أو كما نقول "الموت من العطش" وكأنني كنت في تنور جهنمي حارق. إنّ تحمّل العطش طيلة الفترة السابقة لا يوازي الجراح والنزيف، ممّا زاد من شدّة عطشي، ومن لم يجرّبه يومًا لن يدرك ما أقوله أبدًا. وها أنا الآن من دون إرادة مني، أدنو من الماء وأبدأ الشرب بشوق شديد وتلمّظه بهدوء كي لا أبلع الرمل معه. شربت وشربت إلى أن انطفأ تنور جسدي.


ما أروع لذّة إطفاء الغليل والطمأنينة التي سيطرت عليّ الآن. سحبت نفسي لأستند على جذع شجرة، فجلست وأغمضت عينيّ. بعد أن ارتويت وأبعدت العطش عنّي، بدأت أشعر للتوّ أن كل جسمي يحرقني، بسبب ارتطامي، وما سبّبه من الجروح على كتفي وظهري وساقيّ. كانت هذه الجراح تزعجني كثيرًا. لكن حين كنت أفكر أنّنا فررنا من العراقيين، كان يسيطر عليّ شعور بالراحة والهدوء.

في هذه اللحظات عادت إلى ذاكرتي وجوه الأعزاء الذين قضيت معهم شهرين متتاليين ليلًا ونهارًا، وها هم الآن بشفاههم العطشى تحت رحمة الأعداء المتوحّشين. تجمعت الدموع في عينيّ ومن دون إرادة مني بدأت بالبكاء. يا إلهي، كيف هم أحبائي الآن؟ هل وصل العراقيون إليهم؟ يا إلهي! إن أجساد هؤلاء العاشقين المجروحة. ماذا لو داستها الأقدام؟ وماذا لو قتلوهم بلا رحمة؟ و....؟!

وهكذا تجسّدت أمام ناظريّ مشاهد المجزرة في أعلى التلة، أجساد الشهداء المتراكمة بعضها فوق بعض، والنظرات البريئة للجرحى، في اللحظة التي تركتهم ورائي ورحلت، فبدأت بالبكاء.
 
 
 
 
135

129

السادس

 بعد هذه النوبة من البكاء والأسى، انتبهت إلى الواقع، وسيطر عليّ شعور غريب بالذنب. بأسى وحزن لا يمكن وصفهما، وبينما كنت أبكي بصوت عالٍ، تساءلت في نفسي: يا حميد، هل تدرك العمل الذي قمت به؟ يا ويلك! لقد كنت كما يقال لك سقّاء أنصار الحسين العطاشى. يومان كاملان وأنت توزّع عليهم الماء قطرة بقطرة وكنت أحيانًا تسكبه في أفواههم. وها أنت الآن، من دون أي اكتراث، تنسى كل شيء وتغطس رأسك في الماء البارد، وتشرب قدر ما تستطيع؟! يا ويلك! لطالما ذكّرت هؤلاء الجرحى العطاشى بعطش الحسين وأهل بيته، وكنت تدعوهم إلى الصبر الحسيني والتحمّل، كيف استطعت من دون أي خجل، وحتى من دون أن تتذكرهم ولو للحظات أن تشرب الماء براحة لا توصف..؟؟ شعرت أنني خرجت من الامتحان الإلهي مطأطئ الرأس.


منذ أن بدأ والداي يصطحباني إلى مجالس العزاء الحسينية، كنت دائمًا أقول في نفسي: وهل يكفي البكاء ولبس السواد ولطم الصدور فقط على الحسين؟ أو أن نكون في الوقت نفسه مستعدين لنصرة الحسين في أي يوم يحتاج إلينا؟

لذلك في اليوم الذي تركتُ بيتي وحياتي وتخطيت العشق الذي أكنّه لأمي وأبي، والمحبة لأصدقائي ومعارفي... وتوجهت نحو هذه الصحراء، قلت لله: "يا إلهي! إن كل هدفي هو نصرة دين الله، والتأسي بحسينك عليه السلام". وقلت أيضًا: "يا إلهي! أريد أن يكتب اسمي في عداد شهداء كربلاء، حتى إذا رفعت رأسي من قبري، لا أشعر بالخجل والخزي أمام رسولك وأمام عليّ المرتضى وأميّ الزهراء المرضية عليهم السلام". ولذلك فتح الله لي ميدان الجهاد، كي أقدّم ما عندي من فن وقدرة، ولكنني هنا في هذا الموقف أثبتّ عدم لياقتي بكل ما
 
 
 
 
 
136

130

السادس

 كنتُ أدّعيه من طموحات.


لقد أرسلني مع فرقة "الإمام الحسين 14"، ثم اختارني من بين كل الكتائب لأكون في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، وقد جعلني أشاهد بعينيّ لحظة بلحظة الملحمة الحسينية، بدءًا من محاصرة الأعداء لنا، إلى عطش أنصار الحسين عليه السلام، من صلاة ظهر عاشوراء إلى أمطار الحمم على الخيم الحسينية. من تقديم شباب الحرم أنفسهم واحدًا تلو الآخر، إلى الأجساد المقطّعة لأصحاب الحسين عليه السلام... لقد أراني كل هذا، كل هذا... إلى أن اختارني من بين كل الشباب المخلص والمضحي ليعطيني شرف أن أكون سقّاء الجرحى العطاشى، وكأنّه الآن أنزلني إلى نهر العلقم، كي أقتنع في هذه النهاية الحزينة أن بين الحقيقة وما يدور في رأسي من أفكار أعتقدها صحيحة فراسخ طويلة. وها هو قمر بني هاشم عليه السلام حين نزل إلى النهر، ولشدة عطشه، غرف الماء بيديه مباشرة وقرّبه من فمه، لكنه كان شهمًا ومحبًّا لوليّ أمره فقال في نفسه: "كيف تشرب وترتوي ووليّ الله وأهل بيته عطاشى". أما أنت يا "حميد طالقاني" بعد كل هذا التحمّل والصبر، ما الذي فعلته بنفسك؟ كيف استطعت من دون أن تتذكر عطش أصحابك، أن تقرّب الماء من شفتيك وتشرب؟ هل عرفت الآن لماذا لا تستطيع الوصول إلى تلك القمم العالية؟

سمعت من قبل على لسان الوعاظ وأهل المنبر أن الإيثار والتضحية، مهما بلغ مبلغهما من الإخلاص، لن يصلا في الأجر والمقام إلى قدمي إيثار شهداء كربلاء. على الرغم من أن أدبي تجاه الدين كان يمنعني من أن أجاهر برفض هذه الفكرة، إلا أنني كنت بيني وبين نفسي مترددًا في صحة هذا الأمر. فعاشوراء كلّها عبارة عن قيام وليّ أمر ذلك الزمان لإحقاق الحق ونَصَرَهُ عدد من أصحابه. فحاصرهم
 
 
 
 
137

131

السادس

 العدو، ومنع عنهم الماء، ليقتلهم ويذبحهم بعد ذلك بكل وحشية. إذًا في حال تكرّر الأمر في زمان آخر، لماذا لا يكون الأجر والثواب موازيًا لأجر عاشوراء في كربلاء؟


في ذلك اليوم حصلت على الجواب. إنه الفرق في مرتبة النفوس من حيث التزكية والرؤية والنيات والدوافع. لقد جاهد الكثيرون على مرّ التاريخ في سبيل إعلاء كلمة الحق ورفعوا سيوفهم لأجل ذلك، لكن لماذا: "ضربة عليّ يوم الخندق، أفضل من عبادة الثَقَلين؟". لأن تلك الضربة من سيف عليّ عليه السلام هي خلاصة الرؤية الكونية، إنّها التوجّه الصحيح، والنية المتعالية التي عجز كل الجن والإنس عن الوصول إليها.

على كل حال، أحسست بالضياع وصرت أبكي بصوت عالٍ لفترة وجيزة. حين استيقظت من حزني، التفتّ إلى أن نزيف يدي قد ازداد بدرجة كبيرة. لقد علّمونا من قبل أن الجريح يجب أن لا يشرب الماء إلا بمقدار حاجته لأن شرب الماء يزيد النزيف. ابتسمت ابتسامة ساخرة وقلت في نفسي: "هذه نتيجة التعلّق الشديد بحطام الدنيا من دون سبب مقنع. إن هذا النزيف سيقتلك بعد دقائق. وستغمض عينيك عن هذه الدنيا بعد ساعات من رحيل أحبابك. لكن كيف ستستطيع مواجهتهم؟ لقد وصلوا للقاء الله وهم عطاشى في أرض الواقعة. أما أنت فستلقاه مرتويًا بالماء وفارًّا من ميدان المعركة".

ضغطت على جرحي بيدي اليسرى، وشعرت أن هذا العمل يقلّل من النزيف. لكن بعد أن تعبت يدي رفعتها عن الجرح مرة ثانية ثمّ كرّرت الأمر نفسه بين الحين والآخر.

تذكّرت أننا كنا خمسة أشخاص. فتساءلت: أين البقية إذًا؟ باستثناء "تورجيزاده"، لم أكن أعرف أسماء الآخرين، لذلك صرت أناديه بصوت عالٍ. بعد لحظات سمعت صوت أحدهم يجيبني عن بعد
 
 
 
 
138

132

السادس

 حوالي الخمسة عشر مترًا. طلبت منه الاقتراب إلى موضعي. ميّزت وجهه بصعوبة كبيرة. لكنه كان مألوفًا لي. ولا أعرف اسمه. كان شابًّا في السادسة أو السابعة عشرة من عمره، لم يكن الشعر قد نما على وجهه بعد. شعر بالفرح والسرور لأنه وجدني، فسلّم عليّ بشوق وحماسة. سألته: "ألم ترَ باقي الشباب؟".


قال: "لقد فتشت كثيرًا عنهم، لكن لم أجد أثرًا لهم".

قلقت كثيرًا وقلت في نفسي: "لعلّ رؤوسهم اصطدمت بالصخور أو الحجارة أثناء سقوطهم، فاستشهدوا، أو لعلهم قتلوا على أيدي العراقيين أو ..". لكنني حاولت أخيرًا أن أبعد هذه الأفكار عن ذهني، وركزت على أنهم قد يكونون قد سقطوا في مكان بعيد عنا لأن المنحدر قد جذبهم باتجاه آخر.

سألته: "ما اسمك؟".
- حسين.
- حسين...؟
- قائدي.
- هل تعرفني؟
- نعم، السيد طالقاني، الكل يعرفك.
- من أي مدينة أنت؟
- أصفهان، نحن نسكن مقابل مقبرة الشهداء، شارع السجاد عليه السلام.
- هل جرحت؟
- لا، ليس بالشيء المهم. شظية صغيرة جدًّا في قدمي.

ثم أراني الجرح البسيط في أسفل فخذه.

لم يتبقّ إلا صوت رصاص العراقيّين المنفرد والمتفرّق يسمع في أعلى
 
 
 
 
 
139

133

السادس

 التلّة. لقد توقّفت رشقات الرشاشات والانفجارات. قلت في نفسي إن العراقيين قد دخلوا إلى الموقع، وهم يطلقون رصاص الرحمة على الجرحى الذين تمثّلت أمامي وجوههم النورانية واحدًا تلو الآخر.


باطن قدمي أحرقني بعمق، وأنا حافٍ، لا أنتعل حذاءً عسكريًا. ففي الليلة الأولى عندما جرحت وأصيب كاحلي، نزع الإخوة المسعفون "بوتيني" كي يداووا جرحي. وفيما بعد خلعت الجاكيت العسكرية من شدة الحرّ والعطش وها أنا أرتدي فقط قميصًا داخليًا وبنطال البدلة العسكرية وجوربين ممزقين. بات أكثر ما يزعجني الآن جراح قدميّ التي ازدادت سوءًا بسبب السقوط السريع عن التلة. كان جرح ساعدي لا يزال ينزف، لكن لم يعد لديّ القدرة للتفكير به بسبب شدة تعبي وإنهاكي.

مرّت دقائق معدودة، ونحن جالسان -أنا وحسين- بصمت أحدنا قرب الآخر، وكنا نفكّر بالأحداث الصاخبة والكثيرة التي مرت علينا. في هذه اللحظة، أخذ حسين يملأ القربة العسكرية التي كانت معه. لا خبر عن "تورجيزاده" ولا عن الشابين الآخرين. حاولنا إيجادهم، لكن من دون فائدة.

مرّت لحظات من السكون. فجأة ميّزت من بين أصوات الرشاشات، صوت رشاش واحد يقترب منّا باستمرار. في البداية ظننت أنني أتخيل. لكن بعد دقائق قال حسين: "ولعلّ العراقيين قادمون نحونا".

صار الصوت قريبًا جدًا، وكأنّ هناك على ما يبدو مجموعة تقترب منا وهي تطلق الرصاص. قال حسين: "ربما كان "تورجي زاده" والشابان الآخران يطلقان بعض الرصاصات كي يخبرونا بمكانهم".

قلت: "من المستحيل أن يتصرّف "تورجيزاده" بهذه الطريقة البعيدة كل البعد عن الاحتياط، فهم هكذا يخبرون العراقيين بمكاننا. لكنني
 
 
 
 
140

134

السادس

 أعتقد أن العراقيين رأونا بأنفسهم حين كنا نهرب عن التلة فلحقوا بنا". ثم قلت في نفسي: "قد يكون "تورجيزاده" والشابان الآخران قد وقعا بيد الأعداء وها هم يجهزون عليهم برصاص الرحمة!".


من البديهي استنتاج العدو بأنّ المكان الوحيد الذي يمكن أن نختبئ فيه هو أسفل التلة هنا، فقصدوه للبحث عنا. ولهذا قرّرنا المغادرة. قلت لحسين: "قف لنهرب، لأن العراقيين سيصلون إلينا بعد دقائق فقط".

وقف مباشرة، وتحرّك مسرعًا، أما أنا فحاولت الوقوف، لكنّني شعرت بالسواد يغطي عينيّ وفقدت التوازن. بعد أن أحسست بدوار عجيب، وشعرت أن الأرض تتحرك تحتي. فوقعت بكل ثقلي. عرفت أن نزيف يدي اليسرى، قد أفقدني أي قدرة على الوقوف وعلى الحركة. كان حسين قد ابتعد عني قليلًا فناديته: "أنا لا أستطيع المشي، عليك أن تساعدني!".

جلس بالقرب مني، وضعت يسراي على كتفه ثم تحركنا معًا. قلت له: "علينا أن نخرج من الحرج بسرعة لنختبئ في مكان آخر".

خرجنا من تحت الأشجار وتحركنا نحو التلة. بعد مسير تجاوز العشرين دقيقة تقريبًا، كنا قد بدأنا نصعد منحدر التلة. في هذه اللحظة وقع نظري على صخرتين مسطحتين كبيرتين. طلبت من حسين التوجه إليهما. كان بين هاتين الصخرتين حفرة لا تتعدى النصف متر، بصعوبة كبيرة جلسنا داخلها. الآن، الحرج تقريبًا على يسارنا، وكنا مطلين عليه ونراه بوضوح. أنار قمر السماء المنطقة كلها. من هنا، بدت أشجار الحرج كأنها خطّ أسود عريض، في أسفل التلة وعلى مسافة بعيدة قليلًا عنا.

عاد صوت الرصاص يقترب منّا أكثر فأكثر. وفجأة رأيت نور
 
 
 
 
141

135

السادس

 كشّاف العراقيّين داخل الحرج. ما بين ثمانية وعشرة عراقيين، يتحرّكون بين الأشجار ويصلون إلى حيث كنّا نجلس قبل دقائق. ثم رأيت أحدهم يتّجه مباشرة إلى الموضع الذي لجأنا إليه. وكان يقترب من المكان حيث اختبأنا. سيطر القلق والرعب على كياني. طلبت من حسين أن يقرأ آية: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾. (يس/9) وصرت أكرّرها على مهل. لقد اشتهر تأثير هذه الآية في جعل الأعداء عميًا بين الشباب.


استمر الجندي العراقي، بالتقدم نحونا وهو يضيء بمصباحه الطريق أمامه، وكان في كل خطوة يقترب منّا أكثر فأكثر. قلت في نفسي إنّه يتتبع آثار الدماء التي سالت من يدي. شعرت الآن، أن كل شيء قد انتهى، وسلمت كل وجودي إلى لطف الله وعنايته. حبسنا نحن الاثنان أنفاسنا، وكان يشدّ بعضنا على بعض، وبتنا نسمع دقات قلبينا. كان هذا العراقي يقترب ويقترب ليقف بعد لحظات أمامنا وعلى بعد مترين فقط من الصخرة. لقد أضاء المصباح الذي بيده مكان وجودنا بالكامل، وكان بإمكانه رؤيتنا ببساطة. اقترب من الصخرة أكثر فأكثر، ثم مرّ من أمامنا، والتفّ ثم صعد إلى الصخرة الكبيرة ووقف أعلاها وبدأ يبحث في المكان بمساعدة ضوء مصباحه.

كانت لحظات مرعبة. كنت أنا وحسين، يحتضن بعضنا بعضًا بقوة، وحاولنا في الوقت نفسه عدم الإتيان بأي حركة. وضاق نفسي، لأنّني حاولت أن أتنفس من فمي من دون أن أُصدر أي صوت. بعد لحظات التفتّ فإذ بكل الجنود العراقيين يخرجون من الحرج ويتوجهون نحونا وهم يحملون مصابيحهم في أيديهم. قال أحدهم شيئًا بصوت عال، فأجابه الجندي الواقف على الصخرة خلفنا وحدد مكانه بحركة من المصباح الذي بيده. جاء العراقيون، اقتربوا منا وتوقّفوا على مقربة
 
 
 
 
142

136

السادس

 من الصخرة حيث نحن. لقد أضاءت المصابيح التي يحملونها المكان حولنا، فصار باستطاعتهم رؤيتنا بسهولة تامة. صاروا يتحدّثون بلهجة عربية فظّة لم نفهم منها شيئًا. ولهذا أخذت تراودني الأفكار فقلت في نفسي: لا بد وأنهم يتشاورون حول ما سيفعلونه بنا. لا مجال للشكّ في رؤيتهم لنا. وهكذا من دون إرادة مني، ومن دون أن أحرّك شفتيّ، رحت أدعو الله بكل جوارحي، أحسست هذه المرة أيضًا أن لا أحد سوى الله، لا أحد سواه مطلقًا يمكنه أن ينقذنا من هذا الظرف العصيب جدًا.


جلس جنديّ على صخرة تبعد عنا حوالي المترين فقط، وفتح قربته وصار يشرب والماء يسيل على جانبي فمه. قهقه أحد العراقيين قهقهةً بشعة، جعلتني أظن أنهم يسخرون منّا. مرت دقائق على هذه الحال. خلال هذه الدقائق، شعرت بوضوح تام بحلاوة الحرية ومرارة الأسر.

بعد لحظات، التفّوا حول الصخرة وابتعدوا وهم يتكلّمون صاعدين التلة. لم تمرّ إلا لحظات، حتى اختفى ضوء مصابيحهم في العتمة وابتعدوا وأصواتهم تتلاشى بعيدًا عنّا. وشعرنا نحن الاثنان أننا قد نزلنا من السماء.

غرقنا في الحيرة والمفاجأة، فما حصل معنا أمر لا يمكن تصديقه. هل بالفعل لم يرنا العراقيون؟ صدّقت وآمنت بكل وجودي بمعجزة الآية الشريفة "وجعلنا.."، وبشكل لا إرادي، أحنيت رأسي وسجدت سجدة شكر لله على الصخرة أمامي.

مرت لحظات من الحيرة والسكوت. بعد كل هذا الشعور بالرعب والخوف، شعرت الآن وكأن حملًا قد انزاح عني. تقريبًا توصلت إلى هذه النتيجة أن الله قدّر لنا النجاة والسلامة. لكن حين التفت إلى النزيف في يدي، تراجعت وفكّرت في أنّه: قد لا يكون الأمر كما أظن.
 
 
 
 
143

137

السادس

 وما كادت تمرّ فترة قصيرة حتى بدأت أفقد حالي الطبيعية، ولمست بوضوح الآثار التي يتركها النزيف عليّ. وقد بدأت يداي وقدماي ترتجف من الضعف والإنهاك الشديدين. ثقلت جفوني، صرت أتنفس ببطء بينما دقات قلبي تسرع وتزداد. بينما كنت ممددًا على الأرض، صرت أشعر أنّها تدور بي. بلّل النزيف المستمر ثيابي بالدماء. عرفت أنني أقضي الآن اللحظات الأخيرة من عمري. غطّى العرق البارد جبيني. وبدأت أشعر بالبرد الشديد. كنت أتكلم بصعوبة، لكنني أمسكت يد حسين وقلت له: "حسين، أنا أموت...".


قطع حسين كلامي، وهو يشعر بالتردد والضياع، ثم قال: "لا، سأفعل المستحيل كي أوقف النزيف".

سألته: "وكيف ذلك"؟.

يجب أن أربط ذراعك في أعلى الجرح".

بكلامه هذا، شعرت ببريق أمل يضيء قلبي فجأة. جلست بمساعدة حسين ثم قلت له: "لو سمحت، انزع عني قميصي الداخلي القطني".

قام بهذا الأمر مسرعًا، ثم صار ينفّذ ما أطلبه منه، وبدأ بتمزيق القميص. ثم لفّ ذراع يدي اليمنى بقوة وربط جنبي القماش لدرجة أنّي شعرت بإحكام ربط العقدة. وحين رفعت يدي، كان النزيف قد توقّف بالكامل، ففرحنا كثيرًا. قلت في نفسي: "يا حميد، ما زال أمامك الكثير كي يتحقق حلم الشهادة: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت، 2).

على الرغم من أنني نجوت من الموت الآن، لكنني كنت متأكدًا أنه حتى لو استطعنا النجاة بأنفسنا والوصول إلى الخطوط الخلفية، سأفقد يدي اليمنى بسبب إصابتها. فالرباط أوقف الدم عن الوصول
 
 
 
 
144

138

السادس

 إلى الأسفل، وبالتالي ستفسد وسيجبر الأطباء على قطعها فيما بعد.


لكن على كل حال، أشعرني توقف النزيف براحة تامة. عرفت أن حسين قد غطّ في نوم عميق من صوت تنفسه المنتظم. أنا أيضًا قررت أن أنام لساعة لعلّي أرتاح قليلًا، كي نعود بعدها إلى الحرج. سكنت من دون قلق، أغمضت عينيّ لأنام. لم تكن قد مرت عشر دقائق، حتى بدأت أشعر بحرقة في جرح يدي.

في البداية، شعرت أنّ يدي اليمنى من حيث ربطتها قد تخدرت وبدأت تحرقني. بعد وقت قليل، لم أعد أشعر بها نهائيًا، حاولت أن أشدّ الشعر النابت عليها بواسطة يدي اليسرى فشعرت بألم. لكن بعد وقت قصير، ما لبثت أن تخدّرت نهائيًا ولم أعد أشعر بها. أمسكت يدي اليمنى باليسرى وصرت أهزها، فلم أشعر بشيء. مرّت دقائق، وبدأت أشعر بوجع خفيف من أصابعي إلى مكان الجرح، وكان الوجع يزداد في كل لحظة أكثر فأكثر.

فيما بعد عرفنا أنه كان علينا بين الحين والآخر، فك القماش قليلًا كي يسري الدم في عروق يدي، ثم ربطه بقوة، وتكرار هذا الأمر كل بضع دقائق. لكنني أنا وحسين لم نكن نعرف هذا الأمر قط.

كان الألم يزداد بين الحين والآخر، مشتدًّا بسبب انقطاع الدم عن الشرايين الأساسية والفرعية والأعصاب أيضًا. وقد بلغ الوجع مبلغًا لا يمكن تحمّله في كل أجزاء يدي، وسلبني الراحة والهدوء. في البداية حاولت أن أتحمّل، ثم خطر لي أنّه بعد دقائق معدودة ستموت يدي نهائيًّا وسينتهي الألم معها. لكن هذا الانتظار لم يطل فقط، بل ظلّ الألم يزداد ويزداد.

حتى ذلك اليوم، كنت أظن أن أسوأ الأوجاع هو وجع الأسنان.
 
 
 
 
145

139

السادس

 لكنني اكتشفت الآن، أن ألم أعصاب اليد هو أسوأ بكثير. لا أذكر أبدًا أنني تحمّلت مثله طيلة حياتي. كنت أشد على أسناني، ولا أتوقّف عن تحريك رأسي إلى الجهتين. حاولت جاهدًا أن أضبط صوتي، لكنني اكتشفت أنني عاجز عن التحمّل. كنت أضغط بكفي الأيسر وأنا أقبض على التراب، وأتلوى لشدّة الوجع. تصبّرت حوالي خمس عشرة دقيقة، من دون أن أصدر أي صوت. لكنني في النهاية اضطررت أن أستنجد بحسين الذي كان نائمًا بهدوء.


لم يستطع حسين الاستيقاظ بسهولة إلا بعد أن كرّرت المحاولة. كان لا يزال ممددًا على الأرض حين سألني: "ماذا، ماذا حصل؟".

- حسين، أرجوك، ساعدني. أكاد أموت من الوجع. لم أعد أستطيع التحمل. ولهذا سوف أصرخ من الألم...

رفع رأسه عن الأرض بقلق وقال لي: "لا، بالله عليك، تحمّل قليلًا، إذا رفعت صوتك، سيشعر العراقيون بوجودنا. قل لي ماذا يحصل معك؟".

أخبرته عن الألم في يدي، ثم رجوته طالبًا منه فكّ العقدة التي ربطها. قال حسين: "لكن، سينزف الجرح مرة ثانية!".

- فليكن، لكن لا قدرة لديّ على التحمّل..

عندها، بدأ يحلّ العقدة التي ربطها. لكن لأن نوع قماش القميص كان يتمدد كالمطّاط، صار من الصعب جدًّا فكّه. بعد محاولات فاشلة، اضطر إلى فك القماش بأسنانه. وهكذا بعد دقائق، تمزّق القماش، وبدأ النزيف مرة ثانية، وما لبث الألم أن هدأ واسترحت منه. فتنفّست الصعداء، ثم استلقيت مرة ثانية على الأرض.

سألني حسين بقلق: "ماذا نفعل الآن؟".
 
 
 
 
146

140

السادس

 - لا شيء، لا يمكننا فعل شيء، عد إلى النوم.


- لكن، إن لم نفعل شيئًا، ستستشهد بسبب النزيف.

- حسنًا، ما الذي يمكن فعله؟ ليس باليد حيلة.

بعد هذا الحوار، سكت حسين وهو يدقق النظر في الأفق. اشتغل تفكيري في أمرين: الأوّل هو اقتراب لحظة الشهادة، والثاني قلقي على هذا الشاب الذي سيبقى وحده بعد رحيلي. قلت في نفسي: "بعد دقائق، سيبقى حسين وحيدًا، فكيف سيجد طريقه في هذه المنطقة التي تبعد حوالي ثمانية عشر كيلومترًا عن مواقعنا؟ يا إلهي، ما الذي ينتظره؟ كنت قلقًا لأنني لن أستطيع تقديم أي مساعدة له، لذلك قررت أن أواسيه بكلامي.

قلت له: "عزيزي حسين، لا قدّر الله أن تشعر بالحزن حين أغيب عن الوعي. انظر، أنت شابّ سليم وتستطيع الوصول بسهولة إلى إخواننا. إذا غبت عن الوعي، لا تهتم. بل افترض أنّني كالباقين، استشهدت على التلة. وأنت الوحيد الذي استطعت أن تهرب. ما الذي كنت ستفعله في تلك الحال؟ عليك القيام به الآن. لديك ماء للشرب، وحين تعود إلى الحرج ستجد بعض الفاكهة بين الأشجار. يبقى فقط الطريق والوجهة التي ستسلكها. هذه أيضًا يمكن العثور عليها بسهولة، هل تذكر التدريبات الليلية في "سنندج"؟ كان القادة يعلموننا كيفية معرفة الاتجاهات من خلال النجوم... هل تذكر؟

لم ينطق حسين بأي كلمة. لذلك من باب التذكير قلت له: "انظر إلى السماء، هل ترى هذه النجوم؟ هذه النجوم على شكل طائرة ورقية؟ وبعضهم يسمّيها الإخوة السبعة. هذا النجم المضيء هو النجم القطبي. إذًا هذه جهة الشرق، وإذا ما سرت بهذا الاتجاه وأكملت المسير، ستصل إلى قواتنا. أَنصِت يا حسين إلى ما أقوله لك، إياك
 
 
 
 
147

141

السادس

 أن تبقى هنا بعد أن أغيب عن الوعي. لأنه إذا ما طلع الصباح، وكنت ما تزال هنا، سيراك العراقيون. لذلك إذا ما غبت أنا عن الوعي، اتركني هنا ثم اذهب إلى الحرج بين الأشجار وتوجّه نحو الشرق، لكن انتبه لخنادق ودشم الأعداء. توكّل على الله، وإن شاء الله ستصل إلى مواقع قواتنا. لا تنسى أن توصل سلامي للشباب، وحين ترجع إلى أصفهان، وتقابل أمي وأبي، اطلب عن لساني المسامحة منهما، ثم أخبرهما كيف استشهدت وأين".


ثم لذت بالصمت. وكان حسين لا يزال ساكتًا وجالسًا بالقرب مني. نظرت إلى وجهه. خطان فضيان ينسابان من عينيه ويلمعان على وجهه. كان يحاول أن يخفي بكاءه عني فبكى بصمت. أما أنا فكنت ممدّدًا بهدوء منتظرًا اللحظة الموعودة متأمّلًا نجوم السماء.

كانت أحوالي تتدهور دفعة واحدة وتشير بوضوح إلى أنني بعد دقائق سأغمض عينيّ عن هذه الدنيا. لذلك من جديد، توجّهت إلى المناجاة والدعاء من كل قلبي. يا إلهي! ما الذي يدور حولي؟ قد يكون أصدقائي الشهداء وشهداء تلة "برهاني" مجموعين بالقرب مني ينتظرونني.

نظرت مرة ثانية إلى السماء، وتخيّلت وجه نادر النوراني، وهو يحتضنني ويبتسم. لذلك بدأت أبكي من دون اختيار مني.

"يا إلهي، منذ مدة لا يعرف أبي وأمي عني شيئًا. يا إلهي! طلب أخير لي منك، أرجوك أن تلهمهما الصبر والثبات، كي يتقبّلا شهادتي برحابة صدر. إلهي! أعطِ أمي الصبر والإيمان الذي تعطيه لكل أمهات الشهداء. يا إلهي! غيّر أمي كي تقف بصلابة أمام الصديق والعدو وتفتخر بشهادتي. يا إلهي! في هذه اللحظات الأخيرة، تقبّلني أحسن القبول يا أرحم الراحمين، واغفر لي غفلاتي السابقة. إذا كانت ذنوبي
 
 
 
 
148

142

السادس

 كبيرة، فلطفك ورحمتك أكبر. الآن وقد جفّت جذور آمالي، وأغلقت باب نفسي وجسمي الجريح على الوساوس الفارغة والأهواء الواهية، وقد تركت أخطائي وتقصيراتي فأرجوك ألّا تنظر إليّ إلا بعين رحمتك وعنايتك. إلهي! كل من في قلبه انزعاج مني أو له حق عليّ، بلطفك وعنايتك وعطاءاتك اللامحدودة، اجعله راضيًا عني ومسرورًا بمنّك. وأخرجني يا إلهي من هذه الدنيا، غير مستحق لعقابك، وغير مدين لأحد من خلقك، جديرًا بالراحة في جوار الأنبياء والأولياء والشهداء. يا إلهي! على الرغم من سواد وجهي، إلا أنني قضيت عمري في عشقك وعشق قرآنك ونبيك وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، إذًا لا تُفرّق بيني وبينهم لحظة واحدة.. إلهي رضًى برضاك..".


لقد أراحتني هذه المناجاة كثيرًا وقوّت قلبي ومنحتني الهدوء ولم تُبقِ في داخلي أي قلق أو أيّ خوف.

ما زال حسين جالسًا بالقرب مني يذرف دموعه. في حين ازداد الدوار في رأسي، وثقلت عيناي أكثر فأكثر، وكأنّني أغفو بين الحين والآخر. لم أكن أدرك شيئًا حولي، في هذه اللحظة، قال حسين: "في النهاية يجب أن نفعل شيئًا، لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي وننتظر. قد يمكننا وقف النزيف بطريقة ما". قلت: "لقد بذلنا كل جهدنا. لكن لوقف النزيف، يستعمل الأطباء أدوات متنوعة لربط الشريان. ونحن لا نملك وسائل ولا نعرف تمييز الشرايين".

بعد تناول أطراف الحديث، لمعت في ذهني فكرة. لقد تذكّرت كلام مساعد الطبيب في ثكنة "سنندج" الذي كان يعلّمنا الإسعافات الأولية. حضرني في درس من الدروس، أنّه قال إذا انقطع أحد الشرايين الأساسية، عليكم بإيجاده، ثم ربطه لوقف النزيف. قلت في نفسي عندها: "قد أستطيع أن أجد الشريان المقطوع ثم أربطه. في هذه الحال، لن
 
 
 
 
149

143

السادس

 يتوقف النزيف فقط، بل ستسلم يدي وتخفّ إمكانية تعفنها وفسادها".


فورًا ومن دون أن أتفوّه بكلمة لحسين، باشرت أبحث بأصابع يدي اليسرى عن الشريان المقطوع. أدخلت أصابعي داخل الجرح وتتبعت الدم الدافئ الذي يسيل منه، فإذا بي أجد الشريان الكبير. أمسكت رأس الشريان بأصابعي وضغطت عليه، وحين رفعت يدي تبيّن لي أنّ النزيف قد توقّف. ولكي أتأكّد أكثر، كرّرت الأمر مرّات عدة. أي إنّني كنت أفلت الشريان من يدي، فأجد أن الجرح ينزف مرة ثانية، وحين أضغط عليه بأصابعي، يتوقّف النزيف، وهكذا فهمت أن الشريان الذي أمسكه بيدي هو الشريان المطلوب لأنّه هو الذي ينزف ويخرج الدم منه بقوة.

خلال دورة الإسعافات الأولية، سمعنا أن الشريان مرنٌ قابل للتمدد. لذلك حاولت، سحب الشريان إلى خارج الجرح، وقد تمّ هذا الأمر بسهولة تامة. في هذه اللحظة، قال صديقي بقلق: "حسنًا، سأربط ساعدك في أعلى الجرح مرة ثانية..".

قاطعت كلامه ثم سألته: "حسين، هل معك خيط؟".

تعجّب كثيرًا لطلبي، فبمَ سيفيدني الخيط الآن؟ لكنّه فرح في الوقت نفسه لعلّي وجدت حلًّا. في البداية قال: "خيط؟ لا ليس لدي أي خيط".

قلت: "اسمع، لقد أمسكت الشريان المقطوع بيدي. لكن أصابعي ترتجف، ولا يمكنني أن أمسك به طيلة الوقت. إذا وجدنا خيطًا، يمكنني أن أربطه، وبالتالي أوقف النزيف".

سكتنا نحن الاثنان للحظات، ثم قال لي: "نعم، معي مسبحة".

بسرعة، سحب المسبحة من جيبه، قطع الخيط بأسنانه، وضع حبات المسبحة في جيبه ثم جهّز الخيط . قلت له: "اسمع، إن الشريان
 
 
 
 
150

144

السادس

 الآن، بين إصبعيّ، عليك أن تربط الخيط خلف إصبعي بشكل جيد". وهكذا بدأ ينفّذ ما طلبته فورًا.


ثم أفلتّ الشريان بحذر. كان كالمطاطة المشدودة، إن تُركت عادت لحجمها الطبيعي، وهكذا عاد الشريان فدخل إلى الجرح مباشرة ساحبًا الخيط معه. وها هو النزيف قد توقف. كاد حسين أن يطير من الفرح. بقي علينا أن نلفَّ الجرح بقطعة قماش. أي بمعنى آخر يجب تضميده. قميصي الداخلي، الذي تحول سابقًا إلى حبل مطاط كان غارقًا بالدماء. ولم يعد لديّ سوى بنطالي العسكري. طلبت من حسين أن يمزّق أسفل بنطالي لتضميد جرحي. مزّق حسين البنطال بأسنانه، وحصل على قماشة عرضها حوالي العشر سنتيمترات، لفّها حول يدي اليمنى، ثم ثبّتها بالحبل المليء بالدماء (قميصي السابق). ثم قال: "بما أن بالنا قد ارتاح الآن، لننم قليلًا".

طلبت منه راجيًا أن يعطيني قربته كي أشرب. قلت له: "لقد خسرت الكثير من الدم، ويحتاج جسمي إلى الكثير من الماء كي أعوّض ما خسرته. لو سمحت اشرب أنت أولًا وأعطني ما يتبقى".

وهذا ما فعله. بعد أن شربت الماء إلى آخر قطرة في القربة، قلت لحسين إنّه علينا ترك مكاننا هنا. وليس من المفروض البقاء هنا، بل نحن مجبورون على ترك المكان، والذهاب إلى الحرج لنحصل على الماء أولًا، ثم لنكون في مأمن من العدو حيث لا يستطيع رؤيتنا.

لم يوافق حسين على اقتراحي وقال مبرّرًا رفضه إنّه ما زال هناك حوالي سبع أو ثماني ساعات تفصلنا عن الصباح، لننم هنا ساعة واحدة فقط ثم نتحرّك. ثم أوضح لي أنه لم ينم خلال الأيام والليالي الثلاثة الماضية إلا بضع دقائق. لقد كان محقًّا. فأنا أيضًا بسبب الإنهاك والتعب، لم أكن أريد التحرّك من مكاني. لذلك أكّدت على
 
 
 
 
151

145

السادس

 حسين أن لا ننام إلا ساعة واحدة فقط. فعلينا الانتقال إلى الحرج تحت الأشجار في عتمة الليل. وإذا بقينا غارقين في النوم، مع طلوع الشمس، سيرانا العراقيون بسهولة كبيرة من موقعهم في الأعلى، وبالتالي، سوف يستهدفوننا مباشرة. وهكذا، نمنا نحن الاثنان في مكاننا قرب الصخرة.


كان الطقس في الليل باردًا وزاد الطين بلّة ذلك النزيف الذي حصل لي من جهة، واللباس الذي كنت أرتديه من جهة ثانية، فصرت أشعر بالبرد أضعافًا مضاعفة. لكن الإحساس بالتعب والإنهاك وعدم النوم قد تغلّب على شعورنا بالبرد، فغرقنا معًا في نوم عميق. ولم نشعر بمرور الوقت، فامتدّ نومنا لساعات هناك.
 
 
 
 
152

146

السابع

 السابع


ما إن لاحت أولى علامات الصباح، حتّى قفزنا من نومنا مصدومين على صوت انفجار. نعم، فعلى ما يبدو رآنا العراقيون من أعلى التلة، فرموا علينا قذيفة (B7) أو قذيفة هاون. أيًّا كانت، فقد تخطت الصخرة ووقعت على بعد عشرين مترًا وانفجرت حين لامست الأرض لتملأ الفضاء من حولنا بالغبار والدخان. مباشرة زحفنا نحو الأسفل واختبأنا مرة ثانية تحت الصخرة، وبالتالي أدركنا الخطأ الذي ارتكبناه. فالصخرة تحمينا من الانكشاف المباشر لنا. لكن القلق الذي اعترى حسين كان لسبب آخر، فماذا لو لاحقنا العراقيون إلى هنا. إلّا أنّ استمرار إطلاق النار باتجاهنا يطمئن أنهم لا يفعلون، بل يهدفون إلى إصابتنا من أعلى التلة والقضاء علينا. على كل حال، هم أدركوا الآن أنّ مقاتلَين منّا موجودان في أسفل التلة. لذلك لم يكن بإمكاننا ترك الصخرة بأي شكل من الأشكال، وإلا صرنا في مرمى نيرانهم.

ووجدنا أن لا حيلة لدينا. فكان علينا البقاء خلف الصخرة بانتظار حلول الليل. لنتخذ العتمة غطاءً، ونتحرك نحو الأسفل. تيمّمنا وصلينا الصبح ونحن جالسان. كان العراقيون، يرمون قذيفة بين الحين والآخر وكأنهم من خلال إصلاح إحداثية مكاننا يحاولون جاهدين إصابتنا. لكن، وبسبب وجودنا على منحدر قوي، كانت القنابل تقع فوق رؤوسنا في أعلى الصخرة أو تقع على بعد أمتار تحتنا. وكيفما كان، مرت الساعات واحدة بعد الأخرى ونحن صامدان في المكان نفسه.
 
 
 
 
 
153

147

السابع

 على كل حال لم نواجه أيّ مشكلة حتى ظهيرة ذلك اليوم، لقد كنّا نعاني فقط من الجوع والضعف وألم في البطن بسبب انقطاعنا عن الطعام والشراب لعدة أيام، وكان هذا الأمر يضغط علينا كثيرًا. لكن مع بدء سطوع الشمس علينا بشكل مباشر، بدأت مشكلة العطش تتزايد شيئًا فشيئًا. تحمّلنا هذا الوضع الصعب حتى الثانية بعد الظهر، لكن بعدها لم نعد نستطيع تحمل الجوع والعطش أبدًا. فقد جفّ لساننا وحلقنا وكنا نلهث طيلة الوقت. كان الحرج (حسب تسميتنا) يظهر لنا بوضوح في أسفل الوادي على يسارنا، ويلمع في وسطه جدول ماء عذب جميل يبدو على شكل خطّ فضي. كان يفصلنا عن الحرج مسير حوالي عشرين دقيقة. لكن في الوقت نفسه لو أتينا بأقل حركة، لاستطاع العراقيون قنصنا بسهولة كبيرة.


قال حسين إنّه لم يعد يستطيع التحمل، وعلينا الاتكال على الله والنزول، لكنّني جعلته يتراجع عن فكرته، حيث لا شك أنّنا لو قمنا بهذا العمل وتحركنا لأمتار سنكون في مرمى النار.

كلما تقدّم الوقت، كانت حرارة الطقس تزداد أكثر فأكثر، ما جعل مقاومة هذا الوضع غير ممكنة. لم نعرف كيف صمدنا ساعة أخرى. فقد صارت الحجارة ساخنة، وكأننا نحتمي بالنيران. ولأنني كنت عاري الصدر، احترق جلدي، وفقدت القدرة على تحمّل الحرارة والعطش. قلت في نفسي: "إذا بقينا هنا، سنموت من الحر والعطش، لذلك أعتقد أنه من الأفضل أن نغامر وننطلق إلى الأسفل".

عدتُ وتشاورت مع صديقي في هذا الموضوع، وتشجّع للأمر وكأنّه كان ينتظر قراري هذا بفارغ الصبر.

مباشرة، بدأنا نقرأ "وجعلنا"، وكرّر كلٌّ منا الآية عشر مرات. ثم تلونا الآية الشريفة: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
 
 
 
 
154

148

السابع

 السُّوءَ﴾ (النمل/ 62) اثنتي عشرة مرة. ثم شرعنا نتوسّل بالمعصومين الأربعة عشر بالدموع والتضرع. بعدها وبمدد الله القادر المنّان وتحت رعاية وحفظ ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف انطلقنا نحو الحرج.


منذ ليلة أمس، صارت قدماي مخدّرتين بالكامل ولا أكاد أشعر بهما. سلب النزيفُ والضعف منّي القدرةَ على الوقوف والمشي وحدي. لهذا السبب، رميت بثقلي على "حسين" وبدأ يسحبني على مهل إلى الأسفل. كان الانحدار شديدًا، وكانت حركتنا بطيئة. كنت أنتظر في كل لحظة أن نسمع صوت انفجار قنابل أو رشاشات العدو التي قد تهز المنطقة حولنا.

باستطاعة الأعداء رؤيتنا بالعين المجردة وبالتالي استهدافنا. ومع ذلك تقدّمنا نزولًا من دون التوقّف عن تكرار الذكر والدعاء بكل خضوع. حينها، تحمّل حسين العناء الكبير. لأنه بالإضافة إلى كونه شخصيًّا يعاني من مشكلة في الحركة بسبب العطش والجوع، عليه أيضًا أن يتحمّل عناء وزني وسحبي معه طيلة المسافة.

مرت فترة من الخوف والانتظار. لكن انتظارنا لقنابل الأعداء قد طال. وكأن العراقيين قد فقدوا بصرهم ولا يستطيعون رؤيتنا. فالعدو الذي رمى علينا منذ الصباح عشرات القنابل والقذائف، ها هو الآن لا يقوم بأي ردّ فعل، على الرغم من وجودنا أمامه مباشرة. لقد قطعنا المنحدر الشديد بصعوبة كبيرة في وقت تراوح بين عشرين وثلاثين دقيقة ووصلنا إلى الأرض السهلة في نهاية المنحدر. كنّا نحتاج إلى خمس دقائق للوصول إلى الحرج وأشجاره وذلك بسبب الوضع الذي كنت عليه، وبالتالي الآن، يستطيع العراقيون رؤيتنا بوضوح أكبر، لأن الأرض سهلة والتصويب عليها أسهل بكثير. لكن هذا العدو العجيب لم يطلق أي رصاصة، بينما نتابع نحن طريقنا بإرباك شديد.
 
 
 
 
155

149

السابع

 كنت وما زلت أعتقد أن لطف الله ومدده قد أعمى بصر العدو عنّا، فلم يَرنا، وهذه معجزة شملت حالنا بلطفها، وعندها أدركت بكل وجودي تأثير الآية الشريفة "وجعلنا"، وتذوّقنا طعم التوسل والدعاء والمناجاة.


ما إن وصلنا إلى الحرج الأخضر، وتداعى إلى مسمعنا صوت الماء الرقراق حتى توجهنا نحو الجدول. أجلسني حسين قريبًا وقفز هو بسرعة إلى الماء. أنا أيضًا ولشدة العطش والحر ومن دون التفات إلى جراح كاحلي، سحبت نفسي وارتميت في الماء. رفعت يدي اليمنى إلى الأعلى، واتّخذت وضعية الجلوس ثمّ انغمست حتى رقبتي وبدأت أشرب.

يبلغ عرض النهر حوالي ثمانية أمتار وعمقه لا يتجاوز سبعين سنتيمترًا، وهو يتهادى بين الأشجار. تظهر في الوسط بوضوح الصخور التي انزلقت عن المنحدر أثناء انهيارات سابقة، واستقرت على الضفّتين لينزلق الماء فوقها فتبثّ موسيقى متناغمة جميلة. بعد اللعب بالماء لوقت طويل، بالإضافة إلى الغطس داخله من الرأس حتى القدمين، خرج رفيقي من النهر واتكأ إلى جذع شجرة يطلب الراحة.

صارت المياه حولي حمراء اللون. صدمت للحظات ظنًّا مني أنه نزيف قدمي أو جراح ظهري. لكنني عرفت مباشرة أن هذا اللون ناتج عن تحلل الدماء الجافة التي كانت قد تجمّدت على ملابسي.

مرت دقائق على هذا النحو، إلى حين شعرت بالبرد، فساعدني حسين للخروج من الماء حيث جلسنا على الضفة وأخذنا نتمتّع بمشاهدة المناظر من حولنا. نبتت حول النهر أشجارٌ عدّة، كبيرة، بأغصان وأوراق وارفة متصل بعضها ببعض، بحيث صارت سقفًا أخضر فوق المكان. شكّلت الأشجار ونبع الماء مشهدًا جميلًا، يشبه كثيرًا ما نشاهده في شمال إيران الأخضر.
 
 
 
 
156

150

السابع

 الطقس الجميل والرطب الذي يرافقه صوت الماء والطيور أزاح عن أجسامنا التعب والإنهاك. كان الجدول صافيًا وزلالًا وشفافًا، لدرجة يمكن رؤية الأحجار الصغيرة في قعره. بين الحين والآخر كان النسيم يحرك أوراق الشجر فيتسلل ضوء الشمس عبرها ويسطع على سطح الماء فيلمع كعمود من الفضة. في الطرف الآخر للجدول، مباشرة بعد الأشجار، جبل مرتفع شاهق نحو السماء، وهو في الواقع السلسلة الثانية للجبال الموازية لمرتفعات "2519".


كانت ملابسي مبلَّلة، وكنت أشعر بالبرد. في هذه الأيام والليالي المليئة بالتوتر والصدمات، لم تسنح لي الفرصة أبدًا للتفكير بأيام الأسبوع. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار يوم العمليات، عرفت أننا في الرابع من مرداد 1362هـ.ش./25تموز 1983م. اتكأتُ ساعة كاملة إلى جذع شجرة أتأمل المناظر من حولي براحة ومن دون التفكير بأي أمر. بعد أن شعرت بالراحة، بدأت أفكر بالبحث عن شيء نأكله. لم يسبق لي أن بقيت لعدة أيام من دون طعام. فخلال هذه الفترة، كنت أشعر باستمرار بألم في معدتي، كما إنّ بطني انكمش بشكل واضح والتصق بظهري. زيادة على ذلك، بما أنّنا كنّا ننوي التحرك نحو مواقع شبابنا عند المساء، فلا بد من تناول غذاءٍ ما كي نقوى على المسير لساعات عدة.

إنه اليوم الثالث الذي لم نأكل فيه، بل شربنا الماء فقط. ولو استمر جوعنا على هذا النحو، فليس من المعلوم إذا كان يمكننا طيّ مسيرٍ يبلغ طوله حوالي ثمانية عشر كيلومترًا لنصل إلى محاورنا.

كنت أقول في نفسي، إنه لا بد من وجود أشجار مثمرة بين هذه الأشجار الكثيفة. وخاصة أنه فصل الصيف ومن المفترض أن تكون ملأى بثمارها. شخصيًّا لم أكن قادرًا على الحركة. لذلك في البداية،
 
 
 
 
157

151

السابع

 بينما كنت جالسًا، أجلت بنظري على الأشجار الموجودة حولي، لكن كل الأنواع كانت من دون ثمر. لذلك قلت لحسين: "ابحث في الحرج قد نجد شجرة مثمرة بين كل هذه الأشجار". تحرّك رفيقي بسرعة، ابتعد لدرجة لم أعد أراه. لكنه عاد خالي الوفاض وقال إنّها كلّها غير مثمرة كشجر الدلب. غرقت في التفكير: "ما الذي علينا فعله؟ لن يمكننا الحركة بهذا الوضع! فوصلت إلى نتيجة أنّه لا حيلة لنا إلا أكل أوراق هذه الأشجار. لذلك قلت لحسين: "اقطف بعض الأوراق من أشجار الحرج واغسلها بالماء، لنأكل ما يمكن أكله منها".


كنت مصرًّا على تقوية جسمي بأي طريقة، كي نستطيع التوجه نحو مواقع قواتنا. وهكذا، انطلق حسين فورًا لقطف الأوراق عن بعض الأغصان، ثم غسلها واحدة واحدة بالماء. بدأنا بالأكل. أكل كلٌّ منا ورقتين أو ثلاثًا، وذلك بصعوبة وانزعاج شديدين، إذ إنّ مذاقها كلّها مرّ وتشمئز النفس من طعمها لدرجة بدأنا باستفراغ ما أكلناه. بعد يأسنا من هذه الخطوة، استنتجنا أنّه علينا تحمل الجوع إلى أن نصل إلى مبتغانا. حاولت كثيرًا التفكير بطرق أخرى للتقوّت، لكنّها كلها باءت بالفشل.

جلسنا أنا وحسين بهدوء ومن دون أي حركة، وغرقنا في تفكير عميق. فجأة وقف حسين من مكانه وبدأ بجمع الحجارة. ثم صوّب بدقة وصار يرمي الحجارة على الغربان فوق الأشجار، لعلّه يصيب أحدها. لكن هذه المحاولة أيضًا فشلت ولم نصل إلى أي نتيجة. وبقي حسين يحاول، إلى أن يئس فجلس على الأرض متعبًا. ضحكت وقلت له: "وهل تذوّقت من قبل لحم الغراب؟".

ضحك بدوره قائلًا: "بالطبع لا، ولكن عند الحاجة، ليس فقط الغربان، بل لحم الجرذان يصبح حلالًا".
 
 
 
 
158

152

السابع

 أجبته: "ولنفترض أنه يمكنك صيد غراب، هل ستأكل لحمه نيئًا؟".


ابتسم وأجابني بثقة: "بالطبع لا، سأشويه لك في الميكروويف".

ضحكنا معًا ثم خيّم سكون وغرقنا مرة ثانية في التفكير. بعد دقائق، بينما كنت مركّزًا نظري على مدى الحرج، لفت نظري فجأة وعلى مسافة بعيدة، أوراق عريضة. وكأنها أوراق عريشة عنب. دققت أكثر، فتأكّدت أنها عريشة.

قلت: "حسين، يوجد هناك عريشة. ومن الممكن أن يكون عليها بعض العناقيد".

قال دون اكتراث: "لا، لا أعتقد، لقد ذهبت إلى هناك أيضًا".

شككت قليلًا فيما رأيت، لكنني طلبت منه بإصرار أن يذهب إلى المكان مرة ثانية ولأجلي هذه المرّة. وقف حسين وهو خائر القوى وتوجه إلى حيث أشرت إليه وقلت له وهو يبتعد: "حتى لو لم يكن عنب على العريشة، فإن أوراقها حامضة المذاق".

بعد أن وصل حسين إلى عريشة العنب، رأيته وهو يقطف بمنتهى السرعة الأوراق، ثمّ يعود محتضنًا كمية كبيرة. حين وصل إليّ قال لي مسرورًا: "لم أجد عنبًا عليها، لكنّني جلبت الأوراق".

بعدها قام بغسل الأوراق بالماء، أكلناها بشهيّة. كانت هذه الوجبة، بعد ثلاثة أيام من الجوع والضعف، لذيذة جدًا. وكأنني لم آكل وجبة بهذه اللذة في حياتي. كان طعم الأوراق حامضًا، أكلنا منها ولم نشبع. بعد أن انتهت كمية الأوراق التي جلبها حسين، ذهب مرة ثانية وقطف كمية إضافية. وفي هذه المرة شبعنا بعد أن أكلناها كلها. فشكرنا الله تعالى لكل هذا اللطف بحقنا ولعنايته بنا. شعرت بعد ذلك أن جسمي بدأ يستعيد قواه التي فقدها خلال الأيام الماضية.
 
 
 
 
159

153

السابع

 جلسنا أحدنا بالقرب من الآخر، مرتاحي البال ونحن ننتظر، يغلبنا النعاس أحيانًا فنغفو ثم نستيقظ. لقد اتخذنا قرارنا الحاسم: أن ننطلق إلى جهة الشرق ما إن يهبط الليل ويحلّ الظلام. لم نكن نعرف طريقًا خاصًّا لنسلكه. لأن هذا المحور قد تغيرت معالمه، ففي الأيام الأولى للعمليات هجمنا على التلة من جهة السلسلة الأولى لمرتفعات "2519" وها نحن الآن في الجهة المقابلة خلف التلة بالقرب من السلسلة الثانية للمرتفعات المذكورة.


أعتقد أن نهر الماء الذي ينطلق من ناحية الشرق ويتجه نحو الغرب يوصلنا إلى مسافة قريبة من جادة الإمداد التي يعتمد عليها العدو. على كل حال، وبما أننا لا نعرف الطريق المؤكّدة التي علينا أن نسلكها، يعتبر المسير نحو الشرق أصوب من المسير نحو أي جهة أخرى. قبل أن يحلّ الظلام، علينا تجهيز أنفسنا والاستعداد للانطلاق. تشاورت مع حسين حول هذا الموضوع. كنت أرتدي بنطالًا فقط، وكانت جواربي قد تمزقت بسبب سحبي من دون حذاء على امتداد التلة. كان باطن قدميّ مليئًا بالجراح المحرقة والمؤذية، فإذا ما لامست شيئًا انتابني ألم شديد جدًّا.

كنت أتوقّع أن يزول تخدير قدميّ بعد أن تناولت ورق العنب وشربت الماء واسترددت عافيتي. كنت أقول في نفسي إنّ هذه الحال ناتجة عن ضعف الدم، وإنّ تناول الطعام والماء سيساعدان على جريان الدماء من جديد في أطرافي، وبالتالي سأتمكن من الشعور بقدرة قدميّ. لكنّ انتظاري طال...

بتُّ على يقين أنني لن أقدر على المشي بقدر تأكدي من أن حسين لن يستطيع حملي على ظهره مسافة 18 كلم. لذلك كان عليّ الاتكاء على قدميّ، كما لو كانتا قاعدتين أتكئ عليهما حتى يخف ضغط وزني
 
 
 
 
160

154

السابع

 ولا يتحمّله حسين بالكامل، وفي سبيل ذلك أحتاج إلى زوجي حذاء. أردت في البداية، أن أغطي باطن قدميّ بطرف بنطالي، لكن حسين وجد بالقرب من مجرى النهر، مطرة بلاستيكية مكسورة كانت قد علقت على غصن شجرة. إلّا أنّ رائحتها كانت نتنة، وتشبه رائحة الجيفة. لكنّها كانت الوسيلة الوحيدة لصنع حذاء. سحبت جوربيّ من قدميّ، وطلبت من حسين أن يقطع المطرة إلى جزءين متساويين لوضعهما في القدمين. ثم عقدتُ عقدةً في طرف كل جورب ووضعتهما مقلوبين في كل قدم، وهكذا تحوّل أسفل قدميّ إلى كومة من القماش.


ما لبث الليل أن بدأ يسدل ستائره علينا. بعد أن تناولنا آخر وجبة لنا من ورق العنب الذي غسلناه، قلت لحسين: "الليلة أيضًا ستتعذّب معنا، وأنا أخجل منك لأنني لن أستطيع المشي، ولكن لا حيلة لديّ. إن شاء الله سأكافئك في المستقبل لهذه المحبة كلها". نظر إليّ حسين وابتسامة الرضى ترتسم على وجهه.

بعد أن خيّم الظلام بالكامل، شرعنا بالصلاة. ملأ حسين مطرته بالماء. ثم جلس بالقرب مني، وضع يدي اليسرى حول رقبته، ووقفت معه بعد أن استندت إلى الأرض. على العموم، لم أكن قادرًا على الوقوف، لكنني حاولت أن أنقل وزني على قدميّ لأخفّف عن حسين فيخفّ تعبه، وهكذا بدأ مسيرنا نحو الشرق. كان المشي على هذه الحال صعبًا جدًّا وبطيئًا في الوقت نفسه، خاصة بين الأشجار والأغصان.

بعد حوالي خمس عشرة دقيقة، أحسست من لهاث حسين أنه تعب كثيرًا. فسألته: "هل تعبت؟".

لم يُجب بأي كلمة. قلت : "فلنسترح إذًا".

بعد الاستراحة، تحرّكنا من جديد. هذه المرة، مشينا مدة أقصر
 
 
 
 
161

155

السابع

 وشعر حسين بالتعب بسرعة أكثر من المرة السابقة. لذلك جلسنا على الأرض مرة ثانية. خلال ساعة من المشي، تكرر هذا الوضع مرات ومرات. في الحقيقة، مشينا حوالي الساعة، لكننا لم نبتعد سوى مئتي متر عن مكاننا الأول.


مرت ساعتان على هذا النحو، وها هو حسين في النهاية يصرخ قائلًا: "لم أعد أستطيع المشي أبدًا". وارتمى على الأرض.

قلت له: "لا يمكننا البقاء هنا. علينا الاستمرار في المشي وإلا إما سنموت من الجوع وإمّا سنقع بيد العراقيين. فإذا ما بذلنا بعض الجهد وتعبنا قليلًا سنرتاح بعدها كثيرًا. وحين نصل إلى قواتنا سيستقبلوننا بحرارة و...".

لكن حسين المتعب كثيرًا، خالفني الرأي وقال: "هذه الليلة، لم أعد قادرًا أبدًا على الاستمرار. فلا بدّ أن نرتاح الليلة وننام هنا وغدًا مساءً، نكون قد صرنا أقوى من هذه الحال فنكمل المسير".

لا مفرّ أمامنا، حتى أنا كنت أشعر بتعب شديد، وجفناي يتثاقلان لشدة التعب والنعاس. لكن ليس من المحبّذ النوم في هذا المكان، لأن تراكم الشجر هنا قليل جدًا، وما إن يطلع الصباح سيرانا الأعداء مباشرة، بالإضافة إلى ذلك علينا أن نبقى بالقرب من عريشة العنب كي نأكل الورق كلما شعرنا بالجوع في الليلة واليوم المقبلين. لذلك، عدنا من الطريق الذي أتينا منه بمشقّة كبيرة، ووصلنا حوالي الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة إلى الحرج بالقرب من النهر وغفونا مباشرة تحت الأشجار على بعد أمتار من الماء.

كان الطقس في الحرج باردًا، لم يسمح لنا بإغماض أعيننا، ومع تقدّم الليل تزداد البرودة. عندما كنت أرتجف رحت أحتضن قدميّ.
 
 
 
 
 
162

156

السابع

 ولاحظت أنّ حسين أيضًا مستيقظ. سألته: "لماذا لا تنام؟".


- أشعر بالبرد ولا أستطيع النوم.

اقتربت منه، لعلّ حرارة جسمينا تساعدنا على تدفئة بعضنا بعضًا، فنغفو قليلًا. على كل حال، مرت الليلة بصعوبة، ولم يستطع أيٌّ منّا النوم أبدًا، وبقينا نرتجف حتى الصباح.
 
 
 
 
163

157

الثامن

 الثامن


ما إن بزغ الفجر حتى أقمنا الصلاة في مكاننا، وجلسنا ننتظر طلوع الشمس. وها نحن في النهاية نشهد تسلل الأشعة من بين أوراق الشجر لتطبع قبلتها الأولى على تراب الحرج. قررنا أن نعوّض عن أرق الليلة الماضية بالنوم تحت أشعة الشمس الدافئة حتى الظهر. على الرغم من جوعنا وتعبنا فإنّ الحاجة إلى النوم دفعت كل واحد منا إلى الانسحاب واختيار مكان دافئ حيث شمس الصباح أكثر حضورًا. أهدى الشعاع دفئًا ممتعًا طيّبًا لأجسادنا المتجمدة، ما أدى إلى أن نغطّ في نوم عميق نحن الاثنان. عند الظهيرة تقريبًا، استيقظت من النوم لشدة الجوع وأيقظت حسين، فتوجّه إلى مكان العريشة التي أظن أن الله قد أنبتها هنا لأجل إنقاذنا وإبقائنا على قيد الحياة، وأحضر كمية كبيرة من ورق العريش كي نتناوله كوجبة غداء. تحتاج يدي، لتغيير قماش الضمادة، فقد مرّ يومان ولم أبدّلها. طلبت من حسين، أن يتكفّل بهذا العمل مشكورًا. ها هو ينظف جرحي للمرة الأولى، وحاول قدر المستطاع أن يزيل الدماء الجافة ويغسلها بالماء، ثم لفّ الجرح بقماش مزقه من بنطالي، وهكذا بدأت حياتنا الجديدة.

في تلك الليلة أيضًا، تكرّر الأمر نفسه الذي قمنا به في الليلة السابقة. فقد مشينا المسافة نفسها، أو أقل منها، ثم شعرنا بالتعب وأجبرنا بالتالي على العودة إلى مكاننا الأول. كنا نبعد حوالي 18 كلم عن قواتنا في الوقت الذي لم نكن قادرين فيه على التحرّك لنصف
 
 
 
 
164

158

الثامن

 كيلومتر فقط. إنّ تصوّر المسافة البعيدة من جهة، وشعورنا بالتردّد حول اتجاه الطريق، من جهة أخرى، أدّيا إلى سيطرة اليأس والبرودة النفسية علينا.


هل يوصلنا هذا الطريق حقًّا إلى قواتنا الإسلامية؟ ألن تعترضنا دشم وخنادق قوات "الكوملة" والديموقراطيين؟ لو صادف واتجهنا شرقًا ثم وصلنا إلى سفح جبل عالٍ واضطررنا لعبوره، فماذا سنفعل؟ كيف يمكننا أن نقطع 18 كلم بوضعنا الحالي هذا؟

شغلت هذه الأسئلة وأسئلة أخرى ذهننا، وأدت إلى شعورنا باليأس والصدمة. لو كنت أنا قادرًا على المشي لاختلف الوضع تمامًا. لكن كيف يمكنني أن أتوقع من حسين الذي يصغرني بسنوات والذي صار جسده نحيلًا كالعود بسبب الجوع والتعب، أن يحملني هذه المسافة الطويلة أيضًا؟ في الحقيقة، هو لن يستطيع حمل جسمي الأثقل منه بأكثر من 15 كلغ. لذا لن أعطي لنفسي الحق بأن أضغط عليه وأتسبب بإزعاجه أبدًا.

كانت الأيام تمر يومًا بعد آخر. نمضي الليل بتعب شديد وبرد قارس، ثم ننام من الصبح حتى الظهر تحت أشعة الشمس. في أحد الأيام، بعد الظهر، كنا قد نمنا بشكل كافٍ، وتناولنا كمية وافية من ورق العنب، قال لي حسين إنّه يشعر بالملل بسبب البطالة وقلة العمل الذي يمكن أن يملأ وقتنا. فكّرت كيف أساعده على حل هذه المشكلة. إلى أن قلت له: "أذكر حديثًا عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: "أثقل ما يوزن في الميزان يوم القيامة، الصلاة على محمد وأهل بيته". (وسائل الشيعة، ج7، ص179).
 
 
 
 
165

159

الثامن

 استقبل حسين هذا الحديث استقبالًا حارًّا، ومنذ ذلك الوقت، كنت أراه منشغلًا معظم الأوقات بالصلاة على محمد وآل محمد.


على الرغم من أننا نملك الآن كمية وافرة من ورق العنب لكي نتغذّى بها، لكن هذا الطعام، لم يكن يفينا حاجتنا الغذائية المتكاملة. فحموضة الأوراق، وبالتالي كونها أسيدية قد آذى معدتينا. كنا نتألم بشكل مستمر. فقد كان أكثر ما يزعجنا المشكلات والآلام الناتجة عن سوء التغذية، والإرباك الذي حصل لجهازنا الهضمي، لدرجة يمكن إن وصفتها أن يضعني ذلك خارجًا عن الأدب.

في اليوم التالي، أي اليوم الرابع لوجودنا في الحرج، توصّلنا إلى أن حركتنا الليلية لن تفيدنا أبدًا. فلا نتيجة لها سوى أننا نمشي، ثم نتعب، ثم نعود إلى مكاننا الأول. لذلك قررنا البقاء حيث نحن بانتظار التقدير الإلهي. كنت آمل، أن تستمر العمليات وأن يفتح الشباب المنطقة، وفي النهاية ننجو نحن أيضًا.

أجل، حين فقدنا أي أمل بعودتنا إلى الخطوط الخلفية، كنت أفكر فقط بعمليات إخواننا الضرورية والواجبة لتحرير المعبر والحفاظ على ثكنة "الحاج عمران". لا خيار لنا سوى رفع معنوياتنا بنقطة الأمل هذه. عندها، بدأنا نفكر بتجهيز مكان مناسب يحمينا من برد الليل كي ننام فيه.

في البداية، فكرنا بحفر الأرض وبالتالي الحصول على مكان منخفض، لكن لم يمضِ سوى وقت قليل حتى وجدنا حفرة بعمق نصف متر تقريبًا. على الرغم من أنها لا تسعنا نحن الاثنين كي ننام بداخلها، لكن ضيق مساحتها يساعدنا أكثر على تكوّر أحدنا على
 
 
 
 
166

160

الثامن

 الآخر، والاحتماء من الهواء البارد ليلًا. بدأ حسين بواسطة قطعة خشب، ترتيب أرض الحفرة وتنظيمها وزيادة عمقها قليلًا. ظلّ مشغولًا لساعات بهذا العمل وفي النهاية زاد عمقها حوالي عشرين سنتيمترًا وصارت أرضها مسطحة وممسّدة. بعد أن أنهى هذا العمل، بدأ يجمع أوراق الأشجار، وبعد أن جمع كمية كبيرة منها، غطى أرض الحفرة بها، وها هي الأوراق تصبح كالفِراش في داخلها. بعد أن انتهى من هذا العمل، شرع بكسر أغصان الأشجار الكثيفة، كي يستعملها كغطاء على الحفرة يمنع قدر الإمكان تسرب الهواء البارد إلى الداخل.


كنت أفكر أنه إذا لم يحصل أي أمر مفاجئ، يمكننا تحمّل هذا الوضع لعشرة أيام قادمة. وفيما يتعلق بالطعام، فإنّ أوراق العريش المتوافرة بكثرة تكفينا طيلة هذه المدة، والمياه أيضًا متوافرة بالقرب منا. أمّا أكثر ما أقلقني بالفعل فهو جرح يدي الذي ازداد التهابه بسرعة كبيرة ومع انتشاره أقترب من الموت أكثر فأكثر.

كنت أنظف جرح يدي وأضمده كل يوم. وكان حسين يغسله بقماش مبلل بالماء ثم يلفه من جديد. كان الجرح عميقًا لدرجة كنت أستطيع أن أرى بسهولة اللون الأبيض لعظام يدي. كنا نحصل على القماش من ساق بنطالي حيث كان رفيقي يمزق كل يوم قطعة من أسفل البنطال. وهكذا ظلّ يتناقص حتى وصل بنطال بذلتي العسكرية إلى الركبة. وتحوّل إلى "شورت". كنت متأكدًا أنه لولا هذه الخطوات التي نقوم بها لكنت متّ خلال فترة قصيرة بسبب الالتهابات وانتشارها، ولكان حسين قد قضى نحبه بعد فترة بسبب الجوع والتعب والضعف.

في اليوم الرابع، حوالي الظهر، خطر على بالي فكرة قررت أن أعرضها على حسين بطريقة مناسبة لعلّي أقنعه بها. ها أنا أبتدئ الحديث معه قائلًا إنّه علينا التفكير بشكل منطقي ونحلّل الوضع
 
 
 
 
167

161

الثامن

 الذي نحن فيه، وبالتالي اتخاذ القرار المناسب، لأن اللامبالاة هذه قد تقضي علينا معًا عاجلًا أم آجلًا. ثم قلت له: "لقد توصلنا نحن الاثنان إلى هذه النتيجة، أننا غير قادرين على الوصول إلى مواقع قواتنا، وقررنا البقاء هنا. لكن علينا دراسة وتوقّع النتيجة التي سنصل إليها، فهل هذا البقاء سيحلّ مشكلتنا؟".


قاطعني حسين قائلًا: "حسنًا وما الذي تقترحه؟ فحين لا نستطيع الذهاب علينا البقاء وانتظار ما هو مقدّر لنا...".

- اسمح لي بإنهاء كلامي. يتوجب علينا دراسة كل السبل وكل الإمكانات، لعلّنا نجد طريق الخلاص. فإذا لم نستفد من قدراتنا وأفكارنا وقضينا على أنفسنا سنتحمل المسؤولية. ويصبح كلامك صحيحًا حين نكون قد اختبرنا كل طرق الحل، ووجدناها مغلقة. لكننا إلى الآن، لم نقم بأي عمل. ما زال الوقت مبكرًا كي يسيطر اليأس علينا..

- حسنًا أنا لا أخالفك الرأي، لكن قل لي هل هناك من سبيل للنجاة؟..

- علينا أن نقوِّم وضعنا الحالي. انظر، لقد قرّرنا البقاء هنا. لكن ما هي نتيجة هذا البقاء؟ لنفترض أن العراقيين قد تركونا لحالنا ولم يزعجونا أبدًا... أولًا، أنت تعرف أن جرح يدي هو في حال التهاب متسارعة، وعاجلًا أم آجلًا ستصل هذه الالتهابات إلى الدم وسوف تقتلني في النهاية. في هذه الحال، ستبقى لوحدك. ثانيًا، إن مصدر غذائنا الوحيد هو أوراق العريش وماء الجدول. إن هذه الأوراق، تكفينا على أبعد تقدير لعشرة أيام وليالٍ، ولن يبقى لدينا بعدها سوى الماء نتغذى عليه. وسنموت نحن الاثنان جوعًا. على فكرة، لا أعتقد أيضًا أن أوراق العريش ستحمينا من الموت المحتم خلال هذه الأيام.
 
 
 
 
168

162

الثامن

 لأن طعمها حامض، أي أسيدي وقد تتضرر معدتنا وتذوي خلال الأيام القادمة وذلك قبل نفاد كمية الأوراق. إذًا في حال بقينا، سنصل إلى الموت المحتم. صحيح أنه علينا أن لا نفقد الأمل بالمدد الإلهي، لكن هذا لا يعني أن نضع يدًا فوق أخرى...


بعدها قال لي حسين الذي تعب من هذه المقدمة الطويلة متضجرًا: "حسنًا ماذا تقصد بهذا الكلام؟".

- إذا كان بقاؤنا هنا سيؤدي إلى الموت، علينا أن نفكر بطريق للرحيل عن هذا المكان ومن الأفضل أن نصل إلى نتيجة ما بسرعة، لأنّ كل يوم يمر، تضعف قوانا أكثر فأكثر ونخسر فرصة نجاتنا. اسمع، لقد توصلت إلى سبيل عاقل ومنطقي جدًا، لكن عليك أنت أن تقبله كي ننجح ونوفّق في طيّه. إنّنا مجبران على البقاء هنا، وذلك بسببي أنا وأوضاعي الجسدية وليس بسببك، لأنك بصحة جيدة وجسمك سليم وتستطيع المشي بشكل جيّد، وبالتالي يمكنك إنقاذ نفسك. لكنني لا أقدر على الحركة، وهذا هو سبب بقائك هنا، بينما لو انطلقت في اليوم الأول وحدك لكنت الآن بين الشباب. لكنك صبرت ولأجلي لم تذهب. إذًا، أنت تستطيع الذهاب وحدك لكنك لن تستطيع أخذي معك. نصل إلى هذه النتيجة، أن أفضل حلّ هو أن تتحرك الليلة نحو المشرق، وأن تمشي طيلة الليل، وإن شاء الله تصل غدًا صباحًا إلى قواتنا وتخبرهم عن مكاني فيأتون لإنقاذي. ولا تقلق بشأني أبدًا. فقط يكفي أن تنقلني إلى جوار العريشة كي آكل من أوراقها كلما جعت، وأبقى على قيد الحياة إلى أن يصل الشباب. في هذه الحال، ستنجو أنت وأنا. هكذا يكون الحل. اسمع يا حسين، إذا قمت بهذا العمل، سنكون نحن الاثنان غدًا مساءً بين شبابنا، لأنك ستصل غدًا صباحًا إلى منطقتنا وسيأتون في الليلة التالية لإنقاذي. وبعد يومين
 
 
 
 
 
169

163

الثامن

 سنكون قد نجونا كلانا معًا. اسمع، أنت شابّ مقاتل، وقرار رجولي واحد منك سينقذنا نحن الاثنين. حاول أن تقرّر بشكل عاقل.


كان حسين يستمع إلى كلامي وهو يلعب بورقة مطأطئ الرأس، ولا مبالاته تدل على رفضه لكل ما قلته. لذلك حاولت إقناعه بلهجة أخرى.

- إنه السبيل الوحيد أمامنا. إذا لم تذهب وبقيت هنا على هذه الحال، سأموت بعد فترة قصيرة بسبب انتشار الالتهابات وستبقى وحدك. وستُجبر حينها على تركي هنا والذهاب. بالإضافة إلى هذا، ستكون أضعف مما أنت عليه الآن، وقد لا تستطيع المشي عندها. إذًا أفضل ما يمكنك القيام به هو الانطلاق هذه الليلة، فتنجو أنت وتنقذني أيضًا. ولنفترض على العكس من ذلك نجوت أنت، لكن بعد موتي، فسيسيطر عليك الشعور بالذنب طيلة حياتك، وستقول في نفسك ليتني سمعت كلام فلان، لكان ما زال على قيد الحياة. لذلك عدني أن ترحل الليلة...

مرت لحظات من السكوت والانتظار. كان يجلس بطريقة جانبية لم أكن أرى وجهه. لكنني عرفت من نقطة دمع لامعة سقطت على الأرض أنه كان يبكي. كنت أعرف جيدًا مدى صعوبة القيام بهذا الأمر بالنسبة لحسين. لكنّه وقبل التفكير بصعوبة هذا الأمر، وبالمشكلات المترافقة مع رحيله، كان قلقًا عليّ، ولم يستطع القبول بفكرة تركي وحدي.

سحبت نفسي سحبًا إلى قبالته، ووضعت يدي حول كتفيه، وقلت له: "كن رجلًا، لا يجب أن تقلق عليّ، إن شاء الله سنكون قد نجونا حتى مساء الغد، ثم سنمضي معًا إلى أصفهان، ونعيش عمرًا مديدًا معًا كأخوين مقرّبين...

ها هو حسين، الذي كان يستمع لكلامي ويتحمّله، يبدأ بالحديث
 
 
 
 
170

164

الثامن

 فجأة ويقول لي وهو يبكي: "انسَ هذا الكلام نهائيًا، لن أذهب من هنا، فمن المستحيل أن أتركك وحدك. لن أتزحزح من مكاني هذا".


- أنا لا أطلب منك أن تتركني وحدي. بل أريد أن تنقذني. هل تريدني أن أموت وتقف بالقرب من جثماني لتندبني، ثم تترك جثتي هنا وترحل؟ بالله عليك فكّر بشكل منطقي وعاقل.

لكنه ظلّ مصرًّا على قراره وعلى إنكار ذاته. في النهاية قال: "لنفترض أنني قبلت بما تقوله، لكنني في الحقيقة لا أستطيع الذهاب وحدي، لأنني لا أعرف الطريق. والمنطقة مليئة بدشم وخنادق الأعداء. لا طاقة لي على المشي كل هذه المسافة. هل تعتقد أن وضعي أفضل من وضعك؟ إنّ قدميّ ترتجفان من الضعف والجوع. إذا ما مشيت مئة قدم، عليّ أن أستريح لنصف ساعة. أنا لن أذهب..".

لا فائدة من الإصرار ومن الضغط عليه. قلت في نفسي: لم يكن عليّ أن أزعجه بهذه الطريقة. إن ضعفه الجسدي يزعجه بما يكفي، يجب عليّ ألا أزيد من أزمته النفسية والروحية.

بعد تبادل هذا الحديث بيننا، مرّت لحظات من السكوت والهدوء. ولساعات عدّة مرت، كنت أشعر بحرقة مستمرة في جرح يدي. لذلك طلبت من حسين أن ينظف لي جرحي ثم يلفّه مرّة ثانية. حين فكّ القماش، فاحت رائحة العفن والالتهاب التي تشمئز منها الأنوف وأزعجتنا كلينا. فجأة، رأيت القيح الأبيض (الصديد) والدماء قد غطت كل الجرح، فوجب تنظيفه. لذلك رفعت يدي وطلبت من حسين أن يخرج كل التقرحات من خلال الضغط على طرفي الجرح. كلما كان يضغط، كانت بعض التقرحات تخرج من يدي وتنزل على التراب. نظّف حسين قطعة القماش السابقة بالماء، وبعد أن عصرها وجففها قليلًا، حاول قدر المستطاع أن ينظف منطقة الجرح من الدماء
 
 
 
 
171

165

الثامن

 والتقرحات البيضاء. ثم كما جرت العادة، ربط الجرح ولفّه بقماش مزّقه من أسفل بنطالي.


صار الوقت ظهرًا وكنا نشعر بجوع شديد. ذهب حسين كالعادة إلى العريشة ليحضر بعض الأوراق الخضراء، لكن عندما عاد، رأيته يحمل في يديه بالإضافة إلى ورق العريش حبات من الجوز الأخضر. فقد وجد في الطرف الآخر من مكان العريشة شجرة جوز فأحضر منها بضع حبات. بدأنا بسرور كسر الجوز، لكننا اكتشفنا أن الجوز لم ينضج بعد. كانت حبات الجوز عبارة عن غلاف أخضر تحته اللب النيء. إلّا أنه كان أفضل من لا شيء، فقد أكلنا الجزء الطري الموجود في الداخل على الرغم من المرورة التي تركها داخل أفواهنا.

يومًا بعد يوم كانت آثار الضعف والشحوب تظهر علينا بوضوح، فيزداد قلقنا أكثر فأكثر. أمّا في الليل، فكنّا لا نستطيع النوم بسبب البرد، ونبقى في حال انتظار دائم، لأنه كان من المفترض أن تستمر العمليات حتى التحرير الكامل للمعبر. فتركّزت آمالي على تحرير قوات الإسلام للتلال الثلاث بأسرع ما يمكن، لنستطيع براحة بال الالتحاق بهم. كنت أدقّق السمع طيلة الليل لعلّي ألتقط صوت إطلاق نار أعزائنا المقاتلين. لكن بعد ليال من الانتظار، وصلت إلى النتيجة الآتية، وهي أن العمليات قد توقّفت لسبب ما، ولمصلحة ارتآها الإخوة، فغيّروا منطقة العمليات، وقد تخلو منطقتنا من العمليات لأشهر آتية. وهكذا، سنتلف هنا من الجوع والبرد.

على كل حال، يومًا بعد يوم، يزداد قلقنا وخوفنا. مرت ستة أيام على وجودنا في هذا الحرج. وكي لا أفقد معرفة الزمان، صرت أكتب بحجر مسنّن اليوم والتاريخ على حجر مسطح. كان ذلك يوم الأحد التاسع من مرداد/ 31 تموز. عند الظهيرة، بعد أن انتهينا من تناول
 
 
 
 
172

166

الثامن

 ورق العريش، غرق كلٌّ منا بالتفكير. كنت ممددًا على الأرض أتأمّل أعلى الحرج الأخضر، وحسين بالقرب مني متكئ إلى جذع شجرة ينظر إلى المدى أمامه. في هذه اللحظة، قطع صوت حسين المضطرب حبل أفكاري وقفزت من مكاني، حين قال فجأة: "يا ويلي..".


- حسين، ماذا حصل؟

أجابني ونظره معلق بنقطة بعيدة: "العراقيون آتون نحونا!".

نظرت إلى النقطة التي تعلقت بها عينا حسين. أجل، من مسافة بعيدة أحدهم يتقدّم نحونا بهدوء بين الأشجار. ما زالت تفصله عنا مسافة طويلة، لا تمكنني من رؤية وجهه ورأسه بوضوح، لكن ثيابه تتراءى لي من بين الأشجار. للحظة قلت في نفسي إنّها النهاية. بسرعة، جلت ببصري في المكان، وأسرعت باتجاه أقرب شجرة واختبأت خلفها. حسين تحرك أيضًا، وتموضع خلفي. تناولت حجرًا عن الأرض لعلي أستطيع الدفاع عن نفسي، وطلبت من حسين القيام بالعمل نفسه. ثم من خلف الشجرة، بدأت أنظر في ذلك الاتجاه. كنت أتوسل إلى الله كي يكون شخصًا واحدًا فنستطيع التغلب عليه. كان يمشي ببطء شديد، قلت في نفسي كأنه جاء ليرفّه عن نفسه بالقرب من جدول الماء. دعوت الله أن يغيّر طريقه ويبتعد عنا. لكنّه استمر بالتقدم نحونا على مهل. ركّزت عينيّ عليه كي أراه بدقة وأعرف بالتالي إن كان مسلحًا أم لا. لكن لم أستطع تمييز شيء. لم يكن هناك في المنطقة حولنا من مكان أفضل من الذي اختبأنا فيه. حين صار على بعد حوالي مئة قدم منّا تأكدت أنه غير مسلّح. عندها تدنّى مستوى قلقي. عندما اقترب أكثر، أدركت أنه فتى في حوالي الثالثة عشرة من عمره. ما إن رأيت كوفيته التي تلف رقبته حتى عرفت أنه من شبابنا.

راح الفتى يتقدم متهاديًا نحونا. خرجنا من خلف الشجرة
 
 
 
 
 
173

167

الثامن

 مطمئنين، لكن متعجبين في الوقت نفسه، وصرنا ننتظر وصول هذا التعبوي ونحن نتكئ على جذع الشجرة. حين صار على بعد حوالي خمسين قدمًا منّا، صدم من المفاجأة وتسمّر في مكانه وبأقلّ وقت قرّر الفرار. لكنني ناديته بصوت عالٍ وقلت له: "يا أخي، تعال، لا تخف، نحن رفاقك".


حين رأى أننا نتحدّث الفارسية معه، أكمل طريقه ببطءٍ شديد، على مهل ولكن بحرص وحذر، وهو ينظر إلينا. بعد لحظات، توقف على بُعد أمتار. ثم بصوته البريء، سلّم علينا. بينما كان يواجه نظراتنا المليئة بالتساؤلات ركع على ركبتيه وجلس على الأرض.

مرت لحظات وبعضنا ينظر إلى بعض بتعجب. جسمه نحيف جدًّا وقامته قصيرة. يدلّ وجهه الأصفر والعظام النافرة منه على أنه لم يتناول الطعام منذ مدة طويلة. عيناه غائرتان وعظام خديه بارزة. كان فخذاه ضعيفين لدرجة يبدوان بحجم ذراعي اليد.

أما البدلة العسكرية الواسعة جدًّا عليه، كانت تثير التعجب لغرابتها فوق جسمه النحيل.

كان هناك ثقب صغير في جبهته، كما إنّه مصاب تحت أذنه، ويده اليمنى الممسوكة بالكوفية المربوطة بدورها برقبته تدلّ على كسرٍ في العظام، واليد الأخرى فلا أكمام تغطيها، بل هناك ضمادة بيضاء من نوع اللباس الداخلي الأبيض. أحد طرفي بنطاله ممزّق إلى الركبة وتظهر ساقه بالكامل.

تدل ثيابه الممزقة على مدى العذاب الذي تحمّله. قضينا لحظات ينظر بعضنا إلى بعض.

قررت أن أستهل الحديث معه كي أزيل الأفكار المبهمة من رأسي.
 
 
 
 
 
174

168

الثامن

 سألته مبتسمًا: "يا أخي، هل أنت بخير؟".


أجابني بحركة إيجابية من رأسه ثم قال: "الحمد لله".

- من أين أنت؟


قال ببراءة: "من كاشان".
- ما اسمك؟
- ما شاء الله.
- من أي فرقة؟
- الإمام الحسين عليه السلام.
- من أي كتيبة؟
- "يا زهراء" عليها السلام.

عرفت عندها أنه كان معنا على التلة، وأنه من أولئك الشباب الذين تطوعوا للبقاء هناك بصفتهم قوات دعم. لقد هرب "ما شاء الله" قبلنا عن التلة ونزل إلى الأسفل وقد أمضى هذه الأيام وحيدًا فريدًا يواجه مصيره. قلت له: "يبدو كأنّك جرحت في أماكن متعددة من جسمك".

أجابني بحركة تدل على اللامبالاة قائلًا: "لا، ليست جراحًا عميقة. دخلت شظية صغيرة بالقرب من أذني ثم خرجت من الجهة الأخرى لرأسي. كما أصابت شظية أخرى ذراعي وكسرت العظم ..".

- هل أكلت شيئًا.

- لا، فقط الماء والأعشاب.

وقف حسين من مكانه بسرعة وتوجه نحو العريشة. تعقبه "ما شاء الله" بنظره متعجبًا. بعد دقائق، عاد مع كمية وافرة من ورق العنب
 
 
 
 
 
175

169

الثامن

 وبعد غسلها وضعها أمام "ما شاء الله".


سألنا بتعجب: "ورق عنب؟".

مدّ يده وتناول ورقة وبعد البسملة بدأ يأكل بشهية لا توصف، وكأنه أمام ألذ طعام في الدنيا. كما كانت مشاهدته وهو يأكل الورق الأخضر من أجمل المشاهد وأمتعها.

"ما شاء الله" كان فتى صغير السن، لكن بوجه ثابت وشهامة رجولية، ضعيف لكنه منطلق، هادئ وصلب، وكأن شيئًا لم يحصل له، ها هو جالس يتناول الأوراق. لقد وجدته إنسانًا كبيرًا وقد أُعجبت به ومدحته في نفسي. ملامحه تُنبئ أنّه لم يتخطَّ الثالثة عشرة من عمره وسيماه تحكي شجاعة وثبات شعب لديه تاريخ تعدّى الـ1400 سنة من التجربة التاريخية في المقاومة، ومن الحكمة والوعي، شعبٌ حضر في الميدان وقدم كل ما يملكه في سبيل حياة شريفة مقرونة بالاستقلال والحرية.

في لحظة واحدة، مرّ أمام ناظري كل ما حلّ بنا خلال الأيام الماضية وتصورت ما حل بهذا الفتى الصغير، فشعرت بالحقارة والدونية أمام "ما شاء الله" بهذا العمر الصغير الذي قضى حوالي سبعة أيام يقتات على الأعشاب ويشرب الماء ويهتم بيده المكسورة وحده. والذي لم يبقَ له سوى هذا الهيكل العظمي.

بعد أن انتهى من تناول أوراق العريش، سألته: "حسنًا يا "ما شاء الله" إلى أين ستذهب الآن؟".

قال: "لا أدري. لم أكن أعرف أي طريق. هكذا كنت أسير على غير هدى..". بعد لحظات سألنا: "هل فررتم أنتم أيضًا عن التلة؟" وها أنا أجيبه وأعرّفه إلى نفسي وإلى حسين وأخبره بكل ما حصل معنا خلال
 
 
 
 
176

170

الثامن

 الأيام الماضية. لم أنتظر طويلًا حتّى اكتشفت أنّ "ما شاء الله" الشاب الهادئ والمهذب (والمظلوم) كان نادرًا ما يفتح حوارًا، فهو لا يتكلم إلا إذا سألته. أما ما أثار إعجابي، فهو روح الاستقلالية والثقة بالنفس التي يتحلّى بها والتي لم أرها عند شاب بعمره قط.


منذ الساعات الأولى لمعرفتنا به، حاولنا أنا وحسين أن نوفّر له بعض وسائل الراحة والهدوء، إلّا أنّنا عرفنا من ردّ فعله أنه يكره هذه التصرفات التي تدل على الشفقة. فقد أراد منا بسلوكه أن نعتبره رجلًا كاملًا ولا نفرّق بيننا وبينه. على سبيل المثال، حين طلبت من حسين في عصر ذلك اليوم، أن يضمد جرح يد "ما شاء الله" وينظفه له، قال لنا على الفور: "لا، أنا أستطيع فعل ذلك".

لكنه بسبب إصراري وافق، وبدأ حسين عمله، تفاجأت كيف كان "ما شاء الله" يتدخّل في كل خطوة ولم يسمح لحسين أن ينهي عمله وحده. في أكثر الأوقات كان يبتعد عنا عشرات الأمتار ويلعب وحده ويسلي نفسه. في ذلك اليوم سألته: "يا "ما شاء الله"، كيف سمحوا لك بالمجيء إلى الجبهة وأنت في هذا العمر؟".

قال: "لم يسمحوا لي. لقد حاولت مرات عدة، لكنّهم رفضوا. لكنني في النهاية حضرت غصبًا عنهم. لقد زوّرت بطاقة هويتي".

وهكذا، صرنا ثلاثة ووقعت مسؤولية الاهتمام بجريحين على أكتاف حسين.

في عصر ذلك اليوم، وبسبب البرد القارس ليلًا، قلقت على نوم "ما شاء الله". فالحفرة التي استحدثناها بالكاد تسعنا نحن الاثنين. فكّرت وفكّرت لكنّني لم أصل إلى أي نتيجة تذكر. في النهاية قلت في نفسي، سأبقى أنا في الخارج لينام رفيقاي داخل الحفرة. لذلك
 
 
 
 
177

171

الثامن

 بمساعدة حسين جمعنا الكثير من الأغصان والأوراق وجهزنا مكانًا دافئًا نسبيًّا كي أنام فيه ليلًا.


حين حلّ وقت النوم، ناديت "ما شاء الله" مرارًا وتكرارًا إلا أنه لم يجبني. لكن في النهاية، سمعنا صوته آتيًا من البعيد. قلت: "ما شاء الله"، تعال إلى هنا، لقد جهّزت لك مكانًا للنوم".

- لا، لقد وجدت لنفسي مكانًا جيدًا، ناما أنتما.

لم يتجاوب مع إصراري مطلقًا. حين رأى مكان نومنا، ذهب إلى خارج الحرج، وهيّأ مكانًا له في ظل الحجارة التي تسخن طيلة النهار بسبب حرارة الشمس، ونام هناك.
 
 
 
 
178

172

التاسع

 التاسع


أطلّ علينا صباح اليوم السابع. لقد تجمّدت من البرد القارس وكنت أرتجف بشدة. قررت الخروج من الحرج لأنام على صخرة تحت أشعة الشمس مباشرةً. لذلك ابتعدت زاحفًا عن "حسين" و"ما شاء الله" وخرجت من الحرج. غفوت على صخرة قريبة. كان لنور الشمس حرارة ممتعة، فغرقت في نوم هانئ منذ اللحظات الأولى. لكن أعتقد أنه لم تكد تمرّ ساعة من الوقت حتى قفزت من نومي على صوت انفجار عظيم.

على ما يبدو، لقد رآني العدو فأطلق قذيفة هاون 60 تجاهي. انفجرت على بعد حوالي عشرين مترًا. سحبت نفسي بسرعة نحو الأشجار فانفجرت القذيفة الثانية في مكان أقرب من سابقتها. كان "حسين" و"ما شاء الله" قد استيقظا على صوت الانفجارات وأخذا ينادياني بقلق. ولا أدري كيف دخلت الحرج، وأسرعا في مساعدتي للابتعاد عن ذلك المكان.

سقطت عشرات القذائف، واحدة تلو الأخرى، بين الأشجار وداخل جدول الماء وانفجرت بقوة. في ذلك اليوم، استهدف العدو بقصفه الأماكن كافة وفي فواصل زمنية متعددة. كنا نتمدّد على الأرض باستمرار، لمجرّد سماع صفير القذائف، وبما أننا كنا تحت الأشجار، ولم يكن العدو قادرًا على رؤيتنا، كان يرمي بشكل عشوائي، فتسقط
 
 
 
 
179

173

التاسع

 رماياته بعيدًا عنا.


من الأرجح أن العدو، وبعد مرور سبعة أيام، لم يكن يتوقّع أن يوجد في المنطقة إيراني واحد. لذلك أضيف إلى قلقنا قلق آخر، وهو أن تهجم فرقة من العراقيين علينا لتطهير المنطقة، فكنا ننتظر حدوث ذلك طيلة النهار بمرارة.

لم يكن يمر يوم من دون أن نتذكر أحباءنا شهداء وجرحى تلة "برهاني". كل ما مرّ عليّ هناك كان يتداعى أمامي كالرؤيا، ويشغل ذهني لساعات وساعات. كانت الوجوه النورانية لأحبائي الذين ترافقنا معًا حوالي عشرة أيام من مدينة "دارخوئين" إلى مقر محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في "سنندج"، ومن هناك إلى التلة، كنّا معًا ليلًا ونهارًا ونحن نتحادث، تمرّ في مخيّلتي الوجوه وجهًا تلو الآخر، مع ذكرى مظلوميتهم وشهادتهم التي تحرّك عواطفي فتسيل دموعي حاكية عن حزن عميق في روحي.

في هذه الأيام الصعبة المتأزّمة، سألت نفسي مرّات ومرّات عن هؤلاء الشباب الطاهرين، من أين لهم كل هذه النخوة والإخلاص والإيمان؟ هذا الشعب الذي كان مسحوقًا لسنوات بل لقرون تحت سلطة الحكام والحكومات المتنوعة، من أين استمدّ فجأة هذا الجوهر الصافي وهذه الثروة النشطة والمبدعة ليظهرها بهذه الطريقة؟ هؤلاء الشباب العرفاء، تحت إدارة أي مرشد استطاعوا تحصيل هذه الدرجة العظيمة من الكمال والوصول إلى هذه المرتبة العرفانية؟

أنا، بصفتي راوٍ حيّ لفترة محدودة من هذه الثورة، أقول للتاريخ ولأجيال اليوم والغد: "إنّ إعجاز الإسلام والثورة الإسلامية في القرن
 
 
 
 
180

174

التاسع

 العشرين قد تجلّى في ظهور البشر الطاهرين والخلّص والعارفين من قلب الظلمات، وذلك ليس بعد مدة طويلة من الرياضات والتربية والتعليم، بل في عنفوان الشباب وفي أول أيام ربيع البلوغ. يا ليتني أجد كلمات أو لغة تستطيع أن ترسم وتجسّد أحوال وكرامات هذه البراعم العاشقة!".


ما أجمل معرفة مقتدى الأمة1 بمريديه الشجعان ـ هؤلاء التعبويون الذين يحملون أرواحهم على أكفّهم ـ حين قال عنهم: "لقد قطعوا في ليلة واحدة طريق مئة عام..".

لكن إدراك خسارة العمليات، كان يؤذيني ويزعجني بشدة. كنت أُحدّث نفسي متسائلًا عن نتائج هذه العمليات؟ إن النظرة الدنيوية تقوِّم الأمر على هذه الحال: أنّ سريّة "ميثم" من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وبعد فتح التلة خلال يومين ما لبثت أن انهزمت وسلّمت التلة مرة ثانية للبعثيّين الخونة. كان هذا المشهد يزعجني كثيرًا، لكن الأمر الذي أراحني وهدّأ من روعي هو النظرة لقيم ومُثُل الثورة التي كانت الدافع للإمام وأصحابه في انطلاقة الدفاع.

إن كل جندي من جنود الإسلام، كان يعلم ومن اليوم الأول للدخول إلى الأراضي العراقية أننا لا نهدف إلى البقاء هناك، بل علينا عاجلًا أم آجلًا العودة من حيث أتينا، لأن قائدهم وإمامهم قد صرّح منذ اليوم الأول أننا لا نضع "عيننا" على أي شبر من الأراضي العراقية. لم نقصد يومًا فتح أي بلد. بل هدفنا رضى الله، ولذلك لا معنى للهزيمة فيما قمنا به. ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات، 172، 173).

كان التكليف، الحركة والقتال في سبيل حاكمية دين الله. ﴿لاَ
 

1- أي الإمام القائد.
 
 
 
 
181

175

التاسع

 يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة، 286). المهم هو الدفاع نفسه، وهذا القتال هو نصر ولم يكن بهدف الوصول أو عدم الوصول. إنّ لأي حرب وجهين: الوجه الأول هو التقدم والنصر، والوجه الثاني هو الخسارة والتراجع. لكن محتوى الحرب وروحها تتلخص في انتصار المظلوم والساعي نحو العدالة وخذلان الطرف الظالم والمعتدي.


لو كان الرأي العام في يومنا هذا يعتبر كل مجازر واعتداءات وفتح البلاد التي قام بها هتلر في الحرب العالمية الثانية نصرًا وافتخارًا له، فإن الجيل القادم سيعتبر اعتداءات وجرائم وظلم "صدام" انتصارًا له! لكننا إذ نعتبر "صدام" خاسرًا فذلك لأنه كان يريد وضع يده على خوزستان وعلى كل بلدنا، والأهم أنه أراد السيطرة على الحاكمية الإسلامية والشعبية لبلدنا، تلك الحاكمية التي أيّدها 98% من شعب إيران. أما نحن فلم نكن نرنو إلى أي شبر من أرض العراق. فهل نعتبر أنفسنا خاسرين بعد كل هذه الانتصارات وبعد إخراجنا القوات العراقية من كل شبر من أراضينا.

في ثقافة التعبئة، تعتبر الشهادة والتراجع انتصارًا بنفس درجة التقدم والفتح. إننا نخسر وننهزم حين نستسلم للباطل وللأفكار المعادية للعدو، لكن ما دام أننا نقاتل لأجل استقلالنا وقيم الدفاع عن الحرية وحاكمية الإسلام، فنحن المنتصرون، حتى لو تراجعنا في زمن معين.

فلو أنّ الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه قد خسروا في أرض كربلاء وفي يوم عاشوراء وانتصر يزيد، لكانت كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وفصائلها في معبر "دربندي خان" قد خسرت أيضًا في هذه المعركة غير المتكافئة، ولكان صدام هو المنتصر! لكن الإمام الحسين عليه السلام، على الرغم من شهادته، فهو المنتصر، لأن العقل السليم والفطرة الطاهرة للبشر يوجبان هذا الأمر. أما يزيد، حتى لو نال الحكم الظاهري لأيام
 
 
 
 
182

176

التاسع

 معدودة في هذه الدنيا، فهو الخاسر، لأنه محط لعن وسخط كل إنسان حر صاحب عقل وفطرة سليمة، ولا يتداعى مع اسمه إلى الآن سوى الذل والعار. وكل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.


على كل حال، في اليوم السابع، استعملت آخر قطعة قماش من ساق بنطالي كي أضمد جرح يدي. وهكذا تحول بنطال بدلتي العسكرية إلى "شورت"، ولم يبقَ سواه على جسمي مع جواربي الممزقة.
 
 
 
183

177

العاشر

 العاشر


في صباح اليوم التالي، حين استيقظت من النوم، كانت التقرّحات الملتهبة في يدي قد بللت القماش بالكامل، وبدأت إفرازاتها تسيل من أسفل يدي. وفي الوقت نفسه لم يكن لدي أي قماش إضافي لتضميد الجرح بعد تنظيفه. ولكن بما أنني كنت قلقًا على صحة "حسين" و"ما شاء الله" وبما أنّ البرد كان شديدًا لم أكن لأرضى بأن يمزقوا أطراف بنطاليهما كي ألفها حول يدي، لذلك لم أتحدّث عن شيء في هذا الموضوع.

في ذلك اليوم هجمت عليّ مجموعة من الذباب الأزرق الكبير التي حطّت على القماش فوق جرحي، لتأكل التقرحات والدماء عليها. مهما حاولت إبعادها عني، لم أستطع فقد كانت تبتعد قليلًا ثم تعود. كان عددها كبيرًا جدًّا لذلك لم أقدر عليها. كما ساعدني "حسين" و"ما شاء الله" في إبعادها لساعة تقريبًا. لكن في النهاية تعبنا نحن الثلاثة من هذا الأمر. فتركناها وتكاثرت وغطّت قطعة القماش.

أنهكني هذا الوضع. أصابني العناء من "كش الذباب" فتركتها لحالها.

حوالي الظهر، التفتّ إلى أن الذباب قد وضع عددًا كبيرًا من البيض الأبيض على القماش الذي يلف جرحي، بشكل أنّه غطّاها بالكامل. ففهمت عندها أن الذباب لم يكن يتغذّى على التقرحات بل وجد فيها بيئة مناسبة لوضع بيضه، وها هو يرحل بعد أن انتهى من مهمته. رجوت "حسين" و"ما شاء الله" أن يسرعا لنجدتي، وها هما بعد أن قتلا أو طردا الذباب، بدآ بتنظيف القماش من البيض. 
 
 
 
 
184

178

العاشر

 وختامًا، بعد ساعة تقريبًا انتهى عملهما، وعلى ما يبدو نظّفا القماش بشكل نهائي من أي بيض.


صباح اليوم التاسع، شعرت بألم وحرقة في جرحي، فطلبت من حسين أن يفتحه. بعد أن فكّ القماش المليء بالتقرحات، تفاجأت بعدد من الديدان البيضاء الصغيرة وهي تتلوّى، ويلتف بعضها على بعض. ففهمت أن بيض الذباب قد تسرّب بين خيوط القماش، ووصل إلى سطح الجرح وتحوّل إلى ديدان وجدت في التقرحات والدماء مكانًا مناسبًا تتغذى منه. كانت كثيرة بحيث إنّنا لم نكن قادرين على إخراجها. كان المنظر مخيفًا ومقرفًا.

لم يكن الشابان قادرين على النظر إلى جرحي. وخاصة أن رائحة الالتهاب والتعفن كانت تزكم الأنوف. تناولت غصنًا صغيرًا عن الأرض وبدأت أُخرِج الديدان واحدة تلو الأخرى. قلت لصديقيّ بكل خجل إنّني غير قادر على إخراجها بمفردي. فشرع كل من "حسين" و"ما شاء الله" بمساعدتي وبالاستفادة من أغصان صغيرة جدًّا صارا يصطادان الديدان. بعد أن أصبح ظاهر الجرح نظيفًا، شكرت صديقيّ ودعوت الله لإعطائهما الأجر بكل كرم وإنعام لما قاما به لأجلي من تمريض بلا تقصير أو نقص. ثم جلست في مكان بمفردي وصرت أنتظر الديدان التي أتوقع أنها ما زالت مختبئة في جرحي لأصطادها. كلما رأيت دودة تظهر في الجرح، أخرجتها بسرعة. وهكذا شغلني هذا الأمر لساعات. إلى أن اطمأننت في النهاية إلى زوال الديدان ونقاء جرحي.

كان عليّ تغطية الجرح بأي طريقة كانت. فمن الممكن أن يتكرّر الوضع ويهجم الذباب مرة ثانية. لكن لم يعد لديّ قماش يصلح لستره. إذًا لا مفر من استعمال الضمادة نفسها. فتكبّد حسين مرة ثانية العناء، وغسلها بالماء ووضعها على الجرح بعد أن عصرها من
 
 
 
 
 
185

179

العاشر

 الماء قليلًا. لكنّها ظلّت مبلّلة ولا يمكن ربطها حول الجرح. لذلك، ولحمايته من إزعاج الذباب، وضعنا الضمادة عليه.


وهكذا، مرّ ذلك اليوم أيضًا وها هو الليل قد حلّ. وكالليالي السابقة، نمت أنا وحسين في الحفرة وذهب "ما شاء الله" كي يرتاح بين الصخور. لم تكن قد مرّت ساعة أو ساعتان، حتى أطلق العراقيون فجأة ومن دون أي مقدمات قنبلة مضيئة على أطراف الحرج. أضاءت القنبلة المكان لمدة قصيرة وأحضرتها الرياح نحونا، وها هي بعد أن انطفأت تسقط على الأرض بالقرب منا على حافة النهر.

قلت لحسين: "هل ترى فعل الله. كما وفّر لنا بين كل هذه الأشجار غير المثمرة، عريشة عنب لنتغذى منها ها هو يرسل لنا هذه القنبلة المضيئة لنستفيد من مظلتها لتضميد الجرح".

"حسين" الذي فهم متأخّرًا ما أقوله، نهض من مكانه منحنيًا وقال بفرح: "إذًا سأذهب لأحضر المظلّة". قلت له: "لا، فالظلام يلف كل شيء، والقنبلة سقطت في الجهة الأخرى من الماء. من الأفضل أن نصبر إلى الغد".

في الصباح الباكر، وبعد أن صلّينا الصبح، خلع حسين حذاءه وجواربه، رفع بنطاله إلى الأعلى وتوجه إلى الطرف الآخر من النهر وأحضر القنبلة المضيئة. على الرغم من أن مظلة القنبلة حريرية وناعمة، لكنها حلّت مشكلة تضميد الجرح لثلاثة أيام تقريبًا. شكرت الله على كل هذا اللطف والعناية.

إنه اليوم الثالث عشر من مرداد، وقد مرت عشرة أيام على إقامتنا الجبرية في الحرج. كان القلق يزداد يومًا بعد يوم، لأننا صرنا نحيلين للغاية وقد شحبت وجوهنا وغارت عيوننا وخدودنا. لم أر قدميّ ويديّ
 
 
 
186

180

العاشر

 بهذه النحالة من قبل.


كانت هذه المسألة باعثة على القلق بشكل أكبر لدى "ما شاء الله". لأن جسمه صار كالهيكل العظمي المتحرّك وكانت جراحه تتقرّح أيضًا. كما تعرّضت أجسامنا في اليومين السابقين إلى رعشة ورجفة، وكان نصيبي من هذا العارض أكثر من صديقيّ.

أوشكت أوراق العريش على الانتهاء، وكنا نحاول تنظيم مصروفنا لها. لأنّنا إذا أكلناها كلها لن يبقى لنا ما نتناوله. وهكذا خلال هذه الأيام، تعرضنا نحن الثلاثة بشكل من الأشكال إلى نوع من الأزمات النفسية الروحية.
 
 
 
 
187

181

الحادي عشر

 الحادي عشر


في اليوم الحادي عشر، حين انزويت وصرت أفكر بما علينا القيام به في الأيام القادمة، توصلت إلى النتيجة الآتية، أنه لو وضعنا يدًا على يد، سنشهد موت بعضنا بعضًا وذلك بنحوٍ فجيع. لذلك، هذه المرة وبحضور "ما شاء الله" أصررت على حسين أن ينفّذ الاقتراح السابق، أي ترك هذا المكان والانطلاق لإحضار الدعم والمساندة، وبالتالي إنقاذنا نحن الثلاثة من الموت الحتمي. ولكن، مرة ثانية، شهدت رفضه مقابل إصراري، إلى أن أيقنت بنفسي أنه ليس لديه طاقة نفسية ولا جسدية للقيام بهذا الأمر.

كانت الأزمة النفسية لدى "ما شاء الله"، بارزة وأكثر وضوحًا مني ومن حسين نظرًا لصغر سنه مقارنة بنا. عند الظهيرة في ذلك اليوم، وبما أن "ما شاء الله" قد فقد القدرة على التحمّل، اقترح متردّدًا أن نسلّم أنفسنا للعراقيين. فقد كان يعتقد أن هذه الخطوة أفضل من الموت هنا. لمست عندها كم ضعفت معنوياته بسبب ما نعانيه. عندها قلت له: "ما شاء الله"، إنّ أعداءنا لا يرحمون جرحاهم، فهل تتوقع أن يرحمونا؟ اعلم أنه لو وقعنا بأيديهم، سيقتلوننا بشكل مروّع. أو في أفضل الأحوال سيأسرون حسين فقط لأنه سليم، أما أنا وأنت فسيقضون علينا، وهكذا سنكون نحن مسؤولين عن هدر دمائنا، لأن هذا العمل ليس سوى انتحار. لكنْ، إذا لم نسلّم أنفسنا ومتنا على أثر الجوع فسنكون شهداء. لذلك لا تفكّر بهذا الموضوع أبدًا".
 
 
 
 
188

182

الحادي عشر

 إزاء هذه الحال، حاولت تشجيعهما على قراءة الدعاء وتكرار الأذكار، لأنني جرّبت أن الدعاء، بالإضافة إلى الآثار الروحيّة، له نتائج طبيعية ناجعة تؤدّي إلى رفع المعنويات والثبات وبثّ الأمل.


وهكذا ترافقت صلاتنا بالدموع والأنين. كان "حسين" و"ما شاء الله"، بعد كل صلاة، يسجدان على التراب ويبكيان بشدّة ويطلبان من الله المتعالي المدد. إن البكاء في محضر الله والتضرّع يختلفان كثيرًا عن البكاء جزعًا بسبب المشاكل والصعاب. تؤدّي الحال الأولى إلى تقوية الإرادة وإلى الشعور بالأمل وتغيير وجه المشكلات، أّما الحال الثانية فتبعث على الشعور بالضعف والإحساس بالجزع وتقوية المشكلات الروحية والنفسية. إذا ما تمتّع الإنسان بالإيمان بالله، وحين يواجه أي مشكلة في محضر الله، فسيرى النقمة نعمة، وسيدرك أن المشاكل ليست سوى وسيلة للتقرّب من المقامات المعنوية العليا.

في تلك الأيام، ساعدتني الآيات والأحاديث التي أحفظها، في تهدئة أحزاني والمشكلات النفسيّة التي أعاني منها. حين كنا نجتمع نحن الثلاثة ويجلس بعضنا بالقرب من بعض كنت أبدأ بالحديث وأقول لهما إنّ المشكلات والأحزان ليست سوى وسيلة لامتحان مدى استقامة إيماننا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود/ 112).

في منطق القرآن، لا معنى للإيمان من دون الاستقامة. إن الإيمان كنز تتطلّب المحافظة عليه تحمّل الكثير من المصائب. وفي هذا الباب قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت/ 30).

قلت لـ"حسين" و"ما شاء الله" إن هذه اللحظات الصعبة ليست سوى وسيلة لاختبار ثباتنا في الإيمان الذي ندّعيه. لقد واجهنا على تلة
 
 
 
 
189

183

الحادي عشر

 "برهاني" العدو الخارجي، والذي يسميه الرسول الجهاد الأصغر. لكننا الآن في وسط المعركة الباطنية. في هذه الجبهة، توكّلنا هو نصرٌ ويأسنا هو خسارة. فالله يريد أن يختبرنا إلى أي مدى نحن متوكّلون. علينا أن نُثْبِت لله أننا نرضى بكلّ ما يعطينا إياه، وهذا هو الجهاد الأكبر.


قيل: إن الدنيا سجن المؤمن. ولذا فإن المؤمن وإن كان في أفضل أحواله، فسوف يشعر بالغربة لأنه لا ينتمي إلى هذه الدنيا. فقد تنزّل من مرتبته الحقيقية كي يمتحن ومن خلال تحمله الصعاب وسعيه في العودة إلى أصله، يثبت ملكوتية نفسه وشفافية جوهر روحه.

حين يعيش الإنسان في راحة وهناء الدنيا، يشعر بالغربة أكثر من العيش الذي يواجه فيه المشكلات. لأن راحة الدنيا في الواقع زخارف تتخفّى حقيقتها خلف الزينة الخداعة. لهذا السبب يصف الله الدنيا في القرآن الكريم أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر... على الرغم من الظاهر الجميل والمرتّب للدنيا، وهي ليست وفق التعبير القرآني سوى زبد يلمع على سطح الماء، تختفي مع قدوم الأمواج ولا يبقى لها أثر. يخاطب القرآن الكريم البشر الذين عرفت روحهم حلاوة الإيمان أن ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ (الحديد/23)، فللحصول على شيء ما وخسارة شيء آخر في محضر الله حكمة خاصة.

في هذه الدنيا ما أكثر النعم التي أعطانا إياها الله، ليقيس قناعتنا وبعد نظرنا، وما أكثر النعم التي أخذها منّا ليمتحن استقامتنا وتوكلنا. لذلك ذكر الله في القرآن الكريم في آية سبقت ما ذكرناه: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحديد/ 23).

قال الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله إذا أحب عبدًا غتّه بالبلاء غتًّا" (بحار الأنوار، المجلسي، ج15، ص55). وإنّ "من علا سقفه كثر ثلجه" (مثل إيراني).
 
 
 
 
 
190

184

الحادي عشر

 فقد كان نصيب أهل البيت عليهم السلام من الألم والمصيبة أكثر من غيرهم . إذًا، بما أن لطف الله قد شملنا علينا أن نستقيم كي نلاقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام بوجه أبيض ورأس مرفوع.


حين كنت أرى "حسين" و"ما شاء الله" يتضرّعان إلى الله بدل التأوّه والأنين، كنت أفرح وأشعر بالرضى.

في صباح اليوم الثاني عشر، حين كنا نتناول ورق العريش، قال لي حسين: "لقد شاهدت البارحة منامًا جميلًا".

- خيرًا إن شاء الله، ما هو؟

- لقد شاهدت الأخ "صفاتاج". كان يرتدي ثوبًا أبيض طويلًا، وقد أصبح منيرًا وحسن الرائحة، دخل إلى الحرج مبتسمًا وجلس بالقرب منا. لم تغب البسمة عن شفتيه لحظة. بقي معنا لدقائق وهو يحدثنا. لكنه بعد فترة، نهض يريد أن يرحل. فأمسكت طرف ثوبه وقلت له: "أقسم عليك بالله، لا تتركنا وحدنا. ابق معنا..". لكن "صفاتاج" وببسمته المرسومة على فمه أجابني: "لست ذاهبًا إلى أي مكان، أنا باقٍ هنا. وأنتم أطلب منكم أن لا تتركوا هذا المكان أبدًا ولا تتحرّكوا، سيأتي الشباب بعد أيام ليأخذوكم من هنا".. ثم خرج من الحرج ورحل.

حين أنهى حسين كلامه قلت في نفسي: "ما زال لدى حسين الأمل بأن يأتي شبابنا وينفّذوا إحدى العمليات في هذه المنطقة ولهذا شاهد هذا المنام. ولكن، لو أرادوا القيام بمثل هذه العملية لكان من المفترض أن تتم منذ ليال". لكن على الرغم من هذا، قلت: "إنه منام جيد. فالشهداء معنا هنا ينظرون إلى أفعالنا وسلوكنا وظروفنا".
 
 
 
 
191

185

الحادي عشر

 في هذه الأحوال، حين تفحصت أوراق العنب الباقية معنا، عرفت أنها تكفينا ليوم واحد فقط. منذ يومين ونحن نقتّر على أنفسنا كي نقتات عليها، فازدادت الرجفة في أجسامنا وشعرنا بمزيد من الضعف.


كان الأمر واضحًا بالنسبة إليّ أنه بنفاد أوراق العنب، سيصبح وضعنا صعبًا جدًا.

كنت أفكر بكلام "صفاتاج" الذي لم يفارق ذهني، قال: "ابقوا هنا وسيأتي الشباب لاصطحابكم". فعرفت أن الشهداء سيستقبلوننا نحن المتروكين هنا في القريب العاجل.
 
 
 
 
192

186

الثاني عشر

 الثاني عشر


في اليوم الثالث عشر لوجودنا في الحرج، كانت أيدينا وأقدامنا كأيدي وأقدام العجائز. ترتعش لا بل تهز من دون توقف وبشكل ملحوظ جدًا. خلال هذه المدة، كنا نقضي الليل نائمين على الأرض ووجوهنا على التراب. ولذلك صارت متسخة وسوداء قاتمة أيضًا.

منذ عدة أيام، أُضيفت إلى أزماتنا واحدة جديدة، هي في الواقع أكثر إزعاجًا من الجوع والضعف، وهي مشكلة التبرّز1. في الوقت الذي كنا في أمسّ الحاجة لهذا الأمر، لم نكن قادرين عليه. حين ينأى الواحد منا إلى البعيد، كانت تمضي ساعات من دون أن يستطيع الانتهاء من التبرّز. وكأن أمعاءنا ومجاري الهضم لدينا قد يبست. أثناء التبرّز، كنا نشعر بالألم والحرقة المترافقة مع النزيف بشكل لا يوصف. كان هذا الأمر يصحبه الأنين والصراخ والبكاء. حين كنت أسمع صوت "حسين" و"ما شاء الله" اللذين توجها إلى نقطة بعيدة عني، وهما يبكيان ويصرخان من الألم كانت دموعي تنساب من دون قصد مني. وكان النزيف ينبئنا بجرح المجاري الهضمية. لا عذاب أكثر ألمًا مما كنّا فيه، وكـأننا في تلك الحالات كنّا نتعرّض لطعن متكرّر بسكين حاد في أماكن متفرقة من أجسامنا، وكان صوت البكاء والعويل يملأ الحرج.
 

1- إخراج الفضلات من أجسامنا.
 
 
 
193

187

الثاني عشر

 ولم تنتهِ المحنة عند هذا الحد، بل إنّنا حين نعود إلى أماكننا وقد اعتقدنا أنه بانتهائنا من هذا الأمر سنرتاح، نبدأ من جديد بالتلوّي من شدة الحرقة والألم.


أمّا مشكلتنا الثانية فكانت في أزمتنا الروحية والنفسية. لقد فقدنا وضعنا الطبيعي، لذلك كنا نسعى أن يبتعد بعضنا عن بعض لينزوي كلٌّ منا في مكان ونبكي لعلّنا نفرّج عن مكنونات قلوبنا، ونهدأ قليلًا.

كان تخيّل الفاجعة التي ستحل بنا مع حلول هذا المساء عند نفاد أوراق العنب، يعذّب روحي كثيرًا. على الرغم من أننا أمضينا ثلاثة عشر يومًا نتحمّل أصعب الظروف وأقساها، لكنّ هذا التحمّل سيتخذ شكلًا آخر منذ الغد، وهو في الواقع بداية تعذيب قاسٍ لن ينتهي إلا بموت أليم. على الرغم من أننا لم نكن في حال طبيعية خلال الأيام الماضية، لكنّ هذه الأوراق المعدودة قد أنقذت حياتنا.

إنه عصر اليوم الثالث عشر، لم تكن حال "حسين" و"ما شاء الله" طبيعية، بل كانت مثل حالي تمامًا. كنت أراهما إما مُمَدَّدَيْنِ على ظهريهما، أو جالِسَيْنِ وهما يحضنان ركبتيهما ويبكيان بهدوء. كنّا نشعر أن موتًا مؤلمًا ومصحوبًا بالعذاب والألم في انتظارنا.

كنت أقلّب الأفكار في رأسي وأحاول أن أركّز لعلّي أجد طريقة للنجاة. يا إلهي، ما هو واجبنا في هذه الحال؟ يا ملجأ من لا ملجأ له، يا منجي الضعفاء ويا مجيب دعوة المضطرين، ها نحن في محضرك وأنت ناظر إلى أحوالنا. ما الذي قدّرته لنا؟

أسوأ ما كنت أخافه هو أن تؤثّر - لا سمح الله - العذابات التي تنتظرنا منذ صباح الغد بوجهها الجديد على إيماننا وعقيدتنا، بعد أيام من الاستقامة فتسلبنا الأمل أولًا، ثم العقيدة ثانيًا.
 
 
 
 
194

188

الثاني عشر

 في الأصل، هذا طبع إنساني غير مقبول، فحين يكون الإنسان في معرض النعم والرفاهية، فإنّ الغرور والنكران والتعالي تسلبه كلّ إيمانه، فيعتبر أن قدرته وموهبته الذاتية جعلته يستحق كل هذا الخير والنعم. لكنه حين يعاني من القِلّة ويتعرّض للخطر والاضطرار تخمد روحه ويسيطر عليه اليأس، وماذا لو وصل إلى هذه النتيجة ـ نعوذ بالله ـ أن لا حساب ولا كتاب ولا ملجأ ولا منجي! قد يُداخلنا سؤال: كيف يمكن لله الرحيم والقادر أن يرى كل هذه المشكلات والمصائب التي أعاني منها ولا يسرع بقدرته لنجدتي؟ ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ (المعارج/ 19 ـ 21).


لا شك أن النعمة والرفاهية من جهة، والحاجة والنقمة من جهة أخرى هما تجلّيان للامتحان الإلهي.

وأنا على يقين الآن أن الله وضعنا أمام هذا الامتحان كي يمتحن استقامة إيماننا في أكثر الظروف صعوبة وتعقيدًا.

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت /2). إن الإقرار بالإيمان لا يكفي. في النهاية مهما آمنت، لا بد وأن تخضع لنوع من الامتحان كي تثبت وتؤكّد مدى صدقك، وأولئك الذين يثبتون بعد الإقرار بالإيمان، يثبتون ويستقيمون أمام النعم أو النقم على إيمانهم هم الذين يخرجون من هذا الوادي مرفوعي الرأس وبيض الوجوه.

يا ترى هل يمكننا أن نحفظ إيماننا أمام الشدائد التي تعترضنا؟ إن الشيء الوحيد الذي خطر على بالي هو اللجوء إلى الله نفسه، كي يحفظنا في هذا الامتحان الصعب. ثم بلطفه ومحبته قبل دخولنا هذا الوادي المخيف، إمّا أن يستقبلنا في رحمته الواسعة وإمّا يفرّج عنا ويخلصنا، كي نظهر في المستقبل لياقتنا بطريقة أخرى.
 
 
 
195

189

الثاني عشر

 يفصلنا عن غروب الشمس حوالي الساعة. طلبت من حسين أن يجهّز ما تبقّى من ورق العريش الأخضر كي نتناوله. لا حيلة لنا. فالجوع يضغط علينا ولم يكن بإمكاننا النوم بمعدة خاوية. حسين، الذي لم يعد لديه أي قدرة، أخذ يقطف الأوراق الأخيرة، وبعد أن غسلها، شرعنا نحن الثلاثة بتناولها.


بعد أن نفدت كمية الأوراق، وبينما كان يجلس بعضنا قرب بعض، قررت أن أقترح على أصدقائي طريق الحل الوحيد الذي خطر على بالي. فقلت لهم وأنا غير قادر على إخفاء دموعي: "يا شباب، نحن الآن مضطرون، وقد وعد الله أن يستجيب دعاء المضطر إذا دعاه. علينا الليلة أن ندعو كثيرًا. برأيي، علينا أن نطلب من الله إما أن يرسل لنا المدد الغيبي لإنقاذنا ونجاتنا، وإما أن نستشهد بطريقة ما، لأنه منذ الغد سيختلف وضعنا ولن يكون لدينا ما نأكله. هيا بنا نتوسل بباب الله كي يرسل لنا في الغد المدد الغيبي أو أن نستشهد بلا ألم أو وجع أو جوع قبل الصباح وهكذا نستريح...".

لقد أكّدت كثيرًا على هذه النقطة، وكان "حسين" و"ما شاء الله" لا يتوقفان عن البكاء.

حين حلّ الظلام توجّه كلٌّ منّا إلى زاوية لأداء صلاتي المغرب والعشاء. بعد الصلاة، بدأنا بالدعاء والمناجاة مع معبودنا. ملأ صوت المناجاة الحرج، وسيطر على المكان جوّ معنوي لا يمكن وصفه. في كل مرة كان صوت: يا الله، يا الله، الصادر عن كلّ منهما يهزّ الزمان والمكان، وكأنه يختلط مع الماء ثم يختفي هناك في البعيد على حدود الحرج. كنت أنا بدوري متفرّغًا للعبادة في إحدى الزوايا.

في تلك الليلة، بعد الاستغاثات العديدة بالله الحق، والتي طالت لساعات، ناشدت الرسول والأئمة عليهم السلام واحدًا واحدًا وتوسّلت بهم.
 
 
 
 
196

190

الثاني عشر

 وأقسمت عليهم بعزة وعظمة الله، وأقسمت على الله بماء وجوههم، وطلبت من المعصومين عليهم السلام الشفاعة عند الحق تعالى، إمّا أن ننجو حتى صباح الغد، وإمّا أن يرزقنا الشهادة ونرتاح من هذا الوضع العصيب.


مرت ساعات على هذا النحو. وبعد الانتهاء من المناجاة، تذكّرت النذور التي كان ينذرها أبي وأمي لحل المشكلات ودفع البلايا وتلبية الحاجات، والتي كانا يعتقدان بها كثيرًا. وبدأت بنية صيغة النذر. لقد نذرت أنه لو نجونا في صباح الغد أولًا سأختم القرآن الكريم، وثانيًا أصلّي 12000 مرّة على محمد وآل محمد، وثالثًا أقرأ 12000 مرة ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (النمل، 62). ورابعًا إقامة صلاة إمام الزمان عليه السلام. أما لو كان قدرنا الشهادة في هذا الحرج فنكون قد وصلنا إلى هذا المقام الرفيع نحن الثلاثة معًا.

سمعت مرارًا على لسان أمي وأبي أن هذه النذور لا تردّ وتوجب استجابة الدعاء بسرعة. وفي الحقيقة إنني صلّيت دومًا ودعوت الله من قبل كثيرًا، لكن تلك الليلة تختلف عن أي زمن مضى. لقد شعرت بكل وجودي وأحاسيسي أن الدعاء والمناجاة في تلك الليلة كان من نوع آخر، لذا شعرت من دون تردّد أننا سنحقّق إحدى الحاجتين عند الصباح. وهكذا، وبعد انقضاء ساعات من الدعاء والمناجاة، لكلٍّ منا في مكان نومه، وعلى أمل أن يستجيب الله لنا الدعاء، غرقنا في سبات عميق.
 
 
 
 
197

191

الثالث عشر

 الثالث عشر


عند الصباح الباكر لم تكن الشمس قد أنارت المكان بعد، حين استيقظنا وصلينا في أماكننا. كانت تُسمع من البعيد أصوات إطلاق نار. في البداية قلت في نفسي: إنّه من الممكن أن يكون الشباب قد نفذوا عملية ما. لكنّ العجيب في الأمر أننا لم نسمع طيلة الليل أي أصوات. بالطبع خلال الليالي الأخيرة لم تعد أجسامنا تشعر بالبرد بسبب الضعف والإنهاك، فكنا ننام طيلة الليل ومن الممكن أنه بسبب هذا الضعف والنوم العميق لم نسمع أي إطلاق للنار، وظننت أنّ المنطقة هادئة.

بعد الانتهاء من صلاة الصبح استأنفت الدعاء والمناجاة من جديد وكرّرت الحاجة التي طلبتها ليلة البارحة من الله سبحانه وتعالى. لم تكن خيوط النور قد لاحت بعد، حين غفوت مرة ثانية وكان نومي شبيهًا بالغياب عن الوعي بسبب الضعف والتعب الجسدي. على ما يبدو لم تكن قد مرّت ساعة من الوقت على نومي حين سمعت في عالم الرؤيا أحدهم يناديني قائلًا: "يا أخي، يا أخي، استيقظ، استيقظ...".

نهضت بسرعة، ونظرت حولي بعينين ملؤهما الخوف. رأيت والدهشة تغمرني، أحدهم ملطخًا بالدماء يقف فوق رأسي. كان شابًّا في العشرين من عمره تقريبًا، طويل القامة، يحمل سلاحًا على كتفه، والاستغراب المصحوب بالقلق باديان على وجهه. وكان يرجوني
 
 
 
 
198

192

الثالث عشر

 الوقوف بأسرع وقت ممكن. فأصوات إطلاق الرصاص باتت تقترب منّا أكثر فأكثر. أما أنا فقد صدمتُ وصعقتُ، كنت أنظر إليه ولا أصدق ما أراه. غطّت بقع الدماء الكبيرة لباسه العسكري في أكثر من مكان. كان وجهه غارقًا في الدماء، ولا يظهر منها إلا لمعان بياض عينيه. 


بينما الدماء التي تنزف من رأسه تمرّ بين خصل شعره غير المرتب، وتسيل على وجهه وتنزل نقطة نقطة من لحيته إلى الأرض.

كنت مصدومًا مما يحدث فلم ألتفت لما يقوله. انحنى على ركبته، وقال لي وهو يهزّ كتفي بشدة: "يا أخي، أما زلت نائمًا؟ أنا أكلمك، استيقظ، قف...".

أجبته وأنا أتلعثم وأتأتئ : "من أنتم؟ من أين أتيتم؟... ".

- أخي العزيز، ليس الوقت مناسبًا لهذا الكلام، قد يصل العراقيون الآن. قف لنذهب.

وأمسكني تحت إبطي ورفعني من مكاني. قلت له: "يا أخي، لا رمق حياة في قدميّ، لقد تخدّرتا، لا أستطيع المشي".

وكأنه لم يسمع ما أقوله، وضع ذراعي اليسرى حول رقبته ولفّ يده حول خصري، وبقدرته الرجولية رفعني عن الأرض. حاولت جاهدًا أن أضع قدمي اليمنى على الأرض وأساعد في المشي.

كان "حسين" و"ما شاء الله" قد استيقظا على الأصوات والجلبة، ولم يكن وضعهما في الحيرة والصدمة أفضل مني. كانت تموج في عيونهما عشرات الأسئلة. أسرعا لمساعدتي وسحباني برفقته إلى خارج الحرج.

أثناء التحرّك قال الشاب الجريح: "أنا من كتيبة يا زهراء عليها السلام. في الليلة السابقة، نفذنا عملية على "تلة برهاني" كي نكسر دفاع العدو.
 
 
 
 
 
199

193

الثالث عشر

 لقد سيطرنا على التلة وقتلنا كل العراقيين هناك. عند الصباح، حين أردنا العودة، اشتبكنا مع القوات العراقية. انقسم شبابنا إلى مجموعات على أن تقاوم كل واحدة على محور. كان نصيبنا نحن هذا المحور، وقد وجدناكم هنا".


قلت: "إذًا لست وحدك هنا؟".

- لا، بقية الشباب في الخارج.

ما إن تقدّمنا حتى رأيت صفًّا من الإخوة، كانوا عشرة أفراد تقريبًا يعبرون من طرف الحرج". ما زالت أصوات رصاص العراقيين تسمع إلى الآن. كان معظم الشباب جرحى، سوى اثنين أو ثلاثة كانوا سالمين. جريحٌ يعرج وإحدى قدميه مكسورة، وآخر أصيب برصاصة في وجهه خرجت من رقبته وما زال الدم ينزف من مكان الإصابة، وكان يبصق الدم الذي يتجمع في فمه. ومن حيث أتوا فإنّ أكثرهم أصيب بطريقة ما.

قال أحدهم بصوت عال: "أين كان هؤلاء، كيف وصلوا إلى هنا؟" أجابه المقاتل الذي يحملني: "إنهم شباب برهاني".

قاطعته قائلًا: "نحن هنا منذ أربعة عشر يومًا. لم نقدر على المشي و...".

حين سمعوا هذا الكلام، تحمسوا وصاروا يحتضنوننا وقد أغرقونا بالقبل. استدار الشابّ الذي وجدنا باتجاه شباب كتيبة "يا زهراء" عليها السلام قائلًا: "انظروا، لقد صمدوا هنا أربعة عشر يومًا وكانوا بلا طعام. فهل يصعب علينا الصمود يومًا واحدًا للوصول إلى قواتنا؟".

في الواقع، توقّف الشباب فعليًّا عن المشي. وتحلّقوا حولنا ينظرون إلينا بإعجاب وشوق. بدأ كلٌّ منهم يُخرج من جيبه ما لديه من
 
 
 
 
200

194

الثالث عشر

 المكسرات والشوكولا ويقدمها لنا. صار بعضهم يخرج قلب المكسرات ويضعها في فمنا بينما شرع آخرون في تنظيف وجوهنا التي صارت سوداء من التراب والوحل خلال الأيام الماضية.


في هذه اللحظة قال أحد الشباب: "لقد حفظكم إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. في الحقيقة هذه معجزة..". وفي تأكيد كلامه صار كلٌّ منهم يقول عبارة. عندها تدخّل أحد الشباب السالمين قائلًا: "يا جماعة، ليس الوقت مناسبًا لهذا الكلام، قد يصل العراقيون في أي لحظة".

حين سمعوا هذا التحذير تذكر الشباب أنهم ملاحقون من العراقيين وتحركوا فورًا.

أما الشابّ الذي وجَدَنا منذ البداية فقد تعهّد بحملي. كان كل وزني ملقى عليه على الرغم من أنني كنت أحاول أحيانًا أن أخفّف عنه بالضغط على قدمي اليمنى. اثنان أو ثلاثة من الأصحّاء كانوا يشجعون البقية للإسراع في المشي.

يبدو من أصوات النيران التي نسمعها أن العراقيين ليسوا بعيدين عنّا وهم يحاولون ملاحقتنا. أثناء تحرّكنا كنت منشغلًا بتذكّر ما حلّ بنا. أما العزيز الذي يحملني، فكان يذكر في حديثه التلة فيسميها تلة "برهاني". حينها علمت أنّ اسم الشهيد "برهاني" صار خالدًا على "التلة الثالثة"، بل إنّ كل المقاتلين باتوا يسمّونها تلة "برهاني" وليس فقط نحن.

من دون قصد مني، تذكرت حلم "حسين" حيث أخبرنا "صفاتاج" بالبقاء مكاننا والصبر حتى يأتي شبابه وينقذوننا. وها هم شباب كتيبة "يا زهراء" عليها السلام هم من ينقلنا إلى الخطوط الخلفية. نعم، لقد أيقنت أنني كنت مخطئًا، وأنّ حلمه كان رؤيا صادقة. من جهة أخرى،
 
 
 
 
201

195

الثالث عشر

 عرفت حقّانية الآية الشريفة: "ادعوني أستجب لكم" فصرت أذرف الدموع رغمًا عني. وقد أدركت جيدًا كم أن الله قريب منّا وإلى أي حدٍّ هو ناظر وحاضر في كل ما يحصل مع عباده.


قد يهزأ بعض لهذا الكلام فيقولون: بالطبع إن الله ناظر إلى أحوالنا وأعمالنا بشكل مطلق، لكن ما كنت أقصده هو شيء آخر. نحن البشر، في معظم أيام حياتنا، نغفل عن هذا الحضور وهذا النظر، وعلى الرغم من إيماننا الظاهر بهذا الأمر فإنّنا ننساه أحيانًا. برأيي، في تعريفنا للبشر لجهة القرب من الله أو البعد عنه، علينا أن نأخذ من هذا الأمر معيارًا دون غيره. أي إن الناس الأكثر قربًا من مقام الله هم أولئك الذين يتذكّرون دومًا حضوره وإشرافه عليهم. والبشر الأكثر بعدًا عن رحمة الله، هم أولئك الذين يقل شعورهم بهذا الحضور، أو قد ينسونه أحيانًا. إن الإحساس بهذا الحضور هو شيء أرقى من التعبير والاعتراف الشفهي بهذا الأمر. قد يعترف الإنسان بلسانه، لكنه قد ينسى أحيانًا فيقع ويتلوّث بالمعصية. لو شعر الإنسان بحضور الله ونِظارته، من المستحيل أن يفكر في المعصية، فكيف بقيام جوارحه بهذه المعصية.

إن القرآن لا يريد منا فقط الاعتراف بحضور الله، لكنه يريدنا أن نشعر بأن الله حاضر وناظر في أكثر أحوالنا وأفعالنا المعنوية والجسمية كليّة وجزئية. يريد القرآن منا أن نصدّق دومًا ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق/ 16). في الحقيقة، علينا أن نؤمن أن الله هو أقرب إلينا من أهم شريان لحياتنا. قد يكون هذا هو المقصود من الآية الشريفة: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ (المعارج، 22/ 23) لأنه من المستحيل أن يبقى الإنسان دائمًا، ليلًا ونهارًا في حال إقامة الصلاة. بل المقصود أن يشعر الفرد دومًا بالمعنى الحقيقي أنه
 
 
 
 
202

196

الثالث عشر

 عبد لله، وأن يدرك محضره المقدّس دومًا.


إن استجابة الله للأدعية التي رفعناها ليلة البارحة وفي صباح اليوم، قد أثارت مشاعري. فصرت أذرف الدموع بهدوء وكنت أقول في نفسي: "يا إلهي، كلّ الشكر لك لأنك استجبت بهذه الطريقة لعبادك الذين كانوا من دون ملجأ وكانوا مضطرين...".

ما زالت أصوات إطلاق نار العراقيين تُسمع بوضوح، ورتلنا يتحرّك بكل طاقته وسرعته. يتخلّف الشباب الجرحى أحيانًا عن المسير بينما يقوم الآخرون من الأصحّاء بتشجيعهم على الاستمرار في المشي. كما سار اثنان من الشباب الأصحّاء في آخر الصف كي يحموا البقية. قال أحد الجرحى: "كيف بقيتم أنتم على قيد الحياة إلى الآن؟ حقًّا لقد كان إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف يحميكم".

بدأ الجندي الذي كان يحملني يشعر بتعب شديد، فسألني وهو يلهث من الإرهاق: "ألا يمكنك المشي قليلًا؟".

فقد كان هو أيضًا مجروحًا والدم يسيل من رأسه ووجهه. قلت له بكل خجل وحياء: "لقد نزفت كثيرًا وأنا الآن لا أشعر بقدميّ أبدًا ولذا لا أستطيع الوقوف. وفي الوقت نفسه إنّني أشعر بدوخة شديدة حين أحاول الحركة".

فنادى أحد الشباب الأصحّاء وطلب منه حملي بعد أن وضعني على الأرض. أولًا، قام هذا الأخ بتقبيل وجهي ثم حملني على ظهره وبدأ يركض. قلت له: "سوف تتعب بهذه الطريقة. سأساعدك في المشي قليلًا". لكنه لم يأبه لكلامي أبدًا، وأكمل طريقه محاولًا تخطي الرتل بأكمله. لم أستطع للحظة أن أغفل عن لطف الله وعنايته وكرمه. لقد كنّا منذ ساعات قليلة ننتظر الموت الأليم. لكن الله غيّر المشهد
 
 
 
 
203

197

الثالث عشر

 بحكمته وتدبيره، وها نحن نسرع للّحاق بقواتنا.


حين وصلت إلى "حسين" و"ما شاء الله" ورأيتهما فرحين يتناولان المكسرات والشوكولاتة قلت لهما: "كيف أحوالكما؟ اشكرا الله كثيرًا. لا تنسيا كيف كان وضعنا بالأمس وما قبله. لقد رحمنا الله بالفعل".

بعد مرور حوالي عشرين دقيقة، تعب ذلك العزيز الذي يحملني أيضًا واقترح أن نستريح قليلًا. في حين ما زالت أصوات إطلاق النار من العراقيين تسمع حتى الآن. لكنّها صارت بعيدة عنّا كثيرًا. ولهذا توقّف الرتل نزولًا عند رغبته، واستراح حوالي ثلاث دقائق. هذه المرة قرّر الشباب أن يحملوني اثنان اثنان، فاقترب شابّان ورفعاني من تحت كَتِفَيَّ وتابعنا المسير بينما كنت أحيانًا أحاول أن أسحب قدميّ على التراب. كنّا كلّما مشينا حوالي خمس عشرة دقيقة، نرتاح لعدة دقائق.

حين صار المجال مناسبًا، سألت أحد الإخوة عن عمليات الليلة السابقة، فأخبرني عنها، وكيف جدّدت الكتيبة قواها بعد شهادة الأخ "صفاتاج"، إلى أن تلقّت البارحة الأمر بالهجوم على التلة. سألته: "وهل كان الهدف هذه المرة أيضًا تحرير المعبر؟".

- لا، كان فقط القضاء على القوات العراقية هناك وسحب أجساد الشهداء هناك. لذلك تم التخطيط بشكل دقيق، وكان من المفترض أن ننتهي قبل طلوع الفجر وتنسحب بالتالي الكتيبة من المحاور كافة. لكن عملنا على التلة طال قليلًا، وما إن قاربنا على الانتهاء حتى لاح ضوء الصباح، ما أدّى إلى زيادة عدد جرحانا. لكن على كل حال، لقد حقّقنا هدفنا، وقتلنا عددًا كبيرًا من جنود العدوّ، واستطاع شبابنا سحب عدد من أجساد سريّة "برهاني"...".

- هل تعرف الشهداء الذين نقلتموهم إلى الخطوط الخلفية؟
 
 
 
204

198

الثالث عشر

 - لا، بعد أربعة عشر يومًا لم يكن من الممكن التعرف إلى الشهداء. بالإضافة إلى أننا كنا في الليل والوقت المتاح لنا بات وجيزًا. كما إنّ الشباب نقلوا الشهداء الذين يمكن نقلهم. فقد طمر العراقيون أجساد الشهداء وتركوا رؤوسهم فوق التراب.


سألته بتعجب: "لماذا؟".

- من أجل الترويج الإعلامي، فقد أحضروا الصحافيين والمصورين كي يعدوا تقاريرَ عن هذا المشهد. لذلك كان سحب الشهداء من تحت التراب صعبًا للغاية".

فجأة غيّر الحديث وسألني: "على فكرة، هل تعرف "ردانيبور"؟".

- الحاج مصطفى؟

- نعم.

- بالطبع، لكن لماذا؟

- كان الحاج "ردانيبور" معنا ليلة البارحة. لكنه استشهد خلال عملية استرداد التلة.

لقد صدمت لسماعي هذا الخبر الأليم. فالحاج الشيخ "ردانيبور" من القادة المهمّين في فرقة "الإمام الحسين 14"، الذي أدّى دورًا مميزًا ومهمًّا في العمليات، بالإضافة إلى ذلك كان عالم دين مثقفًا، وعارفًا تقيًّا، وخطيبًا قديرًا، وتُعدّ شهادته ضربة مهمة.

- هل كان الشيخ "ردانيبور" قائد الكتيبة؟

- لا، بل شارك كقناص.

لقد استفدت مرات عدّة من خطاباته في أصفهان. قلت في نفسي: لم يكن على القادة السماح لـ"ردانيبور" بالمشاركة في العمليات. على كل حال، شغلت شهادة هذا القائد الشجاع والعارف في جيش الإسلام
 
 
 
205

199

الثالث عشر

 ذهني لدقائق. بعدها سألت: "هل المسير الذي نقطعه الآن، كان محدّدًا لكم من قبل؟".


- لا، لم يكن من المفترض على الإطلاق المجيء من هذه الناحية، لكننا اضطررنا للتوجه إلى هنا. كنا برفقة بعض الشباب نمشي في طريق حُدّد لنا من قبل، ونتّجه نحو الخطوط الخلفية، إلى أن اشتبكنا مع مجموعة عراقية. الشباب الذين سبقونا، قطعوا المنطقة وذهبوا. أما نحن فقد أجبرنا على الدوران حول التلة. فتبعنا العراقيون إلى أن وصلنا إلى الحرج حيث كنتم.

- إذًا، أنتم لا تعرفون هذا الطريق. هكذا بالصدفة نتقدّم في هذا الاتجاه!

- لا، ليس الأمر كذلك. لقد أوضح لنا القادة ودلونا على كل الطرقات. وقالوا لنا إنه إذا وصلنا إلى جدول ماء، فنسير بعكس جريان الماء ممّا يوصلنا إلى قواتنا.

أجل، فاتجاه حركة الرتل على جانب الأشجار كما كنت أراها هي بخلاف مجرى ماء الجدول. بعد مضي حوالي الساعة، من حركتنا السريعة، لم نعد نسمع صوت إطلاق النار. ما دلّنا على أن العدو قد يئس من ملاحقتنا.

خلال هذا المسير، وفّرت لنا الأشجار والجدول مناظر رائعة الجمال، ذكّرتنا بغابات شمال بلادنا. لكن خطورة المنطقة من جهة، واحتمال أن يكمن العدو لنا، وأحوالنا غير الطبيعية من الجراح والتعب والضعف، من جهة أخرى، لم تسمح لنا بالتمتع بهذه المناظر الخلابة، وكان كل سعي الشباب منصبًّا على أن نصل بأقصى سرعتنا إلى قواتنا. هذه المنطقة هي منطقة كردستان العراقية، أي المنطقة التي يوجد فيها بالإضافة إلى القوات العراقية كل من المنافقين، حزب
 
 
 
206

200

الثالث عشر

 الكوملة، والديموقراطيين بشكل ناشط.


لقد انطلقنا حوالي السادسة صباحًا وقد مرّ على مسيرنا حوالي الثلاث ساعات. في هذه اللحظات، أُعطي الإذن مرة ثانية للرتل بالاستراحة.

حتى الآن، كنت ما زلت نصف عارٍ. ولا أرتدي سوى "شورت" عسكري. أثناء الاستراحات التي كنا نأخذها، يتجمع الشباب حولي وحول "ما شاء الله" و"حسين" ليستفسروا عما حصل معنا خلال الأيام السابقة، وبالطبع كانوا يستغلون الفرصة ليظهروا محبتهم تجاهنا، من خلال تقديم أنواع العناية الطبية لنا. كانوا يفتحون حبات الشوكولاتة لنا بأيديهم، ويضعونها في أفواهنا، أو ينزعون الفستق والمكسرات من قشورها ويطعموننا إياها. باختصار، لم يقصّروا معنا على الإطلاق.

ومن أجل العناية بي، جلس أحد التعبويين بالقرب مني، ثم خلع قميصه العسكري ليلبسني إياه. بالطبع كان يرتدي قميصًا داخليًّا. رفضت في البداية، لكنه قال إنه يشعر بالحرّ ولا يحتاج إلى بدلته. بعد هذه الخطوة، صار الشباب يتسابقون لتغطية جسمي بالكامل. وقف اثنان أو ثلاثة منهم كي يقدّم كل واحد منهم لي بنطاله، لكن في النهاية استطاع أحد الإخوة الذي يرتدي "بيجاما" تحت بدلته كي يقنع البقية واستأثر بتقديم بنطاله العسكري.

أما أحد الإخوة الذي كان على ما يبدو مسعفًا، فجلس أمامي، واحتار كيف ينزع لي ضمادة مظلة القنبلة المضيئة التي لففت بها يدي. حين ظهرت لهم الإصابة وفاحت الرائحة النتنة، تأثّر الجميع ولم يستطع بعضهم منع أنفسهم من البكاء. بعد أن طهّر الجرح وعقّمه من الخارج، وضع مرهمًا ضد الالتهابات ثم أضاف مقدارًا منه فوق الضمادة التي لفّ الجرح بها. فكّ أحد الشباب كوفيته ونزعها من
 
 
 
 
207

201

الثالث عشر

 رقبته وعلّق يدي المجروحة برقبتي.


ثم توجّه الأخ المسعف إلى "ما شاء الله"، وبدأ يعالج جراحه الملتهبة كجراحي أيضًا. قام شاب آخر، بنزع كوفيته ثم وضعها في الماء لتتبلّل، وتقدّم نحوي، وصار يمسح التراب والوحل والأوساخ عن وجهي وعن يديّ، وهو لا يتوقّف عن تقبيل وجنتيّ. بينما انبرى آخر، يرتّب شعري الذي صار خلال هذه المدة وسخًا جدًّا ومنفوشًا وراح ينظفّه بيديه المبللتين، ثم بدأ يمشطه بمشطه.

بعد حوالي الأربع ساعات من المشي المتواصل، تغيّر فجأة وضع الجريح، الذي دخلت الرصاصة من خلف أذنه إلى فمه ثم خرجت من رقبته، وساءت حاله بشكل سريع فأغمي عليه. كان يمشي منذ حوالي الساعتين بمساعدة رفاقه، لكن في هذه اللحظة غاب عن الوعي تمامًا. لا خيار لدينا، توقّف الرتل، وتجمّع الشباب جميعًا حوله. فبدأت أنفاسه تتباطأ، وصار لون وجهه أبيض. هذا الشابّ العاشق، الذي لم يتخطّ الثمانية عشر ربيعًا، والذي ربط عصبة حول رأسه عليها عبارة "الزيارة أو الشهادة"، بقي على هذه الحال لثلاث دقائق تقريبًا إلى أن أودع روحه بارئها. وها هو بالإضافة إلى زيارته أبي عبد الله، قد فاز بالشهادة أيضًا.

التفّ الشباب حوله، وراحوا يندبون ويقرأون العزاء، ثم يختتمون هذه المراسم بأجمل الكلمات في زيارة عاشوراء: "السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين، السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين وسيد الوصيين، السلام عليك يا بن فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين، السلام عليك وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليكم مني جميعًا سلام الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله آخر العهد مني لزيارتكم، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين
 
 
 
 
208

202

الثالث عشر

 وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة الله وبركاته".


لم يتيسّر لنا حمل جسده الطاهر، لذلك لم يكن لدينا من خيار سوى أن نضعه تحت الأشجار ونغطّيه بالأوراق الخضراء، ثم ربط الشباب كوفيته على أحد الأغصان، كي يسهل فيما بعد العثور عليه حين تعود قواتنا للبحث عنه. أودعناه هناك بالبكاء والحزن ثم أكملنا طريقنا.

قبل حلول الظهر بقليل، سمعنا من بعيد صوت عدد من المروحيات. فأدركنا أن العدو ما زال يتعقّبنا. وعلى الفور توجّهنا جميعًا إلى داخل الحرج لنختبئ تحت الأشجار، وتمركز كلٌّ منا في مكان مناسب. وصلت ثلاث مروحيات عسكرية أخذت تحلّق على ارتفاع منخفض، طافت فوق الأشجار، لكن بسبب كثافة الأغصان والأوراق التي نختبئ تحتها، لم تستطع كشفنا. وبعد عشر دقائق تقريبًا عادت المروحيات مرة ثانية، وبعد التحليق فوق الأشجار، ابتعدت إلى مواقعها، وهكذا أكملنا طريقنا.

استمرت حركتنا المنظمة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان قد مرّ على انطلاقنا تسع ساعات تقريبًا. وفي هذه الساعة، وصلنا إلى بستان مليء بالأشجار المثمرة. من المحتمل أنه لأكراد العراق. لم يكن للبستان سياج، فدخلنا إليه لنستريح في ظلاله. قال الشباب إن المنطقة قد خلت من سكانها بسبب تحوّلها إلى منطقة عسكرية. فهاجر أهلها إلى مناطق آمنة.

أغلب أشجار البستان، كانت من التفاح والجنارك. بدأ الشباب الأصحّاء بقطف الفواكه، فأكلنا التفاح والجنارك بشهية ورغبة شديدة وبكمية كبيرة. بعد دقائق من الاستراحة، حصل خلاف بين الشباب. اثنان من الشباب الأصحّاء، أصرّا على البقاء والاستراحة، لأنه لم تعد لديهم القدرة على حمل الجرحى والمشي مسافات طويلة. بينما التعبوي
 
 
 
 
209

203

الثالث عشر

 السليم الآخر أصرّ على الاستمرار في مسيرنا والوصول بأسرع وقت ممكن إلى قواتنا. أكثر الجرحى أيضًا كانوا يرجحون البقاء في هذا المكان والاستراحة للانطلاق في صباح الغد بنشاط وحماسة.


أحد الشباب الأصحّاء قال إنه علينا الانطلاق، وأوضح رأيه للآخرين: "تمتلئ هذه المنطقة ليلًا بالديموقراطيين والكوملة وتصبح غير آمنة على الإطلاق".

في النهاية، بعد الكثير من الأخذ والردّ، اتفق الجميع على إرسال اثنين من الشباب الأصحّاء لإحضار المساعدة والدعم على أن ينتظرهم الباقون في البستان. بعد أن تركنا الشابان وذهبا، طال انتظارنا للمساعدة كثيرًا، لدرجة سيطر القلق علينا. بدأت الأفكار والظنون التشاؤمية تسيطر على أذهاننا. قال أحدهم: "هل يمكن ـ لا سمح الله ـ أن يكونا قد وقعا بأيدي القوات المعادية للثورة؟". ويضيف آخر: "من الممكن أنهما قد ضلّا الطريق وضاعا".

ولكن في النهاية، حوالي الساعة السادسة عصرًا، أي بعد ثلاث ساعات، لاح من البعيد رتل كامل من قواتنا. سادت الحماسة والفرح بشكل لا يوصف في صفوف شبابنا لرؤيتهم هذا المشهد. حين اقترب الرتل، رأينا الشباب الأعزاء، يركبون عددًا من البغال، ويقتربون بسرعة منا. أسرع بعض الجرحى القادرين على المشي لاستقبال الوافدين.

اقتربت القافلة أكثر، ولاحظنا أنّ فيها أفراد سريّتيّ "المقداد" و"مالك الأشتر". ترجّلوا بسرعة عن البغال وركضوا نحونا. لمّا وصلوا بدأوا يحتضنوننا ويعبّرون عن محبتهم كلٌّ على طريقته. قال أحدهم وهو يذرف الدموع: "يا أخ "طالقاني"، أين كنت خلال الأيام الخمسة عشر السابقة؟ لقد اعتقد الجميع أنك استشهدت...". قال آخر: "يا سيد "طالقاني"، لقد أقيمت مراسم لك وللأخ "تركان" في مدينة
 
 
 
 
210

204

الثالث عشر

 دارخوئين. اعتقد الجميع أنك استشهدت...".


على كل حال، صار الإخوة يتسابقون فيما بينهم في تقبيلنا والتعبير عن محبتهم لنا. مضت دقائق على هذا المنوال، ثمّ أركبوا كل جريح على بغل، وتولّى شابّ سليم جرّه. أثناء المسير، بين الحين والآخر، كنت أتذكّر ما مرّ علينا خلال الأيام الماضية وأذرف دموعًا، وكلّما وقعت عيناي على "حسين" و"ما شاء الله" الراكبين مثلي على البغال، أذكّرهما بمعاناتنا السابقة، وأطلب منهما عدم نسيان الشكر، شكر الله على نعمته.

كان الرتل يتقدّم بسرعة، ويقطع تلّةً تلو الأخرى. بعد مضيّ نصف ساعة، شاهدت بعض المقاتلين الموزعين على قمم التلال حولنا. بعد أن استفسرت من الشباب أخبروني أنّهم إخوتنا في الاستطلاع، فعرفت أننا نقترب منهم.

بعد دقائق، سمعنا صوت انفجارات قذائف وقنابل. في البداية، اعتقدنا أنها تدريبات ومناورات قوّاتنا، لكن عرفنا من الإخوة المرافقين لنا أنها نيران الأعداء المصوّبة على مواقعنا. حين قطعنا التلة، رأينا جرافة الجهاد (جهاد البناء) وهي تشقّ جادة على أحد مرتفعات المنطقة، والقصف الذي سمعناه إنما ينصبّ عليها. العجيب أن شباب الجهاد كانوا يكملون عملهم غير مبالين بأي قصف أو نيران. أخبرونا أنّ هذه الجادة ستكمل مسيرها إلى قلب مواقع الأعداء، كي تسهّل عملية نقل المقاتلين والدعم.

وبعد مرور حوالي الساعة، تهادت إلى أنفي رائحة بطيخ طيبة تدلّ على أنّ أحدهم يتناوله في الجوار. بعد أن قطعنا تلة جديدة وبدأنا ننحدر في المقلب الآخر، ظهر في السهل المقابل عدد من الخيم. قال الشباب إنه المقر المؤقت لقوات فرقة النجف الأشرف، ومن بعيد،
 
 
 
 
211

205

الثالث عشر

 لاح لي أفرادها، يمسك كلّ منهم شريحة بطيخ بلونه الجميل. ما إن رأونا حتى أسرع هؤلاء الأعزاء للاستقبال. كانوا يعرفون أن في هذه القافلة ثلاثة شبان من شباب الشهيد "برهاني"، كانوا ضائعين في هذه الفلاة. ولهذا تجمّع شباب فرقة النجف الأشرف حولنا وحاصروا الرتل، يسألون عنا.


لمحت من مسافة بعيدة، الأخ مجيد كرباسي1، أحد الشباب القرآنيين من حيّنا، وقد سمّر عينيه عليّ مصدومًا برؤيتي. ابتسمت له، لكنه على ما يبدو لم ينتبه، لذلك لم يقم بأي ردّ فعل. لكن بعد وقت قصير، بدأ يركض نحوي. فيما بعد فسّر لي حين جاء لعيادتي في أصفهان: "لأن الجميع قد أكّد لي أنّك استشهدت على التلة، وقد أقاموا لك مراسم عزاء، حين رأيت جسدك النحيل كالهيكل العظمي على البغل، تخيّلت أنك لست على قيد الحياة، بل أجلسك الشباب وربطوا جثمانك بهذه الطريقة على البغل!".

حين اقترب مجيد منّي، قال لي وهو يغصّ بدموعه: "يا سيد "طالقاني"، أين كنت حتى الآن؟ لقد انتشر خبر شهادتك في كل مكان! حتى إنّه بلغ أصفهان".

فجأة تذكرت أمي، فكأنّ قلبي قد وقع من مكانه. منذ بداية وصولنا إلى الحرج، كنت دائم التفكير بأمي. كنت أقول في نفسي: ماذا لو أوصلوا خبرًا سيئًا إلى أصفهان. كنت واثقًا أن أمي لن تستطيع تحمّل خبر شهادتي إذا سمعته. حين قال مجيد هذا الكلام، سألته بحزن شديد: "وهل وصل الخبر إلى بيتنا؟".

- لا أعلم، ولكن كل الشباب عرفوا بالأمر.
 

1ـ نال الأخ مجيد كرباسي برفقة صديقه الحميم وعزيزه مجيد نيلي بور شرف الشهادة في العمليات اللاحقة. رحمة الله عليهما.
 
 
 
212

206

الثالث عشر

 صرت أردّد في نفسي ما البلاء الذي وقع على رأس أمي؟ وهكذا، لم أستطع أن أتجاهل ولا للحظة واحدة حال أمي.


جرّوا البغال إلى خيمة الإسعاف (الطوارئ). مجموعة كبيرة وقفت على طرفي الرتل تتابع مرورنا. كانوا يدلّون بعضهم بعضًا علينا ويشيرون موضحين أننا قضينا حوالي الأربعة عشر يومًا جرحى ومن دون طعام في الحرج. على الرغم من أننا تناولنا الكثير من الفاكهة في البستان، لكنني حين رأيت قضم الشباب للبطيخ، سال لعابي واشتهيته.

أخيرًا توقّف الرتل أمام خيمة الإسعاف. بدأ الشباب يتسابقون لإنزالنا عن البغال. كانوا قد جهّزوا الحمّالات من قبل كي يمددونا عليها. أنا أيضا حُمِلت على أكتاف التعبويين ووضعوني على إحداها. تحلّق كثيرون حولي، وكانت الجلبة كبيرة. ركع أحدهم بالقرب مني وقال: "هل صحيح أنكم بقيتم سبعة عشر يومًا لم تتناولوا خلالها الطعام؟". أومأت برأسي مؤيّدًا كلامه.

كنت أسمع صوت بكاء الشباب بينما هم متحلّقون حولي، صاروا يتسابقون بتقديم البطيخ الشهي، ويضعونه في فمي. حتى كاد فمي ينفجر، فلم أكن قادرًا على بلع الكمية الكبيرة ولم أكن قادرًا على قول كفى.

وفي المقابل، كان طبيب الطوارئ بالزي الأبيض يشقّ بصعوبة طريقه بين المجتمعين حولي ووصل إليّ، ورفع صوته محاولًا إيقافهم عن عملهم هذا: "يا شباب، لماذا تتصرفون هكذا؟ ألا تعلمون أن معدة هذا العبد الفقير وبعد سبعة عشر يومًا ليست قادرة على تحمل كل هذه الكمية من البطيخ؟".
 
 
 
 
213

207

الثالث عشر

 ثم جلس الطبيب بقربي، وصار يسألني عن أحوالي في الوقت نفسه كان يمسح بيده على رأسي ووجهي. بعدها بدأ بفك القماش الذي يلفّ يدي. وعلى الرغم من أنني غيرت الضمادة حول يدي منذ فترة بسيطة، إلا أن الرباط كان يغرق بالدم والتقرّحات، وملأت رائحة العفن والالتهابات المكان حولنا. تأثّر الطبيب كثيرًا، وغسل الجرح بماء المصل وحاول سحب خيط المسبحة ظنًا منه أنه إضافي، فقلت له مباشرة: "لا، لقد ربطت شريان يدي بهذا الخيط، إذا سحبته وفككته سيبدأ النزيف مرة ثانية". ابتسم الطبيب وهو يمدحني وأكمل علاج جرحي. بعد ذلك، طلب من الشباب الذين ينحنون فوقنا، أن ينقلوا الحمالة إلى سيارة الإسعاف الواقفة على بعد أمتار منّا. حين رفعوا الحمالة عن الأرض، وقع نظري على صورة الإمام الخميني النورانية الموضوعة على الزجاج الخلفي لسيارة الإسعاف، فبدأت أبكي رغمًا عني.


حين كنا في الحرج، كنت دائمًا أتساءل إن كنت سأرى محبوبي الإمام مرة ثانية، أم أنني سآخذ هذه الأمنية معي إلى القبر؟ وها هو الله قد منحني هذا التوفيق مرة ثانية. لم أكن أستطيع أن أزيح نظري عن صورة الإمام المشرقة، ولم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء. ولم يعرف الشباب سبب بكائي فقال أحدهم لآخر بالقرب منه: "المسكين لقد انهارت معنوياته!".

خلال هذه اللحظة لم أعرف شيئًا عمّا حصل بصديقَيّ "ما شاء الله" و"حسين"، وكنت آمل أن يكونا معي في سيارة الإسعاف نفسها. لكنهم وضعوني في الإسعاف إلى جانب جريح آخر. ولم يعد يتّسع المكان لأي جريح بالقرب منا. أوشك الشباب أن يغلقوا الباب، فإذا بحسين يقفز إلى الداخل ويجلس تحت قدميّ. فرحت كثيرًا لرؤيته وسألته: "أين ما شاء الله؟".
 
 
 
 
 
214

208

الثالث عشر

 فأجاب: "لقد نقلوه قبلنا في سيارة إسعاف أخرى".


لم تكن قد مرّت فترة وجيزة على انطلاقنا حتّى تناهت إلينا أصوات مضادات الطائرات. انطلق سائق سيارة الإسعاف بأقصى سرعة ممكنة، على الجادة المليئة بالمطبات الترابية. وصوت هدير طائرات العدو التي تبدو وكأنها تطير على ارتفاع متر واحد فوقنا، قد هزّت المكان والزمان معًا. كانت تهدف إلى القصف الجوي للجادة أمامنا، لكن السائق أوضح لنا أن القذائف سقطت على جانبي الطريق. ثمّ سمعت صوت السائق بلهجته الـ"نجف آبادية" الغليظة وهو يقول: "التعساء! يريدون أن يتحدَّوا إرادة الله. لقد حفظ الله هؤلاء من دون ماء أو خبز لسبعة عشر يومًا، فهل جاء الآن هؤلاء المساكين ليُقصَفوا هنا؟".

لم يعد يفصلنا عن الغروب سوى وقت قليل وها هي بوادر العتمة بدأت تلقي ظلالها علينا. طيلة الطريق كنت ما زلت أفكر بالماضي، الماضي الذي مرّ كحلم، قلت لرفيقي: "يا حسين، ماذا كنا نفعل بالأمس في مثل هذا الوقت؟".

- كنا نأكل ورق العريش، وطلبت أنت منا أن ندعو الله...

- هل كان يخطر على بالك في الأمس، أنه سيكون اليوم الأخير لنا في ذلك الحرج؟ هل ترى مدى لطف الله وعنايته؟

أكثر ما كان يقلقني في هذا الوقت هو أحوال أمي. وكنت أقول في نفسي: "ماذا لو ــ لا سمح الله ــ أصيبت أمي بسكتة قلبية فيما لو سمعت خبر شهادتي"؟ حين سأعود إلى أصفهان، ما الذي ينتظرني هناك؟

كان الظلام قد حلّ بالكامل حين وصلنا إلى "نقدة"، ونقلتنا إلى مشفاها مباشرةً سيارة الإسعاف.

أخذوني في البداية إلى غرفة الطوارئ. وعلى الفور حضر طبيب
 
 
 
 
215

209

الثالث عشر

 جراح لفحصي. كان يتكلّم بلهجة آذرية غليظة، لكنّه رجل حنون للغاية. كان يعرف كل ما حصل لنا. يبدو أن الشباب في فرقة النجف الأشرف قد أخبروهم أن الجرحى الذين بقوا سبعة عشر يومًا في الفلاة سيُنقلون إلى المستشفى. في البداية أخذوا صورة شعاعية لذراعي. ثم وصلوني بالدم والمصل. حين شاهد الطبيب يدي، شجعني ومدحني، لأنني استطعت أن أربط شريان الدم وأمنع النزيف، ثم قال: "لا تقلق، الليلة سنجري لك عملية".


قلت له: "ما زال لديّ الكثير لأقوم به بيديّ. أظن أن تشخيصك الحاسم هو قطعها لأنها متعفنة؟". أجابني وهو يبتسم: "بل على العكس تمامًا، حين أخبروني عن وضعك من الخطوط الأمامية، قلت في نفسي لا بد وأن تكون يدك سوداء ومهترئة، وسيلزم قطعها لمنع العفن والالتهابات من الانتقال إلى كل اليد. لكن حين رأيت جرحك، تعجبت كثيرًا، لم ينتشر العفن، بل هو فقط حول الجرح. وهذا ليس سوى إرادة الله. صدقني إنها معجزة. لذلك لا تقلق أبدًا. أعدك أن يدك لن تتأذى أبدًا، بل سأبذل كل جهدي كي أقوم بعملية جراحية دقيقة ونظيفة كي تعمل أفضل من السابق...".

بعد القيام بمقدمات الدخول إلى المستشفى. نقلوني إلى قاعة كبيرة حيث مددوني على أحد الأسرّة. كان في كلا طرفي القاعة عدد من الجرحى. تولّت مسؤولية تجهيزي ممرضتان. في البداية غيرتا كل ملابسي وألبستاني رداءً أبيض. بعد ذلك شرعتا في تعقيم جراحي كافة في ظهري وكفّي وقدمي. كلّما لمستا الجراح شعرت بحرقة مؤلمة. كان "حسين" يتنقّل بحركة دائمة، ويتفحص كل الأماكن، وأحيانًا يأتي ناحيتي كي يطمئن عن أخباري. لكن لم يأتني بخبر عن "ما شاء الله".

قلت لحسين: "هل رأيت ما شاء الله؟".
 
 
 
 
 
216

210

الثالث عشر

 - لا، لقد بحثت في كل مكان، ولكن لا أثر له.


بينما كنت جالسًا على السرير والمصل موصول بيدي، أقمت صلاتي. وبعدها، فُتحت أبواب القاعة، ودخلت الممرضات مع صواني الطعام. انتشرت رائحة الطعام الشهي في الأرجاء. كان الطعام يخنة "القيمة". بدأوا يوزعون الطعام على كل سرير واحدًا تلو الآخر ويتقدّمون نحوي. كنت أعد اللحظات ليصلوا إليّ فقد نفد صبري من الانتظار. لكنّهم حين وصلوا إلى سريري مرّوا بلا مبالاة ثم قدّموا الطعام لمن يجلس على السرير الآخر إلى جانبي. انزعجتُ كثيرًا وقلت للممرضة المسؤولة عني: "يا جماعة، لم أتناول طعامًا منذ سبعة عشر يومًا. وها أنتم الآن تحرمونني من الطعام".

قالت بلطف وحنان: "لا تنزعج. إنه أمر الطبيب! فالليلة لديك عملية جراحية. يجب أن تكون معدتك فارغة. أعدك أن أُحضّر لك الطعام شخصيًّا غدًا صباحًا. لقد صبرت سبعة عشر يومًا فاصبر اليوم أيضًا".

ليس الخيار بيدي. وعلى الرغم من شهيتي الشديدة، جلستُ أشاهد الجرحى وهم يأكلون، ولفت نظري أحدهم لم يكن يميل إلى تناول طعامه، لكن الممرضة أبت إلّا أن تطعمه غصبًا عنه.

كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة حين نقلوني إلى غرفة العمليات ووضعوني على السرير الخاص بالجراحة. اقترب الطبيب مني وهو يرفع أكمامه، وقال لي وهو فوق رأسي: "هل تعرف أنه منذ السادسة صباحًا وأنا أقوم بالعمليات الجراحية المتتالية؟ وسأشعر بالخسارة إن فوتّ العملية الخاصة بالشابّ الذي قضى سبعة عشر يومًا ضائعًا وحفظه الله. هل تصدّق أنني لم أجد وقتًا لأصلي حتى الآن؟".
 
 
 
 
217

211

الثالث عشر

 - سيفوت وقت الفريضة!


- حسنًا، سأصلي الآن. لست مقصّرًا. كان من غير الممكن أن أصلي بين أوقات العمليات الجراحية.

ثم توضأ ومدّ سجادة صغيرة بالقرب من غرفة العمليات، وبدأ بالصلاة.

كنت أشكر الله من صميم قلبي لوجود أمثال هذا الطبيب. بعد أن أنهى الصلاة، بدأ بتجهيز نفسه للعملية. حين اقترب مني سألته: "هل يمكنني أن أطلب منكم طلبًا صغيرًا؟".

- بالتأكيد، على عيني، تفضّل.

- لا أحب التخدير الكامل1، هل بإمكانكم تخدير يدي بشكل موضعي. فقط خدروا يدي وأعدكم أنني سأدير وجهي وأنام من دون حراك".

ابتسم وأجابني: "حسنًا، لن أعارضك. سأخدّر يدك فقط".

ثم طلب من الممرضة أن تحقنني بإبرة. كنت أدرك أنها إبرة تخدير. لكن على عكس ما توقعت توجهت الممرضة نحو قدمي وحقنتني في أعلى فخذي. قلت للطبيب: "أليس من المفترض أن تخدّر يدي فقط؟".

- هذا ما نقوم به، نحقن قدمك لتتخدر يدك.

حين سمع الحاضرون كلامه راحوا يضحكون بصوتٍ عال. بعد حقنة التخدير، انحنى الطبيب فوق رأسي وقال لي: "حسنًا، هيا أخبرنا الآن ما حصل معك خلال الأيام السبعة عشر الماضية". لكن وبما أنّني بدأت أشعر بسواد أمام ناظري، وأنني أوشك أن أغيب عن الوعي قلت له: "سأنفذ طلبك هذا لاحقًا...". ولم أعِ بعدها أي شيء....
 

1- البنج العام.
 
 
 
218

212

الرابع عشر

 الرابع عشر


لم أعلم متى انتهت العملية الجراحية. لكنني استيقظت عند السحر بحال سيئة، وبدأت تدريجيًّا أعود إلى وعيي. كنت قد سمعت من قبل أن الاستيقاظ من التخدير هو أمر صعب جدًّا ومؤذٍ للغاية. لكنني لم أدركه حقًّا إلّا في هذه اللحظات. تركوني ممدّدًا على سرير أُضيئت فوقه "لمبة" صفراء اللون.

في سكرات التخدير، ظننت المصباح شمسًا، لكنها شمس تلسعني بنيرانها الملتهبة كأنها سهام تخترق جلدي، بدل أن تدفئني وتريحني. شعرت أنهم تركوني بين الكواكب في السماء بالقرب من الشمس وكأنّني عالق في الفضاء وفي حال سقوط حرّ من فوق. من جهة ثانية، كنت أتصور أنّ في جسمي جبلين متجاورين يحاول تنين المرور بينهما ولكن بسبب ضيق الوادي علق هذا التنين وهو يحاول سحب نفسه من بينهما.

بعد أن وعيت أكثر، أدركت أنّ الجبلين هما خدّاي وأن التنين ما هو إلّا لساني الذي كنت أحاول إخراجه من فمي. أمضيت ساعة كاملة على هذه الحال من العذاب الكبير. حين قاربت العودة إلى الوضع الطبيعي، بدأت عيناي تعملان بشكل جيد، واستطعت أن أرى الغرفة، لكن الأشياء كانت أكبر من حجمها الواقعي.

في هذه الأثناء، دخلت ممرّضتان إلى الغرفة لتفقّدي، لكن بسبب هذا الخلل في الرؤية خفت منهما كثيرًا وبدأت أصرخ وعلى ما يبدو
 
 
 
 
219

213

الرابع عشر

 وجهت لهاتين الأختين كلامًا مؤذيًا1.


عندما واجهت الممرضتان صراخي، حاولتا تهدئتي. لكنني كنت أسمع أصواتهما أعلى من الواقع وكنت أشعر أنهما تصرخان. كان العذاب الذي عانيته أثناء فترة عودتي إلى الواقع، لا يمكن وصفه. ولكن على كل حال، بدأت أستعيد وعيي شيئًا فشيئًا.

كان الصباح يوشك على الطلوع حين استعدت وعيي بالكامل. لكنّ أطرافي، وأقصد يدي وقدمي ما زالتا مخدّرتين. في تلك اللحظة، ناديت الممرضة وطلبت منها ترابًا للتيمم. لبّت طلبي مباشرة ووقفت بالقرب من سريري حتى انتهيت من صلاتي.

كان لساني ثقيلًا ولم أكن أستطيع التلفّظ بشكل صحيح أثناء الصلاة. حاولت مساعدتي محاولة تلقيني الكلمات، حين أصل إلى مرحلة السجود، كانت تحمل السجدة وتضعها على جبيني. وباختصار لم تقصّر معي وغمرتني بلطفها.

في ذلك اليوم، وللمرة الأولى أدركت عظمة وقيمة الأتعاب التي تعانيها هذه الطبقة المضحّية والعاملة، وشعرت أنني سأبقى مدينًا لمحبة ولطف الممرضات اللواتي كنّ بالنسبة إليّ في هذه الظروف الصعبة، كالأم الحنون.

بعد فترة، عادت الممرضتان لعيادتي ولتسألا عن أحوالي. عندها قالت إحداهما: "هل أنت قلق على وضع أمك".
 

1- لهذا السبب في مساء اليوم التالي، كنت خجلًا جدًّا منهما، وكنت كلما جاءتا لعيادتي طأطأت رأسي لشدة الخجل.
 
 
 
 
220

214

الرابع عشر

 سألتها بتعجّب: "ولماذا تسألين؟".


- حين كنت غائبًا عن الوعي، ملأ صوتك كل المستشفى وأنت تنادي أمك. وكنت لا تتوقّف عن تكرار أمي أمي أنا بخير...

- نعم، معك حق. فقد وصل الخبر إلى أصفهان أنني استشهدت. أنا خائف من أن تكون أمي قد أصيبت بسكتة...

عندها ذهبت الممرضة لتعود بعد دقائق وتسألني وهي مترددة: "هل هناك هاتف في منزلك"؟

- نعم.

- هل تريد أن أتصل بأمك وأسأل عن أحوالها وأطلعها أنك بخير؟

أجبتها بسرعة وحسم: "لا، على الإطلاق".

- ولكن لماذا؟

- سيزداد قلقها أكثر.

غرقت في التفكير ثم قالت: "هل تحب أن تتكلم أنت مع أمك؟".

- بالطبع.

ذهبت وبعد ساعة تقريبًا عادت وبيدها ورقة والفرح بادٍ على وجهها، وقالت: "لقد أخذت إذنًا من رئيس المستشفى لتتمكن من الاتصال بأمك".

كانت قدماي ويداي مخدرة ولا أستطيع تحريكها. كنت فقط قادرًا على تحريك رأسي. أحضرت الممرضات كرسيًّا بعجلات، ونقلنَني عليها إلى خارج الغرفة. كان لساني لا يزال ثقيلًا ولا أستطيع الكلام بوضوح. بعد لحظات دخلنا إلى غرفة كأنها مكتب رئيس المستشفى. في مقابل الباب كان طبيبي الجراح يجلس خلف الطاولة. ألقيت التحية عليه فردّ سلامي ثم قال: "حميد، هذا أنت؟ كيف حالك؟ هل رأيت
 
 
 
 
221

215

الرابع عشر

 العملية التي أجريتها لك كم هي متقنة وجيدة؟ ثق بي، إنها من أكثر العمليات التي قمت بها دقة. لقد أزلت كل اللحم المتعفن ثم قطبتها بطريقة لن يبقى لها أي أثر فيما بعد".


- آجرك الله وعافاك. سلمت يداك، لقد تعبت كثيرًا بسببي.

- سمعت أنك تريد التحدث مع أمك. ما الخبر؟ وكأن الجميع يهتم بك هنا ويريد رضاك. هل تعلم أنه ممنوع على الجرحى الاتصال بخارج المستشفى؟

- هذا من لطفهم.

سألتني الممرضة عن رقم بيتنا. ثم بدأت تطلبه. بعد لحظات رفعت أمي السماعة، وبينما كنت أحاول جاهدًا السيطرة على نفسي كي لا أبكي قلت لها: "آلو، أمي، سلام، أنا حميد". 

وفجأة وبحال من التعجب والشوق، أمطرتني أمي بالكلمات الحنون، ثم بكينا معًا لدقائق.

ثم قالت: "بنيّ، لقد كدت أموت لشدة القلق عليك. لماذا لم نسمع عنك أي خبر طيلة الشهر الماضي؟".

- لم أكن أستطيع، لم يكن بإمكاننا الحصول على هاتف.

- بنيّ، أجبني بصراحة، أين أنت الآن؟ من أين تتصل؟

- لا تقلقي أبدًا. من الأهواز. سأكون في أصفهان خلال أيام معدودة. ارتاحي ولا تحملي همًّا..

لاحقًا قالت أمي: "في تلك اللحظة شككت بوضعك، وقلت لأبيك إنّ حميد لم يكن بحال طبيعية وكأنه يغص بعبراته".

على كل حال، فرحت كثيرًا لأنه لم يكن قد وصل لأمي أي خبر مفجع. من جهة أخرى اطمأننت أنني أخرجت أمي وأبي من القلق الذي يعانيان منه. فيما بعد أيقنت أن وقت هذا الاتصال وتيسيره
 
 
 
 
 
222

216

الرابع عشر

 في هذه اللحظات بالذات، كان من الألطاف الإلهية وعنايته. لأنه في اليوم الذي سبق اتصالي، زار أصدقائي القرآنيّون مؤسّسة الشهيد في أصفهان ووجدوا أن اسمي في لائحة مفقودي الأثر. ثم اتصلوا بالمعنيّين في مدينة دارخوئين في الأهواز حيث أكّدوا لهم شهادتي. ثم اجتمعوا بعدها في مسجد الحي ليخططوا للمراسم ولكيفية إطلاع أمي وأبي على شهادتي. في النهاية، قرّروا أن يزوروا بيتنا في صباح اليوم التالي، وأن يقصد أحد الشباب والديّ ويخبرهما بشهادتي بطريقة مناسبة، أي ذلك اليوم الذي اتصلت فيه من المستشفى بأمي وأبي.

في ساعات الصبح الأولى من الـ18 من مرداد/ 8 آب، تكلّمت مع أمي هاتفيًا وبعدها بساعة تقريبًا وصل ذلك الصديق إلى بيتنا ليتحدّث مع أبي. في البداية، وكمقدّمة لكلامه سأل: "حسنًا، ما أخبار السيد حميد؟".

أجابه أبي بدم بارد: "لسنا على اطلاع كامل، لكن لا يخلو الأمر من بعض الأخبار، لقد اتصل بأمه منذ ساعة تقريبًا".

سألهم وقد تسمّر مكانه من المفاجأة: "هل أنتم متأكّدون؟ هل كان السيد حميد حقًا...؟".

- نعم، إنه هو، وهل تريد أن يكون شخصًا آخر؟

فودّعهم مسرورًا وأسرع ليخبر باقي شباب الحيّ.

حين أعادتني الممرضة إلى الغرفة، كان الجرحى يتناولون الفطور. كوبًا من الحليب وحساء الدجاج وجبنة ومربى وزبدة. ظننت أنهم لم يتركوا لي فطوري لأنني كنت خارج الغرفة. قلت للممرضة: "هل بإمكانك أن تحضري لي أنا أيضًا صينية فطور؟".

أجابتني بهدوء: "ما زلت تحت تأثير المخدر. لم يسمح لك الطبيب
 
 
 
 
223

217

الرابع عشر

 بتناول الفطور. اصبر كي أذهب وأستشير جرّاحك، وحين يسمح لنا، سأحضر أنا لك وعاءً مليئًا بالطعام".


انزعجت كثيرًا وشعرت بالفعل أنني لم أعد قادرًا على التحمل، لكن لا خيار لديّ. في هذه اللحظات دخل أحد الأطباء إلى الغرفة لعيادة جريحه. فأخبرته بمشكلتي وأبديت اعتراضي الشديد. لكنه قال لي: "لا علاقة لي بالأمر، يجب أن تنتظر رأي طبيبك".

بعد ذلك، حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحًا، دخلت الممرضة والفرح بادٍ على وجهها تحمل في يدها صينية طعام. وهكذا بعد ثمانية عشر يومًا، بدأت أتناول الفطور بشهية لا يمكن وصفها.

كان الفطور الأكثر لذة الذي تناولته في عمري. نعم، إنّه الفطور الوحيد الذي تناولته وكانت كل لقمة ممزوجة بدمعة وآه. إن تحمّلي لليالٍ وأيام للجوع دفعني لأعرف الآن قيمة نِعم الله، وأذرف الدموع لشكره. قلت في قلبي: يا إلهي! كم من نعمك أكلنا وشربنا في الماضي من دون أن ندرك قيمتها وقدرها.

في المقابل، كانت تمر أمام ناظريّ -ومع كل لقمة آكلها- صورُ جوع وعطش وضعف رفاقي وأصدقائي الشهداء الذين كنت سقّاءهم على تلة "برهاني"، فتتغير أحوالي. أولئك الأعزاء الذين تركتهم يومًا وها هم يصبحون شهداء الدفاع المقدَّس، وها أنا في ظلال تضحياتهم وإيثارهم أتمتع بثروات ورأس مال هذه البلاد!

بعد الانتهاء من الفطور، جاء الطبيب الجراح لعيادتي، وقال لي إنه خلال دقائق معدودة، سيأتي مسؤولو "نقدة" برفقة إمام الجمعة لزيارتك. ثم أضاف أن الراديو والتلفزيون قد علموا بقصتك ويريدون الحضور ليجروا مقابلة معك.
 
 
 
 
224

218

الرابع عشر

 تفاجأت وصدمت وقلت: "لن أجري مقابلة مع أحد".


- لماذا؟

أجبته: "لقد كنتَ شاهدًا في الصباح كيف كذّبت على أمي، وقلت لها إنني في الأهواز وإنني بصحة جيدة، فإذا رأتني على هذه الحال ستصاب بسكتة. لا، قولوا لهم أن يتحدّثوا مع الآخرين، حتى لا تسمحوا لهم بتصويري".

رضي الطبيب وأوصى الممرضة بعدم إعطاء الإذن لهم بتصويري أو بالحديث معي. بعد ساعة، وصل إمام الجمعة برفقة عدد من المسؤولين ومجموعة كبيرة من أهل المنطقة لعيادتي حاملين أكاليل الورد فغمروني بلطفهم ومحبتهم. كانوا على علم بما حصل معي لذلك أخجلني هؤلاء الأحبة بلطفهم ومحبتهم. في هذه الأثناء وصل وفد التلفزيون والراديو، على الرغم من توضيح الممرضة لهم أنني لا أستطيع مقابلتهم إلا أنهم أرادوا فقط أن أعلّق على فيلم أحد الجرحى من دون ذكر اسمي، فاكتفيت بطلب الدعاء لسلامة وصحة الإمام، ثم أضفت أن كل ما حصل معي لا يُقارن بشجاعة وبسالة شباب تلة "برهاني". لكن الطبيب الجراح، أخبرهم بكل التفاصيل وقد سجلوا ما قاله.

بعد عمليتي الجراحية لم أسمع أي خبر عن "حسين". لكن بمتابعتي الحثيثة لهذا الموضوع، عرفت أنه خرج من المستشفى لأن جراحه كانت طفيفة وعلى ما يبدو أرسلوه ليلة البارحة إلى مقر التعبئة في المنطقة.

طلبت من إحدى الممرضات أن تبحث لي عن "ما شاء الله". أعطيتها مواصفاته، لكنني لم أكن أعرف اسم عائلته. على كل حال، بعد تقصيها للموضوع قالت إنّه لم يتم استقبال أي جريح بهذا الاسم في مستشفى "نقدة". ثم أضافت: "من المحتمل أنه تمّ نقله إلى
 
 
 
 
225

219

الرابع عشر

 مستوصف أو منطقة أخرى".


في عصر ذلك اليوم، غيّرت الممرضة لباسي، وأخبرتني أنهم سينقلونني مع عدد من الجرحى إلى "أرومية".

- لماذا؟

- لأنه من غير الممكن البقاء هنا، يجب نقلكم إلى مستشفيات أخرى في أنحاء البلاد كي نفسح المجال أمام الجرحى الجدد.

عندها حضر طبيبي الجراح برفقة الممرضات ونقلوني على حمالة بعجلات ثم اصطحبوني حتى سيارة الإسعاف لوداعي.

سأبقى طيلة عمري مدينًا للمحبة الصادقة، وللجهود المتواصلة ليلًا نهارًا لهؤلاء الأعزاء، وسيرافق دعائي لهم بالخير دومًا أيام حياتهم. يحتاج الجريح إلى المحبة، والله يعلم كم تؤثّر محبة الجهاز الطبي والممرضين في تهدئة وتسكين المريض.

على كل حال، نقلونا بسيارة الإسعاف إلى مطار أرومية، المطار نفسه الذي منذ عشرين يومًا تقريبًا داسته قدماي مع رفاقي النورانيين، وها أنا اليوم أعود وحيدًا مع حملٍ من الذكريات لأروي رسالة صدقهم وإيثارهم وتضحيتهم وإيمانهم لجيل اليوم والغد.

صارت قاعة مطار أرومية شبيهة بمستشفى مؤقت، حيث تهتم الممرضات بالجرحى. وها أنا آخذ استراحة الليلة إلى جانب باقي رفاقي من الجرحى.

في صباح اليوم التالي، نقلونا في طائرة (C130) العسكرية إلى يزد. كان في انتظارنا على أرض المطار عدد من سيارات الإسعاف. ونقلتنا إلى أحد المستشفيات المجهّزة في يزد، أظن أن اسمه مستشفى "أفشار".

أمضيت عدة أيام هناك. عاملنا الناس بكل لطف ومحبة، إذ كان
 
 
 
226

220

الرابع عشر

 المستشفى يستقبل يوميًا عشرات الوفود من أهل المنطقة محملين بباقات الورود وعلب الحلوى آتين لعيادة الجرحى الذين يُسَرّون كثيرًا بهم.


منذ اليوم الأول لوصولي إلى يزد، كنت على اتصال دائم بعائلتي. إذ كانت هواتف المستشفى تحت تصرّف الجرحى كي يتصلوا إلى أي مكان أرادوا داخل البلاد. عند كل مكالمة مع أمي، كنت أكرر لها أنني موجود في "الأهواز" وأنني سأحضر إلى أصفهان قريبًا جدًا.

بعد مرور ثلاثة أيام على وجودي في المستشفى، أخذت قراري بإخبار عائلتي بالحقيقة. قلت في نفسي إنّهم خلال الأيام الماضية، صاروا مستعدين للقائي، وإذا ما رأوني على هذه الحال في أصفهان، سيُصدمون بالتأكيد. لذلك رأيت من الأفضل أن أشرح لهم بنفسي وضعي وحالي بطريقة مناسبة. عصر ذلك اليوم اتصلت بأمي، لكنني لم أشر إلى الموضوع بأي كلمة. فطلبت الحديث مع والدي، لكن الحاج لم يستطع الكلام معي لأنه غصّ بعبرته. عندها استنتجت أن أبي أيضًا ليس مستعدًّا نفسيًّا لسماع حقيقة روايتي. لذلك طلبت الكلام مع أختي الكبرى، وبعد مقدّمة بسيطة قلت لها: "انتبهي إليّ، واسمعي ما سأقوله جيدًا، وحاولي ألا تقومي بأيّ ردّ فعل. في الحقيقة أنا أتكلم معكم من يزد. وأنا بخير وحالي جيدة جدًا. لكنني مصاب إصابة بسيطة في يدي اليمنى. حاولي أن تخبري أمي والحاج الوالد بهدوء ما قلته لك".

بعد ساعة تقريبًا، اتصلت مرة ثانية بالبيت. كل ما سمعته هو الضجة وصوت البكاء والعويل. قلت: "أمي، أقسم بالقرآن إنّني بخير وفقط يدي مجروحة...".

لكنهم لم يصدّقوا ما أقوله، بل ظنّوا أنني أكذب عليهم كي لا يُصدموا، وأنّ يدي أو قدمي قد قطعت لكنني أخفي الأمر عنهم. الحق
 
 
 
 
227

221

الرابع عشر

 معهم، فقد كنت كالراعي الكذّاب إذ إنّني وعدتهم سابقًا بكثير من الأشياء ومنها عدم ذهابي إلى الخطوط الأمامية، لكنني ذهبت.


في صباح اليوم التالي، عاودت الاتصال بالبيت. فأخبرني أبي أن أمي وأختي قد توجهتا إلى "يزد"، عند المساء. قلقت كثيرًا لأنه كان عليهما الوصول إلى "يزد" قبل هذا الوقت.

عرفت فيما بعد أنهما ذهبتا إلى موقف الحافلات المتوجهة إلى "يزد"، وقال لهم الموظف هناك، إن حافلات "يزد" تنطلق عند السابعة صباحًا. لكن أمي رفضت العودة إلى البيت، وبقيت في موقف الحافلات حتى الصباح برفقة أختي كي تنطلقا مع أول حافلة إلى "يزد". بمساعدة إحدى الممرضات وعلى كرسي متحرك، توجهت إلى المدخل الرئيسي للمستشفى وصرت أنظر من خلف الزجاج. طال هذا الانتظار لساعات.

قرابة الظهيرة، رأيت أمي وأختي تدخلان المستشفى بعجلة وارتباك. لكي أُظهر لهما أنني بصحة جيدة، وقفت بسرعة عن الكرسي المتحرك واتكأت على الحائط. دخلتا الممر الأساسي وتوجهتا مباشرة نحوي. لكن بسبب طول وتجعّد شعري ولحيتي لم تعرفاني وصارتا تسألان كل من تلتقيانه عني. ما إن ابتعدتا مترين أو ثلاثة حتى التفتُّ وناديتُ: "أمي!".

عادتا فجأة، وبينما كنت أبكي بشدة، احتضنا بعضنا البعض. طال هذا المشهد لدقائق. بعدها وضعت يدي حول كتف أمي وتوجّهنا نحو غرفتي. بعد أن تفحصتني أمي من رأسي حتى قدميّ وتأكدت أنني بصحة جيدة، هدأت وكانت كالذي خرج من حال هلع شديدة. فجلست على حافة سريري.
 
 
 
 
228

222

الرابع عشر

 منذ اللحظة الأولى لدخولها المستشفى، كانت مصرّة أن لا داعي لمكوثي هنا، وعليّ الانتقال إلى أصفهان. أوضحت لها الممرضات أن الطبيب قال عليّ البقاء في المستشفى لأسبوع آخر. لكن أمي رفضت الرضوخ لهذا الأمر مطلقًا، وبدأت تحركاتها ولم تترك بابًا إلا ودقته وها هي في غرفة رئيس المستشفى تطلب منه بإصرار أن يعطي الأمر لخروجي فورًا. في النهاية وبعد إصرار أمي، تركت المستشفى في ذلك اليوم، إذ وافق رئيس المستشفى على انتقالي إلى أحد مستشفيات أصفهان، لكن أمي لم تقبل أيضًا هذا الحل. بل قالت للطبيب: "أنا سأهتم به أفضل من أي أحد آخر. أرجوك أعطِ الإذن بنقله إلى البيت. لن أسمح له بالوقوف من سريره لمدة أسبوعين. سآخذه كل يوم إلى المستشفى كي يعاينه الطبيب ويبدل ضمادات يده". في النهاية، بعد الكثير من الأخذ والرد، أجبر الطبيب على إعطائي الإذن بترك المستشفى. وكان من المفترض أن أنطلق أنا وأمي وأختي باتجاه أصفهان. كان بعد ظهر ذلك اليوم بالنسبة إلي وقتٌ لا ينسى. كانت أمي قد جهّزت كل شيء. أحضرت من البيت مشطًا ومنشفة ووسائل الحمام، وبعد أن طلبت من الممرضات طشتًا1 من الماء الساخن حمّمتني على السرير ثم ألبستني ثيابًا نظيفة أحضرتها معها من البيت.


باختصار، عند المساء وصلنا إلى أصفهان، وها أنا ممدّد في منزلي. في تلك الليلة، لم أنم أبدًا إذ كان كل أفراد عائلتي بالقرب مني يستمعون بالدموع والآهات إلى ذكرياتي وإلى ما حصل معي. هم أيضًا كان لديهم الكثير ليخبروني به عن الفترة التي كنت خلالها في الجبهة.

قالت لي أمي: "لقد كنت قلقة عليك بحيث إنّني بدأت بختم سورة الواقعة خلال شهر شوال".
 
 

1- إناء كبير مستدير من النحاس أو البلاستيك يستعمل للغسيل. 
 
229

223

الرابع عشر

إن هذه الختمية مجرّبة جدًّا، وممتازة ولها تأثير لا يمكن إنكاره على استجابة الدعاء. إن طريقة هذه الختمية تفترض أن تبدأ بها منذ اليوم الأول من الشهر القمري، فتقرأ في اليوم الأول سورة الواقعة مرة واحدة، وفي اليوم الثاني مرتين وتستمر بالقراءة على هذا المنوال، إلى اليوم الرابع عشر من الشهر، حيث تقرأ سورة الواقعة أربع عشرة مرة.

ثم أضافت: "لقد أنهيت الختمية، وكانت حاجتي الوحيدة من الله أن يردك إليّ سالمًا وبصحة جيدة. في الليلة الثالثة عشرة من الشهر، رأيت في منامي أن سمكة بيضاء كانت على سطحنا، كانت تقفز في مكانها وكأنها ترفرف والدم ينزف من زعنفتها اليمنى. في اليوم التالي، ولتفسير منامي، أسرعت إلى قبر المرحوم العلامة المجلسي وأخبرت رؤياي للشيخ الموجود عند المقام، من دون أن أخبره بقضية ذهابك إلى الجبهة. بعد أن سمع الرؤيا قال: "يا أمي! لديك عزيز في السفر، طار من بيتك ورحل، لكن يوسفك الضائع سيعود إلى كنعان، لا تحزني. إن من تنتظرينه سيعود إليك، لكنه سيحمل على جسده جراحًا".

بعد أن طابقت بين ما تقوله أمي وما حصل معي، تبيّن أن حلم أمي كان في ليلة العمليات، تلك الليلة التي انحدرنا فيها عن مرتفعات 2519، وهجمنا على التلة الثالثة، وقد استجاب الله لختمية سورة الواقعة التي أنهتها أمي، وفي ليلة العمليات تلك، قدِّر لي أن أصاب بيدي اليمنى، لأعود بعدها إلى حضن عائلتي.

واللافت للنظر، أن آخر يوم لختمية سورة الواقعة، صادف مع يوم عاشوراء تلة "برهاني"، تلك الليلة التي أُبعدتُ فيها من جنة التلة لأهبط إلى الأسفل إلى الحرج، لأن يوم الاثنين في 3 مرداد 1362 هجري شمسي /23 تموز 1983م. يتقارن مع 14شوال 1403 قمري!
 
 
 
 
230

 


224

الخامس عشر

 الخامس عشر

منذ اليوم التالي لعودتي، وفد أهل الحي لعيادتي مجموعات مجموعات. كان باب بيتنا مفتوحًا والناس يدخلون ويخرجون. في البداية، حضر الأهل والأصدقاء والمعارف والجيران، الجميع يصرّون عليّ لأروي ما حصل معي. بعد أيام، سرت قصّتي على ألسن الناس، وصاروا يتناقلونها فيما بينهم، ما أدى إلى أن يتحمّس الناس من القريب والبعيد للمجيء لزيارتي.
ذات مرّة، جاء وفدٌ من راديو أصفهان، فنقلت ذكرياتي عن تلك الحادثة بشكل مختصر خلال خمسٍ وأربعين دقيقة بُثّت عبر الراديو في صباح اليوم التالي. هذا الأمر أدّى إلى توافد سيل من الناس في الليل وفي النهار لرؤيتي. وقد غمروني بلطفهم ومحبتهم.

كان المؤمنون، يتحرّكون من مساجد أصفهان، وبينما هم يندبون ويردّدون: حسين حسين، يدخلون إلى بيتنا، فكانت غرف البيت تمتلئ أحيانًا بالزوار، فيضطر عدد منهم للجلوس على الأرض في الحديقة.

ما زلت أذكر في أحد الأيام، نشيد إحدى المجموعات:
"أيها العائدون من السفر
أيها العائدون من السفر
أين شهداؤنا
 
 
 
 
 
231

225

الخامس عشر

 أين شهداؤنا..".


ولذا تغيّرت حالي فجأة وتراءت أمامي كل المشاهد التي عشتها ورأيتها في تلة "برهاني" فبكيت بصوت عالٍ. كان الناس يجلسون حولي، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي عن النحيب لدقائق متواصلة من دون إرادة مني.

بعد فترة، بثّ التلفاز (تلفزيون الجمهورية الإسلامية صدا وسيما) مقابلة معي، فصار الناس من كل أنحاء البلاد وأحيانا ًمن المحافظات البعيدة، يتّصلون هاتفيًا بي ويطمئنون عن أحوالي ويعبّرون عن لطفهم ومحبتهم لي.

في عصر أحد الأيام، جاء الإخوة: "عباس قرباني"، "مرتضى يزد خواستي" و"حسين سهمي" و"محمد رضا تورجيزاده" لزيارتي.

أخبرني "تورجيزاده" كيف استطاع بعد فراره من التلة أن يلتحق مرة ثانية بقواتنا. وقال: "بعد سقوط التلة، وجد أحدنا الآخر أنا والأخ (الذي أطلقت عليه من قبل تعبوي الجيش) وبدأنا البحث عنكم في كل مكان، لكننا لم نجد لك أي أثر. لقد حملني طيلة الليل على ظهره ومشى حتى الصباح إلى أن وصلنا إلى منطقتنا".

كانت قدم كل من "يزدخواستي" و"تورجيزاده" مصابة وموضوعة في الجبس. وكانا يتكآن على عصا ويمشيان بصعوبة كبيرة.

عرفت منهما، أنه في الغد سيتم تشييع عدد من شهداء "تلة برهاني"، الذين أعيدوا إلى الخلف على أيدي كتيبة يا زهراء عليها السلام، في أصفهان. من بين هؤلاء الأعزاء السيد "قاسم حسيني سده، حميد إيهامي، حيدر قرباني، محمد إسماعيل صيادزاده، محمد علي حاج نداعلي، مرتضى صاحبي أصفهاني، أبو القاسم فرهنك باردهاي، مسعود رهنما"، الذين
 
 
 
 
232

226

الخامس عشر

 وفقت فيما بعد لزيارتهم في جنة شهداء أصفهان.


جاءت عائلات تحمل صور فلذات أكبادها الأعزاء المفقودين فلا خبر عنهم، لعلّي أساعدهم وأعرف خبرًا عنهم. في ليلة من تلك الليالي، أحضر أحد الآباء، صورة ابنه. عرفته فورًا، وقلت لوالده إن ابنه قد استشهد هناك على التلة. بعد أن تأكّد من خبر شهادة ابنه، قال إنّ زوجته أي والدة الشهيد قد حصلت على رقم هاتفي، وإنها ستتصل بي عند المساء، لتسألني عن ابنها. أصرّ الأب أن لا أخبر الأم عن شهادة ولدها. بعد ساعة على مغادرته، اتصلت والدة الشهيد، وبدأت الحديث بلحن حنون، وهنأتني بالتوفيق الذي نلته في ذهابي إلى الجبهة، ثم وعلى عكس ما كنت أتوقعه، وقبل أن أتكلم أي شيء قالت: "أنا متأكدة أن ابني قد استشهد، وقد بيّض وجهي أمام الله. لكن هدفي من هذا الاتصال بصفتي والدة شهيد مفقود الأثر أن أقدّم نصيحة لكم".

- تفضلي.

- يا بني، إن الله يعرف كم تعذبنا وكم ضحينا في سبيل الإسلام. مرت 1400 سنة والمسلمون يقاتلون، يضحّون ويقدّمون الشهداء، يتعرّضون للتعذيب، فقط كي يحكم دين الله وكي يتنفسوا تحت ظلال الإسلام. ها نحن الآن، نجلس إلى مائدة، تمّ التضحية لأجلها لمدة 1400 سنة. يا حبيبي! لقد سمعت أنك عانيت كثيرًا خلال تلك الفترة. لكن لا سمح الله، وأقوله وليعجز لساني عن الكلام بعده: إياك أن تتراجع بسبب هذه العذابات والآلام وأن تتراخى عزيمتك للحظات. لا تقل إن هذه المصائب قد أصابتك بصدمة نفسية وروحية. ـ لا سمح الله ـ أن تفكر بعدم العودة إلى الجبهة. يا بني، لقد أنعم الله علينا بنعمة، مهما قدمنا للمحافظة عليها، لا نوفِّيها حقها. لو هدموا بيوتنا،
 
 
 
 
233

227

الخامس عشر

 لو أحرقوا حياتنا، لو قتلوا الآلاف والآلاف من شبابنا.....، نحن ندين للإسلام وعلينا أن نحفظه. يا حبيبي! بصفتي أم شهيد أتوقّع منك أن تعود مرة ثانية إلى الجبهة وألا تفتح الباب أمام الخوف والتردد للتسلل إليك... هل تعدني أن ترجع إلى الجبهة ثانية...؟".


لقد أثّرت معنويات هذه الأم الشجاعة عليّ كثيرًا وفاجأتني وحيّرتني، وكي أطمئنها أقسمت لها إنّني بسبب تحمّل هذه الصعوبات لم أضعف، وإنّني سأعود إلى الجبهة مرة ثانية. أكثر ما أثار إعجابي في هذه المكالمة، أنها لم تسألني مرة واحدة عن ابنها الشهيد، وإن كنت أعرف عنه شيئًا أم لا!

وهكذا، لقد تجاوزتُ فترةً مليئة بالمنعطفات، وهذه المرة تيقّنت أن الشهادة في سبيل لقاء الله لا تليق بأي كان. خلال هذا السفر القصير، أرخت أجنحة ملائكة الشهادة بظلالها فوق رأسي مرات عدة، لكنها تخطتني بسرعة، واختارت الأكثر إخلاصًا وحملتهم إلى المعراج. عرفت هذه المرة، أنه عليّ أن أُمتحن مرة ثانية بمشكلات ومنعطفات أخرى، حتى إذا حصلت على وعاء يسع هذا الفيض العظيم، يفتحون باب الرحمة ويحملونني إلى مقام الحبيب.

هذه المرة، وكما عبرَّت لي مجموعة من أمهات الشهداء اللواتي تشرفت بلقائهن، تيقنت أنه تمّت إعادتي كي أتحدّث عن دماء الشهداء وكي أصرخ: "يا أيها البشر الذين تقضون حياتكم في كل بقعة من هذا البلد، إن كل لحظة تعيشونها بأمن وسلام هي مدينة لتضحيات ولعطش وجوع وشهادة أناس عرفاء وأطهار بذلوا مهجهم بصمود وعنفوان في كل شبر من هذا التراب من دون أن ينحنوا أبدًا...".

بقلب يعتصره الألم، ولسان يرتجف من الشكوى، وشعور بالواجب يدفعني بصفتي تعبويًا يحمل رسالة دماء الشهداء، إلى أن أصرخ في
 
 
 
 
234

228

الخامس عشر

 وجه كل من حاول بطريقة ما، بلسانه أو قلمه، بسلوكه أو عمله، أو بالتفرقة وزرع الخلاف، بعدم الحجاب أو سوء الحجاب، بسوء الإدارة أو خلق الاستياء عند الناس، بالغلاء أو الاحتكار أو الخيانة المالية... فيسهل عمل الأعداء.. وإلى أن أقدم النصيحة لهم.


ما كان يجب قوله قد قلته و"اقرأ أنت حديثًا مفصلًا في هذا المجال".

إلهي، أقسم عليك بحرمة دماء الشهداء، أن تحفظ الجمهورية الإسلامية من كل آفة، وأن تسلّمها ـ التي هي ثمرة دماء مئات الآلاف من البشر الأطهار ـ إلى الصاحب الأصلي لعصرنا الحجة بن الحسن روحي لمقدمه الفداء. وتغمّد برحمتك الروح السامية والملكوتية لإمام الشهداء، الخميني الكبير، وأرواح أنصاره الشهداء، واجعل موتنا الشهادة، كي لا تكون رؤوسنا منحنية ونشعر بالتقصير حين نلتقي الشهداء.

احفظ الخلف الصالح للإمام وأعزّه ووفّقه، واجعله درة جيش المنجي الأخير، حضرة بقية الله، وزد اللهم عزة الإسلام والمسلمين وخذلان وهزيمة جبهة الكفر والنفاق.

والسلام
 
 
 
 
235

229

فهرس أسماء الشهداء الواردة أسماؤهم في هذا الكتاب

 فهرس أسماء الشهداء الواردة أسماؤهم في هذا الكتاب

محمود أبطحي، مرتضى صاحبي أصفهاني، محسن أدهم، محمدرضا صفاتاج، بهرام أرجاوند، محمد اسماعيل صيادزاده، حميد إيهامي، عليرضا عاملي، رضا بخشي، داريوش عسكري، آية الله الدكتور محمد حسين بهشتي، جواد علاقهمندان، رضا بورعلي، محمد علاقهمندان، حجة الإسلام أحمد تركان، محمد محسن عليخاني، محمدرضا تورجيزاده، أبوالقاسم فرهنك باردهاي، عليرضا ثابت راسخ، حيدر قرباني،محسن جواني، عباس قرباني، محمد علي حاج ندا علي، مجيد كرباسي، محمد حسين حريري، محمد مروج، السيد قاسم حسيني سده، نادر منشئي، حسين خرازي، ناصر منشئي، حجة الإسلام مصطفى رداني بور، هادي موسوي، مسعود رهنما، عباس مهاجر حجازي، حميد سفيددشتي، مسعود مهدوي، حميد سليماني، مرتضى يزدخواستي، حسين سهمي.
 
 
 
 
236

230

تعريف بالكاتب

 تعريف بالكاتب1

ـ السيد حميد رضا طالقاني، صاحب الأثر الخالد "ملحمة تلة برهاني البطولية"، ممثل للجيل الأول للثورة الإسلامية. ذلك الجيل الذي كبر في فضاء تربوي وثقافي خاص جعله يذوب في التعاليم الإسلامية والقرآنية التي أدت في النهاية الى خلق الثورة الإسلامية، نقطة انعطاف في تاريخ إيران.

ـ هو الابن الثالث والصبي الوحيد لعائلته، الأصفهانية المتدينة. أولى والداه منذ سنوات طفولته الأولى تربيته الدينية أهمية خاصة.

ـ كان التلميذ الأصغر للمرحوم الحاج ضيائي معلّم القرآن المعروف في أصفهان. وقد علّمه القرآن قبل السادسة من عمره.

ـ بعد دخول السيد حميد المدرسة اكتملت قدرته على قراءة القرآن. وها هو في التاسعة من عمره يدير جلسة قرآنية في الحي يشارك فيها فتيان أكبر منه سناً. كانت نتيجة هذه الجلسات التعرف إلى جمعٍ من الرفاق ميزتهم المشتركة عشقهم للقرآن.

ـ أدى طرح الأسئلة العقائدية خلال الجلسات هذه، الى ظهور توجه لدى السيد حميد لمطالعة الكتب العقائدية والدينية وتلخيصها بدقة لعرضها في الجلسة اللاحقة ما حوّل الجلسات الى جلسات عقائدية، فلسفية.

صارت هذه الجلسات تتكامل مع الوعي السياسي للناس، لتكتسب قمة الشوق والنشاط في العام 1979م حيث أضيف إليها التحاليل السياسية وفضح نظام الشاه ونشر خطابات الإمام.

في النهاية، ومع نهاية المرحلة الثانوية، التحق السيد حميد بالجامعة
 

1- ورد تعريف مفصل بالكاتب في بداية الكتاب، وقد اختصرناه وأوردناه بهذا الشكل، كون جملة من المعطيات واردة في متن الكتاب نفسه.
 
 
 
 
237

231

تعريف بالكاتب

 حيث تمّ قبوله في جامعة تبريز فاضطر الى ترك مدينته وأهله وأصدقائه. كانت جامعة تبريز ساحة للأفكار المتعددة الدينية منها والماركسية والليبرالية دفعت السيد حميد لاختبار أفكاره وعقائده.


خلال الفترة التي أقفلت فيها الجامعات التحق السيد حميد بالحرس الثوري كمعلم للعقائد والأحكام والأصول.

ليعود بعدها الى أصفهان للالتحاق بالجبهة.

وها هو السيد حميد رضا طالقاني منذ عشرين عاماً أستاذاً جامعياً يربي الأجيال الوارثة للثورة الإسلامية.

تلة برهاني: طليعة المؤتمرات الأدبية للدفاع المقدس:
أرسل طالقاني ذكريات "تلة برهاني" على شكل مذكرات بخط اليد في العام 1986م، حين كان تلميذاً في مرحلة الدراسات العليا في جامعة فردوسي في مدينة مشهد المقدسة ـ إلى أمانة سر المسابقة الثقافية الكبرى الأولى للجبهة والحرب، والتي نظمَّها مقر خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم. نالت "تلة برهاني" الجائزة الأولى .

في العام 1989م. صدرت ذكريات طالقاني، وهكذا ولد كتاب "تلة برهاني" للمرة الأولى والذي أعيد طباعته مرتين في العامين 1994م و 1998م.

نال كتاب "تلة برهاني" أيضا المرتبة الأولى في العام 1994م. في الدورة الأولى لاختيار أفضل كتاب عن الدفاع المقدس.

كما تفوّق كتاب "تلة برهاني" على مئات الكتب الأدبية التي كتبت خلال عشرين عاما، في (مهرجان) مؤتمر "أدب الصمود" الذي أقيم في العام 2000م. ونال المرتبة الأولى أيضاً.

كتاب تلة برهاني، أثر خالد، وفيه من الدروس والعبر الحقيقيَّة، ومؤثر لقراء اليوم والغد وصحيفة حياة لكاتبها.
 
 
 
 
238

232
ملحمة تلّة برهاني