تذكرة المتقين


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد 
لقد كرّم الله تعالى الإنسان، ومنّ عليه بنعمة الإنسانية، وفضّله على المخلوقات بنعمة العقل، وجعله عنصراً فاعلاً وساعياً للكمال والتميّز، ونافراً من النقص والعجز والفشل. قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾1، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾2. وحتى لا يقع الإنسان في ظلمات الجهل حرص على تعليمه، قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾3 ورسم له طريق الهدى بما أرسل من أنبياء وشرائع، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾4 وحمّله مسؤولية أعماله، فقال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾5 وقد منّ الله تعالى على خلقه بأن سهّل لهم سبل العلاقة به، من خلال ما شرّعه في نظام العبادات من صلاة وصوم... بهدف أن يرتقي الإنسان بروحه، ويتكامل في إيمانه، 
 

1- التين, 4. 
2- الإسراء, 70.
3- العلق, 5.
4- الجمعة، 2.
5- النجم, 39.
 
 
5

1

المقدمة

 ويتّزن في سلوكه. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبّها بقلّبه ، وباشرها بجسده ، وتفرّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم يسر"6.

 
ومعنى العبادة مأخوذ من الذل، يقال طريق معبّدٌ إذا كان مذلّلاً قد وطئته الأقدام، غير أنّ العبادة في الشرع لا تقتصر على معنى الذل فقط، بل تشمل معنى الحب أيضاً، فهي تتضمّن غاية الذل لله وغاية المحبة له، فيجب أن يكون الله أحبَّ و أعظم من كل شيء عند العبد، روي الإمام علي عليه السلام قال: "إذا أحبّ الله عبداً ألهمه حسن العبادة"7.
 
والعبادة بالمعنى الأعم اسم يطلق على كل ما يصدر عن الإنسان المسلم من أقوال وأفعال وأحاسيس استجابة لأمر الله تعالى، وتطابقاً مع إرادته ومشيئته، فلا حصر ولا تحديد لنوع الأعمال الّتي يعبد بها الله فالصلاة، والصدقة، والجهاد، والتفكّر في خلق الله، ومساعدة الضعيف، وإصلاح الفاسد، وأداء الأمانة،... الخ, كلّ تلك الأعمال هي عبادة ما دام الداعي إلى فعلها، أو تركها، هو الاستجابة لأمر الله تعالى.
 
ونظراً لخصوصية شهر رمضان المبارك، (شهر العبادة والطاعة) قسّمنا دروس هذا الكتاب استثنائيّاً إلى محورين، عرضنا في المحور الأوّل مجموعة المواعظ العامة. وعرضنا في المحور الثاني مجموعة الدروس والمواعظ الخاصة بشهر رمضان المبارك، وبعض مناسبات شهر شعبان.
 
ولتسهيل الاستفادة من الكتاب وفق هذا التقسيم أدرجناها بالتفصيل والترتيب هنا:
 
 

1- الكافي، الكليني،ج2،ص83.
2- غرر الحكم، ص 198.
 
 
6

2

المقدمة

 المحور الأول: الدروس العامة: 

- موعظة لقمان في السير نحو الجنّة. 
- المعصية سبيل الخسران. 
- في رحاب سورة العصر. 
- نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية. 
- خدمة الناس وقضاء حوائجهم. 
 
المحور الثاني: الدروس الخاص بشهري شعبان ورمضان: التي نأمل الاستفادة منها في مناسباتها بتقديم الموعظة من خلال المناسبة.


- كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي صلى الله عليه وآله وسلم؟ المناسبة: ولادة الإمام المهدي صلى الله عليه وآله وسلم. 
- المساجد بيوت الله تعالى، المناسبة: أسبوع المسجد. 
- شهر العبادة والتقوى، المناسبة: استقبال شهر رمضان. 
- قيم تربوية واجتماعية في شهر رمضان، المناسبة: بدايات شهر رمضان. 
- ليلة التقدير الإلهي، المناسبة: ليالي القدر. 
- أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، المناسبة: شهادة الإمام علي عليه السلام. 
- العيد بين العبادة والسعادة، المناسبة: عيد الفطر. 
 
 
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
7
 

 


3

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة


مفاهيم محوريّة
- الخصائص العامة لمواعظ لقمان الحكيم. 
- الحكمة الأولى: "أحكِم سَفينَتَكَ فَإِنَّ بَحرَكَ عَميقٌ". 
- الحكمة الثانية: "وخَفِّف حِملَكَ فَإِنَّ العَقَبَةَ كَؤودٌ". 
- الحكمة الثالثة: "وأكثِرِ الزّادَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعيدٌ". 
- الحكمة الرابعة: "وأخلِصِ العَمَلَ فَإِنَّ الناقِدَ بَصيرٌ". 
 
 
9

4

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 تصدير الموضوع

روى الشَّيْخ المفيد رضي الله عنه في حكم لقمان فيما أوصى به ابنه أنَّه قال: "يا بُنَيَّ، تَعَلَّمتُ سَبعَةَ آلاف مِنَ الحِكمَةِ، فَاحفَظ مِنها أربَعَاً ومُرَّ مَعي إلَى الجَنَّةِ: أحكِم سَفينَتَكَ فَإِنَّ بَحرَكَ عَميقٌ، وخَفِّف حِملَكَ فَإِنَّ العَقَبَةَ كَؤودٌ، وأكثِرِ الزّادَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعيدٌ، وأخلِصِ العَمَلَ فَإِنَّ الناقِدَ بَصيرٌ"1.

خصائص موعظة لقمان الحكيم عليه السلام
من المستحسن أيُّها الناظر بعين البصيرة أنْ تلتفت إِلَى بعض النُّقاط كتمهيدٍ للوفود على الموعظة, لأنّ السمع قبل القلب قد لا يتقبّل الموعظة ابتداءً، خصوصاً إذا كان قلباً مُدْبِراً عن الآخرة مُقبِلاً على الدُّنيا، فلا بدّ له حينئذٍ من أنْ يُعطى بعض المشوِّقات التي تمنع السمع من أنْ يمجَّ الموعظة، وتهيّئ القلب للانفتاح عليها.

وإذا أردنا أنْ نشبّه هذا الأمر بمثال واضح لتقريبه إِلى الذهن، فلننظر إِلى الإنسان الجائع، فهو على الرغم من جوعه لا تكون نفسه مقبلةً على الطعام، فيُعطى بعض (المقبّلات) قبل أنْ يُقبل على الوجبة الأساسية, لتعتاد معدته وتنفتح شهيّته.

1- الشَّيْخ المفيد، مُحَمَّد بن النُّعمان العكبري، الاختصاص، 341، تحقيق، على أكبر غفاري والسيد محمود الزرندي، نشر، دار المفيد 
 
 
11

5

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 وعلى هذا الأساس لا بدّ من أنْ نأخذ بعين الاعتبار الأُمور التالية:

أولاً: إِنَّ الواعظ بهذه الكلمات إنسانٌ عاش عمراً مديداً مع الأنبياء والحكماء، وتنقّل من مكانٍ إِلَى آخر باحثاً عن الحكمة يتلّقّفها من مظانّها.
 
إنسانٌ قال عنه القرآن الكريم بعد تسمية سورةٍ باسمه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾1، تلك الحكمة التي مَنْ يؤتاها ﴿فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾2.


إنسانٌ قال عنه الإِمام الصادق عليه السلام: "أما والله لقد أوتي لقمان الحكمة لا بحسب ولا مال ولا أهل ولا بَسْطٍ في جسم ولا جمال، ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر الله متورِّعاً في الله سَاكتاً سَكيناً عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر"3.
 
إنسانٌ "كان يُكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يَغشَى القضاة والملوك والسلاطين، فَيرْثِي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لِغِرَّتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويَعتَبر ويتعلم ما يَغْلِب به نفسه، ويجاهد به هواه، ويَحترِز به من الشيطان، وكان يداوي قلبه بالتفكر، ويداري نفسه بالعِبَر"4.
 
فلقمان عليه السلام الجامع لصفات الأولياء، والمصاحب للأنبياء والفقهاء والحكماء، كيف نتصوّر أنْ تكون وصيته وموعظته؟!! خصوصاً وهي صادرة لابنه الَّذِي يشفق عليه، وقد وصف لنا أمير المؤمنين عليه السلام هذه الشفقة من خلال قوله في وصيته لولده المجتبى عليه السلام: "وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي"5.
 

 
1- لقمان، 12.
2-البقرة، 269.
3-بحار الأنوار، ج 13، ص 409.
4-م.ن.
5-الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، 336، تحقيق وتصحيح، عزيز الله العطاردي، نشر، مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
 
 
 
12

6

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 ثانياً: إنَّ لقمان عليه السلام يريد أنْ يعظ ابنه بحكمٍ تعلّمها وعمل بها، فإذا نظرنا إِلَى ذلك من البعد الفقهي، نجده مستكملاً للشرط الَّذِي يذكره الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا وهو شرط العلم بما يأمر وينهى. هذا بما يرتبط بتعامله مع الآخرين، وأمّا ما يرتبط بوظيفته تجاه تكليف نفسه، فهو يزكّي علمه الَّذِي ورد فيه الخبر: "وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ"1. كما أنَّ لحن الخطاب والشفقة يدلّان ـ من البعد الأخلاقي ـ على أنَّ لقمان الحكيم لم يكن مِمّن ينطبق عليه قول الشاعر:2

تدلُّ على التقوى وأنت مقصِّرٌ                 أيَا مَنْ يداوي الناسَ وهو سقيمُ


ومثله قول الآخر الَّذِي ذهب شطره الثاني مثلاً:
وغير تقيٍّ يأمر الناسَ بالتُّقى                 طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ


بل كان ـ في وعظه لابنه ـ مصداقاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ الوَعظَ الَّذي لا يَمُجُّهُ سَمعٌ ولا يَعدِلُهُ نَفعٌ ما سَكَتَ عَنهُ لِسانُ القَولِ ونَطَقَ بِهِ لِسانُ الفِعلِ"3.
 
ثالثاً: إِنَّ هذه الموعظة التي هو بصدد ذكرها لابنه تحتاج إِلَى الحفظ, لكي يترتّب عليها الأثر. ويمكن أنْ يكون المقصود من الحفظَ على مستويين:
المستوى الأوّل: الحفظُ في مقابل النسيان, بأنْ يكون الإنسان متذكّراً لهذه الموعظة المتضمّنة للكلمات الأربع، بحيث يكون مستحضراً لها بشكلٍ مستمرٍّ, فإنّ الذُّنوب والمعاصي تجتمع مع الغفلة عن رقابة الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾4.
 
 

1- المصدر نفسه، 434.
2- أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني 4، 327، نشر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
3- اللَّيثي الواسطي، علي بن مُحَمَّد، عيون الحكم والمواعظ، 51، تحقيق الشَّيْخ حسين الحسني البيرجندي، الطَّبعة الأُولى 1376ش، دار الحديث، قم.
4- الروم،7.
 
 
 
13

7

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

المستوى الثاني: الحفظ بمعنى العمل، وإنّما يطلق الحفظ على العمل باعتبار أنَّ العاملَ فاعلٌ مختار، والفاعل المختار يكون فعله مسبوقاً بالاستذكار، والخطور في الذهن الَّذِي هو الحفظ في مقابل النسيان.


فالموعظة ينتفع بها ويبقى أثرها سارياً ما دام الإنسان مستذكراً لها غير غافلٍ عنها، وتترتّب الثمرة عليها بالعمل على وفقها.


رابعاً: نلاحظ في هذه الموعظة أنَّ لقمان الحكيم على الرغم من تعلُّمه لـ (سَبعَة آلاف مِنَ الحِكمَةِ)، لم يطنب في موعظته لابنه بتكثير الحِكَم, وذلك لأنّ الحِكَم التي تحصل نتيجة تجارب طويلة مرّت مع لقمان، من خلال ما مرّ من أنَّه "كان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء"، يحتاج إلقاؤها إِلَى مناسبات وظروف ملائمة وخاصّة.


كما أنَّ تأثير الموعظة ليس من الضروري أنْ يكون بالإكثار، فكم من كتبٍ قُرِئت لم تؤثّر في قارئها قيد أنملةٍ، وكم من كلمةٍ قليلة الحروف حرّرت قلباً من مخالب الشيطان ووضعته في أنامل الرحمن.


ومن شاء التصديق بذلك، فليطالع ما حصل بين بِشر بن الحارث المروزي، المعروف ببشر الحافي، والإمام الكاظم عليه السلام, وذلك عندما مرّ على داره ببغداد فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة، فرمت بها في الدرب، فقال عليه السلام لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حرّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ. فقال: "صدقتِ لو كان عبداً خاف من مولاه". فلمّا دخلت قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأكِ؟ فقالت: حدّثني رجلٌ بكذا وكذا، فخرج حافياً حتّى لقي مولانا الكاظم عليه السلام، فتاب على يده، واعتذر وبكى لديه استحياءً من عمله.


خامساً: استعمل لقمان الحكيم عليه السلام مفردة (المرور) للتعبير عن الأثر المترتّب على حفظ الكلمات الأربع، فقال: "ومُرَّ مَعي إلَى الجَنَّةِ"، بدلاً من: (ادخل 

 
 
14

 


8

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 الجنّة)، وليس ذلك إِلَّا لما في لفظ (المرور) من الدلالة على سرعةِ ترتُّب الأثر, لأن المرور في اللغة بمعنى المضيّ والاجتياز بالشيء1، وهذا يقتضي عدم المكث والتمهُّل، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾2. وفيما يلي شرح موجز لبعض مواعظ لقمان الحكيم عليه السلام.



الحكمة الأولى: "أحكِم سَفينَتَكَ فَإِنَّ بَحرَكَ عَميقٌ"
شُبِّه السلوك في هذه الحياة، والكدح في مناكبها بالإبحار، وبالتالي شُبِّهت الدنيا بالبحر العميق، الَّذِي هو في ظاهره جميل المنظر، لكن يتربّص في أعماقه الموت الزُّعاف، فكما يحتاج المبحر فيه إِلَى التسلُّح بمركبٍ محكمٍ يقيه من الأخطار، كذلك السائر في هذه الدنيا يحتاج إِلَى مركبٍ محكمٍ يقيه من أخطارها، ويقيه في منزلقاتها. وسفينة البحار معروفةٌ لكلِّ أحد، فما هي سفينة الدنيا؟!


لكي نتعرّف إلى هذه السفينة علينا أنْ نرجع إِلَى أخبار أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، فقد أورد الكليني في خبرٍ طويلٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أنَّ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليهما السلام قَالَ له: "... يَا هِشَامُ إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ... يَا بُنَيَّ إِنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ فِيهَا عَالَمٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفِينَتُكَ فِيهَا تَقْوَى الله وَحَشْوُهَا الْإِيمَانَ وَشِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ وَقَيِّمُهَا الْعَقْلَ وَدَلِيلُهَا الْعِلْمَ وَسُكَّانُهَا الصَّبْرَ"3. فالسفينة في هذه الدنيا التقوى، وبمقدار ما كانت هذه الملكة متجذّرة في قلب الإنسان بمقدار ما استطاع أنْ يُبحر في هذه الدنيا مطمئناً صامداً مهما علتْ أمواج الشهوات وتنازعته أنواء الإغراءات.
 
 

1- انظر، الرّاغب الإصفهاني، الحسين بن مُحَمَّد، المفردات في غريب القرآن، مادة (مرر).
2- الفرقان، 72.
3-الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي 1، 16، تصحيح، علي أكبر غفاري، نشر، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة 1407هـ، طهران.
 
 
15

9

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 ومن أفضل أنواع السُّفن التي تتميّز بأقصى حالة الإحكام، والتي تصلح لجميع البحار، سفينة من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق وهوى، وهي أهل بيت الرّسول (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، كما ورد في الحديث النّبويّ المتّفق على نقله الفريقان: "مَثَلُ أهلِ بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق"1


وقد ضمّن الإِمام الشافعي هذا الحديث في أبياتٍ له رواها العجيلي:2
ولمّا رأيتُ النّاسَ قد ذهبت بهم           مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهل
ركبتُ على اسم الله في سفن النّجا       وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
 
الحكمة الثانية: "وخَفِّف حِملَكَ فَإِنَّ العَقَبَةَ كَؤودٌ"
شبّه هذه الدُّنيا الفانية بميدان السباق، فكما أنَّ الرياضيّ إذا كان حمله خفيفاً يكون أسرع من غيره من ذوي الأحمال الثقيلة، خصوصاً إذا كان ميدان السباق جبلاً مرتفعاً، فهكذا هي الدُّنيا, فإنّ الفوز فيها للمخفّين.
 
فالدُّنيا بالنسبة للإنسان ميدان سباق، ينطلق فيه سائراً نحو أجلٍ معيّن، والطريق الَّذِي يسيرُ فيه كالعقبة الكؤود، والعقبة ـ كما في اللغة3 ـ الطريق الوعر في الجبل، قال الله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾4، والكؤود والكأداء ما كان شاقّ المصعد5.
 
فهو يطلب من الإنسان من خلال وصيّته لابنه، أنْ يتخفّف من الأثقال التي ترهقه, لأنّه يسير في طريق وعرٍ شاقّ المصعد، طريقٍ بحاجةٍ إِلَى أنْ يتخفّف فيه من كلّ ما هو ثقيل.
 
 

1- بحار الأنوار، ج 23، ص 105.
2- النّقوي، السَّيِّد حامد، خلاصة عبقات الأنوار 4، 29، نشر، مؤسسة البعثة، 1406 طهران.
3- الحميري، نشوان بن سعد، شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم 7، 4648، تحقيق، حسين بن عبد الله العمري و...، نشر، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى 1420، بيروت.
4-البلد، 11.
5-تاج اللغة وصحاح العربية، باب (كأد).
 
 
 
16

10

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 وإلى هذا المعنى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في كلامٍ له يعدّ من أبلغ الكلمات, لقصر ألفاظه وغزارة معانيه، وهو قوله: "تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا"1.

 
والأثقال التي يُطلب من السائر في عقبة الدنيا أنْ يتخفّف منها، ليست أثقالاً من سنخ الأثقال المادية، بل هي عبارة عن الذُّنوب التي تشدُّ الإنسان نحو الهاوية، وهي أشدّ ثقلاً من غيرها من الأثقال. هذا وقد ورد في بعض الزيارات: "إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ ذُنُوباً قَدْ أَثْقَلَتْ ظَهْرِي وَمَنَعْتَنِي مِنَ الرُّقَادِ وَذِكْرُهَا يُقَلْقِلُ أَحْشَائِي"2.
 
الحكمة الثالثة: "وأكثِرِ الزّادَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعيدٌ"
من المفارقات التي يقع فيها بنو البشر على وجه العموم، أَنَّهم على الرّغم من معرفتهم بحال هذه الدنيا، وأنّها مرحلةٌ يمرُّ فيها الإنسان وتزول، على الرّغم من ذلك نراهم يخصّصون كلّ الزاد لها، ولا يتزوّدون للآخرة التي هي دار القرار، قال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾3. وقد ورد في الخبر عن عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ لِأَنَّكُمْ عَمَرْتُمُ الدُّنْيَا وَأَخْرَبْتُمُ الْآخِرَةَ فَتَكْرَهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِنْ عُمْرَانٍ إِلَى خَرَابٍ"4.
 
فيا أيُّها الغافل! كيف أَنَّك إذا سافرت في هذه الدُّنيا من مكانٍ إِلَى مكانٍ سَفَرَ عبورٍ لا استقرار، فإنّك لا تحمل معك فيه إِلَّا اليسير من الزاد، ولكنّك إذا سافرتَ إِلَى مكانٍ بعيدٍ سَفَرَ استقرار، نراك تعدُّ العدّة، وتتزوّد بأنواع الاحتياجات... فلِمَ لا تتعامل كذلك مع السّفر إِلَى الآخرة، والزاد فيها أحوج والاستقرار فيها أدوم؟ ضلالٌ ما بعده ضلال!!
 

1- نهج البلاغة، 29، مرجعٌ سابق.
2- السَّيِّد ابن طاووس، علي، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنةج 3، ص 134، تحقيق، جواد قيُّومي الإصفهاني، نشر، مكتب الإعلام الإسلامي التابع للحوزة العلمية، الطبعة الأولى 1415هـ، قم.
3- غافر، 39.
4-الكليني، أصول الكافي، ج2، ص258، باب محاسبة العمل،حديث20.
 
 
 
17

11

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 أنسيتَ قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾1؟؟!!

ولكن كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "بَلَى وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتمُوهَا وَوَعَيتمُوهَا وَلَكِنَّكُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ وَرَاقَكُمْ زِبْرِجُهَا"2.


والزاد في هذه الحكمة، بمعنى التقوى على مستوى العمل، أي: القيام بالواجبات وترك المحرّمات، والسفينة في الحكمة الأولى يُراد منها التقوى بمعنى الملكة والصفة النفسانية الباعثة على مزاولة الواجبات وترك المحرمات.


الحكمة الرابعة: "وأخلِصِ العَمَلَ فَإِنَّ الناقِدَ بَصيرٌ"
الدُّنيا مزرعة الآخرة، فالمرء يعمل في هذه الدُّنيا ليدرك ثمار عمله في الآخرة، ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾3.


في هذه الحكمة لم يقل لقمان: (وأكثر العمل), بل كان أمره بفعلٍ يدلُّ على نوعية العمل، ألا وهو الإخلاص, ليشير إِلَى أنَّ المعيار في الحسابات الرَّبانية ليس كثرة العمل، بل الإخلاص في أصل العمل.
 
والإخلاص عبارة عن تصفية السرّ عن ملاحظة ما سوى الله تبارك وتعالى، فإذا كان العمل خالصاً لله، فلا تُنْقِص القلّة من قيمته، وإنْ كان العمل لغير الله فلن ترفع الكثرة من شأنِه.


والقرآن الكريم يحدّثنا عن عملٍ قام به أصحاب الكساء عليهم السلام في قصّة مَرَضِ الحسنين عليهما السلام، وتصدّقهم بأقراصٍ معدودةٍ من شعير، تلك المادة التي تعتبر من أردأ الموادّ المتعارفة في تهيئة الخبز وما يشابهه، تصدّقوا بها أيضاً على أشخاصٍ معدودين: (مسكينٍ ويتيمٍ وأسير)، ومع ذلك نزلت في حقّهم سورةٌ من القرآن
 
 

1- الزمر، 30.
2-نهج البلاغة، الخطبة 3.
3-الكهف، 49.
 
 
 
18

12

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 الكريم، وليس ذلك إِلَّا لقولهم: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾1، فكانت النتيجة أنْ: (وقاهم، ولقّاهم، وجزاهم)، كما ورد في قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا *وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾2.

 
وفي مقابل ذلك نجد هناك مَنْ تصدّق بكلِّ ماله ـ وقد كان غنياً ـ لمرّاتٍ متعدِّدة، ولم ينزل فيه إِلَّا قوله تعالى: ﴿كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾3.
 
في هذه الحياة الدُّنيا قد نستطيع أنْ نخدع النّاس، لكنّ النّاقد البصير وهو الله تبارك وتعالى لا يمكن لأحدٍ أنْ يخدعه، كيف ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾4.


فسبحان القائل: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾5.
 

1-الإنسان، 10.
2- الإنسان، الآيتان، 11 - 12.
3-البقرة، 264.
4- التغابن، 4.
5- النمل، 25.
 
 
 
19

13

موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

 مفاهيم رئيسة

1- على طالب الموعظة أن يلتفت إلى أهمّية الواعظ وصفاته الخلقية وكذلك مضمون الموعظة، لكي ينفتح سمع القلب على المواعظ الربّانية. 

2- يقول لقمان الحكيم في الموعظة الأولى: "أحكِم سَفينَتَكَ فَإِنَّ بَحرَكَ عَميقٌ" والسفينة في هذه الدنيا هي التقوى، والتي ينبغي أن تكون ملكة متجذّرة في قلب الإنسان مهما علتْ أمواج الشهوات والإغراءات.

3- يقول لقمان الحكيم في الحكمة الثانية: "وخَفِّف حِملَكَ فَإِنَّ العَقَبَةَ كَؤودٌ" فالدُّنيا عبارة عن ميدان سباق، وفي الطريق قد تعترض الإنسان عقبةٌ صعبة، وهي عبارة عن الذُّنوب التي تشدُّ الإنسان نحو الهاوية وتمنعه من الوصول إلى الله.

4- يقول لقمان الحكيم في الحكمة الثالثة: "وأكثِرِ الزّادَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعيدٌ" والزاد هو بمعنى التقوى على مستوى العمل، في القيام بالواجبات وترك المحرّمات.

5- يقول لقمان الحكيم في الحكمة الرابعة: "وأخلِصِ العَمَلَ فَإِنَّ الناقِدَ بَصيرٌ" فالميزان في الحسابات الرَّبانية ليس كثرة العمل، بل الإخلاص في أصل العمل.
 
 
 
20

14

المعصية سبيل الخسران

 المعصية سبيل الخسران


مفاهيم محورية
- خصال طالب الموعظة. 
- عدم اتخاذ المعاصي سبيلاً لنيل الأهداف. 
- أسباب اختيار الإنسان للوسائل المحرّمة. 
- نماذج لاتخاذ المعصية ذريعة لقضاء الحوائج. 
- طاعة الله أسرع الطرق للوصول. 
 
 
 
21

15

المعصية سبيل الخسران

 تصدير الموضوع

روى الكلينيّ قدس سره في الكافي عن عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَن شَرِيفِ بْنِ سَابِقٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: "كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى الْحُسَيْنِ عليه السلام: عِظْنِي بِحَرْفَيْنِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: مَنْ حَاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ الله كَانَ أَفْوَتَ لِمَا يَرْجُو وَأَسْرَعَ لِمَجِي‏ءِ مَا يَحْذَر"1.
 
خصال طالب الموعظة
من الملاحظ في الرَّجل الَّذِي أُلقيت إليه هذه الموعظة أنَّه يتميّز بخصلتين:
الخصلة الأُولى: أنَّه طلب الموعظة وسعى نحوها: 
فإنَّ هناك صنفاً من النّاس تأتيه الموعظة ولا يتّعظ بها، وصنفاً آخر منهم يسعى بنفسه نحو الموعظة. وهذا الرجل من الصِّنف الثاني, حيث كتب هو إِلَى المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام يطلب منه أنْ يعظه، فكانت الموعظة. ولا شكّ أنَّ الصِّنف الثاني هو الأفضل، خصوصاً إذا عمل بمقتضى الموعظة التي يطلبها.
 

1- الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج 2، ص 273، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
 
 
 
23

16

المعصية سبيل الخسران

 وفي كُلِّ لحظةٍ من لحظات حياة الإنسان، هذا المخلوق الضعيف، نرى أنَّه يمرُّ بالمواعظ والعبر من دون أنْ يلتفت إليها، كيف والدُّنيا "دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظ"1؟ وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً لِذَوِي اللُّبِّ والاعْتِبَارِ"2 وعنه أيضاً: "مَنْ كَانَتْ لَهُ فِكْرَةٌ فَلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبْرَة"3، وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَتَبَ هَارُونُ الرَّشِيدُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ: "مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ تَرَاهُ عَيْنُكَ إِلَّا وَفِيهِ مَوْعِظَة"4.

 
فالطَّالِب للموعظة تارةً يكون طالباً لموعظةٍ عامّة تصلح لكلّ أحدٍ، نظير الأدوية الشائعة، والتي تكون في متناول يد الجميع، وتصلح للاستشفاء مِمّا شاع من الأمراض وعمّ، كأدوية الصداع والإسهال والإمساك ونحو ذلك من الأمراض الشائعة والعامة. وأخرى يكون طالباً للموعظة الخاصّة التي تتناسب مع ابتلاء ومرض خاصٍّ وقع فيه، أو الموعظة التي تتناسب مع نفسيّةٍ خاصّة لشخصٍ ما.
 
فالأوّل لا يحتاج إِلَى أكثر من أنْ يرى بعين بصيرته، فإنّه وإنْ كان "فِي كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَة"، لكنّ الأعمى لا يُبصِر الطريق وإنْ كان واسعاً وسهل العبور. فهو يحتاج إِلَى الطلب، ولكن طلبه يكون بالسعي نحو رفع الغشاوة وإزالة الحجب.
 
والثاني بحاجةٍ إِلَى البحث عن طبيبٍ يداوي له مرضه، ويصف له ما يلزمه في دنياه وآخرته.
 

1- الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص430، تحقيق وتصحيح، عزيز الله العطاردي، نشر، مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
2- اللَّيثي الواسطي، علي بن مُحَمَّد، عيون الحكم والمواعظ، ص141، تحقيق الشَّيْخ حسين الحسني، الطَّبعة الأُولى 1376ش، دار الحديث، قم.
3- م.ن، ص 442.
4- الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشّيعة، ج 15، ص 196، تحقيق ونشر، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطَّبعة الأُولى 1412، قم.
 
 
 
24

17

المعصية سبيل الخسران

 والطبيب، وإنْ كان يذهب أحياناً نحو المرضى، ولكن إنْ كان المرض خاصاً، مع ندرة الطبيب الخبير به، حينئذٍ يصبح لزاماً على المريض أنْ يسعى جهده للمثول بين يدي الطبيب للاستفادة منه، حتى لو أدّى ذلك إِلَى صرف الأموال الطائلة وطيّ المسافات الشاسعة للوصول إليه.

 
فالذي يظهر ـ إذاً ـ من هذه الخصلة الأُولى، أنَّ صاحبها من الَّذِين يسعون نحو المواعظ، ولا يكتفون بالمواعظ العامّة المتوفّرة لكُلِّ أحد, لذلك كتب للمولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام. (عظني بحرفين).


الخصلة الثانية: أنَّه طالبٌ للموعظة المختصرة:
الانشغال في شؤون الحياة الدنيا لا ينبغي أنْ يكون مانعاً للإنسان عن طلب الموعظة, إذ كما أنَّ للجسد حاجات يقتضي الأمر طلب الرزق لأجلها، كذلك للروح حاجات لا تلبّى إِلَّا بالطلب، وكثرة الانشغال في المقام الأوّل لا ينبغي أنْ تكون على حساب المقام الثاني.
 
وعلى هذا الأساس ورد في جملة من النصوص استحباب الإجمال في الطلب في المقام الأوّل:
ففي الصحيح ٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَلَا إِنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ شَيْ‏ءٍ مِنَ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَعْصِيَةِ الله فَإِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَسَمَ الْأَرْزَاقَ بَيْنَ خَلْقِهِ حَلَالًا وَلَمْ يَقْسِمْهَا حَرَاماً فَمَنِ اتَّقَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَصَبَرَ أَتَاهُ الله بِرِزْقِهِ مِنْ حِلِّهِ وَمَنْ هَتَكَ حِجَابَ السِّتْرِ وَعَجَّلَ فَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ قُصَّ بِهِ مِنْ رِزْقِهِ الْحَلَالِ وَحُوسِبَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَة"1.
 
 

1- الكافي، ج 5، ص 80.
 
 
25

18

المعصية سبيل الخسران

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: "لِيَكُنْ طَلَبُكَ لِلْمَعِيشَةِ فَوْقَ كَسْبِ الْمُضَيِّعِ وَدُونَ طَلَبِ الْحَرِيصِ الرَّاضِي بِدُنْيَاهُ الْمُطْمَئِنِّ إِلَيْهَا وَلَكِنْ أَنْزِلْ نَفْسَكَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْصِفِ الْمُتَعَفِّفِ تَرْفَعُ نَفْسَكَ عَنْ مَنْزِلَةِ الْوَاهِنِ الضَّعِيفِ وَتَكْتَسِبُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ. إِنَّ الَّذِينَ أُعْطُوا الْمَالَ ثُمَّ لَمْ يَشْكُرُوا لَا مَالَ لَهُم"1.
 
وعن عَبْدِ الله بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ: "إِنَّ الله تَعَالَى وَسَّعَ فِي أَرْزَاقِ الْحَمْقَى لِيَعْتَبِرَ الْعُقَلَاءُ وَيَعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَ يُنَالُ مَا فِيهَا بِعَمَلٍ وَلَا حِيلَة"2. ولا يقصد من ذلك ترك الجدّ والعمل، بل المقصود هو الاتكال عليهما.
 
ومع قطع النّظر عن ذلك، فإنّ الانشغال بطلب الرزق وشؤون الدُّنيا مهما كَثُر، فلن يُعدِم الإنسان وقتاً ـ ولو قليلاً ـ بأنْ يسعى نحو موعظةٍ مختصرةٍ "بِحَرْفَيْنِ".


لا تتخذوا المعاصي سبيلا لنيل الأهداف
بعد هذا التقديم عن أجواء الطالب لهذه الموعظة تعالوا معاً لنغترف من معين موعظة المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام.


فهذه الموعظة تنهى عن اتّخاذ المعصية وسيلةً للوصول إِلَى الغايات. إِلَّا أنَّ النهي فيها كان بلسان بيان ما يترتَّب على هذا الاتّخاذ، من كون هذه الوسيلة لا توصل إِلَى المطلوب من جهةٍ، وتوقع صاحبها فيما ينبغي الابتعاد عنه والحذر منه من جهةٍ أُخرى.
 
فالحسين عليه السلام يريد منّا أنْ نعيش في النّقاء على مستوى الغاية والطريق الموصل إليها معاً. ولمّا كان الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا ينفكّ عن السّير نحو غاياته وأهدافه مهما دنت هذه الأهداف أو علت، وكان لا بدّ له في سبيل تحقيق هذه الأهداف من الاستعانة بطرقٍ متعدِّدة من أجل الوصول إِلَى المطلوب، وهذه الطرق تتنوّع بشكل عام إِلَى نوعين:
 
 

1- الكافي، ج 5، ص 81.
2- الكافي، ج 5، ص82.
 
 
 
26

19

المعصية سبيل الخسران

 منها: ما يكون ملتوياً وخارجاً عن الحدود التي حدّدها الله تعالى, بحيث يعدّ السلوك فيها معصيةً من المعاصي.

ومنها: ما يكون في ضمن الأُطر والحدود التي حدّدها الله وأحلّها لعباده، ويعدّ السالك فيها غير خارج عن جادة الشّريعة، بل يكون مطيعاً لله تبارك وتعالى.
 
والنّوع الأوّل مهما كان سلساً وسهلاً ومريحاً من ناحية البعد الماديّ والدنيويّ، إلا أنّه لا يخلو أمره عن حالتين:
الحالة الأُولى: أنْ لا يصل السالك من خلاله إِلَى مطلوبه، فلا يناله إِلَّا الوزر لسلوكه الطريق الخارج عن حدود الله، ودخوله في سلك الظالمين، قال الله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1.
 
الحالة الثانية: أنْ يصل إِلَى مطلوبه، فتأخذه العزّة بالإثم. حيث إِنَّه إذا كان ملتفتاً إِلَى معصيته في الوسيلة، يكون مُقْدِماً ـ إنْ كان ما زال فيه بذرة الخير ـ مع التّردُّد في الوصول إِلَى مبتغاه، فإذا وصل قد لا يلتفت إِلَى أنَّ الله يمهله ولا يهمله، ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾2 وعليه، فهذه دعوة للإنسان أيّ إنسان، أنَّه إذا أراد أنْ يصل إِلَى مبتغاه لا بدّ أنْ لا يسلك الطريق الَّذِي لا يرتضيه الباري عزّ وجلّ، بل لا بدّ له من أنْ يعيش حالة النقاء والطهارة على مستوى الغاية والوسيلة الموصلة إليها.


أسباب اختيار الإنسان للوسائل المحرّمة
لكي نتعرّف إلى السبب في ذلك ندعو للتأمُّل في المثال التالي:
من المقاصد والغايات التي يسعى إليها الإنسان في هذه الحياة, الغنى، مع قطع النّظر عن قيمة هذا الهدف وصحته.
 

1- البقرة، 229.
2- آل عمران، 178.
 
 
 
27

20

المعصية سبيل الخسران

 وفي الحسابات الدنيوية المادية يعتقد الإنسان أنَّه كُلّما كانت الوسيلة الموصلة إِلَى الهدف تتميّز بالسُّرعة والسُّهولة تكون أربح وأنفع. والطُّرق المحرّمة والملتوية كثيراً ما تكون كذلك.

 
فالوصول إِلَى الغنى عن طريق الكدّ والجهد بالسفر والسهر، وسلوك المعاملات التي أحلّها الله تعالى تتميّز بالصُّعوبة وتأخذ وقتها الكافي والطويل للوصول بصاحبها إِلَى مصافّ الأغنياء.
 
بينما في مقابل ذلك قد يكون الغشّ والاحتيال والمكر والخديعة أكثر ربحاً وأسرع نفعاً.
والإنسان بطبعه ميّال نحو الدعة والراحة والربح السريع، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "حُفَّتِ الجّنَّةُ بِالْمَكَارِه، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَات"1.
 
نماذج لاتّخاذ المعصية ذريعة لقضاء الحوائج
في حياتنا اليومية يمرُّ معنا الكثير من النماذج التي تجعل المعصية وسيلةً لقضاء الحوائج والوصول إِلَى الغايات، أُشير إِلَى جملةٍ منها, لكي يكون الإنسان على بصيرةٍ من أمره، ثمّ نتعرّض بعد ذلك إِلَى الأُسلوب الناجع لعلاج هذه المشكلة التي عمّ الابتلاء بها في المجتمعات المختلفة.
 
النّموذج الأوَّل: الاستعانة بالرشوة:
الحياة الاجتماعية في تشعّباتها المختلفة لا تخلو من وقوع المنازعات والاختلافات. والأنظمة الوضعية والشريعة الإسلامية على حدٍّ سواء نصّبت مرجعاً للناس يرجعون إليه في فضّ نزاعاتهم ورفع اختلافاتهم، يطلق عليه اسم القاضي والحاكم بين الناس.
 

1- المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار، ج 67، ص 78، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت.
 
 
 
28

21

المعصية سبيل الخسران

 وكثيراً ما يكون مقام الإثبات غير مكتملٍ عند صاحب الدعوى، كما لو انتقل إليه ملكٌ بشراء، ولكن ضاعت الوثيقة أو فُقِد الشُّهود، أو يكون في الواقع كاذباً في ادّعائه، فيحاول أنْ يجبر هذا النّقص ويعوّضه عن طريق الاستعانة بما يسمّى في الاصطلاح بالرشوة التي هي في المقام عبارة عن: ما يعطيه أحد المتخاصمين لإحقاق حقٍّ أو تمشية باطل.

 
والرشوة في حكمها الأوّلي مِمّا حرّمته الشريعة، سواء من ناحية الآخذ أم المعطي على تفصيل مذكورٍ في الكتب الفقهية، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾1. وفي الخبر عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: "السُّحْتُ ثَمَنُ الْمَيْتَة. وَالرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ"2.


وعليه فصاحب الحقّ أو الباطل يستعين بأمر محرّم, لتحصيل حقّه أو باطله. وإذا أردنا أن نحسب بموازين ربّ العالمين التي لا ينظر فيها بميزان الربح والخسارة إِلَى البعد المادي فحسب، فسوف تكون النتيجة الخسارة الكبرى, لأنّه كثيراً ما لا تحصِّل الرّشوة ما يبتغيه الراشي، بل توقعه في الخسائرة المادية الكبيرة فيما لو فُضِح أمره أو كان القاضي نزيهاً، يضاف إِلَى ذلك الغضب الربّاني والعقوبة الأُخروية. ولو أوصلته الرّشوة إِلَى ما يبتغيه فلا يكون شيئاً يذكر أمام الغضب الإلهيّ، والطرد من رحمة الله، وسلب التوفيق الَّذِي يكون نتيجة حتمية لارتكاب المعاصي.
 
النموذج الثاني: إستمالة قلوب الناس بالمكر والخديعة:
السياسيون والذين يشتغلون في الشأن العام كثيراً ما يهمّهم أنَّ يَحظوا بموقعيةٍ في المجتمع الَّذِي يكون محلاً لعملهم ونشاطهم، فيسعون بشتّى الطرق لصرف عقول الناس وإمالة قلوبهم باتّجاههم.
 
 

1- البقرة، 188.
2- الكافي، ج 5، ص127.
 
 
 
29

22

المعصية سبيل الخسران

 فترى بعض هؤلاء، وهو مَنْ له موقعية حقيقية، يرتفع في قلوب الناس من دون حاجة إِلَى أنْ يتوسّل إِلَى ذلك أيّ وسيلةٍ مبتذلة، بل ربّما لا يأتي في ذهنه الرغبة في أنْ يتربّع في قلوب الناس, لأنّه همّه وغرضه ليس ذلك، بل همّه وهو الأساس دوماً القيم العليا والأهداف السامية، وفي الخبر: "مَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَه"1.

 
بينما أصحاب الدنيا، والمقامات الواهمة، يتوسّلون في ذلك الكذب والخداع والاحتيال. ومن أبرز المصاديق على ذلك ما نشاهده من دفع الأموال الطائلة في مواسم الانتخابات التي تحصل في الكثير من الدول. ومثله استئجار الطواغيت وسلاطين الدنيا للأقلام المأجورة التي تمدحهم، وتمجّدهم، وتحسّن صورتهم أمام الجمهور والرأي العام, ولأجل ذلك يكثر الشعراء والمتملِّقون في بلاط الزعماء والملوك والأمراء.


طاعة الله أسرع السبل 
بعد الالتفات إِلَى أنَّ القدرة العظمى المتصرّفة في عالم الوجود والتكوين هي الله سبحانه وتعالى، وأنّه لا توجد قدرةٌ في الوجود يمكن لها أنْ تقف في وجه قدرته تبارك وتعالى، وأنّ الإنسان مهما سعى لا يستطيع أنْ يحصل على ما يغاير المشيئة الربّانية. فالرزق بيده الله يعطيه من يشاء، ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾2.
 
وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يميلها حيث يشاء، ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾3.
والحاجات طيّعةٌ بأمر الخالق يقضيها لمن يشاء، ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾4. فركوب المعصية لا ينزل رزقاً، ولا يميل قلباً، ولا ينجح طَلِبةً.
 
 

1- وسائل الشيعة، ج14، ص516.
2- طه، 132.
3- آل عمران، 103.
4- البقرة، 105.
 
 
 
30

23

المعصية سبيل الخسران

 بل قد يورث حسرةً وخسارة وعداوة، كيف وقد قال إمامنا الصادق عليه السلام: "مَنْ حَاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ الله كَانَ أَفْوَتَ لِمَا يَرْجُو وَأَسْرَعَ لِمَجِي‏ءِ مَا يَحْذَر"1؟

 
وفي الصحيح عن ْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: "إِذَا قَامَ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ فَخَفَّفَ صَلَاتَهُ قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ أَمَا تَرَوْنَ إِلَى عَبْدِي كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِهِ بِيَدِ غَيْرِي أَمَا يَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِهِ بِيَدِي"2.
 
فاعتبروا أحبّتي من الأُمور التي نشاهدها في حياتنا اليومية، فكم من متعبٍ نفسه لتحصيل المال، وليس له من جهده إِلَّا التعب، وكم ساعٍ وراء الجاه ولا يحصل إِلَّا على سوء السمعة.


وكم من رجل يسعى رزقه نحوه وإنْ لم يكن طالباً له.. وكم من إنسان يحصل له الذكر الجميل والسمعة الحسنة بين الناس وإنْ لم يكن ساعياً نحو ذلك. فاعملوا عباد الله ما يطلب منكم، والباقي على الله تعالى.
 

1- الكافي، ج2، ص373. 
2- الكافي، ج 3، ص 269.
 
 
31

24

المعصية سبيل الخسران

 مفاهيم رئيسة

1- من خصائص طالب الموعظة أنه يسعى نحوها على الدوام، وأنّه يميل نحو الاختصار والإجمال في الطلب.
2- يجب أن لا يتخذ الإنسان المعاصي وسيلة للوصول إلى أهدافه وغاياته ولو كانت صحيحة.

3- يسعى الإنسان دائماً للاستعانة بطرقٍ متعدِّدة للوصول إِلَى المطلوب، وهذه الطرق تتنوّع إِلَى نوعين: الطرق التي فيها معصية لله، والطُّرق التي فيها طاعة لله تعالى.

4- يميل الإنسان بطبعه نحو الدّعة والرّاحة والرّبح السريع، وفي الحسابات الدّنيوية المادية يعتقد الإنسان أنَّه كُلّما كانت الوسيلة الموصلة إِلَى الهدف تتميّز بالسُّرعة والسُّهولة تكون أربح وأنفع. والطُّرق المحرّمة والملتوية كثيراً ما تكون كذلك.

5- من نماذج اتّخاذ المعصية ذريعة لقضاء الحوائج: الاستعانة بالرشوة، إمالة قلوب الناس بالمكر والخديعة.
6- طاعة الله هي أسرع الطرق لبلوغ الأهداف السامية والقيم الإنسانية الرفيعة.
 
 
 
32

25

في رحاب سورة العصر

 في رحاب سورة العصر

             
مفاهيم محورية:
 
- المفاهيم الإيمانية لسورة العصر. 
- تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾. 
- تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾. 
- تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. 
- تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. 
 
 
 
33

26

في رحاب سورة العصر

 تصدير الموضوع

﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾


﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ*وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1.


سورة العصر والمفاهيم الإيمانية
تلخِّص سورة العصر جميع المعارف القرآنية وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان2، ولها فضل عظيم كما روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من قرأ سورة العصر ختم الله له بالصبر وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة"3.
 
وتتضمّن هذه السورة مجموعة من المفاهيم الهامة نتعرّض لها في سياق تفسيرها وهي: فلسفة خسارة الإنسان وسرُّ عدم خسارة المؤمنين، العمل الصالح منجٍ من الخسارة ومقوٍّ للإيمان، معنى التواصي بالحق وبالصبر، تلازم العمل الصالح مع الإيمان. ونستعرض فيما يلي تفسير آيات السورة المباركة بشكل موجز: 
 

1- العصر، 1-3.
2- محمد جواد مغنية ، التفسير المبين، ص821.
3- مستدرك الوسائل، ج 4، ص 368.
 
 
 
35

27

في رحاب سورة العصر

 تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ 

أقسم سبحانه وتعالى بالعصر لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار، والقسم من الموارد التي تكرَّرت في القرآن الكريم في مواضع يبرز فيها جوانب الأهمية، وتهدف للتأكيد على موضوع القسم وإبراز أهميّته، والمراد بالعصر على الأشهر عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عصر طلوع شمس الإسلام على المجتمع البشري، وظهور الحق على الباطل1. وذكر الشهيد مطهري رضي الله عنه أن الأنسب في المقام هو أن القسم بالزمان وتاريخ البشرية لأن القَسَم في القرآن يتناسب مع الموضوع الذي أقسم الله من أجله، فإذا أراد القرآن أن يبيّن أهمية ذلك العصر أقسم به، والمعلوم أن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عصر طلوع الإسلام2.
 
تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾
1- جنس الإنسان: إنّ المقصود بالإنسان هنا هو جنسه، بمعنى أنّ الخسران الوارد في هذه الآية شامل لجميع أفراد البشر، ولعموم الإنسان المكلّف، فالألف واللام في لفظ "الإنسان" للجنس الذي يفيد الاستغراق في كل أفراد الإنسان، والإتيان بحرف للتأكيد على الكون في الخسران والاستغراق فيه.
 
2- خسارة الإنسان: ذكر القرآن الكريم موضوع خسارة الإنسان للنفس أو المال أو الأهل أو الدنيا والآخرة في سبعين مورد3، وهذا ما يبرز أهمية هذا المفهوم وضرورة تحديد مراد الله تعالى من خسارة الإنسان الذي يعتبر من أكرم المخلوقات وأفضلها عند الله تعالى.
 
عندما ندقّق لغوياً في ألفاظ سورة العصر، نجد نوعاً من التأكيد والتشديد الوارد فيها من عدة جهات مثل: القسم: موضوع القسم الوارد هنا هو خسارة الإنسان، ولو
 

1- السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج30، تفسير العصر.
2- الشهيد مطهري، تفسير قصار السور.
3- راجع سورة البقرة الآيات، 27، 64، 121. وآل عمران، 85، و149. والنساء، 119.
 
 
36

28

في رحاب سورة العصر

 لم يكن إلا القسم لكفى، وإنّ: حرف يفيد التوكيد، لفي: اللام حرف جر زائد يفيد التوكيد، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ والجملة اسمية تفيد التوكيد.

 
الخسر والخسران والخسارة يعني نقصان رأس المال، لا النقصان فيما زاد أو فضل عنه من الأرباح ونحوها، وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر زيد، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته1.
 
وعندما ندقّق في الخسر والخسران أكثر نجد أنه عبارة عن ذهاب رأس المال إما كلاً أو بعضاً، والخسران أبلغ من الخسر. وخسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة والشقاء، بحيث يبطل منها استعداد الكمال فتفوتها السعادة2، والخسارة هنا أشمل من الخسارة المالية أو الماديّة، إذ الخسارة المادية أو المالية في عمل أو تجارة ونحوه يمكن أن تعوَّض، أما الخسارة التي يخسرها الإنسان هنا فإنّه لا يمكن أن تعوّض.
 
3- ماذا يخسر الإنسان؟ يخسر الإنسان رأسماله الحقيقي، وأغلى ما يملك في هذا الوجود وهو عمره، فالعمر في حالة نقصان وتسرّب دائمين، ويتناقص يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة ولحظة بعد لحظة، وبسرعة دون أدنى توقّف أو تأخر أو بطء، فتضعف قوى الإنسان المادية والبدنية والمعنوية، فالعمر كثروة ورأسمال كبير يؤخذ منه كل يوم شيء، رغماً عن صاحبه، فيكون في حالة خسران مستمر. ينقل أحد العلماء في تفسير هذه الآية عن أحد الصالحين أنّه تعلّم معنى هذه الآية من بائع ثلج، يعرض بضاعته تحت الشمس وكان يصيح ويقول: إرحموا من يذوب رأس ماله. فالمعلوم كما في الروايات أنّ كلَّ نَفَس من أنفاس الإنسان يقرّبه خطوة نحو الموت، روي عن الإمام علي عليه السلام "نفسُ المرء خطاه إلى أجله"3.
 
 
 

1- راجع سورة المائدة، 5، و21، و30، و53. والأنعام، 12، و20، و31، و140. والأعراف، 9، 23، 53.
2- الراغب الأصفهاني، شرح مفردات القرآن.
3- نهج البلاغة، ص 480.
 
 
 
37

29

في رحاب سورة العصر

 وورد في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾على بعض تفاسيرها أنّ الإنسان في حالة رجوع دائم إلى الله تعالى، ففي كل لحظة أو دقيقة أو ساعة أو يوم أو... تمرُّ في حساب الزمن يخسر الإنسان بمقدارها من عمره، وبتعبير آخر يموت بمقدار ما يمرُّ من الزمن.

 
4- الدنيا دار ربح وخسارة: لقد وهب الله تعالى الإنسان رأسمال عظيماً وهو العمر لينجز فيه في الدنيا الذي يعبّر عنها بأنها "سوق تجارة"، روي عن الإمام علي الهادي عليه السلام: "الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون"2

ولكن كيف ينفق الإنسان رأس ماله هذا!؟
فهناك من ينفق رأس ماله مقابل الحصول على مال، أو شهرة أو رئاسة...
وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذّاته...
ويوجد من ينفق كل وجوده وحياته ويهبهما لله تعالى وفي سبيله.
فما هو ثمن هذه الثروة العظيمة "العمر"؟ طبعاً لا يوجد أي واحد من هذه الأمور يمكن أن يكون ثمناً لتلك الثروة العظيمة، سوى رضا الله تعالى، روي عن الإمام علي عليه السلام: "إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها"3

والله تعالى هو الجهة الوحيدة المؤهَّلة لشراء العمر:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾4.
 
5- من هم الخاسرون؟ يتحدّث القرآن الكريم عن عدّة أنواع من الخاسرين أهمها:
 
 

1- البقرة، 156.
2- نهج البلاغة، الكلمات القصار، 47.
3- تحف العقول، ص361.
4- التوبة، 111.
 
 
 
38

 


30

في رحاب سورة العصر

 - خسران الأنفس: قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾1



- الخسران وعدم الإيمان: قال الله تعالى: ﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾2
 
- خسران الدنيا والآخرة: قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾3
 
- الأخسرون: قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾4
 
تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
وضع القرآن الكريم منهجاً للنجاة من ذلك الخسران يتكوّن من أربعة أصول، تحول دون هذا الخسران الكبير وتبدّله إلى منفعة كبيرة، وربح عظيم، لأنّه يحصل على رأس مال أغلى وأثمن، يسدٌّ مسدَّ رأس المال المفقود ويكون أفضلَ وأكثر منه، والأصول الأربعة لنفي الخسارة وتحويلها إلى فوز هي:
- الإيمان: قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. 
- العمل الصالح: قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. 
- التواصي بالحق: قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾. 
- التواصي بالصبر: قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. 
 
 

1- الأعراف، 9.
2- الأنعام، 12.
3- الحج، 11.
4- الكهف، 103 ـ 104.
 
 
 
39

31

في رحاب سورة العصر

 1- المؤمن: فالإنسان المؤمن لا تقع عليه الخسارة لأنه راجع وذاهب إلى حيث يُحبّ وهو الله تعالى، إلى دار البقاء والخلود والنعيم والفوز. فهو في كل الحسابات فائز وناجح. وقد أكّد القرآن أن الانسان يرجع إلى الله تعالى ولا يموت في العديد من الآيات. قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾1.﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾2.﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾3.﴿وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾4. ﴿وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾5.

 
ويشمل الإيمان هنا: الإيمان بالله تعالى وصفاته والكتب السماوية والقيامة والأنبياء والمقدّسات. فالإيمان يشمل العقيدة، والسلوك، والتديّن. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾6.
 
2- الإيمان والعمل الصالح رفيقان لا يفترقان: عندما نتأمّل في آيات القرآن نلاحظ تلازماً واضحاً للعمل الصالح مع الإيمان، وما ذلك إلا للدلالة على أنّ الإيمان يلازمه الالتزام العملي التام بأحكام الشريعة، ولا إيمان بدون عمل. وفيما يلي نماذج من الآيات التي اقترن الإيمان فيها بالعمل الصالح.
 
قال الله تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾7. ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾8.﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ 
 
 

1- العنكبوت، 57.
2- البقرة، 28.
3- القصص، 88.
4- فصلت، 21.
5- الزخرف، 85.
6- الأنفال، 2.
7- مريم، 60.
8- الفرقان، 70.
 
 
 
40

32

في رحاب سورة العصر

 صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى﴾1.﴿إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا﴾2

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾3.
 
فالقاعدة المستفادة من هذه الآيات وغيرها هي: عدم وجود إيمان بلا عمل. والعمل يجب أن يكون صالحاً، منسجماً مع الشريعة المقدّسة، فكل عمل من شأنه أن يهدي الناس أو يرفع من مستواهم العلمي أو العملي أو الثقافي أو... هو عمل صالح، وبالتالي فالعمل الصالح هو الجانب العملي للإيمان لأن "الإيمان عمل كله"4، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام.
 
3- تواصوا بالحق والصبر: أي الوصية المتقابلة فيوصي كل مؤمن المؤمن الآخر، فالايصاء فعل مزدوج. والإيصاء هنا إشارة إلى وظيفتنا تجاه الآخرين من أبناء المجتمع، فتوصي الآخر وتقبل وصيته لك. وإذ بعد الإيمان قد تبرز عوائق وموانع وصعوبات ويتعرّض المؤمن للأذى، فلا بد له من الصبر ليقوى على الاستمرار خاصة وأن البقاء على الإيمان للعمل أصعب من العمل نفسه.
 

1- الكهف، 88.
2- سبأ، 37.
3- مريم، 96.
4- الكافي، ج 2، ص 33.
 
 
 
41

33

في رحاب سورة العصر

 مفاهيم رئيسة

1- تتضمن سورة العصر الكريمة على المفاهيم الإيمانية الأساسية والعديد من النصائح العملية الموصلة بالإنسان إلى الله تعالى.
2- المقصود من قوله تعالى ﴿وَالْعَصْرِ﴾ هو عصر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو عصر طلوع شمس الإسلام على المجتمع البشري.
 
3- المقصود من قوله تعالى ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، أن الخسارة شاملة لجميع أفراد البشر، ومع أن الخسران أكثر ما نجد أنه عبارة عن ذهاب رأس المال إما كلاً أو بعضاً، إلا أنّ المقصود هو خسارة الإنسان لرأسماله الحقيقي، والذي هو عمره.
 
4- لكي يكون سعي الإنسان سعيا رابحا ومن دون خسارة، عليه أن يوجّه سعيه نحو غايات عُليا، فقد روي عن الإمام علي عليه السلام: "إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها".
 
5- وضع القرآن الكريم منهجاً للنجاة من الخسران الكبير، وهو يعتمد على أركان أربعة: 
- الإيمان: في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. 
- العمل الصالح: في قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. 
- التواصي بالحق: في قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾. 
- التواصي بالصبر: في قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
 
 
 
42

34

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 
مفاهيم محورية:
- مفهوم الظلم وحكم العقل بقبحه. 
- دوافع ظلم المستكبرين للشعوب المستضعفة. 
- وجوب نصرة المظلوم في الإسلام. 
- خصوصية استجابة دعوة المظلوم. 
- وجوب نصرة المظلومين والمستضعفين ومعونتهم. 
 
 
 
43

35

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 تصدير الموضوع 

روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلّا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلّا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلّا خذله الله في الدنيا والآخرة"1
 
الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختّصّ به, إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه. والظلم يقال في مجاوزة الحقّ الذي يجري مجرى نقطة الدائرة ويقال فيما يكثر وفيما يقلّ من التجاوز2.
 
قبح الظلم عند البشر
تشهد دراسة التاريخ البشريّ أنّ الإنسان مهما كان دينه ومسلكه وانتماؤه، وأينما حلّ في بقاع الأرض، يُدرك بنفسه قُبح الظلم وحُسن العدل، كما يُدرك بنفسه حسن الوفاء بالعهد وقبح نقضه، وحُسن معونةِ المظلومين ونصرتهم، وقُبح إعانة
 
 

1- وسائل الشيعة، ج12، ص268.
2- مفردات ألفاظ القرآن، ص315.
 
 
 
45

36

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 الظالمين ونصرتهم.

 
فالعقل البشريّ السليم يدرك حسن الأفعال وقبحها، ويعتبر الفعلَ الحسَن علامة لكمال فاعله، والفعل القبيح علامة لنقصان فاعله.


ولهذا فإنّ الخروج عن هذه القاعدة من قبل المتكبّرين في الماضي والحاضر، وظلم الشعوب وسلبها مقدّراتها وعدم إعطائها ما تستحقّه هو من أجلى مصاديق الظلم والتكبّر والتعالي، خاصة وأنّ أساس الظلم نابع إما من جهل الفاعل بقبح الظلم، أو كونه سفيهاً غير حكيم فهو يمارس الظلم مع علمه بقبحه ورغم قدرته على القيام بالعدل، أو من احتياجه للظلم لحفظ مصالحه ومشاريعه وإن كان على حساب حق الشعوب وكرامتهما.
 
وجوب نصرة المظلوم في الإسلام
جاء الإسلام والناس متفرِّقون شيعاً وأحزابًا وقبائل، فجمع الله به الناس، وألَّف به بين قلوبهم: قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾1
 
وقد ربَّى الإسلام أبناءه على أنّهم أفراد في مجموعة، وأنّهم أجزاء من هذه الجماعة الكبيرة، فالمسلم بشعوره أنّه جزء من الجماعة يحبّ للأجزاء الأخرى مثل ما يحبّ لنفسه. 


وإنّ انتماء المسلم للجماعة يترتّب عليه حقوق وواجبات، ومن أعظمها واجب التناصر بين المسلمين. روي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عزّ وجلّ: "وعزّتي وجلالي لأنتقمّنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمَّنّ ممّن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره"2. وقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليه السلام
 
 

1- آل عمران، 103.
2- كنز العمال، ج3، ص505.
 
 
 
46

37

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 بقوله: "وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عَوْناً"1. كما ورد الحثّ على إعانة المظلوم في العديد من الأدعية والروايات.

 
روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهم إنّي أعتذر إليك من مظلوم ظُلِمَ بحضرتي فلم أنصره..."2. وروي عن الإمام عليّ عليه السلام: "أحسن العدل نصرة المظلوم"3.
 
أهمّيّة التناصر في حياة الأمّة
للتناصر أهمية عظمى في حياة الأمّة، ودونه يصبح المجتمع الإسلاميّ مكشوفًا أمام أعدائه مُعَرَّضًا للهزيمة. وعلى العكس من ذلك, فإنّ التزام أبناء المجتمع بنصر الله من ناحية ونصرة بعضهم بعضاً من ناحية أخرى، يؤدّي حتماً إلى فوز المسلمين بكل خير، وظهورهم على عدوِّهم تحقيقًا لوعد الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾4. ولهذا اعتبرت النصرة من واجبات كلّ مسلم تجاه كلّ مسلم.
 
وتكون النصرة بتقديم العون له متى احتاج إليه، ودفع الظلم عنه إن كان مظلوماً، وردعه عن الظلم إن كان ظالماً تحقيقًا لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "انصر أخاك ظالمًاً أو مظلومًاً" فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إن كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإنّ ذلك نصره"5.
 
وكان ممّا أمر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمته نصر المظلوم بغض النظر عن لونه وجنسه. في الرواية أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم بسبع): أمرهم بعيادة المرضى، واتباع الجنايز، و إبرار القسم، وتسميت العاطس، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي6.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج42، ص245.
2- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في الاعتذار من تبعات العباد وفي فكاك رقبته من النار. 
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1780.
4- الحج، 40.
5- كنز العمال، ج 3، ص 414.
6- بحار الأنوار، ج78، ص214.
 
 
 
 
47

38

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 وكان يشحذ همم المسلمين ويحثّهم على نصرة المظلوم مبيّناً أنّ الجزاء سيكون من جنس العمل، فروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلّا خذله الله تعالى في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلّا نصره الله في موطن يحبّ فيه نصرته"1.

 
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً"2.


خصوصية استجابة دعوة المظلوم
المستفاد من عدّة روايات أنّ الله تعالى خصّ المظلومين بقبول دعوتهم ونصرتهم، وردّ كيد الأعداء، وما ذلك إلّا لأنّهم أصحاب حق، وإن الله تعالى لا يمنع ذا حقّ حقّه، ويحثّ عباده على نصرة المظلومين. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتقوا دعوة المظلوم، فإنّها تصعد إلى السماء"3.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "لما سُئل كم بين الأرض والسماء؟ أجاب عليه السلام: بين السماء والأرض مدّ البصر ودعوة المظلوم"4.


الراضي بفعل قوم كالداخل فيه
الظلم من الأمور القبيحة، والصفات اللئيمة، التي ورد النهي الشديد عنها في الشريعة الإسلامية في القرآن الكريم والسنّة القولية والعملية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام. وقد ورد الحثّ على نصرة المظلومين ودعمهم بالكلمة إذا احتاجوها،
 
 

1- سنن أبي داوود، ج2، ص452.
2- بحار الأنوار، ج72، ص359.
3- بحار الأنوار، ج90، ص358.
4- بحار الأنوار، ج10، ص88.
 
 
 
48

39

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 وبالمال إن احتاجوه، وبالسلاح إن اعتُدي عليهم. واعتبرت هذه النصرة مواجهة للظالم نفسه، وتعبيراً آخر عن رفضه وعدم الرضا به وجهاده، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان، إثم العلم به، وإثم الرضا به"1.

 
 

1- نهج البلاغة، ج 4، ص 40.
 
 
 
49

40

نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

 مفاهيم رئيسة

1- يُدرك الإنسان بنفسه قُبح الظلم وحُسن العدل، ويُدرك كذلك حسن الوفاء بالعهد وقبح نقضه، وحُسن معونةِ المظلومين ونصرتهم، وقُبح إعانة الظالمين ونصرتهم. 

2- ربَّى الإسلام أبناءه على أنّهم أفراد في مجموعة وأنّهم أجزاء من هذه الجماعة الكبيرة، فالمسلم بشعوره أنّه جزء من الجماعة يحبّ للأجزاء الأخرى مثل ما يحبّ لنفسه، وقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليه السلام بقوله: "وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عَوْناً".

3- يوصي الإسلام أبناءه بالتناصر فيما بينهم لما له من الأهمية العظمى في تحقيق النصر، فالتزام أبناء المجتمع بنصر الله من ناحية ونصرة بعضهم بعضاً من ناحية أخرى، يؤدّي حتماً إلى فوز المسلمين بكل خير.

4- النصرة تكون بتقديم العون للفرد المسلم متى احتاج إليه، ودفع الظلم عنه إن كان مظلوماً، وردعه عن الظلم إن كان ظالماً.

5- خصّ الله تعالى المظلومين بقبول دعوتهم ونصرتهم، وردّ كيد أعدائهم، لأنّهم أصحابَ حقٍّ، والله تعالى لا يمنعُ ذا حقٍّ حقّه، ويحثّ عباده على نصرة المظلومين.
 
 
 
50

41

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 خدمة الناس وقضاء حوائجهم


مفاهيم محورية:
- المسؤولية تكليف عام. 
- علاقة الجزاء بالعمل. 
- حقّ المسلم على المسلم. 
- قيمة قضاء حوائج المؤمنين وخدمتهم. 
- خدمة الناس أفضل من العبادة. 
- ضرورة الإسراع في خدمة الناس. 
 
 
 
51

42

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 تصدير الموضوع 

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يشتمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة و من سرّ مسلما ستره الله يوم القيامة"1
 
الإسلام ليس منهج اعتقاد وإيمان في القلب فحسب، بل هو منهج حياة إنسانية واجتماعية واقعية، يتجسّد فيها الاعتقاد والإيمان ممارسة عملية في جميع جوانب الحياة ومتطلّباتها الفردية والاجتماعية، وذلك على مبدأ التراحم والتكافل والتناصح والمودّة والإحسان والتضحية والإيثار، قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾2، وهذا ما يلزم الأفراد بالكثير من الواجبات تجاه بعضهم بعضاً كأفراد، وتجاه المجتمع ككيان اجتماعي يحتضن جميع أفراده، من أهمها خدمة الناس وقضاء حوائجهم.
 
المسؤولية تكليف عام 
لقد وضع الإسلام منهجاً متكاملاً في العلاقات بين الناس، يقوم على أساس
 

1- مستدرك الوسائل، ج 12، ص 415.
2- المائدة، 2.
 
 
 
53

43

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 مراعاة حقوق أفراد المجتمع فرداً فرداً وجماعةً جماعةً، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾1. فالتقيّد بهذا الأمر الإلهي يعصم الإنسان عن التقصير في حقوق الناس، ويدفعه للعمل الدؤوب في خدمتهم، وأداء مسؤوليته تجاههم على أكمل وجه. وقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على اعتبار كل مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، فأكّد صلى الله عليه وآله وسلم على الاهتمام بأمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، حيث روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : "من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم "2. ودعا الإمام الصادق عليه السلام إلى الالتصاق والاندكاك بجماعة المسلمين فقال عليه السلام: "من فارق جماعة المسلمين قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"3.



حقّ المسلم على المسلم 
سأل الإمام الصادق عليه السلام أحدُ أصحابه المعلى بن خنيس عن حقوق الإخوان، فقال أبو عبد الله: له سبع حقوق واجبات, ما منهن حق إلا وهو عليه واجب, إن ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته, ولم يكن لله فيه نصيب. قلت جعلت فداك, وما هي؟
قال: يا معلى إنّي عليك شفيق, أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل.
قلت: لا قوة إلا بالله.
 
وحينئذ ذكر الإمام السبعة بعد أن قال عن الأول منها: أيسر حق منها أن تحب له كما تحب لنفسك, وتكره له ما تكره لنفسك.
 
 

1- النحل، 90.
2- الكافي، ج2، ص163.
3- الكافي، ج1، ص405.
 
 
 
54

44

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 والحقوق السبعة التي أوضحها الإمام عليه السلام هي:

- أن تحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك, وتكره له ما تكره لنفسك. 
- أن تجتنب سخطه, وتتبع مرضاته, وتطيع أمره. 
- تعينه بنفسك, ومالك, ولسنانك, ويدك, ورجلك. 
- أن تكون عينه, ودليله, ومرآته. 
- أن لا تشبع ويجوع, ولا تروى ويظمأ, ولا تلبس ويعرى. 
- أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم, فواجب أن تبعث خادمك, فتغسل ثيابه, وتصنع طعامه, وتمهد فراشه. 
- أن تبر قسمه, وتجيب دعوته, وتعود مريضه, وتشهد جنازته, وإذا علمت له حاجة تبادره إلى قضائها, ولا تلجئه أن يسألكها, ولكن تبادره مبادرة. 
 
ثم ختم عليه السلام كلامه بقوله: "فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك"1


ارتباط الجزاء بالعمل
يقول الله سبحانه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾2.
إنّ أعمال الخير وأعمال الشرّ تبقى ولا تزول، وهي محور جزاء الإنسان في الدنيا والآخرة. ومن أجل أن يدفعك الإسلام إلى أن تجتهد في سبيل عمل الخير، ولا تدع عمل خير إلّا وتقوم به، ولا تبقي من عمرك لحظة إلّا وتعمّرها بعمل الخير، فإنّ القرآن يبين أنّه في يوم القيامة سيُنصب ميزان توضع في كفّة منه أعمال الإنسان الخيّرة وفي الكفّة الأخرى أعماله الشريرة، وعندها سيشعر الإنسان بقيمة حبة الخردل من عمله، 
 
 

1- الكافي، ج 2، ص 169.
2- الزلزلة، 7-8.
 
 
55

45

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 هذه الأعمال الصغيرة التي قد نستهين بها اليوم، إلاّ أنّنا نشعر بقيمتها غداً. وإذا كنا الآن عقلاء واستشعرنا أنفسنا وتحسّسنا ذلك الموقف، فإنّنا نستطيع أن نعمل اليوم، لكي ننتفع به في الآخرة. أما بعد فوات الأوان فإننا لا نستطيع أن نعمل، فنندم، والندم لا ينفع شيئاً نعوذ بالله من ذلك اليوم. ففي ذلك اليوم إذا رجّحت كفّة الحسنات على كفّة السيئات، يحق لك أن تفتخر، أما اليوم وقبل أن تعرف مصيرك فلا تستطيع أن تقول شيئاً.

 
يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ* نَارٌ حَامِيَةٌ﴾1.
 
قيمة قضاء حوائج المؤمنين وخدمتهم
من جملة ما يؤكّد الإسلام عليه في معرض التكافل الاجتماعي، ضرورة قضاء حوائج المؤمنين بعضهم لبعض.
فالمؤمن عليه أن يطلب حوائجه من أخيه المؤمن ولا يستحي منه. وكلما وجد في نفسه حاجة يكشفها له بلا تحرّج. ويطلب منه في نفس الوقت أن لا يتوانى في تقديم ما يتمكّن من تقديمه. 
 
وحينما تقضي أنتَ حاجتي وأقضي أنا أيضاً لك حاجتك فأنت تتكامل معي وأنا أتكامل معك، لأنّك تستطيع أن تقوم بعمل لا أستطيع حتى هذه اللحظة أن أقوم به، وغداً قد أستطيع القيام به وتعجز أنت عنه. وهكذا فانّ عملية التعاون تبدأ من الجذور ومن الخلايا الصغيرة. وعندما يصبح المجتمع كلّه كتلة متراصّة، عندها لا يمكن اختراقها.
 
روي عن الامام الصادق عليه السلام قوله: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود: إنّ العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فأبيحه جنتي. فقال داود: يا ربّ وما تلك الحسنة؟ 
 
 

1- القارعة، 8-11.
 
 
56

46

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 قال: يُدخل على عبدي المؤمن سروراً ولو بتمرة.

 
فقال داود عليه السلام: "حقّ لمن عرفك ألّا يقطع رجاءه منك"1.
وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيّ الأعمال أحب إلى الله، قال:
"اتّباع سرور المسلم". قيل: يا رسول الله وما اتّباع سرور المسلم؟ قال: "شبعة جوعه، وتنفيس كربته، وقضاء دينه"2.
 
وفي حديث آخر يصوّر لنا مدى أهمّية قضاء حوائج المؤمنين بهذا الاسلوب الرائع. روي حنان بن سدير عن أبيه أنّه قال: كنت عند الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام فَذُكِر عنده المؤمن وما يجب من حقّه، فالتفت إليّ أبو عبد الله عليه السلام فقال لي: "يا أبا الفضل ألا أحدّثك بحال المؤمن عند الله؟ فقلت: بلى، فحدّثني جُعلت فداك. فقال:
إذا قبض الله روح المؤمن صعد ملكاه إلى السماء فقالا: يا ربّ عبدك ونعم العبد، كان سريعاً إلى طاعتك، بطيئاً عن معصيتك وقد قبضتَه اليك، فما تأمرنا من بعده؟ فيقول الجليل الجبّار: اهبطا إلى الدنيا وكونا عند قبر عبدي ومجّداني وسبّحاني وهلّلاني وكبّراني واكتبا ذلك لعبدي حتّى أبعثه من قبره.
 
ثم قال لي: ألا أزيدك؟ قلت بلى، فقال:
إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدمه أمامه، فكلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تجزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ، فما يزال يبشره بالسرور والكرامة من الله سبحانه حتى يقف بين يدي الله عزّ وجلّ ويحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة
 

1- بحار الأنوار، ج71، ص283.
2- م.ن.
 
 
 
57

47

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمك الله نِعم الخارج معي من قبري! ما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ حتّى كان ما كان، فمن أنت؟ فيقول له المثال: أنا السرور الذي أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله لأبشرك"1.

 
خدمة الناس أفضل من العبادة
للإمام جعفر الصادق عليه السلام حديث يبيّن فيه أنّ تعاون المؤمنين وترابطهم الماديّ والمعنويّ أفضل من العبادات المستحبة. فعن المشمعل الأسدي قال: خرجتُ ذات سنة حاجّاً، فانصرفت إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام فقال: "من أين بك يا مشمعل؟ فقلت: جعلت فداك كنت حاجاً، فقال: أوتدري ما للحاج من الثواب؟ فقلت: ما أدري حتّى تعلمني، فقال: إنّ العبد إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً - أي سبع مرات - وصلّى ركعتيه وسعى بين الصفا والمروة كتب الله له ستة آلاف حسنة، وحطّ عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة، وقضى له ستة آلاف حاجة للدنيا كذا وادّخر له للآخرة كذا.
 
فقلت له: جعلت فداك إنّ هذا لكثير، فقال: أفلا أخبرك بما هو أكثر من ذاك؟ قلت: بلى، فقال عليه السلام: "لَقَضَاءُ حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجة وحجة حتى عدّ عشر حجج"2.
 
فكم يكون سامياً ذلك المجتمع الذي يسعى بل يهرع فيه كل واحد لقضاء حوائج إخوانه بهذه الروحية العالية والنية الخالصة. روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "والله لقضاء حاجة المؤمن خير من صيام شهر واعتكافه"3.
 

1- بحار الأنوار، ج71، ص283.
2- وسائل الشيعة، ج 13، ص 305.
3- بحار الأنوار، ج71، ص285.
 
 
 
58

48

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 ضرورة الإسراع في خدمة الناس

يحدّثنا الإمام الصادق عليه السلام بحديث بالغ الأهمية نرجو أن يصبح مناراً نهتدي به جميعاً حيث يقول عليه السلام: "إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً إذا جاءته"1.
 
فحينما يسألك شخص حاجته فبادر إلى قضائها ولا تماطل فقد يتغيّر الوضع ويستغني عنها فتفوتك بذلك فرصة عظيمة، ويقول عليه السلام في حديث آخر: "من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه"2.
 
والإسلام في الوقت الذي يقول للمقتدر: اقض حوائج إخوتك المؤمنين، يقول للمحتاج: أطلب من أخيك حوائجك.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام : "إذا ضاق أحدكم فليُعلم أخاه ولا يُعين على نفسه"3. أي ينبغي لمن يقع في مشكلة أن يستعين بأخيه المؤمن على حلّها ولا يتركها تستفحل.


وفي حديث آخر يقول عليه السلام: "تبسّم الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرفه القذى عنه حسنة، وما عُبد الله بشيء أحبّ إلى الله من إدخال السرور على المؤمن"4.


أو لا تريد أيها المسلم ان تجلب لنفسك حبّ الله تبارك وتعالى؟
 
التمحور حول العمل الصالح
إنّ الإسلام يعطي العمل الصالح القيمة الأساسية ويجعله محور التنافس في المجتمع. ففي أكثر من مائة وعشرين موضعاً، يؤكّد القرآن الحكيم على الترابط 
 

1- بحار الأنوار، ج71، ص286.
2- م.ن.
3- م.ن، ص287.
4- م.ن، ص288.
 
 
 
59

49

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 والتلازم بين الإيمان والعمل الصالح، ويصرِّح بأنّ الذين يرثون الأرض هم الصالحون. 

والصلاح ليس شيئاً جامداً، وإنّما هو حركة وعمل في الاتجاه الصحيح. وهو ليس فقط في أمور الدين كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، وإنّما كلّ عمل يحكم العقل والدين بصلاحه، فبناء المساكن صلاح، وتعبيد الشوارع صلاح، وإقامة المصانع صلاح، وزراعة الأرض صلاح، وكلّ ما كان من شأنه عمارة الأرض فهو عمل صالح.
 
 
 
60

50

خدمة الناس وقضاء حوائجهم

 مفاهيم رئيسة

1- يعتبر الإسلام المسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، وأهم هذه المسؤوليات هي الاهتمام بأمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم.

2- على المؤمن أن يطلب حوائجه من أخيه المؤمن ولا يستحي منه. وكذلك عليه أن لا يتوانى في تقديم ما يتمكّن من تقديمه لإخوانه إذا وقعوا في ضيق وحرجٍ. 

3- إنّ قضاء الحوائج بين الفرد المسلم وأخيه يوجد نوعاً من التكامل واللُحمة القوية بين أفراد المجتمع.

4- من بركات خدمة المؤمنين، أنّ الله سبحانه وتعالى يكون في خدمة من يبادر إلى قضاء حوائجه فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه".

5- يعطي الإسلام العمل الصالح القيمة الأساسية ويجعله محور التنافس في المجتمع. ففي أكثر من مائة وعشرين موضعاً، يؤكّد القرآن الحكيم على الترابط والتلازم بين الإيمان والعمل الصالح، ويصرِّح بأنّ الذين يرثون الأرض هم الصالحون.
 
 
 
61

51

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟


مفاهيم محورية:
- عقيدتنا في المهدي والمهدويّة. 
- كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عليه السلام. 
- معرفة الإمام المهدي عليه السلام حقّ المعرفة. 
- مفهوم الانتظار وفضله. 
- كيف نربي أنفسنا على الإنتظا. 
 
 
63

52

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 تصدير الموضوع 

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القائم من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنّته سنّتي، يقيم الناس على ملّتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربّي عزّ وجلّ، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذّبه فقد كذّبني، ومن صدّقه فقد صدّقني"1. 
 
عقيدتنا في المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف والمهدويّة
لقد تواترت الأخبار والروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام التي تبشِّر بظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في آخر الزمان لينشر العدل، وينصر المستضعفين في العالم, ولهذا يعتقد المسلمون بأنّ قضيّة المهدويّة ضرورة من ضروريّات الإسلام، على مستوى كون إمامته امتداداً لنبوّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكونه الإمام المفروض الطاعة، وذلك على قاعدة أن الإمامة رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا، ووظائفها مستمدّة من النبوّة، لناحية قيادة المجتمع وإدارة شؤون الأمّة والدولة، ومرجعيّة دينيّة، وولاية أمر عامةً للمسلمين كافّة. 
 
وإنّ ما يعزّز عقيدة المسلمين بالمهدي مجموعة الأخبار التي أكّدت أن الأرض لا 
 

1- كمال الدين، ج2، ص 411.
 
 
 
65

53

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 تخلو من حجّة لله على الأرض، فقد ذكر الشيخ الكليني في الكافي عدّة روايات تتحدّث عن أنّ الأرض لا تخلو من حجة، قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله أجلُّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل"1. وعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "والله، ما ترك الله أرضاً منذ قبض آدم عليه السلام، إلّا وفيها إمام يهتدى به إلى الله، وهو حجّته على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة لله على عباده"، وعنه أيضاً قال: "لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها، كما يموج البحر بأهله"2

 
وقد حدّدت الروايات المقصود بالحجّة، وأنّه الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فعن الإمام الكاظم عليه السلام، قال: "إنّ الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلّا بإمام حتّى يعرف"، وورد عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "لو كان الناس رجلين لكان أحدها الإمام"3، وقال: "إنّ آخر من يموت الإمام, لئلا يحتجّ أحدٌ على الله عزّ وجلّ أنه تركه بغير حجّة لله عليه"4
 
كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
تستند العلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى ثلاثة أبعاد أساسيّة هي: البعد العقائدي، البعد العاطفي، والبعد العملي. 


1- البعد العقائدي: 
ويتحقّق بالعقيدة الإسلاميّة السليمة بالدين الإسلامي، مضافاً إلى عدّة أمور ترتبط بالعلاقة المباشرة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، أهمّها:


أ- معرفة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حقّ المعرفة:
قال رسول الله: "من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"5. يستفاد من 
 
 

1- الكافي، ج1، ص 178.
2- م.ن، ص 179.
3- م.ن، ص 180.
4- م.ن.
5- الغيبة، النعماني، ص 130. الكافي، ج 2، ص 21. 
 
 
 
66

54

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، أنّ لمعرفة الإمام المعصوم أهمّية عظيمة، وأنّها أساس لمعرفة الله، وإنّ طريق الهداية للحقّ والثبات على الصراط المستقيم لا يتمّ إلا بمعرفة الإمام المعصوم، واقتفاء أثره، والسير على خطاه، والاستضاءة بنوره، والثبات على ولايته، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّما يعرف الله عزّ وجلّ ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله عزّ وجلّ ولا يعرف الإمام منّا أهل البيت فإنّما يعرف ويعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً!"1

 
وما دام لمعرفة الإمام كلّ هذه الأهمّية الكبرى، فإنّ المراد منها ليس معرفة اسمه ونسبه فقط، بل إنّ المقصود بالمعرفة هو ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: "وأدنى معرفة الإمام أنّه عدل النبيّ إلّا درجة النبوّة، ووارثه، وأنّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله، والتسليم له في كلّ أمر والرد إليه والأخذ بقوله، ويعلم أنّ الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ أنا، ثمّ من بعدي موسى ابني، ثمّ من بعده ولده عليّ، وبعد عليّ محمّد ابنه، وبعد محمّد عليّ ابنه، وبعد عليّ الحسن ابنه والحجة من ولد الحسن"2
 
وعن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾3. فقال: "يا فضيل اعرف إمامك فإنّك إذا عرفت إمامك لم يضرّك، تقدّم هذا الأمر أو تأخر، ومن عرف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر، كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه"4
 
 

1- الكافي، ج 1، ص 181.
2- بحار الأنوار، ج2، ص 120.
3- الإسراء، 71.
4- الكافي، ج 1، ص 371. غيبة النعماني، ص 329، غيبة الطوسي، ص 276.
 
 
 
67

55

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 ب- الثبات على الدين في عصر غيبته صلى الله عليه وآله وسلم: 

من أهمّ التكاليف الشرعيّة في عصر الغيبة هو الثبات على العقيدة الصحيحة بإمامة الأئمة الاثني عشر، وخصوصاً خاتمهم وقائمهم المهدي عليه السلام، كما يتوجب علينا عدم التأثّر بموجات التشكيك وتأثيرات المنحرفينَ، مهما طال زمان الغيبة أو كثرت ضروب المشكّكين, فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "والذي بعثني بالحقّ بشيراً، ليغيبنّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي، حتّى يقول أكثر الناس: ما لله في آل محمد حاجة، ويشكّ آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسّك بدينه، ولا يجعل للشيطان إليه سبيلا يشكّكه، فيزيله عن ملّتي، ويخرجه من دينيّ"1. وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "للقائم منّا غيبة أمدها طويل، كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه، ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه، فهو معي في درجتي يوم القيامة"2


ج- تجديد البيعة والولاية له صلى الله عليه وآله وسلم: 
جاء في دعاء العهد الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام: "اللهم إنّي أجدّد له في صبيحة يومي هذا، وما عشت من أيامي، عهداً وعقداً وبيعةً له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبداً"3
 
2- البعد العاطفي:
وذلك من خلال العلاقة العاطفيّة والروحيّة الخاصّة، التي تتجلّى من خلال:
أ - الدعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف:
أي الدعاء له صلى الله عليه وآله وسلم بتعجيل فرجه، فقد ورد من الناحية المقدّسة على يد محمّد
 
 

1- كمال الدين، ج 1، ص 51. بحار الأنوار، ج 51، ص 68.
2- كمال الدين، ج1، ص303. إعلام الورى، ص 400.
3- مصباح الزائر، ص 169. البلد الأمين، ص 82. مصباح الكفعمي، ص 550. 
 
 
 
68

56

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 بن عثمان، في آخر توقيعاته عليه السلام: "وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك فرجكم"1. ومن ذلك الدعاء المعروف: "اللهم كن لوليك الحجّة بن الحسن..."2، وهناك أدعية كثيرة للإمام تراجع في مصادرها. فنحن مأمورون بالدعاء للإمام كما جاء ذلك في كثير من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، ولعلّ ذلك من أجل بقاء الصلة والرابطة العاطفيّة مع الإمام، ولعلّ لذلك أيضاً آثاراً أخرى نحن لا نعلمها. فعن يونس بن عبد الرحمن قال: إنّ الرضا عليه السلام كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا الدعاء: "اللهم، ادفع عن وليك، وخليفتك وحجّتك على خلقك، ولسانك المعبّر عنك بإذنك، الناطق بحكمتك وعينك الناظرة في بريتك وشاهدك على عبادك الجحجاح المجاهد، العائذ، بك العابد عندك3

 
ب- إظهار محبّته صلى الله عليه وآله وسلم وتحبيبه إلى الناس: 
إظهار الشوق للقائه صلى الله عليه وآله وسلم ورؤيته، والبكاء والإبكاء والتباكي والحزن على فراقه، والتصدّق عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقصد سلامته، وإقامة مجالس يذكر فيها فضائله صلى الله عليه وآله وسلم ومناقبه، أو بذل المال في إقامتها، والحضور فيها، والسعي في ذكر فضائله ونشرها.


3- البعد العملي: 
ومن أجلى مصاديقه الانتظار الإيجابي لصاحب الزمان صلى الله عليه وآله وسلم: تؤكّد الأخبار أنّ انتظار الفرج أفضل العبادة، وهو في توأم الجهاد، فقد سأل شخص الإمام الصادق عليه السلام: ماذا تقول فيمن مات وهو على ولاية الأئمّة بانتظار ظهور حكومة الحق؟ فقال عليه السلام: "هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه" ـ ثمّ سكت هنيئة- ثمّ قال: "هو كمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"4. ونقل هذا المضمون في روايات كثيرة
 

1- كمال الدين وتمام النعمة، ص485. الغيبة للشيخ الطوسي، ص293. الاحتجاج، ج2، ص284.
2- الإقبال، ص 85. مصباح الكفعمي، ص146.
3- بحار الأنوار، ج 92، ص 333. مصباح المتهجّد، ص 409.
4- بحار الأنوار، ج 52، ص 125.
 
 
 
69

 


57

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 منها: أنّه بمنزلة المجاهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه بمنزلة من استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف1.

 
مفهوم الانتظار
ويطلق الانتظار عادة على حالة من يشعر بعدم الارتياح من الوضع الموجود، ويسعى إلى إيجاد الوضع الأفضل والأحسن، ويمكن القول: أنّ الانتظار مركّب من أمرين:ألأول عدم الانسجام مع الوضع الموجود، والآخر السعي للحصول على الأفضل. ولهذا فانتظار الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريفيلازمه عدم الرضا والانخراط بالواقع المنحرف أو الفاسد، والقيام بواجب الإصلاح ومواجهة كلّ أشكال وأنواع الفساد والانحراف والباطل، مهما غلت التضحيات، وهو ما يستدعي شموليّة في تربية المنتظرين. ولهذا نلاحظ أن الروايات قد وصفت الانتظار بالعبادة, والمنتظرين بالمجاهدين، والشهداء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عزّ وجلّ"2 و"أفضل العبادة انتظار الفرج"3.
 
كيف نربّي أنفسنا على الانتظار؟ 
إنّ المنزلة الرفيعة والخاصّة للمنتظرين - في الأخبار والروايات - ترتبط بالوظيفة الملقاة على عاتقهم، والتكاليف الواجبة عليهم تجاه الرسالة والمجتمع والأمّة لناحية التمهيد، وحفظ الدين، والدفاع عن الأعراض والأموال والكرامات والأوطان، وتشييد أسس الدولة المهدويّة الموعودة والعادلة, وهذا ما يستلزم تربية النفس والمجتمع على عدّة أمور، طبعاً بعد سلامة العقيدة، وقوّة الإرادة والإيمان، وثباتها، في ساحتي النظر والعمل. فإن انتظار مصلح عالمي كالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يتطلب تربية تنسجم في مبادئها ومعاييرها مع هذه العالميّة والشموليّة, لأنّ أوّل 
 

1- يراجع: بحار الأنوار، ج52، ص125.
2- م. ن، ص 128.
3- م. ن، ص 125.
 
 
 
70

58

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 وأكثر ما يحتاجه هذا التحّول العالمي، هو بناء العناصر الإنسانيّة التي يجب أن تتّصف:

- بقوّة الإيمان والعقيدة. 
- بالمستوى الفكري والعلمي الكبيرين. 
- بالاستعداد النفسي والروحي للتضحية. 
- بالاستعداد الجهادي والفكري والسياسي. 
- بإصلاح المجتمع وتماسكه وتآلفه، وإحياء روح الجماعة في مختلف المجالات. 
 
 
 
71

59

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

 مفاهيم رئيسة

1- يعتقد المسلمون بأنّ قضيّة المهدويّة ضرورة من ضروريّات الإسلام، لأنّ إمامته امتداد لنبوّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الإمام المفروض الطاعة. 

2- تستند العلاقة بالإمام المهدي عليه السلام إلى ثلاثة أبعاد أساسيّة هي: البعد العقائدي، البعد العاطفي، والبعد العملي: 
أ- البعد العقائدي: ويتحقّق بالعقيدة الإسلاميّة السليمة بالدين الإسلامي، مضافاً إلى عدّة أمور ترتبط بالعلاقة المباشرة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف مثل: معرفة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حقّ المعرفة، والثبات على الدين في عصر غيبته صلى الله عليه وآله وسلم، وتجديد البيعة والولاية له صلى الله عليه وآله وسلم.

ب- البعد العاطفي: وذلك من خلال العلاقة العاطفيّة والروحيّة الخاصّة، التي تتجلّى من خلال: الدعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، والدعاء بتعجيل الفرج، وإظهار محبّته صلى الله عليه وآله وسلم وتحبيبه إلى الناس. 

ج- البعد العملي: ومن أجلى مصاديقه الانتظار الإيجابي لصاحب الزمان صلى الله عليه وآله وسلم. 
إن انتظار الإمام المهدي عليه السلام يلازمه عدم الرضا والانخراط بالواقع المنحرف أو الفاسد، والقيام بواجب الإصلاح ومواجهة كلّ أشكال وأنواع الفساد والانحراف والباطل، مهما غلت التضحيات.

3- إن انتظار مصلح عالمي كالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يتطلّب في المنتظرين تربية تنسجم في مبادئها ومعاييرها مع هذه العالميّة والشموليّة, لأنّ أوّل وأكثر ما يحتاجه هذا التحّول العالمي، هو بناء عناصر إيمانية هامة في شخصية المنتظر.
 
 
 
72

60

المساجد بيوت الله في الأرض

 المساجد بيوت الله في الأرض


مفاهيم محورية:
- المسجد بيت الله تعالى. 
- الدور العلمي والثقافي للمسجد. 
- فوائد الذهاب إلى المسجد والجلوس فيه. 
- شكوى المساجد. 
- المسجد مربّي الأجيال المؤمنة. 
- الدور الجهادي للمسجد. 
- آداب المساجد. 
- التوحيد والتقوى أساسان لقيام المساجد. 
 
 
 
73

61

المساجد بيوت الله في الأرض

 تصدير الموضوع

يروى أنّ رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته، ألا طوبى لعبد توضّأ في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"1. 
 
المسجد هو المكان الطبيعيّ لعبادة الله تعالى، ولنشر القيم الإسلامية، وغرس الآداب والأخلاق الحميدة، وتوفير الطمأنينة النفسية والروحية، التي تخفّف عن الناس أعباءَ الحياةِ وآلامها، وتكبحُ فيهم جموح الغرائز وشهواتها، وترسّخ أواصر المحبة. فالمسجد ميدان واسع ورحب يُعْبَدُ اللهُ تعالى في أرجائه، ويطاع في سائر نواحيه وأجزائه, وبه تزكو نفوسُهم، وتطمئنّ قلوبُهم، وتتآلف أرواحهم وتصفو أذهانُهم، حيث يجتمعون فيه بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمان، خاشعة متذلّلة لله تعالى. ولهذا جُعل ثواب من بنى مسجداً الجنة. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة"2. واعتبرت المساجد سوقاً للآخرة
 
 

1- بحار الأنوار، ج81، ص14.
2- الكافي، ج3، ص368.
 
 
 
75

62

المساجد بيوت الله في الأرض

 كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المساجد سوق من أسواق الآخرة قِرَاها المغفرة وتحفتها الجنة"1.

 
المسجد بيت الله تعالى 
لقد عَظَّم الإسلامُ المسجد وأعلى مكانتَه، ورسَّخَ في النفوس قدسيتَه، فأضافه اللهُ تعالى إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريم فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾2. فالمسجد يحتلّ مرتبةً مميّزة ومعظّمة في أفئدة المسلمين. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "- في التوراة مكتوب- أنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"3. وهي بيوت الصلاة والدعاء، كما ورد عن الصادق عليه السلام حيث قال: "عليكم بإتيان المساجد فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً طهّره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء"4
 
الدور العلميّ والثقافيّ للمسجد 
لا يقتصر دور المسجد على الجانب العباديّ فقط، بل هو مدرسة متكاملة وله دوره البارز في تثقيف الأمـة وبثّ الوعي فيها وتنمية الجانب العلميّ والثقافيّ، ويظهر ذلك جليّاً من خلال تأسيس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمسجده في المدينة، حيث كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقود الأمة ويحرّك الجيوش الإسلامية من المسجد، وفيه يتلقّى الوحي الإلهيّ والتنزيل القرآنيّ، وفيه يبثّ الأحكام الإلهية والتعاليم الدينية، وقد أكّدت الروايات على تلاوة القرآن وطلب العلم في المسجد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما جلس قوم في 
 

1- بحار الأنوار، ج81، ص4.
2- الجن، 18.
3- بحار الأنوار، ج 80، ص 373.
4- الشيخ الصدوق، الأمالي، ص440.
 
 
 
76

63

المساجد بيوت الله في الأرض

 مسجد من مساجد الله تعالى يتلون كتاب الله يتدارسونه بينهم إلاّ تنزّلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده"1.

 
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلّا ليتعلّم خيراً أو ليعلّمه كان له أجر معتمر تامّ العمرة، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلّا ليتعلّم خيراً أو ليعلمه فله أجر حاجّ تامّ الحجة"2
 
فوائد الذهاب إلى المسجد والجلوس فيه 
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة أو كلمة ترّده عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً"3
 
وفي رواية عنه عليه السلام: "لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث: إمّا دعاء يدعو به يدخله الله به الجنة، وإما دعاء يدعو به ليصرف الله به عنه بلاء الدنيا..."4. 


وللجلوس في المسجد فوائد منها:
1- الجلوس عبادة: ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة عبادة"5، وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ جلوس في المسجد لغو إلّا ثلاثة: قراءة مصلّ، أو ذكر الله، أو مسائل عن علم"6.
 

1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج3، ص363.
2- بحار الأنوار، ج1، ص185.
3- الشيخ الصدوق، الأمالي، ج318، ص 16.
4- وسائل الشيعة، ج3، ص477.
5- م.ن ص85.
6- م.س، ج4، ص118.
 
 
 
77

64

المساجد بيوت الله في الأرض

 2- تسبيح الأرض: روي عن الأمام الصادق عليه السلام: "من مشى إلى المسجد لم يضع رجلاً على رطب ولا يابس إلا سبّحت له الأرض إلى الأرض السابعة"1

 
شكوى المساجد 
ورد في العديد من الروايات: "ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه". هذا وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام شكوى المساجد على جيرانها: "شكت المساجد إلى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى الله عزّ وجلّ اليها: وعزّتي وجلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة..."2. بل يستفاد من الروايات أنّه لا صلاة كاملة ـ من ناحية الثواب ـ لجار المسجد إلا في المسجد.
 
فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس لجار المسجد صلاة إذا لم يشهد المكتوبة في المسجد، إذا كان فارغاً صحيحاً"3.


فهذه الرواية تؤكّد على ضرورة أداء الصلاة في المسجد، وتحثّ جار المسجد على حضور صلاة الفريضة فيه ما لم يكن معذوراً لمرض أو غيره من الأعذار الشرعية.
 
من هو جار المسجد؟ ربما يتصوّر بعض الناس أنّ الجار هو من كان بيته ملاصقاً للمسجد، ولكنّ الروايات تفسرّه بأوسع من ذلك بكثير، حيث اعتبرت أنّ الجيرة تمتدّ لمسافة أربعين داراً، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حريم المسجد أربعون ذراعاً والجوار أربعون داراً من أربع جوانبها"4. وبعضها فسَّر الجار بأنّه من سمع النداء "أي الأذان"، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد
 
 

1- وسائل الشيعة، ج5، ص200.
2- م.ن، ص196.
3- م.ن، ص195.
4- م.ن، ص202.
 
 
 
78

65

المساجد بيوت الله في الأرض

 إلاّ في المسجد، إلاّ أن يكون له عذر أو به علّة، فقيل: ومن جار المسجد يا أمير المؤمنين؟ قال: من سمع النداء"1.



ويقول الإمام الخميني قدس سره: "لا تهجروا المساجد فإنّ ذلك هو تكليفكم"2
 
فإذا كان المسجد هو محور حركة الإنسان المؤمن الرساليّ فهجره والتخلّي عنه يعني تفكّك نواة الإسلام وتشتّت المجتمع الإسلاميّ، وهو من أخطر الأمراض الداخلية التي يمكن أن يبتلي بها هذا المجتمع. حتّى اعتبر الإمام الخميني قدس سره أنّ بقاء الإسلام يعتمد على حفظ دور هذه المساجد! يقول قدس سره: "إنّ حفظ المساجد من الأمور التي يعتمد عليها وجود الإسلام اليوم"3.
 
المسجد مربّي الأجيال المؤمنة
إنّ للتربية أهمية خاصّة في بناء الإنسان الصحيح والسليم، لأنّها تؤمّن الأجواء الملائمة التي تساعد الإنسان على التوجّه نحو الحقّ وصرف طاقاته في الاتّجاه الصحيح لتثمر بعد ذلك من صلاح الدنيا وطيبات الآخرة. والمسجد له دوره الأساسيّ على مستوى التربية والتوجيه.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "يجب أن تكون المساجد مراكزاً للتربية الصحيحة، وأكثر المساجد كذلك، بحمد الله"4.


ويقول قدس سره: "ينبغي أن تكون المساجد محالاً للتربية والتعليم بالمعنى الحقيقيّ وبجميع الأبعاد"5
 

1- بحار الأنوار، ج80، ص379.
2- الكلمات القصار، ص64.
3- م.ن.
4- م.ن.
5- م.ن.
 
 
 
79

66

المساجد بيوت الله في الأرض

 الدور الجهاديّ للمسجد

يقول الإمام الخميني قدس سره: "المسجد هو خندق إسلاميّ، والمحراب هو محلّ الحرب، إنّهم يريدون أن يأخذوا هذا منكم، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلاّ فاذهبوا وصلّوا ما شئتم. إنّهم تضرّروا من المسجد خلال هاتين السنتين أو الثلاث الأخيرة، إذ أصبح المسجد مكاناً لتجمّع الناس، وتثوير الجماهير للانتفاضة ضدّ الظلم، إنّهم يريدون أخذ هذا الخندق منكم"1.
 
إنّ للمسجد دوراً أساسياً على مستوى المجتمع أيضاً فعبارة "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" هي عبارة بعيدة كلّ البعد عن المفاهيم البديهية في الإسلام، بل هي ترك عمليّ صريح يأباه الإسلام الذي جاء على التوحيد الفطري والعملي ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾2. فهو المعبود وهو الملك والقاهر والمعين وهو مدبّر الأمور... لذلك كان المسجد من اليوم الأول للمجتمع الإسلاميّ محور الحركة ومنطلق الأعمال.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "كان المسجد الحرام والمساجد في زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مركزاً للحروب، ومركزاً للقضايا الاجتماعية والسياسية. فلم يقتصر دور مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على المسائل العبادية كالصلاة والصوم، بل كانت المسائل السياسية أكثر من ذلك وكان يبدأ من المسجد متى ما أراد تعبئة الناس وإرسال الجيوش"3.


آداب المساجد
للمسجد العديد من الآداب منها:
1- عمارة المساجد ونظافتها: من وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي ذرّ: "... يا أبا ذرّ من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة.
 
 

1- منهجية الثورة، ص479. 
2- البقرة، 115.
3- منهجية الثورة، ص479.
 
 
 
80

67

المساجد بيوت الله في الأرض

 فقلت: كيف يعمر مساجد الله ؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها، ولا يخاض فيها بالباطل، ولا يشترى فيها ولا يباع، واترك اللغو ما دمت فيها"1.

 
2- إضاءة المساجد: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أسرج في مسجد من مساجد الله سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج"2. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحب أن لا يُظلم لحدُهُ فلينوّر المساجد"3

3- مراعاة آداب الدخول: روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنّك قصدت باب بيت ملك عظيم لا يطأ بساطه إلاّ المطهّرون، ولا يؤذن بمجالسة مجلسه إلّا الصدّيقون، وهب القدوم إلى بساط خدمة الملك فإنّك على خطر عظيم إن غفلت هيبة الملك، واعلم أنّه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإنّ عطف عليك برحمته وفضله قبل منك يسير الطاعة، وآجرك عليها ثوباً كثيراً، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والإخلاص عدلاً بك، حجبك وردّ طاعتك وان كثرت، وهو فعّال لما يريد..."4.
 
4- الوضوء: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى: "ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد... ألا طوبى لعبدٍ توضّأ في بيته ثمّ زارني في بيتي..."5.
 
5- اللباس الحسن: روي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الكريمة: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾أنّه قال: "أي خذوا ثيابكم التي تتزّينون بها للصلاة في الجمعات والأعياد"7
 

1- وسائل الشيعة، ج5، ص234.
2- م.ن، ص241.
3- مستدرك الوسائل، ج3، ص385.
4- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج3، ص437.
5- وسائل الشيعة، ج1، ص381.
6- الأعراف، 31.
7- وسائل الشيعة، ج4، ص 455.
 
 
 
81

68

المساجد بيوت الله في الأرض

 6- التحية والدخول: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا دخلت المسجد فادخل رجلك اليمنى وصلّ على النبيّ وآله"1. من آداب المسجد الأخرى إقامة صلاة التحية، فقد روي عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا أبا ذرّ! إنّ للمسجد تحيّة... ركعتان تركعهما"2

 
7- الابتعاد عن حديث الدنيا: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد فيقعدون حلقاً ذكرهم للدنيا وحبّ الدنيا، لا تُجالسوهم فليس للّه فيهم حاجة"3
 
8- عدم رفع الصوت: أجمع الفقهاء على كراهة رفع الصوت في المساجد، قال صاحب العروة في ذلك: "ويكره رفع الصوت إلاّ في الأذان ونحوه". وعن أبي ذرّ أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن كيفية إعمار المساجد، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُرفع فيها الأصوات ولا يُخاض فيها بالباطل"4
 
9- عدم النوم في المسجد: قال معظم الفقهاء بكراهة النوم في المسجد، لأنّه يتنافى مع وجوب تعظيم المساجد الأمر الذي أشارت إليه الروايات، ويؤدّي إلى هتك حرمة المسجد.
 
التوحيد والتقوى أساسان لقيام المساجد 
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾5
 

1- بحار الأنوار، ج81، ص23.
2- وسائل الشيعة، ج3، ص518.
3- مستدرك الوسائل، ج3، ص371.
4- بحار الأنوار، ج74، ص85.
5- التوبة، 107-108.
 
 
 
 
82

69

المساجد بيوت الله في الأرض

 نزلت هاتان الآيتان في رهط من المنافقين أقدموا على بناء مسجد في المدينة عرف فيما بعد بمسجد ضرار بتحريك من أبي عامر النصرانيّ لتحقيق أهداف مشؤومة، تحت واجهة هذا الاسم المقدّس. لكنّ الله سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم القيام في هذا المسجد الذي يراد منه تفريق المسلمين ونشر الكفر والإلحاد، وطلب منه القيام في المسجد الذي يؤسّس على التقوى والهدف الإلهيّ، ومهما يكن من أمر، فإنّنا نستنتج من هذا أنّ المسجد يجب أن يؤسّس على التقوى والطهارة باعتباره مركزاً لتبلور العبودية والدعاء والخضوع للّه تعالى ومحيطاً للطهارة والقداسة، وأيّ بناءٍ يقام تحت اسم المسجد لتحقيق أغراض دنيئة، يجب السعي لهدمه، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدم مسجد ضرار وإحراقه. 

 

 

83


70

المساجد بيوت الله في الأرض

 مفاهيم رئيسة

1- لقد عَظَّم الإسلامُ المسجد وأعلى مكانتَه، ورسَّخَ في النفوس قدسيتَه، فأضافه اللهُ تعالى إليه إضافة تشريفٍ وتكريم فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾.


2- إنّ دور المسجد لا يقتصر على الجانب العباديّ فقط، بل هو مدرسة متكاملة وله دوره البارز في تثقيف الأمـّة وبث الوعي فيها وتنمية الجانب العلميّ والثقافيّ.
 
3- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقود الأمة ويحرّك الجيوش الإسلامية من المسجد، وفيه يتلقّى الوحي الإلهيّ والتنزيل القرآنيّ، وفيه يبثّ الأحكام الإلهية والتعاليم الدينية.


4- من فوائد الذهاب إلى المسجد والجلوس فيه: ما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة أو كلمة ترّده عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً".
 
5- تشكو المساجد من جيرانها الذين يهجرونها فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "شكت المساجد إلى الله تعالى الذين لا يشهدونها من جيرانها، فأوحى الله عزّ وجلّ اليها: وعزّتي وجلالي لا قبلت لهم صلاة واحدة".
 
6- ينبغي على المؤمن أن يلتزم بآداب المساجد والتي منها: عمارتها ونظافتها، إضاءتها، مراعاة آداب الدخول إليها، الوضوء، اللباس الحسن، التحية والدخول بالرجل اليمنى، الابتعاد عن حديث الدنيا، عدم رفع الصوت، عدم النوم في المسجد.
 
 
 
 
84

71

شهر العبادة والتقوى

 شهر العبادة والتقوى


مفاهيم محورية:
- خصائص شهر رمضان وأسراره. 
- العبادة وآثارها في شهر الله. 
- كيف نستعد لشهر رمضان المبارك. 
 
 
 
85

72

شهر العبادة والتقوى

 تصدير الموضوع 

ورد في خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان: "أيّها النّاس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله تعالى بالبركة والرحمة والمغفرة... وهو شهرٌ قد دُعيتم فيه إلى ضيافة الله وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله... فاسألوا الله ربكم بنيَّات صادقةٍ, وقلوبٍ طاهرةٍ، أن يوفِّقكم لصيامه وتلاوةِ كتابه، فإنَّ الشَّقيّ من حُرم غفران الله في هذا الشَّهر"1.
 
دعوة إلى أشرف ضيافة يمكن أن يطمح إليها إنسان في هذه الدنيا، وهي ضيافة الله تعالى, في شهر الله تعالى, أفضل الشهور, وأفضل الأيام والليالي والساعات. وهدف هذه الدعوة توطيد العلاقة بالله تعالى من خلال تطهير الروح، وبناء الإرادة المرتبطة بقوّة الإيمان، التي تحكم علاقة الإنسان بربّه وبمجتمعه على مستوى الدنيا، وتحدّد مصيره على مستوى الآخرة. وقد ورد في خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله".
 



1- وسائل الشيعة، ج10، ص313.
 
 
 
87

73

شهر العبادة والتقوى

 خصائص شهر رمضان وأسراره

إنّ الذي يؤكِّد ضرورة الاستعداد والتهيّؤ لهذا الشّهر الكريم، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبشِّر أهل بيته عليه السلام بقدومه، ويدعو أصحابه للاستعداد لأيامه ولياليه. وهذا ما يتطلّب استحضار عدّة أمور مهمّة ترتبط بخصوصيّات هذا الشّهر وأسرار العبادة والطَّاعة فيه أهمّها:
1- استشعار أنّ الله تعالى اختصّ الصوم بنفسه:
من المزايا العظيمة لهذا الشهر، أنّ الله تعالى اختصّ قدر الثواب والجزاء للصائم بنفسه من بين سائر الأعمال كما في الحديث عن النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: "قال الله عزّ وجلّ: كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به"1.
 
2- استحضار أسرار الصوم وآثاره:
من الأمور المهمّة التي تساهم في الاستعداد النفسيّ والروحيّ للدخول إلى شهر رمضان بروح مقبلة على الصوم، كعبادة سنوية استثنائية وينتظرها المؤمنون ليعيشوا أيامها ولياليها بخضوع وتذلّل في ضيافة الرحمان، هو استحضار آثار الصوم في شهر رمضان. فقد خصّ الله الصوم في شهر رمضان بكثير من الخصائص والفضائل منها: 
- خلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك.
- تستغفر الملائكة للصائمين حتّى يفطروا. 
- يغفر للصائمين في آخر ليلة من شهر رمضان.
- تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار. 
- في الجنة باب يقال له الريّان لا يدخله إلّا الصائمون.
 
 

1- وسائل الشيعة، ج10، ص397.
 
 
 
88

74

شهر العبادة والتقوى

 - فيه ليلة القدر وهي خيرٌ من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرم الخيرَ كلَّه.

- لله عتقاء من النّار في آخر ليلة من رمضان.
- الصيام يشفع للعبد يوم القيامة حتّى يدخل الجنّة.
- التطوّع بالنوافل والصلاة المستحبة فيه براءة من النار.
- يستجاب دعاء الصائم في رمضان.
 
3- شهر تقييد الشيطان: 
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أُخبركم بشيءٍ إن فعلتموه تَباعَدَ الشيطان منكم كما تباعد المشرق مِن المغرب؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهرَه، والحبُّ في الله والمؤازرة على العمل الصالح تقطع دابرَه، والاستغفار يقطع وتينَه"1
 
وفي الحديث القدسيّ، يقول الله تعالى لجبرائيل عليه السلام: "انزلْ على الأرض فَغُلَّ فيها مَرَدةَ الشياطين, حتّى لا يُفسِدوا على عبادي صومَهم"2
 
4- شهر التكريم بالتكليف: 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّما فرَضَ اللهُ صيامَ شهر رمضانَ على الأنبياء دون الأُمم، ففضّل اللهُ به هذه الأُمّة، وجعل صيامَه فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أُمّته"3.
 
5- شهر البركة والرحمة: 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "أيُّها الناس، إنّه قد أقبلَ إليكُم شهرُ اللهِ بالبركةِ 
 

1- الكافي، ج4، ص62.
2- مستدرك الوسائل، ج7، ص427.
3- من لا يحضره الفقيه، ج2، ص62.
 
 
 
89

75

شهر العبادة والتقوى

 والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عندَ اللهِ أفضلُ الشهور، وأيّامُه أفضلُ الأيّام، ولياليه أفضلُ الليالي، وساعاتُه أفضلُ الساعات"1.

 
6- فرصة الخيرات والكرامات: 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذ دخل شهر رمضان، فاجهدوا أنفسَكم, فإنّ فيه تُقسّم الأرزاق، وتُكتب الآجال، وفيه يُكتَب وفدُ الله الذين يَفِدون إليه، وفيه ليلةٌ العملُ فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر"2.


7- شهر تثبيت الإخلاص: 
روي عن مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام: "فرَضَ اللهُ الصيامَ تثبيتاً للإخلاص"3. إنّ أكثر ما نحتاج إليه في شهر العبادة الإخلاص الكامل والدائم لله تعالى في نيّة الصوم والعبادة، فهي مفتاح لقبول الباقيات الصالحات. وعلى قدر النية والإخلاص والصدق مع الله وفي إرادة الخير تكون معونة الله لعبده المؤمن. وقد أمرنا الله جلّ جلاله بإخلاص العمل له وحده دون سواه فقال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾4. فالنية هي القصد والإرادة المحرّكة للإنسان نحو الفعل ولها تأثيرها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة، وهي شرطٌ واجبٌ لجميع العبادات ولا يمكن لأحدٍ أن يؤدّي عبادةً بدون نية القربة إلى الله تعالى، بل يمكن تحصيل الثواب في جميع الأعمال والمعاملات المختلفة -التي لا تشترط النية فيها أصلاً - إذا نَوى فيها القربة لله تعالى، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نيّة صالحة حتّى في النوم 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج4، ص227.
2- بحار الأنوار، ج96، ص375.
3- وسائل الشيعة، ج1، ص22.
4- البيّنة، 5.
 
 
90

76

شهر العبادة والتقوى

 والأكل"1، وورد عن الإمام الصَّادق عليه السلام قوله: "لا بدّ للعبد من خالص النية في كلّ حركة وسكون"2.

 
8- شهر زكاة الأبدان: 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام"3.
 
9- شهر الصبر: 
قال الله عزّ وجل: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾4، ورد في تفسير الآية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ﴾، يعني الصيام"5. 
 
والصوم التزام عمليّ بالانفصال لفترة طويلة نسبياً عن ألصق العادات بحياة الإنسان من طعام وشراب ومتعة، فإنّ ذلك يمثّل تمرّساً عملياً للنفس على الصبر، ومن صبر على ترك هذه العادات هان عليه الصبر على غيرها.


10- ختامه جنّة: 
ففي الحديث القدسيّ الشريف: "والصائم يفرح بفرحتين: حين يُفطر فيَطعَم ويشرب، وحين يلقاني فأُدخله الجنّة"6.
 
العبادة وآثارها في شهر الله
العبادة من التكاليف التي منّ الله بها على عباده كي يعيشوا طاعة الله في حياتهم ويستشعروا الشكر الدائم له على نعمه التي لا تحصى، وينالوا التكريم الإلهيّ بدخول
 

1- مكارم الأخلاق، ج2 ، ص370.
2- مستدرك الوسائل، ج1، ص99.
3- الكافي، ج4، ص62.
4- البقرة، 45.
5- وسائل الشيعة، ج7، ص298.
6- الخصال، 45.
 
 
 
91

77

شهر العبادة والتقوى

 الجنّة يوم القيامة. وجعل للعبادة خصوصية في شهر رمضان تتجلّى في:

1- القيام: جاء في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام إذا دخل شهر رمضان: "الحمدُ لله الذي حَبانا بدِينه، واختصّنا بملّته، وسبّلنا في سبيل إحسانه, لنسلكها بمَنّه إلى رضوانه، حمداً يتقبّلُه منّا، ويرضى به عنّا. والحمد لله الذي جعل مِن تلك السبل شهرَه شهرَ رمضان، شهرَ الصيام، وشهر الإسلام، وشهرَ الطَّهُور، وشهرَ التمحيص، وشهرَ القيام"1.
 
2- أنّه شهر التطوّع بالصلاة والذكر: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن تطوّع فيه بصلاةٍ كتَبَ اللهُ له براءةً مِن النار، ومَن أدّى فرضاً كان له ثوابُ مَن أدّى سبعين فريضةً فيما سواه من الشهور، ومَن أكثرَ فيه مِن الصلاةِ علَيّ ثقّل اللهُ ميزانَه يومَ تخفّ الموازين، ومَن تَلا فيه آيةً مِن القرآن كان له مِثلُ أجرِ مَن ختم القرآنَ في غيره من الشهور"2
 
4- أنّ الصوم وقاية من النار: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليك بالصوم، فإنّه جُنّة مِن النار"3. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّها الناس، إنّه مَن ورَدَ عليه شهرُ رمضان وهو صحيح سَوِيّ، فصام نهارَه، وقام وِرْداً مِن ليله، وواظب على صلاته، وهجّر إلى جمعته، وغدا إلى عيده، فقد أدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الربّ"4.
 
وقد ورد الحث على العديد من الأعمال العبادية التي لها الكثير من الآثار على الإنسان في الدنيا والآخرة والتي يمكن استحضارها والعمل بها في هذا الشهر الكريم من أهمها:
 

1- الطوسي، مصباح المتهجّد، ، ص607.
2- وسائل الشيعة، ج4، ص227.
3- م.ن، ج96، ص256.
4- المقنعة، ص308.
 
 
 
92

78

شهر العبادة والتقوى

 1- قيام الليل: فقد ورد الحثّ الشديد، كتاباً وسنةً، على صلاة الليل، إذ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾1. وعن النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزُّ المؤمن كفّه عن أعراض الناس"2. وفي الحديث: "جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: إنّي حُرِمت الصلاة بالليل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك"3.

 
2- ذكر الله كثيراً: وهو المعايشة الشعوريّة والذهنيّة لعقيدة الإيمان بالله تعالى، وهذا هو الأصل في الذكر. إضافة إلى ذكر الله تعالى باللسان كتسبيحه، وتحميده، واستغفاره، وتهليله، وتكبيره، وما شاكل ذلك. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا الله كثيراً"4. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "وكان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام، وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدِّث القوم، وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه، يقول: "لا إله إلا الله"، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس. ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا، ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر"5.
 
3- المحافظة على صلاة الجماعة والصلوات المستحبة في المساجد: فهي قربان كل مؤمن وتقيّ، وهي معراج المؤمن، ووسيلة الاتّصال بين العبد وخالقه.


4- صلاة الرواتب اليوميّة والصلوات المستحبة: الواردة في أيام وليالي هذا الشهر. 
 

1- المزمل، 1-4.
2- الخصال، ص6.
3- الكافي، ج3، ص450.
4- الكافي، ج2، ص499.
5- الكافي، ج2، ص499.
 
 
 
93

79

شهر العبادة والتقوى

 5- دعاء الافتتاح والسحر: إضافة إلى أدعية الأيام وما يمكن من بقية الأدعية الواردة في كتب الأدعية الخاصة.

6- إحياء ليالي القدر.
 
 
 
94

80

شهر العبادة والتقوى

 مفاهيم رئيسة

1- لقد دعانا الله تعالى في شهر رمضان المبارك إلى مائدة رحمته، وهدف هذه الدعوة توطيد العلاقة بالله تعالى من خلال تطهير الروح، وبناء الإرادة المرتبطة بقوّة الإيمان، التي تحكم علاقة الإنسان بربّه وبمجتمعه على مستوى الدنيا، وتحدّد مصيره على مستوى الآخرة.

2- على الإنسان المؤمن أن يعرف أهم خصائص شهر رمضان وأسراره، ومنها: استشعار أنّ الله تعالى اختصّ الصوم بنفسه، واستحضار أسرار الصوم وآثاره، وأنّه شهر تقييد الشيطان، وشهر التكريم بالتكليف، وشهر البركة والرحمة، وأنّه فرصة الخيرات والكرامات، وشهر تثبيت الإخلاص، وشهر زكاة الأبدان، وشهر الصبر، وشهر الإخلاص لله في الصيام، وأنّ ختامه جنّة.

3- على المؤمن أن يستحضر العبادة وآثارها في شهر الله، وذلك من خلال الأمور الآتية: التركيز على القيام لعبادة الله تعالى، وعلى أنّه شهر التطوّع بالصلاة والذكر، وأنّ الصوم يورث اليقين، وأنّه الصوم وقاية من النار.

4- من الأعمال العبادية الهامة في هذا الشهر: قيام الليل، وذكر الله كثيراً، والمحافظة على صلاة جماعة والصلوات المستحبة في المساجد، وصلاة الرواتب اليوميّة، وإحياء ليالي القدر، وقراءة الأدعية (الافتتاح والسحر...).
 
 
 
95

81

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 

مفاهيم محورية:
- حسن الخُلُق. 
- قيمة التصدّق. 
- صلة الرحم. 
- تكريم الأيتام. 
 
 
 
97

82

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 تصدير الموضوع 

"يا أيّها النّاس من حسّن منكم في هذا الشّهر خُلقه كان له جواز على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشّهر عمّا ملكت يمنيه خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه..."1.
 
الصّوم عبادة لها أبعادها وآثارها الإيمانية والروحية في العلاقة مع الله تعالى، إضافة إلى العديد من الآثار والقيم الاجتماعية والتربوية التي تنعكس على الفرد والمجتمع. 


والصوم أمانة في عنق المكلّف استودعه الله إياها، فأمره أن يحفظ نفسه وجوارحه من الآثام، وإذا استطاع الإنسان أن يكون أميناً في كبح جماح نفسه وشهواته وفي حفظ حواسه من الوقوع في الحرام، فإنّه يصبح أهلاً لتحمّل المسؤولية والأمانة في جميع عباداته وعلاقاته الاجتماعية.
 
وقد تحدّث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن قسمٍ مهمٍ من العلاقات الاجتماعية في خطبته في استقبال شهر رمضان كونها تشكّل عنصراً معِيناً للصائم وتفتح له آفاق العلاقة بالآخر، وهي:
 

1- الشيخ الصدوق، الأمالي، ص155.
 
 
 
99

83

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 حسن الخلق 

جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيّها النّاس من حسّن منكم في هذا الشّهر خُلقه كان له جواز على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام"1.


حسن الخلق هو حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرّفه الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل عن حدّه، فقال: "تليّن جناحك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشر حسن"2
 
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه، فقال: "يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حُسن الخلق، ثمّ أتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين ؟ فقال: حُسن الخلق، ثمّ أتاه من قبل شماله فقال: يا رسول الله ما الدين ؟ فقال: حُسن الخلق"3.
 
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم"4. والأكناف جمع كنف، وهو: الناحية والجانب، ويقال (رجل موطأ الأكناف) أي كريم مضياف.


1- النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في حسن الخلق: 
روي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وهو يصوّر أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كان أجود الناس كفاً، وأرحب الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله"5.
 
 
 

1- الشيخ الصدوق، الامالي، ص155.
2- الكافي، ج2، ص103.
3- بحار الأنوار، ج 68، ص393.
4- الكافي، ج2، ص102.
5- بحار الأنوار، ج16، ص190.
 
 
 
100

84

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ يهودياً كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك. فقال: فإنّي لا أفارقك يا محمّد حتّى تقضيني. فقال: أجلس معك، فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة (الصبح)، وكان أصحاب رسول الله يتهدّدونه ويتوعّدونه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله يهوديّ يحبسك! فقال: لم يبعثني ربّي عزّ وجلّ (كي) أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار قال اليهوديّ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت، إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة"1.

 
2- الآثار المترتّبة على الخلق الحسن: 
من الآثار العظيمة التي تترتّب على الخلق الحسن ما ورد في العديد من الروايات منها: 
ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق"2
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الخلق الحسن ليميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد"3
 
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر ما تلج به أمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخلق"4


ومن النتائج المهمة الناتجة عن الخلق الحسن حفظ الجوارح عن الوقوع في
 
 

1- الامالي، ص552.
2- بحار الأنوار، ج68، ص373.
3- الكافي، ج2، ص100.
4- م.ن.
 
 
 
101

85

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 الحرام والخطأ، واحترام الآخرين بتوقير الكبار ورحمة الصغار ولا سيما أثناء الصوم، روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة شهر رمضان قوله: "ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم...".

 
ونجد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شدّد في خطبته على أكثر الجوارح التي توقع الإنسان في المعصية والخطأ وهي: اللسان، والعين، والأذن، من خلال الكلام والنظر المحرّم، والاستماع إلى المحرّمات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم". 
 
واللسان من أكثر الأعضاء التي توقع الإنسان في المعصية، لذلك قيل: "إذا كان الكلام من فضة فإنّ السكوت من ذهب" جملة عظيمة قالها لقمان عليه السلام لابنه وهو يعظه، ولا شكّ أنّها وصية عظيمة جليلة لو عمل بها الناس لاستراحوا وأراحوا. ألا ترى أنّ اللسان على صغره عظيم الخطر، فلا ينجو من شرِّ اللسان إلا من قيده بلجام الشرع؟ 
 
فالصمت خصلة من خصال الإيمان وسبب موجب لصاحبه إن كان مؤمناً لدخول الجنان، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من صمت نجا"وقال أيضاً: "من ضمن لي ما بين لحييه - يعني اللسان - وما بين فخذيه ضمنت له الجنة"2. وحفظ اللسان من كثرة الكلام ولزوم الصمت سلامة من الشّر، ومنجاة من الهلكة، والمرء مخبوءٌ تحت لسانه فإذا تكلّم بان وظهر, وما خلق الله للإنسان لساناً وأذنين إلا ليسمع أكثر مما يقول. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه, فإنّه يلقي الحكمة" 3. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"4.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج74، ص88.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص251.
3- بحار الأنوار، ج1، ص154.
4- الكافي، ج2، ص234.
 
 
 
102

86

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 وجاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله أوصني، فقال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم"1؟ والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرّم وعقوباته، فإنّ الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيّئات ثم يحصد يوم القيامة ما رزع، فمن زرع خيراً من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شراً من قول أو عمل حصد الندامة.

 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أكثر ما يدخل به النار من أمتي الأجوفان قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما الأجوفان ؟ قال: الفرج والفم"2. وقيل: إنّ اللسان يقول كلّ يوم للجوارح: كيف أنتنّ؟ فيقلن له: نحن بخير ما تركتنا، وإذا كان من الخير ومن تمام الإيمان أن تقول خيراً أو تصمت، فالنطق بالخير أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وتعلّم الجاهل، وتذكر الغافل وتنذره من عقاب الله، وترشد الضال إلى طريق الهداية، ومن ذلك تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل، والإصلاح بين المتخاصمين، وإفشاء السلام ومخاطبة الناس بطيب الكلام لا سيما أهل الإسلام ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾3، والدعاء بما تريد من الصالحات وبما تريد من خيري الدنيا والآخرة والصلاة على النبيّ وآله الطاهرين.
 
قيمة التصدّق 
جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم". 
الصدقة في اللغة والعرف والشرع عطيّة يخرجها الإنسان من ماله على نحو التبرّع يراد بها المثوبة من الله تعالى، وقد حرص نبيّ الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام على الحثّ عليها وبيان فوائدها وآثارها على الفرد والمجتمع. ويذكر
 

1- الكافي، ج2، ص115.
2- وسائل الشيعة، ج20، ص359.
3- البقرة، 83.
 
 
 
103

87

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 لنا التاريخ الحرص الشخصيّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام على أداء الصدقات للفقراء والأيتام بشكل شخصيّ وفي مختلف المناسبات. قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾1.

 
1- فضل الصدقة: 
أ- الصدقة في يد الله: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى يقول: ما من شيء إلّا وقد وكّلت من يقبضه غيري، إلا الصدقة, فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفاً"2.


ب- تطفئ غضب الرب: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الصدقة لتطفئ غضب الربّ"3.
 
2- جزاء الصدقة وآثارها: 
للصدقة آثار دنيوية تنعكس على المتصدِّق في الحياة الدنيا، وآثار أخروية وَعَدَ الله بإيفائها لهم في الآخرة وأهمها:
أ- دفع البلاء: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الصدقة تدفع البلاء، وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد أُبرم إبراماً، ولا يذهب بالأدواء إلاّ الدعاء والصدقة"4.


ب- طول العمر ودفع ميتة السوء: روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "البر والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان تسعين ميتة سوء"5.


ج- جُنّة من النار: روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "أرض القيامة نار، ما خلا ظلّ المؤمن فإنّ صدقته تظلّله"6.
 
 

1- التوبة، 103.
2- بحار الأنوار، ج93، ص134.
3- كنز العمال، ج6، ص348.
4- بحار الأنوار، ج93، ص137.
5- الكافي، ج4، ص2.
6- الكافي، ج4، ص3.
 
 
 
104

88

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 د- تطفئ حرّ القبور: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور، وإنّما يستظلّ المؤمن يوم القيامة في ظلّ صدقته" 1.

 
3- فضل صدقة السرّ والعلانية وآثارهما: 
لقد حثّت الأخبار على صدقة السرّ والليل، ولكن لم يرد النهي الصريح عن صدقة العلن والنهار، بل ورد الحثُّ عليها أيضاً، ولعلّ ذلك فيه إشارة إلى كون الصدقة ذات أبعاد اجتماعية وتربوية. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتمحو الذنب العظيم، وتهوّن الحساب، وصدقة النهار تزيد في العمر وتثمر المال"2.


4- أولويّة ذوي الرحم بالصدقة:
لقد أكّدت الروايات على استحباب إعطاء الصدقات للأرحام والأقارب قبل غيرهم، بل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا صدقة وذو رحم محتاج"3.


وقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إبدأ بمن تعول: أُمّك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك"4.
 
صلة الأرحام
جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وصلوا أرحامكم،... ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه،...".


1- صلة الرحم واجبة:
إنّ صلة الرحم من الواجبات في الشريعة الإسلامية، وقطع الرحم من الذنوب
 
 

1- كنز العمال، ج6، ص348.
2- وسائل الشيعة، ج9، ص311.
3- م.ن، ص380.
4- بحار الأنوار، ج 93، ص 147.
 
 
 
105

89

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 الكبيرة. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام إلى صلة الأرحام في جميع الأحوال، وأن تقابل القطيعة بالصلة حفاظاً على الأواصر والعلاقات، وترسيخاً لمبادىء الحب والتعاون والوئام. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الرحم معلّقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل من الذي إذا انقطعت رحمه وصلها"1. وصلة الرحم من خير أخلاق أهل الدنيا كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ من عفا عمن ظلمه، ووصل من قطعه، وأعطى من حرمه"2.

 
2- كيفية صلة الرحم: 
تتجلّى مظاهر الصلة بالاحترام والتقدير والزيارات المستمرة وتفقّد أوضاعهم الروحية والمادية، وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم، وكفّ الأذى عنهم. وأدنى الصلة الصلة بالسلام، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلوا أرحامكم ولو بالسلام"3. وأدنى الصلة المادية السقاء، روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "صل رحمك ولو بشربة ماء..."4. ومن مصاديق صلة الأرحام كفّ الأذى عنهم. روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "عظّموا كباركم، وصلوا أرحامكم، وليس تصلونهم بشيء أفضل من كفّ الأذى عنهم"5.
 
3- قطيعة الأرحام موجبة لدخول النار:
الإسلام دين التآزر والتعاون والوئام، لذا حرّم جميع الممارسات التي تؤدّي إلى التقاطع والتدابر، فحرّم قطيعة الرحم، وجعلها موجبة لدخول النار والحرمان من الجنّة. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، ومدمن
 
 
 

1- الكافي، ج 2، ص 151.
2- المتقي الهندي، كنز العمال، ج15، ص835.
3- بحار الأنوار، ج 10، ص 92.
4- الكافي، ج2، ص151.
5- م.ن، ص165.
 
 
 
106

90

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 سحر، وقاطع رحم" 1 وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة: قاطع رحم، وجار السوء". وقطيعة الرحم موجبة للحرمان من البركات الالهية، كنزول الملائكة وقبول الأعمال. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم"2.

 
4- مقابلة القطيعة بالقطيعة ظاهرة سلبية في العلاقات: 
من الظواهر الاجتماعية التي تسود بعض المجتمعات أن يقاطع الإنسان من قاطعه من الأرحام، وسائر المسلمين، وهي ظاهرة سلبية وموجبة لعدم رضا الله تعالى عن الجميع، ففي رواية أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله، أهل بيتي أبوا إلاّ توثّباً عليَّ وقطيعة لي وشتيمة، فأرفضهم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: إذن يرفضكم الله جميعاً قال: كيف أصنع؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، فإنّك إذا فعلت ذلك، كان لك من الله عليهم ظهير"3.
 
5- الآثار الروحية والمادية لصلة الأرحام وقطيعتها:
لصلة الأرحام آثار إيجابية في الحياة الإنسانية بجميع مقوِّماتها الروحية والخلقية والمادية، روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: "صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسء في الأجل"4

ومن الثابت في العديد من الأخبار أن صلة الرحم تزيد في العمر، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما تعلم شيئاً يزيد في العمر إلاّ صلة الرحم، حتّى أنّ الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيده الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج15، ص346.
2- مستدرك الوسائل، ج9، ص107.
3- الكافي، ج2، ص150.
4- م.ن، ص150.
 
 
 
107

91

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 ويجعل أجله إلى ثلاث سنين"1



تكريم الأيتام
جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه"2.


لقد أولت الشريعة الإسلامية اليتيم عناية فائقة، وحثّت على رعايته والمحافظة على أمواله، وحذّرت من التجاوز على حقوقه. ومن جهة أخرى فقد أهابت بالمحسنين أن يقوموا بتهذيبه وتأديبه كما يراعي الوالد أبناءه. ويمكن اختصار أهم الواجبات التي يجب على المجتمع المسلم مراعاتها والاهتمام بها في رعاية الأيتام بالآتي:
1- رعاية شؤونه المادية وحفظ حقوقه وممتلكاته حتّى يبلغ. قال تعالى: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾3.
2- تربيته على متطلّبات الحياة وتأهيله لخوض غمارها بثبات ونجاح وسعادة.
3- احتضانه معنوياً وحفظ حقوقه المعنوية.


وتقع هذه المسؤوليات على المجتمع بمختلف شرائحه ومستوياته الاجتماعية كلاً بحسب ما يملك من طاقات وامكانيات.
 
 

1- الكافي، ج2، ص152.
2- الشيخ الصدوق، الامالي، ص155.
3- النساء، 2.
 
 
 
108

92

قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

 مفاهيم رئيسة

1- الصّوم عبادة عظيمة في الإسلام ولها أبعاد وآثار إيمانية وروحيّة مهمة في العلاقة مع الله تعالى، إضافة إلى العديد من الآثار والقيم الاجتماعية والتربوية التي تنعكس على الفرد والمجتمع. 

2- يتعلّم المسلم في صومه النظام والانضباط، ويتعلّم أنّ الصوم أمانة في عنق المكلّف استودعه الله إيّاها، فأمره أن يحفظ نفسه وجوارحه من الآثام.

3- لقد تحدّث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في استقبال شهر رمضان عن أهم الأمور إلتي تشكّل عنصراً معِيّناً للصائم وتفتح له آفاق العلاقة بالآخر، وهي:
أ- حسن الخلق: وهي معاشرة الناس بمعروف ومداراة ولطف.

ب- الصدقة: وهي من الأمور التي حثّ عليها الإسلام ضمن أعمال شهر رمضان. ومن آثارها, أنّ الصدقة تقع في يد الله، وأنّها تطفئ غضب الرب، وأنّها تدفع البلاء، وتزيد في العمر وتدفع ميتة السوء. 

ج- صلة الرحم: من الأمور المهمة التي ينبغي التركيز عليها في شهر رمضان صلة الرحم، لأنّها تترك في النفس والمجتمع بركات كثيرة جداً، وأما قطيعة الرحم فإنّها من الأمور التي توجب دخول النار.

د- إكرام اليتيم: إنَّ الاهتمام بالأيتام من الأمور التي أولتها الشريعة اهتماماً بالغاً وخاصة في شهر رمضان الكريم، تكريم الأيتام وحسن رعايتهم، إضافة إلى التحذير من التعدّي على أموالهم، وحذّرت من التجاوز على حقوقهم. وأهابت بالمحسنين أن يقوموا بتهذيبهم وتأديبهم كما يراعي الوالد أبناءه.
 
 
 
109

93

ليلة التقدير الإلهي

 ليلة التقدير الإلهي


مفاهيم محورية
- الجانب الاعتقاديّ في ليلة القدر (التقدير الإلهيّ). 
- الجانب العمليّ في ليلة القدر (إحياؤها). 
- لماذا سمّيت ليلة القد؟ 
- تفسير سورة القدر. 
- أيّة ليلة هي ليلة القدر؟ 
- لماذا خفيت ليلة القدر؟ 
 
 
111

94

ليلة التقدير الإلهي

 تصدير الموضوع 

قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ *سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾1.
 
ليلة القدر هي الليلة التي اختارها الله سبحانه لإظهار الربوبية الشاملة من حيث التقدير والتدبير، لذلك فهي الظرف الزمانيّ الأنسب لإظهار العبودية الكاملة لله تعالى. ومن هنا فالعبادة في هذه الليلة لها أثر خاصّ متميّز على ما ورد في الروايات الكثيرة عنهم عليه السلام. ومن الواضح أنّ الإيمان التام بالتقدير الإلهيّ يستدعي العمل وبذل الطاعة في هذه الليلة. كما أنّ الإحياء المذكور ثمرةُ الإيمان ومتفرّع عليه، وبالعمل فيها يرجى الخير للعبد في التَّقدير بحسب درجة إيمانه. 
 
وتتجلّى العبادة في هذه الليلة بأمرين:
- الجانب الاعتقاديّ في ليلة القدر (التقدير الإلهيّ). 
- إحياؤها بالعمل. 
 

1- القدر، 1 - 5.
 
 
 
113

95

ليلة التقدير الإلهي

 الجانب الاعتقاديّ في ليلة القدر (التقدير الإلهيّ) 

يقول الله تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾1.


وروي عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تعالى: "تنزّل الملائكة والروح فيها" قال: "تنزل فيها الملائكة والكتبة إلى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون في السنة من أمره، وما يصيب العباد، والأمر عنده موقوف له، فيه المشيئة فيقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، (ويمحو ما يشاء) ويثبت وعنده أم الكتاب"2
 
وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان، قلت: ما معنى قوله: (يلتقي الجمعان)؟ قال: يجمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره، وإرادته وقضائه"3.
 
وعنه عليه السلام: "إنّ ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجُهَنّي فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يحدث الله فيها إلى مثلها من الحول"4.
 
الجانب العمليّ في ليلة القدر (إحياؤها)
روي عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سئل عن ليلة القدر: "كيف هي خير من ألف شهر؟ قال عليه السلام: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر"5.


وعنه عليه السلام: "فطوبى لعبد أحياها راكعاً وساجداً ومثل خطاياه بين عينيه ويبكي عليها، فإذا فعل ذلك رجوت أن لا يخيب إن شاء الله"6.
 

1- الدخان، الآيات، 1-5.
2- الكافي، ج4، ص157.
3- بحار الأنوار، ج94، ص2.
4- بحار الأنوار، ج7، ص475.
5- الأمالي، ص689.
6- بحار الأنوار، ج94، ص5.
 
 
 
114

96

ليلة التقدير الإلهي

 وفي ثواب من أحيا ليلة القدر، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "قال موسى: إلهي أريد قربك، قال: قربي لمن يستيقظ ليلة القدر، قال: إلهي أريد رحمتك، قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال: إلهي أريد الجواز على الصراط، قال: ذلك لمن تصدّق بصدقة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد أشجار الجنّة وثمارها، قال: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر، قال: إلهي أريد النّجاة من النّار، قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر، قال: إلهي أريد رضاك، قال: رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر"1

 
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يفتح أبواب السموات في ليلة القدر، فما من عبد يصلّي فيها إلّا كتب الله تعالى له بكلّ سجدة شجرة في الجنة، لو يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وبكل ركعة بيتاً في الجنة من درّ وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، وبكل آية تاجاً من تيجان الجنة، وبكل تسبيحة طائراً من النجب، وبكل جلسة درجة من درجات الجنة، وبكل تشهّد غرفة من غرفات الجنة، وبكل تسليمة حلة من حلل الجنة"2.


تفسير سورة القدر
1- فضيلة السّورة: 
يكفي في فضيلة السّورة ما روي عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأها اُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر"3.


وروي عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: "من قرأ إنّا أنزلناه بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه، ومن قرأها سرّاً كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله"4.
 

1- إقبال الأعمال، ج1، ص345.
2- م.ن.
3- مجمع البيان، ج10، ص516.
4- م.ن، ص403.
 
 
 
115

97

ليلة التقدير الإلهي

 2- سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر: 

ورد العديد من الأقوال في سبب تسميتها بليلة القدر منها: لأنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدّرات العباد لسنة كاملة، يشهد على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾. فهذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء في الرّوايات التي تحدّد أنّ في هذه الليلة تعيين مقدّرات النّاس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، وأُمور أخرى تفرق وتبيّن في تلك الليلة المباركة. هذه المسألة طبعاً لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الاختيار، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يجري حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم. أي يقدر لكلّ فرد ما يليق له, وبعبارة أخرى، أرضية التقدير يوفّرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافى مع الاختيار بل يؤكّده.
 
روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: "التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين"1.


وقد روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: "ليلة القدر يقدّر الله عزّ وجلّ فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من حياة أو موت أو خير أو شرّ أو رزق"2.
 
3- ليلة القدر ليلة نزول القرآن: 
يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾3، وظاهر الآية يدلّ على أنَّ كلَّ القرآن نزل في هذا الشهر. والآية الاُولى من سورة القدر تقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.
 
واسم القرآن لم يذكر صريحاً في هذه الآية، ولكن الضمير في "أنزلناه" يعود إلى القرآن قطعاً. والإبهام الظاهري في ذكر اسم القرآن إنّما هو لبيان عظمته وأهمّيته. 
 
 

1- إقبال الأعمال، ج1، ص150.
2- الصدوق، التوحيد، ص444.
3- البقرة، 185.
 
 
 
116

98

ليلة التقدير الإلهي

 وعبارة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ فيها إشارة أُخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي. فقد نسب الله نزوله إليه، وبصيغة المتكلّم مع الآخر أيضاً، وهي صيغة لها مفهوم جمعيّ وتدلّ على العظمة.

 
لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾1 لاستنتجنا أنّ "ليلة القدر" هي إحدى ليالي شهر رمضان. 


وكذا قوله تعالى في سورة الدخان: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾2.


وهنا يطرح سؤال له طابع تاريخي وله ارتباط بما رافق أحداث حياة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم من نزول القرآن. من المؤكّد أنّ القرآن الكريم نزل تدريجياً خلال (23) عاماً. فكيف نوفِّق بين هذا النزول التدريجي وما جاء في الآيات السابقة بشأن نزول القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر؟
 
الجواب عن هذا السؤال كما ذكره المحقِّقون يتلخّص في أنّ للقرآن نزولين:
الأوّل: النزول الدفعي، وهو نزول القرآن بأجمعه على قلب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على البيت المعمور، أو من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. والنزول التدريجي، وهو ما كان خلال (23) سنة من عصر النبوّة. ويذكر أنّ تعبير الآيات عن نزول القرآن يكون مرّة بكلمة "إنزال" ومرّة اُخرى بكلمة "تنزيل". ويستفاد من كتب اللغة أن التنزيل للنزول التدريجي. 
 
والإنزال له مفهوم واسع يشمل النزول الدفعي أيضاً. وهذا التفاوت في التعبير القرآني قد يكون إشارة إلى النزولين المذكورين.
 

1- البقرة، 185.
2- الدخان، 1-4.
 
 
 
117

99

ليلة التقدير الإلهي

 4- ليلة القدر خير من ألف شهر:

يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾. ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.
والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً قبل نزول هذه الآيات، مع ما له من علم واسع.


و"ألف شهر" تعني أكثر من ثمانين عاماً، فحقّاً ما أعظم هذه الليلة التي تساوي قيمتها عُمُراً طويلاً!
 
وجاء في بعض التفاسير أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر رجلاً من بني اسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر1.
 
وأما لماذا كانت خيراً من ألف شهر... الظاهر لأهمية العبادة والإحياء فيها. وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنة كثير، ويؤيد هذا المعنى. أضف إلى ذلك أنّ نزول القرآن في هذه الليلة، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيراً من ألف شهر.
 
وهل العدد (ألف) في الآية للعدّ أو التكثير؟ قيل إنّه للتكثير، وقيمة ليلة القدر خير من آلاف الأشهر أيضاً، ولكن الرّوايات أعلاه تبيّن أنّ العدد المذكور للعدّ، والعدد عادة للعد إلاّ إذا توفّرت قرينة واضحة تصرفه إلى التكثير.
 
5- ليلة تنزّل الملائكة والروح:
قال الله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾، و"تنزل" فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل) ما يدلّ على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصّة بزمن النّبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرّر في كل عام باستمرار.
 
 

1- الدر المنثور، ج8، ص568.
 
 
 
118

100

ليلة التقدير الإلهي

 وما المقصود بـ "الروح"؟ قيل: إنّه جبرائيل الأمين، ويسمّى أيضاً الروح الأمين. وقيل: إنّ الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾1.



وللروح تفسير آخر يبدو أنّه أقرب، وهو أنّ الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة.
 
روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الرُّوح وهل هو جبرائيل، قال: "جبرائيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾"2؟ فالاثنان متفاوتان بقرينة المقابلة.
 
6- ليلة التقدير:
قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ أي لكل تقدير وتعيين للمصائر، ولكل خير وبركة. فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو للتقدير فالملائكة تنزل في ليلة القدر ومعها كل هذه الاُمور والتقديرات لهذا العام.
 
قوله تعالى: ﴿رَبِّهِم﴾ تركّز على معنى الربوبية وتدبير العالم، وهي تتناسب مع عمل الملائكة في تلك الليلة حيث تنزل لتدبير الاُمور وتقديرها، وبذلك يكون عملها جزء من ربوبية الخالق. بإيجاز الآية الكريمة تقول: الملائكة والروح تتنزل في هذه الليلة بأمر ربّهم لتقدير كلّ أمر من الأمور.
 
7- ليلة السلامة والرحمة:
قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح. فالقرآن نزل فيها، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر، وفيها تنزل الخيرات والبركات، وبها يحظى العباد برحمة خاصّة، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها. والرّوايات تذكر أنّ الشيطان يكبّل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة 
 
 

1- الشورى، 52.
2- تفسير البرهان، ج4، ص481.
 
 
 
119

101

ليلة التقدير الإلهي

 مقرونة بالسلامة.

 
وإطلاق كلمة "سلام" على هذه الليلة بمعنى "سلامة" (بدلاً من سالمة) هو نوعٌ من التأكيد كأن نقول فلانٌ عدلٌ، للتأكيد على أنّه عادل.


وقيل: إنّ إطلاق كلمة (سلام) على تلك الليلة يعني أنّ الملائكة تسلّم باستمرار على بعضها بعضاً أو على المؤمنين، أو أنّها تأتي إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته المعصوم، تسلّم عليه. ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه التفاسير.
 
إنّها على أي حال ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كلّ الجهات.
 
أيّة ليلة هي ليلة القدر؟
قيل في ذلك كثير، وذكرت تفاسير عديدة من ذلك: أنّها أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك، الليلة السابعة عشرة، الليلة التاسعة عشرة، الليلة الحادية والعشرون، الليلة الثّالثة والعشرون، الليلة السابعة والعشرون، والليلة التاسعة والعشرون.
 
والثابث والمشهور في الرّوايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثّالثة والعشرين. لذلك ورد في الرّوايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة.
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها الليلة الحادية والعشرون أو الثّالثة والعشرون. وعندما أصرّ عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب"1.
 
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنه قال لعلي ابن أبي حمزة الثمالي: "فاطلبها (أي ليلة القدر) في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصلّ في كل واحدة منهما مائة ركعة وأحيهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما. قال: 
 
 

1- الكافي، ج4، ص156.
 
 
120

102

ليلة التقدير الإلهي

 قلت: فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم.

قال: فصلِّ وأنت جالس.
قال: قلت: فإن لم أستطع؟
قال: فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم. إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفد (تقيّد) الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين"1.
 
لماذا خفيت ليلة القدر؟
الإعتقاد السائد أنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الاهتمام بجميع هذه الليالي, مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتّجه النّاس إلى جميع الطاعات، وأخفى غضبه بين المعاصي، كي يتجنّب العباد جميعها، وأخفى أحباءه بين النّاس كي يُحترم كلّ النّاس، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كل الأدعية، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظّم كل أسمائه، وأخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائماً على استعداد.
 
 

1- الكافي، ج4، ص157.
 
 
 
121

103

ليلة التقدير الإلهي

 مفاهيم رئيسة

1- ليلة القدر هي الليلة التي اختارها الله سبحانه لإظهار الربوبية الشاملة من حيث التقدير والتدبير، لذلك فهي الظرف الزمانيّ الأنسب لإظهار العبودية الكاملة لله تعالى. 

2- يعتقد المسلمون أنّ ليلة القدر هي ليلة عظيمة القدر عند الله تعالى، وفيها يقدّر الله كل أمر حكيم، عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان هي ليلة الجهني فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تثبت البلايا والمنايا والآجال والأرزاق والقضايا، وجميع ما يحدث الله فيها إلى مثلها من الحول".

3- إن إحياء ليلة القدر من المستحبات الأكيدة والتي ورد فيه الروايات العديدة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "العمل فيها خير من العمل في ألف شهر".

4- من أسباب تسمية هذه الليلة بليلة القدر أنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدّرات العباد لسنة كاملة، أو أنّها ليلة نزول القرآن. 

5- الثابث في الرّوايات أنّ ليلة القدر هي في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثّالثة والعشرين. لذلك ورد في الرّوايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة. 
 
 
 
122

104

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام


مفاهيم محورية:
- عليّ عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 
- التربية النبويّة لعليّ عليه السلام. 
- مدرسة عليّ عليه السلام ونهجه امتداد لمدرسة النبوّة. 
 
 
 
123

105

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 تصدير الموضوع 

روي عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قَالَ: "يَا جُنْدَبُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ وَإِلَى نُوحٍ فِي فَهْمِهِ وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي خَلَّتِهِ وَإِلَى مُوسَى فِي مُنَاجَاتِهِ وَإِلَى عِيسَى فِي سِيَاحَتِهِ وَإِلَى أَيُّوبَ فِي صَبْرِهِ وَبَلَائِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمُقَابل الَّذِي هُوَ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ السَّارِي وَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ أَشْجَعُ النَّاسِ قَلْباً وَأَسْخَى النَّاسِ كَفّاً فَعَلَى مُبْغِضِهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ فَالْتَفَتَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ مَنْ هَذَا الْمُقْبِلِ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ"1
 
علي عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتردَّد كثيراً على دار عمّه أبي طالب بالرغم من زواجه من خديجة وعيشه معها في دار منفردة. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشمل عليّاً عليه السلامبعواطفه، ويحوطه بعنايته، ويحمله على صدره، ويحرّك مهده عند نومه إلى غير ذلك من مظاهر العناية والرعاية2.
 

1- بحار الأنوار، ج39، ص38.
2- بحار الأنوار، ج35، ص43.
 
 
 
125

106

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 وكان من نِعَم الله عزّ وجلّ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام وما صنع الله له وأراده به من الخير أنّ قريشاً أصابتها أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعبّاس ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ: "يا عبّاس، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفّف عنه من عياله، آخذُ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه، قال العباس: نعم، فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام فضمّه إليه وكان عمره يومئذ ستة أعوام، وأخذ العبّاس جعفراً، فلم يزل عليّ عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بعثه الله نبيّاً، فاتّبعه عليّ عليه السلام فآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه1.

 
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن اختار عليّاً عليه السلام: "قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليّ2".
 
وهكذا توفّر لعليّ عليه السلام فرصة أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا فلم يُرَ الإمام عليّ عليه السلام بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا نادراً، وما من أمر حدث إلاّ كان لعليّ عليه السلام مَعْلَم فيه وأثر، وللتأكيد على هذا اختاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخاً له لتزداد هذه العلاقة وثوقاً ومتانةً، وقال في ذلك: "عليّ منّي" وقال جبرائيل: "وأنا منكما"3. وما يؤكِّد هذه العلاقة والدرجة الرفيعة لعليّ عليه السلام عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد عن أبي سعيد الخدري قوله: "كانت لعليّ عليه السلام درجة لم تكن لأحد من الناس"4.
 

1- تأريخ الطبري، ج2، ص58.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، ج1، ص15، نقلاً عن البلاذري والأصفهاني.
3- حياة الصحابة، ج1، ص559.
4- أنساب الأشراف، ج1، ص98.
 
 
 
126

107

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 التربية النبويّة لعليّ عليه السلام

يتجلّى اهتمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتربية عليّ عليه السلام وتعليمه وإعداده للإمامة والقيادة في العديد من النصوص والمواقف منها:
1- ملازمة عليّ عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: 
عبّر الإمام عليّ عليه السلام نفسه عن هذه الصحبة بقوله: "وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحرّاء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشمُّ ريح النبوة"1.
 
2- مبادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعليمه عليه السلام: 
وما يدلّ على انتقال علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمله إليه وتجلّي كمالاته فيه، هو ما أشار إليه عليه السلام بقوله: "وكان لا يمرُّ من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته"2، وقوله عليه السلام: "لأني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني"3.


3- تعليمه أسرار القرآن: 
يفهم ذلك من قول الإمام علي عليه السلام: "والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت"4. ولهذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأعلم الناس حيث قال: "عليّ أعلم الناس بالكتاب والسنّة"5.
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 190.
2- م.ن، الخطبة 208.
3- أنساب الأشراف، ج1، ص98.
4- م.ن، ص99.
5- الحياة السياسية والفكرية لأئمة أهل البيت عليهم السلام، ص74.
 
 
 
127

108

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 وإلى هذا يشير الإمام عليّ عليه السلام في رواية مرويّة عنه عليه السلام ".. فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطي، وعلَّمني تأويلها، وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال، ولا حرام، ولا أمر، ولا نهي، كان أو يكون منزلاً على أحد قبله، من طاعة أو معصية إلّا علمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً..."1.

 
مدرسة عليّ عليه السلام ونهجه امتداد لمدرسة النبوّة
الأئمة المعصومون خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأمناؤه على الدين من بعده، ولا يفتون بحكم سوى ما تلقّوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يحدّثون إلّا بحديثه صلى الله عليه وآله وسلم. روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"2
 
والأئمة عليهم السلام بمنزلة رسول الله إلّا أنّهم ليسوا بأنبياء كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام3، وليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنّة وحكايتها ولا من نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنّة لا حكاية السنّة، وعليه فالأخذ منهم مباشرة هو أخذ للحكم الواقعيّ من مصدره الحقيقيّ على سبيل الجزم واليقين. وأمّا إذا لم يتمكّن من تحصيل الحكم الواقعيّ عنهم مباشرة فيرجع إلى الأحاديث التي تنقلها السنّة إمّا عن طريق التواتر أو أخبار الآحاد.
 

1- أصول الكافي، ج1، ص53.
2- م.ن.
3- م.ن، ص270.
 
 
 
128

109

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 وهم عدل الكتاب العزيز كما جاء في حديث الثقلين المتواتر، وموضع اتّفاق الرواة والمحدّثين، وقد رواه تحقيقاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 33 صحابي1.



وهم خلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياؤه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي، قيل يا رسول الله، ومن أخوك؟ قال: عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قيل فمن ولدك؟ قال: المهديّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلم2.
 
وأهل البيت عليهم السلام هم خزنة علم الله، وعيبة وحيه. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله قال الله تعالى في صفة أهل البيت عليهم السلام: "هم خزّاني على علمي من بعدك"3. وروي عن الإمام الباقر عليه السلام "نحن خزّان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله"4.
 
وخلاصة القول: إنّ الأئمة المعصومين عليه السلام إنّما يحدّثون عن الله وعن رسوله، وكما جاء في الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام في جواب خَلَفِ بن حمّاد الكافي لمّا سأله عن مسألة مشكلة فقال عليه السلام: "والله، إنّي ما أخبرك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل عن الله عزّ وجلّ"5
 
عليّ مدرسة الشجاعة والبطولة 
لقد حدّد أمير المؤمنين عليه السلام مفهوم الشجاعة في الإسلام، بأن لا تستخدم في سبيل المصالح الشخصية أو العشائرية، أو الأطماع الدنيوية ونحوها. ولهذا تميّزت شجاعته عليه السلام وبطولته بأنّها كانت في رضا الله، ونُصرة دينه، فكانت في سبيل الله وعلى أعداء الله. فيروى أنّه عليه السلام لمَّا صرع عَمرو بن عَبد وِدٍّ يوم الخندق تباطأ في احتزاز رأسه، وتوقّف قبل أن يضربه، فلمّا رجع سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: 
 
 

1- الفيض الكاشاني، الوافي،ج 24، ص 494. 
2- كمال الدين، ص27.
3- أصول الكافي، ج1، ص192.
4- م.ن.
5- أصول الكافي، ج3، ص 194.
 
 
 
129

110

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 "قَد كان شَتَم أُميّ، وتَفَل في وجهي، فخشيت أن أضربَه لِحظِّ نفسي، فتركتُه حتّى سَكن ما بي، ثمّ قتلتُه في الله"1.

 
وقد لخّص ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح النهج قيمة الشجاعة في شخصية عليّ عليه السلام قائلاً: "وأمّا الشجاعة فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ومحا اسم من يأتي بعده...."
 
ومع كثرة المواقف التي تعبّر عن شجاعته نقتصر بالكلام هنا على ثلاثة مواقف فقط وهي:
- حين تنحّيه عن السلطة. 
- حين مبايعة المسلمين له. 
- حين مواجهته لنكبة الخوارج. 
 
ففي الموقف الأوّل عندما واجه هذه الحالة وقف عليه السلام بشجاعة وتصميم وعزم وصبر إلى جانب مصلحة الإسلام العليا وتنازل عن ذاته وكلّ وجوده، ليعطي بشجاعته هذه مثلاً رائعاً وهو أنّ مصلحة الإسلام وكلمته أعظم من كلّ شيء في هذا الوجود، وأعظم من كلّ إنسان مهما كان عظيماً كعليّ عليه السلام.
 
فقال عليه السلام: "لَقد عَلِمتُم أنّي أحَقّ الناس بها من غيري، وَوَالله لأسَلِّمَنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين، ولم يَكن فيها جَور إلا عَلَيَّ خاصَّة"2. فالواضح أنّه لم يكن له عليه السلام رغبة شخصية في الإمارة، ولا يحرص عليها، وإذا طلبها فإنّما يطلبها لِيُقيم قواعد العدل، ويتنازل عنها بشجاعة فائقة، وصبر عظيم من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين. ويتّضح هذا من موقفه عليه السلام لمّا جاء المسلمون لمبايعته بالخلافة قبل أن يتولّى المسؤولية الأولى في جهاز الدولة الإسلامية الفتية، لتكون 
 
 

1- يراجع: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، 118، ص 148.
2- نهج البلاغة، ج 1، ص 124.
 
 
 
130

111

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 أداة لمقاومة مظاهر الحيف والانحراف، ولإرجاع الحقوق إلى أصحابها، دخل عليه تلميذه عبد الله بن عبّاس يوماً فوجده يخصف نعله، فعجب ابن عبّاس من أن يخصف أمير المؤمنين عليه السلام نعله بنفسه، وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم، فقال عليه السلام لابن عبّاس: ما قيمة هذه - مشيراً إلى نعله -؟ قال ابن عبّاس: لا قيمة لها. فقال عليه السلام: "والله لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"1. فالسلطة تعني عنده عليه السلام إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله.

 
وكان بنفس الشجاعة عندما تداعى الناس جميعاً على بيعته عليه السلام ووجد أنّ مسؤوليته الشرعية تفرض عليه أن يقوم بأعباء الخلافة فتصدّى لها بشجاعة عظيمة حينما كان المجتمع الإسلاميّ يعجّ بالانحرافات والمظالم، لأنّ تحمّل المسؤولية في تلك الظروف القاسية يحتاج إلى شجاعة عظيمة أكبر من التي يمتلكها الإنسان في ساحات القتال وميادينه. 
 
وأمّا قضية مواجهة الخوارج فهي تحتاج أيضاً إلى شجاعة عليّ عليه السلام، وذلك لأنّ هؤلاء كانوا من العابدين الزاهدين، والمصلّين الخاشعين، الذين كثرت الثفنات والقروح في أيديهم وجباههم من كثرة السجود... فإنّ هذا الموقف الخطير الذي اتّخذه عليّ عليه السلام للقضاء على هذه الفرقة ومحاربتها – التي كان ينظر الناس إليها على أن أفرادها من المسلمين ولا سيما أنّهم أهل عبادة وزهادة وقداسة كما هو ظاهرهم- ليس أمراً ميسوراً لشخص آخر غير عليّ كما يؤكّد الشهيد مطهري2، لأنه لا يتجرّأ أحد من المسلمين على قتل أفراد مسلمين لا يفارق ذكر الله شفاههم - كما كان ظاهر الخوارج مع كونهم من الفرق الضالة- يقول عليه السلام: "أنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كَلَبها..."3.
 
 

1- نهج البلاغة، ص 77.
2- الشهيد مرتضى مطهري، من حياة الأئمة الأطهار، ص36 بتصرّف.
3- نهج البلاغة، ج 1، ص 80.
 
 
131

112

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 خاتمة: إنّ انتماءنا لعليّ عليه السلام يفرض علينا أن نكون صادقين في انتمائنا وولائنا له عليه السلام، وعلى هذا الأساس، فإذا أردنا أن نقف مع عليّ عليه السلام، فلا بدّ من أن نعيش علياً في عقولنا وقلوبنا وسلوكنا، في اليقين وقوة العقيدة والمبدأ، وفي العبادة والعلاقة بالله تعالى، في الخلق العظيم والسلوك القويم. 

 

 

132


113

أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 مفاهيم رئيسة

1- إنّ شخصية أمير المؤمنين عليه السلام شخصية عظيمة لما اختصت به من الإعداد النبوي والإشراف الإلهي.

2- لقد تولّى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإعداد التربوي لعليّ عليه السلام، ومن علامات هذا الإعداد: 
aب- مبادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعليمه عليه السلام: ينقل عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني".
ج- تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليه السلام أسرار القرآن: فقد نقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "عليّ أعلم الناس بالكتاب والسنّة...".

3- تعتبر مدرسة عليّ عليه السلام ونهجه امتداداً لمدرسة النبوّة، لأنّ الإمام عليه السلام إنّما كان يقوم بما كلّفه إيّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تكاليف تتعلّق بالاهتمام بالشريعة الإسلامية ومصالح المسلمين وحياطة القرآن الكريم والسنة النبوية.

4- تميّزت شجاعته عليه السلام وبطولته بأنّها كانت في رضا الله، ونُصرة دينه، فكانت في سبيل الله وعلى أعداء الله.
5- انتماؤنا لعليّ عليه السلام يفرض علينا أن نكون صادقين في انتمائنا وولائنا له عليه السلام، فإذا أردنا أن نقف مع عليّ عليه السلام، فلا بدّ من أن نعيش علياً في عقولنا وقلوبنا وسلوكنا. 
 
 
 
133
 

114

العيد بين العبادة والسعادة

 العيد بين العبادة والسعادة


مفاهيم محورية:
- العيد في النظرة الإسلامية. 
- الأبعاد الدينية للعيد. 
- الدلالات الاجتماعية والإنسانية للعيد. 
- مستحبّات يوم العيد وبعض سننه. 
 
 
135

115

العيد بين العبادة والسعادة

 تصدير الموضوع 

روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "إنّما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه وكل يوم لا تعصي الله فيه فهو عيد"1.
 
مفهوم العيد في الإسلام 
العيد في اللغة مأخوذ من عاد بمعنى العود أي عاد إليه، أو مأخوذ من العادة بمعنى اعتاده2. والعيد في الإسلام هو يوم محدّد نصّت عليه الشريعة الإسلامية المقدّسة وحدّدت له أعمالاً وآداباً ومراسم خاصّة. والمستفاد من النصوص أنّ أعياد المسلمين بالمعنى المصطلح أربعة لا غير وهي: عيد الفطر في الأوّل من شهر شوّال، ويوم النحر المسمّى بعيد الأضحى في اليوم العاشر من شهر ذي الحجّة، ويوم الجمعة من كلّ أسبوع، وعيد الغدير وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة.
 
وقد جاء في الحديث عن المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "كم للمسلمين من عيد؟ فقال: أربعة أعياد، قال: قلت: قد عرفت العيدين والجمعة، فقال لي: أعظمها وأشرفها يوم الثامن عشر من ذي الحجة"3، بالإشارة إلى عيد الغدير. 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج15، ص308.
2- المعجم الوسيط، ص635.
3- وسائل الشيعة، ج10، ص443.
 
 
 
137

116

العيد بين العبادة والسعادة

 وما يدلّ على عظم شأن العيد أنّ الإسلام قرن كلّ واحد من عيديه العظيمين بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها أثرها الجليل في الاجتماعيات، ولها تأثيرها العميق في التربية الفردية والاجتماعية، وهاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، والحجّ الذي كان عيد الأضحى أحد أيامه.

 
فهذا الربط الإلهيّ بين العيدين، وبين هاتين الشعيرتين كافٍ للكشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنّهما عيدان دينيان بكلّ ما شُرِّع فيهما من سنن، بل حتى ما ندب إليه الدين فيهما من أمور ظاهرها دنيويّ كالتجمّل، والتحلّي، والتطيّب، والتوسعة على العيال، وإلطاف الضيوف، والمرح واختيار المناعم والأطايب، واللهو ممّا لا يخرج إلى حدّ الإسرف، فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسنت النيّة, فمن محاسن الإسلام أنّ المباحات إذا حسنت فيها النية، وأريد بها تحقّق حكمة الله، أو شكر نعمته انقلبت قربات يثاب المؤمن عليها.
 
الأبعاد الدينية للعيد
العيد شعيرة من شعائر الله تعالى، التي ينبغي أن تظهر وتبرز في المجتمع الإسلامي، وما استحباب التكبير والتهليل والتحميد صبيحة العيد، والاجتماع للصلاة وغيرها من الأعمال والمستحبات إلّا للتأكيد على أهمية إظهار وإبراز العيد بكلّ مداليله. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس"1.
 
ولعلّ أفضل كلمة قيلت في معنى العيد، هي كلمة الإمام عليّ عليه السلام: "إنّما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه"2. فلقد جاء في نهاية موسم عباديّ محمّل بمختلف ألوان العبادة والطاعة، والدعاء والتذلّل لله تعالى. فشهر رمضان 
 

1- كنز العمال، ج8، ص546.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص308.
 
 
 
138

 


117

العيد بين العبادة والسعادة

 هو شهر الله الذي يفتح الله فيه باب رحمته ومغفرته ولطفه وعفوه وغفرانه للصائمين، وللقائمين، وللمجاهدين، وللعاملين في مواقع رضاه, فهو شهر التوبة والمغفرة والرحمة. ولهذا اعتبر أمير المؤمنين عليه السلام أنّ بإمكان المؤمن أن يحوّل كلّ أيّامه إلى أعياد، فقال عليه السلام: "كل يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد"1.

 
الدلالات الاجتماعية والإنسانية للعيد
العيد في معناه الإنسانيّ يوم تلتقي فيه قدرة الغنيّ، وضعف الفقير على محبّة ورحمة وعدالة من وحي السماء، عنوانها الزكاة والإحسان والتوسعة على جميع الفقراء والمساكين، فيتجلّى العيد على الغنيّ، فينسى تعلّقه بالمال، وينزل من عليائه متواضعاً للحقّ وللخَلق، ويذكر أنّ كلّ من حوله إخوانه وأعوانه، فيتعامل معهم بإحسان ورحمة. 
 
ولهذا لا بدّ من السعي الجدّي للمشاركة في تحمّل المسؤولية تجاه الفقراء والمساكين لنشعرهم جميعاً بفرحة العيد، وليكن شعارنا العمل ليفرح الناس كلّ الناس بالعيد، وذلك من خلال التعاون والتكافل والإيثار، فقد ورد أن علياً عليه السلام اشترى ثوباً فأعجبه فتصدّق به، وقال: سمعت رسول الله يقول: "من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنّة"2.
 
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يؤمن عبد حتّى يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه من الخير"3.
وللعيد أبعاد اجتماعية كثيرة منها: التلاقي والتزاور وغيرهما من المظاهر التي تحقّق حالة إنسانية تزيد من التواصل والترابط الحميم بين أفراد المجتمع، فقد ورد الحثّ 
 

1- مستدرك الوسائل، ج6، ص154.
2- نور الثقلين، ج1، ص346.
3- كنز العمال، ج1، ص416.
 
 
 
139

118

العيد بين العبادة والسعادة

 الشديد على التزاور في الله ولقاء الإخوان، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من زار أخاه المؤمن إلى منزله لا حاجة منه إليه كتب من زوار الله، وكان حقيقاً على الله أن يكرم زائره"1.

 
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: "تزاوروا في بيوتكم فإنّ ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا"2.


ومنها إبراز الزينة والبهجة والسرور، فصحيح أنّ بهجة العيد وزينته ليست لذات العيد، بل لما يحمله العيد من معان ومفاهيم عظيمة في الإسلام تتجلّى في غفران ذنوب الصائم، وقبول عمله وعبادته... إلّا أنّ هذا لا يتنافى أبداً مع إبراز مظاهر الزينة المعنوية بالتهليل والتكبير، والزينة المادية من خلال التجمّل في اللباس للكبار والصغار، وتبادل التهاني والتبريكات بأجواء تسودها البهجة والسرور.
 
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنّ الله يحبّ إذا خرج عبده المؤمن إلى أخيه أن يتهيّأ له وأن يتجمّل"3. وقد ورد التأكيد في النصوص على أنّ "خير لباس كلّ زمان لباس أهله"4.
 
وممّا روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إظهار النعمة أحبّ إلى الله من صيانتها، فإيّاك أن تتزيّن إلّا في أحسن زيّ قومك"5.


والعيد في معناه الاجتماعيّ أيضاً يوم الأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح، ويوم الفقراء يلقاهم باليسر والسعة، ويوم الأرحام يجمعها على البرّ والصلة، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور، ويوم الأصدقاء يجدّد فيهم أواصر الحبّ ودواعي القرب. ويحمل معه تذكيراً لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين, حتى تشمل الفرحة بالعيد كل بيت، وتعمّ النعمة كلّ أسرة. 
 
 

1- بحار الأنوار، ج72، ص364.
2- م.ن، ج2، ص144.
3- م.ن، ج76، ص307.
4- الكافي، ج1، ص411.
5- م.ن، ج6، ص440.
 
 
 
140

119

العيد بين العبادة والسعادة

 وإلى هذا المعنى الاجتماعي يرمز تشريع صدقة الفطر الواجبة في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى, فإنّ في تقديم ذلك قبل العيد أو في أيامه إطلاقاً للأيدي الخيّرة في مجال الخير, فلا تشرق شمس العيد إلّا والبسمة تعلو كلّ شفاه، والبهجة تغمر كلّ قلب. 



وتذكّر أخي المسلم في صبيحة العيد، وأنت تقبل على والديك، وتأنس بزوجك، وإخوانك وأولادك، وأحبابك، وأقربائك، وأنت تأوي إلى ظلّك الظليل، ومنزلك الواسع، إخواناً لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء، ويتضورون في العراء. واستحضر أنّك حين تأسو جراحهم وتسعى لسد حاجتهم إنما تسدّ حاجتك، وتأسو جراحك قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾1، ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ﴾2، و﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾3. عن الإمام الصادق عليه السلام: "من نفّس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كرب الآخرة وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقاه شربة سقاه الله من الرحيق المختوم"4، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحُمّى"5
 
مستحبات يوم العيد وبعض سننه 
من الآداب الخاصة لعيد الفطر في الإسلام: 
1- التكبير والتهليل: أن تكبّر بعد صلاة الصّبح وبعد صلاة العيد، فالعيد شعيرة من شعائر الله تعالى، التي ينبغي أن تظهر وتبرز في المجتمع الإسلامي، ومنها استحباب التكبير والتهليل والتحميد صبيحة العيد، والاجتماع للصلاة وغيرها 
 
 

1- التوبة، 71.
2- البقرة، 272.
3- فصلت، 46.
4- الكافي، ج2، ص200.
5- بحار الأنوار، ج 58، ص 150.
 
 
 
141

120

العيد بين العبادة والسعادة

 فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "زيّنوا العيدين بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس"1.

 
2- زكاة الفطرة: إخراج زكاة الفطرة صاعاً عن كلّ نسمة من الواجبات، وتدفع قبل صلاة العيد على التّفصيل المبين في الكتب الفقهيّة.


3- الدعاء: أن تدعو بعد فريضة الصّبح بما رواه السّيد رحمه الله: من دعاء اَللّـهُمَّ إني تَوَجَّهْتُ إليك بِمُحَمَّد إمامي،الخ. 
 
4- الغسل: وقت الغسل من الفجر إلى حين أداء صلاة العيد.

5- الإفطار: الإفطار أول النّهار قبل صلاة العيد، والأفضل أن يفطر على التّمر أو على شيء من الحلوى قال الشّيخ المفيد: يستحبّ أن يبتلع شيئاً من تُربة الحسين عليه السلام فإنها شفاء من كلّ داء. 
 
6- صلاة العيد: أن لا تخرج لصلاة العيد إلا بعد طلوع الشّمس، وأن تدعو بما رواه السّيد في الإقبال من الدّعوات، منها ما رواه عن أبي حمزة الثّمالي، عن الباقر عليه السلام قال:ادع في العيدين والجمعة إذا تهيّأت للخروج بهذا الدّعاء: "اَللّـهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ في هذَا الْيَوْمِ اَوْ تَعَبَّأَ اَوْ اَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ لِوِفادَة إلى مَخْلُوق رَجاءَ رِفْدِهِ وَنَوافِلِهِ وَفَواضِلِهِ وَعَطاياهُ، فَاِنَّ إليك يا سَيِّدي تَهْيِئَتي وَتَعْبِئَتي".
 
7- زيارة الإمام الحسين عليه السلام: قال الإمام الصادق عليه السلام : "من زار قبرالحسين عليه السلامليلة من ثلاث ليالي غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر, ليلة الفطر، وليلة الأضحى، وليلة النّصف من شعبان"2
 
8- دعاء الندبة: (يراجع مفاتيح الجنان، أعمال شهر شوال).
 
 

1- كنز العمال، ج 8، ص 546.
2- التهذيب، ج 6، ص 49.
 
 
 
142

121

العيد بين العبادة والسعادة

 مفاهيم رئيسة

1- العيد في الإسلام هو يوم محدّد نصّت عليه الشريعة الإسلامية المقدّسة وحدّدت له أعمالاً وآداباً ومراسم خاصّة. وأعياد المسلمين أربعة وهي: عيد الفطر في الأوّل من شهر شوّال، ويوم النحر المسمّى بعيد الأضحى في اليوم العاشر من شهر ذي الحجّة، ويوم الجمعة من كلّ أسبوع، وعيد الغدير وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة.

2- العيد في ديننا الإسلامي شعيرة من شعائر الله تعالى، التي ينبغي أن تظهر وتبرز في المجتمع الإسلامي، مع ما يرافقها من تكبير وتهليل وتحميد صبيحة العيد، واجتماع للصلاة وغيرها من الأعمال. 

3- العيد في معناه الإنسانيّ يوم تلتقي فيه قدرة الغنيّ، وضعف الفقير على محبّة ورحمة وعدالة من وحي السماء، عنوانها الزكاة والإحسان والتوسعة على جميع الفقراء. فلا بدّ من السعي الجدّي للمشاركة في تحمّل المسؤولية تجاه الفقراء والمساكين.

4- للعيد أبعاد اجتماعية كثيرة منها: التلاقي والتزاور وغيرهما من المظاهر التي تحقّق حالة إنسانية تزيد من التواصل والترابط الحميم بين أفراد المجتمع.

5- من مستحبات يوم العيد وسننه: التكبير والتهليل، زكاة الفطرة، الدعاء، الغسل، الإفطار، صلاة العيد، زيارة الإمام الحسين عليه السلام، دعاء الندبة.
 
 
 
143

122

الفهرس

 

المقدمة

5

1- موعظة لقمان عليه السلام في السير نحو الجنـّة

9

تصدير الموضوع

11

خصائص موعظة لقمان الحكيم عليه السلام

11

الحكمة الأولى: أحكِم سَفينَتَكَ فَإِنَّ بَحرَكَ عَميقٌ

15

الحكمة الثانية: وخَفِّف حِملَكَ فَإِنَّ العَقَبَةَ كَؤود

16

الحكمة الثالثة: وأكثِرِ الزّادَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعيد

17

الحكمة الرابعة: وأخلِصِ العَمَلَ فَإِنَّ الناقِدَ بَصيرٌ

18

2- المعصية سبيل الخسران

21

تصدير الموضوع

23

خصال طالب الموعظة

23

لا تتخذوا المعاصي سبيلا لنيل الأهداف

26

أسباب اختيار الإنسان للوسائل المحرّمة

27

نماذج لاتّخاذ المعصية ذريعة لقضاء الحوائج

28

طاعة الله أسرع السبل

30

 

145


123

الفهرس

 

3- في رحاب سورة العصر

33

تصدير الموضوع

35

سورة العصر والمفاهيم الإيمانية

35

تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ﴾

36

تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾

36

تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

39

4- نصرة المظلوم في الشريعة الإسلامية

43

تصدير الموضوع 

45

قبح الظلم عند البشر

45

وجوب نصرة المظلوم في الإسلام

46

أهمية التناصر في حياة الأمة

47

خصوصية استجابة دعوة المظلوم

48

الراضي بفعل قوم كالداخل فيه

48

5- خدمة الناس وقضاء حوائجهم

51

تصدير الموضوع

53

المسؤولية تكليف عام

53

حقّ المسلم على المسلم

54

ارتباط الجزاء بالعمل

55

قيمة قضاء حوائج المؤمنين وخدمتهم

56

خدمة الناس أفضل من العبادة

58

ضرورة الإسراع في خدمة الناس

59

التمحور حول العمل الصالح

59

6- كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

63

تصدير الموضوع

65

 

 

146


124

الفهرس

 

عقيدتنا في المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف والمهدويّة

65

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

66

مفهوم الانتظار

70

كيف نربّي أنفسنا على الانتظار؟

70

7- المساجد بيوت الله في الأرض

73

تصدير الموضوع

75

المسجد بيت الله تعالى

76

الدور العلميّ والثقافيّ للمسجد

76

‏فوائد الذهاب إلى المسجد والجلوس فيه

77

شكوى المساجد

78

المسجد مربّي الأجيال المؤمنة

79

الدور الجهاديّ للمسجد

80

آداب المساجد

80

التوحيد والتقوى أساسان لقيام المساجد

82

8- شهر العبادة والتقوى

85

تصدير الموضوع

87

خصائص شهر رمضان وأسراره

88

العبادة وآثارها في شهر الله

91

9- قيم تربويـّة واجتماعيـّة في شهر رمضان الكريم

97

تصدير الموضوع

99

حسن الخلق

100

قيمة التصدّق

103

صلة الأرحام

105

تكريم الأيتام

108

 

 

147


125

الفهرس

 

10- ليلة التقدير الإلهي

111

تصدير الموضوع

113

الجانب الاعتقاديّ في ليلة القدر (التقدير الإلهيّ) 

114

الجانب العمليّ في ليلة القدر (إحياؤها)

114

تفسير سورة القدر

115

أيّة ليلة هي ليلة القدر؟

120

لماذا خفيت ليلة القدر؟

121

11- أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

123

تصدير الموضوع

125

علي عليه السلام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

125

التربية النبويّة لعليّ عليه السلام

127

مدرسة عليّ عليه السلام ونهجه امتداد لمدرسة النبوّة

128

عليّ مدرسة الشجاعة والبطولة

129

12- العيد بين العبادة والسعادة  

135

تصدير الموضوع

137

مفهوم العيد في الإسلام

137

الأبعاد الدينية للعيد

138

الدلالات الاجتماعية والإنسانية للعيد

139

مستحبات يوم العيد وبعض سننه

141

الفهرس

145

 

 

148


126
تذكرة المتقين