فمن رام وراء ذلك فقد
هلك"4.
ورد في شأن هذه السورة
وعظمتها، عن أبي عبد الله
عليه السلام: قال: "من
قرأ قل هو الله أحد بينه
وبين جبّار منعه الله منه
بقراءته بين يديه ومن
خلفه وعن يمينه وعن
شماله، فإذا فعل ذلك رزقه
الله خيره ومنعه
شرّه"5. وعن النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم قال:
"من قرأ قل هو الله
أحد مرّة بورك عليه، ومن
قرأها مرّتين بورك عليه
وعلى أهله، فإن قرأها
ثلاث مرّات بورك عليه
وعلى أهله وعلى جميع
جيرانه، فإن قرأها اثنتي
عشرة مرّة بنى له اثنا
عشر قصرًا في الجنّة
وتقول الحفظة: انطلقوا
بنا ننظر إلى قصر أخينا،
فإن قرأها مئة مرّة كُفّر
عنه ذنوب
خمس وعشرين سنة
ما خلا الدماء والأموال،
فإن قرأها أربعمأة مرّة
كُفّرت عنه ذنوب أربعمئة
سنة، فإن قرأها ألف مرّة
لم يمت حتى يرى مكانه من
الجنة أو يُرى له"6.
عن جعفر بن محمد عن أبيه
عليهما السلام قال:
"إنّ النبي صلى الله عليه
وآله وسلم صلّى على سعد
بن معاذ فقال: لقد وافى
من الملائكة تسعون ألف
ملك، وفيهم جبرائيل عليه
السلام فقلت له: يا
جبرائيل بما استحقّ
صلواتك عليه؟ فقال:
بقراءة قل هو الله أحد
قائمًا وقاعدًا وراكبًا
وماشيًا وذاهبًا وجائيًا"7.
جاء في سبب نزول هذه
السورة أنّ اليهود
والنصارى والمشركين سألوا
النبيّ أنْ ينسب لهم ربّه
ويصفه، فنزلت قل هو الله
أحد، فهذه السورة بمنزلة
التعريف بأوصاف الله
تعالى وهويته.
قل هو الله أحد:
التوحيد هو الأساس لأصل
جميع الأديان السماوية،
وإنّما بُعث الأنبياء
لإزالة الشرك والكفر
وعبادة الأصنام ومحو
آثارها، وإيقاظ الفطرة
البشرية، ودعوة الناس إلى
الواحد الأحد الصمد
وعبادته. فالتوحيد هو روح
جميع تعاليم الأنبياء،
ليس فقط في الاعتقادات،
بل في الأحكام والأخلاق
التي هي قائمة على محور
التوحيد أيضًا، فالتوحيد
هو الحدّ الفاصل بين
الإيمان والكفر، ولا يمكن
الدخول إلى قلعة الإيمان
من دون التوحيد: "قولوا
لا إله إلا
الله
تُفلحوا"، وكلمة "لا
إله إلا الله حصني فمن
دخل حصني أمِنَ مِنْ
عذابي"8.
وتشتمل هذه السورة على
عقيدة التوحيد بأرقى
صورة، ولأجل ذلك سُمّيت
بسورة التوحيد، توحيد
الذات وتوحيد الصفات
وتوحيد الأفعال. وهي
بالتالي ترفض الشرك مهما
كان شكله سواء كان على
شكل تثليث، أم على شكل
شرك اليهود واعتقادهم
بأنّ عزير ابن الله، أم
على شكل عقيدة أهل
الجاهليّة الذين كانوا
يظنّون أنّ الملائكة بنات
الله تعالى الله وتنزّه
عن كلّ شريك.
التوحيد يعني خلوص الفكر
والعمل من أيّ نوع من
أنواع الشرك، أو الشريك،
أو النظير لله تعالى، لا
شرك نظريّ ولا رياء عملي،
بل أن يكون الدافع والهدف
فقط وفقط الله تعالى،
والعمل نفسه أيضاً لله
فحسب.
﴿قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ الله واحد لا
ثاني له، ولا شبيه ولا
مثيل له، ليس له أجزاء
ولا أعضاء ولا تركيب في
ذاته المقدّسة، ولا يحدّه
حدٌّ ولا يقيّده قيد.
"قل هو الله أحد" تعني
أنّه معبود فرد من جميع
الجهات، وأحد في كل شيء،
والبشر عاجزون عن درك
ذاته، أمّا دليل
وحدانيّته فيقول أمير
المؤمنين عليه السلام
لابنه الحسن عليه السلام
وهو يوصيه:
"واعلم يا
بنيّ أنّه لو كان لربّك
شريك لأتتك رسله، ولرأيت
آثار ملكه وسلطانه،
ولعرفت أفعاله وصفاته،
ولكنّه إله واحد كما وصف
نفسه"9.
دليل وحدانيّته أنّ الناس
عندما يواجهون خطرًا ما
يتوجّهون إلى نقطة واحدة،
وتتعلّق قلوبهم بها، وهي
النقطة الوحيدة التي تمنح
الناس الأمل بالنجاة في
مواقع الخطر، فالقلوب
تتوجّه إليه تلقائياً في
أوقات المحن.
دليل وحدانيّته ذلك
الترابط العجيب في الكون،
ذلك التناسق بين الأرض
والسماء، فعندما ننظر إلى
الكون الذي يُحيط بنا،
نُلاحظ في البداية
موجودات متفرِّقة...
الأرض والسماء والشمس
والقمر والنجوم وأنواع
النباتات والحيوانات.
وكلّما أنعمنا النظر،
ألفينا مزيدًا من الترابط
والانسجام بين أجزاء هذا
العالم وذرّاته، وظهر لنا
أنّه مجموعة واحدة تتحكّم
فيها جميعًا قوانين
واحدة.
إذا أعطينا عددًا من
الرسّامين شكلاً ما أو
صورة ليرسموها، فقلنا
للأوّل مثلاً ارسم رأس
ديك، وقلنا للثاني ارسم
جسمه، وللثالث ارسم ذيله
ورجليه، عندما نجمع صورهم
نرى الاختلاف في التناسب
والتناغم بين الصور،
فيبدو لنا ديكًا غريب
المظهر، فلا تناسب بين
الرأس والبدن والرجلين في
الحجم والشكل واللون.
انظر إلى عجيب خلق الله،
انظر إلى التناسب
والتناسق في الخلق،
فالإنسان عندما يتنفّس
يأخذ الأوكسيجين ويُعطي
الكربون، بينما النباتات
عكس ذلك، تأخذ الكربون
وتُعطي الأوكسيجين، ليبقى
الإنسان والموجودات
الأخرى أحياء، وهذا
التناغم هو رمز حياة
الإنسان والنبات معًا.
هذا الانسجام ظاهر في
جميع أبعاد الحياة
والكون، فضعف الطفل وقلّة
حيلته يُجبَر بمحبّة
الوالدِّين وعطفهما،
ومشقّة النهار تُرفع
بالراحة والنوم في الليل.
انظر إلى ماء العين
(الدمع)، فهو مالح كي
يغسل العين ويجلوها، وماء
الفم عذب لكي يمضغ الطعام
في الفم فيهضم، انظر إلى
الطفل عندما يولد! من
علّمه كيف يرضع ثدي أمّه؟
من وضع اللبن في صدر أمّه
من قبل الولادة؟! فهيّأ
له سبل الحياة، انظر إلى
بعض الطيور في السماء، من
جعل طعامها بين أسنان
الحوت في قعر البحر؟ هو
الله الواحد الذي قدّر
لكلّ إنسان وحيوان وموجود
ما هو المطلوب والمناسب.
يُنقَل أنّ أعرابيًّا قام
يوم الجمل إلى أمير
المؤمنين عليه السلام
فقال: يا أمير المؤمنين
أتقول أنّ الله واحد؟
قال: فحمل الناس عليه
وقالوا: يا أعرابيّ أما
ترى ما فيه أمير المؤمنين
من تقسُّم القلب؟ فقال
أمير المؤمنين عليه
السلام: "دعوه فإنّ الذي
يريده الأعرابي هو الذي
نريده من القوم"، ثم قال:
"يا أعرابي، إنّ القول في
أنّ الله واحد على أربعة
أقسام، فوجهان منها لا
يجوزان على
الله عزّ
وجلّ، ووجهان يثبتان فيه،
فأمّا اللذان لا يجوزان
عليه، فقول القائل واحد
يقصد به باب الأعداد،
فهذا ما لا يجوز لأنّ ما
لا ثاني له لا يدخل في
باب الأعداد، ألا ترى
أنّه كفر من قال: ثالث
ثلاثة، وقول القائل هو
واحد من الناس يريد به
النوع من الجنس فهذا ما
لا يجوز عليه لأنّه تشبيه
وجلّ ربُّنا عن ذلك
وتعالى، وأمّا الوجهان
اللذان يثبتان فيه، فقول
القائل هو واحد ليس له في
الأشياء شبيه كذلك
ربُّنا، وقول القائل إنّه
ربّنا عزّ وجلّ أحديّ
المعنى يعني به أنّه لا
ينقسم في وجود ولا عقل
ولا وهم كذلك ربّنا عزّ
وجلّ"10.
نعم، إنّ جهاد أتباع الحق
ونضالهم في طول التاريخ،
إنّما كان لأجل بقاء راية
التوحيد عالية خفّاقة.
الله الصمد:
الصمد هو الذي لا يعتريه
أيّ خلل ولا يطرأ عليه
التغيير، ولكلمة صمد في
اللغة أكثر من معنى فأحد
المعاني هو الذي لا جوف
له، وقيل الشيء المصمد هو
الصلب الذي ليس فيه
رخاوة، وقيل في تفسير
كلمة صمد أيضًا: هو الذي
يُصمد إليه بالحوائج أي
يُقصد وتُطلب منه
الحاجات. ومن لوازم بعض
تفسيرات كلمة صمد أنّه
تعالى شأنه ليس بمادّة
ولا ماديّ، وليس بجسم
فيُرى بالعين، وهو الذي
تجري إرادته على الأشياء
وفيها.
هو "الصمد" أي هو العزيز
الذي لا يعتريه خلل من
أيّ جهة، وكلّ عزّةٍ
وقدرة ترجع إليه، كلّ شيء
محتاج إليه ولا يحتاج إلى
شيء.
هو "الصمد" أي هو الوجود
الكامل، بل هو أتمّ
الكمال، وجميع الموجودات
تحتاج إلى لطف نظره لكي
تصل إلى الكمال، فهو
الأبديّ الأزليّ
السرمديّ، لم يزل ولا
يزال، كلّ الوجود يحتاجه
ولا يحتاج في وجوده إلى
شيء، هو الآمر وأمره فوق
كلّ أمر، وإرادته حاكمة
على الإرادات، لا تأخذه
غفلة ولا نوم، لا يحتاج
في أعماله إلى شريك.
هو "الصمد"، وبعبارة
مختصرة هو "الغني
ومقصد الحاجات". قال
الإمام عليّ عليه السلام
تأويل الصمد: "لا اسم
ولا جسم، ولا مثل ولا
شبه، ولا صورة ولا تمثال،
ولا حدّ ولا حدود، ولا
موضع ولا مكان، ولا كيف
ولا أين، ولا هنا ولا
ثمة، ولا ملأ ولا خلأ،
ولا قيام ولا قعود، ولا
سكون ولا حركة، ولا
ظلمانيّ ولا نورانيّ، ولا
روحانيّ ولا نفسانيّ، ولا
يخلو منه موضع، ولا على
لون، ولا على خطر قلب،
ولا على شم رائحة، منفيّ
عنه هذه الأشياء"11.
لم يلد ولم يولد:
الله تعالى خالق
الموجودات وليس مولدها،
فهو ليس من أب ولا له
ابن، وهو منزّه عن عوارض
المادّة، فالشيء يولّد
شيئًا مثله،
فالأمّ تلد
طفلًا من جنسها، أي تولد
بشراً مثلها، وهو منزّه
عن ذلك، فلا شبيه له ولا
نظير "ليس كمثله شيء"، بل
يوجد المخلوقات من العدم
إلى الوجود.
هذه الآية جاءت ردًّا على
عقيدة من يؤمن بالتثليث،
وبأنّ عيسى عليه السلام
ابن الله، وعلى اليهود
الذين يؤمنون أنّ عزيرًا
ابن الله، وعلى مشركي
العرب الذين كانوا
يعتقدون أنّ الملائكة
بنات الله تعالى عمّا
يصفون، جاءت لتقول لهم
جميعاً: إنّ الله تعالى
ليس له ولد (لا ذكر ولا
أنثى)، ولم يولد فيكون له
والد مقدّم عليه وأقدم
منه، بل هو كما وصفه
الإمام الحسين عليه
السلام في الرسالة التي
كتبها إلى أهل البصرة قال
في تفسير: "لم يلد ولم
يولد" لم يلد لم يخرج
منه شيء كثيف كالولد
وسائر الأشياء الكثيفة
التي تخرج من المخلوقين،
ولا شيء لطيف كالنفس، ولا
يتشعّب منه البداوات
(الحالات المختلفة)
كالسِّنَة والنوم،
والخطرة والهم، والحزن
والبهجة، والضحك والبكاء،
والخوف والرجاء، والرغبة
والسأمة، والجوع والشبع،
تعالى أن يخرج منه شيء،
وأن يتولّد منه شيء كثيف
أو لطيف، ولم يولد لم
يتولّد من شيء، ولم يخرج
من شيء كما تخرج الأشياء
الكثيفة من عناصرها
كالشيء من الشيء والدابة
من الدابة، والنبات من
الأرض، والماء من
الينابيع، والثمار من
الأشجار، ولا كما تخرج
الأشياء اللطيفة من
مراكزها، كالبصر من
العين، والسمع من الأذن،
والشم من الأنف، والذوق
من الفم،
والكلام من
اللسان، والمعرفة
والتمييز من القلب،
وكالنار من الحجر..."12.
لذلك، فإنّ علاقة الله
تعالى بالأشياء
والمخلوقات ليست علاقة
الأبوّة والبنوّة، بل
علاقة الخلق والإيجاد من
العدم.
ولم يكن له كفواً أحد:
ليس له شبيه ولا مثيل،
فهو تبارك وتعالى لا شبيه
له في ذاته، ولا نظير له
في صفاته، ولا مثيل له في
أفعاله، واحدٌ أحدٌ، فردٌ
صمدٌ ليس له كفؤٌ، ليس له
ولدٌ ولا زوجٌ! هو الله
الذي لا شريك له، فكيف
للإنسان أن يتجرّأ ويجعل
له من المخلوقين شريكًا،
وهذا ظلم كبير في حقّ
الله تعالى:
﴿إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ﴾13.
أيّها المصلّي! إنّ النعم
التي تصلك من قِبَل الربّ
سبحانه وحده، لا دخيل
فيها ولا شريك لغيره، فلا
تجعل لأعمالك هدفًا لأحد
سواه، فكلّ البشر فقراء
ضعفاء ومحتاجون مثلك،
فكيف تعمل من أجل جلب
اهتمامهم وكسب ودّهم
ورضاهم، اعمل لله وفي
سبيل كسب رضاه، فهو وحده
المقتدر الذي ليس كمثله
شيء، ولا يعتريه ضعف ولا
نقص، هو الغني عن كلّ
شيء.
في ختام الحديث عن هذه
السورة المباركة نشير
باختصار إلى أهمّ
مضامينها السامية
والعظيمة:
﴿قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾:
هو واحدٌ بالذات والصفات،
لذا فهو في العبودية واحد
أحد أيضاّ.
﴿