مجالس الأئمة المعصومين


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-05

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله على ما جرى في أوليائه والصلاة والسلام على سيّد رسله وأنبيائه، والصفوة من عترته وأهل بيته، الذين هم من لحمه ودمه، يفرحه ما يفرحهم، ويحزنه ما يحزنهم.
 
يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾1، ويقول عزّ من قائل أيضاً: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾2.
 
لقد أوصى الله تعالى في كتابه العزيز بأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله، وذكر فضلهم في آياتٍ كثيرة، وحثَّ على مودّتهم والإحسان إليهم، وأوجب على الناس حقّهم وطاعتهم.
 
ولم يأل النبيّ صلى الله عليه وآله جهداً في الوصيّة بهم، ودعوة الناس إلى الرجوع إليهم والأخذ عنهم والتمسّك بهم، فقال صلى الله عليه وآله في الحديث المتواتر الذي رواه المسلمون جميعاً:
 
"إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: 
 
 


1-  الأحزاب/ 33.
2- الشورى/ 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 كتاب الله عزَّ وجلَّ وعترتي، كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني فيهما"1.

 
وكان صلى الله عليه وآله يذكر مصائبهم، وما يجري عليهم من بعده، ويبكي لذلك، ويبكي معه أصحابه ويقول: "اللهم إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي من بعدي"2.
 
وقد وقع ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله في أهل بيته، فقُتل من قُتل، وسُبي من سُبي، وأُقصي من أُقصي، وجرى القضاء لهم بما يُرجى له حُسن المثوبة.
 
وكان الأئمّة عليهم السلام من بعده يحثّون محبّيهم على إقامة مجالس لهم، وإحياء أمرهم، فعن الرضا عليه السلام: "من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكِّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب"3.
 
 
 

1- الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة ص 235.
2- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 28 ص 40.
3- الصدوق: الأمالي ص 131.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 هذا الكتاب:


وإذا كان من علامات الموالي لهم أن يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فلا بدّ أن يحيي أيّام شهادتهم وذكرى وفيّاتهم، بإقامة مجالس العزاء التي تعارف إقامتها في أمثال هذه المناسبات.

ولهذه الغاية فقد قام معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ بإعداد هذا الكتاب: 

"مجالس الأئمّة المعصومين عليهم السلام" 

ليكون عوناً ومساعداً للأخوة القرّاء في إحياء هذه المناسبات الأليمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

المقدمة

 وقد راعينا في هذا الإصدار الأمور التالية:


- اقتصرنا على ذكر مجلس واحد لكلّ إمام من الأئمّة عليهم السلام.

- لم نقم بذكر محاضرة أو كلمة ضمن المجلس، بل اكتفينا ببعض الروايات لأجل الربط والتخلّص للمصيبة فقط.

- أدرجنا بعض الأبيات الدارجة والمفهومة إلى حدٍّ ما.

وفي الختام نسأله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، ويرزقنا شفاعة محمّد وآل بيته الطيّبين الطاهرين، إنّه سميع مجيب.
 
 
معهد سيّد الشهداء عليه السلام
 للمنبر الحسينيّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

4

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 خَطْبٌ أَلَمَّ بِرُكنِ الدِّينِ فانْها را           أورى الغداة بقلب المصطفى نارا

 
فَأَيُّ حادِثَةٍ في الدِّينِ قَدْ وَقَعَت             فَأَلْبَسَتْهُ مِنَ الأَشْجانِ أَطْمارا
 
كَرَّتْ وَقَدْ شَمَّرَتْ عَنْ ساقِها فَرَمَتْ      فَجَدَّلَتْ بَطَلاً في الحَرْبِ كَرَّارا
 
هَذِي المَحارِيبُ أَيْنَ القائِمُونَ بِها          واللَّيْلُ مُرْخٍ مِنَ الظَّلْماءِ أَسْتارا
 
هَذِي مَنازِلُهُمْ بَعْدَ الأَنِيسِ فَلا             تَرَى بِها غَيْرَ وَحْشِ القَفْرِ زُوَّارا
 
أَضْحَى المُؤَمَّلَ لِلْجَدْوَى يُجِيلُ بِها          طَرْفاً ولَيْسَ يَرَى في الدَّارِ دَيَّارا
 
هَذا عَلِيٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ لُقىً                 مُضَرَّجاً بِدَمٍ مِنْ رَأْسِهِ فارا
 
قَدْ حَجَّبَ الخَسْفُ بَدْراً مِنْهُ مَكْتَمِلاً         وغَيَّضَ الحَتْفُ بَحْراً مِنْه تَيَّارا
 
وافَتْ إِلَيْهِ بَنُوهُ الغُرُّ مُسْفِرَةً                  عَنْ أَوْجُهٍ تَمْلَأُ الظَّلْماءَ أَنْوارا
 
أَبْكِيكَ في الجَدْبِ مِطْعاماً سَواغِبَها           وفي لَظَى الحَرْبِ مِقْداماً ومِغْوارا
 
فَلا أَرَى بَعْدَ حامِي الجارِ مِنْ أَحَدٍ            يُجِيرُنا مِنْ صَرُوفِ الدَّهْرِ لَوْ جارا
 
فَلا بَدا بَعْدَهُ بَدْرٌ ولَا طَلَعَت                   شَمْسٌ ولَا فَلَكٌ في أُفْقِها دارا1
 
 
 
 
 

1-القصيدة للشّيخ كاظم السّبتيّ رحمه الله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

5

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 شعبي:

يبويه فرقتك تصعب عليه        أو ما خلّه امصابك حيل بيه  
اشوفنّك تعالج بالمنية             أو تدير العين يا حيدر علينه

 عن الأصبغ بن نباتة، قال: أتى ابن ملجم أمير المؤمنين عليه السلام فيمن بايع، ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين عليه السلام فتوثّق منه، وتوكّد عليه ألّا يغدر ولا ينكث، 
ففعل ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين الثّانية، فتوثّق منه وتوكّد عليه ألّا يغدر ولا ينكث، ففعل ثمّ أدبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين الثّالثة، فتوثّق منه وتوكّد عليه ألّا يغدر 
ولا ينكث، فقال ابن ملجم: والله يا أمير المؤمنين، ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري. فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

أُرِيدُ حَياتَهُ ويُرِيدُ قَتْلِي         عَذِيرُكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُراد

امض يا بن ملجم، فوالله ما أرى أن تفي بما قلت.

وعن ابن المغيرة، قال: لمّا دخل شهر رمضان كان أمير المؤمنين عليه السلام يتعشّى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن جعفر، وكان لا يزيد على 
ثلاث لقم، فقيل له ليلة من تلك اللّيالي في ذلك، فقال: يأتيني أمر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

6

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 الله، وأنا خميص؟! إنمّا هي ليلة أو ليلتان1.

 
وعن أمّ كلثوم، قالت: لمّا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قدّمت إلى أبي عند إفطاره طبقاً، فيه قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن وملح جريش، فلمّا فرغ من صلاته، أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله، حرّك رأسه وبكى بكاء عالياً...
 
إلى أن قالت: فقلت له: وما ذاك يا أبتاه؟ قال: بنيّة، أتقدّمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً، بين يدي الله تعالى يوم القيامة؟
 
وروي: أنّه تقدّم إلى الطّبق، وأخذ منه قرصاً واحداً، وتناول شربة من الماء، فشربها وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قام إلى الصّلاة، فصلّى حتّى ذهب أكثر اللّيل، ثمّ جلس للتّعقيب، ثمّ نامت عيناه، وهو جالس، ثمّ انتبه... من نومه، فجمع أولاده وأهله، وقال لهم: إنّي رأيت السّاعة حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول: يا أبا الحسن، أنت قادم إلينا عن قريب، فما عندنا خير وأبقى، فلمّا سمعوا كلامه، ضجّوا بالبكاء والنّحيب، ثمّ أمرهم بالسّكوت، ثمّ أقبل عليهم يوصيهم، ويأمرهم بفعل الخير، وينهاهم عن السّوء.. 
 
 
 

1-كما في البحار ج42/224.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

7

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 المصيبة:


قال: ولم يزل تلك اللّيلة قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة، وينظر في السّماء، ويقلّب طرفه إلى الكواكب، ثمّ يعود إلى صلاته، ويقول: اللّهم بارك لي في الموت؛ ويكثر من قول لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم، ويستغفر الله كثيراً، ثمّ نعس ونام ساعة، ثمّ استيقظ وأسبغ الوضوء، ونزل إلى الدّار، وفي الدّار وزٌّ أهدي إلى الحسن عليه السلام، فلمّا نزل، خرجن وراءَه يرفرفن، وصرخن في وجهه، فقال: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله، صوائح تتبعها نوائح، ثمّ قال: يا بنيّة،لم لا تطلقين من ليس له لسان؟ دعيهن يأكلن من حشائش الأرض، فوصل إلى الباب فرآه مغلقاً، فعالج في فتحه فانحلّ مئزره،.. 

فجعل يشدّه بيده، ويقول:

أُشْدُدْ حَيازِيمَـكَ لِلْـمَوْتِ     فـَإِنَّ المـَوْتَ لاقـِيكا   
       
ولا تَجـْزَعْ مِـنَ الـمَوْت    إِذَا حـَلَّ بنـادِيـا

ثمّ قال: اللّهم بارك لي في الموت.

قالت أمّ كلثوم: كنت أمشي خلفه، فلمّا سمعته يقول ذلك، قلت: واغوثاه بك يا أبتاه، أراك تنعى نفسك منذ اللّيلة. قال: يا بنيّة، إنّ للموت دلالات وعلامات يتبع بعضها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

8

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 بعضاً، ثمّ فتح الباب وخرج، قالت أمّ كلثوم: وجئت إلى أخي الحسن، وقلت له: قد كان من أمر أبيك اللّيلة كذا وكذا، وقد خرج في هذه اللّيلة. فلحقه الحسن عليه السلام قبل أن يدخل المسجد، وقال: يا أبه، من ذا الّذي أخرجك في هذه السّاعة إلى المسجد؟ قال: يا بنيَّ، لأجل رؤيا أهالتني.


وذُكِر أنّ الحسن عليه السلام أراد الذّهاب معه فلم يرض، ودخل أمير المؤمنين عليه السلام المسجد، وصلّى في المسجد باقي ليلته..

ثمّ إنَّه عليه السلام علا المِئْذَنة، وأذّن: الله أكبر، الله أكبر، كأنّما يقول للنّاس: الوداع الوداع.. هذا آخر أذانٍ لأمير المؤمنين)، فلمّا نزل عن المِئْذَنة جعل يسبّح الله تعالى ويقدّسه، ثمّ نادى: الصّلاة الصّلاة، ثمّ تقدّم إلى المحراب، حتّى صلّى، وركع وسجد السّجدة الأولى، ورفع رأسه، فضربه اللّعين ابن ملجم، وتعمّد بالضّربة رأسه، فوقعت فيه، فشقّته إلى موضع السّجود، فوقع أمير المؤمنين عليه السلام في محرابه يخور بدمه على وجهه، ولزم رأسه..

ونادى: فُزت وربِّ الكعبة! 

وقال: بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله، أخبرني بذلك حبيبي رسول الله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

9

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 أمّا النّاس، فأحاطوا بالمسجد، ودخلوا على أمير المؤمنين، وهو يشدّ رأسه بمئزره، والدّم يجري على رأسه ولحيته، وهو يقول: هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله..


قال الرّاوي: فاصطكّت أبواب المسجد بالنّاس، وضجّت الملائكة بالبكاء، وهبّت ريح سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل في السّماء، بصوت يسمعه كلّ قائم ومستيقظ، وهو يقول: تهدّمت والله أركان الهدى، وانطمست أعلام التّقى، قتل ابن عمّ المصطفى، قتله أشقى الأشقياء). قال: فسمعت أمّ كلثوم نعي جبرئيل، فلطمت خدّها، وشقّت جيبها، وصاحت: وا أبتاه، وا عليّاه، وا محمّداه..

من سمعت الصّيحة العجيبة        ظلّت عليه زينب مريبه
والقلب ما يخمد لهيبه             والدّمع ما يبطل سكيبه 
ما تشوف لي ضجّه وجليبه       ولن جايبينه اشلون جيبه 
صاحت يبويه اشهالمصيبه        مطـبور والهامه خضيبه 

ثمّ انتبه كلّ من كان في الدّار، وخرج الحسن والحسين عليهما السلام، وهما يبكيان، ويقولان: واجدّاه، فسمعا النّاس ينادون وا إماماه، وا أمير المؤمنيناه، فدخلا إلى المسجد، فوجدا أباهما مطروحاً في المحراب، والدّماء قد صبغت 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

10

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 ثيابه وشيبته، وقد شدّ رأسه بمئزره، ووجهه قد علتـه الصّفرة، فأخذ الحسن برأس أبيه، ووضعه في حجره، وهو مغمىً عليه، فبكى الحسن بكاءً شديداً، ودموعه تتناثر على وجه أبيه، فأفاق أمير المؤمنين عليه السلام فنظر إليه، وقال: يا ولدي، أتبكي عليّ، وأنت تقتل مسموماً، ويقتل هكذا أخوك الحسين بالسّيف ظلماً وعدواناً؟ ثمّ قال: يا أبتاه من قتلك؟ قال: قتلني اللّعين ابن ملجم. إلى أن قال: قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ قال أبي: احملوني إلى مصلّاي. فحملناه إليه، والنّاس من حوله قد أشرفوا على الهلاك، ما بين نادب ونادبة، وباك وباكية، قال: وأقبلت زينب وأمّ كلثوم، وجعلتا تندبان وتقولان: يا أبتاه، من للصّغير حتّى يكبر؟ يا أبتاه حزننا عليك لا يفنى، وعبرتنا عليك لا ترقأ، قال: فضجّ النّاس بالبكاء من وراء الحجرة، ففاضت 

دموع أمير المؤمنين عند ذلك 1، وجعل ينظر بعينه إلى أهل بيته.
 
 
 

1- دموع زينب أبكت أمير المؤمنين عليه السلام بينما أجاب الحسن برباطة جأش. أقول: عزّ عليك سيّدي دموع زينب، لمّا رأتك مشقوق الرّأس، إذاً ليتك تراها يوم عاشوراء، عندما وقفت على أخيها الحسين عليه السلام تودّعه، وهو جثّة بلا رأس: تگله خويه: 
أنا الصّار بيّه ومـا جرى ابناس                ترى شاهدتك جسد بالخيل تنداس 
يخويه وتالي الوقت ودعتك بلا راس            الجـسد والرّاس صارن لي ابمكانين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

11

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 ألف وسفه على حامي الجار ينصاب       ودم الرّاس بالمحراب ينصاب

المأتـم إله بيوم العيـد ينصاب          الإنس والجان نصبت له عزيّه
 
قال: محمّد بن الحنفيّة: بتنا ليلة العشرين من شهر رمضان عند أبي، وقد نزل السّمّ في بدنه، وكان يصلّي تلك اللّيلة من جلوس، فلم يزل يوصينا بوصاياه، ويعزّينا بنفسه، فلمّا أصبحنا، استأذن النّاس عليه، فأذن لهم -إذناً عامّاً- فدخلوا عليه، وجعلوا يسلّمون عليه وهو يردّ عليه السلام، وهو يقول: اسألوني قبل أن تفقدوني، وخفّفوا سؤالكم، قال: فبكى النّاس عند ذلك، وأشفقوا أن يسألوه1.
 
قال: وجمع أبي أهل بيته وأولاده، ونحن ننظر إليه، وإلى بدنه، ورجليه وقد احمرّتا، فكبر ذلك علينا، ثمّ عرضنا عليه الأكل، فأبى أن يأكل، وجبينه يرشح عرقاً، وهو يمسح جبينه، فقلت: يا أبتاه، أراك تمسح جبينك؟! فقال: يا بنيّ، إنّ المؤمن إذا نزل به الموت، عرق جبينه، وسكن أنينه، ثمّ جمع عياله، وهو يقول: أستودعكم الله، الله خليفتي عليكم. ثمّ أوصى الحسن والحسين، فقال: يا أبا محمّد، ويا أبا عبد الله، كأنّي
 
 


1-البحار: 42/290.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

12

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 بكما وقد خرجت عليكم الفتن، كقطع اللّيل المظلم من ها هنا وها هنا، فاصبرا حتّى يحكم الله، وهو خير الحاكمين، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، أنت شهيد هذه الأمّة، فعليك بتقوى الله، والصّبر على البليّة. ودار عينه في أهل بيته كلّهم، فقال: أستودعكم الله، الله خليفتي عليكم، وكفى بالله خليفة، ثمّ قال: ﴿لمثل هذا فليعمل العاملون﴾﴿إنّ الله مع الّذين اتّقوا، والّذين هم محسنون﴾ ، ثمّ استقبل القبلة، وغمّض عينيه، ومدّ يديه ورجليه، وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ قضى نحبه..

 
أي وا إماماه وا عليّاه.
 
فعند ذلك خرجت زينب وأمّ كلثوم وجميع نسائه، وشققن الجيوب، ولطمن الخدود، فأقبل النّاس يهرعون أفواجاً، وصرخوا صرخة عظيمة، وارتّجت الأرض، وارتفع البكاء والنّحيب، وكان كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكثرت الأصوات من الآفاق... وسمعنا هاتفاً يقول:
 
بِنَفْسِي وَأَهْلِي ثُمَّ مَالِي وَأُسْرَتِي            فِدَاءٌ لِمَنْ أَضْحَى قَتِيلَ ابْنِ مُلْجَمِ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

13

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 شعبي:

 
بعيد البلى لفراقك ينوحون              ومـحـزنين اولادك يصـيحون
يبويه العيد هالگرب علينه             يبويه بالحزن لا تخـلّينه
يبويه وبعد ما هـوّد مكانـه            ينور العيون وامصابك لفانه
يبويه والقلب زادت احزانـه          عليك ادموعنه تجري سويّه
 
قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ أخذنا في تجهيزه ليلاً، وكان الحسن يغسّله، والحسين يصبّ الماء، وكان لا يحتاج إلى من يقلّبه، والحسن يقول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وا أبتاه، وا انقطاع ظهراه، فلمّا انتهينا إلى قبره، وكشفنا التّراب، وإذا نحن بقبر محفور، ولحد مشقوق، وساحة منقورة مكتوب عليها: هذا ما ادّخره نوح النبيّ للعبد الطّاهر المطهّر. فلمّا أرادوا نزوله سمعوا هاتفاً، يقول: أنزلوه إلى التّربة الطّاهرة، فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، وأُلحد أمير المؤمنين عليه السلام قبل طلوع الفجر1.
أسفي على زينب، لمّا رجعت إلى الدّار، تنظر إلى محراب أبيها، وهو خالٍ منه فتستوحش لفراقه:
  
 
 
 

1-البحار: 42/294

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

14

مجلس شهادة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

 بويه، يومين اله المحراب خالي                      يبويه شكثر وحشه اللّيالي 

                         تفت الصّخر ونسة الوالي 
بِنَفْسِي وَمالِي ثُمَّ أَهْلِي وَأُسْـرَتِـي              فِدَاءٌ لِمَنْ أَضْحَى قَتِيلَ ابْنِ مُلْجَمِ
عَلِيٌّ أَمِيرُ المُؤْمِنِـينَ وَمَنْ بكَـتْ               لِمَقْتـَلِهِ البَطْحَا وَأَكْنافُ زَمْزَمِ
وظَـلَّ لَهُ أُفْقُ السَّماءِ كَأَنَّـهُ                   شـَقِـيقَةُ ثَوْبٍ لَوْنُها لَوْنُ عَنْدَمِ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

15

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 َ أللهُ أَكْبَرُ أَيُّ يَوْمِ شُجُون                 فِيهِ اسْتُبِيحَ حَرِيمُ هَذا الدِّينِ

 
يَوْمٌ بِهِ غَصَبُوا الزَّكِيَّ خِلاَفَةً             ثَبَتَتْ لَهُ في عَالَمِ التَّكْوِينِ
 
غَدَرَتْ بِهِ عُصَبُ النِّفاقِ وبايَعَت        رِجْساً عَلَى الإِيمانِ غَيْرَ أَمِينِ
 
والَهْفَتاهُ عَلَى ابْنِ بِنْتِ مُحَمَّد           مَاذا يُقاسِي مِنْ قَدِيمِ ضُغُونِ؟
 
هَجَمُوا عَلَيْهِ فَاسْتُبِيحَ حَرِيمُهُ             وَهْوَ المَنِيعُ حِمىً وَلَيْثُ عَرِينِ
 
طَعَنوُهُ لا طَعَنَتْ قَنا بَأْسٍ لَهُمْ           في خَنْجَرٍ فَانْهارَ خَيْرَ طَعِينِ
 
مَا زالَ مُضْطَهَداً يُقَاسِي مِنْهُمُ           مِحَناً تُطَبِّقُ سَهْلَها بِحُزُونِ
  
حَتَّى قَضَى صَبْراً بِسُمِّ جُعَيْدَة            في أَمْرِ مُلْتَحِفِ الضَّلالِ أَفِينِ
 
مُتَنَخِّعاً قِطَعاً لَهُ في الطَّشْتِ مِنْ         كَبِدٍ لَها قَدْ ذابَ قَلْبُ الدَّينِ
 
لَهْفِي لِنَعْشِكَ والعُداةُ تَنُوشُهُ           بِسِهامِ حِقْدٍ بارِزٍ وكَمِينِ
 
نَعْشٌ عَلَيْهِ اللهُ صَلَّى والمَلَا              الأَعْلَى يُكَبِّرُهُ بِصَوْتِ حَزِينِ
 
أَأُخَيَّ أَمَّا الحُزْنُ بَعْدُ فَسَرْمَدٌ            وَالوَجْدُ منِّي ما حَيِيتُ قَرِينِي
 
قُمْ وانْعِ لِلزَّهْراءِ مُهْجَةَ قَلْبِها            الْحَسَنَ الزَّكِيَّ بِزَفْرَةٍ وَحَنِينِ
 
واكْتُمْ حَدِيثَ الطَّشْتِ عَنَها إنَّما       أَخْشَى انْخِلاعَ فُؤادِها المَحْزُونِ1
 
 
 
 

1- القصيدة للسيد ناصر الأحسائي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

16

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 شعبي:


نوحي على الأولاد يا زهره الحزيـنه        في كربلا واحـد وواحد في المـدينه 
واحد من اجعيده قـضى وواحد من يزيد   قـبر الحـسن عنـدك وقبر حسين وينه
واتفر گوا عنك وصار الشّـمل تبديد      واحـد دفن عـندك وواحد عنك ابعيد 

وكأنّي بها تجيبه:
دهري رماني بالـرّزايـا بكـل غـالي       شتـّت اولادي عـن يمـيـني وعـن شمالي
ما شوف ساعة فارغ من الحـزن بالـي      واعظم عليه لو نعى النّاعي على احسين
حزني على اولادي ذبايـح يوم عاشـور     ولـنصب عـليهم مأتـمي في وسط العبور
ونسيت ضلعي اللِّي بستر الباب مكسور      كل الـبكا والنّوح والحسرة على الحسين 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

17

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 في البحار: عن الأماليّ، بإسناده عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، إذ التفت إلينا فبكى، فقلت: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي ممّا يصنع بكم بعدي، فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: أبكي من ضربتك على القرن -إلى أن قال:- وطعنة الحسن في الفخذ، والسّمّ الّذي يسقى، وقتل الحسين، قال: فبكى أهل البيت جميعاً...1

 
وبإسناده عن ابن عبّاس، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً ذات يوم، إذ أقبل الحسن، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: إليّ إليّ يا بنيّ، فما زال يدنيه، حتّى أجلسه على فخذه اليمنى، وساق الحديث، إلى أن قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: وأمّا الحسن فإنّه ابني وولدي، ومنّي، وقرّة عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمره أمري، وقوله قولي، فمن تبعه فإنّه منّي، ومن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا نظرت إليه ذكرت ما يجري عليه من الذلّ بعدي، فلا يزال الأمر به، حتّى يقتل بالسّمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسّبع الشّداد لموته، ويبكيه كلّ شيء حتّى الطّير في جوّ السّماء، والحيتان في 
 
 
 
 

1-  البحار: 44/149.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

18

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 جوف الماء، فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه، لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب، ومن زاره في بقيعه، ثبتت قدماه على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام1.

 
وبالفعل، فقد جرى على إمامنا الحسن عليه السلام، الكثير من الابتلاءات والمحن والمصائب، فقد روي أنّه: لمّا سار الحسن عليه السلام إلى دفع معاوية، خطب أصحابه وامتحنهم بكلمات، فنظر النّاس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنّه والله، يريد أن يصالح معاوية، ويسلّم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرّجل، ثمّ شدّوا على فسطاطه، وانتهبوه حتّى أخذوا مصلّاه من تحته، ثمّ شدّ عليه عبد الرّحمن بن عبد الله بن جعال الأزديّ، فنزع مطرفه من على عاتقه، فبقى جالساً متقلّداً السّيف بغير رداء، ثمّ دعا بفرسه وركبه، وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته، ومنعوا عنه من أراده، فقال: ادعوا لي ربيعة وهمدان. فدُعُوا، فأحاطوا به ودفعوا النَّاس عنه عليه السلام، وسار ومعه شوب من غيرهم، فلمّا مرّ في مظلم ساباط، بَدَر إليه رجل من بني أسد، يقال له الجرّاح بن سنان...وطعنه في فخذه فشقّه، حتّى بلغ العظم، ثمّ اعتنقه الحسن
 
 
 

1-البحار: 44/148
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

19

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 عليه السلام وخرّا جميعاً إلى الأرض، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن، يقال له عبد الله بن خطل الطّائيّ، فانتزع المعول من يده، وخضخض1 به جوفه، فأكبّ عليه آخر، يقال له ظبيان بن عمارة، فقطع أنفه، فهلك من ذلك، وأخذ آخر كان معه فقتله، وحمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن، يعالج جرحه.

 
المصيبة:
 
وخرج الحسن عليه السلام إلى المدينة، ولم يزل معاوية يعمل الحيلة في قتله، حتّى دسّ السّمّ إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن، وقال لها: اسقيه، فإذا مات زوّجتك ابني يزيد، فلمّا سقته السّمّ جاءت الملعونة إلى معاوية، فقالت: زوّجني يزيد. فقال: اذهبي فإنّ امرأة لا تصلح للحسن بن عليّ، لا تصلح لابني يزيد2.
 
وعن ابن بابويه، بإسناده عن جنادة بن أبي أميّة، قال: دخلت على الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مرضه الّذي توفّي فيه، فالتفت إليّ، فقال: والله، إنّه لعهدٌ عهده
 
 
 
 

1-الخضخضة: التّحريك والفتك.
2-البحار: 44/155

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

20

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 إليّ رسول الله1 صلى الله عليه وآله وسلم، إنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليّ عليه السلام وفاطمة، ما منّا إلّا مسموم أو مقتول، ثمّ رُفعت الطّشت واتّكىء، قال: ثمّ انقطع نفسه، واصفرّ لونه، حتّى خشيت عليه، ودخل الحسين عليه السلام والأسود بن أبي الأسود، فانكبّ عليه حتّى قبّل رأسه وبين عينيه، فقال له الحسين عليه السلام: ما لي أرى لونك مائلاً إلى الخضرة؟ فبكى الحسن عليه السلام، وقال: يا أخي لقد صحّ حديث جدّي فيَّ وفيك: "أمّا خضرة قصر الحسن، فإنّه يموت بالسّمّ، ويخضرّ لونه عند موته، وأمّا حمرة قصر الحسين، فإنّه يقتل ويحمرّ وجهه بالدّم". فعند ذلك بكيا، وضجّ الحاضرون بالبكاء والنّحيب.2

 
وبينما هو يكلّمه، إذ تنخّع الدّم، فدعا بطشت، فحمل من بين يديه مملوّاً ممّا خرج من جوفه من الدّم، فقال عليه السلام: أجل دسَّ إليّ هذا الطّاغية من سقاني سمّاً، فقد وقع على كبدي3
 فهو يخرج قطعاً كما ترى. قيل له: أفلا تتداوى؟
 
 
 

1-في المصدر: والله لقد عهد إلينا رسول الله.
2-البحار: 44/145.
3-المراد بالكبد أحشاؤه، فإنّ الكبد لا يخرج من الفم، وهو من المجاز، واستخدامه كثير، كما يقال للولد: فلذة الكبد، ويقال: أخرجت الأرض أفلاذ أكبادها، أي ما في جوفها، ونحو ذلك ممّا هو كثير في اللّغة، فلاحظ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

 


21

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 قال قد سقاني مرّتين، وهذه الثّالثة لا أجد لها دواء.


يگله يا عضـيـدي يـا بـو محـمـّد     كـبدك من نجيع السَّم تمرّد

يا خوي اليوم طاغي الشـّام عيّـد         وعلى گلبى يا خوي تراكم الهم

وهكذا أخذ السّمّ في بدن الحسن عليه السلام مأخذاً كبيراً، وكان رأسه في حجر الحسين عليه السلام، وهو يقذف بين الحين والآخر أحشاءه في الطّشت قطعة قطعة. بينما هما كذلك، وإذا بالحنين والأنين خلف الباب، وإذا بالعقيلة زينب، وباقي الهاشميّات، جئن لعيادة الحسن عليه السلام، فالتفت إمامنا الحسن إلى أخيه الحسين، وقال: "أخي، أبا عبد الله، نحِّ هذا الطّشت عنّي، لئلّا تراه أختنا زينب".

ياحسـين شيل الطّـشت عنّـي        خواتك يبو السجاد إجـَنّي

يردَن يشبعن شـوف                 مـنّي ويردن يـخـويه يودّعني

                        وينوحن عليّ ويندبنيّ

ففتح عليه السلام الباب، بعدما أخفى الطّشت، فدخلت زينب عليها السلام صارخة: "وا أخاه، واحسناه".

كبد الحسن متقـطـعة بـسـمّ المنيّه      أَصـبح يعالـج وأصـبحت زينب شجيّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

22

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 شيل الطّشت خـاف الوديعة تـشوف كبدي             أخـاف تحن ومـن بكـاها يزيد وجدي

هذه وديـعـة والدي حيدر وجـدّي                  ما اقدر أشوف دموعها تجري عالوطيّة
صاحت يالحسن نارك أبـد ما تنطفـي نـارك           وتعوف اختك يا بعد اختك متحيّرة بزوارك
شگلها من تجي الوفّاد ومن توقف على دارك        من يطلع يحييها وعلى المعتاد ينطيها
ترضى اطلع واناديها راعي الدّار مو موجود


أنا لا أدري أيّ الطّشتين أعظم على قلب زينب عليها السلام؟! هذا الطّشت الّذي رأت فيه أحشاء أخيها الحسن عليه السلام أم ذلك الطّشت الّذي رأت فيه رأس أخيها الحسين!

حوت زينب يبو السّجّاد طشتين                طشت كبد بو محمّد قرّة العين
                     وطشت راسك يا نور العين يا حسين

لا شكّ أنّ الطّشت الثّاني أشدّ أثراً، لأنّها عندما رأت الطّشت الأوّل، كان أهل بيتها إلى جانبها، بينما عندما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

23

مجلس شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 رأت الطّشت الثّاني، لم يكن معها من حماتها حميّ، ولا من ولاتها وليّ، بل كان الأطفال حولها، اليتامى، الأرامل، والأفجع من هذا، أنّ يزيد لعنه الله)، كان بيده عود خيزران، يضرب به شفتي أبي عبد الله الحسين! لمّا رأت عليها السلام هذا المنظر، صاحت: "وا أخاه وا حسيناه، يا بن مكّة ومنى، ويا بن زمزم والصّفا! أخي، أهكذا يصنع برأسك بعد القتل، يا حبيب رسول الله؟!"، فبكى الحاضرون لندبتها.

 
بُكَائِي طَوِيلٌ والدُّمُوعُ غَزِيرَةٌ         وَأَنْـتَ بـَعِيدٌ والمَزَارُ قَرِيـبُ
غَرِيبٌ وَأَطْرافُ البُيُوتِ تَحُوطُهُ        أَلَا كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرابِ غَرِيبُ
فَلَيْسَ حَرِيباً مَنْ أُصِيبَ بِمالِهِ          ولكنَّ مَنْ وارَى أَخَاهُ حَرِيبُ 1 
 
 
 

1 -المناقب لابن شهر آشوب: 4/45، والحريب: من سلب ماله.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

24

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

ما هَاجَنِي ذِكْرُ ذَاتِ البَانِ وِالعَلَمِ       وَلَا السَلامُ عَلَى سَلْمَى بِذِي سَلَمِ

 
لَكِنْ تَذَكَّرْتُ مَوْلَايَ الحُسينَ وَقَدْ      أَضْحَى بِكَرب ِالبِلا في كَرْبَلاء ظَمِي ْ
 
وَرَاحَ ثمَّ جَـوَادُ السِـبْطِ يَنْدُبُهُ       عَالِيْ الصَهِيلِ خليَاً طَالِبَ الخِيَمِ 
 
فَمُذْ رَأَتْهُ النِسَاءُ الطَاهِرَاتُ بَدَا         يُكَـادِمُ الأَرضَ في خَدٍّ لَـهُ وَفَمِ
 
فَبَـرَزْنَ نَادِبَـةً حَسْرَى وثَاكِلَةً      عَبْرَى وَمَعْلُولَةً بالمدَمْعِ السَجِمِ 
 
فَجِئْنَ والسِبْطُ مُلْقَىً بِالنِّصَالِ أَبَتْ    مِنْ كَفِّ مُسْتَلِمٍ أَوْ ثَغْرِ مُلْتَثِمِ
 
والشِّمْرُ يَنْحَرُ مِنْهُ النَّحْرَ مِنْ حَنَقٍ     والأرضُ تَرْجُفُ خَوْفاً مِنْ فِعَالِهِمِ
 
فَتَـسْتُرَ الوَجْـهَ في كِمٍّ عَقِيلَتُهُ     وَتَنْحَـنِي فَوْقَ قَلْبِ والـهٍ كَلِمِ 
 
تَدْعُو أَخَاها الغريبَ المُسْتَظَامَ أَخِي   يَا لَيْتَ طَرفُ المنايَا عَنْ عُلاك َعَمِي
 
أَخِي لَقْدَ كُنتَ غَوثاً للأرَامِلَ        يا غَوْثَ اليَتَامَى وبَحْرَ الجُودِ والكَرَمِ
 
وَتَستَغِيثُ رَسولَ اللهِ صَارِخَةً:       يَا جَدُّ أينَ الوَصَايَا في ذَوي الرَحِمِ؟
 
يَا جَدُّ لَوْ نَظَرَتْ عَيَنَاكَ مِن حَزَنٍ    لِلعِتـْرَة الغُرِّ بَعْـدَ الصونِ والحَشَمِ
 
مُشَرَّدِينَ عَنِ الأَوْطَانِ قَدْ قُهرُوا     ثَكْلَى أُسَارَى حَيَارَى ضُرِّجُوا بِدَمِ
 
يُسْرَى بِهنَّ سَبَايَا بَعْـد عِـزِّهِمُ   فَوْقَ المَطَايَا كَسَـبْيِ الرُوْمِ والخَدَمِ1
 
 


1-القصيدة للشيخ صالح البرسي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

25

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 نعي:


بقت زينب تصيح ابـقلب مفطـور          اشلون امـشي او يظل احسين معفور

خذوها للركب والقلب خفـاق               تعاين جـثتـه والـدمـع دفـاق

يخويه اوداعة الـله هـذا الفـراق             بعد هيهات اشوفن عقبك اسرور

مشينه امودع الله والظعن سـار               او خلّينـه عزيز الـروح بالدار

او كل شبانه نومه والأنصار                    اويمّ العلگمي عباس معـفور

حده حادي الظعن وينك يعبـاس              يمن دوم نخوتك تـرفع الـراس

چي ترضه خواتـك ترفق ارجـاس           وانته اللي اليوم الضيق مذخور

ناداها يبت راعي الحمـيـه                   اعـذريني تـره غـصبن عليه

اشبيدي يا عزيـزه اعله المنـيـه              عتبتي او من يلومـك من تعتبين



 
أبوذيّه:

ينـاعـي لـو شفـت شيعه وسـاده    اخـبرهم بالجره اعلينه وساده
احسين الرّمـل صاير له وسـاده         ثلث تيّام مرمـي اعلى الوطيّه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

26

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 عن هرثمة بن أبي مُسلم، قال: غزونا مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام، صفّين، فلمّا انصرفنا نزل كربلاء، فصلّى بها الغداة، ثمّ رفع إليه من تربتها، فشمّها، ثمّ قال: واهاً لك أيّتها التّربة، ليحشرنَّ منك أقوام، يدخلون الجنّة بغير حساب.


فرجع هرثمة إلى زوجته، وكانت شيعة لعليّ عليه السلام، فقال: ألا أُحدّثك عن وليّك أبي الحسن عليه السلام؟! نزل كربلاء فصلّى، ثمّ رفع إليه من تربتها، فقال: واهاً لكِ أيّتها التّربة ليحشرنَّ منك أقوام، يدخلون الجنّة بغير حساب؟ فقالت: أيّها الرَّجل، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل إلّا حقّاً.

فلمّا قدم الحسين عليه السلام قال هرثمة: كنت في البعث، الّذين بعثهم إليه عبيد الله بن زياد لعنه الله، فلمّا رأيت المنزل والشجر، ذكرت الحديث، فجلست على بعيري، ثمّ صرت إلى الحسين عليه السلام، فسلّمت عليه، وأخبرته بما سمعت من أبيه عليه السلام في ذلك المنزل، الَّذي نزل به الحسين عليه السلام، فقال: معنا أنت أم علينا؟ 

فقلت: لا معك ولا عليك، خلّفتُ صِبْيَةً، أخافُ عليهم عبيد الله بن زياد، قال عليه السلام: فامض حيث لا ترى لنا مقتلاً، ولا تسمع لنا صوتاً، فوالّذي نفس 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

27

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 حسين بيده، لا يسمع اليوم واعيتنا أحد، فلا يعيننا إلّا كبّه الله لوجهه في نار جهنّم1.

 
قال في كامل الزّيارات: روي عن الباقر عليه السلام، قال: مرّ عليّ عليه السلام بكربلاء في اثنين من أصحابه، فلمّا مرَّ بها، ترقرقت عيناه للبكاء، ثمّ قال: هذا- والله- مناخ ركابهم، هذا ملقى رحالهم، وها هنا تهراق دماؤهم، طوبى لك من تربة، عليكِ تهراق دماء الأحبّة.
 
عن ابن عبّاس، قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام عند خروجه إلى صفّين، فلمّا نزل نينوى، وهو بشطِّ الفرات، قال بأعلى صوته: يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، قال عليّ عليه السلام: لو عرفته كمعرفتي، لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي.
 
قال: فبكى عليه السلام طويلاً حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدّموع على صدره، وبكينا معه، وهو يقول: أوه أوه، مالي ولآل أبي سفيان، مالي ولآل حرب، حزب الشّيطان وأولياء الكفر؟! صبراً، يا أبا عبد الله، فقد لقي أبوك مثل الّذي تلقى منهم.
 
 
 

1- أماليّ الصدوق 117، بحار الأنوار 44: 255 ـ 256، تاريخ ابن عساكر 13: 77. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

28

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 المصيبة:


أقول: يا أمير المؤمنين، ليتك تنظر إلى ولدك الحسين، كيف اجتمع عليه الأعداء من كلّ جانب؟

حيث وقف الحسين عليه السلام ليستريح من القتال، رماه أبو الحتوف بحجر وقع في جبهته، سالت الدّماء على وجهه، رفع الثّوب ليمسح الدّم عن وجهه، بان صدره الشّريف، فرماه حرملة بسهم محدّد مسموم، وقع على- ناحية - قلبه، كلّما أراد أن يستخرجه من صدره لم يتمكّن، انحنى على قربوس سرج فرسه، قال: بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله، ثمّ استخرج السّهم من قفاه، فانبعث الدّم كالميزاب من صدر الحسين، وضع كفّيه تحت الجرح، حتّى إذا امتلأتا دماً، خضّب به عمامته ورأسه ووجهه، وقال: هكذا ألقى الله وجدّي رسول الله، وأنا مخضّب بدمي.

ويلي..

شال احسين ثوبه يمسح الدّم          ولن سهـم المحدّد نـاجـع ابسـم
بگلـبـه وگـع لا وخّر وجـدّم          هوى واظـلم هواهـا والسـّما احمر

انهارتْ قواه من ذلك السّهم، مال من على ظهر فرسه، فهوى إلى الأرض، صنع له وسادة من التّراب، وضع خدّه عليها، وأقبل الفرس يحوم حوله، فكأنّه يريد منه أن يقوم، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

29

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 فلمّا آيس الفرس من قيام الحسين، لطّخ وجهه وناصيته بدم أبي عبد الله، وأقبل نحو المخيّم يصهل صهيلاً عالياً، فلمّا سمعت زينب صهيل الفرس، التفتت إلى سُكينة، قالتْ: عمّه، هذا أبوك الحسين قد أقبل، قومي لاستقباله، قامت سُكينةُ إلى باب الخيمة، وإذا بالجواد خالٍ من الحسين، لطمت سُكينة وجهها، وصاحت: عمّه، لقد قُتِل والله أبي الحسين.


آه..

وّأّقْبَلَ يَنـْحُو المُحْصَـناتِ حِصـَانُهُ      يَحِنُّ ومِنْ عُظْمِ المُصِيبَةِ يُعْوِلُ
فَأَقْبَلْنَ رَبَّاتُ الحِجـالِ ولِلْأَسـَى         تَفاصِيلُ لا يُحْصِي لَهُنَّ مُفَصِّلُ
فَواحِدَةٌ تَحْنُو عَلَيْـهِ تَضمـهُ          وأُخـْرَى عَلَيْهِ بِالـرِّداءِ تُظَـلِّلُ

يقول إمامُنا الصّادق عليه السلام: ازدلف إلى جدِّي الحسين عليه السلام ثلاثون ألفاً، كلٌ يتقرّب إلى الله بدم الحسين، ولذا لمّا طلب منهم الحسين جرعة من الماء، قالوا له: يا حسين، لن تذوق الماء حتّى ترد الحـامية، فتشرب من حميمـها، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

30

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 فلمّا آيس الفرس من قيام الحسين، لطّخ وجهه وناصيته بدم أبي عبد الله، وأقبل نحو المخيّم يصهل صهيلاً عالياً، فلمّا سمعت زينب صهيل الفرس، التفتت إلى سُكينة، قالتْ: عمّه، هذا أبوك الحسين قد أقبل، قومي لاستقباله، قامت سُكينةُ إلى باب الخيمة، وإذا بالجواد خالٍ من الحسين، لطمت سُكينة وجهها، وصاحت: عمّه، لقد قُتِل والله أبي الحسين.


آه..

وّأّقْبَلَ يَنـْحُو المُحْصَـناتِ حِصـَانُهُ      يَحِنُّ ومِنْ عُظْمِ المُصِيبَةِ يُعْوِلُ
فَأَقْبَلْنَ رَبَّاتُ الحِجـالِ ولِلْأَسـَى         تَفاصِيلُ لا يُحْصِي لَهُنَّ مُفَصِّلُ
فَواحِدَةٌ تَحْنُو عَلَيْـهِ تَضمـهُ          وأُخـْرَى عَلَيْهِ بِالـرِّداءِ تُظَـلِّلُ

يقول إمامُنا الصّادق عليه السلام: ازدلف إلى جدِّي الحسين عليه السلام ثلاثون ألفاً، كلٌ يتقرّب إلى الله بدم الحسين، ولذا لمّا طلب منهم الحسين جرعة من الماء، قالوا له: يا حسين، لن تذوق الماء حتّى ترد الحـامية، فتشرب من حميمـها، 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

31

مجلس سيّد الشّهداء الإمام الحسين عليه السلام

 هذا وقد ماجت النّساء في المخيم، حيث لم يعدن يسمعن للحسين عليه السلام صوتاً، ولا يرين له شخصاً، قال الرّاوي: فأقبلت زينب عليها السلام إلى خيمة العليل زين العابدين... عمّه، لا أرى لأبيك شخصاً، ولا أسمع له صوتاً، فقال: عمّه زينب، إلى صدرك سنّديني، عمّه، اكشفي لي طرف الخيمة، فلمّا سنّدته، وقام عليه السلام نظر إلى الآفاق، وقد تغيّرت وأظلمت، صاح: عمّه استعدّي للسّبا... قالت: لم يا بن أخي؟ قال: عمّه ذاك رأس والدي على رأس الرّمح!!


نادت زينب: واحسيناه، وا أخاه..

رَأَتِ الـرُّمـْحَ زَيـَنـْبٌ حِـينَ مَـالا        وَعلَيْهِ رَأْسُ الحُسَيْنِ تَلالَا
خَاطَبَتْهُ مُذْ بانَ يَزْهُو هِـلاَلا                      يا هِلالاً لمَّا اسْتَتَمَّ كَمالا
                             غَالَهُ خَسْفُهُ فَأَبْدَى غُرُوبا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

32

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 أَلَا يـا أَمـِينَ اللهِ وابـنَ أَمـينِهِ                 عَلَى خَلْقِهِ العافِي بِهِ والمُعاقِبُ

 
رِضَاكَ رِضَى البارِي وسُخْطُكَ سُخْطُهُ             وفي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ وُدُّكَ واجِبُ
 
فَـيا لَيتَ لَا كَانَ الطَّـرِيدُ وِلَمْ تـَكُـنْ         تَنُوبُكَ مِنْ آلِ الطَّرِيدِ النَّوائِبُ
 
ودَسَّ إِلَيْكَ السُّمَّ غَدْراً بِـمَشْرَبٍ                وَلِيدٌ فلا ساغَتْ لَدَيْهِ المشَارِبُ
 
فَيا لَإِمـامٍ مُحكَـمُ الذِّكْرِ بَعدَهُ                 تَداعَتْ لَهُ أَرْكانُهُ والجَوانِبُ
 
وَيا لَفقيدٍ قَدْ أَقـامَتْ مآتمـاً                   عَلَيْهِ المعَالِي فَهْيَ ثَكْلَى نَوادِبُ
 
فَلا عَجَبٌ بَيْتُ النّـُبُـوَّةِ إِنْ دَجا              ومِنْ أُفْقِهِ بَدْرُ الإِمامَةِ غارِبُ
 
وَلِلَّهِ أَفـْلاكُ البـَقِيـعِ فَكَمْ بهـَا             كَواكِبُ مِنْ آلِ النَّبِيِّ غَوارِبُ
 
حَوَتْ مِنْهُمُ ما لَيْسَ تَحْوِيـهِ بُقعَةٌ            ونَالَتْ بِهِمْ ما لَمْ تَنَلْهُ الكَواكِبُ
 
فبُـورِكْتِ أَرْضاً كُلَّ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ               تَطُوفُ مِنً الأَمْلاكِ فِيها كَتَائبُ1
 
 
 

1- القصيدة للسيّد صالح القزوينيّ. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

33

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 شعبي:

 
تصيح بصوت سكنة بقلب مفطور        أيا مصايب أهل البيت البدور         
 
اشكثر لوعات ضقنا بشـهر عاشور      تجدّد نوحنا بخامس وعشرين         
 
في البحار: عن الصّادق عليه السلام، قال: البكّاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وعليّ بن الحسين، إلى أن قال عليه السلام، وأمّا عليّ بن الحسين، فبكى على الحسين عليها السلام عشرين سنة، أو أربعين سنة1، وما وضع بين يديه طعام إلّا بكى، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله: إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنمّا أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني لذلك العبرة2.
 
وفي اللّهوف: روي عن الصّادق عليه السلام، أنّه قال: إنَّ زين العابدين بكى على أبيه أربعين سنة، صائماً نهاره، قائماً ليله، فإذا حضر الإفطار، جاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول عليه السلام: قتل 
 
 
 
 

1-الظّاهر أنّ التّرديد من الرّاوي.
2-البحار: 43/155.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

34

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى، يبتلّ طعامه من دموعه، ثمّ يمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك، حتّى لحق بالله عزَّ وجلَّ1.

 
وفي البحار: وقيل: إِنَّه بكى حتّى خيف على عينيه، وكان إذا أخذ إناء يشرب ماء، بكى، حتّى يَمْلَأَهُ دمعاً، فقيل له في ذلك: فقال: وكيف لا أبكي، وقد منع أبي من الماء الّذي كان مطلقاً للسّباع والوحوش؟ وقيل له: إنّك لتبكي دهرك، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا. فقال: نفسي قتلتها، وعليها أبكي2.
 
ولم يزل على هذا المنهاج، حتّى سمّه الوليد بن عبد الملك3.
 
وفي البحار، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لمّا حضرت الوفاة أبي، ضمّني إلى صدره، وقال: يا بنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وممّا ذكر، أنّ أباه أوصاه به، أنّه قال: يا بنيّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله.
 
 
 

1-اللّهوف لابن طاووس، ص87.
2-البحار: 46/108.
3- كما عن الصّدوق، وابن طاووس البحار: 46/13 ـ وإقبال الأعمال لابن طاووس، ص97.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

35

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 المصيبة:

 
وعن أبي الحسن عليه السلام، قال: لمّا حضرت عليّ بن الحسين الوفاة، أغمي عليه ثلاث مرّات، فقال في المرّة الأخيرة: 
 
﴿الحَمْدُ للهُ الّذي صَدَقّنَا وَعْدَهُ، وأَوْرثَنَا الأرْضَ، نَتَبَوَّأ مِنَ الجَنّة حيثُ نَشَاء، فَنِعْم أجْرُ العَاملينَ﴾. 
 
ولمّا سرى السّمّ في بدنه الشّريف، وتيقّن حلول أمر الله تعالى به، وانقطاع أجله، أقبل على ولده، وخليفة الله من بعده، أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام، وقال له: يا بنيّ، إنّ الوقت الّذي وعدته قد قرب، فأوصيك يا بنيّ في نفسك خيراً، واصبر على الحقّ، وإن كان مرّاً، فإنّه لتحدّثني نفسي بسرعة الموت، لقوله تعالى:
 
﴿أَوَلَمْ يرَوْا أنّا نأتِي الأرض نَنقصها من أطرَافِهَا، والله يَحْكُمُ لا مُعَقِّب لِحكمِهِ، وهو سريعُ الحساب﴾ وكان عليه السلام يقرأ القرآن، وهو في حالة الاحتضار، ثمّ أشرق من وجهه الشّريف نور ساطع، يكاد يخطف الأبصار، ثمّ نادى: يا أبا جعفر، عجّل، ففاضت نفسه الشّريفة، فلطم الباقر رأسه،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

36

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 ورفع صوته بالبكاء، وضجّ أهله وعياله، وضجّت المدينة بالبكاء والعويل، وكان كيوم مات فيه رسول الله.

 
فأخذ ولده الباقر في تجهيزه، وأعانته على غسله أمّ ولد له، وبينما إمامنا زين العابدين على ساجة المغتسل، والإمام أبو جعفر يغسّله، إذ تنحّى أبو جعفر جانباً، وأخذ في البكاء، قيل له: لماذا تبكي؟ قال: رأيت آثار الجامعة والقيود على عنقه وجسده1.
 
گام أو غسله الباقر بيده            اوشاف الجامعه امأثره ابجيده
 
اوشاف الساگ بيه اشعمل گيده    گعد يبكي اوعلى حاله ايتهظم
 
 
وبعد الغسل والتّكفين، أخرجت جنازة الإمام للصّلاة عليها، فصلّى عليها الإمام الباقر عليه السلام، وصلّى النّاس: البرّ والفاجر، الصَّالح والطَّالح، وانهال النّاس يتبعون الجنازة، حتّى لم يبق أحد إلّا وشارك في تشييعه، ودفن في البقيع مع عمّه الحسن عليه السلام.
 
 
 

1- كتاب وفاة الإمام السّجّاد، للمرحوم سليمان البلاديّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

37

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 شالـه لـلبـقيع أو حـفـر گـبـره               يم عمه الحسن وأمه الزّهره

ظل اعليه يجري الدّمع عبره                              لمن سمّه هشام أو مات بالسّم
عليه صاحت الوادم فرد صيحه                          او گام أو غسّله أو حطّه ابضريحه
بس جثة السّبط ظلّت طريحـه                          أو بالخـيل الصـّدر مـنه تهشم

لقد فارقت روحه بدنه الشّريف، ولكن الغصّة على أبيه الحسين، مرارتها لم تفارق حلقه، لقد قضى صلوات الله عليه، وذكرى كربلاء ماثلة أمام عينيه. يروي السّيّد ابن طاووس، عن أحد غلمانه عليه السلام: أنّه برز يوماً إلى الصّحراء، يقول: فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت، وأنا أسمع شهيقه وبكاءَه، وأحصيت عليه ألف مرّة، يقول: لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً، لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلّا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً)، ثمّ رفع رأسه من سجوده، وقد غمر وجهه ولحيته بدموع عينيه، فقلت: يا سيّدي، أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقلّ؟ فقال لي: ويحك، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، كان نبيّاً وابن نبيّ، له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء، وابنه حيّ في دار الدّنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

38

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 بيتي، صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني، ويقلّ بكائي؟


نعم، كيف ينقضي حزنه؟ ولا زال صوت أبيه الحسين يرنّ بمسمعه، وهو ينادي يوم عاشوراء: هل من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ فارتفعت أصوات النّساء بالعويل، وسمع زين العابدين استغاثته، وكان مريضاً لا يقدر أن يسلّ سيفه.
ولهذا أرجعته زينب عليها السلام إلى فراشه، وكانت عليها السلام تفديه بنفسها، حتّى عندما أحرقوا الخيام هامت النّساء بأجمعها، ما عدا زينب العقيلة، بقيت واقفة على باب الخيمة. يقول حميد بن مسلم: رأيت امرأة واقفة على باب خيمةٍ، والنّار تستعر بأطناب الخيمة، قلت في نفسي: هذه المرأة مدهوشة لا ترى النّار! فدنوت منها، وقلت: أمة الله، النّارَ النّارَ، ما وقوفك ها هنا؟ فالتفتت إليّ، وقالت: إنّي أرى النّار، ولكن لنا عليل في هذه الخيمة- تعني الإمام زين العابدين عليه السلام- دخلوا على ذلك العليل، سحبوه من فراشه، وألقوه على الأرض..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

39

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 جَرُّوهُ وَانْتَهَبُوا النَّطْعَ المُعَدَّ لَهُ          وَأَوْطَأُوا جِسْمَهُ السَّعْدانَ والحَسَكَا

 
أرادوا قتله فرمت عمّته زينب بنفسها عليه، وهي تقول: إن أردتم قتله فاقتلوني معه.
 
ويلي..
 
داروا بيه هذا ايگول اذبـحوه      وهذا ايگول رحموا اهله وخلّوه
 
وهذا ايگول بالراحوا دلحگـوه    اولا تبـگون من عـدهم امـخـبّر
 
وتتالت المصائب والأحزان على قلب الإمام عليه السلام، ولمّا رجع - بأبي هو وأمّي - بعد واقعة الطّفّ إلى المدينة، كان كلمّا نظر إلى دور آل عقيل خنقته العبرة، لأنّهم قتلوا بأجمعهم، ولم يبق منهم سوى عبد الله بن محمّد بن عقيل.
 
ولهذا أيضاً، كان الإمام زين العابدين، بعد واقعة الطفّ، يؤثر آل عقيل، ويبرّهم أكثر من غيرهم، قال الفاضل المجلسيّ: كان عليّ بن الحسين يميل إلى ولد عقيل، فقيل له: ما بالك تميل إلى ولد عمّك هؤلاء دون ولد جعفر؟ فقال عليه السلام: إنّي لأذكر يومهم مع أبي عبد الله الحسين بن عليّ عليه السلام، فأرقّ لهم1. يعني إذا التفتَ يميناً يرى
 
 
 
 

1- البحار، ج46، ص110، نقلاً عن كامل الزيارة، لابن قولويه، ص107. 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

40

مجلس شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

 حوله الأيامى من آل عقيل، قابعات قد أكل الأسى قلوبهن، هذه باكية، وتلك لاطمة؛ وإذا نظر شمالاً يرى زنوداً أضرّ بها الحديد، أطفالاً منكسرة بذلّ اليتم.


ومُثْقلٌ بِالقَيْدِ أَوْدَى بِهِ             فَقْدُ أَبِيهِ بَعْدَ أَصْحابِهِ
لِضُرِّهِ أَوْ فُرُطٍ أَوْصـَى بـِهِ       رَقَّ لَهُ الشـَّامِتُ مِمـَّا بِهِ
                  أَللهُ مَنْ رَقَّ لَهُ الشَّامِتُ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

41

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 يا زَعِـيـماً لِـكُـلِّ قاصٍ ودَانٍ      عـلِيـمـاً بِكُلِّ خـافٍ وبادِ

 
يا إِماماً آياتُهُ كـَرَزايـاهُ               جِسَامٌ لا تَنـْتَهِي بِعِدادِ
 
وفقِيـداً أَجْرَى العيُونَ وأَوْرَى          أَبـداً في القلُوبِ قَدْحَ زِنـَادِ
 
عجَباً لِلْبـِلادِ بعْدَكَ قَرَّتْ               وَبِـها انهـَدَّ شامِخُ الأَطْوادِ
 
عـَجـَباً لِلبِحارِ فاضتْ بـمَدٍ         بعْدَما غاضَ دائِمُ الإِمْـدادِ
 
عَجَباً لِلوَرَى وَقدْ غِبْتَ عـَنْها         لِلـْهُدَى تَهْتَدِي وَأَنْـتَ الهـادِي
 
عَجَباً لِلْوُجودِ بَعْدَكَ بـاقٍ            وَلَـهُ كُنْتَ عِـلَّةَ الإِيجـادِ
 
هَـلْ دَرَى هاشمٌ بِأَبْنَاهُ أَوْدَتْ        بِحَسا السّمِّ غيـلَـةً والحِـدادِ
 
أَمْ دَرَى أَحـْمَـدٌ تُذادُ ذَرارِيهِ       وتـُدْنـي منـْهُ ذَرارِي المَـذَادِ
 
بِأَبِي مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِرُسل              اللهِ غَطَّى الأَكْبادِ لا الأَبْرادِ
 
بِأَبِي مَنْ عَلَيْـهِ أَعوَلَتِ الأَمْلاكُ     حـُزْناً فَـوْقَ الطبـاقِ الشِّدادِ1
 
 
 

1- القصيدة للسَّيِّد صالح القزوينيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

42

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 شعبي:


رُكْن الدّيـن عالبـاقـر تـهـدَّم      لمـن سمّه هشام ومات بالسّم

تحمّل من صغر سنّه النّوايب              وشاف بكربلا بعينه المصايب

لـلـشّـام راح ويّ الغـرايب       ومن ذلّ اليُسر كَبده تِوَلّم

حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السّنين، وكان قد حجّ فيها الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، وابنه الإمام جعفر الصّادق عليه السلام، فقال جعفر عليه السلام، أمام حشد من النّاس، فيهم مسلمة بن عبد الملك: "الحمد لله الّذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه، وخيرته من عباده، فالسّعيد من تبعنا، والشّقيّ من عادانا وخالفنا...".

وبادر مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه هشام، فأخبره بمقالة الإمام الصّادق، فأسرّها هشام في نفسه، ولم يتعرّض للإمامين بسوء في الحجاز، إلّا أنّه لمّا قفل راجعاً إلى دمشق، وقد أمر هشام بن عبد الملك- وكان حاكماً ظالماً- عامله على يثرب، بإشخاص الإمام الباقر عليه السلام 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

43

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 وولده الصّادق عليه السلام إلى الشّام.

 
ولمّا انتهيا إلى دمشق، حجبهما ثلاثة أيّام... وفي اليوم الرّابع أذن لهما في مقابلته، وكان مجلسه مكتظّاً بالأمويّين وسائر حاشيته، وقد نصب ندماؤه برجاساً 1، وأشياخ بني أميّة يرمونه، يقول الإمام الصّادق عليه السلام: فلمّا دخلنا، كان أبي أمامي، وأنا خلفه، فنادى هشام: "يا محمّد، ارم مع أشياخ قومك...".
 
فقال أبي: "قد كبرت عن الرّمي، فإن رأيت أن تعفيني...". فصاح هشام: "وحقّ من أعزّنا بدينه، ونبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لا أعفيك..." وظنّ الطّاغية أنّ الإمام سوف يخفق في رمايته، فيتخذّ ذلك وسيلة للحطّ من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشّام، وأومأ إلى شيخ من بني أميّة أن يناول الإمام عليه السلام قوسه، فناوله، وتناول معه سهماً فوضعه عليه السلام في كبد القوس، ورمى به الغرض، فأصاب وسطه، ثمّ تناول سهماً، فرمى به فشقّ السّهم الأوّل إلى نصله، وتابع الإمام الرّمي حتّى شقّ تسعة أسهم، بعضها في جوف بعض...وجعل هشام يضطرب من الغيظ وورم أنفه، فلم يتمالك أن صاح: "يا أبا جعفر، أنت أرمى العرب والعجم!! 
 
 
 

1- غرض في الهواء على رأس رمح يرمى بالسِّهام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

44

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 وزعمت أنّك قد كبرت!!" ثمّ أدركته النّدامة على تقريظه للإمام، فأطرق برأسه إلى الأرض، والإمام واقف، ولمّا طال وقوفه غضب عليه السلام، وبان ذلك على سحنات وجهه الشّريف، وكان إذا غضب نظر إلى السّماء، ولمّا بصر هشام غضب الإمام، قام إليه واعتنقه، وأجلسه عن يمينه، وأقبل عليه بوجهه قائلاً:


"يا محمّد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش، ما دام فيها مثلك، لله درّك!! من علّمك هذا الرّمي؟ وفي كم تعلّمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟..".

فقال أبو جعفر عليه السلام: "إنّا نحن نتوارث الكمال".

وثار الطّاغية، واحمّر وجهه، وهو يتميّز من الغيظ، وأطرق برأسه إلى الأرض.

ولمّا ذاع فضل الإمام بين أهل الشام، أمر الطّاغية باعتقاله في السّجن، وقد احتفّ به السّجناء، وهم يتلقّون من علومه وآدابه، وخشي مدير السّجن من الفتنة، فبادر إلى هشام فأخبره بذلك، فأمره بإخراجه من السّجن، وإرجاعه إلى بلده. 

أمّا في المدينة، فقد ظهرت له عليه السلام كرامات عجيبة، منها: ما روى الشّيخ الطّوسيّ، عن محمّد بن سليمان، أنّه قال:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

45

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 كان رجل من أهل الشّام يختلف إلى أبي جعفر عليه السلام، وكان مركزه بالمدينة، فكان يختلف إلى مجلس أبي جعفر عليه السلام، يقول له: يا محمّد، ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياءً منك؟ ولا أقول: إنّ أحداً في الأرض أبغض إليّ منكم أهل البيت، وأعلم أنّ طاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم!! ولكن أراك رجلاً فصيحاً، لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك.


وكان أبو جعفر عليه السلام، يقول له خيراً، ويقول: "لن تخفى على الله خافية".

فلم يلبث الشّاميّ إلّا قليلاً، حتّى مرض واشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليّه، وقال له: إذا أنت مددت عليّ الثّوب، فَأْتِ محمّد بن عليّ عليها السلام، وسله أن يصلّي عليّ، وأعلمه أنّي أنا الّذي أمرتك بذلك.

قال: فلمّا أن كان في نصف اللّيل، ظنّوا أنّه قد برد، وسجّوه؛ فلمّا أن أصبح النّاس، خرج وليّه إلى المسجد، فلمّا أن صلّى محمّد بن عليّ عليه السلام وتورّك - وكان إذا صلّى عقّب في مجلسه- قال له: يا أبا جعفر، إنّ فلاناً الشّاميَّ قد هلك، وهو يسألك أن تصلّي عليه، فقال أبو جعفر: كلّا، إنّ بلاد الشّام بلاد برد، والحجاز بلاد حرّ، ولهبها شديد، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

46

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 فانطلق، فلا تعجل على صاحبك، حتّى آتيكم.


ثمّ قام عليه السلام من مجلسه، فأخذ وضوءاً، ثمّ عاد فصلّى ركعتين، ثمّ مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء الله، ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشّمس، ثمّ نهض عليه السلام، فانتهى إلى منزل الشّاميّ، فدخل عليه، فدعاه فأجابه، ثمّ أجلسه، ودعا له بسويق فسقاه، وقال لأهله: إملأوا جوفه، وبرّدوا صدره بالطّعام البارد، ثمّ انصرف.

فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى عوفي الشّاميّ، فأتى أبا جعفر عليه السلام، فقال: أخلني، فأخلاه، فقال: أشهد أنّك حجّة الله على خلقه، وبابه الّذي يؤتى منه، فمن أتى من غيرك خاب وخسر، وضلّ ضلالاً بعيداً.

قال له أبو جعفر عليه السلام: وما بدا لك؟ قال: أشهد أنّي عهدت بروحي، وعاينت بعيني، فلم يتفاجأني إلّا ومنادٍ ينادي، أسمعه بأذني ينادي: وما أنا بالنائم: ردّوا عليه روحه، فقد سألنا ذلك محمّد بن عليّ.

فقال له أبو جعفر: أما علمت أنّ الله يحبّ العبد ويبغض عمله، ويبغض العبد ويحبّ عمله؟

(أي: يحدث هذا أحياناً، فقد كنتَ مبغوضاً عند الله تعالى، أمّا محبّتك لنا فهي عند الله تعالى مطلوبة).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

47

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 قال الرّاوي: فصار الشّاميّ بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام.


ولم يطق هشام بن عبد الملك هذا الفضل وأمثاله من الإمام الباقر عليه السلام، فدسّ له السمّ.

عن الصّادق عليه السلام، أنّه قال: كنت عند أبي في اليوم، الّذي قبض فيه، فأوصاني بأشياء في غسله، وفي كفنه، وفي دخوله قبره، قال، قلت: يا أبتاه، والله، ما رأيت منذ اشتكيت، أحسن هيئة منك اليوم، وما رأيت عليك أثر الموت.فقال: يا بنيّ أما سمعت عليّ بن الحسين، ناداني من وراء الجدران: يا محمّد، تعال، عجّل.

المصيبة:

عن أبي عبد الله عليه السلام، أنّه أتى أبا جعفر عليه السلام، ليلة قبض، فقال: يا بنيّ، إنّ هذه اللّيلة الّتي أقبض فيها، وهي اللّيلة الّتي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وحدّثني أنّ أباه عليّ بن الحسين عليهما السلام أتاه بشراب، في اللّيلة الّتي قبض فيها، فقال: اشرب هذا، فقال: يا بنيّ، هذه اللّيلة الّتي وعدت أن أقبض فيها، فقبض فيها.

أوصى ولده الصّادق بعدّة وصايا:

أمّا نصّ وصيّته، فقد رواها الإمام أبو عبد الله الصّادق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

48

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 عليه السلام، قال عليه السلام: لمّا حضرت أبي الوفاة، قال: ادع لي شهوداً، فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: "هذا ما أوصى به يعقوب بنيه، } يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{، وأوصى محمّد بن عليّ إلى جعفر بن محمّد، وأمره أن يكفّنه في برده، الّذي كان يصلّي فيه الجمعة، وأن يعمّمه بعمامته، وأن يربّع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحلّ عنه أطماره عند دفنه.


وتفاعل السّمّ في بدن الإمام أبي جعفر عليه السلام، وأثّر به تأثيراً بالغاً، وأخذ يدنو إليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالى، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر الله، وبينما لسانه مشغول بذكر الله، إذ وافاه الأجل المحتوم، فارتفعت روحه العظيمة إلى خالقها.

ظل من عقب هظم الغاضريّة          معظم على الصّبر من جور أميّة
لمـن جـرّعـوه كاسـات المنيّة     وكبده ذاب وتقطّع من السّم

ومن جملة وصاياه صلوات الله عليه)، ما أوصاه لولده 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

49

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 الإمام الصّادق عليه السلام ساعة احتضاره: "بنيّ، أسرج ضياءً بمكان جسدي"، قال: "لأنّ الرّوح تعود إلى مكان الجسد، فإذا رأته مظلماً استوحشت".


وكلّ الأئمّة عليهم السلام عملوا بهذه السّنّة، لكن أسفي على غريب كربلاء، أبي عبد الله الحسين، هل أسرج له إمامنا السّجّاد عليه السلام الضّياء؟ كلّا، ومن أين له بسراج تلك اللّيلة؟ نعم، كان هناك نور ينبعث من جسده الشّريف، كما يقول ذلك العدوّ: ما رأيتُ قتيلاً مضمّخاً بدمه، أنور وجهاً منه، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله.

هذا هو النّور الّذي رأته زوجة خولّى فحيّرها، تقول: رأيت رأساً مخضّباً بدمائه، ينبعث منه النّور إلى عنان السّماء، صاحت: يا رأس، أقسمت عليك بحقّ محمّد المصطفى، وبحقّ عليّ المرتضى، وبحقّ فاطمة الزّهراء، إلّا أخبرتني من أنت؟! تقول: ففتح الحسين شفتيه، وقال: "أمة الله، أنا المظلوم، أنا الغريب، أنا العطشان!؟".

أنا الـذي ذبوح ظـامي                 وفي كربـلا سلبوْا أيتامي
وخـيل العـدى رضّت اعـظامي        وراسي عـالرّمح مـنصوب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

50

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 وقد أوصى ولده الصّادق عليه السلام، بأن يقيم له مأتماً في مكان في منى، أيّام موسم الحجّ، لمدّة عشر سنوات، وقال له: "استأجر نوادباً يندبن عليّ".


وإذا كان الإمام الباقر عليه السلام، قد أوصى ولده الصّادق، أن يستأجر من يندب عليه، فإنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه، طلب من كلّ شيعته ومحبّيه، أن يقيموا عليه مأتماً في كلّ مكان وزمان، وذلك لمّا ألقت سكينة بنفسها على جسده الشّريف، يوم الحادي عشر من المحرّم، وجعلت تنادي: "أبه من الّذي قطع وريدك؟!"، قالوا: لم تزل تنادي أبه يا أبه، ثمّ قالت: "سمعت الصّوت يخرج من منحر والدي الحسين، وهو يقول: بنيّة سكينة، إقرأي شيعتي عنيّ السّلام، وقولي لهم: إنّ أبي قتل غريباً، فاندبوه، وذبح عطشاناً، فاذكروه".

شيعتي مهما شربتم          عذب ماء فاذكروني
أو سمعتم بغريب             أو قتيل فاندبوني
فأنا السبط الذي              من غير جرم قتلوني
وبجرد الخيل بعد القتل        عمداً سحقوني
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

51

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 ليتكم في يوم عاشورا        جميعا تنظروني

كيف أستسقي لطفلي         فأبوا أن يرحموني

شيعتي نِصْبوا المآتم والعزا لمصيبتي             واذكروا تعفير خدّي بالتّراب وذبحتي
لو شربتوا ماي ذكروا العطش فت كبدتي    واقصدوا لكربلا والكل يسكب عبرته
لو تشوفوني على الثَّرى مرمي طريح          خدّي موسّد ترايب والدّما منّي تسيح 
كم عضيد وكم ولد قضى قبلي ذبيح          واحد يظل عالشّريعة واحد أحمل جثّته

بَيْنا سكينة محتضنة لجسد أبيها الحسين، إذ جاء إليها عدّة من الأعراب، كلّما أرادوا أن يقيموها من على جسد أبيها الحسين ما استطاعوا، فأقبل الشّمر، وجعل يضرب سكينة بالسّياط، وهي تلوذ ببدن أبيها، حتّى أقاموها عنه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

52

مجلس شهادة الإمام محمَد الباقر عليه السلام

 يضربوني وادفع بدية                 شبيدي اعلى دهري لخان بيّه

أنا منين إجَتْني الغاضريّة              راحوا هلي من بين ايـديَه
برضاك لـو رغماً عـليك          يجرّني الشّمر من بين ايديك
وأنا أصرُخ واديـر العين ليـك    وادري بحمـيتك مـا تخلّيك
                     معذور يالحزّوا وريديك

سِبْطُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى خَيْرُ المَلاَ      صادِي الحُشاشَةِ قَدْ قَضَى في كَرْبَلاَ
قُمْ فَابْكِهِ أَسَفاً وَقُلْ مُتمَثِّـلا     بُعـْداً لِـشَطِّـكَ يـا فُـراتُ فـمُـرَّلا
                تَحْلُو فَإِنَّكَ لا هَنِيُّ وَلا مَرِي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

53

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 حرَّ قلبي لِسادَةٍ أَزْكِيـاءِ                      في الطّوامِيـرِ خُلِّدُوا أَعْواما

 
قَـتَلُوهُمْ ومـا رَعـَوْا لِرَسُـولِ            اللهِ إلّاً في آلِهِ وذِمـامـا
 
ما كَـفاهـا قَتلُ الوَصِي وشِبْلَيْه            وَأَبْنائِهِمْ إِماماً إِمامـا
 
والتَّعـَدِّي عَـلَـى المـيَامِينِ حـَتَّـى    لَـمْ تُغادِرْ مِـنْ تابِعِيـهِمْ هُماما
 
وَرَمتْ جـَعـفَراً رَزايا أَرَتْنا                بِـأَبيـهِ تِلْكَ الرَّزايا الـجِساما
 
مَصْدَرُ العِلْمِ مُنْتَهَى الحِلْمِ بابُ اللهِ           والعُرْوَةُ الَّـتي لا انْـفِصاما
 
عِلَّةُ الكَوْنِ مَنْ بِهِ الأَرْضُ قامَتْ             والسَّماواتُ والوُجُـودُ اسْتَقاما
 
شَمْسُ قُدْسٍ بَدَتْ فَجَلَّتْ دُجَى الكُفْـرِ     ودَلَّتْ عَلَى الرَّشادِ الأنَاما
 
بِـأَبِي مَـنْ بَكَى عَلَيْهِ المُـعادِي          والمُوالِي لَهُ بُكاءَ الأَيامَى
 
بـِأَبِـي مَـنْ علَيْهِ جِبـْرِيلُ حـُزْناً     في السَّماواتِ مَأْتَماً قَدْ أقَاما
 
يـا حِـمَى الدِّيـنِ إِنَّ فَقدَكَ أَوْرَى      في حشَى الدِّيـنِ جُذْوَةً وضِراما
 
ومنَ المُؤْمـِنِينَ أَسْـهَرَ طَرْفاً             ومِنَ الكاشِحِينَ طَرْفاً أنَاما
 
لا مـُقامٌ لِأَهـْلِ يثـْرِبَ فـِيها        يَوْمَ أَبْكَيْتَ يَثْـرِباً والمُقاما1
 
 
 
 

1- القصيدة للسَّيِّد صالح القزوينيّ.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

54

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 شعبي: 

 
حن الكاظم أوصب دمعة العين    ونينك صدع اگلوب الخواتين  
تحن اتلوج تتغلب أو تبـكي      ترانى الونتك گلبي تفتّت
 
الإمام الصّادق عليه السلام أدرك نحواً من خمسين عاماً من عهد الأمويّين، كانت مليئة بالأحداث، الّتي تبعث الألم في نفسه، لقد كان يرى المضطهدين من خيار الأمّة وصلحائها، ومن شيعة آبائه وبني عمومته من الطّالبيّين، يساقون إلى السّجون زرافات ووحدانا، ويساقون إلى الموت شهيداً بعد شهيد، لا لشيء إلّا لأنّهم دعاة حقّ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يستطيع أن يدفع عنهم شرّ أولئك الطّغاة، المستهترين بالدّين ومقدّساته، وبالأمّة ومقدّراتها، وبالإنسان وكرامته1.
 
وأدرك عليه السلام نحواً من خمسة عشر عاماً من عهد العبّاسيّين، وبهذا يكون قد أدرك الدّولة الأمويّة في قوّتها وعنفوانها، ثمّ في انحدارها وانهيارها، كما أدرك من الدّولة العبّاسيّة فجرها
 
 


1- الحسنيّ، هاشم، سيرة الأئمّة الاثني عشر، ج2، ص226 ـ 231.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

55

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 الأوّل، وهي تبني أمجادها على أنقاض دولة الأمويّين1.

 
هذه الفرصة الّتي سنحت للإمام الصّادق عليه السلام، كانت ثمينة جدّاً، حيث لم تسنح لغيره من أئمّة أهل البيت عليهم السلام. فالضّعف الّذي كان يدبّ في جسم الدّولة الأمويّة في نهاية عهدها، وعدم استقرار الدّولة العبّاسيّة في بداية عهدها، فسح المجال أمام الإمام عليه السلام، ليؤسّس مدرسة يدعو النّاس إليها، لاستماع الأحاديث، ونشر العلم بمختلف جوانبه، وبذلك قام بثورة ليست بقوّة السّلاح كغيرها من الثّورات، ولكن بنشر الثّقافة الإسلاميّة في الأقطار الإسلاميّة، فبلغ عدد طلّابه حوالى أربعة آلاف طالب2، فيهم العلماء، وفيهم أئمّة المذاهب الأربعة.
 
ويروى أنّه قال بعضهم: دخلت يوماً إلى مسجد الكوفة، فرأيت تسعمائة عالم يدرّسون، وكلّ منهم يقول: حدّثني جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام، هذا في الكوفة وحدها. أمّا الطّلاب الباقون، فقد انتشروا في البقاع الإسلاميّة، ليحفظوا الإسلام، وينشروا مذهب آل البيت عليهم السلام، مذهب جعفر الصّادق عليه السلام، لذلك يقال عن الشّيعة: بأنّهم
 
 
 
 

1- المصدر السابق، ص231.
2- المصدر السابق، ص244.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

56

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 جعفريّة، نسبة إلى جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام الّذي أعاد إحياء هذا المذهب في نفوس الشّيعة.

 
وكان الإمام عليه السلام يوصي أصحابه أن يكونوا دعاة صامتين، يدعون النّاس إلى الخصال الحميدة بأعمالهم قبل أقوالهم، فكان يقول لهم: "أوصيكم بتقوى الله، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصّحبة لمن صحبتموه، وأن تكونوا لنا دعاة صامتين"، فيقولون له: وكيف يا بن رسول الله، ندعو الله، ونحن صامتون؟ فقال عليه السلام: تعملون بما أمرناكم من طاعة الله، وتعاملون النّاس بالصّدق والعدل، وتؤدّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطّلع النّاس منكم إلّا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه، علموا فضل ما عندنا، فسارعوا إلينا1.
 
هذه الفرصة السّانحة للإمام عليه السلام، لم تدم إلى نهاية حياته الشّريفة، لأنّه عند مجيء المنصور الدّوانيقيّ إلى الحكم، بدأ هذا الأخير يكيد المكائد للإمام الصّادق عليه السلام، إلى أن وصل الأمر إلى جلوس الإمام عليه السلام في بيته وحيداً، لا يدخل عليه أحد، خوفاً من أعين الجواسيس، ولكن هل استراح الإمام من المنصور بجلوسه وحيداً في
 
 
 

1- الأمين، محسن، المجالس السّنيّة، ج2، ص356.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

57

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 بيته ؟ كلّا، بل كان المنصور ينتظر الفرصة السّانحة ليقتل الإمام عليه السلام، وحاول عدّة مرّات، ولكنّ الله سبحانه، كان يحفظ الإمام عليه السلام من مكائده.


فقد روي في مهج الدّعوات: عن محمّد بن الرّبيع الحاجب، قال: قعد المنصور في قبّة، كان إذا قعد فيها، يسمّي ذلك اليوم، يوم الذّبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد عليهما السلام من المدينة، فلم يزل فيها نهاره كلّه، حتّى جاء اللّيل، ومضى أكثره، ثمّ دعا الرّبيع، وقال له: سر في هذه السّاعة إلى جعفر بن محمّد بن فاطمة، فأتني به على الحال، الّتي تجده فيها، لا تغيّر شيئاً ممّا هو عليه، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هذا والله، هو العطب، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله، وذهبت الآخرة، وإن لم آت به، وأدهنت في أمره، قتلني، وقتل نسلي، وأخذ أموالي، فميّزت بين الدّنيا والآخرة، فمالت نفسي إلى الدّنيا.

قال محمّد بن الرّبيع: فدعاني أبي، وكنت أفظّ ولده، وأغلظهم قلباً، فقال لي: امض إلى جعفر بن محمّد، فتسلّق على حائطه، ولا تستفتح عليه باباً، فتغيّر بعض ما هو عليه، ولكن أنزل عليه نزولاً، فأت به على الحال الّتي هو فيها. قال: فأتيته، وقد ذهب اللّيل إلّا أقلّه، فأمرت بنصب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

58

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 السّلاليم، وتسلّقت عليه الحائط، ونزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي، وعليه قميص ومنديل قد ائتزر به، فلمّا سلّم من صلاته، قلت له: أجب أمير المؤمنين، قال: دعني أدعو وألبس ثيابي. فقلت له: ليس إلى تركك وذلك سبيل، قال: فأدخل المغتسل فأتطهّر، قال، قلت: وليس إلى ذلك أيضاً سبيل، فلا تشغل نفسك، فإنّي لا أدعك تغيّر شيئاً. قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان عليه السلام قد جاوز السّبعين، فلمّا مضى بعض الطّريق، ضعف الشّيخ فرحمته، فقلت له: اركب. فركب بغلاً شاكريّاً كان معنا، ثمّ صرنا إلى الرّبيع، فسمعته- أي المنصور- وهو 


يقول له: ويلك يا ربيع، قد أبطأ الرّجل، وجعل يستحثّه استحثاثاً شديداً، فلمّا أن وقعت عين الرّبيع على جعفر بن محمّد عليهما السلام، وهو بتلك الحالة بكى، وكان الرّبيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السلام: يا ربيع، أنا أعلم ميلك إلينا، فدعني أصلّي ركعتين وأدعو. قال: شأنك وما تشاء، فصلّى ركعتين خفّفهما، ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه، إلّا أنّه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الرّبيع، فلمّا فرغ من دعائه على طوله، أخذ الرّبيع بذراعيه، وأدخله على المنصور، فلمّا صار في صحن الإيوان، وقف، ثمّ حرّك
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

59

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 شفتيه بشيء ما أدري ما هو، ثمّ أدخلته، فوقف بين يديه. قال: فلمّا نظر إليه، قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وفسادك وبغيك على أهل هذا البيت من بني العبّاس، وما يزيدك الله بذلك إلّا شدّة حسد ونكد، ما تبلغ به ما تقدره؟ فقال عليه السلام له: والله، ما فعلت شيئاً من ذلك، ولقد كنت في ولاية بني أميّة، وأنت تعلم أنّهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنّهم لا حقّ لهم في هذا الأمر، فوالله ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي سوء، مع جفاهم الّذي كان بي، وكيف أصنع الآن هذا، وأنت ابن عمّي، وأمسّ الخلق بي رحماً، وأكثرهم عطاءً وبرّاً، فكيف أفعل هذا؟.

 
وعن كشف الغمّة، أنّ المنصور أوعده وأغلظ، وقال: اتخذك أهل العراق إماماً، يبعثون إليك زكاة أموالهم، وتلحد في سلطاني، وتبغيه الغوايل، قتلني الله إن لم أقتلك1.
 
المصيبة:
 
وهكذا بقي المنصور يرسل خلف الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام، وفي كلّ مرّة يريد قتله، ولكن دون أن يتمكّن من قتله
 
 
 

1- كشف الغمّة: 2/159.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

60

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 بنفسه، لذا بعث سمّاً قتّالاً إلى والي المدينة محمّد بن سليمان، وأمره أن يعطيه السّمّ، ثمّ جذبه في العنب حتّى صار مسموماً، فقدّمه للإمام، وسمّ عليه السلام بذلك العنب المسموم، ومرض مرضاً شديداً، ووقع في فراشه.


قيل: فدخل عليه أحد أصحابه، فلمّا رأى الإمام مسجّى على فراش الموت، وقد ذبل، فبكى، فقال عليه السلام: لأيّ شيء تبكي؟ فقال: ألا أبكي، وأنا أراك على هذه الحالة؟ فقال: لا تفعل، فإنّ المؤمن يعرض عليه كلّ خير، إن قطعت أعضاؤه كان خيراً له، وإن ملك ما بين المشرق والمغرب كان خيراً له.

وفي جنّات الخلود: سقى السّمّ مراراً عديدة، وفي آخر مرّة سقى السّمّ فمرض مرضاً شديداً، وعارضه وجع شديد في بطنه، وأحشائه، وأمعائه.

قال عمرو بن زيد: دخلت عليه أعوده، فرأيته متّكئاً، وقد دار وجهه إلى الحائط، والباب وراء ظهره، فلمّا دخلت عليه، قال: وجّهني إلى القبلة فوجّهته، ثمّ ما لبث أن عرق جبينه، وسكن أنينه، وقضى نحبه، ولقى ربّه مسموماً شهيداً، صابراً، محتسباً، أي وا إماماه، واسيّداه، واصادقاه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

61

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 امصيبة الصّادق اشلون امصيبه         الظّالم أبكل وگت ويلي ايجيبه

تـالـي المـنصـور ردّه الدّيرته      حتى سمّه أو صارگلبه الهيبه

إمامنا الصّادق عرق جبينه عند الموت، وهذا حال المؤمن، يعرق جبينه إذا نزل به الموت، فيتصبّب العرق منه)، إلّا مولانا الحسين عليه السلام الّذي تصبّب الدّم من جبينه، لأنّ رأسه كان مرفوعاً على رأس رمح طويل، فجبينه مرّة يضرب بالسّوط، ومرّة يضرب بالحجر، المرّة الأولى، لمّا أدخلوا السّبايا إلى الكوفة، والرّؤوس أمامها، يقول هلال: رأيت رأس الحسين على رأس رمح طويل وهو يتلو قوله تعالى: (أمْ حِسبتَ أنّ أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا منْ آياتِنا عَجَباً) ؟ فقلت: إنّ رأسك أعجب وأعجب يا بن رسول الله، فقال الرّأس لحامله: فرّقت بين رأسي وبدني، فرّق الله بين رأسك وبدنك، وجعلك آية ونكالاً للعالمين. فلمّا سمع اللّعين ذلك، مال عليه يضربه بسوطه، ويضربه ويضربه، حتّى سكت الرّأس عن الكلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

62

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 أّرُوحـُكَ أَمُ رُوحُ النُّبـُوَّةِ تَصعَد      مِنَ الأَرْضِ لِلْفِرْدَوْسِ والحُورُ سُجَّدُ

 
ورَأْسُكَ أَمْ رَأْسُ الرَّسُولِ عَلَى القَنَا      بِآيَةِ أَهْلِ الكَهْفِ راحَ يرَدِّدُ

هذه مرّة ضرب فيها جبين الحسين عليه السلام، والمرّة الثّانية: بالشّام، لمّا أدخلوا بنات الرّسالة، وأمامها الرّؤوس إلى دمشق الشّام.

يقول الرّاوي: رأيت رأساً على رأس رمح طويل، وجهه أشبه النّاس بوجه عليّ بن أبي طالب.

وشَيْبَتُهُ مَخْضُوبَةٌ بِدِمائِهِ                يُلاعِبُها غَادِي النَّسِيمِ ورائِحُهْ 

وإذا بعجوز أمويّة تناولت حجراً، وصكّت به جبين أبي عبد الله!! يا ساعد الله قلب زينب، لمّا رأت ذلك، صاحت: واأخاه، واحسيناه.

عاشوري:


يحسين يابن أمّي يا مذبوح آه آه     عـليـك الحزن والبكا والنّوح

والرّاس فوق السّمهري ايلوح       لو تنفده لفديك بالرّوح
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

63

مجلس شهادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام

 يا رَأْسَ مُفْتَرِسِ الضَّياغِمِ بِالوَغَى       كَيْفَ انْثَنَيْتَ فَرِيسَةَ الأَوْغادِ؟

لَهْفِي لِرَأْسِكَ وَهْوَ يُرْفَعُ مُشْرِقا         كَالبَدْرِ فَوْقَ الـذَّابِلِ المَيَّادِ

يَتْلُو الكِتابَ ومَا سَـمِعْتُ بِواعـِظ    اتَـخَذَ القَنا بَدَلاً عَنِ الأَعْوادِ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

64

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 رَحَلُوا ومَا رَحَلُوا أُهَيْلُ وِدادِي           إلَّا بِحُسْنِ تَصَبُّرِي وفُؤادِي

 
وَخَلَتْ مَنازِلُهُمْ فَها هِيَ بَعْدَهُم          قَفْرَى وما فِيها سِوَى الأَوْتادِ
 
ولَقَدْ وَقَفْتُ بِها وُقُوفَ مُوَلَّه            وَبِمُهْجَتِي لِلْوَجْدِ قَدْحُ زِنادِ
 
أَبْكِي بِها طَوْراً لِفَرْطِ صَبابَتِي           وَأَنُوحُ فِيها تارَةً وأُنادِي
 
يا دارُ أَيْنَ مَضَى ذَوُوكِ أَما لَهُمْ ٍ        بَعْدَ التَّرَحُّلِ عَنْكِ يَوْمُ مَعَاد
 
هَذا بِسامُرَّا وذاكَ بِكَرْبَلا               وَبِطُوسَ ذاكَ وذاكَ في بَغْدادِ
 
لَهْفِي وَهَلْ يُجْدِي أَسىً لَهْفِي عَلَى     مُوسَى بْنِ جَعْفَرَ عِلَّةِ الإِيجادِ
 
ما زالَ يُنْقَلُ في السُّجُونِ مُعانِيا        عَضَّ القُيُودِ ومُثْقَلَ الأَصْفادِ
 
قَطَع َ الرَّشِيدُ عَلَيْهِ فَرْضَ صَلاتِه        قَسْراً وأَظْهَرَ كامِنَ الأَحْقادِ
 
حَتَّى إِلَيْهِ دَسَّ سُمّاً قاتِلا              فَأَصابَ أَقْسَى مُنْيَةٍ ومُرادِ
 
وَضَعُوا عَلَى جِسْرِ الرُّصافَةِ نَعْشَهُ    وعَلَيْهِ نادَى بِالهَوانِ مُنادِ1
 
 
 

1- قصيدة للسّيّد مهدي الأعرجيّ.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

65

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 شعبي:


هلن دمه ابـدال الدّمـع يعيون   عله العوض غريب ابسجن هارون

امگيد بالحديد أوزرك المتون     أجل چاوين هـاشم ما يحضرون

                    الجثّة الكاظم خل يشيعون

أبوذية:

جـفّ الدّهر ريته اليوم ينشال       جرح گلبي ولا أظن بعد ينشال

نعش موسى عله احماميل ينشال       أو يـظل فوگ الجسر ثاوي رميّه

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام:

من ألقابه: الصّابر، ومن ألقابه: العبد الصّالح، ومن ألقابه المشهورة: باب الحوائج إلى الله، وهو أكثر ألقابه ذكراً، وأكثرها شيوعاً وانتشاراً، فقد اشتهر بين العامّ والخاصّ، أنّه ما قصده مكروب، أو حزين إلّا فرّج الله همّه، وأزال عنه غمّه، وما استجار أحد بضريحه إلّا قضيت حوائجه، وهناك الكثير من الشّعراء الّذين قصدوا الإمام عليه السلام، وقضيت حوائجهم عنده، فنظموا في مديحه الشّعر الوفير، ومن هؤلاء الشّعراء الحاجّ محمّد جواد البغداديّ، الّذي سعى إلى مثوى الإمام عليه السلام في حاجة، يطلب قضاءها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

66

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 قائلاً:


يا سَمِيَّ الكَلِيمِ جِئْتُكَ أَسْعَى      نَحْوَ مَغْناكَ قاصِداً مِنْ بِلادِي

لَيْسَ تُقْضَى لَنا الحَوائِجُ إلَّا     عِـنْدَ بابِ الرَّجاءِ جَدِّ الجوادِ

وأيضاً للمرحوم السّيّد عبد الباقي العمريّ، في مديح الإمام:


وهذا حاله في مماته، كما حاله في حياته، يقضي الحوائج، ويفرّج عن المكروبين.

لُذْ واسْتَجرْ مُتَـوَسـِّلاً              إِنْ ضاقَ صـدْرُكَ أَوْ تَعَسَّرْ

بابَ الرِّضا جَـدِّ الجوادِ                مُحـَمَّدٍ مـوسَى بْنِ جَعْفَرْ

ذكر العلاّمة المجلسيّ في البحار)، في أحوال موسى بن جعفر عليهما السلام، نقلاً عن كتاب قضاء حقوق المؤمنين)، بإسناده عن رجل من أهل الرّيّ، قال:

ولي علينا بعض كتّاب يحيى بن خالد، وكان عليَّ بقايا يطالبني بها، وخفت من إلزامي إيّاها، خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: إنّه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي إليه، فلا يكون كذلك، فأقع في ما لا أحبّ، فاجتمع رأيّي على أنّي هربت إلى الله تعالى وحججت، ولقيت مولاي الصّابر،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

67

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 يعني موسى بن جعفرعليهما السلام، فشكوت حالي إليه، فأصحبني مكتوباً نسخته:


"بسم الله الرّحمن الرّحيم، اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلّاً، لا يسكنه إلّا من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك، والسّلام".

قال: فعدت من الحجّ إلى بلادي، ومضيت إلى الرّجل ليلاً، واستأذنت عليه، وقلت: رسول الصّابر عليه السلام، فخرج إليّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبّلني، وضمّني إليه، وجعل يقبّل بين عينيّ، ويكرّر ذلك، وكلّما سألني عن رؤيته عليه السلام، وكلّما أخبرته عن سلامته وصلاح أحواله، استبشر وشكر الله، ثمّ أدخلني داره، وصدّرني في مجلسه، وجلس بين يديّ، فأخرجت إليه كتابه عليه السلام، فقبّله قائماً وقرأه، ثمّ استدعى بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلّ شيء من ذلك يقول: أخي، هل سررتك؟ فأقول: إي والله، وزدت على السّرور؛ ثمّ استدعى سجلّ العمل، فأسقط ما كان باسمي، وأعطاني براءة ممّا يتوجّب عليّ منه، وودّعته وانصرفت عنه.
وقلت: لا أقدر على مكافأة هذا الرّجل إلّا بأن أحجّ في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

68

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 قابل، وأدعو له، وألقى الصّابر عليه السلام، وأعرّفه فعله.

 
ففعلت، ولقيت مولاي الصّابر عليه السلام، وجعلت أحدّثه، ووجهه تهلّل فرحاً، فقلت: يا مولاي، هل سرّك ذلك؟ فقال: إي والله، لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين، والله لقد سرّ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد سرّ الله تعالى1.
 
يقول المؤرّخون: لمّا كثرت الوشاية بالإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هارون الرّشيد، صمّم على اعتقال الإمام موسى بن جعفر، وإيداعه السّجن، لذا أصدر حكمه إلى الشّرطة باعتقاله، فجاؤوا يبحثون عن الإمام أين هو؟ فوجدوه قائماً يصلّي عند قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقطعوا عليه صلاته، ولم يمهلوه من إتمامها، وحمل عليه السلام من هناك إلى سجن البصرة مقيّداً بالحديد، وعيناه تسيلان دموعاً، وهو يقول: إليك أشكو يا رسول الله.
 
المصيبة:
 
قَطَعَ الرَّشِيدُ عَلَيْهِ فَرْضَ صَلاتِه    قَسْراً وأَظْهَرَ كامِنَ الأَحْقاد
 
ولمّا أوصلوه إلى البصرة سجن عند عيسى بن جعفر مدّة،
 
 
 

1- وقد رويت هذه الرّواية عن الإمام الصّادق عليه السلام أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

69

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 مقفلاً عليه السّجن، لا يفتح له إلّا للطّهور، وإدخال الطّعام، وكان عليه السلام يقضي أوقاته في السّجن بالعبادة والتضرّع إلى الله، وسُمع يقول: أللَّهم إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، أللَّهم فلقد فعلت، فلك الحمد).


رَأَى فَـراغَتهُ في السجْنِ مُنيَتَهُ   ونعمة شكر الباري

وبعد تلك المدّة، طلب عيسى بن أبي جعفر من الرّشيد نقل الإمام إليه، وإلّا أطلق سراحه، لأنّه ما رأى من الإمام إلّا العبادة والبكاء من خشية الله، فقبل الطّاغية قول عيسى، ونقل الإمام إلى بغداد مقيّداً، تحفّ به الشّرطة والحراس، حتّى أوصلوه إلى بغداد، فأودع في سجن الفضل بن الرّبيع.

امن البصرة لسجن بغداد جابـه    ابحديد او عيد ويدور ذهابه

ذبه ابسجن أظلم گـلع بابه    أو نهى السّجّان يمه النّاس يصلون

عجيب امصيبته والله عجيبه       من سجن السجن ظالم يجيبه

أو چبده أمن الولم زايد لهيبه

لمّا كان الإمام الكاظم عليه السلام في سجن الفضل بن الرّبيع، كان الرّشيد يراقب حال الإمام بنفسه، فأطلّ يوماً من أعلى القصر على السّجن، فرأى ثوباً مطروحاً في مكان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

70

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 لم يتغيّر عن موضعه، فقال للفضل: ما ذاك الثوب الّذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟ قال الفضل: ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر، له في كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشّمس إلى وقت الزّوال. فقال هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم، فقال له الفضل: ما لك قد ضيّقت عليه بالحبس؟ قال: هيهات، لا بدّ من ذلك. وكان الطّاغية يطلب بين الحين والآخر من الفضل أن يفتك بالإمام موسى بن جعفر، والفضل لم يجبه إلى ذلك، ولمّا طال بقاء الإمام في السّجن، قام في غلس اللّيل فجدّد طهوره، وصلّى لربّه أربع ركعات، وأخذ يناجي الله ويدعوه: يا سيّدي، نجّني من حبس هارون، وخلّصني من يده، يا مخلّص الشّجر من بين رمل وطين، ويا مخلّص النّار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص اللّبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص الرّوح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون.


وما أن أتمّ دعاءه حتّى استجاب الله له ذلك. فأمر الطّاغية جلاوزته، فأطلقوا سراح الإمام.

ولكنّ إطلاق سراح الإمام كان إطلاقاً مؤقّتاً، دام عدّة أيّام عاشها الإمام مكرهاً في بغداد، وكان الطّاغية في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

71

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 تلك المدّة يتهدّد الإمام بالقتل. بعد ذلك أرجعه إلى سجن الفضل بن يحيى، وأمره بالتّضييق عليه، ولكنّ الفضل فعل عكس ذلك، ولم يضيّق على الإمام. ولمّا علم الطّاغية بذلك، أمر بنقل الإمام إلى سجن السّنديّ بن شاهك، وكان السّنديّ عدوّاً لآل محمّد، ناصبيّاً قاسي القلب)، وأمره بالتّضييق على الإمام، وتقييده بثلاثين رطلاً من الحديد، وأن يقفل عليه الأبواب، ولا يدعه يخرج. فامتثل السّنديّ أمر الطّاغية هارون، فوضعه في طامورة لا يعرف فيها اللّيل من النّهار، وأوثقه بالحديد حتّى أثّر ذلك الحديد في جسده الشّريف. لذا ورد في زيارته: وصلّ على موسى بن جعفر، المعذّب في قعر السّجون، وظلم الطّوامير، ذي السّاق المرضوض بحلق القيود.


ظل جور أو هظم يجرع من أعداه     أو كل عام الرّشيد السّجن ودّاه

لمّـن وصـل للـسّـنـدي أو تـولاه      ذبـه ابـسـجن مثل اللّـيل أظلم

عانى الإمام عليه السلام في حبس السّنديّ أشدّ الآلام والأذى، وكان إذا ضاق نفس الإمام، لضيق الطّامورة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

72

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 يأتي إلى بابها يستنشق الهواء، فإذا رآه السّنديّ لطم الإمام على وجهه، وأرجعه إلى داخل الطّامورة:


أَفِي أَيِّ كَفٍّ يَلْطِمُ الرِّجْسُ وَجْـهه   وَما هِيَ إلَّا فَرْعُ لَطْـمَةِ فاطِمِ

قيل: إِنَّ عليّ بن سويد اتصل بالإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وهو في طامورة السّنديّ بن شاهك، فسأله: سيّدي متى الفرج؟! لقد ضاقت صدورنا، قال له الإمام: الفرج قريب يا ابن سويد. قال: متى سيّدي؟ قال: يوم الجمعة ضحى على الجسر ببغداد. فظنّ أنّ الإمام سيفرج عنه يوم الجمعة، ولكن ما مضت تلك اللّيالي، حتّى بعث الطّاغية هارون إلى السّنديّ رطباً مسموماً، وأمره أن يقدّمه إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، فامتثل أمر طاغيته، وقدّم الرّطب إلى الإمام، وأجبره على أكله، فرفع باب الحوائج يده إلى السّماء، وقال: يا ربّ، إنّك تعلم أنّي لو أكلت قبل اليوم، كنت قد أعنت على نفسي. ثمّ تناول سبع رطبات فأكلها، وقيل عشراً، ثمّ امتنع. فقال له السّنديّ: زد على ذلك. فرمقه الإمام بطرفه، وقال: حسبك، قد بلغت ما تحتاج إليه.

بعد ذلك أخذ السّمّ يسري في بدنه، والإمام يعاني أشدّ الآلام في تلك الطّامورة، وأحاط به الأسى والحزن، حيث لا أحد من أهله وأحبّته عنده.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

73

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 يا گلبي على الكاظـم تلجـم     يعيني اعليه سحيّ الدّمع من دم


غريب أو بالحبس ويلوج بالسّم      يـتـگلب يسار أو نوبه ايمين

بقي الإمام على هذه الحالة ثلاثة أيّام، وبينما هو يسمع أخشن الكلام وأغلظه من السّنديّ بن شاهك، وهو في تلك الحالة، حتّى دعا بشربة فشربها، ثمّ تغيّر وجه الإمام من لون إلى آخر، وعرق جبينه، وسكن أنينه، ومدّ يديه ورجليه، وفارقت روحه الدّنيا...

رحم الله من نادى: وا إماماه، وا سيّداه، أي وا مسموماه.

نعم صار الموعد المحدّد يوم الجمعة، وعليّ بن سويد ينتظر مع باقي الشّيعة، وإذا بجنازة قد بدا منها قيد الحديد.

يقول عليّ بن سويد: جئت في ذلك اليوم إلى جسر الرّصافة، وإذا بجنازة مطروحة، والمنادي ينادي: هذا إمام الرّافضة، قد مات حتف أنفه، فانظروا إليه، فجعل النّاس يتفرّسون في وجهه، يقول عليّ بن سويد: جئت لأنظر إليه، وإذا به سيّدي ومولاي موسى بن جعفر عليه السلام وا إماماه، وا كاظماه، وا سيّداه.

يهاشم لا حله بعيونـكم نـوم       يحگلي اعتب عليكم واكثر اللّوم
من بغداد ما وصلتكم اعلوم            تـخـبركم الكاظم راح مسموم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

74

مجلس شهادة الإمام موسى الكاظم عليه السلام

 فأخذ عليّ بن سويد بالبكاء والنّحيب عند رأس الإمام، فبينما هو كذلك، إذ مرّ به طبيب نصرانيّ، كانت بينهما صحبة، فقال له ابن سويد: أقسمت عليك بالمسيح إلّا ما رأيت سبب موت هذا المسجّى، قال: اكشف لي عن باطن كفّه، فكشف له عن باطن كفّ الإمام، فأخذ ينظر فيها ويهزّ رأسه، قال ابن سويد: أخبرني ما رأيت؟ قال: يا ابن سويد، هل لهذا الرّجل من عشيرة؟ قال: بلى، هذا موسى بن جعفر سيّد بني هاشم، قال: يا ابن سويد، ابعث إلى أهله فليحضروا، وليطلبوا بدمه، فإنّه مات مسموماً.


ألف يا حيف ألف وأكثر وسافه          يظل نعشك على جسر الرّصافة

وطبيب القلّـب ابكفـك وشافه         ايگول اولا عـشيره الهاذ تظهر
 
منْ مُبْلِغُ الإِسْلامِ أَنَّ زَعِـيمـهُ       قَدْ ماتَ في سِجْنِ الرَّشِيدِ سَمِيما

مُلْقىً عَلَى جِسْرِ الرُّصافَةِ نَعـْشُه         فِـيهِ المَلائكُ أَحْـدَقُوا تَعْظِيما

فـَعَلـَيْهِ رُوحُ اللهِ أَزْهَـقَ رُوحَه      وحَشَا كـَلِـيمِ اللهِ باتَ كَلِيـما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

75

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 ماذا أَصابَ عَوالِمَ التَّكْوِينِ            فتَجَلْبَبَتْ أَقْمارُها بِدُجُونِ

 
هَلْ قامَتِ الأُخْرَى فَأَظْلَمَ نُورُها       ودُهِي الزَّمانُ وأَهْلُهُ بِمَنُونِ
 
أَمْ غابَ عَنْها بَدْرُها أَمْ حُجِّبَتْ       شَمْسُ الهِدايَةِ مِنْ بَنِي ياسِينِ
 
لِلَّهِ رُزْءٌ هَدَّ أَرْكانَ الهُدَى             مِنْ بَعْدِهِ قُلْ لِلرَّزايا هُونِي
 
لِلَّهِ رُزْءٌ لابْنِ مُوسَى زَلْزَلَ            الـسَّبْعَ الطِّباقَ فَأَعْوَلَتْ بِرَنِينِ
 
يَوْمٌ بِهِ أَشْجَى البَتُولَةَ خَائِنٌ           يُدْعَى بِعَكْسِ الحالِ بِالمَأْمُونِ
 
يَوْمٌ بِهِ أَضْحَى الرِّضا مُتَجَرِّعاً        سُمّاً بِكَأْسِ عَداوَةٍ وضُغُونِ
 
فَمَنِ المُعَزِّي المُرْتَضَى أَنَّ الرِّضا       نَالَ العِدَى مِنْهُ قَدِيمَ دُيُونِ
 
وَمَنِ المُعَزِّي في نِزارٍ أُسْرَةً           أَلِفَتْ شَبا بِيضٍ وقِبَّ بُطُونِ
 
هُبُّوا مِنَ الأَجْداثِ إِنَّ عِدَاكُمُ      خَطَّتْ لَكُمْ ضَيْماً عَلَى العِرْنِينِ
 
فَبِطَيْبَةٍ وثَرَى الغَرِيِّ وكَرْبَلا      قَدْ غَيَّبَتْ مِنْكُمْ شُمُوسَ الدِّينِ
 
وبِأَرْضِ سامُرَّا وبَغْدادٍ لَكُمْ        أَجْداثُ مَنْ هُم عَلَى التَّكْوِينِ
 
وبِطُوسَ قَبْرٌ ضَمَّ أَيَّ مُعَظَّمٍ       أَبْكَى الأَمِينَ عَلَيْهِ أَيُّ خَؤُونِ1
 
 
 

1- قصيدة للشّيخ عبد الحسين شكر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

76

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 شعبي: 


جودي على الرّضا بالدّمع يا عيون           يوم الطلع من مجلس المأمون
راسـه معصّب ومتغيّر اللون                وصل داره يونّ وتهمل العين
على الرّضا من عدل رجليه                   تشاهد ويل قلبي واسبل ايديه أويلي
روحه خلصت ومـا ظل نفـس بيـه       أتاري مات ويلي وغيّبه البين 

ما أروع ما عبّر به المحدّث الجليل الشيخ عبّاس القمّي في منتهى الآمال، حيث قال: "ليست فضائل الإمام أبي الحسن الرّضا عليه السلام ومناقبه، ممّا يندرج في حيّز البيان، أو ينالها الإحصاء، وإلّا فهل يمكن إحصاء نجوم السّماء". ولقد أجاد أبو النّوّاس في قوله:

قِيلَ لِي أَنْتَ أَوْحَدُ النَّاسِ طُرّاً             في عُلُومِ الوَرَى وشِعْرِ البَدِيهِ
لَكَ مِنْ جَوْهَرِ الكَلامِ نِـظامٌ            يُثْمِرُ الدُّرُّ في يَدَيْ مُجْتَنِيهِ
فَعَلاَمَ تَرَكْتَ مـَدْحَ ابنِ مُوسَى         والخِصَالِ الَّتي تَجَمَّعْنَ فِيهِ؟
قُلْـتُ لا أَسْتَطِيعُ مَدْحَ إِمامٍ             كانَ جِبْرِيلُ خادِماً لِأَبِيهِ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

77

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 يقول المحدّث القمّيّ: لمّا استقرّ الأمر بالمأمون، بادر بإرسال الرّجاء بن أبي الضّحّاك، على رأس وفد من خاصّته إلى الإمام الرّضا عليه السلام بالمدينة، يدعوه للقدوم إلى خراسان، فلمّا انتهى وفد المأمون إليه، امتنع عن الاستجابة إليهم، وبالغ في الامتناع، لكنّه أمام إصرارٍ جاوز حدّ الاعتدال، نزل عند رغبتهم مجبراً، على هذا السّفر المحنة.


روى الشّيخ الصّدوق عن مخوّل السّجستانيّ، أنّه قال:

لمّا ورد البريد بإشخاص الرِّضا عليه السلام إلى خراسان، كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراراً، كلّ ذلك يرجع إلى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنّحيب، فتقدّمت إليه، وسلّمت عليه، فردّ السّلام، وهنّأته، فقال: "ذرني، فإنّي أخرج من جوار جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، فأموت في غربة، وأدفن في جنب هارون". 

ولمّا استقرّ المقام بالإمام الرِّضا عليه السلام من خراسان، التفت المأمون ذات يوم إلى الرِّضا عليه السلام، وقال: إنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرِّضا عليه السلام:

"إن كانت هذه الخلافة لك، وجعلها الله لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

78

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك!" فقال له المأمون: لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: "لست أفعل ذلك طائعاً أبداً"، فما زال يجهد به مدّة شهرين، والرّضا عليه السلام يمتنع، لمعرفته بما يرمي إليه المأمون بذلك.

 
ولمّا يئس المأمون من قبوله، قال له: إن لم تقبل الخلافة، ولم تحبّ مبايعتي لك، فكن وليّ عهدي، لتكون لك الخلافة بعدي. فقال له عليه السلام: لقد حدّثني أبي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّي أخرج من الدّنيا قبلك مقتولاً بالسّمّ مظلوماً، تبكي عليّ ملائكة السّماء، وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرّشيد.
 
فبكى المأمون، ثمّ قال له: ومن الّذي يقتلك، أو يقدر على الإساءة إليك، وأنا حيّ؟ فقال عليه السلام: أما إنّي لو أشاء أن أقول من الّذي يقتلني لقلت، فقال المأمون: إنّما تريد دفع هذا الأمر عنك، ليقول النّاس إنّك زاهد في الدّنيا.
 
فقال الرّضا عليه السلام: والله، ما كذبت منذ خلقني ربيّ عزّ وجلّ، وما زهدت في الدّنيا للدّنيا، وإنّي لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: تريد أن يقول النّاس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدّنيا، بل زهدت الدّنيا فيه! ألا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

 


79

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 ترون كيف قبل ولاية العهد، طمعاً في الخلافة؟


فغضب المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم، لئن قبلت ولاية العهد، وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلّا ضربت عنقك.

فقال الرّضا عليه السلام: قد نهاني الله عزّ وجلّ أن ألقي بيدي إلى التّهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك، على أنّي لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً، فرضي منه بذلك.

ثمّ رفع الرّضا عليه السلام يديه إلى السّماء، وقال: أللَّهمّ إنّك تعلم أنّي مكره مضطرّ، فلا تؤاخذني، كما لم تؤاخذ عبديك ونبيّيك يوسف ودانيال، إذ قبل كلّ واحد منهما الولاية من طاغية زمانه، أللَّهمّ لا عهد إلّا عهدك، ولا ولاية إلّا من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سنّة نبيّك، فإنّك أنت المولى والنّصير، ونعم المولى أنت، ونعم النّصير.

وروى الطّبرسيّ: عن أبي الصّلت الهرويّ، قال: دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ على الرّضا بمرو، فقال له: يا بن رسول الله، قد قلت فيكم قصيدة، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فقال عليه السلام: هاتها. فأنشد:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

80

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 مَدارِسُ آياتٍ خَـلَتْ مِنْ تِلاوَةٍ         وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصاتِ


فلمّا بلغ إلى قوله:

أَرَى فَيْأَهُمْ في غَيْرِهِمْ مُتَقَسَّماً        وَأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِراتِ

بكى أبو الحسن عليه السلام، وقال له: لقد صدقت يا خزاعيّ. فلمّا بلغ إلى قوله:

إِذَا وُتِرُوا مَدُّوا إِلَى وَاتِرِيهِمُ         أَكفّاً عـَنِ الأَوْتارِ مُنْقَبِضاتِ

جعل الرّضا عليه السلام يقلّب كفّيه، ويقول: أجل والله منقبضات، فلمّا بلغ إلى قوله:

لَقَدْ خِفْتُ في الدُّنْيا وَأَيَّامِ سَعْيِها     وَإِنِّي لَأَرْجُو الأَمْنَ بَعْدَ وَفاتِي
 
قال الرّضا عليه السلام: آمنك الله يوم الفزع الأكبر، فلمّا انتهى إلى قوله:

َوَقَبْرٌ بِبَـغْدادٍ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ          ضَمَّنَها الرَّحْمنُ في الغُرُفَاتِ

المصيبة:

قال الرّضا عليه السلام: أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا بن رسول الله، فقال:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

81

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 وَقَبْرٌ بِطُوسٍ يا لَـها مِـنْ مُصِـيبَةٍ    أَلَحَّتْ عَلَى الأَحْشاءِ بِالزَّفَراتِ


إِلَى الحَشْرِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ قائِماً    يُحَوِّلُ عنَّا الهمَّ وَالكُـرُباتِ

فقال دِعبل: يا بن رسول الله، هذا القبر الَّذي بطوس، قبر من هو!؟ فقال عليه السلام: قبري، ولا تنقضي الأيّام والليالي، حتّى تصير طوس مختلف شيعتي، ألا فمن زارني في غربتي، كان معي في درجتي، يوم القيامة.

وقال: وروى ابن فضّال، عن الرّضا عليه السلام، أنّه قال له رجل من أهل خراسان: يا بن رسول الله، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، كأنّه يقول لي: كيف أنتم، إذا دفن في أرضكم بضعتي، واستحفظتم وديعتي، وغيّب في ثراكم نجمي؟ فقال له الرّضا عليه السلام: أنا المدفون في أرضكم، وأنا الوديعة والنّجم، أَلا فمن زارني، وهو يعرف ما أوجب الله تعالى من حقّي وطاعتي، فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاءَه نجا، ولو كان عليه مثل وزر الثّقلين: الجنّ والإنس.

وعن الهرويّ، قال: سمعت الرّضا عليه السلام يقول: والله، ما منّا إلّا مقتول شهيد، فقيل له: فمن يقتلك يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: شرّ خلق الله في زماني، يقتلني بالسّمّ، ثمّ يدفنني في دار مضيعة، وبلاد غربة.

روى الصّدوق، بإسناده عن أبي الصّلت: أنّ عليّ بن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

82

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 موسى الرّضا عليهما السلام، قال له: غداً أدخلُ على هذا الفاجر، فإن خرجتُ وأنا مكشوف الرّأس، فتكلّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرّأس فلا تكلّمني. قال أبو الصّلت: فلمّا أصبحنا من الغد، لبس ثيابه، وجلس في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك، إذ دخل غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين. فلبس نعله ورداءَه، وقام يمشي، وأنا أتبعه، حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق، عليه عنب، وأطباق فاكهة بين يديه، وبيده عنقود عنب، قد أكل بعضه، وبقي بعضه، فلمّا بصر بالرّضا عليه السلام، وثب إليه وعانقه، وقبّل عينيه، وأجلسه معه، ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا بن رسول الله، هل رأيت عنباً أحسن من هذا؟ فقال له الرّضا عليه السلام: اعفني. فقال له: لا بدّ من ذلك، ما يمنعك منه؟ لعلّك تتّهمنا بشيء، فتناول العنقود، فأكل منه الرّضا عليه السلام ثلاث حبات، ثمّ رمى به وقام، فقال له المأمون: 


إلى أين؟! فقال: إلى حيث وجّهتني، وخرج عليه السلام مغطّى الرّأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدّار، ثمّ أمر أن يغلق الباب، فأغلق، ثمّ نام على فراشه، فمكثت واقفاً في صحن الدّار، مهموماً محزوناً، فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قَطَط الشّعر، أشبه النّاس بالرّضا عليه السلام، فبادرت
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

83

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 إليه، فقلت له: من أين دخلت، والباب مغلق!؟ فقال: الّذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت، هو الّذي أدخلني الدّار، والباب مغلق، فقلت له: ومن أنت؟! فقال: أنا حجّة الله عليك، يا أبا الصّلت، أنا محمّد بن عليّ، ثمّ مضى نحو أبيه، فدخل، وأمرني بالدّخول معه، فلمّا نظر إليه الرّضا عليه السلام، وثب إليه وعانقه، وضمّه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، ثمّ رمى بنفسه على أبيه الرّضا عليه السلام..


شبح عينه ونظر صوب المدينة     جنه يومي عليها بيـمينه
أولن ابنه دخل ليـه ابو نيـنه      هوى فوقه يشمّه على الخدّين
هوى فوقه الجواد بقلب ملهوف    اوگام ايقبله واللّون مخطوف
يگله يبويه موتكم بسموم وسيوف

عظّم الله أجوركم، أدير برأس إمامنا إلى القبلة، ثمّ نادى: في أمان الله... وكأَنِّي بالإمام الجواد عليه السلام.

نهض عنه الجواد وجذب ونِّه               يتيم بـعد أبـوه النّوح فنّه
يويلي عگب ما غسله وفرغ منّه           إجوه أهـل البلد كلهم محـزنين
ترى محلى الأبو لو قال بوي يا بوي        ومحلى الأخو لو صاح خوي يا خوي

دخل النّاس على الجواد، يقولون له: عظّم الله لك الأجر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

84

مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

 بأبيك.ولكنّ الإمام زين العابدين، من الّذي قال له: عظّم الله لك الأجر؟


يگله بوي أنا الصار بيه ما جرى بنّاس     ترى شاهدتك جسد بالخيل تنداس
يا بويه وتالي الوقت نزلتك بلا راس        الجسد والرّاس صارن لي ابمجانين
يا مَيِّتاً تَرَكَ الأَلْبابَ حائِرَةً                  وبِالعَراءِ ثَلاثاً جِسْمُهُ تُرِكَا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

85

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 ِمَامٌ أَوْجَبَ البَاريْ وِلَاهُ                 وطَاعَتهُ عَلَى كُلِّ العِبَادِ

 
ِإمَامُ هُدَىَ مَقَامُ عُلَاهُ أَضْحَتْ           بِهِ الأَمْلَاكُ رَائحَةً غَوَادِي
 
تُقَبِّلُ مِنْـهُ أَرْضَـاً ، قَـدْ أَنَافَتْ       بِرِفْعَتِهَا عَلَى السَّبْعِ الشِدَادِ
 
وَمَا ارتَدَعُوا بَنُو الَعَّباسِ عَمَّا            قُلُوْبُهُمُ حَوَتْهُ مِن عِنَادِ
 
فَسَامُوهُ الأَذَىْ حَسَدَاً بِبَغْيٍ             لَهُمْ قَدْ فَاقَ شَرَّاً بَغْيَ عَادِ
 
وَدَسَّ لِقَتْلِهِ سُمّاً ذُعَافا                 زَنِيْمٌ لَيْسَ يُؤْمِنُ بِالمَعَادِ
 
وَبَاتَ الطُّهْرُ ، وَالأَحْشَاءُ مِنْهُ         بِهَا نَارُ الأَسَى ذَاتُ اتَّقَادِ
 
كَـأَنَّ فُؤَادَهُ ، والـسُمُّ فِيهِ         تُقَطِّعُهُ ظُبَى بِيضٍ حِدَادِ
 
تُقَلِّبُهُ الشُجُونُ عَلَى بِسَاطٍ          مِنَ الأَسْقَامِ دَامِي القَلْبِ صَادِي
 
أَمِثْلُ ابنِ الرَّضَا) يَبْقَى ثَلاثَاً       رَهِينَ الدَّارِ في كُرَبٍ شِدَادِ
 
وَيَقْضَي فَوْقَ سَطْحِ الدَّارِ فرداً      وأَنْتَ مِنَ الغِوَايَةِ في تَمَادِي
 
أَفِتْيَانَ العُلَى مِنْ آلِ فِهْرٍ             وَأَبْطَالَ الوَغَى يَوَم الجِلاَدِ
 
وَأَبْنَاءَ المَوَاضِي والعَوَالِي             وَفُرْسَانَ المُطَهَّمَةِ الجِيَادِ
 
هَلُمُّـوا بالمُسُوَّمـةِ المُـذَاكِي      لِدَرْكِ الثَّارِ ضَابِحَةً عَوَادِي
 
فَإنَّ دِمََـاءَكُم ضَاعَتْ جبَاراً        لَدَى الطُلَقَاءِ مِنْ بِاغٍ وَعَادِي1
 
 
 
 

1-القصيدة للشيخ جعفر النقدي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

86

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 يا صاحب الزمان:

مـصـايب هلـك يا لموعـود                من عـدها تذوب الـرّوح
وحـده تـزيد عن وحـده                    او خـلّت كـل قـلب مجـروح
مـات بديره الغربه                            جـدّك على مصابه انّوح
 
قال المفيد رحمه الله: كان المأمون قد شغف بأبي جعفر عليه السلام، لمَا رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، ما لم يساو فيه أحد من مشائخ أهل زمانه، فزوّجه ابنته أمّ الفضل، وكان متوفّراً على إكرامه، وتعظيمه، وإجلال قدره. 

وروى) بسنده عن الريّان بن شبيب، قال: لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته أمّ الفضل، أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام، بلغ ذلك العبّاسيّين، فغلظ عليهم، واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه، إلى ما انتهى إليه مع الرّضا عليه السلام، فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله يا أمير المؤمنين، أن تقيم على هذا الأمر، الّذي قد عزمت عليه، من تزويج ابن الرّضا، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً، قد ملّكناه الله، وتنزع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

87

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 منّا عزّاً، قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم، قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الرّاشدون قبلك من تبعيدهم، والتّصغير بهم، وقد كنّا في وهلة أي خوف) من عملك مع الرّضا ما عملت، حتّى كفانا الله المهمّ من ذلك، فالله الله، أن تردّنا إلى غمٍّ، قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك، يصلح لذلك دون غيرهم. فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السّبب فيه، ولو أنصفتم القوم، لكانوا أولى بكم.


وأمّا أبو جعفر محمّد بن عليّ، فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للنّاس، ما قد عرفته منه، فيعلموا أنّ الرّأي ما رأيت فيه. فقالوا: إنّ هذا الفتى، وإن راقك منه هديه، فإنّه صبيّ لا معرفة له، ولا فقه، فأمهله ليتأدّب، ويتفقّه في الدّين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرَف بهذا الفتى منكم، وإنّ هذا من أهل بيت، علمهم من الله تعالى، وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدّين والأدب عن الرّعايا النّاقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم، فامتحنوا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

88

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 أبا جعفر، بما يتبيّن لكم به، ما وصفت من حاله. قالوا له: قد رضينا لك، يا أمير المؤمنين، ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه، لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشّريعة، فإن أصاب الجواب عنه، لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك، فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم، وذاك متى أردتم، فخرجوا من عنده، وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، - وهو يومئذ قاضي الزّمان قاضي القضاة) - على أن يسأله مسألة، لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، فاجتمعوا في اليوم الّذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، فأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر عليه السلام دست1، ويجعل له فيه مسورتان-أي وسادتان - ففعل ذلك، وخرج أبو جعفر عليه السلام، وهو يومئذ ابن سبع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام النّاس في مراتبهم، والمأمون

 
 
 

1-الدست: فارسيّة) وتعني صدر البيت أو المجلس، وهو على شكل مقصورة خاصّة كانت تفرد لجلوس الملوك.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

89

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر عليه السلام، فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عليه السلام؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي، جعلت فداك، في مسألة؟ قال له أبو جعفر عليه السلام: سل إن شئت. قال يحيى): ما تقول، جعلني الله فداك، في مُحْرِمٍ قتل صيداً؟ فقال) له أبو جعفر عليه السلام: قتله في حلّ أو حرم، عالماً كان المُحْرِم أم جاهلاً، قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المُحْرِم أم عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطّير كان الصّيد أم من غيرها، من صغار الصّيد كان أم من كباره، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في اللّيل كان قتله للصّيد أم نهاراً، مُحْرِماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان مُحْرِماً؟ فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره. فقال) المأمون: الحمد لله على هذه النّعمة والتوفيق لي في الرّأي، ثمّ نظر إلى أهل بيته، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ قال المأمون لأبي جعفر: إن رأيت، جعلت فداك، أن تذكر الفقه فيما فصّلته، من وجوه قتل المحرم الصّيد، لنعلمه ونستفيده....ثمّ ساق الحديث، وأخذ أبو

 

 

 

 

 

 

 

 

125


90

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 جعفر عليه السلام يبيّن تفاصيل المسألة، ويجيب على كلّ واحدة منها، إلى أن قال:) فأمر المأمون أن يكتب ذلك عنه، وقال له: أحسنت يا أبا جعفر، أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك، فقال) أبو جعفر عليه السلام ليحيى: أسألك؟ قال: ذلك إليك، جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه، وإلّا استفدته منك، فقال) له أبو جعفر عليه السلام: أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النّهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار حلّت له، فلمّا زالت الشّمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا غربت الشّمس حرمت عليه، فلمّا دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان انتصاف اللّيل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟ فقال) له يحيى بن أكثم: والله ما أهتدي إلى جواب هذا السّؤال، ولا أعرف الوجه، فإن رأيت أن تفيدناه؟ فقال) أبو جعفر عليه السلام: هذه أَمَة لرجلٍ من النّاس، نظر إليها أجنبي في أوّل النّهار، فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار ابتاعها عن مولاها، فحلّت له، فلمّا كان عند الظّهر أعتقها، فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها، فحلّت له،

 

 

 

 

 

 

 

 

 

126


91

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها، فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة، كفّر عن الظّهار، فحلّت له، فلمّا كان في نصف اللّيل، طلّقها واحدة، فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر، راجعها، فحلّت له. فأقبل) المأمون على من حضره من أهل بيته، فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة، بمثل هذا الجواب، ويعرف القول فيما تقدم من السّؤال؟ قالوا: لا والله، إنّ أمير المؤمنين أعلم بما رأى. فقال لهم: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السّنّ فيهم، لا يمنعهم من الكمال، أَمَا علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام، وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنّه غيره، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام، وهما.. دون ستّ سنين، ولم يبايع صبيّاً غيرهما؟ أفلا تعلمون ما اختصّ الله به هؤلاء القوم، وأنّهم ذرّية يجري لآخرهم، ما يجري لأوّلهم؟ قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين.


يقول المحدّث القمّي في منتهى الآمال: بعد أن زوّج المأمون ابنته من أبي جعفر الجواد عليه السلام رجع الإمام إلى مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وبقي فيها حتّى وفاة المأمون، وتولّى المعتصم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

92

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 الحكم، وكان المعتصم الخليفة يستمع إلى ما يتردّد عن فضائل أبي جعفر عليه السلام، فتشتعل في صدره نائرة الحسد، وتزيده الأيّام تصميماً على التّخلّص منه، ولمّا عزم على ذلك استدعاه إلى بغداد.


المصيبة:
كان ابن أبي داود القاضي، من أزلام المعتصم، فصار يحرّض المعتصم على قتل الإمام، ويستعجله في ذلك، فأمر المعتصم رجلاً من كتّاب وزرائه، أن يدعو أبا جعفر إلى منزله على وليمة طعام، وألحّ على الإمام في تلبية الدّعوة، ولم يجد الإمام بدّاً من تلبية هذه الدّعوة، وعلم الإمام عليه السلام أنّ أجله قد دنا، وقد أمر المعتصم أن يدسّ له السّمّ في الطّعام).

وما إن أكل الإمام الجواد من ذلك الطّعام، حتّى أحسّ بالسّمّ سرى في بدنه، فدعا بدابّته، فسأله ربّ المنزل أن يقيم، فقال عليه السلام: خروجي من دارك خير لك!!

وفي رواية أخرى، أنّ المعتصم دسَّ إليه السّمّ على يد أمّ الفضل، زوجة الإمام الجواد عليه السلام، حيث وضعت اللّعينة السّمّ لإمامنا في شراب حامض الأترج – أي اللّيموناضة -
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

93

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 وقدّمته في قدح إليه عند الإفطار، وكان إمامنا صائماً، وكان الوقت قائظاً شديد الحرّ، فلمّا جرع من ذلك القدح جرعة، ارتعشت يدُه، وتغيّر لونه، وصار يشعر، كأنّ من فمه إلى سرّته تُقطّع بالسّكاكين، وتُشرّح بالمواسّ من شدّة الألم، فلمّا رأته زوجته على هذا الحال، صارت تبكي، فالتفت إليها الإمام الجواد، وقال لها: أتبكين وقد قتلتيني؟ قتلك الله، ورماك ببلاء لا ينستر، وعُقرٍ لا ينجبر، فغضبت الخبيثة، وأخرجت الجواري من الدّار، وأغلقت الباب على إمامنا وتركته وحيداً يتقلّب على فراشه..


ووقع الإمام على فراش الموت، وقد سرى السّمّ في بدنه، حتّى تغيّر لونه، وظلّ في داره وحيداً، ينازع سكرات الموت، ولا من يسقيه شربة ماء عظّم الله أجوركم)، حتّى فاضت روحه الطّاهرة، مسموماً، غريباً، محتسباً، صابراً

ويلي: 

ضعفت مهجته بونّه شديده     كأنّـه ألـوى لعند الموت جيده
عدل رجله يويلي او مدّد ايده     وقضى نحبه غريب الدّار بالسّم

أقول: ألا من ينوح ويبكي إمامنا الجواد؟ نعم، بكاه أهل السّماء، كما ورد عن إمامنا الرّضا عليه السلام، أنّه قال في حقّ ولده الجواد لَمّا ولد: يقتل غصباً، فيبكي له وعليه أهل السّماء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

94

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 آه..


أَلاَ يا عَيْنُ جُودِي لِلْجَوادِ               وَسُحِّي أَدْمُعاً عَلَـقَ الفؤادِ
فلمَ لا أبكي مَنْ أَبْكَى الرَّسُولا           وَأَشْجَى الطُهْرَ حَيْدَرَ وَالبَتُولا
وَأَدْهَشَ مِنْ عَوالِمِها العُقُولا           وَمْأتَـمُـهُ يـقـامُ بِـكلِّ نادِ
بِبَغْدادٍ قَضَى سُـماً غرِيبا              وَلـَمْ يـُرْسِلْ لَهُ أَحدٌ طَبِيباً

أقول: الإمام الجواد عليه السلام يستسقي الماء، فلم يجد أحداً يسقيه! كذلك جدّه أبو عبد الله الحسين عليه السلام، يوم عاشوراء استسقى الماء، فلم يجد أحداً يسقيه! صاح: يا قوم، اسقوني شربة من ماء، فلقد تفتّت كبدي من الظّمأ، قالوا: يا حسين، لن تذوق الماء، حتّى ترد الحامية، فتشرب من حميمها، قال: أنا أرد الحامية؟! لا والله، بل أرد على جدّي رسول الله، فيسقيني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً.

الإمام الجواد صار يتمايل من شدّة السّمّ، كذلك إمامنا الحسين عليه السلام، لمّا أصيب بذلك السّهم، مال ليسقط إلى الجهة اليمنى، مال الفرس معه، مال ليسقط إلى الجهة اليسرى، مال الفرس معه، قال: يا جواد، لا طاقة لي بالجلوس على ظهرك، أنزلني إلى وجه الأرض، قالوا: فمدّ الفرس يديه ورجليه، حتّى ألصق بطنه بالأرض، وأنزل إمامنا برفقٍ ولين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

95

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 هِوَى والمهر قام يحوم دونه     يحامي عن وليّه لا يجونه


بابَ المُراد، أيّها الجواد، بأبي أنت وأمّي،. بقيت ثلاثة أيّام، تصهرك الشمس، ورأسك على جسدك، ثيابك على بدنك، لكنَّ جدَّك الحسين بقي في كربلاء ثلاثة أيّام، جثّة بلا رأس..

عَارِي اللِّباسِ، قَطِيعَ الرَّأْسِ، مُنْخَمِد    الأَنْفاسِ، في جَنْدَلٍ كَالْجَمْرِ مُضْطَرِمِ

ساعد الله قلب أخته زينب، وهي تراه على تلك الحال.

ويلي نايم أخيّي اشلون نومـه     اوحرّ الشمس غيّر ارسومه
                اوفوگ الذّبح سلبوا اهدومه

يبو روح العزيزة شلون ساجم       بهالشّمس وعلى التّربان نايم
ثلثة تيّام عن الماي صايم             وتاليها يا بو سكنة مطبّر

إمامنا الجواد عليه السلام شُيّعت جنازته بعزّ واحترام، بعد أن غُسّل وكفّن، ولكنّ جدّه الحسين عليه السلام، هل غسّل وكفّن؟ هل شيّعت جنازته؟ أقول: نعم، ولكن كيف؟ غُسّل بفيض دمه، وكفّنته الرّمال، وشُيّع رأسه في البلدان على رأس الرّمح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

96

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 وَقَالُوا: لَمْ يُغَسَّلْ شِبْلُ طَهَ                      أَلَمْ يَكُ غُسْلُهُ فَيْضَ الوَرِيدِ

وَقَالُوا: لمْ يُقَلَّـبْ، وَالـعوَادِي                تُقَـلِّبُهُ عَلَى وَجْـهِ الـصَّعِيدِ
وَقَالُوا: لَمْ يُكَفَّنْ، والسَّـوافِي                  عـَلَيْهِ نَـسَجْنَ ضافِيَـةَ البُرُودِ
وَقَالُوا: لَمْ يُشَيَّعْ فَـوْقَ نَعْشٍ                  كَـتَشيِيعِ الـجـَنَائِزِ لِـلُّحودِ
فَقُلْتُ: إِذاً لِمَـنْ في الـرُّمْحِ رَأْسٌ              يُـطافُ بـِهِ البلادَ إِلَى يَزِيدَ

نعي:

أو يلي: كل ميّت يجيه الموت          مات وينسفـك دمه
يهـلون الدّموع عـليـه            ويـموت بـحـضن أمّه
لكن الغريب أو مات بغربة)           ذاك حسين أبو الـيـمـّه
مات ابـيـّن عدوانـه              ابـسـيوف عـليه ملتمّه
أو كل من مات يلتمون               كل هلـه وبنـي عمه 
هذا يقبّل بنـحره                    وذاك يطـيـح ويـشمّه
بس حسـين لمن مات                 مات وينسفـك دمه
ويحز الشّـمر نـحره                 ولا واحـد اجه يمّـه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

97

مجلس شهادة الإمام محمّد الجواد عليه السلام

 تَبْكِيكَ عَيْنِي لَا لِأَجْلِ مَثـُوبَةٍ         لَكِنَّـما عِيْـنِي لِأَجْلِكَ بَـاكِيَـهْ 

تَبْتَلُّ مِنْكُمْ كَرْبَلا بـِدَمٍ، وَلَا          تَبْتَلُّ مِنِّي بِالدُّمُوعِ الجَارِيَهْ؟
أَنْسَتْ رَزِيَّتُكُمْ رَزايانا الـَّتي          سَلَفَتْ، وَهَوَّنَتِ الرَّزايا الآتِيَهْ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

98

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 دَهْيَاءُ رَجَّتْ في الدُّنَى أَقْطَارَهَا         هَيْهاتَ أَنَّ السَّيْفَ يُدْرِكُ ثَارَها

 
وَمُصِيبَةٌ طَرَقَتْ فَأَضْرَمَتِ الأَسَى      في كُلِّ جَانِحَةٍ وَأَوْرَتْ نَارَها
 
هَذَا عَلِيٌّ غَالَهُ سُمُّ العِدَى              شـَقَّتْ لَهُ شَمْسُ الهُدَى أَزْرَارَها
 
يَقْضِي بِسَامُرَّا فَتَبْكِي بَعْدَما           هَدَّتْ صَوَامِعَ عِزِّها ومَنارَها
 
عَجَباً لُيُوثُ الحَرْبِ) قَرَّتْ عَيْنُها     كَيْفَ اسْتَلَذَّتْ في الهَوَانِ قَرارَها
 
لَمْ نَرْضَ إِذْ دُفِنَتْ سَلِيلَةُ أَحْمَد        لَيْلاً وَعـَفَّى حَيْدَرٌ آثارَها
 
حَتَّى تَعَفَّتْ بِالبَقِيعِ مَقَابِرٌ            كَانَتْ مَلاَئِكَةُ السَّما زُوَّارَها
 
حَتَّامَ يا بْنَ مُحَمَّدٍ تُغْضِي وَلَمْ        تَشْحَذْ لِحَرْبِ عِدَاكُمُ بَتَّارَها؟
 
وَتَرَتْكَ في آباكَ أَبْناءُ الشَّقا          فَانْهَضْ فَدَيْتُكَ مُدْرِكاً أَوْتارَها
 
حَتَّى مَتَى تُغْضِي وَشِرْعَةُ جَدِّكُمْ     جَذَّ العِدَاةُ يَمِينَها ويَسارَها؟
 
فَانْهَضْ فِداؤُكَ مُهْجَتِي عَجِلاً، فَقَدْ  ظَهَرَ الفَسادُ مُطَبِّقاً أَمْصارَها
 
واطْلُبْ بِثارِ الطُّهْرِ جَدِّكَ إِنَّهُ        قَدْ ماتَ مَسْمُوماً فَشُنَّ مَغارَها1
 
 
 
 

1-  القصيدة لّلسيّد مهدي الأعرجيّ  ره. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

99

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 شعبي:


من يـثـرب الـسامرّه           المعـتز جـاب أبـو محمد

هـذا الرّجـس جار اعـليه          أوسمّه اوجبده اتمرّد

مات ابـديرة الغربة..والسّم      ياكل ابگلبه.. وابنه دمعه ايصبّه

يـنوح اعـليـه ودموعـه          عالـخـدّين منثـوره
 
شلـها الـوادم اعليكم          يشـراف العـرب يمـجـاد

خلـوكم شتـت بالبر         أو مـنكـم كـل قبر ببلاد

وصّه المـصطفى بيكم       واهم سـوَّوا عكـس ما راد

يقول المحدّث القمّي عليه الرّحمة، في منتهى الآمال: إنّ ما أنزله المتوكّل العباسيّ، من عذاب وأذى بالإمام عليّ النّقيّ عليه السلام، وبغيره من شيعته ومحبّيه، وبالعلويّين وبني فاطمة عليها السلام، إلى ما أنزله بقبر الإمام الحسين عليه السلام وبزوّاره، ممّا انقلب جميعه عليه، هو أكثرمن أن يُحتمل، فقد كان المتوكّل رجلاً خبيث السّريرة، دنيء الفطرة، وكان لئيماً، شديد العداء لآل أبي طالب، يأخذهم بالظّنّ والتّهمة، وكان يدأب على أذيّتهم وتعذيبهم، وإنّ إصراره على محو آثار قبر الحسين عليه السلام، وما أنزله من الأذى بزوّاره، أظهر من الشّمس، وأبين من الأمس.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

100

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 حتّى قال الشّاعر فيه:


تَاللهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ                قَـتلَ ابْنِ بِنتِ نَبِيِّها مَظْلُوما
َلَقَدْ أَتاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثـلِها              هَذَا لعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهدُوما
أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا         في قتْلِهِ فـَتتَبعُوهُ رَميما

وروى أبو الفرج الأصفهانيّ، أنّ المتوكّل جعل عمر بن فرج الرّخجيّ والياً على مكّة والمدينة، فكان عمر يمنع النّاس من البرّ بآل أبي طالب، وتشدّد في ذلك، حتّى خاف النّاس على أرواحهم، فكفّوا أيديهم عن رعاية العلويّين، فضاق الأمر على بني أمير المؤمنين عليه السلام، حتّى أنّ ثياب العلويّات غدت عتيقة ممزّقة، فلم يُرَ على إحداهنّ ثوبٌ سليمٌ تصلّي فيه، سوى قميص عتيق، كنّ يتناوبن عليه إذا أردن الصّلاة، فإذا انصرفن من الصّلاة، نزعنه ولبسن غيره، ولا زلن يقاسين هذه العسرة طيلة حياة المتوكّل.

وظلّ الإمام يعاني صروف الأذى من المتوكّل، وما بعده من بني العبّاس، وفيما يروى، أنّ المتوكّل أرسل جماعة من الأتراك، وغيرهم من قساة القلب، فهاجموا دار الإمام عليه السلام في جوف اللّيل، فوجدوه في بيته وحده، مغلق عليه، وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلّا الرّمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصّوف، وهو يترنّم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

101

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 بآيات القرآن في الوعد والوعيد، فأخذوه إلى المتوكّل على الحالة، الّتي وجدوه عليها، فمثل بين يديه، والمتوكّل على مائدة الخمر، وفي يده كأس، فلمّا رآه أعظمه، وأجلسه إلى جنبه. وقال الّذي أتى به: يا أمير المؤمنين، لم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه، ولا حالة يتعلّل عليه بها، فناوله الكأس الّذي في يده، فقال الإمام عليه السلام: 


والله، ما خامر لحمي ودمي. ثمّ قال له المتوكّل: أنشدني شعراً أستحسنه، فاعتذر الإمام عليه السلام وقال: إنّي لقليل الرّواية للشّعر)، فألحّ عليه، ولم يقبل له عذراً، فأنشده:
 
باَتُوا عَلَى قُلَلِ الأَجْبالِ تَحْرُسُهُمْ        غُلْبُ الرِّجالِ فَمَا أَغْنَتْهُمُ القُلَلُ

واسَتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعاقِلِهِمْ          فَأُودِعُوا حُفَراً، يا بِئْسَ ما نَزَلُوا

نَاداهُمُ صارِخٌ مِنْ بَعْدِ ما قُبِرُوا         أَيْنَ الأَسِرَّةُ والتِّيجانُ والحُلَلُ؟

أَيْنَ الوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً          مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الأَسْتارُ والكِلَلُ؟

فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءلَهُمْ        تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْها الدُّودُ يَقْتَتِلُ

قَدْ طَالَما أَكَلُوا دَهْراً وَقَدْ شَرِبُوا       فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُول الأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا

وطَالَما عَمَّرُوا دُوراً لِتَحْضُنَهُمْ          فَفارَقُوا الدُّورَ والأَهْلِينَ وانْتَقَلُوا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

102

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 وطَالَما كَنَزُوا الأَمْوالَ وادَّخَرُو   فَخَلَّفُوها عَلَى الأَعْداءِ وارْتَحَلُوا

أَضْحَتْ مَنازِلُهُمْ قَفْراً مُعَطَّلةً    وسَاكِنُوها إِلَى الأَجْداثِ قَدْ وَصَلُوا

فأشفق من حضر على أبي الحسن الهادي عليه السلام، وبكى المتوكّل بكاءً شديداً، حتّى بلّت دموعه لحيته، وبكى من حضر.

ثمّ أمر برفع الشّراب.

وهكذا كان المتوكّل يستدعيه بين الحين والآخر، بقصد الإساءة إليه، ولكنّ الله سبحانه يصرفه عنه.

وكان المتوكّل يقول: والله لأقتلنّ هذا المرائي.. الّذي يدّعي الكذب، ويطعن في دولتي.. والله، لأحرِقنّه بعد قتله، ولكن كان الله تعالى يصرفه عن قتله عليه السلام.

روى ابن بابويه وآخرون، عن الصّقر بن أبي دلف، أنّه قال:لمّا حمل المتوكّل سيّدنا أبا الحسن عليه السلام إلى سرّ من رأى، جئت أسأل عن خبره، وكان عليه السلام محبوساً عند الزّرّاقيّ، حاجب المتوكّل، فنظر إليّ الزّرّاقيّ، فقال: يا صقر، ما شأنك؟ وفيم جئت؟ قلت: لخير، فقال: لعلّك تسأل عن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

 


103

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين، فقال: اسكت، مولاك هو الحقّ، فلا تحتشمني، فإنّي على مذهبك، فقلت: الحمد لله.


المصيبة:

قال: أتحبّ أن تراه؟ قلت: نعم، قال: اجلس حتّى يخرج صاحب البريد، فجلست، فلمّا خرج، قال لغلام له: خذ بيدك الصّقر، وأدخله إلى الحجرة الّتي فيها العلويّ المحبوس، وخلّ بينه وبينه؛ فأدخلني إلى الحجرة، فإذا هو جالس على صدر حصير، وبحذاه قبر محفور، فسلّمت عليه، فردّ عليّ، ثمّ أمرني بالجلوس، ثمّ قال لي: يا صقر، ما أتى بك؟ قلت: سيّدي، جئت أتعرّف خبرك، ثمّ نظرت إلى القبر فبكيت، فنظر إليّ، فقال: يا صقر، لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ولكن، وبعد وفاة المتوكّل الّذي جرّع الإمام الغصص طيلة أربعة عشر عاماً، عاش الإمام مع حكّام ظالمين، من حكّام بني العبّاس، أجبروه على البقاء في سامرّاء، عاش سبعة أعوام مع المنتصر، والمستعين، والمعتزّ في سامراء.

بقي عليه السلام ملازماً بيته، كاظماً غيظه، صابراً على ما مسّه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

104

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 من الأذى، من حكّام زمانه، حتّى قضى نحبه، ولقى ربّه، مظلوماً، شهيداً، متأثّراً بسمّ دسّه إليه المعتزّ العبّاسيّ.


ثمّ قام الإمام العسكريّ عليه السلام بتجهيز أبيه وتغسيله، ومن حوله أهل بيته؛ صرخة واحدة: أي وا إماماه، وعليّاه

شبله يغسّله او تتصارخ اعياله               اوشـاله اونزّله اوفوگه التّرب هاله
بس احسين محّد غسّله أو شاله               ثلث تيّام ظل مطروح بالوادي 
ما إِنْ بَقِيتَ مِنَ الهَوانِ عَلَى الثَّرَى            مُلْقىً ثَلاثـاً في رُبىً وَوِهادِ
إِلَّا لِكَيْ تَقْضِي عَلَيْكَ صَلاَتَها                زُمَرُ المَلائكِ فَوْقَ سَبْعِ شِدادِ

نعم، اجتمع النّاس في دار الإمام الهادي عليهما السلام، وبينما هم كذلك، وإذ قد فتح باب الرّواق، وقد خرج منه إمامنا العسكريّ عليه السلام، لكن بأيّ حال؟ فقد خرج حاسراً، مكشوف الرّأس، مشقوق الثّياب، كأن وجهه وجه أبيه، لا يخطئ منه شيئاً، كأنّي به ينادي: وا أبتاه.

أقول: إذاً لا تلام سيّدتنا زينب عليهما السلام، لمّا نظرت إلى رأس أخيها الحسين عليه السلام في طشت، بين يدي يزيد بن معاوية، وبيده السّوط، وهو يضرب به ثنايا أبي عبد الله؟ لا تلام حينما نادت بصوت حزين يقرّح القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكّة ومنى، يا ابن فاطمة الزّهراء، سيّدة النّساء، يا ابن بنت المصطفى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

105

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 يحسين راسك حين شفـته        تـلعب عصـه ايزيد اعله شفته

ذاك الوگـت وجهي لطمته       يا سـلوة الـهادي او مـهـجته

أبوذية

هظمنه ما جره اعله احد وشافه              اوبـره بينه العدو جرحـه وشـافه
على رأس السّبط تلعـب وشـافه          عصه ايزيد أو يسب راعي الحميّه

وهذا المشهد ما بارح خيال زينب عليها السلام، لذا لمّا رجعت يوم أربعين الحسين عليها السلام، وصلّت بحذاء قبره الشّريف، ألقت إليه بالشّكوى..

تگله خويه لفينه من اليسر للغاضريّه          يخويه ضيوف عندك هالمسيّه  
يبو السـّجاد جيناك بشـكيّه                لـبونا يـزيـد بالدّيـوان شتّم
 
ما هي شكواكِ يا زينب؟

أخي حسين، قام يزيد على قدميه، وصار يشتم أبي عليّ!!

أمّا الشّكوى الأخرى:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

106

مجلس شهادة الإمام عليّ الهادي عليه السلام

 خويه بس هاي ما كانت على البال     أنا أمشي بيسر وبزنودي الحبال

وراسك بالطّشت وتشوفه العيـال      بـيده العود ويوسّم المبسم

والأشدّ على قلب زينب عليها السلام، أنّها جاءت إلى أخيها بالرّأس..

تگله خويه:

أنا جيتك وجبت الرّاس وياي         من السّبي الكانت بيه بلواي    
                دنهض يخوي ونشّف دمع عيناي  


عُرْيانَ يَكْسُوهُ الصَّعِيدُ مَلابِساً           أَفْدِيهِ مَسْلُوبَ اللِّباسِ مُسَرْبَلاَ
مُتَوَسِّداً حَرَّ الصُّخُورِ مُـعَفّـَراً         بِدِمَائِهِ تَرِبَ الجَبِينِ مُرَمَّلا
ولِثَغْرِهِ تَعْلُو السياطُ وطَالَما             شَغَفاً لَهُ كانَ النَّبِيُّ مُقَبِّلا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

107

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 قَدْ شَفَّنِي الوَجْدُ مِنْ قَرْنٍ إِلَى قَدَم           فَبِتُّ والطَّرْفُ لَمْ يَهْجَعْ وَلَمْ يَنَمِ

 
مَا سَرَّنِي الدَّهْرُ فِيمَا فَاتَ مِنْ عُمُرِي        يَوْماً وَلَا خَفَّ فِيهِ بُرْهَةً أَلَمِي
 
أَرْعَى النُّجُومَ إِذا ما اللَّيْلُ جَنَّ وَإِنْ ِ          جَاءَ النَّهَارُ بِدَمْعٍ عِشْتُ مُنْسَجِمِ
 
أُصَارِعُ الهَمَّ في السَّلْوَى فَيَصْرَعُنِي        هَمِّي فَأَرْجِعُ مَغْلُوباً عَلَى هِمَمِي
 
فَالعَيْنُ تَأْبَى بِأَنْ تَرْقَى مَدَامِعُهَا             وَالقَلْبُ يَأْبَى بِأَنْ يَشْفَى مِنَ السَّقَمِ
 
حَتَّى أَرَى الطَّلْعَةَ الغَرَّاءَ قَدْ بَزَغَتْ        لِلَغائِبِ المُرْتَجَى مِنْ جَانِبِ الحَرَمِ
 
لِيَأْخُذَ الثَّأْرَ حَتَّى ثَأْرِ والِدِهِ                مِنْ عُصْبَةٍ ما رَعَتْ حَقّاً لِذِي رَحِمِ
 
يَا سَيِّدِي، لِأَبِيكَ "العَسْكَرِيِّ" لَقَدْ          أَسَاءَتِ القَوْمَ في فِعْلٍ وفي كَلِمِ
 
حَتَّى قَضَى اليَوْمَ مَسْمُوماً فَوا أَسَفِي      إِذْ أَنْشَبَتْ فِيهِ ظِفْرَ المَكْرِ والنِّقَمِ
 
أَنْتَ المُعَزَّى وما إِلَّاكَ مُنْتَظَرٌ            يُحِيلُ أَعْداءَ دِينِ اللهِ لِلْعَدَمِ
 
فَيَوْمُهُ كَانَ يَوْماً حَزَّ في كَبِدِ             الإِسْلامِ جُرْحاً مِنَ الأَحْزانِ وَالأَلَمِ
 
فَمَا غِيَابُكَ إِلَّا مِحْنَةٌ عَظُمَتْ             عَلَى مُحِبِّيكَ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
 
هَلْ نَبْكِها أَمْ نُخَلِّي الدَّمْعَ مِنْ أَسَفٍ      يُدْمِي مَحاجِرَنا لِلْوالِدِ الشَّهِمِ؟
 
أللهُ أَكْبَرَ كَمْ قاسَيْتَ مِنْ مِحَنٍ            ! ومِنْ كُرُوبٍ عَصَتْ عَدّاً عَلَى القَلَمِ؟1
  
 
 

1- القصيدة للّشيخ محمّد سعيد المنصوريّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

 


108

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 شعبي:

 
تظل صابر على أخذ الثّار لليوم       يو مذبوح يو مقتول بالسّم
يا هو المِن هَلَك ما راح مظلوم       يبو صالح جزاك العِتَب واللّوم 
 
قال المحدّث القمّيّ، في الأنوار البهيّة:
 
عن السّيّد بن طاووس، قال: "إعلم، أنّ مولانا الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام، كان قد أراد قتله الثّلاثة ملوك، الّذين كانوا في زمانه، حيث بلغهم أنّ مولانا المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، يكون من ظهره صلوات الله عليه، وحبسوه عدّة دفعات، فدعا على من دعا عليه منهم، فهلك في سريع من الأوقات".
 
وإليك1 بعضها:
 
أ ـ المستعين العبّاسيّ يعزم على قتل الإمام:
 
صمّم المستعين يوماً في أيّام خلافته على قتل الإمام، ولذلك أمر حاجبه أن يخرج الإمام من سامراء إلى طريق الكوفة، ويقتله في الطّريق.
 
قال ابن طاووس، في كتاب مهج الدّعوات: من كتاب الأوصياء لعليّ بن محمّد بن زياد الصّيمريّ، قال:
 
لَمّا همّ المستعين في أمر أبي محمّد عليه السلام بما همّ، وأمر
 
 
 

1-الإرشاد ص345.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

109

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 سعيداً الحاجب بحمله إلى الكوفة، وأن يحدث عليه في الطّريق حادثة، انتشر الخبر بذلك في الشّيعة فأقلقهم، وكان بعد مضي أبي الحسن عليه السلام بأقلّ من خمس سنين. فكتب إليه محمّد بن عبد الله، والهيثم بن سيّابة: بلغنا، جعلنا فداك، خبر أقلقنا، وغمّنا، وبلغ منّا، فوقّع: بعد ثلاث يأتيكم الفرج. قال: فخُلِع المستعين في اليوم الثّالث، وقَعَد المعتزّ، وكان كما قال1.

 
ب ـ ومرّة أخرى أيضاً:
 
وعن أحمد بن الحرث القزوينيّ، قال: كان عند المستعين بغلة، لم ير مثلها حسناً وكبراً، وكانت تمنع ظهرها واللّجام، وقد جمع الرّواض، فلم يكن لهم حيلة في ركوبها، فقال بعض ندمائه: ألا تبعث إلى الحسن حتّى يجيء؟ فإمّا أن يركبها، وإمّا أن تقتله. فبعث إلى أبي محمّد الحسن، ومضى معه أبي، فلمّا دخل الدّار، كنت مع أبي، فنظر أبو حمّد إلى البغلة، واقفة في صحن الدّار، فوضع يده على كتفها، فتعرّقت البغلة. ثمّ صار إلى المستعين، فرحّب به، وقرّب، فقال: ألجم هذا البغل، فقال أبو محمّد لأبي: ألجمه. فقال المستعين: ألجمه أنت، فوضع أبو محمّد
 
 
 

1-البحار، ج50، ص312.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

110

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 طيلسانه1، ثمّ قام فألجمه، ثمّ رجع إلى مجلسه. ثمّ قال: يا أبا محمّد أسرجه. فقال أبو محمّد عليه السلام لأبي: أسرجه. فقال المستعين: أسرجه أنت، يا أبا محمّد. فقام ثانية، فأسرجه، ورجع، فقال: ترى أن تركبه. قال: نعم، فركبه أبو محمّد من غير أن تمتنع عليه، ثمّ ركضها في الدّار، ثمّ حمله على الهملجة2، فمشى أحسن مشي، ثمّ نزل، فرجع إليه، فقال المستعين: قد حملناك عليه. فقال أبو محمّد لأبي: خذه فأخذه أبي، وقاده3.

 
ج ـ وقد همّ الزّبيريّ بذلك أيضاً:
 
روى الطّبرسيّ، عن أحمد بن محمّد بن عبد الله، قال: خرج عن أبي محمّد عليه السلام حين قُتِل الزّبيريّ: هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه. زعم: أنّه يقتلني وليس لي ولد، فكيف رأى قدرة الله فيه؟!4 والزّبيريّ هذا، هو المعتزّ العبّاسيّ.
 
د ـ والمهتدي العبّاسيّ، قد همّ بذلك أيضاً:
 
وعزم المهتدي أيضاً في أيّام خلافته على قتل الإمام
 
 
 

1-في المنجد: الطّيلسان: كساء أخضر يلبسه الخواص من المشايخ والعلماء.
2-في المنجد: هملج هملجةً البرزون أي الدّابة): مشى مشية سهلة في سرعة.
3- ألقاب الرّسول وعترته، ص237.
4-إعلام الورى بأعلام الهدى، ص414.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

111

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 عليه السلام، ولكنّ الله دفع شرّه ببركة دعاء الإمام نفسه عليه السلام، فشغله الله بنفسه، حتّى قُتِل على يد الأتراك.


روى المجلسيّ عن الصّيمريّ عن أبي هاشم، قال: كنت محبوساً عند أبي محمّد عليه السلام في حبس المهتدي، فقال لي: يا أبا هاشم، إنّ هذا الطّاغي أراد أن يعبث بالله عزّ وجلّ في هذه اللّيلة، وقد بتر الله عمره، وجعله للقائم من بعده، ولم يكن لي ولد، وسأرزق ولداً.

فلمّا أصبحنا، شغب الأتراك على المهتدي، وأعانهم الأمّة؛ لمّا عرفوا من قوله بالاعتزال والقدر، وقتلوه، ونصّبوا مكانه المعتمد، وبايعوا له، وكان المهتدي قد صحّح العزم على قتل أبي محمّد عليه السلام، فشغله الله بنفسه، حتّى قُتِل، ومضى إلى أليم عذاب الله.

هـ - السّعي لقتل الإمام عليه السلام، لقطع نسل الإمامة:

وممّا يشهد على أنّ الإمام عليه السلام لم يمت حتف أنفه: أنّ الخلفاء العبّاسيّين، وخاصّة المعتمد العبّاسيّ، كانوا حريصين على تنفيذ جريمة قتل الإمام العسكريّ عليه السلام، من أجل قطع استمرار سلسلة الإمامة الطّاهرة.

هذا ما أكّده الإمام عليه السلام لنا، حينما وُلِدَ ولده القائم المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

112

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 فقد روى الشّيخ الطّوسيّ، في كتاب الغيبة عن الكلينيّ، رفعه، قال: قال أبو محمّد عليه السلام: حين وُلِدَ الحجّة عليه السلام زعم الظّلمة أنّهم يقتلونني، ليقطعوا هذا النّسل، فكيف رأوا قدرة الله؟ وسمّاه المؤمّل.


وكان المعتمد ينقل الإمام العسكريّ من سجن إلى سجن، حتّى نُقل الإمام عليه السلام إلى سجن عليّ بن أوتاش، وكان شديداً على آل أبي طالب، ولكنّ الإمام عليه السلام وعظه، وحذّره غضب الجبّار، فما مضى يوماً على وجود الإمام عليه السلام عنده، حتّى وضع خدّه لأبي محمّد عليه السلام، وكان لا يرفع بصره، إجلالاً وإعظاماً له.

المصيبة:

وخرج الإمام عليه السلام من عنده، وهو أحسن النّاس بصيرة، وأحسنهم قولاً فيه، ثمّ سلّموا الإمام عليه السلام إلى شخص آخر، شديد العداوة لآل محمّد سلام الله عليهم، اسمه نحرير، وكان يُضيّق على الإمام عليه السلام، ويؤذيه. فقالت له امرأته: ويلك، اتّق الله، فإنّك لا تدري من في منزلك، وإنّي أخاف عليك منه، وذكرت له صلاحه وعبادته، فاشتدّ عداوة، وقال: والله، لأرمينّه بين السّباع والأسود، ثمّ استأذن في ذلك الخليفة، فأذن له، فرمى الإمام عليه السلام بين السّباع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

113

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 والأُسود، ولم يشكّ في أكلها إيّاه، فنظر إلى الموضع ليعرف الحال، فوجد الإمام عليه السلام قائماً يُصلّي، والسّباع حوله تلوذ به، ولم يزل ثلاثة أيّام بين الأُسود، وهو يُصلّي، فأخرجه بعد ذلك إلى سجن آخر، فما زال يُنقل من سجن إلى آخر.

 
عُمَره يا ويلي تسعة وعشرين ما زاد     ومدَّة حياته ما اهتنى بشرب ولا زاد
بسّ في السّجون معذِّبينَه قوم ا لأوغاد    من سجن لآخر يا ويلي ياخذونَه
 
إلى أن دسّ إليه المعتمد سُمّاً قاتلاً، وضعه له في الطّعام، فوقع الإمام عليه السلام مريضاً، وطال مرضه ثمانية أيّام، وجسمه يزداد ضعفاً، والآلام تشتدّ عليه، فيُغشى عليه ساعة بعد ساعة.
 
- حالة الاحتضار، برواية النّوبختيّ:
 
روى الشّيخ الطّوسيّ، بسنده عن إسماعيل النّوبختيّ، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام، في المرضة الّتي مات فيها ـ وأنا عنده ـ إذ قال لخادمه عقيد، وكان الخادم أسود نوبيّاً، قد خدم من قبله عليّ بن محمّد عليهما السلام، وهو ربيّ الحسن عليه السلام، فقال: يا عقيد اغلِ ماءً بمصطكى1، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية، أمّ الخلف عليه السلام، فلمّا صار 
 
 
 

1- المصطكى: شجر له ثمر يميل طعمه إلى المرارة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

114

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 القدح في يديه، وهمّ بشربه، فجعلت يده ترتعد، حتّى ضرب القدح ثنايا الحسن عليه السلام، فتركه من يده، وقال لعقيد: ادخل البيت فإنّك ترى صبيّاً ساجداً، فأتني به.


قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى؛ فإذا أنا بصبيّ ساجد، رافع سبّابته نحو السّماء، فسلّمت عليه، فأوجز في صلاته، فقلت: إنّ سيّدي يأمرك بالخروج إليه، إذ جاءت أُمّه صقيل، فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام.

قال أبو سهل: فلمّا مثل الصّبيّ بين يديه، سلّم، وإذا هو دُريّ اللّون، فلمّا رآه الحسن عليه السلام، بكى، وقال: يا سيّد أهل بيته، اسقني الماء، فإنّي ذاهب إلى ربّي، وأخذ الصّبيّ القدح المغليّ بالمصطكى بيده، ثمّ حرّك شفتيه، ثمّ سقاه، فلمّا شربه، قال: هيّئوني للصّلاة، فطرح في حجره منديل، فوضّأه الصّبيّ واحدة واحدة، ومسح على رأسه وقدميه، فقال له أبو محمّد عليه السلام: أبشر يا بنيّ، فأنت صاحب الزّمان، وأنت المهديّ، وأنت حجّة الله على أرضه.

أقول: سيّدي يا صاحب الزّمان، قدّمت ماءً لأبيك العسكريّ عليه السلام، سيّدي لكن جدّك الحسين عليه السلام، نادى يوم العاشر من محرّم: "يا قوم، اسقوني جرعة من الماء، فلقد تفتّت كبدي من شدّة العطش"، سيّدي لم يُبلّل شفتيه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

115

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 بقطرة ماء... سيّدي حرموه الماء وأجابوه: يا حُسين، لن تذوق الماء حتّى ترد الحامية، فتشرب من حميمها، قال: "أنا أرد الحامية؟! لا والله، بل أرد على جدّي رسول الله، فيسقيني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأُ بعدها أبداً".


نعم، كانت عنده زينب عليها السلام، ساعد الله قلب زينب عليها السلام، عَزَّ عليها أن تنظر إلى أخيها الحسين عليه السلام، عيناه غائرتان في أُمّ رأسه، شفتاه ذابلتان من العطش، لسانه 
كالخشبة اليابسة، يعزُّ على زينب أن تنظر إلى أخيها بتلك الحالة، تريد أن تُقدّم الماء إليه، ولكن من أين تأتيه بالماء؟

يا ناس درب المشرعَة امنين       أنا عطشان اخَيّي يا مسلمين 
                    أنا بعيني لجيب الماي لحسين

خوي أنا ما بعيني دَمع واسقيك     يـا نور عيني اشْبيدي عليكْ
                        خواتك تريد الجيّه ليكْ

ساعة احتضار إمامنا العسكريّ عليه السلام، جلس ولده إمامنا صاحب الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريفعند رأسه، ولكن أسفي على غريب كربلاء، من الّذي أخذ برأسه؟ بقي رأسه على وسادة من التّراب، خدّه على وسادة من التّراب، خدّه الأيمن على وجه التّراب، وخدّه الأيسر تحت حرارة الشّمس!

نعم، الّتي جاءت إليه، وجلست عند رأسه أخته زينب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

116

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 ولكن عزّ عليها أن تنظر إلى أخيها الحسين سلام الله عليه) على وجه التّراب تحت أشعّة الشّمس.


لنوحن وقضّي العـمر بالنّوح             واعمي عيوني واتلف الرّوح  
اشلون الصّبر وحـسين مذبوح            وجسمه على التّربان مطروح
خوي على فراقك لحرّم لذّة العيش        عقب فقدك يا خوي حسين ما عيش
يخويه واصواب كلمن مات بالرّيش      وجـمرك بالقلب يا خوي يسعر

بعد ذلك قام إمامنا، وصاحب زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف، بتجهيز أبيه، وصلّى على أبيه عليه السلام، عظّم الله لك الأجر، مولانا يا صاحب الزّمان، أنت الّذي صلّيت على جنازة أبيك عليه السلام، لكن من الّذي صلّى على جثمان جدّك الحسين عليه السلام؟

صَلَّتْ عَلَى جِسْمِ الحُسَيْنِ سُيُوفُهُمْ           فَغَدَا لِسَاجِدَةِ الظُّبَا مِحْرَابَا

وبمجرّد أن رُفعت الجنازة، هجموا على دار إمامنا العسكريّ عليه السلام، انتهبوا أمواله، وأخذوا جواريه!

أقول: سيّدي يا صاحب الزّمان، هذه ليست المرّة الأولى، الّتي يُهجم فيها على داركم، نعم، قبل ذلك لمّا سقط إمامنا الحسين عليه السلام على رمضاء كربلا، هجموا على خيامه، وأحرقوها بالنَّار، وسلبوا عياله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

117

مجلس شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام

 هجمت بني أميّة على خيام النّساوين       هاي سلبوها وذيك لطموها على العين 

تَسْتَنْهِضُ العَبَّاسَ مِنْ آلامِها                وتَقُولُ قُمْ واحْمِي الحِمَى بِالمِخْذَم
هَذِي أُمَيَّةُ أَقْبَلَتْ بَخُيُولِها                   والنَّارُ تَحْمِلُهَا لِحَرْقِ مُخَيَّمِي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

118

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 أَمَا وَعَيْنَيْكَ إنَّ القَلْبَ مَكْمُودُ            مُذْ سَاءَنِيْ رِزْؤُكُمْ مَا سَرَّنِيْ عِيْدُ

 
مَا العِيْدُ إِلَّا بِيَوْمٍ فِيهِ أَنْتَ تُرَىَ            تُلْقَى إلِيْكَ مِنَ الدُنْيَا المَقَالِيدُ
 
وَتَمْلَأُ الأَرَضَ قِسْطاً بَعْدَمَا مُلِئَتْ         جَوْراً وَقَدْ حَلَّ في أَعْدَاكَ تَنْكِيدُ
 
يَا صَاحِبَ العَصْرَ إنَّ العَصْرَ نَقُصَتْ      أَخْيَارُهُ وَبَنُو الأًشْرَارِ قَدْ زِيدُوا
 
وَصَارِمُ الغَدَرِ في أَعْنَاقِ شِيعَتِكُمْ        قَدْ جَرَّدَتْهُ الأَعَادِي وَهْوَ مَغْمُودُ
 
فُدِيْتَ صَبْرَكَ كَمْ تْغُضِي وَأَنْتَ تَرَى   شَمْلَ الزَّماَنِ قَدْ جَلّاهُ تَبْدِيدُ
 
وَذِيْ نَوَاظِرُنَا تَجْرِي مِدِامِعُهَا         وَمِلْؤُهُنَّ منْ الأَرْزَاءِ تَسْهِيدُ
 
وَاللهِ مَا انعَقَدَتْ يوماً مَحَافِلُنَا        إِلَّا بِهْا مَأْتَمٌ لِلْسِبْطِ مَعْقُود1
 
 
 
 

1-القصيدة للّشيخ محسن الفاضلي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

119

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 شعبي:


قضوا يالمهدي هلك بالـطّف قتل    وبـقوا فوق رمال مرمى للنّبل   
 
والنّسا هَمْ ربـطوهـن بالحـبل        ومـن الضّرب سودن متونها

رحم الله الشّاعر في قوله، واصفاً الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف:


حَامِي الحَقِيقَةِ،مَحْمُودُ الطَّرِيقَةِ         مَنْ سَادَ الخَلِيقَةَ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرِ

يَأْتِي مِنَ البَيْتِ بِالرَّاياتِ يَقْدُمُهُ        مِنَ المَلائِكِ جَمْعٌ غَيْرُ مُسْتَتِرِ

عِيسَى المَسِيحِ لَهُ عَوْنٌ وحَاجِبـُهُ      والخُضْرُ خادِمُهُ في كُلِّ مُؤْتَمَرِ

مَوْلًى إِذَا سَارَ، سَارَ النَّصْرُ يَقْدُمُهُ      مُؤَيَّداً بِالهُدَى، والنَّصْرُ والظَّفَرُ

وللشّيخ صالح بن العرندس قصيدة تنوف على المائة بيت، يقول عنها العلّامة الأمينيّ، في كتابه الكبير "الغدير": "ومن شعر شيخنا الصّالح، رائيّة اشتهر بين الأصحاب، أنّها لم تقرأ في مجلس، إلّا وحضره الإمام الحجّة المنتظر عجّل الله تعالى فرجه". وفيها يقول:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

120

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 إِمَامٌ أَبوُهُ المَرْتَضَى، عَلَمُ الهـُدَى    وَصِيُّ رَسُولِ اللهِ، وَالصِّنْوُ وَالصِّهْرُ 


إِمامٌ بَكَتْهُ الإِنْسُ وَالجِنُّ وَالسَّمَا      وَوَحْشُ الفَلَا وَالطَّيْرُ وَالبَرُّ وَالبَحْرُ

والشيخ صالح، كان من العلماء المتضلّعين في علم الأصول والفقه، وله مصنّفات، وقد أوقف شعره على رثاء أهل البيت عليهم السلام، ويطفح شعره بالولاء لهم عليهم السلام، لذا كان شعره دائراً على ألسنة الخطباء.

يقول الخطيب الشّيخ عبد الزّهرة الكعبيّ: كنت أبحث عن قصيدة الشّيخ بن العرندس الرّائيّة، فاستوقفني بائع كتب في كربلاء، عند ضريح سيّد الشّهداء عليه السلام، قد فرش كتبه إلى جانب الطّريق، بالقرب من الحرم الشّريف، التفت إليّ، وقال: هذا الكتاب يفيدك، وثمنه أن تقرأ لي أبياتاً رثائيّة منه، يقول الخطيب الشّيخ عبد الزّهرة: فتحت الكتاب، وإذا فيه ضالّتي المنشودة، قصيدة بن العرندس الرّائيّة، شاعر الحلّة الفيحاء، وكان للشّيخ عبد الزّهرة الكعبيّ كرامات ونظر من أهل البيت عليهم السلام، فولادته كانت في مولد الزّهراء، ووفاته كانت يوم شهادتها، ولذا سمّي عبد الزّهرة، يقول: بدأت أقرأ القصيدة، وإذا بسيّد جليل القدر، عليه سيماء الأولياء، وقف أمامي، وصار
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

121

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 يستمع ويبكي، ودموعه على لحيته، وكلّما أقرأ الأبيات، كان يردّدها معي، ويبكي:


إِمامٌ بَكَتْهُ الإِنْسُ والجِنُّ وَالسَّما     وَوَحْشُ الفَلاَ وَالطَّيْرُ وَالبَرُّ وَالبَحْرُ

إلى أن يقول:

أَيُقْتَلُ ظَمْآناً حُسَيْنٌ بِكَرْبَلا          وفي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَنامِلِهِ بَحْرُ

اشتدّ به البكاء، ثمّ التفت إلى ضريح الحسينعليه السلام، قال: نعم، نعم هذا الحسين قتل عطشاناً، ما إن فرغت من القصيدة، حتّى غاب عن عيني، وبعدها التفتُّ أنّه يحمل سمات وشمائل الإمام المهديّ، وهو الّذي يحضر عند قراءة هذه القصيدة، لأنّها لم تقرأ في مجلس إلّا وحضره الإمام الحجّة. 

ولا مصيبة عند إمام زماننا إلّا مصيبة جدّه الحسين عليه السلام، وفي زيارة النّاحية المقدّسة المرويّة عنه، يظهر لك عظيم المصاب، الّذي يحمله الإمام في صدره.

فتارة يخاطب جدّه الحسين عليه السلام بقوله: يا جدّاه، لَئِنْ أخّرتني الدّهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، لأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدّموع دماً، حسرة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

122

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 على ما دهاك وتلهّفاً، حتّى أموت بلوعة المصاب، وغصّة الاكتئاب.


وتارة أخرى، يتفجّع عليه بقوله: السّلام على الشّفاه الذّابلات، السّلام على العيون الغائرات، السّلام على الجسوم الشّاحبات، السّلام على الأعضاء المقطّعات..

وثالثة يقرأ جزءاً من مصرع جدّه الحسين عليه السلام، بقوله: وهويت إلى الأرض صريعاً، تطؤك الخيول بحوافرها، وتعلوك الطّغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينك، واختلفت بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، وأسرع فرسك شارداً، إلى خيامك قاصداً، محمحماً باكياً، فلمّا رأين النّساء جوادك مخزيّاً، ونظرن سرجه عليه ملويّاً، برزن من الخدور...، على الخدود لاطمات... وبالعويل داعيات، وبعد العزّ مذلّلات، وإلى مصرعك مبادرات، والشّمر جالس على صدرك، ومولع سيفه على نحرك، قابض شيبتك بيده، ذابح لك بمهنده، قد سكنت حواسك، وخفيت أنفاسك، ورفع إلى القنا رأسك.

عظّم الله لك الأجر سيّدي، يا صاحب الزّمان.

إِمَامَ العَصْرِ عَزَّ عَلَيْكَ مَا قَدْ   رُزِيتَ بِهِ وَنَحْنُ بِهِ رُزِينا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

123

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 وَأَعْظَمُها رَزايا الطّـَفِّ شجْواً   غَدَاةَ السِّبْطُ قَدْ أَمْسَى رَهِينا

 
ويروى أنّه إذا ظهر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، قام بين الرّكن والمقام، وينادي بنداءات خمسة: 
 
الأوّل: ألا يا أهل العالم، أنا الإمام القائم..
 
الثّاني: ألا يا أهل العالم، أنا الصّمصام1 المنتقم.. 
 
الثّالث: ألا يا أهل العالم، إنّ جدّي الحسين عليه السلام، قتلوه عطشاناً.. 
 
الرّابع: ألا يا أهل العالم، إنّ جدّي الحسين عليه السلام، طرحوه عرياناً.. 
 
الخامس: ألا يا أهل العالم، إنّ جدّي الحسين عليه السلام، سحقوه عدواناً2..
 
أحد الموالين رأى الإمام الحجّة صاحب العصر والزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في الرّؤيا، وسأله: سيّدي، من الّذي صلّى على الإمام الحسين عليه السلام. قال له الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف: اذهب، واسأل ولدنا السّيّد رضا الهنديّ. يقول الرّاوي: أصبح الصّباح، فذهبت إلى دار السّيّد رضا، طرقت عليه الباب، وأخبرته الخبر، فبكى، قلت: سيّد رضا، مِمَّ بكاؤك؟ قال: هذه الأبيات الّتي
 
 
 

1-أي السيف القاطع.
2-إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب، الشّيخ عليّ اليزديّ الحائريّ ج 2، ص 246.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

124

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 نظمتها، لم أُطلع عليها أحداً:

 
صَلَّتْ عَلَى جِسْمِ الحُسَيْنِ سُيُوفُهُمْ     فَغَدا لِسَاجِدَةِ الظُّبا مِحْرابا
وَقَضَى لَهِيفاً لَمْ يَجِدْ غَيْرَ القَنا        ظـِلّاً وَلاَ غَـيْرَ النَّجيعِ شـَرابا
 
نعم، بعد أن قضى شهيداً، أقبل القوم على سلبه عليه السلام، فلم يُبقوا للحسين عليه السلام شيئاً إلّا سلبوه، حتّى أن بجدل بن سليم الكلبيّ لعنه الله، لمّا لم يجد شيئاً يسلبه، نظر، وإذا بخاتم في خنصر الحسين عليه السلام، كلّما عالجه ليخرجه لم يتمكّن، لأنّ الدّماء والتّراب، قد جَمُدا عليه، فتناول سيفاً إلى جانبه، وصار يحزّ إصبع الحسين عليه السلام، إلى أن قطعه، وأخذ الخاتم1.
 
كأنّي بزينب تخاطبه:
 
يخايب خلّي اخويه احسين ساعه       أغـمضله ومد للـموت باعه
ابن الـنّـبـيّ الحلـوه اطباعه       دَخَلّي ابراح روح احسين تظهر
 
وبعد ذلك، نادى عمر بن سعد في أصحابه: ألا من ينتدب للحسين، فيوطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم
 
 
 

1-الظّاهر أنّ هذا الخاتم غير الخاتم الّذي أوصى به الإمام عليه السلام إلى ولده عليّ بن الحسين عليه السلام، فجعل خاتمه في إصبعه، وفوّض إليه أمره، كما روي عن الإمام الصّادق عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

125

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 عشرة، فداسوا جسد الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم، حتّى رضّوا ظهره وصدره، وقالوا لابن زياد مفتخرين: نحن وطأنا بخيولنا ظهر الحسين عليه السلام حتّى طحنّا جناجن صدره...


هذا وأخته زينب واقفة تنظر، وتصرخ، وتقول: يا قوم، أما فيكم مسلم، يدفن هذا الغريب؟! كأنّي بها توجّهت نحو أهلها، ونادت:

يهلنه احسينكم رضـّوا اضلوعه            اوشاف الـموت روعه بعد روعه
يصد لعياله اوتسـكب ادموعه              يخافنها بعد عينه تيسّر

ساعد الله قلبك يا بن الحسن، عندما تسمع صرخة عمّتك زينب، سيّدي متى تلبّي هذه الصّرخة؟ متى تنادي: يا لثارات الحسين!

آه ينجل العسكر عيف النّوم واترك        وخذ بالثّار يالـمذخور وترك
علامه خيول اميّه ادوس وترك             صدر جدّك بحرب الغاضريّة
سيّدي) ماذا يُهِيجُكَ أَنْ صَبَرْت           لِوَقْـعَةِ الـطَّفِّ الفَظِيعَهْ
أَتُرَى تجِيءُ فـَجِـيعـَةٌ                   بِـأَمَضَّ مِنْ تِلْكَ الفَجِيعَه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

126

مجلس حزن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف

 حَيْثُ الحُسينُ علَى الثرَى          خـَيْلُ العِدَى طَحَنَتْ ضُلُوعَهْ

 

 

 

 

 

 

 

 

171


127
مجالس الأئمة المعصومين