أولو الألباب


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-06

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق وسيّد المرسلين أبي القاسم محمّد، وعلى آله الكرام الأطهار، وصحبه الأخيار.

إنّها الوثيقة الأخلاقيّة الجامعة، والتي حملها إلينا التراث من زمن الإمام الكاظم عليه السلام، وهي الوصيّة التي أوصى بها لصاحبه هشام بن الحكم.

لقد تضمنت الوصيّة هذه كماً هائلاً من المضامين الثقافيّة المتنوّعة، والتي انطلقت من العقل، ودوره وتأثيره في بناء الأخلاق الإنسانيّة، وما يكمل به المرء حين يتّصف بالحسن منها.

اقتطفنا من هذه الوصيّة بعض الورود الجميلة الغنيّة بأريج الأخلاق المحمّديّة، وأشرنا إلى بعض هذه المضامين، على أنّ الوقوف على كلّ ما اشتملت عليه الوصيّة لا يكفي فيه الكتاب الواحد، بل تستحق شرحاً دقيق، قد لا تحتمله المجلدات، فسبر أغوارها ليس بالأمر السهل، لذا انتخبنا منها ما ناسب المقام من وصايا تعلقت بأولي الألباب وبعض ما يميزهم، ولم نغفل الإشارة إلى بعض الأمراض الاجتماعيّة التي نبّهت إليها الوصيّة، سائلين الله تعالى أن يجعلنا من العاملين بما جاء فيها من الحكمة "ومن يُؤْت الْحِكْمة فقدْ أُوتِي خيْرًا كثِيرًا وما يذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبابِ"1.

جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
 

1- البقرة: 269.
 
 
5
 

1

الدرس الأول: العقل

يا هشام: 
"إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: "بشِّرْ عِبادِ * الّذِين يسْتمِعُون الْقوْل فيتّبِعُون أحْسنهُ أُوْلئِك الّذِين هداهُمُ اللهُ وأُوْلئِك هُمْ أُوْلُوا الْألْبابِ"1.

يا هشام بن الحكم إنّ الله عزّ وجلّ أكمل للناس الحجج بالعقول، وأفضى إليهم بالبيان، ودلهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال: "وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لاّ إِله إِلاّ هُو الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خلْقِ السّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللّيْلِ والنّهارِ والْفُلْكِ الّتِي تجْرِي فِي الْبحْرِ بِما ينفعُ النّاس وما أنزل اللهُ مِن السّماء مِن مّاء فأحْيا بِهِ الأرْض بعْد موْتِها وبثّ فِيها مِن كُلِّ دآبّةٍ وتصْرِيفِ الرِّياحِ والسّحابِ الْمُسخِّرِ بيْن السّماء والأرْضِ لآياتٍ لِّقوْمٍ يعْقِلُون"2"3.
 
 

 
1- الزمر: 17-18.
2- البقرة: 163-164.
3- المازندراني - مولى محمد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج1 ص90.
 
 
7
 

2

الدرس الأول: العقل

تمهيد
بدأت وصيّة الإمام عليه السلام لصاحبه هشام بن الحكم، بالتنبيه إلى مركزيّة العقل ومرجعيّته الأساس في البناء الثقافيّ للإنسان، فما المراد من العقل، وما هو دوره الحقيقيّ في بناء شخصيّة الإنسان؟ 

وهل أنّ للعقل ارتباطاً بسائر الأخلاق الإنسانيّة؟ وكيف يمكننا الإستفادة القصوى من إمكاناته الكبيرة التي أودعها الله تعالى فيه؟

هذه الأسئلة سنتطرّق لها في البداية قبل أن نلج في مضمون هذه الفقرة الهامّة من الوصيّة المباركة للإمام الكاظم عليه السلام.

ما هو العقل؟
للعقل تعريفات كثيرة، وقد يفسّره أهل كلّ علم بالطريقة التي يرونها، إلا أنّ المعنى المشهور له أنّه محلّ تحليل الأفكار والصور التي يختزنها المرء. وقد ميّزت بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام العقل الحقيقي، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام حين سأله أحد أصحابه: ما العقل؟ قال: "ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل"1

يقول أحد العلماء معقباً وشارحاً لإجابة الإمام عليه السلام إنه "أجاب ببعض خواصه (أي العقل) وأغراضه المقصودة منه للتنبيه على أنّ معرفة هذا هو الأهم والأسهل له دون معرفة حقيقته وإشعاراً بأن عرفان حقيقته متعسّر جداً فلا يحصل له بسهولة، ولهذا اختلف العلماء فيها وتحيرت عقول الحكماء في تحديدها..."2

ويستشف من تعريف الإمام أن العقل هو ما يدعو الإنسان إلى الله ومعرفته


1- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 11 
2- المازندراني - مولي محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 74
 
 
8
 

3

الدرس الأول: العقل

وعبادته، التي توصل في النهاية إلى السعادة الأخروية، وفي الحديث أيضاً إشارة إلى شيء آخر وهو الشيطنة، ولعل الشيطنة هي التعبير عن الجانب المظلم لما تدعو له أهواء النفس من الأفعال التي تنافي الأخلاق والعبودية لله تعالى، أو النفس الأمارة بالسوء، وهي "حالة للنفس وقوة محركة لها منافعها كما أن العقل كذلك"

وتوضيح ذلك: أن العقل نوراني شريف الذات نقي الجوهر يدعو إلى ملازمة العلم والعمل واكتساب المنافع الأخروية الموجبة للسعادة الأبدية، وكلما زاد العلم والعمل زادت نورانيته وصفاؤه حتى يصير نوراً محضاً وضوءاً صرفاً يضيء به سماء القلوب وأرض النفوس، والشيطنة قوةٌ ظلمانية... تدعو إلى ملازمة الشرور واكتساب المنافع الدنيوية الموجبة للشقاوة السرمدية واقتراف زهراتها الزائلة الفانية بالمكر والحيل والوساوس الشيطانية، وكلما زادت تلك الشرور والمنافع زادت ظلمتها وكثرت كدورتها حتى تصير ظلمة صرفة وشيطنة محضة"1.

فالخلاصة أن العقل هو ما يوصل المرء لمعرفة الله تعالى والسير على الدين الحنيف والصراط المستقيم، وكذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة"2.

 تفاوت العقول وحساب الإنسان
إنّ نسبة التعقل بين البشر ليست على حد واحد، فكل إنسان له قدرة معيّنة على تعقل الأمور، فبعض الناس يصل بالعلم إلى مستوىً عالٍ جداً، وبعضهم يمتلك قدرات عقلية محدودة جداً، ولهذا كان العقل معياراً في استحقاق الحساب، فكل امرئ يحاسب على مقدار ما تعقّل من الشرع والدين، ففي الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: 


1- المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 75
2- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 11
 
 
9
 
 

4

الدرس الأول: العقل

أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب"1

وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "إنما يداق2 الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا"3.

هل العقل لوحده؟
لا يواجه العقل الشهوات الجامحة للنفس الأمارة لوحده، بل سخّر الله تعالى له العديد من الجنود المساعدة وهي الأخلاق والصفات الحميدة الداعية للخير والعمل الصالح. وقد أشار أهل البيت عليهم السلام لهذه الجنود وما يقابلها من جنود الجهل والشيطنة والنفس الأمارة في الحديث الطويل: قال سماعة: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله عليه السلام: "اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله عزّ وجلّ خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً و كرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فلم يقبل فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً فلما رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة فقال الجهل: يا رب هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته فقال: نعم فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قال: قد رضيت فأعطاه خمسة وسبعين جنداً..."4.


1- الكليني- الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 10 
2- المداقة: المناقشة في الحساب.
3- الكليني -الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 11
4- الكليني -الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 21
 
 
10

 

5

الدرس الأول: العقل

ثم عدّد الإمام عليه السلام جنود العقل وما يقابلها من جنود الجهل. والناظر لهذه الحالة يعلم علم اليقين أنّ أرض النفس البشريّة ساحة لمعركة كبرى، لكن أسلحتها هي الخير والشر، والأعمال المرضية والأعمال المسخطة، فهل سيتغلّب عقل المرء على شهواته فيحدّ من جموحها وهيمنتها على عقله، ويجعلها طيّعة بين يديه؟ أم أنّه سيصفد العقل ويجعله أسيراً لها، وطوعاً بين يديها تحركه كيفما تشاء؟

علاقة العقل بسائر الأخلاق
بعد معرفتنا أن للعقل جنوداً تسانده وتؤازره في هذه المعركة نعلم أن الأخلاق لا تنفك عن العقل، فحيثما يكون العقل تكون بإزائه سائر الخصال الحميدة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً"1.

وعلى رأس تلك الأخلاق الحميدة الحياء، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "هبط جبرئيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له: وما تلك الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين، فقال آدم عليه السلام: فإني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل عليه السلام للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج"2.

فكما أن الأخلاق الحسنة هي نتاج العقل والعلم والوعي والبصيرة، فإنّ الأخلاق الذميمة فرع الشيطنة والنفس الأمّارة بالسوء، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قلوب الجهّال تستفزها الأطماع، وترتهنها المنى، وتستعلقها الخدائع3"4.


1- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 23
2- محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي - الوفاة: 381 – من لا يحضره الفقيه - جامعة المدرسين – الطبعة الثانية 1404 هـ. - ج 4 ص 417
3- تستفزها أي تستخفها وتخرجها من مقرها. وترتهنها المنى أي إرادة ما لا يتوقع حصوله، أو المراد بها ما يعرض للانسان من أحاديث النفس وتسويل الشيطان، أي تأخذها وتجعلها مشغولة بها ولا تتركها إلا بحصول ما تتمناه كما أن الرهن لا ينفك الا بأداء المال. وتستعلقها أي: تصيدها وتربطها بالحبال.
4- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 23
 
 
11
 
 

6

الدرس الأول: العقل

بين العبادة والعقل
يستشف من الروايات الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ للعقل دوراً أساساً في فهم معنى العبادة والقيام بها بالشكل الذي يدرك الإنسان فيه أنّ عمله هذا ليس مجرّد حركات أو لقلقة لسان، فبوعي الإنسان للمضامين العالية التي تتضمّنها العبادات تصبح الصلاة بالنسبة له رادعاً حقيقياً عن الفحشاء والمنكر، وكذلك يصير الصوم مثبتاً للإخلاص في نفسه، والزكاة تطهيراً لماله، أما من لا يُعمل العقل في إدراك هذه المعاني فإنّه يقوم بمجرّد حركات، وإن كانت تسقط الفريضة عنه إلا أنّها لا ترتقي بروحه لما يريده له الله تعالى، ففي الرواية عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "قلت له: جعلت فداك إنّ لي جاراً كثير الصلاة، كثير الصدقة، كثير الحج لا بأس به، قال: فقال: يا إسحاق كيف عقله؟ قال: قلت له: جعلت فداك ليس له عقل، قال: فقال: لا يرتفع بذلك منه"1.

خلاصة الدرس 
معنى العقل المشهور أنّه محل تحليل الأفكار والصور التي يختزنها المرء.
عرّف أهل البيت عليهم السلام العقل بأنّه: ما يدعو الإنسان إلى الله ومعرفته وعبادته، التي توصل في النهاية إلى السعادة الأخرويّة.

والشيطنة قوةٌ ظلمانيّة... تدعو إلى ملازمة الشرور واكتساب المنافع الدنيوية الموجبة للشقاوة السرمدية واقتراف زهراتها الزائلة الفانية بالمكر والحيل والوساوس الشيطانية، وكلما زادت تلك الشرور والمنافع زادت ظلمتها وكثرت كدورتها حتى تصير ظلمة صرفة وشيطنة محضة.


1- الكليني -الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 24
 
 
12

7

الدرس الأول: العقل

إنّ نسبة التعقل بين البشر ليست على حدٍّ واحد، فكلّ إنسان له قدرة معيّنة على تعقّل الأمور، فبعض الناس يصل بالعلم إلى مستوى عالٍ جدّ، وبعضهم يمتلك قدرات عقليّة محدودة جدّ، ولهذا كان العقل معياراً في الحساب.

لا يواجه العقل الشهوات الجامحة للنفس الأمّارة لوحده، بل سخر الله تعالى له العديد من الجنود المساعدة وهي الأخلاق والصفات الحميدة الداعية للخير والعمل الصالح.

إنّ الأخلاق لا تنفكّ عن العقل، فحيثما يكون العقل تكون بإزائه سائر الخصال الحميدة.

إنّ للعقل دوراً أساساً في فهم معنى العبادة والقيام بها بالشكل الذي يدرك الإنسان فيه أنّ عمله هذا ليس مجرد حركات أو لقلقة لسان، فبوعي الإنسان للمضامين العالية التي تتضمنها العبادات تصبح الصلاة بالنسبة له رادعاً حقيقياً عن الفحشاء والمنكر.

أسئلة حول الدرس 
1- ما المراد من العقل حسب ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام؟
2- ما المقصود بالشيطنة ؟
3- هل للعقل علاقة بالأخلاق؟
4- بماذا تختلف صلاة العاقل عن غير العاقل؟ 
 
 
 
13
 
 

 

 

8

الدرس الأول: العقل

للحفظ 
"وإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لاّ إِله إِلاّ هُو الرّحْمنُ الرّحِيمُ * إِنّ فِي خلْقِ السّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللّيْلِ والنّهارِ والْفُلْكِ الّتِي تجْرِي فِي الْبحْرِ بِما ينفعُ النّاس وما أنزل اللهُ مِن السّماء مِن مّاء فأحْيا بِهِ الأرْض بعْد موْتِها وبثّ فِيها مِن كُلِّ دآبّةٍ وتصْرِيفِ الرِّياحِ والسّحابِ الْمُسخِّرِ بيْن السّماء والأرْضِ لآياتٍ لِّقوْمٍ يعْقِلُون"1.

للمطالعة 
بهلول والمقابر
قال محمّد بن إسماعيل بن أبي فديك سمعت بهلولاً في بعض المقابر وقد دلى رجله في قبر وهو يلعب في التراب، فقلت له: ما تصنع ها هنا ؟ فقال: أجالس أقواماً لا يؤذونني وإن غبت عنهم لا يغتابونني، فقلت: قد غلا السعر فهلا تدعو الله فيكشف، فقال: والله لا أبالي ولو حبة بدينار، إن الله تعالى أخذ علينا أن نعبده كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا، ثم صفق بيديه وأنشأ يقول: 

يا من تمتع بالدنيا وزينتها            ولا تنام عن اللذات عيناهُ
شغلت نفسك فيما لست تدركه        تقول لله ماذا حين تلقاهُ
 

 
1- البقرة:164. 
 
14
 
 

 


9

الدرس الثاني: أولو الألباب

يا هشام: 
"إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.

يا هشام إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب ؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته"1.

تمهيد
بعد أن عرفنا العقل وما يقابله من الشيطنة، وعرفنا ارتباط العقل بسائر الأخلاق، ودوره في فهم معاني العبادة لله تعالى، فإن من المناسب التعرض لما جاء في الوصيّة من صفات أولي العقول أي أولي الألباب، فقد مرت الوصيّة على


1- المازندراني - مولى محمد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص145.
 
 
15
 
 

10

الدرس الثاني: أولو الألباب

صفات ذات أهميّة بالغة، وبدأت هذه الفقرة من الوصيّة بذكر الحجّة البالغة من الله تعالى على العباد، والتي ألقاها من خلال العقول "يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأمّا الباطنة فالعقول".

يعني أكمل للناس حججه من الأنبياء والأوصياء المرضيين، بعقولهم الصافية وأذهانهم الثاقبة أو بسبب أن منحهم عقولاً زكيةً عاريةً عن شوائب النقصان مدركةً لشواهد الربوبية بحقايق الإيمان1.

ففي مقابل ما منّ الله تعالى به على الإنسان من بعث الأنبياء والرسل كهادين ومرشدين، جعل في نفس الإنسان حجّةً باطنةً ترشده للخير، فالعقل يدرك بنفسه حسن بعض الخصال كالصدق والأمانة والعدل، ويستقبح الظلم والكذب وسائر الأخلاق الرديئة، وهذه هي الحجّة الباطنة على الإنسان، ويسميها البعض بالنبي الداخلي، في مقابل النبي المرسل من الله تعالى إلى سائر الناس.

من هم أولو الألباب؟
كثُرت الآيات الكريمة التي ذكرت أولي الألباب وتعدّدت الموارد التي نزلت فيها تلك الآيات المباركة، إلا أنّ الله تعالى أكّد على هذا الوصف لمن اتصف بخصال محدّدة، منها قول الله تعالى: "الّذِين يسْتمِعُون الْقوْل فيتّبِعُون أحْسنهُ أُوْلئِك الّذِين هداهُمُ اللهُ وأُوْلئِك هُمْ أُوْلُوا الْألْبابِ"2.

ولكي نتطلع عن قرب إلى صفات أولي الألباب سنأخذ فيما يلي من فقرات الوصيّة هذه الصفات التي ذكرها الإمام عليه السلام لهشام.


1- راجع المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي -دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 94
2- الزمر: 18
 
 
 
16
 
 

11

الدرس الثاني: أولو الألباب

لا يشغله الحلال عن الشكر
إنّ نعم الله تعالى علينا لا تعدّ ولا تحصى من أول نعمة وأعظمها وهي نعمة الوجود إلى سائر النعم التي نحتاجها في استمرار الوجود، بل استمرار وجود الإنسان حياً هو نعمة بحدّ ذاته، وإنّ الإنسان يحمل في فطرته وجوب شكر المنعم على إحسانه وإنعامه. والشكر صفة أخلاقية وصف الله تعالى بها أنبياءه العظام، يقول الله تعالى: "إِنّ إِبْراهِيم كان أُمّةً قانِتًا لِلّهِ حنِيفًا ولمْ يكُ مِن الْمُشْرِكِين* شاكِرًا لِّأنْعُمِهِ اجْتباهُ وهداهُ إِلى صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ"1.

وفضلاً عن كون الشكر للمنعم واجباً فطرياً ويعاب تاركه، فقد أكّدت الروايات والآيات على لزوم الشكر باستمرار، يقول الله تعالى: "فابْتغُوا عِند اللهِ الرِّزْق واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لهُ إِليْهِ تُرْجعُون"2.

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أحسنوا جوار النعم، قلت: وما حسن جوار النعم؟ قال: الشكر لمن أنعم بها وأداء حقوقها"3.

ولكن في زحمة الحياة وانشغال الإنسان في حفظ النعم واهتمامه بأمرها ينسى أمر الشكر لله تعالى أصل هذه النعم وواهبها، ولهذا فإنّ العاقل من لا يشغله الحلال عن الشكر لله تعالى في غمرة فرحه بالنعمة.

ولا يغلب الحرام صبره
للنفس الإنسانيّة غريزة وشهوات، تطلب الإشباع دوماً. والله تعالى حدّد لنا الطرق السليمة لإشباع هذه الشهوات. وقد يتأخر الإنسان أحياناً في الوصول للطرق السليمة هذه امتحاناً من الله تعالى له، واختباراً لصبره، فهنا يأتي دور الصبر، الصبر الذي يقف في وجه الشهوات وغرائز النفس قائلاً له: انتظري قليلاً ريثما


1- النحل:120 - 121
2- العنكبوت: 17
3- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 4 ص 38
 
 
17
 
 

12

الدرس الثاني: أولو الألباب

يأتي الحلّ المناسب لتلبيتك،أما الآن فلا، ولن أسمح لك بأن تجرّيني بجموحك إلى غضب الله تعالى وناره.
 
فحين يكون التفكير بالعقل وبالموازنة بين نيل الوطر الدنيويّ الزائل، وحتميّة العقاب الإلهيّ بعد ذلك، وبين الصبر، فإنّ العاقل من يتخذ الصبر سلاحاً في وجه هذه الغرائز.

وقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: الصبر: "إمّا صبر على المصيبة، أو على الطاعة، أو عن المعصية، وهذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين"1.

تركوا الذنوب
ثم انتقل الإمام عليه السلام لصفة أخرى من صفات أهل العقل وأولي الألباب فقال: "يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض".

فضول الدنيا هو ما زاد عن حاجة المرء فيها، والمراد من ترك هذا الفضول، الترك القلبي لا ترك التملك والحيازة، إذ من المعلوم أنّ التملك للكماليات وما يزيد عن حاجة الإنسان من المباحات، ولكن المراد ترك التعلّق القلبي الذي يجعل الإنسان منشغلاً كلياً عن آخرته بها. وترك الفضول القلبي من الدنيا، أمر ندبت إليه الكثير من الروايات التي سنأتي عليها في شرح المقطع اللاحق من الوصيّة.

وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنب من الفرض، أي الواجب، فإذا كان أولو العقل لما أدركوا من فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقرُّ الدائم تركوا تعلّقهم بهذه الدنيا فقدّموا كل ما يرضي الله تعالى عليها، فكيف لا يتركون الذنوب؟ فإنّ الذنوب الجالبة للغضب الإلهيّ أحقّ بالترك من غيرها التي يحبذ تركها.


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى- ج 2 ص 1562
 
 
18

13

الدرس الثاني: أولو الألباب

وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنب من الفرض، أي الواجب، فإذا كان أولو العقل لما أدركوا من فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقرُّ الدائم تركوا تعلّقهم بهذه الدنيا فقدّموا كل ما يرضي الله تعالى عليها، فكيف لا يتركون الذنوب؟ فإنّ الذنوب الجالبة للغضب الإلهيّ أحقّ بالترك من غيرها التي يحبذ تركها.

وترك الذنوب هو التقوى التي وصفتها الآية الشريفة باللباس: "يا بنِي آدم قدْ أنزلْنا عليْكُمْ لِباسًا يُوارِي سوْءاتِكُمْ ورِيشًا ولِباسُ التّقْوى ذلِك خيْرٌ ذلِك مِنْ آياتِ اللهِ لعلّهُمْ يذّكّرُون"1.

وعن الإمام الباقر عليه السلامفي تفسير هذه الآية: "فأمّا اللباس فالثياب التي تلبسون، وأما الرياش فالمتاع والمال، وأما لباس التقوى فالعفاف، لأن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عارياً من الثياب والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً من الثياب، يقول: (ولباس التقوى ذلك خير) يقول: العفاف خير"2

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والريّ بالظمأ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل"3.

فأهل التقوى أهل الوعي لما في التقوى من خير الدنيا والآخرة ومن تكامل للنفس الإنسانيّة.

زهدوا في الدنيا
ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن أنّ أولي الألباب هم أهل الزهد في الدنيا فقال عليه السلام: "يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته".

فما هو الزهد في الدنيا؟
يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام على هذا السؤال بما روي عنه: "الزهد بين كلمتين


1- الأعراف: 26
2- تفسير علي بن إبراهيم القمي ج1 ص 226
3- نهج البلاغة الخطبة 114
 
 
19
 
 

14

الدرس الثاني: أولو الألباب

من القرآن، قال الله تعالى: "لِكيْلا تأْسوْا على ما فاتكُمْ ولا تفْرحُوا بِما آتاكُمْ"1 ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه"2.

وهو ترك التعلّق بمتاع الدنيا بحيث يصبح الشغل الشاغل والمقدم على سائر الأمور حتى الأخروية منها.

أمّا فضل الزهد فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "جُعل الخير كله في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"3.

ويحصل الزهد في قلب المؤمن عندما يوقن أنّ الموت قادم لا محالة وأن الدنيا زائلة، لا مجرد المعرفة بل اليقين كما يرى نفسه في المرآة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا"4.

فالعاقل من يدرك زوال الدنيا، ويدرك أنّ التناول منها لا يشبع نهم الإنسان، وأنّه سيزداد عطشا كلّما شرب منها، ويعي قول الإمام الباقر عليه السلام : "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ، كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً"5.

ولذلك ترك الدنيا وزهد فيها، ولم يتعلّق قلبه بها.


1- الحديد: من الآية23
2- الحر العاملي - محمّد بن الحسن - وسائل الشيعة - مؤسسة أهل البيت - الطبعة الثانية 1414 ه.ق.-ج 61 ص 19
3- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة -ج 2 ص 128
4- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة -ج 2 ص 131
5- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة -ج 2 ص 134
 
 
20
 
 

 


15

الدرس الثاني: أولو الألباب

خلاصة الدرس
في مقابل ما منّ الله تعالى به على الإنسان من بعث الأنبياء والرسل كهادين ومرشدين, جعل في نفس الإنسان حجّةً باطنةً ترشده للخير, وهو العقل.

من صفات أولي الألباب.
1- لا يشغلهم الحلال عن الشكر، ففي زحمة الحياة قد يغفل الإنسان وينسى أمر الشكر لله تعالى الذي هو أصل هذه النعم وواهبها.
2- لا يغلب الحرام صبرهم، فللنفس الإنسانيّة غريزة وشهوات, والله تعالى حدّد لنا الطرق السليمة لإشباعها, وقد يتأخر الإنسان أحياناً في الوصول للطرق السليمة هذه امتحاناً من الله تعالى له, فهنا يأتي دور الصبر الذي يقف في وجه الشهوات.
3- تركوا الذنوب, فلما أدرك أولو العقول فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقرّ الدائم تركوا تعلقهم بهذه الدنيا فقدموا كلّ ما يرضي الله تعالى عليها.
4- زهدوا في الدنيا, وهو نتيجة اليقين بأنّ الموت قادم لا محالة وأنّ الدنيا فانية.

أسئلة حول الدرس
1- لماذا نشعر بدين الشكر لله تعالى؟
2- تحدّث عن الصراع بين العقل والشهوات.
3- كيف يحصل الزهد في قلب الإنسان؟
4- ما المراد بأنّ ترك الدنيا من الفضل وترك الذنب من الفرض؟
 
 
21
 
 

 

16

الدرس الثاني: أولو الألباب

 للحفظ
 "يا بنِي آدم قدْ أنزلْنا عليْكُمْ لِباسًا يُوارِي سوْءاتِكُمْ ورِيشًا ولِباسُ التّقْوى ذلِك خيْرٌ ذلِك مِنْ آياتِ اللهِ لعلّهُمْ يذّكّرُون"1

"الّذِين يسْتمِعُون الْقوْل فيتّبِعُون أحْسنهُ أُوْلئِك الّذِين هداهُمُ اللهُ وأُوْلئِك هُمْ أُوْلُوا الْألْباب"2 
 
للمطالعة
خرج الرشيد إلى الحج فلما كان بظاهر الكوفة إذ بصر بهلولاً المجنون على قصبة وخلفه الصبيان وهو يعدو، فقال: من هذا، قالو: بهلول المجنون، قال: كنت أشتهي أن أراه فأدعوه من غير ترويع، فقالوا له: أجب أمير المؤمنين، فعدا على قصبته، فقال الرشيد: السلام عليك يا بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال: كنت إليك بالأشواق، قال: لكنّي لم أشتق إليك، قال: عظني يا بهلول، قال: وبم أعظك؟ هذه قصورهم وهذه قبورهم، قال: زدني فقد أحسنت، قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله وواسى في ماله كُتب في ديوان الأبرار، فظن الرشيد أنه يريد شيئاً فقال: قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال: لا يا أمير المؤمنين لا يُقضى الدين بدين أردد الحق على أهله واقض دين نفسك من نفسك، قال: فإنا قد أمرنا أن يجري عليك، فقال: يا أمير المؤمنين أترى الله يعطيك وينساني؟ ثمّ ولّى هارباً.
 
 

1- الأعراف 26. 
2- الزمر:18.
 
 
22
 

17

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

يا هشام:
"ثمّ وعظ أهل العقل، ورغبهم في الآخرة، فقال: "وما الْحياةُ الدُّنْيا إِلاّ لعِبٌ ولهْوٌ وللدّارُ الآخِرةُ خيْرٌ لِّلّذِين يتّقُون أفلا تعْقِلُون"1، وقال: "وما أُوتِيتُم مِّن شيْءٍ فمتاعُ الْحياةِ الدُّنْيا وزِينتُها وما عِند الله خيْرٌ وأبْقى أفلا تعْقِلُون"2، يا هشام، ثم خوّف الذين لا يعقلون عذابه فقال: "ثُمّ دمّرْنا الْآخرِين * وإِنّكُمْ لتمُرُّون عليْهِم مُّصْبِحِين * وبِاللّيْلِ أفلا تعْقِلُون"3، يا هشام، ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون فقال: "وإِذا قِيل لهُمُ اتّبِعُوا ما أنزل اللهُ قالُواْ بلْ نتّبِعُ ما ألْفيْنا عليْهِ آباءنا أولوْ كان آباؤُهُمْ لا يعْقِلُون شيْئاً ولا يهْتدُون"4 وقال تعالى: "إِنّ شرّ الدّوابِّ عِند اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الّذِين لا يعْقِلُون"5، وقال: "ولئِن سألْتهُم مّنْ خلق السّماواتِ والْأرْض ليقُولُنّ اللهُ قُلِ الْحمْدُ لِلهِ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون"6، ثمّ ذمّ الكثرة فقال: "وإِن تُطِعْ أكْثر من فِي الأرْضِ يُضِلُّوك عن سبِيلِ اللهِ..."7، وقال: أكثر الناس لا يعقلون وأكثرهم لا يشعرون.

تمهيد
بعد أن أشار المام عليه السلام لدور العقل ومركزيته لسائر الفضائل ولتحقيق المعنى
 
 

1- الانعام:32
2- القصص:60
3- الصافات:136-138
4- البقرة:170
5- الانفال:22
6- لقمان:25
7- الانعام:116
 
 
23

 

18

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

الأكمل للعبودية لله تعالى، شرع الإمام عليه السلام في الحديث عن التخويف الإلهيّ للإنسان الذي ينحرف عن الصراط المستقيم وشرع الله الحنيف، فاستشهد بالعديد من الآيات الشريفة الدالة على لزوم الخوف من الله تعالى، وأنّ على العاقل أن يحذر ويخاف ممّا أعد الله تعالى للمخالفين لحكمه وأمره، وختمت الفقرة باستشهاد الإمام بآيات الكتاب على ذمّ الكثرة وصفاتهم التي وردت في القرآن. وسنتحدث في هذا الدرس عن هذين الأمرين بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

الخوف جلباب العارفين
كلمتان وصف أمير المؤمنين عليه السلام بهما الخوف، ومدح الخائفين، والجلباب هو ما يُلبس ويلازم الجسد، وكذلك الخوف من الله تعالى فإنّه لا بدّ أن يلازم المرء في كل تصرفاته، وأما توصيف الإمام بأنه جلباب العارفين فهذا غاية المدح لمن كان الخوف من الله تعالى منطلقاً له قبل أن يقوم بأيّ حركة وسكنة، فبالخوف من الله تتحقق التقوى، فعن الإمام علي عليه السلام : "الخشية من عذاب الله شيمة المتّقين"1.

والملاحظ أنّ العديد من الروايات شبّهت الخوف بالدثار وما يغطي المرء، وكأنّ الخوف ساتر له عن سائر ما يؤذيه، فالذنوب والمعاصي في حقيقتها ضرر للإنسان وإن لم يكن الإنسان ملتفتاً لذلك، ومستغرقاً في اللذة الظاهرية للذنب التي تعقب من ورائها عذاباً أبدياً وندماً وحسرةً، فقول الله تعالى: "إِنّ الّذِين يأْكُلُون أمْوال الْيتامى ظُلْمًا إِنّما يأْكُلُون فِي بُطُونِهِمْ نارًا وسيصْلوْن سعِيرًا"2، يدلّ على أنّها نارٌ حقيقية، لكن المرء لاستغراقه في لذّة الدنيا وغفلته التامّة عن الله تعالى لا يشعر بهذه النار، عن الإمام زين العابدين عليه السلام : "ابن آدم، لا تزال بخير... ما


1- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 824.
2-النساء:10
 
 
24
 
 

19

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

كان الخوف لك شعاراً والحزن دثاراً"1.

ولكن السؤال الأهم الذي ينبغي معرفته كيف نخشى الله تعالى؟

كيف نخشى الله تعالى؟
هنا السؤال الأهمّ الذي ينبغي الإجابة عليه، إذ كيف يتحقّق الخوف الحقيقي الذي يترك أثره على دين المرء، الخوف الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: "تتجافى جُنُوبُهُمْ عنِ الْمضاجِعِ يدْعُون ربّهُمْ خوْفًا وطمعًا ومِمّا رزقْناهُمْ يُنفِقُون"2

يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام على هذا السؤال في ما روي عنه عليه السلام : "احذروا من الله ما حذّركم من نفسه، واخشوه خشيةً يظهر أثرها عليكم"3.

فماذا حذرنا الله تعالى من نفسه؟ لو طالعنا كلام الله تعالى لطالعتنا الكثير من الآيات التي يصف الله تعالى فيها نفسه تارة بأنّه شديد العقاب، وأخرى بأنّه ذو العذاب الشديد، ويكفي لو نظرنا لما في أهوال يوم القيامة ودقيق الحساب وعظيم الهول المحيط بها إذ يخلق فينا خوفاً منه. ومن الأمور التي تُخشى من الله تعالى عدله، فلو عاملنا الله بعدله وبما نستحق على تقصيرنا وما اقترفناه من آثام لما ذقنا طعم الجنّة أبداً.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: "خف الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حدّ أهون الناظرين إليك"4.

فالاعتقاد بأنّ الله تعالى يرانا في كلّ أعمالنا، وينظر إلينا واليقين بذلك يخلقان


1- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 824.
2- السجدة:16
3- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
4- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
 
 
25
 

20

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

فينا خوفاً حقيقياً، ونحن نعلم أنه يرانا حقاً، فكيف يستتر المرء بحسب الرواية عن سائر الخلق في المعاصي ويجاهر الله بها سراً، أليس هذا استخفاف بالناظر إلينا؟

العلم والخوف
وينبغي هنا أن نلتفت لأمر مهم وهو أن هنالك أموراً تساعد الإنسان للوصول للخوف الحقيقي، ونقصد بالخوف الحقيقي ما يقابله من الخوف الإدعائي الذي كلنا يقدر على ادعائه باللسان والكلام فحسب، ومن هذه أهم هذه الأمور العلم فعن الإمام علي عليه السلام: "مخافة من الله على قدر العلم به"1.

والمراد بالعلم هنا اليقين لا مجرد أن يعرف الإنسان معرفةً، فاليقين بالشيء أعمق من ذلك، فكلنا يعرف أن الله يرانا في كل أحوالنا، ولكن هل نتصرف بناء على هذه المعرفة؟ والفرق بين العلم والمعرفة يتبين لنا في مثال، فلو أن طبيباً ما منعنا عن مادة معينة وحذرنا من سميتها، فهنا يتحقق يقين في نفس الإنسان فلا يقدم على تناول المادة السامة، لأنه حصّل اليقين في النفس، ولم يعد الأمر مجرد معرفة، ولذلك كان العلماء هم أكثر الناس خوفاً من الله لما أكرمهم الله تعالى به من نور العلم، العلم الحقيقي، يقول الله سبحانه وتعالى: "إِنّما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلماء إِنّ الله عزِيزٌ غفُور"2.

وعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان بالله أعرف كان من الله أخوف"3.

والتفكر في المسائلة الإلهيّة يزيد من علم المرء وكذلك التأمل فيما ورد عن المعصومين عليهم السلام من كلام يحيي القلوب الميتة بنور العلم والحكمة، فهذا رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ينبهنا في كلام عميق فيقول: "ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين:


1- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
2- فاطر:28
 
 
26

21

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، وفي الشيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالذي نفس محمّدٍ بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنّة أو النار"1.

خوف لا يأس فيه
ولكن للخوف حدوداً وهي أن لا يصل المرء لحالة اليأس من روح الله ورحمته و هو اليأس الذي يعد من الكبائر، فطمع المؤمن برحمة الله تعالى يعدل من حالة الخوف لديه فلا يجعلها تصل لمرحلة اليأس من روحه ورحمته تعالى، وقد نبّهنا الكثير من الروايات والآيات لهذه المسألة، قال تعالى: "أمّنْ هُو قانِتٌ آناء اللّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يحْذرُ الْآخِرة ويرْجُو رحْمة ربِّهِ قُلْ هلْ يسْتوِي الّذِين يعْلمُون والّذِين لا يعْلمُون إِنّما يتذكّرُ أُوْلُوا الْألْباب"2.

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنه يشرف على النار، ويرجوه رجاءً كأنه من أهل الجنة3

وعنه عليه السلام: "كان أبي عليه السلام يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"4.

طريق الخوف الموحش
إن الطريق الموصل لله تعالى طريقٌ قلّ السالكون فيه، ولذا كانت وصية أهل البيت عليهم السلام أن لا نستوحش من سلوكه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله"5.


1- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 825.
2- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 826.
3- الزمر:9
4- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 1 ص 826.
5- نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام ج 2 ص 181. 
 
 
27

22

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

فإذا كانت طريق الحق موحشة وكان أهل الحق قلة، فهل الكثرة هم في طريق الخطأ ؟ هذا ما نبهتنا إليه الوصيّة المباركة في آخرها، إذ إن الإمام عليه السلام نبه هشام رحمه الله إلى أن الكثرة مذمومة في الكتاب العزيز واستشهد على ذلك بالآيتين المباركتين:
"وإِن تُطِعْ أكْثر من فِي الأرْضِ يُضِلُّوك عن سبِيلِ اللهِ..."

"ولئِن سألْتهُم مّنْ خلق السّماواتِ والْأرْض ليقُولُنّ اللهُ قُلِ الْحمْد لله بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون"

بينما نرى أن الله تعالى مدح القلة في القرآن فقال: "وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُور"1

وفقنا الله تعالى للسير قدماً في الصراط السوي، فنتبع هديه ولا نتبع السبل فتفرّق بنا عن رضاه، وجعلنا ممن يخافه حق الخوف ويعمل لنيل الكرامة لديه إنه سميع مجيب.

خلاصة الدرس
شبهت الروايات الخوف بالدثار وما يغطي المرء, وكأن الخوف ساتر له عن سائر ما يؤذيه, فالذنوب والمعاصي في حقيقتها ضرر للإنسان.

لو طالعنا كلام الله تعالى لطالعنا الكثير من الآيات التي يصف الله تعالى فيها نفسه تارة بأنه شديد العقاب, وأخرى بأنه ذو العذاب الشديد, ويكفي نظرُنا لما في أهوال يوم القيامة ودقيق الحساب وعظيم الهول المحيط به ليخلق فينا خوفاً منه.

الاعتقاد بأن الله تعالى يرانا في كل أعمالنا, وينظر إلينا واليقين بذلك يخلقان في المرء خوفاً حقيقياً, ونحن نعلم أنه يرانا حقاً, فكيف يستتر المرء بحسب الرواية عن سائر الخلق في المعاصي ويجاهر الله بها سراً.


1- سبأ:13
 
 
 
28
 

23

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

إن هنالك أموراً تساعد الإنسان للوصول للخوف الحقيقي, ونقصد بالخوف الحقيقي ما يقابله من الخوف الإدعائي الذي كلنا يقدر على ادعائه باللسان والكلام فحسب , ومن أهم هذه الأمور العلم.

للخوف حدود وهي أن لا يصل المرء لحالة اليأس من روح الله ورحمته, و هو من الكبائر. فطمع المؤمن برحمة الله تعالى يعدل من حالة الخوف لديه فلا يجعلها تصل لمرحلة اليأس من روحه ورحمته تعالى.

إن الطريق الموصل لله تعالى طريقٌ قلّ السالكون فيه, ولذا كانت وصية أهل البيت عليهم السلام أن لا نستوحش من سلوكه.
 
أسئلة حول الدرس
1- ما هو الفرق بين المعرفة واليقين؟
2- ما هو أثر العلم في حصول الخوف من الله تعالى؟
3- بماذا وصف أمير المؤمنين عليه السلام الخوف؟
4- ما المراد بتعادل الخوف والرجاء؟
 
للحفظ
"وإِن تُطِعْ أكْثر من فِي الأرْضِ يُضِلُّوك عن سبِيلِ اللهِ..."

"ولئِن سألْتهُم مّنْ خلق السّماواتِ والْأرْض ليقُولُنّ اللهُ قُلِ الْحمْدُ لِلهِ بلْ أكْثرُهُمْ لا يعْلمُون"

"أمّنْ هُو قانِتٌ آناء اللّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يحْذرُ الْآخِرة ويرْجُو رحْمة ربِّهِ قُلْ هلْ يسْتوِي الّذِين يعْلمُون والّذِين لا يعْلمُون إِنّما يتذكّرُ أُوْلُوا الْألْبابِ".

 
 
29

24

الدرس الثالث: الخوف من الله تعالى

للمطالعة

قال بهلول للرشيد: يا أمير المؤمنين، فكيف لو أقامك الله بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير؟ قال: فخنقته العبرة فقال الحاجب: حسبك يا بهلول قد أوجعت أمير المؤمنين، فقال الرشيد: دعه، فقال بهلول: إنما أفسده أنت وأضرابك، فقال الرشيد: أريد أن أصلك بصلة فقال بهلول: ردها على من أُخذت منه، فقال الرشيد: فحاجة، قال: أن لا تراني ولا أراك، ثم قال: يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد، ثم ولى بقصبته وأنشأ يقول:

فعدّك قد ملأت الأرض طراً           ودان لك العباد فكان ماذا
ألست تموت في قبر ويحوي           تراثك بعد هذا ثم هذا

عبد الرحمن الأسلمي قال: قال أبي لبهلول: أي شيء أولى بك؟ قال: العمل الصالح.
 
 
 
 
30
 
 

25

الدرس الرابع: التواضع

يا هشام:
"إنّ لقمان قال لابنه: تواضع الحقّّ تكن أعقل الناس.

يا هشام ... ولكل شيء مطيّة، ومطيّة العاقل التواضع. وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام ما من عبد إلا وملك آخذ بناصيته فلا يتواضع إلا رفعه الله، ولا يتعاظم إلا وضعه الله.

يا هشام مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة".

تمهيد
تحدّث الإمام عليه السلام في هذه الفقرات عن التواضع، ونلاحظ أنّه تحدّث عن أنواع عدة من التواضع، ففي الفقرة الأولى تحدث عن التواضع الحقّّ، وفي الثانية عن التواضع بشكل عام، بما يشمل ذلك التواضع بين الناس، وسنتحدث في هذا الدرس عن التواضع لله، وما يحقق التواضع في نفس المؤمن، وما جاء في ذلك من كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته عليهم السلام.
 
 
 
 
31

 
 

26

الدرس الرابع: التواضع

ما هو التواضع؟
هو انكسار للنفس يمنعها من أن ترى لذاتها مزيةً على الغير، وتُلزم المرء أفعالاً وأقوالاً موجبةً لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر1.

هكذا عرّف علماء الأخلاق التواضع، ويلاحظ أنه لا يجري الحديث عن فضل التواضع إلا ويجري الحديث عما يقابل التواضع أي النقص وهو التكبر الذي يعد من أخطر العيوب الأخلاقية. وبنظرة سريعة إلى كتاب الله تعالى يمكن إدراك خطر هذه الآفة الخلقية، وما توعد به الله تعالى المتكبرين من عذاب أليم.

أما التواضع فقد جاءت الآيات والروايات الكثيرة المادحة له والتي عدته من أرقى الأخلاق، يقول الله تعالى: "يا أيُّها الّذِين آمنُواْ من يرْتدّ مِنكُمْ عن دِينِهِ فسوْف يأْتِي اللهُ بِقوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونهُ أذِلّةٍ على الْمُؤْمِنِين أعِزّةٍ على الْكافِرِين يُجاهِدُون فِي سبِيلِ اللهِ ولا يخافُون لوْمة لآئِمٍ ذلِك فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ من يشاء واللهُ واسِعٌ علِيمٌ"2

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أشرف الخلائق، التواضع والحلم ولين الجانب"3.

وفي رواية أخرى اعتبر الإمام الصادق عليه السلام التواضع دليلاً على كمال العقل، فعنه عليه السلام: "كمال العقل في ثلاثة: التواضع لله، وحسن اليقين، والصمت إلا من خير"4.


1- جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج 1 ص 311.
2- المائدة: 54
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 1 ص 808
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2050
 
 
 
32
 
 

 


27

الدرس الرابع: التواضع

التواضع والعبادة
التواضع عبادة بحد ذاته لأنه مما أمر الله تعالى به، ولأنه يتضمن الشعور بضعة النفس، وهذا هو نفس الشعور الذي يشعر به الإنسان في عبادته ووقوفه بين يدي الله تعالى، فعن الإمام علي عليه السلام: "عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة"1.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة؟ قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع"2.

ولهذا فإن المواظبة على العبادة، مما يورث صفة التواضع. والمراد بالمواظبة لا شكلاً بل أداء بما يحقق الخشوع والشعور بالعبودية لله تعالى. ومن المعروف أن المنكرين لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عابوا دينه لأنه يساوي بينهم وبين عبيدهم، واستنكر آخرون أن يعفروا جباههم في التراب حين الصلاة، معتبرين أن في ذلك كسراً لكبريائهم، وتحطيماً لجبروتهم، ومن هنا أشار أهل البيت عليهم السلام لهذا المعنى، فعن الإمام علي عليه السلام في بيان فلسفة العبادات: ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن: يا موسى أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: يا رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا موسى إني قلبت عبادي ظهراً لبطن، فلم أجد فيهم أحداً أذل لي نفساً منك، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدك على التراب، أو قال: على الأرض"3.

وقد سأل هشام بن الحكم إمامه الصادق عليه السلام عن علة السجود على الأرض أو ما لا يؤكل من نباتها فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: "لأنّ السجود 

 

1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 4 ص 3554
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 4 ص 3554
3- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية - طهران - الطبعة الخامسة - ج 2 ص 123
 
 
 
33
 
 

28

الدرس الرابع: التواضع

خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل أو يلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزّ وجلّ "1.

آثار التواضع
لكل صفة من الصفات الأخلاقية آثار دنيوية وأخروية. وبما أن التواضع من أشرف الخلائق فلا بد له من آثار، فما هي آثار التواضع؟

1- الحكمة
فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبر الجبّار، لأن الله جعل التواضع آلة العقل"2.

2- التقوى
وقد عدها بالتفصيل أمير المؤمنين عليه السلام:... "ومن ثمراته التقوى، واجتناب الهوى، واتباع الحق، ومجانبة الذنوب"3.

3- حسن الخلق
ففي الحديث السابق عن أمير المؤمنين عليه السلام:... "ومودة الإخوان، والاستماع من العلماء والقبول منهم، ومن ثمراته ترك الانتقام عند القدرة، واستقباح مقاربة الباطل، واستحسان متابعة الحق، وقول الصدق، والتجافي عن سرور في غفلة، وعن فعل ما يعقب ندامة، والعلم يزيد العاقل عقلاً، ويورث متعلمه صفات حمد، فيجعل الحليم أميراً، وذا المشورة وزيراً، ويقمع الحرص، ويخلع المكر، ويميت البخل، ويجعل مطلق الفحش مأسوراً، ويعيد السداد قريباً"4.


1- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 272
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 1 ص 674
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2090
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2090
 
 
24
 

29

الدرس الرابع: التواضع

 وأي صفات بعد هذه الصفات يطمع المؤمن بها؟ فما حدثنا عنه أمير المؤمنين عليه السلام هو تمام الأخلاق وأفضل ما يمكن أن يكون عليه المؤمن في علاقاته.

4- الفوز والكرامة
ففي الوصيّة التي قدمنا بها يخاطب الإمام الكاظم عليه السلام هشاماً قائلاً: يا هشام مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتواضعين في الدنيا أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.

كيف أصبح متواضعاً؟
يرشدنا العلامة المجلسي رحمه الله لذلك فيقول:
أما معالجة الكبر واكتساب التواضع فهو علمي وعملي:
أما العلمي فهو أن يعرف نفسه وربه، ويكفيه ذلك في إزالته، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل بذاته، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أنه لا يليق العظمة والكبرياء إلا بالله... فهذا هو العلاج العلمي القاطع لأصل الكبر.

وأما العلاج العملي فهو التواضع بالفعل لله تعالى ولسائر الخلق، بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، وما وصل إليه من أحوال الصالحين، ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، حتى أنه كان يأكل على الأرض ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد"1.

لمن نتواضع؟
تخبرنا الوصيّة في فقرتها الأولى عن معنىً جميل جداً في قوله: إن لقمان قال لابنه: تواضع الحقّّ تكن أعقل الناس.

فكيف يكون التواضع الحقّّ؟
أولاً: الحق من صفات الله تعالى، وبهذا المعنى ينبغي أن يكون التواضع لله


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2657
 
 
35
 

30

الدرس الرابع: التواضع

أولاً، كيف لا ونحن عبيده وعلى العبد الخضوع لمولاه، فكيف إذا كان مولاه خالقاً له ورازقاً ومفيضاً ومنعماً؟

ثانياً: التواضع الحقّّ أي ما يقابل الباطل، فقد يكون الحق مخالفاً لهوى المرء، ومنافياً لرغباته، فعلى المؤمن حينها أن يتواضع الحقّّ بأن يقدم الحق ولو على حساب نفسه وعزّة نفسه، وأن يتقبل الحق على نفسه قبل أن يتوقع تطبيقه من قبل الآخرين على أنفسهم.

ثالثاً: التواضع لأهل الحق، من حملة العلم والصالحين من عباد الله المؤمنين، وقد مرّ معنا قول أمير المؤمنين عليه السلام حين عدد ثمرات التواضع: "والاستماع من العلماء والقبول منهم".

تواضع في غير محله
ما دام التواضع لله تعالى، فلا يمكن أن يقع في ما يخالف حكم الله أو ما يخالف التقرب إليه تعالى. وقد نبهتنا الروايات الشريفة عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت عليهم السلام إلى بعض النماذج من التواضع السيئ، منها:

1- التواضع لحكّام الجور
ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو من يخالفه على دينه طلبا لما في يديه أخمله الله ومقته عليه ووكله إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه وصار في يده منه شيء نزع الله البركة منه، ولم يؤجره على شيء ينفقه في حج ولا عمرة ولا عتق"1.

2- التواضع طلباً للمال
فإن ذلك مفسدة في دين المؤمن، ولا ينبغي التواضع لذوي المال والثراء بنيّة


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 4 ص 3557
 
 
 
36
 

31

الدرس الرابع: التواضع

التزلف لهم أو الطمع في ما في أيديهم فعن الإمام علي عليه السلام: "من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه"1.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أتى غنياً فتضعضع له لشيء يصيبه منه ذهب ثلثا دينه"2

خلاصة الدرس
التواضع هو انكسار للنفس يمنعها من أن ترى لذاتها مزيةً على الغير، وتلزم المرء أفعالاً وأقوالاً موجبةً لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر.

وقدجاءت الآيات والروايات الكثيرة المادحة للتواضع والتي عدته من أرقى الأخلاق.

التواضع عبادة بحدّ ذاته لأنّه ممّا أمر الله تعالى به، ولأنّه يتضمن الشعور بضعة النفس، وهذا هو نفس الشعور الذي يشعر به الإنسان في عبادته ووقوفه بين يدي الله تعالى.

آثار التواضع
1- الحكمة
2- التقوى 
3- حسن الخلق
4- الفوز والكرامة


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 4 ص 3557
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 4 ص 3557
 
 
 
37

32

الدرس الرابع: التواضع

لمن التواضع؟
أولاً: ينبغي أن يكون التواضع لله.

ثانياً: التواضع الحقّ أي ما يقابل الباطل، فقد يكون الحق مخالفاً لهوى المرء، ومنافياً لرغباته.

ثالثاً: التواضع لأهل الحق، من حملة العلم والصالحين من عباد الله المؤمنين.

تواضع في غير محله:
1- التواضع لحكّام الجور.
2- التواضع طلباً للمال.
 
أسئلة حول الدرس
1- ما المراد من التواضع؟
2- لمن ينبغي التواضع؟
3- ما علاقة العبادة بالتواضع؟
4- ما هي ثمرات التواضع؟
 
للحفظ
"يا أيُّها الّذِين آمنُواْ من يرْتدّ مِنكُمْ عن دِينِهِ فسوْف يأْتِي اللهُ بِقوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونهُ أذِلّةٍ على الْمُؤْمِنِين أعِزّةٍ على الْكافِرِين يُجاهِدُون فِي سبِيلِ اللهِ ولا يخافُون لوْمة لآئِمٍ ذلِك فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ من يشاء واللهُ واسِعٌ علِيمٌ"
 
 
 
38

 

33

الدرس الرابع: التواضع

للمطالعة
حج الرشيد فذكر بهلولاً حين دخل الكوفة فأمر بإحضاره وقال: ألبسوه سواداً وضعوا على رأسه قلنسوة طويلة وأوقفوه في مكان كذا، ففعلوا به ذلك، وقالوا: إذا جاء أمير المؤمنين فادع له، فلما حاذاه الرشيد رفع رأسه إليه وقال: يا أمير المؤمنين أسألُ الله أن يرزقك ويوسع عليك من فضله، فضحك الرشيد وقال: آمين، فلما جازه الرشيد دفعه صاحب الكوفة في قفاه وقال: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون؟ قال بهلول: اسكت ويلك يا مجنون فما في الدنيا أحب إلى أمير المؤمنين من الدراهم، فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال: والله ما كذب.

قال الحسن بن سهل بن منصور سمعت بهلولاً وقد رماه الصبيان بالحصى وقد أدمته حصاة فقال:
حسبي الله توكلت عليه           ونواصي الخلق طراً بيديه
ليس للهارب في مهربه          أبداً من روحة إلا إليه
رب رام لي بأحجار الأذى       لم أجد بداً من العطف عليه

فقلت له: تعطف عليهم وهم يرمونك؟ قال: اسكت لعل الله سبحانه وتعالى يطلع على غمي ووجعي وشدة فرح هؤلاء فيهب بعضنا لبعض.
 
 
 
 
 
39
 
 
 
 
 

34

الدرس الخامس: العلماء

يا هشام:
"نُصب الخلق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العالم بالعقل.

يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين: ... يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثواً على الركب فإن الله يُحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يُحيي الأرض الميتة بوابل المطر.

يا هشام تعلم من العلم ما جهلت، وعلِّم الجاهل ممّا عُلِّمت، وعظِّم العالِم لعلمه، ودع منازعته، وصغِّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرِّبه وعلِّمه.

يا هشام: فعليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعُهُ غيْبةُ عالِمِكُم بيْن أظهُرِكُم".

تمهيد
هم أهل الفضل، والمظهرون للدين، والناشرون للعلم، وقادة الجهاد، هم المذكّرون بالآخرة، والمرغّبون فيه، هم العلماء.

تحدث الإمام عليه السلام في هذه المقاطع من الوصيّة عن فضل العالم وحقه على 
 
 
41
 
 

35

الدرس الخامس: العلماء

الناس، مستشهداً بكلام السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في وصيته للحواريين. وابتدأ الإمام في هذه المقاطع بالاستدلال على أن طاعة الله تعالى لا تتحقّق إلا من خلال التعلم من العالم الرباني والأخذ عنه، ومن ثم تحدث عن حق العالم على الأمة، وبعدها أشار لضرورة تعليم الجاهل، وختم الحديث عنهم بوصية للأمة تجاههم. وسنتعرض لهذه المقاطع بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

العلماء سُبُلُ الطاعة
مما ورد في الوصيّة: يا هشام نُصب الخلق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العالم بالعقل.

فالهدف من خلق الله تعالى الناس هي الطاعة له وعبادته جل وعلا قال تعالى: "وما خلقْتُ الْجِنّ والْإِنس إِلّا لِيعْبُدُونِ"1.

وإن النجاة من العقاب الإلهيّ في الآخرة والحساب الدقيق لا تتحقّق إلا من خلال هذه الطاعة لله تعالى: "واتّقُواْ النّار الّتِي أُعِدّتْ لِلْكافِرِين* وأطِيعُواْ الله والرّسُول لعلّكُمْ تُرْحمُون"2.

لكن طاعة الله تعالى لا تنشأ من فراغ، بل لا بد لها من خلفية ثقافية كما أشرنا لذلك في درس الخوف من الله تعالى، ألا وهي التعقل والعلم، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "بالعلم يطاع الله ويعبد، وبالعلم يُعرف الله ويُوحّد، وبالعلم توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام"3.

ولكن العلم لا يأتي بدون تعلم، لذا حثنا الدين الحنيف على التعلم، قال الله تعالى: "أمّنْ هُو قانِتٌ آناء اللّيْلِ ساجِداً وقائِماً يحْذرُ الْآخِرة ويرْجُو رحْمة ربِّهِ


1- الذاريات:56
2- آل عمران:131-132
3- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار-مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج 1 ص 166
 
42
 

36

الدرس الخامس: العلماء

قُلْ هلْ يسْتوِي الّذِين يعْلمُون والّذِين لا يعْلمُون إِنّما يتذكّرُ أُولُو الْألْبابِ"1.

وقد وصفت الروايات العلم بأرفع الصفات، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: العلم نعم دليل، وعنه عليه السلام: "العلم أفضل هداية"، وعنه عليه السلام: "العلم جمال لا يخفى، ونسيب لا يجفى"، وعنه عليه السلام: "العلم مصباح العقل"2.

ولهذا كان التعلم بالعقل لأنه "إِنّما يتذكّرُ أُولُو الْألْبابِ"3، أي أولو العقول، يقول الشيخ الطوسي تعقيباً في شرح أولو الألباب: "وكل مكلف ذو لب لأنه إنما يطلق عليهم هذه الصفة لما فيها من المدحة فلذلك عقد التذكُّر بِهم وهم الذين يستعملون ما توجبه عقولهم من طاعة الله في كل ما أمر به ودعا إليه"4.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "والعلم إمام العقل والعقل تابعه، يلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء"5.

وعندما تصل النوبة للعلم فهنا ينبغي أن نعرف مصادر هذا العلم، وحين نسأل أهل البيت عليهم السلام عن ذلك يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام: "إن العلم الذي هبط به آدم وجميع (ما فضلت به) النبيون إلى خاتم النبيين في عترة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم"6 .

وعلم الآل عند العلماء الذين أمرونا بالرجوع إليهم، ففي التوقيع المبارك لإمام زماننا روحي له الفداء وعجل الله تعالى فرجه: "قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: "من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا"7.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استقبل العلماء فقد استقبلني، ومن زار العلماء 


1- الزمر: 9
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2062
3- الزمر: 9
4- الطوسي - التبيان - مكتب الإعلام الإسلامي - ج 2 ص 349
5- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار-مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج 1 ص 166
6- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - الحديث 14169
7- المجلسي - محمد باقر- بحار الأنوار-مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة ج 2 ص 89
 
 
73
 
 

37

الدرس الخامس: العلماء

فقد زارني، ومن جالس العلماء فقد جالسني، ومن جالسني فكأنما جالس ربي"1.

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ولا علم إلا من عالم رباني، قال العلامة المازندراني رحمه الله: الرباني منسوب إلى الربِّ بزيادة الألف والنون للمبالغة وقيل: هو من الرب بمعنى التربية كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، والرباني العالم الراسخ في الدين أو الذي يطلب بعلمه وجه الله وقيل: العامل المعلم، وفي الصحاح والقاموس: الرباني المتأله العارف بالله تعالى، وفي الكشاف: الرباني هو شديد التمسك بدين الله تعالى وطاعته وفي مجمع البيان: هو الذي يرب أمر الناس بتدبيره وإصلاحه2.

وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن العلماء ورثة الأنبياء"3، وفي رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة"4.

حقُّ العلماء
ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن حق العلماء على الناس وحث الناس على الاستفادة مما علمهم الله تعالى إياه فقال عليه السلام: "يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين: ... يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثواً على الركب فإن الله يُحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يُحيي الأرض الميتة بوابل المطر".

"ولو جثوا على الركب" تعبير للمبالغة في تحمل العسير في سبيل الإستفادة من العلم الإلهيّ الذي يحمله العلماء، وقبل ذلك التأكيد على حضور المجالس التي تعمر بالعلم والذكر، فمجالس العلماء هي مجالس لا تخلو إما من علم نافع أو ذكر


1- كنز العمال - الحديث 28883.
2- المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 163
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - الحديث 13696
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - الحديث 13968
 
 
44
 

38

الدرس الخامس: العلماء

وموعظة مذكرة بالآخرة، فحتى لو لم يتكلم العالم أحياناً فإن الإستفادة تحصل من النظر إلى وجهه، وسائر خصاله، وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر إلى وجه العالم عبادة"1.

وعن الإمام الصادق عليه السلام معقباً وشارحاً لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرك بالآخرة"2.

وقد لخص لنا إمامنا زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام حق العلماء في الصحيفة السجادية فقال عليه السلام: "وحق سائسك بالعلم التعظيم له والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك، وأن لا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدث في مجلسه أحد، ولا تغتاب عنه أحد، وأن تدافع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وأن تستر عيوبه، وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدو، ولا تعادي له ولي، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته وتعلمت علمه لله جل اسمه لا للناس"3.

فانظر إلى هذه الحقوق لتعلم قدر العالم عند الله تعالى، وما ينبغي من حسن الأدب في صحبته، وتأمل في قول الله تعالى في وصف ما جرى مع نبيه موسى عليه السلام وهو من أولي العزم حين حلّ تلميذاً بين يدي الخضرعليه السلام: "قال لهُ مُوسى هلْ أتّبِعُك على أن تُعلِّمنِ مِمّا عُلِّمْت رُشْدًا* قال إِنّك لن تسْتطِيع معِي صبْرًا* وكيْف تصْبِرُ على ما لمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قال ستجِدُنِي إِن شاء اللهُ صابِرًا ولا أعْصِي لك أمْرًا"4، وما في هذه الآية من دلالات حيث استفاد منها العلماء اثني عشر أدباً قام بها نبي الله موسى عليه السلام تجاه الخضر عليه السلام5.


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - الحديث 13736
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - الحديث 13738
3- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص 236
4- الكهف: 66 - 69
5- يراجع كتاب منية المريد للشهيد الثاني - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص 235
 
 
45
 
 
 

 


39

الدرس الخامس: العلماء

يقول الشهيد الثاني في نهاية التعليق على هذه الآية الشريفة: "إنّ الخضر عليه السلام علم أولاً أنّه نبي بني إسرائيل، موسى عليه السلام صاحب التوراة الذي كلمه الله عزّ وجلّ بغير واسطة، وخصه بالمعجزات، وقد أتى مع هذا المنصب بهذا التواضع العظيم بأعظم أبواب المبالغة، فدلّ على أنّ هذا هو الأليق، لأنّ من كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فيشتدُّ طلبه لها، ويكون تعظيمه لأهل العِلم أكمل"1.

ميثاق العلماء
تحدث الإمام عليه السلام في هذه الفقرة عن واجب العلماء تجاه الأمة فقال عليه السلام: "يا هشام تعلم من العلم ما جهلت، وعلِّم الجاهل ممّا عُلِّمت، وعظِّم العالِم لعلمه، ودع منازعته، وصغِّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرِّبه وعلِّمه".

فالوظيفة الأولى للعالم والميثاق الذي أخذه الله عليه أن يعلم الناس مما علمه الله تعالى، فعن الإمام علي عليه السلام: "ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم حتى أخذ ميثاقاً من أهل العلم بتبيان العلم للجهّال لأنّ العلم كان قبل الجهل"2.

وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: "يا موسى تعلم الخير وعلمه للناس فإني منور لمعلمي الخير ومتعلميه قبورهم حتى لا يستوحشوا بمكانهم"3.
 
ونبه الإمام عليه السلام لأمر غاية في الأهميّة، وهو أمر يعتبر معياراً في التعاطي مع الآخرين، وهو أن لا يكون التعاطي مع العالم من الناس والجاهل على حدٍّ واحد، بل يعظم كل فرد من الناس بمقدار علمه.

ونبّه عليه السلام إلى أمرٍ آخر، وهو أن لا يصل بنا الأمر في التعاطي مع الجاهل إلى


1- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص 237 
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - الحديث 13807
3- تنبيه الخواطر ج 2 ص 212
 
 
46
 
 

40

الدرس الخامس: العلماء

درجة التحقير له، أو الفظاظة معه، بل يداري ليعلم ما جهل من الأمور، يقول الله تعالى: "فبِما رحْمةٍ مِّن اللهِ لِنت لهُمْ ولوْ كُنت فظًّا غلِيظ الْقلْبِ لانفضُّواْ مِنْ حوْلِك فاعْفُ عنْهُمْ واسْتغْفِرْ لهُمْ..."1.

فرصةٌ لا تُضيّع
يا هشام:
"فعليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعُهُ غيْبةُ عالِمِكُم بيْن أظهُرِكُم".
يشير الإمام عليه السلام إلى أمر في غاية الأهميّة، وهو أن لا ترفع العلم وبركاته عن الناس بسبب غيبة العالم ما بين أظهرهم، ولعل المراد من الغيبة هنا أن لا يقام للعالم حقه، فلا يزار ولا يستفاد منه، فيصبح كالقرآن الموضوع للزينة، وهو كتاب الرشاد والهداية، فينبغي لنا مع وجود العلماء وسهولة الوصول إليهم أن لا نضيع الفرصة الثمينة هذه للاستفادة بأكبر قدر من العلم، ونستمع في هذا لنصيحة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم الشيء العلم، إذا طلبتم فأحسنوا في الطلب وكونوا علماء، فإن لم تكونوا فتعلموا من العلماء، فإن لم تعلموا من العلماء فجالسوا، فإن لم تجالسوا العلماء فأحبوا العلماء، وإياكم والأربع: أن لا تكونوا علماء، وأن لا تعلموا من العلماء، وأن لا تجالسوا العلماء، وأن لا تحبوا العلماء فيكبكم في النار"2.

وإذا كنا ممن يرغب بالصحبة فأي صحبةٍ أفضل من صحبة عالم يرشدنا إلى الخير والصلاح، وأعجب من هذا أن تُترك صحبة العالم، ويُصاحب الجاهل أو الأحمق، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عجبت لمن يرغب في استكثار الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم وتهديه علومهم وتزينه صحبتهم"3.


1- آل عمران: 159
2- الريشهري - محمّد - العلم والحكمة في الكتاب والسنة - دار الحديث - ص 415
3- الريشهري - محمّد - العلم والحكمة في الكتاب والسنة - دار الحديث - ص 416
 
 
47
 

41

الدرس الخامس: العلماء

خلاصة الدرس
العلماء هم أهل الفضل، والمظهرون للدين، والناشرون للعلم، هم المذكرون بالآخرة، والمرغبون فيها.

الهدف من خلق الله تعالى الناس هي الطاعة له وعبادته جل وعل، وإن النجاة من العقاب الإلهيّ في الآخرة والحساب الدقيق لا تتحقّق إلا من خلال هذه الطاعة لله تعالى.

لكن طاعة الله تعالى لا تنشأ من فراغ، بل لا بد لها من خلفية ثقافية، هي العلم، و العلم لا يأتي بدون تعلم، لذا حثنا الدين الحنيف على التعلم.

ينبغي أن نعرف مصادر هذا العلم، ومصدره الأساس أهل بيت العصمة عليهم السلام، وعلم الآل عند العلماء الذين أمرونا بالرجوع إليهم.

الوظيفة الأولى للعالم والميثاق الذي أخذه الله عليه أن يعلم الناس مما علمه الله تعالى.

نبّه الإمام الكاظم عليه السلام لأمر غاية في الأهميّة، وهو أمر يعتبر معياراً في التعاطي مع الآخرين، وهو أن لا يكون التعاطي مع العالم من الناس والجاهل على حدٍ واحد، بل يعظم كل فرد من الناس بمقدار علمه.

ينبغي لنا أن نحرص كي لا يُرفع العلم وبركاته عنا بسبب غيبة العالم من بين أظهرن، ولعل المراد من الغيبة هنا أن لا يقام للعالم حقه، فلا يزار ولا يستفاد منه، فيصبح كالقرآن الموضوع للزينة، وهو كتاب الرشاد والهداية، فينبغي لنا مع وجود العلماء وسهولة الوصول إليهم أن لا نضيع الفرصة الثمينة هذه للاستفادة بأكبر قدر من العلم.
 
 
48

 
 

42

الدرس الخامس: العلماء

أسئلة حول الدرس
1- ماذا يعني أن العلماء هم سبل الطاعة؟
2- ما هو حق العلماء على الناس؟
3- ما هو ميثاق العلماء؟
4- لماذا يُرفع العلم ، ولأي سبب؟

للحفظ
"قال لهُ مُوسى هلْ أتّبِعُك على أن تُعلِّمنِ مِمّا عُلِّمْت رُشْدًا * قال إِنّك لن تسْتطِيع معِي صبْرًا * وكيْف تصْبِرُ على ما لمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قال ستجِدُنِي إِن شاء اللهُ صابِرًا ولا أعْصِي لك أمْرًا"
 
للمطالعة
قال عبد الرحمن الكوفي: لقيني بهلول المجنون فقال لي: أسألك، قلت: اسأل، قال: أي شيء السخاء؟ قلت: البذل والعطاء، قال: هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين؟ قلت: المسارعة إلى طاعة الله، قال: أفيريدون منه الجزاء؟ قلت: نعم بالواحد عشرة، قال: ليس هذا سخاء هذه متاجرة ومرابحة، قلت: فما هو عندك؟ قال: لا يطلع على قلبك وأنت تريد منه شيئاً بشيء.
 
 
49
 
 

 


43

الدرس الخامس: العلماء

 قال عمر بن جابر الكوفي: مر بهلول بصبيان كبار فجعلوا يضربونه فدنوت منه فقلت: لم لا تشكوهم لآبائهم؟ فقال لي: اسكت فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون!
 
 
 
50
 

44

الدرس السادس: العلم والعمل

يا هشام:
"إنّ كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.

يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين:
... بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً، وباطنه فاسداً، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم دنسة، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه...

بحق أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان فرجل أتقنها بقوله، وصدقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله، وضيعها بسوء فعله، فشتان بينهما".

تمهيد
بعد أن تعرفنا في الدرس السابق إلى العلماء وحقهم وما علينا من واجب
 
 
 
51

 
 

45

الدرس السادس: العلم والعمل

تجاههم, وما في صحبتهم من نفع وخير, وصل الكلام بنا في الوصيّة المباركة إلى مقاطع ركز فيها الإمام عليه السلام على مسألة العلم والعمل والموافقة بينهما, وعن أصناف الناس في التعاطي مع العلم.

وأما عن فضل العلم فيجيبنا الشهيد الثاني على السؤال في كتابه منية المريد في آداب المفيد والمستفيد قائلاً: "اعلم أن الله سبحانه جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طراً، وكفى بذلك جلالةً وفخراً، قال الله تعالى في محكم الكتاب تذكرةً وتبصرةً لأولي الألباب: "اللهُ الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ يتنزّلُ الْأمْرُ بيْنهُنّ لِتعْلمُوا أنّ الله على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ وأنّ الله قدْ أحاط بِكُلِّ شيْءٍ عِلْماً"1، وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم، لا سيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم ومدار كل معرفة، وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأول منّة امتنّ بها على ابن آدم عليه السلام بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "اقْرأْ بِاسْمِ ربِّك الّذِي خلق * خلق الإِنسان مِنْ علقٍ * اقْرأْ وربُّك الأكْرمُ * الّذِي علّم بِالْقلمِ * علّم الإِنسان ما لمْ يعْلمْ"2. فتأمل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد الذي "لا يأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بيْنِ يديْهِ ولا مِنْ خلْفِهِ تنْزِيلٌ مِنْ حكِيمٍ حمِيدٍ"3 بنعمة الإيجاد، ثم أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمة منّة أو توجد نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لما خصه الله تعالى بذلك"4.

وسنذهب معاً في جولة لنرى إرشادات الإمام عليه السلام في هذا المجال.


1- الطلاق:12
2- العلق:1-5
3- فصلت:42
4- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2064
 
 
52
 

 

46

الدرس السادس: العلم والعمل

العلم والهداية
"يا هشام إن كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها".

ولعل تشبيه العلم والحكمة بالنجوم لأنها تدل على طريق الصواب, فقد كانت العرب فيما مضى تستهدي بالنجوم إلى الطرق والاتجاهات, فلا تضيع, وكذلك من يهتدي بالعلم والحكمة فإنه لا يضيع عن درب الصواب, ولذا كان العلم رأساً للفضائل كما في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "يتفاضل الناس بالعلوم والعقول، لا بالأموال والأصول"1.

بل إن الله تعالى قد يعاقب المرء بحرمانه من العلم, ففي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استرذل الله تعالى عبداً إلا حُرِم العلم"2.

ويشير الإمام عليه السلام في ختام الفقرة إلى مسألة غاية في الأهميّة وهي محور الحديث في هذا الدرس, وهي أن العالم بالنجوم يمكن أن يهتدي بها, وليس ضرورياً أن يهتدي بمجرد العلم, ولكن عليه أن يطبق هذه النظريات التي يعرفها على النجوم في المسافات والحساب ليصل إلى مراده, وكذا الأمر بالنسبة للعلم.

ثمرة العلم
فثمرة العلم لا مجرد زيادة المعلومات لدى الإنسان لكي يقال هذا مثقف وذو علم, ولكن ليطبق الإنسان ما في العلم في مجالات الحياة, ليسمو به في طريق الفضائل, ويجتنب بما ينهاه علمه عنه طريق الرذائل, فالعلم يسمو بالحياة, ويسمو بالإنسان إلى كمال الإنسانيّة, ولذا ورد عن الإمام علي عليه السلام: "ثمرة العلم العمل به" وعنه عليه السلام: "ثمرة العلم العمل للحياة"3.

وقد روي أنه في التوراة: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: "عظِّم الحكمة، فإني لا



1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2062
2- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2064
3- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2090
 
 
 
53
 



 
 

 


47

الدرس السادس: العلم والعمل

أجعل الحكمة في قلب أحد إلا وأردت أن أغفر له، فتعلمها ثم اعمل بها، ثم أبدلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة"1.

ويقول الشهيد الثاني رحمه الله: "اعلم أن العلم بمنزلة الشجرة، والعمل بمنزلة الثمرة، والغرض من الشجرة المثمرة ليس إلا ثمرتها، أما شجرتها بدون الاستعمال، فلا يتعلّق بها غرض أصلاً، فإن الانتفاع بها في أي وجه كان ضرب من الثمرة بهذا المعنى. وإنما كان الغرض الذاتي من العلم مطلقاً العمل، لأن العلوم كلها ترجع إلى أمرين: علم معاملة، وعلم معرفة، فعلم المعاملة هو معرفة الحلالِ والحرام ونظائرهما من الأحكام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة، وكيفية علاجها والفرار منها، وعلم المعرفة كالعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه"2.

ثم شبه رحمه الله العلم بلا عمل بمثل جميل فقال: "إنما مثله مثل مريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة، لا يعرفها إلا حذاق الأطباء، فسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق، فعلمه الدواء، وفصل له الاخلاط، وأنواعها ومقاديرها، ومعادنها التي منها تجلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها، وكيفية خلطها وعجنها، فتعلم ذلك منه، وكتب منه نسخة حسنة بحسن خط، ورجع إلى بيته، وهو يكررها ويقرأها، ويعلمها المرضى، ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئاً؟! هيهات لو كتب منه ألف نسخة، وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم، وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئاً إلى أن يزن الذهب، ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلم، ويشربه، ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته، وبعد تقديم الاحتماء، وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك كله، فهو على خطر من شفائه، فكيف إذا لم يشربه أصلا؟"3.


1- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص120
2- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص150
3- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص151
 
 
54
 

48

الدرس السادس: العلم والعمل

حسن الظاهر والباطن
ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن الربط بين حسن الظاهر والباطن وربطه بالقول والعمل , وكأنه يشير إلى أن من وافق عمله علمه, فإن ذلك يدل على حسن الباطن وسلامة السريرة, فقال عليه السلام: "يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين:

... بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً، وباطنه فاسداً، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه..."

وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام لهذا المعنى في الشعر المنسوب إليه:
أبُنيّ إن من الرجال بهيمة           في صورة الرجل السميع المبصرِ
فطن لكل رزية في ماله             وإذا أصيب بدينه لم يشعرِ

وكم من الناس من يهتم بجمال الظاهر من الجسد فيذهب إلى صالات الرياضة ويبالغ في تدريب الجسد ليبدو في أحسن مظهره, على ما في ذلك من حسن, إلا أنه ينسى في المقابل ما على القلب من واجب, فأي صلاح في جسد جميل متناسق يحوي قلباً فاسداً منحرفاً عن الصراط السوي, لا يرى إلا عيب الآخرين, ويغفل عما في نفسه من العيوب والمثالب؟ وقد روي في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "أكبر العيب أن تعيب غيرك بما هو فيك"1.


1- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص315
 
 
55
 

49

الدرس السادس: العلم والعمل

بل وصفت بعض الروايات من يتصف بهذه الصفة بالغباء, فعن الإمام علي عليه السلام: "كفى بالمرء غباوة، أن ينظر من عيوب الناس إلى ما خفي عليه من عيوبه"1، لأنه في الحقيقة لا يتابع عيوب الناس إلا من يرى في نفسه كمالاً, فيعجب بنفسه ويرى منها كل الخير فتمنعه عن النقد لذاته, وتلجئه لنقد الآخرين, فعن الإمام علي عليه السلام: "من أبصر عيب نفسه لم يعب أحداً"2.

بل قد يصل المرء لحالة يرى فيها عيوب الناس وهو يرتكبها بدون أي فرق فيعيب الناس, ولا يعيب نفسه، وهذا من وصفته الروايات بالأحمق، فعن الإمام علي عليه السلام: "من أنكر عيوب الناس ورضيها لنفسه، فذلك الأحمق"3.

في الخلاصة، لا بد من توافق القول والعمل, فإن توافق قول الإنسان وعمله دلّ هذا على حسن الظاهر والباطن, وأما لو تخالفا فإنه يستبطن في نفسه خلاف ما يعلمه من الخير.

وقد مثّل الإمام عليه السلام على هذه الحالة النفسية المرضية بقول المسيح عليه السلام لأتباعه أن لا يكونوا كالمنخل فالمنخل يخرج منه الطحين السليم ويبقى فيه الزؤان والحجارة الصغيرة وما اختلط به من النبات غير النافع, وحال المرء في هذا سواء, فقد يكون الإنسان داعياً الحقّّ بلسانه فيخرج ما حوته النفس من الخير ويبقي في قلبه الأدران والأفكار السقيمة, والمعتقدات الباطلة, والأخلاق الرديئة.

والمثل الآخر السراج، فالسراج نافع للناس بنوره حيث ينوِّر لهم ظلام ليلهم, ولكنه لا يستفيد لا من زيته ولا من نوره فليس له عين يرى بها الضوء, وفوق هذا يحرق الفتيل لأجل الغير بدون أن يلقى أي نتيجة لنفسه, وكذا من يحمل العلم بلا عمل يحرق نفسه بالمجان ويستفيد الآخرون منه.


1- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص315
2- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص316
3- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص316
 
 
56
 
 

50

الدرس السادس: العلم والعمل

إتقانٌ بالقول أم تصديق بالعمل؟
"بحق أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان فرجل أتقنها بقوله، وصدقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله، وضيعها بسوء فعله، فشتان بينهما".

الفرصة التي ينبغي أن لا تضيع من المرء هي فرصة العلم الذي يمكنه من بلوغ الدرجات العليا من الكمال, وأن يكون المرء ذا علم وحكمة فيضيعهما بترك العمل فهما, فهذا الخاسر الأكبر , وخصوصاً حين يرى في الآخرة من نجا من العذاب وفاز بالرضوان بسبب الحكمة التي كانت تخرج من لسانه, فأي خسارة بعد هذه؟

فلا يغرّنّ المرء ما حواه من العلم فإن الغرور بحد ذاته مرض نفسي أخلاقي, يحجب المرء عن رؤية ما في نفسه من العيوب والمخازي, لأن الشيطان يقف عند هذا المفترق, ليصل بالإنسان ليرى معايب نفسه محاسن, وفي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور"1.

وبهذا الغرور يحول المرء علمه إلى جهل حقيقي, ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "كفى بالاغترار جهلاً, وعنه في حديث آخر:لا يُلفى العاقِل مغروراً"2.

خلاصة الدرس
تشبيه العلم والحكمة بالنجوم لأنها تدلّ على طريق الصواب, فقد كانت العرب فيما مضى تستهدي بالنجوم على الطرق والاتجاهات, فلا تضيع, وكذلك من يهتدي بالعلم والحكمة فإنه لا يضيع عن درب الصواب, ولذا كان العلم رأساً للفضائل، فثمرة العلم ليست مجرد زيادة المعلومات لدى الإنسان لكي يقال هذا مثقف وذو علم, ولكن ليطبق الإنسان ما في العلم في مجالات الحياة, ليسمو به في طريق


1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2234
2- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2234
 
 
57

 

51

الدرس السادس: العلم والعمل

الفضائل, ويجتنب بما ينهاه علمه عنه طريق الرذائل.

من الناس من يهتم بجمال الظاهر من الجسد فيذهب إلى صالات الرياضة ويبالغ في تدريب الجسد ليبدو في أحسن مظهره, على ما في ذلك من حسن, إلا أنه ينسى في المقابل ما على القلب من واجب, فأي صلاح في جسد جميل متناسق يحوي قلباً فاسداً منحرفاً عن الصراط السوي, لا يرى إلا عيب الآخرين, ويغفل عما في نفسه من العيوب والمثالب.

بل قد يصل المرء لحالة يرى فيها عيوب الناس وهو يرتكبها بدون أي فرق فيعيب الناس, ولا يعيب نفسه، وهذا من وصفته الروايات بالأحمق.

الفرصة التي ينبغي أن لا تضيع من المرء هي فرصة العلم الذي يمكنه من بلوغ الدرجات العليا من الكمال, وأن يكون المرء ذا علم وحكمة فيضيعهما بترك العمل بهما, فهذا الخاسر الأكبر , وخصوصاً حين يرى في الآخرة من نجا من العذاب وفاز بالرضوان بسبب الحكمة التي كانت تخرج من لسانه.

إنّ الغرور بحدّ ذاته مرض نفسي أخلاقي, يحجب المرء عن رؤية ما في نفسه من العيوب والمخازي, لأن الشيطان يقف عند هذا المفترق, ليصل بالإنسان ليرى معايب نفسه محاسن.
 
أسئلة حول الدرس
1- ما هي ثمرة العلم؟
2- ما علاقة حسن الباطن والظاهر بالعلم والعمل؟
3- ما وجه تشبيه الإمام عليه السلام تارك العمل بالعلم بالسراج؟
4- ما هو أثر الغرور على العلم؟
 
 
58

 

52

الدرس السادس: العلم والعمل

للحفظ
"اللهُ الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ يتنزّلُ الْأمْرُ بيْنهُنّ لِتعْلمُوا أنّ الله على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ وأنّ الله قدْ أحاط بِكُلِّ شيْءٍ عِلْما"1.

عن الإمام علي عليه السلام: "أكبر العيب أن تعيب غيرك بما هو فيك".

للمطالعة
قال عباس البنّاء: نظر بهلول إليّ وأنا أبني داراً لبعض أبناء الدنيا، فقال لي: لمن هذه الدار؟ فقلت: لرجل من نبلاء الكوفة، فقال: أرنيه فأريته إياه فناداه: يا هذا لقد تعجلت الحماية قبل العناية اسمع إلى صفة دار كوّنها العزيز أساسها المسك وبلاطها العنبر اشتراها عميد قد أزعج للرحيل كتب على نفسه كتاباً وأشهد على ضمائره شهوداً، هذا ما اشترى العبد الجافي من الرب الوافي، اشترى منه هذه الدار بالخروج من ذل الطمع إلى عزّ الورع، فما أدرك المستحق فيما اشتراه من درك، فعلى المولى خلاص ذلك وتضمينه أراه شهد على ذلك العقل وهو الأمين والخواطر وذلك في إدبار الدنيا وإقبال الآخرة، أحد حدودها ينتهي إلى ميادين الصفا والحد الثاني ينتهي إلى ترك الجفا والحد الثالث ينتهي إلى لزوم الوفا والحد الرابع ينتهي إلى سكون الرضا في جوار من على العرش استوى، لها شارع ينتهي إلى دار السلام وخيام قد ملئت بالخدام وانتقال الأسقام وزوال الضر والآلام، يا لها من دار لا ينقضي نعيمها ولا يبيد، دار أسست من الدر والياقوت شرف تلك الخدور 
 
 
59
 

53

الدرس السادس: العلم والعمل

 وجعل بلاطها من البهاء والنور، قال: فترك الرجل قصره وهام على وجهه، وأنشأ بهلول يصيح خلفه ويقول:

يا ذا الذي طلب الجنان لنفسه          لا تهربن فإنه يعطيكا
 
 
 
 
60
 

 
 
 
 

54

الدرس السابع: التفكر

يا هشام: 
"أصلحُ أيامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو؟ وأعدّ له الجواب فإنّك موقوف ومسؤول، وخذ موعظتك من الدهر وأهله فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك.

... وانظر في تصرف الدهر وأحواله فإن ما هو آت من الدنيا كما ولى منها فاعتبر بها، وقال علي بن الحسين عليه السلام: إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال.

... فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس".

تمهيد
التفكر, هو العنوان الذي انتخبناه من بين الكلمات التي وردت في هذه المقاطع من الوصيّة المباركة, وقد أشار فيها الإمام عليه السلام إلى عدة تأملات في الدنيا وحال أهلها, ولعل هذا النوع من التذكير من أشد المواعظ تأثيراً على المتلقي, لأنها من
 
 
61

 
 

55

الدرس السابع: التفكر

صميم ما يراه بحواسه, فموت الأحياء, وانقلاب الأيام شواهد يراها المرء وقد لا يلتفت للعبرة فيها, لذا سنغوص في مضمون ما أشار له الإمام في هذه الكلمات الكريمة.

أصلح أيام الإنسان
قال عليه السلام: "يا هشام أصلح أيامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو؟ وأعد له الجواب فإنك موقوف ومسؤول".

لأن اليوم الذي انقضى ذهب بما فيه من خير أو شر, فمن استزاد فيه من الخير غنم, ومن كسب خطيئة قد يدرك توبتها في أيامٍ بقيت لا يعلم عددها, ولكن اليوم الأصلح هو اليوم الذي سيأتي, فالقرار فيه لا زال في ملك يدك, فهو كالكلمة التي لم تخرج من لسانك, فأنت يمكنك أن تقرّر متى تخرج, وبأي نحو, وكذا اليوم الآتي فهو بيدك يمكنك فيه أن تختار بين أن يكون يوم طاعة لله خالياً من أي معصية, أو يوماً مليئاً بالذنوب والآثام, ولذا هذا اليوم يومك الأصلح, وكأن الإمام عليه السلام يقول لهشام أن لا يضيع فرصة اليوم الأصلح, لأن هذا اليوم الأصلح يتكرر كلما نبض القلب وضجت في أنحاء الجسد الحياة, فاجعله اليوم الأخير لو استطعت بما تستزيد فيه من الطاعة, لأنك مسؤول عنه يوم القيامة, ولذا حضّر جوابه الذي يجرك إلى السعادة.

التفكر
ثم حث الإمام عليه السلام هشاماً رحمه الله على التفكر في الدهر وأهله فقال: "وخذ موعظتك من الدهر وأهله فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل, فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك".

فأما أن الدهر طويله قصير, فهو مضمون ما أشار له رسول الرحمة الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:


1-الميرزا النوري – مستدرك الوسائل – مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث -  بيروت – لبنان - - ج12 ص141.
2-الكليني – الكافي – دار الكتب الإسلامية -  طهران – الطبعة الخامسة – ج 2 ص451.
3-المازدراني – مولى محمد صالح – شرح أصول الكافي – دار إحياء التراث العربي للنشر والطباعة والتوزيع – ج11 ص358.
 
 
62
 

 


56

الدرس السابع: التفكر

1-"ترك الفرص غصص، الفرص تمر مر السحاب"
وكذا تسير بنا الأيام سراعاً, ولا تمضي بنا سنة حتى نفاجأ برحيلها وقدوم سنة أخرى, فإننا لا نشعر إلا والأيام تسير بنا, وكم يتأوه الواحد منا حين يتذكر ما مر عليه من الأحداث ويقول: حتى لكأنّها كانت بالأمس.

وأما قول الإمام عليه السلام "وقصيره طويل" فالمراد به أن ما نشعر أنّه أيام قصيرة في الدنيا طويل حسابه يوم الجزاء, حيث يُسأل المرء عن كل شيء: عن النفس الذي أخرجه, وعن القرش وأقل من القرش, وما أصعب المداقة يومئذٍ, فلنحذر كل الحذر من أن تضيع فرصتنا القصيرة في الدنيا بالركون إليها والغرق في وحلها, لنأتي بعدها بحساب يطول ويعسر.

فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة وكم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً والموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحاً".

ثم قال عليه السلام: "فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك".

يقول العلامة المازندراني "فإن العلم بفناء كلِّ شيءٍ من الدهر وما يتعلّق به يقتضي تركه وترك تعلق القلب به ويتفرع منه الاجتهاد في العمل الخالص للآخرة وهو العمل الذي ترى ثوابه بعين البصيرة وتتيقن بحصوله فيها، وثواب هذا العمل هو الذي يتعلّق الطمع في حصوله في الآخرة قطعاً، وأما العمل غير الخالص فالطمع في حصول ثوابه غير متحقق بل غير معقول لدلالة الأخبار على ذلك" .

وإن التفكر في ثواب العمل يساعد على طرد الشيطان من النية, فحين يتفكر المرء فيما أعد الله تعالى له من الثواب والخير يوم القيامة يغفل عن الدنيا ورأي أهلها, فيبني بذلك سداً يمنع تسرب الشرك إلى العمل, فحين يتسرب الشرك للعمل
 
 
63
 

57

الدرس السابع: التفكر

يحبطه, يقول الله تعالى: "إِنّ اللّه لا يغْفِرُ أن يُشْرك بِهِ ويغْفِرُ ما دُون ذلِك لِمن يشاء ومن يُشْرِكْ بِاللّهِ فقدِ افْترى إِثْمًا عظِيمًا"1, ويقول في آية أخرى: "قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُد اللّه مُخْلِصًا لّهُ الدِّين"2.

وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ"3.

عبادة المخلصين
ثم قال عليه السلام: "... وانظر في تصرّف الدهر وأحواله فإنّ ما هو آت من الدنيا كما ولى منها فاعتبر بها" ، وقال علي بن الحسين عليه السلام: "إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها عند وليٍّ من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال"4.

ثم أعطى الإمام عليه السلام مثالاً في التفكر العملي, حيث بيّن أن ما انقضى من أيام الدنيا وما سيأتي منها هو نفسه. وفي الحقيقة أن المتأمل يرى تشابه الأيام, ففي كل يوم من أيام الدنيا يستيقظ أحدنا لعمله أو البحث عن العمل, ويلتقي بأهلها, ثم يدركه الجوع فيأكل وتدركه الحاجة فيسعى لقضائها, وقد لا تنقضي في يوم أو أيام, فيبالغ في السعي, وهكذا تمرّ الأيام بدون أي شعور بها وهو غارق كل الغرق في ملاحقة حاجاته التي لا تنتهي, ولا يدرك الإنسان كل طموحه فيما خلا من أيام ولن يدركه فيما سيأتي لأن الموت سيقف حاجزاً بينهما ليضح حدّاً لانكبابه وسعيه الدؤوب.

لذا كانت الدنيا عند أولياء الله كفيء الظلال, فلا يدوم الظل في مكانه بل يميل


1- النساء:48
2- الزمر:11
3- الحر العاملي - محمد بن الحسن - وسائل الشيعة - دار إحياء التراث - بيروت - ج1، ص43
4- ابن شعبة الحراني - تحف العقول - مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ص391
 
 
64
 

58

الدرس السابع: التفكر

من مكان لآخر بتحرك الشمس, وجمال التشبيه هنا, أن المرء لو أراد أن يتخذ هذا الظل هدفاً له لقضى سائر النهار في ملاحقته من زاوية لأخرى ولا ينعم بثباته إلا قليلاً من الزمن لا يكفي لشبع من نوم, ولا حتى ساعة واحدة, وفوق هذا ففي نهاية النهار ستغرب الشمس ويختفي الظل الذي كان هدفاً وهكذا دواليك...

هذا هو التفكر في حال الدنيا الذي أمرنا به أهل البيت عليهم السلام فعن الإمام الصادق عليه السلام لما سأله الحسن الصيقل: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكر؟ قال: يمرُّ بالدور الخربة فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ ما لك لا تتكلمين؟"1.

وعن الإمام الحسين الشهيد عليه السلام: "يا بن آدم تفكر، وقل: أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمروا خرابها واحتفروا أنهارها، وغرسوا أشجارها، ومدنوا مدائنها، فارقوها وهم كارهون، وورثها قوم آخرون، ونحن بهم عما قليل لاحقون. يا بن آدم أذكر مصرعك، وفي قبرك مضجعك بين يدي الله، تشهد جوارحك عليك يوم تزلّ فيه الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، وتبيضّ وجوه، وتبدو السرائر، ويوضع الميزان القسط. يا بن آدم أذكر مصارع آبائك، وأبنائك، كيف كانوا، وحيث حلوا، وكأنك عن قليل قد حللت محلهم، وصرت عبرة المعتبرة, ثم أنشد هذه الأبيات:

أين الملوك التي عن حفظها غفلت          حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
تلك المدائن في الآفاق خالية                عادت خراباً وذاق الموت بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها               ودورنا لخراب الدهر نبنيها"2.


1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3- ص2465
2- القرشي - باقر شريف - حياة الإمام الحسين عليه السلام - مطبعة الآداب - النجف الأشرف - ج1، ص163
 
 
65
 
 

59

الدرس السابع: التفكر

وهذا هو الذي وصفته الروايات بعبادة المخلصين, فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين1 وهو من صفات أولي الألباب، يقول الله تعالى: "أفلمْ يسِيرُواْ فِي الأرْضِ فينظُرُواْ كيْف كان عاقِبةُ الّذِين مِن قبْلِهِمْ ولدارُ الآخِرةِ خيْرٌ لِّلّذِين اتّقواْ أفلا تعْقِلُون * حتّى إِذا اسْتيْأس الرُّسُلُ وظنُّواْ أنّهُمْ قدْ كُذِبُواْ جاءهُمْ نصْرُنا فنُجِّي من نّشاء ولا يُردُّ بأْسُنا عنِ الْقوْمِ الْمُجْرِمِين * لقدْ كان فِي قصصِهِمْ عِبْرةٌ لِّأُوْلِي الألْبابِ ما كان حدِيثًا يُفْترى ولكِن تصْدِيق الّذِي بيْن يديْهِ وتفْصِيل كُلِّ شيْءٍ وهُدًى ورحْمةً لِّقوْمٍ يُؤْمِنُون"2 .

وفي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: "دليل العاقل التفكر، ودليل التفكر الصمت"3.

وأشار العديد من الروايات إلى آثار التفكر، بل إنّ بعض الروايات جعل التفكّر أباً لكل خيرٍ, فعن الإمام الحسن عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكر، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمّه"4.

وأما أثره في الآخرة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه السلام: "أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت وأفضل العبادة ذكر الموت وأفضل التفكر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة"5.

الرضا بالخسيس
ثم تحدّث الإمام عليه السلام عن التعلّق بالدنيا والرضا بها فقال: "... فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس"6.


1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3 - ص1799
2- يوسف:109-111
3- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3 - ص1667
4- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3 - ص2463
5- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج14 ص62
6- ابن شعبة الحراني - تحف العقول - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة
 
 
66
 
 

 


60

الدرس السابع: التفكر

وبعملية حسابية أو تجارية ومقارنة بين الدنيا والآخرة يعرف الإنسان أين يكون الربح الأكبر, ولكن من يرى الفرق بين ربح أيام قليلة وهناء دائم أبديّ ويختار الزائل والفاني, فقد رضي الخسيس فعلاً, وروي أن الحسين بن علي سيّد الشهداء عليه السلام كثيراً ما كان ينشد هذه الأبيات، وأنها مما أملته نفسه الطاهرة على لسان مكارمه الوافرة:
لئن كانت الأفعالُ يوماً لأهلها             كمالاً فحُسنُ الخُلقِ أبهى وأكملُ
وإنْ كانتِ الأرزاقُ رِزقاً مُقدّراً           فقِلّةُ جُهدِ المرءِ فِي الكسبِ أجْملُ
وإنْ كانتِ الدُنيا تُعدُّ نفِيسةً                 فدارُ ثوابِ اللهِ أعلى وأنبلُ
وإنْ كانتِ الأبدانُ للموتِ أنشِئتْ          فقتْلُ امرئٍ بالسيفِ فِي اللهِ أفضلُ
وإنْ كانتِ الأموالُ للتركِ جمْعُها          فما بالُ متْرُوكٍ بِهِ المرءُ يبخلُ؟

خلاصة الدرس
إنّ اليوم الذي انقضى ذهب بما فيه من خير أو شر, فمن استزاد فيه من الخير غنم, ومن كسب خطيئة قد يدرك توبتها في أيامٍ بقيت لا يعلم عددها, ولكن اليوم الأصلح هو اليوم الذي سيأتي, فالقرار فيه لا زال في ملك يدك.

تسير بنا الأيام سراعاً, ولا تمضي بنا سنة حتى نفاجأ برحيلها وقدوم سنة أخرى, فإنّنا لا نشعر إلا والأيام تسير بنا, وكم يتأوّه الواحد منّا حين يتذكّر ما مرّ
 
 
 
67
 
 
 

 


61

الدرس السابع: التفكر

عليه من الأحداث ويقول: حتى لكأنّها كانت بالأمس.

 إنّ العلم بفناء كلِّ شيءٍ من الدهر وما يتعلّق به يقتضي تركه وترك تعلق القلب به ويتفرع منه الاجتهاد في العمل الخالص للآخرة وهو العمل الذي ترى ثوابه بعين البصيرة وتتيقن بحصوله فيها، وثواب هذا العمل هو الذي يتعلّق الطمع في حصوله في الآخرة قطعاً, وإنّ التفكر في ثواب العمل يساعد على طرد الشيطان من النية, فحين يتفكّر المرء فيما أعد الله تعالى له من الثواب والخير يوم القيامة يغفل عن الدنيا ورأي أهلها, فيبني بذلك سداً يمنع تسرب الشرك إلى العمل.

إنّ ما انقضى من أيام الدنيا وما سيأتي منها هو نفسه, وفي الحقيقة أن المتأمّل يرى تشابه الأيام, ففي كل يوم من أيام الدنيا يستيقظ أحدنا لعمله أو البحث عن العمل, ويتلاقى بأهلها, ثم يدركه الجوع فيأكل وتدركه الحاجة فيسعى لقضائها, وقد لا تنقضي في يوم أو أيام, فيبالغ في السعي, وهكذا تمرّ الأيام بدون أيّ شعور بها وهو غارق كل الغرق في ملاحقة حاجاته التي لا تنتهي, وبعملية حسابية أو تجارية ومقارنة بين الدنيا والآخرة يعرف الإنسان أين يكون الربح الأكبر, ولكن من يرى الفرق بين ربح أيام قليلة وهناء دائم أبدي ويختار الزائل والفاني, فقد رضي بالخسيس فعلاً. 

أسئلة حول الدرس
1- كيف تتشابه الأيّام؟
2- كيف يتفكّر الإنسان؟
3- ما المراد بقول الإمام عليه السلام (وقصيره طويل)؟
4- ما وجه الشبه بين فيء الظلال والتعلّق بالدنيا؟ 
 
 
 
 
68
 
 

 
 
 

62

الدرس السابع: التفكر

 للحفظ
 "أفلمْ يسِيرُواْ فِي الأرْضِ فينظُرُواْ كيْف كان عاقِبةُ الّذِين مِن قبْلِهِمْ ولدارُ الآخِرةِ خيْرٌ لِّلّذِين اتّقواْ أفلا تعْقِلُون * حتّى إِذا اسْتيْأس الرُّسُلُ وظنُّواْ أنّهُمْ قدْ كُذِبُواْ جاءهُمْ نصْرُنا فنُجِّي من نّشاء ولا يُردُّ بأْسُنا عنِ الْقوْمِ الْمُجْرِمِين * لقدْ كان فِي قصصِهِمْ عِبْرةٌ لِّأُوْلِي الألْبابِ ما كان حدِيثًا يُفْترى ولكِن تصْدِيق الّذِي بيْن يديْهِ وتفْصِيل كُلِّ شيْءٍ وهُدًى ورحْمةً لِّقوْمٍ يُؤْمِنُون"
  
للمطالعة
قال عبد الخالق: سمعت أبي يقول: سمعت بهلولاً يقول: من كانت الآخرة أكبر همّه أتته الدنيا وهي راغمة، ثم أنشأ يقول:

يا خاطب الدنيا إلى نفسه         تنحّ عن خطبتها تسلم
إن التي تخطب غدّارة            قريبة العرس من المأتم

قال كثير بن روح: رأيت بهلولاً ذات يوم يتمثل وهو يقول هذه الأبيات:

يا طالب الرزق في الآفاق مجتهداً         أتعبت نفسك حتى شفّك الطلبُ
تسعى لرزق كفاك الله بغيته                اقعد فرزقك قد يأتي به السببُ
كم من دنيءٍ ضعيف العقل تعرفه          له الولاية والأرزاق والذهبُ
ومن حسيبٍ له عقلٌ يزيِّنُه                  بادي الخصاصة لا يدرى له سببُ
فاسترزق الله ممّا في خزائنه               فالله يرزق لا عقلٌ ولا حسبُ 
 
 
 
69
 

 


63

الدرس الثامن: كف الأذى

يا هشام: 
"من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة.

يا هشام، وُجد في ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه، وقتل غير قاتله".

تمهيد
تحدث الإمام عليه السلام في هاتين الفقرتين من الوصيّة عن أمرين في غاية الأهميّة، والأوّل هو الكفّّ عن أعراض الناس، وأمّا الأمر الثاني فهو العدوان على الآخرين، وسنتعرض في هذا الدرس لهذين المعنيين الذين أراد الإمام عليه السلام الإشارة لهما.

الكفّ عن أعراض الناس
قال عليه السلام: "يا هشام، من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة".

ويكون الكفّّ عن أعراض الناس من خلال الابتعاد عن عدة أمور، منها:
 
 
71
 

64

الدرس الثامن: كف الأذى

1- النظر المحرّم:
والنظر إلى ما يحرم النظر إليه من المعاصي التي توعّد الله تعالى بها بالعذاب ففي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النار، إلا أن يتوب ويرجع"1.

وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اشتدّ غضب الله عزّ وجلّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها"2.

فالنظر المنهي عنه هو للرجل والمرأة على السواء، وللنظر المحرّم مفاسد روحية فضلاً عمّا توعّد الله تعالى به من العذاب، فإن القلب يتأثر بما تراه العين، ففي الرواية أنّ المسيح عيسى بن مريم عليها السلام قال لأصحابه...: "إيّاكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"3.

كما أنّ الانشغال بالنظر الحرام ينسي الإنسان الآخرة، فعن الإمام علي عليه السلام: "إذا أبصرت العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة"4.

وأمّا ما يجب غضّ النظر عنه فهو كل أجنبي عن الإنسان، وقد جمعت الآية الكريمة التي نزلت على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وحدّدت من يجب غض النظر عنهن من النساء ومن يجب على النساء أن يغضضن أنظارهن عنهم، قال سبحانه وتعالى: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِين يغُضُّوا مِنْ أبْصارِهِمْ ويحْفظُوا فُرُوجهُمْ ذلِك أزْكى لهُمْ إِنّ الله خبِيرٌ بِما يصْنعُون * وقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يغْضُضْن مِنْ أبْصارِهِنّ ويحْفظْن فُرُوجهُنّ ولا يُبْدِين زِينتهُنّ إِلّا ما ظهر مِنْها ولْيضْرِبْن بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنّ ولا يُبْدِين زِينتهُنّ إِلّا لِبُعُولتِهِنّ أوْ آبائِهِنّ أوْ آباءِ بُعُولتِهِنّ أوْ أبْنائِهِنّ أوْ أبْناءِ بُعُولتِهِنّ أوْ إِخْوانِهِنّ أوْ بنِي


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3291
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3291
3- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3288
4- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3288
 
 
72
 
 
 
 

65

الدرس الثامن: كف الأذى

إِخْوانِهِنّ أوْ بنِي أخواتِهِنّ أوْ نِسائِهِنّ أوْ ما ملكتْ أيْمانُهُنّ أوِ التّابِعِين غيْرِ أُولِي الْأِرْبةِ مِن الرِّجالِ أوِ الطِّفْلِ الّذِين لمْ يظْهرُوا على عوْراتِ النِّساءِ ولا يضْرِبْن بِأرْجُلِهِنّ لِيُعْلم ما يُخْفِين مِنْ زِينتِهِنّ وتُوبُوا إِلى الله جمِيعاً أيُّها الْمُؤْمِنُون لعلّكُمْ تُفْلِحُون"1.

ولغض البصر مع رغبة النفس في النظر أثر كبير في تهذيب النفس، بل إن الشعور بهذا الأثر سريع جد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم ينظر امرأة أول رمقة ثم يغض بصره إلا أحدث الله تعالى له عبادةً يجدُ حلاوتها في قلبه"2، فغض النظر هو انتصار في معركة النفس الأمارة والشيطان، وهو تحطيم لأشد الحيل التي يجرنا إبليس من خلالها.

2- إشاعة الفاحشة:
إشاعة الفاحشة، هي مرضٌ متفشٍّ في الناس، والمراد منها أن يسعى البعض لنشر الأخبار التي تتعلق بأعراض الناس، وما يسيئهم. وقد حرّم الله تعالى هذا النوع من الأعمال المنافية للحشمة والأخلاق، وتوعد عليها بالنار والعذاب الأليم، إذ يقول تعالى: "إِنّ الّذِين يُحِبُّون أن تشِيع الْفاحِشةُ فِي الّذِين آمنُوا لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ فِي الدُّنْيا والْآخِرةِ واللهُ يعْلمُ وأنتُمْ لا تعْلمُون"3.

ونشر هذه الأخبار هو من إشاعة الفاحشة حتى وإن كان الخبر صحيحاً، فعن عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: "إِنّ الّذِين يُحِبُّون أن تشِيع الْفاحِشةُ فِي الّذِين آمنُوا لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ"4.


1- النور:30 /31 
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 3292
3- النور: 19
4- الكليني -الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 2 - ص 357
 
 
 
73
 

66

الدرس الثامن: كف الأذى

 وإنّما قال من الذين لأنّ الآية الكريمة تشمل موارد أخرى أيضاً كمن بهت رجلاً ومن ذكر عيبه في حضوره ومن أحبّ شيوعه وإن لم يذكره ومن سمعه ورضي به... والوعيد بالعذاب الأليم للجميع. قال الشهيد الثاني رحمه الله: إن الله أوحى إلى موسى بن عمران: "إن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة وإذا لم يتُب فهو أوّل من يدخل النار"1.

وعلينا الحذر كل الحذر ممن يأتي بثوب الثقات، ويدعي الحسرة على الدين وأهله، وضياع المعروف وشيوع المنكر ويذكر بعد ذلك شيئاً مما يحرم إشاعته، فهؤلاء هم أخطر من يمكن الركون إليهم، ففي سماع كلامهم وزرٌ وفي تصديقهم أيضاً وزرٌ لعدم ثبوت كلامهم بالدليل الشرعي، وفي الرضا بما يفعلون وزرٌ آخر بقبول إشاعة الفحشاء، ففي الرواية عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال (أي الراوي): قلت له: "جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات فقال عليه السلام لي: يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك وإنْ شهِد عندك خمسون قسّامةً وقال لك قولاً فصدقه وكذبهم ولا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته فتكون من الذين قال الله عزّ وجلّفيهم: "إِنّ الّذِين يُحِبُّون أن تشِيع الْفاحِشةُ فِي الّذِين آمنُوا لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ فِي الدُّنْيا والْآخِرة"2.

ولإشاعة الفاحشة فضلاً عن آثارها السيئة في المجتمع، آثار على الفرد نفسه، فمن تبع عورات الناس وسعى في نشر ما يسيء إليهم، لا بد أن يأتي يوم تشيع فيه له فاحشةٌ لم يكن يرغب في شيوعه، وهذا مضمون عديد من الأحاديث الشريفة، فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا


1- المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 10 - ص 9
2- ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 247
 
 
 
74
 
 

67

الدرس الثامن: كف الأذى

تذموا المسلمين ولا تتبّعوا عوراتهم فإنّه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته"1.

3- القذف:
وهو أيضاً من أنواع التعرّض لأعراض الناس بل لعلّه من أشدِّ أنواع التعرض، وهو اتهام المسلم العاقل العفيف بفاحشة الزنا أو اللواط وكذلك المسلمة. 

والقذف يوجب الحدّ على قائله لقول الله تعالى: "والّذِين يرْمُون الْمُحْصناتِ ثُمّ لمْ يأْتُوا بِأرْبعةِ شُهداء فاجْلِدُوهُمْ ثمانِين جلْدةً ولا تقْبلُوا لهُمْ شهادةً أبدًا وأُوْلئِك هُمُ الْفاسِقُون"2.

والمراد من الإحصان ليس الزواج بل أن يكون المرء بالغاً مسلماً عاقلاً عفيفاً، يقول الإمام الخميني قدس سره: "يشترط في المقذوف الإحصان، وهو في المقام عبارة عن البلوغ والعقل والحريّة والإسلام والعفّة، فمن استكملها وجب الحدُّ بقذفه، ومن فقدها أو فقد بعضها فلا حدّ على قاذفه، وعليه التعزير"3.

وحدُّ القذف ثمانون جلدة كما صرّحت الآية الكريمة، يقول الإمام الخميني قدس سره: "الحدّ في القذف ثمانون جلدة ذكراً كان المفتري أو أنثى ويضرب ضرباً متوسطاً في الشدّة لا يبلغ به الضرب في الزنا، ويضرب فوق ثيابه المعتادة، ولا يجرّد، ويضرب جسده كله إلا الرأس والوجه والمذاكير، وعلى رأي يشهر القاذف حتى تجتنب شهادته"4.

لقد تشدّد الإسلام غاية الشدّة في رفضه التعرّض لأعراض الناس وكراماتهم، وتشدّد في وضع الشرائط لإثبات الفاحشة كالزنا... فـ "لو ذكروا الخصوصيات


1- المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 10 - ص 4
2- النور: 4
3- الإمام الخميني - روح الله الموسوي - تحرير الوسيلة - دار الكتب العلمية - اسماعيليان - قم - ج 2 ص 474
4- الإمام الخميني - روح الله الموسوي - تحرير الوسيلة - دار الكتب العلمية - اسماعيليان - قم - ج 2 ص 476
 
 
75
 

68

الدرس الثامن: كف الأذى

واختلف شهادتهم فيها كأن شهد أحدهم بأنّه زنى يوم الجمعة والآخر بأنّه يوم السبت أو شهد بعضهم أنّه زنى في مكان كذا والآخر في مكان غيره أو بفلانة والآخر بغيرها لم تسمع شهادتهم ولا يُحدّ ويُحدّ الشهود للقذف"1.
 
الغضب والعدوان
ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن الأمر الآخر وهو العدوان على الناس. والعدوان على الناس يكون بعدة أشكال وقد يصل لمراحل خطيرة جد، فقال عليه السلام: "ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة".

"يا هشام، وُجد في ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه، وقتل غير قاتله".

"والغضب مفتاح كلّ شرٍ"2، كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام، ويكفي في سوء الغضب ما يتسبب به من دمار في العلاقات الاجتماعية، فكم من أخٍ خسر أخاه بسبب كلمةٍ خرجت في حالة من غضب، وكم زواجٍ وسكنٍ تحوّل إلى بعدٍ وطلاق بسبب الغضب، وكم من صداقة انفصمت عراها بسبب الغضب، ولو استحق الغضب اسماً آخر لكان اسمه المدمّر، فعن الإمام علي عليه السلام: "الغضب شر إن أطعته دمّر"3.

وعنه عليه السلام: "سبب العطب طاعة الغضب"4.

وأقبح ما في الغضب أنه غالباً ما يكون مقدّمة لكل قبيح يقدم عليه المرء، فحين يغضب المرء، قد تصل النوبة لسفك الدماء، وحين يترك المجال للعقل فيحكمه في الأمور ويتروى قد يكفي نفسه والآخرين شروراً كثيرة، ففي الرواية أنّ رجلا


1- الإمام الخميني - روح الله الموسوي - تحرير الوسيلة - دار الكتب العلمية - اسماعيليان - قم - ج 2 ص 461
2- الحر العاملي - محمّد بن الحسن - وسائل الشيعة - دار إحياء التراث - بيروت – ج 15 - ص 358
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 - ص 2264
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 1232
 
 
76
 

69

الدرس الثامن: كف الأذى

قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا رسول الله علمني، قال: اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذلك، فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم، ثم ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: لا تغضب، فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدوّ قومه فقال: يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب"1.
 
ومن الأمور التي قد تنتج عن الغضب الاعتداء بالضرب على الأخ المؤمن، وقد حذر الكثير من الروايات عن الإقدام على هذا النوع من التصرّف المنكر، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:... "ألا ومن لطم خدّ امرئٍ مسلمٍ أو وجهه بدّد الله عظامه يوم القيامة، وحُشر مغلولاً حتى يدخل جهنم إلا أن يتوب. ومن بات وفي قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط الله وأصبح كذلك حتى يتوب"2.

وأخطر من هذا كله أن يلجأ المرء بحال الغضب الشديد إلى الإقدام على القتل، وسفك الدم، وهذا ما أشارت له وصيّة الإمام عما كتب على ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنّ أعتى الناس على الله من ضرب غير ضاربه، وقتل غير قاتله.

فلاحظ وصف العتوّ في قوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه التكبّر وتجاوز الحد، وقد وصف الله به أقواماً كذبت أنبياءها كقوم صالح إذ يقول الله تعالى: "فعقرُواْ النّاقة وعتوْاْ عنْ أمْرِ ربِّهِمْ وقالُواْ يا صالِحُ ائْتِنا بِما تعِدُنا إِن كُنت مِن الْمُرْسلِين"3.

وكذلك وصف بها اليهود إذ يقول تعالى: "فلمّا عتوْاْ عن مّا نُهُواْ عنْهُ قُلْنا لهُمْ كُونُواْ قِردةً خاسِئِين"4، غير ما توعّد به الله تعالى المعتدي على النفس الإنسانيّة


1- المجلسي - محمّد باقر - بحار الأنوار - مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 22 ص 85
2- مكاتيب الرسول - الأحمدي الميانجي - ج 2 ص 149
3- الأعراف: 77
4- الأعراف: 166
 
 
77
 

70

الدرس الثامن: كف الأذى

إذ يقول سبحانه وتعالى: "ومن يقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتعمِّدًا فجزآؤُهُ جهنّمُ خالِدًا فِيها وغضِب اللهُ عليْهِ ولعنهُ وأعدّ لهُ عذابًا عظِيمًا"1.

خلاصة الدرس
الكفّ عن أعراض الناس يتحقّق من خلال أمور منها:
1- النظر المحرّم: والنظر إلى ما يحرّم النظر إليه من المعاصي التي توعّد الله تعالى بها بالعذاب، فالنظر المنهيّ عنه هو للرجل والمرأة على السواء. وللنظر المحرّم مفاسد روحيّة فضلاً عما توعّد الله تعالى به من العذاب، فإنّ القلب يتأثر بما تراه العين، كما أنّ الانشغال بالنظر لما يحرّم النظر إليه ينسي الإنسان الآخرة، ولغضّ البصر مع رغبة النفس في النظر أثر كبير في تهذيب النفس، بل إنّ الشعور بهذا الأثر سريع جداً.

2- إشاعة الفاحشة: إشاعة الفاحشة هي مرضٌ متفشٍّ في الناس، والمراد منها أن يسعى البعض لنشر الأخبار التي تتعلّق بأعراض الناس، وما يسيئهم، وقد حرّم الله تعالى هذا النوع من الأعمال المنافية للحشمة والأخلاق، وتوعّد عليها بالنار والعذاب الأليم.

3- القذف: وهو أيضاً من أنواع التعرّض لأعراض الناس بل لعلّه أشدُّ أنواع التعرّض، وهو رمي المسلم العاقل العفيف بفاحشة الزنا أو اللواط، وكذلك رمي المسلمة بالزنا، والقذف يوجب الحد على قائله وحدُّهُ ثمانون جلدة.

العدوان على الناس يكون بعدة أشكال وقد يصل لمراحل خطيرة جداً.

الغضب يتسبب بدمار في العلاقات الاجتماعية، فكم من أخٍ خسر أخاه بسبب 


1- النساء: 93
 
 
 
78
 
 

 


71

الدرس الثامن: كف الأذى

 كلمةٍ خرجت في حالة من غضب، وكم زواجٍ وسكنٍ تحوّل إلى بعدٍ وطلاق بسبب الغضب، وكم من صداقة انفصمت عراها بسبب الغضب، وأقبح ما في الغضب أنه غالباً ما يكون مقدّمة لكل قبيح يقدم عليه المرء.

ومن الأمور التي قد تنتج عن الغضب الاعتداء بالضرب على الأخ المؤمن، وقد حذر الكثير من الروايات من الإقدام على هذا النوع من التصرّف المنكر، وأخطر من هذا كلّه أن يلجأ المرء بحال الغضب الشديد إلى الإقدام على القتل، وسفك الدم.
 
أسئلة حول الدرس
1- ما هو أثر غضِّ البصر؟
2- ما هي إشاعة الفاحشة؟
3- ما المراد من القذف وما هو حدُّه؟
4- ما هي الأضرار التي يتسبّب بها الغضب؟

للحفظ
"قُلْ لِلْمُؤْمِنِين يغُضُّوا مِنْ أبْصارِهِمْ ويحْفظُوا فُرُوجهُمْ ذلِك أزْكى لهُمْ إِنّ الله خبِيرٌ بِما يصْنعُون * وقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يغْضُضْن مِنْ أبْصارِهِنّ ويحْفظْن فُرُوجهُنّ ولا يُبْدِين زِينتهُنّ إِلّا ما ظهر مِنْها ولْيضْرِبْن بِخُمُرِهِنّ على جُيُوبِهِنّ ولا يُبْدِين زِينتهُنّ إِلّا لِبُعُولتِهِنّ أوْ آبائِهِنّ أوْ آباءِ بُعُولتِهِنّ أوْ أبْنائِهِنّ أوْ أبْناءِ بُعُولتِهِنّ أوْ إِخْوانِهِنّ أوْ بنِي إِخْوانِهِنّ أوْ بنِي أخواتِهِنّ أوْ نِسائِهِنّ أوْ ما ملكتْ
 
 
 
 
79

 
 

 


72

الدرس الثامن: كف الأذى

أيْمانُهُنّ أوِ التّابِعِين غيْرِ أُولِي الْأِرْبةِ مِن الرِّجالِ أوِ الطِّفْلِ الّذِين لمْ يظْهرُوا على عوْراتِ النِّساءِ ولا يضْرِبْن بِأرْجُلِهِنّ لِيُعْلم ما يُخْفِين مِنْ زِينتِهِنّ وتُوبُوا إِلى الله جمِيعاً أيُّها الْمُؤْمِنُون لعلّكُمْ تُفْلِحُون".

للمطالعة
قال بعض أهل الكوفة: ولد لبعض أمراء الكوفة ابنة فساءه ذلك فاحتجب وامتنع من الطعام والشراب فأتى بهلول حاجبه فقال: إئذن لي على الأمير، هذا وقت دخولي عليه، فلما وقف بين يديه قال: أيها الأمير ما هذا الحزن؟ أجزعت لذات سوّى هيأتها ربّ العالمين؟! أيسرّك أن لك مكانها ابناً مثلي ؟ قال: ويحك فرّجت عنّي. فدعا بالطعام وأذن للناس.

قال عبد الواحد بن زيد: مرّ بهلول برجل قد وقف على جدار رجل يكلّم امرأته، فأنشأ يقول:

كن حبيباً إذا خلوت بذنب            دون ذي العرش من حكيم مجيد 
أتهاونت بالإله بديّاً                   وتواريت عن عيون العبيد
أقرأت القرآن أم لست تدري        أنّ ذا العرش دون حبل الوريد؟

ثم ولّى وهو يقول: من نوقش في الحساب غُفر له، فقلت له: من نوقش الحساب عُذِّب، فقال: اسكت يا بطّال إنّ الكريم إذا قدر غفر. 
 
 
 
 
 
80
 
 
 
 

73

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

يا هشام:
... "وكان أمير المؤمنين عليه السلام يوصي أصحابه فيقول؟

"... وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمّن ظلمكم..."

"...وإيّاكم والبخل، وعليكم بالسخاء، فإنّه لا يدخل الجنّة بخيل، ولا يدخل النار سخيّ".

يا هشام، مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتراحمين أولئك هم المرحومون يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس أولئك هم المقرّبون يوم القيامة".

تمهيد
الميزان في العلاقات الاجتماعية هو محور الفقرات التي سنتطرق لها من الوصيّة المباركة، ففي هذه المقاطع تعرُّضٌ لمفاهيم تصبُّ جميعاً في إطار العلاقات الاجتماعية التي اهتمّ بها الإسلام وأكدّ على بنائها بالمعايير الإسلامية. والميزان الذي يحقّق السعادة للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، فما هو الجامع لكل هذه المفردات التي جاءت في هذه الفقرات من الوصيّة المباركة لإمامنا الكاظم عليه السلام؟
 
 
 
81
 

74

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

سنأخذ كل فقرة ونستشفُّ منها بعض المعاني، على أن نستخلص في النهاية الجامع من كل هذه السلوكيات والخلاصة التي فيها خير الدنيا وثواب الآخرة إن شاء الله تعالى.

صلْ من قطعك
هي الوصيّة الأولى التي أوصى بها الإمام عليه السلام، وصلة القاطع ليست مجرّد عملٍ أخلاقي مقابل عمل غير أخلاقي من قبل الآخرين، بل هي في حقيقتها تستبطن جهاداً كبير، فهوى الإنسان يدعوه لمكافئة المسيء بالإساءة، والقطيعة نوع من الإساءة، لذا فإنّ ردّة فعل الإنسان الأولية أن يكافئ المقاطع بالقطيعة، ولكن الإسلام هنا يأتي ليكبح جماح النفس للمكافأة بالمثل، بل يدعوها لتغضّ النظر عن رغبتها في الانتقام لكبريائها المجروح والترفّع عن المجازاة بالمثل والصلة لمن قطع، وهذا أمر ليس باليسير للوهلة الأولى بل يحتاج لتدريب نفس على الصبر على المكروه، والتعقل في مواطن الغضب، والتريث في أخذ القرارات، ولهذا كان هذا ميداناً من أشرس الميادين بين الشيطان والنفس الأمارة من جهة، والعقل المؤمن الملتزم من جهة أخرى.

وقد ندبت الروايات الكثيرة إلى صلة القاطع، فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحقّ ولو على نفسك"1.

وأكثر مورد شيوعاً في هذه المسألة هو مسألة قطيعة الرحم، وكلنا يعلم أنّ قطيعة الرحم من الذنوب التي يحاسب عليها الإنسان، فهل يجوز لنا أن نقطع الرحم التي قاطعتنا؟

يأتي الجواب على هذا في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنّ لي أهلاً قد كنت أصلهم وهم يؤذونني، وقد 


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1056
 
 
 
82
 
 

 


75

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

أردت رفضهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذاً يرفضكم الله جميعاً. قال: وكيف أصنع؟ قال: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، فإذا فعلت ذلك، كان الله عزّ وجلّ لك عليهم ظهيراً"1.

بل إنّ المسير لصلة الرحم التي قاطعتنا من أفضل الخطوات عند الله تعالى، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما من خطوة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من خطوتين: خطوة يسدُّ بها المؤمن صفّاً في الله، وخطوة إلى ذي رحمٍ قاطع"2.

وفوق هذا كله فقد وصف الله تعالى الذين يصلون الرحم التي أمر عزّ وجلّ بوصلها بأولي الألباب يقول سبحانه وتعالى: "أفمن يعْلمُ أنّما أُنزِل إِليْك مِن ربِّك الْحقُّ كمنْ هُو أعْمى إِنّما يتذكّرُ أُوْلُواْ الألْبابِ * الّذِين يُوفُون بِعهْدِ اللهِ ولا يِنقُضُون الْمِيثاق * والّذِين يصِلُون ما أمر اللهُ بِهِ أن يُوصل ويخْشوْن ربّهُمْ ويخافُون سُوء الحِساب"3.

فعندما تحدثك نفسك بقطيعة من قطعك، فاعلم أن حديثها من الشيطان، وتذكر ما في صلة الرحم من الخير والثواب في الدنيا والآخرة، وتذكر قول الإمام الباقر عليه السلام: "صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب وتنسئ في الأجل"4.

اعفُ عمّن ظلمك
والعفو صفة مدح الله تعالى صاحبها في الكتاب الكريم، فقال جلّ وعلا: "الّذِين يُنْفِقُون فِي السّرّاءِ والضّرّاءِ والْكاظِمِين الْغيْظ والْعافِين عنِ النّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين"5.


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1056
2- الريشهري - محمّد- ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1056
3- الرعد: 19 21
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1055
5- آل عمران:134
 
 
83
 

 


76

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

والعفو يحتل السيادة بين سائر المكارم الأخلاقية، فعن الإمام علي عليه السلام: "العفو تاج المكارم"1.

بل في الرواية أنّ العفو خير الأخلاق في الدنيا والآخرة، فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة ؟ العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك"2.

بل إنّ للعافين حساباً خاصاً بهم في يوم القيامة، بحيث يتميزون به عن سائر الواقفين في الموقف المهول، ففي الرواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أُوقِف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجره على الله وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس"3.

وممّا أعدّه الله تعالى للعافين في يوم القيامة من النعيم الكثير مما يدعو المرء للتحلي بهذه الصفة الكريمة التي تدلّ على سماحة النفس وكرمه، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستويةً مشرفةً على الجنّة، فقلت: يا جبرائيل لمن هذا ؟ فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"4.

وأما آثار العفو في الدنيا فمنها:

1- إطالة العمر:
ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من كثر عفوه مُدّ في عمره"5.

2- النصر:
ففي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "ما التقت فئتان قط إلا نُصِرأعظمهما عفواً"6.

1- الريشهري محمّد - ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2012
2- الريشهري محمّد - ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2012
3- الريشهري محمّد - ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2012
4- الريشهري محمّد- ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2012
5- الريشهري محمّد - ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2013
6- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2013
 
 
 
84
 

77

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

الصفح الجميل
وهو مرتبة أعلى من العفو العادي، بل هو المرتبة الأرقى التي تردّ بها كيد الشيطان إلى نحره، وهو العفو غير المستتبع بمنّةٍ ولا عتبٍ ، يقول الله تعالى: "وما خلقْنا السّماواتِ والْأرْض وما بيْنهُما إِلّا بِالْحقِّ وإِنّ السّاعة لآتِيةٌ فاصْفحِ الصّفْح الْجمِيل"1.

ما هو الصفح الجميل؟
يجيبنا الإمام زين العابدين عليه السلام على هذا السؤال وهو الذي عرف العفو ونقل لنا التاريخ أروع مآثر العفو عنه عليه السلام إذ يقول في قوله تعالى: "فاصْفحِ الصّفْح الْجمِيل"2... العفو من غير عتابٍ"3.

وعن الإمام الرضا عليه السلام أيضا: "عفو من غير عقوبة، ولا تعنيف، ولا عتب"4.

فليس من الخلق الرفيع أن يتبع المرء عفوه عن الآخرين بالتعنيف عليهم، وقد يتسبّب ذلك في أذيّتهم لذا حذرنا أهل البيت عليهم السلام من التعنيف والتقريع بعد العفو لدرجة أنّ بعض الروايات سلبت صفة العفو عن العفو المتبوع بالتقريع، فعن الإمام علي عليه السلام: "ما عفا عن الذنب من قرّع به"5.

لكنْ لهذا الصفح الجميل مورد استثنائي وهو مقام التأديب للولد أو من لنا عليه الولاية، فإنّه يحسن العتب واللوم بنيّة التأديب، ففي وصية الإمام علي عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: "إذا استحق أحد منهم ذنباً فأحسن العذل، فإنّ العذل مع العفو أشدّ من الضرب لمن كان له عقل"6.


1- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2015
2- الحجر:85
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2014
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2014
5- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2014
6- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 3 ص 2015
 
 
 
85
 

78

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

بين العفو والنهي عن المنكر
من المناسب أن نلتفت للفرق بين النهي عن المنكر الذي يُعدّ من الواجبات الشرعية والعفو، فلو رأى المسلم منكراً وجب النهي عنه بالمراتب التي حدّدتها الشريعة الإسلامية، ولا ينبغي التسامح في ترك النهي بحجّة فضل العفو عن الآخرين، ففرّق بين الأمرين، وهذا ما أشارت له الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "جاز بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"1.

هكذا يكون العمل الرسالي، والنظر إلى الغاية الأسمى والتي ترتفع عن الأغراض الشخصية والأن، وترتقي لتصل للنظر إلى رؤية الأهداف الإلهيّة السامية.

كن كريماً
ثمّ انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن الكرم والبخل ومكانهما في الأخلاق الإسلامية فقال عليه السلام: "... وإيّاكم والبخل، وعليكم بالسخاء، فإنّه لا يدخل الجنّة بخيل، ولا يدخل النار سخيّ".

ويكفي في فضل الكرم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله كريم يحب الكرم"2، وقد عرّف أهل البيت عليهم السلام الكرم بمصاديقه العديدة، فعن الإمام علي عليه السلام: "أمّا الكرم فالتبرع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال"3.

وعنه عليه السلام: "الكرم ملك اللسان وبذل الإحسان"4.

كما أن للكرم ارتباطاً وثيقاً بسائر الأخلاق الرفيعة، فغالباً ما يصاحب صفة الكرم العديد من الصفات الأخلاقية التي أشارت لها العديد من الروايات، منها ما


1- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2685
2- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2684
3- الريشهري محمّد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 3 ص 2684
4- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2686
 
 
87

79

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

خلاصة الدرس
صلْ من قطعك هي الوصيّة الأولى التي أوصى بها الإمام عليه السلام، وصلة القاطع ليست مجرّد عملٍ أخلاقي مقابل عمل غير أخلاقي من قبل الآخرين بل في حقيقتها تستبطن جهاداً كبير، فهوى الإنسان يدعوه لمكافأة المسيء بالإساءة والقطيعة.

إنّ أكثر مورد شيوعاً في هذه المسألة هو مسألة قطيعة الرحم، وكلنا يعلم أنّ قطيعة الرحم من الذنوب التي يحاسب عليها الإنسان.

العفو صفةٌ مدح الله تعالى صاحبها في الكتاب الكريم، فقال جلّ وعلا: "الّذِين يُنْفِقُون فِي السّرّاءِ والضّرّاءِ والْكاظِمِين الْغيْظ والْعافِين عنِ النّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين".

والعفو يحتلّ السيادة بين سائر المكارم الأخلاقية، كما أنّ للعافين حساباً خاصّاً بهم في يوم القيامة، بحيث يتميّزون به عن سائر الواقفين في الموقف المهول. وأمّا آثار العفو في الدنيا فمنها: إطالة العمر والنصر.

الصفح الجميل هو مرتبة أعلى من العفو العادي، بل هو المرتبة الأرقى التي تردّ بها كيد الشيطان إلى نحره، وهو أن لا تتبع العفو بالعتب والتقريع، وليس من الخلق الرفيع أن يتبع المرء عفوه عن الآخرين بالتعنيف عليهم، وقد يتسبب ذلك في أذيتهم.

إنّ للكرم ارتباطاً وثيقاً بسائر الأخلاق الرفيعة، فغالباً ما تصاحب صفة الكرم العديد من الصفات الأخلاقية.

إنّ الأساس الذي بنيت عليه العلاقات الاجتماعية في الإسلام هو التراحم، وكيف لا يكون هو الميزان ورسول الإسلام رسول الرحمة "وما أرْسلْناك إِلّا رحْمةً لِّلْعالمِين"؟
 
 
88

80

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

أسئلة حول الدرس
1- ما المراد بالصفح الجميل؟
2- لو قطعك أحد الأرحام هل تقطعه ولماذا؟
3- ما علاقة الكرم بسائر الأخلاق؟
4- ما هو الميزان للعلاقات الاجتماعية في الإسلام؟
  
للحفظ
"ما خلقْنا السّماواتِ والْأرْض وما بيْنهُما إِلّا بِالْحقِّ وإِنّ السّاعة لآتِيةٌ فاصْفحِ الصّفْح الْجمِيل".

"أفمن يعْلمُ أنّما أُنزِل إِليْك مِن ربِّك الْحقُّ كمنْ هُو أعْمى إِنّما يتذكّرُ أُوْلُواْ الألْبابِ * الّذِين يُوفُون بِعهْدِ اللهِ ولا يِنقُضُون الْمِيثاق * والّذِين يصِلُون ما أمر اللهُ بِهِ أن يُوصل ويخْشوْن ربّهُمْ ويخافُون سُوء الحِسابِ".

للمطالعة
لبهلول:
إذا خان الأمير وكاتباه         وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثمّ ويل ثمّ ويل لأهل      الأرض من أهل السماء
 
 
 
 
89
 
 

81

الدرس التاسع: ميزان العلاقات الإجتماعية

 قال الحسين الصقلي: نظرت وقد زار سعدون بهلولاً ورأيتهما فسمعت سعدون يقول لبهلول: أوصني وإلا أوصيك فناداه بهلول: أوصني يا أخي فقال سعدون: أوصيك بحفظ نفسك ومكنها من حبّك فإنّ هذه الدنيا ليست لك بدار، قال بهلول: أنا أوصيك يا أخي، فقال: قل، فقال: اجعل جوارحك مطيّتك واحمل عليها زاد معرفتك واسلك بها طريق متلفك فإنّ ذكرتك ثقل الحمل فذكرها عاقبة البلوغ. فلم يزالا يبكيان جميعاً حتى خشيت عليهما الفناء.

قال علي السيرافيّ: حمل الصبيان يوماً على بهلول، فانهزم منهم فدخل دار بعض القرشيين وردّ الباب، فخرج صاحب الدار فأحضر له طبقاً فيه طعام فجعل يأكل ويقول: "فضُرِب بيْنهُم بِسُورٍ لّهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمةُ وظاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعذابُ".
 
 
 
90
 
 
 
 
 
 

82

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

يا هشام:
"من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرّع إلى الله في مسألته، بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بِما يكفيه لم يُدرِك الغِنى أبداً.

يا هشام، إن كان يُغنِيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يُغنِيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يُغنِيك.

يا هشام ... قال الحسن بن علي عليه السلام: إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول الله ومن أهلها ؟ قال: الذين قصّ الله في كتابه ذكرهم، فقال: "إنّما يتذكّر أولو الألباب"1 قال: هم أولو العقول".

تمهيد
حاجات الإنسان الأساس عديدة، ولكنها قد تزداد تبعاً لطريقة حياته، أو ازدياد حاجته ومسؤوليته، كما قد تزداد تبعاً لطمع نفسه وما تشتهيه من الرخاء، إذ أنها نزّاعة لطلب الرخاء والراحة.

فتارةً يقدر على تأمين حاجته، ويكتفي، وأخرى لا يقدر فيحتاج السؤال لدين أو
 
 
 
 
91

 
 

83

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

مساعدة، وأخرى يكتفي ولكن نفسه لا تشبعها الكفّاية.

فهذان عنوانان أشارت لهما الفقرتان من الوصيّة المباركة لإمامنا الكاظم عليه السلام، وهما: الغنى والسؤال، وسنتعرض في هذا الدرس لهذين المعنيين شارحين بعض خصائصهما وما أوصى به الإسلام بشأنهما.

 ما هو الغنى؟
ليس المراد من الغنى أن يكون المرء ذا إمكانات مادية يحقق بها الرغبات التي يريدها في الحياة الدني، فهذا المعنى واضح لكل الناس، ولكن المراد منه الحالة النفسية التي تجعل المرء مستغنياً عن الحاجة للناس، ولطلب المدد والعون منهم، وهذا هو المعنى المراد من غنى النفس في مقابل غنى المال.

وقد وردت في الأحاديث الشريفة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام روايات كثيرة تدل على فضل غنى النفس وتدعو إليه، منها ما ورد عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الغِنى غنى النفس"2.

ويقول جلّ وعلا في وصف المؤمنين: "لِلْفُقراء الّذِين أُحصِرُواْ فِي سبِيلِ اللهِ لا يسْتطِيعُون ضرْبًا فِي الأرْضِ يحْسبُهُمُ الْجاهِلُ أغْنِياء مِن التّعفُّفِ تعْرِفُهُم بِسِيماهُمْ لا يسْألُون النّاس إِلْحافًا وما تُنفِقُواْ مِنْ خيْرٍ فإِنّ الله بِهِ علِيمٌ"3.

فترك التفكير بما في أيدي الناس من المال والمتاع هو الغنى، وهو تعبير آخر ومعنى مرادف وقريب من الزهد، وكثيراً ما يرد على لسان العلماء قولهم الزهد عمّا في أيدي الناس، وفيما أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين، وركون من اتخذها أمّاً وأباً... واترك من الدنيا ما بك الغنى عنه"4.


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 1 - ص 844 
2- البقرة: 273
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 905
4- البهائي العاملي - مفتاح الفلاح - ص 224
 
 
93
 

84

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

تقرّ عينك وتنال خير الدنيا والآخرة، فاقطع الطمع عمّا في أيدي الناس"1.

والطمع هو العبودية التي أشار لها أمير المؤمنين عليه السلام: "الطمع رقٌّ مؤبّد"2.

وفي وصيّة الإمام الكاظم عليه السلام لهشام: "يا هشام إيّاك والطمع. وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس. وأمت الطمع من المخلوقين، فإنّ الطمع مفتاح للذل، واختلاس العقل، واختلاق المروات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم، وعليك بالاعتصام بربّك والتوكّل عليه".

2- ترك الانكباب على الدنيا:
فالانكباب على الدنيا وشغل النفس بها في الليل والنهار يشتِّتُ بال الإنسان، ويصرفه عن التفكر في خير آخرته، ويسلب من قلبه القناعة، بينما ترك الاهتمام بها والانكباب عليها في الليل والنهار، والإقبال على همّ الآخرة، يخلق القناعة والغنى في القلب، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتّت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه جعل الله تعالى الغنى في قلبه وجمع له أمره"3.

فإذا فكّر الإنسان بينه وبين نفسه بأنّ الدنيا ليست الهدف ولم يخلق المرء لأجلها وأنها فانية - وهذا مقدمة القناعة - فإنه بلا شك سيكتسب هذه الصفة الحميدة، وهذا ما أوصى به إمامنا زين العابدين عليه السلام لرجل من جلسائه: "اتق الله وأجمل في الطلب، ولا تطلب ما لم يخلق... فقال الرجل: وكيف يُطلب ما لم يُخلق؟! فقال: من طلب الغنى والأموال والسعة في الدنيا فإنّما يطلب ذلك للراحة، والراحة لم تخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا، إنّما خلقت الراحة في الجنّة ولأهل الجنّة"4.


1- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 2 - ص 1741
2- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 2 - ص 909 
3- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 2 - ص 1133
4- الريشهري - محمّد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج 2 - ص 1222
 
 
 
95
 

85

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

الطلب
في مقابل غنى النفس وزهدها عمّا في أيدي الناس، هنالك الطلب، فكثير من الناس يسعى لنيل حاجته بالطلب والسؤال، وهذا ما تعرّضت له الروايات الكثيرة محدِّدة موقفاً سلبياً منه، حيث اعتبرته بالدرجة الأولى مذّلةً للنفس، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة، ومذهبة للحياء، واستخفاف بالوقار، وهو الفقر الحاضر، وقلّة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر"1.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "المسألة طوق المذلّة تسلب العزيز عزّه والحسيب حسبه"2.
 
اترك الطلب قدر المستطاع
هذه وصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام لنا بأن نستغني عن الطلب قدر الإمكان وقدر ما نحمل من صبر وتحمّل، فإنّ بعد العسر يسر، وقد أكّدوا صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المعنى غاية التأكيد، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا علي ! لئن أدخل يدي في فم التنين إلى المرفق أحبُّ إليّ من أن أسأل من لم يكن ثمّ كان"3.

وقصده صلى الله عليه وآله وسلم بمن لم يكن ثم كان الإنسان، لأنّه معلول والمعلول محتاج للعلة في أصل الوجود وفي البقاء والاستمرار، فلو توقف فيض العلة عليه لحظة واحدة لانعدم، فكيف يسأل الإنسان إنساناً مثله وهما محتاجان جميعاً للغني المطلق؟!

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "شيعتنا من لا يسأل الناس ولو مات جوعاً"4، وليس هذا إلا تأكيداً على أهميّة ترك السؤال إلا لحالات الاضطرار الشديد التي


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 1222
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 1223
3- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 1222
4- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 1224
 
 
96

 


86

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

سؤال المحتاجين إليه والمستغنين عن حاجة المخلوقين، كما أوصانا بذلك إمامنا العسكري عليه السلام: "ادفع المسألة ما وجدت التحمُّل يمكنك فإن لكلِّ يومٍ رزقاً جديداً، واعلم أنّ الإلحاح في المطالب يسلب البهاء، ويورث التعب والعناء، فاصبِر حتى يفتح الله لك باباً يسهل الدخول فيه فما أقرب الصنيع من الملهوف، والأمن من الهارب المخوف، فربما كانت الغير نوع من أدب الله، والحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، وإنّما تنالها في أوانها، واعلم أنّ المدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك فيه فثق بخيرته في جميع أمورك يصلح حالك"1.
 
كيف نسأل؟
ولكن إذا اضطررنا للّجوء للحالة الاستثنائية في الطلب من الناس، بحيث لم يكن هنالك من بديل آخر لقضاء حاجتنا المهمّة، فإنّ للطلب من الناس آداباً أرشدتنا إليها الروايات الشريفة، ومن هذه الآداب:

1- طلب المعروف من أهله
أي من أهل المعروف، وأهل الكرم والجود والسخاء، من إذا سألهم الأخ المحتاج أكرموه بقضاء حاجته تقرّباً لله وعملاً بحسن سجاياهم.

وقد جاء في الوصيّة المباركة: "يا هشام... وقال الحسن بن علي عليه السلام: إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول الله ومن أهلها ؟ قال: الذين قصّ الله في كتابه ذكرهم، فقال: "إِنّما يتذكّرُ أُوْلُواْ الألْباب"1 قال: هم أولو العقول".

وعن الإمام علي عليه السلام: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غيرِ أهلها"2.
 

1- الريشهري - محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 - ص 1226
2- المنافقون:8
 
 
98
 



 

87

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

مفتوحاً في أيّ لحظة نلجأ إليه ولم يحتجب عنّا بحاجب سوى ما نصنعه نحن من قبائح ذنوبن، لذا فلنسلم له انقياد المؤمنين ونسأله سؤال المحتاجين إليه والمستغنين عن حاجة المخلوقين.

أسئلة حول الدرس
1- ما المراد بغنى النفس؟
2- كيف يحصل غنى النفس؟
3- ماذا اعتبر أهل البيت عليهم السلام الطلب من الناس؟
4- من أحقّ أن نسأله؟ ولماذا؟

للحفظ
"لِلْفُقراء الّذِين أُحصِرُواْ فِي سبِيلِ اللهِ لا يسْتطِيعُون ضرْبًا فِي الأرْضِ يحْسبُهُمُ الْجاهِلُ أغْنِياء مِن التّعفُّفِ تعْرِفُهُم بِسِيماهُمْ لا يسْألُون النّاس إِلْحافًا وما تُنفِقُواْ مِنْ خيْرٍ فإِنّ الله بِهِ علِيمٌ".

للمطالعة
قال علي بن خالد: بتُّ ليلة على سور طرسوس فمرّ بهلول فلكزني برجله ثمّ أنشأ يقول:
 
 
100
 

88

الدرس العاشر: الغنى الحقيقي

يا طالب الحور ألا تستحي       يحملك النوم على السور؟
وخاطب الحور طويل البكا       مقيّد الأعضاء محصور
لا يطعم الغمض وما إن له       راحة جسم أو يرى الحور
في جنّة زخرفها ذو العلى         ينعم فيها كلّ محبور
 
قال: فانتبهت فزعاً ولم أنم بعد ذلك في الحرس.

وسئل بهلول عن رجل مات وخلف ابناً وابنة وزوجة ولم يخلف من المال شيئاً كيف تكون القسمة؟ فقال: للإبنة الثكل وللزوجة خراب البيت وما بقي من الهمّ فللعصبة!

قال محمّد بن خالد الواسطي: أنشدني بهلول:

دع الحرص على الدنيا      وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع من المال           فما تدري لمن تجمع
فإنّ الرزق مقسوم            وسوء الظن لا ينفع
فقير كلّ ذي حرص          غني كلّ من يقن
 
 
 
101

89

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

 يا هشام:
"لو كان في يدك جوزة وقال الناس: لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: إنّها جوزة ما ضرك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة".

تمهيد
هو مقطع صغير وفقرة من سطرين ممّا أوصى به الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم، ولكنّها على وجازتها تتضمّن مفاهيم عديدة. وسنحاول في هذا الدرس أن نسبر غور هذه العبارات لنقرأ ما بين حروفها من المفاهيم الإسلامية الرفيعة، وسنتحدث عن مفهومين أساسين أولهما المدح والغرور، والثاني ثبات العقيدة.

المدح
المدح هو ذكر الشخص بفضيلة أو عمل يحمد عليه، بقصد تبيان فضله، ولا يعني هذا أن تكون الفضيلة موجودةً حقّاً في الشخص الممدوح، ولذا فإنّ بعض المدح مدح صادق، وبعضه الآخر مدح كاذب، وهو محرّمٌ بالطبع.

يلاحظ في الشريعة التركيز على أن لا يترك المدح حالة نفسية في الممدوح،
 
 
 
 
103

 
 

90

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

وأهمّ ما يُخشى أن يصاب الممدوح بمرض الغرور، فعن الإمام علي عليه السلام: "كم من مغرورٍ بحسن القول فيه، كم من مفتونٍ بالثناء عليه"1.

يتخذ بعض الناس المدح كوسيلة للتأثير على الآخرين، فمن خلال المديح يكتسبون ودّهم، ويمكن لهم من خلال ذلك أن يمرّروا لهم الأفكار الرديئة، أو يقبّحوا لهم صوراً حسنة. وقد حذّرنا أمير المؤمنين عليه السلام من هؤلاء الناس، فعنه عليه السلام: "أجهل الناس المغترُّ بقول مادح متملِّق، يحسِّن له القبيح، ويبغِّض إليه النصيح"2.

ولشدّة تأثير المدح في الممدوح والخوف عليه من أن يصاب بداء الغرور أرشدنا أهل البيت عليهم السلام للإختصار في مدح الآخرين، وعدم كيل الثناء عليهم والمبالغة في ذلك، والاكتفاء بالقدر الذي يحقّق المصلحة، كالتكريم للممدوح، فعن الإمام علي عليه السلام: "إذا مدحت فاختصر، إذا ذممت فاقتصر"3.

خطر المدح
أشرنا إلى خطورة المدح فيما يتركه على الممدوح من أثرٍ نفسي قد يودي به لمهالك أخلاقية، بل إنّ بعض الروايات الشريفة ذكرت أنّ الشيطان يعتبر المدح من الفرص الهامّة والتي يثِق بفاعليتها في الإفساد، فعن الإمام علي عليه السلام: "حبُّ الإطراء والمدح من أوثق فرص الشيطان"4.

وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "حبُّ الإطراء والثناء يعمي ويصمّ عن الدين، ويدع الديار بلاقع"5.

والمراد من إعمائِه عن الدين أن الممدوح قد يعتبر نفسه أهمّ من أن يستمع


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 2861
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 2861
3- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 2861
4- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 2862
5- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 2862
 
 
104
 

91

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

للموعظة والحكمة، فيحرم من الهداية بتركه السماع للنداء الديني.

ولأجل هذا الخطر ورد العديد من الروايات التي توصي من يسمع المديح في وجهه بالتوجه لله تعالى بالدعاء، ومن ذلك ما ورد عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أُثني عليك في وجهك فقل: اللّهم اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون"1.

وليتفكّر الواحد منّا حين يمدحه الآخر بوصية الإمام الكاظم عليه السلام التي تقدّمت: "لو كان في يدك جوزة وقال الناس: لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: إنّها جوزة ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة".

فإنّ الحقيقة التي تحملها أنفسنا لا يزيفها طعن الطاعن، ولا يجليها مدح المادح، وسنقدم يوم القيامة على ربٍّ عليم بصير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

الغرور
الغرور صفة رديئة وهو من مساوئ الأخلاق التي أفرد لها العلماء مساحات شاسعة في كتبهم الأخلاقية تحذيراً وإرشاداً وتبصيراً لسبل العلاج منها لو أصابت النفس.

كما أنّ القرآن الكريم ذمّ هذه الصفة، وتحدّث عمّن اتصف به، فمن تلك الآيات قوله تعالى: "ذلِك بِأنّهُمْ قالُواْ لن تمسّنا النّارُ إِلاّ أيّامًا مّعْدُوداتٍ وغرّهُمْ فِي دِينِهِم مّا كانُواْ يفْترُون"2، وقوله تعالى: "يا أيُّها النّاسُ اتّقُوا ربّكُمْ واخْشوْا يوْمًا لّا يجْزِي والِدٌ عن ولدِهِ ولا موْلُودٌ هُو جازٍ عن والِدِهِ شيْئًا إِنّ وعْد الله حقٌّ فلا تغُرّنّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيا ولا يغُرّنّكُم بِالله الْغرُورُ"3.

وجاء الكثير من الروايات الشريفة للتحذير من الغرور، فعن الإمام علي عليه السلام:


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 4 ص 2862
2- آل عمران:24
3- لقمان:33
 
 
105
 

92

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

"فاتقوا الله عباد الله، تقية ذي لبٍّ شغل التفكر قلبه، وأنصب الخوف بدنه.. وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور"1.

وأشار بعض الروايات الأخرى لآثار الغرور على الدين وما يحبط به من عمل الإنسان، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ربّ مغرور مفتون يصبح لاهياً ضاحكاً يأكل ويشرب، وهو لا يدري لعلّه قد سبقت له من الله سخطة يصلى بها نار جهنم"2.

أنواع الغرور
الغرور على أنواع عديدة منها ما هو أخطر من الآخر، وسنعدد ثلاثة أنواع ذاكرين ما ورد فيها من الروايات والآيات الكريمة:

1- الغرور بالله تعالى
إذ يقول الله تعالى في محكم آياته: "يا أيُّها الْأِنْسانُ ما غرّك بِربِّك الْكرِيمِ* الّذِي خلقك فسوّاك فعدلك"3.

والمراد بالغرور هو الأمن من العقاب الإلهيّ يوم القيامة والاغترار بما ورد من رحمته تعالى يوم القيامة، وما أعدّه من النعيم وما روي عن عفوه، غافلين عن قوله تعالى: "نبِّىءْ عِبادِي أنِّي أنا الْغفُورُ الرّحِيمُ * وأنّ عذابِي هُو الْعذابُ الألِيم"4.

وقد روي أنه ورد في الزبور: "ابن آدم! لما رزقتكم اللسان وأطلقت لكم الأوصال ورزقتكم الأموال، جعلتم الأوصال كلها عوناً على المعاصي، كأنكم بي تغترون، وبعقوبتي تتلاعبون"5.


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2234
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2234
3- الانفطار:6-7
4- الحجر:49-50
5- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2235
 
 
106

93

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحذر الحذر أيّها المغرور، والله لقد ستر حتى كأنه قد غفر"1.

ومن الغرور أيضاً أن يقدم الإنسان على تكرار المعصية اعتماداً منه على مغفرة الله وتسويفاً من نفسه، إذ يقول لها: غداً ستتوبين إلى الله تعالى و هو الغفار الرحيم بالعباد، فقد ورد في خصوص هذا عن الإمام علي عليه السلام: "إنّ من الغرّة بالله أن يصرّ العبد على المعصية ويتمنى على الله المغفرة"2.

2- الاغترار بالدنيا
وكيف يغترّ المرء بما يزول؟ بل إنّ كلّ ما فيها هو هناءُ لحظات يزول بسرعة، ويا ليت سعادة اللحظات هذه تُنال بالراحة، بل إنّها لا تكون إلا بعد الجهد والمشقة، وفوق ذلك يشوبها الكدر، فهل تنال الثمرة في الدنيا بغير تسلق الشجر، أو بذل النفيس من المال المدخر، وعند أكلها يكدرها البذر، فلا تجد في هذه الدنيا هناءً خالص، فعلام الاغترار إذاً؟!

هذا ما نبّهنا إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "اتقوا غرور الدنيا، فإنّها تسترجع أبداً ما خدعت به من المحاسن، وتزعج المطمئنّ إليها والقاطن"3.

وعنه عليه السلام: "سكون النفس إلى الدنيا من أعظم الغرور"4.

3- الاغترار بالنفس
وهو أيضاً من أقسام الغرور الذي نهت عنه الروايات الشريفة، ومن مصاديق هذا الغرور ما يحصل لدى المهتمّين بكمالهم الجسدي الغافلين عن كمال العقول والقلوب، فترى الواحد منهم لا يصبر حين يرى المرآة عن التباهي بعرض ما أعطاه

 


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2236
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2236
3- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2236
4- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2236
 
 
 
107
 
 

 


94

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

 الله تعالى له من القوّة في البدن أمامه، فيقف ليتأمل ذلك ناسياً أن من أعطاه هذه القوة قادر على سلبه إيّاه، وأنّه مهما بلغت قواه فإنّ بعوضة قادرة على أن تذلّه وتسلبه رقاد ليله، ومنهم من يصل به الأمر لعبادة جسده فيصبح كلّ باله وهمّه في الحياة أن يرعاه ويحفظه ويقويه، فهذا النوع من الغرور نهت عنه الروايات الشريفة أيضاً، وما ذكرناه هو أحد الأمثلة التي تشير لحال المغترّين بأنفسهم وليست المثال الحصري لهم، ورد عن الإمام علي عليه السلام: "من جهل اغترّ بنفسه، وكان يومه شرّاً من أمسه"1.

وعنه عليه السلام: "من اغترّ بنفسه أسلمته إلى المعاطب"2.

نصيحة لأهل الغرور
أحببنا في النهاية أن نذكر هذه الكلمات المروية عن الإمام الصادق عليه السلام كموعظة لمن تسوّل له نفسه الاغترار به، وهي تأمّلات في حال الدنيا وأهلها وتصرفها بهم نسأل الله تعالى أن ينجينا من قاتلات الغرور إنّه هو الرحيم الغفور.

قال الإمام الصادق عليه السلام: "المغرور في الدنيا مسكين، وفي الآخرة مغبون، لأنّه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك، فربما اغتررت بمالك وصحّة جسمك أن لعلّك تبقى. وربما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلّك تنجو بهم. وربما اغتررت بحالك ومنيتك، وإصابتك مأمولك وهواك، وظننت أنّك صادق ومصيب. وربما اغتررت بما تري الخلق من الندم على تقصيرك في العبادة، ولعلّ الله تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك. وربما أقمت نفسك على العبادة متكلّفاً والله يريد الإخلاص. وربما افتخرت بعلمك ونسبك، وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب الله. وربما تدعو الله وأنت تدعو سواه.

وربما حسبت


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2236
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2236
 
 
108

95

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

أنّك ناصح للخلق وأنت تريدهم لنفسك أن يميلوا إليك. وربما ذممت نفسك، وأنت تمدحها على الحقيقة. واعلم أنّك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمنّي إلا بصدق الإنابة إلى الله تعالى، والإخبات له، ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا يوافق العقل والعلم، ولا يحتمله الدين والشريعة وسنن القدوة وأئمّة الهدى، وإن كنت راضياً بما أنت فيه فما أحد أشقى بعمله منك وأضيع عمراً وأورث حسرةً يوم القيامة"1.
 
خلاصة الدرس
المدح هو ذكر الشخص بفضيلة أو عمل يُحمد عليه، بقصد تبيان فضله.

يلاحظ في الشريعة التركيز على أن لا يترك المدح حالة نفسيّة في الممدوح، وأهمّ ما يُخشى أن يصاب الممدوح بمرض الغرور.

يتخذ بعض الناس المدح كوسيلة للتأثير على الآخرين، فمن خلال المديح يكتسبون ودّهم، ويمكن لهم من خلال ذلك أن يمرِّروا لهم الأفكار الرديئة، أو يقبّحوا لهم صوراً حسنة.

ولشدّة تأثير المدح في الممدوح والخوف عليه من أن يصاب بداء الغرور أرشدنا أهل البيت عليهم السلام للاختصار في مدح الآخرين، وعدم كيل الثناء عليهم والمبالغة في ذلك، والاكتفاء بالقدر الذي يحقّق المصلحة، كالتكريم للممدوح.

الغرور صفة رديئة وهو من مساوئ الأخلاق التي أفرد لها العلماء مساحات شاسعة في كتبهم الأخلاقية تحذيراً وإرشاداً وتبصيراً لسبل العلاج منها لو أصابت النفس.


1- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2237
 
 
 
 
109
 
 

96

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

الغرور على أنواع عديدة منها ما هو أخطر من الآخر، وسنعدّد ثلاثة أنواع:
1- الغرور بالله تعالى: والمراد بالغرور هو الأمن من العقاب الإلهيّ يوم القيامة والاغترار بما ورد من رحمته تعالى يوم القيامة، وما أعدّه من النعيم وما روي عن عفوه.

2- الاغترار بالدنيا: وكيف يغترّ المرء بما يزول؟ بل إنّ كل ما فيها هو هناءُ لحظات يزول بسرعة، ويا ليت سعادة اللحظات هذه تُنال بالراحة، بل إنّها لا تكون إلا بعد الجهد والمشقّة، وفوق ذلك يشوبها الكدر.

3- الاغترار بالنفس: وهو أيضاً من أقسام الغرور الذي نهت عنه الروايات الشريفة، ومن مصاديق هذا الغرور ما يحصل لدى المهتمّين بكمالهم الجسدي الغافلين عن كمال العقول والقلوب، فترى الواحد منهم لا يصبر حين يرى المرآة عن التباهي بعرض ما أعطاه الله تعالى له من القوّة في البدن أمامه، فيقف ليتأمّل ذلك ناسياً أنّ من أعطاه هذه القوّة قادر على سلبه إيّاها.

أسئلة حول الدرس
1- متى نمدح وكم مقدار ذلك؟
2- ما هي أنواع الغرور؟
3- ما المراد بالاغترار بالله تعالى؟
4- ما هو الاغترار بالنفس؟ أعطِ مثلاً.
 
 
 
 
110
 
 
 

97

الدرس الحادي عشر: المدح والغرور

للحفظ
"ذلِك بِأنّهُمْ قالُواْ لن تمسّنا النّارُ إِلاّ أيّامًا مّعْدُوداتٍ وغرّهُمْ فِي دِينِهِم مّا كانُواْ يفْترُون"
 
"يا أيُّها النّاسُ اتّقُوا ربّكُمْ واخْشوْا يوْمًا لّا يجْزِي والِدٌ عن ولدِهِ ولا موْلُودٌ هُو جازٍ عن والِدِهِ شيْئًا إِنّ وعْد الله حقٌّ فلا تغُرّنّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيا ولا يغُرّنّكُم بِالله الْغرُور"

للمطالعة
قال الحسن الكوفي: قال رجل لعليان: أجننت ؟ قال: أمّا عن الغفلة فنعم وأمّا عن المعرفة فلا، قال: كيف حالك مع المولى ؟ قال: ما جفوته مذ عرفته، قال: ومذ كم عرفته ؟ قال: مذ جعل اسمي في المجانين!

قال علي بن ظبيان: مررت يوماً بالكوفة فلمّا صرت في سكك همدان إذا أنا بعليان المجنون وفي يده قصبة فارسية مثل القناة وفي رأسها كبة قطن وعليها خرقة، وإذا هو يشدّ على الصبيان، فإذا أدركهم قالوا: القصاص يا علي، ثمّ يلقي القصبة من يده، فلما رأيته تهيبت أن أمر بين يديه، فقال لي: مر يا علي فلست منهم فمررت فلما حاذيته قلت: من نوقش في الحساب عُذب، قال: كلا يا علي. ربّنا أكرم من ذلك فإنّه إذا قدر عفا، قلت له: من العاقل ؟ قال: من حاسب نفسه وخاف ربّه. 
 
 
 
 
111
 
 
 

 
 

98

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

يا هشام:
"المتكلّمون ثلاثة: فرابحٌ وسالم وشاجب، فأمّا الرابح فالذاكر لله، وأمّا السالم فالساكت، وأمّا الشاجب فالذي يخوض في الباطل. إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه. وكان أبو ذر رضي الله عنه يقول: "يا مبتغي العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك".

تمهيد
لقد منّ الله تعالى علينا حين خلقنا بأعضاء نستعين بها على قضاء حوائجن، ونستكمل بها إنسانيّتن، وجعل فيها حواساً نستشعر بها ما حولنا ونتفاعل معه من خلاله، هذه الأعضاء هي المسمّاة بالجوارح.

إن الجوارح لا كرامة لها بحدّ ذاتها إلا أنّ الإنسان نفسه هو المكرم بنعمة الإيجاد ونعمة العقل، قال تعالى: "ولقدْ كرّمْنا بنِي آدم وحملْناهُمْ فِي الْبرِّ والْبحْرِ ورزقْناهُم مِّن الطّيِّباتِ وفضّلْناهُمْ على كثِيرٍ مِّمّنْ خلقْنا تفْضِيلاً"1.


1- الإسراء:70
 
 
113
 
 

99

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

إلا أنّ هذا لا يعني إعفاء الجوارح من المسؤولية، ولهذا فإنّ كرامة الجارحة هذه تتبع تصرف الإنسان فيه، فتارة تكرّم وتارة تهان.

متى تكرم الجوارح؟
فمن موارد تكريم بعض الجوارح تكريم رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لليد العاملة، وكذلك كرامة اليد التي تجاهد في سبيل الله تعالى وتذيق أعداء الله العذاب امتثالاً لأمره، حيث يقول جلّ وعلا: "قاتِلُوهُمْ يُعذِّبْهُمُ اللهُ بِأيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ وينصُرْكُمْ عليْهِمْ ويشْفِ صُدُور قوْمٍ مُّؤْمِنِين"1.

وكذلك تكرم العين الباكية على مصاب الحسين عليه السلام، ففي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام"2.

في الخلاصة تكرم الجارحة بمقدار ما تكون مطيعة لله تعالى وتسهم في رفع الكمال الإنساني، وتحتكم للعقل فلا تنقاد مع الهوى فتصبح آلة للعدوان والإفساد.

متى تهان الجارحة؟
تهان الجارحة عندما تصبح وسيلة لممارسة الرذائل والإفساد، وعندما تصبح كذلك يأتي الشرع المقدّس ليقيم عليها الحدّ الشرعيّ المؤدّب لكلّ من تسوّل له نفسه استخدام الجوارح في إفساد المجتمع وإيذاء الإنسانيّة، ومن الموارد التي تهان في الجوارح السرقة، فعندما تمتدّ اليد إلى أملاك الناس وتعبث بها يأتي الشرع ليضع الحدّ عليها فيقطعه، وكذا استثمار الجسد للإفساد في الأرض وتهديد الناس وترويعهم، فإنّ الشرع يعاقب على هذا بأشدّ أنواع العقوبات وهو القتل.


1- التوبة:14
2- المجلسي-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 44 ص 284
 
 
 
114
 

 

100

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

اللسان
ومن أخطر هذه الجوارح وأكثرها أثراً اللسان، وهو آلة النطق. لكن آلة النطق اللحميّة هذه، فضلاً عن كونها أداة للتفاعل الاجتماعي بالكلام بين الناس واستعمال اللغات، هي الجارحة التي اعتبرتها الروايات الشريفة مفتاحاً للخير أو الشرّ، وسنستعّرض في الفقرات التالية بعض الموارد التي تكرم فيها هذه الجارحة، والموارد التي تهان فيها الجارحة وتنال العقاب الإلهيّ.

اللسان الناطق بالحق
هو لسان مكرّم لأنّه اتخذ مبدأ الدفاع عن الحقّ. والمراد بالحقّ هنا كلّ ما يرضاه العقل السليم وتندب إليه الفطرة النقيّة والشريعة الإلهيّة، فرفض الظلم وانتقاده، واستنكار الباطل وأعمال المستكبّرين المفسدين والطواغيت باللسان، وخصوصاً في موارد التأثير، يجعل هذا اللسان خادماً في طريق الحقّ. وقد وصف الله تعالى بعض النماذج من أهل القول الحق والعمل الحق فقال تعالى: "قُل لّن يُصِيبنا إِلاّ ما كتب اللهُ لنا هُو موْلانا وعلى اللهِ فلْيتوكّلِ الْمُؤْمِنُون * قُلْ هلْ تربّصُون بِنا إِلاّ إِحْدى الْحُسْنييْنِ ونحْنُ نتربّصُ بِكُمْ أن يُصِيبكُمُ اللهُ بِعذابٍ مِّنْ عِندِهِ أوْ بِأيْدِينا فتربّصُواْ إِنّا معكُم مُّتربِّصُون"1.

فهؤلاء قالوا كلمة الحقّ مع احتمال أن تصيبهم الأذية جراء إعلانهم تمسكهم بالإيمان ورفضهم الشرك، واحتسبوا ما يصيبهم لله تعالى، فكان لسانهم عاملاً لله مسخّراً في خدمة دينه، وكانوا مصداق كلام الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك"2.

ويرتكز الاعتقاد بلزوم قول الحقّ على كثير من الصفات الأخلاقية الراسخة في


1- التوبة:51-52
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 1 ص 192
 
 
 
115
 
 

101

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

النفس، ومنها الشجاعة، والكرم والغيرة على الدين وأهله، وفوق هذا كله التزام ما جاء في الكتاب الإلهيّ الداعي للعمل بالحقّ لأنّ الحقّ منتصر في نهاية المطاف، يقول الله تعالى: "وتودُّون أنّ غيْر ذاتِ الشّوْكةِ تكُونُ لكُمْ ويُرِيدُ اللهُ أن يُحِقّ الحقّ بِكلِماتِهِ ويقْطع دابِر الْكافِرِين * لِيُحِقّ الْحقّ ويُبْطِل الْباطِل ولوْ كرِه الْمُجْرِمُون"1، ويقول تعالى: "بلْ نقْذِفُ بِالْحقِّ على الْباطِلِ فيدْمغُهُ فإِذا هُو زاهِقٌ ولكُمُ الْويْلُ مِمّا تصِفُون"2.

لسان الصدق
اللسان الصادق، الذي لا يتسرّب الكذب إليه، حتى لو أدّى الصدق لضرره، ولم يكن في صالحه، هو لسان محترم ومكرّم، لأنّ اللسان الصادق معيار الإيمان، وبه يتميّز المؤمن عن المنافق، فقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدق رأس الإيمان، وزين الإنسان"3

بل اختبار الإيمان الحقيقي ومعرفة الرجال بالحقّ تكون بمعرفة صدقهم، فلا يقاس الإيمان بطول السجود، ولا ثفنات الجبهات، بل أرشدنا أهل البيت عليهم السلام إلى ذلك بمعرفة الصدق، فمن كان صادقاً فهو المؤمن، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"4، ويقول جلّ وعلا: "إِنّ الله لا يهْدِي منْ هُو كاذِبٌ كفّارٌ"5.


1- الأنفال:7-8
2- الأنبياء:18
3- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1573
4- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1574
5- الزمر:3
 
 
116
 

 

102

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

اللسان المهان
اللسان المهان هو اللسان الذي يصيره المرء بسوء اختياره أداةً للمعاصي والأذيّة والفساد، ومن الأمثلة على ذلك:

لسان السخرية
وهو لسان اتخذ في الناس عملاً له، فلا تراه إلا ناطقاً بعيوب الآخرين مستهزئاً بهم، مخالفاً قول الله تعالى: "يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا يسْخرْ قوْمٌ مِنْ قوْمٍ عسى أنْ يكُونُوا خيْراً مِنْهُمْ ولا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عسى أنْ يكُنّ خيْراً مِنْهُنّ ولا تلْمِزُوا أنْفُسكُمْ ولا تنابزُوا بِالْألْقابِ بِئْس الِاسْمُ الْفُسُوقُ بعْد الْأِيمانِ ومنْ لمْ يتُبْ فأُولئِك هُمُ الظّالِمُون"1.

لسان الغيبة
وهو لسان مهان لاستخدامه في الكبائر من الذنوب، فالغيبة من أسوأ المعاصي، وتعقب الخسران في الدارين، فأمّا في الدنيا فلأنّ المغتاب يضع من قدره، وينشغل بما لا ينفعه، ويصفه الناس والكرام بلؤم الطبع، فعن الإمام علي عليه السلام: "من أقبح اللؤم غيبة الأخيار"2.

وأمّا في الآخرة فما أشدّ ما أوعد الله تعالى عليه المغتابين من العذاب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء ؟ فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم"3.

لنحارب الغيبة
إنّ الغيبة مرض اجتماعي، يدلّ على ضعف الثقافة في الأمّة، وعلينا بناءً على


1- الحجرات:11
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2328
3- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2328
 
 
117

103

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

هذا أن نحاربها أشّد المحاربة، لأنّها بالدرجة الأولى موجبة لسخط الله تعالى، ولأنّها تنزل من قدر الأمّة بعين أعدائه، ويروى على سبيل التذكرة أنّ أحد الغزاة أراد أن يغزو مدينة فأرسل عيناً (جاسوساً) يتحسّس له علاقات أهله، فدخل إلى حانوت وذم لصاحبه جاره وهو صاحب ُحانوت ٍ مماثل، ورماه بأنّه يرفع الثمن، فما كان من صاحب الحانوت إلا أن هبّ وانتفض دفاعاً عن كرامة جاره المهدورة بلسان المغتاب ولم يرتضِ منه غيبته، فعاد الرجل لملكه وأخبره بما جرى معه فهاب أن يدخل المدينة وعُرى أهلها متماسكة.

إنّ حربنا للغيبة تكون أوّلاً من الداخل أي من النفس، يقول الله تعالى: "ذلِك بِأنّ الله لمْ يكُ مُغيِّرًا نِّعْمةً أنْعمها على قوْمٍ حتّى يُغيِّرُواْ ما بِأنفُسِهِمْ وأنّ الله سمِيعٌ علِيمٌ"1.

فعلينا بالمراقبة لأنفسنا بالدرجة الأولى وقمعها عن التعرّض للناس وملاحظتها دائماً ومنعها من الانزلاق في هذه المهالك الأخلاقية، وبالدرجة الثانية إصلاح مجتمعاتنا الصغيرة وسهراتنا ومنع أيّة غيبة فيه، وليكن نهجنا في ذلك نهج أهل البيت عليهم السلام في منع من يتحدّث أمامنا بالغيبة، فقد روى الإمام الصادق عليه السلام: "قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: إنّ فلاناً ينسبك إلى أنّك ضال مبتدع، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقّي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه!... إيّاك والغيبة فإنّها إدام كلاب النار، واعلم أن من أكثر مِن ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنّه إنّما يطلبها بقدر ما فيه"2.


1- الأنفال:53
2- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2329
 
 
118
 

104

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

خلاصة الدرس
لقد منّ الله تعالى علينا حين خلقنا بأعضاء نستعين بها على قضاء حوائجن، ونستكمل بها إنسانيتن، وجعل فيها حواساً نستشعر بها ما حولنا ونتفاعل معه من خلالها. هذه الأعضاء هي المسمّاة بالجوارح، وكرامة الجارحة هذه تتبع تصرّف الإنسان فيه، فتارة تكرّم وتارة تهان.

من موارد تكريم بعض الجوارح تكريم رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لليد العاملة، وكذلك كرامة اليد التي تجاهد في سبيل الله تعالى وتذيق أعداء الله العذاب امتثالاً لأمره، وكذلك تكريم العين الباكية على مصاب الحسين عليه السلام.

تهان الجارحة عندما تصبح وسيلة لممارسة الرذائل والإفساد، وعندما تصبح كذلك يأتي الشرع المقدّس ليقيم عليها الحدّ الشرعي المؤدّب لكلّ من تسوّل له نفسه استخدام الجوارح في إفساد المجتمع وإيذاء الإنسانيّة. ومن الموارد التي تهان في الجوارح السرقة، فعندما تمتدّ اليد إلى أملاك الناس وتعبث بها يأتي الشرع ليضع الحدّ عليها فيقطعها.

من أخطر هذه الجوارح وأكثرها أثراً اللسان، وهو آلة النطق، لكن آلة النطق اللحميّة هذه، فضلاً عن كونها أداة للتفاعل الاجتماعي بالكلام بين الناس واستعمال اللغات، هي الجارحة التي اعتبرتها الروايات الشريفة مفتاحاً للخير أو الشر.

اللسان الناطق بالحقّ هو لسان مكرّم لأنّه اتخذ مبدأ الدفاع عن الحقّ، والمراد بالحق هنا كل ما يرضاه العقل السليم وتندب إليه الفطرة النقيّة والشريعة الإلهيّة، فرفض الظلم وانتقاده، واستنكار الباطل وأعمال المستكبرين المفسدين والطواغيت باللسان، وخصوصاً في موارد التأثير، يجعل هذا اللسان خادماً في طريق الحقّ.
 
 
 
119

 





 

105

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

اللسان الصادق، الذي لا يتسرب الكذب إليه، حتى لو أدّى الصدق لضرره، ولم يكن في صالحه، هو لسان محترم ومكرّم، لأنّ اللسان الصادق معيار الإيمان، وبه يتميّز المؤمن عن المنافق.

اللسان المهان هو اللسان الذي يصيره المرء بسوء اختياره أداةً للمعاصي والأذيّة والفساد، ومن الأمثلة على ذلك:

لسان السخرية وهو لسان اتخذ في الناس عملاً له، فلا تراه إلا ناطقاً بعيوب الآخرين مستهزئاً بهم.

لسان الغيبة وهو لسان مهان لاستخدامه في الكبائر من الذنوب، فالغيبة من أسوأ المعاصي، وتعقب الخسران في الدارين فأمّا في الدنيا لأنّ المغتاب يضع من قدره، وينشغل بما لا ينفعه، ويصفه الناس والكرام بلؤم الطبع، وأمّا في الآخرة فما أشدّ ما أوعد الله تعالى عليه المغتابين من العذاب.

إنّ الغيبة مرض اجتماعي، يدلّ على ضعف الثقافة في الأمة، وعلينا بناء على هذا أن نحاربها أشد المحاربة، لأنّها بالدرجة الأولى موجبة لسخط الله تعالى، ولأنها تنزل من قدر الأمّة بعين أعدائه، فعلينا بالمراقبة لأنفسنا بالدرجة الأولى وقمعها عن التعرّض للناس، وملاحظتها دائماً ومنعها من الانزلاق في هذه المهالك الأخلاقية، وبالدرجة الثانية إصلاح مجتمعاتنا الصغيرة وسهراتنا ومجالسنا ومنع أيّة غيبة فيها.
 
أسئلة حول الدرس
1- متى تُكرم الجوارح ومتى تهان؟
2- لماذا كرُم اللسان الناطق بالحقّ؟
3- ما هي مساوئ الغيبة؟
4- كيف نحارب الغيبة؟
 
 
120
 
 
 

106

الدرس الثاني عشر: مفتاح الخير والشر

للحفظ
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"

للمطالعة
قال أبو يوسف القاضي: كنت مارّاً في طرقات الكوفة وإذا أنا بعليان المجنون فلمّا بصر بي سلم علي وقال لي: أيها القاضي مسألة قلت: هات، قال: أليس قال الله تعالى في كتابه العزيز "وما مِن دآبّةٍ فِي الأرْضِ ولا طائِرٍ يطِيرُ بِجناحيْهِ إِلاّ أُممٌ أمْثالُكُم"؟ قلت: بلى قال: أليس قال الله عزّ وجلّ: "وإِن مِّنْ أُمّةٍ إِلّا خلا فِيها نذِيرٌ"؟ قلت: بلى، قال: فما نذير الكلاب؟ قلت: لا أدري فأخبرني، قال: لا والله لا أقول إلا بمنّ رقاق من شواء ونصف من فالوذج، فأمرت من جاء بها، ودخلت معه مسجداً فأكلها حتى أتى على آخرها، فقلت: هات الجواب فأخرج من كمه حجراً وقال: هذا نذير الكلاب! وقال له بعض الناس يوماً: يا مجنون، فقال: مهلاً إنّما المجنون من عرفه ثمّ عصاه.
 
 
 
121
 
 
 
 
 
 
 

107
أولو الألباب