المقدّمة
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين عجل الله تعالى فرجه الشريف.
تُعدُّ وصيّة الإمام الخميني قدس سره واحدة من آخر وأهم التوجيهات التي تركها للأجيال اللاحقة، والتي تحدّد القيم والعناصر الأساسيّة التي لا بد من الالتفات إليها في السير على خطاه وحفظ النهج الذي أرساه على أساس الإسلام المحمدي الأصيل.
ولهذا، فإنّ الإمام الخامنئي دام ظله كثيراً ما يوصي الجميع، وخصوصاً الشباب، بقراءة هذه الوصيّة، لما تحمله من مضامين توجيهيّة عالية، يتحدث فيها الإمام قدس سره مع الأمّة كما لو أنّه لا يزال حيّاً فيها.
13
1
المقدّمة
يقول الإمام الخامنئي دام ظله في بعض كلماته: "اقرأوا وصيّة الإمام. الإمام الذي هزّ العالم هو الإمام المتجلّي والظاهر في هذه الوصية وفي هذه الآثار والأقوال"[1].
ويقول أيضاً: "أصول الثورة هي تلك الأمور الموجودة في وصية الإمام، وفي بيانات الإمام وخطبه، هذه أسس الثورة وأركانها. إني أوصي الشباب: اقرأوا وصية الإمام. أنتم لم تروا الإمام، غير أنّه متجسّد في هذه الوصية، متجسدٌ في هذه البيانات والأحاديث. إنّ مضمون حركة ذلك الإمام الذي استطاع أن يزلزل العالم، تلك الأمور الموجودة في هذه الوصية"[2].
ونظراً إلى أهميّة هذه الوصيّة، فقد قام فقيد العلم والجهاد سماحة الشيخ محمّد خاتون رحمه الله، بالوقوف عند هذه الوصية، وشرح العديد من فقراتها، واستخلص الدروس والعبر منها، وأضاء بشكل مختصر على ما خطّته يد الإمام من توجيهات وبيانات تحتاج إليها الأمة في حاضرها ومستقبلها، وتم نشر ذلك بصورة مقالات في مجلة بقية الله.
وقد ارتأينا في إدارة المجلة أن نقوم بجمع هذه المقالات ونشرها في كتاب، إحياءً لذكرى شيخنا الجليل رحمه الله، ولما تحتويه هذه المقالات
[1] كلمته دام ظله في مناسبة ولادة السيدة الزهراء عليها السلام ، بتاريخ 4-5-2010.
[2] كلمته دام ظله في مناسبة الذكرى الثانوية لتشييع جثامين 360 شهيداً في عمليات شهر آبان 1361 ه.ش. بتاريخ 16 - 11 - 2016م.
14
2
المقدّمة
من تأكيد وتذكير بخط الإمام دام ظله ونهجه الذي تضمنته وصيته الإلهية.
وقد جاء عملنا في هذا الكتاب على الشكل الآتي:
• قمنا بجمع المقالات المنشورة في المجلة في عامَي 1999-2000م.
• أعدنا تحرير ما يلزم من النص وتصحيحه من الناحية اللغوية.
• أضفنا عناوين فرعيّة إلى النص.
• وضعنا في بداية الكتاب كلمة لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله حفظه الله في تأبين سماحة الشيخ خاتون رحمه الله.
رحم الله إمامنا الخميني المقدّس، ورحم الله شيخنا الجليل الشيخ خاتون وسائر العلماء وجميع الشهداء الذين قضوا نحبهم على خطى الإمام الراحل.
مجلّة بقيّة الله
3
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)(*)[1]
معرفتي بأخي العزيز سماحة الشيخ خاتون رحمه الله تعود إلى بدايات 1977م، حين كنّا مجموعة من الشباب الصغار في السنّ، بعضنا في الـ17 وآخرون في الـ18 من أعمارهم.
• جمعَنا طلبُ العلم
في حوزة النجف الأشرف، كان اللقاء، حيث كان هؤلاء الأفراد لا يعرفون بعضهم بعضاً في لبنان.
[1] (*) كلمة سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في الحفل التأبيني للعالم الشيخ محمد خاتون رحمه الله، بتاريخ: 3-1-2016م.
17
4
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
جمعتنا حوزة النجف وطلب العلم، ومنّ الله سبحانه وتعالى علينا بأن ألقى بنا بين يدَي وفي رعاية إنسان مؤمن ومخلص وتقي ومجاهد وأب ومعلِّم وأستاذ ومرشد هو سيدنا وأستاذنا وسيّد شهداء مقاومتنا وأميننا العام الشهيد السيد عبّاس الموسوي رحمه الله.
• روحٌ واحدة ونفَسٌ واحد
كنّا وسماحة الشيخ محمد خاتون زملاء الدراسة، ولكن كنّا إخوة وأصدقاء لا مجرّد طلاب نأخذ الدروس ونذهب. كنّا نعيش معاً في النجف الأشرف، وبعد ذلك عندما رجعنا إلى لبنان عشنا معاً في الليل والنهار، في الذهاب والإياب، في الجوع والشبع والعطش، في الأمن والخوف، بالأمل، بالآمال، بالآلام، بالتطلعات، مجموعة أشخاص تجمعهم روح واحدة وثقافة واحدة ونفَس واحد، هي في الحقيقة روح وثقافة ونفَس السيد عبّاس رحمه الله، وأكملنا رفاق الطريق إلى أنْ توفّاه الله سبحانه وتعالى.
• الشيخ خاتون: "حريزاً دينُه"
الشيخ خاتون، منذ البداية، كان مثال طالب العلم الجادّ والمحصّل والمسؤول والمتديّن والتقيّ. من صفات المؤمنين التي يذكرها الإمام علي عليه السلام للمتقي في خطبة المتقين هو أنّه "حريزاً دينُه". الشيخ
18
5
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
محمد كان من المتّقين الذين كانت تنطبق عليهم كلّ الصفات الواردة في الخطبة، ومنها "حريزاً دينُه"، كان حريصاً جدّاً على أنْ لا يتّبع هواه وعلى أنْ لا يعصي مولاه، ولذلك، كانت مسألة الحلال والحرام حاضرةً عنده بكلّ قوّة.
• اعتقال وتعذيب
في العام 1978م قام نظام صدام حسين بحملة واسعة على الطلّاب والعلماء اللبنانيين، واعتقل جماعة كبيرة منهم، وتمكّن بعضهم من الخروج بدون اعتقال. كان سماحة الشيخ خاتون من الجماعة التي اعتقلت وسُجنت وعُذبت في سجون صدام حسين.
• مدرسة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الشريف الدينيّة
بعدما أُطلق سراح سماحة الشيخ خاتون وبقيّة الإخوة، التقت المجموعة مجدَّداً عند السيد عبّاس رحمه الله في بعلبك، وتأسست الحوزة الدينيّة في مدينة بعلبك برعاية السيد عبّاس وإدارته، وسمّيت "مدرسة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الدينيّة"، التي ما زالت قائمة وعامرة إلى اليوم. ولهذه المدرسة عليَّ وعلى الشيخ محمد وعلى الكثير من إخواني فضل كبير لا يُنسى. كان الشيخ خاتون في حلقتها الأولى واستمرّ فيها طالباً وأستاذاً ومبلّغاً في بلدات البقاع.
19
6
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
• ولبّى النداء
عام 1982م عندما حصل اجتياح العدو الإسرائيلي الغاشم، وكانت بدايات تَشكُّل المقاومة الإسلاميّة وحزب الله، كان الشيخ خاتون من أوائل العلماء الذين التحقوا بمعسكرات التدريب، مثل الشهيد السيِّد عبّاس وآخرين. نزعوا اللّباس الدينيّ ووضعوه جانباً، واحتفظوا بالعمائم لرمزيّتها، ولبسوا الثياب العسكرية، لأنّنا دخلنا في مرحلة جديدة هي مرحلة المقاومة المسلّحة والقتال. لقد ذهب الشيخ خاتون وإخوانه من العلماء إلى الدورة العسكرية، ليكونوا مقاتلين عسكريّين في صفوف المقاومة، وكان سماحة الشيخ مستعدّاً دائماً للالتحاق بميادين القتال.
• حضور في زمن الغُربة
لقد كان تشكيل المقاومة، منذ البدايات، بحاجة إلى الكادر الذي يتحمّل مسؤوليّات في ساحات متعدّدة، كان أهمها العمل العسكريّ، ولكن لتنمو المقاومة وتكتمل وتتواصل وتحقّق أهدافها، كانت بحاجة إلى مَن يحمل المسؤوليّة في البعد التعبويّ، البعد التبليغيّ، البعد التثقيفيّ، في البعد التحريضيّ، تحريضيّ على مستوى الجهاد، في زمن كانت تسود فيه ثقافة الهزيمة والاستسلام واحتقار النفس، والإيمان بالعجز والضعف، والشكّ في القدرة على مواجهة الاجتياح والاحتلال، فضلاً عن القدرة على تحريض الساحة.
20
7
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
كان هذا العمل في البداية شاقّاً، وكنّا نخوض في نقاشات حادّة وصعبة، حتّى في بيوتنا، في بيئتنا، كان يقول لنا بعضهم: أنتم مجانين، أنتم متحمّسون، أنتم بلا عقل، أنتم لا تفهمون المعادلات، ولا تعرفون قواعد اللعبة، ولا تعرفون قوانينها، هل تقاوم العين المخرز؟ هل يمكن للدم أنْ ينتصر على السيف؟... أنتم مجموعة من الشبّان تريدون أنْ تهزموا أقوى جيش في الشرق الأوسط الذي هزَم في أيام قليلة مجموعةً من الجيوش العربية؟!
كان تحدّياً كبيراً لا يقاس بتحدّيات اليوم. في ذلك اليوم وتلك المرحلة كانت المقاومة غريبة حتّى على مستوى ثقافة الناس وفكرهم ووعيهم وقبولهم وإيمانهم، وكان يُنظر إليها على أنّها مشروع انتحاريّ وجنونيّ وغير عقلائيّ وغير عقلانيّ.
• عالمٌ دوّارٌ بعِلمه
لقد كان سماحة الشيخ خاتون رحمه الله مِن الذين تصدّوا وحضروا في أكثر من ساحة، وانتقلوا من منبر إلى منبر، من مسجد إلى مسجد، ومن معسكر إلى معسكر، ومن ساحة إلى ساحة، ومن حسينية إلى حسينية. لقد قام بكل ما أُلقي على عاتقه خيرَ قيام، إلى أنْ تشكّلت هيكليّة واضحة لهذه المسيرة الفتيّة، فكان سماحة الشيخ خاتون - منذ البداية - من المسؤولين الأوائل في هذه الهيكليّة وفي هذه المسيرة.
21
8
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
• مسؤوليّات مترامية الأطراف
تولّى سماحة الشيخ خاتون رحمه الله مسؤوليّاتٍ مهمّة جدّاً، سواء في تشكيلة منطقة البقاع في البداية، ثمّ مسؤولاً لمنطقة الجنوب بعد العام 1985م، ثمّ مسؤولاً لمنطقة البقاع، ثمّ مسؤولاً ثقافيّاً مركزيّاً، ومسؤولاً للتبليغ المركزيّ والعمل التبليغيّ، ومسؤولاً للشمال والجبل.
• عشقُه للناس
في السنوات الأخيرة، فضّل سماحة الشيخ خاتون رحمه الله أنْ يعود إلى المكان الذي يرغب في العمل فيه، مع الناس، مع المؤمنين والمؤمنات، في المساجد والحسينيّات والبلدات، في السهرات، في التواصل المباشر، وأن يبتعد عن المسؤوليّات التنظيميّة والإداريّة، ويتحمّل هذا العبء، الذي- طبعاً- فيه جهد كبير وجهاد كبير، وأيضاً له طعم خاصّ ولذّة خاصّة.
لذا، فقد أمضى رحمه الله سنواته الأخيرة بين الناس خطيباً ومثقَّفاً ومبلِّغاً ومعلِّماً ومحرِّضاً على الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وصوتاً للوعي والوحدة والتقوى والقيم الأخلاقية التي كان يجسّدها خير تجسيد.
22
9
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
• طيِّباً مَعشرُه
كان الشيخ خاتونرحمه اللهمعروفاً بإيمانه وتديّنه وتقواه، وثقافته الواسعة وعلمه الوفير، وصدقه وإخلاصه، وأخلاقه الحسنة وعشرته الجميلة، وترابيَّته وتواضعه للجميع، للصغير والكبير، وطيبته وطهارته، وتحمُّله للمسؤوليّة وحمله للهمّ ومحبّته للناس.
• الشيخ خاتون: "سهلاً أمرُه"
كان الشيخ خاتون شخصيّة غير صعبة وغير معقّدة، فهو رحمه الله
- كما يصف أمير المؤمنين عليه السلام المتّقين - "سهلاً أمرُه"، وهذا ما يجب أنْ يكون عليه المؤمنون والعلماء، إذ كلّما ترقّى الإنسان في مدارج المسؤوليّة وتحمُّل الأعباء، يجب أنْ يكون أمره سهلاً. ماذا يعني "سهلاً أمرُه"؟ يعني ليس شخصاً معقّداً، يمكنك أنْ تتحدّث معه أو تطلب منه شيئاً أو تكلّفه بمسؤوليّة أو تأخذ منه مسؤوليّة أو ترسله إلى مكان أو تبدي له ملاحظة أو تنتقده أو تعترض عليه على أداء معين. لم يكن أحد يحمل همّ ماذا يقول له، وما هي الجملة التي يخاطبه بها، ومتى وكيف ولماذا؟
• ونِعمَ العبد
ما يعرفه كلّنا عن الشيخ محمد أنْ لا شيء في داخله اسمه محمد
23
10
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
علي خاتون، هناك شيء اسمه عبد فقير تقيّ ورع، يريد رضى الله سبحانه وتعالى، حريص على آخرته، حامل همّ ذلك الوقوف الطويل بين يدي الله سبحانه وتعالى... لم يكن أبداً شخصاً معقداً ولا نفسيّة معقدة ولا شخصيّة صعبة. كان شخصيّة سهلة انسيابية طريّة ناعمة هادئة طيبة، وكذلك كان لا يتوقف عند الخطر الشخصي، فإذا ما طُلِب منه أنْ يتوجّه إلى أي مكان فكان يتوجه إليه ويحضر فيه، وأنا أذكر شواهد وقصصاً كثيرة في هذا المجال.
• كان لله فباركه الله
اليوم أستطيع أنْ ألخِّص شخصيّة الشيخ محمد خاتون وأقول: هي مدرسة السيد عبّاس الموسوي، مدرسة الشيخ راغب حرب، إنّها تجسيدٌ لهذه الثقافة، لهذه الأخلاق، لهذه العناوين، لهذا النهج، لهذا النمط، لهذا السلوك. ومن خلال مجموع الصفات هذه، كان وجود الشيخ خاتون مباركاً جدّاً في سنوات عمره التي عاشها بيننا. ولأنّه كان مباركاً جدّاً، كان تأثيره في الناس وفي الشباب وفي جميع من درّس معه، ومن تتلمذوا عليه واستمعوا إليه، كان تأثيره كبيراً وعميقاً، لأنه لم يكن فقط يتحدّث، بل كان القدوة والأسوة والمجسّد لما يؤمن وما يقول على مدى 35 عاماً - على الأقلّ - أمضاها معلِّماً ومبلِّغاً وخطيباً على المنابر ومسؤولاً يحمل همّ المسؤوليّة ومتاعبها وآلامها.
24
11
الشيخ خاتون رحمه الله: العالم العامِل
• رحم الله شيخنا الغالي والعزيز
مع الشيخ محمد، يجب أنْ نتذكّر الجيل الأوّل من إخواننا وأخواتنا الذين أمضوا عمرهم وشبابهم في هذه المسيرة، ومنهم من استشهد، ومنهم من توفّاه الله وكان عاشقاً للشهادة وله أجر الشهداء ومنزلة الشهداء، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً.
رحم الله شيخنا الغالي والعزيز، وحشره مع الأنبياء والشهداء والصدّيقين والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.
25
12
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدّس سره
• حديث الثِقَلَيْن حجّة على البشريّة
"قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"[1].
الحمد لله وسبحانك، اللهم صلِّ على محمد وآله، مظاهر جمالك وجلالك، وخزائن أسرار كتابك، الذي تجلّت فيه الأحدية بجميع أسمائك حتّى المستأثر منها الذي لا يعلمه غيرك، واللعن على ظالميهم أصل الشجرة الخبيثة".
[1] دعائم الإسلام، القاضي النعمان، ج1، ص28.
27
13
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
• وصيّة الإمام قدّس سره خلاصة المعرفة والاعتقاد
إنّ مقدمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدّس سره هي في الحقيقة أساس الوصيّة، لأنّ الإمام قدّس سره لم يصل إلى ما وصل إليه إلّا من خلال ما تضمّنته تلك المقدّمة على المستوى المعرفيّ والاعتقاديّ من جهة، وعلى مستوى الموقف والسلوك من جهةٍ أخرى.
إنّ معرفة الإمام الخمينيّ المقدَّس بأهل البيت عليهم السلام هي مسألة في غاية الأهمّيّة، فهي تمثِّل عنده الأساس لفهم الإسلام المحمّديّ الأصيل. وعلى ضوء هذه المعرفة وبمقدارها يكون عطاء الإنسان، لأنّ المعروف على قدر المعرفة كما يقولون.
• سرُّ الإمام قدّس سره: نور المعرفة
فمن أراد أنْ يعرف ما هو السرّ في وصول الإمام قدّس سره إلى هذه المرحلة التي لم يساعده فيها ظرف سياسي أو اجتماعيّ، بل كلّ الظروف وقفت في وجهه، ومع ذلك تمكّن من الوصول إلى القمّة، فليبحث في آثار الإمام، ليجدَ أنّ نور المعرفة بالأولياء هو السلاح الذي حمله هذا العبد الصالح، ليقطع المسافة الفاصلة بين الواقع والأمل.
28
14
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
• حديث الثقلَين: باب فهم الإسلام
لقد بدأ الإمام قدّس سره، وهو يفصح عن ميراثه العظيم، بحديث الثقلين، قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض".
وهو إذ يتوقف عند هذا الحديث في مقدّمة الوصيّة، فلكي يلفت إلى المغزى منه، حيث إنّ هجْرَ أيٍ من الثقلين هو هجر للآخر، فلا يمكن للإنسان أنْ يفهم الإسلام من خلال القرآن إلّا إذا كان ذلك مقترناً بأهل البيت عليهم السلام، لأنّهم تراجمة الوحي. كما لا يمكن أنْ يفهم الإسلام من خلال ادعاء التمسك بأهل البيت عليهم السلام بمعزل عن القرآن الكريم، لأنّ القرآن هو دستور أهل البيت الكرام.
وإنّ أي حيادٍ عن أحد هذين الثِقَلَين هو حيادٌ عن الآخر، لأنّهما مقترنان. ومن يقول بغير ذلك فهو متوهِّم بكل ما للكلمة من معنى.
• الحكّام والمؤامرة على القرآن
يحمِّل الإمام المقدَّس المسؤوليّة للحكّام الذين أبعدوا القرآن عن ساحة الحياة، من خلال إبعادهم للمفسِّرين الحقيقيّين للقرآن عن هذه الساحة، فغدا القرآن الكريم مجرّد رسم ظاهر في حياة المسلمين، وصار وسيلةً للقعود والابتعاد عن حكم اللّه تعالى، مع أنّ إقامة حكم اللّه هي الهدف الأساس للكتاب العزيز.
29
15
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
• نفخر بأئمّتنا المعصومين عليهم السلام
وبعد أنْ يتوقف الإمام قدّس سره عند هذا الحديث، ويصل إلى هذه النتيجة، يُظهر افتخاره بالانتماء إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا لأنه ورث ذلك الانتماء من الآباء، وإنّما لأنّ الانتماء إلى هذه المدرسة هو الانتماء إلى الإسلام المحمّديّ الأصيل، لأنّ هذه المدرسة هي المدرسة التي أسسها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ سلّم زمامها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ منه إلى باقي الأئمّة الأطهار حتّى صاحب الزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).
• نفتخر بآثار أهل البيت عليهم السلام
ثمّ يُلفت الإمام قدّس سره إلى بعض الآثار العظيمة التي تركتها هذه المدرسة الإلهيّة، فمن نهج البلاغة الذي هو- بعد القرآن الكريم- أعظم دستور للحياة المادية والمعنويّة، إلى المناجاة الشعبانيّة التي هي معهد متكامل لتربية النفس البشرية، إلى دعاء عرفة لسيّد الشهداء عليه السلام، إلى الصحيفة السجادية زبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الصحيفة الفاطمية التي هي إلهام إلهيّ لسيدة نساء العالمين عليه السلام. وبعد ذلك، يعرّج الإمام قدّس سره على ما عاناه أهل البيت عليهم السلام، الذين هم موضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم، ويفتخر، لأنّ هؤلاء الأولياء قد سقطوا شهداء من أجل إقامةحكم اللّه تعالى، وأنّنا على آثارهم نسير ونبذل كلّ ما نملك من أموال وأولاد في سبيل اللّه تعالى.
30
16
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
• نفتخر بالنساء الزينبيّات
بما أنّ المسيرة لا تتمّ برجال الأمّة وحدها، بل لا بدّ من العنصر الآخر فيها، لذلك، نرى الإمام قدّس سره في مقدّمة وصيّته الخالدة يفتخر بالنساء الزينبيّات اللّواتي كان لهنّ دورٌ كبيرٌ في مختلف الميادين الثقافية، والاقتصاديّة، والعسكريّة، من أجل إعلاء كلمة اللّه تعالى. وتشهد الجبهة للنساء الزينبيّات أنّهنّ اقتدين بزينب عليه السلام في تقديم الأبناء، والتضحية بكل شيء في سبيل اللّه تعالى، ثمّ لا يعتبرن أنهن قدّمن شيئاً في هذا السبيل. إنّهنّ بالفعل أهل للافتخار، وذلك لأنّ النسوة عادة يشكّلن نقطة الضعف عند مواجهة الأخطار، أمّا أولئك النسوة الزينبيّات فمثَّلن نقطة قوّة زادت المجاهدين من الرجال قوّةً وعزيمةً، وزادت مجتمعنا الإسلاميّ صلابةً وتماسكاً من الداخل.
• عداؤنا لأمريكا ثابت ومستحكم
ولأنّ العالم المستضعف - بشكل عامّ - ذاق المرارة من الحكام الظلمة، ولأنّ هؤلاء الحكام - في الحقيقة - يشكّلون أذناباً للشيطان الأكبر أمريكا في هذا العصر، لذلك،لا بدّ من إيضاح الموقف ليكون الجميع على بيّنة.
إنّ موقف الإمام المقدَّس من أمريكا ثابت لا يتغيّر، وهو لا ينتظر
31
17
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
أنْ تقوم أمريكا بمدح الإسلام المحمّديّ الأصيل، بل إنّه يعتبر أن أمريكا إذا تودّدت إلينا، فهذا يجب أنْ يكون سبباً لمراجعة حساباتنا في أنفسنا.
فلا بدّ- إذاً- من الافتخار بأنّ العداء لأمريكا عداءٌ مستحكَم، لأنّ أمريكا عندما تعادينا فهي في الحقيقة تعادي الإسلام والقرآن.
• وعي الشعوب
لا بدّ لشعوب العالم المستضعف من أنْ يكونوا على درجة عالية من الوعي حتّى لا تفترسهم تلك الوحوش الضارية التي لا تتورّع عن القيام بأي عمل، ولا تتوقّف عن أيّ جريمة من أجل الوصول إلى أهدافها الخبيثة. ونحن نرى كيف أضرمت أمريكا النار في مختلف أنحاء العالم بشكل لا يمكن للمرء أنْ يصفه، وكيف تفعل كلّ ما يمكنها لتمكّن إسرائيل الغاصبة من أنْ تصبح دولة كبرى على مستوى المنطقة.
• احذروا مؤامرات الحكّام الخَوَنة
لكن يجب أنْ لا ننسى أنّ الحكّام الخونة كان لهم الدور الأكبر في تسليط ذلك الشيطان على الشعوب، وذلك ليضمن هؤلاء الحكام لأنفسهم أيّاماً أطول في الحكم.
32
18
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
لذلك، ينبغي لشعوب العالم المستضعف أنْ تنتبه إلى مؤامرات حكّامها مع شياطين الأرض، وأنْ لا تعير اهتماماً لكلّ وسائل الإعلام العالميّة التي تقلب الحقائق رأساً على عقب.
• كونوا أوفياء لنهج الثورة
ويختم الإمام قدّس سره مقدمة وصيّته المباركة بكلام إلى الشعب المسلم المجاهد في إيران، الذي منّ اللّه تعالى عليه بالنصر المؤزّر، ويوصيه بأن يبقى وفيّاً دائماً لهذا النهج الذي لولاه لما حصل الانتصار، وضرورة أنْ يتنبه أفراد الشعب الغيور إلى مؤامرات الأعداء التي لن تتوقّف عن تحريك العملاء في الداخل ليعيثوا في الأرض فساداً. ومهما بلغت قوّة هؤلاء وقدرتهم، فإنّ المنعة التي يتمتع بها أبناء الأمّة الإسلاميّة سوف تكسر كلّ تلك المؤامرات، ولا يجوز أنْ يلتفت أبناء الشعب المجاهد إلى ضجيج وسائل الإعلام المعادية، فإنّ هذا الضجيج كلّما علا أكثر كلّما كان دليلاً على إفلاس من يقف وراء هذه الوسائل، وكان دليلاً بالمقابل على قدرة الأمّة الإسلاميّة وأبنائها الغيارى.
• على نهج الأئمّة الأطهار عليهم السلام
ولا بدّ من الالتفات إلى التاريخ الذي نرتبط به على المستوى
33
19
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
الاعتقاديّ، وهو تاريخ أئمّتنا الأطهار عليهم السلام، فإنّ هذا يعطينا العزم على متابعة الطريق من دون الاهتمام لما يقوله عنّا أولئك الأعداء.
• هذه عناصر قوّتنا
وأخيراً، يحدِّد الإمام المقدَّس مجموعة من عناصر القوة التي أمدّت هذه الأمّة بما يلزمها للانتصار.
فهناك المدرسة الفقهيّة التابعة لأهل البيت عليهم السلام، وهي الحوزة العلميّة التي كانت شوكة في عين النظام الملكي المستبد، ومنها خرج العلماء المخلصون الذين أبلَوا البلاء الحسن في الدفاع عن مقدّسات الإسلام الأصيل، ويدعو قدّس سره إلى التنبُّه إلى أولئك الذين يزرعون الشك في أوساط البسطاء تجاه الفقهاء، فإنّ أي انحراف عن هؤلاء هو انحراف عن الجادّة.
وهناك صلاة الجمعة والجماعة التي تمثّل المظهر السياسيّ لهذه العبادة العظيمة. وللإنسان أنْ ينظر إلى الآثار الكبيرة التي استطاعت هذه العبادة الإلهيّة السياسيّة أنْ تحدثها في الأجيال، وكيف صار الشعب المسلم المجاهد رمزاً في التوجُّه إلى اللّه تعالى، وإلى خدمة المستضعفين والدفاع عن قضاياهم.
وهناك مجالس العزاء لأهل البيت الأطهار، ولا سيّما سيّد الأحرار والشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام. وهذه المجالس التي ليست
34
20
قراءة في مقدِّمة وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره
في الحقيقة صرخة ضدّ الأمويّين وحدهم، لأنّ هؤلاء قد زالوا، ولكنّها صرخة ضدّ كلّ الطغاة عبر التاريخ، وكانت سبباً أساسياً في انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران. ولا بدّ من أنْ تتضمن مجالس الولاء لأهل البيت عليهم السلام التذكير بكل الظالمين، ولا سيّما مَن كان في عصرنا، حتّى يقوم هذا الشعب بدوره في إزاحة الظالمين، فهكذا يكون الولاء لذلك البيت الإلهيّ المطهّر.
• وصيّة للشعوب المسلمة
وهذه الوصيّة ليست خاصّة بشعب إيران وحده، وإنّما هي لمختلف الشعوب الإسلاميّة التي تريد التخلّص من واقعها المرير، وبقية شعوب العالم المستضعف التي أرهقها طغيان المستكبرين.
35
21
الثورة فرادة
الثورة فرادة
يبدأ الإمام الخمينيّ قدس سره وصيّته الخالدة بالحديث عن الثورة الإسلاميّة لا على أساس أنّها ثمرة جهد قام به هو، وإنّما على أساس أنّها حصيلة جهود الملايين من الأشخاص الذين ساهموا في نصرة الإسلام في هذا العصر، ومن خلالهم وصلت الثورة إلى المرحلة التي أصبحت معها أمل شعوب العالم الإسلاميّ والمستضعف. وينطلق الإمام قدس سره ليتحدّث عن الثورة المباركة على أنّها عطاء ربّانيّ، فهو يقول في هذا الصدد:
"نحن نعلم أنّ هذه الثورة العظيمة، التي قطعت أيدي ناهبي العالم والظالمين عن إيران الكبيرة، قد انتصرت بالتأييدات الإلهيّة الغيبيّة، ولولا يد الله القادرة لما أمكن - بالرغم من الإعلام المعادي للإسلام وعلمائه، خاصّة
37
22
الثورة فرادة
في القرن الأخير، وبالرغم من أساليب التفرقة التي لا تحصى، وبرغم... وبرغم... - لم يكن بالإمكان أن يثور هذا الشعب صفّاً واحداً ونهجاً واحداً في جميع أنحاء البلاد ويزيح بنداء "الله أكبر" وتضحياته المذهلة التي ضاهت المعجزات جميع القوى الداخلية والخارجية ويتسلم مقدرات البلد.
بناء عليه، لا ينبغي الشكّ أبداً في أنّ الثورة الإسلاميّة في إيران تختلف عن جميع الثورات من حيث النشأة وطريقة الصراع وفي هدف الثورة والنهضة.
ولا شكّ أبداً في أنّها تحفة إلهية وهدية غيبية من قبل الله المنّان تلطَّف بها على هذا الشعب المظلوم المنهوب".
إنّ هذه الكلمات من الإمام المقدّس، حيث توصلنا إلى مجموعة من الحقائق المهمّة:
• انتصرنا بعناية الله
إنّ ما حصل هو تثبيت لحقيقة عقائدية، فليست قضايا الاعتقاد ذات بعد فكريّ فحسب. إنّ من يعتقد أن الأصول والعقائد وما يتفرّع عنها من تصورات هي مجرّد مسائل فكريّة، هو بعيد كلّ البعد عن الفكر الإسلاميّ المحمّديّ الأصيل. إنّ القرآن الكريم يزخر بهذه الحقائق التي تنعكس في حياة الأمّة واقعاً ملموساً لا غبار عليه، وإنّ هذه التجربة الرائدة في هذا العصر خير دليل على العناية
38
23
الثورة فرادة
الإلهيّة، وهي تعتبر تثبيتاً للعقيدة الإسلاميّة التي انعقدت عليها قلوب أبناء الأمّة.
• لسنا سوى أدوات
إنّ هذه الهدية الإلهيّة ينبغي أنْ تزيد الشعب المسلم في إيران ارتباطاً باللّه تعالى وتواضعاً أمامه. ولا يمكن بحال أنْ تكون هذه الثورة دافعاً إلى حالة من العُجب، لأنّ الذين من خلالهم حصل الانتصار ليسوا فعلاً إلّا أدوات، وإلّا فإنّ الذي صنع النصر هو اللّه تبارك وتعالى، وهذا ما ينعكس في حياة الفرد والمجتمع شكراً عمليّاً لله تعالى، من خلال نهجٍ عباديٍّ سلوكيٍّ يصوِّب مسيرة الفرد والمجتمع نحو اللّه عزّ وجلّ.
• ثورةُ حاكميّة الله
إنّ هناك اختلافاً جذريّاً بين الثورة الإسلاميّة وبين غيرها من "الثورات" أو أشباه الثورات. والاختلاف ليس اختلافاً ظاهراً وشكليّاً يرجع إلى الأداء فحسب، بل الاختلاف يرجع إلى كثير من النقاط، فهناك اختلاف في المنطلقات، واختلاف في الأداء، واختلاف في الغايات.
وكل نقاط الاختلاف هذه ترجع إلى النقطة الأساس، وهي أنّ هذه الثورة الإسلاميّة تستمدّ من عالم الغيب أصل وجودها، بينما كلّ ما
39
24
الثورة فرادة
يسمّى بثورات في هذه الأرض هو مادّيُّ الوجود، يكون انتصاره أو عدمه مرهونين بما تملكه هذه الثورة من مقوّمات مادّيّة، وبما يتخلّل ساحة الطرف الآخر من نقاط وهنٍ وضَعف.
إنّ أي ثورة تقوم في العالم يمكن للآخرين أنْ يناصروها من خلال حمل شعاراتها، فكأنّ الشعار يتحوّل بذاته إلى جامع يجمع كلّ القوى مهما كانت معتقداتها ومنطلقاتها، ولكن هذه الثورة الإسلاميّة لا تحمل شعاراً ينعكس في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة للأمّة من دون أنْ يكون له علاقة بالمبدأ والمعاد. ولا يعني هذا بحال، أنّ الآخرين لا دور لهم ولا علاقة معهم في أدوار الثورة الإسلاميّة أو في ما بعدها، بل يعني أنّ كلّ من يسير في فلك الثورة لا يمشي مع شعار مجرّد إذا تحقّق فقد تحقّق جزء من الثورة، لأنّ هذه الثورة ليست مجموعة من شعارات، بل تعني حاكميّة اللّه تعالى ورجوع الأمر إليه.
• حافظوا على طهارتكم
إنّ الإمام المقدَّس، حيث يشير إلى نقاط الضعف التي كانت موجودة في المجتمع الإيرانيّ قبل الثورة، والتي يمكن لنا أنْ نلخّصها بوجود ثغرة كبيرة في عالم التربية للأجيال الجديدة، فلا الحوزات تأخذ دورها جيّداً، ولا المدارس موضوعة في أيدٍ أمينة، ومضافاً إلى ذلك، فإنّ أماكن الفساد تضخ إلى المجتمع أجيالاً ضائعة وتافهة، فإنّه قدس سره من خلال هذه الإشارات يريد أنْ يعرفنا إلى أهمّيّة هذه النقاط، وكيف
40
25
الثورة فرادة
ينبغي أنْ تكون عليه حوزاتنا العلميّة ومعاهدنا التعليميّة، ومن هم الذين ينبغي أنْ يديروا هذه المؤسّسات، وكيف ينبغي أنْ نتعاطى مع مختلف الوسائل التي تدمّر الحياة الهادفة في المجتمع المسلم، فإنّ المحافظة على مكتسبات الثورة تكمن في الحفاظ على طهارة ونظافة المجتمع الإسلاميّ في ما يقوم به من أعمال، وفي ما عليه من معتقدات.
• إرادةُ الله أقوى
إنّ الثورة الإسلاميّة حيث إنّها هديّة إلهيّة، فإنّ شعوب العالم الإسلاميّ التي تسعى نحو الإسلام، ولكنّها تحسب حساباً للقوى الكافرة في هذا العالم، يجب عليها أنْ لا تلقي بالاً لهؤلاء، فإنّ حال شعوب العالم الإسلاميّ هي كحال الشعب الإيراني قبل انتصار الثورة، فإنّ نقاط القوة المادية كلّها كانت بيد الشاه ومع ذلك حصل الانتصار. وإذا كانت الأنظمة المرتبطة بالاستكبار العالميّ قوية، فإنّ إرادة اللّه تعالى أقوى، ولا سيّما أنّ شعوب العالم الإسلاميّ رأت بأمّ العين هذه التجربة الفريدة للثورة الإسلاميّة في إيران.
• ما زلنا في البداية
إنَّ انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران ليس نهاية المطاف، حتّى بالنسبة إلى الشعب الإيراني، وذلك لأنّ حركة الإسلام التي نصرها اللّه
41
26
الثورة فرادة
تعالى هي في مواجهة حركة الشيطان الذي يحكم أكثر أرجاء الأرض، وبناءً على ذلك، فإنّ حركة المواجهة بين المعسكرَيْن سوف لن تقف أبداً حتّى يسود الحق الإلهيّ مختلف هذه الأرجاء. وإذا كان هذا المعسكر الشيطاني قد انهزم في أحد مواقعه فلا يزال أمامه مواقع كثيرة، لا يجوز لأي شعب من الشعوب أنْ يخرجها من حساباته. وإذا كان ثمّة من يقول إنّ هذا الشعب قد قام بما عليه من مواجهة الكفر، وبالتالي، فإنّه يحقّ له الراحة، فإنّ هذا الأمر غير صحيح من الجهتين، لأنّ معارك الحق والباطل غير منفصلة في الواقع من جهة، ولأنّ الباطل سوف لن يترك ذلك الموقع الذي انهزم فيه من جهة أخرى. ولقد أثبتت الأحداث التي جرت بعد انتصار الثورة الإسلاميّة أنّ هذا الموقع الذي انهزم فيه الشيطان سوف لن يتركه ذلك الشيطان بأي حال من الأحوال، ولكن في نهاية الأمر فإنّ قدرة اللّه تعالى - التي استطاعت أنْ تحقّ الحقّ وتزهق الباطل - مستمرة، وطالما أنّ الارتباط باللّه تعالى - الذي يزداد مع كلّ عناية إلهيّة مستجدة - موجود، فإنّ النصر الإلهيّ لا بدّ من أنْ ينزل على هذه الأمّة.
42
27
شموليّة الإسلام
شموليّة الإسلام
يتابع الإمام المقدَّس كلماته المضيئة التي تتعلّق بالثورة الإسلاميّة، حيث إنّها ليست ثورةً في الهواء تحقّق مجموعة من الشعارات وتنفِّس عن الكبت الذي تعانيه الشعوب، ثمّ تدخل إلى مرحلة النسيان.
إنّ هذه الثورة جاءت وهي تهدف إلى تغيير جذريّ في واقع الأرض، انطلاقاً من تغيير جذريّ في بقعة من هذه الأرض، حيث تقدّم هذه التجربة الجزئية للإسلام المحمّديّ الأصيل، لتكون نموذجاً لشعوب العالم الذي يتوق إلى الحرّيّة والعدالة.
يقول الإمام قدس سره:
"الإسلام والحكومة الإسلاميّة ظاهرة إلهية يضمن تطبيقها سعادة أبنائها في الدنيا والآخرة بأفضل وجه، وباستطاعتها أن تقضي على كلّ
43
28
شموليّة الإسلام
المظالم والسرقات والمفاسد والاعتداءات، وتوصل الإنسان إلى كماله المطلوب، ومدرسة على خلاف المدارس غير التوحيدية، حيث تتعلق بجميع الشؤون الفردية والاجتماعية والماديّة والمعنويّة والثقافية والسياسيّة والعسكرية والاقتصادية وتشرف عليها، ولم تهمل أيّة نقطة ولو كانت صغيرة جدّاً مما له دخل في تربية الإنسان والمجتمع وتقدمه المادي والمعنويّ، وتشخص الموانع والمشكلات التي تعترض طريق التكامل في المجتمع والفرد وتعمل على رفعها.
والآن وقد تأسست الجمهوريّة الإسلاميّة بتوفيق من الله وتأييده وباليد المقتدرة للشعب الملتزم، وما تطرحه هذه الحكومة الإسلاميّة هو الإسلام وأحكامه السامية، فإن على الشعب الإيراني العظيم الشأن أن يسعى لتحقيق محتوى الإسلام بجميع أبعاده وحفظه وحراسته، فإن حفظ الإسلام على رأس جميع الواجبات، وفي هذا الطريق سعى جميع الأنبياء العظام، وكانت تضحياتهم التي لا حدود لها، من آدم عليه السلام حتّى خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصرفهم أي مانع عن هذه الفريضة العظيمة، وهكذا كان أصحابهم الملتزمون بعدهم وأئمّة الإسلام عليهم السلام، فقد بذلوا الجهود الجبارة التي لا تطاق إلى حدّتقديم دمائهم من أجل حفظ الإسلام. واليوم، فإنّ من الواجب على شعب إيران خصوصاً، وعلى جميع المسلمين عموماً أن يحفظوا بكل ما أوتوا من قوة هذه الأمانة الإلهية التي أعلنت رسميّاً في إيران وحققت في مدة قصيرة نتائج عظيمة، وأن يبذلوا جهدهم لإيجاد المقتضيات لبقائها ورفع الموانع
44
29
شموليّة الإسلام
والمشكلات، والمأمول أن يسطع سنا نورها على جميع الدول الإسلاميّة وأن تتفاهم جميع الحكومات والشعوب حول هذا الأمر المصيري ويقطعوا وإلى الأبد أيدي القوى الكبرى ناهبي العالم وجناة التاريخ عن مصائر المظلومين والمضطهدين.
إنّني وأنا أصعّد أنفاس آخر عمري وعملاً بالواجب أعرض للجيل الحاضر والأجيال القادمة شطراً ممّا له دخل في حفظ هذه الوديعة الإلهية وبقائها، وشطراً من الموانع والأخطار التي تهددها، سائلاً الله رب العالمين التوفيق والتأييد للجميع".
إنّ هذا المقطع من الوصيّة المباركة يضعنا أمام الحقائق الآتية:
• شموليّة الإسلام
إنّ الإسلام لا يُعنى بالجوانب الروحيّة للإنسان فحسب، من خلال ممارسات يقوم بها الفرد، ثمّ يكون هذا الفرد بمنأى عن الحياة السياسيّة والاجتماعيّة للأمّة، بل إنّ العمل السياسي والاجتماعيّ هو جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام، وأي تقاعس في هذا المجال يؤدي إلى ضياع الأمّة. وإذا حصل ذلك، فإنّ الإسلام لا يتحمّل المسؤوليّة، لأنّ الحلول التي قدّمها الإسلام الأصيل للبشرية هي حلول جذريّة لشتّى المشكلات الفرديّة والاجتماعيّة التي لا بدّ من الإيمان بها والعمل على طبقها، ليتسنّى للمجتمع أنْ يصل إلى مرحلة العدالة.
45
30
شموليّة الإسلام
• أحكام تسودها العدالة
إنّ عدالة الإسلام تنبع من كونه إلهيَّ المصدر، وذلك أنّ التشريعات الوضعيّة سوف يتطرّق إليها حتماً كلّ ما يعرضها للانحراف، ومن ثمّ للزوال، وذلك لأنّها تقوم على مصالح آنية، حتّى لو فرضنا جدلاً أنّ الذين صاغوا القوانين الوضعيّة قد تجرّدوا بالكامل من الأهواء، فإنّهم في نهاية الأمر بشر يعرض عليهم ما يعرض على البشر من الجهل والخطأ والوهن، وبالتالي، فإنّ القوانين التي تصدر عن هؤلاء هي قوانين يحتملها الجهل والخطأ والوهن، إنْ جرّدناها من الأهواء التي نادراً ما تغيب عن مثل هذه المواضيع.
وأمّا عندما ننظر إلى الإسلام، فإنّنا نقطع بصدور كلّ أحكامه وقوانينه عن اللّه تعالى، الذي لا يجوز عليه الخطأ والجهل والوهن، وليس بينه وبين أحد نسب ولا قرابة. وبالتالي، فإنّ أحكام الإسلام الأصيل هي أحكام تسودها العدالة في كلّ جزئيّة من جزئيّاتها، فضلاً عن الكليّات، وهذه الأحكام قد جاءت ليتكامل البشر في طريقهم إلى اللّه تعالى.
• انتصار الثورة دليل المصداقيّة
إنّ مقولة: "إنّ الدين هو جزء من الماضي ولن يكون له في الحاضر والمستقبل آثار على الصعد المختلفة للحياة البشرية" كانت تناقش
46
31
شموليّة الإسلام
فيما مضى من خلال البعد النظري، وكان كلّ فريق يقدم الأدلة على ما يدّعي. وأمّا بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة وإقامة حكومة الإسلام في هذا العصر، فقد صار هذا الواقع خير دليل على حقّانية الدين ومصداقيّته، فإنّ الوقوع هو دليل الإمكان كما يقولون. وعلى هذا الأساس، فإنّ التيار الإيماني من خلال انتصار هذه الثورة، قد سجّل نقطةً حاسمةً في صراعه مع التيّار الإلحاديّ. ولا نعني بالتيار الإلحاديّ من كان على نهج الاتحاد السوفياتيّ السابق من حيث العقيدة التي لا تؤمن باللّه أصلاً، وإنّما نعني كلّ تيّار يؤمن بفصل الدين عن إدارة الحياة والمجتمع.
• على طريق حاكميّة الإسلام
إنّ المجتمع الذي أقيمت فيه أول دولة للإسلام في هذا العصر يجب أنْ يعي حجم المسؤوليّة الملقاة على عاتقه. فإنّ هذا التكريم الإلهيّ ينبغي أنْ يفهم على أساس أنّه تكليف يناسب في مستواه حجم الانتصار. ويجب أنْ يعلم أفراد هذا الشعب المجاهد أنّ بناء حكم الإسلام لا يكون دفعةً واحدةً، وإنّما يكون خطوة خطوة، ولكن قبل كلّ شيء لا بدّ من الاستعداد الكامل لبذل كلّ شيء في سبيل هذا المبدأ الحق الذي من أجله بذل الأنبياء والأولياء عليهم السلام أنفسهم وما يملكون. ويجب أنْ يتفاعل أبناء هذا الشعب الحرّ مع بقيّة شعوب العالم الإسلاميّة حتّى تستطيع هذه الشعوب أنْ تنعم بذلك
47
32
شموليّة الإسلام
النور الإلهيّ، ويستطيع الجميع أنْ يقدّموا لشعوب العالم تجربة الإسلام الرائدة، التي من خلالها تتمكّن شعوب العالم من قطع أيدي المستكبرين.
48
33
سرّ الانتصار والبقاء
سرّ الانتصار والبقاء
من خلال وصيّته الشريفة، يتابع الإمام الخمينيّ قدس سره توجيهاته المباركة لأبناء الشعوب الإسلاميّة التي تسعى نحو الغد الأفضل، حيث يجب أنْ تتنبه هذه الشعوب إلى انطلاقتها، وإلى وجهتها، وإلى أسلوب تحركها كيف ينبغي أنْ يكون.
وفي هذا الصدد، يرى الإمام قدس سره أنّه يجب على الشعوب أنْ تدرك السرّ في انتصار ثورة الإسلام المباركة في هذا العصر، لأنّها إذا أدركت ذلك، فإنّ تحقيق الانتصار ثمّ المحافظة على ذلك الانتصار يصبحان أمراً معقولاً.
49
34
سرّ الانتصار والبقاء
يقول الإمام قدس سره:
"لا شك في أنّ سرّ بقاء الثورة الإسلاميّة هوسر النصر نفسه، ويعرف الشعب سر النصر، وستقرأ الأجيال الآتية في التاريخ، أن ركنَيه الأصليَّين هما: الدافع الإلهي والهدف السامي للحكومة الإسلاميّة؛ واجتماع الشعب في جميع أنحاء البلاد مع وحدة الكلمة من أجل ذلك الدافع والهدف. إنّني أوصي جميع الأجيال الحاضر منها والآتي، أنْ إذا أردتم أن يستقر الإسلام وحكومة الله وأن تقطع يد المستعمريني والمستغلين الداخليين والخارجيين عن بلدكم فلا تضيعوا هذا الدافع الإلهي الذي أوصى الله به في القرآن الكريم. وفي مقابل هذا الدافع الذي هو سر النصر وبقائه، يكون نسيان الهدف والتفرًقة والاختلاف. وليس عبثا أن تركز الأبواق الإعلامية في جميع أنحاء العالم وامتداداتها المحلية في بذل كل جهدها على الشائعات والأكاذيب التي تزرع الشقاق... الأمر الذي يجب أن ينصبّ عليه الجهد الآن وفي المستقبل وينبغي أن تدرك أهميته من قبل الشعب الإيراني ومسلمي العالم هو إبطال مفعول الإعلام المفرق الهدًام. ووصيّتي للمسلمين، وخصوصا الإيرانيين، ولا سيّما في عصرنا الحاضر، أن يتصدّوا لهذه المؤامرات، ويقوّوا انسجامهم ووحدتهم بكل طريق ممكن ليزرعوا اليأس في قلوب الكفار والمنافقين".
50
35
سرّ الانتصار والبقاء
في هذا المقطع المبارك للإمام، ينجلي لنا - وبشكل قاطع - الرأي الحاسم للإمام في مجموعة من المسائل، التي أراد لها أنْ تخرج من قلبه لتستقر في قلوب المؤمنين. وأهم الحقائق التي تضمنها هذا النصّ المبارك:
• استعدّوا للحفاظ على الثورة
على الناس جميعاً أنْ يدركوا أنّ الحفاظ على المكتسبات يحتاج إلى بذل جهود كبيرة قد تصل في بعض الأحيان إلى ما هو أكثر من الجهود التي بذلت من أجل تحصيل تلك المكتسبات. لقد شكّل انتصار الثورة الإسلاميّة ضربةً مذهلةً للكفر العالميّ، وهو لن يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك، بل سيسعى للانتقام من خلال حبك المؤامرات ضدّ هذه الثورة.
• الأخطار والتهديدات مستمرّة ومتشابهة
إنّ ما قامت هذه الثورة على أساسه وكان عاملاً في انتصارها، يبقى هو العامل في سبيل المحافظة عليها. ويخطئ من يعتقد غير ذلك، وذلك لأنّ نوعيّة الأخطار التي تواجهها الشعوب بعد الانتصار هي عين ما واجهته سابقاً، وذلك أنّ المبدأ الذي يراد أنْ تقوم الحكومة على أساسه - وهو الإسلام - مرفوض من قبل سفّاحي العالم المستكبر
51
36
سرّ الانتصار والبقاء
ومصّاصي دماء الشعوب المستضعفة. وهذا الإسلام قديماً وحديثاً يواجَه من قِبل الكفر بالتضليل للشعوب، ومن خلال الحرب النفسية والإعلاميّة والثقافية.
وأمام ذلك، تبقى مواجهة الأخطار في أي مرحلة من المراحل هي عينها بالإجمال، وإنْ كان هناك بعض الاختلاف في التفاصيل، وذلك بحسب الظروف وبحسب الأساليب المبتكرة التي يبتدعها الكفر لمحاربة الحقّ والحقيقة.
• انتصرنا بجهودكم المباركة
إنّ الثورة الإسلاميّة هي فعل إلهيّ، ولا شكّ في ذلك. ولكن هذا لا يعني أنّإرادة تكوينيّة مجرّدة هي التي جعلت هذه الثورة تنتصر بلا مقدّمات، بل إنّ هذه الثورة المباركة قد انتصرت متوّجةً بذلك جهوداً عظيمة قد بذلت في سبيل اللّه تعالى.
وإنّ هذه الجهود التي بذلها الشهداء والمجاهدون من علماء ومفكّرين وثوّار في الماضي والحاضر، لا بدّ من أنْ تنتج نهجاً أصيلاً يرفع الضَيم عن الذين جابهوا القوى العاتية، وذلك لأنّ جهود هؤلاء المجاهدين كانت تتّجه لشيء واحد وهو رضى اللّه تعالى، فيكون الدافع الإلهيّ سبباً فيما بعد للانتصار على العدوّ، لأنّ الذي يثمّن هذا العطاء هو مَن بذل ذلك العطاء من أجله، وهذا لا يفرق فيه
52
37
سرّ الانتصار والبقاء
بين ظرف وظرف آخر، فإنّ العمل إذا بُذل لوجه اللّه ثمّ أصبح لغير اللّه فعند ذلك يصبح هباءً منثوراً لا تقوم له قائمة.
• وحدة الكلمة تحت راية الإسلام
إنّ وحدة الكلمة التي تجلّت في هذا الشعب قد شكّلت العامل الضروري للانتصار، حيث إنّ مسيرة الإسلام لا يمكنها أنْ تجتاز العوائق إلّا من خلال حركة الأمّة باتجاه الهدف. ولقد استطاع هذا الشعب المجاهد على مرور عقود من الزمن أنْ يثبت جدارة غير عاديّة في مواجهة الشرّ، حيث كانت الكلمات موحّدةً تحت راية الإسلام المحمّديّ الأصيل.
إنّنا عندما ننادي بوحدة الكلمة، فليس المقصود بها وحدة الكلمة كيفما اتفق، وتحت أي راية ترفع، وإنّما المقصود هو وحدة الكلمة تحت راية الإسلام العزيز. ومن هنا، نرى الإمام المقدَّس يركّز على الاقتران بين أنْ يكون الدافع إلهيّاً وبين أنْ تكون الكلمة موحّدة.
إنّ كون الدافع إلهيّاً مع كون الكلمة متفرقة لأي سبب من الأسباب لا يحقّق الهدف، كما أنّ توحيد الكلمة مع كون الهدف غير إلهيّ لن يحقّق للشعب ما يصبو إليه من مكانة ورفعة في هذا العالم.
53
38
سرّ الانتصار والبقاء
• كونوا منابرَ إعلاميّة
إنّ موضوع الإعلام والأبواق الإعلاميّة هو من المواضيع المهمّة جدّاً على مستوى المواجهة. ولكن يجب أنْ تضع الشعوب الإسلاميّة في حساباتها أنّ مواجهة إعلام الآخرين لا تتمّ من خلال تأمين وسائل إعلاميّة إسلاميّة رسميّة في المقابل فحسب، وذلك لأنّ المواجهة بهذا الشكل هي مواجهة بلا طائل. فمن يستطيع أنْ يسكت إعلام الاستكبار بهذه الطريقة، وهو الذي يملك ما يملكه من إمكانيات مادية هائلة؟ إنّ على شعوب العالم الإسلاميّ أنْ تتحوّل بأفرادها كافّة إلى منابر إعلاميّة تستطيع أنْ تقضي على إعلام الآخرين، وذلك من خلال تحول كلّ فرد إلى وسيلة إعلاميّة متنقّلة أين منها وسائل الإعلام الكبرى في العالم؟ فعند ذلك لن يستطيع الإعلام المستكبر أنْ ينال منّا شيئاً.
إنّ قيام الأمّة بهذا الدور يجعلها أوّلاً بمنأى عن كلّ الأخطار التي يضعها الكفر العالميّ أمامها، لأنّ كثيراً من الأخطار ينشأ عن حالة جهل وعدم دراية بالحقيقة، ومن جهة أخرى، يكون الأفراد من خلال أخذ دورهم الأداة التي تواجه وليس الأدوات التي توجَّه، فكم هو الفرق بين فئة تعتمد على مواجهة الآخرين بالتضليل الإعلاميّ، وبين فئة أخرى تواجه التضليل بتبيان الحقائق.
54
39
الإعلام المعادي
الإعلام المعادي
في معرض كلام الإمام قدس سره عن المؤامرات التي تعرّضت لها الثورة الإسلاميّة المباركة منذ انطلاقتها يتحدّث عن الإعلام المعادي الذي لم يغب ولن يغيب عن مواجهة المدّ الإسلاميّ أبداً. فهو الجهة الأكثر قوّةً في المعركة، وذلك لأنّه يستهدف إضعاف الأمّة الإسلاميّة من الداخل.
والإعلام - بشكل عام - وإن كان سلاحاً موجوداً منذ القدم ويمكن لأي جهة أنْ تستعمله في مواجهة الأعداء، لكن بسبب تطوّر وسائله في العصر الحديث صار له أثرٌ لا يقاوَم. فإنّ الوسائل القديمة للإعلام تقوم على أساس العنصر البشري الذي يثير الرماد في العيون، ويسلّط الضوء على أوهام يجعلها تشبه الحقيقة وبالعكس، إلّا أنّ هذا يمكن أنْ يجابَه بسهولة، أمّا في عصرنا الحديث، فإنّ الإعلام يدخل إلى
55
40
الإعلام المعادي
كلّ بيت شئنا أم أبينا بسبب تطور وسائله في هذا العصر، وكذلك فسوف تكون الحرب الإعلاميّة ضدّ الإسلام جزءاً أساسيّاً في الحرب الكبرى التي يقوم بها أرباب الكفر في هذا العالم.
يقول الإمام قدس سره:
"من المؤامرات الخطيرة التي ظهرت بوضوح في القرن الأخير خصوصاً في العقود المعاصرة وبالأخص بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، الحركة الدعائية على نطاق واسع وبأبعاد مختلفة لزرع اليأس من الإسلام لدى الشعوب... تارة يقولون بسذاجة وبصراحة إنّ أحكام الإسلام التي وضعت قبل ألف وأربعمائة سنة لا تستطيع إدارة الدول في العصر الحاضر، أو إن الإسلام دين رجعي ويعارض كلّ أنواع التجدد ومظاهر التمدن... وتارة يعمدون بخبث وشيطنة إلى الدفاع عن قداسة الإسلام فيقولون إنّ الإسلام وسائر الأديان الإلهية تهتمّ بالمعنويّات وتهذيب النفوس والتحذير من المراتب الدنيوية... في حين أنَّ الحكومة والسياسة وفنّ الإدارة مناقضة لتلك الغاية وذلك الهدف الكبير والمعنويّ...
ومع الأسف، فإنّ هذه الدعاية بشكلها الثاني قد تركت أثرها في بعض علماء الدين والمتدينين الجاهلين بالإسلام فكانوا يرون التدخل في الشأنين الحكومي والسياسي بمثابة المعصية والفسق ولعل البعض الآن كذلك، وهذه فاجعة كبرى ابتلي بها الإسلام.
56
41
الإعلام المعادي
بالنسبة إلى الفريق الأول يجب أن يقال: إما إنّهم جاهلون بالحكومة والقانون والسياسة أو إنّهم يتجاهلون ذلك مغرضين، ذلك لأنّ تطبيق القوانين بمعيار القسط والعدل وعدم الإفساح في المجال للظالمين والحكومات الجائرة وبسط العدالة الفردية والاجتماعية ومنع الفساد والفحشاء وأنواع الانحرافات، والحرية بمعيار العقل والعدل، والاستقلال والاكتفاء الذاتي وقطع الطريق على الاستعمار والاستغلال والاستعباد، وإقامة الحدود والقصاص والتعزيرات طبق ميزان العدل للحيلولة دون فساد المجتمع ودماره، وسياسة المجتمع وهدايته إلى موازين العقل والعدل والإنصاف ومئات القضايا من هذا القبيل، لا تصبح قديمة بمرور الزمان على مدار تاريخ البشر والحياة الاجتماعية.
إذا كان من الواجب في مستهل الحياة الدنيا أن تطبق العدالة الاجتماعية منعاً للظلم والنهب والقتل، فهل أصبح هذا النهج قديماً اليوم لأننا في عصر الذرَّة؟ وادعاء أن الإسلام معارض للتقدُّم على طريقة محمد رضا البهلوي المخلوع الذي كان يقول: هؤلاء يريدون أن يسافروا في هذا العصر بواسطة الحيوانات، فهذا ليس إلّا اتهاماً أبلهَ لا غير، فإن كان المراد من مظاهر التمدن والتجدد الاختراعات والابتكارات والصناعات المتطورة التي تساهم في تقدم البشر وتمدنهم، فلا الإسلام ولا أي دين توحيدي يعارض ذلك أبداً، بل إن العلم والصناعة محل تأكيد الإسلام والقرآن المجيد.
وإذا كان المراد من التقدُّم والتمدُّن ما يطرحه بعض مدعي
57
42
الإعلام المعادي
الثقافة وهو الحرية في جميع المنكرات والفحشاء حتّى الشذوذ الجنسي وما شابه، فإنّ جميع الأديان السماوية والعلماء والعقلاء يعارضون ذلك، وأمّا المنبهرون بالغرب أو بالشرق فيروّجون لذلك من منطلق تقليدهم الأعمى.
وأمّا الفريق الثاني من الذين يلعبون دوراً مؤذياً ويطرحون فصل الإسلام عن الحكومة والسياسة، فيجب أن يقال لهؤلاء الجهلة: إن نسبة أحكام القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحكومة والسياسة لا تقاس أبداً بنسبة الأحكام في سائر الأمور، بل إنّ كثيراً من أحكام الإسلام العبادية هي عبادية سياسيّة والغفلة عنها هي التي جرَّت علينا كلّ هذه المصائب".
إنّنا أمام هذا النصّ المبارك للإمام المقدَّس، نقف لنضع تجربة الإمام الرائدة أمامنا ونتصوّر في أذهاننا أنّ الإمام قدس سره الذي قاد أعظم حركة شعبيّة في هذا التاريخ الماثل أمامنا يضع أمامنا خلاصة هذه التجربة وما تعرّضت له في شتّى مراحلها. وهو عندما يتحدّث عن الدعاية والإعلام المعاديَين، فإنّه يتحدّث بموضوعيّة ولا يقلّل من شأن تلك المسائل، وبالمقابل هو يريد المواجهة الصحيحة لذلك.
58
43
الإعلام المعادي
هنالك حقائق يمكن أنْ نقف عندها ونحن أمام هذا النصّ المبارك:
• الدعاية المضادّة للإسلام بألوان عدّة
إنّ الدعاية المضادّة للإسلام لا تتّخذ منحىً واحداً، وإنّما هناك مجموعة من القضايا تحاول إثارتها والهدف واحد، وهو الوصول إلى إقامة سدٍّ منيعٍ بين الناس وبين الخلاص على يد حاكميّة الإسلام المحمّديّ الأصيل:
أ- هناك الدعاية التي تقوم على أساس أنّ الإسلام "قديم"، وأنّ أحكامه وضعت لعصر لم تكن فيه الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة على هذه الدرجة من التطوّر، وبالتالي، فنحن نحتاج إلى ما يدير الحياة العامّةمن خلال "رؤية حضاريّة" متطوّرة.
ب- تقوم الدعاية على أساس رجعيّة الإسلام الذي يحارب كلّ شيء يريد التقدم إلى الأمام عن سابق تصور وتصميم، وذلك تشبيهاً للإسلام بغيره من الأديان والعقائد التي تحافظ على القديم، لأنه يحفظ مصالح "القيّمين" عليها.
ج- وهناك الدعاية القائمة على أساس أشدّ خطراً من غيره، فهو يمدح الإسلام ويضع مفاهيمه في أعلى مواضع التقدير والاحترام ظاهراً، ثمّ يعقب على ذلك بأنّ الإسلام الناصع لا يحقّ لنا أنْ نلوّثه من خلال إنزال أحكامه ومبادئه الاجتماعيّة والسياسيّة إلى قلب المجتمع.
59
44
الإعلام المعادي
ويقول الإمام قدس سره إنّ هذا النوع الثالث من أنواع الدعاية هو أشدّ خطراً من غيره، باعتبار أنّ النوعين الأوّلين يمكن أنْ يجرفا مجموعةً من المبهورين بحضارة الغرب أو الذين في قلوبهم مرض، إلّا أنّ النوع الثالث قد يجرف جمعاً من المؤمنين الذين لا يمكن أنْ نصنّفهم في دائرة العداء بأي حال من الأحوال.
• ردّوا على شبهاتهم ودعاياتهم
إنّ الردّ على مختلف الدعايات المضادّة للإسلام ينبغي أنْ يتطرّق إلى المواضيع التي قصد أولئك المستكبرون إثارة الشبهات حولها:
أ- إنّ القول: "إنّ الإسلام قديم في أحكامه ومبادئه" هو كالقول إنّ بقية العلوم قديمة، مع العلم أنّ مختلف العلوم تأخذ في حساباتها التجربة القديمة وتبني عليها. والقواعد العلميّة والرياضيّة الأولى هي التي يبنى عليها في العلوم الحاضرة، مع الأخذ في الحسبان الرياضيات هي علوم بشريّة قابلة للخطأ على الإطلاق، ولا يضرّ الإسلام أنّه جاء في عصر التخلّف البشري، لأنّ الضرر يلحق بالإسلام إذا أبقى الأمّة في عصر التخلف، وأمّا عندما تصبح تجربة الأمّة من خلال الإسلام تجربة رائدة، فإنّ الأمر يصبح جديراً بإعادة النظر في كلّ إعلام مضادّ.
ب- وأمّا القول: "إنّ الإسلام رجعي وإنّ البعض يستغلون الإسلام من أجل مصالحهم قياساً للإسلام على غيره"، فإنّ الذين
60
45
الإعلام المعادي
يعتقدون بهذا الاعتقاد ما عليهم إلّا أنْ يقرأوا التاريخ الحاضر على الأقلّ ليعلموا من خلال قراءتهم أنّ الإسلام وحده هو الوسيلة التي اتُّخذت لمواجهة ألاعيب الاستكبار العالميّ الذي يستهدف استغلال خيرات الشعوب، وبالتالي، فإنّ التهمة التي يرمى بهامن خلال هؤلاء تردّ عليهم.
ج- وأما القول بعظمة الإسلام في السماء وأن الأرض للناس ولا علاقة لحاكميّةاللّه بها، فإنّ الذين يمكن أن ينبهروا بهذه المقولة لم يفهموا حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الاجتماعيّة والسياسيّة والعبادية.
هؤلاء يعتقدون بأنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء من أجل القيام ببعض الأعمال العبادية وتعليمها للبشر. ونحن نسأل هؤلاء كيف خاض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الحروب؟ ولماذا سقط الشهداء؟ ولماذا أسّس الدولة ودافع عنها وعيّن الولاة؟ ولماذا يكون أهل البيت عليهم السلام هم خلفاء له إذا كان الأمر لا يعني انعكاساً في حياة المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة؟
• اعرفوا ألاعيب الاستكبار
إنّ الذي يمكن أنْ يدفع كلّ ألاعيب الاستكبار العالميّ هو المعرفة، ولا سبيل إلى ذلك إلّا من خلال طلب العلم، الذي من خلاله يماط اللّثام عن حقائق الإسلام العظيمة. ولا يجوز أنْ يتحوّل الإنسان
61
46
الإعلام المعادي
المسلم إلى مجرّد إنسان يتلقّى إعلام الآخرين بلا تدبُّر ولا تبصُّر، لأنّه عندئذٍ يكون هدفاً سهلاً للدعايات المضادة كتلك التي مرّت معنا وأشار إليها الإمام قدس سره.
62
47
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
يتابع الإمام قدس سره هجومه على الذين يريدون حصر الإسلام ضمن مجموعةٍ من الطقوس التي تمارس بشكل دوري، ودفاعه عن فكرة أنّ الإسلام جاء ليحلّ كلّ المشكلات الجماعيّة والفرديّة التي تعيشها المجتمعات الإنسانية، وذلك في معرض توجيه الكلام إلى وسائل الإعلام ذات التأثير الكبير، والتي تصوّر أنّمهمّة الأنبياء الكرام هي عبارة عن تقديم المعنويّات للناس، حيث أثّرت هذه المسائل في نفسية الكثيرين من أبناء هذه الأمّة. وكان هذا سبباً إمّا في تحويل بعضهم إلى أدوات تردّد تلك الكلمات التي صاغها الآخرون، وإمّا في إصابة بعضهم الآخر بخيبةٍ جرّاء تصورهم عدم جدوائية الحركة الإسلاميّة الهادفة إلى الحكم بما أنزل اللّه. يجب التعاطي بإيجابية وحزم
63
48
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
مع هذين الصنفين من الناس، كلّ بحسب ما يستحق من التعاطي والمواجهة.
يقول الإمام قدس سره:
"إنّني في هذه الوصية أكتفي بالإشارة، ولكنّي آمل أن يتولّى الكتّاب وعلماء الاجتماع والمؤرخون إخراج المسلمين من هذا الخطأ. وأما ما قيل من أنّ الأنبياء عليهم السلام والأولياء العظام كانوا يهتمون بالمعنويّات ويجتنبون أمر الحكومة وما يتعلق بالدنيا الفانية، وأنّ علينا أنْ نقتفي أثرهم فهو خطأ مؤسف، ونتائجه جرّت على الشعوب الإسلاميّة الدمار، وفتحت الطريق للمستعمرين مصاصي الدماء، لأن المرفوضهو الحكومات الشيطانيّة والديكتاتورية والظالمة بهدف التسلط، وأما الدوافع المنحرفة والدنيوية التي حذروا منها (الأنبياء) فهي جمع الثروة والمال وحبّ السيطرة والطغيان، وبالنتيجة الدنيا التي تتسبّب بغفلة الإنسان عن الله. وأمّا حكومة الحق لصالح المستضعفين والحيلولة دون وقوع الظلم والجور، ولإقامة العدالة الاجتماعية كما فعل سليمان بن داود ونبي الإسلام العظيم الشأن صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياؤه العظام فإنّها من أعظم الواجبات وإقامتها من أسمى العبادات، كما أن السياسة الصحيحة لدى هذه الحكومات هي من الأمور الواجبة.
يجب أن يجهض شعب إيران اليقظ والواعي هذه المؤامرات بالرؤية الإسلاميّة، ولينهض الخطباء والكتاب الملتزمون لمؤازرة الشعب ليقطعوا أيدي الشياطين المتآمرين".
64
49
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
أمام هذا النصّ نجد أنّ الإمام قدس سره يشير - في البداية - إلى نقاط ثلاث، ثمّ بعد ذلك يعالج القضيّة، أما النقاط فهي:
• الحكومات الشيطانيّة الظالمة
هناك واقع لا مفرّ منه، وهو وجود حكومات شيطانيّة تعيث في الأرض فساداً، فهي تمارس الظلم على الناس، وتبيح لنفسها الكذب والخداع لأفراد الأمم التي تسيطر عليها.
• الحكومات العادلة أمرٌ ممكن
ليس صحيحاً أنّ كلّ حكومة لا بدّ من أنْ تمارس هذه الممارسة الفاسدة، فإنّ الواقع يكذّب هذه المسألة، حيث إنّ التاريخ يشهد على وجود حكومات مارست العدالة بنسب متفاوتة، وكانت بعيدة بنسب متفاوتة أيضاً عن الغش والخداع.
• ليس قدر الحكومات أنْ تكون ظالمة
إنّ الهدف من الادعاء أنّ الحكومات لا تكون إلّا مخادعة وممارسة للغشّ والقهر والتسلط هو فتح الطريق أمام قوى الاستكبار ليكون لها السلطة، وذلك بعد أنْ يتم استبعاد المنتسبين إلى الإسلام من الوصول إلى ذلك، إمّا من خلال إظهار أنّ هؤلاء هم كغيرهم ممّن
65
50
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
يريد الوصول إلى السلطة، ويحملون شهوة التسلُّط، وإمّا من خلال اقتناع الآخرين بأنّ هؤلاء يجب أنْ لا يصلوا إلى السلطة، لأنّهم ينبغي أنْ لا يتلوّثوا بمفاسدها. وفي كلتا الحالتين يبقى حملة الإسلام تصوراً في منأى عن الحكم والإدارة، ويبقى لغيرهم ممّن يمتلك الكثير من المقوّمات المادّيّة فرصةٌ أكبر للوصول إلى ذلك.
إنّ الإمام قدس سره عندما يستعرض هذه الوقائع، فإنّه يخلص من خلال ذلك إلى معالجة الواقع، إذ ليس قدر الحكومات أنْ تكون ظالمة، خلافاً لما يدعيه المدعون، وحيث إنّ الأمر كذلك فينبغي تسليط الضوء على الأهداف الشيطانية التي تقف وراء ذلك.
• الحكومات في نظر الإسلام
وانطلاقاً من هنا، فإنّ الإسلام يصنف الحكومات إلى صنفين:
الأوّل: حكومات تهدف إلى التسلُّط الشيطانيّ وأخذ خيرات الناس من خلال الاستيلاء على مقدرات الأمّة. وهذه الحكومات تمارس الغش والخداع للوصول إلى الأهداف.
الثاني: حكومات تهدف إلى إقامة العدل وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه بقدر المستطاع، من خلال إيصال الأكفّاء إلى السلطة. وهذه الحكومات تتعاطى مع شعوبها بواقعيّة وموضوعيّة، لتجعلها معها في الطريق إلى الهدف.
66
51
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
وهذا الصنف الثاني من الحكومات هو المقبول، بل هو المطلوب، بلإنّه الهدف من إرسال الأنبياء عليهم السلام.
• إقامة حكم اللّه أسمى العبادات
وإذا كان هناك مَن يتصور أنّ الأنبياء عليهم السلام جاؤوا من أجل العبادات، ثمّ يصنّفون العبادات تصنيفاً خاصّاً، فإنّ الإمام قدس سره من خلال فهمه لكتاب اللّه وما ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام يجعل من إقامةحكم اللّه في الأرض أسمى العبادات، لأنّ ذلك هو السبيل ليتحوّل الكون بكلّ من فيه وما فيه إلى عابد لله تعالى.
فإنّ حركة المجتمع وسيره التشريعيّ نحو اللّه سبحانه وتعالى ينبغي أنْ يكونا جنباً إلى جنب مع السير التكوينيّ لهذا الكون إليه عزّ وجلّ، وإلّا فإنّ حركة المجتمع إذا لم تكن كذلك، فإنّنا نصل إلى مرحلة نشعر معها بالتضارب وعدم الانسجام في حركة المجتمع ككلّ من جهة، وبعدم الفائدة من الخلق من جهةٍ أخرى. وهذا مخالف لأبسط القواعد التي يعرفها أيّ إنسان مسلم.
• وضِّحوا مفاهيم حاكميّة الإسلام
وهذه المعرفة يجب أن تصل إلى كلّ الأفراد في أيّ مجتمع من المجتمعات كانوا. ويجب على الجميع أن يتحمّلوا المسؤوليّة في
67
52
حكومة الحقّ والعدالة في الإسلام
التواصي بذلك الأمر، لأنّه جزءٌ من رسالة الإسلام الكبرى، بل هو الأصل الذي تُحفظ من خلاله رسالة الإسلام المحمّديّ الأصيل.
وبتعبير آخر، فإنّ الحرب التي يشنّها المغرضون على الإسلام لا تقف عند حدود تأثير وسائل الإعلام عند الآخرين، فإنّها تتجاوز ذلك من خلال أفكار منحرفة زرعتها في أذهان بعض الناس، ولا بدّ للمخلصين من القيام بدور إعلاميّ مضادّ تتوضّح من خلاله كلّ مفاهيم حاكميّة الإسلام.
68
53
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
في هذا الفصل من الوصيّة الخالدة يتابع الإمام قدس سره كلامه عن الإعلام، ويشير إلى بعض الآثار الهدّامة للإعلام المعادي، ومنها انقطاع ثقة بعضهم بالنظام الذي تعرّضت له وسائل الإعلام المادّيّة بالدعاية الكاذبة، وهذه هي الغاية المرجوّة لمن يقف وراء وسائل الإعلام، مع الأخذ بالاعتبار أنّ هناك مسؤوليّة يتحمّلها الكثيرون من الذين أخذوا بظاهر الأمور، فتجاوزوا الحدود، وأساؤوا كثيراً للإسلام والثورة والنظام، وقدّموا خدمةً كبيرة للاستكبار العالميّ.'
69
54
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
يقول الإمام قدس سره:
"لقد أصبح المستكبرون أكثر استكباراً والمستضعفون أشدّ استضعافاً. السجون مليئة بالشباب الذين هم أمل البلد في المستقبل، وأساليب التعذيب غير إنسانيّة وأسوأ ممّا كانت في النظام السابق، وإنّ عدداً من الناس يعدم في كلّ يوم باسم الإسلام، ويا ليتهم لم يطلقوا اسم الإسلام على هذه الجمهوريّة... إنّ كثيراً من الذين يسمعون هذه القضايا ويصدقونها لا اطلاع لهم على وضع الدنيا والثورات في العالم وحوادث مرحلة ما بعد الثورة ومشاكلها العظيمة التي لا يمكن تجنبها، كما لا اطلاع صحيحاً لهم على التحوّلات الحاصلة لصالح الإسلام، فيصغون إلى هذه الشائعات مغمضين أعينهم جاهلين ويلتحقون بالمتآمرين غفلةً أو عامدين.
إنّني أوصي أن لا تتسرعوا في الاعتراض والانتقاد المدمر وتوجيه الشتائم، قبل التأمل في الأوضاع الحالية للعالم ومقارنة الثورة الإسلاميّة في إيران بسائر الثورات، وقبل معرفة أوضاع الدول والشعوب أثناء الثورة وبعدها وماذا كان يجري عليهم، وقبل الالتفات إلى مصائب هذه الدولة التي أصيبت بنكبة الطاغوت على يد رضا خان والأسوأ منه ابنه محمد رضا والإرث الذي تركاه لهذه الدولة... (وقبل) التحقيق في طريقة عمل الدولة وجهاد البناء في القرى المحرومة من كلّ الخدمات حتّى ماء الشرب والمستوصفات والمقارنة مع ما كان موجوداً
70
55
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
أيام النظام السابق رغم طول مدته مع الأخذ بنظر الاعتبار مشكلة الحرب المفروضة ونتائجها... إضافة إلى فقدان العدد الكافي من المبلغين الواعين وقضاة الشرع ومحاولات زرع الفوضى من قبل أعداء الإسلام والمنحرفين وحتى الأصدقاء الجهلة وعشرات المسائل الأخرى.
طلبي هو معرفة الواقع أولاً، وارحموا حال هذا الإسلام الغريب الذي هو اليوم بعد مئات السنين من ظلم الجبابرة وجهل الشعوب طفلٌ حديث عهد بالمشي ووليد محفوف بأعداء الخارج والداخل. وأنتم أيُّها المختلقون للإشكالات فكِّروا، أليس من الأفضل أن تنصرفوا بدلاً من إيجاد الإحباط إلى الإصلاح والمساعدة وبدلاً من تأييد المنافقين والظالمين والرأسماليين والمحتكرين غير المنصفين الجاهلين بالله، إلى نصرة المظلومين والمضطهدين والمحرومين، وبدلاً من الاهتمام بالفئات المشاغبة والقتلة المفسدين ودعمهم غير المباشر، أن تنصرفوا إلى الاهتمام بالمقتولين من علماء الدين المظلومين والخدام الملتزمين المظلومين؟
إنّني لم أقل أبداً ولا أقول إنّه يُعمل اليوم في هذه الجمهوريّة بالإسلام العظيم بكل أبعاده وإنه لا يوجد أشخاص يخالفون القوانين والضوابط جهلاً أو بسبب عقدة ما أو لعدم انضباطهم.
إلّا إنّني أقول إن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية تبذل جهوداً جبارة لأسلمة هذه الدولة، والشعبُ بعشرات ملايينه يؤيدها ويساندها، وإذا بادرت هذه الأقلية المختلقة
71
56
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
للاعتراضات إلى المساندة يصبح تحقق هذه الآمال أسهل وأسرع.
أمّا إذا لم يثب هؤلاء إلى رشدهم - لا سمح الله - فالشعب بملايينه قد استيقظ وأدرك الأمور وهو حاضر في الساحة وإن الآمال الإنسانيّة الإسلاميّة ستتحقق- بإرادة الله- بشكل لافت ولن يستطيع أصحاب الأفهام المنحرفة المفتعلون للاعتراضات أن يصمدوا في وجه هذا السيل الهادر".
إنّ هذه المقتطفات من كلمات الإمام قدس سره من شأنها أنْ توقظ في الإنسان مجموعةً من الأخطار والقوى الكامنة، فمن جهةٍ هناك مسؤوليّة الإنسان تجاه الثورة وقدرته على القيام بدور فعّال، ومن جهةٍ أخرى هناك البصيرة التي ينبغي أنْ تكون نافذةً للإنسان على مختلف شؤون الحياة، ومن جهةٍ ثالثةٍ هناك الخسران الذي ينتظر أولئك الذين لم يكونوا على درجةٍ من الإيجابيّة في علاقتهم مع الثورة. ويمكننا أنْ نحدّد حقائق عدّة مستفادة من هذه النصوص المباركة:
• وجود المشاكل أمرٌ طبيعيّ
إنّ المصلحة الشخصيّة والأنا التي ينطلق الإنسان من خلالها هي التي تحجبه عن الحقائق وتمنعه من الوصول إليها، فليس هناك حقيقة ضائعة، وإنّما هناك أشخاص ضاعوا في متاهات المصلحة
72
57
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
الزائلة، وإلّا فكيف يمكن للإنسان الذي يمتلك عقلاً راجحاً أنْ يقارن بين النظام الإسلاميّ الهادف إلى رفع القيمة الإنسانية للإنسان وبين النظام الكافر الذي لا تُراعى فيه للإنسان مصلحة ولا تحفظ له فيه قيمة أبداً؟
إنّ المصائب التي حلّت بمختلف الطبقات الشعبيّة في ظلّ نظام الشاه هي فوق التصوّر وأكبر من قدرة الإنسان على إحصائها.وقد ورثت الثورة الإسلاميّة ميراثاً هائلاً من المشاكل التي تحتاج إلى حلٍّ سريع. وفعلاً، قامت هذه الثورة بدورها على أكمل وجه، إلّا أنّ وجود المشاكل أمرٌ لا بدّ منه. وهذه المشاكل إمّا من المشاكل القديمة الموروثة التي تحتاج إلى وقت طويل ليتمّ حلّها، وإمّا مشاكل طارئة عارضة ناشئة عن ظروف صعبة تمرّ بها البلاد. ومع الأخذ بالاعتبار كلّ ما واجهته الثورة الإسلاميّة من صعاب، من الداخل والخارج على السواء، فإنّنا نرى أنّ هذه المشاكل المعترضة هي قليلة بالقياس إلى ما يمكن أن نراه في بلد آخر تعرّض لبعض ممّا تعرّض له هذا البلد الإسلاميّ الكبير.
• مصداقية النظام محافظتُه على أهداف الثورة
إنّ هناك مقياساً يجب وضعه لنحكم على أساسه بمصداقيّة النظام وحقانيّته أو عدمهما. ولا يجوز الحكم على أساس ظواهر الأمور التي قد تبعدنا كثيراً عن الحقيقة، مع أنّها في المتناول.
73
58
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
إنّ مصداقية النظام تكمن في محافظته على الأهداف التي قامت الثورة على أساسها، وهذا لا يمنع وجود بعض المعوقات، فإنّ المهم هو الكون في الطريق إلى الهدف.
وعلى هذا الأساس، فإنّ نظرة منصفة إلى ما يجري على مستوى الساحة تجعلنا أمام حقيقة تبرز من خلالها هذه المصداقية، وذلك لأنّ تحويل النظام إلى نظامٍ عادلٍ، والذي كان ولا يزال الهدف الأول للثورة، يسير في الطريق الصحيح. وهذا الحكم لا يعتمد على مجموعة من التغييرات في أشكال ومظاهر هذا النظام فحسب، بل يرتكز على الأسس التي يقوم عليها.
فأين كانت حرّيّة الرأي في الماضي وأين صارت بعد الثورة؟ وكيف كانت القوانين التي كانت تتغير وَفق مصلحة الحاكم، وكيف صارت بعد الثورة؟ حيث صار الالتزام بها هو المقياس لصلاحية الحاكم وليس العكس.
• قوموا بمسؤوليّتكم ولا تكتفوا باللّوم والعتاب
إنّ أي ثورة لا يمكن أن تقضي على كلّ عناصر الفساد بمجرّد أن تنتصر، بل إنّ هناك أموراً موضوعيّة لا يمكن إغفالها. فإنّ عمليّة التغيير تحتاج إلى وقتها وهي خاضعة لقوانين تحكم البشر، حتّى لو أخذنا بالاعتبار كلّ المفاهيم التي نؤمن بها على مستوى المدد الغيبيّ
74
59
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
والتوفيق والرعاية الإلهيَّين للأمّة، فإنّ هذا أيضاً في حدّ ذاته لم يغفل عن الظرف الزمنيّ الذي ثبت من خلاله أنّ الأمّة تستحقّ العناية والتوفيق من قبل اللّه سبحانه وتعالى.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ وجود العناصر الفاسدة لا يمكن إلغاؤه من الحساب. ولعلّ البشريّة في مختلف المراحل التي كانت تسودها حاكميّة اللّه تعالى على يد الأنبياء العظام، وحتّى في زمن خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم، لم تخلُ من عناصر تُقدِّم دنياها على آخرتها، ويصيب البلاء جرّاء ذلك كلّ الأمّة. على أن هذه الحالة تبقى هي الاستثناء وتبقى القاعدة الأصلية للمجتمع الصالح هي السير نحو تحقيق العدالة وعدم إفساح المجال أمام المفسدين ليكون لهم الحرّيّة في أن يفعلوا ما يشاؤون، فإنّ في ذلك إجحافاً بكلّ مكتسبات المجتمع الصالح، وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على يقظة الجماهير وقيامها بمسؤوليّاتها ومدّ يد المساعدة قدر الاستطاعة لأولي الأمر ليقوموا بدورهم، بدلاً من توجيه انتقاد للمعنيين أو حتّى الاكتفاء باللّوم والعتاب والتذمُّر من بعض المظاهر، فإنّ هذا كلّه لا يقدم أيّ نفع للأمّة وقِيَمها.
• باليقظة نبقى ونستمرّ
إنّ الأصل في ثبات حكومة الإسلام وعدم قدرة الاستكبار على اختراقها، وتالياً إنّ الضمانة لإفشال كلّ المؤامرات التي تحاك، تعود
75
60
الأثر الهدّام للإعلام المعادي
إلى يقظة هذا الشعب الذي استيقظ على صوت الإسلام فخرج إلى الساحة ليقود الحياة. إنّ هذا الشعب أصبح هو الحاكم من خلال حاكميّة قوانين الإسلام التي يؤمن بها، وبالتالي، فإنّ دفاعه عنها ليس دفاعاً عن قِيَم مجرّدة، كما هي الحال في كثير من المجتمعات، حيث يمكن أنْ يقوم الشعب بعمليّة دفاع عن قِيَم مصطنعة، ولكنّه بعد ذلك يفتقر إلى الحافز والدافع، فعند ذلك يترك الساحة. أمّا الشعب المسلم في إيران فإنّه يقوم بواجب الدفاع عن قيم النظام، لأنّ هذه القيم هي قِيَم الشعب نفسه ولا بدّ من الدفاع عنها.
76
61
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
يبدأ الإمام الخمينيّ قدس سره في الفقرات التالية بذكر موضوعات جديدة، أوّلها الكلام عن الشعب الإيرانيّ المسلم ومكانته، وذلك من خلال معايشته قدس سره لمجموعة الأحاسيس والمشاعر، والشعارات والنداءات والمسلكيّات والمواقف التي تميَّز بها هذا الشعب.
وهذا رأيٌ يجدر التوقُّف عنده لدى كلّ من يريد الحصول على دراسة وافية عن هذه الأمّة، وخصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار أن الذي يقول هذه الكلمات بحقّ هذه الأمّة هو قائدها الذي لمس فيها كلّ الخصوصيات طيلة مرحلة استمرت عشرات السنين مرّ فيها الشعب والأمّة بمجموعة من الظروف المتقلّبة.
77
62
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
يقول الإمام قدس سره:
"أنا أدّعي بجرأة أن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر أفضل من شعب الحجاز في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن شعب الكوفة والعراق في عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما.
فمسلمو الحجاز لم يطيعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتذرعوا بمختلف الذرائع حتّى لا يتوجهوا إلى القتال، فوبّخهم الله بآيات في سورة التوبة وتوعدهم بالعذاب، ولقد كذبوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم إلى حدٍّ أنّه لعنهم على ما روي.
وأهل العراق والكوفة قد أساؤوا كثيراً إلى أمير المؤمنين عليه السلام وتمردوا على طاعته، وشكاواه عليه السلام في كتب الأخبار والتواريخ معروفة.
ومسلمو العراق والكوفة صنعوا مع سيد الشهداء ما صنعوا، فالذين لم يأثموا من خلال مشاركتهم في شهادته (مقتله)، إما إنهم هربوا من المعركة أو إنهم تخاذلوا فكانت جناية التاريخ تلك.
بينما اليوم نرى شعب إيران، بَدءاً بالقوى المسلحة، من الجيش والأمن الداخلي والحرس والتعبئة إلى القوى الشعبية من العشائر والمتطوعين والقوى التي في الجبهة والناس المحترمين خلف الجبهة، يقدمون التضحيات بكل حماسة، ويسطرون أعظم الملاحم، ونرى كيف يقدم الناس المحترمون في جميع أنحاء
78
63
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
البلاد المعونات القيمة، ونرى عوائل الشهداء وجرحى الحرب وذويهم يواجهوننا ويواجهونكم بوجوه تصنع الملحمة وأقوال وأفعال ملؤها الشوق، وتهَبُ الاطمئنان، ومبعث كلّ ذلك عشقهم وعلاقتهم وإيمانهم التام بالله المتعال والإسلام والحياة الخالدة، في حين أنهم ليسوا في المحضر المبارك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في محضر الإمام المعصوم صلوات الله عليه وبين يديه، ودافعهم الإيمان والاطمئنان بالغيب، وهذا هو سرّ التوفيق والنصر في أبعاده المختلفة، ويجب أن يفتخر الإسلام بأنّه ربّى مثل هؤلاء الأبناء، ونحن كلنا فخورون بأننا في عصر كهذا وفي محضر شعب كهذا".
• مدحٌ مشفوعٌ بالدليل
قد يخطر ببال القارئ لهذه الفقرات أن هناك مبالغة في المدح والثناء من قبل الإمام قدس سره بحقّ شعبه جرياً على عادة أولياء الأمور في مجتمعاتهم، غير أن المراقب لسلوك الإمام قدس سره في الظروف المختلفة يلاحظ أن هذا القائد الملهم لم يكن يوماً خارجاً عن حدود الصراحة والوضوح وإذا احتاج إلى أن يرفع معنويّات الآخرين فإنّه لا يخرج عن ذلك، فهو لا يبالغ ولا يداري على حساب الأهداف.
إنّ المبالغة التي يلجأ إليها القادة السياسيّون تكون - عادةً - سبيلاً للوصول إلى هدف أو مجموعة من الأهداف من جهة، وتكون من جهةٍ أخرى مجرّد كيلٍ للمدائح من دون أن تكون مشفوعةً بأدلّة
79
64
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
تدفع الواقع، وكلا الأمرين بعيدٌ عن نهج الإمام، فليس هو الذي يحاول اصطياد هدفٍ من خلال كلمةٍ يدغدغ بها مشاعر الناس وهو الذي تخلّى عن الدنيا بما فيها.
• إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه
كما أنّه قدس سره عندما مدح هؤلاء، فإنّه بيّن أسباب ذلك، ووضع النقاط على الحروف، ولا سيّما إذا أخدنا بالاعتبار أنّ هذا ينسجم مع قواعد الإسلام ومفاهيمه، وذلك لأنّ فيه إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه على الطريقة التي يشير إليها أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ"[1].
• أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليسوا الأفضل
وإذا كان بعضهم يعتبر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم هم النخبة التي لا يقترب منها أحدٌ في الفضل والاستقامة فهم مخطئون. فالنصوص القرآنيّة واضحة الدلالات في ما يتعلّق بنقاط الضعف والوهن التي اعترت حقبة وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف تعاطى أولئك الأصحاب معه
[1] نهج البلاغة، من عهدٍ له عليه السلام إلى الأشتر النخعي عندما ولّاه مصر.
80
65
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
في الظروف المختلفة، وكيف كان الخوف من الموت سمة الكثيرين منهم، وكيف كان العصيان سمةً أخرى لبعضهم، وكيف يشير القرآن الكريم إلى العاقبة!
﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾[1].
وإذا كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قد مدح بعض أصحابه بالأسماء، فإنّه ذم آخرين بالإجمال وحتّى بالأسماء، وكان ينظر إلى المستقبل الذي يكون فيه أولئك الذين عبّر عنهم بالإخوان.
ولمّا سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن إخوانه، قال: إنّهم يأتون في آخر الزمان يؤمنون بي سواداً على بياض[2].
• كلُّ ما يقوله المعصوم عليه السلام لمصلحة الناس
كما أنّ المسألة مع أمير المؤمنينعليه السلام ليست مختلفة، ولا تزال كلمات الإمامعليه السلام في حقّ مَن كان حوله مِن الناس ماثلةً
[1] سورة محمّد، الآية: 38.
[2] ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللّهمّ لقّني إخواني، مرّتين، فقال مَن حولَه من أصحابه: أمَا نحن إخوانك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: "لا إنّكم أصحابي، وإخواني قومٌ في آخر الزمان، آمنوا بي ولم يروني، لقد عرّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لَأَحَدُهم أشدّ بقيّةً على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة". (بصائر الدرجات، الصفّار، ص104).
81
66
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
في الأذهان. وها هو نهج البلاغة يشهد على هذه المسألة. وكلّ مَن كتب التاريخ المتعلِّق بأمير المؤمنينعليه السلام لا يمكن له أن يغفل عن التخاذل الذي أبداه أكثرُ الناس في زمنه.
كما أنّ حال الناس مع بقيّة الأئمّة عليهم السلام كانت على هذا المنوال أيضاً، فهم عليهم السلام لم يرَوا من الناس إلّا الخيانة والتخاذل.
هذا كلّه، مع أنّ هؤلاء يتعاملون مع إنسانٍ معصومٍ لا يمكن في حقِّه الخطأ والاشتباه، فهم يدركون أنّ كلّ ما يقوله ويطلبه إنّما هو لمصلحتهم وليس له فيه أيّ غرض أو نفع شخصيّ.
• الطاعة والوصول إلى الأهداف
لقد كانت المسألة في ذلك الوقت مسألة طاعة الأمّة لولي أمرها الحقيقيّ، فعندما تفعل ذلك فقد وصلت إلى هدفها، ولكن - مع الأسف - فإنّها لم تصل، بل وضاعت الأمّة في متاهات مصالح أفرادها.أمّا عندما تأتي إلى الشعب المسلم في إيران، فإنّنا نجد العنوان - الذي ضيعته الأمم السالفة الذكر - في ذاكرة هذا الشعب الأبيّ، فإنّ الصفة الأساسيّة التي ميّزت هذا الشعب هي الطاعة في جميع الأحوال. وإنّ مقارنةً لهذه المواقف التي تميّز بها ما عداه من الشعوب قديماً وحديثاً تضعنا أمام حقيقة ناصعة واضحة تتجلّى من خلالها عظمة هذا الشعب ورفعته.
82
67
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
إنّ الركن الأساسي في وصول الأمم إلى أهدافها هو الطاعة، وهو يعتمد على وجود الأمّة التي إنْ وجدت قيَّض اللّه تعالى لها قيادةً تتولى أمرها وتوصلها إلى الرشاد. وليست المسألة مسألة قيادة فحسب، فإنّ القيادة بأبهى صورها قد وجدت من خلال سيّد الخلق محمّد بن عبد اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده من خلال وصيّه وخليفته أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه الطاهرين عليهم السلام، ومع ذلك فإنّ الأمور لم تجرِ كما يجب، بل اختار اللّه تعالى أولياءه إلى جواره، ثمّ أصابت أُمَمَهم الويلاتُ بسبب تخاذلهم عن قيادتهم.
بينما وقف الشعب المسلم الإيراني أمام إنسانٍ يُمثِّل المعصوم في فكره وحركته، فأطاعه بشكل منقطع النظير، بحيث إنّه يجعلنا نعتقد أنّ هذا الشعب لو وجد في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لكانت حصلت كلّ المعجزات في ذلك.
إنّ الموضوع الذي يشير إليه الإمام قدس سره ويعتبره سرّ النجاح على المستوى العمليّ هو الولاية التي عمل بها الناس ومضَوا من خلالها ليحقّقوا أحلام الأنبياء. وليس موضوع الولاية موضوعاً مجرّداً عن الحالة الاعتقاديّة، بل هو الترجمة العمليّة للاعتقاد، إذ إنّ الإيمان بوحدانيّة اللّه تعالى وبالرسل لا يمكن أنْ يكون ذا أثرٍ عمليّ إذا لم يكن هناك أمر ونهي من قبل الوليّ، وانصياع من قبل المولّى عليهم، وأي فهم للموضوع خارج هذا النطاق فهو ابتعاد عن الحقيقة. وانطلاقاً من هنا، سوف لن يكون الذهاب إلى الحرب بأمر الوليّ
83
68
الشعب الوفيّ وسرّ النجاح
مختلفاً عن وضع السلاح في غمده بأمر الوليّ أيضاً، لأنّ الطاعة هي الأمر المطلوب في كلتا الحالتين.
• الطاعة سرُّ الثورة
وهنا يكمن السرّ الذي ميّز ويميّز هذه الثورة الإسلاميّة المباركة. إنّها قوّة الداخل التي لا تخرج عن قدرة الإسلام المحمّديّ الأصيل على إبراز كلّ عناصر القوّة في المجتمع من خلال طاعة الوليّ، حتّى إذا خرجت هذه الطاعة بكلّ مظاهرها إلى عالم الوجود، كان لا بدّ من أنْ تحقّق أهداف الأمّة والمجتمع في نهاية المطاف.
84
69
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
بعد أن بيّن الإمام الخمينيّ قدس سره موقعيّة الشعب المسلم في إيران، وأنّ هؤلاء أفضل من مختلف الشعوب الإسلاميّة عبر تاريخ الإسلام الطويل، وأنّه فعلاً يفتخر بهذا الشعب الذي قدّم التضحيات في سبيل إعلاء كلمة اللّه تعالى، يحوّل قدس سره نظره إلى طائفة من ذلك الشعب، وهم الذين عارضوا النظام الإسلاميّ.
وبخطابٍ يحمل كلّ معاني الأبوّة يلفت قدس سره نظر أولئك المعارضين المنتمين إلى مختلف التوجُّهات، إلى الحقائق التي قامت عليها الثورة الإسلاميّة، وإلى الأباطيل التي قام عليها الكثيرون ممّن واجهوا الثورة. وهو قدس سره لم يجعل أولئك الذين يعارضون في كفّة واحدة، بل هناك رؤوس للكفر والخيانة، وهناك ضحايا لهؤلاء في حملتهم ضدّ الإسلام.
85
70
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
وهؤلاء هم الذين يخاطبهم الإمام قدس سره في هذه الفقرة من وصيّته المباركة.
يقول الإمام قدس سره:
"وإن لي هنا وصية إلى الأشخاص الذين يعارضون الجمهوريّة الإسلاميّة بدوافع مختلفة، وإلى الشباب، سواء الفتيات أو الفتية الذين يستغلهم المنافقون والمنحرفون والانتهازيون والنفعيون، أن يفكروا بموضوعية وتجرد في دعايات أولئك الذين يريدون أن يسقطوا الجمهوريّة الإسلاميّة وكيفية عملهم وسلوكهم مع الجماهير المحرومة والأحزاب والدول التي ساندتهم وتساندهم والأشخاص الذين التحقوا بهم في الداخل ويدعمونهم، وأن يدققوا في أخلاقهم وكيفية تعاملهم فيما بينهم ومع مؤيديهم وتغيير مواقفهم في المستجدات المختلفة، ابحثوا في ذلك بدقة وبعيداً عن أهواء النفس.
وتأملوا أوضاع أولئك الذين استشهدوا في الجمهوريّة الإسلاميّة على يد المنافقين والمنحرفين وقارنوا بينهم وبين أعدائهم.
أشرطة تسجيل هؤلاء الشهداء إلى حدٍّ ما هي بمتناولكم، وأشرطة معارضيهم لعلها في متناولكم أيضاً، لتعلموا أي فريق يناصر المحرومين والمظلومين في المجتمع.
أيّها الإخوة، أنتم لا تقرؤون هذه الأوراق قبل وفاتي، قد تقرؤونها بعدي، آنذاك لن أكون بينكم حتّى يكون هدفي التلاعب بقلوبكم الشابة لصالحي وجلب اهتمامكم لكسب موقع أو سلطة.
86
71
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
إنّني، ولأنكم شبّان لائقون، أحبّ أن تصرفوا شبابكم في سبيل الله والإسلام العزيز والجمهوريّة الإسلاميّة، حتّى تفوزوا بسعادة الدارَين، وأسأل الله الغفور أن يهديكم إلى طريق الإنسانيّة المستقيم ويعفو عن ماضينا وماضيكم، برحمته الواسعة. أنتم أيضاً اطلبوا ذلك من الله في خلواتكم إنّه الهادي والرحمن".
• نصيحة للخارجين على النظام
في هذه الكلمات نتلمّس قصّة أساسيّة تتمحور حولها مجموعة من النقاط. وهذه القضيّة هي مسؤوليّة القائد أمام كلّ الحالات السلبيّة، ومن بينها قضيّة مَن حمل السلاح في وجه النظام الإسلاميّ. فهنا لم يتّبع الإمام قدس سره الطريقة التي يتّبعها الحكّام في مختلف دول العالم، من وضع هؤلاء المتمرّدين في خانة العداء، وإنهاء الأمر عند هذا الحدّ على المستوى النظريّ، ومحاربتهم للتخلُّص منهم على المستوى العمليّ، بل إنّ الإمام قدس سره يرى أنّ هؤلاء هم ضحايا لمجموعة من رؤوس النفاق والكفر، خلطوا لهم الأمور، فلم تتّضح لهم الصورة في كثير من الحالات، ولا بدّ من علاج هذه الحالة حتّى يرجع هؤلاء - وإنْ كان هذا فرضاً بعيداً - إلى حضن الإسلام العزيز.
وقد يقول قائل: إنّ الكلام مع أمثال هؤلاء لا جدوى منه، لأنّهم لن
87
72
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
يسمعوا طالما أنّ هناك حواجزَ وسدوداً في البين، إلّا أنّ الإمام قدس سره ترك ذلك في وصيّته لهؤلاء الذين أبعدتهم الأهواء.
إنّ هذا الكلام ليس من ورائه مصلحة دنيويّة، وإنّما هو لمصلحة هؤلاء الذين يجب أن يأخذوا موقفاً إيجابيّاً في هذا المجتمع الإنسانيّ، إذ إنّ الإنسان الذي يوصي بشيء لن يكون له مصلحة فيما يوصي به كما يمكن أن يتوهّمه بعض الناس بالنسبة إلى ما يفعله في حياته.
والإمام قدس سره يريد من الجميع أن يأخذوا دورهم بإرادتهم، لا أن يعطيهم الآخرون دوراً من خلال عمليّة قسريّة يرغمونهم فيها على فعلٍ معيّن. وهو بهذا ينسجم مع نفسه ومع بقيّة كلماته التي يوجّهها إلى مختلف شرائح المجتمع، حيث يطلب منهم فيها تحمُّل المسؤوليّة.
إنّ هؤلاء الذين يعارضون مبدأ الحكم ونظام الثورة الإسلاميّة يجب أن يضعوا أنفسهم أمام مجموعةٍ من الحقائق، ينبغي لكلّ إنسان أنْ يتفكّر فيها ويتّخذ منها مقياساً للوصول إلى الموقف الصواب.
• احذروا يوم تشهدون على أنفسكم
إنّ هناك يوماً سوف يحاسَب فيه الإنسان على عمله، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشرّ. وإذا كان الإنسان في هذه الحياة يعيش في
88
73
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
خضمّ المصطلحات والمفاهيم، ويخلط فيما بينها، ويدلّس الأمور على الآخرين، فإنّه في ذلك اليوم سوف يشهد على نفسه، وتبقى المبرّرات التي جعلت منه في الدنيا أشبه بكائن مسلوب الإرادة، تبقى مجرّد كلماتٍ لن تنفعه طالما أنّه في قرارة نفسه يعلم بعقمها وعدم جدواها.
• اعرفوا مَن تنقادون إليه
انطلاقاً من ذلك، فأين أولئك الذين سوّلوا للمرء أن يفعل ما هو قبيح في نفسه ومسيء إلى الآخرين؟ أين أولئك الذين كانوا يؤمّنون نوعاً من الحماية في دنياه؟ ها هم أنفسهم يرتعدون خوفاً من عذاب اللّه تعالى.
﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾[1].
فيجب على هؤلاء أن يلتفتوا إلى موقعيّة مَن أسلموا إليه القياد، هل هو يستحق فعلاً أن نضعه في ذلك المقام؟
[1] سورة غافر، الآيتان47- 48.
89
74
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
• المُغرضون استغلّوا ثغراتنا
إنّ أولئك الذين يعادون الثورة الإسلاميّة والنظام الاجتماعيّ الإسلاميّ قد تمكّنوا من الاستفادة من بعض النقاط السلبيّة وجعلوها ذريعة للوصول إلى أهدافهم. ولكن على مَن يسير في فلكهم أنّ يتنبّه إلى الفارق بين إصلاح ما فسد في المجتمع الصالح وبين الإطاحة بذلك المجتمع من خلال ربطه بأدوات الاستكبار العالميّ التي تملأ العالم فساداً.
وإذا تمكن هؤلاء المستكبرون من انتقاء عبارات تدغدغ مشاعر بعض الناس وتثيرهم ضدّ الثورة والنظام، فإنّ هذه العبارات لن تفي بالمطلوب، ولن تصل إلى هدفها غير المعلن في كثير من الحالات إذا تنبه الإنسان إلى موطئ أقدام هؤلاء أين هو، وفي أي قاعدة يعيش هؤلاء؟ ومن أي المنطلقات ينطلقون؟ وإلى أين يلجون وهم يحملون هذه الشعارات المعادية؟
وفي هذه النقطة تسجل مجموعة من الملاحظات الجديرة بالعناية والتدقيق:
• أعداء الثورة مرتهنون للخارج
رغم انطلاق هؤلاء ادعاءً من قاعدة الحرص على المجتمع، إلّا أنّ الواقع الذي بدا بعد ذلك يكذّب ذلك الادّعاء، حيث ثبت أنّ
90
75
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
تبعيّتهم تعود إلى الدول التي حاربت الإسلام والثورة نظريّاً وعمليّاً، فهناك الحرّيّة المعطاة لهؤلاء في أنْ يفعلوا ما يشاؤون في مختلف دول الغرب التي حاربت الإسلام وما تزال، وهناك القواعد العسكريّة المفتوحة لهذه الرموز في العراق الذي شنّ على الثورة الإسلاميّة الحرب في محاولة يائسة لاقتلاع الإسلام المحمّديّ الأصيل باعتراف من الجميع، ولو جاء متأخّراً.
• مواقفهم تفضح ادعاءاتهم
رغم ادّعاء هؤلاء من خلال تركيزهم على بعض الثغرات في داخل المجتمع، أنّهم ينطلقون من خلال أفكار تنسجم مع الدين القَيِّم، إلّا أنّ المتتبِّع لكلمات رموزهم يدرك أنّ المشكلة لا تكمن في هذه الفقرة أو في النظام أو في التطبيق، وإنّما المشكلة تكمن في حاكميّة الإسلام، وهذا ما جعل بعض هؤلاء الرموز يفصحون في أكثر من مناسبة عن هذه الخلفية، ما سبّب صدمة لدى بعض الذين لم يكونوا يعلمون صراحةً أنّهم يدخلون في مواجهة مع الإسلام.
إنّ كلمات الإصلاح يسهل على الإنسان أن يتفوّه بها. وما من حركة موالية أو معارضة في أيّ دولةٍ من الدول إلّا وتدّعي أنّ همّها هو الإصلاح. ولكن العبرة في المواقف العمليّة التي كثيراً ما تدفع المزيَّف إلى الإعلان صراحةً عن حقيقة منطلقاته، كما حصل لهؤلاء المنافقين الذين تستّروا في البدايات، من خلال مجموعة من الشعارات
91
76
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
المؤيّدة للإسلام ظاهراً، ومن خلالها سعَوا إلى السيطرة على بضع ضعاف النفوس الذين انخدعوا بتلك الشعارات، وظنّوا أنّهم يدافعون عن الإسلام. إلّا أنّ هؤلاء المخدوعين يجب أن ينتبهوا إلى حقيقة الذين يخدعونهم، حتّى لا ينطبق عليهم قول اللّه تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[1].
• إنّهم شرُّ الناس
إنّ الذين يطلقون شعارات الإصلاح وهم يحاربون النظام الإسلاميّ، هل هم صالحون في أنفسهم؟ هل يعيش هؤلاء الانسجام بين ما يدعون وبين ما يفعلون؟ أوليس هؤلاء يعيشون الانحراف على المستوى الشخصي؟ إنّ الاستقامة على المستوى الشخصي إن لم تكن دليلاً على استقامة المبدأ فهي - على الأقلّ - مؤشر إلى ذلك، أمّا ونحن نرى أنّ الذين يواجهون مبدأ الثورة الإسلاميّة هم أشخاص يعيشون للملذّات، فينبغي أن يتنبّه المنقادون لهم إلى ذلك، حتّى لا ينطبق عليهم قول أمير المؤمنين عليه السلام المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "... شرّ الناس من باع آخرته بدنياه، وشرٌّ منه مَن باع آخرته بدنيا غيره"[2].
[1] سورة الكهف، الآيتان: 103- 104.
[2] من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص353.
92
77
نصيحة الإمام قدس سره إلى المعارضين
• ميِّزوا الأبرار من الفجّار
يجب على كلّ متتبع لمجريات الأحداث ويريد أنْ يتّخذ موقفاً منها، أنْ يجري عمليّة مقارنة بين شخصيّات هذه الفئة وتلك، وعلى هذا، فليس من الطبيعيّ أن يكون الأبرار الذين تميّزوا بصفائهم وإخلاصهم متساوين أو يقلّون رتبة عن الفجّار الذين يريدون الوصول إلى إرواء شهواتهم بأيّ سبيل.
بمثل هذه المقارنة يسهل على المتتبّع أنْ يتخذ الموقف الموصل إلى الصواب.
• عودوا إلى جادّة الصواب
وأخيراً، فلأنّ باب التوبة مفتوح لكلّ إنسان، فليس هناك يأس من عودة أحد إلى جادّة الصواب، بل المطلوب عودة الجميع ليأخذوا دورهم، ليس لأنّ الحقيقة والصواب يحتاجان إلى هؤلاء الأفراد، بل لأنّ الجميع محتاج إلى ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا مَن أتى اللّه بقلبٍ سليم.
93
78
شعب إيران قدوة الشعوب
شعب إيران قدوة الشعوب
بعد أن بيّن الإمام الخمينيّ قدس سره موقعيّة الشعب المسلم في إيران، وأهمّيّة الدور الذي اضطلع به هذا الشعب، تحدَّث مع طائفة من هؤلاء، وهم الذين انحرفوا عن سواء الصراط.
وفي هذه الفقرات المتقدِّمة، يوصي الإمام قدس سره الشعب المسلم وبقية الشعوب الإسلاميّة، وذلك لأنّ المقام ليس مقام كيل المدائح لهذا الفريق أو ذاك، وإنّما هو تحميل المسؤوليّة للجميع، ليقوم كلّ بدوره في إحقاق الحقّ. وبذلك العمل المتواصل في الواقع، تصل الشعوب إلى القمة، وتكون أهلاً للمديح والثناء. وهذا ما عوّد عليه شعب إيران قادته، وعلى أساسه مدحهم الإمام قدس سره بذلك المديح اللّافت، وها هو يتوجّه إلى الجميع بهذا الخطاب.
95
79
شعب إيران قدوة الشعوب
يقول الإمام قدس سره:
"ولي وصية لشعب إيران الشريف وسائر الشعوب المبتلاة بالحكومات الفاسدة والأسيرة للقوى الكبرى.
أما وصيّتي لشعب إيران العزيز فهي أن تحفظوا وتحرسوا النعمة التي حصلتم عليها بجهادكم العظيم ودم شبانكم الراشدين، اعرفوا قدرها كأعزّ ما لديكم وابذلوا الجهد من أجلها... في هذا الصراط المستقيم فـ ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾...
وأوصي المجلس والحكومة وكل المعنيّين، بأن يعرفوا قدر هذا الشعب ولا يقصّروا في خدمته خصوصاً المستضعفين والمحرومين والمضطهدين الذين هم نور عيوننا وأولياء نعمتنا جميعاً، والجمهوريّة الإسلاميّة إنجازهم...
وأمّا وصيّتي إلى الشعوب الإسلاميّة فهي: اجعلوا حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة وشعب إيران المجاهد قدوة لكم، وإذا لم تستجب حكوماتكم الجائرة لمطالب الشعوب المشابهة لمطالب شعب إيران فأجبروها بكلّ قوة على الاستجابة لذلك، فإن أساس شقاء المسلمين هو الحكومات المرتبطة بالشرق والغرب".
هذه الفقرات من الوصيّة توضّح أكثر فأكثر نظرة الإمام قدس سره إلى حاكميّة الإسلام في مستقبل الأرض، وقدرته على تخليص الشعوب من كلّ الأغلال، وكذلك يتّضح الهمّ الكبير الذي كان يعيشه الإمام قدس سره
96
80
شعب إيران قدوة الشعوب
على مستوى العالم بشكل عام. ونستطيع أنْ نتلمّس في هذه الفقرات مجموعةً من أفكاره قدس سره وتطلّعاته:
• بقاء الحقّ رهن التضحيات
إنّ الثورة الإسلاميّة التي حصلت في إيران لا بدّ من أن تترك أثراً بالغاً على مختلف الشعوب، وذلك نظراً إلى التعاطف القائم بين أبناء الأمّة الإسلاميّة، فإنّ ما يجمع هؤلاء المسلمين على اختلاف مشاربهم أكثر بكثير ممّا يفرّقهم. ولأنّ هذه الثورة صارت صاحبةَ هذا الأثر الكبير، لذلك لا بدّ من أنْ يأخذ أبناؤها دورهم في عمليّة التغيير هذه. والنقطة الأهمّ في هذا، أنْ يبقى التوجُّه إلى اللّه تعالى هو الأساس، وأنْ يقوم هؤلاء بالحفاظ على منجزات الثورة، إذ ليس هذا الانتصار إلّا هدفاً مرحليّاً في عمليّة الصراع مع الشيطان، ولن يكون الصدى الإعلاميّ الذي خلّفته الثورة حين انتصارها كفيلاً بالثبات على مدى الأزمان، فكما أنّ التضحيات التي بذلت فيما سلف هي التي أقامت الحقّ، فإنّ التضحيات أيضاً فيما يلي كفيلة بإبقاء الحقّ قائماً على الدوام.
• ثورةٌ غمرتْها الألطاف الإلهيّة
إنّ انتصار الثورة وأحداثها وأدوارها، وإنْ كانت مقدّماتها بشريّةً، لكنّها تحمل في طيّاتها الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة. وهذا ما
97
81
شعب إيران قدوة الشعوب
يزيد في مسؤوليّة الجميع تجاه الثورة، من خلال التفاعل مع مفاهيم الثورة الإسلاميّة الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة من جهة، ومن خلال حمل الأمانة الإلهيّة المتمثّلة بذلك الانتصار من جهة أخرى.
• الأخطاء للأفراد لا للمنهج
إنّ انتصار هذه الثورة، كما ذكرنا في كثير من الفقرات الماضية، اعتمد على الطاقات البشريّة. وإذا قلنا إنّ ربّانيّة الثورة هي الأساس، فهذا لا يعني أنّ كلّ مفردة من المفردات صارت ربّانيّة، بل إنّ الضعف والجهل البشريَّين لا بدّ من أن يتركا بعض الآثار في عمليّة البناء، ولذلك، فليس مسموحاً أنْ يعتقد الإنسان بأنّ أيّ خللٍ في البناء الإسلاميّ يعني عدم مصداقيّة الإسلام في بعض جوانبه، فإنّ هذه الأخطاء يجب أنْ يتحمّلها العاملون للإسلام، ولا يجوز أن تُحمّل للإسلام المحمّديّ الأصيل. وإذا استطاع الإنسان أنْ يخلص لله تعالى، فإنّ هذه الأخطاء والمشكلات سوف تتلاشى بالتدريج من خلال تنقية القلوب وجعلها مملكةً لله تعالى.
• الشعب المسلم قاعدة الانتصار
إنّ الشعب المسلم هو قاعدة الانتصار، ولم يكن ولن يكون مطيّةً لأحد على الإطلاق. فإنّ الثورات التي حصلت في الأرض قد انتصرت
98
82
شعب إيران قدوة الشعوب
من خلال حركة شعبيّة، ولكن بعد ذلك بدأ الشعب يعيش على أحلام وأمنيّات كان يوعد بها فيما مضى، ثمّ أخذت تحلّ مكانها الغصص والأحزان عندما اصطدمت هذه الأحلام والأمانيّ بأرض الواقع، وبدأت تعيش مجموعة من المنتفعين على مائدة انتصار هذه الثورات، وأصبح أكثر الناس يتمنّون لو بقَوا مع ذلك العهد الذي سلف، بينما في دولة الإسلام لم يكن الحاكمون إلّا خدماً لشعبهم، لأنّ الشعب في حقيقة الأمر يحاسب هؤلاء، وهم يعرفون جيّداً أنّهم ما كانوا ليحلّوا في مواقعهم لولا ذلك الشعب المعطاء.
• إلى الشعوب المسلمة: اقتدوا بثورتنا
إنّ تحول الثورة الإسلاميّة وحكومة الإسلام في إيران إلى نموذج، ليس تكليفاً لأبناء الجمهوريّة الإسلاميّة، وإنّما هو تكليف لأبناء الشعوب الإسلاميّة الأخرى. صحيح، أنّ على عاتق أبناء شعب إيران تكاليف باهظة بسبب هذه الثورة الإسلاميّة، ولكن على الشعوب الإسلاميّة الأخرى النظر إلى ما حصل في هذا البلد لتصل إليه في مستقبلها. فليس التفاعل الإيجابيّ مع الثورة هو بأنْ ندّعي أنّنا نصف أنفسنا معها، بل يكون بالتبنّي الكامل لمفاهيمها والدفاع عنها، وإذا ما تعرضت الشعوب لبعض أسباب الضعف فلتتذكر أنّ ثورة الإسلام قد عانت الأمرَّين لتحقق هذه الأهداف الإنسانيّة الكبرى، ولم يكن هناك أمامها أيّ أمل من خلال الظروف السياسيّة والاجتماعيّة
99
83
شعب إيران قدوة الشعوب
الموجودة. أمّا الشعوب الإسلاميّة فهي- على الأقلّ- قد رأت تجربة هذه الثورة أمامها، وقامت الحجّة عليها، ولم يعد هناك أيّ مبرِّر للتخاذل والاستسلام للأمر الواقع.
• الحكمة واللّين أوّلاً
إنّ استعمال القوّة من وجهة نظر الإسلام يأتي في مرحلة متأخِّرة، فإنّ المطلوب من القواعد الشعبيّة استعمال الحكمة واللّين حتّى مع الأنظمة الجائرة، لعلّها ترتدع عن غيِّها، وبالتالي، تخفّف هذه الشعوب عن أنفسها الكثير من التكاليف الباهظة، وتأتي مرحلة استعمال القوّة في ما بعد عندما تفشل كلّ الوسائل الأخرى. فلا بدّ عندئذٍ من الإطاحة بهذه الأنظمة، بشرط الانطلاق الصحيح من الإسلام الأصيل، ولكن يجب على الشعوب أنْ تحذر وهي تجابه هذا النظام المستبدّ أو ذاك، ولا تكون شعاراتها منافية لعمليّة الاستقطاب لمختلف الشرائح، كما يحصل في بعض الحركات المحسوبة على الإسلام عندما استَعْدَت بعض القوى والفئات التي كان يمكن المسالمة معها.
• الاستكبار أساس الانحراف
إنّ أساس الانحراف في الأنظمة التي تحكم بعض الشعوب الإسلاميّة هو في ارتباطها بالجهات الاستكبارية. وعلى هذا الأساس،
100
84
شعب إيران قدوة الشعوب
فإنّ محاربة هذه الأنظمة يجب أن تنطلق من منطلق محاربة الاستكبار. لذلك، لا يجوز أنْ تفرز نتيجة صراع هذا الشعب أو ذاك مع هذه الجهة الاستكباريّة أو تلك تحوُّلاً في جهة السلطة الحاكمة في هذا الشعب من جبهة استكباريّة إلى جبهة استكباريّة أخرى.
101
85
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
يتابع الإمام قدس سره وصيّته المقدّسة، ويجلي النقاط الواحدة تلو الأخرى. وهو يبني كلّ نقطة على غيرها، فبعد أنْ وجَّه وصيّته إلى الشعوب الإسلاميّة وخاصةً شعب إيران، بوجوب حفظ وحراسة منجزات الثورة بالنسبة إلى الشعب الإيرانيّ، ووجوب خدمة الشعب بالنسبة إلى المجلس والحكومة، ووجوب أنْ تتحوّل الثورة الإسلاميّة في إيران إلى نموذج بالنسبة إلى شعوب العالم الإسلاميّ، بعد ذلك، يعود الإمام قدس سره ويلفت إلى بعض المؤامرات التي كانت القوى الكافرة تقوم بها، لتقويض دعائم المجتمع الإسلاميّ، والتي تعتمد على سياسة التفريق والتشتيت بين شرائح المجتمع الإسلاميّ، بحيث تتحوّل الاختصاصات المتعدّدة إلى مواقع يتواجه فيها أهل هذا الاختصاص مع أهل الاختصاص الآخر. وأبرز عنوان في هذه السياسة الكافرة هو مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة.
103
86
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
يقول الإمام قدس سره:
"من المخطّطات الشيطانيّة للقوى الاستعمارية والاستغلالية الكبرى التي يُعمل على تنفيذها منذ سنوات طويلة وقد بلغت ذروتها في إيران منذ عهد رضا خان وتواصل العمل لتحقيقها في عهد محمد رضا بأساليب مختلفة، مخطط عزل علماء الدين، (وإيجاد) العداوة بين الجامعيين وعلماء الدين. وقد بذلت جهود إعلامية واسعة النطاق في هذا المجال. ومع الأسف فقد حقّقت هذه المؤامرة نتيجة ملحوظة بسبب غفلة الطرفين عن هذه المؤامرة الشيطانيّة للدول الكبرى، فمن جهة حرصوا على اختيار المعلمين والمديرين والأساتذة ورؤساء الجامعات من بين المنبهرين بالغرب أو بالشرق والمنحرفين عن الإسلام وسائر الأديان، وحدّوا من وجود الملتزمين والمؤمنين، لتتمكن الشريحة الأقوى من تسلُّم الحكم في المستقبل، وربّوا الطفل والفتى والشاب بطريقة تجعلهم يشمئزّون من الأديان عموماً والإسلام خصوصاً ومن أتباع الأديان، ولاسيّما علماء الدين والمبلّغين الذين وصفوهم آنذاك بأنهم عملاء الإنكليز والمتحالفون مع الرأسماليين والإقطاعيين والمؤيدون للرجعية والمعارضون للتمدن. وقدموهم للناس على أنهم الجهة التي لا يتحقق الرقي إلّا بالبعد عنها.
ومن جهة أخرى زرعوا عبر الدعايات المغرضة الخوف في نفوس علماء الدين والمبلغين والمتدينين من الجامعة والجامعيين حتّى أصبح هؤلاء يتهمون جميع أولئك بعدم التدين والتحلل ومعارضة شعائر الإسلام والأديان".
104
87
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
يبدو واضحاً من خلال نصّ الوصيّة، مدى الألم الذي كان يعتصر قلب الإمام قدس سره من جرّاء التشرذم الحاصل. وبغض النظر عن مسؤوليّة هذا الفريق أو ذاك عن هذه النتيجة السلبيّة، فإنّ هذه مصيبةٌ من شأنها تبديد القوى وسيادة قيم الكفر والاستكبار على مقدّرات الأمّة.
على أنّ الإمام قدس سره، وهو يركز على هذه النقطة، فإنّه يشير وبشكل واضح إلى نقطة هي مفصلٌ أساسي في وضع الحركة الإسلاميّة، وهي أنّ الحوزة العلميّة تعتبر العقل الموجِّه للمجتمع، وأنّ العلماء والمبلّغين هم الأدوات التي يتمّ تحصين المجتمع من خلالها، ومن هنا، فإنّه يجدر بنا التركيز على النقاط الآتية:
• لا تعارض بين الجامعة والحوزة
إنّ حالة التنافر بين الحوزة والجامعة ليست ذاتيّة، إذ إنّ هذا النتاج العلميّ الحاصل من الجامعة لا يتعارض مع النتاج العلميّ الحاصل من الحوزة، إلّا من خلال الأدوات الخارجيّة التي يهمّها أنْ يذهب كلا النتاجين العلميّين في الهواء، ولا ينعكس أثرهما إيجاباً على هذه الأمّة المظلومة، وكذلك نجد نظام الحكم هو الذي يقوم بعمليّة الفصل والتفريق.
105
88
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
• الحوزة والجامعة: دورٌ تكامليّ
إنّ هناك مجالاً كبيراً للتكامل بين هذه العلوم وتلك، وذلك من خلال أنْ يأخذ كلّ موقعه ودوره في تبديد ظلمات الجهل على مستوى الأمّة، فحيث وجد جهل على مستوى العلوم الطبيعيّة والتطبيقيّة فإنّ النتاج الجامعيّ هو الذي يسعى من أجل تبديد هذا الجهل، كما أنّه إذا كان هناك جهل على مستوى علوم الفقه والقرآن والحديث والسيرة، فإنّ النتاج الحوزويّ هو الذي يقوم بدوره في ذلك المجال.
• الحوزة مُرشدة وموجِّهة
إنّ هناك ميزة للعلوم الحوزويّة عن العلوم الجامعيّة، وذلك لأنّ العلم الجامعيّ هو علم موضوعيّ قد يكون مستخدماً في طريق الشرّ، فليست العلوم الجامعيّة هي التي تحدّد الاتجاه الذي ينبغي أنْ يسير إليه المجتمع، فكما أنّ الذرة- التي هي نتاج علميّ هائل - يمكن أن تكون سبباً في إحداث النفع الكبير للبشريّة من خلال تنظيم جوانب مهمّةجدّاً في الحياة الإنمائيّة والاجتماعيّة، كذلك قد تكون سبباً في تهديم الحياة الإنمائيّة والاجتماعيّة، كما إذا استُعملت القنبلة الذرّيّة للقضاء على دولة ما.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الطائرة التي يمكن أن تكون وسيلةً لرفاهية المجتمع، وكذلك يمكن أنْ تكون وسيلةً للتدمير، كما نشاهد
106
89
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
ونعيش، بينما النتاج الحوزويّ ليس كلّه نتاجاً على هذا المستوى.
صحيح أنّنا قد نجد من يحمل العلم الحوزويّ وهو غير ملتزم به، إلّا أنّ المسار العام للحوزة العلميّة هو مسار تصحيحيّ لهذه الأمّة عندما تتعرّض لأي انحراف.
ومن هنا نقول: إنّ محاربة النظام للحوزة وتحجيم دور الحوزويّين في حدود ضيّقة، يؤثّران أثراً كبيراً في إبعاد الحوزة عن ميدانها الأساسي، وهو أن تكون في مقام المرشد والموجّه لكلّ الإنتاج الفكريّ والعلميّ الذي تقوم به مختلف شرائح الأمّة.
• حربٌ ضدّ الدين لا الحوزة فقط
إنّ التركيز في محاربة الحوزة يهدف - قطعاً - إلى محاربة الدين وجعله بعيداً عن المجتمع، ليخلو الجو لأصحاب المبادئ الفاسدة للعبث بعقول البسطاء، وتقديم مقدّرات الأمّة على طبق من ذهب إلى قوى الاستكبار.
كانت الوسيلة المتّبعة لمحاربة الدين وأهله ترتكز على نعت هؤلاء بالجهل تارةً، وبأنّهم عملاء تارةً أخرى. وهؤلاء عندما يقدِّمون الشاهد على ما يدّعون فإنّهم يبرزون إلى الوجود ما فعلته الكنيسة أيّام تسلُّطها على الغرب الأوروبي، من تجهيل للناس من جهة، وتوطئة الأمور أمام سلاطين الجَور، ليقوموا باستعباد الشعوب، من
107
90
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
جهة أخرى. وليس باستطاعة هؤلاء المتّهمِين للدين أن يقدِّموا شاهداً واحداً على مسؤوليّة الإسلام عن واحدة من المصائب التي حلّت بالأمّة الإسلاميّة، بل إنّ الإسلام وعلماء الإسلام كانوا على طول التاريخ هم السبب في رفع الجهل عن أبناء الأمّة والحيلولة دون استعباد هؤلاء من قِبَل القوى الخارجيّة.
• العلوم الجامعيّة حاجة ضروريّة
إنّ حاجة المجتمع إلى العلوم الجامعيّة هي حاجة ملحّة وضروريّة، ولا يمكن قيام مجتمع متطوِّر إلّا من خلال تلك العلوم. وأما تصور بعض الناس أنّ المجتمع يحتاج إلى العلوم الدينيّة (الحوزوية) وحدها، فهو تصوُّر ساذج، لأنّ الحياة الاجتماعيّة للناس، والتي تحتاج إلى مختلف الوسائل الحديثة، لا يمكن لعلم الفقه أنْ يؤمِّنها من دون الاعتماد على العلوم الحديثة، التي يجب أن تدخل في خدمة المجتمعات مهما تعدّدت مذاهبها.
• الموضوعيّة في النظرة إلى الحوزة والجامعة
ومن هنا، فإنّ هذه النظرة إلى الحوزة، التي نشأت عن محاربة الأنظمة الكافرة لها، هي نظرة خاطئة جدّاً، حيث إنّ الجريمة لا
108
91
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
تكمن في الجامعة وفي العلوم الجامعيّة، بل الجريمة فعَلَها من كان يقف وراء هذه القوى.
لذلك، نرى الإمام قدس سره يدعو إلى الموضوعيّة في النظرة المتبادلة، فكما أنّ أهل العلوم النظريّة والتطبيقيّة في الجامعة يجب عليهم أن ينظروا إلى الحوزويّين نظرةً تنمُّ عن المودّة، لأنّ هؤلاء هم ضمانة الاتجاه والبوصلة التي توجّه المجتمع، فكذلك يجب أن يفعل أهل العلم في الحوزة، حيث يجب أن ينظروا إلى مختلف العلوم على أساس حاجة المجتمع إليها وإلى ضرورة وجودها في بنية المجتمع.
إنّ الخوف الذي يشعر به أهل هذا الفريق أو ذاك، هو الذي يدفع باتجاه أنْ يأخذ هذا الفريق موقعه العدائيّ من الآخر. وعندما تزول أسباب الخوف، فإنّ هذه النظرة العدائيّة تجاه الآخر سوف تتلاشى.
ومن أجل ذلك، على المجتمع أن يفكِّر في هذه النقطة: وهي أنّه بحسب العقليّة السائدة تلك، فإنّ الأمّة الإسلاميّة إمّا حصلت فيما مضى على مجتمع علمائيّ لا علاقة له باللّه، ولا ينضبط بالضوابط المطلوب وجودها في المجتمع التالي، وإمّا حصلت على مجتمع مغلق يخلو من المواقع المتعدِّدة على مستوى الحضارة. وكلا هذين الأمرين خسارة كبرى لهذه الأمّة.
109
92
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
يتابع الإمام المقدَّس في هذا المقطع من وصيّته المباركة كلامه حول الحوزة والجامعة، معلناً لنا أنّ التكامل يجب أنْ يحلّ محلّ التنافر بين الاثنتين، فنحن لا نستطيع العيش ضمن مجتمع تحكمه المسألة العلميّة التي لا تحدِّدها قواعد دينيّة تضبطها من جهة، وتوجِّهُها من جهةٍ أخرى، كما لا نستطيع أنْ نعيش في مجتمع يعيش القواعد العامّة للإسلام التي تحدِّدها الحوزة، ولكنّه لا يعيش تفاصيل حياة المجتمع المدنيّ الذي لا بدّ له من الاستفادة من النتاج العلميّ الذي وصلت إليه البشريّة. إنّ هذه المجتمعات التي لا تعيش هذا، هي ليست مجتمعات دينيّة بالمعنى السليم، فإنّ الإسلام هو دين العلم الذي تعيش فيه مفاهيم الدين الذي يعني الآخرة وشؤونها جنباً إلى جنب مع مفاهيم النظام الذي يعني الحياة الدنيا.
111
93
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
يقول الإمام قدس سره:
"والآن، وبفضل الله تعالى وجهاد الشعب، من عالم الدين والجامعي إلى الكاسب والتاجر والعامل والفلاح وسائر الشرائح والفئات الاجتماعية، وقد فك قيد الأسر وتحطم سد قدرة القوى الكبرى وتم إنقاذ البلد من أيديهم وأيدي عملائهم، فإنّ وصيّتي إلى هذا الجيل والأجيال القادمة هي اليقظة، وليبرم الجامعيون والشباب الراشدون الأعزّاء عقد المحبة والتفاهم مع علماء الدين وطلاب العلوم الإسلاميّة ولا يغفلوا عن الخطط والمؤامرات الشيطانيّة الغادرة، وبمجرد أن يروا شخصاً أو أشخاصاً يبذرون بذور النفاق بينهم - بقولهم أو فعلهم - فليرشدوهم ولينصحوهم وإن لم يؤثر ذلك فليعرضوا عنهم ويعزلوهم ولا يدعوا المؤامرة تمتد وتتجذر، إذ يمكن درء الخطر في بداياته بسهولة، وخصوصاً إذا وجد بين الأساتذة شخص يريد إيجاد الانحراف، فليرشدوه وإن لم يستجب فليطردوه من قاعة التدريس، وهذه الوصية موجهة بنسبة أكبر إلى علماء الدين وطلّاب العلوم الدينية. وتمتاز المؤامرات في الجامعات بعمق خاص وعلى كلّ من الشريحتين المحترمتين اللتين هما عقل المجتمع المفكر أن تحذر المؤامرات".
112
94
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
• الحوزات العلميّة والدور الرائد
من الملاحظ، وبشكل واضح، أنّ الإمام قدس سره وإنْ كان يولي الحوزة العلميّة عنايةً خاصّةً في مختلف أحاديثه وكلماته، وذلك لمجموعة من الأسباب الموضوعيّة، إلّا أنّه لا يقول إنّ الحوزة العلميّة هي السبب الوحيد في انتصار الثورة، بل إنّ المتأمِّل في كلمات الإمام قدس سره يرى أنّه لا يبخس أحداً شيئاً، لأنّ كلّ واحد من أفراد الشعب الذين خرجوا وعبّروا عن موقفهم الرافض للحكم الطاغوتي البائد، كان له دوره في إدارة عجلة الثورة، ليكون الإسلام هو الحاكم في تلك الربوع. فليس هناك في حقيقة الأمر مصادرة لجهود الآخرين، لأنّ حاكميّة الإسلام تتمّ من خلال أنْ يأخذ الكلّ دوره وموقعه في المجتمع الإسلاميّ. فلو كان الحوزويّ هو الذي يقود الصراع وحده، ولم يكن له أنصار على مستوى الحركة الطلّابيّة والعمّاليّة ومختلف الطبقات الاجتماعيّة، لما استطاع أنْ يُحدث حركةً تغييريَّةً في البنية السياسيّة والاجتماعيّة للنظام. نعم، إنّ للحوزات العلميّة دوراً وشأناً في مختلف الطبقات، وذلك لأنّ الحركة التبليغيّة التي قوامها الحوزة هي التي يمكن أنْ تؤثّر في بقيّة مراكز القوى، وليس العكس، لأنّ هذا التأثير لا يجعل من الحوزة بديلاً عن تلك القوى ولا يمكن أن تكون كذلك أبداً.
113
95
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
ومن خلال نصّ الإمام قدس سره يمكن أن ندخل إلى مجموعة من النقاط والحقائق:
• علوم تهدي إلى الآخرة
إنّ مفاهيم الدنيا والآخرة ليست متضاربة ومتناقضة، بل إنّ الدنيا مزرعة الآخرة. وإذا كانت الجامعات والمراكز التعليميّة بثّت في المجتمعات العلوم التي تبني الأنظمة المختلفة، فإنّ هذه الأنظمة التي هي نتاج علميّ صرف، يمكن أنْ تتحوّل إلى طريق للجنّة ورضى اللّه تعالى، كما يمكن أنْ تتحوّل إلى طريق ومعبر لجهنّم وغضب اللّه عزّ وجلّ، وهذا هو المفصل الأساسي بين الإسلام وبين غيره من الأديان والنظم، فإنّ الأديان الأخرى التي تعرضت للانحراف أصبح فيها الجانب الدينيّ معزولاً عن بقيّة الجوانب الأخرى، فهي لا تتدخّل في الدنيا، بل تترك أمر الدنيا لأهلها، وبالتالي، فإنّ الحاضرة الدينيّة تعيش بعيداً عن هموم المجتمع المدنيّ، كما أنّ النظم الوضعيّة التي تعيش الوضع المدنيّ الاجتماعيّ بأبعادٍ مختلفة لا علاقة لها بالدين والآخرة على الإطلاق.
والإسلام الأصيل هو الذي يجعل هذه المسائل بعضها مع بعض، فكم كان للإسلام- كدينٍ- أثرٌ على الحياة العلميّة للمجتمع الإسلاميّ، وبالتالي على البنية الاجتماعيّة والإداريّة لذلك المجتمع. وبالمقابل، كم كان للعلوم في المجتمع الإسلاميّ من أثرٍ في إيصال أبناء المجتمع
114
96
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
إلى الهداية لدين اللّه تعالى والالتزام بحقائق الإسلام على مستوى العقيدة والشريعة والمفاهيم.
• التحصين يحفظ المكتسبات
إنّ المكاسب الكبيرة التي تحقّقت للأمّة الإسلاميّة قد توزعت على مختلف الشرائح الاجتماعيّة. ومن هنا، ننظر إلى المسألة من الزاوية المعكوسة، فأي رجوع إلى الوراء سوف يحصد نتائج هي عبارة عن مفاسد تتوزّع أيضاً على الجميع، ولن يكون هناك في يوم ما مصالح في جانب، ومفاسد في جانب آخر، بل لا بدّ من أنْ نفهم حقيقة الصراع الذي يدور بين الحقّ والباطل، فإنّ غلبة جنود الباطل على حملة الحقّ- إذا صحّ التعبير- لن تقف عند حدود معيّنة، بل سوف تسري إلى أن يغلب الباطل على كلّ مركز من مراكز القوى في داخل الوطن الإسلاميّ، والعكس صحيح، ومن هنا، يجب أنْ يتمّ إنقاذ البلد الإسلاميّ من خلال تحصين مراكزه حتّى لا يستطيع الباطل أنْ ينفذ من خلال ثغرةٍ ما إلى مختلف المواقع. وإذا تمكّن الاستكبار من ذلك، فإنّه يكون قد أطاح بكل المنجزات التي تحقّقت بجهود وجهاد المجاهدين طيلة سنوات وعقود وقرون من الزمن.
وهنا، لا بدّ من القول إنّ الوحدة التي تمكّنت من صنع الانتصار من خلال تضافر القوى، هي الكفيلة بالحفاظ على ذلك الانتصار. وكما كانت القوى المجاهدة يدعم بعضها بعضاً في سبيل تحقيق
115
97
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
الإنجاز، فإنّه يجب أنْ تقوم بالمهمّة نفسها عندما يكون الأمر دفاعاً عن القيم السائدة بعد الانتصار، وذلك لأنّ كِلا الحالتين يمثّل دفاعاً عن قيم الإسلام ومفاهيمه وأعرافه.
• تطهير الصفوف من الشوائب
إنّ أي مركز من مراكز القوى يجب عليه، قبل القيام بتوجيه أيّ نقد للآخرين، أن ينقّي صفوفه من الشوائب، وهذا هو الذي ينسجم مع شريعة الإسلام وأخلاقيّاته. وقد ورد كثير من الآيات القرآنيّة الكريمة والأحاديث الشريفة من أجل بيان هذه الحقيقة. وينبغي للمرء- قدر الاستطاعة- أنْ لا يوجّه النقد للآخرين في حدود حدّدها الإسلام في مصادره، وذلك بعد ملاحظة النقاط الآتية:
أ- إنّ الإنسان على المستوى الفردي والجماعي لديه الكثير من العيوب ومن نقاط الضعف.
ب- إنّ الإنسان على المستوى الفردي والجماعي هو الأقدر على مراقبة عيوبه من الآخرين.
ج- إنّ توجيه النقد إلى الآخرين في الوقت الذي يمر به الإنسان بما ذكرنا، من شأنه أن يلهيه عن معالجة عيوب نفسه.
116
98
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
د- في عمليّة الصراع، هناك كثير من الأشخاص الذين يتسلّلون إلى بعض المواقع ليقوموا بإثارة النعرات ضدّ بقيّة المواقع الأخرى في الأمّة.
وعلى هذا الأساس، يجب التعامل بحذرٍ شديدٍ مع كلّ مَن يوجّه أيّ شيء يمكن أن يثير الآخرين، وهذا ما ينطلق منه الإمام المقدَّس، ليلقي المسؤوليّة على كلّ فريق، ليقوم بإجراء عمليّة تطهير وتنظيف للداخل.
• حافظوا على استقامة الحوزة
إنّ الحوزة العلميّة، في الوقت الذي يعطيها الإمام المقدَّس دوراً كبيراً في إدارة الشؤون العامّةفي البلاد، ويضعها موضع الثقة، نظراً إلى أهمّيّة وعظمة النتاج العلميّ على المستوى الحوزوي من جهة، وإلى أهمّيّة وعظمة العمل التبليغيّ البازغ من الحوزة من جهةٍ أخرى، في هذا الوقت نفسه يحذِّر الإمام قدس سره من الانحراف على مستوى هذه المؤسّسة الخطيرة.
إنّ الحوزة العلميّة هي التي أُوكل إليها مهمّة تقويم المجتمع والفرد. فإذا أصاب الانحراف هذه المؤسّسة، فأي مجتمع إسلاميّ سوف نحصل عليه؟
إنّ فساد العالِم يؤدي إلى فساد العالَم، وهذا ما يجب أن يحمّل
117
99
الإسلام نظام الدنيا والآخرة
طلّاب العلوم الدينيّة ومراجع الدين همّاً كبيراً، لأنّ الأهمّ من العلم والتبليغ هو استقامة مَن يقوم بتحصيل العلم وتبليغ الإسلام إلى الناس.
• ضرورة عدم انحراف الجامعة
إنّ الانحراف الذي يحصل - في المقابل - على مستوى الجامعة، له دور خطير جدّاً أيضاً، وذلك لأنّه يلبس لباس الحضارة والتقدُّم الذي يمكن للجامعة أن تقدِّمه، حيث إنّ بعض الناس يأخذون النتاج الجامعيّ بأكمله ويتلقّفونه على أساس أنّه مزيج من العلوم والحضارات النافعة، بينما في الحقيقة إذا احتوى ذلك المزيج على السموم، فإنّه يحمل في طيّاته آثاراً أشدّ فتكاً، لأنّ السمّ إذا كان معروفاً، فإنّ الإنسان ينفر منه ويبتعد عنه، وليس كذلك إذا كان مخفيّاً، كما هي الحال في الاعتقادات المنحرفة إذا كانت ضمن العلوم الإنسانيّة.
118
100
مرض الانبهار بالغرب
مرض الانبهار بالغرب
بعد أن بيّن الإمام المقدَّس المؤامرات التي حيكت للإيقاع بين الحوزة والجامعة، وأوضح تكامل الإنتاج العلميّ لهما، وأنّه ينبغي أنْ يُنظر إلى المجتمع من زاوية حاجته إلى ما في جملة المؤسّستين معاً، فلن يستطيع الروحانيّ أن يقيم دولة عادلة متحضّرة ما لم يعتمد على ما أنتجته الجامعة العلميّة من نُظُم وبرامج تخدم سياسة المجتمع الإسلاميّ وإدارته واقتصاده، كما لا يمكن أن يتخلّى الجامعيّ عن نتاج الحوزة العلميّة، لأنّها تحمل روح الإسلام وقيمه ومفاهيمه، بل يجب أن يفكر المجتمع بجناحيه معاً ليتمكن من التحليق عالياً. بعد كلّ ما قدّمناه، يعود الإمام قدس سره ليُذكِّر بمسألة في غاية الأهمّيّة، وهي تحذير المجتمع الإسلاميّ من موضوع الانقياد للقوى الكافرة، سواء كانت شرقية أو غربية، ويدخل قدس سره
119
101
مرض الانبهار بالغرب
في تفاصيل دقيقة ينبغي الوقوف عندها، لأنّها تساهم في معالجة المرض من خلال تشخيصها الحالة المرضية، فإنّ من أصابه المرض يجب عليه أولاً الوقوف عند الأعراض التي يسبّبها المرض، ليكون من السهل عليه في ما بعد تشخيص الدواء لما ألمّ به.
يقول الإمام قدس سره:
"من جملة المؤامرات التي تركت - مع الأسف - أثراً كبيراً في مختلف البلدان وفي بلدنا العزيز، وما تزال آثارها قائمة إلى حدٍّ كبير، جعل الدول المنكوبة بالاستعمار تعيش الغربة عن هويتها لتصبح منبهرة بالغرب أو الشرق، فلا تقيم وزناً لنفسها وثقافتها وقدرتها، وتعتبر قطبي الشرق والغرب العنصر المتفوق وقبلة العالم وثقافتهما هي الأسمى... والأدهى من ذلك أن أولئك حرصوا على إبقاء الدول المظلومة المستعمرة متخلفة في كلّ شيء...، بل كان الكتّاب والخطباء الجهلة المنبهرون بالغرب والشرق ينتقدون ويسخرون من ثقافتنا وأدبنا وصناعتنا واختراعاتنا إن وجدت، ويقللون من شأن فكرنا وإمكاناتنا الذاتية ويزرعون فينا اليأس ويروجون بأعمالهم وأقوالهم وكتاباتهم العادات والتقاليد الأجنبية مهما كانت مبتذلة ومنحطة...
أطفالنا إذا كانت أسماؤهم غربيّة فهم فخورون، وإذا كانت محلّيّة فهم خجلون ومتخلّفون، الشوارع، الأزقة، المحلّات، الشركات، الصيدليّات، المكتبات العامّة، الأقمشة وسائر
120
102
مرض الانبهار بالغرب
الأمتعة، كلّ ما ينتج في الداخل فلا بدّ من اختيار اسم أجنبيّ له ليُقبل الناس عليه ويرضوا به.
تقليد الغرب من الرأس إلى القدم وفي كلّ شيء من الجلوس والقيام وجميع مظاهر العلاقات الاجتماعية وجميع شؤون الحياة سببٌ للافتخار والاعتزاز والتمدُّن والرقيّ!
وفي مقابل ذلك، تصبح الآداب والتقاليد المحلية رجعيّةً وتخلُّفاً. عند الابتلاء بمرض ولو كان بسيطاً يمكن علاجه في الداخل يجب الذهاب إلى الخارج وإشعار أطبائنا باليأس... لا أقول إنّنا نمتلك كلّ شيء، فمن الواضح أنهم حرمونا طول التاريخ الحديث، وخصوصاً في القرون الأخيرة، من كلّ تقدُّم...
استيراد البضائع من جميع الأنواع، وإلهاء النساء والرجال، خصوصاً طبقة الشباب، بأنواع البضائع المستوردة من قبيل أدوات التجميل والزينة والكماليات وألعاب الأطفال".
• تكرار التحذير من مؤامرات الشرق والغرب
ولا يخفى على القارئ لهذا النصّ مدى أهمّيّة هذا الموضوع عند الإمام، ولا سيّما أنّ الحديث عن الارتباط بالشرق أو الغرب تكرّر في كلامه.
وفي أكثر من مفصل في وصيّته المباركة، يشير قدس سره إلى الأخطار الناجمة عن هذا الأمر. ونحن عندما نريد أن نتكلّم حول هذا الموضوع،
121
103
مرض الانبهار بالغرب
فإنّنا نأخذ هذا التَكرار بالاعتبار، فالمطّلع على وصيّة الإمام يعلم أنّه قد لفت إلى جملة من الموضوعات سابقاً، فلماذا يكرّر هذا الأمر؟
وفي الجواب، نُلفت إلى أنّ الإمام المقدَّس لا يضع قانوناً ليكون هناك ذكر لبندٍ ما في فقرة معيّنة ليس إلّا، وإنّما يقوم قدس سره بالإيحاء إلى الآخرين. والوصيّة يجب أن يكون فيها أمر ونهيٌ، والأمر والنهيُ يُفهمان من خلال ألفاظ تستعمل في عبارات، ويكون ذلك مفهوماً أيضاً من خلال تَكرار العبارات نفسها بحسب أهمّيّة الموضوع المراد الأمرُ به أو النهيُ عنه. وفي المقام الذي نحن فيه، حيث إنّ الخطر يتهدّد الأمّة الإسلاميّة في مختلف جوانبها، لا بدّ من أن يكون التحذير والإنذار واللّفْت في أوجه، ليكون ذلك أبلغ في التعبير.
هذا، مضافاً إلى أن هناك فواصل بين هذه العبارات، ما يجعلنا ندرك، ونحن نقرأ الوصيّة، أنّ الإمام قدس سره الذي يقول لنا: وحّدوا صفوفكم، وانتبهوا إلى مؤامرات الشرق والغرب، أقيموا دولة الإسلام، وانتبهوا إلى مؤامرات الشرق والغرب... إلى غير ذلك من التوجيهات، يريد أن يوقفنا أمام الحقيقة التي لا بدّ منها، وهي أنّ كلّ ركن من أركان المجتمع والدولة يجب أن يعيش هاجس هذه المؤامرات، فإذا قصّر أولياء الأمور في حمل تلك المهام، فإنّ الخطر يمكن أن يتسلّل من ذلك الثغر إلى بقية ثغور مجتمع الدولة.
122
104
مرض الانبهار بالغرب
وإذا أردنا أن نضع أنفسنا أمام بعض تفاصيل كلمات الإمام قدس سره هذه، فإنّنا نجد المفردات الآتية:
• الشعب هو القيّم والمحاسِب
إنّ الإمام قدس سره، كعادته، يحمّل المسؤوليّة للشعب المسلم.
صحيح أنّ الدولة هي التي توجّه المسار العامّ للمجتمع بمختلف أبعاده السياسيّة والاقتصاديّة والإداريّة، والإمام يوجّه أركان الدولة ليكونوا على حذر من التعبئة السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الإداريّة، وهذا في حدّ ذاته أمر في غاية الأهمّيّة، إلّا أنّ التجربة أثبتت صِحّة كلمات الإمام قدس سره في أكثر من مناسبة، وهي أنّ الشعب قيّم على الأمور، ويجب أن يأخذ دوره في إدارة شؤون الأمّة، إذ إنّ أيّ انحراف لدى حاكم ما، فإنّ الشعب هو الذي يحاسب ذلك الحاكم على المستوى الدنيويّ.
إنّ فعليّة الحكم والنظام لمبدأ ما، تكون عندما يكون الشعب قادراً على إمساك زمام الأمور. ومَن يراقب الشعب المسلم في إيران، الذي أتى "بأبي الحسن بني صدر" رئيساً للجمهوريّة، ثمّ كان قيّماً عليه خلال فترة رئاسته، يعلم كيف استطاع أن يسقطه ويخلعه، عندما علم أنّه يريد تسليم البلاد إلى الأجانب.
123
105
مرض الانبهار بالغرب
• لا تكن عبد غيرك
إنّ الإمام قدس سره الذي يذكُر الشرق والغرب والتبعيّة لكليهما، ويؤكّد على رفض الانقياد لأيٍّ منهما، يدرك مع ذلك أنّ ما لاقته الدولة الإسلاميّة والأمّة الإسلاميّة هو من أمريكا على وجه الخصوص، فلماذا يضع الخطر من التبعيّة لأحدهما مساوياً للخطر من التبعيّة للآخر؟
هنا، علينا أن نلفت النظر إلى عبارة التبعيّة وما تعنيه، فإنّ مظهر المرض لا يكمن في وجود عدوّ يتربّص بنا الدوائر، فهذا أمر طبيعيّ لا تخلو منه أمّة أو دولة، ولكن مظهر المرض يكمن في وجود انشداد داخل الدولة والأمّة باتجاه ذلك العدو. وهنا، نقرأ بوضوح ذلك النصّ الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ولَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وقَدْ جَعَلَكَ اللَّه حُرّاً"[1]. فإنّ الأسر والمهانة لا يكونان إلا عندما يكون لدى الإنسان قابليّة الأسر والمهانة. فكم من الدول والأفراد لا تعيش الأسر الظاهريّ، فالأرض ليست محتلّة، والأفراد ليسوا في السجون، ولكن تعيش الانقياد والتبعيّة لجهةٍ ما، فليس لها من الأمر شيء. وكم من أفراد سجنهم عدوّ، أو أمم احتُلّت أرضهم من قبل ذلك العدوّ، وهم يعيشون الحرّيّة بكلّ أبعادها! فمصدر الخطر إذاً لا يكمن في الآخرين بمقدار ما يكمن في النفس.
[1] نهج البلاغة، من وصية له عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام، ج3، ص51.
124
106
مرض الانبهار بالغرب
• لا لتقليد الغرب مطلقاً
إنّ بعض الأمراض التي تحصل للإنسان قد يتعرّف إليها بسهولة، ولكن هناك جملة من الأمراض تُعرَف بصعوبة من خلال بعض الأعراض. على أنّ الأمراض النفسيّة والروحيّة قد يغفل الإنسان حيالها، فلا يقوم بحركة من أجل القضاء عليها، وذلك لغفلته عن بعض أعراضها، وعدم ربطه بين هذه الأعراض ووجود تلك الأمراض.
إنّ وجود بعض الأسماء التي تشير إلى الغرب، وغير ذلك من الأعراض، قد تكون ناتجة عن سذاجة في التفكير، كما قد يحصل في بعض الأحيان، ولكنّها قد تكون ناتجة عن مرض خطير تغيب معه الثقافة الإسلاميّة حتّى عن التسميات. فإنّ بعض الأشخاص قد يُسمّون اسماً إسلاميّاً أصيلاً، ومع ذلك فهم غير ملتزمين، فلا يكون هناك انسجام بين الاسم والمسمّى، كما في أسماء الأشخاص الذين يُسمّون باسم النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، ولكن مع ذلك يبقى هؤلاء الذين يمارسون هذه الممارسة أقلّ انحرافاً ممّن تنكّر لكلّ شيء يعود بالصلة إلى الإسلام.
إنّ التعلّق بأسماء بعيدة عن حضارتنا وثقافتنا قد يشير إلى مرض خطير، وإنّ تقليد الآخرين في أيّ مظهر من المظاهر قد يعكس التردّي الروحيّ الذي يعيشه الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.
125
107
مرض الانبهار بالغرب
• أصالة للقِيَم لا للتقنية
ممّا لا شكّ فيه، أنّ الغرب تفوّق علينا من خلال الاكتشافات التي ساعدته ظروفه على استثمارها والاستفادة منها، إلّا أنّه يُحكم بعقليّة الآلة، فالآلة والجهاز عنده هو الذي يتفوّق على الآلة والجهاز الذي في أيدينا، أمّا على مستوى القيم، فإنّ الأمر يختلف كلّ الاختلاف. وإذا أردنا أن نعيد الأمر إلى نصابه، فإنّنا نقول: هناك إنسان وهناك اختراع، والاختراع يعمل، سواء أكان الإنسان يحمل قيمةً أم لا، بينما الإنسان لا يكون إنساناً إلّا إذا حمل القيم. وإذا كان بعض الناس يُشْكِلون علينا بأنّنا لا نملك ما عند الغرب - وهذه إشكالية يطرحها المرتبطون بالغرب- فإنّنا نردّ الإشكال على هؤلاء ونقول: إنّ في الغرب قيماً ومفاهيم، وإنّ في الغرب تقنية وتطوّراً، كان ينبغي لكم أن تأتوا لنا من الغرب بالشقّ الثاني، أي بالتطوّر والتقنية، ولكنّكم أتيتم لنا بقيمه المادّيّة ومفاهيمه الهابطة، وإذا بمجتمعنا قد أصبح أسيراً لبعض القيم الهابطة الآتية من الغرب، وبالتالي لم يفلح، بينما من خلال تجربة الثورة الإسلاميّة، فقد تمكنت هذه الثورة المعتمدة على قيم الإسلام الأصيل من أن تكون بمنأى عن أخطار مفاهيم هذا الوباء، وتمكّنت من الحصول - ولو جزئيّاً - على بعض مخترعات ومكتشفات الغربيّين والشرقيّين على حدٍّ سواء.
إنّ الأصالة في المجتمع هي التي تجعل ذلك الاختراع أو الاكتشاف في خدمة الأمّة أو المجتمع، بينما التبعيّة تجعل ذلك الجهاز وسيلة لخدمة الآخرين، وليس لخدمة الأمّة.
126
108
مرض الانبهار بالغرب
• لاقتصاد بقِيَم إسلاميّة
إنّ الحركة الاقتصاديّة للمجتمع الإسلاميّ هي أمر في غاية الأهمّيّة، ولكن قبل أن نفكر في الحركة الاقتصاديّة، فإنّ قيم الإسلام ينبغي أنْ تكون حاكمة على هذا الاقتصاد. قد يستطيع المجتمع الإسلاميّ أن يحصل على مكانة اقتصاديّة مرموقة من خلال صيرورته معبراً للدول المُنتجة، للوصول إلى الدول المُستهلكة، ولكن أي بضاعة هي التي تمرّ في مجتمع الإسلام؟ هنا، ينبغي أنْ نقف عند كلّ تفاصيل الحياة الاقتصاديّة، وينبغي أن تكون الوقفة أقوى وأطول عندما يكون المجتمع الإسلاميّ هو المستهلك لتلك البضاعة. فإذا كنّا نرفض أن نساهم في تضييع المجتمعات الأخرى، فإنّه أولى بنا أن نفكّر في عدم تدمير مجتمعنا الإسلاميّ من خلال مسألتين:
أ- ربط هذا المجتمع وأسرُه بالاقتصاد الأقوى عالميّاً.
ب- إسقاط مفاهيم المجتمع الإسلاميّ إلى مستوى الاهتمامات الشخصيّة التافهة.
وهذان خطران كبيران، كلاهما يعني التبعيّة.
أما بالمعنى الأول، فالتبعيّة الاقتصاديّة هي التي أسرت الأمّة الإسلاميّة طويلاً.
وأما بالمعنى الثاني، فبالتبعيّة الثقافية.. وتبعيّة المفاهيم، وهي أخطر من الأولى.
127
109
الاعتماد على الذات
الاعتماد على الذات
بعد أن بيَّن الإمام قدس سره مخاطر الانقياد إلى القوى الكافرة وحمَّل المسؤوليّة للشعب المسلم، ووجّه أركان الدولة ليكونوا على حذر من التبعيّة السياسيّة والاقتصاديّة، ومن ثمّ بيّن أنّ الخطر من التبعيّة للأجنبيّ لا يكمن في ذلك الأجنبيّ، إنّما يكمن في داخل المجتمع، وبعدما لفت النظر إلى بعض مظاهر التبعيّة، وأنّ أصالة المجتمع هي التي تجعل منه مجتمعاً محصّناً، وبعدما بيَّن أن الحركة الاقتصاديّة في المجتمع الإسلاميّ هي أمر في غاية الأهمّيّة، ولكن لا بدّ من عدم تعارض الحركة الاقتصاديّة مع مبادئ وعقائد الإسلام... بعد هذا كلّه، يلفت الإمام قدس سره إلى أهمّيّة الاعتماد على الذات الذي يتمحور حول مسألة كبرى، وهي الثقة بما عندنا من الخبرات، وهذه المسألة تحتاج إلى مجموعة من المقدّمات التي
129
110
الاعتماد على الذات
يجب أن يحملها الناس بشكل عامّ، وبشكل خاصّ يجب على مسؤولي الدولة أخذها بالاعتبار.
يقول الإمام قدس سره:
"وهنا أوصي الشعب العزيز بكلّ تواضع وإخلاص، وحيث تخلّصتم الآن إلى حدٍّ كبير من كثير من هذه المصائد، وقد هبّ الجيل الحاضر المحروم إلى الفعالية والإبداع. وقد رأينا أن كثيراً من المعامل والوسائل المتطورة كالطائرات وغيرها التي لم يكن بقدرة المتخصصين الإيرانيين تشغيلها أو التعامل معها، وكنا من قبل نمد أيدينا إلى الشرق والغرب ليأتي خبراؤهم لتشغيلها، رأينا كيف أنَّ الحصار الاقتصادي والحرب المفروضة جعلا شبابنا يصنعون القطع التي دعت الحاجة إليها وبكلفة أقل، وكيف تمت عبر شبابنا تلبية هذه الحاجة وأثبتوا أنّنا إذا أردنا فإننا قادرون.فيجب أن تكونوا يقظين كي لا يجركم الساسة المتلاعبون المرتبطون بالغرب والشرق وبوساوسهم الشيطانيّة نحو هؤلاء الناهبين الدوليين وانهضوا بإرادة وتصميم وفعالية ومثابرة لرفع أنواع التبعية، واعلموا أن العنصر الآري أو العربي لا يقلّ عن العنصر الأوروبي والأمريكي والسوفياتي وإذا وجد (العنصر الآري أو العربي) هويته الذاتية وأبعد اليأس عنه ولم يكن له ثقة إلّا بنفسه، فإنه قادر على المدى البعيد على فعل وصناعة كلّ شيء. وما وصل إليه الناس المشابهون فأنتم ستصلون إليه بشرط الاتكال على الله والاعتماد على النفس
130
111
الاعتماد على الذات
وقطع التبعيّة للآخرين وتحمُّل الصعوبات من أجل الوصول إلى الحياة الشريفة والخروج من سلطة الأجانب.
ويجب على الحكومات والمسؤولين، إن في الجيل الحاضر أو في الأجيال القادمة، أن يقدِّروا متخصّصيهم ويشجعوهم على العمل، بالمساعدة الماديّة والمعنويّة، وأن يحولوا دون استيراد البضائع الاستهلاكية المدمّرة، ويتكيّفوا مع الموجود عندهم إلى أن يصنعوا كلّ شيء. وأطلب من جيل الشباب، البنات والبنين، ألّا يجعلوا الاستقلال والحرية والقيم الإنسانيّة، ولو مع تحمُّل المشقّة والألم، فداءً للكماليّات والاختلاط وأنواع التحلل والحضور في مراكز الفحشاء التي أتيحت لكم من قبل الغرب وعملائه غير الوطنيين، فإنّ هؤلاء كما أثبتت التجربة، لا يفكرون في غير إفسادكم وغفلتكم عن مصير بلدكم وابتلاع ذخائركم، وجرّكم إلى قيد الاستعمار وعار التبعية، وجعل شعبكم وبلدكم مستهلكين. إنهم يريدون بهذه الأساليب وأمثالها إبقاءكم متخلفين وعلى حدِّ تعبيرهم أنصاف متوحشين".
• تضافر الجهود والاعتماد على الذات
إنّ الصورة الإجماليّة التي يعطيها هذا النصّ يمكن تلخيصها بالآتي:
إنّ أي مجتمع يمكن أن يعيش ظروفاً كالتي عاشها الشعب المسلم في إيران، وبالتالي، فإنّه يجب عليه الاستفادة من تجربة هذا الشعب
131
112
الاعتماد على الذات
الكريم المعطاء، الذي لم يوجّه لطمة إلى وجه المستكبرين حين الانتصار فحسب، وإنّما بقي يوجّه اللّطمات إليهم على طول المدى، ولا يزال كذلك، من خلال برنامج يعتمد على الذات في الأساس، وهو سرّ الانتصار والاستمرار على حدّ سواء.
وإذا أردنا أن نجري دراسة تقويمية لما حصل بعد الثورة على هذا المستوى، لوجدنا أن الثورة الإسلاميّة قد استغنت عن كلّ ما هو خارجيّ من جهة، وأصبحت من جهة أخرى أنموذجاً تقتدي به الشعوب على امتداد العالم الإسلاميّ. وعلى الرغم من الدعاية المضادّة والإعلام المعادي، فإنّ ما حصلت عليه الثورة الإسلاميّة كان يفوق الوصف. وعلى الرغم من أن النظام البائد لشاه إيران كان قد فعل كلّ ما في وسعه لربط إيران بالخارج، من خلال القضاء على القدرات الداخليّة لهذا الشعب، إلّا أنّ الهمّ الذي حمله أبناء الثورة كان أقوى بكثير من المشقّات المعترضة. وقد نجحت الثورة في هذا المسار، نظراً إلى تضافر كلّ الجهود من أجل انتشال المجتمع ممّا كان يعيش فيه من الحضيض، وتمكنت هذه الجهود من إيصال هذا المجتمع ليكون على قدر الآمال المعقودة عليه.
وهذه المسألة تحتاج إلى جهود لكي تستمرّ، فهي ليست مجرّد شعار يُرفع أو قرار يُتخذ في الأروقة، من دون أن يكون لها واقع عمليّ، بل هي عمليّة شاقّة تستهلك الكثير من الجهود والإمكانيات. ويمكن الوقوف أمام مجموعة من النقاط التي سلّط الإمام قدس سره عليها الأضواء في النصّ المذكور:
132
113
الاعتماد على الذات
• الحاجة أمّ الاختراع
إنّ الأمّة التي تريد أن تصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتيّ، لا بدّ من أن تصل من خلال عنوان أساسيّ هو "الحاجة"، فالحاجة هي أم الاختراع. وما حصل بعد الثورة المظفَّرة من حصار ضدّها على كلّ المستويات، بشكل مبطَّن أو سافر، كان لمصلحة الثورة وأبنائها، وذلك أنّ قسماً كبيراً ممّا يُحظَر بيعه للمجتمع الإسلاميّ ممّا يحتاج إليه المجتمع كان لا يأتي إلّا من خلال حركة تجاريّة تبادليّة، وتتكلّف الدولة الإسلاميّة عليه مبالغ كبيرة... وبالتالي، فالحصار لا يجعل ذلك الغرض خارج الخدمة، بل إنّ الحاجة إليه تزيد. وقد وضع الحصار أبناء الثورة والأمّة أمام استحقاق كبير يجب أن ينجح الجميع فيه، فصار الاختراع وليداً للحصار. وهنا، لا بدّ من لفت النظر إلى أن الحصار ليس سبباً لذلك الاختراع، ولكنّه كشف عن الطاقات المُودَعة في الأمّة. وهنا، لا بدّ من إيصال مختلف إنتاج الأمّة إلى أن يكون حاجة ملحّة، ليكون هناك اختراع وإبداع.
• إنّنا قادرون
إنّ الإبداع ليس صفةً للمجتمع الغربيّ، ليكون التقليد والخمول صفةً للمجتمع الشرقيّ. ولا بدّ من أن يُعلم أنّ انعدام الثقة بالنفس أو بالعرق أو بمطلق الانتماء هو المرض الأخطر، وإلّا فإنّ المؤهّلات الموجودة في أيّ مجتمع يحمل حضارة ما، هي بالنهاية مؤهّلات
133
114
الاعتماد على الذات
بشريّة، فجميع الوسائل الموضوعة في خدمة ذلك المجتمع، والتي تفتقدها المجتمعات الأخرى، هي من صنع الإنسان.
قد يحتاج مجتمعنا إلى وقت طويل ليملك الوسائل المتنوّعة، وقد توضع العراقيل من قبل المتضرّرين لكي يمنعونا من الوصول إلى الأرفع، إلّا أنّ الوصول إلى ذلك المستوى يبقى همّاً ينبغي أنْ يحمله المجتمع، وتكليفاً شرَّف اللّه تعالى الأمّة به.
وما يحصل من انعدام الحيلة من قبل بعض المجتمعات أمام أيّ اختراع يحصل في الغرب، هو سقوط قبل الاستحقاق، وليس له أيّ مبرر على الإطلاق، ولا يجوز أنْ يعيش المجتمع على المستوى الفرديّ أو الاجتماعيّ عقدة النقص أمام الآخرين، مهما بلغ أولئك الآخرون على مستوى القوّة، لأنّهم لم يكونوا في يوم من الأيّام أصحاب قوّة، ثمّ صاروا كذلك عندما تيسّرت لهم بعض السُبُل.
• أبرزوا كلّ طاقاتكم
إنّ الحالة الإبداعيّة في المجتمع قد توجد صدفةً لدى بعض الأشخاص، إلّا أنّه يجب أن نضع نصب أعيننا مسألتين في غاية الأهمّيّة:
أ- إنّ كثيراً من الإمكانيّات والطاقات تكون دفينة لا يصل الإنسان إليها بسهولة، وهي تحتاج إلى عمل كبير من أجل أن تظهر وتبين.
134
115
الاعتماد على الذات
ب- إنّ هذه الإمكانيّات والطاقات إذا برزت، كيف يمكن لنا أن نستفيد منها ونجعل منها طاقات في خدمة الأمّة والمجتمع.
وكلتا المسألتين تكليف للمسؤولين عن إدارة شؤون الأمّة، حيث لا يمكن كشف الطاقات ولا تشغيلها إلّا من خلال هؤلاء.
وكم تحفل المجتمعات الغربية بمجموعات من نوابغ الشرق الذين تكتشفهم - ومع الأسف - الأجهزة الغربيّة، ثمّ تقوم بتشغيلهم والاستفادة منهم لمصالحها!
أوليس بالإمكان اكتشاف هذه الطاقات وتشجيعها من خلال مؤسّسات داخل مجتمعاتنا؟!
إنّ كثيراً من النظم يجب أن يتغير إذا كانت تخالف الحالة الإبداعيّة في المجتمع، ولا يجوز بحال أن نترك هذه الطاقات ضحية لبعض النظم داخل الأجهزة والمؤسّسات.
• بين إعمار الحياة وتدميرها
لا يجوز التعاطي مع كلّ ما يأتينا من الغرب على قدم المساواة مع غيره، بل يجب التفريق والتمييز بين ما هو حضارة والقصد منه دفع عجلة الإنسانية إلى الأمام، كما هي الحال
135
116
الاعتماد على الذات
في الاختراعات الحديثة، كالطائرة وغيرها وما يتعلّق بمختلف اختصاصاتها، وكما هي الحال في المصلحة الصحيّة على مستوى كشف الأمراض ومعالجتها، وكما هي الحال في موضوع الاتصالات بمختلف مظاهرها... وبين ما هو مدمِّر للواقع الإنسانيّ وللمجتمع، وكما هي الحال في البرامج الإعلاميّة التي تخدش الحياء الإنسانيّ، وكما هي الحال في فرض الأساليب التي يسيطر بها إنسان على آخر، أفراداً كانوا أو جماعات، فإنّ هذين الأمرين قد جاءا من الغرب، إلّا أنّ الفرق شاسع بين ما فيه إعمار للحياة، وما فيه تدمير لها.
136
117
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
بعد أن بيَّن الإمام قدس سره أهمّيّة الاعتماد على الذات من خلال التركيز على مجموعة من النقاط، منها عدم انحصار الإبداع بالإنسان الغربيّ، والتفات الدول والمسؤولين إلى ضرورة الاهتمام بالطاقات البارزة في المجتمعات، وإلفات نظر الجميع إلى أهمّيّة الحرّيّة والاستقلال، وما يتطلبه هذا من تحمّل للمشاقّ، وتخلّ عن كثير ممّا هو خارج عن الحاجة الفعليّة، وداخل ضمن الكماليّات، ومنها إساءة الظنّ بما تفعله الدول المستكبرة على مستوى التعاطي مع الدول الضعيفة، حيث تتحوّل هذه الدول إلى فريسة بكل معنى الكلمة للدول المستكبرة التي لا تريد إلّا مصالحها فحسب، بعيداً عن كلّ الشعارات الحضاريّة ظاهراً، التي تُخفي المضمون الخبيث لأولئك المستكبرين، لتجري أقبح عمليّات السلب والنهب
137
118
مؤامرة الفصل بين الحوزة والجامعة
والقتل للأفراد والجماعات على مستوى العالم كلّه بلا استثناء... بعد هذا كلّه، يعود الإمام المقدَّس، في وصيّته، ليتحدث من جديد عن الجامعة والشباب ومراكز التعليم، ولكن هذه المرة ليعالج الأمور من زاوية أخرى.
يقول الإمام قدس سره:
"من مؤمراتهم الكبيرة، كما تقدمت الإشارة وذكرت مراراً، السيطرة على مراكز التعليم والتربية خصوصاً الجامعات حيث إن مقدرات الدول بأيدي خريجيها.
ويختلف أسلوبهم مع علماء الدين ومدارس العلوم الإسلاميّة عن أسلوبهم في الجامعات والثانويّات.
فالخطة مع علماء الدين إزاحتهم عن الطريق وعزلهم إمّا بالقمع والعنف والإهانة، كما جرى في زمن رضا خان وكانت لها نتيجة عكسيّة، وإمّا بالدعايات والتهم والخطط الشيطانيّة لفصل الطبقة المتعلمة أو المتنورة كما هو المصطلح، وقد جرى ذلك أيضاً في زمن رضا خان مقارناً للضغط والقمع واستمر في زمن محمد رضا وإن بدون عنف، إنما بطريقة مؤذية.
وأمّا في الجامعة، فخطتهم حرف الشباب عن ثقافتهم وأدبهم وقيمهم الذاتية وجرّهم نحو الشرق أو الغرب واختيار رجال الحكم من بينهم وجعلهم يتحكمون بمصائر الدول لينفذوا عبرهم كلّ ما يريدون، إلى أن يجرّ هؤلاء البلد إلى الاستباحة والانبهار بالغرب ولا يكون بمستطاع شريحة علماء الدين
138
119
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
أن يحولوا دون ذلك بعد أن تم عزلهم وإحباطهم وجعلهم مبغوضين من قبل الناس.
وهذا أفضل طريق لإبقاء الدول المستعمَرة متخلفة ومستباحة، لأنّه عندها يفرغ كلّ شيء في جيوب القوى الكبرى دون عناء ولا كلفة، ودون أية ضجة في المحافل الوطنيّة.
إنّ من اللازم على الجميع، وحيث يجري الآن إصلاح الجامعات والمعاهد التعليمية وتطهيرها، أن نساعد المتصدين لذلك ونحول وإلى الأبد دون انحراف الجامعات ونعمل وبسرعة على رفع كلّ انحراف نراه، ولا بدّ أن يتحقّق هذا الأمر المهمّ في المرحلة الأولى باليد المقتدرة لشباب الجامعات والمعاهد التعليميّة، فإنّ نجاة الجامعة من الانحراف نجاة للبلد والشعب.
إنّني أوصي جميع الفتية والشبّان أولاً، والآباء والأمهات وأصدقاءهم ثانياً، وبعد ذلك رجال الدولة والمثقفين الحريصين على البلد ببذل الجهد بكل إخلاص في هذا الأمر المهم لحفظ بلدكم من الأذى وتسليم أمانة حفظ الجامعات إلى الجيل القادم. وأوصي جميع الأجيال المتعاقبة أن احفظوا الجامعات من الانحراف والانبهار بالغرب والشرق وصونوها نجاة لأنفسكم وبلدكم العزيز والإسلام الصانع للإنسان. وبعملكم الإنسانيّ الإسلاميّ هذا تقطعون يد القوى الكبرى عن البلد، وتدفعونهم إلى اليأس. حفظكم الله وأعانكم".
139
120
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
• الإمام قدس سره والاهتمام بالجامعة
من الواضح لمن يقرأ هذا النصّ، ويتمعّن في معانيه العالية، أنّ الإمام قدس سره لا يريد تَكرار ما سبق الحديث عنه حول الجامعة والشباب، وإنْ كان التَكرارفي حدّ ذاته ليس معيباً، كما ذكرنا من قبل، ذلك لأنّ الوصيّة ليست عبارة عن بنود قانونيّة تُسجَّل مرّةً واحدة، وإنّما هي إفصاح عن نهج وخطّ يبدو جليّاً من الكلام الذي يكتبه الموصي. وقد يكون التَكرار في بعض الحالات جزءاً من الصيغ التعبيريّة عن الاهتمام الشديد، على أن في الأمر هنا زيادةً على ذلك، إذ عودة الأخطار المحدقة بالحوزة العلميّة أو الجامعة أو المراكز التعليميّة الأخرى، تجعل الأمر يستحق الوقوف عنده.
إنّ المعاهد العلميّة المتنوّعة هي مصدر المفاهيم العامّة في المجتمعات، فإذا كان هذا المنبع ملوَّثاً، كانت المفاهيم التي يصدرها إلى المجتمع مفاهيم مغلوطة، أو حتّى مسمومة. وإذا كان الأمر كذلك، فأيّ أجيال سوف تتربّى على هذه المفاهيم! ولا سيّما إذا أخذنا بالاعتبار أنّ كلّ مقدّرات الدول سوف توضع في أيدي أولئك الذين يتخرّجون من المعاهد التعليميّة المتنوّعة. وهؤلاء حُكماً سوف يمسكون بالمفاصل الإداريّة في المجتمع، فإذا قُدّر لهؤلاء أن يعيشوا الانحراف في المفاهيم، فإنّ المنظومة الفكريّة للمجتمع بأكملها سوف تتعرّض للتحريف. وتبقى مسؤوليّة المجتمع بمختلف شرائحه وطبقاته، هي مقاومة هذا الانحراف:
140
121
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
أولاً: بمنع مثل هؤلاء من الوصول إلى مواقع التأثير.
ثانياً: في معالجة حالات الانحراف إذا ما وصلوا إلى بعض المواقع.
• الارتباط بالاستكبار وراء الحروب المختلفة
إنّ الإمام قدس سره يشير إلى الحالات التي تكمن فيها العلل والأمراض، وهو يفرّق بين المعاهد العلميّة الإسلاميّة والجامعات والمدارس، لأنّ الأسلوب المتَّبَع في محاربة مفاهيم الإسلام في الحوزة والمعاهد الإسلاميّة يختلف عنه في المدارس والجامعات، إلّا أنّ الجامع المشترك بين الأمرين، هو أنّ الارتباط بالمستكبرين هو الذي يقف وراء هذا وذاك. وربّما لذلك جعل الإمام قدس سره هذه الفقرة من الوصيّة مباشرة بعد حديثه عن أخطار الغرب والارتباط به، وضرورة التمسُّك بالقيم الذاتيّة للمجتمع. وحيث إنّ الحوزة والجامعة هما اللّتان تمدّان المجتمع بأدوات الصمود على مستوى المفاهيم، لذلك يركّز الإمام قدس سره عليهما أكثر من مرّة.
إنّ الحرب التي يشنّها الاستكبار على الحوزة تستهدف إزاحة الروحانيّين، وجعل النتاج الحوزويّ بيد مجموعة من العلمانيّين الذين لا يؤمنون بالدين كمحرّك للحياة. وقد اعتمد الاستكبار للوصول إلى هذا أسلوبين:
141
122
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
• قتل وتخويف
أسلوب القتل ومختلف أوجه العنف التي كانت تستهدف التخلُّص ممّن يشكّلون فعلاً حصون الإسلام المنيعة، وتخويف الباقين، وجعل المجتمع يرتعد خوفاً من الوقوف أمام الاستكبار ورجاله.
وقد كان لهذا الأسلوب أثر سلبيّ، لأنّ هؤلاء الذين أرادوا التخلُّص منهم، كانوا يمثّلون ضمير المجتمع بكلّ ما للكلمة من معنى، وليس وجودهم منفصلاً عن وجود كرامة المجتمع وشرفه وعزّته. لذلك، لم يكن له تأثير في تغيير البنية الفكريّة للحوزة.
• الدعاية المضادّة للدين
أسلوب الدعاية المضادّة للدين، التي تثير جوّاً من عدم الانسجام بين الروحانيّين وبقيّة طبقات المجتمع.
وقد مرَّ معنا، في ما مضى، أن كثيراً من الأبواق التي كانت تنطق باسم هؤلاء، كانت تلصق بالإسلام قضايا لا علاقة له بها، لا من قريب ولا من بعيد، وتهدف إلى الإساءة إلى الدين وأهله، كما هي الحال في الكلام عن وسائل السفر وعن النظام الإداريّ، وغير ذلك ممّا يُعتبر من نتاج العصر الحديث، وأنّ الإسلام يحرّمها لأنّه يريد الحفاظ على ما هو قديم... إلى غير ذلك من التهم الظالمة للإسلام.
142
123
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
• إبعاد الجامعيّين عن مفاهيم الإسلام
وأمّا الحرب التي تستهدف الجامعة، فالهدف منها إبقاء أساتذة الجامعة والجامعيّين بعيدين عن مفاهيم الإسلام. وإذا كانت الحرب على الحوزة قد تنتج انزواء علماء الدين، فإنّ هذه الحرب سوف تأتي بالبدائل التي تؤثّر في المجتمع، ولن تكون هذه البدائل بعيدة عن الفكر الذي تنتجه إدارة الاستكبار العالميّ. وبهذا، تستطيع دول الغرب أن تستأثر بالخيرات الموجودة في بلادنا، من دون أن تستعدي في العلن أحداً في الداخل، لأنّ العقلية التابعة للغرب هي التي يراد لها أن تحكم في السياسة والاجتماع والإدارة.
• الأخطار وسبيل دفعها
إنّ الأخطار التي تحدق بالحوزة والجامعة أخطار كبيرة، وإذا كان هناك مخطّط للإيقاع بينهما، فإنّ هناك أخطاراً أخرى تستهدف كلّاً منهما على حدة. وإذا كنّا قد تعرفنا إلى هذه الأخطار، فكيف السبيل إلى دفعها؟
إنّ للحوزة العلميّة مقاماً خاصّاً يجب أن يُحافَظ عليه، من خلال بقاء الحوزة تعيش الاستقلال بكلّ معانيه، لترفد الحالة العلميّة في المجتمع بشتى أنواع المعارف، وبذلك تكون عاملاً مساعداً للفرد والمجتمع ليسير نحو اللّه تعالى. وأمّا الجامعات، فهناك من يقوم
143
124
مؤامرات إفساد الجامعات وحرف الشباب
ببنائها بناءً إسلاميّاً مركّزاً بعد الثورة، ويجب أن تُمدّ يد المساعدة إلى هؤلاء ليقوموا بدورهم في عمليّة البناء. وإذا كان هناك من نقاط ضعف قد نجدها في عمليّة البناء، فيجب أن لا نقف طويلاً عند هذه النقاط، كما يحصل لدى الكثيرين ممّن يوجّهون الانتقاد إلى الثورة الإسلاميّة المظفّرة، ذلك لأنّ تغيير المناهج وجعلها خاضعة للقيم الإسلاميّة، أو في الحدّ الأدنى غير معارضة للقيم الإسلاميّة، أمر صعب يحتاج إلى وقت طويل وإلى جهود كبيرة. وكذلك الحال بالنسبة إلى مختلف المدارس والمراكز التعليميّة.
إنّنا إذا أردنا أن نحصل على النتائج الكبيرة، فإنّ هذا له ثمنه. وليس هناك نتيجة أكبر من صيانة المجتمعات من خلال صيانة الجامعات والمدارس. وهذا ما يحتاج إلى بذل الجهود المضاعفة، وليس إلى كثرة الانتقاد والتركيز على الثغرات الموجودة، لأنّ هذا سوف يحبط جهود أولئك العاملين، أو في الحدّ الأدنى سوف يعيق عملهم.
• الكلّ معنيّ بالمواجهة
وإذا كان الطلّاب هم محطَّ أنظار الغرب المستكبر، وهدف هجماته الشرسة، فليسوا وحدهم معنيّين بالدفاع عن الأمّة بكاملها، فإنّ أهالي هؤلاء الطلّاب هم في وسط المعركة. وكم نرى من الأهالي الذين لا يعنيهم ماذا يفعل أولادهم في الجامعات أو المدارس أو مختلف المراكز التعليميّة! هؤلاء يعتنون فقط بأن يحصل الأولاد على درجة
144
125
المقدّمة
علميّة جيّدة، مع أنّ القاعدة التي ينبغي أنْ تحكم الجميع، هي أنّ القيم أعلى وأرفع درجةً من الرُتَب العلميّة. وإذا كان الأهالي يعيشون مع الأبناء حرارة هذه المسألة، فإنّهم يستطيعون أن يساهموا في الحفاظ على الجامعة والمدرسة والمعهد، لتبقى هذه المراكز محطّات تضخّ الحياة إلى مختلف أرجاء المجتمع، وبالتالي تكون قلاعاً لمواجهة المستكبرين من جهة، ولتحصين المجتمع من جهة أخرى.
145
126
دور المجلس النيابيّ
دور المجلس النيابيّ
بعد أن تحدّث الإمام المقدَّس عن مراكز التعليم، سواء في الجامعة أو الحوزة، وعن الأسلوب الذي اتبعه الاستكبار العالميّ من أجل القضاء على الحوزة والسيطرة على الجامعة، وما يمثِّله ذلك الأمر من خطر على الإسلام.
وبعد أن دعا الإمام قدس سره إلى التحصين الداخليّ في كلّ موقع من هذه المواقع، لأنّ الحصانة الداخليّة هي الكفيلة بعدم التأثير، وإلّا فإنّ البلاد بأكملها سوف تقع فريسة الاستكبار.
وبعد أن دعا الإمام قدس سره مختلف الجهات إلى معالجة هذا الواقع، بَدءاً من التحصين الداخليّ، وانتهاءً بمعالجة الآثار السلبيّة التي تبرز في الساحة بسبب اتجاه فكريّ منحرف أو ما شابه.
147
127
دور المجلس النيابيّ
بعد هذا كلّه، وجّه الإمام قدس سره نظره إلى المجلس النيابيّ، حيث إنّ لهذا المجلس أثراً في غاية الخطورة، وذلك لأنّ كثيراً من القضايا السلبيّة يتحملها النوّاب الذين كانوا في المجلس في العهود التي سبقت الثورة الإسلاميّة، وقد كان هؤلاء يقومون بالتغطية العمليّة لأيّ اتجاه للبلد نحو الاستكبار، حتّى كاد أن يصبح بأكمله في فم ذلك الاستكبار.
كيف يمكن لهذا المجلس أن يشكل بالمقابل ضمانة ليبقى بعيداً عن المخاطر؟
يقول الإمام قدس سره:
"من الأمور المهمّة جدّاً، التزام نواب مجلس الشورى الإسلاميّ، بعد أن رأينا أنّ أضراراً محزنة جدّاً لحقت بالإسلام ودولة إيران من مجلس الشورى غير الصالح والمنحرف منذ الفترة التي تلت "الحركة الدستورية" وحتى عهد النظام البهلوي المجرم، والتي كان أخطرها وأسوأها عهد ذلك النظام المفروض الفاسد، وأيّ مصائب وخسائر فادحة حلت بالبلد والشعب من هؤلاء الجناة التافهين العبيد.
في الخمسين سنة الأخيرة أدى وجود أكثرية مصطنعة منحرفة في مقابل أقلية مظلومة إلى أن تنفذ إنكلترا والاتحاد السوفياتي وأخيراً أمريكا كلّ ما أرادوا تنفيذه على يد هؤلاء المنحرفين الغافلين عن الله ووضعوا البلد على حافة الدمار والفناء.
148
128
دور المجلس النيابيّ
منذ ما بعد "الحركة الدستورية" لم يطبق الدستور في مواده الأساسية، تمّ ذلك قبل رضا خان عبر المنبهرين بالغرب وحفنة من أزلام السلطة والإقطاعيين وفي زمن النظام البهلوي عبر ذلك النظام المجرم وأزلامه والمستعبدين له.
أما الآن، وقد أصبح مصير البلد في أيدي الناس بعناية الله وهمة الشعب العظيم الشأن، وقد انتخب النواب والممثلون من قبل الشعب ودون تدخُّل الحكومة ومسؤولي المحافظات، والمأمول أن يحول التزامهم بالإسلام ومصالح البلد دون أي انحراف، فإنّ وصيّتي إلى الشعب حاضراً ومستقبلاً، وفي كلّ دورة انتخابية، وانطلاقاً من إرادتهم الصلبة والتزامهم بأحكام الإسلام ومصالح البلد، أن يختاروا ممثلين ملتزمين بالإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة، وهم غالباً من بين الفئات المتوسطة والمحرومة في المجتمع، وغير منحرفين عن الصراط المستقيم نحو الغرب أو الشرق لا يميلون إلى المدارس الفكرية المنحرفة، أشخاصاً متعلمين مطلعين على قضايا العصر ومجالات السياسة الإسلاميّة".
• النوّاب: واجبات ومسؤوليّات
من خلال متابعة فقرات هذا النصّ، نرى الإمام قدس سره يضع النوّاب في كلّ زمان ومكان أمام مسؤوليّاتهم، وذلك لأنّ أي انحراف يمكن أن يوجد في المجتمع إذا لم يكن بيدهم منع استمراره، فإنّ بيدهم
149
129
دور المجلس النيابيّ
تسجيل موقف رافض له، وإنْ لم يفعلوا ذلك فلا يوجد مبرر على الإطلاق لوجود هؤلاء في هذا الموقع.
وعلى هذا الأساس، يجب أن نتفهّم حقيقة مهمّة، وهي أنّ الإمام قدس سره لا يخاطب هنا أعضاء المجلس النيابيّ في الدولة الإسلاميّة، بل كلّ من هو موجود في موقع النيابة معنيّ بهذا الكلام، ولا سيّما إذا أخدنا بالاعتبار أن الإمام قدس سره يحمّل المسؤوليّة لكلّ من كان نائباً قبل انتصار الثورة الإسلاميّة.
ولا فرق بين الساحة الإيرانيّة وغيرها من ساحات العالم الإسلاميّ على هذا المستوى. نعم، هناك خصوصيّات موجودة في إيران جعلت الاستكبار يحوك حيالها مجموعة من المؤامرات لتثبيت أقدامه، غير أنّ لكلّ بلد أيضاً خصوصياتِه التي تجعل منه عرضةً لمؤامرات من نوع آخر.
وإذا قُدِّر للثورة الإسلاميّة أن تنتصر، فهذا لا يعني أنّ النوّاب على مستوى الساحة المنتصرة سوف يعيشون الراحة، بل عليهم نفس تلك الواجبات التي كانت سابقاً، مضافاً إلى الحفاظ على المنجزات التي تحقّقت من خلال الثورة، لأنّ الحفاط على الانتصار أصعب من تحقيقه.
وهنا لا بدّ من تسجيل مجموعة من الحقائق الجديرة بالاهتمام على مستوى الساحة النيابيّة:
150
130
دور المجلس النيابيّ
• لنوّاب يعَون مسؤوليّاتهم
إنّ المجلس النيابيّ يفترض أن يضمّ أشخاصاً يَعَونَ مسؤوليّاتهم، فإنّ الإنسان إذا كان نائباً عن إنسان، فإنّ هذا الأمر يحمِّله مسؤوليّة كبيرة، فكيف إذا كان نائباً عن الشعب؟
يجب على النائب إدراك حجم هذه المسؤوليّة والعمل على تحقيق مصلحة هذا الشعب الذي يمثّله.
وقد يكون هو أكثر من غيره علماً بهذه المصلحة، ولذلك، يكون أقدر من غيره على تحقيقها أو العمل على تحقيقها ولو بالحد الأدنى. وليس هناك مصلحة أكبر من أن تكون التشريعات في خدمة حاضر ومستقبل هذا الشعب بحيث تبقى كرامة هؤلاء مصانة من خلال تمثيله لهم.
وليس الوجود في المجلس النيابيّ عبارة عن زعامة تحقّق شيئاً من المكانة المعنويّة للنائب، كما يحصل في كثير من الأماكن، أو أنّها عبارة عن وسيلة لخدمة ميدانيّة فيها نفع مادّيّ لبعض الناس، كما يحصل أيضاً في كثيرٍ من البلاد.
وذلك لأنّ من أراد أن يكون زعيماً فلا يجوز له أن يضحي بمصالح الناس من أجل تلك الزعامة. ومن اعتقد بأن النائب دوره العمل على النفع المادي لبعض الناس فهو مخطئ لأنّ هذا من مختصات الجهات التنفيذية، وأما المجلس النيابيّ فهو للتشريع وحفظ القوانين
151
131
دور المجلس النيابيّ
التي فيها المصلحة الكلية للأمّة بغض النظر عن النفع الجزئي لبعض أوساط هذه الأمّة.
• استقامة النوّاب أمرٌ واجب
إنّ الاستقامة أمر مطلوب في كلّ مورد من الموارد، بغض النظر عن أي تكليف للإنسان، ولكنّها تزداد ضرورة كلّما وقف المرء أمام أي استحقاق، ولا سيّما إذا كان الأمر يتعلّق بالآخرين، لأنّ هؤلاء الذين انتخبوا هذا الشخص لهذا الموقع أرادوا له أن يكون ممثّلاً لهم ولا يمكن له أن يقوم بهذا الدور إلّا إذا جرَّد نفسه من الأهواء، ليصل إلى المرحلة التي يصبح فيها خادماً بالفعل لما انتدب له.
ومعلومٌ أنّ ثمّة إغراءاتٍ كثيرةً لأولئك الموجودين في المجالس النيابيّة، لأنّهم محطّ الأنظار، ومجلسهم له دور خطير في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، فإذا وُجدت ثغرة في بنية هؤلاء العقائديّة أو الأخلاقيّة أو العمليّة، فإنّه من خلال تلك الثغرة سوف تتسلّل شياطين الأرض ليصبح هذا الإنسان خادماً لهم وسائراً بعكس اتجاه مصلحة الناس الذين أوْلَوه عنايتهم، وهذا ما يشكل انتكاسة كبيرة في الحياة السياسيّة للمجتمع، إذ يمكن من خلال ذلك أن لا يستيقظ المجتمع إلّا وقد خسر كلّ مواقع القوّة فيه.
152
132
دور المجلس النيابيّ
• انتخبوا النوّاب بوعي ومسؤوليّة
كلّ ما مرّ معنا هو فيما يتعلّق بالنائب وما هو المطلوب منه، ولكن الأهمّ من ذلك هو أن يتوجّه الخطاب إلى الشعب الذي ينتخب، فلا يجوز أن يقال من قبل هذا الشعب، بعد عقود من الزمن، إنّ أعضاء المجالس كان لهم دور خطير في إيصال البلاد إلى الهاوية، وذلك لأنّ هؤلاء الذين يشكّلون المجلس قد انتُخبوا من قبل أفراد الشعب.
ولذلك، يوجّه الإمام قدس سره الخطاب إلى الناس ويضعهم أمام مسؤوليّاتهم، لأنّ النوّاب قد يُظهرون قبل انتخابهم كثيراً من المواصفات الجيّدة من خلال الشعارات الانتخابيّة، كما هي الحال في مختلف دول العالم، إلّا أنّ هذا لا يلامس الحقيقة، فيبقى المطلوب من أفراد المجتمع البحثُ في المواصفات الفعليّة للمرشح، وعلى أساسها يرجَّح بعض المرشّحين على بعضهم الآخر، وليس البحث في الشعار الانتخابيّ، ليكون ذلك أساساً للاختيار.
إنّ الوعي الذي ذُكر في النقطة الأولى، والاستقامة التي ذُكرت في النقطة الثانية، هما من جملة المواصفات المطلوب وجودها. هذا، وإنْ كان الإنسان أقدر على تشخيصه في نفسه من غيره، إلّا أن الذين يريدون للآخرين أن يمارسوا عنهم دورهم في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، يجب أن يتحقّقوا من وجود هذه المواصفات، كما يفعل الإنسان الذي يريد استنابة شخص في عمل تجاريّ على سبيل المثال، فإنّه يتحقّق من فَهمه ووعيه في حقول التجارة، وكذلك يتحقّق من
153
133
دور المجلس النيابيّ
نُبله واستقامته، وإنْ لم يتحقّق من ذلك، فإنّه لا يقدم على الاستنابة، مع أنّ الاستنابة في المجلس هي أخطر بكثير من الاستنابة الشخصيّة.
• المراقبة الدائمة للنوّاب
إنّ المطلوب من الشعب الذي ينتخب، حتّى لو أحسن الدراسة والاختيار، أن لا يغفل عن المستقبل، وهذا ما لا بدّ معه من المراقبة الدائمة لأولئك النوّاب. ويجب على هذا الشعب الذي انتخبهم، أن يجري دائماً عمليّة تقويم لهم، فهل هم يمثّلونه فعلاً؟ وهل إنّ المصالح التي يسعى إلى تحقيقها من خلالهم قد تحقّقت أم هي في طور التحقُّق؟ وهل إنّ هناك انسجاماً بين ما كانوا يقولون في الماضي وبين ما يفعلون في الحاضر؟
وعلى هذا الأساس، إذا كان هذا الشعب قد أخطأ في التقدير والحساب في المرة الأولى، فإنّه بعد المراقبة والتدقيق والتحقيق، لا يجوز أن يقع مرة أخرى في الخطأ، لأنّ المؤمن لا يُلدَغ من جُحرٍ مرّتين.
154
134
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
بعد أن بيَّن الإمام قدس سره في وصيّته الخالدة مهامَّ المجلس النيابيّ، وكيف ينبغي أنْ تكون عليه صورة النوّاب الذين انتخبهم الشعب، وماذا حصل على يد المجالس النيابيّة القديمة من سوءٍ في التصرُّف أدى إلى وقوع البلاد في كثيرٍ من المهاوي، وبعد أن بيَّن قدس سره أنّ النوّاب يقومون بدور خطير، فإذا أحسنوا فهذا يرجع إلى مصلحة الأمّة، وإذا أساؤوا فإنّ هذا يُنذر بخطر كبير يحيط بالأمّة الإسلاميّة، وبعد أن بيَّن النعم التي أنعم اللّه سبحانه وتعالى بها على الشعب المسلم، الذي استطاع القيام بثورة مظفّرة، طلب الإمام قدس سره من أبناء الشعب أن يحافظوا على الثورة الإسلاميّة، من خلال الالتزام بالانتخابات من جهة، ومن خلال انتخاب أشخاص مؤمنين ملتزمين، من جهة أخرى.
155
135
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
وبعد أن بيَّن الإمام المقدَّس للنوّاب أنفسهم، كيف ينبغي أنْ يواجهوا الواقع، وأنّ مرحلة انتصار الثورة هي الخطوة الأولى، وإلّا فإنّ الأهمّ من ذلك هو الحفاظ على مكتسبات هذه الثورة المظفّرة، وبعد أن طلب الإمام قدس سره من الشعب المسلم أن يراقب النوّاب في عملهم هذا، حتّى لا يكون هناك انحراف للشرق أو للغرب، ولتبقى دائماً الخطوات نحو الأمام، من أجل مصلحة الأمّة وإعزازها.
بعد ذلك كلّه، يعود الإمام إلى جماعة من الناس كان لهم دورٌ كبيرٌ في انتصار هذه الثورة الإسلاميّة المباركة، وهؤلاء هم العلماء الذين ينبغي أنْ يقوموا بدورهم في تثبيت معالم الدين.
ويتوجّه الإمام قدس سره إليهم لا ليقول لهم كلمات المديح والثناء، وإنّما ليحمّلهم المسؤوليّة، كما كان يفعل دائماً في حياته، فإنّه قدس سره، الذي كان دؤوباً على تحميل المسؤوليّة للعلماء وزجّهم في ميدان المعركة في حياته، كان حريصاً على أن تبقى هذه المسائل، بعد وفاته، حيةً في أذهان هؤلاء العلماء.
يقول الإمام قدس سره:
"وأوصي جميع علماء الدين المحترمين خصوصاً المراجع المعظمين أن لا يعزلوا أنفسهم عن قضايا المجتمع مثل انتخاب رئيس الجمهوريّة وممثلي الشعب وألّا يظهروا عدم مبالاة.
كلّكم رأيتم، وستسمع الأجيال الآتية، أن أصحاب الألاعيب
156
136
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
السياسيّة من أتباع الشرق والغرب قد عزلوا علماء الدين الذين وضعوا أساس "الحركة الدستورية" بالمشقات والآلام، وكيف أنّ علماء الدين أيضاً قد انطلت عليهم ألاعيب هؤلاء الساسة المتلاعبين فظنوا أن التدخّل في أمور البلد والمسلمين لا يليق بمقامهم فتركوا الساحة للمنبهرين بالغرب وألحقوا "بالحركة الدستورية" والدستور والبلد والإسلام ما يحتاج تعويضه إلى زمن طويل.
الآن، وقد ارتفعت الموانع بحمد الله تعالى، وتوفّرت أجواء حرّة لمشاركة جميع الشرائح الاجتماعية، فلم يبقَ أيّ عذر، ومن الذنوب الكبيرة التي لا تغتفر التساهل في أمر المسلمين. على كلّ شخص بمقدار استطاعته وبمستوى تأثيره أن يكون في خدمة الإسلام والوطن وأن يحول بجد دون نفوذ عملاء القطبين المستعمرين والمنبهرين بالغرب أو الشرق والمنحرفين عن منهج الإسلام العظيم وليعلموا أن أعداء الإسلام والبلدان الإسلاميّة، وهم القوى الكبرى الناهبون الدوليون، يتغلغلون تدريجياً وبمهارة في بلدنا والبلدان الإسلاميّة الأخرى ويوقعون البلدان طعمة للاستعمار بيد أبناء شعوب هذه البلدان أنفسهم. كونوا متيقظين وعندما تشعرون بأول خطوة تغلغل هبوا للمواجهة ولا تمهلوهم، وإلهكم معينكم وحافظكم".
157
137
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
• مسؤولية العلماء
إنّ المراقب لهذا النصّ المبارك من وصيّة الإمام قدس سره، يشعر أنّه يتوجّه إلى العلماء بتحميلهم المسؤوليّة. وإذا كان هناك بعض الكلمات التي تفوح منها رائحة المديح، فليس ذلك من أجل أن يقفوا عند حدود المدح والثناء، وإنّما ليتجاوزوا ذلك ويصلوا إلى عمق القضيّة. وإذا كان هناك احترام للعلماء، فالاحترام إنّما هو للحالة العلميّة التي يمثّلونها.
وإذا أردنا أن نتمعّن في هذه العبارات، نجد أنّ الإمام قدس سره يطلب من المسلمين كلّهم في أنحاء الأرض كافّة، أن يجعلوا للعلماء دورهم الأساسي. إن جزءاً من المهمّة مطلوب من العلماء، ولكن العلماء وحدهم لا يستطيعون أن يقوموا بالدور، وإنّما على الأمّة أن تساعدهم مرّةً لتأخذ من علمهم ومعارفهم، ومرّةً أخرى لتستفيد من تجربتهم العمليّة، من أجل ترجمة هذا العلم ليتحوّل إلى عمل صالح يُراد به وجه اللّه تبارك وتعالى. والإمام يستعرض هذا التاريخ المليء بالمخاطر، والمشقّات، والصعوبات التي اعترضت طريق العلماء، ليُلفت نظرهم ونظر الأمّة من ورائهم إلى مسألتين أساسيّتين:
أولاً: إنّ اللّه تبارك وتعالى هو الذي نصر، وهو الذي أيّد، من خلال انتشالهم من هذه المخاطر.
وثانياً: إنّ الإمام قدس سره يريد أنْ يقول: إنّ المهمّة لم تنتهِ بعد، وإنّ الإنسان مطلوب منه أن يبقى باستمرار في المواجهة، حتّى يغادر هذه الحياة الدنيا، فعند ذلك تكون مهمّته قد انتهت.
158
138
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
ولا بدّ من الوقوف عند منعطفٍ أساس يشير إليه الإمام قدس سره، وهو أنّ الإنسان، بعنوانه العامّ، يجب عليه أن يكون في خدمة الإسلام وفي خدمة الوطن وأنْ لا يكون هناك في لحظة من اللّحظات أي قعود، لأنّ أي قعودٍ مقابل حركة العدو فهذا يعني أنّ الأمور سوف تصل إلى أخطر ما يمكن أن تصل إليه.
وهنا، نتوقّف أمام مجموعة من الحقائق التي يشير إليها الإمام قدس سره:
• عيشوا هموم الأمّة
إنّ الإمام قدس سره يستنكر أن يكون العلماء بعيدين عن هموم الأمّة. وإنّ المراقب لحياة هذا الإمام قدس سره يرى أنّه كان ألصق الناس بهموم الأمّة، حتّى إذا لم يستطع العالم أن يعين الناس على تجاوز المحطّات الصعبة على المستوى الماديّ، وعلى المستوى الاجتماعيّ، وعلى المستوى السياسيّ، فلا أقلّ من أن يعيش معهم ذلك الهمّ. وهنا، لم يَطلب من العلماء أن يخلصوا الأمّة من الأخطار المحيطة بها، وإنّما طلب منهم أن يعيشوا الهمّ، لأنّ التخلُّص من الأخطار قد لا يكون باليد والمقدور، ولكن عيش الهموم بيد الإنسان وبمقدوره. وإذا كان الإنسان عالماً، فإنّ هذا يزيد حجم المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، وهذه مسألة يُلفت الإمام قدس سره إليها في أكثر من مناسبة في وصيّته الخالدة، كما كان في حياته، فهو يريد من العلماء، ليكونوا قادة الأمّة، أن يعيشوا هموم الآخرين،
159
139
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
لأنّ الإنسان إذا لم يعش هموم الآخرين، فلن يكون في يوم من الأيام قادراً على حلّ مشاكلهم، أو في الحدّ الأدنى مساهماً في حلّها، ولا سيّما إذا أخذنا بالاعتبار أنّ هموم الأمّة وأبنائها لم تكن هموماً شخصيّة، وإنّما كانت هموماً عامّة، وكانت هناك مشكلات كبيرة تعصف بالأمّة ويمكن أن تؤدي إلى زوالها بأكملها، فكان لا بدّ من وقفة من العلماء ليقوموا بذلك الدور القويّ.
• على الأمّة أن تسمع كلمة العلماء
إنّ الإمام قدس سره يقرّر حقيقةً كانت موجودةً فيما مضى، إذ قد عمل العلماء بجدّ ونشاط واجتهاد طيلة فترة طويلة من الزمن، وهم الذين كانوا يضعون القواعد لأي حركة سياسيّة واجتماعيّة يمكن أن تقوم في البلاد. والتاريخ الذي شهدته إيران قبل الثورة كان شاهداً على هذه المسألة، ولم تخلُ مرحلة من المراحل أو عقد من العقود إلّا وكان للعلماء الأبرار دور بارز في الساحة، إلّا أنّ الحقيقة الأخرى التي يقرّرها الإمام قدس سره أنّه كان يأتي هناك مَن يحاول أن يقطف الثمرة. وقطف الثمرة لن يصل إلى أن تقوم الأمّة بوضع أمورها في يد غير العلماء فحسب، فهذه مصيبة، ولكن المصيبة الأكبر أنّه عندما يقطف الخطّ المعادي للعلماء ثمارهذه الحركات والنهضات كلّها، فإنّ ما سوف تحصل عليه الأمّة أن توضع كلّ الأوراق بيد المستكبر، وإذا بهؤلاء يعيدون البلاد إلى حضن المستكبرين، بعد أن كان العلماء الأبرار قد استطاعوا أن يفلتوا هذه الأمّة من براثن الاستكبار العالميّ. وهذه المسألة لها
160
140
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
علاقة أيضاً بالعلماء من جهة، وبالأمّة من جهة أخرى، فعلى الأمّة أن تسمع كلمة العلماء باستمرار، وأنْ تبقى على مقرُبةٍ منهم، وفي الوقت نفسه على العلماء أن يكونوا دقيقين في ولائهم للَّه سبحانه وتعالى، وعليهم أن لا يقعوا في حيل الاستكبار الذي قد يكيل المدح لبعضٍ منهم، ولكنّه يريد منه أن يكون بعيداً عن شؤون الأمّة وشجونها على المستوى المادّيّ، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ، وعلى المستوى السياسيّ.
هذه المسألة تحتاج إلى وعي الأمّة من جهة، وإلى وعي العلماء من جهة أخرى، حتّى إذا اتُّهم هؤلاء العلماء يوماً من الأيام بالتحجُّر، فلا يكون ذلك سبباً في ابتعادهم عن حقيقة الدين وجوهره، وذلك لأنّ المطلوب من الأمّة الإسلاميّة، التي يقودها العلماء، مواجهةُ الاستكبار العالميّ، حتّى ولو كلّفها ذلك أن تُشتم ليل نهار، وهذا ما نراه نحن الآن في هذه الأيام حيث إنّ كلّ ما هو إسلاميّ يحاصَر، ويُتّهم بالإرهاب تارةً، ويُتّهم بالتزمُّت تارةً أخرى... ذلك كلّه، لأنّ الاستكبار العالميّ لا يرضى عن هؤلاء، وهذه حقيقةٌ قرّرها القرآن الكريم: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[1].
• العلماء حصانة الأمّة
إنّ العلماء هم الذين يشكّلون الحصانة التي من خلالها تستطيع الأمّة أن تقف في موقف الوسط ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ
[1] سورة البقرة, الآية: 120.
161
141
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[1]. فهذه الوسطية تحتاج إلى قيِّم، تحتاج إلى إنسان يرعى الشؤون، وليس هناك أحد كالعلماء يستطيع أن يكون كذلك، فالعالم هو الذي يوجّه البوصلة وبشكل دائم ومستمرّ إلى حيث يجب أن تتوجّه، وأي انحراف عن هذه المسألة يجعل قضيّة الإسلام بشكل عامّ في وسط الأمّة معرّضة للخطر.
إنّ العلماء - في نظر الإمام المقدَّس - هم وحدهم ضمانة عدم وقوع الأمّة - عندما تهرب من أحد الأقطاب المستكبرة في الأرض- في حضن القطب الآخر، وذلك لأنّ الناس في كثير من الحالات، بسبب الظلم الذي يمارَس عليهم، قد يهربون من هذا الظالم إلى ظالم آخر، ويقعون فريسة لهذا الظالم الآخر، فيصيبهم، كالمستجير من الرمضاء بالنار. فإذا استطاع الإنسان أن يهرب من ظالم، فعليه أن يحدّد خطاه إلى أين يكون هروبه: أيكون هروبه إلى ظالمٍ آخر، أو يكون هروبه إلى اللّه سبحانه وتعالى؟
العلماء هم القادرون على توجيه بوصلة ذلك الإنسان الهارب، حتّى لا يقع فريسة لذلك الظالم الآخر، كما حصل في كثير من البلاد، ومن بينها أفغانستان، التي أرادت أن تهرب من الظلم الروسيّ في وقت من الأوقات، وإذا بها تقع فريسة للظلم الأمريكيّ، الذي هو أشدّ مرارةً وأكثرُ كيداً.
[1] سورة البقرة، الآية 143.
162
142
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
• دين اللّه لا يقبل المساومة
يتوجّه الإمام قدس سره إلى الجميع، وخاصّة العلماء، بأن يواجهوا الواقع بقوّة وبشدّة، فإنّ المسألة ليست شخصيّة حتّى يستطيع الإنسان أن يتنازل فيها عن بعض الحقوق. باستطاعة أي إنسان على مستواه الشخصيّ أن يتنازل عن ميراث، أن يتنازل عن أيّ حقٍّ ماليّ أو عن أيّ حقٍّ اجتماعيّ، باستطاعته أن يفعل ذلك طالما أنّ الأمر في حدود الشخص، أما عندما يكون الأمر متعلّقاً باللّه تبارك وتعالى، فإنّ الأمر يختلف، وهذا ما يمكن أن يستفيده الإنسان من خلال أكثر من آية في القرآن الكريم، كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾[1]. فإذاً، القضيّة تدور مدار دين اللّه سبحانه وتعالى، فلذلك، الإنسان الذي يريد أن يحمل راية اللّه، وأنْ يخدم دين اللّه سبحانه وتعالى، لا يجوز له أن يتنازل عن أيّ شيء يتعلّق بما يريد أن يقاتل من أجله، لأنّ دين اللّه سبحانه وتعالى لا يقبل المساومة على الإطلاق. وهذا ما كنّا نراه في سيرة الإمام قدس سره، الذي ساومه الكثيرون على أن يتنازل عن جزءٍ من أهدافه، وعن جزءٍ من شعاراته، إلّا أنّه رفض ذلك، لأنّ القضيّة ليست قضيّة شخصيّة ليتنازل فيها عن جزءٍ من المكتسبات، إنّما القضيّة هي قضيّة دين اللّه سبحانه وتعالى الذي ينبغي إعزازه، وهي قضيّة راية الإسلام التي ينبغي ويجب أن تبقى خفّاقة عالية.
[1] سورة الأنفال، الآية 39.
163
143
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
من أجل ذلك لا بدّ لنا من أن نقف، ونحن لا نملك من الأمر شيئاً إلّا أن ندافع عن هذا الدين، ولا يجوز لنا بحالٍ من الأحوال أن نتخلّى عن جزءٍ من هذا التراث، لأنّه ليس تراثاً شخصياً لنا، وإنّما هو واجب ومسؤوليّة ملقاة علينا من قبل اللّه سبحانه وتعالى ولا يجوز لنا بأيّ حالٍ أن نفرط به.
• لا بدّ من المراقبة
يجب على الجميع، ولا سيّما العلماء، أن يكونوا مراقبين، فإنّ الإنسان الذي يعمل قد يعمل بنجاح، ولكن قد يكون العدوّ مخطِّطاً لمؤامرةٍ يريد أن ينفِّذها بعد أن تكون الأمّة قد خطت خطوتها الأولى نحو الصلاح والاستقلال، وإذا بهذا العدوّ يهجم على الأمّة، يريد أن ينزع ويستأصل منها كلّ النقاط التي استطاعت أن تحصدها على مستوى الاستقلال، وعلى مستوى الرفاهية والراحة الاجتماعيّة والسياسيّة. ولذلك، فلا بدّ من المراقبة. وعلى الإنسان أن لا يعتمد على مجرّد إخلاصه وحدَه، فإنّ الإخلاص يُحتِّم على الإنسان أن يكون مراقباً. إن اللّه سبحانه وتعالى يرعى هذه المسيرة بلا شكّ، ولكنّه لا يرعى هذه المسيرة إلّا من خلال حالة من الإخلاص توجد في هذه الأمّة، وتفرض على هذه الأمّة أن يكون أبناؤها جنوداً مجنّدة في طريق إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، والحمد للَّه رب العالميّن.
164
144
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
بعد أن تحدّث الإمام قدس سره عن العلماء وعمّا يجب عليهم أن يفعلوه فيما يتعلّق بالدعوة إلى اللّه تعالى، وبعد أن ذكر أهمّيّة العلماء في قيادة المجتمع وضرورة عدم عزل أنفسهم عنه، لأنّ في ذلك تضييعاً للمجتمع وتضييعاً لدور العلماء.
وبعد أن ذكَّر الإمام قدس سره أولئك الذين انبهروا بالغرب، ولم يطيعوا العلماء بالمخاطر المحدقة بهم، وأنّ هناك تجارب تدلّ على أنّ مَن وضع نفسه في خدمة هؤلاء المنبهرين، فإنّهم لن يوصلوه إلّا إلى خراب دينهم ودنياهم، وبعد أن ذكَّر فئات المجتمع كافّة، وكلّ الأشخاص أن يكونوا على أُهْبة الاستعداد لخدمة الوطن، وبأنّ القوى الكبرى تنتظر اللّحظة التي تتهاوى فيها الدولة الإسلاميّة - لا سمح اللّه - من الداخل حتّى تنقضّ عليها من الخارج، كما وذكّر قدس سره
165
145
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
الجميع بأنّ هؤلاء الذين يتربّصون بنا الدوائر لا يغفلون ليلاً ولا نهاراً.
وبعد أن ذكّر كلّ الذين ينتمون إلى الدولة الإسلاميّة، سواء في مقام الحاكم أو في مقام المحكوم، بأنّه يجب عليهم أن يقوموا بدور المراقبة لكلّ حالة من الحالات التي يمكن أن تتحوّل إلى حالة انحرافية، بدأ الإمام قدس سره من جديد بالحديث عن المجلس النيابيّ ومجلس صيانة الدستور.
وإذا كان الإمام المقدَّس قد ذكر أوّلاً أهمّيّة أن يقوم الناس بانتخاب النوّاب الملتزمين، ليقوموا بخدمة الناس، فهو الآن يذكر دور هذه المؤسّسة في قيادة الحياة السياسيّة على مستوى الداخل، وكذلك الحال في ما يتعلّق بمجلس صيانة الدستور، الذي من خلاله يكون الحديث عن استمرار النظام، لأنّ الذي يجعل النظام مستمرّاً هو استمراريّة القانون والدستور والمؤسّسات التي ترعى ذلك النظام.
يقول الإمام قدس سره:
"وأطلب من نوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ في هذا العصر والعصور الآتية أن إذا تمكّنت لا سمح الله، عناصر منحرفة من فرض تمثيلها على الناس بالدسائس والألاعيب السياسيّة، فليرفض المجلس منح الثقة لهم ولا يدعوا حتّى عنصراً مخرباً عميلاً واحداً يدخل المجلس.
وأوصي الأقليّات الدينيّة المعترف بها رسميّاً أن يأخذوا العبرة
166
146
العلماء والروحانيّون: الدور والمسؤوليّة
من الدورات الانتخابيّة التي جرت في عهد النظام البهلوي ويختاروا ممثليهم من بين الأشخاص الملتزمين بدينهم وبالجمهوريّة الإسلاميّة وغير المرتبطين بالقوى الناهبة للعالم، وغير المنحازين إلى المدارس الإلحاديّة المنحرفة والالتقاطيّة.
وأطلب من جميع النوّاب أن يتعاملوا فيما بينهم بحسن النية والأخوة ولْيَسْعَ الجميع حتّى لا تكون القوانين، لا سمح الله، منحرفة عن الإسلام، وكونوا جميعاً أوفياء للإسلام وأحكامه السماوية لتنالوا سعادة الدنيا والآخرة.
وأطلب من أعضاء مجلس صيانة الدستور المحترم وأوصيهم، إن في هذا الجيل أو الأجيال القادمة، أن يقوموا بواجباتهم الإسلاميّة والوطنية بكلّ دقّة وحزم، وألّا يقعوا تحت تأثير أية سلطة، وأن يحولوا دون القوانين المخالفة للشرع المطهر والدستور دون أيّ اعتبارات، وأن ينتبهوا إلى ملاحظة مصالح البلد التي يجب أن تحقق عبر الأحكام الثانوية تارة وعبر ولاية الفقيه تارة أخرى".
• الجهاد في بناء الدولة والنظام
من الواضح لمن يقرأ هذا النصّ ويتمعّن فيه، أنّ الإمام قدس سره يريد أن يبنيَ حالةً سوف تكون معرّضة للأخطار فترةً طويلةً من الزمن، ولكن هذه الأخطار سوف تُدفع عنها إذا كان لدينا دافع داخليّ يقف في وجهها. وإذا كنّا نريد أن نؤرّخ للثورة الإسلاميّة
167
147
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
على أنّها قويّة ومتينة ومنيعة، فإنّ هذا صحيح، ولكنّه، مضافاً إلى ذلك، يجب أن نلاحظ أنّ الإمام قدس سره يبني نظاماً ودولة. ثمّة إنسان يستطيع أن يؤجِّج ثورة ما، ولكنّه لا يستطيع أن يدفع هذه الثورة في اتجاه هذا الاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ، لتتحوّل إلى نظام.
تحتاج الثورة إلى جهود كبيرة، ولكن ما تحتاج إليه الدولة لتُحقِّق أحلام الثوّار شيءٌ آخر لاحظه الإمام المقدَّس وبنى من أجله هذه المؤسّسات من خلال الشعب وطلب منه أن يكون هو الباني وهو المراقب والمحاسب وهو الذي سوف يرى الآثار الحسنة أو السيئة لهذه المؤسّسات.
• للقيام بالدور المتوجّب
وهنا، عندما يتحدّث الإمام قدس سره عن مجلس النوّاب وعن مجلس صيانة الدستور فإنّه يعطيهما حقّهما الذي يجب أن يُعطى، فلا يجوز أن يُعطى المجلس النيابيّ أكثر من حقّه، ولكنّه في المقابل لا يجوز أن يُسلب حقَّه.
في دول كثيرة من العالم نلاحظ أن مجلس النوّاب قد هُضم حقُّه ولا يقوم هذا المجلس بالدور المتوجّب عليه. ينبغي أنْ يكون هذا المجلس هو المراقب وهو المحاسب، فإذا أعطى الثقة للحكومة
168
148
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
على سبيل المثال فإنّه يراقب هذه الحكومة حتّى إذا أخلّت بما وعدت به أو أخلّ جزء منها بما وعد به جعل ذلك الكلّ أو ذلك الجزء على المحك وحاسب ذلك الكلّ أو ذلك الجزء بما تقتضيه ظروف المحاسبة.
ومن هذه الزاوية نلاحظ أنّ الإمام قدس سره عندما يتحدّث عن المجلس النيابيّ هنا، فإنّه يطلب من الشعب أن يقوم بدوره في عمليّة الانتخابات من جهة ويطلب منه أن يكون هو المراقب من جهة أخرى، وهذا الشعب، سواء انتخب أشخاصاً من ذوي الصفات الحسنة أو من ذوي المواصفات السيّئة، هو الذي سوف يحصد الآثار السيّئة والحسنة لذلك المجلس النيابيّ.
• حتّى تُصان الدولة والنظام
يأمر الإمام قدس سره كذلك في هذا النصّ الجميع بأن يكونوا أصحاب مسلك حسن وأنْ لا تأخذ الخلافات بينهم مجراها لتبقى الدولة وليبقى النظام مصاناً ومحفوظاً. والذي ينبغي الإشارة إليه في نهاية هذا الاستعراض الموجز هو أن لا يكون أحد من هؤلاء، سواء كانوا في المجلس النيابيّ أو في مجلس صيانة الدستور، واقعاً تحت تأثير أيّ قوّةٍ خارجية أو أيّ قوّةٍ تخالف هذا القانون وهذا النظام وهذا الشرع.
169
149
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
ولا بدّ لنا من التوقف عند مجموعة من النقاط:
• أهمّيّة حضور الشعب في الميدان
إنّ الإمام قدس سره يعتمد على الشعب، وهذا الشعب هو الذي برهن أنّه شعب الثورة، وأنّه يتحمّل كلّ المهمّات الصعبة. وهذا ما ثبت من خلال مجموعة من الظروف والأحداث التاريخيّة التي عصفت بالبلاد، سواء قبل انتصار الثورة أو خلالها أو بعد انتصارها، على أن اعتماد الإمام قدس سره على الشعب، له حدوده، فإنّ الشعب هو الذي من خلاله تتمّ عمليّة الثورة، وتتمّ الإطاحة بالنظام البائد، ولكن ليُبنى نظام جديد، فإنّنا نحتاج إلى شيءٍ لا بدّ من وجوده، وهذا الشيء هو المؤسّسات.
إنّ دولةً ليس فيها مؤسّسات سوف تتحوّل إلى دولة أشخاص أو إلى دولة فئات، أمّا الدولة التي تحكمها المؤسّسات فهي دولة مصانة. وإذا كانت هذه المؤسّسات تقوم على أساس الدستور الذي من أجله ثار الشعب، فإنّ هذا الموضوع سوف يكون في غاية الإتقان، وفي غاية المتانة.
إنّ وجود الشعب في الميدان، يجعل الثورة مستمرّة، يجعلها قويّة، ولكن هذه الثورة تحتاج إلى نظام يحقّق أماني الثوّار، والمؤسّسات هي الحلّ. من جملة هذه المؤسّسات "المجلس النيابيّ" و"مجلس صيانة الدستور". وينبغي لنا - هنا - أن نراقب كيف هي حال الإمام قدس سره
170
150
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
عندما كان يتعرّض لبعض الأشخاص الذين يطلبون منه تغيير شيءٍ في دستور الجمهورية الإسلاميّة. لقد كان الإمام قدس سره صلباً في عدم تغيير أي شيءٍ في الدستور وفي النظام باعتباره هو الوليّ الفقيه. كان يرفض دائماً أن يقوم بإجراء أي تعديلٍ للدستور من أجل أن يصل فلان أو فلان إلى هذا المنصب أو إلى ذلك المنصب، لأنّ الدستور قد بُني وَفق الشريعة الإسلاميّة التي يمكن أن تُغيِّر فيه في يومٍ من الأيام، ولكن - أيضاً - فإنّها تُغيِّر في شيء من هذا الدستور، بحيث لا يكون هذا التغيير مخالفاً للدستور، بل إنّه يقوم حتّى هو نفسه على أساس الدستور الإسلاميّ.
ومن هذه الزاوية، عندما يتحدّث الإمام قدس سره عن المجلس النيابيّ، فإنّه يعطيه موقعيّته التي صانها له دستور الجمهورية الإسلاميّة.
• انتخبوا مَن يمثِّل معتقداتكم
إنّ الإمام قدس سره يقرّ بإمكانيّة دخول عناصر منحرفة إلى داخل المجالس. فنحن نعيش على الأرض، ولسنا مثاليّين. نحن لا نبني دولة في السماء. يسعى بعضٌ إلى أن يبنوا دولةً غايةً في المثاليّة، هذه الدولة لا وجود لها. إذا شاء الإنسان أن يتحدّث عن واقع، فالواقع يقول إنّ هناك أشخاصاً مؤمنين، وفي المقابل هناك أشخاص منحرفون، هؤلاء لهم وجودهم أيضاً. هناك أشخاص يؤثّر فيهم المال والإعلام. مثل هؤلاء الأشخاص سوف لن ينتخبوا أشخاصاً مؤمنين، وإنّما سوف
171
151
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
ينتخبون أشخاصاً ينتفعون منهم في بعض المواضيع، قد يتأثّرون بمال هؤلاء كي ينتخبوهم، وقد يتأثّرون بالإعلام الذي رافق هؤلاء في حملاتهم الانتخابيّة.
على الجميع - من وجهة نظر الإمام قدس سره - أن يلتزموا بانتخاب من يُمثِّل معتقداته. وهذا ما يتساوى فيه الجميع، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وذلك لأنّ مصداقية المرء مع معتقده هي التي تجعل منه ممثّلاً صالحاً. وعلى العكس من ذلك، فإنّ المرء إذا كان منحرفاً على مستوى العقيدة التي ينتمي إليها، فلن يكون ممثّلاً صالحاً، وهذا ما تُثبته التجارب.
ومن هذه الزاوية، يتحدّث الإمام المقدَّس مع اليهود والنصارى الموجودين داخل أراضي الجمهورية الإسلاميّة، ولهم حقُّ الترشُّح ولهم حقُّ الانتخاب، بل عليهم واجب الانتخاب. مثل هؤلاء الأشخاص ينبغي لهم أنْ ينتخبوا أشخاصاً ينتمون إلى معتقدهم، لأنّهم إذا انتخبوا أشخاصاً منحرفين عنهم على المستوى العقائديّ، فسوف لن ينالوا من هؤلاء الأشخاص خيراً على الإطلاق.
• لعدم تسلُّل المنحرفين إلى المجالس
إنّ ضمانة عدم تسلُّل المنحرفين إلى داخل المجالس هي تلك المجالس نفسها، وذلك لأنّ المؤسّسة القويّة التي تقوم على أساس
172
152
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
الدستور الإسلاميّ، كفيلة بإبعاد مثل هؤلاء المنحرفين عن الوصول إليها. إنّ أيّ نظرة إلى المجالس الضعيفة في البلدان الضعيفة، تُظهر لنا إمكانيّة أن يتسلّل أشخاص في غاية الانحراف إلى المجالس النيابيّة، والسبب هو ضعف البنية التي ينتمون إليها. أما إذا كانت بنية النظام والمجلس قويّة، فلن يكون داخل المجلس إلّا الأشخاص الأقوياء الذين يحقّقون طموحات الناس، أو الذين يحاولون تحقيق طموحات الناس إنْ لم يستطيعوا تحقيقها بالفعل. إنّ المؤسّسة الضعيفة سوف تفسح المجال أمام الأشخاص المنحرفين للدخول إليها، بينما المؤسّسة القويّة هي التي تجعل من نفسها حصناً لا يتسلّل إليه، إلّا مَن كان - فعلاً - قويّاً ومتماسكاً ومرتبطاً بهذه المؤسّسة.
• مراعاة مصلحة الأمّة الإسلاميّة
إنّ جزءاً من الأحكام الإسلاميّة الواضحة التي لا غبار عليها ولا شكّ فيها، كان واضحاً حتّى قبل انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة، إلّا أنّ ثمّة مجموعة من القضايا التي تحتاج إلى إعمال نظر أكثر من غيرها بكثير، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هناك أحكاماً أوّلية، وهناك بالمقابل أحكام ثانويّة. الأحكام الأوّليّة هي التي نزلت وكانت غير مرتبطة بأحداث معيّنة، أمّا الأحكام الثانويّة فهي الأحكام التي تصدر في حالة يمرّ المجتمع الإسلاميّ فيها بظروف استثنائيّة.
قد تقتضي مصلحة الأمّة الإسلاميّة - كما يعبِّر الإمام قدس سره - في مورد
173
153
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
من الموارد أن يُهدم مسجدٌ من أجل مصلحة كبرى للمجتمع وللبلد الذي كان فيه هذا المسجد. نعم، قد تقتضي المصلحة ذلك.
الحكم الأوّليّ هو عدم جواز هدم المسجد، إلّا أنّ الظرف الاستثنائيّ، كما إذا اقتضت مصلحة الأمّة الإسلاميّة هدم المسجد، يُجوِّز ذلك. وعليه، ينبغي أنْ تراعى ظروف مصلحة الأمّة الإسلاميّة في الأحكام الثانويّة، لا أن نعدل من الحكم الأوّليّ إلى الحكم الثانويّ كيفما اتفق.
والأمر الثاني الذي يشير إليه الإمام قدس سره هنا، في هذا المجال، هو أنّ ولاية الفقيه ليست عبارة عن قيام الفقيه بقراءة الرسالة العمليّة وتطبيق هذه الرسالة.
ثمّة أشياء قد ينظر إليها الفقيه على أنّها ضرورة كبرى للأمّة الإسلاميّة، ويقوم هذا الفقيه نفسه بمخالفة ظاهرة لحكم من الأحكام الإسلاميّة الأولية، إلّا أن هذه المخالفة ليست مخالفة في الواقع، لأنّ هناك مصلحة كبيرة للأمّة الإسلاميّة جرّاء ذلك. وهذا ما يمكن أن نتلمسه في الأحكام الجهاديّة التي بثّها الإمام قدس سره، حيث إنّ هناك عمليات عسكريّة، على سبيل المثال، إذا قام بها بعض المؤمنين، ستنعكس نتيجتها سلباً على مجموعة من الأشخاص الذين لا علاقة لهم بما يجري على مستوى الساحة العسكريّة، فقد يقول قائل إنّ هذا من باب إلقاء النفس في التهلكة، إلّا أن الإمام المقدَّس يرى أنّه يجب على هؤلاء أن يقوموا بذلك العمل مهما بلغت
174
154
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
انعكاساته، لأنّ مصلحة مواجهة ذلك العدو أقوى بكثير من مفسدة أن يقتل بعض الناس، طالما أنّ هؤلاء الذين قُتلوا سوف يقتلون، بل سوف يقتل أضعاف عددهم، ولكنّهم سوف يُقتلون في ظروف تمرّ معها الأمّة بشتّى أنواع الذلّ والانكسار. فنحن نقدّم عدداً أقلّ من الضحايا والشهداء، ولكن مع عزّة هذه الأمّة. هذه المسألة موكولة إلى الوليّ الفقيه الذي يبقى له الحقّ في أن يتصرف كما يشاء، لأنّ هذا الوليّ الفقيه إنّما أوصلته تلك الجماهير ليكون آمراً ناهياً، فهو يستمدّ سلطته - أيضاً - منها.
• الشعب أخرج الولاية من القوّة إلى الفعل
إنّ مجلس صيانة الدستور، وبقيّة المجالس التي تأخذ سلطتها من الشعب، هي في الواقع تأخذ سلطتها من اللّه سبحانه وتعالى. الشعب هو الذي أخرج هذه الولاية من القوّة إلى الفعل، فإذا لم يوجد شعب يعطي الولاء لهذه المجالس، فإنّ ولاية الفقيه بذاتها وما يتفرّع عنها تبقى كلاماً في الكتب، وتبقى مجرّد حروف متناثرة هنا وهناك. الشعب هو الذي يعطي هذه القيادات الفعليّة، لا نقول إنّه يعطيها الشرعيّة، فإنّ شرعيّة هذه المجالس مستمدّة من اللّه سبحانه وتعالى. وبالتالي، فعلى هؤلاء الذين يعيشون في تلك المجالس، مضافاً إلى خدمة الناس، لأنّها واجبهم، وهو واجب شرعيّ من اللّه سبحانه وتعالى، أن يراقبوا دائماً القوانين، فلا يجوز أن يخالفوها على الإطلاق،
175
155
دور المؤسّسات التشريعيّة في قيادة الحياة السياسيّة
لأنّ هذه القوانين وحدها هي التي تحفظ استمراريّة هذه المجالس، وأيّ انحراف على مستوى القانون بالنسبة إلى هذه المجالس قد يبقيها ظاهرة على شكلها، ولكنّها في الواقع تكون خاوية من حيث المضمون.
إنّ القانون هو الذي يعطي لهذه المجالس مضمونها، وهذا ما يريد الإمام المقدَّس في أكثر من مورد أن يقوله للناس، وهو الذي يبرز من خلال كلمات الإمام قدس سره، وخصوصاً في العهد الأول لانتصار الثورة الإسلاميّة المباركة.
176
156
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
بعد أن بيَّن الإمام قدس سره أهمّيّة المجالس التشريعيّة، وبعد أن حذَّر من دخول العناصر المنحرفة وضرورة الحذر من قبل كلّ فردٍ من أفراد الشعب، وبعد أن أوصى كلّ التجمعات الشعبيّة بأن تنتخب اللّائقين بهذه المجالس، وبعد أن طلب من جميع النوّاب والممثّلين غيرهم أن يكون سلوكهم حسناً حتّى لا يكون هناك أيّ مجال لدخول المنحرفين، وبعد أن طلب الإمام قدس سره من مجلس صيانة الدستور أن يقوم أفراده بواجباتهم بدقّة، حتّى لا يقعوا تحت تأثير أي قوّة من القوى، وحتّى لا تكون القوانين مجرّد بنودٍ على صفحات الكتب وليس لها اعتبار، بعدهذا كلّه، يعود الإمام قدس سره إلى الشعب ليحثَّه على المشاركة في الانتخابات، وإعادة هذا الكلام ليس لمجرد التَكرار، وإنّما لتثبيت الفكرة حيث ينبغي أنْ
177
157
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
تتّخذ هذه المسألة أولويّة عند الكلام في السياسة أو الاجتماع أو ما شابه ذلك.
يقول الإمام قدس سره:
"ووصيّتي إلى الشعب (الإيراني) الشريف أن يكون حاضراً بقوّة في جميع الانتخابات، سواء انتخاب رئيس الجمهوريّة أو نواب مجلس الشورى الإسلاميّ أو انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد، وأن تكون الانتخابات وفق الضوابط المعتبرة، وليعلموا إنّه إذا حصل تسامح في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد ولم يتمّ انتخاب الخبراء وفق الموازين الشرعيّة، فمن المحتمل جدّاً أن تلحق بالإسلام والبلد خسائر لا تُعوَّض، وعندها يكون الجميع مسؤولين أمام الله تعالى.
على هذا الأساس، فإنّ عدم مشاركة الشعب، من المراجع والعلماء الكبار إلى التجار والكسبة والفلاحين والعمال والموظفين، والذين هم مسؤولون عن مصير البلد والإسلام سواء في هذا الجيل أو الأجيال القادمة، فإن عدم مشاركتهم وتسامحهم قد يكون ذنباً من أكبر الكبائر، لا سيّما في بعض الظروف.
إذاً، يجب علاج الواقعة قبل وقوعها، وإلّا فلن يكون بوسع أحد أن يفعل شيئاً، وهذه حقيقة لمستموها ولمسناها بعد "الحركة الدستورية". ولا يوجد أي علاج أنجع وأفضل من أن يقوم الشعب في جميع أنحاء البلاد بأداء تكليفه وفقاً للضوابط
178
158
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
الإسلاميّة والدستور وبالتشاور مع الطبقة المتعلمة الملتزمة والمثقفة المطلعة على مجاري الأمور، المشهورة بالتقوى والالتزام بالإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة، وغير المرتبطة بالدول الكبرى المستعمرة، وبالتشاور مع علماء الدين العارفين المتقين الملتزمين بالجمهوريّة الإسلاميّة.
ولينتبه الجميع إلى أن يكون رئيس الجمهوريّة ونواب المجلس من طبقة عاشت محرومية مستضعفي المجتمع ومحروميه ومظلوميتهم وممن يعملون على تحقيق رفاهيتهم، لا من الرأسماليين والإقطاعيين، الساعين إلى الوجاهة والشهرة والمترفين الغارقين في ملذاتهم وشهواتهم الذين لا يستطيعون إدراك مرارة الحرمان ومعاناة الجائعين والحفاة.
ويجب أنْ نعلم أنَّ كثيراً من المشكلات لن تحدث، كما يمكن التخلص من كثير منها إذا كان رئيس الجمهوريّة ونواب المجلس أكفياء وملتزمين بالإسلام وحريصين على بلدهم وشعبهم، وهكذا الأمر وبنحو أكثر أهمية في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد، فالخبراء إذا انتخبوا من الشعب بمنتهى الدقّة وباستشارة المراجع العظام في كلّ عصر وعلماء الدين الكبار في جميع أنحاء البلاد والمتديّنين، ووصل إلى مجلس الخبراء أفراد متديّنون وعلماء ملتزمون وتمّ تعيين أكثر الشخصيات كفايةً والتزاماً للقيادة أو شورى القيادة فسيكون بالإمكان منع وقوع كثيرٍ من المشاكل والمعضلات أو أنها تعالج بسهولة.
وبملاحظة الأصل التاسع بعد المائةوالأصل العاشر بعد المائة
179
159
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
من الدستور ستتضح مسؤوليّة الشعب الخطيرة في اختيار الخبراء، ومسؤوليّة الخبراء في تعيين القائد أو شورى القيادة، ومدى الضرر الذي يلحقه بالإسلام والبلد والجمهوريّة الإسلاميّة، أقلّ تساهل في الاختيار، بحيث إنّ احتمال هذا الضرر الذي هو في غاية الأهميّة، يرتِّب تكليفاً إلهيّاً على الجميع".
• الشعب والدور الكبير
عندما نطَّلع على هذا النصّ، نلاحظ بوضوح المسألة التي يركّز عليها الإمام قدس سره في أكثر من مناسبة، وهي دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس. ولكن، عندما نرى الإمام قدس سره يذكِّر الشعب، في أكثر من مناسبة، قبل الانتخاب وبعده وعنده، وقبل الثورة وعندها،وفي جميع أدوار الحياة، نلاحظ أنّه قدس سره يعطي للشعب هذا الدور الكبير، وذلك لأنّنا قلنا فيما مضى إنّ الإمام قدس سره ينظر إلى أنّ الشعب هو الذي يعطي فعليّة الحكم. وإذا كان بعضهم ينظر إلى الشعب على أساس أنّه هو الذي يعطي الشرعيّة، فالإمام يقول إنّ الشرعيّة من اللّه سبحانه وتعالى، ولكن هذا الشعب هو الذي يعطي الفعليّة،بحيث لو لم يكن الشعب في الميدان، ولم يكن حاضراً لأنْ يبذل، ويُقدّم، ويساهم في عمليّة البناء، فإنّ كلّ شيء يكون حبراً على ورق، ولا فاعليّة له على الإطلاق.
إذاً، الشعب هو الذي يعطي الفعليّة والفاعلية لأيّ حركة سياسيّة
180
160
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
واجتماعيّة. وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، نرى أن الإمام قدس سره يركِّز على هذه المسألة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وذلك لأنّه قبل انتصار الثورة كان يخاطب الكتلة المعنيّة بكلامه مباشرةً أكثر من غيرها، أما بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة، فإنّ كلّ فردٍ من أفراد الشعب معنيٌّ بذلك، وذلك كأنّ الحكومة هي حكومة البلد الذي يشمل هذه المجموعة الكبيرة من الطبقات الشعبيّة. فكلّ فرد وكلّ طبقة من هذا الشعب معنيّة بكلام الإمام قدس سره، وهذا هو الفرق بين الدولة والثورة. الذين يقومون بالثورة هم مجموعة من هذا الشعب تؤثّر على غيرها، وقد يكون هناك جمع كبير من الناس لا علاقة لهم بالأحداث. وأما عندما نفكر في الدولة، فإنّنا نأخذ بالاعتبار حاكميّة هذه الدولة على جميع الطبقات الشعبيّة، وبالتالي، فإنّه عندما نفكر في قانون من قوانين الدولة، فإنّه يُطلب من كلّ عنصرٍ من عناصر هذا الشعب وهذه الأمّة أن يكون له رأيُه ودورُه في هذه العمليّة. وهنا، لا بدّ لنا بعد ملاحظة نصّ الإمام قدس سره من تسجيل النقاط التالية:
• المؤسّسات قوام الحكم
إنّ الحكم كان يقوم على أساس المؤسّسات، ولا يقوم على أساس الأفراد، وهذا ما كان يركّز عليه الإمام قدس سره كثيراً في حياته، وأراد لهذه الدولة أن تُبنى على أساسه، وذلك لأنّ البناء على المستوى الفرديّ
181
161
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
سوف يتزلزل بتزلزل فردٍ أو مجموعة أفراد، أمّا إذا بنينا مؤسّسة، فإنّ الأمر يختلف عن ذلك.
هذه المسألة، وإنْ كانت واقعيّة في الثورة الإسلاميّة، إلّا أنّنا نسجّل أنّ الإنسان الذي يريد أن يبني مؤسّسة أو دولة على أساس المؤسّسات، يضع في حسابه احتمال الخطأ في هذه المؤسّسة أو تلك، وهو لا يبني دولة مؤسّسات في مجتمع معصوم، بل إنّ هذا المجتمع معرض للخطأ، كما هو معرض للصواب، وبالتالي، فإنّه يمكن لأيّ مؤسّسة من المؤسّسات أن يتطرّق إليها الخطأ أو الانحراف، وهذه مسألة تضع الأمور في غاية الواقعيّة، فليس هناك مُثُل وإنّما هناك دولة ينبغي أنْ تُبنى على الأرض وبين الناس الذين يمكن أن يقعوا في أخطاء وانحرافات.
• هؤلاء يتحمّلون المسؤوليّة
إنّ الإمام قدس سره يحمّل المسؤوليّة لمن ابتعد عنها، فليس أولئك الذين انتخبوا، الذين قاموا بواجبهم الانتخابيّ أو ما شابه، ليس هؤلاء يتحمّلون الأوزار الحاصلة في ما بعد، وإنّما الذي يتحمّل الأوزار الحاصلة هم أولئك الذين ابتعدوا عن روح المسؤوليّة. فليست المسؤوليّة هي التي ينبغي أنْ تذهب لتجبر هؤلاء الأفراد على أن يقوموا بدورهم، بل إنّ عليهم أن يقوموا بمسؤوليّاتهم. فلو فرضنا أن مجموعة من المنحرفين قد استطاعت أن تأتي إلى أحد المجالس
182
162
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
التشريعيّة وكان هناك جمع كبير من الناس لم يشارك في الانتخابات التي جاءت بهؤلاء فإنّ هذا الجمع الذي لم يشارك في الانتخابات يتحمّل مسؤوليّة كبيرة في هذا المجال، بل لعلّ المسؤوليّة الأولى ملقاة على عاتقه طبعاً بعد مسؤوليّة أولئك الذين قاموا بانتخاب العناصر الفاسدة، وذلك لأنّ الذي لا يتحمّل المسؤوليّة يفسح المجال لغيره ليقوم بعمليّة تخريب المجتمع.
• أخطاء لا يجوز السكوت عنها
إنّ الأخطاء على مستوى القضايا الشخصيّة يمكن السكوت عنها، وذلك لأنّ الحقّ الشخصي يمكن للإنسان أن يُسقطه. فلو أنّ إنساناً أخذ مالاً من إنسان آخر ظلماً، فإنّ باستطاعة الإنسان المظلوم الذي اغتُصب الحقّ منه أن يسامحه بذلك الحقّ، وأنْ يُبرئ ذمّته ولا يطالبه بشيءٍ. هذا على مستوى الحقّ الشخصيّ، وأما إذا كانت هناك أخطاء على مستوى الحكم، فإنّه لا يجوز السكوت عنها على الإطلاق، إذ هي ليست كالقضايا الشخصيّة. القضايا الشخصيّة التي يتمّ تجاوزها لأنّ طرفها هو الإنسان نفسه الذي يستطيع أن يسقط الحقّ، أما القضايا التي تتعلّق بالحكم، فإنّ طرفها هو الأمّة بأكملها والشعب بأكمله. ولهذا، فإنّ ترك هذه الأمور على عواهنها سوف يجعل الظلمَ هو الحاكم، وسوف تؤول أمور الأمّة كلّها إلى أن يملأها الانحراف والفساد والظلم، وبالتالي، يكون الإنسان الذي سكت عن
183
163
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
حقّ الأمّة عندما يكون الحكم منحرفاً أو عندما يكون الحاكم منحرفاً، أو عندما يكون الممثّل لفئةٍ ما منحرفاً، فإنّه يكون عندئذٍ، قد جعل للظلم شرعيّة، وهذا ما كان يشير إليه أمير المؤمنين عليه السلام عندما قيل له: لو تركت معاوية في الحكم! أي إذا ترك معاوية في الحكم فهذا أثبت لحكومة علي بن أبي طالبعليه السلام، ولكنّهعليه السلام قال لهم: "معاذ اللّه، أتريدون مني أن أطلب النصر بالجور؟". هناك نصر سوف يحقّقه علي بن أبي طالب إن هو ترك معاوية في الحكم إلّا أن هذا يكون على حساب الأمّة التي سوف تُعطى حاكميّةُ معاوية عليها شرعيّةً من قبل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا يجوز أن يكون هذا الأمر أبداً.
• رؤساء من الطبقات المستضعفة
إنّ الإمام المقدَّس، عندما يوجّه الأمّة الإسلاميّة لتنتخب رئيسها، ويحدّد فيه مواصفات معيّنة، هذه المسألة ليست تدخُّلاً في الشؤون الداخليّة للأمّة الإسلاميّة من دون مبرّر، وإنّما الإمام المقدَّس يعطي مواصفات للرئيس، وذلك لزيادة الضمانة. هناك ضمانة الإسلام وضمانة الالتزام، ولكن الإمام قدس سره يبحث عن ضمانات لهذا الالتزام، لأنّ الرئيس قد يكون ملتزماً بمظاهر الإسلام في بعض الأحكام الشرعيّة إلّا أنّ هناك خلفية ينبغي أنْ يفكر بها الإمام المقدَّس ليكون هذا الالتزام وهذا التقيد بأحكام اللّه سبحانه وتعالى ليس شيئاً عابراً
184
164
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
في حياة ذلك الرئيس. ومن هنا، فإنّ الإمام المقدَّس ينظر إلى هذه الخلفيّة، وعلى هذه القاعدة، لا بدّ من أن تكون عمليّة الانتخاب من قبل الناس أو من قبل مختلف طبقات الشعب شاملة لأولئك الذين يريدون الحاكميّة للّه سبحانه وتعالى أن تكون هي الأصل، ولا يريدون لحالتهم الشخصيّة أن تكون كذلك. ومن هذه الزاوية، نرى أنّ الإمام المقدَّس يعطي مواصفات لأولئك الرؤساء والممثّلين بأن يكونوا من الطبقات المُستضعفة. وعندما يكون الإنسان من طبقة محرومة ومستضعفة عندئذٍ يكون هذا الإنسان أقرب إلى أن يتقيّد بالالتزام وبالإسلام وبالأحكام الإلهيّة من غيره، لأنّ الذين لا ينتسبون إلى مثل هذه الطبقات عادةً يكون التزامهم هشّاً، ويمكن أن يتعرّض للسقوط في أي لحظة من اللّحظات.
• لرئيس يحمل هموم المستضعفين
هذه النقطة لها علاقة بالنقطة الرابعة، أي أنّها تحدّد بعض مواصفات الرئيس، وذلك لأنّنا قلنا إنّه لا يكفي في هذا الرئيس، وفي هذا الممثّل لأي طبقة من طبقات الشعب والأمّة، لا يكفي فيه مجرّد الالتزام بالأحكام ظاهراً والقيام ببعض التكاليف التي لا يستطيع الإنسان أن يسبر أغوارها ليصل إلى أنّها هل هي واقعية أم أنّها مجرّد شكليّات في حياة هذا الإنسان. إذا أردنا أن نعرف أنّ هذا الإنسان على مستوى من الصدق والأمانة فإنّه ينبغي لنا أن ننظر إلى الهمّ
185
165
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
الذي يحمله هذا الإنسان، فهل هذا الإنسان يهتمّ فعلاً بالطبقات الشعبيّة؟ هل يحمل هموم المستضعفين؟ هل يحمل هَمّ حاكميّة شرع اللّه سبحانه وتعالى؟ أمإنّ له هموماً أخرى؟ قد يكون هناك اهتمام لتطبيق بندٍ من البنود، ولكن هذا الاهتمام بتطبيق ذلك البند قد يكون سببه شيئاً دنيويّاً يعود على مصلحة ذلك الإنسان. ولكن إذا أردنا أن نعرف أنه هل هو فعلاً خادم لهذه القضيّة أم لا فينبغي لنا أن نلاحظ مختلف اهتماماته وهمومه، هل هي اهتمامات رساليّة أم ليست كذلك؟
• مجلس الخبراء منصب حسّاس
توجد مناصب حسّاسة في الدولة، ولكن بعض المناصب أكثر حسّاسيّةً من غيرها. وفي كلّ منصب من هذه المناصب ينبغي أنْ تراعى كلّ الاعتبارات التي ذكرناها. وعندما نتحدّث عن مجلس الخبراء مثلاً، الذي يُعتبر أكثر المناصب حسّاسيّةً، فإنّه ينبغي لنا أن نلتفت إلى هذه المسألة. إنّ أي خطأ يحصل على مستوى انتخاب مجلس الخبراء سوف يجعل قابلية الخطأ والانحراف في غيره أكبر، وذلك باعتبار أنّ هذا المجلس هو المصفاة لغيره، فإذا كان هناك ثقب في هذه المصفاة، فهذا يعني أنّ غير مجلس الخبراء من مواقع السلطة والحكومة والدولة سوف يتعرض للانحراف أكثر. وفي المقابل، إذا كان هذا المجلس في غاية الضبط، فإنّنا نضمن كثيراً وإلى حدٍ بعيد
186
166
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
أن يكون هناك عدل وإتقان وتقيُّد بحكم اللّه سبحانه وتعالى، على مختلف بقية المناصب القائمة في دولة الإسلام. ومن هذه الزاوية، نرى أنّ الإمام قدس سره يركّز كثيراً على هذا المجلس، لأنّه - والعياذ باللّه - إذا صار هذا المجلس منحرفاً، فليس هناك أي شيء في الدولة إلّا وسوف يصيبه الانحراف، بينما إذا حافظ، وكما هو الواقع، على أصالته وتقواه، من خلال تقوى الأفراد، فإنّه يُعتبرُ ضمانة لصفاء هذه الدولة، وعلى تقوى هذه الدولة، وعلى التزام أفراد هذه الدولة، وذلك من خلال مراقبة هذا المجلس لهؤلاء. طبعاً، ليس من خلال سوء الظنّ، وإنّما من خلال حاكميّة أحكام اللّه سبحانه وتعالى. وليس عمل هذه المجالس، وخصوصاً مجلس الخبراء، سوى تطبيق ما أمر اللّه سبحانه وتعالى به أن يُطبَّق، واللّه تعالى لم يأمرنا إلّا بالعدل والقسط، من أجل أن تقوم حياة الناس على الخير والفلاح والبركة.
187
167
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
بعد أن بيَّن الإمام المقدَّس دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس، وبعد أن حدّد المسؤوليّات الملقاة على عاتق هذا الشعب وأنّ الحكم لا يقوم على أساس الأفراد وإنّما يقوم على أساس المؤسّسات، وهذا ما يجعل الأمور في غاية الأهمّيّة، وبعد أن حمَّل الإمام قدس سره المسؤوليّة لمن ابتعد عنها ومن جعل نفسه منعزلاً، وبعد أن ذكر أن الأخطاء الشخصيّة يمكن السكوت عنها بخلاف الأخطاء على مستوى الأمّة، لأنها أخطاء تتعلّق بالآخرين، وبعد أن حدّد للأمّة الإسلاميّة مواصفات من يكون رئيساً ممّن فيه مؤهلات معينة، وبعد أن ذكر أن من أهم مواصفات هذا الرئيس أن يكون حامل الهم على مستوى الأمة، وبعد أن ذكَّر بأن هناك مناصب حسَّاسة في الدولة ولكن هناك مناصب أكثر حساسية من المناصب
189
168
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
الأخرى، أكَّد الإمام قدس سره في هذا النصّ الذي سوف يأتي على أهمّيّة القائد ومجلس القيادة حيث إنّ للقائد ولمجلس القيادة الدور الأول في نهوض الدولة وفي النهوض بالأمّة الإسلاميّة. ومثل هذا الدور يجعل من الإنسان الذي يقوم به إنساناً غير عادي، وينبغي أن تكون فيه المؤهلات التي يمكن لها أن تنهض بهذا الأمر.
يقول الإمام قدس سره:
"ووصيّتي إلى القائد ومجلس القيادة في هذا العصر، عصر هجمة القوى الكبرى وعملائها في داخل البلاد وخارجها ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، وفي الحقيقة ضدّ الإسلام تحت ستار الهجمة على الجمهوريّة الإسلاميّة، وفي العصور القادمة، هي أن ينذروا أنفسهم لخدمة الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة والمحرومين والمستضعفين، ولا يظنّوا أنّ القيادة في نفسها هدية ومقام سام، بل هي واجب ثقيل وخطير، إذ إنّ الزلة هنا إن كانت لا سمح الله اتباعاً لهوى النفس، تستتبع العار الأبدي في هذه الدنيا ونار غضب الله القهار في العالم الآخر.
أسأل الله المنان الهادي بتضرع وابتهال أن ينجينا ويستقبلنا وإياكم وقد اجتزنا هذا الامتحان الخطير بوجوه مبيضة. وهذا الخطر أقل بعض الشيء بالنسبة إلى رؤساء الجمهوريّة في الحاضر والمستقبل، وكذلك بالنسبة إلى الحكومات والمسؤولين بحسب الدرجات في المسؤولية، فيجب أن ينتبهوا إلى أنَّ الله تعالى حاضر وشاهد، ويعتبروا أنفسهم في محضره المبارك. يسَّر الله أمورهم".
190
169
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
• القيادة بلسان مفجِّر الثورة
والذي يمكن ملاحظته في هذا النصّ أن الإمام قدس سره عندما يكتب في جزءٍ من وصيّته عن القيادة وعن مجلس القيادة، فإنّه يضع الأمور في نصابها، وذلك لأنّ الذي يكتب عن هذه القيادة وعن هذه الحالة التي تقود الأمّة ليس إنساناً عاديّاً وإنّما هو إمام فجَّر ثورةً وأسَّس دولةً واستطاع أن ينهض بالأمّة. والذي يقوم به الإمام قدس سره من خلال كتابته لهذه الوصيّة منبثق عن مسألة أساسيّة، وهي أنّه قدس سره قد عاش تجربة الثورة قبل بدايتها وفي وقتها، وبعد انتصار هذه الثورة، وعاش بداية تأسيس الدولة وكل المراحل التي عاشتها الثورة والدولة وعلى مستوى الأمّة الإسلاميّة بكاملها.
وينبغي لنا هنا أن نتوقف عند بعض النقاط الأساسيّة في هذا المقطع من الوصيّة:
• وصيّة للقادة من بعده قدس سره
إنّ الإمام قدس سره في هذا المقطع من الوصيّة، يُعبّرُ - وبشكلٍ واضحٍ - عن أنّه يكتب وصيّة فعلاً لأمّة سوف يتركها بعد فترة من الزمن، وذلك لأنّه عندما يكتب للقيادة كيف ينبغي أنْ تكون، فهذا يعني أنّه مغادر هذا المنصب، ولأنه مغادر هذا المنصب، ولأنّ هذه الدولة وهذه الأمّة سوف تستمرّ من بعد الإمام، فلذلك لا بدّ من أن
191
170
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
يتحدّث عن أولئك الذين يقودون هذه الأمّة في غياب المؤسِّس. وعمليّة الإدارة بعد الإمام قدس سره قد تكون بالنسبة إلى بعضهم شيئاً ميسوراً على المستوى النظريّ، إلّا أنّ الإمام قدس سره لا يعتبر المسألة مجرّد مسألة نظريّة، بل إنّ هناك مسائل عمليّة ينبغي أنْ تكون في الشخصيّة القياديّة التي سوف تتسلّم هذه المهامّ.
• تحديد شكل الدولة بشكل عامّ
إنّ الإمام قدس سره قد أوكل مسألة تحديد شكل القيادة إلى مجلس الخبراء. وهو قدس سره يركّز على ولاية الفقيه، ويرى أنّ المهمّ أن تعمل ولاية الفقيه في وسط الأمّة. وبهذا يحدّد قدس سره شكل الدولة بشكل عامّ، ولكن على مستوى التفصيل قد لا يكون فقيه من الفقهاء ذا قدرة على إدارة شؤون الأمّة الإسلاميّة بأكملها وحدَه، فلذلك يمكن تصوُّر أن يكون هناك مجلس لقيادة هذه الثورة، يكون مؤلّفاً من مجموعة من الفقهاء - والأمر موكول على أي حال إلى مجلس الخبراء- يحدّد تفاصيل هذه المسألة المتعلّقة بالنقاط التفصيليّة على مستوى إدارة الشؤون في الدولة الإسلاميّة، وإنْ كان الواقع بعد الإمام قدس سره قد أفرز إلى الساحة قيادةً تمثّل حقيقةً استمراراً لخطّه المقدَّس، وهي قيادة الإمام الخامنئي دام ظله، إلّا أنّ هذه المسألة ينبغي أنْ تدور على المستوى النظريّ، وينبغي لنا أن نفترض أسوأ الظروف التي لا يكون فيها شخصيّة جامعة لكلّ المواصفات موجودة في أوساط هذه الأمّة.
192
171
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
• العدوّ لا زال موجوداً
إنّ الذين ينظرون إلى هذا العصر على أنّه عصر الانتصار وحسب مخطئون، وذلك لأنّ الهجمة التي يقوم بها الاستكبار العالميّ ضدّ الإسلام والمستضعفين هي في غاية القسوة والشدَّة. فلا يعتقدن أحد أنّ انتصار الثورة الإسلاميّة قد استأصل العدوّ من جذوره، بل إنّ هذا العدوّ الذي أصيب بضربة من انتصار الثورة الإسلاميّة، سوف يثير قواه في الخارج وعملاءه في الداخل من أجل أن يُقوِّض بناء هذه الثورة. فالنظرة التي ينظر من خلالها بعض الناس على أنّ هذا العصر هو عصر الانتصارات، إذا كان الهدف منها هو إعطاء الأمل للشعوب من أجل أن تنهض، ومن أجل أن تثور، فهذا التصوّر والتصوير في محلّه، إلّا أنّ الإفراط في التفاؤل والإيحاء بأنّ العدوّ قد أصبح بلا قوَّة وبلا حراك، وبأنه قد انتهى ولم يعد له وجود أصلاً، هذا يجعل من الإنسان صاحب مواقف غير سليمة، لأنه لن يحسب للعدو حساباً. إنّ ما يقوله الإمام المقدَّس هنا هو أنّ العدو موجود، وأنّه سوف يهجم بكل قواه، وأنّ على الثورة الإسلاميّة والدولة الإسلاميّة وأبناء الأمّة أن يكونوا على حذرٍ دائم من مخطّطات ذلك العدوّ.
• القيادة تكليف لا تشريف
إنّ الإمام، كما هي العادة في خطاباته وفي وصاياه، يلفت إلى خطورة مقام هذه القيادة، وذلك لأنّ هذه القيادة ليست عبارة عن
193
172
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
تشريف بشريّ لفرد أو لمجموعة من الأفراد، وإنّما هي تكليف من اللّه سبحانه وتعالى، وهذا التكليف الإلهيّ هو في حدّ ذاته تشريف من اللّه سبحانه وتعالى لهذا الفرد أو لهذه الجماعة، لأنّه وضعهم في هذه المسؤوليّة. غير أنّ هذا ليس نهاية المطاف، بل إنّ الأمر يحمل في طيَّاته مخاطر كبيرة ينبغي للقادة، سواء كان القائد فرداً أو كان جماعة، أن يلتفتوا إليها، وأنْ يعيشوها وبشكل دائم، ذلك أنّ العيش ضمن المفاهيم الإسلاميّة يجعل من الإنسان صاحب مسؤوليّة خطيرة للغاية، إذ الفهم الإسلاميّ للتكليف الشرعيّ يوضّح لنا معالم المسؤوليّة التي يُسأل عنها الإنسان أمام اللّه (عزَّ وجلّ)، من خلال قول اللّه سبحانه وتعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾[1]، ولن يقف الأمر عند وقوف المسؤول، وإنّما سيكون هناك حساب لذلك المسؤول.
• حساب المسؤول مضاعف
إنّ على كلّ المسؤولين أن يلتفتوا إلى أنّ غيرهم قد يكون محاسباً ممّن هم غير مسؤولين على المستوى الرسميّ وعلى المستوى السياسيّ، غير أنّ حساب المسؤول مضاعف، لأنّ أخطاء غير المسؤول قد تقع بسبب المسؤول، فيكون التاريخ في ما بعد منصفاً لو صنَّف هؤلاء في دائرة الخَوَنة. فمثلاً لو قام الإنسان المسؤول بوضع إنسان غير لائق في مقام معيّن، وعاث هذا الإنسان في الأرض فساداً، فإنّ هذا الإنسان
[1] سورة الصافات، الآية 24.
194
173
دور الشعب في عمليّة البناء والتأسيس
سوف يحاسَب، غير أنّ الحساب الأكبر سوف يكون على مَن وضعه في ذلك المقام، وهذا لن يكون حساباً على مستوى الأمّة فحسب، لأنّه قد لا يتسنّى للأمّة أن تُحاسب فرداً، غير أنّ المهمّ في هذه المسألة هو حساب اللّه سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان الذي تحمّل هنَات الآخرين وعيوبهم في هذه الحياة الدنيا، عليه أن يتحمّل الأوزار أيضاً في الحياة الآخرة. وهذا ما يجعل مهمّة القائد في غاية الصعوبة، لأنّه يتحمّل كلّ حالة تفصيليّة تقوم بها الأمّة في داخلها.
• التضرُّع إلى الله ليعينَ القيادة
إنّ الخضوع بين يدي اللّه سبحانه وتعالى مطلوب وباستمرار. وهذا ما كان الإمام المقدَّس يلجأ إليه في كلّ يوم وفي كلّ مناسبة. وفي هذا الجزء من الوصيّة، يركّز الإمام قدس سره، وبدعاء منقطع إلى اللّه سبحانه وتعالى، على أن يعينه اللّه وهذه القيادة على النجاة من هذه الأخطار التي تحدق بالأمّة في الحاضر وفي المستقبل. وإنّ عمليّة الانقطاع إلى اللّه سبحانه وتعالى مطلوبة من كلّ فرد مهما كان حجم المسؤوليّة، سواء كانت مسؤوليّته صغيرة أو كبيرة، غير أنّ الإنسان كلّما زادت مسؤوليّته فإنّ انقطاعه إلى اللّه سبحانه وتعالى ينبغي أنْ يكون أقوى، لأنّ الإعانة على تحمُّل هذه المسؤوليّة سوف لن تحصل إلّا من خلال معونة اللّه سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، الذي يريد في نهاية المطاف أن يقف بين يدي اللّه سبحانه وتعالى ووجهه
195
174
أهمّيّة القيادة والواجب الخطير
أبيض وهو بريء من كلّ تهمة يمكن أن تُوجّه إليه. وهذه المسألة قد يعيشها الإنسان على المستوى الدنيويّ، فلا يكون متّهماً، ولكنّه عند اللّه سبحانه وتعالى قد يكون مجرماً. كما أنّ الإنسان قد لا يكون في هذه الحياة الدنيا إنساناً صالحاً في نظر بعض الناس، غير أنّه عند اللّه سبحانه وتعالى إنسان صالح، فينبغي للإنسان أولاً وآخراً أن يراقب اللّه سبحانه وتعالى في حركاته وفي سكناته، لأنّه هو المحاسب، ولأنّه هو الموفّق والمسدّد.
196
175
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
بعد أن تحدَّث الإمام المقدَّس عن القائد ومجلس القيادة، وأهمّيّة هذا الموقع بالنسبة إلى الأمّة الإسلاميّة، أخذ قدس سره يذكر مجموعة مهمّة من القضايا، منها: العدالة في القضاء الإسلاميّ، وكيف يجب أن تكون المقاييس والموازين في هذه العمليّة الدقيقة، ثمّ عاد ليتحدَّث قليلاً عن الحوزات العلميّة، مُحذِّراً إيّاها من أن تُخترق من قِبَل المعادين للإسلام، وكيف يجب أن تُنظَّم هذه الحوزات العلميّة حتّى لا تُخترق، ومنها السلطة التنفيذيَّة ومهمّتها الدقيقة في قيادة الأمور، ومنها أيضاً تطهير السفارات من المظاهر الطاغوتيّة الموروثة من نظام الشاه البائد، ومنها الموضوع العلمائيّ، وكيف يجب أن يكون العلماء في الدعوة إلى اللّه (عزَّ وجلّ)، ومنها الأمور الواجبة على وزارة الإرشاد وعلى مختلف مراكز التربية والتعليم في
197
176
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
دفع عجلة الإعلام الإسلاميّ إلى الأمام، ومنها أهمّيّة الاهتمام بالقوَّات المسلَّحة، ثمّ بعد ذلك أهمّيّة أن لا يتحزَّب أعضاء القوى المسلَّحة لأيّ جانبٍ من الجوانب الحزبيَّة في المجتمع الإسلاميّ، ثمّ بعد ذلك عاد الإمام قدس سره ليتحدَّث مع الذين يعادون الحكومة الإسلاميّة، ويوجّه لهم النصائح ولمؤيديهم أيضاً. وفي نهاية هذه المنعطفات يتحدّث الإمام قدس سره عن الحركات الإسلاميّة التي أخطأت هدفها، وكيف يجب أن تعود إلى الجادَّة، وبعدها إلى أولئك الذين يثيرون الانتقادات من أجل الانتقادات ليس إلّا، يقف الإمام قدس سره ليقول: إنّ هروبنا من الغرب لا ينبغي أنْ يوقعنا في أحضان الشرق، وإنّ هروبنا من الشرق لا ينبغي أنْ يوقعنا في أحضان الغرب، وإنّما يجب علينا أن نعادي كلا المعسكريْن، لأنّ الإسلام يملك الوجهة السياسيّة والاجتماعيّة القادرة على هذه المسألة. كما ويحذّر الإمام قدس سره هنا في هذا المجال كلّ أولئك الذين يثيرون الدعوات المشبوهة، خصوصاً ممّن تلبَّس بزيّ العلماء. ويصل الإمام قدس سره في نهاية المطاف إلى نهاية وصيّته الخالدة، ليتحدَّث مع مستضعفي العالم ومع الشعب الإيراني المسلم.
يقول الإمام قدس سره:
"وصيّتي إلى جميع مسلمي العالم ومستضعفيه هي: يجب ألّا تجلسوا منتظرين إلى أن يأتي حكام بلدكم ومن يعنيهم الأمر أو القوى الأجنبية ويجلبوا الاستقلال والحرية هديّة لكم.
198
177
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
نحن وأنتم شاهدنا، وعلى الأقلّ في السنوات المائة الأخيرة، هذه التي دخلت فيها أقدام القوى العالمية الكبرى بالتدريج إلى جميع البلاد الإسلاميّة وسائر البلاد الصغيرة، شاهدنا وشاهدتم أو حدثتنا به التواريخ الصحيحة أنَّ أيّاً من الحكومات الحاكمة في هذه البلاد لم ولن تفكر في حرية شعوبها واستقلالها ورفاهيتها، بل إنّ أكثريتها الساحقة إما أنها تمارس على شعوبها الظلم والكبت وكل ما فعلته فهو لمصالحها الشخصية أو الفئوية وإما أنها تسعى لرفاهية الشريحة المرفهة والمترفة فيما الطبقات المظلومة من ساكني الأكواخ والأقبية محرومة من كلّ نعم الحياة، حتّى من أشياء مثل الماء والخبز وما يسدّ الرمق وقد سخرت الحكومات أولئك البائسين لخدمة الطبقة المرفهة والماجنة أو إنها كانت أدوات للقوى الكبرى التي استعملتها لتحقيق المزيد من تبعية الدول والشعوب، فحوّلوا هذه الأوطان بالحيل المختلفة إلى أوطان استهلاكية وهم الآن يسيرون وفق هذه الخطة وأنتم يا مستضعفي العالم ويا أيتها الحكومات الإسلاميّة ومسلمي العالم، انهضوا وخذوا حقكم بقبضاتكم وأسنانكم ولا تخافوا الضجيج الإعلامي للقوى الكبرى وعملائها العبيد واطردوا من بلادكم الحكام الجناة الذين يسلمون نتاج تعبكم إلى أعدائكم وأعداء الإسلام العزيز ولتأخذ الطبقات المخلصة الملتزمة بزمام الأمور واتحدوا جميعاً تحت راية الإسلام المجيدة وهُبُّوا للدفاع بوجه أعداء الإسلام وعن محرومي العالم، وامضوا قُدماً لإقامة دولة
199
178
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
إسلاميّة واحدة تتألف من جمهوريات حرة ومستقلة، فإنكم بتحقيق ذلك تضعون حدّاً لجميع المستكبرين في العالم وتحققون إمامة المستضعفين ووراثتهم للأرض، على أمل ذلك اليوم الذي وعد به الله تعالى.
مرّة أخرى في نهاية هذه الوصية أوصي شعب إيران الشريف بأن حجم تحمل المشقات والآلام والتضحيات وبذل الأرواح والحرمان في العالم يتناسب مع حجم وعظمة الهدف وسموه وعلو مرتبته، وما نهضتم من أجله أيُّها الشعب الشريف والمجاهد وأنتم ماضون فيه وبذلتم من أجله الروح والمال وتبذلون، هو أسمى وأعلى وأثمن هدف وغاية طرح_ ويطرح _ منذ صدر العالم في الأزل وبعد هذا العالم إلى الأبد، وهو مبدأ الألوهية بمعناه الواسع وعقيدة التوحيد بأبعادها السامية التي هي أساس الخلق وغايته في رحاب الوجود وفي درجات ومراتب الغيب والشهود وقد تجلى ذلك في المدرسة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم بتمام المعنى والدرجات والأبعاد، وكانت جهود جميع الأنبياء العظام عليهم السلام والأولياء المعظمين سلام الله عليهم بهدف تحقيق ذلك والاهتداء إلى الكمال المطلق، والجلال والجمال اللامتناهيين ليس ميسوراً إلّا به، إنّه هو الذي شرف الترابيين (الناس) على الملكوتيين (الملائكة) وما هو أسمى، وما يحصل للترابيين بالسير فيه لا يحصل لأي موجود في جميع أرجاء الخلق في السر والعلن.
أنتم أيُّها الشعب المجاهد تسيرون تحت راية خفاقة في جميع
200
179
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
أنحاء العالم المادي والمعنويّ أدركتم ذلك أم لم تدركوا. أنتم تسيرون في طريق هو الصراط الوحيد لجميع الأنبياء عليهم السلام والصراط الوحيد إلى السعادة المطلقة. بهذا الهدف يسعى جميع الأولياء لنيل الشهادة في هذا الصراط ويعتبرون الموت الأحمر أحلى من العسل. وقد تجرع شبانكم جرعة منه في الجبهات فولهوا، وقد تجلى في الأمهات والأخوات والآباء والإخوان، ونحن يجب أن نقول بصدق: "يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً"، هنيئاً لهم ذلك النسيم بهجة القلب وتلك النفحة المثيرة للحماس. ويجب أن نعلم أن طرفاً من هذه التجليات قد ظهر في المزارع المُحرقَة وفي المصانع المجهدة والمعامل الصغيرة وفي مراكز الصناعة والاختراع والإبداع ولدى أكثرية الشعب في الأسواق والشوارع والقرى وكل الأشخاص المتصدين لهذه الأمور الذين يؤدون خدمة من أجل الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة وتقدم البلاد واكتفائها الذاتي، وما دامت روح التعاون والالتزام هذه قائمة في المجتمع فإن بلدنا العزيز مصون إن شاء الله تعالى من أذى الدهر.
وبحمد الله تعالى، فإن الحوزات العلمية والجامعات وشبان مراكز التعليم والتربية الأعزّاء لهم نصيبهم من هذه النفحة الإلهية الغيبية وهذه المراكز مائة في المائة بين أيديهم والأمل بالله، أن لا تصل إليها أيدي المفسدين والمنحرفين.
ووصيّتي للجميع هي أن امضوا قدماً بذكر الله المتعال نحو معرفة النفس والاكتفاء الذاتي والاستقلال بكل أبعاده، ولا
201
180
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
شكّ في أنّ يد الله معكم إذا كنتم في خدمته وواصلوا العمل على تطور البلد ورقيه بروح التعاون. وإنّني إزاء ما أراه في الشعب العزيز من اليقظة والوعي والالتزام والتضحية وروح المقاومة والصلابة في سبيل الحق، كلّي أمل أن تنتقل هذه المعاني الإنسانيّة بفضل الله المتعال إلى أجيال الشعب وأن تزداد جيلاً بعد جيل".
• الجمهوريّة الإسلاميّة تجربة حيّة
إنّ الإمام قدس سره وهو يوجّه مثل هذا النداء مرَّةً إلى مستضعفي العالم، ومرَّةً إلى الشعب الإيرانيّ المسلم، ليقول لهم إنّ تجربة الثورة الإسلاميّة هي تجربة حيَّة، فمن جهة يخاطب المستضعفين في العالم، ويطالبهم بأن يكونوا مثل الشعب الإيراني المسلم، وثانيةً ليقول للشعب الإيرانيّ المسلم إنّ هذا النتاج العظيم هو نتاجكم أنتم، ويجب عليكم كما انتصرتم أن تحافظوا على هذا الانتصار.
وهنا، لا بدّ لنا من أن نوجّه إلى ما كان الإمام قدس سره يركّز عليه، وهو أنّه قدس سره ليس في مقام مدح أحد أو ذمّه لمجرّد المدح أو الذمّ ليس إلّا، وإنّما الإمام قدس سره يمدح أشخاصاً ليطلب منهم شيئاً، ويذمّ آخرين لكي يرجعوا عن مواقفهم التي هم عليها. وهنا، لا بدّ من توجيه مجموعة من الملاحظات:
202
181
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
• الحريّة تُنال بالقوّة
إنّ الحرّيّة، كما مرَّ معنا كثيراً، ليست شيئاً يمنّ به إنسان على إنسان آخر، أو فئة على فئة أخرى، أو مجتمع على مجتمع، أو دولة على دولة، وإنّما الحرّيّة هي شيء يأخذه الإنسان وتأخذه الأمّة ويأخذه المجتمع وتأخذه الدولة من دولة أخرى. وإنّ من يتوهَّم أنَّه يستطيع، من خلال المفاوضات، أن يكتسب شيئاً من الحرّيّة والاستقلال فهو واهمٌ، وهذا التاريخ الماضي والحاضر لا يزال أمامنا مكشوفاً بكل ما فيه من خفايا، وإنّما يجب على الإنسان أن يعيش بينه وبين اللّه سبحانه وتعالى. إنّ كلّ ما يمكن أن يأخذه الإنسان إنّما يأخذه غصباً عن إرادة ذلك العدوّ، الذي لا يمكن إلّا أن يتنازل عن بعض مكتسباته إذا رأى القوَّة والشكيمة والتصميم في ذلك الإنسان، أو في تلك الفئة، أو في تلك الأمّة، أو في تلك الدولة.
• الاستكبار يحفظ مصالحه عبر الحكّام
إنّ الحكومات المحلّيّة تريد أن تحفظ قوّتها، ويريد الحاكم أن يبقى حاكماً. لقد فهمت الدول المستكبرة هذه المسألة، فربطت سيطرتها على هذه الدولة ببقاء ذلك الحاكم أو تلك الزعامة في ذلك البلد، وبالتالي، أصبح ذلك الزعيم أو تلك الطغمة الحاكمة تحافظ على المواقع الاستكبارية، وذلك لأنّها تريد المحافظة على ذاتها وعلى نفوذها. وهكذا، استطاع الاستكبار العالميّ الخبيث أن يجعل هذه
203
182
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
الدولة تحكم - من خلال أفراد منها - مصالحَه في هذا البلد أو ذاك. وهذا أيضاً له شواهد من الماضي ومن الحاضر: كيف استطاعت الإمبرياليَّة الأمريكيَّة أن تحافظ على مصالحها في أيَّام الشاه؟ استطاعت ذلك بربط وجودها بوجود ذلك الطاغية، فكان هذا الطاغية يحمي المصالح الأمريكية من خلال حمايته لمصالح نفسه، وهكذا هي الحال في مختلف الدول في العالم.
• مصالح الاستكبار لا حدَّ لها
ينبغي أنْ يضع المستضعفون في أذهانهم مسألةً في غاية الأهمّيّة، وهي أنّه ليس هناك حدٌّ يمكن أن تقف عنده مصالح الاستكبار العالميّ، وذلك لأنّ الإنسان المستكبر سوف يبقى ينتزع كلّ مكتسبات الشعب المستضعف والمقهور حتّى لا يُبقِي منها شيئاً على الإطلاق، حتّى إذا وصل الأمر إلى انتزاع اللّقمة من فمه، وانتزاع شربة الماء من يده، فإنّه لن يتوانى عن فعل ذلك.
وأمام هذه الحقيقة، كيف يمكن لشعب مظلوم يريد أن يحافظ حتّى على دنياه وعلى المكتسبات الدنيويَّة، كيف يمكن له أن يفعل ذلك وهو يعيش الذلّ والمهانة والحقارة أمام مختلف القوى الكبرى؟! مَن يعتقد أنّ الدول الكبرى سوف تقف عند حدود مكتسباتها ومصالحها، وبالتالي سوف تعطينا شيئاً من المكتسبات ومن المصالح، ويفكّر بهذه الطريقة، هو مخطئ كلّ الخطأ، لأنَّه ليس هناك شيء في
204
183
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
أيدينا، حتّى اللّقمة وحتّى شربة الماء إلّا والمستكبر يطمع في انتزاعها من أيدينا. والتاريخ الحاضر والماضي أيضاً شاهد على ذلك، وما الجوع الذي يضرب كلّ البلاد الفقيرة إلّا خير شاهد على هذه المسألة، بينما نرى الاستكبار العالميّ يحرق محاصيل القمح في بعض البلدان من أجل أن يحافظ على سعرها، ونرى أنّ هناك الملايين من الناس المهدَّدة بالجوع في أماكن أخرى تحتاج إلى جزء بسيط من ذلك المال الذي أحرقته تلك الدول المستكبرة.
• دافعوا عن استقلالكم ولو ببذل المُهَج
إنّ الاستقلال الذي يُبذل الدم من أجل تحصيله، وغالباً ما ينبغي أنْ يُبذل الدم من أجل ذلك، هذا الاستقلال إذا بُذل شيء من الدم أو من العرق والجهد في سبيله، يستحقّ أن يُحافظ عليه. وكم من البلاد استطاعت أن تتحرّر، ولكن بعد هنيهة من التحرير عادت لتعيش دوّامة الخراب والدمار على المستوى العقائدي، وذلك لأنّها لم تبنِ استقلالها على قاعدة فكريّة وثقافيَّة كافية ومانعة لهذا الشعب حتّى لا يعود إلى أحضان الاستكبار. إنّ ما ينبغي أنْ يُفكر فيه الشعب الإيراني المسلم ومختلف الشعوب المستضعفة أنّ ذلك التحرّر الذي بُذِلت الدماء من أجله، لا يمكن أن يحافَظ عليه إلّا من خلال الدفاع عنه، حتّى ولو كلَّف ذلك المُهَج والأرواح، وذلك لأنّ المحافظة على الاستقلال تحتاج إلى جهد أكبر من تحصيل الاستقلال نفسه، وهذا
205
184
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
ما نراه حاضراً عندما انتصرت الثورة الإسلاميّة التي قدَّمت عشرات الآلاف من الشهداء. بينما كلّف الحفاظ على هذه الثورة وهذا الاستقلال أمام الدول المستكبِرة في العالم، مئات الآلاف من الشهداء، وهذا ليس خسارة، وإنّما الخسارة في أن يفقد الإنسان والمجتمع بنيه بشكل رخيص من دون أن يقدّم أيّ شيء في سبيل استقلال وحرّيّة وعزيمة هذه الدولة وهذا المجتمع.
• لقلوبٍ ملؤها الأمل بالانتصار الكبير
إنّ الحركات الإسلاميّة في كلّ أرجاء العالم، ينبغي أنْ يملأ قلوب روَّادها الأمل بالانتصار الكبير المحتّم، وذلك على قاعدة حتميَّة انتصار الإسلام. وهذا ليس حتميَّة تاريخيَّة ماديَّة، كما يقول أصحاب الاتجاه المادّيّ، الذين كانوا يحلمون بأن تتحوّل الماديَّة التاريخيَّة لتحكم المجتمعات المستضعفة على القوى المستكبرة، وهذا وهمٌ، لأنّ التاريخ والزمن لا يمكن أن يفعل شيئاً، وإنّما الإنسان هو الذي يمكن أن يعمل ويؤثّر في التاريخ وفي الزمن، وإنّما الأمر يتمّ على قاعدة النصر الإلهيّ المحتّم الذي فرضه اللّه سبحانه وتعالى كسنَّة إلهيّة ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾[1].
إنّ أيّ إنسان يراقب المدّ الإسلاميّ بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المظفَّرة، يُدرك هذه الحقيقة، وهي أنّ الإسلام في طريقه إلى الانتشار.
[1] سورة فاطر، الآية 43.
206
185
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
نعم، يمكن أن يسقط بعض الأشخاص في الطريق، هذا شيء، إلّا أنّ انتصار الإسلام هو على مستوى تعمّق فكره (فكر الإسلام المحمّديّ الأصيل) في قلوب الجماهير، وهذا ما حصلنا عليه بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة، وبعد قيام المقاومة الإسلاميّة في لبنان، حيث إنّنا وجدنا أنّ هذا المدّ الإسلاميّ استطاع أن يحرّك مختلف شعوب العالم الإسلاميّ على أساس أنّ اللّه سبحانه وتعالى سوف ينصر هذه الأمّة، وسوف يكتب لها النجاح في حركتها إلى الأمام، حتّى يحكم الأرضَ كلّها نظامُ الإسلام المحمّديّ الأصيل.
• نحن أدوات وعلينا أن نشكر الله
يجب على الذين رأَوا كلّ هذه المعجزات أمامهم، أن يتوجّهوا بالشكر لله سبحانه وتعالى، لأنَّه (عزَّ وجلّ) هو الذي نصر هذه الأمّة، ونصر هذه المجتمعات، التي أرادت أن يحيا الإسلام من جديد. وإذا كان هناك أفراد يقدّر لهم أن يكونوا حمَلَةَ الرايات في مسيرة الإسلام، فهم مجرّد أدوات بين يديّ اللّه سبحانه وتعالى، أسلموا قلوبهم لله (عزَّ وجلّ)، فكان هذا العطاء وهذا النتاج الإلهيّ. ولا يمكن لأحدٍ أن يتصور أنّ هذه النتيجة التي حصلنا عليها هي نتيجة أفراد، مهما بلغ هؤلاء الأفراد من الكثرة، إلّا أنّ ما نجده ليس تكاثراً نوعيّاً، إنّما نجد اختلافاً كميّاً لا يمكن أن يُعزى وأنْ يُنسب إلى رجل أو إلى فئة أو إلى أمّة أو إلى مجموعة، وإنّما هو شيءٌ نوعيّ قد تعلَّقت جذوره باللّه
207
186
الثورة الإسلاميّة تجربة حيّة يجب الحفاظ عليها
سبحانه وتعالى، فكان ذلك العطاء، وكان ذلك الفداء، وكانت كلّ تلك المعجزات التي استطاعت أنْ تصبغ هذا العصر بذلك الصبغ الإلهيّ العظيم، وأنْ تلوّن هذا القرن الذي مضى بلون الإسلام الأزهر، الذي شعّ من بقعةٍ معيَّنةٍ من العالم، ولن يتوقَّف بإذن اللّه تعالى حتّى يملأ هذه الأرض كلّ الأرض، وتكون الأرض كلّها - بعون اللّه سبحانه وتعالى - صدىً لذلك النداء الإلهيّ الذي قام به عبد من عبيد اللّه (عزَّ وجلّ)، ثمّ حمل عباد آخرون مع ذلك العبد هذه الراية، وسوف تبقى هذه الراية إلى أن يرِثَ اللّه الأرض ومَنْ عَليها، والحمد لله ربّ العالميّن، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
208
187