نور الدين ابن ايران


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-03

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


إشارة

إشارة

 

بين يديك أوراقٌ تنبت من شجرة التاريخ..

 

مفكّرةٌ هي بألوان العمر، وعَبَقِ الهدف، وذائقة الجبهة، تتردّد أصداؤها بضحكةٍ ساطعة وَشَهقةٍ كَتُومة.

 

ذكريات تبدأ ببراءة الاندفاع، ولا تنتهي بحركات الفتى الفُكاهيّ، المشاغب، ومحقّق الإنجازات في آن!

 

فالشاهد هنا يشبّ بين المحاور، ليمتلئ بها مع الجراح الحارقة حيويةً وخلوصًا وانتصارًا، إذ يتلوّن غبار الملاحم بشعاع الشمس، وتنهمر قطرات الشتاء في أحياء وطن فُرِضَت الحرب عليه، فامتزج الثلج بدماء صفوة أبنائه.

 

وبينما تجولُ مع السيد "نور الدين العافي" في فضاءات المكان، تدهشك غزارة التجارب لفتى دون العشرين. وتتنفس رئتاك أَمْنًا مع حنان الوالدين، واتّحاد الرفاق، وصدق العهد في قلب المشاهد المُشَوّقة. ثم يكتمل السَّردُ والحوارات، دون تركيب خيالي أو اختراع صراع أو حبكة.

 

لكأنه "بثٌّ حيّ" بمنتهى البساطة، من عمق الوجدان، يضجّ بالحب والقيم الكونية الكبرى: البطولة والرحمة والحرية..

 

لن يملّ مطالعةَ الكتاب، إن غاص فيه، منْ تحاكيه المقالبُ اللطيفة الممتعة، ومن تُشفيه صورة الصبر في المعاناة، ومن يتأمل في مبعث السلوك الإنساني الفطري، المدافع بنهم عن الحياة بمعناها الكبير المتّصل بخالقها (عز وجل).

 

6

 


1

إشارة

القارئ العزيز،

"نور الدين ابن ايران" أحد الكتب التي نالت تنويه الإمام الخامنئي، وهو الذي حضر في جبهات الدفاع عن الحق - العسكرية والناعمة على السواء- قائدًا ومدبرًا، ومعاينًا للحوادث، ومشجّعا للفنون الأدبية التي ترقى بقضايا الحرب إلى الذاكرة الانسانية، وتنقل للشعوب والأجيال رؤى وأفكاراً تحرّك الضمائر والقلوب. وقد مهر روايات الجبهة كقارىء وناقدٍ خبير، بكلماته المسبوغة بحرارة الإيمان، ومشاعره المصبوغة بالعرفان. ولطالما حثّ وشجع في مواقف عديدة على الكتابة والترجمة والنشر.. وفوّض المبادرين المتفاعلين من أهل الفكر والأدب بقوله "أمر النار بيدك"[1].

 

شكر وتقدير

لا يسعنا في مركز المعارف للترجمة، إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد وإخراج هذه الذكريات لتكون جوهرة مضيئة في أكاليل العزة والانتصارات، ونخصّ بالذكر:

فريق الترجمة: فاطمة شوربا، علي مهدي، حوراء طحيني. فريق التحرير والتدقيق اللغوي: نجوى الموسوي، أمل عبدالله، وعدنان حمود. المخرج الفنّي: علي عليق. والشكر الوافر للراوي وللكاتبة، ولا ننسى مؤسسة "سوره مهر" ومكتب"أدب وفن المقاومة" ناشر ومعدّ النسخة الأصليّة، وكذلك دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة ناشر النسخة العربية.

 

مركز المعارف للترجمة

ذوالقعدة 1438ه

 

 


[1] أمر وتدبير عسكري في الحرب، يُلجأ إليه عند تعقد الأمور وانقطاع التواصل مع القيادة..، وقد ذكره الإمام الخامنئي في لقائه بالجامعيين في حديثه حول مواجهة التحديات الفكرية والثقافية وأدوات الحرب الناعمة(7/6/2017م).

 

7


2

المقدّمة

المقدّمة

عرفت السيد نور الدّين عافي لأول مرة، بصوته عندما كان يروي تفاصيل الأحداث التي جرت معه أثناء الحرب، من كردستان حتى جنوب بلدنا العزيز. كان ذلك في العام 1995م وكنت قد تعرفت حديثًا إلى مكتب أدب المقاومة في "حوزه هنرى" وأعمل على "تفريغ" أشرطة تسجيل لمذكّرات المجاهدين. بعد أن "فرّغت" مذكّرات مختلفة، سلّموني حوالي عشرين شريط تسجيل تحتوي مذكّرات عظيمة لمجاهد جريح اسمه السيد نور الدِّين عافي، هي نصف مقابلات أجراها معه الأخ موسى غيور في عامي 1993 و1994م واستغرقت حوالي الأربعين ساعة. كان الأخ موسى غيور لمدة زميل السيد نور الدين في جامعة العلوم الطبية في تبريز، وقد سمع مذكّرات من السيد حول مرحلة الدفاع المقدس فأصرّ على حفظها. نفس الحصول على موافقة السيد لإجراء هذه المقابلات هو قصة جميلة باح بها السيد في آخر دقائق الحوار وأدرجت في آخر الكتاب. لم أكن أظنّ عندما استلمت أشرطة المقابلة لأفرّغها أنني عندما أسمع هذه المذكّرات سأدخل عالمًا كبيرًا ورائعًا اسمه أدب الدفاع المقدّس. عندما سلّمت آخر جزء للمكتب أحببت أن أرى صاحب هذا الصوت الذي عانى الكثير، وروى بكلّ صدق وبدون رياء أحداث 77 شهرًا من حرب لا مثيل لها، أو على الأقل أن أرسل له رسالة تقدير وتعظيم للآلام الكبيرة التي عانى منها ودوّنتُها على الأوراق عن لسانه،

 

8


3

المقدّمة

الأمر الذي لم يتحقّق أبدًا. بعد أن "فرّغت" المقابلات التي أُجريت مع السيد، سلّموني مذكّرات الأخ مهدي قلي رضائي لتفريغها، وقبل أن أنهي العمل بها اقترحوا عليّ تدوين وتحرير هذه المذكّرات فقمت بهذا العمل بكل شوق وحماس، وعشت في عالم مذكّرات الأخ رضائي الصافية أربع سنوات حتى نُشرت تحت اسم "فرقة الأخيار"[1] في العام 2005م من قبل دار النشر "سوره مهر"، وكانت أول تجربة لي في مجال تدوين مذكّرات الحرب. سمعت خلال هذه المدة أنّ تدوين كتاب مذكّرات السيد نور الدين عافي أوكل لكاتبين، لكنهما اعتذرا بعد مدّة عن متابعة العمل. اقترحوا عليّ في آخر صيف العام 2004م تدوين هذه المذكّرات عندما كنت في المراحل الأخيرة من كتابة رسالة الماجستير، فاستيقظت في داخلي الحماسة القديمة لأعيش مع مذكّرات جريح سمعت عن لسانه لأول مرّة حقائق عن الحرب، واستلمت بسعادة غامرة حوالي 700 صفحة "فُرّغت" من مقابلاته، و40 شريط تسجيل، وبدأت العمل. في أول لقاء لي معه في جامعة العلوم الطبية أربكني عتابه وشكايته من مسألة التأخر في إنجاز هذا العمل، وعدم تفاؤله كثيرًا بعمل المكتب بشكل عام، ومع هذا فقد قبل بكل احترام أن أراجعه لاستكمال المذكّرات متى لزم الأمر. في المقابلات الأولى لم يتمّ الحديث عن طفولته وعائلته، وبقي الكثير من النقاط المهمة حول مرحلة الثورة والاشتباكات في كردستان وغير ذلك من التفاصيل لم تذكر في صلب المذكّرات. لقد استقبلني بكرم أخلاق في مكان عمله وفي المنزل مرات عدّة، وأجاب عن أسئلتي. لم يتمّ حذف أي جزء من المقابلات الأولى عدا المكرر من الأحاديث أو التحليلات التي لا يُخلّ حذفها أو تلخيصها بمسار المذكّرات. لقد احتجت إلى العديد


 


[1] حاز كتاب "فرقة الأخيار" في الدورة العاشرة لاختيار كتاب الدفاع المقدس السنوي عام 2006م على المرتبة الثانية في قسم المذكرات الشفهية. كذلك اختير كتاب فرقة الأخيار الكتاب النموذجي في حفل الربع قرن لكتاب الدفاع المقدس عام 2009مفي قسم المذكرات التي تكتب بقلم الآخرين.

 

9


4

المقدّمة

من الجلسات لمتابعة تفاصيل ذكرت باختصار في المقابلات الأولى، كما ركزنا في هذه الجلسات على رعاية تسلسل الأحداث وانسجامها، مع أنه ذكر مرات عديدة أنّه نسي الكثير من المذكّرات، وحتى بعض ما ذكره في المقابلات الأولى. لقد نسي مع مرور الزمن الكثير من التفاصيل، لكنّه لا يزال يذكر بوضوح بعض ذكرياته مع رفاقه، فذكرى حياة وشهادة أميرالباش مازالت حية في عقله وقلبه، وما زال صوته يضج بالألم وهو يروي حكاية عملية بدر. وللحصول على المزيد من التفاصيل كنت ألجأ إلى الصور والمذكّرات التي نُشرت حول مجاهدي "فرقة عاشوراء31" إضافة إلى أصدقاء السيد الذين استقبلوني بكل احترام، الإخوة العظماء: علي نمكي، الحاج ميلاني، إسماعيل وكيلزاده وفرج قليزاده، وساعدوني برحابة صدر لإكمال مذكّرات هذا المجاهد القديم في "فرقة عاشوراء"، وعدم تنقيص شيء منها قدر الإمكان.

 

المسألة الجديرة بالاهتمام في تدوين خواطر المجاهدين الآذربيجانيين – الذين رووا خواطرهم بلغتهم التركية الجميلة - هي كيفية انتقاء الكلمات المناسبة والقريبة من لهجة الراوي. وقد واجهت هذه المسألة لأول مرة عندما "فرّغت" بشكل أولي المقابلات، وترجمت التركية منها إلى الفارسية، وهو عمل أصعب من "تفريغ" مقابلة باللغة الفارسية. كلما كانت ثقافة الشخص الذي يعمل في "تفريغ" المقابلة أكبر سيكون من الممكن الاعتماد على النص الناتج عن عملية "التفريغ" أكثر، وإلا يتوجب على المدوّن الرجوع إلى أشرطة التسجيل والتأكد من صحة هذه النصوص. ولأنني قمت بتفريغ نصف المقابلات التي أجريت مع السيد عافي كنت أستطيع بسهولة ملاحظة الاختلافات في تلك النصوص المفرّغة. لحسن الحظ صرت أفهم لهجة السيد عافي ولغته بسبب التواصل واستمرار الجلسات معه لإكمال المذكّرات، وحاولت أن أكون دقيقة في اختيار الكلمات المتناسب بعضها مع بعض، والقريبة إلى

 

10

 


5

المقدّمة

بيان الراوي. من جهة ثانية، ونظرًا لتجربتي الأولى في تدوين كتاب فرقة الأخيار - الذي رواه مجاهد يتكلم التركية - وما قيل حول الكتاب، خاصة من قبل الأستاذين الكبيرين في مكتب الفن والأدب المقاوم السيّدين: سرهنكي وكمري، انتبهت إلى الفروق البيانية للرواة في هذين العملين. عملت أكثر من خمس مرات على مراجعة وتصحيح هذه المذكّرات لعلّي أستطيع أن أوصل صوت السيد نور الدين إلى أذن القارئ. من جهة، اعتبرت كلام الراوي وعدم تكلّفه -وكان نطقه متغيرًا قليلًا في البداية بسبب الجراح التي أصيب بها في وجهه وفكّه، واستطعت بعد فترة أن أتعوّد عليه - بمنزلة أمانة في عنقي، ومن جهة أخرى كان عليّ إظهار صدى الجراح في قالب كلمات تستطيع إيصال أحوال ومشاعر الراوي بأفضل شكل إلى القارئ. لقد ذكرت العبارات التركية في بعض الموارد كما هي عندما كنت أرى ضرورة لذلك، وترجمتها في الحواشي.

 

قرأ هذه المذكّرات في مراحل تدوينها الأخيرة اثنان من رفاق درب الجهاد هما السيّدان فرج قليزاده ومهديقلي رضائي، وقمت بإجراء التعديلات التي اقترحوها ووافق عليها السيد. كذلك فقد تذكّر اللواء مصطفى مولوي[1] مسائل هامّة فيما يخص جغرافيا عمليات "فرقة عاشوراء"، خاصة عملية بدر، وقدّم لي فنّان ومصوّر الحرب الأخ بهزاد بروين قدس من أرشيفه الخاص عددًا من صور السيد نور الدين، ولا يسعني هنا إلا أن أعرب عن كامل تقديري وشكري لكلّ هؤلاء العظماء.

 

ما بين أيديكم هو حياة مجاهد صنّفت جراحه بدرجة 70% بسبب الإصابات التي تعرّض لها في بداية الحرب، وقلّ من أصيب بمثلها، لكن لم يتردد نور الدين ابن السبعة عشر عامًا لحظة واحدة في العودة إلى ساحة الجهاد بهذا الجسد الذي أصابت الجراح كلّ جوارحه، والتي

 


[1] نائب قائد فرقة عاشوراء ذلك الوقت.

 

11


6

المقدّمة

غيرت حتى تقاسيم وجهه. إضافة إلى تبيين الأحداث التي كان هو من القلة الذين لم يستشهدوا خلالها، فقد كان حضوره بذلك الوضع دليلًا على غيرته وإرادة الجهاد عنده بحيث جعلته ينزل إلى ساحة الجهاد بكلّ وجوده، ولا يقصّر قيد أنملة في العمل بأمر إمامه.

 

الآن وبعد أربع سنوات من العمل، وصل تدوين مذكّرات 77 شهرًا من حرب عشقها السيد نور الدين عافي إلى خواتيمه. إذا قبلنا هذه العبارة العميقة المعاني بأنّ حرب كلّ مقاتل تنتهي مع كتابة مذكّراته، فخلاصة مذكّرات هذا المجاهد أنّه أخذ شبابه وكلّ فرحه إلى مناطق الحرب، وعاد إلى المدينة بجراح خالدة، وهو لا يزال يعاني من آثار الغازات الكيميائية والعذابات التي لا يستطيع أحد إدراكها بسبب الآلام التي خلّفتها الشظايا في فكّه، والقيح الذي يخرج من عينيه ولم يوجد له علاج حتى الآن، عدا الجراح التي تركها فراق الأصدقاء كأيّ مجاهد آخر.

 

في الختام، أوجّه جزيل الشكر لعائلة السيد المحترمة خاصة زوجته العظيمة السيدة أشرفي التي يجب أن تدوّن كتبٌ في أمثالها، وفي الاختيار الموفّق والعظيم لها كزوجة. كذلك أشكر زوجي العظيم الدكتور "أيوب نصير اوغلي" الذي كان في فترة من الفترات عنصرًا في فصيل الغواصين الذي كان السيد المسؤول عنه، والذي كان دعمه الكبير والمطلق لي سببًا لاستمراري في هذه الأعمال. وأخيرا أقدّم شكري لابني العزيز "محمد أمين" الذي تذكّرت جزءًا كبيرًا من طفولته مع هذه الخواطر...

 

على أمل أن تساهم هذه الجهود في تخليد ذكرى رجال عظماء، في صدر التاريخ المليء بالأسرار، من أبناء آذربيجان التي لا تلد إلا أبطالًا ساهموا في الدفاع عن الدِّين وعن أرض إيران العزيزة.

 

 

معصومة سبهري

أيلول - تشرين الأول 2010م

 

12


7

الفصل الأول: رياض الطفولة

الفصل الأول:

رياض الطفولة

 

 

ولدت بحسب الهوية في السّادس من أيلول من العام 1964م في قرية "خلجان" قرب "تبريز"، لكنّ أبي "السيد حسين عافي" تأخر أشهرًا في تسجيل تاريخ ولادتي. كانت عائلتنا كبيرة، أبي، أمي السيدة نمكي، وستّة أولاد هم: ميررحيم، فريده، ميربيوك، السيد صادق ولعيا. كنّا نعتمد في معيشتنا على عمل والدي في الزراعة كباقي أهل قريتنا الكثيرة البساتين، تجمعنا حياة بسيطة وشاقة. وفي العام 1967م بدأنا حياكة السجاد ونصبنا النول في بيتنا، ومن أجل المساعدة في تأمين لقمة العيش، تعلّمت هذه الحرفة أيضًا. بداية كنّا نحيك السجاد للآخرين، ثم تحسّنت ظروف حياتنا شيئًا فشيئًا. وعندما أنهينا حياكة سجادتين يعود ريعهما بالتمام والكمال لنا، ذهب والداي إلى الحجّ في العام 1969م وكانت حينها رحلة الحجّ تستغرق حوالي الشهرين والنصف. في طريق العودة، تعرّضت القافلة لعملية سطو فلم يبقَ شيء فيها، ولم تكتحل أعيننا برؤية ما أحضراه لنا من هدايا...

 

منذ الطفولة، امتازت علاقة والدي بي عن بقية إخوتي وكان يظهر لي محبة شديدة وأنا أبادله مثلها. كنّا عندما نجلس صباحًا لحياكة السجاد، ويذهب إلى البستان ليقطف العنب ويأخذه إلى "سردرود"[1]، يشير إليّ أن "تعال بسرعة!"، وكنتُ غالبًا ما أتهرّب من حياكة السجاد


 


[1] مدينة عامرة في جنوب غرب تبريز، ولم تعد بعيدة عن تبريز بسبب توسع المدينة.

 

14


8

الفصل الأول: رياض الطفولة

أيضًا بحجة الذهاب إلى المرحاض، فأركض حوالي 3 كلم، لأصل إلى البستان حيث أجد أبي بانتظاري. كثيرًا ما اشترى لي الخبز بالسمن الذي أحبّه جدًّا. ظلّت علاقتي بأبي هكذا حتى إنّني عندما كبرت بقيتُ أنام بجانبه، وأحيانًا أبكي عندما أرى في المنام أنّني ابتعدت عنه. كنت أدعو الله منذ الطفولة أن لا يبعدني عنه أبدًا، وأشكر الله إذ استجاب دعائي مع أنّ سنوات الحرب كانت قاسية على كلينا[1].

 

في الصيف حيث موسم جني الثمار، كان على أحدهم أن يبقَ في البستان ليلًا، فتناوب أبي وعمي على الحراسة، وكنت أرافق الاثنين في ليالي حراستهما إلى أن ترسل لي أمّي الحاجّة رسالة: "نور الدين! لقد أعددت حساء القرنبيط! تعال بسرعة!"، فأستجيب فورًا لأنّني أحبّ هذا الحساء.

 

في إحدى الليالي، ظنّ كلّ من أبي وعمي أنّه دور الآخر في النوم في البستان، فلم يحضر أيّ منهما إلى هناك! استيقظت عند منتصف الليل لأجد نفسي وحيدًا في الظلام الدامس، شعرت بالخوف. فكّرت أن أذهب إلى منزل عمتي لأنّه الأقرب إلى البستان، ورأيت كلبنا الوفي نائمًا أمام الباب، كنّا نفكّ قيده ليلًا ليجول في البستان. وكأنّه شعر بأنّني وحيد،… فأخذته معي. مشيت في ذلك الليل مسافة 800م تقريبًا حتى وصلت. طرقت الباب فلم يفتح أحد، خفت، وخافت عمّتي وأبناؤها المساكين. كانوا في تلك الأيام يخيفون الأولاد الذين هم في مثل سنّي من اليهود، وإذا أرادوا منعنا من الذهاب إلى مكان ما يقولون لنا: "لا تذهبوا إلى هناك، سيأتي اليهود ويمتصون دماءكم!"، وكنت أفكر "وهل اليهود بعوض ليمتصوا دماءنا؟".

 


[1] بعد الحرب، عدت إلى المنزل الذي تعب هو في بنائه. ما زلنا نعيش في ذلك المنزل. كان يذهب يوميًّا إلى بستاننا في خلجان وأذهب أنا بعد انتهاء دوامي إليه لأعيده إلى المنزل...

 

15


9

الفصل الأول: رياض الطفولة

كاد أبناء عمتي يموتون رعبًا في تلك الليلة خوفًا من أن يكون اليهود هم من يطرقون الباب! وعندما وجدوا أنّني لم أتزحزح من مكاني، صعدوا إلى السطح ووجدوني. عندما فتحوا لي الباب ذهبت إلى حضن جدتي "تاتا فاطمة". راحت العجوز تلوم أبناءها لأنّهم "ناموا وتركوا الصبي لوحده..." لا أنسى أبدًا خوف تلك الليلة وكنت في السابعة من عمري.

 

الفصل الأول

رغم كلّ الصعوبات، كانت حياتنا جميلة. كان أبي يعطينا مصروفنا صباحًا، 5 قرانات[1] لأخي الكبير، وخمسة لنا نحن بقية الإخوة الأصغر سنًّا. كنت و"بيوك" و"صادق" مجبرين على اقتسام هذا المال، قرانان لكلّ واحد، والقران الخامس للولد الثالث على أن نتداوله بيننا، لكن عندما كان يحين دوري، أعمد إلى التحايل عليهما.

 

كنت أقضي أكثر أوقاتي مع أخي السيد صادق، وكان لدينا العديد من الأصدقاء نلعب معهم دائمًا: "حسن نمكي"، "السيد محمد والسيد علي حسينيان" وهم أخوان، "السيد محمد إيزدخواه"[2]، إضافة إلى ثلاثة آخرين تغير مسارهم عن مسارنا فيما بعد وصاروا يتعاطون المخدّرات. والغريب أنّنا مذّاك الوقت اختلفنا على بعض الأمور. كنّا عندما نمرّ بالبساتين ونرى المناظر الجميلة لعناقيد العنب، الكرز والجوز، لا نمدّ أيدينا إليها، لكنّ أولئك الثلاثة كانوا يقطفونها ببساطة ويأكلونها. أذكر أنّني أحببت الكرز، ولأنّه لم يكن موجودًا في بستاننا، كنت عندما يسألني أبي ماذا يشتري، أجيب فورًا: "الكرز!"

 

إضافة إلى الدرس والعمل، لعبت وأصدقائي كرة القدم، وقد شكّلنا فريقًا استمرّ إلى ما قبل سنتين أو ثلاث من انتصار الثورة، وسمّيناه


 


[1] قران: وحدة العملة زمن القاجاريين، وكل ريال كان يساوي قرانًا واحدًا وخمسة شاهي، والقران كان يساوي 20 شاهيًا.

[2] أستشهد هؤلاء الأربعة جميعا في حرب الدفاع المقدس (الحرب المفروضة).

 

16


10

الفصل الأول: رياض الطفولة

"البعث"! يومها لم نعلم بأنّ البعث (رستاخيز) هو اسم لحزب سياسي، وهو من باب الدعاية له يوزّع على الأولاد قمصانًا مطبوعًا عليها اسم "البعث"، فكنّا نرتديها أثناء اللعب، ولا علم لنا بكلّ هذا.

 

من ذكريات طفولتي أيضًا أيّام شهر محرّم، فطالما ظلّت هذه الأيام مناسبة مميّزة لكلّ الأولاد. لم يكن يفصلنا عن المسجد سوى منزل عمي، لذا دأبنا على المشاركة في كلّ مراسمه. كان خالي "الحاج علي أكبر نمكي" كبير القرية، وإنسانًا متعلّمًا وعنده اطّلاع واسع في "الرسالة العملية"[1]، فكان غالبًا ما يسأل الأولاد في المسجد عن الأحكام والصلاة، وكلّ من يتقن صلاته يعطيه جائزة، قرانًا أو قرانين[2].

 

كان للمسجد في أيام محرّم أجواءٌ خاصة، وكم أحببت هذا الشهر منذ الطفولة، وأحد أسباب ذلك هو الموائد التي تُعدّ فيه! في تلك الأيام لم يكن تناول الأرز متعارفًا إلى حدٍّ كبير، ولم نكن نتناوله أكثر من مرتين أو ثلاث في السنة، كنّا نطبخ منسفًا يطبخ كما الأرز ونأكله، لكنّنا كنّا متأكدين أننا في العشر الأوائل من محرّم سنحظى بالكثير من الأرز والحساء!

 

أحيانًا في طفولتنا كنّا نسمع أحاديث تولّد في عقولنا الصغيرة أسئلة كبيرة. كان أبي في شبابه ينتمي إلى أحد الأحزاب، ويمتلك خنجرًا قديمًا يخبّئه دائمًا. وحيث إنّنا نحبّ هذه الأشياء ولدينا فضول لنراها ونحملها، كان يعلّق قائلًا: "هكذا سيجدها رجال الشاه!" فأسأله: "وهل يعلم رجال الشاه الغيب!" فيجيبني: "أجل!"، لذا بات من الطبيعي عندما نسمع هذا الكلام أن نخاف من الشاه ورجاله.

 

سنة 1971م، وقع نزاع على الماء بين عائلتي وأحد أهالي القرية،

 


[1] الرسالة العملية: كتاب الأحكام الشرعية.

[2] لم يكن القران أو القرانين مبلغًا قليلًا في ذلك الوقت، كان يمكن الذهاب بقرانين بالسيارة من خلجان حتى تبريز.

 

17


11

الفصل الأول: رياض الطفولة

فاستغلّوا قرابتهم من المختار ونفوذهم الكبير واشتكوا علينا وقالوا إنّنا شتمنا الشاه! فاقتيد أبي وعمّي إلى السجن وأوقفا مدة تتراوح بين 40 و50 يومًا. زرعت هذه الأحداث في قلوبنا الكره وسوء الظن بالشاه، إضافة إلى الخوف.

 

أذكر أنهم جاؤوا مرات عدّة إلى القرية لأخذ الشباب إلى التجنيد. وكان أحد رجال الشاه ويدعى "شوكفر"[1]، يأتي إلى القرية مع عدد من الرجال ليجنّد الشباب! ولأنّ والدي من جملة الذين لم يذهبوا إلى خدمة العلم، كنّا نصاب بالرعب كلّما أتى "شوكفر"، ويختبئ أبي وتتصدى أمّي للرجل! إنّها امرأة ذكية، وكان أهالي القرية يكنّون لها الاحترام. كثير من الناس رشوا "شوكفر" بالمال ليرضوه ويغضّ الطرف عنهم، إلا أنّ والدتي لم تكن تتراجع أمامه، بل أعادته خائبًا كلّ مرة. لكم تساءلت دائمًا "وكيف يعلم رجال الشاه هذه الأمور؟!".

 

كان "آية الله خسروشاهي" مرجع التقليد لعائلتنا في تلك الأيام وخطيبًا في مدينة تبريز، وامتلكنا كثيرًا من الأشرطة المسجلة لمحاضراته وما زالت موجودة. صغيرًا أخذني أخي الكبير ميررحيم إلى تبريز لنستمع لمحاضراته. دأب "آية الله خسروشاهي" على التصريح بكلام لا يجرؤ الكثير من العلماء على قوله. روى في أحد الأيام قصة ما زلتُ أذكرها حتى اليوم. قال: "أمر الشاه يومًا أن يُحاك له لحاف، خاط له أوّلُ خياط لحافًا وأحضره له، لكنّه كان قصيرًا وكانت قدما الشاه تظهر من تحته، فأمر الشاه بقتله. خاط الثاني لحافًا، لكن كانت قدما الشاه أيضًا تظهر من تحت اللحاف وقُتِل. جاء الثالث وقال أنا أجيد الخياطة، فخاط اللحاف، لكنّ قدما الشاه ظهرتا أيضًا من تحته! فقال الرجل:


 


[1] قُتِل أيام الثورة.

 

18


12

الفصل الأول: رياض الطفولة

"أنا خطت اللحاف بشكل جيد لكنّ قَدَمَيْ الشاه هي التي تطول باستمرار لذا عليكم قطعهما!".

 

في مثل تلك الظروف، أمضيت مرحلة دراستي الابتدائية في مدرسة القرية.

 

قرّرت في العام 1978م الذهاب إلى تبريز للعمل وتركتُ مقاعد الدراسة[1]. بحثت عن عمل حتى قُبلت متدربًا في ورشة لصناعة بطاريات "نفين" في مستديرة "قونقا"، وصاحباها أخوان هما "محمود" و"صمد". كانت المسافة من تبريز إلى خلجان تستغرق حوالي الثلث ساعة، فصرت في بعض الليالي أنام في الورشة.

 

في أحد الأيام، أتى "محمود" صباحًا إلى الورشة وقال لي بفظاظة: "سمعت أنك تلاحق البنات عندما لا أكون موجودًا..." لم أكن أصلًا أتوقع سماع مثل هذا الكلام، لم أجبه بشيء وبدأت بالبكاء. بعد قليل جاء أخوه صمد لاسترضائي وقال لي: "يقع الكثير من الشباب الذين يأتون إلى تبريز في الخطأ! ولم يقل لك محمود ذلك إلا لأنّه قلق عليك كي تكون متيقّظا..."[2].

 

كان "محمد نمكي" - ابن الخال المدير لجلسات القرية - يتابع الدروس الحوزوية في قم في تلك السنوات، وقد سمعنا باسم "الإمام الخميني" لأوّل مرة على لسانه. طالما أحضر أشرطة محاضراته، بياناته وصوره إلى القرية، وكنت ممّن يساعدونه في توزيعها. كان السيد محمد يقول افعلوا شيئًا لتحصلوا على المال لطباعتها ونشرها. رحنا في البداية نبيع

 

 


[1] بعد الحرب، تابعت دراستي في العام1994م وحصلت على الشهادة الثانوية.

[2] مرت سنوات على هذه الحادثة، والتقيت بالأخ محمود في ثكنة الأهواز في عملية بدر عام 1985. توجهت نحوه وقلت: جئت إلى هنا للبصبصة والبحلقة؟! تفاجأ... ثم عرفني وأخذْنا نستذكر تلك الأيام.

 

19


13

الفصل الأول: رياض الطفولة

الصور بثلاثة قرانات وبعض المشترين يدفعون خمسة. وعندما نجمع ثمن الصور نقوم بتوزيع الباقي منها مجانًا بين الناس. أحضرت عدة مرات عددًا من الصور والبيانات من خلجان إلى تبريز. كان موقف الحافلات الصغيرة لخلجان يقع في حي "آخمقية" تلك الأيام. في إحدى المرات أخفيت عددًا من صور الإمام في سترتي الشتوية وركبت حافلة صغيرة متوجهًا إلى تبريز. عندما وصلنا إلى الموقف رأيت الجنود هناك يفتشون الجميع. خفت، لكن لم أستطع فعل شيء. وصل الدور إلي، فتّشني أحد الجنود وانتبه للصور. كاد قلبي أن ينخلع من الخوف! نظر الجندي إلى وجهي وقال لي: "أغلقها بسرعة واذهب!". أغلقت سحّاب سترتي وخرجت بسرعة. كانت المسيرة في ذلك اليوم في مستديرة "نصف راه" التي لا تبعد كثيرًا عن "آخمقية". عندما وصلت إلى المتظاهرين وزعت الصور بسرعة وعدت إلى القرية بنفس الحافلة.

 

مع اشتداد المواجهات ونزول الشعب الكثيف إلى الشوارع، أصبح خبر مجيء الإمام إلى إيران أمرًا واقعًا. في الأول من شباط كنّا في تبريز نشارك في تظاهرة متجهين من تقاطع "شهناز" - أصبح اسمه بعد الثورة "شريعتي" - نحو "باغ كلستان" حين سمعنا بخبر هبوط الطائرة التي تقلّ الإمام الخميني في مطار مهرآباد في طهران. أذكر أننّا احتشدنا أمام سينما آزادي (الحرية) وقد وصلت حماسة الناس وشوقهم إلى أوجهما. قلت لصديقي حينها: "للأسف، ستنتهي المظاهرة!".

 

- لا! فالأحداث ستبدأ الآن!

 

كان محقًّا فيما قال إذ نزل الناس إلى الشوارع ولم تتوقف المظاهرات حتى الحادي عشر من شباط وانتصار الثورة. وصلت التظاهرات إلى قريتنا أيضًا، وكان الناس يسيرون حتى مزار "الشيخ أبو دجانه"[1]


 


[1] أحد أصحاب أهل البيت عليهم السلام مدفون بالقرب من خلجان، ولقبره قبة وبناء صغيران، يقصده الناس للزيارة.

 

20


14

الفصل الأول: رياض الطفولة

حيث مقبرة القرية، وينهون المظاهرة برمي الحجارة على مجسمين لأسدين منتصبين في المقبرة، وكأنّ الأسدين الحجريين رمز للشيطان، والرمي رمي الجمرات[1]. وكان أهالي القرية يجتمعون أحيانًا ويذهبون بالحافلات الصغيرة إلى تبريز للمشاركة في المسيرات والتظاهرات.

 

بعد أيام على انتصار الثورة ذهبتُ إلى طهران للبحث عن عمل. كان أخي بيوك قد سبقني إلى هناك للعمل أيضًا، وعاش وحده. استأجرنا منزلًا آخر في "خافران" ووجدت عملًا في محلّة "افسريه" في صناعة البطاريات. لي ذكريات لا أنساها، مع جارنا السيد عبد الله الآراكي الذي لم يُرزق بأولاد وقتها، وكانت زوجته تهتم بنا كثيرًا، وتصرّ أحيانًا على غسل ملابسنا أيضًا. أحبّا أن نعيش معهما. ذهبتُ يوم الجمعة إلى الحمّام العمومي فصدمتني حافلة صغيرة في "خافران"، نقلت إلى المستشفى، وتبيّن أنّ أحد أضلاعي قد كُسر، أمستْ زوجة السيد عبد الله تهتم بي كأمي في فترة نقاهتي التي امتدت إلى خمسة عشر يومًا تقريبًا[2].

 

خلال تسعة أشهر من عملنا في طهران، ذهبتُ مع أخي مرتين أو ثلاثًا إلى القرية، وصادف أن واكبنا أحداث منظمة "خلق تبريز". كان الناس في قريتنا كباقي مناطق آذربيجان منقسمين إلى جماعتين، ووصل الأمر في القرية إلى أن يؤذي مؤيدو "جماعة خلق"[3] كلّ شخص يذهب لأداء صلاة الجمعة، فكانوا يرمونه بالحجارة ويهددون عائلته أيضًا، وقد تعرّضت والدتي للتهديد مرات عدة بسبب أعمالنا. قام مؤيدو


 


[1] بعد ذلك، تم نقل المجسّمين إلى متحف آذربيجان في تبريز.

[2] ما زالت هذه العلاقة الطيبة قائمة، وما زلنا نتزاور حتى الآن. ذهبت إلى طهران لرؤيتهم بعد إصابتي في عملية مسلم بن عقيل. لم يعرفوني بسبب جرحي وتغير شكلي، وعندما عرّفتهم إلى نفسي انزعجا وبكيا لما جرى لي..

[3] حزب الشعب.

 

21


15

الفصل الأول: رياض الطفولة

"جماعة خلق" في أحد الأيام بعد صلاة الجمعة بمهاجمة المصلين -حيث أُقيمت صلاة الجمعة في السّاحة الكبيرة في منطقة "راه آهن" في تبريز - وراحوا يضربون الناس بالحجارة والعصيّ، كانوا يرمون الحجارة من داخل باحة مستشفى طالقاني في مستديرة "راه آهن". كنّا ننزل إلى التظاهرات مع جماعة حزب الله، أما مؤيّدو "جماعة خلق" فينزلون إلى المسيرات في الجهة المقابلة ويطلقون شعارات مؤيدة لـ"شريعتمداري"، وقد حرقوا مكان الصلاة في ذلك اليوم. قلبت النزاعات والمواجهات المدينة رأسًا على عقب، وأحدثت انقسامًا حتى داخل العائلة الواحدة، حتى إنّ الأخ أصبح ضد أخيه.

 

في أحد أيام تلك المواجهات سمعت أحد أصدقائي يشتم آية الله بهشتي. سألته: "وهل تعرفه؟"، قال: "هو المسبب والباعث لكلّ الخلافات!". لم يكن لديّ معرفة كبيرة بالمسائل السياسية، لكنّني لم أصدّق كلامه. أكثر أبناء جيلي هم هكذا، ومثل غالبية الناس، كنّا ننزل إلى الساحات بكل شوق وعزم، لكن من دون امتلاك الكثير من المعلومات. في إحدى الليالي كنّا في القرية حين سمعنا عبر الراديو نداءً للتبرع بالدم، جاء الناس إلى المسجد، وجئت أنا وإخوتي أيضًا إلى تبريز للتبرع بالدم. في النهاية، خمدت "فتنة خلق" في تبريز مع أنّ آثارها السيئة استمرّت لسنوات بين أهالي آذربيجان.

 

راودتني منذ مدة فكرة العودة إلى تبريز والعمل هناك، لكنني أجّلت المسألة من يوم لآخر، وبقيت في عملي إلى أواخر أيلول من العام 1980. في ذلك اليوم، سمعت أول خبر عن الحرب من مذياع الحافلة التي كانت تقلني من مستديرة "الإمام الحسين" إلى مستديرة "خراسان".

 

22

 


16

الفصل الأول: رياض الطفولة

راحوا يبثون البيانات المتتالية عن الهجوم العراقي على المدن الحدودية الإيرانية. جميع من في الحافلة تحدّث عن هذا الموضوع، وأكثر ما لفت انتباهي الحديث عن محاصرة "شوش". بعد سماع هذا الكلام، نزلت عند أول محطة. قلت في نفسي إنّ "شوش" قريبة مني لأذهب وأرى ماذا يجري؟! عندما وصلت إلى مستديرة "شوش" لم أجد أثرًا للحرب! ذهبت إلى عملي من دون أن أسأل أحدًا شيئًا، لكن أخبرت أخي مساءً بما جرى، وفهمت حينها أنّ "شوش" هو اسم إحدى مدن خوزستان، وليس فقط مستديرة في طهران!

 

في تلك الليلة أيضًا لم أستطع النوم بسبب فكرة العودة إلى تبريز. أخبرت أخي أولًا بقرار العودة إلى هناك ثم ربّ عملي، وبعد مرور أربعة أيام على الحرب، غادرت طهران متوجهًا إلى القرية.

 

ألقت الحرب بظلالها على كلّ مكان، وعرفت في خلجان أنّ أصدقائي كانوا يسعون للالتحاق بالجبهة وقد أصبحوا أعضاءً في الحرس. أنا أيضًا كنت أسعى للالتحاق بالجبهة بدل البحث عن عمل، فتوجّهت إلى الحرس الذي كان برأيي أول باب للذهاب إلى الجبهة، وهناك، قابلني أحد عناصر الحرس "محمد رضا باصر"[1]، وأيّ مقابلة كانت! سألني أسئلة في العقيدة، السياسة، الأحكام... أسئلة لم أكن أعرف الإجابة عن الكثير منها! وعندما قال لي إنّني غير مقبول، لم أصدّق! لم أكن أتوقع أن أحرم من الذهاب إلى الجبهة بسبب تلك الأسئلة والأجوبة. عدت إلى المنزل منزعجًا.


 


[1] كان محمد رضا باصر حينها المسؤول عن الانتقاء في الحرس. أصبحنا بعد أربع سنوات رفيقي السلاح في عملية بدر، وكنت موجودًا لحظة استشهاده...

 

23


17

الفصل الأول: رياض الطفولة

صارت "الجبهة" الذكر الذي يجري على لساني ليلًا ونهارًا. أضحيتُ في النهار أطرق كلّ الأبواب لعلّي أجد طريقًا إليها، وفي الليل أمسيت أفعل أيّ شيء في البيت لأستجلب رضى العائلة، أحيانًا لم أكن أتناول طعام العشاء وأقول "لن آكل شيئًا ما لم تسمحوا لي بالذهاب إلى الجبهة". وعندما يحتدّ النقاش أحيانًا، كنت أستاء وأذهب لأنام في المسجد، وأحيانًا ألجأ إلى الحديقة، ولا أعود إلى المنزل مهما فعلوا.

 

بات برنامجي النهاري معروفًا، منذ الصباح أذهبُ إلى مراكز تسجيل التعبئة في تبريز. تكرّر ذلك، حيث ذهبتُ عدّة مرات إلى السوق وأملي أكبر بأن يقبلوني في مركز التعبئة هناك. لكنّني كنت أرجع دائمًا خالي الوفاض، إذ يقولون: "ما زلت صغيرًا، لا يمكن أن تلتحق بالجبهة!". يئست من قبولي في الحرس في أوّل يوم، كما لم يكن لتوسّلي وبكائي أيّ أثر في فروع تسجيل التعبئة كالكثيرين غيري، لكنّني نجحت في المنزل وأقنعت والدتي، أو أنّها ربما تعبت من أفعالي وظنت أنّ ذهابي إلى الجبهة أفضل من بقائي على هذه الطريقة. عندما يئستُ من الحرس والتعبئة فكرتُ بالالتحاق بالجيش، وأخذتُ أمي معي كي يأخذوا موضوعي على محمل الجد. توجهنا إلى أقرب مخفر للدرك في "سردرود"، قلت لهم: "أريد أن ألتحق بالجيش".

 

- كم عمرك؟

 

- ستة عشر عامًا!

 

- اذهب في سبيلك يا عزيزي، لا يمكن قبولك!

 

- ألا يلزم قوات للجبهة؟

 

- بلى، لكن قوات! وليس ولدًا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة! اذهب وعد عندما تكبر!

 

عدت خائبًا، لكنّ والدتي كانت راضية هذه المرة فأخذت تدعو لي ليقبلوني.

 

24

 


18

الفصل الأول: رياض الطفولة

في تلك الأيام، كان ابن خالي "إبراهيم نمكي" أقرب شخص إليّ قد ذهب إلى الجبهة وأمكنني أن أسمع منه الكثير عنها. عندما عاد من حرب "سوسنكرد"، جعلته هدفًا لأسئلتي الكثيرة والدقيقة: "ماذا تفعلون في الجبهة؟ كيف تحاربون؟ كيف هي الأسلحة؟...". ألهبت إجاباته شوقي أكثر: "هناك، نواجه مباشرة العدو الذي يجب أن نقتله، وهو أيضًا يريد قتلنا. هناك آليات كبيرة اسمها دبابات يصل وزن طلقتها إلى عشرة كيلوغرامات، وأحيانًا يطلقونها على الشخص مباشرة..".

 

- حسنًا، ماذا عليّ أن أفعل إذا أردت الذهاب إلى الجبهة؟

 

- يجب أن تتدرّب كثيرًا قبل لذلك، وعليك أن تتمكن من الركض جيّدًا وبسرعة ولا تقصّر في ذلك!

 

منذ ذلك اليوم بدأت أتمرّن على الركض، كنت أركض فقط حول ملعب كرة القدم في القرية، وفي كلّ يوم أحاول أن أركض دورة إضافية عن اليوم الذي سبق، كما أحمل فوق كتفي كيس خيش مليئًا بالحجارة وأثقله كلّ يوم أكثر بدلًا عن الذخائر وحقيبة الظهر!

 

كان أولاد القرية الذين عرفوا برنامجي يأتون للمشاهدة، فأضطرّ أحيانًا إلى تبرير ما أفعله، لكن ظلّت مشكلتي الأساسية عدم السماح لي بالذهاب.

 

آخر مرة ذهبت إلى "شعبة تسجيل التعبئة" في سوق تبريز، تواقحتُ ولم أرجع على الرغم من رفضهم المتكرر لي، لقد جعلوني أبكي: "لا التعبئة تسجل اسمي ولا الحرس يقبلني. إذا كيف سأذهب؟". وفجأة قلت لهم: "إذًا سأذهب بنفسي إلى الجنوب! لا بدّ أن يسألني هناك أحد

 

25


19

الفصل الأول: رياض الطفولة

ما لماذا أتيت؟!". هنا، أصبحوا أكثر ليونة وقالوا لي: "جيد جدًا! اذهب وأحضر والدتك لنرى ماذا يمكن أن نفعل".

 

في صباح اليوم التالي، ذهبتُ برفقة أمي إلى مقرّ تسجيل التعبئة في سوق تبريز، وأوصيتها في الطريق أن تجيب بـ "نعم" مهما سألوها، وحذرتها بأنهم لن يقبلوني إن تأخَّرَت في الإجابة أو أجابت بالنفي، فحينها أعود إلى المنزل ومن جديد يعود "النقّ"...

 

عندما سألوا والدتي: "هل أنت راضية أيتها السيدة.. ". قالت مباشرة: "نعم"، أما عندما سألوها عن السبب، بدأت بالكلام وكأنّها وجدت فرصة لتشكو همها فقالت: "لقد أتعبنا منذ شهر! لم يقبل أن أبقى في المنزل وأخذني حتى إلى المخفر. إن لم أرضَ...". لم يعطوني في ذلك اليوم إذنًا بالذهاب، ولم يسمحوا لي بعد ذلك حتى بالدخول إلى فرع التعبئة في سوق تبريز!

 

فكرت في تلك الليلة أنّ آخر الحلول هو إمام جمعة تبريز "آية الله مدني" فقد سمعت من الإخوة أنّه يستطيع المساعدة، ذهبت إليه وبحتُ له بوجعي، وأرشدني إلى حلٍّ لمشكلتي. قال لي: "سوف يوزّعون هذه الجمعة بعد الصلاة استمارات للذهاب إلى الجبهة في مسجد "راه آهن". إن شاء الله عندما تملأها...".

 

توجهت صباح الجمعة بكلّ شوق وحماسة إلى مستديرة "راه آهن" حيث تقام صلاة الجمعة، وذهبت بعد الصلاة مباشرة إلى المسجد حيث وجدت الكثيرين هناك ينتظرون قبلي. عرفت من حديثهم أنّه سيتم توزيع 40 استمارة فقط، لذلك حاولتُ الوصول إلى المقدّمة، واستطعت بالرغم من كلّ الإجراءات أن أكون خامس شخص يحصل على استمارة[1].

 


[1] يقال إنّ الحرس قبل ذلك التاريخ كانوا يرسلون فقط عناصرهم المنتسبين، وفي ذلك التاريخ تمّ إرسال أول دفعة من المتطوعين تحت اسم التعبئة.

 

26


20

الفصل الأول: رياض الطفولة

كان القرار في البداية أن يأخذوا هؤلاء الأربعين تعبويًا للتدريب بعد أن يحصلوا على موافقة لجنة المسجد حيث تمّ ملء الاستمارات. سلّمتُ استمارتي للّجنة الإسلامية في المسجد التي كان خالي الحاج علي أكبر نمكي عضوًا فيها، وتمّت الموافقة عليها من دون أيّ عائق. وأخيرًا فُتح باب الجبهة أمامي، وتوجّهتُ في آخر أيام الخريف من العام 1980م مع مجموعة من المتطوعين إلى ثكنة "خاصبان"[1] للمشاركة في دورة تدريبية لمدة شهر واحد.

كان الأخ "علي تجلايي" أحد المدربين هناك، أمّا مسؤول التدريب فكان من طهران. أدركنا صعوبة ما سعينا إليه عندما جعلونا نركض في أول تدريب صباحي حوالي 8 كيلومترات ولم نعد نقوى على الحركة، لكن كانت هذه البداية، ومع ازدياد فترات التدريب وصرامة المدربين، نسينا صعوبات اليوم الأول. فقدتُ كلّ طاقتي تحت ضغط تلك التمرينات، لكن ليس بالإمكان التهرّب من التدريب تحت أي حجة.

 

في إحدى الليالي، قال لي أحد زملائي في الدورة بعد أن رأى حالي: "إذا أصبتَ بملخ في إصبع قدمك سيعفونك من الركض لمدة". تهوّرت إذ سمعتُ قوله وأخذتُ به، وساعدني هو في شدّ إبهام قدمي حتى تأكدت أنّه ملخ! تسببت لنفسي بالألم وتورم إصبع قدمي على أمل أن يتساهل المدرّب معي قليلًا عندما يرى حالي، لكن ما حصل في صباح اليوم التالي هو أنّني أجبرتُ على لبس الجزمة والركض مسافة 8 كلم في المرتفعات والمنخفضات المحيطة بالثكنة، وكانت هذه المرة الأكثر ألمًا

 


[1] تبعد ثكنة التدريب العسكري (خاصبان) حوالي 30 كلم عن تبريز، وبرامج تدريبها العسكري مشهورة ولا تنسى. كان مركز التدريب (خاصبان) قبل عدة شهور من الحرب المفروضة مكانًا للتدريب العسكري للحرس، وهي تعرف اليوم باسم ثكنة سيد الشهداء عليه السلام.

 

27


21

الفصل الأول: رياض الطفولة

مما سبقها. لعنتُ حظّي السيّئ وركضتُ جنبًا إلى جنب مع الآخرين من دون أن أنبس ببنت شفة، وشاركت في كلّ الصفوف والتمارين، ولم أعلم متى يتعافى إبهامي!

 

في اليوم الخامس عشر من التدريب، أُبلغنا بوجود حاجة ماسّة إلى قوات جديدة في المنطقة فأرسلوا من بيننا نحن الأربعين، عشرين شخصًا كانوا قد خضعوا لدورات أو تدريبات عسكرية سابقة، وأكملنا نحن تدريبنا الشاقّ في "خاصبان". لقد أصبح التدريب أكثر قساوة، وأرسلونا مرتين أو ثلاثًا للتدرّب على القتال الليلي الذي كان صعبًا جدًا ومخيفًا في الوقت نفسه. لم ننعم بالهدوء حتى أثناء تناول طعام الغذاء حيث صاروا يرمون علينا من دون سابق إنذار الغاز المسيل للدموع. وأحيانًا، يباغتوننا أثناء الحراسة الليلية ويأخذون أسلحتنا، وعلينا استعادتها بأي طريقة. شيئًا فشيئًا بدأت آثار التدريب تظهر علينا، ولم نعد تلك القوات الحديثة النفس كما في اليوم الأول.

 

في إحدى الليالي، وفي طريق العودة من تدريب القتال الليلي، طلبوا من كلّ من لديه طلقات أن يطلق النار قبل الوصول، فأفرغ الجميع بنادقهم من الرصاص إلا أنا، فقد خطر ببالي الاحتفاظ برصاصاتي. عندما اقتربنا من الثكنة، تقرّر الهجوم على عدوّ مفترض موجود هناك، فبدأنا التحرك، وبعد أن اقتربنا عدّة أمتار، واجهتنا "تشريكة ألغام" أعّدوها مسبقًا، وبدأ رامي رشاش بإطلاق النار علينا. خطر ببالي فجأة أن أتجاوز الأشرطة الشائكة والألغام التي وُضعت لتدريبنا! فقطعت كلّ العوائق ووصلت إلى مطلق النار، وأطلقت النار باتجاهه مستخدمًا الرصاص الذي كان بحوزتي فخاف المسكين كثيرًا، هنا نادونا فورًا: "يكفي، عودوا!".

 

28


22

الفصل الأول: رياض الطفولة

قالوا بعد نهاية المناورة إنّ أحد الأفراد كاد يقتل الرامي. حاولوا كثيرًا إيجاده، لكنّني لم أعترف بفعلتي، وحين لم يتوصلوا إلى نتيجة، أرشدونا إلى المكان الذي سننام فيه، لكنّهم تابعوا الموضوع في اليوم التالي. بعد المراسم الصباحية تمّ استجوابنا: "من أطلق النار على الرامي؟" فلم يُجب أحد. وأنا أيضًا لم أنطق بحرف! فحُرمنا من الطعام 24 ساعة، وسحبونا إلى الخارج حفاة في تلك الليلة الباردة من ليالي الشتاء، أما أنا فكأنّني لم أكن المسبّب لهذه المتاعب الإضافية. في النهاية، عندما رأوا أنّ أحدًا لن يعترف بشيء صرفوا النظر عن متابعة الموضوع.

 

انتهى شهر من التدريب في "خاصبان"، وانتقلنا إلى تبريز لنذهب بعد يومين إلى الجبهة. لقد اقتربتُ من تحقيق أمنيتي.

 

29

 


23

الفصل الثاني: كردستان

الفصل الثاني:

كردستان

 

التحقتُ بالجبهة في شهر شباط من العام 1981م. ودّعتُ أهلي في المنزل، أما أمي فلم تحتمل وأصرّت على أن ترافقني حتى الحافلة. نُقلنا إلى طهران بحافلتين، كنّا 55 شخصًا، 20 من الحرس والبقية من التعبئة، لم أكن أعرف أحدًا منهم. تحركت الحافلة، وبقيت أحدّق من خلف النافذة إلى المناظر من حولي إلى أن بدأ الجميع يتبادلون أطراف الحديث. كان بعض الذين خبروا الجبهة من قبل يتحدثون عن استخدام العراق قذائف الراجمات وعن قصفهم العنيف بالمدفعيات، وكانت أحاديثهم تذكّرني بكلام ابن خالي عن معارك "سوسنكرد"، شعرت مع هذه الأحاديث أنّني اقتربت من الوصول إلى مبتغاي بعد كلّ الجهود التي بذلتها.

 

عندما وصلنا إلى طهران، انتقلنا إلى ثكنة الإمام الحسين عليه السلام التي كانت مقرًّا للسافاك أيام الطاغوت. بقينا هناك ليوم واحد جاؤوا فيه بأخبار مختلفة! في البداية أعطوا لكلّ واحد منا كلاشينكوفًا وقالوا إنّهم سيأخذوننا إلى الجنوب، وبعد فترة جمعوا الأسلحة وقالوا ستذهبون إلى "كيلان غرب"، ثم أعطوا الجميع أسلحة مرة أخرى وقالوا ستذهبون إلى "كردستان"، إنّه القرار الأخير. لم يكن الخيار بيدنا، وجاء الأمر بالعودة من "طهران" والذهاب إلى تبريز حيث لم نمكث طويلًا وتوجهنا إلى "أرومية".

 

 

30


24

الفصل الأول: رياض الطفولة

لم تكن الأوضاع في "أرومية" مستقرة يومذاك، حيث كانت هناك مواجهات مع المعادين للثورة في المدينة، وقد بقينا ليلًا في مقرّ الحرس الذي قصف في تلك الليلة مرات عدة بقذائف الـ(B7). بعد يومين لم نذق فيهما طعم الهدوء، جاء الأمر بالجهوزية عند الساعة التاسعة والتهيّؤ للذهاب إلى "مهاباد". لم تكن الطرق آمنة تلك الأيام، فالحرس أو الجيش يؤمّنون طريق "نقده - مهاباد" لأربع ساعات فقط في اليوم، أما طريق "مياندوآب-مهاباد" فكانت مغلقة.

 

سلّمونا أسلحتنا وعتادنا وذكّرونا بما يجب علينا فعله في حال الاشتباك. تقرّر الذهاب إلى "مهاباد" بآليتي "إيفا"، وتحركنا موجهين أسلحتنا إلى الخارج في حالة من الجهوزية، لكن لم يحصل أي اشتباك في الطريق حتى وصولنا إلى "نقده" حيث أُخبِرنا بأنّ الطريق بعد تقاطع "نقده" غير آمنة بتاتًا، ويجب بالتالي أن نكون حذرين. رافقتنا من هناك قوات في آلية "سيمرغ" مع آليتي مدفعية (106) وآليتي رشاش عيار 50 حيث التحقت بالقافلة، وشكلت لنا نوعًا من التأمين والحماية[1]. تابعنا طريقنا من جديد في حالة من الجهوزية، لكنّ شيئًا لم يحصل حتى وصولنا إلى مشارف "مهاباد"، وهناك انفجر دولاب إحدى آليتي "إيفا" التي كانت تقلّنا فاضطررنا إلى التوقف. أنزلونا بسرعة، وجاء الأمر بالتحصّن خلف الصخور والجبال المحيطة بالطريق ريثما يتمّ إصلاح الدولاب، فتموضع الجميع خلف الصخور على جانبي الطريق. كنت قرب صخرة حين توجه شخص إليّ وطلب مني ماءً ليشرب فأعطيته مطرتي، شرب وجلس بجانبي. عندما عرفت أنّه تبريزي ومن سكان شارع "باستور" تذكرت صديقي "أبو الفضل بازارتشي"[2] الذي كان


 


[1] لم تكن الدوشكا أو الشيلكا معروفة تلك الأيام.

[2] كنت قد تعرفت إلى "أبي الفضل بازارتشي" في صلاة الجمعة، وأصبح أحد أفضل أصدقائي. كان أصغر سنًّا مني لكنه كان من العظماء الذين نالوا وسام الشهادة ما إن وطأت قدماه أرض الجبهة.

 

31


25

الفصل الثاني: كردستان

يسكن هناك فسألته إذا ما كان يعرفه، وسررت حين أخبرني - مبتسمًا - أنّه أخوه، في تلك الأثناء أنهوا إصلاح الدولاب ونادونا لنركب السيارة بسرعة ونكمل طريقنا. طوال الطريق كنّا نردد أناشيد ثورية بالتركية (ومعناها):

جيش الإسلام يتحرك في الجبال وبين الصخور، ولا يهاب شيئا

عشيرتي من "آذر"، وابن آذربيجان ليس جبانا

لن أتوقف، سأكمل المسير

السلاح في يدي

سأذهب إلى الحرب حتى نمسك بصدام اليزيدي.

 

لم نسمع صوت طلقة واحدة حتى وصولنا إلى مشارف "مهاباد"، وكانت الأجواء في المدينة نفسها أكثر هدوءًا حتى من "أرومية" وكأنه لا يوجد شيء هناك، لذلك ما إن وصلنا إلى قيادة الحرس حتى ارتفعت أصواتنا اعتراضًا: "لا يوجد اشتباكات هنا! لماذا جئتم بنا إلى هنا؟ نحن نريد الذهاب إلى الجنوب...". عاتبناهم كثيرًا، لكنّ جوابهم أسكتنا: "الاشتباكات هنا أشدّ من الجنوب... مهاباد من المدن الأساسية في كردستان، انتظروا حتى الليل وسترون ماذا سيحصل!". قلت في نفسي أنتم أخفتمونا من النهار ولم يحصل شيء، ماذا سيحصل في الليل إذًا؟

 

وعندما حلّ المساء بدأت الاشتباكات واستمرّت طوال الليل، إلى أن ذهبت في الصباح إلى مقرّ الحرس في "مهاباد" وكنت راضيًا![1].

 


[1] السبب الأساسي للحرب في كردستان أنّ الأحزاب السياسية هناك كانت تطالب بالاستقلال الذاتي. كان الحزبان: الشيوعي (الكوملة) والديمقراطي الكرديّان من الأحزاب الفاعلة في كردستان قبل سنوات عديدة من انتصار الثورة، وشكلا مع المنافقين والجماعات المعادية للثورة التي نشأت في مناطق من كردستان، القوات المسلحة الأساسية التي واجهتنا. وقد مكّن موقع كردستان الجغرافي في جوار تركيا والعراق القوات الكردية المسلحة من الحصول على التجهيزات العسكرية عبر الحدود. كانت الحرب في كردستان قاسية وعنيفة، وامتدت جبهة هذه الاشتباكات من مياندوآب حتى كرمانشاه بطول 500 كلم. كان أهالي المدن في البدايات يدعمون الديمقراطيين والكوملة، وكانوا عندما تحين الفرصة لهم، يوجهون ضربات لدورياتنا من منازلهم أو يهيئون الأرضية لهجوم مسلح، حتى إنّ بعض النساء المتحزبات كنّ في الأيام الأولى لوصولنا إلى مهاباد يرمين الإخوة بالقنابل من خلف أبواب بيوتهن، ولهذا كانوا يحذّرون الأفراد القادمين إلى كردستان أن ينتبهوا من كلّ شيء يشكّون فيه، ويقولون إنّ العدوّ يحيط بنا من جميع الجهات!

 

32


26

الفصل الثاني: كردستان

تقع ثكنة الحرس التي استقررنا فيها على أطراف المدينة تقريبًا، وتبعد حوالي 200م عن ثكنة الجيش. عرفنا منذ الليلة الأولى أنّ الأكراد يشتبكون مع الحرس فقط ولا يتعرّضون للجيش. كان للحرس أكثر من عشرين نقطة في "مهاباد" وهي مدينة صغيرة، وفي كلّ نقطة ضابط، معاون، عنصر إشارة وعدد من الجنود. استمرت قوات الكوملة تهاجم يوميًا بعض هذه النقاط وتسيطر عليها، فنقوم نحن بشنّ هجوم مضادّ عليهم ونستعيدها منهم. كان ضابط العمليات في الحرس هناك شابًّا طهرانيًا حذقًا وشجاعًا يبلغ من العمر 22 عامًا ويدعى "صالح." وكان يوجد من القوات في المدينة أكثر ممّا يوجد في المدن الأخرى كتبريز، طهران، قزوين، آبعلي، كرمان و..

 

قيل لنا في بداية تجربتنا هناك إنّه لا ينبغي أن ننام في الليل أبدًا، أمّا في النهار فكانوا يطلبون منّا الانتباه والتدقيق في كلّ شيء، فكنّا نمزح مع بعضنا البعض ونقول: "إذًا متى ننام؟!".

 

بقينا في أول يومين في أقصى حالات التأهب ولم تنم أعيننا ليلًا ولا نهارًا. من الأخطاء التي ربما ارتكبت في تلك الأيام أنّهم كانوا يخوّفون العناصر الجدد منذ وصولهم إلى كردستان ويقولون لنا إن سها أحدكم فسيقطع رأسه... وكان من الطبيعي، مع هذا الكلام، أن نبقى متأهبّين دومًا لكن مع شيء من الخوف والقلق. كما إنّهم لم يخبرونا شيئًا عن شجاعة قواتنا التي قاومت الكوملة والديمقراطيين بجرأة حتى اليوم، بل راحوا في كلّ فرصة يحذروننا: لا ينبغي هنا أن تذهبوا وحدكم إلى

 

33


27

الفصل الثاني: كردستان

المدينة، لا تثقوا بأحد هنا، لا يجب...

 

أرسلونا في ظلّ هذه الأجواء، وفي أول توزيع للقوات، إلى مركز "بنك سبه" القريب من مستديرة "كوزنها"[1]، وقد عرفت المستديرة بهذا الاسم بسبب وجود مجسم لـ"ظبي" فيها.

 

يوجد في جانب من جوانب هذه المستديرة "بنك سبه"، وفي جانب آخر منها إدارة التبغ ومقرّ محافظة "مهاباد"، كما يمرّ نهر في جانب ثالث لها. قليلة هي الأيام التي مرت هناك من دون اشتباكات، فقد كانت تبدأ دومًا من جهة النهر حيث البيوت في الضفة الأخرى للنهر متصلة بالغابة فتشكل أفضل مكان للاختباء قبل الاشتباك وبعده.

 

منذ دخولنا المركز، أُخبرنا كيف قطعت قوات الكوملة رؤوس 39 عنصرًا من قواتنا في "إدارة التبغ" وسلبوهم بعد ذلك أسلحتهم وقذائفهم، بثّ هذا الحديث الرعب في قلوبنا، لكن مع الوقت تعرفنا أكثر فأكثر إلى طريقة الاشتباكات وأتقنّاها بعد يوم أو يومين، في البدء كلّ شخص يعبر من هناك على دراجة نارية ثلاثية العجلات أو يبيع الفاكهة، وفجأة ترونه قد أخرج سلاحه و...

 

في الأيام الأولى تلك، قتلت للمرة الأولى واحدًا من الأعداء. كانت المسافة بين "بنك سبه" والمستديرة تتراوح ما بين الـ 30 و40م، وكان هناك متراسان من الإسمنت على بعد أمتار من المركز، كنت وبعض العناصر يومذاك موجودين هناك. عادة ما استخدم الكوملة نوعًا من الرصاص المتفجر لتدمير متاريس الباطون، ولو لم نتجهّز لهذا الأمر مسبقًا، لا أحد يعرف ما الذي كان سيحلّ بنا. بدأ الاشتباك عندما رأيت شخصًا يجول على دراجة نارية ثلاثية العجلات في المستديرة، ظننته في البداية عابر سبيل فناديت بالتركية: "دعه يذهب!"[2]، هم يفهمون هذه اللغة، لكنّه


 


[1] ومعناها مستديرة الظباء، حيوان الظبي.

[2] كئش كئت!

 

34


28

الفصل الثاني: كردستان

لم يعبأ بكلامي، بل أخرج سلاح الكلاشينكوف! فأطلقتُ عليه النار مباشرة وسقط أرضًا. لم أعرف إن كان قد جرح أو قتل، وكان الشخص الأول الذي يسقط برصاصي. خفت كثيرا! تراجعت من المتراس إلى المركز وبقيت هناك. انزعجت كثيرًا ولم أستطع حلّ هذه المشكلة. ذهبت إلى مسؤول مركزنا الذي كان من شباب حيّ "عباسي" في تبريز[1]، وقلت له إنّني قتلت أحدهم! كانت يداي وقدماي ما زالت ترتجف. قال لي ببرود: "وماذا يجب أن يحصل؟! كان عدوّا، وإن لم تقتله قتلك!". أراحني كلامه قليلًا، لكن بقيت أفكر أنّني ارتكبت ذنبًا بسبب قتلي أحدهم. مضت أيام حتى اعتدت على الأمر وبدأت "الحرب" تظهر لنا وجهها الحقيقي في كردستان.

 

كان الكوملة والديمقراطيون يملكون زمام المبادرة في المدينة، فهم يتلقّون الدعم والحماية من أيّ منزل قصدوه ولو بالقوة، أما نحن فلم نكن نتوقع مساعدة أحد من الناس. وكان بالقرب من إدارة التبغ منزل توجد فيه ثلاث فتيات. عرفنا مع الوقت أنّ هؤلاء الفتيات غير الملتزمات بالحجاب الشرعي واللواتي يلقين بأنفسهنّ التحية علينا على مدى أيام وينادين الواحد منّا بـ"الأخ"، كنّ يأتين مساءً لمساعدة الكوملة عند الاشتباكات ويرمين علينا القنابل. لقد اعتاد الناس على الاشتباكات، وعادة ما كان يسقط في المواجهات التي كانت تحدث في المدينة مدنيّون من المارة وأبناء السوق.

 

في هذه الأجواء، كان لمركز "بنك سبه" وضع خاصّ، فوثائق ومستندات البنك منتشرة في كلّ مكان، إضافة إلى عدد من الكتب التي نشرتها قوات

 


[1] كانت تصرفاته غريبة، كان ينفعل كثيرًا في بعض الأحيان، لكنه شخصٌ شجاع، وقد استشهد في كردستان. نسيت اسمه للأسف. رحمه الله.

 

35


29

الفصل الثاني: كردستان

الكوملة على ما يبدو، لكننا لم نطّلع عليها على الرغم من أنّنا نمضي أوقات فراغنا هناك. كان من بيننا عددٌ من طلاب الجامعة يوضحون لنا بعض القضايا والمسائل، وأقيمت أيضًا دروس في الثقافة والعقيدة والعسكر، كانت مضامينها مفيدة جدًا للعناصر الجدد أمثالي. عادة ما تمكث القوات في كلّ مركز قرابة العشرين يومًا، ثم تنتقل إلى مركز آخر. ونحن أيضًا انتقلنا فيما بعد إلى مركز في أطراف مستديرة "كوزنها".

 

غالبًا ما كان الديمقراطيون يهاجمون مراكزنا في الليل، لكن في أحد الأيام وقع اشتباك نهارًا، فذهبت إلى سطح البيت المجاور وعندما توقف إطلاق النار وأردت النزول، اعترضني صاحب البيت. قال لي بالكردية: "لقد أطلقتم قذيفة (B7) ودمرتم الحائط في غرفتنا"، توقفت قليلًا، كنت وحدي والفرصة مناسبة جدًا له ليباغتني، ولأنّني دائم الشك بهم قلت له: "حسنًا، تقدّم أنت وافتح الباب لنرى". لم يتحرك! كررت كلامي لكنّه لم يتزحزح وأراد منّي أن أتقدّم أولًا.

 

شهرت سلاحي بوجهه، فاضطر إلى النزول من على الدرج، ووقف أمام الباب وانتظر لأفتحه فراودني شك كبير به. لو تضرّر منزله لكان يستطيع أن يأخذ تعويضًا من الحرس. فتح الباب بعد إصراري عليه وتهديدي له بالسلاح ورأيت الغرفة سليمة ومرتبة. نظرت إليه، ومن دون أن أخسر المزيد من الوقت خرجت من المنزل بسرعة لأذهب إلى مركزنا الذي كان الأكثر أمنًا في الحيّ.

 

كانت ليالي كردستان غريبة وقاسية. لقد أصبحت أصوات الاشتباكات الليلية في مراكز المدينة وفي الأطراف مألوفة جدًا إلى درجة أن نشك ونستغرب إذا ما مرت ليلة ولم نسمع فيها أصوات الانفجارات، لذلك توزّعت القوات في كلّ مراكز المدينة، ولم تجتمع تحت أي ظرف كان. لم يكن في مركز القيادة الكثير من القوات أيضًا لأنّه مكان ظاهر ومعروف للديمقراطيين، ولو أنهم وجهوا إليه عشر أو اثنتي عشرة قذيفة لأبادوه بمن فيه. لذلك لم تكن تقام أساسًا مراسم جماعية في كردستان. عندما

 

36


30

الفصل الثاني: كردستان

كنت في مقرّ قيادة "مهاباد" أحببت أن نقرأ دعاء كميل في ليالي الجمعة بشكل جماعي، إلا أنّ الأخ "حداد" معاون صالح وزّع الإخوة على الغرف حتى لا تكون خسائرنا كبيرة في حال تمّ قصف المكان بالهاون، لذلك لم يتوافر هناك، في مثل هذه الظروف، مجال واسع للمزاح والمشاكسة، ومع ذلك كان البعض يتحيّن الفرص ليمازح الجميع.

 

بقيت لمدة مساعد المسؤول في مقر مستديرة "كوزنها"، وكان مسؤولنا من شباب قزوين. ذات يوم، كان هذا الأخ رائق المزاج فقال للإخوة: "هل تريدون أن أعلّمكم لعبة جديدة؟".

- ما هي؟

- اجتمعوا كلكم في الغرفة لأخبركم ما هي.

 

عادة ما كان يوجد في المركز قرابة العشرين عنصرًا عدا عن الذين يحرسون سطحه ومحيطه مداورة في الليل والنهار، اجتمع هؤلاء في الغرفة وبدأت لعبة "وضع العمامة"! لم يكن أحد يعرف ما هي هذه اللعبة. قال: "معي عمامة ستوضع على رأس الجميع، فمن تكون العمامة بحجم رأسه يأخذ تومانًا، ومن لا تكون بحجم رأسه يدفع تومانًا، وهناك شرطان للعبة، الأول أن تُطفأ الأنوار، والثاني، ينبغي أن يبدأ أحد ما اللعبة من أحد الجوانب ويشارك فيها الجميع". ضحكنا قليلًا وأطفأنا النور. كان الشخص الثاني أول من أجبر على دفع الـ (تومان) لأن العمامة لم تكن بحجم رأسه... عندما وصل الدور إليّ كنت قد حضّرت تومانًا، لكنّه مسح بيده على وجهي أيضًا عندما أراد أن يضع العمامة على رأسي، ثم ذهب إلى الشخص الجالس بقربي. أخيرًا انتهت اللعبة وأضأنا النور. كانت أشكالنا تستحق المشاهدة! انفجرنا من الضحك، كان مسؤول هذه الفوضى قد جمع "الشحار" من داخون سخان المياه ووضعه في العمامة، ولوث به وجوهنا حين مسح بيده عليها في تلك العتمة. كانت تلك الليلة

 

 

37

 


31

الفصل الثاني: كردستان

من ليالي كردستان المعدودة التي ضحكنا فيها كثيرًا.

 

بعدها لم تترك الاشتباكات وشهادة الإخوة وإصابتهم فرصة ومجالًا لنا لتكرار المزاح والضحك، لكنّني قرّرت أن أردّ الصاع لمسؤولنا القزويني بأيّ شكل كان.

 

في إحدى الليالي وصل الدور إليّ بعد هذا الأخ القزويني في توزيع مناوبات الحرس الثانية التي تبدأ في تمام الثانية عشرة. جاء في الوقت المحدّد وأيقظني وقال: "سيد! سأذهب لأنام، انتبه...". ذهبت أولًا إلى نقطة الـ"آيفون"(انترفون داخلي) حيث كنّا نتواصل مع الإخوة الذين يحرسون المدخل أو السطح، وأخذت معي الشاي للحرس أيضًا. تفقّدت أحوالهم وسألتهم إن كانوا قد ارتابوا في شيء ما أم لا. بدا أنّ الهدوء يسود المكان. بعد ساعة حلّ الوقت المحدّد لتبديل الحرس. وعندما دخلت المبنى لأوقظ المعنيّين بالمناوبة الثانية رأيت مسؤولنا القزويني يغطّ في نوم عميق. أيقظتهم بسرعة وأرسلتهم ليأخذوا مكان الحراس في المناوبة السابقة. عدت إلى المبنى وأطفأت سخان الماء ليبرد، ثم وضعت "الشحار" في علبة وذهبت إلى هذا الأخ القزويني. كان يتقلّب كثيرًا أثناء النوم، أمسكت بوجهه أولًا ثم مسحت الشحار على رأسه ووجهه! وبعد أن أنهيت عملي عدت إلى نقطة الآيفون، كنت قلقًا بعض الشيء لأنّني تركت المكان هناك خاليًا لبضع دقائق. اتصلت فورًا بالأخ الموجود في نقطة الحرس الأمامية وتحدّثت إليه، إلا أن أحدًا لم يجبني. أصبت بالذعر، ركضت وصعدت إلى السطح من دون سلاح. كان الحارس نائمًا! عندما وصلت إليه لمحت طيف شخصين من على مسافة سبعة أو ثمانية أمتار. مددت يدي إلى سلاح الحارس إلا أنّه وثب من نومه وتمسك بسلاحه بشدة. صحت به: "أعطني السلاح"، راح يهلوس مذعورًا: "ماذا حصل؟.. ماذا حصل؟.." عندما سمع الشخصان صوتي عادا وفرّا عبر السطوح الملتصقة ببعضها - والتي كانت قد ساعدتهما

 

38


32

الفصل الثاني: كردستان

على الوصول - أطلق الحارس النار عليهما بعد أن عاد إلى رشده ليُسمع صوت الرصاص مرة أخرى. نزلت عن السطح وكان الإخوة قد استيقظوا أيضًا. رأيت مسؤولنا أمام مرآة كبيرة في الصالة يقترب منها قليلًا ثم يرجع مبهوتًا. لقد استيقظ هذا المسكين على صوت الرصاص وأخذ سلاحه ليذهب إلى الأعلى، لكنّه في ذلك الوضع رأى صورة لا تشبهه! لم يكن يعرف بعد ما حلّ به...

 

لقد صفّيت حسابي معه، وربما كان من المصلحة أيضًا أن أتغافل قليلًا ثم أذهب إلى السطح لأرى ماذا يحدث.

 

هكذا انقضت خمسة وأربعون يومًا في "كردستان" لتسمح لنا القيادة بأخذ إجازة لمدة خمسة عشر يومًا، فعدنا إلى تبريز، ومن هناك ذهبت إلى القرية. صرت أواجه باستمرار أسئلة من أفراد عائلتي وأصدقائي خاصة "بازارتشي" وخالي عن وضع الجبهة والحرب: "كيف تحاربون؟ ماذا تفعلون أساسًا؟ كيف هي الاشتباكات؟.. ". وأجيب: "يطلقون النار قليلًا، ونطلق النار قليلًا، يقتل أحدنا الآخر و..". يسألون مستغربين: "هل يقتلون الناس هناك فعلًا؟!".

 

مضت الخمسة عشر يومًا بسرعة كبيرة، وعدنا إلى "مهاباد" عبر "أرومية" كما في المرة الأولى، ومع المرافقة وسيارات الحماية نفسها. أرسلونا هذه المرة إلى مركز آخر قريب من شركة الاتصالات حيث تعرفت إلى "أكبر واثقي"[1] من أهالي "قراملك" في تبريز، وهو يتيم الأبوين ويعيش في منزل أخيه. عمل راعيًا ولديه العديد من الأغنام يهتم بهم كما قال. كان رجلًا عظيمًا، طاهرًا، حلو المعشر، ومؤمنًا، يستأنس


 


[1] اغتيل "أكبر واثقي" في مهاباد فيما بعد ونال وسام الشهادة التي كان يليق بها كثيرًا.

 

 

 

39

 


33

الفصل الثاني: كردستان

بالصلاة. أحببناه وصرت أمضي معظم أوقاتي معه.

 

كالعادة، كانت الاشتباكات الليلية برنامجنا في "مهاباد"، ونهارات أغلب الأيام تمضي بهدوء. المركز الذي استقررنا فيه هو عبارة عن منزل يقع بين شركة الاتصالات وإدارة التبغ ويبعد حوالي 150م عن مركزنا السابق. أخبرنا "أكبر واثقي" في أحد الأيام أنّ الديمقراطيين مجتمعون في المنزل الواقع على مسافة 100م من شركة الاتصالات خلف المسجد. ليلًا، تحركت وأكبر وشخصين من "آبعلي" من على السطح باتجاه المنزل الهدف. كنّا نقوم بهذا العمل تحت مسؤوليتي، فقلقتُ شيئًا ما من أن يكون اشتباكنا بلا فائدة لا قدّر الله. ما إن رأينا الحراس على سطح المنزل حتى بدأت الاشتباكات، عاجلناهم برمي قنبلتين داخل المنزل وعدنا، لكن عندما وصلنا إلى المركز قال أكبر بقلق: "قنبلتي ليست معي! لقد وقعت في الشارع حتمًا.."، فقلت له: "هيا بنا لنذهب! سيكون الأمر سيّئًا إذا ما وقعت تلك القنابل بأيدي الناس، سيقولون انظروا كيف فرّوا ولم يأخذوا قنابلهم معهم!". لكن لم يكن الوضع مناسبًا لنخرج ثانية من المركز، فانتظرنا حتى الصباح وذهبنا قبل شروق الشمس ووجدنا القنبلة وسط الشارع، فكرتُ هناك أنّه من الأفضل أن نلقي نظرة على مكان الاشتباك. كانوا قد أخلوا المنزل، والدماء المتناثرة على الأرض تُظهِر أنّ عمليتنا في الليل لم تكن بلا نتيجة، وشاهدت في الزقاق شابًا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره يحمل بيده رشاش "عوزي"، وما إن رآني حتى هرب، حين رأيت أنّني لن أصل إليه صوّبت على قدمه وأطلقت النار. حين سقط أرضًا ركضت نحوه، أراد أن يتناول سلاحه الذي وقع أرضًا فلم أدعه يصل إليه. كان أصغر منّا بقليل، حملناه على ظهرنا وأخذنا سلاحه أيضًا وذهبنا في طريقنا. حدّدت الدماء التي كانت تسيل من هذا الولد مسيرنا، وكنت واثقًا أنّ صاحبه سوف يأتي خلفنا، وفكرت أنّ الولد الذي يحمل رشاشًا من نوع عوزي، لا بدّ أن يكون 

 

40


34

الفصل الثاني: كردستان

مع والده رشاش ثقيل. قال لي مسؤول المركز عندما رآنا: "أرسلتك لتجد القنابل أم لتطلق النار على ولد وتحضره إليّ!". أخبرته أنّه كان يحمل سلاحًا ولا يُستبعد أن يكون قد شارك في تلك الجلسة (الاشتباك). أخذوه وحققوا معه وحصلوا منه على الكثير من المعلومات.

 

أُرسلتُ في أواسط آذار من العام 1981م إلى تلة التلفزيون. كان مقرّ التلفزيون من أهم النقاط في المدينة، ويجب حمايته بأفضل ما يمكن، وقد تمّ إنشاء عددٍ من المراكز حول هذه التلة ما قلّل من نسبة الاشتباكات في مركز التلفزيون نفسه. يوجد في هذا المقرّ حوالي 22 عنصرًا، وكان من أكثر الأماكن راحة بالنسبة لي في كلّ فترة وجودي في كردستان، فللحضور هناك امتيازات خاصة، إضافة إلى انعدام الاشتباكات الجديّة فيه. عمد العاملون هناك أحيانًا إلى بثّ أشرطة لطم ومجالس عزاء وعرضوا أفلامًا عن الحرب تروقنا. كان قلبي ينشدّ إلى جبهة الجنوب كلما شاهدت أو سمعت شيئًا عنها. وحين علمت أنّ أحد الأفراد الموجودين هناك قد أمضى فترة في جبهة الجنوب سابقًا، صرت أنهال عليه بالأسئلة. وفيما يروي كيف أصاب دبابة و... رحت أسأل: "أنّى لي أن أعرف كيف رميت الدبابة، أخبرني كيف كانت تشكيلة القوات؟ وما هي قاعدة الحرب هناك؟". كان ما يقوله شبيهًا بالأفلام التي يركض فيها التعبويون بنداء الله أكبر مئات الأمتار إلى الأمام ويُسقِطون الهدف! لم أصدّق أنّ جيش صدام البعثي جاهل إلى درجة يمكن قتاله بهذه الطريقة.

 

وقع اشتباك واحد فقط خلال فترة الشهر التي قضيتها في تلة التلفزيون وذلك في يوم النوروز عام1360 (21 آذار 1981م). كان الجميع جالسين صباح ذلك اليوم حول سفرة العيد ينتظرون لحظة

 

41

 


35

الفصل الثاني: كردستان

بداية السنة الجديدة، حوالي الحادية عشرة. في ذلك اليوم كنت أفكر أنّه العيد الأول لي بعيدًا عن البيت وفي الجبهة، والله وحده يعلم كم ستطول الحرب وإلى متى سأبقى أنا! وإذ بصوت انفجار ورشقات من الرصاص تجعلنا نخلي السفرة. قلت مازحًا: "اجتمعوا، إنها لحظة بداية السنة الجديدة!". استمرّت الاشتباكات في أطراف التلة حوالي ساعة أو ساعتين، وعندما هدأت الأصوات وعدنا إلى مركز التلفزيون، وجدنا أنّ الإمام قد أنهى كلامه بهذه المناسبة، وفاتنا سماعه.

 

بعد فترة، أرسلونا مجددًا إلى "بنك سبه"، خلال شهر رمضان. طلبوا منا في أحد الأيام تأمين الطريق الممتدة على مسافة 35 كلم من "مهاباد" حتى تقاطع "نقده"، والتي كانت قوات الجيش تؤمّن نصفها والإخوة في الحرس يؤمّنون النصف الثاني، وكان من المقرر الذهاب بثلاث آليات لتأمينها. عادة ما تستمر عملية تأمين الطريق من الصباح حتى أذان المغرب، ولأننا كنّا صائمين سألنا الإخوة القدامى: "ماذا عن صيامنا؟"، فقالوا: "يجب أن تفطروا"، عندها شربت الماء فورًا ولم أكن أعرف أنّ الضابط ينظر إلي، ناداني فجأة: "أنت لماذا أفطرت؟"، تلعثمت، وقلت له: "أنتم قلتم إنّنا سنذهب للتأمين". لم يتراجع - وكان اسمه "محسن" وهو من الإخوة في الحرس في تبريز- ورماني في غرفة المرحاض عقابًا وعبرة للآخرين! انزعجت كثيرًا. ذهبت إلى شباك صغير مطلّ على الفناء الخارجي للمركز وحاولت فتحه حتى نجحت في ذلك، ومن هناك توجهت إلى داخل المبنى. كم تعجبت حين رأيت كلّ الإخوة قد أفطروا، ويتناولون طعامهم قبل التحرك لتأمين الطريق! مع هذا كنّا نحب الأخ محسن[1].


 


[1] كان من قوات خاصبان، وكان حذقًا وشجاعًا جدًّا. رافقنا أول مرة إلى كردستان حيث كنا حوالي 90 عنصرًا. وقد قُدِّم لنا في مهاباد كمسؤول عنا.

 

42


36

الفصل الثاني: كردستان

بعد عدة أيام، وفي أواخر أيام شهر رمضان المبارك سنة 1981م، جاءت إحدى النساء الكرديات بعد الظهر وأخبرتنا أنّ الديمقراطيين قد نصبوا كمينًا في تقاطع "كوزنها"! كنّا تسعة أشخاص في المركز، وبعد التداول في الأمر توصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ تلك المرأة كاذبة لأنّه لم يحصل حتى ذلك اليوم أن جاء أحد من أهالي البلدة وقدّم لنا المساعدة. عند الغروب جاء سائق المركز وملأ خزان المياه، وركبنا نحن في سيارة (بيك آب) لنقوم بجولة في المستديرة، وجلست أنا خلف السائق، وما إن ابتعدنا عن المركز قليلًا حتى انتبهت إلى أنّني نسيت سلاحي، طلبت من السائق التوقف فورًا وعدت إلى المركز بسرعة وأخذت سلاحي، في هذه الأثناء رموا السيارة بقنبلة يدوية. كان في السيارة 9 شباب استشهدوا جميعًا في لحظة واحدة ما عدا شخص واحد، واحترقت أجسادهم، وهناك استشهد الأخ الشيخ "كاظم كاظمي"، لقد كانت لحظات مرّة. احترقت أجساد الشهداء الطاهرة فيما لم نكن نستطيع الاقتراب منهم بسبب تلك الحرارة الصاهرة. بعد التواصل مع القيادة، جاء الأمر بعدم الاقتراب من السيارة والعودة إلى المركز. كان عدد الديمقراطيين والكوملة كبيرًا في المدينة، والمواجهات في مثل هذه الظروف ستؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوفنا. لم نكن نعلم حتى الليل أنّ أحد الإخوة رمى بنفسه من السيارة لحظة انفجار السيارة وأصيب بثلاث شظايا في بطنه. وأخبرنا فيما بعد أنهم جاؤوا ليطلقوا عليه رصاصة الرحمة، لكن عندما رأوه ملقى على الأرض قرب الساقية بلا حراك، قالوا لا حاجة لذلك فقد مات، وذهبوا. رأى حارس المركز في تلك الليلة شخصًا يجرّ نفسه من المستديرة باتجاه المركز فهرعنا بمساعدة الإخوة إلى نجدته.

 

طُلب منّا في تلك الليلة البقاء على جهوزية تامة لعلمهم بأنّ العدو سيشنّ هجومًا على المركز، ظنًا منه بأنه لم يبق فيه أحد، فانتظرناهم على أحرّ من الجمر. عند الساعة العاشرة مساءً، كنت أحرس أمام

 

43


37

الفصل الثاني: كردستان

المركز عندما التفتّ إلى شخصين عبرا الشارع. أصبحنا جميعنا نعرف حيلهم، قبل الهجوم، يعبر شخصان من أمام المركز الذي يريدون استهدافه، فإن أظهرت القوات الموجودة فيه ردّ فعل يعزفون عن الهجوم، وإلا يبدأ باقي العناصر الذين يكمنون في نقطة أبعد الهجوم. عندما رأيت هذين الشخصين في تلك الليلة قلت للإخوة "دعوهما وشأنهما وانبطحوا على الأرض واستعدّوا"، فخرج عدد من الإخوة من المركز وتموضعوا على جانب الطريق. تحرك الديمقراطيون بسرعة باتجاه المركز، وما إن اقتربوا منا حتى رماهم الإخوة بوابل من الرصاص وقتلوا عددًا منهم في اللحظة الأولى. لقد هاجمونا في تلك الليلة مرّتين، لكنهم لم يستطيعوا السيطرة على المركز.

 

بعد مدة استدعوني إلى مقرّ القيادة وسلموني مسؤولية مركز شرطة السير في "مهاباد". يتابع عناصرها هناك الأمور المتعلقة بالقيادة والمرور، وينزلون إلى الشوارع بلا سلاح، ولم يحدث أن وقع اشتباك بينهم وبين الناس. أما نحن، فلأننا كنّا مكلفين بحفظ الأمن في تلك الناحية من المدينة، فقد حملنا أسلحة خفيفة كالرشاشات و الـ(B7). كان المسؤولون في الشرطة يراقبوننا ويتابعوننا، وعندما عرف أحدهم أنني لا أحمل رخصة قيادة، أخبرني بأنه المعني عن هذه الأمور، وأنّه يستطيع تأمينها لي، لكنّني لم أكن أفكر بها أبدًا وقلت له: "من غير المعلوم إن كنت سأعيش أكثر وأذهب إلى تبريز وأستفيد منها...". قال إنّه من الصعب الحصول عليها في تبريز، ولكنّني لم أقتنع.

 

يتصل هذا المركز بالمدينة عبر جسر وقد وقعت فيه عدة اشتباكات. كان الإخوة يقفون عادة على جوانب الطريق للتأمين. انسجمت هناك مع أحدهم أكثر من غيره وهو "كريم برويزي" من مدينة آذر ويبلغ من

 

 

44


38

الفصل الثاني: كردستان

العمر 16 أو 17 عامًا، وعندما تعرّفنا أكثر إلى بعضنا البعض، أدركتُ أنّه يتيم الأم. كان قلبي يحترق لأجله عندما يتحدّث عن أمه، فحاولت أن أعطف عليه. ذات يوم جاء والده لرؤيته، وأمضى الليلة في المركز، وأحضر له الفستق وأنواعًا أخرى من المأكولات.

 

في اليوم التالي، كنّا ننتظر دورنا في الصف للاستحمام، وكان قد جاء دور كريم حين أخبرونا أنّ الإخوة يخوضون اشتباكًا في الحيّ المجاور، وأنّه لا مجال للتأخر، قلت لكريم: "أسرع، فهؤلاء الإخوة لا يعلمون ما ينبغي عليهم فعله!". والقوات التي دخلت في اشتباك مع الديمقراطيين قد جاءت للتوّ من "آبعلي" ولم تَخبُر بعد أساليب الاشتباك. بعد دقائق وصل خبر اشتداد الاشتباكات، وأنّ الإخوة بدأوا بالتراجع، فذهبت ناحية الجسر لأتابع الأحداث عن قرب. رأيت الديمقراطيين يعبرون الشارع بين الجسر ومستديرة "كوزنها" واضعين الناس أمامهم دروعًا بشرية، وقد التفوا على مجاهدينا من الخلف وراحوا يطلقون عليهم النار. أُجبرت على إطلاق النار عليهم، وكانت الاشتباكات قد امتدت إلى عدة منازل. لجأنا إلى قاذف الـ(B7)، إلا أنّ قسمًا منها انكسر، ولم تعد صالحة للعمل، فأحضر الإخوة الرشاشات، وبدأنا الرمي عليهم إلى أن أسكتناهم. بعد دقائق، جاء الأمر عبر جهاز اللاسلكي بالانسحاب التدريجي والعودة إلى المركز لأنّ خسائرنا كانت ستزداد إذا استمرت الاشتباكات. حين ذاك قال لي كريم: "سأذهب إلى الجهة الأخرى من الشارع".

 

- لا، أنا...

 

لم يتركني أكمل كلامي وقال: "إذا استشهدت أنت ستحزن أمك، أما أنا... حسنًا، ابدأ بالرمي الآن لأستطيع العبور". بذهاب كريم إلى الجهة الأخرى سيطرنا على الموقف أكثر، واشتدت الاشتباكات من كلّ الجهات. كنت وكريم ننادي بعضنا البعض عند كلّ فرصة، وكنت

 

45


39

الفصل الثاني: كردستان

أميز صوته بسهولة من بين أصوات الرصاص المتفجر في تلك الجهة من الجسر. فجأة، تغيّر صوته ولم يعد يجيبني رغم نداءاتي المتكررة له. استأتُ وتوقعتُ أن يكون الديمقراطيون قد استهدفوه من الخلف. وصلتْ في تلك اللحظة (عربة) آلية بثلاث عجلات من جانب الجسر، فقلت لسائقها: "ابق هنا حتى أعبر". لكنّه لم يُعِر أهمية لكلامي. أصبح الناس الذين تعوّدوا على الاشتباكات هنا لا يكترثون لكلامنا لأنّهم يعلمون أننا لن نتعرّض لهم. استغللتُ في لحظة واحدة حركة هذه العربة وألقيت بنفسي خلف الدشمة. كان كريم قد استشهد، وما زال فمه ينزف. حاولت كثيرًا حمله على كتفي والعودة به إلى المركز لكنّني لم أستطع. لم أقوَ على ذلك لأنّ جثته كانت كبيرة. عشت ظروفًا قاسية، كنت فيها قلقًا ومضطربًا ولا أحد من الشباب حولي. وكنت قد طلبت من إخوة "آبعلي" أن يعودوا إلى المركز، وها أنا الآن أصبحت وحيدًا مع جسد صديقي بين الأعداء. وضعت سلاحه على كتفي لأستطيع استخدام يديّ. قرّرت أن أسحب جسده بأيّ ثمن كي لا يبقى ويحرقه الديمقراطيون بعد ذهابي كما فعلوا سابقًا مع أجساد شهدائنا. الشيء الوحيد الذي استطعت فعله هو سحب جسده على الأرض، أمسكته من قدميه ورحت أسحبه أمتارًا عدة لأذهب بعدها إلى خلف الأشجار وأشتبك مع العدو. بقيت هكذا حتى وصلت إلى مكان آمن، عندما أردت حمل كريم على كتفي، رأيت وجهه مهشّمًا ومدمًى جراء سحبه على الأرض فشعرت بالخزي. كلّ ما كنت أريده هو أن لا يقع جسده بأيدي الديمقراطيين. وصلت أخيرًا إلى قرب المركز فهبّ الإخوة لمساعدتي. عندما فتحت حقيبة كريم لألملم أغراضه رأيت بينها كفنًا... استأت كثيرًا عندما تذكّرت حضور والده قبل يوم واحد فقط من شهادته، لكن لم يكن باليد حيلة، وكان هذا أول الغيث!

 

خبرنا بالتجربة أنّه عندما يسقط لنا شهداء وجرحى في المواجهات، يشنّ الديمقراطيون هجومًا ثانيًا في الليلة نفسها. تحضّرنا في تلك

 

46


40

الفصل الثاني: كردستان

الليلة وشنّ العدو هجومًا كما العادة. بدأ الاشتباك، ولأنّني كنت مسؤول الموقع رحت أتنقل من ناحية إلى أخرى وأتابع أمور الإخوة. وخلال كلّ تلك الفترة كان أحد أفراد شرطة السير يلاحقني كظلي. لقد بات مضطربًا لأنّه قتل أحد الديمقراطيين في الاشتباكات ذلك النهار وهو الآن يرجوني: "سيد، إن سألوك من قتل ذلك الشخص قل إنّك أنت من قتلته!".

 

- أنا قتلته... نحن قتلناه... لقد قمنا بعمل جيد جدًّا. لماذا أنت خائف؟

 

- لا سيؤذوننا.. بالله عليك قل إنّك أنت من قتله.

 

- كان عدوّنا، ولا ينبغي الخوف من قتل العدو!

 

تحدثت معه، لكنّ كلامي لم يؤثّر فيه. كان خائفًا وقلقًا، وظلّ يلاحقني كظلّي على سطح مبنى شرطة المرور أينما ذهبت، ومهما فعلت، ويعيد كلامه، حتى صرت فيما بعد أضحك من تكرار حديثه. قتلنا في تلك الاشتباكات سبعة أو ثمانية أفراد منهم.

 

بعد عدة أيام، عدنا من مركز شرطة السير إلى قيادة الحرس، المكان الذي كان يسمى "قصر الشباب" قبل مجيء الحرس إلى المنطقة. مضى 45 يومًا على البعثة الثانية إلى كردستان، وتحضّرنا للإجازة والعودة إلى مدننا، إلا أن قائد عمليات الحرس الأخ صالح قال لي: "ابق أنت هنا لأننا نحتاجك". امتثلت للأمر، وبقيت في مقرّ الحرس في "مهاباد" مع عددٍ من الإخوة الذين طُلب منهم البقاء أيضًا. ذهب البقية في إجازتهم[1] وجعلنا مهمتنا بناءً على طلب الأخ صالح ستة أشهر لنبقى في كردستان ثلاثة أشهر إضافية. وكان "أكبر واثقي" و"رضا نمك دوست" من بين ثمانية أفراد تقرّر بقاؤهم في كردستان 3 أشهر إضافية. لقد أصبحت عضوًا في الحرس بشكل رسمي في ربيع العام 1981م.


 


[1] وهؤلاء ذهبوا بعد أن أنهوا المأذونية إلى منطقة الجنوب.

 

47


41

الفصل الثاني: كردستان

بعد مدة، أُرسلتُ مع عدد من الإخوة في مهمة إلى تلة "الشهيد مهدي زاده" حيث بقينا هناك أكثر من أسبوعين. تقع هذه التلة قرب المدينة تقريبًا، وتشرف من جهة على المدينة، وتحدّها من جهة أخرى إحدى القرى على مسافة 500م. لم يقترب الديمقراطيون منا في الأيام الثلاثة الأولى، وكانت الاشتباكات تدور في كلّ مكان إلا في هذه التلة. لم أستطع الصبر، فذهبت إلى المقرّ وطلبت أن يرسلوني إلى أحد المراكز. كان مسؤولنا[1]، وهو من منطقة "مغان"، من العناصر ذوي الخبرة في الجيش، وقد استقال من الجيش والتحق بالحرس، قال لي بثقة: "سوف تقع اشتباكات في التلة هذه الليلة، اصبر حتى المساء". لقد صدق القول، فأخيرًا انكسر الصمت في تلة الشهيد "مهدي زاده" بعد أن هاجمها الديمقراطيون. كنّا مسلحين بالقذائف والرشاشات و الـ(B7)، وسيطرنا ناريّا وبشكل جيد من أعلى التلة على الأطراف، وقد استهدفوا هم أيضًا مركزنا بالـ(B7) من القرية المجاورة. خلاصة الأمر، كان الدفاع عن المراكز التي تقع في أعالي التلال أسهل من الدفاع عن تلك الموجودة في المدن.

 

الحدث الذي لا أنساه وقع أثناء وجودنا في تلة الشهيد "مهدي زاده" هو انفجار مكتب الحزب الجمهوري الإسلامي في 28 حزيران 1981م. قيل في البداية إنّ عددًا من النواب قد استشهدوا، وإنّ الدكتور بهشتي قد جرح، لكن بلغنا لاحقًا الخبر الذي يؤكد شهادة الدكتور بهشتي. في تلك الليلة خلا كلّ واحد من الإخوة بنفسه وراح يبكي. وعندما استحضرنا ذكريات الماضي، وعينا وأدركنا أكثرَ معنى حديث الإمام الذي اعتبر أنّ مظلومية الشهيد بهشتي أكبر من شهادته. في مقابل حزننا وانزعاجنا،

 


[1] استشهد فيما بعد في كردستان.

 

48


42

الفصل الثاني: كردستان

كان أعداء الثورة يظهرون الفرح، وقد ازدادت فرحتهم أكثر بعد عدة أيام عندما وصل خبر فرار "بني صدر" من البلد، وإمضائه معاهدة مع "قاسملو" في إحدى الدول الأوروبية. نزلوا إلى الشوارع، لكنهم لم يجرؤوا على إقامة المسيرات بشكل واضح، فصاروا ينزلون جماعات من خمسة أو ستة أشخاص هنا وهناك ويطلقون شعارات مزعجة من قبيل: "بني صدر، قاسملو، معاهدتكم مباركة!".

 

بعد تلة الشهيد "مهدي زاده"، أوكلوا إليّ مسؤولية تأمين طريق "مياندوآب - مهاباد" التي كانت بيد الديمقراطيين، ولم نكن قد قمنا بعد بأيّ خطوة لتحريرها. طريقنا الوحيدة التي كانت تصلنا بالخارج هي طريق "أرومية - نقده- مياندوآب" الواقعة تحت سيطرتنا من "مهاباد" حتى "كوی تبه"[1]، آخر مركز لنا في تلك المنطقة ويبعد 15 كلم عن طريق "مهاباد-مياندوآب"، وهو يشبه الثكنة ويتسع لثلاث أو أربعة كتائب.

 

كنا مكلّفين في منطقة "كوی تبه" بتفتيش كلّ السيارات المتجهة من "مهاباد" إلى "مياندوآب". فهِم الحرس أنّ الديمقراطيين يؤمّنون جزءًا من حاجتهم من الغاز والبنزين من "مهاباد"، وأحيانًا كثيرة عمد الأكراد أنفسهم إلى بيعهم البنزين والنفط بثلاثة أضعاف سعره، وأحيانًا أخرى كانوا يقدّمون لهم البنزين بالمجّان، لكن بشروط معينة. لذا، تم استحداث نقطة عند مدخل "مهاباد" مهمتها تفتيش كلّ السيارات العابرة في تلك الطريق ذهابًا وإيابًا. كنّا نتأكد أثناء التفتيش من أنّ ما يحملونه من أمتعة وأطعمة في سياراتهم هو على قدر حاجة العائلة نفسها. أحيانًا كنّا نجد عائلة متوجهة من "مهاباد" إلى قريتها وتحمل معها 30 علبة سمن نباتي، فنفهم أنهم سيسلمونها للديمقراطيين.


 


[1] اسم تركي أطلقناه نحن على التلة، ويعني التلة الخضراء.

 

49


43

الفصل الثاني: كردستان

اللافت هنا أنّ السائقين كانوا يقولون لنا: "أنتم تفتشوننا هنا، وبعد عدة كيلومترات سيفتش الديمقراطيون سياراتنا!". لهذه الدرجة كان الديمقراطيون والكوملة مسيطرين على المنطقة.

 

كما العادة، رافقنا في هذا المركز عدد من أفراد التعبئة والحرس، لكن ما بعث فيّ الطمأنينة هو وجود "كاكا قادر". إنّه أحد البشمركة الذين سبق أن التقيته عدة مرات لكننا هنا كنّا دائمًا معًا. كان كاكا قادر من الوجوه المعروفة في كردستان، الكلّ يعرفه، الناس، الديمقراطيون، الكوملة وقوات الحرس والجيش. هو من أقوى البشمركة، وقد استشهد أبناؤه وزوجته على أيدي الديمقراطيين. اجتمعنا بالبشمركة مع دخولنا إلى كردستان، فهم من أهالي المنطقة الذين تختلف عقائدهم وأفكارهم عن أفكار البقية، وكانوا يتعاونون معنا، ويعود الفضل في نجاح الحرس في وأد فتنة كردستان في كثير من الحالات إلى تعاونهم ودعمهم المباشر، لأنّ القوات التي كانت تأتي من أقاصي إيران إلى كردستان لم تكن تعرف شيئًا عن تلك المنطقة، أما الإخوة البشمركة فطالما عرفوا المداخل والمعابر والطرق الفرعية وامتلكوا خبرة حرب المدن. وإلى الوقت الذي أصبحت فيه القوات المرسلة من المناطق على معرفة بظروف وطبيعة الحرب في كردستان، شكلت المساندة المهمة للبشمركة السبب الأساسي في مقاومة وصمود الحرس وانتصارهم. كانت عوائلهم معروفة في المدن، فأصبحت هدفًا لحقد الديمقراطيين والكوملة كما حدث مع "كاكا قادر". لقد قدّموا الكثير من الشهداء، ولهذا كانت عائلاتهم تسكن تحت الحماية في قصر الشباب - مقر الحرس - بشكل منفصل عن الآخرين.

 

في المقابل، عرف البشمركة أيضًا الديمقراطيين والكوملة وأسماءهم ومحلّ سكنهم بشكل جيد، وكانوا حتى يجلبون لنا معلومات حول

 

50


44

الفصل الثاني: كردستان

إمكاناتهم وتحركاتهم، واستطعنا في أحد الأيام أسر 110 عناصر من الديمقراطيين بمساعدة البشمركة، وقد تكررت مثل هذه العمليات على مستوى أصغر. كان الحرس يرسلون هؤلاء المساجين من "مهاباد" إلى "أرومية"، وبعضهم يعترف أثناء التحقيق في "مهاباد" بأنّهم قتلوا أفرادًا من قواتنا فيُعدمون هناك بحكم المحكمة.

 

كان "كاكا قادر" و"خالد براقي" الأكثر شهرة بين البشمركة. وأكثر المعلومات التي وصلت إلى الحرس عن الديمقراطيين جاءت عبر "خالد براقي"، وهو شابٌ شجاعٌ وكان من أركان المعلومات في المقر، وإليه يعود الفضل في أكثر نجاحات الحرس في المنطقة باعتراف العدو والصديق. عُرف كشخصية هامة وحاسمة، وقد حُدّدت بين عامي 1980و1981م جائزة قدرها 500 ألف تومان لمن يقتله. استشهد بشكل مؤلم أثناء وجودي في "بنك سبه"، حين استهدفه الديمقراطيون بقنبلة يدوية في ميدان "كوزنها". كنت قد شاهدت سابقًا كيف أنّ قنبلة تحرق سيارة بمن فيها، وسبق وعلمت أنها أحيانًا قد تحرق دبابة، لكن بنية "خالد" كانت قوية لدرجة أنّه بقي حيًا بعد إصابته بالقنبلة التي رمت بجسده المتهالك عند أحد الدكاكين قرب الشارع، فأخذ صاحب الدكان يضرب رأس "خالد" بالأوزان التي كان يستخدمها، ما أدى إلى استشهاده. بعد أيام تمّ التعرف إلى البقال القاتل وأُعدم.

 

في الفترة التي أمضيناها في نقطة التفتيش على طريق "مهاباد - مياندوآب" أصبحت أكثر قربًا من "كاكا قادر". وهو الذي دأب على ارتداء الملابس الكردية دومًا، كان يعرف الداخلين إلى المدينة والخارجين منها، ويعلم حتى إلى أين يذهبون! أغلب الذين يترددون إلى هناك عُرفوا لدينا بالتعاون مع الديمقراطيين، لكننا لم نكن نعتقل سوى

 

51

 


45

الفصل الثاني: كردستان

من دخل في مواجهة مسلحة معنا. مرت عدة أسابيع على بداية مهمتنا في نقطة التفتيش تلك، وقد أدى حظر إدخال بعض المواد من قبيل البنزين وأنواع الأطعمة إلى إضعاف إمكانات الديمقراطيين في ذلك المحور. كنت في أحد الأيام واقفًا في نقطة التفتيش عندما وصلت سيارة مسرعة من جهة "مياندوآب" إلى المقرّ وقال لنا سائقها: "الديمقراطيون آتون نحوكم، وليسوا بعيدين عنكم!".

 

وصادف في ذلك اليوم أن عددًا من الإخوة غادروا في إجازة إلى المدينة وبقيت في المقرّ أنا و"كاكا قادر" وثلاثة أو أربعة آخرون، وفي حوزتنا رشاش واحد فقط، توقعت أن تكون المعركة قاسية، فذهبت لأتصل بالقيادة وأطلب المزيد من القوات، لكن صوت "كاكا قادر" منعني: "ابق أنت هنا. أنا سأوقفهم!".

 

كان بارعًا في الحرب مع الديمقراطيين فذهب مع اثنين من الأفراد فقط وبقيت أنا وشخص واحد في نقطة التفتيش، واستعددنا للدفاع بالرشاش عند الحاجة. في الجانب الآخر من الطريق يمرّ نهر "مهاباد"، وتقع خلفه غابة بدأ الديمقراطيون إطلاق النار علينا منها. لقد ترجّلوا من سياراتهم على مسافة كيلومترين تقريبًا منا وتوجهوا إلى الغابة ليبدأوا الاشتباك من هناك. ذهب "كاكا قادر" إلى تلك الجهة. رماهم بدقّة، وأثبت حذقًا وشجاعة. الديمقراطيّون تفوّقوا علينا أضعافًا من حيث العدد، ولكنّنا من منطلق التجربة علمنا بأنّهم لا يصمدون في الاشتباك لأكثر من ربع ساعة في اليوم. أما هم بدورهم فكانوا يعرفون أيضًا المدة اللازمة لوصول قوات الدعم من مركز القيادة. قُطعت الطريق بالكامل، وتوقّف تردّد السيارات فيها خلال هذه المدة، وملأ صوت الرصاص الأرجاء. بعد ربع ساعة خفّت حدّة النيران. خرجنا من خلف المتاريس وعاد "كاكا قادر" مع الإخوة الذين ذهبوا معه. لم يتأذّ أحد منا ولم نعلم شيئًا عن خسائر الديمقراطيين أيضًا. وصلت قوات الدعم من مركز القيادة، لكنّ الاشتباكات كانت قد انتهت ولا حاجة لحضورهم.

 

52


46

الفصل الثاني: كردستان

وعلى هذا المنوال، بدأ الديمقراطيون يضعفون شيئًا فشيئًا، وساعد على ذلك أيضًا بعض السياسات التي اتّبعناها مع الناس العاديين وتعاونهم معنا، ومنها إعطاء بعض المسؤوليات للأكراد أنفسهم كإدارة شؤون المدينة، وتسليم أحد الأطباء الأكراد رئاسة مستشفى مهاباد والذي كان يساعدنا في حل المشاكل التي تعترضنا في المستشفى. كان الديمقراطيون قبل ذلك يختطفون جرحانا من المستشفى ويقتلونهم بشكل مريع، لكنْ، تدريجيًّا ازداد تعاون الناس معنا، وصار مشروع تحرير الطرق وتأمينها في رأس أولويات الحرس.

 

قمنا في صيف 1981م بالعديد من العمليات لتحرير طرق "مهاباد-مياندوآب" و"مهاباد-بوكان"، وقد تم فتح طريق "بوكان" في هذه العمليات وأرسلونا بعد ذلك إلى "كوی تبه".

 

استقررنا هناك، وتقرّر بعد عدة أيام تطهير مراكز الديمقراطيين في التلال المحيطة بطريق "مهاباد - بوكان" لكي لا يتمكنوا من رصد قواتنا منها.

 

بدأت العملية صباحًا بمئة عنصر من قوات الحرس والجيش وقرابة العشر دبابات. كان الهدف هو تحرير التلال، لكن قبل الوصول إلى تلك التلال، اشتبكنا مع الديمقراطيين في منطقة حرجية سبق واجتمعوا فيها. الاشتباكات في مثل هذه الأماكن أصعب منها في الأرض السهلة والتلال، لأنّ العدو يستطيع الاختباء خلف الأسوار والأكواخ. عندما وصلنا إلى تلك المنطقة، غسلنا رؤوسنا ووجوهنا بمياه نهر تنتشر على أطرافه أشجار الدراق الناضجة التي تنتظر من يقطفها، لقد كان منظرها جميلًا. جلسنا هناك لنرتاح، وبدأنا بتناول التمر الذي بحوزتنا وإذ بالديمقراطيين يخرجون فجأة من الغابة، توجهنا بسرعة إلى التلال المحيطة، لكن أوقفتنا رشقات بنادقهم المتواصلة. بدا واضحًا أنّ عددًا منهم يراقبوننا من أعالي الشجر. جاءنا الأمر بالانسحاب لتبدأ دباباتنا

 

53


47

الفصل الثاني: كردستان

بالقصف المباشر للمنطقة، بقينا لدقائق نراقب المشهد، ثم تقدّمنا إلى الغابة عندما هدأ قصف الدبابات، واستطعنا في النهاية تحرير تلك المنطقة والوصول إلى الطريق بعد أسر خمسة أو ستة أفراد من الأعداء.

 

استمرّت العمليات للسيطرة على التلال الواقعة في الجانب الآخر من الطريق، وتم تقسيم القوات لتحقيق هذا الهدف: الدبابات من جهة، قوات الجيش من جهة، وقوتين من الحرس في كلّ منها عدد من الفصائل والمجموعات، تحركت نحو التلال من ناحيتين. عمدنا إلى هذا الإجراء لأنّ التجارب علّمتنا أنّه كلما قلّ عديد قواتنا في الاشتباكات قلّت خسائرنا وحققنا نتيجة أفضل. عندما وصلنا إلى أسفل التلال، انقسمنا من جديد إلى مجموعتين صغيرتين كنت المسؤول عن إحداهما، وبدأنا بالصعود إلى أعلى التلال، قرّرت أن يرافقني عنصر الإشارة لنصعد من جهة، ويصعد بقية العناصر من جهة أخرى. في بداية الطريق تقريبًا أصيب العنصر بطلقة من نيران متفرقة ولم يعد يقوى على إكمال المسير، قلت له: "ابق أنت هنا، أنا سأكمل!"، ما فكرت به أنّ الإخوة يتوجهون الآن إلى الأعلى، وإن لم أصل إلى هناك سيتعطّلون ولن يستطيعوا البدء بالعمل. وصلت إلى أعلى التلة وحدي، توقعت أن ألتقي بهم، لكن لم يكن هناك أثر لا للعدو ولا لقواتنا. تعجبت، خفت أن يكون الإخوة قد تركوا التلة وذهبوا إلى الجهة الأخرى. تفقدت التلة، لكن لا أحد هناك. ليس من الجيد البقاء وحدي هناك، لكنّني لم أرد العودة في هذا الوضع. في هذه اللحظات بدأت دباباتنا بقصف التلة فاحتميت بعدد من الصخور الكبيرة وانتظرت. لا أعرف إن كان الراصد قد أخبر بشيء أو أنّ الخطة اقتضت أولًا أن تقُصف أعلى التلال بالدبابات ثم تتقدم القوات. عندما هدأت النيران، رأيت الإخوة يصعدون التلة فخرجت من خلف الصخور وما إن رأوني حتى صرخوا: "حاذر، قد يرمونك من الخلف!"، لكنّني خفتُ في تلك الأثناء من نيران قواتنا الكثيفة وليس من الأعداء. عندما

 

54

 

 


48

الفصل الثاني: كردستان

وصل الإخوة عرفت أنهم لم يستطيعوا الذهاب إلى خلف التلة فعادوا إلى نقطة تحركنا، وهناك رأوا عنصر الإشارة وأخذوه معهم.

 

هكذا تحررت التلال الواحدة تلو الأخرى، واستحدث الحرس نقاطًا له هناك، وثبّت قوات فيها، وتحررت كلّ منطقة "كوی تبه"، لكن هذا لم يكن يعني توقف الاشتباكات، إذ ظلّ الديمقراطيون الذين يعرفون المنطقة جيدًا يهاجمون مراكزنا ليلًا، فيشتبكون معنا ويتركون المنطقة قبل طلوع الشمس.

 

بعد التلال، أصبح تحرير طريق "مياندوآب" هدفًا لنا، ولهذه المهمة تم تحضير كتيبتين من المغاوير للمشاركة في العملية، إضافة إلى مجموعات من الحرس تواجدت سابقًا في المنطقة، وعدد من دبابات الجيش. كان في مقرّ الحرس في "مهاباد" مجموعة من "القوة الضاربة"[1]، وعملها الأساسي هو التدخل في الاشتباكات التي لا تستطيع المراكز خوضها. عدد من السيارات سرّع عمل المجموعة التي ضمّت الأخ "أمين" أيضًا، وهو من ضباط الحرس. من القوات التبريزية كنت أنا وأكبر واثقي فقط. بدأ التحرك بعد إطلاع القوات على التفاصيل. تم التنسيق مسبقًا مع الحرس في "مياندوآب"، وتقرر أن يتقدموا هم من جهة المحطة الزراعية حتى شرطة "مياندوآب-مهاباد"، أما نحن فنتقدم من جهة "مهاباد" إلى الجهة الأخرى لنهاجم العدو من جهتين. بعد تقدم 6 كلم من دون اشتباكات، وصلنا إلى إحدى القرى. كما المتوقّع، وجدنا الناس مجتمعين في الساحة، قلنا لهم: "إذا ما أرشدتمونا إلى مكان الديمقراطيين فأنتم وشأنكم، وكلّ من يمتلك سلاحًا فليسلّمه لنا وإلا سيعاقب". سلّمنا العديد من الناس أسلحتهم، لكن لم يبوحوا بمكان الديمقراطيين، وقالوا: "ما


 


[1] أو مجموعة رأس الحربة.

 

55


49

الفصل الثاني: كردستان

إن رأوكم حتى ذهبوا وابتعدوا"، لكن كنّا نعرف بالتجربة أنّه لا يجب أن نثق بكلامهم. كنّا مشغولين بجمع أسلحتهم عندما طلب الإخوة في الجيش عبر اللاسلكي المساعدة، فتوقفنا عن جمع السلاح وركبنا سياراتنا بسرعة وتوجهنا إلى مكان الاشتباك وهو منطقة حرجية، ويبدو أنّ الديمقراطيّين قد نصبوا كمينًا بين الأشجار وقعت فيه قوات الجيش التي كانت تتحرك بطريقة كلاسيكية. في بداية الاشتباك، تم استهداف الجيب الذي يتقدّم الجميع، وقد استشهد الضابط الذي كان فيه، ووسط الطريق من بعيد، رأينا المدفعيات قد تركت فيه، من دون أن يطلق الديمقراطيون النار عليها على أمل أن يأخذوها كغنائم. كانت قوات الجيش قد تموضعت على جانبي الطريق ووقعت في الكمين. عندما وصلنا إلى المكان تقرر أن يتحرك الأخ "فندرسكي"[1] أمامنا، وكان يتمركز على آلية "سيمرغ" خلف دوشكا، بدأ تحركه، لكن الديمقراطيين التفتوا إليه وكادوا يقتلونه. فأوقفنا حركة هذا الأخ وقرّرنا أن ندخل الاشتباك راجلين. استطعنا في هذا الاشتباك سحب المدفعيات وإخلاء أجساد الشهداء أيضًا.

 

جاء للتوّ خبر مفاده أنّ قواتنا الآتية من جهة "مياندوآب" قد وصلت إلى مشارف القرية، وبالتالي تمت محاصرة الأعداء من كلّ الجهات. أعطاهم الأخ أمين مهلة عشر دقائق لتسليم أنفسهم، انقضت المهلة ولم يحدث شيء، فدخلت مجموعتان أو ثلاث القرية مباشرة لتبدأ اشتباكات عنيفة، وبمجرّد دخولهم عرف الإخوة أنّ الأهالي قد أخلوها، وأن لا أحد فيها سوى الديمقراطيين الذين أبوا الاستسلام، فجاء الأمر لهذه المجموعات بالانسحاب، وتمّ قصف القرية بالميني كاتيوشا

 

 


[1] هو من قوات التعبئة في كرمان، وقد ذهب قبلي إلى مهاباد حيث انتسب رسميًا للحرس هناك. كان فردًا حذقًا، وهو أول من بحث وتعرف إلى طريقة استخدام الدوشكا حيث لم نكن نعرف كيفية استخدامه في تلك الأيام.

 

56


50

الفصل الثاني: كردستان

والمدفعيات المتموضعة في "كوی تبه"، وبعد دقائق هدأ القصف وتحركنا باتجاه القرية.

 

تقدّمت برفقة أحد الإخوة من "قزوين" عبر حقول القمح للحصول على معلومات، ولما وصلنا إلى سور أحد البساتين، سمعنا ضجيجًا وضوضاء، ظننّا أنّ الإخوة وصلوا إلى هناك، لكنّنا انتبهنا إلى أنّ العديد من الديمقراطيين كانوا في أعالي الشجر، وقد رأونا فبدأ تبادل إطلاق النار، لكنّنا استطعنا الوصول إلى شبابنا سالمين بحول الله تعالى. استمرّت الاشتباكات في الغابة لفترة طويلة، بقينا متموضعين هناك حتى العصر، لكن لم نتمكن من التقدم أكثر لأنّ الديمقراطيين كانوا يعرفون المنطقة هناك جيدًا في حين لم تكن أقدامنا وطئتها من قبل، لذا تقرّر البقاء هناك حتى الصباح، واستكمال العملية عند الشروق.

 

كنت تلك الليلة عند الأخ أمين حين أخبرونا بأنّ الدبابات علقت في المستنقع، قرّر أمين الرجوع فذهبت معه. كنّا قرب إحدى القرى نتناول طعام الغداء حين أخبرونا ثانية أنّ الدبابات حوصرت فذهبنا إلى المكان الذي توجد فيه، لم يكن هناك أيّ اشتباكات، لكن بقينا حتى الصباح نحرسها مع أنّها لا تفيدنا كثيرًا في تلك المنطقة[1].

 

عُقدت في الصباح جلسة بحضور ضابط في الجيش لشرح الخطة التي سنعتمدها، لكنّني لاحظت أنّه فهم المنطقة وهذه العملية بطريقة أخرى.

 

يا أخي! هنا كردستان وليس الجنوب!

 

انزعج من كلامي. قلت له: "هنا لا يمكن القتال بهذه الطريقة الدفاعية التي تتفضل بها، الحرب هنا حرب عصابات". عارضت خطّته


 


[1] تقع منطقة الاشتباكات قرب مياندوآب وعلى مسافة 15 كلم تقريبًا من "كوي تبه" في منطقة موحلة لا تستطيع الدبابات المناورة فيها بشكل جيد. تكون الدبابات أكثر فعالية في الأماكن الجافة، السهلة وفي الطرقات.

 

 

57


51

الفصل الثاني: كردستان

القاضية بتحرك الدبابات في المقدمة وتحرك القوات خلفها. كنت أعلم أنّنا لن نصل إلى نتيجة بهذه الطريقة لأنّني شاركت في الحرب في كردستان لأشهر، وأعلم أنّ الأرض غير ملائمة لحركة الدبابات. على أيّ حال، أصرّ الضابط على رأيه ولم يقتنع بكلامي، وبدأت حركة الدبابات والقوات. لم نكد نصل إلى المنطقة المعلومة الشبيهة بالمستنقع حتى غرقت إحدى الدبابات في الوحل من جديد، ولم تستطع الثانية التي جاءت للمساعدة التقدم أكثر وتوقفت عن العمل أيضًا، ونالت الثالثة المصير ذاته وغرقت في الوحول. عند ذلك توقفت حركة الدبابات مباشرة وتقرر استكمال العملية، فتقدمت القوات "ناقلة جند" وبدأت المواجهات بعد دقائق. استمرت المعركة حتى الظهر، وفي النهاية طهّرنا المنطقة بالكامل بين الواحدة والثانية ظهرًا تقريبًا وتحررت طريق مياندوآب - مهاباد.

 

كان يومًا جميلًا في "كوی تبه"، عندما وصلت عصرًا أوّل شاحنة من جهة تبريز وكان سائقها سعيدًا جدًا، وأخذ يشكرنا على تحرير ذلك المحور إذ كان الناس مجبرين على قطع طريق طويلة قبل ذلك والمجيء من طريق أرومية. كما ضاعفت من سعادتنا أيضًا ورفع معنوياتنا أكثر رؤيةُ مواطن تبريزي بعد مدة طويلة نسبيًا.

 

بعد تحرير طريق "مياندوآب - مهاباد"، خطّطنا في مقرّ القيادة لتحرير "بوكان" أيضًا، وهي مدينة مهمة في المنطقة. كانت الطريق التي تصل بين "بوكان" و"مياندوآب" وتبريز مغلقة بسبب وجود جماعة الكوملة، وبالتالي فإنّ تطهير المدينة والطريق مهمة صعبة.

 

أُعطيت التعليمات اللازمة لتنفيذ هذه المهمة لقوات مؤلفة من البشمركة في "بوكان"، قوات الحرس في "مياندوآب"، الحرس في "مهاباد" وقوات الجيش، وتقرر أن تقوم طائراتنا بقصف مواقع الكوملة

 

58

 


52

الفصل الثاني: كردستان

في "بوكان" قبل أن نبدأ التحرك لأننا كنّا نعلم أنّ "بوكان" هي أكبر موقع تنظيمي للكوملة، وأنّ الهجوم الجوي عليها يمكن أن يساعدنا كثيرًا.

 

صباح اليوم الموعود، كانت كلّ القوات متأهبة. تموضعنا في التلال المشرفة على المدينة، وكنا قلقين من أن لا يحصل الهجوم الجوي، وازداد قلقنا مع مرور الوقت. للأسف، لم يقع هذا الهجوم ولم تُقصف مواقعهم، وبدأنا العملية في الوقت المحدد معتمدين على القوات البرية، فوقعت معركة قاسية وأكثر شراسة استمرت ليومين لندخل المدينة في اليوم الثالث، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها الخشية من أن نصيب المدنيين بسوء، لكن لم يكن الأعداء يخشون هذا الأمر، بل كانوا يستغلون مثل هذا الحدث دعائيًا ليستجلبوا دعم الناس وتعاونهم أكثر.

 

بمجرد دخولنا إلى "بوكان" عرفنا أنّ للكوملة مراكز في كلّ أنحاء المدينة، كما كان لنا نحن مراكز في كلّ أنحاء "مهاباد". لقد ضعفت قواهم في معركة أطراف المدينة لذلك لم نحتج للكثير من الوقت لتطهيرها، وبعد تحرير بوكان وطريق "كرمانشاه-بوكان-مياندوآب"، عدت إلى "مهاباد" مع مجموعة القوة الضاربة.

 

في أواسط أيلول 1981م كنت في إجازة، فمضيت أولًا إلى شارع "باستور" عند صديقي العزيز "أبي الفضل بازارتشي" الذي تعرّفت إليه من صلاة الجماعة فأردت الذهاب معه لأدائها هذه المرة، ثم التوجّه إلى منزل أخي الذي دعاني لتناول طعام الغداء.

 

قال "أبو الفضل" إنّ الصلاة ستبدأ بعد قليل في مسجد البازار، فقصدناه، وتوقفنا قليلًا عند بائع ساندويشات في أول شارع البازار. كنت طوال الوقت أتحدث عن الاشتباكات في كردستان وهو يستمع إليّ أو يطرح الأسئلة. هو أصغر مني بسنتين تقريبًا وكان تلميذًا متفوقًا حتى الثالث المتوسط، ولكنّه بات يردّد في هذه المرحلة: "لم أعد أستطيع الدرس.

 

59

 


53

الفصل الثاني: كردستان

شغلت الجبهة عقلي وقلبي ولم أعد أستطيع التركيز". حاولت أن أقنعه بمتابعة الدراسة وقلت له: "من المؤسف أن تكون متفوقًا وتترك الدراسة وأنت تستطيع الذهاب إلى الجبهة بعد سنة أو سنتين"، لكنّه كان يجيبني بإجابات مختلفة: "هذا غير منصف! أنتم هناك وسط النار ونحن...!". وصلنا إلى مكان إقامة صلاة الجمعة ونحن نتحدّث بهذه المواضيع، وكان "آية الله مدني" ينهي خطابه، وعندما استقررنا بين صفوف المصلين سألته: "لماذا لا يفتشون الناس هنا؟ ألا يحتملون وقوع حدث ما؟!". تعجّب من سؤالي، وهزّ بكتفه مشيرًا "لا أعلم!"، وربما ظنّ أنّ كلّ من جاء إلى هنا إنما جاء للصلاة ولا داعي ليفتشه أحد، فكرت في نفسي أنّ وجودي في كردستان جعلني أشك وأحذر من كلّ شيء.

 

- تكبيرة الإحرام، صلاة الجمعة...

 

أقيمت صلاة الجمعة. ولأنّني لم أستطع الاستماع إلى الخطبتين، فقد قمت مباشرة بين الصلاتين لأصلّي فرادى، وما إن وصلت إلى القنوت حتى سمعت صوتًا مرعبًا بقيت على إثره مصدومًا لبضعة ثوانٍ، انفجار وفي صلاة الجمعة أيضًا؟! عمّت الفوضى المكان فجأة. قطعت صلاتي وركضت مع جموع المتوجهين إلى بقعة الانفجار، فيما ابتعد العديد من الناس عن المكان. كنت من أوائل الواصلين إلى الصف الأول، رأيت فيما رأيت إمام جمعتنا العزيز "آية الله مدني" غارقًا بدمه وقد تقطع جسده في المحراب، وإلى جانبه شهيد آخر. لم تكن المرّة الأولى التي أرى فيها شهيدًا على هذه الحالة، إلا أنّ شهادة "آية الله مدني" بهذه الطريقة وفي محراب الصلاة أذهلتني. تناولت كيس نايلون وصرت ألملم أشلاء جسده الطاهر بحزن وقلق والدموع تنهمر غزيرة من عينيّ. امتلأ المكان بالعويل والصراخ وكأنّ أحدًا لم يعرف ماذا يجب أن يفعل، وتحطمت الواجهات الزجاجية للمحلات المحيطة بالمكان... وما هي إلا لحظات، حتى بدأ إطلاق النار من على السطوح المحيطة

 

60


54

الفصل الثاني: كردستان

بالمستديرة فارتعب الناس وأخذوا يركضون هنا وهناك، وعمّت الفوضى حول الجسد الطاهر. ذهبت بعد دقائق إلى بائع الساندويشات الذي كنّا عنده قبل قليل لعلّي أجد "أبا الفضل"، وقبل أن أصل رأيت شابين أثارا ريبتي، فلم يكونا يتصرفان بشكل عاديّ. سألتهما "ماذا تفعلان هنا؟"، كانا أكثر ذكاءً مني، وبدل أن يجيبا عن سؤالي أشارا إلى سيدة تعبر المكان وصرخا: "هذه المرأة مسلحة...". خُدعتُ للحظة، وكنت حتمًا قليل الخبرة في هذا المجال، فتوجهتُ إليها وطلبت منها التوقف، ولأنها كانت محجبة، انتظرتُ دقيقة أو دقيقتين ريثما وصلتْ ثلاث سيدات وطلبتُ منهن تفتيشها. في هذه اللحظات فكرت في نفسي أنّني أيضًا مسلح! أنا عضو رسمي في الحرس في كردستان ولديّ رخصة بحمل السلاح، لكن لم أكن أتوقع أن أُبتلى بمثل هذه الأحداث المشؤومة. استغلّ هذان الشابان غفلتي عنهما وهربا! بحثت عنهما قليلًا ولما لم أجد لهما أثرًا لم أتابع القضية أكثر. انزعجت إلى درجة لم يعد لديّ أدنى رغبة بالبقاء بين الناس. توجهت إلى منزل أخي، وانتبهت في الطريق أنّ الجوّ تغير، فقد هبت فجأة رياح شديدة ومحملة بالغبار، وعندما وصلت إلى تقاطع القدس أصبح الطقس عاصفًا بشكل غريب. وكأنّه كان لهبوب ريحٍ شديدةٍ في يوم مثل 11 أيلول في تبريز، سبب فوق الطبيعة، حيث كان الطقس لا يزال دافئًا. عندما دخلت منزل أخي فهم الجميع من حالي أنّ شيئًا ما قد حدث، ولما أخبرتهم بشهادة "آية الله مدني" انقلبت أحوال الجميع، وبقيت سفرة أخي في ذلك اليوم كما هي.

 

أُجريت مراسم تشييع الشهيد مدني في اليوم التالي في شارع "الفردوسي". كنّا متجهين إلى شارع البازار حين رأيت رجلًا يمشي قرب مجموعة النساء المشاركات في التشييع، ذهبت نحوه وقلت له:

 

61

 


55

الفصل الثاني: كردستان

- أرجو منك أن تمشي على الرصيف.

- لن أذهب! إذا لم أذهب ماذا سيحصل؟!

- لن يحصل شيء! لكنك ترى أنّ النساء يمشين في الشارع، لذا من الأفضل أن تمشي أنت على الرصيف.

 

امتعضتُ منه لأنّه أجابني بكلمات بعيدة عن الموضوع، وفي هذه الأثناء وصلت إحدى سيارات الحرس، أخبرتُهم بما جرى فارتبك كثيرًا، لكنّه لم يستطع الهرب، فتشوه ووجدوا معه مسدسًا! كان منافقًا وغبيًا إذ فضح نفسه بهذا الشكل.

 

تابعنا مسيرنا حتى وصلنا إلى البازار، توقفت في المكان المخصّص للباعة الذين يعرضون بضاعتهم على الأطباق والعربات، فجأة سمعت صياح النسوة وتوجهت سيدة إلي قائلة: "يا أخي! هناك رجل يرتدي العباءة قد دخل بين النساء!". حاصرنا المكان بسرعة أنا وشباب الحرس الموجودون في المنطقة، وفتشنا النسوة واحدة واحدة بمساعدة اثنتين من السيدات حتى عثرنا على الرجل الذي تخفّى بينهن، وكان يرتدي تنورة صفراء ويضع عباءة على رأسه! فتشناه فوجدنا معه قرابة الكيلوين من الـ"TNT"! فاعتقلناه، وعرفنا فيما بعد أنّ أحداثًا كهذه وقعت في أمكنة أخرى. سمعت بعد انتهاء مراسم التشييع أنّه تم اعتقال أكثر من عشرين شخصًا من المنافقين في ذلك اليوم.

 

بعد الصلاة عليه، تم نقل جسد الشهيد مدني إلى "قم"، فعدت إلى المنزل ولم أرغب بالبقاء في المدينة. قبل انتهاء إجازتي ذهبت إلى "مهاباد" مع الدفعة المتوجهة إلى هناك، وتعرفت في الطريق إلى شخصين أو ثلاثة هم كريم ستاري، الحاج يوسف رنجبر[1] و...

 


[1] المعروف بالحاج يوسف جانباز. التحق بقافلة الجرحى عندما بترت قدماه في عملية الفتح المبين في أواخر آذار عام 1982.

 

62


56

الفصل الثالث: أنا باق

الفصل الثالث:

"أنا باقٍ"

 

 

كان لدينا في مركز القيادة مكان للاستراحة، يمكن لعناصر الحرس في منطقة "مهاباد" أو للأشخاص الآتين مؤقتًا، أخذ قسط من الراحة فيه. ذات يوم، كنت مستلقيًا هناك بعد صلاة الصبح، وإذ بضجيج يأتي من الخارج. سمعتهم يقولون: لقد أخذوا دبّابات الجيش!

- من أين أخذوها؟!

- من معاقلها!

 

ضحكت.. لم أستطع التصديق بأنّهم سحبوا الدبابات إلى خارج المعاقل وسرقوها! لم آخذ الموضوع على محمل الجدّ، وحاولت النوم مجدّدًا، وما هي إلّا دقيقة حتّى تجمّعوا فوق رأسي: "قم يا عزيزي! صدر الأمر بالاستعداد، فقد سرقوا الدبابات!". سألت مجدّدًا: "وأين كانت تلك الدبابات؟".

- على التلال التي تقع تحت سيطرة الجيش! في المعاقل!

- هل تسخرون منّي! وهل يُعقل أن يأخذوا الدبابات من غير أن يراهم أحد!

- لم يرَ أحد أيّ شيء.

 

هذه المرّة أتى "فندرسكي" ووقف عند رأسي مكرّرًا ما تداوله الشباب. ولأنّني من عناصر القوّة الضاربة، توجّب عليّ التحرّك معهم.

 

63


57

الفصل الثالث: أنا باق

كانت دبابات الجيش مستقرّة في تلال تقع قرب "مياندوآب". في طريقنا إلى هناك، لم أتوقّف عن الظنّ بأنّ الأمر عبارة عن دعابة سخيفة! لكن عند وصولنا إلى التلال، تأكّدت من صحة الخبر تمامًا، لأنّ آثار الدبابات لا تزال ظاهرة على الأرض وقد داست على الأسلاك الشائكة أثناء سيرها. كنت على يقين أنّهم لا يستطيعون القيام بهذا العمل من دون علم عناصرنا: "من المؤكد أنّ أحدًا ما تساهل في أمر الحراسة أو حتى تعاون مع الديمقراطيين". قيل لنا إنّه وقعت الليلة الماضية اشتباكات هناك عندما انتبهوا لحركة دبابتين، إلا أنّ أحدًا لم يصب بسوء. وكأنّ هذا الاشتباك وقع للتمويه! بعد السؤال والبحث والضغط تبيّن أنّ مسؤول المنطقة لم يكن قد وضع الليلة الماضية أيّ شخص للحراسة هناك، الأمر الذي زاد من انزعاجنا. ذهبت برفقة عدد من عناصر الحرس لتتبّع آثار الدبابات، لكنّنا قبل ذلك استفسرنا عن كمية الوقود التي كانت بداخلها ثم انطلقنا. مشينا قرابة الخمسة كيلومترات إلى أن وصلنا إلى إحدى القرى التي شاهد أهلها حركة الدبابات ليلًا. أكملنا مسيرنا وإذ بنا نرى عند أطراف أحد الوديان هياكل الدبابات الضخمة. من المؤكد أنّها كانت قد فرغت من الوقود. لم يشاهَد أحدٌ بالقرب منها، لكنّ فوّهات المدافع كانت قد فُكّت عنها وأُخذت مع القذائف. لم تتعرّض الدبابات لأيّ أذى، ويبدو أنّهم لم يفجّروها ليأخذوا الوقود ويكملوا سرقتهم الكبيرة. أما نحن، فأفرغنا ما كان بحوزتنا من وقود داخل مخازن الدبابات وركبها بعض من كان معنا من عناصر الجيش وأعادوها إلى المقرّ.

 

في اليوم التالي، جاءنا قائد الجيش في ثكنة "مهاباد"، وكان في الواقع إنسانًا مؤمنًا ومتعاونًا. قال: "ما رأيكم بأن تأتوا إلى الثكنة لندربّكم؟ يجب أن تجيدوا استخدام جميع الأسلحة. كما ترون، يقوم البعض هنا بسرقة الدبابات وإعطائها للديمقراطيين. في المستقبل أنتم من يجب

 

64


58

الفصل الثالث: أنا باق

أن يحمي هذا البلد..". وبناءً على إصراره الشديد، ذهب ثلاثة أو أربعة أشخاص من ضمنهم "فندرسكي" وعدد من شباب "مراغة" وتدربوا على الدبابات والمدفعية وبعض الأسلحة الثقيلة. ولم يكتف الرجل بذلك، بل صار يأتي إلينا في المركز أحيانًا لإعطائنا الدروس. كان عقيدًا مؤمنًا وكفوءًا وكان يقول: "رأيت أنّكم لم تأتوا، فجئت بنفسي لأعلّمكم"، وتوطّدت العلاقة بيننا وبينه حتى قال لنا: "ليت لي بدل ثكنة العناصر، سريّة واحدة من العناصر أمثالكم"[1].

 

فرحنا كثيرًا لخبر فكّ الحصار عن مدينة "عبادان"[2] في أواخر شهر أيلول. في ذلك اليوم كنّا في مركز القيادة، وما إن سمعنا هذا الخبر العظيم حتّى توجّهنا نحو سطح المبنى مكبّرين. وبينما نحن كذلك، وإذا بأصوات نيران الديمقراطيين تخترق نداءات التكبير لتبدأ المواجهات. لأنّنا كنا على السطح مكشوفين ومن دون رادع يحمينا من رصاصاهم، فقد أُمرنا بالنزول سريعًا إلى الأسفل. حين كنتُ أنزل على السلالم، لفت انتباهي معطف أحد الإخوة القزوينيين وقد اخترقته رصاصة، سألته: "هل أنت مصاب؟" أجاب متعجّبًا: "لا!". كانت الرصاصة قد مزّقت معطفه من الخلف، مسافة سنتمتر واحد أو حتى أقلّ، كانت كفيلة باستشهاده أو إصابته بالحدّ الأدنى، وها هو الآن يخيط معطفه الممزق!

 

كانت الأيام تمضي هادئة في "مهاباد". حيث بدأ أهالي المدينة بالتأقلم مع مفهوم الأمن التامّ بعدما شهدوا اشتباكات يومية على مدى


 


[1] يومذاك كان هناك خلافات على مستوى قيادة الجيش. لم تكن بعد بني صدر قد تمّت إعادة بناء الجيش على نحو ما هو عليه الآن، ولم يعمل بعضهم في بداية الحرب في كردستان كما يجب، وقد تحسن وضعهم تدريجيًّا.

[2] في إيران تكتب وتلفظ: آبادان.

 

65


59

الفصل الثالث: أنا باق

سنوات، أوقعت خلالها الكثير منهم ضحايا. كما تمّ تطهير أطراف "مهاباد" كليّا، أمّا أنا فاجتاحني الشوق للذهاب إلى الجنوب. عزمت في خريف العام 1981م على إنهاء عملي مع الحرس في كردستان والذهاب إلى هناك. من جهة ثانية كان شهر محرّم على الأبواب، فطاف حنيني إلى إحياء الليالي العاشورائية في تبريز، وأردت أن أكون فيها في هذه الأيام. تقدّمت من الأخ صالح بطلب إجازة لبضعة أيام، إلّا أنّه رفض ذلك. حاولت كثيرًا إقناعه لكنْ من دون جدوى، وتحوّل نقاشنا إلى جدل، إلى أن تدخّل "حداد" وقال لي: "ابقَ هنا يومين على الأقلّ ثمّ اذهب". لكنّني لم أقبل، حيث كنت أعلم أنّ الطرقات تقفل في يوم عاشوراء، وخفت أن يطول الأمر فأواجه عند ذهابي الطرقات المقفلة والحواجز. فقال حداد: "ابق يومين فقط واذهب في المهمة، وسأرسلك بنفسي إلى تبريز". ومع ذلك لم أطمئن لما سمعت. منذ مدة كان الديمقراطيون يتسلّلون من جهة تلة الشهيد "مهدي زاده"، ينصبون مدفعين من عيار (106) ودوشكا ويرمون مراكزنا ليلًا، ومهمّتنا الآن باتت على الشكل التالي: أن نصل قبلهم ونكمن لهم. تحجّجت بالتعب الشديد لعلّي أُعفى من الذهاب، فأجاب الأخ "صالح": "لا فائدة من هذا الكلام، ويجب عليك الذهاب!"، ولمّا رأى أنّه لن يحصل على شيء بالفرض، غيّر في أسلوب كلامه وراح يشكو همّه قائلًا: "سيد! اذهب هذه الليلة فقط. فقد ذهبت من قبل في مهام مثل هذه..". فقبلت. وقلت في نفسي: "لن تكون هذه الليلة كغيرها من الليالي، ستختلف عنها قليلًا".

 

وبالفعل ذهبنا إلى المكان الذي سننفذ فيه المهمّة بسيارتين من نوع تويوتا، استلمها الحرس حديثًا. وصلنا وانتظرنا حلول الظلام لنصعد إلى أعلى التلة من دون أن يرانا أحد. كنّا ثلاثة وعشرين شخصًا وبيننا ستة من البشمركة الكرد. وكانت مسؤولية هذه المجموعة بعهدتي، حيث كان من المقرر أن ننصب الكمين عند المساء لنبدأ العمل مع شروق الشمس.

 

66

 


60

الفصل الثالث: أنا باق

عند حلول الظلام، تحرّكنا من جانب القوات المستقرة على تلة الشهيد "مهدي زاده" باتجاه الهدف المحدّد. منذ مدّة كانت التلّة قد سلّمت لعناصر الدرك الذين لم يستطيعوا الوقوف كما ينبغي بوجه الديمقراطيين. وما إن اقتربنا منهم حتى سألونا: "إلى أين تذهبون؟".

- قد تواصلنا مسبقًا، سنتقدّم إلى الأمام لننصب كمينًا.

 

أثار جوابهم غضبي إذ قالوا: "اذهبوا! لكن إن حصل اشتباك ما، فلا تنتظروا منّا أن نساعدكم أو أن نرسل قوات لمساندتكم". ثم اقترحوا علينا الذهاب إلى القرية المجاورة ونصب الكمين هناك بدلًا من التلة المقابلة. فأجبت: "إذا فعلنا كما تقولون سيأتي الديمقراطيون من دون أن نشعر بهم أو نراهم". إلا أنّهم أصرّوا على رأيهم، فانزعجت كثيرًا وتواصلت مع المقرّ عبر جهاز اللاسلكي وأخبرتهم بما جرى، وأنّ هؤلاء يقولون إنّهم لن يمدّوننا بالقوات، ولن يساندونا أو يساعدونا، ولن يطلقوا القنابل المضيئة إلا في حال ذهابنا بالاتجاه الذي اقترحوه علينا، وحينها سيقدّمون لنا ما يستطيعون من مساعدة! وجاءت الأوامر من المقرّ بالتنسيق معهم والذهاب بالاتجاه الذي اقترحوه علينا. في السابق، كنت قد خدمت في تلة الشهيد "مهدي زاده" وأعرف محيط التلة والقرية جيّدًا، لذا علمت بأنّها ليست مكانًا جيّدًا للاشتباك، إذ يمكن للعناصر أن يطلقوا النار خطأً على رفاقهم أثناء الاشتباك، كما لا يُمكن للقوات الصعود منها إلى الأعلى بأيّ شكل. ومع ملاحظة كلّ هذه الأمور، أطعنا الأوامر وأكملنا المسير. وتمّ التأكيد على القوات بضرورة التزام الصمت المطبق، وأن يحملوا ما أمكنهم من الرصاص والقنابل وقذائف الـ(B7).

 

كنت أمشي أوّل الصفّ، وخلفي عنصر الإشارة، يتبعه باقي العناصر على شكل طابور. أثناء المسير شعرتُ أنّ شيئًا ما يتحرّك في العتمة. دقّقت النظر لكنَّني لم أبصر شيئًا في ذاك الليل الدّاكن. فجأة تذكّرت

 

67

 


61

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

والدي. في الصغر، عندما كنت أذهب برفقته ليلًا إلى البستان، وأشعر أحيانًا أنّ شيئًا في الظلام يمرُّ أمامي، كان يقول لي: "لا! لا شيء هناك، أنت تتخيّل بأنّك ترى شيئًا ما..". هنا قلت في نفسي أيضًا: "لعلّي أتخيّل". وتابعت المسير من دون أن أخبر عنصر الإشارة الذي يمشي خلفي بشيء. مشيت عدّة خطوات ومجدّدًا شعرت بشيء يمرّ أمامي. فكرت من جهة بأنّ ما أراه مجرّد وهم في وهم، ومن جهة أخرى ونظرًا لحساسيّة المنطقة والمهمّة، لم أعد أستطيع التفكير كما في السابق، وتوجّب عليّ أخذ الحذر. كنّا نسير في قناة توصلنا إلى القرية، فقرّرت أن أضع شخصًا واحدًا بالتناوب داخل القناة كي لا يطلق الشباب النار على بعضهم أثناء الاشتباك عن طريق الخطأ. وبينما أردت الرجوع لأنفّذ ما قرّرته، صُدمتُ بشخص يخرج فجأة من القسم الغربي للقناة شاهرًا سلاحه بوجهي. تجمّدت في مكاني، كانت فوّهة سلاحه ملتصقة بصدري تمامًا. بقيت على هذا الحال لثوانٍ معدودة، مع أنّ السلاح في يدي كان جاهزًا للإطلاق، معدّاً (محرّر الأمان) مسبقًا وفي وضعية الرشق، وكان إصبعي على الزناد، إلا أنّني وقفت في تلك اللحظات كالعاجز تمامًا. كانت عيناي مسمّرتين على ذاك الديمقراطي الجاهز للقضاء عليّ نهائيًّا.. ضغط على الزناد، لكنّ سلاحه لم يعمل! خلال لحظة عدتُ لتوازني فضغطت على الزناد ورميت به أرضًا من الطلقة الأولى. كان هذا الصوت كفيلًا بتحذير قوّاتنا فاشتدّت المواجهة. أصبح واضحًا بأنّ الديمقراطيين قد وصلوا إلى القرية قبلنا وكمنوا لنا. استأت جدًّا لمجرّد التفكير بأنّ شخصًا ما كان على علم بالأمر وطلب منّا الذهاب إلى هذه المنطقة. ومن حسن التوفيق أنّ أحدًا من قوّات العدو لم يكن موجودًا وراء الصخور عند نهاية القناة، ولم يكن يُسمع من تلك الناحية صوت لأحد أو لرصاصة، فطلبت من الشباب التقدّم إليها سريعًا. شكّلت تلك الصخور الكبيرة الموجودة هناك ملاذًا جيّدًا

 

68

 


62

الفصل الثالث: أنا باق

بالنسبة لنا. مع أنّني انشغلت طوال تلك المدة، إلا أنّني كنت بحال سيئة. كلّ ما علمته أنّنا محاصرون، وإن لم نتحرّك سيزداد الوضع سوءًا. كنت أسمع أصوات قذائف الـ(B7) التي يرميها الشباب وصوت الرصاص الذي يرتطم بالصخر فيصدر رنينًا عندما ينعكس اتجاهه، بالإضافة إلى أصوات عناصر القوات الحليفة والعدوّة، وأنا أشعر وكأنّ ذلك السلاح ما يزال يضغط فوق صدري. فقلت في نفسي، لأوّل مرة، كم يمكن للخوف في بداية الاشتباكات أن يكبّل الإنسان!

 

أثناء المواجهة قلت لعنصر الإشارة، وكان الأقرب إليّ: "قل لمن خلفك أن ينسحبوا وهم يُطلقون النار". لكنّه قال: "أنا لن أنسحب". شخص آخر سمع ما قلته فأجاب: "أنا أيضًا لن أنسحب". وصل الأمر بالانسحاب إلى بقيّة القوات فتراجعوا تدريجيًّا في حين بقينا نحن الثلاثة في تلك النقطة والاشتباك في ذُروته. ثمّ أحسست بالديمقراطيين يتقدمون تدريجيًّا نحونا، فأردت أن أقول لمن معي بأن يحاولوا تغيير أماكنهم خلف الصخور وتضليل العدو من خلال تغيير أماكن الرماية لكي لا يعرف مكاننا بسهولة، لكن ما إن استدرت حتى وقع نظري على أحد الديمقراطيين وقد اقترب منّا من خلف الصخور. فرميته على الفور بقنبلة وانتهى أمره. ثمّ قلت لعنصر الإشارة والأخ الآخر الذي كان من شباب "آبعلي" بأن يعطياني القنابل اليدوية خاصّتهما ويتراجعا إلى الخلف. إلا أنّهما رفضا مجدّدًا قائلين: "نحن أيضًا سنبقى!".

 

- لا يُمكن ذلك. ينبغي لشخص واحد فقط البقاء هنا كي يتمكّن الآخران من الانسحاب.

 

أقنعتهما في النهاية، فتركا قنابلهما معي وانسحبا. بقيت وحيدًا تمامًا لبضع لحظات. فتضاعف الخوف الذي ساورني في بداية الاشتباك ولم يكن قد زال عنّي بعد. رميت بقنبلة نحو الأمام ثمّ تراجعت قليلًا

 

 

69


63

الفصل الثالث: أنا باق

ولُذتُ بصخرة كانت خلفي. تسارع تقدّم الديمقراطيين، فرميت هذه المرة بقنبلتين اثنتين وتراجعت أكثر. كانت تفصلني عن تلّة الشهيد "مهدي زاده" مسافة ٣٠٠ متر تقريبًا. انسحبت كلّ هذه المسافة شيئًا فشيئًا بخوف ورجاء، وبالاعتماد على ما في جعبتي من ذخيرة إضافية، وبعد مشقّة كبيرة وصلت إلى بقيّة الشباب. قبل أيّ شيء، ذهبت أبحث عن الشخص الذي أرسلنا إلى كمين العدو، وقد افتضح أمره، وكنت أنتظر الصباح![1]

 

سريعًا أرسل الصباح بضيائه على السهل. عدتُ إلى مركز القيادة مع باقي العناصر وقد جرح منهم اثنان. سلّمت ذاك الخائن إلى معلومات الحرس، ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى اعترف بخيانته.

 

في ذلك اليوم، أذعنا بين الناس أنّ عدد ضحايانا كبير جدًّا، وكانت تلك خدعة منّا آتت ثمارها، إذ كان المعادون للثورة يعترفون بدقّة بعدد قتلاهم عندما نبالغ في عدد شهدائنا وجرحانا بعد انتهاء الاشتباكات. ويومذاك، أعلنوا هم أيضًا عن مقتل ستة من أفرادهم في الكمين الليلي.

 

بعد هذه الحادثة، قصدت الأخ صالح قائد عمليات الحرس في كردستان، الذي أبقاني ليلة في "مهاباد" من أجل تلك المهمة، وقد كانت ليلة فظيعة بالنسبة لي. ووفقًا للاتفاق السابق فقد أذن لي بالذهاب، وتوجهت إلى تبريز لإحياء يومي التاسع والعاشر من شهر محرّم.

 

مع مرور الوقت، راح شوقي للجنوب يزداد، لكنّني من جهة كنت عضوًا رسميًّا في الحرس في "مهاباد كردستان"، ومن جهة أخرى جعلني ردّ فعل القادة لا أصرّ كثيرًا على الأمر. في تلك الأيام كان قائد الحرس في "مهاباد" الأخ صالح، وكان معاون العمليات الأخ حداد وهو من شباب

 


[1] لتصفية حسابي معه.

 

70


64

الفصل الثالث: أنا باق

"قزوين". عرف صالح بالذكاء والشجاعة الكبرى، وكان لديه سيارة من نوع (جيپ) دخل بها في الاشتباكات مرارًا، وبعد تحقيقه خسائر كبيرة في معسكر العدو كان يرجع إلى المقرّ، وقد وقعت على جيبه أكثر من ٢٠٠ رصاصة إلّا أنّه لم يصب بأيّ جرح، حتّى إنّ البعض شكّ في أمره بأن يكون على علاقة بالمنافقين! وسرعان ما انقضى الشك عندما أُصيب وأرسل إلى طهران للعلاج. بعده استلم القيادة شخص آخر هو الأخ "شمس"، من أهالي "كرمان". بعد ذهاب صالح، ذهب الأخ "أمين" أيضًا إلى طهران ومن هناك إلى الجنوب، وأصبح الأخ حداد مسؤولًا عن اللجنة. امتاز الأخير بأسلوبه الخاص في مواجهة الأكراد المعاندين، فعندما يحصل اشتباك في أحد المراكز داخل المدينة، يصدر الأخ حداد أمرًا بالدفاع عن المركز، لكن مع التخفيف من حدّة الاشتباك، وسرعان ما يحاصر المنطقة بقوّات أخرى، وعندما يحلّ الصباح يطلب من أهالي المنطقة عبر مكبّرات الصوت الخروج من المكان، وتقوم جماعة البيشمركة التي معنا بسحب الديمقراطيين من بين الأهالي وينتهي الأمر[1]. تميّزت الخطة بفعاليتها وفائدتها، بحيث أنّه في غضون أشهر ثلاثة أو أربعة تمّ إلقاء القبض على غالبية الديمقراطيين الموجودين داخل "مهاباد" واستئصالهم. ومنذ ذلك الحين صاروا ومجموعات الكوملة يأتون من القرى والمدن المحيطة إلى "مهاباد" للمواجهة، وقد نُفّذت خطة الأخ حداد في المدن الأخرى أيضًا، ما سمح بكشف الكثير من هؤلاء وإلقاء القبض عليهم.

 

من جهة ثانية، اتُّبعت سياسة جديدة للتعامل مع الأهالي في القرى المجاورة. فأحيانًا كان يتمّ توزيع المؤن والألبسة عليهم، بالإضافة إلى تزويدهم ببعض احتياجات المعيشة، ما ساهم تدريجيًّا بزيادة تعاون


 


[1] بالطبع، بعد تحرير "بوكان" وقعت اللائحة التي تضم أسماء جميع الديمقراطيين في أيدينا، فكنا نعرف حتى أسماء قادتهم ومعاونيهم، ومحل استقرار قواتهم وعددها.

 

71


65

الفصل الثالث: أنا باق

الناس معنا ومساعدتنا، وتوقفهم عن تقديم العون للديمقراطيين أثناء الاشتباكات، بل على العكس صاروا يدلّوننا عليهم. في المقابل كلما كان الخناق يضيق على الديمقراطيين والكوملة كانوا يزدادون شراسة! وهم في الواقع لم يكونوا يقبلون بكلمة "استسلام" أبدًا، وكانوا يقاتلون حتى الموت أو الجرح أو الأسر.

 

في أوائل العام 1982م، ذهبنا مجدّدًا إلى مركز مستديرة "كوزن ها"، المكان المزدحم دومًا. وعلى الرغم من وجود ثلاثة مراكز لنا هناك يبعد الواحد منها عن الآخر مسافة ٣٠٠م فقط، إلّا أنّ يومًا واحدًا لم يكن يمرّ من دون حصول اشتباك في هذا الميدان. فقد كان يوجد بين كلّ مركزين سوق كبير تتصل به خمس أو ست طرقات، ما يُسهّل دخول الديمقراطيين للاشتباك والمواجهة، إضافة إلى قرب المنطقة من النهر والغابة. لذا، صعُب جدًّا تطهير هذه المنطقة وبتنا نعبر فيها بواسطة السيارات لا مشيًا على الأقدام. أذكر أنّه طوال السنة التي كنت موجودًا فيها في كردستان، لم يحصل أن جُرحتُ في أيّ اشتباك، أمّا هناك فقد أصبتُ ولأوّل مرّة أثناء اشتباك عادي، وذلك بطلق ناريّ في أعلى الركبة، في الخامس من كانون الثاني. وعلى الرغم من أنّني قد شهدت سابقًا استشهاد الكثير من أصدقائي وإصابتهم بالجراح، ولم أعد أشعر بالخوف، إلا أنّها كانت المرة الأولى التي أُصاب فيها وأذوق طعم الألم الحادّ، فاختلف الموقف عليّ. مع اشتداد المواجهات وسقوط الجرحى من الشباب، عادة ما كانت تأتي من مقرّ القيادة مجموعة خاصة للمساعدة مصحوبة بآليتين أو ثلاث آليات مجهزة بمدافع رشاشة. فجاؤوا ونقلوني بسيارة الإسعاف إلى المستشفى. وهناك أدخلت فورًا إلى غرفة العمليات، وتمّ إخراج الرصاصة من ساقي، لكنّني لم أبق تلك الليلة في

 

72

 


66

الفصل الثالث: أنا باق

المستشفى، فالسائد أن يتمّ إخراج الجرحى من المستشفى بعد تلقّيهم الإسعافات اللازمة ما لم يُرسل المصاب إلى أرومية في حال الجرح البليغ، أو يظلّ عدة أيام في غرفة الإسعاف الموجودة في مركز القيادة في حال الجرح السطحي، وهذا ما حصل معي فبقيت حوالي الأسبوع هناك قرب معسكر الجيش إلى أن تحسّنت حالي، ولم تعرف عائلتي بإصابتي.

 

طوال تلك المدة، تواصلت مع العائلة هاتفيًّا، وكنت أتّصل بمنزل والد زوجة أخي لأطمئنّ عن أحوال أسرتي، بسبب عدم وجود هاتف في منزلنا.

 

ذات يوم، وقعت اشتباكات في إحدى القرى، فأرسلوا مجموعة من القوة الضاربة إليها. دخلت القرية برفقة "فندرسكي" الذي كان مسؤولًا عن مدفعية الـ (106)، يقودها بنفسه ويرمي عند اللزوم. ما إن وصلنا إلى هناك حتى رأيت دبابتين تابعتين للجيش تطلقان النار، وانتبهت إلى أنّهم يريدون رمي دباباتنا بقذائف الـ (B7) فصرخت عاليًا وانتبه لي الطاقم فنحّوا فوّهة المدفعية عن دباباتنا. بعد ذلك، أراد "فندرسكي" إطلاق قذيفة مدفعية من عيار (106) على مركز الديمقراطيين، فقلت له: "لا يا عزيزي! هؤلاء لا يتخطّى عددهم الستة أو السبعة أشخاص، من المؤسف أن نهدر ذخيرة المدفعية عليهم". كان القرار أن ندخل القرية ثلاثة أو أربعة أشخاص. تركنا المدفعية في مكانها، وحملنا بأيدينا قطعتين من سلاح الكلاشينكوف وتقدّمنا على شكل طابور. بالقرب من المركز انتبهنا إلى أنّ ثلاثة أو أربعة من الديمقراطيين قُتلوا جرّاء إصابتهم بقذائفنا، ولم تكن الظروف تسمح لأحد بالفرار خارج المركز. اقتربنا أكثر، فلم نجد سوى اثنين منهم لا يزالان على قيد الحياة، وقد نالا نصيبهما من شظايا الدبابات. كانت جراحهما

 

73


67

الفصل الثالث: أنا باق

بليغة، ومع ذلك يحاولان ضرب دباباتنا بقذائف الـ (B7)! حين وصلت مجموعة البشمركة، قلت: "دعوهما فإنّهما أسيران". وافقوني الرأي، وعرفنا لاحقًا أنّهما أب وابنه. تمّ اعتقالهما، واعترفا كغيرهما من الديمقراطيين والكوملة المعتقلين أنّهما قتلا عددًا من عناصرنا، فصدر بحقّهما حكم الإعدام. كما أنّهما لم ينفكّا عن توجيه الإهانات لنا حتى الرمق الأخير، وكانا يكرّران شعاراتهما غير آبهين!

 

في شباط - آذار، أنهيت خدمتي في "حرس مهاباد"، وفيما كنتُ في المقرّ أجهّز نفسي للعودة إلى تبريز، جاء "فندرسكي" إليّ وقال: "سنذهب لتنفيذ عملية".

- أنا ذاهب إلى تبريز. انتهى عملي هنا!

- تعال الآن وشارك معنا في العملية، ومن ثم اذهب.

 

بعد دقائق عدتُ مجدّدًا وأخذت السلاح والقنابل من مسؤول التسليح، وهو من شباب تبريز، ثمّ ركبت السيارة.

 

كان في "مهاباد" سدّ شيّدوا إلى جانبه متنزّهًا يعرف بـ"متنزّه أشرف"، وبالقرب منه تقع قرية لم تكن قد أثمرت كلّ محاولات تطهيرها بعد حتى ذاك الوقت، ولعلّ السبب في ذلك يعود لموقعها الذي يعيق احتلالها بسهولة. في الليلة السابقة ووفق خطة السيد حداد، حاصرت قوات الحرس القرية، وفي الصباح استُدعيت مجموعة من القوة الضاربة إلى المنطقة لبدء الاشتباكات دفعة واحدة.

 

ذهبنا هذه المرّة برفقة سائق من "مراغة"، وبحوزة "فندرسكي" (رامي المدفعية) 15 قذيفة. لم نكن قد وصلنا إلى المكان المعلوم بعد حتى اعترتني حالة غريبة. كان الاشتباك قد بدأ، ورحنا نسمع أصوات الرصاص والقذائف. على إحدى التلال، عملت جرّافة على إحداث

 

74


68

الفصل الثالث: أنا باق

ساتر ترابي، وما إن انطلقت السيارة صعودًا حتى شممت رائحة بنزين، لم أكن أعلم أنّ السيارة إن صعدت المنحدر يفيض وقودها ويطفو. قلت لفندرسكي: "تفوح رائحة البنزين، لن يصيب الديمقراطيين شيء في هذه الحالة، لكن سيارتنا ستلتهب".

 

- لا تخف! لن يحصل شيء. ما إن نصعد قليلًا حتى يصلح الأمر.

 

وصلنا إلى أعلى التلة واستعددنا للإطلاق. في الأعلى شاهدنا جيّدًا ما يفعل الديمقراطيون، كانوا يُحضرون القوّات بالسيّارات فينزلونهم بسرعة ويعودون من حيث أتوا. حضّرنا قبضة مدفع الـ(106)ثمّ قام "فندرسكي" برمي قذيفتين أو ثلاث. رأيت بأمّ عيني انفجار إحدى السيارات المليئة بالقوات. حقّا كان يرمي بدقّة. فبعد خبرته لفترات طويلة على هذه المدفعية أصبح بارعًا في عمله. كما إنّنا بدورنا تعرّفنا في تلك المدة إلى طريقة عمله، كان يوجد على مدفعية الـ (106) مدفع رشاش ذو طلقات خطّاطة، وتجنّبًا لهدر الذخيرة، وجّهنا المدفع الرشاش بموازاة مدفع الـ(106) ليصيبا هدفًا واحدًا، فكان في البداية يرمي بالرشاش لتحديد الهدف، وإن أصابه أطلق القذيفة المدفعية. بعد رمي ست إلى سبع قذائف حميت فوهة المدفع، ممّا استوجب الانتظار قرابة الخمس دقائق قبل أن نعاود الرمي. أثناء انتظارنا لتبرد فوهة المدفعية قليلًا، انقلبت أحوالي فجأة، فقلت لفندرسكي: "أترى! سأُصاب حتمًا في هذا المكان!".

- لماذا؟!

 

لأنّني كنت قد أنهيت عملي وجميع أموري هنا لأذهب أخيرًا إلى الجنوب. كم أنا عديم الحظّ. فإلى الآن لم أصب إصابة جديّة في كردستان، لكنّني أشعر اللحظة بأنّ شيئًا ما سيحدث.

 

قاطعني "فندرسكي" قائلًا: "هل جُننت... لا تتشاءم!"، إلا أنّني لم أكن 

 

75


69

الفصل الثالث: أنا باق

مطمئنًّا. وعندما رمى قذيفة أخرى قلت له: "يوجد في جيبي 500 تومان، تعال وخذها لتسلم على الأقل هذه النقود!...". غضب "فندرسكي" من كلامي. كان هناك أخ آخر معنا يدعى "يوسف"، مهمّته إيصال قذائف المدفعية إلينا، فصار يحضرها واحدة تلو الأخرى، يضعها خلفنا ثم يذهب. كنت أتحدث إلى "فندرسكي" وهو يهدّف. فجأة رأيت "يوسف" قد وضع قذيفة وراء المدفع تمامًا ومشى. وكنت أعلم أنّ اللهب الخلفي لقذيفة الـ (106) يفوق اللهب الخلفي لقذيفة الـ(B7) بعشر مرّات وربّما أكثر! نهضت بسرعة وكان "فندرسكي" يجلس وراء المدفع وكما جرت العادة، كان بعد إطلاق عدّة طلقات من المدفع الرشّاش يضغط بركبته على عقب القذيفة المدفعية مجرة النار. صرخت: "لا ترم!"، وحضنت القذيفة لأُبعدها عن مسار النيران الخلفيّة التي ستنجم عن القذيفة المدفعية عند إطلاقها. لكنّه كان يضع يديه في أذنيه ولم يسمعني، ثم ضغط بركبته ورمى.. وما إن اطلق قذيفته حتى طِرْتُ في الهواء، لقد قذفتني سرعة النيران ودفعها الخلفي كطابة خفيفة في الهواء. لا أذكر شيئًا من تلك الثواني الغريبة التي مررتُ بها.. جلّ ما أذكره أنّني وقعت بشدة على الأرض. في حين أنّ عنقي كانت عالقة بين قدميّ! أزكمت أنفي رائحة غريبة، كانت خليطًا من رائحة اللحم المحروق، البارود، الدم، والتراب.. وتناهى إلى سمعي شيئًا فشيئًا صراخ "فندرسكي" والآخرين. كانوا يبكون ويصرخون.. أمّا أنا فحاولت إخراج رأسي من بين قدميّ ولم أستطع. عانيت كثيرًا من هذه الوضعية. لم أكن أعلم ماذا يرى أولئك الذين تجمّعوا حولي. أحسست أنّني أصبحت كطابة مستديرة ولا طاقة لي على تحمّل ذاك الوضع فصرخت: "حرّروا رقبتي". لكنّ هذا الأمر استغرق دقائق. عندما تحرّر رأسي من تلك الوضعية الضاغطة رأيت كلّ لحم جسدي يتساقط، لم يبقَ أيّ لباس على بدني، حتى القنابل ومخازن الرصاص التي كانت على خصري اختفت، ولعلّها تحولّت رمادًا!

 

76


70

الفصل الثالث: أنا باق

كان الشباب يلطمون وجوههم ورؤوسهم ويبكون. ردّدت الشهادتين من دون أن يصدر مني أيّ بكاء أو نحيب، فأنا كذلك منذ الصغر. مهما جرى عليّ من بلاء لم أكن أشكو أو أتأوّه أبدًا. في السابق كنت أظن أنّه لو سُلخ جلدي عن جسدي لم يكن ليُسمع لي صوت. وهذا ما حصل واقعًا، لقد شويت تمامًا خلال لحظات، وكان الدم واللحم والجلد المحروق يتساقط من جسدي. حملني بعض الشباب بصعوبة ببطانية عسكرية. تشهّدت وهم يركضون.. مع كلّ اهتزاز انتظرت لفظ أنفاسي الأخيرة التي لم تأتِ أبدًا، حتى وضعوني داخل آليّة "سيمرغ" هبطت بي من أعلى التلة. بعد تلاوة الشهادتين مرّات أحسستُ في النهاية أنّني باقٍ على قيد الحياة! حاول السائق جاهدًا إيصالي بسرعة إلى "مهاباد"، وحيث كانت الطريق في تلك المنطقة الجبلية ترابية، راحت الآليّة تعلو وتهبط، وأنا المكبّل بالبطانية رحتُ كذلك أعلو وأهبط معها، فيرتطم بدني بل كلّ جراحي بأرضها الحديدية. كنت أتألّم كثيرًا ومع ذلك لم أشكُ. إلى أن وصلت الآلية في النهاية إلى طريق إسفلتي فتحسّن الوضع قليلًا، ثم توقفت عند مركز القيادة وفُتح الباب. عرفني جميع الشباب هناك، وتحلقوا لدقائق حولي، كما جاء شمس وحدّاد أيضًا، كانا قلقين عليّ! نُقلت فورًا إلى مستشفى "طالقاني في مهاباد". وهناك اقترب مني طبيب، وما إن أزاح البطانية عنّي جانبًا حتى أعادها إلى موضعها وقال: "وضعه سيّئ جدًّا! أرسلوه إلى تبريز". حتى إنّهم لم يقوموا بشيء على الإطلاق من تضميد للجروح أو غيره، إنّما نقلوني إلى سيارة الإسعاف التي انطلقت بي. شعرت بالوقت يمرّ ثقيلًا وأنا على تلك الحال السيئة. طوال الساعات الأربع أو الخمس التي قضيتها في سيارة الإسعاف، كنت تارة أفيق وطورًا يّغمى عليّ.. ما زلت أذكر جيّدا الحريق والوجع وذاك الإحساس الغريب الذي انتابني في تلك اللحظات. لم أكن أعلم ما الذي ينتظرني وما الذي سيجري.

 

77

 


71

الفصل الثالث: أنا باق

رافقَنا عدد من شباب الحرس بسياراتهم إلى أوّل "مياندوآب" حيث أصبحت الطريق آمنة، فتوجّهت سيارة الإسعاف بسرعة نحو تبريز، إلا أنّ السائق لم يكن يعرف المدينة على الإطلاق، فأوقف السيارة وسألني: "والآن إلى أين أذهب بك؟".

- إلى أحد المستشفيات!

- أنا لا أعرف المكان هنا!

 

خارت قواي، فيما كان السائق يتوقف من وقت لآخر ويسأل الناس عن العنوان. لم أعد أحتمل.. فكرت في نفسي أنّه قد يكون من الأفضل لو أدلّه على العنوان بنفسي لعلّنا نصل بنحو أسرع. رفعت رأسي بصعوبة، نظرت من خلف زجاج سيارة الإسعاف فرأيت شارع السكة الحديدية ودللته من أين عليه أن ينعطف، فذهب من حيث قلت له. وبالرغم ممّا كنت أعانيه من ضعف، عاودت من حين لآخر رفع رأسي بصعوبة والنظر من النافذة لأرشده إلى الطريق مجدّدًا. وهكذا إلى أن وصلنا في نهاية المطاف إلى مقرّ التعبئة في شارع "حافظ". كنت خائر القوى، أصحو تارة وأغيب عن الوعي تارة أخرى بانتظار أن يأتي أحدهم ويوصلني إلى المستشفى! وعلى الفور صعد اثنان إلى سيارة الإسعاف وأرشدا السائق إلى مستشفى الإمام الخميني في تبريز. في المستشفى وخلافًا لما توقّعت، لم يسارع أحد لنجدتي. بقيت ما يقارب الربع ساعة على النقّالة ملقًى على الأرض. كلّ شخص يقترب مني ويرى الحال التي كنت عليها كان يتراجع!

- أيّ جرح من جراحه نضمّد؟!

- بل ما الذي يمكننا القيام به من أجله؟

 

استأت بشدة من هذا الوضع. وكلّ ثانية كانت تمرّ أقسى من سابقاتها، ولجأت من أعماق قلبي إلى الله..

 

78

 


72

الفصل الثالث: أنا باق

في النهاية، نقلت إلى إحدى الغرف ومدّدوني على بطني. ثم أتى طبيب وأزال بالمقصّ أقسام الجلد المحروق عن بدني، فشعرت بالراحة نتيجة هذا العمل! في قسم الجراحة الثالث، وُضِعتُ على أحد الأسرّة المفروشة بالنايلون. ثم أحضروا طاولتَي طعام ووضعوهما إلى جانبَيْ السرير الذي كنت ممّددًا عليه ووضعوا فوقهما بطّانية وذلك لكي لا يمسّ جسدي شيء.

 

خسرتُ الكثير من الدماء نتيجة النزف، ما استدعى إعطائي وحدات من الدم لأيّام عدة. العمل الوحيد الذي كان باستطاعتهم القيام به من أجلي يوميًّا هو وضع كمية من الدواء المطهّر على جراحي، وأن تأتي مجموعة لتحركني ثم تذهب. كنت أحيانًا أسمعهم يتهامسون فيما بينهم: "إلامَ سيؤول مصير هذا المسكين في النهاية يا ترى؟!".

 

مرّت أربعة أو خمسة أيام بقيت فيها على حالي السيّئة من دون أيّ تحسّن يُذكر. قال الطبيب إنّ قسمًا من عظامي قد احترق أيضًا. الشيء الذي لم أسمع به في حياتي أبدًا قد حدث لي الآن. ومن حسن حظي أنّ الحروق البليغة كانت في ظهري ولو كانت في وجهي وصدري لكان من الصعب البقاء على قيد الحياة مع هذه الدرجة من الحرق. إلى ذلك الحين، لم أكن قد أخبرت عائلتي بأنّني مصاب وموجود في تبريز. لكنّ شخصًا أتى لعيادتي، هو السيد "علي حسينيان" أحد أصدقائي القدامى، إذ كان يسارع إلى زيارة المستشفيات التي تستقبل جرحى الحرب لعيادتهم والاطمئنان عن أوضاع الأصدقاء المجاهدين. في أواسط شهر آذار من العام 1982م، وبالتزامن مع العمليات التي نفّذت في منطقة الجنوب، نُقل عدد كبير من الجرحى إلى القسم الذي وُضعتُ فيه. لذا، توافد الكثير من الناس إلى المستشفى في تلك الفترة. عندما

 

79


73

الفصل الثالث: أنا باق

رآني السيد علي فرح كثيرًا لكنّه استاء أيضًا، فقد صُدم للوضع السيّئ الذي كنت عليه. تجاذبنا أطراف الحديث قليلًا. قلت له: "حتى الآن لم يعرف أحد من أفراد عائلتي بإصابتي".

- إذًا، سأذهب وأخبرهم!

 

حاولت إقناعه بأن لا يفعل وقلت: "هم الآن يعتقدون أنّني سليم معافى في الجبهة. ولو علموا أنّني هنا سينشغل بالهم وسأربكهم بالتردد المستمر لزيارتي". وكنت قد عزمت على إخبارهم ما إن تتحسن حالي قليلًا. كان وضعي الجسدي سيّئًا لكنّني ما زلت على قيد الحياة وأعلم أنّ الشهادة لم تُكتب لي حتى الآن، أي لن تُميتني هذه الجراح وسأتعافى. لم تمضِ بضع دقائق على ذهاب السيد علي حتى سمعت صوت والدتي المألوف ينبعث من عتبة الباب، وقد أقامت مأتمًا.. لم أعرف متى ذهب السيد علي وأخبر أمي؟!

 

في ظلّ الظروف الصعبة التي أمرّ بها، كان حضور أمي وصوتها يشعراني بالراحة والاطمئنان، رغم معرفتي أنّها ستغتمّ كثيرًا لأجلي. سرعان ما أدركتُ أنّها في ذلك اليوم، وكغيرها من الناس، أتت إلى المستشفى لعيادة جرحى الحرب، وبعد وداع السيد علي لي رآها في بهو المستشفى، وبعد السلام عليها قال عن غير قصد: "سيدتي، شفا الله السيد نور الدين!"، فتعجّبت: "وهل أصاب نور الدين مكروه؟". حاول تدارك الأمر إلّا أنّه وبفعل إصرار الوالدة اضطرّ لقول الحقيقة، مشيرًا إلى أنّ السيد نور الدين في الغرفة الأمامية! تركت أمي أكياس الفاكهة في البهو وركضت نحو غرفتي. وها هي الآن قد رأتني ولم تصدّق أنّني قد جرحت بهذا الشكل.

- ما الذي أصابك بني؟!

- لا شيء يا أمي!.. لا شيء!

- ما الذي تريد أن يحصل ليكون شيئًا؟ وهل هناك أسوأ مما أنت

 

80

 


74

الفصل الثالث: أنا باق

عليه الآن؟!

 

حزنت أمي كثيرًا. أرادت أن تعرف ما الذي جرى معي، إلّا أنّني اختصرت لها الحادثة. ثم جلست المسكينة تستذكر أيام طفولتي وقالت: "لديك رأس مليء بالمصائب والبلاءات، لا أعلم إلى أين سينتهي بك الحال؟"، وحدّثتني كيف وقعتُ في المنقل عندما كنت طفلًا واحترقت، أمّا أن تراني الآن على هذه الحال أمر صعبٌ عليها كثيرًا.

 

رضيت أمي في النهاية أن تعود إلى المنزل، لكنّها منذ ذلك اليوم ما انفكّت تأتي يوميًّا من قريتنا خلجان إلى مستشفى الإمام الخميني في تبريز لزيارتي، وأحيانًا كان يأتي بعض أفراد العائلة والأقارب أيضًا لعيادتي. إلّا أنّ قدميّ والدي لم تطآ أرض المستشفى طوال تلك المدة! وكنت أعلم أكثر من غيري كم يتشاءم من المستشفيات، وما ستسبّبه رؤيتي من ألم له.

 

لم يتغيّر وضعي عمّا كان عليه في الأيام الأولى للإصابة، حتى إنّني اعتدت على تلك الرائحة المنبعثة من جسدي، لكنّ كلّ من يدخل عليّ كان يحسّ برائحة البارود الممزوج بالرمل والحصى المحترق تحت جلدي. في المستشفى لم يستطيعوا القيام بشيء لي سوى إعطائي وحدات من الدم من وقت لآخر وفصل الأجزاء المحترقة من جلدي ولحمي عن بدني.

 

ذات يوم جاء الطبيب لمعاينتي كما جرت العادة، كنت شبه نائم وخائر القوى، لكنّني سمعت الحوار الذي دار بقربي. قال الطبيب للممرّض الذي يرافقه: "ما من علاج لهذا الجريح!".

 

- لكنّني أعرف دواءه! سأنقله إلى الحمام، وأمدّده وأكشط جسمه إلى أن ينفصل هذا الجلد المحروق والممزوج بالحصى عن بدنه!

 

لم أر ردّ فعل الطبيب على كلام الممرض، لكنّني أحسست ببدني

 

 

81

 


75

الفصل الثالث: أنا باق

يشتعل. ناداني الممرض: "أخي! هل تتحمّل أن أنقلك إلى الحمام.."؟ كنت أعلم ماذا يقصد. في الحقيقة، لم يكن هناك أيّ علاج آخر، وكان عليّ أن أقبل بهذا الحل الوحيد. سألت فقط: "كم يستغرق هذا الأمر من الوقت؟".

- قرابة العشر دقائق.

- حسنًا، سأتحمّل هذه العشر دقائق مهما كانت صعبة.

 

أعدّوا التجهيزات اللازمة بسرعة، ثمّ حملوني إلى حوض الاستحمام الذي مُلئ بالمياه الفاترة والقليل من المادة المطهّرة للجروح ووضعوني فيه. لم يكن الأمر سهلًا على الممرض الذي رقّ قلبه لحالي. سألني: "هل تريد شيئا؟!"، فلم أطلب سوى أمر واحد وهو أن يضعوا شيئًا بين أسناني كي لا أصرخ. فوضع لي منديلًا وبدأ عمله. المشهد الذي ما زلت أذكره عن تلك الدقائق الصعبة أكثر من أيّ منظر آخر هو حبات العرق المتصبّبة على وجه الممرّض. شعرت وكأنّ كلّ عروق جسدي تشتعل وأحترق من جلدي... لقد أراد القيام بما عجز الأطبّاء عن القيام به حتى الآن، وقد فعل! حبست بكائي وصراخي في حنجرتي وكدت أغيب عن الوعي من شدّة الألم. لكنّني قاومت حتى اللحظة الأخيرة، إلى أن نظر في عينيّ وقال لي: "لقد انتهى الأمر!".

 

كنتُ خائر القوى ومتعبًا إلى درجة لم أستطع التفوّه بأيّ كلمة. في اللحظات الأخيرة التي كانوا يحملوني فيها من حوض الاستحمام ليضعوني على السرير. نظرت إلى الحوض وإذ بي أرى قطع جلدي ودهون جسدي تطفو فوق الماء. لعلّي خلعت اثنين إلى ثلاثة كيلوغرامات من وزن بدني داخل حوض الاستحمام! لكن مع ذلك انتابني شعور غريب بالراحة!

 

كانوا منذ ذلك اليوم وأنا في سرير المستشفى، يسكبون "البتادين" على جسدي، ويضعون الملاءة قربي على الطاولة ويذهبون. وبعد مدة، صاروا

 

82


76

الفصل الثالث: أنا باق

يطهّرون جراحي ويضعون لي ضمّادات "الفازلين"، وفي اليوم التالي حيث تكون الضمّادات قد يبست والتصقت بجراحي، يضعون "السافلون" عليها لتصبح رطبة ويتمكنوا من نزعها بسهولة، وهكذا دواليك...

 

بدأ جلدي ينمو شيئًا فشيئًا، وكانت تزعجني بعض الأماكن في بدني حيث الحرق أكثر عمقًا، لكنّ وضعي تحسّن كثيرًا عمّا كان عليه.

 

ذات يوم تناهى إلى سمعي صوت أنين وبكاء ينبعث من الغرفة المجاورة. لم أكن وقتها على ما يرام، فانزعجت من تلك الأنّات والآهات. طلبت من أحد الممرضين أن يحمل سريري ويضعه بالقرب من ذاك الأخ. ظننتُ أنّه من جرحى الحرب، لكنّه لم يكن كذلك. عندما حملوني إليه عرفت أنّ اسمه "حسن شيرافكن". سألته عن سبب كلّ هذا الأنين فأجاب أنّه يشكو من ألم في الكلية ما زاد من انزعاجي، لكنّني لم أظهر له ذلك وقلت له: "في النهاية على المرء أن يتحمّل. انظر إليّ! لم يبقَ أيّ مكان سالمًا في بدني ومع ذلك لم أُصدر صوتًا.. ستتعافى إن شاء الله". عندما رأيته يبكي تعجّبت. قال: "أنت تقول إنّك مقاتل وقد حصل لك في الجبهة ما حصل. أما أنا فماذا..؟!". أعتقد أنّ كلامي قد أثّر به. فبعد ذلك اليوم لم أعد أسمع له حسًّا، لكنّنا التقينا مجدّدًا وأصبحنا أصدقاء، حيث قضينا معًا في مستشفى الإمام الخميني مدّة شهر تقريبًا. بعد مضيّ حوالي الشهرين على إصابتي في كردستان، وفي أواسط أيار من العام 1982م كان خروجي من المستشفى بشكلي الجديد.

 

لقد نبت لي لحم زائد في الأماكن التي كان الحرق فيها أعمق، وتوجّب عليّ الذهاب إلى طهران لأُكمل العلاج في مستشفى "الشهيد مطهري" المخصّص للحروق. كان جلدي الجديد رقيقًا وناعمًا، ولكن بعض الأقسام الأخرى ما تزال بحاجة إلى التضميد ممّا يستدعي الذهاب إلى المستشفى، فصرت أتواعد مع "حسن شيرافكن" ونذهب

 

83


77

الفصل الثالث: أنا باق

معًا. في تلك المدة، وفي كلّ مرّة سألته فيها عن عمله كان يُجيب: "أنا بائع في شارع تربيت، وستأتي وترى ذلك بنفسك".

 

ذات يوم ذهبت، ورأيته يبيع أدوات التزيين الخاصّة بالنساء والجوارب و... فتعجّبت: "سيد حسن! هذا العمل لا يليق بك على الإطلاق!".

- أقسم بالله! لقد سئمت من بيع هذه الأشياء! وأطلب من الله أن يخلّصني من هذا العمل، لكن ليس باليد حيلة!

- لا يا أخي، الأمر بيدك.

 

طوال تلك المدة أصبحنا صديقين حميمين. لذا لم يكن من الصعب عليّ أن أنصحه بترك عمله لغيره والذهاب للتدريب العسكري.

- الجبهة من أفضل الأماكن! عليك الذهاب لترى!

 

ولم يمضِ وقت طويل حتى التحق بدورة عسكرية، لينطلق بعدها إلى الجبهة[1].

 

بعد خروجي من المستشفى، وجدتْ أمي عملًا جديدًا لها. ففي كلّ يوم كانت تجلس بالقرب مني لساعة، تحمل بيدها الإبرة وتُخرج بها ما تبقّى من رمال تحت جلدي! فيما بعد اشتريتُ بعض أدوات التضميد وبدأت أتكيّف مع جراحي.

 

ذهبت مرتين إلى طهران لاستكمال علاج اللحم الزائد، وقد وقعتْ بعض الأحداث هناك. كان الحرس هم من يتولّون نقل الجرحى في ذلك الحين، ولهم في طهران قسم خاصّ بعلاج الجرحى، وأحيانًا كانوا يرسلونهم إلى خارج البلاد لتلقّي العلاج. في الطابق العلوي لمستوصف "الشهيد بهشتي" في تبريز، أُحدث مكان ليستريح فيه الجرحى إلى أن


 


[1] "حسن شيرافكن" هو نفسه الذي سطّر الملاحم في عملية "والفجر4"، وأذهلت بطولاته وشجاعته أصدقاءه، وسرعان ما نال الشهادة.

 

84


78

الفصل الثالث: أنا باق

يحين موعد نقلهم إلى طهران أو إلى المستشفيات الأخرى. وكان هذا القسم يتألّف من عدّة غرف يتمّ فيها تضميد الجروح وإعطاء الحقن للجرحى، وهي مجهّزة بسرائر كتلك المخصصة للمستشفيات.

 

وفي يوم من الأيام تمّ إدخالي إلى مستوصف "الشهيد بهشتي" حتى يحين وقت نقلي. ومن حظّي السيّئ أنّه في الوقت نفسه الذي كنت فيه هناك تواجد شخص آخر، قال البعض إنّه من المنافقين وقال آخرون إنّه من الديمقراطيين. يبدو أنّه اعتقل ونقل إلى المبنى التابع للحرس في المنطقة الخامسة، ثمّ حُبس مساءً داخل غرفة ليتمّ استجوابه في الصباح التالي، ووضعوا له حارسًا أمام باب الغرفة أيضًا لكي لا يتمكّن من الفرار، فقصّ البطانية بقطعة زجاج على شكل شرائط ووصلها ببعضها محاولًا الفرار من النافذة، إلا أنّ الشرائط تمزّقت فوقع على الأرض وكسر قدميه، وقد وُضع على حاله تلك معنا في الغرفة. ومع أنّ قدميه الاثنتين كانتا مجبّرتين إلّا أنّه كان قويًّا، فكنا نخاف النوم رغم وجود الحرّاس فوق رأسه خشية من أن يؤذينا!

 

أُرسلت في نهاية المطاف إلى طهران، حيث خُصّصت للحرس في "شميران" و"فنك" مبانٍ نظيفة ومرتّبة يتابعون فيها أمور الجرحى. وعند وصول المصاب، يتم إرساله في سيارة الإسعاف مع مرافق إلى المستوصف أو المستشفى، ويتابعون أمر علاجه حتى المراحل الأخيرة. أحيانًا كانوا ينتظرون مع الجريح، وأحيانًا أخرى يعطونه رقمًا ليطلبه عند الانتهاء من العلاج. بعد سنة أو سنتين تغيّرت هذه الإجراءات، وشهدنا أيامًا أمرّ بعشرات المرّات من أيام الحرب والجراح[1]!


 


[1] منذ أن عُهد أمر متابعة أمور الجرحى إلى مؤسسة الشهيد، اختلف الوضع. فإما أنه لم يكن يوجد إمكانات، وإما لم يكن هناك تنسيق. وحصل لمرات أنه عندما نذهب إلى مؤسسة الشهيد في طهران، كنا نقف في صف طويل ليعطونا رسالة يعرّفونا فيها إلى أحد المستشفيات. وكثيرًا ما يحدث أن تتوقف سيارة نظيفة ومن أحدث طراز إلى جانب الطريق أو أمام المستشفى وتترجل منها سيدة سيئة الحجاب، تريد إيصالنا إلى المكان الذي نقصده. عادة ما كان الناس يدركون أننا جرحى حرب، فكانوا من باب التعاطف أو لأي نية أخرى، يحاولون مساعدتنا. إلا أن [قلوب العاملين في] مؤسسة الشهيد على ما يبدو لم تكن ترقّ لحالنا! كانوا ينزلوننا في أحد الفنادق التي يفوق وضعها الأنزال * (جمع نُزُل) سوءًا، وكان مصعداه الكهربائيان معطلين، فكان على الجرحى أن يتكبدوا عناء صعود السلالم ونزولها وهم يعرجون. كما كانت معاملة موظفيه غريبة، حيث راحوا يقدمون لنا الشاي في فناجين بلاستيكية كنا نضطر لاستعمال أمثالها في الجبهة. لا أعلم، ربما كانت هذه المشاكل تحدث بسبب كثرة الجرحى الذين يتوافدون من قوى الحرس والجيش والتعبئة، ومن جميع المدن إلى هناك. كنا نرى تغير القيم وتبدلها شيئًا فشيئًا، فقد كانوا يقدمون يوميًّا لكلّ جريح يأتي إلى طهران للعلاج مئة تومان، ويضاعفونها مرّات عدة في بعض الحالات الخاصة. كنت أستمع هناك إلى كلام بعضهم فتثور أعصابي. فيقول أحدهم مثلًا: "اقتحمت حشود الناس وكسرت الزجاج ليعطوني المال". ويقول آخر: "ذهبت إليهم وبكيت وانتحبت..." أكاد أجن حين أسمع ذاك الكلام. لو كنت أملك المال، لدفعت مصاريف العمليات من جيبي الخاص ولا أرى مثل هذه المعاملة والمشاهد. لقد ازداد التساهل والاستهتار. ذات يوم أرسلوني إلى أحد الأطباء من أجل استكمال علاجي، وبعد طول انتظار، حين جاء دوري قال لي إنّ علاجي ليس عنده، وإنّ اختصاصه مغاير تمامًا لمشكلتي!

 

85


79

الفصل الثالث: أنا باق

استغرق الأمر وقتًا طويلًا من الأول من آذار العام 1982م حيث أصبت بتلك الجراح النادرة إلى أن تحسّن وضعي نسبيًّا. وحتى صيف العام 1982م كنت قد تغيّبت لأشهر عن ميدان القتال. هذه المدة الطويلة من النقاهة أرهقتني وأحزنتني، فحزمت أمري على العودة إلى الجبهة. في هذه الفترة، أنهيت عملي مع حرس كردستان الذين اعتقدوا أنّني بعد إصابتي لن أكون عنصرًا فاعلًا. وها أنا الآن أصبحت حرًّا وصار بإمكاني الذهاب إلى الجنوب. وبصعوبة أقنعت عائلتي وبالأخصّ الوالدة، ثم وضعت في حقيبتي الصغيرة بعض الأغراض الضرورية لتضميد جراحي وتوجهت إلى الجنوب.

 

 

86


80

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

الفصل الرابع:

أخوان وعروج واحد

 

كان سفري الأوّل إلى الجنوب حافلًا بالأحداث. بجسدٍ حافل بالحروق لكنّه مغطّى، انطلقتُ برفقة كريم ستّاري[1] - الذي تعرّفت إليه في كردستان - وبعض الأصدقاء الآخرين. سار جميع العناصر من مركز الحرس إلى المصلّى مطلقين الشعارات. من هناك، ركبنا الحافلات وتوجّهنا إلى محطّة القطار. كثر الشباب بحيث امتلأت المقصورات، وبقي عددٌ منهم واقفًا على رجليه. وفي تلك الأثناء، جاء إلينا أحد مهندسي الحرس ويُدعى "موسوي". كان عضوًا في لجنة مسجد التوحيد، ويبدو أنّه على معرفة بكريم من خلال المسجد. أخذنا جانبًا وقال: "لا تذهبوا بهذه البعثة، من المفترض أن تُنقل الليلة في تمام التاسعة، خمس عشرة جرّافة بقطار الشحن إلى الأهواز. أريدكم أن ترافقوا هذه الشحنة وتسلّموها إلى المعنيّين هناك". كانت مهمة ملائمة تمامًا لوضعي.

 

ترجّلت وكريم من القطار وعدنا إلى مقرّ الحرس. قدّموا لنا هناك الطعام وأعطونا مصروف الطريق، وعلمنا أنّ رحلتنا هذه إلى الأهواز ستستغرق خمسة أيّام. كانت مهمّة صعبة ومسؤوليّة كبيرة بالنسبة لنا. أوصلنا الإخوة في الحرس بكلّ احترام وفي الموعد المحدّد إلى محطّة

 

 


[1] استُشهد في عملية مسلم بن عقيل. كانوا ثلاثة إخوة غالبًا ما يذهبون معًا إلى الجبهة، وقد استشهد أخوه محمود متأثّرًا بجراح أصيب بها بالسلاح الكيميائي، وهو مهندس في بلديّة تبريز.

 

88


81

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

القطار، لأبدأ وكريم ستّاري رحلة فريدة من نوعها. لم يكن في قطار الشحن سوى مقصورة واحدة فقط مُعدّة لاستراحة السائق ومساعده كنّا نستريح فيها ليلًا، أمّا في النهار فنجلس على الجرّافات. انطلق القطار من تبريز في تمام التاسعة ليلًا ووصلنا ظهر اليوم التالي إلى طهران. كان علينا البقاء ثلاث ساعات في محطّة القطار من أجل أعمال الصيانة، فقمت وكريم بجولة هناك، ولم نبتعد كثيرًا بسبب الازدحام. المحطّة التالية كانت قم. وصلنا إليها في الثامنة مساءً، وكان علينا التوقف هناك أربع ساعات. وجدناها فرصةً جيّدة، فقرّرنا الذهاب لتناول العشاء أوّلًا، ثمّ زيارة مقام السيدة المعصومة عليها السلام والعودة بعدها إلى المحطّة. وعلى الرغم من أنّهم زوّدونا في تبريز بالمعلّبات والطعام البارد، إلّا أنّنا كنّا مشتاقين إلى الطعام الساخن، فرحنا نبحث عن بائعٍ للكباب في الجوار، إلى أن وقع نظرنا على أحد المطاعم قرب المحطّة. دخلنا. شاهدنا الصالة خالية، والطاولات قد صُفّت ورُتّبت بنحو جيّد، ووُضعت عليها المناديل الملوّنة والمرطّبات على أنواعها و... وكنّا في الطريق قد اشترينا كيلوين من العنب، فغسلته ووضعته في أحد الصحون الموضوعة على الطاولة. لفت منظرنا النادلين، فلباس الجبهة الذي نرتديه، والغبار الذي غطّى ثيابنا وعلا وجوهنا ورؤوسنا جرّاء الجلوس أيّامًا على الجرّافات، جعل مظهرنا غير ملائمٍ للمكان. كنّا قد طلبنا عند دخولنا المطعم صحنين من الأرزّ بالكباب، فقال النادل: "سنقدّم الطعام للجميع دفعة واحدة". لم نلتفت إلى ما قاله لشدّة جوعنا، ورحنا نتناول الخبز الموضوع على الطاولة مع العنب. لكنّني رحت أوصي كريم باستمرار: "لا تأكل كثيرًا! فينفد العنب ولا يبقى منه شيء للطريق. كما إنّ الأرزّ بالكباب سيبقى ولن تستطيع أكله!". لكن حتى الآن لا خبر عن الأرز بالكباب، فقلت لكريم: "قم واستعجلهم ليأتونا بالطعام، فلدينا أربع ساعات من الوقت قضينا منها ساعة هنا!". ذهب كريم، والتفت

 

89

 


82

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

إلى الكراسي تمتلئ شيئًا فشيئًا بالوافدين إلى القاعة. هذا يضع ربطة عنق، وآخر جاء مع زوجته وما شابه.

 

فعلًا لقد جئنا إلى مكان خاصّ!

 

قلت ذلك في نفسي وسمعت كريم يقول: "يقولون إنّهم سيقدّمون الطعام للجميع معًا!". فجأة وبينما كان الجالسون حولي يرمقوننا بنظرات حادّة، خطر ببالي خاطر، لعلّ مراسم خاصّة تُقام هنا ونحن لا ندري. أخبرت كريم بالأمر لكنّه قال: "لا يا عمّ، فطاولات الطعام تُزيّن دائمًا على هذا الشكل... اجلس، بعد قليل يأتوننا بالطعام!". وما كدت أفتح فمي لأردّ عليه، حتّى وقع نظري على عروسين يدخلان الصالة! وارتفعت الأصوات مرحّبة بهما...

- أسرع يا كريم، ها هما العروسان يدخلان!

 

وقفنا، لكن الأصوات ارتفعت من كلّ صوب تدعونا للجلوس. ظنّ أهل العروس أنّنا من أهل العريس، وكذا أهل العريس ظنّوا أنّنا من أهل العروس. كان الجميع يقولون: "أهلًا وسهلًا، بعد قليل يُقدّم الطعام". دخل العروسان، فانقلبت الأوضاع ولم نعد نستطيع التحرّك من أماكننا، وبدأنا نشعر بعذاب الضمير. في النهاية، هدأ الجوّ وجلس الجميع. قلت لكريم: "أنا سأذهب، اتبعني!". تركنا العنب وخرجنا من الصالة بحجّة ما. في الطريق كان أكثر ما أسفنا عليه العنب الذي تركناه على الطاولة! مضت ساعة من الوقت المحدّد للاستراحة. لم نجد في تلك الناحية مبتغانا. مشينا إلى آخر شارع محطّة القطار. قال كريم: "لن نجد في هذا الوقت من الليل مطعمًا يقدّم الأرزّ بالكباب، تعالَ نوصِ على سيخين من الكباب المشويّ، ومن ثمّ ننصرف إلى عملنا!". عندما قصصنا قصّتنا على صاحب أحد المحلّات التي تبيع الكباب المشوي، انفجر ضاحكًا وقال: "أنتم الليلة ضيوفي على العشاء! ولن آخذ منكم

 

90


83

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

المال لقاءه. لكن ليتكم بقيتم وتناولتم عشاءكم هناك!". على كلّ حال قنعنا بما قدّمه، وتوجّهنا سريعًا إلى الحرم[1]، وبعد الزيارة والصلاة عدنا إلى المحطّة لينطلق القطار بعد نصف ساعة.

 

كان قطار الشحن يتحرّك ببطء ويتوقّف ساعات في المحطّات، أحيانًا يحمّل البضائع، وأخرى يبدّل الأدوات. وصلنا صباح اليوم التالي إلى "آراك"، وهناك اشترى سائق القطار خروفًا وذبحه ودعانا لتناول الطعام. كان من المقرّر أن نتوقّف هناك أربع ساعات، فكانت تلك المدّة كافية لطبخ مرق اللحمة اللذيذة، وإضفاء المزيد من الذكريات الجميلة إلى الرحلة الأولى للجنوب.

 

كان ذلك في أواسط فصل الصيف حيث موسم العنب، والمزارعون يقدّمون لنا العنب والفاكهة الأخرى. اختزنّا طوال الطريق ذكريات جميلة. في إحدى المحطّات، ذهبنا إلى أحد الكروم وطلبنا من صاحبه ابتياع القليل من العنب، وحين رآنا ننقل بعض الآليّات الثقيلة إلى الجبهة قال بكلّ احترام: "ما هذا الكلام، عن أيّ مال تتكلّمون؟ هذا البستان لكم بما فيه!". ثمّ أحضر كيسًا وأصرّ علينا أن نقطف ما نشاء منه. حقًّا، كان ذلك العنب لذيذًا.

 

طوال النهار، حين نمرّ بقرية أو مزرعة ما، كان الناس يلوّحون لنا بأيديهم بكلّ محبّة. كان الطقس رائعًا، فالطبيعة في مناطق غرب إيران وجنوبها لا ينقصها من الجمال شيء. في طريق "انديمشك ـ بُل دختر"، عَبَر القطار أنفاقًا عديدة، فانتشر دخانه الغليظ في أحدها، وكأنّه يعوّض عن كلّ مسرّات الطريق! بالإضافة إلى الدخان، تقاطر الماء علينا من سقف النفق، ليصبح شكلنا يُرثى له عند خروجنا منه. حين وصلنا


 


[1] مرقد السيدة المعصومة (عليها السلام).

 

91


84

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

إلى "أنديمشك"، كان وضعنا مزريًا، لذا قرّرنا في فترة الاستراحة التي ستستمرّ لأربع أو خمس ساعات، أن نهتمّ بأنفسنا ونحسّن هندامنا. بعد الاستحمام وتناول الطعام، أقمنا صلاتي المغرب والعشاء في مسجد كبير قريب من المحطّة، وعندما عدنا إلى المحطّة قالوا إنّنا سننطلق ليلًا. خلدنا إلى النوم، ولم نستفق إلّا ونحن في الأهواز.

 

قبل ساعتين من طلوع الفجر، كان الإخوة في الحرس قد أرسلوا إلى المحطّة من يستقبلنا هناك. أصرّوا علينا للبقاء عندهم، ولم يتركونا نذهب إلى مقرّنا إلا مع إشراقة الصبح. استضافونا على الفطور، وما إن بسط النهار أجنحته حتّى توجّهنا إلى مدرسة الشهيد "براتي" مقرّ لواء عاشوراء. وحين وصلنا أخبرونا أنه ينبغي علينا تسليم مفاتيح الجرّافات لمسؤول المحور، وهو الأخ "حبيب باشايي"، ولم أكن قد رأيته حتى ذلك اليوم. سألنا عنه أوّل شخص التقيناه، وكان شابًّا ذا مهابة. قال: "أنا هو حبيب باشايي!".

 

دقّقت النظر فيه. بدا لي منذ النظرة الأولى إنسانًا مختلفًا، رياضيًّا في ريعان الشباب، ذا لحية كثّة أضافت بهاءً خاصًّا إلى جمال وجهه. حقًّا كانت القيادة تليق به. سلّمناه المفاتيح بعد أن أخبرناه بأنّنا أتينا بالجرّافات من تبريز، وها هي الآن في محطّة قطار الأهواز. استقبلنا الأخ حبيب باشايي بحفاوة وقال: "لا يكفي أنّكم جئتم بأنفسكم، بل أحضرتم الجرّافات أيضًا!..". سُررنا جدًّا، فتجربتنا الأولى في السفر إلى الجنوب كانت مميّزة، كما إنّ رؤيتنا الفرحة العارمة في وجوه المسؤولين والعناصر لاستلام عدد من الجرّافات في المنطقة، شكّلت واقعًا أمرًا مهمًا. ركبنا سيّارة الأخ حبيب، وسلك بنا طريقًا سريعًا ومختصرًا إلى محطّة القطارات، حيث التقينا خمسة أو ستّة سائقين سبقونا لاستلام الآليّات. توجّه إلينا الأخ حبيب قائلًا: "أنتما ضيفانا لليومين المقبلين".

 

92


85

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

بقينا في ضيافتهم يومين، وفي تلك المدّة شاهدت كم كانت تؤثّر هيبة حبيب باشايي في عناصره. في اليوم الأوّل وقبل أيّ شيء، استحممنا في الحمّام العمومي الذي أُعدّ للمجاهدين في مدرسة الشهيد براتي، بعدها أخذني كريم، وقد سبق له المجيء إلى الأهواز، لنجول في المدينة، وأراني أهمّ المناطق هناك. توجّهنا إلى جسر الأهواز المشهور، فأثارت رؤية نهر "كارون" فيّ شعورًا رائعًا. لم أكن إلى ذلك الحين قد رأيت نهرًا بهذه العظمة. جلنا في المتنزّه المجاور للنهر، وراح كريم يحدّثني عن الطابور الخامس الذي كان له وجود كبير هناك، ووقعت مواجهات عنيفة معه في المدينة. في طريق العودة إلى المدرسة وقع نظري على محلّ يبيع الساندويشات. أصرّ كريم على تناول الغداء في مدرسة الشهيد براتي حيث يقدّمون الطعام لجميع العناصر، لكنّني كنت أرى أنّ طعم الساندويش يفوق طعام المقرّ لذّة! ولم أستطع صرف النظر عنها. تناولنا الساندويشات وعدنا إلى المدرسة لنجد العناصر متوجّهين نحو صالة الطعام. كانت صالة الطعام عبارة عن عدّة خيم موصول بعضها ببعض، بحيث عندما تدخل من أحد جانبيها ترى منظرًا لافتًا، سفرة طويلة قد مُدّت، وأوّل ما يلفت نظرك فيها الأكواب البلاستيكيّة الحمراء الموضوعة عليها، فيما يتحلّق حول المائدة المجاهدون الذين وردوا الأهواز للتوّ، والذين لا يلبثون أن يوزّعوا على الكتائب بعد الفرز والتنظيم. في الواقع، كانت مدرسة الشهيد براتي بمنزلة مكان للتجهيزات، حيث أُنشئ فيها مخزن كبير يلبّي حاجة العناصر والكتائب. في فترة تواجدنا هناك، كان عناصر كتيبة الشهيد مدني في طريق العودة من إجازتهم، كما توجّهت بعض الكتائب إلى المنطقة استعدادًا للعملية القادمة، أمّا نحن فتمّ فرزنا بعد يومين.

 

93


86

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

استقرّ عدد من عناصر لواء عاشوراء في "كلستان" و"بوستان"، وهما مدرستان تحوّلتا بعد بدء الحرب إلى مقرّ للمجاهدين. في البداية فُرِزنا إليها، ثمّ انتقلنا إلى جامعة "جندي شابور"[1] حيث التقيت بابن خالي إبراهيم نمكي[2]. كان لقاء أحد المعارف بالنسبة لي في أول مرّة آتي بها من كردستان إلى الجنوب، أمرًا رائعًا. غالبًا ما سألني الإخوة: "أين خدمت قبل مجيئك إلى هنا؟"، وعندما يسمعون باسم كردستان، يغلبهم الشوق والحماسة لأخبرهم عن المواجهات التي حصلت هناك. ما كانوا ليتصوّروا فكرة عدم وجود مسافة بين الصديق والعدوّ، وأنّ المرء قد يُرمى بقنبلة في أيّ لحظة من قبل أيّ رجل أو امرأة أو طفل. لذا اعتبروا وجود قوّاتنا في مواجهات كردستان، وجودًا قويًا، وقالوا: "إنّ الذي يخدم في كردستان لمدّة شهرين أو ثلاثة كالذي يخدم في الجنوب لمدّة سنتين أو ثلاث!"، وهذه هي الحقيقة. فمواجهات كردستان القاسية والمتتالية، تجعل الإنسان أشدّ مِراسًا وتجربة.

 

بعد يومين أو ثلاثة قضيتها عند ابن خالي، ذهبت إلى مدرسة الشهيد براتي في الأهواز. كان الأخ زارعي هو المسؤول عن فرز القوّات وتنظيمها، وقد سبق له أن تعرّف إليّ. بعد التحيّة والسلام والاستخبار عن الأحوال وفرز القوّات، التفتُّ إلى أنّني الوحيد الذي لم تُحدّد مهمّته.

- إذًا، لما لم تفرزوني إلى نقطة معيّنة؟

- أنت الآن باقٍ هنا، تعال وامضِ معنا يومين أو ثلاثة!

 


[1] في تلك الفترة كانت جامعة جندي شابور، فرع الأهواز التي تقع في أوّل طريق الأهواز-خرّمشهر القديم، مقرًا للمجاهدين.

[2] هو من المجاهدين القدامى في فرقة عاشوراء، وكان له حضور كبير أيّام مقاومة القوّات الآذريّة في "سوسنكرد". وقع أسيرًا بأيدي القوّات العراقيّة أثناء عملية خيبر، وعاد إلى الوطن بعد سبع سنين من المعاناة في الأسر.

 

94


87

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

قال هذا فبقيت. في تلك الفترة كان أخي الأصغر منّي سنًّا السيّد صادق، في كتيبة الشهيد مدني أيضًا. فبعد ذهابي إلى جبهة كردستان، فعل السيّد صادق كلّ ما بوسعه للالتحاق بالجبهة، إلى أن أُرسل في النهاية إلى جبهة الجنوب. ومن قضاء الله أن وُوجِه منذ أوّل وصوله إلى الجبهة، بالمواجهات العنيفة في تلّة "الله أكبر"[1]. وهناك أصابه الهلع عند رؤيته الجثث الكثيرة المتناثرة، فترك سلاحه في أرض المعركة ورجع إلى المدينة! ومنذ ذلك الحين وُضع اسمه على لائحة الفارّين من المعركة. لذا، فقد طرق كلّ باب من أجل الالتحاق مجدّدًا بالجبهة، لكن بلا نتيجة، إلى أن جعلني وسيلته إلى ذلك، وراح يطلب مني باستمرار: "بالله عليك، تكلّم مع جواد بشأني"، ويقصد "جواد جبّار زاده" المكلّف في الهيئة المشرفة على إرسال العناصر إلى الجبهة، وقد رفض طلبه لمرّات. في النهاية، وخلال فترة النقاهة التي قضيتها بعد إصابتي في كردستان، قصدنا الهيئة المشرفة على إرسال العناصر، وكانت تربطني بجواد علاقة جيّدة ويعاملني بلطف، وأعلم أنّه لن يرفض لي طلبًا. قلت له: "سجّل اسمه، فهو يريد الالتحاق بالجبهة!".

- هذا فارّ من الجبهة، ما القرابة التي تربطك به يا سيّد؟!

- إنّه أخي!

لم يكن يريد التصديق أو قل لم يمكنه ذلك. أكدتّ له: "صدّقني يا سيّد، إنّه أخي!".

- يا أخي هذا الشابّ قد فرّ يومًا من الجبهة!

- لا مشكلة. سجّل اسمه الآن، فهو يريد الالتحاق بالجبهة.

 

بالمحصّلة، كاد أخي السيّد صادق يطير من الفرحة، وجاء اسمه في عديد


 


[1] قام المجاهدون التبريزيّون بتنفيذ عملية في تلال "الله أكبر" على حدود "سوسنكرد" في أوائل الحرب بتاريخ 21 أيار 1981م، بهدف دحر العدوّ من المنطقة وفكّ الحصار عنها.

 

95


88

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

كتيبة الشهيد مدني في أوّل بعثة أُرسلت.

 

كانت هذه الكتيبة التي يقودها "السيّد أحمد موسوي" قد أخذت إجازة خلال المدّة التي قضيتها في الأهواز، فأخذ أخي السيّد صادق إجازة أيضًا، وقبل أن ينطلقوا، جاء لرؤيتي ثم توجّه مع بقية العناصر إلى تبريز أمّا أنا فبقيت. في تلك الفترة، كان "أصغر قصّاب عبداللهي" معاونًا لقائد الكتيبة، و"صادق فعله آذري" و"حميد بهنيان"[1] مسؤولي سرايا. لم أتذكّرهم جيّدًا حينذاك، لكن يبدو أنّهم كانوا يعرفونني من مركز مسجد التوحيد في "قره آغاج"، واستقبلوني بحرارة[2].

 

كانت فرصة جيّدة لنا أثناء غياب العناصر لنتبادل الأحاديث حول ذكريات كردستان والجنوب ومعاركهما. بعد عدّة أيّام، بدأ بعض مسؤولي الكتيبة بالعودة الواحد تلو الآخر من إجازاتهم التي علمت أنّ سببها انكشاف عملية كانت مقرّرة في الجنوب.

 

عندما عاد السيّد صادق حمل إليّ سلّة صغيرة من العنب من محصول كرمنا، وقد أوصته أمّي أن يوصلها كلّها إليّ، فتقاسمتها حينذاك مع الرفاق. كان الشعور باهتمام الأبوين بأولادهم في كلّ الظروف شعورًا منقطع النظير!

 

فُرزت كعنصر في كتيبة الشهيد مدني، وتوجّب عليّ أن أذهب إلى السيّد أحمد موسوي وأخبره بذلك. استقبلني السيّد بوجه بشّ، وحين سألته: "سيّد بأيّ مجموعة سألتحق؟"، أجاب: "أنت مقاتل حرّ، ستبقى


 


[1] هو واحد من أهالي منطقة "قره آغاج" في تبريز، وقد التحق بالحرس عندما كان طالبًا جامعيًّا. كان شديد الإيمان ودقيقًا فيما يتعلّق ببيت المال، بحيث كان يترك نصف راتبه للحرس لاعتقاده بأنّه يدرس ولا يقضي كلّ وقته في الحرس. لم يمضِ وقت طويل حتّى نال الشهادة في عملية مسلم بن عقيل.

[2] بعد تعرّفي إلى كريم ستّاري في كردستان صرت أتردّد إلى مسجد التوحيد، واستمرّت هذه العلاقة لمدّة سنتين.

 

96


89

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

هنا!". من الواضح أنّه أخذ بالحسبان تجربتي في جبهة كردستان التي استمرّت خمسة عشر شهرًا. أصررت على الالتحاق بإحدى المجموعات فلم يقبل. قلت: "يا أخي، أريد أن أعرف كيف هي المواجهات هنا في الجنوب؟"، فأراحني جوابه حيث قال: "لقد قاتلت في كردستان، والحرب هنا أسهل بكثير من هناك!".

 

في أحد أيام آب الأخيرة من العام 1982م، قال لي السيّد موسوي: "علينا أن نذهب إلى سومار بأسرع وقت". جهّزنا أنفسنا بسرعة وانطلقنا بالحافلة نحو "كرمانشاه" و"إسلام آباد". وفي الطريق إلى إسلام آباد، التقط الإخوة في الحافلة الإذاعة العراقيّة. ذُهلنا حين سمعنا بيان الإذاعة العراقيّة يقول: "ها هي قوّات لواء عاشوراء الآن قد ركبت الحافلات متّجهة إلى إسلام آباد للقيام بتنفيذ عملية!". رحت أضحك، فأنا نفسي لم أكن أعرف إلى أين يؤدّي هذا الطريق، لكن الإذاعة العراقيّة كانت على علم وخبر بمسيرنا ومقصدنا. قلت في نفسي: "كيف يمكن القيام بالعملية هنا؟!".

 

بقينا لثمانية أيّام في ثكنة "الله أكبر" في إسلام آباد، وهناك وضعوا برنامجًا لتدريبنا على حرب الجبال. كانوا عادةً ما يُخرجون العناصر من الثكنة ليلًا بعد تناول العشاء، ليسيروا أحيانًا ما يقارب العشرين كيلومترًا حول الثكنة، أو ليتسلّقوا الجبال أحيانًا أخرى. وفي هذه الجبال كانت تُنصب بعض الكمائن من قبل الأعداء، وكنّا أحيانًا نصطدم بها. فكنّا على حد تعبير بعضهم، نقوم بمناورات حية، وأحيانًا نتوقّف في مكان ما، فيعلّموننا معرفة الجهات بواسطة النجوم. وفي تلك الفترة، أغارت الطائرات العراقيّة مرّتين أو ثلاث مرّات على المنطقة، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء.

 

من هناك انتقلنا إلى منطقة قريبة من نهر "سومار" وتقع في مرمى

 

97

 


90

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

قذائف مدفعيّة الجيش العراقي، كما لم تدع صواريخ الطائرات الشباب يعرفون طعم الراحة أيضًا. بقينا ما يقارب العشرة أيّام في الخيام، وكنّا يوميًا في حالة تعلّم وتدرّب، تدرّب على تسلّق الجبال، قراءة الخريطة وما شاكل. حينها شاهدت خريطة للمرّة الأولى، وفيها رأيت لأوّل مرّة موقع تلّة "سلمان كشته"[1].

 

برزت من السيّد أحمد برامج غير عاديّة. ذات يوم وأثناء المسير في المنطقة وصلنا إلى منحدر يتراوح طوله حوالي 70م.

 

طلب من الرفاق التوقّف وقال: "ليضع كلّ واحد منكم يديه على رأسه ولتبدأوا بالشقلبة (التدحرج) الواحد تلو الآخر...". وقفت أفكّر هل أتشقلب أم لا، وجاء دوري.

- هيّا!

 

كان السيّد أحمد موسوي هو من أعطى الأمر. قلت بلهجة لطيفة: "سيّد! أنا أيضًا...!؟".

- نعم!

- لكن أنا ما زلت...

- لا! عليك أن تفعل! أسرع.

لم أستطع أن أخبره بصراحة أنّني مصاب، وأنّ بدني لم يتعافَ ويستعيد قوّته بشكل جيّد إلى الآن. وأُجبرت على وضع يديّ خلف رأسي و"التشقلب"... وازداد عذابي وأنا أتدحرج في ذلك المنحدر قرابة 60 الى70مترًا، ونفذت الأشواك من وراء الثوب في جسمي لينتشر الوجع في

 

 


[1] تقع تلّة سلمان كشته في مرتفعات "سان وابا"، وكان مخفر سلمان كشته يقع عليها ويشرف على مدينة "مندلي" العراقيّة.

 

98


91

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

المواضع المحروقة. في طريق العودة كنت أتلوّى من الألم، وما إن وصلنا إلى مقرّ الكتيبة حتّى دخلت الخيمة، ورفعت القميص مناديًا السيّد أحمد: "سيّد أحمد... تعالَ الآن وأزل هذه الأشواك من بدني!".

 

المسكين، حين رأى ظهري تغيّرت نبرة صوته وقال بكلّ محبّة: "لِمَ لم تقل لي؟!".

- ماذا كنتَ تريدني أن أقول! أخبرتُك أنّني جريح بعض الشيء، لم تقبل!

 

مع أنّ السيّد كان منزعجًا، إلّا أنّه أجاب جوابًا قويًا: "لا ضير في ذلك! تبقى فتصبح أقوى!".

 

في أواخر شهر أيلول من العام 1982م حيث لم يبقَ سوى يومين أو ثلاثة على بدء العملية، جاء إليّ أخي السيّد صادق مع آخرين ومن جملتهم كريم ومحمود ستّاري ـ وهما أخوان ـ وقالوا: "هيّا بنا نذهب إلى البحيرة"[1]. كان ذلك صباح يوم خريفي، وقد مال الطقس إلى البرودة شيئًا ما، لكنّني لم أرفض دعوتهم. كان الإخوة في تلك الأيّام القلائل يذهبون إلى هناك للاستحمام والسباحة في حرّ الظهيرة. وصلنا إلى هناك مع اشتداد حرارة الشمس. ما إن جلسنا على ضفّة البحيرة وتهيّأنا للنزول، حتّى ناداني أخي صادق: "انظر هناك! أحدهم يغرق!".

- لا يا أخي!

- انظر ذاك الفتى يغرق!

 

حقًّا ما كان يقول. فثمّة شخص يصارع في الماء، ويعلو ويهبط من


 


[1] كان جهاد البناء قد أنشأ في تلك المنطقة سدًّا صغيرًا في مجرى نهر "سومار"، فتجمّعت الكثير من المياه في ذلك المكان، وهذا ما قصده الرفاق بالبحيرة.

 

99


92

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

دون أن يلتفت إليه أحد ممّن حوله. قفزت فورًا في الماء ووصلت إليه بسرعة. نزلت تحت الماء ورفعته من رجليه إلى الأعلى ليبقى رأسه فوق الماء. ما إن طفا المسكين على سطح الماء حتّى تعلّق بشعري ودفعني إلى الأسفل واستقرّ فوق عنقي. شربت الكثير من الماء، ومهما حاولت لم أفلح في إفلات رأسي من بين ذراعيه. بتّ الآن أنا من يغرق، ولم يعد بيدي حيلة سوى أن ألكمه عدّة لكمات على بطنه لعلّه يتركني. سحبته من الماء بصعوبة، إلّا أنّ أنفاسي كانت قد انقطعت، وقد شربت من الماء أكثر منه. أخرجنا بصعوبة الماء الذي شربناه. تعرّفت إليه، إنّه الأخ الأصغر لـ "محمّد رضا تشميدفر"[1]. أعرضنا مع هذه الحادثة عن فكرة النزول إلى البحيرة، وارتدينا ملابسنا وغادرنا المكان.

 

بدأ مقرّ الكتيبة يتراءى لنا شيئًا فشيئًا. كنّا نسير في الطريق الترابيّة المؤدّية إلى المخيّم والتي غالبًا ما تسلكها الآليّات، لعلّنا نجد من يقلّنا. لكن أينما جلنا بنظرنا، رأينا الإخوة يتوجّهون نحو التلّة مشيًا على الأقدام. مرّت لحظات، وإذ بغبار يتصاعد في المكان. لقد جاءت سيّارة التجهيزات تنقل قدور الطعام الكبيرة إلى القوّات. كان السائق من أهالي "مراغه"، توقّف على مسافة أمتار أمامنا لنركب السيّارة. ما إن وصلنا إليها حتّى اعتلاها الإخوة من كلّ مكان وتعلّق كلّ منهم بمكان فيها. ركب صادق أيضًا في المؤخّرة، ولم يبق سواي! ناداني السائق: "تعال يا سيّد واركب أنت أيضًا!".

- أين أركب، لم يبقَ أيّ مكان فارغًا!".

 

أراد السائق أن يُرجع الإخوة الذين جلسوا في المقدّمة إلى مؤخّرة السيّارة، فلم أرضَ وقلت له: "اذهب أنت، أريد أن أذهب مشيًا!". حين رأى أخي أنّني لم أركب، ترجّل فورًا من السيّارة، وهكذا فعل كريم


 


[1] هو من قدامى العناصر الآذربايجانيّين الذين قاتلوا في "سوسنكرد" و"بستان"، ومن عداد الباقين في تلك الملحمة الكبرى.

 

100


93

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

ستّاري، وانطلقت السيّارة. إضافة إلى ثقل قدور الطعام المملوءة، فقد تعلّق بالسيّارة ما يقارب الثلاثة عشر شخصًا، فكانت تصعد التلّة بصعوبة. بعد دقائق قليلة، سمعنا هدير الطائرات العراقيّة. كنّا قد وصلنا إلى أعلى التلّة، ولا يفصلنا عن مقرّ الكتيبة أكثر من 800 متر. كانت السيّارة تسير في أرض سهلة ولمّا تصل إلى هنالك بعد، ما جعلها هدفًا سائغًا للطائرات التي اتجهت إحداها نزولًا. أطلقتُ صرخة من الأعماق: "تريد أن تقصف السيّارة!".

 

ركضت مسرعًا، لكن في ظرف ثوانٍ قليلة، أطلقت الطائرة صاروخًا، فتطايرت السيّارة وتناثر كلّ شيء أمام أعيننا، الإخوة، قدور الطعام، العجلات... حين وصلنا وجدنا أشلاء الإخوة متناثرة. انقبضت أحوالنا. كان الطعام يومها عبارة عن "الآش"، وأزعجنا كثيرًا المنظر الذي رأيناه أمامنا... من بين كلّ الإخوة، لم يبقَ حيًّا سوى مسؤول التجهيزات الذي بُترت ساقاه وتمزّقت أحشاؤه، فنُقل إلى الخطوط الخلفيّة. لملمنا الأشلاء قدر الإمكان. بعد ساعة جاءت جرّافة من الكتيبة، وطمرت بقايا السيّارة ومخلّفات الانفجار بالتراب، وذلك حتّى لا تضعف معنويّات الإخوة جرّاء النظر إلى ذلك المشهد. في اليوم نفسه سمعنا أنّ الناجي الوحيد من تلك الحادثة نال الشهادة وهو في طريقه إلى غرفة العمليات[1]. شاءت القدرة الإلهيّة أن أنجو وصادق حينها من القصف، وأن نشهد شهادة رفاقنا المجاهدين. والله وحده كان يعلم ماذا سيحلّ بنا بعد أيّام!

 

مُدّت خريطة العملية من أجل الشرح والتوضيح، وهذا يدل على أنّ موعد تنفيذ العملية صار قاب قوسين أو أدنى. تقرّر أن نكون في منطقة

 


[1] أعتقد أنّ تلك السيّارة تعود لكتيبة الشهيد صدّوقي، وكان مسؤول التجهيزات فيها الأخ قربانعلي بجاني الذي نال الشهادة أيضًا.

 

101


94

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

العملية قبل يوم من تنفيذها، لذا تهيّأنا للمسير. وبينما نحن متوجّهين إلى آليات الـ"إيفا"، كانت مشاهدة أحوال الإخوة أمرًا جديدًا بالنسبة إليّ، ها هم يحتضنون ويودّعون بعضهم البعض بالبكاء والنحيب والدعاء، ولم أكن قد رأيت مثل هذا الأمر في كردستان أبدًا.

 

في النهاية، توجّهنا إلى منطقة العملية في 29 أيلول العام 1982م. بقينا نمشي لساعات ولم نعلم بأنّنا قد ضللنا الطريق. توقّفت آليات الـ"إيفا"، وترجّل بعض الشباب ليستطلعوا المكان، لكن ما لبثوا أن عادوا وأخبرونا بأنّنا صرنا على مقربة من القوّات العراقيّة! كان بعض الإخوة قد ترجّلوا من الآليات لقضاء حاجة من دون أن يعلموا بشيء، والقوّات العراقيّة المتمركزة في التلال المحيطة تشرف على المكان بشكل تامّ، بحيث يمكنها رؤيتنا جيّدًا عبر المناظير الليليّة. فجأةً، بدأ وابل النيران ينهمر علينا من كلّ مكان. انسحبتْ بسرعة كلّ سيّارة استطاعت ذلك من دون التفكير فيمن ترجّل منها. كانت صواريخ الكاتيوشا والرشاشات تعمل بلا توقّف، فانسحبنا في جنح الليل من تلك المنطقة مستائين من هذا الخطأ الذي حصل.

 

كانت الخطوط الدفاعيّة لمنطقة سومار متباعدٌ جدًّا بعضها عن بعض، وقد قطعنا مسافة طويلة حتّى وصلنا إلى أحد تلك الخطوط. أخيرًا بلغنا المحلّ المقصود، وبتنا باقي ليلتنا في الخيام التي نُصبت هناك. في الصباح، أُبلغنا بأنّه سيتمّ إرسالنا بعد صلاة الظهر وتناول طعام الغداء إلى منطقة أخرى. كان لصلاة الظهر أجواؤها الخاصّة، فقد اتّخذ كلّ فرد ناحيةً وراح يصلّي ويناجي ربّه بحالة من الخشوع والخضوع، ثمّ وزّعوا على كلّ منّا علبتين من السمك المعلّب، فأعطيتُ واحدة لأحدهم، وتناولت قليلًا من الثانية. وعند حلول موعد الغداء، وإذ أردت أن آكل ما تبقّى من السمك المعلّب، وجدت النمل قد هجم عليه! ولم أستطع أن آكله. في هذه الأثناء، جاء إليّ "أصغر غربي" وقد

 

102


95

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

التفت إلى ما حدث، ففتح علبته وقاسمني إيّاها.

 

عند قرابة الثانية والنصف ركبنا الآليّات وسرنا في طابور. كان قد جرى التخطيط من قبل، بأن تتوقّف الآليّات في ثلاث أو أربع محطّات لاستراحة العناصر، هيأوا فيها من قبل الماء والطعام والفواكه المعلبة. توقّفت آليّتنا في أحد المحاور بالقرب من نهر صغير، فأدّينا صلاتي المغرب والعشاء. وبعد تناول الطعام، تفرّق الإخوة. البعض يصلّي، وآخرون يقرأون القرآن والأدعية بخشوع، وبقية يوصون بعضهم بعضًا الوصايا الأخيرة. اشتدّ أنين البعض ونحيبهم، أمّا أنا فكنت غريبًا عن ذلك العالم. أساسًا، لم يكن يروقني طلب المسامحة ومثل هذه الأمور. ربّما كنت قاسي القلب بعض الشيء.

 

سرعان ما بدأنا مسيرنا الأخير نحو منطقة العملية[1]. كانت ليلة مقمرة، بل أضاء نور القمر البهيّ كلّ مكان، وبفضله لم يصطدم أحد بأحد خلافًا لما كان يحدث سابقًا، عندما كان الإخوة يصطدمون ببعضهم من شدّة الظلمة وهم يسيرون على شكل طابور. وصلنا إلى منطقة يمكن فيها سماع أصوات العراقيّين في ذلك السكون. وهناك، حان وقت الوداع ليتفرّق بعده الإخوة ويذهب كلّ منهم إلى محور محدّد. كنت جائعًا فشاركت اثنين من الإخوة طعامهم. تناولت لقيمات، وانفصلت عنهم بوداع سريع. بدأ تحرّكنا الأخير. وما إن سرت قليلًا، حتّى سمعت أحدهم يناديني: "نور الدين... نور الدين!".

 

إنّه صوت أخي صادق، الذي كان يسير إلى جانب الطابور بحثًا عنّي ويناديني. لكنّني لم ألتفت! وانزعجت أيضًا لأنّه لم يراعِ الحيطة في تلك المنطقة التي يمكن أن نسمع فيها صوت العراقيّين. حين عثر عليّ قال: "يا مسهّل! نحن أخوان، ونريد أن نذهب إلى العملية، وسوف نفترق...

 


[1] بدأت عملية مسلم بن عقيل بنداء "يا أبا الفضل العبّاس"، فجر 1/10/1982م، في جبهة غرب "سومار" والمرتفعات المشرفة على "مندلي".

 

103


96

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

دعنا على الأقلّ نودّع بعضنا!".

 

لم تستطع كلماته أن تليّن قلبي: "حسنًا، الجميع ذاهبون إلى العملية، لِمَ الوداع؟! هناك أيضًا سنلتقي!".

 

ومهما فعل لم أودّعه. كنت أعتقد بأنّه لا حاجة للوداع، وأنّنا نسير في هذا الطريق معًا. عند سماعه كلامي، ذهب والتحق بطابوره، وتابعنا نحن أيضًا مسيرنا. وصلنا إلى مكان يشبه الوادي، سبق وزرعه العراقيّون بالألغام، وطهّر الإخوة قسمًا منه ليُجعل معبرًا. تقدّمتْ من خلاله إحدى الكتائب وعبرت، وبقينا نحن بانتظار أن يُفتح معبر آخر. كنّا هناك بمحاذاة تلال "سلمان كشته"[1]، في منطقة تقع أعلى "نفت شهر". وفيما فرقة الهندسة تعمل على فتح المعبر، بدأت الاشتباكات مع الألوية الأخرى الموجودة في أطراف تلال سلمان كشته.

 

من مكاني رأيت جيّدًا الضابط العراقي وهو يصيح في وجوه قوّاته! كان الهدف من العملية احتلال تلّة "سلمان كشته"، الأمر المحال الذي تقرّر أن يصير ممكنًا على أيدي الشباب الغيارى. فجأة، وفي تلك اللحظات، عمّ ضباب كثيف المكان، فلم نعد نرى أمامنا. راح العراقيّون يطلقون القنابل المضيئة، ما مكّن الإخوة من إتمام عملهم تحت نورها. كنّا نرى الإمداد الغيبي بأمّ العين.

 

أعطاني السيّد أحمد موسوي الأمر بالتحرك، وكنت من العناصر الحرّة في الكتيبة: "لقد تمّ قطع الأسلاك الشائكة، ابدأ بالمواجهة لإلهاء القوّات العراقيّة". كان من المقرّر أن نقوم بإلهاء العدوّ ليتمكّن باقي الإخوة من الصعود من السفح إلى أعلى التلّة، وقد أكّد السيّد أحمد

 


[1] المجاهدون الذين شاركوا في مواجهات "سلمان كشته" يعلمون جيّدًا ما هي طبيعة المنطقة. يومذاك، لم تكن القيادة نفسها تصدّق بأنّنا سنسيطر على هذه التلة. الحقيقة أنّ العراقيّين جّهزوا التلّة بإمكانات وتجهيزات كبيرة للحؤول دون إمكانية السيطرة عليها، فالتحصينات القويّة، وعربات الشيلكا، والدبّابات و.. جعلت شبه المستحيل تحقق ذلك. أساسًا، إنّ أيّ عملية تهدف إلى احتلال تلك المنطقة لم يكن من الممكن تنفيذها من دون الدعم الناري.

 

104


97

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

علينا بأن نعمل على أن تبقى نيران العدوّ موجّهة إلينا. تقدّمت و"أصغر غربي" وشخصٌ آخر يُدعى "أسد" من الناحية التي قُطعت فيها الأسلاك الشائكة، ولم يكن للعراقيّين أيّ أثر. تقدّمنا أكثر، وكان بيننا وبين تلّة "سلمان كشته" الرئيسيّة ثلاث تلال صغيرة. عبرنا الأولى من دون أن يرانا أحد. وصلنا إلى الثانية وصعدناها ولم يلتفت إلينا أحد كذلك.

 

- فلنذهب باتّجاه الثالثة!

 

- لقد اقتربنا كثيرًا! من غير الممكن أن لا يرونا!

 

كان أصغر وأسد يميلان لأن نبدأ بالمواجهة من مكاننا. فيما رجّحتُ أنّنا كلّما تقدّمنا أكثر سيصبح الأمر لمصلحتنا، لكنّني بالنهاية وافقتهما الرأي. تموضعنا في مكاننا، ورحنا نتناقش بأيّ سلاح نبدأ مواجهتنا، ففي حوزتنا رشّاش*[1]، وكلاشينكوف، و(B7)، وحُسم القرار بأن نبدأ بها جميعًا. قلنا بسم الله وبدأنا الرمي. ردّ العراقيّون علينا مباشرة، بالثنائي**[2]، والرشاش، وحتّى بالقذائف المدفعيّة! أصبحت الأوضاع غير عاديّة. نحن نفتقد أيّ مكان محصّن، وكنّا نرمي عليهم من أعلى التلّة لإلهائهم فقط، لذا صرنا هدفًا لجميع أنواع الأسلحة. كان من الواضح أنّ خطّتنا قد نجحت، وما هي إلّا دقائق حتى بدأنا نسمع أصوات تكبير الإخوة الذين صعدوا التلّة، واشتبكوا مع العدوّ من الناحية الأخرى. لقد بدأت المعركة الأساسيّة. قلت: "قوموا بسرعة، علينا أن نهجم نحن أيضًا!".

 

- يا عم، إنّهم يرمون علينا، ما هذا الذي تقوله؟!

- لا، إنّ كلّ اهتمامهم الآن منصبّ على تلك الناحية. من الآن فصاعدًا إن رمى علينا أحد ستكون قوّاتنا هي التي ترمي!

 

تحرّكنا بسرعة، وعندما وصلنا إلى مواقع العراقيّين، رأينا الإخوة

 


[1] * سلاح من صنف الBKC أو ما يشبهه، وكثيراً ما يرد في الكتاب بهذا العنوان (رشاش).

[2] ** مدفع رشاش متوسط يستخدم مضاداً للطائرات أيضاً له فوهتان.

 

105


98

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

مشتبكين معهم من الناحية الأخرى. فبدأنا نحن بتطهير الدشم من ناحيتنا. كانت في الموقع الأوّل دبّابة لا تزال سليمة وتشكّل غنيمة كبرى. قلت: "لا تفجّروها!"، لكنّ أحد الإخوة لم يلتفت وألقى بداخلها قنبلة يدوية و... توجّهنا نحو الموقع الثاني. كان موقع الاشتباك يبعد مسافة عن موقع تلّة "سلمان كشته" الرئيسيّة. غاية الأمر، أنّنا بالاشتباك والتطهير كنا نتقدّم نحو الأعلى. ابتعدتُ عن الإخوة حتى وصلتُ إلى جانب دشمة وسمعت منها صوتًا يدل على عدم خلوّها. مباشرة رميتُ قنبلة يدوية في الداخل وابتعدت. وما هي إلّا ثوان حتّى انفجرت وتطايرت في الهواء. علمنا أنّها كانت دشمة الذخائر، وأحدثت الانفجارات المتتالية في مدّة زمنيّة قصيرة صدمة للأعداء، والإخوة لا يزالون أيضًا يقاتلون ببسالة ويتقدّمون. كان الأمر بمنزلة إطلاق ألعاب ناريّة معتبرة، وملأت المنطقة أنوار الانفجارات المتتالية. من الواضح أن العدوّ لم يكن يتحلّى بروحيّة المقاومة.

 

- بقي مدفع فاصل ثنائيّ فقط يشكّل مصدر إزعاج للإخوة!

 

قال أحدهم ذلك، فانطلقنا معًا لإسكاته. كنّا تقريبًا وراء الثنائي الذي يشرف على المكان ويمنع الإخوة من التقدّم، كما كان هناك اثنان أو ثلاثة من العراقيّين يرمون. ناديت من الخلف بصوتٍ عالٍ: "فليأتِني أحدكم بالـ (B7) لأضرب هذا الثنائيّ"[1]. بالطبع، لم يكن أحد إلى جانبي، لكنّني أردت بذلك إسماع العراقيّين وحثّهم على الاستسلام! وهكذا، فقد سمعوا ما قلت، وخرج أحدهم من الدشمة وتوجّه نحوي. اقترب منّي كثيرًا، وحين صار على مسافة أقدام منّي أردت أن أرمي عليه، لكنّ الكلاشينكوف لم يعمل. جرّبت ثانيةً، لكنّه استعصى! والعراقيّ يتقدّم نحوي بهدوء. حرت ماذا أفعل. يا إلهي، لقد استخدمت كلّ القنابل التي بحوزتي. كان شكله في تلك اللحظات مثيرًا للرعب: بنيته كبيرة،


 


[1] بير نفر آر بي جي كتيسين من بو دولولى وروم!

 

106


99

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

ويحمل في يده سكّينًا. تركت السلاح ولذت بالفرار! رحت أعدو وهو يعدو خلفي. لم يكن أيٌّ من الإخوة موجودًا في تلك الناحية، وأدركت حينها أيّ خطأ ارتكبت حين ابتعدت عنهم. استجمعت كلّ طاقتي في رجليّ ورحت أركض. كنت أسمع صوت أنفاس العراقيّ من خلفي، لكنّني لم أجرؤ على الاستدارة. في تلك الأثناء، أطلق العراقيّون القنابل المضيئة، فوقع نظري في ظلّ نورها على قذيفة (B7) مرميّة على الأرض قد رُكّبت حشوتها الدافعة أيضًا. وفي لحظة، التقطّتها واستدرت نحوه وضربته بها على رأسه. فأصيب بدوّار! ضربته بقوّة حتى انفصلت أجزاء القذيفة عن بعضها البعض. لكنّني تابعت فراري أيضًا، لأنّ ذلك المخلوق الذي رأيته لم يكن ليسقط جرّاء تلك الضربة. تقدّمت قليلًا، فرأيت أحد الإخوة، صحت به: "ارمه..."[1] ، ورماه أخيرًا.

 

حين سقط أرضًا، وقفت وتنفّست الصعداء. وهذه المرّة ذهبت مع عدد من الأشخاص إلى موقع الرشّاش الثنائي، وأسكتناه برمي قنبلة يدوية عليه. زاد انسحاب العراقيّين من معنويّات الشباب. كنت ذاهبًا إلى مكان الاشتباك حين التقيت بأصغر غربي. قلت له: "كم أشعر بالنعاس!"، قال: "اذهب ونم في واحدة من هذه الدشم!".

 

- سأنام، لكن إيّاك أن تبتعد من هنا! فقد يخطر فجأة على بال أحد شبابنا تطهير الدشمة ويرمي عليها قنبلة!

- كن مرتاح البال، سأبقى في هذا المحيط!

 

وضعت رأسي على تراب الدشمة ونمت...

 

استفقت على صوت أكبر وهو يقول "حان وقت الصلاة". تبيّن لي أنّني نمت قرابة الساعتين. صلّيت الصبح، واشتدّت الاشتباكات. لقد شنّ العراقيّون هجومًا مضادًّا واضطربت المنطقة. كنت أفكّر في أخي السيّد صادق، وإذ بالسيّد أصغر يناديني: "أحدهم يبحث عنك".

 


[1] بونى ورون...

 

107


100

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

- من كان؟

- لا أدري! كان فتىً يافعًا. ولأنّك كنت نائمًا لم أدعه يوقظك!

- من أيّ جهة ذهب؟

 

أشار إلى مضيق (معبر) وقال: "من هنا". ذهبت في ذلك الاتّجاه فلمحت من بعيد أخي السيّد صادق قد جلس في فوّهة المضيق. اقتربت إليه من الخلف، فوجدته يأكل الإجاص المعلّب، ومن دون أن أتفوّه بكلمة، سحبت العلبة من يده. نظر خلفه، ولمّا رآني فرح كثيرًا. كنّا فرحين لكوننا ما زلنا سالمين. كان معه بعض البسكويت، فرحت آكل منه وأنا واقف، فقال لي: "اجلس على الأقلّ يا أخي، وكُل!".

- لا تخف، وهل يوجد خطر هنا؟

- ألا ترى كلّ الرصاص يأتي إلى هذه الناحية؟!

 

جلستُ بجانبه، ثم التحقنا بعد دقائق بجمع الإخوة. استعاد العراقيّون في هجوم معاكس التلال المجاورة لـ"سلمان كشته"، ثمّ بدأوا قرابة الحادية عشرة ظهرًا هجومًا آخر بالدبابات من جهة "نفت شهر" لاستعادة تلّة سلمان كشته، إلّا أنّ مقاومة الشباب الباسلة منعتهم من تحقيق أهدافهم. إلى ذلك الحين، لم يكن إسناد مدفعيّتنا قد صدّق بأنّنا سيطرنا على التلّة[1]، وظلّ دومًا يطلب منّا الانسحاب، ويقصف المنطقة بشكل عنيف، ما تسبّب بخسائر في صفوفنا أيضًا!

 

في الواقع، كنّا في تلّة "سلمان كشته" عرضة لنيران العدوّ والصديق، ووقعنا تحت ضغط شديد، وكانت الأوضاع غير عاديّة وأخبار استشهاد الرفاق تصلنا باستمرار. في تلك الأثناء، أتى مسؤول المحور "حبيب باشايي" لتفقّد أحوال الإخوة والاطّلاع على ظروف المنطقة عن كثب. لكن في طريق العودة قُصفتْ سيّارة الإسعاف التي أتى بها إلى منطقة


 


[1] كانوا يظنّون أنّنا عراقيّون، وأننا من أجل تضليلهم نتكلّم الفارسيّة ونرسل لهم برسائل أن لا يقصفوا المنطقة هناك.

 

108


101

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

العملية، فارتفع شهيدًا إلى جوار ربّه[1].

 

غدت المواجهات تشتدّ كلّ لحظة. ظهرًا، طلبتُ من السيّد صادق الانسحاب، فما دام موجودًا هناك، كنت أفكّر فيه ولا أستطيع القيام بعملي جيّدًا. بعد ساعة، ولمّا سقطت كلّ التلال الصغيرة المحيطة بتلّة "سلمان كشته"، جاء الأمر بالانسحاب إلى خطوط خلفية حدّدوها مسبقًا، لنقوم بتنفيذ المرحلة الثانية من العملية من أجل السيطرة مجدّدًا على التلّة. كما أُصدرت الأوامر للجرحى ممّن كانت جراحهم سطحيّة، بمساعدة الجرحى الذين لا يستطيعون الحراك بأنفسهم، ونقلهم إلى الخطوط الخلفيّة. قضت الأوامر بأن لا يُخلى الخطّ دفعة واحدة، وأن تستمرّ المقاومة ريثما يُستكمل بناء السواتر الترابية. دام هذا الأمر إلى قرابة الثالثة بعد الظهر، ليبدأ الانسحاب التامّ. وفي هذه الأثناء، وصلت قوّات العدّو إلى أعلى تلّة سلمان كشته، وأخذت تمطرنا بوابل نيرانها. والرصاص الطائش يضرب بالأرض من حولنا، ويثير الغبار في الهواء.

 

- نور الدين... سيّد نور الدين!

 

ناداني أحدهم ونحن ننسحب: "يا فتى! دخلت في حقل الألغام! ". أصابني الذهول.

 

ألقيت نظرةً من حولي فوجدتني في حقل ألغام.

 

- سامحك الله! الآن تقول لي!

 

كان رصاص العراقيّين ينهمر علينا من دون توقّف، وأنا محاصر لا أستطيع التقدّم إلى الأمام أو التراجع إلى الخلف. وجب عليّ أن أقرّر، وقرّرت. سمّيت باسم الله وعدت من حيث أتيت. لم يكن بيدي حيلة. أيمكن أساسًا أن يشكّل اجتياز حقل الألغام خطرًا أكبر من الوقوف

 


[1] بقي جسد الشهيد حبيب باشايي هناك لسنوات، وعُثر عليه لاحقًا في عملية التقصّي عن أجساد الشهداء، فأُعيد إلى تبريز ودُفن في مقبرة وادي الرحمة.

 

109


102

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

تحت زخّات الرصاص والقذائف والصواريخ والشظايا!؟ في كلّ دقيقة كانت عدّة رصاصات ترتطم بالأرض، لكنّني تابعت طريقي غير مكترث لها. ومع أنّني كنت قلقًا في تلك الدقائق من انفجار لغم تحت قدميّ، إلّا أنّ الله قدّر لي أن أخرج من وادي النيران ذاك سالمًا. في حقل الألغام ذاك، دست فقط على لغم مضيء، لم يكن له أيّ تأثير في ضوء النهار. وصلتُ إلى ساتر ترابي وأنا أشعر بلطف العناية الإلهية.

 

كنت قد أوصيت صادق بأن ينتظرني عند الإخوة في "برمنديه"، فَرُحْتُ أبحث عنه، وسرعان ما وجدته. وجدته على ما يرام، يتناول مع أصدقائه السمك المعلّب والبطيخ، وقد استقبلوني بحفاوة. بعد ساعة، انسحبتُ ومن بقي من عناصر كتيبة الشهيد مدني إلى الخلف. لقد حلّ الليل، وكنّا نعلم أنّه ستنفّذ في الغد عملية لاستعادة تلّة "سلمان كشته".

 

في الصباح علمنا أنّه سيلتحق بكتيبة الشهيد مدني حوالي 85 عنصرًا قدموا للتوّ من تبريز. فقد أوكلت مسؤوليّة قيادة الكتيبة إلى الأخ "صادق آذري" بعد إصابة السيد أحمد موسوي في المرحلة الأولى من عملية "مسلم بن عقيل"، وقيل لنا إنّه سيُعاد تنظيم الكتيبة من جديد عند الثانية ظهرًا، وننطلق مجدّدًا للهجوم على تلال سلمان كشته. كان لدينا حتّى الظهر وقت للراحة. نمت ذلك اليوم بعد صلاة الصبح نومًا عميقًا إلى أن أيقظني الإخوة قائلين: "قم، لقد حلّ الظهر!". استيقظت فرأيت مائدة الغداء قد مُدّت. تناولت القليل من الطعام وخرجت. منذ انسحابنا بالأمس بتلك الطريقة وأنا أبحث عن فرصة لأغسل ملابسي التي امتلأت كلّها بالدماء، لكن التعب قد أخذ منّي كلّ مأخذ، وها أنا الآن قد استعدتُ قوّتي ونشاطي. ناديت صادق وقلت له: "أريد أن أذهب لغسل ملابسي". فرافقني كعادته. انطلقنا نحو أرض مسوّرة حيث توجد حفرة تجمّعت المياه فيها، وقد احتشد الشباب هناك للاستحمام وغسل

 

110


103

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

الملابس. كنّا كلّما اقتربنا من الماء، ازدادت حرارة الرمال تحت أقدامنا. فجأةً، ظهرت طائرة عراقيّة في سماء المنطقة، خطر ببالي أنّها جاءت لتقصف المكان. قلت لصادق: "ستقصف هذا المكان الآن!".

 

- هل أنت خائف؟

 

- لا، لكن..

 

وكنت قد سمعت أنّه في كلّ قصف واسع النطاق، تأتي في البدء طائرة وتضع إشارة على المنطقة المراد قصفها، ثمّ تأتي طائرات أخرى وتقصف المكان. سرح فكري في السماء، وأنا أنظر في المشهد أمامي، والمكان مزدحم بالناس. عدد كبير من شباب طهران داخل الماء، كما كان بعض مجاهدي تبريز في تلك النواحي.

 

إلى جانب البركة عالمُ دين يتحدّث إلى بعض الإخوة. ما زلت أذكر إلى الآن حرارة الرمال تحت قدميّ. قلت للسيّد صادق: "لا تخف! تعالَ نغسل ملابسنا..". وفيما كنت أنظر في الدماء التي تجمّدت على ملابسي، أحسست فجأة بأنّني أترنّح، وكأنّ دوارًا أصابني، ورحت أدور حول نفسي... كنت أدور وأحسّ بالشظايا الحامية تخترق بدني الواحدة تلو الأخرى... الغريب أنّني لم أشعر بأمر سيّئ. بل أحسست بأنّني أسبح في فضاء ساخن ومبهم... ثم وقعت أرضًا على وجهي. لقد اختلطت الأصوات والروائح وطعم التراب والدماء... وفيما كنت أسقط حاولت جهدي أن أعرف ما الذي حصل. رفعتُ رأسي بصعوبة بالغة عن الأرض، لم أرَ شيئًا. رفعت يدي لأمسح الدم والتراب عن عيني، فغرقت يدي في وجهي! لقد تبلّلت أصابعي بسائل دافئ ومائع، وهوى قلبي من مكانه. أوَيمكن أن يكون وجهي قد سُحق؟ للوهلة الأولى فقدت الأمل في عيني اليمنى، فيما كانت عيني الأخرى ممتلئة دمًا بحيث لم أعد أستطيع رؤية ما حولي. استجمعت كلّ قواي في أصابعي لأمسح الدماء عن عيني، أردت معرفة ما حصل، ويحصل. بعد جهد جهيد أزلت الدم والتراب

 

111


104

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

عنها، وما رأيته في اللحظة الأولى، بدا لي وكأنّه ضباب، عاصفة رمليّة وصلَتِ الأرض بالسماء. كنت أسمع أصوات الشباب، وأرى الخيام تتفجر وتتطاير في الهواء. تذكّرت حينها أنّ ذخائر الأفراد كانت في خيامهم، فزاد انفجارها النيران أضعافًا مضاعفة. ارتفع الصراخ والأنين من داخل الماء، والأرض تهتزّ من حولي. كنت واعيًا بعض الشيء لكنّني لم أستطع إبقاء رأسي مرفوعًا... فجأة، أحسست وكأنّ صاعقة صدمتني، تذكّرت أنّنا كنّا نفرين، أنا وأخي صادق. وهنا حاولت النهوض للبحث عن صادق. يعلم الله أيّ مشقّة كابدت وأيّ حالة عانيتها لأرفع رأسي بحثًا عن أخي... رأيته ملقىً إلى جانبي مباشرة. وقع نظري في البداية على رجله، رأيتها قد جُرحت وأُدميت، ثمّ رحت أمرّر نظري صعودًا إلى سائر أنحاء جسده إلى أن وصلت إلى وجهه، لقد تدفقت الدماء من فمه كنبع صغير، ما جعلني أفقد الأمل ببقائه على قيد الحياة... كأنّ كلّ شيء قد توقّف! كان صادق ساكنًا، فتيقّنت أنّه استشهد... فقدت وعيي، كنت أنتظر اللحاق بصادق وباقي الإخوة. لم أعد أرى شيئًا لكنّني كنت أسمع أصواتًا تتكرّر على مسمعي، وتأخذني معها إلى فضاء غامض...

- انقلوا هذا!

- هذا استشهد... خذوه...

- فليأتِ أحدكم للمساعدة، هذا لا يزال حيًا...

 

عندما استعدت وعيي، سمعت صوتًا عاليًا وغير مألوف بالنسبة لي شغل كلّ تفكيري. استغرق الأمر لحظات حتى استجمعت حواسي وفهمت أنّني داخل مروحيّة. ومن شدّة النزف والجرح كنت أغيب عن الوعي وأصحو، وعندما أفتح عينيّ أجد نفسي في مكان مختلف عن الآخر!

 

ومرّة أخرى استعدت وعيي. وجدتني موضوعًا على حمّالة وينقلونني

 

112

 


105

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

داخل كبينة. ثم غبت عن هذا العالم!

 

بعد ثلاثة أيّام استعدت وعيي على سرير المستشفى. طال الأمر حتّى انتبهت إلى أنّ أكثر المواضع في جسدي قد ضُمّدت، بطني، يدي، رجلي، ووجهي. وبصعوبة بالغة، سألت الممرّضة التي كانت في الغرفة: "أين أنا؟"، أجابت: "في مستشفى كرمانشاه.. لقد أُجريت لك عمليّة. بل عدّة عمليات... وأنت فيها جميعًا في غيبوبة...".

 

كنتُ مشتّتَ التفكير، وما زلت لا أعي جيّدًا ماذا حصل لي. شيئًا فشيئًا علمت أنّني أُصبت بما يقارب الـ 24 شظيّة من تلك القذائف العنقوديّة، وبعض هذه الشظايا أصابت المكان نفسه ما تسبّب بجراح عميقة، فخضعت لعمليات جراحيّة متكررة في كلّ من بطني ورجلي ويدي ووجهي، وقد فهمت ذلك تدريجيًا. كانت يدي العضو السليم الوحيد في بدني، وحالي سيّئة، ويغمى عليّ من وقت لآخر. في ذلك اليوم قالت الممرّضة إنّه سيتمّ نقلي إلى تبريز. لم يكن عقلي يعمل جيّدًا، أحيانًا كنت أتذكّر صادق وأقول: "أين هو صادق الآن؟".

 

ليلًا، كنت في تلك الغرفة نفسها. لم يكن الزمن يمرّ عليّ بنحو منتظم. لم أعلم كم مضى من الوقت، كلّ ما أذكره هو أنّ الوقت كان ليلًا، عندما استفقت ووجدت نفسي في المطار، أُنقل إلى الطائرة. كان الأشخاص الذين ينقلونني على الحمّالة يتحدّثون الفارسيّة، من لهجتهم عرفت بأنّهم طهرانيّون. سادت جلبة كبيرة داخل الطائرة. فوضعوا حمّالتي فيها، فوق أحد الرفوف التي نُصبت وذهبوا. بات صوت المحرّك يؤذيني، والعطش يضجرني أكثر من أيّ جرح. كان الطبيب أوّل من جاء لتفقّدي. سألني: "كيف الحال؟"، وبصعوبة بالغة أجبت: "جيّدة، لكنّني أريد أن أشرب". فقال: "لقد أُجريت لك عمليّة في بطنك ولا يمكنك الشرب".

- بالحدّ الأدنى، بلّلوا لي شفتيّ... أنا عطشان يا عميّ...

 

113


106

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

كنت فعلًا ألتهب من شدّة العطش، فبلّل قطنة صغيرة ووضعها على شفتيّ، وكان ذلك غنيمة كبرى بالنسبة لي.

 

اهتزاز الطائرة، ونورها الضعيف، والأمصال المعلّقة فوق الأسرّة، وأنين الإخوة الذين كانت أحوال معظمهم سيّئة... في ظلّ هذه الأجواء سمعنا صوتًا يقول: "وصلنا إلى مطار تبريز". ثم ما لبثوا أن قالوا إنّ المناخ غير ملائم هناك ولا نستطيع الهبوط! فطالت رحلتنا الجويّة. ارتحت قليلًا لأنّني لم أعد مضطّرًا لرؤية والديّ بهذه الحال وبعد شهادة صادق. ظننت أنّهم لا بدّ متجهون إلى طهران. فقدت وعيي مرّات عدّة، وفي كلّ مرّة أستعيد فيها وعيي كنت أرى أنّنا ما زلنا في الطائرة. أخيرًا، سمعنا صوتًا يقول: "وصلنا إلى مطار مشهد". كنت حينها نصف واعٍ، وحين سمعت باسم مشهد، قلت في نفسي: "خيرًا حصل، لقد أتينا إلى مكان جيّد...".

 

وفيما كنت على الحمّالة، علمت من حديث الكادر الطبّيّ أنّني في عداد الجرحى السيّئي الحال، لكنّني بِتُّ أعلم بعد تجربة الإصابة في كردستان، أنّني لن أموت بهذه السهولة! نُقلت مع الجرحى الآخرين إلى مستشفى الإمام الرضا عليه السلام. وما إن وصلت إلى المستشفى حتّى أُدخلت إلى غرفة العملية، فخُدّرت وأجريت لي عمليّة جراحيّة.

 

عندما فتحت عينيّ وجدتُ نفسي وحيدًا في إحدى الغرف. كان الممرّضون يراقبونني على مدى 24 ساعة، والطبيب يتفقّدني من وقت لآخر. لم يكن يُسمح لأحد بالدخول إلى الغرفة سوى الطبيب والممرّضين الذين يتناوبون على تمريضي. فيما بعد علمت أنّه توجد في هذا القسم سبع أو ثماني غرف عزل على غرار غرفتي، وقد نقلوا إليها من الجرحى من كانت أوضاعهم سيّئة. كان على الممرّضين أن يغيّروا ضمادات جراحي كلّ يوم. مرّت الساعات ثقيلة عليّ، فمن جهة كنت مغمومًا لشهادة أخي

 

114

 


107

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

صادق، ومن جهة أخرى، أكابد آلامًا مبرّحة. لا أذكر أنّني عانيت يومًا كما عانيت في تلك الأيّام التي كنت فيها وحيدًا في تلك الغرفة. ومع أنّني لم أكن من أهل الولولة والعويل، كما هي عادتي منذ الصغر، وسعيت جاهدًا لتحمّل كلّ تلك الآلام، إلّا أنّ حالي كانت أكبر من الاحتمال يومًا بعد يوم. لقد أدخلوا أنبوبًا من حلقي إلى معدتي كان يضايقني كثيرًا. وكأنّ وظيفة أحشائي تغيرت جرّاء الشظايا الكبيرة التي أصابتها. شيئًا فشيئًا علمت أنّ أعصاب عيني اليمنى قد تلفت وأصبح من الصعب علاجها. أمّا حرارتي فقد ارتفعت لعدّة أيّام، إلى درجة لم تعد تنفع معها الأدوية، فغطّوا جسمي بالنايلون، ووضعوا فوقه ثلجًا، فيما قُيّدت يداي ورجلاي، ويا لها من معاناة! أحيانًا كنت حين أستعيد وعيي، وتقع عيناي على الثلج، أسعى جاهدًا لأرفع رأسي لعلّي أستطيع أن أبلل لساني به! وبعد جهد جهيد تمكّنت من لحس قطعة ثلج مرّة واحدة، ففرحت وكأنّني ربحت في تلك الظروف القاسية جائزة كبيرة! كان هذا الحلّ الوحيد لرفع العطش الذي لم يفارقني لحظة.. العطش.. العطش.. وقد كرّرت هذا الأمر ما استطعت إلى ذلك سبيلًا. أحيانًا كنت أيأس، وأفكّر أنّ لا أحد يعلم بألمي، ألم العطش الذي أضيف إلى آلام جراحي كلّها..

 

كانت حالي تزداد كلّ يوم سوءًا. وقد جاءت السيّدة التي أتت إليّ في اليوم الأوّل لدخولي مستشفى الإمام الرضا عليه السلام طالبة منّي رقم هاتف لتخبر عائلتي بما جرى لي، وألحّتْ عليّ بذلك: "لِمَ لا تريد أن تهاتف عائلتك؟! أعطني رقم الهاتف، لأخبرهم بالحدّ الأدنى أنّك هنا". أخيرًا، خرجت عن صمتي وقلت لها: "إنّ أخي كان معي حين القصف، وقد استُشهد حتمًا، ولا بدّ أنّ جسده قد وصل الآن إلى المنزل، وهم مشغولون بمراسم تأبينه وإقامة التعازي عن روحه. لا أريد لهم أن يعانوا أكثر من ذلك.. إنّهم يظنّون أنّني معافًى سليم، فإن علموا بإصابتي سيتركون المراسم ويأتون إلى هنا.. لا أقبل.."، وعادت للمرّة

 

115


108

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

الثانية خالية الوفاض.

 

جريحًا فوق سريري، كنت كثيرًا ما أذكر صادق، وأفكّر أين هو؟ ومع من؟ أحيانًا أبدأ أتكلّم معه: "بهذه السرعة رحلت يا صادق!"، وفي كلّ مرّة يشتدّ فيها وجعي أفكّر بأنّ أخي قد ارتاح بالحدّ الأدنى من آلام الدنيا وهمومها. أحيانًا كان الألم يشتدّ عليّ لدرجة أن أطلب من الطبيب طلب العاجز بأن يخدّرني ويغيّبني عن الوعي لأرتاح من الألم لساعات.

 

كان يجيبني: "لا يمكن. إن غيّبناك عن الوعي ستموت!". في مثل تلك الدقائق، أحببت الموت أكثر من تحمّل الألم الذي كنت أعانيه. إلا أنّني شعرت، كأنّ قدري هو الصبر على تحمّل كلّ الآلام، ألم الجراح، وألم البقاء وعدم الالتحاق بركب الشهداء...

 

كان من بين الممرّضين المناوبين ممرّض مسيحيّ، يؤدّي عمله بدقّة وجديّة تامّة. أحيانًا عندما يأخذ الوجع مني كلّ مأخذ وهو يقوم بتغيير ضماد جراحي، كنت أرجوه قائلًا: "بالله عليك، برويّة وهدوء أكثر!"، فيجيبني: "أنا أؤدّي عملي. مهما فعلت أو قلت لن يؤثّر ذلك على عملي. لذا من الأفضل لك أن تتحمّل إلى أن أنتهي من تضميد جراحك". ومع أنّني كنت أتألّم كثيرًا عند تضميده جراحي، إلّا أنّني كنت معجبًا به لكونه دقيقًا في عمله وودودًا. فيما بعد، سمعت أنّه وبسبب خبرته ومهارته في التمريض، وضع الحرس سيّارة تحت تصرّفه ليستخدمها في ذهابه وإيّابه إلى المستشفى والعناية بجرحى الحرب.

 

مضى شهر وأنا على هذه الحال، وعادت الممرّضة للمرّة الثالثة. أصرّت عليّ أن أتّصل بعائلتي، وأقنعتني أخيرًا بالقول: "إنّ مراسم تأبين أخيك قد انتهت الآن". وعند حوالي العاشرة صباحًا، جاؤوا بهاتف إلى غرفتي، فطلبت رقم محافظة تبريز حيث يعمل ابن خالي "محمّد علي

 

116


109

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

نمكي"، لكن من حسن حظّي، قيل لي إنّه ليس موجودًا. تركت له رسالة بأن يتّصل حال مجيئه بمستشفى الإمام الرضا عليه السلام في مشهد. أصرّ عليّ المجيب بأن أُعرّف عن نفسي، فذكرت له اسمي، وقلت له بأنّني أُصبت إصابة بسيطة!

 

بعد ساعة، أحضروا الهاتف مرّة ثانية إلى غرفتي، وكان ابن خالي هو المتّصل. رحت أتحدّث إليه بهدوء ورويّة، وهو يسأل بين الحين والآخر: "ماذا حصل لك؟" فأجيبه: "لا شيء"، لكنّه انفجر بالبكاء... سألته: "هل انتهت مراسم التأبين؟".

- تأبين من؟

- صادق!

أراد أن ينكر الأمر، ولعلّه أراد مداراة وضعي. قال: "لا، لم يصب صادق بخطب... لقد عاد إلى البيت".

- لقد استُشهد صادق بالقرب منّي... أنا رأيته بأمّ عيني!

 

وانفجر بالبكاء مرّة أخرى. أمّا أنا فقد ضاق صدري واسترسلت بالبكاء الذي كان يخفّف عنّي. كان هو يبكي وأنا أبكي. إلى أن قال أخيرًا: "أجل، لقد انتهت مراسم تأبين صادق، ونحن بانتظار الأربعين". لم أعد أستطيع الكلام. استودعته الله وارتاح بالي.

 

في صباح اليوم التالي، وأذكر جيدًا أنّه كان يوم الخميس، بدأ الزوّار يأتون لعيادتي. أوّل من حضر لزيارتي هي أمّي، لكنّها ما إن رأتني حتّى رجعت، وتناهى إلى سمعي صوتها وهي تقول: "هذا ليس جريحنا!".

- وكيف لا يا حاجّة؟! أَوَلم تطلبي زيارة السيّد نور الدين عافي؟

- بلى، لكن...

 

ومرّة أخرى رأيت والدتي واقفة في الباب. لم تعرفني! ناديتها: "ادخلي

116

يا حاجّة!"، دخلت وانكبّت عليّ وأنهار الدموع تجري من مقلتيها. والتفّ حولي أيضًا أخي السيّد مير رحيم وصهري وراحا يبكيان.

- إي يا عمّ! لِمَ كلّ هذا البكاء؟! ما الذي حصل؟...

 

أخيرًا، توقّفوا عن البكاء، وراحوا يتبادلون أطراف الحديث ثم يضحكون. ومع أنّني كنت خجلًا تمامًا من أمّي، إلّا أنّني سألت عن صادق. في البداية قالوا لي: "إنّه بخير ولم يصبه مكروه". قلت: "لقد رأيت كلّ شيء بأمّ عيني، وكنّا معًا حتّى اللحظة الأخيرة". كنت أفكّر فيما قاسته أمّي وعانته في هذه المدّة. قالوا لي: "أنت رجل قويّ جدًّا!"، وراحوا يمدّونني بالمعنويّات. فأجبتهم: "ليس الأمر كما تتصوّرون! بالمناسبة، كيف يبدو وجهي؟".

- ألم تره حتّى الآن؟!

- لا! لم أغادر السرير طوال هذه المدة.

 

117


110

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

بادرت أمّي، ومسحت بيدها على رأسي وقالت: "ليس به أيّ مكروه! كلّ شيء جيّد!". بالفعل، لقد أحسست، برؤيتهم، أنّ حالي تحسّنت، خاصّة أمّي التي بدت قويّة متماسكة مع أنّها كانت مفجوعة بشهادة ابنها الشابّ صادق. أخبروني بأنّهم سيبقون في "مشهد" ليومين، إنّه بالفعل الخبر الأجمل بالنسبة لي في تلك الأوضاع.

 

بعد يومين، قال لي الطبيب أثناء الزيارة الصباحيّة: "يبدو أنّ حالتك قد تحسّنت". قلت: "أشعر أنّني بحال أفضل".

- لقد كتبت في ملفّك اليوم، أن يقدّموا لك نصف كوب من الحليب، ونصف كوب من الشاي.

- يا له من خبر جيّد!

 

وما هي إلّا دقائق، حتّى كان كوبا الحليب والشاي على الطاولة بجانب سريري طبقًا لتعليمات الطبيب. فمنذ 34 يومًا وأنا أتغذّى عن طريق المصل فقط، وطالما انتظرت هذه اللحظة. غدوتُ فرحًا ومسرورًا، لكن سرعان ما انقضت فرحتي، فقد جاءت لتبديل ملاءة سريري ممرّضة جديدة أراها للمرة الأولى. قلت لها: "دعيني أوّلًا أتناول الحليب والشاي ومن ثمّ تبدّلينها".

- لا! قم لأبدّل ملاءتك، ومن ثمّ تأكل ما تريد.

- أيّتها السيّدة! إلى الآن لم أنهض من سريري، وأنت الآن تطلبين منّي النهوض لتبديل الملاءة!... إن أنا نهضت سينفجر بطني.

- ما هذا الذي تقوله، لقد أُجريت لك العمليّة منذ أكثر من شهر، وتقول إنّك إن تحرّكت ينفجر بطنك!

- البطن بطني، وأعلم أنّني إن نهضت سينفجر!

 

ومهما حاولت معها، لم تعِ الأمر. كما إنّ جرح رجلي لم يكن قد التأم بعد، إلّا أنّ أسلوبها بالكلام جعلني أنفذ ما تريد، خاصة أنّ أمي وأخي كانا قد ذهبا في ذلك الوقت لزيارة حرم الإمام الرضا عليه السلام، ولم يكن معي أحد آخر ليساعدني في إقناعها!

- ساعديني بالحدّ الأدنى لأنزل!

 

ذهبت وأحضرت الدّرجات التي توضع تحت سرير المريض لتسهيل مغادرته. سحبت نفسي إلى جانب السرير بصعوبة، ودلّيت قدميّ. أزعجني تعاملها الجافّ معي وعدم اكتراثها، وكأنّها ممّن يقمن مرغمات بتمريض جرحى الحرب في المستشفيات، ولم يكن في قلبها ذرّة رحمة وتعاطف. أخيرًا، وضعت قدميّ على الأرض، لكن دوّارًا أصابني. بدأت أرتجف، فتمسّكت بالطاولة والحائط بقوّة كي لا أقع! مرّت ثوانٍ عدّة، خطر ببالي الذهاب إلى المرحاض بما أنّني نزلت عن السرير، وكان يبعد عني مسافة متر ونصف، إذ لم يغسلوا يديّ بشكل جيّد إلى

 

118


111

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

ذلك الحين، وقد يبست الدماء والتراب بين أصابعي. فكّرت أن أذهب، فأغسل يديّ وأنظر إلى وجهي في المرآة. رحت أجرّ قدميّ بهدوء وأنا أتكئ إلى الحائط إلى أن وصلت إلى المرحاض. وما إن نظرت في المرآة حتّى أصابني الذهول! إلهي ماذا أرى؟

- من أنت؟... نور الدين؟!

 

كانت ملامح وجهي قد تغيّرت تمامًا، وجه متلاشٍ، ضعيف ومجروح، وعين قد تعطّلت تقريبًا، فيما العين اليمنى تغيّر شكلها بسبب الجرح العميق في وجنتي، هذا بالإضافة إلى جراح ذقني الوخيمة... ها قد بدأت أفهم لِمَ لم تتعرّف إليّ أمّي. وكان أمرًا طبيعيًّا أن أشعر بضيق في صدري: "لِمَ أصبحت هيئتي هكذا؟! هل يستحيل أن أُشفى؟..." وتوقّفت عن الكلام. لقد انهارت معنويّاتي. إنّ سنوات عمري كلّها لا تتجاوز الثماني عشرة، ولم أكن أفكّر أبدًا بأنّ الحرب ستوقع بي بلاءً مثل هذا... وسرعان ما أعرضت بوجهي عن المرآة وفتحت صنبور المياه. وفيما كنت أغسل الدم المتيبّس بين أصابعي رحت أؤنّب نفسي: "لا تكن جحودًا! اشكر الله أنّك بقيت حيًا وتقف على رجليك! ولا بدّ لوجهك بالنهاية أن يتعافى بحال من الأحوال... سوف تعتاد على الأمر".

- تعالَ وتمدّد على سريرك!

 

نادتني فسرت بهدوء نحو السرير. كان الحليب والشاي قد بردا إلى جانبه. قلت للممرضة: "لا أستطيع الصعود بسهولة!". حدّقت في وجهي من دون اكتراث وبقيت تنتظر. لم تكن تعلم بأنّ الدرجات التي وضعتها إلى جانب سريري لا تشكّل لي أيّ مساعدة. بقيت دقيقتين أو ثلاثًا واقفًا لا أعرف ماذا أفعل؟! كيف سأصعد؟! وشيئًا فشيئًا بدأت أشعر بأنّ حالي تسوء. شعرت ببطني يحمى ويسخن. كانت سخونة بطني تزداد بحيث شعرت بأنّها تريد الانبعاث إلى الخارج! كان لباس المستشفى الذي أرتديه مفتوحًا من الجهة الأماميّة. ألقيت نظرةً وصرخت: "أسرعي وأخبري أحدهم! إنّ بطني يتمزّق!".

 

- ما الذي سيحدث؟!

 

لم تدرك حالي. اتّكأتُ على رجلي المصابة التي لم تشفَ بعد، واستخدمتُ كلّ قوّتي لأضع رجلي الأخرى فوق السرير. قلت بعجز وغضب: "تعالي وساعديني بالحدّ الأدنى لأرفع رجلي". فجثت مكرهة ورفعت رجلي عن الأرض، لكنّني... أطلقت صرخة من أعماق قلبي، لقد انفجر بطني بالفعل، ورأيت أحشائي بوضوح تامّ، وقد سقطت فوق ملابسي! راحت المرأة تصيح بنحوٍ لم أسمع له مثيلًا. تركتني ووّلت هاربة. أحسست براحة! فبعد حالة الالتهاب والسخونة التي كانت في بطني، صرت أشعر بالليونة والخفّة. كان كوبا الحليب والشاي يتراقصان أمام ناظري، وصوت المرأة يطنّ في أذنيّ. نُقلت بسرعة إلى غرفة العملية، وكأنّ كلّ شيء قد حدث خلال ثوان. لم أفقد الوعي، لكن لم يبقَ فيّ رمق، لا للنظر، ولا للكلام، ولا حتّى للإحساس بالوجع الغريب الجديد!

عندما استعدت وعيي، وجدت أربعة أسياخ معدنيّة خارجة من بطني وقد أوثقت بعدد من البراغي. كما أُدخل أنبوب إلى بطني الذي انتفخ فصار بحجم ثلاث طابات بلاستيكيّة! قيل لي إنّه بسبب إصابة الكبد بالشظايا، فقد أجروا 

 

119


112

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

عمليّة ترميميّة للحاجز الحاجب والأمعاء، لكنّهم بعد حادثة الصباح، اضطّروا إلى قطع جزء من أمعائي، ووضعوا الأسياخ لتبقى الجراح ثابتة وتلتحم القُطَبْ.

 

بعد الظهر، حضر زوّاري ليتفاجَأوا بالمستجدّات. كانت أمّي قلقة: "بني! ما الذي أصابك؟ بالأمس كانت حالتك جيّدة!".

- لا شيء! لقد ساءت حالي قليلًا!

أخبرتهم بما حدث، فاستاؤوا كثيرًا. أراد أخي أن يشكي هذه السيّدة إلى ممثّل الحرس في المستشفى فقلت له: "دعك منها! هي نفسها لا تدرك شيئًا. إنّ بطني هو الذي كان على وشك الانفجار وهي لم تكن تصدّق". لم تنتهِ القضيّة عند هذا الحدّ بالطبع، فقد جاؤوا من مؤسّسة الشهيد وسألوني عمّا جرى. قالوا إنّهم لن يبقوها في قسم جرحى الحرب، ونقلوها للعمل في مستشفى آخر، إلّا أنّ خدمة هذه الممرّضة انتهت بدفعي ثمنًا باهظًا، ومجدّدًا، مُنعت من أيّ نوع من أنواع الغذاء سوى المصل. بعد أيّام، حلّت أربعينيّة صادق وكانت العائلة مضطّرة للذهاب إلى تبريز لأقاسي من جديد عذاب الوحدة.

 

ضاق صدري بشدّة. كنت أعدّ الأيّام والليالي... فإلى ذلك الوقت أمضيت 42 يومًا في مستشفى الإمام الرضا عليه السلام، ولم أخرج من غرفتي سوى إلى غرفة العملية! طلبت منهم التحدّث إلى ممثّل مؤسّسة الشهيد. لقد بحت له بما في داخلي وقلت: "مضى على وجودي هنا 42 يومًا، أريد أن أذهب اليوم إلى حرم الإمام الرضا بأيّ ثمن كان". قال: "ينبغي أن نستأذن طبيبك المعالج". ولم يأذن الطبيب لي بالذهاب. أصررتُ وقلت: "ينبغي أن أذهب اليوم للزيارة، فما لم أذهب إلى الحرم لن أسمح لأحد أن يمسّني ويداويني!". أخيرًا، رقّ قلبهم لحالي، ووافق الطبيب بشروط، ووعدوني بأن يأخذوني في الليلة نفسها إلى الحرم. كانت ليلة جمعة، فانتظرت حلول الليل بفارغ الصبر.

 

عند الغروب نُقلت وعددًا من الجرحى على الحمّالات إلى باحة المستشفى، وضعونا في سيّارات الإسعاف وتوجّهنا إلى المقام. وعجبًا، كم بثّت زيارته فيّ النشاط. وصلنا الحرم، وطبقًا للتنسيق المسبق، جرى نقلنا بسيّارات الإسعاف إلى أحد الصحون، ومنه نُقلنا على الحمّالات إلى الداخل. ويا لها من زيارة! كانت مشاعري لا توصف. فُتح لنا طريق إلى الضريح، فتعلّقنا به. وفيما استهلّت دموعي جارية من مقلتيّ، ألصقت به وجهي بعينه المجروحة، ورحت أناجي الإمام... شعرتُ براحة كبيرة في قلبي. لقد أخلوا ما حول الضريح ولم يبقَ سوانا نحن الجرحى وخدّام الحرم. كنت في تلك الدقائق الملكوتيّة العشر إلى جانب ضريح الإمام الرضا عليه السلام أحلّق في فضاء غير عاديّ، وكانت تلك من أجمل زيارات عمري. حين أخرجونا أمسيت مسرورًا جدًّا ومفعمًا بالحيويّة، لدرجة شعرت معها أنّني أستطيع أن أقضي أيّام نقاهتي بسرعة وأقف على رجليّ. كما أقيم دعاء كميل في أحد الصحون فشاركنا الزوّار الدعاء وعدنا إلى المستشفى. لقد شعرت بتحسّن كبير.

 

120


113

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

في اليوم التالي، سمحوا لي بتناول السوائل، فتناولت القليل من الحليب، عدّة رشفات في اليوم الأوّل. ثمّ أدخلوا في الأيّام اللاحقة تدريجيًا الطعام المتضمن للسوائل إلى لائحة طعامي. صرتُ أطالبهم دومًا بأن يزيدوا لي الكمّيّة، وأقول: "لِمَ تقدّمون لي القليل منه!".

- لِمَ أنت مستعجل لتناول الطعام؟

- مرّ أربعون يومًا ونيّف لم آكل فيها شيئًا، ألا يجب أن أعوّض ما فاتني؟

 

بدأت حالي النفسيّة والجسديّة تتحسّن بوضوح، فأخبروني أنّه يمكن نقلي إلى مستشفى تبريز، وكان هذا أجمل خبر سمعته. أخيرًا، وفي اليوم الثامن والأربعين لإصابتي، تركت مستشفى الإمام الرضا عليه السلام، ونُقلت بالطائرة تحت المراقبة الطبيّة إلى تبريز.

 

عندما ترجّلنا من طائرة الركّاب - وقد رُفعت أيدي ثلاثة من مقاعدها مدّدوني عليها - كنت أشعر بالوهن حقًّا. وبما أنّني اتّصلت في مشهد عبر مؤسّسة الشهيد بعائلتي وأخبرتهم بأنّني في طريقي إلى تبريز.. فقد رحت أبحث عن أحد أعرفه، وسرعان ما وجدته. توجّه خالي نحوي مباشرة ـ وكنت ممدّدًا على الحمّالة في قاعة المطار ـ

 

121

 


114

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

وسألني: "هل أتيت بهذه الطائرة من مشهد؟!".

- أجل!

- كان من المفترض أن يأتي جريح آخر عبر هذه الطائرة من مشهد، هل رأيته؟

- ما اسمه؟

- سيّد نور الدين عافي!

 

المسكين لم يعرفني. لا بدّ أنّ التعب والإرهاق قد غيّرا حتّى صوتي. قلت: "خالي! أنا نور الدين. ألم تعرفني؟!"، تغيّرت ملامح وجهه، أخذ رأسي في حضنه وراح يبكي. لم يكن يصدّق بأنّ هذا نور الدين وقد حلّت به هذه المصيبة. بكى كثيرًا، فقلت له: "خالي! لا تبكِ. إنّني أتضوّر جوعًا، أحضر لي شيئًا لآكله". فذهب فورًا وأحضر من أحد محلّات المطار علبة بسكويت. بعد دقائق، وصلت سيّارة الإسعاف ونقلتنا إلى مستشفى الإمام الخميني في تبريز.

 

تحسّنت حالي أكثر في مستشفى الإمام الخميني. وبدأ الأهل والأصدقاء والمعارف منذ وصولي إلى هناك يتوافدون يوميًّا لعيادتي. لكن، كلّ من رآني للمرّة الأولى منهم، كان يندفع للبكاء بنحو لا إراديّ. فأقول لهم: "ما الذي حصل لتبكوا هكذا؟ أيّام قليلة، وما ألبث أن أستعيد عافيتي، ونعود معًا إلى الجبهة!". كنت وابن خالي "حسن نمكي"[1] صديقين حميمين، نقضي أوقاتنا معًا منذ الصغر إلى حين التحاقنا بالجبهة. فرؤيته من ناحية، وتحسّن جراحي، والتغذية التي كنت أحصل عليها من ناحية أخرى، جعلتني بحال أفضل، وقد تبلسمت جراحي ما عدا تلك التي أصبت بها في بطني، فلم أمكث في مستشفى الإمام طويلًا. أردت الخروج،


 


[1] وقد التحق بركب الشهداء في ما بعد.

 

122


115

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

وصرت أؤكد باستمرار على الإخوة في مؤسّسة الشهيد الذين يأتون لعيادتي بأن يستكملوا أوراقي وينقلوني إلى البيت. لكنّهم كانوا يجيبون بأنّ وضع بطني سيّئ، ولا ينبغي لي مغادرة المستشفى! لكنّني واقعًا، كنت قد مللت أجواءه، فرحت ألحّ عليهم لشراء مشدّ للبطن، وإقناع الطبيب بخروجي. وبعد أسبوع جاءت موافقة الطبيب. أعطوني التعليمات الصحية وأدوات التضميد ومشدّ البطن، وتحرّرت من المستشفى.

 

في طريق العودة إلى المنزل، وصلنا إلى مزار "الشيخ أبي دجانه". كان شهداء القرية يُدفنون في جوار مزارالشيخ منذ اندلاع الحرب، وكنت أعلم بأنّ صادق دُفن هناك. أشرت بيدي للسائق أن يتوقفّ لأزور قبر أخي. لم يوافق من معي وقالوا: "ليس وأنت على هذه الحال... فلنذهب إلى البيت!". لكن كان من المستحيل أن أذهب إلى البيت من دون أن أزوره.

 

توقّفت السيّارة إلى جانب الطريق، وتوجّهت بمساعدة الأهل إلى قبر أخي الشهيد. شرع الكلّ بالبكاء، إلّا أنا! رحت أنظر إلى شاهد قبر أخي ورفيقي في الجهاد "الشهيد السيّد صادق عافي"، الذي سلك معراجه بالقرب منّي وأقول: "لِمَ تبكون؟! في النهاية لقد حصل صادق على مراده. علينا أن نبكي لحالنا، لا على الشهيد". حقًّا، كنت وما زلت أؤمن بهذا الأمر.. وبعد زيارة الشهداء، أكملنا طريقنا. كان الوصول إلى البيت بعد كلّ هذه الحوادث، بمنزلة الوصول إلى مركز الأمان.

 

بدا الوضع في البيت مختلفًا. ففي أقلّ من تسعة أشهر، جُرحت مرّتين، وها أنا الآن أعود لأوّل مرّة من الجنوب حاملًا معي إلى جانب

 

123


116

الفصل الرابع: أخوان وعروج واحد

الخطر الجدّي الذي يتهدّد عيني اليمنى، جراحًا عميقة وكبيرة في جسدي. كان لقائي بأبي المكسور الخاطر في هذه الفترة ، صعبًا جدًّا. ومع أنّني رأيت ما حلّ بوالديّ بعد شهادة صادق وإصابتي، إلا أنّني كنت أتعاطى معهما بنحو يمنعهما من التفكير ببقائي في القرية وأن أصبح من سكّانها المستقرّين!

 

كان جميع من في البيت مستعدًّا للقيام بخدمتي، وأخجلوني كثيرًا من محبّتهم. لقد ازدادت شهيّتي إلى الطعام بنحو لا يعرف الشبع. بالطبع، فأنا منذ البداية أحبُّ الأكل والشرب، والآن وبعد إصابتي وضعف جسدي، أصبحت محطّ اهتمام الجميع، فكان يؤتى إليّ بالغذاء من كلّ ناحية، لحم الكبد الطازج، الحليب، الفاكهة و.. والحاصل أنّني عشت في نعيم تامّ.

 

كانوا يأخذونني إلى المستوصف لتغيير ضماد بطني. وبقيت على هذه الحال حتّى ذهب عنّي الضعف والوهن، ونسيت جراحي ومراجعة الأطباء وبتّ أفكّر في العودة إلى الجبهة. شيئًا فشيئًا تشجّعت وطرحت أمام الأهل قضيّة عودتي إلى الجبهة ورحت أختلق الحجج لإقناعهم: "لقد ضقت ذرعًا.. وانقبض قلبي من هذا المكان. إن عدت إلى الجبهة سيتحسّن وضعي الجسدي... لم أعد استطيع البقاء". خالفني الجميع في ذلك، وكانوا يرون بأنّه عليّ في ذلك الوضع أن أزيل فكرة الجبهة من رأسي تمامًا: "ماذا ستفعل إن ذهبتَ في هذا الوضع إلى المحاور. ما زلت حديث العهد بالسير على قدميك، وتريدُ أن تذهب إلى ساحة القتال؟!"، لكنّني كنت قد اتّخذت قراري، واستغرق الأمر مدّة لإقناعهم.

 

بعد مضيّ ما يقارب الستّة أو السبعة أشهر من إصابتي، وضّبت حقيبتي، وودّعت الأهل الذين ظلّوا قلقين بشأني، وانطلقت إلى الجبهة.

 

124


117

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

الفصل الخامس:

جرح فوق جرح

 

 

كان عدد من العناصر الذين انتهت إجازتهم، عائدين إلى الجبهة، فركبت و حسن ابن خالي معهم الحافلة نفسها، وعشت جوًّا حميميًّا ومريحًا لطالما انتظرته. رحنا نحدّث الشباب ونمازحهم. فبعد إصابتي في عملية مسلم بن عقيل حيث تبدّلت ملامح وجهي وتغيّر شكل عيني، صرت أستخدم نظّارة سوداء خارج البيت. وفيما كنت أضع هذه النظّارات غفت عيني، ولم أجدها حين استيقظت. سألت حسن الذي كان يجلس إلى جانبي: "ماذا حصل لنظّارتي؟".

- كسرتها!

- إِ.... لماذا؟!

- عندما كانت لك عينان لم تكن تروقني، فكيف الآن وقد صرت تملك أربعًا؟ ما هذا الذي تضعه على عينيك؟!

 

جعلني مزاح حسن أزيل من رأسي نهائيًّا فكرة استخدام النظّارة.

 

ما إن وصلت الحافلة إلى "كيلان غرب"، حتّى توجّهنا إلى ثكنة كانت مقرًّا للقوّات. وقد أُعيد تشكيل لواء عاشوراء ليتحوّل إلى فرقة قبل عملية "والفجر التمهيديّة" في شتاء العام 1983م. كان مركز الفرقة يقع في منطقة تُعرف بـ "كاسه كران" على مسافة ستّة أو سبعة كيلومترات من "كيلان غرب"، وهو عبارة عن وادٍ محاطٍ من نواحيه الأربع بالجبال

 

126


118

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

المكسوّة بالأشجار، وقد نصب عناصر الكتيبة الخيام فيه. أراد حسن أن ينتقل إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام التي كان فيها إبراهيم نمكي، فوافقته فورًا وانتقلنا إلى هناك، فهي كتيبة شجاعة يقودها "علي أكبر رهبري" ويعاونه فيها "محمّد باقر مشهدي عبادي". وكما هي العادة، بدأنا بالعمل معهم بعد ثلاثة أيام على تسليم أسمائنا للكتيبة.

 

كان شهر محرّم على الأبواب. قبل أيام من بداية الشهر تقام عادة الهيئات ومجالس العزاء في الجبهة، وقد بدأنا هذه المراسم في مسجد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وكان قسم منه يقع تحت الأرض، وقد بنيت جدرانه من الحجر. أمّا القسم الواقع منه فوق الأرض، فكان من دون سقف، فأضحت مجموعات العزاء تُنظِّم فيه حلقات اللطم.

 

ذات يوم، رأيت في المسجد وجهًا مألوفًا. دقّقت النظر، فإذا به "حسن شيرافكن" الذي كان معي في غرفة المستشفى أيّام إصابتي الأولى في كردستان ويشكو من ألم في كليتيه، وها هو الآن يقف أمامي بروحيّة عالية! سُررت كثيرًا برؤيته بعد مرور كلّ ذلك الوقت. لم أكن أعلم أنّه عُيّن مسؤولًا لمركز المحلّة بعدما أنهى دورة في العلوم العسكريّة في تبريز، وأنّه لم يحتمل البقاء في المدينة فالتحق بالجبهة. وبمقدار ما سعدت لرؤيته حزِن هو لرؤيتي على هذه الحال. كما التقيت في المسجد بأصدقاء آخرين، من جملتهم "صمد نيكبيران"، الذي كان وأخوه يعقوب صديقين لي من قبل.

 

مع ابتداء برامج الكتيبة، قيل لنا إنّه علينا التدرّب على تسلّق الجبال[1].


 


[1] علمت لاحقًا بأنّ العملية القادمة ستكون في منطقة تُسمّى "بمو"، وهي عبارة عن منطقة جبليّة واسعة تقع على الحدود الإيرانيّة - العراقيّة، كانت القوّات العراقيّة تستقرّ فيها وتشرف علينا. كانت المرّة الأولى التي أسمع فيها باسم "بمو" وتعجّبت كثيرًا عندما رأيتها، جبل شاهق وعظيم شكّلت الصخور الكبيرة جدًّا والمتّصل بعضها ببعض، الطريق الوحيد للصعود إلى أعلاه. وعندما سألت كيف سننفّذ العملية في هذا المكان، قيل إنّ على الشباب أن يصعدوا الواحد تلو الآخر على سلالم من الحبال ويشتبكوا مع العدوّ! كانت "كيلانغرب" تشبه "بمو" كثيرًا من حيث الموقع الجغرافي، وكنّا نتدرب هناك على تسلق الجبال استعدادًا للعملية.

 

127


119

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

لا شكّ أنّ اجتياز الصخور وتسلّق الجبال كان أمرًا شاقًّا بالنسبة لي. سعيت جاهدًا للمشاركة في التدريبات، وبالطبع، لم يصعّبوها عليّ. ومع أنّنا في كردستان كنّا نتسلّق الجبال من وقت لآخر، إلّا أنّها المرّة الأولى التي أصعد فيها جبلًا بهذه الطريقة، حيث يمسك الشباب بحبال مدّوها من أعلى الجبل ويتسلّقون بجهود جبارة. لقد عمل الأخ رهبري على تدريب الكتيبة تدريبًا جيّدًا، فمن المفترض أن تصعد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام الجبل في العملية القادمة قبل بقية الكتائب، لذا ظلّ قادة الكتيبة حسّاسين وجدّيّين في تدريب الشباب. يقول الأخ رهبري: "إنّ كلّ من يستطيع اجتياز هذه المنطقة من دون جلبة، سيتمكن من تسلّق الجبل ليلة العملية من بين ظهراني الأعداء ومباغتتهم".

 

كانت التمارين تُجرى كلّ يوم، ومنذ الدقائق الأولى، يبدأ الشباب بإطلاق الشعارات الحماسيّة لتتردّد أصداؤها في الفضاء: داغدا داشدا كذر اسلام اردوسي اسلام اردوسونونيوخدي قورخوسي.

 

غالبًا ما كان أحد العناصر ويُدعى رسول هو من يطلق الشعارات، فيردّدها الإخوة وهم يتقدمون إلى القمة على شكل طابور. ما انفكّ الشباب مرحين ويتحلّون بخفّة الدم، ونسيت بينهم أيّام جراحي الصعبة، إلى أن عرض لي يومًا حادث آخر.

 

ذات مرّة ارتفعنا عن سطح الأرض ما يقارب الكيلو مترًا، وقد دأب العناصر على الاجتماع بعد قطع مسافة معيّنة في نقاط محدّدة للاستراحة والاستعداد لإكمال المرحلة اللاحقة. وبينما كنّا نتسلّق الجبل، وقبل أن نصل إلى نقطة الاستراحة، انزلق حجر من تحت رجل "مير محمّد ستّاري"[1] الذي يتقدّمني، وارتطم برأسي. أصابني دوار في رأسي، ورغم ذلك استطعت الوصول إلى الشباب بطريقة أو بأخرى.


 


[1] وقع ستّاري فيما بعد أسيرًا، وبقي في الأسر لمدّة من الزمن.

 

128


120

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

لم أكمل على ما يُرام. فبعد إصابتي صار التعب يحلّ عليّ بشكل أسرع من البقيّة. في الحقيقة كنت أحتاج إلى مدّة من الزمن لأعود إلى حالي الطبيعيّة. وعندما عاود الشباب الصعود ووصل الدور إليّ، لم أشعر أنّني بحالة جيّدة، فناداني علي أكبر رهبري وهو واقف على صخرة: "نور الدين! هيّا اصعد!".

- اسمح لي بالبقاء، سأصعد بعد أن يصعد الجميع.

- لا! هيّا اصعد!

- لقد ارتطم حجر برأسي ولست على ما يُرام، دع...

- لا تختلق الأعذار... هيّا اصعد!

 

لم يكن ليدعني وشأني. وضعت يدي على حبل الاحتياط الذي غالبًا ما نلفّه على وسطنا، حتّى لا نسقط إذا ما حدثت مشكلة ما في الحبل الذي نمسكه. لكنّ الأخ رهبري كان يراقبني بدقّة فقال: "لا! اصعد من دون حبل الاحتياط!". لم أتفوّه بكلمة... انتابني شعور بأنّ شيئًا ما لا بدّ سيحصل لي اليوم.

 

أمسكت بالحبل، ورحت أصعد، ولم أكد أرتفع عدّة أمتار حتّى انتهى كلّ شيء بالنسبة لي... عندما أفقت وجدت نفسي في الدشمة. أدركت أنّني هويت، وكان من لطف الله بي أن توقفت عن السقوط في قسم من الجبل ينخفض قليلًا عن المنطقة التي انطلقنا منها، ولم أعلم كيف أنزلني الإخوة عن مسافة كيلو متر من أعلى الجبل، على بغل، أم على أكتافهم! فطوال تلك المدّة كنت غائبًا عن الوعي. وعلمت في الدشمة أنّ جرح بطني قد فُتح مجدّدًا. نُقلت إلى الطوارئ، وهناك شخّصوا فورًا وجوب نقلي إلى المستشفى وخضوعي لعمليّة جراحيّة. وفي تلك الليلة نفسها، نُقلت إلى كرمانشاه ومنها إلى تبريز، فنلت بهذا حصّتي من الجراح قبل بدء العملية وقفلت راجعًا[1].


 


[1] أُلغيت العملية في منطقة "بمو"، لكن شاركت فرقة عاشوراء في عمليات والفجر2 و4.

 

129


121

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

بقيتُ ما يقارب الأسبوعين في مستشفى الإمام في تبريز. كُنت أتغذّى عن طريق المصل فقط وحالي تزداد تدهورًا يومًا بعد يوم. في المرّة أو المرّتين التي تناولت فيها السوائل أُصبت بألم شديد في بطني وتقيّأت مباشرةً كلّ ما تناولته. كان الجرح الذي أصبت به في بطني في عملية مسلم عميقًا، وقد ساء وضعه بعد حادثة تمزقه السابقة في مستشفى الإمام في مشهد، وحادثة الجبل هذه، ولم يظهر فيه أيّ أثر للتحسّن، حتى يئس الأطبّاء من شفائي. أذكر أنّ طبيبي المعالج راح يشرح لتلامذته الذين تحلّقوا حولي، أنّ القسم الفلاني من أمعائي قد اهترأ وأصبح على هذا الشكل. وردًا على سؤال أحدهم: "كم من الوقت يمكن أن يبقى هذا المريض على قيد الحياة؟"، أجاب بصراحة: "ليومين أو ثلاثة". سمعت بدوري وفهمت ما يقولون، وما باليد حيلة، فأنا عاجز عن أيّ فعل. حتّى إنّهم واجهوني بهذا الأمر عدّة مرّات وقالوا: "لا نستطيع أن نفعل لك شيئًا، أنت تحتضر!". كان كلامهم يؤذيني، لكنّني لم أفقد الأمل. ذات يوم، جاءت أمّي لزيارتي فأخبرتها بما يقول الأطبّاء. فقالت واثقةً تمامًا من نفسها: "لا! لن يصيبك مكروه، فما رأيك أنت؟".

- برأيي أنّني لن أموت بهذه السرعة!

 

مثّلت أمّي الأمل الأكبر بالنسبة لي. بعد مرور يومين أخبرني إخوة من الحرس جاؤوا إلى المستشفى، بأنّ قائد المنطقة الخامسة في الحرس، الأخ "حميد تشيت تشيان" سيزور قسم جرحى الحرب في المستشفى وكان يعرفني من قبل. ولمّا جاء لعيادتي أخبرته بما قال الأطبّاء وأنّني لن أعيش لأكثر من ثلاثة أيّام.

- من قال؟!

- الطبيب...

وفورًا استدعى الدكتور طوفان رئيس مستشفى الإمام حينها وقال

 

130


122

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

له: "افعل ما يمكنك فعله لهذا الجريح". تداولا في المسألة، وتقرّر إجراء عمليّة لي كمحاولة في صباح اليوم التالي.

 

في الصباح، اجتمع حولي الأهل، والأقارب، والممرضون و... وقد أتى أكثرهم قاصدين وداعي الوداع الأخير. كان الأطبّاء ما زالوا متردّدين، ويقولون إنّني لن أخرج من العمليّة حيًّا، والجميع قلقين. ومع هذه المعمعة انتابني شعور بأنّ الأمور ستنتهي إلى خير. انطلقوا بي إلى غرفة العمليات. وأوّل من التقيته هناك كان طبيب التخدير، وهو رجل دزفوليّ يعمل في تبريز. يبدو أنّ قلبه شُحن غيظًا من المجاهدين، فأقبل يحقنني بالمخدّر ويقول: "هل تعلم بأنّك لن تخرج من هذه العمليّة حيًا؟!"، لقد فاجأني فعلًا.

- ما هذا الكلام الذي تقوله وأنا على وشك أن أغيب عن الوعي؟!

 

وقبل أن أفقد وعيي بلحظات توجّهت إليه قائلًا: "أتعلم ماذا؟ أنا أعرف دنياي هذه جيّدًا، وأعرف ماذا فعلت. بإذن الله ومشيئته، أنا أعمل للّه، ومصيري في ذلك العالم معلوم أيضًا. أمّا أنت، ففي جهنمّ، هنا وفي ذلك العالم!". لقد كسر كلامه قلبي، لكن، لم يكن عالم التخدير سيّئًا!

 

عندما أفقت، كانت حالي جيّدة وشعرت بتحسّن. مضى يومان أو ثلاثة على العمليّة، كانت حالي العامّة أفضل، لكن التهب الجرح وبدأ يفرز القيح على كلّ ضماد، برائحته الكريهة التي تثير فيّ القلق. قيل لي: "نريد نقلك ثانيةً إلى غرفة العملية". لكنّني لم أقبل ومهما فعلوا لم أوافق. كنت أشعر بالإعياء بمجرّد ذكر اسم غرفة العملية! إلى أن قال الممرّض الذي كان يغيّر لي ضمادي: "لأنّهم في العمليّة السابقة ظنّوا بأنّك ميّت لا محالة، فقد استخدموا في تقطيب أمعائك خيطانًا عاديّة. وإن لم تذهب إلى غرفة العملية ليغيّروا القطب ستموت بالفعل!".

 

قلت: "إن كان الأمر يتعلّق بتغيير القطب، فأنا مستعدّ ليقوموا بهذا

 

131


123

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

العمل هنا". حقيقة، لقد تدهورت حالي النفسيّة في غرفة العملية آخر مرّة لدرجة أنّني كنت مستعدًا لأن أتحمّل ألم العمليّة من دون تخدير، ويقوموا بعملهم هنا. سألوني: "وهل تحتمل الأمر؟!"، لم يكونوا يعلمون أيّ مصائب تصبّرت عليها سابقًا.

 

استجابوا وهيّأوا المكان، نقلوا المرضى الآخرين إلى مكان أنسب لهم وفتحوا الجرح، فملأت رائحة الالتهابات النتنة الغرفة. وهناك تقرر إبقاء السطح الخارجي للجرح مفتوحًا، لأنّ بطني أصبح يرفض القطب بسبب العمليات المتعدّدة التي أُجريت لي، ولم يعد جرحي يلتحم. ومن حينها صاروا يريقون كلّ يوم زجاجة من الأكسيجين على الشقّ، ويضعون عليه غاز الإستيريل، فكان هذا الأمر مفيدًا، وبدأت أتعافى شيئًا فشيئًا، لكن لم يأتِ أحد بعد على ذكر الطعام.

 

ذات يوم شكوت لأحد الأصدقاء ما جرى مع طبيب التخدير في غرفة العملية. وفي اليوم التالي جاءني هذا الطبيب، وراح يعتذر لي. قلت: "أيّها الدكتور! لي إليك سؤال. لقد نهضنا من تبريز وذهبنا إلى خوزستان، قاتلنا وجُرحنا هناك. وإن كان كلامي فيه شيء من التعصّب، لكن من غير الإنصاف أن تُكلّم بهذه الطريقة أنت الدزفولي، إنسانًا جُرح في منطقتك. وذلك خاصةً في غرفة العملية وعند التخدير...".

- لا تغتمّ، كانت مجرّد مزحة!

- أهكذا يكون المزاح؟!

 

مكث قليلًا إلى جانبي وحاول إرضائي. فسامحته لجهله. لكن سمعت بعد مدّة بأنّه طُرد من المستشفى.

 

ومرّة أخرى، ضاق صدري من جوّ المستشفى. وبدأت "إلحاحاتي" للخروج منه، فجاء الجواب: "ما زال جرحك مفتوحًا". ولكن لأنّني اعتدت على الجراح، علمت أنّ حالي ستتحسّن بعيدًا عن هذا المكان. أخيرًا، عدت إلى البيت. فكانوا يأتون كلّ يوم من قبل الحرس لتغيير

 

132


124

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

ضماد جرحي، ذلك الجرح الذي آذاني لشهور، ولم يكن "يفكّر" في التعافي. من ناحية أخرى، كنت قد اشتقت إلى الجبهة.

 

بدأت أردّد نغمة العودة إلى المحاور مجدّدًا. فقلقت أمّي لذلك وقالت: "يا عمّ! ماذا ستفعل هناك بهذه الحال؟!".

- يا حاجّة! إن أنا بقيت هنا، لن يصحّ بطني أبدًا، أمّا إن ذهبت إلى هناك، فإنّ روحيّتي ستتحسّن أوّلًا، وسيتعافى هذا الجرح ثانيًا!

 

لم يستطيعوا إقناعي والتغلّب عليّ! شددت الحزام خاصّتي حول بطني، ووضعت أدوات التضميد في حقيبتي الصغرى، وتوجّهت إلى مكان إيفاد المجاهدين إلى الجبهة. وهناك أقنعوني بعدم الذهاب إلى الجنوب وأنا في هذه الحال، واقترحوا عليّ الذهاب إلى "بيرانشهر". قالوا: "يمكنك في بيرانشهر البقاء في المقرّ، وكلّما شئت يمكنك التقدّم إلى الخطوط الأماميّة والمشاركة في المعارك!". كان الأمر سيّان عندي بين الجنوب والغرب. ففي كلّ الأحوال، أيّ جبهة هي أفضل بالنسبة لي من الجلوس في البيت.

 

توجّهت مع عدد من العناصر التبريزيّين إلى بيرانشهر[1]. بقيت الخمسة عشر يومًا الأولى تقريبًا في المقرّ، ولم يكن هناك الكثير من العمل، لكن الإخوة دأبوا على الذهاب كلّ يوم لنصب الكمائن، فذهبت معهم في الأيّام الأخيرة. كنّا ننطلق في ساعات متأخّرة من النهار، وننصب الكمائن في طريق القوّات المعادية للثورة الموجودة في المنطقة. تسبب الذهاب والأيّاب بأذيّتي، خاصّة أنّنا صعدنا غالبًا الجبال هناك، وعند كلّ عودة كان ألم جرحي يتضاعف. كنت كلّ يوم أغيّر الضماد، ومن كثرة ما غسلت الجرح بالأكسجين نبت عليه لحم زائد، وصارت


 


[1] كان حميد وباقر من بين هؤلاء، وهما من محلة "شنب غازان"، وقد استُشهدا في إحدى المواجهات.

 

133


125

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

تخرج أشياء من الجزء المفتوح منه، عرفت لاحقًا أنّها الخيطان التي خاطوا بها أمعائي، وكنت قد سمعت أنّ نوعيّة الخيطان التي تُرتق بها الأحشاء، تكون بنحو يمتصّها الجسم حين التعافي ولا حاجة إلى فكّها، كما إنّها لا تلتهب. لكن يبدو أنّهم استعملوا الخيطان العاديّة في عمليّتي، وها هي الآن، بدل أن تُلحق بي أكثر ممّا حلّ بي، تخرج - بلطف اللّه - عند تغيير كلّ ضماد، وكان نصيبي منها خَيْطين في كلّ يوم! وقد خرج الكثير من القيح وخرجت معه الخيطان إلى أن لاحظت بأنّ سماكة الطبقة التي غطّت الجرح بدأت تزداد تدريجيًّا، مما يُعتبر علامة إيجابيّة. لقد ساعدني "باقر نيكي"، وهو أحد عناصر المقرّ، في تضميد جرحي كثيرًا.

 

بقينا هناك قرابة الشهرين والنصف. كانت منطقة بيرانشهر شبيهة بـ"مهاباد" التي قضيت فيها أيّامي الأولى في الجبهة ـ من حيث تعدّد المراكز، والمواجهات المختلفة والمتفرّقة فيها، والجبال المحيطة بها. معظم الاشتباكات وقعت في الكمائن التي نُصبت في أطراف المدينة وفي الطرق التي يسلكها الديمقراطيّون. وقد التفتوا إلى هذه المسألة، لذا صاروا يقومون بالاشتباكات خارج المدينة أكثر منها داخلها. وبالطبع، لأنّ مشكلة كردستان قد حُلّت إلى حدّ ما، لم تحصل المواجهات يومًا من حيث العدد والشدّة كما كانت في مهاباد، ومع هذا، ظلت المواجهات في تلك المنطقة مستمرّة ومتواصلة بسبب وقوع بيرانشهر على الحدود الإيرانيّة-العراقيّة، وعلى الخطّ الدفاعيّ الأوّل للعدوّ.

 

وقعت في المقرّ بين جموع الشباب أحداث بقيت في أذهاننا لوقت طويل. حينذاك، كان في المقرّ عنصرٌ حديث عهد بالجبهة، بدا أنّه يخاف من بعض الأشياء خوفًا كبيرًا. قال الشباب إنّه لا يذهب ليلًا إلى المرحاض - الذي يقع على بعد مئة متر من المقر- ونتيجةً للخوف، يقضي حاجته على بعد أمتار من المقرّ! كان يخشى العتمة، والوحدة، والهجوم

 

134


126

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

المفاجئ للديمقراطيّين! فقرّرت أن أضع حدًا لخوفه.

 

ذات يوم فرّغت جميع الأباريق المعدنيّة ما عدا واحدًا ملأته نفطًا. وحيث كان الشباب يعلمون بالأمر، فقد بدأوا منذ حلول الليل بالمزاح والضحك. قرابة العاشرة ليلًا، خرج هذا الأخ من المقرّ، وفيما كنّا نراقبه تحت نور الكشّاف الضوئي الذي أضاء المحيط، لاحظنا أنّه لم يتوجّه نحو المرحاض، فارتفعت أصوات قهقهات الشباب. مرّت خمس دقائق وإذ بصوته يعلو من الخارج. خرجنا مسرعين: "ماذا حصل؟"، فقال وهو يقفز من مكانه ويشتعل غيظًا: "لا شيء!". عدنا إلى المقرّ. وحين عاد سألنا: "متى يمكن للشخص الاستحمام هنا؟".

- عليك الانتظار إلى الصباح وتذهب إلى مقرّ القيادة، فالحمّام هناك!

 

حين استيقظنا في الصباح، كان قد جّهز نفسه للذهاب، ولكنّه ذهب ولم يعد!

 

كانت الأيّام في بيرانشهر تمرّ بشكل وبآخر. وكان من بين الشباب أربعة أشخاص من محلّة "شنب غازان"، أحدهم يُدعى حميد، كبرت شهيته على الطعام، لذا أصرّ عليّ بسبب وضع بطني والطعام القليل الذي أستهلكه، أن آخذ حصتين من الطعام وأعطيهما له!

 

في الفترة التي قضيتها في بيرانشهر، نُفّذت عملية "والفجر4"[1]، وشُغلت العائلة بمراسم تأبين شهيدها الثاني في تلك العملية[2]، ابن


 


[1] نُفّذت عملية (والفجر4) في 19/10/1983م على مدى عشرين يومًا في منطقة "دره شيلر" شمال "مريوان" و"بنجوين".

[2] فيما بعد حدّثني أحد عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلام السيّد علي أكبر مرتضوي (بابا)، عن بطولات حسن نمكي في عملية والفجر4 فقال: قبل العملية كان العراقيّون يواصلون هجماتهم علينا، وقد وقع اشتباك قبل يوم على العملية. كانت ليلة ظلماء، والجميع ينتظرون في مضيق جبليّ ليتقدّموا بعد عملية استطلاع أخيرة لعناصر المعلومات. وفي تلك الأثناء، غفا بعض العناصر من شدّة التعب. وأكملت القوّات التي في المقدّمة طريقها، وبقي في المضيق ما يقارب الخمسة والعشرين شخصًا، من بينهم حسن نمكي. وحين أفاقوا وعلموا بما حصل، قال حسن: أنا أعرف المنطقة جيّدًا، لا نستطيع الوصول إلى القوّات المتقدّمة. كان من المقرّر لهذه المنطقة أن تُحرّر بعد المواجهات ومن دون تدخّل قوّاتنا، ثم نبدأ بعملنا. (كان حسن يعمل دومًا مع قائد الكتيبة علي أكبر رهبري، ويعلم جغرافيّة المنطقة). بدأوا بالتحرّك، وبعد أسر حارسين عراقيّين طهّروا المنطقة. كانت القوّات التي تحرّكت قبلهم قد وصلت إلى أعلى المرتفع، ورأت أنّ مجموعة تشتبك مع العراقيّين في أسفل التلّة وقد فرّقت جمعهم. لم يكن أحد إلى ذلك الوقت يعلم من الذي يقاتل في المضيق. في صباح اليوم التالي، شنّ العراقيّون هجومًا معاكسًا. وأرادوا أن يحاصروا المنطقة بالدبّابات، لكنّ المقاومة تواصلت بشدّة. وشنّ العراقيّون هجومًا أو هجومين على المضيق، ولم يستطيعوا السيطرة عليه. أحيانًا كان أحدهم يقف في المضيق ويطلق قذيفة "B7" على الدبّابة فيحرقها. أخيرًا، مع اشتداد المقاومة واشتداد نيران العدوّ، صعدت مجموعة من المضيق إلى الأعلى. كنّا نظنّ أنّ عددهم كبير، ولكن تبيّن لنا أنّه يتراوح بين العشرة والاثني عشر شخصًا. أمّا الباقون فقد استُشهدوا في المضيق! لقد اسودّت وجوههم من شدة الاشتباكات، بحيث لم أتعرف من بينهم حتّى إلى حسن نمكي الذي قضيت معه عامين. سألني حسن: أين كتيبة الإمام الحسين عليه السلام؟ قلت: ماذا تريد منها؟ قال: "نحن من عناصر الكتيبة. أنا حسن نمكي". يقول بابا إنّه إلى تلك اللحظة لم يعرفه. بعد تلك الملحمة، أستشهد في العملية لاحقًا جرّاء عصف انفجار قذيفة دبّابة.

 

135


127

الفصل الخامس: جرح فوق جرح

خالي ورفيقي القديم حسن نمكي. وخلافًا لليالي مهاباد، راح الشباب في معظم الليالي يجتمعون في المسجد المحاذي للمقرّ، ويصلّون صلاة الليل. كما كانت تُقام مجالس العزاء والأدعية. وبهذه الأحداث انقضت مدّة وجودي في بيرانشهر (كأنّها فترة نقاهة) وعدت إلى تبريز لأبدأ بعدها رحلة جديدة (لم أتنبّأ بما خبأته لي).

 

136

 


128

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

الفصل السادس:

مخيّم شهداء خيبر

 

في تبريز، بدأ شباب الجبهة يتحدثون عن العملية، وسرعان ما تركتْ وجوهٌ معروفة المدينةَ، الأمر الذي اعتُبر وكأنّه بشارة باقتراب الموعد. أمّا أنا فلم أحتمل البقاء في المدينة، فتوجّهت في أواسط شباط العام 1984م إلى الأهواز. وهناك سمعنا بخبر بدء تنفيذ عملية "خيبر" في جزر "مجنون"![1] كانت تصلنا أخبار الأيّام الأولى منها، المعارك العنيفة في الجزر، وشهادة عدد كبير من عناصر الفرقة البارزين نتيجة محاصرة الأعداء لهم، ووقوع عدد آخر منهم في الأسر. جاء خبر استشهاد "حميد باكري" و"مرتضى ياغتشيان"، اللذين كانا نائبين لقيادة الفرقة. حوّل النبأ أيّامنا إلى مأتم، ودلّ أنّ فرقة عاشوراء خاضت في عملية خيبر حربًا ضروسًا، ارتفع خلالها الكثير من قادتها شهداء.

 

بعد عدّة أيّام، واتتني الفرصة، لأنطلق مع بعض الإخوة من الأهواز إلى جزيرة مجنون مباشرة. تزامن وصولنا إلى الجزيرة مع استلام كتائب القدس للجبهة، فانسحبَ باقي عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وسائر القوّات العاملة هناك. أمّا أنا وقد وصلت لتوّي، فبقيت بين الإخوة التبريزيّين في كتائب القدس التي جمعت متطوعين من كافّة


 


[1] بتاريخ 22/2/1984م وبنداء يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدأت عملية خيبر في جبهة "هور الهويزة" و"جزر مجنون"!

 

137


129

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

أنحاء البلاد. لكن هطلت في تلك الفترة أمطار غزيرة غمرت مكان استقرار الكتيبة، فأعادونا جميعًا إلى الأهواز.

 

بعد عملية خيبر، استقرّت فرقة عاشوراء في منطقة تقع ما بين الأهواز وسوسنكرد، فتوجّهنا إلى هناك نحن أيضًا. تبعد هذه المنطقة خمسة كيلومترات عن جادّة الأهواز- سوسنكرد، وحوالي الأربعة كيلومترات عن الجادّة الرئيسيّة، وقد انتقى لها الإخوة اسمًا على مسمّى، ألا وهو "توبراق آباد". كانت أرض "توبراق آباد" رمليّة يحرّكها الهواء بكلّ سهولة. فعلًا! لقد انتقى الإخوة اسمًا مناسبًا لهذا الموقع الجديد.

 

وصلتُ برفقة عناصر كتائب القدس إلى "توبراق آباد"، ورحتُ أبحث هناك عن الإخوة في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. كان قد استُشهد من هذه الكتيبة أكثر من مئة عنصر بعد ملحمة بطوليّة في عملية خيبر، وبقيت معظم الأجساد في أرض المعركة، ووقع عدد كبير من الإخوة في الأسر، وجُرح عدد آخر. كان من بين الأسرى ابن خالي إبراهيم، ومن بين الشهداء قائد الكتيبة "محمّد باقر مشهدي عبادي"، وقد بقيت جثّته كما كثير من الشهداء على أرض جزيرة مجنون[1]. لذا فقد أُعطي من بقي من عناصر (هذه الكتيبة) إجازة. أمّا أنا، ولأنّني جئت لتوّي فقد بقيت. في تلك الفترة، كان "محمود دولتي" مسؤولًا للسريّة الأولى، و"صمد زبردست"[2] مسؤولًا للسريّة الثانية، و"خليل نوبري" مسؤولًا للسريّة الثالثة. التحقت بالسريّة الثانية وكان "صمد قنبري" المعاون فيها. وفي

 


[1] تمّ العثور على الأجساد المطهّرة للشهيد عبادي، ومرتضى ياغتشيان وعدد آخر من الشهداء بعد سنوات على عملية خيبر أثناء عملية التقصّي والبحث، وشيّعوا ودُفنوا إلى جانب الشهداء في مقبرة "وادي الرحمة".

[2] بعد فترة، أُصيب صمد زبردست إصابة أدّت إلى شلله، وفي العام 1995م قضى في حادث سير مؤسف، وكان يشغل موقع رئاسة مؤسّسة الجرحى في تبريز.

 

138


130

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

"توبراق آباد"، أُعطيتْ إجازة أيضًا لعناصر كتيبة سيّد الشهداء، وكان قائدها "أصغر قصّاب".

 

بالتزامن مع عودة العناصر، انتقلت الفرقة إلى منطقةٍ مواجهةٍ لـ"توبراق آباد"، بالقرب من مخزن الذخيرة الكبير في المنطقة. كانت المنطقة حرجيّة وتختلف عن "توبراق آباد" من جميع النواحي، فسمّاها الإخوة "جنكل آباد"[1]. كما انتقلت كتائب القدس إلى هناك، وبعد التوجيه وإعطائها التعليمات اللازمة، التحقت هذه الكتائب بباقي كتائب الفرقة. طوال تلك المدّة، بقيتُ في إحدى مجموعات كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، وحيث كنت أخاف عودة الأوجاع إلى بطني، لم أكن أشارك الإخوة كثيرًا في أعمالهم ، وبتّ أشعر أنّني "تعطّلت" ولم أعد أقوم بالعمل كما يجب. فبعد حادثة سقوطي، أصبحتُ بالفعل أشعر بالرعب. في تلك الفترة، توطّدت معرفتي بـ"عبد الحسين أسدي"، "يوسف فداكار"[2] و "فرج قلي زاده"، وصرت أقضي معظم أوقاتي برفقتهم.

 

بعد تبديل القوّات بدأت التدريبات، وخضعتُ حينها لأوّل مرّة، لدورة تدريبيّة حول مواجهة السلاح الكيميائي استمرّت شهرًا، التعرّف إلى القناع، التدابير التي ينبغي اتّخاذها في حال القصف بالسلاح الكيميائي و... الشيء اللافت حينذاك كان قلّة الطعام، وبدل الخبز العاديّ، كانت تصلنا أكياس من الخبز اليابس، فلم يجد الإخوة بدًّا من الاكتفاء بهذه الكسرات! أحببتُ أن أكون في جمع الفصيل أكثر من أيّ مكان آخر. ففي الفصيل، لكلّ فرد عمل يقوم به. أحدهم يغسل الأطباق، وآخر يجلب


 


[1] تقع "جنكل آباد" من الناحية الجغرافيّة تمامًا في الجهة المقابلة لمنطقة "توبراق آباد" الرمليّة. ومن أجل الحؤول دون وصول الرمال إلى المزارع والقرى، كان الأهالي يزرعون الأشجار التي تنمو في الرمال، فتشكّلت تلك المنطقة الحرجيّة في قلب المنطقة الرمليّة.

[2] استُشهد قبل عدّة سنوات متأثّرًا بإصابته بالسلاح الكيميائي.

 

139


131

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

الطعام، وثالث يحضّر الماء، وشخصان آخران يفرشان البطّانيّات للنوم، ليجمعهما شخصان آخران عند الصباح، والمحصّلة، أنّ مسؤوليّة كلّ فرد تكون محدّدة ومعلومة في الخيمة، وهذا الجوّ جعلها شبيهة ببيت تسوده الألفة الشديدة والمحبة. أمّا أنا، فقد أخذت على عاتقي إعداد الشاي الذي يسهل تحضيره في تلك المنطقة، لكثرة الأشجار وتوافر الحطب لإشعال النار. كنت عندما يختمر الشاي، أصبّ لنفسي أوّلًا في فنجاني الخاصّ ـ وهو عبارة عن مرطبان مربّى قد فُرّغ من محتواه ـ فيَفْرَغ نصف الإبريق! ويعلو صوت الإخوة: "سيّد، لقد صببت الشاي كلّه لنفسك!".

 

في الفترة التي كنّا فيها في تلك المنطقة، كان الإخوة يمزحون ويمرحون كثيرًا. ذات يوم ظهرت غنمة في محيط الكتيبة، فأخذها الإخوة واحتفظوا بها، وراح كلّ شخص يدلي برأيه حول الموضوع، وظننّا أنّ الغنمة لأهالي إحدى القرى المحيطة. قال أصغر قصّاب الذي استلم قيادة كتيبة الإمام الحسين عليه السلام بعد شهادة الأخ مشهدي عبادي: "احتفظوا بها، فلربّما أتى صاحبها للبحث عنها". في اليوم التالي، وحينما كنت أصليّ فريضة العصر، سمعت جلبة كبيرة في الخيمة والمحيط. لقد دخل فناء خيمتنا ثلاثة أشخاص غرباء يلفّون أنفسهم بملاءات بيضاء، وما إن رآهم أحد الأشخاص حتّى أُغمي عليه! لقد حدثت فوضى عارمة في الخيمة. يبدو أنّ هؤلاء الثلاثة تكلّموا مع الإخوة بضع كلمات باللغة العربيّة، فابتعدوا عنهم بسرعة، وحمل أحدهم الـ (B7)، وآخر الكلاشينكوف و... هرعوا إلى خارج الخيمة. وحين رأى هؤلاء الثلاثة أنّ الإخوة حملوا السلاح، لاذوا بالفرار. خرج الجميع من خيامهم وراح كلّ شخص يدلي بدلوه: "من المؤكّد أنّهم أصحاب الغنمة".

- لا يا عمّ!... لكن كائنًا من كان، فقد ميّزتهم قاماتهم الطويلة جدًّا!

- لا نعلم من أين جاؤوا وأين اختفوا!

 

140


132

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

انتشر الإخوة في المحيط بحثًا عنهم، لكن، مهما فعلوا لم يجدوا لهم أثرًا. دار اللّغط حول المسألة، وسرت شائعة تقول إنّهم وجدوا ثلاث نساء في الكتيبة! سرعان ما وصلت سيّارة الإسعاف ونقلت ذلك المسكين الذي أُغمي عليه. بدأت أرجّح أنّ هذا العمل هو من صنع الفصيل الأول، وحين قلت ذلك للإخوة اعترضوا وقالوا: "على أيّ أساس تبني كلامك، وهل هكذا يكون المزاح؟!".

ــ لا يوجد هنا عربيّ أو غريب. أيًا كان من فعل ذلك فهو أحد منّا. وإلّا كيف يمكن أن يختفوا في ظرف دقيقة واحدة؟!

 

في صباح اليوم التالي، استدعانا السيّد أصغر إلى المراسم الصباحيّة، وأنّبنا كثيرًا: "أيّها الإخوة! ما حدث بالأمس، كان عملًا شنيعًا! لقد ساءت حال أخ من الإخوة و...". طأطأنا رؤوسنا إلى الأرض، ونحن نستمع إلى كلامه، لكنّني كنت واثقًا بأنّ الفصيل الأول هو من قام بذلك الفعل، وفكّرت في ردّ الصاع إليهم. فيما بعد، تبيّن أنّ ظنّي وقع في محلّه، وأنّ ذلك الشخص الطويل ما هو إلا واحدٌ من عناصر الفصيل الأول ويُدعى "حسين ركبار". أمّا العنصر الذي فقد وعيه فكان مسعفًا، ولم يعد بعد تلك الحادثة إلى كتيبتنا!

 

في الفترة التي كنّا فيها في "جنكل أباد" أحببت طبيعة المنطقة، وصرت أقضي أوقاتي في تلك الأنحاء بعد الفراغ من التدريب الذي يستغرق أربع أو خمس ساعات يوميًّا. عاشت بين الأشجار هناك طيور كثيرة، أحببت صغارها، وجلبت عدّة أعشاش إلى الأشجار المجاورة للمجموعة، ورحت أضع لها كلّ يوم ما يتبقّى من الأرزّ، وأستمتع بمنظر الأمّهات وهنّ يطعمن فراخهنّ. ذات يوم سمعت السيّد أصغر يقول: "إنّ بعض الإخوة هنا أصبح لاعبًا بالحمام!" (كشّاش حمام). ليأتِ الآن وليقسم،

 

141


133

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

يا عم! أنا لست لاعبًا بالحمام، أنا فقط أقدّم لهذه الطيور ما يتبقّى من طعام الإخوة. وبسبب كلام السيّد أصغر، صرت قلّما أذهب إلى هذه الأعشاش، ما جعلها في النهاية تترك المكان.

 

كانت المشاركة في المراسم الصباحيّة إلزاميّة، لكن أحد الإخوة راح يتهرب من المشاركة فيها وفي التدريبات، ويصرّ عليّ أن يعدّ الشاي بدلًا منّي بشرط أن أعمل كي لا يلحظ أحد تغيّبه أثناء تعداد الأسماء في المراسم الصباحيّة! وافقت على الأمر، وفعلت ما طلب منّي ليومين أو ثلاثة. صرت عندما أعود، أرى الشاي مُعدًّا والفناجين مصفوفة بكلّ ترتيب، أمّا هو فلا أثر له. وقد اتّضح فيما بعد أنّه وأثناء المراسم الصباحيّة، يصعد فوق أشجار البلّوط ـ التي سمّاها الإخوة "البالوت" بحيث لا يراه أحد من بين أغصانها وأوراقها، ويدخّن السجائر بعيدًا عن أعين قادة الكتيبة! وقد فتّش الإخوة عنه مرّات عدّة ولم يجدوه.

 

اعتدنا الذهاب بعد تناول الفطور إلى التدريب. ولأنّنا من العناصر القدامى، ومعظم التدريبات مكرّرة بالنسبة لنا، كنّا نكثر من المزاح، الأمر الذي لم يرق بعض المدرّبين. كان "التحرّف"[1] أحد تماريننا في مادة الطبوغرافيا، فدأب قائد سريّتنا السيّد صمد وقبل تحرّك العناصر، على السير مع عنصر أو عنصرين طبقًا لانحراف محدّد. على سبيل المثال، خمسمئة متر بانحراف معين، وألف متر بانحراف آخر، وفي نهاية كلّ انحراف، يتم وضع الماء وعصير الفاكهة المعلّب، والبسكويت، لكي يتناولها العناصر الذين يصلون ليلًا إلى تلك المناطق. عادةً ما كان يُعلن بعد الانطلاق من خلال الجهاز مقدار المسافة التي علينا أن نقطع وبأيّ انحراف. كان تمرينًا جيّدًا، لكنّه أوقعنا ذات ليلة في مشكلة


 


[1] أو "الانحراف بزوايا"، (التدرب على المسير مع توجيه البوصلة في زوايا وتحرفات محددة).

 

142


134

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

كبيرة. انطلقنا، وبعد قطع مسافة من الطريق، تمّ الإعلان عبر الجهاز اللاسلكي بأنّه يجب علينا التقدّم بانحراف 45 درجة. سرنا على هيئة طابور مسافة كيلو متر، وأنا بقرب عنصرين هما ابن خالي علي نمكي و"السيّد علي أكبر مرتضوي" من أهالي هريس، وكان الإخوة ينادونه بـ "بابا" مع أنّه من جيلنا. تقدّمنا قليلًا وإذا بي أرى صندوقًا مملوءًا بقذائف الـ(B7) قلت: "بابا! أتعلم، إمّا أن نكون قد أخطأنا بتطبيق درجات الانحراف، أو أنّهم اشتبهوا فيها، هنا يوجد مخزن ذخيرة، ولا يسمح لأحد بالاقتراب، فكيف أخذوا هذا الانحراف و...". لم أكد أنهي جملتي حتّى علت الأصوات في المكان: "توقّف!... توقّف!".

 

يبدو أنّ حرّاس مخزن الذخيرة كانوا يتناولون الطعام حين سمعوا أصواتنا ورأوا طابورًا من العناصر يدخل محيط مخزن الذخيرة! فتأهّبوا مباشرةً، وراحوا يصيحون بنا: "توقّف... توقّف"، وقطعوا علينا الطريق وحاصرونا.

- لا تتحرّكوا! إن فعلتم ستنفجر الذخيرة!

- ألقوا بأسلحتكم إلى الأرض!

 

كانوا يتكلّمون الفارسيّة، ومهما قلنا لهم إنّنا منكم ودخلنا خطأ إلى المنطقة، لم يقبلوا منّا. تقدمّوا نحونا بحذر، وراحوا يركلون الإخوة ليباعدوا بين أرجلهم. فتّشوا الجميع جيّدًا، أخذوا الأسلحة، ومن ثمّ راحوا يسألوننا من نحن ومن أين أتينا؟ بعدها، اتّصلوا بالمقرّ ليتبيّنوا صحّة أقوال مسؤولنا. بقينا تلك الليلة هناك، إلى أن تمّ الاتّصال من المقرّ بفرقة عاشوراء، ومن الفرقة بكتيبة الإمام الحسين عليه السلام، ومن الكتيبة بالسرية واتضحت المسألة. مع انبلاج الصبح عدنا إلى نقطة تمركزنا. وفيما كنت أمرّ من أمام دشمة الأخ "صمد زبردست" وقع نظري عليه فقلت له: "أخ صمد، سأمشي بانحراف 45 درجة!" ،وانتشر

 

143


135

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

كلامي بين الإخوة. ومنذ ذلك الوقت صرت كلّما قلت هذه العبارة للأخ صمد يستاء ويقول: "بالله عليك يا سيّد لا تقل هذا الكلام بعد!".

 

في تلك الظروف التي استمرّت قرابة الشهرين، شعرنا بالوقت يمضي بنحو أسرع مع هذه الأحداث والمشاكسات، بينما كانوا في وحدة المعلومات والاستطلاع والمقرّ يعملون على جمع المعلومات وإعداد الخرائط للعملية القادمة، فيما انتظرنا جميعًا أوانها.

 

ترك عدد من العناصر المنطقة الحرجيّة وذهبوا في إجازة، أمّا نحن الذين انتقلنا حديثًا إلى الأهواز، فقد علمنا بإنشاء مخيّم جديد لفرقة عاشوراء يقع بالقرب من مثلّث الحسينيّة على بعد 35 كلم من "خرّمشهر"، وقد أُطلق عليه اسم "مخيّم شهداء خيبر".

 

تزامنت تلك الفترة مع أيام شهر رمضان المبارك، وكي لا يبطل صيام الإخوة تقرّر نقلهم إلى المخيّم عند العصر، ليعملوا طوال الليل، وعند الفجر يرجعونهم إلى الأهواز. وخاصة أنّه لا يمكن تحقيق إنجازات أفضل في تلك الأجواء الحارة جدًّا سوى في جوف الليل، حيث للعمل تحت النجوم رونقه وصفاؤه الخاصّ. كانت المنطقة عبارة عن صحراء ممتدّة، عملت الجرّافات فيها من قبل على حفر أماكن للدشم بعمق مترين ونصف، وأبعاد مترين بثلاثة أمتار. وتوجّب علينا تعبئة أكياس التدشيم بالرمل وبناء الجدران بها، وغطّينا سقف الدشمة بألواح من الخشب، وثبتنا عمودًا في وسط الدشمة كدعامة للألواح، ثمّ وضعنا على الألواح عوارض خشبيّة وغطّيناها بالنايلون، لنهيل بعدها التراب عليها. استمررنا في هذا العمل عدّة ليالٍ متتالية، إلى أن كان التعب يحلّ على الإخوة ما بين الثانية والثالثة بعد منتصف الليل فيلتقط كلّ واحد منهم بطانية ويأوي إلى زاوية لينام فيها.

 

144


136

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

ذات ليلة استفقت من نومي إذ سمعت هديرًا عاليًا. صعب عليّ الاستيقاظ من شدّة التعب، لكنّ الهدير بات يشتدّ كلّ لحظة. فكّرت انه لا بد سوف ينقضي وينتهي. لكنّه لم ينقضِ وينتهِ. رفعت البطانية عن وجهي وأنا نصف نائم، وأدرت وجهي وإذ بي أمام عجلات جرّافة! أطار الرعب النوم من عينيّ! وفي ثانية واحدة نهضت ولذت بالفرار فتوقّفت الجرّافة بعد لحظات! بعد عدّة دقائق علمنا ما حدث. كان بين العناصر شخص يُدعى "محمّد" وهو من شباب الإعلام، ومسؤول التنسيق في (لجنة) بناء المسجد، لكنّه لم يكن ينسّق مع أحد، لا فيما يتعلّق بالمسجد، ولا حتّى فيما يتعلّق بدشمته، وحين نسأله عن الأمر يقول: "سآتي يومًا ما بجرّافة وأقوم بعملي". وعلى ما يبدو، فقد قرّر تلك الليلة القيام بعمله وجاء بالجرّافة! كان سائقها من أهالي "بناب"، وحين رأى البطانيات منتشرة على الأرض ظنّ أنّ الإخوة قد تركوها وذهبوا، وحتى محمّد نفسه الجالس إلى جانبه، لم يعلم بأنّ تحت كلّ بطانية ينام وأحد من الإخوة. قال السائق: "أسفت لفكرة تمزّق البطانيات تحت عجلات الجرّافة، ففكّرت بأن أمرّ من فوقها بحيث لا تدوسها العجلات وتبقى سالمة، وأتمكّن من رفعها". صادف أنّ البطانيات كانت متناثرة هنا وهناك، لكنّه بالفعل، تفنّن في المرور فوق ثلاثة منها كانت مصفوفة وراء بعضها البعض! والمحصّلة، أنّ سائق الجرّافة ذُهل حين اتّضح له الأمر ، فترجّل من الجرّافة من دون أن ينبس بنت شفة، أو يأتي بأيّ حركة. لم يصدّق الإخوة الذين مرّت الجرّافة من فوقهم ما حدث، وجُرح فقط رأس ابن خالي علي نمكي عندما لامسته عجلات الجرّافة المطّاطيّة. بلطف الله وعنايته، لم يحدث شيء للإخوة في تلك الليلة، ولكنّهم أطلقوا لقبًا غير ملائم على عنصر الإعلام بسبب تصرّفه غير المسؤول، وناديناه به لمدّة طويلة!

 

 

145

 


137

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

كان مخيّم شهداء خيبر كأرض كربلاء، صحراء قاحلة وحارّة. يُقال إنّ درجة الحرارة هناك فاقت الـ 55 درجة، فاحتجنا نسمات مُرطّبة كي تلطّف الأجواء، وقد وجدناها. كان الجوّ حارًّا لدرجة أن يذوب قالب الثلج أثناء نقله من مقرّ التجهيزات إلى الدشمة التي تبعد عنه مسافة مئة متر، لتبقى منه قطعة صغيرة فقط، فنعمد إلى وضعها في البرّاد البلاستيكي الموجود في الدشمة. أمّا مياه الخزّانات فكانت تسخن إلى درجة لم يكن من الممكن استعمالها بسهولة طوال النهار حتّى للوضوء. يقولون لو أنّ بيضة وضعت في الخارج لنضجت! كنّا نمضي الوقت في الدشم التي بُنيت تحت الأرض، لأنها كانت أبرد نوعًا ما. استهدفت قذائف العدوّ المدفعيّة، المصنّعة فرنسيًّا، المخيّم مرّات عدّة، وتسبّبت لنا بخسائر، لذلك كنّا نتجنّب التجمّع قدر الإمكان. كانت جميع كتائب الفرقة مستقرّة هناك ما عدا قسم التجهيزات، والمواقع يتصل بعضها ببعض عبر الطرق الترابية. أحيانًا، كانت تمرّ سيّارة من أمامنا ونحن عائدون من الحمّام، فتعفّرنا بالتراب من رأسنا إلى أخمص قدمينا. أمّا المراسم الصباحيّة، فتقتصر على قراءة آيات من القرآن الكريم خوفًا من مدفعيّة العدوّ، ثم تتفرّق السرايا الواحدة تلو الأخرى، لتعدوَ في المسار المحدّد لها. كانت المسافة بين مدخل مخيّم شهداء خيبر وطريق الأهواز ـ خرّمشهر لا تتجاوز الكيلومتر الواحد، أمّا مكان استقرار الكتائب فيبعد عن الشرطة العسكريّة للمخيّم قرابة 5كلم. اضطررنا كلّ صباح لقطع هذه المسافة ركضًا حتى نصل إلى الطريق فنعود، وهكذا وصلت المسافة التي نقطعها إلى قرابة الاثني عشر كيلومترًا. وبالطبع، يتراجع عدد الإخوة في طريق العودة إلى النصف، فبسبب الحرّ الشديد، وطول المسافة، كان البعض يُصاب بالإعياء، أو يُغمى عليه...

 

146


138

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

في تلك الظروف وجدنا لعبة كرة القدم أحد الأنشطة التي نشغل بها أنفسنا. فعدا المراسم الصباحيّة، والتدريبات، بتنا نلعب كرة القدم يوميًّا، وكان لهذه اللعبة معي حكاية أخرى! لم أكن منذ البداية أحبّ الحذاء العسكري، وحتّى في العمليات كنت أفضّل انتعال حذاء كتّانيّ، لأتحرّك بنحو أسرع وأخفّ. وفي المخيّم أيضًا كنت غالبًا ما أتنقّل حافي القدمين، لذا، صار الإخوة ينادونني "اياق يالين"[1]. ومن شدّة ما مشيت في الجوّ الحارّ وعلى الرمال اللاذعة، أصبحت قدميّ قويّتين وقاسيتين. اعتدت لعب كرة القدم حافيًا، لكنّني أحيانًا كنت أركل الإخوة بضربات تهشّم أقدامهم داخل الحذاء العسكري! بالطبع، لم نكن نجيد اللعب على أصوله، ما عدا علي نمكي فقط، فيما صرتُ أغشّ في اللعب إلى درجة ترتفع فيها صيحات اللاعبين! عادة ما كنت وعلي نمكي، و "علي رضا فغاني" و "علي قره"[2] نلعب في فريق واحد، وجميعنا نغشّ في اللعب. ذات يوم، ارتكبنا عملًا مشينًا. فقد تقدّم حارس مرمانا إلى الأمام وترك المرمى خاليًا! وما هي سوى لحظات، حتّى توجّه شخص من الفريق الخصم نحو مرمانا. فورًا، ركلت رِجْله لآخذ الكرة منه، فسقط أرضًا. بعد لحظات، نهض وتوجّه نحوي مندهشًا. كان يرمقني بنظرات ظننت معها أنّه جاء ليضربني! لكنّه نظر إلى قدمي الحافية بتعجّب وقال: "يا فتى! لقد كسرت رجلي داخل الحذاء العسكري، كيف هي رجلك هذه؟!".

 

في السريّة كنّا فصيلين جيّدين، شباب حذقين وأذكياء انسجمت عقولنا فيما بينها، وبين فترة وأخرى كرّرتُ وبعض الإخوة الفرار من المخيّم. وحيث نُصبت الأسلاك الشائكة حوله، فقد حدّدنا مكانًا حفرنا

 


[1] حافي القدمين.

[2] كان الإخوة ينادونه "علي سياه" (علي الأسود)، لأنّه كان داكن البشرة.

 

147


139

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

فيه تحت هذه الأسلاك ليكون مهربًا سهلًا لنا. أحيانًا كنت أغادر خلسة مع علي نمكي، وعبد الحسين أسدي، و"علي رضا فغاني"، و"يعقوب نيكبيران" من المخيّم، ونذهب إلى الأهواز حيث نبقى ليوم أو يومين. ولأنّ المراسم الصباحيّة كانت مختصرة، لم يلفت الأنظار نقص عدد العناصر وازدياده. ورغم انتباه مسؤول فصيلنا "يوسف"، إلا أنّه تعامل معنا بنحو جيّد واحترمنا لكوننا أقدم منه في العمل، ولم يتوقّف عند المسألة كثيرًا.

 

ولو قبض حارس المخيّم علينا متلبسين، لكنّا عوقبنا عقابًا شديدًا. لكنّ الشباب كانوا حذقين لئلا يلتفت أحدٌ لهروبهم. حتمًا، عندما كنّا نعود إلى المجموعة، يشرع الإخوة بالتعليق على ذلك ممازحين: "الحمد لله على السلامة" و"أهلًا وسهلًا".

 

أحمل آسفًا ذكريات مؤلمة أيضًا من "مخيم شهداء خيبر". ذات يوم خرجنا من المخيّم قاصدين الأهواز. وقفنا إلى جانب الطريق بانتظار سيّارة تقلّنا، ومهما لوّحنا بأيدينا للسيّارات المارّة، لم يكن ذلك يجدي نفعًا، لأنّها إمّا تكون ممتلئة بالركّاب، أو أنّ السائقين يمتثلون لتعليمات القيادة بعدم التوقّف للعناصر على الطريق لأسباب أمنيّة. وفيما ننتظر إلى جانب الطريق الترابيّة، وإذ بآلية "إيفا" تظهر من بعيد. وما إن مرّت بالقرب منّا، حتّى رجعت فجأة نحونا وباغتتنا! قفزت وأحد الإخوة إلى الخلف، وصدم السائق ثلاثة إخوة ولاذ بالفرار. شعرت بدمائي تغلي في عروقي. وقع الجرحى من شباب تبريز، لكنّني لم أعرف أيّ واحد منهم، واستُشهد منهم في نفس اللحظة أخ سُحق جبينه، وأُصيب الشخصان الآخران بجراح عميقة. حرنا في أمرنا وكنّا غاضبين، إلى أن وصلت سيّارة تويوتا من فرقتنا، ومباشرةً وصلت سيّارة الإسعاف. وضعنا جسد

 

 

148


140

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

الشهيد والجريحين داخل سيّارة الإسعاف، وانطلقنا بسيّارة التويوتا نفسها. وفي الطريق تراءت لنا آلية الـ"إيفا" من جديد، وفجأة انحرف سائق سيّارة الإسعاف عندما تفاجأ بسيّارة أمامه، فانقلبت عن الطريق أمام أعيننا ثلاث أو أربع مرّات.. يا لها من مصيبة! لم نتوقّف وأسرعنا لنلحق بآلية الـ"إيفا"، ومن خلفنا أتت السيّارات لنجدة من في سيّارة الإسعاف. في النهاية، وصلنا عند نقطة التجهيزات إلى آلية الـ"إيفا"، وهي النقطة المحددة لتوقّف السيّارات. اعتقلنا الشخصين اللذين كانا يركبان السيّارة، وتركناهما عند نقطة الحراسة، وعدنا مباشرة إلى مكان الحادث الذي وقع لسيّارة الإسعاف. وجدنا أنّ الجريحين سُحبا منها، ولحسن الحظّ لم يصابا بإصابات جديدة. عدنا من جديد إلى مكان التجهيزات، وأحضرنا راكبي آلية الـ"إيفا" إلى مقرّ الفرقة، وسلّمناهما إلى مركز القيادة. كنّا نعلم أنّ مركز القيادة وجريًا على العادة، سيحوّلهم إلى قيادة الأركان لينالوا جزاءهم. لم يغب عن بالي لمدّة طويلة، مشهد ذاك الجرم الشنيع، وشهادة ذلك الشهيد المظلوم. كانت الجبهة ملأى بالعناصر المخلصة والمضحّية، لكن كان فيها أيضًا منافقون يندسّون بين الإخوة، ويتحّينون الفرص لبثّ سمومهم.

 

بقيت مسؤوليّتي في الفصيل إعداد الشاي كما في السابق، وأقبلَ الإخوة على شربه لرفع عطشهم والتعويض عن قلّة ماء الشرب وشحّه في تلك الصحراء. أحبّ جميع الإخوة في الفرقة الشاي، لكنّ إعداده في مخيّم شهداء خيبر لم يتيسّر بسهولة نظرًا لقلّة وجود النفط. أعددت إلى جانب دشمتنا موقدًا صغيرًا من الطين، ووجدت خرطومًا، مددته إلى داخل الموقد ليتقاطر منه النفط نقطة نقطة، وصرت دائمًا أوقد النار في هذا الموقد لأعدّ الشاي. وحيث طبيعة المنطقة صحراويّة، ليس

 

149


141

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

فيها شيء من العشب والحطب لإشعال النار، فقد ازدادت أهميّة النفط عندنا، خاصّة أنّه كان يوزّع بكميات قليلة أيضًا، ثلاثة غالونات لكلّ الكتيبة. لكن لم نقصّر نحن أيضًا، وسعينا لتأمينه لفصيلنا بأيّ طريقة. دأب الإخوة في التجهيزات على توزيع النفط على شكل حصص، وذلك أوّلًا لملء المصابيح والمدافئ (ببّور علاء الدين) التي احتجناها ضروريًا لتسخين الطعام، ومن ثمّ تنال السرايا ما يتبقى منه لتقوم كلّ سرية بتوزيع النفط على فصائلها. وبالمحصّلة كانت حصّتنا لا تكفي حتى لتحضير الشاي، لذا، فكّرنا أن نؤمّن النفط بأنفسنا.

 

شكّل بضعة شبّان مع "علي ذو الفقاري"، "يونس بهجت نيا"، "محمّد ميلاني" مجموعة الشغب، فقامت بكلّ شيء على الأصول، شقاوتها، قتالها، وأيضًا عبادتها. قرّرنا وهؤلاء الأصدقاء غزو خيمة التجهيزات وسرقة النفط منها. هذا والحال أنّ التجهيزات كانت تحت إشراف أشخاص أمثال "حسن باتك" و"أيّوب عمو اوزوم سويي"[1]، اللذين كانا أقوى منّا في الهجوم المضادّ بأضعاف مضاعفة! بالإضافة إلى ذلك، تميّز حسن باتك بالشجاعة، وقصص هجوماته المضادّة جديرة بالسماع!

 

ذات يوم وبينما كنّا نبني دشمة، رأيت حسن يتوجّه نحونا. ومن شدّة إتقانه للهجوم المضادّ، صار الإخوة ينادونه بلقب خاص. قال لي الإخوة: "انتبه! إنّه آتٍ ليأخذ العربة النقّالة منّا". قلت: "إنّ العربة النقّالة في يدي! فليأتِ لنرَ كيف سيأخذها منّي!". وصل حسن ونظر إلى الدشمة. أثنى على عملنا وساعدنا قليلًا، فملأ عدّة أكياس رملًا، ونقل بعضها من مكان إلى مكان، وأنا لا أعلم من أخذ العربّة النقّالة! بل انتبهت فجأة إلى أنّها ليست معي ولا مع الإخوة، ورأيناها بعد ساعات في خيمة التجهيزات.

 

 


[1] "عمو أيّوب عصير العنب"! رحم الله السيّد علي أكبر مرتضوي الذي أطلق عليه هذا اللقب في شعر له، فصار الإخوة ينادونه بهذا الاسم!

 

150


142

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

ولي مع حسن باتك ذكريات مشتركة. ذات يوم كنت وحيدًا في طريق العودة من إجازة، وقد أزعجتني من أوّل الطريق فكرة ذهابي من تبريز إلى الأهواز وحدي، وخاصّة أنّهم أوصوا جميع المجاهدين بأن لا يُشرّعوا الأبواب للأحاديث الجانبيّة عندما يكونون وحدهم في المدن وعلى الطرقات، إذ من الممكن للطرف المقابل أن يأخذ من هذا الحديث معلومات قد تشكّل خطرًا على العملية. باتت هذه التوصية واحدة من وسائل حفظ المعلومات وحمايتها، وكنّا جميعًا ملتزمين بها. ظننت أنّني سأظلّ بلا رفيق إلى أن أصل إلى الأهواز. وفيما أنا أفكّر بهذا الأمر، وإذ بي أرى حسن باتك جالسًا على المقعد الأمامي فانفرجت أساريري. بدّل حسن مكانه وجلس إلى جانبي، فتيقنت حينها بأنّني سأقضي وقتًا ممتعًا حتّى وصولي إلى الأهواز. وفي الطريق، تعرّفت إليه أكثر. سألته عن عمله في المدينة، فقال إنّه سائق حافلة في شركة النقل العام، وإنّه يعمل على خطّ "مارالان". عندما توقّفنا في أحد المطاعم لتناول الطعام، قدّموا لنا طعامًا بائتًا ورديئًا. فعلًا، دفعنا المال لقاء طعام غير صالح للأكل، لكن لم تكن باليد حيلة، وأكلنا منه مكرهين لسدّ جوعنا قليلًا، وقمنا لنصلّي. وفي الأتوبيس قال لي حسن: "ظنّنا صاحب المطعم أغبياء!". فسألته: "كم كانت خسارتنا؟!"

- مئة تومان! لكن اصبر!

 

قال هذا، ومدّ يده إلى جيبه وأخرج منها ملعقة، سكّريّة، مملحة، وفنجان و.. وكان يصفّها واحدةً واحدةً على ركبتيه ويقول: "هذه السكّريّة بعشر تومانات، وهذه الملعقة بخمسة تومانات، و.."، قلت له بتعجّب: "إذًا، لم نتكلّف أيّ خسارة!".

 

حين كنّا في "جنكل آباد"، عانينا نقصًا في التجهيزات إلا في الذخيرة.

 

151


143

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

على سبيل المثال، عانى الإخوة نقصًا في الأحذية العسكريّة، وحتّى في الخبز والطعام. يومذاك، ركب حسن باتك سيّارة تويوتا قاصدًا مقرّ فرقة أخرى، وهو يبتغي الصلاة في المسجد. بعد الصلاة، وحين كان خارجًا، التفت إلى أنّه لا أحد سبقه، فباشر العمل، أحضر التويوتا إلى جانب المسجد، ونقل كلّ الأحذية العسكريّة إلى صندوق السيّارة! وحين أتى إلى الكتيبة، حُلّت مشكلة الأحذية العسكريّة! صادف أن شاهد تلك الليلة أيضًا في ذلك المكان حمّامًا متنقّلًا، فذهب لاحقًا لاستطلاع المنطقة، وفي الليلة التالية ذهب بسيّارة التويوتا إلى هناك، وربط الكبينة بصندوق السيّارة. وفيما هو خارج من ذلك المقرّ، اعترضه عناصر من الجيش وقالوا له: "حسنًا فعلت! نحن أيضًا نريد نقل الحمّام إلى هذه الناحية من الطريق، تعالَ الآن لنتكلّم معًا!"، ردّ حسن عليهم قائلًا: "حاضر"، ومشى خلفهم. كان عناصر الجيش يسيرون أمامه ببطء وهم يشغّلون المصباح الكاشف، وما إن وصلوا إلى الطريق العام، حتّى ضغط حسن على دوّاسة البنزين! وابتعد بسرعة عن المكان، وجلب الحمّام إلى كتيبتنا. لم يعرفه أحد تلك الليلة، ولم يعلموا لأيّ فرقة ينتمي ليتابعوا القضيّة. وإنّما أُضيفت ذكرى أخرى إلى ذكريات هجوماته المضادّة، وسهّل الحمّام علينا أمورنا.

 

الخلاصة، أنّ حسن باتك في تلك الفترة، كان يخدم الإخوة جيّدًا بهذه الطريقة. ذات مرّة أخبرنا بنفسه القصة التالية. قال: "كنت آتيًا من طريق مقرّ خرّمشهر، فرأيت السيّارات قد اصطفّت هناك. وجّهت صندوق التويوتا باتّجاه صفّ السيّارات، ترجّلت منها، ووضعت المفاتيح على السيّارة. وفورًا ملأوا صندوق السيّارة ونادوا على السائق، لكنّني لم أجب! عندما رأوا أنّه لا أثر للسائق والسيّارات الأخرى منتظرة، جرّوا السيّارة باتّجاه الطريق وتابعوا عملهم. ولمّا انشغلوا كلّيًّا، أدرت السيّارة وابتعدت من هناك! لا زلت أذكر أنّ مقدار الزبدة بعد ذلك المقلب، كان كبيرًا جدًّا في

 

152

 


144

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

مركز التجهيزات، بحيث صرنا نأكلها مع كلّ وجبة غذائيّة!".

 

مع كلّ تلك الأحداث التي عرفناها، قرّرنا أن نغزو أمثال "حسن باتك"!

 

في البداية وضعنا خطّة، وانتظرنا إلى وقت استراحتهم لننجز مهمّتنا. لم يكن عناصر التجهيزات عادة يشاركون في المراسم الصباحيّة، وكانوا ينامون من بعد أذان الصبح إلى حين موعد تقديم الفطور. بقينا حول الخيمة منتظرين نراقبهم واحدًا واحدًا، إلى أن حملنا غالونًا من الغالونات التي خبّأوها تحت الخيمة، وابتعدنا عن المكان مسرعين، وإذا بمسؤول الدعم في السرية ينبت أمامنا! كان شخصًا قويّ البنية وضخمًا من أهالي "خسروشهر". ما إن رأى الغالون في يدنا حتّى فهم كلّ شيء: "أين تأخذون هذا الغالون؟".

- إنّه لنا!

- لا، إنّه يخصّ أحد السرايا. بالمناسبة، في كلّ سرية قيادة، اتّصالات، تجهيزات و.. وبعدها يأتي دور فصيلكم..

 

قلت: "انظر إليّ واسمع ما أقول لك. إنّني لن أسلّم هذا الغالون لأيّ شخص كان! لا إلى السرية! ولا إلى الكتيبة! إمّا أن آخذ الغالون إلى دشمتنا أو أريقه هنا على الأرض!". كان تهديدًا كبيرًا، لكنّه لم يصدّق. قال: "لا تستطيع أن تريقه على الأرض"، ومن أجل أن أريَه أنّني مصرّ على موقفي، فتحت سدّادة الغالون، وأرقت قليلًا من النفط على الأرض، فارتفع صراخه: "لا! لا! لم أقصد.. خذه واذهب!"، نقلنا الغالون بكلّ عزّة واحترام إلى دشمتنا، وهيّأنا له مكانًا جيّدًا. وليكون في مأمن من هجمات الآخرين وأطماعهم، كنّا نراقبه مداورةً! أستطيع القول، وبكلّ جرأة، أّنًنا كنّا الوحيدين في مخيّم شهداء خيبر الذين لم يعانوا في إعداد الشاي. في أوضاع المخيّم الصعبة، لطالما رفعت تلك المشاغبات

 

 

153


145

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

عنّا رتابة الأيّام إلى حدّ كبير.

 

إنّ حرّ المنطقة الذي لا يُطاق من جهة، وعدم الانشغال بأيّ شيء سوى التمرينات نفسها من جهة أخرى، حبسنا نحن الخمسة والعشرون نفرًا في دشمة مساحتها (2,5 م * 3,5 م). طوال النهار لا نستطيع الخروج لشدّة الحرّ، وطوال الوقت لا نستطيع التحرّك داخلها. كثيرًا ما زادت الأزمة حين يتساقط التراب من سقف الدشمة على رؤوسنا أو في طعامنا وشرابنا! مع أنًنا وضعنا عليه شراشف النايلون. وللّيل حكاية أخرى أيضًا، فنظرًا لضيق المكان الشديد، كان بعض الإخوة ينامون على حقائبهم الشخصيّة، أو على وسائل التجهيزات، حتّى على الثلّاجة! ولكن معظم الشباب يؤدّون صلاتهم جماعة في مصلّى الكتيبة. أمّا بالنسبة لصلاة الليل فقد بات من الواضح جدًّا أنّه لا مجال لأدائها في الدشمة.

 

ما أثقل الأيّام وهي تمضي ببطء! فإلى متى يستطيع المرء أن يستمر في سرد القصص والأحداث، ويستمع إلى الذكريات ويلعب كرة القدم؟! إضافة إلى ذلك كلّه، كان الحضور الإلزامي في صفوف التمارين، عقابًا فعلًا، وتحمّله أصعب من سائر الأعمال[1]. فمن أجل التخفيف عن أنفسنا رحنا نشاغب أحيانًا كما أطفال المدارس، ونشاكس ونضحك ونقوم بأعمال تضطرّ المدرّب لإخراجنا من حلقة التدريب والتخلّص منّا..! أشار أحد المدرّبين إليّ مرارًا مكرّرًا: "عندما يحضر هذا السيّد في الصفّ، يثير الفوضى!"، وكان يطلب منّي دومًا إمّا أن لا أحضر التدريب،

 

[1] عادةً ما كان يأتي بعد كلّ عمليّة عناصر جدد إلى الكتائب، فكان تدريبهم أمرًا ضروريًّا. أمّا بالنسبة للعناصر القدامى في الجبهة فكان هذا التدريب مكرّرًا ومملًا. لقد كرّرنا التدريبات التي خضعنا لها لأوّل مرّة في "خاصبان" ربما ثلاثين مرّة. كان المدرّبون عندما يروننا يقولون لنا: "إنّنا نخجل من تعليمكم كيفيّة استعمال القنابل والـ(B7) وقد استخدمتموها مئات المرّات". بقيت نفس التدريبات إلزاميّة للعناصر القدامى إلى حين انتقال الفرقة إلى ثكنة "الشهيد باكري" في دزفول حيث اتُخذ القرار بوضع برامج تدريبية لهم تختلف عن تلك الخاصة بالجدد.

 

154


146

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

أو أن أهدأ وأدع الآخرين يسمعون.

 

التدريبات الوحيدة التي حملها حتى العناصر القدامى على محمل الجدّ، كانت الوقاية من السلاح الكيميائي "NPC"، فالاستعداد والتجهّز لمواجهة الهجوم الكيميائي يتطلّب مهارة عالية لا يكفي برأيي لتحققها تكرار الدورة ولو لثلاثين مرة. أحد التمارين في هذه الدورة هو وضع القناع الواقي في ظرف ستّ ثوانٍ، في حال أنّ معظم الإخوة لم يكونوا يستطيعون وضعه في ظرف ستّ دقائق. لم يكن يُسمع همس أحد أثناء تلك التدريبات، فالجميع يتوجّهون بكلّ حواسهم إلى المدرّب. واقعًا، كان من الصعب التحقّق من الهجوم الكيميائي عن طريق حاسّة الشمّ، ثم حبس النفس مباشرةً ووضع القناع في ظرف ستّ ثوانٍ بحيث لا ينفذ الهواء الملوّث إلى الرئتين من أيّ منفذ! ثم يحدّثونا أيضًا حول القنابل الذريّة، وبأنّها تأتي على كلّ شيء ضمن شعاع يتراوح ما بين الـ 60و 100كلم. قلنا لهم عندما سمعنا هذا الكلام: "إذًا ماذا نفعل نحن في هذه الحال؟!"، على الرغم من أنّ المعلومات التي أعطوها عن القنابل مفيدة، إلّا أنّ تصوّرها والتفكير فيها حقًّا أثار رعبنا. توصّلت على امتداد فترة الحرب إلى نتيجة مفادها أنّ القوّات المحاربة في التعبئة والحرس، يخضعون لتدريبات متواصلة ومفيدة، ولهذا صرت أستاء وأتألّم من الأحكام المجحفة لبعض ساكني المدن الذين كانوا يبدون رأيهم فيما يتعلّق بالحرب، ثم يختمون كلامهم بأنّ عدم خبرة قوّات التعبئة والخسائر الكبيرة في صفوفهم، إنّما تعود إلى ضعف التدريب. طوال فترة الحرب، أوجد ضعفنا الإعلامي، تصوير العدوّ عاجزًا، احتلال عناصر التعبئة لتلّة بنداء "الله أكبر"، المعارك البسيطة والخاطفة، صورةً أوّليّة (غير مكتملة) عن الحرب. لكنّ وضع العوائق الكثيرة والمعقّدة جدًّا على امتداد كيلومترات، وحقول الألغام الواسعة، والدشم المثلّثيّة الشكل و.. كانت دليلًا واضحًا على هذا الادعاء، وهو أنّ

 

155

 


147

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

العدوّ، كان أكثر من أيّ شخص آخر على معرفة بقدرة قوّاتنا، ولياقتهم الفكريّة والقتاليّة، وعليه، وضع في الجبهة، بمساعدة داعميه الأجانب، كلّ ما أمكنه من العوائق في طريقنا.

 

من برامج المخيّم، إلى جانب التدريبات العسكريّة، حضور الدروس الدينيّة. واستفاد منها الشباب غالبًا كي يطرحوا المسائل والأحكام الدينيّة عندما يجتمعون في مكان ما. على سبيل المثال، قرأ البعض الصلاة على مسامع الجميع، حتّى إذا ما وُجد فيها إشكال يُحلّ. لم يعيّن هناك شخص محدّد لتصحيح الأخطاء، بل كلّ شخص يعرف معلومة يبادر لذكرها لتحصل الفائدة للجميع. ولكي يكون الإخوة في هذه الجلسات مرتاحين، ولا يخجلوا من الأسئلة التي قد تخطر ببالهم، لزم أن يسود الجمع جوّ حميميّ. لذا، تصدّيت وعبد الحسين أسدي لتقليد كلّ شخص بلهجته وطرح النكات. عادة ما اعتُبِر التكلّم في جمع الحضور بالنسبة للإخوة الترك أمرًا صعبًا، عدا من كان منهم من الطبقة المثقفة أو قارئًا للقرآن، وهم قلّة مقارنة بأعداد المجاهدين. لذا، كنت وأسدي نُضحك الإخوة بلعب كلّ دور نتقنه، فتزول الحواجز بين الإخوة. هكذا لقي مجلس كتيبتنا إقبالًا جيّدًا لدى الإخوة، ومن هناك بدأت قصّة "لوريل وهاردي"[1]. كان أسدي قد لعب سابقًا دورًا في فيلمين، واكتسب معرفة بفنون المسرح. معظم الأوقات، التي استقلينا فيها الحافلة من الأهواز إلى دزفول، كنا ندفع أجرة النقل أوّلًا، وهي تتراوح ما بين الاثني عشر والخمسة عشر تومانًا، وتلافيًا للعطالة والملل طوال


 

[1] "لوريل وهاردي" مسلسل راج كثيرًا في تلك الفترة. يمثل لوريل شخصية النحيل الذي يتميز بالغباء المفرط، أما هاردي فهو البدين الذي يحاول أن يظهر بمظهر الذكي بينما هو ليس بهذه الدرجة من الذكاء، وهما يمثلان في الغالب شخصيتا المواطنين الذين يبحثان عن عمل ويواجهان المشاكل ويعجزان عن إيجاد الحلول السليمة.

 

156


148

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

الطريق لساعتين تقريبًا، يباشر هو بكتابة نصّ مسرحيّ لي وله. كان هو طويل القامة يميل قليلًا إلى السُّمنة، وأنا حينها نحيل جدًّا، فشكّلنا الثنائيّ الكوميديّ السمين والنحيل! وتدريجيا بدانا نقلّد بعض حركات "لوريل وهاردي" وأدوارهما، فناداني "لورل"، وناديته "هاردي". لقد كان عبد الحسين أسدي إنسانًا ودودًا، وهو من أهالي "بندر شرفخانه"[1]، وله أخ استُشهد في الحرب. ورغم أنّه يكبرنا سنًّا، إذ أنّ عمره 35، فقد تحلّى بالتواضع وحسن المعاشرة. والنتيجة، أنّ الإخوة قد حصّلوا تعلّم الصلاة والأحكام في تلك الجلسات، وحصّلت وأسدي على نصيب اسمَي لوريل وهاردي!

 

في تلك الأيّام، نفّذنا مناورات على مستوى عالٍ للإبقاء على جهوزية القوات. كنت أرى أنّ أهمّيّة المناورات لا تقلّ شأنًا عن أهميّة العملية، حيث تُشكَّل فيها بيئة ذات موانع كثيرة، مشابهة لمناطق العمليات الواقعيّة، حقول ألغام، قنوات متعدّدة وعوائق مختلفة. وما جعل العمل في المناورات معقّدًا هو عدم السماح لنا بإطلاق النار، فيما كانت نيران الأسلحة الثقيلة تنهمر علينا، وإن لم نتحرّك في الوقت المحدّد، فمن الممكن أن نتكلّف خسائر في الأرواح مع شروع القصف المدفعي.

 

لديّ مذكّرات عن مناورات كثيرة، لكنّ الأعجب منها كان المناورة التي جرت في مخيّم شهداء خيبر بأمر من قائد فرقتنا "مهدي باكري". فقد زُرعت منطقة بعمق 800 متر بالألغام، وكان ينبغي على فرق الهندسة أن يفتحوا فيها معبرًا. كانت النيران تنهمر على الإخوة بشدّة وبوتيرة واحدة. وبعد حقول الألغام اقتضت المهمة أن نقتحم ساترًا ترابيًّا، يوجد خلفه عدوّ مفترض. وقبل الساتر حُفرت قناة مياه بعمق وعرض ثلاثة أمتار، علينا اجتيازها باستخدام السلالم. شكّل المشي


 


[1] من ضواحي شبستر في محافظة آذربايجان الشرقيّة.

 

157


149

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

على سلالم يتراوح عرضها بين العشرين والثلاثين سنتيمترًا في تلك الظروف عملًا شاقًا بحيث يعاني المرء كثيرًا ليقطع نصفها. فعلًا الأمر صعب، فإذا ما اختلّ توازننا قليلًا سقطنا في القناة. في أثناء المناورات بات يتّضح كم صُرف من جهد على هذا العمل، خاصّة تضحيات شباب المعلومات الذين استطلعوا مواقع الأعداء، وصوّروا دفاعات العدوّ، العوائق والحواجز التي يضعها، والدشم بكلّ تفاصيلها. المعلومات التي كان يجمعها العدوّ عبر طائرات الآواكس، والأقمار الصناعيّة، نحصل عليها نحن بالمقابل من خلال عناصر معلومات العملية هؤلاء، الذين حملوا دماءهم على أكفّهم.

 

إضافة إلى كلّ هذه المسائل، توطدت العلاقة ما بين عناصر الفرقة وقادتها. لقد وقعت لقادتنا منزلة عظيمة في نفوسنا، اعتبرنا أقوالهم وإرشاداتهم بمنزلة أمر واجب الطاعة. ذات يوم، كان من المقرّر أن يأتي "السيّد مهدي" إلى مخيّم شهداء خيبر في زيارة تفقّديّة. انتظمنا جميعًا في صفوف، الكتيبة، السريّة، الفصيل و... حضر قائد الفرقة، ها هو السيّد مهدي يسير أمام قوّات الاقتحام في كتيبته، يتوقّف أحيانًا ويتحدّث إلى العناصر، فيسألهم عن السلاح الذي في أيديهم وعن كيفيّة استعماله، وأحيانًا أخرى يمسك بياقة مجاهد ملويّة فيهندمها بلطف، ومرّة يجثو على ركبتيه ويضيف عقدة أخرى إلى رباط حذاء مجاهد لكونه طويلًا جدًّا. في أيّ مكان من العالم يمكن أن نجد أمثال قادتنا؟! كان يعطينا درسين في آن: درس النّظام والجهوزيّة، ودرس المحبّة والوئام بين أفراد جيش الإسلام. وفي مقابل هذه المحبّة والإخلاص يشتعل استعداد الإخوة للتضحية حتّى بأرواحهم، من أجل تنفيذ أوامر قادتهم.

 

مع اقتراب حلول شهر محرّم، أضافت مجموعات العزاء حماسة

 

 

158


150

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

خاصّة إلى ليالي المخيّم. فعناصر كلّ كتيبة يتوجّهون في مجموعات لطم نحو كتيبة أخرى، لتتلقاهم بالترحاب.

 

أما ليلة عاشوراء في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام فلها صخب خاصّ، في وسط الصحراء، وفي ظلمة الليل وتحت الأنوار الضعيفة لبعض المصابيح، يلطم الإخوة الصدور والرؤوس على وقع ترنيمات رواديد الكتائب، ويجعلون من خلوة الصحراء مستودعًا لدموعهم. هناك تناوب على قراءة المجالس كلّ من محمّد رضا باصر صديق الكلّ ومحبوبهم، وخليل نوبري وهو قائد وقارئ عزاء وأستاذ في الـ"زورخانه"[1]. غالبًا ما انتهت مجالس العزاء واللطم بقراءة دعاء التوسّل، وفي ليالي الجمعة بتلاوة دعاء كميل في مسجد الكتيبة.

 

في فترة من الفترات، سرَت في المخيّم شائعة عن صدور قرار وقف الحرب. لم يكن أحد يملك معلومات صحيحة أو دقيقة، إلّا أنّ هذه الأحاديث انتشرت بسبب سير الحرب والفترات الزمنيّة المتباعدة بين العملية والأخرى. وحينها، قالوا إنّ فريقًا من المراسلين الأجانب قدموا إلى المخيّم، يتراوح عددهم بين الـ40 والـ50 شخصًا، بينهم نساء لم يكنّ يرتدين الحجاب، لذا بقين في السيّارات إلى أن جاؤوا لهن بكوفيّات وضعنها على رؤوسهنّ، ثمّ توجّهن نحو الإخوة. في البداية جرى الحديث بيننا وبينهم عبر مترجم مرافق لهم، لكن سرعان ما تدخّل أحد الإخوة ويُدعى "موسى غفّاري" وكان معلّمًا في اللغة الإنكليزيّة، وشرع بالحوار معهم. التفّ جميع المراسلين حوله وراح هو يجيب عن أسئلتهم بطلاقة، ما زاد من معنويّات الشباب، فأقاموا من جديد حلقات اللطم فيما هؤلاء

 

 


[1] رياضة إيرانيّة قديمة لها أصولها ومكانها الخاصّ الذي تُجرى فيه. ورد تعريف لها في كتاب أولئك 32 فتى.

 

159


151

الفصل السادس: مخيّم شهداء خيبر

يكملون حواراتهم. كانت مراسم عظيمة، الشباب يلطمون الصدور ويرددون المراثي والأشعار، والمراسلون ينظرون إلينا بتعجّب، وكأنّهم قد أتوا ليروا قوّات أصابها الفتور والخمول، وها هي حماسة الإخوة الآن تخالف توقّعاتهم. في نهاية العزاء رحنا نردّد شعارات "الموت لأمريكا، الموت لصدّام، سلام إلى الخميني، حربًا حربًا حتّى النصر"، وبعد ذلك أطلق المعلّم المجاهد فينا عدّة شعارات باللّغة الإنكليزيّة.

 

إنّ الإنجاز الذي حقّقه ذلك الأخ المجاهد وقتها، يوازي من حيث الأهمّيّة السياسيّة تنفيذ عملية. ذلك أنّه أوصل الرسالة وتكلّم عن معنويّات الإخوة ودافعيتهم من دون أيّ تكلف. وبعد ذلك قام المراسلون بتفقّد الدشم والمعاقل، ليتفاجأوا بالجوّ الحميمي بين الإخوة. ففي منطقة تبلغ درجة حرارتها 57 درجة، ومع الإمكانيّات المحدودة في تلك المنطقة الصحراويّة، كان هناك سرّ موجود بيننا، لم يتوقّع المراسلون الأجانب رؤية ملامحه أبدًا.

 

 

160


152

الفصل السابع: موقع زيد

الفصل السابع:
موقع زيد

 

بدأت أخبار العمليات المرتقبة تنتشر في منطقة الجنوب، لقد وجّهت وشُرحت خريطة عمليات موقع زيد، واتُّخذ القرار بإرسال قوّات الاقتحام في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام إلى الخطوط الأماميّة لإطلاعها عن قرب على بعض التفاصيل. أثار خبر التحرّك، الحماسة في المخيّم بعد توقف طويل عن تنفيذ العمليات. جمعنا أغراضنا، سلّمنا اللوازم الشخصيّة كما هي العادة إلى الـ"تعاون" *[1]، ووضعنا اللوازم الضروريّة في حقيبة الظهر. انطلقنا قرابة الظهر بسيّارات التويوتا إلى منطقة زيد، ومن مخفر زيد توجّهنا بالسيّارة نفسها على فترات متباعدة إلى المنطقة الهدف، وما إن وصلنا إليها حتّى استلمنا الخطّ من فرقة أخرى. مرّ اليوم الأوّل من دون أيّ حادث يُذكر، غير أنّه تمّ تعيين الحرّاس وإعطاء التعليمات العامة. في اليوم التالي، وُضّحت لبعض الإخوة تفاصيل المنطقة، بما فيها النقاط الهامّة، والنتوءات والمنافذ التي يمكن للعدوّ أن ينفذ منها و...

 

في الليل، كنّا نحرس المنطقة بالتناوب، لكنّ الشباب لم يكونوا مستعدّين لأن يقوموا بالحراسة إلى جانبي، ذلك لأنّني لم أكن أستطيع البقاء هادئًا من دون مشاكسة العراقيّين والتحرّش بهم. كنت أضع

 

 


[1] * أو"الشؤون" هو المركز الذي يعنى باستلام الأمانات من سلاح وأغراض خاصة بالمقاتلين والشهداء، وأيضًا يؤمّن الخدمات الطبية اللازمة، إضافة إلى تسلّم أجساد الشهداء تمهيدًا لتسليمها إلى أهلها.

 

161


153

الفصل السابع: موقع زيد

خوذة على فوّهة البندقيّة وأرفعها، ليبدأ العراقيّون مباشرةً بإطلاق النيران ناحيتها، ثم أغيّر مكاني وأعيد رفعها ليبدأوا من جديد بإطلاق النيران عليها. تعب "علي فغاني" من تصرّفاتي، وكان يقول لي: "سيّد! في النهاية، أنت بأعمالك هذه تقتصّ منّي أنا!".

 

كنت أؤمن بأنّه لا ينبغي لنا أن ندع العراقيّين يرتاحون. بعد ساعة، وعندما نشعر بأنّهم أُنهكوا تمامًا، نرمي عليهم قليلًا حتّى نستكمل إزعاجنا لهم! بالطبع، مكّنتنا هذه المناوشات من معرفة مواقع أسلحة الأعداء، خاصّة مكان تموضع الدوشكا، والثنائي، والمدفعيّة، كما إنّ ردّ العدوّ كان يكشف حتّى موقع دشمة الحراسة، وكان هذا أمرًا مفيدًا.

 

لم تتعدّ المسافة التي تفصلنا في منطقة زيد عن خطّ العدوّ الأوّل الكيلومتر الواحد. لذا تعذّر جمع القوّات في مكان خاصّ، ومع هذا لم نترك أيّامنا تمضي من دون مرح ومزاح. غالبًا ما كنّا نشاكس العراقيّين، فمثلًا عندما أريد الذهاب إلى المرحاض، أمرّ من فوق الساتر الترابي، فيرمون في تلك الأثناء، وإلى أن أصل إلى المرحاض، عدّة قذائف! وبسبب تلك الأعمال، لم يكن أحد مستعدًّا للخروج معي من الدشمة. أمّا مساحة الدشمة الداخلية فكانت ضيّقة بحيث لو ضغطونا جميعًا فيه كالفواكه المعلبة لما اتّسعت لأكثر من ستّة أشخاص. هذا وكانت الدشم التي بنيت على شكل حُفَر ووُضعت الألواح الخشبيّة والعوارض على سطحها، تبقى سليمة حتّى لو سقطت عليها قذيفة هاون 60 ملم. وفي تلك الأيّام الخمسة التي قضيناها هناك، سقطت قذيفة على سطح دشمتنا، فانهارت إلّا أنّ أحدًا لم يُصب بأذىً.

 

امتاز حَفْرُ الأقنية بأنّه العمل الأهمّ في منطقة العملية. كنّا نبدأ بالحفر

 

162

 


154

الفصل السابع: موقع زيد

من وراء ساترنا الترابي، ونضع تحته أنابيب ضخمة يمكن للأفراد العبور من خلالها. وحيث إنّه لا يمكن للقوّات ليلة الهجوم التوجّه إلى منطقة العملية من أعلى الساتر، فقد امتدّت القنوات من الجهة الأخرى للساتر نحو الخطّ الأمامي للعدوّ. تمّ حفر ما يقارب الثماني قنوات من خطّنا حتى خطّ العدوّ، وأوكلوا إلينا مهمّة حفر القناة السادسة. وصرنا نذهب بالتناوب لحفرها على مدى ثلاثة أو أربعة أيّام بنهاراتها ولياليها. كانت القناة قليلة العرض، حوالي الـ35سم، أمّا عمقها فيبلغ 1,5م، أي إذا أراد شخص السير داخلها فعليه أن يسير منحنيًا، وبسبب قلّة عرضها، كان عليه الهرولة بنحوٍ جانبي. والسبب في جعل القناة قليلة العرض هو التقليل من إمكانيّة سقوط القذائف فيها. تتفرّع من كلّ قناة عدّة قنوات صغيرة، بحيث إذا ما قوبل أحد أثناء السير فيها بشخص آخر، يمكن لأحدهما الدخول في القنوات الفرعية، ثمّ يكمل مسيره بعد عبور ذلك الشخص. بدا أنّ العدّو كان يعلم بالتحرّكات الجارية في منطقة العملية، وبأنّ القوّات الإيرانيّة باشرت العمل بحفر القنوات، لكنّه لم يتمكن من تحديد مكانها، لأنّنا دأبنا على رمي التراب الناجم عن حفر الأرض خلف ساترنا الترابي، فتعذر عليه رؤية شيء واضح من البعيد.

 

بلغ طول القناة السادسة حوالي الـ120 م. وقد أنجز التصميم بحيث تتّجه كلّ القنوات الأساسيّة نحو قنوات العدوّ. أمّا الفرعيّة فكانت بمنزلة شِعَب إلى جانب هذه القنوات، يمكن لكلّ مجموعة التوجه منها نحو محورها.

 

كانت منطقة غير عاديّة. سهلٌ واسع، تشكّل فيه سواتر العدو الترابيّة المثلّثيّة الشكل التي صمّمها الإسرائيليّون وضعيةً خطيرة بالنسبة لنا. فإذا ما سقط ضلع من تلك السواتر، أمكن للساترين الآخرين حماية القوّات فورًا، والوقوف أمام تقدّمنا. لذا، فقد طُرحت فكرة إحداث القنوات لتجنّب المواجهة المباشرة لهذه السواتر، إذ كنّا نستطيع من

 

 

163

 


155

الفصل السابع: موقع زيد

خلالها الاقتراب من سواتر الخطّ الأمامي للعدوّ بأقلّ خسائر ممكنة. كان أمامنا عملية صعبة، وفي الوقت نفسه، يبدو أنّ العدوّ كان يفكّر في خطّة لمواجهة فكرة القنوات، فوضع في المكان الكثير من الأسلاك الشائكة المعقّدة، وربطها بالحبال، حتّى إذا ما تقدّمنا، سحب تلك الحبال لتسقط الأسلاك الشائكة داخل قناته، وتسدّ علينا طريقنا. الحلّ الوحيد بالنسبة لنا كان السرعة في العمل.

 

كنّا نذهب كلّ يوم لحفر القناة، وأحيانًا نواصل العمل في الليل. حيث يسهل أكثر من النهار، إذ كان العدو يمطر المنطقة بوابل من نيران رشّاشاته، أو يرمي القذائف بمجرّد رؤيته لخوذة تلمع تحت نور الشمس. أمّا في الليل فلم نكن نواجه مثل هذه المشكلة.

 

ذات يوم، ذهب أحد عناصر المعلومات إلى إحدى القنوات لشرح الخريطة، فسقطت قذيفة هناك أدت إلى استشهاد جميع من كان في القناة. ومع أنّه نادرًا ما كانت تسقط القذائف في القنوات، إلّا أنّ هذا الحادث كشف بأنّها لم تشكّل الحلّ الأمثل لجميع المشاكل.

 

كان من المفترض قبل يوم أو يومين من بدء العملية، أن يأتي مسؤولو السرايا، والفصائل، ومعاونوهم إلى الخطوط الأماميّة ليطّلعوا عن كثب على التفاصيل اللازمة، وهذا ما حصل، وأُعطي كلٌّ منهم - بالاستعانة بمنظار الكاتيوشا - التعليمات اللازمة بما يتناسب مع مهمة عناصره. في اليوم التالي، ذهبت بعد صلاة الصبح في الموعد المحدّد وبدأت أراقب عبر منظار الكاتيوشا ما يفعله العراقيّون. حينذاك، كانت الشمس تشرق من جهتنا، فتعذرّت عليهم رؤيتنا بشكل واضح، بينما كنّا نرى مواقعهم بكلّ سهولة. وهو أمر مهمّ بالنسبة إلينا أنّ نراقب ماذا يحدث هناك، خاصّة في تلك الليلة المقرّرة لبداية تنفيذ العملية. لمحت شيئًا غير عاديّ، شيئًا يلمع، لم أكن قد رأيت مثله إلى حينها. دقّقت النظر، إلى أن

 

 

164


156

الفصل السابع: موقع زيد

تأكّدت أنّ ما أراه حتمًا ماء! ذهبت بسرعة أبحث عن "حسين كربلائي" الذي كان مسؤول المحور، وأخبرته بالأمر. ذهب وألقى نظرة، ومباشرةً أطلع المقرّ بالأمر. تبيّن أنّ العراقيّين عزموا على غمر المنطقة بالماء. جاء الإخوة من المقرّ أيضًا، وألقوا نظرة، ليصدروا الأوامر بعدها، بنقل كلّ ما وضع داخل القنوات إلى خارجها بأسرع وقت ممكن، ومنها بعض الرفوش والمعاول والأهمّ من ذلك كلّه، الذخائر المهيّأة ومن المفترض استخدامها في العملية. باشرنا العمل فورًا، وأخرجناها من القنوات. استغرق ذلك ساعةً من الوقت. في نهاية الأمر، بدأت المياه تصل شيئًا فشيئًا إلى قنواتنا، وملأتها بالكامل! كان من الواضح أنّه تمّ اكتشاف أمر العملية[1]. استمرّ جريان المياه، فباشرنا العمل للحؤول دون وصولها إلى ما وراء سواترنا الترابيّة. وبتعاون الجميع، تمّ سدّ الأنابيب الضخمة التي وضعناها تحت سواترنا الترابيّة كمدخل للقناة، بأكياس الرمل، ليتوقّف جريان الماء خلف السواتر.

 

قرابة الثانية من بعد الظهر، جاءتنا الأوامر بالانسحاب. لم يكن إلى جانب القوّات الأصفهانيّة من فرقة عاشوراء في منطقة العملية سوى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، والمفروض أن تعود إلى مخيّم شهداء خيبر وتسلّم الخطّ إلى كتيبة أخرى. وفي تلك الأثناء، سقطت قذيفة مدفعيّة وسط الإخوة، فجُرح بعضهم، بمن فيهم المسعفون. إلى ذلك الوقت لم أكن قد تناولت شيئًا من الطعام ما أشعرني بجوع وعطش شديدين. ركبنا سيّارة التويوتا وهي على وشك التلاشي بفعل الرصاص والشظايا والحفر والفجوات في الجبهة، لذا أطلق عليها الإخوة اسم "داشقا"[2]. ظهرت من الجهة الأخرى سيّارة تجهيزات تابعة لفرقة أصفهان، وزّعت


 


[1] يبدو أنّ العراقيّين بدأوا قبل عدّة أيّام ضخّ المياه من قناة السمك إلى منطقة العملية. إذ لا يمكن في ظرف يوم واحد ضخّ ذلك المقدار الهائل من المياه إلى المنطقة.

[2] بالتركيّة وتعني عربة نقل البضائع التي تجرّها الحمير أو البغال.

 

165


157

الفصل السابع: موقع زيد

الخبز والأرزّ والبطّيخ على الإخوة. وبينما دارت التويوتا، أردت أن آخذ من سيّارة التجهيزات بطيخة، لكنّها انطلقت مسرعة وكدت أسقط أرضًا، فالتقطني الإخوة وجذبوني إلى داخلها بعناء، فيما كنت أمسك بالبطّيخة بكلّ ما أوتيت من قوّة! راح الإخوة يصيحون بي: "دع البطّيخة، أنت تكاد تقع على الأرض!"، وعندما استقررنا في أماكننا داخل السيّارة، أسعفتنا البطيخة وخفّفت من عطشنا قليلًا.

 

عندما وصلنا إلى موقع زيد، انتقلنا بواسطة سيّارات أخرى إلى مخيّم شهداء خيبر. ولم يكن أحد هناك قد علم بعد بأمر انكشاف العملية، فصار كلّ من يرانا يسأل: "لِم عدتم؟".

 

كان خبر انكشاف العملية ينتشر بين الإخوة ولا أحد يصدّق بذلك. واستولى القلق علينا جميعًا ممّا سيحدث. بعد يومين أو ثلاثة، جاء الأخ "مهدي باكري" وخطب في جمع الإخوة.

 

الجميع أحبّوه من أعماق قلوبهم، وكانت كلماته كعادتها تستقرّ في أرواحنا وعقولنا. وفيما شرع الأخ مهدي يتكلّم عن الاستعداد للعملية القادمة، وعن انكشاف أمر العملية، علا صوت الإخوة بالبكاء. فكلّنا يعرف حجم الجهد الذي يُبذل للتخطيط للعملية ولتنفيذها. كما إنّ عناصر الكتائب يقضون أشهرًا من التدريب ويعيشون ظروفًا قاسية لبلوغ مرحلة التنفيذ. وفي تلك الظروف وقع خبر انكشاف أمر العملية وقعًا كارثيًّا بالنسبة للكلّ. في نهاية كلامه، قال الأخ مهدي: "فلتذهبوا الآن في إجازة لخمسة عشر يومًا، وحين تعودون، سننتقل بإذنه تعالى من مخيّم شهداء خيبر إلى منطقة أخرى".

 

أثّرت بي هذه الحادثة كثيرًا، وبقيت لفترات أفكّر في انكشاف أمر هذه العملية. رحت أحلّل أنّنا لم نعمل بشكل جيّد على حماية المعلومات، وكان يمكن للقوّات الموجودة في مختلف المناطق الجنوبيّة والغربيّة، أن تخمّن بسهولة، من خلال الدورات التي تخضع لها، أين ستكون العملية

 

 

166

 


158

الفصل السابع: موقع زيد

القادمة. وليس بعيدًا أيضًا، أن يكون البعض من بين آلاف الأشخاص الذين يهاتفون ذويهم قبل العملية، قد تحدّثوا إليهم أو إلى أصحابهم عن حدسهم وتخمينهم فيما يتعلّق بالمنطقة التي ستجري فيها العملية. وقد قيل لنا أيضًا، إنّ العدوّ بإمكانه من خلال وسائله المتطوّرة التنصّت على مكالماتنا، هذا عدا عن الطابور الخامس الذي لطالما كان فعّالًا، ويوصل أدنى المعلومات للعدوّ. وعلى أيّ حال، لازمتنا مرارة انكشاف أمر العملية مدّة من الزمن.

 

تجهّزنا جميعًا للعودة. توجّهنا نحو محطّة القطار، وركبنا القطار في ظلّ ازدحام القوّات الخانق. ومع أنّ بعض العناصر كانوا يركبون الحافلات حين عودتهم، إلّا أنّ إعطاء الإجازات لفرق أخرى أدّى إلى حدوث فوضى وازدحام في المحطّة تحديدًا. انطلقت الرحلة والكلّ يسعى لأن يكون مع أصدقائه في نفس المقصورة. كانت مجموعتنا معروفة أيضًا، وهم جماعة "المشاغبة" في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، "عبد الحسين أسدي، علي نمكي، فرج قليزاده، مصطفى بيشقدم[1]، بابا و..."، في تلك الأيّام، راح " بابا" وهو صاحب قريحة شعريّة، يلقي على مسامع الإخوة أشعارًا جميلة، صارت تُتناقل على الألسنة. وقد بدأ بـ"مصطفى بيشقدم" وهو عنصر حرّ، ولكونه داكن البشرة، فقد وصفه "بابا" في بيتين ضمن قصيدة شعريّة طويلة كان يلقيها على الإخوة:

بو كورداندا كزر آزاده بير شخص

سياهي دان قارا جايدانه بنزر![2]

 

 


[1] فيما بعد أصبح مصطفى بيشقدم مسؤول السرية بدلًا عن صمد زبردست، فيما كان قائدًا لكتيبة الإمام الحسين عليه السلام حين استشهد في عملية (كربلاء5).

[2] للأسف لا أذكر كلّ أشعار بابا. كان بابا (السيّد علي أكبر مرتضوي) من الرجال الأشاوس في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، وقد أظهر ذلك جيّدًا ليلة شهادته في عملية بدر. الترجمة الفارسيّة للمقطع: يجول في هذه الكتيبة طيف (رجل) حرّ، من شدّة سواده يشبه إبريق الشاي!

 

167


159

الفصل السابع: موقع زيد

طوال الطريق عمّت الجلبة أغلب المقصورات والصالة. فلم نتورّع في ظلمة الليل عن أن نهجم على المقصورة المجاورة، ونطفئ المصابيح ونشرع بضرب بعضنا البعض، كان اجتماعنا ممتعًا جدًّا. لم ندع أيّ فرصة للقيام بالشغب. أمّا الطعام الذي قُدّم لنا، فهو ساندويشات الهمبرغر مع المرطّبات، وبدت قطعة اللحم كالمطّاط، فأسماها الإخوة "تاير"[1]، كثيرون انزعجوا من أكلها. ورغم ما وجدناه من صعوبة مضغ هذا الطعام، إلّا أنّنا وبهدف الشغب أخذناه مجدّدًا. كانت الأيّام تمضي مع هذه المجموعة بعذوبة ولطف.

 

أخيرًا، وصلنا إلى تبريز. لكنْ، قبل توقّف القطار راح شباب تبريز يخبرون بعضهم البعض بمواعيد جلسات مقرّات المساجد: ليلة الثلاثاء في محلّة سيلاب، الثلاثاء في مسجد كزران و...

 

أمضينا أوقاتًا سعيدة في فترة الإجازة وبقينا على تواصل مع شباب الجبهة. حافظ شباب الجبهة القدماء على هذه العلاقة فبقي الشباب معًا في المدينة وصار المسجد مضافة لجموع التعبويين الطاهرين. المساجد الرائدة في هذا العمل كانت تستقبل أحيانًا عناصر كتيبة بأكملها لتناول طعام العشاء، والأهالي أحيانًا يشاركون في تنظيم هذه الدعوات، وسُفر الطعام التي يلتفّ حولها الإخوة تنقل المرء إلى أجواء الجبهة.

 

ذات ليلة، كان الموعد في مسجد مخفر شارع عبّاسي. دعاني كريم قرباني- وهو من أعضاء المقرّ هناك- وقال لي: "أنا أوصلك الليلة إلى حيث تريد". جرت العادة أن تُقام بعد تناول العشاء مجالس العزاء واللطم، وبعد انتهاء المراسم ينسّق كلّ شخص مع صديق يملك سيّارة أو درّاجة ناريّة، ليقلّه إلى منزله، وذلك كي لا يواجه مشكلة في إيجاد وسيلة نقل. في تلك الليلة أيضًا، مُدّت الموائد، وبعد تناول الطعام الجيّد الذي


 


[1] الإطار المطّاطي الذي يلفّ الدولاب.

 

168


160

الفصل السابع: موقع زيد

عمل الأهالي والإخوة في المسجد على إعداده، أُقيم مجلس عزاء، ومن ثمّ أُعلن عن زمان المجلس اللاحق ومكانه. في تلك الليلة، أشرت لكريم مرّات عدّة بأنّني قد تأخّرت وأريد الانصراف، لكنّه ظل يقول: "لا! أنا أوصلك". أخيرًا، استعار درّاجةً ناريّة من أحد الأصدقاء ليوصلني. وكنت حينها أنوي الذهاب إلى بيت أخي في شارع بهار، الذي يبعد مسافةً طويلة نسبيًّا عن تلك المحلّة. انطلق كريم، وسار مسرعًا. حتمًا لم أخف من سرعته، رغم احتمال أن تؤثّر على وضع كلينا الصحي، ذلك أنّه هو أيضًا، كان قد فقد إحدى عينيه جرّاء إصابته بشظيّة. تجاوزت الساعة الثانية عشرة ليلًا، ونحن نسير في الطرقات مسرعين. قلت له عدّة مرّات: "لا تسرع يا صاح! ماذا ستفعل إن فوجئت بسيّارة على مفترق طرق؟".

- لا تقلق! فقط أعلمني قبل أن أصل إلى مفترق طريق بمئة متر، لأخفّف من سرعتي!

 

ذكّرته في أوّل شارع البازار بأنّنا نقترب من مفترق طرق، ليخفّف من سرعته، ولكنّه بقي مسرعًا! وعبَر مفترقين أو ثلاثة بالسرعة ذاتها. فصحت فيه: "توقّف! توقّف! لديّ عمل!".

- ماذا لديك؟

- كفى، أريد الترجلّ!

- كيف ستذهب سيرًا... قلت لك قل لي قبل أن نصل إلى مفترق الطرق بمئة متر لأخفّف من سرعتي!

- لقد عبرنا مفترقي طرق!

- لم أرَ شيئًا!

 

المسكين كان محقًّا. استشطت غضبًا وقلت له: "لقد قلت لك، أمامنا مئة متر...! وأنّى لك أن ترى يا فتى!". بلطف الله أوصلني كريم قرباني تلك الليلة سالمًا إلى منزل أخي، لكن منذ ذلك الحين،

 

169


161

الفصل السابع: موقع زيد

ولفترة طويلة، صرت كلّما ألتقي به أقول: "كريم! بقي أمامنا مئة متر!".

 

مع أنّني كنت أحبّ اجتماع الشباب، إّلا أنّني لم أكن أستطيع الخروج من القرية كلّ يوم، وإرباك شخص ما بإرجاعي، لذا صرت أقضي معظم أوقاتي مع الإخوة في مركز القرية. في تلك الفترة طُرح بين الشباب الذين سبق والتحقوا بالجبهة برنامج باسم "أصغر قصّاب"، لأنّهم استوحوا فكرة هذا البرنامج من كلماته، "كلّ شخص يرجع إلى الخطوط الخلفية، عليه أن يحضر معه ثلاثة أشخاص بالحدّ الأدنى إلى الجبهة". وقد عمل الإخوة على هذا الأمر كثيرًا. وحيث إنّ الإعلانات التلفزيونيّة لم تكن مباشرة، فلم تُنشر أحداث الجبهة بنحو صحيح أحيانًا. كنّا نتحدّث بين شباب المقرّ عن الجبهة، العدوّ، قوّاتنا، أوامر الإمام وكلماته، مشاكل الحرب، وضرورة التحاق العناصر بها: "يا أخي! قد يستطيع البعض البقاء في الجبهة لمدّة من الزمن. لكم من الوقت أستطيع أنا البقاء في الجبهة؟ قد أُصاب بالنهاية، أو أستشهد، فيبقى مكاني خاليًا، عليكم أنتم سدّ الفراغ الذي يتركه الشهداء...". كنّا نلقي مثل هذا الكلام على مسامع الإخوة لمرّات. لسنا من أهل الموعظة، لكنّنا أدركنا بأنّ الحديث عن وقائع الحرب بنحو عفوي صادق يترك أثره. توافرت في قريتنا خلجان، وهي القرية الأكبر في المنطقة، ويتراوح عدد سكّانها ما بين السبعة والثمانية آلاف نسمة، عدّة مراكز نشطة. ضم مركزنا قرابة الثمانين عنصرًا التحق معظمهم بالجبهة. وقرّرت لشباب المركز أنشطة أخرى. فعلى سبيل المثال، يقومون بالحراسة الليليّة في القرية، فلا تجد تلك الليالي في المنطقة لصًّا أو من يرتكب عملًا مخالفًا للقانون، لكن أحيانًا، تصلنا أخبار بأنّ البعض يشربون الكحول في البستان الفلاني. وحيث إنّ معظم الإخوة تدرّبوا في الجبهة،

 

170

 


162

الفصل السابع: موقع زيد

فقد كان بإمكانهم الذهاب إلى تلك الأمكنة بسهولة، والتصدي للأعمال المنكرة. مثل هذه المبادرات والرعاية التي قدّمناها أثّرت جدًّا في الجوّ العامّ للقرية، ولطالما تعاون الناس معنا أيضًا.

 

على امتداد أسبوعَيْ الإجازة خصّصنا ليلتين أو ثلاثًا لبرامج القتال الليلي. نظرًا لأنّ قريتنا ذات طبيعة جبليّة، ولأنّني ماهر في المعارك الجبليّة، رحت في البدء أرسم على لوح أسود خريطة تبيّن موقعنا وموقع العدوّ المفترض، وأرشد الإخوة إلى الطريق الذي ينبغي سلوكه: "لا تسيروا إلى الأمام مباشرةً، فذلك يوصل إلى الأعداء. عليكم أن تعبروا المنحدرات والأودية. والعدوّ أيضًا لن يدعكم تجتازون هذه الأماكن بسهولة، وهو حتمًا قد فخّخ المنحدرات...".

 

فكنّا ننقل تجربتنا عبر تسلّق هذه الجبال، فيما أدلّ الإخوة على الأماكن التي يمكن أن تُزرع فيها الألغام المضادّة للأفراد، والمضادّة للدروع، والمضادّة للآليّات. لقد سعينا في تسلّق الجبال لإيجاد النقاط العمياء التي تكون في مأمن من مرمى نيران العدوّ المفترض، أو الأماكن التي يمكن أن تكون خالية من العوائق.

 

كان الحرس قد نظّموا، من قبل، دورات عسكرية لشباب المركز، وتوافرت مع الجميع بطاقات عسكرية. لذا عندما كان هؤلاء يلتحقون بالجهة لم يكونوا قوات خام*[1]، بل كانوا مطّلعين إجمالًا على أوضاع الجبهة. كنّا بعد كلّ إجازة نأخذ معنا بعض هؤلاء العناصر إلى الكتيبة. وقد سمحت الفرقة أن يُحضِر الشخص إلى كتيبته الأفراد الذين يستقطبهم. بالطبع، كان يتمّ فرز هؤلاء لاحقًا، بعد أن يتعوّدوا على الأجواء، وقد يتمّ نقلهم إلى كتيبة أخرى. وأحيانًا تُشكّل كتيبة جديدة

 


[1] عبّروا عنها: قوات صفر كلم.

 

171


163

الفصل السابع: موقع زيد

من العناصر الجدد الملتحقين بالجبهة. لأنّه من غير الممكن للكتيبة التي تتألّف من 300 عنصر أن يضيفوا إليها أفرادًا ليصبح عديدها 600 عنصر. لكنّنا بعد هذا الفصل، لم نكن نترك الإخوة الجدد، وكنّا نتفقّدهم من وقت لآخر.

 

وعليه، حفلت أيّام الإجازة بالعمل. عدا عن ذلك، كان لدينا برامج ليليّة. وهي زيارة جرحى الحرب في تبريز أو في قريتنا، وزيارة عوائل الشهداء، فرحنا كلّ ليلة نزور عائلتي شهيدين بالحدّ الأدنى. كانت تلك الزيارات تمدّنا، كما أهالي الشهداء، بالمعنويّات، كانت علاقتنا بهم حميميّة وودية إلى درجة أصبحوايعاملوننا كأولادهم، ويستضيفوننا من دون مجاملة على العشاء، وقد دُعينا لمرّات لتناول الفول: "تفضّلوا، لقد وضعنا الفول على النار!" ، فكنّا نجلس من دون أيّ تكلف، ونتكلّم عن الجبهة، والمجاهدين، وذكرياتنا مع الشهداء، وأنّ عشرات الأشخاص سيملأون الفراغ الذي تركه الشهداء، فنستمدّ بذلك منهم العزم ونمدّهم بالمعنويّات.

 

على الرغم من حقي في الإجازة، إلّا أنّني كنت أنشغل كثيرًا بحيث تأتي أمّي أحيانًا إلى المقرّ وتقول للشباب: "يا عم! بالحدّ الأدنى، دعوا نور الدين يعود إلى منزله ليلًا لينام!". المسكينة كانت دومًا تشتكي. فطوال فترة الإجازة هذه لم أتناول الطعام في البيت لأكثر من مرتين أو ثلاث. كنت أقول لها: "ليطمئنّ بالك، فهؤلاء الذين أخرج معهم شباب جيّدون"، فتجيبني: "أعلم، لكن فلتأتِ أيضًا إلى منزلك!". كانت أمّي محقّة في قولها. أحيانًا كنت أعود عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، في الوقت الذي يقفل فيه جميع الأهالي الأبواب بالجنازير بين العاشرة والحادية عشرة ليلًا. إضافة إلى ذلك، بقيت الإجازة موعدًا ثابتًا لمتابعة علاج جراحاتي التي كُتب عليّ أن تلازمني إلى الأبد!

 

 

172

 


164

الفصل السابع: موقع زيد

أصبحت طريقة وجودي في المنزل عاديّةً بالنسبة للجميع، سوى أمّي التي ترغب ببقائي فيه مدّة أطول، ولم أكن أستطيع ذلك. وعندما يحين وقت الذهاب إلى الجبهة، كانت الوحيدة التي تأتي لتوديعي. لربّما ازداد قلقها عليّ بعد شهادة صادق. كانت تقول لي: "حذارِ أن تعود هذه المرّة وقد أَصابك مكروه و...".

- لا! لن يصيبني شيء. قد أُصاب بجروح. سأهاتفك قبل ذلك أيضًا!

 

كانت قصّة عجيبة، إذ كان يخطر ببالي دائمًا قبل أن أُصاب بإصابة ما، بأنّ شيئًا ما سيحدث، وكنت أعلم بأنّني لم أصل بعد إلى الدرجة التي يقبلني الله فيها بالكامل. بعد مضيّ أربع سنوات على الحرب، صرتُ خبيرًا في تحديد من سيلتحق بقافلة الشهداء. ليس فقط في الجبهة والعمليات، بل حتّى عند لحظة الانطلاق، حيث يبدو واضحًا من الذي يودّع الوداع الأخير، من طريقة توديعهم، ونظرات أمّهاتهم، و...

 

كانت أمّي تقول: "عندما ركب صادق القطار، علمت بأنّه لن يعود! وكأنّ "صادق" أيضًا كان يعلم شيئًا ما، لأنّه صار يعود بين الفينة والأخرى، ينظر إليّ، ويودّعني من جديد". أحيانًا تبادلت الحديث وأمّي عن صادق، وكيف تغيّرت أحواله قبل شهادته بمدّة، فكان يسعى لأن يكون طعامه كطعام الفرقة، حيث كنّا أحيانًا، نعاني نقصًا في الطعام، وكان الشباب لرفع جوعهم، يأكلون فتات الخبز اليابس الذي لا ينظر المرء إليه في المدينة ولو بقي مئة يوم من دون طعام. وأخبرتنا والدتي: "طوال العشرة أيّام التي كان فيها صادق في إجازة، لم أستفق ليلةً إلّا ووجدته يصلّي صلاة الليل". أساسًا، العقل يقول إنّ المسافة بين الأرض وأمثال صادق تزداد شيئًا فشيئًا!".

 

على هذه الحال انتهت إجازتي، وعدت بالقطار إلى الجبهة. المنطقة التي أصبحت في زمن الحرب وطننا الحقيقي.

 

 

173

 


165

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

الفصل الثامن:

الحياة في الحرب

 

 

بقينا عدّة أيّام في "مخيّم شهداء خيبر" إلى أن بدأت عمليّة نقل الفرقة إلى منطقة جديدة، وبدأ المخيّم يخلو تدريجيًّا من العناصر. كانت كتيبة الإمام الحسين عليه السلام أوّل كتيبة تنتقل إلى المنطقة الجديدة أي "دوكوهه"، وهي منطقة جبليّة تقع بالقرب من طريق عام أنديمشك ـ دزفول. شُقّت في مقابل ثكنة للجيش تمامًا ـ والتي كانت مقرًّا لفرقة "27محمّد رسول الله" طريقٌ تؤدي إلى المقرّ المؤقّت لفرقة "31عاشوراء".

 

تمتاز هذه المنطقة بخصائص عدّة، من ضمنها طبيعتها الجبليّة التي تحدّ من إمكانيّة استهدافها بالقصف الجوّي وعدد الخسائر الناجمة عنه. كما إنّ دفاعات الجيش الثكنة كانت قويّة، فبتنا ننعم بالهدوء بالقرب منها ونطمئن لناحية عدم تعرضنا للقصف. كان الهدف الأساسي في "دوكوهه" هو إبقاء القوات في حال الجهوزية لتنتقل الكتيبة إلى منطقة العملية القادمة بمجرد تحديد مكانها.

 

بعد ثلاثة أو أربعة أيّام قضيناها في نصب الخيام وبعد أن استقرّت الكتائب، انطلقت البرامج كما هي العادة. تفتتح المراسم الصباحية دومًا بتلاوة آيات من القرآن الكريم وتفسيرها، ثم يتحدّث قائد الكتيبة إذا ما كان لديه شيء يقوله قبل تسلّق الجبال. وأحيانًا، يُختتم البرنامج بأداء بعض حركات الليونة، لتبدأ التدريبات بعد تناول الفطور.

 

174

 


166

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

في تسلّق الجبال، كلّ فصيل كان يذهب في اتّجاه معيّن، ذلك أنّ تحرك كتيبة*[1] بأكملها أو حتّى سريّة على شكل طابور، أمسى أمرًا مشكلًا ويستغرق وقتًا. يطلق الإخوة عند تسلّقهم الجبل شعارات تتردّد أصداؤها في أعماق الجبال، شعارات تبثّ فينا المعنويّات، وتُفرح الجميع، وغالبًا ما كانت عبارة عن تلك الأناشيد القديمة والمعروفة في كردستان. أحيانًا، كنت أحدّثهم عن تجربة شهور من المعارك في جبال كردستان، عن مميّزات الحرب في المناطق الجبلية ومعرفة العدوّ بالمنحدرات والمعابر المناسبة في الجبال، وأنّهم يضعون حتمًا الموانع والعوائق، وعلى العنصر الجيّد إيجاد الطرق الفرعيّة بسرعة. وأشدد على ضرورة أن يصبح العناصر ماهرين في تسلّق الصخور والتحرك في المنحدرات، بحيث يستطيعون اتّخاذ القرار بسرعة وإيجاد المنافذ.

 

بقينا في "دوكوهه" ما يقارب الشهرين. وفي تلك الفترة استمرّت المراسم الصباحيّة والأدعية ومجالس العزاء التي نقيمها بحلة رائعة تبعث الطمأنينة في النفوس. أحيانًا، ينبري عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلاملتناول الفطور وحدهم، من دون أن تخلو جلساتهم هذه من الشغب والمزاح، كمغافلة أحدهم للجالس إلى جنبه، ووضع الملح في فنجان الشاي خاصّته، ومراقبة وجهه وهو يشرب الشاي المالح والحلو في آن!

 

مع احتمالات قيام العدو باستخدام السلاح الكيميائي في العملية القادمة، باتوا يركّزون في التدريبات اليوميّة بشكل كبير على كيفية مواجهة هذا السلاح، وإلى جانب تكرار الدروس السابقة، صار التدريب هذه المرة عمليًّا. فأحيانًا يلقون القنابل المسيلة للدموع، ويتوجب علينا وضع القناع في ظرف 6 أو 8 ثوانٍ، ونحن ملزمون بوضعه لمدة ساعة أو


 


[1] تسلسل التشكيلات: فرقة/كتيبة/سرية/فصيلة أو فصيل/مجموعة/عنصر.

 

175


167

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

ساعتين، الأمر الذي يصعب تحمّله لأنّ التنفّس مع القناع مختلف كليًّا عن التنفّس الطبيعي. الهدف من هذه التدريبات كان تعويد القوّات على الوضعيّة، كيف يتابعون أعمالهم والقناع على وجوههم في الوقت عينه. وحتمًا، تميّزت كلّ هذه البرامج بجانب تمويهي لحماية المعلومات حول العملية القادمة، لأنّ العناصر يلاحظون من خلال نوعيّة التدريبات والتمارين، ويخمّنون أين ستكون العملية التالية، في منطقة سهليّة، أم جبليّة، أو مائيّة؟!

 

أقيمت وتعدّدت هناك أصعب المناورات أيضًا، ذلك أنّ طريقة الحركة تختلف في السهول عنها في الجبال. ففي السهل يمكن قطع مسافة كبيرة عدوًا وبسرعة، أمّا في الجبال فكنّا نُصاب بضيق التنفّس بعد قطع 20 إلى 30 مترًا، حيث لا يمكن للأفراد السير بشكل متوازٍ، وإنّما في طابور، وهذا ما كان يصعّب المناورات الجبليّة. وبحكم خبرتي السابقة في حرب المناطق الجبليّة في كردستان، التفتُّ إلى أنّ الإخوة في المناورات الحيّة، ربّضوا المدفعيّة بنحو متقن وجيّد كما في العملية الحقيقيّة. كنّا في إحدى المناورات، نجتاز في عتمة الليل منحدرًا يجري نهر تحته بسبعة أو ثمانية أمتار. وهناك، طلبوا أن يتمدّد عدد من العناصر على الحمّالات ليتدرب الشباب على نقل المصابين في الظروف الطارئة. وبينما مشينا لنجتاز ذلك المنحدر، بدأ وابل الرصاص ينهمر علينا، فاستتر بعض الإخوة خلف الصخور وانبطح آخرون أرضًا اتّقاءً للرصاص. وهنا، انزلقت قدمي ورحت أنحدر إلى الأسفل! كان الوضع سيّئًا، لم أدرِ إلى متى سأبقى أنزلق، ولم أستطع التمسّك بشيء حتى ارتطمت بعد وقتٍ بالأرض فعليًّا... لكن من حسن الحظّ، وقعت على الرمال، ولم أُصب إصابة تذكر. وحده الله يعلم ماذا كان سيحلّ بي لو وقعت على الصخور والحجارة. كما زلّت قدما شخصين آخرين مثلي، وسقطا أرضًا، وكان نصيبنا القليل من الأوجاع والكدمات وحسب. في تلك العتمة، لم أسمع سوى

 

176


168

الفصل السابع: موقع زيد

أصوات الرصاص، ولم أشاهد سوى أضواء الانفجارات المتتالية. انتقى المخطِّط للمناورات مكانًا جيّدًا لمسير القوّات، فالمنحدر ينتهي بباحة رمليّة خالية في أسفله، ويحتمل بشكل كبير سقوط العنصر فيها إذا ما زلّت قدمه.

 

على أيّ حال، في نهاية المناورات، وعندما بدأ الإخوة ينقلون الجرحى المفترضين، قيل لهم إنّ ثلاثة من العناصر سقطوا من المنحدر، فجاؤوا إلينا ووجدونا بحال جيّدة. كان أمرًا عجيبًا أنّ أحدًا منّا لم يُصب بأذىً كبير في تلك الحادثة. في اليوم التالي، ذهبت مع "حاجي ميلاني" و"بهجت نيا" إلى المكان، وعاينّا الارتفاع الذي سقطنا عنه والباحة التي ارتطمنا بها، فازداد إيماني بالعناية الإلهيّة التي شملتنا في تلك الحادثة.

 

كان "دوكوهه" مكانًا مفعمًا بالصفاء، وذا طبيعة خلّابة، أحيانًا يتقاطر الماء من جوف الصخور قطرة قطرة، فيشكّل نبعًا صغيرًا. في أوقات الفراغ، كنت وبعض الإخوة نذهب إلى الجبل، ونأخذ معنا البطّانيّات والطعام والشراب، ونبيت هناك إلى جانب صخرة يتقاطر منها الماء بهدوء. لقد أحاطتنا حقًّا طبيعة رائعة، وكلّ شيء هناك ظهر جميلًا. الماء الخارج من الصخور ينحدر عن علوّ مترين أو ثلاثة أمتار، فعمدنا إلى إعداد مجمع للمياه من خلال تبديل أماكن الحجارة، فتنعّمنا بشرب الماء العذب منه، وإعداد الشاي. تناولنا الفطور هناك أحيانًا. تشاركنا في تلك الفترة الأفراح والأتراح، مع أقرب المقرّبين إلينا، نضحك ونبكي معًا، ونتحدّث عمّا يحصل معنا من أمور. أحيانًا كنّا نتذكّر الشهداء من رفاقنا، أو نتحدّث عن مستقبلنا و...

 

في ذلك الجوّ الحميمي، المفعم بالمحبّة والودّ، لم نكن ننسى الأعياد. وافق ذات مرّة، أن مرّ عيد الغدير ونحن في "دوكوهه"، وجريًا على

 

177

 


169

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

العادة، فكّر السادة في الكتيبة في إعداد الحلوى. وفيما جلست مع آخرين في خيمة، بدأ عناصر الكتيبة يتوافدون إلى داخلها فصيلًا فصيلًا. وضعنا أيدينا في أيدي بعضنا بعضًا، وشرع أحد العلماء هناك بتلاوة صيغة التآخي... أحيانًا كنت أتذكّر كلام أفراد عائلتي: "إلى متى ستبقى في الجبهة!"، وأفكّر أنّ الذي يشهد كلّ هذا الصفاء والخلوص، حقًّا لا يمكنه ترك تراب الجبهة وتحمّل المدينة.

 

كما هو متوقّع، كنّا أحيانًا في "دوكوهه" نهرب من المخيّم، ونذهب غالبًا إلى "دزفول"، إلّا أنّني قرّرت و"حاجي ميلاني" و"يونس بهجت نيا" في إحدى المرات، بأن نتوجَّه إلى ما وراء "دوكوهه" لنستكشف المنطقة هناك. في الصباح انفصلنا عن الإخوة. حتمًا، كان كلّ شخص منشغلًا بأمر ما، فكان ذهابنا أمرًا طبيعيًّا. بدأنا بتسلّق الجبل، إلّا أنّنا كلّما تقدّمنا وجدنا معابر ومنحدرات جديدة، إلى أن أخذ التعب منّا كلّ مأخذ. كاد الماء ينفد منّا ولم نصل إلى أيّ مكان بعد. وطوينا مسافةً طويلة، فلم نكن مستعدّين للعودة من الطريق نفسه. أردنا إيجاد طريق مختصر والالتحاق بالإخوة بأسرع ما أمكن، لكن زاد العطش من تعبنا. كان يونس يقول بكلّ جوارحه: "بالله عليكم أسقوني قطرة ماء!". لقد أصابه الإعياء حقًّا وفقد القدرة على الحراك. قرّرت وحاجي ميلاني الانفصال عنه والبحث عن الماء. وأخيرًا وجدنا بعضه بين الصخور. لم يكن بحوزتنا شيء نملأه، فقد تركنا قواريرنا الفارغة في منتصف الطريق لشدّة تعبنا وإعيائنا. بلّلنا الكوفيّات بالماء وعدنا إلى يونس. عصرنا الكوفيّات في فمه، فارتدّت روحه إليه قليلًا من هذه القطرات. في الواقع، لم نفكّر نحن بالانفصال عن الإخوة من أجل القيام بجولة ويحلّ بنا ما حلّ. بل مضينا على جهل بالطريق أمامنا، ولأنّ طريق العودة

 

178


170

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

طويل جدًّا، وخامرنا شعور بأنّ الليل يكاد يجنّ، قلت وأنا بحال مزرية: "إذا ما وصلت إلى المخيّم فلن أعود إلى حالي الطبيعيّة قبل ثلاثة أو أربعة أيّام". كان الطقس في فترة ما بعد الظهر حارًّا جدًّا، وقد علقنا نحن بين الصخور! وشيئًا فشيئًا، أضعنا حتّى طريق العودة. قرّرنا أن يذهب كلٌّ منّا في اتّجاه، وبمجرّد أن يرى أحدنا شيئًا جديدًا، ينادي البقية. تفرّقنا كلٌّ في جهة، وسرعان ما وجد الحاج ميلاني الماء، فنادانا، وأتينا إليه. كان المكان هناك يؤدّي إلى وادٍ يجري فيه نهر. وبينما نحن نهبط من الجبل، أحسست بغشاوة في عينيّ، فصرخت في صاحِبَيْ: "انتبها، أكاد أسقط!". وبحالة من الضعف، رحت أسير بين أيديهما نحو النهر. بعث الوصول إلى الماء فينا الأمل. ما إن شربنا حتّى تذكّرت أنّنا نفّذنا المناورة على ضفّة هذا النهر وفي هذا الوادي بالذات، وخطر ببالي لو أنّنا سرنا بموازاة النهر لوصلنا إلى الكتيبة. كانت الشمس تميل إلى الغروب شيئًا فشيئًا، أملنا أن نصل إلى الإخوة قبل حلول الليل. وصلنا إلى أنبوب كبير للمياه، ورأينا شباب التجهيزات جاؤوا إلى المكان للتعبئة منه. كم كانت فرحتنا كبيرة! ومن دون أن نشعر ألقينا بأنفسنا ونحن نرتدي ملابسنا إلى الماء! وضعنا رؤوسنا تحت أنبوب الماء! ورحنا ننثر المياه على رؤوسنا ووجوهنا ونضحك! فيما غدا شباب التجهيزات ينظرون إلينا بتعجّب ويتساءلون: "ما هذا العمل؟ ولِمَ تفعلون ذلك!". لم يعلموا بأنّنا ضللنا طريقنا في الجبل منذ الصباح.

 

لم يصدّقوا بأن أتيهَ أنا أيضًا رغم تجربتي في المناطق الجبليّة: "سيّد! حتّى أنت تهت أيضًا؟!".

 

نعم! فالجبل مكان قد يضيع فيه الخبير وغيره!

ذهبنا مع شباب التجهيزات نحو المخيّم. المسافة ما بين النهر والمخيم تبلغ كيلومترًا واحدًا. وحتّى في ذلك الوقت من النهار حين كانت

 

179

 


171

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

الشمس تميل إلى الغروب، كان الجوّ حارًّا جدًّا، بحيث وصلنا ـ نحن المبلّلين بالماء من أعلانا إلى أسفلنا ـ وقد جفّت ملابسنا تمامًا. لم يكن أحد في الفصيل يعلم ما حلّ بنا. فبعد المراسم الصباحيّة انشغل معظم الإخوة بشيء ما، ولم يكونوا معًا سوى في الليل. أمّا نحن الذين عُرفنا بما لدينا من سوابق في الفرار من المخيّم، فلم يُثر غيابنا قلق أحد.

 

لم تجعلنا هذه الحادثة نقلع عن فكرة الهروب من المخيّم نهائيًّا. فاستمررنا كلّما شعرنا بالملل نهرب إلى دزفول، وأحيانًا نبقى هناك ليومين، نسبح في نهر "دز" الذي تميّز بمياهه الصافية والرقراقة كمياه ينابيع القرية، نأكل، ونمرح. ذات يوم، وحين كنت أسبح وقعت في دوّامة قرب جسر. ومهما حاولت جاهدًا لم أتمكّن من الإفلات منها وكادت تبتلعني. نزلت تحت الماء مرّة أو مرّتين وابتلعت الكثير منه. إلى أن رفعت رأسي بالنهاية وصحت: "أكاد أختنق!". كان "رحيم افتخاري"[1] وعلي نمكي على ضفّة النهر. قفز علي نمكي بنفسه في الماء وسحبني. خفت فعلًا. قال لي: "انتبه، فللفرار من المخيّم أضراره أيضًا". بعد تلك الحادثة لم أعد أسبح في نهر دز. وكان الإخوة كلّما ذهبنا إلى هناك يقولون لي: "هيّا، تعالَ لنسبح"، فأجيبهم: "يكفيني هذا!".

 

واظبنا على زيارة محمّد بن موسى الكاظم عليه السلام الملقّب "بسبز قبا"[2]، وكنّا في حال بقينا في دزفول، نقصد المكان الذي خصّصه الحرس للإخوة المجاهدين، ونعود بعد يوم أو يومين إلى "دوكوهه"، فنخجل من الإخوة للحفاوة التي يستقبلوننا بها!

 

ترك الصفاء الموجود في نفوس الإخوة أثره في البيئة المحيطة بهم. كانوا يفرشون الأرض خارج خيامهم بالرمال، ويزرعون العشب والورود. وفي ذلك الجوّ، سرعان ما تنبت البذور من تحت التراب، وتخضرّ،

 


[1] كان رحيم من الإخوة الطيّبين في محلّة (قره آغاج) في تبريز، وقد نال بعد مدّة مقام الشهادة.

[2] لُقّب بذلك لارتدائه الدائم للرّداء الأخضر كما جرت عليه عادة السادة.

 

180


172

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

لتضيف إلى المكان جمالًا خاصًّا. الجميع شعروا بالمسؤوليّة إزاء البيئة المحيطة بهم. أحيانًا، كنت حين أرى مدى اهتمام المجاهدين بنظافة دشمهم وعنايتهم بالورود الصغيرة، أتذكر دشم العراقيّين وخيامهم التي يشمئزّ المرء من رؤيتها، ويدرك مدى انهيار معنويّاتهم من الفوضى والقذارة المحيطة بهم، في أجواء مثل جهنّم، بينما تحلّ الجنّة أينما حلّ شبابنا، وذلك بفضل حسن الخلق، والمودّة، وأيضًا الجمال الذي كان يُصنع في محيطنا. كنّا إذا ما عانينا يومًا نقصًا في الطعام، وبقينا جائعين، نأخذ الموضوع على محمل المزاح كما لو أنّ النقص في أيّ شيء آخر، ولا يشتكي أحد من ذلك.

 

بقينا مدّة شهرين في "دوكوهه"، إلى أن صدرت الأوامر بالانتقال إلى جزيرة مجنون، فحملنا أسلحتنا، وكّنا قد جهّزناها ونظّفناها، وحزمنا حقائبنا لننتقل بالسيّارات إلى هناك. قبل ذلك، لم يسبق لي أن رأيت جزيرة مجنون سوى لمرّة واحدة وذلك في دفاع عملية خيبر، ولم أبق كثيرًا حينها، أمّا الآن، فكانت رؤية الجزيرة مجدّدًا تبعث فيّ الشوق والحماسة.

 

يبدو أنّنا سلكنا طريق بستان نحو جزر مجنون، وقد لفتت نظري في طريق الذهاب الأسماء الجميلة التي وضعها الإخوة للأماكن. ما إن دخلنا الجزيرة الشماليّة حتّى وصلنا إلى التقاطع الأوّل، ألا وهو "تقاطع الإمام". ترجّلنا هناك وفُرزنا في اليوم نفسه. استقرّت كلّ سريّة في تحصينين "2بد"[1]. وكانت فصيلتنا في الـ "بد" الخامس. كلّ "بد" عبارة عن طريق ترابيّة تتشعب من الجانب الرئيسي للجزيرة، وتمتدّ أحيانًا مسافة كيلومترًا أو كيلومترين داخل الهور. بعض هذه الإنشاءات تتحوّل

 

 


[1] البد هو نوع من التحصينات المائية والإنشاءات التي تقام قرب الماء وفي محيط الجزر والمستنقعات.

 

181


173

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

 

في نهايتها إلى ميدان تجتمع فيه القوّات. المياه وحقول القصب تحيط بالـ "بد"، وكان الإخوة يعيشون هناك حياتهم العادية.

 

قبل كلّ شيء توجّب علينا ترتيب وتنظيم دشمتنا. وفي تلك المنطقة، كانت الدشم عبارة عن حفرٍ صففنا في جوانبها أكياسًا رمليّة، ولم تكن تتّسع لأكثر من خمسة أشخاص. إلى جانب الحفرة يوجد نقطة حراسة، يتناوب العناصر على البقاء فيها. لم تكن تفصلنا في مياه الهور مسافة كبيرة عن العراقيّين، فتوجّب علينا مراقبة حقول القصب والقنوات المائيّة بشكل دائم. حينذاك تولّى الحاج "غلام علي بور" قيادة فصيلنا، وهو إنسان مؤمن، وقد تعطّلت إحدى يديه جرّاء إصابتها بشظيّة[1]. ومع أنّه مسؤول الفصيل، إلّا أنّه كان أقلّ خبرةً من الناحية العسكريّة من بعض الإخوة. وبالطبع، لم يسبّب هذا الأمر أيّ مشكلة بين الإخوة. والمسألة تختلف تمامًا من هذه الناحية عن الجيش، وليس بيننا من يتوقّف كثيرًا عند هذه العناوين. فكلّ شخص يؤدّي العمل الذي يتقنه بالتنسيق مع مسؤوله. كنت في دشمة واحدة مع الحاج غلام علي بور، و"همّت آقايي"، وهو من شباب "مراغه"، ومجيد الذي استُشهد اثنان من إخوته، و"محمود مونسي". لم أكن موافقًا كثيرًا على انضمام محمود إلينا لأنّه تهرّب من العمل أكثر من مرّة. ففي أيّامنا الأولى هناك حيث انشغلنا ببناء الدشمة، واستلزم ذلك وضع الأكياس الرمليّة على سقف الحفرة وفي جوانبها، لم يشاركنا العمل، وراح يقول: "لن أبقى هنا، أريد اللحاق بأحد الأصدقاء في تلك الحفرة"، ويذهب، لكنّه عاد بعد أن أنهينا ترتيب الدشمة والعمل بها ليقول: "سأبقى هنا!".

 

في بداية الأمر، لم تتوافر للحاج غلام معرفة جيّدة بي، ليعلم بأنّني إلى تلك اللحظة من الحرب، لم أكن قد مكثت لساعتين في مكان واحد

 


[1] شُفيت يد غلام علي بور في مشهد المقدّسة ببركة أهل بيت العصمة عليهم السلام، وربّما نال هناك أيضًا صكّ شهادته، ليلتحق فيما بعد بقافلة الشهداء.

 

182


174

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

وأدّيت نوبة من الحراسة! قال لي يومًا: "سيّد! عليك اليوم القيام بالحراسة مع أحد الإخوة من الساعة 12 إلى 2!".

 

ــ لا يا حاجّ! يمكنني أن أجول من الليل إلى الصباح وأحرس المكان، لكن لا يمكنني أن أحرس بالطريقة التي تريدها!

 

وقعت كلماتي ثقيلة عليه. فقال: "بالنهاية يتوجّب عليك قانونًا أن تقوم بالحراسة أيضًا!". فقلت: "لا أحبّ أبدًا المكوث في مكان واحد والقيام بالحراسة! إن أردت سأجول حتى الصباح في الـ"بد" و...". تعقّدت المسألة. المسكين لم يكن يعلم أنّه لا يمكنني البقاء هادئًا أو التسمرّ من دون حركات، وإلّا لما أصرّ كلّ هذا الإصرار. أحسست بأنّ الإخوة قد ينزعجون من هذا الأمر، لذا تراجعت عن رأيي. وفي النهاية قال الحاج غلام: "قم الليلة بالحراسة هاتين الساعتين، وغدًا نتداول في المسألة". فلم أتناقش معه أكثر من ذلك ووافقت.

 

أوّل عمل قمت به تلك الليلة بعد مرور دقائق عدّة على وقوفي في نوبتي، هو التوجّه نحو همّت آقايي، وكان مسؤول الدعم في أحد الإنشاءات(بد)، وقد استلم كيسًا صغيرًا من النقولات، ليوزّعها بين الإخوة الذين يحرسون، ولا يصيبهم النعاس بأكلها. لكنّه ربط الكيس بإحكام واكتفى بتسليح العناصر، حتّى صار معروفًا بين الإخوة بـ"البخيل". تكلّمت تلك الليلة مع "بابا" الذي كان لديه أيضًا نوبة حراسة، وقرّرنا في البدء أن نتّجه صوب همّت. كان جميع من في الدشمة، بمن فيهم همّت، نائمًا براحة وهدوء بال. وصلنا بسهولة إلى كيس النقولات، وملأنا جيوبنا بقدر ما تتّسع. وفيما كنّا نأكل خارج الحفرة، خطر ببالي، بما أنّ الجميع نيام الآن، أن نغتنم الفرصة ونذهب لنأخذ زادنا من تلك النقولات للأيّام القادمة. وهذا ما حصل، ثم عدنا إلى موقعنا. كان الوقوف في بقعة صغيرة واقعًا، عملًا شاقًا بالنسبة إليّ. وكانت أصوات

 

183


175

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

أنفاس الإخوة الذين غطّوا في نوم عميق تُسمع خارج الدشمة. قلت لبابا: "لا يصحّ هذا الأمر، من غير الإنصاف أن يناموا هم فيما نبقى نحن مستيقظين، علينا القيام بعمل ما!".

- مثل ماذا؟

- تعالَ لأخبرك!

 

عند نهاية الـ"بّد" كان هناك مكان فسيح، وقف حارس في أوّله فقط، وتُرك القسم الأكبر منه خاليًا. شكّلت تلك البقعة مكانًا خطرًا، لذا حرصوا على أن تُحرس ليلًا ونهارًا، وأقيم فيها أيضًا برج للمراقبة. إلّا أنّ المكان كان واسعًا بحيث لا يمكن لعدّة حرّاس تغطيته. فكّرت بأن نذهب لتفقد تلك البقعة هناك، وعند عودتنا نشرع بالصراخ بأنّ العراقيّين يتقدّمون! مشى "بابا" خلفي فيما كنت أبرّر له ما سأفعل: "لا يصحّ لهؤلاء أن يناموا هكذا في الخطوط الأماميّة، فقد نبدأ في الغد بتنفيذ العملية.."، وبعد أن قمنا بجولة في الـ"بد"، هرعنا إلى الدشمة ورحنا نصرخ: "العراقيّون! انهضوا! قوموا من نومكم!". استيقظ كلّ من في الدشم المجاورة على صراخنا، وهرعوا إلى الباحة: "أين هم؟ من أين أتوا.. ومن رآهم؟..".

ــ نحن رأيناهم، كانوا يصعدون من تلك الناحية من الـ"بد".

 

تجافت أعين الجميع عن النوم. سمّر الحاج غلام نظراته في عيني وقال بهدوء: "تقدّم أنت رويدًا رويدًا، وسنتبعك". فأجبته بصوت متمتمًا: "إن لم يكن في الأمر مخاطرة، فلتتقدّم أنت!".

 

عندما رأى الحاجّ بأنّني لم أتقدّم، تقدّم بنفسه، حاملًا في يديه قنبلتين يدويتين، وسار بحذر في الاتّجاه الذي أشرنا بأنّ العراقيّين قد جاؤوا منه! كنت قد أوصيت "بابا" بأن لا يتفوه بأيّ كلمة قد تكشف كذبتنا. شيئًا فشيئًا اقتربنا من آخر الـ"بد"، وعمدتُ أحيانًا لرمي بعض الحصى

 

184


176

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

في الماء وأقول: "ها هم! كأنّني أرى أحدهم هناك!"، فخاف بعضٌ فعلًا، وصار يتنصّت ليسمع صوتًا. وهكذا، فقد ذهبنا إلى آخر الـ"بد" ولم نجد شيئًا. اشتعل الحاج غلام غضبًا، وتوجّه إليّ وقال: "لا إشكال في ذلك، غدًا سأتكلّم مع السيّد صمد بشأنك!". وكان يقصد بذلك "صمد زبردست" مسؤول السريّة. لم أتراجع أو أستسلم فقلت: "لم يأتِ العراقيّون إلى هنا ليحتلّوا المكان، بل جاؤوا لجمع المعلومات، الذين رأيناهم كانوا مئة في المئة عناصر معلومات.. نحن الذين لم نشتبك معهم".

 

عاد الإخوة إلى دشمهم، وكان علينا البقاء في موقعنا. وما هي إلّا دقائق حتّى سألت صاحبي: "بابا! لِمَ لا يحرس عناصر الجيش هؤلاء؟!"، وكنت أقصد أولئك العناصر الثمانية أو التسعة من الجيش الذين يتمركزون في باحة تشبه الـ"بد"، وقد وضعوا فيها أكوامًا من التراب أوقفوا آليّاتهم عليها، كما ثبّتوا أيضًا المدفع والشيلكا، فكانت تلك النقطة الأكثر أمنًا في الـ"بد".

- يقولون يكفي أن تقوموا أنتم بالحراسة! ولا حاجة معها إلى حراستنا!

- هكذا إذًا؟! ينبغي لهذا الخطّ أن يُطهّر الليلة!

 

أظنّ أنّ قوّاتنا التي خدمت هنا قبلنا، عوّدت عناصر الجيش على الغنج والدلال! فلم يقوموا بالحراسة إلى تلك الليلة، وحصروا مهمّتهم في إطلاق المضادّات باتّجاه الطائرات العراقيّة المغيرة. فكّرنا ماذا سنصنع معهم. التفتنا في البدء إلى الشيلكا، كان لمدافع الشيلكا قبضات، إذا ما فُكّت تعطّلت تلك المدافع. لقد وصل الشغب إلى ذروته. قال "بابا": "تعالَ نفكّ مدافعهم ونضع الأخشاب مكانها!".

- لا يا عمّ، إنّ في الأمر مخاطرة، قد تأتي الطائرات العراقيّة فجأة، ماذا سنفعل حينها؟ علينا أن نجد فكرة أخرى!

 

خطرت على بالنا الصفائح المعدنيّة التي تُستخدم في بناء الدشم

 

 

185


177

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

والخنادق. وضعنا واحدة منها أمام باب دشمة عناصر الجيش، وقفت عليها ورحت أقفز في الهواء، فعلتُ ذلك عدّة مرّات، فهرع أهل الدشمة على أثر طنينها مذعورين إلى الخارج! خرجوا بالشورتات والفانيلّات مسرعين نحو الشيلكا! فرحنا نضحك على مناظرهم! وما هي سوى لحظات حتّى انتبهوا لما يجري.

- لِمَ فعلتم هذه الفعلة؟!

- أنتم قولوا لي، لِمَ لا تقومون بالحراسة؟!

- آها! هذا يعني أنّك أنت من تقوم بالحراسة؟!

- أجل... هكذا هي حراستنا!

 

لم نتوصّل معهم إلى نتيجة، وتوجّهوا إلى دشمتهم ليكملوا نومهم. لكنّني أيضًا لم أتراجع، إذ أسندت الصفيحة إلى مكان ما، ورحت أرمي عليها الحجارة من وقت لآخر... وهكذا، إلى أن أنهيت ساعتي الحراسة.

 

في صباح اليوم التالي، ذهب ثلاثة أشخاص من بينهم "محمود دولتي"، إلى الأخ صمد واشتكوا إليه أمرنا. يبدو أنّ هؤلاء ذهبوا الليلة الماضية بالتزامن مع أعمال الشغب التي قمنا بها، ليستطلعوا مواقع العدو، وعند العودة ضلّوا طريقهم وجاؤوا من جهة الـ"بد" خاصّتنا، ليجدوا أن لا أحد يقوم بالحراسة هناك، فخرجوا من الماء وانصرفوا. بالطبع، من لطف الله وعنايته أنّنا لم نرهم حينذاك، وإلا لظننّا أنّهم من الأعداء، ورميناهم بالنيران. قال محمود دولتي للأخ صمد: "بالأمس، عند الواحدة بعد منتصف الليل، كنّا بالقرب من الـ"بد" الخامس ولم يكن هناك من يحرس المكان!". نادانا الأخ صمد، واستوضح المسألة، فلم نستسلم بدورنا وادّعينا أنّنا رأيناهم أيضًا وعرفناهم ولذلك لم نرمهم! قلنا ذلك بنحو جعلهم يصدّقوننا، وبدل الشكاية راحوا يعتذرون منّا: "أي والله، لقد عرفتمونا ونحن داخل الماء و...". من ناحية أخرى جاء

 

 

186


178

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

همّت مشحونًا غيظًا، وراح يشكونا إلى الأخ صمد: "لقد سطا أحدهم البارحة على المؤونة، وهذان من فعلا ذلك!". كان يقول هذا ويصلّب على صدره كما يفعل المسيحيّون! تعبيرات غريبة تلك التي رأيناها في همّت فرحنا نضحك. لكن قبل أن يكشف هو حقيقة خداعنا، لم يصدّقه أحد. راح يتوسل الجميع ليصدّقوه ويقول: "إنّ بابا والسيّد أكلا البارحة كلّ الفستق الذي كان بحوزتي!". فأجابه الأخ صمد: "قبلك جاء أيضًا من يشتكي منهما، وتبيّن أنّ الحقّ معهما. وتريد أنت أيضًا تحميل هذا السيد مسؤولية تقصيرك!". ورحت أتظاهر بالمظلوميّة. وحان دور الحاج غلام الذي توجّه إلي وقال لي: "سيّد، لم أعد أريد منك أن تقوم بالحراسة!". كان صباحًا رائعًا!

 

بناءً على قول مسؤول فصيلنا، أُعفيت من الحراسة ما دمنا في الـ"بد"، إلّا أن أتطّوع أنا بذلك. وبالطبع، بادرت لذلك وتطوعت فقط للحراسة بدلًا عن أحدهم.

 

تختلف الجزيرة عن سائر خطوط العملية. فهنا، لم تحصل المواجهة مع العدوّ وجهًا لوجه، بل فقط في المعابر المائيّة وحقول القصب. ذلك أنّ مساحة اليابسة صغيرة، ولولا المزاحات والعلاقات الحميميّة بين الإخوة، لثقل علينا تحمّل الظروف الصعبة.

 

إحدى تسالي الإخوة في الجزيرة كانت اصطياد السمك. مضى ثلاثة أيّام على مجيئنا إلى الجزيرة ولم أستطع إلى حينها اصطياد سمكة واحدة. وحيث كنّا قد علمنا سلفًا بأنّنا قادمون إلى الجزيرة، فقد أحضرنا معنا شباك الصيد والمعدّات اللازمة لذلك، لكنّني في هذه الأيّام القليلة لم أستطع أن أصطاد شيئًا بهذه الشبكة. وحين رأى الإخوة معاناتي، قالوا إنّه يمكنني الاصطياد بسهولة عبر استخدام

 

187


179

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

القنابل الصوتيّة التي بالطبع لم تكن حينها مورد حاجة، وباتوا أحيانًا يستخدمونها في صيد السمك. رفعت شبكتي وتعلّمت كيفيّة الاصطياد بواسطة القنابل الصوتيّة. فعندما نلقي إحداها مباشرة إلى الماء، تنزل إلى القعر ولا تفيد كثيرًا في تحقيق الهدف المطلوب. أمّا حين نسحب عتلة القنبلة ونعدّ بضع ثواني ثمّ نرميها، تنفجر على مسافة قريبة من سطح الماء. في المرّة الأولى التي اتّبعت فيها هذه الطريقة، لم أصدّق عينيّ، إذ رأيت السمك يطفو بكثرة على سطح الماء! وهو يتخبّط من عصف الانفجار، ويبقى طافيًا على الماء لدقيقتين أو ثلاث، ومن ثمّ يشرع بالحركة ويلوذ بالفرار! أصبحت ماهرًا في الأمر! فكنت أباشر العمل فورًا بعد انفجار القنبلة، وأجمع ما يقرب من نصف كيس من السمك الحيّ، فأطبخه وأتناوله مع الإخوة، أو أعطيه لسائقي شاحنات التجهيزات وعناصر الإشارة.

 

ذات يوم، ذهب "مونسي" إلى الأخ "صمد زبردست" وأخبره بقضية الصيد. فما كان منه إلا أن جاء إليّ للتحقيق، وسألني: "سيّد! أخبروني أنّك تستخدم القنابل الصوتيّة في صيد السمك!".

- من قال هذا؟!

- مونسي!

- لا يقول الحقيقة!

 

نظر الأخ صمد إلى كمّ السمك الكبير الذي اصطدته وقال: "إذًا، كيف اصطدت كلّ هذا السمك؟".

- لقد ألقى العراقيّون قذيفة وسقطت هنا، واستغللت أنا الفرصة!

 

حدّق بي الأخ صمد وقال: "مضى شهر على وجودي هنا، ولم أرَ قذائف العدوّ تسقط في هذه الناحية، فيما لم يمضِ على وجودك هنا يومان، وتقول لي إنّ قذيفة سقطت هنا!". لم أنثنِ وقلت: "سيّد صمد، أنا لم

 

188


180

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

آخذ وعدًا من العراقيّين بقصف المكان أو عدمه! ها هم الآن قد قصفوا المكان واصطدت..!". كان خندق الأخ صمد يبعد عنّا قرابة الخمسمئة متر، وواقعًا أنّ القذائف العراقيّة سقطت أحيانًا على بعد خمسين مترًا، لكنّها لم تسقط أبدًا في المكان الذي اصطدت فيه. لم يجادلني الأخ صمد كثيرًا، وابتعد عنّي والبسمة تعلو شفتيه. وللإنصاف، كان كثير من الإخوة يقفون إلى جانبي في مشاغباتي. بعد ذهابه، وبينما انشغلت بتنظيف السمك، وإذ بي أرى مونسي واقفًا أمامي. قال لي: "سيّد! أعطني سمكة من فضلك...".

- لا يمكن، فهذه السمكات قد قُصفت يا صاح!

 

انتهزت الفرصة المناسبة لتسوية حسابي معه. إلى أن قال المسكين في النهاية: "لن أتدخّل في شؤونك بعد اليوم يا صاح! ومهما فعلت لن أخبر أحدًا!". لكنّني لم أتراجع، وبعد تلك الحادثة أخرجناه من دشمتنا.

 

في الجزيرة، كنّا نبقى مبلّلين من شدّة الرطوبة. لذا، وكي لا نصاب بالروماتيزم، قدّموا لنا غالبًا اللبن والثوم كوجبة غذائيّة. لكنّني لم أقنع بذلك، وطوال الفترة التي قضيتها في الجزيرة لم آكل من طعام الفرقة إلّا قليلًا! فبالإضافة إلى السمك، لفتت نظري أحيانًا، الطيور والبطّ البرّي الذي يعوم على وجه الماء أو يتنقّل بين حقول القصب، فوضعت خطّة لاصطيادها. جمعت شرائط التلفون القديمة وربطت طرفها بالقضيب (المعدني) الموجود في المكان الذي تُنظّف فيه الأواني. كنّا هناك نستخدم قطعًا كبيرة من الكاوتشوك بمنزلة جسور، فأعددت لنفسي قاربًا هو عبارة عن قطعة كبيرة من الكاوتشوك فرّغتها من الداخل بمساحة متر تقريبًا، بحيث يمكنني الجلوس فيها براحة. وبعد أن أصطاد الطير، كنت أركب القارب وأمسك بطرف الشريط، وأتقدّم

 

 

189

 


181

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

في الماء إلى حيث سقوط الطير، آخذه ثم أمسك من جديد بطرف الشريط وأسحب نفسي نحو الـ "بد".

 

وكنت بعد تنظيف الطيور وطبخها أعدّ سفرةً معتبرة. كان الأخوة في أغلب الأوقات يعدّون البطاطا المطبوخة للفطور.

 

أمضينا أوقاتًا جميلة في الجزيرة، وأصبحت العلاقة بين الإخوة أكثر وديّة. ومع أنّ طبيعة المنطقة الجميلة قد حدّتنا قليلًا، إلّا أنّ سكون حقول القصب والماء الذي لم يكن يكسره سوى أصوات البطّ البرّي والطيور، كان ينسينا قساوة الحرب. أمّا السباحة في ذلك الجوّ فطالما بدت ممتعة جدًّا إلى جانب فراخ البطّ التي ما إن يقترب المرء منها حتّى تغوص مباشرة في الماء وتظهر من ثمّ على بعد خمسين مترًا. كم راقتني شقاوتها ولعبها.

 

ذات يوم، وبينما كنت أسبح، وإذا بأحدهم يقطع عليّ صمتي وهدوئي.

- سيّد! أسرع، نريد أن نقصف!

 

كانت في المكان ثلاث مدفعيّات، تباشر القصف كلّما لاحت لها آليّات الجيش العراقي. سبحت مسرعًا باتّجاه الـ"بد"، وبدأت نيران المدفعيّة تعمل، ليتبعها ردّ المدفعيّات العراقيّة. ما إن خرجت من الماء وتمدّدت على الجسر، حتّى سقطت قذيفة مدفعيّة في المكان الذي سبحت فيه تمامًا. ولو كنت واقفًا حينها لنلْتُ نصيبي عددًا من الشظايا. قمت بعد لحظات، وركضت نحو دشمتنا. العراقيّون يمطرون المنطقة بنيران مدفعياتهم، ولم تتسنّ لي الفرصة حتّى لأرتدي السروال والقميص، فظهرت مثارًا للضحك. وقد رأى بعضهم للمرّة الأولى جسدي المشظّى بنحو كارثيّ (جرّاء الإصابات السابقة)، فصار يحدّق بي مذهولًا.

 

مرّ ذلك اليوم على خير، لكن بعد يوم أو يومين وقعت حادثة أخرى حيّرتنا جميعًا، على الرغم من أنّني تهرّبت مرات من الحراسة، إلّا أنّني

 

 

190


182

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

برعت في تنظيف الأواني. وكنّا نغسلها في ناحية من الجسر حيث تتجمّع فيها المياه النظيفة نسبيًّا. وبينما استغرقت في أحد الأيام بالجلي هناك، وإذ بقذيفة تسقط إلى جانب الطريق، فارتميت بنحو عجيب في الماء، وكأنّ أحدًا أو شيئًا دفعني بقوّة. حرت في أمري، وكذا الإخوة. اجتمعوا حولي متسائلين: "ماذا حصل؟!"، وحين خرجت من الماء، وقع نظري على شظيّة كبيرة، هي التي ارتطمت جهتها الملساء بظهري، ورمتني بقوّة في الماء. حملتها ورحت أتأمّلها فيما تناهت أصوات الإخوة إلى سمعي: "ماذا فعلت مع الله حتّى دفع عنك البلاء؟!". حقيقةً، لو أصابتني تلك الشظيّة بحجمها الكبير من الجهة الأخرى لمزّقت كلّ ظهري، ويعلم الله ما كان سيحلّ بي!

 

لم نتخلَّ عن شغب الفرار من المنطقة. وكان علينا للذهاب إلى الأهواز اجتياز خمسة إلى ستّة حواجز، لم يكن عبورها بالأمر الهيّن، ما يجعلنا نحتاج إلى تصاريح، فصرنا نعبر كلًّا منها بحجة معيّنة. فنركب مثلًا آليّات الفرق الأخرى، فيظنّ هؤلاء بأنّنا في عداد قواتهم. عندما نصل الأهواز، نمكث هناك يومين أو ثلاثة ومن ثمّ نعود. ذات يوم، لفت انتباهي غياب "بابا". فتّشت عنه كثيرًا فلم أجده. علمت أنّه ذهب وحيدًا إلى الأهواز. مرّ يومان وإذا به يعود حاملًا معه خمسة كيلوات من الرّمان. ما إن اقترب منّي حتّى ضحك وقال: "تعال كلّ الرمّان، فلهذه الرمّانات حكاية". سألته عمّا جرى، فقال: "أردت أن أشتري رمّانًا من بائع بسط بضاعته على صينيّة بالقرب من نهر كارون، وكان الاتّفاق على أنّ الكيلو بخمسة وعشرين تومانًا. فأراد أن يتحاذق عليّ وبدأ يضع في الكيس كلّ رمّانة متعفّنة ولم أرَ حبّة واحدة جيّدة. اعترضت عليه وعلا صراخنا. قلت: "لم أعد أريدها!". فقال: "إن لم تعد تريدها، سأحملك وأرميك في الماء!". كان الجوّ متوتّرًا، وكنت وحيدًا، ورأيته حقًّا يغوص في

 

 

191

 


183

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

الخيال. أفرغت الرمّانات على الصينيّة، فراح يلاحقني، صرت أدور حول الصينيّة وهو يلحق بي. وجدت أنّه لن يعتقني. فرفعت الصينيّة بوجهه، ووقعت جميع الرمانات على الأرض. وهنا، بدأ جميع الباعة يلاحقونني. تملّكني الخوف. ومن بعيد رأيت عددًا من عناصر الجيش قد تدخّلوا ووقفوا بجانبي. عندها شرع الباعة برشقنا بما لديهم من الفاكهة، وواجهناهم بالمثل أيضًا! حدثت فوضى عارمة، ولو وصلوا إلينا لكانوا أبرحونا ضربًا! في النهاية، وصل شباب من الهيئة وخلّصونا من بين أيديهم. وهذه الرمّانات اشتريتها من مكان آخر! كل الآن...".

 

كان لعناصر الجيش دشمة بالقرب منّا، ونصبوا منصّة لصواريخ الكاتيوشا في أوّل الـ "بد" إلى جانب بئر النفط، التي تبعد مسافة كبيرة عن دشمتهم. لقد اطمأنوا بأنّهم وبعد إطلاقهم لصواريخ الكاتيوشا، سيكونون ودشمتهم في مأمن من مدافع العدوّ التي تمطر المكان بوابل نيرانها، ما يعرّضنا لسقوط شهداء وجرحى في صفوفنا، الأمر الذي جعلنا ننزعج منهم.

 

ذات يوم وفيما كنت عائدًا للتوّ من الأهواز، رأيت بالقرب من دشمة قيادة السريّة وسط الـ "بد" عبد الحسين أسدي ـ هو نفسه الذي توطّدت علاقتي به في مخيّم "شهداء خيبر"، ومن أداء دور "لوريل وهاردي"، وغالبًا ما شاكسنا بعضنا بعضًا. حين رآني ناداني ضاحكًا: "سلام سيّد! من أين قدومك؟!"، قلت: "من الأهواز". بعد السلام والسؤال عن الأحوال توجّهت إلى دشمتنا. دقائق وسمعت صوت إطلاق صواريخ الكاتيوشا بالتزامن مع رفع أذان الظهر. كنت في الدشمة وشعرت بأنّ قذيفة سقطت بالقرب من منصّة الكاتيوشا. لم أكترث للأمر، وما هي سوى لحظات حتّى رنّ جرس الهاتف أن: "أرسلوا لنا مسعفًا بسرعة، فقد أُصيب أحد الإخوة"، قلقت وسألت : "من هو؟!".

 

192

 


184

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

- أسدي!

خرجت مسرعًا من الدشمة وركضت إلى أوّل الـ "بد"، فرأيت أسدي وقد أُصيب إصابة بالغة وهو يتوضّأ. ضمّد المسعفون جراحه ونقلوه إلى سيّارة الإسعاف. نظرت إليه بقلق. لم تكد تمضِ فترة حتّى سمعنا بخبر استشهاده وهو في المستشفى. تذكّرت صفاءه وحميميّته ولحظات السرور التي كان يبتدعها من أجل الإخوة. انقبض قلبي بشكل غير عادي، لكنّني حاولت جهدي إخفاء غمّي عن الإخوة لكي لا يؤثّر ذلك على معنويّاتهم. دائمًا ما كان قلبي ينفطر لشهادة الإخوة، لكنّني أبذل وسعي لئلّا يظهر ذلك عليّ، وأقول: "هذه هي الحرب، وقد حقّق الشهداء مرادهم".

 

لم يكن عناصر الجيش يحرسون في الخطوط الأماميّة. فكنّا نعتبر عدم مساعدتهم عادةً سيّئة. في البداية، عندما رأيناهم ينامون في الملابس الداخليّة (شورت وبروتال) ضحكنا عليهم، لكن، شيئًا فشيئًا وجدنا أنّهم اعتادوا على الأمر ولم يعودوا يكترثون للمسألة، والحال أنّنا اعتبرنا النوم على تلك الحال في الخطوط الأماميّة أمرًا غير مستساغ. لذلك صرنا نعمل على إزعاجهم، ونطلق أحيانًا الرصاص بالقرب من دشمتهم لنعكّر عليهم صفو نومهم فلا يشعروا بالراحة التامّة! بعد مدّة اتّخذوا قرارًا آخر. كان يوم الجمعة حين رأيناهم ينقلون وسائلهم تاركين الدشمة. سألت قائدهم: "أين تذهبون على بركة الله؟!".

- لِمَ؟! وهل تريد اللحاق بنا؟!

- لا يا عمّ...

- حسنًا نحن ذاهبون إلى أوّل الجادّة!

 

لم أكن لأصدّق أنّهم انتقوا أوّل الجادّة للاستقرار هناك، وكلّنا نعلم بأنّ الجادّة، وبسبب تردّد السيّارات والآليّات عليها، كانت دومًا عرضة لقصف المدفعيّات العراقيّة. لكنّ تحديد مواقعهم كان بيدهم، وقد

 

193


185

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

اختاروا أسوأ الأماكن بنظرنا. أمّا بالنسبة إليهم، فقد اعتبروه مكانًا جيّدًا لأنّه قريب من كبينة الاستحمام، كما إنّ الطعام يصل إلى هناك بوفرة، فيما تقلّ كميته عند وصوله إلينا. ومهما قلنا لهم إنّكم مخطئون في التموضع هناك، لم يقتنعوا، فذهبوا واستقرّوا على طرف الجادّة.

 

بعد يومين أو ثلاثة، قرّرت و"بابا" الذهاب للاستحمام. خرجنا من الـ"بد" ووصلنا إلى الجادّة. لقد دأب العراقيّون على رميها بالنيران، لكنّ القصف اشتدّ ذلك اليوم. بدأنا نزحف حينًا وننهض حينًا. ليس باليد حيلة، فقلت لبابا: "لنعد أدراجنا! فمع دويّ الرصاص هذا لا يمكن الوصول إلى الحمّام، فضلًا عن الاستحمام براحة وهدوء!". لكنّ "بابا" رفض: "لقد قطعنا كلّ هذه المسافة، لتقول لنعد أدراجنا، عمّا قريب تنتهي المسألة!". تابعنا مسيرنا، لكن، كلّما اقتربنا أكثر اشتدّ القصف أكثر! وصلنا إلى نقطة قريبة من دشمة عناصر الجيش، وفجأةً رأينا الدشمة تطير في الهواء جرّاء قذيفة مدفعيّة سقطت عليها مباشرة! واجهنا مشهدًا مريعًا. فالعناصر الخمسة أو الستّة الذين كانوا نائمين في الدشمة سقطوا شهداء بنحو مفجع! آلمنا ذلك المشهد جدًّا، فرجعنا من هناك منزعجين وغاضبين. لم ينتهِ ذلك اليوم بحادثة الدشمة. فعند الظهر، ذهب الأخ "علي شكوهي" السائق في تجهيزات الكتيبة، ليحضر الطعام إلى الإخوة. وهو أيضًا مسؤول التسليح في الكتيبة، ونشطٌ في قسم التجهيزات. ولأنّ أمّه طبيبة متخصّصة في طهران، تكفّل بحقن الإخوة عند الحاجة والمرض، والاهتمام بأمورهم من جميع النواحي، من دون أن يُقلّل ذلك من شأنه كشخص مرح ومصدر سعادة للإخوة. كان برفقة مونسي وأحد الإخوة الآخرين يسيرون مسرعين على الجادّة، فجأة سقطت قذيفة مدفعيّة أمام سيّارتهم. وصادف أنّ سيّارة أخرى كانت قادمة من الجهة المقابلة، ففقد السيطرة على السيّارة لتسقط في الماء مباشرة! بعد جهد جهيد، وكسر زجاج السيّارة تمكّنوا من الخروج

 

194


186

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

والوقوف على ظهر السيّارة، وراحت بما فيها من قدور الطعام تغرق في الماء! قالوا لنا فيما بعد: "بدأنا نصرخ ونصرخ إلّا أنّ أحدًا لم يسمع استغاثتنا، كنّا واقفين على ظهر السيّارة والماء قد وصل إلى ركبنا. من حسن الحظّ أنّ السيّارة توقّفت عن الغرق. صحنا كثيرًا إلى أن التفتت إلينا إحدى السيّارات التي كانت تعبر الجادّة...". في النهاية جاؤوا من الكتيبة برافعة وانتشلوا السيّارة من الماء، وانتهى اليوم بتسجيل مثل هذه الحوادث.

 

في الجزيرة أمضى الشباب أيّامًا صعبة بسبب شدّة الرطوبة وطبيعة المنطقة الجغرافيّة، لذا، وبعد قرابة الخمسين يومًا من استقرارنا في الـ"بد"، جاءت الأوامر لنا بترك المنطقة. مضينا حاملين معنا ذكرياتنا الحلوة والمرّة عنها، وسرنا بالحافلات الصغيرة إلى الخطوط الخلفيّة، لكنّ حادثةً أخرى وقعت في أثناء العودة. قبل وصولنا إلى تقاطع الإمام، شاهدنا طائرة عراقيّة، تحلّق وتجول وكأنّها تتحيّن الفرصة المناسبة لقصف الحافلة التي كنّا فيها. قلنا للسائق: "توقّف لنختبئ في مكان ما، وما إن تذهب الطائرة، نكمل طريقنا". قال: "اصبروا حتّى نصل إلى تقاطع الإمام وهناك نتوقّف!". وقبل أن نصل إليه ، مالت الطائرة نحونا بسرعة، وانخفضت على مقربة منّا، وفي تلك الأثناء، أُطلق صاروخ من مضادات الـ"x ـ1"[1]، التي كانت قد نصبت حديثًا في المنطقة. وقف شعر بدننا من الخوف، داس السائق على المكابح وترجّلنا جميعًا من السيّارة. لقد مرّ صاروخ الـ"x ـ1" فوق رؤوسنا على علوّ بضعة أمتار. دوّى صوته قويًا بحيث ظننّا بأنّه ارتطم بالحافلة! قلت لـ"بابا": "طوال هذه المدّة


 


[1] على الرغم من أنّ لدفاعات"x ـ1" الآليّة قائدًا، إلّا أنّها تعمل على الكهرباء بشكل آلي، وبمجرّد أن تصبح الطائرة في مرمى نيرانها، تطلق تلقائيًا صاروخًا نحوها. كانت مهمّة القائد تتمثّل فقط في توجيه الآلة نحو الطائرة، وليس له أيّ دور في الاستهداف والإطلاق.

 

195


187

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

التي قضيناها في الجزيرة لم يحصل لنا شيء، أخاف أن يصيبنا مكروه الآن ونحن خارجون منها!". لم تدعنا الطائرة وشأننا، وبقيت تحلّق فوق رؤوسنا، فهي إمّا قد جاءت للاستطلاع، أو لتغير علينا ولم تستطع. تابعنا مسيرنا، وتابعت الطائرة تحليقها فوق رؤوسنا من دون أن تأتي بأيّ فعل إلى أن خرجنا من الجزيرة.

 

انتقلنا من الجزيرة إلى ثكنة تقع بالقرب من مصفاة "الأهواز". بقينا هناك ثلاثة أيّام إلى أن جاءت الأوامر بذهاب القوّات في إجازة. غالبًا ما كانت القوّات في الجبهة تنقسم إلى ثلاث فئات. فئة تحضر فصليًّا كالمزارعين الذين يلتحقون في فصل الشتاء، وطلّاب المدارس والجامعات الذين تغصّ بهم الجبهات في فصل الصيف، وفئة تحضر في الجبهة صيفًا وشتاءً وقد أصبحت الجبهة شغلهم الشاغل وكلّ حياتهم. تأخّرت العملية، ولم يرق للعناصر الذين يحضرون في الجبهة فصليًّا الانسحاب إلى الخطوط الخلفيّة من دون أن يشاركوا فيها، فبقي بعضهم في الجبهة توقًا للمشاركة في العملية ولتُكتب لهم الشهادة. في ذلك الوقت، انتاب جميع الإخوة إحساس غير عاديّ. شهور مرّت على عملية خيبر، كُشِفَتْ خلالها ثلاث عمليات، وكانت دعايات العدوّ المغرضة وأخبار وسائل الإعلام الأجنبيّة ظالمة ومحبطة. لقد تحمّل المجاهدون ضغوطًا كبيرة، فقد بقوا في الجبهة لفترات ولم يتمّ تنفيذ أيّ عمليّة! ولهذا ومع كلّ هذه الأحداث التي وقعت في تلك الفترة، والأعمال التي قمنا بها، كنّا نظنّ، بأنّنا لم نفعل شيئًا، وذهبنا في إجازة بهذه الحال المعنوية.

 

ما إن تحرّك القطار حتّى بدأ المزاح والشغب. كانت الوجهة طهران،

 

196

 


188

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

ولكلٍّ منّا برنامجه فيها. أراد بعضٌ زيارة حرم المعصومة في قم، وبعضٌ آخر أراد زيارة الشاه عبد العظيم الحسني، فيما عزمتُ وآخرون على التوجّه إلى "بهشت زهراء" (روضة الشهداء). لدينا فرصة إلى العصر، موعد تحرّك القطار نحو تبريز، فأحببت في هذه الفترة أن أذهب لزيارة "بهشت زهراء" التي تمدّني بالمعنويّات كما لو أنّني شاركت في عدّة عمليات، قبر الشهيد بهشتي، الشهيد مصطفى شمران، آية الله طالقاني، والشهداء المجهولين و... حيث إلى جانب قبور أولئك الشهداء العظام يمكن استلهام الكثير من القوة والعزيمة والمعنويات للمضي قدمًا في الجهاد والمقاومة... ومع أنّ الشهداء كانوا يسقطون في الجبهة أمامنا، إلّا أنّني أعيش شعورًا من نوع آخر عند زيارة قبورهم في المدن، ورؤية ردود فعل أهاليهم الذين يجسّدون مشاهد رائعة هناك. طالما اعتبرت أنّ السنوات الطوال التي قضيناها في الجبهة والجهود التي بذلناها تصغر أمام صبر الأُسر والعوائل، وتضحيات الشهداء وعظمة الحرب. رأيت هناك والدة شهيد أعدّوا لها غرفة صغيرة وضعت فيها بعض الأغراض لتعيش إلى جانب قبر ولدها. كان عوائل الشهداء عندما يروننا ويدركون من ملابسنا وهيئاتنا أنّنا مجاهدون، يغمروننا بالمحبّة ويخجلوننا بكلامهم. يبحثون فينا عن ذكرى من أعزّائهم، فتقوى عزيمتنا برؤيتهم. من أجل كلّ هذه الأمور، عشقت زيارة قبور الشهداء دومًا.

 

كنت حينها برفقة "أيّوب ضربي"، "حسن باقران" وبعض الأصدقاء الآخرين، إضافة إلى شخص آخر تعرّفت إليه حديثًا، ولم أعلم وقتها إلى أين ستصل هذه الصداقة. يُدعى "أمير مارالباش".

 

بالنسبة إليّ ، لم تكن هذه إجازة بالمعنى الصحيح، فبالكاد ذهبت

 

 

197

 


189

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

حتّى أردت العودة. أكثر ما كان يدعوني للمجيء في إجازة هو رؤية العائلة والأصدقاء، رغم عدم امتلاكي الكثير لأخبره للإخوة في المقرّ (في المدينة)، فلم ننفّذ أيّ عملية في تلك الفترة، واعتقدتُ أنّنا لم نفعل شيئًا يستحق الذكر. أردت فقط التحدث إلى أولئك الذين التحقوا بالجبهة منذ ثلاثة أشهر ويريدون الآن إنهاء خدمتهم. قلت لهم إن قرّرتم العودة بعد ثلاثة أشهر إلى المدينة فستخلو الجبهة، شاركوا بالحدّ الأدنى في عمليّة من العمليات ثمّ عودوا إن أردتم. أحيانًا كنت أحدّث الإخوة عن ذكرياتنا في الجزيرة وعن معنويّات المجاهدين وشغبهم. هناك، بدأت ألتقي بأمير مارالباش أكثر من ذي قبل، وبدأت أكتشف معدنه. سبق ورأيته مرّة واحدة في صلاة الجمعة، بصحبة فرج قليزاده، وأراد أن نصبح أصدقاء، لكنّني لم أهتمّ لذلك. لم أعتد اتخاذ الأصدقاء بتلك البساطة، أمّا حين يصبح أحد ما صديقًا لي، أخلص له حتى النهاية. حينذاك لم أكن ودودًا مع أمير، لكنّنا تعرّفنا إلى بعضنا بعضًا أكثر في القطار أثناء العودة إلى تبريز، وبقينا على تواصل في المدينة. ذات يوم اصطحبني إلى منزلهم، وهناك أخبرني قصّة حياته. قال إنّ والديه تجمع بينهما صلة القرابة، وإنّ خاله كان من رجال السافاك (المخابرات الإيرانيّة زمن الشاه)، فاستغلّت أمّه موقعيّة أخيها، واستولت على أموال أبيه وممتلكاته كلّها ثم انفصلت عنه. أمير الذي كان يبلغ من العمر خمس سنوات يذكر جيّدًا الأيّام القاسية التي قضاها برفقة أبيه وأخيه، ويقول: "بعد تلك الحادثة، استأجرنا غرفة، وضعنا سريرًا في زاوية منها كنّا ننام نحن الثلاثة عليه. أمّا أبي، فأضحى يعمل في حياكة السجّاد لتحصيل لقمة العيش، ويتدبّر أمورنا بالأجرة الزهيدة التي كان يتقاضاها".

 

انقلبت أحوالي عند سماع ذكريات طفولة أمير، وقصة الهبوط من القمّة إلى درجة الحاجة للُقمة تسدّ الرمق. لكنّ الصبر والحياة العزيزة ليسا شأن الجميع. بكيت تلك الليلة وحدي.. ورحت أفكّر في أمير

 

 

198


190

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

الذي اسمه في الهوية "هوشنك"، وقد التحق بالجبهة منذ سنّ الرابعة عشرة، كم كان إنسانًا عظيمًا وجديرًا بالصداقة. لقد عانى كلّ صنوف الحرمان، ورغم ذلك عندما أصبح شابًّا يافعًا وقف نفسه للجبهة. ليس أمير وحده من عاش حياةً قاسية، فمعظم شباب الحرب القدامى، تدرك عندما تتحدّث إليهم أيّ حياة شديدة وصعبة أضنتهم. على كلّ حال، أصبح أمير وعائلته أصدقاء عزيزين عليّ، وتوطّدت علاقتي بهم أكثر مع مرور الأيام، وسرعان ما سرت هذه الصداقة إلى عائلتي، فصاروا كلّما رأوني يسألون عن أمير مباشرةً.

 

كنت في الفترات الفاصلة بين العمليات وفي الإجازات، أتابع علاج جراحاتي الحديثة والقديمة. فبعد إصابتي في عملية مسلم بن عقيل، حدثت لي مشاكل جمّة. إضافة إلى جراح بطني ورجلي العميقة، تغيرت تقاسيم وجهي، فشظية شوّهت أنفي، وأخرى سحقت عظام خدّي وفكّي الأيمن بالكامل، أمّا عيني اليمنى فقد ضعفت قدرتي على الإبصار بها بسبب الرضوض التي أثّرت على أعصابها. كان وجهي قد تشوّه، بفعل هذه الجراح، بنحو كان كلّ من يراني للمرّة الأولى يتسمّر في مكانه مدهوشًا! لم تكن القضيّة قضيّة جمال الوجه، بل ابتُليت بمشاكل أكثر أهمية، فقد تعطّل أنفي عن العمل، وصرت أعاني حتى من مشاكل في التنفّس. كما إنّ فكّي الأيمن راح يتورّم مع الوقت عندما كنت نحيلًا في البداية، وصرت أعاني عند التكلّم والأكل. وبالطبع، ومع استمرار الحرب، تغيّرت طبيعة هذه الأزمات، وسأتكلم عنها.

 

بعد إصابتي، أُجريت العمليّة الأولى في وجهي في مستشفى كرمانشاه، ولا أذكر شيئًا عنها. وفي مشهد أيضًا أُجريت عمليّة ثانية لوجهي، لم تأتِ بنتيجة، فبقيتُ كما كنت، أعاني مشاكل كثيرة بسبب فقدي لأنفي.

 

199


191

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

لم يكن ممكنًا أن أذهب في إجازة ولا أذهب إلى عيادة الطبيب أو إلى المستشفى. في تلك الفترة كنت قد تعرّفت حديثًا إلى أمير عندما أعطاني الأطباء في تبريز بطاقة لإجراء عملية جراحية لأنفي في طهران. كانت البطاقة باسمي، لكن من غير الممكن أن يبقى أمير في تبريز في تلك الظروف وأغادر إلى طهران وحدي.

 

ذهبنا معًا إلى طهران، وكان من المقرّر أن ننزل في فندق قريب من مؤسّسة الشهيد، لا يمكن الدخول إليه سوى من خلال البطاقة التي أعطوني إياها، فحاولت وأمير بكلّ الوسائل عبور مداخل الفندق. غالبًا ما كنت أصعد إلى غرفتي، وأرمي له البطاقة ليدخل بدوره بواسطتها. لم تكن تحدث أيّ مشكلة في ذلك بسبب عدم وجود صورة على البطاقة، فظلّ أمير برفقتي دومًا. احتوت الغرفة على سرير إضافيّ، ذلك أنّ معظم المجاهدين الذين يأتون إلى طهران للعلاج، كانوا ينزلون عند أقاربهم. المشكلة فقط في الطعام، حيث يقدّمون وجبةً واحدةً مقابل كلّ بطاقة، ثم يضعون علامةً عليها. أحيانًا كان السطو على الطعام غير ممكن، فصرنا نخرج ونشتري الطعام بأنفسنا. بعد عدّة أيّام من الذهاب والإياب والمعاينات الأوّليّة وإجراء التحاليل اللازمة، تقرّر إدخالي في جامعة طهران إلى مستشفى صغير متخصّص في عمليات الأنف والأذن والحنجرة. أخبروني هناك أنّهم سينزعون قطعة من عظم الرجل وقطعة من لحم الجبهة ليزرعوهما في أنفي المعطوب، فيرتفع قليلًا ويبرز.

 

عندما دخلت المستشفى، بطل مفعول العمل بالبطاقة تلقائيًا، فقصد أمير منزل أحد أقربائه ليبيت لياليه هناك، ويأتي في الصباح الباكر ينتظر أمام البوابة حتّى يحين موعد الزيارة، وذلك في تمام الثانية بعد الظهر. أصبح يشتري لي طعام الفطور ويعطيه للحارس ليسلّمه لي، وعند الثانية ظهرًا أراه على باب غرفتي حاملًا معه الطعام مجدّدًا.

 

200

 


192

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

اعتدت وجوده إلى درجة صرت أشرع بالتذمّر بمجرد أن يتأخّر لدقيقة أو دقيقتين عن الساعة الثانية، وأقول: "أمير! أين كنت إلى الآن؟!؟". لم أذق بعد تلك الأيام شيئًا من لحم الكبد والمرطبات ألذّ طعمًا من تلك التي كان يحضرها أمير.

 

أخيرًا أُجريت لي العمليّة لتبدأ مشاكل ما بعد العملية. الجزء الذي أُخذ منه العظم في رجلي، بدأ يؤلمني أكثر من أنفي وجبيني بأضعاف مضاعفة، وكان جرحي يُفتح وأتلوّى من شدّة الألم عندما أسعل، وقد أكّد عليّ الممرّضون بأن أتجنّب السعال، وألّا أتحرّك لعدّة أيّام. حاولت جاهدًا تحمّل كلّ شيء على أمل أن تؤتي العمليّة ثمارها، ويصبح لديّ أنف في وجهي. في اليوم الخامس أُذن لي بالخروج من المستشفى. كانت نتيجة العملية مرضية، وقد ظهر مكان الأنف في وجهي إلى حدٍّ ما. قام أمير بكلّ الترتيبات لنعود إلى تبريز. خرجنا من المستشفى المجاور لجامعة طهران، واتّجهنا نحو "ميدان انقلاب". لم تقدّم في ذلك الوقت أيّ تسهيلات للجرحى بعد خروجهم من المستشفى، فلزم أن نركب الحافلة أو أيّ وسيلة أخرى للعودة إلى مدينتنا. كان أنفي مضمّدًا، وبينما سرنا في "ميدان انقلاب" في طهران لنركب سيّارة أجرة تنقلنا إلى موقف الحافلات، لفتني شخص يركض نحونا بسرعة، لا أعلم لِمَ كان مسرعًا إلى هذا الحدّ، وفي ظرف ثوانٍ وصل إلينا، ومن دون أن يلتفت إلى أنفي المضمّد ضربني بمرفقه ضربة قويّة على وجهي! كدت أغيب عن الوعي. لم أعد أرى أمامي، وبدأت الدموع تنهمر من عيني، أمّا وجهي فشعرت وكأنّ نارًا هبّت فيه. أمسكت برأسي لدقائق وجلست على معبر المشاة. صفعني عديم المروءة بقوّة على أنفي المزروع فهشّمه من جديد وبدأ ينزف بشدّة. أعادني أمير إلى المستشفى وهو مضطرب وخائف، وذلك من دون أن يلتفت أحد في زحمة المستديرة إلى ما حدث لنا!

 

أخبرنا من في المستشفى بما حدث، فعاينوا جرحي لكنّهم لم يوافقوا

 

201

 


193

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

على دخولي من جديد. قطعت الأمل من كلامهم: "لقد تهشّم هذا العظم من جديد! ولا يمكن إجراء عمليّة ثانية لك قبل أن يتحسّن القطب ويتعافى جرحك قليلًا، بعدها نرى ما نفعل...".

 

انقبضت أحوالنا جرّاء الألم والتعب والإرهاق، إضافة إلى هذه الحادثة السيّئة. وعلى تلك الحال، عدنا أدراجنا لنركب سيّارة إلى موقف الحافلات. المسكين أمير بات من فرط محبّته وعاطفته أكثرَ قلقًا منّي. غادرنا طهران على وقع تلك الصدمة العنيفة.

 

وجهتنا الأولى في تبريز كانت المستشفى. لم يتمكّنوا من فعل شيء سوى تغيير الضماد. عدت إلى البيت وبقيت فيه عشرة أيّام بتمامها طريح الفراش. أجواء أواخر الخريف في تبريز باردة وقارسة فلم أبدِ استعدادًا حتّى للذهاب إلى الطبيب. وعند تغيير ضمادات جرحي كنت أرى ما حلّ بالعظم وكيف ظهر من تحت الجلد! غيّرتُ كلّ يوم ضمّادي بنفسي، وعاينتُ لون العظم وهو يتغيّر ويتآكل، إلى أن سحبته يومًا ورميته بعيدًا! قال الطبيب إنّه عليّ الانتظار خمسة أشهر لإجراء عمليّة أخرى. وتحرّرت من التفكير بأنفي لمدّة، وخطّطت وأمير للذهاب إلى الجبهة مجدّدًا.

 

عدت وأمير إلى الفرقة. قيل لنا إنّ العملية على الأبواب، وستُرسلون إلى منطقة ما من أجل التدريب، ومن هناك تذهبون مباشرة إلى منطقة العملية. لم يخبرنا أحد عن مكان التدريب.

 

فقد كُشفت عدة عمليات بعد عملية خيبر وإلى ذلك اليوم، لذا صار شباب الاستطلاع يعملون جاهدين وبجدّيّة على حفظ المعلومات، كما إنّنا بدورنا لم نكن نصرّ على

 

202

 


194

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

تقصّي مكان التدريب.

 

بعد يومين أو ثلاثة، ركبنا الحافلات في عتمة الليل. أُسدلت ستائر النوافذ، كما أُسدلت ستارة فيما بيننا وبين السائق وذلك حتّى لا نرى الطريق. كان الذهاب إلى التدريب أمرًا سارًّا ومفرحًا بعد انقطاع طويل عن العمليات.

 

مع طلوع الفجر ترجّلنا من الحافلات. قال صديقنا الحبيب علي أكبر مرتضوي مباشرة: "هنا الهور!"، كان محقًّا، فبعد قليل علمنا أنّنا في منطقة في هور الهويزة تُدعى "كَسور". على بعد خمسة عشر كيلومترًا من "بستان" هناك جادّة تؤدّي إلى منطقة بعيدة عن الاشتباكات، مغطّاة بالقصب والأشجار الصغيرة، يمرّ فيها نهر جارٍ. المنطقة واسعة وخالية من القوّات، وكان "بابا" واثقًا بأنّه يعرف المنطقة ولا أحد غيره يعلم أين نحن. لم يكن الصباح قد أسفر عن وجهه بالكامل، عندما بدأنا نتموضع في أماكننا، وإذا بنا نسمع صوتًا غريبًا.

- إنّها أصوات بنات آوى!

 

ومهما حاولنا العثور عليها بين الشجيرات لم نفلح. بعد قليل ظهر قطيع من الأبقار، يبدو أنّها كانت تخصّ مزارعي القرى المجاورة "لبستان"، وتركوها خلال الحرب فبدأت تصبح وحشية تدريجيًّا. الوقوف وجهًا لوجه أمام قطيع من البقر الوحشي بلا شك أمر خطر. فيما بعد طلب الإخوة إجازةً لقتل هذه الأبقار، فجاء الجواب: "لا تقتلوها، لكن يمكنكم الاستفادة من حليبها!"، لم يكن لذلك معنى، حيث لم نجرؤ على الاقتراب من تلك الأبقار، فكيف بنا نحلبها ونستفيد من حليبها!

 

بدأنا العمل منذ اليوم الأوّل. فقبل انتقال كتيبة الإمام الحسين عليه السلام إلى منطقة التدريب، جاء عدد من الإخوة لاستطلاع المكان وتحديد أماكن السرايا، ونُصبت الخيام بسرعة. وهناك علمنا أنّنا سنخضع

 

203


195

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

لدورة في التدريب على الغطس. عدد قليل من الإخوة بيننا يعلمون كيفيّة الغطس، وقد خضعوا سابقًا في عملية خيبر لدورة مختصرة فيه.

 

نحن في أواخر خريف1984وبداية فصل الشتاء، والجوّ بارد جدًّا إلى درجة أن طبقات من الجليد غطّت الأرض في ساعات الصباح الأولى. بدأت التدريبات. أرعبونا في البداية. قالوا سنذهب إلى داخل حقول القصب لنتعلّم السباحة، ومن ثمّ نتعلّم الغوص وقيادة الزوارق في مكان أوسع. من المقرّر أن يخضع كلّ عناصر الكتيبة لدورة في التدريب على الغطس، لكنّ مجموعة قليلة منهم فقط ستشارك في العملية كغوّاصين.

 

دخلنا الماء عن طريق رصيف الميناء الذي بني مع جسر خيبر. برودة الماء تنخر العظام. بدأت أسنان الجميع تصطكّ من شدّة البرد، أمّا أنا فشعرت بأنّني أُصبت بالشلل. بعد ساعة أو ساعتين كنّا نخرج من الماء، وندخل خيمة أعدّها شباب التجهيزات على رصيف الميناء نفسه، ودفّأوها بالمدافئ النفطيّة، ليباشر الإخوة في قسم التجهيزات العمل، حيث يستقبلوننا بالتمر المحشوّ بالجوز. كنا نبقى فترة على تلك الحالة حتّى نعود إلى حالتنا الطبيعيّة. خلال يوم أو يومين بدأت جراحي تؤلمني من جديد، تأذّيت، إلّا أنّني لم أكن لأتخلّى عن هذه الدورة. فقد كنت أجيد السباحة، إلا أنّها تختلف عن الغوص الذي أردت تعلّمه بإصرار. لم يتشدّد المدرّبون معي عند التفاتهم إلى وضعي الجسدي، أمّا أنا فقد نحّيت جراحي وآلامي جانبًا لأبقى مع الإخوة إلى آخر الدورة وأشارك في العملية.

 

خلال فترة التدريب اهتمّوا بنا جيّدًا من الناحية الغذائيّة. وفّروا كلّ شيء بكثرة، خاصّة الأغذية الغنية بالطاقة. فراح الإخوة يقولون مازحين: "إنّهم يهتمّون بنا جيّدًا ليستهلكونا جيّدًا!". تحت ذلك المطر الشديد، وفي ظلّ البرد القارس، والتدريب على الغوص، تلعب التغذية الجيّدة بلا شك

 

204

 


196

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

دورها، فتقوّي إلى حدٍّ ما أجساد الشباب، وإلّا فكلّنا يعرف بأنّه لا يمكن تحمّل تلك الظروف إلّا من خلال قوّة الإيمان وقوة الدافعية.

 

حينذاك كان البيض متوافرًا إلى درجة أنّ الإخوة صاروا لا يأكلون منه سوى الصفار. وقد علّمنا علي شكوهي كيف نخلط البيض بالسكّر ونأكله، وكان لذيذًا ومغذّيًا. أمّه طبيبة، فعرف هو أيضًا كيف يهتمّ بالوضع الصحّي للإخوة، فمن احتاج منهم إلى حقنةٍ أخذه إلى خيمة وُضع في وسطها حرام وحقنه هناك. كان إنسانًا ودودًا وأكنّ له المحبّة.

 

وكانت أُعدّت في المنطقة خيمة خاصة للطبابة، يوجد فيها طبيب يعالج عوارض الإخوة الصحّيّة، ويداوي من كان بحاجة منهم إلى التداوي، لكن أحيانًا كانت تسوء أحوال بعضهم من شدّة الصقيع، فيضطرون إلى إرسالهم مع حارس إلى الخطوط الخلفيّة، ليعودوا بعد أن يتلقوا العلاج اللازم. إلى ذلك اليوم لم أكن قد رأيت مثل تلك الدقّة والمراقبة من قبل معلومات المنطقة.

 

الشيء الوحيد الذي كان ينقصنا ونحتاجه بكثرة هو الحمّام. بدأ الإخوة العمل، فلحّموا بعض قطع الحديد وصنعوا منها موقدًا وضعوا فوقه برميلًا مكشوف السطح، وأوقدوا النار تحته. كما ابتكروا خرطومًا مدّوه إلى الحمّام، فأصبح بإمكاننا الاستفادة منه عند الضرورة، لكن بقيت مسألة تأمين الماء، إذا كان يجري بالقرب من تلك الناحية بشكل موحل وغير صالح للاستحمام، فكنّا غالبًا ما ننقل ماء المطر المتجمّع في حفرة ونفرغه في برميل، ونسدّ حاجتنا به.

 

انقضت خمسة عشر يومًا من التدريب هناك. ذات يوم استيقظنا من نومنا، فقيل لنا إنّ علينا الذهاب في إجازات لمدة أربعة أو خمسة أيّام. بدا الوجوم والقلق على الجميع: "لعلّ الأمر...!". بقينا حتى الليل حيث قالوا لنا إنّنا سننتقل بالطائرة. كان خبرًا سارًّا ومطمئنًا، فلم نعد

 

205


197

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

مجبرين على المكوث ثمانيَ وأربعين ساعةً في القطار! ركبنا الحافلات ليلًا، وخرجنا من المنطقة كما دخلناها، تحت إجراءات مشدّدة للمعلومات. طلبوا منّا أن لا نرفع ستائر النوافذ، وللإنصاف، فقد امتثل الإخوة لهذا الأمر. حتمًا، كنّا نسمع في المنطقة التي تدرّبنا فيها أصوات القذائف المدفعيّة العراقيّة التي تسقط على "بستان"، وعلمنا أنّنا على مقربة منها. كما استطعنا التخمين من نوعيّة التدريب بأنّ العملية الآتية ستكون برمائيّة، لكنّ احتمال القيام بتنفيذها قد ضعف بنظرنا بسبب مغادرتنا المنطقة.

 

توقفنا في ثكنة للفرقة[1] أنشئت حديثًا في دزفول، وأطلقوا عليها اسم "شهداء خيبر"، منتظرين تحرّكنا نحو المطار والسفر إلى تبريز. مكثنا هناك ليومين من دون أن نقوم بأيّ عمل محدّد، إلى أن أُبلغنا بوجوب التحرّك نحو مطار دزفول فهببنا جميعًا وانطلقنا. لم نعلم أيّ رفاهية تنتظرنا!

 

فوجئنا بزحمة المطار. فمعظم كتائب الفرقة سبقتنا إلى هناك، علي الأصغر، علي الأكبر، الإمام الحسين عليه السلام، الهندسة، التجهيزات العسكريّة و... وكانوا يقولون لنا باستمرار: "يُمنع حمل الرصاص والقنابل وكاميرات التصوير و..."، وقفنا في صفوف طويلة متعرّجة أحيانًا بغية التفتيش الجسدي، وحين رأيت ذلك الصفّ المتعرّج علت صرختي: "لا أستطيع الوقوف كلّ هذا الوقت في الصفّ!". فكنت في الأماكن التي تتعرّج فيها الصفوف وتقترب من بعضها، أندسّ في الصفّ الأمامي، ويتبعني بعض الأشخاص ويندسّون خلفي، ليعلو صراخ الإخوة: "يا سيّد! قف في الصفّ". ومع كلّ ذلك الاحتيال والغش، بقيت منتظرًا منذ وصولنا في الصباح، إلى قرابة الظهر! بدأ الإخوة بالاستهزاء

 


[1] لقد غُيّر اسم هذه الثكنة بعد شهادة قائد فرقة عاشوراء المحبوب في عملية بدر ليصبح "ثكنة الشهيد باكرى".

 

206


198

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

والسخرية خلال وقوفهم في الصف، وكانت سخريتهم ممتعة. أحدهم قال إنّه صفّ الحليب، آخر قال: "صفّ الخبز، و...". ضقنا ذرعًا من الزحام والحرّ. أخيرًا جاء دورنا للتفتيش، وحيث لم نكن نحمل أيًّا من الممنوعات، عبرنا بسرعة. دخلنا قاعة المطار، لنجد هناك صفًّا آخر بانتظارنا: "صفّ الدخول إلى الطائرة". لم أصدّق أنّ كلّ هذه الجموع ستنتقل إلى تبريز في طائرة واحدة، لكن القرار بأن يحشر الإخوة أنفسهم مهما أمكنهم على متنها. أخيرًا كُحّلت أعيننا برؤية جمال الطائرة. وأيّ طائرة! لم تكن تشبه من الداخل الطائرات في شيء. لم يكن فيها مقاعد ولا أيّ وسائل أخرى، لقد نُزع حتّى غلاف هيكلها الداخليّ. أمّا المسارب الهوائيّة التي تسرّب الهواء منها أحيانًا بشدّة، فمنحتنا انزعاجًا كافيًا! هذا مضافًا إلى الأرضية المليئة بالقضبان المعدنيّة، ولا يمكن الجلوس عليها.

بعد الأمطار التي انهمرت صباحًا في دزفول، ووقوفنا في المطار تحت أشعّة الشمس الحارقة، خلعنا جميعنا ملابسنا وبقينا في الفانيلات. لقد تعرّقنا من شدّة الزحام واقعًا. فيما كان قائد الطائرة يطلق نداءه دومًا: "لحفظ الإمام وسلامته، صلوات على محمّد وآل محمّد!".

 

207


199

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

- صلوات ليُفتح طريق للإخوة الذين لم يدخلوا بعد!

 

الوضع يشبه يوم القيامة. حُشرنا جنبًا إلى جنب بحيث يصعب علينا التنفّس، فكيف بالتحرّك من أماكننا وإطلاق الصلوات! وقائد الطائرة يقول: "أريد أن أوصلكم إلى تبريز في ظرف ساعة وأربعين دقيقة. زحزحوا الآن أنفسكم كيفما كان ليتّسع المكان للجميع!". صعد الإخوة بعضهم فوق أكتاف بعض، إلى أن أُقفلت الأبواب. كانت حركة الطائرة مثل شخص بدين يتأرجح مع كلّ خطوة إلى هذه الناحية وتلك، ما جعل ذلك سببًا لسخرية أكثر الإخوة: "لإقلاع الطائرة صلوات على محمّد وآل محمّد!". أقلع الطائر الحديدي فملنا جميعًا إلى الوراء، وعلا أنين الإخوة: "آخ لقد متُّ! انغرز القضيب في ظهري!... لا أستطيع التنفّس!...".

 

أحيانًا كان الإخوة يبالغون في الأمر، ضحكنا كثيرًا إلى حدّ آلمتنا خواصرنا. برأيي إنّها كانت طائرة خاصّة بشحن الذخائر ونقل الحمولات، وربّما تصلح لنقل الجرحى، أمّا أن يركب فيها عدّة كتائب بتلك الحال، فهي حادثة لن تتكرّر، لكنّها أصبحت لنا ذكرى، بقينا لفترة طويلة ما إن نتذكرها يُغشى علينا من الضحك! رافقتنا طوال فترة تحليقنا ثلاث أو أربع طائرات حربيّة، إلى أن دخلنا بالنهاية سماء تبريز سالمين. انخفضت الطائرة. ولكنّها لم تستطع الهبوط. كانت حالنا تشتدّ سوءًا مع كلّ حركة وتجنيح، الأجساد المبلّلة عرقًا، والمحشورة جنبًا إلى جنب، وأصوات الأنين أو الضحك... إلى أن حطّت الطائرة بعد دورة فوق سماء المدينة.

 

ما إن فُتح الباب حتّى جرى تيّار هوائي مثلج إلى داخل الطائرة. وراح كلّ من يخرج منها يجري بسرعة نحو الباب الخارجي للمدرج. وعلى ما يبدو، فقد أبلغوهم من دزفول بأيّ وضع أتينا، لذا، فقد هيّأوا الحافلات، لكن كان يفصلنا عنها حاجز حديديّ ذو قضبان كثيرة، لم يُفتح قبل مجيئنا. ركض الجميع نحو الحاجز، وكنت من أوائل الواصلين إليه، لكنّ الحارس لم يتمكّن من فتح قفله. تدريجيًّا ازدادت الجموع واحتشدت كلّ لحظة عند الحاجز لتشكّل ضغطًا كبيرًا عنده. تعرّضتُ لكبسة شديدة بجانب قضبان الحاجز بنحو أحسست بأنّ قفصي الصدريّ سينكسر! ودخل رأسي بين قضيبين من شبك الحاجز، نور على نور! وكانت المسافة بين هذه القضبان لا تتّسع لأعبر بجسدي من خلالها. علقت حقًا: "أكاد أموت! لا تدفعوني!.. أكاد أموت!". صرخت بقوة، لكن من كان ليصدّق كلام نور الدين عافي المشاغب؟ رحت أستنجد بالواقفين أمامي في الجهة المقابلة وراء الحاجز أن يدفعوا برأسي إلى الخلف لعلّي أتحرّر.

 

208

 


200

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

وبلطف الله وعنايته خرجت من تلك المعركة سالمًا. فُتحت الحواجز.. توجّهتُ نحو الحافلات وأنا أرتجف خوفًا من الاختناق ومن برد تبريز القارس. ركبت الحافلة العاملة على خطّ شارع بهار قاصدًا منزل أخي، ووصلت إليه بعد ساعة. وكنت عازمًا على المكوث هناك ساعةً أيضًا، ومن ثمّ أتوجّه إلى القرية، لكن، لحسن الحظّ، وجدتُ العائلة كلّها مجتمعة هناك، وفرحوا جدًّا لقدومي. بعد السلام وتقبيل الجباه، سألتني الوالدة قبل الجميع: "هل أتيت بهذه الطائرة؟".

- أجل!

- لاحظت أنّها غريبة، لقد استغرقت وقتًا حتّى حطّت!

 

وبحضور الوالد، قصصت على الجميع ما جرى معنا في الطائرة، فضحكوا وضحكوا. وحين أنهيت حديثي وانتهى الضحك، بدأوا بتأنيبي، كأنّ الكيل كان قد طفح منّي. تحدّثوا عن مشاكل البيت، وقال والدي لي: "بني! لا يصحّ أن تبقى في الجبهة إلى الأبد!".

- ما الذي حصل؟

- يا أخي ذهبت إلى هناك ولم ترجع. إنّ مدّة "خدمة العلم" أربعة وعشرون شهرًا، وقد قضيت إلى الآن هناك أربع سنوات!

- أجل! سأبقى ما دامت الحرب قائمة. لا تحدّثني في هذا الشأن أبدًا، وفيما عدا ذلك، فأنا حاضر لتنفيذ كلّ ما تطلبه... بالمناسبة، هذه ليست "خدمة"، إنّها شيء آخر!

 

بتنا في الفترات الأخيرة نخوض في مثل هذه الأحاديث في أيّام إجازتي، فصرت أحدّث نفسي حينذاك بأنّ حتّى عوائل المجاهدين لا يعلمون بما يدور في الجبهة. أمّا نحن الذين خُضنا في قلب الحدث، ووعينا وضع الجبهة بكلّ وجودنا، فلم نكن نستطيع نسيانها. وكلّما سرنا قدمًا وعرفنا المزيد من الأمور، كبرت مسؤوليّتنا وتضاعفت. أساسًا،

 

209


201

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

اعتبرنا أنفسنا مُلكًا للجبهة، بينما لم ينظر الناس في المدن إلى المسألة بهذا الشكل. لم تكن تلك الأسئلة والأجوبة جديدة، لكن أسلوب الكلام اختلف. ثم إنهم تكلّموا وتكلّموا إلى أن قالوا: "أنت لا تريد أن تتزوّج؟!".

- لِمَ لا، هذه فكرة جيّدة!

 

أذهل جوابي الجميع. كأنّهم كانوا يتوقّعون أنّني سأتهرّب من هذا الأمر. هذه المرّة، حين سمعوا ردّي الإيجابي، تصدّى والدي للحديث قائلًا: "إن أنت تزوّجت، ماذا تريد أن تفعل؟ وأين ستبقى؟...".

- يا أبي، الله كبير، أي ألا يمكنه تهيئة مكانٍ لي؟!

 

كنت أعلم جيّدًا، أنّهم أرادوا جميعًا من خلال زواجي أن يلزموني بالعيش في المدينة. ويبدو أنّهم قد تداولوا في المسألة، وكانوا فقط ينتظرون عودتي. عندما رأيتهم جادّين فيما يقولون، ذهبت إلى قائد كتيبتنا أصغر قصّاب، وأخبرته بأنّ أمرًا ما قد حدث، وعليّ أن أبقى في تبريز لخمسة أو ستّة أيّام إضافيّة. فقال الأخ أصغر: "لا إشكال في ذلك! عند عودتك، تعال إلى مقرّ الفرقة".

 

في البيت، وُضع الحديث عن شروط الزواج على نار حامية. لكنّني أيضًا لم أنثنِ، وقلت أنا من ينبغي أن يضع الشروط، لا أنتم ولا العروس. أنتم اسعوا أن تجدوا من توافق على شروطي.

 

يومها، أخبرت أمير مارالباش بما حدث. ورغم أنّه كان يصغرني سنًّا إلّا أنّه أصبح من أقرب المقرّبين إليّ، ولم نعد نحتمل الابتعاد أحدنا عن الآخر في أيّام الإجازة، فإمّا أن أكون في بيته أو يكون في بيتنا. قال أمير: "لا إشكال في ذلك، أعطني صورةً من صورك". كما أخبرت اثنين آخرين بالأمر، أحدهما صديقي "حسن خوشبو" الذي طلب أيضًا صورةً لي، وقال إنّه يعرف فتاةً قد تقبل بشروطي. انتقيت من بين صوري، الأسوأ

 

210


202

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

منها وأعطيتها له، الصورة التي تُظهر تمامًا وجهي المهشّم. فيما انتقت أمّي صورةً لي قبل الإصابة. أيّ قلب تمتلكه الأمّهات...! حقًّا، كيف كان وجهي، ولم أكن قد لحظت ذلك إلى حينها. تمنيت أن لا تقبل بي أيّ فتاة بتلك الهيئة. لقد خفت فعلًا من أن أنشغل في المدينة، ولا أدرك العملية التي تعبت لأجلها ستّة أو سبعة أشهر! ومع أنّني قبلت بأمر الزواج في الظاهر، إلا أنّني في قرارة نفسي كنتُ ما أزال متردّدًا وكنت واثقًا من أنّ الزواج سيضاعف من مسؤوليّتي. تذكّرت كلام أحد الإخوة الذي يقول: "هناك حالتان في الالتحاق بالجبهة لا ثالثة لهما، إمّا أن تعود أو تموت. وإن متَّ فهناك حالتان، إمّا أن يعود جسدك أو تصبح مفقود الأثر. وإن عدت فهناك حالتان، إمّا أن تعود سالمًا أو معطوبًا..."، وهكذا، كان هو يسترسل في الكلام ونحن نضحك. لكنّني بتّ الآن أفكّر في الأمر. عندما رأى حسن تردّدي قال: "أنت الذي تريد البقاء في الجبهة، إن استشهدت غدًا، فلن يكون هناك من يخلفك ويكمل طريقك..."، يا لها من ورطة! فأمّي والعائلة شرعوا بالتفتيش بشوق وحماسة عن الفتاة المناسبة لي، فيما أقنعت نفسي: "صحيح، أنّ الله لن يتركني وحيدًا، لكن لا بأس بوجود أحد يخلف الإنسان...".

 

عندما تحدّثتُ إلى أمّي وعلمتْ في أيّ عالم أنا، غضبتْ منّي. أحيانًا كنت أعاندها وأستفزّها إلى أن ننفجر أخيرًا بالضحك. الجميع يسعون في زواج السيّد نور الدين الذي لا يملك فلسًا واحدًا. فإلى ذلك الحين، لم أعمل سوى في الجبهة، والـ(2200) تومان التي أتقاضاها، أنفقها في التنقّلات أو في الإجازات على الطعام والمصاريف الضروريّة، ولا أدّخر منها شيئًا. كان أبي غارقًا في عمله ولم أتوقّع منه شيئًا. لكنّ أمّي بادرت بعملها بكلّ اندفاع. جاءني بعض الإخوة الذين عرفوا بالأمر وأخذوا صورًا لي ومشوا. بلغ الأمر حدًّا علت فيه صرختي: "إن كان من المفترض أن يأخذ كلّ واحد صورة لي، سأجد أمامي في النهاية كتيبة من الفتيات!".

 

211


203

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

والحال أنّ واقع الأمر لم يكن بهذا الشكل. ذات مرّة جاءت أمّي وقالت رأينا فتاةً جيّدة وأعجبتنا، لكنّك أنت لن تقبل. قلت: "وكيف ذلك؟". قالت: "بشرطك الذهاب إلى الجبهة فلن تسير الأمور كما ينبغي".

- إذًا، دعكِ من هذا الأمر. شرطي الأوّل هو: ما دامت الحرب قائمة، سأظلّ في الجبهة!

 

فكّرت يومها أكثر في تلك المسألة، سأجنّ فعلًا إن نُفّذت عملية وأنا في المدينة! فقد أصبحت قصّتنا مع الحرب كقصّة السمكة والبحر. لم أكن مستعدًّا لأستبدل مشقّات الجبهة كلّها، بجوعها، وقلّة نومها، وحزنها، بيوم واحد في المدينة أقضيه براحة بال.

 

لم تطل المدّة حتّى أخبروني بأنّ فتاةً قد قبلت بكلّ شروطي وتُدعى "معصومة أشرفي". جاءني حسن قائلًا: "تعالَ يا سيّد لقد قبلت بك!".

- قل لي من هي التي قبلت بي وأنا بهذا الوضع؟!

 

وجاء إليّ أحد شباب المعلومات وقال: "أرى أنّك ستصاهرنا!".

- إذًا، هي من عائلتك!

- أجل، إنّها ابنة عمّي... والآن، كيف تقيّم أنت نفسك؟

 

أخذتني الضحكة. عرفت أنّه جاء من أجل التحقيق. قلت: "كما ترى! بالمناسبة، صحيح أنّك من عناصر المعلومات، لكن، تفتقد إلى الخبرة قليلًا، حيث أتيت تسألني عن نفسي. اذهب واسأل الناس عني في القرية والمحلّة".

- لا، أريد أن أسألك أنت وأعرف كيف تعيش حياتك... وماذا تعمل؟

- حياتي في الجبهة، وكلّ عمل دونها غير مهم بالنسبة إلي. كما إنّني لا أملك شيئًا، حتّى قرشًا واحدًا. وما دامت الحرب قائمة هكذا سيكون وضعي!

 

212


204

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

بالنهاية، تقرّر أن أذهب شخصيًا لرؤية الفتاة التي قبلت بي بشروطي الصعبة. علّموني في البيت ماذا أفعل وأقول، لكن، ما إن وصلت إلى هناك حتّى نسيت كلّ شيء. ومع أنّني كنت في قلبي أثني عليها لكونها قبلت بالزواج من جريح مثلي، لكنّني لم أكن مستعدًّا لأعدها بشيء. وصادف أن ضخّمت لها مشاكلي شيئًا ما وقلت: "قد أبقى أحيانًا في الجبهة لستّة أشهر من دون أن آخذ إجازة، ولا أنسحب من العمليات إلا إذا أصبت، أو إذا غيروا مهمتي. لا أملك شيئًا في أرض الله الواسعة، لقد خرب بدني ، وسأبقى ـ وأنا على هذه الحال إن أمدّني الله بالعمر ـ حتّى النهاية في خدمة الجبهة. بعدها نفعل ما يقدّره الله لنا، ونهتمّ بحياتنا!".

 

للإنصاف، لقد قبلت بكل ما ذكرت. ومع أنّها كانت تبلغ من العمر ستّة عشر عامًا، إلّا أنّها كانت مستعدّة لأن تقِفَ نفسها وحياتها وأمانيها للجبهة. لم يبقَ من كلام يُقال، وفي ظرف ثلاثة أو أربعة أيّام تمّت مراسم الخطوبة ومقدّمات العقد، وذلك بمبلغ قدّره 4500 تومان استدنته من أمير، وتمّ العقد بتاريخ 31/12/1984م. وعلى الرغم من تأخّري أربعة أو خمسة أيّام على الإخوة، إلّا أنّني تقدّمت خطوة عندما وجدت شريكة حياتي.

 

عندما رآني والدي الذي كان يصرّ على زواجي أكثر من الجميع، أودّع خطيبتي وأذهب إلى الجبهة، وكان يظنّ أنّني بالزواج سأتمسّك بالحياة والعمل، لم يعد يتكلّم معي أبدًا بشأن البقاء في المدينة.

 

213


205

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الفصل التاسع:

كربلاء بدر

 

 

انطلقت إلى الجبهة وحيدًا. في دزفول اشتريت 3 كلغ الحلوى لأكشف لغزاً للإخوة الذين كانوا على علم بشأن خطبتي، ولأولئك الذين شاركوا بالموضوع عبر أخذهم صوري. استقبلني الإخوة في مخيّم شهداء خيبر في دزفول بالمزاح قائلين: "كهنه اِئولره قاريشدون آسيد..."[1].

- اعذروني! من الآن فصاعدًا سيتبيّن من الذي توازي قوّته قوّة عدّة رجال!

 

بعد حديث الإخوة ومزاحهم، أخذني أمير جانبًا وأصرّ عليّ لأخبره من هي خطيبتي. وعندما سمع باسمها انفرجت أساريره، وعرفت أنّ بينهما صلة قرابة، وها هي الآن العلاقة العائليّة تزيد صداقتنا العميقة قربًا وحميميّة.

 

في صباح اليوم التالي، هطلت أمطار غزيرة في المنطقة. وعلى الرغم من أنّنا اعتدنا على الأمطار الموسميّة الشتائيّة في منطقة خوزستان، إلّا أنّها جادت هذه المرة مصحوبة برياح وأعاصير قلبت المخيّم رأسًا على عقب. كانت سرعة الرياح شديدة بحيث قلعت الخيام وحملت معها كلّ ما بداخلها. ولكي لا تقلع خيمتنا فقد فتحنا جانبيها بالكامل وعلّقناهما بالعمود المنصوب في وسطها بنحو أفقي. وهنا فعلت الرياح فعلها! فحملت الحقائب والملابس والبطّانيّات وكلّ شيء، كبيرًا كان أم


 


[1] من الكنايات التركيّة، وتعني أنّك رتّبت أمورك وصرت في عداد المتأهّلين.

 

214


206

الفصل التاسع: كربلاء بدر

 صغيرًا، فيما أصررنا نحن وبكلّ صلابة على الحفاظ على خيمتنا حتّى لو خسرنا كلّ أغراضنا! في تلك الأثناء، جاء أخ وقال ما عدا خيمتنا، لم يبقَ من الخيام سالمًا سوى خيمة مصطفى بيش قدم، الذي أصبح بعد انتقال صمد زبردست إلى الوحدة البحريّة، مسؤول السريّة الثانية. تعجّبت لهذا الأمر، فقال الإخوة إنّ خيمته کوريّة الصنع![1]. ما إن سمعت هذا حتّى قلت: "اصبروا، ها أنا ذاهب الآن لأجعل خيمتهم تطير في الهواء أيضًا!". كان من المفترض أن تثمر مشاغباتنا في ظلّ هذا المطر والعواصف. ذهبت إليهم متحجّجًا بالتفتيش عن أعواد ثقاب. وقفت أمام باب الخيمة وناديتهم، إلى أن سمعوا صوتي وفتحوا السحّاب ليروا من أكون وماذا أريد، وما إن فُتح السحّاب حتّى طارت الخيمة. الآن وقد حصل ما أردته، لذت بالفرار قبل أن يروني. يعلم الله كم كنت سأتلقّى من الصفعات واللكمات فيما لو عرفوني. وهكذا، بقيت خيمتنا الخيمة الوحيدة السالمة في الفرقة. بالطبع، لقد اعوجّت عواميدها جرّاء تعلّق عشرين شخصًا بها، وحمل الهواء معه كلّ أمتعتنا.

 

بعد أن هدأت العاصفة، ركب الإخوة الحافلات متوجهين إلى مساجد دزفول. كانت ليلة صاخبة. استمرّت العاصفة قرابة الثماني ساعات، ضاعت فيها أغراض الجميع.

 

في هدأة صباح اليوم التالي، بدأ البحث عن الأغراض. طارت بعض الخيام والحقائب والشنط وقد حُملت إلى جانب الساتر الترابي، وبعض الملابس علقت بأجباب الشوك، ولكنّنا لم نجد الكثير من أمتعتنا. وحين لملمنا ما وجدنا من أغراضنا من بين الوحول، أرسلونا جميعًا في إجازة إلى دزفول لتنظيفها وغسلها وهندمة أنفسنا. بقينا هناك قرابة اليومين، ليأتي الأمر بالإستعداد للمسير. توجّهنا هذه المرّة نحو منطقة التدريب.


 


[1] لم يكن ممكنًا تسرّب الهواء إلى داخل الخيمة الكورية من أيّ منفذ كان في حال إغلاق سحابها.

 

215


207

الفصل التاسع: كربلاء بدر

تغيرت أحوال الإخوة مع احتمال تنفيذ العملية ودبّ في الجميع العزم والحماسة. ركبنا الحافلات وتوجّهنا إلى منطقة التدريب تحت حماية مشدّدة، وعرفنا لاحقًا أنّها منطقة "كسور".

 

نُصبت الخيام بالقرب من نهر متصل بالهور، يغطي ضفّتيه القصب والأشجار الصغيرة. كانت تلك هي المنطقة الأفضل التي تحمينا من عيون مروحيّات العدوّ واستطلاعاته الجويّة، وقد أصبحت مقصدًا لحيوانات أليفة تُركت في سنوات الحرب فاكتسبت طباعًا وحشيّة. لذا، وجدنا أنه لا بّد لنا من القيام بالحراسة الليليّة حول الخيام، خاصة مع تربّص بعض الحيوانات التي تُشكّل خطرًا حقيقيًّا كبنات آوى.

 

كان من المقرر أن تخضع كتيبتا الإمام الحسين عليه السلام وسيّد الشهداء عليه السلام لتدريبات على قيادة القوارب. وللذهاب إلى المكان المخصّص للتدريب، ركبنا الزوارق السريعة من أمام الخيام، وذهبنا مع اتّجاه الماء إلى الهور، حيث أُعدّت باحة في قسم منه موصولة بجانب من الجسر، نُصبت فيها الخيام. ما إن وصلنا حتّى رأينا القوارب. كانت تلك المرّة الأولى التي نرى فيها القوارب، والمرّة الأولى التي تخضع فيها القوّات لدورة في التدريب على قيادتها، وقد شكّل استخدامها بهدف كسر خطوط دفاع العدوّ طرحًا جريئًا. إنّها عبارة عن مراكب سريعة يتّسع كلّ منها لثلاثة إلى خمسة أشخاص، اثنين أو ثلاثة في الوسط حيث يبلغ عرض المركب المتر الواحد، فيما يجلس شخص في كلّ من المقدّمة والمؤخّرة وهما أقلّ عرضًا. أعطونا في الأيّام الأولى دروسًا نظرية حول قيادة القوارب. كان المدرّبون من شباب الكتيبة، وقد اختفوا عن الأنظار لمدّة قبل جمع الإخوة، وذهبوا لتعلّم قيادة القوارب. شرحوا الدروس النظريّة عن الجسر، فيما نحن نستمع إليهم غير مصدّقين: كيف يمكن

 

216


208

الفصل التاسع: كربلاء بدر

لنا ركوب القارب من دون أن يسقط أو يختلّ توازنه، كيف يمكن لنا التجديف والسيطرة عليه في آن واحد، ماذا ينبغي أن نفعل في حال اهتزازه... كلّ هذا كان مجرّد كلام، وما إن تقرّر أن نصعد القوارب، حتى صار كلّ من تطأ رجلاه أرضها، يسقط مباشرة في الماء! كنّا نسقط ونبدأ بالضحك. لم يستطع أحد منافسة القارب، وعدّة قليلة استطاعت السيطرة عليه للحظات! عجبًا يا لها من صعوبة في تعلّم قيادة القوارب! فالقارب خفيف إلى درجة أنّه ينقلب بمجرّد القيام بأيّ حركة إضافيّة، ليمتلئ سريعًا بمياه الهور الباردة ويغرق، فيضطّر راكبوه إلى السباحة! وعمق الهور متفاوت من مكان لآخر، لكن لم يكن في تلك البقعة يتجاوز المترين، فانتفت إمكانيّة الغرق، وكان بإمكان الإخوة الذين خضعوا قبل الإجازة لدورة تدريبيّة في السباحة، أن يسبحوا باتّجاه الجسر أو الزوارق السريعة الموجودة في المكان ويخرجوا من الماء، هذا إن لم تتجمّد أيديهم وأرجلهم من شدّة الصقيع. وقد أُعطيت لجميع العناصر سترات واقية تشكّل لهم حماية جيّدة من الهواء اللاذع ما لم يتبلّلوا، أمّا بعد التبلّل فصار الصقيع ينخر العظام. ولم يكن وقوعنا في الماء ليعفينا من الاستمرار في التدريب. استمرّ العمل بهذه الطريقة إلى أن أصبحنا ماهرين في قيادة القارب والحفاظ على توازننا داخل الماء.

 

كانت أيّام شتاء العام 1985م غير عاديّة. كلّ يوم بعد صلاة الصبح تُقام المراسم الصباحيّة، ثم نمارس الرياضة من أجل رفع مستوى اللياقة البدنيّة. وكان التدريب على قيادة القوارب أحيانًا يُجرى قبل الظهر، وأحيانًا أخرى بعد الظهر، وقد استغرق في الأيّام الأولى قرابة الأربع ساعات. شيئًا فشيئًا بدأت ساعات التدريب تزداد، فامتدت قبل الظهر وبعده. ونحن الذين كنّا نعدّ عدم انقلاب القارب في الماء عند ركوبه نجاحًا كبيرًا، بدأوا يضعوننا في أجواء التدريبات اللاحقة. فالتجديف والحفاظ على توازن حركة القارب في الماء له حكاية أخرى،

 

217

 


209

الفصل التاسع: كربلاء بدر

مصحوبة بمشاهد وقوعنا المتتالي.

 

عندما سمعنا بأنّه من المفترض بنا السيطرة على هذه القوارب، والتجديف بها مسافة كيلومترات في أرض العدو، واختراق خطوط دفاعه بها، وأنّنا قد نضطّر للاشتباك معه من على متنها، ضحكنا تعجّبًا: "وهل يمكن ذلك؟!"، أحيانًا كنت أفكّر شخصيًّا في هؤلاء المجاهدين، وهم في الأغلب شباب تتراوح أعمارهم ما بين الستة عشر والتسعة عشر عامًا، كم يمتلكون من الاستعداد والقدرة ليتدرّبوا تدريبً قاسيًا مثل هذا، ويبلغوا حدًّا من المهارة يمكّنهم في حال الضرورة من إطلاق النيران وصواريخ الـ(B7) من على متن القارب، وكم يستطيع المرء إذا ما سقط في مياه الهور الباردة، أن يتحمّل ذلك من دون أن تتخدّر أطرافه من البرد، فلا يستطيع تحريك أصابعه لمدّة من الزمن، هذا إضافة إلى عدم تمكّنه من أخذ قسط من الراحة والنوم. أَوَيمكن... كنت أفكّر في هذه الأمور، ولكنّني أنّبت نفسي عند رؤية أحوال الإخوة: "نعم يمكن. يستطيع هؤلاء التعبويّون ذلك!".

 

أحيانًا، استوجبت الضرورة استمرارنا في التدريب لثماني عشرة ساعة في اليوم. مع مضاعفة التمرينات، واشتداد برودة الطقس، تتغيّر أحوال الإخوة أيضًا، فعندما أستيقظ في منتصف الليل أحيانًا، أجد نفسي الوحيد النائم بينهم، وأراهم مع تلك الأوضاع والظروف يؤدّون صلاة الليل بعشق...

 

في تلك الأثناء، أيقنت أنّ حال بعض الإخوة الذين أصيبوا مثلي أكثر من مرّة هي أسوأ حتمًا. ولأنّ شرط الانضمام إلى الصفوف الأولى لقوّات الاقتحام هو المهارة في قيادة القوارب -ورغبت بأيّ ثمن أن أكون في عداد هذه القوّات - فقد حاولت تناسي آلامي وأوجاعي، وعدم التخلّف عن التدريبات. وقد حصل أن سبحت في مياه الهور الباردة، فلم

 

218


210

الفصل التاسع: كربلاء بدر

أعد أشعر سوى بوخز قاتل يلفّ كلّ أنحاء جسدي، وكنت عندما أخرج من الماء بجسدي المرهق والمبلّل، أشعر وكأنّه قد تيبّس، ويكاد الهواء البارد يكسره مع كلّ هبّة لاذعة من هبّاته. والأسوأ من هذا كلّه، تشنّج عضلات فكّي. فبعد الإصابة، تلك هي المرّة الأولى التي يحصل لي مثل هذا الأمر. أحيانًا أشعر أنّني نفسي لا أعلم ماذا يحصل لي؟ أسناني تصطك بعضها ببعض فأشعر بألم شديد في الفكّ، ما يتسبّب بخلل في قدرتي على تناولي الطعام، فأضطر إلى تناول الأطعمة السائلة. بعض الإخوة عندما رأوا وضعي ووضع المجاهدين الجرحى الآخرين الذين لم يفكروا بالتراجع أبدًا، استمدّوا منّا المعنويّات وازدادت قوّتهم على الصمود. كنّا نسعى جاهدين إلى عدم التخلّف عن ركب قوات الاقتحام السعيد، والمساهمة في إنجاح العملية القادمة، وراح صفاء الإخوة وإخلاصهم يزداد مع ازدياد المشقة والصعوبة. راجت في تلك الفترة مزاحات ومصطلحات جديدة بين الإخوة، من جملتها "جورهک سودان جيخئر!"[1]. اتّخذنا المزاح رفيقنا دائمًا، لتمضي الحياة في أيّام التدريب الباردة بحلوها ومرّها.

 

تقرّر تشكيل قوّات الاقتحام من سريّة من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وأخرى من كتيبة سيّد الشهداء عليه السلام. فانتُخب من السريّتين نخبة العناصر للتدرّب على الغوص، كانوا بمنزلة رأس الحربة في الهجوم، توجّب عليهم الخضوع لتدريبات قاسية في تلك الظروف.

 

في تلك الأيّام، تبدّى للمناجاة لون آخر أيضًا، فأحيانًا أدّينا صلاة الظهرين جماعة على جسر خيبر وسط الهور. وربما لا يتّسع الوقت

 


[1] ويوازيه في الفارسيّة "نان از آب در مى آيد!" أي "يخرج الخبز من الماء" وهو كناية عن صعوبة الحصول على لقمة العيش المتمثّلة في الخبز. وفي مراحل التدريب القاسية، غيّر الإخوة هذا المثل تغييرًا لطيفًا ليصبح "نان از سنگ درمى آيد"، أي "يخرج الخبز من الحجر". فكما أنّ الخبز من ضروريّات الحياة ولا يتأمّن إلّا بالكدّ والتعب، فقد قادتنا ضرورات العملية إلى الماء وتلك الأحداث التي وقعت معنا.

 

219


211

الفصل التاسع: كربلاء بدر

لتلاوة دعاء التوسّل ودعاء كميل بنحو جماعيّ أو لقراءة مجالس العزاء، لكن حين يشعر القادة بالحاجة إلى ذلك، لم يكونوا يتوانون عن إقامتها مختتمةً باللطم لترتفع معنويّات الإخوة. أمّا على مستوى الخيمة والفصيل، فكان الإخوة ينشغلون ببرامجهم الفرديّة أو الجماعيّة، ويقضون ساعات استراحتهم القليلة بالصلاة وقراءة القرآن، وأحيانًا بالخلوة ومحاسبة النفس.

 

مع تقدّم التدريبات والتمارين صار بإمكاننا السيطرة على القارب بسهولة. ثم بدأنا نتدرّب بحسب قول المدرّبين على القيادة والتجديف من دون إحداث أيّ صوت أو حركة حول القارب، ولا حتى صوت الماء أثناء التجديف...

 

ذهبنا مرات عدّة على شكل طابور، نتقدّم في المجاري المائيّة، وبمجرّد أن يصدر أدنى صوت عن قارب من القوارب، نعود ونبدأ من جديد. كان ينبغي للمجداف أن لا يصطدم بجسم القارب، وأن لا يصدر عنه صوت حين احتكاكه بالماء، كما ينبغي للمجدّفَين اللذين في مقدّمة القارب ومؤخّرته أن يحافظا على التناسق فيما بينهما، وينبغي الحفاظ على المسافة بين القوارب و... انتظمنا جدّيّين ودقيقين طوال مدّة التدرّب على هذه الأمور، لكن، عُدنا نشرع الأبواب للمزاح والشقاوات بمجرّد اكتساب المهارة في الموضوع الذي نتدرّب عليه، ونطمئنّ إلى قدرتنا على ممارسته بالنحو الأفضل. تارة نضرب القارب الأمامي بمجدافنا عمدًا ليرتفع صراخ المدرّب والآخرين، ونبدأ حركتنا من جديد! وطورًا نَرِدُ من المجرى الفرعي إلى مجرى القوارب التي تتمرّن بجدّيّة وتتقدّم، لتبدأ القوارب بالدوران في المجرى ونبدأ نحن بالضحك...

 

في الأسابيع الأخيرة، واظبنا على التمارين من الصباح إلى الظهر،

 

220


212

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وبعد الصلاة وتناول الغداء على منصّة نُصبت وسط الماء، نتابع تماريننا إلى الغروب. وبعد أداء صلاتي المغرب والعشاء وأخذ قسط قليل من الراحة، نعود إلى التمارين التي تستمر أحيانًا إلى الثانية بعد منتصف الليل. وإذا ما حسبنا أوقات الاستراحة والصلاة والطعام طوال اليوم والليلة، لم تكن تتجاوز الخمس أو الستّ ساعات.

 

مع تقدّم التدريبات والتمارين، كانوا أحيانًا يأتون من المقرّ لتفقّد حركة القوارب والاطمئنان إلى درجة جهوزية العناصر. ذات ليلة، جاء الأخ مهدي باكري بصحبة أصغر قصّاب وآخرين، ليشاهدوا عن قرب مناورات القوارب واشتباكها مع العدوّ الافتراضي. أثناء المناورات، وفيما كان أحد رماة الـ(B7) يتهيّأ لإطلاق قذيفته، تحرّك القارب فانحنت القذيفة نحو الماء، وما إن اصطدمت بسطح الماء حتّى استدارت وتوجّهت مباشرة إلى المكان الذي يقف فيه القادة. في لحظة واحدة، رمى كلٌ منهم بنفسه إلى ناحية. انفجرت القذيفة، إلّا أنّ أحدًا منهم لم يُصب بأذًى لقيامهم بردّ الفعل المناسب في الوقت المناسب. وقد رأيت قبل ذلك في جزيرة مجنون للمرّة الأولى، كيف تستدير الطلقة وترجع. فحيث كنّا هناك نقعد "عاطلين من العمل" لأيّام متوالية، كنّا نعلّم الإخوة الرماية، ونستخدم الرصاص الصدئ الذي نجمعه وننظّفه بزيت الكاز وبمواد أخرى. ذات يوم، وفيما كنت واقفًا أنظر إلى الإخوة وهم يرمون هدفًا على بعد خمسين مترًا على سطح الماء، لفتت نظري أجسام تمرّ بسرعة خاطفة بالقرب منّي مطلقةً أزيزًا، حرت في أمري: "ما هو هذا الشيء؟"، لم أكن أعلم أنّها رصاصات ترتطم بالماء على زاوية معيّنة، وتستدير لتعود في الجهة التي أُطلقت منها! بلطف الله وعنايته، مرّت كلّ تلك الرصاصات من جانبي ولم تصبني. وبعد تدقيق كبير فهمنا

 

221

 


213

الفصل التاسع: كربلاء بدر

القضيّة. ومن أجل التثبّت من هذه الواقعة، جرّبنا الأمر ثانية من داخل الدشمة، فأدركنا أنّ الرصاصة إذا ما ارتطمت بسطح الماء بانحراف معين، فإنّها ترجع وتعود.

 

كنّا في بعض الليالي عندما نستيقظ ليلًا من أجل القيام بالتمارين، نقف في صفوف منتظمة حوالي النصف ساعة، ونستمع إلى حديث المدرّبين والمسؤولين حول عملنا، ولا يصدر عنّا أدنى صوت في هذه النصف ساعة. راقب المسؤولون من خارج الماء طريقة تحرّكنا وعملنا، ولفتونا إلى نقاط ضعفنا وقوّتنا. وكنّا حينها قد اكتسبنا مهارةً عالية، إلى درجة أنّنا عندما ندخل الماء، نسير بهدوء تامّ، بحيث لا يمكن إطلاقًا إدراك أنّ أحدًا هناك. مع علوّ نقيق الضفادع وأصوات الكائنات المائيّة لا يصدر عن الإخوة ما ينمّ عن حضورهم ولو بهمسة.. لقد قلّ حتّى كلامنا، واعتدنا على التكلّم بهدوء وعند الضرورة فقط.

 

استغرقت التدريبات خمسة وأربعين يومًا. وفي هذه الأيّام الصعبة لم نتخلّ عن المزاح. ذات يوم جاء إليّ أمير مارالباش قائلًا: "تعالَ ليتلو علينا أحدهم صيغة التآخيّ"، ذهبنا إلى أحد العلماء، وكان رجلًا طويل القامة من أهل زنجان، فتلا علينا صيغة التآخي. بعدها توجّه إليّ قائلًا: "تعالَ لنتآخى معًا!"، قلت: "بالله عليك، إنّ التآخي مع المعمّمين أمر صعب جدًّا!". لم يكن أحد غيري هناك يشاكس الجميع ويمازحهم، فإضافة إلى شكلي المضحك، كنت أنا نفسي مرحًا!

 

كنّا في تلك الظروف نحافظ على معنويّاتنا أحيانًا بالمزاح، وأحيانًا عن طريق مجالس العزاء، ومرّات أخرى عن طريق الفطور الجماعي. فهمنا أنّ مشاغل الأخ مهدي في تلك الفترة كثيرة، وقد منعته من المجيء لتفقّدنا سوى مرّات معدودة مفاجئة، إذ يأتي بغتة، ويراقب سير التدريب

 

222


214

الفصل التاسع: كربلاء بدر

عن كثب، ويبدي رأيه حوله. لم يحدث يومًا أن قيل لنا إنّ الأخ مهدي أو أفرادًا آخرين سيأتون الليلة لمراقبة المناورات والتدريبات، لأنّه كان من الطبيعي حينها للجميع أن يتوّخوا الدقّة أكثر، وستختلّ عندئذ درجة انتباهنا وانتظامنا خلال فترة التدريب. فقط كانوا يقولون: "افرضوا أنّ الليلة هي ليلة العملية". أصبح الإخوة يقومون بعمل رائع، يجدّفون بنحو جيّد، ويتحرّكون بدقّة ومن دون إصدار أيّ صوت. قيل لنا عدّة مرّات: "لقد أتوا الليلة الماضية من المقرّ. سلمت أيديكم! فحيث كنتم تعبرون من ذلك المجرى المائي لم يكن يظهر أبدًا بأنّ هناك قاربًا أو عناصر. بوركت أيديكم!".

 

كانت القوارب مختلفة الأحجام. منها ما يتّسع لثلاثة أشخاص، ومنها لخمسة. ويستقرّ في بعضها حاملو الرشّاشات (BKC)، وفي بعضها الآخر رماة الـ(B7)، وحين تنصب الدوشكا فوق القوارب، تكون السيطرة عليها غاية في الصعوبة، والحفاظ على توازنها يتطلّب مهارة عالية.

 

في تلك المدّة التزم الجميع بمراعاة الإرشادات الوقائيّة. فلم يهرب أحد من المنطقة، حتّى أولئك الملتزمون بالاتّصال بعوائلهم، ويستطيعون الذهاب من هناك إلى سوسنكرد، لم يقوموا بهذا الأمر. وفي تلك الفترة، حيث أدركنا حساسيّة الوضع، لم نعد نفكّر في الهروب أبدًا. انحصرت صلة الوصل الوحيدة بيننا وبين العالم الخارجي، بأحد عناصر التجهيزات الذي يحضر الرسائل إلى الإخوة. ذات يوم، جاء وجلب معه رسالة إلى أحد الإخوة، تضمّنت خبر وفاة والده، لكنّه لم ينسحب في تلك الظروف حتّى لإجراء اتّصال هاتفي. إلى هذه الدرجة سعى الإخوة جهدهم للمحافظة على سرّيّة العملية.

 

وأخيرًا انقضت أيّام التدريبات، وتقرّر أن نطبّق ما تدرّبنا عليه

 

 

223


215

الفصل التاسع: كربلاء بدر

في مناورة. سعوا لإنشاء بيئة محاكية لبيئة عملية بدر، لكن بسبب إحساسهم بأنّ العراقيّين لاحظوا تحرّكاتنا، ونظرًا لضيق الوقت، لم يفلحوا في إنجاز إنشاء منطقة تحاكي منطقة العدوّ بنحو جيّد. فأُجريت حينها مناورة صغيرة وسهلة مقارنة بالمناورات السابقة.

 

بعد إنهاء التدريبات، وبسبب قلّة القوارب، نُقلت تلك التي استخدمناها في التدريب إلى جزيرة مجنون ليلًا، ليستفاد منها في العملية. وفي هذه المدّة تمّ شرح الخريطة وأطلعونا على وضعية المنطقة ومهامنا. كان علينا التحرك قرابة التسعة كيلومترات في منعطفات الممرّات المائيّة إلى أن نصل إلى المحور الذي سنهاجم منه الخطوط الأمامية للعدوّ. نصب العدوّ في تلك المنطقة ما بين 40 و50 كمينًا، تراقب قوّات الرصد البعثيّة من خلالها حركة الممرّات المائيّة في المنطقة ووضعيّتها. ومن هناك سرعان ما تُرى أدنى حركة في المياه بسهولة، مع تماوج الماء أو تحرّك القصب، لذا، قلّما كان عناصر المعلومات يذهبون إلى تلك المنطقة مراعاة للجوانب الوقائيّة. قيل لنا إنّ آخر استطلاع أُجرِي هناك قبل خمسة عشر يومًا، وإنّ الإخوة تقدّموا حتّى وصلوا إلى مقربة من محاور الاشتباكات. كان عددٌ من المسارات المحدّدة في تحركنا هو تلك الممرّات المائيّة نفسها التي بقيت من عملية خيبر، وقد مضى الآن أكثر من سنة على تلك العملية، مع اختلاف واحد وهو أنّ العراقيّين نصبوا الكمائن في بداية الممرّات. وقد جرى التأكيد علينا في المناورة وفي تعليمات العملية أن نسعى جهدنا للعبور من جانب الكمين بهدوء ومن دون اشتباك. ومع هذا كلّه، كانت مهمّة بعض الأشخاص إسكات الكمائن. لقد نُصبت هذه الكمائن قبل كيلومترين تقريبًا من خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ، وإذا ما جرت مواجهة هناك، سيصعب علينا بلوغ الخطّ أضعافًا مضاعفة.

 

224

 


216

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وقد طلبوا منّا حتى الدخول فورًا في حقول القصب، إذا ما لمحنا قوارب العدوّ، وقالوا إنّنا لا نملك الحقّ في الاشتباك قبل البدء بتنفيذ العملية.

 

بعد التذكير بكلّ هذه الأمور، أُعطينا مدّة 24 ساعة لمتابعة أمورنا الشخصيّة، آخر الأعمال قبل العملية. أراد بعضٌ الاغتسال، وراح آخرون يكتبون رسالة أو وصية، هؤلاء انهمكوا بتنظيف سلاحهم، وأولئك انشغلوا بالصلاة والدعاء والتوسّل بأهل البيت عليهم السلام. كنّا لا نزال في منطقة التدريبات في الهور بين بستان وسوسنكرد، وما زلت أذكر جيّدًا الوصيّة الوحيدة التي كتبتها طوال فترة الحرب، تلك التي كتبتها هناك. قال لي أمير الذي أصبحت صداقتي الحميمة به على كلّ لسان: "تعالَ لنكتب وصيّة واحدة لكلينا". كانت الساعة حوالي التاسعة صباحًا حين جلسنا إلى جانب الماء ورحنا نتبادل الرأي في شأن كتابة الوصيّة.

- يا عمّ، ماذا سنكتب! لا نملك شيئًا نورّثه لأحد، ولا طلب لنا لنطلبه من أحد...

 

أخيرًا، كتبنا رسالة، وأوصينا فيها الوالدين بالصبر، وعدم الحزن إذا ما استُشهدنا وأمثال هذه الأمور. ورحت أضحك.

- لِمَ تضحك يا سيّد؟!

- يا عمّ، أنا مطمئنّ أنّه لن يصيبني مكروه هذه المرّة، وسأعود.

- ومن أين تعلم ذلك؟

- أعلم فقط!

 

كان إحساسي الداخلي يقول لي إنّني سأعود هذه المرّة سالمًا، لكنّ وضع العملية الصعب يشكّكني قليلًا. كنت عندما أتذكّر خطّة العملية، أفكّر فيما بيني وبين نفسي بأنّ الوصول بسلامة إلى خطّ الدفاع الأوّل

 

225


217

الفصل التاسع: كربلاء بدر

للعدوّ هو معجزة من المعاجز! وما الذي يمكننا فعله في قلب الماء إذا لا قدّر الله ووقع اشتباك قبل 500 متر من خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ؟ لقد خضنا قبل ذلك مواجهات عدّة على اليابسة، وكان هناك حفرة، ساتر ترابي، منخفض أو مرتفع يمكن الاحتماء به، أمّا الآن ونحن في وسط الماء، في قوارب تحتاج إلى قوّة السواعد لتتحرّك، ماذا سنفعل إن اضطُررنا لإطلاق النار؟... ماذا سنفعل إن أُصيب أحد المجدّفين؟... إن تبلّلت أسلحتنا بالماء ولم تعد تعمل؟... إن... حينها سنصبح هدفًا ثابتًا للأعداء!

 

كلّ هذه الأسباب، ومئات الأسباب الأخرى المشابهة، جعلت من هذه العملية عملية غير عاديّة، آمنّا أيضًا بأنّ كلّ شيء بيد الله تعالى، وأنّه يفعل ما يشاء، وبتنا مسلّمين لأمره ومشيئته.

 

بدأت تهبّ نسائم العملية. وأُقيم مجلس عزاء رائع بمشاركة الحاج "صادق آهنكران". أقول رائع لأنّ مجالس العزاء تختلف فيما بينها. فمرّة تقيم مجلس عزاء عن روح شهيد، لكن مرّة أخرى تشارك في مجلس عزاء إلى جانب أشخاص لا تشكّ أبدًا بأنّ عددًا منهم سيُستشهدون بعد بضعة أيّام. أساسًا، كنّا عندما ننظر إلى وجوه بعضنا بعضًا تأخذنا العبرة. أحببت أن أحدّق كلّ تلك الساعة في وجوه الإخوة، وكان هذا شعور الجميع. فخلافًا للعملية السابقة لم نكن متكافئين مع العدوّ من حيث الوضعيّة، ومن المحتمل أن تُستشهد كلّ قوّات الاقتحام، فكنت أدعو كما سائر الشبان، إلهي لا تخيّبنا، أنت تعلم أنّنا نعمل من أجلك فقط، فأعنّا ليس للبقاء سالمين، بل لننجح في اقتحام خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ بأيّ ثمن كان، ونكمل العملية، فتتمكّن قوّات الدعم من التقدّم. في تلك

 

226


218

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الليلة، علمنا من خلال مرثيّة الأخ آهنكران بأنّ اسم العملية هو بدر.

 

هيّأ الإخوة الحنّاء، كما جرت العادة ليلة العمليات. وبينما كان من عادة أهل القرى وضع الحنّاء على أصابعهم ليلة العرس، راح الإخوة يحنّون رؤوس أصابعهم بشوق وفرح كبيرين ليلة الأنس. أنارت الدموع وجوه بعض، والضحكة أشرقت على وجوه بعض آخر. فكان الضحك والبكاء يبثّان المعنويات في نفوس الإخوة، كلّ وما يتناسب مع حاله.

تقرّر أن ننتقل بالشاحنات إلى منطقة العملية عند حلول الليل.

 

بعد الغروب أتت الشاحنات، وكان القرار بأن تحمل ما أمكن من العناصر تلافيًا للتردّد المتكرر إلى المنطقة. كان الزحام خانقًا حين رکب الإخوة في مؤخّرة الشاحنات، لدرجة أنّ سلاح الواحد منهم انغرز في جسد الآخر. علا صراخهم: "اختنقت!.. مُتّ!". وكان الجواب يأتي: "لو اضطُرّ الأمر بأن تجلسوا بعضكم فوق بعض، فافعلوا، وذلك حتّى يتّسع المكان للبقيّة". وُضع شادر على الشاحنة فكان تحمّل ذلك الضغط والزحام أمرًا صعبًا. طوال الطريق، كان بعض الإخوة من شدّة الخناق يرفعون طرف الشادر قليلًا لنتنشّق بعض الهواء. وعلى تلك الحال، وصلنا قرابة منتصف الليل إلى جزيرة مجنون الشماليّة، نقطة الافتراق الأولى. وكان علينا البقاء هناك إلى ظهر اليوم التالي.

 

والآن، يجب على كلّ واحد منّا إعادة توضيب أغراضه التي سيحملها معه للمرّة الأخيرة. فمن أجل الحفاظ على توازن القوارب، كان يجب تحديد عدد أفراد كلّ فريق وأوزانهم، إضافة إلى العتاد والأغراض التي سيحملونها. تمّ هذا الأمر، وقبل الانطلاق تفقّدنا عتادنا للمرّة الأخيرة. سرنا قرابة العاشرة والنصف صباحًا، على شكل طابور إلى الـ"بد" رقم (6)، ومن هناك ركبنا القوارب لتقلّنا إلى باحة أُنشئت على

 

227


219

الفصل التاسع: كربلاء بدر

بُعد مسافة من وسط الماء، بالاعتماد على الحلقتين السابعة والثامنة من جسر خيبر، ليتمّ إعطاء التعليمات للقوات لآخر مرّة، ثم يركبوا القوارب. وصلنا سريعًا إلى هناك، وكان لدينا متّسع من الوقت إلى حين حلول موعد الجلسة. ولمّا كان عدد من الإخوة لم يغتسلوا غسل الشهادة بعد، فقد ذهبوا إلى جانب القوارب واغتسلوا. ذهبت أنا معهم، فلم أشأ أن أرد هذا الطريق من دون غسل الشهادة. كان الماء باردًا جدًا، نويت نيّة الغسل وغطست. حين عدت إلى صفوف الإخوة كنت كما الكثير منهم، أرتجف من شدّة البرد، ولم أعد إلى حالي الطبيعيّة حتّى بعد ساعة.

 

نادوا علينا أن تجمّعوا سريّة سريّة في مكان واحد، نريد أن نتكلّم معكم. وقفنا بقيادة الأخ مصطفى بيش قدم إلى جانب سرايا كتيبة الإمام الحسين عليه السلام الأخرى. كان جسدي يرتعش من شدّة البرد، ولم تستطع شمس العاشر من آذار من العام 1985م الباهتة، أن تمدّني بالدفء. من ناحية أخرى كنت قلقًا على أمير الذي لم يستطع الالتحاق بالسريّة بسبب نقص في القوارب. بعد دقائق، شرع بالكلام قائد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام أصغر قصّاب الذي سرى نبأ بطولاته في عملية خيبر ومواجهات جزر مجنون على كلّ لسان. تناول في حديثه وضع المنطقة وأهمّية المهام التي سنقوم بها. كانت الخريطة قد شُرحت سابقًا بما فيه الكفاية، فراح يوصينا بالمداومة على الذكر والدعاء من بداية تحرّكنا حتى الشروع بالمواجهات، ذلك أنّ الشيء الوحيد الذي يوصلكم سالمين إلى محاوركم هو الذكر والدعاء لا غير. وما لم تصلوا إلى تلك المحاور، لا يجب أن تتوقّعوا دعمًا من الخلف و... بعد ذلك خطب فينا علي تجلّايي. تغيّرت أحوال الجميع. إلهي! أيّ محشر هي بدر! أيّ قادة عظام جاؤوا إلى هناك، وأيّ معنويّات تحدّثوا بها في هذه الساعات بخطاباتهم الحماسيّة؟ تحدّث قادتنا الشجعان عن أهميّة اقتحام

 

228

 


220

الفصل التاسع: كربلاء بدر

خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ. وكان ينبغي علينا اقتحام سدّ (حاجز)[1] جُهّز بمختلف أنواع الأسلحة، وبعبارة أخرى، غير قابل للاختراق، بواسطة عدد من السرايا حيث ستهاجم الخطّ بالقوارب، ومن هناك يقوم كلّ شخص بالمهمة المنوطة به. كانت مهمّة ثمانية عناصر من بينهم أنا، الهجوم على المقرّ بعد اقتحام خطّ دفاع العدوّ. ولهذا الهجوم قصّة عجيبة. حين سألت عن عدد العناصر في المقرّ؟ جاءني الجواب إنّهم يقاربون الألف ونيّفًا! وبالطبع، ضحكت لهذه الظروف التي كانت مبكية من ناحية أخرى. فكّرت، ماذا يمكن لثمانية أشخاص أن يفعلوا مقابل مقرّ بهذا الحجم؟! أولئك الثمانية أشخاص أنفسهم الذين قادوا القوارب أيضًا مسافة كيلومترات، وبعد اجتياز الموانع هجموا على خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ. كنّا نعلم، أنّه وبسبب اتّساع رقعة منطقة العملية والنقص في عديد قوّات الاقتحام، أصبح تطهير كلّ قسم من المنطقة بعهدة بضعة أفراد، ثم يكملون مهمتهم، لكنّ احتلال مقرّ مجهّز بعدد من الشيلكا، من قبل عدّة أشخاص كان بالفعل أمرًا محيّرًا[2].

 

طوال هذه المدّة كان فكري مشغولًا بتخلّف أمير. فقد استبعد من سريّتنا أربعة أشخاص عن المشاركة في المرحلة الأولى من العملية بسبب نقص في القوارب، ومن بينهم صديقي الحميم أمير. كنت منزعجًا من الأمر تمامًا بقدر انزعاجه. لم أترك بابًا إلّا وطرقته. حتى لقد ذهبت

 


[1] الحاجز أو السدّ وهو يشبه الساتر الترابي، أنشئ في منطقة الهور من أجل الفصل بين اليابسة والماء. وكان العدوّ في عملية بدر قد أنشأ على ضفّته ساترًا ترابيًّا بارتفاع ثلاثة أمتار، امتدّت فوقه جادّة بعرض ستة أمتار.

[2] فيما بعد، حين ذهبت إلى المقرّ، رأيت عن كثب وبغضّ النظر عن أي شيء آخر، وحدتَي اتّصالات مجهّزتين بمختلف أنواع الرادارات. كان عناصر الاتصالات وحدهم في ذلك المقرّ يناهزون الـ200 عنصر. عندما رأى الخبراء تلك الرادارات الحسّاسة قالوا إنّها تلتقط أدنى الأصوات والحركات، ويمكنها التقاط حركة القوارب وحتّى الأصوات الخفيفة. بلطف الله وعنايته، لم تستطع تلك الرادارات الحسّاسة في عملية بدر الأسطوريّة أن تقدم أيّ مساعدة للعدوّ.

 

229


221

الفصل التاسع: كربلاء بدر

إلى مصطفى بيش قدم، الذي كان من المقرّر أن يجري قرعة على هؤلاء الأربعة حيث أصبح هناك مكان لواحد منهم فقط في أحد القوارب. أردت التلاعب بالقرعة لتأتي باسم أمير مارالباش، فلم تأتِ[1]. انتفت إمكانيّة مجيء أمير معنا ليكتمل انزعاجنا من الأمر.

 

ارتفع صوت المرثيّات الحسينيّة من الجهة الأخرى. جاء الأخ "منافي" من قبل إعلام الفرقة، للتوسّل بأهل البيت عليهم السلام قبل انطلاق القوارب. لقد أقيم مجلس غير عاديّ في تلك المنطقة المحدودة، على الجسر، وسط الماء وعلى مقربة من ضفّتنا. فطأطأ كلّ من كان حاضرًا هناك رأسه إلى الأرض وراح يبكي. قبل بدء المرثيّة، كانت دموع الكثيرين تجري من امتلاء القلوب أو من ليونتها. لحظات غير عاديّة مرّت. وتقرّر أن ننطلق بالقوارب بعد أداء صلاة الظهر.

 

بدأ تحرّكنا. وركب عناصر الاقتحام في فرقة عاشوراء القوارب واحدًا واحدًا. رفع الأخ "منافي" الأذان بنحو بثّ فينا حماسةً مختلفة. كان يرفع الأذان بحالة معنويّة لا توصف، ويشرح معاني عباراته. لا أظنّ أنّني سمعت طوال حياتي أذانًا أثّر في جسمي وروحي كذاك الذي سمعته ظهيرة يوم عملية بدر. لم يبقَ أحد إلّا وبكى[2]. ركب عناصر الاقتحام القوارب، وكانوا يرتدون سترات واقية من المطر، خضراء أو رماديّة اللون، فيما كان الأخ مهدي والقادة وقوّات الدعم يودّعوننا بأنظارهم. لم يكد يأتي دورنا للركوب حتّى سمعنا هدير الطائرات العراقيّة، بادرنا فورًا للاستتار منها بالطرق المتاحة. استترت القوارب التي بدأت تحرّكها بين حقول القصب، فقلت في نفسي: "لا تكفينا مشكلتنا، حتّى


 


[1] وقعت القرعة على عنصر آخر، استُشهد في تلك الليلة نفسها.

[2] لقد تمّ تصوير تلك اللحظات من قبل إعلام الفرقة، ولا أعلم إن كان الفيلم لا يزال موجودًا أم لا.

 

230


222

الفصل التاسع: كربلاء بدر

تأتي الطائرات أيضًا!". وشيئًا فشيئًا حان دورنا. جاء أمير إليّ: "سيّد! أأنت ذاهب؟".

- نعم.

- هل تظنّ أنّك ستستشهد أم ستعود؟

- لا، بل أظنّ أنّني سأعود!

- أنّى لك أن تعلم هذا؟!

- أعلم، سأعود!

- فلتحدّد لي موعدًا ألقاك فيه هناك!

- أنتظرك غدًا عند التاسعة صباحًا، على الطريق المؤدّية إلى المقرّ!

 

قلت ذلك باطمئنان. تعجّب أمير قائلًا: "سيّد! تتكلّم بثقة وكأنّك إلى الآن ذهبت ثلاثين مرّة إلى المقرّ، واستطلعته وعرفت الطريق المؤدّي إليه!". فقلت من جديد: "تعالَ غدًا، عند التاسعة صباحًا، إلى الطريق المؤدّي إلى المقرّ. وسأكون ما زلت سالمًا حتى تلك اللحظة!".

 

عندما انسللت من أحضان أمير لم أعد أفكّر سوى بالانطلاق. ابتعد قاربنا عن حلقات الجسر. كنت أنا وبابا وشخصان آخران في القارب نفسه. شيئًا فشيئًا بدأنا نبتعد عن صوت الأذان وهمهمة الإخوة، ولم نعد نسمع سوى همسات الأدعية المنبعثة من شفاه مرافقينا. ارتفعت معنويّات الإخوة عاليًا، فبعضهم راح يمزح ويمرح، وبعضهم راح يفكّر بهدوء. كنت بدوري من بين الذين يمزحون، فرحت أنثر الماء في وجوه الإخوة في القارب المجاور. لربّما وجدتُ هذا الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يخفّف في ذلك الزمان والمكان الغريبين من وطأة الجوّ. الطريق أمامنا طويل للوصول إلى مكان الاشتباك. وطبعًا لنا محطّات كثيرة خلاله. أحيانًا توقّفنا لنحصل على معلومات جديدة عن الكمائن الموجودة في طريقنا. عند الغروب، كانت تفصلنا عن خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ حوالي الأربعة كيلومترات، فقرّرنا التوقّف هناك لأداء صلاتي العشاءين.

 

231


223

الفصل التاسع: كربلاء بدر

لم يصاحب صلاتنا إلّا اهتزاز القارب الهادئ على وجه الماء. وبقلوب ملؤها الإخلاص أدّينا صلاتنا في القارب من جلوس. تناولنا وجباتنا الغذائيّة، وهي عبارة عن معلّبات التونة والقليل من البسكويت، أبعدت عنّا الجوع حتّى الصباح. في تلك العتمة كنت أختلس النظر أحيانًا إلى وجوه رفاقي وأفكر، ماذا قدّر الله سبحانه لنا في هذه الليلة!

 

كنّا من وقت لآخر نتبادل الأحاديث بهدوء، لكنّنا في كلّ الأحوال لم نغفل عن هذا الذكر، إلهي لا تخيّب أملنا، وساعدنا كي نخترق خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ بنجاح. إلى ذلك الموقع، ظل احتمال المواجهة مع دوريّات العدوّ أو كمائنه ضعيفًا، أمّا الآن فأصبح كلّ قارب يذكّر القارب الذي يليه بالخطر الذي صار يتهدّدنا مئة في المئة من الآن فصاعدًا. لقد نصب العراقيون ما يقارب العشرين كمينًا في طريقنا، ومواجهة أيّ واحد منها تعرّض العملية للخطر. سبق ونبّهونا إلى إطلاق النار العشوائي الذي يقوم به العدوّ في تلك المنطقة، وقيل لنا، من المحتمل أيضًا أن تطلق دوريّات القوارب النار بشكل عشوائي، وفي حال أُصيب أحدكم لا ينبغي أن يصدر عنه أيّ صوت[1]. مرّت لحظات مرعبة، لكنّ الهدوء علا وجوه أصدقائي بوضوح.

 

مرّت نصف ساعة تقريبًا على انطلاقنا، وإذ بأصوات القوارب العراقيّة تتعالى. كانت تسير في الممرّ المائي الأساسي، ومن حسن حظّنا أنّنا دلفنا حينها في ممرّ فرعي غطّت أطرافه حقول القصب. أردنا الدخول في الممرّ الأساسي، لنعبر منه إلى ممرّ فرعي آخر، لكن لم نكد نصل إلى هناك، حتّى ظهرت قوارب الدوريّة العراقيّة وهي تُعمل الكشّافات الضوئيّة. رأيناهم يكملون طريقهم ويمضون وقد خيّم الهدوء والسكون. كانت سائر القوارب في مكان آمن. دخلنا الممرّ الأساسي كما

 


[1] كان العدوّ يغطّي منطقة واسعة بنيرانه العشوائيّة المتفرّقة، وفي حال توجيهه الرماية إلى مكان خاصّ، فذلك يعني أنّه احتملَ وجودَ قوّاتٍ في تلك المنطقة، لذا لم يرمِ نيرانه بنحو عشوائيّ.

 

232


224

الفصل التاسع: كربلاء بدر

ورده عدد من القوارب. تبادلنا الأدوار عدّة مرّات مع المجدّفين خلال هذا المسير الطويل، حتّى لا يبطئ التعب حركتنا. وفي تلك اللحظات، انتبهنا مرّة ثانية إلى وجود قارب لدوريّة عراقيّة فدخلت كلّ القوارب في حقول القصب، لكن... فجأةً اضطرب مجدّفونا واختلّ التنسيق بينهم. وفي لحظة واحدة، بدأ القارب يدور حول نفسه وسط الممرّ. حُبست أنفاسنا! توجه القارب العراقي ناحيتنا بنوره الكاشف، فيما نحن حائرون وسط الممرّ لا ندري ما نفعل. فكّرت للحظة أنّ كلّ شيء قد انتهى. اختنقت بغصّتي. لم يكن أمامنا من مفرّ، القارب العراقي يقترب أكثر فأكثر، ونحن عاجزون. في اللحظة الأخيرة استطعنا نقل القارب من وسط الممرّ إلى ناحية ما، كانت حالًا غير عاديّة ولا مثيل لها. وكأنّ كلّ ذرّات وجودي بادرت تناجي الله تعالى: "إلهي، اعمِ هذا النور واعمِ أبصارهم عنّا!"، كنّا نسمع أصوات العراقيّين بوضوح. حين وصل القارب إلى محاذاتنا أحنيت رأسي، وأحسست مباشرة بنور الكشّاف يمرّ من فوق رأسي. حتّى لقد اصطدم قاربهم بزاوية قاربنا، إلّا أنّنا لم نبدِ أيّ ردّ فعل. سبحان الله! شيء لا يُصدّق، أن يمرّ القارب مع نور الكشّاف ولا يروننا. عندما رفعت رأسي ورأيتهم يبتعدون، كاد قلبي يطير من الفرح. رحت أنادي: "كم أنت عظيم يا رب، وكم أنت كريم!..". أحسست بكلّ وجودي بعظمة الله وقربه منّا، وكان ذلك الشعور معتمدنا الوحيد في تلك اللحظات، ولم نجد وسيلة لشكر هذه النعمة سوى متابعة الطريق وإخلاص النيّة. شعر رفاقنا في القوارب الأخرى الذين شاهدوا ما حدث بهذا الإمداد الغيبي أيضًا. وفيما بدأنا نعبر من هناك لندخل الممرّ المائيّ الفرعي تمنّيت من أعماق قلبي أن أقع في الأسر ـ كعنصر استطلاع ـ وأُعذّب وأُقتل، شرط أن يتمكن الإخوة من الهجوم في الوقت المناسب، وأن تؤتي العملية أُكلها. شقّ القارب طريقه في الممرّ المائي، ولم أرد أبدًا التخلّي عن الإحساس بالحماية الإلهيّة، وفكرت أنّنا لن نستطيع أداء حقّ تلك اللحظات مهما

 

233

 


225

الفصل التاسع: كربلاء بدر

فعلنا، خاصّة ذلك الهدوء الذي أبداه كلّ واحد منّا، فلم نقم في تلك اللحظات الحسّاسة بأيّ عمل، وبقينا منتظرين.

 

شيئًا فشيئًا وصلنا إلى النقطة التي ينبغي للقوارب أن تتفرق فيها بعضها عن بعض، ويتوجّه الإخوة كلٌّ إلى المكان الذي سينفذون فيه المهام الموكلة إليهم. وحيث إنّ الخريطة شُرحت لنا مرّات ومرّات، فقد استطعنا التكيّف مع المنطقة بسهولة. كانت القوارب تسير على شكل طابور، والإخوة في القوارب المتقدّمة يطلعون القوارب التي خلفهم على المنطقة التي وصلوا إليها. أمّا عناصر المعلومات الذين يسيرون في المقدّمة، فقد وضعوا في الاستطلاع الأخير للمنطقة قطعًا صغيرة من الكاوتشوك، كعلامات تُحدّد محور كلّ شخص. وعند الاقتراب من الكمائن كانوا يحذّرون الإخوة، ليراعوا جوانب الدقّة والحذر أكثر. أحيانًا صغرت المسافة بين القوارب والكمائن لدرجة أن نسمع أصوات العراقيّين الذين تابعوا أعمالهم من دون علم بما يجري حولهم. اطمئنّ قلبي للإحساس بالحماية الإلهيّة. فحيث كانت كلّ مخطّطاتنا عرضة للفشل لو أنّ صوت مجداف ارتفع أو عطس أحدهم عطسة، كان هذا الإيمان فقط ما يبعث فينا سكينة لا توصف.

 

تجاوزنا النقاط الحسّاسة واقتربنا من منطقة المهمّة الموكلة لسريّتنا. عند الحادية عشرة والنصف ليلًا، بدأت المواجهات في المحاور الأخرى. كنت بجانب قارب قائدنا فسألته: "سيّد أصغر! هل انكشف أمر العملية؟ وكأنّ الإخوة قد بدأوا بالمواجهة!". أجابني بكلّ طمأنينة: "لا! إنّهم يطلقون الرصاص العشوائي!". ظننت أنّ بعض عناصرنا بدأوا بالمواجهة حين سمعوا إطلاق النار العشوائي للعدوّ، لأنّ الأصوات كانت عالية. ومباشرة صدر الأمر: "تحرّكوا بسرعة".

 

أحسست براحة كبيرة كوننا اجتزنا أكثر المناطق حساسيّة، وحتّى لو كُشف أمر العملية الآن، فلن يشكّل ذلك مشكلة كبيرة. صدر نداء

 

234


226

الفصل التاسع: كربلاء بدر

العملية حين وصلنا إلى المكان المحدّد للكتيبة، وهناك أُبلغنا بوجوب افتراق الفصائل. ابتعدت القوارب بعضها عن بعض وانتشرت في الماء بموازاة سدّ العدوّ، ولم يكن العدو إلى حينها قد التفت إلى شيء بعد. وصلنا إلى موقعنا المقرّر في الوقت المحدّد، فيما لم يكن بعض العناصر من الجناحين قد وصلوا إلى أماكنهم بعد. الإخوة الذين تواصلوا مع المقرّ سمعوا باستمرار نداء: "لا تبدأوا بالمواجهة حتّى تصل القوّات الأخرى". في هذه الأثناء بدأ عمل غوّاصي قوّات الاقتحام الذين اقتربوا بقواربهم قرابة العشرين مترًا من السدّ ونزلوا هناك في الماء. كانت قد وُضعت عدّة صفوف من الأسلاك الشائكة والموانع الأخرى من داخل الماء إلى دشم العدوّ، ولزم على الغوّاصين قطع هذه الأسلاك وفتح الطريق لعبور الباقين. لم يُسمع في منطقتنا سوى أصوات الاشتباكات التي بدأت تشتدّ في المحاور الأخرى. تموضعنا تمامًا أمام الشيلكا التي ينبغي علينا تدميرها قبل أيّ شيء، وفيما تقدّمنا بهدوء أمامها نحو السدّ، اختلّ من جديد التنسيق بين المجدّفين، ليبدأ القارب بالدوران وسط الماء! وفي هذه الأثناء لفت انتباهي أكثر من أيّ شيء آخر حديث جنديين عراقيّين يقفان فوق السدّ، يبدو أنّهما من عناصر الشيلكا. في تلك الليلة كان القمر قد نثر نوره الفضّيّ فوق الهور، فيما راح قاربنا يدور وسط الماء ومقابل الأعداء. ولو لم نستطع قيادته إلى جهة معيّنة ورأونا تحت نور القمر، لقُضي علينا. ومع أنّ الإخوة في كلّ القوارب المستقرّة مقابل الضفّة ورماة الـ (B7) كانوا جميعًا مستعدّين للرمي، إلّا أنّ أعصابي ثارت في تلك الحال المقلقة. تسمّرت عيناي على الجنديّين العراقيّين اللذين أشعل أحدهما سيجارة، وما إن اشتعلت السيجارة حتّى علا صياحه. لقد رأونا! ركض مسرعًا نحو الشيلكا، لكنّ الفرصة لم تؤاته سوى لرمية واحدة، إذ إنّ قذيفة (B7) أُطلقت من أحد القوارب وأصابت دشمته إصابة مباشرة وأسكتتها. بدأت المواجهات رسميًّا.

 

235

 


227

الفصل التاسع: كربلاء بدر

أُصيب نتيجة الرمي بالشيلكا عنصران من قوّاتنا، إلّا أنّ نيران شبابنا الشديدة بدأت. أمّا قاربنا، فقد استطعنا السيطرة عليه بعد أربع أو خمس دورات. كان كلّ همّنا أن نرمي، وليجدّف العنصران الآخران مهما أمكنهما ثم يوصلاننا إلى الضفّة. سريعًا بلغنا الأسلاك الشائكة، لكنّها لم تكن قد أُزيلت في ذلك المكان. توقفنا ولم نعد نستطيع إكمال تحرّكنا. بقي أمامنا إلى الضفّة متران فُرشا بالأسلاك الشائكة، وكانت القضبان التي نُصبت في الماء لمدّ هذه الأسلاك عليها، تعلو نصف متر عن سطح الماء. نزلنا من القوارب في الماء وقفزنا من فوق الأسلاك الشائكة. انتبهتُ هناك إلى وجود ألغام لم ينفجر منها لحسن الحظّ سوى لغم واحد. توجّه كلّ همّنا في تلك اللحظة لاجتياز الأسلاك الشائكة وصعود السدّ. صعدنا من دون الاكتراث لتلك الأسلاك التي تجرح وتمزق كلّ ما يحتكّ بها. كانت المواجهات قوية، ولأننا قاب قوسين أو أدنى من الجنود العراقيّين، فقد حال ذلك دون استخدامهم لبعض أسلحتهم[1].

 

اشتدّت المواجهات فوق السدّ. عملنا ما في وسعنا لاتّخاذ موطئ قدم لنا وتطهير السدّ سريعًا. أردنا أن نستفيد بالكامل من ورقتنا الرابحة، ألا وهي مباغتة العدوّ، لأنّنا كنّا نعلم أنّ دشم الإسناد الموجودة خلف السدّ جاهزة، وستباشر العمل إن واتتها الفرصة. من ناحية أخرى، فإنّ المسافة بين السدّ والمقرّ حيث تتمركز معظم القوات، هي حوالي الـ(500) م، وقد جاء العدوّ إلى هناك بحوالي الـ(200) دبّابة، وحتمًا لم نرد لها أن تباشر العمل. لذا، فقد انصبّ كلّ جهدنا على التطهير قبل أن يستجمعوا قواهم ويباشروا العمل. إضافة إلى ذلك، علمنا بأنّ قوّاتنا قد وصلت في زوارق "الكوثر" و"عاشوراء" السريعة إلى مقربة من كمائن العدوّ حيث قادها المجدّفون إلى المكان بعد أن أطفأوا محرّكاتها، وبقوا


 

[1] إطلاق نيران من بعض الأسلحة كالدوشكا والشيلكا لا يأتي بنتيجة عن مسافة قريبة جدًا(بسبب الزاوية الدنيا).

 

236


228

الفصل التاسع: كربلاء بدر

منتظرين هناك، ليقوموا بدورهم ما إن تبدأ مواجهاتنا مع العدوّ. وصل الأمر إلى درجة، كانت المنطقة فيها تهتزّ من دويّ القذائف المدفعيّة وأزيز الرصاص وهدير محرّكات الزوارق. وفي تلك المعمعة، عدت من أعلى السدّ نحو الهور، إلى المسار الذي سلكناه الليلة الماضية. كان الهور غارقًا في النيران. ظننت أنّ قوّاتنا اشتبكت مع الكمائن. للحظات عزلت نفسي عن الدخان وأصوات الانفجارات والجلبة من حولي ودخلت في الاشتباك الدائر بين زوارقنا السريعة والكمائن. فجأةً صحت مؤنّبًا نفسي: "يا فتى! احتلّ أوّلًا المكان جيدًا وبشكل كامل، ومن ثمّ..!".

 

كانت المواجهة شديدة. لقد أصبح الاشتباك على التراب أمرًا سهلًا ونحن الذين خاطرنا مسافة كيلومترات وعبرنا بقواربنا إلى هنا من قلب حصون الأعداء، وراح الإخوة يقاتلون بشجاعة وجرأة عالية. أربكتنا إحدى الدوشكات التي كانت تقاوم بشدّة، فقال الإخوة، لا يمكن إسكاتها من بعيد، علينا أن نقترب أكثر ونرميها بقنبلة. سرعان ما تصدّى ثلاثة أشخاص للمسألة، فاقتربوا منها وأسكتوها برمي قنبلة عليها. فكّرت أنّه حان الوقت لأتوجّه نحو جادّة المقرّ. وفيما أنا ذاهب إلى هناك التقيت بمصطفى بيش قدم. ما إن رآني حتّى قال لي: "سيّد! لقد خرجت قوّات فرقة النجف[1] من الماء، ولكنّهم عالقون هناك ولا يستطيعون الصعود، اذهب بأقصى سرعة مع عدد من العناصر لمساعدتهم!". كان يوجد في المكان الذي أشار إليه الأخ مصطفى مبنى للعدو مؤلّف من طبقتين، يقاوم بشدّة، ويمنع تقدّم الإخوة وانتشارهم. لكنّني كنت منجذبًا أكثر إلى القيام بالمهمة التي أوكلتها لنفسي.

- لكن يا أخ مصطفى، أنا ذاهب إلى تلك الناحية...

- إلى أين؟!

- المقرّ!

 


[1] كانت فرقة النجف قد دخلت الاشتباك في الجناح الأيسر لفرقة عاشوراء.

 

237


229

الفصل التاسع: كربلاء بدر

- مع من؟

- حقيقة لا أحد، أنا ذاهب وحدي!

- سيّد! دع الآن فكرة الذهاب إلى المقرّ. علينا أوّلًا أن نطهّر هذا الخطّ، أمّا فيما يتعلّق بالمقرّ فستأتي قوّات من الخلف!

 

عدت أدراجي متوجّهًا إلى المكان الذي أشار إليه الأخ مصطفى. بلغت المنطقة التي ينبغي علينا تطهيرها هناك حوالي الـ500 متر. ركضنا بسرعة ورمينا القنابل داخل دشم العدوّ. أردنا عندما يصل الإخوة إلى الضفّة أن يتمكّنوا من الصعود سريعًا ويستكملوا العملية. بعد نصف ساعة من بدء المواجهات، أطلّت القوارب من كلّ حدب وصوب ورست على الضفّة. اجتاز الإخوة الأسلاك الشائكة وصعدوا. من الجهة الأخرى، كان قد تأكّد لخطّ الدفاع الثاني للعدوّ ـ قوّات الدعم وتلك الموجودة داخل المقرّ ـ بأنّه تمّ اختراق خطّ الدفاع الأوّل، وربّما التفتوا إلى وصول قوّات الدعم خاصّتنا. لذا، بدأوا يطلقون النار نحونا بكثافة. كانت نيرانًا ثقيلة تصعُب مواجهتُها بالسلاح الذي بين أيدينا.

 

في تلك اللحظات، وقعت عيني على ثنائي*[1] أسفل الجادّة موجّه نحو الماء. توجّهت فورًا نحوه. كان سالمًا وجعبة ذخائره جاهزة للإطلاق أيضًا. تساءلت في نفسي: "ماذا لو أمكننا سحبه إلى أعلى الجادّة وتوجيهه نحو المقر...". وخلال لحظات لحقني اثنان من الإخوة. دائمًا ما يحدث في العمليات أن يبذل المرء كلّ ما يستطيعه من دون الاكتراث لمؤازرة أحد إلى جانبه أم لا. كنّا ثلاثة أشخاص أردنا سحب الثنائي صعودًا قرابة الثلاثة أمتار وتركيزه فوق الجادّة. قلنا "يا علي" وسحبناه. لم أدرِ كيف أمكن لثلاثة أشخاص قادوا المراكب لساعات، واشتبكوا مع العدوّ حتّى أُجهدوا، أن يقوموا بهذا العمل الشاقّ. أدرنا فوّهة الثنائي نحو المقرّ وتجهّزنا للإطلاق، لكن المكان الذي تمركزنا فيه كان سيّئًا، فهو وسط


 


[1] * رشاش متوسط ذو فوهتين، يظهر أن العراقيين تركوه وانسحبوا أو قتلوا.

 

238


230

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الجادّة من دون أيّ تحصين أو دشمة، وتقريبًا في مرمى كلّ النيران التي يتمّ إطلاقها من المقرّ. لم أفكّر أساسًا في هذه الأمور. حقيقةً، لقد اجتزت المرحلة الأصعب من العملية: عند الانطلاق والوصول إلى خطّ الدفاع الأوّل واعتلاء السدّ. والآن أصبح كلّ عمل مهما صعبَ، سهلًا عليّ. جلستُ بنفسي خلف الثنائي، وأصبت المتراس الموجود أمام المقرّ من أوّل طلقة. لم يستطع أحدٌ أن يرفع رأسه في مواجهة تلك الطلقات.

 

شكّلت نيران الثنائي رادعًا كبيرًا لرمايات قوّات العدو الموجودة في المقرّ. شرعت أرميهم برصاصهم، وأشعر بحماسة كبيرة، ومع كلّ طلقة ثنائيّ نرى وبشكل ملحوظ أنّ رماياتهم تهدأ وتقلّ. في تلك الأثناء، أراد عناصر الكتائب الأخرى التي وصلت للتوّ، التقدّم نحو المقرّ. قلت لهم بكلّ ثقة: "تقدّموا!".

- قد يرموننا!

 

ومجدّدًا قلت: "لا تخافوا! سأرميهم من هنا! فقط عليكم التقدّم وأحنوا الظهور كي لا تصيبكم نيران الثنائي".

 

تقدّموا فيما واصلت رمي المقرّ بالثنائي. وسرعان ما طوى الإخوة مسافة 500 متر ودخلوا المقرّ. كنت أحيانًا عندما أسمع أزيز الرصاص يمرّ بالقرب منّي أفكر "إمّا أنّهم لا يستطيعون الرماية بشكل جيّد، أو ليس من المفترض لرصاصاتهم أن تصيبني!".

 

غمرتني الفرحة بسبب وجود ذلك الثنائي في تلك المنطقة. بعد دقائق عدّة، أرسل العراقيّون من ناحية دجلة لواءً قوّات الدعم المجهّزة إلى المنطقة. تقدّمت هذه القوّات بالآليّات، وكان يفصلنا عنها 700 متر. عرفنا أنّ وصولهم سالمين سيصعّب الأمر علينا. أدرت والإخوة الثنائيّ نحوهم هذه المرّة. توافرت لدينا ذخائر كافية، ويعلم الله أيّ نيران انبعثت من الشاحنات بفعل هذه الطلقات! كانت موقعيّة الثنائي بالنسبة إلى طابور الآليّات، بحيث تشملها كلّها زاوية رميه. كنت أرمي

 

239


231

الفصل التاسع: كربلاء بدر

فقط، ولا أرى أبدًا ما يحدث أمامي في عتمة الليل وبين كلّ هذا الدخان والغبار. عرفت أنّ ذلك اللواء يريد دخول منطقة فرقة النجف، وها هي الانفجارات المتتالية والنيران تتصاعد منه إلى السماء. احتشد عدد من الدبّابات التي تقاوم، فأراد الإخوة في فرقة النجف عبور المنطقة وتدميرها. لقد ارتفعت معنويّات الشباب وهم يرون احتراق الآليّات الآتية إلى تلك الناحية، الواحدة تلو الأخرى. يبدو أنّ تلك الشاحنات حملت الذخائر إضافة إلى العناصر، لأنّ نيرانًا غير عاديّة انبعثت منها. أعاق تدمير الآليّات المتقدّمة حركة الآليّات خلفها، فضمنّا هدفنا في هذه الحال، واستطعنا تطهير المنطقة في وقت سريع والوصول إلى مشارف دجلة. لقد أُسكت المقرّ مع وصول قوّاتنا، فاستطاع بعض العناصر التقدّم إلى ما بعد المقرّ والوصول إلى دجلة. أصبحت الساعة قرابة الثالثة بعد منصف الليل، وأنا لا أزال في الجادّة جالسًا خلف "الثنائي"، الذي كان وجوده في تلك الظروف بالفعل يبعث على التفكّر[1].

 

على كلّ حال، تم القضاء على لواء الدعم العراقي، ويبدو أنّ أفراده قُتلوا من دون أن يأتوا بأيّ فعل[2]. عرفنا أنّه من الطبيعي للعدوّ أن يفكّر بالاستفادة من قوّات الدعم المستقرّة على ضفاف نهر دجلة، حيث تموضعت على مقربة من المقرّ حوالي 25مدفعيّة فرنسيّة، ترمي طرقاتنا بنيرانها.

 

قرابة الفجر توقّفت الاشتباكات في المنطقة. فقد دُمّر عدد كبير من


 


[1] لاحقًا رحت أفكّر، لِمَ لمْ يرمِ شبابنا عند تطهير المنطقة بقنبلة على ذلك الثنائي؟ ففي ذلك الخطّ، كان الثنائي هو السلاح الوحيد الذي تغاضى عنه شبابنا، وصادف أنّه كان من الأسلحة التي لم يغتنم العراقيّون فرصة وجوده ويستخدموه ضدّنا. أساسًا، كان سحب الثنائي إلى أعلى الجادّه يحتاج إلى آليّة، فيما قام ثلاثة أشخاص برفعه. ورغم علمي بأنّ الأعمال الصعبة تتيسّر بفعل خلوص النيّة، إلّا أنّ فكرة استخدام الثنائي هناك كانت أيضًا عناية إلهيّة. لهذا السبب أقول إنّ وجوده هناك يبعث على التفكّر.

[2] كان لواءً مجهّزًا، ويمكنه تعقيد الأمور علينا في تلك الأوضاع، حيث لم نكن نسيطر سوى على ساتر ترابيّ والماء من خلفنا، ولم يكن لدينا حتى مكان ننسحب إليه ولم نكن نستطيع حتى تغيير مكاننا.

 

240


232

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الدبّابات، ولا يزال يقاوم عدد آخر في الخلف. توجّه الإخوة إلى مكان وجودها. مع انبلاج الصبح مضيتُ نحو المقرّ، وكنت أعلمّ أنّ الإخوة دخلوه بالأمس، وذهبوا بعد تطهيره نحو نهر دجلة الذي كان يجري خلف المقرّ، لذا، كنت أسير بطمأنينة. دخلت أوّلًا إلى دشمة القيادة. كانت عبارة عن بناء بمساحة (7*9)م، مجهّز بكنبات وتلفاز ملوّن وإمكانات كثيرة، إنّه أشبه بغرفة استقبال في بيت أكثر منه بدشمة في الخطوط الأماميّة للحرب. وحدها الخرائط التي نُصبت على الجدار أوحت بأجواء الحرب. أمّا قسم الاتصالات فكان لافتًا، دشمة بطول 20 مترًا مجهّزة بأجهزة اتّصالات شبيهة بقسم مراقبة في مصنع ضخم، إضافة إلى رادارات قيل إنّها تلتقط أدنى الأصوات والحركات. عندما سمعنا بأنّ200 عنصر يعملون في هذا القسم، تيقنّا أكثر من أنّ العناية الإلهيّة حلّت علينا ليلة بدر، وأوصلتنا إلى ضفّة العدوّ بقوة. غمرنا جميعًا الفرح بالنصر الكبير الذي أحسسنا به بكلّ وجودنا. مع طلوع الشمس قامت وحدة إعلاميّة تابعة لإحدى الفرق بفعل غريب، راحت تبثّ عبر مكبّرات الصوت نشيد "خجسته باد اين بيروزي" (مبارك هذا النصر). ومع أنّني لم أكن أحبّ الأناشيد، لكن، كان لهذا النشيد وقع كبير في قلبي![1]

 

في صباح اليوم الأوّل لعملية بدر، وبعد أن نجحنا باختراق خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ واحتلال المقرّ، ظل هذا النشيد يُبثّ في المنطقة وتمامًا عند ارتفاع الشمس في الأفق. وعند حوالي التاسعة صباحًا، سمعت إيقاعه وأنا أسير فوق ساتر ترابي. أحسست بشعور لا يوصف، كلّ فقرة منه كانت

 


[1] أدّى هذا النشيد محمّد رضا كلريز، وقد أحببته إلى درجة أن سجّلته على شريط تسجيل. ومن أجل هذا النشيد، حملت مسجّل الصوت من البيت إلى الجبهة، ليمكنني حينما أشاء سماع نشيد الانتصار هذا. حين كّنا متوجّهين بالحافلة إلى جزيرة مجنون، أدرت مسجّل الصوت خاصّتي ورحت أستمع إليه. وصادف بعدها، أن أصابت شظيّة مسجّل الصوت فتعطّل كليًّا. كان الصوت ينتشر في أرجاء الحافلة: "هذا النصر... مبارك هذا النصر خجسته باد اين بيروزي"، فيتساءل الإخوة ممازحين: "أيّ نصر يا أخي؟!"، فأجيبهم: "ذلك النصر الذي ينتظرنا!".

 

241


233

الفصل التاسع: كربلاء بدر

تتناغم وتنساب مع طلوع الشمس التي راحت تصعد في السماء لترى بوضوح مشهد نصرنا، آليّات العدوّ المحروقة وتلك الآخذة في الاحتراق من ناحية، ومجاهدو الإسلام من ناحية أخرى وهم يقومون بتطهير المنطقة. في ذلك الصباح، شاهدت أجمل مشاهد سنوات الحرب.

 

ضجّت المنطقة من جديد بأصداء القصف الشديد للطائرات العراقيّة. وعلى الرغم من استمرار المواجهات العنيفة في بعض المناطق، إلّا أنّ منطقة مهمّتنا كانت عرضة فقط للغارات الجويّة. في البدء، جاءت طائرات التوبولوف وقصفت المنطقة ثمّ ابتعدت. ويبدو أنّهم أدركوا أنّ القصف في هذه المنطقة المليئة بالمستنقعات، لن يجدي نفعًا. فسقطت فيها أغلب الصواريخ ولم تنفجر. عندما خرجتُ من المقرّ رأيت الأرض حوله أشبه بالمزرعة. لقد سقط خلال ساعة واحدة قرابة الألفي صاروخ في المستنقعات حول المقرّ ولم تنفجر. شابهت قواعد الصواريخ المغروسة بالأرض الألعاب الناريّة، بجوانبها البيضاء اللون، فبدت المنطقة من بعيد وكأنّها أرض مزروعة. فهم العراقيّون أيضًا أنّهم لن يحقّقوا أيّ نتيجة بهذا الأسلوب، لذا، أرسلوا هذه المرّة إلينا بطائرات أخرى، سمّيناها "تخته تاباق" (التابوت الضخم). كانت بطيئة الحركة، لكنّ هديرها كان عجيبًا، وصواريخها صغيرة إلّا أنّها تصيب الهدف بدقّة، ومهما رمينا عليها لم يكن ذلك ليؤثّر على عملها. بعد أن أفرغت الطائرات حمولتها من الصواريخ على المنطقة، عادت أدراجها لتتجهّز بالذخيرة وتحلّق مجدّدًا للإغارة. تسبّبت لنا غاراتهم الجوّيّة بخسائر كبيرة. وفي تلك الأثناء، ناداني أحدهم: "سيّد! أحدهم يبحث عنك".

- كم الساعة الآن؟

- التاسعة والنصف!

 

242


234

الفصل التاسع: كربلاء بدر

قفزت من مكاني! ركضت مسرعًا نحو جادّة المقرّ، وقلت في نفسي: "لقد مضى نصف ساعة على موعدي مع أمير، قد يظنّ الآن أنّ خطبًا ما حدث لي". وفيما كنت أركض رأيته. في تلك المعمعة اكتملت فرحتي برؤية أعزّ صديق على قلبي. لم يكن قد عرفني بعد. انتظرت ليقترب منّي أكثر. وحين صار على بعد أقدام منّي، عرفني. ارتمينا في أحضان بعضنا. راح يقبّلني ويسأل: "أأنت نور الدين حقًا؟"، فبقائي سالمًا في قلب تلك النيران التي رآها بالأمس من بعيد، جسّد بالنسبة له أمرًا عظيمًا. وأمير الذي يتمتّع بذكاء حادّ، كان يسأل دومًا عن موقعيّة المنطقة: "أين المقرّ؟"، دللته عليه. تعجّب وقال: "سيّد! بثمانية عناصر تقدّمتم الليلة الماضية إلى هناك؟!".

ــ لا يا عمّ! لا يمكن ذلك بثمانية عناصر! لقد أتى عناصر من السرايا الأخرى.

- وأين كان العراقيّون؟ هل بدأوا بالمواجهة؟

- لا، لم تكن قوّاتهم قد باشرت العمل بعد!

 

قلت ذلك عالمًا أنّه لو وصلتنا قوّات دعم، لكنّا تساوينا مع العراقيين من حيث العدد حين وصول قوّات الدعم إليهم. أراد أمير أن يستوضح عن كلّ شيء، وأخبرته بدوري كلّ ما أعلم. أريته منطقة فرقة النجف، الفرقة الوحيدة التي أعرف منطقة مسؤوليتها، ولم أعلم أيّ شيء عن الفرق الأخرى. لفتت نظر أمير الآليّات التي لا تزال تحترق. أخبرته بقصّة الثنائيّ، وما فعلناه به الليلة الماضية. كما أخبرني هو بما شاهده في الساعات نفسها من بعيد. قال: "حين بدأت المواجهات، كانت مدفعيّات الطرفين تعمل بشدّة. كما إنّ صواريخ الكاتيوشيا لم تهدأ للحظة. في تلك الأثناء لم تؤمّلني سوى كلماتك حيث قلت إنّك ستنتظرني في تمام التاسعة صباحًا. وفي كلّ لحظة كنت أقول في نفسي، من ذا الذي بقي

 

243


235

الفصل التاسع: كربلاء بدر

سالمًا إلى الآن تحت تلك النيران؟ ومن ذا الذي وصل؟ لم أكن حينها أعلم إن خرجتم من الماء أم لا. فيما بعد حين سمعنا عبر الجهاز أنّكم صعدتم فوق السدّ، شعرنا وكأنّنا ملكنا الدنيا. فرحت كثيرًا وقلت لا ضير إن استشهد السيّد إذا ما اختُرق خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ!".

 

أراد أمير أن نقوم معًا بجولة في المقرّ. ذهبنا، وأوّل ما وقع نظرنا على منظار ليليّ، كما لفت نظرنا جهاز لاسلكي صغير فأخذناه. كان مدى الجهاز يصل إلى 24 كلم، ويفوق مدى الأجهزة الكبيرة. ولم يحضر أحد بعد لاغتنام وسائل المقرّ. بعد أن جلنا لدقائق في دشمته، ذهبنا إلى المنطقة التي أقبل طابور الآليّات بالأمس منها. كان بعضها ما زال يحترق، سيّارتا الجيب الخاصّتان بالقيادة، تتقدّمان الطابور، ثمّ شاحنة الذخائر، التي تسبّب انفجارها بخسائر كبيرة في الآليّات التي تلتها. وفي آخر الطابور شاحنات أخرى محمّلة بالذخائر، انحرفت عن الطريق وسقطت في منحدر على انخفاض مترين تقريبًا، وانقلب بعضها رأسًا على عقب، لكنّ الذخائر بقيت سالمة، فاستخدمناها في المراحل التالية من العملية. لم يبقَ منهم عنصر حيّ وسقط قتلاهم هناك. بعد هذه الجولة في تلك الناحية، جاء دور أمير ليطلعني على بعض الأمور. فقال: "لقد رأيت مشهدًا في الخلف، هيّا بنا لأُرِيكَه". عدنا، وطوال مسيرنا طالعتني مشاهد مؤلمة لم أكن قد رأيتها في عتمة الليل، الإخوة الجرحى الذين أُصيبوا الليلة الماضية نتيجة القصف الشديد، ولم تتوافر حتى تلك اللحظة، أي العاشرة صباحًا، إمكانيّة نقلهم. وما إن اقتربنا من الهور حتّى لفتت نظري جثّة عائمة على وجه الماء. كانت جثّة شهيد تتحرك مع تموّج الماء.

- جسد من هذا يا أمير؟

 

قلب جواب أمير أحوالي: "همّت. همّت آقايي الذي اعتاد أن يصلّب

 

244


236

الفصل التاسع: كربلاء بدر

على صدره كما يفعل المسيحيّون، وقد أُصيب في المكان نفسه الذي كان يصلّب عليه، أي وسط صدره تمامًا". قال أمير: "عندما كنت آتيًا، رأيت جثّة حملها الماء إلى الضفّة، وتعرّفت إليها. كانت جثّة همّت، وعيناه ما تزالان مفتوحتين، فأغلقتهما". في لحظة واحدة، مرّ أمامي شريط ذكرياتي معه... سقط شهداء آخرون فوق السدّ أيضًا، وكان أحدهم قد غُطّي ببطّانيّة. سألت عن اسمه فقالوا: "محمّد زاهدي".

- أيّ محمّد زاهدي منهم؟

 

لم يكونوا يعلمون بأنّ هناك شخصين باسم "محّمد زاهدي". رفعت البطّانيّة عن وجه الشهيد فعرفته. إنّه نفسه ابن أحد علماء الدين. حالته لافتة، كان ممدّدًا بهدوء كمن يضع رجلًا فوق أخرى أثناء النوم. غطّيت وجهه مجدّدًا ونهضت. رأيت بين الجرحى "عباسقلي أحمدي زاد" أيضًا، وقد أُصيب برجليه، وكانت أجساد عدد من الشهداء طافية على وجه الماء. تفطّر قلبي لرؤيتهم. انشغل بعض الإخوة بجمع أجساد الشهداء ونقل الجرحى، فلم أقدر على المكوث هناك طويلًا.

 

توجّهت وأمير نحو دشم خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ، وقصدنا مباشرة الصناديق التي نُقلت للتوّ إلى جانب الساتر. فتحنا الصندوق الأوّل فوجدنا فيه مدافع شيلكا ملفوفة بأكياس النايلون. ووجدنا في الصندوق الآخر قطعًا أخرى للشيلكا.

 

من الواضح أنّ العراقيّين توقّعوا قرب حدوث عملية لذا أحضروا إلى المنطقة عدّة قطع من الشيلكا والدوشكا والثنائي لزيادة عتادهم، لكن الوقت فاتهم لإخراجها من الصناديق وتركيبها. نادينا: "كلّ من يعرف كيفيّة تركيبها، فليأتِ وليقم بذلك".

 

طوال تلك الفترة، كانت قوّاتنا تتوافد إلى المنطقة من الخطوط الخلفية، إلّا أنّ الجسر لم يكن قد نُصب بعد، وتعذّر الاستمرار بالعملية نهارًا، لذا، بقينا عاطلين من العمل تقريبًا، بعكس الطائرات العراقيّة

 

245

 


237

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الصغيرة الشغّالة تمامًا، ومهما أطلق الإخوة نيرانهم نحوها، لم يحققوا نتيجة تُذكر، ولم يصيبوها في النقاط الحسّاسة لتسقط. في تلك الأثناء، لفت نظري "محمّد تجلّايي" الذي تقدّم نحونا وقد وضع صاروخ سهند[1] على أكتاف ثلاثة من الأسرى العراقييّن يبدو أنّه عثر عليهم خلف المقرّ. وصادف أن آتت خطّة محمّد أُكلها، فقد استهدف الصاروخ إحدى طائرات التوبولوف التي ظهرت في سماء المنطقة، ومع أنّه لم يصب الطائرة، إلّا أنّه جعل التوبولوف تبتعد عن سماء المنطقة لساعات.

 

كانت "تخته تاباق" لا تزال منهمكة بالقيام بعملها بكلّ راحة. فبنيت وأمير دشمة لأحد الرشاشات العراقية، وما عدا الستين طلقة، فقد خلّف العراقيّون وراءهم عدّة صناديق كبيرة من الرصاص. استخدمنا الرصاص الخطّاط أيضًا لنعلم المدى الذي تصل إليه طلقاتنا، وكنّا نقصد استهداف الطائرات. عكفت على المراقبة بالمنظار فيما راح أمير يطلق النيران. أقبلت هناك حوالي ثماني طائرات وجالت في سماء المنطقة، وكلّما اقتربت واحدة منّا أطلقنا عليها النار. بين زخّات الرصاص أصيح: "أمير... اضرب!..."، فيضع أمير الطائرة في دائرة محدّدة، ليحاصرها بالنيران ويصيبها بالحدّ الأدنى بعدة رصاصات. نالتها أحيانًا طلقة واحدة من بين ذلك الكمّ الهائل من الرصاص، من دون تأثير يذكر... إلى أن توجّهت إحدى الطائرات نحونا، فتمتمت قائلًا: "إلهي! ساعدنا لنسقط هذه الطائرة بالحدّ الأدنى". أخيرًا، وبعد إطلاق نار كثيف عليها، انبعث الدخان منها، فابتعدت عن المنطقة على تلك الحال. بعد هذه الحادثة، ارتحنا لمدّة معتبرة من تحليق الطائرات في أجواء المنطقة.


 


[1] صواريخ "سهند" سلاح خفيف كالبازوكا، يمكن إطلاقها عن الكتف نحو الهدف. ولهذه الصواريخ في مؤخرتها حبل طويل يستخدم لتوجيه الصاروخ نحو الهدف. وبالطبع، كانت تلك الصواريخ حسّاسة للصوت، فعلى سبيل المثال، إن أطلقت الصاروخ نحو طائرة ما، وكانت آلية تمرّ في المكان، فإنّ هذا الصاروخ سيغيّر مساره ويتجّه نحو الآليّة.

 

246


238

الفصل التاسع: كربلاء بدر

كانت الساعة قرابة الحادية عشرة صباحًا، عندما دخل عناصر التجهيزات إلينا. كلّ من وصل يسأل عن الموقع. تراءى شكلي غريبًا للناظر، ففي الليلة السابقة، وبينما كنت أعبر من فوق الأسلاك الشائكة، تمزّقت ثيابي وتلطّخت بالدم. أما حذائي فما عاد يوصف، وفوق تمزّقه تمرّغ ليلًا بالوحل والتراب ولم يعد صالحًا للاستعمال. لذا بدّلت ملابسي ببنطال وقميص خاصّين بالقوّات العراقيّة، وخلعت نعليّ وسرت حافي القدمين. صارت هيئتي أشبه بالأسير العراقي! كنت وأمير نجيب عن أسئلة الإخوة الوافدين ونحن نحمل جهاز اللاسلكي والمنظار الليلي، والرشّاشات. كلّ من يصل إلينا يسأل: "كيف هو حال الموقع؟ أين الإخوة؟ وكيف هي الأوضاع؟..".

 

كنّا نعلم بأنّ شباب الاقتحام تقدّموا مسافة 1500 متر تقريبًا، من خطّ الدفاع الأوّل إلى نهر دجلة حيث ثبّتوا خطّ دفاعهم هناك تقريبًا، وتلك هي المرحلة الأولى من العملية. ومع أنّ بعض الجنود العراقيّين المنتشرين في المنطقة كانوا يطلقون النار أحيانًا، إلّا أنّ معظمهم انسحب إلى ما وراء الساتر الترابيّ الكبير عند نهر دجلة. وقد اكتسب ذلك الساتر أهمّيّة كبرى بالنسبة إلينا، فهو فعلًا في ذلك الوضع شكّلَ الحاجب الأكبر لنا عن أعين العدوّ. وقد تمركزت خلفه قوّاته ولربّما استعدّت للهجوم. امتدّ الساتر الترابي إلى منطقة الدبّابات، حيث المعركة، وأوسع تجمّع للقوات. وكان الاشتباك في تلك المنطقة حيث محور فرقة النجف، بين العدو وعدد من عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، فسقط من عموم الكتيبة ما يقارب الـ150 عنصرًا ما بين شهيد وجريح، من بينهم "داوود نظافت"، وقد رأيت فيما بعد صورته شهيدًا مظلومًا. أمّا من بقي من عناصر الكتيبة، فقد تقدّم بعضهم إلى الأمام، وعمل بعضهم الآخر على إسعاف الجرحى، فيما شرعت طائفة ثالثة أمثالنا بتطهير المنطقة وإرشاد الإخوة الواردين إليها للتوّ. فرحت كثيرًا عندما

 

247


239

الفصل التاسع: كربلاء بدر

رأيت السفن الكبيرة تعمل على نقل الجرّافات من الخطوط الخلفيّة إلى المنطقة، ما دلّ على تهيئة المقدّمات لنصب جسر شغل أحاديث الجميع، فالمتوقع أن يُمدّ فوق الهور ويصل ما بين الجزيرة والخطّ الأوّل للعدوّ. قلت لأمير: "هيّا بنا نذهب ونشاهد"[1].

 

كان بإمكاننا وضع دفاعات إلى جانب الجسر، فنسهّل بذلك أكثر عملية انتقال القوّات والتجهيزات. مضينا قرابة الظهر باتّجاه دجلة. طوال هذه المدة، لم أرَ الأخ مهدي باكري، وكنت أعلم فقط بأنّه تقدّم هو والأخ علي تجلّايي وعدد من القادة الكبار، وأنّهم يرتّبون مقدّمات المرحلة الثانية من العملية. عندما وصلنا إلى دجلة قيل لنا: "ابنوا دشمة هنا وابقوا فيها. سنتقدّم ليلًا بهدف استكمال العملية".

 

لقد تقرّر الذهاب ليلًا لاصطياد الدبّابات الجاهزة للبدء بالعملية عند أوّل فرصة، لذا، تقرّر أن يتقدّم الإخوة ليلًا لتدميرها.

 

وضعتُ وأمير رشّاشاتنا في الدشمة، وتمدّدنا داخلها. لقد مرّت أكثر من 24 ساعة لم أذق فيها طعم النوم. تعبتُ بالفعل، وتمنّيت لو أستطيع أخذ قسط من الراحة. لكن، كأنّ مدفعيّة العدوّ علمت بنيّتي، فراح قصفها يشتّد كلّ لحظة على المكان بمعدّل أكثر من مئة قذيفة في الدقيقة الواحدة! كان من الواضح أنّ العدوّ أدرك مرادنا، وعلم بتجمّع القوّات إلى جانب الجادّة وعلى ضفّة نهر دجلة. ولأنّ المنطقة ترابيّة ونظرًا لموقعيّة الدشم، فقد لحقت بنا بعض الخسائر جرّاء هذا القصف، لذا قرّرنا تغيير هذه المواقع. أضف إلى ذلك فقد قالوا إنّه من المحتمل أن يهاجمنا العراقيون بالزوارق من ناحية دجلة، لذا من الأفضل أن


 


[1] بني الجسر من قطع جسور خيبر التي وُصلت فيما بينها. رأينا فيما بعد أنّ هذه القطع قد صُمّمت ونُصبت بحيث إذا ما تعرّض جزء منها للقصف وتضرّر، يمكن ترميمه أو تبديله سريعًا.

 

248


240

الفصل التاسع: كربلاء بدر

تنتقلوا إلى الساتر الترابي الذي أنشئ إلى جانب نهر دجلة وتتموضعوا هناك[1]. أعرضنا عن فكرة الاستراحة وتركنا الدشمة. وبينما كنّا نسير على شكل طابور نحو الساتر الترابي، تذكّرت أنّني تركت المنظار وجهاز اللاسلكي اللذين غنمناهما من المقرّ داخل الدشمة. خرجت مسرعًا من الطابور، فسألني الإخوة: "سيّد! إلى أين أنت ذاهب؟".

- نسيت شيئًا داخل الدشمة، سأعود حالًا.

 

عندما خرجت من الطابور، أسرع من كان خلفي من العناصر ليأخذوا مكاني ولا ينقطع الطابور. ما إن ابتعدت قليلًا عنهم حتّى تسمّرت في أرضي لسماعي دويّ انفجار قذيفتي 120 ملم. لقد سقطت هاتان القذيفتان تمامًا في مكاني في الطابور، فتقطّعت أشلاء ثلاثة من الإخوة بنحو مرعب، ويبدو أنّ جسد أحد الشهداء شُقّ من الوسط. حزنت جدًا عندما رأيت مظلوميتهم وشهادتهم بهذه الطريقة المفجعة. وكأنّه قُدّر لي أن لا أُصاب بأيّ شظيّة أو جرح في عملية بدر! على كلّ حال، وعلى الرغم من ذلك المشهد المؤلم، تابع الإخوة طريقهم من دون توقّف. كانت المدفعيّة والقاذفات تعمل بشدّة، فسقط إلى حين وصولنا إلى الساتر الترابي ثمانية أو تسعة شهداء. حين وصلنا إلى الساتر الترابي، تحسّن الوضع قليلًا، لأنّهم على ما يبدو، لم يستطيعوا تحديد زاوية المكان هناك. وطوال تلك المدّة، كانت الدبّابات التي تُركت في المنطقة تقينا بشدّة من نيران مدفعيّاتهم.

- بالنهاية سيكون لنا الليلة حساب معهم.

 

عندما انتشرنا وراء الساتر الترابي، عاد النداء من جديد: "ابنوا دشمًا لأنفسكم!"، وتسمر الحرّاس فوق الساتر الترابي يراقبون المنطقة، حتّى إذا ما تحرّك الجنود العراقيّون أخبرونا بذلك. انشغلنا كما سائر الإخوة بالبناء، فأسرعنا نملأ الأكياس بالرمال، ونصفّها حولنا. عملت

 


[1] وهو الساتر الترابي نفسه الذي بُني بأمر قائد فرقتنا الشجاع الأخ مهدي باكري.

 

249


241

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وأمير بإتقان، وبنينا دشمة تتّسع لشخصين. أعددنا بجذوع الشجر مكانًا أسفل الساتر الترابي، بحيث إذا ما انهار ظلت جدران الدشمة قويّة كفاية وبقينا آمنين. علمت أنّه كلما صغرت الدشمة، أصبحت محكمة أكثر. عندما فرغنا من العمل وجدنا صندوقًا لحفظ المثلّجات وضعناه داخلها. ثم ذهبت وأمير إلى المقرّ وأحضرنا فانوسًا وبعض اللوازم القديمة. من حيث الطعام والتجهيزات، كان كلّ شيء مؤمّنًا وانشغل شباب التجهيزات بتوزيع العصائر ومعلّبات الفاكهة والتونة، والخبز، وأحضروا لنا أيضًا المرطّبات بعد الظهر. والآن أصبح من الممكن لنا أن نضع رجلًا فوق أخرى ونستريح قليلًا. بدأت جولة ثانية من إطلاق نار متبادل وراح يشتدّ. كنّا نتناول العصائر وننظر أمامنا من فوق الساتر الترابي، لنرى هل ينوي العراقيّون الهجوم أم لا. بقينا لساعات عاطلين من العمل في تلك الليلة العجيبة ولم نعلم شيئًا عمّا جرى!

 

تمدّدت قليلًا لكن لم أستطع النوم. توقّعت أن يكون لقيلولة صغيرة أثرٌ سحريٌّ يمدّنا في تلك الدقائق براحة الدنيا، ولم يحدث ذلك.

 

عصرًا، تمّ إعطاء التوجيهات المتعلّقة بمنطقة العملية، الموقع الذي توجد فيها الدبّابات، والمهمّة التي سيقوم بها الإخوة ليلًا. جاؤوا إليّ أيضًا وقالوا: "سيّد! أنت أيضًا ستذهب معنا!".

- لا، أنا تعب، أريد الليلة أن أنام، غدًا آتي معكم!

 

كان من المفترض أن تذهب من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام سريّة مصطفى بيش قدم لصيد الدبّابات. كنت منهكًا وأردت أن أنام تلك الليلة لعلّ جسدي يرتاح قليلًا، لكنّ مصطفى بيش قدم قال لي: "لا! تعالَ الليلة، وغدًا تستريح!".

 

250


242

الفصل التاسع: كربلاء بدر

- عندما يأتي الغد تقول أيضًا، تعالَ الآن وغدًا تستريح، لو تعفيني...

 

بالنهاية، غلب إصرارهم رفضي. والحقيقة أنّ معظم الإخوة أصابهم النعاس مثلي، واحمرّت عيونهم من شدّة الإرهاق وعدم النوم، وجاهدنا كي نبقيها مفتوحة.

 

عند الغروب، جهّزنا أغراضنا، فحملت رشاشًا، كلاشنكوف، وحقيبة ظهر مملوءة بالرصاص. وحمل أمير معه قاذف (B7)، مع أربع قذائف إضافيّة. طوال تلك الفترة، وإضافة إلى تعبي الجسدي، كنت أفكّر كيف سنقف بهذا العتاد القليل أمام مئتي دبّابة، لم ندمّر طوال النهار سوى القليل منها؟!

 

عند حوالي الواحدة بعد منتصف الليل، صدرت الأوامر بالتحرّك فانطلقنا. شرعت الدبّابات تقصف المنطقة بشدّة، فتهتزّ من دويّ الانفجارات. وقد أضاءت مصابيحها المكان وبدّلت ليلها إلى نهار. تحوّلت المسألة إلى شيء من السخرية، وراح الإخوة يسألون ممازحين: "إلى أين أنتم ذاهبون يا شباب؟!

- ليس إلى مكان! هناك دبّابات تزعجنا، ونحن ذاهبون لتصفية حسابنا معها!

 

تقدّمنا إلى أن وصلنا إلى مكان يشبه القناة. ومن هناك استلزم الأمر عبور القناة والساتر الترابي القريب منها، لنصل بعدها إلى أرض سهلة مواجهة للدبّابات. كنّا قرابة الخمسين عنصرًا، وبحوزتنا سبع أو ثماني قاذفات (B7)، وكان يجب على الباقين التقدّم بالقنابل إلى مقربة من الدبّابات.

- استعدّوا جميعًا! ثبّتوا أقدامكم في الأرض بقوّة. سأطلق زخّة من 

 

251


243

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الرصاص، نتقدّم بعدها جميعًا وبسرعة نحو العدوّ!

 

قال مصطفى بيش قدم هذه الكلمات. ضحكت لا شعوريًّا. وكأنّنا لسنا في حرب حقيقيّة قاسية، إنمّا أمام لعبة صبيانيّة. وربّما صغر "الموت" في أعيننا بحيث لم نعد نخشى اقتحامه.

 

تسمّرت أعيننا على سلاح قائدنا، وتجهّزنا. ما إن أطلق زخّة حتى قفزنا من أماكننا. ركضنا من القناة... ومع أصداء التكبيرات، انتشر الإخوة على امتداد السهل، وراحوا يركضون باتّجاه الدبّابات، وكان علينا الاقتراب منها إلى أن نطمئنّ بأنّ قذيفة الـ(B7) ستصيبها. أحاطت بنا أَنوار كشّافات العدو، وبدأوا يطلقون الرصاص الخطّاط علينا من كلّ ناحية. في منتصف ذلك الليل الملتهب، تلاشى الخوف والعتمة قبل أيّ شيء! المسافة بيننا وبين الدبّابات تقلّ عن الألف متر، وهي مسافة لا تُقطع ركضًا، مع حقيبة الظهر المملوءة بالذخيرة، وبأقدامنا المتعبة. الأرض كأنّها حُرثت بالجرّار الزراعي، والدبّابات كأنّها ستظل حاضرة لاستقبالنا لنشرع بتدميرها! في تلك الأوضاع لم يفكّر أحد بنفسه، بل انصبّ كلّ تفكيرنا بأنّنا الآن إذا ما دخلنا في قلب النيران، فإنّنا سننجز مهمّتنا، حتمًا! إضافة إلى سريّة مصطفى بيش قدم، كان هناك علي تجلّايي، وقائد كتيبتنا أصغر قصّاب، وعدد قليل من عناصر السرايا الآخرين. وكلّ منّا يسعى بكلّ ما أمكنه من طاقة وسرعة لأن يقطع هذه المسافة المجهدة، والوصول إلى الدبّابات. كانت حقيبة ظهري ملأى بالرصاص، وكلّ همّي محصورًا في العبور من هذه الأرض الصعبة بسرعة. فجأة علقت رجلي في مدرة فتعثّرت. لم أستطع السيطرة على نفسي مع تلك السرعة التي كنت أعدو بها ووقعت أرضًا. ويا له من سقوط! طار الكلاشنكوف في ناحية وأنا في ناحية أخرى. تكرّر وقوعي مرّتين أخريين. هذه المشاكل من جهة، وصوت أمير الذي يناديني باستمرار من جهة أخرى! كان يتقدّم حاملًا الـ(B7) مع أربع قذائف

 

252

 


244

الفصل التاسع: كربلاء بدر

إضافية، فثقل عليه أن يجارينا في العدْو، وهو الفتى الغضّ ذو البنية الجسديّة العاديّة والذي لم يتجاوز السابعة عشرة من العمر. كنت كلّما ابتعدت عنه أسمع صوته يناديني: "سيّد! تروَّ! تروَّ ريثما آتي!"، آنسني سماع صوته المحبوب، وحاولت التمهّل قليلًا حتّى يصل إليّ، لكنّه بحالته هذه، صعّب عليّ الأمور. إلى أن علت صرختي: "أخي! أنت هنا تتودّد إلي! من الآن سنفترق! اذهب باتّجاه دبّابة أخرى... أنا ذاهب..."[1].

 

ناديت يا عليّ ونهضت من جانب أمير. عندما سمعت أصوات تكبير الإخوة علمت أنّهم وصلوا إلى الدبّابات. وأثناء هذه الجلبة، لم ألتفت إلى أنّ دبّابتين تصوّبان عليّ، فما إن قمت من مكاني حتّى سلّطتا عليّ كشّافات النور! كان مشهدًا عجيبًا، فهدير الدبّابات المرعب، وحمم مدافعها التي استمرّت تنهمر علينا من كلّ صوب، والآن، هاتان الدبّابتان اللتان جعلتاني هدفًا مشتركًا لهما. لم أكن أرى سوى الرصاص الخطّاط ينهمر عليّ من كلّ ناحية ويمرّ من جانبي[2]. كانت كمّيّة الرصاص كبيرة جدًا، بحيث كنت مع كلّ خفقة قلب أقول: "لن أبقى سالمًا!". مع كلّ هذا، ومن دون أيّ تأخير، زدت من سرعتي بقدر ما استطعت ورحت أجري. ابتعدت قرابة الـ 60 مترًا عن أمير، فأجبرني صراخه ونداؤه لي بـ"أخي" على التوقّف. كان يناديني باستمرار: "سيّد... سيّد... بالله عليك..."، وقفت: "يا عمّ! لا تنادِني كثيرًا!".

- سيّد! هل أُصبت؟!

- لا! لم أُصب!

- لا أصدّق!

 


[1] دائمًا ما كنت في الاشتباكات أتجنّب أن أكون إلى جانب عزيز لأنّه سيشغل تفكيري دومًا، ولن أستطيع التركيز. فلم أكن أرضى حتّى بكون أخي صادق رحمه الله إلى جانبي.

[2] عادة ما كانت تُرمى رصاصة خطّاطة واحدة من بين كلّ خمس رصاصات، ومن خلالها كان يمكن تقدير عدد الرصاصات التي أُطلقت نحونا.

 

253


245

الفصل التاسع: كربلاء بدر

حينما وصل إليّ، راح يحملق بي مذهولًا: "من كلّ تلك الرصاصات، لم تصبك أيّ واحدة؟! أنت لا تعلم أيّ مشهد كان، لقد دخلت في أتون النار..."[1].

 

قلت: "رأيت؟ إنّ خطبًا لم يصبني؟! والآن هل ستفارقني أم لا؟ اذهب ودعني أتابع عملي...".

 

أصرّ أمير على ذهابنا معًا نحو الدبّابات. اشتدّت المواجهات، وكان أوّل من رمى دبّابة هو "بابا". سمعت صراخ الإخوة: "هذه هي، اضربها...".

- يا رامي الـ(B7)! اضرب تلك!

 

بشجاعة قلّ نظيرها، أحرق "بابا" الدبّابة الأولى. لكن حين أراد التوجّه إلى دبّابة أخرى ورميها بقنبلة، أُصيب بقذيفة من دبّابة أخرى فسقط شهيدًا[2]. حقًّا ما انفكّ الإخوة يقاتلون بعشق ويستشهدون حاملين معهم مظلوميتهم. الجميع انبرى للقتال، وقد نفعتني رصاصات الرشّاش هناك. ظلّت الدبّابات تناور في منطقة العملية، وأضيف هديرها الكبير والغبار الذي تثيره، إلى أزيز الرصاص ودويّ القذائف المدفعيّة التي تنهمر علينا من كلّ صوب. انتشر الإخوة في السهل، وانقطع التواصل فيما بيننا تقريبًا. كان يلفت انتباهي أحيانًا تدمير دبّابة أو سقوط شهيد. وقد دُمّر إلى تلك اللحظة ما يقرب من 20 دبّابة، في واقعة مثيرة للعجب، حيث بتنا تحت نظر الدبّابات قبل أن نصل إليها بكيلومتر تقريبًا... لم أرَ في تلك المعركة شخصًا ضعف بسبب شدّة النيران، واستطعنا ببسالة الإخوة إرباكهم، وحققنا هدفنا بتدمير جزء من دبّاباتهم، وجاء القرار

 


[1] كان أمير يتكلّم باستمرار عن ذلك المشهد ويقول: "عندما نهضت أنت، رأتك الدبّابات". كان يقسم ويقول: "لقد كنت تحترق بالرصاص والنيران!". كان مذهولًا كيف خرجت من تلك المعركة سالمًا.

[2] بقي جسد الشهيد علي أكبر مرتضوي هناك. بعد سنوات من انتهاء الحرب جاءت عائلته إليّ، كانوا يظنّون أنّه أُسر، بينما كنت متيقّنًا بأنّه فارق الحياة على ضفاف نهر دجلة، وأكّدت لهم ذلك.

 

254


246

الفصل التاسع: كربلاء بدر

أن ندمّر أكبر عدد ممكن منها[1]. قرابة الفجر بدأوا هجومًا مضادًّا برتل الدبّابات. كنّا قد هاجمنا ليلًا تجمعها من القلب، وقد انفصل الآن بعضها بهدف التقدّم نحو خطّ دفاع كتيبتنا الذي هو في الواقع خطّ فرقة النجف. وهدفت مجموعة أخرى إلى الانقضاض علينا من الخلف. وحيث رأينا تحرّكاتهم بوضوح، فقد علمنا مرادهم. سقط عدد من الإخوة شهداء وجرحى، ولم يتمكّن أحد في مثل تلك الظروف أن يسعف الجرحى فبقوا في أرضهم. كما تقدّم بعض الإخوة كثيرًا فوقعوا أسرى بأيدي الجنود العراقيّين. لم نكن نعلم بعدُ بأنّ "مصطفى بيش قدم" وعددًا آخر من الإخوة قد رجعوا فور تدمير عدد من الدبّابات إلى الساتر الترابي الذي انطلقنا منه. انتشر الإخوة في المنطقة من دون إمكانية تواصل بيننا. كنت أنا واثنا عشر عنصرًا تقريبًا جنبًا إلى جنب في تلك الأوضاع، وأذكر منهم جيّدًا "علي أكبر بافنده" و"أمير مارالباش". اجتمعنا في مكان بعمق متر تقريبًا، شبيه بقناة الريّ، وأرضه شبيهة بساقية جافّة ومتشقّقة، وبحوزتنا ثلاثة قواذف (B7) مع قذيفة لكلّ واحد منها، ورشاش، وعدة قطع كلاشنكوف.

 

في تلك اللحظات الحسّاسة التفتنا إلى تحرّك قوّات المشاة العراقيّة قلت للإخوة: "شباب! إن كنتم تريدون المواجهة فلنبدأ على اسم الله، لكن إن توجّهنا نحو الدبّابات فلن نستطيع أن نفعل شيئًا. وإضافة إلى ذلك، سندمّر ثلاث أو أربع دبّابات ومن ثمّ يرموننا. أمّا إن أردتم العودة إلى ساترنا الترابي فهذا هو الوقت المناسب". توجّب علينا الإسراع في


 


[1] لأنّ الدبّابات كانت على جسر يربط ضفّتي دجلة ببعضها البعض. كان طريق عام البصرة ـ العمارة لا يزال بأيدي العراقيين، وكانت وحدة المدفعيّة تتّصل عبر هذا الجسر بالطريق العام وبالعراقيين. وعدا عن هذا الجسر كان هناك جسر آخر على نهر دجلة، بحيث إذا ما دُمّر هذان الجسران، فإنّ العدوّ سيُحاصَر من جهة البصرة والعمارة. وإذا ما قُطعت الطريق ستنتفي إمكانيّة نفوذ القوّات من ذلك الجانب بالكامل. لأنّ أحد جانبي الطريق كان أرض مستنقعات لا يمكن النفوذ من خلالها، والجانب الآخر كان بيد شبابنا. كما سقط مدرج الطائرات المروحيّة الذي كان في المنطقة، فانتهى أمر العراقيّين تمامًا في تلك المنطقة. كان العراقيّون يعلمون هذا، لذا، كانوا يقاتلون بشراسة.

 

255


247

الفصل التاسع: كربلاء بدر

اتّخاذ القرار. أوّل من تكلّم أمير فقال: "لا! عودوا أنتم، أمّا أنا فأريد التوجّه نحو الدبّابات!".

- أمير! لا مكان هنا للقول أنا سأبقى واذهبوا أنتم! البقاء هنا يعني إما أن نقع في الأسر بعد نصف ساعة، وإما أن نقاتل ونستشهد! لكن يمكننا من الآن أن نقوم بعمل يحول دون محاصرتهم لنا!

 

رأينا قوّات المشاة العراقيّة تركض مسرعة نحو القناة التي اجتمعنا فيها. وبدا أنّ سبيلنا الوحيد للخروج من ذلك المكان جادّة تقوم الدبّابات بالمناورة فيها. ولو أنّ رتلها أغلق تلك الطريق، لتمّت محاصرتنا من جميع الجهات. حسنًا، لا بدّ أن نخرج من القناة، ونعبر الجادّة لنسير من ثمّ في الجانب الآخر منها في قناةٍ دخَلَ العدو منها إلى المعركة! صرنا أينما توجّهنا رأينا الدبّابات وقوّات العدوّ. صاح بعض الإخوة: "يا عمّ! كيف سنتمكّن من عبور هذه الجادّة؟".

- إن استهدفنا دبّابتين، فإنّ الدبّابات الأخرى لن تتقدّم. سيحاولون التصويب علينا من بعيد، ثم يرسلون قوّات المشاة إلينا. ألا نستطيع مواجهة قوّات المشاة ودحرهم؟!

 

استمدّ الإخوة المعنويّات من كلامي. لم يكن من سبيل آخر أمامنا. استعدّ اثنان من رماة الـ(B7)، وأطلقا في وقت واحد وأصابا دبّابة ودمّراها، فتوقّفت الدبّابات الأخرى، لتبدأ نيران مدفعيّاتهم بالانهمار علينا. في تلك الأثناء، انبرت قوّات المشاة العراقيّة إلى القناة التي كنّا فيها واتّجهت نحونا مسرعة. لم يكن أمامنا وقت. قلت: "سأذهب أنا أوّلًا. وابدأوا أنتم بالرمي، وعندما أصل إلى الناحية الأخرى من الجادّة، أبدأ أنا بالرمي لتعبروا أنتم". وخلال لحظة، قمت مسرعًا وعدوت نحو ثلاثين مترًا في ظلّ رماية الإخوة المتزامنة بعضها مع بعض، 

 

256


248

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وعبرت الجادّة، ورحت أرمي من تلك الناحية نحو جنود العدوّ. صرنا الآن نرميه من الجانبين، وفي ظرف دقائق معدودة عبرنا نحن الاثنا عشر عنصرًا الجادّة بسلام. في ظل الظروف المعقّدة، كنّا في مقابل قوّات مشاة العدوّ ونسير باتّجاه بعضنا البعض. في تلك الأثناء شملنا لطف الله وعنايته، إذ سقطت ثلاث قذائف مدفعيّة للجيش العراقي داخل تلك القناة نفسها وسط جنوده! فاضطربوا وتشوّشوا جرّاء انفجار القذائف وإصابتهم بخسائر في الأرواح. اشتبكنا نحن أيضًا معهم وأجبرناهم على الفرار من تلك الناحية. كانت القناة تؤدي إلى ساترنا الترابي، وليس لنا إلا الجري للوصول إليه. وتوجد هناك القناة نفسها التي انطلقنا منها الليلة الماضية باتّجاه الدبّابات، والوصول إليها يعني ابتعادنا عن مركز الخطر. وصلنا إلى ساترنا لاهثين، شعثًا غبرًا، فيما كانت ثيابنا ملطّخة بالدماء ومبلّلة بالعرق. رأيت هناك أصغر قصّاب يراقبنا بنظره. كان نور الصباح يشقّ وجه الأفق، ولم أكن قد أدّيت صلاة الصبح بعد. وما إن وصلت إليه حتّى قال: "سيّد! خذ خمسة أو ستّة عناصر وتقدّموا باتّجاه الدبّابات...".

- يا عمّ! لم أؤدِّ صلاتي بعد! بالمناسبة، عن أيّ تقدّم تتكلّم؟ لقد وصلت الدبّابات إلى خلف الساتر. وهذا هو الوقت المناسب لنشتبك معها من هنا، لا أن ترسل عدّة عناصر إليهم...

 

مضى أقلّ من ساعة على خروجنا من حصار الدبّابات، ومن لطف الله وعنايته أنّني لم أسقط أرضًا حتى تلك اللحظة مع كلّ تعب الليلة الماضية. كانت قوّات المشاة العراقيّة تتقدّم.

 

فضربت بكفّي على التراب وتيمّمت. لم أعرف اتّجاه القبلة، والعدوّ يكاد يصل فيما قصف الدبّابات العشوائي يشتدّ كلّ لحظة. أدّيت صلاتي بسرعة بما أحمل في حقيبة الظهر، لقد كنت مع ربّ لُذتُ بحماه.

 

257


249

الفصل التاسع: كربلاء بدر

في الصباح، بدأ أقوى هجوم للقوّات العراقيّة. وكأنّ كلّ الدبّابات في تلك المنطقة هجمت بكلّ قوّتها لتخترق ذلك الساتر. اشتدّت النيران بحيث ضاع الجميع في الغبار الناجم عن انفجار القذائف، ومدفعيّات العدو تدكّ ساترنا بدقّة وقوّة شديدتين، بمعدل عشرات القذائف في آن معًا! لم يكن بالإمكان رؤية أحد في ذلك الدخان والغبار. وقد تجرأت بعض الدبّابات واقتربت بالكامل من الساتر. الشيء الوحيد الذي لم نكن نفكّر فيه هو التراجع إلى الوراء. استشرس الإخوة بقتالهم. فجأة صاح أحدهم: "لا تسمحوا لتلك الدبابة بالتقدّم، ارموها...".

 

فقام أحدهم ورماها بقذيفة (B7)، مع احتراق كلّ دبّابة حاولت الاقتراب، كان الرتل الآخر يُصاب بالذعر فيتوقّف عن التقدّم لدقائق. أرادوا إرهاقنا من خلال قصفهم الكثيف بالقذائف المدفعية، لكنّنا كنّا عازمين على الحفاظ على الساتر حتى آخر نفس. علمنا فيما بعد أنّ "الفرقة 27" التي كانت على ميسرة "فرقة النجف" لم تُوفّق بشكل كامل، لذا أصبحت فرقة النجف بنفسها في المقدّمة وفي الجناح الأيسر، تقاتل العدوّ، وقد ركّز كلّ ضغطه على تلك المنطقة. وفي شمال منطقة العملية أيضًا، أخفقت بعض الوحدات في الوصول إلى دجلة، وبقيت في جادّة الخندق. لذا، سعى العدوّ بكلّ طاقته إلى اختراق خطّ دفاع فرقة النجف بالقرب من قرية "همايون"، كي ينتهي أمر معركة بدر بالنسبة لنا من الأيّام الأولى. هكذا، قاتلنا نحن بأسناننا وأظفارنا كي لا نسمح لقوّات العدوّ بالنفوذ من هناك. كانت النيران تنهمر علينا من الأرض والسماء. وفي تلك الأثناء، بتّ أركض على امتداد الساتر وأوصل الذخائر للدشم، فأعطي أحدهم الـ(B7)، وآخر الشرشور و... وصل الأمر إلى درجة أنّه لم يعد الواحد منّا يفكّر بالسير منحني الظهر أو الاحتماء عند سماع صفير قذيفة مدفعيّة وغيرها من القذائف، بمعنى، إذا ما أراد

 

258


250

الفصل التاسع: كربلاء بدر

ترتفع في الأفق لعلّها تخفّف قليلًا من برودة الجوّ. وسرعان ما صدرت الأوامر بالاستعداد للتحرّك. طلب إليّ قائد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام أصغر قصّاب بأن أقف في مقدّمة الطابور وأعيد القوّات إلى منطقة وجودها سابقًا. طوال تلك الأحداث غالبًا ما رأيت الأخ أصغر الأقرب إلينا من باقي القادة. هنا يطلق قذيفة (B7)، وهناك يرمي برشّاشه. كلامه وحديثه يمدّان الإخوة بالمعنويّات دومًا، وفي ظلّ النيران الكثيفة، كان يعتلي الساتر الترابي ويخاطبهم قائلًا: "أيّها الإخوة لا تبقوا طويلًا أسفل الساتر! تعالوا إلى الأعلى!". كنّا نشعر بأنّنا نحيا من جديد عندما نراه. لقد أضرم العراقيّون طوال تلك الليلة نارًا قلّما شهدنا لها نظيرًا... وكان ميدان القتال خطيرًا إلى درجة، تطّلب الوقوف هناك قلبًا شجاعًا. والحقّ يُقال: "إنّ وجود قادة كعلي تجلّايي وأصغر قصّاب في تلك المنطقة جسّد المشجّع الأكبر لنا". فيما يتعلّق بالأخ مهدي، فلم أره، لكنّني سمعت أنّه في خطوط المعركة الأمامية، وكنت متيقّنًا من ذلك من خلال معرفتي به.

 

تحرّكنا بناءً لأمر قائد الكتيبة. سرت في مقدّمة الطابور نحو الساتر الترابي القريب من نهر دجلة، ومن دون أن ألتفت إلى الوراء. بدأت مدفعيّة القوّات العراقيّة العمل من جديد، وراحت تقصف المكان بشدّة. كنت أريد إيصال الإخوة إلى الساتر السابق بأسرع ما يمكن.

 

عندما قطعنا نصف المسافة، ألقيت نظرةً إلى الخلف وتعجبت إذ لم أجد سوى بعض العناصر خلفي وتفصلنا عن الباقين مسافة مئة متر تقريبًا. لقد سقط عدد من الإخوة شهداء وجرحى بفعل القصف العنيف، وبقي كلّ واحد منهم حيث سقط. قلت في نفسي: "لقد تفرّق الجيش!". انتظرنا قليلًا إلى أن وصل الإخوة وأكملنا طريقنا. بعد دقائق وصلنا إلى مكان ظننت أنّ العدوّ استهدفه بالأسلحة الكيميائيّة. رحت أبحث مسرعًا هنا وهناك عن القناع الواقي وأصرخ: "القناع... القناع".

 

260

 


251

الفصل التاسع: كربلاء بدر

قال لي أمير، وكان أقربهم إليّ: "ماذا تريد بالقناع؟".

- يبدو أنّهم قصفوا بالكيميائي!

- سيّد! هو الوحل الذي تناثر عليك!

 

عندها التفتّ إلى أنّ قذيفةً مدفعيّة سقطت في المستنقع فتناثر الطين والوحل علينا بحيث أحسست وكأنّهم فعلًا قصفونا بالكيميائي! وصلنا إلى مقصدنا متفرّقين بعضنا عن بعض ومنهكين.

 

وهناك أيضًا لم نسلم من نيران مدفعيّة العدوّ التي راحت تقصف بنحو جنوني. والآن، لم يبق من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام واقفًا على قدميه أكثر من 40 نفرًا. هناك تعجّب الإخوة الذين رأوني للمرّة الأولى وقالوا: "سيّد! حاذر، قد يرمونك! لقد أصبحت تشبه العراقيّين إلى حدّ كبير...". كنت لا أزال أرتدي البزّة العراقيّة، وبالطبع لم أبقَ حافي القدمين، فقد أمّن لي الإخوة عصر الأمس حذاءً من الكتان، وكان بالنسبة لي أفضل من الحذاء العسكري. معظم الإخوة هناك، لم تصلهم أخبار معركة الأمس ومواجهتنا للدبّابات ولنيران مدفعيّاتها. قلت: "إن أرادوا الآن أن يقصفوا، فليقصفوا!"، لقد أنجزت المهمّة التي أوكلها إليّ الأخ أصغر، ولم أعد أريد البقاء هناك. قلت لأمير: "دع الإخوة يذهبوا، ولنعد نحن إلى الخلف لنرى ماذا يحدث هناك!".

- من أين يجب أن نذهب لنختصر الطريق؟

- من المقرّ! فالطريق من هناك أكثر أمنًا، وأقصر!

 

صحيح أنّ المنطقة مزروعة بالألغام، لكنّني كنت واثقًا من نزعها في الطريق المؤدي إلى المقرّ، وحين وصلنا إليه، رأينا عناصر الفرقة سبقونا وبدأوا بإخلائه، قلت لاثنين منهم كانا يخليان الأجهزة اللاسلكيّة ممازحًا: "نعم، اخلوها! نحن نعلم بأيّ ثمن أُخذت!". فراحوا يشكروننا، ويثنون علينا. كانت المرّة الأولى التي أرى فيها مثل هذه الأجهزة

 

261


252

الفصل التاسع: كربلاء بدر

اللاسلكيّة الغريبة العجيبة، وها هي الآن قد أصبحت بين أيدينا. عندما خرجنا من المقرّ رأيتهم قد ربّضوا المدفعيات في المنطقة للتوّ. وفيما كنت متّجهًا نحوها، لفت نظري أحدهم وهو يراقبني بدقّة. يبدو أنّ لباسي وهيئتي العجيبة جعلته يشكّ بي. توجّهت نحوه: "نعم؟!". حدّق بي مجدّدًا وسألني: "من عناصر أيّ كتيبة أنت؟".

- من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، هل من إشكال؟

- يا عمّ، أنت تشبه العراقيّين كثيرًا!

- لا إشكال في ذلك!

- حاذر على كلّ حال! فخلفنا توجد قوّات من الجيش، قد يطلقون النار عليك إن لم يعرفوك!

- لا يا عمّ! أَوَلا يرون أين هو خطّ دفاعنا؟

 

تركته غير مكترث لتحذيراته، ولكن لاح لي من بعيد شخص يطلّ برأسه ويختبئ. واقعًا أثار شكّنا. اقتربت، فرأيت عددًا من عناصر الجيش موجودين هناك. كنت وأمير نسير على الجادّة، وإلى جانب الجادّة توجد قناة أنشئت حديثًا قد استقرّوا فيها. حين دنوت منهم صحت فيهم: "حسنًا لِمَ أنتم مختبئون؟ لا يوجد شيء هنا!". سأل أحدهم وقد علمنا فيما بعد أنّه قائد سريّة: "هل تعلم أين يتواجد العراقيّون الآن؟".

- العراقيّون بعيدون جدًا من هنا!

 

أراحه جوابي نوعًا ما. قلت له من جديد: "لدينا في مكان متقدم أكثر عن مركزكم ساتران ترابيّان مليئان بالعناصر. لماذا تصدر منكم مثل هذه الأعمال وأنتم هنا؟!".

 

عند ذاك بدأوا يصولون ويجولون، وأحاط بي بعضهم وراحوا يسألون من نحن؟ وما الذي حصل؟ حدّثتهم باختصار عن الليلة الأولى للعملية وعن القوارب، وهم ينظرون إلينا غير مصدّقين. أخذني قائدهم جانبًا

 

262


253

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وسألني: "بالله عليك قل لي ماذا يحدث في الخطوط الأماميّة؟!".

- والله، ليس من أخبار الآن...

 

رأيته مصرًّا جدًا ليعلم ماذا حدث. أخبرته قليلًا عمّا جرى الليلة الماضية وتدمير الدبّابات. فقال: "كيف ذهبتم لمواجهتهم. وبأيّ قلب وأيّ جرّأة!".

- بنفس القلب والجرأة اللذين أتينا بهما في الليلة الأولى لتنفيذ العملية، وهاجمنا خطّ دفاع العدوّ في تلك الظروف!

 

أخبرته عن قصف العدوّ الشديد وتفاني الإخوة[1]. بعد الحديث شعرت بالارتياح تجاهه. سألني: "ماذا سيحصل في الخطوط الأماميّة؟ ماذا قرروا؟ من الذي سيذهب إلى الجهة الأخرى من دجلة؟!".

- الأمر بسيط! اليوم لدينا عملية أيضًا. وإن شاء الله نحن سنعبر دجلة ونذهب إلى الجهة الأخرى!

- أنتم؟ يا عمّ! بأيّ قوّات؟

- إن لم تأتِ قوّات جديدة سنذهب بأولئك الثلاثين أو الأربعين عنصرًا الباقين!

ثمّ أحضروا لنا الطعام والفواكه المعلبة، وأصبحت وقائدهم أصدقاء حميمين. وبعد أن أخبرته عن أوضاع الجبهة، عاد ورمقني من رأسي إلى أسفل قدمي وقال: "ما هذه الهيئة؟ اذهب بالحدّ الأدنى وجِد لك سروالًا آخر ترتديه!". كان محقًّا، فقد كان شكل ملابسي الخاصّة بالجنود العراقيّين مضلِّلًا. فبدل الحذاء العسكري، انتعلت حذاءً من الكتان، وقد ارتفع قميصي من فوق السروال، وتركت سلاحي في الخطّ


 


[1] أخبرني لاحقًا أحد الإخوة المجاهدين في الفرقة ويُدعى كريم محمّديان بأنّه رأى فيلمًا للأخ منافي صُوّر أثناء الاشتباكات في عملية بدر. كان يقول: "كنتَ آتيًا من دون أن تكترث لانفجار القذائف المدفعيّة التي كانت تتساقط على جانبيك الواحدة تلو الأخرى".

فيما بعد، حاولت العثور على الفيلم ولكنّي لم أجده.

 

263


254

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الأمامي، ولم أكن أحمل سوى قنبلتين. برّرت للمسكين، فله كلّ الحقّ ليتعجّب من مظهري. وحيث أصبحنا الآن أكثر حميميّة جاء دوري لنصيحته: "لا تُضعِف معنويّات عناصرك!... وبما أنّكم بقيتم هنا في هذا الوضع، فاطلب منهم على الأقلّ أن يتقدّموا وينتشروا في المنطقة... فالمسافة بيننا وبين العراقيّين كبيرة. يجب أن نموت قبل ان يتمكّن العدوّ من العودة إلى هنا مجدّدًا. وما دمنا أحياءً، لن يملكوا الحقّ بالنظر إلى هذه المنطقة!... كما إنّ قوات الدعم تكاد تصل من الخطوط الخلفية...". وبالمحصّلة، فقد شجّعتهم قليلًا بهذه الكلمات. بعد تناول الطعام والفاكهة المعلّبة التي قدّموها لنا، قمت وأمير بتوديعهم وتابعنا طريقنا. حين كنّا عند عناصر الجيش وصلنا خبر استشهاد محمّد زاهدي. هذا هو "محمّد زاهدي" الثاني الذي فارقنا في عملية بدر. سمعت بأنّه استُشهد في الليلة الأولى من العملية في ذلك المقرّ، ولم أعرف بذلك قبل تلك اللحظة. أحزنني الخبر. كان رجلًا غير عاديّ، مؤمنًا، خلوقًا وعاملًا. من مميّزات الشهيدين "زاهدي" خبرتهما وتجربتهما، فتركت شهادتهما في الحرب ثغرة كبيرة لن تُسدّ بسهولة. كانت دماء الشهداء الذين سقطوا في الليلتين السابقتين غضّة طريّة على الأرض في كلّ ناحية. عجيبة هي لحظات تأملنا لأشلاء شهيد أو لدمائه المتجمدة على الأرض... كنّا نحزن لعلمنا بأنّ هؤلاء الإخوة المؤمنين والمخلصين رحلوا عنّا إلى الأبد، ونُسرّ لكوننا ما زلنا إلى تلك اللحظة ثابتين، ولم نترك جهودهم وتضحياتهم تذهب هدرًا، ولأنّ العملية لم تكن لتسير قُدمًا من دون إيثارهم وتضحياتهم. كان الزحام يشتدّ كلّما اقتربنا من ضفّة الهور. فقد وصل إلى المنطقة بعد اختراق خطّ الدفاع ما يقارب الثلاث عشرة أو الأربع عشرة كتيبةً من فرقة عاشوراء. لكن يبدو أنّه لم يكن قد أوعز إليهم بعد التقدّم إلى الخطوط الأماميّة والمشاركة في المراحل المتبقية من العملية. استقرّ معظمهم هنا وراء السواتر الترابيّة.

 

264

 


255

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وصلنا في مسيرنا إلى النقطة التي خرجت فيها بالأمس من الطابور، واستُشهد اثنان أو ثلاثة من الإخوة جرّاء سقوط قذيفة 120 ملم. كانت أشلاؤهم لا تزال ملقاةً على الأرض حتى قدما أحد الشهداء. تألّمت أكثر لرؤيتهم. بعض أنواع الشهادات تقلب أحوال المرء. فشهادة شخصين بعد ثوانٍ من خروجك، وفي المكان نفسه الذي كنت واقفًا فيه وبالوضعيّة ذاتها... قلت في نفسي: "نور الدين! اُنظر ماذا يريد الله منك فما زال يمهلك إلى الآن!".

 

تابعنا مسيرنا، وإلى الأمام قليلًا شاهدنا عناصر التجهيزات، وقد حملوا إلى المنطقة قطعًا كثيرةً من آليات الشيلكا، ورشّاشات الدوشكا وقذائف الـ 120 و 60 و81 ملم، والكاتيوشا و... واستقرّوا هناك. استخدموا أيضًا المدافع التي غنمناها من العراقيّين، وقد انهمكوا بشدّة في تحديد زاوية الرمي، وكان من الواضح أنّ أمامهم ليلة صعبة ومجهدة. تابعنا مسيرنا من جديد. أردت الذهاب إلى دشمتنا، تلك التي بنيناها أنا وأمير. وقبل أن نصل إليها التقينا بعالم الدين ذاك الذي تلا علينا صيغة التآخي، وقد جاء بلباس رجل الدين إلى المنطقة، وراح يوزّع العصير على الإخوة. كان حضوره يمدّهم بالمعنويّات. وما إن رآني حتّى سألني بكلّ لطف ومحبّة: ماذا أعطيك؟

- أقبل بكلّ ما تقدّمه لي!

 

وهناك وقع نظري على محمّد، ذاك الذي ارتكب تلك الغلطة بالجرّافة أثناء حفر الدشم في مخيّم شهداء خيبر. كان يوزّع الطعام والفاكهة على الإخوة، لكنّنا تلك الثلّة التي عادت من المعركة، لم نكن نرغب بهذه الأمور، فقد سقط الكثير من شباب الكتيبة ومن أصدقائنا شهداء، وانقلبت أحوالنا لذلك.

 

وصلنا إلى ما وراء الساتر، وإذ ما يقارب العشر طائرات توبولوف

 

265


256

الفصل التاسع: كربلاء بدر

جاءت لتقصف المنطقة. ما إن رفعت رأسي حتّى رأيتها ترمي عدّة صواريخ فوق رؤوسنا! صاح أمير: "انبطح أرضًا!".

- دعك منها!

- لِمَ؟

- إن كان من المقدّر لهذه الصواريخ أن تنفجر، فسنموت سواء انبطحنا أم لا. هيّا بنا نذهب!

 

بالفعل كنّا قد رأينا سابقًا بأنّ الصواريخ لا تنفجر في المستنقعات، فارتاح بالي نوعًا ما. وهذه المرّة أيضًا، لم ينفجر منها سوى ثلاثة، فيما غرقت البقية في المستنقع. على امتداد البصر،(كما في مشهد سابق) استقرّت الصواريخ في الأرض بحيث يُخيّل للرائي من قواعدها الخلفيّة البيضاء اللون بأنّ نباتًا ما مزروعًا هناك!

 

أخيرًا وصلنا متعبين ومنهكين إلى دشمتنا لنرتاح قليلًا، فصُدمنا بأنّ أحدهم قد عبث فيها. كنّا بالأمس قد ملأنا صندوق حفظ المثلّجات بعلب العصير ومعلّبات التونة، وتركنا البطانيات وأغراضًا أخرى، لكن يبدو أنّ الدشمة تعرّضت لسطو من جانب قوّاتنا، وأُخليت من محتوياتها! وقفت مذهولًا. ثم خرجت معترضًا: "أيّها الإخوة! من الذي أخذ أغراضنا؟".

 

أحدهم قال: حسنًا! لا بدّ أنّها كانت تلزمهم حتّى أخذوها، والآن، قل ماذا تريد لنعطيك إيّاه!". بالطبع، كان هذا الأمر عاديًّا في مثل تلك الظروف، وأيّ شيء في خضمّ العملية أفضل من دشمة مجهّزة بالطعام والشراب والوسائل الأخرى! ومجدّدًا، رحنا نبحث عن بطانيات وعن وسائل أخرى لنستخدمها في الليل. كان مصباحنا لا يزال في مكانه، فرحنا نبحث عن البطانيات والطعام والمتوافرين بكثرة في ناحية ما. كان عدد العناصر مقارنةً بالتجهيزات قليلًا، وعلاوةً على هذا، لم يكن أحد يفكّر بالاستزادة من الطعام، انصب كلّ همّنا في المواجهات

 

266

 


257

الفصل التاسع: كربلاء بدر

والعملية التي سنستكملها في الليل.

 

استمرّت المعارك العنيفة في محور فرقة النجف لليلتين أو ثلاث. وساعدتها من فرقتنا كتيبتا "الإمام الحسين وعلي الأكبر عليهما السلام"، فكانوا كلّ ليلة يعملون على إرباك عمل دبّابات العدوّ. إلى أن قرّر القادة أخيرًا عبور دجلة من أحد الجيوب وتفجير الجسر العراقي هناك، وبذلك نتمكّن من كسر صمود العدوّ في تلك المنطقة.

 

عصرًا، عاشت المنطقة أكثر لحظاتها هدوءًا في تلك الأيّام. فمن ناحية، كان العدوّ يستعدّ للهجوم، ومن ناحية أخرى، كانت قوّاتنا تستعدّ لعبور دجلة ودخول الجيب، حيث تعرّج نهر دجلة في منطقة مأموريّة فرقة عاشوراء، واتّخذ شكل جيب. امتدّ في تلك المنطقة بستان نخيل دَخَلَتْهُ منذ اليوم الأوّل، بعد عبورها دجلة، كتيبة سيّد الشهداء عليه السلام بقيادة "جمشيد نظمي"، ونعموا حينها بالهدوء الكامل، بينما خضنا نحن معارك شديدة في محور فرقة النجف. وقد تقرّر الآن أن يدخل من تبقّى من كتيبة الإمام الحسين عليه السلاموعناصر آخرون الجيب ويستكملوا مهمّتهم...

 

قبيل الغروب، كنّا عندما نصعد أحيانًا فوق الساتر، نسمع أصوات "السيمينوف" التي يطلقها العراقيّون من الضفة الأخرى لدجلة. فهمنا تلك الأصوات بمنزلة تحذير لنا بأنّ القنّاص العراقي يرى كلّ شيء. وخاصة أنّ المسافة التي تفصلنا عن الجسر تقارب الـ(1500م)[1]. دلّت القرائن مجتمعة على أنّهم بذلوا كلّ طاقتهم ليحافظوا على الجسر، الذي يقع إلى الجنوب من منطقة العملية ويمرّ فوقه "أوتوستراد".

 

 


[1] لم يكن للعراقيّين في الجانب الآخر من نهر دجلة خطّ دفاع خاصّ، ذلك أنّهم قد تفاجأوا بهذه العملية، ولم تؤاتهم الفرصة لإحداث خطّ دفاع قويّ في تلك الناحية من النهر، لكن، كان لهم ساتر ترابيّ هناك يطلقون منه النار علينا.

 

267


258

الفصل الثامن: الحياة في الحرب

أمّا نحن فقد قرّرنا هدمه، لأنّنا علمنا بأنّنا في حال عدم تفجيره، لن نستطيع الصمود هناك كثيرًا، وسنُجبر على الانسحاب.

 

كان غروب العشرين من آذار العام 1985م غروبًا مقلقًا. أدّينا الصلاة، وبعد تناول كميّة قليلة من الطعام، أردت أن أنام. وفيما رحت أتقلّب داخل الدشمة ولم أغطّ في النوم بعد، جاء خليل نوبري إليّ وقال: "الليلة قرابة الحادية عشرة سنتحرّك من أجل القيام بالعملية".

- لن آتيَ، أنا تعب!

 

وصل إرهاقي إلى درجة ظننت فيها أنّني لن أستطيع الوقوف على قدميّ، فكيف بي بالذهاب والمشاركة في العملية. جعل جوابي المختصر "خليل" يعود من حيث أتى. وضعت رأسي على الأرض ولم أعلم متى استسلمت للنوم.

 

عندما أيقظوني، كنت مشتّت التفكير. إنّه "خليل نوبري"، جاء مجدّدًا وناداني. تكلّم كثيرًا، ولم أجبه سوى: "أنا تعب". لم ألتفت إلى شيء من كلامه، ولم أرى سوى حالي المزرية، حيث لم أكن أقوى على الوقوف على قدميّ والمشي: "إن أنا أتيت معكم على هذه الحال، فلن أستطيع أن أخدمكم كفاية. أنا لا أعي شيئًا عن نفسي من شدّة التعب، فكيف بأن أشارك بالعملية. اسمح لي بالبقاء هنا، وسأكون مستعدًّا في الصباح لتنفيذ كلّ ما تأمر به".

 

قلت لأمير الذي كان يراقبني بنظراته: "اذهب أنت معهم، أمّا أنا فسأبقى هنا!". فقال أمير بفرح وسرور: "حسنًا أنا سأذهب!".

 

ومجدّدًا، وفي حالة تشوّش بين النوم واليقظة تركتهم، لكنّهم عادوا وجاؤوا يطلبونني. وهذه المرّة جاء خليل نوبري بنفسه أيضًا، ليدلي بآخر

 

268


259

الفصل التاسع: كربلاء بدر

ما عنده من كلام: "أتعلم يا سيّد؟! هذه الليلة تشبه ليلة عاشوراء! نفس الحكاية، الليلة التي قلّ فيها الناصر، والآن عددنا قليل أيضًا. قليل إلى درجة جعلت حتّى القادة يحملون سلاحهم ويلتحقون بالعملية... الجميع تعب، ولكنّهم الليلة استعدّوا للعملية...". بهذه الكلمات جعلني هذه الليلة ألتحق بمن بقي من الرفاق.

 

خرجت من الدشمة. والتحقت بجمع الإخوة الذين تهيّأوا لتنفيذ أقسى مراحل العملية وأهمّها، ويا له من جمع! عظماء فرقة عاشوراء كانوا في ذلك الجمع الذي لا يتجاوز الأربعين نفرًا، علي تجلّايي، محمّد تجلّايي، أصغر قصّاب، محمّد رضا باصر، قاسم هريسي، علي أكبر بافنده، محمود دولتي، علي بهلولي الذي كان عنصر الإشارة في الكتيبة و... أي وصل الأمر "بفرقة عاشوراء" في عملية بدر إلى مرحلة، اجتمع فيها كلّ العناصر، بدءًا من مسؤولي الفصائل والسرايا إلى قادة الكتائب، ومن هم أعلى مستوى، وذلك لينهوا كلّ شيء بالسيطرة على "أوتوستراد" البصرة ـ العمارة وهدم الجسر الصغير الذي يمرّ الأوتوستراد من فوقه. بالطبع، كانت مهمّة بعض العناصر بقيادة محمود دولتي الذي قاد إحدى سرايا كتيبة سيّد الشهداء، تختلف عن مهمّتنا. فهؤلاء قد ذهبوا من قبل إلى قرية "الحريبة" الواقعة في الجانب الآخر من دجلة واشتبكوا مع القوّات العراقيّة، لكنّ القرية لم تكن قد سقطت بعد. وفي تلك الساعات كان العراقيّون في بعض بيوت وأزقّة القرية، وقوّاتنا في بيوت وأزقة أخرى. والتهبت المواجهات هناك عنيفة ومهمّة، فإن لم تسقط المنطقة هناك بيد قوّاتنا، لسوف يمنعنا العراقيون من تدمير الجسر والسيطرة على الأوتوستراد. لذا كانت مهمّتهم، بالتزامن مع تحرّكنا، التوجه إلى قرية الحريبة والسيطرة عليها.

 

ما أعجب تلك الليلة! لم يتجاوز عددنا عدد عناصر القنّاصة في كتيبة ما، لكنّنا عزمنا بذلك العدد القليل من العناصر على كسر ظهر العدوّ.

 

269

 


260

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وعلى ما أظنّ، لم يكن لدينا معلومات كثيرة عن خطّ دفاعه، وجلّ ما كنّا نعلمه هو أنّ العدوّ يتموضع أمام الأوتوستراد. تقرر لقوّات من الجيش أن تتقدّم بالتزامن مع تحرّكنا[1]، ومن ناحية أخرى، أن ترد فرقة النجف الميدان عن يسارنا. واقتضت الخطّة أن يتمّ التنسيق فيما بيننا وبين سريّة من عناصر الهندسة، لتقوم بتدمير الجسر بعد تثبيت أقدامنا في الأوتوستراد. يومذاك حضرت سريّة الهندسة إلى المكان، لكنّ الطائرات التي حامت في سماء المنطقة إلى الظهر، قصفت الشاحنة الحاملة للمواد المتفجّرة[2]. بعد تلك الحادثة طلب عناصر الهندسة مجدّدًا الموادّ المتفجّرة، واستغرق الأمر مدّة لتصل إليهم الذخائر التي يحتاجونها. في النهاية، تبدّلت الكتيبة من عناصر هندسة يباشرون عملهم بالتزامن معنا، إلى سرية تباشر عملها بعد احتلالنا للأوتوستراد.

 

ذُكّرنا بسرعة بمهمّتنا، واستعددنا للانطلاق. طلبت من أمير بأن يضع مقدارًا من الفاكهة المعلّبة والعصير في برّادنا البلاستيكي المملوء ثلجًا. راح أمير يحدّق بي. فقلت له مجدّدًا: "إذا بقيت الأمور كما هي، سنحتاج الطعام في الغد! ضع هذه في الدشمة، فعندما نعود غدًا سنكون عطاشى وجوعى!".

ــ انظروا هذا! ترك كلّ شيء ولم يفكّر إلا في بطنه!

 

وعلا صراخه قائلًا: "يا عمّ! أنّى لك أن تعلم أنّك ستعود غدًا صباحًا؟...".


 


[1] سيطرنا حينها على مدرج للطائرات المروحيّة، فأوكلت مهمّة المحافظة عليه إلى قوّات الجيش، لكنهم للأسف لم يستطيعوا الحفاظ عليه، وانسحبوا في اليوم التالي ليشكل ذلك ضربة كبيرة لنا.

[2] سقط في هذا الانفجار أحد عناصرنا، الذي كان قد بقي في ذلك القسم من الساتر الترابي. وقد قال الليلة الماضية كما قلت، إنّه تعب ولن يشارك في هذه المرحلة، وإنّه سيلتحق غدًا بالقوّات. لكنّه استُشهد في ذلك الانفجار المهيب هو وبعض الإخوة الذين كانوا في الشاحنة. في اليوم التالي حين عاينت المكان، التفت إلى شدّة الانفجار. لقد كان ارتفاع الساتر الترابي في ذلك المكان قرابة الثلاثة أمتار، وفوقه تمتدّ طريق بعرض ستّة أمتار. فنُسف ذلك القسم من الساتر والطريق كلّيًّا، وسقطت بقايا الشاحنة في حفرة بعمق مترين!

 

270


261

الفصل التاسع: كربلاء بدر

ــ إن شاء الله نعود، ضع هذه في الثلّاجة، ستلزمنا في الصباح!

 

كنت أشعر بأنّنّي سأعود وحسب!

 

جهّزنا أمتعتنا وانطلقنا. توجّه محمود دولتي وعناصره نحو قرية الحريبة. لم أعلم شيئًا عن الباقين، لكنّ أكثر من التقيتهم، كانوا من الذين قاتلوا في الليلة الأولى من العملية في ميادين مختلفة. لفتت حالي الأنظار، فمن شدّة التعب وقلّة النوم، ثقل الحمل الذي على ظهري عدّة أضعاف، ولم يعمل ذهني بنحو جيّد، وكلّ ما علمته هو أنّني سأسير في هذا الطابور وهذا ما حدث، إلى أن وصلنا إلى ضفّة نهر دجلة. والآن جاء دور العبور فوق جسر رفعه عناصرنا فوق النهر[1]. وكان عبارة عن جسر "نفررو"[2] طويل، اتصل طرفاه بضفّتي النهر، يهتزّ بمجرّد أن تسير عليه. مشينا عليه باسم الله. أحيانًا صار يهتزّ إلى درجة أخال أنّني سأقع حتمًا في النهر. كنّا لا نزال فوق الجسر حين قال علي تجلّايي: "لقد وجّه الإمام بيانًا إلى كلّ المقرّات يطلب فيه من الجميع التقدّم والسيطرة على المكان بأيّ نحو كان"[3]. وكأنّ هذه العبارة بثّت فيّ طاقة جديدة بكلّ كلمة من كلماتها. تغيّرت أحوالي! ولم أعد أشعر بالتعب، أو حتّى أفكّر بأنّني لم آخذ قسطًا من الراحة منذ ثلاثة أيّام بلياليها. أنا نفسي لم أصدّق كيف تغيّرت أحوالي دفعةً واحدةً. رحت أعبر الجسر مسرورًا وبمعنويّات عالية، وكأنّني أشارك للمرّة الأولى في عملية. كما زاد من شجاعتنا حضور القادة. وإضافة إلى كلّ ذلك، استحقّت الثناء الميني كاتيوشا التي قصفت منطقة العدوّ بدقّة فائقة. ومن المحتمل أن تلك المجموعة التي رأيناها في النهار كانت تحاول تحديد زاوية المنطقة.

 


[1] وقد نصب هذا الجسر صمد زبردست وعناصره، وكان حينها في الوحدة البحريّة.

[2] نفررو اسم الماركة.

[3] لا أعلم إن كان هذا الأمر صحيحًا أم لا، لكن كلّ ما أذكره تلك الطاقة المضاعفة التي سرت في روحي إثر السماع بأمر هذا البيان.

 

271


262

الفصل التاسع: كربلاء بدر

استهدفت الميني كاتيوشا خطّ الدفاع العراقي، الدشم والمناطق التي يُحتمل وجود الكمائن فيها ويمكن أن تشكّل مانعًا أمام تقدّمنا. تساقطت الصواريخ أحيانًا بالقرب منّا وتطايرت الشظايا من جوانبنا. قلت أكثر من مرّة للأخ أصغر: "أخ أصغر! ستقتلنا هذه الميني كاتيوشا!". أجاب بكلّ ثقة: "لا! لقد تمّ التنسيق فيما بيننا من قبل. وهي تحاول أن تقصف الطريق أمامنا بالتزامن مع تقدّمنا، لنفاجئ العدوّ!". أسكتني جوابه، لكن لتلك الميني كاتيوشا وقع عجيب، وقلّما رأيت مثل هذه الدقّة في الرماية طوال سنيّ الحرب. ورسمت النيران المتعالية من دشم العدو حين إصابتها بالصواريخ مشهدًا لا ينسى في عتمة الليل.

 

قطعنا دجلة وباشرت الطائرات العراقيّة العمل فورًا، وخلال لحظات ألقت عددا هائلًا من القنابل المضيئة، بحيث يُخيّل إليك بأنّ السماء تشتعل! ولأسباب عديدة، من بينها قلّة العدد، كان علينا الانتظار لتنطفئ القنابل المضيئة. لقد أربكتنا قوّات العدوّ بالكاتيوشا بحيث أصبحوا وكأنّهم لا يفكّرون سوى بالحفاظ على أرواحهم. بلطف الله، لم يحدث لنا أيّ شيء في ظلّ كلّ تلك القنابل المضيئة، وكنّا على يقين بأنّهم لا ينظرون إلى منطقة العملية أبدًا. تابعنا طريقنا داخل الجيب. كنّا أحيانًا نتوقّف ثمّ نتابع حركتنا من جديد، حتى لم تعد المسافة التي تفصلنا عن الأوتوستراد تزيد عن الكيلومتر الواحد تقريبًا. وجدنا العراقيين تموضعوا عليه وفي قرية قسموها نصفين وذلك لتثبيت سيطرتهم. ما إن تقدّمنا أكثر باتجاه الأوتوستراد، حتّى توجّه أصغر قصّاب وعلي تجلّايي وبعض العناصر الأخرى نحو القرية. من المقرّر أن يأتي عناصر الهندسة بعد أن نهيّئ نحن المكان. و قاسم هريسي هو المسؤول عن بقية العناصر الذين يُفترض أن يواصلوا تقدّمهم. تابعنا مسيرنا، وبعد دقائق مررنا من جانب الأوتوستراد، ولم يعد يفصلنا عن هدف مهمّتنا الأساسي سوى خمسين مترًا.

 

272

 


263

الفصل التاسع: كربلاء بدر

صاح بنا قاسم: انتظموا... وتعالت أصوات الإخوة كأنها صدًى لصوته: "انتظموا... انتظموا...". ضحكت لا إراديًّا: "ما به هذا؟! وكيف للعراقيّين أن لا يسمعوا أصواتنا!". انتظمنا كما يُقال وتقدّمنا قليلًا، فصاح قاسم هذه المرّة: "لقد اشتبهنا في الأمر! فلنعد إلى هذه الناحية!". يبدو أنّنا وبدل أن نتّوجه نحو الأوتوستراد، عدنا باتّجاه القرية. مرّت لحظات ملؤها الاضطراب. وإضافة إلينا، فقد سمع العراقيّون صوت قاسم وعلا صراخهم: "قف! قف!"، وفتحوا النار. رميت بنفسي إلى الأرض فورًا. لم نكن مستعدّين بعد للقتال، قبل أن ننتظم ثمّ نبدأ بالمواجهة. وها هي الآن النيران الشديدة وصواريخ الـ (B7) تنهمر فوق رؤوسنا. واضح أنّهم لم يُتمّوا نصب الأسلحة الثقيلة كالدوشكا والشيلكا هناك، فراحوا يرموننا بكلّ ما في أيديهم من سلاح. عندما رميت بنفسي إلى الأرض، ارتطم رأسي بشيء، أمعنت النظر فإذا به كومة تراب ناعم. فهمت القضيّة. كنّا نظنّ أنّنا نبعد مسافة 50 أو 60 مترًا من نقطة المواجهة الأساسية، والواقع أننّا أصبحنا إلى جانب الأوتوستراد تمامًا. وهم حفروا حديثًا قناةً أمام الأوتوستراد، فقد كان التراب ناعمًا وجديدًا والقناة قليلة العمق. وربما لم تتسنَّ لهم الفرصة الكافية للعمل أكثر. رفعت رأسي لأرى أين يتموضع العدوّ. فوجدت أنّ كلّ النيران تنطلق من مكان واحد، نيراننا ونيران القوّات العراقيّة! نظرت ودقّقت من جديد فالتفتّ إلى الوضع أكثر، كنّا على مقربة نصف متر من الجنود العراقيّينّ! وعندما اهتزّ جبّ الشوك القريب منّي تمامًا، رأيت فوّهة بندقيّة مركزة عليه وجاهزة للإطلاق. تراجعت فورًا إلى الوراء. لم أكن من قبل قد اقتربت من العدوّ إلى ذلك الحدّ! كان بإمكاني أحيانًا رؤية وجوههم أثناء المواجهات، والعجيب أنّني وجدتهم مسنّين وتفوق أعمارهم الأربعين عامًا! والتعب بادٍ على وجوههم، إلّا أنّهم يقاتلون بشراسة. تراجعت مترين، وإذ بي أسمع صوت جهاز اللاسلكيّ، يبدو

 

273


264

الفصل التاسع: كربلاء بدر

أنّه كان خليل نوبري: "اخترقوا الخطّ! اخترقوه لتباشر فرقة الهندسة عملها". لكن، بأيّ قوّات؟! لقد انتشرنا على الخطّ وعددنا محدود، وكلّ منّا الآن يخوض معركةً في مكانه. الوضع لا يسمح لنا بالمبادرة بأيّ عمل. مرّت عدّة دقائق على المواجهات. فكّرت أنّه لا بأس برمي بعض القنابل، لأفتح الطريق أمامي بالحدّ الأدنى. كان بحوزتي أربع قنابل، رميت بالأولى وفورًا رميت بالثانية فيما كنت خائفًا من وصول شظاياها إليّ. مع انفجار القنبلتين، ارتفع صوت من تلك الناحية، وفهمت بأنّ بعض الأمتار أمامي قد تمّ تطهيرها. لكنّني لم أجرؤ على دخول القناة، لأنّ ذلك كان يعني الالتحام مباشرةً مع العدوّ المتموضع في جانبيها. وبالتالي فمن الضروري وجود الحراب بحوزتنا لكنّنا لم نكن نملكها للأسف. وهنا أسكت انفجار القنابل المتتالية في القناة نيران العدوّ إلى حدّ ما، من دون أن يتراجعوا، ولم يفصل بيننا وبينهم سوى كومات من التراب. كان العراقيّون قد بنوا لأنفسهم دشمًا صغيرة داخل القناة منحتهم وضعيّة جيّدة. أينما جلت بنظري كانت قلّة العناصر بالمعنى الحقيقي للكلمة تؤلمني، وقد كلّفتنا هذه المسألة هناك غاليًا.

 

كان أحد شباب المعلومات ويدعى مهدي، بالقرب منّي. سحب أمّان قنبلته وصاح بي: "اذهب إلى تلك الناحية!".

- أيّ ناحية؟

- تدحرج على التراب هناك!

ثارت أعصابي. فصحت به والقنبلة لا تزال بين يديه: "والآن، لِمَ تحتفظ بالقنبلة في يدك؟ ارمها!". هدّأ انفجار القنبلة المكان لعدّة ثوانٍ فقط. كان العراقيّون يحاربون بشدّة، وليس من سبيل أمامهم للفرار. فإن تراجعوا إلى الخلف وصلوا إلى جهة الأوتوستراد التي يقع خلفها المستنقع، لذا فقد استماتوا في القتال. في تلك الأثناء، جاءنا شخص

 

274

 


265

الفصل التاسع: كربلاء بدر

يمشي القرفصاء، كان محمّد رضا باصر. أصبحنا الآن في تلك النقطة أنا وحسن نوبري أخو خليل، وباصر. لم يكن باصر قد شارك من قبل في مثل هذه المواجهات العنيفة، لكنّ إيمانه وشجاعته قاداه إلى هناك. قال: "سأعدّ إلى الثلاثة، وندخل بعدها القناة بنداء الله أكبر!".

- الأفضل أن نرمي أوّلًا ما تبقّى معنا من القنابل، ثمّ ندخل القناة!

 

اتّخذنا قرارنا: واحد، اثنان، ثلاثة، رمينا القنابل وبعد ذلك... كان باصر الوحيد الذي وقف وما لبث أن سقط! كان الجنديّ العراقي مجهّزًا سلاحه، فأطلق أربع رصاصات متتالية نحوه. مزّقت الرصاصات نحر صديقنا فسمعت خرير الدماء التي فارت منه. لم نستطع القيام بشيء من أجله. الأوضاع معقّدة. والنداء من الخلف دومًا: "اخترقوا الخطّ... أسرعوا"، أمّا نحن الذين لم يتجاوز عددنا عدد أصابع اليد الواحدة، فقد حرنا في أمرنا كوننا رمينا كلّ ما بأيدينا من قنابل في القناة المشؤومة. ولا نعلم عدد الجنود المتموضعين فيها. وها هو أمير الآن قد عاد إلينا بعد أن سار على امتداد الساتر الترابي[1]. ومعي أيضًا حسن نوبري ومهدي، فاتّخذنا قرارنا: "ليحصل ما يحصل، فلنتوكّل على الله وندخل القناة!".

 

الخرير لا يزال يُسمع من نحر محمّد رضا باصر المضرج إلى جانب الساتر الترابي على هيئة القرفصاء[2]. دخلنا القناة معًا، بعد أن خفّت حدّة النيران لثوانٍ في تلك الناحية. طالعنا منظر القناة المحيّر، فجثث القتلى مكدّسة بعضها فوق بعض، أمّا من بقي من الجنود العراقيّين فراحوا يلوذون بالفرار من تلك الناحية. توزّعنا نحن الأربعة على جانبي القناة ومشينا فوق أجساد القتلى. وسرعان ما عادت المواجهات لتبدأ


 


[1] فيما بعد حدّثنا أمير مارالياش عمّا جرى معه تلك الليلة وقال: "لقد خضت مواجهة شديدة تلك الليلة، فألقيت قنبلة على أحدهم، وأطلقت النار على آخر". حتّى إنّه رأى جنديًّا عراقيًّا شاهرًا سلاحه نحوه على بعد سنتيمترات منه، يريد رميه، فأمسك بالسلاح من فوهته وأخذه من قبضة الجندي العراقي!

[2] بقيت أسمع هذا الصوت كلّما مررت بجانب باصر، إلى أن خمدت أنفاسه مع طلوع الصباح.

 

275


266

الفصل التاسع: كربلاء بدر

من جديد. حينذاك، بدأنا الرمي عليهم بقذائف الـ(B7) خاصّتهم التي أعدوها للإطلاق، من على بعد ثلاثين مترًا تقريبًا! تبدّلت القناة إلى جحيم جرّاء ازدحام الجثث وصوت السلاح المصمّ للآذان. واصلنا الرد باستهداف كلّ مكان تطلق النيران منه علينا. أساسًا لم يكن الوقت يسمح للتفكير باحتمال أنّ عناصرنا هم من يوجدون في القناة... أردنا أن نفتح الطريق لعبور عناصر الهندسة بأيّ ثمن. وها قد حان الوقت.

 

صرخ خليل نوبري: "أخ أصغر، ائتونا بعناصر الهندسة... فليأتوا...". كانت المسافة بين الأوتوستراد والنقطة التي تمركزنا فيها من القناة تبلغ قرابة الثمانية أمتار، والمسافة بين الأوتوستراد والجسر الذي نقصد تدميره تتراوح بين الـ40 والـ50 مترًا. إلّا أنّ هذا الطريق المختصر تحوّل تلك الليلة إلى جحيم لا يمكن عبوره! لم يعد من الممكن الذهاب إلى الجسر عن طريق الأوتوستراد. وقد أدرك العراقيّون جيّدًا مثلنا تمامًا خطورة الموقف، ففتحوا النار على كلّ من يأتي بحركة في نواحي الجسر. والمحصّلة: الجسر لا يزال تحت سيطرة العدو. من الناحية الأخرى للجسر تقع قرية، يطلق العراقيّون منها نيرانهم الكثيفة على منطقتنا. في تلك المعمعة كنّا قد حرّرنا فقط منطقة بطول 30 مترًا، ستكون محلًّا لعبور عناصر الهندسة. لم يستغرق الأمر طويلًا حتّى وصل أصغر قصّاب إلينا مع عناصر الهندسة. توجّهت إلى الأخ أصغر قائلًا: "يا أخي! لم يبقَ شيء من القنابل، قل لهؤلاء أن يعطونا قنابلهم". وكانت القنابل هي السلاح الأمضى لتطهير القناة. في ظرف عدّة ثوانٍ، ترك لنا عناصر الهندسة ما يقارب الثلاثين قنبلة وهم يمرّون من جانبنا. مرّوا بسرعة وتقدّموا حاملين معهم مادّة الـ"TNT." عندما عبروا من جانبنا ومددت يدي لألتقط قنبلة، شعرت بأحدهم يقف خلفي! وفيما تركزت كلّ حواسي إلى الأمام، شعرت وكأنّني صُعقت بالكهرباء! استدرت بسرعة وشهرت سلاحي نحوه. كان فتىً داكن البشرة يتكلّم الفارسيّة!

 

276


267

الفصل التاسع: كربلاء بدر

- من تكون!

- لا تطلق! أنا من عناصر الجيش... لا تطلق!

 

أدخلته بسرعة داخل القناة، إلى المكان الذي كان حينها تحت سيطرتنا. قال إنّ عناصر الجيش قاموا بعملية في منطقة الدبّابات ومدرج المروحيّات، لكنّهم اضطُرّوا للانسحاب. سقط عدد منهم شهداء، وهرب ذلك الشابّ في تلك المعمعة باتّجاهنا، ووصل إلى مقربة من القناة، وها هو الآن يسأل: "أين يقع هذا المكان؟!"، قلت: "جيّد أنّك أتيت! تعالَ إلى هنا!". لم يكن يجيد التكلّم بالتركيّة، وأنا أيضًا لم يكن بي حيل ولا طاقة للتكّلم بالفارسيّة. وبخليط من التركيّة والفارسيّة أفهمته بأنّنا في قلب منطقة العدوّ. قلت: "تعالَ وخرّب دشم العراقيّين، وابنِ لي بتلك الأكياس دشمة مؤلّفة من ثلاث طبقات في المنحدر الواقع إلى جانب الأوتوستراد". فهم أنّني أريد دشمةً تحيط ثلاثة أكياس رمليّة بها من جميع الجوانب. كنت أعلم أيّ قيامة ستقوم في الصباح. وفي اللحظات هذه، وصل هذا العنصر الأفضل لبناء دشمة معتبرة لي. باشر هو بعمله، وذهبت أنا لتطهير القناة.

 

عندما رأى العراقيّون بأنّنا بدأنا بتطهير المنطقة، وأنّنا نفجّر كلّ شيء، حاولوا التذاكي، فوضعوا فيلداتهم العسكريّة فوق وجوههم وتظاهروا بالموت! بعضهم كان قد ذهب إلى الجحيم فعلًا. تحرّكنا بصعوبة من كثرة القتلى، لنطهّر المكان الذي يُرمى علينا منه فقط، وذلك بسبب قلّة عتادنا وعديدنا. عند طلوع الفجر وصل إلينا خبر محاصرة الجنود العراقيّين للأخ أصغر وعناصر الهندسة! كانت الأمور تتعقّد وتزداد صعوبة مع مرور الوقت[1]. ارتفعت إلى جانب الأوتوستراد والجسر سحب من النار والدخان. عناصر الهندسة عرضة لنيران العدوّ، ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم لأنّهم لا يحملون السلاح


 


[1] بالمناسبة، تذكّرت الآن وأنا أسرد ذكريات تلك الليلة، بأنّني لم أؤدِّ صلاة الصبح يومذاك.

 

277


268

الفصل التاسع: كربلاء بدر

اللازم. توجّه محمّد تجلّايي وحسن نوبري برفقة خمسة أو ستّه عناصر نحوهم، وبعد مواجهات عنيفة استطاعوا فكّ الحصار عنهم، ليصل من بقي منهم حيًّا إلينا. سقط عدد من عناصر الهندسة شهداء، وأسر بعض آخر لم يتمكّنوا من الخروج من الحصار، فيما عاد عدد منهم برفقة أصغر قصّاب. كما أصيب علي بهلولي برصاصة في البطن وهو في طريق العودة، لكنّه استطاع الوصول إلينا بطريقة وبأخرى.

 

عند شروق الشمس، وصل إلينا خبر محاصرة الأخوين مهدي باكري، محمود دولتي وعدد آخر من العناصر في قرية الحريبة. القرية التي كان علينا السيطرة عليها لتستمرّ العملية وتحقق أهدافها، وهذا ما كان يعلمه الأخ باكري أكثر من الجميع. فورًا، توجّه الأخ أصغر وعدد من الإخوة نحو الحريبة. وهناك، رأيت علي تجلّايي لآخر مرة، وفي طريقه نحو القرية قال: "إن كنتم تريدون البقاء فابقوا، لكن من الأفضل أن لا تطيلوا المكوث هنا، وأن تسحبوا الجرحى إلى ضفّة دجلة، وتقهقروا، فسرعان ما سيصل العراقيّون إلى هنا!". توالت الأحداث. ونفد الرصاص منّي. تذكّرت أنّ باصر كان الليلة الماضية يلفّ حول صدره شرشورًا من الرصاص. ذهبت إليه، وإذ به قد خمدت أنفاسه. مددت يدي لأفكّ الشرشور من حول جسده، فهوى جسده الذي كان على هيئة القرفصاء، إلى الأرض بمجرّد أن لمسته. تأثّرت كثيرًا. لا أعلم لِمَ يبس جسده بهذا النحو. ومهما فعلت لم أستطع فكّ الشرشور من حول جسده. عدت إلى الإخوة خالي الوفاض وخائبًا.

 

كانت المروحيّات العراقيّة الواحدة تلو الأخرى، تنزل الجنود في المنطقة، ووضعنا يشتدّ سوءًا لحظة بعد أخرى. والآن جاء دور محمّد تجلّايي ليخبرنا بأنّ بعض الجنود بقوا سالمين وأخفوا أنفسهم بين جثث القتلى للنجاة بأرواحهم. فإذا ما باشر الجنود العراقيّون الجدد العمل، نهضوا وبثّوا سمومهم. عندما اطمأننّا نوعًا ما إلى أنّ المنطقة قد

 

278

 


269

الفصل التاسع: كربلاء بدر

طهّرت، اجتمعنا حول رفاقنا الجرحى، قاسم هريسي، صمد قنبري، علي بهلولي، حسن نوبري الذي أُصيبت يده، والشهداء الذين سقطوا للتوّ في تلك الناحية من دجلة. على امتداد تلك المنطقة الواسعة، كنّا فقط ثمانية أو تسعة أشخاص نقف على أقدامنا وحائرين!

- أنرجع؟! كيف؟

- أنبقى؟! كيف ذلك؟! وبأيّ عدّة وعتاد؟

 

العقل يقضي بإرسال الجرحى الذين يستطيعون المشي إلى الخلف ما دام هناك فرصة لذلك. ساعدناهم على النهوض وأرسلناهم إلى الخطوط الخلفيّة، فيما بقي بعض الجرحى الذين لا يستطيعون المشي عندنا. وحيث لم يتخطّ عددنا أصابع اليدين، أصبحنا عرضة لمختلف أنواع النيران، والتفت العراقيّون إلى قلّتنا أيضًا. حامت الطائرات المروحيّة فوق سماء المنطقة، ووصل الأمر لدرجة أن يستهدفوا كلّ شخص بصاروخ! لكنّنا لم نكن في وضع يسمح لنا بالاكتراث للمروحيّات وصواريخها. أصبحت الدشمة التي بناها لي عنصر الجيش جاهزة. أدخلت قاذفي (B7)، وقطعتي رشاش، وقطعتي كلاشينكوف إلى الدشمة، وأذنت للفتى بالانصراف: "إن سرت في هذا الاتّجاه بنحو مستقيم ستصل إلى خطوطنا الخلفيّة".

 

حقيقةً، كان بقاؤنا متحيّرين في مثل تلك الظروف أصعب من أيّ شيء، فتوجب علينا اتّخاذ القرار والاختيار، أنبقى؟ وربّما تصل قوّات الدعم إلينا ونستطيع الحفاظ على المنطقة... لكن مع هذه الأوضاع، حتّى الجسر الذي نُصب فوق نهر دجلة لعبور الإخوة ـ وعبرناه الليلة الماضية ـ تلاشى بفعل نيران الأعداء الغزيرة. في المقابل، أصبح الجسر الذي خاطرنا الليلة الماضية بحياتنا واستبسلنا في القتال من أجل تدميره معبرًا للدبّابات العراقيّة القادمة من جهة القرية، لتدخل الأوتوستراد وتتقدّم نحونا. في تلك اللحظات من الصباح، كنت كلّما نظرت إلى

 

279


270

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الأوتوستراد، تتسمّر عيناي على جريحين من عناصرنا أصيبا هناك. لم أكن أعلم أهما من عناصر الهندسة أم لا، لكنّني واثق أنّهما من شبابنا، وأعلم أنّهما ما زالا حيّين لكن لا يستطيعان الانتقال. ولم يكن الاقتراب منهما ممكنًا في تلك الظروف أبدًا.

 

جاء إليّ أمير: "سيّد! ما رأيك؟ ما الذي يجب علينا فعله؟!".

- لا أعلم! لقد بقينا الآن هنا من دون ناصر! قيل لنا أن ننتظر قليلًا ثم ننسحب!

 

كنت أتذكّر كلمات علي تجلّايي الذي ذهب لمساندة الأخ مهدي والإخوة المحاصرين. في اللحظة عينها، وقع نظري على ثلاث دبّابات للعدوّ تناور لعبور الأوتوستراد. ولو نجحوا في ذلك لانتهى أمرنا، ولَوصلوا إلينا بسهولة. وصلت إحدى الدبّابات إلى الأوتوستراد وراحت تتحرك بسرعة، فلم نستطع ضربها. كانت عيناي تتنقّلان بين الجريحين المرميّين على الأوتوستراد، وقلبي يكاد ينقلع من مكانه. فالدخان والغبار والتراب المنبعث جرّاء حركة الدبّابة، وصوت مدفعها المتكرر وحركتها السريعة على الأوتوستراد، كلّها أحداث تتالت أمام ناظري. تقدّمت وتقدّمت... ومرّت على جسدي جريحينا! علت الآه من أعماق قلبي. أحسست وكأنّني وحيد مقابل تلك الدبّابة اللعينة التي تقصف كلّ كائن حيّ تراه. ركضت نحو الدشمة. شاهدتني الدبّابة، فراحت ترمي عليّ من رشاشها المتوسط بنحو متواصل. كنت أرتجف من الغضب والقلق، وأقسمت أن أصيب تلك الدبّابة. ثبّتُّ الصاروخ في قاذف الـ (B7) ، وتهيّأت داخل الدشمة ورحت أنتظر. انحرفت الدبّابة عن الأوتوستراد قليلًا لتدكّ الدشمة فوق رأسي. كانت زمجرة الدبّابة من جهة، وكان صراخ أمير والإخوة الآخرين الذين كانوا من بعيد يراقبون المناكفة بيني وبينها من جهة أخرى. كاد أمير يقتل نفسه. راح يصيح: " سيّد! اتجهت نحوك... حاذر... لقد جاءت!".

 

280


271

الفصل التاسع: كربلاء بدر

كنت ألهث. ضغطت قاذف الـ (B7) على صدري. لم تستطع الدبّابة أن تتقدّم من جانب الأوتوستراد وإلّا انقلبت. عادت إلى الجادّة وهي ترمي نحوي برشاشاتها. هنا أحسست بلذّة أن يكون حول الدشمة ثلاث طبقات. فلو أنّها دشمة عاديّة، بطبقة واحدة، لنُسفت من الزخّة الأولى. وها أنا الآن أنتظر مركزًا كلّ حواسي على تلك الدبابة، وأعلم أنّه عليّ الصعود في اللحظة المناسبة فوق الدشمة ورميها، وإلّا فمن المحال أن أبقى سالمًا من نيران مدفعيّتها. كانت الدبّابة تزمجر على الأوتوستراد وتتقدّم نحوي. تقدّمت ورأيتها تعبر من جانب إحدى الدشم. وفي لحظة، أراد رامي الرشاش توجيه فوّهة سلاحه نحوي فنهضت وأطلقت صاروخ الـ (B7) نحوه، لكن من سوء الحظّ، مرّ الصاروخ من جانب الدبّابة. تأوّهت، لقد عبر الصاروخ من جانب الدبّابة وأصاب دشمة في الجانب الآخر من الأوتوستراد، وفي لحظة واحدة هزّ انفجار مهيب الأرض من حولنا.

 

حيّر الانفجار طاقم الدبّابة. لم نكن نعلم حتى تلك اللحظة بوجود مخزن للأسلحة في الجهة الأخرى من الأوتوستراد، لكن شاء الله أن تصيب القذيفة ذلك المخزن، لتتفجر الذخائر خلال ثوان معدودة مصدرة أصواتًا مهولة. في تلك الأوضاع الحرجة، دبّت هذه الحادثة فينا الحياة من جديد. عدت من جديد لصيد الدبّابة. كنت على عجلة من أمري، ولم أستطع التهديف جيّدًا. أطلقت الصاروخ، فأصاب هذه المرّة العادم وانفجر. توقّفت الدبّابة عن الزمجرة، فصعد طاقمها من البرج محاولين الفرار. لم أشأ أن أدعهم يخرجون من الدبّابة وقد مرّوا لتوّهم بدبّابتهم فوق جسدي جريحينا. رميتهم جميعًا بالكلاشينكوف ولجأت مجدّدًا إلى الدشمة. وهنا هدأ صوت أمير. وضعت صاروخًا آخر في القاذف ورحت أفكّر أين أطلقه. فتّشت من حولي، وإذا بنظري يقع على خزّان للمياه قد نُصب فوق عدد من القضبان على مسافة عالية عن الأرض. يقع ذلك الخزّان على مقربة من قرية الحريبة، وكان يتجمّع

 

281


272

الفصل التاسع: كربلاء بدر

تحته عدد من الدبّابات والجنود لإجراء تبديل. أمّا طائرات العدوّ المروحيّة فما خفت قوتها وهي تمطرنا بالصواريخ والرصاص من كلّ حدب وصوب. استدرت نحو القرية، نقلت الـ (B7) من كتف إلى آخر، وهدّفت بعيني السليمة وأطلقت. انطلق الصاروخ مباشرة واستقرّ في الخزّان تمامًا! تلاشى خزّان المياه ورأينا من بعيد انهمار قدر كبير من المياه إلى الأسفل. بهذه الحادثة، تحسّنت معنويّات شبابنا خاصّة الجرحى إلى جانبنا. تركت دشمتي وتوجّهت نحو الإخوة.

 

أربكتنا المروحيّات العراقيّة، إذ كانت ترمي علينا بالصواريخ والأسلحة الرشّاشة وبكلّ ما بحوزتها من أسلحة. في النهاية، اتخذنا قرارًا حاسمًا بالانسحاب، فالبقاء هناك بمنزلة الانتحار.

 

كان على كلّ عنصر سليم سحب واحدٍ من الجرحى معه. هذا ما علّمتنا إيّاه الحرب، ما أصعبها من لحظات. رحت أنظر إلى الجرحى: "إلهي أيًّا من هؤلاء أنقل؟ صمد قنبري، علي بهلولي، قاسم هريسي أو..."، كلّما مررت من جانب جريح أرغب بأن أحمله معي. حيرة قاسية.

 

بقينا ستّة أشخاص والنيران تنهمر علينا من كلّ صوب، فيما نحن نتجمّع استعدادًا للعودة. كنّا المجموعة الأخيرة التي لم تنسحب بعد من المنطقة. فكّرت أن أحمل معي صمد قنبري. توجّهت نحوه، وكأنّه فهم قصدي، فلاحت على محيّاه المتألّم ابتسامة. إلى جانبه كان قاسم هريسي، فلم أرضَ بأن أنقل أحدًا غيره للحال التي كان عليها. حملت قاسمًا على ظهري وقلت لصمد: "سأعود إليك مجدّدًا!"، وكانت تلك الكذبة الأكثر مرارة التي يمكن أن تُقال في الحرب! ففي تلك الدوّامة، لم أستطع سحب سوى شخص واحد، وكان ذاك قاسم هريسي![1].

 

نقلت قاسمًا من كتف إلى كتف وانطلقت. لم يكن أمير بذلك الجسد

 


[1] بقي صمد قنبري هناك، واستُشهد بعد أن وقع أسيرًا بيد العدوّ، ليُسجّل اسمه الطاهر في عداد قافلة شهداء بدر.

 

282


273

الفصل التاسع: كربلاء بدر

ليستطيع أن يكون مساعدًا جيّدًا في حمل جريح، لكنّه وقف إلى جانبي وحمى ظهري برماياته. بدأنا الجري بسرعة. إلى أن وصلنا إلى المكان الذي بدا وكأنّه أرض محروثة، يصعب المشي عليها، فكيف بالركض وبتلك الحال أيضًا. عمل أمير على تشتيت انتباه العراقيّين، لأتمكّن أنا من الجري براحة. كنّا في دائرة نظر الرشّاش الهادف إلى قتلنا، والنيران تنهمر علينا بشكل متواصل من جهة القرية ومن المروحيّة. ركضت بما تبقّى فيّ من قوّة بعد كلّ تلك الأحداث. تارةً كنت أنظر إلى الأرض، وأخرى أمامي. رأيت القمح قد نبت من قلب التراب، ووصل ارتفاع السنبلة إلى مفصل القدم أحيانًا في بعض الأماكن. تذكّرت قريتنا! خفّفت رمايات أمير إلى حدّ ما من رمايات العدوّ الأرضيّة نحونا، لكنّها لم تستطع منافسة المروحيّة التي استمرّت بالتهديف علينا. كانت تحوم فوق رؤوسنا وزخّات نيرانها المتواصلة تفلح الأرض في قطر سنتيمترات حولنا، والصواريخ تتساقط من وقت لآخر على بعد عدّة أمتار منّا. كنت متيقّنًا أنّ الله سبحانه لم يشأ أن أُصاب بشظيّة أو رصاصة. أمّا طلقات السيمينوف الآتية من جهة قرية الحريبة، فقد زادت الطين بلّة، وأصابني طرق رصاصها بالتوتر. المسكين أمير، تبلّل عرقًا وتلطّخ بالتراب، إذ راح يجري ويطلق النار كي أسير في ظلّ رماياته براحة بال. جرينا من دون توقّف إلى أن وصلنا إلى جانب لوحة. وهناك أحسست بالعجز! كأنّ عضلاتي اشتعلت بأكملها، ولساني قد يبس، وكاد نفسي ينقطع. كانت لوحة عراقيّة كُتبت عليها كلمات باللغة العربيّة. ناديت أميرًا: "أمير! أسرع، علينا أن ننزع هذه اللوحة". وفورًا كسرنا رجلي اللوحة ومدّدنا قاسمًا عليها وقد شحب وجهه. حملت اللوحة من جانب وحملها أمير من الجانب الآخر. أصبح كلّ همنا الآن الوصول إلى ضفّة دجلة. ركضنا بما تبقّى فينا من قوّة، وإذ برصاصة قنّاصة تصيب قاسمًا في ضلعه. علا أنينه: "آخ يا أمّي! لقد متّ!".

 

283

 


274

الفصل التاسع: كربلاء بدر

- لا تخف! لا زال هناك وقت طويل لتموت!".

 

كنّا نجري من دون توقّف، وعندما تطلق المروحيّات صاروخًا باتّجاهنا، ننبطح ونضع قاسمًا على الأرض. يعلم الله كم عذّبَنا أن نلملم أنفسنا في تلك الظروف وننهض من جديد. اقتربنا من خطّ دفاعنا ولم يكد يبقى فينا رمق، وارتحنا من صلافة المروحيّة العراقيّة. أثار دهشتي عند ضفّة دجلة ازدحام قوّات الجيش وعدد من عناصر فرقة النجف. لقد تلاشى الجسر الذي نصبناه فوق دجلة لعبور الأفراد، بفعل الشظايا والقصف المتكرر له. وكانت القوارب الوسيلة الوحيدة المتاحة لنقل العناصر إلى الجانب الآخر من دجلة، جماعات جماعات. تحرّك القارب الأوّل من دون أن يسمع أحدٌ صوتنا وصوت جريحنا. أصابني الذهول، فهنا لا يعرف أحد أحدًا. توجّهت إلى أمير قائلًا: "أمير! اذهب وفتّش لنا عن قارب!". أردت أن أعبر بقاسم من دجلة بأيّ ثمن. كان بإمكاني وأمير عبور دجلة سباحةً، لكن ليس من اللائق إيداع جريحنا الذي كابدنا كلّ هذا العناء لإيصاله، لدى الغير.

- سيّد! يوجد هناك قارب، لكن كأنّه متروك منذ وقت طويل!

 

ذهبنا في الاتّجاه الذي أشار إليه أمير. كان محقًّا، فقد تُرك القارب منذ عملية خيبر واهترأ. مددنا أيدينا لنسحبه، فتلاشى بينها! أكثر ما آلمني حينها كان أنين قاسم. بقينا هناك قرابة الخمس أو الستّ دقائق، ولم يُسمح لنا بالاقتراب من القارب الثاني الذي يُملأ بالعناصر.

- لقد أتيتم بعدنا، لذا ستركبون بعدنا!

 

استشطتّ غضبًا. ومهما قلت لم يسمعني أحد. من شدّة الانزعاج والتعب لم أعد أستطيع الكلام، فكيف بالبحث والجدل. اضطُررت لأن أشهر سلاحي في وجوههم: "هذا جريح! ينبغي لنا العبور بأسرع ما أمكن!".

 

ألقوا نظرةً علينا، وتنحّوا جانبًا عند رؤيتهم لحالنا. وضعت وأمير

 

284


275

الفصل التاسع: كربلاء بدر

قاسم في القارب وانطلقنا. المسكين قاسم علت صرخته، لكنّه كان يعلم هو نفسه أيضًا أيّ حالة نعانيها. لم يفكّر أحد بالاحتياط ومراعاة حال الجريح. لم أستطع تحريك لساني في فمي من شدّة العطش. وكلّما أردت الماء من أحد أجابني: "لا تشرب من ماء دجلة، فقد سمّموه!". لم أشرب وعبرت النهر عطشان وتعبًا. ما إن وطِئَتْ أقدامنا الضفّة، حتّى مزّقنا لباس قاسم. كان المسعفون هناك منهمكين جدًا في عملهم في تلك الزحمة. توجه نحونا شخصان، وفورًا قاما بتضميد جراحه ووضعوه في سيّارة الإسعاف إلى جانب بعض الجرحى. شعرت بالراحة عندما انطلقت سيّارة الإسعاف لإنجاز نقلنا جريحًا من أرض المعركة. وما علمنا في تلك الأثناء أنّ الشهادة قد كُتبت لقاسم هريسي في عملية بدر.

 

أخبرني الإخوة بعد ساعة، أنّه لم تكد سيّارة الإسعاف تبتعد قليلًا، حتّى قُصفت بصاروخ من مروحيّة عراقيّة، فاشتعلت النيران بها واستُشهد كلّ من بداخلها...

 

اتّجهنا نحو دشمتنا متعبين، شعثًا غُبْرًا، ملطّخين بالدماء من رأسنا إلى أخمص قدمينا. كنت فرحًا لكوني تركت الليلة الماضية بعض العصير ومعلّبات التونة في الدشمة، وهي الآن تنتظرنا لنتناولها. لكن تراءت ليَ الدشمة من البعيد بشكل آخر. لقد تدلّت منها جثة شخص ضخمة. ومن شدّة ضخامة ذاك الشخص، فإنّه لم يستطع دخول الدشمة، بل مدّ رأسه داخلها فقط وأكل منها كلّ ما أراد أكله. بلغ غضبي مداه. أردنا أن نزيل التعب والعناء عن أنفسنا، ونستردّ طاقتنا المتلاشية إلى حدّ ما. قبل كلّ شيء ركلته ركلتين على ظهره. فراح يتكلّم بصوت غليظ وهو نصف نائم!

- لا! لن أخرج!

 

285


276

الفصل التاسع: كربلاء بدر

وهنا وجّهت سلاحي نحوه، وأطلقت زخّة من الرصاص بين قدميه. أراد الخروج من الدشمة بسرعة، فإذا برأسه يرتطم بسقفها. كان يسأل خائفًا: "ماذا؟! ماذا حصل؟!...".

- من أذن لك بالدخول إلى هنا؟

- وما الذي حصل الآن؟!

 

ألقيت نظرةً إلى داخل الدشمة، فرأيته قد أكل كلّ شيء، ورمى بالعلب داخل الدشمة. اشتدّ غضبي أكثر. نظرت إليه ثانيةً. لم أعرف اسمه، لكنّه من شباب كتيبتنا الذين تخلّفوا الليلة الماضية عن العملية وبقوا هناك. ضغطت فوّهة بندقيّتي في صدره وقلت له: "لديك خمس دقائق لتنظّف المكان ولتأتي بمثل ما أكلت وتضعه في مكانه!". أشفقت عليه لقلّة تفكيره: "يا عمّ! اصبر لأذهب وسأحضر لك كلّ ما تطلبه".

- انظر! إن هربت، سأجدك وأقتلك! أكاد أسقط من شدّة التعب والجوع. اذهب بسرعة و...

 

أدرك كم أنا جدّي. وفورًا، أخرج كلّ النفايات من الدشمة، وفي ظرف عدّة دقائق، أحضر لي كيسًا مليئًا بالخبز وعلب التونة والمرطّبات و... وضعه أمامي وقال: "تعال يا سيّد! كلّ ما تريد!". انهمكت وأمير بتناول الطعام، فيما هو جالس إلى جانبنا. وهذه المرّة جرّنا هو إلى الكلام وأصبحنا أصدقاء: "ماذا هناك من أخبار عن الخطوط الأماميّة يا سيّد؟".

- إن أردتَ، اذهبْ بنفسك واكتشف!

 

أمضيتُ أوقاتًا مريرة. فمنذ أن عدنا التقيت بشخصين أو ثلاثة ممن قد تخلّفوا عن الالتحاق بنا ولا زالوا هناك. عاتبتهم بغضب: "إذا لم تأتوا معنا، فاذهبوا بالحدّ الأدنى وأحضروا الجرحى". لكن لو كانت القضيّة قضيّة كلام، لسمعوا كلام قائدنا أصغر قصّاب الذي ألقى عليهم الحجّة بالأمس. فمع أنّنا جميعًا عانينا التعب، إلّا أنّ البعض

 

286


277

الفصل التاسع: كربلاء بدر

تخاذل واعتبر أنّه أدّى واجبه، وها أنا الآن أتأذّى بشدّة حين أراهم. استعدتُ شيئًا من قوّتي بتناول القليل من الطعام والشراب. بقيت أفكّر فيما حصل معنا: "إلهي! ما الذي حصل للأخ مهدي، والأخ علي، والأخ أصغر؟ وماذا يجري الآن في الجانب الآخر من دجلة؟!".

 

وبالرغم من أنّني لم أُصب في كلّ تلك الأحداث بأيّ جرح، لكنّني أشعر وكأنّ رصاصة حامية تشتعل في حنجرتي وقلبي. قلقتُ وأحسست بأنّ أحدًا لن يراهم ثانيةً.

 

صار لدينا إلمام بوضع المنطقة الأماميّة، لكنّ الكثير من العناصر لم يعرفوا شيئًا عن الأوضاع هناك وما حصل معنا. لقد قصف العراقيّون المنطقة بشدّة، ووثقنا بأنّهم أصبحوا أكثر جرأةً وسيتقدّمون. لم أستطع أن أفهم، لماذا بقينا وحدنا الليلة الماضية والعمل كان يحتاج لسريّة أو حتّى لفصيل ليُنجز؟! فكّرتُ فيما بيني وبين نفسي، فقط لو تقدّم عناصر التجهيزات هؤلاء للقنص، لاستمدّينا القليل من القوّة، ولو دُمّر الجسر لقضي الأمر، ولأمكن حينها لعشرة أشخاص أن يقفوا بوجه العدوّ، بسبب قطع الاتّصال فيما بين القوّات العراقيّة، وطبيعة المنطقة المليئة بالمستنقعات...

 

شرع العدوّ يقصف خطوطنا الخلفيّة بشدّة. اختلّ التنسيق بيننا، ولم يعد واضحًا من هو المسؤول ومن هو غير المسؤول؟ تقدّمت القوّات العراقيّة ووصلت إلى الساتر الترابي الذي انطلقنا منه لتدمير الجسر. اشتدّ الوضع سوءًا كلّ لحظة. فالكتائب التي كانت في الخطوط الخلفيّة قُصفت. وما صبّ الزيت على النار أنّ العدوّ العديم المروءة استخدم الأسلحة الكيميائيّة، فاستُشهد جمع كبير من الإخوة. اضطّرت القوّات الموجودة في الخطوط الخلفيّة إلى استعمال الأقنعة الواقية فيما لم نكن نحن الموجودين في الخطوط الأماميّة نعلم شيئًا أبدًا.

 

287


278

الفصل التاسع: كربلاء بدر

كنت وأميرًا إلى جانب دشمتنا مع ما يقارب الثلاثين شخصًا من عناصر التجهيزات. غاب عنهم قبل عودتنا كلّ ما يحدث في الخطوط الأماميّة، ويظنّون بأنّنا سيطرنا على المنطقة، وكأنّه من المفترض أن ننتصر في كلّ مكان نتوجّه إليه مع قادتنا! تحدّثت إليهم فقط عن جرح الإخوة، ومحاصرة الأخ مهدي وعلي تجلّايي وعدد آخر من مقاتلينا. كدت أُجنّ من مجرّد التفكير بأنهم ربّما استشهدوا! ما أثقل انتظار أيّ خبر قطعي! حثثت قدر الإمكان الشباب، وقلت لهم إنّه لا ضير من التقدّم ومساعدتهم، ويمكننا بالحدّ الأدنى نقل الجرحى إلى الخلف، لكنّني أحسست بأنّ لا كلام مثل الرؤية بأمّ العين، لن يدرك الإخوة هنا فحوى كلامي، حتى يتلمّسوا حساسيّة الوضع.

 

لقد فقدنا للتوّ سيطرتنا على الأوتوستراد، ولم تكن القوّات العراقيّة قد استقرّت فيه بشكل تامّ. بل تشتّتت وكذا قوّاتنا، والرابح في هذه الأثناء هو من يتّخذ زمام المبادرة بنحو أسرع. لقد شاهدنا قلّة العناصر في الخطوط الأماميّة، وها نحن الآن نشاهد كثرة القوّات في الخطوط الخلفيّة، والذين لم يكن لديهم إلى الآن تصوّر واضح عن مشهد المواجهة. كان العراقيّون يُنْزِلون قوّاتهم إلى أرض المعركة بنحو قتالي، أمّا من جانبنا فلم يُرى أيّ تحرّك جدّي لنقل العناصر إلى الميدان. لا شك وجدت عوائق لوصول الإمدادات كما توقع سابقًا أحد القادة حين هيأنا للمعركة. ونظرًا لبعد المنطقة، لم تكن رمايات مدفعيّتنا فعّالة كفاية، فيما لم تكفّ المدفعيّة العراقيّة عن قصف المنطقة بشدّة بغطاء من الطائرات تحوم فوق رؤوسنا وتغير علينا. ما إن يدمّر عناصرنا ناقلة جند، حتى تأتي مروحيّة أخرى على الفور وتنزل مجموعة أخرى من الجنود. لقد باشر العدوّ العمل بجرأة وتنسيق غريبين، وأنا أتآكل من الداخل وأتساءل لِمَ لا تُرسَل قوّات الدعم إلينا؟! على كلّ حال، لم تنفع الحسرة، لقد خسرنا المنطقة الحسّاسة، التي ثبت أنّ الحفاظ عليها صعب، ولم يكن خطّ دفاعنا في هذه الجهة

 

288

 


279

الفصل التاسع: كربلاء بدر

من دجلة مهمًّا كثيرًا، حيث سيلزم القوات العراقية بعض الوقت لعبور النهر إذا ما أرادت التقدّم، وفي هذه الأثناء نكون قد تهيّأنا للمواجهة... بالطبع، هذه الأمور كلّها عبارة عن تقديري وانطباعاتي عن أوضاع المنطقة كجنديّ مقاتل، ولربّما كان لدى القادة في الإدارة العليا محاذير تمنع نقل القوّات، وربّما عشرات الاحتمالات والأسباب الأخرى...

 

توجّهت وأمير إلى الخطوط الخلفيّة متعبًا وخائبًا. لا زال الجسر الذي نُصب من جزيرة مجنون إلى اليابسة مرفوعًا، والآليّات لا زالت تتردّد عليه. توجّهنا نحو الجسر، والقصف المدفعي والجوّيّ لا يزال مستمرًّا. لقد قُصف المكان هناك بشدّة حتى تداخلت الدشم بعضها ببعض. استأت بشدة عندما رأيت منظر الدبّابات المحمّلة بالجنود وهم في حالة جهوزيّة، لدينا كلّ هذه الدبّابات والقوّات ولا يرسلونها إلى الخطوط الأماميّة! تحدّثت إلى شخص أو شخصين من عناصر الجيش، وسألتهما: "لِمَ أنتم هنا؟!".

- طُلب منّا أن نبقى هنا! كيف هو الوضع في الخطوط الأمامية؟

- ليس لدينا قوّات هناك! هذا كلّ شيء!

 

لم أستطع أن أصف بلغة أخرى ما شاهدته. أردت وأمير العودة مجدّدًا إلى منطقتنا في الخطوط الأمامية، لكن، لم نكد نبتعد عن الجسر قليلًا، حتّى ظهرت الطائرات العراقيّة وقصفت المكان، وبالسلاح الكيميائي هذه المرّة. لم يكن لديّ أنا وأمير قناع. فتّشتُ حولي عن قناع فلم أجد. كلّ ما فعلته هو أن بلّلت سجّادة صلاتي بماء القناة ووضعتها على وجهي. مع ذلك، استنشقت كمّيّة من الغاز السامّ. بدأت حالي تسوء، فركضت هذه المرّة وأمير إلى الخلف إلى أن وصلنا إلى سيّارة إسعاف وركبناها لتأخذنا إلى إحدى غرف الطوارئ. وعلى الفور، أعطونا حقنة، ثم نقلونا إلى الأهواز. وبهذا، خرجنا من منطقة عملية بدر وجزيرة مجنون.

 

289


280

الفصل التاسع: كربلاء بدر

أُجريت الإسعافات اللازمة للمصابين بالسلاح الكيميائي في مستشفى يقع على جادّة خرّمشهر ـ الأهواز. جُرّدنا هناك من ثيابنا، وبعد الاستحمام، أعطونا محلولًا لنغسل به بدننا، ثمّ ألبسونا ملابس جديدة. من هناك أرادوا ترحيلنا إلى طهران عبر الطائرة، فلم نذهب. رأينا أنّ إصابتنا ليست سيّئة لهذه الدرجة، ولأنّ قاعة المستشفى غصّت بالجرحى أيضًا، قرّرنا من تلقاء أنفسنا تركها والفرار إلى قيادة الفرقة في قاعدة الدفاع الجوّي في الأهواز. هناك وضع تحت تصرّف فرقة عاشوراء عدد من الوحدات السكنيّة من مبانٍ جاهزة كانت مقرًا للجيش، وكان فيها عدد من عناصرنا، وقد اصطحبَنا بعضُ معارفنا الذين التقيناهم هناك إلى غرفهم.

 

في المستشفى، ظننّا أنّنا بخير حين شاهدنا حال الإخوة الذين أُصيبوا إصابات بالغة جرّاء القصف الكيميائي. لم أصدّق بأنّ استنشاق كميّة قليلة من المواد الكيمائيّة يؤثّر في الإنسان إلى هذه الدرجة. فقد بقينا لأيّام نتقيّأ كلّ ما نأكله، ولم يدعنا الدوار نتحرك من مكاننا، ولم توصف حالتنا بغير جيّدة بالمطلق. كلّ من سمع بقصّتي من الإخوة كان يأتي لزيارتي، ويصرّ عليّ لأذهب إلى المستشفى. قلت لهم إذا أردتم إرسالي إلى الخطوط الخلفيّة، فخذوني إلى تبريز، فهناك يوجد مستشفيات سأتعالج فيها. لو وضعت هذه الإصابة في كفّة، وغمّ بدر وغصّتها في كفّة أخرى لرجحت الثانية. وقد حوّل خبر شهادة قادة فرقة عاشوراء، الأخ مهدي باكري، علي تجلّايي، أصغر قصّاب، محمود دولتي، أكبر جوادي و... في أواسط آذار من العام 1985م، أيّامنا جميعًا إلى مأتم وعزاء[1].

 

فيما بعد سمعنا بأنّهم تمكّنوا من الحفاظ على منطقة فرقة الإمام

 


[1] عاد جسدا الشهيدين أصغر قصّاب ومحمود دولتي إلى أحضان الوطن بعد سنوات من الغربة، ودُفنا في وادي الرحمة. أمّا الجسد المطهّر للشهيد مهدي باكري فقد دُفن للأبد في مياه دجلة، فيما بقي الجسد الطاهر لعلي تجلّايي مجهولًا إلى الأبد. دامت ذكراهم منارة في حياتنا.

 

290


281

الفصل التاسع: كربلاء بدر

الحسين عليه السلام إلى حدّ ما، فيما انسحبوا من باقي المناطق[1]. وسط هذه الظروف، كانت هناك حافلة متوجّهة إلى تبريز، فطلبوا منا أن نركبها ونترك المنطقة. بكلّ ما حملناه عدنا إلى المدينة وانفصلنا عن عملية بدر. العملية التي كانت بمنزلة عاشوراء ثانية لفرقة عاشوراء!

 

عندما وصلنا إلى تبريز، بقينا أربعة أيّام في المستشفى، وتحسّنت أحوالنا إلى حدّ ما[2]. لكن، أَوَ هَل يمكن للوعة شهداء بدر أن تتحسّن؟ شهادة "علي أكبر مرتضوي" الذي يناديه الصغير والكبير "بابا"، في تلك الليلة التي وقفنا فيها وجهًا لوجه أمام الدبّابات، وشهادة "باصر" والحنجرة التي كانت تقرأ مجالس عزاء أهل البيت (عليهم السلام)، شهادة "أصغر قصّاب"، شهادة "قاسم هريسي"، "خليل نوبري"، "علي تجلّايي" الذي كان من أدمغة الحرب وأدمغة مقرّ الخاتم (خاتم الأنبياء)، وحضر بيننا في عملية بدر كتعبويّ مجهول، وشهادة قائد فرقة عاشوراء الباسل الأخ "مهدي باكري" و... أَوَيمكن لأحد أن يسدّ مكانهم في الفرقة؟

 

 


[1] علمنا فيما بعد أنّهم أحدثوا طريقًا ترابيّة فوق الماء، بواسطة الجرافات التي نقلت الرمال والتراب من جانبي النهر وردموا فيها جزءًا من المياه ليصبح طريقًا. وبذلك تأمّنت تلك الناحية من الجزيرة التي كانت بأيدينا بشكل أفضل.

[2] ما زلت إلى الآن أعاني من آثار الإصابة بالسلاح الكيميائي. فعندما أسعل يصيبني الغثيان ويزعجني كثيرًا. أحيانًا يصل الأمر إلى درجة أن تلتهب حنجرتي وتؤلمني بشدّة، لكنّني كنت غالبًا ما أنشغل بجراحاتي الأخرى التي كانت أشدّ بمرّات من عوارض الإصابة بالكيميائي.

 

291


282

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

الفصل العاشر:

كتيبة "أبو الفضل"

 

 

كان "وادي الرحمة" المكان الوحيد في المدينة الذي يسكِّنني ويهدّئ خاطري. لم أنجذب إلى هناك للبكاء، ولم أرده أساسًا. أكثر ما كان يدفعني للذهاب هو رؤية صور الإخوة، واستذكار العهود السابقة برؤية صورهم. أردت عند زيارتهم أن أتذكّر من رافقتهم ذات يوم، وهنا في محضر أصدقائي الشهداء، أتذكّر أيام الجبهة التي قضيناها معًا، الأحاديث، المزاح، مجالس العزاء والعمليات...

 

بدأت ترِد أخبار عن عودة الأصحاب. لقد أُدخل أغلب الجرحى إلى مستشفيات المدن الأخرى، وحان الآن موعد عودة الشهداء[1]. ويا لها من عودة لشباب الكتيبة! كنّا نشيّع يوميًّا ما بين الـ40 والـ50 شهيدًا، دُفن أغلبهم في وادي الرحمة. حزينة هي آخر أيام آذار عام 1985م*[2]. كنت وأمير نشارك يوميًّا في مراسم تشييع الشهداء. الشهداء الذين تدرّبنا وإيّاهم جنبًا إلى جنب، وضربنا معًا العدو في قلبه، وتشاركنا معًا أكثر التفاصيل خصوصية و... وها نحن الآن نودّعهم إلى قلب التراب. في كلّ مرّة أذهب فيها إلى وادي الرحمة، أزداد خجلًا من بقائي. أشعر كأنّني لا أملك شيئًا أقدّمه لله، وأنّ الله لم يعتبرني أهلًا للشهادة، ولكن ما أسعدني هو بقاء "أمير" سالمًا، فبالرغم من أنّ الكثيرين ذهبوا، إلا أنّ

 


[1] تم تشييع شهداء عملية بدر شيئًا فشيئًا، عدا أولئك الذين استشهدوا في المرحلة الأخيرة من العملية شرق نهر دجلة قرب الأوتستراد أو في القرية، وبقيت أجسادهم الطاهرة هناك.

[2] إيام بداية السنة الإيرانية الجديدة (فرفردين 1366).

 

292


283

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

وجود "أمير" لا يزال مؤنسًا. سنعود إلى الجبهة، ونكون معًا. لقد عشتُ هذه الحال مرّات عدة خلال سنوات مشاركتي في ساحات الحرب، وكنت أعلم أنّ الهمّ والحزن الذي ينتابني خلال تشييع الشهداء ودفنهم، لا يساوي شيئًا أمام ما نقاسيه عند العودة إلى منطقة العمليات، حيث نجد خيام الكتيبة خالية من الأحبة ومحيطها ساكنًا! خصوصًا بعد عملية بدر. كيف يمكن البقاء في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام؟ كيف يمكن البقاء، والتحدّث إلى القادمين الجدد عن شجاعة وغيرة الأصدقاء الذين كانوا بحسب قول قادتهم يقتحمون قلب النار. كيف يمكن البقاء، وانتظار أن يأتي عناصر جدد ويأخذوا مكان الأصحاب الذين رحلوا، ويصبحوا معارف لنا. كانت سعادتي الوحيدة في بقاء "أمير" سالمًا وإلى جانبي.

 

تكاد المساحة المخصّصة لدفن الشهداء في القسم السفلي من وادي الرحمة تمتلئ. فجأة التفت إليّ "أمير" وسألني: "هل يمكن من الآن شراء قبر في هذا المكان؟".

- كلا! القبر هو قبر. لا فرق، سواءٌ كان في الأعلى أو في الأسفل!

 

قلت هذا مع علمي أنّه ثمّة فرق بالنسبة إلى أمير. فغاية مناه أن يدفن - بعد شهادته - بين صفوف الضرائح في القسم السفلي من وادي الرحمة ليكون إلى جانب أصدقائنا، وقد صرّح بهذا مرارًا. ومع أنّ كلام "أمير" لم يأتِ بجديد بالنسبة إليّ، إلا أنّ فؤادي أصبح فارغًا لسماعه، فحتى ذلك الحين لم يستوطن أحدٌ قلبي كما فعل هو. كنّا قد جلسنا في خلوة إلى جانب مزار أحد الشهداء عندما قال ثانية: "سيّد! عليك أن تؤكّد في وصيتك بأن أدفن إلى جانبك إن استشهدت قبلي!". قاطعته قائلًا: "هيا بنا يا أمير!... إن أنا استشهدت، فأملي ألّا يبقى منّي شيء ليُوارى في الثرى! أضف إلى هذا... أنا أعرف نفسي، وآسِفٌ لأنّني لست من أهل الشهادة". بهذه الكلمات غادرنا وادي الرحمة. ولكن أنّى لي أن أعلم أنّ "أمير" سيحقّق مراده قبل نهاية العام الجديد!

 

293


284

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

باكيًا: "إلهي، أنا راضٍ بقضائك، وأبذل روحي في سبيلك، لكن لا تتركني وحيدًا... والطف بي في جميع الأمور...".

 

بعد أن فرغت من صلاتي، شعرت بالخفّة (الراحة) لفرط ما بكيت. عدت إلى الدشمة. لم يكن قد طلع الصبح بعد، لكن كان عدد من الإخوة لا يزالون مستيقظين، وقد رأوا حالي ومآلي: "أجل، سيّد، تقبّل الله أعمالك، نراك عائدًا من صلاة الليل؟".

- كلا! فأنا لست من أهل صلاة الليل.

- إذًا أين كنت وقد بكيت كلّ هذا البكاء؟!

- لا شيء! إنّني لم أطلب من الله حتى الآن شيئًا ماديًّا. ذهبت الليلة لأطلب منه أن يعطيني شيئًا... منزلًا...معيشة!...

 

أصبحت موضع جدل بين الأصدقاء: "اُنظر يا هذا! الجميع يفكّرون بالعملية وبالشهادة! والسيّد يفكر بقطعة الأرض والمنزل!".

- إنّ طَلبَ المنزل والأرض هذا ليس بدون سبب!

 

نظرًا إلى حالي الجسدية حيث عانيت منذ العام 1982م من جراح بنسبة 70%، فقد أخبروني في قسم الإسكان في مؤسسة الشهيد أنّه يجب أن أتمّ الـ25 سنة من عمري، أو أكون متزوّجًا كي يعطوني قطعة أرض. قلتُ: "دعك من الزواج! افرض أنّ عمري25 سنة!".

- لا! هذا قانون.

 

كان عمري آنذاك 20 سنة. قلت لهم إنّني سأعمل على استصدار هوية جديدة أغيّر فيها تاريخ ميلادي!

- هذا لا يمكن! اذهب وتزوّج، وأعدك أنّه في اليوم الذي تُحضر فيه وثيقة زواجك، سأُرسل كتابًا بشأنك إلى الدائرة العقارية.

- كأنّ الزواج بهذه السهولة! أنا لا أملك مالًا ولا عملًا! من سيزوّجني ابنته والحال هذه؟ كما إنّني أقضي معظم أيامي في الجبهة.

 

295

 


285

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

في ذلك اليوم، أكّد لي مهندس قسم الإسكان أنّه بمجرد تقديم وثيقة الزواج سييسّر أمري[1]. مضت أشهر عدّة حتى ركبت الطائرة المعهودة متوجّهًا إلى تبريز، وطُرح هناك موضوع الزواج، وتذكّرت كلام ذلك المهندس في مؤسسة الشهيد. عندما قدّمت له وثيقة زواجي عرّفني إلى الدائرة العقارية بكلّ محبّة وسرور. رافقني "أمير" في هذه المراحل أيضًا، وقد أمنّا المستندات والوثائق معًا، وقدّمناها إلى الدائرة العقارية. كان أحد المهندسين في غاية اللطف معنا، وقال إنّه سيعطينا قطعة أرض في أيّ مكان نطلبه. وبما أنه نشأنا وعشنا بالقرب من محطة القطار، فقد اقترحت مكانًا قريبًا من هناك.

 

عدت وأمير إلى الجبهة. في الإجازة التالية، تلقّينا كتابًا من الدائرة العقارية مفاده إنّ قطعة الأرض جاهزة، وعلينا استكمال الإجراءات اللازمة. ذهبنا إلى الأرض وتفقّدناها. وبالفعل فبعد مضيّ 45 يومًا تمامًا على طلبي من الله تعالى في مصلى الكتيبة، كنت قد تزوّجت، وحصلت على قطعة أرض أيضًا! ذهبت وأمير لاستلام الأرض. كان سعر المتر الواحد 70 تومانًا، وقد حصلت على حسم بسبب إصابتي، وحصلت على الأرض بمبلغ 5 آلاف تومان، اقترضتها من أمير، واتفقت معه على أداء الدَّين في الموعد المحدّد. عندما رأى أخي قطعة الأرض قال: "أنا أعطيك منزلي في مقابل هذه الأرض!". لم أقبل. بعد أشهر عدّة، أصبحت المنطقة أكثر عمرانًا. اقترح أخي أن أتنازل عن الأرض في مقابل بيته وسيارته، فلم أقبل بهذا الاقتراح أيضًا. تدريجيًّا، بسعي والدي وهمّته، بدأت أعمال البناء. مرّة أخرى تحدّث إليّ أخي وقال: "سأعطيك منزلي وسيارتي في مقابل طابق واحد من هذا المبنى". أجبته هذه المرّة قائلًا: "حان الوقت الآن كي نتحدّث قليلًا. هل تذكر عندما قلت لي - قبل أشهر عدة - إنّه من غير المعلوم كيف سيكون وضعي بعد

 


[1] لقد وفى بوعده. وقد استشهد في الجبهة لاحقًا، رحمه الله.

 

296


286

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

الحرب. أنا الذي لم أكن أملك 5 آلاف تومان لأدفعها للدائرة العقارية، رزقني الله منزلًا كهذا. أريد أن تعلم أنّ الله الذي جاهدتُ في سبيله، لم ولن يتركني لحظة واحدة ويذلّني بين خلقه". بالطبع أكّد لي أخي أنّه إنّما قال ما قال محبة لي وقلَقًا عليّ... لقد ثبت لي مرات عدّة أنّ رحمة الله ولطفه أكثر ممّا نتصور.

 

كان الكفاح في بناء المنزل على عاتق والدي. لقد جهد كلّ سعيه لأحصل على الراحة والطمأنينة، الشيء الذي لم أكن أفكّر به أساسًا. لقد أخجلتني جهود والدي، سواء في الأيام التي كنت أتعالج فيها من إصاباتي، حيث زادت متاعب عائلتي أضعافًا مضاعفة، أو في أيام إجازتي حيث كنت أفكّر في العودة إلى الجبهة قبل أن أصل إلى المنزل، ليعلّق والدي قائلًا: "لقد تربّيتَ في الجبال، وستعيش هناك أيضًا. إنّ طبيعتك تتأقلم مع الجبال!", وأُكمل أنا مزاحه هذا فأقول: "والدي! أسأل الله أن لا يُبدّلني هذه المدينة بتلك الجبال. إنّ تلك الجبال وتلك الصحراء، تعادل عندي ألفًا من هذه المدن!". كانت جراحاتي الدائمة التي أُصاب بها في كلّ سنة في الجبهة، تشكّل القلق الأساسي له! وكان محقًّا. لقد تعب من أجلنا لسنوات في ظروف الحياة الصعبة والزمن الصعب، لكي يأتي يوم نكون فيه عونًا له في حياته. لكنّ الحرب خلطت جميع الأوراق. لم يقتصر الأمر على بُعْدِي عنه وحسب، بل إنّهم بذلوا كلّ ما يملكون من أجلي، وانشغلوا دومًا بمشاكلي وجراحاتي.

 

أحيانًا، كان بعض أفراد العائلة والأقرباء يسألونني عن الأعمال التي نقوم بها في الجبهة، وينظرون إليَّ بدهشة واستغراب عندما أحدّثهم عن العمليات وتفاصيلها. على سبيل المثال، عندما أخبرتهم عن الليلة الثانية من عملية بدر، وعن غزارة نيران العدو آنذاك، سألوني بحيرة

 

297


287

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

وريبة: "إذًا، لمَ لم تُصب بسوء؟". عندما نتحدّث بتلك الأمور كان قلبي يخفق شوقًا إلى الجبهة، المكان الذي كنّا فيه قريبين من الله سبحانه، إلى درجة أن صرنا ندرك بكلّ وجودنا، بأنّه إن شاء، سينقذنا من النار كما أنقذ إبراهيم الخليل عليه السلام!

 

كنت كلّما تداولنا مثل هذه الأمور، أشعر بغربة عجيبة، وأعلم أنّ الناس في المدينة لا يعون بشكل جيد ما يجري في الجبهة. كانوا يعتقدون أنّنا لا نعرف لذة الحياة، والعائلة الهانئة والهادئة والسعيدة، والجسم السليم والرفاهية، ولا نعرف أنّه يمكن البقاء في المنزل، والنوم على الفراش والسجّاد، بعيدًا عن أصوات الانفجارات. لم يدركوا أنّ للحياة في الجبهة نكهة أخرى، وأنّ في الجبهة إخوانًا، يمكن أن ننال الشفاعة في الآخرة بسبب محبتنا الخالصة لهم في هذه الدنيا!...

 

تعدّدت مثل هذه الأحداث والحوارات عندما كنّا نأتي إلى المدينة أثناء الإجازة، في ظروف ومواقع مختلفة. غالبًا ما كنت بعد مضيّ أيام عدّة من الإجازة، أحضّر نفسي إما للعودة إلى منطقة العمليات، أو لأتابع علاج جراحاتي، فأتوجّه إلى عيادات الأطباء، ونتبادل أحاديث أكثر جاذبية. كنتُ عندما أقصدهم لعارضٍ ما، وما إن أنزع ثوبي للمعاينة، حتى يقول أغلبهم على سبيل المزاح أو الجدّ: "إنّ مشكلتك هذه لا تذكر مقابل هذا الجسم المشظّى!", حتى قال لي أحد الأطباء يومًا في مستشفى الإمام في تبريز عندما رأى حالي: "هل تعلم أنّ أعضاء الجسم تتكلم يوم القيامة وتشتكي، ويجب أن نعطي جوابًا لها؟".

- أجل، أنا أعلم! ولكنّني لا أظنّ أنّ هذا الجسم سيشكوني. لأنّني لم أوصله إلى ما وصل إليه باللعب واللهو. يعلم الله قصة كلّ جرح في جسمي. أين جُرحت، وماذا كنت أفعل حين جُرحت. إذًا فهذا الجسم لن يمتنع عن الشكوى وحسب، بل يجب أن يشكرني كثيرًا.

 

298

 


288

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

مضت أشهر عدّة على الحادثة التي تسبّبت بفشل العملية الجراحية لأنفي. وقد سعيت لإجراء عملية جراحية جديدة، على أمل أن تُحلّ مشكلة التنفّس عندي إلى حدٍّ ما. بعد انتظار طال خمسة أشهر مضت في التدريب لعملية بدر وفي تنفيذها، توجّهت وأمير إلى طهران، ووصلنا إلى هناك في الصباح الباكر. ذهبنا مباشرة إلى المستشفى. عاملنا الطبيب بلطف، وكتب لي تقريرًا لإدخالي إلى المستشفى. لم نكن أنا وأمير مستعدّين لأن يبتعد أحدنا عن الآخر، فقرّرنا أن يبقى معي في طهران ما دمت هنا. لا تزال هذه الصورة -عند ذهابنا إلى مستشفى فاطمة الزهراء عليها السلام - عالقة في ذاكرتي دائمًا. كان هناك شارع خلف المستشفى قليلًا ما يسلكه الناس، يبعد حوالي 200 إلى 300م عن بوابته الرئيسة، وكان أمامه حديقة تزهو بطلّتها الجميلة. في تلك الأيام، كان منظر الشباب الذين يلبسون لباسًا غير تقليدي يطلق عليه اسم بانكى، لافتًا وغريبًا. في ذلك الشارع بالتحديد، وجّه أحد الشبان كلامًا مشينًا لإحدى الفتيات. لم نستطع أنا وأمير أن نتغاضى عن الموضوع. وقفنا بوجهه: "ماذا قلت؟", شحب لونه! وعندما عرفت أنّ عمره 20 عامًا وفي مثل سنّي، نصحته قائلًا: "أمثالك في الجبهة الآن يديرون عشرات الأفراد من العناصر! بينما تقوم أنت بمثل هذه الأعمال المشينة!؟", وأمير يقول لي: "دعه وشأنه، فهو لا يدرك شيئًا!".

 

اتفقت وأمير أن يأتي كلّ يوم إلى المستشفى في موعد الزيارات، عند تمام الثانية ظهرًا. ووعدني المسكين قبل العملية أن يشتري لي طعام الفطور يوميًّا. وكما في المرّات السابقة، صار يبيت ليله في منزل أحد أقاربه.

 

دخلت المستشفى، وكان لي يوميًّا برنامج مع أمير. ففي الصباح نمدّ سفرة طعام الفطور في الفناء، وسريعًا أصبحنا أصدقاء مع الحرّاس. قضيت ثلاثة إلى أربعة أيام قبل العملية في إجراء التحاليل المخبرية والصور المختلفة. كان للغرفة التي أقمتُ بها وضعها الخاصّ، فهناك

 

299

 


289

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

أربعة مرضى غيري. أحدهم من "زنجان", وقد أصيب بشظيّة في كتفه، وآخر طالب علوم دينية من قم، وشخصان آخران من مدينة "كرج", وقد أدركنا لاحقًا ما الذي كانوا يخفونه!

 

أخيرًا، حان الوقت، وذهبت إلى غرفة العمليات. عادة ما أشعر بالبرد هناك، لكنّها كانت المرّة الأولى التي شعرت فيها أنّ الغرفة دافئة. ذهبت مشيًا إلى غرفة العمليات، ورأيتهم يقطّبون وجه أحد الأشخاص هناك. بالرغم من أنّ الذهاب إلى تلك الغرفة أصبح أمرًا عاديًّا بالنسبة إليّ، إلا أنّني شعرت بالقلق هذه المرّة. كنت أعلم أنّه ينتظرني عملية جراحية صعبة جدًا لترميم أنفي ووجهي، وهذا ما حصل فعلًا. ولا تسأل عن الآلام التي عانيتها في تلك العملية. غدا جسمي حسّاسًا لأدوية التخدير، فتعسّر غيابي عن الوعي. وللأسف فقد أفقت من التخدير أثناء العملية الجراحية، ومهما حاولوا - بعد ذلك - تخديري لم يفلحوا! فوضعوا منديلًا على عينيّ واستمروا في عملهم مجبرين. كنت أسمع صوت أدوات الجراحة، صوت الطبيب، وصوت فريق غرفة العمليات، وهم يقولون لي: "أنت إنسان صبور جدًّا...". لم أتحرّك أساسًا. فقط كنت أعدّ الثواني حتى تنتهي هذه العملية المؤلمة! وأفكر أنّه لو أصيب الإنسان مئة مرّة بشظيّة أو رصاصة، لن يدرك ذرّة من هذا العذاب. استمرّ الأمر حوالي النصف ساعة على هذا المنوال. كادت روحي تفارق جسدي من شدّة الألم والقلق، وكأنّ هذا الألم كفارة عن كلّ ذنوبي... راحوا يقطعون لحمي ويقطّبونه.. وأخيرًا، أنهوا عملهم، ووضعوني على سرير آخر. تبيّن أنّني بقيت في غرفة العمليات لمدّة ثلاث ساعات. وخلافًا لجميع المرضى الذين يبدأون بالشكوى والأنين بعد خروجهم من غرفة العمليات، فقد شعرت بالراحة!

 

وضعوني في قسم العناية الفائقة. لم يمضِ وقتٌ طويل، حتى جاء طبيبي الجراح، وجلس فوق رأسي. انتهت عمليتي عند الغروب، وظلّ

 

300

 


290

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

الطبيب يراقبني حتى الصباح، ويعالج النزف الشديد الذي أصابني. يبدو أنّ نتيجة العملية كانت مهمة بالنسبة إليه أيضًا كما اتضح لاحقًا. لقد اهتمّ بي بكلّ عطف وحنان. أمّا أنا، فقد التقطت كتابًا لأطالعه، لعلّ ذهني ينصرف قليلًا عن الألم. كان يسألني باستمرار عن حالي، فأجيبه: "أنا بخير!". حتى الصباح كانوا قد أعطوني عدّة وحدات من الدم، ومع أنّني كنت أشعر بكثير من الألم والتعب، إلا أنّ حالي قد استقرّت نسبيًّا.

 

أخيرًا، طلع الصباح، وعرفتُ أنّ عائلتي جاءت من تبريز للقائي. المسكينة زوجتي، مذ دخلت إلى حياتي، كان قسمٌ من لقاءاتنا في المستشفيات. جاءت برفقة أبي وأخي. وأثارت عجبي رؤية والدي لأنّه حتى ذلك اليوم، لم يكن قد أتى لرؤيتي في المستشفيات[1]. لم يستطع زوّاري المكوث عندي طويلًا لأنّني بدأت أنزف من جديد، ما اضطرّ الطاقم الطبي إلى القيام بإجراءات خاصة. تحسّنت حالي في اليوم التالي، وجاءت عائلتي لعيادتي، وأحضروا لي الكباب معهم. كم كان الكباب لذيذًا في ذلك الوقت... ذهبت مع "أمير" والعائلة إلى فناء المستشفى الأخضر. هناك، أدركت أنّ والدي لم يأتِ إلى طهران لزيارتي فقط، إنّما جاء لحضور عقد قران وعرس أحد الأقارب... هنا بدأ المزاح. قلت له: "أصبح واضحًا لماذا أتى والدي لرؤيتي!". كانت علاقتي به منذ البداية قائمة على الصداقة. كنّا نتصارع ونستعرض قوانا في وجه بعضنا البعض... ومع أنّه لا يأتي لوداعي عند ذهابي إلى الجبهة، لكنّ والدتي تقول إنّه يبقى دائمًا مشغول البال عليّ، ولا ينام ليلًا لكثرة تفكيره بي.

 

[1] خلال جميع عملياتي الجراحية التي زادت عن الـ25، لم يأتِ والدي سوى مرتين لعيادتي، مرّة في طهران والأخرى في مستشفى الإمام في تبريز. في كلّ مرّة لم يكن يبقى أكثر من 5 دقائق! السلام عليكم، كيف حالك وإلى اللقاء! بالطبع لم يكن سبب ذلك أّن والدي لا يحبني أو... بل كان لا يحب الطبيب والدواء والمستشفى. لم يزل هكذا حتى الآن أيضًا، ولم يحقن بإبرة طوال عمره! وإن ذهب إلى المستشفى تسوء حاله. لقد اهتمّ بي في ذلك اليوم، وله دين وحقّ كبيران في عنقي!

 

301


291

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

طوال مدّة بقائي في المستشفى، ظلّ "أمير" يأتي لزيارتي كلّ يوم، ويبقى إلى جانبي من الصباح حتى العصر. بقيت في ذلك المستشفى حوالي 40 ليلة. لطالما كرهت الإبرة ومللتها، وخاصّة تلك الإبرة الغليظة التي كانوا يحقنوني بها في الوريد يوميًّا، ويعطوني المصل من خلالها. لذا كنت دائمًا في المستشفيات أعطي مالًا لمندوب مؤسسة الشهيد وأقول له: "بالله عليك، اشترِ لي إبرًا ذوات رؤوس صغيرة". فيجيبني ضاحكًا: "سنحضرها بأنفسنا ولا حاجة لتقسم علينا!". كان مضحكًا بالنسبة إلى بعضهم أن أخاف بهذا القدر من الإبرة، مع كلّ تلك الجراح التي أصابت جسدي!

 

كان "أمير" يشتري لي لحم الكبد دائمًا، وكان وضعي جيّدًا من ناحية التغذية. لكن كان عليّ أن أتناول يوميًّا عددًا كبيرًا من حبوب الدواء، وأن أحقن بعدد من الإبر. في تلك الأيام، كان المسلسل المعروف "السلطان والراعي" يُعرض على التلفاز، وقد نال إعجاب الناس آنذاك، أما أنا فحملت عنه ذكرى سيئة. كانت الحلقة الأخيرة من المسلسل، وقد اجتمع الممرضون حول التلفاز ليشاهدوا ماذا سيحصل في نهاية القصة؟! كان عليّ أن أُحقن كلّ 6 ساعات بإبرتين، وكان تحمّلها بالفعل أمرًا غاية في الصعوبة. كنت عندما يحقنونني أشعر وكأنّ أوردتي تحترق. من سوء حظي أنّ الممرضة المناوبة في تلك الليلة، كانت طريقة حقنها للإبرة قاسية كقسوة خُلُقها. أتت هذه السيدة على عجلة من أمرها. رأت أنّهم نزعوا إبرة المصل من يدي، وبالتالي عليها أن تضعها في الوريد مرّة أخرى. تذمرتُ قليلًا، لكنّني لم أهتمّ لها كثيرًا. كانت تُظهر بعضًا من خصل شعرها، ولا تراعي حرمة الجرحى. أرادتْ أن تُنهيَ عمَلَها بسرعة وتذهب. ربطتْ ساعدي، وحاولتْ مرتين تثبيت إبرة المصل، لكنّها لم تفلح في ذلك. كرّرت ذلك خمس مرات. فقدتُ السيطرة على أعصابي. وبدلًا من أن أكون أنا من يعترض، بدأت هي بالكلام: "ما هذا! منذ متى

 

302


292

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

ونحن مشغولون بحقن إبرتين لهذا، والآن يكاد المسلسل أن ينتهي!".

 

استأتُ منها. رأيتُ أنّ المريض أساسًا لا قيمة له عندها. أخذتُ الإبرة من يدها ورميتها بعيدًا، وصحتُ في وجهها: "اُغربي عن وجهي... ولا تأتي إلى هنا مرّة أخرى! إن أتيتِ سأكسر رجلك!". ذهبتْ وجاءت ممرضة أخرى، ولكنّني كنت قد استشطتُّ غضبًا. قلت: "اغلقوا الباب ولا يأتينَّ أحدٌ! أساسًا لن أسمح لأحد أن يحقنني بالإبرة. وصباحًا سأُطلع الطبيب على مكان وخز الإبر الثماني هذه، لأرى هل أن قيمة المريض لا تساوي قيمة المسلسل!؟". لم يستطيعوا تهدئتي في تلك الليلة.

 

جاء الطبيب صباحًا، كان رجلًا رائعًا. قال بهدوء: "سمعت أنّك لم تأخذ إبرك البارحة! أعهدك رجلًا قويًّا. لماذا لم تحقن الإبر...". أخبرته بما حدث، وأكدت له أنّني لم أغضب بسبب الإبر، وإنّما أفقدني أعصابي كلام السيدة حين قالت إنّ المسلسل يكاد أن ينتهي! استاء الطبيب، وأنّب الممرضة وأرسلها إلى قسم آخر. بعد ذلك، أتت تلك الممرضة إليَّ تطالبني. قلت لها: "أنا لا دخل لي، ولست سوى مريض. أنت المقصّرة إذ إنّ الفيلم بالنسبة إليك أكثر أهمية من المريض". بالنتيجة لن أنسى مسلسل "السلطان والراعي" أبدًا لأنّني بسببه حُقنت بالإبرة مرات عدّة بشكل سيّئ!

 

بغضّ النظر عمّا ذكرت، فإنّ مستشفى فاطمة الزهراء عليها السلام كان مكانًا جيدًا جدًا. أولًا بسبب اسمه، وثانيًا بسبب أخلاق الجرّاح العالية. وعرفت أنّ عمليتي هذه كانت الأولى من نوعها في ذلك الوقت، لذا اهتمّوا بي كثيرًا. بعد حوالي ثلاثة أيام من إجراء العملية، أتت مسؤولة اللجنة الطبية للجرحى السيدة "كروبي" إلى المستشفى. تفقّدت جميع الجرحى، وأقبلت أيضًا إلى غرفتي... سألتني عن أحوالي، وشرح لها الطبيب عمليتي، وواستني بقولها إنّها كانت ناجحة وسوف أصبح أفضل حالًا. في تلك العملية، قطعوا جزءًا من جلد ولحم ساعدي

 

303


293

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

ورجلي، ووضعوه في وجهي. راحت رجلي تؤلمني بشدة، أكثر من الوجع الاعتيادي لأيّ جراحة. كانوا يقولون: "أنت إنسان محظوظ إذ نجحت عمليتك". أغلبهم لم يعلموا كم عانيت حتى ذلك اليوم، وإلا لما قالوا إنّني محظوظ! أعطوني سشوارًا لأستعمله لجرح رجلي، نصف ساعة يوميًّا حتى يجفّ الجرح وينمو الجلد في مكانه من جديد. بعد أيام عدّة، ومن شدّة العطالة من العمل، رحت أعبث بالشاش الذي غطّوا به الجرح، وبدأت أسحب خيطانه. آلمني ذلك، ولكنّني كنت في كلّ يوم أنزع عددًا من الخيطان، حتى سحبت كلّ خيطانه وبقيت أنسجته. بعد أيام عدة، رأى الطبيب ذلك فقال: "ماذا فعلت بالضمادة؟ كيف عبثت بها ولم يعد مكانها معروفًا أساسًا!". شرحت للطبيب ذلك. قال: "لو كنت نزعتها مرّة واحدة لتضرّر الجرح. والآن تعلمت منك ذلك أيضًا!".

 

نزل في غرفتنا جرحى آخرون، لكلٍّ منهم طباعه الخاصة. على سبيل المثال، كان يوجد أخ من قم، صاحب دعابة، أصيب بشظيّة في ذقنه، ولم يعد يستطيع فتح فمه. لذا، صاروا يضعون في كلّ يوم صفًّا من عيدان البوظة بين أسنانه، ويضيفون إليها عودًا كلّ يوم. عندما وصل عدد هذه العيدان إلى 17، أعجبه المنظر! حتى إنّنا التقطنا له صورًا وهو على تلك الحال. اضطرّ أن يتحمّل تلك العيدان في فمه لمدّة ساعة كاملة. المسكين كان يتألم، ولا يستطيع بعد نزعها أن يتكلم لمدّة ساعة أيضًا. وإذا ما حرّك فمه أو ضحك، ازداد ألمه. في تلك الحال أيضًا كنّا نشاكسه ونضحكه، وهو يتوسل إلينا أن لا نتفوّه بكلام مضحك. كان هناك جريح من زنجان أيضًا، وقد سُحقت ذقنه تمامًا، وأجريت له 7 عمليات جراحية ليضعوا له ذقنًا! كان والداه يعودانه دائمًا. كانت أمه عطوفة، وتحضّر له الطعام والمأكولات المتنوعة، فيصلنا نصيب منها أيضًا. عندما كنت في المستشفى، ولأنّ أحدًا عدا "أمير" لم يأتِ لزيارتي سوى مرّة أو مرتين، كنت أحسب نفسي غريبًا هناك. كنّا نقول لذلك الأخ الزنجاني: "بالله عليك، لا 

 

304


294

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

تتحسّننّ حالك! إن تحسّنت وغادرت المستشفى سنبقى نحن وحيدين!".

 

كان في الغرفة أيضًا - غير أولئك المجاهدين - شخصان من مدينة كرج، كُسرت عظام ذقنيهما في حادث سير. لقد خدعانا بشكل كبير. بحسب الظاهر تعاملا معنا بشكل جيد، لكنّنا أدركنا لاحقًا أنّهم يُحضّرون لهما الأفيون في أوقات الزيارة. لم يكونا مدخّنين، لكنّهما كانا يذهبان إلى الأسفل، ويدخّنان الأفيون. وعادة ما يأخذان معهما الراديو الخاصّ بطالب العلم. أثارا شكّنا. لم أكن أرى أنّهما من الأتقياء حتى يستخدموا الراديو على النحو الصحيح. في تلك الأيام أنا أيضًا كنت أملك مسجلة صغيرة، أستعملها عادة في الاستماع إلى أشرطة الخطابات والعزاء. لم يدمِ الأمر طويلًا حتى أثارت رائحة تلك المواد التي يستخدمانها الشكّ عند الجميع. ولما علمت إدارة المستشفى بالموضوع قامت بطردهما.

 

بقيت حوالي 40 يومًا في مستشفى فاطمة الزهراء عليها السلام، حتى أُنهكت. لم أعد أريد البقاء هناك أكثر. أصررت على الطبيب حتى يعطيني إذنًا بالمغادرة، وأخيرًا وافق على ذلك. ولكنّه أكّد عليّ أن أنتبه جيّدًا لنفسي حتى لا يذهب كلّ هذا التعب سدى كما في المرّة السابقة.

 

أذكر أنّه كان يوم خميس، عندما غادرتُ المستشفى وذهبتُ إلى منزل أخي في "خافران". في اليوم التالي، ذهبت إلى محطّة سكّة الحديد لأرجع من هناك إلى تبريز. كنت في تلك الأيام أستطيع الحصول على تذكرة طائرة بسبب جراحاتي، لكنّني آثرت الرجوع بالقطار، متنعِّمًا بصحبة أفضل صديق لي.

 

كانت إجازتي لمدة شهرين، وقد اكتمل انزعاجي في الفترات التي أمضيتها في المستشفى، وتلك التي بقيت فيها جليس المنزل. عندما تحسّن جرحي قليلًا، قرّرت وأمير العودة إلى الجبهة. أردت هذه المرّة أيضًا أن

 

305

 


295

الفصل التاسع: كربلاء بدر

أصطحب دراجتي النارية، وهي درّاجة قفازة من نوع هوندا، وقد أخذتها سابقًا إلى الجبهة، وعادت علينا بالنفع الكثير[1]. أنجزنا الإجراءات اللازمة، وبعد أن سلّمنا الدراجة للقطار، ذهبنا نحن إلى الجبهة.

 

بعد عملية بدر، قرّرت عدم الاستمرار في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. كانت هذه الكتيبة مشهورة في الجبهة وفي الخطوط الخلفية، بسبب تاريخها وإيمان عناصرها وشجاعتهم. لكنّها بعد تلك الملحمة البطولية في بدر، وشهادة أكثر الإخوة في المراحل المختلفة من العملية، تغيّرت، وأصبح من اللازم إعادة تنظيمها.

 

- إذًا، بأيّ كتيبة نلتحق الآن؟

بحثت قليلًا، ولم أمانع من الالتحاق بكتيبة "أبو الفضل" التي شاركت في إحدى العمليات سابقًا. كان قائد الكتيبة آنذاك السيّد "أجدر مولايي". لم أعمل معه قبل الآن، إنّما عرفته من بعيد، وقد سمعت عنه الكثير من الإخوة. وأخيرًا اتفقت مع "أمير" على الذهاب إلى تلك الكتيبة.

 

عندما وصلنا إلى دزفول، قصدنا مباشرة مقرّ القيادة. لم يكن الانتقال من كتيبة إلى أخرى بالأمر السهل، فلكلّ فرقة نظامها الخاصّ، ويتوجّب علينا أن نقنع لجنة القيادة في الفرقة ليوافقوا على انتقالنا إلى كتيبة أخرى. كان عديد القوات في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام في منطقة العمليات قليلًا، وقد عُيّن قائدًا لها الأخ السيّد "حسن شكوري" بعد استشهاد أصغر قصاب، وشرع يعمل على إعادة تنظيم الكتيبة. لم


 


[1] كانت الإجراءات الإدارية لعملية النقل متعبة وتستغرق وقتًا طويلًا، لكن تكلفتها قليلة وتتراوح بين 100 و130 تومانًا. فبداية كان علينا الذهاب إلى اللجنة ليدوّنوا رقم الدراجة ويكتبوا كتابًا يفيد بأن هذه الدراجة ستخرج من المدينة. يكتبون هذه الرسالة لمحطة القطار، وأثناء العودة كان الأمر يستغرق ساعات عدّة حتى يجدوا مستنداتنا هذه. كان هذا الروتين سائدًا ومتعبًا.

 

306


296

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

أظنّ أنّ كتيبة الإمام الحسين عليه السلام هي نفسها التي شاركت في عملية بدر، وقد ضمّت من العناصر أشجعهم وأكثرهم خبرة.

 

حصلت على كتاب من مكتب الفرقة لأسلّمه إلى كتيبة "أبو الفضل" وذهبنا. رأينا من بعيد شخصًا منهمكًا بالعمل. يبدو أنّهم بدأوا يمهّدون لبناء مصلّى للكتيبة. ولما اقتربنا أكثر، وجدنا أنّه السيّد أجدر مولايي نفسه. راح السيّد أجدر - قبل أن يستلم رسالتنا - يحدّثنا عن أحوال كتيبته ووضعها الحالي والمشاكل الموجودة، وقال لنا إنّه يجب أن لا نترك الكتيبة في منتصف الطريق، لأنّه من الممكن أن نكون من كتائب الدعم. بعد هذا الكلام، أخذ رسالتنا وقال: "تفضّلوا إلى خيمتنا لأنّنا حتى الآن لم ننصب خيامًا كافية".

 

ذهبنا إلى خيمة قيادة الكتيبة. كان صديقي القديم "كريم قرباني" هو المعاون، وقد أحسسنا بالطبع براحة أكثر في الكتيبة الجديدة لوجوده هناك. بعد يومين أو ثلاثة تذكّرنا أنّنا لم نستلم الدراجة من محطة القطار. ذهبنا إلى أنديمشك واستلمناها وعدنا أدراجنا إلى الكتيبة.

لم يكن البقاء في خيمة القيادة أمرًا مرغوبًا بالنسبة إلينا، المكان الذي يسوده النظام ويتردّد إليه القادة، ومنهم الأخ "أمين شريفي" القائد الجديد للفرقة. في تلك الخيمة كان علينا أن نستيقظ من النوم في وقت محدّد، وأن ننجز الأعمال في موعدها المعيّن لها أيضًا، وأحيانًا كانت تعقد فيها الجلسات. وبالخلاصة، رأيت البقاء في تلك الخيمة مصدر عذاب بالنسبة إليّ. تحدثت مع السيّد أجدر حوالي خمس أو ست مرات، وكان يجيبني: "اصبر حتى مجيء القوات وتشكيل السرايا، ثم التحق بالسرية التي تريد". لم يكن باليد حيلة سوى الرضوخ للوضع القائم. آنذاك، كان قد تمّ تشكيل طاقم سرية واحدة، واتفق أنّهم مشاغبون

 

307


297

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

وغير منظّمين، ويشعرون بالاستقلال الذاتي في الكتيبة، ويفعلون كلّ ما يحلو لهم. على سبيل المثال، يأخذون سيارة الكتيبة ويغادرون إلى الأهواز، أو إلى سدّ "دز" وبدون إجازة من أحد. ذهبوا ذات مرّة إلى بائع سندويشات في دزفول. هناك، وبسبب حرارة الطقس العالية وقلّة المرطّبات، لم يكن يباع أكثر من قنينة واحدة مع كلّ ساندويش، لكنّهم طلبوا أكثر من ذلك. ولمّا لم يستجب البائع لطلبهم، وقع بينهم نزاع شديد إلى أن وصل أفراد من اللجنة، واعتقلوا الطرفين. ثم أخبروا الفرقة بذلك، فأرسلوا شخصًا في أثرهم وجاؤوا بهم. وبعد أن اتضح تسلّط وطغيان هؤلاء الشباب، قام السيّد أجدر بإخراجهم من الكتيبة، ما سبّب تفكّك الكادر الوحيد لتلك السرية أيضًا. بعد هذا، أصبح جميع عناصر كتيبة "أبو الفضل" عبارة عن والد وعمّ السيّد أجدر وهما من عناصر التجهيزات، أنا وأمير، والسيد أجدر نفسه ومعاونه كريم قرباني، بالإضافة إلى شخصين آخرين.

 

الشيء الوحيد الذي كسرنا به رتابة تلك الأيام، هو تجوالنا أنا وأمير على دراجتنا النارية. كنّا نذهب إلى دزفول بها، ونسبح في مياه نهر (دز). أثناء صولاتنا وجولاتنا، اكتشفنا بستانًا كبيرًا يقع في أطراف مدينة "شوش" بالقرب من مصنع الثلج. ولعلّه كان ملكًا لـ"فرح"[1] في زمن الطاغوت. لقد أضفت أشجار الفاكهة - المزروعة بتنسيق وغاية في التنظيم - إلى البستان صفاءً خاصًّا، إضافة إلى الطرق المستحدثة فيه ونطاق (مهبط) للمروحيات. كان ذلك المكان في عهدة مؤسسة جهاد البناء، وقد أحاطوه بشريط شائك. لكنّ حجم البستان الكبير وكثرة أشجاره حالت دون تمكّن طاقم جهاد البناء من جني الثمار في وقتها، وكادت أكثر الحمضيات تجفّ. على كلّ حال، استطلعت وأمير المكان،


 


[1] فرح ديبة زوجة الشاه المخلوع.

 

308


298

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

وقطعنا جزءًا من الشريط الشائك في إحدى النقاط الآمنة، بمقدار يسمح بمرور الدراجة النارية. صرنا ندخل البستان بدراجتنا النارية، ونأكل من أنواع الحمضيات المختلفة حتى نشبع، ثم نأخذ كيسًا ونملأه بالفاكهة ونحمله إلى الشباب في الكتيبة. أصبح الذهاب إلى البستان وقطف الفاكهة وسيلتنا الوحيدة للتسلية لمدة من الزمن.

 

في ذلك الجمع الصغير، دار الحديث حول العملية القادمة في منطقة الهور. لم تكن القوات قد وصلت بعد، وربّما كان ذلك هو سبب ما سمعته يومًا من السيّد أجدر مولايي بأنّه عازم على الذهاب إلى تبريز. مضى هو، وبقينا وحيدين في الكتيبة التي لم يصل عديد قواتها إلى 10 أشخاص! آذتنا العطالة من العمل، وكان علينا أن نُشغل أنفسنا بعملٍ ما. بدأنا بأعمال البناء. قمنا أولًا ببناء مكان للوضوء من قطع الألواح والطّوب المتوافرة. بعد ذلك فرشنا الرمل أمام الخيام حيث كانت الأرض تصبح موحلة بعد المطر، ثم صببنا الإسمنت فوقها. أحيانًا كنّا نذهب إلى الأهواز ونشتري "الكراعين"[1]. الأهوازيون لا يرغبون كثيرًا هذا النوع من الطعام لذلك كان رخيص الثمن. كنّا ننظفها ليلًا، ونقدّمها على مائدة الفطور. بالطبع، لم يُلحظ أيّ نقص في التموين، والإمكانات الموجودة كانت تكفي لكتيبة كاملة، ولا حاجة إلى الإغارة في هذا الأمر.

 

بعد مرور أيام عدّة، عاد السيّد برفقة عدد من العناصر، وبشّرنا بأنّ الحاج "قلي يوسف بور" سيلتحق بكتيبتنا أيضًا. عرفت الحاج قلي من كيلان غرب، وهو من رفاق الدكتور "شمران". شهد له الإخوة الذين عملوا معه عن قرب وتحدّثوا عن شمائله. كانوا يقولون: "كان الدكتور شمران نموذجًا يُقتدى به وكذلك كان تلامذته". حتى ذلك الحين، لم


 


[1] صنف طعام يحضّر من رأس الذبيحة والمقادم.

 

309


299

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

أكن قد رأيت الحضور القويّ للحاج قلي في ساحة المعركة.

 

تم تعيين "رسول طالبي" مسؤولًا للسرية الأولى وهو من العناصر الشابّة، وعُيِّن الحاج قلي يوسف بور مسؤولًا للسرية الثانية، و"علي مددي", وهو من شباب "جلفا", مسؤولًا للسرية الثالثة، لكن لم يكن ثمّة خبر عن عديد السرايا. في تلك الأيام، جاؤوا في طلبنا من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام مرّات عدّة. كانوا يبحثون عن عناصر أيضًا، وأتوا ليقنعونا بالعودة إلى الكتيبة، ولكنّنا أنا وأمير، لم نبدِ أيّ شهامة، ولم نرجع! كان "علي تشرتاب" أحد الذين يعرفونني بشكل جيد. جاء مرارًا في طلبي وسعى لإقناعي بالعودة. صحيح أنّه لا يزال هناك أشخاص في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام تربطني بهم صداقة قديمة، لكنّ رؤية الخيام الساكنة والخالية، ما برحت تجدّد ألمي ووجعي. مع هذا، تردّدنا كثيرًا إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، وكنّا نلتحق بها فقط في لعبة كرة القدم، لأنّ فريقهم هو الأقوى من بين كلّ الفرق. ورغم كلّ ما مرّ، لم أفكر أبدًا بالعودة إلى كتيبتهم بأيّ شكل، وكذلك لم أتحمّل أيّ مسؤولية في كتيبة "أبو الفضل" عليه السلام.

 

في أحد الأيام أتى إليَّ السيّد "أجدر مولايي" عائدًا للتوّ من مدينة تبريز وقال لي: "من المقرّر أن يأتي الحاج قلي والشباب بالقوات من المدينة. جهّزوا أنتم الخيام لسرية الحاج قلي حتى إذا ما وصل الشباب نعموا بالراحة". قررت وأمير أن نبدأ العمل في الصباح الباكر. كان عملًا شاقًّا. استوجب أن ننصب نحن الاثنان 9 خيام جديدة استلمناها، ولكن كلّما ثبّتنا عمودًا زَحزح عمودًا آخر من مكانه، وأعدنا العمل من جديد. كنّا عندما تجهز الخيمة نأخذ أطرافها ونهيل التراب عليها حتى لا ترفعها الرياح بسهولة. كلّ هذه الأشغال في كفّة، وتحمُّل الرائحة المؤذية للخيام الجديدة في كفّة أخرى. إذ علينا في ذلك الطقس الحارّ، أن نلتجئ إلى الخيمة، ونتحمّل الأمرَين معًا، حرارتها ورائحتها الكريهة.

 

310

 


300

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

انتهى عملنا عند حوالي الثالثة بعد الظهر بعد جهد جهيد. لم نكد نأخذ قسطًا من الراحة حتى بدأت أحوال الطقس تتغير.

 

قلت: "أمير! ستهبّ العاصفة ليذهب كلّ تعبنا سدى!".

- يا هذا، لا تكن نذير شؤم!

 

لم تُعر العاصفة أهمية لكلامي، وراحت تقترب بسرعة، ونحن نرى عظمتها وهيبتها. صرخت: "اقفز داخل الحفرة!", ونزلت أنا إلى حفرة بجانبنا نضع فيها النفايات. لم يكن "أمير" يتصوّر أنّ الزوبعة يمكن أن تؤذينا، لكن عندما رأى أنّ الطقس سيّئ جدًّا قفز إلى جانبي. لقد اقتلعت الزوبعة جميع الأوتاد والخيام وكلّ ما وجدته، وحملته معها. تغيّرت معالم المكان في لحظات قليلة. بعد ذلك أطاح الهبوب بكتيبة الهندسة، ثمّ خيام الشرطة العسكرية، والإسناد، وكتيبة سيد الشهداء عليه السلام. تحوّلت الكتيبة إلى خرابة بالفعل، وما كان علينا سوى أن نشكر الله (سبحانه وتعالى) لأنّنا لم نتعرّض لأيّ سوء في تلك العاصفة. تبادلت أنا وأمير النظرات اليائسة. كفّارة أيّ ذنب ارتكبناه يا ترى هو تحمّلنا للرائحة الكريهة للخيام الممزقة الرثّة؟! لم تعد أيٌّ من تلك الخيام صالحة للاستعمال. ومنذ ذلك اليوم، أصبح نقص الخيام في الفرقة ظاهرًا بشكل جليّ.

 

لم يمضِ وقت طويل حتى وصل الحاج قلي مع عدد من الشباب، فأجبرنا على الإغارة على تجهيزات الفرقة المستقرة بعد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام! وريثما نحصل على الخيام الجديدة، غطّينا سقف المصلّى بالخيام الممزّقة، وأقمنا هناك.

 

وصل العناصر الجدد الذين سينضمّون إلى سرية الحاج قلي. كانت الساعة التاسعة صباحًا، ولم ينجز الحاج قلي والإخوة تجهيز أكثر من خيمتين فقط حتى ذلك الحين. أحضرنا القضبان والخيام التي استولينا

 

311


301

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

عليها حتى ينصب القادمون خيامًا لهم. كان هؤلاء من مدينة "أردبيل". يتميز أغلب شباب أردبيل بهذه الخصلة، وهي أنّه في حال كان مسؤولهم من بينهم عملوا بكلّ جوارحهم، وإلا، فلن يستطيع أيّ كان التعامل معهم. لفتني وضع هؤلاء العناصر الذين يأتي أكثرهم لأوّل مرّة إلى الجبهة. لقد خلعوا ملابسهم في هذا الطقس الحارّ حيث كانت عواميد الخيام تحمى لدرجة أن تحرق أيدينا عندما نلمسها. خلعوا قمصانهم، وقاموا بعملهم مرتدين الفانيلات. تمزّق مصراننا من الضحك، في حين كان السيّد أجدر الذي يولي أهمية كبيرة للانضباط يشاهد ما يحدث ويستشيط غضبًا. وصل به الأمر أن اتصل بالمقرّ غاضبًا، وقال: "أيّ عناصر أعطيتموني؟", وعلا صوت الحاج قلي أيضًا: "أنا لا أريد هؤلاء".

 

مضى ذلك اليوم، ولكنّهم أثاروا الفوضى أيضًا في الأيام التالية. كان يحضر في البرنامج الصباحي فقط ما يقرب من نصف العدد الإجمالي للسرية البالغ حوالي 90 فردًا. استمرّت الحال على هذا المنوال، وثبت للجميع أنّ شباب أردبيل شأنهم شأن شباب أرومية الذين يتقنون عملهم عندما يكون شخص من مدينتهم في الكادر القيادي للسرية. أرسلوا آنذاك إلى كتيبتنا أحد أفراد المقرّ يدعى "كنجكاهى", وكان أردبيليًّا، وعُيّن نائبًا ثانيًا لمسؤول الكتيبة. مع مجيء هذا الأخ حدث تحوّل في سرية الحاج قلي، وأصبح شباب أردبيل على قدر من النظام والفاعلية لدرجة أنّهم صاروا يحضرون جميعًا في الباحة، بل وحتى يركضون دورة كاملة قبل البرنامج الصباحي، ثم يتهيّأون لبدايته. وهكذا صارت رؤيتهم تبعث البهجة في القلوب. تدريجيًّا، ومع التحاق عناصر جدد بها، أصبحت كتيبة "أبو الفضل" من الكتائب المنظّمة والجاهزة في الفرقة.

 

كنت قد قرّرت سابقًا أن أبقى إلى جانب الحاج قلي وفي سريته،

 

312

 


302

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

لكنّني أعرضت عن هذا الأمر لأسباب مختلفة، وأهمها أنّني لم أرد أن أتولّى أيّ مسؤولية، وقد لاحظت أنّهم في قيادة الكتيبة يفكّرون بإعطائي مسؤولية ما منذ أن أتيت إلى الكتيبة. لم أرغب بذلك وشئت البقاء كعنصر حرّ[1]. فبالرغم من أنّني في العمليات أقوم بكلّ عمل أقدر عليه، لكنّ قبولي للمسؤولية سيحتّم عليّ مراعاة النظم والنظام في حين أنّني لست من أهل النظام. مثلًا، كنت من الأشخاص الذين يشكّل انتعال الـ"بوتين" مصدر عذاب لهم، ودائمًا ما وجّهوا لي الملاحظات في هذا الشأن. عندما وضعوا قانونًا في الكتيبة يقضي بأن يأتي الجميع إلى الباحة منتعلين الـ"بوتين", ألزمت نفسي، احترامًا لهذا القانون، بأن أنتعل على الأقلّ حذاءً كتانيًا عندما أذهب إلى الباحة ولا أبقى حافي القدمين! وهكذا الحال أيضًا في بقية الأمور. ربّما استطعت الانضباط والالتزام بالقوانين لمدّة محدودة، لكن كان من الصعب عليّ، وأنا أقضي معظم أيامي في الجبهة، أن أراعي هذه القوانين دائمًا. ولو أصبحت مسؤول فصيل، فمن المؤكد أنّه عليّ التصرّف بطريقة تعكس للعناصر التزامي بالقوانين، لأستطيع التأثير عليهم فيما بعد.

 

لم أبقَ عند الحاج قلي أيضًا. تحدّثت مع السيّد أجدر بالموضوع، وطلبت منه أن يخصّص لنا إحدى خيام التجهيزات الصغيرة، لكي أبقى فيها أنا وأمير إلى حين البدء بتنفيذ العملية. وللإنصاف، فقد وافق السيّد بكلّ رحابة صدر وارتاح بالنا.

 

بدأ عهد استثنائي بالنسبة إلينا. كنت وأمير نقضي أيامنا وحدنا في

 


[1] لم أقبل أيّ مسؤولية حتى نهاية الحرب باستثناء 15 يومًا قضيتها مسؤولَ فصيل. ذات مرّة خلال عملية "يا مهدي" ولما كان هناك فعلًا نقص في عديد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، قلت بنفسي للقائد لا تسمّني مسؤول فصيل، لكن إن لزم الأمر أستطيع قيادة فصيل، وإن استوجبت الظروف أستطيع قيادة سرية أيضًا، وقد تحقّق ذلك عمليًّا.

 

313

 


303

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

خيمتنا الصغيرة. أيضًا لم نستفد كثيرًا من طعام الكتيبة، وكنّا نشتري البندورة والبيض من دزفول ونقوم بإعداد الـ"أوملت"[1]. كنّا نذهب معًا إلى البرنامج الصباحي. كان كلّ فصيل يقف في مكان، كنت وأمير نقف وحدنا في مكان آخر وكل فصيل يركض عناصره بعضهم إلى جانب بعض. ونحن يركض أحدنا إلى جانب الآخر! كانت تلك أفضل أيام عمري. لم نستمتع أبدًا بهذا الشكل في أيّ كتيبة سوى كتيبة "أبو الفضل"، من جهة كوننا معًا وتنفيذنا البرنامج الذي نريد.

 

خلال هذه المدّة، أصبحتْ علاقتنا بالسيّد أجدر مولايي أكثر حميمية. لم يكن السيّد شخصًا مغرورًا، ورغم أنّه قائد كتيبة، لم يكن يرى عيبًا أن يسأل عن شيء لا يعلمه. أحيانًا، كنّا نجتمع معه ونتحدّث عن مشاكل الكتائب والحرب. وأحيانًا نحلّل عمل الكتائب في العمليات المختلفة، وكان كلامي يقنعه في بعض الموارد. تمحور أكثر كلامنا في تلك الأيام حول عملية بدر.

 

في تلك الأيام أصبح الكلام عن الذهاب إلى سدّ (دز) والتدرّب على السباحة أكثر جدية. كان السيّد أجدر يقول، وهو صاحب السريرة النقيّة، إنّه ولرفع الجهوزية لدى العناصر، يجب أن يذهبوا إلى سدّ (دز) مشيًا على الأقدام. لإنجاز هذا العمل كان علينا السير حوالي 35 ساعة في منطقة جبلية وصخرية، والاستراحة مرّة كلّ 6 ساعات. واقترح السيّد وضع خزّان مياه وموادّ غذائية في النقاط المحدّدة لاستراحة العناصر، وذلك قبل البدء بالتحرّك. أقنعْنا السيّد أنّه لا يمكن تنفيذ برنامج صعب كهذا مع عناصر لم يخضعوا بعد لأيّ تدريبات، واقترحنا إرجاء ذلك الأمر إلى حين العودة. طبعًا قلت لهم بصراحة إنّني لن أمشي لا في طريق الذهاب ولا الإياب!


 


[1] عجّة: نوع طعام يعدّ من البيض والطحين.

 

314


304

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

بعد أيام عدّة، جمعنا عتادنا وانطلقنا بالسيارة إلى سدّ (دز). كان وضع مياه السدّ آنذاك جيّدًا. وقد سمعت سابقًا أنّ الاختلاف في مستوى الماء بين الفصول الباردة والحارة يصل إلى 70 أو 80 م. قال الشباب إنّ عمق المياه يصل في بعض النقاط إلى 300 م وربما أكثر. وكان هذا الكلام يزيد من الخوف لدى من لا يجيدون السباحة.

 

استقرّت كتيبة "أبو الفضل" بالقرب من قرية لا يزال أهلها يزاولون حياتهم العادية. في الظروف العادية، كان من الصعب انتقال كتيبتين إلى ذلك المكان، لكن، عملت الجرافات على إحداث باحة يمكن أن تستقرّ فيها ثلاث أو أربع كتائب. في تلك الأيام، بالإضافة إلى كتيبة "أبو الفضل"، كان عناصر الإسناد أيضًا يتدرّبون، وتقرّر أيضًا أن ينتقل عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلام إلى هناك. كان قرب الكتائب بعضها من بعض مصحوبًا بالمشاكل، وأتاح ذلك إمكانية هروب الشباب من التدريب والاندماج مع العناصر الآخرين، لكنّهم كانوا يعلمون أنّهم بحاجة إلى هذه التدريبات، وتصرّفوا بمسؤولية حيالها.

 

بدأ التدريب الذي تمركز في أكثره على السباحة. صعدنا الجبال أحيانًا كجزءٍ من البرنامج الصباحي، وكان الشباب يستمرّون في تسلّقها لمدّة ثلاث إلى أربع ساعات، ما ساعدهم ليصبحوا شيئًا فشيئًا أكثر قوة وجهوزيّة. أمّا في أيام التمرين على السباحة، وبعد تلاوة آيات من القرآن الكريم، كانت الطوابير تنتظم وتتحرّك باتّجاه الماء. وقبل النزول فيه كان على الجميع ارتداء السترة الخاصّة بالسباحة. سمعنا في الأيام الأولى الكثير من الأسئلة والأجوبة حول هذه السترة. كان أغلب العناصر يجهلون فائدتها، وعندما قيل لهم إنّ وزن الإنسان يخفّ بارتدائها ويطفو على وجه الماء، لم يصدّقوا ذلك. ارتدى بعضهم لخوفهم سترتَين

 

315


305

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

إحداهما فوق الأخرى! وتكفّل الزمن بتحطيم هذا الخوف حتى يتمكنوا من السباحة. كان "حسين التبريزي", أحد الذين نمازحهم كثيرًا بسبب أعمالهم، نظرًا لسمنته وخشيته الغرق حتى مع سترة النجاة. وكم قفزنا بأنفسنا في الماء كي نثبت للعناصر أنّه بارتداء السترة لا يمكن لأحد الغرق. أحيانًا اضطررنا لدفع الشباب إلى الماء بغتةً لإزالة توجّسهم، لكن استغرق الأمر وقتًا حتى بدأوا يتقدّمون في التدريبات.

 

كان التدريب في قسم من الماء إلى جانب الجبل وتمّت إحاطته بعدد من الجسور فصار المكان أشبه بحوض سباحة، واستوى التدريب على عاتق ثلاثة مدرّبين. شيئًا فشيئًا، تحسّن أداء الإخوة بشكل ملحوظ، ووصل الأمر لدرجة أن أصبح جميع العناصر متمكّنين من سباحة الضفدع، وقادرين على البقاء في الماء ثلاث أو أربع ساعات على الأقل. باتت التدريبات المستمرّة والصعبة على السباحة وتسلّق الجبال الصعبة فعّالة، وقد آتت ثمارها.

 

بعد حوالي ثلاثة أسابيع، أضحى الشباب يسبحون بدون سترة في مياه سدّ (دز)، حيث تصل المسافة بين الضفّتين هناك إلى حوالي 5 كلم. وقد وصل مزاح الإخوة في الماء إلى أوجه في تلك الأيام، حيث يقتربون من أحدهم بهدوء، ولا يكاد ينتبه لهم حتى يكونوا قد أغرقوه في الماء.

 

في تلك الأيام، جاء والد "أمير" إلى منطقتنا. إنّه "علي آغا" نفسه، سائق الشاحنة التي تحمل صهريج الماء! وقد أتى إلى المنطقة منذ حوالي 45 يومًا، ولم نعلم بذلك إلّا عندما جاء لرؤية أمير. لقد فرح باللقاء الأب والابن معًا، ولم تكن سعادتي بأقلّ من سعادة أمير. أراد السيّد "علي آغا" أخذ إجازة والذهاب إلى تبريز، وكانت فرصة جيدة لي أنا أيضًا لأذهب إلى المدينة لمدّة 4 إلى 5 أيام، فقد أخبرتني عائلتي آنذاك بأنّهم يواجهون أزمة في الحصول على قرض لاستكمال بناء البيت، وأنّه

 

316

 


306

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

عليّ الذهاب شخصيًّا إلى المصرف لحلّ المشكلة. تشوّش ذهني. فمن جهة كنت أعلم أنّ أيام التدريب شارفت على نهايتها وقريبًا سيطلعوننا على تفاصيل منطقة العملية، ومن جهة أخرى، كانت عائلتي في محنة. تحدّثت إلى السيّد أجدر وطلبت منه إجازة، وحصلت عليها. في ذلك اليوم ركبت إحدى حافلات الفرقة برفقة الأب والإبن أعزّ أصدقائي، وانطلقنا من دزفول نحو تبريز.

 

علمت في تبريز أنّ المال الذي خصّصه والدي لبناء المنزل قد نفد، وأنّه ذهب إلى مصرف الإسكان ليستحصل على قرض مقداره 220 ألف تومان، لكنّ المصرف لم يعطهم سوى 50 ألف تومان. استفدنا كثيرًا من هذا المبلغ في استكمال بناء المنزل، لكنّنا كنّا مجبرين من جديد على تأمين المزيد من المال. ذهبت في أوّل فرصة إلى رئيس مصرف الإسكان في مستديرة "ساعت", وطلبت إليه أن لا يضغط علينا فقد كنّا غارقين في همّ الجبهة والحرب حين أخبرونا من تبريز بهذه المسألة، علمًا أنّ الحصول على قرض هو أمر قانوني أيضًا. سارع رئيس المصرف إلى متابعة مشكلتي وحلّها، وحصلت على المال وسلّمته لوالدي. ولمّا لم يكن لديّ أيّ عمل آخر في المدينة، قفلتُ وأمير في اليوم التالي عائدين إلى مكان استقرار فرقتنا.

 

عندما وصلنا إلى سدّ (دز)، وجدناهم يتحدّثون عن تنفيذ مناورة في الليلة نفسها. كان علينا الانطلاق بالقوارب باتجاه التلال، والنزول إلى الماء قبل 700 م من الشاطئ، ثم السباحة باتجاه التلال التي تبدو كجزيرة في وسط المياه، لنسيطر على منطقة العدو المفترض.

 

تهيأت السرايا والفصائل للانطلاق كلّ إلى المحور المحدد له. وما إن حان وقت التحرك حتى نزل الجميع إلى الماء. كان الطقس باردًا،

 

317


307

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

وقد نزلنا بملابسنا إلى المياه التي كانت نسبيًّا أكثر دفئًا من الخارج. أثناء السباحة، وقع نظري على "حسين" ذلك الشابّ السمين. لقد أتقن السباحة لكنّه لا يزال بطيء الحركة، وقد تخلّف عن الآخرين. ناديته: "أسرع!", أجابني: "لا أستطيع القدوم! لقد تعبت!". كان متأخرًا عنّي مسافة 40 م تقريبًا. ناديته مرّة أخرى: "هيا، سوف يطلقون قذائف الـ (B7) من الأعلى على هذا المكان!", وما إن سمع بهذا الكلام، حتى سبح بسرعة ووصل قبلي إلى الشاطئ!

 

كان الخروج من الماء عملًا شاقًّا في ظلّ برودة الطقس الشديدة. بدأت المناورة. لقد فكّر الإخوة سابقًا بجميع التفاصيل، وبدأوا يمطروننا بوابل نيرانهم الغزيرة. أمّا نحن، فقد انتظمنا وفقًا للخطة التي تدرّبنا عليها، وسيطرنا على المكان الذي نريد. لقد أنجزت جميع الأمور على خير وسلامة. ومع بزوغ الفجر، تجمّعنا في ذلك المكان لنتناول طعام الفطور، في لحظات ملؤها الصفاء وراحة البال، وقد خرجنا من التدريب والمناورة مرفوعي الرأس. ركبنا في القوارب، وتوجّهنا إلى مقرّنا. لقد انتهى كلّ شيء. كان علينا أن نجمع أغراضنا وتجهيزاتنا، ونرجع إلى مقرّ الفرقة. لكن، أراد قائد الكتيبة تنفيذ اقتراحه بعودة العناصر سيرًا على الأقدام.

 

عرفت القوات بموضوع العودة سيرًا على الأقدام. وقد قلت سابقًا إنّني لا أستطيع أن أمشي كلّ تلك المسافة، لكنّ "أمير" أراد الرجوع راجلًا مع القوات. تحرّك عناصر الكتيبة صباحًا.

 

جمعتُ وعدّة أشخاص آخرين تجهيزات الكتيبة، وانطلقنا باتجاه مقرّ الفرقة. انطلقت أيضًا سيارتان أخريان لكي تضعا الماء والغذاء للعناصر الراجلين، في الأماكن المحدّدة مسبقًا.

 

وصلنا ظهرًا إلى مكان تمركز الفرقة. كانت خيمة القيادة وخيمتنا

 

318

 


308

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

الوحيدتين اللتين بقيتا على حالهما، وقد وُضّبت الخيام الأخرى ونُقلت إلى جانب سدّ (دز)، لأنّ عدد الخيام كان قليلًا، ومن غير المسموح أن تنصب كتيبة واحدة خيامًا لها في مكانين منفصلين. في تلك الليلة نمت لوحدي في غياب الكتيبة.

 

بعد صلاة الصبح، بدأت طلائع الإخوة تصل شيئًا فشيئًا وهم مرهقون، بعد حوالي 30 ساعة من السير على الحجارة وبين الصخور، لذا منحوا جميع العناصر استراحة لمدّة يومين. رحتُ أجول بين الشباب، وأرى كيف أنّ أحذيتهم تمزّقت وظهرت البثور في أرجلهم. قال "أمير" إنّه عندما كان يصعد الجبل ليلًا، غلبَ عليه النوم وكاد يسقط إلى الأسفل. على كلّ حال فقد نفّذ السيّد مشروعه، ولم يكن سيئًا لاختبار القوات.

 

حدّثني السيّد أجدر ذات مرّة عن الهور وقال: "من المقرّر أن نذهب إلى مكان حيث البعوض فيه يلدغ من فوق الأحذية!".

 

بعد ذلك أراني علبة كبريت، جعلها نعشًا لبعوضة ضخمة! إضافة إلى إخلاصه في العمل وإيجابياته الأخرى، كان السيّد أجدر صاحب دعابة، ما جعلنا نمضي في كتيبة "أبو الفضل" أيامًا جميلة. بعد يومين من الراحة، تقرّر أن نتحضّر للانطلاق إلى الهور.

 

إنّها المرّة الأولى التي نذهب فيها إلى ذلك الجزء من الهور. ذهبت قبل ذلك إلى جزيرة مجنون، ولكن للهور طبيعته الخاصة. لقد رأيت إحدى بعوضاته، وسمعت عن أسماكه ذات الشارب، فئرانه وحيواناته الأخرى. كالعادة، بعد الغروب، ركبنا الشاحنات[1] وانطلقنا ويفصلنا عن الجبهة (الخط) مسافة حوالي 100 كلم. انتقلت كلّ سرية وعديدها حوالي 100


 


[1] كنّا نستخدم الشاحنات اتقاءً من رصد طائرات استطلاع العدو "آواكس".

 

319


309

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

عنصر، في شاحنة واحدة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أغراض كلّ شخص وذخائره، يمكن أن نتوقع كم سيكون ضيّقًا المكان الذي سنقضي فيه عددًا من الساعات. كان من الطبيعي أن لا يشعر أحد بالراحة، ويرتفع صياح الإخوة. هذا عطشان ويريد الماء في تلك الظروف، وذاك يريد الذهاب إلى المرحاض، وآخر يثير الفوضى ويشاكس الشخص الجالس إلى جانبه. وأنا من عادتي أن تزداد مناوشاتي في ظروف كهذه. جلس "أمير" إلى جانبي، وتلاه "أيوب يلدوغي" الذي يصغرنا سنًّا، وكان كذلك مشاغبًا ومحطّ أنظار الجميع، ومن ثمّ "علي نمكي" الذي تميّز بأسلوبه الخاصّ في المزاح أيضًا[1]. كان الحاج قلي الأكثر شغبًا من بين مسؤولي السرايا. ركب مسؤولو السرايا أيضًا، إلى جانب السائق، وكان لكلّ شيء حسابه معهم.

 

أخيرًا، توقفت الشاحنة. ترجّلنا فوجدنا أنفسنا إلى جانب الماء. كان ذلك في الصباح الباكر. ذهبت مباشرة باتجاه الدشم التي بدا من الواضح أنّها دشم الإشارة والإسعاف. كنتُ عطشًا.

 

استيقظ الإخوة من نومهم، وطلبنا منهم الماء، ثم تحدّثنا قليلًا إلى أن ترجّل كلّ العناصر. كانت المخافر تبعد حوالي 6 كلم عن خطّ العراق الأمامي. لم يعد المكان هناك مستويًا مثل مواقع الـ"بد", إذ أصبحت بعض المناطق التي سيطرنا عليها في عملية بدر أكثر ارتفاعًا من غيرها بسبب كومات التراب التي رماها العراقيون هناك[2].

 

شيئًا فشيئًا، أصبحنا على معرفة جيدة بالمنطقة. كان الخطّ

 


[1] عام 1982م قطعت إحدى يديه من المعصم، ولكنه لم يترك الجبهة.

[2] كانت تلك المنطقة أبعد نسبيًّا عن الخطوط الأمامية، وقد استقرّ فيها عناصر الإسناد إضافة إلى سلاح الهاون 60, 80 وغيره من الأسلحة. كان إطلاق قذائف ثقيلة كالهاون 120 يحدث ضغطًا على الأرض. لأنّ الأرض هناك لم تكن صلبة، بل كانت عبارة عن تراب حمل بواسطة القوارب ووضع في تلك المنطقة، لم تكن مُحكمة كما يجب لتوضع عليها مدفعية هاون 120ملم. لهذا فقد ربضوا مدافع الهاون 120 والميني كاتيوشا على جسور كبيرة من نوع "خيبر"، وكانت الدشم التي بنيت على الجسور -بواسطة أكياس التدشيم- إلى جانب المدافع وأسلحة الهاون تشاهد بوضوح.

 

320


310

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

الدفاعي للعراق في تلك المنطقة في اليابسة، أما خطّنا الدفاعي، فكان عبارة عن كمائن على الجسور وبين القصب. لقد بنينا دشمًا على جسور قليلة العرض، ويتراوح طولها من 50 إلى 100 م. أحيانًا ارتفع بعضها على شكل تقاطع طرق أو ساحة صغيرة. على كلّ حال، كان أيّ تحرك فوقها ممنوعًا خلال النهار بسبب وضع المنطقة، لذا أصبحت حركة نقل العناصر والتموين والذخائر تتم ليلًا تفاديًا لأيّ خطر محتمل. مع هذه الحال، كان المكان هناك خطيرًا، والعراقيون يستطيعون أن يقلبوا الأمور رأسًا على عقب باستخدام 5 أو 6 قوارب. عندما تمركزت القوات على اليابسة، تقرّر أن تبقى سريتان فيها لتعمل كسرايا دعم قتالي، وأن تتقدّم سرية إلى الأمام وتتمركز في ثلاثة كمائن، أُعدّت سابقًا في الهور.

 

بسبب ظروف المنطقة الصعبة، لم تكن القوات المتقدّمة تستطيع البقاء أكثر من 15 يومًا في المكمن. وقالوا، أساسًا يجب أن لا نخرج من الدشمة خلال النهار، وعلينا أن نقوم بالحراسة ليلًا على الجسور. كان عمل الشباب في الكمين صعبًا. تقدّمت في البداية سرية الحاج قلي. لم نكن أنا وأمير قد التحقنا بأيّ سرية حتى ذلك الوقت. كان من المقرّر أن يستلم عناصر سرية الحاج قلي مكان شباب زنجان الذين تمركزوا هناك من قبل. للإنصاف، عرفنا شباب زنجان كعناصر جيدين، وإحدى حسناتهم أنّ 7 أو 8أشخاص منهم بقوا في الكمائن (المتقدّمة)لأجلنا مع رغبتهم بالرجوع إلى الخطوط الخلفية، وذلك ليطلعوا العناصر القادمين حديثًا على تفاصيل وأحداث المنطقة. أدركنا سريعًا أنّه يجب علينا دائمًا التحدّث بهدوء وبصوت منخفض، تلافيًا لإمكانية أن يسمعنا العراقيون. كما وعند الذهاب إلى الكمائن، علينا أيضًا إطفاء محركات القوارب قبل 200 م من المكمن، والتحرّك بواسطة التجديف حتى لا ينتبه العدو إلى أصواتنا. وقد حصل مرّات عدّة أن سقطت بعض قذائف الهاون في النقطة التي تُطفأ فيها المحركات، بعد

 

321

 


311

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

لحظات من إطفاء المحركات.

 

بناءً عليه، كان العيش في ظلّ ظروف كهذه بالفعل أشبه بالإقامة في سجن اختياري. لقد عرّفنا شباب زنجان إلى النقاط التي يحتمل نفوذ العدو منها بشكل كبير، وكذلك عرّفونا إلى المناطق المزروعة بالألغام، وعلى النقاط الحساسة أيضًا. رجعت وأمير برفقة السيّد إلى جانب خيمة الطوارئ وبقينا هناك. نُصبت هذه الخيمة على الجسور داخل الماء، حيث تمركزت الدفاعات الجوية أيضًا. عدا عن المكامن ودشمها، أمسى بقيّة الشباب يقضون أوقاتهم في نقاط مختلفة من الهور على الجسور، أو داخل الخيام المنصوبة على اليابسة.

 

كان لذلك الجزء من الهور، والمعروف بـ"شطّ علي" طبيعته الخاصة. فطول القصب يفوق حتى طول الدّفاعات الجوية، ليُشكّل ساترًا جيّدًا من رؤية العدو لنا، ويمنعه من إصابة أهدافه بدقة. أمّا الحيوانات التي اتخذت من منطقة الهور موئلًا لها، فكانت حقًّا عجيبة أيضًا. فئران ضخمة، لا تخاف من الإنسان وعددها كبير، ما استلزم دائمًا اتخاذ تدابير لازمة ضدّها. فوجئنا بهذه الفئران تغير على طعامنا وتأكل من كلّ ما نملك! لم نجد أيّ وسيلة لمواجهتها، ولم نجد أمامنا خيارًا سوى وضع تمويننا داخل حقيبة الظهر، وفي علب محكمة الإغلاق ليكون بمأمن من سطوتها. أحيانًا، كنّا نستيقظ ليلًا على صوت تحركها. وقد حدث مرّات عدّة أن فتحنا أعيننا ورأينا فأرة تقبع فوق رأسنا وتحدّق بوجهنا، أو أخرى تثب وتقفز فوق أرجلنا. إذا ما استيقظ شخص ما ليلًا للذهاب إلى المرحاض، أمكنه رؤية 30 إلى 40 فأرة تجلس خلف بعضها البعض في صفّ واحد. في تلك الظروف شاهدنا للفئران في كلّ يوم قصة. كانت تكثر ليلًا، وتعمل عند الضرورة برشاقة وحذاقة وسرعة. لقد شكّلت

 

322

 


312

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

هذه الفئران سببًا لخوف وانزعاج غالبية الشباب.

 

كان في الهور أيضًا أسماك مخيفة أكثر من الفئران وأخطر منها. من المستحيل أن لا تأتي هذه الأسماك أثناء غسل الأطباق. صار الشباب يطلقون عليها اسم "بوغلي باليغ"[1]، حيث يوجد على طرفي وجهها شيء كالشارب، إذا ما اصطدم بيد الإنسان شقّها! لذا بات غسل الأطباق مصحوبًا بالخوف. ويبدو أنّ تلك الأسماك كانت تأتي لتأكل ما يتبقى في الأطباق من طعام. بالطبع عرفنا أنّها تأكل أيضًا الفضلات البشرية. كانت مجاورتها مصيبة. ومع أنّنا كنّا نعيش وسط الماء، فقد وصل بنا الأمر إلى أن نلجأ إلى مصدر آخر للمياه لغسل الأطباق، لننجو من تلك الأسماك الخطيرة. جعلت هذه الحيوانات الحياة في الهور وبالأخصّ في دشم المكامن أكثر صعوبة. آنذاك وحيث لم يكن لدينا شيء آخر نُرفّه به عن أنفسنا، كانت - الفئران أحيانًا - تصنع قصة ما، تكسر بها رتابة الأيام قليلًا. وقد تعلّم الشباب كيف يتكيفون مع تلك الأوضاع.

 

لم نجد في الهور ما اعتدنا عليه في الجزيرة سابقًا من تنوّع الأعمال وطبيعة الحياة. لم يُسمح لأيّ أحد بالذهاب إلى دشمة الكمين المجاور، أو الخروج من الدشمة والوقوف على الجسر. كان اجتماع القوات ممنوعًا لأيّ سبب كان، وهذه الأسباب زادت من احترامي وإعجابي بالشباب الذين أمضوا أوقاتهم في الكمين في تلك الظروف. تم وضع قارب أو قاربين تحت إمرة هذه الكمائن المسمّاة بأسماء الشهداء المقدّسة، وتعود فلسفة وجودها إلى نقل الإخوة في حال جرحهم، فلا يخسرون حياتهم بانتظار وصول قوارب من الخلف، أو للتمكّن من التراجع بسرعة في حال جاء أمر بالانسحاب. جُهّزت هذه القوارب بدوشكا، ليستخدمها الشباب


 


[1] الأسماك ذات الشارب.

 

323


313

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

فقط في الحالات الاضطرارية.

 

حصلت اشتباكات مباشرة قليلة مع العدو في منطقة الهور، لكنّ احتمال تقدّمه في المعابر المائية أو مواجهته فيها لم يكن معدومًا. قال الإخوة إنّ عناصر المعلومات في الجيش العراقي، أتوا إلى المنطقة بواسطة القارب قبل وصولنا بعدة أيام، واقتربوا من خيمة الطوارئ حيث لم يكن لدينا دشمة حراسة، بل قوارب مناوبة فقط، كانت حينها تقوم بدوريات في الممرات المائية. كان من الواضح أنّ القارب العراقي عبر من المساحة الفاصلة - وقد وصلت أحيانًا إلى 1 كلم - بين دشم الكمين إلى ذلك المكان. بالطبع، لم يأتوا من أجل الاشتباك، لأنّه في هذه الحال كان سيتمّ أسرهم أو قتلهم بكلّ سهولة! ولكنهم أقبلوا بهذه الجرأة لجمع المعلومات. قبل تمركزنا بيوم واحد بالضبط في الهور، اشتبكت دورية من قاربين للإخوة من زنجان مع دورية عراقيّة في وسط الممر المائي، فقتلوا أفرادها، وأخذوا قواربهم أيضًا.

 

تولّت ثلاثة فصائل من قوات سرية الحاج قلي المسؤولية عن الكمائن الثلاثة التي تشكل خطّ دفاعنا الأول. كان الحاج قلي نفسه موجودًا في دشمة كمين آخر، يقع على بعد 2 كلم خلف تلك الكمائن. وكانت خيمة الطوارئ أيضًا تبعد حوالي 2 كلم عن دشمة الحاج قلي، وتتقدّم على باقي الدشم بحوالي 1300 م. استقرّ سائر عناصر كتيبة "أبو الفضل" في مكان يبعد حوالي 4 كلم عن الخطّ الدفاعي الأول، وغالبًا ما كنت أبقى في خيمة قرب الطوارئ برفقة 5 أو 6 أشخاص من الإخوة، بعضهم من عناصر الوحدة البحرية، ومن هؤلاء "كريم قرباني"، و"رضا إسكندري", وشخص آخر عنصر إشارة، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين، أما "أمير" فكان في دشمة الكمين. عملت واثنان آخران كبريد، وقد وضعوا تحت تصرّفنا ثلاثة إلى أربعة قوارب استخدمناها في إيصال التجهيزات والذخائر والتموين إلى الإخوة المتمركزين في الكمائن، وأحيانًا في

 

324


314

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

تسليمهم الرسائل التي تصلهم من المدينة. كنت أحيانًا أبقى مع الإخوة في الكمين، وأحيانًا أخرى أذهب إلى الخلف حيث تمركزت الكتيبة. بقي الإخوة في الكتيبة عاطلين من العمل أغلب الأوقات، ومن فرط البطالة رحنا نركب أحيانًا على متن الزورق، ونذهب بعيدًا قليلًا ونسبح لنتسلّى. لم يكن هناك أيّ وجود للأسماك في المكان الذي نسبح فيه. هنا أدركنا أنّ أكبر تجمّع للأسماك والفئران هو في منطقة الكمائن نفسها. لعلّ السبب في ذلك هو بقايا طعام الإخوة التي لا مناص من رميها في الماء.

 

في صباح أحد الأيام، كنت قد ذهبت إلى دشمة الحاج قلي، حين بدأت أصوات قذائف هاون العدو تصل إلى مسامعنا، الأمر الذي قلّما حدث صباحًا. بعد دقائق قليلة سمعنا الخبر على اللاسلكي، وأحضرت قوارب الكمائن عددًا من الجرحى إلى خيمة الطوارئ. لقد استشهد ثلاثة أشخاص في مكانهم، أحدهم أيوب يلدوغي. احترق قلبي كثيرًا لأجله. كان من بين الشهداء أيضًا مسعف من "مرند" وأحد الإخوة من تبريز. إضافة إلى ذلك، فقد جرح أربعة من الإخوة من بينهم "عيسى غيور" و"لطفي" الذي تولّى مسؤولية أحد الكمائن. حتى ذلك اليوم، لم تكن خيمة الطوارئ التي كان يؤمّنها دائمًا عناصر حراسة، قد شهدت هذا العدد من الشهداء والجرحى في الوقت نفسه. اتصلوا من الكتيبة وسألوا عن الموضوع. قلت لهم لا أعلم. في الواقع لم أرد أن أخبرهم بما حدث. جئت إلى الطوارئ ووجدتهم قد قاموا بالإسعافات الأولية اللازمة لعيسى والجرحى الآخرين، وشرعوا في نقلهم إلى الخطوط الخلفية. في تلك اللحظات، وصل قائد الكتيبة السيّد أجدر مولايي. كان الغضب باديًا في وجهه وسلوكه. لقد أكّدوا مرارًا وتكرارًا من قبل على الإخوة في الكمين أن لا يتجمّع بعضهم إلى جانب بعض، ولكن كان من الواضح أنّ عناصر من كمينين مختلفين اجتمعوا لسببٍ ما، ويحتمل أنّ العدو رأى تحرّكهم وقصفهم بالهاون.

 

325

 


315

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

الدوشكا، وعلى عناصر الإسناد توجيه صواريخ الكاتيوشا بدقّة، بينما مهمتنا أنا وأمير وعنصرين آخرين إحضار الذخائر ليوم الغد. أعدّوا قائمة بالذخائر المطلوبة وسلّموها: 40 قذيفة هاون 120ملم، 60 قذيفة هاون 60ملم، قذائف B7، قنابل يدوية، ذخائر للـ"ميني كاتيوشا" و... فلضرب مواقع العدو، يجب عدم استخدام الذخائر المجهزّة مسبقًا للأسلحة، وفي حال استخدامها لأيّ سببٍ من الأسباب، يجب تأمين بديل عنها من الخطوط الخلفية فورًا.

 

إلى الخلف بحوالي 60 كلم، إلى جانب الجادّة التي تصل الجزيرة بالأهواز مرورًا بسوسنكرد وخرّمشهر، كان يوجد مخافر قديمة تعود إلى زمن ما قبل الحرب، وكان في المنطقة أيضًا مخزن للذخائر. قطعنا أنا وأمير جزءًا من الطريق بالقارب، والجزء الباقي بالسيارة حتى وصلنا إلى المخزن. لم يكن المسؤول الأساسي عنه هناك، وبدا الشخص الذي وجدناه هناك حديث العهد بالعمل، ولا علم له بالأسماء والتواقيع. خطر على بالنا أن نزوِّر كتاب السيّد للحصول على كمية من الذخائر أكبر من تلك التي طلبها في كتابه. احتفظنا بالكتاب الأساسي وكتبنا رسالة جديدة بأرقام أكبر. كانت الذخائر التي سلّمونا إيّاها أقلّ من الكمية المذكورة في الرسالة! نسّقنا سريعًا مع ثلاث سيارات تويوتا وحملنا فيها الذخائر. اتفقنا على العودة لتحميل بقية الذخائر بعد تفريغ الحمولة الأولى. فكرنا أنّه إذا جاء المسؤول الرئيسي للمخزن عند عودتنا سينكشف أمرنا لأنّه يعرف إمضاء السيّد، وفي هذه الحال لن يمتنع عن إعطائنا الذخائر وحسب، وإنّما سيعتقلوننا بسبب الكذب، وستسوء الأمور. لذا، بعد أن أفرغنا حمولة الذخائر ورجعنا، أرسلنا أحد الإخوة ليستطلع لنا الأوضاع. جاء صديقنا هذا وقال إنّه شرب كوبًا من الشاي مع المسؤول الرئيسي للمخزن وتبادل معه أطراف الحديث. أدركنا أنّه يجب أن لا نكمل طريقنا ورجعنا من فورنا!

 

327


316

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

انشغلنا حتى عصر ذلك اليوم بنقل الذخائر، وبعد أن فرغنا من عملنا أخذنا صورة تذكارية أنا وأمير إلى جانب الشيلكا، الثنائي والميني كاتيوشا.

 

في تلك الأيام كنّا نتحدث مع السيّد لنقل عناصر سرية الحاج قلي الموجودين في الكمين إلى الخلف وإعطائهم إجازة. كان الإخوة يعيشون ظروفًا صعبة. نحن أيضًا بدأنا نشعر بالملل مع أنّ ظروفنا كانت أفضل، وكان لنا الحقّ في التردّد بين المكامن والجزيرة لنقل الطعام والتجهيزات. بعد حوالي 20 يومًا طرح موضوع حصول عناصر سرية الحاج قلي على إجازة. كان لدينا في المنطقة سرية أخرى للدعم والمؤازرة، وبالتالي فإنّ تبديل العناصر أمرٌ سهل. أنا أيضًا أردت الحصول على إجازة شأني شأن سائر عناصر السرية. أقنعنا السيّد بذلك بعد انقضاء 20 يومًا من مدّة الشهر المحدّدة لنا في المنطقة، وكان يمكن لعناصر سرية أخرى البقاء في المنطقة في الأيام العشرة الأخيرة. عندما تجهّز عناصر سرية الحاج قلي للرحيل، جئنا نحن أيضًا برفقتهم إلى قائدنا:

- سيّد، نحن ذاهبون معهم أيضًا، بعد إذنك!

 

كان الأخ مولايي ليّن الجانب ووافق. وقرر إعطاء الذخائر إلى المجموعة التي ستستلم المنطقة بعدنا.

 

تركنا الهور في تلك الظروف وصعدنا جميعًا إلى الشاحنة. كان من المقرّر أن ننطلق ليلًا، لكنّ الطقس كان ماطرًا لذا تحركنا في الصباح. لقد لبست المنطقة ثوبًا عجيبًا بعد هطول الأمطار لفترات متواصلة، فلم تستطع الأرض الجرداء ابتلاع الماء، وأصبحت أشبه ببحيرة أو حوض كبير. رأينا في الطريق عناصر فرقة أخرى وأحيانًا عناصر من فرقتنا وقد علقوا في الماء. لقد بدت السواتر الترابية وكأنّها فواصل في الحوض. غلبنا الضحك ونحن نرى هذه المناظر من الحافلة، مع أنّ المسألة كانت

 

 

328

 


317

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

مبكية بالنسبة إلى العالقين في المياه.

 

عندما وصلنا إلى مقرّ الفرقة أسرعنا إلى الحمّام. كان الصفّ أمامه، كالعادة، مزدحمًا والمسؤول يرسل كلّ خمسة أشخاص إلى الحمّام الواحد، لأنّ المقرّر هو تسليمه بعد ساعتين للسرية. لقد مضى أكثر من 20 يومًا لم يستحمّ فيها عناصر سريتنا. خصّصوا لنا أيضًا في ذلك اليوم حلّاقًا، حمّامًا، بريدًا، خياطًا، سكافًا، و... كلّ شيء جاهز وبالمجان (صلواتي)! لكنّ الصفوف كانت في كلّ مكان، والجميع يريدون حلاقة شعرهم، ولكي يصل الدور إلى الجميع سهّلوا الأمر وبسّطوه بوضع آلة الحلاقة في جهة من الرأس وجزّ الشعر من منبته. عدد قليل من أمثالي رفضوا الظهور بذلك المظهر، لذا اختاروا أن ينتظروا فرصة أخرى. وبالنتيجة فقد أصبح أغلب أفراد السرية صلعًا.

 

وقعت المفاجأة بإبلاغنا قرار إلغاء الإجازة خصوصًا بعد مجيء الحافلات لنقل القوات. كان هذا الأمر - بعبارة موجزة - بمنزلة إعلان جهوزية لتنفيذ عملية في وقت مبكر. عملية في منطقة الجنوب في مكان لا يخطر على بال أحد، وقد قامت وحدة الوقاية في معلومات وعمليات المنطقة بإنجاز عملها بشكل جيّد للحفاظ على سريّة العملية بالكامل.

 

ورغم إصدار أمر إلغاء الإجازة لم نعدل أنا وأمير وثلاثة آخرون عن فكرة الذهاب إلى المدينة. لقد تورّط والدي بسبب أعمال البناء في المنزل، بمشاكل لا تُحلّ إلا بحضوري أنا شخصيًّا، وقد أرسل رسالة إليّ حول هذا الموضوع وأردت الذهاب إلى تبريز لعدّة ساعات بأيّ شكل من الأشكال. أعطونا إجازة لمدة يومين، قضينا أكثرها في الطريق. وصل خبر ذهابي إلى مسامع الإخوة الذين انتقلوا إلى حال الجهوزية، وقد تقرّر إرسالهم إلى منطقة العملية. جاءني "رحيم افتخاري" وهو من حيّ

 

329


318

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

"قره آغاج" في تبريز وقال لي: "سيّد! أنت ذاهب إلى تبريز!".

- نعم إن شاء الله!

- جيّد، رجاءً أسدني هذه الخدمة. اذهب إلى منزلنا وأحضر لي صورة طفلي لأراه! لم أره حتى الآن!

 

هزّ كلام رحيم هذا كياني. لست ذلك الشخص الذي يتأثّر سريعًا في مقابل الجراح أو أجساد الشهداء، لكن كان قلبي ينكسر بشدّة في بعض المواقف. لقد حدّثني رحيم عن عائلته سابقًا، لكنّني لم أعلم أنّه أصبح أبًا مؤخرًا.

- بكلّ تأكيد يا رحيم... سأحضر لك صورة طفلك!

 

ما إن وصلنا إلى تبريز حتى ذهبت إلى محطة القطار قبل أيّ شيء آخر، واستلمنا دراجتنا النارية التي أرسلناها إلى تبريز بالقطار، وبقيت في المحطة منذ مغادرتنا مع قوات الكتيبة إلى الهور.

- أمير! لنسرع أولًا إلى منزل رحيم وننفّذ ما طلبه!

 

كنّا قد حصلنا على عنوان منزله، في منطقة "منتش" بالقرب من محطة القطار تقريبًا. بحثنا في كلّ الشارع ولم نستطع أن نجد منزله. صحيح أن منتش ناحية صغيرة، لكنّ بيوتها صغيرة وعدد سكانها كبير، وكلّ من سألناه لم يعرفه. اجتزنا الطريق بطوله مرات عدّة، ولكن من دون نتيجة. كانت هناك امرأة تقف منذ البداية عند أول الزقاق وتنظر إلينا بتمعّن. لقد اتكأت إلى الحائط وشعرتُ أنّها ترمقنا بنظرات خاصة.

- لماذا يا ترى تنظر إلينا هذه العجوز بهذه الطريقة؟!

 

غامرنا، وتقدّمنا هذه المرّة منها بالدراجة وتوقفنا عندها. انتابني شعور أنّني وجدت ضالّة رحيم. كان دفء صوتها ولحن كلامها يؤكّد في داخلي هذا الشعور. هي من بادرت بالسؤال: "كيف حالك يا بنيّ؟!". قلنا لها إنّنا نبحث عن أحد الأشخاص، وما إن ذكرنا لها اسم رحيم حتى

 

330

 


319

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

أشرق وجهها: "رحيم هو ولدي!". آنذاك غمرني إحساس عجيب. فاض من عينيّ أمّ رحيم شوق وانتظار أمهات جميع المجاهدين. أعطيناها رسالة رحيم، لكنّها أصرّت على استضافتنا في منزلها. لقد أخرست ألسنتنا بلطفها. لم أقل لها إنّنا لم نذهب بعد إلى بيتنا وإنّه لدينا القليل من الوقت. مشينا في أثرها حتى وصلنا إلى آخر الزقاق، ودخلنا إلى منزل صغير لا تصل كلّ مساحته الإجمالية إلى 40 م2.

 

راودني شعور عجيب. لقد أثّر بي كثيرًا صدق ولطف أهل ذلك البيت. لم أر والده، ولم أعلم أساسًا إن كان حيًّا أم لا. تأمّلت الغرفة التي بناها رحيم له ولزوجته فوق السطح، وكيف لا يتمّ الوصول إليها إلا بالصعود على درج أشبه بالسلّم. خنقتني العبرة. حاولت أن أتمالك نفسي وأنهض بسرعة من مكاني. كانت حال "أمير" كحالي أيضًا، وبقينا ساكتين. قلت: "سيدتي! يقول السيّد رحيم إنّه لم ير طفله بعد، فإن استطعتم أن تحضّروا صورة له حتى نأخذها له، سيكون ذلك جيدًا!". يعلم الله كم صعب عليّ التفوّه بهذا الكلام. كنت أعلم أنّه ليس من السهل على عائلة تعيش في ظروف كهذه، أن تهيِّئ صورة للطفل خلال وقت قصير. لكن، اتفقنا على أن نمرّ بهم في طريق عودتنا لأخذ الصورة. ذهبت على تلك الحال إلى منزلنا واستمعت لكلام عائلتي. لم تكن مشاكلي أقلّ من مشاكل بقية الإخوة. بالرغم من أنّني ظننت أنّ بلائي ليس بمستوى بلاء عائلة رحيم والكثيرين، لكنّني لم أكن مرتاح البال. لقد انتهى أبي من بناء أساسات البيت، لكن نفد ماله أيضًا. وقد تعرّضت موادّ البناء للسرقة مرّات عدة ما اضطرّ أبي في تلك الأيام إلى الانتقال إلى تبريز والبقاء في المنزل الجديد. المنزل الذي لم تكتمل فيه إلى حدٍّ ما سوى غرفة واحدة. جدران من الطوب غير مجصّصة، أبواب ونوافذ بدون زجاج، وقد وضعوا على النوافذ النايلون للحؤول قليلًا دون دخول الهواء البارد، وعلى الباب أكياسًا ليتمكنوا من الإقامة فيه. انزعجت كثيرًا

 

331

 


320

الفصل العاشر: كتيبة "أبو الفضل"

عندما رأيت هذا الوضع. لا أنا أستطيع البقاء في المدينة سوى يوم واحد، ولا أملك مالًا أعقد الأمل عليه ولو 100 تومان. قلت لوالدي سأتدبّر المبلغ من الإخوة صباحًا ونقوم بتركيب زجاج النوافذ. طلبت منه أن يجد نجارًا ليقوم بالحدّ الأدنى بصناعة باب للغرفة. بقيت أرتجف في تلك الليلة تحت اللحاف حتى الصباح، وأفكر باستمرار كيف يقضي والدي ووالدتي الليالي في ظلّ هذه الظروف؟ خصوصًا ليالي شتاء تبريز المعروفة بثلوجها وعواصفها.

 

قال لي والدي في الصباح إنّه يعرف نجارًا. تقرّر أن يتحدّث معه لعله يستطيع أن يصنع بابًا للغرفة على أن ندفع التكاليف في العيد. استاء النجار عندما أتى إلى العمارة غير المكتملة بعد، وعلم أنّني مقاتل وجريح. قال ليس من الإنصاف أن تحيطك هذه الشدّة. وقرّر أن يصنع جميع أبواب المنزل، وفي المقابل نعطيه ثمنها عندما يتوافر لدينا. ذهبت إلى عدد من الأصدقاء أيضًا واقترضت منهم مالًا استخدمته في تركيب الزجاج ليرتاح بذلك بالي نوعًا ما فيما يتعلق ببرودة المنزل. أخذت الأمانة التي أرادها رحيم من منزله، وانطلقت وأمير بالحافلة إلى دزفول.

 

332

 


321

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

الفصل الحادي عشر:

وداعًا "أمير"

 

 

وصلتُ وأمير إلى دزفول. لم نجد أحدًا في مقرّ الفرقة. كنّا نتوقع ذلك، فقبل ثلاثة أيام عندما غادرنا في إجازتنا كان الجميع يتحضّرون للانطلاق. لقد مضت الكتيبة إلى منطقة العمليات. قررنا أن نذهب إلى المركز، إذ يمكننا ركوب سيارة من هناك والالتحاق بالكتيبة. في الطريق رأيت الحاج "بيوك آقا أسايش". بعد التحية والسلام قال إنّهم يقصدون الموضع الجديد. على الفور، ركبنا معهم في سيارة المقرّ.

 

كان التموضع الجديد في قرية قريبة من "كارون". التحقنا هناك بكتيبة "أبو الفضل" وأدركنا أنّ العملية جديّة. حتى ذلك الحين كنّا نبقى مع السيّد أجدر في خيمة القيادة، مع أنّنا كنا نفضّل أن نكون بين القوات خلال العملية العسكرية. ذهبت وأمير إلى رحيم افتخاري، وقد عُيِّن للتوّ مسؤول فصيل. أعطيته الرسالة وصورة طفله. فرح كثيرًا. منذ تلك اللحظة تغيرت نظرتي لـ"رحيم" عن السابق.

 

بقيت في سريّة الحاج قلي، وتحديدًا في فصيل رحيم. حصل عدد من المناقلات خلال تلك الأيام الثلاثة. استقال عدد من الأفراد من مسؤولياتهم لأسباب مختلفة بعد سماعهم خبر العملية وعادوا إلى المدينة. وفي المقابل، تهافت آخرون إلى الجبهة للمشاركة بعد أن سمعوا بالخبر نفسه، من بينهم أربعة أشخاص من عناصر اللجنة[1].


 


[1] وقد التحق اثنان منهم بقافلة الشهداء في ذلك اليوم، هما رحيم غفاري ورضا كلوليان.

 

333


322

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

من تشكيلة الفصيل، كنت أعرف شخصين أو ثلاثة فقط: رحيم افتخاري، "صمد إقدام نيا" وصديقيه "رضا كلوليان" و"مهدي محمدي". كان لقاء الإخوة والاجتماع بهم على الدوام سببًا لسعادتي، وخصوصًا أنّ رائحة العملية بدأت تفوح في المنطقة، ومرور كلّ أولئك المجاهدين في الأزقّة أضفى على القرية وقعًا خاصًّا، مع بيوتها التي أعطتها شكلًا طوليًّا. وجدنا كلّ شيء هناك: أوانٍ كبيرة على شكل براميل ملأى بالتمر، لعلّها كانت مؤونة الأهالي السنوية. الحقول زرعت بالبندورة، الخس والفجل وغيرها من الخضار، وقد آتت المنتجات أكلها. سألنا قادتنا عن إمكانية المجاهدين الإفادة منها، فأجابوا أنّ ثمنها مدفوع ولا إشكال في ذلك. لذا رحنا نأكل من كلّ ما نريد وما تصل أيدينا إليه مرتاحي البال، خاصّة البندورة الطازجة بينما الثلج يتساقط في تبريز ويستبدّ الصقيع. كانت البيوت نظيفة ومجصّصة من الداخل مع أنّها صُنعت من الطين. تموضع فصيل من الإخوة في كلّ بيت، وبعضهم نزل ضيفًا في منازل أصدقائهم! مشكلة القرية الكبيرة كانت في مياه الاستخدام المالحة التي لا يمكن استعمالها للشرب، فأجبرنا على إحضار المياه الحلوة بواسطة المخازن النقّالة. ليلًا، كنّا نضيء المصابيح، وأتاح لنا توافر الكهرباء الاستماع إلى الأشرطة التي نحبّ، وأغلبها أشرطة الخطب والقرآن والعزاء. كنّا نمدّ سفرة الطعام ونجلس جنبًا إلى جنب لتناوله. كالعادة، كان هناك اهتمام بتغذية القوات في الأيّام التي تسبق العملية. وعندما تجهز السفرة، لا يمدّ أحد يده إليها رغم الجوع، حتى يتأكد من أنّ الطعام وصل للشخص الجالس بجانبه. وكان كلّ واحد من الإخوة يقدّم غيره على نفسه للجلوس إلى السفرة بسبب قلّة الملاعق. لم يكن هذا التصرّف مجاملات فارغة أو رياءً، وإلّا لما استمرّ أكثر من يومين، بل إنّ نفوس الإخوة عجنت بهذا الخلق الجميل من الإيثار الدائم وتقديم الآخرين على النفس.

 

334

 


323

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

للأيام الحلوة في القرية قبل العملية صفاؤها الخاصّ. كان الشباب يغيرون على بيوت بعضهم البعض، وغالبًا من فوق أسطح المنازل، ولا يستثنى من هذه الهجمات إلّا قلّة قليلة.

 

لم تكن ظروف العمليات تلائمني، حيث إنّني أتأذّى من الغبار والتراب وأحيانًا من الحرّ. لم أعتد على اعتمار القبّعة أيضًا، سواء الخوذة المعدنية أو أيّ قبعة أخرى، وأحيانًا أضعها مكرهًا! كنت دائمًا أقصّ شعري قبل العملية. لم أكد أطرح هذا الموضوع حتى بادر رحيم افتخاري قائلًا: "أنا أجيد الحلاقة". ذهبنا معًا إلى ظلّ نخلة. بدأ رحيم يحلق رأسي بآلة الحلاقة التي يستخدمها، وراحت تلك الآلة تنزع الشعر أكثر ممّا تقصّه. بعد قليل اقترب أحد أفراد اللجنة قائلًا: "سيد رحيم، أنت لا تجيد الحلاقة، أعطني هذه الآلة!". أخذوا ينزعون شعري ويرمونه على معطف المطر الأزرق من تلك المعاطف التي سلّموها للجميع. بعد ذلك، دخل أحد شباب التعبئة ساحة المعركة ليقوم بما لم يستطيعوا فعله ولكنّه لم يبدّل شيئًا. وددت لو بقي شعري على حاله فالنتيجة مزرية: شعر طويل وقصير تكوّم على رأسي، ما جعل كلّ من يرى منظري يضحك حتى تكاد خاصرته تتمزق من الضحك. وختامًا، أحضروا مقصًّا وقصّوا ما استطاعوا من الشعر الطويل، قبل أن أفرّ من بين أيديهم مفضّلًا وضع القبعة على رأسي كي آمن من مزاحهم!

 

قبل بدء العملية بحوالي 4 أو 5 أيام، تجهّزنا جميعًا بناءً لأمر السيّد، للتدرّب على المعركة في بستان النخيل. وقد جاء عناصر من وحدة التدريب العسكري لهذه الغاية. بدأ البرنامج، لكن تحوّلت الساحة من مكان للتدريب إلى ساحة لشغب الشباب. قال المدرّب: "تقدّموا بمقدار أربع أو خمس نخلات، واحتموا هناك وأطلقوا النار". بدا ذلك عملًا سهلًا، لذا

 

335


324

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

رحنا نقضي وقتنا بالمزاح. لم يكن بالإمكان فعلًا إقامة مثل هذه التدريبات لعناصر يعيشون حال الحماسة والشوق التي تسبق العمليات. عندما رأى المسؤولون أنّنا لا نستجيب لهم في التدريب، أكّدوا علينا أن نأخذ الموضوع على محمل الجدّ، لكن استمرّ الشباب بفعل ما يحلو لهم.

 

استقررنا في قرية قريبة من كارون على مسافة حوالي 50 كلم من الحدود مع العراق. وضع الشباب قرب النهر براميل بسعة مئتي ليتر كأهدافٍ راحوا يطلقون الرصاص وقذائف الـB7 عليها، وعندما تتحرك من مكانها بسبب الانفجارات، يعيدون ترتيبها. الهدف من هذه الرمايات هو أن نتعوّد على أصوات الانفجارات. لم أكن في تلك الظروف ناشطًا في الرماية، ولم أذهب إلى بستان النخيل للتدرّب، بل قضيت معظم أوقاتي في الحقول! وبما أنّني أحبّ البندورة، رحت أجول في الحقول باحثًا عن حباتها التي بقيت في مأمن من أيدي الشباب. أحيانًا كنت وأمير أو بعض الإخوة نمشي حوالي 3 كلم بحثًا عن البندورة والخس و... على كلّ حال كنّا دائمًا نظفر بالبندورة. لم تكن المحاصيل الصيفية بالنسبة إلى بعض الإخوة الذين أتوا إلى الجنوب من المناطق الحارة أمرًا مرغوبًا، أمّا نحن القادمين حديثًا من ثلوج وصقيع تبريز، فكنا حقًّا نتلذّذ بأكل البندورة.

 

ملأت وحدة التجهيزات المنطقة بأنواع المأكولات المختلفة: عسل، فواكه معلّبة، وأشياء أخرى كثيرة. انشغل بال الشباب بفكرة توفير حمّام كي يستطيعوا الاستحمام بسهولة في الأيام المعدودة التي سيكونون فيها هناك. سبق فصيلنا الجميع في العمل على بناء حمّام، وبذل الشباب جهدًا كبيرًا لتحويل المكان الذي كان فيما مضى إصطبلًا إلى

 

336


325

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

حمّام: وضعنا على سطحه برميلًا بسعة مئتي ليتر، وثبّتنا تحت البرميل مصدرًا للحرارة يعمل عند ضخّ المياه. وصلْنا حنفية بالبرميل لتصل المياه الدافئة عبرها إلى الحمّام. بقي علينا ملء البرميل باستمرار، ولم تكن مياهه ساخنة أبدًا، لكنّها أفضل من لا شيء. بادر الشباب أيضًا إلى وصل كيس من النايلون برأس الحنفية، جعلوا فيه ثقوبًا كثيرة ليصبح شبيهًا بالدوش، وكان يؤدي دوره عندما يمتلئ! أحطنا الحمّام بالبطانيات. هيّأنا مرحاضًا في زاوية أخرى من ذلك المكان، وبالطبع كان على الشباب أن يحجزوا دورهم. بعد هذه المبادرة، قامت بقية الفصائل ببناء حمّام لها أيضًا. لم تمضِ دقيقتان على دخولي ذلك الحمّام في المرّة الأولى حتى علا صياح الشباب: "اسرع، هيّا إلى الخارج". آنذاك، كان خمسة أشخاص يقفون جنبًا إلى جنب بين خزان المياه وبرميل الحمّام، ويتناقلون الماء يدًا بيد ليملأوا البرميل. لذا لم يكن أحدٌ يستطيع البقاء في الحمّام لأكثر من بضع دقائق.

 

من الأنشطة المشتركة التي أقيمت في القرية صلاة الجماعة. كان الإخوة يفرشون السجاد إلى جانب النخيل لجميع عناصر الكتيبة. عجيبة هي مشاهد صلوات الجماعة تلك. عادة ما يخجل الإخوة من أن يظهروا حالات العشق والقرب من الله تعالى أمام الناس، لكن لهذه الصلوات حال أخرى. مع حلول الظلام، قلّة لم تكن تضجّ بالبكاء في فريضتي المغرب والعشاء، بكاء سببه إمّا الشوق إلى الله تعالى وإمّا طلب الحاجات منه والتوسل بأهل البيت عليهم السلام.

 

عندما اطّلعتُ على خطّة العملية، اعتقدت أنّ العمل بها سيكون أصعب بمرّات من العمليات السابقة، حتى عملية بدر، تلك التجربة العظيمة! أن يعبر الغواصون نهر "أروند" بطبيعته القاسية ويخترقوا خطّ دفاع العدو و... أخذ الشباب يمزحون أحيانًا قائلين: "لقد أخذت بدر كلّ ما لدينا". إضافة إلى القادة، فقدنا في عملية بدر عناصر التحق

 

337

 


326

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

أكثرهم بالجبهة وبقوا فيها منذ بداية الحرب. كنت دائمًا أحدّث نفسي: "من الذي سيسدّ الفراغ الذي خلّفه مهدي ؟.... وهل يمكن لأحد أن يملأ مكان أصغر قصّاب في الفرقة؟", وأقارن العناصر الحاليين مع عناصر عملية بدر، وأفكر أنّ قوة هؤلاء وخبرتهم هي الآن أدنى ممّا كانت عليه لدى شهداء تلك العملية. مع هذا، كان الإيمان والأمل برحمة الله سبحانه مبعث طمأنينتي إلى أنّه لا وجود في الجبهة لشيء اسمه مستحيل. أعتقد أنّ هذه المسائل راودت أكثر القدامى في الفرقة.

 

مع اقتراب وقت العملية، صرنا نفكر أكثر في مسألة عبور الغواصّين من قلب نهر أروند والهجوم على خطّ الدفاع العراقي المتين مع كلّ تلك العوائق والموانع المحكمة التي زرعوها. في ذلك الوقت من العام أي في شباط عام 1986م، كان على غوّاصي قوة الاقتحام العبور في المياه حيث التيار قويٌّ، والمدّ والجزر مشهوران في المنطقة، ثم ضرب الهدف في الضفة الأخرى. لم يمرّ يوم أو ليلة من دون أن أفكّر بهذه الأمور، وأعلم أنّ إمكانية القيام بهذه الأمور منوطة بالتوكل على رحمة الله سبحانه وتعالى، فأبدأ بطريقة عفوية بالتوسّل من أعماق كياني.

 

في تلك القرية، تشاهد تعبويين يبدأون بالبكاء من بداية صلاة الجماعة إلى نهايتها، ويبقون ساجدين لأكثر من عشر دقائق. تراهم يرتجفون حتى تشعر وكأنّ الأرض ترتجف معهم. كنت أعرف بعضهم. بينهم أشخاص كـ"رحيم افتخاري" الذي رضي بصورة مولوده الجديد، وبقي في الجبهة ليعوّض، قدر ، النقص الحاصل في القوات. وأمير، كم تغيّرت أحواله. مع أنّه صغير السنّ وفي مقتبل العمر، إلا أنّه أمضى سنوات في الجبهة، وقطع (اختصر) في تلك الليالي مئة عام من طريق العارفين.

 

كانت الأيام التي تسبق العملية جميلة ومليئة بالضحك، ولياليها حافلة بالمشاهد الممتعة. كان البيت الذي نستريح فيه صغيرًا لدرجة أنّ

 

338


327

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

أرجلنا تقع فوق بعضها البعض عندما نذهب كلّنا للنوم. بدايةً كنّا ثلاثة أشخاص في تلك الغرفة، ولاحقًا عندما أتت قوات جديدة إلى المنطقة، أضافوا إلينا ثلاثة من عناصر الهندسة والإسعاف، فلم يعد ممكنًا الإتيان بأيّ حركة عندما نستلقي جنبًا إلى جنب، نظرًا لضيق المكان.

 

كنّا نخلد للنوم في تلك الظروف، لتفرُغ هذه الغرف بعد ثلاث أو أربع ساعات. أحدهم يصعد إلى السطح، وآخر إلى خارج الغرفة، بينما يأخذ أغلب الشباب بطانية ويذهبون إلى بستان النخيل، وتستمرّ الحال هكذا حتى السحر. كنت أغبط بعض الشباب إذ استطاعوا التحرّر من كلّ علائقهم الدنيوية.

 

في أحد الأيام جاء نداء: "تجمّعوا جميعًا في مكان واحد، يريد السيّد أمين التحدّث إليكم". إنّها المرّة الأولى التي يتحدث فيها قائد الفرقة الجديد أمين شريعتي بعد استشهاد "مهدي باكري". كانت لحظة وصوله لحظة خاصّة بالنسبة إلينا. لقد أحيت فينا ذكرى مهدي. من جهة كنّا نشعر بغيابه، ومن جهة أخرى، كان وجود أمين الذي بدأ الحديث عن مهدي يرفع من معنوياتنا. تجمّعنا وسط بستان النخيل. قال أمين: "قائدكم هو السيّد مهدي باكري. أنتم عناصر السيّد مهدي. أنتم من الفرق البارزة... ولهذا فقد أُعْطِيَتْ أيضًا واحدة من أكثر المناطق حساسية لقوّات الاقتحام في فرقة عاشوراء...!"[1]. لقد رفع أمين بشكل كبير الروح المعنوية للشباب بذكره لمآثر فرقة عاشوراء: "لقد أثبت شباب فرقة عاشوراء حضورهم المميّز في عملية بدر. أنتم الذين سطّرتم ملحمة بدر تلك و...". وصل الدور إلى الحديث عن محور


 


[1] كانت فرقة عاشوراء تسيطر دائمًا على المحاور الموكلة إليها بتوجيهات قادتها الشجعان، وتساعد الفرق على جناحيها (الايسر والايمن). ودائمًا ما كانت الفرق العاملة في هاتين الجهتين راضية عن العمل إلى جانب الفرقة، وقد أشار الأخ أمين إلى هذه المسائل مرّة أخرى.

 

339


328

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

العمليات. الجميع أصغى بدقّة. كانت الأوضاع معقّدة لدرجة أنّه بين ألف قد لا تجد شخصًا واحدًا يستسهل هذه العملية. هذه المرّة أيضًا بِتنا في مواجهة الطبيعة، طبيعة نهر أروند القاسية. كانت سرعة المياه في النهر مربكة. كيف يمكن بناء جسر على النهر مع هذا التيار القوي؟ الجسر الذي يعتبر صلة الوصل الوحيدة مع الخطوط الخلفية، وإن تمّت إزالته بالقصف أو بأيّ عوامل أخرى، ماذا بإمكان القوات المتقدّمة أن تفعل؟ طُرحت جميع المشاكل، وخلصنا إلى نتيجة مفادها أنّه: "عندما يقرّر الإنسان أن يحلّ مشكلته فسوف تحلّ. لا يوجد مشكلة ليس لها حلّ، والأمر مرتبط بدافعية المرء وإرادته، ومدى جديّته وثباته". شكرَنا السيّد أمين في نهاية كلامه، ومن جانبنا نحن أيضًا، أحطنا به وأطلقنا شعارات التأييد والتقدير لقادتنا. كنّا عندما يأتي الأخ مهدي لإلقاء محاضرة أمام عناصر الفرقة، نستقبله بكلّ حماسة وشوق بشعارات: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، أهلًا وسهلًا بنصير الإمام، أو يا قائد فرقتنا، جاهزون، جاهزون". إذ يتوجّب علينا نحن أيضًا أن نتفاعل مع حال حماسة قادتنا وإظهار شجاعتنا وثباتنا. أطلق الشباب شعاراتهم هذه المرّة أيضًا، وأظهروا للقائد الجديد جهوزيّتهم وشوقهم على أعتاب العملية الكبرى "والفجر8". حُدّد موعد الهجوم ليلة 9 شباط.

 

انتهى الكلام، ليبدأ التحرّك بعد ساعات. كان الشباب فرحين ومبتهجين وراح كلُّ واحد منهم يُظهر مشاعره بطريقة ما. كانت المسافة بين مكان الاجتماع والقرية حوالي 1 كلم ونصف. في طريق العودة، أخذ بعض الإخوة يلاحق بعضهم بعضًا ويشاكس بعضهم بعضًا. لقد أثاروا الصخب في القرية. كلّما نظرتَ إلى أحدٍ ما، يخطر على بالك أنّك قد لا تراه في الغد! لذا لم تكن لتشبع من رؤيتهم والبقاء معهم.

 

340


329

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

كالعادة، مرّت ساعات ما قبل العملية ثقيلة عليّ. رحت أنظر إلى الإخوة، إلى أكلهم، إلى جلوسهم وقيامهم، احترام بعضهم لبعض، مناجاتهم مع الله، شكواهم ومزاحهم... وأشعر بالأسى أنّه إن أنا بقيت حيًّا كيف سأرى مكان الشهداء خاليًا عند عودتي. وحدهم أولئك الذين تذوّقوا طعم هذا الألم يدركون عمّا أتحدّث.

 

كما جرت العادة في آخر ليلة لنا في القرية، أقمنا مراسم العزاء ومواكب اللطم. في تلك الليلة بعد الصلاة، ألهب البكاء الحزين لأحد الإخوة مشاعر الجميع، فارتفع صوت البكاء من كلّ مكان. عادة ما ينضمّ الحاج "صادق آهنكران" إلى جمع عناصر فرقة عاشوراء ليالي العمليات، ونراه في مجلس العزاء الذي نقيمه قبل العملية. لكن، لم يكن موجودًا هذه المرّة. انطلق الإخوة بمواكب العزاء التقليدية شاخسي[1]. وكأنّ هذه المواكب كانت بيعة لقائدنا الأساس.

 

ابتلّت الأرض بالندى، وأصبحت موحلة وزلقة كما أذكر جيدًا تلك الليلة، وكنت في منتصفها مسحورًا بمظهر الشباب. في الحقيقة لم يكن هناك من حاجة لقارئ العزاء. فالكلّ يصرخون من أعماق قلوبهم وا حسيناه، وا حسيناه، وا سيدّاه، وينوحون. كان الأخ "قادر منافي" يقرأ العزاء في كتيبتنا التي تفتخر باسم "أبو الفضل" عليه السلام، وعندما يصل إلى اسم العباس عليه السلام تتغير أحوال الجميع، ويردّدون بصوت واحد: "يا أبا الفضل، يا من هو بدون يد وبدون ساعد...". تذكّرت آخر وصايا السيّد أجدر قائد كتيبتنا حين قال: "علينا أن نقاتل كأبي الفضل، حتى لو اقتضى الأمر أن نقدّم أيدينا في هذا الطريق و...".

 

انتابني شعور غريب في تلك الليلة بحيث صرت أتمنّى مع انطلاق

 


[1] نوع من مواكب العزاء التقليدية في تبريز.

 

341


330

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

العمليات والمشاركة والدخول في قلب المعركة أن أنفصل عنهم. إنّه شعور البعد عن أعزّ الناس عليّ. استحضرت ذكرى الشهداء الذين بقيتُ سنوات إلى جانبهم، أمّا الآن... كلّهم أحياء في قلبي، لكنّني لا أراهم. أكاد أجنّ عندما أتذكّر الشهداء.

 

حان موعد التحرّك. تجهّزنا للانطلاق في ضوء النهار بعد أن استمعنا إلى آخر كلام لقائد كتيبتنا. كان السيّد أجدر مولايي - كأيّ قائد آخر- يتوقع الملاحم من عناصره، ويعلم جيّدًا كيف يؤجّج معنويات الشباب.

 

وصلت الشاحنات سريعًا، حيث من المقرّر الانطلاق بها إلى الخطّ. في هذه اللحظات الأخيرة وُزِّعت العصائب على الإخوة. عصائب حمراء كتب عليها أسماء أهل البيت عليهم السلام الجميلة: "يا مهدي يا حسين ويا أبا الفضل...". انقلبت أحوالي وبدأتُ بالبكاء بشكل جعل "أمير" يحدّق بي ويسألني: "سيّد! سيّد نور الدين! كأنّك ذاهب لتستشهد؟!".

- لا يا عمّ! أنا لن أستشهد!

- إذًا، لماذا تبكي هكذا؟

 

كان "أمير" يسأل وأنا أجيبه أنّنا عندما نرجع لن نرى هؤلاء الشباب هنا. وأنا من الآن أبكي لتلك اللحظات!

 

عجيبةٌ هي مشاهد الوداع. راح الإخوة يطلبون المسامحة بعضهم من بعض بسبب أصغر الأخطاء، حتى تلك غير المتعمّدة! كم أصبحت أرواحهم لطيفة، وكم ستصبح الحياة خاوية برحيل هذه الورود من جمعنا.

 

كان بكائي عجيبًا بالنسبة إلى الذين يعرفونني، فهم يعلمون أنّني لست إنسانًا رقيق القلب، وأنّني أبكي بصعوبة. لكن، انتابني شعور أشبه بشعور الوالد الذي يرى ولده، ثمرة فؤاده، لآخر مرّة ويودّعه. كنت أعلم

 

342


331

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

أنّنا سنتكبد خسائر كبيرة، ولكن من هم الأشخاص الذين سنخسرهم؟ أيّ واحد سيُقطف من بين هؤلاء الأصدقاء؟

 

بدأ التحرك مع صوت الأذان. كان أحدهم يرفع الأذان ويشرح معناه في نفس الوقت. وللأذان عند لحظة الانطلاق أثرٌ عجيب. كنت والكثيرين ممن لا يعرفون العربية جيدًا نستمتع بالأذان وتفسير معانيه. تناهى إلى أسماعنا أيضًا من مكان بعيد صوت القارئ آهنكران عبر شريط تسجيل أُحبّه:

لمرّات من هجوم البعثيين عملاء الشيطان

أصبحت مئات البيوت والأكواخ في دزفول خرابًا

وعندما يصل إلى هذا المقطع، تنقلب أحوالي[1]:

هنا تسقط أمٌّ على الأرض وقد قطعت يدها

وهناك طفل يسقط على الأرض ولا رأس له

 

جلس الإخوة تدريجيًّا في مقاعدهم الخلفية في الحافلات ليبدأ التحرك. جلست هذه المرّة في المقدّمة إلى جانب السائق، غير مكترث لحال الإخوة ووضعهم وضيق المكان عليهم! كان هدفنا شاطئ أروند.

 

في الطريق، فرحت برؤية المدافع والدبابات وسائر الأسلحة الثقيلة. رأينا عمليات نقل التجهيزات وأحيانًا نقل عناصر الفرق الأخرى. من الواضح أنّهم أعدّوا كلّ شيء وبشكل جيّد لعملية "والفجر8". وصلنا إلى بساتين نخيل قرب أروند وتوقّفت الآلية.

- سوف تكملون من الآن سيرًا على الأقدام!

 

ترجّلنا من الحافلة وبدأت الكتيبة بالتحرّك. كان على كلّ فرقة أن تتموضع في المنطقة المحدّدة لها. في الطريق كنّا نرى المقطورات

 


[1] تكررت في دزفول مثل هذه المشاهد مرات عدة، وكنت كلّما سمعت هذه اللطمية أشعر بعبء المسؤولية الملقاة على عاتقي. كان هذا الشريط من أشرطة التسجيل القليلة التي أحملها دائمًا.

 

343


332

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

التي تحمل القوارب، وضاعف من عزيمتنا رؤية مشهد نقل الرافعات والدبابات. الآن، وقد مضى على البكاء والنحيب ثلاث ساعات أصبح الجميع يفكّرون بالعملية.

 

انتقلت القوات في صفوف منظّمة من جهة إلى أخرى. نحن أيضًا انطلقنا في طابور حتى وصلنا إلى قرية مجاورة لنهر أروند محاطة بالنخيل. حدّدوا لنا ثلاث غرف هناك لتكون مكانًا لاستقرار الكتيبة بأكملها. دخل الإخوة إلى الغرف التي لم تتّسع للجميع، فبقي عددٌ منهم في الخارج. لكن جاء أمر بأن لا يخرج أحد. كان الوقت بعد الظهر والجو ما زال مشمسًا. لكن هل كان السيّد نور الدين - في تلك الظروف - ليقبل بالبقاء في البيت ولا يتحرّى عن الأحوال والأوضاع؟! عزمت على الخروج. في الواقع كان لديّ عمل آخر أيضًا. ناديت "أمير" أيضًا كما العادة: "لنذهب خارجًا ونرَ ما الخبر!". كان هناك جداول وممرات مائية متفرّعة عن نهر أروند، تمّ سحبها إلى داخل بستان النخيل، ووضعت فيها قوارب كثيرة. في ذلك المكان رأيت أحد شباب التعبئة في الفرقة مختليًا بنفسه قرب نخلة. أعرفه. ما إن اقتربنا أكثر حتى رأيته يبكي. كان ينظر إلى صورة ويكتب شيئًا ثمّ يتوقف أحيانًا عن الكتابة ويبكي. وقفت بعيدًا عنه قليلًا وبقيت أنظر إليه. ظننت أنّه يكتب وصيّته، لكنّني انزعجت لأجله[1]. اقتربت منه، وضعت يدي على ظهره وقلت له ممازحًا: يا أخي، لا تكترث. نظر إليَ وقال: "سيّد، أريد أن أكتب وصية!".

- ما لك وللوصية، ماذا تريد أن تفعل بها! سوف تعود إن شاء الله...

 

نظرت إلى الصورة التي في يده. رأيت فتاة صغيرة جميلة جدًا!


 

[1] مع أنّني كنت عاقدًا قراني حينها وأفهم إلى حدٍّ ما أحوال الإخوة المتزوجين. الكثير من الأصدقاء لم يعلموا حتى آخر الحرب أنّني متزوج! كنّا لا نسمح للمتزوجين والذين عندهم أولاد بالتقدّم في ساحة المعركة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، لكن كنّا نقصّر في ذلك أحيانًا أو تقع أمور خارجة عن السيطرة.

 

344


333

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

- من هذه؟

 

حدّق بالصورة وقال: "ابنتي!". أحبطتني نظراته تلك بشدّة. قلت له: "إن أردت، تستطيع أن تترك الصورة معك!".

- سيّد! أخشى أن تفسد صورتها في الماء!

- لا، لن يحدث ذلك.

 

قلت هذا، لكن لم أكن واثقًا و...

 

كان من المقرّر أن نهجم على العدو بالزوارق بعد أن يخترق الغوّاصون خطّه الدفاعي، ومن المحتمل أن نقع في الماء. من جهة أخرى كان يمكن أن نعبر نهر أروند بسهولة ونصل إلى شاطئ العدو. قلت له: "اكتب وصيّتك وأحضر الصورة معك!", سأل ثانية: "سيّد! هل من الممكن أن أراها ثانية!".

 

تبدّلت أحوالي: "لِمَ لا! قطعًا تستطيع أن تراها!".

 

كان هذا الأمل الوحيد الذي أستطيع أن أقدّمه له. ودّعته وذهبت لأكمل عملي. في الواقع أردت وأمير البحث عن جعبة. كان لدينا جعبة جيدة تُحمل على الصدر لا نملك غيرها، لذا أردت أن نجد واحدة أخرى. حاول "أمير" إقناعي بالتراجع عن هذا الأمر مكرّرًا: "من أين لك أن تجد جعبة؟".

- أنت تعال ولا تشغل بالك!

 

عزمت على أن أجد واحدة من ذلك النوع بأيّ طريقة. كانت رؤية بستان النخيل وتفقّده أمرًا ممتعًا بالنسبة إليّ أيضًا. وصلنا إلى مكان بدا أنّه محلّ تموضع عناصر فرقة مشهد. رأيت الجميع يحملون من تلك الجعب. كمنَّا هناك وتحينَّا الفرصة حتى يخلع أحدهم جعبته. لم يمضِ وقت طويل حتى خلع أحدهم جعبته وذهب لكي يتوضأ. سريعًا أبدلت جعبتي التي تربط بالخصر بجعبته، وبدّلت المخازن وابتعدت

 

345


334

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

بسرعة عن المكان. على مسافة قريبة تحقّقت من الجعبة فالتفتّ أنّه وضع وصيّته تحت أحد المخازن. لم يكن من الإنصاف أن آخذ وصيته بهذا الشكل. رجعت سريعًا برفقة "أمير" ووجدنا أنّه لم يعد بعد. وضعت الوصية تحت أحد المخازن وبقيت أراقب إن كان سيراها أم لا. وأقول في نفسي: "لا بأس بالجعبة! ولكن إن لم يأخذ وصيّته سيصبح الأمر سيّئًا!". كانت كتيبتهم أيضًا جاهزة للانطلاق. جاء ولم يجد جعبته. ركض قليلًا إلى هذه الجهة وتلك ثم عاد، ولكن لم يكن ليجدها!

 

أخيرًا، انتبه إلى المخازن والتقط حزامه. كان وهو على تلك الحال يتلفّت حوله كي يرى إن كان أحد ما يراقبه! من جهة أخرى كان قائده يناديه كي يتحرّك سريعًا. أخيرًا أخذ ذلك المجاهد المظلوم الجعبة وربطها على خصره. للإنصاف، فقد تفقّد مخازن الرصاص، وعندئذ رأى وصيته. ارتاح بالنا. ذهب راكضًا باتجاه طابوره ونحن بدورنا ذهبنا لنتابع عملنا.

 

أراد "أمير" أن نرجع إلى القرية، لكنّني أردت أن نجول قليلًا في تلك الأطراف. قال لي: "لكن أين تريد أن تجول!".

- المكان هنا رائع! هيا بنا لنذهب!

 

حدث أن ذهبنا باتجاه مجموعة من العناصر المشغولين بتلحيم الجسور، تلك التي يستخدمها أكثر عناصر الجيش. كانت محرّكات الكهرباء تعمل بشكل دائم، والدبابات تناور، وعدد من الأفراد ينقلون القوارب إلى الماء بواسطة الآليات الثقيلة. كانت الحركة والضوضاء كثيرة هناك. لم يحلَّ الظلام بعد، لكن من الواضح أنّ الأصوات لا تصل إلى شاطئ العدو، وقد وضع الإخوة ساترًا بارتفاع متر واحد على بعدٍ يمكن تحديده بالعين المجرّدة من النقطة التي كنّا فيها، وعلى مسافة أمتار من نهر أروند. تموضعت فرقتنا على مسافة حوالي 200 م عن النهر في نقطة تحيط بها بساتين النخيل من كلّ جانب. مع هذا كانت

 

346


335

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

زاوية الرؤية عند العراقيين أفضل من زاويتنا، وتفوّقوا علينا من حيث الموقعية الجغرافية. لذا، مع كلّ هذه الظروف، أثار تعجّبنا أنّ العراقيين لم ينتبهوا إلى وجودنا، ولم يقوموا بأيّ عمل. كان الجوّ صاخبًا هنا، بعضهم يحضّر أجهزة اللاسلكي، والجرافات تعمل بسرعة على نقل التراب وتجهيز الطرقات. في زاوية أخرى كانوا يعملون على تجهيز المستوصف. كان هناك عدد كبير من العناصر الذين ينادون بعضهم بعضًا بالصياح عاليًا ليُسمع صوتهم في تلك الأجواء التي تضجّ بأصوات الآليات الثقيلة. قلقتُ من أن ينتبه العدوّ إلى وجودنا هنا، وإذا ما حصل ذلك -لا سمح الله- وقُصف المكان ستكون خسائرنا فظيعة.

 

قرابة الغروب انطلقنا باتّجاه منطقتنا، وصدى الأذان ينتشر بين أشجار النخيل. لم يكن ممكنًا إقامة الصلاة جماعة، فصلّى كلّ واحد من الشباب في زاويةٍ ما، وربّما كانت تلك الصلاة الأخيرة لكثيرين.

 

فجأة، بدأت قاذفات الهاون العراقية بالعمل. سألت الإخوة الذين كانوا سابقًا في المكان: "ماذا حصل", فأجابوا إنّ العراقيّين يضربون أطراف أروند في هذا الوقت منذ مدّة، وهذا ليس بشيء جديد.

 

تفقّدنا الأسلحة ومخازن الرصاص مرّات عدّة. لقد كتبنا وصايانا فيما مضى ونحن مطمئنّو البال لجهة ما نملك! وزّعوا علينا الطعام. تناولناه وجلسنا ننتظر الأوامر. مرّت لحظات صعبة. وحده الله يعلم في ذلك الجوّ العاصف، ما هي ظروف الغواصّين الذين يعبرون نهر أروند. فالطقس بارد، والنهر هائج. كانت كتيبتا سيد الشهداء عليه السلام وولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف من فرقة عاشوراء، هي كتائب الغوص في الاقتحام، بينما كتائب الدعم هي الإمام الحسين عليه السلام، أبو الفضل عليه السلام وعلي الأصغر عليه السلام. تموضع الجميع كلٌّ في المحور المحدد له. وتقرّر أن تعمل فرقة "25 كربلاء" إلى جانبنا، وأن تكون مدينة الفاو ضمن نطاق عملها.

 

347

 


336

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

في الطرف الآخر لنهر أروند حيث من المقرّر أن نعبر، يوجد مزار لأحد الأولياء. بالطبع يرتبط ذلك العبور بنجاح الغواصين في اقتحام خطّ الدفاع العراقي. لم نكن قد رأيناهم حتى تلك الساعة، ولكن رحنا ندعو الله من أعماق قلوبنا أن ينصرهم في اقتحام أروند وأخذ موطئ قدم لهم هناك.

 

بدأت الاشتباكات حوالي العاشرة ليلًا. من الواضح أنّ الشباب وصلوا إلى خطّ الدفاع العراقي. في نفس الوقت أيضًا بدأ إطلاق النار من مدافعنا. اختلطت أصوات إطلاق صلية من 40 صاروخ كاتيوشا في لحظة واحدة مع أصوات زمجرة المدافع والدبابات. كانت بساتين النخيل تهتز من هذه الأصوات والانفجارات. في تلك اللحظات صدر أمر التهيؤ للحركة. لم نكد نتحرك من أماكننا حتى علا صوت يقول: "لقد قصف العراقيون بالأسلحة الكيميائية!". تفرّق الطابور وركض الجميع بحثًا عن أقنعتهم. بعد دقائق اتّضح أنْ ليس ثمة قصف كيميائي. علا النداء مرّة أخرى: "اركضوا نحو الزوارق". ركضنا مسرعين باتجاه شاطئ أروند. صعدنا بسرعة على متن الزوارق ما تسبب بخلل في انتظامنا، ولم يعد واضحًا هل الشباب الذين يصعدون على متن قارب واحد هم من الفصيل ذاته أم لا؟ تحرّكت الزوارق بأقصى سرعة ممكنة كي توصِل القوات إلى الضفة الأخرى. كان الإخوة الذين يعملون على الزوارق من عناصر المعلومات ويتقنون عملهم.

 

رأينا عظمة الواقعة في نهر أروند. وقعت اشتباكات شديدة عند ضفّة العدو. القذائف المدفعية من جهة، ورمايات الشيلكا والأسلحة الرشاشة و.. من جهة أخرى. كانت الزوارق تتعرّض للإصابة برصاص العدو ضمن نطاق محدّد، وأصبح واضحًا أنّ خطّ العدو لم يسقط بكامله. كان قارب الكمين الكبير في ضفة العدو يمطر المياه بنيرانه الغزيرة، لكن تابعت الزوارق التي تقلّ المجاهدين تقدّمها من دون تلكّؤ. وصلت طلائع

 

348


337

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

الزوارق إلى شاطئ العدو. كان المشهد عجيبًا والعدو يمطرنا بزخّات متواصلة من الرصاص من أعلى التلال المستحدثة على ضفّة النهر حيث ربّض أسلحة الشيلكا والثنائي. يظهر أنّ هذه التجهيزات أُعدّت للدفاع الجويّ، ولكنهم وجّهوها الآن إلى الماء (في مستوى) بحيث لا تصيب قواتهم، وفي الوقت عينه تغطّي قسمًا عظيمًا من الماء. وصلنا سالمين في رعاية الله، وتوقفت القوارب على بُعد ثلاثة أو أربعة أمتار من اليابسة. قفزنا سريعًا إلى الماء. لقد حالت العوائق الحديدية المتشعبة دون وصول القوارب إلى اليابسة، وصار من اللازم علينا أن نعبر الشريط الشائك بأيّ طريقة كانت. كان الجوّ باردًا، ورأينا الغوّاصين في الوحل وعلى الشاطئ وقد استشهد بعضهم ظلمًا، أو وسط الماء وفي الرّمق الأخير من شدّة الجراح والنزيف[1].

 

كان حاجز (سد) العدو بمحاذاة الماء، ودشمه خلف العوائق الحديدية. كما استحدث بعض الدشم أيضًا بين القصب بحيث لا تُرى واضحة من النظرة الأولى. بنى العراقيون أيضًا دشم رصد يشرفون من خلالها على المنطقة. وكان خلف الحاجز ساترٌ ترابيٌّ ضخم ليس له تحصينات وتدشيم بالطبع[2].

 

تحسّن وضعنا مع وصول طلائع الدفعة الثانية من القوات. يبدو أنّ العراقيين الموجودين هناك إمّا جبناء وإما ضعفاء، لأنّهم كانوا بعد رمايات قليلة، يخرجون من دشمهم بشكل جماعي ويسلّمون أنفسهم. عندما اجتزت الساتر، ذهبت باتجاه دشمة الرصد. كنت أعلم أنّه يمكن


 


[1] سمعنا فيما بعد من الإخوة الغواصين أنّهم وصلوا إلى منطقة العدو قبل الموعد المقرّر وانتظروا حتى يحين وقت الاشتباك. في هذه الدقائق، أصابهم العدو في إطلاق نار عشوائي ما أدى إلى استشهاد 7 أو 8 أفراد منهم هناك. كما جرح بعضهم في الماء وغرقوا. على أيّ حال فقد وصل قليل منهم سالمين إلى خطّ العدو، وقام هؤلاء برغم قلّة عددهم بعمل كبير عندما فتحوا معبرًا لنا هناك.

[2] هذا الساتر هو من أقدم السواتر الترابية في تلك المنطقة. وربما استحدث قبل عشر سنوات كي لا تجتاح المياه اليابسة عندما ترتفع نسبة المياه في نهر أروند.

 

349


338

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

لنا أن نجد منظارًا يعمل على الأشعة تحت الحمراء في المراصد. وفعلًا فقد وجدت واحدًا هناك، وكان ذلك رائعًا بالنسبة إلي، ورحت أنظر من خلاله - في عتمة الليل - إلى كلّ مكان وأطّلع على الأوضاع. خلال أقلّ من ساعة واحدة قام عناصر كتيبة "أبو الفضل" بتطهير المنطقة، وإسكات آليات الشيلكا الموجودة على التلال. وصلت أيضًا كتيبة الإمام الحسين عليه السلام من الخلف. لم تكن مهمّتها الاشتباك عند الخطّ الدفاعي الأوّل، بل كان على أفرادها أن يذهبوا سريعًا باتجاه طريق البصرة المعبّدة. لم تكن المسافة كبيرة بين ذلك المكان ومصنع الملح، حيث قاعدة العراق الصاروخية أيضًا، وتقرّر أن نتحرّك إلى هناك في المرحلة الثانية من العملية. أثناء حركتها استُهدِفت الكتيبة من بساتين النخيل، ذلك لأنّه لم يتمّ تطهير المحور بشكل كامل، وكانت الدبابات والقوات العراقية متناثرة في المنطقة خصوصًا في البساتين. لقد استحدث العدو هناك سواتر ترابية مثلّثة الشكل، رأينا نموذجًا منها في منطقة زيد. بنيت هذه السواتر بالقرب من الطريق على شكل منحنٍ وبمساحة 200 م. تجمّع القسم الأعظم من عناصر العدو هناك، ليشكل ذلك المكان في الواقع مركزًا لدعم قواته. لم يحدث شيء مهم أثناء تطهير المنطقة المحاذية للمياه، لكن، أثار تعجّبنا فقط منظر الأسرى العراقيين، فأغلبهم كان في مقتبل العمر، بشرتهم سمراء، ونحفاء البنية، ولا يشبهون العدوّ الذي رأيناه في أغلب العمليات، في عناده وقوّته.

 

تقدّمت كتيبة الإمام الحسين عليه السلام إلى الأمام، ولأنّ الأوامر تمنعها من الاشتباك تحت أيّ ظرف من الظروف، فقد تعرّضت لإصابات أيضًا. نحن أيضًا كنّا عند الخطّ الدفاعي الأول للعدو، الذي بقي عدد لافت من عناصره متموضعًا بين كتيبتنا وكتيبة الإمام الحسين. بزغ الفجر، فأصبح المشهد أكثر وضوحًا. لقد تهدّمت مصفاة

 

350

 


339

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

الفاو، وغطّت النيران وسحب الدخان سماء المنطقة. كانت أصوات كثيرة تتعالى من جهة الفاو، ويبدو أنّ عناصر فرقة "25 كربلاء" وصلوا إلى المدينة ويقومون بالتطهير. كانت لحظات عجيبة. وفيها لفتت انتباهنا سيارة جيب عراقية تنطلق مسرعة باتجاه الفاو. استهدفناها مباشرة بالرشاشات والـB7، وما نحمل من أسلحة. تعجبنا إذ لم يستطع أيّ سلاح إيقاف ذلك الجيب، وتابع السائق - وهو الراكب الوحيد في السيارة- تقدّمه باتجاهنا غير مكترث بكلّ هذه النيران!

- عجبًا يا له من رجل لا يعرف الخوف!

 

كنت أفكّر بهذا عندما توقف الجيب أخيرًا بعد أن أصيبت عجلاته برصاص ثقبها. لم ندرك أنّ السائق واحد منّا إلا بعد أن ترجّل من الجيب! تقدّم منّا أكثر وعرّف عن نفسه. كان من قادة الصفّ الأول في فرقة "25 كربلاء"، ويريد الذهاب باتجاه قواته المشغولين بتطهير مدينة الفاو. حقًّا لقد شملته عناية الله سبحانه إذ خرج سالمًا من بين كلّ ذلك الرصاص. لم يتأخر عندنا، ولمّا تأكد أنّ السيارة لن تصلح، انطلق نحو المدينة ركضًا.

 

عند التاسعة صباحًا جاء أمرٌ يقضي بأن تذهب سريّتنا لتأمين الطريق التي كانت بعهدة كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. بالطبع، قام عناصر فرقة "25 كربلاء"، وعناصر فرقة أخرى كانت في جناحنا الآخر، إضافة إلى عدد من عناصر فرقة عاشوراء، قاموا بإغلاق الطريق من الأمام وطهّروها. لكن، لم تسمح الظروف لعناصر التجهيزات بالتقدّم إلى الأمام، إذ كان العراقيون يضربون بشدّة ذلك الجزء من الطريق. لذا تقرّر أن تذهب سريتان لتأمين المكان، سريّة الحاج قلي، وسريّة رسول طالبي.

 

تقدّمنا حتى المزار الذي أعلمونا بوجوده في المنطقة من قبل. كان مرقدًا لأحد أصحاب "أمير" المؤمنين عليه السلام، ذا قبّة وبناء صغيرين، وقد حافظوا على نظافته كثيرًا. رأينا إلى جانب هذا المزار قناة كبيرة حُفرت

 

351


340

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

حديثًا، تشبه القنوات التي نحفرها في مدننا لجرّ المياه أو لنقل الكهرباء، ولم يكن لها أيّ استخدام عسكري. بدأ التحرك من هذا المكان. بناءً لطلب الأخ مولايي، بدأت سريّة الحاج قلي بالحركة والتطهير من جهة اليمين، في حين كانت سريّة رسول طالبي تقوم بعملها في اليسار. كانت المنطقة مليئة بالنخيل، وتوجّب على الإخوة أن يتقدّموا من تلك القناة ليصلوا إلى مقربة من الطريق. لم يُظهر العراقيّون مقاومة تذكر على جهة اليمين حيث اتجاه مدينة الفاو، وبدأ يقلّ عددهم من جهة فرقة "25 كربلاء"، لذا لم يكن تطهير تلك الجهة بتلك الصعوبة، واستطاع عناصر سريّتنا الوصول إلى هدفهم والانضمام إلى فرقة "25 كربلاء". طبعًا، بقيت أنا إلى جانب المزار، ولم أذهب مع الإخوة إلى الأمام. بعد أن طهّر الإخوة أطراف الطريق، عادوا إلى جانب المزار، لكن، كانت الاشتباكات أكثر تعقيدًا في جهة اليسار، فعديد القوات العراقية في الجهة اليسرى للقناة أكثر بكثير، ومنعت مقاومتهم الشديدة الإخوة في سريّة رسول طالبي من التقدّم أكثر إلى الأمام. امتلك العراقيون أيضًا دبابات في ذلك الجزء من المنطقة، فبدأوا بضرب شبابنا بشدّة. في الواقع اضطررنا في ذلك الجزء أن ننتشر في وجه العراقيين على شكل خطّ لكي يستطيع عناصر التجهيزات العبور. في تلك الأثناء وصلت مروحيتان من جهة العراقيين. وعندما بدأ الشباب بالرماية عليهما علا صوت يقول: "لا ترموا، المروحيّتان تابعتان لنا!". دقّقنا النظر، وما إن اقتربت المروحيّتان أكثر حتى وجدنا أنّهما تابعتان لقواتنا الجويّة. بالفعل، قامت القوات الجويّة بعمل عظيم في عملية "والفجر8"، إذ بدأت عملها عند العاشرة من صباح يوم العملية، في حين أنّ المروحيات في العمليات السابقة، كانت تبدأ باصطياد الدبابات بعد يوم أو يومين من بدء العملية العسكرية. كان لافتًا مشهد إطلاق المروحيّتين للصواريخ من وسط بساتين النخيل، ثم خروجهما من هناك. لقد علقت الدبابات

 

352

 


341

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

العراقية في بستان النخيل بأيدي عناصرنا وانتهى أمرها.

 

أردت في تلك الظروف الذهاب إلى بيت الخلاء، وهو بالقرب من منطقة الدبابات، لكن، يبدو أنّ العراقيين يصوّبون على ذلك المكان! ولم أكد أصل إلى هناك حتى سقطت حولي عشرات الرصاصات. ضحكت! ذهبت ورجعت على نفس الحال. تعجب أمير: "ما الذي حدث حتى بدأت بالضحك يا سيّد؟".

- لا شيء! لا يسمحون لنا حتى بالذهاب إلى المرحاض!

 

أصبحت الأطراف المحيطة بالمزار أكثر ازدحامًا. كان في تلك النواحي أيضًا، ثمة أماكن كالمخازن، ذهب بعض الإخوة خلسة إليها بحثًا عن سيجارة! التدخين ممنوع في الفرقة، ولكن، كان هذا القانون يُنقض في أيام العمليات، ليفتضح أمر المدخنين بدءًا من القائد وصولًا إلى العنصر البسيط! عندما انخفضت حدّة الاشتباكات قرابة الظهر، ذهب عدد من الشباب نحو المخازن بحثًا عن سيجارة. أعتقد أنّه عندما فتح رحيم باب صندوق الذخائر وجد عراقيًّا هناك! اضطرب المسكين. لا يتوقع أحد أن يخرج عنصر من عناصر العدو من داخل صندوق ذخائر! وصل الشباب لمساعدته في الوقت المناسب، وأخذوا العنصر العراقي أسيرًا. رأيت هناك أيضًا "علاء الدين نور محمد زادة" وبعض الشباب يدخلون إلى دشم ومتاريس القيادة العراقية، وغالبًا ما يبحثون عن معلومات. في ذلك الوقت كان علاء الدين مسؤول المحور ومسؤول التّخطيط في الفرقة، وقد جمع قادة الفرقة بالقرب من المزار وأعطاهم التوجيهات اللازمة حول المراحل التالية من العملية.

 

جميلًا كان ذلك اليوم. لقد أُنجزت بنجاح العملية التي بدأت ليل 9 شباط، وتضاعفت فرحتنا في الحادي عشر منه يوم انتصار الثورة. كان من المقرّر أن نهاجم القاعدة الصاروخية العراقية يوم الحادي عشر،

 

353


342

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

لكن، سيطر الإخوة في فرقة قم على تلك المنطقة في الليلة السابقة، ولم يعد لدينا أيّ عملية حينها. تحقّق وعد الله سبحانه وتعالى أنّه إن أراد فسينصر الضعيف على القوي، إلى درجة أنّه تمّ من المرحلة الأولى السيطرة على النقاط المتوقع سقوطها في المرحلة الثالثة من العملية. باستثناء عناصر الاقتحام من الغوّاصين الذين قدّموا تضحيات كثيرة، كانت خسائرنا قليلة جدًا. أصيب اثنان من شبابنا بجروح طفيفة وجرح 4 أو 5 أفراد من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. لكن، كان للغواصّين قصّة من نوع آخر، وكلّما سمعنا المزيد عنهم ارتفع شأنهم ومقامهم في أنفسنا[1].

 

تموضعنا ليلة 11 شباط في القناة القريبة من المزار، وكنّا بوضع جيّد بعد أن طهّرنا الأطراف المحيطة بنا. كان لدينا فترة استراحة في تلك الليلة. لكن، هل يمكن النوم في ذلك الصقيع؟ تكدّسنا داخل القناة الضيّقة بعضنا إلى جانب بعض، وتقرّر أن يقوم الإخوة بالحراسة على طرفي القناة. في أول الليل، ذهبت أفتش بين تجهيزات العراقيين، ووجدت مدفأة نفطية "فالر" التي تضيء بأربعة أو خمسة أنماط من الضوء الأزرق. أحضرت أيضًا بطانية عراقية وأشعلت المدفأة داخل القناة. وضعت البطانية على الأخشاب التي أحضرناها إلى هناك سابقًا، فأصبح المكان أشبه بمقعد صغير. تناولنا طعامنا هناك، وكان متوافرًا بكثرة وسهل المنال.

 

تقرر أن يحرس الإخوة المكان ليلًا بالتناوب ويراقبوا الأطراف.


 

[1] سمعت عن أحد الغواصين هو عبد الله شكوفه، أنه عندما كان يركض على الطريق خلف الحاجز وصل إلى جندي عراقي فطعنه بسكين. في تلك اللحظات وصل عراقي آخر وطعن شكوفه ليسقط على العراقي الأول. ثم أتى شخص آخر من شبابنا وطعن العراقي الثاني ليقع هو الآخر أيضًا فوق شكوفه، لكن لم ينزع السكين من جسم شكوفه! وبقوا على تلك الحال حتى الصباح، واعتقد الجميع أن شكوفه استشهد في اللحظات الأولى. عندما أخلوا الجرحى ووصل الدور إلى الشهداء، وبعد أن رفعوا جسد العراقي عن شكوفه وجدوا أنه ما زال به رمق! أخرجوا السكين من ظهره وحملوه إلى الخلف ليستشهد أثناء عبور نهر أروند. في كلّ مرّة يجري الحديث عن الشباب الغواصين أرى أنه يستحيل أن يحلّ أحد في الفرقة مكان هؤلاء العظماء.

 

 

354


343

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

وذلك بأن نقف في مكانٍ ما، ونرفع رأسنا خارج القناة ونراقب جميع الأطراف دون الحاجة للسير وما شاكل. قالوا لي إنّ نوبة حراستي من الثانية وحتى الرابعة، لكنّني نمت ليلًا واستيقظت عند صلاة الصبح. لم يوقظني أحد من أجل الحراسة، وأدركت أنّ صديقي العزيز "أمير" تحمّل عناء الحراسة عنّي وتركني نائمًا. بات الكثيرون في القناة، لكنّني بقيت إلى جانب "أمير" ورحيم افتخاري ورضا كلوليان، وتغطّينا ببطانية واحدة. في تلك الأيام أصبح "أمير" يعاملني بشكل مختلف. صار يتودّد إليّ أكثر من السابق، ويدور حولي كثيرًا ويقول: "سيّد! رأيت في المنام أنك استشهدت، وبقيت أنا وحيدًا وكنت أبكي بشدة". في تلك الأيام، استيقظ في إحدى المرات من النوم خائفًا وقال لي: "سيّد! أنت اليوم ستصبح شهيدًا!", قلت ضاحكًا: "لا أصدّق". لكنّ "أمير" أصرّ على ذلك ثم نزع شعرات عدّة من رأسي ليضعها بين أوراق دفتره. علا صراخي: "يا عمّ، كفّ عن نزع شعري! أعلم أيّ نوع من الناس أنا. لن يحدث لي شيء... قم واذهب لشأنك!".

 

لكنّه ظلّ يكرر: "ستستشهد يا سيّد! لقد رأيت ذلك في عالم الرؤيا". وضع شعراتي بين دفّتي دفتره. الدفتر الذي يحمله دائمًا في حقيبته ويكتب فيه ذكرياته وما يخطر بباله.

 

حلّ اليوم الثالث للعملية، والمنطقة هادئة نسبيًّا. لم يستطع جيش البعث حتى ذلك اليوم أن يقوم بالتوجيه بشكل صحيح وكامل، لكن بقيت طائراته تحوم في سماء المنطقة منذ اليوم الأول للعملية، هادفة إلى ضرب قواربنا في مياه أروند، من دون أن تجد فرصة لذلك. ذلك أن أسلحة الشيلكا والثنائي خاصّتهم وقعت سالمة في أيدينا، وهي في أفضل موقع للدفاع الجوي، وكلّ طائرة تتجه نحو أروند صارت هدفًا

 

355


344

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

لنا. لحسن الحظّ بقيت هذه الأسلحة سالمة في الليلة الأولى للهجوم، وقد ربّضها العراقيون على ارتفاع 20م من سطح الماء، وصنعوا لها ما يشبه المتراس، فكانت آخر وسيلة لدينا لاستهداف الطائرات. استفاد الشباب أيضًا من هذه الغنائم بالشكل اللائق والمطلوب. بتنا في كلّ مرّة نرفع فيها رأسنا، نرى طيّارًا يقفز خارج طائرته المحترقة! أذكر أنّه في عملية "والفجر8" سقطت في المنطقة حوالي 65 طائرة، وكان للأسلحة التي جهّزها العدو لمواجهتنا الدور الأهم في هذا النجاح الكبير. باستثناء حوالي عشر ناقلات جند، وقعت باقي التجهيزات سالمة في أيدينا عند الخطّ الدفاعي الأول للعراقيين. ومع أن عجلات الآليات ثُقبت، لم يُعرِ الإخوة اهتمامًا لهذه المسألة، واستخدموها بالحال التي هي عليها.

 

في تلك المنطقة، كانت النقطة الوحيدة التي تُسبّب لنا القلق هي مكان أشبه بالمنقار[1]، وقد تقدّمت قواتنا من جناحيها الأيمن والأيسر وبقي ذلك الجزء بأيدي العراقيين. استغلّ العدو الفرصة وأحضر إلى هناك ليلة 11 شباط قوات النخبة من الحرس الجمهوري. كان هؤلاء على اتصال مع الخطوط الخلفية، وكانوا يدعمونهم بشكل جيد، وعُرفوا بالقوة والشجاعة، وتجسّد على أرض المعركة في اليوم التالي كلّ ما سمعناه عنهم.

 

في ذلك اليوم، انشغلتُ بتجهيز مدفع هاون 120ملم. لقد صدر الأمر بالتحرك ليلة الثاني عشر، بينما أنا منهمك منذ العصر بترتيب ذخائر الهاون في مخزنٍ تبلغ مساحته 9 أمتار. في قلب المعركة هذه، ذكّرني هذا المخزن بالبيت الموجود قرب بستاننا! حدّدتُ زاويةَ الهدف، وعندما أردت تجهيز القذائف رأيت أحد عناصر الهندسة يسحب معه أسيرًا عراقيًّا إلى الخلف. كان هذا البعثي طويل القامة وضخم البنية، ويضع في فمه


 


[1] "المنقار"، هو في الواقع ساتر جاهز يبلغ طوله حوالي 2 كلم، ولأنّ هذا الطول يعتبر قليلًا نسبة إلى المساحة الإجمالية للمنطقة، أطلقنا عليه اسم "المنقار".

 

356


345

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

علكة يمضغها من غير اكتراث! ما إن اقتربا مني حتى وجدت أنّه أسير ذو رتبة عالية. أردت أن أستفيد منه قليلًا. قلت للأخ: "أين تأخذ هذا؟ أعطني إيّاه ليحمل لي الذخائر وينقلها". أجابني: "لا! لديّ عمل معه".

- أيّ عمل هذا؟! دعه هنا يعمل قليلًا. ثمّ أنا آخذه إلى الخلف!

- كلا! يجب أن يذهب إلى الخلف الآن! ليلة البارحة أرسلنا أربعة من الإخوة على جرافة، بعد مدّة عرفنا أنّهم قطعوا رؤوسهم! هذا اللعين هو من تسبّب بهذا البلاء لشبابنا!

 

لم أقل شيئًا بعد أن سمعت هذا الكلام. لقد بدا لي كآكلي لحوم البشر وهو يمضغ تلك العلكة!

 

عزمت تلك الليلة على العمل بالهاون، لذا قلت للسيّد أجدر إنّني لن أذهب إلى الأمام الليلة.

- لماذا؟

- حدّدت زاوية الرمي ووجّهت الهاون، أريد أن أضرب منطقة المنقار.

 

لقد نسّقت مع عنصر الإشارة الموجود في نقطة أمامية، ورميت عدّة قذائف لتصحيح الرماية، وأخبرني بمكان وقوعها. جعلني السيّد أعدل عن ذلك إذ قال: "دع هذا الهاون هنا، يمكن أن تصيب هذه القذائف شبابنا أثناء تقدّمهم ليلًا! الأفضل أن تتجهّز للعملية". صرفت النظر عن الهاون.

 

تحدّثت حينذاك مع السيّد عن منطقة العملية. قال: "نحن ذاهبون الليلة إلى تنفيذ العملية". وبما أنّنا طهّرنا الأطراف الأربعة للطريق في الليالي السابقة وتموضعنا فيها، سألته: "لقد سيطرنا على المحور بالكامل، إذًا أين نقوم بالعملية؟!".

- كلا! لم نسيطر بعد على المنقار. ستتحركون عصر اليوم. يوجد هناك ساتر ترابي يصل ارتفاعه إلى ثلاثة أمتار. ستعبرون بالقوات ذلك الساتر وتشتبكون مع قوات العدو المجتمعين في المنقار.

 

357

 


346

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

لم يقل السيّد أيّ كلام آخر. ظننّا جميعًا أنّنا سنهاجم العدو ليلًا في المنقار، انطلاقًا من ذلك الساتر الترابي. بينما لم يكن الأمر كذلك! لقد اقتضت الخطّة العامة أن تحمِل فرقتان من قواتنا من الجهتين على قوات الحرس الجمهوري العراقي في منطقة المنقار، بينما نقوم نحن بإلهائهم فقط. شيءٌ أشبه بالطعم!

 

منذ الصباح بدأ العراقيون بالتحرك شيئًا فشيئًا. مع أنّهم لم يقصفوا الطريق كثيرًا في اليوم والليلة السابقين، إلا أنّهم الآن استقدموا المزيد من العناصر وبدأوا بإطلاق نار كثيف أيضًا، لكن، لم تكن مدافعنا عاطلة من العمل، وبدأت باستهداف الحافلات العراقية التي تنقل القوات الجديدة إلى المنطقة، وكانت ترى في الطريق ركام الحافلات والقوات المحترقة.

 

في صباح ذلك اليوم، كانت السماء أكثر ازدحامًا من قبل، وكذلك زاد مزاح الشباب ودعابتهم وخفّة دمهم. تمحور أكثر المزاح حول متابعة طائرات العدو وزمن سقوطها. لقد تميّز عمل دفاعنا الجوي بحقّ. وبينما نحن نتابع في السماء الطائرات التي يتمّ اصطيادها، تناهى إلى مسامعنا خبر القصف الكيميائي من الخطوط الخلفية. بحثنا قليلًا عن الأقنعة، ولكن كانت المسافة بعيدة ولم يصل التلوّث إلى منطقتنا بعد. جاءنا أيضًا خبر تقدّم قوات كتيبة الإمام الحسين عليه السلام باتجاه مصنع الملح[1].

 

أشغلنا أنفسنا حتى العصر في ذلك اليوم. بقي "أمير" إلى جانبي أينما ذهبت. لقد سمع أنّ تلك الليلة هي ليلة العملية، فراح يهمس في أذني باستمرار: "سيّد، ستستشهد أنت الليلة". وأنا أجيبه: "لا تخف! لن يحدث شيء!", لكنّه كان يتحدّث عن الموضوع بشكل جدّي.


[1] سيطرت قواتنا على مصنع الملح بعد أن سقطت منطقة "المنقار".

 

358


347

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

- أمير! لا تزال تردّد هذا الكلام إلى درجة أنّني بنفسي سأصدّق أنّ شيئًا ما سيحدث لي الليلة... يا أخي، لن أستطيع أن أقوم بعملي أثناء العملية ونحن على هذه الحال!

 

كان عجيبًا أن أتذكّر مشاكلي في وسط ذلك الغمار، وأسأل الله تعالى أن لا يُذكِّر أيّ مقاتل بمشاكله العائلية أثناء الحرب! عندها سيدخل الشيطان ويباشر عمله، ولن يتمكّن الإنسان من العمل أبدًا كما يجب! كنت من جهة أسمع كلمات أمير، ومن جهة أخرى أتذكّر عائلتي. قلت له أخيرًا: "فلنصبر ولنر ما الذي سيحدث؟".

 

عند الغروب أشعلنا من جديد تلك المدفأة النفطية. كان من المقرّر أن نتحرّك بين التاسعة والعاشرة مساءً، لكن، بدأنا نسمع من كلّ الجهات أن تجهّزوا... تجهّزوا... كان "أمير" إلى جانبي. قلت له: "سأنام، وعندما يحين وقت التحرّك أيقظني". أجاب: "لك هذا". سمعت كلام "أمير" ورقدت إلى جانب المصباح. غفوت أقلّ من ساعة، وعندما استيقظت كان قلبي يخفق بشكل فظيع. رأيت في المنام أنّ "أمير" سيستشهد تلك الليلة. سيستشهد في مكان لن نستطيع إحضار جسده منه أيضًا. ذهلت عن الكلام، وراح قلبي يخفق بشدّة. أخذت أحدّق في أمير، لكنّني لم أخبره بتلك الرؤيا. أساسًا لم أكن أجرؤ على التفكير في استشهاد أمير، فكيف بالتكلّم عنه. تجهّزت للانطلاق والندم يغمرني لهذه الغفوة القصيرة.

- قوموا.... تقدّموا إلى الأمام!

 

وقف الإخوة في طوابير وانطلقوا باتجاه منطقة المنقار. بعد دقائق وصلنا إلى مكان تعمل الجرّافة على إحداث ساتر ترابي فيه. كانت أبراج التوتر العالي الكبيرة تلفت النظر قبل أيّ شيء آخر. وبمجرد وصولنا إلى محاذاة أعمدة الكهرباء وضعت علامة هناك. لأنّنا ذاهبون باتجاه خطّ الدفاع العراقي خفت أن نضلّ الطريق، فكانت العلامة على تلك

 

 

359

 


348

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

الأعمدة تعدّ أفضل علامة نستدلّ بها على طريقنا.

 

منذ بداية تحركنا، كان العراقيون يقصفون المنطقة بشدّة بالدبابات والمدافع التي أحضروها إلى ذلك الجزء الذي يشبه المنقار، لكننا لم نكترث لهذا القصف، وتابعنا تقدّمنا. في الواقع كنّا سعداء إذ سنحت الفرصة لنا للمشاركة في هذه العملية، ونكون شركاء في النصر. وحتى ذلك الحين، وباستثناء الغوّاصين من قوة الاقتحام، لم تواجَه قواتنا بمقاومة تذكر من قِبَل العدو، واقتصر عملنا على عمليات التطهير.

 

بقينا لدقائق خلف ذلك الساتر الترابي الكبير، وأمير إلى جانبي كالعادة. في تلك اللحظات أدركنا أنّنا نسينا أحد أسلحتنا. لا أذكر أهو سلاحي أو سلاحه. على كلّ حال بقي لدينا نحن الاثنين سلاح واحد. وجدت ذريعة لأمنع "أمير" من التقدّم أكثر. قلت له بصيغة الأمر: "أمير! ابقَ أنت هنا ريثما نرجع نحن!", أجابني وكان كحصان ثائر لا يعرف الهدوء*[1]: "لا! لا! عليّ أن أتقدّم إلى الأمام. أريد أن أشارك في هذه العملية! يجب...", وقلبي يضطرب أكثر كلّما تكلم. تمنّيت من أعماق قلبي أن يحدث شيء ما فلا يذهب إلى الأمام في تلك الليلة. تذرّعت بالسلاح، لكنّه أصرّ كثيرًا بحيث إنّني لم أستطع إقناعه. ظلّ يقول لي: "سيّد! جد لي سلاحًا". توسّل إليّ كثيرًا حتى أخجلني. لم أكن أحتمل حتى رؤيته قلقًا ومضطربًا. رأيت هناك مسعفًا يحمل سلاحًا. ذهبت إليه: "يا أخي! أنت مسعف أو قنّاص!".

- أنا مسعف!

- إذًا أعطني سلاحك.

 

أطال النظر إليّ للحظات ثم أعطاني سلاحه. لم يكد "أمير" يأخذ السلاح حتى أصبح شغلي الشاغل. عشت لحظات عصيبة. أردت أن أصرف ذهني عن التفكير به. ابتعدت عنه قليلًا. وجدت العناصر


 


[1] ورد في النسخة الفارسية: كبخور الحرمل المفرقع على الجمر لا يقر له قرار.

 

360


349

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

يقفون في طوابير وقد أصبحوا جاهزين للانطلاق. كانت وجوههم تسحر الناظرين. كأنّها الليلة الأولى للهجوم. عندما رجعت إلى أمير، وجدته وقد وقف مع أربعة آخرين جنبًا إلى جنب: "أمير" مارالباش، رضا كلوليان، رحيم افتخاري، مهدي محمدي وشخص آخر، وقد وضعوا أيديهم فوق بعضها البعض. ما إن رأيت أولئك الخمسة على تلك الحال حتى انفطر قلبي! لقد رأيت من قبل مثل هذه العهود، لكنّني في تلك الليلة وبعد أن رأيت ذلك المنام، لم أكن أرغب أبدًا بأن أرى "أمير" هناك. ما إن رأوني حتى قالوا: "سيّد! تعال أنت أيضًا معنا!".

- ما القصة؟

- نريد إن استشهد أحدنا أن يشفع للآخرين!

 

أردت أن أضفي جوًّا آخر: "لم يحدث شيء إلى الآن وتفكرون بالشهادة؟", وخنقتني العبرة. إلهي ما الذي سيحصل الليلة؟...

 

حان موعد الانطلاق. تقرّر أن نتحرّك ركضًا في طوابير. لم نبدأ بالتحرك بعد حتى أتى إليّ ابن قريتي السيّد محمد إيزد خواه. كان يجول معي منذ مدة ولا يدعني وشأني، قال لي: "أينما تذهب سأذهب معك. لأنّه حيث تكون، لا يحدث شيء!".

 

تحرّك الطابور من مكانه. حاولت أن أصرف ذهني عن كلّ شيء، وعبرت الساتر الترابي مع الطابور. إذًا نحن الآن نركض في منطقة العراق العسكرية. رافقنا الحاج قلي يوسف بور قائدًا للسريّة، وكان مقرّرًا أن تلحق بنا سريتان من كتيبة "أبو الفضل". كنّا نركض بسرعة باتجاه منطقة المنقار. وصلنا بعد قليل إلى كومة من التراب، يمكن القول إنّها ساتر ترابي، لكن، لم يتجاوز ارتفاعها نصف المتر. عبرنا من هناك أيضًا من دون أن نتوقّف ولو لحظة، وأكملنا ركضًا باتجاه العدو. كانت الأرض مسطّحة ومستوية وليس فيها أيّ مرتفعات ومنخفضات. لم يصدر أحد أيّ صوت، وكنّا نتقدم بشكل جيد حتى وقع الخطأ من جانب الشخص

 

361

 


350

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

الذي يحمل مسدس الخطّاط. كان من المقرّر أن نرمي الرصاص الخطّاط عندما نضرب خطّ دفاع العدو ونقتحم الساتر الترابي، لكنّه أطلق ذاك الرصاص في اللحظة غير المناسبة! مهما كان سبب الخطأ، فقد أُطلق رصاص خطّاط من قِبَلنا نحو السماء ليبدأ العراقيون - وهم في تلك الظروف في حال الجهوزية - مباشرة بإطلاق نار كثيف على المنطقة. كان حجم النيران كبيرًا إلى درجة أن وقع كلّ شبابنا أرضًا منذ اللحظات الأولى! ركّز العدو نيرانه على ثلاثة مستويات: على الأرض، وفي الوسط وفي الهواء. النيران الأرضية أصابت الأفراد الذين انبطحوا أرضًا، ونيران الوسط أصابت غالبًا أولئك الذين يتقدّمون في مشية القرفصاء في بطونهم أو وجوههم، بينما النيران الهوائية أصابت الذين يركضون واقفين في رقابهم ورؤوسهم. كانت لحظة عجيبة. اعتقدت أنّ الجميع انتهى أمرهم. التصقت بالأرض، وصوت الرصاص يدوّي ويصمّ الآذان، ولكنّني كنت أسمع صوت نبضات قلبي العالية. نظرت حولي. لم أرَ أحدًا يتحرّك. الجميع وقعوا أرضًا. كنت عندما أضع يدي على أحدهم يتقلّب إلى الجنب الآخر بهدوء. أصبت بالجنون. شعرت أنّه يجب أن أذهب بأيّ شكل من الأشكال إلى "أمير" ورحيم اللذين كانا يركضان أمام الجميع. نهضت بصعوبة من مكاني. هل كنت ذاهبًا لأجد تفسيرًا لمنامي؟! لم أعد أعير الرصاص أيّ اهتمام. وكأنّ الرصاص أيضًا لم يكن له شغل بي! وجدت "أمير" في الأمام، ملقى على الأرض، هو والذين تعاهدوا على الشفاعة معًا، جنبًا إلى جنب. لماذا حصل ذلك؟ لماذا يا أمير... جلست فوق رأسه. رحت أناديه: "أمير... أمير...", رفعت رأسه ووضعته على ركبتي. تأوّهت من الأعماق... لقد انتهى كلّ شيء. كان خطّ رفيع من الدم الساخن يجري من فمه. كم كنت أحبّ "أمير"... كم كنت أحبّ "أمير"... على نفس تلك الحال من عدم التصديق رأيت "رحيم" أيضًا ورضا و... فكّرت أنّ أولئك الخمسة لم يعودوا بعد بحاجة لشفاعة أحدهم

 

362


351

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

إلى الآخر لأنهم ذهبوا معًا. جلت بنظري في المنطقة، كنت وكأنّني أرى الرصاص الخطّاط والنار والغبار المتصاعد والتراب في المنام. شعرت بالاختناق ولم أعد أستطيع البقاء هناك. وضعت رأس حبيبي "أمير" على التراب ونهضت. رجعت إلى الخلف. هنا، التقيت الحاج قلي. بقيت أحدّق في وجهه في تلك الصحراء المنكوبة وتحت ضوء القنابل المضيئة ونيران العدو الغادرة. لقد أصيب وجهه برصاصة حطّمت وجنته، لكنّه ما زال واقفًا على قدميه، يريد أن ينظّم قواته. كان عندما يتكلّم يتناثر الدم من فمه! ماذا كان عليّ أن أرى تلك الليلة؟! في نفس ذلك المكان شاهدت عنصر البريد في سريتنا "مجيد كهتري", وقد أحاطت به النار في رمشة عين. لقد أصيب جسمه بحوالي 20 إلى 30 رصاصة واحترق ظلمًا بالنار. كان ذلك المكان سيّئًا. لا إراديًّا رجعت إلى الخلف. حتى ذلك الساتر الصغير الذي قالوا لنا إنّ ارتفاعه ثلاثة أمتار ووجدنا أنّ ارتفاعه لا يزيد عن نصف متر! لقد تقدّمنا بعد ذلك الساتر حوالي 500 أو 600 م باتجاه المنقار، والآن رجعت هذه المسافة بحالة لا توصف. في تلك الأرض السهلة وتحت ذلك الحجم الهائل من النيران، من المستبعد أن يبقى أحدٌ منّا على قيد الحياة لو لم نلتجئ إلى خلف ذلك الساتر. تموضع العراقيون في قناة يشرفون منها بشكل كامل على المنطقة المواجهة لهم. في تلك الحال سمعت صوت أحد الشباب.

- ما الذي حصل؟

- لقد أصيبت قدمي برصاصة.

 

إنّه صمد إقدام نيا[1]. ذهبت إلى جانبه وسحبته على الأرض. وصلنا إلى خلف الساتر بعد جهد مضنٍ. الشباب الموجودون خلف الساتر هم في الغالب أولئك الذين كانوا يتحرّكون في آخر الطابور، والتجأوا إلى الساتر

 


[1] عملتُ لسنوات مع الحاج صمد إقدام نيا في جامعة العلوم الطبية في تبريز.

 

363


352

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

بمجرد أن بدأت النيران. كانوا فقط يحفرون حفرة صغيرة في قلب ذاك الساتر، ويضعون فيها رؤوسهم كي يبقوا بمأمن من الرصاص. في تلك الحال، رأيت أحد مسؤولي الفصائل وقد بقي في الخلف ولم يتقدّم إلى الأمام. ما إن وصل إليّ حتى أعطاني جهاز اللاسلكي وقال لي: "سيّد! بالله عليك تحدّث إلى السيّد أجدر! لنر ماذا يقول!". غضبت منه. لقد رأيت كيف جرح الحاج قلي وكيف راح بحاله تلك يجمع عناصره وقد استشهد اثنان من مسؤولي الفصائل عنده، وعنصر البريد ومعاونوه. في حين أنّ مسؤول الفصيل هذا أخلد إلى الأرض خوفًا على روحه، والآن يرجوني بأن أتكلم مع قائد الكتيبة. لم أعره اهتمامًا وتركته. عندما ابتعدت عنه قليلًا رأيت ابن قريتي السيّد محمد ايزد خواه. كنت مضطرب الحال وغاضبًا. سألني: "سيّد! ماذا أفعل أنا الآن؟".

- ماذا تريد أن تفعل! قف وانظر إليّ!... قم وارمِ بالـB7!

 

المسكين كان رامي B7، وطلب مني حلًّا في وقت غير مناسب. تركته وذهبت. وبعد هنيهة سقط أيضًا على الأرض! جئت إلى فوق رأسه وما لبث أن استشهد في لحظة. كانت تلك الليلة مؤلمة في كلّ لحظة من لحظاتها. الإخوة يُبادون في مجزرة جماعية، وقلّة ترى هذه المشاهد المرّة. وجدت أنّ أقل ما يمكنني فعله هو تقديم تقرير عن الأوضاع إلى قيادة الكتيبة. صحيح أنّني كنت غاضبًا من مسؤول الفصيل ذاك، لكنّني أخذت منه جهاز اللاسلكي وتحدّثت إلى قائد الكتيبة. شرحت الموقف للسيّد وقلت له في نهاية الكلام: "سنقوم بكلّ ما تأمرون".

 

قال السيّد أجدر لي: "سيّد! أرسل الجرحى إلى الخلف. وليبقَ الأفراد الموجودون هناك في أماكنهم. أنت أيضًا اذهب إلى خلف الساتر. سأرسل "كنجكاهي" والشباب لترشدهم كيف يذهبون باتجاه العراقيين". بعد هذا الأمر قلت للإخوة: "ليسحب كلّ جريح نفسه إلى الخلف". ساعد

 

364


353

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

أصحاب الجراح الطفيفة ذوي الجراح البليغة حتى يتراجعوا إلى الخلف. شيئًا فشيئًا أصبح المكان خاليًا هناك. لم يعد هناك سوى ثلاثة أو أربعة أشخاص، بالإضافة إلى الشهداء المضرّجين بدمائهم والموزّعين هنا وهناك. رجعت أنا أيضًا، إلى خلف الساتر الترابي الذي بدأنا تحركنا منه. انتظرت حتى وصل كنجكاهي والآخرون. كانوا 10 أو 12 فردًا من العناصر الأقوياء في السريّتين الأولى والثانية، ومعهم أيضًا معاون قائد السريّة الأولى. كنجكاهي هو من شباب أردبيل، وكنت على معرفة به. أرادوا التقدّم إلى الأمام، وسألني عن الوضع هناك. شرحت له الأوضاع وسألته: "لماذا تذهبون والحال على ما هي عليه؟", أجاب: "قال السيّد إنّه علينا الذهاب!". دللتهم على الطريق وانطلقوا. استبعدت أن يرجعوا أحياءً. لقد ذهبوا إلى وسط جهنم النيران تلك عملًا بأمر قائدهم وبدون أيّ نقاش[1].

 

بعد ذهاب كنجكاهي وعناصره بقيت هناك إلى جانب الساتر. رجع أيضًا شخص أو اثنان من الأمام. كانت النيران العراقية المباشرة ما زالت مستمرة ومدافعهم تضرب بشدّة. في تلك اللحظات أحسست أنّني لم أشبع من أمير. ظلّ يشدّني نحوه. انطلقت باتجاه المنقار وحيدًا. بلغت المسافة بين مكان شهادة "أمير" - وهو من المتقدّمين في الطابور- وبين القوات العراقية فقط حوالي 5 أمتار. كانت حالي عجيبة، بدون سلاح، بدون قنابل، وفي صقيع تلك الليلة المرّة، أتقدّم إلى الأمام. وكأنّ قدميّ فقط من تقوداني نحو أمير. حتى إنّني لم أعلم متى أصابت الشظية قدمي! الشيء الوحيد الذي كان مهمًّا بالنسبة إليّ في تلك اللحظات هو

 

 


[1] سمعت لاحقًا أنّهم تقدموا إلى الطريق القريبة من قناة العراقيين واستشهدوا جميعًا. لقد وصلوا إلى الطريق، لكن لم يكن لهذا العمل فائدة أيضًا. لأنه لم يكن الهدف من مهمة كتيبتنا أساسًا السيطرة على المنطقة، وقد أدركت هذا لاحقًا. لقد قمنا بعملية إلهاء للعدو لكي تحاصرهم الفرق الأخرى في "المنقار" من الجهتين، وقد تحقّق هذا الأمر، وكان ثمنه شهادة عدد كبير من عناصر كتيبة "أبو الفضل".

 

365


354

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

كيف أصل إلى أمير. وكأنّ قدميّ عرفتا الطريق أكثر من عينيّ المغشّاتين. وصلت أخيرًا. جلست على ركبتيّ إلى جانب "أمير" ونظرت إلى وجهه. كانت عيناه الجميلتان مغمضتين، إلى الأبد. شعرت أنّ العراقيين يرمون القنابل. وقعت إحداها بين الشهداء. كان رضا يحمل على ظهره حشوات B7 انفجرت مع انفجار القنبلة. وفي لحظة رأيت أحد الشهداء يحترق بالنار... في ذلك الجوّ المثقل، اختلطت رائحة اللحم المحروق مع رائحة الدم والبارود. احترت أنا العاجز المذهول ماذا أفعل؟ كيف لي أن أترك "أمير" وأرجع. وإن بقيت كيف أبقى؟ ماذا أفعل يا إلهي؟! أخذ جسمي يبرد، وشيئًا فشيئًا بدأ العذاب والألم الناتج عن جَرح رجلي ينتشر في كلّ بدني، لكن ما زال فكري منصبًّا على أمير. كم كان تفسير منامي سريعًا. أحيانًا كنت أقول كفى، فلأدعه وأرجع إلى الخلف. وبعد دقيقة أقول أين أذهب بدون أمير؟ فلأبق هنا وأرَ ماذا يريد الله أن يفعل بي؟! لقد قسا عليّ الزمن. لم أكن يومًا أسيرَ الحزن والغمّ كما أنا اليوم. وقد أصبح كلّ همي الآن أنّه لا قدّر الله أن أرجع ثم لا أجد بعد ذلك أثرًا لأمير. احتملت أن لا يكون مقدّرًا في وقت قريب نقل أجساد الشهداء الطاهرة من تلك المنطقة. والعجيب أيضًا أنّني لم أصب بشيء في تلك اللحظات. كنت عندما أنظر حولي لا أرى أحدًا. لا أرى سوى أجساد الشهداء التي لا تزال دافئة. حتى الوجود بالقرب من العراقيين لم يعد مهمًّا بالنسبة إليّ أساسًا. كأنّهم لم يروني أو ربّما رأوا شبحًا يعزّي نفسه بهدوء. وقفت ووضعت رأسي للمرة الأخيرة على وجه "أمير" العطوف. اختلطت دموعي بدمائه... كان أقسى وداع في عمري كلّه.

 

رجعت نحو ساترنا وأنا أسحب قدميّ. لم أكد أقطع مسافة كبيرة حتى انتبهت إلى شخص يصوّب عليّ! رجعت نحوه، وأول شيء رأيته هو العصابة الملفوفة حول رأسه. أدركت أنّه أحد أفرادنا. قلت له بصوت عال: "أنا السيّد نور الدين عافي!". بدل أن أسمع جوابه سمعت صوت

 

366

 


355

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

بكائه[1]. التقينا. ناداني باكيًا: "سيّد...".

- ما الذي حصل؟

- لقد ضللت الطريق يا سيّد.

- لا بأس بذلك، أنا أعرف الطريق، هيا بنا لنذهب.

 

لقد أصيب بجراح في رأسه، وقام بنفسه بتضميد الجرح. لم أفكّر بجرح رجلي الذي كان يزداد سوءًا في كلّ لحظة. انطلقنا معًا باتجاه قوّاتنا. لقد حفظت الطريق - قبل الانطلاق إلى العملية - من خلال علامات معيّنة، لكنّني الآن مشتّت ومضطرب ولا أستطيع تذكّر شيء. سرنا في الواقع بالاتجاه المعاكس تمامًا، وكنّا مع كلّ خطوة نخطوها، نقترب أكثر من العراقيين. قال لي صديقي الذي يرافقني: "سيّد! هل تعرف أنت هذه الطريق؟".

- نعم أعرفها.... تعال.

 

مشيت وسار هو خلفي. ما إن تقدّمنا قليلًا حتى لمحت ظلّ دبابة تمر من أمامنا، وقامت بإطلاق رشقات نارية علينا! جلسنا أرضًا. قال لي بهدوء وكان قريبًا مني: "سيّد! تلك الدبابة عراقية؟".

- يبدو ذلك...

- إذًا، تلك الناحية للعراقيين!

- أجل، لقد سرنا في الاتجاه المعاكس، وعلينا أن نرجع.

 

عدنا إلى النقطة ذاتها التي انطلقنا منها. ما إن وصلنا إلى هناك حتى قلت له: "اسمع! أنا لا أرغب بالعودة! لا أذكر الآن في أيّ جهة يتموضع شبابنا، وأيّ طريق علينا أن نسلك. سأبقى في هذا المكان". ثم أشرت إلى حفرتين سبّبتهما القذائف العراقية على أثر قصفها المكان،

 

 


[1] هو الياس سبزانه، ويعمل حاليًّا في مستشفى الطالقاني في تبريز. أحيانًا نلتقي ويشاكس بعضنا الآخر بسبب ما حصل حينها.

 

367


356

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

وقلت له: "اذهب أنت إلى حفرة وأنا سأذهب إلى الحفرة الأخرى". كان متردّدًا: "سيطلقون القذائف إلى هنا مرّة أخرى. ستقع فوق رؤوسنا هذه المرّة!".

- كلا. لقد قصفوا هذا المكان مرّة ولن يقوموا بذلك مرّة أخرى... وإن فعلوا فلن تقع القذيفة في هذا المكان.

 

لكنه لم يُرد البقاء. قال: "كلا يا سيّد. أنا سأذهب!".

- على الرحب والسعة! اذهب إلى المكان الذي تريد!

 

في الواقع، كنت منهكًا وأشعر بالوهن. أردت فقط أن ينقضي الوقت وأرى ما سيحدث. من جهة أخرى كان جرح رجلي ينزف وليس بي حيل حتى لأضمّده. التجأت إلى الحفرة. هو أيضًا رجع إليّ بعد أن ابتعد خطوات. قال لي هذه المرّة بحزن: "أين أذهب أنا وأنت لا تزال هنا؟".

- إذًا اجلس هنا. وعندما يسفر الصباح نعرف أين ساترنا وأين ساتر العراقيين. عندئذ ننطلق.

- سيأتون ليلًا ويعتقلوننا!

- لا تخف! لن نؤسر!

 

قلت هذا ثم تذكّرت أنّني لا أملك أيّ سلاح. نهضت وبحثتُ قليلاً ووجدت سلاحًا، ثم رجعت إلى الحفرة وجلست بداخلها. كان التعب والألم يغمران كلّ وجودي. استندت إلى التراب وأبقيت عينيّ على السماء. كانت النجوم لا تزال مضيئة. رحت أفكّر في الأيام الماضية. الأيام التي أصبحنا فيها أنا وأمير أصدقاء. فكّرت بذكرياتنا. ضحكاتنا وبكائنا وكلامنا. مرّت كلّ تلك اللحظات أمام عينيّ واحدة واحدة. منذ أن أصبحنا أصدقاء، لم نفترق أبدًا. في المدينة والجبهة، في كلّ مكان لدينا فيه عمل بقينا معًا. حتى في المستشفى. كم كان "أمير" عطوفًا ونجيبًا! لقد رحل سريعًا وببساطة. كان يقول لي أنا لا أطيق أن أراك

 

368


357

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

شهيدًا. ماذا عنّي أنا؟ أنا أطيق أن أراه شهيدًا؟ أيّ ليلة هذه يا إلهي!

 

وبينما أنا أحدّق بوميض النجوم الخافت وأناجي الله بالدموع والآلام، انحنى رأسي إلى الأسفل. لأرى أمامي مباشرة عمود كهرباء، تذكّرت أنّه عندما انطلقنا وضعت علامة على هذا العمود. وكأنّ الله سبحانه وتعالى لم يرضَ لنا أن نضيع. خرجت من الحفرة وقلت لصديقي: "قم! عرفت الطريق", قال: "سيّد! سيكون الأمر كما في المرّة السابقة! فلنبقَ حتى يسفر الصباح".

- كلا! أنا أرى العلامة التي كنت قد وضعتها. هيّا بنا لنذهب.

 

هذه المرّة جاء دوره في العزف على وتر الاعتراض: "أنا لن آتي يا سيّد". لم أقل شيئًا. انطلقت وأنا أعرج، ثمّ وجدته يسير خلفي. بعد دقائق عدّة وصلنا إلى الساتر. نفس الساتر الذي انطلقنا منه في الليلة الأولى. أقلقني خلوّ المكان هناك: "لا قدّر الله أن تكون قواتنا قد انسحبت من تلك المنطقة!", علا صوت صديقي مرّة أخرى: "سيّد! هل رأيت، هذا المكان أيضًا للعراقيين! الآن يأتون من الأمام".

- كلا! أنا متأكد أنّ هذا هو ساترنا. البارحة انطلقنا من هنا. ولكن دعني أرى أين ذهب هؤلاء؟

 

تقدّمنا أكثر إلى الأمام. وما إن عبرنا الساتر الثاني حتى سمعت صوت اللاسلكي. أصغيت جيدًا وإذ بي هذه المرّة أسمع صوت السيّد أجدر. لم يطل الأمر كثيرًا حتى وصلنا إلى مكان تموضع قواتنا. رأى السيّد أجدر أنّني جريح، ولكنّه بدا وكأنّه لم يلتفت إلى شدّة حزني. لقد بدا سعيدًا. قلت له بصوت ملؤه الحسرة والألم: "أجل. لقد أرسلتنا إلى الأمام، جزّر فينا الأعداء، وها أنت الآن تجلس هنا سعيدًا!".

- لا! لقد قمتم بعمل عظيم!

- نحن؟! نحن لم نقم بأيّ عمل عظيم هناك في الأمام. كلّ ما رأيته

 

369

 


358

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

هو أنّه عندما بدأ العراقيون الاشتباك سقط شبابنا شهداء. لقد قدّمنا كلّ هذه الخسائر. أنت الآن...

- لكن في المقابل عزلنا العراقيين من الخلف!

 

عند ذلك فهمت القضية. لا أعلم. لو أنّ شباب سريّتنا لم يُقتلوا ظلمًا على أيدي الأعداء، هل كانت لتثمر خطّة عزل العدو؟ لقد جُرح واستشهد حوالي 70 أو 80 فردًا من سريّتنا من أصل 90. لقد أبيدت سريّتنا هناك في الواقع. أكثر الذين بقوا على قيد الحياة أيضًا تعرّضوا لإصابات شديدة كقائد سريتنا الحاج قلي الذي لا أعلم أين هو الآن.

انتبه السيّد إلى حالي، وكان يعلم كم أحب أمير. ربّما لهذا سألني عنه بدون مقدّمات: "ما أخبار أمير؟".

- لقد استشهد أمير.

 

قال قائدنا: "رحم الله روحه".

ردّدت وراءه بهدوء: "أجل! رحم الله روح أمير...". هاجت الأحزان في قلبي ويدي قاصرة عن كلّ شيء، حتى عن الوصول إلى جسد أمير! في تلك اللحظات وصلت سيارة إسعاف وضمّدوا رجلي. أراد السيّد أن أرجع إلى الخلف لكنّني لم أقبل بذلك. كان هو والشباب يصرّون عليّ وأنا أرفض!

- لِمَ لا تذهب إلى الخلف يا سيّد؟

- أريد أن أبقى وأرى العراقيين. ما دمتُ لم أُحضِر "أمير" إلى الخلف أنا نفسي أيضًا لن أرجع.

 

مرّة أخرى أتى السيّد أجدر ووعدني أنّه سيُحضر "أمير". كنت قلقًا: "سيّد! أنا لن أذهب إلى الخلف. عليّ أن أشهد إحضار جسد "أمير" إلى الخلف. ما لم أتأكد من الأمر لن أرجع إلى الوراء".

- لا يمكن ذلك الآن! لكن، في الصباح سيأتي العراقيون بكلّ تأكيد

 

370


359

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

لتسليم أنفسهم. عندئذ سنحضر جميع الأجساد إلى الخلف. سنحضر أيضًا جسد أمير.

 

مهما حاول السيّد أجدر أن يقنعني لم يفلح. بقيت على تلك الحال مضطربًا ويائسًا، لكن، ساءت حالي أكثر عند الصباح. تعرّضت لرجفة شديدة بسبب النزيف الذي أصابني، ولم أستطع التغلب عليها. إلى أن انتهى الأمر بي محمولًا على أيدي الإخوة، ثم وُضعتُ في سيارة الإسعاف التابعة لفرقة مشهد، وأُبعدتُ مع بقية الجرحى عن منطقة العمليات، لكنّني لم أفقد الوعي حينها.

 

عالجونا في مستوصف إلى جانب نهر أروند، ثم أرجعونا إلى داخل الإسعاف. توجّهت الإسعاف إلى شاطئ نهر أروند. راحوا يضعون الجرحى في القوارب ويعبرون بهم النهر. قلت لهم في المستوصف: "يا أخي! ليس بي أيّ سوء! فقط احقنوني بإبرة أو إبرتين حتى أقوم وأذهب إلى الأمام".

- كلا يا أخي! يجب أن تذهب إلى الخلف.

 

كان الأشخاص الذين يعملون على ضفة النهر يضعون الجرحى في القوارب بحذر واحترام. بالطبع سبب كلّ هذا الاحترام، إضافة إلى كونهم يقومون بوظيفتهم، الانتصار الكبير في عملية "والفجر8" الذي انتشر خبره في كلّ مكان. قاموا بمعاينتنا مرّة أخرى نهارًا في المستوصف الواقع على ضفة أروند، ثم نقلونا من هناك إلى مهبط المروحيات في أطراف مدينة خرمشهر. غصّت مروحية "شيتوك" بالجرحى، وأقلعت متجهة إلى مستشفى يقع في أطراف مدينة الأهواز. ابتعدتُ شيئًا فشيئًا عن ساحة المعركة، لكنّني بقيت دائمًا أفكّر في الخط الأمامي ، المكان الذي بقي فيه أمير. لم أفكّر بجرحي بالرغم من أنّني كنت ذاهبًا إلى غرفة العمليات بسبب تلك الشظية. أبعدني التخدير لساعات عن هذه الدنيا.

 

371


360

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

أفقت من التخدير وأنا مستلقٍ على سرير وُضع في صالة. وفي نفس اللحظة التي استعدت فيها وعيي تذكّرت الحادثة التي جرت في الليل!

 

كانوا يحضرون الجرحى بشكل متواصل والجميع منهمكون بالعمل. لقد نزعوا عني ثيابي كباقي الجرحى. مضت ساعات وأنا أقول في نفسي: "يجب أن أذهب، ولكن كيف؟ بداية يتوجّب عليّ أن أحضر ثيابًا". صدفة، وضعوا بالقرب مني جريحًا من الجيش كان سرواله جيدًا. عندما نزعوا ثيابه التقطت سرواله ووضعته تحت سريري. بعد دقائق أحضروا جريحًا آخر وكان قميصه سالمًا، فأخذت ذلك القميص أيضًا! قمت من مكاني بصعوبة، ولبست الثياب ووجدت أيضًا زوجًا من النعال فانتعلته وخرجت من المستشفى. لم أكن أملك حتى قرشًا واحدًا. كانت جيوب ملابسي الجديدة فارغة أيضًا لذلك لم أقلق على أصحابها. ذهبت إلى حارس المستشفى: "يا أخي! أعطني 10 تومانات لأذهب من هنا". أعطاني الحارس 5 تومانات وقال: "أقسم بالله لا أملك غيرها!". شكرته. أردت الذهاب إلى مدرسة "براتي" بالقرب من مدينة الأهواز حيث مقرّ فرقة عاشوراء. ركبت في سيارة أجرة وأعطيته المال وقلت له: "هذا كلّ ما أملك، خذه مني وأوصلني إلى مدرسة براتي، هناك آخذ من الإخوة مالًا وأعطيك باقي أجرتك". كان السائق رجلًا شهمًا. قال لي: "لا أريد مالًا، سأوصلك إلى المكان الذي تريد".

 

عندما وصلنا إلى المدرسة أعطيته الخمسة تومانات ودخلت المدرسة. أوّل من رأيت كان مسؤول النقل في الدعم وهو من مياندوآب، وقد تعرفت إليه عندما كان مسؤول "إيفاد القوات" في تبريز. سألته: "ألا يوجد سيارة ذاهبة باتجاه أروند؟", قال: "يوجد الآن واحدة ذاهبة إلى خرمشهر". ركبت سريعًا.

 

372

 


361

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

عندما وصلنا إلى خرمشهر، كان واضحًا أنّ المنطقة تعرّضت للقصف بالكيميائي. لم نملك أقنعة لذا كان علينا أن نبلّل منديلًا ونغطّي به وجهنا. أخرج رفاقنا سجّادات الصلاة خاصّتهم سريعًا وأعطوني واحدة، بلّلتها بالماء ووضعتها على فمي. تابعنا تحركنا لكن من دون أن نشتمّ أيّ رائحة. كانت السيارات التي تأتي من جهة الأمام تضيء وتطفئ مصابيحها، وركابها يصيحون: "كيميائي... ضعوا أقنعتكم!".

 

وصلنا على تلك الحال إلى مقرّ تجهيزات الفرقة في خرمشهر. رأيت هناك "عوض محمدي". كان ذلك عند العصر، فعرض عليّ أن أبقى ليلًا في غرفتهم، لكنّني أردت الذهاب إلى منطقة الاشتباكات من دون أيّ تأخير. كان يقول: "لقد قصفوا بالسلاح الكيميائي في الأمام...", لكن لم يلقَ منّي آذانًا صاغية. فقط كنت أجيبه: "أنت أعطني سيارة، أريد الذهاب الآن". أدرك أنّه لن يتغلّب عليّ. أوصى أحد السائقين أن يوصلني إلى قسم التجهيزات جانب نهر أروند. لم أكن أستطيع أن أثني رجلي بسهولة، وتحمّلت ألمها وحريقها، ولم يصدر منّي أيّ صوت. فضّلت أن أجلس في المقعد الخلفي من التويوتا وأمدّ رجلي. انطلقنا في طريقنا حتى وصلنا إلى بساتين النخيل. رأيت أنّ جميع السيارات الآتية من الأمام يضع ركابها أقنعة ويشيرون لنا بعلامات أنهم قصفوا بالسلاح الكيميائي. لا السائق كان لديه قناع ولا أنا. أوقف السيارة في أول بستان النخيل والتفت إليّ يقول: "أنا لن أتقدّم إلى الأمام أكثر من هذا".

- ماذا يعني أنا لن أذهب إلى الأمام؟ أنت أغلق نوافذك وقُد السيارة. أنا سأجلس في الخلف، وفي هذه الحال إن قصفوا بالكيميائي فأنا من سيتأثر لا أنت!

لم ينفع كلامي. قال: "كلا يا أخي! ترجّل أنت هنا. أريد أن أرجع!".

 

لم يأتِ النقاش بأيّ فائدة. اضطررت وأنا على تلك الحال أن أكمل

 

373

 


362

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

طريقي سيرًا على الأقدام. أخيرًا، وصلت إلى مقرّ فرقة مشهد... المكان الذي غنمنا منه مخزن رصاص قبل العملية! رأيت الجميع يضعون أقنعة ويقولون إنّهم قصفوا بالسلاح الكيميائي، لكن برأيي أنهم قصفوا منذ مدة ولم يعد للكيميائي ذلك التأثير. سألت إن كان ثمة من يوصلني إلى محور فرقة عاشوراء. قال لي أحد شباب المعلومات في الفرقة بكلّ محبة: "أنا أوصلك إلى هناك". ركبت خلفه على الدراجة النارية وانطلقنا.

 

وصلنا إلى جانب نهر أروند. إلى القرية التي كانت قبل عدّة أيام أفضل بقاع الأرض بالنسبة إليّ والآن تحوّلت إلى بيت عزاء يثير أحزاني وشجوني. تحوّلت القرية إلى مركز للتجهيز، ومُلئت غرفها بالتجهيزات المختلفة كالأقنعة والطعام و.... ودّعت ذلك الأخ المشهدي. مهما أمعنت النظر لم أرَ أحدًا أعرفه. أيضًا لم يكن أحد يعرفني. مرّت دقائق حتى رأيت "محرم آقاكيشي بور", وكان يعمل في التجهيز. بعد السلام والسؤال عن الأحوال، ألحّ عليّ أن أدخل برفقته إلى الداخل. قلت: "لن أدخل، عندي عمل. فقط أعطني قناعًا ومصباحًا يدويًّا". كان الليل قد حلّ.

- ماذا تريد أن تفعل؟

- أريد أن أذهب إلى الطوارئ.

- لقد قصفوا المكان هناك بالكيميائي.

 

كان محقًّا. لقد سمعت أنهم قصفوا الطوارئ بالكيميائي واستشهد أثر ذلك الطاقم الطبي وجميع الجرحى.

 

سألت: "هل أحضروا الشهداء إلى هناك؟".

- أجل. الطوارئ مليء بأجساد الشهداء!

 

لديّ مفقود بين الشهداء وأردت الذهاب إلى هناك بأيّ ثمن. أعطاني "محرم" قناعه ومصباحًا يدويًا. انطلقتُ نحو الطوارئ. رأيت الأجساد متراكمة بعضها قرب بعض. رحت أسلّط ضوء المصباح اليدوي

 

374


363

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

على أجساد الشهداء الطاهرة. يا إلهي! ماذا أرى تحت هذا الضوء الصغير؟! أوهل أستطيع أن أرى هذا الجمع من معارفي مضرّجين بدمائهم. كأنّني أعرفهم جميعًا! أجل جميعهم. كانوا جميعًا مجاهدين مخلصين وغير مدّعين. إنّهم شباب الاقتحام في فرقة عاشوراء. ضاق صدري إلى حدٍّ كبير. نظرت في وجوه الشهداء واحدًا واحدًا بحثًا عن ضالّتي. لقد استشهد كلٌّ منهم بطريقة ما. لم يكن أميري بينهم، الأمر الذي زاد أكثر من ألمي. مع أنّني وضعت قناعًا لكنّني بقيت أشعر جيّدًا برائحة الكيميائي. خرجت من المستوصف صفر اليدين وذهبت إلى محرم. لم أعد أقوى على الحركة. قلت له وأنا على تلك الحال من الوهن والعجز: "محرم! أريد أن أبقى هنا الليلة! هيّئ لي مكانًا". أقمت صلاتي من جلوس. قدّم لي الطعام. تناولته ونمت، ومكان العملية الجراحية في رجلي يؤلمني بشدّة.

 

توجّهت في الصباح أيضًا نحو المستوصف، لكن يبدو أنّني تأخّرت. كانوا يلفّون أجساد الشهداء بالنايلون ويضعونها في براد كبير وُضع هناك لهذه الغاية. كما وضعوا الأغراض التي استخرجوها من جيوب الشهداء جانبًا. كان يمكن مشاهدة الشهداء بشكل أفضل في ضوء النهار. لقد صدمني المشهد، هذا لا يد له، ذاك بدون رجل، وآخر لا رأس له، وهذا احترق و... كان الجوّ قاسيًا. لم يعد لعينيّ التعبتين طاقة على التحمّل. جلست هناك حوالي عشر دقائق مذهولًا بالمشهد: "...إلهي. أين "أمير" إذًا؟". قمت، ورجعت إلى القرية حيث مركز التجهيز. لقد استخدم العدو الخبيث السلاح الكيميائي من جديد! رأيت محرم من بعيد، وقد ناداني ليأخذ قناعه. عندما رأيت الوضع كذلك لذت بالفرار سريعًا! يوجد هناك أقنعة موضّبة وباستطاعته أن يأخذ واحدًا منها.

 

وصلت إلى ضفة أروند وركبت على متن أحد الزوارق الذي يقلّ الإخوة إلى الطرف الآخر من النهر. كانت القوارب تتحرّك من ضفة

 

375

 


364

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

إلى أخرى، تنقل القوات والذخائر والتجهيزات. أما القوارب الكبيرة فراحت تنقل أيضًا الدبابات وناقلات الجند. لم يكن أيّ جسر قد نصب فوق نهر أروند، لذلك نقلوا كلّ شيء بواسطة القوارب. أوّل ما فكّرت به حين وصلت إلى الضفة المقابلة هو كم تغيّرت معالم المنطقة. كانت الطائرات تحلّق بانتظام، طائراتنا وطائرات العدو. وقد بدأ العراق يغير بشدّة على المنطقة منذ الصباح الباكر. بحثت عن قائد كتيبتنا السيّد أجدر مولايي. رأيت رضا إسكندري وبعض شباب الكتيبة، ثم رأيته. ما إن وقع نظره عليّ حتى قال: "عدت؟".

- أجل، ما الخبر؟!

- أرجعنا الجرحى، وقتلنا جميع البعثيين الذين كانوا في منطقة المنقار وتسببوا باستشهاد شبابنا، وأسرنا عددًا منهم.

- ماذا عن "أمير" يا سيد؟

- أرجعناه إلى الخلف.

- هل رأيته بنفسك؟

- لقد رآه رضا إسكندري.

 

رجعت إلى إسكندري. أردت أن أتأكد. قلت له: "رضا! هل رأيت أمير؟", قال: "أجل". سألته: "هل أرجعته إلى الخلف بنفسك؟".

- أجل.

- إلى أين أخذته؟

- أخذت "أمير" وثلاثة أو أربعة شهداء آخرين إلى الضفة الأخرى من نهر أروند، وسلّمتهم ليضعوهم في الثلاجة.

 

هدأت قليلًا عندما سمعتُ هذا الكلام. كانوا هم يريدون العودة إلى الطرف الآخر من نهر أروند فقد انتهت مهمتهم في منطقة العملية. سألوني: "ألن تعود معنا؟", أجبتهم بالنفي. أردت البقاء في المنطقة.

 

376


365

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

أصرّوا عليّ للرجوع معهم عندما رأوا حالي، لكنّني بقيت، والتحقت بعناصر الكتيبة التي أتت حديثًا إلى المنطقة وتموضعت بالقرب من مصنع الملح. يبدو أنّها كتيبة السجّاد، وكان قائدها "حسن خوشبو". يظهر أنّ جميع عناصرها من "شهرستان", ولم أكن أعرف أيًّا منهم. ذهبت إلى داخل إحدى الدشم. كانت القوات البعثية التي تغير منذ الصباح قد تقدّمت إلى الأمام، والشباب يخوضون اشتباكات عنيفة. في تلك الأثناء سألني أحدهم: "من تكون؟", عرّفت عن نفسي. نظر إلى رأسي ووجهي ثم سأل ثانية: "لماذا جئت إلى هنا؟".

- جئت لكي أساعدكم، ألا تريدون عناصر؟

 

لم يقل شيئًا. دخلتُ بين الشباب. كنت أرفع رأسي أحيانًا لأرى وضعية دبابات العدو، فيصرخ ذاك الذي تحدّث معي: "اجلس يا عم! هؤلاء يقتلون البشر!". كان يعتقد أنّني حديث العهد بالجبهة.

- لا مشكلة! لا يستطيع هؤلاء أن يقتلوني. ما لم يحن أجل المرء بعد، لن يصيبه شيء!

 

الحقيقة أنّني اكتفيت من هذه الأمور. كنت أبحث عن ذريعة لأبقى في منطقة العمليات وأتمنى أن تضلّ شظية طريقها إليّ وتأخذني أنا أيضًا. أحيانًا كنت أفكّر، ما الذي حصل حتى خرجتُ سالمًا من جهنم ليلة الثاني عشر ورأيت الإبادة الجماعية لأصدقائي. إن عدت، كيف سأعود؟ بأيّ وجه سأذهب إلى منزل أمير؟!

 

بقيت هناك حتى العصر. بدأت الدبابات العراقية ليلًا بهجوم معاكس. لقد سعى العراقيون إلى إرسال عدد من دباباتهم إلى الأمام لنشتبك معهم فلا نتقدّم أكثر، في حين لم يكن لدينا نحن أيّ برنامج للتقدّم. لقد تقدّمنا حوالي 4 كلم من الضفة الأخرى لنهر أروند، ولم

 

377


366

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

تعد وحدات الدعم تستطيع أن تصل إلى أبعد من هذه المسافة[1].

 

يبدو أنّ العراقيين كانوا يفكّرون باستحداث ساتر في تلك المنطقة ليقطعوا الطريق على تقدّمنا ويحافظوا على منطقة مصنع الملح.

 

أثناء عملية"والفجر8" ضُمّت منطقة مصنع الملح إلى محور فرقة عاشوراء، وكانت عبارة عن مستنقع موحل تصعب فيه الحركة. يبدو أنّ العراق سعى للدفاع عن تلك المنطقة والحفاظ عليها ليؤمّن لاحقًا الطريق لعمليات المدرعات بعد تجفيف المستنقع. كانت منطقة مهمّة بالنسبة إلى طرفي النزاع، وأظهر العدّو فيها مقاومة بارزة وملحوظة. تقدّمت الفرقتان العاملتان على جناحي فرقة عاشوراء إلى الأمام في حين أنّ عمل الفرقة كان صعبًا. تموضع الشباب في جادّة ملأتها الآليات بكومات التراب، ربّما لتبني فيها ساترًا ترابيًّا. وقفنا في مقابل العدو خلف هذا الحاجز. لو أراد العراق لاستطاع اقتحام منطقتنا بقوات كبيرة، لكنّهم أيضًا لم يكن لديهم القوات المؤهّلة للقيام بذلك، فاكتفوا فقط بالمناورة بدباباتهم.

 

في تلك الليلة استطاع شباب الكتيبة أن يحولوا دون تقدّم العدو ويجهضوا هجومه المضاد. ليلًا بقيت في تلك الدشمة، ولكن نفد صبري. دائمًا كنت أحدّث نفسي. حزني على "أمير" من جهة، وعدم قدرتي على المشاركة في تشييعه لو بقيت هنا من جهة أخرى. أخذت قراري. وفي الصباح ودّعت الشباب الذين أمضيت يومًا إلى جانبهم. كانت قوات


 

[1] لم يكن قد استحدث بعد أي جسر فوق نهر أروند، وكانت حركة القوارب ونقل التجهيزات والآليات عبر النهر مصحوبة دائمًا بالمشاكل. كانت سرعة التيار القاسي تصل إلى 65 أو 70 كلم في الساعة. وكان المد والجزر يؤديّان إلى ارتفاع منسوب المياه عصرًا فكانت القوارب تواجه صعوبة في الحركة، وفي النهار ينخفض منسوب المياه إلى درجة تجعل من حركة القوارب في الوحل وعلى أطراف النهر غير ممكنة. بعبارة أخرى، باستثناء 4 إلى 5 ساعات يهدأ النهر فيها قليلًا، كانت حركة القوارب صعبة في بقية اليوم. وعندما تقصف الطائرات المنطقة كان عناصر الدعم يتناقلون الوسائل والتجهيزات يدًا بيد حتى تصل إلى القوارب وتمتلئ بها. لم يكن عملًا عاقلًا التقدّم أكثر من هذا في ظلّ أوضاع كهذه ما دام لم يستحدث أيّ جسر على النهر.

 

378


367

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

الدعم آتية إلى المنطقة أيضًا.

 

ذهبت إلى شاطئ أروند وقطعت النهر على متن القارب. ما إن وصلت إلى الطرف الآخر من النهر حتى رأيت "محرم". وما إن رآني حتى علا صراخه: "سيّد! أين أخذت قناعي؟!".

- أخذته إلى الجهة الأخرى من النهر. يوجد هنا كلّ هذا القدر من الأقنعة، يمكنك أن تأخذ أحدها!

 

كنت أعرف "محرم" من قبل. كان أخوه "مجيد" قائد كتيبة لمدّة، وقد استشهد في عملية "مسلم بن عقيل". تميّزت علاقتنا بطابعها الخاصّ بحيث إنّني بعد هذا الكلام، ولكي أنهي نقيقه قلت له: "محرم! لا تقل أيّ شيء آخر بعد، ليس لي جَلَدٌ على السماع! أعطني شيئًا لآكله وأرجع إلى الخلف". ذهب وأحضر لي طعامًا وفاكهة معلّبة. تناولت الطعام. في ذلك المكان رأيت عوض محمدي. شاهدت في تلك الأطراف أيضًا عددًا من سيارات الدعم. قلت: "عوض! أعطني سيارة أرجع بها إلى مركز الكتيبة". هو أيضًا تكرّم عليّ وأوصى أحدهم بأن يوصلني إلى الخلف. لم يكونوا في العادة يعطون سيارة في الخطّ الأمامي لأحد، ولكن كانت علاقتنا جيدة وحالي واضحة. بكلّ الأحوال رجعت إلى الخلف. وجدت أنّ السيّد أجدر موجود في "آبادي"، تلك القرية المليئة بالذكريات والقريبة من كارون. ذهبت إلى منزلنا (مركزنا) تلقائيًّا. المكان الذي كان لثلاثة أو أربعة أيام خلت مليئًا بحماسة وضوضاء الشباب والآن... كدت أصاب بالجنون. لقد أرّقَني صمت البيوت وخلوّها. كنت وحدي فقط والبيوت الخالية. تلك الصلوات والولائم وصفاء الإخوة جميعًا. مرّ كلّ ذلك أمام عينيّ ولم أحتمل رؤية مكان كلّ أولئك الأعزاء خاليًا وأبقى أنا. خصوصًا أمير. حقًّا شعرت أنّ ظهري قد انكسر. لم أستطع البقاء هناك أكثر من 4 أو 5 ساعات. ذهبت إلى السيّد أجدر وقلت له: "اكتب لي كتابًا. أريد أن أذهب إلى تبريز!".

 

379


368

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

- نحن أيضًا نريد الذهاب إلى تبريز، اصبر حتى نذهب معًا!

- كلا! لا أريد أن آتي معكم. سأذهب بنفسي!

 

كنت ما أزال منزعجًا من السيّد ولم أرد أن أكون معهم. أصررت عليه أن يكتب لي كتابًا ففعل. تركت القرية بحال لا توصف، وركبت في سيارة متوجهة إلى دزفول.

 

وصلت إلى مقرّ كتيبتنا وهنًا ومضطربًا. كان عناصر "تعاون"[1] الكتيبة هناك، وقد سلّمناهم أغراضنا قبل العملية. كان لدينا أنا وأمير حقيبة واحدة، وحتى مالنا كان واحدًا، وقد سلّمنا الحقيبة معًا إلى الـ"تعاون". ذهبت وقلت لهم: "لا أملك مالًا. أريد جزءًا من المال الذي سلّمناه إليكم". نظر في القائمة ورأى أنّ المال كُتب باسمينا معًا. سألني: "إذًا، أين "أمير" مارالباش؟".

- لقد استشهد.

- عذرًا يا أخي! لا أستطيع أن أسلّمك شيئًا!

 

رجعت خالي الوفاض، لا ثياب ولا مال، ولا أيّ شيء آخر. في تلك الأيام كان والد السيّد أجدر مسؤول الدعم. فكّرت أنّه من الأفضل أن أذهب إليه: "سيّد! أعطني بدلة كاملة وجيّدة. لا أريد ثيابًا عسكرية. لا بأس إن كان السروال عسكريًا، لكن ليكن القميص عاديًا". ذهب وبحث في المستودع، وأخيرًا، وجد لي سروالًا وقميصًا. رآني أعرج فقال: "لماذا تعرج؟".

- لا شيء، وقعت على الأرض!

- حقًّا وقعت على الأرض؟

- كلا! الحقيقة أنّ شظية أصابت رجلي.

- أين تذهب بهذه الحال يا سيد؟

 

قلت إنّني أريد الذهاب إلى تبريز، ولهذا السبب رجعت إلى الفرقة.


 


[1] هو المركز الذي يعنى باستلام الأمانات من سلاح وأغراض خاصة بالشهداء، وأيضًا يؤمّن الخدمات الطبية اللازمة، إضافة إلى تسلّم أجساد الشهداء تمهيدًا لتسليمها إلى أهلها.

 

380


369

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

كان "محمد عارفي" هناك يعمل في النقل، وهو من عناصر مسجدنا. قلت له إنّني عازم على الذهاب إلى تبريز، وأبحث عن حافلة تقلّني إلى هناك. قال لي: "بعد الظهر تذهب حافلة إلى تبريز", فبقيت عندهم إلى حين موعد انطلاقها. اقترضت منهم أيضًا حوالي 100 تومان. أرادوا إعطائي أكثر لكنّني لم أرَ ذلك لازمًا، إذ لم أكن أريد شراء شيء. اشتريت فقط كيلوغراماً واحداً من البندورة والخيار لكي أقتات به في الطريق إلى تبريز.

 

انطلقنا. وأيّ عودة كانت! لم أكن أعلم ما الذي سيحصل. رحت أسأل نفسي باستمرار: "ماذا عليّ أن أقول عندما أصل؟!", وللمصادفة كان سائق الحافلة سعيدًا خلافًا لحالي. شغّل شريطًا شكّل سماعه عذابًا بالنسبة إليّ وأنا على تلك الحال![1]. لم أستطع التحمل: "أطفئ ذلك الشريط". أطفأه وقال: "إمّا تشغيل الشريط أو الغيبة!".

- اغتب ما بدا لك.

 

بدأ السائق بالحديث أو بالغيبة حسب قوله مع الذي يجلس إلى جانبه، الأمر الذي كان أقل وطأةً عليّ[2]. لم ينتهِ الأمر عند هذا الحدّ، وبعد أن اغتاب السائق قليلًا، بدأ بتجاوز السيارات بشكل خطير. كنت قد جلست على المقعد الأمامي ورأيت كيف يدخل على مسار السيارات الأخرى. علا صوت الشباب: "يا أخ! قُد السيارة بشكل صحيح!".

- أنا أريد أن أقود بهذه الطريقة حتى أصل إلى تبريز!


 


[1] في تلك الأيام، كانت بعض الموسيقى والأفلام الممنوعة في الفرقة تذاع في التلفزيون، من بينها مسلسل "السلطان والراعي" وقد صدر تعميم من المقرّ يقضي بمنع إذاعة أفلام كهذه وبعض أنواع الموسيقى. لكن شريط ذلك اليوم زاد حالي سوءًا بالتأكيد!

[2] الحقيقة أنّه من بين كلّ أولئك السائقين الذين كانوا يأتون إلى فرقتنا كان من النادر أن نجد شخصًا مستقيمًا. كان سلوك بعضهم يغضبني، وأفكر دائمًا أنهم يستغلون طيبتنا. عندما كنّا في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وصل الأمر لدرجة أن نلزم السائق بإكمال المسير بقوة السلاح. ومع أنّ الحافلة وكلّ شيء تحت تصرفنا، كان السائق يقول :"سنخسر الحافلة! لن أذهب أكثر إلى الأمام!".

 

381


370

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

قاد بهذه السرعة حتى وصلنا إلى تبريز بعد حوالي 13 ساعة ونصف الساعة. كانت التاسعة صباحًا عندما وصلنا إلى مستديرة "ساعت". عندما أردت أن أترجّل من الحافلة قلت للسائق: "إنّ عملك هذا كان لمصلحتي لأنّ لديّ أمرًا واجبًا أقوم به، وجنونك هذا أوصلنا بسرعة!". فكّرت في نفسي أنّه في الفرصة المناسبة سأتحدّث مع محمد بشأن هذا السائق.

 

ترجلت في مستديرة "ساعت" واتصلت بـ"قدرت أشرفي" في المعلومات، وما إن علم بوجودي هناك حتى جاء بنفسه إليّ واصطحبني معه. بعد السلام والقبلات كان سؤاله الأول هو: "إذًا، لماذا أتيت وحيدًا؟". كان "قدرت" يعلم جيدًا أنّني وأمير نكون دائمًا معًا. بداية قلت: "هكذا... أتيت وحدي!". ولكن بعد ذلك كأنّه لم يكن لديّ القدرة على التحمّل أكثر فقلت بهدوء: "إنّ "أمير" استشهد!". بسماع هذا الكلام ركن "قدرت" السيارة جانبًا وأجهش بالبكاء. البكاء وحده كان يستطيع أن يهدئنا قليلًا.

- أريد أن أذهب إلى البيت. أوصلني إلى البيت.

- كلا! لا تذهب إلى البيت يا سيّد!... الأفضل أن نذهب إلى بيت أمير.

 

انعطفنا وتوجهنا ناحية منزل "أمير" الذي كان قريبًا من مبنى حجري في وسط المدينة. صادف أن كان والد "أمير" السيّد علي في الزقاق، وما إن رآنا حتى أتى لاستقبالنا. رآني كيف أعرج، لكنّه كان ينظر إليّ بطريقة أخرى. لم يحدث أبدًا أن أتيت إلى باب منزلهم من دون أمير. بعد السلام والقبلات قال بهدوء: "سيّد نور الدين! أين أمير؟ ماذا حصل؟".

- سيّد علي!... لم يحدث شيء، لقد جرح أمير!

- جرح! لو أنّ "أمير" جريح لذهبت إليه وبقيت عنده... لم تكن لتدعه وحيدًا... لا يكوننّ...

 

لم أستطع أن أكذب ولا أن أقول الحقيقة. فقط قلت بصعوبة: "أجل!

 

382


371

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

سيّد علي أمير...", لم أستطع أن أرفع رأسي. دوّى صوته في أذني بهدوء قائلًا: "أحمد الله أنّ أحدكما ما زال موجودًا! الشكر لله...". لقد أحرق قلبي صوته المرتجف ودموعه. عندما علمتْ خالة "أمير" (زوجة أبيه) بالخبر ملأ نواحها وصراخها البيت. وبدأت بقراءة قصيدة اوخشاما[1]. بكينا جميعًا أنا، أخو أمير، والده، وقدرت لساعات في ذلك الجوّ الكئيب والقاسي.

 

ذهبت من هناك إلى المنزل، حيث تكرّر المنوال ذاته. ما إن رأتني والدتي حتى أجهشت بالبكاء.

- يا أمي ! ماذا حصل؟

 

بادئ الأمر قالت: "لا شيء". لكنّها نظرت ثانية إلى حالي ومآلي وسألت بعد مرور دقائق: "لماذا "أمير" ليس معك؟", قلت لها: "لقد جرح أمير". لكنّها لم تصدّق أيضًا هي الأخرى. أخبرت والدتي بالحقيقة فبدأت بالصراخ والعويل على فراق أمير. في اليوم التالي بدأ تشييع أجساد شهداء عملية "والفجر8". لم يكن ثمّة خبر عن "أمير" وكانت الأيام تمضي ثقيلة علينا ونحن ننتظره[2]. لم نجد بدًّا من التحدّث إلى "مشهدي عبادي" الذي يعمل في الأهواز في قسم إخلاء الشهداء. أصبح واضحًا أنّ جسد "أمير" نقل من منطقة العملية إلى طهران، ومن هناك إلى مشهد، ثم إلى الأهواز. يظهر أنّ شهرة "مارالباش" أدّت إلى ارتكاب هذا الخطأ... أخيرًا، أعلمونا في أحد الأيام أنّه تمّ إرسال "أمير" وعدد من الشهداء الآخرين إلى تبريز بواسطة القطار.

 

كم يشيّب الانتظار الإنسان... بعد استشهاد "أمير" اختلط ليلي بنهاري.


 


[1] أبيات تركية مؤلمة تقرأ في مأتم الأعزاء.

[2] كان اسم "أمير" في الهوية "هوشنك مارالباش". عندما كبر قام بنفسه بتغيير اسمه إلى أمير، وأصبح الجميع ينادونه بهذا الاسم. لم تكن كلمة "مارالباش" مألوفة في اللغة الفارسية. مضى حوالي 15 يومًا وأقيمت عدّة مراسم تشييع. كنت أظنّ أن الاسم أثر في تأخير إحضار جسد الشهيد وتبيّن أنّ ظني في محله.

 

383


372

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

كنت أنام ليلًا وأنا أفكّر بأمير، ودائمًا ما أراه حيًّا في منامي. أفرح بذلك، ولكن تتبدّل أفراحي أحزانًا عندما أستيقظ. الآن، حيث جسد "أمير" الجميل في الطريق إلى هنا، كان لديّ فرصة لأرى وجه أعزّ أصدقائي للمرّة الأخيرة. ذهبت برفقة السيّد علي إلى محطّة القطار. وصل القطار أخيرًا. أنزلنا بمساعدة آخرين توابيت الشهداء من القطار واحدًا واحدًا، ووضعناها داخل سيارات الإسعاف. كان "أميرنا" المحبوب، "هوشنك مارالباش" الشهيد الأخير. لم يكونوا يسمحون لأحد بالنظر إلى وجه الشهداء، لكنّني لم أعتنِ بكلام أحد. لقد اشتاق قلبي لرؤية أمير. أزحت كلّ شيء جانبًا ورأيت وجهه. كان هو. الوجه ذاته الذي رأيته في لحظة الشهادة، ولكنّه الآن أصبح أسود اللون، وعرفت أنهم أطلقوا عليه رصاصة الرحمة[1]. أخذوا الشهداء إلى الكليّة التي كانت محلًّا لتجهيز الشهداء[2]. أردت أن ألتقط صورة لأمير، ولكنهم لم يسمحوا بذلك. حصلت على إذنٍ بالدخول إلى رفاقي بالقوة! والتقطت آخر صورة لأمير في هذه الدنيا.

 

في اليوم التالي كان الثلج يتساقط بغزارة في تبريز. ذهبت بحثًا عن "يوسف حدادي" وهو أحد الإخوة الجيّدين، ويعمل في مؤسسة الشهيد، ويرسم صور الشهداء بشكل جيّد. قلت له أريد أن ترسم لي صورة أمير، فطلب مني صورة له، لكنّني لم أكن أحمل واحدة معي.

 

كان يوسف - وهو ابن مدينتي - قد رأى "أمير" يرافقني قبل ذلك. فرسم على الورق ما علق في ذهنه من وجهه. للإنصاف فقد كان رسمًا جيدًا. أخذته ونسخته عدة نسخ، ووزعتها على الشباب الذين أتوا من


 


[1] كنت متأكدًا أن "أمير" استشهد في الدقائق الأولى، ولكن يظهر أنّه في تلك الليلة وبعد انسحاب قواتنا إلى الخلف تقدم العدو إلى جانبهم وأطلق رصاصة الرحمة على الشهداء والجرحى الذين بقوا هناك. قال البعض أيضًا إنّ اسوداد بشرة الأجساد يعود للقصف الكيميائي على المنطقة.

[2] يطلق عليها "معراج شهدا" تجليلا وتقديسا للشهداء.

 

384


373

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

مسجد محلّة أمير.

 

في ذلك اليوم العاصف والمثلج، بدأ تشييع الشهداء. أقيمت الصلاة في ساحة "قونقاباشي", وركب الجميع في الحافلات وتوجهوا نحو وادي الرحمة. كانت حالي سيّئة. في القسم السفلي من وادي الرحمة، المكان الذي كان "أمير" قلقًا من امتلائه، ضعت بين المجتمعين حول قبر أمير. دفن هناك أيضًا كلّ من رحيم افتخاري ورضا كلوليان. عادة ما أقف في الخلف أثناء مراسم دفن الشهداء وتلقينهم. لم يسمح والد "أمير" بدفنه. كان يحبني كأميره، وأراد أن أكون إلى جانبه، وأن أرى للمرة الأخيرة صديقي وأخي الحبيب. أودعنا "أمير" في حضن التراب في ذلك الطقس البارد من شهر آذار من العام 1986م.

 

العمل الوحيد الذي كنت أقوم به في تلك الأيام هو المشاركة في مراسم تشييع الشهداء ومجالس عزائهم وزيارة قبورهم. بالرغم من أنّ خسائرنا في عملية "والفجر8" هي أقلّ نسبة لعملية بدر، إلّا أنّ مساحة منطقة العملية وعديد القوات التي خاضت الاشتباكات كانت أكبر. من جهة أخرى - وخلافًا لعمليتي بدر وخيبر - لم يكن هناك شهداء مفقودو الأثر بأعداد كبيرة، لذلك كان عدد الشهداء القادمين إلى المدينة كبيرًا[1]. كانت المشاركة في مراسم عزاء "أمير" صعبة جدًا عليّ. أحيانًا كنت أقول في نفسي أيّ قلب هو قلبي هذا وأنا أجلس في المصلّى حيث تقام مراسم عزاء أمير! في وسط مراسم العزاء كانت أحوالي تنقلب.


 


[1] في عملية"والفجر8" فقدنا فقط عددًا من عناصر إحدى الكتائب الذين هاجموا مصنع الملح ولم يستطيعوا السيطرة عليه وبقوا هناك، لكن لا العراقيون استطاعوا الوصول إليهم ولا نحن. وسقطت أجسادهم على الملح فلم تتآكل. عندما سيطرنا على المنطقة في عملية "يا مهدي" نقلنا أولئك الشهداء إلى الخلف. من هنا، لم يكن في عملية"والفجر8" - وخلافًا للعمليات الأخرى - مفقودون كثر باستثناء الشهداء الذين حملهم معه تيار نهر أروند.

 

385


374

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

كانت تلك الأيام من أكثر أيام حياتي مرارة. كنت أضع صورة "أمير" أمام وجهي وأحدّق بها. كانت وصيتي أنا وأمير -باستثناء الأمور التي لها بُعدٌ عائلي- وصية واحدة كُتبت بخطّه وقمنا بنسخها. انتهت مجالس عزاء أمير، وبدأت أفكّر قليلًا بجرح رجلي الذي لم يلتئم بعد. سعيت لمعالجته بسرعة حتى لا يؤذيني عند رجوعي إلى الجبهة. من جهة أخرى مضى أكثر من سنة على خطوبتي وعقد القران، وبدأت عوائلنا تمارس الضغط أن كفى هذا الوضع، وصار عليّ أن أفكّر في حياتنا المشتركة. كان ذهني مشوّشًا. احترت ماذا أفعل. كنت قد قررت أن أبقى على ذلك الوضع حتى نهاية الحرب، ولكن لم ترضَ عوائلنا بهذا الواقع. وكنت عندما أفكّر في نهاية الحرب أتذكّر كلام الشهيد أصغر قصّاب وأشعر بالارتباك![1].

 

من جهة حزني على فراق الشهداء خاصة أمير، ومن جهة أخرى توقّعات العائلة. مهما فكّرت كنت أصل إلى هذه النتيجة، أنّه في حال أردت بدء حياة مشتركة والرجوع إلى الجبهة لاحقًا، فإنّ أموري ستتعقد أكثر. أخيرًا، رأيت الحلّ في الذهاب لزيارة الإمام الرضا عليه السلام لأعرض عليه حالي ومآلي.


 


[1] قبل عملية بدر عندما أعلن الإمام التعبئة العامة، كنّا أحيانًا نتحدث مع أصغر قصاب القائد الشجاع لكتيبة الإمام الحسين عليه السلام، والذي استشهد في عملية بدر وفقد جسده هناك. كان أصغر يقول :"العراق أيضًا أعلن التعبئة العامة واستدعى جميع عناصره إلى الجبهة، من عمر 14 و15 عامًا حتى 50 عامًا"، رحم الله أصغر كان في تلك الأيام يقدّم تحليلًا عن الحرب ويقول :"ستكون نهاية حربنا مع العراق نهاية واحدة. فقواتنا تملك إيمانًا وغيرة وطنية كبيرة ولن تسمح للعراق أن يبقى في أرضنا، وفي المقابل لن نستطيع نحن أيضًا السيطرة على العراق لأنّ القوى الأجنبية لا تريد أن نصبح بلدًا قويًّا في المنطقة. سوف يعطون العراق السلاح والعديد والتجهيزات لكي يقف في وجهنا". هذه الكلمات قيلت في مجلس خاص في الكتيبة قبل عملية بدر بستة أشهر. في ذلك اليوم كان محمد بالابور ـ الذي استشهد هو الآخر أيضًا ـ حاضرًا في الجمع. كانا يتوقعان أن طرفي النزاع سيتعبان من هذه الحرب في النهاية ويوقفانها، ولكن كان أصغر آغا يعتقد أن حقّنا وواجبنا وسلوكنا وكلّ ما لدينا يجب أن يكون إطاعة للأوامر. عجيب أن أتذكر كلام أصغر في أواسط آذار من العام 1986م.

 

386


375

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

وصلت إلى مشهد بالحافلة. وحيدًا ولا أملك شيئًا في حقيبتي اليدوية الصغيرة سوى بعض من ثياب "أمير" وصور تجمعنا. حجزت غرفة صغيرة في نزل قريب من المقام الشريف وتوجّهت نحو الحرم.

- السلام عليك يا غريب الغرباء...

 

في اليوم الأول أعطيت نيجاتيف الصور التي تضمني وأمير إلى استديو التصوير لكي يظهّرها بمقياس كبير. أحببت أن أعلّق صورنا المشتركة على الحائط. أعطيت المصوّر أيضًا بعض صورنا المنفردة التي كنت أحبّها لكي يطبعها على ورقة جنبًا إلى جنب. في واحدة من الصور طبعت صورة "أمير" على صدري، وفي صورة أخرى طبعتها على صورة وردة. كنت أثناء وجودي في الغرفة أبقى أحدّق في الصور، أحدّق لدقائق طويلة في وجه "أمير" الخجول. الصور التي بها أعزّي نفسي. في أحد الأيام كنت جالسًا على شرفة الغرفة الصغيرة متوجّهًا إلى المقام الشريف وأنظر إلى القبة الذهبية، وقد اشتريت فاكهة الـ"خربُزه"[1]. قطعتها بالسكين وبدأت بتناولها، لكنّني كنت مضطربًا بشكل كبير. رحت أفكر أنّ استمراري بهذه الحال وفراق "أمير" سيسقماني. وبينما أنا أحدّق بقبة الحرم، لفتت فجأة حمامة بعيدة انتباهي. سُحرت بمنظر هذه الحمامة الآتية نحوي مباشرة. تقدّمت وتقدّمت إلى أن وصلت إلى أمامي بالضبط. ثنت جناحيها وجلست إلى جانب الـ"خربُزه"(الشمّامة). عقدت عينيها الصغيرتين على عينيّ. لا أعلم كم دقيقة بقيت أنا والحمامة على هذه الحال، يحدّق أحدنا في عيون الآخر من دون أن يشتّت أيّ شيء حواسنا في تلك الدقائق. لا أعلم إذا كانت الحمامة مأمورة أم ماذا؟ لكن كلّ ما أعلمه أنّه عندما فتحت جناحيها مرّة أخرى وطارت، حملت معها جزءًا


 


[1] نوع من الفاكهة في إيران وتشبه الشمام.

 

387


376

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

كبيرًا من حزني ووحدتي... في اليوم التالي فكّرت أنّه من الأفضل أن أقوم بزيارة سريعة إلى مستشفى الإمام الرضا عليه السلام. المستشفى نفسه الذي أُدخلت إليه في خريف العام 1983م وأنا على تلك الحال المريعة، وصادف أنّ مؤسسة الشهيد في تبريز أيضًا طلبت ملف إصابتي. ذهبت إلى المستشفى والتقيت بذاك الممرض المسيحي نفسه. لم يصدّق أنّني الجريح الذي كان هنا قبل سنتين. قال لي: "لقد تحسّنت حالك كثيرًا".

- أين أنت مِنَ الذي حصل، بعد ذلك الجرح أُصبت بجراح.

 

كان إنسانًا نبيلًا وعطوفًا وقدّم خدمات جيّدة للجرحى. ذهبت للقاء الممرضين الآخرين أيضًا وأخذت نسخة عن ملفي لكي أوصلها إلى تبريز. في مشهد قضيت معظم أوقاتي في الحرم الشريف. في تلك الأيام، كانت أكبر حاجة مشتركة عند جميع المجاهدين هي الانتصار في الحرب وسلامة الإمام. وكانت حاجاتنا العائلية -إن وُجدت- تأتي في المرتبة الثانية. لم نكن نستطيع أن نطلب من الله تعالى حاجاتنا المادية والدنيوية مقابل شهادة أو جرح أعزائنا. على العكس من ذلك، كنّا ندعو الله دائمًا بعجز وافتقار: "إلهي، لا تخجلنا أمام أصدقائنا الشهداء".

 

لم أستطع المكوث في مشهد أكثر من 4 أو 5 أيام. تحسّنت حالي قليلًا وقرّرت العودة إلى تبريز. ولأنّه لم يكن ثمة حافلة تذهب مباشرة إلى هناك في تلك الساعة، ركبت حافلة متوجهًة إلى محطة "خزانة" في طهران. في محطة طهران ذهبت إلى المرحاض ووضعت حقيبتي على الرفّ المخصّص للثياب فسُرقت! قلت في نفسي لو علموا لمن تعود الثياب التي في داخل الحقيبة لما أقدموا على سرقتها. فقدت هناك وإلى الأبد، بعضًا من ثياب "أمير" التي أخذتها معي إلى مشهد. فقدت أيضًا 7 آلاف تومان من المال كانت بحوزتي. أذهلني الأمر، لكن ليس باليد حيلة. بحثت في جيوبي فوجدت 30 تومانًا ذهبت بها إلى منزل أخي الذي كان

 

388

 


377

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

يسكن في مدينة طهران آنذاك. عندما قصصت عليهم قصتي قالوا: "اللصوص كثر في تلك المنطقة. يجب أن تنتبه إلى أغراضك جيدًا!". كم كان الاختلاف كبيرًا بين "هذا الوراء" و"ذاك الأمام"! نحن الذين عشنا لسنوات في مناطق الحرب، كنّا حديثي العهد بحياة المدينة لدرجة أن نخدع بسهولة.

 

في تلك الليلة علمت عائلة أخي بشهادة "أمير" فأقيم مجلس عزاء آخر لأميرنا العزيز.

 

بقيت عدّة أيام لأربعين أمير. خلال هذه المدّة تحسّنت قدمي، ولكن لم أعد أستطيع البقاء أكثر من هذا في المدينة، فلا شيء فيها يهدّئ روعي. انطلقت إلى دزفول في أواخر آذار من العام 1986م*[1] حين بدأ الربيع يزهو بنفسه في تبريز.

 

 


 


[1] الأيام الأولى من السنة الهجرية الشمسية 1365.

 

389


378

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

الفصل الثاني عشر:

مصنع الملح

 

 

في اليوم الأوّل من وصولي إلى دزفول، توجّهت إلى مكان تموضع كتيبة "أبو الفضل"، تلك الكتيبة التي تضعضعت بسبب استشهاد غالبية عناصرها في عملية "والفجر8". انقبض قلبي لرؤية المكان خاليًا من الشباب. التقيت السيّد "أجدر مولايي" قائد الكتيبة. قلت له: "أريد أن أرجع إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام".

- لا، لا يمكن!

- لكنّني لا أستطيع البقاء هنا أكثر من هذا. أريد العودة إلى كتيبة "الإمام الحسين".

 

أصررت على العودة، وهو أصرّ على الرفض. أدركت أنه لن يوافق. ذهبت إلى مركز القيادة. طلبت نقلي إلى كتيبة الإمام الحسين، قالوا أنت في كتيبة "أبو الفضل"، وعليك أن تعود إلى هناك!

 

لم يبقَ في كتيبة "أبو الفضل" سوى عناصر التجهيزات والبريد[1]، وهم أقلّ من عشرة أفراد. كان السيّد أجدر يعمل على إعادة تنظيم كتيبته.ولم يعد أحد من قادة سرية الحاج قلي الذي جرح في نفس ليلة استشهاد أمير[2].


 


[1] تعرّضت الحافلات التي نقلت عناصر كتيبة "أبو الفضل" إلى الخلف إلى قصف ما أدى إلى استشهاد السائقين وعدد من العناصر، وتفرّق من بقي من العناصر.

[2] رأيت خلال الحرب عددًا كثيرًا من القادة. عدا عمليات "بدر" حيث دخل جميع القادة في ساحة المعركة بسبب النقص في العديد، لم أر أحدًا كالحاج قلي يوسف بور والسيد أحمد موسوي. كان السيد أحمد موسوي كالحاج قلي، رجلًا استثنائيًا، وقد أصيب بجراح شديدة في عملية مسلم بن عقيل عندما كنّا عائدين من تلة "سلمان كشته"، ومع هذا كان كلّما استطاع الكلام يقول لعناصره قاوموا... كان قائدًا شجاعًا، فهو ليس فقط لم يأت على ذكر الانسحاب والتراجع، بل كان يحثّ عناصره دائمًا على المقاومة.

 

390


379

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

التقيت السيّد "مهدي حسيني" مسؤول المركز(المقر). ما إن رآني حتى سألني: "هل استشهد أخوك؟".

- نعم.

 

كان السيّد حسيني يعتقد كالكثيرين أنّ "أمير" أخي. ثم قال لي: "ليتك ذهبت إلى الخلف، ففي الوقت الحالي لن نقوم بأيّ شيء". قلت له لقد أخذت قراري، وأريد أن أبقى في المنطقة، وأخبرته أنّ "أمير" ليس أخي. أجابني: "إن كان صديقك فهو أقرب إليك من أخيك. لقد رأيتكم بنفسي. لم تكن تفارقه!". أصرّ عليّ للرجوع إلى الخلف، وأرسل أيضًا "ناصر بربور" حتى يرافقني إلى تبريز. يبدو أنّهم فكّروا بأمر ما لتكريم عائلتي وعائلة أمير، لكنّني لم أرجع بالرغم من محاولاتهم الكثيرة. ذهب "ناصر بربور" وحده إلى تبريز وقصد منزل "أمير" يرافقه "قدرت أشرفي".

 

بالرغم من رأي السيّد "أجدر" والاستقطاب في مركز القيادة، ذهبت إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. أرسلوني إلى سريّة "علي تشرتاب" الذي التقيته فقط في معسكر شهداء خيبر[1]. ذهبت إلى السرية من دون كتاب تعريف أو أيّ شيء آخر. فقد خدمت سابقًا في كتيبة الإمام الحسين لسنتين متتاليتين، ويعرفني كلّ العناصر القدامى في الكتيبة. في البداية أصرّ "علي تشرتاب" عليّ للبقاء معهم، لكنّني كنت راغبًا بالانضمام إلى الفصيل. في تلك المرحلة خيّم الهدوء على أجواء الفرقة رغم التغييرات الكثيرة التي حدثت، وكانوا أحيانًا يرسلون كتائب إلى الخطوط الأمامية.


 


[1] كان علي تشرتاب في بدر أحد المعاونين في سريّة خليل نوبري، وعندما تركنا كتيبة الإمام الحسين بعد العملية، أصبح مسؤول السرية.

 

391


380

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

بعد أيام عدّة استلمتْ كتيبة الإمام الحسين عليه السلام الخطّ الأمامي.

 

يومها انتقلتُ إلى الفصيل الثالث، وكان مركز القيادة فيه شاغرًا حتى ذلك الوقت. رأيت بعض الأشخاص الذين أعرفهم، "قادر غفاري، حيدر مهديخواه ورحيم غفاري". تعرّفت أيضًا إلى أحدهم ويدعى "مجيد", وهو معاون في إحدى سرايا كتيبة سيد الشهداء عليه السلام. جرح في بدر أيضًا وتهشّم فكه، فصرنا نحن الاثنان يشبه أحدنا الآخر من حيث هيئة الوجه! كان في الفصيل أيضًا ثلاثة من مسؤولي "حركة محو الأمية": "صادقي، مجيد بورناجي، وكريمي", إضافة إلى "جواد بخت شكوهي", وهو من أكثر العناصر شغبًا في الفصيل، و"رسول زارع زاده". لكن، لم يخفّف شغبهم ومزاحهم من حزني، وشعروا هم بذلك. لقد حملتني شدّة الحزن على القيام بأعمال كثيرة. سمعت أنه كلّ من يقرأ سورة الإخلاص 40 مرّة على مدى 7 ليال متتالية، أو يقرأ السورة الفلانية 7 مرات يرى الشخص الذي يريد في عالم الرؤيا. رحت أقرأ هذه السور كلّ ليلة وأتضرّع إلى الله سبحانه كي أرى "أمير". أحيانًا كنت أراه، وأحيانًا كثيرة أخرى لم أوفّق لرؤيته.

 

مضى على التحاقي بكتيبة الإمام الحسين عليه السلام حوالي عشرة أيام ولم ينتبه السيّد أجدر لذلك بعد. شيئًا فشيئًا بدأ يؤثّر فيّ الحضور بين جمع الشباب الطيّبين والمشاغبين في الفصيل الثالث. كنّا نمضي أكثر أيامنا في لعب كرة القدم. التقيت أكثر شباب الفصيل لأوّل مرّة، ومع هذا كان يتقرّب مني كلّ من يرى مظهري أو يسمع قصّتي من بعض الشباب القدامى. أحيانًا كنّا نتحدّث عن الشهداء، فيعلّق أحدهم أن الشهيد الفلاني هو من بلدتي، وإن صادف أن كنت على معرفة به، أبدأ بالحديث عن ذكريات الأيام التي قضيتها إلى جانبه... كان الشباب يرغبون كثيرًا بالحديث عن العمليات الماضية وعن الشهداء، حتى إنّ العناصر الملتحقين حديثًا فهموا حزني وغصّتي من خلال هذه الأحاديث،

 

392


381

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

وأصبح الجميع يعلمون كم أحبّ "أمير". رغب أكثرهم بالاطلاع على ألبوم صوري، وكان جواد أيضًا قد رأى صوري أنا وأمير، وأدرك شدّة تعلّقي به، خاصّة عندما رأى الصورة التي طبعتها في مشهد، وقد وضعت صورته على قلبي. منذ ذلك الحين أصبح الشباب يذكرون اسم "أمير" دائمًا بالتقدير والاحترام. وهكذا، توطّدت علاقتي مع الإخوة أكثر فأكثر، حتى طلب منّي جواد بخت شكوهي ذات يوم: "أوصِ بعد شهادتك أن يعطوني هذه الدراجة!", وقصد دراجتي الهوندا، وكان لها حكايتها الخاصة[1]. ولكي يكفّ جواد عن طلبه ذاك قلت له: "يا عزيزي! هذه الدراجة خطيرة. لقد قتلت عددًا من الأشخاص إلى الآن. صدّق، إذا كتب اسمك أيضًا عليها فإنّ أمرك سينتهي أيضًا!".

 

لكن لم يصرف جواد نظره عن الموضوع: "ما لك أنت ولموتي! فقط أوصِ أن يعطوني هذه الدراجة عندما تستشهد!".

 

أعدت شرح الأمر له: "لقد وضع "أمير" يده على هذه الدراجة، والكثير من الشباب الذين استشهدوا ركبوا عليها أيضًا. الآن جاء دوري، إن أعطيتك هذه الدراجة حتمًا ستستشهد!". لم يقتنع وأصرّ: "يجب أن توصي بأن يعطوا دراجتك لجواد!", فلم أجد مهربًا من الخضوع له! جمعت الإخوة لكي أخبرهم بوصيتي. كان جواد موجودًا ورحيم وقادر وعدّة أشخاص آخرين. كتبوا أنّه بعد استشهاد السيّد نور الدين عافي يرث "جواد بخت شكوهي" دراجته النارية. عندما فرغنا من كتابة


 

[1] سُلّمت الدراجة التي أحبّها جواد للمرة الأولى من الحرس إلى إبراهيم نمكي، وقد سلمها إلى حسن نمكي قبل أن يؤسر في عملية خيبر. أستشهد حسن لتصل الدراجة إلى كريم الذي أعطاها لأخي زوجته وهو عنصر في الحرس. في أحد الأيام جرّني الكلام مع كريم إلى الحديث عن دراجة إبراهيم وأخبرني أنها معهم. حينها كنت أملك دراجة كاوازاكي. قلت له: "كريم! أعطني هذه الدراجة، أريد أن أحصل عليها مهما كلف الأمر! إنّها عابقة بذكريات الشباب الذين رحلوا!". بكل الأحوال اتفقنا وحددنا موعدًا لاستلام الدراجة، ذهبت برفقة "أمير" في إجازة إلى تبريز والتقيت بأخي زوجة كريم وسلّمته دراجتي التي أعطتنيها مؤسسة الشهيد، إضافة إلى مبلغ من المال مقداره ألف أو ألفا تومان، وأخذت تلك الدراجة.

 

393


382

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

الوصية التفتّ إلى جواد وقلت له: "جواد! لم أرد أن أصرّح بهذا الكلام، لكن سأقول لك أمام الشباب إنّه سيأتي يوم وأزورك في قبرك راكبًا هذه الدراجة بذاتها! لن أحترمك في ذلك اليوم، وسآتي إلى قبرك بهذه الدراجة! وهؤلاء الشباب يشهدون..."[1]. منذ ذلك الحين صار جواد ينتظر دائمًا حصول اشتباكات حتى أستشهد خلالها ويحصل هو على دراجتي: "امير بازاري اود توتسون، منه بير دستمال يتيشسين!"[2].

 

يومًا بعد يوم بدأت الألفة تزداد بيني وبين شباب الفصيل الذين بلغ عددهم حوالي 16 شخصًا. كنّا أحيانًا نذهب إلى دزفول ونسبح في الماء، نأكل لحم الكبد وأثناء العودة نشتري أغراضًا لنحضّر منها طعام الغداء. عرف الشباب أنّني أحبّ البندورة لذا أضحت محفوظة دائمًا في البراد البلاستيكي، ويشترونها لأجلي ويقولون: "هذه البندورة للسيّد نور الدين! لا يلمسنّها أحد!", وقد بذل جواد قصارى جهده في كلّ شيء واهتمّ بي كثيرًا. عاملني أكثر الشباب كأخيهم الأكبر، ما راح يقلّل من أحزاني الماضية شيئًا فشيئًا. طبعًا لم تكن ذكرى "أمير" أمرًا أريد أن أمحوه من ذاكرتي. لا أحد يساوي "أمير" بالنسبة إلي، وبقي الحزن على فراقه مختلفًا عن كلّ همّ وغمّ. بقيت في كلّ ليلة أقرأ الأدعية والسور التي تعلّمتها لعلّي أشاهده في منامي. أحيانًا عندما لا أراه، كنت أمتعض ولا أكرّر قراءة السور بعد ذلك! في تلك الأيام ازدادت روحيتي كثيرًا بحيث صرتُ أستيقظ من نومي عندما أريد، مهما كان نومي ثقيلًا. لقد أصبحت علاقتي بالله تعالى عجيبة ولطيفة.


 


[1] وأتى يوم ليس ببعيد حيث ذهبت أنا وحيدر على الدراجة نفسها إلى قبر جواد! راح حيدر يطرق بيده على قبر جواد ويقول "جواد! انهض! لقد أتى السيد نور الدين على الدراجة..!".

[2] مثل تركي، ويعني ليت سوق "أمير" يحترق لأحصل على منديل، وهو كناية عن أنّه فليقع أيّ حدث ولو كان كبيرًا لأحصل على شيء مهما كان زهيدًا.

 

394


383

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

ذات ليلة رأيت "أمير" في المنام. تحدّث أحدنا مع الآخر كما العادة. قلت له شاكيًا: "أمير! لقد ذهبت أنت وتركتني هنا وحيدًا في مواجهة المتاعب!", ردّ قائلًا: "سيّد، أنت أيضًا ستأتي إليّ بعد 15 يومًا!". قفزت من نومي. أيّ منام كان هذا يا إلهي؟! لم يكن ثمّة أيّ خبر عن العملية.

- يا عم لا يوجد شيء هنا! كيف لي أن أذهب بعد 15 يومًا إلى أمير؟ الهدوء التامّ يخيّم حاليًّا على الكتيبة!

 

بداية أخبرتُ القصة لـ"قلي خاقاني" وهو طالب علوم دينية. ثم تحدّثت مع "بدرام شاكري" و"حسين قوجابي" وهما من مشاغبي الكتيبة. فهما القضية وأجابا: "نحن لا نعلم متى تنفّذ عملية". أخبرت القصة أيضًا لرسول زارع زاده، وبعد ذلك رأيت أنّه من الأفضل أن لا أتحدّث بالموضوع أكثر من هذا، وأن أنتظر اليوم الخامس عشر.

 

في اليوم التالي أخبرونا أنّهم سيرسلوننا إلى مشهد. إن كنت قبل هذا الخبر أحتمل أن نذهب إلى الخطّ الأمامي بنسبة 50% ونشتبك مع العدو، فقد انعدم هذا الاحتمال مع سماعي خبر الذهاب إلى مشهد. اقتضت العادة بأن يأخذوا العناصر الذين رجعوا حديثًا من العمليات إلى مشهد ولا يشغل بالهم شيء. حزمنا أمتعتنا وركبنا الحافلات. اجتمع جميع عناصر فصيلنا بالإضافة إلى "آقاقلي" و"علي تشرتاب" في حافلة واحدة. تأكّدت أنّ أعمال الشغب والمشاكسة ستصل إلى أوجها في الحافلة. توقفت الحافلة في منطقة "بل دختر", وذهب جواد واشترى "التمر الهندي", وأحضر لي بعضًا منه أيضًا. حتى ذلك الوقت لم أكن قد تذوّقت التمر الهندي. قلت له: "ما هذا؟ أو هل يمكن تناول شيء بهذا السواد!", كان جواد يحبّ التمر الهندي. أنا أيضًا أكلت منه ووجدته لذيذًا! اشتروا البسكويت أيضًا وأشياء أخرى من تلك التي يحبّها الأولاد عادة. واقع الحال أنّهم في مقتبل العمر، وفي عمرهم ذاك كانوا يقومون

 

395

 


384

الفصل الحادي عشر: وداعًا أمير

بالحركات الصبيانية. مثلًا في الحافلة، يأكل أحدهم شيئًا ويرمي بالجزء المتبقّي على رأس الجالس أمامه، ليلتفت هو الآخر ويرمي شيئًا على رأسه. ترأس جواد وحيدر مجموعة المشاغبين. كان بيننا شخصان باسم رحيم، أحدهما "رحيم باغبان" والآخر "رحيم غفاري" الذي قضى جنديّته في الجيش وبعد الفراغ منها جاء متطوّعًا إلى الجبهة والتحق بكتيبتنا. تميّزت مشاغباته بفرادتها. مهما قلتَ له، أعطاك جوابًا معكوسًا، وكانت أجوبته تضحك الشباب. حتى إنّ طريقة تناوله للطعام مثيرة مضحكة. اشتهر رحيم بالمزاح والضحك إلى حدٍّ لم يعد بعض الأخوة يثق به كثيرًا، وراحوا يتهامسون بأنّه قادم من الجيش،... وكلام من هذا القبيل[1].

 

قضينا في الطريق إلى مشهد أوقاتًا ممتعة. تولّى "جلال زاهدي" مسؤولية قافلة مشهد، وهو مسؤول السرية الثانية ومن الأفراد المعروفين في الفرقة، وتميّز بإدارته القوية والنموذجية. كان "مصطفى بيشقدم" مسؤول السرية الأولى، و"علي تشرتاب" مسؤول السرية الثالثة. كنّا في سرية علي. انطلقنا بأربع حافلات. لكي لا يحصل ازدحام حين التوقف عند المطاعم الموجودة على الطريق، قرّروا أن يتم ّالتنسيق بين كلّ حافلتين على حدة. تولّت الكتيبة مصاريف السفر، وقام الأخ جلال بإدارة المصاريف وتأمينها. أخذنا معنا أيضًا أطعمة وفواكه معلّبة لتناولها على الطريق. كان ذلك السفر سفرًا عجيبًا. توقفت الحافلات حيث أراد الشباب، إلى جانب الحدائق الجميلة والمروج الخضراء التي افتقدناها طويلًا.

 

 


[1] كان البعض في الفرقة يعتقدون خطأً بأن الشباب المشاغبين والمزوحين يفتقرون إلى التقوى، وأنّ أداءهم لن يكون جيدًا في العمليات، في حين إنّ القضية كانت عكس ذلك تمامًا. طبعًا كانت حياتي إلى جانب رحيم ولاحقًا رؤيتي لشجاعته في الحرب قد تركا تأثيرًا عليّ بحيث صرت منذ ذلك الوقت أحب أن أبقى أكثر مع الشباب المشاغبين والمزوحين وأصحاب الطرائف. لم أعد أوافق على الحكم المسبق على البعض الذين كان طبعهم المزاح، وفي نهاية المطاف كان العمل يُظهر مدى إخلاص كل شخص!

 

 

396

 


385

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

وصلنا إلى مشهد واستقرّت قافلتنا في حسينية قريبة من الحرم.

 

كنت وجواد وحيدر ورحيم نذهب معًا إلى الحرم. أحيانًا كان يأتي معنا أيضًا كلٌّ من رسول زارع زاده ومحمد نصرتي. اتفقنا على أن نذهب يوميًّا ثلاث مرات إلى الحرم لنصلّي جميع صلواتنا هناك. كان للتشرّف بزيارة الإمام الثامن عليه السلام مع هؤلاء الإخوة صفاء من نوع خاصّ. كالعادة، قليلًا ما كنت أذرف الدموع في الحرم، وكلّما ذهبنا إلى هناك، يتوجه الشباب إلى ناحية الرأس الشريف. كانت حالهم لافتة، بكاؤهم وتضرّعهم... تكرّرت هذه الحال في كلّ مرة، وكنت عندما أراهم أحزن وأفرح في آن، أفرح لأنّني صديق لأشخاص كهؤلاء، وأحزن لأنّني أعلم أنّ هؤلاء أيضًا سيرحلون. عند عودتنا من الحرم كنت أرى كيف أنّ شيئًا لم يتغير عندهم من ناحية الشغب. أدبهم وعرفانهم في الحرم شيء، وشغبهم في الخارج شيء آخر.

 

ليلًا، كان "بورخاني" ينظّم مجالس العزاء في الحسينية. التقطنا صورًا تذكاريّة كثيرة في الحسينية وفي المدينة. ذات مرّة أتى "جواد بخت شكوهي" وقد اشترى خاتمًا. قال: "لقد دفعت في مقابل هذا الخاتم 500 تومان!", أجبته: "يا جواد! ما هذا الذي اشتريت؟!".

- كلا! أنت لا تعلم أنّه ...

- يا هذا! أنت لا تعلم! أساسًا لا يعتبرون هذا الشيء في تبريز خاتمًا. لقد خدعوك.

 

ذهبنا إلى سوق الإمام الرضا عليه السلام، وبعد شجار أرجعنا الخاتم. راح جواد ينظر إلى الألعاب كالأولاد الصغار. كان يحبّ أيضًا أن يشتري لعبة. ربّما تكلّم عن ذلك مازحًا، ولكنه حقًّا كان يحبّ الألعاب.

 

 

397


386

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

في الأيّام الثلاثة أو الأربعة تلك صرفنا أكثر أموالنا. أحببت أن أنفق أيضًا شيئًا على الشباب، أولئك الذين أعلم أنّ أكثرهم سيرحلون. كنت أستطيع أن أتنبأ أيّ عاقبة ستكون من نصيبهم، ولم يمضِ وقت طويل حتى استُجيب دعاؤهم في الحرم. في ذلك الوقت لم أغفل لحظة واحدة عن المنام الذي حلمت به، ورحت أعدّ الأيام لأرى متى ستنتهي تلك الأيام الخمسة عشر وأصل إلى أمير.

 

في مشهد، وحرم الإمام الرضا عليه السلام المملوء بالصفاء، أقيمت مراسم العزاء لعدّة مرات، وتشكّلت مواكب اللطم "شاخس", وكانت حال هؤلاء الشباب أكثر جاذبية أيضًا في تلك المراسم. ذهبنا أيضًا إلى "جنة الرضا عليه السلام", وأردنا زيارة روضة شهداء مشهد، لكن لم نوفّق لذلك.

 

اتصل الأخ جلال زاهدي من مشهد بمقرّ القيادة ليطلب منهم إرسال المزيد من المال إلينا بعد أن نفد مالنا، لكن، أتاه الجواب بأن يتحرّك في ذلك اليوم تحديدًا من مشهد، ويرجع إلى المنطقة فلدينا عمل! ما إن انتشر الخبر حتى علا ضجيج الشباب. ذهبنا إلى الحرم بحثًا عن البقية. لم يشبع أحد من الزيارة بعد. لقد أتوا إلى هنا وهم يحسبون أنّهم سيمكثون لمدّة عشرة أيام، وها هو سفرهم يختصر إلى أربعة أيام. استغرق جمع الشباب وقتًا كثيرًا. كلّ من يصل إلى الأخ جلال كان يتمتم غاضبًا: "أيّ سفر هذا إلى مشهد؟! لماذا أحضرتمونا أساسًا!... وهل يمكن زيارة مشهد بثلاثة أيام فقط؟!". على كلّ حال ودّعنا الإمام الرضا عليه السلام وتحركت الحافلة. كان علينا أن نتدبّر أمرنا بما تبقّى لدينا من مال حتى الوصول إلى مقرّ الفرقة.

 

وصلنا ليلًا إلى إحدى مدن الشمال الخضراء. ترجّلنا في منطقة حرجية يمرّ في وسطها نهر جميل لنتناول طعام العشاء. بداية الأمر أقمنا الأذان والصلاة، ثم حضّرنا سمك التونة للعشاء. منذ أن صدر

 

398

 


387

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

الأمر بالعودة إلى المنطقة بدأ الأشخاص الذين يعلمون بمنامي وقضية الخمسة عشر يومًا يرمقونني بنظرات خاصّة، وراح آقاقلي يحوم حولي وأنا أصلّي، وأهدر فيلمه بالتقاط الكثير من الصور لي..!

 

كانت الطبيعة هناك مملوءة بالصفاء وكذلك حال الشباب. صحيح أنّ الطعام كان قليلًا ولكنّه لذيذ. جلنا في المكان قليلًا مستخدمين مصباحًا يدويًّا للإنارة، ثم انطلقنا، لكنّ الضباب كان كثيفًا لدرجة أنّ الحافلات اضطرّت للتحرّك ببطء. وصل الأمر لدرجة أن قال السائقون لا يمكن الاستمرار بالقيادة بهذه الحال. تقرّر أن نبقى في مدينة صغيرة على آخر الطريق. كان ذلك المكان مليئًا بأشجار الليمون والأفندي والحامض، ومنظر أشجار البرتقال المتناثرة على جوانب الطريق كان جميلًا وخلابًا بالنسبة إلينا نحن الذين نشأنا في منطقة باردة. لقد استمتعنا بكلّ ذلك الجمال. شيئًا فشيئًا تجمّع الناس حولنا وعرفوا أنّنا من تبريز ومن عناصر فرقة عاشوراء. عاملونا بمحبّة ولطف كبيرين حتى خجلنا من الذهاب إلى دكاكينهم لشراء أيّ شيء لأنّهم أساسًا لم يقبلوا بأخذ المال منا. في تلك الليلة حللنا ضيوفًا على كرم أولئك الناس الطيّبين، ثم تناولنا فطورنا وانطلقنا من دون أن نصرف ريالًا واحدًا[1].

 

قرابة الظهر وصلنا إلى طهران، وتوقفت الحافلات أمام مطعم يعدّ الأرز بالكباب. قالوا لنا: "ليأخذ كلّ شخص سيخًا واحدًا من الكباب وقنينة مرطبات. لا تطلبوا أكثر فلا نملك مالًا كافيًا!". بهذا الشكل تبلغ تكلفة غداء كلّ شخص 70 تومانًا، وكان المال الذي بحوزتنا يكفي في هذه الحال. لكنّ أحدًا لم يصغ لهذا الكلام، وبدأ كلّ شخص بطلب ما يشتهي. لم يكن باليد حيلة. قال آقاقلي:"لا بأس بذلك! سآخذ مالًا ممن يملكونه

 

 


[1] قاموا أيضًا بخدمة الحافلتين اللتين لحقتا بنا، وقد اصطحبت عوائل شهداء تلك المدينة الإخوة إلى أحد قصور فرح على شاطئ البحر وأحسنت ضيافتهم.

 

399


388

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

ونحتسبه، وما إن نصل إلى مقرّ فرقتنا سأرجع مالهم إليهم". جلسنا إلى مائدة الطعام. هنا، لفتتني سيارة مرسيدس من الطراز الجديد تتوقف ويترجل منها رجل يرتدي بدلة بيضاء وربطة عنق حمراء ويدخل إلى المطعم. كنت والأخ جلال جالسين إلى طاولة بالقرب من باب المطعم. لا أعلم لم توجه إليّ ذلك الرجل مباشرة: "أيّها السيّد!".

- أجل!

- من هو مسؤولكم؟!

- أيّ خدمة؟

- أريده في مسألة!

لم أرد أول الأمر أن أعرّفه إلى الأخ جلال. أردت أن أرى ماذا يريد منا. قلت له: "تفضّل!".

- أريد أن أدفع ثمن طعامكم!

 

تفاجأت عندما سمعت هذا الكلام. أشرت إلى الأخ جلال ، وقلت له هذا الأخ هو مسؤولنا. قال الأخ جلال: "نحن شاكرون لك، لكننا نملك مالًا ونحن سنحاسب".

- أنا لا أقول لديكم مالٌ أو ليس لديكم مال. إنّما أطلب الإذن منكم لأدفع ثمن طعامكم.

 

لم يكن الأخ جلال يريد الموافقة، ولكن أجبرنا ذلك الرجل على ذلك بتمنّيه علينا وإصراره، وقال فليتفضّل الشباب ويطلبوا ما يريدون. مرّة أخرى قلنا للشباب: "ليأكل كلّ شخص ما يحلو له!".

 

أثناء الوداع قال ذلك الرجل السخيّ: "يبدو أنّكم ذاهبون باتجاه الأهواز. كلّ مصاريفكم هي على عاتقي حتى تصلوا إلى هناك!".

- شكرًا لك! لقد تحمّلت أعباء الغداء!

- كلا! إنّ مصروفكم إلى أن تصلوا الأهواز خذوه من هذه الحقيبة

 

400

 


389

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

بلغ ما بلغ!

 

تمنّى علينا كثيرًا، إلى أن أخذنا في نهاية الأمر عدة وريقات من فئة الألف تومان. طلب منّا أن نأخذ أكثر لكنّنا قلنا له يكفي هذا المقدار. ودّعناه وذهب. تعجّبنا لما حدث، فعندما نفدَ مالنا وكنّا جميعنا جائعين، كان مثيرًا للعجب وصول ذلك الرجل في تلك الظروف، ومحاسن الأخلاق التي ظهرت منه والخدمة الحسنة!

 

عندما وصلنا إلى مقرّ الفرقة كانت الحافلات الأخرى قد وصلت أيضًا. راحوا يتفاخرون أمام شبابنا ببقائهم في القصر على الشاطئ، وبحسن ضيافة أهالي تلك المدينة الشمالية. نحن أيضًا أخبرناهم قصة الرجل الذي أرسله الله تعالى حتى يخدمنا بذاك الشكل. بالنسبة إلى الجميع كانت ضيافة عوائل الشهداء وأهالي تلك المدينة أمرًا عاديًّا أمام التعامل غير المتوقّع من شخص لا يظهر من شكله ومظهره أنّه مهتمٌّ بالمجاهدين أساسًا.

 

لا تقارَن الفرقة اليوم مع حالها قبل أسبوع. عندما ذهبنا إلى مشهد كان الهدوء يعمّ الأرجاء، أمّا الآن فلا يكاد أحد يصل حتى يتناهى إلى مسامعه عبارة: "اَسرعوا!". ترجّلنا من الحافلة وتجاذبنا أطراف الحديث قليلًا مع أصدقائنا، ثمّ هرعنا لارتداء ثيابنا وتجهيز أنفسنا. لم يكن أحد حتى تلك اللحظة يعلم بشكل قاطع إن كان ثمّة عملية ستنفّذ أم لا؟. قرابة الظهر استلمنا أسلحتنا، وحضَرَ كافّة عناصر كتيبة الامام الحسين عليه السلام. أصبح الحديث عن العملية جديًّا الآن، وصدر القرار بنقلنا على وجه السرعة إلى منطقة العمليات. في ذلك اليوم كان قد انقضى 13 يومًا على رؤياي لأمير: "هل حقًا سأذهب بعد يومين إلى أمير!؟".

 

401


390

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

عصرًا ركبنا الحافلات وتوجّهنا إلى جانب نهر أروند. نفس منطقة عملية "والفجر8"، ونفس القرية التي مكثنا فيها أنا وأمير وعناصر كتيبة "أبو الفضل" قبل تلك العملية. تقرّر ليلًا أن نبقى هناك. وأيّ ذكرى لم تحضرني تلك الليلة... بتّ على حال عجيبة وقد لاحت للجميع أيضًا. بدأت المدفعية العراقية تقصف المنطقة، وقرابة الصباح اشتدّت غزارة النيران أكثر.

 

تقرّر أن نذهب صباحًا إلى شاطئ نهر أروند بالحافلات الصغيرة. بدأت القصة. لم يوافق أيٌّ من الشباب على الجلوس إلى جانبي في الحافلة! وفتح باب المزاح: "اُنظر! يمكن أن تقع هذه القذيفة على حافلتنا الآن بسبب السيّد!". وأنا أسمع هذا الكلام ونضحك جميعًا. أمّا أنا فأجيبهم: "يا عزيزي! حتى الآن بقي يومان لكي تكتمل عدّة الخمسة عشر يومًا! وأنتم ترسلونني منذ الآن إلى هناك!". كنت أتفوّه بهذه الكلمات وأكاد أصدّق أنّ شيئًا ما سيحدث. كانت قذائف المدفعية تنفجر هنا وهناك قرب الحافلة، لكنّنا وصلنا سالمين.

 

لاحظنا أنّ الحركة بالقرب من نهر أروند لافتة للنظر. انتقلنا بالقوارب إلى الضفة الأخرى من النهر لنستقرّ في الدشم هناك. لم نأمن من البعوض، مع أنّهم وزعوا مراهم ضد اللسع، قمنا بدهن الأجزاء التي لم تغطّها الثياب من جسمنا بها عسى أن لا يقترب البعوض منا، لكن بلا فائدة.

 

تقرّر أن نبقى هناك حتى الليل. بالإضافة إلى فصيلنا - الفصيل الأول - كان هناك أيضًا عناصر الفصيلين الثاني والثالث. رأيت هناك أيضًا علي تيربارتشي، رسول أفتابي، هاشم تاري[1] وعدد آخر.


 


[1] الاثنان من المشاغبين في الجبهة. كنّا معًا في الثكنة، وقد مزّق رسول جزءًا من سقف الخيمة بمقدار يسمح له بإخراج رأسه منه. وعندما يحل الصباح يمد رأسه خارجًا ويبدأ بالصياح، "كوكوكوكو كوكو!" فيجيبه هاشم من خيمة أخرى! طابت ذكراه.

 

402


391

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

عصرًا وصلَنا خبرٌ محزن. لقد استشهد "محمد سبزي" نائب قائد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام والسيد "محمد وطني", ومير حيدر بايدار واثنان آخران. أحزن خبر استشهادهم الجميع، حتى إنّ بعض الشباب راحوا يقولون: "بعد هذا لن تُنفّذ العملية!".

 

هدفت عملية "يا مهدي" إلى تطهير ذلك الجناح الذي بقي تحت سيطرة العدو في عملية "والفجر8". أراد العراق أن يجفّف تلك المنطقة، ونحن كنّا نريد أن نأخذ زمام المبادرة قبله. تقدّمت الفرق الموجودة على الجناحين إلى الأمام. وبقي العدو متمركزًا وسط قواتنا في منطقة تمتدّ إلى 3 كلم حيث استحدث سواتر استقرّ فيها الكثير من عناصره. إلى جانب مصنع الملح يقع "مثلّث الموت"[1]، المكان الذي كان دائمًا تحت نظر العدو وعرضة لنيرانه الغزيرة. يصل مثلّث الموت من إحدى جهاته إلى منطقة فرقة "كربلاء25"، ومن جهة ثانية إلى محور فرقتنا. لقد بنى الإخوة جسرين فوق نهر أروند، أحدهما في منطقة فرقتي عاشوراء و"كربلاء25"، والآخر في منطقة فرقة الإمام الرضا عليه السلام. عبرنا بالقارب بمحاذاة هذه الجسور لنصل إلى الطرف الآخر من النهر. كانت منطقتنا أسوأ من منطقة العراقيين، فالنهر من خلفنا، والمياه المالحة تغطّي الأرض حتى الخطّ الدفاعي الأوّل للعراقيين بارتفاع حوالي نصف المتر.

 

أنجزت التشكيلات. أعطونا رحيم غفاري بصفة رامي رشاش. ما زالت مشاغباته عالقة في ذهني. جاء أحد الإخوة وقال: "لا تعطونا هذا الرامي! لا يمكن الاعتماد عليه!". في ذلك اليوم وفي تلك الظروف، أوكلوا إليّ مسؤولية قيادة الفصيل. لم أرغب بالموافقة، لكن، استجدّت معطيات خاصة آنذاك وقبلت[2].

 

لقد مضى حتى ذلك الوقت 14 ليلة على رؤياي. كانت حالي عجيبة،

 

 


[1] ورد في الفصل الخامس عشر بعض التفصيل حول مثلث الموت.

[2] لم أكن أعلم أنه بعد ساعات ستتغير الأوضاع بشكل أضطر فيه إلى توجيه وقيادة محور السرية أيضًا.

 

403


392

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

ورحت أفكّر ماذا سيحدث في اليوم الخامس عشر؟!

 

نظرت إلى العناصر. كان فصيلنا فصيلًا جيّدًا، رحيم باغبان معاون قائد الفصيل، الأخ صادقي أحد رماة الـB7 في الفصيل يساعده بورناجي، كريمي قناص، وكان بيننا أيضًا شخصان ابنا عمّ من مدينة "سراب" مؤمنان وجادّان، ويُدعى أحدهما "حجت" وهو طالب علوم دينية. أرسلوا إلى فصيلنا شخصًا يدعى "حسين", وهو من بلدة "بندر شرفخانه". برزت في سائر الفصائل أيضًا شخصيات أمثال السيد "محمد وطني خطيبي" وهو مسؤول فصيل، ويتمتّع بالأهلية الكاملة لقيادة كتيبة أيضًا، وقد استشهد سريعًا، آقاقلي يوسف بور و... تقرّر أن نبقى ليلًا وننطلق في اليوم التالي، أي في اليوم الخامس عشر!

 

تحرّكنا صباح اليوم الخامس عشر ووصلنا ظهرًا إلى الخطّ، كان عبارة عن جادّة حفروا بالقرب منها قناة طولها حوالي الكيلومتر الواحد، وامتدّت إلى محور فرقة "كربلاء25" ومحور فرقتنا. كانت القناة مكشوفة لنيران العدو، وخطُّنا قريبًا من مثلّث الموت. في الواقع كان خطّ التماس طريقًا، تموضعنا نحن في طرف منها والعراقيون في طرفها الآخر، وقد صُبّت كومات من التراب على هذه الطريق، ولم يتمّ توزيعها فبقيت على حالها، وأصبحت تبدو وكأنّها تلال صغيرة ملتصقة بعضها ببعض، وتحوّلت إلى مكامن لنا وللعدو. أحيانًا كان العدو يرسل عناصره إلى تلك التلال وأحيانًا أخرى نفعل نحن الأمر عينه. وهناك استشهد محمد سبزي، والسيد محمد وطني قبل يوم أو يومين، وقد أثّرت هذه الحادثة سلبًا على معنويات الجميع. لقد تقدّموا إلى الأمام ليروا المنطقة ويتعرّفوا إليها عن قرب، فوقعوا في كمين العدو وقضي عليهم.

 

كانت المسافة بيننا وبين العراقيين حوالي 100 م فقط. وبقينا في

 

404


393

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

مكان كهذا ريثما نبدأ العملية ليلًا.

 

كما العادة، تكرّرت مشاهد ما قبل العملية. بعض منشغل بكتابة وصاياه، وبعض يختلي بنفسه، وآخرون يودّع بعضهم بعضًا. كم كان مشهودًا طلب المسامحة وتقبيل الإخوة والوداع الأخير.

 

ارتفع صوت الأذان عند غروب ذلك اليوم الربيعي. أدّينا صلاتنا وتجهّزنا مباشرة للانطلاق لتنفيذ العملية التي حملت اسم "يا مهدي". تحرّكت كتيبة "علي الأكبر" قبلنا. اقتضت الخطّة أن نساعد هذه الكتيبة التي ستصطدم بالعدو قبلنا. في الجهة اليسرى للمنطقة تحرّكت إحدى سرايا كتيبة الإمام الحسين عليه السلام بقيادة مصطفى بيشقدم. أخذنا القوات باتجاه القناة. أثناء المسير كانت عيني على الشباب عندما لاحظت غياب محمد نصرتي. بحثت في الأرجاء، لكنّني لم أجده. أكملت مسيري مضطرًّا. في اللحظات الأخيرة، رأيت شابًّا صغير البنية يتوجّه نحونا راكضًا. إنّه محمد. صحت في وجهه غاضبًا: "أين كنت؟".

- سيّد! أردت أن أصلّي ركعتين. فأنا الليلة سأستشهد!

- لا تتفوّه بهذا الجنون! تحرّك!

 

أنّبته قليلًا. وتمتمت قائلًا: "مرّة أخرى، لم يحدث شيء ويفكرون بالشهادة!", لكن كان قلبي يشهد أنّه يقول الصدق. ما زلت أذكر بكاءه عند الضريح الشريف في حرم الإمام الرضا عليه السلام قبل أيام عدّة. وخطر على بالي أنّ لحظات استجابة تلك الأدعية قد حان موعدها.

 

كانت لحظة التحرّك نحو العدو. انطلقنا وقد بدأت الاشتباكات وأخذت أصوات الانفجارات تشتدّ شيئًا فشيئًا. تقدّم أحد عناصر المعلومات طابورنا وخلفه وضعتُ عنصرًا سمينًا، ثم أنا، يتبعني بقية

 

405


394

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

العناصر. الشخص الثاني في الطابور كان من القلّة الذين لا يتقدّمون إلى الأمام في مراحل كهذه، فوضعته أمامي متعمّدًا حتى لا يستطيع الفرار. كان عناصر كتيبة "علي الأكبر" قد تقدّموا قبلنا، وها نحن نرى الآن في الطريق عناصرهم الذين استشهدوا أو أصيبوا بالجراح. عجيبة تلك المشاهد! أحواض المياه المالحة تحيط بنا والجرحى توزّعوا في هذه الأحواض وقد قطعت ساق بعضهم، ووضع بعضهم كوفيّته في فمه حتى لا يلفت صراخه انتباه العدو في بدايات الهجوم. لن أنسى مظلوميّتهم أبدًا... بدأت كتيبة "علي الأكبر" الاشتباك مع العدو، وتمكّن ثلاثة من عناصرها من اختراق منطقة العراقيين من إحدى الزوايا، ولكنهم لم يستطيعوا إنجاز الكثير. كان رشاش العدو الثنائي يعمل أمامنا بالضبط. استلقينا في القناة ننتظر أن يحوِّلوا الثنائي إلى جهة أخرى لننهض سريعًا. في تلك اللحظات، راقبت المنطقة جيدًا. لم تكن تشبه المناطق الأخرى على الإطلاق، الأرض مغطاة بماء الملح المذاب، وفي حال النهوض، علينا أن نركض حتى خطّ دفاع العدو بدون توقف إذ لم يكن بالإمكان الانبطاح أرضًا. كان قلبي يخفق بشكل فظيع، ورحت أدعو الله سبحانه أن لا يرانا رامي الثنائي وإلّا انتهى أمر الجميع. في تلك اللحظات المقلقة، سمعت صوت جهاز لاسلكي. لم أعرف من هم لكنّني غضبت، ورحت أهمس بشفتي أن: "يا هذا! اخفضوا رؤوسكم، لا تكشفوا محورنا!".

 

عندما دقّقت أكثر وجدت أنّه أمين شريعتي قائد فرقتنا واثنان من عناصر البريد. ارتفعت معنوياتي عندما رأيته في الساحة منذ الدقائق الأولى للهجوم وقبل أن نقتحم خطّ العدو. لاحظ الشباب وجوده أيضًا، فشعروا جميعًا بالراحة.

 

خلال ثوان تحوّلت نيران الثنائي إلى جهة محور فرقة كربلاء25. نهضت سريعًا وصحت في الإخوة أيضًا أن: "انهضوا لنذهب!". كان عنصر المعلومات يركض في أول الطابور مفعمًا بالنشاط. استطاع أن يعبر جسر المشاه فوق حوض

 

406

 


395

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

الملح، لكنّ الشخص التالي انزلقت قدمه وغاصت في الوحل وعلق. في تلك اللحظات المضطربة حيث كنت قلقًا من عودة الرشاش الثنائي إلى الرماية باتجاهنا توقّف الرتل عن الحركة. مهما حاول ذلك الشخص لم يستطع أن يسحب قدمه من الوحل.

- أسرع، ارم بنفسك أرضًا حتى يعبر الشباب.

 

كنت مستعجلًا وهو يسألني: "سيّد! ماذا أفعل؟!".

 

لم يكن يريد الوقوع في داخل الحوض فركلته بقدمي ووقع! لم يكن لديّ أيّ حل آخر ولم يكن بالإمكان أن نتأخر بسببه. أردت الوصول بالشباب سريعًا إلى خطّ الدفاع العراقي، وإن حصل أمر ما للشباب خلال هذا الوقت أو انتبه العراقيون إلى وجودنا سوف لن يكون لوصولنا إلى هناك أيّ فائدة، وسنضطر إلى مواجهة العدو من دشمة إلى دشمة. في تلك الأثناء كنت في طريقنا نحو خطّ دفاع العدو أسمع الآهات الضعيفة للجرحى، وأخجل من كلّ تلك الشهامة وذلك الإيثار. قريبًا من الخطّ، انتبه رامي الثنائي إلى وجودنا فاستدار برشاشه نحونا، ولكن فات الاوان كنّا قد وصلنا إلى خطّ العدو. رأيت قائد السرية التي اشتبكت قبلنا عند الخطّ. شرح لي تفاصيل المنطقة بشكل سريع وبدأنا بعمليات التطهير.

 

لكن، كان عددنا قليلًا، أضف إلى ذلك أن 8 من شبابنا استشهدوا أو جرحوا منذ بداية الهجوم. لقد أبدى العراقيون مقاومة كبيرة في ذلك الجزء، وكان طبيعيًّا أن يقاوموا بكلّ وجودهم في تلك القناة، فمنطقتهم الخلفية عبارة عن مستنقعات ووحول، ونيراننا قطعت طريق الدعم عنهم. ولأن المعركة بدأت ليلًا ولا نستطيع أن نأسر أحدًا، رحنا نرمي كلّ عنصر نراه.

 

من جهة أخرى كانت فرقة "كربلاء25" تضغط على العراقيين.

 

407


396

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

اقتضت الخطة أن نقوم نحن وهم بعزل القوات العراقية من الطرفين، لكنّ مقاومة العدو الكبيرة هناك أعجزت شباب فرقة "كربلاء25" في تلك اللحظات ما شكّل خطرًا علينا. كان لا بدّ بأيّ شكل من الأشكال أن تنكسر مقاومة العدو في ذلك المكان. تمتدّ هذه القناة 30 م بشكل مستقيم، ثم تتعرّج في المنطقة التي يوجد فيها العراقيون. لهذا لم يعد لعملية التطهير أيّ فائدة، فقد كان كلّ شخص يخرج من القناة يتعرّض لإطلاق النار حتمًا. بسبب حجم النيران الكثيف لم أستطع أن أقدّر كم هو عدد العراقيين الذين تجمّعوا داخل القناة. تعسّرت الأمور للحظات وأُسقط في أيدينا! لكن، من بين أصوات وضجيج وابل الرصاص والانفجارات، دوّى فجأة صوت في المنطقة فتبدّل المشهد. لقد أبدع شباب الإعلام في فرقة "كربلاء25" حيث عمدوا إلى إذاعة "مارش" الانتصار عبر مكبّر الصوت ...الله أكبر ... ليعلن بحماسة خبر انتصار جنود الإسلام. ارتفعت معنوياتنا. ضرب شباب فرقة "كربلاء25" خطّ دفاع العدو مرّة أخرى وبدأوا يتقدّمون. وتقدّمهم يعني بالطبع فرار العراقيين أكثر فأكثر باتجاه محورنا، الأمر الذي صعّب علينا الموقف. حتى تلك اللحظة حيث تقدّمنا في منطقة العدو، كنّا مضطرّين لوضع عدد من العناصر كحراس على طول الخطّ الذي تم تطهيره بسبب احتمال تسلُّل العراقيين هناك[1].

 

كان الوضع سيّئًا. اقتربنا من الجزء المتعرّج من القناة، ولم يعد ممكنًا التقدّم أكثر. في ذلك المكان جرح أحد الشباب. أعرفه. إنّه "داوود أمير حقيان", بطل المنتخب الوطني لكرة الطاولة. لم تمضِ دقيقة واحدة حتى أصابت رصاصة شخصًا آخر فوقع أرضًا إلى جانبه. لم يعد ممكنًا الاستمرار، ركضتُ وقمتُ بتخريب إحدى دشم العراقيين


 

[1] لم يكن عديد كتيبتنا مكتملًا منذ البداية، أما عديد سريتنا إذا ما كان مكتملاً يصل مع عناصر الهندسة والإشارة والإسعاف الحربي إلى 110، بينما لم يتجاوز سوى 70 مجاهدًا.

 

 

408


397

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

حتى يتسنّى لي إغلاق القناة في ذلك المكان. بهذا ارتاح بالنا إلى حدٍّ ما من نيران العدو الغزيرة. أغلقنا القناة بصفّين من أكياس التدشيم، في حين بقي هذان الجريحان في تلك الجهة من القناة. ناديتهما مرات عدّة لكي يأتيا إلينا، لكنّهما لم يستطيعا الحراك.

- شباب! تعالوا إلى هنا لنرى ما يمكننا فعله.

 

أردت التراجع أكثر والتفكير في حلّ للعراقيين الذين احتشدوا في القناة. أتى أحد الشباب وقال: "لقد جرح الشابّ الموجود أمامنا!". كان لدينا مسعف من مرند فأرسلته إلى تلك الجهة وقلت له: "اسحب الجريح إلى هنا. أحضِره وضمّدْ جراحه هنا". ألقيت من مكاني نظرة على الجريح. لقد أصابت رصاصة جبينه واخترقت عينه وذقنه واستقرّت في صدره. كانت حاله سيئة. أكدت على المسعف قائلًا: "لقد أغلقت القناة. أحضره إلى هنا!". ذهب المسعف ولم يصغ ِلكلامي. أراد أن يضمّد جراح الجريح في مكانه، فأصيب هو نفسه في ذلك المكان، رصاصة اخترقت جبينه، عينه، ذقنه وصدره. حزنت لذلك. كان المكان هناك مستويًا كصفحة اليد، وكلّ من يذهب إلى هناك ويمكث ولو قليلًا يطلقون عليه النار حتمًا. قلت لشابٍّ آخر: "اذهب واسحبهما من قدميهما وأحضرهما إلى هنا". ذهب، ولكن ما إن أراد أن يرفعهما حتى أصابوه هو الآخر. كان مشهدًا مأساويًّا. بعد ذلك لم أعد أريد إرسال أحد إلى ذلك المكان، وألحّ عليّ الشباب بالقول: "سيّد! لقد جُرحوا! إنهم ينزفون!".

- ليكن! ليس باليد حيلة. لندعهم هناك!

 

في ذلك الجزء أيضًا كان يوجد عدّة جرحى وبحال سيئة. رأيت أحد شباب الفصيل الثاني هو "مسعود وصالي" وقد ألحقوه بنا كعنصر دعم. لا أعلم كيف أصابته الرصاصة، لكن، خرجت جميع أمعائه من بطنه واستشهد. أصيب رحيم باغبان بجراح، واستشهد مسؤول فصيل الدعم

 

409


398

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

أيضًا. من بين شباب فصيل الدعم كان أيضًا "بدارم شاكري"[1] الذي جرت مشاغباته على كلّ لسان في كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. تعقّدت أمورنا في ذلك الموقف. بدأتُ أسمع الإخوة يتهامسون عن الانسحاب. العراقيّون أيضًا أصبحوا أكثر جرأة وأرادوا أن يتقدّموا. خطرت على بالي فكرة. قلت لحيدر وقادر: "اذهبا أنتما الاثنان إلى الأمام وارميا قنابل على العراقيين واشتبكا معهم وجهًا لوجه حتى يتضاءل ضغطهم علينا وينسحبوا قليلًا إلى الوراء!".

 

قال كلاهما بتعجب: "سيّد! حقًّا... هل تقصد ما تقول؟!" .

- لا أمزح! اذهبا وتغلغلا بينهم واشتبكا معهم حتى يخفّ ضغطهم قليلًا!

 

كنت أعلم أنّه عملٌ صعب، ولكن، لم يكن باليد حيلة أخرى. كان علينا إما أن نتراجع جميعًا إلى الخلف أو أن نمنع تقدّم العراقيين حتى لو اقتضى الأمر خسارة شخصين أو ثلاثة. وصلت المسافة بيننا وبين العراقيين هناك إلى حوالي 15 إلى 20 م. خرج حيدر وقادر من القناة، ولكنهما رجعا بعد دقائق يقولان: "سيّد، ذهبنا إلى الأمام، وسحبنا أمّان القنابل، ولكن وجدنا أنه إن رمينا القنابل بين كلّ هذا الحشد سيقبضون علينا نحن الاثنين ويخنقوننا!". كان تجمّع العراقيين كبيرًا لدرجة أن أخاف الشباب. لم يكن باليد حيلة. أردت أن أرجع نحو الخلف عند علي تشرتاب قائد السّرية حتى يحدّد لي تكليفي، ولكن كان عليّ أن أضع شخصًا مكاني في ذلك الجزء من القناة، الجزء الذي أغلقته قبل ذلك. ناديت "رحيم تيربارتشي". جاء وفهم الموضوع. قال لي بكل ثقة: "سيّد! لن أسمح لأيّ عراقي أن يمرّ من هنا ما دام فيّ عرق ينبض. على العراقيين أن يعبروا فوق جثتي ليصلوا إلى الآخرين!".

 


[1] استشهد بعد عدّة أشهر في عملية كربلاء5، ووري الثرى في الجزء الأعلى من "وادي الرحمة". طابت ذكراه، كانت مشاغباته ترسم الضحك على الأفواه.

 

410


399

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

أبدى رحيم شجاعة عظيمة في ذلك الموقف، رحيم هذا الذي كنّا دائمًا قبل ذلك نرى منه المزاح والفكاهة. وقف وحيدًا خلف رشاشه وراح يطلق النار على كلّ من يتجرأ من العراقيين. في تلك المحنة وجدت الأخ تشرتاب بصعوبة وأخبرته بما حصل، قال لي:"افعل أنت ما بدا لك!".

- ماذا أستطيع أن أفعل، نحن هنا بحاجة إلى عناصر يتقدّمون إلى الأمام. وليس لدينا عناصر!

- نحن أيضًا لا عناصر لدينا.

 

انتظرت حتى جاء أيضًا قائد الكتيبة السيّد حسن شكوري. جلسنا لدقائق وتشاورنا فيما بيننا. كنّا بوضع استطاعت فيه فرقة "كربلاء25" أن تسيطر على كامل محورها ما أدى إلى تحشّد جميع العراقيين في محورنا. كان للعدو طريق ضيقة صالحة للأفراد تؤدّي بهم إلى نقاطهم الخلفية، وما عدا هذه الطريق، فإنّ كلّ الأجزاء المحيطة بمصنع الملح عبارة عن مستنقعات. هذه المسألة زادت من بأس وشدّة مقاومة العراقيين، فلا طريق لهم للانسحاب. ارتأى السيّد حسن أن نخرج من ذلك الجزء من القناة ونتراجع لنهاجم مرّة أخرى محلّ تجمّع العراقيين من الجهة المقابلة. لكن، كان لدي ّوجهة نظر أخرى. قلت إنّه كنّا في الدشم وفي القناة ولم نتمكّن من التغلّب على العدو، ماذا سنستطيع أن نفعل إن تركنا القناة وخرجنا منها؟! في النهاية كان القرار أن أرجع، وأن أقوم لاحقًا بما هو مناسب بالنظر إلى الظروف الحاكمة.

 

رجعت وتحدّثت إلى الأخ جلال والحاج "غلام زاهدي" - الذي كانت رجله تؤلمه بعد أن تعرّضت للالتواء أثناء الركض[1]-. في تلك اللحظات الصعبة خطرت فكرة على بالي. قلت لهم: "يا حاج! إذا حصلنا على قطعتي هاون 60 ملم فإنّ جميع الأمور ستُحلّ. سنضرب العراقيين داخل

 


[1] أعتقد أنّه أصيب قبل ذلك برصاصة في رجله وقد ظهرت نتائجها الآن.

 

411


400

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

القناة، ثم يتقدّم شبابنا إلى الأمام!".

 

تركتهم وذهبت إلى الأمام وأنا أفكر بالهاون. كنت عطشًا بشدّة. في الطريق جمعت حوالي عشرة أشخاص من الذين وضعتهم حراسًا على المسار الذي تم تطهيره وأخذتهم معي إلى الأمام، ومن بينهم رسول زارع زاده، محمد نصرتي وجواد بخت شكوهي. عندما تقدّمنا إلى الأمام أكثر وقعت عيناي على بدرام. بدرام أحد أكثر شباب الفرقة شغبًا، كان صامتًا هناك. طلبت منه ماءً ووجدت أنّه لا حول له ولا قوة أساسًا.

- بدرام! ماذا! ما بك! يجب أن تكون همّة المرء عالية هنا، ليس هناك في الخلف!

 

أردت أن أشاكسه. لم أصدّق أنّه خائف لهذه الدرجة، لكن، قال أحد الشباب لي: "سيّد! لبدرام قصة أخرى! لقد ذهب إلى دشمة العراقيين ليرمي قنبلة داخلها، لكنّهم استطاعوا أن يأسروه ويأخذوه إلى داخل الدشمة! عندما رأى الشباب ذلك اندفعوا إلى داخل الدشمة وخلّصوه من أيديهم!". لقد كان بدرام محقًّا!

 

شربت قليلًا من الماء، وأخذت جميع الحراس إلى الأمام. في الطريق رأيت رحيم باغبان. ناداني: "سيّد!", قلت له: "نعم", وانتبهت إلى أنّ الشباب يتحدّثون عن الانسحاب. قال رحيم: "أرسلني إلى الخلف مع أحد الشباب!".

- أخ رحيم! هذا ليس ممكننًا! لسنا الآن بوارد التراجع! نحن نفكّر بالسيطرة على الخطّ!

 

قال رحيم كلامه وأصرّ على أن أرسله مع أحد ما إلى الخلف. قلت له: "لكن ماالذي حصل؟".

- لقد أصابت رصاصة قدمي.

- أين؟!

 

412


401

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

أراني مكان الرصاصة فما كان منّي إلا أن ركلته في مكان إصابته بالضبط، فارتفع صراخه أكثر!

 

- أنا أقول إنّ الشباب استشهدوا في الأمام، وأنت جُرحت فقط وتكرّر القول خذوني إلى الخلف!

 

شعرنا بالحزن كلانا. كان رحيم يتألّم بشدة. قال: "اقتلني في هذا المكان!"[1]. في الحقيقة كنت أنا أيضًا أستطيع أن أعود إلى الخلف في ذلك الوضع المتأزم، وهذه هي وجهة نظر القيادة، لكنّني فكّرت أن أتقدّم إلى الأمام، عسى أن تُحلّ عقدة هذه القناة الملعونة.

 

بعد هذا الحديث لم يفتح أحد شفتيه بالكلام عن التراجع والانسحاب. قلت للشباب: "تقدّموا جميعكم إلى الأمام! أحضروا معكم كلّ ما تملكون من قذائف الـB7 والذخائر لعلّنا نستطيع اقتحام الخطّ والسيطرة عليه!"[2]. ركضنا نحو القناة تحت نيران المدافع الغزيرة. كانت غزارة نيران المدافع شديدة من الطرفين. طبعًا لم يكن للمدافع شغل بالقناة، فقطعًا يعلم كلا الطرفين أنّها مملوءة بعناصر من الجهتين، واقتصرت المعركة في داخل القناة على الرصاص.

 

أثناء المسير كنت أصيح دائمًا وأشجّع الشباب على الحركة. اشتدّت الاشتباكات لحظة بعد لحظة، وصار وضعنا ميؤوسًا منه بشكل كامل.

 


[1] الآن أيضًا ما زلت ألتقي برحيم، في كلّ مرّة نتحدّث فيها عن تلك الأيام يقول:" كم أنت قاسي القلب! لو أنّك ركلتني في مكان آخر في ذلك اليوم، لقد ركلتني بشكل أحسست معه أن الدنيا دارت حول رأسي!".

[2] لاحقًا كان رسول زارع زاده يتحدث ويقول: "عندما قلتَ أحضروا كلّ ما لديكم من قذائف، جلبتُ معي عددًا من القذائف الإضافية وانطلقت، لكن، لأنّ حملي وتجهيزاتي كانت ثقيلة رميت قذيفتين على الأرض بعد أن تقدّمنا قليلًا إلى الأمام. في تلك اللحظة رآني محمد نصرتي فعلا صوته مؤنّبًا لي: "لماذا رميتها على الأرض! أعطني إياها أنا أحملها إلى الأمام!". أخذتني الدهشة!! كان محمد صغير البنية وقد انحنى بهيكله ذاك مع ما يحمل من تجهيزات وحوالي 7 قذائف أحضرها معه، وبذل جهدًا ليلتقط القذيفتين. كان عمل نصرتي هذا عظيمًا عندي. أخذت منه القذائف بسرعة وقلت أنا آخذهم بنفسي.

 

413


402

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

عندما أدرك العراقيون أنّنا لا نستطيع التقدّم أكثر من هذا في القناة، أصبحوا أكثر جرأة وبدأوا بالتحرك بوقاحة اتجاهنا. كان رحيم تيربارتشي وباقي الإخوة مشغولين كثيرًا. عندما أدركت نية العراقيين أرسلت "حجت" وعدّة أشخاص آخرين إلى جانب القناة وأوصيتهم أن: "لا تسمحوا للعراقيين أن يتقدّموا إلى الأمام". بدأ الإخوة بالاشتباك وأنا عدت إلى الخلف لتنظيم وضعية الشباب في القناة. في تلك الليلة ركضت وصرخت حتى سمع صوتي كلّ الإخوة[1]. أثناء هذه الجولات والاشتباكات كنت أرى الخسائر التي لحقت بنا، وأدوس بدون انتباه، على أيدي وأرجل الذين وقعوا في القناة. استنزفنا العراقيون لأكثر من ساعتين وبدأت معنويات أفرادنا تتراجع. لم نعلم شيئًا عن معنويات العراقيين، في حين كنّا نرى مدى عنادهم. في تلك اللحظات جاء علي تشرتاب وسأل عن الوضع في المقدّمة فأخبرته أنّني أغلقت القناة.

- أستطيع أن أذهب وأستطلع المكان هناك.

 

تقدّم علي إلى الأمام ولم أعلم أنّ ثقبًا صغيرًا بقي بين الأكياس أثناء إغلاق القناة فنال نصيبه هناك-رصاصة واحدة- ليرجع بعد دقائق عدة وهو يعرج.

- ماذا حصل؟ إنّك تعرج!

- لا شيء! لقد أصابتني رصاصة من القناة التي أغلقتها أنت!

 

بدأ اليأس يتسلّل إلى الجميع. فها هم عناصر مصطفى بيشقدم يخوضون اشتباكات في الطرف الآخر، ولا قوات دعم أخرى في الخطّ

 


[1] لاحقًا تحدث داوود "أمير" حقيقيان - الذي كان عضوًا في المنتخب الوطني لكرة المضرب، وقد جرح تلك الليلة وسقط أرضًا أمام العدو- تحدث عما جرى في تلك الليلة قائلًا: "لأن الرصاصة أصابت رأسي ووجهي لم أكن أرى شيئًا. كنت كلما أسمع صوت رصاصة قريبة أعتقد أن العراقيين قد أتوا ليطلقوا علينا رصاصة الرحمة إذ سمعت قبل ذلك كلامًا عن انسحاب الشباب، ولكن عندما كنت أسمع صراخ السيد نور الدين كانت معنوياتي ترتفع وأقول في نفسي حيث يوجد هذا الرجل لا يستطيع أحد أن يطلق علينا رصاصة الرحمة!".

 

414


403

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

يرسلونها لمساندتنا. أيضًا مرّة أخرى بدأت تعلو همساتٌ بالانسحاب. كنت أتحرّك بشكل دائم في القناة، أذهب إلى الأمام لأطّلع على الوضع وأرجع إلى الخلف لكي أجد حلًّا. أهرول بين الخوف والأمل، ولم أكن مستعدًّا لأترك القناة. في تلك الظروف انصرف ذهني مرّة أخرى إلى ضرورة استخدام الهاون. فجأة تذكّرت الهاون الذي رأيته إلى جانب رامي الرشاش. لم أنتظر وركضت مسرعًا نحوه. التقطته. كان مخزن الذخائر أيضًا قريبًا من هناك وقد وضع العراقيون قبل ذلك قذائف الهاون في الأكياس. التقطت الهاون وحملت كيس ذخائر على كتفي. كان ثقيلًا، ولكن في تلك اللحظة تعلّقت كلّ آمالنا عليه. رحت أركض إلى الخطّ الخلفي ولم أستطع أن أرى في ظلمة القناة أيدي وأرجل الشباب وهي تسحق تحت قدميّ، هل هو شهيد أو جريح أو أحد الإخوة المنتشرين في القناة، وبين التعب واليأس يطلق وابلًا من الرصاص. وضعت الهاون على الأرض إلى جانب الأخ زاهدي. جاء أيضًا الحاج غلام وصديقه، وضعنا الهاون وجهّزناه، وما إن أردنا أن نضع أوّل قذيفة حتى انتبهنا إلى أنّ شظية أصابت رأسه فلم يعد صالحًا للاستخدام! ساءت أحوالنا وشعرنا بالضيق. في تلك اللحظة تذكّرت أنّني رأيت هاونًا في جهة العراقيين قبل إغلاق القناة. تقدّمت في القناة رغم التعب. ما زال رحيم جالسًا مع رشاشه في النقطة التي أغلقت عندها القناة، ويشتبك مع العدو، إضافة إلى قادر وعدد آخر من الأفراد. ألقيت نظرة على الطرف الآخر من القناة، رأيت أنّ الهاون يبعد عنّا مسافة حوالي 15م، وكان أقرب إلى العراقيين منه إلينا. قلت: "أنا ذاهب نحو العراقيين لأحضر ذلك الهاون، غطّوني أنتم بالنيران...".

 

خاف الشباب وأصابهم القلق وحاولوا أن يثنوني عن الأمر.

- كلا يا سيّد! قطعًا سيرمونك بالرصاص.

- لا تذهب! يستحيل أن تصل سالمًا إلى الهاون!

 

415


404

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

كلّ شخص قال شيئًا من هذا القبيل. أنا نفسي كنت أتوقّع. حتى إنّني أعلم أنّه يمكن أن أقع أسيرًا في أيدي العراقيين.

 

فأنا لم أحمل سلاحًا لأكون طليق اليدين، لكن، ليس ثمّة وسيلة أخرى لحلّ قضية القناة. مرّة أخرى طلبت من الشباب تغطيتي بالنار كي أستطيع الوصول إلى الهاون. أساسًا لم أعد أفكر بشيء آخر سوى الهاون، ولا حتى بالمنام وكلام "أمير" واليوم الخامس عشر!

 

خلال لحظة قفزت إلى الجهة الأخرى من فوق الساتر، أحنيت ظهري وركضت مسرعًا نحو العراقيين. التفتوا إليّ، إلا أنّ كثافة النار التي رماها الشباب على الجزء المتعرّج من القناة لم تسمح لأحد منهم بأن يرفع رأسه ويستهدفني، وكان رصاص العدو العشوائي يعبر متحيرًا من حولي ...

 

انقطع نفسي حتى وصلت إلى الهاون! أخذته وركضت باتجاه تموضع شبابنا وقد امتزج كلّ وجودي بالتعب والخوف والأمل والتكليف. قفزت من فوق الأكياس لاهثًا ووصلت إلى مكان تموضعنا. كنت مستعجلًا لأنقل الهاون إلى الخلف وأجهّزه. مرّة أخرى عبرت مضطرًا فوق الجرحى والشهداء حتى أستبدل الهاون القديم بالجديد. تهيّأت كلّ الأمور لإطلاق أول قذيفة. كانت المسافة مع العدو حوالي 40م، واستخدام الهاون في تلك الظروف يُعدّ مخاطرة كبيرة، خصوصًا القذيفة الأولى التي تعتبر أهمّ قذيفة ويمكن تصحيح الرماية من خلالها. ربّضنا الهاون على الأرض بزاوية قائمة تقريبًا، وأرسلنا عامل إشارتنا إلى الأمام ليقوم بعملية الرصد. أطلقنا القذيفة الأولى فارتفعت في السماء ... خفنا من أن ترجع أدراجها وتقع فوق رؤوسنا ونهلك في مكاننا! أخيرًا ارتفع صوت انفجار على مقربة منا. ذهبنا قلقين إلى محلّ تموضع عامل الإشارة لنطمئن إليه. ما إن رآني حتى قال: "سيّد! لقد وقعت القذيفة إلى جانبي! انظر ماذا حل بي!". أصيب المسكين بجراح جراء انفجار القذيفة، واستحال جهازه اللاسيلكي إلى قطع صغيرة! قلت: "في المقابل استطعنا تحديد

 

416


405

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

زاوية الرمي". أطلقنا القذيفة الثانية ووقعت أمام رامي الرشاش. لم نزل قلقين من أن تصيب قذائف الهاون شبابنا بسوء. القذيفة الثالثة كانت أفضل من السابقتين ووقعت في جهة العراقيين. الرابعة، الخامسة، السادسة و... راح الحاج غلام وصديقه يطلقون القذائف وأنا أحضّر الذخائر لهم من الأكياس. تساقطت قذائف الهاون في القناة الواحدة تلو الأخرى. خلال دقائق عدة بدأت تهدأ نيران العراقيين شيئًا فشيئًا، أما نحن فلم نكفّ عن إطلاق القذائف. تعلّقت كلّ آمالنا على قذائف الهاون هذه. رمينا حوالي 80 قذيفة داخل قناة العراقيين! رمينا إلى درجة أصبح الهاون ساخنًا، ولم يبقَ إلا القليل حتى ينفجر هو نفسه. يبدو أنّ العراقيين تشتّتوا بالكامل.

 

في ذلك الوقت وصل فصيل "رحيم خطيبي"- الذي كان مسؤوله قبل ذلك مصطفى بيشقدم- لمساندتنا، فالتقطنا أنفاسنا قليلًا. تجهّزنا للتّحرك من النقطة، واتُخذ القرار بإطلاق عدّة قذائف B7 قبل أن نتحرّك. خرج رماة الـB7 من القناة واستهدفوا العدو من طرفيها. رأيت أحد شبان التعبئة -وكان يافعًا صغير البنية- يوصل قذائف الـB7 إلى الرماة. رآه رامي الرشاش العراقي وأطلق عليه النار. لقد أصابت جسده أمام أعيننا المذهولة حوالي 18 رصاصة! كان المشهد كبعض الأفلام السينمائية بالضبط، الرصاصات تصيب جسده النحيف فيهتزّ بعد كلّ إصابة، لكنّه لم يقع إلى الأرض وظلّ يمسك بقذائف الـB7 بيديه ولا يسمح بسقوطها أرضًا! لم يكفّ الرشاش العراقي عن رمايته. شاهد الإخوة ما يحدث، فلم يستطع محمد نصرتي التحمّل وقام لكي يطلق النار على رامي الرشاش العراقي، ولكنهم أصابوه هو الآخر. تأكّدت أنّ كليهما قد استشهد. في تلك الأثناء هجم الشباب باتجاه العراقيين بنداء "الله أكبر". استأنف رماة الـB7 الرماية على العراقيين في القناة. هَدَفْنا إلى إخراج من تبقّى من العراقيين في القناة ليذهبوا باتجاه المستنقعات ونجحنا في

 

417


406

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

هذا العمل. كان رحيم وقادر وحيدر وشباب الفصيل الذين التحقوا بنا في وقت متأخر يركضون إلى الأمام، لكن، لم أقدر على الحركة من شدّة التعب. لقد ركضت حتى تلك اللحظة حتى رحت ألهث ولم أعد أسيطر على قدميّ، لذلك بقيت في مكاني. فجأة سطع الضوء في الأرجاء فقد أطلق العراقيون قنبلة مضيئة. ناداني الأخ زاهدي: "نور الدين! انظر هناك". ما إن أخرجت رأسي من القناة حتى رأيت مشهدًا عجيبًا، العراقيون يفرون أرتالًا باتجاه المستنقعات. كان عددهم كبيرًا، ما أفرح الجميع. في تلك الأثناء رأيت رسول يطلق النار، ولكن هذه المرّة في الهواء.

- رسول! لِمَ تفعل ذلك؟!

- من فرحي!

 

كان مشهدًا حماسيًا حقًّا. خضنا في تلك القناة طوال الليل معركة حقيقية بكلّ ما للكلمة من معنى، والآن رمينا بالعدو نحو المستنقعات. تحوّلت الرشاشات نحو السهل، لم يكن للعراقيين مكان ليحتموا فيه. وبسبب المعركة القاسية التي واجهنا فيها العدو لم يكن أحد يفكّر بعملية الأسر. راح جميع الشباب يرمون الرصاص ويتقدّمون إلى الأمام. اتفقنا سابقًا مع فرقة "كربلاء25" أنّه بمجرد السّيطرة على الخطّ سنرسل لهم علامة بواسطة المصباح اليدوي. لكن، استطاع الشباب أن يسيطروا على المنطقة بأقلّ من عشر دقائق بعد أن حوصروا لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وتوغلوا في الخطّ الأمامي أكثر من اللازم. كما إنّ الأخ الذي من المفترض أن يتقدّم إلى الأمام ويرسل العلامة إلى فرقة "كربلاء25" إما أنّه استشهد أو تأخّر في ذلك، أو نسي الأمر، فلم نرسل أيّ علامة من جانبنا إلى شباب كربلاء25 الذين وظنًّا منهم أنّ شبابنا هم من عناصر العدو، بدأوا بالرماية علينا. بدأت هناك اشتباكات عنيفة وفي ذلك المكان استشهد رامي الرشاش الباسل رحيم غفاري وعنصر آخر. بعد دقائق

 

418


407

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

عدة انتبهوا أنّ هؤلاء الشباب هم من قواتنا وتوقف إطلاق النار.

 

كانت هذه المرّة الأولى التي يقع فيها الساتر الأول في منطقة "المنقار" بشكل كامل في أيدينا. أحيانًا يخطر على بالي أنّ عملية "يا مهدي" هي واحدة من أكثر العمليات غربة، علمًا أنّها أدّت إلى تثبيت نجاحات عملية "والفجر8". لقد تحقّق هدفنا هناك، وطهّرنا منطقة عملية "والفجر8" من وجود العدو، وذلك بفضل الملحمة التي سطّرها الجرحى الصابرون في تلك الأرض المالحة، وشهامة وثبات المستبسلين في القناة أيضًا.

 

لم يمضِ عشر دقائق على فرار العدو حتى أدركت قواتهم الخلفية أنّنا سيطرنا على المنطقة، فبدأوا بقصفنا بالمدافع وصواريخ الكاتيوشا. أمطرونا بالقذائف والصواريخ بشكل كثيف للحظات عدّة، بحيث كان ينهمر فوق رؤوسنا أربعون قذيفة دفعة واحدة. لو استمرّت الحال على هذا المنوال لانفرط عقدنا وما بقي من قواتنا أحد، لكنّ الشباب المرابطين على المدفعية تلك الليلة أنقذونا. أخرجوا مدافع الـ230 التي أحضروها سابقًا إلى الجزيرة، وحان دورهم في إطلاق ست قذائف متزامنة. لجمت هيبة وقدرة هذا المدفع العراقيين لساعة أو ساعتين[1]. ثم التقط العراقيون أنفاسهم من جديد، وبدأ تساقط القذائف وصواريخ الكاتيوشا فوق رؤوسنا، إلا أنهم لم يستطيعوا التصويب إلى داخل القناة إلا نادرًا. وبهذا لم يكن للعدو مجال لإحراز أيّ تقدم حتى بهجومه المدفعي هذا. في الواقع انتهى عملنا في تلك المرحلة ليصبح بإمكاني أن أرتاح قليلًا.

 

عادة في كلّ عملية وعندما يرتاح بالي من التفكير فيها، كنت أجد مكانًا أنام فيه لساعتين. في تلك الليلة أيضًا ومن كثرة ما ركضت في القناة، صرت أشعر بوخز في قدميّ، وكنت حقًّا بحاجة إلى استراحة. ذهبت إلى جانب الأخ جلال والحاج غلام، الأخوين اللذين كانا من


 


[1] كان قوة قذائف ال230 إلى درجة دفعت العراق إلى تقديم شكوى في الأمم المتحدة ضد إيران لاستخدامها مدافع 230 في المعركة!

 

419


408

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

الأعمدة الراسخة في الكتيبة، حيث المكان الذي نرمي منه قذائف الهاون أشبه بالدشمة. قلت لهم أريد أن أرتاح. كنت عطشانَ بشدّة. أعطوني شيئًا من الماء الذي أخذوه من العراقيين فشربت ونمت. كنت متعبًا ومرهقًا إلى درجة أنّني نسيت أنّ الليلة الخامسة عشرة التي تحدّث "أمير" عنها انتهت على هذا الشكل.

 

استيقظت قبيل الشروق. أدّيت صلاة الصبح بسرعة وتفقّدت القناة، المكان الذي حاصرنا فيه العراقيون مساء الأمس. أردت التقدّم إلى الأمام أكثر، ولكنّ تراكم الجثث جعل من التحرّك في القناة أمرًا صعبًا. خرجت من القناة وتقدّمت إلى الأمام بموازاتها، وبالرغم من أنّ خارج القناة كان عرضة لنيران المدافع إلا أنّ التحرّك هناك كان أفضل بالنسبة إلي من المشي بين كلّ تلك الجثث. ما زلت لا أستطيع في هذا الجوّ المعتم أن أرى ما الذي حدث.

 

توغّلتُ أكثر ووصلت إلى الشباب. هناك رأيت بعض أجساد الإخوة المضرّجة بالدماء. أحزنتني شهادتهم. عدت من حيث أتيت وأنا أفكّر بحراسة المنطقة التي طهّرناها. في طريق العودة، وتحت أشعة الشمس التي بدأت تضيء ساحة المعركة شيئًا فشيئًا أدركت الذي حدث في القناة. ذهلت عندما رأيت جثث الأعداء المتراكمة بعضها فوق بعض. لقد اشتبكنا مع عدة سرايا من العدو بسرية واحدة من شبابنا. لم أرَ قبل ذلك اليوم كلّ هذا العدد من جثث الأعداء بهذا الوضع. جثث برؤوس مشقوقة وأجساد ممزقة متراكمة بعضها فوق بعض على مدى النظر في داخل القناة، وفي المستنقعات جثث الذين هلكوا أثناء الفرار.

 

في لحظات الصباح الأولى، علا صوت اشتباكات شديدة من خلفنا. عجيبة هي هذه الاشتباكات! لقد زادتني حيرة.

 

420

 


409

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

- ما هذا إذًا!

 

سريعًا أرسلت نصف الشباب إلى الخلف وأبقيت على الآخرين متمركزين باتجاه العراقيين لتتمّ بذلك الحراسة في الجهتين. خشيت أن يقوم العراقيون الذين ما زالوا في المنطقة بشنّ هجوم معاكس لاستعادة النقاط التي خسروها. لقد أسرنا في أول الصبح بعض العراقيين الذين وجدناهم عالقين في الماء، والآن شغلت بالنا هذه الاشتباكات غير المتوقعة. كانت الاشتباكات شديدة إلى درجة أنّه أحيانًا عندما يتقدّم أحد الأطراف المشتبكة على التلال الترابية كان يتراجع بعد دقائق بضغط من الطرف الآخر. كان رماة الـB7 من الطرفين يقفون بكلّ جرأة ويضربون مواضع الطرف المقابل. قلت لشخص يقف إلى جانبي: "صدّق إنّ كلا الطرفين هؤلاء هم من القوات الصديقة!".

- من أين لك أن تعلم؟!

- باستثناء شبابنا فإنّ أحدًا لا يستطيع أن يحارب هكذا في هذا المكان!

 

أخيرًا بعد دقائق عدة خمدت هذه النيران، ولاحقًا علمنا أنّ أحد الطرفين هو فصيل فرج قلي زاده التابع لإحدى سرايانا، بينما الطرف الآخر يتبع لفرقة "كربلاء25"! أثناء هذه الاشتباكات، وأثناء التقدّم والتراجع وقع أفراد من الطرفين بالأسر ليتبين بذلك ما يحصل. في تلك المعركة أيضًا قدّم شبابنا خسائر، وقيل إنّ مسؤول إشارة فرقة "كربلاء25" استشهد آنذاك. كثيرًا ما يحدث في العمليات خلل في التنسيق من هذا النوع. في الليلة السابقة أيضًا عندما كان شبابنا يلاحقون العراقيين في السهل، استشهد رحيم غفاري وآخرون بوابل من الرصاص أطلقه عناصر من فرقة "كربلاء25". لقد أحرقت قلبي مظلوميته. في تلك المرحلة، اتخذت بعض الإجراءات للحؤول دون وقوع أخطاء كهذه. غالبًا كان يُتفق على كلمة سرّ، تحتوي كلماتها أحرفًا لا توجد باللغة العربية ولا

 

421


410

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

يستطيع العرب تلفّظها، ولكنّ هذا الإجراء أيضًا لم يكن ذا تأثير كبير. عندما تخرج في كلّ ثانية 8 طلقات أين سيكون مجال هذه الكلمات؟

 

أثناء وجودنا في المنطقة كنّا نرى أشياء على الأرض زرقاء اللون لم نعلم ما هي. عندما هدأت الأوضاع قليلًا أعملنا فكرنا لمعرفة ماذا يمكن أن تكون هذه الأشياء الموزّعة فوق سطح الأرض. نشر الشباب الخبر بهدوء. إنّها أجساد الشهداء الذين بقوا فوق الأرض المالحة منذ عملية "والفجر8"، يرتدون معاطف المطر الزرقاء، وقد ظلوا لأشهر عديدة في عداد المجهولين (مفقودي الأثر). بقيت أجسادهم في الأرض المالحة وما زالت سالمة تقريبًا. آنذاك وصلت إحدى حافلات نقل الجند وبدأت عملية الإنقاذ. طبعًا كانت الأولوية لنقل الجرحى وإسعافهم، ثم انطلقنا لنلملم أجساد الشهداء.. بعد الفراغ من عملية نقل الجرحى جاء اثنان من الإخوة وأخبرانا أنّ ثلاثة عراقيين جرحى موجودون في القناة. لم يكن ممكنًا نقل العراقيين إلى الخلف. قال أحد الشباب: "أنا أذهب لأطلق النار عليهم ...", لكنّني عاجلته بالردّ متعجبًا: "لقد عاينت الخطّ صباحًا، لم يكن هناك أي جريح عراقي! رأيت أسيرين فقط وقد وقعا في الماء وهما يرتجفان من البرد".

- كلا يا سيّد! هؤلاء موجودون في قناتنا نحن.

 

انطلقت سريعًا وذهبت إلى الجهة التي تحدّثوا عنها. عندما وصلت وجدت أنهم من شبابنا الذين جرحوا ليلة البارحة في المكان عينه، واحدًا تلو الآخر عندما أراد كلّ واحد منهم مساعدة الجريح الذي سبقه. كان الذباب يغطّي أجسادهم بكثافة كبيرة! طيّرت الذباب ومددت كوفية فوقهم. كانوا أحياءً. قلت للشخص الذي أخبرنا عنهم: "هل تعلم من هؤلاء؟!".

- كلا!

 

422


411

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

عرّفته إليهم. أحدهم كان بطلًا وطنيًّا في كرة المضرب، وآخر مسعفًا، والثالث أحد عناصرنا أيضًا. وصل قادر على وجه السرعة وقال: "إن سمحت لنا سننقل هؤلاء الجرحى إلى الخلف، فقط أعطني شخصًا واحدًا يساعدني".

 

قلت لدينا نقص في العديد، لا أستطيع أن أعطيك مساعدًا، ولكن، لدينا أسيران عراقيان تستطيع أن تستفيد منهما. أكدت عليه: " دع العراقيان يحملان الجرحى وأنت سر من خلفهما وراقبهما".

- يا سيّد! ما الذي كان سيحصل لو لم يكن لدينا مخّك هذا؟!

 

كان قادر يمزح، فقد بقينا لسنوات في الجبهة معًا وعشنا معًا تجارب مختلفة.

 

صباحًا بات المحور تحت تصرّفنا بالكامل. ذهبت إلى الخطوط الخلفية لتفقّد العناصر الذين أوكلتهم بمهمة حماية ظهرنا. جاء آقاقلي أيضًا وراح يلتقط صورًا للشهداء. قلت في نفسي: "انظر إلى هذا! كم هو (طويل البال)!". رأى آقاقلي أنّني أنظر إليه. قال: "سيّد! هذا مكان جيد لالتقاط الصور! هذا مكان مليء بالذكريات!". أساسًا لم أكن أفكر بأهمية عمله. ابتعدت عنه بينما راح يلتقط الصور للشهداء فردًا فردًا، وتوجهت نحو جواد بخت شكوهي. كان تربطني به علاقة جيّدة، وسررت لأنّه ما زال سالمًا. قال: "ما أخبار الشباب!".

- إنّهم في الأمام.

- ما هي أخبار "نصرتي"؟

- هو أيضًا في الأمام!

 

كنت أدرك طبيعة العلاقة بين جواد ومحمد نصرتي، لذا لم أحبّ

 

423


412

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

أن أخبره باستشهاده[1]. تركت جواد وجلت قليلًا بين الدشم، وفي طريق العودة رأيته أمام جسد محمد نصرتي المضرّج بالدماء. وقفت أنظر إليهما. رأيت جواد يبلّ طرف سجادة صلاته بالعطر الذي اشتراه قبل أيام من مشهد وينظف وجه محمد بها. لقد أوجع بكاؤه قلبي. اقتربت قليلًا وناديته: "جواد!... لِمَ بقيت هنا؟", أجابني بصوت حزين ومهموم: "لقد قلت لي إنّ محمد ذهب إلى الأمام. لقد استشهد محمد ... انظر!".

- أنا أسألك لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تركت الدشمة خالية وجئت إلى هنا؟

 

أردت أن تكون لهجة كلامي مصحوبة بالشدّة حتى يضطر إلى مغادرة ذلك المكان. دائمًا عندما أحضر مواقف كهذه وأصرخ في وجه الشباب وأغضب، كان قلبي حقًّا يبكي دمًا. وخصوصًا أنّني جرّبت موقفًا كهذا عند استشهاد أمير، والآن أرى كم هي حال جواد بائسة، وللأسف لم أكن أعلم في تلك اللحظة أنّ فراقهم لن يدوم طويلًا[2].

 

نهض جواد. أنا أيضًا انطلقت. كانت الساعة حوالي العاشرة صباحًا عندما رآني "كاظم لطفي" وقال لي:"سيّد! تعال وخذ مالك!", ثم ناولني كمية من قطع الأموال الصغيرة! القصّة هي أنّه صرفنا الكثير من المال في مشهد. هناك وعندما فكّرت أنّ هؤلاء الشباب يحتمل أن لا يكونوا إلى جانبنا بعد مدة، لم أعد أعر اهتمامًا لنفاد المال، فنفد مالي هناك. عندما وصلنا إلى دزفول اتصلت بالمنزل وقلت لهم بأن يرسلوا لي مالًا،


 


[1] كانت إجازتنا في شهر رمضان، وذهبت مع قادر، حيدر، نصرتي وجواد وشخصين آخرين إلى مقرّهم الذي كان في المسجد. كانوا يعدّون لحم الكبد وأشياء أخرى، وقد أدركت أكثر علاقة هذين الشخصين أحدهما بالآخر عندما رأيت سلوكهما، علاقتهما الطاهرة التي أبقتهما جنبًا إلى جنب حتى نهاية عمرهما القصير.

[2] بعد أن تركنا الخطّ بقي جواد بخت شكوهي مع عناصر الكتيبة الذين جاؤوا لاحقًا إلى المنطقة، وبعد عدة أيام استشهد إثر إصابته بشظية من قذيفة هاون. لقد شيع مع شهداء عملية مصنع الملح وصديقه العزيز محمد نصرتي.

 

424


413

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

وكان كاظم لطفي ذهب إلى تبريز قبل العملية وتقرّر أن يقوم بزيارة قصيرة إلى منزلنا، وهو من عناصر المعلومات في عملية مصنع الملح، فأخذ المال من أهلي وأحضره معه إلى الخطّ! كان بمجمله عبارة عن قطع نقدية بقيمة 20 و50 تومانًا وقد سلّمني الآن هذا المبلغ. ضحكت: "يا هذا، من أين لي أن أجد مكانًا لهذا المال؟! ليتك تركته في الخطّ الخلفي".

- خطر على بالي أن أحضره إلى الأمام وأعطيك إيّاه!

 

في تلك الأثناء امتلأت جيوبي بالمال، إنها مشكلة جديدة. قلت للشباب: "كلّ من يلزمه المال أنا أعطيه!...".

 

ظهرًا أحضروا الـ"كوفته"[1] على طعام الغداء، ولأنّني أحبها، تناولت ثلاثًا منها. بعد الغداء علا صوت الشباب، فقد ظهر أنّ ال"كوفته" بائتة ولم تلائم معدتهم. تزعزعت الأوضاع. حتى الذين لم يأكلوا أكثر من نصف واحدة وقفوا في الصف ينتظرون دورهم أمام المرحاض. تعجبت كيف أنّه لم يصبني شيء مع أنّني أكلت الكثير منها! أعتقد أنّه بعد كلّ هذه المصائب والبلاءات التي حلّت بجسمي، واقعًا لم تعد حالي كحال سائر الناس العاديين!

 

لم يمضِ ساعات عدّة على حلول الظهيرة حتى رأيت أربع نقاط بيضاء تتحرّك باتجاهنا من بعيد، كانت تشكّل هذه النقاط هدفًا جيّدًا للعدو. دقّقت قليلًا وأدركت أنهم أربعة علماء دين من المجاهدين ويعتمرون جميعهم عمامات بيضاء. لم أستطع أن أهدأ وأنتظر وصولهم. ذهبت إليهم ركضًا. غضبت، وخشيت أن يستخدم العدو تلك النقاط البيضاء للتهديف في أيّ لحظة ويبدأ بإمطارنا بقذائفه. ما إن اقتربت منهم حتى


 


[1] نوع من الطعام يحضر من اللحم المعجون بالبيض والبندورة و..

 

425


414

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

صرخت قائلًا: "أنتم لماذا جئتم؟".

- جئنا لرفع معنوياتكم!

 

مرّة أخرى قلت بصوت أشبه بالصراخ: "إن أردتم أن ترفعوا معنوياتنا فاحملوا تمويننا إلى الخطوط الأمامية، أوصلوا إلينا ماءً!".

 

حقًّا أرهقنا العطش في الخطوط الأمامية، فسيارة الدعم تقدّمت في منطقة العملية قدر استطاعتها، ووضعت أكياس الفاكهة المعلّبة والماء والثلج والخبز في المكان الذي وصلت إليه، لكن، في نقطة بعيدة عنّا نسبيًّا. توجّهنا أنا والإخوة علماء الدين إلى مكان التموين، ولم أكفّ عن معاتبتهم طوال الطريق. بداية نزعت عماماتهم ليحملوها بأيديهم، ثم أعطيت كلّ واحد منهم كيسين أو ثلاثة أكياس ليحملوها على ظهورهم، أنا أيضًا حملت بعضًا منها وسرت بهم في حالة نصف واقف إلى الأمام. بعد هذا وما إن وصلنا إلى الشباب سأل أحدهم جلال زاهدي: "من هو الأخ الغاضب إلى هذه الدرجة؟!".

 

في الخطّ الامامي كان عدد القوات قليلًا. وبما أننا لم نثبّت بعد مواقعنا، اضطررت لنشر نقاط حراسة على امتداد الخطّ تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة 500 م، ووضعت عنصرًا واحدًا في كلّ نقطة. كانت هذه المسافات مليئة بجثث العراقيين. من جهة كنا قلقين لقلة عديد قواتنا، ومن جهة أخرى منزعجين لأنّهم لا يرسلون إلينا عناصر آخرين. كنّا جاهزين لتقبّل أصعب الظروف كي نحفظ المنطقة ولا يذهب دماء شهدائنا الأعزاء هدرًا.

 

كانت المدافع لا تزال تعمل، وتوجّب علينا أن نبقى مستيقظين في تلك الليلة المقمرة. خبرنا سابقًا أنّه كلما كانت المسافة التي تفصلنا عن العدو من 400 إلى 500 م أمكن الاشتباك بسهولة معه، ولكن، كلما

 

426

 


415

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

قلّت هذه المسافة تعقّدت الاشتباكات أكثر. مع أنّ ظروفنا كانت صعبة، لكنّني لم أكن أعتقد أن العراق يمكنه القيام بهجوم معاكس وينجح به. مرّت ليلة صعبة. كان على الإخوة أن يبقوا مستيقظين كلّ لوحده في مسافات متباعدة نسبيًّا بين جثث العراقيين، وأن يؤدّوا نوبة حراستهم. رحت أتفقّد الإخوة وأفكّر في أن يقوموا بدوريات بدل الحراسة، فيقوم شخصان معًا بدورية واحدة على مسافة 1000 م.

 

في تلك الليلة لم أنم حتى الصباح وأنا أقوم أتفقّد الشباب ما أعانني جسمي على ذلك. أخبرونا من قبل أنّ الجرافات ستأتي منتصف الليل لتعمل على وصل ساترنا السابق بخطّ العراقيين فيتشكّل في هذه الحال ساتر واحد في المنطقة يمتدّ حتى تقاطع مثلّث الموت. استيقظتُ صباحًا على ضجيج عال. علمتُ أنّ الجرافات تقوم بعملها. تقدّمت نحو الجرافة الأولى وإذ بسائقها يقفز منها ويلوذ بالفرار. كان هناك شخص آخر أيضًا إلى جانبه بدأ هو الآخر بالركض معه إلى الخلف. اعتقد هذا المسكين أنّني عراقي! كان "رضا" وهو أحد مهندسي الفرقة موجودًا هناك. سلّم بعضنا على بعض واستخبرنا عن الأحوال وسألته: "لماذا يفرّ هذان؟!", ناداهم رضا أن: "هذا أحد شبابنا", وفور عودتهما قلت لهما: "منذ ليلتين ونحن في هذا الخطّ، أفهل يجرؤ العراقيون أن يأتوا إلى هنا!", على كلّ حال ضحكنا قليلًا.

 

بالرغم من أنّ إنشاء الساتر كان جيّدًا إلا أنّه سبّب لنا أضرارًا من جهة أخرى، حيث لم نعلم أنه سيؤدّي إلى إزالة دشمنا. كذلك فإنّ عددًا من الدشم العراقية التي سيطرنا عليها والمملوءة بالأسلحة والذخائر دُفنت تحت التراب. فسارعنا إلى إخراج الأسلحة من الدشم المتبقية قبل استكمال إنشاء الساتر. في تلك الليلة أنهت الجرافات عملها، ونحن انشغلنا ببناء الدشم ونقل الذخائر والوسائل. لاحظ العدو تحرّكنا

 

 

427

 


416

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

فراحت دباباته تطلق قذائفها علينا، لكن من دون أن تصيبنا بأيّ أذى، إذ كانت تفصلها عنا مسافة كبيرة. استمررنا بعملنا في ظل حماية مدفعيتنا المقتدرة. كنّا عندما تعمل مدافع الـ230 نخرج من دشمنا ونتمشى بدون خوف[1].

 

بقينا اليوم التالي في المنطقة. كان من المقرّر أن تأتي قوات أخرى وتستلم منّا الخطّ. في الواقع مكثنا بعددنا القليل أربعة أيام هناك بعد انتهاء العملية. في تلك الليلة وصلت قوات البديل فتجهزنا لترك الخطّ، لكن، بقي بعض الشباب، ومن بينهم جواد بخت شكوهي الذي نال شرف الشهادة في اليوم التالي، كما استشهد عند ذلك الخطّ أحد علماء الدين الأربعة أيضًا، وآخر منهم نال شرف الشهادة لاحقًا.

 

عدنا إلى شاطئ نهر أروند، وثيابنا مخضّبة بالدم والتراب. كنّا بحال سيئة. قبل أيّ عمل ذهبنا للاستحمام. بعد ذلك أرجعونا إلى دزفول. كما العادة، خيّم السكوت المرير علينا أثناء العودة. كنّا أربعة فقط! أربعة من أصل 18 شخصًا، والبقية إما استشهدوا أو جرحوا. في الطريق لتنفيذ العملية، أمضينا الوقت بالمزاح والضحك وأحاديث الشباب وخصوصًا بالمزاح المتعلق بمنامي أنا وأمير. والآن في طريق العودة ترى كلّ واحد وقد غاص في أعماق نفسه وحيدًا... وصلنا إلى دزفول، ألقى الأخ أمين شريعتي قائد فرقتنا كلمة بعد صلاة الظهر. عندئذ فهمنا ما حدث في الجزيرة. شرح لنا أنّ العراقيين قاموا بهجومهم لاسترجاع الجزيرة فاضطرت القيادة لنقل قوات فرقة كربلاء25 من المنطقة إلى الجزيرة، ولم يستطيعوا أن يرسلوا إلينا قواتٍ لتساعدنا. شكر السيّد أمين جميع القوات، وكانوا حقًّا عناصر جديرين بالتقدير. وبهذا الشكل، تركنا الجبهة في الأيام الأولى لصيف العام 1986م وعدنا إلى تبريز بالحافلات


 


[1] لم أر أبدًا هذه المدافع عن قرب، ولكني سمعت أنها قوية وثقيلة إذ كانوا يحضرون قذائفها بواسطة آلية إلى محل الإطلاق، ولم يكن ممكنًا القيام بهذا العمل يدويًّا.

 

428


417

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

التي أعطونا إياها.

 

طوال طريق العودة كنت أتمنى أن نصل بسرعة إلى تبريز لعلّي أتحرر من هذا السكوت الثقيل والمرّ الذي خيّم على جوّ الحافلة.

 

وصلت أجساد الشهداء بالتزامن مع وصولنا إلى تبريز. هذه المرّة ولسبب ما، كانت قصة الشهداء تحرق القلب أكثر من أيّ وقت مضى. فقبل أسبوع أحضر هؤلاء الشباب الهدايا لأعزائهم عندما كانوا في مشهد، واليوم ترجع أجسادهم المضرّجة بالدماء مع الهدايا إلى المدينة، الأمر الذي هيّج نار القلوب أكثر وأكثر. لقد شيّع جسد جواد بخت شكوهي أيضًا مع أجساد محمد نصرتي وستة شهداء آخرين، ودفنوا في القسم الأعلى من وادي الرحمة.

 

كانت حالي لا توصف. ذات يوم، ذهبت برفقة قادر وحيدر على الدراجة النارية لزيارة قبر جواد. كنّا نبكي ونضحك في آن، نبكي لأنّنا فقدنا جواد الذي عرفناه من أكثر شباب الجبهة عطفًا وحنانًا، ونضحك بسبب كلامه وعهوده عندما كان يتمنى أن أستشهد حتى تصل دراجتي النارية إليه. لقد قلت له سابقًا سآتي بهذه الدراجة إلى قبرك، وها قد أتيت الآن. امتزجت البسمات بالدموع، والضحك بالبكاء. هناك قلت لهم: "الآن يعلم جواد كم أنا عصيّ على الموت".

 

كان عدد الشهداء في عملية "يا مهدي" قليلًا، لكن استمرّ تشييع الشهداء ودفنهم أيامًا عدّة لأنّنا كنا قد وجدنا أجساد الشهداء التي فقدناها في عملية "والفجر8" ، لذا أمضينا آنذاك أكثر أوقاتنا في وادي الرحمة. في تلك الأيام، رحت غالبًا أذهب إلى وادي الرحمة برفقة حيدر. في أحد الأيام ذهبت إلى قبر رحيم، رامي الرشاش الشجاع الذي سطّر تلك الملحمة في القناة. رأيت امرأة جالسة فوق قبره وهي تبكي

 

 

429


418

الفصل الثاني عشر: مصنع الملح

بحرقة عجيبة وتتكلّم. لقد أوجعت أنّاتها قلبي. فهمت من بعض كلماتها أنها تتحدّث عن خطبة ابنها، وأدركت أن رحيم كان خاطبًا، ولم يعلم أحد منا ذلك. كم كان بعض الشباب عظماء وغيورين ولم نعرفهم!

 

استمرّت هذه الإجازة لحوالي 20 يومًا. هذه المرّة أيضًا كما المرّات السابقة، انشغلت بالدواء والأطباء من جهة، وبقضايا العائلة من جهة أخرى. لكن، علم الجميع أنّه ما دامت الحرب مستمرة وأنا أقف على قدميّ، لا يجب عليهم أن يتوقعوا مني أكثر مما أنا عليه.

 

430


419

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

الفصل الثالث عشر:

غواصو حبيب

 

 

لم نجد أحدًا في مقرّ الفرقة. في مركز القيادة، كانت ثلاث شاحنات من وحدة النقل في الفرقة جاهزة للانطلاق باتجاه "كرمانشاه". غطّوا الجزء الخلفي من الشاحنة بشادرٍ حيث وضعوا التجهيزات، وكان من الواضح أنّهم يبدّلون مكان تموضع الفرقة. ركبتُ و"يعقوب نيكبران" - رفيقي في المصلّى منذ زمن - في القسم الخلفي من الشاحنة. لم أعد أريد العودة إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. قال يعقوب: "فلنذهب إلى كتيبة حبيب". في تلك الأيام أخذ اسم الكتيبة يتألق بقيادة السيد "مجيد سيد فاطمي", وأصبحت واحدة من الكتائب النموذجيّة في الفرقة. التحق بكتيبة حبيب أيضًا عدد من الشباب الجيّدين أمثال فرج قلي زاده، "حسن حسين زاده" و...

 

كان للركوب في القسم الخلفي من الشاحنة حكايته الخاصة. اشترينا قبل ذلك البطيخ والـ"خربُزه" إذ كنّا نهتمّ بأنفسنا في تلك الظروف ولم تكن أوضاعنا سيئة. قبل كرمانشاه بحوالي 20 كلم عبرت الحافلة مضيق "تشهارزبر"[1] وانعطفت نحو الغابة حيث ظهرت من بعيد خيام الكتيبة. بدا واضحًا أنّ كتيبتي حبيب و"أبو الفضل" تموضعتا في مكان واحد، وأنّ عناصرهما يمضون أوقاتهم في نفس الخيام ويرتادون مسجدًا واحدًا. سرعان ما رأينا الحاج قلي وعلي نمكي وهما من عناصر

 


[1] مضيق "تشهارزبر" هو المكان عينه الذي حصلت فيه عملية "مرصاد" في العام 1988م.

 

431


420

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

كتيبة "أبو الفضل"، ثم السيّد فاطمي، الذي يتوجّب علينا الذهاب إليه والتعريف بأنفسنا[1]. عاملنا السيّد بلطف، وأدركت من اللقاء الأول كم هو منظّم ودقيق[2]. تركتْ روحيّة السيّد أثرها على أفراد الكتيبة أيضًا، لتصبح النظافة سمةً لمحيط الكتيبة وخيامها.

 

تولّى "حسن كربلائي", "عبد العلي مطلق" و"محمد سوداكر" مسؤولية السرايا في كتيبة حبيب، واستقرّت هناك أيضًا وحدة من الجيش من منطقة "مياندوآب".

 

ألحقونا بفصيل "إسماعيل وكيل زاده", وهو من معارفي القدامى. كان إسماعيل يخاف من الماء، فرحنا نتحيّن الفرص لندفعه إليه. وجدناه يولي اهتمامًا بالنظام أيضًا، بينما فصيله مليء بالمشاغبين. في الأيام الأولى، لم أكن أعرف أحدًا غير يعقوب وإسماعيل، ثمّ تعرفت إلى أشخاص عدّة من بينهم "علي باشايي" الذي أعرف ابن عمّه "أكبر باشاي" الموجود معنا معرفة سطحية، لكن، سرعان ما توطّدت علاقتي به. في هذه الفترة تردّدت كثيرًا إلى الحاج قلي في كتيبة "أبو الفضل"، وقد ازدادت محبتي واحترامي له بعد عملية "والفجر8".

 

شيئًا فشيئًا تعمّقت علاقة الشباب بعضهم ببعض، وبدأت أعمال الشغب تظهر أكثر فأكثر. في تلك الأيام كانت البطاطا - التي نحبّها كثيرًا - قليلة في الكتيبة. كنّا نضع حبّات منها صباحًا في إبريق الشاي


 


[1] بعد التحاقنا بكتيبة حبيب أدرجت أسماؤنا ضمن عديد الكتيبة. بالطبع كان لدي مشاكل في مقرّ قيادة الفرقة إذ لم يكونوا يعلمون متى ذهبت ومتى عدت. لأنّني لا أذهب إلى مركز التعبئة كلما أردت الالتحاق بالجبهة، ولم أحصل على "أمر الالتحاق" خلال مشاركتي في الجبهة سوى أربع مرات استمرّت إحداها أربع سنوات من العام 1984م حتى العام 1988م. كما أنهيت خدمتي مرّة أو مرتين، مرّة بعد كردستان وأخرى بعد عملية مسلم ...

[2] منذ ذلك الحين بقيت مع السيّد حوالي سنتين ونصف. أستطيع القول إنّ السيّد فاطمي كان من كلّ الجهات، قائدًا كاملًا بالقول والفعل. في السنتين ونصف السنة تلك لم أر حتى ربطة حذائه مفتوحة أو غير مرتبة ولو لمرة واحدة. بقي لمدة في الفرقة بعد انتهاء الحرب. وهو الآن يتابع دراسته في مرحلة الدكتوراه في اختصاص الجغرافيا المدنية.

 

432


421

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

الكبير ونسلقها ثم نتلذّذ بتناولها معًا. في أحد الأيام، قررت وإسماعيل ويعقوب الذهاب إلى تجهيزات الفرقة للإغارة على البطاطا. ذهبنا وقدّمنا أنفسنا على أنّنا مسؤولو الدعم في السرايا، وطلبنا كيسًا من البطاطا. لم يعرفنا الشخص الموجود هناك، فذهب وأحضر ما طلبناه. وما إن استلمنا البطاطا حتى وصل الأخ "حميد باقربور" مسؤول دعم الكتيبة، وأخبروه بأنّنا جئنا من قسم الدعم في كتيبة حبيب، لكنّه يعرفنا جيدًا!

- ماذا؟ هؤلاء من دعم الكتيبة؟!

- حال دون ذهابنا وقال: "سأخبرهم بما فعلتم ...".

 

قلت له: "ستقول إنّك أحضرت هؤلاء لأنّهم أرادوا الحصول على البطاطا؟! إنّه لشيء مضحك! وما هي البطاطا حتى يكون للحديث عنها تلك الأهمية!". لكن أصرّ الأخ حميد على إطلاع الكتيبة بالأمر بعد أن استردّ كيس البطاطا. تجاهلت الأمر وقلت له: "اذهب وأخبر من شئت، لكن على الأقل أعطنا الكيس!".

 

وفي النهاية أخذنا نصف كيس من البطاطا بمنتهى الوقاحة ورجعنا إلى خيمتنا. وهكذا عدنا لتناول البطاطا كلّ صباح!

 

نصبوا ثلاث خيام بعضها إلى جانب بعض. واحدة منها للدعم فصلوها عن الأخريين بستارة، واثنتان يقضي العناصر أوقاتهم ويستريحون فيهما. وزّعوا في أحد الأيام الـ"خربُزه" (شمّام) على الشباب، وبقيت واحدة في الدعم قرّروا إبقاءها حتى اليوم التالي. عندما حلّ وقت النوم همس في أذني أحد الشباب: سيّد! هيا بنا لنذهب ونأخذ الـ"خربُزه". كان هذا الشابّ يقوم بكلّ ما يخطر على البال من شغب، لكن في العملية تغلّب خوفه على شغبه وولّى هاربًا. انتهرته بشدة: "ما هذا الكلام؟ إنّها للجميع!", فشعر المسكين بالخجل!

 

 

433


422

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

عندما انتصف الليل ذهبت مع يعقوب للإغارة على الـ"خربُزه". لم يكن بإمكاننا أخذها من الداخل وإلّا علم الجميع بأمرنا. وقف يعقوب كحارس ورفعت أنا زاوية الخيمة والتقطت الـ"خربُزه" من داخل البراد البلاستيكي. في ذلك الوقت رآنا أحد الشباب أثناء عودته من صلاة الليل، فاستضفناه وقضينا ثلاثتنا عليها! ثمّ صلّينا صلاة الفجر ورجعنا إلى أماكننا.

 

صباحًا علا الصوت: "أحد ما أكل الـخربُزه!", أما أنا فكنت قاسيًا وقلت: "أنا أعلم من أكلها! هل تريدون أن أخبركم من قام بهذا العمل!", أخذ ذلك المسكين يقسم أن لا علم له بذلك، وقال: "لقد أخجلني كلامك يا سيّد! أردت أن آكلها ولم أفعل!". قال الشباب: "لا بأس نحن راضون ونسامح من أكلها، قل لنا فقط من قام بهذا العمل!", بالطبع، لم نخبرهم أنّنا من فعل ذلك.

 

تقرّر تنفيذ عملية في تلك المنطقة في مرتفعات "بمو" المشرفة على منطقة "سربل ذهاب". لقد تمّ التخطيط للسيطرة على "بمو" مرات عدّة، لكن باءت جميع الخطط بالفشل. تقع هذه المرتفعات على الحدود بين إيران العراق ويبلغ ارتفاعها حوالي 4000م، ما جعل من تسلّق صخورها العالية عملًا شاقًّا جدًا. تشرف هذه الجبال على كامل منطقة "سربل ذهاب". بقينا حوالي شهر ونصف الشهر في تلك المنطقة التي أُطلق عليه اسم "الشهيد ريزه وندي"[1]، وكنّا نتسلّق الجبال يوميًّا كجزء من البرامج الصباحية. كانت منطقة حرجية، وأضفت عليها أشجار التين والفستق رونقًا وجمالًا.


 


[1] بعد عملية كربلاء5 واستشهاد الشهيد أحد مقيمي، أطلقوا على تلك المنطقة اسم الشهيد مقيمي، وبقي هذا الاسم في ذاكرة شباب فرقة عاشوراء. لاحقًا تقدم المنافقون أثناء عملية مرصاد حتى تلك المنطقة وعبروها ليتوقفوا في مضيق "تشهارزبر" حيث تمّ القضاء عليهم.

 

434


423

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

تزامنت تلك الأيام مع العشرة الأوائل من شهر محرم. حتى ذلك الحين لم أكن قد رأيت مجالس عزاء أردبيلية عن قرب. أغلب عناصر كتيبة "أبو الفضل" - التي يقودها السيّد أجدر مولايي - هم من أردبيل، وقد التحق أكثر شباب أردبيل بالكتيبة بعد استشهاد "كنجكاهي" - المجاهد الأردبيلي المعروف - خلال عملية "والفجر8". لقد تعوّدنا على مواكب العزاء التي يقيمها أهل تبريز، لكن، كان العزاء في أردبيل مختلفًا ويوم عاشوراء صاخبًا، الإخوة يَطلون وجوههم بالطين ويضعون التبن على أكتافهم، ثم يمشون مسافة وهم يلطمون رؤوسهم وصدورهم بحماسة، ليتوقفوا بعد مسافة ويستمرّون باللطم بشدة. بعد ذلك تأتي السرية الثانية لتقطع هذه المسافة ركضًا بأرجل حافية على الحجارة والأشواك ودقائق التبن، وعندما تتوقف تبدأ سرية أخرى بالحركة. تميزّت مجالس العزاء التي يقيمها المجاهدون في ذلك الوادي الخالي بأنها لافتة وخالصة وآسرة للقلوب.

 

استحدثوا في ذلك الموقع إلى الجهة السفلى من خيمتنا حمّامين ميدانيين يفصلنا عنهما قرابة 2 كلم. في أحد الأيام، خرجت ويعقوب في الصباح الباكر بنيّة الاستحمام. عندما وصلنا لم نجد الحمامات مضاءة، وقد اصطفّ عدد من الشباب ينتظرون دورهم. أخيرًا بدأ الأخ مسؤول الحمّام عمله. كالعادة، لم أستطع تحمّل الوقوف بالصف[1]. على كلّ حال استحممت وانتظرت يعقوب في الخارج. رأيت في الأطراف القريبة من الحمّام عددًا من البغال التي يستخدمها الشباب بكثرة في تلك المنطقة، ويضعون عليها أجلالًا مصنوعة من الأغطية عادة بسبب


 


[1] حدث دائمًا أنه عندما يوجد أمامي في الصفوف أحد شبابنا، يسمح لي بتجاوزه، وإذا كان غريبًا يقبل أيضًا بتجاوزي له بعد أن يلقي نظرة على وجهي ورأسي!

 

435


424

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

لأقوم بتقسيم الطعام. كان الطعام وفيرًا وقمت بتوزيعه على الشباب محتفظًا بحصة أكبر لخمسة أشخاص من المشاغبين في فصيلنا. قديمًا قالوا "عند تقسيم الطعام إمّا أن تكون ظالمًا أو مظلومًا"، لقد كنت من الظالمين! أعطينا الطعام للجميع، وبدأنا نحن أيضًا بتناوله حتى وصل "علي باشايي" ورأى مائدتنا فقال: "ستكون قاضيًا عجيبًا يا سيّد!". لم أستحِ واستأنفت تناول الطعام مع إسماعيل ووكيل زاده ويعقوب نيكبران وشخصين آخرين، وقد أخذنا لأنفسنا أيضًا ما زاد من علب العصير التي وُزّعت.

 

ركبنا الحافلات وتوجّهنا إلى دزفول التي وصلناها ليلًا. أول عمل قمنا به هو نصب الخيام. وفيما نحن مشغولون بتجهيزها، علا أنين أحد الشباب يشكو من ألم في أسنانه. كان ذلك المسكين يصرخ من شدّة الألم، فقال له أحد شباب الفصيل المشاغبين: "أنا أعطيك دواءً، ولكن بشرط!".

- ما هو هذا الشرط؟

- بعد أن تأخذ حبة الدواء هذه عليك أن تذهب إلى الحمّام وترجع!

 

لم نعرف لمَ اشترط عليه هذا الشرط. أعطاه الدواء فتناوله وانطلق نحو الحمّام، عندما رجع سأله حسن: "كيف أصبحت؟!".

- لم يحصل شيء .. لم يترك أثرًا!

 

أعطاه حبة دواء أخرى فتناولها وانطلق مرّة أخرى نحو الحمّام. نمنا تلك الليلة ولم نلتفت إلى أنّ ذلك المسكين لم يرجع!

 

صباحًا اتّضحت المسألة للجميع. فقد اعتاد الشباب الوقوف باكرًا في طوابير ينتظرون دورهم. وأحيانًا يقف حوالي 20 شخصًا أمام كلّ حمّام. في هذا الصباح كانت صفوف الحمّامات تتحرّك باستثناء واحد منها، فقد دخل أحدهم ولم يخرج. بقي الشباب يطرقون الباب من دون أن يلقوا جوابًا، فقرّروا أن يفتحوه. عند ذلك وجدوا شخصًا

 

437

 


426

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

يستغرق في النوم. إنّه نفس الأخ الذي تؤلمه أسنانه. المسكين، بعد أن شدّ حزامه سقط في أرضه نائمًا تحت تأثير حبتي "الفاليوم" اللتين تناولهما بالأمس! تعاون الشباب ونقلوه إلى داخل إحدى الخيام، ونام ليومين متتاليين، وغدت قصّته مادة دسمةً للمزاح بين الشباب. كنّا نوقظ ذلك المسكين للصلاة وتناول شيء من الطعام. الله سبحانه فقط وهو يعلمان في أيّ عالم كان يقيم صلاته. لقد غاب عن الوعي تحت تأثير "الفاليوم" لدرجة أنّه نام ونسي ألمه.

 

في تلك الأيام رحت أفكر كثيرًا بالماضي. كنت أرى أنّ العناصر اليوم ليسوا كعناصر عمليات بدر و"والفجر8". لقد تراجعت روحية بعضهم قياسًا مع الماضي، ولكن لا يزال هناك عدد من العناصر القدامى يواظبون على صلاة الليل، وهم أنفسهم الذين ينظّمون مراسم الدعاء والتوسل بأهل البيت عليهم السلام. من الواضح أّنّه لا أحد يسدّ الفراغ الذي خلّفه الشهداء. بقي هناك مسجد مبني من الإسمنت والحجارة، ورحت أرتاده أحيانًا لأصلّي صلاة الليل.

 

أخبرونا سابقًا أنّنا سنذهب إلى سدّ (دز) للتدرّب على السباحة. في تلك الأيام تناقشنا مع السيّد فاطمي حول إحدى القضايا. تقرّر أن يسلّموا عددًا من كوادر الكتيبة بدلات عسكرية كورية، أصررنا على استلامها قبل التدريب والسيد فاطمي يقول: "بعد التدريب!". وجدت أنّه لا يمكن حلّ هذه المسألة معه، فذهبت إلى "أصغر علي بور", قائد سريّتنا في تلك الأيام وأحد أصدقائي القدامى. ضغطت عليه ليستلم تجهيزاتنا. كان مخزن الدعم مليئًا بالتجهيزات من ثياب، أغطية، مدافئ نفطية،

 

438

 


427

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

وأوانٍ و... لكنّ الإخوة في الدعم يعملون فقط بأوامر السيّد فاطمي الذي أشار إليهم بتسليم التجهيزات إلى السرايا بعد الوصول إلى سدّ (دز).

 

ذات ليلة استيقظت لأداء صلاة الليل. كنت ويعقوب دائمًا ما يوقظ أحدنا الآخر إذا استيقظ قبله. ناداني. ذهبنا نحن الاثنان لنتوضّأ. وفي طريقنا إلى المصلّى قلت له: "لقد أشعلوا نارًا إلى جانب عنابر(مخازن) الدعم!".

- ربما يكون شباب الدعم مشغولين بتحضير الشاي.

- لا أعلم! ... ولكنهم لا يستيقظون باكرًا هكذا!

 

دخلنا إلى المصلّى. وجدنا حوالي 20 شخصًا منشغلين بالدعاء والمناجاة من ضمنهم السيّد فاطمي. صلّينا صلاتنا بسرعة. كان في المصلّى عناصر يكبروننا سنًّا، وكنت أنزعج إن علم أحد أنّني جئت إلى المصلّى لأداء صلاة الليل...

 

بعد الصلاة رجعنا إلى خيمتنا. في تلك الأيام كنا قد هيّأنا مكانًا نظيفًا خارج الخيمة من ألواح الإسمنت، عادة ما نفرش غطاءً فيه وننام هربًا من الحرارة المرتفعة داخل الخيمة، والتي تزيد عن الحرارة خارجها. ما إن أردت الاستلقاء هناك حتى قفزت مباشرة من مكاني: "لا قدّر الله أن تكون هذه العنابر تحترق!". ناديت يعقوب وركضنا نحوها. كان هناك عنبران: واحد كبير وُضعت فيه تجهيزات الكتيبة من موكيت وثياب و... هبّت فيه النيران، وآخر صغير إلى جانبه كان مخزنًا لأسلحة الكتيبة. ركضت مرعوبًا إلى وسط الساحة وصرخت بأعلى صوتي: "العنابر تحترق... النار!".

 

لم يجبني أحد! ركضت مرّة أخرى نحو الخيام. كنت ويعقوب نصرخ: "انهضوا لقد شبّت النار بالعنبر! ...". استيقظ أشخاص عدّة ولكنهم لم ينتبهوا لما يجري. تذكّرت المصلّين. أسرعت إلى المصلّى وما إن دخلته

 

 

439


428

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

حتى صرخت: "لقد شبّت النار في العنبر!", لكنّ أحدًا لم يقطع صلاته! فما كان منّي إلا أن توجّهت نحو السيّد فاطمي ووقفت مباشرة أمامه: "سيّد! العنبر يشتعل!".

 

قطع صلاته قائلًا: "ماذا حصل؟!".

- العنبر يشتعل الآن!

 

قطع الجميع صلاتهم دفعة واحدة وركضنا نحو العنبر. بدأ عناصر الدعم يستيقظون. كانوا ينامون في خيمة ملاصقة للعنبر، توجد في زاويتها صناديق مملوءة بالرصاص والقنابل! سحبنا شخصين من شباب الدعم مستغرقَين بالنوم إلى الخارج، وكسرنا قضبان الخيمة وأبعدناها عن النيران. امتلأت الخيمة بدخان كثيف، وتعجّبت كيف أنّهم لم يستيقظوا والحال هذه! لقد صدق المثل حيث يقول: "إنّ نوم الأخ يعني موته!". راحت النيران تشتدّ أكثر فأكثر. يبتعد المخزن الصغير المليء بأسلحة الكتيبة وذخائرها حوالي المترين عن الحريق، لكنّ أحدًا لم يقترب منه لشدّة الحرارة المنبعثة من المخزن الكبير، خصوصًا مع علمهم بوجود الذخائر. كان للعنبر دواليب يُجرّ بها بواسطة قاطرة، لكن، لم تتوافر آنذاك أيّ واحدة، وكان لبابه قفل كبير لم نستطع فتحه مهما حاولنا، وصادف أنّ عناصر مخزن الأسلحة ذهبوا إلى دزفول وأخذوا المفتاح معهم. اتصلوا بالمقرّ كي يرسلوا جرافات، لكن كلّ ذلك كان هدرًا للوقت ولم تنتظر النار أحدًا. لم نبالِ بالعنبر الكبير بالرغم من أنّ النيران راحت تلتهم جميع تجهيزات الكتيبة المخزّنة فيه. سيطر القلق على الجميع من موضوع الذخائر، واستعانوا بكلّ ما وصل إلى أيديهم لكسر قفل الباب: العمود، المعول... لكن لم تكن ضربات المعول تأتي بنتيجة. استخدم الشباب أيضًا معولًا ذا رأسين وضربوا به القفل،

 

 

440


429

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

لكن لم يكن في نيّته أن ينكسر! أنا أيضًا أردت المحاولة، فأخذت المعول من الشباب وضربت برأسه العريض القفل بكلّ قوتي، فانكسر من الضربة الثانية.

 

في ذلك الحين بدأ يتزايد عدد الشباب. لقد استيقظ عددٌ منهم على صوت الجرافات التي وصلت لتوّها إلى المكان. كما أتى أيضًا "محمد رستمي" وآخرون من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام للمساعدة. أخذ الشباب يرمون الأسلحة إلى الخارج ليبعدوها عن النيران. بذلنا جهدًا كبيرًا لإخراج الذخائر من العنبر الصغير. وبعد دقائق معدودة من انكسار القفل، علا صوت انفجار من العنبر الكبير المشتعل. قالوا إنّ في زاوية ذلك العنبر قذائف B7 وقنابل. وصلت النيران أيضًا إلى الخيمة المجاورة له والمليئة بالبطانيات الجديدة وأحرقتها. بعد هذا الانفجار لم يعد أحد يستطيع التقدّم إلى الأمام. كانت الشمس ترتفع في السماء عندما وصلت سيارات الإطفاء من دزفول وأخمدت النيران. لقد أدّى كثيرون صلاتهم قضاءً في ذلك الصباح!

 

بعد ساعات عدّة ذهبنا ثانية نحو العنبر. رأينا منظرًا محزنًا بالفعل: بطانيات جديدة، سجاد، موكيت، الملابس الكورية التي أصررنا على استلامها ورفضوا، أوانٍ، أحذية عسكرية، خوذ معدنية، احترق داخلها وبقي قالبها الخارجي على حاله إذ لم يكن ممكنًا ثقبه إلا بالرصاص والشظايا! كان للسيّد فاطمي شأن جيّد في سوق تبريز، ويحصل على مساعدات كثيرة للكتيبة من هناك. وقف إلى جانب بقايا التجهيزات المحترقة: "أمير خرمند", "حبيب رحيمي", الحاج "فيروز قادريان" والسيّد "يونس سيّد فاطمي" أخو قائد الكتيبة، وعدّة آخرون. بدأ "أمير" وهو من مشاغبي الكتيبة يتحدّث بشكل هزلي. أراد إغضاب السيّد يونس فذهب باتجاهه يشير إلى البقايا المحترقة ويلطم على صدره بلحن العزاء:

 

 

441


430

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

"واويلاه واويلاه! أين مكبّر صوتي! واويلاه واويلاه... أين الألبسة الكورية آه ..آه! ..". بحث الشباب بين التجهيزات، لم يعد أيٌّ من الثياب نافعًا بعد الحريق، إلا إذا وُصل بقطعٍ أخرى. قاموا بقصّ السراويل ليستخدموها كسراويل قصيرة، وأمير يقول: "لا بأس بذلك! ستنفعنا هذه السراويل القصيرة في السباحة عندما نذهب إلى سدّ دزفول!".

 

بعد يومين ركبنا الحافلات التي أتت لتقلّنا إلى سدّ (دز)، بعد أن وضّبنا خيامنا لننصبها لاحقًا هناك. كالعادة واجهنا مشاكل مع السائقين، كانت الطريق جيدة إلى أن وصلنا إلى مسافة تبعد عن (دز) نحو 3 كلم، حيث استحدث الحرس طريقًا بجانب الجبال، لم تكن سيّئة لدرجة أن يشعر السائقون أنّهم مكرهون على قطعها. على أيّ حال، وصلنا إلى سدّ (دز) بمشقّة وعناء.

 

قبل القيام بأيّ عمل، سلّموا الكتيبة حوالي 150 عنصرًا ليكتمل بذلك عديد السرايا، على الرغم من أنّ عددًا منهم يُستبعد كالعادة أثناء التدريبات. بالطبع رأينا أيضًا بين العناصر الجدد أفرادًا لهم تاريخ جيّد أمثال "حميد غمسوار".

 

بدأ التدريب على السباحة. والسباحة العسكرية أصعب من تلك التي يجيدها الجميع عادةً. كان "هادي نقدي" مسؤول التدريب العسكري، وأتى للمشاركة في هذه التدريبات عدد من كوادر الكتيبة الذين لا يجيدونها. كان "قدرت توفيقي" أيضًا يدرّب العناصر. نصبوا فوق الماء عددًا من الجسور ليتشكّل إطار يشبه حوض السباحة، ووضعوا تحت الماء سلالم وشباك بموازاة السطح وذلك لكي لا ينزل أحد كثيرًا إلى الأسفل إذا ما غاص في الماء. وصل عمق الماء في مكان التدريب إلى حوالي ثلاثة أمتار.

 

في الأيام الأولى كان بعض الشباب يخافون من الماء فكنّا ندفعهم

 

442


431

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

إليه، وازداد خوف بعضهم أيضًا عندما سمعوا عن عمق الماء في سدّ (دز). كان من المقرّر أن يتدرّب هؤلاء على السباحة ليخضعوا فيما بعد لتدريبات أصعب، ويمكن الاستفادة منهم كعناصر الاقتحام.

 

أثناء وجودنا في سدّ (دز) جاء وفد من عوائل الشهداء للقائنا، من بينهم والد علي باشايي. أمدّنا حضورهم بالمعنويات. تحدّثوا عن مشاكل الحياة في المدينة، والقضايا التي تحدث في المدن، ولم نكن نحن مطلعين عليها. وطبعًا كان الاستماع لهذا الكلام جيّدًا بالنسبة إلينا[1] من جهات عدّة. لقد أكّدوا أنّنا منتصرون لا محالة. كان الحاج "رضا داروئيان" يقرأ العزاء في المجالس الحماسية التي أقمناها، وبعث حضور آباء الشهداء في جمعنا شعورًا جديدًا لدينا. بقوا في خيامنا وشاركوا في المراسم الصباحية خلال الأيام الثلاثة التي كانوا فيها معنا. في تلك الأيام عشنا مشاعر جميلة، شعرنا أنّ والدًا موجودًا فوق رؤوسنا.

 

كانت كتيبتنا كتيبة جيّدة حقًّا خاصّة مع وجود عناصر أمثال الحاج رضا داروئيان، فرج قلي زاده، "حسن وكيل زاده", وهو ابن أخي إسماعيل وكيل زاده ومعاون قائد سرية سوداكر، أصغر علي بور، "صادق سبك دست", معاون أصغر وغيرهم الكثير. رغم صغر سنّه، عُدّ الحاج رضا من رجال الحرب الكبار. كان في عملية "والفجر8" المعاون في سريّة الغوّاصين، لكنّه أتى إلى فصيلنا كقنّاص، وأخذ على عاتقه مسؤولية توزيع الشاي للشباب. لقد تعرّفت إليه في معسكر شهداء خيبر. أما صادق فالتحق بالجبهة منذ أول الحرب، وتعرّفت إليه خلال عملية مسلم بن عقيل. كان للعناصر المشاغبين مكانهم في الكتيبة أيضًا:

 


[1] كنّا عندما نذهب إلى المدينة في كلّ إجازة نتعامل بصدق مع الأشخاص الذين يدّعون ادعاءات كبيرة، في حين أنّنا لم نكن نعلم أيّ أعمال لم يقوموا بها بعد! أعتقد أن بعض المسؤولين (الذين بقوا دائمًا في المدنية) لم يعرفوا قيمة المجاهدين قبل أن تبدأ حرب المدن وتُقصف المدن بشدّة! مع أنّ بعضهم ما زالوا لا يعرفون أو لا يريدون أن يعرفوا قدرهم... لكنّهم رأوا في القصف أنّه إن منح العدو الفرصة فإنّه لن يرحم أحدًا، وسوف يهرق دماء الصالح والطالح والمنافق والحزب اللهي.

 

443


432

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

لقد بدّل "أمير" خردمند وعدّة آخرون الملابس الكورية المحترقة إلى "شورتات" يلبسونها أثناء السباحة.

 

خلقت المحبة والإيثار عند الشباب جوًّا جيّدًا. في الظروف العادية، بعيدًا عن التدريب وتحضيرات العملية، يتسلّى الشباب بالأعمال المختلفة من قبيل تنظيف الغرف، تحضير الشاي، غسل الأواني وغيرها، ولا يعتبرونها أمرًا ذا أهمية كبيرة، أما في ظروف مماثلة لدورة التدريب في سدّ (دز) لم يَعتبروا أيّ عمل صغيرًا: يخضعون للتدريب من الصباح إلى العصر ويخرجون من الماء متعبين ومنهكين كالآخرين، فلا يتبقّى لديهم أدنى طاقة على الحركة. لكن، على الرغم من التعب والإنهاك، كان بعضهم يهيّئ الطعام ويفرش البطانيات ويهتم بالآخرين. هناك يمكن أن ترى أيّ ورود أنتجتها هذه المحبة والعطف!

 

في الأيام الأولى، بدأنا التدريب على مسافة 300 م تقريبًا، نلبس سترات نجاة صفراء اللون وننزل إلى الماء بصفوف منتظمة، وأحيانًا نتدرّب ليلًا، خاصة في الليالي المقمرة.

 

مع التقدّم في التدريب رحنا نتمرّن على مهارات جديدة، منها التحرّك من دون إثارة أيّ ضوضاء. لكن، عندما يبدأ الشباب بالشغب، لا يأخذون ظروف التدريب بعين الاعتبار، فكانوا يسعون غالبًا لإغراق المتدرّب الذي أمامهم في الماء. وعلى الرغم من أنّ ارتداء سترة النجاة يحول دون الغرق، إلا أنّ الخوف كان يبدو واضحًا على أغلب أولئك الذين يخضعون لأول مرّة لهذه التدريبات، ليهزّ أركان رتل المتدرّبين فجأة أثناء التدريب، صراخٌ عالٍ في سكون منتصف الليل، ويجبرنا المسؤولون على الرجوع إلى الخلف وإعادة التمرين من بدايته.

 

مضت الأيام والليالي مع برنامج مكثّف من التدريبات والتمرينات.

 

444


433

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

في الليالي التي لا نتدرّب فيها كنّا ننام باكرًا من شدّة التعب. عادة ما يأخذون الشباب إلى الجبال المجاورة في البرنامج الصباحي. بالقرب من هناك توجد قريتان فيهما بساتين مملوءة بالصفاء. كنّا في البرنامج الصباحي غالبًا ما نسير حتى نصل إلى القرية ونجول في بستان الليمون ثم نرجع أدراجنا، ونسلك في هذه الرحلة مسارًا ضيّقًا يسمح بمرور الأفراد فقط، ولا يوجد غيره. كان الشباب يصلون إلى البستان عطاشى وجائعين. وكثيرًا ما حدث أن دعا أصحاب البساتين الشباب ليقطفوا ما بدا لهم من الثمار، لكنّهم يمتنعون عن ذلك، إذ كانوا يراعون المسائل الشرعية بدقّة لدرجة أن يأخذوا كلّ الاحتمالات والمستحبّات على محمل الجدّ ويحتاطوا في عملهم. كان البرنامج الصباحي يستمر لحوالي أربع ساعات، ونتيجةً لهذه التدريبات، أصبح المتدرّبون ماهرين في تسلّق الجبال والغوص في آن! وبحسب قول الشباب فإنّهم تدرّبوا على كلّ شيء ما عدا التدريبات الجوية.

 

هنا عرفنا أشخاصًا كلّما فكّرنا في أحوالهم أكثر شعرنا بالخجل أمام عظمة أرواحهم ونفوسهم. أحد هؤلاء "أصغر علي بور" مسؤول سريّة الغوّاصين. علمت أنّه يواجه مشاكل كثيرة في عائلته، والداه عجوزان ومريضان ويعيشان في محلّة في ضواحي تبريز، وزوجته وابنته تقطنان في منزل والديه. من جهة أخرى كان زوج أخته قد فارق الحياة حديثًا فباتت مسؤولية أخته وأولادها تقع على عاتقه. أثناء فترة التدريب في سدّ (دز)، واجهتْ عائلته مشاكل أخرى ما اضطرّه للقيام بزيارة قصيرة إليهم. عندما رجع سألته كيف أصبحت الحال؟ كان حزينًا جدًا. عندما حدّثني عن أخبار عائلته انقلبت أحوالي. قلت له: "أصغر! ألا يمكنك أن تصرف النظر عن هذه الحرب وتكرّس نفسك للحرب الأكبر في المدينة عند عائلتك؟".

 

- سيّد! أنا دائمًا عندما أتحدّث مع الله تعالى في جميع العمليات

 

445


434

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

أطلب منه أن يبقيني على قيد الحياة، لأنّه لديّ مشاكل خلف الجبهة، وإن أنا متّ فإنّ عائلتي ستبقى... ولكن هذه المرّة كلا! هذه المرّة لا أريد من الله تعالى أن يبقيني على قيد الحياة. أنا راضٍ بما قسمه الله لي، ولكنّني من الآن، أتمنى أن أستشهد.

 

أردت أن أخرجه من حال الضيق التي يعيشها، لكنّ أصغر تغيّر. ظلّ يقول: "سيّد! صدّق أنّني سأستشهد هذه المرّة". لقد تغيّر تعامله حتى مع شباب السريّة المشاغبين. أحيانًا يتحدّث عن أصدقائه الشهداء، ويقول: "صادق آذري، حميد بنهان و... هؤلاء أصدقائي واستشهدوا. والآن عندما آتي إلى هنا وأرى الشباب أتذكّر أصدقائي الشهداء، وأكاد أصاب بالجنون!".

 

أدرك جيّدًا بعض حالات أصغر، وبالرغم من أنّه يكبرني بحوالي سنتين إلا أنّنا قريبان من بعضنا البعض. أخبرني عن مشاكله، وكذلك حدّثته أنا عن أوضاعي. لكن، أين مشاكلي من حياته؟! أين جهاد السيّد نور الدين من جهاد أصغر؟ بالرغم من أنّني أُصبت بجراح شديدة لمرّتين خلال أقلّ من سنة في كردستان، وفي عملية مسلم بن عقيل حيث لم يتحسّن جسمي أبدًا بعدها، وصرت أعاني دائمًا من آلام الجراح والتهابها، إلا أنّني كنت وحيدًا ومع عائلة تعوّدت على غيابي، وزوجة لم أبدأ معها بعد حياتنا المشتركة. أما أصغر فله عائلة كبيرة تعقد كلّ آمالها عليه وعلى حقوقه القليلة، وتعيش في منزل صغير في ضاحية المدينة، يستلزم الوصول إليه مسير ساعة على الأقدام في الأزقّة الضيّقة والطلعات والسلالم. وعلى الرغم من هذا كلّه لم يكن أصغر ليبقى في منزله والاهتمام بعائلته فقط، وهو يدرك الحاجة إلى حضوره في الجبهة قائدًا لسريّة. فالجبهة كانت تحتاج لـ"رجال!".

 

في تلك الأيام استلمنا رسائل من الناس للمرّة الأولى. يبدو أنّ رسائل

 

446

 


435

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

كثيرة تُرسل إلى الجبهة من جانب التلامذة والناس في المدن، لكنّها المرّة الأولى التي نتلقّى فيها رسائل كهذه. لقد تركت هذه الرسائل فينا أثرًا كبيرًا، وراح الشباب يذرفون الدموع عند قراءة بعضها. كتبت فتاة صغيرة: "استشهد والدي. لقد وعدني أن يأخذني إلى كربلاء لكنّه لم يستطع. أنتم ستنتصرون بإذن الله وستأخذونني إلى كربلاء عوضًا عن والدي ...". وكتبت أخرى: "أنا مضطرة للعمل بحياكة السجاد بالتزامن مع الدرس. الأغراض التي اشتريتها لكم هي من الأجرة التي تلقيتها مقابل عملي في الحياكة", وكتبوا في رسالة عن لسان امرأة عجوز: "لقد استطعت أن أرسل لكم خبزًا بعد أن صمت لعدة أيام". انتقلت هذه الرسائل من يد إلى يد تاركة أثرها في كلّ من يقرأها. وأكثر ما بدّل أحوالنا عندما علمنا أنّ أكياس الفستق والزبيب التي وزعت علينا هي من حضرة الإمام، وشعرنا حينها بالمسؤولية أكثر من أيّ وقت مضى[1].

 

في تلك الأيام كما دائمًا، بقيت أعاني من مشاكلي الجسدية. كنت عندما أخلع ثيابي للتدريب ويرى الشباب حالي تتبدّل نظرتهم إلي فيخجلني سلوكهم. لا أجد نفسي مستحقًّا للطفهم ومحبتهم ولست كما يعتقدون، لكن كانت أحوالهم تتغيّر عندما يرون جراحي في الأيام الأولى. صار الأكثر قربًا منّي يقولون ممازحين: "سيّد! أين المكان السليم في جسمك؟ لعلّ ما وراء أذنيك فقط بقي سالمًا؟!". قال لي علي باشايي هذا الكلام مازحًا في أحد الأيام فأجبته: "لا بأس! ربما يأتي يوم ويصاب ذلك المكان بشظية أيضًا!".


 

[1] في ذلك اليوم لم يقل أحد شيئًا عن هذه المغلفات والعلب، لاحقًا قالوا إنها كانت من بيت الإمام، ويبدو أن حرم الإمام تحدثت عن هذا الموضوع وقالت إنّ الإمام عمل معنا حتى الصباح في تغليف المكسرات لإرسالها إلى الجبهة، علمُنا بهذا الموضوع رفع معنوياتنا بشكل مضاعف وسهّل علينا تحمّل الصعاب.

 

447


436

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

مع تقدّم التدريب العسكري المكثّف لم يعد مقبولًا أن نسبح في الحوض الذي أقيم بواسطة الجسور العائمة على الماء، بل اتّسعت مسافات التمرين إلى 200 و500 م. كان الشباب يصطفّون في رتل ليدخلوا الماء ويقطعوا هذه المسافة سباحة. بلغت لياقة الشباب البدنية ومهاراتهم مستوى مكّنهم من البقاء في الماء من الصباح حتى الظهر من دون سترة نجاة وغيرها من الوسائل المساعِدة. أحيانًا أقاموا في بعض الليالي تدريبًا على الحرب الليلية. في الأيام الأخيرة تركّز القسم الأعظم من التمرينات على كيفية التحرّك بسكون ومن دون أيّ صوت أو ضجة. كان الإخوة يدخلون إلى الماء في طابور، ويقطعون أحيانًا مسافة كيلومترًا داخل الماء من دون أن يصدر أيّ صوت من أحد. كنّا نسبح سباحة الضفدع، وتعلّمنا تحريك أيدينا من دون إصدار أدنى صوت.

 

إلى جانب هذه التدريبات المكثفة كانت العلاقات الجيدة هي الحاكمة في الفصيل. كان في فصيلنا أيضًا عدد من الشباب الأصغر مني سنًّا. من بينهم حميد غمسوار وصديقه موسى، "سعيد بيمان فر" ومحرم آقاكيشي بور. كان حميد غمسوار شديدًا وذكيًّا رغم صغر سنه، وينطق بكلام حكيم وعاقل لا يتناسب مع سنّه وحجمه ما كان يثير إعجابنا! هو من السابقين في الجبهة وذو روحية عالية. مضت فترة طويلة على وجوده في الجبهة، وكان أكثر ما يحدّثني عن القضايا العسكرية.

 

كان محرم آقاكيشي بور أيضًا يمزح معي. يقول: "هذا السيّد كلما ناداني تأكدوا أنّه لا يناديني لأجل تناول الطعام، بل قطعًا هو يناديني للقيام بعمل ما. مثلًا يقول أخ محرم؟ نعم... هناك شخص مريض تعال وانقله إلى أعلى!... حتى الآن لم يحدث أن قال السيّد - مثلًا - أخ محرم، أعددنا اليوم فطورًا جيّدًا تعال كي نتناوله معًا!". في بعض الأحيان يبالغ

 

448

 


437

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

أكثر في الشغب، فيقول للشباب: "كلّ هذا في كفّة وعندما يخاطبني قائلًا لقد افتقدناك، في كفّة أخرى! أقول له ماذا حصل؟ فيجيب السيّد إنّ أحد الشباب وقع من فوق الصخور وانكسرت رجله، ليتك كنت موجودًا لتنقله إلى الخلف!". صادف أنّه كان ضعيفًا قليلًا في السباحة، فتسمعه دائمًا يقول: "سيّد! أعطوني رشاشًا في اليابسة وسأفعل كلّ ما تقولون، لكن في الماء دعوني وشأني!".

 

حاولنا أن نأخذه معنا، لكنه ظلّ يسبح إلى جانب الشباب مرتديًا سترة النجاة.

 

على كلّ حال، تحدّد زمان المناورة بعد انتهاء التدريبات. كان هناك مكان أشبه بجزيرة وضعوا عليه دوشكا وأسلحة أخرى قبل مدّة، وتقرّر أن ننفّذ المناورة فيه. بدأت المناورة الليلية. دخلنا إلى الماء على مسافة 600م من الجزيرة وبدأ التحرك. كان لهذه المناورات ثمارها الكثيرة، فمن خلالها يتعوّد العناصر على النار، ويرون بأنفسهم أنّه يمكن أن يشتبكوا مع عناصر العدو في ظروف مماثلة[1].

 

وضّبنا خيامنا بعد الفراغ من المناورة وانطلقنا بالحافلات نحو ثكنة الشهيد باكري في دزفول. لقد تنامت المودّة والألفة بين الشباب، ومع أنّني لا أحبّ التعرّف إلى أحد، وأن أصبح صديقًا حميمًا لأحد، لكن، كان بعض الشباب مثل حميد غمسوار يغمرونني بلطفهم. أخشى أن يصبح أحدهم صديقًا حميمًا لي، ثم يستشهد فتعذّبني الوحدة وغصّة فراق الصديق مرّة أخرى. في هذه الأثناء تقرّر منح جميع العناصر إجازة لمدة 15 يومًا.


 


[1] بالرغم من أن النيران التي تطلق على الشباب في المناورة تبعد نسبيًّا عن مكان تحركنا للتقليل من إمكانية وقوع إصابات إلى الحدّ الأدنى، ولكن، بكلّ الأحوال ظلت هذه الاشتباكات تذكّر بظروف ليلة العملية.

 

449


438

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

رجعنا إلى تبريز. كالعادة أعطونا مؤونة للطريق، فاكهة معلبة، خبزًا، زبيبًا وفستقًا. جلست مع أصغر علي بور. أذكر أنّهم أعطونًا تمرًا، جافًّا أصفر اللون موضّبًا في علب تزن الواحدة منها 5 كلغ، وكان لذيذًا جدًا. عندما وصلنا إلى تبريز كان قد بقي علبتان من التمر. قالوا ليأخذ التمر من يريد. أخذ حميد علبة لمسجد محلّته، وأنا أيضًا أخذت علبة لكي أوصلها إلى المقرّ. في المنزل عندما تناولت والدتي من هذا التمر، قالت: "نور الدين! أنا لم آكل تمرًا كهذا قبل هذا اليوم، ولن آكل مثله بعد اليوم!", فأجبتها: "لقد جاء هذا التمر من الجبهة ...".

 

كالعادة أمضيت أغلب أيام الإجازة مع الشباب. اعتدنا أن نحلّ ضيوفًا على المقرّات الأخرى وغالبًا ضيوفًا على العشاء. في إحدى المرات دعاني حميد غمسوار إلى مسجدهم. كان مركز مسجد حضرة أبي الفضل عليه السلام في الطبقة الثانية من مبنى المصلّى. وقد اشترى الشباب الفول أيضًا. كان حميد عندما يقدّمني إلى أصدقائه يقول: هذا الأخ هو السيّد نور الدين بذاته الذي حدّثتكم عنه[1]، فيشعرني بالخجل.

 

بما أنّ تجهيزات كتيبتنا قد نقصت بعد أن أتى عليها الحريق، فقد أشاروا علينا بشراء التجهيزات اللازمة لسريّتنا خلال الإجازة وإحضارها معنا عند العودة إلى منطقة العمليات. كنّا أعددنا إحصاءً بالتجهيزات: سماور، موكيت، أوانٍ، وأشياء أخرى من لوازم المعيشة. دفعنا ثمن هذه التجهيزات من مالنا الخاصّ ومن المساعدات التي


 


[1] لم أكن أصدّق أنه سيأتي يوم أتحدّث فيه عن حميد وشجاعته ومعنوياته في حين أني ابتعدت لسنوات طوال عنه وعن أصدقائي الآخرين... استشهد حميد في مرتفعات ماووت خلال عملية "بيت المقدس3".

 

450


439

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

يقدّمها الناس. كلّ واحد منّا يشرح الحال لأبيه، وبالطبع فإنّ الوالد الذي يقدّم ابنه لن يمتنع عن تقديم ماله في هذا السبيل. جمع فصيلنا مقدارًا جيدًا من المال. ذهبت برفقة فرج قلي زاده وشخصين آخرين للتبضّع. اشترينا سماورين كبيرين وسفرة للطعام بطول 50 م تقريبًا. كان يلزمنا حوالي 50 م2 من الموكيت. سألنا أخو الشهيد "رهبري" - وهو مسؤول في مؤسسة الخامس عشر من خرداد[1] - عن موضوع شراء التجهيزات، واطّلع على تفاصيل القصة، فبادر إلى جمع المال من العاملين في المؤسسة لشراء الموكيت. لقد اشترينا حتى لوازم "الترشي"[2] وسلّمناها للمنازل ليتم ّتحضيرها. جهّزنا حوالي 50 مرطبانًا من أنواع الكبيس، حوالي مئتي ملعقة، ومئتين من الصحون والأكواب. طبعًا فاق ذلك حاجة سريتنا، وكان الشباب من السرايا الأخرى يقصدوننا لتعويض ما نقص لديهم. اشترينا تجهيزات كثيرة لدرجة أنّنا لم نجد لها مكانًا في الحافلة عندما عدنا إلى الجبهة، ووزّعناها في كلّ مكان خطر على بالنا. بالإضافة إلى ذلك، أحضرنا شاحنة من الحرس لتنقل الموكيت ومرطبانات الكبيس والتجهيزات الكبيرة والضخمة إلى مقرّنا.

 

في دزفول أردنا -كالعادة- أن ننصب خيمتنا، ولكنهم لم يوافقوا على ذلك، وجاء الخبر بأنّه علينا أن نقضي يومين في مصليات الكتائب الأخرى ريثما يتمّ إرسالنا إلى محلّ التدريب. قبل إيفادنا إلى التدريب استمعنا لكلام قائد كتيبتنا. تحدّث الأخ السيّد فاطمي عن شروط وظروف التدريبات الجديدة فقال: "يختلف هذا التدريب عن تدريبات سدّ (دز). لقد حدّدنا حوالي شهرين ونصف كمدّة زمنية لازمة لهذا التدريب.

 


[1] (5حزيران 1963/تاريخ مفصلي في الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني ، خروج تظاهرات كبيرة في مدن قم وطهران و..،اتخذت الثورةابتداء من هذا التاريخ مسارا تصاعديا ، تظاهرات، اعتصامات ،بيانات الامام وفضحه لاعمال الشاه ودعمه للجماهير ودعوته للتظاهر..).

[2] كبيس من أصناف مختلفة.

 

451


440

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

وكلّ من يتمّ إرساله إلى التدريب لا يحقّ له العودة تحت أيّ ظرف من الظروف، حتى وإن أصيب بمرض فإنّ طبيبًا سيأتي إلى معسكر التدريب لمعالجته". كان على الشباب أن يفكّروا ويأخذوا قرارهم. لم ينسحب أحد، وكان الجميع مشتاقين وينتظرون تدريبات العملية.

 

انطلقنا في أواسط تشرين الثاني من العام 1986م إلى منطقة التدريب بالحافلات. هناك، توجد بالقرب من نهر "كارون" قرية عرفت باسم موقع "الشهيد آجاقلو", وقد خلت القرى المحيطة بها من ساكنيها منذ الأيام الأولى للحرب المفروضة، الأمر الذي ناسبنا من ناحية المسائل الأمنية. منازل القرية الصغيرة المعدودة المبنية من التبن والطين لم تعد صالحة للسكن، فاستقررنا في داخل الخيام.

 

في اليوم الأول ذهبنا إلى الماء بالقوارب. من المفترض أن نتدرّب على الغطس، لكنّهم لم يحضروا بدلات الغطس حتى ذلك الحين. يقول قادتنا إنّ هذه البدلات تُشترى من كندا عبر وسطاء وبثمن باهظ.

 

بعد يومين على وجودنا في المنطقة، بدأ المطر يتساقط بغزارة في "خوزستان". كان المطر غزيرًا لدرجة أنّ السيول غمرت بعض مدن الجنوب، فراحت الفرق والمقرّات ترسل إمكاناتها إلى المناطق المنكوبة، وأرسلوا أكثر من 7 آلاف خيمة كمساعدات للناس. ضاقت الظروف علينا حتى إنّ الخبز لم يصل إلينا لعدّة أيام! في تلك الأوضاع أفادتنا كثيرًا التجهيزات التي اشتريناها من المدينة. طبعًا لم يخطر على بالنا أنّه يمكن أن نواجه نقصًا في الخبز، وإلا لقمنا بتدبير لمواجهة هذا النقص حال حصوله. في تلك الظروف أيضًا لم يسمح لأحد أن يغادر موقع "الشهيد آجاقلو".

 

452

 


441

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

أدّى المطر الغزير إلى ارتفاع منسوب المياه في كارون. ففاضت المياه واجتاحت بساتين النخيل، وقطعت الطرقات في المنطقة، ومن بينها الطريق التي نستخدمها. سعينا قدر الإمكان للحؤول دون تقدّم المياه نحو خيامنا. بالإضافة إلى كتيبة حبيب فقد نصبت كتيبة وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف أيضًا - وعناصرها من زنجان - خيامها في ذلك المكان. أخذت المياه تقترب شيئًا فشيئًا من الخيام، وإذا ما دخلتها كان ممكنًا أن تُفشِل جميع برامجنا. أضف، أنّنا لم نملك رفشًا أو معولًا لنصنع سدًّا يحول دون وصول الماء. جاءت رافعتان إلى المنطقة إلا إنّ إحداهما وقعت داخل مياه النهر الهائج! في ذلك اليوم، بدل أن نتدرّب على الغوص، انشغلنا ببناء سدّ أمام الماء مستخدمين الصحون والطناجر والأقدار وكلّ ما كان يخطر على بالنا! رحنا نملأ الأواني بالتراب لنسدّ به مسار المياه. أصبحنا في ظروفٍ صعبة، فالسيل قطع الطريق، ولم يعد ممكنًا إيصال الطعام. المروحيّات أيضًا لا تستطيع إيصال الطعام لأنّ ذلك يؤدّي إلى انكشاف مكان التدريب. قالوا إن تحمّلنا 5 أو 6 أيام فإنّ منسوب المياه سينخفض خلال هذه المدّة وتصلح الأمور. في ذلك اليوم انهمكنا جميعًا بالعمل من الصباح حتى المساء. من جهة كان محمد سوداكر- وهو قائد إحدى سرايا كتيبة حبيب- يملأ أكياس الخيش بالتراب بمساعدة الشباب، ومن جهة أخرى رحنا نصنع سدًّا أمام الماء بالأواني والأيدي العارية. لقد نجحنا تقريبًا في منع المياه من التقدّم. في اليوم التالي هدأت المياه وابتدأنا بالتدريب.

استخدمنا أنبوب "الشنوغر"[1] أثناء التدريب. في المرحلة الأولى عندما استلمنا بدلات الغطس كان بينها بدلتان فقط فيهما خمس قطع:

 


[1] الشنوغر هو أداة تشبه الأنبوب نضع أحد طرفيها في فمنا في حين يبقى الطرف الآخر خارج الماء، وبهذا يمكننا أن نتنفس عندما نكون تحت الماء.

 

453


442

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

كنزة، سروال، قبعة، قفازات وطبعًا حذاء الغوص الـ"فين"[1]. أما باقي البدلات فهي عبارة عن قطعة واحدة من السروال إلى القبعة، وكان ارتداؤها أصعب. أخذتُ أنا بدلة ذات خمس قطع، وأخذ البدلة الأخرى "رحيم صارمي" الذي كان آنذاك معاون السيّد فاطمي في الكتيبة. خضع الجميع لتدريبات الغطس حتى السيّد فاطمي نفسه. حتى ذلك اليوم، شاركت وحدات الغطس في عمليات خيبر وبدر و"والفجر8"، لكن، اقتصر عملها في تلك العمليات على السباحة فوق الماء، في حين أنّ هذه العملية تختلف عن سابقاتها.

 

أثناء التدريبات، تعرّفنا عمليًّا إلى أنبوب "الشنوغر"، بنيته وطريقة عمله. يمكن التنفّس من خلال هذا الأنبوب، وعندما ينزل طرفه الآخر تحت الماء تمنع المصافي الموجودة فيه دخول الماء إلى الفم، لكن تغلق هذه المياه مسار الهواء. عندها علينا أن نطفو فوق سطح الماء والقيام بالزفير ليخرج الماء من الأنبوب ويُفتح مسار التنفّس. كان لون الجزء العلوي من الأنبوب - الذي يبقى فوق الماء عادة - كلون الماء التي كانت موحلة دائمًا وبلون التراب! يجب أن تبقى حوالي 10 سم من الأنبوب فوق الماء، وإذا ما تحرّك العناصر في طابور، يمكن إذا دقّقنا النظر قليلًا ملاحظة مسير حركتهم من خلال حركة الأنابيب. لكن، طبعًا ليس من السهل رؤية هذه الأنابيب فوق الماء[2].

 

قالوا لنا إنّه يصعب الغرق مع ارتداء بدلة الغطس، وإنّ كلّ من يرتديها يستطيع أيضًا أن يمسك بشخص آخر في الماء وينقذه من الغرق. بعد ارتداء بدلات الغطس، ينزل الغوّاص تحت الماء بعد أن يربط أثقالًا خاصّة على خصره تتناسب أوزانها مع وزن جسده. وقالوا للجميع


 


[1] الفين أو الحذاء المخصّص للغطس يشبه أرجل البطة ويسهّل الحركة في الماء ويسرّعها.

[2] لاحقًا وأثناء التمرينات، كانوا يضعون قطعة من الخيش على الماء بحيث يكون الجزء العلوي من الأنبوب تحت هذه القطعة فيبدو الأمر، وكأنّ قطعة من الخيش تعوم على الماء الأمر الذي يضلّل الرائي.

 

454


443

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

إنّه في حال شعر شخص ما أنّه ينزل إلى عمق الماء باستطاعته التخلّي عن أحد هذه الأثقال عبر سحب قبضتها ليطفو من جديد على السطح. وأكّدوا عليهم أن لا يتركوا أسلحتهم في الماء مهما حدث، وإذا ما واجهوا خطرًا ما فبإمكانهم ترك الأثقال الموصولة بهم فقط.

 

بدأنا من جديد التدريب في اليوم الذي انخفض فيه منسوب المياه في نهر كارون. أتى "محرم" معنا ولم يشأ مفارقتنا، وهو يعلم أنّه إنّما يمكنه البقاء في فصيلنا إذا تدرّب على الغطس. حاول أن يُحسّن أداءه بالسباحة، وأن يتعلّم الغطس أيضًا. عادة، يمدّون أثناء التدريب حبلًا يساوي طوله طول طابور العناصر، فيه حلقات متباعد بعضها عن بعض بمسافات متناسبة. كلّ عنصر يمسك بحلقة من هذه الحلقات ليبقى العناصر متصلين بعضهم ببعض عبر هذا الحبل. وبالتالي، يبقى جميع المتدرّبين أثناء الغطس على خطّ واحد، وكان ترك هذا الحبل صعبًا قليلًا. عندما غطس محرم، دخل الماء إلى رئتيه، فأفلت يده من الحبل وطفا فوق الماء. في تلك الأثناء كنت في القارب الذي يواكب حركة المتدرّبين. عادة ما يتحرك أثناء التدريب عدد من العناصر بقارب يبتعد20 إلى 25 م عن الغواصين، وذلك لمساعدتهم عند اللزوم، أو لإنزال أحدهم إلى تحت الماء إن طفا لا إراديًّا.

 

قال لي محرم: "تعال واسحبني".

- انزل إلى الأسفل! تستطيع أن تأتي بنفسك!

 

أردته أن يتعلّم. كنت أعتقد أنّه إذا خرج شخص من الماء بسهولة أثناء التدريب فلن يتعلّم الغطس أبدًا. لكنه إن رأى أن ليس باليد حيلة سيسعى سعيه ويجهد فيتعلّم شيئًا. تركت "محرم" وشأنه، وهو يصرخ: "اختنقت... اختنقت...". كنت أعلم أنه لن يختنق أبدًا وهو يرتدي بدلة الغطس.

 

455


444

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

- دعه يصرخ بالقدر الذي يحلو له!

أخذ تيار الماء "محرم" معه...

 

انتهى التدريب عند الظهر، ليخرج العناصر من الماء ويذهبوا جميعًا إلى الخيام. لا طعام بسبب السيل، ولا حتى كسرة خبز واحدة، لكن، توافر العسل بكميات كبيرة، فراح الشباب يأكلونه بأيديهم عوضًا عن طعام الغداء. حتى الساعة، لم يظهر "محرم" بعد، ولم نذهب نحن في أثره، لأنّنا في وضعية تدريب ويتوجّب عليه أن يخرج بنفسه من الماء بأيّ شكل من الأشكال. حلّ العصر ولم نعلم عنه شيئًا. بدأت أقلق.

- يا إلهي! إذًا أين بقي محرم هذا؟

 

لقد جرّ التيار محرم المسكين إلى منطقة تدريب الغطس التابعة لفرقة "كربلاء25" وهو يصيح ويصرخ. وقد مرّ بمناطق التدريب الخاصّة بعدد من الفرق إلى أن التقطه قارب إحدى الفرق من الماء وعرفوا أنّه من عناصر فرقة عاشوراء. قلقتُ عليه تلك الليلة. أحضروه عند العاشرة ليلًا. ذهبت لأطمئن إليه. عندما رآني غضب وراح يلومني. قال: "قل لي، هل أبي غطاس؟ أمي غطاس؟ جئتم بي إلى هنا لكي أصبح غطّاسًا؟!", ونحن نضحك ونحاول أن نهدّئه. ذكرت اسم أخيه الشهيد مجيد لعلّه يقلع عن الكلام السيّئ والفارغ كرامةً لأخيه، لكنّه لم يراعِ حرمة أخيه أيضًا. قال: "اطلبوا منّي أن أُفرغ حمولة شاحنة كبيرة، أفرغها خلال عشر دقائق! لكن، ماذا أفعل تحت الماء؟ أعطوني رشّاشًا على اليابسة لأواجه به وحدي سرية من العراقيين، لكن ماذا أستطيع أن أفعل تحت الماء. وهل أنا فعلًا غطّاس غطّاس؟". حاولت تهدئته، قلت له: "سيّد محرم! بكلّ الأحوال عندما جئنا إلى هنا اتفقنا أن كلّ من يأتي عليه أن يتدرّب على الغطس!", لكنّه أصرّ على موقفه: "حتى لو متّم جميعًا لن أتدرّب على الغطس!". للإنصاف، فقد تميّز محرم بخصال خاصّة.

 

 

456

 


445

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

فمثلًا لا يمكن أن يبقى صحن متّسخًا حيث يكون هو، لأنّه يغسل جميع الأواني. كنّا نحبّه ونسعى لنسكّن قلبه ونهدّئ روعه. بقينا لجزء من الليل نتحدّث ونتحدّث حتى اقتنع قليلًا وهدأ.

 

بقيتُ تلك الأيام في كتيبة حبيب في السرية الثانية. تولّى الإخوة: أصغر علي بور، محمد سوادكر، وعبد العلي مطلق مسؤولية قيادة السرايا في الكتيبة، وأنا وفرج قليزاده و"علي رضا سارخاني" مسؤولية قيادة الفصائل في سريّتنا.

 

بعد أيام عدة، وزّعوا عناصر فصيل "علي رضا" ليبقى في السرية فصيلان: فصيل الأخ فرج، وفصيلي أنا. ذهب حسن حسين زاده وعدد من العناصر إلى فصيل فرج، وجاء علي رضا نفسه يرافقه حبيب رحيمي وباقي العناصر إلى فصيلنا. أصبح مسؤولو المجموعات في فصيلنا: حسين نصيري، حبيب رحيمي، ورحيم باغبان. كان حبيب معاوني الثاني. ارتفع عديد عناصر فصيلنا من 35 إلى 45 عنصرًا. من بين الشباب الذين أذكرهم جيدًا من فصيل الغطس ذاك: "حميد غمسوار، سعيد بيمان فر، محمد صدقي، رضا جودت، غلامرضا جشني بور، مازيار نوري[1]، رشيد رنجبر، برويز جودت، ايوب نصير اوغلي[2] واسماعيل اندروا".

 

تميّز سعيد بيمان فر من بين الإخوة بصوته الجميل. عادة عندما يخرج العناصر من الخيام ويقفون في طابور للنزول إلى الماء، أضع سعيد في أوّل الصفّ وأقول له: "أنشد!", فينشد بصوته العذب تلك القصيدة


 


[1] استشهد وغلام رضا في عملية كربلاء5.

[2] أصيب في الليلة الأولى من عملية كربلاء5 بجراح وأصبح مشلولًا. تابع دراسته مباشرة وأصبح طبيبًا، وهو زميلي في العمل منذ سنوات في جامعة تبريز للعلوم الطبية.

 

457


446

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

المعروفة للشاعر شهريار في مدح الإمام علي عليه السلام والتي كانت تُبث في تلك الأيام من الإذاعة على شكل نشيد:

علي يا طائر[1] الرحمة، أيّ آية إلهية أنت!

ألقيت ظلًّا على العالمين، كظلّ الطائر الكبير!

أيها القلب إن أردت أن تعرف الله فانظر دائمًا إلى وجه عليّ!

بالله أقسم، لقد عرفت الله بعليّ!

 

هو ينشد، والشباب يردّدون معه بعض أبيات القصيدة. أحيانًا، كنّا عندما نصل إلى حفّة الماء، نتسابق مع فصيل فرج قلي زاده. هو يقود فصيله وأنا أقود فصيلي، ويسعى كلّ منّا للتقدّم على الآخر. وقد تركت هذه المنافسة والمسابقة تأثيرها الجيّد على معنويات الشباب. شارك الجميع بالتدريب بشوق وغيرة. كانت ظروف الغطس في ذلك الجوّ العاصف لا تصدّق.

 

في بعض نقاط نهر كارون توجد دوّامات*[2]، سعينا أن لا يقع الشباب فيها، لأنّ الخروج منها كان واقعًا عملًا صعبًا. فالدّوامة تشدّ من يقع فيها إلى الأسفل بقوّة كبيرة، ومن الممكن أن يقع فيها جميع الشباب الذين يمسكون بالحبل ويتحرّك بعضهم وراء بعض. ووصلت قوّة بعض الدوّامات لدرجة أن يعجز حتى القارب عن الإفلات منها إن علق بها. بعيدًا عنّا قليلًا، تموضعت قوات الوحدة البحرية، وكتيبة الإمام الحسين عليه السلام، وكان في تلك الجهة دوّامة أخافتنا جميعًا.

 

عرفنا تدريجيًّا من أين تؤكل الكتف. عندما يقف الشباب في الصف للنزول إلى الماء صرنا نضع ثلاثة من الشباب الماهرين وأصحاب القدرة البدنية الجيدة في أوّل الصف وآخره ووسطه. أحد هؤلاء الذين نضعهم


 


[1] هماى: طائر العنقاء الخرافي، من قصيدة للشاعر الايراني شهريار.

[2] * يقال عنها: زوبعة البحر أيضًا.

 

458


447

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

إلى الماء من نقطة أخرى. في هذه المراحل كان الخروج من الماء أكثر الأعمال صعوبة. فهو يستوجب أرجلًا قوية قادرة على تحريك "البالمات" (الزعانف) بشدّة لنصل إلى سطح الماء. تدريجيًّا أيضًا أتقنّا هذا العمل، لا يجب أن نخرج جميعًا من نقطة واحدة، بل على العناصر الاقتراب من الشاطئ على شكل طابور. وفي تلك الحال، كان عدم الدقة والتنسيق -مهما صغر- كفيل بالسماح لضغط الماء بأن يفرّق الجمع. كان العناصر الأقوياء الذين نضعهم في أول الصف وآخره ووسطه يبذلون جهودًا مضاعفة عند الوصول إلى الشاطئ، يضربون بالزعانف بقوة لكي يتمكّن الممسكون بالحبل من الوصول إلى الشاطئ. غالبًا ما كنت موجودًا أنا أيضًا مع الشباب في الماء، وأحيانًا أصعد القارب وأواكبهم لأنظّم أمورهم.

 

في أيام الخريف تلك، في منطقة آجاقلو، تحمّل الشباب ظروفًا قاسية لا تُصدّق وبكلّ صفاء وإخلاص. عندما نذهب إلى الشاطئ مشيًا نحو الجهة العليا من النهر كي ندخل الماء من هناك، يكون أغلب الشباب حفاة. لقد أعطوا الفصائل جوارب للغطس[1]، ولكنّ عددها لم يكن كافيًا. فمثلًا

 

 


[1] يطلقون على جوارب الغطس هذه أيضًا اسم حذاء الغطس.

 

459


448

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

أعطوا الفصيل الذي يضم 35 عنصرًا عشرة أزواج منها يتناوب الشباب على انتعالها. إضافة لذلك، لم تناسب هذه الجوارب بعض الشباب، فلها كالأحذية العادية أحجام وأرقام. لذا كانت ألبسة وأحذية الغطس تؤذي أغلب العناصر خاصّة من هم في مقتبل العمر. وشاهدت كيف يربط بعضهم أحذيتهم بالخيط حتى لا تفلت من أقدامهم. في هذه الظروف، كنّا عندما نضطر لقطع هذا المسير ركضًا وبأقدام عارية في كثير من الحالات، تنغرز في أقدامنا الأشواك والتبن وسيقان الأعشاب اليابسة. ليبدأ الشباب أثناء الاستراحة بنزع الأشواك من أقدامهم بالإبرة.

 

من جهة أخرى، كأنّ الطبيعة أرادت أن تمتحن صبرنا وثباتنا، فطوفان مياه كارون الذي أدى إلى توقّف التدريب في الأيام الأولى في منطقة آجاقلو ثم هدأ بعد ذلك، بدأ ثانية بعد يومين أو ثلاثة أيام. ارتفع مستوى المياه في النهر وبدأ بالتقدّم في المنطقة المحاذية. غمرت المياه مكان تموضع عناصر الوحدة البحرية وعناصر المعلومات، وحوصرت خيام الكتيبة بالمياه. علمنا أنّ المياه تتقدّم نحو الخيام. جهدنا لمحاصرة أطراف الخيام الأربعة بالتراب كي لا يطالها الماء. التقط كلّ واحد منّا مصباحًا وركض نحو الخيام مصطحبًا معه رفشًا ومعولًا وكلّ ما يمكن استخدامه. أثناء الطوفان السابق نقلنا التراب باستخدام الصحون والأواني فقط. هذه المرّة أيضًا كان عدد "الرفوش" قليلًا فلجأ الشباب إلى أكياس الخيش والنايلون يملأونها بالتراب ويشكّلون سدًّا بوجه الماء. في تلك الليلة عمل الجميع حتى الصباح على حفر قناة تُرجِع الماء الذي دخل إلى مكان تموضعنا - بعد أن عبر من فوق ساتر قليل الارتفاع- إلى نهر كارون. حالت السواتر في منطقتنا دون تقدم المياه في أجزاء كثيرة. في تلك الليلة عمل الشباب حتى الصباح تحت ضوء الفانوس والمصباح اليدوي .أحد الذين بذلوا جهدًا مضاعفًا تلك الليلة كان محمد سوداكر. فمع أنّه قائد السرية، إلا أنّه واكب الشباب وساعدهم في أصغر الأعمال.

 

460

 


449

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

استمرّ التدريب على الغطس في ظروف صعبة: الأحوال الجوية والصقيع القارس وصعوبة التدريبات من جهة، وعدم وصول الإمكانات الغذائية من جهة أخرى، ما جعل من هذه الدورة واحدة من أصعب الدورات التدريبية. أثناء التدريب على الغطس وقعت أحداث لا يمكن تصورها في ظروف أخرى. عادة كنا بعد ارتداء بدلات الغطس والبقاء ساعات داخل المياه الباردة نفقد القدرة على التحكّم بالتبّول، فتكرّرت حالات التبوّل اللاإرادي بيننا. كانت بدلات الغطس تحول دون نفوذ الماء منها وإليها، لكن، اختلف الوضع بالنسبة إلى بعض البدلات القديمة، فكان الماء ينفذ إلى الداخل، ليتلطّخ رأس ووجه الشباب بالطين أثناء الغوص وعند خروجهم إلى الشاطئ. لذا كانوا عندما يخرجون من الماء يذهبون إلى الجسور الممتدة بمحاذاة الشاطئ، يخلعون بدلات غطسهم ثم يدخلون إلى الماء مرّة أخرى كي ينظفوا أجسادهم ويطهّروها. ولا أستطيع إيجاد كلمات تعبّر عن مدى صعوبة النزول إلى ذلك الماء البارد.

 

خلال الأيام الثلاثين التي قضيناها في التدريب توجّب علينا الاستحمام في ذلك الماء البارد بسبب عدم توافر حمّامات في المنطقة. كان الماء باردًا لدرجة أن تصيبنا رجفة قوية عندما نمسّه، وفي كثير من الأوقات تسمع صرير أسنان الشباب من شدة البرد في ذلك المكان. في تلك الظروف كان عناصر الدعم يصبّون البنزين على الدواليب المستعملة والأغصان اليابسة وكلّ شيء يمكن أن يستغرق وقتًا ليحترق، ويضرمون النار بها حتى ينعم الشباب بالدفء قليلًا. كانوا ينزعون بذور التمر ويضعون الجوز مكانها ليتناولها الغواصون عند خروجهم من الماء، ولكنّ هؤلاء لم يقووا أحيانًا على فتح أفواههم. رأيت عناصر الدعم لمرات عدّة يفتحون أفواه الشباب ويضعون التمر فيها! في ذلك الوضع كانت حالي أنا نور على نور أيضًا! فبالإضافة إلى كلّ المشاكل

 

461


450

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

التي عانينا منها، ابتليتُ بمشاكل خاصّة بسبب جراحي القديمة. خلال دورة الغطس انكمشت عضلة فمي مرتين من شدّة البرد، وفي كلّ مرّة احتجت إلى أسبوعين لتتحسّن حالي! عندما تنكمش عضلة فمي، تلتصق أسناني بعضها ببعض، ولم يكن ليفتح بأيّ وسيلة، لا بالتدليك ولا بالقوّة والضغط. ولا أجد بدًّا من الرضوخ لذلك الوضع والصبر لمدّة 15 يومًا. في ذلك الوقت، كنت أشعر بألم عجيب في فكّي، وأتكلّم من خلال تحريك شفتيّ، وطعامي الوحيد آنذاك هو الحليب الذي أشربه بعد أن يضيف الشباب العسل إليه. أحيانًا أبلّ البسكويت بالماء وأرشفه رشفًا. كان كلّ شيء يليق بالمشاهدة خلال أيام التدريب تلك حتى معركتي الجديدة مع جراحاتي القديمة! وكأنّ جراحاتي تفتح فاهها في صقيع الليل والنهار لتأخذ نفسًا جديدًا وتنبعث من جديد. بالإضافة إلى انكماش عضلة الفم[1]، كنت كلما أدخل إلى الماء أشعر كأنّ شراييني التصقت بعضها ببعض وأُصاب باليباس... كانت عضلاتي تتقلّص وتؤلمني لدرجة أن أعجز عن التنفس. إضافة إلى هذا، عندما أضطر إلى الغطس تحت الماء أثناء التدريبات، ولأنّ جدار أنفي قد أزيل من مكانه، كانت المياه تنزل من ثقب أنفي إلى داخل فمي! وكان بعض الذين يخشون دخول الماء إلى أنوفهم يستخدمون سدّة الأنف التي يبقونها معلّقة في رقابهم فلم يشكّل ذلك قلقًا لهم. أما أنا فمشكلتي تجاوزت موضوع الخوف، فوضع أنفي جعل دخول الماء بنحو قهري لا مفرّ منه، وبمجرد دخولي إلى الماء، ينصبّ إلى بطني مثيرًا بعض الصخب! لذا حاولت دائمًا استخدام "سدّة الأنف". امتلك رحيم صارمي واحدة أفضل من تلك التي بحوزة الآخرين. لم أعلم من أين حصل عليها. في أحد الأيام وجدت أنّ حالي بدون سدّة

 


[1] لا أعلم لماذا كان فمي ينكمش. مهما كان، فإنّني أحمل تلك الحال كذكرى من أيام التدريب على الغطس قبل عملية كربلاء4، والآن في فصل البرد هذا إن لم أنتبه لنفسي سوف تعاودني تلك الحال مرّة أخرى. كما بقي التهاب عيني ذكرى من تدريبات بدر ولم يتركني إلى يومي هذا.

 

462


451

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

الأنف ستكون سيّئة، فقصدت قائد الكتيبة السيّد فاطمي وقلت له: "سيّد! عليكم أن تعطوني سدّة أنف".

- يوجد من هذه.

- سيّد! لدى رحيم واحدة من النوعية الجيّدة. خذها وأعطني إياها! بقية السدّات لا يمكن الوثوق بها كثيرًا!

 

بعد ذلك ذهبتُ إلى رحيم الذي كان واقفًا هناك: "رحيم! لقد أصدر السيّد أمرًا بأن تعطيني سدّة الأنف هذه!".

- أجل! كل أغراض السيّد نور الدين يجب أن تكون من الدرجة الأولى!

 

صحيح ما قاله. فبدلة الغطس خاصّتي لها سحّابات في أكمامها وأرجلها ويمكن ارتداؤها بسهولة، في حين ليس لثياب الغطس الأخرى سوى سحاب واحد، وعند ارتدائها كان لا بدّ من مساعدة شخص آخر على ذلك. الزعانف أيضًا كان منها الجيد والسيّئ. فالنوع الكندي طريٌّ ويمكن التحرّك بسرعة وسهولة من خلاله، بينما النوع الإيراني أقلّ طراوة، ويلزمه جهدٌ لتحريكه في الماء. كنت أنا ممّن يملكون زعانف جيّدة! شكاني رحيم عند السيّد فاطمي: "إنّ جميع أغراض السيّد نور الدين هذا هي أغراض نموذجية! ثيابه زعانفه و... والآن يريد سدّة الأنف خاصّتي!".

 

كان محقًّا. واجهنا أثناء تدريبات الغطس مشاكل طبيعية كالطقس البارد وضعف أحوالنا الجسدية من جهة، ومشاكل في الإمكانات من جهة أخرى، كالنقص في ثياب الغطس، أو نقص الطعام الذي كان مؤذيًا في الأسبوعين الأوّلين من التدريبات. لكن، اختلف الوضع بشكل كامل بعد ذلك. بات الطعام يصل بكميات كبيرة إلى درجة أنّ الشباب صاروا غالبًا يأكلون اللحم ويبقون الأرز. أمّا فيما يتعلق بالإمكانات،

 

463


452

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

فبالإضافة إلى المشاكل التي واجهناها في بعض البدلات، فإنّ حجمها أيضًا لم يكن في الأغلب مناسبًا للإخوة، وبعضها كان مستعملًا وبقي من العمليات السابقة. أمّا بالنسبة إلى الزعانف أيضًا، فقد اضطر الشباب إلى ربطها بأرجلهم بالخيطان أو الحبال حتى لا تنفلت من أقدامهم أثناء استخدامها. في بعض الأحيان انفلتت الزعانف من أرجل الشباب وغارت في الطين والوحل بالقرب من السدّ. لذا كانوا دائمًا يسحبون أرجلهم سحبًا على الأرض بالقرب من الشاطئ بحثًا عنها، فإذا ما اصطدمت أقدامهم بها استطاعوا إخراجها. تقرّر أنّ كلّ من يجد شيئًا يستخدمه لنفسه. صادف أن وجدنا زعانف كثيرة غرقت في الطين والوحل بسبب وزنها.

 

في أحد الأيام، وبينما أنا جالس في القارب أثناء التدريب أراقب حركة الشباب تحت الماء من خلال مراقبة أنابيب "الشنوغر", رأيت أحد الشباب يعلو فوق الماء ثم ينزل مرّة أخرى. أمعنت النظر وإذ به يعلو مرّة أخرى ويصرخ: "لقد اختنقت!".

- أفلت يدك من الحبل.

 

أفلت يده من الحبل وذهبنا نحوه. ترك قبضة الـB7 التي يحملها في الماء. سحبناه إلى القارب ووجدنا أنّ مصفاة أنبوب "الشنوغر" تعطّلت فدخل الماء مباشرة إلى فمه ورئتيه، وراح يبكي بكاءً شديدًا.

- إذًا، لماذا تبكي الآن؟

- سيّد! لقد تركت الـB7 في الماء!

- ...لا مشكلة! دعنا نر ما يمكن فعله.

- سيّد! أحضر لي قبضة الـ B7 من السيّد فاطمي، وأعدك أنّني

 

464


453

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

سآخذ ثلاثًا بدلًا عنها من العراقيين!

 

كان قاذف الـB7 الذي تركه زميلنا في الماء من النوع الكوري، وهو من أفضل الأنواع. شرحت القصّة للسيّد فاطمي فقال: "لا تقسُ كثيرًا، ولكن، في الوقت عينه لا تكن ليّنًا لدرجة أن تجعل من كلّ واحد يتعرّض للاختناق يترك سلاحه قبل كلّ شيء". بقي ذلك الشاب لفترة طويلة يقول لي في كلّ مرّة يراني فيها: "سيّد، أؤكد لك أنّني على الوعد الذي قطعته...".

 

كانت أسلحة الشباب بحوزتهم طوال فترة التدريب. وكان لزامًا علينا في كلّ يوم بعد انتهاء التدريب وبالرغم من التعب والبرد، أن نضعها في المازوت وننظّفها حتى لا نواجه مشكلة أثناء العملية.

 

بالرغم من مشاكل التدريب كلّها إلا أنّ علاقة الشباب وتعاملهم بعضهم مع بعض كان عجيبًا. لم نكن نصدر الأوامر لهم كمسؤولين وأعلى رتبة منهم، ولم يكونوا هم ينظرون إلينا من هذا المنظار. عادة عندما كنّا نلجأ إلى الخيام هربًا من برودة الطقس في الخارج، نلتفّ حول المدفأة النفطية. كان الشباب حقًّا طاهرين ومخلصين. لم يُخصّص وقت لاجتماع جميع عناصر الكتيبة. أحيانًا استطعنا الذهاب لأداء صلاة الجماعة، لكنّ التوسل بأهل البيت عليهم السلام لم يتوقّف أبدًا بالرغم من ضغوط التدريبات. كان الشباب عادة يتناولون طعام عشائهم في الخيمة، ثم نخفض فتيل المدفأة ونقرأ دعاء التوسّل. كان الحاج رضا داروئيان وهو من القراء المحبوبين في الفرقة، يقرأ العزاء في جمع كتيبة حبيب، ولكنّه أحد عناصر سرية "مطلق", ولم يكن في فصيلنا قارئ عزاء معيّن. طبعًا أطلقت هذه المسألة العنان لألسنتنا. فعادة عندما نكون في مجلس عزاء، يكون الجميع مستمعين، وهو يقرأ من العزاء ما يبدّل الجوّ

 

465

 


454

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

العام في الخيمة. لكن، عندما نخفض فتيل المصباح وتظلم الخيمة، يبدأ الشباب بقراءة دعاء التوسل. كلّ واحد يقرأ فقرة منه ويتحدّث عن أحد الشهداء بحرقة، تارة عن الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وعائلته، وطورًا عن شهيد يعرفه الجميع. فلم يعد هناك من حاجة لقارئ كي يُبكي الجمع ويحزنهم. عندما يؤتى على ذكر اسم شهيد، كانت قلوبنا جميعًا تحترق. أولئك الذين كانوا حتى أشهر خلتْ إلى جانبنا في الخيمة وفي الدشمة، وكان مجرّد التفكير بهم وأيّ نوع من الأصدقاء هم، كفيلاً بأن يزرع الحرقة في قلوبنا ويجعلنا نذرف الدموع لساعات. كان الشباب أنقياء وعلاقات بعضهم ببعض خالصة لدرجة أن يقول أحدهم أحيانًا أثناء مجلس العزاء: "أنا قمت بأعمال خاطئة، أنا أذنبت، ادعوا الله لي يا شباب كي يعفو عني!".

 

كنت أتعجّب. فماذا يمكن لمجاهد لا يتجاوز عمره 17 أو 18 عامًا أو أقلّ، أن يكون اقترف من الذنوب أو ارتكب من الأخطاء؟ إلى أيّ درجة وصل أولئك حتى كانوا يصرّون على أصدقائهم أن يطلبوا لهم العفو في صلواتهم؟ أخطاء لا نعيرها أيّ اهتمام أساسًا في حياتنا في المدينة أو نعتبرها شيئًا لا يذكر، كانت تشغل ذهن الشباب في الجبهة لفترة طويلة. أحيانًا يحصل أن يتحدّث أحد ما عن مشاكله الحياتية بين الجمع. واحد يتحدّث عن مرض أمه ويطلب من الشباب أن يدعوا الله لشفائها و...

 

أرواح المجاهدين الطاهرة كانت تُصقل هناك وتصبح أكثر طهارة ونقاءً. أثناء دعاء التوسل كانت تعلو بعض الأصوات. عادة كان حسين نصيري يقرأ الدعاء باكيًا. وكان حميد غمسوار وحبيب رحيمي[1] ورحيم يقرأون الدعاء بصوتٍ عالٍ أيضًا. في ذلك الجمع الخالص والنقيّ كنت أنظر إلى الشباب وأغبطهم على حالهم أكثر مما كنت أبكي.

 

 


[1] لقد تألّق هؤلاء الثلاثة (حسين وحميد وحبيب) بارتدائهم ثوب الشهادة.

 

466


455

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

كانت صلاة الجماعة تقام في خيمة الفصيل بسهولة.

- لا يوجد رياء هنا. من كانت قراءته في الصلاة صحيحة فليتقدّم لإمامة الصلاة.

 

إذا كان ثمة مجاملة هنا فلأنّ قراءة الجميع كانت صحيحة، وكلّ واحد يرغب بالصلاة خلف صاحبه الذي يعتبره أفضل منه.

 

مع أنّني حتى ذلك الزمان أمضيت أيامًا عديدة في الحرب وبين المجاهدين، لكنّ أيام التدريب على الغطس اختلفت عن كلّ تلك الأيام. فبالإضافة إلى كلّ صعوباتها، كان علينا في كلّ مرّة نخرج فيها من الماء أن نستحمّ في ذلك الصقيع بالماء البارد. بعد ذلك، يصل الدور إلى أعمال أخرى كمدّ البطانيات -التي كانت فرشة نومنا- أو تجفيف الثياب. كان بعض الشباب أمثال حميد غمسوار يضرمون النار خارج الخيمة منذ الصباح الباكر، ويضعون بدلات الغطس -التي بقيت حتى الصبح خارج الخيمة في الصقيع- بالقرب منها حتى تدفأ قليلًا فلا يتأذّى الشباب كثيرًا أثناء ارتدائها. لا يمكن وضع تلك البدلات داخل الخيام لأنّ كلّ شيء سيتبلّل وستزداد مشاكلنا حينها. كان خلع الثياب الدافئة وارتداء بدلات الغطس الرطبة التي تكاد تتجمّد في صقيع الليل كفيلًا بأن يصيبنا بصدمة تكاد توقف قلوبنا عن الخفقان! وكلّنا عشنا تلك الحال! لذلك كان بعض الشباب يضحّون بنومهم واستراحتهم ليشعلوا نارًا ويُخفّفوا قليلًا من قساوة بدلاتنا وبرودتها.

 

تموضعت كتيبة حبيب في نقطة كتيبة ولي العصر التي كان عناصرها من زنجان، وكانت تفصل بين الكتيبتين مسافة 50 م. هم أيضًا كانوا يخضعون لتدريبات الغطس. أحيانًا كان يدعو بعضنا بعضًا لتناول طعام الفطور، وبهذا كانت المودّة والأخوّة تصبح أكثر استحكامًا بين أفراد الكتيبتين.

 

467


456

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

سعيت للبقاء جانب العناصر في كلّ الظروف، فلم يكن مناسبًا بالنسبة إلي- كمسؤول فصيل - عدم مواكبة الإخوة والمشاركة في التمارين. مع أنّني عانيت الكثير بسبب وضع جسدي، لكن لا يجب أن أضعف معنوياتي ومعنويات الإخوة. في ذلك الماء البارد، حتى بعض العناصر السالمين والأقوياء تعرّضوا أحيانًا لشدٍّ عضليّ فلم يقدروا على الحركة إلا بمساعدة آخرين. في هذه الأوضاع كان بعض العناصر الضعاف البنية أو الذين أصيبوا بالشظايا والرصاص أسوأ حالًا، لكن ليس بالإمكان تعطيل العمل، وسريعًا اقترب موعد المناورة.

 

تقرّر أن ينقلونا ليلًا بالسيارات إلى الأمام لنغطس في الماء وننطلق نحو خطّ العدوّ المفترض وفق تعاليم الغطس التي تدرّبنا عليها. وضعوا من الجهة الأخرى عناصر كعدوٍّ افتراضي، عليهم باستخدام الـB7 والدوشكا تحويلَ ساحة المناورة إلى نموذج صغير عن ميدان القتال الواقعي. علمنا أنّ السيّد فاطمي وقائد الفرقة السيّد أمين شريعتي يراقبان عملنا. أرادا أن يعلما أكثر من أيّ شيء آخر إذا كان الغطّاسون يصدرون أصواتًا أثناء حركتهم أم لا.

 

دخلنا إلى الماء في عتمة الليل من المكان الذي حُدّد سابقًا. كانت المياه باردة كالعادة، ورحنا جميعًا نرتجف. كنّا قد قطعنا حوالي 2 كلم من المسير عندما انكمشت عضلة رجلي وأُسقط في يدي! لقد سلَبَ الألمُ السكونَ والأمانَ منّي بحيث لم أستطع أن أتحرّك. اشتدّ البرد والصقيع وأنا واقف في مكاني، فاضطررت أن أبقى هناك وأكمل الشباب طريقهم. أثناء التدريب تواكب القوارب حركة الأفراد من الخلف لكي يسحبوا العناصر العالقة في الماء والعاجزة عن الحركة. انتظرت حتى أتى قارب وسحبني إلى شاطئ أشبه بجزيرة حيث المياه تنقسم عنده إلى مسارين.

 

468

 


457

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

طلبوا مني الانتظار هناك حتى يأتي القارب الذي يليهم فيراني الإخوة ويأخذونني معهم. ذهبوا وبقيت وحيدًا، وأنا في غفلة عن أنّه ليس من المقرّر في تلك الليلة أن تأتي القوارب إلى هذا المكان! كان الجوّ باردًا وترك أثرًا عجيبًا على جسمي المبلول بالماء! أعلم أنّ مسير الغطس في المناورة يبلغ حوالي 5 كلم، وقد قطعت حوالي 2 كلم مع الشباب منذ الحادية عشرة ليلًا. لكنّني الآن وحيدٌ في ذلك المكان ولا شيء يتحرّك بالقرب مني. أعلم أن بدلة الغطس تحميني من الحيوانات، لكنّ خوفي كان من البرد الذي أخذ ينهش بدني كالمنشار ولم تكن قَرْصَتُهُ لتخمد. لم أعد أستطيع أن أتحكّم بالرجفة في جسمي. فكّرت في أن أنطلق لأصل بنفسي إلى مكانٍ ما، ولكنّني احتملت أن يراني أحدٌ في هذا الليل مرتديًا بدلة الغطس فيخاف مني ويصيبني بسوء. كذلك، لم أكن أعرف طريق العودة من اليابسة جيدًا فقد أتينا ليلًا بالسيارة. اضطررت إلى البقاء هناك. كنت أتحرّك صعودًا ونزولًا وأقوم ببعض حركات الليونة لعلّي أحافظ على جسمي دافئًا ولو قليلًا. استبعدتُ أن أهلك في تلك الليلة من شدّة البرد، ولكنّ تحمّل تلك الساعات كان حقًّا أمرًا صعبًا. أخيرًا أيقظني صوت قارب عند بزوغ أول الصباح. يبدو أنّ الشباب أخبروا السيّد فاطمي أنّني بقيتُ في الطريق فأرسلَ قاربًا ليُقلّني. كانت حالي سيّئة لدرجة أنّني لم أستطع التحرّك بمفردي. ساعدني الشباب وأوصلوني إلى الخيمة. بقيت حتى الظهر تحت عدد من البطانيات من دون أن يفارق الجليد جسمي! من جهة أخرى اعتقد الشباب أنّني لذت بالفرار! فراحوا يقولون: "لقد رأينا فرار الجميع! ما عدا مسؤول الفصيل، الذي رأيناه هنا أيضًا!".

 

- يا هذا! أقسم بالله لم أهرب! أصاب قدمي شدٌّ عضلي. بل يا ليتني استطعت أن آتي معكم بقدمي هذه لأمسك بالحبل وتسحبوني ولا أبقى أتجمّد من شدّة البرد حتى الصباح هناك.

 

469


458

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

الفصل الرابع عشر:

الجرح في كربلاء 4

 

في أواخر أيّام التدريب، جاء دور شرح خريطة العمليّة. كنّا نظنّ قبل أن نرى الخريطة أنّها عمليّة كسائر العمليّات الأخرى، كـ"بدر", و"والفجر8", لكن، تبيّن لنا أنّ عمليّة "كربلاء4" مختلفة. وعرفنا من الخريطة أيضًا أنّ 10 إلى 15 فرقةً ستشارك في هذه العمليّة. وقالوا لنا إنّنا سنكون كتيبة الغوّاصين، لكنّهم لم يتكلّموا كثيرًا عن المكان الذي ستعبر منه القوّات. مع كلّ هذا، عندما نظرنا إلى الخريطة ساورنا الخوف، ليس الخوف من العدوّ، فقد كنّا نؤمن بأنّ لنا روحًا واحدة فقط، وفي أيّ وقت أراد الله يسترجعها. لكنّ الخوف كان من فشلنا بإنجاز عملنا نظرًا لموقع المنطقة الصعب، ووجود مضيق تبلغ مساحته 150 م، تمركزت قوّات العدوّ على كلا ضفّتيه. كان علينا الانطلاق من ضفّة نهر "عرايض" في خرّمشهر، والمسير مسافة 7 كلم داخل الماء حتى نصل إلى مصنعٍ للبتروكيميائيّات في البصرة. وفي حال وصولنا إلى الضفّة من دون أيّ اشتباك، كان على كتيبة حبيب أن تحتلّ المصنع، وهو بناءٌ ضخم بدا على الخريطة صغيرًا، ويقع أمام خطّ الدفاع العراقي الثالث، ثم التحرّك نحو "جزيرة الأسماك" التي تقع إلى جهة إيران، والالتحاق بكتائب الفرق الأخرى. ما إن انتهى شرح الخريطة حتّى سألت السيّد: "سنتقدّم قرابة 6 كلم في قلب العدوّ، فإن رأونا، أو أُصيب أحدهم وراح يصرخ ولفت أنظار الأعداء إلينا، فهل هناك إذن بالاشتباك ونحن في وسط الماء؟!".

 

في الجلسة الأولى جاء الجواب بالنفي.

 

470


459

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

- سيّد! بهذه الحال سيرموننا ويصيبوننا!

- أجيبك فيما بعد.

 

كان ينبغي شرح الخريطة أكثر، والاستعانة بالمناظير مهما أمكن، والتقدّم إن أمكن أيضًا، ومعاينة المكان الذي سننطلق منه عن قرب. انشغل بالي منذ الجلسة الأولى تلك. فالأمر هنا يختلف عن أروند و"والفجر8". ففي أروند كانت إحدى ضفّتي النهر في يدنا، والضفّة الأخرى في يد العدوّ، أمّا هنا، فعلينا الغوص مسافة 6 كلم تقريبًا في مياهٍ تستقرّ قوّات العدوّ على جانبيها.

 

في الأيّام الأخيرة تحدّثت إلى صديقي "مهديقلي رضايي" وهو من شباب المعلومات والاستطلاع. أحسست من كلامه بأنّ أمر العمليّات قد انكشف. قال إنّ العراقيّين يغلقون المضيق بالحواجز الحديديّة[1]. ظننت من كلامه ومن أوضاع المنطقة بأنّ هذه العمليّة لن تنفّذ، لكنّني لم أصرّح بظنّي لأحد. حتمًا هو أيضًا لم يقطع أملنا، وقال إنّ احتمال إجراء العمليّة هو 50%.

 

في جلسات التوجيه التالية، سألت أكثر عن كيفيّة الانطلاق والمواجهة. واطّلع كلّ مسؤول*[2] عن توجيه العناصر على أدقّ التفاصيل. وقد طُرحت مسألة الاشتباك أثناء المسير مرّات عدّة، ولم يقبل السيّد فاطمي بتوجّه القوّات وسحبها إلى الضفّة في حال الاشتباك، لكنه قال لي في الجلسة الأخيرة: "في أيّ مكان اشتبكتم، اصعدوا إلى الضفّة. لا إشكال إن لم تكونوا قد وصلتم بعد إلى مصنع البتروكيماويّات، لكن اصعدوا إلى الضفّة، وتابعوا تقدّمكم نحوه من هناك".

 


[1] فصّل مهديقلي رضايي (في كتاب مذكرّاته "لشكر خوبان = فرقة الأخيار" تدوين معصومة سبهري) الکلام عن عمليّات الاستطلاع لمعركة كربلاء4 وعن ذلك المضيق بشكل جميل جدًا.

[2] وغالبًا ما يكون عنصر استطلاع ومعلومات.

 

471


460

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

إنّها الأيّام الأخيرة للتدريب. وقد أصبح الآن أغلب الإخوة ماهرين وخبراء في الغوص. وجريًا على العادة، عندما تتوجّه المجموعة في طابور نحو الماء، ينشد "سعيد بيمان فر" النشيد الذي نحبّه:

مرّة أخرى حماسة العشق والصفاء

قد حلّ الكرب على كلّ أولاد عليّ والبلاء

فرجال الله وصلت أنّاتهم إلى حرم الكبرياء

وارتدّ الرأس مفصولًا عن الجسد بسيف الجفاء

ما دام شوق الحسين في قلوبنا سيكون نهج الخميني رفيق دربنا

 

كان سماع هذا النشيد، وعلى وجه الخصوص بصوت "سعيد" - وهو من الشباب الذين خبروا الجبهة جيّدًا - يضفي جوًّا خاصًّا في النفوس، ويرفع من معنويّات الإخوة. قبل أيّام من العمليّة، أتت إلى المنطقة مجموعة من قِبَل مقرّ الفرقة على ما يبدو للتصوير. فتحدّث إليهم شخصان، ثمّ أشاروا لهم إليّ! تقدّم المراسل نحوي، وراح المصوّر يدور حولي ليلتقط صورة لوجهي المهشّم جرّاء الإصابة، فلم أدعه يفعل ذلك. وكأنّ عملنا أصبح فيلمًا! وصل الأمر إلى درجة صرت أفرّ منهم وهم يلحقونني إلى أن تركوني وشأني[1].

 

المرحلة الأخيرة كانت تدريب القوّات على الصعود إلى الضفّة. أخذنا الإخوة إلى تلك الناحية من الضفّة الافتراضية المقرّر خروجنا من الماء عبرها، وقلنا لهم إنّه يجب أن يرفعوا أسلحتهم إلى الأعلى حتى


 


[1] طوال وجودي في فرقة عاشوراء، وفي زمن الحرب، تمّ تصويري في فيلم لمرّة واحدة فقط من دون علمي، وكان ذلك في عمليّة بدر. وسمعت من الإخوة فيما بعد أنّ ذلك كان حين انسحابي بعد هجوم العدوّ. وقد شاهدت تلك المشاهد بعد ذلك في الفيلم الوثائقي "مرآة العبرة".

 

472


461

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

لا تتلوّث بالوحل والطين، ويصعدوا إليها زحفًا عبر تحريك أرجلهم. كما أشاروا لنا على الخريطة إلى النقاط في الضفّة العراقيّة التي ينبغي علينا التسلُّل منها زحفًا إلى أن نصل إلى السدّ ونصعد، ونبّهونا بأنّ العدوّ سيرمينا إن لم نزحف.

 

كان عملًا صعبًا. وصرنا عندما يصل الإخوة إلى الضفّة نشاهد مناظر عجيبة، جميعهم ممّرغون بالوحل من رأسهم إلى أخمص قدميهم، أمّا هيئاتهم فتبدو مضحكة، وكانوا هم أنفسهم يسخرون من ذلك. وإذا رأوا أن لا أثر للوحل والطين على وجه أحدهم، يحملون عليه ويمرّغونه. اختلفت أوضاع التدريب وكثر المزاح. فعندما كان الغوّاصون يخرجون من الماء بصعوبة، ويتوجّهون لاستبدال ملابسهم والاغتسال، كان كلّ من يصل أوّلًا ينثر الطين على من خلفه. ويستمرّ هذا العمل إلى أن يستسلم الجميع ويرضخوا.

 

لم تعانِ سريّتنا نقصًا بالمخلّلات أو الحاجيّات التي جلبناها من المدينة، وكانت لا تزال موجودة، لكن، في الأيّام الأخيرة وُزّعت سريّتنا على سريّتين أخريين. كان قائدنا الأخ أصغر علي بور، ولم يستطع بجسده الضعيف الجريح إتمام دورة الغوص بنحو جيّد على رغم جهوده الحثيثة. ومن بين 350 عنصرًا يشكّلون عناصر كتيبة حبيب ويخضعون للدورة، كان هناك قرابة الـ 30 شخصًا يعانون من أوضاع مشابهة ولم يوفّقوا. ويبدو أنّه اتّخذ القرار على مستوى قيادة الفرقة بتشكيل سريّة برمائيّة، وتمّ تعيين "أصغر" قائدًا لها. ضُمّ أفراد فصيلنا إلى سريّة مطلق، وفصيل فرج قلي زاده إلى سريّة سوداكر. كلّ هذه التغييرات حدثت قبل إنهاء الدورة بيومين أو ثلاثة، ممّا تسبّب بقليل من الإرباك. وهكذا، صارت كتيبة حبيب عبارة عن سريّتي غوص، يتولّى قيادة الأولى عبد العلي مطلق، والسريّة الثانية محمّد سوداكر. كما تقرّر لسريّة أصغر علي بور، كسريّة ثالثة في الكتيبة، أن تسير بالقوارب بعد وصول الغوّاصين إلى خطّ الدفاع الأوّل للعدوّ، وتشكّلت هذه السريّة ممّن بقي من العناصر في سرايا

 

473


462

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

الغوّاصين، إضافة إلى العناصر الموفدة حديثًا. من فصيلنا التحق "محرم" وشخصان آخران بهذه السريّة. كان في فصيلنا عنصران متوسّطا السنّ، يبدوان كمسنّين بين شباب المجموعة الذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 و18 عامًا. وقد أكّدتُ على هذين العنصرين بأن يلتحقا بالسريّة البرمائيّة، حيث إنّهما أخفقا في التدريب على الغوص، لكنّهما لم يقبلا. في تلك الأيّام التي كان يتمّ فيها تنظيم العناصر وتوزيعها، رأيتهما يبكيان بشدّة. سألتهما: "لِمَ تبكيان؟!".

- سيّد! لِمَ تريد إرسالنا إلى تلك السريّة؟!

- لأنّكما لم تتعلّما كيفيّة الغوص جيّدًا!

- سيّد! سنكون في هذه الأيّام القلائل المتبقّية حتّى نهاية الدورة تحت تصرّفك طوال الأربع والعشرين ساعة. فليدّربونا في أيّ وقت وقدر ما تشاء من الساعات. نعدك أن نتعلّم الغوص في هذه المهلة المتبقيّة.

 

لم يكن طلبهما منطقيًّا، قلت: "لا يمكن، مستحيل!", لكنّهما أصرّا على إمكانية ذلك مع إرادتي. لم أرغب في أن أفقدهما الأمل، ولم يكن هناك وقت كافٍ لمتابعة التدريب، لكنّني تراجعت أمام إصرارهما. قلت في نفسي: "لنعمل على هذين ليوم واحد ولنرَ ما سيحصل؟!", وهذا ما جرى. كانت مشكلتهما في الغوص، وإلّا فهما يعرفان السباحة.

 

يومذاك كانت دورة تدريب جميع العناصر قد أُنهيت. في الحقيقة، أُعطي الإخوة ثلاثة أيّام للاستراحة بعد التدريب المكثّف، وكان عملهم الأساسي حينها التمرّن على الحفاظ على التوازن في الماء، وعدم الغرق مع حملهم الأسلحة والعتاد وهو أثقل مما يمكن لبدلة الغوص تحمّله، لذا توجّب عليهم الحفاظ على توازنهم بطريقة أو بأخرى. كان يمكن للأحزمة البلاستيكيّة أن تحلّ هذه المشكلة إلى حدٍّ ما، لكنّ الفرقة لم تجد مثل هذه الأحزمة في الأهواز رغم التفتيش المكثّف. لذا اضطُرّ

 

474


463

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

الإخوة إلى تقطيع سترات النجاة، ووضع الإسفنج الموجود داخلها تحت بدلة الغوص حول البطن، ما يساعدهم في أن يطفوا على سطح الماء فيحافظوا على توازنهم ولا يغرقوا عند حملهم السلاح والعتاد. كانت هذه المراحل تحتاج إلى التمرين، وقام بها معظم الإخوة.

 

أمّا نحن فأعدنا تدريب ذينك الرجلين. فتوجّب علينا أن نعيد لهما في ظرف ساعات برنامج تدريبات مكثّفة استغرقت سابقًا 4 أو 5 أيّام. لم أسمع كلمة "لا", من أيّ شخص أشرت له بالذهاب مع هذين العنصرين وتدريبهما، وذلك على الرغم من حاجة الجميع للاستراحة في هذين اليومين. في النهاية تقرّر أن يتناوب على تدريبهما كلٌّ من سعيد بيمان فر ورحيم باغبان.

 

في تلك الليلة، تمّ في خيمة القيادة إعطاء آخر التعليمات لطاقم الكتيبة. في هذه الأثناء كنت أفكّر في أولئك الثلاثة الذين يتدرّبون في خلوة الماء وصقيع أواخر أيّام الخريف. حقًّا كان عمل الإخوة إيثارًا مضاعفًا.

 

جريًا على العادة، كان الحديث عن كيفيّة تقدّم القوّات. فراحوا يذكّروننا دومًا: "لا تجعلوا قوّاتكم الأساسيّة في مكان واحد، وانشروا القوّات الأساسيّة والجديدة في المقدّمة والوسط والخلف". وأكّدوا على العناصر ألّا يصدر منهم أيّ صوت حتّى لو أرادوا العطس، وألّا يخرجوا من الماء لأيّ سبب كان و... كُرّر هذا الكلام على مسامعنا مرّات عدّة، بحيث أصبحنا جميعًا نؤمن بأنّ سعال أحدهم أو إحداث أيّ صوت يعني مجزرة تُزهق فيها أرواح العشرات!

 

تقرّر أن نذهب ونعاين المنطقة بالمناظير. على أيّ حال، المشاهدة أفضل من عدمها، مع أنّ طريقة الهجوم لم تكن لتوافق العقل! وعلى الرغم من كلّ هذا القلق، كنت متفائلًا ومؤمّلًا، وأبثّ هذا الأمل في نفوس

 

475


464

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

العناصر. ومع أنّني علمت بانكشاف منطقة العمليّة، كما إنّ تقدّم أكثر من عشر كتائب من الغوّاصة محالٌ بنظري، إلّا أنّني كنت واثقًا، أنّها ستكون تحفة عمليّة بدر. في بدر كنت متأكّدًا من اللطف والمدد الإلهي، وكنت أُحدّث نفسي هذه المرّة أيضًا، بأنّ الله تعالى سيبطل كيد الأعداء.

 

انتهت الجلسة تلك الليلة قرابة الواحدة، فعدت إلى الخيمة. رأيت بعض الإخوة نائمين، لكنّ بعضهم كـ"حبيب" و"حسين" لم يستطع النوم جرّاء التفكير بالأشخاص الثلاثة الذين يتدرّبون في الخارج. واتفق سعيد ورحيم باغبان على أن يرجع الأول عند منتصف الليل، ليتابع الثاني أعمال التدريب. رأيت "سعيد" قادمًا، فيما رحيم يستعدّ للذهاب. نظرت إليهما، رأيتهما يرتجفان من البرد. ذهبت باتّجاه الماء، فرأيت المتدربَين يرتجفان من شدّة البرد أيضًا ويلوذان بالصمت. لم أتكلّم معهما أيضًا، بل توجّهت إلى سعيد بالسؤال: "كيف هو وضعهما؟".

- إنّهما يقدّمان أداءً أفضل منّي!

 

لم أصدّق. ارتديت بدلة الغوص، وكذا سعيد لم يرجع إلى الخيمة، وتوجّهت هذه المرّة ورحيم نحو الماء. كاد قلبي ينقلع من مكانه من شدّة البرد. لم أنزل إلى الماء بعد وإذ بالرجفة تأخذني، لكن لم يكن مقبولًا أن أبقى في موقع المتفرّج من البعيد! نزلنا جميعًا إلى الماء. قلت فليعبرا النهر عرضًا. وهو أمر بالغ الصعوبة، ذلك أنّ سرعة نهركارون وضغطه يحرفان الغوّاص عن مسيره، وقد يجرفانه لمسافة 25 م. لذا فأثناء العبور عرضًا يتّضح تأثير قوّة التجديف بالزعانف وسرعته ليتمكّن العابر من التغلّب على سرعة الماء. كنت أنظر تحت نور القمر الضعيف، وإذ بي أرى رحيم وسعيد قد تأخّرا عنهما. كان الماء يتجاذبهما إلى هذه الناحية وتلك، أمّا ذانك العنصران فمن شدّة الحماسة تعلّما الغوص جيّدًا، وكانا بعد كلّ تلك التمارين، يتقدّمان في منتصف تلك الليلة الباردة بشكل

 

476


465

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

رائع. أحسست بفرحة عامرة لتلك الحماسة والشوق الذي رأيته منهما، إلى أين يمكن للإرادة أن توصل الإنسان؟!...وصلنا إليهما، ورأيت أنّهما يريدان التمرّن أكثر. قلت لهما: "عافاكما الله..", وعدت نحو الخيام. كانت الساعة الثانية والنصف ليلًا، وأذان الصبح يحين في تمام الخامسة والنصف، وأمامي ثلاث ساعات فقط للاستراحة. وعزمت على الذهاب، بعد صلاة الصبح، مع هذين العنصرين للتدريب.

 

كانت أحوال الشباب في ذلك اليوم لافتة. ذهب العنصران للتمرين من جديد. أمّا خارج الماء فانشغل كلّ شخص بأمرٍ ما، أحدهم يحرّر رسالة، وآخر يكتب وصيّة! آخر الوصايا، آخر المطالب، آخر تجارة ومعاملة في هذه الدنيا... أحدهم يهيّئ عتاده، وآخر يسجّل تسجيلًا صوتيًّا، بعضهم جلس إلى جانب بعض آخر وراح يتجاذب أطراف الحديث. في الناحية الأخرى راح شباب سريّة أصغر علي بور يتدرّبون على الحرب في القنوات. فيما راح آخرون يبحثون عن الحنّاء. رأيتها مع رضا داروئيان. لم أعلم من أين أتى بها، ويبدو أنّه فكّر من قبل بالحنّاء ليلة الهجوم، وها هو الآن يوزّعها على الشباب. لقد التفت الإخوة إلى أدقّ التفاصيل، حتّى إنّهم أحضروا خيطان الصوف! سمعت سابقًا أنّه إذا ما شُدّت خيطان الصوف على الإصبع بعد وضع الحنّاء عليه، فإنّه يصطبغ جيّدًا.

 

كان الجميع يعلم بأنّ "الحاج علي أصغر زنجاني" سيأتي الليلة إلى الكتيبة، وهو رادود كفيف، ووالد شهيد. والحقّ أنّ أداءه كان يمزج بين الحنّيّة والحميميّة. ولأنّ جميع المجاهدين يعشقون مرثيّاته، فقد انتظروا قدومه بشوق.

 

ذهبت، كما كان مقرّرًا، مع العنصرين إلى الماء. رأيتهما يعملان

 

477


466

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

بكلّ قواهما. لم تكن درجة حرارة الماء ترتفع طوال النهار سوى قليلًا، لكنّهما كانا ينزلان إلى الماء من دون أن ينبسا ببنت شفة، وذلك حتّى يُتمّا تمرينهما. اعتبرني معظم الإخوة إنسانًا حازمًا وقاسيًا. لم أكن كالأخ فرج قائد إحدى مجموعات الغوّاصة الأخرى. تشدّدت مع الإخوة، وعلى حدّ قول بعضهم كأنّ لي قلبًا من حجر، لكنه في تلك الظروف، كان حقًّا قلبي ينفطر عندما أراهم يرتجفون من البرد أو أسمع اصطكاك أسنانهم، إلّا أنّني لا أُظهر ذلك. في ذلك اليوم، حين أصبح هذان الشخصان ماهرين في الغوص، وعندما خرجنا من الماء، لاحظت أنهما أُعدما الحوْل، فجاء الإخوة وساعدوهما على خلع ملابسهما. كنت دومًا أحدّث نفسي، إن كان من المقرّر أن نفتح الطريق للقوّات اللاحقة، فما الضير في أن نتمرّن بشدّة، فنؤدّي عملنا بالنحو الأفضل ونحقّق أهدافنا.

 

آنذاك، مع توافر الغداء بكثرة وتمام النعمة، لم يرغب أحد بتناول الطعام، راح كلّ واحد يلتقم لقمة ويتنحّى جانبًا. لقد أتونا بطعام جيّد، وبقي في مكانه ولم يُرجع منه شيء إلى الخلف.

 

في تلك الأيّام تشنّج فكّي للمرّة الثانية وتأذّيت كثيرًا. لذا توجّهت فورًا إلى غرفة الطوارئ القريبة من الكتيبة. وكان الطبيب التركي هناك يُراجع لمعالجة جميع أنواع الآلام والأمراض، من ألم الرأس والتهابات الجيوب الأنفيّة - اللذين كان معظم الإخوة يشكو منهما - إلى التهاب الأذن واللّوزتين والكسور و... اقتربت منه وقلت: "لقد تشنّج فكّي".

- حسنًا، افتح فمك لأرى!

 

استطعت فقط أن أفتح شفتيّ، أمّا أسناني فقد التصق بعضها ببعض بقوّة! أعاد الطبيب مكرّرًا: "قلت لك افتح فمك!".

- لو كنت أستطيع فتح فمي لما جئت إليك!

 

478

 


467

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

- أحقًّا تشنّج فكّك إلى هذه الدرجة؟

 

كان الأمر لافتًا بالنسبة إليه، فسأل: "لكن، ماذا كنت تأكل طوال هذه المدّة؟".

- لا شيء! القليل من الخبز المبلّل بالشاي![1]

- لِمَ بقيت إلى الآن هنا. ينبغي نقلك إلى الخطوط الخلفيّة... إلى المستشفى!

 

تحدّثنا معًا، فكان يستمع إلى كلماتي التي أتلفّظ بها من وراء أسناني الملتصقة بعضها ببعض، وفهم بأنّني لن أذهب إلى أيّ مكان. طلب إليّ أن أخلع قميصي ليعاينني. خلعته، وإذا بي أراه وقد استرسل في البكاء وهو ينظر إلى جسدي ووجهي! أحزنه أمري كثيرًا. ارتديت قميصي لأخرج، لم يدعني! جلس إلى جانبي، وصف لي بعض الفيتامينات، وراح يخاطبني من أعماق روحه: "أنت تنزل إلى الماء وقد أصاب جسدك ما أصابه! ألا تفكّر بأنّه سيتقيّح في الغد... وستقع مريضًا!".

- ...كلا، فهذا الماء ليس من تلك المياه! فهو لا يسبّب الأذى لجسد المرء! أنا أنزل إليه من أجل الله وفي سبيله، ولا أظنّ أنّ الله يريد أن يتقيّح جسدي في هذا الماء.

 

استبقاني الطبيب عنده قرابة الساعة، وراح يسألني عن إصاباتي ومتى كانت. لم يصدّق أنّني التحقت بالجبهة منذ آذار العام 1981م، وأصبت بجراح فوق جراح. إلى ذلك الحين، كنت قد خضعت إلى ما يقارب 22 عمليّة جراحيّة. لم يصدّق ذلك، وقال: "أساسًا هذا لا يتماشى مع العقل! أن يخضع المرء إلى كلّ هذه العمليّات ويبقى سالمًا!".

- أمّا سالمًا، فلم أبقَ! ألا ترى...!

 


[1] فيما بعد، ومع تكرّر هذه الحال التي كانت تستمرّ بالحدّ الأدنى قرابة 14 يومًا، وتسبّب ضغطًا شديدًا على أسناني وتؤثر على تناولي الطعام، اضطُررت لأن أقتلع سنّين من أسناني وذلك لأتمّكن على الأقلّ من أكل شيء في تلك الأيّام.

 

479


468

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

على كلّ حال، حاولت أن أمّد الطبيب بالمعنويّات. وبعد أن صرف لي الدواء عدت إلى الخيمة. وبسبب حالي الصحيّة ومكوثي الطويل في غرفة الطوارئ، ظنّ الإخوة بأنّني سأبقى فقالوا: "سيّد! لعلّك تريد البقاء هنا؟!".

- لا! فأنا لست ممّن يتخلّف عن العمليّات. سآتي بإذن الله.

 

كانت تلك المرّة الثانية التي أُصاب فيها بتشنّج في عضلة الفكّ. ففي المرّة الأولى كنت قد وصلت للتوّ إلى الجبهة حين ابتُليت بهذا الأمر، واستمرّ قرابة 14 يومًا إلى أن تحسّنت. وها أنا الآن أعلم بالتجربة بأنّ لديّ عمل في الأيّام القليلة الآتية، وعليّ أن أتكيّف مع الوضع.

 

بعد الظهر، كان لدينا حفل خضاب. لم أشهد يومًا مراسم خضاب لليلة العرس، لكنّه ليلة الهجوم كان لافتًا. راح الإخوة يضعون الحنّاء على أصابعهم ويلفّونها بخيطان الصوف حتّى تعلق وتصطبغ جيّدًا. عصرًا، أصبحت أصابع معظمهم صفراء وحمراء... بعضهم وضع الحنّاء على أصابع قدميه أيضًا.

 

عند الغروب، انقضى وقت انتظارنا، فتوجّه الجميع نحو مصلّى الكتيبة لأداء صلاة الجماعة الأخيرة قبل الهجوم. ويا له من مشهد عجيب، ما إن يدخل الواحد منّا المصلّى حتّى يشرع بالبكاء. كما حضر أيضًا شباب زنجان حين علموا بحضور الحاج أصغر زنجاني فغصّ المصلّى بالحاضرين. أدّينا صلاتي المغرب والعشاء بحال معنويّة عالية، وأستطيع القول بجرأة إنّ من بين 600 شخص يؤدّون الصلاة هناك كان هناك 500 يبكون. أساسًا، كانت العبرة تأخذنا بمجرّد النظر في وجوه الإخوة... فلعلّ هذا الأخ سيستشهد بعد يومين... وهذا سيؤسر... وهذا لن يرجع يومًا وهذا ..

 

480


469

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

لقد خبرت تلك الأوقات القاسية مرارًا. لذا، لم أعد نور الدين القاسي القلب ذاك. ولم أعد أنتظر قارئ العزاء أو أيّ سبب آخر لأبكي. بعد الصلاة سجدنا جميعًا. أُطفئت الأنوار، فخلا كلّ واحد منّا بخالقه على تلك الحال لمدّة. ابتلّت سجّادات الصلاة بالدموع، وشعرنا بخفّة في أرواحنا أكثر من ذي قبل. قرأنا الدعاء جماعيًّا، ليملأ بعدها صوت الحاج علي أصغر الفضاء. سأله أحد رواديد الفرقة: "أتعلم يا حاج علي أصغر ماذا؟!", التفت الحاج أصغر إلى ذلك الصوت: "تفضّل".

- بعض هؤلاء الشباب الموجودين هنا، لن يكونوا بيننا بعد يومين أو ثلاثة!

 

عند سماع هذه الكلمات، أُغشي على الحاج علي أصغر من فرط البكاء. نثر الإخوة الماء على وجهه. اختلّ انتظام المجلس. كان كلّ شخص يعيش حاله الخاصّة، إلى أن عاد صوت رادودنا المحبوب يرنّم أبياتًا من قصيدة "الغوّاصين"[1]، التي صقلت أرواحنا بسماعها ليلة الهجوم.

 

احتضن الإخوة بعضهم بعضًا، ووضعوا رؤوسهم على أكتاف بعضهم البعض، وراحوا يطلبون المسامحة ويودّع بعضهم البعض. العدد الأكبر اختلى في الظلمة بنفسه[2]. أينما توجّهت كنت أتذكّر رفاق الجبهة القدامى وأصدقائي الشهداء. تجدّدت أحزاني لفقدان "أمير" واشتعلت في قلبي نار. "أمير" الخائن للعِشْرة، شخّص نتيجة عمله، وبعد ذلك الحلم، أخذ معه أصدقاء آخرين وتركني... لم أستطع البقاء في المصلّى. كنت أظنّ بأنّني أوّل الخارجين، لكنّني حين خرجت رأيت ازدحامًا كبيرًا! فحول المصلّى، وبين الشجيرات، في كلّ ناحية، رأيت الإخوة قد


 


[1] قصيدة "الغوّاصون" القيّمة والهامّة التي أنشدها الحاج "صمد قاسمبور" في رثاء غوّاصي"والفجر8" وهذه ترجمتها: "أيّها الشباب الذين بقيتم في الجبهةـ أيّها الشباب الذين تعبتم ... أحدوكم أنتم الذين تخضّبتم بدمائكم الطاهرة إلى جانب نهر أروند... ناموا قريري العين إذ نمتم خير نومة، وقد أحسنتم التفكير حين فكّرتم بإعارة الله جماجمكم".

[2] علمت فيما بعد أنّ فيلمًا صوّر لتلك المراسم المعنويّة وما زال موجودًا.

 

481


470

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

عقدوا خلوات مثنى وثلاثًا وفرادى. ضجّ بستان النخيل بالبكاء. وصار مجلس العزاء يُبثّ من المصلّى. طالت المراسم. لربّما امتدّت إلى ثلاث أو أربع ساعات، لكنّ الإخوة بقوا على حالهم. لا أظّن أنّ أحدًا نام تلك الليلة، فبعد مجلس العزاء بدأت الفصائل تتزاور فيما بينها، إذ فيما بعد سيصبح اجتماعها مستحيلًا. قدّم أفراد الفصائل الشاي بعضهم لبعض، وحفلات الخضاب لا تزال قائمة. تلك الليلة، أمكن رؤية أشياء أخرى في وجوه بعض الإخوة، فقد تلألأ وجه حميد غمسوار بشكل غير عاديّ، فبدا وكأنّ قمرًا طلع من وجهه. لقد شهدت الكثير من هذه الوجوه في لحظات الرحيل، وأعلم أنّ هذه الحالات والهيئات تظهر عندما يضع المرء كلّ ما يملك بين يدي الله، ويرحل صادقًا. ومع أنّ حميدًا انسجم مع صديقه لمدّة، إلّا أنّه لم يتأثّر به أبدًا. فقد جاءني صديقه حينها قائلًا: "سيّد! لو تعفيني من الذهاب معكم!".

- لا إشكال في ذلك!

 

كنت منتظرًا هذه اللحظة. فأمثاله في الجبهة قلّة، لكن لم تخلُ منهم. ولا بدّ أنّ حميد اقتنع بكلامي الآن، حيث قلت له مرارًا: "أنت ورفيقك هذا أحدكما غير لائق بالآخر... طريقكما مختلف!".

 

دخلت الخيمة. رأيت الجميع يقيمون نافلة الليل. خارت قواي من الجوع. فسرعان ما كنت أجوع بسبب تناولي للأطعمة السائلة. شغّلت السماور، ووضعت فوقه مرطبانًا من العسل لِيَلين قليلًا. فجأة سقط المرطبان داخل السماور! ومهما فعلت لم أستطع إخراجه، والجميع يؤدّون صلاة الليل. رحت أقول بتلك الأسنان الملتصقة بعضها ببعض: "كفى صلاةً يا عمّ! فليأتِ أحدكم ويُخرج لي هذا المرطبان!". أتمّ بعضهم صلاته على جلبتي. جاء إليّ حبيب رحيمي الذي كان دائم البكاء في صلاته وقال لي: "سيّد! أرى أنّ أعمالك لا تنتهي!", ووضع سجّادة صلاته كما العادة

 

482

 


471

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

في جيبه[1]. أخيرًا أخرجوا المرطبان فأكلت القليل من العسل، لأنّني أردت البقاء مستيقظًا إلى جانب الإخوة حتّى الصباح.

 

كانت الساعة تقارب الثالثة بعد منتصف الليل. بعد صلاة الليل، استدعيت جميع شباب الفصيل. ويا له من جمع عجيب! حين كنت أتكلّم مع الإخوة بصعوبة وأعتذر منهم عن كلّ أوجاع الرأس التي تسبّبت لهم بها، والتشدّد الذي مارسته عليهم، والأذى الذي قد يكون صدر منّي بحقّهم و... كانت الأكتاف تهتزّ من فرط البكاء. أطفأ الإخوة المصابيح ليبدأ مجلس آخر... لم يكن في البين أيّ مرثيّة أو مجلس عزاء، وراح كلّ شخص يدلي بدلوه، أحدهم يتحدّث عن صديقه المفقود... وآخر عن الحسرات، الأماني والآمال، وكأنّ الزمان والمكان فقدا مفهومهما، وراحا فقط يستمعان إلى أنّات الغوّاصين النابعة من أعماق قلوبهم. أمّا أنا فلم أعد السيّد نور الدين ذاك الذي كنته في الماضي. فلم يسبق لي أن استدعيت العناصر، تكلّمت معهم، واعتذرت إليهم، أو شكرتهم على كلّ جهودهم، وطلبت المسامحة منهم. عشت حالًا ظننت فيها أنّني راحل لا محالة. تيقّنت أنّني لن أعود. ولهذا لم أرد لأيّ كلام أن يبقى في صدري. عزمت على أن أجدّد وصيّتي، لكنّ الفرصة لم تؤاتني[2]. تعبت من شدّة ما بكيت، وصرت فقط أنظر إلى الإخوة، إلى وجوههم، إلى قاماتهم الممشوقة، إلى أصابعهم المحنّاة، إلى ضحكاتهم وبكاءاتهم، إلى كلامهم ومزاحهم، إلى صلاتهم وقراءتهم للقرآن... كم كانت عجيبة تلك الساعات...

 


[1] لقد تناقلت ألسن شباب كتيبة حبيب قصّة سجّادة صلاة حبيب رحيمي وما حدث لها. وكان حبيب قد جلب هذه السجّادة من مدينة مشهد، وبقيت برفقته دومًا. وعند استشهاده أُصيب في رأسه، فسال الدم منه على صدره وملأ سجّادة الصلاة. وعلى ما يبدو أنّ الأخ "صمد قاسمبور" أنشد له أشعارًا (بالآذرية وترجمتها): حبيبي! لا ترحل، ابقَ! اكتوِ بنار العشق... لقد امتلأت سجدة حبيب وسجّادته بالدماء...

[2] وصيّتي السابقة، كتبها "أمير" لكلينا، والحال أنّ ظروفي الآن في البيت قد اختلفت حتمًا. وبالرغم من هذا لم أجدّدها.

 

483


472

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

وانبثق فجر تلك الليلة الاستثنائيّة التي ما عشت مثلها بعدُ، إلى حين انتهاء الحرب. فلم يجتمع أبدًا مثل الإخوة النموذجيّين لفصيل الغوّاصين ذاك في عمليّة كربلاء4، ولا ظروف التدريب و... كانت مثل ذلك الزمن.

 

في الصباح، كانت أوّل أعمالنا توضيب أغراضنا وتغليفها وتسليمها لـ"تعاون" الكتيبة، العمل الذي كان دائمًا ما يشعرني بالغصّة. لم يكن الإخوة الجدد يتحسّسون من تسليم الأغراض بقدر ما كنا نتحسَّسُ نحن. رحت أنظر من البعيد إلى صفّ الإخوة وأفكّر، أيٌّ من هذه الأغراض لن تعاد إلى صاحبها؟ غالبًا ما كانت هذه الأغراض تُرجع إلى المدينة بعد الشهادة أو الأسر أو الجرح، وتُسلّم إلى العوائل، يفتحونها عند التسليم، ويسجّلونها في قائمة، أما المشترك بين كلّ المغلّفات فهو القرآن، الملابس، وشريط تسجيل لمجالس عزاء. استخدم الإخوة القدامى صندوق الذخائر الفارغ كخزانة، فكانوا يقفلونه ويسلّمونه إلى "تعاون" الكتيبة. وهؤلاء هم ممّن قضوا فترات طويلة في الجبهة، فكانوا كما يتّخذ الشخص في المنزل مكانًا يضع فيه أغراضه، يتّخذون لأنفسهم زاوية في الدشمة لوضع خزائنهم فيها.

 

جمعنا الخيام، ورتّبنا مكان تموضع الكتيبة. أنجز كلّ شخص أعماله الأخيرة ريثما تأتي الآليات التي ستقلّنا. في السابق، استخدموا الشاحنات لنقل الإخوة إلى الخطوط الأماميّة، لكن، على ما يبدو أنّ هذه الطريقة كُشفت، لذا، جاؤوا هذه المرّة بمقطورات. جهّز الإخوة أغراضهم، وراحوا يركبون كلّ سريّة في مقطورة. كنت آخر من ركب. بعد ذلك، جاء دور مدّ الشوادر فوقنا. حقًّا إنّ الجلوس في أماكن كهذه يتطلّب مهارة. كان ارتفاع الشادر عن أرض المقطورة أقلّ من متر، وكان

 

484


473

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

على الإخوة أن ينظّموا أنفسهم في ذلك الفضاء الضيّق. عاد صوت الإخوة ليرتفع مجدّدًا:

- آي، اختنقت! متى نصل.

- ما هذا الذي انغرز في ظهري؟!

- أخي! من بعد إذنك أزح سلاحك جانبًا!

 

واقعًا، لم يكن بالإمكان التنفّس في ذلك المجال المغلق خاصّة لأولئك الذين صعدوا قبل الجميع وكانوا في مقدّمة المقطورة، إذ إنّ مكانهم كان أشدّ ضيقًا. اضطُررنا لإحداث بعض الثقوب في الشادر بواسطة السكاكين وشيش (مدكّ) البندقيّة حتّى يتسرّب إلينا بعض الهواء، وكان ذلك مجديًا. في ظلمة المقطورة كنّا نسمع عبارات مرحة ومضحكة.

- خالي!

- ناولني فنجان شاي على ذوقك!

 

كان الإخوة ينادون الحاج رضا داروئيان بـ"خالي". لأنّه المسؤول عن السماور، فطالبه الجميع بتقديم الشاي. وبدأ الإخوة يمزحون ويمرحون ويشاكسون بعضهم بعضًا.

 

بهذه الحال، عبرنا خرّمشهر ووصلنا إلى الطريق المؤدّية إلى نهر "عرايض". توقّفت المقطورة قرابة الثانية بعد منتصف الليل. أوّل ما فعله كلّ من نزل هو أخذ نفسٍ عميق. والكثيرون سألوا مباشرةً عن المرحاض. بدأ بعض الأشخاص بإنزال الأغراض. دخل شخصان أو ثلاثة تحت الشادر لإحضار الأغراض من عمق المقطورة، إلّا أنّهما لم يستطيعا العودة! حقًّا، لقد آثر الإخوة على أنفسهم وأمضوا زهاء الثلاث ساعات في عتمة الشادر وضيقه وجوّه الخانق.

 

بعد إنزال الحقائب في تلك الظروف، اختلطت الأغراض بعضها ببعض. جاء أحدهم وقال: "إنّ سلاحه قد وقع سهوًا". تعالَ الآن وجد له

 

485


474

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

سلاحه من بين مئات الأسلحة! على كلّ حال، وصل كلٌّ لأغراضه بطريقة أو بأخرى. بعد ذلك أمرت الإخوة بحمل باقي الأغراض إلى المقدّمة إلى أن نجد أصحابها.

 

عندما تقدّمنا قليلًا، رأيت "حسن خوشبو" يسير بكتيبته. كان حسن قائد كتيبة "السجّاد", وتعرّف أحدنا إلى الآخر منذ مدّة طويلة. كان كلّما رآني يطلب منّي الالتحاق بكتيبته. وقد سألني تلك الليلة حين رآني: "سيّد إلى أين أنت ذاهب؟".

- ترى أنّنا متوجّهون نحو خطّ الدفاع الأوّل![1]

- سيّد لم تُجبني!

 

كان يقصد الانضمام إلى كتيبته. قلت: "أنا الآن أفكّر في الإخوة والعملية. إن عدت سالمًا آتي إليكم".

- ما أخبار البيت؟!

- لم أتواصل معهم منذ مدّة!

 

ودّع بعضنا بعضًا كما البقيّة، لكنّ كلام حسن ذكّرني للحظة بالعائلة. لقد مرّ قرابة الشهر ونصف الشهر من دون أن أذهب إلى البيت. وطوال فترة التدريب لم أخبر عنهم شيئًا. هذا التوقّف والسؤال عن الأحوال أخّرني عن الإخوة. وجدتهم حملوا أغراضي ومضوا بها، وذلك كجميع التصرفات التي قاموا بها من أجلي وأخجلوني بها. رحت أركض إلى أن وصلت إليهم عند القناة. لقد بُنيت دشم في بستان النخيل بالقرب من الخطّ الأمامي، وأشير إلى أماكن الفصائل، وخُصّصت ثلاث دشم لكلّ فصيل. تتّسع الدشمة لقرابة 12 شخصًا، ولم يُسمح سوى للحرّاس


 


[1] حينذاك أردنا الذهاب إلى دشمنا في الخطوط الأماميّة، فيما كانت كتيبة "السجّاد" تنزل في القنوات الكبيرة القريبة من بساتين النخيل. وكان القرار أن تباشر عملها بالقوارب بعد اختراق الخطّ من قبل الغوّاصين.

 

486


475

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

بالخروج منها.

 

كان موقع بساتين النخيل تلك في خرّمشهر غريبًا، فهي تبعد عن الماء وخطّ الدفاع الأوّل للعراق مسافة 2 كلم ونصف. استرحنا وصلّينا الصبح بين أشجار النخيل. مع انبلاج الضوء، صار بالإمكان رؤية عناقيد التمر السوداء الكثيرة المتدلّية من فوق أشجار النخيل، والتي لم يقطفها أحدٌ بعد حتى ذلك الحين. كانت جميلة المنظر إلى درجة سوّلت لنا أنفسنا قطفها، لكن قيل لنا إنّ قنبلة كيميائيّة ألقيت على البستان وأُمرنا بعدم لمسها. كما تمّ التأكيد علينا بعدم السماح لأحد بالخروج من الدشم. وهذا ما نقلناه إلى الإخوة الذين - للإنصاف- امتثلوا للأوامر. لكنّنا عند الصباح رأينا عناصر كتيبة الامام الحسين عليه السلام يجولون فصيلًا فصيلًا بين النخيل.

- ما الذي حصل؟! نحن نُحبس في الدشمة وهم يجولون براحة؟

 

لم يعد بالإمكان بعد ذلك إبقاء أحد داخل الدشمة. بقيت أعين الإخوة مسمّرة على سلال التمر، والظاهر أنّ قضيّة القصف بالكيماوي لم تكن جدّيّة. وكما بدا لي، فإنّ حذاء "أمير خردمند" هو الحذاء الأوّل الذي رُمي نحو عناقيد التمر. ما إن وصل الحذاء إلى رأس النخلة حتّى تساقطت حبّات النخيل علينا كزخّات المطر. ما أشهى ذلك التمر! فمع ذلك الفكّ المتشنّج لم أتنازل عن أكلها. أكلت وملأت بطني منها مع ما في ذلك من صعوبة.

 

خطرت لي فكرة، هي أنّه من الأفضل أن أقوم بجولة في المنطقة لأستطلع الوضع. ففي المعابر المائيّة ربطت القوارب المليئة بالذخائر إلى أشجار النخيل، وغُطّيت بالقصب للتمويه. وبالطبع، مع طلوع ضوء النهار، بدأت طائرات العدوّ بالقصف، لكن، قيل لنا إنّها تقصف هذه المنطقة بشكل روتيني.

 

487


476

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

حينذاك أضحكنا علي باشايي كثيرًا. كان يصدر منه كلام عجيب، ويطلق النكات، فتعلو أصوات الإخوة بالضحك. كان كلّ واحد يقول شيئًا. هذا يخبر قصّة، ذاك يسرد حكاية حدثت معه، وآخر يلقي نكتةً على مسامع الجميع... لقد شبعنا من البكاء: "الموت موت، وها نحن الآن نطلق ضحكاتنا إلى حين!".

 

قرابة الظهر، انطلقنا نحو قرية في منطقة العمليّة. وجدنا بيوتها خربة وجدرانها متهدّمة. كما قدم عناصر سائر الفرق إلى المكان نفسه، حيث راحوا يعطون التعليمات لكلّ فصيلٍ على حدة. أعجبني جوّ القرية، وأمكن استشعار روحها تمامًا من خلال أبواب بعض المنازل التي لا تزال على حالها. تذكّرت حينها قريتنا خلجان. تمّ نصب منظار في أحد بيوت القرية الكبيرة، بيت يضمّ غرفًا واسعة امتلأت بالعناصر. لم أكن أعلم إلى أيّ فرقة ينتمون، فقد نُقل إلى هناك أحد المقرّات الأربعة العاملة في العمليّة.

 

شيئًا فشيئًا، بدأت الأجهزة اللاسلكيّة تعمل، ما أوحى بجوّ الاستعداد للعملية. من موقعنا، ألقينا نظرة على المنطقة، وتمّ شرحها لنا بشكل عامّ، أين توجد وإلى أين سنتقدّم. بعد الشرح والتوجيه، ذهبت إلى مجموعة من عناصر معلومات إحدى الفرق الموجودة في المنزل المجاور. أردت أن أعرف ماذا يفعلون. دخلت فإذا بي أراهم جالسين يتناولون ما لذّ وطاب من الطعام. بعد التحيّة والسلام، سألوني بالفارسيّة: "من أيّ فرقة أنت؟".

- عاشوراء.

- من الغوّاصة؟!

- أجل!

 

أظهروا لي احترامًا مضاعفًا. كانوا يعلمون بأنّه جيء بعناصر

 

488

 


477

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

الغوّاصة إلى القرية ليأخذوا التعليمات اللازمة. قدّموا لي الشاي والفاكهة المعلّبة. بقيت عندهم طوال الساعة التي تمّ خلالها توجيه عناصر الكتيبة. سألتهم عن الوضع في المقدّمة، قالوا: "كلّ شيء جيّد!".

 

عندما تركتهم، تبعوني وشايعوني. أخَذَنا إلى هناك "رحيم صارمي", وكان حينها المعاون في كتيبة حبيب. وقد تقرّر أن يكون السيّد فاطمي ليلة الهجوم مع الفرقة.

 

أمضينا وقتنا على هذا النحو إلى العصر. تقرّر أن يتقدّم طاقم الكتيبة إلى الأمام عصرًا لاستطلاع المنطقة. نفّذنا ذلك بهدوء إلى أن وصلنا إلى خلف الساتر. كان من المقرّر أن أتقدّم وحدي أو برفقة شخصين مع عناصر المعلومات. عبرنا من مكانٍ زُرع كلا طرفيه بالألغام. تقدّم بنا مهديقلي رضايي أحد شباب المعلومات إلى الأمام. في أثناء المسير، زلّتْ قدمي وسقطت أرضًا. حينذاك مرّت قذيفة B7 من فوق رأسي! أُطلقت من جهة العراقيّين. توجّهت إلى مهديقلي قائلًا: "لِمَ أطلقوا الB7؟!".

- لقد سمعوا صوتًا!

- وهل نحن قريبون منهم إلى هذه الدرجة بحيث سمعوا صوت سقوطي؟!

 

وصلنا إلى ضفّة النهر وعاينّا المكان الذي سنرد منه في الماء والجهة التي سنتحرّك بها.

- ستنحدرون من هنا إلى الأسفل... ومن هناك ستدخلون الماء...

 

لقد خطّط شباب المعلومات من قبل لموعد تحرّكنا ونزولنا إلى الماء، بناءً على حركة المدّ والجزر. وكانت المسافة بين المكان الذي سندخل منه الماء وبين مضيق "أمّ الرصاص" قرابة 2 كلم، والمسافة بيننا وبين العراقيّين الموجودين مقابلنا قرابة الـ200م. توجّب علينا أن ننزل الماء

 

489


478

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

قبل سائر الكتائب، وبعد اجتياز 500 م في الماء نصل إلى منطقة يوجد العراقيّون على كلا ضفّتيها. كان جريان الماء بنحو يساعدنا، ولكن، في الوقت المحدّد للوصول إلى مصنع البتروكيماويّات وفقًا للخطّة، يتغيّر جريان الماء لتصبح حركتنا أصعب من ذي قبل. كان من المفترض أن تباشر كتيبتان العمل من ذاك المسير، وأيّ تأخير قد يتسبّب بسحب الأخوة إلى الأراضي العراقيّة!

 

كلّما اطّلعنا على تفاصيل العمليّة أكثر تأكّدت لنا صعوبة العمل وخطورته أكثر. طوال تلك الفترة لم أتكلّم مع أحد بشأن انكشاف أمر العمليّة. فهمت أنّ السيّد فاطمي قد علم بذلك سابقًا، في حين جهله الكثيرون. عدنا إلى خطّ دفاعنا. كنّا نتردّد في عدد من القنوات التي حفرت من بستان النخيل وحتى خطّنا. يصل عمق هذه القنوات إلى حوالي المترين، ويقلّ عرضها بالقرب منّا، فلا يتمكّن الأشخاص من العبور فيها براحة، بل عليهم السير جانبيًّا حتى الوصول إلى الساتر الترابي.

 

عند الغروب بدأ العدوّ بقصف خطّ دفاعنا. وبعد هدوء القصف علمنا بأنّ أربعة من الإخوة قد ارتفعوا شهداء، بقذيفة مدفعيّة سقطت على إحدى الدشم. يبدو أنّ هؤلاء من فصيل "فرج قليزاده". ذهبتُ وألقيت نظرةً على الشهداء، وسألت "أمير خردمند" عمّا جرى. كما شاهدت الحاج رضا داروئيان وهو عنصر حرّ في السريّة. كان في عمليّة "والفجر8" مسؤولًا عن سريّة الغوّاصين، وقد أبلى بلاءً حسنًا، لكنّه لم يقبل المسؤوليّة بعد ذلك.

 

صرت واثقًا من انكشاف العمليّات. كنّا مستعدّين للهجوم، والعدوّ مستعدٌّ للدفاع! بقيتْ ساعتان على موعد التحرّك. ظننت أنّه كان لا ينبغي للإخوة النزول إلى الماء بسرعة في هذا الوضع. ارتدينا بدلات الغوص في الدشم، ووضعنا الأحزمة وصففنا قطع "الكاوتشوك" التي استخدمناها

 

490

 


479

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

لحفظ توازننا. حملنا الزعانف بأيدينا وتجهّزنا للانطلاق. كانت حال الإخوة لافتة جدًا.

 

انطلقنا. كان على عناصر الغوّاصة في فرقة عاشوراء النزول إلى الماء قبل سائر القوّات، والالتفاف خلف العدوّ. وصلنا إلى حافّة الماء قرابة التاسعة ليلًا وكان الجوّ مظلمًا. كانت في القناة سريّتان من غوّاصة كتيبة حبيب، وكانت القناة ملأى بالماء الذي بدأ منسوبه يرتفع كلّما اقتربنا من نهر أروند. تعجّبت لرؤية غوّاصي فرقة أخرى يتحرّكون في الماء مقابلنا، وقد دخلوا النهر قبلنا. ما أقلقني أنّهم كانوا يتكلّمون الفارسيّة بصوت مرتفع. أحسست باضطراب في قلبي. ولم نكد ندخل النهر حتّى ارتفع فجأة صوت من الماء، لقد استخدم العدوّ قذائف تبثّ في البدء الغاز على سطح الماء بمساحة تتراوح ما بين الـ50 والـ60 م، ثمّ تشتعل وتحرق! تعرّض الغوّاصون الذين يسيرون في الماء على شكل طابور لوابل من قصف العدو فقطعهم إربًا إربًا في لحظة. وتتالت لحظات صعبة لا يعلم بها إلّا الله! رأينا العدوّ يرمي بكافّة أنواع النيران، الرشقات المباشرة، والرشاشات و... وقد شاهدنا غير مصدّقين وابل النيران ينهمر على الإخوة الغوّاصين داخل الماء. انبعث من الماء صوت عالٍ يثير الرعب في القلوب. كان أنين الغوّاصين المظلومين يتصاعد غريبًا من بين دويّ القذائف وأزيز الرصاص. أحسب أن نهر أروند اصطبغ في تلك الساعات بلون الدماء! كذلك جُرح ثلاثة أو أربعة أشخاص من شبابنا عند دخولهم النهر، لكن لم ينكشف محورنا.

 

لم يكن الإيرانيّون قد بدأوا بإطلاق النار بعد. بات عناصر الكتائب الذين ينزلون الماء من الأعلى ويمرّون من أمام محورنا يُقتلون جميعًا. وكنتُ قد سمعت أنّ غوّاصي 13 فرقة باشروا العمل، لكنّني لم أعرف عدد الكتائب في الماء حينها. يبدو أنّ كتيبتين من الغوّاصة بالحدّ الأدنى كانتا في منطقتنا في تلك الأثناء. بعد دقائق لاحظنا بأنّ كتيبة الغوّاصة

 

491


480

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

الأخرى التابعة لفرقة عاشوراء، أي كتيبة وليّ العصر أنزلت عناصرها في الماء، واستُشهد في تلك الليلة معظم عناصرها وفُقد بعضهم، ولم يخرج سالمًا منهم سوى 40 عنصرًا. يا لها من ليلة عجيبة!. فالشباب الذين أمسكوا بالحبل واتصل بعضهم ببعض في خطّ واحد استُشهدوا أو جُرحوا بنحو مروّع في الماء. أحيانًا تناهى إلى سمعي صراخهم وأنينهم فكان قلبي ينفطر لهم. كما كنت أشاهد أيادي الإخوة وأرجلهم المقطوعة تعوم على سطح الماء. بقينا قرابة الربع ساعة من الوقت تحت وطأة أوضاع غير عاديّة، وبمشهد لا يُصدّق، رأيت أحد مسؤولي السرايا يفرّ من المعركة. راح يجري بسرعة حين علقت رجله فجأةً بشريط، فتعثّر وانقلب! في المقابل استبسل هناك قادة أمثال محمّد سوداكر وفرج قليزاده، فنزلوا إلى الماء غير مكترثين لوابل نيران العدوّ التي تسقط هناك! وراح سوداكر بجسمه الأقوى من أجسام بقية عناصر الكتيبة، ينقل الجرحى بكلّ بأس من قلب النهر إلى الضفّة. إنّ ما قام به يمثّل قمّة الشجاعة والإيثار بالنسبة إلى قائد.

 

باشرت مدفعيّاتنا العمل، وكانت لا تزال ساكتة. وكأنّه ثبت لقادة الصفّ الأوّل بأنّ التساهل أكثر من هذا أشبه بالخيانة. وما إن باشرت مدفعيّاتنا بالعمل حتّى هدأت نيران العراقيّين. لم يبقَ أحد في الماء على امتداد مجال رؤيتنا حيًّا. كما استُشهد ثلاثة أو أربعة عناصر من كتيبتنا أيضًا. لقد جرف النهر معظم الشهداء نحو البحر. أُصدرت الأوامر إلينا بالانسحاب وترك المنطقة بهدوء. ولو أُطلقت من جهتنا طلقة واحدة لانكشف محورنا بتمامه، ولتغيّر اتّجاه النيران. وعلى ما يبدو لم يلتفت العراقيّون إلى تجمّع العناصر في محورنا، وإلّا لفقدنا القدرة على التحرّك والانتقال.

 

تحت وابل النيران الشديدة، وقف السيّد فاطمي فوق خربة وراح يراقب بدقّة ما يحدث. بعد دقائق قرّر القادة إدخال الزوارق السريعة

 

492

 


481

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

ميدان العمل، وذلك لجلب أنظار العراقيّين نحوهم وإجبارهم على الفرار من المنطقة إن أمكن. بدأ تحرّك الزوارق السريعة، وبدأ مع هذا التكتيك انسحاب القوّات الإيرانيّة من المنطقة. وبعد ما يقارب الأربع ساعات من بدء عمليّة "والفجر4"، راح الإخوة ينسحبون من المنطقة.

 

فكّرت في تلك الأوضاع أن أتّصل بالمقرّ عبر جهاز اللاسلكي الذي بحوزتي. وكان جميع القادة قد سُلّموا أجهزة لاسلكيّة مضادّة للماء. لم يبقَ في تلك الناحية أيّ عنصر. جلست في القناة ورحت أدير الجهاز إلى هذه الناحية وتلك لألتقط المقرّ وأنظر ماذا يقولون؟ فجأة رأيت غوّاصًا يركض باتّجاهنا شاهرًا سلاحه نحونا. ما إن بدأ بإطلاق النار نحونا حتّى صحت فيه: "...لا تطلق! ماذا تفعل؟".

 

توقّف وقال بالفارسيّة: "أَوَليس هنا خطّ دفاع العراقيّيّن!".

- لا يا عم! هنا خطّ دفاع فرقة عاشوراء! خطّ العراقيّين إلى تلك الناحية!

 

كان من الغوّاصة المنتشرين في الماء، وفي أثناء تلك النيران سحب نفسه إلى الضفّة. ظنّ أنّنا عراقيّون. كنت واقفًا في القناة عندما وصل إليّ. وكما في الليالي السابقة، ارتفع فيها منسوب المياه. تكلّمت معه قليلًا. المسكين كان يشعر بالدوار ولم يكن بحال جيّدة. أخبرته عن الأوضاع وبأمر انكشاف العمليّة، لكنّني في تلك المعمعة لم أعلم من عناصر أيّ فرقة هو. أراد الانصراف. قال لي: "اُخرج لكي أمرّ". كانت القناة هناك ضيّقة جدًا بحيث لا يمكن سوى لنفر واحد المرور منها، أمّا خارج القناة فكان جحيم النيران، والخروج منها يعني الجرح المحتّم.

- لِمَ أنا؟! اُخرج أنت لأمرّ أنا!

 

لم يقبل هو أيضًا. تجادلنا قليلًا إلى أن قال: "إذًا، تمدّد أنت على الأرض لأعبر من فوقك".

 

493


482

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

- لا إشكال في ذلك!

 

تمدّدت على أرض القناة، وأخرجت يديّ من حافّتي القناة لأستطيع النهوض بسهولة. قام ليعبر من فوقي، وإذ بقذيفة مدفعيّة تسقط تمامًا على حافّة القناة... الشيء الوحيد الذي وعيته كان شدّة الضربة التي أصابت رأسي، وسقط هو الآخر فوقي ولم يعد يتحرّك! استغرق الوضع بضع دقائق حتى استفقت من أثر الصدمة. كان رأسي يؤلمني بنحو ظننت فيه بأنّه تشظّى بتمامه. لم أتمكّن من الحراك لثقل ذاك الغوّاص الذي استُشهد حينها وهوى عليّ ، ومهما فعلت لم أستطع القيام. استمرّ ألمي شديدًا. في تلك الأثناء تناهى إلى سمعي نداء "أمير" خردمند. كان له صوت فريد، أستطيع تمييزه من بين 100 نفر. صحت: "أمير... أمير... أمير...".

 

سمع "أمير" صوتي، وكان يبحث عنّي ويناديني، لكنّه لم يستطع العثور عليّ. استغرق الأمر فترةً حتّى اهتدى إلى مكاني. رفع جسد الشهيد عنّي وساعدني على النهوض. كانت حالي سيّئة.

- أمير! أشعر بدوّار في رأسي... انظر، لنرَ ما الذي أصابه؟

- سيّد! أرني يدك!

 

إلى تلك اللحظة لم أكن قد التفتّ إلى يدي، التي أصيبت بشظيّة وأنا أضعها على حافّة القناة، وأيّ شظيّة هي! كانت أصابعي الأربعة النازفة معلّقة بالجلد فقط ، وتنزف، لكنّني لا أشعر بألم فيها. وفي المقابل شعرت برأسي وكأنّه تقطّع إربًا إربًا. نظر إليّ "أمير" وقال: "ما من خطب في رأسك. لا بدّ أنّ أصابعك هي التي تؤلمك!".

 

لا شك أنّ عصف الانفجار دفعني نحو حائط القناة بقوّة، ولا بدّ أنّ وجع رأسي سببه تلك الضربة.

- والآن ماذا سنفعل؟

 

494

 


483

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

- تعالَ لأنقلك إلى الخلف!

- كلا! لن أنسحب. انقلني إلى إحدى هذه الدشم، لأنظر ماذا سيحدث!

 

ساعدَني على النهوض ونقلني إلى دشمة قريبة من المكان. وصادف أن وضعوا فيها ثلاثة أو أربعة جرحى أيضًا. راح الإخوة يئنّون من شدّة الوجع والوهن. تمدّدت إلى جانبهم، لكنّني قلت لهم: "بالله عليكم لا تصدروا أصواتًا! لكلٍّ منّا أوجاعه... فليتحمّل كلّ واحد منّا ألمه من دون أصوات!...". إلى ذلك الحين لم يكونوا قد ضمّدوا لي يدي، ولم أكترث لها، إلّا أنّ وجع رأسي كاد يقتلني. بعد مدّة جاء "أمير" وقال إنّ الوضع قد تحسّن، وإنّنا سيطرنا على الساحل العراقي.

- إذًا، باقون! اذهب وأحضر لي بطّانيّة لأرى إن كان يمكنني النوم هنا.

 

أحضر "أمير" لي بطّانيّة ورتّب مكان استلقائي. تمدّدتُ وجعلت يدي في حضني بأصابعها تلك حرصًا على أن لا تنقطع! غلبني النعاس. لا أعلم كم مضى من الوقت. كنت مشوّشًا. رأيت في المنام بأنّني جُرحت. وهذه المرّة رأيت يدي وقد أصابتها شظيّة وتؤلمني كثيرًا. استفقت من شدّة الألم. قيل لي بأنّ قذيفة سقطت فوق الدشمة، فأُصيب بعض الجرحى الآخرين بجراح فوق جراحهم ولكنّني لم أُصب بأذى. اشتعلت النيران في دشمتنا، فراح بعض الإخوة يُطفئوها من الخارج بسعف النخيل حتّى خمدت. بقيت مشوّش التفكير وأتألّم. رفعت يدي إلى محاذاة وجهي، أصبحت ثقيلة وقد تجمّد الدم والتراب عليها. وها قد بدأ حريق أصابعي يزيد من معاناتي.

 

قال لي الإخوة إنّه حان وقت صلاة الصبح. قمت منحنيًا، وتيمّمت بيد واحدة. ويا لهما من تيمّم وصلاة! أدّيت صلاتي في الدشمة من جلوس. كان "أمير" وبعض الأشخاص هناك. سألتهم: "والآن ما الذي

 

495


484

الفصل الثالث عشر: غواصو حبيب

سيحدث؟".

- قال السيّد إنّنا سننسحب في الصباح!

- الآن حيث تقرّر الانسحاب، فإنّني أنسحب أيضًا.

 

توجّه إليّ علي رضا سارخاني وهو معاوني في الفصيل: "سيّد! تعالَ لأنقلك إلى الخلف!".

- أذهب وحدي!

 

لم يتركني علي رضا وأصرّ على مرافقتي. ساعدني ورجعنا حتّى وصلنا إلى ذلك القسم الذي تتّسع فيه القناة. قلت: "علي رضا عد أنت، فمن هنا أستطيع الذهاب وحدي".

- ماذا لو ذهبت وسقطت قذيفة أو أيّ شيء آخر؟!

- لا! عد أنت...

أرسلته وأكملت طريقي. في الخلف رأيت عناصر سرايا الهندسة، ومعهم صديقي القديم "حجّت". ما إن رآني على تلك الحال حتّى احتضنني. راح يقبّلني ويبكي: "سيّد! ماذا حصل لك؟!".

- لا شيء... ترى...

 

وهذه المرّة لم يتركني وقال: تعالَ لأنقلك إلى الخلف". قلت: "لا! سريّتك هنا. وهم الآن بحاجة إليك. أذهبُ وحدي".

 

لم أرد له أن يتخلّف عن عمله من أجلي. سألت عن طريق غرفة الطوارئ فأرشدوني إليها.

 

هناك، أفرغوا كيس مصل على جرحي، وغسلوا الدماء والتراب المتجمّد على يدي إلى حدٍّ ما. ثمّ وضعوا لوحًا تحت يدي ولفّوها بضماد: "اذهب واركب السيّارة ليتمّ نقلك إلى الخلف!". جلست في مؤخّرة سيّارة الإسعاف المليئة بالجرحى، وانطلقت. لم تمشِ وقتًا طويلًا حتّى توقّفت

 

496


485

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

وترجّلنا. وصلنا إلى مدرج الطائرات. في الأهواز على ما أظنّ. وجدت الباحة مليئة بالجرحى. واللافت للنظر أنّ أحدًا لم يكن موجودًا باستثناء عناصر من معلومات الحرس والطاقم الطبّي. وبرأيي فإنّ هذا أمر مهم. أساسًا في كلّ العمليّات كان رجوع العناصر المشاركة في العمليّات إلى الخلف ممنوعًا، حيث يُخشى للجرحى أن يدلوا للناس بمعلومات من دون انتباه. عمل عناصر المعلومات هناك بدقّة ولم يسمحوا لأحد بأن يتكلّم مع الجرحى. كما أوصونا بعدم التحدّث إلى أحد. افترش الجرحى إحدى باحات المطار حيث غُطّيت الأرض الإسمنتيّة بالبطانيات على مدّ النظر. وفي ذلك الازدحام كان أصحاب الجراح البليغة يقضون نحبهم. أمضينا تلك الليلة هناك، وفي ظهر اليوم التالي جاءت طائرة "130 ــ C". فنُقلتُ إليها على الحمّالة. كنت لا أزال أرتدي بدلة الغوص. حتّى القفّاز ما زال في يدي اليمنى، وفيما بعد تذكّرت بأنّ الشظيّة قد أطاحت بقفّاز يدي المصابة.

 

وصلت الطائرة إلى طهران، ومن هناك نقلونا إلى المستشفى. وفيما كنت منتظرًا في غرفة طوارئ المستشفى، جاءني رجل ملتحٍ وسألني: "من عناصر أيّ كتيبة أنت؟".

- لِمَ تسال؟

 

راح ينظّف لي وجهي وسألني مجدّدًا: "كم لحق بكم من خسائر؟".

- وما دخلك أنت؟

 

كان يتكلّم الفارسيّة محاولًا أخذ بعض المعلومات. سأل عن الجبهة وألحّ في السؤال. جاء أحد عناصر المعلومات ليخرجه فادّعى بأنّه ابن عمّي. قلت: "لا! عن أيّ ابن عمّ تتكلّم؟! أنا تركي وهو...", فأمسك به عناصر المعلومات وأخذوه. بقيت منتظرًا في المستشفى، وكان الممرّضون جريًا على العادة يأتون إليّ ويذهبون، إلى أن حان دوري لإجراء العمليّة.

 

497

 


486

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

جاؤوا إليّ بالمقصّ: "علينا تجريدك من ملابسك!". علت صرختي: "ماذا تفعلون؟!".

- علينا أن نقصّ بدلتك! كيف ستخلعها ويدك على هذه الحال؟!

- سأخلعها بأيّ طريقة كانت... فليس لديكم أيّ فكرة عن ثمنها!

- دعك منها يا عمّ! ستؤلمك يدك إن لم نقصّها عليك.

 

حدّثت نفسي بأنّ هؤلاء لا يعلمون بأيّ جهد يتمّ الحصول على بدلة الغوص. وبصعوبة بالغة جدًا وبمساعدتهم خلعت بدلة الغوص ونُقلت إلى غرفة العمليّات.

 

عندما استعدتُ وعيي، كانت رجلاي تؤلماني، بالإضافة إلى الحريق الذي أشعر به في يدي. واتّضح لي بأنّهم إلى تلك اللحظة لم يجرّدوني من حذاء الغوص! ناديت أحد شباب المعلومات الذين كانوا في غرفتنا وطلبت منه أن يجرّدني منه. اقترب ومهما حاول لم يفلح. كانت رجلاي قد تورّمتا فالتصق الحذاء بهما بقوّة. وبعد محاولات حثيثة، ذهب المسكين وجاء بشخص آخر ليساعده. وهذه المرّة أيضًا، مهما حاول الاثنان لم يفلحا في تجريدي منه! طلبت منهما أن يحضرا لي وعاءً من الماء البارد لأضع قدميّ فيه، ففعلا. وبعد دقائق عدّة من وضع قدميّ في الماء البارد نجحا في المحاولة. أرادا رمي الحذاء في سلّة المهملات، فلم أدعهما: "اغسلاه واتياني به. أريد الاحتفاظ به"[1].

 

بعد يومين من دخولي المستشفى، اتّصلت بمنزل والد زوجتي وأخبرتهم بأنّني في طهران. في اليوم التالي جاءت العائلة لزيارتي، وكان الجميع قلقًا ممّا حصل لي. قلت لهم بأن لا شيء مهمًّا، وإنّني أُصبتُ بيدي، إلّا أنّ حقيقة الأمر كانت أنّ يدي التهبت وسرى الالتهاب من أصابعي إلى عضدي. وفي ذلك اليوم طلبت منهم السماح لي بالخروج


 


[1] من بين الأشياء التي احتفظت بها كذكرى من أيّام الحرب، هو حذاء الغوص ذاك.

 

498


487

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

من المستشفى. فكّرت أن أذهب إلى تبريز ومتابعة علاجي هناك. فوافقوا على ذلك وعدتُ برفقة العائلة إلى تبريز.

 

وصلت إلى تبريز، لكنّني لم أرغب بدخول المستشفى. فضّلت الاستراحة في البيت. وقد تقرّر أن أذهب من وقت لآخر لأغيّر الضماد. فكان "حميد رستمي"[1] و"حبيب سيفي" يأتيان كلّ يوم ويأخذاني إلى مستوصف الحرس الواقع في "شارع الجيش" لتغيير الضماد. في مستوصف الشهيد بهشتي حينها، عمل ممرّض يُدعى "إسماعيل فرهمند" أسماه الإخوة "الجلّاد إسماعيل", وذلك أنّه لم يكن في قلبه ذرّة شفقة، فإذا ما رأى أثناء تضميد الجرح، أيّ التهاب أو تقيّح ، يفعل ما يلزم من أجل أن يخرج التقيّح منه. وهو حتمًا يفعل ما يفعله بقصد تعافي الجريح، فكان ينقذ كثيرًا من الإخوة من العوارض اللاحقة لبعض الإصابات، إلّا أنّه كان ينتزع قلب المرء عند تضميد جرحه! وهذا ما وقع لي بالضبط في المرّة الأولى لمعاينته لي إذ ضغط بشدّة بكلتا يديه على مكان إصابتي فانتفضت بكلّ جوارحي لكأنّه وصلني بالتيّار الكهربائي! قام بعدها بفتح سطح الجرح برأس المقصّ وأدخل فيه الشاش وراح يفركه من جميع النواحي بحيث أُغمي عليّ من شدّة الوجع. إلى ذلك اليوم، لم أكن قد غبت عن الوعي جرّاء أيّ تضميد لجرح! نثروا الماء على وجهي فاستعدت وعيي تدريجيًا. كنت أرجو إسماعيل: "بالله عليك رويدًا رويدًا!", وهو يجيبني: "وبالله عليك أيضًا، وبالنبيّ وبكلّ ما أقسمت به عليّ، أنا أقوم بما يجب عليّ القيام به، فاصبر قليلًا". ظلّ هذا دأبه مع سائر الجرحى. كنت عندما أقصده وأنتظر ريثما يأتي دوري، أسمع أنين الجرحى وبكاءهم يتعالى أثناء تضميده جراحهم. لم يعتد أن يرسل المريض إلى الطبيب فيما لو رأى شظيّة مستقرة في الجرح، بل يسحبها بالمقصّ بنفسه! كما سحب من يدي قطعة من قفّاز الغوص!

 


[1] هو أخو محمّد رستمي الذي كان مسؤول وحدات الاحتياط في المحافظة.

 

499


488

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

بعد كلّ تلك الأوجاع والجراحات التي أُصبت بها في الحرب، لم أعد أحتمل طريقة إسماعيل بالمعالجة. اشتدّ التهاب يدي، وكاد أن يشلّ قواي. ظلّ الحاج حميد يأتي كلّ يوم بسيّارة ويقلّني إلى المستوصف حتى قرابة الشهر. آلمني جرح "كربلاء4" بشدّة، وكنت أحيانًا أتألّم طوال فترة تضميد جرحي، وأشعر بأنّ عينيّ تشتعلان.

 

ظلّ هذا برنامجي اليومي حتى دقّ نفير عمليّة "كربلاء5"[1]. هام قلبي للذهاب إلى الجبهة، خاصّة أنّني أعرف جيدًا منطقة العمليّة، وكنت مطّلعًا على الخطّة إلى حدٍّ ما. رحت يوميًا أتابع الأخبار التي أفرحتني رغم الدموع والأوجاع التي عانيتها كلّ يوم أثناء تضميد جرحي. ومّما سمعته من وسائل الإعلام، ظننت أنّ عمليّة "كربلاء5"، قد عوّضت خسارة عمليّة "كربلاء4"[2].

 

ما وصلني في تبريز عن العمليّة كان من خلال الأخبار. إلى أن حصلت تدريجيًا على إفادات من الإخوة الذين شاركوا في العمليّة. قالوا عندما عبرت سرايا الغوّاصة الماء، بدأت المواجهات. فارتأى أحدهم الانسحاب، وتقدّم آخر بقوّاته إلى الأمام. وأصدر السيّد فاطمي أيضًا أوامره عبر الجهاز اللاسلكي بالتقدّم. لكنّ بعضهم تردّد أيضًا. أخيرًا، وصل فصيل


 


[1] بدأت عمليّة كربلاء5 بنداء يا زهراء وذلك بتاريخ 9/1/1987م.

[2] في كربلاء4، لم نسلّم إلى العدوّ أيّ منطقة، بل أخذنا بعض المناطق منه، لكن فشلنا في تحقيق أهداف العملية. غاية الأمر أن ما بُثّ في خارج الجبهة كان أمرًا مغايرًا، وعمد المعادون للثورة وأعداء الخارج إلى بثّ الكثير من الدعايات السلبيّة حول كربلاء4. وعندما كنت في المستشفى في طهران، وبعد إجراء العمليّة الجراحيّة لي، طلبت من مندوب مؤسّسة الشهيد هناك أن يحضر لي مذياعًا، تابعت الأخبار من خلاله. فكانت الإذاعات الأجنبيّة بعد كربلاء4 تضخّم الأمور حول هزيمة إيران. على سبيل المثال تتحدّث في الصباح عن خسائر إيران في هذه العمليّة وتقول إنّ إيران قدّمت 50 ألف عنصر. وعند الظهر تزيد هذا العدد ليصبح 60 ألفًا، وفي اليوم التالي جعلته 65 ألفًا... وعلى ما يبدو أنّها زادت العدد إلى 80 ألفًا. هذا الأمر كان في الحقيقة يؤلمنا. لكن برأيي، ما حدث بلطف الله في كربلاء4 علّمنا درسًا كبيرًا، وكانت نتيجته أنّ عمليّة كربلاء5 المظفّرة قد آتت ثمارها.

 

500


489

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

"فرج قليزاده" إلى السدّ، واجتازه ما بين 10 و15 نفرًا واحتلّوا المنطقة. نقل الإخوة أنّ الأخ فرج وعنصر المعلومات في تلك المجموعة الأخ "يوسف حقّايي" استبسلا، فاستُشهد هناك الأخ يوسف حقّايي[1].

 

بعد أيّام عدّة، توافدت قوافل الشهداء تدريجيًّا إلى المدينة، وشيّعت أجساد شهداء كربلاء4 وكربلاء5 معًا. كان عددهم كبيرًا، من عناصر كتيبة حبيب وكتيبة الإمام الحسين عليه السلام الذين سطّروا بطولات كبرى. آنذاك، ودّعت تبريز العشرات من أبنائها، أحيانًا بلغوا 40 وأحيانًا 50 وأحيانًا 60 شهيدًا في اليوم. وكان بينهم قائد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام مصطفى بيش قدم الذي نال أخيرًا المكافأة على جهوده واستُشهد. كان وادي الرحمة يغصّ بالوفود كلّ يوم. وأنا الذي بتّ وحيدًا ولم يكن لي صديق خاصّ وقتها، كنت أحبّ الحضور في ذلك المكان المقدّس أكثر من أيّ مكان آخر. شاركت في تشييع أجساد الإخوة بحسرة، فقد كنت على معرفة ببعضهم، واحترق قلبي بنار فراقهم. أكثر ما بدّل أحوالي من بين الشهداء كان "أصغر علي بور", الذي اختاره الله تعالى للشهادة أخيرًا في "كربلاء5". هو ورفاق منهم: "أحد مقيمي، أكبر باشايي، حسن كربلائي، غلام رضا جشني بور، بدرام شاكري و...".

 

كنت أزور قبر "أمير" في وادي الرحمة دومًا. بقيت إلى أربعين الإخوة في تبريز، وبرنامجي الأساسي معالجة يدي التي لم يخفّف من التهابها شيء. أصبحتْ تميل إلى السواد، فارتأى الأطبّاء قطع أصابعي، لكنّ الأخ إسماعيل الذي عانيت ما عانيت من ألم ووجع تحت يديه قد أنقذني، وسيطر شيئًا فشيئًا على التهاب الجرح.

 


[1] لقد حُرّرت المذكّرات الملحمية لمجموعة الغوّاصين تلك بالتفصيل، في كتاب مذكّرات "فرج قلي زاده" تحت عنوان "همه دوستان من" (كلّهم أصدقائي) وذلك بقلم "غلام رضا قلي زاده". وقد نشرت هذا الكتاب مؤسّسة حفظ ونشر آثار شهداء الدفاع المقدّس في العام 2009م.

 

501


490

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

في أواخر شهر آذار من العام 1987م وبعد ثلاث سنوات على عقد قراننا، نجحت أخيرًا بإقناع عائلتي وعائلة زوجتي ببدء حياتنا المشتركة بالحدّ الأدنى من المصاريف، فسافرنا يومين أو ثلاثة إلى مشهد المقدّسة.

 

لم يكن وضعي الجسدي جيّدًا لكنّني لم أكن مستعدًّا للانسلاخ عن الجبهة. في المدّة التي كنت فيها في البيت، كثيرًا ما قصدت مقرّ "مسجد كزران". حيث يقوم الإخوة هناك ليلًا، بدوريّة في المحلّة، ومن بين هؤلاء "يعقوب نيك بيران، حسين سعادتي، الحاج ميلاني، ويونس بهجت نيا". ونظرًا لوضعي الجسدي لم يسمحوا لي بمرافقتهم كثيرًا. ذات ليلة، أحببت البقاء معهم. كانت الساعة قرابة الحادية عشرة ليلًا، حين أوقفنا سيّارة، وعند التفتيش وجدنا أسلحةً بحوزة الركّاب. قالوا إنّهم من عناصر محكمة الثورة الإسلاميّة، ولكنّهم لا يحملون رخصة بحمل السلاح. صادرنا أسلحتهم، فتطوّر الأمر بيننا وهدّدونا، لكننا لم نتراجع وقلنا: "افعلوا ما بدا لكم، لكن اذهبوا أوّلًا وآتونا بالرخصة". وفعلًا غادروا وأحضروها بعد ساعة فسلّمناهم أسلحتهم. ولكنّنا بسبب التهديد الذي وجّهوه إلينا ظننّا أنّهم سيعملون على أذيّتنا. عدنا تلك الليلة إلى المقرّ، ونمنا هناك. لكن، ما كادت أعيننا تغفو حتّى رنّ جرس الهاتف. قلنا في أنفسنا، إنّهم هم أنفسهم لن يدعونا نرتاح. وقد وجدوا نمرتنا. رنّ جرس الهاتف من دون توقّف، إلى أن رفعنا السمّاعة أخيرًا، وعلمنا بأنّ مواطنًا مسكينًا أراد إبلاغنا بأنّ لصًّا دخل منزله! أخذنا منه العنوان وتوجّهنا فورًا إلى المكان واستطعنا مساعدته. كان الإخوة في المقرّ فعّالين في أمثال هذه القضايا.

 

في اليوم الثاني قصدت (مقرّ) المصلّى. وحين وصلت إلى هناك شعرت بقلق يعتمل في صدري، فلم أستطع البقاء. أوصلني الإخوة بالسيّارة إلى

 

502

 


491

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

البيت. طرقت الباب طويلًا، لم يفتح لي أحد، رغم الأصوات التي كنت أسمعها من خلف الباب. لم يكن بحوزتي مفتاح. أخيرًا، فتحت زوجتي الباب. توجّهت إليها قلقًا: "منذ مدّة وأنا أطرق الباب! لِمَ لم تفتحي؟".

- كنت نائمة!

- لكن ما هذه الجلبة التي تأتي من المنزل؟!

 

بدأت بالتفتيش. فتّشت في سائر أنحاء المنزل ولم أرَ شيئًا. خمّنت أنّه قد يكون صوت الهواء، وقد اشتبه عليّ الأمر وظننت أنّ أحدًا يتكلّم. فتّشت في المرحاض، لكنّني لم ألتفت إلى الحمّام، كان لصّان قد اختبئا هناك لحظة قدومي، وحين خلدت إلى النوم تابعا عملهما!

 

بعد أداء صلاة الفجر، سمعت طرقًا على الباب. كان جارنا السيّد "جليل". تعجّبت حين قال: "سيّد! لِمَ ملابسك في الخارج؟!".

 

ألقيت في البدء نظرةً على علّاقة الثياب فوجدت أنّ سروالي ومعطفي ليسا عليها! خرجت إلى الزقاق فرأيت الملابس، والبطاقات و... ما عدا مبلغًا من المال كان بحوزتي، مرميّةً على الأرض. بات الآن واضحًا ما حصل. عدت سريعًا إلى البيت وتفقّدت محتوياته لأجد أنّهم سرقوا أيضًا حليّ زوجتي الذهبيّة. ذهبت إلى مخفر الشرطة وأطلعتهم على الأمر، إلّا أنّنا لم نصل إلى نتيجة، وقالوا كان عليك الانتباه أكثر.

 

بعد يومين أو ثلاثة من تلك الحادثة صلّيت الصبح في المصلّى. وأردت شراء الخبز والعودة إلى البيت. أحببت كثيرًا استخدام درّاجتي الناريّة التي تركتها منذ مدّة أمام المصلّى. أخذت الدرّاجة، وحيث إنّني لا أستطيع استخدام يدي للضغط على المكابح، رحت أضغط برجلي على المكابح السفليّة بشدّة ليمكنني السيطرة على الدرّاجة. ذهبت واشتريت الخبز، لكنّني تفاجأت بسيّارة جيب أمامي على "تقاطع قطران", ومهما ضغطت على المكابح السفليّة لم تعمل. كذلك لم أستطع الضغط على المكابح بيدي،

 

503


492

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

لأنّني أحمل الخبز وأقود بيدي السالمة. فكّرت في أن أصطدم بشيء لا أتأذّى معه. لكنّني اصطدمت بزاوية سيّارة الجيب فطرت ووقعت على الرصيف! صرخت من أعماق قلبي متألّمًا من يدي. حينذاك كان محلّ بطّاريّات في الجوار قد فتح أبوابه، فأسرع صاحبه إلى مكان الحادث. كما توقّف سائق الجيب إلى جانبي. أعطيت نمرة هاتف المصلّى لصاحب المحلّ ليتصل بالإخوة هناك ففعل ... قال لهم بأنّ حادثًا قد وقع لأحد أصدقائكم. فأجابوه: "أنت مشتبه، فصديقنا صاحب الدرّاجة الناريّة نائم هنا، والآن ما هي مواصفات صديقنا الذي تتكلّم عنه؟".

 

أعطاهم أوصافي، وحينما استيقنوا من دقّتها جاؤوا على وجه السرعة، وصل الحاج ميلاني يركض بخفة وخلفه آخرون. كان الحاج غاضبًا، وما إن وصل حتّى صاح بي: "يا عمّ! أيمكن قيادة الدرّاجة بيد واحدة؟!", أما صاحب سيّارة الجيب، وبدا للإنصاف رجلًا ودودًا، فراح يردّد دائمًا: "لا إشكال إن أصاب السيّارة شيء، المهمّ أن تكون أنت بخير!". أضحى كلّ من يصل إليّ يدلي برأيه حول ما فعلت: "يا أخي! وهل يُعقل أن تقود الدرّاجة بيد واحدة؟".

- إن رغبت بتناول الخبز الطازج قل، فنحن نشتريه لك!

 

قصدنا الطبيب مجدّدًا لنطمئنّ بأنّ يدي لم تُصب بإصابة جدّيّة، وهذا ما كان. غاية الأمر أنّني تحمّلت الألم مدّة أطول. بالطبع، جاء ذلك اليوم الذي أيقنت فيه بأنّ على الجرحى متابعة أمورهم بأيديهم، وأنّ أغلب الناس للأسف قد فقدوا فكرة وروحيّة المساعدة...

 

أحيانًا كانت آلام جراحاتي القديمة تثور وتتجدّد! ذات مرّة اجتاحتني أوجاع شظيّة لا تزال في ركبتي منذ إصابتي في عمليّة مسلم بن عقيل. كنت حينها في مسجد التوحيد الذي أحببت شباب مقرّه، وقد أعدّ "محمود

 

 

504

 


493

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

ستّاري" أخو كريم الغداء مع الإخوة الآخرين. بعد تناول الغداء خرجت من هناك قاصدًا المنزل. حينذاك، عادة ما كان يقف حارس وسط مفترقات الطرق. أردت عبور تقاطع "قره آغاج", وكنت منذ مدّة أشعر بقليل من الألم في ركبتي، إلّا أنّ الألم اشتدّ عليّ في تلك اللحظة، بحيث لم أعد أستطيع الحراك حين وصلتُ إلى قرب الحارس! لم أستطع التقاط نفسي من شدّة الألم. أطلقت بعض السيّارات الزمامير: "لِمَ أنت واقف؟".

- لا أستطيع المشي!

 

عندما رأى الحارس حالي، لفّ يدي حول رقبته وساعدني في عبور الشارع. أوقف سيّارة أجرة، فركبتها بصعوبة بالغة لتقلّني إلى البيت. في البيت لم تُحلّ المشكلة بل ساءت. كاد الوجع يقتلني. حين رأت زوجتي حالي استأجرت سيّارة ونقلتني إلى طوارئ مستشفى الإمام. بعد المعاينة قال الطبيب لي: "يجب أن تخضع لعمليّة جراحيّة". تذكّرت قول الطبيب في غرفة العمليّات حين سألته هل كلّ هذه الوحدات من الدم التي يعلّقونها لي هي تعويض عن الدماء التي نزفتها، فقال: "عادة يستغرق الأمر شهرين أو ثلاثة لتعويض الدماء النازفة". أحسست بغشاوة في عينيّ، أمّا رجلي المتألمة وكأنّها تشتعل نارًا. وأنا الذي لا أحبّ الصراخ والأنين، كدت أصرخ من شدّة الألم. لقد تورّمتْ ركبتي وازرقّت. لعلّ الشظيّة التي استقرّت في ركبتي في شهر أيلول وربّما تشرين الأول من العام 1982م تريد أن تصفّي حسابها معي! نُقلت إلى غرفة العمليّات. فجاءني الجرّاح وكان حديث عهد بالعمل. حين رأى الصور وحالي، أدرك ما يحدث. التقط الطبيب حقنة كبيرة وأدخلها تمامًا في المحلّ الذي يؤلمني. كان ألمي شديدًا إلى درجة لم أشعر فيها بألم الإبرة. بدأ بسحب القيح من ركبتي، فملأ حقنتين شعرت بعدها براحة. ثمّ قاموا بتخديري وسحبوا الشظيّة والتقيّحات. كنت عندما أستعيد وعيي، ألوذ بالصمت كعادتي. فطوال مدّة إقامتي في المستشفيات، كنت دومًا أرى الجرحى يتكلّمون حين إفاقتهم من التخدير

 

505


494

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

بكلام غير ذي معنى، فيبدأ من حولهم بالضحك. لذا، أخذت عهدًا على نفسي بأن لا أتكلّم بكلمة إلّا بعد أن أستعيد وعيي بالكامل. وكان الجميع يعجبون لحالي. وقد استدام الأمر إلى آخر سنوات الحرب. حتّى إنّني سُئلت: "أنّى لك التركيز وأنت تستعيد وعيك؟", فأجيب إنّها ليست المرّة الأولى التي أخضع فيها لعمليّة، وقد زادت العمليّات التي خضعت لها عن 20 عمليّة!

 

في تلك الأيّام كان وضع المستشفى الذي أُدخلت إليه لإجراء عمليّة لركبتي سيّئًا. والطعام الذي يقدّمونه أين منه طعام الجبهة. فالفطور مثلًا عبارة عن القليل من الخبز والجبن، والغداء قليلٌ من الخبز والبطاطا المسلوقة، أمّا عند العشاء فيقدّمون الحساء.

 

عندما رأيت ذلك، أوصيت عائلتي بإحضار الطعام من المنزل. فصاروا عادةً ما يحضرون لي المرق باللحم، أو الكباب بالأرزّ، إضافة إلى المرطّبات. لقد اعتنيت بنفسي. من حسن الحظّ أنّ جرحي لم يكن بحال تستدعي نظامًا غذائيًا خاصًّا. بعد أن مضت ثلاثة أو أربعة أيّام لم أذق فيها طعام المستشفى، قيل لنا بأنّهم عيّنوا رئيسًا جديدًا له، وأنّه سيأتي في الصباح لتفقّدنا. ما إن وصل إلى غرفتنا ونظر في الأطباق البلاستيكيّة الموضوعة أمام المرضى والمحتوية على قليل من الخبز والجبن إضافة إلى فنجان من الشاي، حتّى قال: "كيف هو وضع الطعام هنا؟", قلنا: "ها أنت ترى بنفسك". غضب كثيرًا. رمى بالأطباق جانبًا وبدأ بالصراخ. وفي ظرف دقيقتين جمع طاقم المستشفى هناك وقال: "ما هذا الذي تقدّمونه للجرحى؟! هؤلاء ليسوا أسرى، إنّهم جرحى ومجاهدون. وقد جاؤوا إلى هنا ليتعافوا ويتقوّوا... إن قدّمتم هذا الطعام للمجنّدين الإجباريّين لا يأكلونه و...", عند الظهر، تغيّر الوضع، فقدّموا للمرضى الأرزّ بالكباب أو الدجاج في وعاء زجاجي، مع المرطّبات. بحيث صار المريض لا يرغب بالخروج من المستشفى!

 

506


495

الفصل الرابع عشر: الجرح في كربلاء 4

وراح الجميع يدعون للرئيس الجديد. لقد كان من قبل مدير مستوصف الشهيد بهشتي التابع للحرس، وقد نُقل إلى هنا وكان غوثًا للجرحى. بقيت في المستشفى عشرة أيّام إلى أن تحسّن جرحي وأُذن لي بالخروج.

 

في أواسط أيّار من العام 1987م اشتدّ شوقي للجبهة بنحو لا يوصف. لا يوجد أحد ليرافقني. فالكتيبة أنهت قبل مدّة إجازتها وعادت إلى الجبهة. لذا، ركبت حافلة دزفول وحدي، للعودة إلى حضن الجبهة.

 

507


496

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

الفصل الخامس عشر:

خطّ شلمجه

 

 

لم أجد في دزفول أثرًا لكتيبة حبيب، سألت عنها، فعرفت أنّها انتقلت إلى خطّ "شلمجه", عندها فكّرت أنّه من الأفضل أن أذهب إلى الثكنة التي هي محل تجهيزات الحرب. تقع هذه الثكنة على مسافة 6 كلم من الأهواز على الطريق المؤديّة إلى خرّمشهر، وقد تعرّضت طريقها الترابية لقصف عنيف. عرفت هناك أنّهم سيوصلون الطعام إلى كتيبة حبيب في آلية تويوتا، فلم أفوّت هذه الفرصة عليّ، وذهبت إلى هناك في نفس تلك الآلية.

 

وصلنا إلى منطقة خطّ الدفاع الثاني حيث تموضعت سريّتان من كتيبة حبيب. أردت الذهاب إلى هناك لأنّ غالبية الشباب الذين أعرفهم كانوا في الخطّ الأمامي في سريّة علي باشايي، لكن، كونه خطّ دفاع جعلني أعدل عن هذا الأمر. فأنا لم أكن أساسًا أحبّ هذا الخطّ، ولا أستطيع البقاء فيه لارتفاع احتمال الإصابة هناك، وأيضًا بسبب أجوائه المحزنة. لكنّ المانع الأهم كان الإمكانات البدائية في هذا الخطّ. فأنا لم أعد كالسابق أستطيع النوم حتى على الحجارة! صرت عندما أنام أتقلّب طوال الليل من جنب إلى آخر، وأستيقظ بعد ساعة بسبب الآلام التي أعاني منها جرّاء الإصابات القديمة.

 

أمضيتُ تلك الليلة في قسم الإشارة في كتيبة حبيب التي التحق بها الكثير من العناصر، ولم أكن أعرف منهم إلا اثنين أو ثلاثة. صادف في

 

507


497

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

الفصل الخامس عشر:

خطّ شلمجه

 

 

لم أجد في دزفول أثرًا لكتيبة حبيب، سألت عنها، فعرفت أنّها انتقلت إلى خطّ "شلمجه", عندها فكّرت أنّه من الأفضل أن أذهب إلى الثكنة التي هي محل تجهيزات الحرب. تقع هذه الثكنة على مسافة 6 كلم من الأهواز على الطريق المؤديّة إلى خرّمشهر، وقد تعرّضت طريقها الترابية لقصف عنيف. عرفت هناك أنّهم سيوصلون الطعام إلى كتيبة حبيب في آلية تويوتا، فلم أفوّت هذه الفرصة عليّ، وذهبت إلى هناك في نفس تلك الآلية.

 

وصلنا إلى منطقة خطّ الدفاع الثاني حيث تموضعت سريّتان من كتيبة حبيب. أردت الذهاب إلى هناك لأنّ غالبية الشباب الذين أعرفهم كانوا في الخطّ الأمامي في سريّة علي باشايي، لكن، كونه خطّ دفاع جعلني أعدل عن هذا الأمر. فأنا لم أكن أساسًا أحبّ هذا الخطّ، ولا أستطيع البقاء فيه لارتفاع احتمال الإصابة هناك، وأيضًا بسبب أجوائه المحزنة. لكنّ المانع الأهم كان الإمكانات البدائية في هذا الخطّ. فأنا لم أعد كالسابق أستطيع النوم حتى على الحجارة! صرت عندما أنام أتقلّب طوال الليل من جنب إلى آخر، وأستيقظ بعد ساعة بسبب الآلام التي أعاني منها جرّاء الإصابات القديمة.

 

أمضيتُ تلك الليلة في قسم الإشارة في كتيبة حبيب التي التحق بها الكثير من العناصر، ولم أكن أعرف منهم إلا اثنين أو ثلاثة. صادف في

 

508


498

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

تلك الأيام أن كنّا في شهر حزيران، وهي أيام امتحانات، لكنّ الأساتذة الموجودين هناك لم يقبلوا بالتقدّم إلى الخطّ الأول لإجراء امتحانات للأخوة برغم كلّ محاولات المسؤولين. ربّما أصابهم الخوف بعد سماعهم نبأ استشهاد اثنين من الشباب هناك. لقد جاؤوا إلى هذا الخطّ، لكنّهم غير مستعدّين للتقدّم أكثر. أخبرتهم أنّني سأذهب إلى الخطّ الأوّل، فأعطوني أوراق الامتحانات لأعطيها للشباب ثم يعيدها أحدٌ ما عندما يرجع من هناك. يبعد الخطّ الأول حوالي 13 كلم عن الخطّ الأمامي. توجّهت إلى هناك صباحًا في آلية التويوتا التي أوصلت الماء والثلج وغير ذلك مما يحتاجونه.

 

أوّل شخص رأيته هناك هو أحد أصدقائي القدامى ويدعى فرج، وكان معاون علي باشايي. كان هناك أيضًا صديقي حميد غمسوار[1] مع أخ من الإشارة وعدد آخر من الأفراد. بعد السلام والاطمئنان عن الأحوال سألوني: "سيّد، هل ستبقى هنا؟".

- لست أعلم بعد، سأبقى 5 أو 6 أيّام، لكن، ربّما ذهبت قبل ذلك لأنّني لا أحبّ خطّ الدفاع هذا.

 

أخبروني هم أيضًا أنّهم جاؤوا إلى هنا منذ 12 يومًا، وسيعودون بعد 7 أو 8 أيام لأنّه من المقرّر أن تستلم كتيبة أخرى هذا الخطّ. أعطيتُ أوراق الامتحانات لفرج قلي زاده. تعذّر جمع الشباب في مكانٍ واحد، لذا كان على كلّ واحد منهم تقديم الامتحان في الدشمة التي يوجد فيها. كان الأساتذة قد أوصوا بالإجابة عن أسئلة الامتحان ولا داعي لتحصيل علامة أعلى من 18، وعندما رأى الشباب الأسئلة قالوا: "لا يمكن أصلًا في هذه الامتحانات الحصول على علامة أعلى من 18!".

 


[1] كان الشهيد حميد غمسوار صديقي في الجبهة، وتعرّفت بعد الحرب إلى والده المرحوم الحاج علي غمسوار وأصبحنا أصدقاء، وقد توفّي في شتاء 2006م على أثر مرض أصابه. كان الجلوس معه يرفع من معنويّاتنا حتى آخر أيام عمره، ويذكّرنا برفاق الجبهة الطاهرين، حشره الله مع الشهداء.

 

509


499

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

بدأتُ بعد ساعة جولة تفقديّة للشباب في دشمهم الواقعة قرب مثلّث طرق يتعرّض بشكل دائم لنيران العراقيين. كان فصيل عليرضا سارخاني متموضعًا في الجهة الأخرى من المثلّث، وقد حُفر خندق بعد المثلث بقليل يصل إلى مكمن يقع على مسافة 40مترًا بعد الخطّ الأمامي، ويبعد عن الأعداء مسافة 20 أو 30 م. وبالتالي، يستطيع الشباب الموجودون فيه رؤية الدبّابات المحترقة، دبّاباتنا من جهتنا، ودبّابات العراقيين من الجهة الأخرى. قالوا إنّ العراقيين كثيرًا ما يعبرون من قرب هذا الخندق فيرونهم ويطلقون النار عليهم، وبدورهم كان العراقيّون يستهدفونهم عندما يتّجهون ناحية الدبّابات المحترقة، لذا صارت الطريقة الوحيدة للنجاة هي العبور من هناك بطريقة "مشية القرفصاء". كانت منطقة عليرضا سارخاني من أسوأ المناطق لأنّ العراقيين يرون بوضوح الآليات والتجهيزات الموجودة فيها ويقصفونها بشدة، فتتزايد خسائرنا بشكل كبير في هذا المثلّث لدرجة أنّ الشباب صاروا يسمونه "مثلّث الشهادة". بالفعل كان خطّ الدفاع في شلمجه مكانًا خطيرًا. لم أعبر المثلّث، وكنت أرى الشباب في فصيل سارخاني من بعيد. ذهبت إلى دشمة في هذه الجهة من المثلّث وهناك رأيت الحاج ميلاني. كان من الواضح أنّه نام بعد صلاة الصبح واستيقظ الآن. وقد أصبحت الساعة التاسعة وأراد الذّهاب لتناول طعام الفطور. ما إن رآني حتى ناداني: "لوري... "[1]، لم يعد يناديني باسمي منذ أحداث "لورل وهاردي"[2] وما قمت به أنا والشهيد عبد الحسين أسدي. كان لقاءً حارًّا. سلّمت عليه ودخلت إلى دشمته. هناك رأيت أيضًا حبيب رحيمي الذي تربطني به معرفة قديمة، فسررت كثيرًا، وبدأنا نستذكر الماضي. سألني الشباب باستمرار "سيّد،

 


[1] حتى في هذه الأيام حيث نعمل معًا في جامعة العلوم الطبية لا يناديني باسمي أحيانًا!

[2] ورد تفصيل عن هذه الأحداث في الجزء الأول من الكتاب، الفصل السادس.

 

510


500

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

ستبقى أم لا؟!", وكان جوابي واحدًا: "لا أستطيع البقاء طويلًا في خطّ الدفاع، لكنّني سأمكث بضعة أيام لأنّ الإخوة مجتمعون هنا". أخذنا الحديث حتى الثانية ظهرًا عندما أرسل علي باشايي أحدهم في أثري يدعوني لتناول طعام الغداء، فأخبرته أنّني سأذهب مساءً إلى منطقته، عندها قالوا لي: "سنلعب الليلة هنا مع العراقيين بالألعاب النارية". فغادرت المكان وذهبت إلى علي باشايي. ما إن رآني حتى صاح بي: "أولًا اجلس قليلًا في مكان ما يا عزيزي وتناول طعام الغداء، ثم اذهب للتنزه حيث شئت!". كنت فعلًا أحبّ هؤلاء الأصدقاء وأستأنس بهم لدرجة أنّني كنت أرغب برؤيتهم جميعًا في الساعات الأولى لوصولي إلى المنطقة، وأنّى لي أن أجد أناسًا أكثر منهم إخلاصًا وصدقًا في كلّ الدنيا؟!

 

تناولنا طعام الغداء عند الثانية والنصف تقريبًا. كان الجوّ معتمًا قليلًا داخل الدشمة، في النهار يدخل نور ضعيف من الكوّة، أمّا في الليل فكانوا بالطبع يضيئون المصباح. لم أستطع البقاء كثيرًا فيه فأخذت طعامي إلى الخارج وجلست أمام الباب، عندها صاح بي الشباب: "المكان هناك خطير، ستتأذى إن بقيت!", وكانوا في ذلك الوقت يقصفون بشدّة المثلّث الذي لا يبعد عن الدشمة أكثر من 30 م. قالوا إنّ العراقيين يقصفون هذا الخطّ بشدّة بعد فترة الغداء عندما يذهب الشباب للوضوء هناك حيث صهاريج المياه، لذا صاروا يؤخّرون صلاتهم قليلًا. وكان بعضهم كالأخ علي، يذهب إلى مصلّى صغير قرب دشمة عليرضا سارخاني مسؤول الفصيل ليصلّي.

 

منذ اليوم الأول، عرفت أنّ أكبر مشكلة يعاني منها الشباب في هذا الخطّ هي قلّة المراحيض. كان هناك مرحاض واحد فقط قرب دشم فصيل حبيب رحيمي وآخر قرب المثلّث. أمّا في فصيل عليرضا سارخاني فلم يكن هناك واحد، وكلّ من تطرأ عليه حاجة كان يبتعد قليلًا ويقضيها.

 

 

511

 


501

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

 

 

- يمكننا بناء مرحاض باستخدام الأشياء البسيطة المتوافرة، وهذا ليس بالأمر الصعب.

 

كنت كلّ يوم أقول لهم هذا الكلام لكن لم يُعمل به. وظلّ الذهاب إلى المرحاض أمرًا شاقًّا.

في أحد الأيام، أردت الذهاب إلى الحاج ميلاني. كانت الاشتباكات عنيفة. وبينما أنا متوجّه إلى دشمة الشباب، سمعت فجأة صوت قذيفة B7 وغرقت في الغبار والتراب! ذُهلت، ثم انتبهت بعد دقائق أنّ رامي الـB7 وقف على ساتر ترابي وأطلق قذيفة من دون أن ينظر إلى الخلف. كانت النيران الخلفيّة للـB7 تحرق حتى مسافة عشرة أمتار. من حسن حظي أنّني لم أتأذّ. ذهبت نحوه ووضعت يدي على كتفه، فذُهل ولم يكن قد انتبه لي حتى تلك اللحظة. قلت له: "يا أخي، كيف يرمون قذيفة آر.بي.جي؟".

- باتجاه العدوّ طبعًا!

- ألا ينظرون إلى الخلف ليتأكدوا إن كان هناك أحدٌ ما أو ذخائر مثلًا؟! ألا يجب أن ينتبه الرامي للنيران الخلفية؟ لو أنّك سهوت قليلًا لكنتُ احترقت!

 

أخذ يعتذر مني عندما قلت له هذا الكلام، كان من السادة أيضًا، وقد استشهد لاحقًا. لقد ذكّرتني النيران الخلفية بالأحداث التي أصبت فيها لأولّ مرّة، وكانت إصابة بالغة. تركته وتوجّهت إلى دشمة الحاج ميلاني. كان العراقيّون قد بدأوا بقصف المنطقة بشكل عنيف بمدافع هاون 60ملم[1]، فأسرعت إلى الدشمة الخاصّة بالتجهيزات وانتظرتُ


 


[1] تمتاز قذائف 60 ملم بأنّها لا تصدر أيّ صوت قبل أن تصيب الهدف، وكانت تسقط فجأة وتنفجر. بينما كان للقذائف الأخرى صوت تعوّدنا عليه، وكنّا نعلم متى تسقط القذيفة وفي أيّ مكان تقريبًا.

 

512


502

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

هناك حتى يهدأ القصف قليلًا. لاحظت خلال تلك الأيام القليلة التي أمضيتها هناك أنّ العراقيين يقصفون المنطقة مرّة عند الواحدة أو الثانية ظهرًا ومرّة عند الغروب، وبالتالي لم يكن أحد يستطيع النوم ظهرًا. وفي الليل أيضًا لا يهدأ القصف لحظة واحدة. وإضافة إلى هذين الموعدين، كانوا يقصفون أيّ آلية تعبر في هذا الخطّ. بعد أن هدأ القصف، تابعت طريقي باتجاه دشمة الحاج ميلاني. كان الشباب في تلك المنطقة يخوضون اشتباكات عنيفة أيضًا. كان حبيب رحيمي - مسؤول الفصيل - قد وضع اثنين من رماة الدوشكا في دشمتين يعملان مداورة، وبينهما في دشمة ثالثة راميB7، وكان أحيانًا يقف ويطلق النار باتجاه رامي الدوشكا في جهة الأعداء عندما يراه. كان حبيب رجل حرب، وإنسانًا طاهرًا ومحبًّا ومن شباب الجبهة المميّزين. لم أعرف أنّها آخر أيام حياته.. استمرّت الاشتباكات عنيفة لمدة ساعة تقريبًا، ولمّا هدأت قليلًا دخل الشباب إلى دشمهم. لقد كان عمل الحراس صعبًا جدًّا في مثل هذه الأوقات.

 

في أحد الأيام، ذهبت والحاج ميلاني والسيد "إسماعيل كهنمويي" لنستحمّ. ولمّا وصلنا إلى "قناة السمك" رآنا العراقيّون[1] فأمطروا المنطقة بقذائف المدفعيات والهاون. احتمينا بالسواتر الترابية، ولمّا رأيت شدّة القصف قلت للحاج ميلاني: "أتعلم، سيصيبنا شيء من هذه الشظايا!".

- لا لن يحصل شيء.

 

ما إن وقفنا لنتابع طريقنا حتى وقعت حولنا بعض القذائف، فتأكدنا أنّهم يشرفون على الطريق وكلّ منطقة قناة السمك. قرّرنا نحن الثلاثة


 


[1] قبل أن أذهب إلى الخطّ الأمامي رأيت العراقيين من خلف السواتر الترابية العالية الموجودة في الخطين الثاني والثالث. أما هم، فلم يكونوا يستطيعون رؤية الخطّ الأول بسهولة لكنهم يرون الطريق الموصِلة إليه بشكل جيد، وبمجرد أن يروا أحدًا يعبر من هناك يستهدفونه.

 

513


503

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

الذهاب إلى الجهة الأخرى. عبرنا الطريق ركضًا، وما إن وصلنا حتى سقطت قذيفة في نفس المكان الذي كنّا فيه! عندها قال الحاج ميلاني: "لو أنّنا بقينا هناك لما بقي منّا شيء!". فعاتبت نفسي في تلك اللحظات: "لماذا الاستحمام ما دام أني سأغادر بعد يومين أو ثلاثة؟!".

 

أعرضنا عن فكرة الاستحمام، ووصلنا إلى الخطّ تحت النار بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من التأخير. بعد طعام الغداء عدنا إلى حديث المرحاض. كان العراقيّون قد بدأوا القصف من جديد. لم يمضِ وقت طويل حتى انتشر في الخطّ خبر مزعج، لقد أصيب اثنان من الشباب: الحاج ميلاني والسيد إسماعيل كهنمويي. جُرِح السيّد في قدميه، أمّا الحاج ميلاني فقد أصيب في بطنه إصابة بالغة. أسعفوهما بشكل أوّلي وسحبوهما إلى الخطّ الخلفي، بينما كان العدوّ لا يزال يقصف المنطقة بعنف. سمعت أنّهم لم يكونوا دقيقين في طوارئ الخطّ الثالث لدى معالجة السيّد إسماعيل، وضمّدوا جرحه بحيث لم يعد الدم يجري في قدمه. لمّا وصل إلى الأهواز كانت قد ازرقّت فقرروا قطعها. بعد إجراء العملية وقطع القدم الأولى، عرف أنّهم يريدون قطع قدمه الثانية فلم يسمح لهم بذلك. انزعجنا لمّا سمعنا بهذه الأخبار خاصة أنّ سبب قطع قدم السيّد هو إهمال وتقصير بعضهم. كما أن الحاج ميلاني كان كثير المزاح، ويرفع من معنويّات الشباب بإضحاكهم. لقد افتقدناه كثيرًا. في تلك الأيام، كان الحاج ميلاني معاون حبيب رحيمي مسؤول الفصيل.

 

عندما كنت في هذا الخطّ، ذهبت مرّتين أو ثلاث مع الشباب إلى المكمن. كانت تلك المنطقة خطرة. أخبروني أنّ أحد الشباب استشهد هناك في عملية كربلاء5، لكنّهم لم يستطيعوا سحب جسده الطاهر بعد، برغم المحاولات المتعددة لذلك.

 

514


504

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

بقيت هناك 5 أو 6 أيام. ولمّا قررت العودة، فكّرت أنّه من الأفضل أن أتفقّد الشباب وأخبرهم أنّني أريد العودة في الغد لعلّهم يريدون إرسال رسالة ما. عرفت هناك أنّهم أنجزوا امتحاناتهم وهي ما تزال معهم فأخذتها لإيصالها إلى الخطّ الخلفي. وبينما أنا متّجهٌ إلى إحدى الدشم، وإذ بأحدهم يطلق قذيفة B7 من جديد وأغرق في الغبار والتراب. التفتّ وإذا به الأخ نفسه. قلت له: "هذه أول مرّة آتي بها إلى هذا الخطّ يا أخي! دعني أرجع سالمًا. إنّها المرّة الثانية التي تفعل فيها ذلك!".

 

ذهبت إلى دشمة عليرضا سارخاني قال لي: "سأكتب رسالة وآخذها صباحًا إلى دشمة الأخ علي". عندما حلّ المساء سألت: "كم شخص يوجد في المكمن؟", قالوا: "ثلاثة".

 

أردت في تلك الليلة الذهاب إلى هناك فلربّما كان لديهم رسالة أو أمانة يريدون إيصالها. كان طريق المكمن عبارة عن خندق قليل العمق وتحت نظر العراقيين. وعندما عبرت الخندق ركضًا بوضعية القرفصاء، سقطت قذيفتان فيه، ولم أصب بسوء. وصلت إلى المكمن، وبعد التحية والسلام، رأيت الشباب ينظرون بدقّة واهتمام إلى الأمام. فقلت لهم: "ماذا حصل؟", قالوا: "العراقيّون يتحركون هناك".

 

دقّقت النظر. بالفعل يمكن رؤية العراقيين. فكّرت في نفسي: "آمل أن لا يكونوا قد رأوني عندما أتيت إلى هنا". قلت لهم: "إذا كان لديكم رسالة أو أيّ شيء ما تريدون إيصاله فأنا ذاهب في الغد إلى المدينة". لكن بقوا مشغولين بتحركات العدوّ فكان جوابهم: "سيّد، ها هم! خلف الدبّابة، لقد جاء العراقيّون!".

- هكذا يكون الكمين يا عزيزي! إذا وصلوا فسنطلق النار عليهم... الأمر ليس مخيفًا لهذه الدرجة.

 

مع أنّ الوضع في مثل هذه الظروف مخيف بالفعل، إلا أنّني لم أرد للشباب أن يفقدوا معنوياتهم، لذا بدأت أحدّثهم عن "كمين شلمجه"

 

515


505

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

و"مخفر زيد": "أنتم لم تروا الكمائن هناك، كان العراقيّون قريبين منّا لدرجة أنّنا أخذنا منهم أسرى أيضًا!...". أردت بهذا الحديث التخفيف من حدّة الموقف عليهم.

 

كان المكمن كبيرًا نسبيًّا، حفروه بأبعاد مترين ونصف المتر، وأحاطوا جوانبه بأكياس تدشيم تصل إلى السطح. وضعوا في داخله صندوق طلقات دوشكا وقنابل، وثبّتوا في جهاته الأربع قواذف B7.

 

وبينما أنا أتحدّث مع الشباب وإذ بشيء ما يقع فجأة في المكمن! اضطرب الثلاثة وقفزوا إلى الخارج، أمّا أنا فوقفت مذهولًا! فوجئت لدرجة أنّني لم أعد أعرف ما يجب أن أفعله. ما وقع في المكمن كان قنبلة مضيئة كادت تحرق سقفه. أصبت بالتوتر خوفًا من أن تنفجر الذخائر الموجودة والتصقت بحائط المكمن! فجأة رمى أحد الشباب من الخارج بخوذته على القنبلة ونام عليها وصاح بي: "اخرج! هيا بسرعة...".

 

ركضت إلى الخارج ثم سحبته من قدميه. هنا جاء عليرضا سارخاني وآخرون وتعاونوا على إخماد النار. كان من الواضح أنّ أحد الشباب (في الكمين) ذهب وأخبرهم بما جرى عندما قفز إلى خارج المكمن. لا أدري أيّ كرامة حصلت فلم تشتعل الذخائر الموجودة، لكنّ بطن ذلك الفدائي[1] احترق. عندما خرجت من الدشمة قلت له: "ليس ذنبك، فقد آن أجلي اليوم!".

 

انزعجت لما حدث خاصّة عندما رأيت الحرق في بطن الأخ. وقفت على مسافة قريبة من المكمن. أردت أن أرى خطوة العراقيين التالية، وفي الوقت نفسه كنت غاضبًا وأريد الانتقام منهم لما جرى. لكنّني فكّرت إن أنا قمت بعمل ما فسيتأذّى شبابنا في المكمن لعدة أيام فقررت أن أعود. وللعودة من الكمين، لا بدّ من العبور من الخندق الذي ينتهي إلى نفق حُفر تحت سواتر ترابية. هناك تمامًا رمى العراقيّون قذيفتين أو ثلاث قذائف


 


[1] رأيته بعد الحرب وكان يعمل في غرفة التجارة. نسيت اسمه للأسف.

 

516


506

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

هاون 60ملم. دقّتهم أكّدت أنّهم يشرفون بشكل كبير على ذلك الجزء من الخندق. لم تنل مني شظايا القذائف. إذ أسرعت نحو الدشمة، وما إن أردت الدخول حتى وقعت قذيفة أمام مدخله وامتلأ بالغبار والتراب! عندها قال لي علي باشايي: "سيّد، أتعلم، سنصاب بالأذى بسببك، إن أردت الذهاب يا عزيزي فأسرع بذلك وادفع عنا شرّك...!".

 

قلت: "لا تخف! إن لم أذهب في الغد فسأذهب بعد غد!".

 

في تلك الليلة، تمكّنت من النوم بعد كلّ القذائف التي لاحقتني. وأيّ نوم! استمرّ العراقيّون في قصف الخطّ، لكن، لم يقعد شبابنا "عاطلين من العمل", وراحوا يردّون على النار بالنار!

 

غرقت في نوم عميق لدرجة أنّني لم أعلم حتى الصباح أنّ دشمتنا امتلأت بالغبار والتراب بسبب قذيفتين سقطتا على إحدى الدشم القريبة منها. قال الشباب إنّ الانفجار كان شديدًا لدرجة أنّ أكياس التدشيم تزعزعت من مكانها. أردت النوم ثانية بعد أن صلّيت الصبح، لكن -كعادته- لم يسمح لي الأخ علي بذلك. كان يقول: "اجلسوا بعد الصلاة تناولوا فطوركم. تحادثوا وتفقّدوا بعضكم بعضًا". وأنا كنت أصرّ على الخلود إلى النوم وأجيبه: "لا! سأنام! وماذا يمكن أن يفعل المرء في خطّ الدفاع! أين يمكن الذهاب؟" هذه هي الحقيقة. تلك المنطقة هي من أسوأ خطوط الدفاع، ولا تستطيع هناك ممارسة حياتك الطبيعية خارج الدشمة.

 

قبل أن أغادر في ذلك اليوم، قررت الذهاب إلى "نوك"[1]، وهي منطقة معروفة في شلمجه، أحبّ زيارتها. توجهت إلى هناك مع حبيب رحيمي وعليرضا سارخاني. تقع نوك في خطّ فرقة أخرى، ومن المعروف أنّ أشدّ الاشتباكات كانت تجري في تلك المنطقة من شلمجة التي تشبه المنقار الذي يخترق قلب العراقيين. عرفت عندما وصلنا إلى هذه المنطقة لماذا

 


[1] ومعناها بالعربية المنقار.

 

517


507

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

هي أكثر شهرة من غيرها. لقد تبدّلت أرضها الصافية إلى سوداء من كثرة القصف، وامتلأت بالتجهيزات والدبّابات والذخائر المحطّمة، حتى إنّ الشظايا مزّقت الأسلحة والجثث مرّات ومرّات! عرفنا من خلال العملات النقديّة المتناثرة أنّ للعراقيين قتلى هناك أيضًا. كلّ شيء كان خرابًا. وكأنّ زلزالًا عظيمًا أصاب المنطقة فقلبها رأسًا على عقب... هناك، اختلطت مشاعرنا. آلمنا المشهد، لكنّنا سررنا لأنّ إخوتنا استطاعوا الحفاظ على هذه الأرض بمقاومتهم الباسلة. فكّرت أنّه لو قُدّر لشلمجة أن تتكلّم، لروتِ الكثير عن بسالة شبّاننا وشهادتهم ومظلوميّتهم...

عدنا عند الظهر. أخبرونا أنّ سيارات ستوصل بعد فترة طعام الغداء فقررت أن أعود فيها. عندما انتهينا من تناول الطعام قال لي علي باشايي: "سيّد، بما أنك سترجع اليوم، اسمح أن تأتي معي لنبني المرحاض معًا". وعندما بدأنا بالعمل قلت له: "أتعلم يا علي، لن تتركني أرجع من هنا ما لم أُصب!".

 

فقال مبتسمًا: "وأين ستصاب يا عزيزي!", ويقصد أنّني مصاب في كلّ أنحاء جسدي و...، قال ذلك وأتى بأربعة أو خمسة أكياس خيش وقال لي: "أنت املأ هذه وسأذهب لأحضر غيرها من علي رضا". بقيت وأحد عناصر الإشارة. تناولنا المجرفة وبدأنا العمل معًا. كان لا بدّ من حفر حفرة في الأرض لتصريف الفضلات فيها، كما وجدنا في المنطقة بعض الألواح المعدنية فاستخدمناها في بناء المرحاض. لم نعلم أنّ العراقيين رأوا "علي" وهو يعبر مثلّث الطرق، وبينما كنّا نعمل بجدٍّ واجتهاد، وإذ بقذيفتي هاون 60ملم تسقطان في المنطقة بينما كنت أحمل أحد أكياس الخيش، واحدة قرب الأخ عنصر الإشارة، والثانية خلفي تمامًا، وكانت شظيتان من نصيبي! واحدة في ذراعي والأخرى خلف أذني، ولحسن الحظّ لم يصب عنصر الإشارة بسوء. بدأت الدماء تسيل من رأسي، ولم

 

 

518


508

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

أنتبه إلى الجرح الذي في يدي. هنا جاء علي ورأى ما أصابني فقال لي:

- آها، سيّد، لم يكن غير خلف أذنك سالمًا، وها قد أصيبت أيضًا!

- أجل، والآن وقد جُرحت، دعوني أرجع...!

 

عندما رأى الشباب أنّ جرحي ليس عميقًا، أخذوا الأمر على سبيل المزاح أيضًا... أوصلوني إلى المسعفين الذين بدأوا بمعالجتي. أخذوا قميصي وضمّدوا به الجرح الذي في ذراعي، وضمّدوا رأسي فصرت وكأنّني أضع عمامة. قال لي المسعف: "انهض لنرجع إلى الخطّوط الخلفيّة". أردت البقاء في تلك الليلة، لكن ازداد النزيف في رأسي عند العصر تقريبًا، وصار يؤلمني أكثر فأكثر فوافقت على الرجوع معهم. أمّا يدي فإصابتها لم تكن بليغة، ولم تكن تؤلمني ما لم أحرّكها على الرغم من وجود شظيّة فيها لم يستخرجوها حتى فيما بعد.

 

وصلنا إلى طوارئ الخطّ الثاني. لم أرغب بالتراجع أكثر. كانت تشغل بالي رسائل وامتحانات الشباب الذين لم يتسنّ لي أن أودّعهم، والتي وعدتهم بإيصالها. فكّرت أن أعود عندما يتوقف النزيف، لكن لم يقبل المسعفون بذلك وقالوا: "عليك العودة الآن". وهكذا، لم أستطع الوفاء بوعدي بعد كلّ الذي جرى، وأجبرت في 10 حزيران 1987م على مغادرة المنطقة على متن سيارة إسعاف، والانتقال إلى مستشفى في الأهواز، هو نفس المستشفى الذي نُقلت إليه في عملية كربلاء4.

 

أدخلت إلى غرفة العمليات. استخرجوا الشظيّة التي خلف أذني وقطّبوا الجرح الذي في يدي وضمدوها من دون أن يستخرجوا الشظية منها. لم يكن الجرح العميق الذي أصبت به في أصابعي في كربلاء4 قد تحسّن بالكامل ، لذلك لم تكن حركة يدي طبيعية. بقيت يومين في المستشفى على هذه الحال ثم نقلوني إلى طهران حيث انتظرت في وحدة إخلاء الجرحى إلى أن عدت إلى تبريز بالطائرة.

 

519


509

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

كالعادة، في تبريز لم أقبل بالذهاب إلى المستشفى لشدّة مللي منه، وصار أهل بيتي يعرفون ما يفعلون في مثل هذه الحالات. كنت مُنهكًا وأصبت بدوار في رأسي. ارتديت قبّعة غطّت الضّماد وتوجّهت إلى المنزل. وصلت عند الظهر وسلّمت على زوجتي. لم أرفع القبّعة عن رأسي فارتابت في الأمر. سألتني: "لماذا لا ترفع القبّعة عن رأسك؟".

- هكذا!

 

لم يكن الهواء باردًا ليبرّر تغطية رأسي. ولمّا أصرّت زوجتي على معرفة السرّ في ذلك أخبرتها أنّني أصبت.

 

عندها قالت لي: "أُصبت! لكن لم يمضِ بعد 15 يومًا على ذهابك وعودتك؟!".

 

لقد استغربت المسكينة، ويحقّ لها ذلك، لكنّ هذه الأمور محتملة في الحرب. لم يخلُ منزلنا ذلك اليوم من الزوار. جاء أفراد العائلة والأقارب لعيادتي. وأكثرهم زاروني للسلامة من الإصابة السابقة، فتضايقوا حين علموا بإصابتي الجديدة. أمّا الأشخاص الأكثر حساسيّة فكانوا يندمون لمجيئهم. كالعادة، دفع الفضولُ الجميعَ لمعرفة أين كنت خلال الخمسة عشر يومًا وماذا جرى معي.

 

عندما حلّ المساء انقبض قلبي. اتصلت بأخ في المصلّى وطلبت منه أن يأخذني إلى المركز. كانوا مجتمعين وعرفوا أنّني أصبت من جديد. سألوني عن الجبهة ورحنا نمزح معًا، كانوا يضحكون على حالي وأنا أضحك على حالهم! سألني أحدهم عن الحاج ميلاني فعرفت بأنهم جهلوا أخباره. أجبت: "لقد أصيب الحاج ميلاني والسيد إسماعيل قبلي بثلاثة أيام يا عزيزي". بدأ الشباب البحث عنه في اليوم التالي إلى أن وجدوه في النهاية في أحد مستشفيات طهران.

 

520

 


510

الفصل الخامس عشر: خطّ شلمجه

على أيّ حال، كنّا نقضي أغلب أوقاتنا في المصلّى عند مكوثنا في المدينة، وقد رضيت عائلتي بهذا الوضع تعوّدًا أو قسرًا. رسمتُ في المركز خارطة شلمجة وخطوط الدفاع مع العراق، وشرحت للشباب العمليات التي نُفّذت في المنطقة. تعجّب الذين لم يروا المنطقة ممّا يسمعون، ولأنّنا لا نمتلك معلومات من الأقمار الصناعية، لم نستطع اطّلاعهم على كلّ تفاصيل المنطقة. كانت البرامج التلفزيونية ضعيفة أيضًا، ولم يحصل أن أعدّ أحد فيلمًا شاملًا يظهر بشكل جيّد ما يقوم به الأخوة. خلاصة الأمر، إنّ الأفراد الذين كانوا في المدينة ولا يعرفون الجبهة جيّدًا، صاروا يفهمون الظروف أكثر نوعًا ما عندما روينا لهم ما كنّا نرى ونسمع.

 

بعد عدّة أيام، انسحبت كتيبة حبيب من خطّ شلمجه. لكن قبل ذلك، فُجعتُ بخبر استشهاد اثنين من أصدقائي القدامى. لقد استشهد علي باشايي في 17 حزيران في خطّ شلمجه بعد أن أصيب بشظيّة عندما كان ذاهبًا ليتوضأ. كان من المقرّر في تلك الأيام أن يحضر إلى المدينة ليذهب إلى الحجّ، مع الشباب العائدين، إذ تمّت الموافقة على حجّهم، أمّا هو، فقد مرّ يوم تلاه آخر ولمّا يعد، لكنه سبق الجميع إلى بيت الله... وبعد ثلاثة أيام على شهادته، نال حبيب رحيمي أيضًا وسام الشهادة والتحق بأخيه مجيد.

 

كنت أدعو الله تعالى بقلب مكسور أن يعينني على تحمّل فراق أعزّتي ويمنحني الصبر والجلَد...

 

521


511

الفصل السادس عشر: الانهيار

الفصل السادس عشر:

الانهيار

 

بدأنا نسمع شيئًا فشيئًا أنّ مهمّة فرقة عاشوراء ستكون من الآن فصاعدًا في الغرب. في تموز-آب من العام 1987م ذهبتْ إلى هناك عدّة كتائب من بينها كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، وشاركت في عملية "نصر7"[1] في منطقة "سردشت". فكّرت في تلك الأيام دائمًا بكلام الشهداء. لقد أصبح ما كانوا يتداولونه حول الحرب أمرًا واقعًا، فأيامها طالت، ولم يستطع العراقيّون حتّى اليوم توجيه ضربة قوية لنا، ولا نحن استطعنا توجيه ضربة قاضية لهم. أضف أنّ خسائر العراقيّين كانت تُعوّض بسرعة عبر الدعم الذي يقدّمه لهم حلفاؤهم في الخارج وأعداء الجمهورية الإسلامية: طائرات جديدة، أسلحة جديدة، وحتى قوّات جديدة[2]... بينما تظهر الخسائر البشرية واضحة عندنا.

 

كنّا نطرح في الجلسات مسألة سدّ الفراغ الذي يتركه الشهداء، وأنّى ذلك، فالمجاهدون اليوم، إن بحضورهم الماديّ أو بروحيّتهم القتاليّة وإيمانهم وتضحياتهم، لا يشبهون المجاهدين في السنوات الأولى للحرب على الإطلاق. الجبهة التي جذبت بمعنويّاتها الكثير من التعبويين فتربّوا في حضنها وجعلت منهم أناسًا سماويين، فقدت اليوم جاذبيّتها المعنويّة


 


[1] بدأت عملية نصر7 بنداء يا فاطمة (عليها السلام) في 5/8/1987م في غرب محافظة سردشت في أيام عرفة وعيد الأضحى.

[2] رأينا بين الأسرى العراقيين طوال مدة الحرب جنودًا مأجورين من 15 دولة أجنبية أيضًا، وهذا دليل على الدعم المطلق للدول الأجنبية للعراق، وعلى مظلومية الشعب الإيراني العظيم.

 

522


512

الفصل السادس عشر: الانهيار

أمام الدّنيا ولذائذها، ولم يبقَ على عهد المقاومة المكتوب بالدم سوى أولئك الذين ذاقوا تلك الحلاوة الإلهية. كان أكثر الأفراد الموجودين في المركز هم ممّن لديهم تجربة طويلة في الجبهة، وقد أصيب بعضهم بجراح حدّت من فعاليّتهم وعطائهم. وأنا كذلك. فلم أكن مثلًا أستطيع النّوم في الجبهة ليلة كاملة بشكل مريح. ظهري يؤلمني من جهة وبطني من جهة أخرى! بعد هذه السّنوات الطّويلة التي قضيتها في الجبهة والجراحات التي أنهكت جسدي وغطّت 70% منه، اقترب موعد ذهابي ليس إلى الخطّ الأمامي ولا إلى المنزل، بل إلى وادي الرحمة! لكن أراد الله أمرًا آخر وبقيت شاهدًا على مظلوميّة شبابنا وغربتهم في الجبهة، في وقت لا بدني ساعدني على البقاء هناك، ولا حياة المدينة استطعت احتمالها هنا.

 

في كردستان، عام 1981م، كان وزني يزيد عن الـ80 كلغ وأنا في 17 من عمري، أمّا في خريف العام 1986م فقد أصبح وزني 55 كلغ. ظللتُ في أغلب الأوقات أعاني من التهابات جراحي المتكرّرة، لكنّني كنت أتصبّر، ولم أتوانَ لحظة واحدة عن أداء التكليف. كان ما أراه في المدينة أشدّ إيلامًا من تلك الجراح أحيانًا. لقد بدأ الشرخ يكبر بين الجبهة والمدينة مع مرور الأيام، وصار الشباب يصابون باليأس ويعرضون عن الجبهة عندما يرجعون منها، ويرون عدم اهتمام المسؤولين بشؤون الحرب المفروضة. كنّا نصادف تلك الأيام أشخاصًا يخاطبون رفاقهم بلا حياء: "تريدون الذهاب إلى الجبهة؟! دعكم منها ولنذهب نتسلَّ معًا", ورأينا أبناء بعض المسؤولين يمضون الخدمة الإلزامية (خدمة العلم) في فريق الحماية الخاصّ بمسؤولي الإدارات المختلفة في المدينة. لم تكن مثل هذه الأمور تحصل فقط في سنوات الحرب الأخيرة، لكنّها ازدادت أكثر مع مرور الوقت[1]، وهذا ما قصم ظهورنا.

 


[1] أذكر عندما كنت في كتيبة الإمام الحسين أنّ عددًا من المسؤولين جاؤوا لزيارتنا قبل أيام على بدء عملية "يا مهدي" وكنا في مصنع الملح، ومن بينهم مسؤولو محافظات، قائمقاميات وبلديات. ذهبت كل مجموعة منهم إلى فصيل، وزارنا منهم اثنان من رؤساء البلديات. عندما كنّا نتناول طعام الغداء طرحنا بعض المشاكل التي نعاني منها، وانتقد الشباب أوضاع المدينة والمسؤولين، قال أحدهم: أنتم ترون الشباب هنا في أيّ ظروف يعيشون وفي أيّ حرب قاسية يقاتلون، مع كل ذلك، عندما يذهب هؤلاء إلى المدينة ويرون الوضع هناك يصيبهم اليأس! ولا يكفي أنكم أنفسكم لا ترسلون قوات إلى الجبهة بل تأخذون عناصرنا أيضًا!"، أكمل الثاني: "كيف يستطيع هؤلاء المقاتلون إدارة الحرب وفقًا لتوجيهات الإمام وتوجيهات قادتهم، وأنتم لا تستطيعون إدارة مدنكم بشكل جيد، وهي بعيدة عن أجواء الحرب؟"، وقلت أنا مازحًا: "نحن دخلنا في حرب مدن، إن شاء الله عندما تنتهي الحرب سوف نرجع ومعنا أسلحة الB7 والدوشكا وأي إدارة أو مصلحة لا يكون الناس راضين عنها سوف نطلق عليها النار"، أجابني أحدهم بكلام عرفت بعد سنوات أنّه كان من صميم الواقع: "عندما ترجعون إلى المدينة سوف يقوم بعض المسؤولين بتوظيف بعضكم كمرافقين لهم ويكملون أعمالهم، وعندها لن تستطيعوا حتى أن تطلقوا قذيفة B7".

 

523


513

الفصل السادس عشر: الانهيار

في أواخر صيف العام 1987م كنت في دزفول عندما قالوا إنّ كتيبة حبيب ستذهب إلى ثكنة الشهيد القاضي. وضعنا أمتعتنا في آليتي "تريلر" وذهبنا نحن في الحافلات. طلب الأخوة في الحرس من السائقين عدم التوقّف بعد مدينة "ميانه", لكنّ الشباب أصرّوا على الذهاب من داخل المدينة، فحينذاك سيتمكّنون من شراء ما يحتاجونه أولًا، وتفقّد عوائلهم ثانيًا. خضنا في الحافلة نقاشًا ساخنًا حول موضوع تمامية الصلاة وقصرها في ثكنة الشهيد القاضي.

 

لم يكن بناء هذه الثكنة قد اكتمل بعد، فبعض الأبنية يفتقر إلى المياه وبعضها إلى الكهرباء، لذا أجبرنا على استخدام المصابيح في الليل. عندما وصلناها جلنا في أرجائها فوجدناها محاطة بالأسلاك الشائكة من كلّ الجوانب، وكان في الجهة الخلفية منها حديقة غير مسيّجة تفصل بينها وبين إحدى التلال. لم نجد هناك أيّ مخرج جيّد للهروب في النهار.

 

رغب الجميع بالذهاب إلى تبريز بسبب قربها من الثكنة، إذ لم تتجاوز المسافة إلى هناك النصف ساعة، لكن، تمّ منع الدخول والخروج من على مسافة 100 م من الحارس، بل وفُرض عدم التقدّم إليه أساسًا،

 

524


514

الفصل السادس عشر: الانهيار

والسبب هو قرار الانطلاق إلى الغرب بعد ثلاثة أو أربعة أيام. كان بعض الأهالي يأتون لرؤية أبنائهم بعدما عرفوا بوصول الفرقة إلى الثكنة، لكن، لم يسمح لهم الحرّاس بالاقتراب من الثكنة أيضًا، فكانوا يكتفون بالسلام على أبنائهم من بعيد. في تلك الليلة عرفت أنّ أفراد عائلتي ينتظرون أمام المدخل. ذهبت لرؤيتهم، لكنّ الحارس منعني. قال لي إنّه من غير المسموح لي الاقتراب أكثر! عندها ذهبت من طريق اكتشفتها صباحًا. احتجت إلى نصف ساعة لألتفّ حول الثكنة عبر الحديقة وأصل إلى خارجها حيث تفاجأ بي الحارس، وقال لي: "أخبرني كيف خرجت؟".

- هذا الموضوع لا يعنيك.

 

بقيت مع عائلتي لفترة وظلّ الحارس يراقبني ليعرف من أين سأعود. عندما ودّعتهم كان السيّد فاطمي قد وصل لحسن حظّي، وأخبرته أنّ الحارس لا يسمح لي بالدخول، فطلب منه أن يدعني أدخل ولا يعترض طريقي مرّة أخرى. وهكذا عدت إلى الثكنة.

 

خصّصوا هناك لكلّ كتيبة قاعة قسّموها إلى عدة غرف، ومع أنّها افتقرت إلى المياه والكهرباء، إلا أنّها ظلّت أفضل من الخيام، خاصّة مع تدنّي درجات الحرارة.

 

بعد 5 أو 6 أيام توجّهنا نحو "رحمانلو", وهي قرية قريبة من بحيرة أرومية. لم تكن طريقها جيّدة في البداية، إذ تحيط بها الكتل والمسطّحات الصخرية الكبيرة والجبال التي كان يذهب الشباب أحيانًا إليها، ثم استُحدثت لها طريق فيما بعد باستخدام الجرافات. نصبنا الخيام هناك، فقد تقرّر أن نمضي الشتاء في تلك المنطقة.

 

اشتدّت برودة الطقس، وبدأت الثلوج تتساقط في ضواحي تبريز. كنت في عصر أحد الأيام في الخيمة الخاصة بالقيادة وجلال زاهدي، حسن حسين زادة، فرج قلي زاده وعدد آخر من الأفراد، نتبادل

 

525


515

الفصل السادس عشر: الانهيار

أطراف الحديث ونحتسي الشاي، وقد غطّينا الخيمة ببطانية لكي نحتمي من البرد القارس، ووضعنا في طرفيها صندوقي ذخائر فارغين استخدمناهما لأمتعتنا، وكنّا نخلع أحذيتنا قربها.

 

فجأة سمعنا صوتًا عجيبًا. لقد تدحرجت صخرة من أعلى الجبل ووقعت على الخيمة. لم يستطع أحد فعل شيء للحؤول دون سقوطها، فقط صار الجميع يصرخون: "ابتعدوا". صادف أن كنّا جميعًا جالسين في أطراف الخيمة فلم يصب أحد بسوء والحمد لله، لكنّ الخيمة مُزّقت وكأنّها شُقّت بسكّين إلى نصفين! قلبت الصخرة الخيمة رأسًا على عقب فخرج الجميع منها مضطربين. من أين جاءت هذه الصخرة ؟ ماذا كان سيحصل لو أنّها وقعت على الشباب؟... يبدو أنّ اثنين أرادا أن يمزحا وحرّكاها فتدحرجت وسقطت على الخيمة...

 

بالنسبة إلى الإخوة، كان للبقاء في "رحمانلو" حسناته وسيئاته في الوقت ذاته. من حسناته قصر المسافة إلى تبريز إذ لم تكن تتجاوز الساعة أو الساعة والنصف، ما جعل التواصل مع أُسرهم سهلًا. أمّا من سيئاته، فهو أنّ هذه العوائل كانت تعرف بكل أمر يقع في "رحمانلو". فمثلًا، إذا وُضعت خطّة ما يعلم الأهالي بها. كما إنّ الظروف هناك – لا سيّما المناخية الباردة - كانت صعبة بالنسبة إلى الأفراد الذين اعتادوا على مناطق الجنوب. اعتقدت أنّ الذين يستطيعون العمل في الغرب هم الأخوة في فرقة عاشوراء الذين أتوا من تبريز وأرومية وغيرهما من مدن آذربيجان، مع أنّ قدامى هذه الفرقة أمضوا سنوات عدّة في الجنوب ولم يكونوا معتادين على برودة الطقس هنا.

 

يوميًّا كان لدينا في "رحمانلو" برامج صباحية. أحد أهمّ هذه البرامج الجيّدة التي واظبنا عليها من بداية الحرب حتى نهايتها هو قراءة آيات

 

526


516

الفصل السادس عشر: الانهيار

من القرآن الكريم وترجمتها، إضافة إلى قراءة وصيّة شهيد أو شهيدين من فرقة عاشوراء. كان هذا البرنامج المختصر يرفع كثيرًا من معنويات الشباب لأنّ أغلبهم تعرّفوا إلى هؤلاء الشهداء، لذا كانوا يتأثّرون أكثر بوصاياهم. وطالما احتوت عددًا من النقاط المشتركة: "لا تُخلُوا الجبهة، لا تتركوا الإمام وحيدًا، إضافة إلى الدعوة إلى العبادة وصلاة الليل والجهاد و...".

 

في هذه الظروف، كان وضع بعض الأفراد يستحقّ المشاهدة. بعضهم مرتّب، وآخرون جُعلت فداهم!، مُفشكلون يسدلون طرف القميص فوق البنطال وطرفه الآخر تحته، وكانوا يضعون المعاطف على أكتافهم..

 

بعد ذلك، يأتي موعد تسلّق الجبال. لم يكن المكان مناسبًا للركض، فاستعضنا عنه بالتسلّق يوميًّا، وكان بعضهم يستغلّ تلك الفرصة فينسحب خلسة ليمضي إلى المدينة ويشتري الطعام أو الفواكه، أو يذهب للحلاقة أو الاستحمام. كنت واحدًا من هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه الأمور، ويهربون لساعات خلال النهار أو طوال اليوم، فعندما يصطفّ الشباب في طابور ليتسلقوا الجبل يكفي أن تبقى أنت في الخلف و..! بعد شهادة علي باشايي وحبيب رحيمي، أصبح جلال زاهدي مسؤول السريّة، وفرج قليزاده معاونه، وبقي حسن حسين زاده المعاون الثاني. وبعد كربلاء5، أصبح السيّد فاطمي مسؤول اللواء، ومحمد سوداكر مسؤول "كتيبة حبيب", ومطلق معاون مسؤول الكتيبة. لقد انسجمت مع أفراد السريّة وانسجموا هم معي. كانوا أحيانًا يجتمعون في مكان ما وأبدأ بالحديث معهم، وكالعادة يضحكون عندما أتكلّم معهم، إمّا من شكل وجهي، وإما من نفس حديثي!

 

أحيانًا كنّا نمشي ونتسلّق الجبال في الليل. وأحيانًا كانوا يأخذون

 

527


517

الفصل السادس عشر: الانهيار

الشباب عند الظهر إلى مكان أبعد من خط سّكة (تبريز-عجبشير) الحديدية التي تمرّ قرب "رحمانلو" حتى يصبح احتمال رؤيتهم ضعيفًا. وعند المساء، يتركونهم ليستكشفوا بأنفسهم طريق العودة، كلّ فصيل وحده. وعادة ما كانوا يرجعون إلى المعسكر بسهولة لأنّهم تعرّفوا إلى المنطقة. اعتُمدت مثل هذه الأساليب لاكتشاف نقاط الضعف في حركة الأفراد، وكانت فعّالة![1]

 

ارتفع في المنطقة جبل شاهق بالقرب من بحيرة أرومية يشرف على تبريز وآذرشهر من جهة، وعلى بناب، عجبشير ومراغه من جهة أخرى. بدا منظر البحيرة من هناك رائعًا، وإذا كانت لأحد عينان سالمتان مثلي، فإنّه يستطيع الاستمتاع كثيرًا برؤية تلك المناظر! تستغرق المسافة بين المعسكر وذلك الجبل الشاهق حوالي الأربع ساعات، وقالوا إنّ المنطقة التي ستُنفّذ فيها العمليّة الجديدة شبيهة بهذا الجبل، لكن فيها المزيد من الصخور، لهذا عمدنا أغلب الأوقات للتدرّب على تسلّق الجبال. أحيانًا قمنا هناك بمناورات، فيتموضع بعض الشباب في قمة الجبل ويطلقون النار على البقيّة، واعتبر ذلك برنامجًا جيّدًا لرفع الجهوزية. لكن، كان بعضهم يصاب بضيق في التنفس عندما يتسلّق الجبل فلا يكمل طريقه. شكّل مثل هذه التدريبات أمرًا لازمًا لخوض حرب في المناطق الجبلية، وقد قمنا في تلك المنطقة بأكثر من عشر مناورات، بينما لم نكن ننفّذ أكثر من واحدة أو اثنتين في المناطق السّهلة.

 

في آخر أيام إقامتنا في رحمانلو حين بدأنا بجمع أمتعتنا للذهاب


 


[1] في إحدى المرات، ضلّت إحدى السرايا الطريق في المساء وكان المطر غزيرًا. وصل الشباب عند الصباح إلى إحدى القرى وما إن رأى الناس قوّات عسكرية حول القرية حتى أصابهم الخوف ولم يخرج أحد منهم من منزله، فذهب أحد الشباب وأخبرهم بما جرى، واطمأنّ أهل القرية إليهم وساعدوهم على إيقاد النار لتجفيف ملابسهم. زوّدوهم بالماء والطعام أيضًا وأرشدوهم إلى طريق العودة إلى المعسكر.

 

528


518

الفصل السادس عشر: الانهيار

إلى منطقة العمليّة راحوا يقدّمون لكلّ كتيبة الكباب اللذيذ الذي تشتهر به مدينة تبريز. وعندما وصل الدور لكتيبتنا وذهبت لأحضر الكباب، أخذت كمية تزيد عن حاجة الفصيل. رآني جلال وعاتبني كثيرًا على ذلك... فقلت له: "ما يعنيك في الموضوع؟ لم أحضرها لك يا عزيزي، بل أحضرتها لي!", كان لتناول المزيد من الكباب نكهة خاصة أيضًا. لقد شفيت غليلي في العشاء وفي فطور اليوم التالي أيضًا.

 

في تلك الأيام أرسلوا إلينا مجموعة من عناصر المعلومات، وقد أضفى حضورهم بيننا جوًّا من الأنس، فعندما سألت أحدهم مثلًا: "أين تعمل أيها السيّد؟", كان جوابه: "أنا موظف في البلدية، أكنس الطريق من أول السوق حتى مجرى الماء...".

 

ولما سألت آخرَ عن عمله أجاب:

- أنا أعمل في مصلحة الزراعة، ويأتي الناس من القرى ليأخذوا الأدوية من عندنا!

 

اللافت أنّنا صحبنا عددًا منهم، وراح يمازح بعضنا بعضًا قائلًا: "جيّد، لقد أصبح لنا معارف في كلّ مكان، وسنتمكّن بعد الحرب من تيسير أمورنا!".

 

اجتمعوا كلهم في فصيل عليرضا سارخاني، وصادف أنه تميّز بالانضباط.

 

كلّ شيء كان يُنبئ بقرب موعد العمليّة، خاصة الطعام والمناورات الليلية. لقد نُفّذ عددٌ منها وتمّ التخطيط لأخرى في بعض الجبال الشاهقة الواقعة على طريق فرعي يمرّ قرب بحيرة أرومية.

 

في ذلك اليوم وبعد أن تناولنا طعام الغداء، ذهبت مع جلال زاهدي إلى مقرّ قيادة السريّة. كان محمد سوداكر هناك، وقدّم شرحًا حول

 

529


519

الفصل السادس عشر: الانهيار

المناورة الليلية: مكان تموضع السرايا، طريقة التحرّك وغير ذلك. وكان على طاقم السرية توضيح هذه التفاصيل لعناصرهم، ثم حُدّد موعد بدء المناورة بعد الغروب عندما يحلّ الظلام. لم تكن الثلوج تتساقط، لكنّ برودة الطقس اشتدّت. بدأنا بتسلّق الجبل. كلّما تقدّمنا أكثر ازدادت سرعة الرياح لدرجة أنّها كادت توقعنا إلى الأسفل... تحرّك عناصر كتيبتنا في طابور قرب الماء، وسلكت كلّ سريّة المسار المحدّد لها. اقتضت الخطّة أن نتسلّق جبلًا يُفترض أنّ "العدوّ" تموضع في قمّته، وبالتالي علينا أن نتحرّك في الأخاديد ونقطع الشيارات والمنخفضات التي لُغّمت أو نُصبت فيها الكمائن. كان المحور الذي نتحرّك فيه وسط محوري سريّتين. وأثناء عبورنا المنخفض نحو أعلى الجبل، بدأ الشباب بتفجير الألغام وإطلاق النار من أسلحة الدوشكا، فاحترقت ملابس اثنين من العناصر، لكن سرعان ما أُخمدت النار. لقد أخطأوا عندما بدأوا التفجيرات أثناء عبورنا من المكان، ولا أعلم إن كان السبب خللًا في الجدولة الزمنية للخطّة أم أنّ مشكلة ما قد وقعت. على أيّ حال، تمّت المناورة، وعرفنا كيف تكون المعركة في المناطق الجبلية.

 

في طريق العودة، تقرّر أن يرجع العناصر إلى خيامهم في طوابير، واحدًا بعد آخر، لكن، لم يكن الأمر بهذه البساطة. كان المشي في تلك المنطقة صعبًا بسبب الحجارة والصخور المنتشرة على الرمال، إضافة إلى مشكلة الصوت الذي كنّا نصدره. ومقابل كلّ خطوة إلى الأمام نرجع خطوتين إلى الخلف. تأخّرتُ عن الشباب ولم أستطع اللّحاق بهم بسبب معاناة نظري، وقدمي لم تساعدني على الجدّ بالسير، لكنّ جلال زاهدي ظلّ قربي وتابعنا طريقنا معًا. بدأت حالي تسوء أكثر بسبب اشتداد الصقيع، وتأذّى وجهي وعيناي كثيرًا لدرجة أنّني لم أعد أعلم أين أضع قدميّ، وكأنّ عينيّ أصبحتا مجرد ثقب في وجهي. ولأنّني جرّبت مشكلة انقباض عضلة الفم في السابق، خفت 

 

530


520

الفصل السادس عشر: الانهيار

أن تعاودني هذه الحال في هذا البرد القارس. عندما رأى جلال حالي أمسك بيدي بكلّ شهامة وقال: "هيا بنا سيّد، لنذهب معًا". أعطيته يدي من دون تردّد، وألقيت بثقلي على كتفه قليلًا فتحسّن وضعي بعض الشيء. تأخّر الأخ جلال في الوصول بسبب حركتي البطيئة، وكان عليه أن يصل قبل البقيّة ويتحدّث معهم. اعتذر منّي وقال: "سأذهب أنا وأنت انزل الهوينا"[1]. هكذا أصبحت وحيدًا مرّة أخرى. في الأحوال الطبيعية أقطع هذا المسار خلال 5 دقائق، لكنّني احتجت إلى نصف ساعة لأصل إلى الشباب، وقعت خلالها أرضًا ثلاث أو أربع مرات حتى سال الدم من ركبتي. زاد الصقيع من سوء وضعي وأخذ الدمع يخرج من عيني، وتمكّنت من الوصول بالتوكّل على الله، ولم أكن أستطيع أن أرى حتى ما تحت قدميّ. أصبحت كالجندي المنهار! تقدّم الأخ جلال باتجاهي، ولما رأى يديّ وركبتيّ المدمّاة قال منزعجًا: "ليتني لم أتركك. لم أكن أعلم أنّ حالك سيّئة لهذه الدرجة!". فأخبرته أنّني لا أستطيع تحمّل الطقس البارد!

 

في اليوم التالي عادت التقيّحات إلى وجهي، وتجدّد ألمي وانقبضت عضلة فمي! كانت تخرج يوميًّا من عينيّ 40 إلى 60 نقطة من التقيّحات، لكن فقط خلال النهار أمّا في الليل فلا. ربما يحصل ذلك نتيجة البرد والصقيع الذي يجتاح جسدي ليلاً فأسمع صداها نهاراً[2].

 

بعد المناورة بيومين أو ثلاثة أيام، تقرّر الانطلاق إلى المنطقة التي ستُنفّذ فيها العمليّة. تغيّرت من جديد أوضاع وأحوال الشباب في


 


[1] أي انزل على مهل.

[2] القيح الذي كان يخرج من عيني هو من ذكريات الحرب، ولم تعالج هذه المشكلة أبدًا بشكل كامل ومازالت مستمرة حتى اليوم، وهي تتفاقم أكثر في الطقس البارد.

 

531


521

الفصل السادس عشر: الانهيار

الكتيبة. بدأ بعضهم بتجهيز سلاحه وآخرون بكتابة رسالة أو وصيّة. لقد أصبحت "رحمانلو" الآن نقطة انطلاق إلى ساحة أخرى. ساءت أحوال الطّقس عند الانطلاق، وأراد الشباب إقامة مجلس عزاء، فأحضروا من تبريز- القريبة- كلّ ما يحتاجونه. قبل العمليات أَضْفَتْ فرق اللطم على أرواحنا نكهة فريدة.

 

منذ الصباح الباكر بدأ الكلّ بجمع العتاد والأمتعة، فالموعد كان عند الحادية عشرة. جاء من تبريز حوالي 20 شخصًا لوداعنا ما بين علماء دين ومسؤولين، وليتهم ذهبوا لتنفيذ العمليّة مع الأخوة بدل من أن يأتوا لوداعهم! أذكر من هؤلاء إمام جمعة تبريز والمحافظ وأفرادًا من النيابة العامة وغيرهم. وقد لبس الجميع الجزمات لأنّ المنطقة كانت موحلة، ويبدو أنّ أحدًا لبس خطأً الجزمة الخاصّة بإمام جمعة تبريز الشيخ "ملكوتي". كنّا منزعجين من أغلب المسؤولين، وهناك قال أحدهم، علم أم لم يعلم، كلامًا زاد من انزعاجنا! في المقابل، تناول أحد العلماء الذي كان أبًا لشهيدين، وهو الشيخ "رضايي" قرآنًا بيده، وجعل الشباب يعبرون من تحت القرآن بكلّ محبة. انهمك المصوّرون بالعمل أيضًا، وفوجئت بأحدهم يطلب إجراء مقابلة معي ولم يترك لي فرصة للتفكير، لكنّ انقباض عضلة فمي أثار حفيظة المراسلين. وفي حين لم يستطع أحد إدراك وضعي المزري، أحضر لي الشباب الذين ذهبوا إلى تبريز الحليب معهم لعلّ وضعي يتحسّن قليلًا.

 

تجاوزت الساعة الحادية عشرة ولم نتحرّك من مكاننا بعد. لقد استلزم صعود 40 عنصرًا في الحافلة مع حقائبهم وأسلحتهم الكثير من الوقت. ودّعَنا المسؤولون وهم جالسون في سياراتهم الخاصّة بسبب غزارة الأمطار وعادوا! أما نحن فودّعنا رحمانلو وتوجّهنا نحو بوكان.

 

532

 


522

الفصل السادس عشر: الانهيار

وبعدها وصلنا إلى قرية صغيرة فيها مقرّ للحرس حيث كانوا بانتظارنا. صعدوا في الشاحنات التي أحضروها من قبل وتابعنا طريقنا معًا.

 

ما بعد بوكان، اشتدّت برودة الطقس أضعافًا مضاعفة، وعندما نزلنا من الحافلة عرفنا من الصقيع الذي لفح وجوهنا أنّنا في منطقة جبلية. كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، وأُعطي الشباب ساعة من الوقت للصلاة وتناول طعام الغداء. صلّى أغلبنا في الخارج لأنّ المكان لم يكن مناسبًا إذ أعطيت غرفة واحدة لكلّ كتيبة! كان المركز في وسط القرية، ولم يسمح عناصره للأهالي بالاقتراب منه أثناء وجودنا. لم تكن المواجهات في كردستان قد انتهت بعد، ويبدو أنّه وقع اشتباك في المنطقة قبل يومين. بالطبع عاملنا الناس بلطف وأرادوا أن يسألونا من أين جئنا وإلى أين نذهب.

 

وأخيرًا فَرزوا لسريّتنا شاحنة (بيك آب) ذات خلفية مغطاة بخيمة (تشادر) بارتفاع متر، وتهيّأ الشباب للتحرّك. كان الصعود في الشاحنة وتحمّل تلك الظروف أمرًا صعبًا جدًّا، وقد جرّبناه من قبل، لكن، ليس باليد حيلة. جلست قرب السائق لأنّني المسؤول عن العناصر في الشاحنة. كان تركيًّا ومن سكان تاكستان. سألني: "إلى أين نذهب؟", قلت: "أَوَلم يخبروك إلى أين نذهب؟.

- بلى أخبروني. هل المكان جيّد هناك؟

- أجل؟ جيّد جدًّا!

- كم تبعد المنطقة هناك عن العراقيّين؟

- المسافة كبيرة بيننا وبينهم! لا تخف!

 

كانوا قد أبلغونا من قبل أن لا نخبر السائقين أين نذهب ولماذا[1].

 


[1] أكثر السائقين كانوا عندما يعلمون أنّنا ذاهبون إلى منطقة عمليات يمتنعون عن الذهاب، وقد حصل مرات عدة أن ترك السائق الآلية وقال: "لن أذهب! أنتم خذوا الشاحنة واذهبوا!"، وبما أنه لا يستطيع أحد قيادة الشاحنة الآن، أردت أن أخفف من قلقه فقلت له إنّ المكان الذي نذهب إليه بعيد عن العراقيين و...

 

533


523

الفصل السادس عشر: الانهيار

انطلقنا عند الرابعة ووصلنا مع أذان المغرب إلى "بانه". لقد تحمّل الشباب تلك الظروف بكلّ شهامة بالفعل، حتى إنّه لم يكن ممكنًا للناس معرفة أنّ ما تحمله الشاحنة هو سريّة تعبئة، الثلوج تغطّي الأرض، والصقيع يلفح سطح وجوانب الشاحنة، وأنا أتجمّد بردًا لمجرّد التفكير بما يعانيه الشباب في الخلف. ومع أنّنا شغّلنا جهاز التدفئة إلا أنّ البرد ظلّ ينخر عظامي!

 

وصلنا إلى جادة سيّد الشهداء، وهو شارع التأمين. استغرق عبور هذا الشارع حوالي الساعة بسبب شدّة انحداره، ونحن نرى القنابل المضيئة التي يرميها العراقيّون. سألني السائق: "ما هذا؟".

- قنابل مضيئة.

- قنابل مضيئة؟ العراقيّون رموها أم الإيرانيّون؟

- لا! شبابنا هم الذين رموها! إنّهم ينفّذون مناورة!

- ولماذا ينفّذونها في الليل؟

- لأنه لا يمكن تنفيذ مناورة في النهار! يجب أن تكون المناورة في الليل.

 

قلت له إنّنا بعيدون جدًّا عن خطوط الدفاع كي لا يخاف، ولحسن الحظّ لم يكن يعرف شيئًا عن المنطقة فصدّق كلامي سريعًا. صادف في تلك الأيام أن كانت الأوضاع سيّئة، ورأينا في طريقنا شاحنة مقلوبة ورافعات وآليّات إيفا. كان ذلك الطريق الترابي شديد الازدحام، وقد ذهبت إلى المنطقة عدّة سرايا قبلنا ومن المقرّر مجيء قوّات أخرى بعدنا. عندما وصلنا إلى جسر سيّد الشهداء اقتربنا أكثر من السيّارات المتقدّمة علينا. كان في الطريق عدد من أفراد الشرطة العسكرية، وقد تم التنسيق المسبق معهم فأرشدونا إلى الطريق الصحيح. تابعنا سيرنا

 

534


524

الفصل السادس عشر: الانهيار

حتى وصلنا إلى جسر آخر صغير فوق نهر غزير، تحيط به الأحراج، وقد وضعوا تحته أنابيب إسمنتية (عبّارات دائرية). عبرنا هذا الجسر الذي يبعد عن جسر سيّد الشهداء 6 أو 7 كلم فوصلنا إلى المنطقة التي تمركزت فيها فرقة عاشوراء. توقّفنا في منحدر وادٍ حيث نقطة تمركزنا. قال سائق الشاحنة سأبقى معكم الليلة وأعود في الصباح. أراد أن يعطيني وثيقة الشحن لنوقّعها له ما يستلزم بقاءه حتى الصباح. طلبت منه أن لا يبقى. سأل: لماذا يجب ألّا أبقى؟

- إذا بقيت هنا قد يحلّ شيء ما بسيارتك، لأنّ المسافة بيننا وبين العراقيّين لا تزيد عن 1 أو 2 كلم!

 

ما إن سمع هذا الكلام حتى أرجع الشاحنة وقفل عائدًا لينجو بروحه. كانت تجربة جميلة، تحدّثنا طوال الطريق. قلت له: "ولم تخاف إلى هذه الدرجة! أنت تعلم أنّنا أقوى من العراقيّين، نحن نهاجمهم دائمًا وهم لا يقدرون على الهجوم علينا. ضع نفسك أنت مكان هؤلاء الشباب. إنّهم يقاتلون تحت الثلج وفي البرد و..." فأجابني بكلّ صراحة: "لا أيها السيّد! نحن لا نستطيع أن نضع أنفسنا مكانكم. نحن لدينا حياتنا، لدينا عوائل!..." وكأنّنا نحن لا حياة ولا عوائل لدينا!

 

استقررنا في معسكر "الشهيد داوود آبادي", تحيطنا من جهة مرتفعات "سركلو", ومن الجهة الأخرى مرتفعات "كولان". وقد سبقنا إلى هناك عنصران أو ثلاثة من كلّ فصيل لنصب خيام فصائلهم، لكنّهم لم ينجحوا بسبب الثلوج التي وصل ارتفاعها إلى نصف المتر أو إلى متر واحد في بعض الأماكن، إضافة إلى برودة الطقس الشديدة. لذا نصبوا خيمة واحدة فقط للسريّة، وأيّ خيمة! خيمة تسري المياه إلى داخلها فأصبح الشباب كالمشرّدين. قرب الجسر، تموضع عناصر

 

535


525

الفصل السادس عشر: الانهيار

فرقة أخرى ، وكان هناك أيضًا عنبران أو ثلاثة عرفنا فيما بعد أنّها خاصة بعناصر المعلومات في تلك الفرقة، وقد طلبوا منّا المبيت في أحد هذه العنابر حتى يتدبّروا أمرنا في صباح اليوم التالي. كان من بين عناصرنا "صمد قاسمبور" و"كريم محمديان", وأحدهما يشبه الآخر كثيرًا، لدرجة أنّنا صرنا نخطئ بينهما وهما يخادعان الشباب أحيانًا على سبيل المزاح أنّهما إخوة . أما أنا فعمدت إلى مناداة كُلٍّ منهما بـ "أخي" من دون تسمية.

 

ذهبت وحميد غمسوار إلى العنبر فوجدناه مليئًا بالمياه. لم تكن المياه تتقاطر من سقفه، بل كانت تتدفق منه بشكل متواصل، لكن، لم يكن لدينا خيار آخر. أشعلنا "مدفأة علاء الدين" لعلّ الوضع يتحسّن قليلًا، لكن بلا نتيجة. لقد حاصرتنا المياه من جهة والصقيع من جهة أخرى. خرجنا من العنبر لأنّ البرد اشتدّ لدرجة أنّه إذا بقي أحد هناك بلا حراك فسوف يتجمّد. قالوا إنّ الطقس في المناطق الأمامية بنفس البرودة. في هذه الظروف، تقدّمت آليّات السيمرغ إلى أعلى التلّة مثيرة الكثير من الضوضاء، ولم تكن آليّات أخرى غير التويوتا والسيمرغ تستطيع الصعود. فكّرنا بالتقدّم، لكن بلا فائدة، كلّ المناطق بعضها مثل بعض، ثلج، ثلج، مياه وصقيع!

 

كان هناك خيمتان، واحدة للدعم الخاصّ بالكتيبة، والثانية للسريّة، لكن، لم تكن تستخدمها. نقلنا عددًا من العناصر بالآليّات إلى الأمام. وبعد ذهاب دفعتين أو ثلاث جاء الأمر بعدم استخدام الآليّات لأنّ العراقيّين يسمعون صوتها، فتقرّر أن يتقدّم بقية العناصر عند الصباح في طوابير. كنت قد رافقت المجموعات التي ذهبت بالآليّات، ولأنّ مهمتي الإشراف على عملية نقل الأفراد فقد بقيت مع أفراد السريّة. لم يتمكّن أحد من الاستراحة حتى الحادية عشرة ليلًا، فحيثما ذهبت تجد المياه والثلوج. كان هناك مكان واحد للاستلقاء، تحت السماء وفوق الثلوج! لم

 

536

 


526

الفصل السادس عشر: الانهيار

يكن ممكنًا إيقاد نار والاستراحة خوفًا من أن يرانا العراقيّون، وأمضى كلّ الشباب تلك الليلة في ظلّ هذه الظروف الصعبة، أما العراقيّون فلم يكفّوا عن إطلاق النار حتى الصباح. كانت صواريخ مدفعياتهم تقع بعيدة عنا، ولم نكن نحن قد تعرّفنا بعد إلى المنطقة بشكل جيّد.

 

مع إشراقة الشمس، استطعنا أن نرى المنطقة حولنا. كنّا في مكان يشبه الوادي والثلوج تحاصرنا من كلّ مكان. وصلت أخبار تقول إنّ بعض الآليّات لا تستطيع إكمال مسيرها بسبب نفاد الوقود، وإنّ الطريق إلى هنا أغلقت بسبب الثلوج، والوحول تغطّي الطرقات، ما تسبّب أيضًا بسقوط عدد من الآليّات قرب النهر.

 

وقفت على الجسر فرأيت محمد تجلايي وقد نفد الوقود من آليّته ولم يستطع إكمال الطريق. نظرت فرأيت على وجه الماء نفطًا أو (ربّما كان) بنزينًا! سألت الشباب: "من أين يأتي هذا النفط على سطح النهر؟", لكنّ أحدًا لم يكن يملك جوابًا. قرّرت أن أتابع طريقي لعلّي أصل إلى المصدر الذي يأتي منه النفط. وصلت إلى مقرّ عناصر المعلومات التابعين لإحدى الفرق. كانوا مجهّزين بشكل جيّد ولديهم كلّ شيء. دعوني لتناول طعام الفطور، فأكلت معهم قليلًا وتبادلنا أطراف الحديث، كانوا غاضبين من الشباب في فصيلنا لأنّهم أغاروا على الخبز والجبن الذي يملكونه.

 

تركتهم وذهبت إلى خلف المقر. وجدت هناك صهريجًا يتّسع لـ 10 أو 12 ألف ليتر. اقتربت أكثر، فرأيت فيه ثقبًا يبدو أنّ صاروخ مدفعية أو قذيفة هاون سبّباه. شيء ما كان يتسرّب من هذا الثقب، لكن لم أعرف ما هو بسبب الثلج المحيط بالصهريج. توقّعت أن يكون بنزينًا، وتأكّدت من ذلك عندما نظّفت حوله وازداد سيلان البنزين. ذهبت لأحضر خشبة وسكينًا وعدت بصحبة بعض الشباب. نحتنا الخشبة ولففنا عليها خيطًا وأدخلناه بصعوبة في الثقب كي نمنع تسرب المزيد من البنزين، ثم ذهبت لأحضر غالونًا، ولما عدت رآني أحد أفراد الفرقة فتوجه نحوي

 

537

 


527

الفصل السادس عشر: الانهيار

وقال: "ماذا تفعل؟".

- أريد أن آخذ بعض البنزين.

- لا يمكنك ذلك.

- لماذا لا يمكنني ذلك.

- هذا البنزين لنا.

- عفوًا! نحن من حافظنا على هذا البنزين، لقد كاد ينفد.

 

جاؤوا وألقوا نظرة على الصهريج، فوجدوا أنّه قد نقص ثلاثة آلاف ليتر وظنوا أنّنا أخذناهم. راحوا يقولون لن نعطيكم حتى ليترًا واحد.

 

غضبت كثيرًا، فقلت لهم: "عزيزي! منذ متى وأنا أسعى لإصلاحه. لقد أصلحنا هذا الثقب بصعوبة كبيرة كي لا تخسروا المزيد من البنزين".

- سلمت يداك، لكن، لن نعطيكم حتى ليترًا واحدًا.

 

ذهب وأحضر جنزيرًا لفّه على صنبور الصهريج وأقفله وذهب! وعدنا نحن أيضًا.

- حسنًا! تظنون أنّنا لا نستطيع تحدّيكم!

 

ذهبت وأحضرت عددًا من الغالونات الفارغة وعدت مع عدد من الشباب. لقد ظنّوا أنّهم بإقفالهم الصنبور لن نستطيع الحصول على البنزين، لكننا ملأنا الغالونات من فتحة الصهريج، ورجعنا بسرعة لملء خزّانات الوقود فتيسّر أمر الشباب.

 

أحضروا لنا طعام الفطور عند الحادية عشرة. لم يكن بالإمكان البقاء داخل الخيمة في النهار خاصّة أنّ حرارة المدافئ ستذيب الثلوج ويسوء الوضع أكثر. تناولنا طعامنا في الخارج. جاء الأمر بالتحرّك عند الثانية عشرة. لقد أخذوا الليلة الماضية بعض العناصر بالآليّات، وتوجّب

 

538


528

الفصل السادس عشر: الانهيار

على البقيّة الآن أن يقطعوا تلك المسافة نفسها سيرًا على الأقدام، فذهبوا في طوابير. لم تكن الطريق طويلة جدًّا، لكن مع هذا لم تكن الحركة في الجبال وبين الثلوج مهمة سهلة. كانوا قد شقّوا دربًا متعرّجًا في الجبل لتسهيل حركة الأفراد. لو ذهبوا بخطّ مستقيم لكان أقصر، لكنّ ارتفاع الثلوج وصل إلى حوالي نصف المتر أو المتر، فكانت الطريق الأقل ثلجًا هي الأفضل. وظلّت آليّات التويوتا التي تمرّ من هناك تُقلّ بعض الأفراد. لقد عشنا بالفعل ظروفًا قاسية، لم نخلع الجزمات من الليل حتى الصباح، وراحت المياه تتسرّب من معظم الأحذية، ولم يكن مستبعدًا أن تتجمّد قدما أحدنا في هذا الصقيع.

 

وصلنا بصعوبة إلى مقرّ كتيبة حبيب. شمّر الشباب عن سواعدهم وبدأوا بتنظيف الثلوج ليتمكّنوا من نصب الخيام. كان الثلج قد تحوّل إلى جليد فاضطرّوا إلى استخدام المعاول لتكسيره. استمررنا في هذا العمل حتى العصر حين بدأنا بنصب الخيام، ولأنّ الأرض موحلة، اضطررنا لوضع قطع نايلون عليها ثم مددنا بطانية عليها، لكنّ الوضع لم يختلف كثيرًا. لم يمضِ نصف ساعة حتى وصلت الرطوبة إلى البطانية وسرعان ما تبلّلت. غيّرنا موديل الخيمة، وضعنا حولها نايلونًا وبطانيّات وحفرنا في وسطها حفرة صغيرة، لتتجمع فيها المياه! لكن، اضطررنا بعد ساعة إلى حفر قناة صغيرة من وسط الخيمة إلى خارجها لتصريف هذه المياه. لقد أحاطت سواقي المياه بالخيمة من كلّ مكان. لم نرَ مثل هذا المشهد من قبل! واجهتنا صعوبات كثيرة، لكن، هوّن الأمر علينا أنّ الشباب الموجودين بيننا هم أشخاص طاهرون وطيبون. المياه في كلّ مكان، وكلما صعدنا الجبل أكثر، رأيناها تخرج من أكثر من ناحية فيه. لو لم يكن هناك حرب لكان المشهد أكثر روعة.

 

نصبنا الخيام في مكان أشبه بالتلة، لذا كنّا عندما نذهب من خيمة إلى خيمة نتعثر ونقع ونصل إلى الأسفل بعد ثلاثة أو أربعة "تشقلبات".

 

539

 


529

الفصل السادس عشر: الانهيار

استمرّ تساقط الثلوج أربعة أو خمسة أيام متواصلة ما تسبب بإغلاق الطرق لمدة 13 يومًا! لم يستطيعوا إيصال شيء لنا خلال هذه المدّة، لا بنزينًا ولا طعامًا. كانوا يؤمّنون لنا القليل منه فقط بواسطة مروحيات كانت ترمي صناديق الطعام في المنطقة.

 

عشنا وضعًا صعبًا. إلى متى يستطيع الإنسان الصمود بين الثلوج! عادة ما تصل القوّات إلى منطقة العمليّة قبل موعدها بثلاثة أو أربعة أيام على الأقلّ ثم تنفّذ العمليّة، لكنّ الأمور اختلط بعضها ببعض الآن ولا يمكن القيام بشيء، الشباب عاطلون من العمل، وأخذوا يخترعون لأنفسهم عملًا بسبب الملل الذي كانوا يعيشونه رغمًا عنهم: بعضهم راح يحفر في الأرض ويستمرّ في الحفر حتى يصل إلى الماء، وآخرون يصنعون أنبوبًا لسحب هذه المياه، وكانت للإنصاف ماءً زلالًا، وكنّا نغسل به أوعيتنا. ذهبنا عدة مرات أيضًا إلى الوادي، رأيت دُشمًا لا أعلم إن كانت قد بُنيت في أوّل الحرب أم فيما بعد. في العادة كنّا نجول هنا وهناك مع "صمد قاسمبور", وهو أحد عناصر المعلومات ومن كردستان. كان قصير القامة، ولا يظهر منه غير رأسه عندما أُغْرِقه في الثلج. لقد أخذ صمد لنا صورة ما زالت معي حتى اليوم. صعبت هذه الظروف على بعض أكثر من بعض آخر، خاصّة المدخّنين الذين عانوا من قحط في السجائر. كانت المروحيات ترمي لنا الخبز والتمر فنقوم بإعداد "القيساوا"[1].

 

فُتحت الطريق أمامنا بالجرافات حتى المقرّ القريب من الجسر، لكن بقيت طريق سيّد الشهداء مغلقة حتى بعد 12 أو 13 يومًا. مرّت الأيام ثقيلة علينا، فوُضِع برنامج صباحي لتسلّق الجبال. كان الأمر مضحكًا،

 

 


[1] نوع من الأطعمة المحلية هو عبارة عن تمر مقلي بالزيت.

 

540


530

الفصل السادس عشر: الانهيار

نمشي حتى تدبّ الحيوية في أقدامنا، ثم بعد قليل نغرق في الثلوج ونتجمّد. فإمكانية الحراك بقوة انتفت بسببين: وجود بعض الهوّات والفجوات المغطّاة بالثلج، واحتمال أن يقع أحدنا فيها، وقد حصل مرّات عدّة أن وقع بعض الشباب في الحفر. صنع كرات الثلج ودحرجتها إلى الأسفل كانت من التسالي غير المؤذية في تلك الظروف.

 

جاءت الطائرات العراقية مرّات عدّة لشنّ غارات لكنّها لم تستطع تحديد هدفها بدقة، وكانت دفاعاتنا قوية أيضًا لذا لم يصب أحد منّا بسوء. كنت في صباحات تلك الأيام أجول في المنطقة مع صمد قاسمبور. لم يكن صمد شخصًا عاديًّا في الفرقة، إلا أنّه كان دائمًا قريبًا من الشباب. نزلنا معًا إلى سفح الجبل، وكان يجري من شقّ بين الحجارة ماء زلال ينعش الروح.

 

ذهب الشباب المدخّنون في أحد الأيام صباحًا ليحضروا السجائر ورافقتهم. مشينا حوالي 13 كلم حتى وصلنا إلى إحدى القرى الكردية واشتروا السجائر من هناك. باعونا علبة سجائر "هُما" الصغيرة بمئة تومان! وجدنا الناس يعيشون حياتهم العاديّة في تلك القرية العراقية التي سقطت بأيدينا خلال الحرب، لكنّهم كانوا مسلّحين، وقد اتخذ عناصر من "مقرّ رمضان" مركزًا قرب القرية. أنجزنا المهمة وعدنا بعد الظهر. كم تحمّل هؤلاء من مرارات في سبيل السجائر! كان كلّ ثلاثة أشخاص يدخنون سيجارة واحدة فقط هي نصيبهم في اليوم.

 

في أحد الأيام قالوا لنا: "ستذهبون غدًا لرؤية الخطّ". كان يجب أن نقوم بذلك في النهار عندما يكون الجوّ صافيًا حتى من الضباب. توجّهنا إلى هناك في يوم كانت ظروف الطقس فيه مساعدة. رافقنا إلى هناك

 

541

 


531

الفصل السادس عشر: الانهيار

مهديقلي رضائي وهو من عناصر الاستطلاع والمعلومات ومن السابقين في هذا العمل، وقد أصيب في كربلاء5 بجراح عميقة لم يعد يستطيع بسببها طيّ إحدى قدميه وأصبح يعرج. كانت تربطني به علاقة جيّدة، وكنا نسأله أيّ شيء يخطر على بالنا حول المنطقة. أخبرنا مهديقلي أنّ العراقيّين موجودون في أعلى جبل "قاميش", ويشرفون علينا، وأنّ في هذه الجهة مدينة "ماووت"[1] العراقية التي تحرّرت في عملية "نصر4". تتميّز "ماووت" بأبنيتها الجميلة، وكان أحدها معقلًا للمنافقين وقد تم إخلاؤه. بدت الحركة خفيفة في المنطقة ودأب عناصرنا على الذهاب إلى هناك في الليل. كانت فقط المناطق المنخفضة والأخاديد بمنأى عن أعين العراقيّين. وقد وجد شباب المعلومات والاستطلاع طرقًا للذهاب إلى مرتفعات قاميش العالية، رغم أن المنطقة خطيرة، والعدوّ يطلق النار على كلّ من يراه. لم تكن حركة الآليّات سهلة في النهار خوفًا من أن يراها الأعداء، أما في الليل فكانوا يطفئون الأنوار ويستعينون بأحد الأفراد لإرشادهم إلى الطريق.

 

يمر نهر كبير أسفل "قاميش" أُطلق عليه "قلعة تشولان". كان شباب المعلومات يقولون: سنبني فوق "قلعة تشولان" جسرًا لتتمكّنوا من العبور. بناءً على قولهم علينا أن نسير كلّ الليل للوصول إلى سفح قاميش.

 

بدا العمل في تلك المنطقة صعبًا، لكنّ كلّ شيء توقّف بسبب تساقط الثلوج. لقد شقّوا طريقًا من معسكر الشهيد داوود آبادي حتى الخطّ (المحور) الذي كنّا فيه، وتمر الطريق بقسم منها في الجبل، وقد حُفرت بالجرافات، وخرجت من قلب الجبل مياه عذبة صافية ووافرة، كتلك التي لأجلها تُحفر الآبار العميقة في المدن. كانت الأرض هناك خصبة ببركة هذه المياه الجوفية والثلوج والأمطار التي تتساقط فيها باستمرار،

 


[1] ورد الحديث عن المعارك والاستطلاع في ماووت وجبال قاميش في كتاب (فرقة الأخيار-ج2) بشكل لافت ومفصّل أيضًا.

 

542


532

الفصل السادس عشر: الانهيار

وملأت أشجار الجوز والعنب المنطقة. رحنا نشرب من هذه الينابيع ونغسل فيها أوعيتنا وأمتعتنا وسياراتنا، كما وغطّت المياه جزءًا من الطريق لكنّها لم تُعق حركة السيّارات. لم أرَ قبل ذلك اليوم منظرًا كمنظر ذلك الشارع وذلك النبع. إضافة إلى النهر الكبير والغزير "قلعة جولان", فقد تكوّن عدد من الأنهر الصغيرة بفعل ذوبان الثلوج كان منظرها يحيي الروح.

 

استقرّت هناك كتائب "أبو الفضل العباس" عليه السلام، الإمام الحسين عليه السلام، السجاد عليه السلام وحبيب، لكن لم تتجاوز العمليّة مرحلة التخطيط. كنت أفضّل المجموعات المشاغبة، لذا لم أكن في المساء أبقى كثيرًا في الخيمة الخاصّة بقيادة السريّة، ولم تكن العناصر المشاغبة قليلة بيننا أيضًا ومنهم حسن حسينزاده، صمد قاسمبور وغيرهما... ويعتبر جلال زاهدي الوحيد الذي يُعدّ بيننا من أهل الفكر، كان يكثر من الحديث عن قضايا المدينة ومشاكل الحرب والمجتمع، وأحيانًا يروي بعض ما حصل في عملية "نصر7" التي نفّذتها كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، ويحدّثنا عن المواجهات التي خاضوها وعن شجاعة الشهداء ومظلوميّتهم...

 

أما "فرج قلي زاده" فجلّ حديثه تركّز على المسائل العسكرية. وفي مقابل هؤلاء الذين لا يفكّرون كثيرًا في بطونهم، كان كلّ تفكيري وهمّي في الطعام لأنّني لا أستطيع الصمود في ذلك البرد القارس إلا إذا تناولته باستمرار. أحبّ جلال العمل في التجهيزات كنصب الخيام، حفر الدشم وإحضار الطعام وتوزيعه، وبرع في هذه الأعمال... من ضمن سريّتنا أيضًا كان محرم آقاكيشي بور، سعيد بيمانفر، إبراهيم فرهمند، حميد غمسوار، كريم محمديان، ولكلٍّ منهم عدد من الأصدقاء من المصلّى أو المحلّة التي يسكنون فيها. كنت في أغلب الأيام أذهب بعد تناول طعام العشاء إلى فصيل "علي سارخاني" حيث ينشط الشغب. لقد نصبوا خيمتين ملتصقتين الواحدة بالأخرى، وأمضينا هناك أوقاتًا استثنائية

 

543

 


533

الفصل السادس عشر: الانهيار

بالفعل. هذا يقول إنّ المياه تنبع من هنا، ذاك يولول لأنّ فراش نومه قد تبلّل، وآخر يثرثر مع صديقه، وفلان يتحدّث عن العمليّة، وبعض يعيش في عالمه الخاص. لكن، ظلّ هناك أمرٌ محسومٌ، وهو أنّ كل واحد منّا كان يستيقظ من نومه مبلّلًا! فمع أنّهم وضعوا في أرض الخيام ألواحًا خشبية وبسطوا فوقها قطع نايلون ثم بطانية، لكنّ كلّ شيء يترطّب، ما جعلهم في كلّ يوم مضطرّين لسحب النايلون وجمع المياه التي تأتي من جهات الخيمة الأربع وتتجمّع في الوسط لتغمر الألواح الخشبية.

 

غالبًا ما أكلنا "القيساوا" في تلك الظروف، وكان صمد قاسمبور هو الذي يقوم بإعدادها. عرفناه شاعرًا ويحب قراءة العزاء أيضًا، ومن أشعاره قصيدة "غواصلار" التي أنشدها للغواصين في عملية "والفجر8"، والتي أصبحت الذكر الذي يجري على ألسن الشباب. كان الأخ صمد شخصًا عزيزًا علينا.

 

عادة ما أقام الشباب الصلاة جماعة، وكان جلال زاهدي يؤمّها أحيانًا في خيمتنا، وصمد قاسمبور أحيانًا أخرى. ليس بسبب قلّة العلماء في الكتيبة، لكن، لعدم إمكانية إقامة الصلاة جماعة على نحو موسّع. وكان الشباب يصلّون صلاة الليل أيضًا في خيامهم، ولا يخجل أحد من البوح بذلك، لكنّها ما انفكّت أمرًا شاقًّا بسبب قلّة التجهيزات والبرد الشديد.

 

كلّ صباح، كان أحد الأفراد يقوم بتنظيف الثلج حول الخيمة، وآخر يرفع المياه المتجمّعة فيها، وآخر يغسل الأوعية...

 

من مشاكلنا الأخرى الهامّة المرحاض. فالشباب ينتظرون في صف طويل أمام المرحاض القريب منّا لدرجة أنّ كلّ من يخرج من هناك كان يرتجف من البرد بسبب الفترة الطويلة التي انتظرها. كنّا نشعل المدافئ لتدفئة الخيام، ولم تكن تستهلك الكثير من النفط، 4 أو 5 غالونات تقريبًا لكلّ سريّة. وعندما يختلط النفط بالماء يتقطّع اشتعالها،

 

544


534

الفصل السادس عشر: الانهيار

ولم يحدث أساسًا أن شعرنا بالدفء الكامل في تلك المنطقة الجبلية، وكان الجميع يعاني من تشقّق في يديه وقدميه وشفتيه من شدّة البرد والرطوبة. في مثل هذه الظروف كنا نظنّ أنّه لا يمكن تنفيذ العمليّة، وخاصة أنّ الجميع بدأوا يشعرون بالإرهاق.

 

في أحد الأيام، وبهدف تنشيط الشباب، صدر قرار بالذهاب سيرًا على الأقدام من الخيام إلى المكان الذي كنّا فيه سابقًا ثم العودة. كان الطقس جيّدًا عندما انطلقنا، لكنّ الثلوج بدأت بالتساقط بعد أن قطعنا مسافة 2 كلم تقريبًا. لم يكن معظم الشباب يرتدون ملابس كافية، وكانت جواربهم عاديّة، في حين أنّ جوارب الصوف وحدها يمكن أن تجعل شيئًا من الدفء لأقدامنا في الجزمات . وقد أعطوا الشباب معاطف مطر بلاستيكية زرقاء اللون، لكن، لم تكن لها أيّ فائدة في هذا الصقيع. أما أنا، فأصبح وضعي مزريًا لدرجة أنّ الأخ صمد عندما رأى حالي، أعطاني سترة طويلة من الصوف كان يرتديها فشعرت بالدفء قليلًا. صار الثلج ينهمر على رؤوسنا ووجوهنا لدرجة كاد البخار الخارج من أفواهنا يتجمد، ولم يمضِ وقت طويل حتى ابيضّت لحى الشباب وحواجبهم. عدنا إلى الخيام، وفي الطريق أُنهكت ولم أعد أستطيع تحريك أصابعي، وانقبضت عضلة فمي فصار منظر وجهي أكثر غرابة. لقد أُنهك عدد من العناصر أيضًا وباتوا عاجزين عن إكمال مسيرهم، فقام الشباب بصنع حمّالة من العصيّ والمعاطف لإيصالهم إلى الخيام، أما أنا فقد حملني "محرم آقاكيشي بور" على ظهره، وكان يتمتم عليّ طوال الطريق قائلًا: "سيّد! أسقمك الله!".

 

بعد قليل قال لي: "سيّد، من الآن فصاعدًا، الطعام من نصيبك والعمل من نصيبي...". كنت أسمع ما يقول، لكن لا أستطيع أن أجيبه.

 

545

 


535

الفصل السادس عشر: الانهيار

فعضلة فمي قد انقبضت وذقني تورّمت وبدأت تؤلمني لدرجة أنّني نسيت عذاباتي السابقة. رحت أحيانًا أهمس في أذن محرم فقط لأرفع من معنوياته: "جُعلت فداك يا محرم!". المسكين محرم، كان رجلًا غيورًا وحملني على ظهره مع أنّ الواحد منا في تلك الظروف كان يجرّ نفسه بصعوبة. ومع أنّه كان يتمتم عليّ، لكنه كان يمازحني أحيانًا ويقول لي: "سيّد، ما رأيك في أن أتركك الآن في قعر الوادي!...اممم، وماذا عساي أفعل؟! فمن جهة أنت مسؤولي، ومن جهة أخرى رفيق المسجد! كيف أتركك وأذهب...".

 

وأخيرًا وصلنا إلى الخيام، بعد أربع ساعات من السير مسافة 6 كلم تحت المطر والثلج، وتوجّهنا مباشرة إلى الطبيب الذي قام بمعاينة الجميع، لكن، لم يستطع فعل الكثير، فأغلب الشباب مرضى، والفارق الوحيد هو في شدّة المرض بين فرد وآخر.

 

لم يُفتضح أمر العمليّة، لكن، انهارت قوى الشباب في هذا الفصل من السنة بعدما حاصرهم البرد والثلج فتمّ إلغاؤها. فُتحت الطريق وجاء الأمر بترك المنطقة، وفي نفس تلك الأيام بدأ "مقرّ رمضان" بتنفيذ عملية أخرى انطلاقًا من المنطقة الواقعة خلف نقطة تمركزنا، من دون أن نشارك نحن بها.

 

تركنا كلّ أمتعتنا وخيامنا في معسكر الشهيد داوود آبادي وذهبنا سيرًا على الأقدام إلى المكان الذي كانت تنتظرنا فيه الشاحنات. لم أعد أقوى على السير لشدّة المرض، فحملني من جديد أحد الشباب على ظهره، واستغرق مسيرنا ثلاث ساعات تقريبًا. راحت الثلوج تتساقط مصحوبة برياح عاتية، فغطّى الجليد ظهور الشاحنات واحمرّت وجوهنا من الصقيع، لكن، لم يجد العناصر خيارًا سوى الرّكوب في هذه البرّادات المتحرّكة. كالعادة أجلسوني في الأمام قرب السائق، لكن، لم

 

546

 


536

الفصل السادس عشر: الانهيار

أكن وحدي، حُشرنا أنا وحسن حسين زاده المريض أيضًا، وإحدى عينيه كعيني، وجلال المصاب من قبل. لم نكن نعلم شيئًا عن وضع الشباب في الخلف، لكن، لم نتوقّف عن التفكير بهم دائمًا. لم تتجاوز سرعة الآلية الـ 60 كلم في الساعة، وكان الله وحده يعلم حالهم في ظلّ ذاك الطقس العاصف وهم من دون خيمة تقيهم المطر والثلج المتساقط بغزارة.

 

قُطع الطريق جرّاء انهيار جبلي، فاضطررنا للتوقف أربع ساعات تقريبًا قبل أن يفتحوها ونكمل مسيرنا. استغرقت المسافة حتى "بانه" 6 ساعات بدلًا من الساعة ونصف الساعة، كما توقّفنا لإقامة الصلاة أيضًا إلا أنّ المكان لم يكن جيدًا، لذا فضّل أغلب الشباب التيمّم والصلاة في أماكنهم في الشاحنات. صحيح أنّنا لم ننفّذ العمليّة، إلا أنّ الصعوبات التي واجهناها في تلك الظروف تعادل تنفيذ بضع عمليات.

 

وصلنا إلى مشارف "بوكان" عند الواحدة بعد منتصف الليل ووجدنا الحافلات في انتظارنا. كان كلّ من ينزل من الشاحنة ويصعد إلى الحافلة كمن يخرج من الجحيم ويدخل إلى الجنة، ولا مبالغة في ذلك! لقد غاب عن الوعي في الشاحنة أربعة من الشباب، وكانوا يصفعونهم على وجوههم ليوقظوهم. حصل ذلك مع أنّنا كنّا نحن الثلاثة الذين نجلس في الأمام نبدّل أماكننا مع الشباب الذين تسوء حالهم لكي يشعروا بالدفء قليلًا، لكنّ البرد أنهك الجميع، وازرقّ وجه بعضهم من شدّة الصقيع فأصبحوا عاجزين حتى عن مسح أيديهم بعضها ببعض... بالقرب من الحافلات أسرع عدد من العناصر يساعدون الشباب على النزول كلًّا على حدة لمّا رأوا حالهم. في الحافلة اختلفت المصيبة، فقد بدأ الشباب يشعرون بوخز في الأيدي والأرجل بسبب انتقالهم من مكان بارد إلى مكان دافئ.

 

تحرّكت الحافلات، وتوقّفت بعد بوكان بقليل أمام مطعم صغير. كنّا

 

547

 


537

الفصل السادس عشر: الانهيار

جائعين لأنّنا لم نتناول طعام الغداء ولا العشاء في ذلك النهار. قدّموا لنا الكباب، لكن، بكميّات قليلة أيضًا، فنال كلّ واحد منا لقمة أو لقمتين. تابعنا طريقنا على هذه الحال حتى وصلنا مع أذان الفجر إلى ثكنة الشهيد القاضي. كنت مرهقًا وكأنّني نفّذت أكثر من ثلاث عمليات في هذه الأيام القليلة. عندما تُنفِّذ عملية ما، تشعر بالشوق والحماسة، تشتبك مع العدو، تركض، تعرق و... أمّا هناك فقد بقينا في الثلوج والصقيع من دون إمكانات كافية، ولا أبالغ إذا قلت إنّه من بين 300 عنصر من أفراد الكتيبة، أصاب المرض 200 منهم. يبدو أنّ الأهالي علموا أنّنا سنكون في الثكنة عند الصباح، فوجدنا حوالي ألفي شخص ينتظرون أبناءهم هناك، وكانت هذه إحدى مشاكل قرب المسافة من المدينة. فقد جاء عدد من العوائل منذ المساء ونامت في السيّارات تنتظر أبناءها، وكانت عائلتي من بينها. رأونا دخلنا الثكنة بالحافلات، لكن، كان القرار بعدم السّماح لأي فرد بالخروج، فعادوا خالي الوفاض.

 

بعد كلّ هذا التّشديد لم يمضِ يومان حتى أعطوا الشباب إجازات (مأذونيات)، أما أنا، فكان لي هنا قصة أخرى. لم أكن أستطيع أكل شيء وبقيت في طوارئ الثكنة، ومن هناك نقلوني إلى مستشفى في تبريز حيث أعطوني عددًا من الحقن، وأرادوا إبقائي في المستشفى، لكنّني فضّلت الذهاب إلى البيت. لقد وصلت إلى المنزل أيضًا بعد يومين مثلهم، غاية ما في الأمر أنّني قضيتها في طوارئ المستشفى بينما هم في الثكنة.

 

ساء وضعي بالكامل في إجازة الثلاثة أو الخمسة أيام. ثم أصابني الانهيار، وفقدت ما تبقّى من قوّتي بعد صقيع تلك الجبال. عندما وصلت إلى البيت لم يعرفوني في البداية! كان كل من رآني يقول لي: "ماذا جرى حتى حلّ بك ما حلّ بك؟". كدت أموت فعلًا. لقد ارتفعت

 

548

 


538

الفصل السادس عشر: الانهيار

حرارتي وبقيت في السرير شهرًا كاملًا. تدهورت صحتي بشكل لا مثيل له بسبب البرد ، تورّم وجهي، وانقبضت عضلة فمي ولم يبقَ ألمٌ إلا وشعرت به! وعلى عكس المرّات السابقة، لم يُنعشني أيّ دواء أو علاج أو غذاء، وكنت فقط أستطيع احتساء السوائل. لقد اسودّ مكان الجراح التي أُصبت بها والعمليات التي أجريت في جسدي، وأصبحت قدماي تؤلماني وتحرقاني لدرجة شعرت معها أنّني أكاد أموت. تحمّلت ولم أتأوّه، لكنّني لم أعد قادرًا على متابعة هذا النضال بعد 7 سنوات من الآلام والجراح. كانت أمي تُدلّك قدميّ كلّ ليلة بزيت الزيتون وأدوية من الأعشاب وتلفّها بمنديل من الحرير لتدفأ قليلًا، وكذلك تحاول تدليك مكان الجراح وتدفّئها ليتحسن جريان الدم فيها. في كلّ يوم يزورني طبيب من مؤسسة الشهيد ليعطيني الحقن التي أحتاجها ويطمئنّ إليّ. لقد بذلت أمي وزوجتي من الجهود في تلك الأيام ما لا يُقدّر بثمن.

 

عاد الشباب من إجازتهم خلال هذه المدة وتوجّهوا إلى سلسلة جبال ماووت لتنفيذ عملية بيت المقدس2،[1]  ولمّا أغادر السرير بعد! استأت لأنّني لم أشارك في هذه العمليّة، وقلت لسعيد بيمانفر، رحيم باغبان، حسن حسين زاده وآخرين ممن جاؤوا لعيادتي: "هنيئًا لكم! نحن تحمّلنا أعباء العمليّة وأنتم قمتم بها!". أخبرني الشباب أنّه لم يعد هناك الكثير من الثلج في المنطقة. لقد استشهد في تلك العمليّة عدد من أصدقائي الأعزاء، لكنّ شهادة جلال زاهدي كانت الأكثر إيلامًا على قلبي، صديقي القديم ورفيقي في الجهاد الذي تحضرني ذكراه دائمًا عندما أتكلّم عن الحرب. أخبروني أيضًا أنّ "ميرحاجي همايون" جرح وكانت قصة إصابته مضحكة. قالوا إنّه عندما أصيب في عينه ورأسه من أثر الشظايا، حملوه على ظهر دابّة ليسحبوه إلى الخطوط الخلفية، فوقعت قذيفة قربها وأصيبت المسكينة بشظايا وسقطت على الأخ

 


[1] بدأت عملية بيت المقدس في 15/1/1988 بنداء يا زهراء (عليها السلام) في شمال السليمانية.

 

549


539

الفصل السادس عشر: الانهيار

همايون أيضًا! رأى الشباب الدابّة تحتضر فاقتربوا منها ليُنهوا حياتها برصاصة ويريحوها، عندها رأوا شخصًا تحتها اكتشفوا أنّه همايون صاحبنا وقد خسر إحدى عينيه.

 

حريّ بنا أن نبكي لما حمله الشّباب من أخبار مؤلمة، لكنّنا كنّا نخفي دموعنا خلف ضحكاتنا حفاظًا على جهوزيّتنا للحرب. وكنت أملك عزمًا يحول دون شعوري بالعجز عن المضيّ قدمًا في الحرب. ومع أنّني عشت ظروفًا قاسية، إلا أنّه لم يشغل بالي سوى تلك الجبال وأولئك الأشخاص الذين أحببتهم فردًا فردًا، والذين كان خبر شهادة أحدهم يؤلمني أكثر من كلّ الجراح التي أصابت جسدي.

 

550


540

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

الفصل السابع عشر:

عندما لم تسعفني دموعي

 

مرّت تلك الأيّام ثقيلةً عليّ وأنا أرى النقص يزداد في عديد فرقة عاشوراء[1] ولا أقوى على الذهاب إلى الجبهة، وعندما بدأتُ أتماثل للشفاء صرت أتردّد إلى وادي الرّحمة -مكاني المفضّل في المدينة - كانت ذكرى الشهداء والأصدقاء الأعزاء هي عزائي الوحيد والسند الذي يقوّيني ويعينني على تحمّل هذه المصاعب ومقاومتها.

 

في ربيع العام 1988م استقرّت الفرقة في ثكنة الشهيد القاضي، وكنت أذهب إلى هناك أيضًا، وكثيرًا ما ترددتُ إلى المنزل بسبب قربه من الثكنة. في تلك الأيام، أصبح فرج قليزاده مسؤول سريّتنا، وهو من العناصر القدامى والمخضرمين في الحرب، وشارك في عددٍ من العمليّات الكبيرة على الرغم من صغر سنّه. مع هذا، كان غالبًا ما يوكِلُ إليَّ مهمّة التحدّث إلى عناصر السريّة، وكان عددهم كبيرًا. وحينها يكون لكلامي "قصة"...! إذ يبدأون بالضحك بمجرّد أن أبدأ الحديث معهم! وأستمرّ


 


[1] لانخفاض عدد عناصر تبريز جذور عميقة أهمّها مسألة "حزب خلق مسلمان"(حزب الشعب المسلم) الذي وجّه ضربة كبيرة إلى المدينة، وسبّب الفرقة بين الناس، وجعل الكثير منهم يعيشون حال اللامبالاة تجاه الثورة. أضف إلى ذلك الأعمال المرائية والتصرفات التي تستبطن النفاق والتي تذوّقت طعمها شخصيًّا في مواقف مختلفة، ومن الطبيعي أن يتقاعس الناس العاديّون عندما يواجهون مثل هذه التصرفات لمرّات عدّة، ولا يخاطرون بأنفسهم في سبيل الثورة. لو أنّ إنسانًا عاديًّا هو الذي يقوم بمثل هذه الأعمال لأمكن تحمّل الأمر، لكن الطامّة الكبرى هي أنّ عددًا من هؤلاء المنافقين كانوا في مواقع مسؤولية وفي مراكز عليا وهامّة! وقد أدّت هذه الأسباب مجتمعة إلى ذلك النقص في العدد حتى إنّ عدد كلّ العناصر في تبريز لم يصل في ربيع العام 1988م إلى ثلاث كتائب، لكنّ هؤلاء كانوا يعملون من صميم قلوبهم وأرواحهم، ويرفعون رأس فرقة عاشوراء عاليًا على الدوام.

 

551


541

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

فأحدّثهم عن العمليّات التي شاركت بها، وأركّز كثيرًا على أساليب التحرّك ومشاركة العناصر وحضورهم في العمليّات. لقد أثبتت التجربة لي حتى تلك اللحظة، أنّ دور العناصر في العمليّة لا يقّل أهميةً عن دور القائد، القائد معرّض للشهادة أو الإصابة منذ اللحظة الأولى لبدء العملية، لذا على العنصر أن ينتبه جيدًا وبدقّة كبيرة لتفاصيل العملية ولأوامر قائده. لكن، في الوقت نفسه يجب ألّا يعلّق كلّ الآمال عليه، بل أن يتمكّن من اتّخاذ القرار في حال أصيب القائد بسوء ويكمل العمل، وهذه مسألة في غاية الأهمية. لقد حصل مرّات عدة أن كنت أنا مع أربعة أو خمسة أشخاص من يجد الحلول للمشاكل التي تواجهنا في مراحل حساسة من العمليّات، وفيها يودّع بعضنا بعضًا عادة ثلاث مرات. أوّل مرّة عندما ننطلق إلى المنطقة الأساسية، والمرّة الثانية عندما نتّجه نحو العدو، والمرّة الثالثة عندما ينفصل عناصر المجموعات عن السريّة ليبدأوا بتنفيذ العملية. يتمّ تذكير الأخوة في المرحلة الثالثة أن يفرغوا مطرتهم إذا لم تكن مملوءة بالكامل. وكان مسؤول التدريب العسكري هادي نقدي يقول إنّه إذا كانت مطرتك غير مملوءة بالماء بالكامل قبل الانطلاق لمواجهة العدو، فسيسمع العراقيّون صوت الماء عندما تركض وكأنّك تقول لهم: "تهيّأوا أيّها العراقيّون، نحن قادمون إليكم!", كنّا في البداية نضحك من قوله، ثم فهمنا لاحقًا أنّه كلام واقعي. فالعنصر يوضّب كلّ أمتعته بشكل جيّد ويُحكم إغلاق جعبته، لكن، لا يمكنه التحكّم بصوت المطرة غير المملوءة بالماء بشكل كامل! وعندما يركض سوف يثير هذا الصوت الصادر من المطرة انتباه قوّات العدوّ في نقطة المكمن المتقدّمة عن خطوطه الأمامية، ويمكن لهذه المسألة الصغيرة أن تُفشل العمل الذي من الممكن أن تقوم به كتيبة واحدة، حتى لو قامت به حينئذ خمس كتائب. كنتُ أنقل هذه التفاصيل والنقاط الهامّة والعمليّة إلى العناصر. أحيانًا كان هادي نفسه يقول: "سيّد، لقد درّبت في عددٍ من

 

552

 


542

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

الدّورات حتى اليوم، لكنّني لم أستطع في 8 عمليات شاركت بها تطبيق شيء ممّا أقوله!". وسبب ذلك هو أنّ ظروف العملية تختلف عما يتمّ تعليمه في التدريبات، وعلى العناصر أن يمتلكوا من التجربة والخبرة ما يمكّنهم من وضع خطة تتناسب مع الواقع الذي يواجهونه.

 

المسألة الثانية التي شكّلت هاجسًا لديّ وتهمّني وأذكّر بها العناصر بشكل دائم هي سلاح الإشارة. في العادة يستفاد من العناصر الكفوئين والخبراء في سلاح الإشارة في المراكز، وقد تلحق بهم ضربات قاسية بسبب قلّة خبرة عنصر الإشارة. في عملية مسلم بن عقيل، تعرّضنا لنيران قواتنا في مرتفعات "سلمان كشته". قلت لعنصر الإشارة اتصل بهم وقل لهم أن لا يطلقوا النار، وهو يجيبني: "لا أعرف كيف أتصل!". لا أعلم إن كانت معنويّاته انخفضت أم ... لكن كان عنصر الإشارة بلا فائدة! أحيانًا أخرى كان عناصر الإشارة يفتحون الأجهزة اللاسلكية على مقربة من الأعداء فتكشف أصوات الأجهزة المنطقة ويتمّ كشفنا كما حصل في كردستان.

 

أردت بذكر هذه التفاصيل أن يعرف الشباب أهمّيّة عملهم ويلتزموا الجديّة، وطالما أنصتوا باهتمام لما أقول. بعد هذه الأحاديث التي حرصت على أن لا تتجاوز الربع ساعة في كل يوم، كنّا نتسلى معًا ونشاكس خاصة مع الأصدقاء الذين كنت معهم سابقًا، وبالطبع عندما أنسجم قليلًا مع الشباب أتكلّم براحة أكبر معهم. تحدّثنا عن عمليّة بدر وكيف استطعنا السّيطرة على المقرّ رغم قلة العدد، لأنّنا هاجمنا العدوّ ولم يتقاعس أحد. التقاعس يعني هنا إما أنّني أخاف وأريد الحفاظ على حياتي، أو أنّني سبق أن جرّبت الرصاص والشظايا والنار وقررت الانتظار بضع دقائق ليتقدّم الآخرون، أعود بعدها للتقدّم عندما تهدأ النيران... وكلا الحالين تعتبران خيانة. كنت أسعى لإفهام العناصر أنّ من يهاجم العدوّ ويطلق عليه النار سيلقي في قلبه الرعب.

 

553


543

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

في ربيع 1988م، منّ الله عليّ بأول أبنائي. كانت فتاة أضفى حضورها على حياتنا القاسية في تلك الأيام لطفًا وصفاءً، وجدّد حزني على أصدقائي الشهداء الذين كنت أرى مدى محبّتهم وعاطفتهم على أبنائهم. تنقّلت في تلك الأيام بين الثكنة والمدينة، وقد أصبح الوضع سيئًا في المنطقة. لقد دخلت أمريكا بأساطيلها إلى الخليج الفارسي وصارت تشكّل تهديدًا فعليًّا، ووصل الأمر لدرجة إسقاطها طائرة "إيرباص" تقلّ مسافرين إيرانيين[1]، كما إنّ العراقيّين وسّعوا من دائرة عملياتهم ولجأوا إلى الأسلحة الكيميائية. إضافة إلى كلّ ذلك، أدّى النقص في المتطوّعين إلى أن يكملوا عديد الكتائب من قوّات الخدمة العسكرية، كما وطُرحت من جديد قضيّة القرار، وأعطوا مهلة 15 أو 16 يومًا[2].

 

في أحد أيام تموز الحارّة[3] جاءني أخو زوجتي وعلى وجهه إمارات الخوف وقال: "لقد قبلت إيران بالقرار!".

- ماذا تقول؟

 

انفعلت بشدّة. أقسمَ أنّه سمع ذلك بأذنيه. لم أصدّق، ولم أعرف ماذا أفعل لشدة انزعاجي. لم أستطع البقاء في مكان واحد وراحت كلّ الذّكريات تجتاح تفكيري. تملّكني اليأس لدرجة أنّني شعرت أنّنا نخسر ثمرة سنوات طويلة من العمل الخالص. عدتُ إلى المنزل ووجدت أنّ الخبر صحيح فعلًا، وها هم يتحدّثون عن ذلك في الإذاعة والتلفزيون. جلست واستمعت إلى بيان الإمام وقلبي يتفطّر ألمًا وعيناي تقطران دمًا،


 


[1] في 3 تموز سنة 1988م استهدف الأسطول الأمريكي "فنسنس" طائرة إيرباص إيرانية على متنها 298 مسافرًا مدنيًّا وأسقطها في الخليج الفارسي.

[2] قرار الامم المتحدة رقم 598...القاضي بطلب وقف إطلاق النار بين إيران والعراق.

[3] في 18 تموز 1988م قبلت إيران القرار 598 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، وبدأ رسميًا وقف إطلاق النار بين إيران والعراق في 18 آب 1988م.

 

554


544

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

وعندما قال الإمام إنّه تجرّع كأسًا مرّة شعرت بالأسى وبكيت. لن أنسى طعم تلك اللحظة المرير حتى آخر لحظة في حياتي. انزعجت كثيرًا، وبدأت أفكّر بالعناصر الذين أعرضوا عن الجبهة وأولئك الذين لم يلتحقوا أساسًا بالجبهة بسبب عدم مبالاتهم، والأهمّ من ذلك، بأولئك المسؤولين طلّاب السلطة الذين أوصلوا الأمور إلى مرحلة اضطرّ فيها الإمام أن يقبل بالقرار ويقدّم هذه الرسالة. كان كلّ من يتكلّم معي في تلك الأيام يشعر بمدى غضبي، وكنت أغضب أكثر عندما أرى شباب المركز، المسؤولين والعناصر الذين طالما أجّلوا التحاقهم بالجبهة منذ بداية الحرب!! ها قد انتهت الحرب الآن ولم يذهبوا إلى الجبهة بعد!

- أيّ عناصر أنتم؟... لماذا قعدتم؟ لماذا تفركون أيديكم بعضها ببعض وحسب؟ منذ متى تُحلّ الأمور بالقعود لتُحلّ الآن به؟... هيا فلتذهبوا...

 

كان جوابهم جاهزًا: "نحن عناصر مثلنا كمثل غيرنا!..". كانت كلماتي تنبعث من حرقة قلبي لدرجة أنّهم أرسلوا في اليوم التالي مجموعة من العناصر إلى الجبهة، لكن، بلا فائدة! للأسف لم يكن ذلك في الوقت المناسب!

 

ذهبت يوم الخميس إلى وادي الرحمة. لم أعد أستطيع التحمّل. لقد جننت. كنت ألوم أولئك الذين ألتقي بهم، وقد ذهبوا إلى الجبهة في وقت من الأوقات وعادوا إلى منازلهم وحياتهم الطبيعية وكأنّ الحرب قد حقّقت أهدافها وكلّ شيء قد انتهى. وأنظر إلى صور الشهداء وأقول: "إلهي، فلتحفظ دماء هؤلاء الشهداء. كم تعبتم من الجبهة ورحلتم بسرعة...".

 

كانت أيام صيف العام 1988م صعبة بالنسبة إلى أمثالي، بسبب

 

555


545

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

الأخبار السيئة التي تصل من المنطقة. فقد ذهبت كتيبة حبيب إلى رحمانلو عندما وصلت الأنباء بأن الجيش العراقي بدأ هجومًا واسعًا من كردستان، وقوّاتنا انسحبت من حلبجه. كنت قرب النهر في رحمانلو عندما سمعت من الإذاعة أخبار الهجوم الواسع للجيش العراقي من جهة الجنوب، لكنّهم لم يقدّموا تفاصيل كاملة عن الخبر. سمعت من الشباب أنّ العراقيّين تقدّموا واحتلّوا المناطق التي كانت تخضع سابقًا لسيطرتهم، واحترقتُ ألمًا لذلك. ذلك الرجل الصلب، السيّد نور الدين الذي قلّما يبكي، لم تسعفه دموعه للبكاء الآن!

 

عندما سمعت أخبار التّعبئة العامة في الأهواز وقد أخذ المحافظ وإمام الجمعة الأسلحة هناك وذهبوا إلى خطوط الدفاع ترافقهم جموع الناس، سكنت نفسي قليلًا. في تلك الأيام ذاتها سمعت أيضًا خبر مقتل أحد القادة العراقيّين الكبار داخل دبابة، ثم خبر موت أحد قادتهم في حادث تحطّم طائرة وإعلان العراق الحداد العام ثلاثة أيام. ومع كلّ هذا، ظلّت الأخبار السيئة هي الطاغية. في هذه الأجواء، وصلت بيانات عن تحرّك المنافقين وكنّا في حال جهوزية فأعطونا الأمر بالتحرّك إلى منطقة الغرب. كانت الحماسة تسيطر على الجميع، وهنا وصلت أوامر متناقضة. في البداية قالوا ستذهبون إلى الجنوب، ثم تحدّثوا عن "بانه", ولم تمضِ ساعة حتى بدأت تُسمع أخبار عن "كرمانشاه". أما أنا فجلّ ما أردته هو الالتحاق بأيّ طريقة بالكتيبة التي ستقوم بالتحرك، لذا غيّرت مكاني حتى حلول الظهر ثلاث مرات! ذهبت من كتيبة حبيب إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام حيث أوكلوا إليّ مهمة معاون مسؤول السرية الثالثة "أيوب رضائي", وكنّا قد شاركنا معًا في عملية بدر. ما إن جمعت عدّتي وعتادي حتى أُخبِرنا أنّ كتيبة الإمام الحسين عليه السلام لن تذهب إلى المنطقة، عندها تركت سلاحي وعتادي في الخيمة وخرجت. سمعت أنّ كتيبة حبيب ستذهب إلى الخطّ، فتوجّهت إلى أحد العنابر التي يسجّلون

 

556


546

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

فيها الأسماء. أردت أن أشطب اسمي من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وأسجّله في كتيبة حبيب، وعندما رأى المعنيّ عن تسجيل الأسماء ذلك صاح بي: "إلى أين ستذهب في النهاية يا عزيزي!".

 

صرت في كتيبة حبيب، وجئنا إلى تبريز لنذهب إلى كرمانشاه من المطار، لكن كتيبة الإمام الحسين عليه السلام ذهبت أولًا، ولا أدري ماذا جرى حتى ألغيت الرحلة حين جاء دورنا. بدأت كتيبة الإمام الحسين عليه السلام العمل في نفس اليوم وبقينا نحن حيث كنّا. لقد رغبت كثيرًا بالمشاركة في الحرب ضدّ المنافقين، أولئك الذين استغلّوا الواقع بشكل سيّئ ولم يرحموا حتى أبناء وطنهم، وعندما سمعت خبر هجوم المنافقين قلت للشباب إنّ العراق يريد أن يبعد عنه شرّ المنافقين. قالوا لي: "ومن أين تعلم ذلك".

- سوف ترون الآن! لقد أغلق العراق حدوده، والمنافقون يُقتّلون في الغرب جماعات وأفرادًا.

 

وهذا ما كان، وبدأت الأخبار السارّة تصل هذه المرّة. لقد ذهب الكثير من المتطوعين إلى المنطقة، وكأنّ الله تعالى أيضًا أعمى قلوب وعقول المنافقين فظنّوا أنّهم يستطيعون الوصول إلى طهران من الطريق الأساسي خلال بضعة أيام! لكنهم وقعوا في كمين جنود الإسلام وتمّت محاصرتهم في مضيق "تشهارزبر" والقضاء عليهم في عملية "مرصاد"[1].

 

كنت في تلك الظروف أتابع بدقّة كلّ التفاصيل وأسأل أيّ شخص قد يمتلك معلومة عمّا يقع من أحداث. أخبرني الشباب أنّ العراقيّين استخدموا في "الفاو" السيانور وغيره من أسلحة كيميائية، وقالوا إنّ أجساد الجميع يبست في لحظة واحدة: السائق خلف المقود، رامي

 


[1] بدأت عملية مرصاد بنداء يا علي عليه السلام في 27/7/1988م غرب البلاد في مدن إسلام آباد وكرند غرب، وفيها طويت صفحة المنافقين ومأجوري العراق.

 

557


547

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

المدفعية قرب المدفع، و... في تلك الأيام توجّهت إلى الجبهة جموع المتطوعين من كلّ إيران، وأغلقت أكثر الإدارات والمصانع أبوابها حتى المجلس (مجلس الشورى)، وسمعنا بخبر حضور رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي إلى الجبهة فارتفعت معنويّاتنا أكثر. لم يعد في ثكنة الشهيد القاضي موضع قدم من كثرة المتطوّعين، حتى إنّ مقر اللواء في ضواحي "بناب" و"ملكان" غصّ بالقوات أيضًا، فلم تعد هناك حتى خيام لهم فبقي أغلبهم تحت الشمس المحرقة، بعض راح يسبح في الماء، وآخرون يلعبون كرة القدم. أما أنا فكنت حيثما ذهبت أحمل مذياعًا وأتابع أخبار الانتصارات في عملية مرصاد. قالوا إنّ المروحيات أنزلت 500 عنصر في المنطقة، وكانت تلك الأخبار تثلج صدورنا. كان التلفاز يبثّ صورًا لآليات المنافقين وقتلاهم، وعلمنا أنّ نهايتهم اقتربت.

 

بعد عدة أيّام، عادت الكتيبة الوحيدة المشاركة في عملية مرصاد من فرقة عاشوراء - أي كتيبة الإمام الحسين عليه السلام- إلى "رحمانلو". لم يحصل خلال كلّ الحرب أن ذهبت فرقة لاستقبال كتيبة، أمّا الآن فقد ذهب الجميع لأول وآخر مرة، لاستقبال شباب كتيبة الإمام الحسين عليه السلام في "رحمانلو", وبمشاركة بعض الأهالي الذين سمعوا بعودتهم في المدينة. لم يكن هناك الكثير من الخسائر في الكتيبة، 5 أو 6 أخوة استشهدوا في آخر أيام الحرب، وثلاثة أو أربعة جُرحوا. لقد سُررت برؤية الإخوة خاصة أنّهم عادوا مرفوعي الرأس ومنتصرين، وعندما سمعت أخبارهم عن العملية، خفّت حدّة انزعاجي بسبب عدم المشاركة فيها. كنّا جميعًا نرغب بسماع أخبار هذه المعركة مع المنافقين[1]، لكنّ حزنًا غريبًا يجتاح قلبي وأنا أنصت إلى ذكريات الإخوة حول المعركة. فكّرت لو أنّ جموع

 


[1] قال الشباب إنّ المنافقين كانوا يقاتلون مثل الممثّلين، يضعون الرشّاشات على الآليات ويتركون هذه الآليات في وسط الطريق تمامًا ومن دون أيّ تحصين، وكان طيارونا يقصفونها بلا هوادة، فقُتل أغلبهم داخل تلك الآليات. وقد ظهرت أهمية طائراتنا ومروحياتنا أكثر عندما صدّت هجوم المنافقين قبل أن يصل مجاهدونا إلى المنطقة.

 

558


548

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

هؤلاء المتطوعين شاركت في الحرب منذ بدايتها لضيّقنا الخناق على العدوّ باحتلال البصرة حيث نفّذنا أكبر العمليّات ولانتهى كلّ شيء. لكن، للأسف، التحق بعض بالحرب بعد الموافقة على القرار!

 

بقينا لأسبوعين في حال جهوزيّة ننتظر الأوامر الجديدة لدرجة أنّنا لم نخلع الجزمات حتى. لم يكن العمل بوقف إطلاق النار قد بدأ حتى انتهك العراقيّون القرار. لكن، في النهاية هدأت طبول الحرب، وتقرّر أخذ القوات إلى خطّ الدفاع لتتمركز هناك، وذهبت أنا في إجازة.

 

في الختام انتهى كلّ شيء. يبدو أنّ الوقت حان لأهتمّ بعلاجي وأبحث عن عمل، وأحمل بعضًا من أعباء الأزمات التي أثقلت كاهل عائلتي، من هنا سعيت لإثبات إنجاز خدمتي. سابقًا، سعيت خلال الفترات الفاصلة بين العمليّات للحصول على بطاقة الإعفاء من الخدمة العسكرية، وقد حصلت عليها من خلال الأحداث اليومية التي واجهتها. قانونيًّا يسهل إعفائي من الخدمة العسكرية بسبب الجراح التي أُصبت بها، إضافة إلى أنّ السنوات الطويلة التي قضيتها في الجبهة يمكن احتسابها بدلًا عن الخدمة العسكرية (الإلزامية)، لكنهم في البداية لم يأخذوا هذا الأمر بعين الاعتبار! فقد ذهبت إلى اللّجنة الطبيّة في الجيش مرات عدّة، لكنّني عدت دومًا خالي الوفاض إلى أن دخلت بنفسي في أحد المرات إلى غرفة الطبيب. قلت له إنّ التقرير الخاصّ بي يفيد بأنّه عليّ الذهاب إلى الخدمة. نظر إليّ مستغربًا وقال: "من كتب التقرير؟". تصفّح الملفّ فعرف أنّه هو من كتبه! أرسلني إلى مقرّ الدرك وصادف أن كان مسؤول المخفر أحد العناصر ممن كانوا معي في كردستان ويدعى "يونس". عرفني وتولّى متابعة ملفي. قالوا لي هناك: "لقد تغيّبت ثلاثة أشهر، يجب أن نحوّل ملفك إلى الشرطة القضائية! سيشكّلون محكمة هناك ويكتبون تقريرًا يفيد أنّك كنت في الجبهة. عندها تجلب لنا هذا

 

559


549

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

التقرير لنتابع موضوع البطاقة".

 

كان مسؤول الشرطة القضائية رجل دين. نظر إلى التقرير، ثم نظر إليّ وقال: "أين كنت خلال هذه المدة؟ لماذا تغيّبت؟".

- كنت حينها في بدر، وجُرحت هناك أيضًا.

- من قال لك أن تذهب إلى الجبهة؟

 

انزعجت من سؤاله وقلت له: "ذهبت إلى الجبهة بناءً على أمر الإمام!". فقال بوقاحة: "حسنًا! فليأتِ الإمام ويُجب!".

 

غضبت كثيرًا! ما زال الإمام حيًّا ويتصرّف هؤلاء بهذه الطريقة! قلت له: "اكتب مخالفتي مهما كانت، إمّا أن أُسجن وإمّا أن أدفع غرامة!".

 

قال: "سوف تُسجن ستة أشهر! شهرين عن كلّ شهر غياب!".

 

قلت له بعصبيّة: "لا مشكلة!", أكمل قائلًا: "لأنّك شابّ جيّد سنغضّ الطرف عن موضوع السجن، وسأكتب لك غرامة ألفي تومان". كتب ذلك وقفلت عائدًا. لم أكن أمتلك المال الكافي.

 

أخبرت أبي بما جرى في المساء، فاستشاط المسكين غضبًا وقال: "انظروا، لقد ذهب حاملًا روحه على كفّه، عاش في الجبل والصحراء، وجاء الآن ليدفع غرامة لأنّه لم يذهب إلى الخدمة العسكرية!". أخيرًا تمّ تأمين المبلغ المطلوب. ذهبت صباحًا إلى المصرف ثم توجهت مباشرة إلى الشرطة القضائية. كنت أوّل الواصلين. جاء من بعدي 7 أو 8 أشخاص، ثم وصل رجل الدين ذاك. ألقى التحيّة عليّ عندما صار بقربي لكنّني لم أجبه. دخلت، فقال لي: "اخرج!", خرجت وانتظرت حتى أنجز كلّ أولئك أعمالهم وذهبوا. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف حين سمح لي أمين السرّ بالدخول. قال لي: "يا بنيّ، تعرف أنّ رد التحيّة واجب!".

- أجل.

- لقد ألقيت عليك التحية صباحًا لكنك لم تردّ علي!

- لقد سمعت أيضًا أنّه يجب أن لا نسلّم على اثنين، المنافق والكافر...

 

560


550

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

وأنت برأيي إنسان منافق!

أخذ يحدّق في وجهي، فقلت وقد كاد قلبي ينفجر من الغيظ: "لقد جئتم إلى هنا ببركة الإمام والمجاهدين. وأنتم هنا تتسلّطون لأنفسكم! هل سمحوا لكم بالوصول إلى هذه المناصب زمن الطاغوت (الشاه المخلوع)؟ لو كنتم تعملون هنا في زمن الطاغوت لصرتم من رجاله! تتصرّفون معنا بهذه الطريقة والإمام ما زال موجودًا!؟... اكتب لي التقرير لأذهب!".

 

أراد أن يخفّف عنّي فقال إنّه يطبّق القانون، وإلى ما هنالك من هذه الأقاويل.

 

أخذت الرسالة في اليوم التالي إلى الفوج. هناك عاملوني باحترام، إذ عادة ما يحترم العسكريّ العسكريّين الآخرين. يبدو أنّ يونس أخبر زملاءه ببعض ما جرى في كردستان، لذلك انزعجوا كثيرًا عندما علموا بما حصل معي في الشرطة القضائية، وأقسم الشخص الذي أرسلني إلى الشرطة القضائية أنّه لو كان يعلم أنّهم سيتصرّفون معي بهذه الطريقة، لما أرسلني إلى هناك أساسًا. وهكذا تيسّرت أموري وحصلت هناك على البطاقة[1]، لكنّني لم أستطع الجلوس مكتوف اليدين. ذهبت إلى مكتب إمام الجمعة في المدينة. استقبلني ابن الشيخ ملكوتي وسألني عن حاجتي فقلت له إنّني أريد رؤية الشيخ. أخذني إلى إحدى الغرف وانتظرت هناك حتى جاء الشيخ وأخبرته بالقضية. قلت له إنّ المسألة ليست في الغرامة، لكن في قوله: "يجب أن يأتي الإمام ويجيب عن هذه الأسئلة", قال الشيخ ملكوتي: "يا بني، هناك الكثير من أمثال هؤلاء الأغبياء! دعك منهم!". فكان لقائي به بلا نتيجة. نصحني الشباب

 


[1] لقد قال أيضًا كلامًا لافتًا: "أتعلم! أنا عنصر في الدرك، وأعمل هنا منذ أيام الطاغوت. أتقاضى مالًا من الحكومة وأعمل، ولا يهمّني أتكون هذه الحكومة للشاه أم للإمام. واجبي هو العمل هنا وسأقوم بعملي طالما أنا هنا. لكنني لا أحبّ أولئك الذين وصلوا إلى مناصبهم في ظلّ الثورة ويقومون بهذه الأعمال!".

 

561


551

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

عندما علموا بالقضية بأن أطلع مسؤول التعبئة الأخ "حسيني" عليها. وبعد عدّة أيام رأيته، فتوجّهت إليه وأخبرته بما جرى. وصفت له ذلك العالم فعرفه بسرعة وقال لي: "ما قاله لك لا يعتبر شيئًا يا عزيزي! لقد رأيت منه أمورًا يصغر أمامها هذا الكلام!", أثار ذلك تعجّبي.

 

ثم أخبرني أنّهم أرسلوا في أحد الأيام عددًا من علماء الدين للتبليغ في ثكنة الشهيد باكري في دزفول، وقال: "عادة ما نرسل العلماء لإقامة الصلاة أو التبليغ. توجّهنا صباحًا إلى جهة القوات المتموضعة في الضفة الأخرى لنهر "أروند", وعند تقاطع طرق "أنديشمك" لجهة الـ"أهواز" سألني ذاك العالم نفسه: أخ حسيني، إلى أين نذهب؟ قلت له: "إلى الفاو", وما إن سمع باسم الفاو حتى قال: أخ حسيني، أنا لم آت إلى هنا لأذهب إلى "الفاو", بل جئت لأذهب إلى دزفول، دعنا نرجع ولتوصلني إلى الفرقة!", عندها قلت له: "أيها الشيخ، طريقنا نحن من هنا، تفضّل أنت بالنزول واذهب إلى الجهة الأخرى من الطريق. ستوصلك أيّ سيارة من مثلّث الطرق إلى دزفول بـ 50 تومانًا!" نزل، وأكملنا طريقنا. بقيت مع الشباب يومين أو ثلاثة، وذهبت إلى الخطّ مع عدد من العلماء الآخرين وعدت. وهناك، في خيمة القيادة رأيت ذلك الشيخ! كنّا قد أرسلنا العلماء وفق برنامج محدّد إلى كتائب سيد الشهداء، القاسم، أبو الفضل، التجهيز و... ولم يبقَ سوى ذلك الشيخ الذي قال لي: "أخ حسيني، دعني أذهب إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام لأعطيهم دروسًا في الأخلاق!"[1]. قلت له: "أيها الشيخ، تريد أن تذهب إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام لتعطيهم دروسًا في الأخلاق، لقد أنهى كلّ الشباب في الكتيبة هذه الدروس!". عندما سمع هذا الكلام قال: إذًا سأعود إلى تبريز!" ورجع. لم تتجاوز فترة بقائه في


 


[1] كانت كتيبة الإمام الحسين عليه السلام من أشهر الكتائب في تبريز، حيث كانت تضمّ كلّ العناصر الشّجعان والمعروفين. وكانت أكثر الكتائب شهرة وشعبية بسبب قادتها وشهدائها وشجاعة عناصرها، والبرامج العظيمة التي كانت تقيمها في تبريز.

 

562


552

الفصل السابع عشر: عندما لم تسعفني دموعي

دزفول في هذه الظروف 6 أو 7 أيام، لكنّه أخذ فيها تقريرًا وذهب في تلك السنة نفسها إلى الحجّ بسبب ذهابه إلى الجبهة! سيّد، أنت تواجه إنسانًا كهذا! احكم بنفسك، أتريد متابعة القضية؟".

 

بالطبع أعرضت عن متابعة القضية!

 

كان مقرّ اللواء في ملكان. احتاج المعنيون إلى يومين أو ثلاثة ليخرجوا ملفي من ملاك الفرقة لأحصل - أخيرًا - على بطاقة نهاية الخدمة بتاريخ 17/10/1988م، وكان قد تبقّى لي فترة ثلاثة أشهر إجازة لم أستفد منها. وهكذا طُويت (إداريًّا) صفحة 77 شهرًا في الجبهة بأيّامها الحلوة والمرّة.

 

عدت إلى المدينة. صرت فيها غريبًا. لا أدري ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ كلّ الأماكن لم تكن لي! كنت أجلس في المنزل وأفكّر، لقد أصبح "أمير" شهيدًا. وأصبح صادق شهيدًا. حميد غمسوار استشهد في عملية "بيت المقدس3". أصغر علي بور، علي أكبر مرتضوي، الحاج رضا داروئيان، الحاج علي باشايي و... لقد استشهد كلّ أعزائي. كدت أختنق من كثرة التفكير. كنت أتناول الألبوم الذي يحوي صور الجبهة، أنظر إلى صور أصدقائي فتتجدّد حرقة قلبي عليهم. أتذكّر كردستان ولياليها المضطّربة وجسدي الذي احترق هناك بالكامل، أفكّر بالجنوب، وبأخي السيّد صادق الذي استشهد أمامي، بأمير الذي سيبقى ألم شهادته في قلبي ما بقيت حيًّا، بالعمليّات، والجهود التي بذلها الشباب في الغربة عن الوطن والأهل، بالدماء التي سُفكت ظلمًا على أرض إيران، بالغوّاصين الذين كانوا نموذجًا كاملًا للإيمان، وبكلّ الجراحات والآلام التي تحمّلناها...

 

والآن جاء اليوم الذي لم أفكّر فيه أبدًا (لم اتوقعه)، لقد انتهت الحرب وبقينا أحياء.

 

 

563

 

 

 


553

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

الفصل الثامن عشر:

الآلام التي لم تنتهِ

 

لقد انتهت الحرب القاسية بعد 8 سنوات، لكنّني ما زلت أعاني عددًا من الأمراض الناتجة عن الجراح التي أصبت بها خلال الحرب. في العام 1984م طُرِحت لأوّل مرّة مسألة سفري إلى الخارج لعلاج عصب عيني والتقيّحات التي تخرج منها، وطلبت اللّجنة الطبيّة المعنيّة بإيفاد الجرحى للعلاج في الخارج، مبلغ 27 ألف تومان لم أكن أملكه. طرحتُ في أحد الأيام هذه المسألة في مؤسسة الشهيد مع الأخ "رهبري" فقال: "سنؤمّن نحن المبلغ، وتابع أنت الموضوع". لكنّنا كنّا في ذلك الوقت نخطّط لعملية بدر، ولم أكن مستعدًّا للذهاب للعلاج وعدم المشاركة بها. كما إنّ الشعور باليأس انتابني نتيجة كلام الأطباء عن احتمال فقد البصر بعيني بسبب صعوبة وضع عصبها والتقيحات. كذلك انزعجت من طلبهم المال، وأيضًا من تصرّفاتهم في مستشفى "مصطفى الخميني", فأجّلت الموضوع حتى عام 1989م.

 

في ربيع العام 1989م بدأتُ العمل في جامعة العلوم الطبية في تبريز، ولم يمضِ شهران حتى أخبرني صديقاي كريمي وصادقي - وهما من مسؤولي حملة محو الأميّة - بأنّ رئيس الوزراء آنذاك "مير حسين موسوي" سوف يأتي إلى المدينة. ولأنّهما يعلمان بمسألة علاجي حيث كانا من عناصري أيام الجبهة، طلبا منّي كتابة رسالة له حول الموضوع. كتبت الرسالة، وفي لقاء له في المحافظة مع المجاهدين والجرحى،

 

 

564

 


554

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

أخبرته بالمسألة - وجهًا لوجه - باختصار وأعطيته الرسالة. عندما أنهى زيارته، ذهبت مع الأصدقاء إلى المطار ثانية، وسلّم أيضًا على الجميع فردًا فردًا. عندما وصل إليّ قال: "أنا أذكر رسالتك، وسأجيبك عليها". وللإنصاف فقد اتصلوا بعد يومين أو ثلاثة من مكتب رئيس الوزراء بحملة محو الأمية - وكنت قد أعطيتهم رقمها - وقال لي الشباب إنّهم يريدونني في طهران. جمعت أوراقي وتوجّهت إلى هناك.

 

في طهران ذهبت إلى مكتب رئيس الوزراء. أخبروني هناك أنّهم أعطوا أمرًا بتقديم كلّ التّسهيلات اللازمة لتسريع سفري إلى الخارج، فصار لزامًا عليّ الذهاب ثانية إلى مستشفى "مصطفى الخميني". سابقًا، كانت السيدة كروبي رئيسة المستشفى قبل أن يستلم محلّها الدكتور "لشكرية", وقد كتبت رسالة لها قلت فيها إنني سأشكوهم يوم القيامة لأنّهم طلبوا منّي المال مقابل إرسالي إلى الخارج، وتسبّبوا في أن أخسر البصر في إحدى عينيّ، وصادف أن رأيتها هناك، وقد علمت بالقضية فسألتني: "هل شكوتني؟". شرحت لها القضية من جديد وأضفت أنّ الرسالة التي كنت قد كتبتها لها كتبتها للسيّد موسوي أيضًا، وهو يعمل الآن على حلّ القضية. على أيّ حال، حضّرت كلّ شيء خلال يومين أو ثلاثة أيام: الباسبور، و... لكن وقع حدثٌ أجّل موضوع السفر.

 

كان خبر مرض الإمام ثم وفاته في 4 حزيران عام 1989م أسوأ حدث يمكن أن يقع. لقد عشت حينها ظروفًا نفسية صعبة. إلهي! أيّ ألم أصعب؟ ألم فراق أصدقائي الشهداء؟ أم ألم هذا الجسد المعذّب الذي يجب أن يتجرّع بصبر مرارة ما يراه في المدينة؟ والآن ألم وداع الإمام الذي نحبّه بإخلاص ومن أعماق قلوبنا وأرواحنا، والذي كنّا مستعدّين لنفدي حياته وصحّته بأعمارنا؟!

 

565


555

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

لقد طرحوا اسمي مرّات عدّة خلال الحرب للذهاب إلى سوريا وإلى الحجّ. وخلال أحداث مقرّ زيد في خطّ شلمجه عام 1984م طرحوا اسمي للتوجّه لأداء فريضة الحجّ، كما طرحت أسماء عددٍ من العناصر القدامى أيضًا. ذهب بعضهم، وكنت ممن تخلّفوا خشية أن أخسر فرصة المشاركة في العملية. إضافة لذلك، لم أكن أرغب أساسًا بالذهاب إلى الحجّ في تلك الفترة وبأن ينادوني بـ"الحاج". بعد بدر، طرحوا اسمي للذّهاب إلى سوريا، لكنّني لم أذهب أيضًا. وطوال الحرب، ذهبت مع الفرقة مرّة أو مرتين إلى مشهد. لكن، كلّ ذلك لم يزعجني، ما كان يزعجني ويحرق قلبي أنّ اسمي طُرح مرّات عدّة للقاء الإمام إلا أنّني لم أذهب! كنت كلّما جرى حديثٌ عن لقاء الإمام شعرتُ بالخجل من الذهاب للقائه، وقلت في نفسي: ماذا فعلت لأقف أمام الإمام!... هذا هو السبب الذي جعلني أخسر اللقاء به واحتفظت به سرًّا لنفسي. والآن...

 

بعد وفاة الإمام، صار قلبي يحترق أسفًا لأنّني خسرت فرص اللقاء به. لماذا لم أرَ الإمام حتّى لمرة واحدة... كنت أفكر دومًا بهذه المسألة وأبكي لدرجة أثارت تعجّب من حولي. وأتساءل طوال الوقت: ما هو حال المجاهدين في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام، يواجهون العدوّ على مرأى من الإمام عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويصمدون أمامه ويقاتلون ويستشهدون ويراهم صلى الله عليه وآله وسلم و... الآن أنا أفكّر في حالنا، وأقول، إلهي، أنت ترى أنّنا ذهبنا إلى الجبهة في زمن الغيبة فقط بناءً لأمر نائب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولم نرَ إمامنا حتى. سمعنا صوته فقط، ولم نتراجع لحظة عن الجبهة، وكان هناك فرصة للقائه، لكن... لماذا لم أذهب؟ لماذا لم أره؟ في إحدى الليالي، بكيت كثيرًا قبل أن أنام، ورأيت حلمًا عجيبًا. رأيت الإمام رحمة الله عليه في غرفة عاديّة، والشهيد "أمير" الباش يجلس قربه من جهة، وأنا أجلس في الجهة الأخرى، وهو يمسح بيده على رأسي ورأس "أمير" ويقول لي: "لا تنزعج كثيرًا، ليس المعيار والهدف أن ترى، المعيار هو أداء

 

566


556

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

التكليف". استيقظت صباحًا بحال عجيبة من السعادة والراحة وكأنّي أكاد أطير من الفرح، وبدأت أشعر أنّني لم أقصّر في الحرب وقمت بعون الله بواجبي.

 

بعد المشاركة في مراسم ذكرى مرور أسبوع على وفاة الإمام في "جماران" في طهران، بدأتُ أتحضّر شيئًا فشيئًا للذهاب إلى ألمانيا، وحُدّد موعد السفر في الأوّل من تموز. ولأنّني كنت بانتظار مولودي الثاني فقد رغبت بتأخير السفر، لكن ذلك لم يكن ممكنًا، وكنت أتوقع أن أعود بإذن الله في وقت مبكر.

 

توجّهنا إلى ألمانيا وكان على متن الطائرة جرحى آخرون من كرمان، طهران وهمدان. أقمنا هناك في مدينة "كولن". أخبرني أحد الجرحى الذين التقيت بهم أنّه مضى على وصوله 12 شهرًا، وقال آخر إنّه أتى منذ 18 شهرًا، فعرفت أنّ أمامي عملًا كثيرًا، ولا بدّ من البقاء ثلاثة أو أربعة أشهر على الأقل. قال الشباب إنّهم لا يعطون المريض بعد العملية وحدات من الدم، لذا يحتاج إلى فترة نقاهة طويلة نسبيًّا ليتعافى بدنه. أخذوا لي موعدًا من طبيب بروفسور يدعى "هالمن" إلى ما بعد شهرين، لكنّني لم أرغب بالبقاء حتى ذلك الوقت. كانوا يعطون لكلّ جريح 12 أو 15 ماركًا يوميًّا، ولم نكن في ضائقة مادية، لكنّني كنت قلقًا على عائلتي. لم تمضِ أيام قليلة على وصولي إلى ألمانيا حتى اتصلت بي زوجتي وأخبرتني وهي تبكي أنّ ابنتي الثانية قد وُلدت، لكن هناك مشكلة في قدمها. زاد هذا الخبر من استيائي وانزعاجي وبدأت أفكر بالعودة إلى إيران في أسرع وقت ممكن. قلت للشباب إنّ حالي طارئة ولا يمكنني الانتظار فترة شهرين، فقرّروا التحدّث إلى الطبيب وقدّموا موعد الزيارة. استمرّت جلستي مع البروفسور "هالمن" ساعتين ونصف الساعة حتى عرف بالتفصيل مشكلتي الصحية، وتقرّر - بعدها - مشاركة فريق

 

567


557

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

من الأطباء المتخصّصين في العين، الأذن والفم والأنف، والفكّ والوجه، في العمليّة الجراحيّة التي سأخضع لها. قال إنّ هناك مشكلة في عصب العين، لكن يمكن معالجتها، وسيجرون عملية لحدقة العين. لكنّ المشكلة الأكبر هي في التقيّحات القديمة التي تخرج من عيني، وتأزمت منذ العام 1982م حتى اليوم، ويجب معالجتها بأسرع ما يمكن.

 

في النهاية أدخلوني المستشفى وأجروا لي عملية صعبة استغرقت حوالي 5 ساعات.

 

عندما عدت إلى وعيي، انتبهت إلى أنّهم أجروا لي عملية في الأنف وحدقة العين، وقالوا إنّهم سيجرون لي عمليّة أخرى بعد شهر. أثناء وجودي في المستشفى تعرفت إلى أشخاص عدّة. كان معي في الغرفة فتى من طهران يرأس والده أحد البنوك. لم تكن أمّه وأخواته ملتزمات بالحجاب، لكنّهم كانوا يهتمّون بي. كان ذلك الصبيّ يشاهد التلفاز بشكل مستمرّ، وعندما لاحظ تعجّبي من هذا الأمر، أخبرني أنّه لا يمكنه مشاهدة التلفاز مجّانًا في المنزل لذا هو يستغلّ فرصة وجوده في المستشفى! إضافة إلى المرضى الإنكليز والأمريكيين، كان في الغرفة أيضًا مريض تركيّ من أهل السنّة استفدت كثيرًا من وجوده معي. كان يخبرني بمواقيت الصلاة ويساعدني في اختيار الأطعمة الحلال ويعطيني أدويتي. أتى إلى المستشفى أيضًا مرضى من المنافقين وأحضروا معهم مجلاتهم. كانوا أناسًا مساكين! أذكر أنّ الشباب في "خانه إيران" قدّموا وجبات طعام في ذكرى أربعين الإمام الخميني قدس سره، فكان المنافقون وطلاب السّلطة الذين فرّوا من إيران، يُحضرون معهم القدور ليأخذوا الطعام! أكثرهم عانى من ضائقة مالية كبيرة. رأيت في فرانكفورت أيضًا إيرانيين يفتشون في النفايات. لقد لاحظت أنّ الألمان

 

568

 


558

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

لا يتعاملون بشكل جيّد مع الإيرانيين، لكنّهم يتعاملون بشكل أفضل بكثير مع الجرحى الأفغان الذين أصيبوا في حربهم ضد الروس.

 

بعد شهر، أجروا لي عملية ثانية وضعوا خلالها أنبوبًا رقيقًا يصل حدقة العين بالأنف وعلّموني كيف أهزّه لتخرج منها التقيّحات، وقرّروا إجراء عملية أخرى أيضًا. وبعد 65 يومًا سمحوا لي بالخروج من المستشفى. أخذوني إلى "خانه إيران", وهو فندق جميل يقع بين كولن وفرانكفورت، تفصل بينه وبين الجبل حديقة تحيط به من كلّ الجهات، وقد استأجروه خصّيصًا للجرحى... التفتّ إلى أنّهم اشتروا خروفًا ليقدّموه أضحية بمناسبة عيد الأضحى، إلا أنّ أحدًا لم يستطع ذبحه، وكنت قد جرّبت ذلك في الجبهة من قبل حيث كانوا يحضرون للكتيبة ثلاثة أو أربعة خراف، وكنّا نقول وقتها على سبيل المزاح إنّنا سنتركهم إلى ما بعد العملية حين يقلّ عدد الأفراد! حضّرنا الأضاحي بمساعدة شابّ من "همدان" مبتور القدمين، وذبحناها في الفناء، وتم تحضير لحومها طعامًا للشباب. كانت القنصلية الإسرائيلية تقع قرب ذلك الفندق، وكانوا يذيعون فيها موسيقى فاحشة طوال الأربع والعشرين ساعة، فقام شبابنا بالردّ عليهم بتوجيه مكبّر الصوت ناحيتهم وبثّ الأناشيد الفلسطينية عبرها.

 

بدأ شهر محرم، وكنت منزعجًا جدًّا. كنت دائمًا أحبّ أن أكون في تبريز في العشر الأوائل من محرم، مع أنّه كان لأيام محرم في الجبهة نكهة خاصّة طوال السنوات التي قضيتها هناك، لا مثيل لها في أيّ زمان أو مكان. عندما عدت لمراجعة الطبيب، وعرفت أنّهم يستبعدون أن أبصر بعيني ثانية، لم يتبقَّ لديّ دافع كبير للبقاء. ولأنّني كنت أيضًا قلقًا على عائلتي وطفلتي الصغيرة أصررت على الذهاب إلى طهران، فقبلوا

 

569


559

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

بذلك بعدما قطعتُ لهم عهدًا بأن أعود بعد شهرين لمتابعة العلاج.

 

في تبريز قال الأطباء إنّ مشكلة قدم طفلتي ليست معقّدة وستتحسن مع العلاج. ذهبت بعد شهر لمراجعة الأطباء فقالوا إنّه لا فائدة كبيرة تُرجى من الأنبوب الموجود في عيني واستخرجوه. لم أعد أفكّر في الذهاب إلى ألمانيا، فمن جهة كانت تكلفة العلاج مرتفعة، ومن جهة أخرى لم يكن للعمليات والعلاج أيّ نتيجة.

 

ما تزال الجراح التي أُصبت بها في وجهي تؤلمني، منذ تلك السنة وحتى الآن وخاصّة في الفصول الباردة، ،كذلك كانت مشكلة انقباض عضلات الفم تتكرّر عندما لا أعتني بنفسي جيّدًا في الطقس البارد. وأعاني في تلك الأيام لدرجة أنّني اضطر لفتح فكي بالقوة كي أستطيع تناول الطعام.

 

كانت حملة "راهيان نور" فرصة لي لأتمكّن ثانية من تقبيل موضع أقدام أصدقائي الشهداء بعد كلّ ما مرّ من السنوات. لقد طرحت مرات عدّة مسألة المذكّرات في مناسبات مختلفة، ولم أعتقد أنّها مهمَّة في هذا الزمن. لم تكن مسألة إجراء مقابلات والحديث عن مذكّرات الحرب قد طرحت بعد. والحقيقة أنّني بقيت دائمًا أعاني من عوارض الجراح التي أصبت بها، وفي إحدى الليالي من عام 1994م، رأيت السيّد علي الخامنئي في المنام يحمل في يديه أوراقًا يقرأها ويبكي، وكنت معه في نفس الغرفة. قال أحدهم إنّ هذه الأوراق تتضمن مذكّرات جريح وصلت درجة جراحه إلى 70% وأمضى في الجبهة 80 شهرًا ويقول إنّه لم يقدّم شيئًا في الحرب... لقد شغل هذا المنام كلّ تفكيري حتى

 

570

 


560

الفصل الثامن عشر: الآلام التي لم تنتهِ

ظننت أنّي لن أتمّ واجبي تجاه هؤلاء الناس وما جرى في الحرب إلا بكتابة هذه المذكّرات، لذا رويت تفاصيل 8 سنوات من حياتي في الجبهة لتبقى تلك اللحظات التي لا مثيل لها حيّة مع الزمن. مذكّرات ليالي كردستان الخطيرة... مذكّرات مسلم بن عقيل والشظايا التي أخذت "صادقنا", وخطّت مصيري مع هذه الجراح الخالدة... مذكّرات بدر ومواجهة الأجساد للدبابات وشجاعة الأنصار الكربلائيين الذين بقيت أجسادهم الطاهرة على ضفاف نهر دجلة... مذكّرات "والفجر8" وتلك الليلة الغريبة التي حفرت في قلبي ألم فراق أمير... مظلوميّة أصدقائنا وشهادتهم في مصنع الملح في شلمجه، ذكرى رحيم وحبيب ومحمد و.. ذكرى الغوّاصين الذين أخجلوا نهري الكارون وأروند بغيرتهم وعظمة أرواحهم. ذكرى الجبال المغطّاة بالثلوج والجليد.. ذكرى كلّ الأخوة الأشاوس الذين اصطفاهم الله شهداء، والذين أعشق جراحي لأجلهم، ومن ذكراهم أستمدّ العزيمة والصبر في تحمّل كلّ هذه الآلام.

 

571

 

 


561
نور الدين ابن ايران