نظرة عامة في فلسفة التاريخ


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-07

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وعلى آله الأخيار المنتجبين.

مهما تغيّرت الظروف فإنّ الفكر الأصيل يبقى على أصالته، ومهما تبدّلت الأحوال فإنّ الكلام المحكم بالدليل يبقى على إحكامه، فالأصالة والإحكام أساس الثبات والدوام، ومن هنا نجد الإمام الخميني الراحل قدس سره يوصي "...الطبقة المفكرة والطلاب الجامعيين ألا يدعوا قراءة كتب الأستاذ العزيز(الشهيد مرتضى مطهري)، ولا يجعلوها تُنسى جراء الدسائس المبغضة للإسلام،...

فقد كان عالما بالإسلام والقرآن الكريم والفنون
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

 والمعارف الإسلامية المختلفة فريدا من نوعه... وإن كتاباته وكلماته كلها بلا أيّ استثناء سهلة ومربِّية".

 
 وكذلك نجد قائد الثورة الإسلاميّة سماحة السيد علي الخامنئي دام ظله يصفه بأنّه: "المؤسس الفكري لنظام الجمهورية الإسلاميّة،... وأنّ الخطّ الفكري للأستاذ مطهري هو الخط الأساس للأفكار الإسلامية الأصيلة الذي يقف في وجه الحركات المعادية...
 
 إنّ الخط الذي يستطيع أن يحفظ الثورة من الناحية الفكرية هو خط الشهيد مطهري يعني خط الإسلام الأصيل غير الإلتقاطي...
 
 وصيّتي أن لا تدعوا كلام هذا الشهيد الذي هو كلام الساحة المعاصرة،... واجعلوا كتبه محور بحثكم وتبادل آرائكم وادرسوها ودرّسوها بشكل صحيح..."..

 
                                                                                                      جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 حول الكتاب

 
 هذا البحث مأخوذ من كتاب للشهيد مرتضى المطهري تحت عنوان "نهضة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في ضوء فلسفة التاريخ " ، ترجمة : محمد على آذرشب .
 
 
 
 
 
 
 
7

3

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 نظرة عامة في فلسفة التاريخ


1- هل يمكن دراسة التاريخ؟ 
2- كيف ينظر القرآن إلى التاريخ؟
3- كيف تتمّ التحوّلات التاريخيّة ؟
4- ما منشأ الصراعات الدائم على مرّ التاريخ؟
5- كيف يكسب النضال مشروعيّته وقدسيّته؟
6- هل تؤثّر الفوضى إيجابيّاً في تكامل المجتمع والتاريخ؟
7- هل للإصلاحات دور في تكامل المجتمع ؟ 
8- على أيّ أساس يقوم الاتجاه الإنساني في تفسيره لتكامل التاريخ ؟ 
9- ما هو الخلاف بين الاتجاهين الديالكتيكيّ والإنساني ؟
 
 
 
 
 
 
 
 
9

4

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

المرحلة الأولى

 
* إمكانية دراسة التاريخ والمجتمع
 
تختلف النظرة لدى المفكرين إلى أحداث التاريخ، ويمكننا أن نشخّص نظريّتين متباينتين في التعامل مع التطوّرات والتغيّرات التاريخية:
 
 
النظريّة الأولى:
 
يعتقد أصحابها أنّ أحداثَ التاريخ ليست سوى سلسلةٍ من المصادفات والإتفاقات التي لا تنضبط تحت قاعدة عامّة 1. ويتمّ ذلك وفق البيان التالي:
 
 
 

1- ليس المراد من الصدفة هنا أن تحدث ظاهرة ما بلا علة؛ إذ الطبيعة خالية حتماً من الصدفة الواقعية هذه، بل المراد من الصدفة هنا: الصدفة بشكل نسبيّ؛ أي أن لا تكون الظاهرة نتيجة طبيعيةً لعمل ما، ومثاله: أن تخرج يوماً من المنزل في ساعة ما فتلتقي بصديق لك صدفة كان قد خرج لقضاء بعض أغراضه. وهذه الصدفة لا تخضع لضوابط عامّة ولا لقوانين علميّة.
 
 
 
 
 
 
 
11

5

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 يتكوّن المجتمع من أفراد بطبائعَ شخصيّةٍ وخاصّة، تؤدّي

حركتهم ونشاطاتهم النابعة من دوافع فرديّة إلى سلسلة من المصادفات، تسبِّب هذه المصادفاتُ التغييراتِ التاريخيّة. 

وإذا لم يكن للمجتمع شخصيّة مستقلّة، وقامت مسيرته على مجموعة إتفاقات؛ بحيث لم تنضبط أحداث التاريخ تحت قاعدة عامّة، فإنّ التاريخ لا يكون صالحاً للدراسة ولا يشكِّل موضوعاً للفكر، فيفتقد بالنتيجة لأيّ عطاء تربويّ.


النظريّة الثانية:

ترى في المجتمع وجوداً مستقلاً عن وجود الأفراد.

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ شخصيّة المجتمع غير شخصية الأفراد، حيث تتكوّن شخصي واقعي للمجتمع، وهذه الشخصيّة هي عبارة عن تركيب مكون من التفاعل الثقافيّ للأفراد.
 
 
 
 
 
 
12

6

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 ويؤمن أصحاب هذا الإتجاه، ونتيجة لما تقدّم، بأن المجتمعَ جز من أجزاء الطبيعة يخضع لقوانينها الكلية وقواعدها العامة، كأيّ تركيب آخر من تراكيبها.

 
وإذا كان للمجتمع قوانين كليّة وضوابط عامة تؤثّر في مسيرته، فإنّه يصلح لأن يكون موضوعاً للفكر وأساساً للدراسة، ويكون جديراً بأن يُستفاد منه ويُعتبر.
 
 
النظرة القرآنية:
 
عندما يذكر القرآنُ الكريم التاريخَ فإنّه يروي أحداثه كمصدر للتفكّر والإعتبار، وينطلق في قسم من دروسه على الأقل من حياة الأمم و الجماعات: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ 1.

فالتاريخ بحسب القرآن مصعد تعليميّ مثمر ومعطاء، وهو يؤكّد على أمرين:
 
 
 

1- البقرة:134 
 
 
 
 
 
13

7

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 أولاً: يؤكّد على أنّ للتاريخ ضوابط وموازين عامة.

فالقرآن رفض بشدّة النظرة العبثيّة إلى التاريخ، وأشار إلى وجود قواعد كليّة وعامّة: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ 1-
 
ثانياً: كما يؤكّد على أن لإرادة الإنسان الدور الحاسم في تعيين مسيرة حركة التاريخ. 
ويشير القرآن إلى هذه القاعدة التربويّة التي تحكم التاريخ ضمن حقل قوانينه العامة، وذلك حين يؤكّد  أنّ البشريّة إنّما ترسم مصيرها بيدها كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾2.
 
وباجتماع هذين الأمرين، يتّضح أنّ العطاء التعليميّ للتاريخ هو عطاء عمليّ، ولو اقتصرنا على وجود قواعد وموازين عامة دون أن يكون للإنسان دور فيه لكان عطاؤه نظريّاً محضاً.
 
 
 

1- فاطر:43.
2- الرعد:11.
 
 
 
 
 
 
14

8

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 * الهدف من السرد القرآنيّ للأحداث التاريخيّة


من هذا المنطلق يسرد القرآن الوقائع التاريخيّة، أي يبيّنها للإستفادة والإعتبار منها؛ فإنّه على مسرح التاريخ القرآني عندما يبرز دور للمستكبرين في مقابل دور المستضعفين، وينشب الصراع بين هاتين الفئتين، متخذاً طابعاً إنسانيّاً لا ماديّاً طبقيّاً، فإنّ هذه الأحداث تقع في خانة الصراع الدائم والمستمر بين قوى الحقّ وقوى الباطل... 

بهذا الشكل يعطي القرآن العوامل الأخلاقية والإجتماعية دوراً رئيساً في مسيرة التاريخ، ويؤكّد في الوقت ذاته أنّ الصراع بين الفريقين ذو هويّة معنويّة إنسانيّة لا ماديّة طبقيّة.

هكذا نفهم الصراع بين النبي إبراهيم عليه السلام والنمرود، وبين النبي موسى عليه السلام وفرعون... فإنّ القرآن يرسم هذه الصراعات بناءً على أنّ لكل عصر نمروداً أو فرعوناً، ولكلّ نمرودٍ وفرعونٍ إبراهيمَ وموسى... وفي هذه الصراعات ينتصر الحقّ حيناً والباطل حيناً آخر. فيدعونا القرآن إلى الإستفادة من عِبر هذه القصص.
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 ولو كان التاريخ مجرّد مجموعة اتفاقات وصدف لما كان للقصص القرآني التاريخيّ أيّ عطاء تعليميّ، ولتبدّلت أحداثه إلى أساطير لا تصلح إلا للتسلية والسمر.

 
 
* تكامل المجتمع والتاريخ
 
سنستعرض طريقتين مختلفتين في تفسير تكامل التاريخ، وذلك بالقدر الذي يتعلّق بهدفنا من مسألة انتظار الفرج والأمل بالمستقبل1.
 
 
الإتجاه الديالكتيكيّ أو الآليّ في تفسير تكامل التاريخ:
 
أولا: تكامل الطبيعة:
يفهم هذا الإتجاه التطوّر في الطبيعة على أنّه نتاج الصراع بين المتناقضات، ويتمّ وفق الخطوات الأربع التالية:
 
1- إنّ الطبيعة في حركة مستمرة دؤوبة، فهي لا تعرف السكون مطلقاً، ولا تعيش الثبات.
 
 
 

1-ومن هنا يعتبر هذا البحث مقدّمة أساس لبحث يأتي إن شاء الله تحت عنوان (نهضة المهديّ).
 
 
 
 
 
 
16

10

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 2- تترابط أجزاء الطبيعة بشكل وثيق، فكلّ جزءٍ منها يتأثّر بالأجزاء الأخرى ويؤثِّر فيها، ولذلك عندما تُدرس الطبيعة فلا بدّ أن تُدرس أجزاؤها على أنّها مترابطة غير مفكّكة أو مجزّأة.

 
3- تنشأ الحركة في الطبيعة بسبب صراع المتناقضات1، ويشكِّل هذا الصراع أساس كل تطوّر، ويتمّ على الشكل التالي:
 
 
 

1- لا بد أن نشير هنا إلى أنّ مسألة الارتباط والحركة والتناقض في أجزاء الطبيعة لا يختص بها الإتجاه الآليّ والديالكتيكي، كما يحاول أصحاب هذا الإتجاه الإيحاء به، فإنّ الفلاسفة الإلهيين هم أوّل من نظر إلى أجزاء العالم على أنّها مرتبطة فيما بينها ارتباطاً عضويّاً، كما يعتقد بذلك أيضاً أصحاب الإتجاه الميتافيزيقي. فإنّ أرباب الإتجاه الميتافيزيقيّ لا ينظرون إلى الأشياء بإعتبارها ثابتة وساكنة، بل يعتبرون سكون الطبيعة أمراً نسبيّاً، فيما الثبات من خصائص ما وراء الطبيعة. وكذلك يؤمن التفكير الميتافيزيقيّ بالتضاد بين عناصر الطبيعة، بل يعتبره شرطاً لازماً لدوام فيض الباري.نعم، يتساهل أصحاب الإتجاه الديالكتيكي في عرض فكر غيرهم حيث يرمون أيّ إتجاه غير ديالكتيكيّ بعدم القول بالارتباط والحركة والتناقض، ويعتبرونها مختصة بهم. 
وفي الواقع، فإنّ الذي يختصّون به هو:
1- إقتصارهم في فهمهم لتطوّر الطبيعة على أساس الصراع بين الأجزاء، وتفسيرهم للتكامل بالتالي على أساس التناقض وحده، مع إعتبارهم أنّ كل ظاهرة تحمل في أحشائها فناءها. أمّا أصل فكرة التناقض، فليست من مبتكراتهم.
2- يقولون بديالكتيكيّة الفكر، ويبنون على أنّه جزء من الطبيعة يخضع لقوانينها، وفقاً للارتباط والحركة والتناقض، فهكذا يتطور الفكر في نظرهم. وبالمناسبة لا بأس بالتنبيه على عدم التسرّع في إلحاق الفكر الإسلاميّ بأحد الإتجاهين الديالكتيكي أو الميتافيزيقيّ ؛ إذ للإسلام فكر يختصّ به، قد يشترك جزئياً مع كلّ واحد من الإتجاهين ليختلف معه في نواحٍ أخرى.
 
 
 
 
 
 
 
17

11

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 تتجه كلّ ظاهرة طبيعية تلقائياً نحو نقيضها، يأخذ النقيض في النموّ شيئاً فشيئاً بحيث يصبح قادراً على مواجهة تلك الظاهرة. هكذا ينشب الصراع بينه وبينها؛ فالظاهرة تريد الحفاظ على نفسها والنقيض يريد أن يبدّلها.

 
4- يشتدّ الصراع بين الظاهرة ونقيضها، ويستمرّ إلى أن يبلغ ذروته، ثمّ تحدث ثورة تنتهي لصالح النقيض المتمثّل بالقوى الجديدة على حساب الظاهرة والقوى القديمة. وهكذا تتبدّل الظاهرة بنقيضها الذي كانت تتجه تلقائيّاً نحوه1.
 
في المرحلة اللاحقة ينشب صراع جديد بين هذا النقيض ونقيض آخر فيتحوّل إليه، ونفي النفي هذا نوع من التركيب، تتواصل به حركة المجتمع والتاريخ بشكل حتميّ وجبريّ ويحصل التكامل، وهكذا...
 
والخلاصة أنه وفقاً لهذه النظرية هناك أصل، يمكن أن نسمّيه "الأطروحة"، ينقلب إلى نقيضه "الطباق"، فيما
 
 
 

1- من هنا يقال: إنّ كلّ ظاهرة تحمل في أحشائها عوامل فنائها.
 
 
 
 
 
 
18

 


12

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 بعد  يأتلف النقيضان ليشكّلا تركيباً واحداً "التركيب". ثمّ يصير هذا التركيب أصلاً و"أطروحة" جديدة تطوي المراحل نفسها...


وثلاثيّ "الأطروحة والطباق والتركيب" هو المسمّى بحسب أصحاب هذا الإتجاه بالمثلّث الهيغليّ.

الطبيعة بحسب هذا الإتجاه لا تكون هادفة:

يعتبر هذا التفسير الطبيعة عنصراً غير هادف، فهي لا تنشد كمالها، بل على العكس تتجه بشكل دائم نحو نقيضها، أي نحو الإندثار. وهذا الإندثار بدوره يحمل في طيّاته عوامل فنائه، وبهذا المسير غير الهادف يحصل تكاملها وتطوّرها.

فتكاملها لم يكن الهدف المنشود لها بل حصل على أثر تركيب الأضداد.


ثانياً: تكامل المجتمع والتاريخ 

يعتبر هذا الإتجاه أنّ العامل الأساس الذي يشيّد
 
 
 
 
 
 
19

13

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 المجتمع، والسبب الرئيس الذي يؤدّي إلى الحركة فيه وبالتالي إلى تكامله، هو العمل الإنتاجيّ وتطوّر آلات الإنتاج1.

 
فبحسب المنظِّرين لهذا الإتجاه إنّ العامل الاقتصادي هو أساس حياة البشريّة، هو الذي يخلق علاقةً بين الأفراد تنبثق عنها مجموعة العلاقات الأخرى، كالعلاقات الإجتماعية والسياسيّة. ولذا قيل: إنّ الاقتصاد هو الذي يشكّل البناء التحتيّ للمجتمع، الذي يؤدّي تغيّره إلى تغيّر كل الأبنية الفوقيّة. 
 
ويتمّ التطوّر والتكامل في المجتمع والتاريخ وفق الخطوات التالية: 
 
- يشكل التاريخ جزءاً من أجزاء الطبيعة، ولذا فإنّه يطوي نفس مراحلها، لكن مع الأخذ بعين الإعتبار أنّ عناصر المسألة التاريخيّة هم أفراد البشر، فهو حركة وصراع دائم بين مجموعات فتية جديدة ومجموعات سابقة.
 
 
 

1-  ومن هنا صح أن نطلق عليه اسم: الإتجاه الآلي.
 
 
 
 
 
 
20

14

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 - إنّ كل جيل جديد من أفراد الإنسان يحمل أفكاراً أكثر تطوّراً تؤدي إلى زيادة الإنتاج, إذ الإنسان مزوّد بالقدرة على تطوير آلات الإنتاج. 

- توجِد أفكارُ القوى الفتيّة الحديثة علاقاتٍ إقتصاديّةً جديدة تنبعث منها علاقات إجتماعية.

- تنمو هذه القوى وتصبح قادرة على الوقوف بوجه القوى القائمة.

- ينشب صراع بين الفريق الرجعي، وقوامه تلك القوى التي ترتبط مصالحها بالوضع الاقتصاديّ القديم والتي ترى ضرورة بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وبين الفريق التقدميّ الذي يتشكل من القوى الفتيّة بوسائلها الإنتاجيّة المتطورة، وترتبط مصالحها بنظام إقتصادي جديد.

يشتدّ هذا الصراع ويحتدم ليبلغ ذروته، فتحدث ثورة يتبدّل فيها المجتمع بزوال وفناء النظام القديم وحلول النظام الجديد.
 
 
 
 
 
 
21

15

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 وهكذا يكون هناك تأثير متبادل بين الإنسان والآلة، الإنسان يخلق الآلة، والآلة تخلق الإنسان الجديد. 


فيما بعد تطوي هذه المرحلة الجديدة المسيرة نفسها، لتتواصل مراحل التاريخ، وهكذا..

* نتائج الإتجاه الآليّ في تفسير تكامل التاريخ

1- مفهوم القديم والجديد:
بحسب هذا التفسير، لا ينطلق مفهوم القديم والجديد من إطاره الثقافيّ. فإنّ مفهومَ القديم والجديد مفهو إقتصاديّ بحت؛ تتشكّل القوى الرجعيّة من الطبقة المرفهة لأنّها المنتفعة من الأوضاع الإقتصادية الحالية، فتطالب باستمرارها وثباتها، فيما تتشكل القوى التقدمية من الطبقة المسحوقة والتي تتمتع بأفكار إنتاجية متطورة وتطالب بتغيير الأوضاع الحالية.

أمّا العلاقات الثقافية والإجتماعية وما شابه، فإنّها تنبثق من العلاقات الإقتصادية، فإنّ محتوى التفكير
 
 
 
 
 
 
 
22

16

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 الإجتماعيّ للأفراد يتكوّن من خلال مكانتهم الطبقيّة وظروفهم الإقتصاديّة.

 
2- التسلسل المنطقيّ للتاريخ:
تتسلسل المراحل التاريخية بشكل منطقي جبريّ، كأيّ عنصر طبيعيّ آخر، فالتاريخ يَعبُر مراحلَه بالترتيب ولا يمكنه القفز فوق أيّ مرحلة؛ فكما أنّ النطفة لا يمكن أن تصير مضغة دون أن تمرّ بمرحلة تكوّنها علقة،كذلك الرأسمالية مثلاً مرحلة تاريخية تتوسط مرحلة الإقطاع ومرحلة الإشتراكيّة، فمن المستحيل أن ينتقل المجتمع من الإقطاع إلى الإشتراكية دون أن يمرّ بالرأسمالية 1.
 
3- وصول كلّ مرحلة إلى ذروتها:
من الضروريّ أن تبلغ كلّ مرحلة من المراحل ذروتها لتنتقل إلى مرحلة جديدة أخرى. فانتظار مرحلة مقبلة
 
 
 

1- من هنا فأصحاب هذا المنطق يطلقون اسم "الاشتراكيين المثاليين" أو "الاشتراكية الخيالية" أو "الطوباوية" على الاشتراكيين الذين أرادوا تطبيق الاشتراكية دون أن يراعوا جبر التاريخ والتسلسل المنطقي لمراحله، خلافاً للاشتراكيين الماركسيين الذين يقيمون فكرهم على أساس التسلسل المنطقي لحلقات التاريخ.
 
 
 
 
 
 
23

17

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 دون أن تبلغ المرحلة الراهنة ذروتها يشبه انتظار الولادة قبل أن تطوي النطفة مراحل الجنينية، فهذه في الواقع محاولة إجهاض لا ولادة!


4- قدسيّة النضال:
يقوم تكامل المجتمع على أساس الصراع بين المتناقضات كما تقدّم ، ومن هنا يكتسب النضال قدسيّته. فإنّ كلّ صراع بين القديم والجديد يدفع المجتمع إلى التكامل وبالتالي يُعتبر نضالاً مقدّساً كيفما تلوّن، وليست قدسيّة النضال نابعة من كونه دفاعاً عن حقّ‏ٍ أو ردّاً لهجوم!

5- إثارة الفوضى:
بما أنّ تكامل المجتمع هو نتيجة صراع التناقضات، فإنّ كلّ ما من شأنه توسيع الثغرات وتأجيج هذا الصراع، فهو عامل يسرّع في عملية انتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى أسمى وأرقى. ولمّا كانت عمليّة إثارة الفوضى والاضطرابات تنهض بهذا الدور، فهي مشروعة بل مقدّسة وفق هذا المنطق.
 
 
 
 
 
 
24

18

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 6- الإصلاحات:
تؤدي الإصلاحات الجانبيّة والجزئيّة إلى تضييق الفجوات والثغرات، فهي تخفض من حدّة التناقضات وتؤدّي بالتالي إلى تأخير موعد إنفجار الثورة والإنتقال إلى مرحلة جديدة... فهي إذاً عامل يؤخّر تكامل المجتمع، لذا تُعتبر هذه الإصلاحات خيانة وتخديراً للمجتمع ووقوفاً بوجه تكامله.
 
 
 
 
 
 
 
25

19

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 المرحلة الثانية

 
* الاتجاه الإنساني أو الفطريّ في تفسير تكامل التاريخ 1
 
يقع هذا الإتجاه في الطرف المقابل تماماً للاتجاه الديالكتيكيّ الآلي، ويعطي فهماً جديداً وتفسيراً آخر لعملية بناء المجتمع وتكامل التاريخ. 
 
يمنح هذا الإتجاه الأصالة للإنسان وقيَمه، سواء على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع، في مقابل أن تكون الأصالة للعامل الاقتصاديّ كما كان قد تبنّى الإتجاه الديالكتيكيّ.
 
 
 

1-  وقد تقدّم الحديث عن الاتجاه الديالكتيكيّ في المرحلة الأولى.
 
 
 
 
 
 
27

20

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 يقوم أصحاب هذا الإتجاه أولاً بمحاولة فهم الإنسان بشكل عميق، فهذا الإنسان تكمن فيه مجموعتان من الغرائز: 

 
1- مجموعة غرائز ماديّة، وهي الغرائز التي يشترك فيها مع الحيوان.
 
2- ومجموعة غرائز سامية، كغريزة الدين والأخلاق وحبّ الاستطلاع، وهي التي تميّزه عن الحيوان. 
 
 
* تكامل الإنسان
 
يدور الصراع داخل كلّ فرد بين غرائزه الماديّة ذات الهدف الفرديّ المحدود، وبين غرائزه السامية السماوية، التي تتجاوز المصالح الشخصيّة وتهدف إلى تحقيق القيم الأخلاقية والعلمية والعقلية1، وهذا هو التكامل الذي يندفع إليه الإنسان فطرياًّ؛ فهو سعي إلى التحرّر من أسر قوى الطبيعة والإتجاه إلى السيطرة عليها، ليزداد استثماره
 
 
 

1-وهذا الصراع أطلق عليه القدماء اسم النزاع بين العقل والنفس.
 
 
 
 
 
 
28

21

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 للطبيعة من جهة، وليوثّق ارتباطه بالعقيدة والإيمان من جهة أخرى.


ويبلغ الإنسان ذروة الكمال عندما يصل إلى الحريّة المعنويّة التامّة، المتمثّلة بالارتباط التام بالعقيدة والإيمان، بعد السيطرة على العوامل البيئية الطبيعية والتحرّر من الأغلال الحيوانيّة.

وبالنتيجة فإنّ الإنسان يمتلك قدرة التحكّم بنفسه، وليس الإنسان مجرّد كائن مدفوع بغرائزه الماديّة وفرد غارق في مصالحه الذاتية والآنيّة.

إذاً، ليس تطور آلات الانتاج هو السبب الحقيقيّ والعلة للتكامل، بل هو بدوره ناتج ومعلول لاندفاع الإنسان الفطريّ نحو الكمال، فلا ينبغي اتخاذ المعلول مكان العلّة.


* تكوّن المجتمع

أمّا المجتمع فإنّه يتكوّن من أجزاء ترتبط في تركيب حقيقيّ، ويتألّف هذا التركيب من:
 
 
 
 
 
 
 
 
29

22

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 خصال الأفراد، الدانية منها والسامية، من جهة، بالإضافة إلى خصالٍ للمجتمع نفسه، تشكّل امتداداً لخصال كانت موجودة سابقاً، من جهة أخرى. لا تتأثر خصال المجتمع بفناء الأفراد، نعم يمنحها تكامل الإنسان نظاماً أفضل.


* تكامل المجتمع بحسب التفسير الإنسانيّ

فمسيرة التاريخ انطلاقاً من هذه النظرة متحوّلة متكاملة كالطبيعة ذاتها، والحركة باتجاه الكمال ضرورة لا تنفصل عن ذات أجزاء الطبيعة بما فيها التاريخ؛ حيث ينسحب الصراع الذي يقوم داخل كل فرد من الإنسان إلى صراع بين المجموعات البشريّة، فينشب صراع بين الإنسان المتكامل المتحرّر روحيّاً، أي الأفراد الملتزمين الذين تخلّصوا من قيود الطبيعة، وبين الإنسان المنحط الغارق في الأغلال الشهوانية الحيوانية . وهذا الصراع الاجتماعيّ هو الذي يؤثّر في تكامل المجتمع والتاريخ وتطوّره، ويتّجه نحو تحرير الإنسان من القيود البيئية والاجتماعية.
 
 
 
 
 
 
 
30

23

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 * بين الإتجاه الإنساني والإتجاه الديالكتيكيّ


وبناءً عليه فإنّ تكامل التاريخ يعمّ جميع الشؤون المعنويّة والثقافيّة للإنسان، ولا يقتصر على الجانب الآليّ الانتاجيّ. فليس الصراع الاجتماعيّ مجرّد صراع طبقيّ بين الفئة المرتبطة بوسائل الانتاج والنظم الاقتصادية القديمة، والتي تسعى إلى حفظ النظام القائم الذي تستفيد منه، وبين الفئة المحرومة التي ترتبط بوسائل انتاج أكثر تطوّرا،ً بحيث تنهض بالثورات من أجل تأمين احتياجاتها الماديّة، وتعمد إلى سنّ أنظمة وقوانين جديدة!

ويقدِّم الإتجاه الإنساني أمثلة وأدلّة من تاريخ الثورات تؤكّد صحة نظريته، في مقابل ما ذهب إليه الإتجاه الديالكتيكي الآلي:

فالثورات، لو راجعنا التاريخ، لم تقتصر على الطبقات المحرومة بل نهض بها رجال نشأوا في طبقات مرفّهة وذات شأن، كنهضات إبراهيم وموسى ومحمّد والحسين عليه جميعا سلام الله.
 
 
 
 
 
 
 
31

24

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 - وكذلك لم تكن أهداف الثورات ماديّة دائماً، بل نهض رجال في سبيل الله لا يريدون جزاء ولا شكورا، وخاصّة في صدر الإسلام. 


- لم تترافق الثورات دائماً مع تطوّر وسائل الانتاج، كما في النهضة الدستوريّة في إيران وفي نهضات الشرق والغرب التي قامت مقارعةً للاستبداد والطغيان خلال القرون الأخيرة.

- والحركات الاجتماعية كما كانت وليدة نقص القوانين الموجودة أحياناً، فقد ولدتها عدم تنفيذ القوانين النظرية أحياناً أخرى، كحركات الشعوبيّة وثورات العلويّين.


* نتائج الإتجاه الإنسانيّ الفطريّ في تفسير التاريخ

1- حقيقة الحروب:
انطلقت الحروب في التاريخ من أسباب متباينة واتخذت أشكالاً مختلفة، إلا أنّ الحروب التي أخذت بيد المجتمع والإنسانية في سلّم الترقّي هي تلك التي دارت رحاها بين
 
 
 
 
 
 
 
32

25

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 الإنسان الملتزم عقائديّاً المتسامي روحيّاً، وبين العابث المنحطّ المقيّد بالشهوات، فسارت هذه الحروب بالإنسان والمجتمع تدريجيّاً، وبعد اتخاذها صفة إيديولوجية لا طبقيّة آليّة، نحو التكامل.
فالحروب التكاملية ليست بذات صفة طبقية بل تتخذ صفة إيديولوجيّة تسير بالإنسان والمجتمع في سبيل الرقيّ والتكامل في جميع جوانبه، وستكون نهايتها إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيم الإنسانية، أو "حكومة المهديّ" بالتعبير الإسلاميّ.

2- حلقات التاريخ:
ليس لوقائع التاريخ تسلسل منطقي مُلزِم وحلقات مفروضة جبريّة، بل هي وقائع عامّة.ويشهد لذلك ما حدث في القرن الماضي، حيث اتّجهت بلدان إلى الاشتراكيّة دون أن تطوي مرحلة الرأسماليّة، كما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق، والصين، ودول أوروبا
 
 
 
 
 
 
 
 
33

26

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 الشرقيّة. ولذلك ليس الوصول إلى الذروة يؤدي تلقائيّاً للانتقال إلى مرحلة لاحقة. فقد حدث أن وصلت مرحلة إلى ذورتها دون أن يؤدّي ذلك إلى حدوث تغيير وانتقال إلى مرحلة جديدة، كالرأسماليّة في الولايات المتّحدة وبريطانيا.


كما أنّ الثورة ليست شرطاً ليحصل الانتقال إلى المراحل اللاحقة، بل يمكن الانتقال من مرحلة إلى أخرى من غير ثورة، كأن ينتقل مجتمع ما من البداوة إلى أسمى مراحل الحضارة، بسبب انبثاق إيديولوجيّة معيّنة فيه وانتشار إيمان دينيّ، كما حدث بظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة.

3- قدسيّة النضال:
يكتسب النضال قدسيّته ومشروعيّته فيما إذا استهدف لدفاع عن مقدّسات إنسانيّة. وهو يتّسع ليشمل كلّ نضال يتعلّق بحقوق الفرد أو المجتمع، كالدفاع عن التوحيد الذي يُعتبر من أهمّ مقوّمات سعادة البشريّة، وكالنضال للوقوف بوجه الاعتداء على الحقوق الفرديّة والوطنيّة.

وبالنتيجة فإنّ للجهاد ماهية إنسانية لا طبقيّة.
 
 
 
 
 
 
34

27

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 4- الإصلاحات:

تساهم الاصلاحات، حتى لو كانت تدريجيّة أو جانبيّة، في دعم الحقّ في صراعه مع الباطل؛ إذ تكون عاملاً مؤثّراً في ترقّي مسيرة التاريخ لصالح دعاة الحق، فهي تساعد في تكامل المجتمع والتاريخ ولا تقف عائقاً في مسيرته التكاملية. 

فالتاريخ لا يطوي مسيرته عبر صراع التناقضات حتى ندين هذه الإصلاحات، ولذا فإنّ هذه الإصلاحات مشروعة بل مطلوبة.

5- إثارة الفوضى:
يثبت بما تقدّم من شرعية الإصلاحات الجزئيّة وكونها عاملاً يؤثِّر في ترقّي المجتمع لصالح دعاة الحق عدم شرعيّة إثارة الفوضى والاضطرابات، بخلاف الاتّجاه الآليّ الذي يضفي المشروعيّة على مثل هذه الأعمال لأجل خلق الأزمات.
 
 
 
 
 
 
35

28

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 6- تأرجح منحنى التاريخ:

إنّ الإنسان هو الذي يؤثّر في حركة التاريخ، والإنسان موجود مختار ذو إرادة، لذا يتأرجح منحنى تكامل المسيرة البشريّة بين الهبوط والارتفاع، ويتراوح بين السرعة والبطء بل قد يخيّم عليه السكون أحياناً.

ومن ناحية أخرى فإنّ التاريخ، وللسبب عينه أي تأثير الإنسان المختار فيه لا يسير سيراً تكامليّاً جبريّاً، ولذلك قد لا تكون المرحلة اللاحقة أكثر تكاملاً من سابقتها، وكما يقول (تويمبي): "انحطاط الحضارات أمر لا يمكن رفضه، لكن تاريخ البشرية يطوي بمجموعه مسيرة تكاملية".

7- التحرّر من أغلال الطبيعة:
تتّجه المسيرة التكامليّة للإنسان نحو التحرّر من أغلال الطبيعة الماديّة والمصالح الفردية والجماعية لتتخذ طابع الالتزام الفكري، وذلك بالسيطرة على عوامل البيئة والظروف الاقتصاديّة، وبالتحكّم بالغرائز الحيوانيّة، كلّ
 
 
 
 
 
 
 
36

29

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 ذلك نتيجة تكامل ثقافة الإنسان واتّساع آفاقه وازدياد إلتزامه بالإيديولوجيّات التقدّميّة.


8- أصالة القوى الفكريّة والأخلاقيّة:
يتحكّم بالوجود الإنسانيّ الضميرُ البشريّ‏ُ بقوّتيه: الفكريّة أي قوّة الاستدلال والبرهان ، والأخلاقيّة أي قوة النزوع نحو السموّ . فهاتان القوّتان أصيلتان في وجود الإنسان وتمكّنانه من التحكّم بمتطلباته الماديّة.

9- عدم انطباق المثلّث الهيغليّ:
لا ينطبق مثلّث الديالكتيك، "الأطروحة والطباق والتركيب" على الطبيعة فضلاً عن التاريخ، فليس كلّ ما يحدث في الطبيعة هو من تبدّل الشي‏ء إلى ضدّه، ثم هذا الضدّ إلى ضدّه ليحدث التركيب في مرحلة ثالثة، بل ما يحدث في الطبيعة عدّه احتمالات:

أ- أن يحدث تركيب بين الأضداد بلا تبدّل.
ب- أن يحدث تبدّل للأضداد من دون تركيب.
 
 
 
 
 
 
37

30

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 ج- أن يحصل تكامل خالٍ من تركيب الأضداد ومن تبدّلها، كتركيب الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين.نعم! يمكننا أن نطلق مصطلحات المثلث الهيغليّ على عمليّات التغير هذه كلّها، لكنّها تكون في واقعها مفتقدة للعنصر الأساسي الذي تمتاز به الماركسيّة (الصراع بين المتناقضات).



* موقع القيم الإنسانيّة في الإتجاه الإنسانيّ الفطريّ

إنّ من أهمّ ما يتميّز به الإتجاه الفطريّ هو أنّه يعطي للقيم الأصالة في وجود الإنسان، فهو ينشد هذه القيم، ينشد الحقّ والعدالة ويقوم بالتخطيط لبناء مجتمع سامٍ.

وهذا الإتجاه لا ينفي تأثّر الإنسان بالبيئة، إلا أنّه يؤمن أيضاً بأنّ الطبيعة لا تقوى على أن تسيّره مجبراً، بل له القدرة هو الآخر على التأثير فيها.

يتميّز الإنسان إذاً عن سائر الموجودات بوعيه الذي يقدر بواسطته أن يسيطر على نفسه مقابل ظروف البيئة
 
 
 
 
 
 
 
38

31

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 والطبيعة، فيقوّم انحرافاته وينطلق في صنع نقاطٍ مضيئة في تاريخ البشريّة.



* جوهر الاختلاف بين الإتجاه الديالكتيكيّ والإتجاه الإنسانيّ

في الحقيقة يعود جوهر الاختلاف بين الإتجاهين، الآلي والإنساني، إلى الخلاف في فهم وتفسير الإنسان.

فالإتجاه الديالكتيكيّ الآليّ يعتبر الإنسان مجرّد معلول لمصالحه الماديّة والاقتصادية، فهذه المصالح هي التي تفرض عليه تطوير وسائل الانتاج.

وعليه فإنّ كلّ ما ينطوي عليه الإنسان، من مشاعر ورغبات وأحكام وقدرات، ليس سوى انعكاس لظروف بيئته الطبيعية والاجتماعيّة، فالإنسان مجرّد مرآة تعكس ما يحيط به، وهو في واقعه لا يقدر على أيّ حركةٍ مخالفةٍ للظروف المحيطة.

أمّا الإتجاه الفطريّ فيرى أنّ الإنسان يتمتّع بخصال
 
 
 
 
 
 
39

32

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 تدفعه إلى طلب الحق، وهو قادر على التحكّم بنفسه، ويستطيع التحرّر من جبر الطبيعة والظروف المحيطة.

وأما التفسير القرآنيّ للتاريخ، والذي تقدّم ذكره، ينطلق دون شكّ من النظرة الثانية. فقد بينّا أنّ القرآن يؤكّد على تأثير العوامل الأخلاقيّة في مسيرة التاريخ، ويركّز على دور إرادة الإنسان في تعيين مسير حركته، في مقابل أن يكون التكامل قائماً على أساس ماديّ طبقيّ، ويسير بشكل جبريّ لا يتحكّم الإنسان به..
 
 
 
 
 
 
40

33

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 الخلاصة


1- هناك رؤيتان ونظريّتان متباينتان في التعامل مع تكوّن المجتمع والتاريخ:

النظرية الأولى: تعتبر أنّ المصادفات والإتفاقات هي التي تؤدّي إلى تكوّن المجتمع والتاريخ، وبناءً على هذه النظرية لايكون التاريخ والمجتمع صالحين للدراسة.

النظرية الثانية: ترى أنّ المجتمع يخضع لقوانين عامّة وقواعد كليّة كأيّ عنصر من عناصر الطبيعة، ولذا يمكننا الإعتبار من سيرة الماضين وحوادث التاريخ.

القرآن الكريم يعتبر التاريخ مصدراً تعليميّاً مثمراً ومعطاءً، فيسرد قصصه ليُتفكّر فيها ويُتأمّل ويُستفاد منها.
2- نشخّص إتجاهين في تفسير وفهم تكامل المجتمع والتاريخ. 

الإتجاه الديالكتيكيّ أو الآليّ: ينطلق هذا الإتجاه
 
 
 
 
 
 
41

34

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 في تفسيره لتكامل التاريخ على أساس الصراع بين المتناقضات، بعد الإيمان بأن أجزاء الطبيعة هي في ترابط وثيق وحركة دائمة.


أ- التكامل في الطبيعة، وفق هذا الإتجاه، يتمّ على الشكل التالي:

تحمل كلّ ظاهرة في أحشائها نقيضها. ينمو النقيض شيئاً فشيئاً وعندما يصبح قادراً على مواجهة الظاهرة ينشب صراع بينهما ينتهي بثورة يقلب النقيض فيها الأوضاع لصالحه حيث يحلّ محلّ تلك الظاهرة.ثم يقوم هذا النقيض بطيّ المراحل ذاتها، وهكذا...

ب- بناءً عليه فالطبيعة ليست هادفة، إذ ليس منشأ تكاملها سوى الصراع الحتميّ بين المتناقضات.

ج- وأمّا بالنسبة للتاريخ والمجتمع، فإنّ هذا الإتجاه يعتبر أنّ العامل الرئيس الذي يقوم بتشييد المجتمع ويؤثر في حركته وتكامله، هو العامل الإقتصاديّ الإنتاجيّ.
 
 
 
 
 
 
 
42

35

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 فالعامل الإنتاجيّ يوجِد علاقات اقتصاديّة بين أفراد المجتمع، تنبثق عن هذه العلاقات بقية العلاقات الاجتماعيّة الأخرى وهكذا يتشيّد المجتمع.


أمّا تكامل المجتمع فهو يتمّ وفق صراع المتناقضات وتحت تأثير تطوير العوامل الانتاجية والآليّة، ووفق مراحل الطبيعة نفسها بما أنّه جزء من أجزاء الطبيعة .

هـ- من نتائج هذا الإتجاه: 

- أنّ أساس التكامل والتطوّر في المجتمع هو العامل الاقتصاديّ. 

- يتمّ التطوّر ببلوغ كلّ مرحلة ذروتها وبعد حدوث ثورة وانقلاب. يطوي التاريخ مراحله في سيره التكامليّ بشكل جبريّ إلزاميّ لا تلعب فيه إرادة الإنسان ولا اختياره أيّ دور.

وبحسب هذا الإتجاه يكون كلّ نضال يساهم في تكامل المجتمع مقدّساً بغضّ النظر عن أهدافه، وكذلك فإنّ إثارة
 
 
 
 
 
 
43

36

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 الفوضى يعتبر أمراً مشروعاً لأنه عامل يساهم في توسيع الثغرات وتأجيج صراع المتناقضات، وهي الأسس التي يتكامل المجتمع على هَديِها، وهذا على عكس الإصلاحات تماماً.


الإتجاه الإنساني أو الفطريّ

- يمنح هذا الإتجاه الأصالة في المجتمع للقيم الإنسانية، وليس للعامل الاقتصاديّ والإنتاجيّ.

- يؤمن أصحاب هذا الإتجاه بأنّ الإنسان قادر على التحكّم بغرائزه الماديّة ومصالحه الذاتيّة.

يلعب الإنسان دوراً محوريّاً في عمليّة تكامل المجتمع، فالتاريخ لا يطوي مسيرة جبريّة مفروضة، إذ الصراع في المجتمع، وعلى مرّ التاريخ، هو صراع بين غرائز الإنسان الماديّة الحيوانيّة وبين غرائزه السامية السماويّة، والهدف من هذا الصراع تحقيق القيم، حيث يسعى الإنسان إلى التحرّر من أسر المادة وقوى الطبيعة بالسيطرة عليها،
 
 
 
 
 
 
44

37

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 ويتوجّه نحو توثيق ارتباطه بالعقيدة والإيمان، وهذا هو التكامل الذي يندفع إليه الإنسان فطريّاً.


- تكامل المجتمع والتاريخ وفق هذا الإتجاه يعمّ جميع الشؤون المعنويّة والثقافيّة للإنسان، ولا يقتصر على الشأن الاقتصاديّ كالإتجاه السابق!
- من أهمّ نتائج هذا الإتجاه:

1- منح الأصالة لإرادة الإنسان القادر على السيطرة والتحكّم بمتطلباته الماديّة، حيث يسعى في سيره التكامليّ إلى التخلّص من أغلال الطبيعة والإتجاه نحو السيطرة عليها، ليزداد التزاماً عقائديّاً وروحيّاً وخلقيّاً. 

2- الصراعات والحروب التي تؤدي إلى تكامل المجتمع هي تلك التي نشبت بين الملتزمين المتحررين روحيّاً، وبين الغارقين في شهوات الغرائز الماديّة. 

3- ليست مسيرة التكامل مسيرة مفروضة وحتميّة بل تلعب إرادة الإنسان فيها دوراً أساسيّاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
45

38

نظرة عامة في فلسفة التاريخ

 4- يكسب النضال قدسيّته ومشروعيّته إذا استهدف الدفاع عن مقدّسات إنسانيّة، كالإصلاحات التي تساهم في دعم الحقّ بوجه الباطل. أمّا إثارة الفوضى والاضطرابات فلا مشروعيّة لها بنفسها.


5- القرآن يؤيّد هذا التفسير لتكامل المجتمع، حيث يؤكّد على دور إرادة الإنسان وعدم جبريّة مسيرة التاريخ التكامليّة.
 
 
 
 
 
 
 
46

39

الفهرس

 

المقدّمة

5

حول الكتاب

7

المرحلة الأولى: إمكانيّة دراسة التاريخ والمجتمع

11

النظريّة الأولى:

11

النظريّة الثانية:

12

النظرة القرآنيّة:

13

الهدف من السرد القرآنيّ للأحداث التاريخيّة

15

تكامل المجتمع والتاريخ

16

الاتجاه الديالكتيكيّ أو الآليّ في تفسير تكامل التاريخ:

16

 نتائج الاتجاه الآليّ في تفسير تكامل التاريخ

22

المرحلة الثانية: الاتجاه الإنسانيّ أو الفطريّ في تفسير تكامل التاريخ

27

تكامل الإنسان

28

 

 

 

 

47


40

الفهرس

 

تكوّن المجتمع

29

تكامل المجتمع بحسب التفسير الإنسانيّ

30

بين الاتجاه الإنساني والاتجاه الديالكتيكيّ

31

نتائج الاتجاه الإنسانيّ الفطريّ في تفسير التاريخ

32

موقع القيم الإنسانيّة في الاتجاه الإنسانيّ الفطريّ

38

جوهر الاختلاف بين الاتجاه الديالكتيكيّ والاتجاه الإنسانيّ

39

الخلاصة

41

 

 

 

 

48


41
نظرة عامة في فلسفة التاريخ