المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الرحمة محمّد وعلى أهل بيتهِ الطيبين الطاهرين.
تعتبر مهمّة العمل التبليغي من أشرف الأعمال التي تقع على عاتق أهل العلم والإيمان كونها تتّحد في جوهرها وماهيتها مع مهام الأنبياء والرسل والأولياء.
ومع بدايات شهر رمضان المبارك يستنفر الإخوة المبلّغون لأداء واجباتهم في نشر العلم والحثّ على العمل الصالح أداءً لهذه المهمّة الرسالية العالية.
وإنّ المركز الإسلاميّ للتبليغ وحرصاً منه على إنجاح العمل التبليغيّ على مستوى اختيار الموضوعات والمضامين وتوحيد الخطاب الثقافي التربوي في هذا الشهر المبارك عمد إلى وضع هذا الكتاب (زاد الرحمة في شهر الله) والذي يقع ضمن سلسلة (زاد المبلّغ) بين يدي الإخوة العلماء المبلّغين للإستفادة منه، تلبية لبعض الحاجات الهامّة.
9
1
المقدمة
سيما وأن المنطقة تمر بمجموعة من التحديات السياسية والدينية والصراعات التي تتمظهر بأشكال مختلفة وتحت تسميات متعددة، من هنا جاءت هذه الموضوعات مقسمة على أربعة أبواب وفق الآتي:
الباب الأول: مجموعة من الموضوعات التي تتحدث عن إنسانية الإسلام والقيم الإنسانية الفاضلة.
الباب الثاني: التوعية في استخدام شبكات التواصل، سلبيات وايجابيات.
الباب الثالث: بعض المفاهيم القرآنية المرتبطة ببعض الموضوعات التي تهم مجتمعنا اليوم.
الباب الرابع: بعض الموضوعات التي ترتبط بمناسبات شهر رمضان المبارك.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يتقبّل أعمالنا وأعمالكم جميعاً، وعلى أمل أن ينال هذا الجهد المتواضع قبول واستحسان الإخوة المبلّغين شاكرين تعاونهم واهتمامهم.
10
2
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾1.
الهدف:
استعراض بعض الجوانب الكمالية التي اختصَّ الله بها الإنسان كما ورد في القرآن الكريم.
1- البقرة:30.
13
3
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
المقدمة
من الطبيعي أن نفهم تفضيل الله للإنسان بأن أوكل إليه أمراً يعجز عنه كلّ من عداه، وإلا لأضحى هذا التفضيل تفضيلاً لغوياً لا هدف منه، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فالتكريم والتفضيل الإلهي إنما هو لطبيعة الدور الذي أوكله إليه وطبيعة المهمة التي أسندها إليه والتي يعجز عنها سائر الموجودات والكائنات، وهذا شأن الله مع عباده فكلما أفاض عليهم وقرّبهم كلما اتسعت دائرة المسؤولية والتكليف، ولذلك نرى أنّ أشدّ الناس حملاً لأمانة السماء هم أقرب الخلق إلى الله، أي الرسل والأنبياء والأولياء.
محاور الموضوع
لا ريب أنّ الإنسان أشرف المخلوقات وأكملها على الإطلاق بما أودعه الله تعالى من قوىً لم يعطها لغيره، وأفاض عليه من الكمالات والمقامات ما لا يمكن لسواه أن يبلغها فهو:
1- المخلوق المكرّم: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
14
4
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾1، فقد كرّم الله الإنسان أحسن تكريم، بما أودع فيه من قوى وصوّره فأحسن صوره، قال تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾2 ونفخ فيه من روحه، وأفاض عليه من الكمالات الإلهية ما جعله مؤهلّاً ليكون خليفةً له في أرضه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما شيء أكرم على الله من ابن آدم، قيل: يا رسول الله! ولا الملائكة؟! قال: الملائكة مجبورون، بمنزلة الشمس والقمر"3.
عن الإمام الصادق عليه السلام في شرح ما يوجب تفضيل الإنسان على الملائكة - وقد سأله عبد الله بن سنان: "الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ -: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ الله عزَّ وجلَّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم"4.
1- الاسراء 70.
2- غافر 64.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 222.
4- المصدر نفسه، ج1، ص 222.
15
5
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
2- خلقه الله في أحسن تقويم: قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾1، فقد خلقه بيده، وفي التفسير إنّ أحسنَ التقويم يشمل الجهة المادية التي لها علاقة بالشكل ومختلف القوى الظاهرية والجهة المعنوية التي لها علاقة بالروح والعقل وقواه الباطنية.
3- جعله خليفته في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾2.
وهذه الخلافة تجعله محور الوجود في الكون بعد الله تعالى وله سلطته وسيطرته على كافّة الكائنات والموجودات.
4- أقرب الخلق إلى الله: فالله تعهّده بالرعاية والعطف، يجيبه إذا ناجاه ويلبيه إذا دعاه ويعضده إذا ضعفت حيلته، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾3.
1- التين 4.
2- البقرة 30.
3- البقرة 186.
16
6
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
5- ليس بينه وبين الله حجاب: قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1.
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2.
وفي الحديث القدسي: قَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: "إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"3.
6- أسجَدَ له ملائكته: قال تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾4. فقد أمر ملائكته بالسجود له، وهذا الأمر لا يستبطن الإحترام والتقدير فحسب بل يتعداه إلى فارق كبير يرتبط بالخضوع له، فرغم أنّ الملائكة يعيشون في عالمٍ أرقى من العالم المادي الذي يعيش فيه الإنسان، وقد يتوهّم البعض أنّ
1- البقرة 115
2- المجادلة 7.
3- كنز العمال، ج1، 236.
4- الحجر 29.
17
7
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
ذلك يجعلهم في مقامٍ أقرب، إلّا أننا نرى أنّ الله أمرهم بالخضوع الكامل للإنسان وأخرج من جنته ورحمته من اعترض على هذا الأمر الإلهي ناعتاً إياه بأنه مذموم ورجيم.
7- سخّر الكائنات له: لقد سخّر الله له كلّ ما في هذا العالم من ليله ونهاره وشمسه وقمره وبرّه وبحره ونباتاته وجماده وحيوانه وما يدركه البشر وما لا يدركون لصلاح أمره وتمكينه في دوره.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾1.
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾2.
وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾3.
1- لقمان 20.
2- الجاثية 12.
3- الجاثية13.
18
8
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
8- أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة: قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾1.
9- فضّله على سائر الخلق: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾2.
وقال تعالى: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾3.
10- تهيئته لحمل الأمانة: قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا﴾4.
1- لقمان 20.
2- الاسراء 70.
3- ابراهيم 32 ـ 34.
4- الاحزاب 72.
19
9
المحاضرة الأوّلى: الإنسان في القرآن
11- إكرامه بالعلم: قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾1.
12- إكرامه بالإرادة: قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾2.
13- أعطاه حرية الاختيار: قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾3.
وقال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾4.
1- العلق 5.
2- الشمس 7 ـ 10.
3- الكهف 29.
4- الانسان 3.
20
10
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾1.
الهدف:
بيان بعض الخصائص التي امتاز بها الإنسان مَنْ سِواه من الكائنات والمخلوقات.
1- النجم 39.
21
11
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
المقدَّمة
يرتبط سعي الإنسان في الحياة الدنيا بمقدار سعيه وعمله بعيداً عن أي اعتبار آخر، من الاسم الذي يحمله، أو الانتماء الذي يواليه، أو الإيمان الذي يعتقده، أو الكفر الذي يضمره، أو المكان الذي يحيا فيه، أو غير ذلك من الكثير من الاعتبارات التي قد تعطيه شأناً أو ضعةً في الحياة الدنيا، لكنّها في الميزان الإلهي ليس لها أي قيمة، فالإنسان بجهده وعمله ومثابرته وتضحياته يصنع حياته بنفسه، وهذه من ألطف الكرامات التي أسبغها الله تعالى على الإنسان حين منَّ عليه بهذه الكرامة.
محاور الموضوع
1- الإنسان لم يُخلق عبثاً: قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾1.
فالإنسان لم يخلق ليعيش هذه السنين في الحياة الدنيا
1- المؤمنون، 115.
22
12
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
بدون هدفٍ أو دورٍ أو رسالة، فهو ليس موجوداً عبثياً أو هامشياً في الوجود.
ومن الواضح أنّ العبثية تعني أن يعيش الإنسان في هذه الدار الدنيا بدون اعتقاد برجوعه إلى الله تعالى، وبالتالي فإن الحياة تنتهي لحظة الموت، وما أشدّه من وجود عبثيّ للإنسان إن اقتصرت حياته على هذا الإعتقاد.
2- ولم يُترك سدًى: قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾1.
والسدى في اللغة المهمل. وهذه الآية تشير إلى عدم ترك الإنسان مهملاً لا يُؤمر بما هو نفعٌ له، ولا يُنهى عمّا هو ضررٌ عليه، ولا يُكلّف في الدنيا بما يليق بوجوده ولا يحاسب بعمله في الآخرة فيكون المتقون الصالحون والمفسدون المجرمون سواء.
3- إنما خُلق لغاية وحكمة: قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾3.
1- القيامة،36
2- الذاريات 56.
3- هود 118 ـ 119.
23
13
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
وعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمة الله فيرحمهم"1.
وعنه عليه السلام أيضاً: "إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلبَ منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد"2.
وهذا المعنى نقرأه في روايات أهل بيت العصمة عليه السلام، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "بتقوى الله أُمرتم، وللإحسان والطاعة خُلقتم"3.
وعنه عليه السلام - وهو يدعو الناس إلى الجهاد - "إن الله قد أكرمكم بدينه، وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقّه"4.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص 223.
2- علل الشرائع، ج1، ص 9.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 223.
4- ميزان الحكمة، ج1، ص 223.
24
14
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
وحتى لا تبقى هذه العبادة سبيلاً خاصّاً يتيه به الخلق جعل لهم دليلاً وهادياً من أنبيائه ورسله، وولياً لهم على شؤونهم وأعمالهم، فقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام: "أيها الناس، إنّ الله عزَّ وجلَّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه. فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت وأمي، فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته"1.
4- لم يُخلق ليتمتّع كما تتمتّع الأنعام: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾2.
فمعيار إنسانية الإنسان تكمن في استفادته مما وهبه الله تعالى من إدراكات وحواسّ يميز بها بين الأمور وإلا لكان حطب جهنّم كما دلّت الآية.
1- المصدر نفسه، ج1، ص 223.
2- الأعراف 179.
25
15
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
فعن الإمام عليّ عليه السلام: "المرء بأصغريه: بقلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان"1.
وعنه عليه السلام: "للإنسان فضيلتان: عقل ومنطق، فبالعقل يستفيد وبالمنطق يفيد"2.
وعنه عليه السلام: "المرء يوزن بقوله ويقوم بفعله"3.
صفة الإنسان الكامل
الإمام علي عليه السلام: "قد أحيا عقلَه وأماتَ نفسَه، حتى دقَّ جليله، ولطفَ غليظه، وبرقَ له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل"4.
وعنه عليه السلام: "ما برح لله - عزت آلاؤه، في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات - عباد ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم... وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلّة تلك الشبهات"5.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص 224.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 224.
3- م.ن، ج1، ص 225.
4- ميزان الحكمة، ج1، ص 225.
5- المصدر نفسه، ج1، ص 225.
26
16
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
5- لم يخلقه لنفسه: فالله تعالى لم يخلق الإنسان لمجرد إيجاده، بل خلقه لله، قال تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾1، ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾2، فارتباط الموجودات كلّها له علاقة بوجود الإنسان، إلا أنّ وجود الإنسان له ارتباط بوجود الله تعالى.
حينما يعتقد الإنسان أن وجوده امتداد لوجود الله وأنه خليفة الله في أرضه، ونائبه في إقامة الحقّ، وإفاضة الخير، وإشاعة الجمال، يشعر أنّ الكون كلّه في خدمته، وأنّ الملائكة الكرام في حراسته، وأنّ ربّ الوجود معه.
6- ولم يسلّمه إلى أحد من خلقه: قال تعالى: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾3.
1- طه 41.
2- طه 39.
3- هود 54 - 57.
27
17
المحاضرة الثانية: خصائص الإنسان في القرآن الكريم
وفي الخلاصة أنّ الإنسان ما لم يدرك نفسه ووجوده، وهذا الدور الكبير الذي أحاطه الله به لا يمكنه أن يعرف ربه ويحقق ارتباطه العميق بالله تعالى، ولعله لذلك ورد في الحديث الشريف: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
28
18
المحاضرة الثالثة: النظرة القرآنية للحياة الإنسانية
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾1.
الهدف:
بيان المعاني الحقيقية لمفهوم الحياة الإنسانية ومدى أهميتها وقداستها في الإسلام.
1- الانبياء 30.
29
19
المحاضرة الثالثة: النظرة القرآنية للحياة الإنسانية
تحيط بنا بل تتعدّاها إلى ما هو أكثر سعةً ورحابةً بحيث تشمل كافّة الأبعاد الحقيقية للإنسان، فالحياة نبض وجود الإنسان على الأرض ومن دونها فمثله كمثل الأموات.
الحياة الحقيقية
وحقيقة الحياة في مدرسة الإمام عليّ عليه السلام ليست في بعدها المعيشيّ بل بمقدار ارتباط المرء بربّه، فيقول: "لا حياة إلّا بالدين، ولا موت إلّا بجحود اليقين، فاشربوا العذب الفرات، ينبّهكم من نومة السبات، وإياكم والسمائم المهلكات"1.
معاني الحياة
1- التوحيد: إنّ توحيد المرء لربه أعلى درجات الارتباط بالله تعالى، وهو السبيل إلى خلاصه وانعتاقه من قيود الشهوات والرذيلة، ولذلك ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "التوحيد حياة النفس"2.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص 710.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 710.
31
20
المحاضرة الثالثة: النظرة القرآنية للحياة الإنسانية
2- الذكر الجميل: عن الإمام علي عليه السلام: "الذكر الجميل إحدى الحياتين"1.
3- العلم: وبه يطرد الإنسان حياة الجاهلية التي هي شكل من أشكال موت الإنسان، هذا الموت الذي جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرفعه عن البشرية وليستبدل به حياةً حقيقية، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "العلم إحدى الحياتين"2.
وعنه عليه السلام: "اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة"3.
4- الهداية: قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾4.
فعن الإمام الصادق عليه السلام - لما سئل عن الآية - قال: "من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها، ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها"5.
وعن الإمام الباقر عليه السلام - أيضاً -: "من حَرقٍ أو غَرقٍ،
1- م.ن، ج1، ص 710.
2- م.ن، ج1، ص 710.
3- م.ن، ج1، ص 710.
4- المائدة 32.
5- الكافي، ج2، ص 210.
32
21
المحاضرة الثالثة: النظرة القرآنية للحياة الإنسانية
قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم"1.
5- الولاية: قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾2.
فالولاية هنا جاءت لتستنقذ الإنسان من ظلمات التيه والضلال والإنحراف والتخبّط في الحياة بدون الاهتداء إلى الصراط القويم، ووصفت هذا الاستنقاذ على أنه الحياة بعد الموت، وأنّ الولاية هي النور الذي يمشي به بين الناس والتي لولاها كان ميتاً لا يهتدي إلى شيء.
الحكمة: فعن الإمام علي عليه السلام: "اعلموا أنه ليس من شيء إلا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه، إلّا الحياة فإنه لا يجد في الموت راحة، وإنما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميت، وبصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصمّاء، وريّ للظمآن، وفيها الغنى كله والسلامة"3.
33
1- المصدر نفسه، ج2، ص 210.
2- الانعام 122.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 710.
22
المحاضرة الثالثة: النظرة القرآنية للحياة الإنسانية
فكما أن الإنسان يرفع ظمأه بالماء فكذلك يرفع ظمأ حاجاته المعنوية بالحكمة فتضفي على وجوده معنىً آخر وقيمةً أخرى.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "طعم الماء الحياة"1.
أهميّة الحياة وقيمتها: قال تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾2.
ولا يقوم القرآن بالتأصيل لقيم الحياة فحسب، وإنما يسنّ القوانين والأحكام لحفظ هذه القيم، فينهى عن مساس بهذه الحياة مشدّداً على قداستها ويؤسّس للعديد من القيم والقواعد التي يستهدف من خلالها الحفاظ على الحياة كقاعدة "الحدود تُدرأ بالشبهات"، وقاعدة "دم المسلم لا يذهب هدراً"، وقاعدة "نفي الميراث للقاتل"، وقاعدة "كل عضو يقتص منه مع وجوده وتؤخذ الدية عند فقده"، وغيرها من القواعد الفقهية التي صان فيها الدين الإسلامي حرمة الحياة الإنسانية.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص 710.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 2498.
34
23
المحاضرة الثالثة: النظرة القرآنية للحياة الإنسانية
ومن هنا فمن المهمّ الإشارة إلى الأمور التالية:
1- حرمة أيّ نوع من أنواع القتل والاغتيال والخطف وحجز الناس والتعدي بأيّ شكل من الأشكال على حياة الآخرين.
2- حرمة دماء المسلمين على بعضهم البعض مهما كانت النزاعات والخلافات، وقد توعّد القرآن الكريم على ذلك بالنار الأبدية.
3- تجب حماية الدم الإنساني في كلّ مكان، فحياة الناس جميعاً على اختلاف مللهم ونِحَلهم لها احترامها وقداستها في الشرع وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وقد قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم، فاحترقت واحترق متاعهم: "يغرم قيمة الدار وما فيها، ثم يقتل"1.
1- م.ن، ج1، ص572.
35
24
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾1.
الهدف:
بيان أهم المبادئ الإلهية التي أرساها القرآن الكريم للتعامل مع الآخر.
1- الحجرات 13.
37
25
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
المقدَّمة
من خلال الآية المتقدّمة يؤكّد القرآن الكريم قاعدتين أساسيتين في حقيقة المجتمعات البشرية:
الحقيقة الأولى: وحدة الجنس البشري.
الحقيقة الثانية: التدخّل الإلهي في تنشئة المجتمعات.
وأمّا الحقيقة الأولى فبيّنها الله تعالى من خلال قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾1. فهذه الآية تقرّر أنّ الناس كلّهم حقيقة واحدة وطبيعة متماثلة, الرجل من نفس طبيعة المرأة، والمرأة من نفس طبيعة الرجل، ويناسب هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾2، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾3.
وأمّا الحقيقة الثانية والتي تظهر من خلال قوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ﴾ والتي تبيّن الإرادة الإلهية في تكوين مجتمعات
1- النساء 1.
2- الروم 21.
3- النحل 72.
38
26
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
بشكلٍ متنوّع ومتمايز، وأنّ هناك جملة من المصالح والفوائد أرادها الله من وراء ذلك الجعل، وهذه الآية تقرّر أن تشعيب الناس الى شعوب وقبائل كان من الجعل التكويني الإلهي.
محاور الموضوع
مبدأ السلم مع الآخر
دلّت الآيات القرآنية على تأصيل مبدأ السلم مع الآخر بحيث يكون السلام هو المناخ الذي يحيط بأي علاقة بالآخر مهما كان بعيداً، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾1. ولكنّ الدعوة إلى السلم لا تنطلق من الجبن والخوف وإنما من الروح الإيجابية وقوّة الرحمة في الإسلام: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾2.
1- البقرة 208.
2- محمد 35.
39
27
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
والنظرة القرآنية لهذا التعامل إنما تنطلق من الرحمة الإلهية في التعامل مع الآخر، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾1.
ومن هنا فإنه من الضروري الرجوع إلى المبادئ العامّة التي أرساها القرآن الكريم للتعامل مع الآخرين والتي تختزن في جوهرها الرحمانية والرحيمية تجاه الآخر، ومحاولة مقارنتها ومقاربتها على المستوى الفردي والعام للسلوك الذي نتصف به اليوم، ومن أهمّ هذه المبادئ والقواعد الإلهية:
1- الحوار: قال تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾2، والآخر هنا من الفئات الضالّة، ومع ذلك فقد أطلق الإسلام لغة الحوار معه، وأطلقها في مناخٍ من الراحة والهدوء غير المسبوق بقناعات وعقائد مسبّقة، أي حوار مبني على قاعدة أنّ المتحاورَيْن يمكن أن يكونا على هدّى، ويمكن أن يكونا على ضلال، وفي ذلك منتهى احترام إنسانية الآخر.
1- التوبة 109.
2- سبا 24.
40
28
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
2- الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾1، فلغة الدعوة وبيان الحقائق الإلهية ينبغي أن تكون حكيمة في مخاطبتها للعقل والقلب، كما أنه ينبغي في الداعي أن يكون واعياً ملمّاً بهذه المعارف الإلهية حتى لا يسيء للشريعة وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾2. ولذا نجد القرآن عبارة عن حوار وجدال بين الأنبياء وأقوامهم الذين خالفوهم ولم يتبعوا تعاليمهم وبقوا على ضلالهم وباطلهم.
3- الجدال الأحسن: وهو لغة التخاطب والتعامل مع الآخر عند الاختلاف في وجهات النظر وتعدّد الآراء حيال مسألة ما، فالقرآن الكريم لم يرتضِ من المسلم في هذه الحالة أن يقدّم الحسن بل دعاه عند الاختلاف إلى ضرورة تقديم الأحسن, لأنّ القرآن يعتمد على قوّة الفكر، وبالتالي فإن القرآن اعتمد الجدال الحسن لغة أساسية للدعوة
1- النحل 125.
2- يوسف108.
41
29
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
والتعامل مع كلّ الأطراف، قال تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾1.
4- دعوة الآخر الى النقاط المشتركة: قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾2.
وهذه الدعوة بحسب ظاهر الآية تنطلق من التوحيد الذي يعتبر مساحة مشتركة بين الطرفين إلى العبادة العملية لله وحده لا شريك له, لأنّ مقتضى العبودية لله عدم الشرك به من الناحية النظرية، وهناك بُعد آخر على المستوى العملي وهو عدم اتخاذ أرباب من دونه كالمال والسلطة والهوى والشهوات.....
5- الإعراض الإيجابي عن أعمال الآخر: قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾3. وذلك عبر الإعراض عن الجاهلين والمشركين، والغض عن تصرفاتهم، باقتلاع الخوف وإظهار
1- النحل: 125
2- آل عمران: 64
3- القصص 55.
42
30
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
الأمن والسلام لهم، ويظهر الإعراض الإيجابي من قوله تعالى ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾.
6- الدفع بالأحسن: قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾1.
فليس المطلوب في مواجهة سيِّئات الآخر دفعه بسيِّئةٍ مثلها بل ينبغي التمتع بالنظرة الإيجابية تجاهه، كل ذلك كفيل بنقل الآخر من جهة الضلال والعداوة إلى جهة الحقّ والولاية، وليس إلى الولاية فحسب بل الغريب أن تنقله العداوة والبغضاء إلى الحميمية العالية.
7- اعتماد مبدأ الحرية والاختيار: إذ لا معنى لاحترام الآخر ما لم تحترم قناعاته وعقائده، فالاعتقاد لا يمكن أن يكون بالقوّة والإكراه أو العنف والإرهاب، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾2.
1- فصلت34.
2- البقرة256.
43
31
المحاضرة الرابعة: المنطق القرآني في التعامل مع الآخر
8- مبدأ تصنيف الآخر: وهذا يوجب تعدد أساليب وأنواع التعامل. فالآخر فئات وأفراد مختلفة فمنهم الأقرب إلى روح الشريعة والقيم الإنسانية ومنهم الأبعد والأشدّ عداوة للإسلام والإنسانية. فالآخرون ليسوا سواء في المواقف، وليسوا سواء في الأفكار، وليسوا سواء في الصفات، فكلٌّ له خصاله ومواقفه وأفكاره، قال تعالى: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾1.
وهذا لا يعني أنّ الآخر إذا كان أبعد كان التعامل معه أقلّ رحمانية، بل على العكس فلعل البعد يوجب علينا أن نكون أكثر رحمةً ورأفةً بالآخرين ما لم يكن الآخر محارباً شاهراً سيفه فيتحوّل حينئذٍ التكليف معه إلى شكل آخر.
1- ال عمران 113 ـ 114.
44
32
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
تصدير الموضوع:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسب ابن آدم من الشرّ أن يحقّر أخاه المسلم"1.
الهدف:
بيان بعض أشكال التعدّي على حرمة الحياة المعنوية للإنسان وجزاؤها في الشرع الحنيف.
1- ميزان الحكمة، ج1، ص652.
44
33
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
المقدَّمة
أولى الإسلام اهتماماً خاصّاً بالحياة المعنوية للإنسان وذلك لاعتقاده أنّ إنسانية الإنسان تكمن في هذا البعد قبل بعده المادي أو الاجتماعي أو سوى ذلك، ولذلك نرى أنّ الشرع الحنيف أسّس لقواعد وقيم أخلاقية تستهدف بمجموعها الحفاظ على حرمة الحياة المعنوية للإنسان معتبراً أنّ تخطي الحدود المعنوية للإنسان من أكبر المعاصي والتجاوزات التي يحاسب عليها الله والتي لا كفّارة ولا غفران لها إلا أن يسقط الآخر حقه ويعفو عمّن ظلمه. والمتأمل في النصوص الشريفة يرى ربطاً أكيداً بين البعد المعنوي للإنسان والذات المقدّسة وأنّ التعدي على هذا البعد تعدٍّ على الباري تعالى.
محاور الموضوع
1- الإيذاء: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من آذى مؤمناً فقد آذاني"1. ودلالة الحديث في اعتبار أنّ كرامة المؤمن وعزته من كرامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضحة، وبالتالي فإنّ الإستخفاف بها
1- مستند الشيعة، المحقق النراقي، ج14، ص159.
46
34
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
استهتار بكرامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعدٍّ على الذات المقدسة، ولذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: قال الله عزَّ وجلَّ: "ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن"1.
2- الترويع: بمعنى التخويف وإدخال الرعب إلى قلب الآخر، فعن الإمام علي عليه السلام: "لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلماً"2.
3- نظرة إخافة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من نَظَر إلى مؤمن نظرةً يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظلَّ إلّا ظلّه"3.
4- الإهانة: كاستعمال الألفاظ الجارحة أو بعض الكلمات النابية التي ينبغي للمؤمن الترفّع عنها، فعن الإمام الصادق عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: "من أهان لي وليّا فقد أرصدَ لمحاربتي، وأنا أسرعُ شئٍ إلى نصرة أوليائي"4.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أذلّ الناس من أهان الناس"5.
1- الكافي، ج2، ص350.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص66.
3- المصدر نفسه، ج1، ص66.
4- الكافي، ج2، ص351.
5- الامالي، الشيخ الصدوق، ص73.
47
35
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
5- الإحزان: وذلك بتفويت أمر يفرح المؤمن أو التعرض له أو لمحبيه بالإساءة أو ما شابه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحزن مؤمناً ثم أعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفارته ولم يؤجر عليه"1.
6- تحقير المؤمن: وذلك من خلال التعالي عليه وتصغيره والحطّ من شأنه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من حقّر مؤمناً مسكيناً لم يزل الله له حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه"2.
7- إذلال المؤمن: بالحطّ من شأنه أو فضحه فيما خفي عن الآخرين أو التضييق عليه وما شابه، فعن عليّ عليه السلام: قال الله عزَّ وجلَّ: "ليأذن بحرب مني من أذلَّ عبدي المؤمن"3.
8- سباب المؤمن: قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾4.
وفي رواية عن عياض بن حماد: قلت: يا رسول الله! صلى الله
1- الكافي، ج2، ص548.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص652.
3- الكافي، ج2، ص350.
4- الانعام 108.
48
36
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
عليك، الرجل من قومي يسبّني وهو دوني فهل عليَّ بأس أن أنتصر منه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "المتسابّان شيطانان يتعاويان ويتهاتران"1.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أكبر الكبائر أن يسبَّ الرجل والديه، قيل: وكيف يسبّ والديه؟! قال: يسبّ الرجل فيسبّ أباه وأمّه"2.
وللسباب مصاديق كثيرة منها:
سبّ المؤمن: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر وأكل لحمه من معصية الله"3.
سبّ الأعداء: عن الإمام عليّ عليه السلام لما سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم"4.
سبّ الناس: وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تسبوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم"5.
1- ميزان الحكمة، ج2، ص1237.
2- المصدر نفسه، ج2، ص1237.
3- الكافي، ج2، ص360.
4- ميزان الحكمة، ج2، ص1236.
5- الكافي، ج2، ص360.
49
37
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
9- السخرية: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1.
واعتبر القرآن الكريم أن السخرية والإستهزاء من الصفات الملازمة لأهل النفاق، قال تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ﴾2.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بن مسعود! إنهم ليعيبون على من يقتدي بسنتي فرائض الله، قال الله تعالى": ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾3.
10- التعيير: عن نبي الله الخضر عليه السلام في وصيته لموسى عليه السلام: يا بن عمران! "لا تعيّرن أحداً بخطيئة، وابكِ على خطيئتك"4.
1- الحجرات 11.
2- البقرة 14.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص1247.
4- المصدر نفسه، ج3، ص2212.
50
38
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
وليكن نصب أعيننا إذا رأى أحدنا زلةً من أخيه أن الله قد يبتلينا بما ابتلى به أخانا المؤمن فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عيَّر أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى ابتلى أيوب عليه السلام بلا ذنب، فصبر حتى عُيِّر، وإن الأنبياء لا يصبرون على التعيير"2.
ومن أروع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إذا زنت خادم أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يعيرها"3. وذلك لأن التعيير مساس بالجانب المعنوي للزاني بينما الجلد مساس بالجانب المادي.
11- التوبيخ: وهو استخدام عبارة قاسية ومشينة أو نعت الآخر بأوصاف ونعوت لا تليق به، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أنَّب مؤمناً أنبه الله في الدنيا والآخرة"4.
1- م.ن، ج3، ص2212.
2- م.ن، ج3، ص2212.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص2212.
4- المصدر نفسه، ج3، ص2212.
51
39
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
12- الشماتة: وهي إظهار عدم الإهتمام بمصاب الغير ويراه مستحقاً لذلك وقد يبدي فرحاً إزاء مصاب الآخرين، والشماتة من أبرز مصاديق القلب الذي لا يعرف الرحمة بالآخرين، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تُبْدِ الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويصيرها بك، وقال: من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن"1.
13- الطعن: والمراد منه تسفيه مقالة الغير ونعتها أو نعت صاحبها بما يسيئه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله عزَّ وجلَّ خلق المؤمن من عظمة جلاله وقدرته، فمن طعن عليه أو رد عليه قوله فقد ردّ على الله عزَّ وجلَّ"2.
14- القذف: عن الإمام الصادق عليه السلام: "القاذف يُجلد ثمانين جلدة ولا تُقبل له شهادة أبداً إلا بعد التوبة أو يُكذّب نفسه"3.
1- م.ن، ج2، ص1678.
2- م.ن، ج3، ص2212.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج78، ص177.
52
40
المحاضرة الخامسة: حرمة الحياة المعنوية للإنسان
15- اللعن: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لعن المؤمن كقتله"1.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن استطعت ألا تلعن شيئاً فافعل"2.
16- النميمة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾3.
17- الغيبة: قال تعالى: وقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل لحم أخيه ميتاً فقال: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾4.
فيحرم القتل لأنّ الحياة مقدّسة ولا يحقّ إزهاقها بدون وجه حقّ، كما أنّ حياة الإنسان المعنوية محترمة، والغيبة هي هتك لهذه الحرمة.
18- التنابز بالألقاب: قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾5.
1- ميزان الحكمة.
2- ميزان الحكمة.
3- الحجرات 6.
4- الحجرات: 12.
5- الحجرات 11.
54
41
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾1.
الهدف:
بيان بعض المظاهر التي دعا إليها الدين الإسلامي من أجل تحرير الإنسان.
1- الأعراف 157.
55
42
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
المقدَّمة
لا ريب في أنّ الدين إنما أراد تحرير الإنسان من كلّ ما يثقل كاهله ويطوّق رقبته سواء كانت تكاليف قاسية كما تحدّثنا الآية عن بني إسرائيل أو أعباء حياتية ترتبط بالجهل والضلال ورذائل الأخلاق وتشوّه المفاهيم واتباع الشهوات وغيرها من الأغلال التي يقيّد الإنسان إنسانيته بها فيصبح أسيراً ذليلاً لها وهو يحسب نفسه أنه يعيش أرقى لحظات الحرية، فمن أكبر المغالطات الثقافية التي تعيشها البشرية اليوم أنّ إطلاق الإنسان العنان لشهواته وغرائزه إنما يجسد الحرية بأبهى صورها، والحال أنّ الإسلام يعتبر أن ذلك هو أسرٌ للنفس الإنسانية بأبشع صورها وتكبيلها بقيود الشهوات وأغلال المعاصي، وقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: "ليس من ابتاع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها"1.
محاور الموضوع
1- العبودية والرقّ: أرسى الدين الإسلامي مجموعة من
56
1- ميزان الحكمة، ج1، ص 583.
43
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
القوانين والأحكام التي ساهمت في تحرير الإنسان من الرقّ والعبودية، لا سيّما أحكام الكفّارات وبعض المعاصي والآثام، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن المعصية من الأمور التي تسيء إلى إنسانية الإنسان وبالتالي لا بدّ من القيام بفعلٍ يجبر هذا النقص في البعد الإنساني للإنسان، وليس من مصداقٍ لذلك أكثر مطابقة من تحرير رقبة وإخراجها من العبودية إلى الحرية.
2- العصبيّة: قال تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾1، ولأن العصبية في بُعدها العملي لا تحترم جوهر الإنسان لكونها تنحاز إلى فردٍ دون آخر لخصوصية لا علاقة لها بالحقّ والمنطق، فهي شكلٌ من أشكال الولاء للباطل، لذا فقد نادى الإسلام بالتحرر من هذه التبعية البغيضة والولاء لغير الحقّ.
1- الفتح 26.
57
44
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه"1.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"2.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من تعصّب عصّبه الله عزَّ وجلَّ بعصابة من نار"3.
وورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "إن كنتم لا محالة متعصّبين فتعصّبوا لنصرة الحقّ وإغاثة الملهوف"4.
3- وأد البنات: وهو من أبشع أنواع سحق البعد الإنساني في الفتاة، بل لعلّ وأد البنات يجعل قيمتهنّ أدنى من قيمة الحيوان والجماد، بينما نرى أنّ الإسلام رفع من مكانة البنت فجعلها بمحاذاة الرجل من الناحية الإنسانية بلا أدنى تمييز، وإن كان هناك من بعض الفروقات من الناحية التشريعية فهي لا تمس الجانب الإنساني للبنت.
1- الكافي، ج2، ص 307.
2- المصدر نفسه، ج2، ص 307.
3- م.ن، ج2، ص 307.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص 1993.
58
45
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾1، وهنا إشارة مهمّة إلى أن الله تعالى يسأل الموؤودة المظلومة يوم القيامة ولا يسأل الظالم الذي وأدها كما هو منطق القرآن ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾2, لأنّ الجريمة التي اقترفت بحقها هي جريمةٌ ضدّ الإنسانية والتي هي حرمانها من حياتها ودورها ومختلف أنواع النعم والفيوضات الإلهية بحقّها، وهي اعتداءٌ على مخلوقٍ أوجده الله والتعدي عليه مساس بالذات المقدّسة.
4- تحرير الإنسان من الإنسان: ففي الحديث عن عليّ عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً"3.
وعنه عليه السلام: "أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ الناس كلّهم أحرار"4.
وعن الإمام الباقر عليه السلام - في رسالته إلى بعض خلفاء بني أمية -: "ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضّله الله عزَّ وجلَّ
1- التكوير 8 ـ 9.
2- الصافات 24.
3- نهج البلاغة، ج 3، ص 51.
4- الكافي، ج8، ص 69.
59
46
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
على الأعمال... اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد"1.
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام تبين عدم العبودية إلا لله حتى ولو في وجه الحاكم الجائر يقول: "إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحجّ، فبعث إلى رجل من قريش فأتاه، فقال له يزيد: أتقرّ لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك، فقال له الرجل: والله يا يزيد! ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخير مني، فكيف أقرّ لك بما سألت؟! فقال له يزيد: إن لم تقرّ لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر به فقتل"2.
5- تحرير الإنسان من المادة والشهوات: فعن الإمام علي عليه السلام: "من ترك الشهوات كان حرًّا"3.
1- كشف الغطاء، ج2، ص 384.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 582.
3- المصدر نفسه، ج1، ص 583.
60
47
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
ومن هنا نرى أنّ النصوص الشريفة ربطت بين الشهوات والعبودية لغير الله من جهة وبين الحرية الحقّ.
فعن عليّ عليه السلام: "لا يسترقَّنَّك الطمع وقد جعلك الله حرًّا"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ صاحب الدين... رفض الشهوات فصار حرًّا"2.
وعنه عليه السلام: "العبد حرّ ما قنع، الحرُّ عبد ما طمِع"3.
وعنه عليه السلام: "من زهد في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربه"4.
وعن السيد المسيح عليه السلام: "بماذا نفع امرؤ نفسه باعها بجميع ما في الدنيا ثمّ ترك ما باعها به ميراثاً لغيره؟! أهلك نفسه، ولكن طوبى لامرئ خلّص نفسه واختارها على جميع الدنيا"5.
1- م.ن، ج1، ص 582.
2- م.ن، ج1، ص 583.
3- م.ن، ج1، ص 583.
4- م.ن، ج1، ص 583.
5- م.ن، ج1، ص 583.
61
48
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - الحرية"1.
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إياك وكلّ عمل ينفّر عنك حرًّا، أو يذلّ لك قدراً، أو يجلب عليك شرًّا، أو تحمل به يوم القيامة وزراً"2.
وعنه عليه السلام: "ألا حرٌّ يدع هذه اللماظة لأهلها؟! إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها"3.
حرية العقيدة
ولابدّ أن نشير بعد ذلك إلى أنّ الإسلام لا يبيح "حرية العقيدة" بشكل مطلق. فقد ذهب نفر إلى ذلك مستدلاً بالآية الكريمة ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾4، واستنتج من هذه الآية أنّ الإسلام قد منح الناس الحرية فيما يعتقدون
1- ميزان الحكمة، ج1، ص 582.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 584.
3- م.ن، ج1، ص 584.
4- البقرة 256.
62
49
المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام
والآية بعد ذلك تشير إلى ترك التقليد الأعمى في العقائد وتحثّ الناس على اتباع المنطق والعقل فيما يؤمنون ويعتقدون. فالفرد المكره المجبر على اتباع عقيدة معينة يقلّد المؤمنين بتلك العقيدة دون أن ينطلق فيما يفعله من إيمان، وذلك مرفوض في نظر القرآن. من كل هذا يتبين لنا أن عدم الإكراه في الدين لا يعني أبداً حرية الأفراد في انتخاب العقيدة.
65
50
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾1.
الهدف:
إبراز الجوانب الإنسانية للأهداف التي جعلها الأنبياء محور حركتهم مع العباد.
1- ابراهيم 1.
65
51
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
المقدَّمة
لا شك أنّ الدين الإلهيّ هو السبب الوحيد لسعادة الإنسان، والمصلح لأمر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة، ويعدّل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظّم للإنسان سلك حياته الدنيوية والأخروية، والمادية والمعنوية، ولذلك بعث الله أنبياءه وواتر رسله تكريماً لإنسانية الإنسان واحتراماً لمقامه الشامخ الذي أراده له، فالأنبياء عليه السلام جعلوا الإنسان نصب أعينهم وعملوا على تجسيد الإنسان الكامل في سلوكهم ليكونوا أسوةً للناس وقدوةً لهم.
محاور الموضوع
1- التكامل: قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾1.
1- الانعام 91.
66
52
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
2- إنقاذ الإنسان من ولاية الطواغيت: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾1.
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾2.
وعن عليّ عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ ليُخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته"3.
3- تعليم الكتاب والحكمة: قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾4.
1- النحل 37.
2- الزمر 17.
3- الكافي، ج8، ص 386.
4- الجمعة 2.
67
53
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾1.
4- تزكية الأخلاق: قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾2.
وقال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾3.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بُعِثْتُ بمكارمِ الأخلاقِ ومحاسنِها"4.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق"5.
5 - إخراج الناس من الظلمات إلى النور: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾6.
وقال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ
1- البقرة 129.
2- الجمعة 2.
3- البقرة 129.
4- الامالي، ص 596.
5- كنز العمال، ج11، ص 420.
6- ابراهيم 5.
68
54
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1.
وعن الإمام علي عليه السلام: "إنّ مِنْ أحبِّ عباد الله إليه عبداَ أعانه الله على نفسه... فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى... مصباح ظلمات، كشّاف عشوات (غشوات)، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات"2.
6- قيام الناس بالقسط: قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾3.
وعن الإمام عليّ عليه السلام - في صفة الله سبحانه -: "الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه"4.
1- المائدة 16.
2- نهج البلاغة، ج1، ص152.
3- الحديد 25.
4- نهج البلاغة، ج2، ص 115.
69
55
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
7- وضع الإصر والأغلال: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.
وفي التفسير: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ أي الأمور التي تثبّطهم وتقيّدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات، والأغلال جمع غُلّ، وهو ما يقيَّد به...
9- الهداية إلى سُبُلِ السلام: قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾2.
والضمير في قوله: "به" للآلة، عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القرآن.
1- الاعراف 157.
2- المائدة 16.
70
56
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
وقد قيّد تعالى قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ﴾ بقوله: ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ ويؤول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب، وهو أن يورده الله تعالى سبيلاً من سُبُلِ السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحداً بعد آخر. وقد أطلق تعالى السلام، فهو السلامة والتخلُّص من كلّ شقاء يختلّ به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة. وقد نفى الله سبحانه عنهم هدايته وآيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
10- إتمام الحجة: قال تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾1.
فعن الإمام علي عليه السلام: "بعثَ الله رسلَه بما خصّهم به من وحيه، وجعلهم حجةً له على خلقه، لئلّا تجبَ الحجة لهم بترك الإعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق"2.
1- النساء 165.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 27.
71
57
المحاضرة السابعة: الجانب الإنسانيّ لحركة الأنبياء
وعن الإمام الصادق عليه السلام - لما سئل عن فلسفة النبوّة -: "لئلّا يكون للناس على الله حجةٌ من بعد الرسل، ولئلّا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولتكون حجة الله عليهم"1.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بعثَ إليهم الرسلَ لتكون له الحجةُ البالغةُ على خلقه، ويكونَ رسله إليهم شهداء عليهم، وابتعث فيهم النبيين مبشّرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة2...".
1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3014.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 3014.
72
58
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾1.
الهدف:
بيان بعض الموارد التي تَكفَّل الإسلام بتأمين الحياة الكريمة لهم من الناحية المادية.
1- الإنسان 8.
73
59
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
المقدَّمة
تعتبر الرعاية الاجتماعية التي أطلقتها الشريعة الإسلامية لكافّة أصناف الفئات الفقيرة والتي تحتاج الى المساعدة من أجل تأمين الحاجات الضرورية والمستلزمات الحياتية من أبرز وجوه ومظاهر البعد الإنساني في الإسلام، حيث أوجبت الشريعة مدّ يد العون لهذه الفئات حفظاً لكراماتهم واحتراماً لإنسانيتهم، فلم يعد - والحال هذه - العطاء شكلاً من أشكال المنّ والأذى وإراقة ماء الوجه بل أصبح العطاء عبادةً واجبة وفعلاً قربويّاً يؤديه المكلَّف قربةً لله وتوسّماً للأجر والثواب.
محاور الموضوع
وسنتعرّض هنا لبعض الفئات والأصناف التي أمر الإسلام بضرورة الإنفاق عليهم واعتبرهم معياراً من معايير المجتمع الصالح، بمعنى أنه كلما كان المجتمع يغني فقراءه كلما كان أقرب إلى الصلاح، وكلّما كان الفقراء يمدّون أيديهم إلى الناس كلّما كان المجتمع أبعد عن الصلاح، وأهم هذه الفئات:
74
60
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
1- كفالة الأيتام
قال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ﴾1 وقال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾2.
ومن مظاهر العناية التي أولاها الإسلام للأيتام حفظ أموالهم والسعي في تنميتها والابتعاد عن كلّ تصرف ضارّ بها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾3 قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾4 وقال تعالى: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾5.
2- الفقراء والمساكين
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
1- البقرة: 177.
2- الماعون: 1-3.
3- الإسراء: 34.
4- النساء: 10.
5- النساء: 2.
75
61
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾1.
قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾2.
3- كفالة الصغار وكبار السن
لقد وجّه الإسلام عناية خاصّة لكبار السنّ واعتبرهم مستحقّين للرعاية المثلى مقابل التضحيات التي بذلوها في تربية الأجيال الصالحة. والعناية بهم أنيطت في الإسلام بالأبناء أوّلاً، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾3، فمسؤولية الأبناء عن برّ الآباء ورعايتهم مسؤولية إلزامية سواء كانا مؤمنيْن أو فاسقيْن وسواء كانا على دينه أو على غير دين، والرعاية لكبار السنّ لا تقف عند الجانب المادي بل يدخل فيها الجانب النفسي والعاطفي الذي هم أشدّ حاجة إليه قال
1- التوبة: 60.
2- البقرة 177.
3- العنكبوت: 8.
76
62
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾1.
وكما اهتم الإسلام برعاية الأبناء لآبائهم أولى اهتماماً خاصّاً بالطفولة وألزم الآباء برعاية الأبناء وتربيتهم حتى بلوغ سنّ الرشد مع القدرة على استغلالهم بالمسؤولية.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا"2.
4- رعاية اللقيط
واللقيط شرعاً: هو المولود الذي لا يعرف له أب ولا أمّ، والذي يُلقى بدون أن يعترف به أحد، فيجب أخذه والإهتمام به، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾3.
وقد راعى الإسلام نفسية اللقيط، فأعطاه الحقوق الممنوحة للولد الشرعي بدون أن يكون هناك تمييز أو تفريق بينهما، حيث لا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى، وبهذه المعاملة الحسنة يكون
1- الإسراء: 23 -24.
2- كنز العمال، ج3، ص 164.
3- المائدة 32.
77
63
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
المجتمع قد أعدَّ مواطناً صالحاً، يقوم بواجباته وينهض بأعبائه، فلا يشعر بنقص ولا تتولّد عنده العقد النفسية.
5- رعاية أصحاب العاهات
قد يتعرّض الإنسان أثناء قيامه بدوره في إعمار هذا الكون لعاهة من العاهات، يفقد على أثرها عضواً من أعضائه، أو حاسّة من حواسّه، وربما لظروف تتعلّق بالحمل والولادة، يولد بعاهة مستديمة كفقد البصر أو السمع، أو تشويه في بعض أعضائه تقلّل من عطائه.
ومن أهمّ فئات هذه العاهات هم:
العميان والصُّمّ والبكم والمعتوهون والعاجزون بسبب ضعف البنية، وذوو العيوب الكلامية والتعتعة.
هؤلاء النمط من العاجزين وأصحاب العاهات، يجب أن يلقوا من المجتمع كلّ رعاية وعناية واهتمام، وينبغي أن يكونوا محلّ العناية والاهتمام الكامل في نظر الدولة والمجتمع على السواء لتوفير العيش الأفضل لمثل هؤلاء المحتاجين، حتى يشعروا بالرحمة والتعاون والعطف.
78
64
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
أمّا العناية بالعميان والصمّ والبُكم، فيجب أن تتركّز بفتح مدارس ومعاهد خاصّة بهم، لتعليمهم، وتدريبهم على الحِرَفِ اليدوية، وجعل كلّ الوسائل الإيضاحية والسمعية والبصرية واللمسية تحت تصرّفهم ليشعروا بشخصيّتهم وكيانهم.
وأمّا العناية بالمعتوهين وضعاف البنية وذوي العيوب الكلامية والصرعى وأصحاب الأمراض المزمنة فتتركّز في إزالة ضعفهم وعاهاتهم وعيوبهم بالعلاج الناجح، والغذاء الصالح، والوسائل الطبية والصحية اللازمة وتوفير الأجواء التربوية المناسبة لهم.
6- رعاية الشواذّ والمنحرفين
والمراد من ينحرف من الأحداث والمراهقين إلى تناول المخدِّرات، أو السرقة، أو القتل وارتكاب الجرائم. وهذا عيب اجتماعيّ خطير يجب معالجته، ويرجع الانحراف عند المراهقين والشباب إلى أسباب عديدة أهمُّها سوء التربية وإهمال الوالدين مراقبة أبنائهم، ومنها الصحبة السيّئة، ومشاهدة الأفلام الماجنة، ومنها معاملة الآباء القاسية لأبنائهم
79
65
المحاضرة الثامنة: الرعاية الاجتماعية مظهر إنسانية الإسلام
وشدّة ظلمهم، وإمساك النفقة عنهم، ومنها اليتم والجهل والفقر.. إلى غير ذلك.
وعلاج الإسلام لظاهرة الشذوذ والانحراف يعتمد على منع أسباب الشذوذ، وإزالة العوامل التي تؤدّي إليه.
7- رعاية المنكوبين والمكروبين
حثّت الشريعة الإسلامية على إغاثة المنكوب، والتفريج عن المكروب، والنصوص القرآنية في ذلك كثيرة، والأحاديث النبوية عديدة.
وهذه الحالة تشمل المتضرّرين جرّاء الزلازل والبراكين والهزّات الأرضية ومشرّدي الحروب وتفشّي الأوبئة وما شابه.
80
66
المحاضرة التاسعة: الإسلام والقضايا الإنسانية
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾1.
الهدف:
بيان بعض القضايا التي ترتبط بالجانب القِيَمي في الحياة الإنسانية.
1- سورة المائدة: 8.
81
67
المحاضرة التاسعة: الإسلام والقضايا الإنسانية
المقدَّمة
رفع الإسلام لواء الدفاع عن الإنسان في كافّة قضاياه الإنسانية، ولذلك نرى أنّ من أهمّ السياسات التي نادت بها الشريعة الإسلامية نصرة الشعوب المستضعفة والمحرومة والمغتصبة حقوقها ورفع الظلم والجور والحيف عنها والذي يتمظهر اليوم بضرورة شجب واستنكار ما يجري اليوم من سرقة ونهب ثروات الشعوب وخيراتها ومدّخراتها واستعمار أراضيها وقمع أهلها من التعبير عن الآمهم ومشاكلهم، وتركها ترزح تحت وطأة الفقر والمرض والعوز، بغض النظر عن دينها أو المذهب الذي تعتقده وتنتسب إليه، فإنه من سمع منادياً يستغيث بالمسلمين ولم يجيبوه فليسوا بمسلمين.
محاور الموضوع
1- نشر العدل: والذي يعتبر من أسمى الأهداف الإسلامية وغاية حركة الأنبياء والرسل حتى ورد أن حركة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في آخر الزمان بما تمثّل من خلاصة تجارب الأنبياء إنما تضع نُصبَ عينيها أن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.
82
68
المحاضرة التاسعة: الإسلام والقضايا الإنسانية
ومن الواضح أن امتلاءها ظلماً وجوراً يشمل كافّة الناس على اختلاف انتماءاتهم العقائدية والمذهبية.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عدلُ ساعة خيرٌ من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها، وجورُ ساعة في حكم أشدُّ وأعظم عند الله من معاصي ستين سنة"1.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام في تفسير قوله تعالى ﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، قال: "ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لإحياء العدل، ولأقامة الحدّ لله أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً"2.
2- مواجهة الفتن: قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾3، والآية واضحة في أنّ ابتلاء الفتنة واقع لعموم الناس، وأنّ عنوان الإيمان مرتبط بأدائهم إبّان الفتنة، ففي الرواية عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن عليه السلام بعد أن تلا الآية، قال لي: ما الفتنة؟ فقلت: جعلت فداك الذي عندنا الفتنة في الدين، قال عليه السلام:
1- ميزان الحكمة، ج3، ص 1838.
2- الكافي،ج7، ص 174.
3- العنكبوت 3.
83
69
المحاضرة التاسعة: الإسلام والقضايا الإنسانية
"يُفتنون كما يُفتن الذهب، ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب"1.
قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾2، فالإسلام نادى بمواجهة الفتن التي تحيد بالإنسان عن جادّة الهدى وتدخله في زواريب المحسوبيات الضيقة وتبعده عن الأعمال القربوية التي تسلك به الى الله، ولذلك عبّرت الآية أنّ المراد مواجهة أرباب الفتن أن يكون الدين لله وحده.
3- مواجهة حكّام الجور: قال تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾3، فالطغيان من أكبر الأمور التي يمارسها حكّام الجور كمظهر من مظاهر الإساءة بها لإنسانية الإنسان، ولذلك جاء الأمر الإلهي بالذهاب إلى فرعون، هذا الأمر الإلهي الذي يوجب علينا التوجّه إلى كلّ فرعون في كلّ زمان ومكان للوقوف في وجه الطغيان استنقاذاً لإنسانية الإنسان من التشوّه والضياع.
وهذا ما نقرأه في سيرة نبي الله إبراهيم عليه السلام ومواجهته مع
1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2360.
2- البقرة 193.
3- طه 43.
84
70
المحاضرة التاسعة: الإسلام والقضايا الإنسانية
النمرود وعيسى عليه السلام ومواجهته للرومان في عهده ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومواجهته لأجلاف قريش، وغيرهم من الأنبياء على طول التاريخ، وكذا الحال في سيرة الأئمّة الأطهار ووقوفهم في وجه حكّام الجور الذين كانوا يلبسون لباس الدين ويحكمون بغير ما أنزل الله تعالى.
4- رفع الاضطهاد: والذي يتمثّل اليوم باستعمار بعض البلاد واستعباد شعوبها وسرقة خيراتها ونهب ثرواتها وعدم تقديم الحدّ الأدنى لها من ضرورات العيش ومستلزمات الحياة اليومية من التعليم أو الطبابة أو ما شاكل من أنواع الخدمات الأساسية للإنسان.
إنّ ما تعانيه البشرية اليوم من سَحق لإنسانية الإنسان والتعامل معه بأبشع صور التعذيب والإهانة يشكّل وصمة عار على جبين الدول التي تدّعي الحضارة والرقيّ، والدين الإسلامي لا يمكن إلا أن يقف إلى جانب هذه الشعوب لمساعدتها على التخلّص من براثن الكفر والإضطهاد الذي تعاني منه.
5- مواجهة الظلم: قال تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
85
71
المحاضرة التاسعة: الإسلام والقضايا الإنسانية
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾1، وفي ذلك تشديدٌ في الأمر الإلهي إذ قرن الركون إلى الظالم بدخول النار مباشرةً، وجعل تعالى في آياتٍ أخرى هلاك الظالمين سنةً من السنن الإلهية التي لا تتبدّل ولا تتحوّل إذ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾2، وقال تعالى: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾3.
6- تقوية المستضعفين: قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾4، أي نصرة قضاياهم العادلة بغضّ النظر عن دينهم أو مذهبهم، وهذا يعتبر من أهم سياسات الدعوة الإسلامية، وفي حركة نبيّ الله يوسف عليه السلام خير شاهد على ذلك، فقد وقف الى جانب الشعب المصري في سِني القحط والجوع وعمل على تأمين قوتهم وغذائهم وهم ما زالوا على غير دين التوحيد، وما ذلك إلا لوجوب الوقوف إلى جانب الشعوب المستضعفة في قضاياها العادلة والإنسانية.
1- هود 115.
2- يونس 13.
3- النمل 53.
4- القصص 5.
86
72
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.
الهدف:
إبراز الجوانب الإنسانية لفريضة الجهاد والتي من شأنها تصحيح المفهوم لدى المؤمنين وعموم الناس.
1- سورة البقرة, 218.
87
73
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
المقدَّمة
شُرِّع الجهاد في الإسلام للدفاع عن دولة الإسلام ومجتمع المؤمنين وحماية المقدّسات والأعراض، أو لردّ ظالم أو معتدٍ لتكون كلمة الله هي العليا، وبالتالي نَشْر السلام والوئام، وبناء المحبّة وإرساء المؤاخاة بين عموم الناس. وأمّا الجهاد الذي يقتل المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وعموم الناس الآمنين ويدمّر ممتلكات الناس، وينهب ثرواتهم ويهدر كراماتهم فهذا ليس جهاداً وإنما هو عنف ووحشية لا تمتّ إلى الإسلام بصِلة.
لقد كانت سنّة المصطفى و سيرته صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى للتنفيذ. ففي الجانب الماديّ ارتفع الظلم وحلّ العدل، انتشرت الخيرات وعمّت الأرزاق. وفي الجانب المعنويّ بزغت شمس حضارة جديدة، ووجد علم يهدي ويرشد وسادت قيم عالية، وأخلاق فاضلة..لم يكن أهل تلك البلاد يحلمون بها!
88
74
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
أجل إنّ من أولويات هذه الأدبيات للقتال في الإسلام سموّ الهدف، فالمسلمون في قتالهم لا يخرجون بطراً واستكباراً واستعراضاً للقوى والعضلات كما هو حال المحاربين اليوم حين تضيق وسائل الإعلام بضجيجهم وألقاب ومسمّيات معاركهم، بل قيل للمسلمين وأدّبوا ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾1.
محاور الموضوع
والجهاد عبادة كبقية العبادات التي سنّ الله فيها جملة من الآداب والمستحبّات والأخلاقيّات سيّما وأنّ هذه العبادة من أهمّ مظاهر التعامل مع الآخر وأبرز وجوه تقديم الإسلام له، وهي من العوامل التي تؤدّي إلى النصرعند التزامه، فقد يقوم المجاهدون بتصرّفات طائشة وغير مسؤولة تضيع إنجازات النصر والغلبة
1- الأنفال: 47.
89
75
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
ومن جملة آداب وأخلاقيّات الجهاد في سبيل اللَّه تعالى التي يجب التقيد بها ولا يحلّ الخروج عليها:
1- ذكر الله تعالى: يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"2.
2- تحريم الأعمال غير الخلقية: ويكمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوصيته: "لا تغلوا ولا تمثلّوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، ثم استعينوا بالله عليه"3.
1- الأنفال: 45-46.
2- الكافي، ج5، ص 27.
3- الكافي، ج5، ص 27.
90
76
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
ومن جملة آداب وأخلاقيّات الجهاد في سبيل اللَّه تعالى التي يجب التقيد بها ولا يحلّ الخروج عليها:
1- ذكر الله تعالى: يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"2.
2- تحريم الأعمال غير الخلقية: ويكمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوصيته: "لا تغلوا ولا تمثلّوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، ثم استعينوا بالله عليه"3.
1- الأنفال: 45-46.
2- الكافي، ج5، ص 27.
3- الكافي، ج5، ص 27.
90
77
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
وفي خبرٍ آخر: "لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلّوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا مبتلا في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً، لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه، إلا ما لا بد لكم من أكله"1.
ومن جملة ما يُستفاد من هاتين الروايتين:
أ- عدم التعدي على المدنيين: وذلك مستفاد من قوله عليه السلام "ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة"2، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾3.أي أنّ القتال في الإسلام يقتصر على المقاتلين فقط، وقتال غيرهم من الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة هو صورة من صور الاعتداء.
ب- حرمة الغلول أو الخيانة: شدّد الإسلام على النهي عن الغُلول، وهو اغتصاب شيء من الغنائم،
1- المصدر نفسه، ج5، ص 27.
2- م.ن، ج5، ص 27.
3- البقرة: 190.
91
78
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾1.
فالغُلُول نوع من السرقة والتعدّي والطمع، لذا يحرم على المجاهد أن يمدّ يديه إلى ما لا يحل له، وعليه أن يترفع عمّا لا يليق به، ولا يضيع أجره وثوابه بحطامٍ فانٍ.
ج- عدم الإضرار بالأملاك الخاصّة: "لا تحرقوا النَّخلَ، ولا تُغرِقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً"2.
3- حرمة أموالهم وممتلكاتهم: يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم، إلاَّ ما وجدتم في عسكرهم"3.
4- الوفاء بالعهود والمواثيق: لقد شدَّد الإسلام على وجوب الصدق والمحافظة عليه وهو أن يكون الإنسان أميناً مع قيادته ونفسه وأمته وأميناً على كل عهد وميثاق يلتزمه، فلا يحلُّ للجندي الغدر والخيانة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
1- آل عمران: 161.
2- الكافي، ج5، ص 27.
3- الكافي، ج5، ص 8.
92
79
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾1. وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾2.
5- عدم التباهي على الآخرين: قال تعالى: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾3.
6- اختيار القادة الأكفاء: قال أميرُ المؤمنين عليه السلام في كتابه لمالك الأشتر: "فولِّ من جنودك، أنصحَهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقَاهم جيباً، وأفضلَهم حِلماً، مِمَّنْ يُبْطىء عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، ومِمَّنْ لا يُثيره العنف، ولا يقعد به الضَّعف"4.
7- عدمُ المُثْلَةِ بالقتلى، أو هَتْكِ أستارهم: يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ولا تُمثِّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال قومٍ فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً"5.
1- المائدة: 1.
2- النحل: 91.
3- سورة العنكبوت: 6.
4- نهج البلاغة، ج3، ص 91.
5- الكافي، ج5، ص 39.
93
80
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
8- عدم التعرُّض للنساء ولو كنّ وقحات معكم: رُوي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "ولا تُهيِّجوا امرأةً بأذى، وإنْ شَتَمْنَ أعراضكم، وسبَبْن أمراءكم وصلحاءكم، فإنَّهنَّ ناقصاتُ القوى والأنفس والعقول"1.
9- مؤازرةُ الإخوان بعضهم بعضاً في ساحة المعركة: المؤمن قويٌّ بإخوانه، ومَثَلُهم كَمَثَلِ البنيان المرصوص، فأيُّ مصابٍ لإخواننا، مُصابٌ لنا، وفَرَجُهم فرجٌ علينا.
وفي نصٍّ آخر "وإذا رأيتم من إخوانكم المجروح ومَنْ قد نُكِّل به أو مَنْ قد طَمِع فيه عدوُّكم، فقوُّوه بأنفسكم"2.
10- تركُ التشبِّه بأعداء الإسلام: يُلاحَظ أحياناً أنَّ البعض يهوى التشبُّه بأعداء الدين في حمله للسلاح، وتصرُّفاته، ونزقه فقد رُوي عن مولانا الباقر عليه السلام: "أوحى الله إلى نبيّ من الأنبياء، أنْ قُلْ لقومك، لا تلبَسوا لباسَ أعدائي، ولا تطعَموا أعدائي، ولا تشاكلوا بما شاكل أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي"3.
1- المصدر نفسه، ج5، ص 8.
2- م.ن، ج5، ص 42.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص 1408.
94
81
المحاضرة العاشرة: الجانب الإنساني في الجهاد
11- عدم الخيانة: قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾1.
والمراد من الآية أنه إن خفت من قوم أن ينقضوا عهداً بينك وبينهم.. فانبذ إليهم على سواء أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، وإنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك.
12- حسن التعامل مع الأسير: فالأسير في حروب المسلين لا يؤذى ولا يُهان بل يُعامل معاملةً حسنة احتراماً للجانب الإنساني له، وقد وعدهم الله بالخير إن تابوا وأصلحوا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
1- الأنفال: 58
2- سورة البقرة: 218
95
82
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾1.
الهدف:
بيان أنّ الأصل في الدعوة الإسلامية إلى الله يقوم على الحكمة والرفق والموعظة الحسنة، ولا مكان للعنف في الدعوة إلى الله.
1- التوبة: 128.
97
83
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
المقدَّمة
يُعتبر الإسلامُ نقيضَ العنف والقمع لأنه دين التسامح والرحمة والعفو، وهو الدين الذي ينبذ كافّة أشكال العنف والإكراه والقسوة في كافّة مجالات الحياة، وعلى ذلك سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام ومن قبلهم كافّة الأنبياء والرسل الذين دعوا الناس إلى الله، ومع ذلك نقرأ بعض الدراسات المسمومة التي حاولت تشويه صورة هذا الدين الحنيف وتقديم الإسلام على أنه دين القوّة والغلبة والسيطرة، ولا ننكر هنا أنّ بعض الممارسات الخاطئة التي قام بها المسلمون وما يزالون - والإسلام بريء منها - ساهمت في تقديم مادّة مناسبة لهؤلاء من أجل تحقيق مآربهم وتنفيذ مخطّطاتهم المكشوفة.
محاور الموضوع
تعريفا الإسلام والعنف
العنف في الاصطلاح هو استخدام القوّة والشدّة والقسوة استخداماً غير مشروعٍ، ومن آثاره إلحاق الأذى بالآخرين
98
84
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
جسديّاً أو نفسيّاً، بينما الإسلام أصله من السلام أي الصفاء من كلّ الأمراض الظاهرية والباطنية، ولذلك سُمِّيت الجنة دار السلام، قال تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ﴾1، وقال تعالى: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾2.
ومن أرجع أصل الإسلام إلى السلم في مقابل الحرب أو التسليم وهو أداء الطاعة سالمة من الأدغال فمردُّهما إلى معنى واحد.
وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾3. حيث دلت هذه الآية على أنّ عدم الدخول في السلم اتباعٌ لخطوات الشيطان.
منهج الرفق في الإسلام
فالإسلام نبذ العنف والإكراه في دعوة الآخرين واعتمد أسلوب مخاطبة العقول بالحجج والبراهين ومخاطبة القلوب بالآيات والمواعظ، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
1- الأنعام: 127.
2- يونس: 25.
3- البقرة: 208.
99
85
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
جسديّاً أو نفسيّاً، بينما الإسلام أصله من السلام أي الصفاء من كلّ الأمراض الظاهرية والباطنية، ولذلك سُمِّيت الجنة دار السلام، قال تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ﴾1، وقال تعالى: ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾2.
ومن أرجع أصل الإسلام إلى السلم في مقابل الحرب أو التسليم وهو أداء الطاعة سالمة من الأدغال فمردُّهما إلى معنى واحد.
وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾3. حيث دلت هذه الآية على أنّ عدم الدخول في السلم اتباعٌ لخطوات الشيطان.
منهج الرفق في الإسلام
فالإسلام نبذ العنف والإكراه في دعوة الآخرين واعتمد أسلوب مخاطبة العقول بالحجج والبراهين ومخاطبة القلوب بالآيات والمواعظ، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
1- الأنعام: 127.
2- يونس: 25.
3- البقرة: 208.
99
86
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾1.
وفي الحديث النبوي: "إنّ الله رفيق يحبُّ الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف..."2.
ويرسم الإسلام للنبيّ آلية استقطاب الناس وجذبهم واستيعابهم القائمة على مبدأ الرحمة بهم والعفو عنهم والدعاء والإستغفار لمذنبيهم، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾3.
ثم إنّ الدعوة إلى الله لا بدّ أن تتلقّى ردود فعل من الناس سواء صدرت منهم عن علم أو عن جهل، فأمّا ما صدر عن علم فمآله إلى الحوار، قال تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾، وأمّا ما صدر عن جهل فقد اكتفى الإسلام بالردّ الجميل عليهم، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ
1- النحل: 125.
2- كنز العمال.
3- آل عمران: 159.
100
87
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾1.
وأما الكلام اللامسؤول واللغو والهزل فيقابله بالإعراض الإيجابي الذي لا يستفزّ الآخر، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾2.
ويطرح الإسلام مجموعة من القيم ومكارم الأخلاق في إطار التعامل مع الآخرين، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾3، فالمسلم يتحسّس آلام الآخرين في السرّاء والضرّاء، وإذا أُغضب كظم غيظه ولم يخرجه غضبه عن حدود الشرع، ويعفو عمّن أساء إليه، بل أكثر من ذلك فإنَّا نرى في الآية تشجيعاً على الإحسان لمّن أساء إليك.
وفي مقامٍ آخر يبين القرآن الكريم ضرورة التحلّي بهذه المناقب والفضائل الأخلاقية، ويربيه على تجاوز سيّئات
1- الفرقان: 63.
2- القصص: 55.
3- آل عمران: 134.
101
88
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
الآخرين وعدم التمسك حتى بما هو حقٌّ له حيث يقول تعالى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾1.
ويبين القرآن الكريم محورية هذه الفضائل ومنشأها في النفس ببيان أنّ المهمّة الملقاة على عاتق النبي الأكرم هي مهمّة توعية وتذكير وليست مهمّة تسلّط وسيطرة، فلا إكراه في الدين ولا عنف في الدعوة، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾2.
وفي السنّة الشريفة بعض الأحاديث التي من المفيد إدراجها هنا تعزيزاً للفكرة:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع عن شيء إلا شانه"3.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كان الرفق خُلقاً يُرى ما كان ممّا خلق الله شيء أحسن منه"4.
1- الشورى: 40.
2- الغاشية: 21 - 22.
3- الوافي، الكاشاني، ج4، ص463.
4- شرح أصول الكافي، المازندراني، ج8، ص257.
102
89
المحاضرة الحادية عشرة: موقف الإسلام من العنف
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من عملٍ أبغض إلى الله من الإشراك بالله تعالى والعنف على عباده"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أراد أن ينال ما عند الناس فعليه بالرفق، ومن كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس"2.
وعنه عليه السلام: "أن امرأة عُذّبت في هرّة ربطتها حتى ماتت عطشاً"3.
1- مستدرك سفينة البحار، ج7، ص456.
2- الوافي، ج4، ص465.
3- ثواب الأعمال، الصدوق، ص678.
103
90
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.
الهدف:
عرض لبعض النماذج القرآنية التي تبيّن سيرة الأنبياء عليهم السلام في الدعوة.
1- الأعراف: 62.
105
91
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
المقدَّمة
المتأمّل في دعوة الأنبياء الناس إلى التوحيد يرى أنّ البعد الحقيقيّ لهذه الدعوة هو البعد التربويّ والتعليميّ والتوجيهيّ ومحاولة بيان فساد الآراء أو القناعات التي يعتقدونها وإرشادهم برفقٍ ولينٍ إلى صلاحهم وسعادتهم بدون إساءةٍ أو أذىً أو إهانةٍ أو أيّ شكلٍ من أشكال عدم احترام إنسانيتهم بل كان دأب الأنبياء تزكية نفوس الناس وتصفية قلوبهم وأرواحهم وإصلاح سرائرهم وتنقية معتقداتهم, لأنّ الإنسان إذا صَلُحَ باطنه صَلُحَ ظاهره وسلوكه، وإذا سلِمت عقائده من الخطأ والضلالة سلِم الناس منه.
محاور الموضوع
العنف منهج حكّام الجور
يبين القرآن الكريم منهج العنف عند فرعون سواء في مواجهته للنبيّ موسى عليه السلام حيث قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾1.
1- الأعراف: 127.
106
92
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
أو منهجيته في التعامل مع الناس قبل دعوة موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾1.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾2.
وسرعان ما يُسارع الظالم إلى القتل مستخدماً العنف بأبشع صوره، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾3.
وهذا ما فعله قوم لوط مع نبيّهم حيث عمدوا إلى نبذه وجماعته وإخراجهم من القرية، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾4.
1- البقرة: 49.
2- القصص: 38.
3- المائدة: 27.
4- الأعراف: 82.
107
93
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
وأمّا مع نبي الله شعيب فهدّدوه بالرجم بدون رأفة أو مراعاة لأيّ اعتبار، قال تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾1.
الرفق واللين منهج الأديان
قال تعالى: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾2، وما أروعها من مواجهة بين اثنين أحدهما يخاف الله والآخر لا يخافه، فالتهديد بالقتل يواجَه بالنهر والدعوة إلى مخافة الله وعدم الوقوع في المعصية.
وهذا نبيُّ الله لوط الذي كان قومه يرتكبون أعظم الفاحشة، ومع ذلك لم يعاملهم بالعنف والقسوة، ولم يسلَّ في وجههم سيف الدين، بل راح يعظهم ويقدّم لهم دليلاً ليس دينيّاً، وإنما أمرٌ عقلي مفاده أنّ هذا الفعل لم يسبقكم إليه أحد من قبل، فلو كان فيه جهة حسنة لفعله من سبقكم من الأمم،
1- هود: 91.
2- المائدة: 28.
108
94
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
قال تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ﴾1.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾2.
ونقرأ في دعوة نوح عليه السلام الحكمة والأسلوب الهادئ فهو يدعو قومه إنطلاقاً من خوفه عليهم وعلى آخرتهم، فهو المبلّغ لهم والناصح الأمين كما يعبر كتاب الله وليس الحاكم المسلّط عليهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾3.
1- الأعراف 80.
2- آل عمران: 75.
3- الأعراف: 59 ـ 62.
109
95
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
وهذه دعوة بقية الأنبياء من صالح عليه السلام إلى هود عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام إلى غيرهم من أنبياء الله الذين ذكرهم القرآن الكريم ولا ترى في دعوتهم إلا الوعظ والتذكير والدعوة إلى التأمّل ومراجعة الذات وبيان المعارف الإلهية والنعم التي أنعمها الله على بني البشر وغيرها من الأساليب التي لا تنطوي إلّا على المحبّة والرفق والخوف على الآخر والنصيحة بدون عنف أو قسوة، قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾1.
قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ
1- الأعراف: 73 و 74.
110
96
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾1.
وفي حوار نبي الله إبراهيم مع أبيه ترى عظمة الرحمة والقلب الرؤوف والدعوة اللينة، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا *يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾2.
وأمّا في مواجهة موسى عليه السلام لفرعون، ورغم التسلط والإستكبار والعتوّ الذي كان يمارسه فرعون ضدّ شعبه نرى
1- الأعراف: 85.
2- مريم 42 ـ 50.
111
97
المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء
أنّ الله تعالى يأمر نبيّه بالتعامل معه بالحسنى، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾1.
وفي الخطاب الإلهي لبني إسرائيل نقرأ قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾2.
1- طه: 42 ـ 44.
2- المائدة: 32.
112
98
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
تصدير الموضوع:
"عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عَبَدَ الله، وإن كان يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان"1.
الهدف:
بيان النوازع التي تدفع الإنسان للدخول إلى شبكات التواصل الاجتماعيّ وأكثر المواقع زيارةً.
1- الوافي، الكاشاني، ج4، ص196.
115
99
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
المقدَّمة
لا شكّ أنّ الشبكات الاجتماعية ظاهرة إعلامية واجتماعية جديدة تفرض نفسها على واقع المجتمعات والشعوب، كما لا شكّ أنّه لها العديد من الجوانب الإيجابية والسلبية، والتي تستلزم الدراسة والتمحيص، فكما يمكن للمعلومات الإيجابية أن تنتقل بسرعة وتجد لها الأثر البالغ في المتابعة والرصد، فإنّ المعلومات السلبية ستنتشر بالسرعة نفسها إن لم يكن أكثر، ويمكن أن تترك تأثيراً مجتمعيّاً بالغاً.
محاور الموضوع
هناك عدةأسباب رئيسية تجعل من الإنترنت سبباً في الإدمان أهمُّها:
1- السريّة: إنّ الإمكانيّة التي يوفّرها الإنترنت في الحصول على المعلومات، وطرح الأسئلة والتعرّف على الأشخاص دون الحاجة إلى تعريف النفس بالتفاصيل الحقيقية، توفر شعوراً لطيفاً بالسيطرة. إلى جانب ذلك، فإنّ القدرة على
116
100
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
الظهور كلّ يوم بشكل آخر حسب اختيارنا، تُعتبر تحقيقاً لحلم جامح بالنسبة إلى الكثير من الناس ممّا يقود البعض إلى إدمان الإنترنت.
2- الراحة: الإنترنت هو وسيلة مريحة للغاية، وهو يوجَد عادة في البيت أو العمل، ولا يتطلّب الخروج من البيت، أو السفر. هذا التيسير يوفّر حضوراً عالياً وسهولة فيما يتعلّق بتحصيل المعلومات التي لم نكن لنقدر على تحصيلها بدون الإنترنت، وذلك يجعل إدمان الإنترنت أمراً سهلاً.
3- الهروب إلى عالم آخر: مثل الكتاب الجيّد أو الفيلم المثير، فإنّ الإنترنت يوفّر الهروب من الواقع إلى واقع بديل. ومن الممكن للإنسان الذي يفتقر إلى الثقة بالنفس أن يصبح إنساناً مميَّزاً، ويجد الإنسان الانطوائي لنفسه أصدقاء، ويستطيع كلّ إنسان أن يتبنّى لنفسه هويّة مختلقة وأن يحصل من خلالها على كلّ ما ينقصه في الواقع اليوميّ والحقيقيّ ممّا يؤدِّي إلى إدمان الإنترنت.
117
101
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
4- التعبير عن أدقّ أسرارهم الشخصية ورغباتهم المدفونة: كما أنّ مستخدم تلك الخدمات يقدر أن يُخبّئ اسمه وسنّه ومهنته وشكله وردود فعله أثناء استخدامه لتلك الخدمات، وبالتالي يستغلّ بعض مستخدمي الإنترنت - خاصة الذين يحسون منهم بالوحدة وعدم الأمان في حياتهم الواقعية - تلك الميزة في التعبير عن أدقّ أسرارهم الشخصية ورغباتهم المدفونة ومشاعرهم المكبوتة ممّا يؤدّي إلى توهّم الحميمية والألفة.. ولكن حين يصطدم الشخص بمدى محدودية الاعتماد على مجتمع لا يملك وجهًا لتحقيق الحبّ والاهتمام اللذين لا يتحقّقان إلّا في الحياة الحقيقية.
المساحة الكبيرة من الحرية: إنّ مواقع التواصل الاجتماعيّ هي تقنية من التقنيّات الحديثة في عالم التواصل بين الأفراد والجماعات والتي من خلالها يتبادل الفرد مع الآخرين المعلومة، والرأي، والفكر، والاتجاه. ولعلّ أبرز ما يميّز شبكات التواصل الاجتماعيّ المساحة الكبيرة من الحرية
118
102
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
التي يمكن أن يعبر من خلالها الفرد عن هذه الاتجاهات والأفكار والآراء بدون وجود أيّ ضوابط خارجية تمنع بشكل مناسب بعض الآثار التي من الممكن أن يسبّبها الفرد بعرضه لهذه المعتقدات الفكرية.
سهولة إيصال الفكرة: ولأنّ الإنسان يميل بطبعه إلى الدعة والسهولة فإنّه يرى في الإنترنت سهولة وصول هذه التقنية إلى الكثير من أفراد المجتمع بطرق سهلة وبسيطة وميسّرة عبر أجهزة الحاسب الآليّ والآي باد والآي بود وغيرها، وحتى بالهاتف النقّال الذي أسهم بشكل كبير في زيادة أعداد المستخدمين. وهو ما يعتبر عنصراً وعاملاً آخر مهمّاً أثّر بشكل واضح في زيادة التبعات السلبية التي ستؤثّر بدون شكّ في العديد من الجوانب الحياتية والأسرية والمجتمعية، وساهم في نشر الإشاعة على سبيل المثال، وانتشار الأخبار الكاذبة، والمعلومات المتناقضة والمتنافية مع التعاليم الشرعية الدينية، والمعايير الأخلاقية، والتي لا يحكمها هذا الفضاء المفتوح والمتسع.
119
103
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
عدم الحدود الجغرافية: حيث يستطيع الشخص في الشرق التواصل مع الشخص في الغرب بسهولة وبساطة وسرعة، وهذا يعطي حيِّزاً للتعبير والمشاركة الفاعلة من المشاهد والقارئ وفرصة لا تتوفّر لأيٍّ كان في ميادين الحياة التي يحتكرها البعض ويستأثر بالاستفادة منها.
تنوّع الاستعمالات: فهذه البيئة مفتوحة على كافّة العلوم والمعارف وتمكّن المرء من الدخول على عوالم لا تنتهي والتعرف على الكثير مما لا يعرفه ويعطيه ثقافة واسعة وشاملة، فمثلاً يمكن التواصل في هذه البيئة الافتراضية من أجل الأمور العلمية, الاقتصادية, الإخبارية, الترفيهية وغيرها...
التوفير والاقتصاد: حيث نستطيع من خلال خدمات شبكات التواصل الاجتماعيّ توفير المال, والجهد والوقت، فلا أقلّ من أنها تعرض علينا إرسال رسائل نصية, ومكالمات صوتية أو مرئية وإنشاء حسابات وإقامة تجارات والإطلاع على ساحات العرض والطلب وآخر المبتكرات والاختراعات وسوى ذلك من الكثير الكثير، وكلّ ذلك بشكل مجّاني.
120
104
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
المواقع التى يستخدمها مدمنو الإنترنت
يختلف استخدام مدمني الإنترنت للمواقع، ولكن غالباً هذه هى المواقع و الطرق التى تتسبّب فى إدمان الشخص للإنترنت وتجعله يقضى الساعات بدون شعور على الإنترنت:
مواقع الدردشة: بما فيها من مغريات للانطوائيّين وكذلك الاجتماعيين، إذ تجعلهم يتحدّثون مع أصدقائهم الوهميّين كثيراً. وأعتقد أنها أكثر المواقع التي تتسبّب فى إدمان الإنترنت.
الفيس بوك: بما فيه من مميّزات عديدة، فبه تبدي رأيك فيما تشاء و تتناقش حول الموضوعات المختلفة كما تتحدّث إلى أصدقائك، ولا يمكن لأحد أن ينكر أنه من أهمّ أسباب إدمان الإنترنت.
المواقع الإباحية: التي يجلس بعض مدمني الإنترنت أمامها بالساعات، وهذه المواقع الإباحية التي تدمّر أخلاق الشباب ومعنويّاتهم وقيمهم، إذ تشير بعض التقارير إلى أنّ عدد المواقع الإباحية حوالي سبعة ملايين موقع، وكلّ موقع
121
105
المحاضرة الأولى: شبكات التواصل (النوازع والمواقع المستخدَمة)
له عشرات الصفحات، وأنّ عشرة في المئة من هذه المواقع تخدمها مؤسّسات متخصّصة في توفير الصورة أو الفيديو أو توفير شبكات عالمية. وهذه الأرقام تبقى نسبية لأنها في ارتفاع مستمرّ لما توفّره من أرباح مالية طائلة.
مواقع الألعاب والأفلام: يقضي مدمنو الإنترنت عشرات الساعات من أجل مشاهدة الأفلام و لعب الألعاب المختلفة المنتشرة على الإنترنت.
المواقع الاخبارية والثقافية: فهي مليئة بالأخبار التي لا تنتهي, يمكن للشخص من خلالها متابعة كافّة الأخبار والمعلومات دون انتهاء, لذلك فهى تتسبّب فى إدمان الإنترنت.
122
106
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
تصدير الموضوع:
"... ارفعوا من مستوى معارفكم ولا تجعلوا سقف معارفكم هو المواقع السياسية على الشبكة العنكبوتية، وأوراق الجرائد، والاستطلاعات في مواقع الإنترنت المختلفة"1.
الهدف:
استعراض بعض الجوانب السلبية والإيجابية لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ.
1- الإمام الخامنئي دام ظله.
123
107
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
المقدَّمة
لا يمكن النظر إلى تأثير مواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفه إيجابيّاً أو سلبيّاً في المجمل، وإنما كتأثير محايد، فطريقة استخدامنا هي التي تحدّد هذا التأثير سواء كان إيجابيّاً أو سلبيّاً، تأثيره في علاقتنا بالمحيطين بنا.
فهذه الوسائل مثلها كالكثير من المسائل المشتركة التي يمكن الإستفادة منها في الحلال إلى أبعد الدرجات، كما يمكن الإنغماس بها في الحلال إلى أبعد دركاته، فالمسألة في المنفعل لا في الفعل والعبرة بالمستخدِم لا بالمستخدَم، فكم من أناسٍ نقلتهم شبكات التواصل من الظلمات إلى النور، وكم من آخرين أردتهم في الظلمات بعد أن كانوا من أهل الخير والصلاح!
محاور الموضوع
إيجابيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ:
1- الاستخدامات الشخصية: أي سهولة التواصل الاجتماعيّ وإقامة العلاقات بين الأفراد والمؤسَّسات، حيث يمكن
124
108
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
استخدام خدمات شبكات التواصل الاجتماعيّ للتواصل مع الأقارب, والأصدقاء, والطلاب, والمدرسين.. يمكنك من خلال هذه الشبكات الاتصال هاتفيّاً أو إرسال رسائل نصية أو صور أو فيديو مجاناً. يمكن من خلال الشبكات الاجتماعية الخاصّة تبادل المعلومات والملفّات الخاصّة، كما أنها مجال رحب للتعارف والصداقة، وخلق جوّ مجتمعيّ يتميّز بوحدة الأفكار والرغبات غالباً، وإن اختلفت أعمارهم وأماكنهم ومستوياتهم العلمية.
2- الاستخدامات الحكومية والتجارية: اتجهت كثير من الدوائر الحكومية والشركات الكبرى إلى التواصل مع الجمهور من خلال مواقع التواصل الاجتماعيّ، بهدف قياس وتطوير الخدمات الحكومية والتجارية والتسويقية لديها، ومسايرة للتقنية الحديثة. بل أصبح التواصل التقني مع الجمهور من نقاط تقييم الدوائر الحكومية وخدماتها المقدًّمة, فلذلك تسعى الدوائر الحكومية لمواكبة التكنولوجيا والتطوير من طرق تواصلها مع المواطنين،
125
109
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
وبذلك تقلّل الدوائر الحكومية من المصاريف والوقت والجهد وتُحسِّنُ سهولة وصول المستخدمين إلى خدماتها.
3- الاستخدامات التعليمية: إنّ من ضروريّات الحياة اليومية استخدام ومواكبة التكنولوجيا الحديثة والمعاصرة, حيث إنّ جيل الشباب اليوم أصبح ميّالا لاستخدام العالم الافتراضيّ وشبكات التواصل الاجتماعية أكثر من نشاطه على أرض الواقع, فلذلك أصبح التعليم الإلكترونيّ ضروريّاً وليس اختياريّاً.
وجيل الشباب اليوم لا يحبّ التعليم التقليديّ، ولكن إذا تمّ دمج التعليم وشبكات التواصل الاجتماعيّ معاً فهذا قد يعطي نتائج أعلى بكثير ويزيد من فرص مشاركة الطلّاب مع المعلم
وكذا...
4- الاستخدامات الإخبارية: أصبحت شبكات التواصل الاجتماعيّ اليوم من المصادر الأولى بل حتى إنّها المصدر الأوّل للأخبار, وهي أخبار تتميّز بأنها من مصدرها الأوّل وبصياغة ردية حرّة غالباً، يكتبها الفرد بصيغة حرّة بدون شروط ولا حاجة لكتابتها بصيغة دعائية أو صيغة أخرى
126
110
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
رسمية وغيرها. وهذه الوسائل تقوم بالتأثير في الرأي العامّ بشكل قويّ جدّاً، بحيث تحوّل الجميع إلى "صحفيين" إن صحّ التعبير..
وقد تميزت المدّونات الخاصة باستقطاب الباحثين عن الأخبار، ومواقع الأخبار المتخصّصة، وقنوات إخبارية كبيرة، في أحداث مختلفة سابقة، وكان لأصحابها التأثير الكبير في نقل الأخبار الصحيحة للرأي العام.
5- مشاركة الأفكار الخاصّة: يمكن لجميع المستخدمين بدون النظر إلى انتماءاتهم أو ديانتهم أو لغاتهم أو جنسياتهم أو بلدانهم التواصل مع الجميع وهذا يتيح إمكانية استخدام هذه الشبكات للدعوة للإسلام مثلاً أو للنصرانية وغيرها أو لتأييد حزب معيّن أو دولة معينة وكذا...
الاستخدامات السلبية للشبكات الاجتماعية:
1- نشر أفكار هدّامة وتجمعات مخالفة للقيم والقانون: فهذه الشبكات منبر مفتوح لكافّة الناس بدون رقيب أو ضوابط، وليس هناك أي معايير للكلام أو الكتابة، ويمكن استهداف أيّ شريحة من الناس في عقائدهم وقناعاتهم، كما أنه
127
111
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
من الممكن الإساءة إلى مقدّسات الآخرين كما حصل في موضوع الإساءة إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعرض بعض البرامج والأفلام التي طالت الديانتين الإسلامية والمسيحية، والترويج لمعتقدات وضعية ومنحرفة تشوّه صورة الإنسان وتحرفه عن جادّة الهدى.
2- عرض الموادّ الإباحية والصور الفاضحة: ولا يخفى العدد الهائل لهذه الشبكات التي تستهدف مختلف شرائح المجتمع على اختلاف العمر والجنس والحاجة، وما يستلزم ذلك من انحلال أخلاقي وتشويه للفطرة الإنسانية وخدش لحياء المرأة وغيرة الرجل والذي يترك آثاره في الأسرة والشباب والشابّات والتسبّب بمشاكل عائلية وزوجية قد تؤدّي إلى الطلاق، وتدمير الأسرة أو العزوف عن الزواج أو الدخول في المعاصي الفردية والعامّة.
3- التشهير ونشر الشائعات: فهذه الشبكات ساحة مفتوحة غير خاضعة للتدقيق أو التحقيق في الرواية الملقاة على صفحة جهاز الكميوتر والتي يطّلع عليها ملايين البشر،
128
112
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
ويمكن اختلاق الأكاذيب وبثّ الإفتراءات على غاربها للحطّ من أيّ شخصية أو تناول أيّ جهة بعينها، ومضايقة الناس في بيوتها.
4- التحايل والتزوير: إذ بعد دخول الكثير من البرامج التي تمكّن المرء من اللعب بأصوات الآخرين وإدخال صوت مكان آخر وصورة إلى جانب أخرى أو بعض صورة إلى صورة إنسان آخر أو اقتطاع كلام وتوظيفه، أو اللعب بأوراق الصحف وادعاء نشرها لبعض الأخبار، وسوى ذلك من الألاعيب التي لا تعدّ ولا تحصى من أساليب التحايل وتزوير الحقائق وتوظيفها في سبيل أهداف رخيصة.
5- انتهاك الحقوق الخاصّة والعامّة: فلا سريّة لحقّ ولا حرمة لإنسان، وكيف يمكن للمرء أن يُحافظ على حقوقه الخاصّة والعامّة وهو يضعها أمام ملايين البشر وهو لا يدري الصالح منهم من الطالح، والمحسن من المسيء، ولا أقلّ في هذا المجال من الدخول على الملفات المالية والشخصية والصحية، إذ إنه على صفحات الإنترنت لا حياة خاصّة لأحد ولا حقوق مصونة لأحد وهذه المسألة تكفي لكي
129
113
المحاضرة الثانية: إيجابيات وسلبيات استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ
يبقى المرء في حالة من القلق والإضطراب ممّا يؤثّر في سلوكه وأخلاقه ودوره في الحياة.
6- انتهاك الخصوصية: وهي من أبشع ما يحدث للمرء على شبكات التواصل الاجتماعي حيث الكثير من العلاقات المشبوهة والعلاقات المحرّمة والمكالمات غير الشرعية التي تقوم بين بعض الأطراف والتي يمكن الإطلاع عليها من الجهات الخاصّة بإدارة هذه الشبكات، ويمكن ـ عند الحاجة ـ توظيف هذه المعلومات وابتزاز أصحابها.
7- انتحال الشخصيّات: فيمكن للمرء أن ينتحل الشخصية التي يريد واصفاً نفسه بأجمل الصفات ويبني لنفسه كمّاً من الصداقات والمعارف والأحباب بناءً على شخصية وهمية مفترضة، وقد أكّدت الدراسات أنّ هذا الإنسان قد يُصاب بالإحباط عندما يرى النجاح الكبير على شبكات الإنترنت ثمّ يُصدَم بالواقع المرير الذي يُعطيه حجمه الطبيعيّ، بل قد يؤدّي به ذلك إلى الانهيار، بل أكثر من ذلك فإنّ انتحال الشخصية أدّى بالبعض إلى الانتحار.
130
114
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
تصدير الموضوع:
"... أنتم تَرَوْن مستوى الوسائل التي تستخدم اليوم لأجل إغواء الشباب، فكل هذه الفضائيات والانترنت وكل أقسام وسائل الاعلام تغوي القلوب وتجذبها وتحرفها عن الطريق"1
الهدف:
بيان المخاطر والآثار السلبية التي تصيب مدمني استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ.
1- الإمام الخامنئي دام ظله.
131
115
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
المقدَّمة
الشباب فئة اجتماعية مهمّة في كلّ مجتمع، لها مميزاتها وخاصيَّتها، ومنها روح المغامرة والإثارة وحبّ الاكتشاف والتعرف على الجديد، وهذا جعل الشباب أكثر الفئات الاجتماعية إقبالاً على شبكة الإنترنت، باعتبارها المجال الرحب للدخول في العالم الافتراضي والإبحار في كلّ جهات العالم. يضاف إلى ذلك ما يعيشه الشباب من فراغ في حياته الواقعية، وما يعرفه من مشاكل اجتماعية واقتصادية تحول بينه وبين الاندماج في الحياة وتحقيق الذات. فيكون العالم الافتراضي في شبكة الإنترنت الملاذ من هذه المشاكل، والمجال الرحب لتحقيق الذات وإثباتها من خلال المشاركة وإبداء الرأي والحوار، أو التمكن من التقنيات والإبداع فيها، والتعويض عمّا يفتقده في محيطه المحلّي والواقعي.
محاور الموضوع
سلبيات شبكات التواصل الاجتماعي:
1- الإدمان: عندما يعتاد الشخص على استعمال هذه
132
116
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
الشبكات يُصاب بالإدمان وبالتالي في وقت لاحق "بأمراض نفسية عصرية": قلق, عدم استقرار, حيرة, عصبيّة وغيرها, ويجري تبني عادات ومعتقدات غريبة عن مجتمعنا العربي والاسلامي. عندما يتطوّر تعامل الشباب مع الأنترنت إلى مستوى الإدمان وهومرض جديد لم يكن من قبل، ينقطع المدمن على الإنترنت عن المحيط الاجتماعي والواقعي من حوله، ويتهرب من كلّ المسؤوليّات. لقد رصد الخبراء أعراض المدمن على الإنترنت، يمكن تلخيصها في:
أ- فقدان العلاقات الاجتماعية: هناك عدّة طرق لتحديد ما إذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى مشكلة لدينا، منها التأكّد من "فقدان العلاقات الاجتماعية" حيث إنّ شبكات التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك أو التويتر، هي وسائل تواصل اجتماعي للتقارب العائلي وبناء الصداقات. لكن عندما ترفض خططاً للخروج مع الناس في الحياة الحقيقية وتفضل قضاء بعض الوقت على الشبكة الاجتماعية، فإن هذا السلوك يشير إلى
133
117
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
وجود مشكلة تواصل اجتماعي لديك، إنّ تخصيص معظم وقتك لاستخدام الإنترنت، لدرجة أنك تتجاوز الوقت الذي تقضيه مع الناس في الحياة الواقعية يجعل الناس من حولك يشعرون بالإهمال والألم، وعلاقاتك بالأشخاص الذين من حولك تتعرض للفشل وتشعر بالعزلة، لذا اسأل نفسك هذا السؤال: "هل استخدامك لشبكات التواصل الاجتماعي (غير الواقعي) يطغى على التواصل الاجتماعي في الحياة الواقعية مع الآخرين"؟.
ب- فقدان القدرة على النوم: ودليل الإدمان الثاني، يتركّز في: فقدان القدرة على النوم، وهناك فرق بين البقاء حتّى ساعة متأخرة لإنهاء مهمّة، أو عمل ضروريّ، وبين التحقّق للمرّة الأخيرة قبل النوم من شبكة التواصل الاجتماعية للحفاظ على الدردشة على شبكة الإنترنت.
ج- تجاوز المستخدم الوقت المحدد لاستخدام الإنترنت: ولكي تعرف أنك في مشكلة أم لا
134
118
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
اسأل نفسك: "هل استخدامك لشبكات التواصل الاجتماعي (غير الواقعي) يجعلك مستيقظاً طوال الليل أو يجعلك تحذف بعض الواجبات المهمّة"؟
د- التعب الجسديّ أو الذهنيّ على الشباب: إنّ الاتصال بالآخرين هو وسيلة رائعة للّحاق بالآخرين، أو لزيادة شبكة التواصل الاجتماعي في حياتك المهنية، لكنّ السماح لشبكات التواصل الاجتماعي أن تؤثّر في وقت الراحة الذي كنت بحاجة إليه فإنّ ذلك يؤثّر سلباً في مستويات الطاقة والإنتاجية لديك، ومن هنا فإنّ البقاء حتى وقت متأخّر، أو إجبار نفسك على البقاء مستيقظاً طوال الليل للتواصل الاجتماعي على الانترنت يؤثّر في مزاجك، ويجعلك سريع الغضب.
هـ- انخفاض المستوى الدراسيّ: أي التراجع على مستوى المعدّل العامّ, وذلك لأنّ هناك وقتاً مقتطعاً من الدراسة والتحصيل العلميّ لحساب شبكات التواصل الاجتماعيّ، وتوزيع الاهتمام بين الدراسة وغيرها.
135
119
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
و- فقدان الاهتمام بالهوايات السابقة: كأنْ يلاحظ الشاب أنه لم يعد مهتمّاً بهوايات كان ملازماً لها، كالإقلاع عن الرياضة أو قراءة القرآن أو ارتياد المسجد أو غير ذلك من الهوايات السابقة.
2- الشعور بالاضطراب والقلق عند الابتعاد عن الإنترنت: قد تتعطّل هذه الشبكة فإذا كان الشاب معتاداً أن يتحدّث إلى "أصدقائه" وتوقفت الشبكة لفترة معينة أو أن أصدقاءه لا يستطيعون الدخول، سيفقد تركيزه ويبقى قلقًا إلى أن يعود الوضع كما كان عليه. وهنا يكمن الخطر, لأنّ الشابّ ربما يبقى ساعات على هذه الحال وقد يكون عليه الكثير من المهمّات التي يجب أن يقوم بها ولكنه بسبب تعطّل الخدمة لا يستطيع أن يهدأ وبالتالي يضيع الوقت هباء منثوراً بدلاً من استغلاله.
3- ضعف مهارات التواصل: مع تزايد استخدام الشبكات الاجتماعية قلّت الحاجة للتعامل مع الناس على أرض الواقع، وهذا قد يُفقد المستخدمين الكثير من مهارات التواصل مع المجتمع ومع الناس من حولهم.
136
120
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
ومن هنا ضرورة التوازن في استخدام الإنترنت، فلا تظنّ بأنك عندما تصاب بـ (داء الإنترنت) ستتمكّن من الاندماج مع الناس، ولا تظنّ بأنك عندما تدمن تقليب صفحات الشبكة ستنظر إلى الحياة بطريقة أجمل.. فالغالب أنك ستصاب بالعزلة المزمنة والنظر إلى الحياة والمجتمع بحساسية مفرطة تقلّل من حٍلمك وسعة صدرك، ومع مرور الوقت ستصبح إنساناً غير صالح للعيش في واقعك الطبيعي.
4- التحريض على الآخرين والشجار: ربما يعارضك شخص ما من الناحية الأيدولوجية أو السياسية أو الاقتصادية وغيرها. من الممكن أن يؤدّي هذا التحريض والشجار إلى خلافات ونزاعات بين الأشخاص على أرض الواقع. وربما يتّسع النطاق ويصبح على صعيد عائلات، وقد يؤدي إلى تهديد وقتل.
5- انتشار الفساد وزرع القيم الفاسدة: كما أننا نستطيع أن نستغلّ الشبكات الاجتماعية في الدعوة إلى الحق وهداية الناس, كذلك هنالك أناس يريدون
137
121
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
نشر القيم الفاسدة والأفكارالخاطئة وغيرها...
فلذلك يجب أن نربي أبناءنا على القيم النبيلة وتحصينهم فكريّاً وروحيّاً وسياسيّاً ودينيّاً.
6- هدر الوقت: في هذه الأيام يقضي معظم الأبناء جُلّ وقتهم على شبكات التواصل الاجتماعي بدون أي فائدة وبالتالي هذا الوقت المهدور يحلّ مكان المهمّات التي يجب عليهم تنفيذها واجبات مدرسية, واجبات جامعية, طاعة الوالدين, واجبات تتبع للعمل وغيرها.
إذا كان استخدامك لشبكات التواصل الاجتماعي ينسيك الذهاب لأخذ أطفالك من المدرسة، أو يعرّضك لنسيان بعض المواعيد فإنّ ذلك يؤثّر سلباّ في حياتك. لهذا لا بدّ لك من مصارحة نفسك (هل استخدامك لشبكات التواصل الاجتماعي "غير الواقعي" يؤثر في تذكرك للالتزامات العائلية أو العملية)؟
7- مشاكل عائلية: من التأثيرات السلبية للإنترنت في الشباب التأثير الأخلاقي. فبالإضافة إلى إمكانية ربط علاقات محرّمة
138
122
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
بين الفتيان والفتيات عبر الحوارات المباشرة وبالصوت والصورة وتبادل أرقام الهواتف وتحديد المواعد، بعض الأمهات أو الآباء في هذه الأيام أصبح لديهم حساب على شبكات التواصل الاجتماعي، وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى محادثات لا ضرورة لها، وقد يتطوّر لأمور تهدّد الحياة الزوجية.
وهذا قد يؤدي الى مشاكل بين الزوجين، وبالتالي قد يفقد بعض الأطفال مستقبلهم بسبب انفصال ذويهم أو خلافهم وشجارهم.
ملاحظة مهمة: يجب أن نذكر أنه بما أنّ هذه البرامج تنقل البيانات عبر الإنترنت, وبمجرد أنها تنتقل عبر الإنترنت فهذه البيانات يمكن قراءتها ومعرفة الرسائل والتجسّس عليها من قبل الهاكرز وشبكات الاتصال وأجهزة الأمن وغيرها بسهولة جدّاً ولا يخفى ما في ذلك من تجاوزات شرعية وسقوط في المحرّمات وتسهيل عملية التحلّل الأخلاقي...
قبل مواقع التواصل الإجتماعب والإنترنت كان الطفل يكتسب قِيَمه منَ الأسرة، ثمّ المدرسة، ثمّ المجتمع، الآن
139
123
المحاضرة الثالثة: مخاطر شبكات التواصل الاجتماعيّ
ظهرت بدائل لهذه المؤسّسات الاجتماعية، بل أكثر من ذلك، تراجع دورها بدرجة كبيرة، وحلَّ محلَّها أجهزة التكنولوجيا في تربية أولادنا فلذات أكبادنا. فتربيتهم وثقافتهم يتلقونها من التلفزيون وقنواته الفضائية، والإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعية من فيسبوك وتويتر واليوتيوب. وقد تلاحظ النسب المرتفعة للأفراد، سواء أطفال أو كبار، مشاهدتهم للتلفزيون لساعات طويلة يوميّاً.
140
124
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
تصدير الموضوع:
"...المئات من الصفحات الأصلية والفرعية على شبكات الانترنت تستهدف بالأساس الأفكار الإسلامية، وهي توحي للشباب بوجود طرق مسدودة وأزمات ووضع حالك وهذا أحد خطوط العدو"1.
الهدف:
بيان بعض الآثار السلبية وبعض الإرشادات التربوية للأهل في تنظيم عملية استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ.
1- الإمام الخامنئي دام ظله.
141
125
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
المقدَّمة
لا ينكر أحد في عالمنا الحالي أهمية وجود شبكات التواصل الاجتماعيّ التي أصبحت تقرِّب بين القاصي والداني وتجعلنا نشاهد أشخاصاً في بلاد بعيدة عنّا، بالصوت والصورة بالإضافة إلى تتبع جميع الأخبار التي تدور من حولنا حيث أصبحت المعلومة تصل إلى الشخص من خلال هاتفه المحمول أسرع من قراءته لها بالصحف أو مشاهدته لها عبر التلفاز. ولم تعد تلك الهواتف مقصورة على أعمار معينة، فالطفل الصغير الآن يحمل هاتفاً محمولاً موصَّلاً بالإنترنت، ومن خلاله يتمكّن من الوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعيّ، فهل ذلك الأمر إيجابي أم سلبي؟ وكيف يمكن لنا أنّ نحمي أطفالنا من الشبكات الاجتماعية؟
محاور الموضوع
التأثير في الجانب النفسي
بالنسبة إلى الكثير من الذين يعانون من مشاكل نفسية ـ ليس بالضرورة مرَضية ـ تعوقهم عن التعبير بالكلام والمواجهة
142
126
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
اللفظية، وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة مثالية وسهلة للتعبير عن آرائهم بحرية حيث وجدوا ضالّتهم بالكتابة لإيصال وجهات نظرهم بطلاقة، وليس بالضرورة أن تكون وجهات نظر منطقية أو مقبولة اجتماعيّاً، فهذه المواقع وفّرت إمكانية التنفيس عن المشاعر المكبوتة بصرف النظر عن ماهيتها، ولكن من جهة ثانية أدى اللجوء إلى هذه الوسائل ـ خصوصاً بإفراط ـ إلى الانعزالية والتوقّف عن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والرياضية والتلاقي مع أفراد الأسرة، خاصة مع توافر هذه المواقع الآن في أجهزة الهواتف المحمولة، إلى درجة أنه أصبحت هناك حالة من الإدمان، ويمكن القول إنّ من يتابع هذه المواقع لأكثر من 5 ساعات يوميّاً متواصلة فهو مدمن.
ومن الآثار السلبية لذلك أنّ التواصل الجسديّ يقلّ كما يقلّ التعبير عبر حركة الجسد والوجه وهنا يفقد الشخص قدرته لاحقاً على قراءة تعابير وجه الذين يتواصل معهم.
التأثير في القدرات الذهنية:
تتلامس مشكلة إدمان بعض الأبناء للتعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي مع صلب اهتمامات العاملين في مجال
143
127
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
التربية والتعليم. كيف لا وشغلهم الشاغل هو بناء النشء وصقل شخصيته وحمايته من كل ما يضره.
إنّ الأطفال باتوا مدمنين على استعمال الأجهزة الذكية واقتنائها في مختلف المراحل العمرية بصورة تفوق الخيال، وقد أصبحت هذه الأجهزة تسيطر عليهم بشكل خطير جدّاً أبعدهم عن استخدام قدراتهم الذهنية من حيث الذاكرة أو محاولة التفكير في أغلب الأمور التي تواجههم، كما أفقدهم قدراتهم البدنية.
ويجب على الآباء والأمهات الالتفات إلى تلك الظاهرة الخطيرة والعمل على إرجاع هوايات القراءة وتعلم اللغات المختلفة والخروج للتنزه في الأماكن العامّة والحدّ من التعرّض المفرط لوسائل التكنولوجيا الحديثة، مؤكدين أنّ للأجهزة التكنولوجية واستعمالاتها تأثيرات سلبية منها التأثير السلبيّ في الذاكرة وخمول وظائف الدماغ.
العزلة وقلّة التواصل مع الناس:
فضلاً عمّا تتطرّق إليه الدراسات الطبية عن تسببها في أمراض خطيرة كالسرطان والإجهاد العصبي ومرض باركنسون (مرض الرعاش).
144
128
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
وفي حال اكتشاف الآباء برامج غير أخلاقية على أجهزة أبنائهم اللوحية أو هواتفهم الذكية يجب استشارة المختصّين في كيفية العقاب أو التعامل معهم لأنّ لكل طفل شخصية مختلفة ولكل شخصية أسلوب تعامل معيّن قد يعلمه الوالدان، لكن إذا كانا لا يعلمان كيف يتعاملان مع شخصية الابن فيجب التوجّه إلى المختصّين بعلم التربية.
تأثير في الصحة
إنّ عدداً من الدراسات أكّد أنّ للأجهزة تأثيراً في صحة الأطفال كأمراض التشنُّج في عضلات العنق والسمنة والعزلة والكسل والخمول الجسدي والفكري فضلاً عن مشاكل في العين، كما أنّ معظم الألعاب المستخدمة من قبل الأطفال والمراهقين لها آثار سلبية جدّاً. أما الآثار السلوكية فتكمن في الميول إلى العنف والعدوان وتقمّصهم لشخصيات الألعاب التي في أغلبها شخصيات سيّئة كسارق أو قاتل.
إنّ دخول هذا النوع من الأجهزة إلى الأسرة تَسبَّب في ترسيخ مفاهيم الانطواء والعزلة بصورة مفرطة بحيث أصبح لكلّ فرد جهاز خاصّ به، ومن جهة أخرى فإن لهذه الأجهزة
145
129
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
آثاراً سلبية على معدّل التركيز الذهني والتغيّرات السلوكية والجهاز البصري وزيادة الضغط العصبي.
نصائح وإرشادات للأهل
لا يخفى أن دور الأهل في التخفيف من سلبيات التواصل الاجتماعي والحدّ من آثاره الخطرة دور بارز وأساسيّ، بل لعلّه اليوم أولى من أي دور آخر لأنّ التواصل الخاطئ غالباً ما يتمّ بين جدران المنزل.
وقد ألمحت بعض الدراسات الى مجموعة من الإرشادات التي تقوم بدورٍ في تصحيح استخدام شبكات التواصل الاجتماعي عند الأطفال والناشئة والمراهقين والشباب:
- أهمية أن يقوم الوالدان بتنظيم وقت أبنائهم في استعمال هذه الأجهزة والتحكّم في نوعية البرامج أو الألعاب التي يتفاعلون معها وعدم ترك الحبل على الغارب لهم بهذا الشأن.
- التوعية وتنمية الوازع الديني تساعدان في بناء سور واق للأبناء من مشكلات العصر من خلال تفعيل الأنشطة الدينية وللقاءات الهادفة والمطالعات الجاذبة
146
130
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
وزيارات الأشخاص المؤثرين في هذا المضمار.
- الرقابة وتبيان المضارّ أفضل طرق حماية الأطفال من شبكات التواصل الاجتماعي: لا بدّ من المراقبة الشديدة للمراهقين والأطفال مع ضرورة التوعية. كما يمكن للوالدين أن يستخدما الطريقة غير المباشرة مثل أن تقول الأم لابنها "هل يمكن أن تعلّمني بعض الأشياء في حسابي ـ أضفني لأتعلم منك" وهذا التواصل عن طريق النت نوع من خلق جوّ الصداقة بين الوالدين والأبناء ممّا يزيد من حمايتهم.
- توجيه الأبناء وتقديم النصيحة وتقبّل الأبناء لها من خلال التقارب العاطفي في الأسرة الذي يساهم في تقبّل التوجيه والنصيحة، ثم تحذيرهم من جميع الأخطار المحيطة بهم وتبصيرهم بما تحويه المواقع من ممارسات منافية للدين والأخلاق.
- تقنين استخدام التكنولوجيا وصدّ الأطفال عن التركيز عليها بإشغالهم في متابعة القراءة والنوادي الرياضية
147
131
المحاضرة الرابعة: التأثيرات السلبية لشبكات التواصل الاجتماعيّ
والأماكن الترفيهية، مع ضرورة تنمية الهوايات، لأنّ أغلب الأطفال اليوم في غفلة عن مواهبهم، ويؤدي ذلك أيضاً إلى التأخّر لغويّاً، ولا يوجد تفاعل اجتماعي كما كان في السابق. كما يمكن تجمّع أصحاب السنّ الواحدة للتحدث مع الزملاء للتناقش الحضاري في موضوع معين وقراءة كتب أو قصص مفيدة... الخ.
- عدم استخدام هذه الشبكات من قبل الأهل أمام أبنائهم, لأنّ الأهل والحال هذه سيقضون على إمكانية أيّ إرشاد لأبنائهم، وحتى في ساعات الضرورة فمن المهمّ أن تتمّ عملية استخدام هذه الشبكات بعيداً عن أنظار الأبناء.
148
132
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
تصدير الموضوع:
".. شيطان اليوم يسارع نحوكم من خلال الانترنت والفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، ولديه كلام معاصر فيختلق الشبهات، ويحدث الخلل في العقائد، ويشوش الأذهان، ويزرع الخلافات، فماذا تفعلون أنتم مقابل هذه الأساليب"؟
الهدف:
تعليم الأهل ومستخدمي شبكات التواصل بعض التعليمات التي تساعدهم في استخدام الإنترنت بطريقة إيجابية.
149
133
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
المقدَّمة
كما أنّ لشبكة الإنترنت إيجابيات كثيرة جدّاً، فإنّ لها سلبيات خطيرة جدّاً أيضاً، وعلاقة الشباب بالانترنت لا تخلو من إيجابيات، لكنّ سلبياتها عليه أكثر، فقد أكّدت دراسة أنّ تسعين في المئة من المستخدمين العرب للأنترنت يقتصرون على التسلية والترفيه، مع العلم أنّ أغلب مستعملي الإنترنت من العرب خاصّة شباب.
إنّ هذه التأثيرات وغيرها تفرض علينا إعادة النظر في تربية وتأهيل الشباب للتعامل الإيجابي مع شبكة الأنترنت. إنّ الوقوف على حقيقة علاقة الشباب بالأنترنت يفرض دراسة ميدانية اجتماعية لتحديد مكامن القوّة والضعف في مؤهّلات الشباب وقدرتهم على الاستفادة السليمة من الأنترنت، وإنّ الأجابة عن هذه الأسئلة الآتية التي وضعها بعض المهتمّين قد تساعدنا في معالجة الوضع: كيف يستعمل شبابنا الأنترنت؟ هل يستفيد من الأنترنت في التحصيل العلمي والمعرفي؟ هل تطوَّر الأداء الدراسي سلباً أم إم إيجاباً بعد تعامله مع
150
134
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
الأنترنت؟ هل تقوم الأسر بدورها في توجيه أبنائها لاستعمال الأنترنت في الاتجاه السليم؟ هل قامت المدرسة والجامعة بدورهما في تسخير الأنترنت لخدمة المنهج الدراسي؟ هل أنتجنا نحن إنتاجات إعلامية كافية للتفاعل من الأنترنت على المستوى الدولي والمشاركة في الأنتاج العلمي والمعرفي على الشبكة؟ علماً بأنّ المواقع العربية والإسلامية واللغة العربية لا يتعدّيان واحداً في المئة ممّا هو معروض على الإنترنت.
محاور الموضوع
الإرشادات الوقائية: والمراد هنا بعض الإجراءات التي من المفيد لفت نظر مستخدمي شبكات التواصل والإنترنت بشكلٍ عامّ كمقدَّمة للدخول في تفاصيل العلاج والذي مثله كمثل أي دواء، ما لم يستخدمه بالشكل الصحيح فإنه لا يمكنه أن ينتظر الشفاء من المرض.
151
135
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
ومن أهمّ هذه التوصيات الوقائية:
أ- تحديد أوقات معيّنة لاستخدام الأنترنت لا يمكن تجاوزها بأيّ صورة.
ب- منع استخدام الأنترنت في الغرف المغلقة والاهتمام بإمكانية مشاهدة ما يدخل عليه الطفل أو المراهق على الأنترنت بصفة مستمرّة.
ج- تنويع الأنشطة التي يمارسها الأطفال والمراهقون داخل وخارج المنزل.
د- الحرص على قضاء وقت عائلي ممتع، والعمل على حلّ المشكلات العاطفية والتواصلية التي قد تنشأ في البيت أو خارجه، من خلال التعبير عن المشاعر والصراعات واحترامها ومواجهتها، حتى لا يصبح الأنترنت وغيره من السلوكيات الإدمانية وسبيلاً للهرب من المشكلات.
هـ- جعل الأسرة مكاناً خالياً من الإساءات بأنواعها المختلفة حيث إنّ الإساءات والجروح والتربية غير
152
136
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
السليمة تؤدّي إلى مشكلات في الشخصية التي ربما تؤدي إلى الإدمان فيما بعد.
الإرشادات العلاجية
قبل الدخول في العلاج الذي يبحث عنه الجميع اليوم يجب أن يوقن المدمن على شبكات التواصل الاجتماعي أنة مريض ويحتاج إلى علاج ويسعى إلى الشفاء من إدمان الأنترنت، إذ لا يمكن للمرء أن يقلع عن أمر إلا بعد يقينه بالخطر المحدق به من جرّاء هذا الأمر.
1- إجراء تعديلات على استخدام الأنترنت: فإذا اعتاد المريض استخدام الإنترنت طيلة أيام الأسبوع نطلب منه الانتظار حتى يستخدمه في يوم الإجازة الأسبوعية، وإذا كان يفتح البريد الإلكتروني أول شيء حين يستيقظ من النوم نطلب منه أن ينتظر حتى يفطر، ويشاهد أخبار الصباح، وإذا كان المريض يستخدم الكمبيوتر في حجرة النوم نطلب منه أن يضعه في حجرة المعيشة… وهكذا، فإن هذا السلوك الجديد يضع حدّاً للانجراف اللاإرادي
153
137
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
ويضعه أمام سكّة التحكم والسيطرة على نفسه عند استخدام الإنترنت.
2- إيجاد موانع خارجية: نطلب من المريض ضبط منبّه قبل بداية دخوله الإنترنت بحيث ينوي الدخول على الإنترنت ساعة واحدة بعد انتهائه من دراسته إن كان تلميذاً، أو قبل نزوله للعمل مثلاً إن كان موظفاً، حتى لا يندمج في الإنترنت بحيث يتناسى دراسته أو موعد نزوله للعمل.
3- تنظيم وتحديد وقت الاستخدام: وهذا الأمر يساعد في تنظيم الحياة واستقرارها عند المولعين باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي حيث يُطلب من المريض تقليل وتنظيم ساعات استخدامه بحيث إذا كان - مثلاً - يدخل على الإنترنت لمدة 40 ساعة أسبوعيًّا نطلب منه التقليل إلى 20 ساعة أسبوعيًّا، وتنظيم تلك الساعات بتوزيعها على أيام الأسبوع في ساعات محدّدة من اليوم بحيث لا يتعدّى الجدول المحدّد.
154
138
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
4- الامتناع التامّ: إنّ إدمان بعض المرضى يتعلّق بمجال محدّد من مجالات استخدام الإنترنت. فإذا كان المريض مدمناً لحجرات الحوارات الحية (الدردشة) نطلب منه الامتناع عن تلك الوسيلة امتناعًا تامًّا في حين نترك له حرية استخدام الوسائل الأخرى الموجودة على الإنترنت.
5- إيجاد بدائل وأنشطة بديلة: نطلب من المريض أن يفكر في الأنشطة التي كان يقوم بها قبل إدمانه للإنترنت, ليعرف ماذا خسر بإدمانه مثل: قراءة القرآن، والرياضة، وقضاء الوقت في النادي أو مع الأسرة، والقيام بزيارات اجتماعية وهكذا.. نطلب من المريض أن يعاود ممارسة تلك الأنشطة لعلّه يتذكر طعم الحياة الحقيقية وحلاوتها.
6- عدم الاستغراق: فى بعض الأحيان يحدّد الفرد وقتًا للجلوس على الأنترنت و لكن لا يستطيع الالتزام به نتيجة عدم شعوره بالوقت في استخدام الأنترنت ولا يعرف أنّ الوقت المحدد قد مرّ، فأنصحه باستخدام منبه مثلاً وضبطه على الوقت المحدّد، حتى إذا دقّ الجرس أغلق الكمبيوتر حتى يتغلّب على الإدمان.
155
139
المحاضرة الخامسة: شبكات التواصل: الإرشادات الوقائية والعلاجية
7- الانضمام إلى مجموعات اجتماعية: وذلك بهدف تفعيل الحياة الاجتماعية التي بدأ يخسرها بل ويفشل فيها حيث يمكن الطلب من المريض زيادة رقعة حياته الاجتماعية الحقيقية بالانضمام إلى فريق الكرة بالنادي مثلاً، أو الالتزام ببعض المهارات الإضافية كالذهاب إلى درس لتعليم الخياطة للفتيات مثلاً، أو الذهاب إلى دروس المسجد, ليكوّن حوله مجموعة من الأصدقاء الحقيقيين.
8- المعالجة الأسرية: والمراد إيجاد البيئة الأسرية السليمة والمعالجة, لأنّ المرض قد يكون منتشراً بحيث تحتاج الأسرة بأكملها إلى تلقّي العلاج الأسري بسبب المشاكل الأسرية التي يحدثها إدمان الإنترنت بحيث يساعد جوّ الأسرة على استعادة النقاش والحوار فيما بينها، ولتقتنع الأسرة بمدى أهميتها في إعانة المريض, ليقلع عن إدمانه.
156
140
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (1)
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾1.
الهدف:
التعريف ببعض الصفات التي وردت في القرآن الكريم في أهل العمل الصالح والمصلحين.
1- مريم: 76.
159
141
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (1)
المقدَّمة
ورد في القرآن الكريم في المصلحين صفات متعددة زيادةً على صفات أهل العمل الصالح، ذلك أنّهم لم يكتفوا بالعمل الصالح لأنفسهم فحسب وإنما توجّهوا لإصلاح المجتمع، بالكلمة والعمل، ويتطلّب منهم ذلك أن يكونوا في موضع القدوة والريادة، ومن السبّاقين إلى الخيرات والباقيات الصالحات.
فإنّ هذه الصفات يجب أن تتوكّد وتتحقّق في الإنسان المُصلح حتى يكون صادقاً في دعوته، مُحقّاً في قضيّته، فيؤمن به الناس ويتبعوه.. وإلا كان من الذين يقولون ما لا يفعلون، وقد نهى الله عن هذه الخصلة المقيتة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون﴾1.
محاور الموضوع
ولأهل العمل الصالح والذين يعملون الصالحات شرائط وصفات، نجدها مبثوثة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، نذكر من أهمّها:
1- الصف: 1-2.
160
142
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (1)
1- شرائط ذاتية، منها:
- الإيمان: قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾1.
- التوبة: قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾2.
- طلب رضا الله تعالى: قال تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾3.
- الإخلاص له وعدم الشِّرك به: قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾4.
- الصبر والإستقامة في العمل: قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾5.
1- النساء: 124.
2- مريم: 60.
3- النمل: 19.
4- الكهف: 110.
5- طه: 82.
161
143
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (1)
2- شرائط عملية، أهمها:
- أكل الحلال وتجنّب الحرام: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾1.
- ردّ المظالم وحقوق الناس إلى أهلها: قال تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
- الإلتزام بالعبادات: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾3.
- التصدُّق: قال تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾4.
3- شرائط وضعيّة تتعلّق بكيفيّة أداء العمل وظروفه، ومنها:
- العمل بالتكليف وفي حدود القدرة والإستطاعة: قال
1- المؤمنون: 51.
2- المائدة: 39.
3- البقرة: 277.
4- التوبة: 75.
162
144
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (1)
تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾1.
- استخدام الكلمة الطيِّبة: قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾2.
- القول السديد: قال تعالى: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾3.
- الدعوة إلى الله: قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾4.
- التواصي بالحقّ والصبر: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾5.
1- الأعراف: 42.
2- فاطر: 10.
3- الجاثية: 21.
4- فصلت: 33.
5- العصر: 2 - 3.
163
145
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (1)
- الإفتراق عن سبيل المُفسدين والفُجّار: قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾1.
- الإبتعاد عن كل سوء ومُسيء: قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾2.
1- ص: 28.
2- غافر: 58.
164
146
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
تصدير الموضوع:
﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾1.
الهدف:
التعريف ببعض الخصال والمراقبات الشخصية لأهل الصلاح من خلال القرآن الكريم.
1- الأحقاف: 15.
165
147
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
المقدَّمة
من الموضوعات التي عالجها القرآن الكريم في المجتمع أنه دفع بعض الناس لمعالجة كافة الموضوعات التي قد تهدد المجتمع من الناحية السلوكية والاجتماعية، وأشار إلى ضرورة متابعة أهل الصلاح لكافة هذه المشاكل، ورَسَم أهداف اجتماعية سامية ينبغي أن يرقى المجتمع لتحقيقها والوصول إليها، كما حدد لهذا المجتمع غايات على المستوى الفردي وعلى المستوى العام، وحثَّ الناس على العمل عليها وانجازها محذِّراً من دخول عالم الاصلاح إلا من كان جديراً بهذا المقام الذي اختص الله به أنبياءه وأولياءه وأهل الإيمان والعمل الصالح، ومعتبراً أن ذلك من المسؤوليات الشرعية الخطيرة التي يجب التنبه إليها قبل استفحالها بين أفراد الناس فيصبح من الصعب تلافيها كما هو الحال في الكثير من المجتمعات التي لا تولي أهمية لعملية الاصلاح وسد كل الثغرات التي قد يتسلل الفساد منها.
166
148
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
محاور الموضوع
من خلال الإهتداء بآيات القرآن الكريم، نذكر بعض الشرائط المطلوبة في المُصلحين وحاملي راية الإصلاح وهي:
1- الاهتمامُ الدائم بإصلاح الذات والأهل والأولاد، وفي القرآن آيات كثيرة تُذكِّر بذلك، منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾1، من الموضوعات التي عالجها القرآن الكريم في المجتمع أن دفع بعض الناس لمعالجة كافة الموضوعات التي قد تهدد المجتمع من الناحية السلوكية والاجتماعية، وأشار إلى ضرورة متابعة أهل الصلاح لكافة هذه المشاكل ورسم أهداف اجتماعية سامية ينبغي أن يرقى المجتمع لتحقيقها والوصول إليها، كما حدد لهذا المجتمع غايات على المستوى الفردي وعلى المستوى العام وحث الناس على العمل عليها وانجازها محذراً من دخول عالم الاصلاح إلا من كان جديراً بهذا المقام الذي اختص به أنبياءه
1- التحريم: 6.
167
149
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
وأولياءه وأهل الإيمان والعمل الصالح، ومعتبراً أن ذلك من المسؤوليات الشرعية الخطيرة التي يجب التنبه إليها قبل استفحالها بين أفراد الناس فيصبح من الصعب تلافيها كما هو الحال في الكثير من المجتمعات التي لا تولي أهمية لعملية الاصلاح وسد كل الثغرات التي قد يتسلل الفساد منها، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1. وجلّ آيات القرآن، بل كلُّها جاءت لتذكير الإنسان ووعظه لكي يكون صالحاً، يعمل الصالحات، ويدعو إليها.
2- إرادةُ الصُّلح والصلاح للمجتمع وللأفراد: فإنّ المُصلح ينطلق في عمله، من باب الحبّ والحرص على سلامة الآخرين وصلاح المجتمع وصفائه ونشر المودّة والمحبّة والإلفَةِ والأخوّة بين أفراد المجتمع، لا بدافع الخصومة وإثارة الفتنة، أو نشر الحقد والبغضاء، وتدلُّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾2.
1- البقرة: 224.
2- هود: 88.
168
150
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾1.
3- طِيبُ النفس وإنشراحُ الصدر وحُسنُ الخُلق: فإنّ ذلك لازم للمُصلح، إذ لابدّ أن تكون نفسه سمحةً منفتحةً، بعيدةً عن الغلِّ والبُخلِ، متوشِّحةً بالعفوِ ومكارمِ الأخلاق، لكي تنفتحَ له قلوبُ الناسِ فيؤثِّر فيهم.
يقول تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾2.
ويقول تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾3.
4- العملُ على إصلاح ذات البين: بِفَضِّ النزاعات وإزالة النفرات والخلافات، وإرساء الأخوّة والمودّة كهدف دائم يسعى له المُصلحون، على طول الخطّ، من مستوى الأسرة، وحلّ الخلافات الزوجية، فالإصلاح بين المتنازعين، من الجماعات والكتل والطوائف والقبائل المسلمة، حتى
1- النساء: 129.
2- الشورى: 40.
3- النساء: 128.
169
151
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
الإصلاح بين المؤمنين، فالإصلاح بين عموم الناس وسائر أفراد المجتمع.
وفي ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾1. وقوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾2. وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾3، وغيرها من الآيات: (النساء: 128) و(النساء: 114).
5- إقامةُ القسط وإحقاق الحقّ: فإنّه هدف لكلِّ إصلاح وشرط في كلّ صلاح، بل هو الهدف الأساس من إقامة الشرائع الإلهية، بل إنّه الهدف المعلن لسائر الدساتير والقوانين الوضعيّة، قال تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾4.
نعم، في مواقع معيّنة للطرف الذي له الحقّ أن يعفو ويصفح عن المُسيء - عند المقدرة - لغرض دفع الفتنة وإرساء الصُّلح وزيادة في الفضل، وله من الله الأجر والعوض.. رغم
1- الأنفال: 1.
2- الحجرات: 9.
3- الحجرات: 10.
4- الحجرات: 9.
170
152
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
أنّ الله تعالى لا يُحبّ ظلم مَن ظلم وعليه الإستغفار والإعتذار وإزالة آثار الظلم.
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾1. ولكن إذا كان العفو يدفع المُسيء إلى زيادة عدوانه، فلا عفو، بل يُحاسَب لكي يرتدع عن فعله.
وكذلك في النزاعات العائلية، فإنّه يتطلّب الصُّلح أحياناً أن تتنازل الزوجة عن بعض حقوقها، حفاظاً على أسرتها وزوجها.. وحتى يرجع الزوج ويستفيق من غفوته ويعاملها بالمعروف، يقول تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾2.
1- الشورى: 39-41.
2- النساء: 128-129.
171
153
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
6- الإهتمامُ ببيان الحقائق وتعريف الناس بواجباتهم وحقوقهم: لأنّ "الناس أعداء ما جهلوا"، وفي القرآن آيات كثيرة تشير إلى جهل أكثر الناس بالحقائق الإلهيّة، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾1.
ويدفعهم ذلك إلى نكران الحقّ ومعارضته: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾2، بل تكذيب حامليه: ﴿قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾3.
وكان الهدف من الوحي بيان الحقّ للناس، قال تعالى واصفاً القرآن: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾4.
وكذلك جاء الرسول الكريم مُوضِّحاً وشارحاً ومُبيِّناً لآيات الله وما نزل معه من الوحي، كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾5.
1- الأعراف: 187.
2- الأنبياء: 24.
3- النحل: 101.
4- آل عمران: 138.
5- النحل: 44.
172
154
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
وهكذا يكون الإصلاح، إمتداداً لعمل المُصلحين الأوائل، في بيان الحقائق للناس وإزالة الغموض والإبهام عمّا التبَسَ عليهم وإراءتهم الطريق الصحيح، كما فعل المُصلح شعيب مع قومه، حين بَيَّن خطأ فعلهم وأرشدهم إلى ما يصلح حالهم، وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.
وفي آية من القرآن، نقرأ إشتراط بيان الحقائق على مَن كتمها كشرط لقبول توبته ودليل على إصلاحه، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾1، لأنّ في كتمان الحقائق إضاعة للحقيقة وإضلالاً للناس وفي بيانها هداية وإرشاداً لهم.. قد يُصحِّحُ ما صدر عن الإنسان من خطأ سابق، فيكفّر عنه وتشمله الرَّحمة الإلهيّة.
7- تجنُّبُ سُبُل المفسدين وأساليب عملهم الفاسدة: للمفسدين أساليب ووسائل عمل غير مشروعة، قائمة على الكذب والخداع وإثارة الفتنة وإلقاء الشبهات، والمكر
1- البقرة: 159 – 160.
173
155
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
والحيلة والغدر، وإستغفال الناس، والإنحراف بأنظارهم عن رؤية الحق.. هذه الأساليب قد تختلف بين الماضي والحاضر من حيث التطوّر والإمكانات الهائلة التي تمتلكها الدول والحكومات ووسائل الإعلام وشركات الدعاية، ولكنّها تمارس نفس الأدوار في تشويه الحقّ وتزويق الباطل لكي تجعل من الضحية جلّاداً ومن الظالم مظلوماً.
والإسلام، يُجيزُ إستخدام وسائل الإعلام والدعاية المحايدة لإراءة الحقّ وشف الباطل وبيان الحقائق، ولكن لا يُجيز إستخدام الكذب والخداع والمكر والحيلة والباطل، تحت أي عنوان، فالمبدأ في الإسلام هو: "لا يُطاع الله من حيث يُعصى".
لذا كان من شرائط المُصلحين التي عرضها القرآن تجنُّبُ سُبُل المُفسدين.. قال تعالى في بيان وصيّة النبيّ المصلح موسى لأخيه هارون عليهما السلام: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾1.
1- الأعراف: 142.
174
156
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
وفي موقع آخر، يُحدِّد موسى موقفه من السِّحر، وهو خداع البصر، الذي كان شائعاً ورائجاً أيّامه، وله أثر كبير في توجيه الرأي العامّ ومواقف الناس، يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾1.
فالله تعالى لا يكتب لهذه الأساليب الفاسدة النجاح والصلاح، حتى لو كان لها تأثيرٌ مؤقّتٌ على الناس، فيجب على المُصلحين تجنّبها وتجنّب سبيل المفسدين.
8- محاربةُ الفساد والتصدِّي للفاسدين: الصلاح والفساد متقابلان ومتضادّان، ولا يمكن أن يحلّ الإصلاح بلا إزاحة الفساد ومواجهته، وإلا لانتشر الفساد وجاء على البقية الباقية من جوانب المجتمع ليُخرِّبها ويُحرقها حتى يأتي على البلد كلّه فيُدمِّره ويُهلكه، يقول تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ
1- يونس: 80-81.
175
157
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾1.
وتحتاج مواجهة الفساد إلى المصلحين ومؤازرة الناس بعضهم البعض في مواجهة الفاسدين ليكونوا جبهة قويّة لا تنثني أمام تيّار الفساد والكفر والنفاق، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾2.
ومن الطبيعي أنّ الفاسدين لن يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سيقاومون دفاعاً عن منافعهم ومكاسبهم غير المشروعة، وقد يحاولون الإضرار بالمُصلحين، والذين سيقاومونهم بكلّ شرف وصلابة ويُقدِّمون التضحيات في هذا السبيل، كما هو
1- هود: 116-117.
2- الأنفال: 72 – 73.
176
158
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
حال المُصلحين الكبار من الأنبياء والمرسلين ومَن سار على خطاهم، والذين كانت في قصصهم وسيرتهم عبرة للمعتبرين، ويتطلّب ذلك الصبر وتحمّل الأذى في سبيل الله والمجتمع.
قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾1.
وقال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾2.
9- التمسُّك بالكتاب: ومنهاج المُصلحين في الإسلام ودستور عملهم هو القرآن، ففيه ما يحتاج إليه المسلم في طريق تكامله نحو الله، وفيه تبيان كلّ شيء ممّا هو متعلّق بأمر دينه وسبيل هدايته ومن أجل إصلاح المجتمع وتغييره. فالمُصلح يسعى لكي يُنوِّر بالقرآن مجالس الإصلاح، فيُباركها ويُضيءَ بيوتَ الناس فيسعدها، ويهدي المجتمع فَيَصلُحَ به ويُفلح.
1- الأحقاف: 35.
2- النساء: 75.
177
159
سيماء المصلحين في القرآن الكريم (2)
ولذا لابدّ للمُصلح أن لا يكتفي بقراءة القرآن وتلاوته حقّ تلاوته فقط، بل عليه أن يتمسّك ويعتصم به في سَيرِ حياته وخطوات إصلاحه، لذا يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾1.
1- الأعراف: 170.
178
160
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾1.
الهدف:
بيان أن الإسلام يحثّ المسلم على تقديم الصورة الفُضْلَى في سلوكه.
1- النحل 125.
179
161
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
المقدَّمة
المتأمّل في آيات الله يرى أنّ القرآن الكريم لم يكتفِ من المسلم بتقديم الصورة الحُسْنَى في أدائه وسلوكه وتصرّفاته وأخلاقه، بل أكّد على ضرورة تقديم الأحسن والأفضل دائماً، سيّما في حالات التعامل والتواصل مع الآخرين ليكون بذلك قدوةً لغيره من جهة، وليبقى المسلم في حالة تهذيب وتطوير وتَرَقٍّ مع نفسه، وقد أكّدت الكثير من الآيات على أنّ الله تعالى قدّم للإنسان الأحسن في كلّ ما أفاضه عليه.
محاور الموضوع
الأحسن صفة القرآن الكريم
يقدّم الله تعالى القرآن الكريم على أنه أفضل السبل إلى الله وأحسنها والسبيل الأقوم لهداية الخلق إلى التوحيد والعبادة .
قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾1.
1- البقرة 138.
180
162
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾1.
قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾2.
قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾3.
الأحسن في أفعال الله
ويصف الله تعالى أفعاله في الخلق والتدبير والجزاء بأنها أحسن الأفعال لتشكّل حافزاً للإنسان لتقديم الفعل الأحسن في حياته.
1- خلقه للإنسان: قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾4.
1- يوسف: 3.
2- الزمر: 23.
3- الفرقان: 33.
4- التين: 4
181
163
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
قال تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾1.
2- خلقه لبقية الكائنات: قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾2.
3- الجزاء الإلهي يوم القيامة: قال تعالى: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾3.
قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾4.
دعوة الإنسان إلى أداء الأحسن
ويحثّ الله تعالى الإنسان على تقديم الأحسن في ساحة الموت والحياة التي جعلها الله محلّاً لابتلاءاته، فالمسلم إذا ما ابتلاه ربّه سعى ليقدّم أحسن ما عنده.
1- المؤمنون: 14.
2- السجدة: 7
3- التوبة: 121
4- النحل: 97.
182
164
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾1.
قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾2.
قال تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾3.
علاقة الإنسان بالآخر
ومن أبرز مصاديق تقديم الفعل الأحسن هو العلاقة بالآخر بحيث يشكّل هذا الفعل قدوة للآخرين ونقطة جذب إلى الدين الحنيف، ومن المهم هنا لَفْتُ النظر إلى ضرورة مراعاة الأحسن في كافّة أبعاد الصورة المقدّمة.
قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾4.
1- هود: 7.
2- الكهف: 7.
3- الفرقان: 24.
4- العنكبوت: 46.
183
165
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾1.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾2.
قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾3.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾4.
قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾5.
تفاوت الأحسن بتفاوت الأشخاص
والفعل الأحسن ليس واحداً من كافّة شرائح المجتمع، بل يختلف من شريحةٍ إلى أخرى بحسب المهمّة التي يؤدّيها أو
1- المؤمنون: 96.
2- فصلت: 34.
3- الزمر: 55.
4- فصلت: 33.
5- الأحقاف: 16.
184
166
المحاضرة الثالثة: الإسلام وتقديم الصورة الأحسن
المنصب الذي يشغله، أو بكلمةٍ أصحّ فإنّ كلّ ما يأتي على الإنسان من صفات ونعوت ومناصب وغيرها إنما تشكّل ابتلاءات للإنسان ليرى الله تعالى ليس أداءَه الحسن فحسب بل فعله الأحسن الذي يجزيه الله تعالى في الآخرة بأحسن منه.
العدل حسن، ولكنْ في الأمراء أحسن، السخاء حسن، ولكنْ في الأغنياء أحسن، الورع حسن، ولكنْ في العلماء أحسن، الصبر حسن، ولكنْ في الفقراء أحسن، التوبة حسن، ولكنْ في الشباب أحسن، الحياء حسن، ولكنْ في النساء أحسن.
185
167
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
تصدير الموضوع:
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾1.
الهدف:
بيان عناية القرآن الكريم بالنفس الإنسانية عناية شاملة، وبثّ الشعور بالأمن والطمأنينة.
1- الأنعام: 82.
187
168
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
المقدَّمة
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك علاقة وطيدة بين السعادة والأمن النفسيّ الذي ينشده كلّ إنسان، ولذلك نرى القرآن الكريم يُبشّر أهل الإيمان بالأمن يوم القيامة، هذه البشرى التي تستلزم كافة مفردات السعادة إذ يقول لهم: ﴿وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾1، وفي آية أخرى يقرن بين الأمن والنار بقوله تعالى: ﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾2.
والسعادة التي نعنيها هي السعادة الروحية الكاملة التي تبعث الأمل والرضا، وتثمر السكينة والاطمئنان، وتحقّق الأمن النفسيّ والروحيّ للإنسان، فيحيا سعيداً هانئاً آمناً مطمئنّاً فلا سعادة للإنسان بلا سكينة نفس، ولا سكينة نفس بلا اطمئنان القلب.
وليس الأمن النفسيّ بالمطلب الهيّن فبواعث القلق والخوف والضيق ودواعي التردّد والارتياب والشكّ تصاحب الإنسان منذ ولادته وفي كافّة مراحل حياته حتى يواريه التراب.
ولقد كانت قاعدة الإسلام التي يقوم عليها كلّ بنائه هي
1- النمل: 89.
2- فصلت: 40.
188
169
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
حماية الإنسان من الخوف والفزع والاضطراب وكلّ ما يحد حرِّيته وإنسانيته والحرص على حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والطمأنينة، وهذا ليس أمرأ سهلاً، فكيف يحقّق الإسلام للمسلمين الأمن والسكينة والطمأنينة؟
محاور الموضوع
الأمن ضرورة حياتية
والأمن في الحياة ليس أمراً هامشيّاً بل هو ركنٌ من أركان الحياة التي بدونه تصبح الحياة مليئةً بالمخاوف، ويصبح الإنسان منفعلاً في الحياة لا فاعلاً، وهارباً من دوره لا مقبلاً عليه، ويفكّر بحياته الخاصّة والشخصية بدون أن يرقى إلى التفكير بمصالح الأمّة, ولذلك نرى الدول تسعى لتوفير الأمن لشعوبها كقاعدة أساسيّة من قواعد العيش والإبداع والعمل والاستثمار وسوى ذلك، ونرى هذه الضرورة في القرآن الكريم إذ جعل البيت مكاناً آمناً لاعتبارات عديدة منها أن تدرك الناس قيمة هذه النعمة الإلهية، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾1.
1- العنكبوت: 67.
189
170
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
الإيمان منبع الأمان
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾1، فالإسلام بحسب الآية يقيم صرحه الشامخ على عقيدة أنّ الإيمان مصدر الأمان، كما أنّ الكفر مصدر الخوف والقلق، فالإقبال على طريق الله هو الموصل إلى السكينة والطمأنينة والأمن.
ولكن كيف نصل إلى هذا الإيمان الحقيقيّ لكي تتحقّق السعادة والسكينة والطمأنينة التي ينشدها ويسعى إليها الإنسان لينعم بالأمن النفسي؟
القرآن أمان الإنسان
إنّنا نستطيع أن نصل إلى هذا الإيمان بنور الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونور الله المتجسد بالقرآن الكريم الذي نستدلّ به على الطريق السليم ونأخذ منه دستور حياتنا.. وننعم بنوره الذي ينير القلب والوجدان والنفس والروح والعقل جميعاً. أليس ذلك طريقاً واضحاً ووحيداً لنصل إلى نعمة الأمن النفسي؟
1- النحل: 112.
190
171
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
لقد عني القرآن الكريم بالنفس الإنسانية عناية شاملة.. عناية تمنح الإنسان معرفة صحيحة عن النفس وقاية وعلاجاً بدون أن ينال ذلك من وحدة الكيان الإنساني، وهذا وجه الإعجاز والروعة في عناية القرآن الكريم بالنفس الإنسانية، وترجع هذه العناية إلى أنّ الإنسان هو المقصود بالهداية والإرشاد والتوجيه والإصلاح.
فلقد أوضح لنا القرآن الكريم في الكثير من آياته الكريمة أهمية الإيمان للإنسان وما يحدثه هذا الإيمان من بث الشعور بالأمن والطمأنينة في كيان الإنسان وثمرات هذا الإيمان هي تحقيق سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾1.
والإنسان المؤمن يسير في طريق تقوى الله آمناً مطمئنّاً، لأنّ إيمانه الصادق يمدّه دائماً بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته، وهو يشعر على الدوام بأنّ الله عزَّ وجلَّ معه في كلّ لحظة، ونجد أنّ هذا الإنسان المؤمن يتمسّك بكتاب الله لاجئاً إليه دائماً، فهو بالنسبة إليه خير مرشد بمدى أثر
1- قريش: 4.
191
172
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
القرآن الكريم في تحقيق الاستقرار النفسيّ له، وهذا الأمن النابع من التقوى ينعكس أماناً يوم الفزع الأكبر كما يُعبّر أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الفزع الأكبر"1.
الأمن النفسي وتحدّيات الإنسان
فالإنسان مهما قابله من مشاكل وواجهه من محن فإن كتاب الله وكلماته المشرقة بأنوار الهدى كفيلة بأن تزيل ما في نفسه من وساوس، وما في جسده من آلام وأوجاع، ويتبدّل خوفه إلى أمن وسلام، وشقاؤه إلى سعادة وهناءة كما يتبدّل الظلام الذي كان يراه إلى نور يشرق على النفس، ويشرح الصدر، ويبهج الوجدان.. فنحن نقرأ عن أصحاب الحسين يوم العاشر أنهم كلّما اقتربوا من لحظة المواجهة كلّما أشرقت وجوههم وأشرقت نفوسهم وسكنت أطرافهم وبردت قلوبهم إلى غير ذلك من الصفات التي تكشف مدى الأمن النفسي الذي كانوا يعيشونه ومدى الطمأنينية التي كانت تحيط بهم.
1- نهج البلاغة.
192
173
المحاضرة الرابعة: أثر القرآن الكريم في الأمن النفسيّ
إذاً علينا أن نتمسَّك بكتاب الله ونقتدي به، ونتدبر في آياته البينات، ونتأمل في كلماته التي لا تنفد أبداً.. قال تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾1، حتى نتحلّى بالإيمان الكبير في هذه الرحلة الروحية مع آيات الله فنتزود بما جاء به القرآن الكريم من خلق عظيم، وأدب حميد، وسلوك فريد، ومعرفة شاملة بحقيقة النفس الإنسانية كما أرادها الله عزَّ وجلَّ أن تكون، وترتقي حيث الحب والخير والصفاء والنورانية، فننعم بالسلام الروحي الممدود، والاطمئنان القلبيّ المشهود، والأمن النفسيّ المنشود.
1- الكهف: 109.
194
174
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾1.
الهدف:
الاشارة في بعض القوانين العامة التي أشار إليها القرآن الكريم في نظام العلاقات المالية.
1- الحديد: 7.
195
175
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
المقدَّمة
بعث الله تعالى الأنبياء عليه السلام ليقوم الناس بالقسط، والقسط هو العدالة الإجتماعية والسياسية والإقتصاديّة, لأنّ العدل هو حياة الأحكام ودستور المجتمع الصالح.
وقد اهتمّ الإسلام بالمسائل المالية وتوجيه وتعديل حركة المال في أيدي الناس وفي الأسواق اهتماماً بالغاً، فلقد حرّم كلّ ألوان الظلم والطغيان الإقتصادي ضمن برنامج مالي شامل، وصولاً إلى العدالة الإقتصادية المرجوّة، ورفضاً لأشكال التبعية الإقتصادية، وعملاً بمبدأ التكافل الإجتماعي، ولذلك كانت مقولة القرآن الكُبرى في هذا المجال، هي: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾1.
محاور الموضوع
1- المال أمانة الله عند الناس:
قال تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾2.
1- النحل: 90.
2- النور: 33.
196
176
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
لما كان الإنسان مالك المال ملكيّة اعتبارية ملكاً لله تعالى (إنّا لله)، فإنّه وما يملك لله، أي أنّ المالك الحقيقيّ هو الله سبحانه، وملكيّة الإنسان للأشياء والأموال والأمتعة ملكية مجازية توكيلية، بحسب ما أعطاه الله له وجعله في يده، وفي ضوء هذه النظرة فإنّ الأموال وسائر الثّروات ما هي إلا ودائع وأمانات عند الإنسان، ويُطلق عليها في بعض الروايات بـ(العارية)، أي أعارها الله للإنسان، متى ما شاء استردّها. يقول سبحانه: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾1.
وبلحاظ الاستخلاف والأمانة، تكون حصّة المجتمع – فيما أشارَ إليه القرآن من أنصبة الزكاة وغيرها – مكفولة، لأنّ كل إنسان في المجتمع الصالح يستحضر قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾2، ويتفاعل معه، ويتذكّر قوله سبحانه: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾3، ويتعاطى معه بإيجابيّة.
1- الحديد: 7.
2- المعارج: 24- 25.
3- آل عمران: 92.
176
177
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
2- حماية المال من السفهاء:
قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ﴾1.
أيّ توظيف غير سليم للمال هو سفاهة، فالمجتمع مُطالَب بسلامة تداول الأموال وعدم التفريط بها في السّفاسف والتّرّهات والأعمال غير المشروعة والإسراف، لأنّ الثروة المالية طاقة من طاقات بناء المجتمع وتطويره، وأيُّ هدرٍ لها تضييع لفرص البناء والنماء، ولذلك فالمال مسؤوليّة ويجب أن يُحمى ممّن لا شعور لديه بالمسؤولية.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ من بقاء المسلمين وبقاء الإسلام، أن تصير الأموال عند مَن يعرف فيها الحقّ ويصنع المعروف، وأنّ فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي مَن لا يعرف فيها الحق ولا يصنع فيها المعروف"2!
1- النساء: 5.
2- الكافي، ج4، ص65.
198
178
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
3- الكسب المشروع:
قال تعالى: ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾1.
وقال سبحانه: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾2.
جاء "الرِّزق الحسن" في القرآن في مقابل "الكسب غير المشروع" أو المُحرّم، كصنع المسكرات من التمر والعنب. والرزق الحسن هو كلُّ كسب حلال أراد الله للإنسان أن ينتفع به بيعاً وشراءً ومتاجرةً واستيراداً وتصديراً، وهو من حيث المساحة أوسع نطاقاً - بما لا قياس معه - من المكاسب المُحرّمة، وفي كلمة "من رزقه" في الآية من سورة الملك دلالة أو إشارة إلى الانتفاع بالرِّزق الحسن الحلال المشروع، وإلّا ما كان نسبه تعالى إلى نفسه، فضلاً عمّا تندب إليه الآية من التسبّب والكسب وعدم الإتِّكال والتواكل.
سُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّ كسب الرجل أطيب؟ قال: عملُ الرجل بيده، وكلُّ بيعٍ مبرور"3.
1- النحل: 67.
2- الملك: 15.
3- مستدرك الوسائل، الطبرسي، ج13، ص64.
199
179
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
4- المُحافظة على المال العامّ:
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾1.
أموال الدولة أو ما يُسمّى بالمال العامّ، هو حقّ المواطنين، فلا يجوز التجاوز عليه بأيّة حيلةٍ أو أيّ عنوان، فلقد دخل (عمرو بن العاص) ليلةً على الإمام علي عليه السلام وهو في بيت المال، فطفئ السِّراج وجلس في ضوء القمر، ولم يستحلّ أن يجلس في الضوء (ضوء السراج) من غير استحقاق، خاصّة بعد أن علمَ أنّ عمرو بن العاص أتاهُ في موضوع لا يخصّ بيت المال، ولذلك تجد بعض الصالحين يدفع شيئاً من المال لقاء استفادته من المال العامّ كبراءة ذمّة، بل يُقدِّم التعويض لأيّ تلفٍ أو ضياعٍ كان هو المُتسبِّب فيه.
5- الإقتصاد في المعيشة:
قال تعالى في صفة عباد الرّحمن: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾2.
1- النساء: 58.
2- الفرقان: 67.
200
180
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
الإقتصاد في المعيشة يعني التجمّل في حالي التقتير والإسراف، وبمعنى آخر فإنّ الإقتصاد لا يعني البخل، وإنّما هو (حُسن التدبير)، لأنّه الحسنة بين السيِّئتين، وهو ممدوح فردياً، وكما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾1. كما هو ممدوح جماعيّاً بحسب الإشارة الواردة في الصفات الحميدة لعباد الرحمن الذين يُمثِّلون (المجتمع الصالح).
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام مقولته الإقتصادية المهمّة في هذا الباب: "ضمنتُ لمن اقتصد أن لا يفتقر"2.
وأُثِرَ عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "التدبير نصف العيش"3. وفي المحصِّلة، فإنّ الإقتصاد في المعيشة، أو الحكمة في الإنفاق، أو الإعتدال في الإستهلاك، يُحقِّق للمجتمع مصلحة عُليا في الإبتعاد عن الإبتلاء بالفقر والحاجة، وهذا ما يرسمه القرآن الكريم لأيّ مجتمع صالح من خلال ما فعلهُ يوسف عليه السلام من توفير وإدِّخار لوقت الحاجة. قال عزَّ وجلَّ: ﴿قَالَ
1- الإسراء: 29.
2- فقه الرضا.
3- كنز العمال.
201
181
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾1.
ولقد شكا قوم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سرعة نفاد طعامهم، فقال: "تكيلون أو تهيلون"؟ قالوا: نهيل يا رسول الله (يعني الجزاف)، قال: "كيلوا، فإنّه أعظم للبركة"2!
6- مكافحة الإحتكار وارتفاع الأسعار:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾3.
فالمجتمع الصالح لا يعني بالضرورة أنّ كلّ أفراده صالحين، لكنّ النسبة الغالبة فيه أو أكثريّته هم ممّن يتمتع بصفة الصلاح، وذلك فتوقع وجود المحتكرين أو المستغلِّين أو الغشّاشين أو المرابين أو المتلاعبين بالأسعار في مجتمعات الصلاح أمرٌ وارد، ولذلك كان من بين أهمّ واجبات ومهامّ الحاكم الإسلامي مجابهة الإحتكار والرّقابة الدائمة على الأسعار.
1- يوسف: 47.
2- الوافي.
3- التوبة: 34.
202
182
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
يقول الإمام عليّ عليه السلام في عهده لـ (مالك الأشتر):
"ثمّ استوصِ بالتجّار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، واعلم مع ذلك أنّ في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع من الإحتكار، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تُجحف بالفريقين، من البائع والمبتاع، فَمَن قارفَ حُكرة بعد نهيك إيّاه فنكِّل به، وعاقِبهُ في غير إسراف"1.
7- القرض الحسن:
قال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾2.
عالجَ المُشرِّع الإقتصاديّ الإسلاميّ مشكلة (الرِّبا) معالجةً أخلاقيّة إنسانيّة بطرحه لمفهوم (القرض الحسن) في قبال القرض الضارّ السيِّئ والمُسيء، وهو الربا كونه إقراضاً بفائدة، والحال أنّ القرض الحسن بفائدة أيضاً، ولكنّها ليست من
1- نهج البلاغة.
2- الحديد: 11.
203
183
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
المُستقرِض أو المُستدين، بل من الله تعالى الذي جعل الحسنة بعشرة أمثالها والقرض الحسن بثمانية عشر. ولقد طابت نفوس المسلمين كمجتمع صالح لهذا الإجراء الماليّ أو الإقتصاديّ الذي نزع فتيل الأحقاد، وجفّف ينابيع الأثرة والتكاثر وامتصاص عرق الفقراء واستنزاف أموالهم. قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾1.
8- تفتيت التّركة:
لا يريد الإسلام تجميد المال أو تخثيره، بل يسعى إلى تسييله وتدويره حتى تنشط حركته في واقع المجتمع الصالح ويعمّ نفعه الصالح العامَّ، ولذلك عمد إلى تفتيت تركة الميِّت أو ميراثه بين أهله وأقربائه من منطلق الفريضة الواجبة بما حدّده المُشرِّع الإسلاميُّ من حصص وأسهم وأنصبة في الأقربين من أهله، فإن لم يكن له والد ولا ولد، وُزِّعت تركته في أقربائه البعيدين، وندبَ إلى إشراك أقرباء الميِّت من الفقراء واليتامى والمساكين ممّن يحضرون قسمة التّركة
1- التغابن: 17
204
184
المحاضرة الخامسة: نظام العلاقات المالية في المجتمع الصالح في القرآن
ليعطوا شيئاً منها تطييباً لخاطرهم، كلّ ذلك من أجل الشعور بامتداد العلاقة الإنسانية بين الراحل وبين أولئك الناس، قال سبحانه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا *وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾1.
1- النساء: 7-10.
205
185
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾1.
الهدف:
بيان جعل الإسلام الذكر والأُنثى في كفّة واحدة فمن آمن منهما وعمل صالحاً فهما سيّان أمام اللّه تبارك وتعالى يجزيهما على حدّ سواء.
1- البقرة: 228.
209
186
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
المقدَّمة
بزغ نور الإسلام في عصر لم يكن لجنس الأُنثى يومذاك أيّ قيمة تذكر في الجزيرة العربية، وكان الرجل يتشاءم إذا أنجبت امرأته أُنثى ويظلّ وجهه مسوداً متوارياً عن أنظار قومه وكأنّها وصمة عار على جبينه، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾1.
فلم يكن للرجل بد إلاّ وأدُ بناته وقتلهنّ إثر الجهل بكرامة المرأة وفضيلتها ظنّاً منه أنّه يحسن صنعاً، وهذا هو القرآن الكريم يندّد بذلك العمل ويشجبه ويقول: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾2.
محاور الموضوع
المرأة في التشريع الإسلاميّ
جعل الإسلام فطرة المرأة وخلقتها، المقياس الوحيد في
1- النحل: 58 ـ 59.
2- التكوير: 8 ـ 9.
210
187
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
تشريعه وتقنينه والتشريع المبني على الفطرة يتماشى معها عبر القرون، وهذا هو سرّ خلود تشريعه، وأمّا التشريع الذي لا يأخذ الفطرة بنظر الاعتبار، ويقنِّن لكلّ من الأُنثى والذكر على حدّ سواء فربّما لا ينسجم مع الفطرة والخلقة ويخلق تعارضاً بين القانون ومورده ويورث مضاعفات كثيرة كما نشاهده اليوم في الحضارة الغربيّة.
التماثل في تشكيل المجتمع
وفي خضَمِّ تلك الأفكار الطائشة نجد القرآن الكريم يصف المرأة بأنّها أحد شطري البنية الإنسانية ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾1، فالأُنثى مثل الذكر يشكّلان أساس المجتمع بدون فرق بينهما.
التماثل في الاستقلالية
ومن جانب آخر يرى للأُنثى خلقة مستقلة مماثلة لخلقة الذكر بدون أن تُشتقّ الأُنثى من الذكر، وانّ كلاًّ من الذكر والأُنثى إنسان كامل وليس هناك أيّ نقص في إنسانية الأُنثى، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
1- الحجرات: 13.
211
188
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾1.
فالنفس الواحدة، هي آدم وزوجها حواء وإليهما ينتهي نسل المجتمع الإنساني، ومعنى قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾ أي خلق من جنسها، فالزوجان متماثلان ولولا التماثل لما استقامت الحياة الإنسانية.
التماثل في التكريم
لقد شملت العناية الإلهية الإنسان لما جعلته أفضل الخلائق، وسخّرت له الشمس والقمر. ولا تختصّ هذه الكرامة بالذكر فحسب، بل شملت أولاد آدم قاطبة قائلاً: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾2.
التماثل في التكليف
وجعل الإسلام الذكر والأُنثى في كفّة واحدة فمن آمن منهما وعمل صالحاً فهما سيّان أمام اللّه تبارك وتعالى يجزيهما على حدّ سواء، قال سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى
1- النساء: 1.
2- الإسراء: 70.
212
189
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1.
التماثل في القيمة الإنسانية
وممّا يعرب عن موقف القرآن الكريم في خلقة المرأة: هو أنّه جعل حرمة نفس الأُنثى كحرمة نفس الذكر وأنّ قتل واحد منهما يعادل قتل جميع الناس، قال سبحانه: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾2.
فقتل المرأة كقتل الرجل عند اللّه سواء فمن قتل واحداً منهما فكأنّما قتل الناس جميعاً.
هذا في القتل وكذلك في سائر الأحكام فقد نظر الإسلام إلى الشطرين نظرة واحدة هو أنّه يتخذ النفس موضوعاً لبعض أحكامه في مجال القصاص دون أن يركز على الذكر أو الأنثى، قال سبحانه: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾3.
1- النحل: 97.
2- المائدة: 32.
3- المائدة: 45.
213
190
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
نعم مشاركة المرأة والرجل في القِصاص لا يلازم مشاركتهما في الدية، لأنّ المعيار في القِصاص غير المعيار في الدية، فكلّ من جنى على إنسان يُقتصُّ منه باعتبار أنّ الجاني أعدم إنساناً فيعادل بإعدامه.
علّة التفاوت في الدية
وأمّا الدية فالمعيار في تعيينها هو تحديد الخسارة والضرر الماديّ الذي مُنيت به الأُسرة، ولا شكّ أنّ خسارة الأسرة بفقد معيلها الرجل هي أكبر من خسارتها بفقد الأُنثى، فلذلك صارت دية المرأة نصف دية الرجل على الرغم من أنّ المصيبة على حدّ سواء، وهذا لا يعني اختلافهما في الإنسانية.
البعد الروحي عند الرجل والمرأة
إنّ التساوي في الإنسانية لا يعني التساوي في جميع الجهات،وفي القدرات والغرائز والنفسيّات، حتى يتجلّـى الجنسان، جنساً واحداً لا يختلفان إلاّ شكليّاً، ومن يقول ذلك فإنّما يقول في لسانه وينكره عقله ولبّه.
لا شكّ انّ بين الجنسين فوارق ذاتيّة وعَرضية، فالأُولى نابعة من خلقتها، والثانية تلازم وجودها حسب ظروفها وبيئتها،
214
191
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
وبالتالي صارت تلك الفوارق مبدأً للاختلاف في المسؤوليات والأحكام.
وأمّا ما يرجع إلى الأُمور النفسية والروحية عند المرأة والرجل فنقول: لا شكّ ثمّة فارق واضح وجليّ بين الرجل والمرأة من هذه الزاوية وهي أنّ المرأة جيّاشة العاطفة ملؤها الحنان والعطف ولها روح رقيقة حسّاسة.
أودعت يد الخلقة ذلك فيها لتنسجم مع المسؤولية الملقاة على عاتقها، كتربية الأطفال التي ترافقها مشاقُّ ومصاعب جمّة لا يتحمّلها الرجل عادة، في حين أنّ الرجل يفقد تلك العواطف الجيّاشة، لأنّه خلق لوظائف أُخرى تتطلب لنفسها الغلظة والخشونة لتنسجم مع المسؤوليات التي تقع على عاتقه.
حقوق المرأة وواجباتها في القرآن الكريم
من خلال النظر إلى الأُسرة الإسلامية يتبين أنه لا تقوم حياة الأسرة إلاّ بالتعاون، وحقيقة التعاون عبارة عن أن يكون كلّ واحد له حقّ وعليه واجب وهذا ما يعبّر عنه الذكر الحكيم
215
192
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
بكلمة بليغة جامعة: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾1، فمسؤولية المرأة القيام بالحضانة وتربية الأطفال وليس هذا أمراً سهلاً، لا تقوم به إلاّ الأُمّ التي ينبض قلبها بالعطوفة والحنان.
وفي مقابل تلك الحقوق ثمّة حقوق للرجل لا بدّ له من القيام بما تحتاج إليه المرأة في حياتها الضرورية والكمالية، فيشير القرآن إلى تلك المسؤولية الكبيرة على عاتق المرأة بقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾2.
كما يشير إلى المسؤولية التي تقع على عاتق الرجل بقوله: ﴿وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾3.
نظرة قي ميراث المرأة قي الإسلام
نزل القرآن الكريم وكانت المرأة محرومة من أبسط حقوقها حتّى ميراثها، بل كانت كالمال تورث للآخرين، وفي هذا الجو المفعم بإهدار حقوقها قال: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
216
1- البقرة: 228.
2- البقرة: 233.
3- البقرة: 233.
193
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾1.
وبذلك كسر الإسلام هذا الطوق الذي أحاط بالمرأة وحال بينها وبين ميراثها فهي في ميراثها تارة تعادل الذكر وأُخرى تنقص عنه وثالثة تزيد عليه، حسب المصالح المذكورة في محلّها. وما اشتهر بأنّ ميراث المرأة ينقص عن ميراث الرجل دائماً فليس له مسحة من الحقّ بل تتراوح فريضتها بين التساوي والنقصان والزيادة كما هو واضح.
ففيما إذا كان المورّث هو الأب والأُمّ فللذكر مثل حظّ الأُنثيين، وفيما إذا كان المورث هو الولد فالأُمّ والأب متساويان يقول سبحانه: ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ﴾2 وإذا تركت المرأة المتوفاة زوجها وابنتها، فالابنة ترث النصف والزوج الربع، فترث الأُنثى ضعف ما يرثه الذكر، قال سبحانه: ﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ
1- النساء: 7.
2- النساء: 11.
217
194
المحاضرة الأولى: مكانة المرأة في الإسلام
بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾1. إلى غير ذلك من صور الفرائض التي شرحها الفقهاء.
نعم الاختلاف في الميراث تابع لملاكات خاصة يجمعها عنوان الأقربية، ومسؤولية الإنفاق، فالأقرب يمنع الأبعد، كما أنّ من يقع على عاتقه الإنفاق يرث أكثر من غيره.
الحريّة المالية
ومن حقوقها حريتها المالية، أي استقلالية كلّ من الرجل والمرأة في حقوقهما وأموالهما والاستمتاع بهما، قال سبحانه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾2.
1- النساء: 12.
2- النساء: 32.
218
195
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
تصدير الموضوع:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هبط عليّ جبرائيل فقال لي: يا محمّد إنّ ربَّك يُقرئك السلام ويقول: إني قد حرّمت النار على صُلبٍ وبطنٍ حملَك وحِجْرٍ كفلَك ...... وأمّا حِجر كفلك فحِجر أبي طالب"1.
الهدف:
التعريف بشخصية أبي طالب وأهمّ مواقفه الرسالية والردّ على بعض الشبهات التي أُثيرت حوله.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص446.
219
196
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
المقدَّمة
"كان أبو طالب يتمتّع بشخصية ومهابة في نفوس قومه، وكان طاهراً مستقيماً يقلّدونه في أفعاله ولا يتقدّمونه في أمر إلا بعد أن يستشيروه، فقد كان يُعَدُّ من الشخصيات المرموقة في مكّة المكرّمة و في قبيلة قريش، وكانت رئاسة قريش له بعد عبد المطلب، وكان أمره نافذاً"1.
وساند أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول و الفعل، فعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعرّض للتهديد كان يدافع عنه بكلّ حزم و كان يستغلّ نفوذه ليردّ عنه. وعندما قوطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و ثُلَّة من المؤمنين المخلصين اجتماعياً واقتصادياً لم يساندهم إلا أبو طالب. كما أنه شهر سيفه عند الضرورة ليحمي رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنّ الكفار الحاقدين لم يجرؤوا عندها على متابعة أذاهم وأسرعوا بالفرار لما رأوا هذا الرجل صاحب القدر العظيم في مكة و قريش يقف إلى جانب رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ليحميه.
1- أسنى المطالب، ابن دحلان، ص6.
220
197
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
محاور الموضوع
الشبهات التي أُثيرت حول إيمان أبي طالب عليه السلام
من أبرز الشبهات التي أثيرت حول شخصية أبي طالب شبهتان أساسيَّتان:
الأولى: أنّ مساندته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن من منطلق إيماني بل لعصبيةٍ عائلية.
الثانية: أنّ أبا طالب مات كافراً.
وفي الردّ على الشبهة الأولى بأنه كان يساند االنبيَّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان ابن أخيه فقط و لكنه لم يسلم. فإن مثل هذه الادعاءات نشأت من تزوير التاريخ الذي حصل فيما بعد بداعي التقليل من شأن والد الإمام عليّ عليه السلام والحطّ من قيمته.
ويمكن الوقوف على الشواهد التالية التي تدلُّ على أنّ أبا طالب كان يتمتّع بإيمان ثابت متين بالعقيدة الإسلامية، منها:
1- أنّ التاريخ يحدّثنا أنّ أبا طالب كان مستعدًّا أن يضحّي حتى بابنه من أجل االنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والحال أنّ ما يشعر
221
198
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
به الإنسان عادة من ميل لابنه أكبر ممّا يشعر به لابن أخيه.
ومع ذلك نرى أنّ أبا طالب يحثّ أبناءه طالباً وعقيلاً وجعفراً وعليّاً على الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق به وشدّ إزره، فكان يقول لعليّ عليه السلام دائماً: "الزم ابن عمّك"1.
2- وقوفه بوجه أقربائه المعادين: فكان يقدّمه في الحديث على ساداتهم ولا يرضى منهم بمقاطعته ويصدّقه ويكذّبهم، حتى إنّ أبا لهب حاول أن يعترض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوماً بالكلام فقال له أبو طالب: أسكت يا أعور، ما أنت وهذا! ثم قال لا يقومنّ أحد، فجلسوا ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قم يا سيّدي فتكلّم بما تحبّ وبلّغ رسالة ربّك فإنّك الصادق المصدّق"2.
3- ثم إذا كانت أحاسيس العمّ هي سبب كلّ هذه الرعاية و الاهتمام فلماذا نرى أنّ أبا طالب يرفض كافّة العروض لإبعاده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقد حاولت قريش إقصاء أبي طالب وإبعاده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من خلال عرضها عليه المال وخيرة أبنائها وسلطانها على أن يسلّمهم محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم فواجههم
1- سيرة ابن هشام، ج1، ص247 .
2- النهاية لابن كثير، ج3، ص319 .
222
199
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
وأحبط كيدهم وأبطل مخططاتهم، فلو لم يكن هذا الموقف مبدئيّاً لغرّته العروض وانجرف معها.
4- ثم إنّ هناك آخرين ممّن كانوا ينتمون إلى بني هاشم حتى الذين أعلنوا إسلامهم و تحمّلوا معه فإنهم لم يساندوه بنفس المستوى والإخلاص الذي أظهره أبو طالب من دعمه اللامحدود للنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم رغم أعتى الصعاب و الظروف دليل على إيمانه بنبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
5- أخبر أبو الفضل بن شاذان - يرفعه إلى الشيخ الصدوق ابن بابويه القمّي (رحمهم الله)، مرفوعاً عن الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام في حديث طويل - يذكر فيه: أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إني قد أيدتك بشيعتين شيعة تنصرك سرّاً وشيعة تنصرك علانية، فأما التي تنصرك سرّاً فسيّدهم وأفضلهم عمُّك أبو طالب، وأمّا التي تنصرك علانية فسيّدهم وأفضلهم ابنه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثم قال: وإنّ أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه"1.
1- الجواهر السنية، الحر العاملي.
223
200
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ جبرئيل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، إنّ ربك يقرئك السلام ويقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرّتين، وإنّ أبا طالب أسرَّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرّتين"1.
وأما في مقام الردّ على الشبهة الثانية:
1- فقد روي: لما مات أبو طالب جاء الإمام عليّ عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فآذنه بموته، فتوجّع عظيماً وحزن شديداً، ثم قال: "امض فتولَّ غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل، فاعترضه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محمول على رؤوس الرجال. فأبنه قبل دفنه، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وصلت رحم يا عمّ وجزيت خيراً، لقد ربّيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبيراً. ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال: أما والله لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنَّ فيك شفاعة يتعجّب لها الثقلان"2.
1- كتاب الصلاة، الأراكي، ج2.
2- أبو طالب حامي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وناصره، نجم الدين العسكري.
224
201
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
وهذا يدلّ على إسلام أبي طالب، وإلا لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله - يطلب الشفاعة لكافر.
وفي رواية أُخرى: لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أبا طالب قد مات، عظم ذلك في قلبه، واشتد له جزعه، ثم دخل عليه فمسح جبينه الأيمن أربع مرات، وجبينه الأيسر ثلاث مرات، ثم قال: يا عمّ، ربيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عني خيراً. ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم، وجزيت خيراً.
قال الأميني: إنّ شيئاً من مضامين هذه الأحاديث لا يتفق مع كفر أبي طالب، فهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر خليفته الإمام عليّ عليه السلام بتكفين كافر ولا تغسيله، ولا يستغفر له ولا يترحّم عليه، ولا يرجو له الخير.
وقد رُوي عن أبي بكر و العباس بن عبد المطلب أنّ أبا طالب قد لفظ الشهادتين قبل أن يموت.
نعم فقط صلاة الميت لم تُقَمْ له بسبب أنها لم تكن واجبة على المسلمين وقتها. لنفس السبب لم تُقَمْ لخديجة مثلاً صلاة الميت أيضاً، فلو مات كافراً لما تمّ ذلك له.
225
202
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
3- من المعلوم بلا أدنى شكّ: أنّ فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب مسلمة وأنها اعتنقت الإسلام منذ وقت طويل و تركت وطنها بسبب دينها. فلو لم يكن أبو طالب مسلماً لما جاز لها كإنسانة مسلمة أن تبقى معه وقتها.
4- قال العلّامة الحلبي في سيرته ما نصّه: فذكر أنّ أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش، (وبني هاشم) فأوصاهم، وكان من وصيته أن قال: "يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، والواسع الباع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلا أحرزتموه، ولا شرفاً إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، أوصيكم بتعظيم هذه البنية (أي الكعبة) فإنّ فيها مرضاة للربّ وقواماً للمعاش، صِلُوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإنّ في صِلة الرحم منسأة (أي فسحة) في الأجل وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق، ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، فإنّ فيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق
226
203
المحاضرة الثانية: أبو طالب مؤمن آل فرعون
الحديث، وأداء الأمانة فإنّ فيهما محبّة في الخاصّ، ومكرمة في العامّ، وإني أوصيكم بمحمّد خيراً فإنه الأمين في قريش والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجَنان، وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً، وإذا أعظمُهم عليه أحوجُهم إليه، وأبعدُهم منه أحظاهم عنده، قد محضَتْه العرب وِدادها، وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش، كونوا الولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلّا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد"1.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال بهذا الخصوص ما معناه أنّ إيمان أبي طالب عليه السلام أفضل من إيمان كثير من الآخرين.
1- الغدير، الشيخ الأميني.
227
204
المحاضرة الثالثة: الفتح المبين بالرحمة الواسعة
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾1.
الهدف:
تقديم بعض الدروس والعِبَر الأخلاقية التي تلائم ثقافة النصر في الإسلام والتي جسّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة.
1- الانبياء 107.
229
205
المحاضرة الثالثة: الفتح المبين بالرحمة الواسعة
المقدَّمة
كان فتح مكّة بداية فتح عظيم للمسلمين، فقد كان الناس تبعاً لقريش في جاهليتهم، كما أنهم تبع لقريشٍ في إسلامهم، وانت مكّة عاصمة الشِّرك والوثنية، وكانت القبائل تنتظر ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه وعشيرته، فإن نصره الله عليهم، دخلوا في دينه، وإن انتصرت قريش، يكونوا بذلك قد كفوهم أمره. ومن هنا فقد كان يوم فتح مكّة من الأيام الإلهية التي انهارت فيها أكبر قلاع الشرك والباطل، وتحطّمت الأصنام التي لطالما عكف عليها الناس، وصدع صوت الله أكبر وحده لا شريك له وأنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله في مكّة المكرّمة كما واستسلم أهلها وكتب الله لرسوله النصر المبين.
ومن المعلوم أنّ هذه الحملة العسكرية على مكّة إنما كانت بعدما نقض المشركون بنود صلح الحديبية وذلك بإغارتهم على قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، وبالتالي فقد كان الدرس الأوّل من هذه المعركة هو بيان عاقبة نكث العهود وأنه وخيم للغاية، إذ نكثت قريش عهدها فحلّت بها الهزيمة، وخسرت كيانها الذي كانت تدافع عنه وتحميه.
230
206
المحاضرة الثالثة: الفتح المبين بالرحمة الواسعة
هذا اليوم سطّر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أروع معاني الأخلاق الكريمة والسجايا الفاضلة التي انصهرت شخصيته الرسالية بها، فكان فتحاً لا يشابهه أيّ فتح في أيٍّ من الحروب والمعارك.
ومن المهمّ والضروريّ في يوم فتح مكّة الوقوف على المشاهد التالية:
1- العفو عند المقدرة: لمّا استتبّ الأمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة دخل الكعبة وطرح ما بها من أصنام وأمر بتكسيرها، ثمّ توجّه إلى المكيّين وسألهم: "ماذا ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني أقول لكم ما قال أخي يوسف لإخوته، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"1.
وبهذا الموقف جسّد رسول الله أنّ الإسلام دين عفو ورحمة، وأنه لا يعامل قريش بحقدٍ وانتقام رغم معاناته معهم طيلة عشرين عاماً، ومحاصرتهم له وخوضهم المعارك ضدّه
1- تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج1، ص 428.
231
207
المحاضرة الثالثة: الفتح المبين بالرحمة الواسعة
وقتلهم لأصحابه وأنصاره ومحاولتهم اغتياله والقضاء على كلّ مشروعه.
2- المحافظة على الدماء والأعراض: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد لهذا الفتح أن يكون نموذجاً وتجسيداً لمكارم الأخلاق في الإسلام، فقد كان باستطاعته أن يدخل مكّة بالقوّة وقد جاءها في عشرة الآف مقاتل، لكنّه أعلن أنّ الموقف ليس للإنتقام والكراهية، بل إنّ الناس وأموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم في أمنٍ وأمان فنادى فيهم مقولته المشهورة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"1.
وفي روايةٍ أنّ أحد قادة جيش المسلمين أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكّة من أحد مداخلها: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحُرمة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الشعار وقال ردّاً عليه: اليوم يوم المرحمة"2، ولم يكتفِ بذلك بل أمر بأخذ اللواء منه ودفعه إلى شخصٍ آخر تأديباً له.
1- مستدرك سفينة البحار، ج8، ص109.
2- المغازي، ج2، ص821_822 .
232
208
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
تصدير الموضوع
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1.
الهدف:
بيان الشرائط التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم لاستنزال النصر.
1- آل عمران، 123 .
235
211
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
المقدَّمة
يسند القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة النصر إلى الله تعالى، يقول تعالى: ﴿إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾1، مؤكّداً على المؤمنين ألا يستبعدوا نصر الله، ويقول تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾2، حتى لا يتوهّم أحد أنه بقوته أو تضحياتـه أعطـى المؤمنيـن نصـراً، ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾3. مؤكداً أنّ هذا النضر ليس استثناءً نادراً وإنما هو سنّة طبيعيّةٌ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، والتي من جملتها الآية التي تحدّثت عن النصر الإلهي في معركة بدر الكبرى، ولا يخفى أنّ إضافة النصر إلى الله تعالى تعني أنّ النصر يحتاج إلى مدد إلهيّ، فإنّ كلّ شيء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون والمدد والتوفيق الإلهيّ، وهي إمدادات غيبيّة ترتفع عن المسائل الحسيّة. فالإنسان المؤمن بحاجة إلى مثل تلك الألطاف الإلهيّة الخاصّة، والنصر من الله تعالى
1- البقرة: 214.
2- الأنفال: 10.
3- التوبة: 25.
236
212
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
هو لُطف منه على عباده المؤمنين، وهو مدد غيبيّ لا يتحقّق إلّا بشروط أقرّها الله تعالى.
محاور الموضوع
شروط النصر الإلهي
وقد أورد القرآن الكريم جملة من الشرائط لاستنزال النصر من عند الله والتي من دونها لا يمكن أن تترتّب النتيجة الإلهية، وأهمّ هذه الشرائط:
1- الإيمان: يقول تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾1. وهذا شرط واضح إذ لا يمكن أن نفهم المدد الإلهي على قومٍ فاسقين أو كفّار.
2- العمل والجهاد: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾2. فقوله: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾3 في هذه الآية، يُفهم منه صريحاً أنّ إعطاء ومنح النصر مشروط بمن يعمل وينصر ويجاهد في سبيل الله، والآيات الكريمة في الحثّ
1- الروم: 47.
2- محمد: 7.
3- محمد: 7.
237
213
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
على الجهاد كثيرة، فليس الأمر كما قال اليهود للنبيّ موسى عليه السلام حين أمرهم بالقتال لدخول الأرض المقدّسة: ﴿...فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾1.
3- الأمل والصدق: يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾2.
والملاحظ في الآية أنّ الله تعالى أراد للمؤمنين رغم ما بهم من ضيق وضرّ وبأساء أن يأملوا نصر الله فهو قريب، وهنا مسألة مهمّة وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ليسوا في مقام الإعتراض وإلا لقالوا (أين نصر الله)، ولكنّهم في مقام استعجال ما هو يقين عندهم، ولذلك قالوا: (متى نصر الله)، والجواب الإلهي بقرب النصر كاشف عن هذه الحقيقة.
1- المائدة: 24.
2- البقرة: 214.
238
214
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
ويقول أمير المؤمنين: "... ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوِّنا يتصاولان تصاول الفحلَين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منا، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل لعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتّى استقرَّ الإسلام..."1..
4- في سبيل الله: أن يكون العمل والجهاد كلّه في سبيل الله، فالنصرة لا بدّ أن تكون لله قال تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾2. والمجاهدة لا بدّ أن تكون في الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾3.
5- إعداد العدّة: قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾4.
1- نهج البلاغة.
2- محمد: 7.
3- العنكبوت: 69.
4- الأنفال: 60.
239
215
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
فالإعداد شرط من شرائط المواجهة، فالعدوّ الذي يرى عدوّه في حالة تخاذل وعدم استعداد يطمع به، فلا يتحقّق المدد الغيبيّ والنصر الإلهيّ عبثاً ولا مجّاناً ونحن عاكفون في البيوت كما قال اليهود لنبيّهم: ﴿...فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾1. بل لا بدّ من توفّر الشروط الموضوعيّة لكي تتحقّق الألطاف الإلهيّة، وليست هذه الشروط من المستحيلات.
6- استمراريّة النصر مشروطة بالتواضع: النصر تعقبه انفعالات نفسيّة خطيرة على المنتصرين كالعجب، والغرور، والتكبّر، والاقتناع بما وصلوا إليه، إلى غير ذلك من الصفات. من هنا ولكي يستمرّ النصر لا بدّ من إزالة هذه الرذائل الأخلاقيّة من نفوس المؤمنين، بالتسبيح والاستغفار والشكر، والتواضع أمام نعم الله سبحانه والاعتقاد بأنّ هذه النعمة العظيمة منه عزَّ وجلَّ، وملك له متى ما شاء أخذها، وبذلك تدوم العلاقة بالله تعالى.
1- المائدة: 24.
240
216
المحاضرة الرابعة: شروط النصر في القرآن الكريم
يقول تعالى: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾1، إنّ النصر له آثار مهمّة على النّاس المنتَصر عليهم وغيرهم، من حيث تهيئتهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القويّ، لا مع المنهزم الضعيف، لذلك نرى السورة الكريمة ترتّب على النصر دخول الناس في دين الله أفواجاً.
1- النصر: 1 ـ 3.
241
217
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
تصدير الموضوع:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: "والله لَلذي صنعه الحسن بن عليّ عليهما السلام كان خيراً لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس"1.
الهدف:
بيان أسباب صلح الإمام الحسن عليه السلام والحكمة منه في حفظ المؤمنين.
1- الوافي، الكاشاني، ج3.
243
218
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
المقدَّمة
من الشبهات العقائدية التي أوردها بعض المتزلّفين لحكّام عصورهم هي الصلح الذي جرى بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان حيث ذهب البعض إلى إثارة شبهة مفادها أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد خالف نهج أبيه عليّ عليه السلام وأنه كان يعتمد سياسة مختلفة عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وعن أخيه الحسين عليه السلام، علماً أننا نؤمن أنّ الصلح الذي وقع بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية لم يكن صراعاً منشؤه الدنيا وزمامه تقديم المصالح الشخصية وهما الأمران اللذان يكوّنان أسس العلاقات السياسية على مرّ التاريخ، ففي القاموس السياسي للحكّام يكون عدو الأمس صديق اليوم وعدوّ اليوم صديق الأمس.
أمّا في قاموس شريعة السمحاء فـ "حلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"، ولذا: فمعاوية ومروان بن الحكم ونظراؤهما قبل الصلح هم أنفسهم بعد الصلح.
244
219
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
المقدَّمة
من الشبهات العقائدية التي أوردها بعض المتزلّفين لحكّام عصورهم هي الصلح الذي جرى بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان حيث ذهب البعض إلى إثارة شبهة مفادها أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد خالف نهج أبيه عليّ عليه السلام وأنه كان يعتمد سياسة مختلفة عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وعن أخيه الحسين عليه السلام، علماً أننا نؤمن أنّ الصلح الذي وقع بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية لم يكن صراعاً منشؤه الدنيا وزمامه تقديم المصالح الشخصية وهما الأمران اللذان يكوّنان أسس العلاقات السياسية على مرّ التاريخ، ففي القاموس السياسي للحكّام يكون عدو الأمس صديق اليوم وعدوّ اليوم صديق الأمس.
أمّا في قاموس شريعة السمحاء فـ "حلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"، ولذا: فمعاوية ومروان بن الحكم ونظراؤهما قبل الصلح هم أنفسهم بعد الصلح.
244
220
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
محاور الموضوع
قال الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام لمروان بن الحكم حينما أراد أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر وأمها العقيلة زينب عليها السلام، ليزيد بن معاوية فذكر أمام الحاضرين أنّ الغرض من هذه المصاهرة هو الإصلاح بين هذين الحيين.
فردّ عليه السلام الحسين عليه السلام قائلاً: "وأمّا صلح ما بين هذين الحيين، فإنّا قوم عاديناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري فلقد أعيا النسب فكيف السبب!"1.
الصلح في كلمات الإمام الحسن عليه السلام
ولقد أجاب الإمام الحسن عليه السلام عن هذا الإشكال بنفسه في غيرِ موقع:
أوّلاً: حينما سأله أبو سعيد عقيصاً، قال قلت للحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أنّ الحق لك دونه وأنّ معاوية ضالٌّ باغ؟.
فقال: "يا أبا سعيد، ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي عليه السلام"؟
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج44.
245
221
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
قلت: بلى. قال: "ألست الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى. قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذا قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية هي علة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل. يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة. وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ألا ترى الخضر عليه السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي, هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل"1.
ثانياً: يردّ الإمام الحسن عليه السلام على هذه الشبهة بموضع آخر فيقول عليه السلام: "والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى
1- علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص211.
246
222
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
يدفعوني إليه سلماً، فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيرهُ، أو يمنّ عليّ فتكون منّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمُنُّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت"1.
ثالثاً: وهناك ما هو أعظم من هذا، فمعاوية الذي استحلّ قتال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعمار بن ياسر، ومحمّد ابن أبي بكر، وحجر بن عديّ الكنديّ، وغيرهم كيف لا يأتي بما هو أعظم من قتل الإمام الحسن عليه السلام، وهو ما صرح به الإمام الباقر عليه السلام في حديثه مع سدير، قائلاً له: "يا سدير أذكر لنا أمرك الذي أنت عليه فإن كان فيه إغراق كففناك عنه وإن كان مقصّراً أرشدناك".
قال: فذهبت أن أتكلّم، فقال أبو جعفر عليه السلام: "أمسك حتى أكفيك، إنّ العلم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عليّ عليه السلام من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً، ثم كان بعده الحسن عليه السلام قلت: كيف يكون بذلك المنزلة وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية"؟.
1- الاحتجاج، للطبرسي، ج2، ص10.
247
247
223
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
فقال: "اسكت! فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمراً عظيماً"1.
رابعاً: ما يؤكّده التاريخ من محاولات عديدة لقتل الإمام الحسن عليه السلام فضلاً عن هروب الكثير من جيشه إلى الشام وتخاذل البعض الآخر.
تلك المحاولات كالآتي:
دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه إنّك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلام (استلام: أي لبس لامة الحرب)، ولبس درعاً وسترها وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة إلا كذلك فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة2.
خامساً: محاولة قتل الإمام: فلم تقف محنة الإمام عند هذا الحدّ فقد أقدم المرتشون والخونة والخوارج على قتله، فقد
1- علل الشرائع، ج1، ص211.
2- المصدر نفسه.
248
224
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
فقال: "اسكت! فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمراً عظيماً" .
رابعاً: ما يؤكّده التاريخ من محاولات عديدة لقتل الإمام الحسن عليه السلام فضلاً عن هروب الكثير من جيشه إلى الشام وتخاذل البعض الآخر.
تلك المحاولات كالآتي:
دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه إنّك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلام (استلام: أي لبس لامة الحرب)، ولبس درعاً وسترها وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة إلا كذلك فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة .
خامساً: محاولة قتل الإمام: فلم تقف محنة الإمام عند هذا الحدّ فقد أقدم المرتشون والخونة والخوارج على قتله، فقد
248
225
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
طعنه الجراح بن سنان في فخذه، وقال الشيخ المفيد رحمه الله: إنّ الحسن أراد أن يمتحن أصحابه في طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره فأمر أن ينادى بالصلاة جماعة فلمّا أجتمع الناس قام خطيباً فقال: "أما بعد فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة وأنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبّون في الفرقة وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأيي غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا"1.
قال: فنظر الناس بعضهم لبعض وهم يقولون ما ترونه يريد بما قال؟ واندفع بعضهم يقول: والله يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الأمر إليه فقالوا: كفر والله الرجل ثم شدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ثم شدّ عليه عبدالرحمن بن عبدالله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء ثم دعا بفرسه
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج44.
249
226
المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام
فركبه وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أراده.
فقال: أدعوا إليّ ربيعة وهمدان فدعوا فاطافوا به ودفعوا الناس عنه عليه السلام وسار معهم شعوب من غيرهم، فلما مرّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح ابن سنان فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وقال الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ثم طعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم ثم اعتنقه الحسن عليه السلام وخرّا جميعاً إلى الأرض فوثب إليه رجل من شيعة الحسن عليه السلام يقال له عبدالله بن خطل الطائي فانتزع المغول من يده وخضخض به جوفه فكب عليه آخر يقال له ضبيان بن عمارة فقطع أنفه فهلك الرجل من ذلك، وأخذ آخر كان معه فقتل، وحُمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن1.
1- الارشاد للمفيد، ج2، ص19.
250
227
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
تصدير الموضوع:
﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾.
الهدف:
التعريف بأهمّ خصائص ومميّزات القرآن الكريم كما وردت به، وبيان فضل تعلّم القرآن وتعليمه.
251
251
228
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
المقدَّمة
القرآن الكريم مصدر للحياة وإنّ ممّا يدلّ على سموّ الهدف، ونبل المقصد الذي لأجله نزل القرآن هذه الأوصاف التي أطلقها الله على كتابه، فهو، حسبما وصفه ربُّ العزّة، القرآن الكريم، والقرآن المجيد، والكتاب العزيز، والكتاب المبين، والذكر الحكيم، والذكر المبارك، والصحف المطهّرة، وأحسن القَصص، وأحسن الحديث، والبرهان، والفرقان، والحقّ، والسراج، والبلاغ، إلى آخر هذه الأسماء والأوصاف التي تعبّر عن جلال وعظمة القرآن في ذاته، وعظمة وسموّ الغاية التي لأجلها نزل. فكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى، ألا ترى أنّ كثرة أسماء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دلّت على علوّ رتبته وسموّ درجته؟ وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه وفضيلته.
خصائص القرآن في القرآن
إلى جانب الأوصاف السالفة الذكر نجد ربَّ العزّة تبارك وتعالى يُثني على كتابه بصفات تتعدّى إلى من أُنزل القرآن من أجلهم، والذين خوطبوا به.
إنه الروح: وذلك في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
252
229
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
أنه نور: وذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾3. وفي وصفه بالنور ما يشير إلى كونه سبباً في تلاشي الظلمات وتبديد حلكتها به، كما قال في آية أخرى: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾4.
إنه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدًى ورحمة للمؤمنين: ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾5، والموعظة هي بمعنى النصح والتذكير بالعواقب.
1- الشورى: 52.
2- الأنفال: 24.
3- النساء: 174.
4- إبراهيم: 1.
5- يونس: 57.
253
230
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
وفي وصف القرآن بأنه شفاء لما في الصدور بيان لكون القرآن يبني النفس الإنسانية بدفعها إلى الخيرات، ووقايتها من السيّئات، فهو شفاء للقلب والنفس والروح من كافّة الأدواء والعلل، مثل: الوسوسة، والشكّ والشرك، والنفاق، والطمع، والحسد، والبغي، وحبّ الظلم، وغير ذلك من العلل القاتلة.
وفي وصف القرآن الكريم بالهدى دليل على استقامة الطريق به، فلا اعوجاج ولا انحراف كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾1.
القرآن نور وهداية وباعتبار أنّ الهداية أصل في إنزال القرآن، ومظهر من مظاهر إعجازه، لذا نجد الله سبحانه وتعالى يؤكّد على هذا في العديد من الآيات، وقد أحصيت ما وصف الله فيه كتابه بالهدى فزادت على عشرين مرّة، وأحياناً كان يذكرها في الآية الواحدة مرّتين، وذلك كقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾2.
1- الإسراء: 9.
2- البقرة: 185.
254
231
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
ينتج من هذا كلّه أن يكون القرآن الكريم رحمة من الله ساقها لعباده، وهو ما ختمت به الآية الكريمة من أوصاف القرآن الكريم.
إنه نعمة: لم يخصّ الله بها رسوله فقط، بل هو لكلّ الناس، وشكرها واجب عليهم جميعاً، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ﴾1. فمن اتعظ بالقرآن كان له رحمة، ومن خالف أوامره كان عليه لعنة.
إنه أحسن الحديث: قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾2، لأنه يقدم للإنسان سبيل خلاصه مستفيداً من تجارب الماضين وعبر الحاضر.
وهكذا كل وصف أطلقه الله على القرآن الكريم نجد جانباً مشرقاً يعبر عن سمو الغاية، ونبل الهدف الذي لأجله أنزل الله القرآن، والحقيقة أنّ الدنيا كلّها لو أشبعت القرآن ثناء فلن توفّيه حقّه, لأنها لا تحيط به علماً. فما سجلوه في حق القرآن
1- البقرة: 231.
2- الزمر 23.
255
232
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
قطرة من بحر، بجانب ما ذكره الله تعالى في وصف كتابه، وأبان به عن سموّ غايته، وجلال رسالته. هذا الخير العظيم الذي احتوى عليه القرآن الكريم في آياته ظهرت ثمراته وبركاته واضحة جليّة على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأجيال التي تلتهم، فأعزّهم الله بعد ذلّ وجمعهم بعد فرقة، وأصبحوا سادة بعد أن كانوا عبيداً، ودعاة بعد أن كانوا رعاة.
السرُّ في تحوّل العرب وقوتهم: لقد كان السرّ وراء هذا التحوّل كلّه في حياة العرب نزول القرآن الكريم، إذ لم يكن بديارهم قبل نزول القرآن معاهد للتعليم، ولا أساتذة للتربية، وكانوا إلى جانب ذلك فقراء في أسباب الحضارة ومظاهرها، فهم قبائل مشتّتة يثور فيما بينهم التنازع لأتفه الأسباب، ومعبوداتهم من الأصنام والأوثان، وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية في أدنى الدرجات، ولم يكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول القرآن عليه أستاذ يعلّمه أو كتاب يقرؤه: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾1. وفي الدلالة على كون القرآن الكريم هو
1- العنكبوت: 48.
256
233
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
العامل الأساسيّ في إخراج الأمم من أوضاعهم المتردّية إلى ما يسمو بإنسانيتها قول الله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾1 والشاهد في الآية أنّ الله جعل القرآن وسيلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي بها يستخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولم يفقد القرآن الكريم خاصيته تلك، بل بقي وسيبقى أبد الدهر لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ.
الغاية العظيمة من القرآن هي تكوين الأمّة ومن خلال ما ذكرناه في النقاط الخمس السابقة يتّضح لنا أنّ الله تعالى أنزل هذا القرآن لغاية عظيمة، هي تكوين الأمّة، وصناعتها على عين الله، بحيث تتميّز في عقائدها وعبادتها وأخلاقها، وتتبوّأ مكان الصدارة على غيرها في هذه الدنيا، فإذا كانت يوم القيامة نالت شرف الشهادة على الناس جميعاً.
العمل بالقرآن أمر ملحٌّ، ولذا كان العمل بالقرآن والتزام تعاليمه فريضة على كلّ مسلم، ومطلباً ملحاً أكد عليه ربُّ
1- إبراهيم: 1.
257
234
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
العزّة مراراً وتكراراً، ونضرب لذلك بعض الأمثلة:
فمرّة يأمر الله عباده باتباع القرآن والسير على نهجه فيقول: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾1.
ومرّة يأمرنا بالاستمساك به وعدم التفريط فيه فيقول: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾2.
وثالثة يدعونا إلى تحكيمه في كلّ ما ينزل بنا، ويحذرنا من الميل بأهوائنا بعيداً عن هديه فيقول: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾3.
ورابعة يدعونا إلى تلاوته: ويثني على من يواظبون على تلاوة القرآن فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن
1- الأنعام: 155.
2- الزخرف: 43.
3- المائدة: 49.
258
235
المحاضرة السادسة: أوصاف القرآن من القرآن
فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾1. تلاوة القرآن أعمّ من أن تكون باللسان وقد تكرّر الأمر بتلاوة القرآن في كثير من الآيات حتى عدّ في بعضها هدفاً بُعث لأجله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في نحو قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾2. والتلاوة في هذه الآيات وأمثالها أعمّ من أن تكون مجرّد ترديد اللسان.
1- فاطر: 29 ـ 30.
2- الرعد: 30.
259
236
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
تصدير الموضوع:
﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾1.
الهدف:
بيان فضيلة هذه الليلة وترسيخ أهمية وفضيلة إحيائها.
1- الدخان: 2 ـ 6.
261
237
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
المقدَّمة
تمثل ليلة القدر عقدة القلب في شهر رمضان، وتبلغ فيها المكرمات قمّة نبوغها، وأمر الله تعالى عباده أن يحيوها بأكرم أعمالهم، ويبلغوا فيها أبلغ آماد الصفاء والخشوع ... ثمّ ردّدها في ليالٍ عديدة، كي ينصرف الناس فيها إلى الحسنات، وهم لا يخسرون المعروف إن وفّروه في غير ليلة القدر، بل يحتفظون بآثاراته في ركائزهم، مهما تقادمت العهود، وربما كانت الأخيرة ليلة القدر، فالسابقات ترهف تأهّبهم، واعتيادهم العبادة لليلة القدر....
ومن فضل الله سبحانه، أن جعل تصريف الأقدار في هذه الليلة المباركة، التي يخلص الناس فيها لله، وينـزعون من صدورهم الأحقاد، والنوايا السوداء، ويحاولون إشاعة المعاني النبيلة في نفوسهم، فيكون أقرب إلى الأقدار الخيّرة، عمّا لو كانت الأقدار توزّع وتأخذ مقرّراتها ومراكزها والناس منهمكون في اشتباك مستميت حول جيفة الدنيا....
وقد قيل: إنّ شهر رمضان هو ليلة القدر.
262
238
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
احاديث في فضلها
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزَّ وجلَّ اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر"1.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "آمنو بليلة القدر، إنها تكون لعليّ بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعدي"2.
وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عليّ، أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: إنّ الله تبارك وتعالى قدَّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكان فيما قدّر عزَّ وجلَّ ولايتك، وولاية الأئمّة من ولدك إلى يوم القيامة"3.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ ... ليلة القدر خُصّصنا ببركتها ليست لغيرنا"4.
1- كمال الدين واتمام النعمة، الشيخ الصدوق.
2- الوافي، الكاشاني، ج2.
3- معاني الأخبار، الصدوق.
4- بصائر الدرجات.
263
239
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
قال الإمام الباقر عليه السلام: "من وافق ليلة القدر فقامها غفرالله له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر"1.
وعن الإمام الباقر عن آبائه عليه السلام: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تغفل عن ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أو ينام أحد تلك الليلة"2.
سأل رجل الإمام الصادق عليه السلام عن ليلة القدر، قال: أخبرني عن ليلة القدر، كانت أو تكون في كلّ عام؟
فقال الإمام عليه السلام: "لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن"3.
وعنه أيضاً عليه السلام: "صبيحة يوم ليلة القدر مثل ليلة القدر، فاعمل واجتهد"4.
ليلة القدر ليلة لا يضاهيها في الفضل والمنزلة سواها من الليالي على الإطلاق، والعمل فيها خير من عمل ألف شهر، وفيها من الكرامات والفيوضات الإلهية ما لا يحصى.
1- دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج1.
2- بحار الأنوار، ج94.
3- تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج6.
4- الأمالي، الصدوق.
264
240
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
سِرُّ خفائها
وتعمدت النصوص إبقاء هذه الليلة مرددة بين ثلاث ليالٍ، وقد سئل أبو جعفرعليه السلام في عدّة أحاديث عن ليلة القدر، أيّ الليلتين هي؟ فلم يعيّن، بل قال: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب، أو قال ما عليك أن تفعل خيراً في ليلتين"1.
وقد ورد في سرّ خفائها أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها: أنه تعالى أخفاها، كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغبوا في الكلّ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كلّ الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظّموا كلّ الأسماء، وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكلّ، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلّف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلَّف، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظِّموا جميع ليالي رمضان.
ثانيها: كأنه تعالى يقول: لو عيّنت ليلة القدر، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة
1- مشارق الشموس، المحقق الخوانساري، ج2، ص446.
265
241
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
إلى المعصية، فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشدَّ من معصيتك لا مع علمك، فلهذا السبب أخفيتها عليك. رُوي أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائماً، فقال: "يا عليّ نبهه ليتوضّأ، فأيقظه عليّ، ثم قال عليّ: يا رسول الله إنك سبّاق إلى الخيرات، فلِمَ لم تنبهه؟ قال: لأنّ ردّه عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى". فإذا كان هذا رحمة الرسول، فقس عليه رحمة الربّ تعالى، فكأنه تعالى يقول: إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب.
ثالثها: أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلّف في طلبها، فيكتسب ثواب الاجتهاد.
رابعها: أنّ العبد إذا لم يتيقّن ليلة القدر، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، يقول: "كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء".
266
242
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
السنة كلّها من الأعمار والأرزاق والإبتلاءات وسوى ذلك، ولا يخفى أنّ تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ.
6- نزول الملائكة: قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾1. وهي التي تتشرّف بالحضور بين يدي صاحب العصر والزمان وتعرض عليه ما قدّر الله لكلٍّ من المقدّرات.
7- ليلة سلام ورحمة: قال تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾2.
فضيلة إحياء ليلة القدر
وهذه الليلة يُستحبُّ إحياؤها حتى مطلع الفجر بالأعمال الخاصّة والعامّة الواردة وبالإكثار من الصلاة والإستغفار والدعاء لمطالب الدنيا والآخرة، والدعاء للوالدين والأقارب والإخوان
1- القدر، 4 .
2- القدر، 5 .
268
244
المحاضرة السابعة: ليلة القدر
المؤمنين والصلاة على النبي وآله، فقد ورد في الحديث عن الامام الباقرعليه السلام: "من أحيا ليلة القدر غُفرت له ذنوبه ولو كانت عدد نجوم السماء ومثاقيل الجبال ومكاييل البحار"1.
وأمّا ما يُستحبُّ الدعاء به فقد رُوي أنّ النبيّ قيل له: "ماذا أسأل الله تعالى إذا أدركت ليلة القدر"؟ قال:"العافية"2.
1- فضائل الاشهر الثلاثة، الشيخ الصدوق، ص118.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج7، ص458.
269
245
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾1.
الهدف:
إبراز بعض الجوانب الدينية لمفهوم العيد من خلال آيات من سورة المائدة.
1- المائدة: 114.
271
246
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
المقدَّمة
رُوي عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: "اليومَ لنا عيد، وغداً لنا عيد، وكلَّ يوم لا نعصي الله فيه, فهو لنا عيد"1، نحن ننتظرُ سَنة كاملة ليأتي العيد، ولكن أمير المؤمنين عليه السلام يوسّع من المفهوم، فبإمكان الإنسان أن يحوِّل كُلَّ يَوم إلى يومِ عيد: فمن لا يُذنب مِنَ الصباحِ إلى الليل, معَ غروب الشمس فإنّ ذلك اليَوم هو يومُ عيد له.
الرواية الثالثة: قال الإمام الصادق عليه السلام: (للصائم فرحتان: فرحةٌ عند الإفطار، وفرحةٌ عند لقاء الله عزَّ وجلَّ).. إنّ البعض يُفسّر عبارة "عندَ إفطارهِ", أي عندَ إفطارهِ في كُلِّ يَوم!.. ولكنّ هُناكَ معنى آخر, أي: "عندَ فطره في العِيد"، فالصائم يفرحُ بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أعانهُ على صيامِ هذا الشَهر.
قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنما هو عيد لمن قبلَ الله صيامه وشكر قيامه2".
1- شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، ج17.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص308.
272
247
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
محاور الموضوع
تناول القرآن الكريم في أواخر سورة المائدة مفهوم العيد من خلال الحوار الذي دار بين عيسى عليه السلام والحواريّين، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾1.
ومن الواضح أنّ الحواريين طلبوا من نبي الله عيسى عليه السلام إنزال هذه المائدة من السماء ليس على نحو الاعتراض على
1- المائدة: 111 ـ 115.
273
248
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
قدرة الله، وإنما بحسب الآية استهدفوا أربع مسائل أساسية:
﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾1.. إن الهَدف من هذا الطَلب:
أوّلاً: الأكل: هم يريدون أن يأكلوا من هذهِ المائدة، يقال إنّهم طلبوا مائدة فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم مائدة فيها السَمَك كما روي عن ابن عبّاس حيث قال: "نزل على عيسى ابن مريم والحواريّين خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا"2.
ثانياً: الاطمئنان: إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام كان أعلى درجة من الحواريّين فهو لا يُقاس بهم، ومع ذلك تقول الآية: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾3، أيضاً الحواريّون طلبوا من اللهَ عزَّ وجلَّ إنزالَ مائدةِ تقوّي قلوبهم على الإيمان.
ثالثاً: التصديق: أي أنّ هذه المائدة تكشف لنا عن صدق
1- المائدة: 113.
2- الدر المنثور في التفسير المأثور، السيوطي، ج2.
3- البقرة: 260.
274
249
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
ما جئتنا به من الوحي عن الله تعالى فنؤمن لك ونعترف لك بأنّ ذلك إنما هو من ربِّ العالمين.
رابعاً: الإعتراف يالآية: بمعنى أن يحدّثوا الناس بهذه الآية التي شهدوها بأمّ أعينهم فيكونوا بذلك دعاة إلى الله تعالى وإلى تعاليم السيّد المسيح.
- ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾1.. أنظروا إلى أدب المسيح عيسى ابنِ مريم عليه السلام!.. هو رَفعَ هذا الطَلب إلى السَماء، ولكن بشيءٍ من التحوير والتبديل، ما قال: "اللهمّ!.. أنزل علينا مائدةً لنأكل منها، وتطمئنَّ قلوبنا"، بل قال:
أولاً: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾2..أي أن يكون هذا اليوم يوماً خالداً في الأمة وليس يوماً لخصوص من رأوا الآية بل للأوّلين والآخرين على حدّ سواء، يقول المسيح
1- المائدة: 114.
2- المائدة: 114.
275
250
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
عليه السلام: "رَبّنا أنتَ عندما تُنزل علينا مائدة, فهذا لطف وكرامة تنزلهما على الأمة، لذا فإننا نتخذُ هذا اليَوم عِيداً لأوّلنا وآخرنا, أي في كُلِّ عامٍ نتذكّرُ فيه إنزال هذهِ المائدة، نحتفل بذلك اليَوم.. فإن كان نزولُ المائدة من السماء مناسبة للاحتفال والعِيد, فكيفَ بنزول ما هو أعظم من المائدة"؟!
ثانياً: ﴿وَآيَةً مِّنكَ﴾1.. هذهِ المائدة آيةٌ إلهية، وآيةٌ سماوية, أي: اجعل هذهِ المائدة علامة من علامات العناية الخاصة بأُمّة المسيح عليه السلام.
ثالثاً: ﴿وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾2.. ثم دعا أخيراً باستدرار الرزق من الله إذ جَعلَ الأكلَ من هذا الطعام في مرحلةٍ لاحقة.
فإذاً، إنّ المسيح عليه السلام طلب أن يكون هذا الطعام آية، وعلامة من علامات العناية الإلهية, وهذا أمر معنويّ، ثُمَّ بعد ذلك طلب الرزق الماديّ.. فالحواريّون جعلوا الطعام مُقدّماً على اطمئنان القَلب، بينما المسيح عليه السلام جَعلَ اطمئنانَ
1- المائدة: 114.
2- المائدة: 114.
276
251
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
القَلب مُقدّماً على الأكل وعلى الرزق.
رابعاً: إنّ هذه المائدة التي ينزلها الله تعالى على الأمّة أصبحت تشكّل تكليفاً جديداً للأمّة بضرورة الإيمان والرجوع إلى الله وعدم السقوط في المعصية, لأنّ بها تمّت الحجّة على الناس، يقول تعالى: ﴿قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾1 لذا إن كفرتم بهذه النعمة سيكون هناك عذاب خاصّ بكم.
.. ولكنّ هذا التهديد لم يَكُن حَصراً على الحواريّين، بل يشمل كلّ إنسان نزلت عليه مائدة سماوية، فمن شملتهُ النفحات الإلهيّة في شهرِ رمضان المُبارك، وأحيا ليلة القَدر إحياءً مُناسباً، ورَقَّ قلبه، وجرت دمعته، وأحسَّ بجوٍّ خاصّ, فهذهِ مائدة سماوية نزلت عليه.
فإذاً، لنحذَر المعصية بَعدَ مواسم الطاعة، فالإنسان الذي عمل شَهراً كاملاً: قامَ ليلاً، وصامَ نهاراً، وتلا كتابَ رَبه، ومرّت عليهِ ليالي القَدر ببركاتها المعهودة، وبَعدَ الشَهر الكريم في أوّلِ يَوم من أيام العِيد وقعَ في هفوة قوليّة أو نظريّة ولو الصغيرة, آلا يُعدُّ
1- المائدة: 115.
277
252
المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم
هذا من باب الكُفران بالنعمة الإلهيّة, بنعمة المائدة؟.. ولهذا البعض في شهرِ شوال يرى قساوةً في قلبه، فالبَعض في يوم العيد يرتكب ما لم يَكُن يرتكبه قَبلَ شهرِ رمضان المُبارك، علينا أن نحذر كُفران النِعم الباطنية والمعنويّة، فربّ العالمين هدّد الحواريّين بأنَّ الكُفران بَعدَ نزول المائدة فيهِ عذابٌ عَظيم!..
وفي الختام من الضروريّ التعرّض لمسألة ابتلائية كبيرة تصيب أكثرنا في أيام الأعياد، وهي مسألة الإسراف في الطعام، فقد نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام: "دخلت عليه يوم عيد، فإذا عنده فاثور (أي خوان) عليه خبز السمراء، وصفحة فيها خطيفة (أي لبن يطبخ بدقيق)، وملبنة (أي ملعقة).. فقلت: يا أمير المؤمنين!.. يوم عيدٍ وخطيفةٍ؟.. فقال: إنما هذا عيدُ من غُفر له"1.
وهذه الرواية تشير إلى مسألة ابتلائية كبيرة وهي أننا في الأعياد نتفنّن في المَطْعَمِ والمَشرَب، بل أكثر من ذلك نُبتلى بالإسراف والتبذير برمي الطعام، ولعلّ ذلك كان سائداً حتى في زمن أمير المؤمنين عليه السلام، ولذلك استنكر السائل
1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر اشوب، ج1.
278
253