الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-07

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدّمة


الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد وآله الطّيبين الطاهرين.

لا ينظر الفكر الإسلاميّ إلى تأسيس الدولة الإسلاميّة وقيامها على أنّها مجرّد ضرورة شرعيّة فحسب, بمعنى إقامة حكم الله على الأرض وتجسيد لدور الإنسان في خلافة الله تعالى، بل ينظر إليها ـ بالإضافة إلى ذلك ـ على أنّها ضرورة حضاريّة أيضاً, بمعنى أنّ الإسلام يملك معطيَات حضاريّة عظيمة، وقدرات هائلة يتميّز بها عن أيّ تجربة اجتماعيّة أخرى، بحيث يُشكّل المنهج الوحيد الّذي يُمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالَم الإسلاميّ المعاصر، والارتفاع به إلى مركزه الطبيعيّ على صعيد الحضارة الإنسانيّة، وإنقاذه ممّا يُعانيه من ألوان التشتُّت، والتبعيّة، والضياع، والتخلّف.

ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي تلك المميّزات والقدرات الهائلة الّتي انفرد بها الإسلام في بناء حضارة الإنسان المعاصر، وتنميتها، وتطويرها عن أيّ تجربة سياسيّة،

 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

  أو اجتماعيّة، أو اقتصاديّة أخرى؟!


للإجابة على هذا السؤال، والتعرّف على الرؤية الإسلاميّة الّتي قدّمها الشهيّد الصدر قدس سره بقلمه الشريف ضمن هذا السياق، سوف نعرض هذا البحث القيّم.

وعلى ضوء ذلك قام مركز نون للتأليف والترجمة باختيار هذا البحث ـ الّذي بين يدي القارئ العزيز ـ من كلمات الشهيد الصدر قدس سره، حيث تمّ تهذيبه وتشذيبه من بعض المكرّرات، مع التصرّف البسيط بالعبارة بغية المحافظة قدر الإمكان على عبارة الشهيد الصّدر قدس سره، هذا مع إضافة بعض العناوين للفقرات والمواضيع، وإعادة ترتيب بعضها.

ولذا يُعدّ هذا البحث تلخيصاً لدراسة الشهيّد الصدر قدس سره الّذي قدّم فيه رؤيته حول منابع القوّة والقدرة الّتي تفرّد بها الإسلام في بناء حضارة الإنسان على مرِّ التأريخ، ولا سيّما في ظلِّ متطلّبات العصر الحديث ومتغيّراته، وقد نُشرت هذه الدراسة ضمن كتاب (الإسلام يقود الحياة)، وهو من منشورات دار التعارف، بيروت ـ لبنان، طبع في العام 1424هـ .

مركز نون للتأليف والترجمة

 
 
 
 
6

2

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 الأهداف


1 ـ التعرّف إلى منابع القدرة والقوّة في الإسلام.

2 ـ التعرُّف إلى دور الإسلام وقدراته الهائلة والفريدة في بناء حضارة الإنسان سيّما في عصرنا الحديث.

3 ـ التعرُّف إلى العناصر الإسلاميّة القادرة على الاستنهاض والتجديد والتغيير في حياة الأمة الإسلاميّة، والخروج بها من حالة التخلُّف، والضياع، والتبعيّة، والاستغلال.

4 ـ التعرُّف إلى المرتكزات التأريخيّة، والفكريّة، والفلسفيّة في النظرة إلى الحياة بين الإسلام والغرب.
 
 
 
 
 
 
7

3

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 منابع القدرة والقوّة في حضارة الإسلام:


للوقوف على حقيقة المميّزات والقدرات الهائلة الّتي يتمتّع بها الإسلام العظيم، سوف نستعرض ذلك من خلال مبحثين:

الأوّل: التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة.

الثاني: التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر.

المبحث الأوّل ـ التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة:

إنّ كلّ مسيرة واعية لها هدف، وإنّ كلّ حركة حضاريّة لها غاية تتّجه نحو تحقيقها، بالتّالي كلّ من المسيرة والحركة الهادفتين يستمدّان وقودهما، وزخمهما، واندفاعهما من الهدف الّذي يسيران نحوه، ويتحرّكان إلى تحقيقه. ولكن قد تتحوّل هذه الحركة أو المسيرة إلى سكون وتوقّف حينما
 
 
 
 
 
 
 
9

4

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  يُستنفد الهدف، فعلى سبيل المثال: عندما يقوم فرد ما بالسعي الجدّي في سبيل الحصول على درجة علميّة وشهادة معيّنة ـ كهدف ـ فإنّنا نُلاحظ أنّ الجذوة تظلّ متّقدة في نفسه وتدفعه باستمرار نحو تحقيق الهدف الّذي يسعى للحصول عليه، حتّى إذا أنجز ذلك انطفأت الجذوة، وانتهى التحرُّك، وفقد أيّ مبرّر للبقاء ما لم يبرز هدف جديد. والشيء نفسه يصدق على المجتمعات, فإنّها كلّما تبنّت في تحرُّكها الحضاريّ هدفاً أكبر استطاعت أن تواصل السير، وتعيش جذوة الهدف شوطاً أطول، وكلّما كان الهدف محدوداً كانت الحركة محدودة، واستنفد التطوّر والإبداع قدرته على الاستمرار بعد تحقّق الهدف المحدود.


ومن هنا واجهت الفلسفة الماركسيّة القائمة على أساس (المادّيّة التأريخيّة)، مشكلة فيما يتّصل بتصوّراتها الفلسفيّة عن مسار التطوّر البشريّ التأريخيّ وفقاً لقوانين الجدليّة الديالكتيكية، وهي ـ أي المشكلة ـ أنّ الهدف اللاواعي الّذي تفترضه الماركسيّة لحركة التأريخ ومسيرة 
 
 
 
 
 
 
10

5

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 الإنسان هو إزالة العوائق الاجتماعيّة عن نمو القوى المنتجة ووسائل الإنتاج، وذلك بالقضاء على الملكيّة الخاصة وإقامة المجتمع الشيوعيّ، فإذا كان هذا هو هدف المسيرة، فهذا يعني أنّها ستتوقّف، وأنّ تطوّر وإبداع الطاقة الإنسانيّة سيجمد في اللحظة الّتي يقوم فيها المجتمع الشيوعيّ، بالنتيجة تتوقّف حركة التأريخ البشريّ ومسيرته ككلّ.


والحقيقة أنّ الهدف الوحيد الّذي يضمن للتحرُّك الحضاريّ للإنسان أن يواصل سيره، وجذوته باستمرار، هو الهدف الّذي يقترب منه الإنسان باستمرار، ويكتشف فيه كلّما اقترب منه آفاقاً جديدة وامتدادات غير منظورة تزيد الجذوة اتقاداً، والحركة نشاطاً، والتطوّر إبداعاً.

وهنا يأتي دور الدولة الإسلاميّة لتضع الله عزَّ وجلَّ هدفاً للمسيرة الإنسانيّة الصالحة، وتطرح صفات الله وأخلاقه كمعالِم لهذا الهدف الكبير. وبالتّالي كلّما اقتربت المسيرة الإنسانيّة وحركتها خطوة نحو هذا الهدف، وحقّقت شيئاً منه انفتحت أمامها آفاق أرحب، وازدادت عزيمة لمواصلة
 
 
 
 
 
11

6

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الطريق, لأن الإنسان المحدود لا يُمكن أن يصل إلى هدفه المطلق، ولكنّه كلّما توغّل في الطريق إليه اهتدى إلى جديد، وامتدّ به السبيل سعياً نحو المزيد، وهو القائل سبحانه في محكم كتابه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا1 ، ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا2.

 
بالنتيجة: فإنّ التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة الّذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته، ويجعل من الله هدفاً للمسيرة وغاية للتحرّك الحضاريّ الصالح على الأرض، هو التركيب العقائديّ الوحيد الّذي يمدُّ الحركة الحضاريّة للإنسان بوقود وقوّة لا ينفدان أبداً.

هذا، وبعد أن تعرّفنا على التركيبة العقائديّة للدولة الإسلاميّة وهدفها السامي والحقيقي وهو الله تبارك وتعالى، لا بُدّ أن نتطرّق إلى نقطتين مهمّتين ـ ضمن هذا
 
 
 

1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2-سورة الكهف، الآية: 109.
 
 
 
 
 
 
12

7

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 السياق العقائديّ ـ نبيّن فيهما الجانب الأخلاقيّ وآثاره من جهة، والجانب السياسيّ ومدلولاته من جهة أخرى.


1ـ أخلاقيّة التركيب العقائديّ للدولة:

إنّ إقامة الحقّ والعدل وتحمُّل مشاهد البناء الصالح بحاجة إلى دوافع تنبع من الشعور بالمسؤوليّة والإحساس بالواجب، وهذه الدوافع تواجه ـ دائماً ـ عقبة تحول دون تكوّنها أو نموها، وهذه العقبة هي الانشداد إلى (الدنيا) وزينتها والتعلُّق بها مهما كان شكلها.

فإنّ هذا الانشداد والتعلُّق يُجمّد الإنسان في كثير من الأحيان، ويوقف مساهمته في عمليّة البناء الصالح, لأنّ المساهمة في كلّ بناء كبير تعني كثيراً من ألوان الجهد والعطاء، وأشكالاً من التضحية والأذى في سبيل الواجب، وتحمّلاً شجاعاً للحرمان من أجل سعادة الجماعة البشريّة ورخائها، وليس بإمكان الإنسان المشدود إلى زخارف الدنيا والمتعلّق بملذّاتها، أن يتنازل عن هذه الطيّبات الرخيصة ويخرج من نطاق همومه اليوميّة الصغيرة إلى هموم البناء
 
 
 
 
 
 
 
13

8

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الكبيرة. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: "من أصبح والدنيا أكبر همّه فليس من الله في شيء"1. بالتّالي فإنّ هذا الأمر يترتّب عليه انحراف الإنسان، وتخلّيه عن دور الخلافة الرشيدة على الأرض، وارتكاب الأخطاء والمعاصي, كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حبُّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة"2.

 
لذا كي تُجنّد طاقات كلّ فرد للبناء الكبير، لا بُدّ من تركيب عقائديّ له أخلاقيّة خاصة تُربّي الفرد على أن يكون سيّداً للدنيا لا عبداً لها، ومالكاً للطيّبات لا مملوكاً لها، ومتطلّعاً إلى حياة أوسع وأغنى من حياة الدنيا الزائلة، ومؤمناً بأنّ التضحية بأيّ شيء على الأرض هي تحضير وتمهيد بالنسبة إلى تلك الحياة الأخرويّة الدائمة، الّتي أعدّها الله تعالى للمتّقين من عباده.
 
وهذا التركيب العقائديّ ـ الأخلاقيّ قد حدّد معالمه العامّة
 
 
 

1-  النراقي، جامع السعادات، ج2، ص26.
2- الكليني، الكافي، ج2، ص315، ح8.
 
 
 
 
 
 
14

9

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الإسلام العظيم من خلال القرآن والسنّة، وذلك من أجل أن ينتزع من الفرد المسلم تعلُّقه الشديد بالدنيا وملذّتها، فأعطى للدنيا حجمها الطبيعيّ, أي أنّ الدنيا حينما تُتّخذ كهدف فهي تتعارض مع الآخرة وتتحوّل من دار للتربية إلى أرض للّهو والفساد. قال تعالى: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ1.

 
وأمّا حينما تتّخذ الدنيا طريقاً للآخرة, أي أداة يُنمّي الإنسان في إطار خيراتها وجوده الحقيقيّ، وعلاقته بالله، وسعيه المستمرّ نحو المطلق في عمليّة البناء، والإبداع، والتجديد، فإنّ الدنيا تتحوّل ـ في هذه النظرة ـ من كونها مسرحاً للتنافس والتكالب على المال إلى مسرح للبناء الصالح والإبداع المستمرّ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَِ2.
 
 
 

1- سورة الحديد، الآية: 20.
2- سورة القصص، الآية: 77.
 
 
 
 
 
15

10

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 بالنتيجة: إنّ كلّ إنسان يؤمن بالنظرة الإسلاميّة إلى الدنيا، لا بُدّ أن يُجسّدها في سلوكه، وذلك من خلال ما يأخذه من الدنيا ويستمتع بحلالها وطيّباتها بقدر حاجته, لأنّ الدنيا وضعت في الأساس لسدّ الحاجة لا للاكتناز والتكاثر، وما دامت لا تُشكِّل للإنسان هدفه، وإنّما تُجدّد قدرته باستمرار على مواصلة الكدح في طريقه إلى ربّه وتحقيق هدفه، فمن الطبيعيّ أن يأخذ الإنسان منها حاجته ويوظّف الباقي للهدف الكبير, لأنّه إذا احتكر لنفسه أكثر من حاجته تحوّلت الدنيا بالنسبة إليه إلى هدف، وخسر بذلك دوره الصالح على الأرض وانحرف عن أهداف المسيرة الإسلاميّة الرشيدة، ووقع تحت ألوان الاستغلال، والظلم، والطغيان، ولهذا قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر"1.

 
وبهذا البناء الصالح للمواطن في الدولة الإسلاميّة يستطيع الإنسان أن يتحرّر من مفردات الدنيا، ويرتفع عن
 
 
 

1- النراقي، جامع السعادات، ج2، ص27.
 
 
 
 
 
 
 
16

11

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 وأصبح من المستحيل التخلّي عنها بسهولة لدى جزء كبير من الأمّة. بل ستواجه تلك الحركة التجديديّة التغييريّة ردّة فعل ومعارضة دينيّة واجتماعيّة ترفض كلّ القيم والمفاهيم الجديدة الّتي ستأتي بها.


هذا الواقع سيضع حركة التجديد والتغيير غير الإسلاميّة بين خيارين:

ـ إمّا أن تُحاول استئصال الجذور النفسيّة لهذا التحفُّز الرافض والمناهض لها، باعتباره الأساس التقليديّ والدينيّ الّذي يعكس مشاعر الحفاظ والتمسُّك بالتقاليد والعادات السائدة. ولكن هذا الخيار لا يحلُّ المشكلة ـ واقعاً ـ بل سيزيدها تعقيداً, لأنّه ستكشف حركة التجديد عن وجهها العدائي الصريح للدِّين، وستطرح نفسها كبديل عنه، وهذا ما سيُكلِّف عمليّة البناء جهداً كبيراً في ظلِّ معارضة شديدة من قِبَل الجزء الأعظم المحافظ والتقليديّ في الأمّة.

ـ وأمّا الخيار الثاني أن تُحاول حركة التجديد والتغيير فصل الدِّين عن هذه التقاليد، والعادات، والأعراف،
 
 
 
 
 
 
36

12

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الهموم الصغيرة الّتي تفصله عن الله تعالى، ويعيش من أجل الهموم الكبيرة، وبذلك يواجه أعظم مسؤوليّات البناء بصدر رحب، وقلب مطمئن، ونفس قويّة، ومعادلة حسابيّة رابحة، لا موضع فيها للخسارة بحال من الأحوال، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ1.

 
2 ـ المدلولات السياسيّة لتركيب الدولة الإسلاميّة العقائديّة:
 
تقوم المدلولات السياسيّة في التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة بأدوار عظيمة في تنمية كلّ الطاقات الخيّرة لدى الإنسان وتوظيفها لخدمة الإنسانيّة كلّها، فمن تلك المدلولات ما يلي:
 
أ ـ استئصال الدولة الإسلاميّة كلّ علاقات الاستغلال الّتي تسود المجتمعات الجاهليّة، وتحرير الإنسان من 
 
 
 

1- سورة الصف، الآيتان: 10- 11.
 
 
 
 
 
 
17

13

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 استغلال أخيه الإنسان في كلّ المجالات والنواحي، الأمر الّذي يوفّر للمجتمع طاقتين للبناء، هما:


ـ الأولى: طاقة الإنسان المستغَل الّذي تمّ تحريره, لأنّ طاقته كانت تُهدر لحساب المصالح الشخصيّة للآخرين، أمّا بعد تحريرها فهي تُصبح طاقة بنّاءة لخير الجماعة البشريّة ككلّ.

ـ الثانية: طاقة الإنسان المستغِل الّذي كان يُبدّد إمكاناته في تشديد قبضته على مستغَلّيه، بينما تعود هذه الامكانات بعد التحرير إلى وضعها الطبيعيّ، وتتحوّل إلى امكانات بناء وعمل.

ومن هنا نعرف كم من قابليّات وإمكانات تذوب في ظلّ حكم الطاغوت في إطار علاقات الاستغلال، أو يُمارس الظالمون تذويبها ومحاصرتها، بينما تجد لها في المناخ الحرَّ الرشيد الّذي تخلقه الدولة الإسلاميّة القدرة على النمو والامتداد. وقد شهد تأريخ الإسلام على نماذج عدّة من الشخصيّات الّتي كانت عبيداً أو أشباه العبيد
 
 
 
 
 
 
18

14

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  في مجتمعات الجاهليّة، وإذ بها تتحوّل في ظلّ الرعاية الإسلاميّة الكريمة والمنصفة إلى قادة كفؤة ومبدعة في مختلف مجالات الحياة الفكريّة، والسياسيّة، والعسكريّة, وذلك لأنّ الصالح للفرد في الدولة الإسلاميّة لا يُحدّده أيّ اعتبار (عرقيّ ـ نسبيّ ـ مركزيّ ـ ماليّ... ألخ) سوى قدرات الفرد وقابليّاته الخاصة.


ب ـ ومن المدلولات السياسيّة للدولة الإسلاميّة، الوضع الواقعيّ والفعليّ الّذي يعيشه الحاكم والحاكمون في الدولة الإسلاميّة، فإنّهم يعيشون مواطنين اعتياديّين في حياتهم الخاصة، وسلوكهم مع الناس، ومساكنهم الّتي يسكنونها، وعلاقاتهم مع الآخرين.

بينما الوضع القانونيّ ـ الوضعيّ لا يعكس ولا يُحقّق القدوة الصالحة في واقع الحياة العمليّة، بل هو لعبة تشريعيّة يُمارسها الطغاة والظلمة من خلال صياغة دساتير لشعوبهم مملوءة بمفاهيم المساواة والعدل بين الحاكم والمحكومين، ولكنّها تظلّ في واقع الحياة العمليّة مجرّد 
 
 
 
 
 
 
19

15

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 ألفاظ لا عطاء فيها ولا بناء، وليس لها من دور إلا التستّر على واقع التناقض بين حياة الحاكم وحياة المحكومين، وامتيازات الحاكم وهوان المحكومين.
 
أمّا في الدولة الإسلاميّة فتلك المفاهيم لا تُطرح على مستوى نقوش جميلة في لوحة الدستور، بل على مستوى تطبيق عمليّ وممارسة فعليّة في واقع الحياة. وقد شهدت التجربة الإسلاميّة بتأريخها الماضي والمعاصر على ذلك، ففي تأريخ التجربة الماضية وقف رئيس الدولة الإسلاميّة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بين يدي القاضي مع مواطن اعتياديّ شكاه إلى القاضي، فأحضرهما القاضي لكي يقضي بينهما. وأليس هو القائل عليه السلام: "أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، وأن أكون أسوة لهم في جشوبة العيش"1 ؟!
 
وإذا تجاوزنا تأريخ التجربة إلى واقعها المعاصر، وجدنا أنّ ذلك العلويّ العظيم الإمام الخميني قدس سره الّذي قاد كفاح
 
 
 

1-  نهج البلاغة، ج3، ص73.
 
 
 
 
 
 
20

16

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  شعبه تحت راية الإسلام حتّى نصره الله، وسقطت على يده امبراطوريّة الشاه بكلّ خزائنها، ورجع إلى بلده رجوع الفاتحين، لم يؤثر على بيته القديم بيتاً، بل عاد إلى البيت نفسه الّذي نفاه منه الجبّارون من قبل عشرين عاماً تقريباً، ليُقدِّم الدليل على أنّ الإمام عليّ عليه السلام لم يكن شخصاً معيّناً وقد انتهى، وإنّما هو خطُّ الإسلام الّذي لا ينتهي.

هكذا جسّدت الدولة الإسلاميّة المثل الأعلى للمساواة بين الحاكمين والمحكومين في القضاء والعدل، كما جسّدت في حياة الحاكم الخاصة القدوة الحقيقيّة والسلوة الروحيّة لكلّ المستضعفين في الأرض, لأنّ الحاكم كان يعيش كأيّ مواطن اعتياديّ لا يتميّز عليهم بقصور عالية، ولا بسيّارات فارهة، ولا ببذخ في الموائد والأثاث، ولا بألوان التفنُّن في اقتناء التحف والمجوهرات.

ج ـ ومن المدلولات السياسيّة ـ أيضاً ـ للدولة الإسلاميّة تعاملها على الساحة الدوليّة, فإنّها تتعامل لا على أساس الاستغلال وامتصاص الشعوب الضعيفة كما
 
 
 
 
 
 
21

17

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  تصنع الحضارة الغربيّة، ولا على أساس المصالح المتبادلة كما تدّعي هذه الحضارة أيضاً، بل على أساس الحقّ، والعدل، ونصرة المستضعفين على الأرض. قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ1.

 
ولا شكّ في أنّ تعامل الدولة الإسلاميّة على الساحة الدوليّة بهذه الروح يؤدّي عالميّاً إلى إيقاظ الضمير الإنسانيّ وتوعيته على مفاهيم العدل والحقّ، وتحريكه للمساهمة في ذلك.
 
المبحث الثاني ـ التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر:
 
إنّ أيّ نظام اجتماعيّ لا يُمارس دوره في فراغ، وإنّما في كائنات بشريّة وعلاقات قائمة بينهم، وهو من هذه الناحية
 
 
 

1- سورة المائدة، الآية: 2.
 
 
 
 
 
 
 
22

18

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  تتحدّد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع، وتفجير الطاقات الصالحة في أفراده تبعاً لمدى انسجامه إيجاباً أو سلباً مع التركيب النفسيّ والتأريخيّ لهؤلاء الأفراد.


ولا نقصد بذلك أنّ النظام الاجتماعيّ والإطار الحضاريّ للمجتمع يجب أن يُجسّد التركيب النفسيّ والتأريخيّ لأفراد المجتمع، ويحوّل نفس ما لديهم من أفكار ومشاعر إلى صيغ منظّمة، فإنّ هذا لا يُمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة إلى مجتمعات العالَم الإسلاميّ الّتي تشكو من أعراض التخلُّف، والتمزُّق، والضياع، وتُعاني من ألوان الضعف النفسيّ, لأنّ تجسيدَ هذا الواقع النفسيّ المهزوم ليس إلا تكريساً له واستمراراً في طريق الضياع والتبعيّة.

وإنّما الّذي نقصده هو بناء حضاريّ جديد لمجتمعات التخلُّف هذه لا بُدّ أن يمرّ من خلال اختيار الإطار السليم الّذي يأخذ في الحسبان مشاعر الأمّة، ونفسيّتها، وتركيبها العقائديّ والتأريخيّ, وذلك لأنّ حاجة التنمية الحضاريّة
 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  إلى منهج اجتماعيّ وإطار سياسيّ، ليست مجرّد حاجة إلى إطار من أطر التنظيم الاجتماعيّ، ولا يكفي لسلامة البناء أن يدرس الإطار ويختار بصورة تجريديّة ومنفصلة عن الواقع، بل لا يُمكن لعمليّة البناء أن تُحقّق هدفها في تطوير الأمّة واستنفار كلّ قواها ضدّ التخلُّف إلّا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمّة ضمنه حقّاً، وقامت على أساس يتفاعل معها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ1.

 
إذاً، لكي تكتمل لنا معالِم الصورة والرؤية الإسلاميّة في اختيار المنهج والإطار العام لبناء الأمّة واستئصال جذور التخلُّف منها، يجب أن نُدرك الحقيقة والأساس الّذي تنطلق منه، وهي حقيقة البدء بالتغيير الداخليّ للفرد والمجتمع معاً، وعلى ضوئها يكون لدينا مركّب حضاريّ عقائديّ قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كلّ قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلُّف، والتبعيّة، والاستغلال.
 


1- سورة الرعد، الآية: 11.
 
 
 
 
 
 
24

20

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 ومن يستطيع القيام بوظيفة التغيير الداخليّ وتقديمه للإنسان اليوم، هي الدولة الّتي تقوم على أساس إسلاميّ بحيث تُشكّل منه المنطلق نحو بناء إطارها الاجتماعيّ، ومنهجها العمليّ، وتفعيل عناصر القدرة التغييريّة فيها.


العناصر الإسلاميّة القادرة على التغيير والتجديد:

يمتلك الإسلام عناصر قوّة تُبرهن على مدى قدرته التغييريّة والتحرُّك نحو البناء الهائل للحضارة للفرد والمجتمع معاً في عالمنا اليوم، وهي كالتّالي:

 1ـ الإيمان بالإسلام:

لا شكّ في أنّ إنسان العالَم الإسلاميّ ـ المعاصر ـ يؤمن بالإسلام بوصفه ديناً ورسالة من الله تعالى أنزلها على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله وسلم، ووعد من اتّبعها وأخلص لها بالجنّة، وتوعّد المتمرّدين عليها بالنار.

ولكن هذا الإيمان يعيش في الجزء الأعظم من المسلمين عقيدة باهتة، حيث فقدت عبر عصور الانحراف كثيراً من اتقادها وشعلتها، وبخاصة بعد أن دخل العالَم الإسلاميّ
 
 
 
 
 
 
 
25

21

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 عصر الاستعمار، وعمل المستعمرون من أجل تذويب هذه العقيدة وتفريغها من محتواها الثوريّ الرشيد.

 
ولذا لم يعد المسلمون يعكسون صورة الأمّة الإسلاميّة الّتي جعلها الله تعالى أمّة وسطاً كما قال في محكم كتابه العزيز: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...1, لأنّ المسؤوليّة (الخارجيّة) للأمّة الإسلاميّة أن تقوم بالشهادة على العالَم كلّه بحكم كونها أمّة وسطاً وشهيدة عليه، وما لم تتحمّل الأمّة هذه المسؤوليّة فلا معنى صحيح لوجودها.
 
وأيضاً لم يعد المسلمون يُمثِّلون خير أمّة أُخرجت للنّاس كما قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ 2, لأنّ الأمّة الإسلاميّة ليست مجرّد تجميع عدديّ للمسلمين، وإنّما تعني تحمّل هذا العدد لمسؤوليّته (الداخليّة) على الأرض من 
 
 
 

1-سورة البقرة، الآية: 143.
2- سورة آل عمران، الآية: 110.
 
 
 
 
 
 
26

22

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 خلال عمليّة البناء الحقيقيّ المتمثّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعدها يتحقّق الإيمان الحقيقيّ بالله تعالى ويتّقد شعلة في القلب لتشعّ على الآخرين، وإن لم تعد الأمّة الإسلاميّة كذلك فلا معنى لوجودها.


ولكن بالرغم من تلك العقيدة الإسلاميّة الباهتة، والّتي تُعاني منها الأمّة اليوم، إلّا أنّها تبقى حقيقة تُشكِّل عاملاً سلبيّاً في وجه أيّ إطار حضاريّ، أو نظام، أو مذهب اجتماعيّ لا ينبثق فكريّاً وإيديولوجيّاً من الإسلام, لأنّ هذه العقيدة الإسلاميّة تؤمن ـ ولو نظريّاً على الأقل ـ بأنّ كلّ إطار، أو نظام، أو مذهب لا يستمدّ قواعده من الإسلام فهو غير مشروع، وإن لم يُترجم ذلك الإيمان عمليّاً على الأرض.

وهذه الحقيقة يُمكن أن نلحظها حينما تنجح إحدى تلك الأنظمة أو المذاهب الوضعيّة في تسلُّم السلطة وقيادة المجتمع، ولكنّها سرعان ما تجد نفسها بعد فترة قليلة مرغمة على ممارسة ألوان من الإكراه، إذ يُدرك هذا النظام عجزه عن تجميع قوى الأمّة تحت لوائه ما لم يُمارس
 
 
 
 
 
 
27

23

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الإكراه، وكلّما زاد ممارسة الإكراه قابله المزيد من ردّة الفعل الجماهيريّ المقاوم لقبول شرعيّته ووجوده.


بينما يختلف الموقف اختلافاً أساسيّاً حينما يواجه النّاس أطروحة الدولة الإسلاميّة، والّتي تحمل الأمّة مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك استناداً إلى مبدأ الإيمان بالله إيماناً حيّاً مسؤولاً، إذ سرعان ما تتحوّل تلك العقيدة الباهتة من عامل سلبيّ إلى عامل إيجابيّ في عمليّة البناء الحضاريّ الجديد, لأنّ النّاس يجدون حينئذ في أطروحة الإسلام تجسيداً عمليّاً لعقيدتهم، ولئن كان الكثير من هؤلاء ليسوا على استعداد للتضحية وتحمّل الأذى في سبيل هذا التجسيد، فإنّهم عند تحقُّقه يجدون فيه أملهم الكبير، وعقيدتهم المقدّسة، وطموحهم الدينيّ، فسرعان ما يلتحمون معه التحاماً روحيّاً كاملاً، وسرعان ما تتحوّل تلك العقيدة الباهتة إلى عقيدة مشعّة، ممتلئة حيويّة وحركة ونشاطاً، وهكذا تُجنِّد طاقات الأمّة في عملية البناء الكبير بدون إكراه بل بروح الإيمان والإخلاص.
 
 
 
 
 
 
28

24

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 وتكفي بعض الأمثلة الصغيرة لتوضيح أبعاد هذا التحوّل المرتقَب، فالإسلام في ظلِّ العقيدة الباهتة أثبت قدرته مرّات عديدة على أن يجمع بطريقة عفويّة وباسم الجهاد أعداداً هائلة من المقاتلين، والّذين يلبّون الدعوة استجابة لعقيدتهم الدينيّة، بينما نرى أنّ الدولة الاعتياديّة لا تستطيع أن تجمع هذه الأعداد لأيّ معركة إلا باستعمال أقسى أساليب الضبط والسيطرة، فما ظنّكم بهذا الإسلام إذا امتلك القيادة الاجتماعيّة في الأمّة، وما هو التحوّل العظيم الّذي يُنجزه في مجال تعبئة الطاقات القتاليّة للأمّة!


إذاً مع قيام الدولة الإسلاميّة يوضع حدٌّ لمأساة الانشطار والتجزئة في كيان الفرد المسلم الّذي يفرض عليه ولاءات متعارضة في حياته، فإنّ المسلم الّذي يعيش في ظلِّ أنظمة تتعارض مع الإسلام يجد نفسه في كثير من الأحيان مضطّراً إلى ممارسة التناقض في حياته باستمرار، إذ يرفض ـ مثلاً ـ في المسجد وبين يدي الله ما يُمارسه في المتجر، أو المعهد، أو المكتب، وتستمرّ به هذه الحالة من
 
 
 
 
 
 
29

25

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  دوّامة التناقض والولاءات المتعارضة، فلا يجد لها حلّاً إلّا بالتنازل عن المسجد لصالح ما يُمارسه في الحياة العامّة، فيُقاسي فراغاً روحيّاً يُهدّد المجتمع بالانهيار، وبهذا يتحوّل إلى طاقة سلبيّة ويفقد المجتمع بالتدريج قدرات أطهر أبنائه، وأنظف أفراده.


ولكن في ظلِّ الدولة الإسلاميّة الّتي تتّحد فيها الأرض مع السماء، والمسجد مع المكتب، فلن يكون الدعاء في المسجد تهرُّباً من الواقع بل تطلُّعاً إلى المستقبل، ولن تكون ممارسة الحياة اليوميّة الواقعيّة منفصلة عن المسجد بل مستمدّة من روحه وعبقه، فسوف تعود إلى الإنسان وحدته الحقيقيّة وانسجامه الكامل الّذي سيتجلّى في الإخلاص والصبر على متاعب الطريق (طريق ذات الشوكة).

2 ـ المثل العليا في الإسلام:

إنّ أهمّ عامل يدفع الإنسان إلى البذل والعطاء للدعوة إلى بناء جديد، هو أن تُقدِّم له هذه الدعوة مثالاً واقعيّاً واضحاً للبناء الّذي تدعوه إلى المساهمة في تشييده.
 
 
 
 
 
 
 
30

26

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 ومن هنا فإنّ الدعوات الّتي تستورد مثلها العليا من تجارب غير إسلاميّة، تواجه صعوبة كبيرة في إعطاء رؤية واضحة للفرد المسلم عن مثلها الأعلى الّذي تحتذي به وتدعو إلى تجسيده بين المسلمين, لأنّه غريب عنهم لا يملكون عنه إلا رؤى باهتة ومتهافتة. فالديمقراطيّة، والاشتراكيّة، والمادّيّة، والشيوعيّة وما إلى ذلك من المذاهب والاتّجاهات الاجتماعيّة، مارسها الإنسان خارج العالَم الإسلاميّ وتجسّدت في أشكال مختلفة، واتّخذت صيغاً متفاوتة، ولهذا فهي لا توحي إلى الفرد المسلم بصورة محدّدة واضحة المعالِم، بل إنّه يجد أشدّ الحكومات تعسّفاً ودكتاتوريّة تحمل كلمة الديمقراطيّة كجزء من اسم الدولة، ويجد أشدّ الحكومات دوراناً في الفلك الاشتراكي تُعاني من تمييزات لا حدّ لها، ويجد المثل الأعلى لأمّة من الناس يتهاوى بعد ذلك، ويكفر به أولئك النّاس أنفسهم، ومثال ذلك ما حدث مع (ستالين)1 الّذي ألّهه شعبه، وإذا به

 
 

1- الرئيس الأسبق للاتحاد السوفياتي الشيوعي (سابقاً).
 
 
 
 
 
 
31

27

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  يُطرد من الجنّة بعد موته، وتُنتزع منه أوسمة المجد.


وعلى العكس من ذلك الدولة الإسلاميّة، فإنّها تُقدِّم للفرد المسلم مثالاً واضحاً وضوح الشمس، قريباً من نفسه، مندمجاً مع أعمق مشاعره وعواطفه، مستمدّاً من أشرف مراحل تأريخه، وأنقاها، وأعظمها تألُّقاً وإشعاعاً. وأيّ مسلم لا يملك صورة واضحة عن الحكم الإسلاميّ في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي خلافة الإمام عليّ عليه السلام، وفي معظم الفترة الممتدّة بينهما؟ وأيّ مسلم لا تهزُّه أمجاد تلك الصورة وروعتها؟ وأيّ مسلم لا يشعر بالزهو والاعتزاز إذا أحسّ بعمق أنّه يُعيد إلى الدنيا من جديد أيّام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام؟

هذا المثال الإسلاميّ الواضح وضوح الشمس، يجعل من الفرد المسلم في إطار التعبئة الحضاريّة الإسلاميّة، وعمليّة البناء الكبير مطمئنّاً إلى طريقه، واثقاً بهدفه، وقادراً في الوقت نفسه على تمييز سلامة المسيرة أو الإحساس بانحرافها, لأنّ المثل الأعلى ما دام واضحاً لديه فهو يملك
 
 
 
 
 
 
32

28

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  المقياس الموضوعيّ الّذي يحكم على أساسه باستقامة المسيرة أو انحرافها.


3 ـ نظافة المنهج الإسلاميّ وعدم ارتباطه بالمستعمرين:

إنّ الأمّة في العالَم الإسلاميّ عانت من الاستعمار ألواناً من الغدر والمكر، والالتفاف منذ وطأ الغرب أرضنا الطاهرة بأسلحته، وأفكاره، ومناهجه، وبلورت لديها ـ أي الأمّة الإسلاميّة ـ هذه المعاناة المريرة شعوراً نفسيّاً خاصّاً تعيشه تجاه الاستعمار، يتّسم بالشكّ والاتّهام ويخلق نوعاً من الانكماش لدى الأمّة عن المعطيات التنظيميّة للإنسان الأوروبي، بل وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدّة من الأوضاع الاجتماعيّة في بلاد المستعمرين، وعدم الاقتناع بقدرتها على تفجير طاقات الأمّة وقيادتها في معركة البناء، حتّى لو كانت تلك الأنظمة مستقلّة عن الاستعمار من الناحية السياسيّة.

وقد عاش العالَم الإسلاميّ نموذجاًَ حقيقيّاً من تلك
 
 
 
 
 
 
33

29

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الأنظمة الحاكمة الّتي اتّخذت من القوميّات المختلفة لشعوب العالَم الإسلاميّ، فلسفة، وقاعدة للحضارة، والتنظيم الاجتماعيّ، وقدّمت شعارات ثوريّة منفصلة عن الكيان الفكريّ للاستعمار انفصالاً كاملاً، غير أنّ القوميّة ليست إلا رابطة تأريخيّة ولغويّة، وليست فلسفة ذات مبادئ، ولا عقيدة ذات أسس، بل حياديّة بطبيعتها تجاه الفلسفات، والمذاهب الاجتماعيّة، والعقائديّة، والدينيّة.


ومن هنا كان لا بُدّ للأمّة الإسلاميّة إذن ـ بحكم ظروفها النفسيّة الّتي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتّصل به من أنظمة حاكمة في العالَم الإسلاميّ وغيرها ـ أن تُقيّم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعيّ، ومعالِم حضاريّة لا تمتّ إلى بلاد المستعمرين بنسب أو تبعيّة.

وعلى ضوء ذلك برز لنا منهج إسلاميّ يتمتّع بنظافة مطلقة مقارنة مع المناهج الأوروبيّة والغربيّة الاستعماريّة بألوانها وأطرها المختلفة، فالمنهج الإسلاميّ ـ في ذهن الأمّة ـ لم يرتبط بالاستعمار أو بتأريخ أعداء الأمّة، بل
 
 
 
 
 
 
34

30

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  بتأريخ أمجادها الذاتيّة الّذي يُعبِّر عن أصالتها وعنوان شخصيّتها التأريخيّة، ما يعكس شعوراً وإحساساً في الأمّة يُترجم من خلال انفتاحها على عمليّة البناء الحضاريّ الإسلاميّ وثقتها فيه، وبالتّالي تُحقّق المزيد من المكاسب في المعركة ضدّ التخلُّف.


أضف إلى هذا أنّ عمليّة البناء الحضاريّ الإسلاميّ لن تبدأ من الصفر, لأنّها ليست غريبة على الأمّة بل لها جذور تأريخيّة، ونفسيّة، ومرتكزات فكريّة، بينما أيّ عمليّة بناء أخرى تنقل مناهجها بصورة مصطنعة، أو مهذّبة من وراء البحار، لكي تُطبّق على العالَم الإسلاميّ سوف تضطّر إلى الابتداء من الصفر والامتداد بدون جذور.

4ـ امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد:

إنّ أيّ حركة ـ غير إسلاميّة ـ تُمارس دور التجديد والتغيير في العالَم الإسلاميّ، ستصطدم ـ حتماً ـ بعدد كبير من الأعراف، والسنن الاجتماعيّة، والتقاليد السائدة الّتي اكتسبت على مرِّ الزمن درجة من التقديس الدينيّ، 
 
 
 
 
 
 
35

31

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  وتحديد حقيقة دوره في الحياة عبر توعية النّاس على ذلك، ولكن ـ أيضاً ـ هذا الخيار ليس عمليّاً وواقعيّاً، لأنّه يعني قيام حركة التجديد والتغيير على أسس علمانيّة، سيّما في مجال فصل الدِّين عن السياسة. وهذه أيديولوجيّة وأسس لا صلة لها بالإسلام، بل هي غير قادرة على تفسير الإسلام تفسيراً صحيحاً، أو حتّى إقناع الجزء الأعظم من النّاس بوجهة نظرها في تفسير الإسلام، ما دامت لا تملك أيّ طابع شرعيٍّ يُبرِّر لها أن تكون في موقع التفسير للإسلام، ومفاهيمه، وأحكامه.


وعلى العكس من ذلك حركة التجديد والتغيير الّتي تقوم على أسس إسلاميّة ومنطلق وأهداف إسلاميّة، وذات صلة وثيقة بمصادر التشريع الإسلاميّ، وتُجسّد كلّ ذلك في دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإنّ هذه الحركة قادرة على امتصاص واستيعاب الجزء الأعظم من المحافظين والتقليديّين لمصلحة البناء والتجديد, لأنّها بحكم إدراكها العميق للإسلام قادرة على تفسير الإسلام والتمييز بينه
 
 
 
 
 
 
37

32

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  وبين السنن، والأعراف الاجتماعيّة الّتي خلقتها العادات، والتقاليد، ومختلف العوامل والمؤثِّرات الأخرى، وفصل الإسلام عن جميع أوضاع التخلُّف والعادات والسنن السيّئة.


مثلاً: أوضاع التخلُّف الّتي تُسيطر على المرأة المسلمة وعلى علاقاتها بمجتمعها وبالرجال، بدلاً من محاربتها على أساس مفاهيم السفور ومواقف الحضارة الغربيّة من علاقات المرأة والرجل، الأمر الّذي يُصنِّف الجزء الأعظم من أفراد الأمّة في الصفِّ المعارض، يجب أن تُحارب على أساس دينيّ منطلقاً من توعية المسلمين على التمييز بين الأعراف والأوضاع الّتي سبّبت هذا التخلُّف للمرأة، وبين الإسلام الّذي لا صلة له بتلك الأعراف والأوضاع السائدة.

وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم الصبر فإنّه من منظور إسلاميّ هو قيمة خلقيّة عظيمة، ولكنّه اتّخذ طابعاً سلبيّاً نتيجة لأوضاع التخلُّف الّذي يعيشه المسلمون، فأصبح الصبر عبارة عن الاستكانة، وتحمّل المكاره بروح اللامبالاة،
 
 
 
 
 
 
38

33

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  وعدم التفاعل مع قضايا الأمّة الكبيرة وهمومها العظيمة، ولن تستطيع الأمّة أن تُحقِّق نهضة شاملة في حياتها ما لم تُغيّر مفهومها عن الصبر، وتؤمن بأنّ الصبر هو الصبر على أداء الواجب، وتحمُّل المكاره في سبيل مقاومة الظلم، والطغيان، والترفُّع عن الهموم الصغيرة من أجل الهموم الكبيرة، قال تعالى﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ1

 
فمن هذا الطريق يُمكن أن نُصحِّح القيم الخلقيّة الدينيّة، والعادات والتقاليد الاجتماعيّة الّتي اكتسبت طابعاً سلبيّاً من خلال أوضاع التخلُّف، ونُحوِّلها من طابعها السلبي إلى طابعها الإيجابيّ الإسلاميّ الصالح، لكي تُساهم كطاقة فاعلة في عمليّة البناء وتقدُّم حضارة الإنسان المعاصر.
 
5ـ التطلُّع إلى السماء ودوره في البناء:
 
يختلف الإنسان الأوروبيّ عن الإنسان الشرقيّ اختلافا
 
 

1- سورة آل عمران، الآية: 142.
 
 
 
 
 
 
39

34

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 كبيراً، فالإنسان الأوروبيّ بطبيعته ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء، وحتّى المسيحيّة ـ بوصفها الدِّين الّذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين ـ لم تستطع أن تتغلّب على النزعة الأرضيّة في الإنسان الأوروبيّ، بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحيّة من السماء إلى الأرض ويُجسِّده في كائن أرضيّ.

 
وليست المحاولات العلميّة للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان1، وتفسير إنسانيّته على أساس التكييف الموضوعيّ من الأرض الّتي يعيش فيها، أو المحاولات العلميّة لتفسير الصرح الإنسانيّ كلّه على أساس القوى المنتجة2 الّتي تُمثِّل الأرض وما فيها من إمكانات، ليست هذه المحاولات ـ متعدِّدة الأساليب والأساطير ـ إلا كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسيّ، وارتباطها
  
 
 

1- كما فعل داروين في أسطورته حول أصل نوع الإنسان وتطوّره التدريجيّ من هيئة قرد إلى هيئة إنسان.
2- كما فعلت كلٌّ من النظريّتين: الرأسماليّة ـ الليبراليّة، والاشتراكيّة ـ الشيوعيّة.
 
 
 
 
 
 
 
40

35

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الأخلاقيّ بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبيّ إلى الأرض.


هذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبيّ أن يُنشئ قيماً للمادّة، والثروة، والتملُّك تنسجم مع تلك النظرة، بل ترسّخت تلك القيم عبر الزمن، وتشكّلت في قوالب ومذاهب فلسفيّة وأخلاقيّة قائمة على مبدأ اللذّة والمنفعة، فاجتاحت الساحة الأوروبيّة عاكسة عمق المزاج العام للنفس الأوروبيّة، ومناهج تفكيرها، وطرائق حياتها وسلوكها، الأمر الّذي حقّق نجاحاً كبيراً في تفجير الطاقات المختزنة في كلِّ فرد من أفراد الأمّة الأوروبيّة، ووضع أهدافاً لعمليّة البناء والتنمية تتفق مع تلك التقييمات الفلسفيّة الخاصّة بالمادّة، والثروة، والتملُّك. وقد تبلور ذلك ـ بالفعل ـ في حركة دائبة نشيطة مع مطلع العصر الأوروبيّ الحديث الّذي لا يعرف الملل أو الارتواء من المادّة وخيراتها، وتملُّك تلك الخيرات والثروات.
 
 
 
 
 
 
 
41

36

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 ولكن بنفس الدرجة الّتي استطاعت النظرة إلى الأرض لدى الإنسان الأوروبيّ أن تُفجِّر طاقاته في البناء، أدّت أيضاً إلى ألوان من التنافس المحموم على الأرض وخيراتها وثرواتها، ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان, لأنّ تعلُّق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يُضحّي بأخيه، ويُحوِّله من شريك إلى أداة.


وأمّا الشرقيّون فأخلاقيّتهم تختلف عن أخلاقيّة الإنسان الأوروبيّ نتيجة لتأريخهم الدينيّ، فإنّ الإنسان الشرقيّ الّذي ربّته رسالات السماء، وعاشت في بلاده سيّما الدِّين الإسلاميّ، ينظر بطبيعته إلى السماء قبل النظر إلى الأرض، ويأخذ بعالَم الغيب قبل الأخذ بالمادّة والمحسوس.

وافتتانه العميق بعالَم الغيب قبل عالَم الشهادة هو الّذي عبّر عن نفسه على المستوى الفكريّ في حياة المسلمين، عبر توجيه الفكر في العالَم الإسلاميّ إلى المناحي العقليّة من المعرفة البشريّة دون المناحي الّتي ترتبط بالواقع المحسوس، بل هذه الغيبيّة العميقة في مزاج الإنسان
 
 
 
 
 
 
 
42

37

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  الشرقيّ المسلم حدّت من قوّة إغراء المادّة له وقابليّتها لإثارته، الأمر الّذي ترتّب عليه موقف سلبيّ تجاه المادّة بأنواعها، واتّخذ ذلك الموقف شكل الزهد تارة، والقناعة أخرى، والكسل ثالثة.


ولكن تلك المواقف السلبيّة للفرد المسلم تكون حينما تفصل الأرض عن السماء، أمّا إذا أُلبست الأرض إطار السماء، وأُعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب الشرعيّ، ومفهوم العبادة، فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبيّة وما يترتّب عليها من مواقف سلبيّة لدى الفرد المسلم إلى طاقة محرِّكة وبنّاءة، تُساهم بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة.

وهذا بالضّبط ما تصنعه الدولة الإسلاميّة، فإنّها لا تنتزع من الإنسان نظرته العميقة إلى السماء والغيب، وإنّما تُعطي له المعنى الصحيح للسماء والغيب، وتسبغ طابع الشرعيّة والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهراً من مظاهر خلافة الإنسان لله على الكون، وسيّداً للدنيا لا عبداً 
 
 
 
 
 
 
43

38

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 لها. وبهذا تجعل من هذه النظرة طاقة بناء، وفي الوقت ذاته تحتفظ بها كضمان لعدم تحوّل هذه الطاقة من طاقة بناء إلى طاقة استغلال وانحراف عن خطِّ الخلافة الربّانيّة الرشيدة الصالحة.

 
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ1.
 
 
 

1- سورة الحج، الآية: 41.
 
 
 
 
 
 
 
44

39

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 الخلاصة:


أوّلاً: يمتلك الإسلام عناصر قوّة مميّزة قادرة على بناء حضارة الإنسان على مرِّ التأريخ، والتصدّي لكلِّ أشكال التخلُّف، والتبعيّة والاستغلال، والقضاء عليها.

ثانياً: لقد ترجم الإسلام عناصر قوّته وقدراته الهائلة في البناء الحضاريّ الراقي من خلال محورين:

المحور الأوّل: التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة القائمة على أساس وهدف كبير، وهو الله تعالى وتطبيق شريعته على الأرض. وهو الهدف الوحيد الّذي يضمن استمرار تحرُّك بناء حضارة الإنسان، وإبقاء جذوة إشعاعه متّقدة، هذا فضلاً عن الدور الأخلاقيّ السامي الّذي تُمارسه الدولة الإسلاميّة في تحقيق تطلُّعات وآمال أفرادها ومجتمعها، وذلك من خلال تحرير الإنسان من قيود الدنيا وشهواتها، وجعل الدنيا ـ بنظر الفرد المسلم ـ دار ممرٍّ للآخرة لا دار مقرٍّ وشقاء، وتقديم النموذج الحقيقيّ والمثل الأعلى المتمثِّل في أهل البيت عليهم السلام ضمن
 
 
 
 
 
 
 
45

40

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

  هذا السياق، لا النموذج المزيّف والخدّاع المتمثِّل في الطواغيت والمستكبرين.


المحور الثاني: التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر، القائم على أساس اختيار سليم وصحيح لإطار ومنهج قادر على تفجير الطاقات الصالحة في أفراد الأمّة، والارتقاء بهم نحو الأفضل. ولكن بشرط مراعاة مشاعر أفراد الأمّة، ونفسيّتها، وتركيبها العقائديّ، والتأريخيّ، والإدراك الواعي لكلّ مواطن الخلل، والفساد، والانحراف الّذي تغلغل في أوساط الأمّة سواء نتيجة لتكريس بعض العادات، والتقاليد، والأعراف الخاطئة، أو نتيجة الاستعمار والعبوديّة وما ترك من آثار مدمّرة للإنسان المسلم، وجعله يعيش حالة من التخلُّف والجهل.

ثالثاً: من خلال تفعيل عناصر القوّة والقدرة الإسلاميّة عبر البناء العقائديّ لكلٍّ من الدولة والمواطن، يُمكن أن تنهض الأمّة الإسلاميّة مجدّداً وتُفجِّر كلّ طاقاتها
 
 
 
 
 
 
 
46

41

الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر

 وثرواتها الهائلة في سبيل التنمية، والتقدُّم، وبناء الحضارة الإنسانيّة وتؤهّله لممارسة دور الخليفة على الأرض، وتحمُّل الأمانة الإلهيّة كما أمره الله سبحانه وتعالى وأرشدها إلى ذلك

 

 

 

 

47


42

الفهرس

 

المقدّمة

5

1 ـ منابع القدرة والقوّة في الإسلام

9

المبحث الأوّل

 

التركيب العقائديّ للدولة الإسلاميّة

9

1- أخلاقية التركيب العقائدي للدولة

13

2 ـ المدلولات السياسيّة لتركيب الدولة الإسلاميّة العقائديّة

17

المبحث الثاني

 

التركيب العقائديّ والنفسيّ للفرد المسلم المعاصر

22

العناصر الإسلاميّة القادرة على التغيير والتجديد

25

1 ـ الإيمان بالإسلام

25

2 ـ المثل العليا في الإسلام

30

3 ـ نظافة المنهج الإسلاميّ وعدم ارتباطه بالمستعمرين

33

4 ـ امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد

35

5 ـ التطلُّع إلى السماء ودوره في البناء

39

الخلاصة

45

 

 

 

 

48


43
الإسلام وبناء حضارة الإنسان المعاصر