جهاد النفس
الناشر: شبكة المعارف الإسلامية
تاريخ الإصدار: 2012-12
النسخة: 1
الكاتب
شبكة المعارف الإسلامية
الناشر: شبكة المعارف الإسلامية
تاريخ الإصدار: 2012-12
النسخة: 1
شبكة المعارف الإسلامية
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.
كتب الإمام الخمينيّ قدس سره كتاب "الأربعون حديثاً" العظيم الشأن، الذي قام فيه بشرح أربعين حديثاً مروياًّ عن أهل البيت عليهم السلام تيمّناً بالحديث المشهور المرويّ عن الإمام الكاظم عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من حفظ من أمّتي أربعين حديثاً ممّا يحتاجون إليه من أمر دينهم، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً[1].
وقد تضمّن هذا الكتاب مجموعة من الدروس الأخلاقيّة التي تشكّل بمجموعها الرؤية الأخلاقيّة والسلوكيّة للإمام الخمينيّ قدس سره، والتي قام فيها بشرح بعض الروايات المشهورة التي يصعب فهمها على الناس. والإمام قدس سره لم يقتصر في كتابه على المسائل والمبادئ الأخلاقيّة، بل تناول مباحث متنوّعة بالغة الأهمّيّة، وفي مستويات متنوّعة، قرآنيّة وعقائديّة وعرفانيّة أيضاً، وشفّعها بقدر كبير من الموعظة والنصيحة، بلغة عذبة وسهلة، مستعيناً بأمثلة مستخلصة من واقع الحياة التي يعيشها الإنسان، لتكون فائدة البحث أوفى وثمرته أنضج.
ولأنّ مستوى الكتاب العلميّ ليس بسيطاً ومفهوماً لدى الكثير من الناس، بل حتّى على الكثير من أهل العلم، وذلك لأنّ الإمام قدس سره قد تناول في أبحاثه جوهر المعارف الإلهيّة، واستظهر الحقائق العلميّة بعمق، مدعّماً آراءه في كثير من الأحيان بالأدلّة
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران - قم، 1403هـ، لا.ط، ص541.
11
الفلسفيّة والعرفانيّة، ولأنّه قدس سره عند تأليفه لهذا الكتاب لم يكن بصدد تقديمه كمتن دراسيّ ممنهج، بل اعتمد على الحديث نفسه، محاولاً شرحه تفصيليّاً بحسب مضمون الرواية وسياقها، لذا كانت فكرة هذا الكتاب تقديم مجموعة من مطالب "الأربعون حديثاً"، حيث قمنا باستخلاص بعض الأحاديث المهمّة منه، والتي تشكّل بمجموعها رؤية أوّليّة تمهّد الطريق لاحقاً للدخول في صلب مباحث الكتاب بالشكل التامّ والكامل. وقد قمنا بتقديم موضوعات الأحاديث الستّة عشر كلّها التي اخترناها من الكتاب بشكل منهجيّ وتعليميّ، ما يسهّل على المعلّم والطالب التعرّف أكثر إلى مطالب الدرس الحقيقيّة، ويضمن الاستفادة العمليّة منه بشكل أكبر، مع المحافظة التامّة على نصّ كلام الإمام الخمينيّ قدس سره كما جاء في كتاب "الأربعون حديثاً" وإجراء بعض المعالجات اللغويّة الطفيفة عند الضرورة لا غير. على أمل أن يلقى هذا الكتاب استحسان القرّاء الكرام، وأن يكون منطلقاً وباباً للتعرّف أكثر إلى فكر الإمام الخمينيّ المقدّس.
والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للمناهج والمتون التّعليميّة
12
الدرس الأوّل
مكانة جهاد النفس
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يعرف أنّ التربية هي الطريق إلى الكمال.
2. يدرك أنَّ الأنبياء هم أرباب التربية والتعليم.
3. يذكر أنَّ قوى النفس لا حدود لها.
13
التربية طريق الكمال
لو خُلّي الإنسان ونفسه، دون أن يكبح جماح هذه النفس، فإنّه سوف يُصبح أكثر افتراساً من الحيوانات. وما نُشاهده من جرائم ومجازر تُرتَكب بحقّ البشريّة من قِبل قِوىً عظمى تدّعي تحلّيها بالتربية، هو خير دليل على ذلك، فالحيوان المفترس يُطارد الفريسة، فإذا نال منها ما يُشبع جوعه، توقّفت عنده حالة الافتراس والهيمنة تجاه حيوان آخر، أمّا جرائم هذه الحكومات فإنّه لا حدّ لها ولا نهاية.
ولو أُعطي الإنسان دولةً كاملةً، فإنّ أهواءه النفسيّة غير المحدودة سوف تدفعه للتطلّع إلى دولة أخرى يبسط عليها نفوذه وهيمنته، فتطلّعاته لا حدّ لها، ويسعى دائماً نحو السيطرة والنفوذ. وإن تُرِك دون رادع، فإنّ آماله تكون في الشهوات اللامتناهية، وفي الغضب اللامحدود، وفي نوازع الهيمنة التي لا تنتهي...
مهما بلغ عِظم السيطرة ومكان نفوذها، يبقى الطمع حاكماً على النفوس البشريّة، فلو سيطر الإنسان على منظومة شمسيّة كاملة، فإنّه سيسعى لمنظومة أخرى، ولو سيطر على كوكبٍ ما، فإنّه سيتطلّع إلى كوكبٍ آخر. لقد خُلِق الإنسان على هذه الشاكلة، لا حدّ لغضبه، ولا لشهوته، ولا لأنانيّته!
فقط هي التربية التي تسدّ هذا النهم والجشع، فمن خلالها يصل الإنسان إلى الغاية التي يُريدها من الأشياء، من خلالها يصل إلى الكمال المطلق، الذي يبعث الطمأنينة في نفسه، فتهدأ. ولا سبيل إلى هذه الطمأنينة، طمأنينة القلوب، إلّا في الوصول إلى الله.
فطمأنينة القلوب هي في الوصول إلى الله، وبغيره لا تهدأ القلوب مطلقاً. إنّ هذه
15
النفس تتطلّع إلى الكمال المطلق، فيتيهون عن الكمال في نهاية المطاف. إنّ نفس الإنسان تُريد الوصول إلى الكمال المطلق. والخطأ يقع في تشخيص ما إذا كان هذا أو ذاك هو الكمال. يرى أحدهم الكمال في العلم فيقتفي أثر العلم، ويرى آخر الكمال في السلطة فيلهث خلفها. وكلّ هؤلاء الساعين في الدنيا، إنّما يطلبون الكمال المطلق، وبعبارة أخرى الجميع يسعَون للقاء الله، ولكنّهم غير ملتفتين[1].
الأنبياء أرباب التربية والتعليم
العالَم مدرسة، معلّموها الأنبياء والأوصياء، والله معلّمهم ومربّيهم، فقد اصطفاهم الله وعلّمهم وربّاهم لهذا الهدف، ألا وهو تربية الناس كافّة وتعليمهم. فبعد أن تربَّوا وتعلَّموا الأحكام الإلهيّة، أُمِروا بتربية البشر وتعليمهم.
جاء في القرآن الكريم، متحدّثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[2]، فالدافع الأساس وراء البعث في هذه الآية هو التربية والتعليم، فالله تعالى أرسله واجتباه من بين هؤلاء الأميّين والجهلة، والذين لا عهد لهم بالتربية والتعليم الإلهيَّين، حتّى يتلو آياته عليهم، ومن خلال ذلك، وبالتربية التي تلقّاها الرسول من الله تبارك وتعالى، يقوم بتربيتهم ويُزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة.
وفي الآية نكات كثيرة حول أهمّيّة التربية والتعليم والتعلّم، ففي قوله ﴿هُوَ ٱلَّذِي﴾ دلالة واضحة على مدى أهمّيّة هذا الأمر وعظمته، حيث نسبه إلى نفسه ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ﴾ رسولاً من بين الناس، وهم أمّيّون، أمّيّون رغم معرفتهم ظاهراً ببعض العلوم والصناعات، ولكنّ العالم أجمع أمّيّ في قِبال تلك التربية الإلهيّة، التي تتحقّق لهم على أيدي الأنبياء عليهم السلام[3].
[1] الإمام الخمينيّ، روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره، الشؤون الدوليّة، ترجمة منير سعدي، ط1، 2009م، طهران - إيرن، ج12، ص504.
[2] سورة الجمعة، الآية 2.
[3] الإمام الخميني، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج13، ص503.
16
طريق الكمال
إنّ الطريق الوحيد للتربية والتعليم، هو الطريق الذي بيّنه الحقّ فقط وأوحى به، وهو التهذيب المقترن بالتربية الإلهيّة، والتي يُربّي الأنبياء الناس عليها. فهذا العلم الذي عرضه الأنبياء على البشر، هو وحده طريق الإنسان إلى الكمال المنشود، كما تُبيّن ذلك الآية القرآنيّة الكريمة: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[1].
فالناس قسمان، قسم تربّى على أيدي الأنبياء، فخرجوا من ظلماتهم وغيّهم ومشاكلهم، ودخلوا إلى النور والكمال المطلق، والآخر أولياؤه الطاغوت. فالآية تضع ميزاناً ومِلاكاً للإيمان، وتُفصّل بين مدّعي الإيمان وبين المؤمنين، فالمؤمن هو الذي خرج من الظلمات إلى النور، ومن جميع النقائص، وتجاوز جميع الموانع التي تقف في طريق الإنسان، ولا يكون ذلك إلّا بالتربية الإلهيّة، التي يتلقّاها من الأنبياء الذين ربّاهم الله، فهذا هو المؤمن.
أمّا مدّعو الإيمان - وهم كثيرون في قِبال المؤمنين - فوليّهم الطاغوت، يُخرجهم من النور ويوصلهم إلى الظلمات. فالمؤمن الحقيقيّ، معلّمه ووليّه الله، وذلك عبر الواسطة، وهي الأنبياء، فالله خصّهم بتربيته، فإذا ما تربّينا على أيديهم، ونهلنا من معينهم وعلومهم، وعملنا بتعاليمهم، فإنّا سنسلك الصراط المستقيم، ونهتدي إلى النور، نهتدي إلى الله، الذي هو النور والكمال المطلق[2].
هدف الأنبياء صناعة الإنسان وتهذيبه
إنّ البعثة هي بعثة إلهيّة، ودافعها هو هداية جميع الخلق، فعلينا التوجّه إلى هذه الغاية، والتنبّه إلى الدافع وراءها، والذي بيّنه الله بقوله: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾[3]، وعلينا الالتفات إلى عواقب مخالفة هذا الدافع.
إنّ الدافع وراء البعثة هو تزكية النفوس، وهذه التزكية إنّما تكون بانتفاء الأنانيّة، وانتهاء الإنّيّة ولحاظ النفس، والقضاء على طلب الرئاسة، وزوال حبّ الدنيا، ليحلّ الله
[1] سورة البقرة، الآية 257.
[2] الإمام الخميني، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج13، ص503.
[3] سورة آل عمران، الآية 164.
17
تبارك وتعالى وحبّه مكان الجميع. إنّ الغاية من البعثة هي أن تحكم حكومة الله في قلوب البشر، حتّى تحكم بالتّالي في المجتمعات البشريّة.
ما من موجود يفتن ويعيث فساداً بقدر ما يفعل هذا الإنسان، هذا الحيوان ذو القدمين. وما من حيوان يحتاج إلى التربية بمقدار ما يحتاج إليها. والأنبياء بأسرهم، من آدم عليه السلام حتّى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، جاؤوا لتبديل هذا الحيوان إلى إنسان، هذا هو غرضهم، وهذا هو الهدف. جميع الكتب السماويّة، وأعظمها القرآن، أُنزلت لهذه الغاية، وهي إنقاذ هذا الإنسان الذي وقع في الظلمات، وغرق في بحر الدنيا، الإنسان الأنانيّ الذي لا يهمّه سوى نفسه وملذّاتها، ولا يرى سواه موجوداً. إنّهم الأنبياء يريدون نجاة هذا الإنسان من الظلمات، وإيصاله إلى النور.
لا يتصوّرنّ أحدٌ أنّ الذي كان يمتلك نفساً فرعونيّة هو شخص واحد، أو عدّة أشخاص، بل إنّ في باطن كلّ إنسان نفساً فرعونيّة، ما لم يخضع للتربية الإسلاميّة، أو تربية المدارس التوحيديّة. وهذه النفس بدون التربية سوف تبقى في باطنه، مضافاً إلى الشيطنة والأنانيّة.
إنّ شرط تلبية الدعوة الإلهيّة إلى الضيافة هو انسلاخ هذه القلوب عن الدنيا. وهذا ما اهتمّ به أولياء الله، تهذيب النفس وانتزاع القلب ممّا سوى الله، والتوجّه الخالص إليه سبحانه. فكلّ المفاسد في العالم هي وليدة التوجّه إلى النفس في قِبال التوجّه إلى الله. وإنّ الكمالات كلّها التي تحقّقت للأنبياء والأولياء، إنّما كانت نتيجة انسلاخ قلوبهم عمّا سواه - تعالى -، والارتباط به، وتتجلّى علامات هذه الأمور في أعمالنا وسلوكنا[1].
قوى النفس لا حدود لها
لو فكّرنا بصورة صحيحة، ولاحظنا أحوال الإنسان، نجد أنّه مهما كان قويّاً، ومهما حقّق من آماله وأمانيه، فإنّه لا يحصل حتّى على واحد من ألف من هذه الآمال، بل إنّ تحقّقها بشكل كامل هو أمر مستحيل في هذا العالَم، فإنّ هذا العالَم هو دار التزاحم، وإنّ موادّه تتمرّد على الإرادة، كما إنّ ميولنا وأمنياتنا لا يحدّها حدّ. مثلاً، إنّ القوّة الشهويّة
[1] الإمام الخميني، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج17، ص493.
18
في الإنسان تدفعه إلى التوجّه نحو النساء، حتّى ولو كانت بيده نساء مدينة كاملة، وإذا أصبحت بلاد بأكملها من نصيبه لسعى نحو بلاد أخرى، ودائماً تراه يطلب ما لا يملك، فمِرجَلُ الشهوة يبقى مشتعلاً، ولا يصل الإنسان إلى أمنيته.
وكذا الأمر بالنسبة إلى القوّة الغضبيّة، فإنّها قد خُلقت في الإنسان بصورة، لو أنّه أصبح يملك الرقاب بشكل مطلق في مملكة ما، لذهب إلى مملكة أخرى لم يسيطر عليها بعد، بل إنّ كلّ ما يحصل عليه يزيد من هذه القوّة فيه.
وعلى كلّ منكر لهذه الحقيقة، أن يراجع حاله وحال أهل هذا العالَم، كالسلاطين وأصحاب المال والقوّة والجاه، وحينها سيرى صدق هذا الكلام.
إذاً، فالإنسان عاشق لما لا يملك، ولما ليس في يده، وهذه الفطرة أثبتها المشايخ العظام وحكماء الإسلام الكبار، وأثبتوا فيها الكثير من المعارف الإلهيّة.
مدّة الاستفادة من القوى الجسمانيّة
لو فرضنا أنّ هذا الإنسان قد وصل إلى أهدافه، وحقّق آماله وأمانيه، فكم يدوم استمتاعه بها واستفادته منها؟ وإلى متى تبقى قوى شبابه؟
عندما ينقضي ربيع العمر، ويأتي خريفه، تبدأ القوّة بالتلاشي من الأعضاء، فتتدنّى حاسّة الذوق، ويضعف البصر والسمع، وكذا حاسّة اللمس وباقي الحواسّ، وتُصبح اللذّات ناقصة بشكل عام، وبعضها يفنى، وتهجم الأمراض المختلفة، فلا تستطيع أجهزة الهضم والجذب والدفع والتنفّس تأدية عملها بشكل سليم وصحيح، ولا يبقى للإنسان سوى أنّات التأوّه الباردة، والقلب المملوء بالألم والحسرة والندم.
فمدّة استفادة الإنسان من هذه القوى الجسمانيّة، لا تتجاوز الثلاثين أو الأربعين عاماً بالنسبة إلى أقوياء البنية والسالمين، وهي فترة ما بعد فهم الإنسان، وتمييزه الحسن من القبيح، إلى زمن تعطيل القوى أو نقصانها، هذا إن لم يصطدم بالأمراض والمشاكل الأخرى التي نراها يوميّاً، ونحن عنها غافلون.
وهنا، أفترض صورة خياليّة، أفترض عمراً معيّناً، مئة وخمسين عاماً مثلاً، مع توافر جميع
19
أسباب الشهوة والغضب والشيطنة، بحيث لا يعترض هذا الإنسان شيء غير مرغوب به، ولا يحدث ما يخالف هدفه، مع هذه الفرضيّة، ماذا ستكون عاقبته بعد انقضاء هذه المدّة القصيرة، والتي تمرّ مرّ الرياح؟!
فماذا ادّخرتم من تلك اللذّات لحياتكم الدائمة؟ ليوم عجزكم وفقركم ووحدتكم؟ لأجل برزخكم وقيامتكم؟ لأجل لقائكم بملائكة الله وأوليائه وأنبيائه؟ هل ادّخرتم سوى الأعمال القبيحة المنكرة؟ والتي ستُقدَّم لكم صورها في البرزخ والقيامة، وهي الصورة التي لا يعلم حقيقتها إلّا الله تبارك وتعالى؟
المسارعة في تهذيب النفس
إنّ الوهم والغضب والشهوة، من الممكن أن تكون من الجنود الرحمانيّة، وأن تؤدّي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه، إذا سلّمتها للعقل السليم والأنبياء العظام. ومن الممكن أن تكون من الجنود الشيطانيّة إذا تركتها وشأنها، وأطلقت العنان للوهم كي يتحكّم في القوّتين الأخريين، الغضب والشهوة.
ولم يقل أحد من الأنبياء العظام عليهم السلام برفض الشهوة والغضب والوهم بصورة مطلقة، ولا يوجد داعٍ إلى الله يقول بأنّ الشهوة يُمكن أن تُقتل بصورة عامّة، وأن تخمد نار أوار الغضب بصورة كاملة، وأن يُترك تدبير الوهم، بل قالوا بوجوب السيطرة والتحكّم بها كي تؤدّي واجبها في ظلّ ميزان العقل والدستور الإلهيّ، لأنّ كلّ واحدة من هذه القوى تُريد أن تُنجز عملها وتنال غايتها، ولو استلزم ذلك الفساد والفوضى.
فمثلاً، النفس البهيميّة المنغمسة في الشهوة الجامحة التي مزّقت عنان هذه النفس، تريد أن تُحقّق هدفها ومقصودها، ولو تمّ ذلك من خلال الزنا بالمحصنات، وفي الكعبة، والعياذ بالله!
والنفس الغضوب، تُريد أن تُنجز ما تُريد، حتّى لو استلزم ذلك قتل الأنبياء والأولياء!
والنفس ذات الوهم الشيطانيّ تُريد أن تؤدّي عملها، ولو استلزم ذلك فساد الأرض بما فيها.
20
لقد جاء الأنبياء وأتَوا بقوانين وكتب سماويّة، من أجل الحيلولة دون الإطلاق والإفراط في الطبائع، ومن أجل إخضاع النفس الإنسانيّة لقانون العقل والشرع، وترويضها وتأديبها. فإن كيّفت النفس ملكاتها وفق القوانين الإلهيّة والمعايير العقليّة، فهي سعيدة آمنة، ومن أهل النجاة، وإلّا فليستعذ الإنسان بالله من ذلك الشقاء وسوء التوفيق، ومن الظلمات والشدائد المقبلة، ومنها تلك الصور المرعبة والمذهلة التي تُصاحب الإنسان في البرزخ والقيامة وجهنّم، والتي كانت نتيجة الملكات والأخلاق الفاسدة التي لازمته.
21
المفاهيم الرئيسة
1- إنَّ غضب الإنسان وشهوته وأنانيّته، غير محدودة. وتربية النفس وتهذيبها يسدّان هذا النهم والجشع، ويضعانها في ميزان العقل لتؤدّي واجبها، وتصل بالإنسان إلى الكمال المطلق.
2- إنَّ النفس تتطلّع دائماً إلى الكمال المطلق، لكنّ الخطأ يقع في تشخيص هذا الكمال، فجميع الساعين إلى الدنيا هم يسعَون للقاء الله، ولكن دون التفات.
3- إنَّ الله عزّ وجلّ اصطفى الأنبياء وعلّمهم وربّاهم، بهدف تربية الناس وتعليمهم. فبعد أن تربَّوا وتعلَّموا الأحكام الإلهيّة أُمِروا بتربية البشر وتعليمهم.
4- المؤمن هو الذي خرج من الظلمات إلى النور، ومن جميع النقائص، وتجاوز جميع الموانع التي تقف في طريق الإنسان، وذلك من خلال التربية الإلهيّة، التي يتلقّاها من الأنبياء الذين ربّاهم الله عزّ وجلّ.
5- إنّ الغاية من البعثة هي تزكية النفوس، وأن تحكم حكومة الله في قلوب البشر حتّى تحكم بالتّالي في المجتمعات البشريّة.
6- إنّ في باطن كلّ إنسان نفساً فرعونيّة، ما لم يخضع للتربية الإسلاميّة، أو تربية المدارس التوحيديّة، وهذه النفس بدون التربية سوف تبقى في باطنه، مضافاً إلى الشيطنة والأنانيّة.
7- إنَّ المفاسد في العالَم كلّها هي وليدة التوجّه إلى النفس في قِبال التوجّه إلى الله. وإنّ كلّ الكمالات التي تحقّقت للأنبياء والأولياء، إنّما كانت نتيجة انسلاخ قلوبهم عمّا سواه تعالى، والارتباط به، وتتجلّى علامات هذه الأمور في أعمالنا وسلوكنا.
8- قوى النفس الإنسانيّة وميولها وأمنياتها لا حدَّ لها، ولا يمكن إشباعها وتحقيقها بشكل كامل في عالم الدنيا. وعلى فرض تحقيقها، فإنَّ مدى الاستفادة من القوى الجسمانيّة هو أمرٌ محدود.
22
9- إنّ قوى الوهم والغضب والشهوة، من الممكن أن تكون من الجنود الرحمانيّة، وأن تؤدّي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه، إذا سلّمتها للعقل السليم والأنبياء العظام. ومن الممكن أن تكون من الجنود الشيطانيّة إذا تركتها وشأنها، وأطلقت العنان للوهم كي يتحكّم في القوّتين الأخريين، الغضب والشهوة.
10- جاء الأنبياء بقوانين وكتب سماويّة، من أجل الحيلولة دون الإطلاق والإفراط في الطبائع، ومن أجل إخضاع النفس الإنسانيّة لقانون العقل والشرع، وترويضها وتأديبها.
23
الدرس الثاني
مراتب جهاد النفس
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يتعرّف إلى حقيقة النفس الإنسانيّة ومراتبها.
2. يعدّد قوى النفس الظاهريّة والباطنيّة.
3. يشرح جهاد النفس في مرتبة الظاهر والباطن.
25
حديث في جهاد النفس
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريّة[1]، فلمّا رجعوا قال: "مرحباً بقوم قضَوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: جهاد النفس"[2].
حقيقة النفس الإنسانيّة ومراتبها
الإنسان أعجوبة، وله نشأتان وعالمان:
1- نشأة ظاهريّة ملكيّة دنيويّة، وهي بدنه.
2- ونشأة باطنيّة غيبيّة ملكوتيّة، وهي من عالم آخر.
ولنفس الإنسان - وهي من عالم الغيب والملكوت - مقامات ودرجات، قسَّموها بصورة عامّة إلى سبعة أقسام حيناً، وإلى أربعة أقسام حيناً آخر، وحيناً إلى ثلاثة أقسام، وحيناً إلى قسمين.
ولكلٍّ من المقامات والدرجات جنود رحمانيّة وعقلانيّة تجذب النفس نحو الملكوت الأعلى وتدعوها إلى السعادة، وجنود شيطانيّة وجهلانيّة تجذب النفس نحو الملكوت السفليّ وتدعوها للشقاء.
ودائماً هناك جدال ونزاع بين هذين المعسكرين، والإنسان هو ساحة حربهما.
[1] السريّة: قطعة من الجيش، ويُقال خير السرايا أربعمئة رجل.
[2] الكليني، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363هـ.ش، ط5، ج5، ص17.
27
فإذا تغلّبت جنود الرحمن، كان الإنسان من أهل الصلاة والرحمة، وانخرط في سلك الملائكة، وحُشِر في زمرة الأنبياء والأولياء والصالحين.
وأمّا إذا تغلّب جند الشيطان ومعسكر الجهل، كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب، وحُشِر في زمرة الشياطين والكفّار والمحرومين.
جهاد النفس في مرتبة الظاهر
إنّ مقام النفس الأوّل ومنزلها الأسفل، هو منزل المُلك والظاهر وعالمها. وفي هذا المقام تتألّق الأشعّة والأنوار الغيبيّة في هذا الجسد المادّيّ والهيكل الظاهريّ، وتمنحه الحياة العرضيّة، وتجهّز فيه الجيوش، فيكون ميدان المعركة هو هذا الجسد نفسه، وجنوده هي القوى الظاهريّة التي وُجدت في الأقاليم السبعة، وهي:
1- الأذن.
2- العين.
3- اللسان.
4- البطن.
5- الفرج.
6- اليد.
7- الرجل.
وجميع هذه القوى المتوزّعة في تلك الأقاليم السبعة هي تحت تصرّف النفس في مقام الوهم.
فالوهم سلطان جميع القوى الظاهريّة والباطنيّة للنفس. فإذا تحكّم الوهم في تلك القوى، سواء بذاته أو بتدخّل الشيطان، جعلها جنوداً للشيطان.
وبذلك تصبح هذه المملكة تحت سلطان الشيطان، وتضمحلّ عندها جنود الرحمان والعقل، وتنهزم وتخرج من نشأة المُلك وعالم الإنسان وتُهاجر عنه، وتغدو هذه المملكة خاصّة بالشيطان.
28
وأمّا إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيّدة بالنظام والعقل والشرع، فستكون هذه المملكة روحانيّة وعقلانيّة، ولن يجد الشيطان وجنوده محطّ قدم لهم فيها.
إذاً، فجهاد النفس - وهو الجهاد الأكبر الذي يعلو على القتل في سبيل الله - هو في هذا المقام، عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهريّة، وجعلها تأتمر بأمر الخالق، وتطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.
جهاد النفس في مرتبة الباطن
إنّ للنفس الإنسانيّة عالماً ومقاماً آخر، هو مملكتها الباطنيّة ونشأتها الملكوتيّة، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهمّ ممّا في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانيّة والشيطانيّة أعظم، والانتصار فيها أشدّ وأهمّ، بل إنّ كلّ ما في مملكة الظاهر قد تنزّل من الباطن وظهر في عالم المُلك.
وإذا تغلّب أيٌّ من الجند الرحمانيّ أو الشيطانيّ في مملكة الباطن، تغلّب أيضاً في هذه المملكة الظاهريّة.
وجهاد النفس في هذا المقام مهمٌّ للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويُمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات.
القوى الباطنيّة للنفس وصورها
إنّ الله - تبارك وتعالى - قد خلق بيد قدرته وحكمته في عالم الغيب وباطن النفس قوىً لها منافع لا تُحصى. ومورد بحثنا هنا هو ما يتعلّق بهذه القوى الثلاث، وهي:
1- القوّة الوهميّة.
2- القوّة الغضبيّة.
3- القوّة الشهوانيّة.
ولكلّ واحدة من هذه القوى منافع كثيرة، لأجل الحفاظ على الإنسانيّة وأعمال الدنيا والآخرة، كما ذكر ذلك العلماء.
29
والذي يلزم أن أُنبّه عليه في هذا المقام، هو أنّ هذه القوى الثلاث هي منبع جميع الملكات الحسنة والسيّئة، وأصل جميع الصور الغيبيّة الملكوتيّة.
وتفصيل هذا الإجمال، هو أنّ الإنسان كما أنّ له في هذه الدنيا صورة ملكيّة دنيويّة، خلقها الله -تبارك وتعالى- على كمال الحُسن والجمال والتركيب البديع، والمتحيّرة إزاءها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، والتي لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتّى الآن أن يتعرّف إلى حالها بصورة صحيحة، وقد ميّز الله تعالى هذا الإنسان عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة جمال المنظر، كذلك فإنّ للإنسان صورة وهيئة وشكلاً ملكوتيّاً غيبيّاً، وهذه الصورة تابعة لملكات النفس والخلقة الباطنيّة.
استقامة الباطن في الدنيا شرط للاستقامة في الآخرة
وفي عالم ما بعد الموت، سواء في البرزخ أو القيامة، إذا كانت خلقة الإنسان في الباطن والسريرة إنسانيّة، كانت الصورة الملكوتيّة له صورة إنسانيّة أيضاً، وأمّا إذا لم تكن ملكاته[1] ملكات إنسانيّة، فصورته في عالم ما بعد الموت تكون غير إنسانيّة أيضاً، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة.
فمثلاً، إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيميّة، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيميّة، كانت صورة الإنسان الملكوتيّة على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخلق.
وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعيّة، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكماً سبعيّاً، كانت صورته الغيبيّة الملكوتيّة صورة أحد السباع والبهائم أيضاً.
وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما الملكة، وأصبح للباطن والسريرة ملكات شيطانيّة، كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة، صارت صورته الغيبيّة الملكوتيّة على صورة أحد الشياطين، بما يتناسب وتلك الصورة.
ومن الممكن أحياناً أن تتركّب الصور الملكوتيّة من ملكتين أو عدّة ملكات، وفي هذه
[1] الملكات: الصفات أو الأخلاق.
30
الحالة لا تكون على صورة أيٍّ من الحيوانات، بل تتشكّل له صورة غريبة، هذه الصورة بهيئتها المرعبة المدهشة والسيّئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالَم.
يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ بعض الناس يُحشرون يوم القيامة على صورة تكون أسوأ من صور القردة[1]، بل وقد تكون لشخص واحد عدّة صور في ذلك العالم، لأنّ ذلك العالَم ليس كهذا العالَم، حيث لا يُمكن لأيّ شيء أن يتقبّل أكثر من صورة واحدة له، وهذا الأمر يُطابق البرهان وثابت في محلّه أيضاً.
واعلم أنّ المعيار لهذه الصور المختلفة، هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، واستيلاء سلطان الآخرة، الذي أوّله في البرزخ عند خروج الروح من الجسد، فبأيّة ملكة يخرج بها من الدنيا، تتشكّل على ضوئها صورته الأخرويّة، وتراه العين الملكوتيّة في البرزخ، وهو نفسه أيضاً عندما يفتح عينيه في برزخه، ينظر إلى نفسه بالصورة التي هو عليها، هذا إذا كان لديه بصر.
وليس من المحتّم أن تكون صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا.
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان بعض: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيراً﴾[2].
فيأتيه الجواب من الله تعالى: ﴿قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ﴾[3].
نصيحة
فيا أيّها المسكين، قد كانت لديك عين ملكيّة ظاهرة، وهي البصر، ولكنّك في باطنك وملكوتك كُنتَ أعمى، وقد أدركتَ الآن هذا الأمر، وإلاّ فإنّك كُنتَ أعمى منذ البداية، حيث لم تكن لديك عين البصيرة الباطنيّة التي تُرى بها آيات الله.
[1] صدر المتألّهين، الشيخ محمّد بن إبراهيم، أسرار الآيات، مقدّمة وتصحيح محمّد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي، 1402هـ، لا.ط، ص152.
[2] سورة طه، الآية 125.
[3] سورة طه، الآية 126.
31
أيّها المسكين، أنت ذو قامة متناسقة وصورة جميلة في التركيب الملكيّ (الظاهريّ). ولكن معيار الملكوت والباطن غير هذا. عليك أن تُحرز الاستقامة الباطنيّة كي تكون مستقيم القامة في يوم القيامة.
يجب أن تكون روحك روحاً إنسانيّة، كي تكون صورتك في عالم البرزخ صورة إنسانيّة...
أنت تظنّ أنّ عالم الغيب والباطن، وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات، مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث يُمكن أن يقع الخلط والاشتباه...
إنّ عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك جميعها، ستشهد عليك بما فعلتَ، بألسنة ملكوتيّة، بل وبعضها بصورة ملكوتيّة.
أيّها العزيز، افتح سمع قلبك، وشدّ حزام الهمّة على وسطك، وارحم حال مسكنتك، لعلّك تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالَم بصورة آدميّة، لتكون عندها من أهل الفلاح والسعادة.
وحذارِ من أن تتصوّر أنّ كلّ ما تقدّم هو موعظة وخطابة، فهذا كلّه نتاج أدلّة فلسفيّة توصّل إليها الحكماء العظام، وكشْفٌ انكشف لأصحاب الرياضيات، وإخبار عن الصادقين والمعصومين عليهم السلام.
32
المفاهيم الرئيسة
1- إنَّ الإنسان له نشأتان: نشأة ظاهريّة دنيويّة، وهي بدنه، ونشأة باطنيّة غيبيّة، وهي من عالم آخر.
2- للنفس الإنسانيّة مقامات ودرجات، ولكلٍّ من المقامات والدرجات جنود رحمانيّة وجنود شيطانيّة. وهناك جدال ونزاع دائمٌ بينهما، فإذا تغلّبت جنود الرحمن كان الإنسان من أهل الصلاة والرحمة وحُشِر في زمرة الأنبياء والأولياء والصالحين، وأمّا إذا تغلّب جند الشيطان، كان الإنسان من أهل الشقاء والغضب، وحشر في زمرة الشياطين والكفّار والمحرومين.
3- إنّ مقام النفس الأوّل ومنزلها الأسفل، هو منزل الملك والظاهر، هو ذاك الجسد المادّيّ، حيث يكون ميدان المعركة وجنوده هي القوى الظاهريّة التي وُجدت في الأقاليم السبعة، وهي:
الأذن، العين، اللسان، البطن، الفرج، اليد، الرجل. وجميع هذه القوى هي تحت تصرّف النفس في مقام الوهم، فإذا تحكّم الوهم في تلك القوى دون تدخّل العقل تصبح مملكة النفس شيطانيّة، أمَّا إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع فستكون هذه المملكة روحانيّة وعقلانيّة.
4- إنَّ جهاد النفس في مقام الظاهر هو عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهريّة، وجعلها تأتمر بأمر الخالق عزّ وجلّ.
5- إنّ الله تبارك وتعالى خلق في باطن النفس قوىً ثلاث، وهي: القوّة الوهميّة، القوّة الغضبيّة، القوّة الشهوانيّة، ولكلّ واحدة من هذه القوى منافع كثيرة، لأجل الحفاظ على الإنسانيّة وأعمال الدنيا والآخرة، وهي منبع جميع الملكات الحسنة والسيئة، وأصل جميع الصور الغيبيّة الملكوتيّة.
6- إذا كانت خلقة الإنسان في الباطن والسريرة إنسانيّة، كانت الصورة الملكوتيّة له
33
في عالم ما بعد الموت صورة إنسانيّة أيضاً، وأمّا إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانيّة، فصورته تكون غير إنسانيّة أيضاً، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة، فالمعيار لهذه الصور المختلفة، هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، فبأيّة ملكة يخرج بها من الدنيا، تتشكّل على ضوئها صورته الأخرويّة.
34
الدرس الثالث
عاقبة السوء
(التخلّف عن جهاد النفس)
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يدرك أنَّ جميع أشكال العذاب يسيرة وسهلة مقابل عذاب الآخرة.
2. يشرح ماهيّات جهنّم.
3. يبيِّن أهمّيّة التدبّر والتفكّر في الكتاب والسنّة.
35
النار والعذاب الأليم
يجب على الإنسان الالتفات إلى نفسه كثيراً في هذا الجهاد. فمن الممكن - لا سمح الله - أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانيّة في مملكة الباطن وتركها خالية للغاصبين والمحتلّين من جنود الشيطان، عن الهلاك الدائم للإنسان بالصورة التي يستحيل معها تلافي الخسارة، ولا تشمله شفاعة الشافعين، وينظر إليه أرحم الراحمين أيضاً بعين الغضب والسخط - نعوذ بالله من ذلك، بل ويُصبح شفعاؤه خصماءه، وويلٌ لمن كان شفيعُه خصمُه.
ويعلم الله أيّ عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي الغضب الإلهيّ، وتعقب معاداة أولياء الله، حيث تكون نيران جهنّم كلّها والزقّوم والأفاعي والعقارب لا شيء أمام هزيمة جنود الرحمان من قِبل جنود الشيطان، التي تترتّب عليها عقوبات تفوق جميع نيران جهنّم والزقّوم والأفاعي - والعياذ بالله من أن يُصبّ على رؤوسنا نحن الضعفاء والمساكين ذلك العذاب الذي يُخبر عنه الحكماء والعرفاء وأهل الرياضة والسلوك -.
فإنّ جميع أشكال العذاب التي تتصوّرونها، يسيرة وسهلة في مقابله. وجميع النيران التي سمعتم بها، جنّة ورحمة في قباله، وبالنسبة إلى ذلك العذاب. إنّ وصف النار والجنّة الوارد في كتاب الله وأحاديث الأنبياء والأولياء، يتعلّق غالباً بنار الأعمال وجنّتها اللتين أُعدّتا للأعمال السيّئة والصالحة.
وهناك إشارة خفيّة أيضاً إلى جنّة الأخلاق ونارها، وأهمّيّتها أكبر، وأحياناً يُشار إلى جنّة اللقاء ونار الفراق، وهذا أهمّ من الجميع، ولكنّها إشارات محجوبة عنّا ولها أهلها، وأنا وأنت لسنا من أهلها، ولكن من الأجدر بنا أن لا نكون منكرين لها. وليكن لدينا إيمان
37
بكلّ ما قاله الله تعالى وأولياؤه، إذ إنّ في هذا الإيمان الإجمالي نفعاً لنا. ومن الممكن أن يكون للإنكار والرفض، الصادرين عن غير علم وفهم، أضرار كبيرة جدّاً علينا.
وهذه الدنيا ليست بعالم الالتفات لتلك الأضرار، فمثلاً: عند سماعك الحكيم الفلانيّ أو العارف الفلانيّ أو المرتاض الفلانيّ، يقول شيئاً لا يتلاءم وذوقك الخاصّ، فلا تحكم عليه فوراً بالبطلان والوهم، فقد يكون لذلك القول أصل في الكتاب والسنّة، ولكنّ عقلك لم يطّلع عليه بعد. فما قالوه بشأن جنّة الأخلاق والملكات، وجهنّم الأخلاق والدركات، مصيبة لا يطيق العقل حتّى سماعها.
جهنّم الأعمال السيّئة
إنّ جميع نيران جهنّم وعذاب القبر والقيامة وغيرها، ممّا سمعت به، هي جهنّم أعمالك التي تراها هناك، كما يقول الله تعالى: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراًۗ﴾[1].
لقد أكلت مال اليتيم وتلذّذت بذلك، ولكنّ الله وحده يعلم ما هي صورة هذا العمل في ذلك العالم، والتي ستراها في جهنّم، وما هي الذلّة التي ستكون من نصيبك هناك. الله يعلم أيّ عذاب شديد ينتظرك بسبب تعاملك السيّئ مع الناس وظلمك لهم في ذلك العالَم! ستفهم أيّ عذاب قد أعددت لنفسك بنفسك، عندما اغتبت، فإنّ الصورة الملكوتيّة لهذا العمل قد أُعدّت لك، وسترِد عليك وتُحشر معها، وستذوق عذابها، وهذه هي جهنّم الأعمال. وهي سهلة ويسيرة بالمقارنة مع جهنّم الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة.
جهنّم الأخلاق الفاسدة
أمّا الذين زرعوا في نفوسهم الملكة الفاسدة والرذيلة السيّئة الباطلة، كالطمع والحرص والجدال والشرَه وحبّ المال والجاه والدنيا وباقي الملكات، فلهم جهنّم لا يُمكن تصوّرها، ولا يُمكن أن تخطر صورتها على قلبي وقلبك، فالنار تظهر من باطن النفس ذاتها، وأهل جهنّم أنفسهم يفرّون رعباً من عذاب أولئك.
[1] سورة الكهف، الآية 49.
38
وفي بعض الروايات الموثوقة أنّ هناك في جهنّم وادياً للمتكبّرين، يُقال له: "سقر"، وقد شكا الوادي إلى الله تعالى من شدّة الحرارة، وطلب منه سبحانه أن يأذن له بالتنفّس، وبعد أن أذِن له تنفّس، فأحرق سقر جهنّم[1].
وأحياناً تُصبح هذه الملكات سبباً في أن يخلَّد الإنسان في جهنّم، لأنّها تسلبه الإيمان، كالحسد الذي ورد في رواياتنا، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ الحسد يأكل الإيمان، كما تأكل النار الحطب"[2].
وكحبّ الدنيا والجاه والمال الذي ورد في الروايات الصحيحة أنّها أكثر إهلاكاً لدين المؤمن من ذئبين أُطلقا على قطيع بلا راع، فوقف أحدهما في أوّل القطيع والثاني في آخره...
فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رُعاؤها، أحدهما في أوّلها والآخر في آخرها، بأفسد فيها من حبّ المال والشرف في دين المسلم"[3].
جهنّم العقائد الباطلة
نسأل الله أن لا تؤول عاقبة المعاصي إلى الملكات والأخلاق الظلمانيّة القبيحة، والتي تؤول إلى فقدان الإيمان وموت الإنسان كافراً، لأنّ جهنّم الكافر وجهنّم العقائد الباطلة أشدّ بدرجات وأكثر إحراقاً وظلمة من ذينك الجهنّمين، جهنّم الأعمال وجهنّم الملكات الفاسدة.
أيّها العزيز، لقد ثبت في العلوم العالية[4] أنّ درجات الشدّة غير محدودة، فمهما تصوّرت ومهما تصوّرت العقول بأسرها شدّة العذاب، فوجود عذاب أشدّ أمر ممكن أيضاً. وأنت إذا لم ترَ برهان الحكماء، ولم تُصدّق كشف أهل الرياضات، ولكنّك بحمد الله مؤمن تُصدّق الأنبياء عليهم السلام، وتُقرّ بصحّة الأخبار الواردة عنهم في الكتب المعتبرة التي يقبلها
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص310.
[2] المصدر نفسه، ج2، ص306.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص315.
[4] لقد بيّن هذه الحقيقة صدر المتألّهين وغيره من الحكماء في كتبهم العلميّة، راجع: صدر المتألّهين، محمّد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، بيروت - لبنان، دار إحياء التراث العربي، 1981م، ط3، ج1، ص45، 65، 69.
39
جميع علماء الإماميّة، وتُقرّ بصحة الأدعية والمناجاة الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
أنت الذي رأيت مناجاة مولى المتّقين أمير المؤمنين عليه السلام، ورأيت مناجاة سيّد الساجدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي...
فتأمّل قليلاً في مضمونها، وفكّر قليلاً في محتواها، وتمعّن قليلاً في فقراتها، فليس ضرورياً أن تقرأ دعاء طويلاً دفعة واحدة وبسرعة دون تفكّر في معانيه.
أنا وأنت ليس لدينا حال سيّد الساجدين عليه السلام كي نقرأ تلك الأدعية المفصّلة بشوق وإقبال، اقرأ في الليلة ربع ذلك أو ثلثه، وفكِّر في فقراته، لعلّك تُصبح صاحب شوق وإقبال وتوجّه.
وفوق ذلك كلّه فكّر قليلاً في القرآن، وانظر أيّ عذاب وعد به الحقّ تعالى، بحيث إنّ أهل جهنّم يطلبون من الملك الموكّل بجهنّم أن ينتزع منهم أرواحهم، ولكن هيهات فلا مجال للموت!
انظر إلى قوله تعالى: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾[1].
فأيّة حسرة هذه التي يذكرها الله تعالى بتلك العظمة وبهذا التعبير؟! تدبّر في هذه الآية القرآنيّة الشريفة، ولا تمرّ عليها دون تأمّل.
وتدبّر أيضاً في آية: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[2].
حقّاً فكّر يا عزيزي! القرآن ليس بكتاب قصّة، ولا بممازح لأحد، انظر ما يقول... أيّ عذاب هذا الذي يصفه الله تبارك وتعالى؟ وهو العظيم الذي لا حدّ ولا حصر لعظمته ولا انتهاء لعزّته وسلطانه، فيقول بأنّه شديد وعظيم...، فماذا وكيف سيكون؟!
الله وحده هو العالِم، لأنّ عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوّره. ولو راجعت أخبار أهل بيت العصمة والطهارة وآثارهم، وتأمّلت فيها، لفهمت أنّ قضيّة
[1] سورة الزمر، الآية 56.
[2] سورة الحجّ، الآية 2.
40
عذاب ذلك العالَم، هي غير أنواع العذاب التي فكّرت فيها، وقياس عذاب ذلك العالَم بعذاب هذا العالَم، قياس باطل وخاطئ.
وهنا أنقل لك حديثاً شريفاً، لكي تعرف ماهيّة الأمر وعظمة المصيبة، مع أنّ هذا الحديث يتعلّق بجهنّم الأعمال، وهي أخفّ من جميع النيران، عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قاعدٌ، إذ أتاه جبرائيل وهو كئيب حزين متغيّر اللون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل، ما لي أراك كئيباً حزيناً؟
فقال: يا محمد، فكيف لا أكون كذلك؟! وإنّما وضعت منافخُ جهنّم اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما منافخ جهنّم يا جبرائيل؟
فقال: إنّ الله تعالى أمر بالنار، فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثمّ أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثمّ أمر فأوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت، وهي سوداء مظلمة. فلو أنّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضِعت على الدنيا، لذابت الدنيا من حرِّها، ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قُطرت في شراب أهل الدنيا، لماتوا من نتنها.
قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرائيل، فبعث الله إليهما ملكاً، فقال: "إنّ ربّكما يُقرئكما السلام، ويقول: إنّي أمنتكما من أن تُذنبا ذنباً أُعذِّبكما عليه"[1].
نصيحة
أيّها العزيز، إنّ أمثال هذا الحديث الشريف كثيرة، ووجود جهنّم والعذاب الأليم من ضروريّات جميع الأديان، ومن البراهين الواضحة، وقد رأى نماذج لها في هذا العالَم أصحاب المكاشفة وأرباب القلوب.
ففكّر وتدبّر في مضمون هذا الحديث القاصم للظهر، فإذا احتملت صحّته، ألا ينبغي لك أن تهيم في الصحارى، كمن أصابه المسّ[2]؟! ماذا حدث لنا لكي نبقى إلى هذا الحدّ في نوم الغفلة والجهالة؟!
[1] الفيض الكاشانيّ، محمد بن المرتضى، علم اليقين، المحقق محسن بيدارفر، الناشر منشورات بيدار، مطبعة أمير- قم، إيران ـ قم، 1418هـ، ط1، ج2، ص1259.
[2] المسّ: الجنون.
41
أنزلت علينا، كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل، ملائكة أعطتنا الأمان من عذاب الله؟! في حين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأولياء الله لم يقرّ لهم قرار إلى آخر أعمارهم من خوف الله، وما كان لهم نوم ولا طعام.
عليّ بن الحسين، وهو إمام معصوم، يقطّع القلوب بنحيبه وتضرّعه ومناجاته وعجزه وبكائه، فماذا دهانا؟! وصرنا لا نستحي أبداً، فنهتك في محضر الربوبيّة كلّ هذه الحرمات والنواميس الإلهيّة؟!
فويل لنا من غفلتنا! وويل لنا من شدّة سكرات الموت! وويل لحالنا في البرزخ وشدائده، ومن القيامة وظلماتها! وويل لحالنا في جهنّم وعذابها وعقابها!
42
المفاهيم الرئيسة
1- ينبغي للإنسان الالتفات إلى مجاهدة نفسه كثيراً، إذ من الممكن أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانيّة إلى هلاكه الدائم، بالصورة التي يستحيل معها تلافي الخسارة، بحيث لا تشمله شفاعة الشافعين.
2- إنّ جميع أشكال العذاب وجميع النيران التي يمكن تصوّرها، يسيرة وسهلة في مقابل الغضب الإلهيّ.
3- إنّ وصف النار والجنّة الوارد في كتاب الله وأحاديث الأنبياء والأولياء، يتعلّق غالباً بنار الأعمال وجنّتها اللتين أُعدّتا للأعمال السيّئة والصالحة. وهناك إشارة خفيّة أيضاً إلى جنّة الأخلاق ونارها، وأهمّيّتها أكبر، وأحياناً يُشار إلى جنّة اللقاء ونار الفراق، ولكنّها إشارات محجوبة عنّا، ولها أهلها. ولكن، من الأجدر بنا، أن لا نكون منكرين لها، إذ من الممكن أن يكون للإنكار والرفض، الصادرين عن غير علم وفهم، أضرار كبيرة جداً علينا.
4- إنّ جميع نيران جهنّم وعذاب القبر والقيامة وغيرها، هي جهنّم الأعمال التي يراها الإنسان هناك، فالصورة الملكوتيّة للعمل السيّئ، كـأكل مال اليتيم مثلاً، قد أُعدّت للإنسان، وستردّ عليه ويُحشر معها، وسيذوق عذابها، وهذه هي جهنّم الأعمال.
5- إنَّ الذين زرعوا في نفوسهم الملكة الفاسدة والرذيلة السيّئة الباطلة، كالطمع والحرص والجدال والشرَه وحبّ المال والجاه والدنيا وباقي الملكات، لهم جهنّم لا يُمكن تصوّرها، وهي جهنم الأخلاق الفاسدة، وهي أشدّ من جهنّم الأعمال.
6- إنَّ جهنّم العقائد الباطلة أشدّ بدرجات وأكثر إحراقاً وظلمة من جهنّم الأعمال وجهنّم الملكات الفاسدة.
7- ينبغي لنا التأمّل والتفكر في مضامين أدعية أهل البيتعليهم السلام ومناجاتهم، والتدبّر في القرآن الكريم وآياته التي تصف أنواع العذاب في العالم الآخر.
43
الدرس الرابع
طريق جهاد النفس
(اليقظة)
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يبيّن أنّ اليقظة من الغفلة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك.
2. يبيّن أثر حبّ النفس والدنيا على مصير الإنسان.
3. يشرح أهمّيّة اغتنام فرصة الشباب في تهذيب النفس وإصلاحها.
45
اليقظة من الغفلة
إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك. ولكنّكم ما زلتم تغطّون في نوم عميق. فلو لم تكن الأفئدة ملوّثة بنوم الغفلة، والقلوب اسودّت وصدئت نتيجة الذنوب، لما كنتم هكذا، غير مبالين وغير مهتمّين، تواصلون الأعمال والأقوال الشنيعة. فلو فكّرتم قليلاً بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء لأوليتم اهتماماً كبيراً للمسؤوليّات الجسام الملقاة على عواتقكم.
إنّ وراءكم حساباً، كما أنّ أمامكم معاداً وقيامة، ولستم كسائر الكائنات التي لا معاد لها ولا حساب، فلماذا لا تتّعظون؟! لماذا لا تفيقون؟! لماذا تخوضون مطمئنّين في الاغتياب والإساءة إلى إخوتكم المسلمين أو تستمعون إلى ذلك؟! هل تعلمون أنّ هذه الألسن التي تمتدّ لاستغابة الآخرين، سوف تُداس بأرجل الآخرين يوم القيامة؟!
هل تعلمون أنّ الغيبة إدام كلاب النار؟! هل فكّرتم أصلاً في العواقب الوخيمة السيّئة لهذه الاختلافات والعداوات الحسد وإساءة الظنّ والأنانية والغرور والتكبّر و...؟!
هل تعلمون أنّه من الممكن أن تكون جهنّم عاقبة هذه الأفعال الدنيئة المحرّمة، وتقود إلى الخلود في نار جهنّم؟!
الأمراض النفسيّة لا تظهر آلامها مباشرة
لا قدّر الله أن يُبتلى الإنسان بأمراض لا تظهر آلامها. إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأن يُفكّر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفى، بيد أنّ المرض الذي لا يُرافقه الألم ولا يشعر الإنسان بتبعاته مرض خطير، لأنّه عندما يتنبّه إليه الإنسان يكون قد فات الأوان واستحال العلاج.
47
والأمراض النفسيّة هي من هذا النوع، فلو كانت مصحوبة بالألم المباشر لحرّكت المصاب ودفعته إلى معالجتها. ولكن ماذا نفعل إذا كانت هذه الأمراض لا يُحَسّ بآلامها رغم خطورتها؟
إنّ مرض الغرور والأنانيّة، من الأمراض التي لا تظهر آلامها، وهي ليس فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتّسم بظاهر يبعث على التلذّذ، إذ إنّ مجالس الغيبة والنميمة قد تكون محبّبة!
فالإنسان يشعر مع حبّ النفس وحبّ الدنيا - وهما مصدر جميع الذنوب - بلذّة ونشوة. فإذا ما ابتُلي الإنسان بحبّ الدنيا واتّباع الهوى، واستحوذ حبّ الدنيا على قلبه، فإنّه يتألّم من كلّ شيء عدا الأمور الدنيويّة، ويُعادي -والعياذ بالله- الله وعباده والأنبياء والأولياء وملائكة الله، ويحسّ بالحقد والبغضاء تجاههم.
وحينما يأتي أجله، وتأتي ملائكة الله لتتوفّاه، يشعر بالاستياء الشديد وينفر منهم، لأنّهم يريدون أن يُبعدوه عن محبوبته (الدنيا والأمور الدنيوية)، ولذلك يُبغضهم وينفر منهم، وربما يخرج من هذه الدنيا، وهو عدوّ لله تعالى.
حدّثَ أحد الأكابر من أهالي قزوين رحمه الله، فقال: "إنّه كان جالساً عند رأس شخص يحتضر، فسمعه يقول: إنّ الظلم الذي ظلمني إيّاه الله تعالى لم يظلمني أحد مثله! فلقد بذلت مهجتي في تربية أولادي، وها هو يريد أن يُبعدني عنهم! فهل هناك ظلم أشدّ من هذا وأعظم؟".
اتّقوا الله! اخشوا عاقبة الأمور! أفيقوا من غفلتكم! إنّكم لم تفيقوا بعد، ولم تخطوا الخطوة الأولى. إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك.
الحذر من استفحال حبّ النفس والدنيا
إذا لم يُهذّب الإنسان نفسه، ولم يُعرض عن الدنيا ويُخرج حبّها من قلبه، فيُخشى عليه أن يترك الدنيا وقلبه مملوء بالحقد على الله وأوليائه، وأن يواجه مثل هذا المصير المشؤوم.
هل حقاً إنّ هذا الإنسان الصلف هو أشرف المخلوقات، أم هو في الحقيقة أشرّ
48
المخلوقات؟ يقول الله -تعالى-: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ * إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ * إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[1].
إنّ المستثنى في هذه السورة هم "المؤمنون" الذين عملوا الصالحات فحسب، و"العمل الصالح" هو الذي ينسجم مع الروح.
ولكنّ كثيراً من أعمال الإنسان - كما ترون - ينسجم مع الجسم، دون أن يوجد من النواحي المذكورة في السورة المباركة عين أو أثر.
فإذا كان الأساس أن يُسيطر عليكم حبّ الدنيا وحبّ النفس، ويحول دون إدراككم للحقائق والواقعيات، ودون أن يكون عملكم خالصاً لوجه الله تعالى، ويمنعكم عن التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، ويسدّ طريق الهداية أمامكم، فإذا كان هذا الأساس فستبوؤون بالخسران المبين، وتكونون ممّن خسر الدنيا والآخرة، لأنّكم أضعتم شبابكم وحُرمتم من نِعَم الجنّة ونعيم الآخرة، وأضعتم دنياكم وآخرتكم.
احذروا أن يستفحل -لا سمح الله- حبّ الدنيا وحبّ النفس شيئاً فشيئاً في نفوسكم، ويصل بكم الأمر إلى أن يتمكّن الشيطان من سلب إيمانكم، إذ يُقال: إنّ كلّ جهود الشيطان تتكرّس لسرقة الإيمان وسلبه.
إنّ كلّ جهود إبليس ومساعيه مكرّسة لاختطاف إيمان الإنسان. فلم يُقدّم لكم أحد تعهّداً أو مستنداً ببقاء إيمانكم، فما أدراكم لعلّه إيمان مستودع يتمكّن الشيطان في النهاية من سلبه منكم، فتخرجون من الدنيا بعداوة الله وأوليائه. عُمْرٌ قضيتموه تتنعّمون بالنعم الإلهيّة وتجلسون على مائدة الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وفي النهاية تُفارقون الحياة عديمي الإيمان -والعياذ بالله-، وتُعادون وليّ نعمتكم.
وعليه، فإذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق. إنّ هذه الدنيا بزخارفها وبهارجها كلّها، أحقر من أن تستحقّ المحبّة، فكيف إذا ما كان الإنسان محروماً حتّى من هذه المظاهر؟ فماذا تملكون أنتم من الدنيا حتّى تنشدّ قلوبكم إليها؟
[1] سورة العصر، الآيات 1 - 3.
49
وإذا افترضنا أنّ لكم من الدنيا ما للمرفّهين والمترفين، فإنّكم ستقضون عمركم باللذائذ، ثمّ ترون عند انتهاء العمر أنّ ذلك كلّه ليس أكثر من حلم جميل سرعان ما انقضى، بيد أنّ تبعاته ومسؤوليّاته سوف تبقى تلاحقكم وتأخذ بخناقكم دوماً!
معرفة حقيقة الدنيا
فما قيمة هذه الحياة السريعة الفناء الحلوة الظاهر - هذا إذا انقضت دونما غصص - في مقابل العذاب الدائم؟!
إنّ عذاب أهل الدنيا يكون أحياناً غير متناهٍ، هذا فضلاً عن أنّ أهل الدنيا يتصوّرون أنّهم قد ملكوا الدنيا واستمتعوا بجميع مزاياها ومنافعها، إلّا أنّهم مخطئون وغافلون. إنّ كلّ واحد ينظر إلى الدنيا من نافذة محيطه وبيئته، ويتصوّر أنّ الدنيا هي كما يرى.
بيد أنّ هذا العالَم أوسع من أن يستطيع الإنسان أن يتصوّره ويتمكّن من اكتشافه وسبر أغواره.
وعليه، ينبغي لنا أن نتعرّف إلى حقيقة ذلك العالَم الذي ما نظر إليه الله تعالى نظرة رحمة... وما هو "معدن العظمة"[1] الذي دُعي إليه الإنسان. وما هي حقيقته. إنّ الإنسان أصغر من أن يُدرك حقيقة "معدن العظمة".
إنّكم إذا أخلصتم نواياكم وأصلحتم أعمالكم وأخرجتم من قلوبكم حبّ النفس وحبّ الجاه، فإنّ الدرجات الرفيعة والمقامات العالية قد أُعدّت لكم، وهي في انتظاركم... وعليه، إذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق.
إنّ الدنيا وما فيها ببهارجها وزخارفها كلّها لا تُساوي ذرّة من المقام الذي أُعدّ لعباد الله الصالحين، فجدّوا واجتهدوا لبلوغ هذه المقامات السامية.
وإذا ما استطعتم، فابنوا أنفسكم واسموا بها إلى درجة لا تعبؤون معها حتّى بهذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة. لا تعبدوا الله تعالى من أجل نيل هذه الأمور، بل
[1] من المناجاة الشعبانيّة لأمير المؤمنين: "إلهي، هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة..."، راجع: السيد ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيومي، إيران - قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414هـ، ط1، ج3، ص295.
50
اعبدوه لأنّه أهل للعبادة، اسجدوا لله وعفِّروا جباهكم بالتراب، حينها تخترقون حجب النور وتصلون إلى معدن العظمة.
فهل بمقدوركم أن تُحقّقوا هذه المكانة والمنزلة من خلال أعمالكم هذه وهذا الطريق الذي تسلكونه؟
هل تتصوّرون أنّ النجاة من عقاب الله -تعالى- واجتياز العقبات المهولة والتخلّص من نار جهنّم، تتحقّق بهذه السهولة؟
هل تتصوّرون أنّ بكاء الأئمّة الأطهار ونحيب الإمام السجّاد عليه السلام هو من أجل تعليمنا؟
إنّهم، رغم منزلتهم العظيمة السامية ومقامهم الذي لا يُضاهى، كانوا يبكون من خشية الله تعالى، لأنّهم يعلمون مدى خطورة الطريق الذي سيجتازونه. كانوا مطّلعين على المشاكل والصعوبات التي تعترض اجتياز الصراط. هذا الصراط الذي يُمثّل أحد طرفيه الدنيا، وطرفه الآخر الآخرة.
كانوا مطّلعين على عوالم القبر والبرزخ والقيامة وعقباتها الكأداء، لذلك لم يكن يقرّ لهم قرار، وكانوا دائماً يلجؤون إلى الله ويدعونه للنجاة من هول يوم القيامة.
فماذا أعددتم أنتم لهذه العقبات الكأداء والعقوبات التي لا تُطاق؟ وأيّ طريق نجاة اخترتم؟
متى تريدون أن تهتمّوا بأنفسكم وتعملوا على تهذيبها وإصلاحها؟
اغتنام فرصة الشباب
إنّكم الآن في ريعان الشباب، وقادرون على التحكّم بقواكم، ولم يدبّ الضعف بعد إلى أبدانكم، فإذا لم تُفكّروا الآن بتزكية أنفسكم وبناء ذواتكم، فكيف ستتمكّنون من ذلك غداً؟ عندما يتغلّب الضعف عليكم ويُسيطر الوهن، وتفقدون العزم وتضمحلّ فيكم الإرادة، فيكون ثقل الذنوب قد زاد من ظلمة القلب، عندها كيف يتسنّى لكم بناء أنفسكم وتهذيبها؟
51
إنّ كلّ نَفَسٍ تتنفّسونه، وكلّ خطوة تخطونها، وكلّ لحظة تنصرم من أعماركم، تزيد من صعوبة إصلاحكم أنفسكم، وربّما زادت أيضاً من ظلمة القلب والتباهي والغرور.
فكلّما تقدّم العمر بالإنسان ازدادت هذه الأمور التي تتعارض مع سعادته، وضعفت القدرة على الإصلاح. فإذا بلغتم مرحلة الشيخوخة فمن الصعب أن تُوفّقوا لاكتساب الفضيلة والتقوى.
ليس بمقدوركم أن تتوبوا، لأنّ التوبة لا تتحقّق بمجرّد لفظة أتوب إلى الله، بل تتوقّف على الندم والعزم على ترك الذنوب.
وإنّ الندم والعزم على ترك الذنوب، لن يحصلا للذين أمضَوا عمراً في الغيبة والكذب وابيضّت لحاهم على المعصية والذنوب. فمثل هؤلاء يظلّون أسارى ذنوبهم إلى آخر أعمارهم.
فليتحرّك الشباب قبل أن يداهمهم المشيب. لقد بلغنا هذه المرحلة، ونحن أعلم بمعاناتها ومصائبها... إنّكم ما دمتم في مرحلة الشباب تستطيعون أن تفعلوا كلّ شيء.
فما دمتم تملكون عزيمة الشباب وإرادة الشباب، باستطاعتكم أن تتخلّصوا من أهواء النفس ورغباتها الحيوانيّة.
ولكن، إذا لم تُبادروا إلى ذلك، ولم تُفكّروا بإصلاح أنفسكم وبنائها، فسوف يكون ذلك ضرباً من المحال عندما تبلغون مرحلة الهرم. فكِّروا بأنفسكم ما دمتم شباباً، ولا تنتظروا إلى أن تُصبحوا شيبة ضعافاً عاجزين.
إنّ قلب الشباب رقيق وملكوتيّ، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن، كلّما كبر الإنسان استحكمت في قلبه جذور المعصية، إلى أن يُصبح استئصالها من القلب أمراً مستحيلاً، كما ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب، زاد ذلك السواد، حتّى يُغطّي البيضاء، فإذا تغطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"[1].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص273.
52
إنّ إنساناً من هذا النوع، قد لا يمرّ عليه يوم أو ليلة دون أن يعصي الله تعالى، وحينها يكون من الصعب أن يرجع قلبه في سنّ الشيخوخة إلى حالته الأولى.
فإذا لم تُصلحوا أنفسكم - لا سمح الله - وخرجتم من الدنيا بقلوب سوداء وعيون وآذان وألسنة ملوّثة بالذنوب، فكيف ستُقابلون الله تعالى؟ كيف ستردّون هذه الأمانات الإلهيّة التي استودعكم الله إيّاها بمنتهى الطهارة والبراءة، مدنّسة بالقذارة والرذالة؟
هذه العين وهذه الأذن اللتان هما تحت تصرّفكم، وهذه اليد وهذا اللسان اللذان تحت سلطتكم، وهذه الأعضاء والجوارح التي تعيشون معها، كلّها أمانات الله سبحانه وتعالى، وقد منحكم الله إيّاها في غاية السلامة والطهارة، فإذا ابتُليَتْ بالمعاصي فسوف تتلوّث، وإذا تلوّثت بالمحرّمات، فسوف تجد طريقها إلى الرذالة.
وآنذاك، عندما تُريدون إعادة هذه الأمانة، فقد تُسألون: أهكذا تُحفظ الأمانة؟! أهكذا كان القلب عندما أُعطي إليكم؟! العين التي استودعناكم إيّاها، أهكذا كانت؟! وسائر الأعضاء والجوارح التي جعلناها تحت تصرّفكم، هل كانت هكذا ملوّثة وقذرة؟! بماذا ستُجيبون عن هذه الأسئلة؟ وكيف ستواجهون الله الذي خنتم أماناته إلى هذا الحدّ من الخيانة؟
إنّكم الآن شباب، وقد قرّرتم أن تفنوا شبابكم في هذا الطريق الذي لن ينفعكم دنيويّاً بما يستحقّ الذكر، فإذا أمضيتم أوقاتكم الثمينة هذه، وقضيتم ربيع شبابكم في طريق الله، ومن أجل هدف مقدّس، فإنّكم ليس فقط لم تخسروا شيئاً، بل ستربحون الدنيا والآخرة.
ولكن، إذا ما استمرّت أوضاعكم على هذا المنوال الذي هي عليه الآن، فإنّكم تُتلفون شبابكم وتهدرون خيرة سنوات عمركم، وستكونون مسؤولين أعظم مسؤوليّة عند الله تعالى في عالَم الآخرة.
علماً، أنّ جزاء أعمالكم الفاسدة والمفسدة هذه لا ينحصر بالعالَم الآخر، بل إنّكم سترَون أنفسكم في هذه الدنيا، وقد أحاط بكم البلاء من كلّ جانب، وسُدّت عليكم الآفاق وضُيِّق الخناق.
53
ففكّروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداء على جميع شؤونكم... فكّروا وانتبهوا وتحرّكوا...
ففي المرحلة الأولى، اهتمّوا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم، خذوا بوسائل العصر، نظّموا أموركم، وابسطوا النظام والانضباط، هذّبوا أنفسكم، وتجهّزوا واستعدّوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يُمكن أن تعترضكم[1].
[1] الإمام الخمينيّ، روح الله الموسوي، جهاد النفس، الناشر مؤسّسة نشر تراث الإمام الخمينيّ، 1420هـ -1999م، إيران - طهران، ص7 - 9.
54
المفاهيم الرئيسة
1- تُمثّل اليقظة الخطوة الأولى من خطوات السلوك نحو الكمال المطلق، وكذلك التنبّه والتفكّر في العواقب الوخيمة للأفعال المحرّمة، كالغيبة والحسد وإساءة الظنّ، والأنانيَّة والتكبّر...
2- إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأن يُفكّر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفى، بيد أنّ المرض الذي لا يُرافقه الألم مرض خطير، لأنّه عندما يتنبّه إليه الإنسان يكون قد فات الأوان واستحال العلاج، والأمراض النفسيّة هي منالأمراض التي لا تظهر آلامها، بل قد تكون محبّبة، فالإنسان يشعر مع حبّ النفس وحبّ الدنيا، وهما مصدر جميع الذنوب، بلذّة ونشوة.
3- إنّ المستثنى في سورة العصر هم "المؤمنون" الذين عملوا الصالحات، و"العمل الصالح" هو الذي ينسجم مع الروح، ويترك أثره فيها.
4- ينبغي للإنسان الحذر من أن يستفحل حبّ الدنيا وحبّ النفس شيئاً فشيئاً في نفسه، ويصل به الأمر إلى أن يتمكّن الشيطان من سلب إيمانه، فيخرج من الدنيا بعداوة الله وأوليائه، إذ يُقال: إنّ جهود الشيطان كلّها تتكرّس لسرقة الإيمان وسلبه.
5- إنّ أهل الدنيا يتصوّرون أنّهم قد ملكوا الدنيا واستمتعوا بجميع مزاياها ومنافعها، إلّا أنّهم مخطئون وغافلون، لأنَّ هذا العالَم أوسع من أن يستطيع الإنسان أن يتصوّره ويتمكّن من اكتشافه وسبر أغواره.
6- إنّ الدنيا وما فيها، ببهارجها وزخارفها كلّها لا تُساوي ذرّة من المقام الذي أُعدّ لعباد الله الصالحين، فجدّوا واجتهدوا لبلوغ هذه المقامات السامية. وإذا ما استطعتم فابنوا أنفسكم واسموا بها إلى درجة لا تعبؤون معها حتّى بهذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة، حينها تخترقون حجب النور وتصلون إلى معدن العظمة.
55
7- إنّ قلب الشباب رقيق وملكوتيّ، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن، كلّما كبر الإنسان استحكمت في قلبه جذور المعصية، إلى أن يُصبح استئصالها من القلب أمراً مستحيلاً.
8- ينبغي أن يتحرّك الشباب قبل أن يداهمهم المشيب، فما داموا يملكون عزيمة الشباب وإرادة الشباب، باستطاعتهم أن يتخلّصوا من أهواء النفس ورغباتها الحيوانيّة.
56
الدرس الخامس
شروط مجاهدة النفس
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يذكر أنَّ التفكّر هو أوَّل شروط مجاهدة النفس.
2. يتعرّف إلى مقام العزم وأهميّته في مجاهدة النفس.
3. يشرح كيفيّة مشارطة النفس ومراقبتها ومحاسبتها.
57
التفكُّر
إنّ أوّل شروط مجاهدة النفس والسير باتّجاه الحقّ - تعالى -، هو التفكّر، أن يتفكّر الإنسان بعض الوقت كيف أنّ مولاه خلقه في هذه الدنيا، وهيّأ له كلّ أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً وقوى سالمة، لكلّ واحدة منها منافع تُحيّر الألباب، ورعاه وهيّأ له كلّ هذه السعة وأسباب النعمة والرحمة.
ومن جهة أخرى، أرسل له جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل هذه الكتب والرسالات كلّها، وأرشد ودعا إلى الهدى... فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك الملوك؟
هل إنّ وجود جميع هذه النعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانيّة وإشباع الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات، أم هناك هدف وغاية أخرى؟
هل إنّ الأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء الأمّة الذين يدعون الناس إلى حكم العقل والشرع، ويُحذّرونهم من الشهوات الحيوانيّة ومن هذه الدنيا البالية، لديهم عداءٌ ضدّ الناس، أم إنهم كانوا مثلنا، لا يعلمون طريق صلاحنا، نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!
إنّ الإنسان إذا فكّر للحظة واحدة، عرف أنّ الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأنّ الغاية من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحياة الحيوانيّة ليست هي الغاية بذاتها، وأنّ على الإنسان العاقل أن يفكّر بنفسه، وأن يترحّم على حاله ونفسه المسكينة، ويُخاطبها: أيّتها النفس الشقيّة، التي قضيت سنيّ عمرك الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، واستحي من مالك الملوك، وسيري
59
قليلاً في طريق الهدف الأساس المؤدّي إلى حياة الخلد والسعادة السرمديّة، ولا تبيعي تلك السعادة بشهوات أيّام قليلة فانية، والتي لا تتحصّل حتّى مع الصعوبات المضنية الشاقّة.
فكّري قليلاً في أحوال الدنيا والسابقين، وتأمّلي متاعبهم وآلامهم، كم هي أكبر بكثير من هنائهم، وفي الوقت نفسه الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأيّ شخص.
إنّ ذلك الذي يكون على صورة إنسان، ولكنّه من جنود الشيطان وأعوانه، والذي يدعوك إلى الشهوات، ويقول: يجب ضمان الحياة المادّيّة، تأمّل قليلاً في حاله واستنطقه، انظر هل هو راضٍ عن ظروفه، أم أنّه مبتلىً ويُريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!
وعلى أيّ حال، فادعُ ربّك بعجز وتضرّع أن يُعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه تعالى، والأمل أن يهديك هذا التفكير المقترن بنيّة مجاهدة الشيطان والنفس الأمّارة، إلى طريق آخر، وتوفّق للترقّي إلى منزلة أخرى من منازل المجاهدة.
العزم
وهناك مقام آخر يواجه الإنسان المجاهد بعد التفكّر، وهو مقام العزم. يقول أحد مشايخنا - أطال الله عمره -: "إنّ العزم هو جوهرة الإنسانيّة، ومعيار ميزة الإنسان، وإنّ اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه".
والعزم الذي يتناسب وهذا المقام، هو أن يوطّن الإنسان نفسه ويتّخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيّام حياته.
وبالتّالي، أن يعمل على أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعيّاً، بحيث يحكم الشرع والعقل -بحسب الظاهر- بأنّ هذا الشخص إنسان.
والإنسان الشرعيّ هو الذي يُنظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع، وأن يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يقتدي بالنبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ويتأسّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمر ممكن، لأنّ جعل الظاهر مثل ظاهر هذا القائد أمرٌ مقدور لأيّ فرد من عباد الله.
60
واعلم، إنّ طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهيّة، لا يُمكن إلّا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يُمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة، ولن تنكشف له العلوم الباطنيّة وأسرار الشريعة.
وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمرّ في تأدّبه بالآداب الشرعيّة الظاهريّة، ومن هنا، بطلان دعوى من يقول: إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك الظاهر، أو أنّه وبعد الوصول إلى العلم الباطن ينتفي الاحتياج إلى الآداب الظاهريّة. وهذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانيّة.
أيّها العزيز، اجتهد لتُصبح ذا عزم وإرادة، فإنّك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقّق فيك العزم على ترك المحرّمات فأنت إنسان صوريّ، بلا لبّ، ولن تُحشر في ذلك العالَم على هيئة إنسان، لأنّ ذلك العالَم هو محلّ كشف الباطن وظهور السريرة.
وإنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف. يقول الأستاذ المعظّم[1] قدس سره: "إنّ أكثر ما يبعث على فقد الإنسان للعزم والإرادة، هو الاستماع للغناء".
إذاً، تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً إنسانيّاً، وادخل في سلك أرباب الشرائع، واطلب من الله تعالى، في الخلوات، أن يكون معك في الطريق إلى هذا الهدف، واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، حتّى يفيض عليك ربّك التوفيق، ويُمسك بيدك في المزالق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيّام حياته، ومن الممكن في لحظة واحدة أن يسقط هذا الإنسان في مزلق مهلك، يعجز بعده عن إنقاذ نفسه، بل قد لا يهتمّ بذلك، وربّما لا تشمله حتّى شفاعة الشافعين، نعوذ بالله منها.
[1] الأستاذ المعظّم: هو أستاذ الإمام الخمينيّ في العرفان، واسمه الشاه أبادي.
61
المشارطة والمراقبة والمحاسبة
من الأمور الضروريّة للمجاهد "المشارطة والمراقبة والمحاسبة".
1- المشارطة:
وهي أن يُشارط نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يُخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك، ويعزم عليه.
وواضح أنّ ترك ما يُخالف أوامر الله ليوم واحد، أمر يسير للغاية، ويُمكن للإنسان أن يلتزم به بيُسر، فاعزم وشارط وجرّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير. ومن الممكن أن يُصوّر لك إبليس اللعين وجنده أنّ الأمر صعب وعسير، فاعلم عندها أنّ هذه من تسويلات هذا اللعين، فالعنه قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرّب ليوم واحد، فعند ذلك ستُصدّق هذا الأمر.
2- المراقبة:
وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى المراقبة. وكيفيّتها أن تنتبه طوال مدّة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت.
وإذا حصل - لا سمح الله - حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أنّ ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وأخرِج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: إنّني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم -وهو يوم واحد- بأيّ عمل يُخالف أمر الله -تعالى-، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحّة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة منها. وعليه، فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذ. وآمل، إن شاء الله -تعالى-، أن ينصرف الشيطان عنك ويبتعد، وتنتصر جنود الرحمن.
والمراقبة لا تتعارض مع أيٍّ من أعمالك، كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل، ريثما يحين وقت المحاسبة.
62
3- المحاسبة:
وهي أن تُحاسب نفسك لترى مدى التزامك بما اشترطت على نفسك، وأنّك لم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئيّة.
فإذا كنت قد وفّيت حقّاً، فاشكر الله على هذا التوفيق. وإن شاء الله ييسّر لك - سبحانه - التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى ملكة فيك بحيث يُصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحسُّ عندها باللذّة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وفي هذا العالَم بالذّات، في حين أنّ هذا العالَم ليس هو عالم الجزاء، لكنّ الجزاء الإلهيّ يؤثّر ويجعلك مستمتعاً وملتذّاً بطاعتك لله وابتعادك عن المعصية.
واعلم، إنّ الله لم يُكلّفك ما يشقّ عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك عليه، لكنّ الشيطان وجنده يُصوّرون لك الأمر وكأنّه شاقّ وصعب.
وإذا حدث - لا سمح الله - في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكُنْ على هذا الحال كي يفتح الله -تعالى- أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانيّة.
63
المفاهيم الرئيسة
1- التفكُّر هو أوّل شروط مجاهدة النفس والسير باتّجاه الحقّ -تعالى-، وهو أن يُفكّر الإنسان في أنّ وجود جميع هذه النعم، هل هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانيّة وإشباع الشهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات، أم هناك غاية أخرى؟
2- يواجه الإنسان المجاهد بعد مقام التفكّر مقام العزم، وهو أن يوطّن الإنسان نفسه ويتّخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيّام حياته، وأن يعمل على أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعيّاً يُنظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع.
3- إنّ طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهيّة، لا يُمكن إلّا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يُمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة، ولن تنكشف له العلوم الباطنيّة وأسرار الشريعة.
4- من الأمور الضروريّة للمجاهد: "المشارطة والمراقبة والمحاسبة".
5- المشارطة تعني أن يُشارط المجاهد نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يُخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه. والمراقبة تعني أن ينتبّه طوال مدّة المشارطة إلى عمله وفقها، فيعتبر نفسه ملزماً بالعمل وفق ما شارط. أمّا المحاسبة فهي أن يحاسب نفسه ليرى هل أدّى ما اشترطه على نفسه ولم يخن وليّ نعمته في هذه المعاملة الجزئيّة، فإذا كان قد وفّى حقّاً، فليشكر الله على هذا التوفيق، وإذا حدث -لا سمح الله- في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطه على نفسه، فليستغفر الله وليطلب العفو منه، وليعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وليكُنْ على هذا الحال كي يفتح الله -تعالى- أمامه أبواب التوفيق والسعادة، ويوصله إلى الصراط المستقيم للإنسانيّة.
64
الدرس السادس
الطريق العمليّ لجهاد النفس
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يفهم دور التذكّر في إعانة السالك على مجاهدة النفس.
2. يعلم أنّ السيطرة على الخيال هو الشرط الأوّل في عمليّة مجاهدة النفس.
3. يبيّن الطريق العمليّ لمجاهدة النفس.
65
التذكّر
ومن الأمور التي تُعين الإنسان، وبصورة كاملة، في مجاهدته للنفس والشيطان، والتي ينبغي للإنسان السالك المجاهد الانتباه إليها جيّداً هو التذكّر. والتذكّر في هذا المقام، هو عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان.
واعلم أنّ احترام المنعمِ وتعظيمه، من الأمور الفطريّة التي جُبل الإنسان عليها، والتي تحكم الفطرة بضرورتها، وإذا تأمّل أيّ شخص في كتاب ذاته، لوجده مسطوراً فيه أنّه يجب تعظيم من أنعم نعمة على الإنسان.
وواضح أنّه كلّما كانت النعمة أكبر وكان المنعِم أقلّ غرضاً، كان تعظيمه أوجب وأكثر، حسب ما تحكم به الفطرة، فهناك مثلاً فرق واضح في الاحترام والتقدير بين شخص يُعطيك حصاناً تُلاحقه عيناه ويرمي من ورائه إلى شيء، وبين الذي يهبك مزرعة كاملة ولا يمنّ عليك بها. أو مثلاً إذا أنقذك طبيب من العمى، فستُقدّره وتحترمه بصورة فطريّة، وإذا أنقذك من الموت، كان تقديرك واحترامك له أكثر.
لاحظ الآن أنّ النعم الظاهرة والباطنة التي تفضّل بها علينا مالك الملوك - جلَّ شأنه - لو اجتمع الجنّ والإنس لكي يُعطونا واحدة منها لما استطاعوا. وهذه حقيقة نحن غافلون عنها، فمثلاً هذا الهواء الذي ننتفع به ليلاً ونهاراً، وحياتنا وحياة جميع الموجودات مرهونة به، بحيث لو فُقِد مدة ربع ساعة لما بقي هناك حيوان على قيد الحياة، هذا الهواء كم هو نعمة عظيمة، يعجز الجنّ والإنس جميعاً عن مَنحِنا مثيلاً له، لو أرادوا أن يمنحونا ذلك!
وعلى هذا فقِس، وتذكّر قليلاً كافّة النعم الإلهيّة، مثل سلامة البدن والقوى الظاهريّة،
67
من قبيل البصر والسمع والتذوّق، والقوى الباطنيّة، مثل التخيّل والواهمة والعقل وغير ذلك، حيث يكون لكلّ واحدة من هذه النعم منافع خاصّة لا حدّ لها. وجميع هذه النعم وهبنا مالك الملوك إيّاها دون أن نطلب منه أن يمنّ علينا. ولم يكتفِ بهذه النعم، بل أرسل الأنبياء والرسل والكتب، وأوضح لنا طريق السعادة والشقاء والجنّة والنار، ووهبنا كلّ ما نحتاجه في الدنيا والآخرة، دون أن يكون فقيراً ومحتاجاً إلى طاعتنا وعبادتنا. فهو - سبحانه - لا تنفعه الطاعة ولا تضرّه المعصية، وطاعتنا ومعصيتنا بالنسبة له على حدٍّ سواء، بل من أجل خيرنا ومنفعتنا نحن، يأمر وينهى.
وبعد تذكّر هذه النعم والكثير الكثير من النعم الأخرى التي يعجز حقّاً البشر جميعهم عن إحصاء الكلّيات منها، فكيف بعدّها واحدة واحدة؟! بعد ذلك يُطرح السؤال الآتي: ألا تحكم فطرتك بوجوب تعظيم منعِم كهذا؟ وما هو حكم العقل تجاه خيانة وليّ نعمة كهذا؟
ومن الأمور الأخرى التي تُقرّها الفطرة، احترام الشخص الكبير العظيم، ويرجع هذا الاحترام كلّه والتقدير الذي يُبديه الناس تجاه أهل الدنيا والجاه والثروة والسلاطين والأعيان، يرجع إلى أنّهم يرون أولئك كباراً وعظماء، فأيّ عظمة تصل إلى مستوى عظمة مالك الملوك الذي خلق هذه الدنيا الحقيرة والوضيعة والتي تُعتبر من أصغر العوالم وأضيق النشآت، رغم ذلك كلّه لم يتوصّل عقل أيّ موجود إلى إدراك كنهها وسرّها حتى الآن، بل ولم يطّلع كبار المكتشفين في العالَم بعد على أسرار منظومتنا الشمسيّة، وهي أصغر المنظومات، ولا تعدّ شيئاً قياساً إلى باقي المنظومات! أفلا يجب احترام وتعظيم هذا العظيم، الذي خلق هذه العوالم وآلاف الآلاف من العوالم الغيبيّة الإيمانيّة؟!
ويجب أيضاً بالفطرة احترام من يكون حاضراً، ولهذا ترى أنّ الإنسان إذا تحدّث - لا سمح الله - عن شخص بسوء في غيبته، ثمّ حضر في أثناء حديث ذلك الشخص، اختار المتحدّث حسب فطرته الصمت، وأبدى له الاحترام.
68
ومن المعلوم أنّ الله - تبارك وتعالى - حاضر في كلّ مكان وتحت إشرافه -تعالى- تُدار جميع ممالك الوجود، بل إنّ نفس الحضور والعالَم أجمع هو محضر الربوبيّة.
فتذكّري، يا نفسي الخبيثة، أيّ ظلم فظيع، وأيّ ذنب عظيم تقترفين إذا عصيت مثل هذا العظيم في حضرته المقدّسة وبواسطة القوى التي هي نعمه الممنوحة لك. ألا ينبغي أن تذوبي من الخجل وتغوري في الأرض لو كان لديك ذرّة من الحياء؟!
إذاً، فيا أيّها العزيز، كن ذاكراً لعظمة ربّك، وتذكّر نعمه وألطافه، وتذكّر أنّك في حضرته، وهو شاهد عليك، فدع التمرّد عليه.
وفي هذه المعركة الكبرى، تغلّب على جنود الشيطان، واجعل مملكتك رحمانيّة وحقّانيّة، وأحلل فيها عسكر الحقّ -تعالى- محلّ جنود الشيطان، كي يوفّقك الله - تبارك وتعالى - في مقام مجاهدة أخرى، وفي ميدان معركة أكبر تنتظرك وهي الجهاد مع النفس في العالَم الباطن، وفي المقام الثاني للنفس.
وأُكرّر التذكير بأنّه في جميع الأحوال لا تُعلّق على نفسك الآمال، لأنّه لا ينهض أحد بعمل غير الله - تعالى -. فاطلب من الحقّ - تعالى - نفسه بتضرّع وخشوع، كي يُعينك في هذه المجاهدة، لعلّك تنتصر، إنّه وليّ التوفيق.
السيطرة على الخيال
إنّ أوّل شرط للمجاهد في المقام الثاني، وهو مقام الباطن، والذي يُمكن أن يكون أساس الغلبة على الشيطان وجنوده، هو حفظ طائر الخيال، لأنّ هذا الخيال طائر محلّق يحطّ في كلّ آن على غصن، ويجلب الكثير من الشقاء. وهو إحدى وسائل الشيطان التي تجعل الإنسان مسكيناً عاجزاً وتدفع به نحو الشقاء.
وعلى الإنسان المجاهد الذي نهض لإصلاح نفسه، وأراد أن يُصفّي باطنه، ويُفرِّغه من جنود إبليس، عليه أن يُمسك بزمام خياله، فلا يسمح له بأن يطير حيثما شاء، وعليه أن يمنع من اعتراضه للخيالات الفاسدة والباطنة، كخيالات المعاصي والشيطنة، وأن يوجّه
69
خياله دائماً نحو الأمور الشريفة. هذا الأمر، قد يبدو في البداية صعباً بعض الشيء، ويصوّره الشيطان وجنوده لنا كأنّه أمر عظيم، ولكنّه مع قليلٍ من المراقبة والمواظبة يُصبح أمراً سهلاً ويسيراً.
إنّ من الممكن لك، من باب التجربة، أن تُسيطر على جزء من خيالك، وتنتبه له جيّداً. فمتى ما أراد أن يتوجّه إلى أمر وضيع، فاصرفه نحو أمور أخرى، كالمباحات أو الأمور الراجحة الشريفة.
فإذا رأيت أنّك حصلت على نتيجة، فاشكر الله -تعالى- على هذا التوفيق، وتابع سعيك، لعلّ ربّك برحمته يفتح لك طريقاً إلى الملكوت ويهديك إلى صراط الإنسانيّة المستقيم، ويُسهّل عليك مهمّة السلوك إليه سبحانه وتعالى.
وانتبه إلى أنّ الخيالات الفاسدة القبيحة والتصوّرات الباطلة هي من إلقاءات الشيطان، الذي يُريد أن يوطّن جنوده في مملكة باطنك. فعليك، أيّها المجاهد ضدّ الشيطان وجنوده، وأنت تُريد أن تجعل من صفحة نفسك مملكة إلهيّة رحمانيّة، عليك أن تحذر كيد هذا اللعين، وأن تُبعد عنك هذه الأوهام المخالفة لرضا الله -تعالى-، حتى تنتزع -إن شاء الله- هذا الخندق المهمّ جدّاً من يد الشيطان وجنوده في هذه المعركة الداخليّة، فهذا الخندق بمنزلة الحدّ الفاصل، فإذا تغلّبت هنا فتأمّل خيراً.
الموازنة
ومن الأمور التي تُعين الإنسان في هذا السلوك، والتي يجب عليه الانتباه لها، الموازنة.
والموازنة هي أن يُقارن الإنسان العاقل بين منافع ومضارّ كلّ واحدة من الأخلاق الفاسدة والملكات الرذيلة التي تنشأ عن الشهوة والغضب والوهم، عندما تكون حرّة وتحت تصرّف الشيطان، وبين منافع ومضارّ كلّ واحدة من الأخلاق الحسنة والفضائل النفسيّة، والتي هي وليدة تلك القوى الثلاث، عندما تكون تحت تصرّف العقل والشرع، ليرى على أيّ واحدة منها يصحّ الإقدام، وبأيّها يحسُن العمل.
70
فمثلاً، إنّ النفس ذات الشهوة المطلقة العنان، والتي ترسّخت فيها، وأصبحت ملكة ثابتة لها، وتولّدت منها ملكات كثيرة في أزمنة متطاولة، هذه النفس لا تتورّع عن أيّ فجور تصل يدها إليه، ولا تعرض عن أيّ مال يأتيها، ومن أيّ طريق كان، وترتكب كلّ ما يوافق رغبتها وهواها مهما كان، ولو استلزم ذلك أيّ أمر فاسد.
ومنافع الغضب الذي أصبح ملكة للنفس، وتولّدت منه ملكات ورذائل أخرى، منافعه هي أنّه يظلم بالقهر والغلبة كلّ من تصل إليه يده، ويفعل ما يقدر عليه ضدّ كلّ شخص يُبدي أدنى مقاومة، ويُثير الحرب بأقلّ معارضة له، ويُبعد المضرّات وما لا يُلائمه، بأيّة وسيلة مهما كانت، ولو أدّى ذلك إلى وقوع الفساد في العالَم.
وعلى هذا النحو، تكون منافع النفس لصاحب الواهمة الشيطانيّة الذي ترسّخت فيه هذه الملكة. فهو يُنفّذ عمل الغضب والشهوة بأيّة شيطنة وخدعة كانت، ويُسيطر على عباد الله بأيّة خطّة باطلة كانت، سواء بتحطيم عائلة ما، أو بإبادة مدينة أو بلاد ما.
هذه هي منافع تلك القوى عندما تكون تحت تصرّف الشيطان.
الطريق العمليّ لجهاد النفس
أيّها العزيز، انهض من نومك وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك مجال، وما دام في العمر بقيّة، وما دامت قواك تحت تصرّفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلّب عليك بعد الأخلاق الفاسدة، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج، واعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب...
وأفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقيّة، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلّبه منك تلك الملكة الرذيلة.
وعلى أيّ حال، اطلب التوفيق من الله -تعالى- لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أنّ
71
هذا الخُلق القبيح سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان من هذا الخندق، وتحلّ محلّه الجنود الرحمانيّة.
فمثلاً، من الأخلاق الذميمة التي تُسبّب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتُعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشهوة.
فإذا كان الإنسان المجاهد يُفكّر في السموّ والترفّع، عليه عندما يعترضه أمر غير مرغوب فيه حيث تتوهّج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيّئ من القول، عليه أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكّر سوء عاقبة هذا الخُلق ونتيجته القبيحة، ويُراعي في المقابل حسن الخلق ويلعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.
إنّي أتعهّد لك، بأنّك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته عدّة مرّات، فإنّ الخُلق السيّئ سيتغيّر كلّيّاً وسيحلّ الخُلق الحسن في مملكتك الباطنيّة، أمّا إذا عملت وفق هوى النفس، فمن
الممكن أن يقضي عليك في هذا العالَم. وأعوذ بالله تعالى من الغضب الذي يُهلك الإنسان في آن واحد في كلا الدارين، فقد يؤدّي ذلك الغضب -لا سمح الله- إلى قتل النفس.
ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حالة الغضب على النواميس الإلهيّة، كما رأينا أنّ بعض الناس قد أصبحوا من جرّاء الغضب مرتدّين، وقد قال الحكماء: "إنّ السفينة التي تتعرّض لأمواج البحر العاتية، وهي بدون قبطان، لهي أقرب إلى النجاة من الإنسان وهو في حالة الغضب".
أو إذا - لا سمح الله - كُنتَ من أهل الجدل والمراء في المناقشات العلميّة، كبعضنا نحن الطلبة المبتلين بهذه السريرة القبيحة، فاعمل فترة بخلاف النفس، فإذا دخلت في نقاش مع أحد الأشخاص في مجلس ما، ورأيت أنّه يقول الحقّ، فاعترف بخطئك، وصدِّق القول
72
المقابل، والمأمول أن تزول هذه الرذيلة في زمن قصير.
ولا سمح الله أن ينطبق علينا قول بعض أهل العلم ومدّعي المكاشفة، حيث يقول: "لقد كُشف لي خلال إحدى المكاشفات أن تخاصم أهل النار الذي يُخبر عنه الله تعالى، هو الجدل بين أهل العلم والحديث". والإنسان إذا احتمل صحّة هذا الأمر، فعليه أن يسعى كثيراً من أجل إزالة هذه الخصلة.
روي عن عدّة من الأصحاب أنّهم قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، ثم قال: "إنّما هلك من كان قبلكم بهذا. ذروا المراء، فإنّ المؤمن لا يماري، ذروا المراء، فإنّ المماري قد تمَّت خسارته، ذروا المراء، فإنّ المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيمٌ بثلاث أبياتٍ في الجنّة، في رياضها وأوسطها وأعلاها، لمن ترك المِراءَ وهو صادق، ذروا المِراء، فإنّ أوّل ما نهاني عنه ربّي بعد عبادة الأوثان المِراء"[1].
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يدع المراء، وإن كان محقّاً"[2].
والأحاديث في هذا الباب كثيرة. فما أقبح أن يُحرم الإنسان شفاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة مُغالبة جزئيّة ليس فيها أيّ ثمر ولا أثر! وما أقبح أن تتحوّل مذاكرة العلم، وهي أفضل العبادات والطاعات إذا كانت بنيّة صحيحة، إلى أعظم المعاصي بفعل المراء، وتتلو مرتبة عبادة الأوثان!
وعلى أيّ حال، ينبغي للإنسان أن يأخذ بنظر الاعتبار الأخلاق القبيحة الفاسدة، ويُخرجها من مملكة روحه بمخالفة النفس. وعندما يخرج الغاصب، يأتي صاحب الدار نفسه، فلا يحتاج حينذاك إلى مشقّة أخرى أو إلى طلب العودة منه.
وعندما يكتمل جهاد النفس في هذا المقام، ويوفّق الإنسان لإخراج جنود إبليس من
[1] الهيثمي، عليّ بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1988م، لا.ط، ج1، ص156.
[2] ابن أبي الدنيا، عبد الله بن محمّد، الصمت وآداب اللسان، تحقيق وتعليق محمّد أحمد عاشور، دار الاعتصام، مصر - القاهرة، 1404هـ، 1988م، ط2، ص85.
73
هذه المملكة، وتُصبح مملكته مسكناً لملائكة الله ومعبداً لعباده الصالحين، فحينذاك يُصبح السلوك إلى الله يسيراً، ويتّضح طريق الإنسانيّة المستقيم، وتُفتح أمام الإنسان أبواب البركات والجنّات، وتُغلق أمامه أبواب جهنّم والدركات، وينظر الله -تبارك وتعالى- إليه بعين اللطف والرحمة، وينخرط في سلك أهل الإيمان، ويُصبح من أهل السعادة وأصحاب اليمين، ويُفتح له طريق إلى باب المعارف الإلهيّة، وهي غاية خلق الجنّ والإنس، ويأخذ -الله تعالى- بيده في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.
74
المفاهيم الرئيسة
1- من الأمور التي تُعين الإنسان في مجاهدته للنفس والشيطان، التذكّر. وهو عبارة عن ذكر الله -تعالى- ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان.
2- من الأمور التي تقرّها الفطرة الإنسانيّة:
- احترام المنعِم وتعظيمه، وكلّما كانت النعمة أكبر وكان المنعِم أقلّ غرضاً، كان تعظيمه أوجب وأكثر. وإنّ النعم الظاهرة والباطنة التي تفضّل بها علينا مالك الملوك -جلَّ شأنه-، لو اجتمع الجنّ والإنس لكي يُعطونا واحدة منها لما استطاعوا.
- احترام الشخص الكبير العظيم، ويرجع هذا الاحترام كلّه والتقدير الذي يُبديه الناس تجاه أهل الدنيا إلى أنّهم يرون أولئك كباراً وعظماء، فأيّ عظمة تصل إلى مستوى عظمة مالك الملوك الذي خلق هذه الدنيا والتي تُعتبر من أصغر العوالم وأضيق النشآت.
- احترام من يكون حاضراً، ومن المعلوم أنّ الله تبارك وتعالى حاضر في كلّ مكان، وتحت إشرافه -تعالى- تُدار جميع ممالك الوجود، بل إنّ نفس الحضور والعالَم أجمع هو محضر الربوبيّة.
3- إنّ أوّل شرط للمجاهد في مقام الباطن هو حفظ طائر الخيال، بأن يُمسك بزمام خياله، فيمنع النفس من الخيالات الفاسدة والباطلة، ويوجّه خياله دائماً نحو الأمور الراجحة والشريفة.
4- من الأمور التي تُعين الإنسان في هذا السلوك، والتي يجب عليه الانتباه لها، الموازنة. وهي أن يُقارن الإنسان العاقل بين منافع ومضارّ كلّ واحدة من الأخلاق الفاسدة والملكات الرذيلة، ليرى على أيّ واحدة منها يصحّ الإقدام، وبأيّها يحسُن العمل.
5- إنَّ أفضل علاج لدفع المفاسد الأخلاقيّة، هو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس إلى أمد محدّد، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلّبه منك تلك الملكة الرذيلة.
75
الدرس السابع
النيَّة والإخلاص
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يدرك أنَّ التمحيص والاختبار هو الهدف من خلق الحياة.
2. يحدّد المقياس في كمال الأعمال الإنسانيّة.
3. يبيّن الخطوة الأولى نحو تحقيق الإخلاص.
77
حديث عن النيّة والإخلاص
عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام في قَوْلِ اللهِ تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[1]، قال عليه السلام: "ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبَكم عملاً. وإنّما الإصابة خشية الله والنِّيَّة الصادقة والخشية.
ثمّ قال: "الإبقاء على العمل حتّى يَخْلُصَ أشَدُّ من العمل، والعمل الخالص الّذي لا تريد أن يَحْمَدك عليه أحد إلا الله -تعالى - أفضل من العمل. ألا وإنّ النِّيَّةَ هي العمل، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾[2]، يعني عَلى نِيَّته"[3].
التمحيص هو هدف الحياة
إنّ ﴿لِيَبۡلُوَكُمۡ﴾ في الحديث الشريف، إشارة إلى قوله -تعالى-: ﴿تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ١ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ﴾[4].
وقد تقدّم منّا معنى الاختبار والامتحان، وكيفيّة نسبته إلى الحقّ المتعال جلّ جلاله عند شرح بعض الأحاديث، على نحو لا يستلزم الجهل على الذات المقدّس، ومن دون حاجة إلى تكلّف وتأويل. ولا بدّ من الإشارة إليه بصورة مجملة، هي:
إنّ نفس الإنسان في بدء فطرتها وخلقتها تتمتّع بالاستعداد المحض والقابليّة الصرفة،
[1] سورة هود، الآية 7.
[2] سورة الإسراء، الآية 84.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص16.
[4] سورة تبارك، الآيتان 1 - 2.
79
وهي خالية عن كلّ فعليّة من ناحية السعادة والشقاء. وبعد حصول الحركات الطبيعيّة والأفعال الاختياريّة، تتحوّل الاستعدادات إلى الفعليّة، وتنجم التشخّصات والتميّزات.
فانفراد السعيد عن الشقيّ والغثّ عن السمين، يحصل في هذه الحياة. والهدف من تكوّن الحياة هو تمحيص النفوس والتفرقة بين السعيد منها والشقيّ. وعليه، تتّضح الغاية المنشودة من وراء اختبار الناس. وأمّا خلق الموت، فهو أيضاً دخيل في هذا الفرز والتفريق بين السعيد والشقيّ.
إنّ الحضور نفسه في هذه النشأة الدنيويّة وخلق الموت والحياة، باعثان على فرز الأعمال الحسنة عن الأعمال السيئة. أمّا سببيّة خلق الحياة في ذلك فمعلومة، لأنّها سبب النهوض والحركة والعمل، وأمّا خلق الموت، فمع العلم بعدم استقرار الحياة الدنيويّة، وتيقّن حصول الارتحال من هذه النشأة الفانية، تختلف الأعمال من إنسان لآخر، ويتمّ الفرز بين صالحها وطالحها.
وخلاصة الكلام، إنّ المقياس في التفرقة هو الصور الأخرويّة الملكوتيّة، وهي لا تحصل إلا بواسطة الأفعال الاختياريّة الدنيويّة. فاتّضحت الغاية المنشودة من الامتحان والاختبار المترتّب على خلق الموت والحياة من دون بقاء جهل في ذلك.
المقياس في كمال الأعمال
إنّ هذا الحديث الشريف أناط صواب العمل وحسنه بأمرين شريفين، وجعل المقياس في كمال الأعمال وتماميّتها، هذين الأصلين:
أحدهما: الخوف والخشية من الحقّ المتعالي.
وثانيهما: النيّة الصادقة والإرادة الخالصة.
وعلينا أن نشرح الصلة القائمة بين هذين الأمرين مع كمال العمل وصوابه، فنقول:
1- الخوف من الله:
إنّ الخوف والفزع من الحقّ المتعالي يوجب خشية النفس وتقواها. والتقوى تُزكّي النفس وتُطهّرها من الدنس والقذارات. وإذا كانت صفحة النفس ناصعة، وطاهرة من
80
حجب المعاصي وكدرها، كانت الأعمال الحسنة مؤثّرة أكثر، وإصابتها للهدف المبتغى أدقّ، وتحقُّق السّر الكبير للعبادات، الذي هو ترويض الجانب المادّيّ للإنسان، وقهر ملكوته على مُلكه ونفوذ الإرادة الفاعلة للنفس بصورة أفضل.
فالخشية من الحقّ سبحانه ، التي لها التأثير التامّ في تقوى النفوس، هي من العوامل الكبيرة لإصلاح النفوس، وذات دور في إصابة الأعمال وحسنها وكمالها، لأنّ التقوى، مضافاً إلى أنّها من العوامل الكبيرة في إصلاح النفس، تكون ذات قدرة فعّالة في تأثير الأعمال القلبيّة والظاهريّة للإنسان، وتكون سبباً لقبولها أيضاً، كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾[1]
2- النيّة الصادقة:
العامل الثاني المهمّ في إصابة الأعمال لأهدافها وكمالها، والذي يكون بمثابة القوّة الفاعلة -كما أنّ الخشية، والتقوى الحاصلة منها بمثابة شرط التأثير، وفي الواقع فهما يبعثان على تطهير للقابل ورفع للمانع - هي النيّة الصادقة والإرادة الخالصة، حيث يكون كمال العبادات ونقصها وصحّتها وفسادها كلّيّاً تابعاً لها.
وكلّما كانت العبادات أصفى من الشرك وشوب النيّة، كلّما كانت أكمل. وليس في العبادات شيءٌ ذو أهمّيّة مثل النيّة وخلوصها، لأنّ نسبة النيّات إلى الأعمال كنسبة الأرواح إلى الأبدان والنفوس إلى الأجساد. ولا تُقبل عبادة البتّة عند الحقّ المتعالي من دون نيّة خالصة.
والتعريف الجامع للشرك في العبادة، الشامل لمراتبه كلّها، هو إدخال رضا غير الحقّ في العبادة، سواء أكان رضا غير الحقّ رضا نفسه أم غيره. إلّا أنّه إذا كان إدخالاً لرضا غير نفسه من الناس في العبادة، لكان شركاً ظاهريّاً ورياءً فقهيّاً. وإن كان رضا نفسه كان شركاً خفيّاً وباطنيّاً، والعبادة باطلة، ولا تُعدّ بشيء لدى أهل المعرفة، ولا تكون مقبولة لدى الحقّ - سبحانه.
[1] سورة المائدة، الآية 27.
81
القلب السليم
ورد في الحديث الشريف المنقول عن الكافي، بسنده إلى سفيان بن عيينة، قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[1]، قال: "القَلْبُ السَّليمُ الَّذي يَلْقَى رَبَّهُ وَلَيْسَ فِيهِ أحَدٌ سِواهُ"، قال: "وَكُلُّ قَلْبٍ فيهِ شِرْكٌ أوْ شَكٌّ فَهُوَ ساقِطٌ، وَإِنَّما أرادَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيا لِتَفْرَغَ قُلٌوبُهُمْ لِلآخِرَةِ"[2].
ومن المعلوم أنّ القلوب التي استقبلت غير الحقّ وتعرّضت لهزّات الشكّ والشرك، سواء أكان الشرك جليّاً أم خفيّاً، فهي ساقطة في محضر القدس الربوبيّ. وإنّ من الشرك الخفيّ الاعتماد على الأسباب والركون إلى غير الحقّ.
وقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام: "إَنّ الشِّركَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَقَالَ: مِنْهُ تَحْوِيلُ الخَاتَمِ لَيَذْكُرَ الحَاجَةَ وَشِبْه هذَا"[3]. ودخول غير الحقّ المتعالي إلى القلب يُعدّ من الشرك الخفيّ. وإخلاص النيّة هو إخراج غير الحقّ -سبحانه- من مقام الذّات المقدّس (القلب).
وكما أنّ للشرك مراتب، يكون للشكّ مراتب أيضاً، وإنّ منها الشكّ الجليّ، ومنها الشكّ الخفيّ. وتحصل هذه المراتب نتيجة ضعف اليقين والنقصان في الإيمان. إنّ مطلق الاعتماد على غير الحقّ – سبحانه - والالتفات إلى المخلوق يكون من جرّاء ضعف اليقين والإيمان، كما أنّ التزلزل في الأمور نتيجة لذلك أيضاً.
ومرتبة إخفاء الشكّ، حالة من التلوّن في القلب وعدم التمكين في التوحيد، فالتوحيد الحقيقيّ، هو إسقاط الإضافات، والتمكين فيه يكون بالخلاص من الشكّ. وإنّ القلب السليم، هو القلب الفارغ من مطلق الشرك والشكّ. وفي هذا الحديث الشريف القائل: "وإِنَّما أرادَ بالزهد..." إشارة إلى أنّ الغاية من الزهد في الدنيا هو انصراف القلب شيئاً
[1] سورة الشعراء، الآية 89.
[2] الشيخ الكليني، مصدر سابق، ج2، ص16.
[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم، 1379هـ، لا.ط، ص379.
82
فشيئاً عن الدنيا وتنفّره منها، وتوجّهه إلى المقصود الأصليّ والمطلوب الواقعيّ، الحقّ المتعالي.
ما هو الإخلاص؟
ذكروا تعاريف مختلفة للإخلاص، ونحن نذكر بعضها:
قال العارف الحكيم السالك خواجه عبد الله الأنصاري قدس سره: "الإخلاص تصفية العمل من كلّ شوب"[1].
وقيل: "هو أن لا يريد عامله عليه عوضاً في الدارين"[2].
وعندما تتساقط من العبد حظوظه، بدءاً من التراب وانتهاءً بالعرش، فقد سلك الدِّين، وهو طريق العبوديّة الخالصة من رؤية الحوادث، غير الله، نتيجة شهود الروح لجمال الربّ المتعالي. وهذا هو الدِّين الذي اصطفاه الحقّ المتعالي لنفسه، وأخلصه من غير الحقّ قائلاً: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ﴾[3]. نُقل عن الشيخ المحقّق محي الدِّين بن عربيّ، أنّه قال: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ﴾، أي عَنْ شَوْبِ الغَيْرِيَّةِ وَالأنانيّة"[4]. فما دامت العبوديّة والغيريّة والأنانيّة باقية والعابد والمعبود والعبادة والإخلاص والدين حاضرة، يكون العمل مشوباً بالغيريّة والأنانيّة، وهذا شرك لدى أرباب القلوب.
المواظبة على العمل حتى يخلص
إنّ ما ورد في الحديث الشريف: "الإِبْقَاءُ عَلَى العَمَلِ حَتَّى يَخْلُصَ، أَشَدُّ مِنَ العَمَلِ"[5]، حثّ على لزوم المحافظة والمواظبة على الأعمال، التي تصدر عن الإنسان، حين إنجازها وبعد تحقّقها، إذ قد يأتي الإنسان بالعمل من دون عيب ونقص وخالياً من الرياء والعُجب
[1] الأنصاري، الشيخ عبد الله، منازل السائرين، إعداد وتقديم علي الشيرواني، مؤسّسة دار القلم، 1417هــ، ط1، ص31.
[2] الشيخ البهائي، الشيخ محمد بن الحسين، الأربعون حديثاً، تحقيق طباعة نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، إيران - قم، 1431هـ، ص441.
[3] سورة الزمر، الآية 3.
[4] ابن عربي، محمد بن علي، تفسير ابن عربي، ضبطه وصححه وقدم له الشيخ عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية، 1422ه - 2001م، ط1، ج2، ص170.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص16.
83
وغيره، ولكنّه بعد العمل، وبواسطة ذكره للآخرين، يُعاب بالرياء، كما ورد في الحديث الشريف المنقول عن الكافي: عَنْ أبي جَعْفَرٍ عليه السلام أنَّهُ قَالَ: "الإبْقاءُ عَلَى العَمَلِ أشَدُّ مِنَ العَمَلِ، قالَ: وَمَا الإبْقاءُ عَلَى العَمَلِ؟ قالَ: يَصِلُ الرَّجُلُ بِصِلَةٍ وَيُنْفِقُ نَفَقَةً لِلّهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، فَكُتِبَ لَهُ سِرّاً، ثُمَّ يَذْكُرُها فَتُمْحى، فَتُكْتَبُ لَهُ عِلانَيةً، ثُمَّ يَذْكُرُها فَتُكْتَبُ لَهُ رِياءً"[1].
إنّ الإنسان حتى نهاية حياته لا يأمن أبداً من شرّ الشيطان والنفس، وعليه أن لا يظنّ أنّه عندما أتى بعمل لوجه الله، من دون ملاحظة رضا المخلوق، أصبح في مأمن من شرّ النفس الخبيثة. وإنّه، إذا لم يُراقب العلم ولم يواظب عليه، فمن الممكن أن تُجبره نفسه إلى إظهاره أمام الآخرين. وقد يتمّ الإظهار بالإيماء والتلويح، فمثلاً إذا أراد أن يكشف عن صلاة الليل التي أتى بها للناس، التجأ إلى أساليب اللفّ والدوران، فيتحدّث عن حسن جوّ السَّحَرِ أو رداءته، وعن مناجاة الناس أو أذانهم في السحر، وضيّع عمله من جرّاء المكائد الخفيّة للنفس، وألغاه من الاعتبار.
يجب أن يكون الإنسان مثل الطبيب الرحيم، والمرافق الرؤوف يُراقب نفسه، ولا يسمح لفلتان زمامها مِنْ يده، لأنّها في لحظة من الغفلة تنفلت من يده وتقوده إلى الذلّ والهلاك. وعلى أيّ حال نستعيذ بالله من شرّ الشيطان والنفس الإمّارة، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2].
النيّة أفضل من العمل
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "... النِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ..."[3]. واحتمل بعضهم أنّ هذا المعنى مبالغة، ولكنّه ليس بشيء من المبالغة، بل مبنيّ على الحقيقة، لأنّ النيّة هي الصورة الكاملة للعمل، والفصل المحصِّل له، وصحّة العمل وفساده وكماله ونقصه، مرتبطة بالنيّة.
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص297.
[2] سورة يوسف، الآية 53.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص16.
84
كما أنّ عمل شخص واحد لاختلاف نيّته قد يكون تعظيماً للغير، وقد يكون توهيناً له، وقد يصير تامّاً بها، وقد يصير ناقصاً لفقدانها، وقد يكون من سنخ الملكوت الأعلى، وله صورة بهيّة جميلة، وقد يكون من سنخ الملكوت السفليّ، وله صورة موحشة مخيفة.
إنّ ظاهر صلاة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وظاهر صلاة المنافق، متضاهيان في الأجزاء والشرائط والشكل الظاهريّ، ولكن هذا يعرج بعمله إلى الله، ولصلاته صورة ملكوتيّة أعلى، وذاك يغور في أعماق جهنّم، ولصلاته صورة ملكوتيّة سفليّة.
وعند تقديم أهل بيت العصمة عليهم السلام للفقير أقراصاً من خبز الشعير لوجه الله، تنزل من عند الله – سبحانه - آيات كريمة في الثناء عليهم، ويحسب الإنسان الجاهل أن تحمّل الجوع ليومين أو ثلاثة أيام ودفع الطعام إلى الفقير أمر مهمّ، مع أنّ مثل هذه الأعمال يُمكن أن تصدر عن أيّ شخص، من دون صعوبة. في حين أنّ أهمّيّة هذا العمل تكمن في القصد الخالص والنيّة الصادقة. إنّ روح العمل، القويّة واللطيفة، والتي تبعث من القلب السليم الصافي، هي مصدر هذه الأهمّيّة القصوى.
إنّه لا فرق بين المظهر الخارجيّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الناس، ولهذا عندما كان يدخل عليه صلى الله عليه وآله وسلم شخص من خارج المدينة، وكان - عليه الصلاة والسلام - جالساً مع مجموعة من المسلمين، يسأل الوافد: أيّكم النبيّ؟ إنّ الذي يُفضّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غيره، هو روحه الكبيرة، القوية، اللطيفة، لا جسمه المبارك وبدنه الشريف. إذاً، تمام حقيقة الأعمال هو صور الأعمال وناحيتها الملكوتيّة، التي هي النيّة.
المانع من الإخلاص
لا بدّ من معرفة أنّ تخليص النيّة من جميع مراتب الشرك والرياء وغيرها، ومراقبتها والمحافظة عليها، من الأمور الصعبة والمهمّة جدّاً، بل إنّ بعض مراتبها لا يتيسّر إلا للخلّص من أولياء الله -تعالى-، لأنّ النيّة عبارة عن الإرادة الباعثة نحو العمل، وهي تتبع الغايات الأخيرة الدافعة نحو العمل، كما أنّ هذه الغايات تتبع الملكات النفسانيّة التي تُشكّل باطن ذات الإنسان وشاكلته.
85
فمن له حبّ الجاه والرياسة، وغدا هذا الحبّ ملكة نفسانيّة وشاكلة روحه، كان منتهى أمله البلوغ إلى سدّة الزعامة، وكانت أفعاله الصادرة عنه تابعة لتلك الغاية، وكان دافعه ومحرّكه هو مبتغاه النفسيّ المذكور، وصدرت عنه أعماله للوصول إلى ذلك المطلوب.
فما دام هذا الحبّ في قلبه، لا يُمكن أن يصير عمله خالصاً. ومن صار حبّ النفس والأنانيّة ملكة له، وشاكلة نفسه، كانت غاية مقصده ونهاية مطلوبه الوصول إلى ما يُلائم نفسه، وكان الدافع والمحرّك له في هذه الأعمال، هذه الغاية نفسها، سواء كانت الأعمال للوصول إلى مطلوب دنيويّ، أو أخرويّ، من قبيل الحور والقصور والجنّات، ونِعَم ذلك العالَم.
بل ما دامت الأنانيّة، والذاتيّة موجودة، كان إقدامه أو سلوكه لتحصيل المعارف، الربوبيّة والكمالات الروحيّة، لنفسه ونفسانيّاته من حبٍّ للنفس، لا من حبٍّ لله. ومن المعلوم أنّهما لا يجتمعان، بل إذا أحبّ الله كان من أجل نفسه، وليس من أجل الله، وكانت غاية المقصود ونهاية المطلوب نفسه ونفسانيّاته.
الخطوة الأولى نحو الإخلاص
إنّ طريق تخليص الأعمال من جميع مراتب الشرك والرياء وغيرها، ينحصر في إصلاح النفس وملكاتها، ويكون ذلك مَعيناً لكلّ الإصلاحات، ومصدراً لجميع المعارج والكمالات.
فإذا أخرج الإنسان حبّ الدنيا عَبْرَ الترويض العلميّ أو العمليّ من قلبه، كانت غايته المنشودة شيئاً آخر غير الدنيا، وخلصت أعماله من الشرك الأعظم، الذي هو جلب أنظار أهل الدنيا وكسب موقع لديهم، وطهرت نيّته، وتساوى عنده العمل في الجلوة أو الخلوة، في السرّ أو العلن.
وإذا أخرج الإنسان من قلبه حبّ النفس بالرياضة النفسيّة، فبالمقدار الذي يفرغ القلب من حبّ النفس، يمتلئ حبّاً لله، وتخلص أعماله من الشرك الخفيّ أيضاً. وما دام حبّ النفس في القلب، وما دام الإنسان يعيش في البيت المظلم للنفس، لا يكون مسافراً
86
إلى الله تعالى، بل يعدّ من المخلّدين في الأرض.
فإنّ الخطوة الأولى نحو الله، تتمثّل في ترك حبّ النفس، والوطء بقدمه على الأنانيّة والذاتيّة، وهذا هو المقياس في السفر إلى الله... قال بعضهم: إنّ هذا هو أحد معاني الآية الكريمة: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[1]، أي من يخرج من بيت نفسه، ويُهاجر إلى الحقّ في الرحلة المعنويّة، ثم يُدركه الفناء التامّ، كان أجره على الله تعالى.
[1] سورة النساء، الآية 100.
87
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ النفس الإنسانيّة، في بدء فطرتها وخلقتها، تتمتّع بالاستعداد المحض والقابليّة الصرفة، وهي خالية عن كلّ فعلية من ناحية السعادة والشقاء. وبعد حصول الحركات الطبيعيّة والأفعال الاختياريّة، تتحوّل الاستعدادات إلى الفعليّة، وتنجم عنها التشخّصات والتميّزات.
2- إنَّ المقياس في تفرقة السعيد عن الشقيّ، هو الصور الأخرويّة الملكوتيّة، وهي لا تحصل إلا بواسطة الأفعال الاختياريّة الدنيويّة.
3- إنَّ المقياس في تماميّة الأعمال وكمالها هو الخوف والخشية من الحقّ المتعالي، والنيّة الصادقة والإرادة الخالصة.
4- إنّ الخوف والفزع من الحقّ المتعالي يوجب خشية النفس وتقواها. والتقوى تُزكّي النفس وتُطهّرها من الدنس والقذارات.
5- إنَّ الخشية من الحقّ - سبحانه -، لها التأثير التامّ في تقوى النفوس، وهي من العوامل الكبيرة لإصلاح النفوس، وذات قدرة فعّالة في التأثير على الأعمال القلبية والظاهريّة للإنسان، وتعتبر سبباً لقبولها أيضاً.
6- ليس في العبادات شيءٌ ذو أهمية مثل النيّة وخلوصها، لأنّ نسبة النيّات إلى الأعمال، كنسبة الأرواح إلى الأبدان، والنفوس إلى الأجساد. ولا تُقبل عبادة البتّة عند الحقّ المتعالي من دون نيّة خالصة.
7- التعريف الجامع للشرك في العبادة، الشامل لكلّ مراتبه، هو إدخال رضا غير الحقّ في العبادة.
8- التوحيد الحقيقيّ، هو إسقاط الإضافات، والتمكين فيه يكون بالخلاص من الشكّ. وإنّ القلب السليم، هو القلب الفارغ من مطلق الشرك والشكّ.
9- ورد في الحديث الشريف: "الإِبْقَاءُ عَلَى العَمَلِ حَتَّى يَخْلُصَ، أَشَدُّ مِنَ العَمَلِ"، وفيه
88
حثّ على لزوم المحافظة والمواظبة على الأعمال، التي تصدر عن الإنسان، حين إنجازها وبعد تحقّقها، إذ قد يأتي الإنسان بالعمل من دون عيب ونقص، خالياً من الرياء والعُجب وغيره، ولكنّه بعد العمل، وبواسطة ذكره للآخرين يُعاب بالرياء.
10- "النِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ"، لأنّ النيّة هي الصورة الكاملة للعمل، والفصل المحصِّل له، وصحّة العمل وفساده وكماله ونقصه، مرتبطة بالنيّة.
11- إنّ الخطوة الأولى نحو الله، تتمثّل في ترك حبّ النفس، والوطء بقدمه على الأنانيّة والذاتيّة.
89
الدرس الثامن
فلسفة البلاء وآثاره
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يُعدّد أنواع البلاء.
2. يبيّن سبب ابتلاء الله تعالى للإنسان.
3. يعدّد فوائد البلاء وثماره.
91
حديث عن البلاء
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ في كتاب علي عليه السلام: إنّ أشدّ الناس بلاءً النبيّون، ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل[1]. وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه وحسن عمله، اشتدّ بلاؤه، وذلك أنّ الله تعالى لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن، ولا عقوبة لكافر، ومن سخُف[2] دينه وضعف عقله، قلّ بلاؤه. وإنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقيّ، من المطر إلى قرار[3] الأرض"[4].
معنى البلاء
البلاء هو الاختبار والامتحان في الحسن والقبح، كما صرّح بذلك أهل اللغة، "والبلاء الاختبار، يكون بالخير والشرّ. يُقال: أبلاه بلاءً حسناً"[5]، ويقول الحقّ تعالى: ﴿بَلَآءً حَسَنًاۚ﴾[6].
على أيّة حال، إنّ كلّ ما يمتحن به الحقّ - جلّ جلاله - عباده، يُدعى بلاء أو ابتلاء، سواء كان بالأمراض والأسقام، والفقر والذلّ، وإدبار الدنيا، وغيرها من قبيل هذه الأمور، أو كان بكثرة الجاه والاقتدار، والمال والمنال، وبالزعامة والعزّة والعظمة.
[1] الأمثل: بمعنى أفضل وأشرف.
[2] سخف: ضعف العقل وخفته.
[3] قرار: المستقر والمكان.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص259.
[5] البيهقي، علي بن زيد، معارج نهج البلاغة، تحقيق محمد تقي دانش، مطبعة بهمن - قم، إيران - قم، الناشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي - قم، 1409هـ، ط1، ص225
[6] سورة الأنفال، الآية 17.
93
ومعنى امتحان الحقّ تعالى للناس واختبارهم، هو فصل الناس بعضهم عن بعضهم الآخر، لمعرفة السعيد وتمييزه عن الشقيّ. وليس الهدف أن يعرف الحقّ تعالى من سيسعد ومن سيشقى، أو من سيكتب له النجاح ومن سيسقط، لأنّ علم الحقّ تعالى أزليّ ومتعلّق بكلّ شيء ومحيط به قبل إيجاده.
لماذا يبتلي الله تعالى الإنسان؟
كلّ عمل يصدر عن الإنسان، بل كلّ ما يقع منه في عالم الدنيا وكان مدركاً من قِبَل النفس، يترك أثراً لدى هذه النفوس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيّئة، ومن دون فرق بين أن يكون العمل من الأفراح أو الأتراح.
مثلاً: إنّ كلّ لذّة ممّا يتلذّذ الإنسان به، من المطعومات أو المشروبات أو المنكوحات أو غيرها، تترك أثراً في النفس، ويحصل تعلّق ومحبّة في عمق النفس تجاهه، ويزداد توجّه النفس إليه.
وكلّما توغّل الإنسان في اللذائذ والمشتهيات أكثر، ازداد تعلّق النفس وحبّها لهذا العالَم أكثر. وغدا ركونه واعتماده على هذا العالَم أكبر، فتتربّى النفس وترتاض على التعلّق بالدنيا.
وكلّما كانت المتع في ذائقته أحلى، كانت جذور محبّة الدنيا في قلبه أكثر. وكلّما توفّرت وسائل العيش والعِشرة والراحة بشكل أوفى، أصبحت دوحة التعلّق بالدنيا أقوى.
وكلّما أقبلت النفس إلى الدنيا أكثر، كلّما كانت غفلتها عن الحقّ وعالم الآخرة أكثر، فإنّ نفس الإنسان إذا ركنت إلى الدنيا كلّيّاً وصار توجّهها مادّيّاً ودنيويّاً، انصرفت عن الحقّ المتعال ودار الكرامة نهائياً، ﴿أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ﴾[1].
فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الإنسان إلى حبّ الدنيا من دون اختيار. وحبّ الدنيا يوجب النفور من غيرها. والإقبال على عالم الملكوت[2] يُسبّب الغفلة عن عالم المُلك[3]، وكذلك العكس.
[1] سورة الأعراف، الآية 176.
[2] عالم الملك: عالم الظاهر والماديات.
[3] عالم الملكوت: عالم الغيب والمعنويات.
94
فلو استاء الإنسان من شيء وشعر ببشاعته، استدعت صورة ذلك الشيء الكراهية والنفور. وكلّما كانت تلك الصورة في النفس أقوى، كان النفور والانزجار أكثر.
فمثلاً: إذا دخل شخص إلى بلد، وابتُلي فيه بأسقام وآلام، وعانى من ورائه مشاكل داخليّة وخارجيّة، فإنّه سيكره هذا البلد وسينفر منه. وكلّما كانت معاناته أكثر، كلّما كان هروبه ونفوره منه أكثر، وإذا وجد مدينة أفضل فسيقبل عليها.
فالإنسان، إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها وعناءها، وشعر بأنّ أمواج الفتن والمحن تزحف نحوه، نقصَ تعلّقه بها، وقلّ ركونه إليها، ونفر قلبه منها.
وإذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع أنواع الشقاء والتعاسة، ارتحل إليه. وإذا لم يتمكّن من السفر بجسمه لذهب بروحه وبعث بقلبه إلى ذلك العالَم. ومن المعلوم، أنّ المفاسد الروحيّة والخلقيّة والسلوكيّة بأسرها، تنجم عن حبّ الدنيا والغفلة عن الله سبحانه وعالم الآخرة، وأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. في حين أنّ الصلاح الروحيّ والخلقيّ والسلوكيّ، ينبعث من التوجّه نحو الحقّ، ودار الكرامة[1]، ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها.
فوائد البلاء وثماره
1- الإعراض عن الدنيا:
إذاً، علمنا من هذا التمهيد أنّ لطف الحقّ تبارك وتعالى وعنايته، كلّما شملت شخصاً أكثر، ووسعته رحمة الذات المقدّسة بصورة أوفى، أبعده سبحانه عن هذا العالَم وزخارفه أكثر، ودفع به نحو أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنقلع رغبته بالدنيا، فيوجّه وجهه حسب مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة، وترتبط روحه بذلك العالَم. وإن لم يكن من جدوى في احتمال شدائد المحن إلّا هذه الجهة، وهي الانزجار والإعراض عن الدنيا والإقبال نحو الآخرة لوحدها، لكفى.
[1] دار الكرامة: عالم الآخرة.
95
وفي الحديث الشريف إشارة إلى هذا المعنى، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ الله تعالى ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهديّة في الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض"[1].
ونقل هذا المعنى في حديث آخر. ولا يحسبنّ أحد أنّ محبّة الحقّ وشدّة عناية ذاته الأقدس لبعض عباده جزاف ومن دون جهة والعياذ بالله، بل كلّ خطوة يخطوها مؤمن وعبد من عباده، غمرته رحمة الحقّ المتعالي، وأقبل على عبده قدر ذراع[2].
إنّ مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحاً وسلك طريقاً مظلماً، فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة. فكلّما رفع الإنسان قدماً نحو عالم الآخرة، اتّضح السبيل أكثر، وغمرته عنايات الحقّ بصورة أكبر، وتوفّرت عوامل التوجّه إلى عالم القرب (الآخرة) والانزعاج عن عالم البعد (الدنيا)، والعنايات الأزليّة للحقّ المتعالي إنّما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه ـ سبحانه ـ الأزليّ بطاعتهم أيّام التكليف. كما أنّكم لو علمتم أيّام طفولة ولديكم، بأنّ أحدهما سيُطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم، وثانيهما سيبعث على سخطكم وامتعاضكم، فمن المعلوم أنّ ألطافكم ستشمل المطيع أكثر من الثاني منذ الأيّام الأولى.
2- الإكثار من ذكر الله والانقطاع إليه:
ومن فوائد شدّة ابتلاء الخواصّ من العباد، أنّ هؤلاء، من خلال المحن والمعاناة، يذكرون الحقّ ويناجونه ويتضرّعون على أعتابه المقدّسة، في ساحة ذاته الأقدس، ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن الطبيعيّ أنّ نوع بني الإنسان يتشبّث حين الشدّة بكلّ ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء والراحة يغفل عنه. ولمّا كان الخواصّ من العباد، لا يعرفون ملجأً إلّا الحقّ، توجّهوا نحوه، وانقطعوا إلى مقامه المقدّس، وإنّ الحقّ المتعالي يوفّر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته الخاصّة بهم.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص255.
[2] ورد في الحديث "من تقرّب إلى الله شبراً تقرّبت إليه ذراعاً"، راجع: ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج3، ص40.
96
ولا تُستساغ هذه الفائدة من الابتلاء، وحتّى الفائدة السابقة، لدى الأنبياء والأولياء الكُمَّلين، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه الدنيا، ولا تتبدّل في الانقطاع إلى الحقّ من جرّاء تغيّر الأحوال. ويُمكن أن يكون إيثار الأنبياء والأولياء للفقر على الغنى، والابتلاء على الراحة، والمعاناة على غيرها، نتيجة أنّهم وقفوا من خلال النور الباطنيّ والمكاشفات الروحانيّة على أنّ الحقّ المتعالي لا ينظر بعين اللطف إلى هذا العالَم ولا إلى زخارفه، ولا يكون للدنيا وما فيها موقع أمام ساحته المقدّسة، إلّا الذلّ والهوان.
والأحاديث الشريفة شاهدة على ذلك[1]. ففي الحديث أنّ جبرائيل قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الأرض، وقال: لو اخترتها لما هبط من درجاتك الأخرويّة شيء أبداً. ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتنع عن القبول، تواضعاً للحقّ سبحانه، فاختار الفقر[2]. وفي الكافي الشريف، في حديث بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الكَافِرَ لَيَهُونُ عَلَى اللهِ، لَوْ سَأَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فيها أَعْطَاهُ ذلِكَ"[3]، وذلك من جرّاء هوان الدنيا في عين الحقّ الكبير المتعالي. وفي حديث: إنّ الحقّ -جلّ وعلا- منذ أن خلق العالم المادّيّ، لم ينظر إليه نظرة لطف وعناية.
3- المقام المحمود عند الله:
ومن فوائد شدّة ابتلاء المؤمنين - حسب ما أُشير إليه في الأخبار -، أنّ لهم درجات لا ينالونها إلاّ من وراء المصائب والأسقام والآلام. ويُحتمل أن تكون هذه الفوائد صورة (غيبيّة) للإعراض عن الدنيا والإقبال على الحقّ المتعالي.
ويُمكن أن تكون صورة ملكوتيّة لهذه المحن، حيث لا تبلغ إلاّ بعد حصولها (البليّات) في عالم المُلك وابتلاء الإنسان بها، كما ورد في الحديث الشريف المأثور، في الكافي، بسنده
[1] الشريف الرضيّ، السيّد محمّد بن الحسن، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام))، تحقيق صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، خطبة 192.
[2] إشارة للحديث: "وهبط مع جبريل ملك، لم يطأ الأرض قطّ، معه مفاتيخ خزائن الأرض، فقال: يا محمد إنّ ربّك يقرئك السلام، ويقول: هذه مفاتيح خزائن الأرض، فإن شئت فكن نبيّاً عبداً وإن شئت فكن نبيّاً ملكاً، فأشار إليه جبرئيل عليه السلام أن تواضع يا محمد، فقال: بل أكون نبيّاً عبداً، ثمّ صعد إلى السماء"، الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص535.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص259.
97
إلى الإمام الصادق عليه السلام قال: "إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ، فَمَا يَنالُها إلّا بِإِحْدَى الخَصْلَتَيْنِ: إمّا بِذَهابِ مالٍ أوْ بِبَلِيَّةٍ في جَسَدِهِ"[1].
وفي رواية شهادة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنّه رأى جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وأخبره بـ "إنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ، لاَ تَنَالُهَا إلّا بِالشَّهَادَةِ"[2].
ومن المعلوم أنّ الصورة الملكوتيّة للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلّا بعد وقوع الشهادة في عالَم الملك (عالمنا الحاضر)، كما برهن على ذلك في العلوم العالية. وورد في الأخبار المذكورة أنّ لكلّ عمل في هذا العالَم صورة في عالَم آخر[3].
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "إِنَّ عَظيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظيمِ البلاءِ، وَما أحَبَّ اللهُ قَوْماً إلّا ابْتَلاهُمْ"[4].
[1] الشيخ الكليني، مصدر سابق، ج2، ص257.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص217.
[3] كما ورد في حديث "المعراج" عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فإذا أنا بقوم، بين أيديهم موائد من لحم طيّب ولحم خبيث، وهم يأكلون الخبيث ويَدعون الطيّب، فسألت جبرئيل: من هؤلاء؟ فقال: الذين يأكلون الحرام ويَدعون الحلال من أمّتك، قال: ثمّ مررت بأقوام لهم مشافر كمشافر الابل، يقرض اللحم من أجسامهم ويُلقى في أفواههم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هم الهمّازون اللمّازون، ثمّ مررت بأقوام ترضخ وجوههم وصخورهم بالصخر، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: الذين يتركون صلاة العشاء".
المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج6، ص239.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص252.
98
المفاهيم الرئيسة
1- البلاء هو الاختبار والامتحان في الحسن والقبح، كما صرّح بذلك أهل اللغة.
2- كلّ عمل يصدر عن الإنسان، بل كلّ ما يقع منه في عالم الدنيا، وكان مدركاً من قِبَل النفس، يترك أثراً لدى هذه النفس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة، ومن دون فرق بين أن يكون العمل من الأفراح أو الأتراح.
3- كلّما توغّل الإنسان في اللذائذ والمشتهيات أكثر، ازداد تعلّق النفس وحبّها لهذا العالَم أكثر، وغدا ركونه واعتماده على هذا العالَم أكبر. وكلّما أقبلت النفس إلى الدنيا أكثر كلّما كانت غفلتها عن الحقّ وعالم الآخرة أكثر، فالإقبال على عالم الملك يُسبّب الغفلة عن عالم الملكوت، وكذلك العكس.
4- من فوائد البلاء وثماره:
- الإعراض عن الدنيا: إنَّ الإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها وعناءها، وشعر بأنّ أمواج الفتن والمحن تزحف نحوه، نقصَ تعلّقه بها، وقلّ ركونه إليها، ونفر قلبه منها. وإذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع أنواع الشقاء والتعاسة، ارتحل إليه، إن لم يكن بجسده، فبقلبه.
- الإكثار من ذكر الله والانقطاع إليه: فمن خلال المحن والمعاناة، يذكر الناس الحقّ ويناجونه ويتضرّعون على أعتابه المقدّسة، ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن الطبيعيّ أنّ نوع بني الإنسان يتشبّث حين الشدّة بكلّ ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء والراحة يغفل عنه.
- المقام المحمود عند الله: من فوائد شدّة ابتلاء المؤمنين -حسب ما أُشير إليه في الأخبار- أنّ لهم درجات لا ينالونها إلاّ من وراء المصائب والأسقام والآلام.
99
الدرس التاسع
الدنيا دار ابتلاء
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يستدلّ على أنَّ الدنيا ليست محلّاً للثواب والعقاب الإلهيّين.
2. يعدّد الأمور التي يمتحن الله بها عباده.
3. يعطي رأياً حول بلاء الأنبياء.
101
الدنيا ليست محلّاً للثواب والعقاب
إنّ هذا العالَم الدنيويّ، لما فيه من النقص والقصور والضعف، لا يكون دار كرامة ولا محلّاً لثواب الحقّ سبحانه ولا محلّاً لعذابه وعقابه، لأنّ دار كرامة الحقّ - عزّ وجلّ - عالَمٌ تكون نعمه خالصة وغير مشوبة بالنقم، وراحته غير مخلوطة بالشقاء والتعب، ومثل هذه النعم غير متوفّرة في هذا العالَم الدنيويّ، لأنّه دار التزاحم والصراع. وإنّ كلّ نعمة من نعم هذا العالَم هي دفع للآلام. ونستطيع أن نقول: إنّ لذّاته تبعث على الآلام، لأنّ إثر كلّ لذّة شقاءً ونصباً وألماً، بل إنّ مادّة هذا العالَم الدنيويّ تتمرّد على قبول الرحمة الخالصة والنعمة المحضة غير المشوبة بالمكاره. وهكذا العذاب والشقاء والآلام والتعب في هذا العالَم لا تكون خالصة، بل يكون كلّ ألم وتعب محفوفاً بنعمة أو نِعَم، فإنّ مادّة هذا العالَم تتمرّد على قبول العذاب الخالص المطلق.
إنّ دار عذاب الحقّ - سبحانه - ودار عقابه، دار فيها العذاب المحض والعقاب المحض، وإنّ آلامها وأسقامها لا تُضاهى بآلام هذا العالَم الدنيويّ وأسقامه، كأن يمسّ العذاب عضواً دون آخر، أو يكون عضو سالماً وفي راحة، والآخر في تعب وشقاء.
وقد أُشير إلى بعض ما ذكرنا في الحديث الشريف، عندما يقول: "... وذلك أنّ الله -تعالى- لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن، ولا عقوبة لكافر"[1].
فعالَم الدنيا دار تكليف، ومزرعة الآخرة، وعالم الكسب. وعالم الآخرة دار جزاء ومكافأة وعقاب. إنّ الذين يتوقّعون من الحقّ -سبحانه- أن ينتقم في هذا العالَم من كلّ مرتكب
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص259.
103
معصية أو فاحشة أو جور أو اعتداء، بأن يضع -عزّ وجلّ- حدّاً له، فيقطع يده ويقلع العاصي من الوجود، هم غافلون عن أنّ مثل هذا العقاب خلاف النظم والسنّة الإلهيّة التي أقرّها الله سبحانه وتعالى.
إنّ هذه الدار دار امتحان وتفريق بين الشقيّ والسعيد، والمطيع والعاصي، وهي عالم ظهور الفعليّات، وليست بدار تبيّن نتائج الأعمال والملكات. وإذا انتقم الحقّ المتعالي من ظالم، لأمكننا القول: إنّ عناية الحقّ عزّ وجلّ قد شملته.
وإذا ترك أهل الموبقات والظلم في ضلالهم وغيّهم، كان ذلك استدراجاً، كما يقول الله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[1]، ويقول - عزّ اسمه - أيضاً: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[2].
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا أحدث العبد ذنباً، جُدّد له نعمة، فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج"[3].
بماذا يمتحن الله عباده؟
إنّ النفوس البشريّة، منذ ظهورها وتعلّقها بالأجساد، وهبوطها إلى عالَم الدنيا، تكون على نحو القوّة[4] تجاه جميع العلوم والمعارف والملكات[5] الحسنة والسيّئة، بل تجاه جميع الإدراكات.
ثم تتدرّج بعناية الحقّ -جلّ جلاله- نحو الفعليّة شيئاً فشيئاً، فتظهر أوّلاً الإدراكات الضعيفة الجزئيّة، مثل حاسّة اللمس والحواس الظاهريّة الأخرى، الأخسّ فالأخسّ، ثم تظهر ثانياً الإدراكات الباطنيّة بالتدريج أيضاً.
[1] سورة الأعراف، الآيتان 182 - 183.
[2] سورة آل عمران، الآية 178.
[3] الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه - 1995م، ط1، ج5، ص340.
[4] القوة: القابلية والاستعداد.
[5] الملكات: الحالات الراسخة في النفس.
104
ولكنّ الملكات لا تزال موجودة بالقوّة، فإذا لم تتأثّر بعوامل تُفجّر فيها الطاقات الخيّرة وتُركت لوحدها، فستنتصر الخبائث، وستتحقّق الملكات الفاسدة، وستنعطف نحو القبائح والمساوئ، لأنّ الدواعي الداخليّة الباطنيّة، كالشهوة والغضب وغيرهما، تسوق الإنسان إلى الفجور والتعدّي والظلم. وبعد انقياده لهما يتحوّل، في فترة قصيرة، إلى حيوان عجيب وشيطان غريب.
ولمّا كانت عناية الحقّ تعالى ورحمته قد وسعت بني البشر في الأزل، جعل لهم - سبحانه - حسب تقدير دقيق نوعين من المربّي والمهذِّب، هما بمثابة جناحين يطير بهما من حضيض الجهل والنقص والقباحة والشقاء إلى أوج العلم والمعرفة والكمال والجمال والسعادة، ويُحرّر نفسه من ضغط ضيق عالم الطبيعة إلى الفضاء الرحب الملكوتيّ الأعلى، وهما:
1- المربِّي الباطنيّ، المتجسّد في العقل والقدرة على التمييز بين الحسن والقبيح.
2- المربِّي الخارجيّ، المتمثّل في الأنبياء والأدلّاء على طرق السعادة والشقاء.
وكلٌّ منهما لا يؤدّي دوره بدون الآخر، إذ إنّ العقل البشريّ عاجز لوحده عن معرفة طرق السعادة والشقاء، واكتشاف الطريق إلى عالَم الغيب، ونشأة الآخرة. كما أنّ هداية الأنبياء وإرشادهم لا تكون مؤثّرة بدون إدراك العقل والقدرة على التمييز.
فالحقّ تبارك وتعالى، منحنا هذين النوعين من الموجّه، لكي نجعل الطاقات المكتنزة والاستعدادات الكامنة في النفوس تتحرّك من القوّة إلى الفعليّة والظهور.
وقد وهبنا الحقّ -تعالى- هاتين النعمتين الكبيرتين امتحاناً لنا واختباراً، فبهما يتميّز أفراد بني الإنسان بعضهم من بعض، ويتمّ الفصل بين السعيد والشقيّ، والمطيع والعاصي، والكامل والناقص، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "والذي بعثه بالحقّ، لَتبلبلنّ ولَتغربلنّ غربلة"[1]، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا بدّ للناس من أن يُمحّصوا ويُميّزوا ويُغربلوا، ويُستخرج في الغربال خلقٌ كثير"[2].
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة مصدر سابق، خطبة 16.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص375.
105
ومن حديث آخر عنه عليه السلام: "إنّه ليس شيء فيه قبض[1] أو بسط[2] ممّا أمر الله أو نهى عنه، إلّا وفيه لله - عزّ وجلّ - ابتلاء وقضاء"[3].
فكلّ عطاء وتوسعة أو منع وإمساك امتحان للإنسان، كما أنّ كلّ أمر ونهي وتكليف يكون امتحاناً أيضاً.
فإنّ بعث الرسل ونشر الكتب السماويّة، إنّما هو لغربلة الناس ولفصل الأشقياء عن السعداء والمطيعين عن المعاصي.
فنتيجة الاختبار بصورة مطلقة، هي فصل السعيد عن الشقيّ، على صعيد الواقع الخارجيّ.
وتتمّ في هذا الامتحان والتمحيص حجّة الله على خلقه أيضاً، وتكون تعاسة كلّ شخص وسعادته عن حجّة وبيّنة، ولا يبقى لأحد مجال للاعتراض.
فمن سعى في طريق السعادة والحياة الأبديّة، كان سعيه توفيقاً من الله وهداية له، لأنّه – سبحانه - قد وفّر له جميع أسباب هذا السبيل. ومن جدّ في طريق الشقاء ووجّه وجهه نحو الهلاك ومتابعة الهوى والشيطان، مع توفّر طرق الهداية وأسباب السعادة كلّها، فقد اختار بنفسه الهلاك والتعاسة، رغم قيام الحجّة البالغة للحقّ تبارك وتعالى على خلاف ما ارتآه: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ﴾[4].
بلاء الأنبياء
يقول المحدّث الكبير المجلسيّ رحمه الله: "في هذه الأحاديث -أي أحاديث ابتلاء الأنبياء- الواردة من طرق العامّة والخاصّة، دلالة واضحة على أنّ الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، في الأمراض الحسّيّة والبلايا الجسميّة كغيرهم، بل هم أولى بها من غيرهم، تعظيماً لأجرهم الذي يوجب التفاضل في الدرجات، ولا يقدح ذلك في رتبتهم، بل هو تثبيت لأمرهم، وأنّهم بشر. إذ لو لم يُصبهم ما أصاب سائر البشر، مع ما يظهر في أيديهم من
[1] القبض: الإمساك والمنع.
[2] البسط: النشر والعطاء.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص152.
[4] سورة البقرة، الآية 286.
106
خرق العادة، لقيل فيهم ما قالت النصارى في نبيّهم"[1].
وقال المحقّق الطوسي، في كتاب التجريد، في بحث ما يجب كونه في كلّ نبيّ: "وأن لا يكون فيه كلّ ما ينفر عنه الخلق"[2].
وقال علّامة علماء الإسلام - رضوان الله عليهم - في شرح هذه الجملة: "وأن يكون منزّهاً عن الأمراض المنفّرة، نحو الأنبة وسلس الريح والجذام والبرص، لأنّ ذلك كلّه ممّا يُنفّر عنه، فيكون نافياً للغرض من البعثة"[3].
يقول الكاتب[4]: إنّ درجة النبوّة، وإن كانت تابعة للكمالات النفسيّة والدرجات الروحانيّة، ولا علاقة لها بالجسم. وإنّ النقائص الجسمانيّة وأمراضها، لا تُسيء إلى المقام الروحانيّ للأنبياء، وإنّ الأمراض المنفّرة لا تُقلّل شيئاً من علوّ شأنهم وعظمة رتبتهم، إن لم تؤكّد كمالاتهم وتدعم درجاتهم، كما أُشير إليها.
ولكن، ما ألمح إليه المحقّقان[5] لا يخلو من وجه، لأنّ عوام الناس لا يُفرّقون بين المقامات، الجسمانيّة والروحيّة، ويحسبون أنّ النقص الجسمانيّ نتيجة النقص الروحيّ أو ملازم له. ويعتبرون أنّ من عناية الحقّ -سبحانه- أن لا يُصيب الأنبياء، أصحاب الشريعة والمبعوثين بالرسالة، بأمراض تُسبّب نفرة الطباع واستيحاش الناس.
فعدم ابتلائهم، لا يكون نتيجة أنّ هذه المصائب والبلايا تحطّ من مقام النبوّة، بل لأجل فائدة هي إكمال التبليغ والإرشاد. وعليه، لا مانع من ابتلاء بعض الأنبياء الذين لم يحظوا بالشريعة، وابتلاء الأولياء الكبار والمؤمنين بمثل هذه المحن، كما كان النبيّ أيوب والمؤمن حبيب النجّار مبتلين.
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص250.
[2] العلامة الحلّيّ، الحسن بن يوسف بن المطهر، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تحقيق آية الله حسن زاده الآملي، مؤسسة نشر الإسلامي، إيران - قم، 1417ه، ط7، ص474.
[3] المصدر نفسه، ص474.
[4] أي الإمام الخمينيّ قدس سره.
[5] المحقّقان، أي المحقّق الطوسي، وعلّامة علماء الإسلام، أي العلّامة الحلّيّ.
107
بلاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
يظهر في نهاية الحديث الشريف: "... ومن سَخُف دينه وضعف عقله، قلَّ بلاؤه"[1]، أنّ البلايا تكون جسمانيّة أو روحانيّة، فالأشخاص الضعاف في عقولهم وإدراكهم في أمان من المعاناة الروحيّة والانزعاجات العقليّة، على خلاف من يتمتّع بالعقل الكامل والإدراك الحذق، حيث تزداد معاناته ومصائبه.
ومن المحتمل أن يعود إلى هذا المعنى كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القائل: "ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت"[2]، لأنّ كلّ من يُدرك جلال الربّ وعظمته أكثر، ويقف على المقام المقدّس للحقّ - جلّ وعلا - بشكل أعمق، يتألّم ويتعذّب من جرّاء عصيان العباد وهتكهم للحرمة أكثر. وأيضاً، كلّ من كانت رحمته وعنايته وشفقته على عباد الله أكثر، تأذّى من اعوجاج العباد وشقائهم أكثر. وقطعاً، كان خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم في المقامات والمنازل الكماليّة كلّها، أكمل من جميع النبيّين والأولياء وبني الإنسان، فتكون محنه وآلامه أعمق.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص259.
[2] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1376ه - 1956م، لا.ط، ج3، ص42.
108
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ هذا العالَم الدنيويّ، لما فيه من النقص والقصور والضعف، لا يمكن أن يكون دار كرامة ولا محلّاً لثواب الحقّ -سبحانه-، ولا محلّاً لعذابه وعقابه، لأنّ دار كرامة الحقّ - عزّ وجلّ - تكون نعمه خالصة وغير مشوبة بالنقم، ومثل هذه النعم غير متوفّرة في هذا العالَم الدنيويّ، لأنّه دار التزاحم والصراع، بل إنّ مادّة هذا العالَم الدنيوي ليس لديها قابليّة الرحمة الخالصة والنعمة المحضة غير المشوبة بالمكاره، ولا قابليّة العذاب الخالص المطلق.
2- جعل الله -سبحانه- للانسان نوعين من المربّي، هما: المربِّي الباطنيّ، المتجسّد في العقل والقدرة على التمييز بين الحسن والقبيح، والمربِّي الخارجيّ، المتمثّل في الأنبياء والأدلّاء على طرق السعادة والشقاء. وكلٌّ منهما لا يؤدّي دوره بدون الآخر، إذ إنّ العقل البشريّ عاجز لوحده عن معرفة طرق السعادة والشقاء، واكتشاف الطريق إلى عالَم الغيب ونشأة الآخرة.
كما أنّ هداية الأنبياء وإرشادهم لا تكون مؤثّرة بدون إدراك العقل والقدرة على التمييز. وقد وهبنا الحقّ -تعالى- هاتين النعمتين امتحاناً واختباراً، للغربلة ولفصل السعيد عن الشقيّ.
3- إنَّ كلّ عطاء وتوسعة أو منع وإمساك، امتحان للإنسان، كما أنّ كلّ أمر ونهي وتكليف، هو امتحانٌ أيضاً.
4- هناك وجهتا نظر فيما يرتبط بابتلاء الأنبياء بالأمراض والآفات الجسميّة المنفرّة، رأي رافض بالمطلق، ورأي لا يمنع منه، بل يرى أنّ فيه عامل ارتقاء وتكامل عند المؤمن أو النبيّ.
5- كان خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم في المقامات والمنازل الكماليّة كلّها، أكمل من جميع النبيّين والأولياء وبني الإنسان، لذا كانت محنه وآلامه أعمق وأكثر.
109
الدرس العاشر
حبّ الدنيا
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يتعرَّف إلى حقيقة الدنيا المذمومة.
2. يذكر أنَّ حبّ الدنيا أمر فطريّ.
3. يبيّن أنَّ الإنسان بحسب فطرته، يعشق الكمال المطلق.
111
حديث في حبّ الدنيا
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من أصبح وأمسى، والدنيا أكبر همّه، جعل الله الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى، والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه، وجمع له أمره"[1].
حقيقة الدنيا المذمومة
للدنيا والآخرة إطلاقات، حسب آراء أرباب العلوم، ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم. ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء المصطلحات العلميّة بمهمّة، فإنّ بذل الجهد في فهم الاصطلاحات، والردّ والقبول، والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد. وإنّما المهمّ في هذا الباب، هو فهم الدنيا المذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرّز منها، وما يُعين الإنسان على النجاة.
يقول المحقّق الخبير والمحدّث المنقطع النظير مولانا المجلسي قدس سره: "اعلم، أنّ الذي يظهر من مجموع الآيات والأخبار على ما نفهمه، أنّ الدنيا المذمومة مركّبة من مجموع أمور تمنع الإنسان من طاعة الله وحبّه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة ضرّتان متقابلتان. فكلّ ما يوجب رضا الله -سبحانه- وقربه، فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا، كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال، لأمره -تعالى- به، ولصرفها في وجوه البرّ، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فإنّ هذه الأمور كلّها تُعدّ من أعمال الآخرة، وإن كان
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص359.
113
عامّة الخلق يعدّونها من الدنيا. والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كانت مع الزهد والمشقّة، فإنّها من الدنيا، لأنّها ممّا يُبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه، مثل أعمال الكفّار والمخالفين[1].
ونقل المجلسيّ قدس سره عن أحد المحقّقين: "دنياك وآخرتك، عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يُسمّى الدنيا، وهي كلّ ما قبل الموت، والمتأخّر يُسمّى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكلّ ما لك فيه حظّ وغرض ونصيب وشهوة ولذّة قبل الموت، فهي الدنيا في حقّك..."[2].
الدنيا -أحياناً- تُطلق على نشأة الوجود النازلة، والتي هي دار تصرّم وتغيّر ومجاز، والآخرة تُطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان وباطنه، والتي هي دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحقّقتان لكلّ نفس من النفوس وشخص من الأشخاص.
وفي العموم، إنّ لكلّ موجود مقام ظهور وملك وشهود، وهو تلك المرتبة الدنيويّة النازلة، والمقام الباطنيّ والملكوت الغيبيّ هو النشأة الأخرويّة الصاعدة. والنشأة الدنيويّة النازلة، وإن كانت ناقصة بذاتها ومن آخر مراتب الوجود، إلّا أنّها لمّا كانت مهد تربية النفوس القدسيّة ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنّها غدت من أحسن مشاهد الوجود وأعزّ النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك الآخرة.
فلو لم تكن هذه الأمور الملكيّة والتغييرات والحركات الجوهريّة، الطبيعيّة والإراديّة موجودة، ولو لم يُسلّط الله - تعالى - على هذه النشأة التبدّلات والتصرّفات، لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حدّ كماله الموعود ودار قراره وثباته، ولحصل النقص الكلّيّ في الملك والملكوت، لذا، فإنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا لا يعود في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب إليها ومحبّتها.
[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص63.
[2] المصدر نفسه، ص25.
114
وعليه، يتبيّن أنّ أمام الإنسان دنياوين: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة، وهي دار التربية ودار التحصيل ومحلّ التجارة، على المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبديّة سعيدة، وهي أمور لا يُمكن الحصول عليها دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ردّاً على من ذمّ الدنيا، حيث قال: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة..."[1].
وقال الله تعالى: ﴿وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾[2]، وهي دار الدنيا حسب ما ورد في تفسير العياشيّ عن الإمام الباقر عليه السلام.
وعليه، فإنّ عالَم الملك، وهو مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجّه إليها والتعلّق بها وحبّها، وهذا هو منشأ المفاسد والخطايا كلّها، القلبيّة والظاهريّة، كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"[3].
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع هذا في أوّلها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن"[4].
فتعلّق القلب بالدنيا وحبّها، هو الدنيا المذمومة. وكلّما كان التعلّق بها أشدّ، كلّما كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب والحقّ -سبحانه- أسمك وأغلظ. وإنّ ما جاء في الأحاديث الشريفة، من أنّ لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة، فيُمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه، الميول والتعلّقات القلبيّة بالدنيا.
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 131.
[2] سورة النحل، الآية 30.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص315.
[4] المصدر نفسه.
115
فكلّما كان التعلّق بالدنيا أقوى، كلّما كان عدد الحجب أكثر، وكلّما كان الحبّ لها أشدّ، كلّما كانت الحجب أغلظ واختراقها أصعب.
هل حبّ الدنيا أمر فطريّ؟
لمّا كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعيّة، وهي أمّه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإنّ حبّ الدنيا يكون مغروساً في قلبه، منذ مطلع نشوئه ونموّه، وكلّما كبر في العمر، كبُر هذا الحبّ في قلبه ونما. وبما وهبه الله من القوى الشهوانيّة ووسائل التلذّذ للحفاظ على ذاته وعلى البشريّة، يزداد حبّه ويقوى تعلّقه بها، حتّى يظنّ أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذّات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك اللذّات، وحتّى لو كان يعرف من أدلّة الحكماء أو أخبار الأنبياء عليهم السلام أنّ هناك عالماً أخرويّاً، فإنّ قلبه يبقى غافلاً عن كيفيّة هذا العالَم الآخر وحالاته وكمالاته ولا يتقبّله، فضلاً عن بلوغه مقام الاطمئنان، ولهذا يزداد حبّه وتعلّقه بهذه الدنيا.
وبما أنّ حبّ البقاء فطريّ في الإنسان، وهو يكره الزوال والفناء، ويظن أنّ الموت فناء، فإنّه، حتّى ولو كان مؤمناً بعقله بأنّ هذه الدنيا دار فناء ودار ممرّ، وأنّ العالَم الآخر عالم بقاء سرمديّ، يبقى الأساس هو الإيمان بالقلب، بل بمرتبة كماله الذي هو الاطمئنان، كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحقّ تعالى هذا الاطمئنان، فأنعم به عليه. إذاً، إمّا أنّ القلوب لا تؤمن بالآخرة مثل قلوبنا، وإن كنّا نُصدّق بها تصديقاً عقلياً، وإمّا أنّها لا اطمئنان فيها، فيكون حبّ البقاء في هذا العالَم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالَم موجوداً في القلب.
ولو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال والتصرّم والتغيّر، وأنّها دار الهلاك ودار النقص، وأنّ العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبديّة، وأنّها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حبّ تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا.
ولو ارتفع الإنسان عن هذا العالَم، ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان، ورأى الصورة
116
الباطنيّة لهذا العالَم وللتعلّق به، والصورة الباطنيّة لذلك العالَم - عالَم الآخرة - والتعلّق به، لأصبح هذا العالَم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه، ولنفر منه، واشتاق للتخلّص من هذا السجن المظلم، ومن سلسلة قيود الزمان والتغيّر، كما جاء في كثير من كلام الأولياء، فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"[1].
ذلك، لأنّه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثِر على مجاورة رحمة الحقّ المتعالي شيئاً أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إنّ الوقوع في الكثرة ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبيرات الملكيّة، بل حتى التأييدات الملكوتيّة، يُعدّ ذلك كلّه بالنسبة للمحبّين والمنجذبين، ألماً وعذاباً ليس بمقدورنا أن نتصوّرهما.
إنّ أكثر أنين الأولياء، إنّما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، مع أنّه لا يحجبهم أيّ حجاب ملكيّ أو ملكوتيّ. فقد اجتازوا جحيم الطبيعيّة الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا من التعلّق بالدنيا وتطهّرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعيّة. ولكنّ النزول إلى عالم الطبيعة، هو بذاته حظّ طبيعيّ، وإنّ الالتذاذ القهريّ الذي يحصل في عالم الملك، يكون بالنسبة لهم حجاباً ولو كان قليلاً جدّاً، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليُران على قلبي، وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة"[2].
ولعلّ خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجّه القهريّ نحو تدبير الملك والحاجة الاضطراريّة إلى القمح وسائر الأمور الطبيعيّة، وهذه تُعتبر خطيئة بالنسبة إلى أولياء الله المنجذبين إليه. ولو بقي آدم عليه السلامفي ذلك الانجذاب الإلهيّ، ولم يرد إلى عالم الملك، لما بسطت كلّ هذه الرحمة في الدنيا والآخرة.
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 15.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج17، ص44.
117
الإنسان بفطرته يعشق الكمال المطلق
خلق الله الإنسان في هذا العالَم، وخلق معه فطرة عشق الكمال والبحث عنه. فكلّ إنسان يُحبّ الكمال بحسب فطرته وخلقته الأولى، ويسعى للوصول إليه والتحقّق به، بل إنّ أصل كلّ حركة وتصرّف عند الإنسان هو لأجل بلوغ الكمال المنشود. والفطرة الإنسانيّة لا تريد أيّ كمال، بل تبحث عن الكمال المطلق الذي لا حدّ له ولا منتهى. وهنا اختلف الناس وتفرّق الجمع أثناء سعيهم وبحثهم، فكلٌّ يرى الكمال في شيء. فأهل الدنيا توهّموا أن ما تصبو إليه فطرتهم من كمال موجود في هذه الدنيا، فانكبّوا لتحصيلها وتعميرها. ولكنّ العاقل البصير يعرف جيّداً أنّ هذه الدنيا ما هي إلا كمال محدود وفانٍ، وإذا انشغل المرء فيها لم تزده إلّا حاجة وفقراً، حتى يتشتّت أمره ويضطرب حاله، ويستولي عليه الغمّ والحسرة واليأس خوفاً من فقدها وأملاً ببقائها. أمّا أهل الآخرة، فقد توجّهوا بقلوبهم وكلّ وجودهم نحو الكمال الحقيقيّ والمحبوب الواقعيّ، نحو عالم الآخرة، دار لقاء الله ومشاهدته، لأنّهم أدركوا أنّ مرادهم هو أسمى بكثير من كمالات هذه الدنيا الفانية وزخارفها المحدودة وسعادتها الزائلة.
لا يخفى على كلّ ذي وجدان أنّ الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتيّة، يعشق الكمال التامّ المطلق، ويتوجّه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها. وبهذا الحبّ للكمال، تتوفّر إدارة الملك والملكوت، وتتحقّق أسباب وصول عشّاق الكمال المطلق إلى معشوقهم. غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرَون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحقّ، والجمال في كماله – سبحانه - فيقولون: ﴿وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾[1]، ويقولون: "لي مع الله حال"[2].
[1] سورة الأنعام، الآية 79.
[2] إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل"، راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص360.
118
الإنسان بفطرته يعشق الكمال المطلق
خلق الله الإنسان في هذا العالَم، وخلق معه فطرة عشق الكمال والبحث عنه. فكلّ إنسان يُحبّ الكمال بحسب فطرته وخلقته الأولى، ويسعى للوصول إليه والتحقّق به، بل إنّ أصل كلّ حركة وتصرّف عند الإنسان هو لأجل بلوغ الكمال المنشود. والفطرة الإنسانيّة لا تريد أيّ كمال، بل تبحث عن الكمال المطلق الذي لا حدّ له ولا منتهى. وهنا اختلف الناس وتفرّق الجمع أثناء سعيهم وبحثهم، فكلٌّ يرى الكمال في شيء. فأهل الدنيا توهّموا أن ما تصبو إليه فطرتهم من كمال موجود في هذه الدنيا، فانكبّوا لتحصيلها وتعميرها. ولكنّ العاقل البصير يعرف جيّداً أنّ هذه الدنيا ما هي إلا كمال محدود وفانٍ، وإذا انشغل المرء فيها لم تزده إلّا حاجة وفقراً، حتى يتشتّت أمره ويضطرب حاله، ويستولي عليه الغمّ والحسرة واليأس خوفاً من فقدها وأملاً ببقائها. أمّا أهل الآخرة، فقد توجّهوا بقلوبهم وكلّ وجودهم نحو الكمال الحقيقيّ والمحبوب الواقعيّ، نحو عالم الآخرة، دار لقاء الله ومشاهدته، لأنّهم أدركوا أنّ مرادهم هو أسمى بكثير من كمالات هذه الدنيا الفانية وزخارفها المحدودة وسعادتها الزائلة.
لا يخفى على كلّ ذي وجدان أنّ الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتيّة، يعشق الكمال التامّ المطلق، ويتوجّه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها. وبهذا الحبّ للكمال، تتوفّر إدارة الملك والملكوت، وتتحقّق أسباب وصول عشّاق الكمال المطلق إلى معشوقهم. غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرَون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحقّ، والجمال في كماله – سبحانه - فيقولون: ﴿وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾[1]، ويقولون: "لي مع الله حال"[2].
[1] سورة الأنعام، الآية 79.
[2] إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل"، راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص360.
118
وأهل الدنيا، عندما رأوا أنّ الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتّجهوا فطريّاً نحوها، ولكن لمّا كان التوجّه الفطريّ والعشق الذاتيّ قد تعلّقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرضيّاً، ومن باب الخطأ في التطبيق.
إنّ الإنسان، كلّما كثر ملكه وملكوته، وكلّما نال من الكمالات النفسيّة أو الكنوز الدنيويّة، أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه، ونار عشقه التهاباً.
فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى، ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجّه بنظرة طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنّها سيطرت على الكرة الأرضية برمّتها، لرغبت في التحليق نحو الكواكب الأخرى، للاستيلاء عليها.
إلا أنّ هذه النفس المسكينة لا تدري بأنّ الفطرة إنّما تتطلّع إلى شيء آخر. إنّ العشق الفطريّ يتّجه نحو المحبوب المطلق. إنّ جميع الحركات الجوهريّة والطبيعيّة والإراديّة، وجميع التوجّهات القلبيّة والميول النفسيّة تتوجّه نحو جمال الجميل المطلق، ولكنّهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحبّ والعشق والشوق، التي هي معراج وأجنحة الوصول، إلى وجهة، هي خلاف وجهتها، فيُحدّدونها ويُقيّدونها دون أيّة فائدة.
إذاً، فالمقصود أنّ الإنسان لمّا كان متوجّهاً قلبيّاً إلى الكمال المطلق، فإنّه مهما جمع من زخرف الحياة، فإنّ قلبه سيزداد تعلّقاً بها، فإذا اعتقد أنّ الدنيا وزخارفها هي الكمال، ازداد حرصه عليها وتعلّقه بها، واشتدّت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها، بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجّههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها.
كما أنّ أهل الله مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، متحرّرون من كلتا النشأتين، وكلّ احتياجهم فقط إلى الغنيّ المطلق، فيغدو قلبهم متجلّياً بمظهر الغنى
119
بالذات، فهنيئاً لهم.
ومضمون الحديث الشريف، يمكن أن يكون إشارة لما قد شرحناه الآن، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح وأمسى، والدنيا أكبر همّه، جعل الله الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى، والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه، وجمع له أمره"[1].
ومن المعلوم أنّ من يتّجه بقلبه نحو الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة ومتغيّرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتمّ بما فيها من ألم وسرور، فتنقص حاجاته، ويقلّ افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى حيث لا تبقى له حاجة إليها، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغنى الذاتيّ والقلبيّ.
إذاً، كلّما نظرت إلى هذه الدنيا بعين المحبّة والتعظيم، وتعلّق قلبك بها، ازدادت حاجتك إليها، بحسب درجات حبّك لها، وبان الفقر في باطنك وظاهرك، وتشتّتت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهمّ، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنّياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغمّ والتحسّر، ويتمكّن اليأس والحيرة من قلبك، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث الشريف، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من كثر اشتباكه بالدنيا، كان أشدّ لحسرته عند فراقها"[2].
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "من تعلّق بالدنيا، تعلّق قلبه بثلاث خصال: همٌّ لا يفنى، وأمل لا يُدرك، ورجاء لا يُنال"[3].
أمّا أهل الآخرة، فإنّهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها، ولولا أنّ الله قد عيّن لهم آجالهم، لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة، فهم كما يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "نزلت أنفسهم في البلاء، كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب"[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص309.
[2] المصدر نفسه، ص325.
[3] المصدر نفسه، ص325.
[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 193.
120
المفاهيم الرئيسة
1- تُطلق الدنيا - أحياناً - على نشأة الوجود النازلة، والتي هي دار تصرّم وتغيّر ومجاز، والآخرة تُطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان وباطنه والتي هي دار بقاء وخلود وقرار، وهاتان النشأتان متحقّقتان للنفوس كلّها.
2- إنّ أمام الإنسان دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة على المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبديّة سعيدة، والمذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجّه إليها والتعلّق بها وحبّها، والذي يُعدُّ منشأ المفاسد والخطايا كلّها القلبيّة والظاهريّة.
3- كلّما كان التعلّق بالدنيا أقوى، كلّما كان عدد الحجب أكثر، وكلّما كان الحبّ لها أشدّ، كلّما كانت الحجب أغلظ واختراقها أصعب.
4- إنّ حبّ البقاء فطريّ في الإنسان، وهو يكره الزوال والفناء، ويظن أنّ الموت فناء، فإنّه، حتّى ولو كان مؤمناً بعقله بأنّ هذه الدنيا دار فناء ودار ممرّ، وأنّ العالَم الآخر عالم بقاء سرمديّ، يبقى الأساس هو الإيمان بالقلب، بل بمرتبة كماله الذي هو الاطمئنان.
5- لو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال والتصرّم والتغيّر، وأنّها دار الهلاك ودار النقص، وأنّ العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبديّة، وأنّها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حبّ تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا.
6- إنّ أكثر أنين الأولياء إنّما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، وإنّ الالتذاذ القهريّ الذي يحصل في عالم الملك، يكون بالنسبة لهم حجاباً، ولو كان قليلاً جدّاً.
7- إنَّ كلّ إنسان يُحبّ الكمال، بحسب فطرته وخلقته الأولى، ويسعى للوصول إليه والتحقّق به، كما أنَّ أصل كلّ حركة وتصرّف عند الإنسان هو لأجل بلوغ الكمال المطلق، غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه.
121
الدرس الحادي عشر
مفاسد حبّ الدنيا
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يشرح المفاسد التي تنجم عن تعلّق القلب بالدنيا.
2. يبيّن كيف يؤديّ حبّ الدنيا بالإنسان إلى الخوف من الموت والسخط على وليّ النعمة.
3. يفسِّر كيفيّة تأثير حبّ الدنيا على ضعف إرادة الإنسان وعزيمته.
123
مفاسد حبّ الدنيا
اعلم أنّ ما تناله النفس من حظّ في هذه الدنيا يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير عالم الملك والطبيعة، وهو السبب أيضاً في تعلّقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثّر القلب وتعلّقه بها وحبّه لها، إلى أن يتّجه القلب كلّيّاً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا ما يبعث على الكثير من المفاسد.
إنّ جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيّئات، سببها هو هذا الحبّ للدنيا والتعلّق بها، كما ورد في الحديث: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"[1].
ومن المفاسد التي تنجم عن تعلّق القلب بالدنيا:
1- الاحتجاب عن الله:
إنّ الرغبة في الدنيا سبب للاحتجاب عن الحقّ - تعالى -، وللحرمان من السلوك إلى الله. والمقصود بالدنيا كلّ ما يُشغل الإنسان عن الحقّ - تعالى -. ولأنّ هذا المعنى يتحقّق أكثر في عالَم الملك، فإنّ العالَم أحقّ بهذا الاسم (الدنيا) من غيره. وهذا ما يُشير إليه حديث مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام عندما يُعرِّف الزهد، قال: "الزّهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النّار، وهو ترك كلّ شيء يَشغَلُكَ عن الله -تعالى-، من غير تأَسُّفٍ على فَوْتِهَا"[2].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص315.
[2] الإمام الصادق، جعفر بن محمد عليهما السلام، مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة (منسوب)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1400ه - 1980م، ط1، ص137.
125
ولقد فسّر أهل المعرفة الحجب النورانيّة والحجب الظلمانيّة، التي ورد ذكرها في الحديث الشريف: "إنّ لله سبعين ألف حجاب من نور، وسبعين ألف حجاب من ظلمة..."[1]، بأنّها تتمثّل في وجود الأشياء والعوالم وتعيّناتها، فالانشغال بأيٍّ منها يحرم الإنسان ويحجبه عن وجه جمال الجميل.
وعلى أيّ حال، فإنّ التعلّق القلبيّ بكلّ ما سوى الحقّ - تعالى - عقبة في طريق السلوك إلى الله، وعلى السالك إلى الله والطالب للقائه -جلّ وعلا- وللعروج في معارج المعارف الإلهيّة، أن يُزيل هذه العقبة عن طريقه بالرياضات الشرعيّة، فلا يُمكن العروج إلى الكمالات الروحانيّة ومشاهدة جمال الجميل المطلق مع وجود هذا التعلّق القلبيّ بغير الحقّ – تعالى -، ومع اتّباع شهوات البطن والفرج[2].
2- السخط على وليّ النعمة:
إنّ من المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا -كما يقول شيخنا العارف[3] روحي فداه - هو أنّه إذا انطبع حبّ الدنيا على صفحة قلب الإنسان واشتدّ الأنس بها، انكشف له عند الموت أنّ الحقّ - تعالى - يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيُغادر الدنيا مغتاظاً ساخطاً على وليّ نعمته.
إنّ هذا القول القاصم للظهر، يجب أن يوقظ الإنسان للحفاظ على قلبه، فالعياذ بالله من إنسان يسخط على وليّ نعمته ومالك الملوك الحقيقيّ، إذ لا أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء غير الله - تعالى -. ويقول شيخنا العظيم أيضاً قدس سره نقلاً عن أبيه المعظّم: إنّه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبّة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنّه بعد الانهماك في الرياضات تخلّص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الله عليه!
[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج55، ص45.
[2] راجع: الخمينيّ، الإمام روح الله الموسويّ، جنود العقل والجهل، منشورات مؤسسة الأعلمي، لبنان - بيروت، 2001م، ص299.
[3] المرحوم آية الله الشاه آبادي.
126
قال الإمام الصادق عليه السلام: "مَثَلُ الدنيا كمثل ماء البحر، كلّما شرب منه العطشان، ازداد عطشاً حتى يقتله"[1].
إنّ حبّ الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبديّ، وهو أصل البلايا والسيّئات، الباطنيّة والظاهريّة. وقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الدرهم والدينار أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم"[2].
وعلى فرض أنّ الإنسان لم يرتكب معاصي أخرى - على رغم أنّ هذا الفرض بعيد أو من المستحيل عادة - فإنّ التعلّق بالدنيا نفسه معصية، بل إنّ مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر والبرزخ هو أمثال هذه التعلّقات. فكلّما كان التعلّق بالدنيا أقلّ، كان البرزخ وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر، لذلك ورد في بعض الروايات: إنّ عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيّام، وإنّما كان هذا لأجل التعلّق الطبيعيّ والعلاقة الجبليّة لأولياء الله بهذا العالَـــــم.
3- الخوف من الموت:
وإنّ من مفاسد حبّ الدنيا والتعلّق بها، خوف الإنسان من الموت. وهذا الخوف الناشئ من حبّ الدنيا والتعلّق القلبيّ بها مذموم جدّاً، وهو غير الخوف من المرجع والآخرة -مآل الإنسان بعد الموت- المعدود من ضمن صفات المؤمنين.
إنّ أبلغ صعوبة في الموت هي ضغوطات رفع هذه العلائق، والخوف من الموت نفسه. يقول المحقّق والمدقّق الإسلاميّ البارع، السيّد العظيم الشأن، الداماد -كرّم الله وجهه- في كتابه "القبسات"، والذي يُعدّ من الكتب النادرة: "لا يُخيفنَّك الموت، فإنّ مرارته في خوفه"[3].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص136.
[2] المصدر نفسه، ص316.
[3] الميرداماد، محمد بن محمد، القبسات، باهتمام الدكتور مهدي محقق، الدكتور السيد علي موسوي بهبهاني، والبروفسور ايزوتسو، الدكتور إبراهيم ديباجي، انتشارات دانشكاه تهران، 1367هـ. ش، ص479.
127
4- ضعف العزيمة والإرادة:
ومن المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا أنّه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعيّة والعبادات والمناسك، ويقوّي جانب الطبيعة في الإنسان، بحيث يجعلها تعصي وتتمرّد، ويوهن عزم الإنسان وإرادته، مع أنّ الأسرار العظمى للعبادات والرياضات الشرعيّة، هي صيرورة البدن وقواه الطبيعيّة والبعد الملكيّ فيه، تابعاً ومنقاداً للروح، وتُصبح إرادة النفس سارية فيه (البدن)، ويغلب ملكوت النفس على الملك ويكون للروح سلطنة وقدرة ونفوذ، بحيث تجبر البدن على أيّ عمل تُريده. ويُصبح ملك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت، بحيث إنّه يقوم بما يُريد، من دون مشقّة ولا عناء.
إنّ من الفضائل والأسرار الشاقّة والصعبة للعبادات تحقّق هذا الهدف -أي تسخير ملك الجسم للملكوت- أكثر، حيث يصير بذلك الإنسان ذا عزم، ويتغلّب على الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتدّ، أصبح حال الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مثل ملائكة الله الذين لا يعصون الله، وإنّما يُطيعونه في كلّ ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يُعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقّة.
كذلك، إذا أصبحت قوى الإنسان مسخّرة للروح، زال كلّ تكلّف وتعب، وتحوّل إلى يسر وراحة، واستسلمت أقاليم الملك السبعة[1] للملكوت، وأصبحت جميع القوى عمّالاً له.
فاعلم يا عزيزي، أنّ العزم والإرادة القويّة لذلك العالم ضروريّان، ولهما فعاليّة. إنّ ميزان أحد مراتب الجنّة، والتي هي أفضل الجنّات، هو الإرادة والعزم. فما لم يحصل الإنسان على مثل هذه الإرادة النافذة والعزم القويّ، لن ينال تلك الجنّة والمقام العالي.
وروي أن الله تعالى يقول في بعض كتبه: "يابن آدم، أنا حي لا أموت، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت، يابن آدم، أنا أقول للشيء: كن فيكون، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء: كن فيكون"[2].
[1] أقاليم الملك: العين، اللسان، البطن، الفرج، اليد، الرجل.
[2] الديلمي، الشيخ الحسن بن محمد، إرشاد القلوب، إيران - قم، انتشارات الشريف الرضي، 1415ه - 1374ش، ط2، ج1، ص75.
128
فلاحظ أيّ مقام وسلطان هذا، وأيّة قدرة إلهيّة هذه التي تجعل إرادة الإنسان مظهراً لإرادة الله! فيلبس المعدومات لباس الوجود! هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من النعم الجسمانيّة كلّها، وبديهيّ أنّ تلك الرسالة لم تُكتب عبثاً وجزافاً.
إنّ من كانت إرادته تابعة للشهوات الحيوانيّة، وعزيمته ميّتة خامدة، لا يصل إلى هذا المقام. إنّ أعمال الله منزّهة عن العبث، فكما أنّ هذا العالَم قائم على أساس ترتيب الأسباب والمسبّبات، كذلك هو الحال في العالَم الآخر، بل إنّ نظام عالَم الآخرة كلّه قائم على الأسباب والمسبّبات، وإنّ نفوذ الإرادة يجب أن يتهيّأ من هذا العالَم، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وهذا العالَم مادّة لنِعم الجنّة ونِقَم النار كافّة.
إذاً، كلّ عبادة من العبادات، وكلّ منسك من المناسك الشرعيّة، فضلاً عن أنّ لها صورة أخرويّة وملكوتيّة، بها يتمّ عمارة الجنّة الجسمانيّة وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور - طبقاً للبراهين والأحاديث -، فإنّ لكلّ عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في النفس، ممّا يقوّي إرادة النفس شيئاً فشيئاً، ويصل بقدرتها إلى حدّ الكمال. لذا، كلّما كانت العبادات أشقّ، كانت مرغوبة أكثر: "أفضل الأعمال أحمزها"[1]. فالتنازل عن النوم اللذيذ في الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ - تعالى -، يزيد من قوّة الروح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة.
وإذا كان هذا في أوّل الأمر على شيء من المشقّة والعناء، فإنّ ذلك يقلّ تدريجياً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. لذا، فإنّنا نُلاحظ أنّ أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقّة وتكلّف. أمّا نحن، فشعورنا بالكسل والمشقّة ناشئ من أنّنا لا نُقدم على العمل. فلو أنّنا بدأنا بالعمل وكرّرناه عدّة مرّات، لتبدّلت المشقّة إلى راحة، بل إنّ أهلها يلتذّون بها أكثر ممّا نلتذّ نحن بمشتهيات الدنيا. إذاً، بواسطة الإقدام والعمل تُصبح الأمور عاديّة، ويقع الخير عادة.
[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص191.
129
ولهذه العبادة ثمرات عديدة، منها:
1- أنّ صورة العمل نفسه تُصبح على قدر من الجمال في ذلك العالَم، بحيث إنّه لا يكون له نظير في هذا العالَم، ونكون عاجزين عن تصوّر مثلها.
2- أنّ النفس تُصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة منها.
3- أنّها تجعل الإنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فيتوجّه القلب إلى مالك الملوك، وتحصل المحبّة لجمال المحبوب الحقيقيّ، ويقلّ تعلّق القلب وحبّه للدنيا والآخرة. وإذا حصلت الجذبة الإلهيّة، أمكن عندها إدراك حقيقة العبادة والسرّ الحقيقيّ للتذكّر والتفكّر، ولسقط كلا العالمين، الدنيا والآخرة، من نظره، ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الاثنينيّة من القلب، ولا يعرف أحد سوى الله الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد.
وكما أنّ عزم الإنسان يقوى بواسطة الرياضات الشرعيّة والعبادات والمناسك وترك المشتهيات، فإنّه بواسطة المعاصي تتغلّب الطبيعة لديه، وتضعف إرادته وعزمه.
نصيحة أخيرة
إذاً يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلّق والحبّ، وأدركت أنّ ذلك يُفضي بالإنسان إلى الهلاك، ويُجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطربتين، فشمّر عن ساعد الهمّة والجدّ، وقلّل -بحسب قدرتك- من تعلّق القلب بهذه الدنيا، واقتلع جذور حبّها، واحتقر هذه الأيّام القليلة التي تقضيها في هذه الحياة، وازهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من الله أن يُعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك آنساً بدار كرامته -عزّ وجلّ-: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[1].
[1] سورة الشورى، الآية 36.
130
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ الرغبة في الدنيا سبب للاحتجاب عن الحقّ تعالى، وللحرمان من السلوك إلى الله. والمقصود من الدنيا كلّ ما يُشغل الإنسان عن الحقّ تعالى.
2- عرَّف الإمام الصادق عليه السلام الزهد، بأنّه مفتاح باب الآخرة والبراءة من النّار، وهو ترك كلّ شيء يَشغَلُكَ عن الله -تعالى-، من غير تأَسُّفٍ على فَوْتِهَا.
3- من المفاسد الكبيرة لحبّ الدنيا أنّه إذا انطبع حبّ الدنيا في قلب الإنسان واشتدّ الأنس بها، قد يُغادر الدنيا مغتاظاً ساخطاً على وليّ نعمته.
4- إنّ حبّ الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبديّ، وهو أصل البلايا والسيّئات، الباطنيّة والظاهريّة، ويُعدُّ التعلّق بالدنيا نفسه معصية، وهو مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر والبرزخ.
5- من مفاسد حبّ الدنيا والتعلّق بها، خوف الإنسان من الموت. وهذا الخوف يختلف عن الخوف من المرجع والآخرة المذكور ضمن صفات المؤمنين.
6- إنَّ حبّ الدنيا يمنع الإنسان من الرياضات الشرعيّة والعبادات والمناسك، ويقوّي جانب الطبيعة في الإنسان، بحيث يجعله يعصي ويتمرّد، وبالتالي يوهن عزم الإنسان وإرادته.
7- من الفضائل والأسرار الشاقّة والصعبة للعبادات تحقّق تسخير ملك الجسم للملكوت، حيث يصير بذلك الإنسان ذا عزم، ويتغلّب على الطبيعة والملك.
8- إنّ نظام عالَم الآخرة كلّه قائم على الأسباب والمسبّبات. وإنّ نفوذ الإرادة يجب أن يتهيّأ من هذا العالَم، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وهذا العالَم مادّة لنِعم الجنّة ونِقَمِ النار كافّة.
9- إنّ لكلّ عبادة من العبادات أثراً يحصل في النفس، فعزم الإنسان يَقوَى بواسطة الرياضات الشرعيّة والعبادات والمناسك وترك المشتهيات، كما أنّه بواسطة المعاصي تتغلّب الطبيعة لدي الإنسان، وتضعف إرادته وعزمه.
131
الدرس الثاني عشر
كراهة الموت
والخوف من الآخرة
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يميّز بين درجات الناس في الخوف من الموت.
2. يذكر أنَّ الإنسان بأعماله في الدنيا يبني جنّته أو ناره.
3. يشرح كيف يُصبح الاتّكال على رحمة الله مانعاً عن العمل الصالح.
133
حديث في كراهة الموت
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: جاء رجل إلى أبي ذرّ، فقال: "يا أبا ذر، ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنّكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فتكرهون أن تُنقلوا من عمران إلى خراب، فقال: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أمّا المحسن منكم، فكالغائب يقدم على أهـله، وأمّا المسيء منكم، فكالآبق يردّ على مولاه، قال: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إنّ الله يقول: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾[1]، فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين"[2].
درجات الناس في الخوف من الموت
إنّ الناس يختلفون كثيراً في كراهية الموت والخوف منه، كما أنّهم يختلفون في مناشئ هذه الكراهية. وما ذكره أبو ذرّ -رضوان الله تعالى عليه- في الرواية المذكورة، مرتبط بالمتوسّطين من الناس. ونحن نذكر إجمالاً حال الناقصين والكاملين:
1- خوف الناقصين من الموت:
لا بدّ أن نعرف بأنّ كراهيّتنا للموت وخوفنا منه نحن الناقصين، هو لأجل أنّ الإنسان، بحسب فطرته التي فطره الله عليها، وجبلّـته الأصيلة، يُحبّ البقاء والحياة، وينفر من الموت والفناء. وهذا يرتبط بالبقاء المطلق والحياة الدائمة السرمديّة، أي البقاء الذي لا فناء فيه، والحياة التي لا زوال فيها.
[1] سورة الانفطار، الآيتان 13-14.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص458.
135
وإنّ بعض كبار العرفاء قد أثبتوا المعاد بواسطة هذه الفطرة، ببيان يوجب ذكره هنا الخروج عن المقصود. وحيث إنّ في فطرة الإنسان هذا الحبّ وذلك التنفّر، فإنّه يُحبّ ويعشق ما يرى فيه البقاء، ويُحبّ ويعشق العالَم الذي يرى فيه الحياة الخالدة، ويهرب من العالَم الذي يُقابله. وحيث إنّنا لا نؤمن بعالَم الآخرة، ولا تطمئنّ قلوبنا بالحياة الأزليّة، والبقاء السرمديّ لذلك العالَم، فإنّنا نُحبّ هذا العالَم، ونهرب من الموت بحسب تلك الفطرة والجبلّة.
الإدراك والإذعان العقليّ يختلف عن الإيمان والاطمئنان القلبيّ، فنحن نُدرك بالعقل أو نُصدّق أحاديث الأنبياء بالتعبّد بأنّ الموت - الذي هو حالة انتقال من النشأة النازلة المظلمة الملكيّة إلى عالم آخر، هو عالم الحياة النورانيّة الدائمة ونشأة البقاء الملكوتيّة - حقّ، ولكن قلوبنا لا تحظى بشيء من هذه المعرفة، ولا علم لها بذلك، بل إنّ قلوبنا قد أخلدت إلى أرض الطبيعة، النشأة الملكيّة، ونعتبر أنّ الحياة هي هذه الحياة النازلة الحيوانيّة الملكيّة، ولا نرى بقاء وحياة للعالَم الآخر، وهو عالَم الآخرة ودار الحيوان.
ولذا، نركن إلى هذا العالَم المادّيّ ونعتمد عليه، ونخاف ونهرب وننفر من ذلك العالَم. إنّ شقاءنا كلّه، سببه النقص في الإيمان بيوم القيامة وعدم الاطمئنان بعالَم الآخرة. فلو أنّنا آمنّا بعالَم الآخرة والحياة الأبديّة، عُشر إيماننا واطمئناننا بالحياة الدنيويّة وبقائها، لتعلّقت قلوبنا بذلك العالَم أكثر، ولعشقناه، ولسعينا قليلاً في إصلاح الطريق وترميمه. ولكن، من المؤسف أنّ إيماننا بالآخرة قد نضب من قلوبنا، وأنّ يقيننا متزلزل، فلا بدّ أن نخاف إذاً من الفناء والزوال. وعليه، ينحصر العلاج الحاسم في إدخال الإيمان إلى القلب، عبر التفكّر والذكر النافع والعلم والعمل الصالح.
2- خوف المتوسّطين من الموت:
وأمّا الخوف وكراهة المتوسّطين للموت، أي الذين لم يحصلوا على الإيمان المطلوب بعالَم الآخرة، فلأنّ قلوبهم قد انشدّت نحو تعمير الدنيا وغفلت عن تعمير الآخرة، لذا فهم لا يرغبون في الانتقال من مكان فيه عمران إلى مكان فيه الخراب، كما ذكر أبو ذرّ
136
الغفاريّ (رضي الله عنه). وهذا أيضاً سببه نقص الإيمان والاطمئنان. أمّا لو كان إيمان الإنسان كاملاً، فلا يسمح لنفسه بأن يشتغل بأموره الدنيويّة المنحطّة، ويغفل عن بناء الآخرة. وملخّص الكلام، أنّ كلّ هذه الوحشة والكراهية والخوف تكون نتيجة لبطلان أعمالنا، واعوجاج سلوكنا ومخالفتنا لمولانا، في حين أنّه لو كان نهجنا صحيحاً، وكنّا نقوم بمحاسبة أنفسنا، لما استوحشنا من الحساب، لأنّ المحاسبة هناك عادلة، والمحاسِب عادل، فخوفنا من الحساب لأجل سوء أعمالنا وتزويرنا واحتيالنا، وليس من أجل المحاسبة.
فعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال: "ليس منّا من لم يُحاسب نفسه في كلّ يوم، فإنْ عمل حسناً استزاد، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه، وتاب إليه"[1].
فلو حاسبتَ نفسك، لن تكون مبتئساً يوم الحساب، ولن تُصاب بالخوف منه. وهكذا، فإنّ جميع المهالك والمواقف في ذلك العالَم تكون نتيجة أعمالنا في هذا العالَم.
مثلاً: إذا انتهجت في هذا العالَم صراط النبوّة والطريق المستقيم للولاية، ولم تنحرف عن جادّة ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ولم تنزلق أقدامك، لما كان عليك بأس عند اجتيازك للصراط في يوم القيامة، لأنّ حقيقة الصراط هي الصورة الباطنيّة للولاية. كما ورد في الأحاديث الشريفة "أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الصراط"[2]، وفي حديث آخر: "نحن الصراط المستقيم"[3]، وفي الزيارة المباركة الجامعة الكبيرة: "أنتم السبيل الأعظم، والصراط الأقوم"[4].
فمن كان مستقيماً في حركته على هذا الصراط، ولم يضطرب قلبه، كانت قدماه ثابتتين على الصراط في الحياة الآخرة، ولم تضطربا، بل يجتازه كالبرق الخاطف. وهكذا، إذا كانت
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص453.
[2] عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "الصراط المستقيم أمير المؤمين عليّ عليه السلام"، راجع: الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ج2، ص32.
[3] عن الإمام زين العابدين عليه السلام، قال: "ليس بين الله وبين حجّته حجاب، فلا لله دون حُجَّته سِتْرٌ نحن أبواب اللهِ ونحن الصّراطُ الْمستقيم ونحن عَيْبَةُ علمه ونحن تَرَاجِمَةُ وَحْيِهِ ونحن أركان تَوحِيده ونَحن موْضِعُ سِرِّه"، راجع: الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص35.
[4] الصدوق، الشيخ محمد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج2، ص372.
137
أخلاقه طيّبة، وملكاته عادلة ونورانيّة، فإنّه سيكون في مأمن من ظلمة القبر ووحشته، وعالم البرزخ ومخاوفه، وعالم القيامة وأهواله، فلا يكون عليه خوف في تلك النشآت. وعليه، يكون الداء منّا والدواء أيضاً، كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في الأبيات المنسوبة إليه: "دواؤك فيك وما تشعر، وداؤك منك وما تُبصر"[1].
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لرجل: "إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّـن لك الداء، وعُـرِّفْت آية الصحّة، ودُلِلت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك"[2].
أيّها الإنسان، فيك أعمال وأخلاق وعقائد فاسدة، وعلامات الصحّة هي وصفات الأنبياء وأنوار الفطرة والعقل، ودواء إصلاح النفوس هو الإقدام على تصفيتها وتهذيبها، هذا هو حال المتوسّطين.
3- خوف المؤمنين الكمّل من الموت:
وأمّا الكمّـل والمؤمنون المطمئنّون، فإنّهم لا يكرهون الموت، ولكنّهم يستوحشونه ويخافونه، لأنّهم يخشون الحقّ – تعالى -، وجلال ذاته المقدّسة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فأين هول المطّلع؟"[3]. وكان أمير المؤمنين عليه السلام في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان في حالة عجيبة من الذهول والخوف، مع أنّه يقول: "والله، لابن أبي طالب آنس بالموت، من الطفل بثدي أمّه"[4].
وملخّص الحديث، أنّ خوف هؤلاء يكون من أمور أخرى، ولا يكون من نوع خوفنا نحن المصفـّدين بالآمال والأماني، والمحبّين للدنيا الفانية. وإنّ قلوب أولياء الله في منتهى الاختلاف فيما بينها، حتّى أنّه لا يُمكن عدّ هذه المراتب وإحصاؤها. ونُشير إلى بعضها بصورة مجملة، فنقول:
[1] الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، مكتبة الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام العامة، إيران - أصفهان، 1406ه، ط1، ج2، ص319.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص454.
[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص201.
[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، خطبة 5.
138
إنّ قلوب الأولياء مختلفة فيما بينها في قبول تجلّيات الأسماء:
أ- بعض القلوب عشقيّ وشوقيّ، حيث إنّ الحقّ - تعالى - يتجلّى في تلك القلوب، من خلال أسمائه الجماليّة. وهذا التجلّي يبعث على الخوف والهيبة الممزوجة بالشوق، فالخوف عند هذه الفئة يكون من مضاعفات تجلّي عظمة الله -سبحانه -. فالقلب الواله العاشق، في الوقت نفسه الذي يكون فيه مضطرباً حين اللقاء مع الحبيب، يكون مستوحشاً وخائفاً أيضاً، لكنّ هذا الخوف والوحشة يختلفان عن المخاوف العاديّة.
ب- وبعض القلوب خوفيّ وحزنيّ، والحقّ - تعالى - يتجلّى في تلك القلوب بواسطة الأسماء الجلاليّة والعظمة، فيحصل بهذا التجلّي الهيمان والحبس المشوب بالخوف، والحيرة المشوبة بالحزن.
وفي الحديث: "أنّ يحيى وعيسى عليهما السلام تفاوضا، فقال يحيى لعيسى كالمعاتب له - لبسطه -: كأنّك قد أمنت مكر الله وعذابه؟ فقال له عيسى: كأنّك آيست من فضل الله ورحمته؟ فأوحى الله إليهما: إنّ أَحبّكما إليَّ أحسنكما ظنّاً بي"[1].
لأنّ الحق - تعالى - تجلّى في قلب يحيى عليه السلام من خلال الأسماء الجلاليّة، كان خائفاً، فعاتب النبيّ عيسى عليه السلام على هذا النحو، أمّا النبيّ عيسى عليه السلام فقد تجلّى الله -تعالى- على قلبه بالأسماء الجماليّة، فكان جوابه عليه السلام على حسب تلك التجلّيات.
الإنسان يبني جنّته أو ناره!
إنّ ظاهر الحديث الذي ذكرناه عندما يقول: "عمّرتم الدنيا وأخربتم الآخرة"، هو أنّ دار الآخرة والجنّة مشيّدة وقائمة، وإنّما تتهدّم بأعمالنا.
ومن الواضح أنّ المقصود، من قوله: "عمّـرتم الدنيا وأخربتم الآخرة"، هو التشابه في التعبير، فإنّه لما عـّبر عن الدنيا بالتعمير، عـبّر عن دار الآخرة بالتخريب.
[1] صدر الدين القونوي، محمد بن إسحاق، الفكوك في أسرار مستندات حكم الفصوص، انتشارات مولى، 1413هـ.ق - 1371 ش، ط1، ص293.
139
وإنّ عالم الجنّة والنار، وإن كانا مخلوقين، ولكنّ إعمار دار الجنّة وموادّ بناء جهنّم تابعة لأعمال أهلها، ففي رواية أنّ أرض الجنّة جرداء وموادّ بنائها هي أعمال بني الإنسان نفسها. وهذا يتطابق مع البرهان وكشف أهل المكاشفة.
كما يقول بعض العرفاء المحقّقين: "اعلم - عصمنا الله وإيّاك - أنّ جهنّم من أعظم المخلوقات، وهي سجن الله في الآخرة. وإنّما سُمّيت بجهنّم لبعد قعرها، حيث يُقال للبئر البعيد الغور والعميق: بئر جهنّم. وهي تحتوي على حرارة وزمهرير (أي البرودة)، وتكون برودتها من أقصى درجات البرودة وحرارتها من أقصى درجات الحرارة، وتُعتبر المسافة بين أعلاها وأسفلها مسيرة سبعمئة وخمسين عاماً. والناس اختلفوا في أنّ جهنّم مخلوقة أم غير مخلوقة، أمّا عندنا وعند أصحابنا من أهل المكاشفة والمعرفة، فإنّ الجنّة وجهنّم مخلوقتان وغير مخلوقتين، أمّا أنّهما مخلوقتان، فإنّ مثلهما مثل رجل بنى بيتاً وأقام الجدار الخارجيّ، فصار يُقال له بيت. ولكن إذا دخلنا المنزل لم نجد شيئاً سوى سوره وحائطه الذي يصون البيت من الخارج، ولكن بعد ذلك يشيّد البيت حسب طلب الساكنين، من بناء الغرف والمرافق والملاجئ، وحسب هدف صاحب المنزل وما ينبغي أن يكون فيه"[1].
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة، فرأيت فيها قيعان، ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وربّما أمسكوا، فقلتُ لهم: ما بالكم قد أمسكتم؟ فقالوا: تجيئنا النفقة. فقلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، فإذا قال بنينا، وإذا سكت أمسكنا"[2].
وخلاصة الحديث، أنّ صورة الجنّة وجهنّم الجسمانيّتين هي صور الأعمال والأفعال الحسنة والسيئة لبني آدم، حيث ترجع إليهم في ذلك العالَم، كما أشارت إلى ذلك الآية
[1] ابن عربي، محمد بن علي، الفتوحات المكيّة، تحقيق وتقديم د.عثمان يحيى، تصدير ومراجعة د. إبراهيم مدكور، لا.م، لا.ن، 1392 - 1972م، لا.ط، ج4، ص366.
[2] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص177.
140
الشريفة في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾[1]، وقوله عليه السلام: "إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم"[2].
ومن الممكن أن يكون عالَم الجنّة وعالَم جهنّم نشأتين ودارين مستقلّين، يتحرّك إليهما بنو آدم بالحركة الجوهريّة، والدوافع الملكوتيّة والحركات الإداريّة العمليّة والخلقيّة، وإن كانت حظوظ كلّ واحد منهم نابعة من صور أعماله. وعلى أيّ حال، فإنّ الجنّة هي عالم الملكوت الأعلى، وهو عالَم مستقلّ تُساق إليه النفوس السعيدة، وجهنّم عالم الملكوت السفليّ الذي تُساق إليه النفوس الشقيّة، وما يعود إلى الإنسان في كلتا النشأتين من الصور البهيّة الحسنة أو الصور المؤلمة المدهشة، مردّه إلى أعمال الإنسان نفسه.
كيف يُصبح الاتّكال على رحمة الله مانعاً عن العمل الصالح؟
لا يخفى أنّ حديث أبي ذرّ - رضوان الله تعالى عليه - حديث جامع وكلام متين، لا بدّ من المحافظة عليه، فإنّ أبا ذر لمّا قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب الكريم، حيث يقول: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾[3]، تمسّك الرجل بالرحمة، قائلاً: فأين رحمة الله؟ فقال أبو ذرّ: لا تكون رحمة الحقّ من دون قيد ولا شرط، بل هي قريبة من المحسنين.
إنّ الشيطان الملعون، والنفس الأمّارة بالسوء، يُغرّران الإنسان عبر طرق كثيرة، ويقودانه إلى الهلاك الأبديّ الدائم. وآخر وسيلة يلتجآن إليها، هي تغرير الإنسان برحمة الحقّ سبحانه، ومنعه بذلك عن المضيّ في العمل الصالح. وهذا الاتكال على الرحمة من مكائد الشيطان وأساليب تضليله.
والدليل على ذلك، أنّنا في قضايانا الدنيويّة، لا نعتمد على رحمة الحقّ سبحانه، بل نرى العوامل الطبيعيّة والظاهريّة، مستقلّة وفعـّالة، وكأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الأسباب
[1] سورة الكهف، الآية 49.
[2] المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الحكايات، تحقيق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414 - 1993م، ط2، ص85.
[3] سورة الإنفطار، الآيتان 13 - 14.
141
الظاهريّة. ولكنّنا في الأمور الأخرويّة، غالباً ما نتّكل، وبحسب زعمنا، على رحمة الحقّ سبحانه، ونغفل عن أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مدّعين أنّ الله تعالى لم يزوّدنا بالقدرة على العمل، ولم يُعـلّمنا طريق الصواب والخطأ.
وخلاصة الكلام، أنّنا في شؤوننا الدنيويّة نكون من أتباع مسلك التفويض، وفي شؤوننا الأخرويّة من الجبريّين، غافلين عن أنّ هذين المسلكين باطلان وفاسدان ومخالفان لأوامر الأنبياء وإرشاداتهم عليهم السلام-، ومنهج أئمّة الهدى والأولياء المقرّبين.
وهم مع أنّهم كانوا جميعاً يؤمنون برحمة الحقّ، وكان إيمانهم أشدّ وأقوى من الجميع، إلّا أنّهم لم يغفلوا لحظة واحدة عن أداء واجبهم، ولم يتوقّفوا عن السعي وبذل الجهد دقيقة واحدة.
أخي، ادرس صحائف أعمالهم، لاحظ أدعية سيّد الساجدين وزين العابدين عليه السلام ومناجاته، وتدبّر فيما كان يفعله في مقام العبوديّة، وكيف كان ينهض بوظيفة العبوديّة أمام الله تعالى، ومع ذلك عندما يُلقي سيّد الساجدين نظرة على صحيفة مولى المتّقين وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، يُبدي أسفه، ويُظهر عجزه![1].
فنحن، إمّا نُكذّبهم - نعوذ بالله - فنقول بأنّهم لم يطمئنوا برحمة الحقّ سبحانه مثلنا، أو نُكذّب أنفسنا، ونفهم بأنّ هذه الأقوال التي نتفوّه بها هي من مكائد الشيطان وإغراءات النفس، حيث يُريدان تضليلنا عن الصراط المستقيم. نعوذ بالله من شرّهما.
نصيحة أخيرة
فيا أيّها العزيز، كما قال أبو ذرّ للرجل، إنّ العلم كثير، ولكنّ العلم النافع لأمثالنا هو أن لا نُسيء إلى أنفسنا، وأن نعرف بأنّ أوامر الأنبياء والأولياء عليهم السلام تكشف عن حقائق، نحن محجوبون عنها. إنّهم يعلمون بأنّ للأخلاق الذميمة والأعمال السيّئة صوراً بشعة وثماراً فاسدة، وأنّ للأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة صوراً جميلة ملكوتيّة.
[1] الإربلي، الشيخ علي بن أبي الفتح، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، دار الأضواء، لبنان - بيروت، 1405ه - 1985م، ط2، ج2، ص85.
142
إنّهم حدّثونا عن كلّ شيء، عن الدواء والعلاج، وعن الداء والسقم. فإذا كنت عطوفاً على نفسك، فلا بدّ وأن لا تتجاوز هذه الإرشادات، بل تستفيد منها لتُداوي ألمك، وتُعالج مرضك. يعلم الله أنّه إذا انتقلنا مع ما نحن عليه الآن إلى ذلك العالَم، فبأيّ مصائب وآلام ومعاناة سوف نُبتلى!.
143
المفاهيم الرئيسة
1- يختلف الناس كثيراً في كراهية الموت والخوف منه، كما أنّهم يختلفون في مناشئ هذه الكراهية.
2- إنّ كراهية الناقصين للموت وخوفهم منه، هي لأجل أنّ الإنسان، بحسب فطرته التي فطره الله عليها، وجبلّـته الأصيلة، يُحبّ البقاء والحياة، وينفر من الموت والفناء. والعلاج الحاسم يكمن في إدخال الإيمان إلى القلب عبر التفكّر والذكر النافع والعلم والعمل الصالح.
3- إنَّ خوف وكراهة المتوسّطين للموت، منشؤه عدم الحصول على الإيمان المطلوب بعالَم الآخرة، ولأنّ قلوبهم قد انشدّت نحو تعمير الدنيا وغفلت عن تعمير الآخرة، وهذا سببه نقص الإيمان والاطمئنان. ودواء إصلاح النفوس هو الإقدام على تصفيتها وتهذيبها.
4- إنّ الوحشة والكراهية والخوف من الموت، تكون نتيجة لبطلان أعمالنا، واعوجاج سلوكنا ومخالفتنا لمولانا، في حين أنّه لو كان نهجنا صحيحاً وكنّا نقوم بمحاسبة أنفسنا لما استوحشنا من الحساب.
5- إنَّ الكُمّـل والمؤمنين المطمئنّين،لا يكرهون الموت، ولكنّهم يستوحشونه ويخافونه، لأنّهم يخشون الحقّ -تعالى-، وجلال ذاته المقدّسة.
6- إنّ قلوب الأولياء مختلفة فيما بينها في قبول تجلّيات الأسماء، فبعض القلوب عشقيّ وشوقيّ، وبعض القلوب خوفيّ وحزنيّ، والحقّ - تعالى - يتجلّى في تلك القلوب بواسطة الأسماء الجلاليّة والعظمة، فيحصل بهذا التجلّي الهيمان والحبّ، والحيرة المشوبة بالحزن.
7- إنّ الجنّة هي عالم الملكوت الأعلى، وهو عالَم مستقلّ تُساق إليه النفوس السعيدة، وجهنّم عالم الملكوت السفليّ الذي تُساق إليه النفوس الشقيّة. وما يعود إلى الإنسان في كلتا النشأتين من الصور البهيّة الحسنة أو الصور المؤلمة، مردّه إلى أعمال الإنسان نفسه.
144
8- إنّ الشيطان الملعون، والنفس الأمّارة بالسوء، يُغرّران الإنسان عبر طرق كثيرة ويقودانه إلى الهلاك، وآخر وسيلة يلتجآن إليها، هي تغرير الإنسان برحمة الحقّ – سبحانه -، ومنعه بذلك عن المضيّ في العمل الصالح. وهذا الاتّكال على الرحمة من مكائد الشيطان وأساليب تضليله.
145
الدرس الثالث عشر
ولاية أهل البيت عليهم السلام
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يستدلّ على أنَّ ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في صحّة الإيمان.
2. يعدّد صفات الشيعة على ضوء كلام المعصومين عليهم السلام.
3. يبيّن أنّ الورع والعمل الصالح هما الركيزتان لنجاة الإنسان.
14
حديث في ولاية أهل البيت عليهم السلام
عن محمد بن مارد أنه قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: حديث روي لنا أنّك قُلتَ: إذا عرفتَ[1] فاعمل ما شئت، فقال: قد قُلتُ ذلك. قُلتُ: وإن زنوا؟! وإن سرقوا؟! وإن شربوا الخمر؟! فقال لي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله ما أنصفونا أن نكون أُخذنا بالعمل ووُضع عنهم[2]، إنّما قُلتُ: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، فإنّه يُقبل منك"[3].
ولاية أهل البيت شرط في صحّة الإيمان
إن ما مرَّ في ذيل الحديث الشريف من أنّ ولاية أهل البيت عليهم السلام ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال، يُعتبر من الأمور المسلّمة، بل تكون من ضروريّات مذهب التشيّع المقدّس.
الأخبار في هذا الموضوع أكبر من طاقة مثل هذه الكتب المختصرة على استيعابها، وأكثر من حجم التواتر، ويتبرّك هذا الكتاب بذكر بعض تلك الأخبار.
عن أبي جعفر عليه السلام قال: "ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه، وباب الأشياء ورضا الرحمن، الطاعة للإمام بعد معرفته..، أمّا لو أنّ الرجل قام ليله، وصام نهاره، وتصدّق بجميع ماله، وحجّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله، فيواليه، وتكون جميع أعماله
[1] مقصود الإمام من "إذا عرفت"، أي عرفت الإمام عليه السلام.
[2] مقصود الإمام عليه السلام، أنّهم لم ينصفونا في أن نكون مكلّفين ومأخوذين على التكليف، وهم لأجل عقيدتهم فينا لم يكلّفوا، ولم يؤخذوا على أعمالهم.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص464.
149
بدلالته إليه، ما كان له على الله حقّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان"[1].
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "من لم يأتِ الله -عزّ وجلّ- يوم القيامة بما أنتم عليه، لم يتقبّل منه حسنة ولم يتجاوز له سيّئة"[2].
وعن أبي عبد الله عليه السلام في حديث، قال: "والله، لو أنّ إبليس - لعنه الله - سجد لله بعد المعصية والتكبّر عُمر الدنيا ما نفعه ذلك، ولا قبله الله، ما لم يسجد لآدم كما أمرَه الله عزّ وجلّ أن يسجد له، وكذلك هذه الأمّة العاصية المفتونة، بعد تركهم الإمام الذي نصّبه نبيّهم لهم، فلن يقبل الله لهم عملاً، ولن يرفع لهم حسنة، حتّى يأتوا الله من حيث أمرَهم، ويتولّوا الإمام الذي أمرهم الله بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم"[3].
والأخبار في هذا الموضوع وبهذا المضمون كثيرة، ويُستفاد من مجموعها أنّ ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله -سبحانه-، بل هي شرط في قبول الإيمان بالله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أمّا كونها شرطاً في صحّة الأعمال فهو غير معلوم، كما يقول بذلك بعض الأعلام، بل الظاهر أنّها ليست بشرط في صحّة الأعمال، كما يُستفاد ذلك من الروايات الكثيرة مثل الروايات المذكورة في باب عدم وجوب قضاء المخالف عبادته إذا استبصر.
فعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث، قال: "كلّ عمل عمله، وهو في حال نُصِبه[4] وضلالته، ثمّ منَّ الله عليه وعرّفه الولاية، فإنّه يؤجر عليه، إلّا الزكاة فإنّه يُعيدها، لأنّه وضعها في غير موضَعها، لأنّها لأهل الولاية، وأمّا الصلاة والحجّ والصيام، فليس عليه قضاءٌ"[5].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص19.
[2] المصدر نفسه، ص34.
[3] المصدر نفسه، ص271.
[4] نُصِبه: عداوته لأهل البيت عليهم السلام.
[5] الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن، الاستبصار، تحقيق وتعليق السيد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة - طهران، 1363ش، ط4، ج2، ص145.
150
وفي رواية أخرى، عن محمد بن حكيم، قال: كُنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه كوفيّان كانا زيديّين، فقالا: إنّا كنّا نقول بقول، وإنّ الله منَّ علينا بولايتك، فهل يُقبل شيء من أعمالنا؟ فقال: "أمّا الصلاة والصوم والصدقة، فإنّ الله يتبعُكُما ذلك ويلحَقُ بكما، وأمّا الزكاة فلا، لأنّكما أبعدتما حقّ امرئٍ مسلم، وأعطيتماه غيره"[1].
وفي بعض الروايات: تُعرض أعمال الناس في كلّ يوم خميس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيؤجّل النظر فيها حتى يوم عرفة، وفي ذلك اليوم يلقي - صلوات الله وسلامه عليه - نظرة عليه ويجعل أعماله هباءً منثوراً. قيل: أعمال أيّ شخص تتحوّل كذلك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أعمال مبغضينا ومبغضي شيعتنا"[2]. وهذه الرواية تدلّ على أنّ الولاية شرط في قبول الأعمال، كما هو واضح.
التقوى والطاعة من صفات الشيعة الأساس
إنّ من يُراجع الأخبار المأثورة في ترجمة حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليهم السلام، وكيفيّة عبادتهم وبذلهم الجهد فيها، وفي تضرّعهم وبكائهم وذلّهم ومسكنتهم وخشيتهم وحزنهم أمام ساحة قدس ربّ العزّة، وفي كيفيّة مناجاتهم بين يدي قاضي الحاجات، لوجدها أوسع من التواتر وأكثر من المئات.
وهكذا، إذا راجع وصايا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ووصايا الأئمّة، بعضهم لبعض، ووصاياهم للخواصّ من شيعتهم، والخلّص من مواليهم، ووصاياهم البليغة جدّاً التي كانوا يوصون بها محبّيهم، ويُحذّرونهم من معصية الله -تعالى- والتأكيد عليهم في الابتعاد عن مخالفة الله – سبحانه - في أصول الأحكام وفروعها، والمدوّنة في كتب الأخبار، إذا راجع تلك الأحاديث وهذه الوصايا، لحصل له علم قطعيّ بأنّ بعض الروايات التي يتنافى ظاهرها مع تلك الأحاديث لم يكن هذا الظاهر مقصوداً، فإن أمكن تأويل هذه
[1] الحرّ العامليّ، الشيخ محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1414ه، ط2، ج1، ص127.
[2] الصفار، محمد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، إيران - طهران، 1404ه - 1362ش، لا.ط، ص446.
151
الأخبار بصورة لا تتضارب مع تلك الأحاديث الصريحة القطعيّة التي تُعتبر من ضروريّات الدِّين، لأخذنا بالتأويل، وإذا أمكن الجمع بين هاتين الطائفتين على أساس الجمع العرفيّ بين الروايات، لقمنا بهذا الجمع، وإن لم يُمكن التأويل ولا الجمع العرفيّ، أرجعنا علمها إلى قائلها.
صفات الشيعة في كلام المعصومين عليهم السلام
ونحن لا نستطيع في هذا الكتاب أن نستعرض جميع تلك الأخبار أو عُشراً من أعشارها، ونُبيّن كيفيّة التوفيق والجمع بينها، ولكنّنا نضطرّ لذكر بعض الروايات من الطائفتين، حتّى تتّضح حقيقة الحال.
والروايات التي تتحدّث عن هذا المضمون والتي تستعرض علامات الشيعة كثيرة، منها:
ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إيّاك والسّفلة! فإنّما شيعة عليّ عليه السلام من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهادُه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك، فأولئك شيعة جعفر"[1].
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "شيعتنا هم الشاحبون الذابلون الناحلون، الذين إذا جنّهم الليل استقبلوه بحزن"[2].
وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال لخيثمة: "أبلغ شيعتنا، إنّا لا نُغني من الله شيئاً، وأبلغ شيعتنا أنّه لا يُنال ما عند الله إلا بالعمل، وأبلغ شيعتنا أنّ أعظم الناس حسرة يوم القيامة، من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره، وأبلغ شيعتنا أنّهم إذا قاموا بما أُمروا، إنّهم هم الفائزون يوم القيامة"[3].
وعن أبي جعفر عليه السلام قال أيضاً: "لا تذهب بكم المذاهب، فوالله، ما شيعتنا إلّا من أطاع الله"[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص233.
[2] المصدر نفسه.
[3] الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص380.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص74.
152
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: "يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه...، قال: فاتّقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله ولا بين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله -تعالى- وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله، ما نتقرَّب إلى الله -تعالى- إلّا بالطاعة، ما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحدٍ من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"[1].
وعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "يا معشر الشيعة -شيعة آل محمد-، كونوا النمرقة الوسطى، يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التّالي. فقال له رجل من الأنصار، يُقال له سعد: جُعلت فداك! ما الغالي؟ قال عليه السلام: قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منّا، ولسنا منهم. قال: فما التّالي؟ قال عليه السلام: المرتاد يريد الخيرَ، يبُلِّغهُ الخيرَ، يُوجَرُ عليه. ثم أقبل عليه السلام علينا فقال: والله، ما معنا براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا نتقرّب إلى الله إلّا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغترّوا! ويحكم لا تغترّوا!"[2].
وعن أبي جعفر عليه السلام، أنّه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطّلب، إنّي رسول الله إليكم، وإنّي شفيق عليكم، وإنّ لي عملي، ولكلّ رجلٍ منكم عمله. لا تقولوا: إنّ محمّداً منّا وسندخل مدخله، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبد المطّلب إلّا المتّقون. ألا فلا أَعْرِفُكُم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتون الناس يحملون الآخرة"[3].
وعنه عليه السلام أيضاً، أنّه قال: "يا جابر، لا تذهب بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أُحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعَّالاً؟! فلو قال إنّي أُحبّ رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من عليّ عليه السلام، ثمّ لا يتّبع سيرته، ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً"[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص74.
[2] المصدر نفسه، ص75.
[3] المصدر نفسه، ج8، ص182.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص74.
153
عبادة أهل البيت عليهم السلام وتقواهم
قال طاووس الفقيه: "رأيت الإمام زين العابدين عليه السلام يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فلمّا لم يرَ أحداً، رمق السماء بطرفه، وقال:
إلهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين. جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة، ثم بكى وقال: وعزّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟! وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟!
فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا وللمقلّين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي؟!
ثم بكى، وأنشأ يقول:
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي ثمّ أين محبّتي
أتيت بأعمال قباح زريّة وما في الورى خلق جنى كجنايتي
ثم بكى، وقال:
سبحانك، تُعصى كأنّك لا ترى، وتحلم كأنّك لم تُعصَ، تتودّد إلى خلقك بحسن الصَّنيع، كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت، يا سيّدي، الغنيّ عنهم، ثمّ خرَّ إلى الأرض ساجداً.
قال: فدنوت منه ورفعت رأسه، ووضعته على ركبتي وبكيت، حتّى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً، وقال: من الذي شغلني عن ذكر ربّي؟
فقلت: أنا طاووس يابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا، ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ، وأمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!
154
قال: فالتفت إليّ، وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه، ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت -قوله تعالى-: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾. والله، لا ينفع غداً إلّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح"[1].
هذه بعض الأحاديث الشريفة الصريحة في أنّ هذه الرغبات الكاذبة الموجودة فينا، نحن أهل الدنيا وأهل المعصية، هي رغبات فاسدة وباطلة، وتُعتبر من الأهواء الشيطانيّة، ومخالفة للعقل والنقل.
وتنضمّ إلى تلك الأحاديث (التي مرّ ذكرها في الفصل السابق) الآيات القرآنيّة الكريمة، مثل قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ﴾[2].
وقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[3].
وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ﴾[4].
وغيرها من الآيات الشريفة الموجودة في كلّ صفحة من الكتاب المجيد، والتي تدلّ على أنّ الورع والعمل الصالح هما الركيزتان لنجاة الإنسان. ولا مجال لتأويل هذه الأخبار والتصرّف فيها، لأنّ ذلك على خلاف الضرورة.
[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج46، ص82.
[2] سورة المدّثر، الآية 38.
[3] سورة الزلزلة، الآيتان 7 - 8.
[4] سورة البقرة، الآية 286.
155
المفاهيم الرئيسة
1- دلَّت الروايات المتواترة والكثيرة على أنَّ ولاية أهل البيت عليهم السلام ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال، بل هي شرط في قبول الإيمان بالله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتعتبر من الأمور المسلّمة، ومن ضروريّات مذهب التشيّع المقدّس.
2- كان أهل البيت عليهم السلام يوصون محبّيهم بطاعة الله، ويُحذّرونهم من معصيته تعالى ويؤكّدون عليهم الابتعاد عن مخالفة الله - سبحانه - في أصول الأحكام وفروعها.
3- ذكرت صفات الشيعة في عدّة روايات في كلام المعصومين عليهم السلام، وشدّدت الروايات على أهمية هذه الصفات، وضرورة اتّصاف الشيعة بها.
4- دلّت الآيات القرآنيّة، والروايات الشريفة على أنَّ الورع والعمل الصالح هما الركيزتان لنجاة الإنسان، مثال: الروايات التي تبيّن عبادة أهل البيت عليهم السلام ومناجاتهم وأدعيتهم.
156
الدرس الرابع عشر
شبهات حول ولاية أهل البيت عليهم السلام
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يذكر ثلاث شبهات حول ولاية أهل البيت عليهم السلام.
2. يبيّن الردّ على الشبهات الثلاث.
3. يحدّد المعيار الحقيقيّ لمحبّة أهل البيت عليهم السلام.
157
مقدّمة
تُقابل هذه الروايات التي ذكرناها في الفصل السابق، أحاديث أخرى مأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ومذكورة في الكتب المعتبرة أيضاً - كما تأتي بعد قليل - ولكن نستطيع أن نجمع بين معظم هذه الروايات وتلك الأحاديث بالجمع العرفيّ[1].
وإذا لم يكن الجمع مقبولاً أيضاً ولم يقع التأويل، فلا تستطيع هذه الأحاديث المأثورة مقاومة تلك الروايات (المذكورة في الفصل السابق) الصحيحة، الصريحة، المتواترة المؤيّدة بظاهر القرآن ونصوص الفرقان، والعقل السليم والضرورة البديهيّة لدى المسلمين، على أنّ الأساس هو العمل الصالح والورع[2]، ومن تلك الأحاديث:
الشبهة الأولى:
إنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: "الإيمان لا يضرّ معه عملٌ، وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل"[3]، وهناك روايات أخرى بهذا المضمون.
يظنّ الكاتب أنّه يُمكن تفسير هذه الأخبار، بأنّ الإيمان ينوّر القلب قليلاً، وفي درجة محدودة، فلو اقترف الإنسان خطيئة أو ذنباً عولج، ببركة ذلك النور وملكة الإيمان، هذا الإثم وتلك الجريرة، بالتوبة والرجوع إلى الله. فإنّ صاحب الإيمان بالله واليوم الآخر، لا يسمح لنفسه أن يترك أعماله إلى يوم القيامة.
[1] الجمع العرفيّ: هو الجمع بين الروايات المتعارضة، بشرط أن لا يكون التعارض مستقرّاً في نظر العرف.
[2] الورع: شدّة التقوى.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص464.
159
فهذه الأخبار، في الحقيقة، تُحفّز الإنسان على التمسّك بالإيمان، والمحافظة عليه، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
"قال موسى للخضر عليه السلام: قد تحرّمت بصحبتك، فأوصني، فقال له: الزم ما لا يضرّك معه شيء، كما لا ينفعك مع غيره شيء"[1].
وقد فسّر المحدّث الجليل المجلسيّ - عليه الرحمة -، الضرر المنفيّ في هذه الأخبار: بما يصير سبباً لدخول النار أو الخلود فيها[2].
وإذا كان المقصود بالضرر المنفيّ دخول النار، فلا منافاة بين عدم الدخول في النار حسب هذه الروايات، وتحقّق أنواع أخرى من العذاب في عالم البرزخ والمواقف المختلفة في يوم القيامة.
الشبهة الثانية:
ورواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام كثيراً ما يقول في خطبته: يا أيّها الناس، دينكم دينكم! فإنّ السيّئة فيه، خير من الحسنة في غيره، والسيّئة فيه تُغفر، والحسنة في غيره لا تُقبل"[3].
ويدلّ هذا الحديث الشريف وأمثاله من الأخبار التي تُرغّب على ملازمة الديانة الحقّة، على أنّ خطايا المؤمنين وأصحاب الدِّين الحقّ، تؤول إلى المغفرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ﴾[4].
ولهذا نستطيع أن نقول بأنّ سيّئات المؤمنين أفضل من حسنات الآخرين التي لا تُقبل أبداً، بل لعلّ الحسنات التي لا تحتوي على شرائط القبول، مثل الإيمان والولاية، تنطوي على ظلمات أكثر من الظلمات الموجودة في سيّئات المؤمنين الذين يعيشون في حال
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص464.
[2] المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، قدّم له العلم الحجّة السيّد مرتضى العسكري - إخراج ومقابلة وتصحيح السيد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلامية، 1404 ه - 1363 ش، ط2، ج11، ص396.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص464.
[4] سورة الزمر، الآية 53.
160
الخوف والرجاء نتيجة نور الإيمان المشعّ في قلوبهم.
وعلى أيّ حال، لا يدلّ هذا الحديث على أنّ أهل الإيمان لا يُحاسبون على سيّئاتهم، كما هو ظاهر.
الشبهة الثالثة:
ومن الأحاديث المشهورة، الحديث القائل: "حبُّ عليّ حسنة لا يضرُّ معها سيّئة، وبغضه سيّئة لا ينفع معها حسنة"[1]، وهذا الحديث الشريف من قبيل الأحاديث المذكورة التي وردت في الإيمان، ومعناه:
1- إمّا ما ذكره المرحوم المجلسيّ، من أنّ المقصود من الضرر المنفيّ هو الخلود في النار أو الدخول فيها، فيكون المعنى أنّ حبّ الإمام عليّ عليه السلام، الذي هو أساس الإيمان وكماله وتمامه، يوجب بواسطة شفاعة الشافعين، التخلّص من النار. وعليه، كما قُلنا، لا يتنافى هذا الاحتمال مع ألوان العذاب في عالم البرزخ.
وقد ورد في ذلك عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "والله، ما أخاف عليكم إلّا البرزخ، فأمّا إذا صار الأمر إلينا، فنحن أولى بكم"[2].
2- أو ما ذكرناه من أنّ حبّ الإمام عليّ عليه السلام يبعث في القلب النور والإيمان، وهما يُجنّبان صاحبهما الوقوع في الآثام، ويدفعانه إلى التوبة والإنابة، إذا ما ابتُلي بالمعصية، دون أن يفسح المجال أمامه للتمادي في الغيّ والعصيان.
ومن تلك الأحاديث، الأخبار الواردة في تفسير الآيات الشريفة المذكورة في سورة الفرقان، حيث قال الله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[3].
[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص197.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص242.
[3] سورة الفرقان، الآيات 68-70.
161
ونحن نقتصر على ذكر واحدة من تلك الأخبار، لأنّها جميعاً متقاربة في المضمون والمعنى، عن محمد بن مسلم الثقفيّ، قال: سألت أبا جعفر، محمد بن عليّ عليهما السلام، عن قول الله - عزّ وجلّ -: ﴿فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.
فقال عليه السلام: "يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة، حتّى يُقام بموقف الحساب، فيكون الله -تعالى- هو الذي يتولّى حسابه، لا يطّلع على حسابه أحد من الناس، فيُعرّفه ذنوبه، حتّى إذا أقرّ بسيّئاته، قال الله -عزّ وجلّ- للكتبة: بدّلوها حسنات وأظهروها للناس. فيقول الناس حينئذٍ: ما كان لهذا العبد سيئة واحدة! ثمّ يأمر به إلى الجنّة، فهذا تأويل الآية، وهي في المذنبين من شيعتنا خاصّة"[1].
والباعث على ذكر الآيات الكريمة بأسرها، هو أنّ البحث مهمّ، وأنّ كثيراً من الخطباء قد شوّهوا معنى هذه الأخبار للناس، وأنّ ربط الخبر بالآية لا يكون مفهوماً إلّا إذا ذكرنا الآية نفسها.
من يقرأ الآيات الثلاث المذكورة، من أوّلها إلى آخرها، يفهم أنّ الناس جميعاً مطوّقون بأعمالهم ويُحاسبون على قبائحها، إلّا الذين آمنوا، وتابوا من جرائرهم، وعملوا عملاً صالحاً، فكلّ من توفّرت فيه هذه الأمور الثلاثة، فاز وشملته ألطاف الله -سبحانه-، وأصبح مكرّماً أمام ساحة قدسه، فتتحوّل سيّئاته وآثامه إلى حسنات.
وقد فسّر الإمام الباقر عليه السلام الآية المباركة بهذا التفسير أيضاً، وجعل كيفيّة حساب هؤلاء الأشخاص وموقفهم يوم القيامة على الشكل الذي ذكرناه.
ومن المعلوم أنّ هذا الأمر يختصّ بشيعة أهل البيت عليهم السلام، ويحرم منه الناس الآخرون، لأنّ الإيمان لا يحصل إلّا بواسطة ولاية عليّ وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السلام، بل لا يُقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية.
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص70.
162
إذاً، لا بدّ من اعتبار هذه الآية المباركة، والأخبار التي وردت في تفسيرها، من الطائفة الأولى من الروايات، لأنّها تدلّ على أنّ الشخص، إذا كان مؤمناً، ولكن لم يحاول القضاء على سيّئاته بالتوبة والعمل الصالح، لما شملته الآية الكريمة.
المعيار الحقيقيّ لمحبّة أهل البيت عليهم السلام
يا أيّها العزيز، لا يغرّنك الشيطان، ولا تخدعنّك الأهواء النفسيّة، فمن المعلوم أنّ الإنسان الخامل المبتلى بالشهوات وحبّ الدنيا والجاه والمال، يبحث عن مبرّر لخموله، ويُقبل على كلّ ما يوافق شهواته، ويدعم رغباته النفسيّة وأوهامه الشيطانيّة، وينفتح بكلّ وجوده على مثل هذه الأخبار، التي دلّت على أنّ حبّ عليّ يوجب غفران الذنوب، وتبديل السيّئات بالحسنات وغيرها، من دون أن يفحص عن مغزاها، أو يتأمّل في الأخبار الأخر التي تُعارضها وتُقابلها.
هذا المسكين، يظنّ أن مجرّد ادّعاء التشيّع وحبّ التشيّع وحبّ أهل بيت الطهارة والعصمة، يسوّغ له اقتراف كلّ محرّم من المحظورات الشرعيّة، ويرفع عنه قلم التكليف.
إنّ هذا السيّئ الحظّ، لم ينتبه إلى أنّ الشيطان قد ألبس الأمر عليه، ويُخشى عليه في نهاية عمره أن تُسلب منه هذه المحبّة الجوفاء التي لا تُجدي ولا تنفع، ويُحشر يوم القيامة صفر اليدين، وفي صفوف نواصب أهل البيت عليهم السلام.
إنّ ادّعاء المحبّة من دون دليل وبيّنة لا يكون مقبولاً. إنّه لا يُمكن أن أكون صديقك وأُضمر لك الحبّ والإخلاص، ثم أقوم بكلّ ما هو مناقض لرغباتك وأهدافك.
إنّ شجرة المحبّة تُنتج وتُثمر، في الإنسان المحبّ، العمل حسب درجة المحبّة ومستواها، وإن لم تحمل تلك الشجرة هذه الثمرة، فلا بدّ من معرفة أنّها لم تكن محبّة حقيقيّة، وإنّما هي محبّة وهميّة.
إنّ النبيّ الأكرم وأهل بيته العظام عليهم السلام، قد بذلوا حياتهم في نشر الأحكام الشرعيّة والعقائد والأخلاق، وأرادوا في ذلك البلوغ إلى منشودهم الوحيد، وهو إبلاغ أحكام الله وإصلاح الإنسان وتهذيبه، واستساغوا في هذا السبيل الشريف أنواع السلب والقتل
163
والإذلال والإهانة، التي لحقت بهم، ولم يتوانوا في ذلك.
فمحبّو أهل البيت وشيعتهم، هم الذين يُشاركونهم في أهدافهم، ويعملون على ضوء أخبارهم وآثارهم.
إنّ ما ذُكر في الأخبار الشريفة من أنّ الإقرار باللسان والعمل بالأركان من دعائم الإيمان، هو بيان لسرّ طبيعيّ، ولسنّة الله الجارية، لأنّ حقيقة الإيمان تلازم العمل والتنفيذ.
إنّ العاشق في جوهر طبيعته، يُظهر العشق تجاه المعشوق ويتغزّل به، وإنّ المؤمن إذا لم يعمل بمتطلّبات الإيمان، وما تستدعيه محبّة الله وأوليائه، لما كان مؤمناً ومحبّاً.
وإنّ هذا الإيمان الشكليّ والمحبّة الجوفاء من دون جوهر ومضمون، سينتفي ويزول أمام حوادث بسيطة وضغوط يسيرة، فينتقل هذا المحبّ إلى دار جزاء الأعمال صفر اليدين.
164
المفاهيم الرئيسة
1- الشبهة الأولى حول الولاية التي تتعلّق بحديث الإمام الصادق عليه السلام حول الإيمان والعمل، والردّ: هذه الأخبار في الحقيقة تُحفّز الإنسان على التمسّك بالإيمان، والمحافظة عليه، وقد فسّر المحدّث الجليل المجلسيّ -عليه الرحمة- الضرر المنفيّ في هذه الأخبار، بما يصير سبباً لدخول النار أو الخلود فيها. وإذا كان المقصود بالضرر المنفيّ دخول النار، فلا منافاة بين عدم الدخول في النار حسب هذه الروايات، وتحقّق أنواع أخرى من العذاب في عالم البرزخ والمواقف المختلفة في يوم القيامة.
2- الشبهة الثانية: حول حديث الإمام الصادق عليه السلام عن السيئة والحسنة في الدين الإسلامي، ويدلّ هذا الحديث الشريف وأمثاله من الأخبار التي تُرغّب على ملازمة الديانة الحقّة، على أنّ سيّئات المؤمنين أفضل من حسنات الآخرين التي لا تُقبل أبداً لفقدانها شرط القبول، ولا يدلّ هذا الحديث على أنّ أهل الإيمان لا يُحاسبون على سيّئاتهم، كما هو ظاهر.
3- الشبهة الثالثة: حول الحديث الذي يشير إلى أن حب الإمام علي عليه السلام حسنة لا يضرّ معها سيّئة، وأنّ بغضه سيّئة لا ينفع معها حسنة. والرد: إمّا ما ذكره المرحوم المجلسيّ، من أنّ المقصود من الضرر المنفيّ هو الخلود في النار أو الدخول فيها، فيكون المعنى أنّ حبّ عليّ عليه السلام الذي هو أساس الإيمان وكماله وتمامه يوجب بواسطة شفاعة الشافعين، التخلّص من النار. وعليه، كما قُلنا، لا يتنافى هذا الاحتمال مع ألوان العذاب في عالم البرزخ، أو ما ذُكر من أنّ حبّ الإمام عليّ عليه السلام يبعث في القلب النور والإيمان، وهما يُجنّبان صاحبهما الوقوع في الآثام، ويدفعانه إلى التوبة والإنابة، إذا ما ابتُلي بالمعصية، دون أن يفسح المجال أمامه للتمادي في الغيّ والعصيان.
4- إنّ ادّعاء المحبّة من دون دليل وبيّنة لا يكون مقبولاً، فمحبّو أهل البيت وشيعتهم، هم الذين يُشاركونهم في أهدافهم، ويعملون على ضوء أخبارهم وآثارهم.
165
الدرس الخامس عشر
التوبة
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يتعرَّف إلى حقيقة التوبة.
2. يبيّن أنَّ الله - عزّ وجلّ - يحبّ التوّابين ويستر ذنوبهم.
3. يشرح أهمّية الإسراع إلى التوبة في مرحلة الشباب.
167
حديث عن التوبة
عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه، الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه؟
قال عليه السلام: "يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ثم يوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب"[1].
ما هي حقيقة التوبة؟
التوبة من المنازل المهمّة والصعبة. وهي عبارة عن الرجوع من عالم المادّة إلى روحانيّة النفس، بعد أن حجبت هذه الروحانيّة ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة من جراء الذنوب والمعاصي.
وتفصيل هذا الإجمال بإيجاز، هو أنّ النفس في بدء فطرتها خالية من كلّ أنواع الكمال والجمال والنور والبهجة، كما أنّها تكون خالية من أضداد هذه الصفات المذكورة أيضاً. فكأنّ النفس صفحة نقيّة من كلّ رسم ونقش، فلا توجد فيها الكمالات الروحيّة ولا تتّصف بالنعوت المضادّة لها.
ولكن قد أودع في هذه النفس نور الاستعداد والأهليّة لنيل أيّ مقام، وفطرت على الاستقامة، وعجنت طينتها بالأنوار الذاتيّة.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص430.
169
فإذا اجترحت النفس سيّئة ما، حصل في القلب ظلمة وسواد، وكلّما ازدادت المعاصي تضاعفت الظلمة والسواد، إلى أن يغشى الظلام والسواد القلب كلّه، فينطفئ نور الفطرة ويبلغ الإنسان مرتبة الشقاء الأبديّ.
أمّا إذا انتبه الإنسان قبل أن يستوعب الظلام قلبه كلّه، ثمّ اجتاز منزل اليقظة، ودخل في منزل التوبة، واستوفى حظوظ هذا المنزل حسب الشرائط، التي سنأتي على ذكرها إجمالاً في هذه الصفحات، زالت عندها الحالات الظلمانيّة، والكدورات الطبيعيّة، وعاد إلى الحالة الفطريّة النوريّة الأصيلة والروحانيّة الذاتيّة، وكأنّ النفس تنقلب من جديد إلى صفحة خالية من جميع الكمالات وأضدادها.
كما ورد في الحديث الشريف المشهور: "التائب من الذنب، كمن لا ذنب له"[1].
فتبيّن أنّ حقيقة التوبة، هي الرجوع من عالم الطبيعة وآثارها ومضاعفاتها إلى عالم الروحانيّة والفطرة. كما أنّ حقيقة الإنابة رجوع من الفطرة والروحانيّة إلى الله، والسفر والهجرة من بيت النفس نحو المقصد النهائيّ، والغاية الحقيقيّة، فمنزل التوبة سابق ومقدّم على منزل الإنابة، ولا يناسب تفصيل ذلك في هذا المقال.
معنى التوبة النصوح
هناك تفسيرات مختلفة في بيان المقصود من التوبة النصوح. ومن المناسب أن نذكرها بصورة مجملة، ونحن نكتفي هنا بنقل كلام المحقّق الجليل الشيخ البهائيّ[2] قدّس الله نفسه، حيث قال: "... إنّ المفسرين اختلفوا في تفسير التوبة النصوح على أقوال:
منها: إنّ المراد توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها، أو تنصح صاحبها، فيقلع عن الذنوب، ولا يعود إليها أبداً.
ومنها: أنّ النصوح، ما كانت خالصة لوجه الله – سبحانه -، فإنّ قولهم: عسل نصوح، أي ما كان خالصاً من الشمع. فيكون معنى التوبة النصوح الندم، يندم على الذنوب لقبحها،
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص435.
[2] الشيخ البهائيّ، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص332.
170
وكونها خلاف رضى الله تعالى، لا لخوف النار مثلاً. وقد حكم[1] المحقّق الطوسيّ في التجريد بأنّ الندم على الذنوب خوفاً من النار، ليس بتوبة.
ومنها: أنّ النصوح من النصاحة، وهي الخياطة، لأنّها تنصح من الدين ما مزّقته الذنوب، أو تجمع بين التائب وبين أوليائه وأحبائه، كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.
ومنها: أن النصوح وصف للتائب، وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازيّ، أي توبة تنصحون بها أنفسكم، بأن تأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه، حتّى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكامل. ويكون ذلك بإذابة النفوس بواسطة الحسرات، ومحو ظلمات القبائح بنور الأعمال الحسنة.
الله يحبّ التوّابين
أيّها الإنسان، كم أنت ظلوم جهول، ولا تقدّر نعم وليّ النعم. إنّك تعصي وتعادي سنين وسنين وليّ نعمك الذي وفّر لك كلّ الرفاه والراحة، من دون أن تعود عليه - والعياذ بالله - بجدوى وفائدة. وأنت طيلة هذه الفترة قد هتكت حرمته وطغيت عليه ولم تخجل منه أبداً. ولكن رغم ذلك كلّه، إنك إذا ندمت على ما فعلت ورجعت إليه، أحبّك - جلّ اسمه، وجعلك محبوباً له: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ﴾[2]، فما هي هذه الرحمة الواسعة والنعم الوافرة؟!
إلهي، نحن عاجزون عن شكر آلائك، وألسنة البشر وجميع الموجودات مصابة باللكنة تجاه الحمد والثناء عليك، ولا يسعنا إلا أن ننكّس رؤوسنا ونعتذر من عدم حيائنا منك. من نحن حتّى نستحقّ رحمتك؟ ولكنّ سعة رحمتك وشمول نعمتك أوسع من تقديرنا لها: "أنت كما أثنيت على نفسك"[3].
ويجب على الإنسان أن يقوّي في قلبه صورة الندامة حتّى يحترق، إن شاء الله تعالى، وذلك من خلال التفكّر في الآثار الموحشة للمعاصي وعواقبها، فيعمل على تقوية الندامة
[1] العلامة الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، مصدر سابق، ص264.
[2] سورة البقرة، الآية 222.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص324.
171
في قلبه ويضرم النار فيه على غرار ﴿نَارُ ٱللَّهِ ٱلۡمُوقَدَةُ﴾[1]، فيحرق قلبه بنار الندامة حتّى تحترق جميع المعاصي وتزول الكدورة عن القلب.
وليعلم أنه إذا لم يضرم بنفسه هذه النار في هذا العالم -أي نار الندامة- وإذا لم يوصد باب جهنّم أمامه، فإنّه إذا انتقل من هذا العالم، فسوف يكون قد هيّأ لنفسه في ذلك العالم ناراً محرقة، فتفتح عليه أبواب جهنّم، وتنسدّ بوجهه أبواب الجنّة والرحمة.
إلهي، ألهمنا صدراً محترقاً، واقذف في قلوبنا جذوة من نار الندامة، وأحرقه بهذه النار الدنيويّة، وأزل عن قلوبنا الكدر والغبرة، وأخرجنا من هذا العالم من دون مضاعفات المعاصي، إنّك وليّ النعم، وعلى كلّ شيء قدير.
الله تعالى يستر ذنوب التائبين
إنّ أهمّ وأشرف عطيّة إلهيّة تُمنح للإنسان التائب، هي أنّ الله - سبحانه وتعالى - يستر عليه فلا يفضحه، ويحجب ذنوب تلك الأيّام الخالية عن الموجودات كافّة، حتّى ملكيه الموكّلين به. فإذا بهما يكتشفان أنّ صفحة هذا الإنسان بيضاء خالية من الذنب. وهذا مردّه إلى سعة رحمة الله المطلقة، فلا يبقى للإنسان عذر أو حجّة، وهي دافع قوّي لينهي الإنسان حياته الماضية المليئة بالمعاصي، فيطوي صفحتها السوداء، وكلّه ثقة ورجاء برحمة الله العزيز الغفور، ويفتح صفحة أخرى جديدة ليبدأ حياته الحقيقيّة، حياة القرب والطاعة والوصال مع الحقّ.
من الأمور الهامّة التي لا بدّ للتائب أن يقدم عليها، اللجوء إلى مقام غفاريّة الله -تعالى- وتحصيل حال الاستغفار، والطلب من الحقّ -جلّ جلاله-، ومن مقام غفاريّة ذاته المقدّس -بلسان مقاله وحاله وفي السرّ والعلن وفي الخلوات، وبكلّ مذلّة ومسكنة وتضرّع وبكا- أن يستر عليه ذنوبه.
نعم، إنّ مقام الغفاريّة والستاريّة للذات المقدّسة يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب، لأنّ الصور الملكوتيّة للأعمال بمثابة وليد الإنسان، بل هي ألصق من ذلك.
[1] سورة الهمزة، الآية 6.
172
وإنّ حقيقة التوبة وكلمات الاستغفار بمثابة التبرّؤ.
إنّ الحقّ - تبارك وتعالى - بسبب غفاريّته وستاريّته يقطع الصلة بين وليد الإنسان (الصور الملكوتيّة للأعمال المحرّمة) والإنسان، بواسطة لعان المستغفر. ويحجب تلك المعصية عن الكائنات كلّها التي اطّلعت على أحوال الإنسان، من قبيل الملائكة، وكتاب صحائف الذنوب، والزمان والمكان، وأعضاء نفس الإنسان وجوارحه، وينسيهم جميعاً تلك المعصية. كما أشير إليه في الحديث الشريف، حيث يقول: "ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب".
ومن المحتمل أن يكون المقصود من وحيه تعالى للأعضاء والجوارح وبقاع الأرض بكتمان المعاصي - الوارد في الحديث المذكور في الفصل الأوّل - هو إنساء المعاصي، كما يحتمل أن يكون المقصود من وحيه، الأمر بعدم الإدلاء بالشهادة. ويمكن أن يكون المقصود رفع الآثار التي تركتها المعاصي على الأعضاء، والتي بها تتمّ الشهادة التكوينيّة. كما أنّه لو لم يتب لشهد كلّ عضو بلسان مقاله أو حاله على أفعاله الأثيمة.
وعلى أيّ حال، فكما أنّ مقام الغفاريّة والستاريّة اقتضى الآن، ونحن في هذا العالم، أن لا تشهد أعضاؤنا وجوارحنا ضدّنا، وأن يستر الزمان والمكان أفعالنا المشينة، كذلك في العوالم الأخرى، فإمّا أن يقتضي (مقام الغفاريّة) ستر أعمالنا عندما نرحل عن هذا العالم بتوبة صحيحة واستغفار خالص، أو أن تحجب أعمالنا بالكليّة. ولعلّ مقتضى كرامة الحقّ -جلّ وعلا - هو الثاني، بأن لا يطأطئ الإنسان التائب رأسه لأحد ولا يشعر بالعار.
الإسراع في التوبة قبل فوات الأوان
يجب الانتباه إلى نقطة هامّة، وهي أنّ الشخص التائب بعد توبته لا يستعيد الصفاء الداخليّ الروحانيّ والنور الخالص للفطرة، كما لو سوّدت صفحة بيضاء، ثمّ حاولت أن تعالج السواد وتزيله عنها، فإنّها لن تعود إلى حالتها الأولى من البياض الناصع. وكذلك الإناء المكسور، إذا أصلحناه فمن الصعب أن يعود إلى حالته السابقة. إنّه لبَون شاسع بين خليل يكون مخلصاً مع الإنسان طوال العمر، وصديق يخونك ثمّ يعتذر عن تقصيره. فضلاً
173
عن أنّه من النادر ما تجد شخصاً يستطيع القيام بوظائف التوبة بشكل صحيح.
إذاً، يجب على الإنسان أن يتجنّب - ما أمكن - ارتكاب المعاصي والذنوب، لأنّ إصلاح النفس بعد إفسادها من الأعمال الشاقّة. وإذا تورّط - لا سمح الله - في معصية ما وجب عليه بشكل عاجل التفكير في العلاج، لأنّ إصلاح الفساد القليل يتمّ بصورة أسرع وبكيفيّة أحسن.
أيّها العزيز، لا تمرّ على هذا المقام من دون مبالاة ولا اهتمام. فكّر في حالك وعاقبة أمرك، وراجع كتاب الله وأحاديث خاتم الأنبياء وأئمّة الهدى - سلام الله عليهم أجمعين -، وكلمات علماء الأمّة وأحكام العقل الوجدانيّة.
افتح على نفسك هذا الباب الذي يعدّ مفتاح الأبواب الأخرى، وادخل في هذا المقام الذي يعتبر من أهمّ المنازل الإنسانيّة بالنسبة إلينا. وكن مهتمّاً فيه، وواظب عليه، واطلب من الله عزّ وجلّ التوفيق في الوصول إلى المطلوب، واستعن بروحانيّة الرسول الأكرم وأئمّة الهدى عليهم السلام، والتجئ إلى وليّ الأمر وناموس الدهر إمام العصر عجلّ الله تعالى فرجه الشريف، وبالطبع، إنّه ينجي الضعفاء والعجزة ويعين المحتاجين.
التوبة في فترة الشباب أسهل
من أخطر مكائد إبليس والنفس الأمّارة بالسوء إيهام الإنسان ودفعه نحو التسويف وتأجيل التوبة إلى مرحلة أخرى متقدّمة من العمر، بحجّة أنّ في الوقت متّسعاً وفرصة الحياة ما زالت سانحة وطويلة، بحيث يمكننا العودة والرجوع فنتوب إلى الله -تعالى-. وهذه في الحقيقة من أسوأ أساليب النفس والشيطان الماكرة، بل وأخطرها على الإطلاق، أمّا الإنسان الواعي والفطن، فإنّه يسأل نفسه:
1- كيف أضمن لنفسي القدرة على التوبة والرجوع بعد أن تقوى جذور الذنوب في نفسي وتشتدّ؟!
2- ما الضامن على عدم حلول الموت وإدراكي للأجل المحتوم على حين غرّة، قبل حلول ذلك الموعد الذي حدّدته لنفسي للتوبة والإنابة؟!
174
3- إنّ أيّام الشباب هي أفضل أيّام التوبة، حيث تكون الذنوب أقلّ والشوائب أخفّ، فلماذا لا أستغلّ هذه الفرصة قبل أن يحل مكانها الندم؟!
على سالك طريق الهداية والنجاة، الانتباه إلى نقطة هامّة، وهي أنّ التوفيق للتوبة الصحيحة والكاملة مع توفير شرائطها من الأمور الصعبة، وقليلاً ما يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا المقصد.
بل إنّ اقتراف الذنوب، وخاصّة المعاصي الكبيرة، يجعلان الإنسان غافلاً عن ذكر التوبة نهائيّاً. وإذا ما أثمرت وقويت شجرة المعاصي في قلب الإنسان، وتحكّمت جذورها، فستكون لها نتائج وخيمة، منها: حثّ الإنسان على الانصراف كليّاً عن التفكير في التوبة، وإذا تذكّرها أحياناً، تكاسل في إجرائها وأجّلها، وقال: اليوم أو غداً، وهذا الشهر أو الشهر المقبل، ويخاطب نفسه قائلاً: إنّني أتوب آخر العمر وأيّام الشيخوخة توبة صحيحة، ولكنّ هذا الشخص غافل عن أنّ هذا مكر مع الله، ﴿وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ﴾[1].
لا يتوقّع الإنسان أنّه يستطيع بعد أن تقوى جذور الذنوب في نفسه أن يتوب أو يقوم بتوفير شروط التوبة. إنّ أفضل أيّام التوبة هي فترة أيّام الشباب، لأنّ الذنوب أقلّ وشوائب القلب وظلمات الباطل أخفّ، وشروط التوبة أسهل وأيسر. وقد يكثر في سنّ الشيخوخة حرص الإنسان وطمعه وحبّه للمال، ويزداد طول أمله، وقد أثبتت التجربة ذلك. وإذا افترضنا أنّ الإنسان استطاع القيام بهذا العمل (التوبة) في سنّ الشيخوخة، فما هو الضمان للوصول إلى سنّ الشيخوخة، وعدم إدراكه الأجل المحتوم أيّام الشباب على حين غرّة، وهو مشغول بالذنوب والعصيان؟!
إنّ انخفاض عدد المسنين دليل على أنّ الموت أقرب إلى الشباب منه إلى الشيوخ. إنّنا في المدينة التي تحتوي على خمسين ألف نسمة، لم نجد خمسين شيخاً يناهز عمر كلّ منهم ثمانين عاماً.
فيا أيّها العزيز، كن على حذر من مكائد الشيطان، ولا تمكر على الله، ولا تحتلْ عليه
[1] سورة آل عمران، الآية 54.
175
بأن تقول: أعيش خمسين عاماً أو أكثر مع الأهواء، ثمّ أستغفر ربّي لدى الموت وأستدرك الماضي، لأنّ هذه أفكار واهية.
إذا سمعت أو علمت أنّ الله -سبحانه وتعالى- قد تفضّل على هذه الأمّة بتقبّل توبتهم قبل مشاهدة آثار الموت أو عند الموت فذلك صحيح، ولكن هيهات أن تتحقّق التوبة من الإنسان في ذلك الوقت!
هل تظنّ أنّ التوبة مجرّد كلام يُقال؟! إنّ القيام بالتوبة لعمل شاقّ. إنّ الرجوع إلى الله والعزم على عدم العودة إلى الذنب يحتاج إلى رياضة علميّة وعمليّة، إذ نادراً ما يحدث أن يفكّر الإنسان لوحده بالتوبة، أو يوفّق إليها، أو يوفّق إلى توفير شرائط صحّة التوبة وقبولها، أو إلى توفير شرائط كمالها.
إذ من الممكن أن يدركه الموت قبل التفكير في التوبة أو إنجازها، فينتقل من هذه النشأة مع المعاصي التي تنوء بالإنسان ومع ظلمات الذنوب اللامتناهية. وفي ذلك الوقت، الله وحده هو العالم بالمصائب والمحن التي سوف يواجهها!
إنّ جبران المعاصي في ذلك العالم - على فرض أنّنا من أهل النجاة ومَن عاقبة أمرهم السعادة - ليس عملاً سهلاً. لا بدّ من متاعب وضغوطات ونيران حتّى يصبح الإنسان أهلاً لرحمة أرحم الراحمين.
إذاً، أيّها العزيز، عجّل في شدّ حيازيمك، وإحكام عزيمتك وقوّتك الحاسمة، وأنت في أيّام الشباب، أو على قيد الحياة في هذه الدنيا، وتُبْ إلى الله، ولا تسمح لهذه الفرصة التي أنعم الله بها عليك أن تخرج من يدك، ولا تعبأ بتسويف الشيطان ومكائد النفس الأمّارة.
176
المفاهيم الرئيسة
1- التوبة من المنازل المهمّة والصعبة. وهي عبارة عن الرجوع من عالم المادّة إلى روحانيّة النفس، بعد أن حجبت هذه الروحانيّة ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة من جرّاء الذنوب والمعاصي. أمَّا حقيقة الإنابة فهي رجوع من الفطرة والروحانيّة إلى الله، والسفر والهجرة من بيت النفس نحو المقصد النهائيّ، والغاية الحقيقيّة.
2- اختلف المفسّرون في تفسير التوبة النصوح على أقوال، منها: إنّ المراد توبة تنصح الناس، ومنها: ما كانت خالصة لوجه الله - سبحانه -، ومنها: أنّ النصوح من النصاحة وهي الخياطة، لأنّها تنصح من الدين ما مزّقته الذنوب، ومنها: أنّ النصوح وصف للتائب، أي توبة تنصحون بها أنفسكم.
3- إنَّ الإنسان ظلوم جهول، ولا يقدِّر نعم وليّ النعم، يعصي سنين وسنين وليّ نعمه، ولكن رغم ذلك كلّه، إذا ندم على ما فعل ورجع إليه، أحبّه -جلّ اسمه-، وجعله محبوباً له.
4- يجب على الإنسان أن يقوّي في قلبه صورة الندامة، من خلال التفكّر في الآثار الموحشة للمعاصي وعواقبها ويحرق قلبه بنار الندامة، حتّى تحترق جميع المعاصي وتزول الكدورة عن القلب.
5- إنَّ أهمّ وأشرف عطيّة إلهيّة تمنح للإنسان التائب، هي أنّ الله -سبحانه وتعالى- يستر عليه فلا يفضحه، ويحجب ذنوبه عن الموجودات كافّة، حتّى ملكيه الموكّلين به، وجوارحه وأعضائه التي بها تتمّ الشهادة التكوينيّة، وذلك من خلال مقام الغفاريّة والستاريّة للذات المقدّسة الذي يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب.
6- إنَّ الشخص التائب بعد توبته لا يستعيد الصفاء الداخليّ الروحانيّ والنور الخالص للفطرة، كما لو سوّدت صفحة بيضاء، ثمّ حاولت أن تعالج السواد وتزيله عنها، فإنّها لن تعود إلى حالتها الأولى من البياض الناصع. إذاً، يجب على الإنسان أن يتجنّب ما أمكن ارتكاب المعاصي والذنوب، لأنّ إصلاح النفس بعد إفسادها من الأعمال الشاقّة.
177
وإذا تورّط - لا سمح الله - في معصية ما وجب عليه، بشكل عاجل، التفكير في العلاج، لأنّ إصلاح الفساد القليل يتمّ بصورة أسرع وبكيفيّة أحسن.
7- إنّ أفضل أيّام التوبة هي فترة أيّام الشباب، لأنّ الذنوب أقلّ وشوائب القلب وظلمات الباطل أخفّ، وشروط التوبة أسهل وأيسر. وقد يكثر في سنّ الشيخوخة حرص الإنسان وطمعه وحبّه للمال، ويزداد طول أمله. وإذا افترضنا أنّ الإنسان استطاع أن يتوب في سنّ الشيخوخة، فما هو الضمان للوصول إلى سنّ الشيخوخة، وعدم إدراكه الأجل المحتوم أيّام الشباب على حين غرّة، وهو مشغول بالذنوب والعصيان؟!
178
الدرس السادس عشر
أركان التوبة وشروطها
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يذكر حديث أمير المؤمنين عليه السلام عن حقيقة الاستغفار ومعانيه.
2. يبيّن المقوّمات الذاتيّة للتوبة.
3. يشرح شروط قبول التوبة وشروط كمالها.
179
أركان التوبة الأساسية
للتوبة الكاملة أركان وشروط، ولولا تحقّقها لما تحقّقت التوبة الصحيحة، ونحن نذكر الأركان وشرائطها الهامّة، والركنان هما:
1- الندامة: إنّ من أهمّ الشروط التي تعتبر ركناً ركيناً للتوبة هو الندامة على الذنوب، والتقصير في أداء التكاليف الشرعيّة.
2- العزم: ومن الأركان، العزم على عدم العودة إلى الذنوب نهائياً.
وفي الحقيقة أنّ هذين الركنين يمثّلان حقيقة التوبة ويعتبران من مقوّماتها الذاتيّة. والعمدة في هذا الباب تحصيل هذا المقام وإنجاز هذه الحقيقة على نحو يتذكّر الإنسان تأثير معاصيه على روحه، وعواقبها في عالم البرزخ ويوم القيامة، كما هو مقرّر في المعقول والمنقول، ومبرهن عليه لدى أهل العلم والمعرفة، ومأثور في أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام، من أنّ للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صوراً تتناسب معها في ذلك العالم، تكون لها حياة وإرادة، حيث تعذّب الإنسان المذنب عن شعور وإرادة. وإنّ نار جهنّم أيضاً تحرق الإنسان عن إرادة ووعي، لأنّ تلك النشأة نشأة الحياة.
ففي ذلك العالم، تحشر معنا صورٌ هي نتيجة أعمالنا الحسنة والقبيحة التي ارتكبناها في عالم الدنيا. وقد ورد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة صراحة وتلويحاً ذكر لهذا الموضوع. وهو يتطابق ومسلك الحكماء الإشراقيّين، وذوق أهل السلوك ومشاهدات أصحاب العرفان.
وكذلك تترك كلّ معصية في الروح أثراً عبّر عنه في الأحاديث الشريفة بالنقطة السوداء،
180
وهي ظلام يظهر في القلب والروح، وتبدأ هذه النقطة بالازدياد حتّى تسوق الإنسان إلى الكفر والزندقة، والشقاوة الأبديّة. وإذا انتبه الإنسان العاقل لهذه المعاني واعتنى بكلام الأنبياء والأولياء عليهم السلام، والعرفاء والحكماء والعلماء (رض)، بقدر اعتنائه بقول طبيب معالج، لابتعد -لا محالة- عن المعاصي، ولَمَا اقترب منها أبداً. وإذا ابتلي بالمعصية - لا سمح الله - أبدى سرعة تبرّمه وضجره منها، وندم عليها، فتظهر صورة الندامة في قلبه، وتكون نتيجة هذه الندامة عظيمة جداً، وآثارها حسنة وكثيرة. ومن ثمّ يحصل من جراء ندمه العزم على ترك المعصية وترك مخالفة ربّ العالمين.
وعندما يتوفّر هذان الركنان (الندم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها)، فسيغدو سلوك طريق الآخرة سهلاً ويسيراً، فتغشاه التوفيقات الإلهيّة، ليصبح بحسب النصّ القرآنيّ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ﴾[1]، والتائب يصبح محبوباً لله تعالى، بشرط أن يكون مخلصاً في توبته.
ويجب على الإنسان بالرياضة العلميّة والعمليّة وبالتفكّر والتدبّر اللائقين، أن يسعى ليجعل توبته خالصة، ويجب عليه أن يفهم أنّ المحبوبيّة عند الله لا تقدّر بميزان الحساب. والله وحده يعلم بأنّ صورة حبّ الحقّ في تلك العوالم من أيّ نوع من الأنوار المعنويّة والتجلّيات الكاملة تكون.
شروط التوبة
ذكرنا أركان التوبة، وسوف نذكر الآن شروط قبولها وشروط كمالها بشكل مرتّب، وعمدة شروط القبول أمران، كما أنّ عمدة شروط الكمال أمران أيضاً.
ونحن نذكر في هذا الفصل الكلام الشريف لمولى الموالي الذي هو في الواقع من جوامع الكلام، ومن كلام الملوك وملوك الكلام، حيث إنّه روي في نهج البلاغة أنّ قائلاً قال بحضرة الإمام عليّ عليه السلام: أستغفر الله، فقال له الإمام عليّ عليه السلام:
[1] سورة البقرة، الآية 222.
181
وهي ظلام يظهر في القلب والروح، وتبدأ هذه النقطة بالازدياد حتّى تسوق الإنسان إلى الكفر والزندقة، والشقاوة الأبديّة. وإذا انتبه الإنسان العاقل لهذه المعاني واعتنى بكلام الأنبياء والأولياء عليهم السلام، والعرفاء والحكماء والعلماء (رض)، بقدر اعتنائه بقول طبيب معالج، لابتعد -لا محالة- عن المعاصي، ولَمَا اقترب منها أبداً. وإذا ابتلي بالمعصية - لا سمح الله - أبدى سرعة تبرّمه وضجره منها، وندم عليها، فتظهر صورة الندامة في قلبه، وتكون نتيجة هذه الندامة عظيمة جداً، وآثارها حسنة وكثيرة. ومن ثمّ يحصل من جراء ندمه العزم على ترك المعصية وترك مخالفة ربّ العالمين.
وعندما يتوفّر هذان الركنان (الندم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها)، فسيغدو سلوك طريق الآخرة سهلاً ويسيراً، فتغشاه التوفيقات الإلهيّة، ليصبح بحسب النصّ القرآنيّ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ﴾[1]، والتائب يصبح محبوباً لله تعالى، بشرط أن يكون مخلصاً في توبته.
ويجب على الإنسان بالرياضة العلميّة والعمليّة وبالتفكّر والتدبّر اللائقين، أن يسعى ليجعل توبته خالصة، ويجب عليه أن يفهم أنّ المحبوبيّة عند الله لا تقدّر بميزان الحساب. والله وحده يعلم بأنّ صورة حبّ الحقّ في تلك العوالم من أيّ نوع من الأنوار المعنويّة والتجلّيات الكاملة تكون.
شروط التوبة
ذكرنا أركان التوبة، وسوف نذكر الآن شروط قبولها وشروط كمالها بشكل مرتّب، وعمدة شروط القبول أمران، كما أنّ عمدة شروط الكمال أمران أيضاً.
ونحن نذكر في هذا الفصل الكلام الشريف لمولى الموالي الذي هو في الواقع من جوامع الكلام، ومن كلام الملوك وملوك الكلام، حيث إنّه روي في نهج البلاغة أنّ قائلاً قال بحضرة الإمام عليّ عليه السلام: أستغفر الله، فقال له الإمام عليّ عليه السلام:
[1] سورة البقرة، الآية 222.
181
"ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العليّين، وهو اسم واقع على ستة معان:
الأوّل: الندم على ما مضى.
الثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
الثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم، حتّى تلقى الله -سبحانه- أملس، ليس عليك تبعة.
الرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها، فتؤدّي حقّها.
الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
فعند ذلك تقول: أستغفر الله"[1].
يشتمل هذا الحديث الشريف على ركنين من أركان التوبة، هما: الندامة والعزم على عدم العودة، وعلى شرطين مهمّين للقبول:
1- أداء حقوق الناس:
فلا تقبل التوبة من الإنسان بمجرّد أن يقول: "أستغفر الله". إنّ على الإنسان التائب أن يردّ كلْ ما أخذه من الناس بغير حقّ، وإذا وجد أنّ في ذمته حقوقاً أخرى للناس، واستطاع أن يؤدّيها إلى أصحابها أو أن يطلب السماح منهم، وجب عليه ذلك.
2- أن يقضي الفرائض الإلهيّة كلّها أو يؤدّيها:
وإذا تعذّر عليه إنجاز ذلك، أدّى المقدار الميسور منه. وليعلم أنّ لهذه الحقوق كلّها أصحاباً سيطالبونه بها في الآخرة بأشقّ الأحوال، وليس له في ذلك العالم وسيلة لأداء هذه الحقوق، إلّا أن يتحمّل ذنوب الآخرين ويدفع إليهم أعماله الحسنة، فيصير حينذاك عاجزاً وشقياً ولا يملك طريقاً للخلاص وملجأً للاستخلاص.
[1] الشريف الرضي، مصدر سابق، حكمة رقم417.
182
أيّها العزيز، إيّاك أن تسمح للشيطان والنفس الأمّارة بالهيمنة عليك والوسوسة في قلبك، فيصوّران لك أنّ العمليّة جسيمة وشاقّة فيصرفانك عن التوبة. واعلم بأنّ إنجاز الشيء القليل من هذه الأمور سيكون أفضل. ولا تيأس من رحمة الله ولطفه، حتّى وإن كان عليك الكثير من الصلوات والصيام والكفّارات وحقوق إلهيّة كثيرة، وذنوب متراكمة، وحقوق الناس عليك لا تعدّ، والخطايا لا تحصى.
لأنّ الحقّ تعالى سيسهّل عليك الطريق بمقدار ما تقدم عليه، ويهديك سبيل النجاة. واعلم بأنّ اليأس من رحمة الحقّ من أعظم الذنوب، ولا أظنّ أن هناك ذنباً أسوأ وأشدّ تأثيراً في النفوس من القنوط من رحمة الله.
فإنّ الظلام الدامس، إذا غُشي قلب الإنسان اليائس من الرحمة الإلهيّة، لما أمكن إصلاحه، ولتحوّل إلى طاغية لا سبيل للسيطرة عليه. إيّاك أن تسمح للشيطان والنفس الأمّارة بالهيمنة عليك والوسوسة في قلبك، فيصوّران لك أنّ العمليّة جسيمة وشاقّة، فيصرفانك عن التوبة. واعلم بأنّ إنجاز الشيء القليل من هذه الأمور سيكون أفضل.
فإيّاك أن تغفل عن رحمة الحقّ - عزّ وجلّ -! وإيّاك أن تستعظم الذنوب وتبعاتها! فإنّ رحمة الحقّ -سبحانه- أعظم وأوسع من كلّ شيء.
ماذا كنت في بدء الأمر؟ كنت في غياهب العدم، ولا توجد فيك القابليّة والأهليّة، ولكنّ الحقّ - جلّ وعلا - وهبك نعمة الوجود وكمالاته، وبسط مائدة النعم اللامحدودة، والرحمة اللامتناهية، وسخّر لك الموجودات كافّة، من دون أيّ استحقاق واستعداد، ومن دون سؤال ودعاء مسبق.
إنّ الله تعالى قد وعد بالرحمة والمغفرة، فتقدّم إلى الأمام خطوة واحدة باتّجاه عتبة قدسه، فإنّه سيأخذ بيدك مهما كلّف الأمر. إنّك إن لم تستطع أن تؤدّي حقوقه فهو سيتنازل عنها. وإن لم تستطع أن تدفع حقوق الناس، فإنّه سيجبرها. هل سمعت قصة الشابّ الذي كان ينبش القبور في عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟
أيّها العزيز، إنّ طريق الحقّ سهل وبسيط، ولكنّه يحتاج إلى انتباه يسير، فيجب العمل،
183
لأنّ التباطؤ والتسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم سيبعث على صعوبة الأمر، وأمّا الإقبال على العمل، والعزم على إصلاح النفس، فسيقرّب الطريق ويسهّل العمل.
جرّبه، وابدأ بالعمل، فإذا حصلت على النتيجة تبيّن لك صحّة الأمر، وإن لم تصل إلى النتيجة المتوخّاة، فإنّ طريق الفساد مفتوح ويد المذنب طويلة.
شروط كمال التوبة
وأمّا الأمران الآخران اللذان ذكرهما أمير المؤمنين عليه السلام:
5- إذابة اللحم الذي نبت على السحت.
6- إذاقة الجسم ألم الطاعة، كما أذاقه حلاوة المعصية.
فهما من شروط كمال التوبة، والتوبة الكاملة. لا أنّ التوبة لا تتحقّق ولا تقبل من دونهما، بل إنّ التوبة من دونهما ليست بكاملة.
اعلم أنّ لكل منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف باختلاف حالات قلوبهم. وأنّ التائب إذا أراد بلوغ مرتبة الكمال، فلا بدّ من تدارك ما تركه، وتدارك الحظوظ أيضاً، أي لا بدّ للتائب من تدارك الحظوظ النفسانيّة التي لحقت به أيّام الآثام والمعاصي، وذلك بالسعي لمحو الآثار الجسميّة والروحيّة كلّها، التي حصلت في مملكة جسمه ونفسه من جرّاء الذنوب، وحتّى تصقل النفس من جديد كما كانت في بدء الأمر، وتعود الفطرة إلى روحانيتها الأصيلة، فتحصل له الطهارة الكاملة.
قد علمت بأنّ لكلّ معصية ولذّة انعكاساً وأثراً في الروح، كما يحصل أثر من بعض الذنوب واللذائذ في الجسم، فلا بدّ أن ينهض التائب، ويستأصل تلك الآثار، ويقوم بالرياضة البدنيّة والروحيّة حتّى تزول منهما تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام، كما أمرنا الإمام عليّ عليه السلام. فعن طريق ممارسة الرياضة الجسميّة، من الإمساك عن أكل المباهج، والصيام المستحبّ أو الواجب، إن كان في ذمّته صيام واجب، يذيب اللحوم التي نشأت على جسمه من الحرام والمعصية.
وعن طريق الرياضة الروحيّة، من العبادات والمناسك، يتدارك الحظوظ الطبيعيّة،
184
لأنّ صورة اللذّات الطبيعيّة لا تزال ماثلة في ذائقة النفس والروح، وما دامت هذه الصور متحققة وموجودة، فإنّ النفس ستميل إليها والقلب سيعشقها، والخوف يكمن في أن تطغى هذه النفس وتخرج عن الزمام - لا سمح الله -.
فعلى سالك سبيل الآخرة والتائب عن المعاصي، أن يذيق الروح ألم الرياضة الروحيّة ومشقَّة العبادة. فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة من العبادة. وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ الطبيعيّة تداركه بالصوم والمستحبّات المناسبة، حتّى تطهر النفس من آثار المعاصي وتبعاتها كلّها، والتي هي عبارة عن تعلّق حبّ الدنيا بالنفس ورسوخه فيها، وتتطهّر من كلّ ذلك.
لا شكّ أنّ التوبة في هذه الصورة تكون أكمل، حيث يعود النور إلى فطرة النفس. وعند اشتغال الإنسان بهذه الأمور ينبغي أن يستمرّ في تفكّره وتدبِّره في نتائج المعاصي وشدّة بأس - الحقّ تعالى -، ودقّة ميزان الأعمال، وشدّة عذاب عالم البرزخ والقيامة.
وليلقِّن النفس والقلب أنّ هذا العذاب كلّه هو نتاج تلك الأعمال القبيحة وصورها، والمخالفات التي نرتكبها تجاه مالك الملوك. ونأمل بعد هذا التلقين والتمعّن أن تنفر النفس من المعاصي، وترتدع بشكل كامل ونهائيّ عنها، فينتهي بالتوبة إلى النتيجة المطلوبة، وتتمّ توبته وتكمل.
فهذا المقامان من المتمّمات والمكمّلات لمنزل التوبة. والإنسان في بدء الأمر عندما يريد أن يدخل في مقام التوبة ويتوب إلى الله، لا يظنّ بأنّ المطلوب منه هو المرتبة الأخيرة من التوبة حتّى يجد الطريق صعباً وعملية التوبة شاقّة، فينصرف عنها ويتركها.
بل إنّ كلّ ما يعين السالك في سلوكه لطريق الآخرة يكون مطلوباً ومرغوباً فيه. وعندما تطأ قدماه الطريق ييسِّر الله -تعالى- له الطريق. فينبغي أن لا تمنع صعوبة الطريق الإنسان عن الوصول إلى الهدف الأصيل، لأنّه مهمّ جدّاً وعظيم.
وإذا انتبهنا إلى عظمة الهدف وجلاله، تذلّلت جميع الصعاب من أجله. وأيّ شيء أعظم من النجاة الأبديّة، والروح والريحان الدائمين؟ وأيّ بلاء أعظم من الهلاك الدائميّ
185
والشقاء السرمديّ؟ ومع ترك التوبة والتسويف والتأجيل قد يبلغ الإنسان الشقاء الأبديّ والعذاب الخالد والهلاك الدائم.
وعند الدخول في منزل التوبة، من الممكن أن يصل الإنسان إلى السعادة المطلقة، ويصبح محبوب الحقّ -سبحانه-. فإذا كان الهدف جليلاً على هذا المستوى، فلا بأس من المعاناة والآلام لأيام يسيرة.
واعلم أنّ الدخول في مقام التوبة بالقدر الميسور، مهما كان قليلاً فهو مفيد وناجح. قارن أمور الآخرة بالأمور الدنيويّة، فإنّ العقلاء إذا لم يتمكّنوا من تحقيق مبتغاهم الأعلى والأرفع، لم يتركوا الهدف الأقلّ، وإذا لم يستطيعوا تحصيل الهدف الكامل المنشود، لم يغضّوا الطرف عن المطلوب الناقص.
وأنت أيضاً، إذا لم تستطع أن تحقّق التوبة الكاملة، فلا تعرض عن أصل المقصد وصرف حقيقته، واسعَ بكلّ قدر ممكن في تحصيله.
186
المفاهيم الرئيسة
1- من أهمّ الشروط التي تعتبر ركناً للتوبة الندامة على الذنوب، وعلى التقصير في أداء التكاليف الشرعيّة، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب نهائيّاً. فهذان الركنان يمثّلان حقيقة التوبة، ويعتبران من مقوماتها الذاتية.
2- إنَّ لقبول التوبة شروطاً أهمّها:
- أداء حقوق الناس: ينبغي للإنسان التائب أن يردّ كلّ ما أخذه من الناس بغير حقّ، وإذا وجد أنّ في ذمّته حقوقاً أخرى للناس، واستطاع أن يؤدّيها إلى أصحابها أو أن يطلب السماح منهم، وجب عليه ذلك.
- أن يقضي الفرائض الإلهيّة كلّها أو يؤدّيها: وإذا تعذّر عليه إنجاز ذلك، أدّى المقدار الميسور منه.
3- إنَّ طريق الحقّ سهل وبسيط، ولكنّه يحتاج إلى انتباه يسير، فيجب العمل، لأنّ التباطؤ والتسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم ستبعث على صعوبة الأمر، وأمّا الإقبال على العمل، والعزم على إصلاح النفس، فسيقرّب الطريق ويسهّل العمل.
4- لكلّ منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف باختلاف حالات قلوبهم. وإنّ التائب، إذا أراد بلوغ مرتبة الكمال، ينبغي أن يحقّق شروط كمال التوبة، وهي: إذابة اللحم الذي نبت على السحت، وإذاقة الجسم ألم الطاعة كما أذاقه حلاوة المعصية.
5- عندما يريد الإنسان أن يدخل في مقام التوبة ويتوب إلى الله، لا ينبغي أن يظنّ أنّ المطلوب منه هو المرتبة الأخيرة من التوبة حتى يجد الطريق صعباً وعمليّة التوبة شاقّة، فينصرف عنها ويتركها.
6- عند الدخول في منزل التوبة، من الممكن أن يصل الإنسان إلى السعادة المطلقة، ويصبح محبوب الحقّ سبحانه . فإذا كان الهدف جليلاً على هذا المستوى، فلا بأس من المعاناة والآلام لأيّام يسيرة.
187
7- إنَّ الدخول في مقام التوبة بالقدر الميسور، مهما كان قليلاً، فهو مفيد وناجح. قارن أمور الآخرة بالأمور الدنيويّة، فإنّ العقلاء إذا لم يتمكّنوا من تحقيق مبتغاهم الأعلى والأرفع، لم يتركوا الهدف الأقلّ، وإذا لم يستطيعوا تحصيل الهدف الكامل المنشود، لم يغضّوا الطرف عن المطلوب الناقص.
188