نفحات ملكوتية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-07

النسخة: 2014


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

11

المقدمة

15

نور الفناء

18

فطرة التوحيد والفناء

19

طهارة النفس شرط لتحقُّق الفناء

21

ترك حظوظ النفس مطلقاً

23

الضنّ بأسرار المعارف إلّا لأهلها

24

الفرار من أهل الدنيا من المستغربين

27

سرّ العروج‏

27

نعمة الشباب

28

الاستعداد للشدائد

29

المظاهر الرحمانية

30

فقر الموجودات إلى الله

32

أنانيّتنا سبب احتجابنا

34

عدم إنكار المقامات المعنوية

35

القرآن كتاب معرفة الله والطريق إليه

37

الابتعاد عن العزلة والانزواء

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

38

التعرّف إلى القرآن الكريم

39

الآثار النورانية للدعاء

40

الدقّة في اختيار الأصدقاء

41

الجميع يبحثون عن الكمال المطلق

42

الابتعاد عن الشهرة وما تشتهيه النفس

44

حبّ الدنيا منشؤه حبّ النفس

45

حجاب النفس والأنا

47

العجز عن معرفة الله حقّ معرفته

47

التنبُّه من سوء العاقبة

49

حبّ الله حبّ لمظاهره وتجلّياته

51

رحمة في صورة غضب

52

النظر إلى الخلق برحمة

53

فطرة العشق للكمال المطلق

54

المؤمنون بالكمال المطلق قلّة

58

الاستفادة من نعمة الشباب

60

سهولة إصلاح النفس في الشباب

63

خطورة التساهل بحقوق الناس

65

خير الزاد خدمة المظلومين

66

المشاركة السياسية تكليف شرعي

67

ترجيح التحرُّر على الرفاهية

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

68

حقوق الأمّهات أكثر من أن تُحصى

69

التعامل مع الأرحام بمحبّة وعطف

71

طريق العشق

72

الفطرة تبحث عن الكمال المطلق

75

العلم هو الحجاب الأكبر

77

العُجب منشؤه الجهل بحقيقة النفس

78

التدبُّر في القرآن يرفع الحجب

80

اغتنام فرصة الشباب

81

القرآن كتاب إعجازي المعارف

84

ظهور حقيقة الدنيا

86

الاهتمام برفع الحجب لا جمع الكتب

89

موضوع الفلسفة والعرفان

92

شرط المعرفة عدم إنكار المقامات المعنوية

96

مخاطر اللسان المهلكة

101

بلسم الروح

101

دوام ذكر الله يُحرّر الإنسان من الدنيا

103

موازين العرفان الحقيقي

107

الاتقاء من مخالفة الأحكام الظاهرية

109

الاتقاء من التأثُّر بالتهم والشائعات الكاذبة

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

114

الاتقاء من مدح المادحين

116

التقوى عن رؤية المظاهر الخَلقيّة

118

التقوى عن رؤية المظاهر الأسمائية

120

نسيان الحقّ سبب لنسيان النفس

121

العالم كلّه مظهر رحمة الحقّ

123

ترك الدنيا حتى حلالها

125

رؤية الحقّ

126

الدخول في ولاية الله

127

لا قيمة للمقامات والمناصب الدنيوية

129

معراج الروح

131

معراج العارفين

132

التحرّر من قيود الأنا

133

الشباب فرصة حقيقية للتحرّر من الأنا

135

الوجود منحصر به تعالى

135

التأدُّب في محضر الله

135

إختيار ما يقرّب إلى الله

137

شراب العشق

137

مخاطر الغوص في المصطلحات

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

139

البحث عن الله هو الهدف

143

براعم الهداية

143

عدم القنوت من رحمة الله

144

الكلّ يبحثون عن الحقّ

147

مستودع السرّ

148

الخشية من الله وحده

148

تهذيب النفس وإصلاحها

150

كيفية صدور أدعية المعصومين عليهم السلام

151

احتجابنا عن الكمال المطلق سبب معاناتنا

152

الخطوة الأولى باليقظة والعلم

153

كنز الإنسان الحقيقي

154

الحرب الثقافية للشرق والغرب

156

الاستمداد من العلماء في المواجهة

157

الاستعداد لتحمُّل الأذى دائماً

158

الدفاع عن مظلومية أحمد

 

 

 

 

 

9


5

المقدمة

 المقدمة


 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين، وبعد...

للإمام الخميني قدس سره إسهامات علمية في العديد من المجالات المعرفية - كما هو معلوم - والتي تركت بصماتها الواضحة والمؤثّرة في النفوس والعقول وفي المؤسسات الدينية والمجتمع الإسلامي بشكل عام. وكان لها في العديد من الأماكن والأزمنة وقع التحوّل الجوهري والمفصلي فيها، مع أنّه، وللأسف الشديد، ما خفي عنّا من إبداعات هذا العالِم الربّاني العلمية والفكرية أعظم بكثير ممّا ظهر لنا أو اكتشفناه! فلم نتوصّل إلى الآن سوى إلى معرفة النذر اليسير منها، مع أنّ قسماً كبيراً منها كان قدس سره قد بيّنه في كتبه المتنوّعة أو خطبه وبياناته، ولكنّها بقيت كنوزاً دفينة تحتاج إلى من يتعلّم فنون استخراجها وتظهيرها بصورتها الحقيقية المشرقة.

إحدى هذه الكنوز المعرفية التي تركها لنا الإمام قدس سره، مع صغر حجمها وقلّة كلماتها إذا ما قارنّاها بكتبه ومؤلّفاته، هي
 
 
 
 
 
 
 
11

6

المقدمة

 وصاياه قدس سره، والتي تنوّعت بين سياسية واجتماعية وأخلاقية وعرفانية. والتي يمكن اعتبارها لبّ وزلال فكره المعنوي والسياسي، فغدت تحفة معرفية لكلَّ باحث عن نور الهداية، ولكلَّ عاشق للحقّ والحقيقة في هذه الدنيا الفانية.

 
وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا تناولنا جانباً من وصايا الإمام الخميني قدس سره، المتعلّقة بالشقّ المعنوي والعرفاني منها، والتي يمكن أن نقول: إنَّها تُمثّل خلاصة تجربة الإمام السلوكية والعرفانية، والتي هي - بلا شكّ - عند أرباب أهل المعنى ولغة الحبّ والوصال مع الله، بمثابة الدليل الهادي للعروج المعنوي الأصيل والمستقيم نحو الحقّ سبحانه وتعالى.
 
فها هو إمامنا العظيم في بضع كلمات نورانية يبثّ فينا الأمل من جديد، ويدعونا لشحذ الهمّة وعدم اليأس، ويحثّنا على النهوض ونفض غبار التعلّقات المادية عن نفوسنا المتعبة ببعد الهجران، وضنك الفراق, لنروم بعقولنا وقلوبنا، بل وبكلّ وجودنا إليه، طالما أنّ الأمور كلّها في نهاية المطاف تفضي إليه ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾1.
 
هذا المتن "نفحات ملكوتية" هو عبارة عن مجموعة من وصايا الإمام الخميني قدس سره المعنوية والسلوكية التي استقينا قسماً من 



1 سورة آل عمران، الآية: 154.
 
 
 
 
 
 
 
 
12

7

المقدمة

 مادّته من كتاب "المظاهر الرحمانية" الذي قامت مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره بنشره وتوزيعه، والقسم الآخر من بعض وصايا الإمام المنشورة في كتاب صحيفة الإمام (صحيفة النور)، والتي تنشر لأوّل مرّة.


وما قمنا به في هذا الكتاب هو مراجعة المادّة، وإعادة ضبط النصّ وتصحيحه، ومن ثمّ عنونة جميع فقرات الوصايا، وشرح المصطلحات العلمية وبعض العبائر في الهامش, لكي يتّضح المطلب ويسهل على القارئ فهمه أكثر. وقد تمّ توزيع الوصايا بحسب تاريخ صدورها.

وكلّنا أمل أن يلقى هذا الجهد العَلمي المتواضع الرضا والقبول لدى القلب المقدّس لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

والحمد لله رب العالمين.

مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
13

8

نور الفناء

 نور الفناء1

 
بسم الله الرحمن الرحيم‏ 
 
 
سبحانك اللهم وبحمدك يا مَنْ لا ترتقي إلى ذروة كمال أحديته2 آمالُ العارفين، ويقصر دون بلوغ قدس كبريائه أفكارُ الخائضين، جلّتْ عظمتك من أن تكون شريعةً للواردين، وتقدّست أسماؤك من أن تصير طُعمةً لأوهام المتفكّرين. لك الأحديّة الذاتيّة في الحضرة الجمعيّة3 والغيبيّة، والواحديّة4 الفرديّة في التجلّيات5 الأسمائيّة والأعيانيّة، فأنت المعبود في عين العابدية والمحمودُ في حال الحامدية. ونحمدك اللهم بألسنتك الذاتية في عين الجمع6


 

1 وصية عرفانية للآغا ميرزا جواد الهمداني، صحيفة الإمام، ج‏1، ص36.
2 الأحدية: هو اسم الذّات الإلهية باعتبار انتفاء تعدُّد الصفات والأسماء والنسب والتعيّنات عنها.
3 الحضرة، هي المرتبة والعالم. الحضرة الجمعية، هي مرتبة جمع الأسماء والصفات واندكاكها في أحديّة الذّات.
4 الواحدية: اعتبار الذّات الإلهية من حيث انتشاء الأسماء والصفات منها.
5 التجلّي: هو ما ينكشف للقلوب ويفيض عليها من أنوار الغيوب وهو على مقامات مختلفة، ذاتية وأسمائية وفعلية وغيرها...
6 الجمع: اتصال لا يشاهد فيه صاحبه إلا الحقّ، فهو مقام شهود الحقّ بلا خلق، ومتى شاهد غيره فما جمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

نور الفناء

 والوجود على آلائك المتجلّية في مرائي الغيب والشهود1، يا ظاهراً في بطونه وباطناً في ظهوره.

 
ونستعينُك ونعوذُ بك من شرّ الوسواس الخنّاس، القاطع طريق الإنسانية، السالك بأوليائه في مهوى جهنّم الطبيعة الظلمائية، اهدنا الصراط المستقيم الذي هو البرزخية الكبرى2 ومقام أحديّة جمع الأسماء الحسنى.
 
وصلّ اللهم على مبدأ الظهور3 وغايته، وصورة أصل النور ومادّته، الهيولى4 الأولى، والبرزخ الكبرى الذي دنا فرفض التعيُّنات5 فتدلّى فكان قاب قوسي الوجود6 وتمام دائرة الغيب والشهود أو أدنى الذي هو مقام العَماء7، بل لا مقام هنا على الرأي 



1 الشهود: من المشاهدة وهي مطالعة القلب للجمال القدسي للربّ، والمشاهدة صفة العبد، أمّا التجلّي فصفة الربّ.
2 البرزخية الكبرى: البرزخ هو الحائل بين الشيئين، والبرزخية الكبرى هي الحضرة الواحدية التي تتوسّط حضرة الأحدية وعالم المظاهر الخلقية.
3 الإنسان الكامل لأنّه ظاهر الصورة الإلهية، وهو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
4 الهيولى: الهيولى في الفلسفة هي مادَّةُ الشيء التي يصنَع منها، كالخشب للكرسيِّ، والحديدِ للمسمار، والقطنِ للملابس القطنية. وهي المادة التي ليس لها شكل ولا صورة معيّنة، قابلةٌ للتشكيل والتصوير في شتَّى الصور.
5 التعيُّنات: الحدود والتشخّصات.
6 قوسي الوجود: هما قوسا الصعود والنزول.
7 العماء: هي الحضرة الأحدية عند البعض لأنّه لا يعرفها أحد غيره، وعند البعض الآخر هي الحضرة الواحدية التي هي منشأ الأسماء والصفات. لأنّ العماء هو الغيم الرقيق، والغيم هو الحائل بين السماء والأرض. وهذه الحضرة هي الحائلة بين سماء الأحدية وبين أرض الكثرة الخلقية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

10

نور الفناء

 الأسنى (لا يستطيع أحد أن يصطاد العنقاء بل هي الشَّرَك الذي يصطاد الصقور).

 
وعلى آله مفاتيح الظهور1 ومصابيح النور، بل نورٌ على نور، غصن الشجرة المباركة الزيتونة2 والسدرة المنتهى3 وأصلهما، وجنس الكون الجامع4 والحقيقة الكلّية5 وفصلهما، ولا سيّما خاتم الولاية6 المحمّدية ومُقبض فيوضات الأحمدية الذي يظهر بالربوبية بعد ما 



1 لأنهم عليهم السلام أصل الظهور وسببه، كما في الحديث القدسي "لولاك ما خلقت الأفلاك" (بحار الأنوار، ج15، ص27) وما ورد في الزيارة الجامعة "بكم فتح الله وبكم يختم" (بحار الأنوار، ج99، ص131).
2 إشارة إلى قوله تعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ سورة النور، الآية: 35. وفي الاصطلاح العرفاني المقصود بالزيتونة هي النفس المستعدّة للاشتعال بنور القدس.
3 سدرة المنتهى: هي نهاية المكانة التي يبلغها المخلوق في سيره إلى الله تعالى، وما بعدها مختصّ بالحقّ تعالى وليس لمخلوق إليهـ قدم.
4 الكون الجامع: الكون، كلّ أمر وجودي، والكون الجامع هو الموجود الجامع لجميع حقائق الوجود في نفسه والذي تتمثلّ فيه جميع الأسماء والصفات الإلهية، وهو المعبّر عنه بالعالم الصغير الإنساني.
5 الحقيقة الكلّية: الحقيقة الإنسانية والإنسان الكامل الجامع بين الحقّ والخلق.
6 خاتم الولاية: هو الذي يُختتم بحضوره مقام الولاية، وهو الذي يبلغ به صلاح الدنيا والآخرة وهو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
 
 
 
 
 
 

 


11

نور الفناء

 ظهر آباؤه عليهم السلام بالعبودية، جوهرةٌ كنهها الربوبية بعدما ظهر آباؤه عليهم السلام بالعبودية، خليفة الله في الملك1 والملكوتوإمام أئمة قطّان الجبروت3، جامعِ أحديةِ الأسماء الإلهية، ومظهرِ تجلّياتِ الأوّلية والآخريّة4، الحجّةِ الغائب المنتظر، ونتيجة مَنْ سلف وغَبَر أرواحنا له الفداء وجعلنا الله من أنصاره والعن اللهم أعداءهم، قُطّاع طريق الهداية، السالكين بالأمم مسلك الضلالة والغواية.

 
فطرة التوحيد والفناء
وبعد، فإنّ الإنسان ممتازٌ من سائر الموجودات باللطيفة الربّانية والفطرة5 الإلهية ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾6، وهذه بوجهٍ هي الأمانة المشار إليها في الكتاب العزيز الإلهي ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾7. وهذه‏ الفطرة هي فطرة توحيد الله في المقامات 


 

1 المُلك: عالم الشهادة والظاهر، الذي هو مقابل عالم الغيب.
2 الملكوت: عالم الغيب والنفوس المجرّدة.
3 الجبروت: عالم الأرواح والعقول المجرّدة.
4 مظهر التجلّيات الأولية والآخرية: لكونه المظهر الأتم للاسم "الأول" و "الآخر".
5 الفطرة: أصل الخلقة الإنسانية التي جُبل عليها كلّ الخلق في هذه الحياة الدنيا، والتي تُوجِّه الإنسان نحو الغاية والهدف من وجوده وهو الكمال المطلق الذي لا حدّ له ولا منتهى.
6  سورة الروم، الآية:30.
7 سورة الأحزاب، الآية: 72.
 
 
 
 
 
 
 
18

12

نور الفناء

 الثلاثة، بل رفض التعيّنات، وإرجاع الكُلّ إليه، وإسقاط الإضافات1 حتى الأسمائية، وإفناء2 الكُلّ لديه. ومَنْ لم يصل إلى هذا المقام3، فهو خارج عن فطرة الله وخائن في أمانة الله، وجاهل بمقام الإنسانية والربوبية، وظالم لنفسه والحضرة الإلهية.

 
طهارة النفس شرط لتحقُّق الفناء
 
ومعلوم عند أصحاب القلوب من أهل السابقة الحُسنى، أنّ حصول هذه المنزلة الرفيعة والدرجة العَليّة، لا يمكن إلّا بالرياضات الروحية4 والعقلية5 والخواطر القُدسية القلبية6 بعد طهارة النفس عن أرجاس عالم الطبيعة7 وتزكيتها، فإنّ هذا مقام ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾8.



1 الإضافات: التعيّنات، وكلّ ما سوى الله تعالى.
2 الفناء: هو اضمحلال ذات العبد وصفاته وأفعاله في ذات الله وصفاته وأفعاله، فلا يرى العبدُ لنفسه شيئاً لغيبته فهو الغيبة عن كل سوى الحق تعالى علماً وشهوداً، كما كان فناء موسى حين تجلّى ربّه للجبل. فهو إفناء العبد وجوده في الله ويكون ذلك برؤية جلال الحقّ وكشف عظمته، حتى ينسى الدنيا والآخرة لغلبة جلاله، فتبدو الأحوال والمقامات حقيرة في نظره، وتتلاشى الكرامات في حاله، فيفنى عن النفس والعقل ويفنى أيضاً في عين الفناء عن الفناء، فيخشع جسده ويخضع لله، وينطق لسانه بالحقّ.
3 مقام الفناء.
4 الرياضة الروحية: مجاهدة النفس وتهذيبها بالتقوى والطاعة.
5 الرياضة العقلية: التفكُّر وإعمال العقل بالعلوم والمعارف الإلهية.
6 هي النفحات الروحية التي تتنزّل على قلب الإنسان من عالم القدس.
7 عالم الدنيا المحدود والفاني.
8 سورة الواقعة، الآية:79.
 
 
 
 
 
 
 
19

13

نور الفناء

 وصرف الَهمّ إلى المعارف الإلهية1، وقَصْر الطرْف على الآيات والأسماء الربوبية عقيب صيرورته إنساناً شرعيّاً بعد ما كان إنساناً بشرياً بل طبيعياً. فاخرجي أيّتها النفس الخالدةُ إلى الأرض لاتباع هواك من بين الطبيعة المظلمة المدهشة الهيولانية، وهاجري إلى الله مقام الجمع، وإلى رسوله مظهر أحديّة الجمع2، حتى يُدركك الموت بتأييد الله تعالى فوقع أجرك عليه، وهذا هو الفوز العظيم والجنّة الذاتية اللقائية3 التي لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. واعلمي أنّك ظهرت من مقام جامعية الأسماء والبرزخيّة الكبرى، وأنت غريبة في هذه الدّار ولا بدّ لك من الرجوع إلى الوطن، فاحْببي وطنك فإنه من الإيمان، كما أخبر به سيد الإنس والجان4.




1  المعارف الإلهية: العلوم الإلهية.
2 أحدية الجمع: هي اعتبارها من حيث هي هي، بلا إسقاطها وبلا إثباتها، بحيث تندرج فيها نسبة الحضرة الواحدية التي هي منشأ الأسماء الإلهية. وإنّما سمّيت بأحدية الجمع لجمعها بين الأحدية والواحدية.
3 الجنان على ثلاثة مراتب:
جنّة الأفعال: وهي الجنة الصورية، وهي جنة المطاعم والمشارب والمناكح، وتُسمّى بجنة الأعمال والنفس.
جنّة الصفات: وهي الجنة المعنوية الحاصلة من تجلّيات الصفات والأسماء الإلهية، وتُسمّى بجنّة القلب.
جنّة الذات: وهي جنّة اللقاء، وهي جنّة مشاهدة الجمال الأحدي للحقّ تعالى، وتُسمّى بجنة الروح.
4 إشارة إلى الحديث المروي في مستدرك سفينة البحار، ج10، ص374: "حب الوطن من الإيمان".
 
 
 
 
 
 
 
 
20

14

نور الفناء

ترك حظوظ النفس مطلقاً
 
إيّاك ثم إيّاك - والله تعالى معينك في أولاك وأُخراك - أن تصرف همّك إلى حصول الملاذّ الحيوانية الشهوية، فإنّ هذا شأن البهائم، أو الغلبةِ على أقرانك وأشباهك حتى في العلوم والمعارف، فإنّ هذا شأنُ السباع، أو الرياساتِ الدنيوية الظاهرية وصرف الفكر والتدبير إليها فإنّ هذا مقام الشياطين، بل ولا تجعل نصب عينك صورة النسك1 وقشورها، ولا اعتدال الخُلق2 وجُودتها، ولا الفلسفة الكلية3 والمفاهيم المبهمة، ولا تنسيق كلمات أرباب التصوّف4



1 صورة النسك: العبادات الصورية والمناسك الظاهرية.
2 اعتدال الخلق: إشارة إلى علم الأخلاق الذي يمكن أن يحجب الإنسان عن الحقّ أحياناً بدل أن يُقرّبه إليه، إذا لم تكن النية فيه خالصة لوجه الله.
3 الفلسفة الكلية: إشارة إلى العلوم العقلية الفلسفية التي يمكن أن تحجب الإنسان وتحرفه عن الصراط المستقيم والهدف النهائي والحقيقي للفطرة الإنسانية، بسبب الانشغال بالمصطلحات والمفاهيم، وصيرورتها هدفاً بعد أن كان مجرّد وسيله لبلوغ المقصد، وهو الله تعالى.
4 التصوّف: التصوّف مشتقّ من الصفاء، أي لصفاء أسرار أهل هذه الطائفة. وقيل إنّهم سمّوا بهذه التسمية من لبسهم للصوف، فقد اشتهر عن هذه الظاهرة لبسهم للصوف زهداً في الدنيا وتربية للنفس الأمارة والأهواء المضلّة. 
فالمتصوّفة فئة من الناس اشتهرت بالعبادة والزهد وترك الشهوات والانقطاع عن الدنيا، والانشغال بتهذيب النفس. وهو في أغلبه سلوك عملي وفردي.
 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

نور الفناء

 والعرفان1 القشرية وتنظيمها، وإرعاد أهل الخرقة2 وإبراقها، فإنّ كل ذلك حجابٌ3 في حجاب وظلماتٌ بعضها فوق بعض، وصرفُ الهمّ إليها اخترام وهلاك، وذلك خسرانٌ مبين وحرمانٌ أبديٌّ وظلماتٌ لا نهاية لها، بل يكون همّك التوجّه إلى الله تعالى وإلى ملكوته في كلّ حركاتك وسكناتك وأنظارك وأفكارك، فإنّك مسافر إلى الله - تعالى - ولا يمكن لك أن تُسافر بقدمِ4 النفس، بل لا بدّ وأن يكون بقدم الله ورسوله، فإنّ المهاجرة من بيت النفس5 لا يمكن بقدمها. فكلّما كان قدمُك قدمَ النفس، ما خرجت بعدُ من بيتك، فلست مسافراً، وقد عرفت أنّك غريبٌ مسافر.




1 العرفان: العرفان لغة من المعرفة، واصطلاحاً هو علم معرفة الله من خلال الكشف المعنوي والرؤية القلبية، قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومبيّناً هذه الحقيقة الجليّة بالقول ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ سورة النجم، الآية: 11. وهو على قسمين: نظري وعملي. العرفان النظري هو العلم والمعرفة العقلية والنظرية بالله وأسمائه وصفاته وتجلّياته تمهيداً للحصول على المعرفة القلبية والشهودية. العرفان العملي هو العلم بطريق السير والسلوك إلى الله، من خلال تحديد المبدأ والمنتهى والمنازل والمقامات بينهما التي يجب على السالك أن يقطعها من خلال التقوى الكاملة والالتزام الدقيق بالأحكام الشرعية الإلهية.
2 أهل الخرقة: هم أهل التصوّف. والخرقة هي طقس صوفي، وهي ما يلبسه المريد من يد شيخه الذي دخل في إرادته، لأمور منها التزيّي بزيّ المراد وهو الشيخ، ليتلبسّ باطنه بصفات الشيخ كما تلبّس ظاهره بلباسه. وهي لباس التقوى ظاهراً وباطناً.
3 الحجب: الحجاب هو الحائل الذي يحول بين الشيء المطلوب والمقصود وبين طالبه وقاصده. وهي الموانع التي تحول وتمنع من وصول الإنسان إلى الغاية والمقصد من خلقه، وهو الحقّ سبحانه وتعالى. وهي على نحوين حجب ظلمانية وحجب نورانية.
4 بقدم النفس: بالاستعانة والاتكال على النفس بدل الحقّ سبحانه وتعالى.
5 ببيت النفس: الأنا وحبّ النفس.
 
 
 
 
 
 
 
22

16

نور الفناء

 الضنّ بأسرار المعارف إلّا لأهلها

وهذه وصيّتي إلى نفسي القاسية المظلمة البطّالة وإلى صاحبي الموفّق ذي الفكر الثاقب في العلوم الظاهرة والباطنة والنظر الدقيق في المعارف الإلهية، العالم الفاضل النقّاد والروحاني الآغا ميرزا جواد الهمداني بلّغه الله غاية الأماني، فإني ولعَمر الحبيب مع أنّه لستُ من أهل العلم وطلّابه ـ قد ألقيت إليه ما عندي من مهمّات أصول الفلسفة الإلهية المتعالية، وشطراً مما استفدت من المشايخ العظام - أدام الله ظلّهم - وكتب أرباب المعرفة وأصحاب القلوب - رضوان الله عليهم - وقد بلغ بحمد الله تعالى مرتبة العلم والعرفان وسلك مسلك العقل والإيمان، وهو سلّمه الله لطيف السرّ والقريحة، نقيّ القلب، سليم الفطرة، جَيّد الرؤية، متردٍّ برداء العلم والسداد وعلى الله التوكُّل في المبدأ والمعاد.
 
ولقد أوصيته بما وصّانا أساطين الحكمة والمشايخ العظام من أرباب المعرفة، أن يضنّ بأسرار المعارف1 كلّ الضنّ على غير أهله من ذوي الجحد والاعتساف، والضالّين عن طريق الحقّ والإنصاف، فإنّ هؤلاء السّفَهاء قرائحهم مُظلمة، وعقولهم مُكدّرة، ولا يزيدهم العلم والحكمة إلّا جهالة وضلالة، ولا المعارف الحقّة إلّا خسراناً 



1 أسرار المعارف: أسرار علم التوحيد والعرفان الحقيقي التي لا ينبغي أن يطّلع على حقائقها إلا من له الأهلية والاستعداد وبعد طي المقدّمات العلمية والمعنوية اللازم والضرورية.
 
 
 
 
 
 
23

17

نور الفناء

 وحيرة، وقد قال تعالى شأنه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾1.

 
الفرار من أهل الدنيا من المستغربين
وإيّاك ثم إيّاك أيّها الأخ الروحاني والصديق العقلاني وهذه الأشباح المنكوسة المدّعين للتمدّن والتجدّد2، وهم الحُمُر المُستَنْفرة والسّباع المفترسة والشياطين في صورة الإنسان، وهم أضلّ من الحيوان، وأرذل من الشيطان، وبينهم- ولَعَمْر الحقيقة - والتمدّن بون بعيد، إن استشرقوا استغرب التمدُّن، وإن استغربوا استشرق، فرّ منهم فرارك من الأسد، فإنّهم أضرّ على الإنسان من الآكلة للأبدان.
 
وأكرّر التماسي ووصيّتي أن تذكرني عند ربّك - تعالى شأنه - ذكراً جميلًا ﴿وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾3 وجَنّبنا عن مخالطة السّفَلة الأشرار بحقّ محمد وآله الأطهار- صلوات الله عليهم.



1 سورة الإسراء، الآية: 82.
2 إشارة إلى فئة من الناس ممّن انخدعوا بالثقافة الغربية والحياة المدنية المعاصرة التي صاغ الغرب معالمها الأساسية في هذه العصر.
3 سورة البقرة، الآية: 201.
 
 
 
 
 
 
 
24

18

نور الفناء

 حرّره العبد العاصي المذنب السيد روح الله بن السيد مصطفى الخميني، غفر الله تعالى لهما وجزاهما وإخوانه المؤمنين جزاءً حسناً. في صبيحة يوم السبت لثلاث بقين من ربيع المولود سنة أربع وخمسين وثلاث مئة بعد الألف من الهجرة القُدسية النبوية صلى الله عليه وآله وسلم.


ربيع الأول 1354 هـ. ق‏
مدينة قم‏ المقدّسة
 
 
 
 
 
 
 
25

19

سرّ العروج

 سرّ العروج‏[1]

 
باسمه تعالى‏
 
وصلتني رسالة سماحتكم الكريمة التي طمأنتني على سلامتكم، وتضمّنت تفقّدكم إيّاي وسرّتني بعباراتها العذبة التي عبّرت عن عواطفكم القلبية. أدعو الله تعالى لسماحتكم بالسلامة والتأييد.
 
نعمة الشباب
لم يبق من عمري إلّا أيام قلائل وأملي أن يقبل الباري تعالى صالح الدعاء من الأحبة ويعاملني بلطفه العميم ورحمته يوم الحساب.
 
وأنتم أيُّها السادة الذين تنعمون الآن بالشباب لن يمرّ عليكم طويل وقت حتى تشيبوا فلا تفرطوا بمرحلة الشباب واسعوا لخدمة الخالق والخلق ونيل رضا المولى جلّت قدرته.



1  وصيّة إلى محمد حسين بهجتي، صحيفة الإمام، ج‏2، ص 96.
 
 
 
 
 
 
 
27

20

سرّ العروج

 فالتهذيب1 في مرحلة الشباب سهل للغاية إذا ما قورن بأيام الشيخوخة والهرم، حيث تذهب القوة وتستحكم جذور الأخلاق الفاسدة التي تنبت من حبّ الدنيا والنفس وتعسر التهذيب للغاية.

 
 
الاستعداد للشدائد
 
جهّزوا أنفسكم لتحمُّل الصعاب والشدائد في سبيل الله تعالى فقد تمرّ عليكم في المستقبل- لا سمح الله- أيّام ثقال قد يصعب عليكم تحمّلها إذا لم تكونوا قد أعددتم أنفسكم لها من الآن. اسعوا للقضاء على حبّ الدنيا وحبّ الشهرة والجاه في أنفسكم فإنّ هذا الخطر هو أكبر المصائب في أيّام الهرم. أسأل الله تعالى لسماحتكم وسائر أهل العلم التوفيق والتأييد. والسلام عليكم.
 
التاريخ 1386 هـ. ق‏
النجف الأشرف‏



1 تهذيب النفس وتزكيتها من حبّ الدنيا والجاه والشهوات التي تُسبِّب الغفلة عن الله تعالى.
 
 
 
 
 
 
28

21

المظاهر الرحمانية

 المظاهر الرحمانية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
 
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم خلفاؤهم، وأنّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقّ، وأنّ القبر والنشور والجنّة والنار حقّ، وأنّ الله يبعث من في القبور.
 
وصيّة من أب عجوز أهدر عمره ولم يتزوّد للحياة الأبدية ولم يخط خطوة خالصة لله المنّان، ولم ينج من الأهواء النفسانية 
والوساوس الشيطانية، لكنّه غير آيس من فضل وكرم الكريم تعالى وهو يأمل بعطف وعفو الباري جلّ وعلا، لا زاد له سوى هذا...
 
إلى ابن يتمتّع بنعمة الشباب متاحة أمامه فرصة لتهذيب النفس وللقيام بخدمة خلق الله، والأمل أن يرضى عنه الله تعالى، كما رضي
 
 
 
 
 
 
 
 
29

22

المظاهر الرحمانية

 عنه أبوه، وأن يوفَّق لتقديم ما بوسعه خدمة للمحرومين، الشريحة الأكثر استحقاقاً لتقديم الخدمة إليها من بين جماهير الشعب الأخرى والتي أوصى بها الإسلام.

 
فقر الموجودات إلى الله
بني أحمد رزقك الله هدايته:
اعلم، أنّ العالم سواء كان أزلياً1 وأبدياً2 أوّلاً، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أو لا، فإنّها جميعاً محتاجة، لأنّ الوجود ليس ذاتياً لها3، ولو تفكّرت وأحطت عقلياً بجميع السلاسل غير المتناهية فإنّك ستدرك الفقر الذاتي4 والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته5 والذي تُمثّل كمالاته عين ذاته.
 
ولو تمكّنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقلياً وسألتها: أيّتها الموجودات الفقيرة، من يستطيع تأمين 



1  الأزلي: الذي لا بداية له.
2 الأبدي: الذي لا نهاية له.
3  لأنّ الوجود يمكن أن ينفكّ عن الموجودات الإمكانية فهي لم تكن ثم كانت. وهي في مرحلة ما كانت فاقدة للوجود ثم أُفيض عليها فوجدت، وعليه لا يمكن أن يكون الوجود ذاتياً وأصيلاً بالنسبة لموجودات عالم الإمكان.
4  الفقر الذاتي هو من أهمّ خصائص الوجود الإمكاني الذي يحتاج دائماً إلى من يفيض عليه الوجود بقاءً واستمراراً، بعكس الغنى الذاتيّ الذي هو الحقّ تعالى الواجب الوجود بذاته.
5 هو الموجود الذي يكون وجوده ذاتيٌّ له وواجب، ولا ينفكّ عنه مطلقاً، ويُسمّى بـ "واجب الوجود"، وهو الحقّ سبحانه وتعالى.
 
 
 
 
 
 
 
30

23

المظاهر الرحمانية

 احتياجاتكم؟ فإنّها ستردّ جميعاً بلسان الفطرة: "إنّنا محتاجون إلى من ليس محتاجاً بوجوده مثلنا إلى الوجود والذي هو كمال الوجود". وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد من الله: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾1، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدّل إلى غنية بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع.

 
ولأنّها فقيرة بذاتها ومحتاجة فلن يستطيع سوى الغني بذاته من رفع فقرها واحتياجها. كما أنّ هذا الفقر الذي يُمثّل أمراً لازماً ذاتياً فيها، هو صفةٌ دائمة أيضاً، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حلّ مشاكلها وتأمين احتياجاتها.
 
كذلك فإنّ أيّ كمال أو جمال ينطوي عليه أيّ موجود ليس منه ذاتاً، إنّما هو مظهر لكمال الله تعالى وجماله فـ ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾2 حقيقة تصدق على كل أمر وكل فعل، وكل من يدرك هذه الحقيقة ويتذوّقها فلن يعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجو غيره تعالى.



1 سورة الروم، الآية: 30.
2 سورة الأنفال، الآية: 17.
 
 
 
 
 
 
 
 
31

24

المظاهر الرحمانية

 هذه بارقة إلهية، حاول أن تُفكّر فيها في خلواتك، وأن تُلقّن قلبك الرقيق وتُكرّر عليه هذه الحقيقة إلى أن ينصاع اللسان لها وتسطع هذه الحقيقة في ملك وملكوت وجودك. وارتبط بالغني المطلق حتى تستغني عمّن سواه، واطلب التوفيق منه حتى يجذبك من نفسك1 ومن جميع من سواه، ويأذن لك بالدخول والتشرّف بالحضور في ساحته المقدّسة.

 
أنانيّتنا سبب احتجابنا
 
ولدي العزيز:
إنّ الله جلّ وعلا يقول: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2، كما "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً"3.
 
يا فؤادي دعْك من فرط المنى         ليـس بـالغائب من تهـوى ولا



1 الأنا والتعلّق بالنفس.
2 سورة الحديد، الآية: 3.
3 فقرات من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفه، مفاتيح الجنان.
 
 
 
 
 
 
 
32

25

المظاهر الرحمانية

 من تُديم البحث عن لقياه، يخفى    إنما أبصارنا نحن تولّاها العمى1

 
فهو ظاهر وكلّ ظهور هو ظهور له سبحانه وتعالى، ونحن بذاتنا حجب، فأنانيّتناوإنّيّتنا3 هي التي تحجبنا.
 
فلنلذ به ولنطلب منه تبارك وتعالى متضرّعين مبتهلين أن يُنجينا من الحجب, "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك، إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك"4.
 
بنيّ:
نحن ما زلنا رهن الحجب الظلمانية5 وبعدها الحجب النورية6، وما زلنا في منعطف زقاق ضيّق.



1 مضمون بيت من الشعر.
2 الأنانية: هي حبّ النفس.
3 الإنّيّة: هي رؤية النفس.
4 فقرات من المناجات الشعبانية، مفاتيح الجنان.
5 الحجب الظلمانية: هي الموانع الجسدية والنفسية التي تحول دون معرفة الله.
6 الحجب النوارنية: هي الموانع العقلية والروحية التي تحول دون معرفة الله ومشاهدة أنوار جماله وجلاله.
 
 
 
 
 
 
33

26

المظاهر الرحمانية

عدم إنكار المقامات المعنوية

بنيّ:

إن لم تكن من أهل المقامات المعنوية1، اسع أن لا تنكر المقامات الروحية والمعنوية، فإنّ من أخطر مكائد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء التي تصدّ الإنسان عن بلوغ جميع المدارج الإنسانية والمقامات الروحانية، هي دفع الإنسان إلى إنكار السلوك إلى الله والاستهزاء به أحياناً، مما يجرّ إلى الخصومة والمعاداة لهذا الأمر. وهكذا فإنّ ما جاء به جميع الأنبياء العظام عليهم السلام، والأولياء الكرام عليهم السلام، والكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم- كتاب بناء الإنسان الخالد - والتي جاءت لتحقيق هذا الأمر2، سيموت إثرها قبل أن يولد.

 


1 المقامات المعنوية: هي المنازل الروحيّة التي يمرّ بها الإنسان السالك إلى الله، فيقف فيها فترة من الزمن مجاهداً، حتّى يُهيّئ الله سبحانه له سلوك الطريق إلى المنزل الثاني الأعلى، فيتدرّج في مراتب الكمال الروحي. إنّما سُمّي مقاماً لإقامة السالك فيه فترة. كمنزل التوبة الذي يُهيّئ إلى منزل الورع، ومنزل الورع يُهيّئ إلى منزل الزهد، وهكذا حتّى يصل الإنسان إلى منزل المحبّة وإلى منزل الرضا وصولاً في نهاية المطاف إلى مقام التوحيد. وهذه المنازل لا بدّ لها من جهاد وتزكية للنفس بالرياضة الشرعية.

2 السلوك إلى الله والتحقُّق بالكمالات الروحية والمعنوية.

 
 
 
 
 
 
34

27

المظاهر الرحمانية

 القرآن كتاب معرفة الله والطريق إليه

فالقرآن الكريم, كتاب معرفة الله ومعرفة طريق السلوك إليه تعالى، تحوّل بأيدي الجاهلين من محبّيه إلى سبب جرّهم للانحراف والانزواء. فراحوا يصدرون عنه الآراء المنحرفة ويُفسّرونه بالرأي - وهو الأمر الذي نهى عنه جميع أئمة الإسلام- فراح كلّ واحد منهم يتصرّف فيه بما تمليه نفسانيّته.
 
لقد نزل هذا الكتاب العظيم في عصر وفي محيط كان يُمثِّل أشدّ حالات الظلام1، كما نزل بين قوم يُعتبرون أشدّ الناس تخلُّفاً في ذلك العصر، وقد أنزل على شخص وعلى قلب إلهي لشخص كان يعيش في ذلك المحيط.
 
وقد اشتمل هذا القرآن الكريم على حقائق ومعارف لم تكن معروفة آنذاك في العالم أجمع فضلاً عن المحيط الذي نزل فيه. وإنّ من أعظم وأسمى معاجزه هي هذه المسائل العرفانية العظيمة التي لم تكن معروفة لدى فلاسفة اليونان.



1 هو عصر الجاهلية.
 
 
 
 
 
 
 
35

28

المظاهر الرحمانية

 فقد عجزت كتب أرسطو1 وأفلاطون2 - أعظم فلاسفة ذلك العصر- عن بلوغ معانيها، بل الأشدّ من ذلك أنّ فلاسفة الإسلام الذين ترعرعوا في مهد القرآن الكريم، وانتهلوا منه ما انتهلوا من مختلف المعارف لجأوا إلى تأويل بعض الآيات التي صرّحت بحياة جميع الموجودات في العالم مثلاً، والحال أنّ عرفاء الإسلام العظام إنّما أخذوا ما قالوه منه. فكلّ شيء أخذوه من الإسلام ومن القرآن الكريم.

 
فالمسائل العرفانية الموجودة في القرآن الكريم ليست موجودة في أيّ كتاب آخر. وإنّها لمعجزة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان على درجة عالية من المعرفة بالله تعالى بحيث إنّ الباري جلّ وعلا كان



1 أرسطو: أرسطوطاليس(384ق.م- 322 ق.م) ثاني أكبر فلاسفة الغرب بعد أفلاطون مؤسس علم المنطق، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة والمنطق والسياسة والأخلاق والفلك والفيزياء. ويعدُّ تأسيسه لعلم (المنطق) أحد اهم الانجازات لمدرسته الفلسفية، ولا يزال علم المنطق إلى يومنا هذا يعترف بالفضل القديم لأرسطو. وتعد "المدرسة المشائية" الفلسفية إحدى أثرى المدارس الفلسفية إنتاجاً وإبداعاً منذ زمن أفلاطون وإلى يومنا هذا، على رغم الانتقادات الكثيرة والإضافات المنهجية التي قام بها فلاسفة الشرق والغرب عليها.
2 أفلاطون: (428ق.م-348ق.م) فيلسوف يوناني يعتبر أعظم الفلاسفة الأقدمين دون منازع، من الكتب التي ألفها كتاب الجمهورية، وكان تلميذاً لسقراط وأستاذاً لأرسطو. وكانت أعماله هي الشرارة الأولى التي أشعلت جميع المسائل والأفكار الفلسفية في العالم الغربي، وكانت أيضا الحافز الأول لظهور علم النفس والمنطق والسياسة، وقد خلفت تلك الأعمال تأثيرات عميقة على الحياة العلمية في مختلف عصور التاريخ.َ ويعدُّ أفلاطون الأب الأول للمدرسة المثالية "الميتافيزيقية"، والتي امتدّ تأثيرها إلى القرون اللاحقة عليها.
 
 
 
 
 
 
 
 
36

29

المظاهر الرحمانية

  يكشف له أسرار الوجود، وكان صلى الله عليه وآله وسلم بدوره يرى الحقائق بوضوح ودون أيّ حجاب، وذلك أثناء عروجه وارتقائهـ قمّة كمال الإنسانية، وفي ذات الوقت كان حاضراً في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود.

 
فمَثَّل بذلك أسمى مظهر لـ ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾1 كما سعى إلى رفع جميع الناس للوصول إلى تلك المرتبة، وكان يتحمّل الآلام والمعاناة حينما كان يراهم عاجزين عن بلوغ ذلك، ولعلّ قوله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾2 إشارة خفية إلى هذا المعنى، ولعلّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي نبيٌّ مثلما أوذيت"3 يرتبط أيضاً بذات المعنى.
 
الابتعاد عن العزلة والانزواء
 
إنّ أولئك الذين بلغوا هذا المقام أو ما يُماثله، لا يختارون العزلة عن الخلق أو الانزواء، فهم مأمورون بإرشاد وهداية الضالّين إلى هذه التجلّيات وإن كانوا لم يوفّقوا كثيراً في ذلك. أمّا أولئك الذين بلغوا مرتبة ما من بعض هذه المقامات وغابوا عن أنفسهم بارتشاف جرعة ما، وظلّوا بذلك في مقام الصعق4 فإنّهم وإن كانوا قد حازوا



1 سورة، الحديد، الآية: 3.
2 سورة طه، الآيتان: 1 و2.
3 الوافي، الفيض الكاشاني، ج2، ص235. بحار الأنوار، ج39، ص55.
4 مقام الصعق: مقام الفناء في الحقّ تعالى عند حصول التجلّي الذاتي.
 
 
 
 
 
 
 
37

30

المظاهر الرحمانية

 مرتبة ومقاماً عظيماً إلا أنّهم لم يبلغوا الكمال المطلوب. فقد سقط موسى الكليم عليه السلام بحال الصعق نتيجة تجلّي الحقّ، وأفاق بعناية إلهية خاصة ثم أُمرٍ بتحمُّل أمرٍ ما. وكذا فإنّ خاتم النبيّين، الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أُمر بعد بلوغه القمّة من مرتبة الإنسانية، وما لا تبلغه العقول من مظهرية الاسم الجامع الأعظم، بهداية الناس بعد أن خاطبه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾1.

 
ولدي العزيز: هدفي ممّا ذكرته لك - رغم أنّي لا شيء، بل أقلّ حتى من اللاشيء - أن أُلفت نظرك إلى أنّك إن لم تبلغ مقاماً ما، فعليك أن لا تُنكر المقامات المعنوية والمعارف الإلهية، ولكي تصبح من أولئك الذين يحبون الصالحين والعارفين وإن لم يكونوا منهم، وحتى لا تغادر هذه الدنيا وأنت تكنّ بعض العداء لأحباب الله تعالى.
 
التعرّف إلى القرآن الكريم
بنيّ:
تعرّف إلى القرآن - كتاب المعرفة العظيم - ولو بمجرّد قراءته، واجعل منه طريقاً إلى المحبوب، ولا تتوهمنّ أنّ القراءة من غير معرفة لا أثر لها، فهذه وساوس الشيطان، فهذا الكتاب كتاب من المحبوب إليك وإلى الجميع وكتاب المحبوب محبوب وإن كان العاشق المحبّ 



1 سورة المدثر، الآيتان: 1 و2.
 
 
 
 
 
 
 
 
38

31

المظاهر الرحمانية

 لا يُدرك معنى ما كُتب فيـه وقد جاء إليك هادفاً خلق هذا الأمر لديك وهو "حب المحبوب"، الذي يمثّل غاية المرام، فلعلّه يأخذ بيدك.

 
واعلم أنّنا لو أنفقنا أعمارنا بتمامها في سجدة شكر واحدة على أنّ القرآن كتابنا لما وفّينا هذه النعمة حقّها من الشكر.
 
الآثار النورانية للدعاء
بنيّ:
إنّ الأدعية والمناجاة التي وصلتنا عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام1، أعظم دليل يرشد إلى معرفة الله جلّ وعلا، وأسمى وسيلة لسلوك طريق العبودية، وأرفع رابطة بين الحقّ والخلق. كما أنّها تشتمل في طيّاتها على مختلف المعارف الإلهية وتُمثّل أيضاً وسيلة ابتكرها أهل بيت الوحي للأنس بالله جلّت عظمته. فضلاً عن أنّها تُمثّل نموذجاً لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك.



1 هم ذوو القربى الذين أمرنا الله بمودّتهم: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(سورة الشورى، الآية:23)، وأولو الأمر الذين أمرنا الله بطاعتهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(سورة النساء، الآية:59)، أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه بالحق في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة﴾(سورة البقرة، الآية:30)، الأئمة المعصومون الاثنا عشر اللذين طهّرهم الله تطهيراً من كلّ دنس ورجس وهم: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الإمام الحسن بن علي عليه السلام، الإمام الحسين بن علي عليه السلام، الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام، الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام، الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام، الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
 
 
 
 
 
 
39

32

المظاهر الرحمانية

 فلا تصدّنك وساوس الغافلين الجاهلين، عن التمسُّك أو الأنس بها. إنّنا لو أمضينا أعمارنا بتمامها نُقدّم الشكر على أنّ هؤلاء المتحرّرين من قيود الدنيا والواصلين إلى الحقّ هم أئمّتنا ومرشدونا لما وفّينا هذا الأمر حقّه من الشكر.


الدقّة في اختيار الأصدقاء
بنيّ:
من الأمور التي أود أن أوصيك بها وأنا على شفا الموت، أصعد الأنفاس الأخيرة، أن تحرص - ما دمت متمتعاً بنعمة الشباب - على دقة اختيار من تعاشرهم وتصاحبهم، فليكن انتخابك للأصحاب من بين أولئك المتحررين من قيود المادة، والمتديّنين المهتمّين بالأمور المعنوية، ممن لا تغرهم زخارف الدنيا ولا يتعلقون بها، ولا يسعون في جمع المال وتحقيق الآمال في هذه الدنيا أكثر مما يلزم أو أكثر من حدّ الكفاية، وممن لا تلوَّث الذنوب مجالسهم ومحافلهم، ومن ذوي الخلق الكريم. اسع في ذلك فإن تأثير المعاشرة على الطرفين من إصلاح وإفساد أمر لا شك في وقوعه. اسع أن تتجنب المجالس التي توقع الإنسان في الغفلة عن الله فإن ارتياد مثل هذه المجالس قد يؤدّي إلى سلب الإنسان التوفيق، الأمر الذي يعدُّ بحدَّ ذاته خسارة لا يمكن جبرانها.
 
 
 
 
 
 
 
40

33

المظاهر الرحمانية

 الجميع يبحثون عن الكمال المطلق

اعلم أنّ في الإنسان - إن لم نقل في كلّ موجود - حبّاً فطرياً للكمال المطلق1 وللوصول إلى الكمال المطلق، وهذا الحبّ ممّا يستحيل أن يُفارق الإنسان تماماً. كما أنّ الكمال المطلق محال أن يتكرّر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحقّ جلَّ وعلا والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم ولا يعلمون.
 
فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور2، لذا فهم يتوهّمون أنّهم يطلبون شيئاً آخر غيره، ولذا تراهم لا يقنعون بتحقيق أيّة مرتبة من الكمال ولا بالحصول على أيّ جمال أو قدرة أو مكانة، فهم يشعرون أنّهم لا يجدون في كلّ ذلك ضالّتهم المنشودة.
 
فالمقتدرون ومن يمتلكون القدرة الكبرى، في سعي دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة، وطلّاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه، وهم يشعرون دوماً أنّهم لم يجدوا ضالّتهم، وفي الحقيقة هم غافلون عنها.
 
ولو أُعطي الساعون إلى القدرة والسلطة، التصرُّف في جميع العالم المادّي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرّات بل وكلّ ما هو فوقها، ثم قيل لهم: إنّ هناك قدرة فوق هذه القدرة التي



1 الكمال الذي لا حد له ولا منتهى.
2 الحجب الظلمانية والنورانيّة.
 
 
 
 
 
 
41

34

المظاهر الرحمانية

 تملكونها، أو أنّ هناك عالماً أو عوالم أخرى فوق هذا العالم فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنّهم من المحال أن لا يتمنّون ذلك، بل إنّهم من المحتّم أن يقولوا بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضا‍ً‍! وهكذا طالب العلم، فهو إن ظنّ أنّ هناك مرتبة أخرى، غير ما بلغه، فإنّ فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: يا ليت لي هذه القدرة، أو يا ليت لي سعة من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً!‍

 
وعليه إنّ ما يُطمئن الجميع ويخمد نيران النفس المتمرّدة ويحدّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنّما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جلَّ وعل, فإنّ الاستغراق في ذلك، هو الذي يبعث الطمأنينة والهدوء فقط. وكأنّ قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1 نوع من الإعلان أن: انتبه!انتبه !عليك أن تلجأ إلى ذكره حتى تحصل على الطمأنينة لقلبك القلق الحيران الذي يواصل القفز من جانب إلى جانب، والطيران من غصن إلى غصن.
 
الابتعاد عن الشهرة وما تشتهيه النفس
إذن فما دام الله سيبعث في قلبك الطمأنينة بذكره، فاستمع يا ولدي العزيز لنصيحة أبٍ عانى من الحيرة والقلق ولا تُتعب نفسك بالانتقال بِطَرْقِ هذا الباب أو ذلك الباب، للوصول إلى هذا المنصب



1 سورة الرعد، الآية: 28.
 
 
 
 
 
 
42

35

المظاهر الرحمانية

 أو تلك الشهرة أو ما تشتهيه النفس. فأنت مهما بلغت من مقام فإنّك سوف تتألّم وتشتدّ حسرتك وعذاب روحك لعدم بلوغك ما فوق ذلك، وإن سألتني: لمَ لم تعمل أنت بهذه النصيحة؟ أجبتك بالقول: "لا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قيل"1  فما قلته لك صحيح، حتى وإن صدر عن مجنون أو مفتون.

 
يقول تعالى في محكم كتابة العزيز: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾2 ثم يتبع ذلك بقوله: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾3.
 
فالإنسان في هذا العالم معرّض لأمور شتّى، فهو عرضة أحياناً لأن تنزل به المصائب، كما أنّه قد يلاقي إقبالاً من الدنيا فيبلغ فيها المقام والجاه ويحصل على المال ويُحقّق أمانيه وينال القدرة والنعمة، وكلا الحالين ليس بثابت، فلا ينبغي أن تُحزنك المصائب والحرمان فتُفقدك صبرك، لأنّها قد تكون أحياناً في نفعك وصلاحك: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾4. كما لا ينبغي أن تدفعك الدنيا



1 ورد في غررالحكم، ص 58 هكذا "خذ الحكمة ممّن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال".
2 سورة الحديد، الآية: 22.
3 سورة الحديد، الآية: 23.
4 سورة البقرة، الآية: 216.
 
 
 
 
 
 
 
43

36

المظاهر الرحمانية

 بإقبالها عليك وتحقيقها ما يشبع شهواتك إلى أن تتكبّر وتختال على عباد الله، فما أكثر ما تُعدّه أنت خيراً وهو شرٌّ لك.

 
حبّ الدنيا منشؤه حبّ النفس
بنيّ:
إنّ السبب الرئيس للندم وأساس ومنشأ جميع ألوان الشقاء والعذاب والمهالك ورأس جميع الخطايا والذنوب إنّما هو "حب الدنيا"1  الناشئ من "حبّ النفس"، بيد أنّه ينبغي القول أنّ عالم الملك ليس مبغوضاً ولا مذموماً في حدّ ذاته، فهو تجلّي الحقّ ومقام ربوبيّته تعالى ومهبط ملائكته ومسجد ومكان تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام ومحراب عبادة الصلحاء، وموطن تجلّي الحقّ على قلوب عاشقي المحبوب الحقيقي. إنّ حبّ "عالم المُلك"2 والتعلّق به إذا كان ناشئاً عن حبّ الله، باعتباره محلّاً لتجلّيات الحقّ جلّ وعلا، فهو أمر محثوث عليه ويستوجب الكمال، أمّا إذا كان منشؤه حبّ النفس فهو رأس الخطايا جميعاً. إذن فالدنيا المذمومة هي في داخلك أنت، والتعلّق بغير صاحب القلب وحبّه، هو الموجب للسقوط.



1 عن الإمام الصادق عليه السلام قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ" (وسائل الشيعة، ج16، ص9).
2 عالم المُلك: بضم الميم هو عالم الدنيا، ويُسمّى أيضاً بعالم الشهادة.
 
 
 
 
 
 
44

37

المظاهر الرحمانية

 وفي الوقت نفسه فإنّ أيّ قلب لا يمكنه - فطرياً - أن يتعلّق بغير صاحب القلب الحقيقي1. وجميع المخالفات لأوامر الله وجميع المعاصي والجرائم والجنايات التي يُبتلى بها الإنسان، كلّها من "حبّ النفس" الذي يولّد "حبّ الدنيا" وزخارفها وحبّ المقام والجاه2 والمال ومختلف الأماني هي التي تجعلنا نميل خطأً واشتباهاً نحو غير صاحب القلب، وهي ظلمات فوقها ظلمات.

 
حجاب النفس والأنا
نحن وأمثالنا لم نصل إلى الحجب النورانية بعد، وما زلنا أسرى الحجب الظلمانية! فمن قال: "هب لي كمال الإنقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة"3 فقد اخترق الحجب الظلمانية وتعدّاها. أمّا الشيطان الذي خالف أمر الله ولم يسجد لآدم، فقد رأى نفسه عظيماً، لأنّه كان في الحجب الظلمانية، وقال: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾4 جعلته يُطرد ويُبعد عن ساحة الربوبية!
 
نحن أيضاً ما دمنا في حجاب النفس والأنانيّة فنحن شيطانيّون،



1 الله سبحانه وتعالى.
2 الجاه: القدر والمنزلة بين الناس.
3 فقرات من المناجات الشعبانية، مفاتيح الجنان.
4 سورة ص، الآية: 76.
 
 
 
 
 
 
 
45

38

المظاهر الرحمانية

 مطرودون من محضر الرحمن، وما أصعب تحطيم هذا الصنم1 الذي يُعدّ "أمّ الاصنام". فنحن ما دمنا خاضعين له مطيعين لأوامره، فنحن غير خاضعين لله جلّ وعلا، غير طائعين لأوامره، وما لم يُحطّم هذا الصنم فإنّ الحجب الظلمانية لن تتمزّق ولن تُزال. وحتى يُحقّق ذلك، علينا أن نعرف ماهية الحجاب أولاً، فنحن إذا لم نعرفه لن نستطيع المبادرة إلى إزالته أو تضعيف أثره، أو على الأقل الحدّ من تزايد رسوخه وقوّته بمرور الوقت.

 
روي أنّ بعض الأصحاب كانوا يجالسون الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فسمع صوتاً مهيباً، فسألوا: ما هذا الصوت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّه صوت حجر كان قد أُلقي إلى جهنّم قبل سبعين سنة، وقد بلغ قعرها الآن2. بعدها علموا أنّ كافراً كان قد مات حينها عن سبعين سنة من العمر. وإذا صحّ الحديث فإنّ من سمعوا الصوت لا بدّ أنّهم كانوا من ذوي الألباب، أو قد يكون الأمر قد تمَّ بقدرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قاصداً إسماع الغافلين وتنبيه الجاهلين.
 
أما إذا لم يصحّ الحديث - ولا أذكره بالنصّ- فإنّ الأمر في حقيقته كذلك، فنحن نسير عمراً بكامله باتجاه جهنّم. فنحن



1 صنم النفس: الأنا.
2 في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يوما جالساً في أصحابه فسمع هده فقال:"هذا حجر أرسله الله تعالى من شفير جهنم فهو يهوي فيها منذ سبعين خريفاً حتى بلغ الآن قعره". عوالي ‏اللآلي،ج1، ص 280.
 
 
 
 
 
 
 
46

39

المظاهر الرحمانية

 نمضي العمر بتمامه نؤدّي الصلاة - التي تُعدّ أكبر ذكرى من الله المتعال- ونحن مُعرضون عن الحقّ تعالى وعن بيته العتيق متوجّهين إلى الذّات وإلى بيت النفس. وكم هذا مؤلم، فالصلاة التي ينبغي أن تكون معراجاً لنا، وتدفعنا نحوه تعالى وإلى جنّة لقائه، نؤدّيها ونحن متوجّهون إلى النفس وإلى منفى جهنّم.

 
العجز عن معرفة الله حقّ معرفته
بنيّ:
لم أقصد من هذه الإشارات إيجاد السبيل لأمثالي وأمثالك لمعرفة الله وعبادته حقّ العبادة، مع أنّه قد نُقل عن أعرف الموجودات بحقّ الحقّ تعالى، وأعرفها بحقّ العبادة له جلّ وعلا، قوله: "ما عرفناك حقّ معرفتك وما عبدناك حقّ عبادتك"1، وإنّما لأجل أن نفهم عجزنا ونُدرك ضالتنا، ونُهيل التراب على أنانيّتنا وإنيّتنا، لعلّنا بذلك نكبح جماح هذا الغول، ولعلّنا نلجمه بعد ذلك ونروّضه، فنتحرّر بعدها من خطرٍ عظيم يكوي - مجرّد تذكّره - الروح ويحرقها.
 
التنبُّه من سوء العاقبة
وعليك أن تنتبه! فهناك خطر قد يعترض الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره وهو يهمّ بمغادرة هذا العالم والانتقال إلى



 1 بحار الأنوار،ج68،ص 23، وردت هكذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:"مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَمَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ".
 
 
 
 
 
 
 
47

40

المظاهر الرحمانية

 مستقرّه الأبديّ. فإنّ ذلك قد يجعل المبتلى بحبّ النفس وما يولّده من حبّ الدنيا- بأبعادهما المختلفة - يرى وهو في حال الاحتضار- وحين تنكشف للإنسان بعض الأمور فيراها عيانا ً1 - أنّ "مأمور الله"2 جلّ وعلا سبب في فصله عن محبوبه ومعشوقه! فيرحل عن هذه الدنيا وهو غاضب على الله جلّ وعلا متنفّرٌ منه! وهذه عاقبة وثمرة حبّ النفس والدنيا، وقد أشارت إلى ذلك الروايات المختلفة.

 
ينقل أحد المتعبّدين الثقاة فيقول: "ذهبت لزيارة أحدهم وكان يحتضر، فقال وهو على فراش الموت: إنّ الظلم الذي لحقني من الله تعالى لم يلحق أحداً من العالمين، فهو يريد أن يأخذني من أطفالي الذين صرفت دم القلب في تربيتهم ورعايتهم! فقمت من عنده ثم أسلم روحه إلى بارئها". لعلّ هناك بعض التفاوت بين ما نقلته وما سمعته من ذلك العالم المتعبّد، على أيّة حال فإن صحّ فهو أمر على درجة خطيرة من الأهمّية تدفع الإنسان إلى التفكير بجدّية في أمر خاتمته وعاقبته!



1 حضوراً ومن دون أي حاجب أو حائل.
2 ملك الموت.
 
 
 
 
 
 
 
48

41

المظاهر الرحمانية

 حبّ الله حبّ لمظاهره وتجلّياته

إنّنا لو فكّرنا ساعة, في موجودات العالم - التي نُمثّل نحن جزءاً منها - وأدركنا أنّ أيّ موجود ليس لديه شيء من نفسه1، وأنّ ما وصله وما وصل إلى الجميع إنّما هي ألطاف إلهية ومواهب مستعارة2.
 
وفي الألطاف التي منّ الله تعالى بها علينا - سواء قبل أن نأتي إلى الدنيا أو خلال حياتنا فيها ومنذ الطفولة إلى آخر العمر، أو بعد الموت- بواسطة الهداة الذين كلّفوا بهدايتنا.
 
فلعلّ بارقة من حبّه جل وعلا ستلوح في أفق وجودنا، نحن المحجوبون، فندرك بعدها مدى ضئالتنا وتفاهتنا، فيفتح بذلك لنا طريق نحوه جلّ وعلا، وننجو على الأقل من "الكفر الجحودي"3، وإنكار المعارف الإلهية، ونمتنع عن عدّ المظاهر الرحمانية مقامات لنا، والمفاخرة بها، الأمر الذي سيبقينا أسرى الوقوع في بئر "ويل"4 الأنانية والغرور إلى الأبد.
 
يروى أنّ "الله تعالى خاطب أحد أنبيائه فطلب إليه أن يأتيه بمخلوق أدنى منه، فقام النبي بعد ذلك بسحب رفاة حمار بقصد عرضها على



1 هو قوله تعالى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ سورة آل عمران، الآية: 128.
2 لأنها ليست أموار ذاتية.
3 الكفر الجحودي: هو الكفر عن معرفة ويقين بالحق، قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ سور النمل، الآية: 14.
4 اسم بئر في جهنم.
 
 
 
 
 
 
 
 
49

42

المظاهر الرحمانية

 أنّها مخلوق أدنى منه، إلا أنّه ندم فتركها، فلمّا وصل وحده إلى لقاء الله خاطبه عزّ وجلّ بالقول: لو أنّك أتيتني بتلك الجيفة لكنت سقطت عن مقامك". وإنّي أجهل مدى صحّة الحديث ولكن، لعلّ الأمر بالنسبة لمقام الأولياء، يعدّ سقوطاً حينما يرون الأفضلية لأنفسهم على غيرهم، فتلك أنانية وغرور، وإلا فلِمَ كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يأسف ذلك الأسف المرير على عدم إيمان المشركين، إلى الحدّ الذي جعل الله تعالى يخاطبه بالقول: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾1. فهذا ليس سوى أنه عَشِق جميع عباد الله، والعشق لله عشق لتجلّياته ومظاهر عظمته.

 
فهو صلى الله عليه وآله وسلم يتألّم ممّا تؤدّي إليه حجب الأنانية والغرور الظلمانية في المنحرفين من دفعهم إلى الشقاء ثم العذاب الأليم في جهنّم نتيجة لأعمالهم، في حين أنّه يريد السعادة للجميع. فهو مبعوث لتحقيق السعادة للجميع، والمشركون المنحرفون - عمي القلوب - وقفوا بوجهه ونصبوا له العداء رغم أنّه جاء لإنقاذهم!
 
أنا وأنت إذا وُفِّقنا إلى إيجاد بصيص من هذا العشق لتجلّيات الحقّ- الذي يُميّز أولياء الله - في أنفسنا، وأحببنا الخير للجميع، فقد بلغنا مرتبة من كمال المطلوب. اللهم أفض على قلوبنا الميتة من فيض رحمتك، ورحمة صفيّك الذي بعثته رحمة للعالمين.



1 سورة الكهف، الآية: 6.
 
 
 
 
 
 
 
50

43

المظاهر الرحمانية

 رحمة في صورة غضب

أهل المعرفة يعلمون بأنّ الشدّة على الكفار- وهي من صفات المؤمنين- وقتلهم أيضاً، رحمة ولطف من الألطاف الخفية للحقّ. فالعذاب - الذي هو من أنفسهم- يزداد على الكفار مع كلّ لحظة تمرّ عليهم، زيادة كمية وكيفية إلى ما لا نهاية له. لذا فإنّ قتلهم- مع اليأس من صلاحهم- هو رحمة في صورة غضب ونعمة في صورة نقمة.
 
علاوة على الرحمة التي ستنال المجتمع بقتلهم، فهم عضو كان يمكن أن يجرّ المجتمع كلّه إلى الفساد، والقضاء عليهم يشبه إلى حدٍّ كبير قطع العضو الفاسد من البدن مخافة أن يؤدّي عدم قطعه بالبدن كلّه إلى التلف والهلاك. وهذا هو الذي جعل نوحاً يدعو الله: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾1، وهو أيضاً المراد بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾2. وعلى هذا وعلى ما سبقه، كانت الحدود3



1 سورة نوح، الآيتان: 26 و27.
2 سورة البقرة، الآية: 193.
3 الحدود: جمع حدّ. وهو لغة المنع. ومنه أُخذ الحدّ الشرعي، لكونه ذريعة إلى منع الناس عن فعل موجبه خشية من وقوعه. وشرعاً: عقوبة خاصّة تتعلّق بإيلام البدن، بواسطة تلبّس المكلّف بمعصية خاصّة، عيّن الشارع كمّيتها في جميع أفراده. والحدود في الفقه الجعفري هي: الزنا- اللواط- السحق- القيادة- القذف- المسكر- السرقة- الحرابة- الارتداد.
 
 
 
 
 
 
 
 
51

44

المظاهر الرحمانية

  والتعزيرات1 والقصاص2، رحمة من أرحم الراحمين بمرتكب الجرم أولاً، وبالمجتمع بأسره ثانياً. ولنتخطّى هذه المرحلة.

 
النظر إلى الخلق برحمة
بنيّ:
إذا استطعت - بالتفكّر والتلقين - فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات وخصوصاً البشر نظرة رحمة ومحبة. وإلا أليست الموجودات كافة - والتي لا حصر لها - واقعة تحت رحمة خالق العالمين من جهات عديدة؟ ثم أليس وجودها وحياتها وجميع بركاتها وآثارها من رحمة الله ومواهبه تعالى على الموجودات؟ وقد قيل: "كلّ موجود مرحوم".
 
فهل يمكن لموجود ممكن الوجود أن يكون له شيءٌ من نفسه؟ أو أن يتمكّن موجود - ممكن الوجود - مثله أن يعطيه شيئاً ما؟ وعليه فإنّ الرحمة الرحمانية هي الشاملة للعالم بأسره.



1 التعزيرات: لغة هي التأديب. وشرعاً: عقوبة لا تقدير لها بأصل الشرع غالباً، لذا هي تطلق على الجزاء الذي أوكل أمر تحديد مقداره للقاضي، فينظر القاضي إلى وضع الجرم ونوعه وظروف ارتكابه ويُحدّد مقدار الجزاء بما يتناسب مع ذلك وقد عيّن الشارع المقدّس الحدّ الأقصى لهذا الجزاء.
2 القِصاص (بالكسر): لغة، من قصّ أثره إذا تتبّعه. واصطلاحاً: استيفاء أثر الجناية من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح. فكأنّ المقتصّ يتبع أثر الجاني فيفعل مثل فعله.
 
 
 
 
 
 
 
52

45

المظاهر الرحمانية

 ثم أليس الله هو ربّ العالمين وتربيته تشمل العالم؟ وأليست تربيته مظهراً للرحمة؟ وهل يمكن أن تكون الرحمة والتربية شاملة للعالم دون اقترانها بالعناية والألطاف والمحبّة الإلهية؟ إذن لِمَ لا يكون من شملته العنايات والألطاف والمحبة الإلهية موضعاً لمحبتنا؟ وإذا لم يكن هذا الأمر منّا، أليس هو نقص فينا؟ أليس هو ضيق أفق وقصر نظر من قبلنا؟

 
انتبه يا ولدي! فقد بلغت أنا الشيخوخة دون أن أتمكّن من علاج هذه النقيصة أو سواها من النقائص التي لا تُحصى، وأنت ما زلت شابّاً ولا شكّ أنّك أقرب إلى رحمة وملكوت الحقّ، فاسع في علاج هذه النقيصة وفّقك الله ووفّقنا والجميع لاختراق هذا الحجاب والتحلّي بما تقتضيه فطرة الله.
 
فطرة العشق للكمال المطلق
لقد تعرّضت فيما سبق إلى جانب من هذا الأمر، ودعني الآن أُشير بوضوح إلى ما يُساعد في اختراق هذا الحجاب. نحن مفطورون على العشق للكمال المطلق، ومن هذا العشق - شئنا أم أبينا- ينشأ العشق لمطلق الكمال الذي هو من آثار الكمال المطلق، والأمر الملازم لفطرتنا هذه هو السعي للخلاص من النقص المطلق، ما يستلزم أن تنطوي أنفسنا على الرغبة في الخلاص من مطلق النقص أيضاً.
 
إذن، نحن - رغم عدم علمنا أو إدراكنا - عاشقون للحقّ تعالى،
 
 
 
 
 
 
53

46

المظاهر الرحمانية

 لأنّه الكمال المطلق، ونحن نعشق آثاره التي هي تجلّيات الكمال المطلق. وأيّ شخص أو أيّ شيء نكرهه ونبغضه أو نحاول التخلّص منه فهو لا كمال مطلق ولا مطلق الكمال، بل نقص مطلق أو مطلق النقص. وهو الأمر الذي يقف في الجهة المقابلة وعلى النقيض من الأول تماماً، ولا شكّ أنّ نقيض الكمال هو عدم الكمال. ولأنّنا محجوبون فإنّنا نضلّ في التشخيص، ولو زال الحجاب لاتضح لنا أنّ كلّ ما هو منه جلّ وعلا محبوب، وكلّ ما هو مبغوض من قبلنا فهو ليس منه تعالى، وهو بالتالي ليس موجوداً.

 
المؤمنون بالكمال المطلق قلّة
واعلم أنّ هناك تساهلاً في التعبيرات الواردة فيما يخصّ المتقابلات1. والموضوع أعلاه، رغم موافقته للبرهان2 المتين وللآراء العرفانية ورغم ما ورد في القرآن الكريم من إشارات إليه، إلا أنّ التصديق3 والإيمان به في غاية الصعوبة، ومنكريه في غاية الكثرة، والمؤمنين به قلّة نادرة، فحتى أولئك الذين يعتقدون بثبوت هذه الحقيقة عن طريق البرهان لا يؤمن بها منهم إلا قلّة قليلة، فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يُحرَز إلا بالمجاهدة والتفكُّر والتلقين.



1 المتناقضات. الأمور التي تقابل بعضها البعض.
2 العقل والدليل العقلي.
3 التصديق: هو الإدراك المشتمل على حكم، وهو حكم الذهن بين معنيين متصوّرين.
 
 
 
 
 
 
 
54

47

المظاهر الرحمانية

 وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا الادّعاء (بأنّ بعض الأمور البرهانية يمكن أن لا تكون موضعاً للتصديق والإيمان) عقدة يصعب الاقتناع بها، بل لعلّ البعض قد يقطع بأنّه أمر لا أساس له. ولكن ينبغي أن تعلم بأنّ هذا الأمر أمر وجداني وقد وردت إشارات إليه في القرآن الكريم، كالآيات الكريمة من سورة التكاثر1.

 
ولإثباته عن طريق الوجدان، نورد المثال التالي: أنت تعلم بأنّ الموتى لا تصدر عنهم أيّة حركة وأنّهم لا يستطيعون إلحاق الأذى بك، وأنّ الموتى لا يعادلون ذبابة حيّة واحدة من حيث الأثر والفعالية، كما تُدرك أنّهم لا يمكن أن يعودوا إلى الحياة في هذا العالم بعد موتهم وقبل يوم النشور، إلّا أنّك قد لا تمتلك القدرة على النوم وحيداً براحة في المقابر. هذا ليس إلّا لأنّ قلبك لم يُصدّق بما عندك من علم، وأنّ الإيمان بهذا الأمر لم يتحصّل لديك، في حين أنّ أولئك الذين يقومون بتغسيل وتكفين الموتى يحصل لهم الإيمان واليقين بهذا الأمر نتيجة تكرار العمل، فهم يستطيعون الخلوة مع الموتى براحة بال واطمئنان. كذلك فإنّ الفلاسفة الذين أثبتوا بالبراهين العقلية أنّ الحقّ حاضر في كلّ مكان، دون أن يصل قلوبهم ما أثبتته عقولهم بالبرهان، ولم تؤمن به قلوبهم، فإنّ أدب الحضور لن يتحقّق لديهم،



1 هي السورة 102 من سور القرآن وهي ثمان آيات وبّخ الله فيها الناس لتسابقهم في جمع المال والأولاد وغفلتهم عن السعادة الحقيقية.
 
 
 
 
 
 
 
55

48

المظاهر الرحمانية

 في حين أنّ أولئك الذين أيقنوا بحضور الحقّ بقلوبهم، وآمنت قلوبهم بذلك فإنّهم- رغم أن لا علاقة لهم بالبراهين-، فإنّهم يتحلّون بأدب الحضور1 ويجتنبون كلّ ما ينافي حضور المولى.

 
فالعلوم المتعارفة إذن - وإن كانت الفلسفة وعلم التوحيد- لكنّها تُعدّ في حدّ ذاتها حجباً، وهي تزيد الحجاب غلظة وسمكاً كلّما زادت، كذلك فإنّنا نعلم جميعاً ونرى بأنّ دعوة الأنبياء عليهم السلام والأولياء الخُلّص لله ليست من سنخ الفلسفة والبرهان المتعارف، بل إنّهم يهتمّون بأرواح وقلوب الناس، ويسعون لإيصال نتائج البراهين إلى قلوب العباد، ويبذلون الجهد لهدايتهم من داخل الروح والقلب.
 
وإن شئت فقل: إنّ الفلاسفة وأهل البراهين يزيدون الحجب، في حين أنّ الأنبياء عليهم السلام وأصحاب القلوب يسعون في رفعها، لذا ترى أن من تربّوا على أيدي الأنبياء مؤمنون وعاشقون، في حين أنّ طلّاب علماء الفلسفة أصحاب برهان وقيل وقال لا شأن لهم بالقلب والروح.
 
وليس معنى ما أوردته أن تجتنب الفلسفة والعلوم البرهانية والعقلية، أو أن تشيح بوجهك عن العلوم الاستدلالية، فهذا خيانة للعقل والاستدلال والفلسفة. بل أقصد أنّ الفلسفة والاستدلال وسيلة للوصول إلى الهدف الأصلي، فلا ينبغي والحال كذلك أن تحجبك عن المقصد والمقصود والمحبوب.



1 أدب الحضور في محضر الحقّ سبحانه وتعالى.
 
 
 
 
 
 
 
56

49

المظاهر الرحمانية

 أو فقل: إنّ العلوم معبر نحو الهدف وليست الهدف بحدّ ذاتها، فكما أنّ الدنيا مزرعة الآخرة1، كذا فإنّ العلوم المتعارفة مزرعة للوصول إلى المقصود، تماماً كما أنّ العبادات معبر نحو الله جلّ وعلا، فالصلاة- وهي أسمى العبادات- معراج المؤمن2، وجميع هذه الأمور منه وإليه تعالى.

 
وإن شئت فقل: إنّ المعروف بجميع أنواعه درجات في سلّم الوصول إلى الله تعالى، وجميع المنكرات موانع في طريق الوصول، والعالم بأسره يبحث عنه تعالى، ويحوم كالفراش باحثاً عن جماله الجميل.
 
ويا ليتنا نَصْحُوا من نومتنا ونلج أوّل منزل وهو اليقظة! ولعلّه جلَّ وعلا يأخذ بأيدينا بألطافه وعناياته الخفيّة فيُرشدنا إلى جماله الجميل.



1 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:"الدنيا مزرعة الآخرة". ميزان الحكمة، ج2، ص890.
2 في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الصلاة معراج الروح". وقد ذكرها المجلسي في المعتقدات ص 29، إلّا أنّ المحقّق الريشهري قال في كتابه "الصلاة في الكتاب والسنة" ص15: لا يخفى أنّ عبارة "الصلاة معراج المؤمن" مع كثرة تداولها على الألسن بحيث صارت من أشهر الكلمات في وصف الصلاة، لم نجد لها مصدراً مسنداً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمّة عليهم السلام، وهذا بعد أن استقصينا كلمات أصحاب الكتب في شتّى العلوم ووجدناها في أكثر من ثلاثين موضعاً من عباراتهم، علماً أنّ كتب السنّة كلّها وكتب الشيعة جلّها إلّا ما دوّن في القرون الأخيرة - كروضة المتّقين وبحار الأنوار للمجلسيّين أعلى الله مقامهما والرواشح السماويّة للمحقّق الداماد﴾ - خالية منها، فالظاهر أنّها ليست برواية بل من عبارات علمائنا المتأخّرين رضوان الله تعالى عليهم.
 
 
 
 
 
 
 
57

50

المظاهر الرحمانية

 ويا ليت فرس النفس الجموح تهدأ قليلاً فتنزل عن مقام الإنكار، ويا ليتنا نُلقي هذا العبء الثقيل من على كواهلنا إلى الأرض فننطلق مخفّين نحوه تعالى!

 
ويا ليتنا نحترق كالفراش في شمع جماله دون أن نتكلّم!
 
ويا ليتنا نخطو خطوة واحدة بقدم الفطرة ولا نبتعد عن طريقها بهذا القدر، و... و...، والآف التمنيات والأمنيات الأخرى التي تزدحم في ذاكرتي وأنا على شفير الموت في شيخوختي هذه، ولكن دون أن تصل يدي إلى مكان!
 
الاستفادة من نعمة الشباب
وأنت يا بنيّ:
استفد من شبابك، وعش طوال عمرك بذكره ومحبّته جلّ وعلا، والرجوع إلى الفطرة، فذكر المحبوب لا يتنافى مع الفعالية السياسية والاجتماعية والسعي في خدمة شريعته وعباده جلّ وعلاء، بل إنه سيعينك وأنت تسلك الطريق إليه ـ ولكن اعلم بأنّ خدع النفس الأمارة بالسوء وشيطان النفس والمحيط كثيرة، فما أكثر ما تُبعد الإنسان عن الله باسم الله واسم الخدمة لخلق الله، وتسوقه نحو نفسه وآماله, لذا كانت مراقبة النفس ومحاسبتها في تشخيص طريق الأنانية عن طريق الله من جملة منازل السالكين، وفّقنا الله وإيّاكم لبلوغ ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
58

51

المظاهر الرحمانية

 وما أكثر ما يخدعنا شيطان النفس - نحن الشيوخ وأنتم الشبّان- بوسائل مختلفة، فهو دائم الجري وراءنا - نحن الشيوخ - يواجهنا بسلاح اليأس من الحضور وذكر الحاضر فينادي: لقد فاتكم العمر، وتصرّم وقت الإصلاح ومضت أيّام الشباب التي كان ممكناً فيها الاستعداد والإصلاح، ولا قدرة لكم في أيّام ضعف الشيخوخة هذه على الإصلاح، فقد استحكمت جذور شجرة الأهواء والمعاصي في جميع أركان وجودكم وتشعّبت فروعها، فأبعدتكم عن اللياقة بمحضره جلّ وعلا، وضاع كلّ شيءٍ! فما أحرى أن تستفيدوا من هذه الأيام الباقية من أعماركم أقصى ما يمكن من الاستفادة من الدنيا.


وقد يتصرّف معنا أحياناً بنفس الطريقة التي يتصرّف بها معكم أيّها الشبّان، فهو يقول لكم: أنتم شبّان، ووقت الشباب هذا هو وقت التمتّع والحصول على اللذّات فاسعوا الآن بما يُساهم في إشباع شهواتكم، ثم توبوا إن شاء الله في أواخر أعماركم فإنّ باب رحمة الله مفتوح والله أرحم الراحمين، وكلّما زادت ذنوبكم فإنّ الندم والرغبة في الرجوع إلى الحقّ سيزداد، وسيكون التوجّه إلى الله تعالى أكبر والاتصال به جلّ وعلا أشدّ، فما أكثر أولئك الذين تمتّعوا في شبابهم ثم أمضوا آخر أيّامهم بالعبادة والذكر والدعاء وزيارة مراقد الأئمّة عليهم السلام والتوسّل بشفاعتهم، فرحلوا عن هذه الدنيا وهم سعداء!
 
 
 
 
 
 
 
 
59

52

المظاهر الرحمانية

 تماماً هكذا يتصرّف معنا نحن الشيوخ، فيأتينا بأمثال هذه الوساوس فيقول لنا: ليس معلوماً أن تموتوا بهذه السرعة، فالفرصة ما زالت موجودة فلتؤجّلوا التوبة إلى آخر العمر، فضلاً عن أنّ باب شفاعة1 الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته مفتوح، وإنّ أمير المؤمنين عليه السلام لن يتخلّى عن محبّيه ويتركهم يتعذّبون، فسوف ترونه عند الموت، وسوف يأخذ بأيديكم وأمثال هذه الوساوس الكثيرة التي يُلقي بها في سمع الإنسان.

 
سهولة إصلاح النفس في الشباب
بنيّ:
أتحدّث إليك الآن لأنّك ما زلت شاباً، عليك أن تنتبه إلى أنّ التوبة أسهل على الشبّان، كما أنّ إصلاح النفس وتربيتها يتمّ بسرعة أكبر لدى الشبان، في حين أنّ الأهواء النفسانية والسعي للجاه وحبّ المال والغرور أكثر وأشدّ بكثير لدى الشيوخ منه لدى الشبّان. أرواح الشبّان رقيقة شفّافة سهلة القياد، وليس لدى الشبّان من حبّ النفس وحبّ الدنيا بقدر ما لدى الشيوخ.



1 الشفاعة: الشفاعة في اللغة تعني الزوج وما يضم إلى الفرد. وفي مصطلح المتكلّمين هو أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته إلى عباده من طريق أوليائه وصفوة عباده، ووزان الشفاعة في كونها سبباً لإفاضة رحمته تعالى على العباد وزان الدعاء في ذلك، يقول سبحانه:﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ سورة النساء، الآية: 64.
 
 
 
 
 
 
 
60

53

المظاهر الرحمانية

 فالشاب يستطيع بسهولة - نسبياً - أن يتخلّص من شرّ النفس الأمّارة بالسوء ويتوجّه نحو المعنويات. وفي جلسات الوعظ والتربية الأخلاقية يتأثّر الشبّان بدرجة كبيرة لا تحصل لدى الشيوخ. فلينتبه الشبّان وليحذروا من الوقوع تحت تأثير الوساوس النفسانية والشيطانية، فالموت قريب من الشبّان والشيوخ على حدٍّ سواء، وأيّ من الشبان يستطيع الاطمئنان إلى أنّه سيبلغ مرحلة الشيخوخة؟ وأيّ إنسان مصون من حوادث الدهر؟ بل قد يكون الشبّان أكثر تعرُّضاً لحوادث الدهر من غيرهم.

 
بنيّ:
لا تُضيّع الفرصة من يديك، واسع لإصلاح نفسك في مرحلة الشباب.
 
على الشيوخ أيضاً أن يعلموا أنّهم ما داموا في هذا العالم فإنهم يستطيعون جبران ما خسروا وما ضيّعوا وأن يُكفّروا عن معاصيهم، فإنّ الأمر سيخرج من أيديهم بمجرّد انتقالهم من هذا العالم. وإنّ التعويل على شفاعة أولياء الله عليهم السلام، والتجرّؤ في ارتكاب المعاصي، من الخدع الشيطانية الكبرى.
 
وتأمّل انت - يا من تعوّل على شفاعتهم غافلاً عن الله ومتجرّأً على المعاصي- تأمّل في سيرتهم، وانظر في أنينهم وبكائهم ودعائهم وتحرُّقهم وذوبانهم أمام الله، واعتبر من ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
61

54

المظاهر الرحمانية

 يروى أنّ الإمام الصادق عليه السلام جمع أهل بيته في أواخر عمره وقال لهم: "إنّكم ستردون على الله بأعمالكم، فلا تظنّوا أنّ قرابتكم لي ستنفعكم يوم القيامة"`هذا وإن كان هناك احتمال بأن تنالهم الشفاعة، لأنّ الارتباط المعنوي حاصل بينهم وبين الشافع لهم، فالرابطة الإلهية بينهم تجعلهم مؤهّلين أكثر من غيرهم لنيل الشفاعة، وإن لم يحصل هذا الأمر لهم في هذا العالم، فلعلّه يحصل لهم بعد تنقيات وتزكيات وأنواع من العذاب في البرزخ، أو جهنّم، حتى يُصبحون بعده لائقين للشفاعة، والله العالم بحدود ما سيصيبهم.




[1] هذه الرواية منقولة بالمضمون. وقد وردت روايات عديدة تحكي هذا المضمون منها: ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "يَا جَابِرُ أَيَكْتَفِي مَنْ يَنْتَحِلُ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَوَاللهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ - إلى أن قال - يَا جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَأَتَوَلَّاهُ ثُمَّ لَا يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالًا فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ عليه السلام ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِهِ مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئاً فَاتَّقُوا وَاعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللهِ لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ أَتْقَاهُمْ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ، يَا جَابِرُ فَوَاللهِ مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَمَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَلَا عَلَى اللهِ لِأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ، مَنْ كَانَ لِلهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ وَمَنْ كَانَ لِلهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَلَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ" (بحار الأنوار،ج67، ص98). وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال:"قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الصَّفَا فَقَالَ يَا بَنِي هَاشِمٍ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ وَإِنِّي شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ وَإِنَّ لِي عَمَلِي وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَمَلُهُ لَا تَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّداً مِنَّا وَسَنَدْخُلُ مَدْخَلَهُ فَلَا وَاللهِ مَا أَوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أَلَا فَلَا أَعْرِفُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْتُونَ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا عَلَى ظُهُورِكُمْ وَيَأْتُونَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ الْآخِرَةَ أَلَا إِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَفِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيكُمْ" الكافي،ج8، ص182.
 
 
 
 
 
 
 
62

55

المظاهر الرحمانية

 فضلاً عن هذا فإنّ الآيات التي وردت في القرآن الكريم حول الشفاعة لا تبعث - بعد التأمُّل فيها - الاطمئنان في الإنسان، قال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾1، وقال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾2، وأمثال ذلك من الآيات التي تُثبت موضوع الشفاعة، ولكنّها في الوقت نفسه لا تبعث الإطمئنان لدى الإنسان، ولا تسمح له بالاغترار بها، لأنّها لم تُوضّح من هم أولئك الذين ستكون الشفاعة من نصيبهم، أو ما هي شروطها، ومتى تكون شاملة لهم. نحن نأمل بالشفاعة ولكن ينبغي أن يدفعنا هذا الأمل نحو طاعة الحقّ تعالى لا نحو معصيته.

 
خطورة التساهل بحقوق الناس
بنيّ:
احرص على أن لا تغادر هذا العالم بحقوق الناس3، فما أصعب ذلك وما أقساه. واعلم أنّ التعامل مع أرحم الراحمين أسهل بكثير من التعامل مع الناس. نعوذ بالله تعالى أنا وأنت وجميع المؤمنين من التورّط في الاعتداء على حقوق الآخرين، أو التعامل مع الناس المتورّطين.



1 سورة البقرة، ص: 255.
2 سورة الأنبياء، الآية: 28.
3 حقّ الناس: هو الواجب الذي فرضه الله تعالى على كلّ مكلّف ليقوم به تجاه الآخرين، كحفظ كرامة المسلمين وشرفهم وأموالهم وأرواحهم فحرم عليه التعدّي عليهم.
 
 
 
 
 
 
 
63

56

المظاهر الرحمانية

 ولا أقصد من هذا دفعك للتساهل بحقوق الله1 والتجرّئ على معاصيه، فلو أنّنا أخذنا بنظر الاعتبار ما يُستفاد من ظاهر بعض الآيات الكريمة، فإنّ البليّة ستزداد باطّراد، ونجاة أهل المعصية بالشفاعة يتمّ بعد المرور بمراحل طويلة ومعقّدة. فتجسُّم الأخلاق والأعمال2 وما يستتبع ذلك من ملازمتها للإنسان إلى ما بعد الموت والى القيامة الكبرى، ثم إلى ما بعدها حتى الوصول إلى التنزيه وقطع الروابط بنزول الشدائد والعذاب بمختلف أشكاله في البرزخ3 وفي جهنّم، وعدم التمكّن من الارتباط بالشفيع والاشتمال على الشفاعة، كلّها أمور يؤدّي التفكير فيها إلى إثقال كاهل الإنسان،




1 حقّ الله: هي الواجبات والتكاليف الشرعية التي فرضها الله على كلّ مكلّف، لكن من غير أن يعود ذلك بالنفع عليه تعالى لغناه الذاتي سبحانه، بل رحمة بعبادته لكي يستكملوا ذواتهم ويرفعوا نقائصهم بالعبادة والطاعة.
2 تجسّم الأعمال: دلالة على ظهور الأعمال وتجسّدها في النشأة الأخروية بصور واقعية محسوسة تناسب تلك النشأة، وقد ورد في بعض الأخبار تجسُّم الاعتقادات أيضاً. فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صوراً نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج، والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صوراً ظلمانية مستقبحة توجب له غاية الحزن والتألُّم كما قاله جماعة من المفسّرين عند قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ سورة آل عمران، الآية:30، ويرشد إليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ سورة الزلزلة، الآية:6 وغيرها من الآيات والروايات الشريفة أيضاً.
3 البرزخ: لغة هو الشيء الحاجز بين شيئين. أمّا اصطلاحًا فهو النشأة الأخرى المسمّاة بعالم القبر التي ينتقل إليها الإنسان بعد الموت، ويبقى فيها إلى قيام الساعة وبعث من في القبور، فتكون مرحلة وسطى بين عالم الدنيا وعالم الآخرة. قال تعالى ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ سورة المؤمنون، الآية: 100.
 
 
 
 
 
 
 
64

57

المظاهر الرحمانية

 ويدفع المؤمنين نحو الجديّة في الإصلاح. ولا يُمكن لأيّ شخص أن يدّعي أنّه يقطع بخلاف هذه الاحتمالات إلا إذا كان شيطان نفسه قد تسلّط عليه بدرجة عالية حتى راح يتلاعب به، ويصدّه عن طريق الحقّ، فيجعله منكراً لا يُفرّق بين الضوء والظلام، وأمثال هؤلاء من عُمي القلوب كثير، حفظنا الله من شرور أنفسنا.


خير الزاد خدمة المظلومين
وصيّتي اليك يا بني أن لا تدع الفرصة تضيع من يديك -لا سمح الله- وأن تسعى في إصلاح أخلاقك وتصرُّفاتك، وإن كان بتحمُّل المشقّة والترويض، وأن تحدّ من تعلُّقك بالدنيا الفانية وتختار طريق الحقّ أينما اعترضك مفترق للطرق، وأن تجتنب طريق الباطل وتطرد شيطان النفس عنك.

كذلك فإنّ من الأمور الهامّة التي ينبغي أن أوصي بها: الحرص على إعانة عباد الله، خصوصاً المحرومين والمستضعفين المظلومين، الذين لا ملاذ لهم في المجتمعات، فابذل ما في وسعك في خدمتهم -فذلك خير زاد، وهو من أفضل الأعمال لدى الله تعالى، ومن أفضل الخدمات التي تقدّم للاسلام العظيم- اسع في خدمة المظلومين وفي حمايتهم من المستكبرين والظالمين.
 
 
 
 
 
 
 
65

58

المظاهر الرحمانية

 المشاركة السياسية تكليف شرعي

وأعلم أنّ المشاركة في أمور السياسة الصحيحة والاجتماع، هي تكليف في هذه الحكومة الإسلامية، كذلك فإنّ مساعدة ودعم المسؤولين والمتصدّين لإدارة أمور الجمهورية الإسلامية مسؤولية إسلامية وإنسانية ووطنية.

أملي أن لا يغفل الشعب المجيد والواعي عن هذه المسؤولية، وعليهم أن يواصلوا- وكما هو شأنهم حتى الآن، إذ كانوا حاضرين في الساحة دوماً، حتى أنّ الحكومة الإسلامية والجمهورية ما استطاعت الاستقرار والبقاء إلّا بدعمهم- عليهم أن يواصلوا دورهم هذا في المستقبل أيضاً، وإنّي مفعم بالأمل أن يواصل الجيل الحاضر والأجيال القادمة وقوفهم بوفاء مع الجمهورية الإسلامية ودعمها ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً، ليكونوا سبباً في ديمومتها واستقرارها.

وعلينا جميعاً أن نعلم بأنّنا ما دمنا على عهدنا مع الله تعالى، فإنّه معنا. وكما أعاننا سبحانه وتعالى إلى الآن بالقضاء على مؤامرات المجرمين في الداخل والخارج وبشكل إعجازي، فإنّه سيقضي عليها مستقبلاً أيضاً بتأييداته إن شاء تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
66

59

المظاهر الرحمانية

 ترجيح التحرُّر على الرفاهية

والأمل أن يكون أبناء جيشنا وحرّاس ثورتنا1 وأبناء قوّات التعبئة2 الشعبية وسائر القوات العسكرية والأمنية وجماهير شعبنا قد تذوّقوا حلاوة الاستقلال والخروج من أسر القوى الدولية الكبرى الناهبة. وآمل أن يُرجّحوا تحرُّرهم من أسر الأجانب على أيّ شيء وعلى أيّة حياة مرفّهة، وأن لا يقبلوا بتحمُّل عبء عار الارتباط بالقوى الشيطانية على كواهلهم. وأن يقبلوا بالموت المشرّف برجولة وعزّة في سبيل الأهداف السامية وفي سبيل الله، إذا أُريدت لهم الحياة بذلّة. وأن يختاروا السير على طريق الأنبياء العظام وأولياء الله عليهم السلام. وأدعو الله خاضعاً معرباً عن عجزي، أن يزيد من وعي وحبّ والتئام صفوف الرجال والنساء والأطفال والشيوخ من أبناء شعبنا العزيز، وأن يفيض عليهم برحمته فيقفوا بثبات في طريق الله، وأن ينشروا الإسلام العزيز وأحكامه النورانية في مختلف أنحاء العالم.



1 حرس الثورة الإسلامية: هي مؤسسة ثورية تعمل تحت إمرة الولي الفقيه، مهمتها الأساسية حفظ الأمن القومي للجمهورية الإسلامية وصون الثورة الإسلامية في إيران ومكتسباتها، وحمايتها من مؤامرات الأعداء، وتقوية البنية الدفاعية للجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال التعاون مع سائر القوى المسلّحة، من جيش وشرطة وأمن وغيرها. ومن مهامها إعداد وتدريب وتنظيم القوّات الشعبية (التعبئة).
2 التعبئة: هي قوّات عسكرية شعبية أسّسها مفجّر الثورة الإسلامية في إيران الإمام روح الله الخميني سنة 1979، إثر الثورة التي قام بها قدس سره بوجه شاه إيران والتي أدّت إلى الإطاحة به وبنظامه المدعوم آنذاك من القوى الاستكبارية العالمية وعلى رأسها أمريكا. وتتشكّل التعبئة في إيران من فيالق وعلى رأس كل فيلق قائد، وتتجدّد هيكليتها وتشكيلاتها انسجاماً مع ازدياد أعداد المتطوّعين فيها.
 
 
 
 
 
 
 
 
67

60

المظاهر الرحمانية

 حقوق الأمّهات أكثر من أن تُحصى

بنيّ:
لا يفوتني أن أكتب إليك بضع جملات حول الأمور الشخصية لأختتم بها حديثي المطنب هذا. أشدّ ما أودّ أن أوصيك به ولدي العزيز، هو الاهتمام بوالدتك الوفية.
 
إنّ الحقوق الكثيرة للأمّهات، أكثر من أن تُحصى أو أن يُؤدّى حقّها. فليلة واحدة تسهرها الأم مع وليدها تفوق سنوات من عمر الأب المتديّن. ويجسّد العطف والرحمة في عيونها النورانية، بارقة من رحمة وعطف ربّ العالمين. فالله تبارك وتعالى قد أشبع قلوب وأرواح الأمّهات بنور رحمة ربوبيّته بشكل يعجز عن وصفه الواصفون، ويعجز عن إدراكه سوى الأمّهات. وإنّ رحمة الباري هي التي تجعلهنّ يقفن ويتحمّلن بثبات عجيب إزاء المتاعب والآلام منذ استقرار النطف في الأرحام، وطوال فترة الحمل، وحتى ساعة الولادة. ثم منذ عهد الطفولة وحتى آخر العمر، وهي المتاعب والآلام التي يعجز الآباء عن تحمُّلها ليلة واحدة.
 
فالتعبير الرقيق الوارد في الحديث الشريف: "الجنة تحت أقدام الأمهات"1. حقيقة تشير إلى عظم دور الأم، وتنبّه الأبناء إلى أنّ السعادة والجنّة تحت أقدام الأمهات. فعليهم أن يبحثوا عن الجنّة



1 مستدرك الوسائل، ج15، ص180.
 
 
 
 
 
 
 
68

61

المظاهر الرحمانية

 والسعادة تحت التراب المبارك لأقدامهنّ، ويعلموا أنّ حرمتهنّ تقارب حرمة الحقّ تعالى، وأنّ رضا الباري جلّت عظمته إنّما هو في رضاهنّ.

 
إنّ الأمهات - رغم أنّهنّ جميعاً مثال لذلك- إلّا أنّ بعضهن يتمتّعن بخصائص أخرى تميّزهنّ عن الأخريات. وقد أدركت على مدى عمري، ومن الذكريات التي أحملها عن والدتك المحترمة، وعن الليالي التي كانت تقضيها مع أطفالها - بل وحتى الأيام - أنّها تحمل مثل هذه المزايا، لذا فإنّي أوصيكم يا ولدي - أنت وبقية أبنائي - أن تجهدوا بعد وفاتي في خدمتها، وتحرصوا على راحتها ونيل رضاها، كما أراها راضية عنكم في حياتي. بل أن تبذلوا مساعيكم أكثر في خدمتها بعد وفاتي.
 
التعامل مع الأرحام بمحبّة وعطف
وأوصيك يا ولدي أحمد: أن تحرص على معاملة أرحامك1 وأقربائك وخصوصاً أخواتك وأبناء إخوانك وأخواتك بالعطف والمحبّة والصفاء والسلام والإيثار، وبمراعاة السلوك الحسن. كما أوصي جميع أبنائي أن يكونوا قلباً واحداً، وأن يتحرّكوا نحو هدف واحد، وأن يتعاملوا مع بعضهم بالمحبّة والعطف، وأن يسعوا جميعاً للعمل في سبيل الله، وفي خدمة عباده المحرومين، لأنّ في ذلك خير وعافية الدنيا والآخرة.



 1 الأرحام: جمع الرحم، ويقال ذو الرحم: وهو القريب قرابة سببها الولادة.
 
 
 
 
 
 
 
 
69

62

المظاهر الرحمانية

 وأوصي نور عيني (حسين) أن لا يغفل عن الانكباب على تحصيل العلوم الشرعية. وأن لا يُبدّد ما أنعم الله عليه من الاستعداد واللياقة سدى، وأن يعامل والدته وأخته بمنتهى العطف والصفاء، وأن يستصغر الدنيا، ويسلك في شبابه طريق العبودية المستقيم.


وآخر وصيتي إلى أحمد: أن يُحسن تربية أبنائه وأن يُعرّفهم - منذ نعومة أظفارهم - على الإسلام العزيز وأن يرعى أمّهم العطوفة، ويحرص على خدمة جميع أفراد العائلة والأقارب.

وسلام الله على جميع الصالحين.

وأستميح جميع أقاربي عذراً وبالأخص أبنائي وأرجوهم أن يعفوا عنّي إن كنت قصّرت معهم، أو ظهر منّي قصور ما، أو إن كنت ظلمتهم، وأن يدعوا الله أن يغفر لي ويرحمني إنّه أرحم الراحمين.

وأدعو الله متضرّعاً إليه أن يوفّق أرحامي وأقربائي إلى طريق السعادة والاستقامة، وأن يشملهم برحمته الواسعة، وأن يعزّ الإسلام والمسلمين ويقطع أيدي المستكبرين والقوى الظالمة ويكفها عن الظلم.

والسلام والصلاة على رسول الله، خاتم النبيين وعلى آله المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

4 رجب 1402 هـ.ق
روح الله الموسوي الخميني
 
 
 
 
 
 
70

63

طريق العشق

 طريق العشق

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
"فاطمة قد طلبْتِ مني رسالة عرفانية
كأنّما طلبت من نملة عرش سليمان
لعلّها ما سمعت من قال "ما عرفناك"
ممّن طلب منه جبريل نفحة رحمانية"1
 
أخيراً وبعد الإصرار حملتني أن أكتب وبشكل ببغاوي عدّة أسطر عمّا أنا غريب عنه، وعمّا ليس لقلبي معرفة به.
 
أكتب ما أكتب في وقت أفرغ فيه ضعف الشيخوخة ما كان في جعبتي - رغم قلّته - وألقاه في دائرة النسيان، فضلاً عمّا يُحيطني من الابتلاءات ممّا لا يسعه الحديث أو الكتابة. وحتى تُعرف طبيعة الظروف التي بدأت الكتابة فيها، يكفي ملاحظة تاريخ كتابة هذه الرسالة، إذ إنّي بدأت بها يوم السبت 24 شعبان المعظّم عام 1404 



1 ترجمة لمضمون بيتين من الشعر.
 
 
 
 
 
 
 
71

64

طريق العشق

 هـ. ق (الموافق 26/5/1984م) ولا يخفى على القارئ ما هي الأوضاع التي كانت تمرّ بها إيران ويمر بها العالم في هذا التاريخ1.

 
الفطرة تبحث عن الكمال المطلق
من أين أبدأ؟ أُفضّل أن تكون البداية من موضوع الفطرة:
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾2، وسوف أكتفي بالحديث عن الفطرة الإنسانية، رغم أنّ الفطرة يشترك فيها الخلق جميعاً: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾3، فالخلق بأسره يترنّم بالقول:
 
قـد حبـانا الله بالسمع وباللب وبالأبصار       غير أنا معكم صمٌّ وعميٌ وموات أيّها الأغيار4
 
فلنلق الآن نظرة على العرفان الفطري للإنسان.
 
لا يمكن للإنسان - بمقتضى الفطرة والخلقة - أن يتوجّه إلى غير الكمال المطلق ويُعلّق قلبه به، فكلّ الأرواح والقلوب تهفو إليه ولا ولن تبحث عن غيره، وجميعها تلهج بالثناء عليه ولا يمكنها أن لا تفعل ذلك. فالثناء على أيّ شيء ثناء عليه، رغم أنّ اللاهج بالمدح والثناء



1 إشارة إلى ظروف الحرب المفروضة على إيران من قبل صدام حسين وبعض الدول العربية والغربية الداعمة له.
2 سورة الروم، الآية: 30.
3 سورة الاسراء، الآية: 44.
4 ترجمة مضمون بيت من الشعر.
 
 
 
 
 
 
 
72

65

طريق العشق

 يتوهّم - مادام محجوباً - أنّه يُثني على غيره ويمدح غيره تعالى. ولا شكّ أنّ الأمر كذلك عند تحليله عقلياً، فالعقل حجاب1 بحدّ ذاته، إلّا أن الحقيقة ليست كذلك.

 
فمن يطلب الكمال في كلّ مجال، إنّما يدفعه العشق للكمال المطلق، لا الكمال الناقص، لأنّ الأخير محدود بالعدم2، والفطرة بطبيعتها تنفر من العدم. فطالب العلم إنّما يطلب العلم المطلق وهو عاشق العلم المطلق، وكذا الساعي لامتلاك القدرة وكذا طالب كلّ كمال. فالإنسان عاشق للكمال المطلق، وما يبحث عنه في الكمالات الناقصة هو كمالها لا نقصها، لأنّ الفطرة متنفّرة من النقص. وما يوقع الإنسان في الخلط إنّما هي الحجب الظلمانية والنورانية. فالشعراء والمدّاحون يتوهّمون أنّهم يمدحون الأمير المقتدر الفلاني أو الفقيه العالم الفلاني، إلا أنّهم يمدحون القدرة والعلم لا بشكلهما المحدود وإن توهّموا محدوديّتهما. وهذه فطرة لا يمكن تبديلها أو تغييرها ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾3. والإنسان ما دام في حجاب الذّات4 مشغولاً بنفسه، وما دام غير مخترق للحجب حتى النورية




1 لمحدودية الإدراكات العقلية المحصورة حكماً بالأمور الكلية دون الأمور الجزئية المتشخّصة في الواقع، فدائرة عمل العقل محصورة بعالم المفاهيم والاعتبارات الذهنية.
2 بسبب وجود جهة النقص والمحدودية فيه. فالحدّ دليل على وجود النقص، والنقص إشارة إلى افتقاد الموجود إلى أمور وتحليله بأمور، وهذا الافتقاد إشارة إلى الأمور العدمية فيه.
3 سورة الروم، الآية: 30.
4 حجاب الأنا والنفس.
 
 
 
 
 
 
 
73

66

طريق العشق

 منها، فإنّ فطرته محجوبة، وللخروج من هذا المنزل فإنّه بحاجة-علاوة على المجاهدات1 المختلفة - إلى هداية الحقّ تعالى.

 
تقرأين في المناجاة الشعبانية المباركة: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك فناجيته سرّاً وعمل لك جهراً"2.
 
"كمال الانقطاع" المشار إليه هو الخروج من منزل الأنا والأنانيّة، ومن كل شيء وكلّ شخص3 للارتباط به والانقطاع عن الغير. وهو هبة إلهيّة حبا الله بها الأولياء الخلّص بعد "الصعق" الحاصل من الجلال الذي يقع إثر اللحظ "ولاحظته... إلخ".
 
وما لم تُنوَّر أبصار القلوب بنور نظرته4 فلن تخرق "حجب النور". وما دامت هذه الحجب باقية فلا سبيل إلى بلوغ "معدن العظمة"5،



1 مجاهدة النفس وتزكيتها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ سورة الأعلى، الآية: 14.
2 فقرات من المناجاة الشعبانية، مفاتيح الجنان.
3 التتشخّص.
4 إشارة إلى الفقرة من المناجاة الشعبانية: "وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك".
5 معدن العظمة: مقام القرب والحضور مع الحق: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ سورة البقرة، آية: 186، وذلك من خلال خرق حجب الصفات والأسماء تمهيداً للدخول في عالم الوجود المطلق، وعالم نفي الأسماء، وعالم قاب قوسين أو أدنى.
 
 
 
 
 
 
 
 
74

67

طريق العشق

 ولن تتعلّق الأرواح "بعزّ القدس"1، ولن ترقى إلى مرتبة التدلّي ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾2 بل حتى أدنى من ذلك فهي لن تنال "الفناء المطلق" و"الوصول المطلق".

 
أيها الصوفي إنّ العشق يفضي لصفاءْ         فليــكن عهــدك رهنـًا بالوفـاء
وإذا لم تبلـغ المعشوق وصلاً بلقاءْ           فاجعل الروح على أعتابه تهوى الفناءْ3
 
"فنجوى السرّ"4 لا تتحقّق بين الحقّ وعبده الخاص إلا بعد الصعق، واندكاك جبل وجوده5، رزقنا الله وإيّاكِ تلك المنزلة.
 
العلم هو الحجاب الأكبر
بنيّة:
إنّ الانشغال بالعلوم - حتى العرفانية والتوحيدية منها - إذا كان لمجرّد جمع الاصطلاحات - وهو الحاصل فعلاً - ولأجل الحصول على هذه العلوم بذاتها، فإنّ ذلك لا يُقرّب السالك من مقصده، بل



1 عزّ القدس: إشارة إلى مقام القدس وهو عالم التجرّد المحض والوجود المحض، ومقام التنزّه عن كلّ النقائص الناشئة من التعيّن الاحتجاب.
2 سورة النجم، الآية: 8.
3 ترجمة لمضمون بيتين.
4 نجوى السر: المناجاة التي تحصل في مقام سرّ الإنسان بين الله سبحانه والإنسان.
5  جبل وجود الإنسان: إشارة إلى وجود الأنا والإنّيّة.
 
 
 
 
 
 
 
75

68

طريق العشق

 يُبعده عنه "العلم هو الحجاب الاكبر".

 
أمّا إذا كان الدافع للانشغال بتلك العلوم هو عشق الحقّ والبحث عنه تعالى - وهو نادر جداً- فسوف يكون العلم حينها مصباح الطريق ونور الهداية "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده"1. وللوصول إلى يسير من ذلك لا بدّ من التهذيب والتطهير والتزكية. تهذيب النفس وتطهير القلب من سواه تعالى، فضلاً عمّا يلزم للتخلّص من الأخلاق الذميمة، ممّا يحتاج إلى الكثير من المجاهدة وفضلاً عما هو مطلوب من تنقية الأفعال مما يشوبها من الأمور التي تخالف رضاه تعالى، بالإضافة إلى ما يلزم من المواظبة على الأعمال الصالحة وعلى رأسها الواجبات2، ثم المستحبّات3 بالقدر الميسور مما لا يوقع الإنسان في العجب والغرور.



1 مصباح الشريعة، الباب السادس في الفتياء.
2 الواجبات: جمع واجب، وهو كلّ فعل أمر به الشارع على نحو الإلزام. ولا يجوز للمكلّف تركه، فيكون بتركه آثماً ومضيّعاً لحقّ المولى. والواجب يكون متعلّقاً لإرادة المولى الشديدة المتولّدة عن حبّه لهذا الفعل، ومن ورائها المصلحة البالغة درجة عالية تأبى عن الترخيص في تركه.
3  المستحبّات: جمع مستحبّ، وهو كلّ فعل أمر به الشارع لكن لا على نحو الإلزام، فيجوز فعله أو تركه، لكنّ فعله أرجح ويثاب المكلّف عليه. والمستحبّ يكون متعلّقاً لإرادة المولى الشديدة أيضاً، ومن ورائها المصلحة، ولكن بدرجة أقلّ من الواجب بحيث يرخّص معها للمكلّف بتركه.
 
 
 
 
 
 
 
 
76

69

طريق العشق

 العُجب منشؤه الجهل بحقيقة النفس

بنيّة:
إنّ العُجب1 والغرور إنّما ينتجان عن شدّة الجهل بحقارة النفس وعظمة الخالق. فلو فكّر المرء قليلاً في عظمة الخلق وبالمقدار الذي توصل البشر إلى معرفة اليسير من أسراره - رغم كلّ هذا التقدّم العلمي - فإنّه سيُدرك ضآلة نفسه، وضآلة كلّ المنظومات الشمسية والمجرّات. وسيفهم قليلاً من عظمة خالقها فيخجل من عجبه وأنانيّته وغروره وسوف يستشعر مقدار جهالته.
 
تأمّلي في قول النملة التي ورد ذكرها في قصة نبيّ الله سليمان عليه السلام عندما مرّ بوادي النمل: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾2.
 
نملة تصف سليمان النبيّ عليه السلام ومن يرافقه أنّهم: ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾، ثمّ تأمّلي في قول الهدهد: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾3. وعمي القلوب لا يستطيعون تحمُّل معنى نطق النملة والطير، فما بالك بنطق ذرات الوجود وما في السموات والأرض ممّا وصفها خالقها: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ 



1 العجب: هو تعظيم الإنسان لعمله الصالح واستكثاره والسرور به، واعتبار الإنسان نفسه غير مقصّر فيه، وأنّ العمل منه، وأنّه مستحقّ له، فيمنّ على الله تعالى، ناسياً فضل الله عليه ومُنكراً إحسانه.
2 سورة النمل، الآية: 18.
3 سورة النمل، الآية: 22.
 
 
 
 
 
 
 
77

70

طريق العشق

 إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾1.

 
إنّ الإنسان يرى نفسه محور الخليقة - وإن كان الإنسان الكامل كذلك - إلّا أنّ من غير المعلوم أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى سائر الموجودات، فالبشر الذين لم يتحقّق لهم التكامل ليسوا كذلك حتماً: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾2. هذا مرتبط بالتكامل العلمي دون التهذيب الذي وصفه تعالى بقوله: ﴿كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ...﴾3.
 
التدبُّر في القرآن يرفع الحجب
بنيّة:
لقد بُعثَ الأنبياء ليوفرّوا للبشر مقوّمات التكامل المعنوي ويُخلّصوهم من الحجب، إلّا أنّ الشيطان - ويا للأسف - أقسم أن يحوّل - بواسطة أذنابه - دون تحقيق أهدافهم: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾4.
 
نحن جميعاً نيام تُثقلنا الحجب: "الناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا"5، وجهنّم تكاد تُحيط بنا، يمنعنا من معاينتها والإحساس



1 سورة الإسراء، الآية: 44.
2 سورة الجمعة، الآية: 5.
3 سورة الأعراف، الآية: 179.
4 سورة ص، الآية: 82.
5 بحار الأنوار، ج4، ص43.
 
 
 
 
 
78

 


71

طريق العشق

 بلهيبها خدر الطبيعة1 الذي أصابنا: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ...﴾2. والكفر على مراتب كثيرة للغاية، فرؤية النفس ورؤية العالم والتوجّه إلى غيره تعالى كلها من مراتبه.

 
إذا تدبّرنا في أوّل سورة من القرآن الكريم3، وتأمّلناها بعينٍ غير هذه العين الحيوانية المبصرة، وأدركنا ما فيها دون أن تحول بيننا وبين ذلك الحجب الظلمانية والنورانية، لتدفّقت على قلوبنا ينابيع المعارف ثرّة غزيرة، ولكن هيهات ونحن نجهل حتى بدايتها، "ومن اطّلع وأدرك لم يصلنا خبره أيضاً"4.
 
أوصيكِ يا ابنتي وأنا الجاهل غير العامل: تدبّري5 القرآن الكريم، الذي هو منبع الفيض الإلهي، فالتدبّر فيه - رغم أنّ مجرّد قراءته باعتباره رسالة المحبوب إلى السامع المحجوب له آثاره الطيّبة - يهدي الإنسان ويرفعه إلى المقامات الأعلى والأسمى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾6.



1 الطبيعة: عالم المادة. خدر الطبيعة سببه الانشغال بعالم الدنيا والمادّة والغفلة عن عالم الروح والمعنى.
2 سورة التوبة،الآية: 49.
3 سورة الفاتحة المباركة.
4 مضمون عجز بيت من الشعر.
5 التدبّر في القرآن: التفكُّر في آياته لاستخراج الدروس والعبر منها ومن ثم تطبيقها على النفس.
6 سورة محمّد، الآية: 24.
 
 
 
 
 
 
 
79

72

طريق العشق

 بلهيبها خدر الطبيعة1 الذي أصابنا: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ...﴾2. والكفر على مراتب كثيرة للغاية، فرؤية النفس ورؤية العالم والتوجّه إلى غيره تعالى كلها من مراتبه.

 
إذا تدبّرنا في أوّل سورة من القرآن الكريم3، وتأمّلناها بعينٍ غير هذه العين الحيوانية المبصرة، وأدركنا ما فيها دون أن تحول بيننا وبين ذلك الحجب الظلمانية والنورانية، لتدفّقت على قلوبنا ينابيع المعارف ثرّة غزيرة، ولكن هيهات ونحن نجهل حتى بدايتها، "ومن اطّلع وأدرك لم يصلنا خبره أيضاً"4.
 
أوصيكِ يا ابنتي وأنا الجاهل غير العامل: تدبّري5 القرآن الكريم، الذي هو منبع الفيض الإلهي، فالتدبّر فيه - رغم أنّ مجرّد قراءته باعتباره رسالة المحبوب إلى السامع المحجوب له آثاره الطيّبة - يهدي الإنسان ويرفعه إلى المقامات الأعلى والأسمى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾6.



1 الطبيعة: عالم المادة. خدر الطبيعة سببه الانشغال بعالم الدنيا والمادّة والغفلة عن عالم الروح والمعنى.
2 سورة التوبة،الآية: 49.
3 سورة الفاتحة المباركة.
4 مضمون عجز بيت من الشعر.
5 التدبّر في القرآن: التفكُّر في آياته لاستخراج الدروس والعبر منها ومن ثم تطبيقها على النفس.
6 سورة محمّد، الآية: 24.
 
 
 
 
 
 
80

73

طريق العشق

 إنّ من المكائد الكبرى للشيطان والنفس - التي تُعدّ أشدّ خطراً منه - أنّهما يمنّيان الإنسان بتأخير الإصلاح إلى آخر العمر والى زمن الشيخوخة، فيعرقلان التهذيب والتوبة إلى الله ويؤخّرانهما إلى الوقت الذي تشتدّ فيه شجرة الفساد والزقوم، وتضعف فيه الإرادة والقدرة على التهذيب، أو أنّها تكون قد ماتت تماماً.

 
القرآن كتاب إعجازي المعارف
فلنسع إلى عدم هجر القرآن والابتعاد عنه، ففي هذا الحديث (القرآن)، بين الحبيب والمحبوب، والمناجاة بين العاشق والمعشوق، من الأسرار ممّا لا سبيل لأحد الاطّلاع عليها سوى هو وحبيبه، ولا إمكان أيضاً للحصول عليها. ولعلّ في الحروف المقطّعة في بعض السور مثل ﴿آلم﴾ و﴿ص﴾ و﴿يس﴾ إشارة إلى تلك الأسرار.
 
ولعلّ في الكثير من الآيات الكريمة التي يلجأ أهل الظاهر وأهل الفلسفة والعرفان والتصوّف إلى تفسيرها أو تأويلها بطريقتهم الخاصة إشارة إلى ذلك أيضاً. فلكلّ طائفة منهم منهج أو تصوّر يتناسب مع مقدار تحمُّلهم، مضافاً إلى ما يصلهم من نفحات هذه الأسرار - كلٌّ بما يناسب قابليته - عن طريق أهل بيت الوحي الذين فاضت عليهم الأسرار من منبع الوحي الفيّاض.
 
ولعلّ أكثر الأدعية والمناجات المأثورة عنهم عليهم السلام تُساهم في تحقيق هذا الغرض. فما نجده في أدعيتهم عليهم السلام يندر وجوده في الروايات
 
 
 
 
 
 
81

74

طريق العشق

 المأثورة عنهم، والتي غالباً تخاطب العموم وتتحدّث بلسان العرف.

 
غير أنّ الأمر مختلف تماماً مع القرآن الكريم، فلغة القرآن لغة يرى كلّ عالم ومفسّر أنّه يعرفها ولا يعرفها في الوقت نفسه. فالقرآن الكريم كتاب إعجازي المعارف مما يكون مجرّد تصوّرها أشدّ تعقيداً وصعوبة من تصديقها.
 
فما أكثر الأمور التي يمكن إثباتها بالدليل الفلسفي والرؤية العرفانية في حين يعجز عن تصوّرها. ولا أظنّ أنّ تصوّر, "ارتباط الحادث بالقديم"1 الذي عبّر عنه تعالى في القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة أو "كيفية معيّة الحقّ مع الخلق"2 التي يقول عنها البعض أنّها "المعية القيومية" - الأمر الذي يعدّ تصوّره من المعضلات حتى لأولئك القائلين به - و"ظهور الحقّ في الخلق" و"حضور الخليقة لدى الحقّ"3 و"أقربيّته جلّ وعلا إلى الإنسان من حبل الوريد"4، أو مفاد قوله تعالى: ﴿اللَّهُ 



1 الحادث: هو المسبوق بالعدم والملحوق به أيضاً. القديم: هو غير المسبوق بالعدم ويُسمّى بالأزلي أيضاً. وهو مبحث بحث في الفلسفة حول علاقة الحادث وهو ممكن الوجود بالقديم وهو واجب الوجوب جلّا وعلا.
2 معيّة الحقّ للخلق: مصطلح مأخوذ من قوله تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ (سورة الحديد، الآية:4) للإشارة إلى إحاطة الحقّ تعالى بكلّ الموجودات، وقيام الجميع به، دون انفكاك أو بينونة.
3 مصطلحات فلسفية وعرفانية يراد منها بيان وفهم كيفية علاقة وارتباط الحقّ تعالى بالخلق وبالعكس.
4 إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ سورة ق، الآية:16.
 
 
 
 
 
 
82

75

طريق العشق

 نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1 أو: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾2 أو: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾3 أو: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾4 وأمثالها... يمكن أن يتحقّق تصوّره لغير المخاطب به، ولذوي القربى بتعليمه إيّاهم، والذين كانوا أهلاً لمثل هذه المسائل. وإنّ بلوغ نفحة منه يستلزم المجاهدة المشفوعة بالتهذيب.

 
مدرستي لم تغن بعد الجهد أو طول اجتهادي          وازدحام القيل والقال سوى غـمّ الفـؤاد5
 
فاليوم لا أثر للشباب الذي هو ربيع التحصيل، ولست أرى من الماضي سوى حفنة من الألفاظ. لذا أوصيكِ وسائر الشبّان الساعين في تحصيل المعرفة، بالسعي والمجاهدة للوصول إلى بارقة منه تعالى ثم الذوبان فيها، فأنتم وجميع الموجودات مظاهر وتجلّيات له تعالى.
 
عـدم يقفو وبعد العمر عـودٌ للعـدم            فـوجودي صار لحناً وتريـاً يتبـدّد
صادحاً في دوحة الوجدان شدواً يتردّد      نحـن لله ونحو الله نسري راجعـون[6]



1 سورة النور، الآية: 35.
2 سورة الحديد، الآية: 3.
3 سورة المجادلة، الآية: 7.
4 سورة الفاتحة، الآية: 5.
5 مضمون بيت من الشعر.
6 مضمون بيت من الشعر.
 
 
 
 
 
 
 
83

76

طريق العشق

 ظهور حقيقة الدنيا

بنيّة:
اعلمي أنّ الدنيا بما فيها جهنّم، سوف تظهر حقيقتها في آخر المطاف. كما أنّ ما وراء الدنيا إلى آخر المراتب، هو الجنّة، التي ستظهر في النهاية، بعد الخروج من خدر الطبيعة. وأنا وأنتِ والجميع نسير، إمّا للسقوط في قعر جهنّم، أو لبلوغ الجنّة والملأ الأعلى.
 
روي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً إلى أصحابه يوماً فسمعوا صوتاً مهيباً، فسألوا: ما هذا الصوت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "حجر ألقي من أعلى جهنّم منذ سبعين سنة، والآن وصل إلى قعرها"1، وقال أولوا الألباب: في وقتها سمعنا أنّ رجلاً كافراً عمّر سبعين سنة، مات حينها، فسقط في جهنّم.
 
نحن جميعاً في الصراط2 الذي يمرّ فوق جهنّم، والذي سيظهر باطنه في ذلك العالم. ولكلّ إنسان صراطه الخاص به هنا في الدنيا، وهو في حالة سير إمّا على الصراط المستقيم الذي ينتهي به إلى الجنّة وما فوقها، أو على الصراط المنحرف يميناً أو شمالاً



1 في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يوماً جالساً في أصحابه فسمع هدّة فقال:"هذا حجر أرسله الله تعالى من شفير جهنّم فهو يهوي فيها منذ سبعين خريفاً حتى بلغ الآن قعره". عوالي‏ اللآلي، ج1،ص 280.
2 الصراط: في اللغة يعني الطريق، والمراد به جسر على جهنّم أو في داخلها، ومن خصوصياته أنّه على جميع الناس أن يعبروه حتى الأنبياء والأوصياء.
 
 
 
 
 
 
84

 


77

طريق العشق

 وكلاهما ينتهيان إلى جهنّم. ونحن نسأل الله تعالى أن يجعل مسيرنا على الصراط المستقيم: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ (الانحراف إلى جهة) ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ (انحراف إلى الجهة الأخرى) ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾1. وهذه الحقائق تكون مشهودة في الحشر عياناً.

 
إنّ صراط جهنّم الذي وصفت الروايات دقّته وحدّته وظلمته، هو باطن الصراط المستقيم في هذا العالم. وكم هو طريق دقيق ومظلم، وكم هو صعب علينا اجتيازه نحن العاجزين. أمّا أولئك الذين اجتازوه دون أيّ انحراف فيقولون: "جزنا وهي خامدة"2. وبين هذا وذلك وبمقدار ونوع سير الإنسان على الصراط في هذا العالم، يكون نوع ومدى الاطمئنان في اجتياز الصراط هناك.
 
ضعي الغرور والآمال الشيطانية الكاذبة جانباً، وجدّي في العمل وفي تهذيب النفس وتربيتها فإنّ الرحيل وشيك، وكلّ يوم يمرّ وأنت غافلة يؤخّرك حتماً. وإيّاك أن تقولي: ولماذا لست مستعدّاً أنت؟!



1  سورة الفاتحة، الآيتان: 6 و7.
2 روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يقول النّار للمؤمنين يوم القيامة جُزْ يا مؤمن فقد أَطْفَأَ نورك لهبي" (بحار الأنوار، ج8، ص249). وعن جابر أنّه عليه السلام سُئِلَ عنه فقال: "إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال بعضهم لِبعض أَليس قد وعدنا ربُنَا أن نَرِدَ النّار فَيُقَالُ لهم قد وردتموها وهي خامدة" (بحار الأنوار، ج8، ص250).
 
 
 
 
 
 
 
85

78

طريق العشق

 "انظر إلى ما قيل لا إلى من قال"1. فمهما كان حالي فأنا الرهين بذلك وكذا الجميع، وجهنّم كلّ إنسان وجنّته هي نتيجة أعماله، ونحن جميعاً نحصد ما زرعنا. إنّ الإنسان مفطور ومجبول على الاستقامة والصلاح. وحبّ الخير فطرة إنسانية، نحن نجرّها نحو الانحراف، ونحن الذين نزيد الحجب أمامنا ونلفّ أنفسنا بهذه الشباك.

 
كالعير في البيداء يقتلها الظما               والماء فوق ظهورها محمول2
 
الاهتمام برفع الحجب لا جمع الكتب     
 
سَأَلْتِني البارحة عن أسماء الكتب العرفانية...
بنيّة، ليكن سعيك في رفع الحجب لا بجمع الكتب.
 
أسألك، إذا اقتنيت الكتب العرفانية والفلسفية ورحت تحملينها من مكان إلى آخر، أو صرت أرشيفاً للألفاظ والاصطلاحات، وخدعت جلساءك في المحافل بعرض ما في جعبتك من المعلومات، وأثقلت ظهرك بخداع الشيطان والنفس الأمّارة - الأشدّ خبثاً من الشيطان - وأصبحت نتيجة مكر إبليس زينة المجالس، وتسرّب لا سمح الله إليك غرور العلم والعرفان، ولا ريب أنّ ذلك سيحصل،



1 ورد في غرر الحكم، ص 58 هكذا "خذ الحكمة ممّن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال".
2 مضمون بيت شعر.
 
 
 
 
 
 
 
86

 


79

طريق العشق

 فهل إنّك ستقلّلين بهذه الأوزار الكثيرة من الحجب أم ستزيدينها؟!

 
فلقد أنزل الله تعالى الآية الشريفة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾1 لتنبيه العلماء إلى أنّ اختزان العلوم - حتى إذا كان من علوم الشرائع والتوحيد - لا يُخفّف الحجب بل يزيدها، ويضرب دونهم حجباً سميكة بدل الحجب اللطيفة.
 
لا أقول ابتعدي عن العلم والعرفان والفلسفة واقضي عمرك بالجهل فإنّ هذا انحراف. ولكن أقول: اسعي وجاهدي ليكون دافعك إلى ذلك إلهياً ومن أجل المحبوب. وإذا عرضت شيئاً من العلم فليكن لله ولتربية عباده لا للرياء2 والتظاهر فتصبحي - لا سمح الله - من علماء السوء الذين يؤذون أهل النار بريحهم النتنة3.
 
إنّ أولئك الذين وجدوه وعشقوه ليس لهم دافع سواه، لذا أصبحت أعمالهم كلّها - من حرب، أو صلح أو ضرب بالسيف أو كرٍّ أو ما شئتِ أن تتصوّري - إلهية بحتة، "ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة



1 سورة الجمعة، الآية: 5.
2 الرياء: عبارة عن إظهار شيء من الأعمال الصالحة أو الصفات الحميدة، أو العقائد الحقّة للناس من أجل الحصول على منزلة في قلوبهم والاشتهار بينهم بالصلاح والاستقامة والتديّن من دون نيّة إلهية خالصة وصحيحة.
3 إشارة إلى الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الْعُلَمَاءُ رَجُلَانِ رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ فَهَذَا نَاجٍ، وَعَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ فَهَذَا هَالِكٌ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِ" الكافي، ج1، ص44.
 
 
 
 
 
 
87

80

طريق العشق

 الثقلين"1. فضربته لولا استنادها إلى الدافع الإلهي لما عادت قطميراً، حتّى وإن تسبّبت في فتح عظيم. ولا يُظنّ أن مقام أولياء الله وخصوصاً وليّ الله الأعظم (عليه وعلى أولاده الصلوات والسلام) يتحدّد بهذا المقام، أبداً، غير أنّ القلم عاجز عن المتابعة والتوضيح، قاصر عن الإسهاب في شرح ذلك بأيدي المحجوبين. فما نستطيع نحن المحجوبون أن نقول، بل ماذا نعلم لنقول؟ وما يُراد الحديث عنه ليس ممّا يسع إحاطته بالحديث، فهو فوق أفق وجودنا حتى.

 
ولكن لا بأس بالتعرّض للقليل، فذكر الحبيب يؤثّر في القلب والروح حتى إذا لم يؤدّ ذكره إلى فهم شيء من حقيقته، تماماً كنظر العاشق الأميّ في رسالة محبوبه مستأنساً بها لمجرّد كونها رسالة المحبوب، وكالأعجمي المسكين الذي لا يُحسن العربية ويقرأ القرآن الكريم، فتعتريه حالة تفوق بآلاف المرات حالة الأديب الضليع الذي يُشغل نفسه بإعراب القرآن وما فيه من الأدب الرفيع والبلاغة والفصاحة، لما يستشعر من الأنس لقراءته هذا القرآن النازل منه تعالى، بل وأرقى حتى من حالة الفيلسوف والعارف الذي يُفكّر بمسائل القرآن العقلية والذوقية ويغفل عن المحبوب، فيكون كمن يطالع الكتب الفلسفية والعرفانية مستغرقاً بما في هذه الكتب وغير مكترث بكاتبها.



1 إقبال الأعمال: ص 467. وبحار الأنوار، ج39، ص2.
 
 
 
 
 
 
88

81

طريق العشق

 موضوع الفلسفة والعرفان

بنيّة:
اعلمي أنّ موضوع1 "الفلسفة" هو "مطلق الوجود" بدءً بالحق تعالى وانتهاءً بأدنى مراتب الوجود. وموضوع "علم العرفان" و"العرفان العلمي" هو "الوجود المطلق" أو بالتحديد "الحقّ تعالى"، فلا بحث له سوى عن الحقّ تعالى وتجلّياته التي هي عين ذاته.
 
وإذا بحث كتاب أو عارف في موضوع غير الحقّ تعالى فلا الكتاب كتاب عرفان ولا القائل عارف. في حين إذا تأمل فيلسوف بالوجود على حقيقته، وبحث في ذلك، فبحثه إلهيّ وعرفاني. وكلّ ذلك يختلف عن "الذوق العرفاني" الأمر المهجور والمتروك البحث فيه، "والشهود الوجداني" وما يليه من الفناء في عين الغرق في الوجود، "أطفىء السراج فقد طلعت الشمس"2.


 

1 موضوع أيّ علم هو الذي يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية. فمركز البحث في الفلسفة يتمحور حول الوجود، وفي العرفان حول الحقّ جلا وعلا.
2 روي أنّ أمير المؤمنين علي عليه السلام سأله كميل بن زياد عن الحقيقة فقال: "ما لك والحقيقة؟ فقال: أولست صاحب سرّك؟ فقال صلوات الله عليه: بلى ولكن يترشّح عليك ما يطفح منّي فقال كميل: أو مثلك يُخيّب سائلاً؟ فقال عليه السلام: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، فقال: زدني بياناً فقال عليه السلام: محو الموهوم مع صحو المعلوم، فقال: زدني بياناً، فقال عليه السلام: هتك الستر لغلبة السرّ، فقال: زدني بياناً، فقال صلوات الله عليه: جذب الأحدية بصفة التوحيد، قال: زدني بياناً، قال عليه السلام: نورٌ يُشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثارُه، قال: زدني بياناً، قال: أطفئ السراج فقد طلع الصباح". روضة المتقين، ج2، ص81.
 
 
 
 
 
 
89

82

طريق العشق

 بنيّة:

سمعتُك تقولين: أخشى أن أندم أيام الإمتحان إذا لم أعمل في أيّام العطلة. إنّ هذا الندم وأمثاله - مهما كان - فهو سهل سريع التلاشي. أمّا الندم الدائم الأبدي فهو عندما تنتبهين إلى أنّك تبصرين كلّ شيء إلّا هو تعالى، وعندما تُصبح الستائر والحجب ممّا يستحيل إزالته. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل: "فهبني يا الهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك"1.
 
لم أستطع أنا - أعمى القلب - أن أقرأ هذه الفقرة وبعض الفقرات الأخرى في هذا الدعاء الشريف بصدقٍ حتى الآن، فأنا أقرأها بلسان الإمام عليّ عليه السلام وما زلت لا أعرف ما هو هذا الشيء الذي يعد الصبر عليه أشدّ من الصبر على عذاب الله في جهنّم، التي تطّلع نارها على الأفئدة. فهو عليه السلام يشير بقوله "عذابك" إلى "نار الله" التي تُحرق الفؤاد، ولعلّ هذا العذاب الذي يتحدّث عنه عليه السلام أشدّ من عذاب جهنّم هذا، ونحن - عمي القلوب - نعجز عن إدراك وتصديق هذه المعاني التي تفوق إدراك البشر، فلنُعرض عنها، ولنترك ذلك لأهله، ممّن هم في غاية الندرة والقلّة.



1 فقرات من دعاء كميل المشهور، مفاتيح الجنان.
 
 
 
 
 
 
90

83

طريق العشق

 على أيّة حال إنّ لكلٍّ من الكتب الفلسفية - خصوصاً كتب فلاسفة الإسلام - وكتب أهل الحال والعرفان أثراً مختلفاً:

 
فالأولى: تعرّف الإنسان - ولو بشكل إجمالي - على عالم ما وراء الطبيعة.
 
والثانية: وخصوصاً البعض منها "كمنازل السائرين"1 و"مصباح الشريعة"2 الذي يبدو أنّ عارفاً كتبه نقلاً عن الإمام الصادق عليه السلام بطريقة الرواية، تُهيّئ القلوب للوصول إلى المحبوب. وأكثر ما في هذه المجموعة إثارة للقلوب: 
المناجاة والأدعية المأثورة عن أئمة الهدى التي تمتاز - فضلاً عن أثرها في الإرشاد إليه تعالى - في أنّها تقود إليه، فتأخذ بيد الباحث عن الحقّ لتحلّق به صاعدة نحوه تعالى. ويا للأسف ألف مرّة، إنّنا بعيدون، تفصلنا عنها فراسخ عديدة.



1 منازل السائرين: هو من أهمّ كتب العرفان العملي والسير والسلوك للخواجة عبد الله الأنصاري، وقد قام بشرحه العارف كمال عبد الرزاق الكاشاني.
2 مصباح الشريعة: كتاب في المعارف والمواعظ والأخلاق يُنسب إلى الإمام الصادق عليه السلام، مشتمل على مائة باب يبدأ كل باب بجملة قال الصادق عليه السلام.وقد رجع إلى هذا الكتاب واعتمد عليه جمع من علماء الإمامية منهم: السيد ابن طاووس، ابن فهد الحلي، العلامة المجلسي، الشهيد الثاني، الفيض الكاشاني، الكفعمي، النراقي الأول رضوان الله تعالى عليهم.
 
 
 
 
 
 
91

84

طريق العشق

 شرط المعرفة عدم إنكار المقامات المعنوية

بنيّة:
حاذري أن تنكري مقامات العارفين والصالحين، إذا لم تكوني أهلها أو لم تبلغي ذلك المقام. وإياك أن تعتبري مخالفتهم من الواجبات الدينية، فإنّ كثيراً ممّا يقولونه مشار إليه بشكل خفي أو إجمالي في القرآن الكريم، وبشكل أكثر وضوحاً في أدعية أهل العصمة ومناجاتهم. ونحن الجاهلون إنّما ننبري لمخالفة ما يقولون لأنّنا محرومون من فهم هذه الأسرار.
 
يقال إنّ صدر المتألّهين رأى أحدهم يجلس في حرم المعصومة عليها السلام مشغولاً بلعنه، فسأله لماذا تلعن صدرا؟
 
قال: لأنّه يقول بوحدة واجب الوجود.
 
قال: العنه إذن.
 
إنّ هذه الحكاية حتى لو لم تكن واقعية فهي تشير إلى حقيقة معيّنة، حقيقة مؤلمة، وقد رأيت أو سمعت أنا شخصياً العديد من الشواهد عليها في زماننا هذا، ولست أريد من قولي هذا الدفاع عن بعض ذوي الادّعاءات الجوفاء "فما أكثر ما تكون الخرقة مستوجبة للنار"1. إني إنّما أهدف تجنيبك إنكار أصل موضوع المعنى والمعنوية. فذات هذه المعنوية ورد ذكرها في الكتاب والسنة أيضاً،



1 بيت شعر لحافظ الشرازي.
 
 
 
 
 
 
92

85

طريق العشق

 والمخالفون تجاهلوها أو راحوا يُفسّرونها بتفاسير سطحية ساذجة.

 
ولتعلمي أنّ أول خطوة نحو المعرفة، هي بالخروج من حجاب الإنكار السميك الذي يمنع من أيّ رشد أو تقدّم إيجابي. علماً بأنّ هذه الخطوة الأولى ليست كمالاً، إلا أنّها تفتح الطريق نحو الكمال، تماماً كما أن "اليقظة"1 التي تُعتبر المنزل الأول في منازل السالكين لا يمكن اعتبارها من المنازل ذاتها، إنّما مقدّمة وفاتحة للطريق نحو منازل السالكين. وعلى أيّة حال لا يمكن بروح الإنكار سلوك طريق المعرفة.
 
إنّ أولئك الذين يُنكرون مقامات العارفين ومنازل السالكين، إنّما يُنكرونها لأنّهم أنانيون مغرورون. فهم لا يحملون ما لا يعرفون على جهلهم، لذا ينكرونه حتى لا تمسّ أنانيّتهم وعجبهم بأنفسهم "أم الأصنام، صنم النفس"2. وما لم يتمّ تحطيم هذا الصنم والقضاء على هذا الشيطان، فلا سبيل للوصول إليه جلّ وعلا... وما أصعب تحطيم هذا الصنم وما أصعب كبح جماح هذا الشيطان!
 
روي عن أحد المعصومين عليهم السلام قوله "شيطاني أسلم على



1 اليقظة:: الانتباه من النوم. والمراد باليقظة في الأخلاق، التنبّه من سنة الغفلة والخلاص من الكسل والفتور والاستخفاف بحضور الله والقيام له عزّ وجلّ ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ سورة سبأ، الآية: 46.
2 صدر بيت من الشعر لمولوي.
 
 
 
 
 
 
93

86

طريق العشق

 يديّ"1 ومنه يتّضح أنّ لكلّ شخص مهما كان عظيم المرتبة شيطاناً، إلا أنّ أولياء الله وُفّقوا لترويضه بل لحمله على الإسلام.

 
أتعلمين ماذا فعل الشيطان بأبينا آدم صفيّ الله؟ لقد أخرجه من جوار الحقّ بعد أن وسوس له للاقتراب من الشجرة2 - التي قد تكون كناية عن النفس3 أو بعض مظاهرها4- فصدر الأمر أن ﴿اهْبِطُواْ﴾5، ذلك الهبوط الذي كان منشأ جميع أنواع الفساد والعداوات.
 
إلا أنّ آدم عليه السلام تاب بعد أن أخذ الله تعالى بيده، ثم جعله "صفيّه"، وعلينا أنا وأنت المبتلين بالشجرة الإبليسية أن نتوب أيضاً وأن نستغيث ونطلب من الله تعالى في السرّ والعلن أن يأخذ بأيدينا بأية وسيلة شاء ويوصلنا إلى مقام التوبة، لعلّنا ننال بعد ذلك حظّاً من الاصطفاء الآدمي.



1 روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما منكم أحد إلّا وله شيطان، فقيل له: وأنت يا رسول الله ؟ فقال: وأنا، ولكن أعانني الله عليه فأسلم" بحار الأنوار، ج67، ص40.
2 التي كانت السبب في خروج آدم عليه السلام من الجنة بعد التحذير الإلهي: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ سورة الأعراف، الآية: 19.
3 إشارة إلى حبّ النفس أو النفس الأمارة بالسوء والأهواء التي نهى الله تعالى من اتباعها: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سورة ص، الآية:26.
4 حبّ الدنيا وما يتفرّع عن هذا الحبّ من معاصي.
5 سورة البقرة، الآية: 36.
 
 
 
 
 
 
 
 
94

87

طريق العشق

 ولا يمكن لهذا أن يكون إلا بالمجاهدة وترك شجرة إبليس بكلّ أغصانها وأوراقها وجذورها المنتشرة في وجودنا والتي تزداد كلّ يوم رسوخاً وتفرُّعاً. ولا شكّ أنّ التعلّق بالشجرة الخبيثة وأغصانها وجذورها يمنع من بلوغ الهدف. وقد هدّد إبليس بهذا وقد نجح فيه نجاحاً كبيراً، إذ لم يتمكّن أحد من الخلاص من كيده وكيد النفس الخبيثة التي تُمثّل أحد مظاهره، سوى عدّة معدودة من عباد الله الصالحين والأولياء المقرّبين عليهم السلام. ومن تمكّن - عداهم عليهم السلام - من الخلاص من أغصان تلك الشجرة وجذورها المتشابكة المعقّدة لم يتمكّن إلا بأخذ الله تعالى بيده كما فعل مع صفيّه (آدم) فحرّره منها. ولكن أين نحن من ذلك الاستعداد لقبول الكلمات؟

 
وما أحرى أن نُطيل التأمُّل في الآية الكريمة التي تُشير إلى هذا المعنى، يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾1 ولم يقل سبحانه "وألقى إليه كلمات" كأنّ المراد أنّ تلقّي الكلمات كان بعد السير إليه تعالى، رغم أنّها لو كانت "وألقى إليه..." أيضاً لما كانت ممكنة دون السير التكاملي.



1 سورة البقرة، الآية: 37.
 
 
 
 
 
 
 
95

88

طريق العشق

 كما ينبغي أيضاً التفكّر في الآية الأخرى التي أشارت إلى هذه القضية، بقوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ...﴾1 إذ يتضح أنّ كلّ ما كان منهما هو مجرّد التذوّق وتحسّس الطعم، ومع ذلك ترتّبت عليه كلّ تلك الآثار، لأنّ ذلك كان من مثل (آدم) أبي البشر.

 
وفي ضوء ما تقدّم يجب أن نتأمّل مليّاً في ما نحن عليه، حيث إننا حتماً منشدّون (أيضاً) إلى جميع أغصان وأوراق وجذور تلك الشجرة.
 
مخاطر اللسان المهلكة
بنيّة:
إنّ الطريق محفوف بالمخاطر، ولكلّ عضو ظاهر أو جارحة من جوارحنا الباطنة آفات تُمثّل كلّ آفة منها نوعاً من الحجب التي إنّ لم نخترقها ونتخطّاها، فما نحن ببالغي أول خطوة للسلوك نحو الله تعالى.
 
ولا بدّ أن أُشير - مع أنّ جسمي وروحي ألعوبة للشيطان - إلى بعض آفّات اللسان، هذا العضو الأحمر الصغير الذي يُمكنه أن يُحيل مروج الخضرة غثاء أحوى. فاللسان إن أصبح مطية الشيطان وآلة بيديه أفسد الروح والفؤاد.



1 سورة الأعراف، الآية: 22.
 
 
 
 
 
 
 
96

89

طريق العشق

 لذا أقول: بنيّة! إيّاك والغفلة عن عدو الإنسانية والفضيلة الخطير هذا، وحينما تكونين في جلسات أنس مع صديقاتك، ابذلي وسعك في عدّ الخطايا الكبيرة لهذا العضو الصغير وتأمّلي فيما يفعله وما يجرّه من المصائب خلال ساعة واحدة من عمرك كان حرياً إنفاقها لكسب رضا الحبيب.

 
ومن هذه المصائب الوقوع في غيبة الإخوان والأخوات... تأمّلي أيّ أشخاص تريقين ماء وجوههم، وأيّة مستورات من أمور المسلمين تكشفين في هذا المجلس، وأيّة حيثيّات تمسّين، وأيّة شخصيات تكسرين. عندها خذي ذلك المجلس معياراً لما يمكن أن يجتمع عليك خلال سنة تمضينها على هذه الحال، وماذا سيجتمع عليك في الخمسين أو الستين سنة القادمة؟ وأيّة مصائب ومخاطر ستعرّضين نفسك إليها؟ ومع هذا فإنّك تعتبرين ذلك صغيراً، في حين أنّ هذا الاستصغار من حيل إبليس حفظنا الله جميعاً منه بلطفه.
 
بنيّة:
نظرة خاطفة إلى ما ورد في الغيبة1 وإلحاق الأذى بالمؤمنين والبحث عن معايبهم وكشف أسرارهم وإلصاق التهم بهم، تجعل القلوب التي لم يستحوذ الشيطان عليها ترتجف خوفاً وهلعاً، وتحيل 



1 الغيبة: هي الإشارة أو ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يُعدّ نقصاناً في العرف بقصد الانتقاص منه وذمّه.
 
 
 
 
 
 
 
97

90

طريق العشق

 حياة الإنسان مرارة. وها أنذا أوصيكما أنتِ وأحمد -لما أحمله لكما من الحبّ - باجتناب الآفّات الشيطانية وخصوصاً آفّات اللسان الكثيرة والحرص على حفظه وادّخاره. ولا شكّ أنّ ذلك سيكون صعباً نوعاً ما في بداية الأمر، لكنّه يهون ويسهل بالعزم والإرادة والتفكّر في عواقبه...

 
اعتبري بهذه الكلمات التي وردت في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾1، فلعلّ الآية تُخبر عن صورة العمل البرزخية، ولعلّ الحديث المنقول عن سيّد الموحّدين عليه السلام ضمن مواعظه الكثيرة التي وعظ بها (نوف البكالي) إشارة إلى هذا الأمر. فقد طلب نوف من المولى في ذلك الحديث أن يعظه فقال له عليه السلام: "اجتنب الغيبة فإنّها إِدامُ كلاب النّار ثم قال يا نَوْفُ كذب من زعم أنّه وُلِدَ من حلال وهو يأكل لحوم النّاس بالغيبة"2.
 
كما نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النّار إلّا حَصائِدُ ألسنتهم"3.



1 سورة الحجرات، الآية: 12.
2 وسائل الشيعة، ج12، ص283.
3 الكافي، ج2، ص115.
 
 
 
 
 
 
 
 
98

91

طريق العشق

 ومن هذا الحديث وغيره من الأحاديث الكثيرة يستفاد أنّ جهنّم هي الصورة الباطنية لأعمالنا.


أللهم ارحمنا ونساءنا وعيالنا ونجّنا من الآفّات الشيطانية ولا تجعلنا ممّن يلحقون بالمسلمين الأذى بألسنتهم وأعمالهم.

كتبتُ هذه الصفحات استجابة لطلب فاطمة، معترفاً بأنّي لم أتمكّن من الخلاص من مكائد الشيطان، وداعياً أن توفّق هي لذلك بما لديها من نعمة الشباب.

والسلام على عباد الله الصالحين

12 / شهر رمضان المبارك /1404 هـ.ق
روح الله الموسوي الخميني
 
 
 
 
 
 
 
 
99

92

بلسم الروح

 بلسم الروح


بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
رسالة من والدٍ هرمٍ متداعٍ، أفنى عمره في حفنة من الألفاظ والمفاهيم، وضيّع حياته في قمقم أنانيّته، وهو الآن يعدّ أنفاسه الأخيرة نادماً على ماضيه. إلى ولده الشاب، المتاحة أمامه فرصة للتفكير كعباد الله الصالحين بتحرير نفسه من قيود التعلّق بالدنيا التي ينصبها إبليس الخبيث فخّاً له.

دوام ذكر الله يُحرّر الإنسان من الدنيا
بنيّ:
ما أسرع كرّ الدنيا وفرّها وإقبالها وإدبارها، ثم نُسحق جميعاً تحت عجلات الزمن.

بنيّ:
لقد أدركت من تتبّعي ومطالعاتي في أحوال مختلف الشرائح البشرية أنّ الآلام النفسية والروحية التي يُعاني منها أفراد الشريحة 
 
 
 
 
 
 
101

93

بلسم الروح

 المتنفّذة1 الموسرة، وما يُخلّفه ضياع الآمال والأماني الكثيرة فيهم، أشدّ أثراً وأكثر تقريحاً للفؤاد من الآلام التي تُعاني منها سائر الشرائح.

 
وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، والذي يرزح فيه العالم تحت سطوة القوّتين الكبريين، لا يعدّ العذاب والألم الذي تُعاني منه الطبقات والشرائح المتوسّطة، لا، بل حتى الفقيرة منها شيئاً يذكر قياساً بما يُعانيه رؤساء تلك الدول الكبرى، وما تتجرّعه كلّ واحدة منهما من الأخرى من ألوان القلق المضني. فالتنافس بينهما ليس تنافساً متّزناً معقولاً، بل تنافس مقضّ ومهلك يقصم ظهر كلٍّ منهما، وكأنّ كلّاً منهما يقف في مواجهة ذئب مفترس يترصّد به، فاغراً فمه ومكشّراً عن أنيابه يتحيّن فرصة لافتراسه.
 
إنّ عذاب التنافس هذا يقضّ مضاجع الناس جميعاً بمختلف فئاتهم، بدءاً من المتنفّذين الموسرين ونزولاً إلى سائر الطبقات، إلا أنّه يزداد شدّة وتأثيراً كلّما زاد الثراء والقدرة بنفس النسبة وليس من سبيل إلى نجاة البشرية، وتحقيق الاطمئنان في القلوب، والتحرّر من الدنيا وأنواع التعلّق بها، سوى بالمداومة على ذكر الله تعالى2.



1 صاحبة النفوذ والاقتدار.
2 إشارة إلى قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ سورة الرعد، الآية:28.
 
 
 
 
 
 
 
102

94

بلسم الروح

 إنّ أولئك الساعين إلى تحقيق التفوّق بأيّ ثمن سواء أكان سعيهم ذلك في العلوم -حتى الإلهية منها - أو في القدرة والشهرة والثروة، إنّما يسعون في زيادة آلامهم. في حين أنّ المتحرّرين من القيود المادّية، والذين حفظوا أنفسهم - إلى حدٍّ ما - من الوقوع في شرك إبليس، يُحبرون في جنّة وسعادة ورحمة حتى في عالمنا الدنيوي هذا.

 
موازين العرفان الحقيقي
في عهد رضا خان البهلوي1 وتحديداً في تلك الأيام التي كانت تُمارس فيها ضغوط شديدة بهدف تغيير زيّ العلماء، وكان العلماء والحوزات العلمية يعيشون الاضطراب والقلق نتيجة هذا الأمر - لا أعاد الله مثل تلك الأيام على الحوزات العلمية2 - صادفتُ شيخاً



1 رضا خان البهلوي: هو رجل قاس متجبّر أسّس في إيران حكومة ملكية عام 1924م، التحق بالمجموعات المسلّحة الشقية المتجبّرة وهو في الرابعة عشر من عمره، وسرعان ما بلغ أعلى مستويات القيادة لهذه المجموعات بسبب قساوة قلبه وتهوّره، فلفت انتباه البريطانيين واهتمامهم، وبما أنّهم كانوا يسعون إلى إيجاد حكومة قوية في إيران تحفظ مصالحهم، فقد وجدوا فيه ضالّتهم المنشودة. وبالفعل فقد استطاع وبمساعدة الإنجليز أن يُنهي حكم "القاجار" وأن يتربّع على العرش الملكي مدّة ستة عشر عاماً، وعندما شاهد التقدّم السريع لجيش هتلر، وسقوط الدول الأوروبية واستسلامها، بُهت بذلك، ومدّ يده لهتلر طمعاً في أن يكون النصر حليفه. لكن دول الحلفاء اجتاحوا إيران، وعزلوا رضا خان، ونقلوه بسفينة بريطانية إلى منفاه في "جزيرة موريس" شرق أفريقيا، ثم إلى "جوهانسبرغ" جنوبي إفريقيا، إلى أن مات فيها عام 1944م.
2 الحوزة العلمية: هي المؤسسة الدينية التي تُعنى بتعليم الشريعة الإسلامية على اختلاف تخصُّصاتها ومجالاتها بناء لمدرسة أهل البيت عليهم السلام الاجتهادية والفقهية.
 
 
 
 
 
 
103

95

بلسم الروح

 من المتحرّرين إلى حدٍّ ما من رقٍّ الأغيار يجلس قرب دكّان الخبّاز مشغولاً بأكل قطعة من الخبز الخالي، وعند التحادث قال: "أمروني بنزع عمامتي، فنزعتها ووهبتها لشخصٍ يخيط له منها قميصين، وها أنذا قد أكلت رغيفي وشبعت، وإلى الليل.. الله كريم".

 
ولدي.. إذا أخبرتك أنّي أُفضِّل الفوز بهذه الحالة على الفوز بجميع مقامات الدنيا فصدِّق، ولكن هيهات أن يكون لي ذلك وأنا الواقع في شراك إبليس والنفس الخبيثة.
 
بنيّ:
أمّا أنا فلا أمل لي "يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل"1. والأمل أن توفّق أنت إلى سلوك طريق الصالحين بما لديك من نعمة الشباب وقوّة الإرادة.
 
ولست أرمي من قولي هذا دفعك إلى أن تترك خدمة المجتمع والاعتزال لتكون كَلّاً على خلق الله، فإنّ هذه صفات الجاهلين المتنسّكين أو الدراويش أصحاب الطرائق2. ولنا في سيرة الأنبياء العظام (صلى الله على نبيّنا وعليهم أجمعين) والأئمة الأطهار عليهم السلام - صفوة العارفين بالله والمتعلّقين بساحته المتحرّرين من كلّ القيود والأغلال - من القيام بكلّ ما أوتوا من



1 بحار الأنوار، ج73،ص22.
2 أصحاب الطرائق: أصحاب الطرق الصوفية التي اشتهرت بالزهد والتنسُّك.
 
 
 
 
 
 
 
104

96

بلسم الروح

 قوّة بوجه الحكومات الطاغوتية وفراعنة الزمان، وما عانوا من الآلام والمتاعب في سبيل تحقيق العدالة في العالم، وما بذلوا من الجهود، عبرة ودروس. فإذا كانت لنا أعينٌ مبصرةٌ وآذان واعية فسيكون شعارنا: "من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"1.

 
بنيّ:
إنّ الميزان في الأعمال هو النوايا التي تستند إليها. فلا الاعتزال الصوفي دليل على الارتباط بالحقّ، ولا الدخول في خضم المجتمع وإقامة الحكومة شاهد على الانقطاع عن الحقّ. فما أكثر ما يكون العابد والزاهد واقعاً في شراك إبليس التي تشتدّ وتتوسّع بما يناسب ذلك العابد، كالأنانية والغرور والعجب والتكبُّر واحتقار خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يُبعده عن الحقّ ويجرّه نحو الشرك. وما أكثر ما يرتقي المتصدّي لشؤون الحكومة فيحظى بمعدن قرب الحقّ، لما يحمله من دافع إلهي، كداود وسليمان عليهما السلام، بل وأفضل منهما وأسمى منزلة، كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته بالحقّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكحضرة المهديّ (أرواحنا لمقدمه الفداء) في عصر حكومته العالمية.
 
فميزان العرفان والحرمان إذن هو الدافع. وكلّما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة وأكثر تحرُّراً من الحجب، حتى النورية 
منها،



1 أصول الكافي، ج2، ص163.
 
 
 
 
 
 
105

97

بلسم الروح

 كانت أكثر التصاقاً بمبدأ النور، وإلى المستوى الذي يصبح فيه الحديث عن الارتباط كفراً أيضاً.

 
بنيّ:
لا تتنصّل من مسؤوليتك الإنسانية التي هي خدمة الحقّ في صورة خدمة الخلق، فإنّ مكر الشيطان وكيده في هذا المضمار ليس أقلّ من مكره وكيده بين المسؤولين والمتصدّين للأمور العامة. ولا تتهالك للحصول على مقام مهما كان -سواء المقام المعنوي أو المادّي - متذرّعاً بالرغبة في الاستزادة من المعارف الإلهية، أو خدمة عباد الله، فإنّ مجرد الاهتمام بذلك من الشيطان، فما بالك ببذل الجهود للوصول إليه!
 
استمع إلى الموعظة الإلهية الفريدة التي يعظنا بها الله، وأرهف لها سمع القلب والروح، ثم عِها تماماً وسر في خطّها. يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾1.
 
فالميزان في بدء الحركة إنّما هو في كونها "قياماً لله"2 سواء في الأعمال الشخصية والفردية أو في الفعاليات الاجتماعية.
 
فاسعَ أن تكون موفّقاً في هذه الخطوة الأولى. فإنّ ذلك في أيّام الشباب أسهل وإمكانية التوفيق فيه أكثر. وإياك أن يفاجئك الهرم 



1 سورة سبأ، الآية:46.
2 خالصة لوجه لله.
 
 
 
 
 
 
106

98

بلسم الروح

 مثل أبيك وأنت إمّا مراوح في مكانك أو متراجع القهقرى، والأمر محتاج من أجل تفاديه إلى المراقبة والمحاسبة.

 
إذا سعى الإنسان مدفوعاً بدوافع إلهية إلى ملك الجن والإنس، بل إذا حصل عليه، فسيبقى عارفاً بالله وزاهداً في الدنيا. أما إذا كان الإنسان مدفوعاً بدوافع نفسانية وشيطانية فان كلّ ما يناله - حتى وأن كان مجرد مسبحة - سوف يبعده عن الله تعالى بقدر سوء تلك الدوافع.

الاتقاء من مخالفة الأحكام الظاهرية
بني:
طالع سورة الحشر المباركة، فإنّ فيها كنوزاً من المعارف التربوية ممّا يستحقّ أن يمضي الإنسان عمراً بحاله يتفكّر فيها، ويتزوّد بالمدد الإلهي منها بأنواع الزاد، وخصوصاً آياتها الأواخر حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾1.
 
ففي هذه الآية الصغيرة في لفظها، البالغة العمق في معناها، احتمالات بنّاءة نشير إلى بعضها:



1 سورة الحشر، الآية:18.
 
 
 
 
 
 
 
107

99

بلسم الروح

 يمكن أن تكون الآية خطاباً لمن وفّقوا لأول مراتب الإيمان، مثل إيمان العامّة1. وبناءً عليه فإنّ الأمر بالتقوى هو أمر بأولى مراتبها التي هي "التقوى العامة"، وهي اجتناب مخالفة الأحكام الإلهية الظاهرية، وهي بذلك ناظرة إلى شكل الأعمال. وعلى هذا الاحتمال، فإنّ جملة ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ تحذير من عواقب أعمالنا، ودليل على أنّ الأعمال التي نقوم بها سوف تحضر بذاتها لكن بما يناسبها من شكل في النشأة الأخرى، وستلحق بنا2.

 
وقد وردت آيات وروايات كثيرة حول هذا الأمر، التفكير فيها يكفي القلوب المتيقظة، بل يوقظ القلوب المؤهلة، وقد يكون خطوة نحو الارتقاء في المراتب والمقامات الأرفع والأسنى. والدليل على



1 إيمان العامة هو الإيمان الظاهري وهو إيمان المبتدئين في تديُّنهم والتزامهم.
2 إشارة إلى تجسُّم الأعمال في النشأة الآخرة حيث ورد في العديد من الآيات والروايات أنّ للأعمال صوراً غيبية تلحق صاحبها بعد الموت وتلازمه في عالمه الجديد منها قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ (سورة الكهف، الآية: 49). ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ (سورة النجم، الآيتان: 39-40). وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ وَالْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيَةً فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَه قالَ الصَّبْرُ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبِرِّ دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْهُ فَأَنَا دُونَهُ"(الكافي، ج2، ص90). وعن الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مُثِّلَ لَهُ شَخْصٌ فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا كُنَّا ثَلَاثَةً كَانَ رِزْقُكَ فَانْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ أَجَلِكَ وَكَانَ أَهْلُكَ فَخَلَّفُوكَ وَانْصَرَفُوا عَنْكَ وَكُنْتُ عَمَلَكَ فَبَقِيتُ مَعَكَ أَمَا إِنِّي كُنْتُ أَهْوَنَ الثَّلَاثَةِ عَلَيْكَ" (الكافي، ج3، ص240).
 
 
 
 
 
 
 
108

100

بلسم الروح

 ذلك هو تكرار التأكيد على الأمر بالتقوى، وإن أمكن وجود احتمال آخر. وأما قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾1 فهو تحذير آخر أيضاً من أن أعمال البشر لا تخفى على محضر الحقّ، لأنّ العالم أجمع محضره تعالى.

 
الاتقاء من التأثُّر بالتهم والشائعات الكاذبة
يمكن أن تكون الآية خطاباً لأولئك الذين أوصلوا الإيمان إلى قلوبهم. فما أكثر ما يكون الإنسان مؤمناً معتقداً بالشهادتين في ظاهره، إلّا أنّ قلبه بعيد عن ذلك، أو يكون عالماً معتقداً بأصول الدين الخمسة2، إلا أنّ هذا العلم لم يصل إلى قلبه. ولعلّ الجميع هم كذلك عدا الندرة من خواصّ المؤمنين.
 
والسبب في ارتكاب بعض المؤمنين لبعض المعاصي هو هذا. فلو تيقّن القلب بيوم الجزاء والعقاب وآمن به، فمن المستبعد جدّاً التمرُّد وارتكاب المعصية. كما أنّ القلب إذا آمن بعدم وجود إله غير الله فإنّ الإنسان لن يتوجّه إلى غير الحقّ تعالى، ولن يحمد سواه، كما لن يعتريه خوف أو خشية من غيره تعالى.



1 سورة المائدة، الآية:8.
2 أصول الدين: هي العقائد التي تُمثِّل أسس وقواعد الدين، والتي بمجموعها تؤلّف رؤية كونية متناسقة حول الكون والإنسان بل حول الوجود بصورة عامة. وهي خمسة أصول: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
109

101

بلسم الروح

 بنيّ:

أرى أنّك تظهر الانزعاج والقلق أحياناً من التهم الباطلة والشائعات الكاذبة. لذا وجب أن أقول لك أولاً: بأنّك ما دمت حيّاً تُرزق وما دمت تتحرّك وذا تأثير بنظر الآخرين فلا مناص من توجّه الانتقاد والتهمة والشائعات المختلفة نحوك. فالعقد كثيرة والتوقّعات متزايدة والحسد كثير. من كان له دور فاعل حتى إذا كانت فعاليته خالصة لله، لن يمكنه تفادي تجريح أصحاب الأهواء السيئة.
 
أنا شخصياً أعرف عالماً تقياً جليلاً، لم يكن يُذكر - قبل تسلُّمه منصباً بسيطاً - إلا بالخير - نوعاً ما - وكان أهل العلم وغيرهم سلماً له تقريباً، حتى إذا توجّهت إليه النفوس، وحصل على مكانة دنيوية - ولو أنّها لا تكاد تذكر بالنسبة إلى علو مقامه المعنوي - أصبح هدفاً للتهمة والأذى، وتأجّجت نيران الحسد1 والعقد بألوان مختلفة وظلّ حاله هكذا إلى آخر عمره.



1 الحسد: حالة نفسية يتمنّى معها صاحبها النعمة التي يراها عند الآخرين مع تمنّي سلبها عنهم وخسارتهم لها. بعكس الغبطة التي تعني تمنّي النعمة التي لدى الآخرين ولكن من دون سلبها عنهم.
 
 
 
 
 
 
 
110

102

بلسم الروح

 كما يجب أن تعلم ثانياً: أنّ الإيمان بوحدة الإله1 ووحدة المعبود2 ووحدة المؤثِّر3 لم يلج قلبك كما ينبغي. ابذل الجهد لتصل "كلمة التوحيد" -التي هي أعظم وأسمى جملة- من عقلك إلى قلبك، فإنّ حظّ العقل لا يعدو ذلك الاعتقاد البرهاني القاطع، الذي إن لم تصل نتيجته إلى القلب بالمجاهدة والتلقين فإنّ أثره وفائدته يكاد أن لا يذكر. وما أكثر ما يكون البعض من أصحاب البرهان العقلي والاستدلال الفلسفي أشدّ عرضة من غيرهم للوقوع في شراك إبليس والنفس الخبيثة، "أرجل الاستدلاليين خشبية"4، ولا تتبدّل هذه الخطوة البرهانية والعقلية بخطوة روحانية وإيمانية، إلا حين انتقالها من أفق العقل إلى مقام القلب، وقبول القلب بما أثبته الاستدلال عقلياً.

 
بنيّ:
عليك بالمجاهدة5 لتُسلِم قلبك بين يدي الله، فلا ترى بعد ذلك مؤثّراً سواه. وإلا أفلا يُصلّي عامّة المسلمين المتعبّدين عدّة مرّات 



1 وحدة الإله: إشارة إلى التوحيد في الألوهية، بمعنى أنّه لا إله إلا الله.
2 وحدة المعبود: إشارة إلى التوحيد في العبودية، بمعنى أنّه لا معبود إلا الله.
3 وحدة المؤثّر: إشارة إلى التوحيد في المؤثّرية، بمعنى أنّه لا مؤثّر في الوجود إلا الله.
4 صدر بيت من الشعر للشاعر مثنوي وعجزه "والأرجل الخشبية لا يقرّها قرار".
5 مجاهدة النفس وتزكيتها قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ سورة الشمس، الآيات: 7-10.
 
 
 
 
 
 
 
111

103

بلسم الروح

 في اليوم والليلة - وهي الصلاة وما تزخر به من التوحيد والمعارف الإلهية - ويقولون في اليوم والليلة عدّة مرّات: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾1 فيخصّون الله تعالى قولاً بالعبادة والإعانة، إلا أنّهم يتذلّلون لكلّ عالم أو قوي أو ثري ويعاملونهم أحياناً بما لا يعاملون به حتى المعبود. ويستعينون بأيٍّ كان ويستمدّون منه العون، ويتوسّلون بكلّ تافه في سبيل تحقيق مقاصدهم الشيطانية غافلين عن قدرة الحقّ. ولا يُستثنى من ذلك سوى ثلّة من المؤمنين حقّاً وخواصّ الله.

 
وبناءً على احتمال أنّ الخطاب موجّه إلى الذين بلغ الإيمان قلوبهم، فإنّ الأمر بالتقوى يختلف عنه في الاحتمال الأول. فهذه التقوى ليست اتقاء الأعمال غير اللائقة، بل هي التقوى عن التوجّه إلى الأغيار، تقوى عن استمداد من غير الحقّ، وعن العبودية لغيره، تقوى عن فسح المجال لغيره جلّ وعلا إلى القلب، تقوى عن الاتكال والاعتماد على غير الله.
 
وهذا الذي ترى أننا وأمثالنا مبتلون به، والذي يبعث في نفسي ونفسك الخوف من الشائعات ونشر الأكاذيب، أو الخوف من الموت وإسلام الروح والتحرُّر من رقّ الطبيعة، إنّما هو الذي يجب الاتقاء منها.



1 سورة الفاتحة، الآية: 5.
 
 
 
 
 
 
112

104

بلسم الروح

 وعلى هذا فإنّ المراد من قوله تعالى ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾1 هو الأفعال القلبية التي لها صورة في الملكوت، وصورة فوقها أيضاً، والله خبير بخطرات قلوب الجميع.

 
بَيْدَ أنّ هذا لا يعني أن تترك الحركة والسعي وتُصبح مهمِلاً، وتختار العزلة عن كلّ شخص وكلّ شيء، فهذا خلاف السنّة الإلهية وسيرة الأنبياء العظام والأولياء الكرام، فقد بذلوا عليهم السلام كلّ ما في وسعهم في سبيل تحقيق الأهداف 
الإلهية والإنسانية، إلا أنّهم يختلفون عنّا نحن عمي القلوب في اعتمادنا على الأسباب على نحو الاستقلال. فهم يعتبرون 
كلّ الأمور في هذا المجال منه جلّ وعلا، وهذا الإدراك إنّما هو أحد مقاماتهم العادية. إنّهم يرون الاستعانة بأيّ شيء، استعانة بالمبدأ2، وهذا أحد الفوارق بينهم وبين الآخرين.
 
أنا وأنت وأمثالنا حينما نعتمد على الخلق ونستعين بهم، فإنّنا نكون حينها غافلين عن الحقّ تعالى. أمّا هم فيرون هذه الاستعانة بالآخرين استعانة به تعالى في الواقع، وإن كانت في صورة الاستعانة بالأدوات والأسباب، كما أنّهم يرون ما يقع لهم من حوادث منه تعالى رغم أنّ الأمر في الظاهر عند أمثالنا غير ذلك. ومن هنا كان وقع الحوادث حلو المذاق على أرواحهم، وإن كان مرّاً في نظرنا.



1 سورة الحشر، الآية: 18.
2 المبدأ: هو الله جلا جلاله وعز سلطانه.
 
 
 
 
 
 
 
113

105

بلسم الروح

 الاتقاء من مدح المادحين

بني:
هنالك أمر هام بالنسبة لنا نحن المتخلّفين عن "قافلة الأبرار"، وأرى أنّه قد يكون ذا أثر في بناء النفس لمن كان بصدد ذلك. علينا أن نُدرك أنّ منشأ ارتياحنا للمدح والثناء واستيائنا من الانتقاد ونشر الشائعات إنّما هو "حبّ النفس" الذي يُعدّ من أخطر الشراك التي ينصبها إبليس اللعين.
 
نحن نرغب أن يكون الآخرون مادحين لنا، حتى وإن أظهروا أنّ لنا أفعالاً صالحة وحسنات وهمية تفوق بمئات المرّات حقيقة ما نحن عليه. كما أنّنا نرغب أن تكون أبواب الانتقاد - ولو بالحق - موصدة دوننا أو أن يتحوّل انتقادنا إلى مديح وثناء.
 
ونحن لا يزعجنا الحديث عن معايبنا لأنّه ليس حقّاً، كما لا يسرّنا المديح والثناء لأنّه حقّ، بل لأنّ هذا العيب هو "عيبي أنا" وهذا المدح لي "أنا". وهو أمر سائد في أوساطنا وفي كل مكان.
 
وإذا أردت أن تتأكّد من صحة هذا الأمر، فتأمّل بما يُصيبك من الانزعاج إذا انبرى المدّاحون لمدح أحد الأشخاص على فعلٍ قام به وكنت قد قمت بذات الفعل، ستنزعج حتى إذا كان ما قام به أفضل ممّا قمت به أنت، وخصوصاً إذا كان الشخص من أقرانك وزملائك. وأدهى من ذلك عندما ترى أنّهم حوّلوا عيوبه إلى مدائح. ففي تلك
 
 
 
 
 
 
 
114

106

بلسم الروح

 الحال، تيقّن أنّ للشيطان وللنفس - التي هي أسوأ من الشيطان - يداً في الأمر.

 
بني:
ما أحسن أن تُلقّن نفسك وتُقنعها بحقيقة أنّ مدح المدّاحين وإطراء المطرين ناهيك عن أنّه يُهلك الإنسان ويجعله أكثر بعداً عن التهذيب - البعيد عنه هو في الأساس -، فإنّ الأثر السيّئ للثناء الجميل في نفوسنا الملوّثة سيكون أيضاً منشأ لجميع أنواع التعاسة بالنسبة لنا، كما سيُلقي بنا - نحن ضعاف النفوس - بعيداً عن المحضر القدسي للحقّ جل وعلا.
 
ولعلّ الناقدين ومروّجي الشائعات ضدّنا يكونون ذا نفع في علاج معايبنا النفسية، ولا غرابة في ذلك، فالأمر شبيه بالعملية الجراحية المؤلمة التي تؤدّي بالنتيجة إلى سلامة المريض.
 
إنّ أولئك المادحين يُبعدوننا بمدائحهم عن جوار الحقّ، وهم أصدقاء إلا أنّهم يؤذوننا بصداقتهم. أمّا أولئك الذين يتوهّمون أنّهم يُحاربوننا بالانتقاد والسبّ واختلاق الشائعات، فإنّهم يساهمون في إصلاحنا رغم أنّهم أعداء لنا - ذلك إذا كنّا أهلاً للصلاح- وهم يحسنون إلينا رغم ظهورهم بمظهر الأعداء.
 
وإذا اقتنعنا أنا وأنت بهذه الحقيقة وإذا أتاح لنا الشيطان والنفس فرصة لرؤية الأمور على حقيقتها فإنّنا سنضطّرب حينها من مدح 
 
 
 
 
 
 
115

107

بلسم الروح

 المادحين وثناء أهل الثناء، تماما كاضطّرابنا اليوم من ذمّ الأعداء ومفتعلي الشائعات المغرضين. كما أنّنا سنفرح بالانتقاد تماماً كما نفرح اليوم بمدائح وإطراء المادحين.

 
وإذا بلغ قلبك شيء ممّا ذكرت فلن تُزعجك بعد ذلك المنغّصات، ولن يؤلمك اختلاق المختلقين، وسوف تنال طمأنينة القلب. فإنّ أكثر الآلام والقلق إنّما هي نتيجة الأنانية. رحمنا الله تعالى جميعاً بإنقاذنا منها.
 
التقوى عن رؤية المظاهر الخَلقيّة
3- الاحتمال الآخر هو كون الخطاب موجّهاً إلى أصحاب الإيمان من خواصّ أهل المعرفة، المتعلّقين بمقام الربوبية وعاشقي الجمال الجميل، الذين يرون بعيون قلوبهم وبالمعرفة التي تنطوي عليها نفوسهم، أنّ جميع الموجودات مظهر للحقّ1، ويعاينون نور الله في جميع المرئيات، ويدركون معنى الآية الكريمة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾2 بالمشاهدة المعنوية3 والسلوك القلبي4 رزقنا الله ذلك وإيّاكم.



1 مظهر للحقّ: تجلٍّ للحقّ، وآية من آياته: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ سورة فصّلت، الآية:53.
2 سورة النور، الآية: 35.
3 المشاهدة المعنوية: هي الكشف والرؤية القلبية التي تحصل للسالك أثناء سيره وسلوكه إلى الله بعد خروجه من حجاب النفس والأنا.
4 السلوك القلبي: هو السير والسلوك المعنوي إلى الله.
 
 
 
 
 
 
 
116

108

بلسم الروح

 وبناءً على هذا الاحتمال فإنّ الأمر بالتقوى لهذه الطائفة من العشّاق والخواصّ يختلف عن الأمر بها للآخرين. فلعلّ التقوى المقصودة هنا، هي تقوى عن رؤية الكثرة1، وشهود المرئيات والرائي2. تقوى عن التوجُّه إلى الأغيار3 حتى وإن كان في صورة التوجّه إلى الحقّ من الخلق4. تقوى عن "ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه"5  الذي لا يعدو كونه مقاماً عادياً لخلّص الأولياء، حيث إنّ "للشيئية"6 دخل في الأمر. تقوى عن مشاهدة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾7. تقوى عن مشاهدة: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ 




1 الكثرة: الكثرة هي مقابل الوحدة، وتُسمّى بالتعيّنات الخلقية، وهي كلّ ما سوى الحقّ سبحانه وتعالى.
2 أي شهود الكثرة والوحدة معاً، وهو إشارة إلى مقام رؤية الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة.
3 الأغيار: الأغيار من الغير والمقصود منه كلّ ما سوى الله تعالى.
4 إشارة إلى السفر الأول من الأسفار المعنوية، حيث قسّمها صدر الحكماء والمتألّهين المولى صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي المتوفّى سنة 1050 في كتابه الحكمة المتعالية إلى أربعة أسفار: الأول السفر من الخلق إلى الحقّ، الثاني السفر بالحقّ في الحقّ، الثالث السفر من الحقّ إلى الخلق، الرابع السفر بالخلق في الحقّ.
5 مسند الإمام علي، السيد حسن القبانجي، ج1، ص150. وعلم اليقين، ج 1، ص 49.
6 الشيئية: أي الشيء، وهي إشارة إلى كلمة الشيئية الواردة في رواية الإمام علي عليه السلام:"ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت اللهـ قبله وبعده ومعه وفيه"، فطالما أنّ هناك لحاظاً للشيء يعني أن هناك لحاظاً لما سوى الله تعالى، وهذا ما ينبغي أن يتقي السالك منه أيضاً أثناء عروجه وسيره نحو التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شيء على الإطلاق.
7 سورة النور، الآية: 35.
 
 
 
 
 
 
 
117

109

بلسم الروح

 مَا كُنتُمْ﴾1 و﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾2. تقوى عن مظهر جمال الحقّ في الشجرة3، إلى سائر ما يرتبط برؤية الحقّ في الخلق. وعلى هذا يكون المراد من الأمر بالنظر فيما قدّمناه لغد هو هذه الحالات من مشاهدة الحقّ في الخلق والوحدة في الكثرة التي تجيء على الصورة التي تناسبها في العوالم الأخرى.

 
التقوى عن رؤية المظاهر الأسمائية
احتمال أن يكون الخطاب موجّهاً لأولئك الخُلَّص من الأولياء الذين تجاوزوا مرحلة رؤية الحقّ في الخلق، وجمال حضرة الوحدة في الكثرة الفعلية، والذين لم يبق على مرآة مشاهداتهم أثر لغبار الخلق، وتخلّصوا من الشرك الخفي في هذه المرحلة، إلا أنّهم أسلموا قلوبهم لتجليات أسماء الحقّ، فصاروا عشّاقاً متيّمين لحضرة الأسماء، والتجلّيات الأسمائية، وهم فانون عن الغير، لا يشاهدون سوى مظاهر الأسماء.
 
وعلى هذا الاحتمال يكون الأمر بالتقوى أمراً بالتقوى عن رؤية الكثرات الأسمائية، والمظاهر الرحمانية والرحيمية، وسائر أسماء الله. وكأنّ صوتاً يرنّ في مسامعهم من الأزل إلى الأبد: أن ليس هناك



1 سورة الحديد، الآية: 4.
2 سورة الأنعام، الآية: 79.
3 الشجرة: الشجرة عند أرباب المعرفة والسلوك تعني عالم الكثرة والمظاهر الخلقية.
 
 
 
 
 
 
118

110

بلسم الروح

 إلا مظهر واحد لا غير. وتُفسّر على هذا سائر الفقرات بما يناسب هذا المعنى. وإذا اجتازوا ذلك فلا وجود بعدها للشاهد والمشاهدة والشهود. وهو الفناء في "هو المطلق" و"لا هو إلا هو".

 
أمّا أشمل الاحتمالات الواردة فهو, أن يُحمل كلّ لفظ مثل "آمنوا" و"اتقوا" "ولتنظر" و"ما قدّمت" وهكذا... على معانيها المطلقة، فهي جميعاً مراتب لتلك الحقائق. فالألفاظ موضوعة للمعاني غير المقيّدة بقيد والمطلقة من الحدّ والحدود1.
 
وحتى إذا كانت ثمّة احتمالات أخرى فهي داخلة ضمن هذا الاحتمال وضمن هذه المراتب. فهو شامل لكلّ فئة وطائفة من المؤمنين شمولاً تاماً، وجميع تلك الفئات مصاديق للعنوان المطلق.
 
وهذا التفسير يفتح الباب لفهم الكثير من الأخبار التي طبقت الآيات على فئة بعينها أو شخص بذاته، فيُتوهّم الاختصاص، في حين أنّ الأمر ليس كذلك. بل هو ذكر للمصداق أو المصاديق المتعدّدة.



1 الألفاظ موضوعة للمعاني والمفاهيم الواقعية لا المعاني المقيّدة بما براه العرف، أو تحد بحدود العرف أو إدراكه.
 
 
 
 
 
 
119

111

بلسم الروح

 نسيان الحقّ سبب لنسيان النفس

وبناءً على ما ذكرنا من الاحتمالات يتسنّى لنا فهم الآية المباركة: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾1 التي تلي الآية موضوع البحث.
 
فالآية الشريفة تنطوي أيضاً - وحسب ما ذكرنا من احتمالات - على احتمالات تناسب مع تلك الاحتمالات المختلفة المراتب والمتّحدة الحقيقة، ممّا لا مجال للتفصيل فيه. وأكتفي فقط بذكر نكتة واحدة، وهي أنّ نسيان الحقّ يوجب نسيان النفس، سواء أكان نسياناً بمعنى عدم التذكُّر أو بمعنى الترك. وفي كلا المعنيين إنذار مروّع.
 
إنّ لازم نسيان الحقّ تعالى أن ينسى الإنسان نفسه، أو قل يجرّه الحقّ تعالى إلى نسيان نفسه. وهو أمر يَصدُق على جميع المراحل السابقة. فمن ينسى الله وحضوره جلّ وعلا في مرحلة العمل، سيُبتلى هو بنسيان نفسه، أو أنّه يجرّ إلى ذلك. ينسى عبوديّته فيخرج من مقام العبودية2. ومن لا يعرف ما هو، ومن هو، وما هي وظيفته3، وما هي العاقبة التي تنتظره4، فإنّ الشيطان حالٌّ فيه وجالس بدلاً من نفسه، والشيطان عامل عصيان وطغيان.



1 سورة الحشر، الآية: 19.
2 مقام العبودية: مقام الطاعة لله تعالى والالتزام بأحكامه وتشريعاته.
3 تكليفه الشرعي.
4 الحياة الآخرة.
 
 
 
 
 
 
120

112

بلسم الروح

 وإذا لم يثب ذلك الإنسان إلى رشده، ويرجع إلى ذكر الحقّ، وغادر هذا العالم وهو على هذه الحال من الطغيان والعصيان، فقد يأتي في ذلك العالم على شكل شيطان مطرود من قِبَل الحقّ تعالى.

 
أمّا إذا كان النسيان بمعناه الآخر (أي الترك)، فإنّ الأمر سيكون أشدّ إيلاماً، لأنّه إذا ترك الحقّ وترك إطاعة الحقّ، فإنّ ذلك سيستوجب أن يتركه الحقّ ويكله إلى نفسه ويقطع عنه عناياته. ولا شكّ أنّ الأمر سينتهي به إلى الخذلان في الدنيا والآخرة.
 
لذا نرى في الأدعية المأثورة عن المعصومين التأكيد على الدعاء بأن لا يكلنا الله إلى نفوسنا، لأنّهم عليهم السلام يعلمون نتائج هذه المصيبة في حين أنّنا غافلون عنها.
 
العالم كلّه مظهر رحمة الحقّ
بنيّ:
استعظم الذنوب مهما كانت صغيرة بنظرك و"انظر إلى من عصيت"1 فكلّ الذنوب تُصبح بهذا المنظار كبيرة2 وخطيرة. ولا



1 مستدرك ‏الوسائل،ج11، ص329. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"يا أبا ذرٍّ إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه والكافر يرى ذنبه كأنّه ذباب مرّ على ذنبه يا أبا ذرٍّ إنّ الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل الذّنوب بين عينيه مُمَثَّلَة، يا أبا ذرٍّ لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت، يا أبا ذرٍّ إنّ الرّجل لَيُحرَم الرِّزق بالذّنب يصيبه".
2 الذنوب الكبيرة: وتُسمّى بالكبائر ويقابلها ما هو أدنى رتبة منها وهي الصغائر. والكبائر هي الذنوب التي توعّد الله تعالى عليها في الآخرة العذاب والعقاب ووضع لها في الدنيا حدّاً ونهى عنها.
 
 
 
 
 
 
121

113

بلسم الروح

 يُغرّنك أيّ شيء. وإيّاك أن تنسى حضور الله تبارك وتعالى على أيّة حال، فكل شيء منه.

 
ولو أن عنايته الرحمانية انقطعت لحظة عن موجودات عالم الوجود بأسرها، فلن يبقى أثر حتى للأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين. فالعالم أجمع "مظهر" رحمانيّته جلّ وعلا. ورحمته ورحمانيّته جلّ وعلا هي المبقية لنظام الوجود بتواصلها - مع قصور اللفظ والتعبير-، فلا تكرار في تجلّيه1 جلّ وعلا الذي يُعبّر عنه أحياناً "ببسط وقبض الفيض المتواصل".
 
على أيّ حال لا تنسى حضوره، ولا تغترّ برحمته، ولكن أيضاً لا ينبغي أن تيأس منها. ولا تغترّ بشفاعة الشافعين عليهم السلام، لأنّ لكلّ ذلك موازين إلهية نجهلها نحن.
 
وليكن التأمّل في أدعية المعصومين عليهم السلام وتحرّقهم وتفجّعهم خوفاً من الحقّ وعذابه ديدنك في أفكارك وسلوكاتك. واعلم أنّ الأهواء النفسانية وشيطان النفس الأمارة بالسوء تدفعنا نحو الغرور وتردينا بذلك في المهالك.



1 نظرية عند الفلاسفة والعرفاء مفادها أنّ التجلّي والفيض الإلهي يستحيل أن يتكرّر، بمعنى أن يكون هناك فيضين متماثلين في نفس الظروف والحيثيات. فالفيض الإلهي دائم ومتواصل وكلّ يوم هو في شأن جديد.
 
 
 
 
 
 
122

114

بلسم الروح

 ترك الدنيا حتى حلالها

بني:
لا تسع للحصول على الدنيا أبداً، حتى الحلال منها1، فإنّ حبّ الدنيا حتى حلالها رأس جميع الخطايا، وهي حجاب سميك تجرّ الإنسان مرغماً إلى الحرام منها. فأنت شابٌّ تستطيع بما حباك الله به من القوّة أن تمنع أول خطوة نحو الانحراف، ولا تدعها تنجرّ إلى خطوات أخرى.
 
فلكلّ خطوةٍ خطوةٌ أخرى تتلوها، وكلُّ ذنب - مهما صَغُر - يجرّ المرء نحو ذنوب أكبر، حتى تستحيل الذنوب الكبيرة في نظره ليست شيئاً يذكر. بل قد يبلغ الأمر بالبعض أن يفتخروا بارتكاب بعض الكبائر، لا بل قد يصل الوضع بالبعض الآخر حدّاً -أحياناً - يجعلهم يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً، بسبب تكاثف الظلمات والحجب الدنيوية.
 
أسأل الله تعالى جلّ اسمه أن يُنير قلبك بجماله الجميل، ويُزيل الحجب من أمام بصرك، ويُنجيك من القيود الشيطانية والإنسانية حتى لا تأسف - مثل أبيك - على ماضيك بعد تصرّم الشباب وحلول الشيخوخة.



1 أي المباحة والتي لم يرد نهي شرعي عنها.
 
 
 
 
 
 
123

115

بلسم الروح

 واربط قلبك - بني - بالحقّ، حتى لا تستوحش في الطارئات من الصدوف، وحرّره من الأغيار لتستنقذ نفسك من الوقوع في الشرك الخفي والشرك الأخفى1.

 
وبعد هذه الآيات وإلى آخر السورة فإنّها تنطوي على أمور غاية في العذوبة والجمال، يحول دون التعرّض لها سوء الحال وضيق المجال.
 
اللهم! اجعل أحمد عندك محموداً، وافطم فاطمة عن الذنوب، واجعل حسناً أحسن، وبلّغ ياسراً يسراً، وتولّ هذه العائلة 
المنتسبة إلى أهل بيت العصمة عليهم السلام بلطفك وعناياتك، واحفظها من شرّ شياطين الباطن والظاهر، ومُنّ عليهم بالسعادة في الدارين.
 
لا يفوتني - بني - أن أختم وصيّتي هذه بالتأكيد عليك في السعي لخدمة الأرحام لا سيما "أمّك" التي لها في أعناقنا جميعاً حقوقاً كثيرة، واحرص على إرضائهم جميعاً.
 
والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة على رسول الله وآله الأطهار واللعن على أعدائهم.
 
17 / شوال / 1404 هـ.ق
روح الله الموسوي الخميني



1 الشرك على نحوين: شرك جلي وهو الشرك الظاهر الذي يُظهر فيه صاحبه عقيدته المنافية للتوحيد بشكل علني. أمّا الشرك الخفي وهو التوجُّه إلى غير الله مع الاعتقاد بألوهيته وتوحيده، وهو الشرك الذي غالباً ما يخفى على الإنسان، فيحسب أنّه غير مبتلى به وهو في الحقيقة مبتلى به، كالرياء الذي يُعدّ صاحبه مشركاً لتوجّهه إلى الناس بدل الله من أجل كسب المنزلة في قلوبهم والمدحة لديهم.
 
 
 
 
 
 
124

116

رؤية الحقّ

 رؤية الحقّ

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
إهداء
أهدي كتابي "آداب الصلاة"1 - الذي لم أجن منه أنا شخصياً سوى الأسف على قصوري وتقصيري في ما خلا أيام عمري التي كنت قادراً فيها على بناء النفس، والحسرة والندامة في مرحلة الشيخوخة حيث يدي خالية وحملي ثقيل والسفر بعيد والبلاء شديد، ولحن الرحيل يتردّد في سمعي - إلى ولدي العزيز "أحمد" لعلّه إن شاء الله ينتفع - وهو يتمتّع بقوّة الشباب - بمحتواه، ممّا جُمع من كتاب الله والسنة المطهرة وما أُوثر عن الأولياء العظام فيلج - مستفيداً من إرشادات أهل المعرفة - المعراج الحقيقي، ويستنقذ قلبه من هذه الظلمة، ويوفّق لبلوغ مقصد الإنسانية الأصلي الذي سلكه أنبياء الله العظام وأولياؤه الكرام عليهم السلام وأهل الله، ودعوا الآخرين إليه.



1 هذا الكتاب ألّفه الإمام الخميني قدس سره عام 1942 م بعد كتاب سر الصلاة، وهو شرح لآداب الصلاة وأسرارها المعنوية، وهو غنيٌّ بالمعارف الأخلاقية والعرفانية.
 
 
 
 
 
 
 
125

117

رؤية الحقّ

 الدخول في ولاية الله

بنيّ:
اسع للعثور على نفسك المعجونة بفطرة الله، واستنقذها من مستنقع الضلالة وأمواج العجب والأنانية، واركب "سفينة نوح" التي هي "ولاية الله"، فإنّ من "ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك"1.
 
بنيّ:
اجهد أن يكون سيرك في "الصراط المستقيم" - صراط الله - وإن كان ذلك بخطى وئيدة بطيئة. واسع أن تكون حركات وسكنات قلبك وسائر جوارحك في إطار المعنوية والارتباط بالله. واحرص على السعي في خدمة الخلق لأنّهم خلق الله، فرغم أنّ أنبياء الله العظام والخواص من أوليائه تعالى كانوا يمارسون الأعمال كالآخرين، إلا أنّهم لم يتعلّقوا بالدنيا قط، وذلك لأنّ عملهم كان بالحقّ وللحقّ، إلّا أنّه روي عن خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنّه ليغان على قلبي، وإنّي لاستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة"2، ولعلّه كان يرى رؤية الحقّ في الكثرة كدورةَ.



1 إشارة إلى حديث السفينة المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"إنّما مَثَلُ أهل بيتي فيكم مَثَلُ سفينة نُوحٍ من دخلها نجا ومن تَخَلّفَ عنها هلك" بحار الأنوار، ج23، ص121.
2 مستدرك الوسائل، ج5، ص320.
 
 
 
 
 
 
 
126

118

رؤية الحقّ

 بنيّ:

تهيّأ بعدي لمواجهة مختلف مشاعر الجفاء، والضغائن التي أكنّتها الصدور لي، فسوف تنعكس عليك، وإذا كان حسابك مع ربّك سليماً، وتحصّنت بذكر الله، فإنّك لن تخشى الخلق. فأمر الخلق وحسابهم هيّنٌ سريع الانقضاء، ويبقى الحساب أمام الحقّ تعالى.

لا قيمة للمقامات والمناصب الدنيوية
بني:
قد تعرض عليك بعدي المناصب، فإن كانت نيّتك خدمة الجمهورية الإسلامية والإسلام العزيز فلا ترفض، ولكن إذا كانت نيّتك - لا سمح الله- إطاعة هوى النفس وإرضاء الشهوات، فاجتنب القبول، إذ لا قيمة للمقامات والمناصب الدنيوية حتى تضيّع نفسك من أجلها.

اللّهمّ مُنَّ على أحمد وذرّيته وأهل بيته - وهم عبادك ومن نسل رسولك الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - بالسعادة في الدنيا والآخرة، واحفظهم من شرّ الشيطان الرجيم.

اللّهمّ، خذ بأيدينا نحن الضعفاء العاجزين المتخلّفين عن قافلة السالكين.

اللّهمّ عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك.

والسلام على عباد الله الصالحين.

23 ربيع الاول 1405 هـ.ق
روح الله الموسوي الخميني
 
 
 
 
 
 
 
 
127

119

معراج الروح

 معراج الروح


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وصيّة من والد هرم قضى عمراً بالبطالة والجهالة، وهو يسير الآن نحو الدار الأبدية بكفٍّ خالية من الحسنات، وبصحيفة أعمال سوّدتها السيئات، لكنّ قلبه مفعم بالأمل بمغفرة الله والرجاء بعفوه.

إلى ابنٍ شابٍّ تتجاذبه مشاكل الزمان، وهو مخيّر بين انتخاب الصراط الإلهي المستقيم (هداه الله إليه بلطفه المطلق) وبين اختيار الطريق الآخر - لا سمح الله - حفظه الله من مزالقه برحمته.

معراج العارفين
أي بني، الكتاب الذي أهديه إليك هو نبذة من صلاة العارفين ونزر من السلوك المعنوي للسالكين، رغم أنّ قلم من هو مثلي عاجزٌ عن تبيان مسيرة هذا السفر، وأعترف بأنّ ما كتبته لا يخرج عن حدِّ بعض الألفاظ والعبارات، فأنا لم أحصل إلى الآن على بارقة من هذه النفحة.
 
 
 
 
 
 
 
129

120

معراج الروح

 ولدي، إنّ ما في هذا "المعراج"1 هو الغايةُ القصوى لآمال أهل المعرفة، وقد قصرت أيدينا عنها: "اسحب الشباك فالعنقاء لا تكون صيداً لأحد"2.

 
ولكن!! لا ينبغي لنا اليأس من ألطاف الله الرحمن, فهو - جلّ وعلا - الآخذ بأيدي الضعفاء، ومعين الفقراء.
 
عزيزي, الكلام هو في السفر من الخلق إلى الحقّ تعالى3، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن الناسوت4 إلى ما فوق الجبروت، إلى حدّ الفناء المطلق الذى يحصل في السجدة الأولى، والفناء عن الفناء - الذي يقع في السجدة الثانية - بعد الصحو5. وهذا هو تمامُ قوس الوجود من الله وإلى الله6، وفي تلك الحال ليس من ساجد ومسجود له، ولا عابد ومعبود، فـ ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾7.



1 أي الصلاة.
2 جزء من بيت شعر لحافظ الشيرازي.
3 السفر الأول من الأسفار الأربعة التي ذكرها صدر المتألّهين الشيرازي في كتابه الحكمة المتعالية.
4  الناسوت: عالم الظاهر، عالم الملك والشهادة.
5 الصحو: هي حالة إذا ترسّخت أصبحت مقاماً، تحصل للسالك بعد الفناء في الحقّ. فالصحو عبارة عن الاستيقاظ من حالة السكر والفناء في الحقّ تعالى، فيرجع السالك إلى الإحساس بعد الغيبة التي طرأت عليه، ويعود إلى دنيا الأفعال والأقوال.
6 (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) سورة الأعراف، الآية:29. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) سورة البقرة، الآية:156.
7  سورة الحديد، الآية:3.
 
 
 
 
 
 
 
130

121

معراج الروح

 التحرّر من قيود الأنا

ولدي، ما أوصيك به - بالدرجة الأولى - هو أن لا تُنكر مقامات أهل المعرفة1، فالإنكار سُنَّةُ الجُهّال، واتَّقِ معاشرة مُنكري مقامات الأولياء، فهم قُطّاع طريق الله تعالى.
 
بني:
تحرّر من حبِّ النفس والعجب، فهما إرثُ الشيطان. فبالعُجب وحبّ النفس تمرَّدَ (الشيطان) على أمر الله بالخضوع لوليّ الله وصفيه.
 
واعلم!! أنّ جميع ما يحلّ ببني آدم من مصائب ناشىءٌ من هذا الإرث الشيطاني، فهو أصل الفتنة. وربما تشير الآية الكريمة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾2 في بعض مراحلها إلى الجهاد الأكبر3، وقتال أساس الفتنة وهو الشيطان وجنوده. ولهؤلاء فروعٌ وجذورٌ في أعماق قلوب بني الإنسان كافة، وعلى كلّ إنسان أن يجاهد ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ داخل نفسه وخارجها، فإذا حقّق النصر في هذا الجهاد، صلحت الأمور كافة وصلُح الجميع.



1 إشارة إلى المقامات المعنوية التي عرفناها سابقاً.
2 سور البقرة، الآية: 193.
3 الجهاد الأكبر: هو جهاد النفس.
 
 
 
 
 
 
 
131

122

معراج الروح

 بنيّ:

اسعَ لتحقيق هذا النصر أو بعض درجاته. واجتهد واعمل للحدّ من الأهواء النفسانية التي لا حدّ لها ولا حصر. واستعن بالله - جلّ وعلا - فإنّه لا يصل أحد إلى شيء من دون عونه.
 
والصلاة -معراج العارفين وسفر العاشقين - سبيل الوصول إلى هذا المقصد. ولو كان لك ولنا توفيقُ تحقُّق ركعة واحدة منها، ومشاهدة الأنوار المكنونة فيها، ومعرفة أسرارها الخفية - ولو على قدر ما نطيقة نحن - لحصلنا على نفحة من مقصد أولياء الله ومقصودهم. ولشاهدنا صورةً مصغّرة لصلاة معراج سيد الأنبياء والعرفاء عليه وعليهم وعلى آله الصلاة والسلام.
 
نسأل الله أن يمنّ علينا وعليكم بهذه النعمة العظمى.

الطريق إذاً طويل وخطيرٌ جداً، ويستلزم الراحلة والكثير من الزاد، وزادُ أمثالي إمّا معدوم أو قليلٌ جداً، فما من أمل إلا أن يشملنا لطف الحبيب جلّ وعلا فيأخذ بأيدينا.

الشباب فرصة حقيقية للتحرّر من الأنا
عزيزي، استثمر ما بقي من الشباب، ففي الشيخوخة يضيع كلّ شيء، حتى الالتفات إلى الآخرة والتوجُّه إلى الله تعالى. إنّ من كبريات مكايد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، أن تُمنّي الشباب بوعود الصلح والإصلاح عند حلول الشيخوخة، فتُخسرهم شبابهم
 
 
 
 
 
 
132

123

معراج الروح

 الذي يضيع بالغفلة. وأما الشيبة، فتُمنّيهم بطول العمر حتى اللحظات الأخيرة، وتصدّ الإنسان - بوعودها الكاذبة - عن ذكر الله والإخلاص له، إلى أن يأتي الموت، وعندها تأخذ منه الإيمان، إن لم تكن قد أخذته منه كاملاً قبل ذلك الحين.

 
إذن, فانهض للمجاهدة وأنت شابٌّ تمتلك قوة هائلة، واهرب من كل شيء ما عدا الحبيب جلّ وعلا، وعزِّز ما استطعت ارتباطك به تعالى، إن كان لديك ارتباط. أمّا إذا لم يكن لديك ذلك - والعياذ بالله - فاسعَ للحصول عليه، واجتهد في تقويته. فليس هناك ما يستحقّ الارتباط به سواه تعالى. وإذا لم يكن التعلُّق بأوليائه تعلّقاً به تعالى ففيه مكيدةٌ من حبائل الشيطان الذي يصدُّ عن السبل إلى الحقّ تعالى بكلّ وسيلة.
 
ولا تنظر أبداً إلى نفسك وعملك بعين الرضا، فقد كان أولياء الله الخُلّص يرون أنفسهم لا شيء، وأحياناً كانوا يرون حسناتهم من السيئات.
 
الوجود منحصر به تعالى
بني، كلّما ارتفع مقام المعرفة، تعاظمَ الإحساس بحقارة ما سواه جلّ وعلا.
 
في الصلاة, التي هي مرقاةُ الوصول إلى الله، هناك تكبير1 وارد



1 قول "الله أكبر" في افتتاح الصلاة وقبل وبعد كل فعل من أفعال الصلاة.
 
 
 
 
 
 
133

124

معراج الروح

 بعد كل ثناء كما أنّ دخولها بالتكبير، وتلك إشارةٌ إلى أنّه تعالى أكبر من كلّ ثناء، حتى من أعظم ثناء وهو الصلاة. 

 
وبعد الخروج هناك "تكبيرات" تشير إلى أنّه أكبر من توصيف الذّات والصفات والأفعال.
 
ماذا أقول؟! من الذي يصف وبأيِّ وصف؟! وكلّ العالم من أعلى مراتب الوجود إلى أسفل سافلين هو لا شيء، إذ إنَّ كلّ ما هو موجودٌ هو تعالى لا غير؟! فماذا يمكن أن يُقال عن الوجود المطلق؟!
 
ولولا أمر الله وإذنه جلّ وعلا ربما لم يقدر على ذكره أحد من الأولياء، وإن كان كلّ ما هو موجود هو حديث عنه تعالى لا عن سواه!! والكلُّ عاجز عن التمرّد عن ذكره، فكلّ ذكر ذكرُه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾1. 
 
و﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾2 لعلها خطاب بلسان الحق تعالى إلى جميع الموجودات: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..﴾3. وهذه أيضاً بلسان الكثرة، وإلا فإنّه هو الحمد والحامد والمحمود، "إنَّ ربَّك يُصلِّي"4، و﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾5.



1 سورة الإسراء، الآية:23.
2 سورة الفاتحة، الآية: 5.
3 سورة الإسراء، الآية: 44.
4 الكافي،ج1، ص442. سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر فقال: "جعلت فداك كم عُرِجَ بِرَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مرتين فأوقفه جبرئيل موقفاً فقال له مكانك يا محمّد فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملكٌ قطّ ولا نبيّ إنّ ربّك يُصلِّي فقال يا جبرئيل وكيف يصلّي قال يقول سبُّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة والرّوح سبقت رحمَتي غضبي...".
5 سورة النور، الآية: 35.
 
 
 
 
 
 
 
134

125

معراج الروح

 التأدُّب في محضر الله

ولدي, إنّنا ما دُمنا عاجزين عن شكره وشكر نعمائه التي لا نهاية لها، فالأفضل لنا أن لا نغفل عن خدمة عباده، فخدمتهم خدمة للحقّ تعالى، فالجميع منه!

علينا أن لا نرى أنفُسنا - أبداً - دائنين لخلق الله عندما نَخدِمُهُم، بل هُم الذين يمنُّون علينا حقاً، لكونهم وسيلة لخدمة الله جلّ وعلا.

ولا تسعى لكسب السمعة والمحبوبيّة من خلال هذه الخدمة، فهذه بحدِّ ذاتها من حبائل الشيطان التي يُوقعنا بها.

واختر في خدمة عباد الله ما هو الأكثر نفعاً لهم وليس ما هو الأنفع لك ولأصدقائك، فمثل هذا

إختيار ما يقرّب إلى الله
ولدي العزيز, إنّ الله حاضرٌ، والعالم محضره، ومرآة نفوسنا هي إحدى صحائف أعمالنا، فاجتهد لاختيار كلِّ عمل يُقرّبك إليه، ففي ذلك رضاه جلّ وعلا.

لا تعترض عليَّ - في قلبك - بأن لو كُنت صادقاً، فلماذا أنت نفسُك على غير هذه الحال؟! فأنا نفسي على علم بأنّي لا أتَّصف بأيٍّ من صفات أهل القلوب، ولديّ خوفٌ من أن يكون هذا القلم في خدمة إبليس والنفس الخبيثة, فأُحاسَبُ على ذلك غداً. ولكن أصل 
 
 
 
 
 
 
 
135

126

معراج الروح

 هذه المطالب حقُّ، وإن كانت مكتوبةً بقلم من هو مثلي ممّن لم يبتعد عن الخصال الشيطانية.


وألجأ إلى الله تعالى في أنفاسي الأخيرة آملاً من أوليائه النجاة والشفاعة.

اللّهمّ خُذ أنت بيد هذا العجوز العاجز، وأحمد الشاب، واجعل عواقب أمورنا خيراً.

واجعل لنا سبيلاً إلى جلالك وجمالك، برحمتك الواسعة.

والسلام على من اتبع الهدى.

ليلة 15 ربيع المولود 1407 هـ ق
روح الله الموسوي الخميني
 
 
 
 
 
 
136

127

شراب العشق

 شراب العشق

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
مخاطر الغوص في المصطلحات
 
عزيزتي فاطمة:
أخيراً حملتني على كتابة عدّة أسطر ولم تقبلي عذر شيخوختي وما أحمل من المعاناة وما أنا فيه من الابتلاءات...
 
إذن فلأبدأ بالحديث عن ابتلاءات الشيخوخة والشباب، فقد أدركت أنا المرحلتين أو إن شئت فقولي طويتهما، وأنا الآن منحدر نحو البرزخ أو النار تتلاقفني أيدي أعوان ملك الموت، غداً ستعرض عليّ صحيفة أعمالي السوداء وأحاسب على عمري الضائع وأُسأل ولا جواب عندي وليس لي سوى الأمل برحمة من وسعت رحمته كلّ شيء، الذي أنزل على من هو رحمة للعالمين: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾1.



1 سورة الزمر، الآية: 53.
 
 
 
 
 
 
 
137

128

شراب العشق

 ولكن لو فرضنا أنّي صرت مشمولاً بهذه الآية الكريمة وأمثالها ومن مصاديقها، فماذا عن العروج إلى حريم الكبرياء والارتقاء إلى جوار المحبوب والوفود إلى ضيافة الله التي كان ينبغي عليّ بلوغها بنفسي، والحال أنّي وقعت في مرحلة الشباب فريسة للشيطان وخادمه المطيع النفس الأمارة بالسوء، ورحتُ أُشغل نفسي - حين كانت لديّ نعمة القوة والنشاط - بالمفاهيم والاصطلاحات الطنّانة والمنمّقة، فلم أحصل على الانسجام معها أو على رقيّ الحال، بل لم أحاول أبداً أدراك معانيها والوصول إلى لُبّها، ولا إرجاع ظاهرها إلى باطنها وملكها إلى ملكوتها، فرحت أقول:

 
مدرستي لم تغن بعد الجهد أو كلّ اجتهادي          وازدحام القيل والقال سوى غـمّ الفـؤاد1
 
وهكذا غصتُ في عمق الاصطلاحات والعبارات، وانكببت على جمع الكتب بدلاً من رفع الحجب، وكأنّه ليس في الكون والمكان وجود سوى لحفنة من الورق المبعثر الذي يصدّ الطالب المفطور بفطرة الله - باسم العلوم الإنسانية والمعارف الإلهية والحقائق الفلسفية - عن بلوغ مقصده، بل وتُغرقه في الحجاب الأكبر.
 
فقد حالت "الأسفار الأربعة"2 بطولها وعرضها بيني وبين السفر



1 مضمون بيت من الشعر.
2 إشارة إلى كتاب الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية لصدر المتألّهين الشيرازي.
 
 
 
 
 
 
 
138

129

شراب العشق

 نحو المحبوب، ولم أحصل على ايّ فتحٍ من "الفتوحات"1، ولا على أيّ حكمة من "فصوص الحكم"2، فضلاً عن غيرها ممّا له قصة محزنة...

 
وحينما بلغت المشيب، صرت عرضة للاستدراج في كلّ خطوة حتى بلغت الشيخوخة وما فوقها مما أنا فيه الآن: ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾3.
 
 
البحث عن الله هو الهدف
 
وأنت يا ابنتي، لأنّك بعيدة فراسخ عن هذه المرحلة ولم تتذوّقي طعمها - أوصلك الله إليها محفوظة من بلاياها - تتوقّعين منّي الكتابة والحديث نثراً ونظماً، ولا تعلمين أنّي لست كاتباً ولا شاعراً ولا خطيباً.
 
اعلمي يا ابنتي العزيزة - وأنتِ لم تخبري الحياة بعد - أنّك سوف تنوئين يوماً - لا سمح الله - تحت عبء الندم الثقيل على الشباب الذي ضاع منك بتلك الأمور أو بما هو أكثر منها، مثلي تماماً حيث تخلّفت عن قافلة عشّاق الله.



1 إشارة إلى كتاب الفتوحات المكّية لمحي الدين ابن عربي.
2 إشارة إلى كتاب فصوص الحكم لابن عربي.
3 سورة النحل، الآية: 70.
 
 
 
 
 
 
139

130

شراب العشق

 فاستمعي إذن لهذا الهرِم البائس الذي ينوء تحت هذا العبء منحنياً ظهره من ثقله. لا تغتري بهذه الاصلاحات التي تُمثّل الفخّ الكبير لإبليس، وحثّي الخطى في البحث عنه جلّ وعلا، فأيام الشباب وأنسها وملذّاتها سريعة الأفول، وقد طويت أنا مراحلها جميعاً وأمسيت أُصارع الآن عذابها الجهنّمي، والشيطان الداخلي مصرّ على إبقاء روحي في قبضته كي - والعياذ بالله - يُسدّد الضربة الأخيرة، غير أنّ اليأس من رحمة الله الواسعة يعدّ في حدّ ذاته من الكبائر العظيمة، نسأل الله أن لا يُبتلى العصاة بهذا الذنب العظيم.

 
يقال إنّ مجرم التاريخ الحجّاج بن يوسف الثقفي1 قال في آخر عمره: "اللهم اغفر لي رغم قول الجميع أنّك لن تغفر لي". ويقال إنّ الشافعي2 عندما سمع بذلك قال: إذا كان قال ذلك فعسى ولعلّ يكون هذا الشقي قد وفّق للتوبة3! ولست أعلم إن كان ذلك الشقيّ قد وفقّ لهذا الأمر أم لا، كلّ ما أعلمه أنّ اليأس هو أسوأ من كلّ شيء.


 

1 الحجّاج بن يوسف الثقفي: أحد أمراء بني أمية البارزين اشتهر بأسلوبه الدموي في مواجهة خصومه. استخدمه الخليفة عبد الملك بن مروان لإعادة دولة الأمويين وانتزاع الخلافة من عبد الله بن الزبير وثبت أركان حكم بني أمية، واستمر في الحكم عشرين سنة.
2  محمد بن إدريس الشافعي، أحد أئمة المذاهب السنية الأربعة.
3  إحياء علوم الدين، ج4، ص697.
 
 
 
 
 
 
140

131

شراب العشق

 بنيّة:

لا تغترّي برحمة الله فتغفلي عنه، ولا تيأسي فتخسري الدنيا والآخرة.

اللهم بحقّ أصحاب الكساء الخمسة، احفظ أحمد وفاطمة وحسن ورضا وعلي -أولئك الذين أفتخر ويفتخرون أنّهم من سلالة الرسول العزيز ووصيّه (صلوات الله وسلامه عليهما) - من الشرور الشيطانية والأهواء النفسانية.

انتهى كلامي وتمّت عليّ حجّة الحقّ والسلام.

ربيع الثاني 1407 هـ.ق
 
 
 
 
 
 
 
141

 


132

براعم الهداية

 براعم الهداية1

 
بسم الله الرحمن الرحيم‏
 
عدم القنوت من رحمة الله
ابنتي العزيزة فاطمة: طلبتِ منّي كتابة شي‏ء لك, ما عسى أن يكتب من ابتُلي بالنفس الأمارة بالسوء، فلم يتمكّن بل لم يشأ أن يُحطّم هذا الوثن الضخم الجاثم على صدره على الإطلاق. نحن الآن على أعتاب شهر الله ومنزلة ضيافة الله، وأنا أُقر بأنّني لست حرياً بهذه الضيافة, شهر شعبان العظيم الذي هو شهر الأئمة الكرام على وشك الانقضاء، ولم يتسنّى لنا إعداد أنفسنا لشهر الله.
 
لا تعدو قراءتي للأدعية أحياناً عن لقلقة اللسان، فلم أجنِ منها شيئاً، وأقول في أواخر هذا الشهر: "اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه"2.



1 صحيفة الإمام، ج‏20،ص209.
2 وسائل الشيعة، ج10، ص301.
 
 
 
 
 
 
 
143

133

براعم الهداية

 لم أقنط من رحمة الله تعالى ولا تقنطي, إيّانا وبلوغ يوم تجعلنا فيه ذنوبنا آيسين من رحمة الله تعالى.

 
الكلّ يبحثون عن الحقّ
ابنتي: سوف تنقضي هذه الأيام المعدودة سواء باللهو واللعب أم بالمشقّة والتعب، وسواء بالغفلة عن الفطرة أم بالالتفات إليها.
 
عزيزتي: أضمر الله جلّ وعلا نور هدايته في كافّة مخلوقاته لا سيّما الإنسان, فطرة الله تُشغل بالنا شئنا أم أبينا، ولا تتطلّع جميع المخلوقات مهما بلغت وإلى أيّ مذهب رغبت سوى إلى الحقّ تعالى وكماله المطلق بحسب فطرتها، وإن لم تلتفت إلى ذلك، واعتقدت بغيره.
 
فإنّ الإنسان يبغي الكمال المطلق ويرومه، سواء من عبد الأوثان توهُّماً أم من أنكر الله جلّ وعلا واقتفى أثر الرئاسة.
 
يظنّ الملحدون أنّهم يهوون الدنيا ويطلبون الرئاسة والزعامة، لكنّهم وفقاً للواقع يطلبون الاقتدار المطلق، ويبحثون عن الكمال المطلق، وهم في غفلة عن هذا ويعتقدون بخلافه. ومن المحتمل أن يكون عذابهم وعقابهم من أجل هذا الجهل والوهم.
 
أنتِ - على سبيل المثال - لما ترغبين بارتداء الملابس الفاخرة والحلية الباهرة، لأنّك عن الحقّ تبحثين. وكذلك الأمراء والملوك‏ يريدون بلوغ القدرة المطلقة: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ 
 
 
 
 
 
 
 
144

134

براعم الهداية

 تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾1، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾2.

 
إنّ هذا الموضوع ذو نطاق واسع، فمن الأفضل أن نوجز في الكلام ونستودعك الله، والسلام عليك وعلى عباد الله الصالحين.
 
روح الله الموسوي الخميني‏
شعبان 1407 هـ ق



1 سورة الإسراء، الآية: 44.
2 سورة الإسراء، الآية: 23.
 
 
 
 
 
 
 
 
145

135

مستودع السرّ

 مستودع السرّ

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله ربّ العالمين، الذي لا رحمن ولا رحيم غيره، ولا يُعبد ولا يُستعان إلا به، ولا يُحمد سواه، ولا ربّ ولا مربّي إلا إيّاه. وهو الهادي إلى الصراط المستقيم ولا هادي ولا مرشد إلا هو، ولا يُعرف إلا به. ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾1. والصلاة والسلام على سيّد الرسل ومرشد الكلّ الذي ظهر من غيب الوجود إلى عالم الشهود وأتمّ الدائرة وأرجعها إلى أولها، وعلى آل بيته الطاهرين الذين هم مخازن سرّ الله ومعادن حكمة الله وهداة ما سوى الله.
 
وبعد...
هذه وصية من عجوز عاجز، أمضى زهاء التسعين عاماً من عمره غارقاً في مستنقع الضلالة وسكر الطبيعة، يطوي الآن أيام أرذل عمره منحدراً نحو قعر جهنّم غير آمل بالنجاة، وغير آيس من روح الله ورحمته فلا أمل له سواه تعالى. يرى نفسه عاجزاً، لما اشتغل به



1 سورة الحديد، الآية: 3.
 
 
 
 
 
 
147

136

مستودع السرّ

 من عقد العلوم المتعارفة والقيل والقال، حتى أضحت معاصيه ممّا يعجز سوى الله تبارك وتعالى عن إحصائها.


إلى شاب يؤّمل له أن يشقّ طريقه نحو الحقّ وينجو- بتوفيق الله وهداية الهداة - من المستنقع الذي سقط فيه أبوه.

الخشية من الله وحده
ولدي العزيز أحمد، انظر - سلّمك الله - في هذه الأوراق نظر ناظر إلى ما يُقال، لا إلى من يقول، فإنّي أهدف ممّا أقول تنبيهك رغم أنّي بريء ممّا أقول، بعيد عنه.

أعلم أن ليس لأيّ موجود من الموجودات - بدءً من غيب عوالم الجبروت إلى ما فوقها أو تحتها - شيء من القدرة أو العلم أو الفضيلة، وكلّ ما فيها من ذلك إنّما هو منه جلّ وعلا، فهو الممسك بزمام الأمور من الأزل إلى الأبد، وهو الأحد الصمد. فلا تخش من هذه المخلوقات الجوفاء الخاوية الخالية ولا تُعلّق آمالك عليها أبداً لأنّ التعويل على غيره تعالى شرك، والخوف من غيره جلّت عظمته كفر.

تهذيب النفس وإصلاحها
بنيّ:
اسع في إصلاح نفسك ما دمت تحظى بنعمة الشباب، فإنّك ستخسر كلّ شيء في الشيخوخة، فمن مكائد الشيطان - ولعلّها 
 
 
 
 
 
 
 
148

137

مستودع السرّ

 أخطر مكائده - التي سقط فيها أبوك وما زال، إلا إذا أدركته رحمة الحقّ تعالى - هي "الاستدراج".

 
ففي أوائل الشباب يسعى شيطان الباطن - أشدّ أعداء الشاب - في ثنيه عن إصلاح نفسه ويُمنّيه بسعة الوقت، وأنّ الآن هو أوان التمتُّع بالشباب. ويستمرّ في خداعه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح تماماً.
 
وساعة بعد ساعة يوماً بعد يوم يتصرّم الشباب ويرى الإنسان نفسه فجأة في مواجهة الهرم الذي كان يؤمّل فيه إصلاح نفسه، وإذا به ليس بمنأى عن وساوس الشيطان أيضاً، إذ يمنّيه آنذاك أيضاً بالتوبة في آخر العمر، لكنّه حينما يحسّ بالموت في آخر العمر، يُصبح الحقّ تعالى أبغض موجود إليه لأنّه يريد انتزاع الدنيا - التي هي محبوبه المفضّل - منه. وهذه حال أولئك الذين لم ينطفئ نور الفطرة فيهم تماماً. وهناك من أبعدهم مستنقع الدنيا عن فكرة الإصلاح كلّياً وسيطر عليهم غرور الدنيا بشكل تام، وقد رأيت أمثال أولئك بين أهل العلوم المتعارفة، ما زال بعضهم على قيد الحياة، وهم يرون أنّ الأديان ليست سوى خرافة وترّهات.
 
بنيّ:
انتبه جيّداً، إلى أنّ أيّ أحد منّا لا يمكنه أن يكون مطمئناً إلى عدم وقوعه في حبائل هذه المكيدة الشيطانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
149

138

مستودع السرّ

 كيفية صدور أدعية المعصومين عليهم السلام 

عزيزي, اقرأ أدعية الأئمة المعصومين عليهم السلام وانظر كيف أنّهم يعتبرون حسناتهم سيئات وكيف يرون أنّهم يستحقّون العذاب الإلهي، ولا يفكّرون سوى برحمة الحقّ تعالى. وأهل الدنيا وتلك الفئة من المعمّمين اللاهثين وراء بطونهم1 إنّما يؤوّلون هذه الأدعية، لأنّهم لم يعرفوا الحقّ جلّ وعلا.
 
بنيّ:
والأمر في ذلك فوق ما نتصوّره، فهم بين يدي عظمة الحقّ، فانون عن أنفسهم، لا يرون غيره تعالى، وفي تلك الحال ليس هناك كلام أو ذكرٌ أو فكر وليس هناك ذات.
 
وهذه الأدعية الكريمة والمناجات إنما صدرت منهم في حال الصحو قبل المحو2 أو بعد المحو، حيث إنّهم حينها كانوا يرون



1 إشارة إلى علماء السوء الذين ورد التحذير الشديد منهم في كلمات أهل بيت العصمة والطهارة. عَنْ الإمام الصادق عليه السلام قَالَ:"إذا رأيتم العالم مُحِبّاً للدّنيا فاتّهموه على دينكم فإنّ كلّ مُحِبٍّ يَحُوطُ ما أحبّ" بحار الأنوار، ج2، ص107. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"من تعلّم علماً لِيُماري به السّفهاء أو لِيُباهي به العلماء أو يصرف به النّاس إلى نفسه يقول أنا رئيسكم فَلْيَتَبَوَّأ مقعده من النّار إنَّ الرِّئاسة لا تصلح إلّا لأهلها فمن دعا النّاس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة" بحار الأنوار، ج2، ص110. أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام:"لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدّنيا فيصُدَّك عن طريق محبَّتي فإنّ أولئك قُطَّاعُ طريق عبادي المريدين إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة منَاجاتي من قلوبهم" بحار الأنوار، ج2، ص107.
2 المحو: الفناء في الله.
 
 
 
 
 
 
 
150

139

مستودع السرّ

  أنفسهم في محضر الحاضر. ونحن والجميع - عدا أولياء الله الخلّص - قاصرون عن ذلك.

 
احتجابنا عن الكمال المطلق سبب معاناتنا
إذن فسأبدأ الحديث عن تلك الأمور التي لا تليق بأمثالي المضطّربة أوضاعهم، وإنّما الأمل بفضل الله وإمداد أوليائه عليهم السلام أن يعينك أنت يا ولدي لعلّك تصل إلى تلك الحال، وهي "فطرة التوحيد" ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾1، فهو أمر فُطر عليه جميع الناس بل جميع الموجودات.
 
فما يبحث عنه ويجري وراءه، الجميع سواء في العلوم والفضائل والفواضل، أو في المعارف وأمثالها، أو في الشهوات والأهواء النفسانية، أو في التوجّه إلى كلّ شيء وأيّ شخص من قبيل أصنام المعابد، والمحبوبات الدنيوية والأخروية، الظاهرية والخيالية، المعنوية والشكلية، كحبّ النساء والبنين والقبيلة والقادة الدنيويين كالسلاطين والأمراء وقادة الجيوش، أو القادة الأخرويين كالعلماء والمفكّرين والعرفاء والأنبياء عليهم السلام، كلّ ذلك هو ذات التوجّه إلى الواحد الكامل المطلق.



1 سورة الروم، الآية: 30.
 
 
 
 
 
 
 
151

140

مستودع السرّ

 فليس من حركة تقع الاّ له تعالى وفي سبيل الوصول إليه جلّ وعلا، وليس من قدم تخطو إلا نحو ذلك الكمال المطلق، ونحن وأمثالنا - ممّن حجبتنا الحجب الظلمانية المتراكمة بعضها فوق بعض - إنّما نُعاني ونتعذّب نتيجة هذا الاحتجاب.


الخطوة الأولى باليقظة والعلم
وأوّل خطوة تكون مقدّمة لرفع الحجب هي أن نعتقد أنّنا محجوبون، وأنّ علينا أن نصحو تدريجياً من خدر الطبيعة الذي شمل كامل وجودنا من السرّ والعلن والباطن والظاهر، وهي "اليقظة", التي عدّها بعض أهل السلوك "المنزل الأوّل" من منازل السالكين، إلّا أنّها ليست كذلك، فهي حالة عودة الوعي والاستيقاظ وهي مقدّمة فقط للبدء في السير ورفع جميع الحجب الظلمانية، ثم الحجب النورانية والوصول إلى أوّل منزل "التوحيد".

والأمر سيّان إذا التزمنا إطار العقل، أو الأطر الأخرى بأسرها، فجميعها تُفصح عن أن الكمال المطلق هو جميع الكمالات، وإلا فهو ليس بمطلق. ولا إمكان لظهور أيّ كمال أو جمال في غير الحقّ، لأنّ الغيرية هي عين الشرك إن لم نقل أنّها إلحاد.

عزيزي: ينبغي أولاً أن تخطو بقدم العلم رويداً رويداً، فإنّ أي علم كان هو الحجاب الأكبر، وبالدخول بهذا الحجاب ستتعلّم رفع الحجب. تعال إذن ننطلق معاً نحو الوجدان، لعلّ ذلك يفتح الطريق أمامنا.
 
 
 
 
 
 
 
 
152

141

مستودع السرّ

 كنز الإنسان الحقيقي

إنّ أيّ إنسان، بل أيّ موجود عاشق للكمال بالفطرة ومتنفِّر من النقص. فأنت إنّما تطلب العلم لأنّك تطلب الكمال، لذا فأنت ترى أنّ فطرتك لا تقنع أبداً بأيّ علم تناله، وهي بمجرّد أن تُدرك وجود مراتب أرقى وأعلى في هذا العالم فإنّها ستبحث عنها وتُطالب بها، وسوف تتنفّر ممّا لديها من العلم الذي نالته لما سترى به من محدودية ونقص.

فما تعشقه الفطرة هو كمال العلم لا نقصه، ولو أنّ مقتدراً اهتمّ بقدرته فهو إنّما يسعى إلى كمال القدرة لا إلى نقصها. لذا نرى المقتدرين يسعون دوماً لقدرةٍ أعظم وأعلى، غافلين عن أنّ القدرة المطلقة إنّما هي الموجود المطلق. وأنّ جميع "دار التحقُّق" إنّما هي مظهر ذلك الموجود المطلق. وأينما تولّ وجهك بالوجدان فلا يمكن أن تتوجّه إلى غير الموجود المطلق، وذلك هو الكنز الذي يُغني الإنسان عن الحاجة إلى غيره تعالى، ويُصبح كلّ ما يصل إليه من المحبوب المطلق، وكلّ ما سُلِبَه إنّما سَلَبَه إيّاه المحبوب المطلق.

حينها ستستشعر اللذّة حينما ترى من يبحثون عن سقطاتك وعيوبك، لأنّ ذلك كلّه من المحبوب وليس منهم، وحينها أيضاً لن تُعلّق القلب بأيّ مقام غير مقام الكمال المطلق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

142

مستودع السرّ

 الحرب الثقافية للشرق والغرب

ولدي العزيز: دعني أتحدّث إليك الآن بقلمي ولساني العاجزين:
أنت والجميع تعلمون بأنّكم تحت ظلّ نظام وقفت بوجهه جميع القوى الشيطانية بيُمن القدرة والتوفيق الإلهيين وبدعاء وتأييد بقية الله - أرواحنا لتراب مقدمه الفداء - وبتضحيات الشعب الإيراني الثوري روحي - فداهم واحداً واحداً- نظام مرّغ بالتراب أنف نظام الفوضى الملكية الذي لم يحسن خلال آلاف السنين غير الظلم وإلحاق الأذى بأبناء الشعب وغير القتل والنهب.
 
وفي هذا الخضمّ تعرّض أولئك الطفيليون، أتباع النظام الفاسد ممّن مارسوا أنواع الظلم والتعدّي والسلب، إلى السقوط من أوج قدرتهم إلى أسفل السافلين - كما حصل لتلك القوى الشيطانية وشبكات إعلامها المضلّل - وتفرّق الكثير منهم الآن في مختلف البلدان الأجنبية عدا من بقي منهم في داخل البلاد وقلبه متعلّق بالأجانب، وقد عقدوا مع الغرب عقد الوئام. فهم جميعاً قد خسروا مصالحهم على المستوى الدولي، وأصبحوا حديث الناس بما أصابهم من الخزي والعار.
 
واليوم فإنّ لهؤلاء - خصوصاً أمريكا الناهبة - مؤيّدين في العالم وبين الشعوب المستضعفة والغافلة عن حقيقة القدرة التي يمتلكها الإسلام. وفي مجتمعنا نحن أيضاً، العديد من المأسورين بأمريكا
 
 
 
 
 
 
 
 
154

143

مستودع السرّ

 يعيشون بيننا وقد امتشقوا سيوفهم بوجه هذه الجمهورية المباركة والمسؤولين فيها، ينتظرون زوالها، لما يرون من خطر يُهدّد منافع الغرب، بسبب الإسلام العظيم، القدرة الوحيدة التي تسبّبت في تعرُّضهم لهذا الخطر.

 
كذلك فإنّ الشرق الملحد - الذي يقف بوجه أيّة محاولة تمسّ قدرته، وبعد أن سيطر هو الآخر على نصف العالم - يحسّ أنّه وأصدقاءه في معرض الخطر أيضاً من هذا الإسلام المتنامي القدرة. هذا الشرق الملحد له في داخل البلاد وخارجها مؤيّدون أيضاً يقفون تبعاً لمعبودهم الكبير بوجه الإسلام العظيم والجمهورية الإسلامية ومسؤولي النظام، وهم يسعون جاهدين للقضاء عليها وعلى أيّ أثر لها.
 
في مثل هذا المحيط وفي مثل هذه الأوضاع، هل تتوقّع أن يُشدَّ على يد الجمهورية الإسلامية وينبري المادحون لمدحها والترحيب بها وبالمسؤولين فيها؟
 
إن طبيعة التفكير البشري الفاسد تقتضي إزالة ما يُعتبر عوائق من الطريق، واستخدام أيّة وسيلة لتحقيق ذلك، وأحد أساليبهم التي يلجأون إليها علاوة على الأسلوب العسكري والاقتصادي والقضائي، هو "الأسلوب الثقافي".
 
فالثقافة المنحطّة للغرب والشرق تقتضي استخدام كلّ الإمكانات
 
 
 
 
 
 
 
155

144

مستودع السرّ

 الإعلامية المتاحة لهم لنشر الأكاذيب على مدار الساعة وإلصاق الاتهامات والافتراء على الثقافة الإسلامية الإلهية، واستغلال كلّ فرصة للقضاء على القوانين الإلهية للجمهورية الإسلامية وعلى أصل الإسلام، واعتبار المرتبطين بالإسلام رجعيّين وفاقدين للحسّ السياسي، إلى غير ذلك من القول بعدم مناسبة القوانين الإسلامية لعصرنا الحاضر، على أساس أنّها قوانين مضى عليها ألف وأربعمائة عام فلا تنفع في إدارة الأمور في وقتنا الحاضر الذي يمتلئ بالمستجدّات ممّا لم يكن موجوداً في تلك العصور، وقد كرّر بعض مدّعي الإسلام هذه الأمور أيضاً وما زالوا.


الاستمداد من العلماء في المواجهة
في مثل هذا المحيط ينبغي الوقوف بوجه هذه المؤامرات الواسعة استناداً إلى الثقافة الإلهية الإسلامية والثبات بوجهها. فينبري لذلك الكتّاب الملتزمون، والخطباء والفنّانون للاستفادة من هذه الفرصة العظيمة، وباستمداد من العلماء العارفين بالفقه الإسلامي والقرآن الكريم، ممّن يستنبطون الأحكام الإلهية المناسبة لكلّ عصر، بالاجتهاد الصحيح من القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة والأخبار الفيّاضة بالمعارف الإلهية والفقه الأصيل، وعرضها للعالم أجمع.
 
 
 
 
 
 
 
 
156

145

مستودع السرّ

 ولا تخشوا أولئك الذين لا همّ لهم سوى البحث عن عيوب الآخرين، والمنحرفين ووعّاظ السلاطين والمعمّمين المرتبطين ببلاط الملوك. ولتفهموا أولئك القشريّين من الروحانيّين أو غيرهم ممّن يقفون بوجه الحكومة الإسلامية جهلاً أو عمداً أو بباعث الحسد أو عدم الفهم- وبما اتبعه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأئمًة من أساليب وبالموعظة الحسنة - بأنّ هذه الانحرافات إذا أدّت إلى إلحاق ضرر ما - لا سمح الله - بالجمهورية الإسلامية التي تهدف إلى إحياء الإسلام الذي تعرّض للظلم على مدى التاريخ، فإنّ الإسلام سيتعرّض إلى ضربة من الغرب والشرق والمرتبطين بهما، ستؤدّي إلى أن نواجه ـ قروناً من الفساد تفوق عصر الملكية المقبور الظالم ظلمة وفساداً.


الاستعداد لتحمُّل الأذى دائماً
والآن جاء دور تقديم النصيحة الأبوية إلى ولدي أحمد:
بنيّ:
رغم أنّك لم تتصدّ لأية مسؤولية ممّا تصدّى لها القادة الإسلاميون المسؤولون - أيّدهم الله تعالى- إلا أنّك تتعرّض للكثير من الطعنات، وما ذلك إلا لأنّك ابني. فبحسب ثقافة الغرب والشرق، ينبغي أن أُصبح أنا وكل من هو قريب منّي - خصوصاً أنت لما تُمثّله من القرب الشديد منّي- موضعاً للتهمة والأذى والافتراء.
 
 
 
 
 
 
 
157

146

مستودع السرّ

 فجريرتك الحقيقية هي أنّك ابني وهذا ليس بالجرم القليل في نظرهم. ولا شكً أنّهم سيُعرّضونك إلى أشدّ من هذا، وعليك أن تستعدّ لتحمّل المزيد. ولكنّك إذا تمسّكت بالإيمان وبالاعتقاد بالحقّ تعالى واطمأننت إلى حكمة الباري ورحمته الواسعة، فإنّك سترى هذه التهم والافتراءات والمتاعب المتزايدة هدايا من محبّ يريد إعانتك على ترويض نفسك، وابتلاء وامتحاناً إلهياً لتنقية نفوس عبيده. تحمّل الصدمات إذن واشكر الله تعالى على رعايته لك واسأله المزيد.


الدفاع عن مظلومية أحمد
ابني العزيز: رجوتني مرّات عديدة أن لا أتحدّث عنك بما يدلّ على تبرئتك من التهم المنسوبة إليك، وقلتَ إنّ ذلك لأجل الإسلام ومصلحة الجمهورية الإسلامية، ولكن إذا رايت في هذه الوريقات، أنّي خالفت قولك هذا وقلت عنك شيئاً غير ما طلبت منّي، فاعلم أنّ ذلك عمل بالتكليف الإلهي والتصدّي للدفاع عن شخص مسلم أو عن أحد عباد الله ممّن تحمّلوا في سبيلي كلّ هذه التهم والأذى، دون أن أقول أنا ما أعرف عنهم.

أُشهد الله القاهر الحاضر المنتقم بأنّ (أحمد) ومنذ اليوم الذي تصدّى فيه لمساعدتي وأصبح مسؤولاً عن علاقاتي الخارجية وإلى الآن - حيث أكتب هذه الكلمات - لم يخط خطوة، أو يكتب حرفاً 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

147

مستودع السرّ

 واحداً خلافاً لقولي، أو لما أكتبه، وقد سعى بحرص شديد على عدم تغيير كلمة واحدة بل حتى حرف واحد أحياناً ممّا قلته أو كتبته ممّا يرى هو حاجة إلى إصلاحه دون إذن منّي، رغم أنّي أجزته هو وبعض أعضاء مكتبي الخاص ممّن تكفّلوا مسؤولية العلاقات الخارجية - حفظهم الله - أن يلفتوا نظري إلى أيّ شيء يرون فيه خلاف الصلاح. وقد كان ابني (أحمد) دوماً في مجريات هذه الأمور وما زال، إلّا أنّه إلى الآن لم يُقدم على إضافة أو إنقاص كلمة دون الرجوع إليّ، والله على كلّ ذلك شهيد.

 
إلهي! رغم عدم رغبتي في كتابة أو قول أيّ شيء حول أقربائي ممّا يُشمّ منه رائحة المديح، إلا أنّك تعلم يا إلهي بأنّ السكوت إزاء التهم الباطلة جرم وذنب، وإنّي لم ألمس من إخواني ممّن يعملون في مكتبي أيّة مخالفة تستوجب عدم رضاي. هؤلاء كان لهم ماض طويل معي، وقد تعرّض من بينهم الشيخ الصانعي1 إلى مختلف الطعنات على مدى حياتي بسبب ارتباطه بي، وإنّي أدعو لهم جميعاً بالأجر الجزيل والصبر الجميل.
 
لا يفوتني أن أقول في الختام بأنّ أحمد لم يستلم إلى الآن ديناراً واحداً من بيت المال، وأنّي أنفق من أموالي الخاصّة لأمور معاشه.



1 هو الشيخ حسن الصانعي أحد العلماء المجاهدين الذين رافقوا الإمام ونذروا أنفسهم لخدمتهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

148

مستودع السرّ

 اللهم اغفر لنا، نحن عبيدك الغارقون في الذنوب، ولا تحجب عنّا رحمتك الواسعة، وإن كنّا لسنا أهلاً لذلك ولكنّا مخلوقاتك.


اللهم! احفظ هذه الجمهورية الإسلامية والمسؤولين فيها، ومقاتلينا الأعزاء، وارعهم بعين رعايتك، وارحم الشهداء والمفقودين الأعزاء وعوائلهم برحمتك، وردّ الأسرى والمفقودين إلى أوطانهم بحق محمد وآله الأطهار عليهم السلام.

27 ربيع الثاني 1408 هـ.ق
روح الله الموسوي الخميني
 
 
 
 
 
 
 
160

149
نفحات ملكوتية