تراب كوشك الناعم

تراب كوشك الناعم


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2012-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة


تراب كوشك الناعم

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللّهم صلّ على محمّد وآله الطيبين الطاهرين

 

كثيرة قصص العظماء والأعلام، والأكثر منها قصص الزعماء والمسؤولين، ولكنّ القصص الخالدة، والّتي مهما مرّت العصور والدهور تبقى تمنح الحياة للمجتمع، وتبقى تضخّ الدم في قلوب الأمّة هي قصص الشهداء القادة، الّذين اختارهم الله لجواره، والّذين دعاهم فكانوا السبّاقين بكلمة لبيّك. كيف لا وهم خلاصة المجاهدين الّذين وصفهم أمير الكلام عليه السلام بأنّهم "خاصّة أولياء الله"، فهم خاصّة الخاصّة حيث اختارهم الله ودعاهم فلبّوا النداء.

قصصهم فيها العِبرة والعَبرة، وحريّ بنا نحن الّذين نغرق في ترّهات الحياة الدنيا أن نفهم بعض ما وصل إليه هؤلاء الشهداء، حيث أدركوا حقّ اليقين وعاينوا الدار الآخرة ورأوا بأمّ عين القلب والحقيقة أنّها هي دار الحَيَوَان، وهي الحياة الحقّة، وهي الّتي ينبغي أن تبقى نصب العين ومُنتهى الآمال ومشدّ الرحال.

 

حريّ بنا أن نستفيد من تجارتهم، من أفكارهم، من روحيّتهم ومعنويّاتهم العالية، عسى أن نخطو خطوة على هديهم وطريقهم.

 

وحيث قد تراجعت القراءة في مجتمعاتنا، ما زالت قراءة القصّة أكثر اهتماماً من غيرها، رأى مركز نون للتأليف والترجمة في جمعيّة المعارف الإسلاميّة، أن ينشر قصّة أحد الشهداء القادة الإيرانيّين لما لها من أثر ووقع، ولما كان لها من تأثير في المجتمع الإيراني، رغبة أن يكون لهذه القصّة وحياة

 

7


1

تراب كوشك الناعم

 هذا الشهيد العظيم نفس ذلك الأثر في مجتمعنا العربيّ، شاكراً المركز لسماحة الشيخ كاظم ياسين وعائلته الحاجّة نايفة شلهوب والدكتور هادي ياسين على ما بذلوه من جهد في تعريب هذا الكتاب.

 

وإن كان لهذا العمل المتواضع من أجر وثواب فنحن نقدّمه بين يدي صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف هديّة متواضعة لأرواح شهداء المقاومة الإسلامية سيّما الشهيد حسن شلهوب (أكرم)، عسى أن ننال بذلك رضاه وقرباً منهم ونحشر معهم. إنّه نِعم المولى ونِعم الوكيل.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

8


2

تراب كوشك الناعم

بسم الله الرحمن الرحيم

بيان ولي أمر المسلمين الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله في لقاء عائلة الشهيد عبد الحسين برونس

بيان ولي أمر المسلمين الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله

في لقاء عائلة الشهيد عبد الحسين برونسي

تاريخ 3 -12- 1388 هـ. ش.

 

رحم الله فقيدنا الشهيد المرحوم برونسي، "المعلّم" عبد الحسين برونسي.

 

ومن المهمّ جدّاً لمجتمعنا وبلدنا وتاريخنا أنّ الشخص المذكور "المعلّم عبد الحسين" - لا الدكتور عبد الحسين، فالمعلّم لا بمعنى الأستاذ بل بمعنى معلّم البناء وصاحب الأعمال فعبد الحسين كان بنّاءً - وصل من ناحية معرفة الحقائق بحيث كان قبل انتصار الثورة يعمل في أدقّ الأعمال الثورية واشترك في الحرب بعد الثورة.

 

تعرفون أنّه في الحرب المفروضة لم يكن يصل -بين مجموعات الحرس والتعبئة- في الحرب أيّ شخص إلى رتبة قائد أو رئيس إلّا بناءً لجهوده وسعيه ، فقد كان يدخل الشخص في الحرب بعنوان أنّه رجل تعبئة عاديّ، فإذا كان عنده استعدادات يصبح قائد مجموعة وهكذا يتدرّج حتى يصبح قائد كتيبة ثمّ قائد لواء وهكذا. وتعلمون أنّ إدارة الحرب في ذلك الوقت لم تكن إدارة عسكرية فقط فأنا في بداية العمل كنت أرى الأمور عن قرب ولفترة قصيرة وعندما انتقلت إلى طهران كنت أراقب الأمور عن بعد، لذلك كنت أعلم أنّ الإدارة لم تكن إدارة عسكرية صرفة بل كانت إدارة سياسية وإدارة فكرية وكانت إدارة إنسانية وأدبية وأخلاقية؛ ولا يستطيع أيّ شخص أن يدير مجموعة إذا لم يكن هو نفسه يتحلّى بهذه المواصفات.

 

إنّ شهيدنا العزيز عندما شارك في الحرب لم يكن عنده المعارف الجامعيّة ولم يكن يحمل عنواناً ولقباً جامعياً بشكل رسمي إلا أنّه استطاع في إدارة الحرب أن يترقّى وأن يصل إلى رتب عالية وأصبح شخصيّة مرموقة، شخصيّة جامعة تحمل اسم قائد لواء ثمّ بعدها نال درجة الشهادة، وهذه الشخصيّة لو لم تنل وسام الشهادة لاستطاعت أن تبلغ مقامات ودرجات رفيعة من الناحية الظاهريّة.

 

تعتبر هذه الشخصيّة من عجائب ثورتنا وتعدّ من الأمور الاستثنائية التي

 

9

 


3

تراب كوشك الناعم

لا نظير لها في ثورتنا بحيث لا يمكن مقايستها في أيّ مكان آخر، وكما نقل السيد محافظ منطقة خراسان بأنّه سمع من كثيرين أنّه في ذلك الوقت عندما كان يتحدّث الشهيد مع مجموعات الطلّاب والجامعيين في "مشهد" كان يجذبهم في حديثه.

 

وأنا أيضاً شاهدت شبيه هذا الأمر مع المرحوم الشهيد رستمي الذي هو أيضاً من شهداء منطقة خراسان الذي كان شخصاً قرويّاً وبمظهر عاديّ، عندما كان يتحدّث بين جمع من القادة في الدرجة الأولى وكان ضمنهم رئيس الجمهوريّة، بيّن أحداث الحرب بطريقة سحر فيها جميع الحاضرين.

 

لقد بلغ استعداد الثورة في تربية الشخصيّات الرفيعة والأفراد إلى هذا الحدّ ولا ينبغي التقليل من هذا الأمر فإنّ هؤلاء يشيرون إلى أهمّية الثورة وعمقها. نحن ننظر إلى ظواهر الأمور وينبغي رؤية أعماقها فعندما يرى الإنسان الأعماق فإنّ الأفق سيكون في مقابل عينيه شيء آخر، وعندما تحصل هذه الأمور المختلفة - هذه المخالفات وهذه الاعتداءات وهذه الأحداث - لا تؤثّر على هذا الإنسان فإنّ هذه الأمور صغيرة جدّا في مقابل تلك الحركة العظيمة التي يقوم بها. باعتقادي إنّ الشهيد برونسي وأمثاله يمثّلون نموذج هذه الحقيقة حقيقة تربية الإنسان الكبير طبق المعايير الإلهية والإسلامية لا طبق المعايير الظاهرية والعادية، وعلى كلّ حال مهما قمنا بإجلال هذه الشخصيّة وأمثالها من العظماء فإنّه إجلال في موضعه ولا مبالغة فيه.

 

وكذلك الأمر بالنسبة لعائلة الشهيد برونسي المحترمة فإنّها عائلة جيّدة وقد رأيت - في المرّتين أو الثلاث مرّات التي زرتهم فيها - أنّها تمتلك الصفاء والمعنويات الرفيعة.

 

إنّ زوجته تعتبر امرأة صابرة ومجاهدة تحمّلت كلّ صعوبات المواجهة قبل الثورة وأثناء الحرب واستطاعت أن تربّي أطفالها.

 

ما شاء الله، الإنسان يربّي خمسة أولاد (مشاغبين) ليصبحوا كباراً ليس أمراً سهلاً، وهذا أمر مثير أيضاً أن يستطيع الإنسان أن يربّي هؤلاء الأطفال ويصل بهم إلى نتيجة مثمرة معهم فإنّ ذلك يحتاج إلى مهارة عالية. بلّغوا سلامي إلى عائلة الشهيد أيضاً.

 

10

 


4

تراب كوشك الناعم

هو الله الأعلى

مَن نورُهُ من ربِّه سجدت له                       كلُّ الملائِكِ منذ كان وكُوِّنا

 

كان الشهيد برونسي، وقبل عدّة أيّام من عمليّات بدر، في الحرب الّتي فرضها النظام الإرهابيّ البعثيّ في العراق على الجمهوريّة الإسلاميّة، وبمناسبات عدّة، يتحدّث عن استشهاده في عمليّات بدر القادمة. وكان متأكِّداً من اسشهاده إلى درجة أنّه كان يقول: إذا لم أستشهد في هذه العمليات عندها تستطيعون أن تشكّوا في أصل إسلامي! وأكثر من هذا فإنّه كان يُخبر البعض بتاريخ ومكان استشهاده، وبعد عدّة أيّام حصل فعلاً ما أخبر به.

 

لقد كان في حياة الشهيد "برونسي" من هذه الوقائع العجيبة الشيء الكثير. وهذا ما يدفعنا إلى التأمّل والتفكّر في حياة هذا الشهيد الكبير، الّذي كان رمز الكثير من التوفيقات.

 

قبل الثورة، كان يعمل بنّاءً في ظاهر الأمر، ولكنّه، في الواقع وحقيقة الأمر، كان مجاهداً عاملاً في صفوف الحركة الثوريّة الإيرانيّة، ممّا جعله يتحمّل الكثير من العناء في سبيل الإسلام، وكذلك كان له هذا الدور العظيم بعد انتصار الثورة الإسلاميّة أيضاً. بحيث إنّ الفرصة كانت متوفّرة له من أجل بلوغه مرتبة الكمال. وقد أظهر في جميع المواضيع والأعمال، لياقة، جعلت اسمه (برونسي) مذكوراً على لسان الجميع، حتّى العدوّ الصدّاميّ، الّذي عيّن قادته، لأجل هذا، جائزة من أجل الحصول على رأسه، حيث إنّ اسمه كان يتردّد في محافل العدوّ وإعلامه.

 

كان الشهيد برونسي رجلاً مثيراً للتأمّل، ويُمكن القول: إنّه كان سبباً للتوفيق في مواضيع ومجالات وأعمال كثيرة، وفي الواقع يُمكن أن يُسمّى "رمز الاستقامة"،

 

11


5

تراب كوشك الناعم

 فقد كانت عبوديّة هذا الشهيد العالي القدر للحقّ تعالى مطلقة، وكان خضوعه في مقابل الحقيقة الإلهيّة بدون قيد أو شرط.

 

إنّ تسليمه وانقياده التامّ للحضور الملكوتي للإمام محمد بن الحسن، صاحب العصر والزمان، وتبعيّته الخالصة والصادقة له عجل الله فرجه الشريف ، جعلته مورد عنايته وعناية أهل بيت العصمة والطهارة (صلوات الله عليهم أجمعين) وكان من نتيجتها تفتُّح هذه البراعم النورانيّة في نفسه وفي إرادته وعزمه..

 

لم يُرد أهل النفاق أن يعترفوا بهذه الحقيقة بحقّ هكذا أفراد، وهم لم يُدركوها أيضاً بحقّ ثورتنا ونظامنا الإسلامي، ولم يفهموا حتّى الآن أيضاً أنّ ضمانة بقاء ودوام وانتصار نظام الجمهوريّة الإسلاميّة المقدّس هو الرعاية والعناية لهذه القدرة والقوّة الأزليّة لبركة صاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف ، بحيث إنّه استطاع حتّى الآن أن يمحق كلّ خططهم وحرابهم ويُبطل مفعولها، ويحكم عليها بالخسارة.

هذه المجموعة من القصص والمشاهدات والشهادات، هي جهدٌ، ولو أنّه قليل، من أجل بيان زاوية من حياة هذا القائد الإسلاميّ الرشيد المليئة بالعجائب والشجاعة، "الشهيد الحاجّ عبد الحسين برونسي"؛ وهي جهد من أجل إبراز موضوع أساس وخطير في الثقافة الإسلاميّة، وهو أنّه طالما يوجد تابعون حقيقيّون لولاية أهل البيت عليهم السلام في أقصى نقاط المعمورة، وهم موجودون فعلاً، فإنّ فكرة القضاء على دين الإسلام وإحباط معنويّات المؤمنين، هي فكرة منحطّة ومردودة، ومحكوم عليها بالخسارة والزوال.

 

سعيد عاكف

 

12

 

 

 


6

تراب كوشك الناعم

السيرة الذاتيّة

 

في سنة 1321، وفي قرية "كلبوي كدكن"، التابعة لتربة حيدريّة، وضع قدمه في هذه الدنيا. وكأنّ اسمه الجميل قد أُخذ منذ اللحظات الأولى من الأمر الإلهيّ للبشريّة: "ألستُ بربِّكم"؟ فأجاب النداء برجولة وبدون نفاق: "بلى"؛ عبد الحسين.

 

روحيّة الصراع مع الكفر والطاغوت عُجنت مع روحه منذ أوان طفولته، كما أنّه، وفي الصفّ الرابع الابتدائي، ترك المدرسة بسبب تأذّيه من تصرّف معلّمه الطاغوتي، وبسبب الجوّ غير المناسب للدرس والتحصيل الّذي يسود المدرسة. وفي سنة 1340 استُدعي من أجل خدمة العلم، وكان منذ بداية التحاقه بالجيش يتعرّض للإهانة والأذيّة من قبل الضبّاط والعسكريّين الطاغوتيّين بجرم تمسّكه بالاعتقادات الدينيّة الأصيلة.

 

تزوّج سنة 1347 هـ. ش. ولأنّ الزواج أمر مهمّ وخطير في حياته، فقد اختار زوجة مؤمنة ملتزمة بتكاليف الإسلام، وروحانيّة، كما كان ذلك، في نفس الوقت، تهيئة للجوّ المناسب له للانسجام مع مواقفه المستمرّة في الاعتراض على النظام الطاغوتيّ الحاكم على البلاد؛ وفي تلك السنة تصل اعتراضاته على خداع النظام البهلوي الطاغوتيّ للشعب الإيراني إلى أوجها (في إعادة توزيع الأراضي المسمّاة زوراً بالإصلاحات)، وتنتهي، في النهاية، بانتقاله وعائلته إلى مدينة مشهد المقدّسة وسكناهم هناك، ففتح بذلك أيضاً فصلاً آخر، يُعتبر رقماً جديداً في حياته.

 

13

 


7

تراب كوشك الناعم

وبعد مدّة من وصوله إلى مشهد، اشتغل بعمل صعب ومُجهد، وشيئاً فشيئاً وإلى جانب العمل، انشغل بالتحصيل العلميّ في الحوزة أيضاً، ولكنّه، بسبب صراعه ضدّ الطاغوت، وسَجْنِهِ مرّة بعد مرّة، وتعرّضه للتعذيب الوحشيّ من قِبل السافاك، ثمّ بسبب انتصار الثورة الإسلاميّة العظيمة في نهاية المطاف، وانتسابه إلى قوّات الحرس الثوريّ الضاربة، لم يستطع إكمال تحصيله العلميّ.

 

ومع ابتداء الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، ذهب في أوائل الحرب إلى الجبهة، وهذه الفترة أيضاً تُعتبر ورقة ذهبيّة في تاريخ حياته.

 

وقد أُنيطت به مسؤوليّات مختلفة بسبب لياقته ووعيه البارزين، وكانت آخر مسؤوليّاته قيادة اللواء الثامن عشر جواد الأئمة عليهم السلام الّذي استلمه قبل عمليّات خيبر.

 

وتحت هذا العنوان، في عمليّات بدر، وهو في حالات وصلت إلى أوجها من الإيثار والشجاعة والفداء، كان يتمتم لحن الشهادة القاني.

 

وفي يوم 23/ 12/1363 هـ.ش، استشهد هذا القائد العظيم الّذي هو افتخار للأمّة، وكانت شهادته حسب ما كان يتمنّى من كلّ قلبه، وهو أن يكون مفقود الأثر، فلم يجدوا جثمانه الطاهر، وجرى احتفال تأبيني لروحه الطاهرة في 9/ 2/ 1364 هـ.ش، في مدينة مشهد المقدّسة.

 

14

 


8

تراب كوشك الناعم

أعظم دليل

والدة الشهيد

لم يكن في قريتنا سوى مدرسة واحدة، وكانت إبتدائيّة أيضاً. وكان عبد الحسين في ذلك الوقت في الصفّ الرابع الإبتدائيّ، ومع أنّه كان يعمل أيضاً فقد كانت علاماته جيّدة. وفي ذات يوم، وبعد أن عاد من مدرسته، فجأة، وبلا مقدّمات قال: منذ الغد اسمحوا لي فإنّي لن أذهب إلى المدرسة.

 

نظرنا إليه أنا ووالده وأعيننا تدور من الدهشة، فلم يكن لهكذا طلب سابقة أبداً.

 

قال والده: أنت تُحبّ المدرسة! فلم لا تُريد الذهاب؟

 

أراد أن يتكلّم، ولكن الغُصّة خنقته. فقال وهو بهذه الحالة: أبي! منذ الغد سوف أذهب معك إلى الحقل، وأعمل عندك مزارعاً، أُقَلِّبُ التراب، وأعمل كلّ ما تطلبه منّي ولكنّي لن أذهب إلى المدرسة.

 

قال هذا، وأجهش بالبكاء. توقّعنا أن يكون قد حصل شيء خطير في ذلك اليوم، دفعه إلى هذا الموقف، ولكنّه لم يُخبرنا به برغم إصرارنا عليه.

 

في اليوم التّالي رأينا أنّه فعلاً لا يُريد الذهاب. ولكنّ والده لم يكن ليرضى بهذه السهولة، فأصرّ عليه: إمّا أن تذهب إلى المدرسة، وإمّا أن تقول لماذا لا تُريد الذهاب.

 

وفي النهاية استسلم عبد الحسين، قال م..م..م..: أبي لا أستطيع، فأنا لا أطيق أن أقول لكم.

 

15

 


9

تراب كوشك الناعم

فضممته إلى صدري وقلت: ماما... حبيبي... قل لي.

 

أطرق برأسه إلى الأرض ولم يقل شيئاً. فتصوّرت أنّه ربما يخجل أن يقول، فأمسكته من يده واصطحبته إلى غرفة أخرى. ثمّ ناغيته قليلاً ولاطفته. بعدها قال باكياً: أمّي إنّ هذه المدرسة أصبحت نجسة!

 

تعجّبت وسألته: لماذا يا ولدي؟

 

تلفّظ اسم معلِّمه بغيظ! وقال لي: أنت أكبر قدراً من ذكر هذا الحديث أمامك، لقد رأيت أمس هذا الخبيث مع فتاة! لقد كان.......

 

لم يستطع أن يكمل كلامه بسبب الخجل والحياء. فقط ارتفع صوت بكائه أكثر ثمّ أضاف: هذه المدرسة قد أصبحت نجسة، أنا لن أذهب إليها.

 

كان لهذه المدرسة معلّم واحد، وكنّا نعلم أيضاً أنّه طاغوتي، ولكنّنا لم نَكُن نعلم شيئاً عن أعماله هذه.

 

أخبرت أباه بالموضوع وقلت: عبد الحسين لم يتعوّد الكذب ولا لمرّة واحدة.

 

فقال والده: الآن والحالة هذه، أنا نفسي لم أعد أرغب بذهابه إلى تلك المدرسة.

 

كان في قريتنا إلى جانب تلك المدرسة، مركز لتعليم القرآن، ومنذ غد ذلك اليوم سجّلناه هناك ليتعلّم القرآن1.

1- حصلت هذه الخاطرة حوالي سنة 1333 هـ.ش.

 

 

16


10

تراب كوشك الناعم

فِيلّا جناب العقيد

يقول السيِّد كاظم الحسينيّ: ذات مرّة روى لي عبد الحسين برونسي حادثة حصلت معه في زمن خدمته العسكريّة في جيش الشاه المقبور زمن حكومة الطاغوت، وكانت بالنسبة إليه ذكرى مرّة وحلوة معاً، منشؤها معنويّاته الإلهيّة العالية. فقال: ذهبنا في أوائل أيّام خدمتي العسكريّة إلى "صفر – أربعة" بيرجند1. وبعد انتهاء دورة التدريب العسكريّ، جاء دور توزيع التكاليف والمهمّات العسكريّة على الجنود وتعيين مواضع الخدمة لهم.

 

وفي يوم من الأيّام استدعوا جميع العسكريّين إلى ساحة الثكنة ليبلّغوهم هذا الشأن، وقبل بدء التوزيع، جاء القائد إلى وسط الجنود الشباب، وأخذ يذرع الأرض جيئة وذهاباً بهدوء وطمأنينة. وكان خلال ذلك يتقدّم نحونا وينظر بدقّة إلى أشكال الشباب، ثمّ توقّف فجأة أمام أحد الصفوف، ونظر بتردّد إلى وجه أحد الجنود. وأخذ يقيسه جيِّداً من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه، ثمّ قال بشكل آمر: إلى الخارج.

 

وهكذا، اختار اثنين أو ثلاثة آخرين. وكنت طويلاً ممشوق القامة، وبحسب تعبير الجنود: كانت قامتي رياضيّة، ولكنّي في الحقيقة لم أكن أملك سوى قامة قرويّة لفلّاح مظلوم.

 

وكان القائد العسكريّ للثكنة مازال يتمشّى بين الجنود ويتقدّم إلى الصفّ

1- معسكر لتدريب الجيش يقع في جنوب محافظة خراسان وفي مدينة بيرجند.

 

17

 


11

تراب كوشك الناعم

 الأمامي، حتّى وصل إلى قُربي، ثمّ توقّف بشكل مفاجئ، وحاولت جاهداً أن أُحافظ على برودة أعصابي، وهو يُحدّق في وجهي بشكل دقيق، ثمّ وبتلك النظرات من قمّة الرأس إلى أخمص القدمين، قال: أنت أيضاً إلى الخارج.

 

فسمعت أحد الجنود من خلفي يهمس في أذني: (يا لِحظّك الجميل)!.

 

وقبل أن أخرج من الصفّ سمعت أيضاً عدّة عبارات من هذا القبيل:

- أنت الآن أصبحت في رغد عيشٍ ونعيم!

- سوف تتمتّع إلى آخر خدمتك.

 

وعندما أصبحت خارج الصفّ كتب أحد أصحاب الرتب اسمي، ثمّ أمرني أن أقف إلى جانب الّذين اختاروهم قبلي. وكنّا قد أصبحنا في النهاية أربعة أو خمسة من بين الجميع. وتملّكني فضول شديد لأعرف طبيعة هذه المهمّة، وأخذت أسأل نفسي: ما هي النعمة الّتي يريدون أن يهبوني إيّاها وتجعل شباب المدينة يتحسّرون من أجلها! وكان كثير منهم ينظر إليّ بحسرة؟!

 

ثمّ جاء رئيس العرفاء وأخذنا إلى مكان استراحتنا وقال: اذهبوا وأحضِروا أغراضكم بسرعة واخرجوا، لا تتلكّؤوا.

 

زاد فضولي أكثر. وبما أنّني لم يكن لي سابق رفقة مع الباقين، فلم أستطع أن أسألهم عن الموضوع. ووضعت أغراضي في كيسي الشخصي وخرجت، وكان هناك جيب بانتظارنا، فوضعنا الأكياس في مؤخّرة الجيب وقفزنا إلى مقاعدنا.

 

ذهبنا برفقة رئيس العرفاء إلى بيرجند. وبعد عدّة دقائق توقّفت السيارة أمام "فيلّا". فترجّل رئيس العرفاء، والتفت إليّ وقال: تعال انزل.

 

وبينما هو قد ذهب وقرع جرس الباب. كنت قد أخذت كيسي وترجّلت من الجيب. فقال لي: أنت منذ الآن في خدمة صاحب هذا المنزل، وعليك أن تسمع وتُطيع كلّ ما يقولون لك بدون أيّ اعتراض.

 

نظرت إليه وأنا مصدوم. وأردت أن أقول شيئاً، ففُتح الباب. فظهرَتْ من بين دفّتي الباب امرأة عجوز وبسيطة. أصلحت شادورها المزهّر والباهت اللون على رأسها. ولم يُعطها رئيس العرفاء الفرصة للكلام. بل أشار إليّ وقال: اذهبي بهذا الجندي إلى السيّدة وعرِّفيها عليه.

 

18


12

تراب كوشك الناعم

تعجّبت من كلمة "السيّدة". ولمّا أراد رئيس العرفاء أن يذهب، قُلت له: ليس معي أسلحة هنا، وليس معي أيّ شيء؛ هل أُريد أن أحرس؟ ماذا سوف أفعل؟

 

ضحك ضحكة هزء وقال: اذهب يا شاب! ما أطيب قلبك! أنت من اليوم سوف تخلع لباسك هذا وتلبس لباساً مدنيّاً!

 

في الدورة التدريبيّة، وكما يُقال: "حرقوا سِلاّفنا". وكانوا قد علّمونا؛ أنّه إذا قال لك من هو فوقك: مُت! فيجب أن تموت، يجب أن تموت بدون أيِّ تردُّد أو سؤال. وعلى هذا الأساس أطعته ودخلتُ خلف تلك المرأة. ولكنِّي ما زلت أتساءل، ماذا سوف أعمل في منزل سيِّدَة؟

 

ومقابل مدخل القصر، في الجهة الأخرى من الباحة، كان يوجد بناءٌ يأخذ بالألباب. حيث الباحة الواسعة، والورود المتنوِّعة، والشجر الصاعد إلى السماء، كلُّ ذلك كان له جمالٌ آخر.

 

قالت المرأة: اتبعني.

 

حملت كيسي وتبعتها. وبعد أن دخلنا إلى البناء. ووقفت أمام درجات السلّم، أشارت إلى غرفة في الطابق الثاني وقالت: السيّدة هناك.

 

قلت معترضاً: هل أستطيع أن أعلم ماذا سوف أفعل؟ أن أذهب إلى واحدة من السيِّدات! هذه ليست خدمة عسكريّة!

 

بان الخوف في نظرتها. وقالت لي برجاء: اخفض صوتك يا ولدي! ونَظَرَتْ إلى الأعلى وأكمَلَتْ: اصعد إلى الأعلى، سوف تقول لك السيِّدَة ماذا سوف تفعل، هي ليست سيِّئة الأخلاق كثيراً.

 

سألت ثانية: يا إلهي ماذا سوف أفعل؟

 

وكأنّها خافت من إعطاء الجواب. ولكنّي استسلمت، وحتّى أعلم ما هو تكليفي، صعدت درجات السلّم. كان باب الغرفة مفتوحاً بشكل جيِّد، إلى درجة أنِّي لم أحتج إلى طرق الباب، نظرت إلى السجّادات الّتي هي صناعة يدويّة وباهظة الثمن. ففككت رباط حذائي العسكريّ وخلعته. وتقدّمت خطوتين باحتياط وقلت: يا الله.

 

 

19


13

تراب كوشك الناعم

لم أسمع صوتاً. قلت ثانية: يا الله، يا الله!

 

ارتفع في هذه المرّة صوت إمرأة شابّة: آكلة تأكل رأسك! ما قولك هذا يا الله؟ ادخل!

 

كنت متردِّداً! أأدخل أم لا. فقلت في نفسي: يا إلهي عليك توكُّلي.

 

دخلت. اسودّت عيناني من المنظر الّذي رأيتُه. كنت سوف أقع على الأرض. ماذا تظنُّ أنِّي رأيت؟

 

امرأة سافرة كانت تجلس على الأريكة، وكما يصطلحون على تسميته في ذلك الزمان تلبس الميني جوب، وتضع الأصباغ الغليظة والمختلطة! وكانت تجلس مسترخية. واضعة قدماً فوق الأخرى، أخذ بدني كلّهُ يتصبّب عرقاً.

 

بقيت مبهوتاً للحظات، وكأنّ تلك المرأة قد أدركت وضعي، لأنّها لم تقل شيئاً. وعندما تمالكتُ نفسي، تراجعت قليلاً قليلاً ثمّ لم أعرف كيف أصبحتُ خارج الغرفة. وضعت قدَمَيّ في حذائي العسكريّ، ولم أدرِ أأحكمت رباطه أم لا، وأخذت كيسي. فصرخَتْ المرأة السافرة بعصبيّة: هاي أيّها الحرذون! إلى أين أنت ذاهب؟ ارجع!

 

لم اهتمّ لما تقول ولما تتفوّه به من بذاءات، ولم أُصغ السمع إليها. فنزلت السلّم درجتين درجتين. وأمّا المرأة العجوز الّتي تلبس الشادور فإنّها كانت قد اصفرّ لونها. ولم أُعرها التفاتاً هي الأخرى وخرجتُ إلى الباحة الخارجيّة. فركضَت خلفي. وقالت وهي مرتبكة: السيّدَة تُناديك.

 

قُلت: فلتنادِ حتّى تُسلم الروح!

 

قالت: إذا لم تعد، سوف يقتلونك!

 

قلت بعصبيّة: أحسن!

 

كنت أسيرُ والمرأة المسكينة كانت تقريباً تركض خلفي. انتبهت قرب الباب الخارجي إلى أنّي لا أعرف عنوان المعسكر. ثمّ فجأة توقّفتُ، ووقفت المرأة أيضاً. فسألتُها: معسكر صفر – أربعة من أيّ جهة؟

 

فقالت بحيرة وهي مبهوتة: لماذا؟ ماذا تُريد؟!

 

قُلت: أُريد الفرار من وادي جهنّم هذا.

 

 

20


14

تراب كوشك الناعم

قالت: ارحم نفسك يا ولدي، ما هذا العمل؟ هنا يعطونك أفضل مال وأفضل طعام، وكلّ شيء أفضل، وسوف تَستأنس.

 

فقلت بغيظ: لا يا أمّي، أُريد أن أعيش سبعين سنة سوداء ولا أُريد هذا الأُنس.

 

وعندما رأيت أنّ هذه المرأة تُريد أن تصرفني عن الذهاب، ركضت ثانية بدون أن أهتمّ بأخذ العنوان وخرجت من ذلك المنزل. كان الشارع خالياً إلى درجة أنّه لا يوجد حتّى عصفور يرفُّ بجناحيه، فقط بعض السيّارات القليلة تأتي وتعبر مسرعة.

 

في ذلك اليوم، وبأيِّ طريقة كانت، حصلت على عنوان المعسكر، وغلى دمي أكثر للمعلومات الّتي حصلت عليها هناك، فإنّ ذلك المنزل كان لأحد الضبّاط، وأنا كنت هناك سوف أعمل جندياً وصيفاً، وخادماً خاصّاً، لتلك المرأة الّتي هي زوجة ذلك الضابط الطاغوتيّ الّذي لا غيرَة له!

 

على كلِّ حال، أصرُّوا عليّ، ليومين أو ثلاثة، لأذهب إلى هناك مجدّداً، ولكنّهم لم يستطيعوا إقناعي. وفي النهاية قال ذلك الضابط بعصبيّة: عاقبوا ذلك اللعين ليعلم أنّ الجيش ليس بيت أمِّه وأبيه، ليعملَ ما يحلو له، ويرتكب ما يُريد.

 

كان يوجد في المعسكر ثمانيةَ عَشَرَ مرحاضاً، يتولّى تنظيفها أربعة جنود مأمورين، وهؤلاء الأربعة، كانوا يتبدّلون في كلِّ مرّة. فتقرّر أن يكون عقابي، أن أنظِّف المراحيض جميعها وحدي.

 

عملت هذا العمل لمدّة أسبوع، وحدي، وبشكل متواصل، وفي صباح اليوم الثامن، جاء الرائد في أوّل الدوام وقال وهو يضحك منِّي ساخراً: ها، أيّها الفتى القرويّ! هل رجع إليك عقلك أم لا؟

 

لم أُجبه. ونظرت في عينيه بافتخار ورأس مرفوع. فواصل كلامه بغضب أشدّ: هل أحسست الآن بقيمة تلك النعمة أم لا؟

 

نظرت إليه بطرف عيني، فقال: وكأنّك تُحبّ أن تعود إلى هناك، لا؟

 

21


15

تراب كوشك الناعم

مسحتُ عرق جبهتي بكمّي، في الحقيقة في تلك اللحظة كان الله وإمام الزمان (سلام الله عليه) يُنزلون سكينة على قلبي رويداً رويداً. كي لا أُقامر بنفسي، وقلت بكلِّ هدوء: جناب الرائد إنّ هذه الثمانيةَ عشر مرحاضاً أمرها سهل، ولو أنّك أعطيتني دلواً وقلت لي: أفرغ كلّ هذه القاذورات الّتي في المراحيض في برميل، وخذه إلى البريّة، ويكون هذا عملي طوال مدّة خدمتي العسكريّة؛ فإنِّي سوف أقبل بكلِّ سرور، ولكنِّي لن أضعَ قدمي في ذلك المنزل.

 

فقال بعصبيّة: هذا آخر كلامك؟

 

قلت: لو قتلتموني، فلن أذهبَ إلى هناك.

 

تركوني معاقباً هناك، أُنظّف المراحيض، لمدّة عشرين يوماً. وعندما رأَوا أنِّي لن أُغيِّرَ مسلكي وفكري، استسلموا أخيراً وأرسلوني إلى كتيبة الخدمات2.

2- كانت بداية خدمة الشهيد برونسي، في تاريخ 13/6/1341 هـ.ش.

 

22


16

تراب كوشك الناعم

ابنتنا، الّتي لم يكن لها حظٌّ في الدنيا، فاطمة برونسي، وسرُّ تلك الليلة

روت زوجته "معصومة سبك خيز"

حدث هذا في سنة 1347 هـ. ش. وكان لأوائل أيّام زواجي من عبد الحسين برونسي، حلاوة خاصّة. وكنّا كلّما مضينا في حياتنا المشتركة، كنت أتعرّف أكثر على أخلاقه وروحيّته. ورويداً رويداً فهمت لماذا أقدم على الزواج بي، فوالدي كان رجل دين، وهو كان يُريد أن يتزوّج من عائلة مؤمنة وملتزمة بأحكام الدِّين.

 

كان يعمل في ذلك الوقت فلّاحاً في القرية. ولم يكن يملك أرضاً، ولا حتّى متراً واحداً، بل يعمل دائماً عند هذا وذاك. وقد كان راضياً وقانعاً بهذه اللقمة الّتي يُهيِّئها بتعبه.

 

وكان، منذ أوائل أيّام زواجنا، يملك رسالة الإمام الخميني العمليّة1. الّذي كانت رسالته تختلف عن الرسائل العمليّة الأخرى، فقد كانت صورة الإمام على غلافها، ولو أنّهم كانوا قد رأوها فإنّهم كانوا سوف يُعاقبوننا عقاباً شديداً. كما أنّ والدي كان يملك عدّة كتب للإمام{، وكان يُعيرها لبعض الأفراد ممّن يطمئنُّ بأنّهم يقرؤونها، وكأنّ الله قد هيّأ هذه الكتب لعبد الحسين.

 

وبسرعة، انتمى عبد الحسين إلى خطّ الثورة، فكان أيضاً يقوم بأنشطة أخرى في سبيل انتصارها، وعندما يعود في الليل إلى البيت، كان والدي يقرأ له الرسالة العمليّة ويقرأ له أيضاً بعض كتب الإمام الأخرى، وكأنّه في حلقة درس،

1- وهو كتاب الفتاوى بحسب رأي الإمام الخميني قدس سره .

 

23


17

تراب كوشك الناعم

 وكانت هذه الجلسات والدروس الليليّة تُذهب كلّ عناء النهار من بدنه، فكان يبدو على نظراته الشوق والاستمتاع عندما يستمع إلى دروس والدي.

 

ولم يكن يهدأ في ما يتعلّق بالثورة من أمور، ولا يعرف التساهل فيها أبداً. وذات ليلة أتى أحد رجال الدِّين الثوريّين إلى قريتنا، وألقى خطاباً ضدّ نظام الشاه، وفي الليل أتى به عبد الحسين إلى منزلنا. وتتالت هذه الأعمال منه منذ ذلك الحين.

 

ومن الجدير بالذكر أنّ جهاده ضدّ حكومة الطاغوت بدأ منذ بدأ الحديث عن الإصلاح وتوزيع الأراضي.

 

عندها كنّا قد رُزقنا بطفل، وكان صبيّاً سمّيناه حسناً، وكان بعض الفلّاحين سعداء جدّاً بسبب توزيع الأملاك. ولكن عبد الحسين كان منزعجاً جدّاً، حتّى أنِّي لم أرَ وجهه منشرحاً، منذ ابتدأ الحديث بتوزيع الأراضي، وكان يتملّكه الغضب بسبب هذه القضيّة.

 

وأمّا أنا، فأصبحت لا أعرف ماذا أفعل بالضبط، ولا كيف أُفكِّر! وقلت في نفسي: إذا كانوا يريدون أن يعطوا للفلّاحين أرضاً فهذا لا يدعو إلى الانزعاج! وكانت حيرتي تزداد عندما أرى الآخرين سعداء من هذا الموضوع. ذات مرّة كان عبد الحسين منفعلاً جدّاً، فقلت: لماذا يكون البعض سعداء بتوزيع الأراضي وأنت منزعج؟

 

فَقَطَبَ حاجبيه، ولم يُجب على سؤالي جواباً واضحاً، بل أجاب بكلام مقتضب قائلاً: كلُّ شيء سوف يخرب، يريدون أن يُنجِّسوا كلّ شيء!

 

وفي النهاية أصبح الكلام عن توزيع الأراضي قطعيّاً. وأتى إلى القرية، في يوم من الأيّام، عدّة أفراد من رجال الدولة، وداروا على كلِّ البيوت، وطلبوا من كلِّ الرجال الحضور إلى مسجد القرية، ولكن ليس بالقوّة.

 

وهنا أطلّ عبد الحسين عائداً إلى البيت، وفي نظراته توتُّر واضح، ثمّ ذهب بسرعة إلى مخزن الأغراض واختبأ في غرفة المونة، فلحقت به، وأذهلتني المفاجأةُ، فقد فهمت منه أنّه يُريد أن يختبئ هناك، فقد قال لي: إذا سألوا عنِّي فقولي: إنِّي لست هنا.

 

فتحت عينيّ من الدهشة وقلت: أقول إنّك لست هنا؟!

 

24


18

تراب كوشك الناعم

قال: نعم، قولي: إنِّي لست هنا، وإذا سألوا أين أنا فقولي: لست أدري.

 

في تلك الأيّام، كنت منزعجة جدّاً من تصرُّف عبد الحسين، وفي ذلك المكان الّذي يُريد الاختباء فيه، انفعلت كثيراً، فقلت بعتاب: ما هذا! أنا لا أفهمك! الجميع يُريد التملُّك، يأخذون ماءً وأرضاً، وأنت تختبئ؟!

 

لم يُجبني، ولم أتبيّن وجهه في ظلام المخزن، ولكنِّي علمت أنّه كان منزعجاً من عمليّة توزيع الأراضي فخرجت من هناك، ولم يمضِ عدّة لحظات، إلّا وطرق الباب، فذهبت بسرعة لأفتح الباب، وإذا بهم قد جاؤوا يطلبونه، فقلت لهم: ليس هنا.

 

فذهبوا، ولكن بعد دقائق، جاء كبار القرية يطلبونه، فرددتهم أيضاً. وفي ذلك اليوم لم يتركونا براحتنا، فقد أتَوْا من المسجد ثلاث أو أربع مرّات أخرى ليسألوا عنه وأنا أقول لهم: ليس هنا.

 

وعندما كانوا يسألوني: أين هو، كنت أقول: لا أعلم.

 

وحتّى انتهاء عمليّة توزيع الأراضي، فإنّ عبد الحسين لم تره شمس القرية. وفي النهاية قسّموا جميع الأملاك. وما زلت أذكر أنّه حتّى والده وأخاه جاءا بطلبه وكبار القرية أيضاً، وقالوا له إنّه يوجد باسمك ساعتان ملك2 تعالَ خذهم.

قال: لا أريد.

 

قالوا: سوف تبقى عاملاً عند غيرك ما دمت على قيد الحياة.

 

قال: لا ضير في ذلك.

 

ولم يكن ليرضى مهما ساقوا له من أدلّة واستدلال. بل كان يُشجِّعهم على أن لا يأخذوا من تلك الأراضي شيئاً، فكانوا يقولون: ما دخلك بنا؟ أنت دعك منّا واهتمّ بنفسك.

 

وكان آخر فرد جاء إلى عبد الحسين هو صاحب الأرض بنفسه، أي: تلك

 


2- كان القرار في تلك الأيَّام أنَّه مقدار الأرض، أي: ما يعادل سقاية ساعة ماء من 24 ساعة يقسمونها ما بين الأراضي الزراعية ـ، يقولون حسب المصطلح: ساعة ملك، وساعتان ملك، ساعتان تقسيم الماء من 24 ساعة.

 

25


19

تراب كوشك الناعم

الأرض التي أرادوا أن يُعطوها لنا. وقال له: يا عبد الحسين اذهب وخذ الأرض، الآن وقد أخذوا الأرض منّا بالقوّة فأنا راضٍ أن تكون لك، وهي أحلُّ لك من حليب أمّك.

 

ولكن عبد الحسين أجابه: أنت تعلم مقدار الأرض الّتي أخذوها من عدد من الأيتام الّذين لا وليّ لهم ودمجوها مع أراضٍ أخرى، وحتّى لو كنت أنت ترضى، ولكن حقوق الأيتام لا يُمكن التصرُّف بأيِّ شيء فيها.

 

وشيئاً فشيئاً فهمت لِمَ لمْ يقبل بأخذ الأرض. وفي يوم من الأيّام قال كلّ شيء وأوضح للجميع: أنّ كلّ ما يُعطيه الطاغوت نجاسة في نجاسة، وحرام في حرام، وأنا أيضاً لا أُريد هكذا شيء، ولا يُمكن أن أقبل بذلك، إنّ هؤلاء الطواغيت لا يُفكِّرون في مصلحتنا ولو بمقدار رأس إبرة.

 

وعندما نكون لوحدنا كان يقول: لعنة الله عليه3. أيّ بلاء سبّب للناس بسبب أعماله هذه!

 

وحصل الّذي حصل، وأصبح كثير من الناس ملاّكي أراضٍ. وشمّر عبد الحسين عن زنديه وأخذ يعمل فلّاحاً لدى هذا وذاك. وكان سنّ أوّل ولد لنا ثمانية شهور عندما حصدوا أوّل محصول من القمح، فأتى عبد الحسين إلى البيت وقال لي: منذ اليوم يجب أن تنتبهي جيِّداً.

 

قلت: أنتبه لماذا؟

 

قال:

 

أوّلاً: أنت، يجب ألّا تأكلي من بيت والدي أيّ شيء.

 

ثانياً: إضافة إليك أنت نفسك، انتبهي لحسن أن لا يعطوه قطعة صغيرة من الخبز.

 

صرخت متعجِّبة: هل هذا ممكن؟!

 

أشرت إلى حسن وقلت: ياإلهي إنّه ولدهم!! لا! أنا لست راضية، انتبه جيِّداً.

 

كانت لهجته جدية وقاطعة. وفي ذلك الوقت ذهب إلى منزل والده، ومن أجل إلقاء الحجة عليهم، قال لهم ما قاله لي. ولم يأكل هو أيضاً شيئاً من هناك منذ ذلك الحين!

 

 


3- مقصوده الشاه المخلوع.

 

 

26


20

تراب كوشك الناعم

ومرّت الأيّام، وشيئاً فشيئاً أطلّ فصل الخريف، وفي ذات يوم حضّر حقائبه وسافر إلى مشهد من أجل زيارة الإمام الرضا عليه السلام. وعلى عكس المرّات الماضية فقد أطال غيابه هذه المرّة.

 

مضى عشرة إلى خمسة عشر يوماً، عندها بدأت أقلق. وفي ذات يوم وصل منه خطاب فارتاح بالي لهذا، وكانت الرسالة باسم والدي، ففتحها، وكان كلُّ ما قرأ سطراً بدا عليه التعجُّب أكثر، وتأخّرت حتّى فهمت ماذا كتب، فأحسست بحيْرَة. وعندما أنهى والدي الكتاب رفع رأسه، ثمّ قال: لقد كتب في رسالته: إنّه لن يعود أبداً إلى القرية، وإذا أردتم أن تُرسلوا ابنتكم إلى مشهد، فأرسلوها، وإذا كنتم لا ترغبون، فإنّ كلّ شيء في المنزل وما أملك في حياتي فهو ملككم، فبيعوا كلّ ما تريدون وأمّا ولدي فأرسلوه إليّ.

 

وطوى والدي الرسالة، وعاد وقرأ عنوان عبد الحسين مرّة أخرى، وقال: في هذا الوضع الّذي وصلته القرية فإنّ الحياة فيها أصبحت مشكلة.

 

ونظر إليّ بإمعان وسكت؛ ثمّ قال: يجب أن تذهبي إلى المدينة بأسرع وقت ممكن، وأنا إن شاء الله سوف أجمع كلّ أغراضي وسوف ألحق بكم؛ إنّ هذه القرية لم تعد مكاناً لأمثالنا.

 

ومنذ ذلك اليوم بدأنا بالاستعداد، فبعنا بعض أغراضنا وأعطينا الدائنين ما لهم علينا، وأمّا بقيّة الأغراض، ممّا لم يكن له قيمة، فقد وضّبناها بشكل أو بآخر. ولم يبق علينا سوى السفر إلى مشهد. وسافرت إليها مع والده (رحمة الله عليه).

 

كان العنوان في أحمد آباد، شارع باستور. وعندما وصلنا علمت أنّ هذه المنطقة هي منطقة الأعيان (الأثرياء)، ولقد تساءلت وقتها كيف وجد هذا المكان؟

 

وأخيراً، وصلنا إلى البيت، وتفاجأت عندما علمتُ أنّ المنزل مستقلٌّ وهو لنا وحدنا، فقد كان مكاناً جَيِّداً، فيه باحة للعب الأطفال. وعندما سألت عبد

 

27

 


21

تراب كوشك الناعم

 الحسين، علمت أنّ هذا المنزل هو ملك لصاحب الأرض الّتي رفض عبد الحسين أخذها، وعندما علم أنّ عبد الحسين سيبقى في مشهد، أخذه إلى ذلك المنزل وقال: هذا المنزل هو لكم.

 

ولم يقبل عبد الحسين وقتها. ولكن صاحب المنزل قال: حسناً إبقَ هنا مجّاناً إلى أن تحصل على عمل.

 

سألته: حسناً، هل حصلت على عمل؟

 

ابتسم وقال: نعم.

 

سألته بسرعة: ما هو العمل؟

 

قال: على طرف الشارع يوجد بائع خضار، وأنا الآن أعمل هناك فعلاً.

 

ورجع والد عبد الحسين إلى القرية في نفس اليوم الّذي وصلنا فيه إلى مشهد، وبدأنا نحن حياتنا الجديدة، الّتي كان التعوُّد عليها صعباً، ولكنّنا في النهاية تدبّرنا أمرنا.

 

عمل عبد الحسين عند بائع الخضار قرابة الشهرين. وفي بعض المرّات، عندما كان يتكلّم عن عمله كنت أُحسُّ أنّه غير مسرور. وذات يوم قال: إنّ هذا العمل ثقيل عليّ كثيراً، لقد فررت من تقسيم الأراضي حتّى لا آكل مالاً حراماً، ولكنِّي هنا أيضاً أُعاني من نفس الموضوع، وليس أقلّ ممّا هو في القرية.

 

سألته: لماذا؟

قال: إنِّي أحتكُّ كثيراً مع نساء بلا حجاب، وصاحب محلِّ الخضار ليس إنساناً صالحاً، فإنّه يضع الماء على الخضار حتّى تُصبح ثقيلة الوزن.

ثمّ تأوّه وتابع: من الغد لن أذهب إلى هناك.

قلت: إذا كنت لا تُريد أن تذهب إلى هناك فماذا تعمل؟!

قال: لا تقلقي، الله كريم.

وفي صباح اليوم التّالي ذهب أيضاً ليطلب عملاً، وعندما عاد عند الظهر قال: لقد وجدت عملاً عند بائع لبن.

قلت: كم سيُعطونك أجرة؟

 

 

28


22

تراب كوشك الناعم

قال: أفضل من بائع الخضار، سوف يُعطونني عشرة توامين.

 

وهكذا! عمل عند بائع اللبن عشرة إلى خمسةَ عَشَرَ يوماً، وذات يوم بعد الظهر عاد قبل أوانه. وعندما أردت أن أسأله عن السبب، وقع نظري على عدّة يحملها في يديه، فقد كان يحمل رفشاً ومعولاً! فسألته: لماذا أحضرت هذه العدّة؟

 

قال: بعون الله وأربعة عشر معصوماً عليهم السلام سوف أذهب منذ صباح الغد إلى العمل.

 

وكنت قد سمعت أموراً عن العمّال المتجوِّلين، وأنّ عملهم متعب جدّاً. فقلت له: كان العمل عند بائع اللبن ذاك جَيِّداً، والأجرة عنده كانت جَيِّدَة أيضاً!

 

فهزّ رأسه يمْنَة ويسْرَة، وقال: هذا أسوأ من بائع الخضار ذاك أيضاً.

 

قلت: كيف؟

 

قال: يغشّ في البيع ويخلط المواد السيّئة مع المواد الحسنة ويبيعهم بقيمة عالية، وأيضاً يُخسر الميزان؛ والأسوأ أنّه يريدني أن أكون مثله! وإذا أردت أن تَخْلَصِي بنفسك يجب أن تفعلي ما فعلت!

 

ثمّ أكمل بغيظ: خبز هذا حرام أكثر من ذاك!

 

وفي صباح ذلك اليوم ذهب حسب قوله إلى العمل، عاملاً جوّالاً، وبعد ثلاثة أو أربعة أيّام جاء من عمله آخر الليل، وقال: الحمد لله اليوم تعرّفت على بنّاء سوف يأخذني معه إلى العمل.

 

قلت: وهذا كم يُعطي أجرة في اليوم؟

 

قال: عشرة توامين.

 

كان عمله صعباً إلى حدٍّ أنّه يذهب بالنفس. وعندما كنت أُقارنه بالعمل عند بائع اللبن، كان قلبي يتفطّرُ عليه. وكنت قد قُلت له هذا. فقال: هذا ليس مهمّاً، فإنّ اللقمة الّتي يتعب فيها الإنسان هي لقمة طاهرة وحلال، وأفضل بكثير من العمل عند ذاك.

 

وشيئاً فشيئاً سلك في عمل البناء، ومن ثمّ أصبح بنفسه "معلِّماً" وأصبح

 

 

29


23

تراب كوشك الناعم

يصطحب معه عاملاً، وأصبحت نتيجته أيضاً أفضل من ذي قبل.

 

في تلك الأيّام، جاءت أمُّه من القرية لزيارتنا، وأحضرت معها صرّة فيها خبز وإثنان أو ثلاثة كيلو لبنة وأحضرت لنا معها أشياء أخرى كذلك، فجمع عبد الحسين كلّ ما أتت به، وأخذه بسرعة إلى المطبخ. فقالت أمُّه: ألا تصبر ليأكل عيالك.

 

فشكرها وقال: الآن ليسوا جائعين، إن شاء الله سوف نأكل فيما بعد.

 

ولم يأكل هو، ولم يدعنا أنا وحسن نمسّهم. وما أن ذهبت أمُّه إلى الحرم، حتّى أخذ الصرّة وما أحضرته أمُّه معها إلى دكّان ووزنهم، ودفع مقدار قيمتهم مالاً لعدّة فقراء يعرفهم، وعندها فقط سمح لنا بالأكل منهم. ولم يدع أمّه تعرف عن الموضوع أيّ شيء، حتّى لا تنزعج.

 

وبقيت العجوز عندنا لعدّة أيّام. وعندما قرّرت الذهاب قال عبد الحسين، لا تذهبي إلى القرية ابقَي عندنا هنا.

 

فقالت: ووالدك، ماذا أفعل به؟!

 

قال: وهو أيضاً أُحضره إلى المدينة.

 

كان يتمنّى من كلِّ قلبه أن تبقى أمُّه عندنا، وكان أكثر ما يُحرقه موضوع الأراضي المقسّمة، ولكنّ والدته لم تقبل بالبقاء عندنا، وتوجّهت إلى القرية. وذهب عبد الحسين أيضاً إلى القرية ليعلم وجهة نظر والده. وكان هناك يجمع الشباب ويقول لهم: أيٌّ منكم يُريد الذهاب إلى مشهد ليُحصِّل العلوم الدينيّة فأنا سوف أتكفّله في معيشته.

 

رضي أهالي ثلاثة أو أربعة، فأحضرهم عبد الحسين إلى مشهد، وسجّل أسماءهم في إحدى الحوزات العلميّة، ومنذ ذلك الوقت كان يُعاملهم كأنّهم أولاده من ناحية المصروف. وبدأ هو أيضاً بتحصيل العلوم الدينيّة، فكانت أيّامه للعمل ولياليه للدرس. وفي ذلك الوقت كانت قد حميَت المواجهات جِدّاً مع نظام الشاه.

 

كنت قد حملتُ، وكان والدي ووالدتي قد أتيا للعيش في مدينة مشهد، وذات يومٍ كنت في بيت أهلي وأحسست بآلام المخاض. وكان وقتها شهر رمضان والوقت قريب

 

30


24

تراب كوشك الناعم

 المغرب. فأسرع عبد الحسين وأحضر سيّارة أجرة، فقالت له والدتي: ماذا تُريد أن تفعل؟

 

قال: أُريد أن يولد الولد في بيتنا، وأنت أيضاً تعالي إلى هناك وأنا سوف أذهب وأُحضر القابلة.

 

وكانت إحدى نساء القرية عندنا أيضاً في ذلك الوقت، وركبنا ثلاثتنا السيارة وذهبنا باتجاه البيت، وهو كان عنده درّاجة ناريّة، فذهب ليُحضر القابلة.

 

وصلنا إلى البيت. وكنت أتألّم كثيراً وأدعو الله أن تأتي القابلة بسرعة. وكنت أرى الفزع في نظرة والدتي، الّتي لم تكن لتهدأ. وعندما سمعت صوت الباب أسرعت وكأنّها تملك جناحاً لتطير. وفتحت الباب بسرعة. ثمّ عادت بعد قليل وقالت بفرح: لقد أتت السيِّدة القابلة.

 

كانت القابلة سيِّدة وقورة ومحترمة. وحسب القول الدارج فقد كانت "يدها خفيفة". فولد الطفل أسهل ممّا كنت أظنُّ. كانت طفلة جميلة، عيناها داكنتان، وكان قوامها وشكلها يبدو لي عجيباً. ولم أستطع أن أصرف نظري عن وجهها. ضحكت السيِّدة القابلة وسألت: ماذا تريدون أن تسمُّوا الطفلة؟

 

فلم أُحِر جواباً4 ولم أدر ماذا أقول. فقالت: سمّوها فاطمة، اسم جميل جدّاً.

 

هذه القابلة، لم أرَ ولم أحتكّ بمثلها ومثل أدبها. فخرجت أمِّي من الغرفة ثمّ عادت ومعها صينيّة مليئة بالفواكه فدعتها وألحّت عليها. ولكنّها لم تأكل شيئاً، قالت لها: تفضّلي، لا يصحُّ أن لا تأكلي.

 

قالت: شكراً جزيلاً، لا آكل.

 

فأحضرت أمِّي أشياء أخرى، ولكنّها لم تأكل شيئاً برغم إصرارنا عليها. وبعد قليل سلّمت علينا وذهبت.

 

كان قد مضى منتصف الليل. ووصلت عقارب الساعة إلى الثالثة. وكنّا كلُّنا

 


4- أحار الجواب: ردّه. يقال: سأله فلم يُحِر جواباً: لم يردَّ (مجمع اللغة العربيّة المعجم الوجيز عنوان: "حار").

 

31

 


25

تراب كوشك الناعم

قلقين على عبد الحسين، وكانت أمِّي تُردِّد: يا إلهي! إنسان غير مسؤول إلى هذا الحدّ؟!

 

ولكنّني كنت قلقة عليه، وأحسست بأنّ النار تأكلني، وكنت خائفة من أن يكون قد أصابه مكروه. وأخيراً! وفي الساعة الثالثة، سمعت صوت الباب، فقلت بسرعة: حتماً هو.

 

ذهبت أمِّي إلى الباحة الخارجيّة، ولم تُمهله حتّى يدخل الدار، بل شرعت تلومه، وسمعتُ صوته يقول لها:

خالتي العزيزة!

 

فقالت له قبل أن يُكمل كلامه: أرسلت القابلة وذهبت!؟ يا إلهي ألم تتوقّع أن يحصل شيء سيِّئ لا سمح الله؟

 

وبقيت أمِّي تلومه وهو يسير أمامها وهي تسير خلفه، حتّى وصل إلى الغرفة الّتي أرقد فيها مع طفلتي، عندها قال عبد الحسين: خالتي! بما أن القابلة قد أتت فماذا تريدون منّي؟

 

ولم يُعط فرصة أخرى لأمِّي لتقول شيئاً، وتوجّه بسرعة إلى مهد الطفلة، فأمسكها من قماطها ورفعها. ثم بدأ بالبكاء! كان الدمع ينهمر مثل المطر من عينيه، ولم يُبعد عينه عن الطفلة، وأخذ ينظر إليها بحيرة ويبكي.

 

حيّرني بكاؤه وسألته: لماذا تبكي؟

 

ولم يقل شيئاً، ولم يكن بكاؤه طبيعيّاً، فاعتقدت أنّه يبكي من شدّة شوقه لها. وبعد أن هدأ قليلاً قلت له: السيِّدة القابلة أرادت أن نسمِّيها فاطمة.

 

قال بصوت حزين: أنا كنت أُريد ذلك أيضاً، كنت أنوي أنّه إذا كان المولود فتاة فسوف أسمِّيها فاطمة.

 

قلت: صحيح! عبد الحسين، لقد أحضرنا إليها الفواكه والشاي، ولكنّها لم تأكل شيئاً.

 

قال: هي لا تُريد شيئاً.

 

وترك الطفلة إلى جانبي. كان حاله متغيّراً. مثل زهرة ذابلة.

 

32

 


26

تراب كوشك الناعم

وبعد انتهاء الليل بقي وضعه هو نفسه، وكان كلّما حضن الطفلة يبكي، وبعيداً عن أعيننا. كنت أعلم أنّه يعشق السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام كثيراً، وكنت أقول في نفسي: لأنّنا سمّينا الطفلة فاطمة، فهو حتماً يتذكّر السيِّدة فاطمة الزهراء ويبكي.

 

وأصبح عمر فاطمة خَمسَةَ عَشَرَ يوماً، وكان يجب أن نأخذها إلى الحمّام5 ، وقبل ذلك، كان يجب أن تحضر القابلة لتراها وتفحصها، ولكنّني كلّما كنت أطلب من عبد الحسين أن يذهب لإحضار القابلة، كان يقول: لا لزوم.

 

فقلت له: يا إلهي يجب أن تكون القابلة حاضرة.

 

فأجاب بانزعاج: القابلة لن تحضر، خذوا أنتم الطفلة إلى الحمّام.

 

ولم تُفلح مساعينا، واستقرّ رأيه على عدم الذهاب. فأخذت الطفلة مع أمِّي إلى الحمّام.

 

وبعد عدّة أيّام، كنت مع ولديّ فاطمة وحسن في البيت، وفي وسط نهار ذلك اليوم أتى عبد الحسين وقال: وضعك الصحِّي إن شاء الله جيِّد؟

 

قلت: نعم، لماذا؟

 

قال: لقد استأجرت منزلاً قريباً من بيت أمِّك، أُريد أن أجمع أغراضنا وننتقل إلى هناك.

 

اتّسعت حدقتا عينيّ جدّاً من الدهشة وقلت له: لماذا تُريد أن نذهب؟ هذا المنزل جيّد، فهو بدون أجرة.

 

قال: إنّ هذه الطفلة تبكي كثيراً، وأنت وحدك، فمن الأفضل أن تكوني قريبة من أمِّك.

 

سكتُّ قليلاً، ثمّ واصل الكلام قائلاً: أُريد أن تنتبهي جيِّداً إلى فاطمة.

 

ثمّ ما لبثنا أن جمعنا أغراضنا. وعندما علم صاحب المنزل أنّنا نُريد أن نُخلي البيت، انزعج وقال: هذا المنزل مستقلٌّ، وأنا لا أُريد منك أجرة ولا أيّ

5- في تلك الأيّام لم يكن يوجد حمَّام في البيوت وكان الناس يذهبون إلى الحمَّام العموميِّ. (المعرب)

 

33

 


27

تراب كوشك الناعم

شيء آخر، لماذا تُريد أن تتركه؟

 

قال عبد الحسين: لن نُزعجك أكثر من هذا.

 

قال: أيّ إزعاج هذا؟ لا يوجد أيُّ إزعاج لنا. ابقَ هنا، ولا تُغادر.

 

ولكن عبد الحسين بقي مصرّاً على موقفه، وكما يقولون "ركب حصانه"، وأصرّ على مغادرة المنزل، وذهبنا.

 

أصبح عمر فاطمة تسعة أشهر، ولكنّها كانت تبدو أنّها ابنة سنتين. و كان كلُّ من يراها يقول: ما شاء الله! ما أجملها.

 

كان وجهها منيراً وجذّاباً. وذات مرّة كان عبد الحسين يحضنها ويبكي، فأصرّيت عليه، وسألته: ما الّذي يُزعجك من أمر هذه الطفلة؟

 

حاول أن لا يُريني بكاءه، وقال: لا شيء! أُحبُّها، لأنّ اسمها فاطمة، فأنا أُحبُّها كثيراً.

 

وبقيت أنا لا أعلم ما هو سرّ هذه الطفلة، فإنّ ذكراها ما زالت ماثلة أمام ناظرَي واضحة مثل ضوء النهار، خصوصاً في أواخر عمرها، عندما مرضت، ولم تلبث بعد عدّة أيّام أن ماتت.

 

لقد غسلها عبد الحسين بنفسه وكفّنها ودفنها، وبنى لها قبراً مثل الكبار، ووضع عليه شاهداً، وكتب على الشاهد: (فاطمة برونسي التي لم يكن لها حظٌّ في الدنيا).

 

وبعد مضي عدّة سنوات على وفاة ابنتنا فاطمة، وبعد انتصار الثورة وشنّ الحرب العدوانيّة الصدّاميّة على إيران، توجّه عبد الحسين إلى الجبهات.

 

وكانت تمضي أحياناً مدّة طويلة من الزمان بدون أن أسمع عنه أيّ خبر، فكنت أحياناً أذهب إلى بعض رفاقه من الحرس المشاركين في الحرب، من الّذين يأتون في إجازة وأسألهم عنه. وفي ذات مرّة ذهبت لأسأل عنه أحد أفراد التعبئة، فأراني صورة فوتوغرافيّة، كانت لعبد الحسين يجلس مع بعض رفاقه المقاتلين، وقال: انظري يا حاجّة، هذا السيِّد برونسي يتحدّث عن ولادتك لفاطمة.

 

34

 


28

تراب كوشك الناعم

غضبت، وخجلت، واحمرّ وجهي، ولم أدر ما أقول، ثمّ قلت بانزعاج: ما هذا الذي يفعله السيِّد برونسي!

 

ثمّ سلّمت عليه بعد قليل وخرجت، وأنا غاضبة جدّاً. وكنت دائماً أُحدّث نفسي بعد ذلك وأقول: ما هذا التصرُّف الّذي يفعله عبد الحسين؟ يجلس ويتحدّث لرفاقه عن ولادتي لفاطمة؟!

 

وبعد مدّة عاد من الجبهة. ولم أُعطه مهلة ليرتاح، بل فتحت سيرة هذا الموضوع، وقُلت له معترضة على تصرُّفه: كيف تتحدّث مع الناس عن ولادتي لفاطمة؟!

 

ضحك وقال: هل تعرفين عن أيِّ موضوع كنت أتحدّث؟

 

لم أفكِّر في ما يقصده وقلت: لا.

 

اختفت الضحكة عن شفتيه، وبدا مكانها الحزن والغمُّ في نظرته، ثمّ تأوّه وقال: كنت أُخبرهم عن وقائع ولادة ابنتي فاطمة.

 

وفجأة، أصبحتُ فضوليّة، أُريد أن أفهم ماذا قال! وقد مضت سنوات على وفاة طفلتنا، ولكن ذكراها لم تُمح من ذاكرتي، وكنت في بعض الأحيان أقول في نفسي: لا بُدّ أن يكون هناك سرّ في ولادة هذه الطفلة، ولكنِّي لم أكن أجهد نفسي في البحث عنه كثيراً.

 

وفي النهاية أفشى لي بسرّه، ولكنّه لم يُفشِه بشكل كامل وكما أُريد. فقال: في ذلك اليوم وقبل الغروب وعندما ذهبت لإحضار القابلة... هل تذكرين؟

 

قلت: نعم، كنّا نحن قد ذهبنا إلى منزلنا.

 

هزّ رأسه، وأطرق إلى الأسفل، وسكت، ثمّ أردف قائلاً: عندما كنت ذاهباً التقيت بأحد طلبة العلوم الدينيّة، فطرأ عليّ عمل ضروريٌّ، كان هناك بيانات سياسيّة تتعلّق بالثورة يجب نشرها، وكان يجب أن أكون حاضراً؛ ولم يكن يوجد أمامي حلّ آخر6 ، فتوكّلت على الله وذهبت معه... إنّ أحداث تلك الليلة

 

 


6- نيّة الشهيد برونسي وخلوصه كانت على لسان كلِّ من يعرفه وما زالت. وكان لا يعرف الهدوء والمماطلة في العمل مع الثورة والصراع مع نظام الطاغوت، وكان من أجل الثورة ينسى أعقد مشاكله الشخصيَّة. وكان هذا أمراً طبيعيّاً بالنسبة لنا.

 

 

35


29

تراب كوشك الناعم

 طويلة. ولا أستطيع ان أقول لك إلاّ هذا فقط، ولكن في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل تذكّرت موضوع القابلة، وقلت في نفسي: يا ويلي! كان من المفترض أن أُحضر القابلة! وكنت أعلم أنّه قد سبق السيف العذل، وأنّه لم يعد بيدي حيلة، وأنّكم لا بُدّ أن تكونوا قد تصرّفتم وفعلتم شيئاً. وأسرعت إلى البيت. وعندما قالت لي أمُّك: (أرسلت القابلة وذهبت إلى عملك!) احترت عندها ولكنِّي علمت أنّ هناك سرّاً وراء هذه الحادثة، وهذه القابلة، ولكنِّي لم أُبدِ ذلك.

 

وهنا! سكت عبد الحسين، وامتلأت عيناه بالدموع، وأصدر من صدره آهة طويلة وتابع: أتعلمين أنّه لم يكن أحد يعلم بوضعنا في تلك الليلة، وأنّني أنا فقط كنت أعلم أنّني يجب أن أذهب وأُحضر القابلة، ولكنِّي لم أفعل شيئاً، يعني أنّني لم أُرسل لكم في تلك الليلة أحداً. وتلك السيِّدة الّتي أتت، من ومهما كانت، فإنّها قد أتت إلى منزلنا في تلك الليلة وحدها ولم يُحضرها أحد!

 

 

36


30

تراب كوشك الناعم

وحده مسجد القرية

حُجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

منذ عدّة سنوات، كنت ما زلت لم أبلغ سنّ السابعةَ عشرَةَ، وكنت قد سمعت الكثير عن إخلاصه، ونيّتهِ الصافية 1، وحبِّ أهلِ القريةِ له، حتّى إنّه كان عندما يعود من خدمته العسكريّة كان الجميع يستقبلونه بحرارة، وكان جميع أهل القرية حاضرين يوم زواجه. ولكنِّي قبل هذا لم أكن قد كلّمته عن قرب.

 

وذات يوم كنت أسير في طريقي إلى جانب أرض زراعيّة، وكان يعمل فيها وهو منصرف إلى عمله الّذي شغله عن كلِّ ما عداه، فكدت أطير من الفرحة عندما ناداني ورفع يده ملوِّحاً لي وقال: تعال!

 

والعجيب أنِّي كنت أخشى أن أُضيِّع هكذا فرصة.

 

لم أدرِ كيف أوصلت نفسي إليه، فسلّم عليّ ورددت سلامه وأنا متوتِّر، وترك الرفش من يده جانباً، وكأنّ هذا وقت استراحته، فجلسنا هناك معاً، وأنا يجول في رأسي ألف سؤال وسؤال، فقلت في نفسي: لا أدري ماذا يُريد منِّي؟ وأخيراً بدأ بالكلام، وأي كلام! تحدّث عن الدِّين والثبات عليه، وعن الثورة، وكيف يكون الإنسان ثائراً!

 


1- وقد كنت أيضاً قد رأيت من هذا الإخلاص والطهارة الكثير، مثلاً لقد كان لا يصلِّي إلّا في مسجد القرية. مع أنَّه لا يوجد إمام للمسجد ولا يوجد صلاة جماعة، وقد كنت قد رأيته مرَّات عديدة يصلِّي وحده، وما زلت أذكر أنَّني أحياناً كنت أنظر إليه وبدون أن ينتبه، ومن دون إرادة كنت أبكي لرؤيته بهذه الحالة وهذا الشوق.

 

37


31

تراب كوشك الناعم

ثمّ وصل إلى النصيحة، فأخذ ينصحني، ويتحدّث مثل والدٍ حنونٍ عطوفٍ مهتمٍّ، مع أنّه كان ما زال في ريعان الشباب: ما هي الأمور الّتي ينبغي أن أكون منتبهاً لها! وما الّذي يجب أن أكونه، وما هي الأعمال الّتي يجب أن أقوم بها، حتّى لا أُضيّع وقتي سدىً.

 

لم يكن لطفه على هذا النحو منحصراً بي أنا فقط، بل كان كلُّ أهلِ القريةِ يتحدّثون عنه هكذا، كلّما كانوا يجدون مناسبة للحديث في ذلك.

 

في ذلك اليوم، لم أشعر بمرور الوقت لشدّة ما أنِسْتُ به وبحديثه وبصفائه، وعندما أنهى حديثه وانتبهت لنفسي كان قد مضى ساعتان وأنا أُجالسه، ثمّ حمل رفشه من جديد وبدأ بالعمل.

 

كنت أُحبُّ أن أبقى إلى جانبه أكثر من هذا، ولكن ظننت بأنِّي سوف أُضايقه بجلوسي معه طويلاً، فلم أبْقَ أكثر، فودّعته وقد أصبحت متعلِّقاً به وعاشقاً له أكثر من ذي قبل.

 

38


32

تراب كوشك الناعم

السفر إلى زاهدان

السيِّد كاظم الحسينيّ

في سنة 53 - 54 هـ. ش، كانت في تلك الأيّام بداية معرفتي بعبد الحسين. فقد فهمت منذ أوّل صداقتنا أنّه في خط الثورة. ثمّ أخذ شيئاً فشيئاً بيدي وأدخلني معه في العمل الثوري. وأصبحت، بعد مدّة، أعرف بعض الوجوه المشهورة في الثورة، حيث كنّا كثيراً ما نستمع إليهم.

 

وكان في بعض الأحيان يعتمد عليّ في القيام ببعض الأعمال، فأتى إليّ ذات يوم وقال لي: أنا مسافر! هل تذهب معي؟

 

سألته: إلى أين؟

 

قال: إلى زاهدان.

 

كان عندي يقين بأنّه ليس ذاهباً إلى زاهدان من أجل النزهة، وكنت أعلم أنّ هناك عملاً ما. فسألته: مأموريّة جديدة إن شاء الله، أليس كذلك؟

 

فقال ببرودة أعصاب: لا، هكذا، هو مجرّد حبٍّ للسفر! أُريد أن نذهب للتنزّه.

 

كان عميقاً جدّاً في حفظ الأسرار، وفي تلك الأوقات لم أكن لأستطيعَ أن أسحب منه أيّ معلومة عن العمل. فقُلت: لنذهب، لا مانع.

 

نظر إلى وجهي بتمعُّن، وابتسم وقال: قصّر لحيتك جيِّداً واترك شاربيك طويلين.

 

قلت: على عيني.

 

 

39


33

تراب كوشك الناعم

قال: إذن اجمع أغراضك سوف آتي لأصطحبك.

 

ودّعني وذهب. ثمّ عاد بعد عدّة ساعات وهو يحمل معه صفيحة من السمن، فسألته: ماذا تُريد أن تفعل بهذه؟

 

قال: هكذا! ربما تلزمنا.

 

وذهبنا معاً إلى منزل أحد رجال الدِّين الّذي كان ممثِّل الإمام في قبض الأموال الشرعيّة في خراسان. ووقفت خارج المنزل أنتظره ودخل هو إلى البيت، وعاد بعد عدّة دقائق وقال: هيّا بنا.

 

ذهبنا إلى المحطّة وركبنا إحدى الحافلات المتوجِّهة إلى زاهدان، وانطلقنا.

 

استأجرنا غرفة في أوّل نُزُل صادفنا فور وصولنا إلى زاهدان، وبمجرّد دخولنا إلى الغرفة، حمل صفيحة السمن وقال: ألا تريد شيئاً؟

 

فسألته بتعجُّب: إلى أين؟

قال: سأذهب إلى مكان، وسأعود بسرعة.

ثمّ سكت. وفكّر قليلاً وتابع حديثه: إذا أنا تأخّرت فلا تقلق.

قلت: ألا تُريد أن تقول لي إلى أين أنت ذاهب، بصفيحة سمنتك هذه؟

فقال بشكل ثابت وهادئ: لا.

وتوجّه ناحية الباب، فقلت: على الأقل ابق قليلاً حتّى يرتاح بدنك من تعب السفر.

قال: لست تعباً كثيراً.

وعندما وصل إلى جانب الباب التفت إليّ وقال: تذكّر يا عزيزي يا سيِّد أنّني إذا تأخّرت فلا تقلق، يعني لا تذهب إلى الشرطة أو أيّ مكان آخر.

وسلّم عليّ وذهب.

 

عاد بعد يومين تماماً! ولم تكن صفيحة السمن معه. ولا تسل عمّا عانيته في هذه المدّة، دعنا. ولكن لم يمض على وصوله الكثير حتّى قال: هيّا اجمع الأغراض سوف نذهب.

 

قلت: نذهب؟ هكذا بكلِّ بساطة!

 

 

40


34

تراب كوشك الناعم

قال: نعم، هيّا نذهب.

 

فقلت، وأنا ألمز من طرفٍ خفيّ: يا للعجب كم تنزّهنا!

 

كنت قد علمت أنّ وراء الأكمة ما وراءها. فقلت: ما القصّة يا سيِّد برونسي؟ قل لي.

 

ولم يقل شيئاً. ومهما أصرّيت عليه وقتها حتّى أعرف شيئاً، فإنِّي لم أحصل على أدنى معلومة. وفي النهاية قُلت: يعني أنت لا تثق بي.

 

قال: إذا كنت لا أثق بك فإنِّي لم أكن لأصطحبك.

 

قلت: إذن لماذا لا تقول أين كنت؟

 

قال: الآن! لا مصلحة في ذلك.

 

حملت حقيبتي وسرت معه إلى المحطّة. وهناك اشترينا بطاقة إلى مشهد وركبنا الحافلة. وفي الطريق، مهما حاولت أن أعرف شيئاً عن حقيقة العمل، لم أحصل على فائدة، ولم يقل شيئاً.

 

وحتّى وقت قريب، قبل انتصار الثورة، حاولت لعدّة مرات أن أسأله عن هذه القضية، ولم يكن لينطق بحرف. لقد كان بالنسبة إلى حفظ الأسرار بئراً عميقاً لا قرار له ؛ وإذا كان لا يُريد أن يقول فإنّه لن يقول. وحتّى السافاك لم يكونوا ليستطيعوا أن يأخذوا منه سرّاً.

 

ذات مرّة قبض عليه السافاك وكسروا له أسنانه واحداً واحداً، وآذَوْه ألف أذيّة، ولكنّه لم يقل ولا كلمة واحدة ولم يستطيعوا أن يُخرجوا من فمه حرفاً واحداً.

 

وفي النهاية انتصرت الثورة، وبعد ذلك بوقت قليل، فتحت التعبئة مركزاً لها باسم مركز الأخوات، وأصبح برونسي مسؤول الحرس هناك، وأعطَوْه مسؤوليّة المركز والحرس فيه، فذهبت لرؤيته ذات يوم، وقد صادف وقت استراحته. كان جالساً في غرفته وكأنّه كان ينتظرني، فسلّمت عليه وسألته عن أحواله وجلست إلى جانبه. وكنت ما زلت أحسُّ بالفضول نحو موضوع سفرنا إلى زاهدان، فقلت له: الآن وقد انتهى الموضوع وانتصرت الثورة؛ قل لي الآن ما كان الموضوع؟

 

41


35

تراب كوشك الناعم

فتفاجأ! ماذا أقول؟ ثمّ ضحك ووضع يده على كتفي، وقال: الآن وبما أنّ الخطر قد زال، فسأقول لك.

 

واستطرد قائلاً: أنت تعلم أنّه في ذلك الوقت كان السيِّد علي الخامنائي قد أُبعد إلى إحدى قرى إيرانشهر، وفي ذلك الوقت كُنت أحمل له رسالة كان يجب أن أُسلِّمها له يداً بيد.

 

فازداد فضولي لبقيّة القصّة وقُلت: وهل إيصال رسالة يطول يومين!

 

قال: صحيح ما تقول، ولكن جدّ عليّ عمل آخر.

 

فسألته: وما هو هذا العمل؟

 

قال: عندما أعطيت الرسالة إلى السيِّد، أخبرني السيِّد أنّه بين الغرف الداخليّة والغرفة الّتي تجري فيها المقابلات يوجد فتحة يستطيع السافاك مراقبة كلّ من يروح ويجيء، ويحصون علينا حركتنا ويُصوِّرون كلّ من يأتي إلى هنا، وقال لي: إذا كنت تستطيع أن تفعل شيئاً لمنع هذه المراقبة فافعل، وسوف يكون هذا أفضل.

 

ففهمت ماذا يقصد السيِّد، وهو أنّني إذا بنيت حائطاً فإنِّي سوف أحجب الرؤية عن السافاك. فبدأت بالعمل بسرعة، وأحضرت الحجارة ولوازم البناء الأخرى وبنيت حائطاً، وقد استغرق هذا منِّي مدّة يومين.

 

فقُلت ضاحكاً: إذن صفيحة السمن أخذتها إلى السيِّد؟

 

قال: نعم حتماً.

 

سألت: ألم يوقعك السافاك.

 

قال: لقد احتمل السيِّد أن يأخذوني إذا أتوا، وقُلت له: عندما يأتون سوف ألفُّ رأسي بكوفيّة، ولا أظنُّ أنّهم سوف يعرفوني، ولكنّ السيِّد لم يرض، وأخرجني من طريق آخر حتّى لا أقع بيدهم.

 

عندها بردت نار فضولي، لقد كان كلام عبد الحسين دليلاً ثابتاً على ثباته وقوّته، وعلى إثبات أنّه حافظٌ للسرِّ1.

 

 


1-  أخبر هذه الخاطرة قائد الثورة المعظَّم في عيد النوروز سنة 1375 عندما أتى إلى منزل الشهيد الكبير الحاج عبد الحسين برونسي وقابل عائلته.

 

42

 


36

تراب كوشك الناعم

تجمّد

حجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

كُنت أملك خمسين متراً في زقاق الطلّاب، وكانت أرضاً مشاعاً، ولهذا لم يسمحوا لي أن أبني فيها بيتاً، وكانوا يقولون لي بوقاحة: يجب أن تدفع رشوة حتّى تتمّ المعاملة وحتّى يُنجز عملك.

 

فمن جهة لم أكُن راضياً بهذا، ومن جهة أخرى كان يجب أن أبني بيتاً، ولكنّهم لم يسمحوا لي، وكان هواء الشتاء البارد يضغط عليّ أكثر.

 

وفي النهاية صمّمت على أن أبني حائطاً حول الأرض. فذهبت إلى المعلِّم عبد الحسين وأخبرته بالموضوع، فقال: سوف أدعو بنّاءً آخر، وأنت سوف تُساعدني أيضاً، وإن شاء الله سوف نُنهيه في ليلة واحدة.

 

لم أكن أظنُّ أنّه سوف يوافق بهذه السرعة، وأيضاً في جوِّ الشتاء القارص.

 

وعندما حلّ الليل، وكنّا قد أحضرنا كلّ ما نحتاج إليه، وبعد صلاة المغرب أتى شخص آخر وبدأنا ثلاثتنا بالعمل.

 

لقد كان عبد الحسين يعمل أفضل وأجود من الجميع، وكأنّه لا يعرف التعب. لقد كان معلِّماً في مهنته، وأنا كنت أعلم بأنّه يعرق كثيراً ويتعب في تحصيل معاش عائلته وكأنّه مجاهد في سبيل الله. ولم يكن ليعطِّلَ عمله في البناء حتّى في أحرّ أيام الصيف.

 

ومضى نصف الليل، وكنت أجبل له الطين وآخذه له، وكان البخار الأبيض يخرج من فمي أسرع وأسرع. ومن شدّة البرد تجلّدت أصابع يدَيّ وقدميّ وكأنّها

 

 

43


37

تراب كوشك الناعم

 لم تعد لي، ولم أعد أحسُّ بها. وتجمّدت أيضاً أذناي ورأس أنفي إلى درجة كبيرة.

 

ثمّ ألقيت نظرة على العامل الآخر، فرأيته يتلوّى، وفجأة وقع على الأرض مثل شجرة يابسة قد كسرت! فركضت ناحيته، ثمّ أتى نحونا عبد الحسين، الذي قال يومها، وربما حتّى لا أقلق: لا تهتمّ، لا يوجد شيء، فقد تجمّد بدنه.

 

ثم بدأ بتدليك بدنه، وأنا أساعده. وبعد عدّة دقائق عاد العامل إلى حالته السابقة، ثم أخذ يستوي جالساً على الأرض. وعندما تحسنت حاله، قام، وقال بانزعاج وعصبيّة: أنا لن أعمل بعد الآن، في أمان الله!.

 

وذهب، وتركنا! حتّى إنّه لم ينظر خلفه.

 

نظرت إلى وجه عبد الحسين نظرة قلقة. فإذا كان سوف يتركني هو أيضاً فإنِّي سوف أقع في مشكلة كبيرة. فابتسم. ووضع يده على كتفي وقال: لا تنزعج، إن شاء الله سوف أقوم بعمله هو أيضاً...

 

كان عندما يبني بيتاً لأحد فكأنّما يبني بيتاً لنفسه. فقد كان الإخلاص في عمله عقيدة عنده، لأنّ عقيدته عندما يعمل أن يعمل بكلِّ كيانه. وكان عمله متقَناً جدّاً، فعندما كان يبني بيتاً فإنّه يكون بيتاً بكلِّ معنى الكلمة، حتّى أنّه كان قليلاً ما يبقى عامل معه لمدّة طويلة. وكان يقول دائماً: إنّ اللقمة الّتي آكلها يجب أن تكون حلالاً.

 

وكان يقول: يوم القيامة يجب أن يكون صاحب العمل مديوناً لي، لا أن أكون أنا مديوناً لصاحب العمل.

 

ومن أجل هذا يكون هو أوّل الواصلين إلى العمل، وكان يترك العمل آخر الجميع.

 

وفي تلك الليلة عمل بجدٍّ إلى ما يقرب من وقت السحر. وأما أنا فلم يعد بي رمق. ولكن عبد الحسين كان وضعه طبيعيّاً، فابتسم، وابتسمت معه. الآن قد ارتاح بالي.

 

 

44


38

تراب كوشك الناعم

لعاب الهُدهُد

السيِّد كاظم الحسيني

كنت أملك دكّاناً قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بثلاث أو أربع سنوات. وبسبب مرور عبد الحسين من ذلك الطريق فقد عرّفني بالثورة والثوّار. وجعلني أقوم بأعمال وتحرّكات ثوريّة كثيرة، وكما يُقال، فقد كنّا نستفيد من خلال كسب الأجر. وذات يوم جاءني وقال: يا سيِّد! أُريد أن أكلِّفك اليوم بعمل كثير.

 

فاعتقدت أنّ هذا العمل شبيه بالأعمال الماضية، فقلت باسماً: لقد شرعنا حتّى الآن في العمل، واليوم ما زلنا نعمل.

 

فابتسم وقال: أرجو أن تثبت اليوم.

 

فقلت واثقاً: الامتحان مجّاناً.

 

فوضع يده على الميزان من وسطه واقترب منِّي قليلاً. كمن يُريد أن يهمس، وقال: إذن أحضر ثياباً قديمة وتعال معي.

 

سألته: ثوب قديم! لماذا؟

 

ابتسم وقال: إذا كنت ما زلت ثابتاً، فيجب ألّا تسأل لماذا ولأيِّ سبب.

 

لقد كان عمله معلِّم بناء، فظننت أنّه يُريد منِّي أن أعمل معه في البناء. وعلى كلِّ حال لم أهتمّ كثيراً، وأحضرت ثياباً قديمة وأقفلت الدكّان وذهبت معه.

 

لقد كان ظنِّي في محلِّه؛ لقد كان العمل بناءً في بيت أحد العلماء المعروفين، من أولئك الّذين يواجهون النظام الطاغوتيّ والنظام يُزعجهم كثيراً. فشمّرت عن ساعديّ وبدأت معه العمل. وحسب قوله، فلم أكن ثابتاً كفاية. فما إنْ شرعت

 

45

 


39

تراب كوشك الناعم

 في العمل حتّى تعبت، ولكنِّي بأيِّ حال صمدتُ لمدّة ساعتين أو ثلاث. ولكنِّي بعدها جلست فجأة، تَعِباً، وبدون قدرة على الاستمرار، وقُلت: أنا لم أعد أستطيع.

 

كان يعلم جيّداً أنّه لا طاقة لي على عمل البناء وعلى مثل هكذا أعمال ثقيلة. ربما لأجل هذا لم يهتمّ كثيراً. وحتّى عندما بدّلت ثيابي وأردت أن أذهب، ودّعني بابتسامة وحسن خُلُق.

 

وفي اليوم التّالي أتى إليّ وقال: أحضر ثياب عملك وهيّا نذهب.

 

للحظة احترت ماذا أقول. ولكنِّي قلت بعدها كلاماً بين المزاح والجِدِّ: أرجوك، أتوسّل إليك! في الحقيقة إنّ جسمي لا يتحمّل هكذا أعمال.

 

فابتسم وقال: هيّا نذهب، اليوم لن أُعطيك عملاً متعباً زيادة.

 

لم يكن لي ميل ولا للحظة أن أردّ كلامه، ولكن لا طاقة لي على القيام بهذا العمل. فكنت أفتِّش عن عذر، فأخذت أحكُّ رأسي.

 

فقال: لا فائدة من التلكُّؤ وحك الرأس، هيّا اذهب وأحضر ملابس العمل.

 

لقد كان يتكلّم بكلِّ جديّة وصرامة. وكنت قد صمّمت على أن أقول ما في نفسي بكلِّ صراحة، قُلت: يا سيّد برونسي، إذا كنتُ سوف آتي معك فإنِّي سوف أعمل بشكل بطيء؛ وهذا العمل لن أكسب فيه أجراً كبيراً، وفي نفس الوقت سوف أُربكك في عملك.

 

فاختفت الابتسامة عن شفته، وقَطّبَ ما بين حاجبيه وضرب لي مثال الهُدهُد الّذي أراد بريقه أن يُطفئ نار النمرود، تلك النار الّتي كانت تشتعل بذلك الجبل من الحطب الّذي أشعلوه ليُحرقوا به النّبيّ إبراهيم عليه السلام. فربط هذا الموضوع بشكل جميل جِدّاً ومنطقي بموضوع الثورة وقال: كلُّ عمل تستطيع أن تقوم به من أجل هؤلاء العلماء المجاهدين، فله قيمة وهو مؤثِّر.

 

ثمّ سكت. كنت أستمع إليه بكلِّ حواسّي وكُنت أحسُّ باللذة من كلامه. ثمّ تابع وقال: في الحقيقة إنّ العلماء الآن يعملون على خدمة الإسلام ورفعته، وخدمتنا لهم، وعملنا من أجلهم في الواقع، هو عمل في سبيل الله، ومن أجل رضا الله، ومن أجل الإسلام.

 

46


40

تراب كوشك الناعم

الحكم بالإعدام

معصومة سبك خيز

لقد كان محتاطاً جدّاً، ويهتمُّ بكلِّ شيء، وكان إذا أراد أن يستمع إلى شريط مسجّل، فإنّه يأتي مع بعض أصدقائه من طلبة العلوم الدينيّة، ليستمعوا إلى الأشرطة الّتي كانت حسّاسة جِدّاً، وفيها توجيهات الإمام الخمينيّ. وكنّا في ذلك الوقت نسكن بيتاً بالأجرة. كنّا نَشْغَل السرداب، وصاحب البيت يسكن في الطبقة العليا. وكان عبد الحسين يتوجّه مع أصدقائه إلى الغرفة الخلفيّة ويقول لي: عندما يطرق أحد على الباب تعالَيْ وأعلمينا حتّى نوقف آلة التسجيل.

 

في البداية لم أكن أعلم ما هي خطورة الموضوع، فأسأله: لماذا؟

 

وكان يقول: كلُّ من يُمسكون به يستمع إلى هذه الأشرطة يقبضون عليه! ويجازونه! ويأخذونه إلى السجن!.

 

وفي بعض الأحيان، عندما كان يصل بيانٌ سياسيٌّ من الإمام، كان يذهب مع نفس طلبة العلوم الدينيّة إلى تلك الغرفة، وينسخون بيان الإمام قدر استطاعتهم. وكان عبد الحسين يذهب في الليل ويوزِّعها، فكان قليلاً ما ينام، وحتّى هذا النوم القليل لم يكن له وقت محدّد.

 

ولم يكن ليُغادر المنزل بدون أن يغتسل غُسل الشهادة. وحتّى إذا أراد أن يذهب إلى عمله في البناء، كان يغتسل غُسل الشهادة أيضاً. وكان يقول: إذا حصل ومتُّ، فيكون لي أجر الشهيد إن شاء الله.

 

47


41

تراب كوشك الناعم

كان يعمل في النهار، و يدرس1 في الليل، وكان يتعب كثيراً في نشاطه مع الثورة.

 

لا زلت أذكر، تلك الليلة، حين أتى إلى المنزل مع نفس الطلبة. كان معه عدّة أشرطة تسجيل وقال: إنّها للإمام، وصلت الآن من باريس.

 

وحسب العادة ذهبوا إلى تلك الغرفة وجلسوا أمام آلة التسجيل. وطال عملهم، وبلغت الساعة الحاديةَ عشَرةَ، ومازالوا يستمعون إلى الشريط والنور في الباحة الخارجيّة مضاء، وكانت صاحبة المنزل قد فرضت علينا برنامجاً بإطفاء هذا النور كلّ ليلة عند الساعة العاشرة ليلاً، وهي امرأة عصبيّة وغير مهذّبة، فأصابني القلق والتوتُّر، خوفاً من أن يرتفع صوتها.

 

وعندما خرجْتُ أتفقّد الباحة الخارجيّة، ظهرت صاحبة المنزل فجأة، وتوجّهت رأساً إلى علبة الكهرباء وأقفلت المفتاح الكهربائيّ! ثمّ أتت إلى ناحية السرداب، وقد همّت بالصراخ. وقالت: أتُريدون أن تَبْقَوْا إلى الصباح مستيقظين وتستمعون إلى كلِّ أنواع الأشرطة؟!

 

كان صوتها عالياً جدّاً ومزعجاً. فوصل عبد الحسين وقال: هل أزعجناك، أيّتُها السيدة؟

 

كان ينظر إلى الأرض، ولم يكن ينظر في وجهها، فقالت: وهل يوجد إزعاجٌ أكثر من هذا؟!

 

فاعتقدت أنّها منزعجة وغاضبة بسبب إضاءة النور في الباحة الخارجيّة. فخرجت وقُلت لها: حسناً نحن نُقفل المفتاحَ الكهربائيّ، وسوف نُطفئ النور.

 

وهممت بالتوجُّه إلى علبة الكهرباء، ولكنّها منعتني، ثمّ قالت فجأة: لم نعد نتحمّل أعمالكم هذه.

 

قُلت: أيّ أعمال؟!

 

قالت: هذه الأعمال الّتي تقومون بها ضدّ الشاه.

 

وكأنّ قلبي قد هبط إلى ما بين قدميّ! لم أعلم من أين فهمت الموضوع. قال لي عبد الحسين: تعالَيْ ادخلي.

 

 


1-  كان الشهيد برونسي ولمُدَّة خمس سنوات، إلى جانب العمل ويومياته، يتلقَّى دروساً حوزويَّة.

48


42

تراب كوشك الناعم

فدخلنا وأقفلنا الباب ولم نقل أيّ شيء.

 

وعندما أراد الخروج من المنزل صباحاً لم يأخذ أغراضه معه. فسألته: ألّا تُريد الذهاب إلى العمل؟

 

قال: لا! أُريد أن أفتِّش على منزل، فهذا المكان لم يعد مكاننا.

 

وعندما عاد ظهراً سألته: ماذا حصل؟ هل وجدت منزلاً؟

 

قال: نعم.

 

قلت: ما هو موقعه؟

 

قال: سرداب، في زقاق الطّلاب.

 

وبعد الظهر ذهبنا إلى بيتنا الجديد، وعندما رأيت السرداب، لم يكن ينقص إلّا أن أصرخ من شدّة الخوف! فقُلت والحيرة تملؤني: عبد الحسين ما هذا المكان؟!

 

ابتسم بكلِّ حبٍّ وقال: هذا المنزل لأحد الطلّاب، وتقرّر أن نُقيم مؤقّتاً في سردابه حتّى أستطيع أن أؤمّن مكاناً يكون لنا.

 

كانت ظلمته تزيد من خوفي، وكدت أبكي، فقُلت: لو أنّك لحقت بهرّة لتضربها وهرَبَتْ، هل تأتي إلى هذا المكان لتعيش فيه؟!

قال: لا تصعِّبي الأمور أكثر، لا مشكلة فيه من أجل العيش مؤقّتاً.

وفي النهاية بقينا في هذا السرداب المظلم والمخيف.

وبعد عدّة أيّام اشترى أربعين متراً من الأرض في تلك النواحي. وشمّر عن ساعدَيْه وبمساعدة بعض الطلبة بدأ ببناء البيت.

لقد عملوا ليلاً ونهاراً. وبسرعة بنوا حائطاً حول الأرض وطيّنوه أيضاً. كان البيت ما زال مبنيّاً بالآجُرِّ2 والطّينِ وغيرَ مطيّنٍ من الخارج عندما انتقلنا إليه مع أغراضنا وما نملك. ثمّ عمل لعدّة ليالٍ أخرى حتّى أصبح يُمكننا العيش فيه. لقد كان البيت صغيراً جدّاً. لم يكن فيه أكثر من غرفة. وضعنا ستارة في

 

 


2- الآجُرُّ (بضم الجيم وتشديد الراء): لفظ معرَّب واحدته: آجُرَّة. الطين يُشوى بالنار ويُستخدم في البناء. ويُعرف باللبن المشوي والقرميد.

 

 

49


43

تراب كوشك الناعم

 وسطها. وكنّا عندما يأتي الليل نبقى نحن في هذا الطرف من الستارة، وهو ورفاقه الطلبة في الطرف الآخر.

 

ثمّ شيئاً فشيئاً توسّعت أعماله أكثر، وكان يوزِّع بيانات أكثر من ذي قبل ويلصقها على الجدران، وحتّى إنّه أعطى مالاً لشخص في زاهدان فاشترى له مسدّساً، وعندما سألته: ماذا تُريد من هذا؟

 

قال: عندما ترين أن وضع الثورة قد يتطوّر إلى هذه الأشياء، فيجب أن لا تكون يدنا خالية.

 

وعندما كان يذهب ليوزِّع البيانات، كان يقول: إذا جاء مأمورو الشاه ليسألوا عنِّي فقولي لهم: إنّ زوجي معلِّم عمار، وقد ذهب إلى عمله، ولا علم لي بأيِّ شيء آخر.

 

ذات ليلة ذهب ليوزِّع البيانات، ولم يعد. فلم يهدأ لي بال. وبقيت حتّى الصباح أذرع البيت عدّة مرّات نحو الباب، وحتّى إنِّي خرجت إلى الزقاق لأرى علّهُ أتى، ولكن ما من خبر عنه. وكلّما كان يمضي الوقت كنت أتأكّد أكثر أنّه قد وقع بيدهم، وكنت قد سمعت عن وحشيّة السافاك بعض الشيء. ممّا كان يزيد من اضطرابي.

 

وفي الصباح أخبرت رفاقه بالموضوع، فقالوا: سوف نذهب ونبحث عنه، إن شاء الله سوف نجده.

 

وفي ذلك اليوم لم يحصلوا على خبر عنه. وبحثنا في الأيّام التالية، ولم نقع على خبر. وكنّا سوف نقطع الأمل، لكنّه ظهر فجأة! وكان ظنُّنا في محلِّه، كان السافاك قد قبضوا عليه، وبعد عدّة أيّام تركوه، ولا أذكر تماماً كيف جرى ذلك.

 

كان قد وصل للتوِّ بيان من حضرة الإمام! وطلب فيه من الناس أن ينزلوا إلى الشوارع ويتظاهروا ضدّ الشاه.

 

كان عبد الحسين يعمل في "مفرق جهنو"، وكان يصلح منزل غياثي، ولم يذهب في ذلك اليوم إلى عمله، ربما لأنّه كان يعلم أنّ قرار التظاهر قد صدر، فقد اغتسل غسل الشهادة، وعندما كان يستعدُّ للخروج كان متحمّساً كثيراً. فقد جمع أشرطة الكاسيت الخاصّة بالإمام ووضعهم مع رسالته العمليّة وعدّة كتب جانباً، وقال لي: في أيّ وقت ترين أنِّي تأخّرت، أخفي كلّ هذه الأشياء. في أمان الله! وذهب.

 

50


44

تراب كوشك الناعم

اجتمع الناس في حرم الإمام الرضا عليه السلام وأخذوا يُطلقون الشعارات ضدّ الشاه. وحتّى الظهر لم تكن قد أتت أخبار سيِّئة عنه. كانوا يقولون: إنّ مأموري الشاه المتوحِّشين قد قاموا بمذبحة! وقد أطلقوا النار حتّى في حرم الإمام عليه السلام ، وقتلوا الكثير واعتقلوا الكثير أيضاً.

 

أصبحت قلقة جدّاً وقلبي يغلي عليه، وازداد قلقي بسبب الأشرطة أيضاً.

 

مضى يوم أو يومان، ولم أسمع عنه أيّ خبر، ولم أستطع السكوت أكثر من هذا. وبدأت بالعمل، فأخذت أوّلاً رسالة الإمام الخميني إلى منزل أخيه، فنزع بلاطة من أرض الباحة الخارجيّة وأخلى التراب من تحتها ووضع الرسالة العمليّة هناك وأعاد البلاطة إلى مكانها.

 

ثمّ عدّت إلى البيت، وفكّرت فيما ينبغي أن أفعل بالكتب والأشرطة، فتذكّرت أحد جيراننا وكان ولدهم عاملاً عند عبد الحسين، وقُلت في نفسي أتوكّل على الله وآخذهم إلى هناك، لم يكن أملي كبيراً ولكن ربّما قبلوا.

 

وعلى عكس ما كنت أظنُّ، فقد استقبلوني استقبالاً حسناً وأخذوا كلّ ما كان معي وقالوا لي: إطمئنِّي، سوف نُخبِّئهم.

 

مضى سبعة إلى ثمانية أيّام. ولم أسمع عنه أيّ خبر، وفي تلك المدّة كان أعوان الشاه قد آذَوْنَا كثيراً بشكل أو بآخر. وفي بعض الأوقات كانوا يقولون لي بكلِّ ثقة: لقد أعدموه، وحتّى جنازته لن تروها، أتظنُّون أنّ أحداً يستطيع أن يُعارض الشاه؟!

 

وفي النهاية جاء أحدهم إلى منزلي وقال: المعلِّم عبد الحسين ما زال حيّاً.

 

كان من الصعب عليّ أن أُصدِّق، سألته بشكٍّ وحيرة: أين؟

 

قال: في سجن وكيل آباده3 ، وإذا كُنت تريدين أن تحرِّريه، فيجب أن تدفعي ألف تومان نقداً، أو أن تأخذي سند منزل.

 

انقبض وجهي أكثر، فنحن كنّا لا نملك هذا المقدار من المال، ولا يوجد لمنزلنا سند.

 


3- سجن في مدينة مشهد معروف بالسجن الفوقاني.

 

51

 


45

تراب كوشك الناعم

ذهب ذلك الرجل، وكانت الهواجس تأكلني ويسيطر عليّ ألف فكر وخيال، كنت أدعو الله أن يهديني إلى حلٍّ، وقلت في نفسي: إلى من أذهب لأطلب منه هذا المقدار من المال أو سند منزل؟

 

كلّما كُنت أفكِّر بأحد بأنّه يُمكن أن يُساعدني على الحلِّ، كنت أصل إلى طريق مسدود. ثمّ إذا كان أحد سوف يرضى بهذا العمل، فقد كان من الصعب أن يأتي إلى السجن خوفاً من الوقوع في أيديهم، إنّ هذا غير ممكن، وهو أمر صعب جدّاً. فكانت آلاف الأفكار تتزاحم في رأسي.

 

وذات يوم وأنا في هذه الحيرة، طُرقَ الباب، وضعت الشادور على رأسي وأمسكته بإحكام وخرجت. كان رجل غريب يقف جانباً وقال بتوتّر: سلام.

 

فرددت السلام بصوت منخفض، فقال: عذراً يا سيِّدة، فأنا غياثي، والمعلِّم عبد الحسين يعمل في منزلي.

 

أخذت نفساً عميقاً وارتحت، وتابع: أردت أن أعلم لماذا لم يأتِ في هذه الأيّام إلى العمل؟

 

خنقتني الغصّة، وكنت سوف أبكي من شدّة الهمِّ والحزن، وكيفما كان، فقد أخبرته بما جرى، فقال: لا تقلقي فمنزلي به سند، وسوف أذهب اليوم وبإذن الله سوف أُحرِّره.

 

ثمّ ودّعني وذهب بسرعة، وكدت أموت من شدّة السعادة. وأخذت أدعو الله أن يعود صحيحاً سالماً بأسرع وقت.

 

كان الوقت يقترب من الظهر عندما سمعت الأصوات ترتفع في الحي. فحملت طفلتي الصغيرة وخرجت بسرعة. لقد كان صاحب الدكّان في أوّل المفرق قد حمل علبة حلوى، وبسعادة كان يوزِّع على الجميع. تقدّمت إلى الأمام فوقع نظري على عبد الحسين. فتسمّرت في مكاني! ووقفت للحظات مبهوتة ومصدومة؛ أهذا هو عبد الحسين لعدّة أيّام خلت!

 

كان قوامه يبدو أكبر كثيراً من ذي قبل. كان يبدو على وجهه الانكسار وكأنّ فمه قد صغُر حجمه أكثر من ذي قبل. كان الجيران يُطلقون الصلوات ويُعبِّرون عن

 

52

 


46

تراب كوشك الناعم

سعادتهم. ولكنّه كان يبدو مهموماً ولم ينبس ببنت شفة. ثمّ تسلّل من بين الناس ببطء ودخل رأساً إلى المنزل. ثمّ دخلت خلفه، فقال: أقفلي الباب.

 

أقفلت الباب، فأتيت ووقفت أمامه. وكان كأنّه قد كبر وشاخ عدّة سنوات. فتح فمه ليتكلّم، فرأيت أنّ بعض أسنانه غير موجودة! قال: ماذا؟ أسعداء بهذا؟ توزِّعون الحلوى؟

 

قُلت: أنا لم أوزِّع الحلوى.

 

ثمّ أخرج آهة من أعماق قلبه وقال: يا ليتني استشهدت!

 

قال هذا وذهب إلى الغرفة. ثمّ أتى بعض أفراد العائلة، فسلّم عليهم وردّ السلام ثمّ ذهب إلى الحمّام.

 

في ذلك اليوم وحتّى الليل لم يُجب على أسئلتي، ولم يقل شيئاً عمّا حصل معه، وتحسّنت حاله قليلاً. وفي الليل، جاء رفاقه الطلبة وجلسوا يتحادثون. وفهمت منه من خلال كلماته، أنّه أتى على ذكر اسم أحد الضبّاط وقال: لقد وضع السلاح خلف رقبتي، وقيّدوني من يَديّ ورجلَيّ، ووقف أحدهم أمامي وأخذ يلطمني على وجهي لمرّات متكرِّرة ويقول: يا محروق الوالدين، أين الّذين كانوا معك، أين هم؟

 

وكنت أُجيبهم: لم يكن معي أحد.

 

ثمّ التفت إليّ ذلك الضابط وقال: انظروا إلى محروق الوالدين هذا، كلُّ هذا الضرب ولا يتغيّر لون وجهه!

 

وفي النهاية كفر من كثرة عصبيّته، ثمّ بدأ يضربني بقبضاته، يُريد أن يكسر لي أسناني.

 

كان عبد الحسين يضحك وهو يُخبر عن وحشيّة السافاك، وكُنت أبكي بهدوء. لقد كانوا قد كسروا له أكثر أسنانه4. وكانوا قد عذّبوه أسوأ من هذا أيضاً5. ولكنّه، مع ذلك، تابع نشاطه في صفوف الثورة بمعنويّات أقوى وإرادة أكثر تصميماً من ذي قبل.

 

 


4- لهذا اضطر أن يضع أسناناً صناعيَّة.

5- إن طرق التعذيب هذه يعجز اللسان عن ذكرها والقلم عن كتابتها!

 

 

53

 

 


47

تراب كوشك الناعم

في ذلك اليوم قامت تظاهرات أيضاً. ويقولون: إنّ النّاس قد وقفوا جيِّداً في مقابل مأموري الشاه.

 

وكان عبد الحسين قد شارك في التظاهرات، وعند الظهر لم يعد، ولم نعرف عنه أيّ خبر حتّى الليل. ثمّ جاء نفس الطلّاب إلى بيتنا. اطمئنّ بالي فقد علمت أنّهم قد قبضوا عليه من جديد، فسألني أحدهم: هل عندكم ترابة.

قلت: نعم.

 

ودللته على مكانها، فأخذ كيس الترابة، وأخذ البيانات الجديدة للإمام الخميني الّتي كانت في منزلنا ووضعها تحت الدرج وطيّن فوقها جيِّداً. ثمّ قالوا لي: أمّا الأشرطة وكمِّيّة الكتب فلتبقى معك! خذيها إلى نفس الجيران الّذين أخذتها إليهم قبل الآن.

 

وفي الصباح الباكر وضعت كلّ ذلك في كيس وذهبت إلى بيت الجيران وقلت لزوجة جارنا: لقد اعتقلوا السيِّد برونسي من جديد.

 

فأجابتني بطريقة مختلفة: يعني؟

 

أشرت إلى الكيس الّذي بيدي وقلت: من فضلكم أُريد منكم أن تخفوا هذه الأشرطة والكتب، وأرجو المعذرة على الإزعاج.

 

فتردّدت وتململت، وقالت: سيِّدتي، في الحقيقة أنِّي لم أعد أجرؤ.

 

وللحظة تجمّدت في مكاني. فاستطردت بسرعة: أعني إنّ زوجي ليس موجوداً وأنا غير مأذون لي أن أقوم بهذا العمل.

 

وبسرعة وبدون تباطؤ. سلّمت عليها ورجعت إلى منزلي، وأنا في حيرة من أمري. وفي النهاية توكّلت على الله وصمّمت على أن أُخفيهم هنا في بيتي، فعبد الحسين عاشق للشهادة، وإذا وجدوهم فإنّه يكون قد حصل على ما يتمنّى.

 

كنّا نملك عدّة سجّادات، فخبّأت بعض الأشرطة داخلها، وأمّا الأشرطة الحسّاسة جِدّاً فقد خبّأتها داخل إحدى الوسادات ثم خيّطها. وأمّا الكتب فقد أخذتها إلى السرداب وخبّأتها داخل المدفأة الّتي نستعملها للطبخ وداخل إحدى الطناجر.

 

ثم مكثت في بيتي بانتظار السافاك. كنت جالسة في الغرفة، وجمعت حولي أولادي حسن ومهدي وحسين وطفلتي الصغيرة.

 

54

 


48

تراب كوشك الناعم

وفجأة أطلُّوا بوجودهم النحس، وداهموا الدار من الباب وتسوّروا الحائط، وكان ابني حسن يبلغ السابعة أو الثامنة من عمره لا أكثر، فعُقد لسانه في فمه6 من شدّة الخوف. واقتحم اثنان أو ثلاثة منهم إلى داخل الغرفة بأحذيتهم، فتحرّكتُ من مكاني، وكان مع أحدهم سلاح فوجّهه إليّ وصرخ: لا تتحرّكي من مكانك! اجلسي في مكانك، حيث أنت.

 

في تلك اللحظات الحرجة، وكأنّ الله قد ألهمني، كُنت قد وضعت علامة على الوسادة تلك فأخذتها ووضعتها على قدَميّ الممدودتين ووضعت رأس ابنتي عليها.

 

فبدأوا يفتُّشون المنزل. كُنت أحياناً أنظر بطرف عيني إلى تلك السجّادة. كان يكفي أن يُحرِّكها أحدهم ويجد الأشرطة. وكُنت أتوسّل بإمام الزمان عجل الله فرجه الشريف ، وكأنّه قد أعمى أعينهم. وكأنّنا لا نملك سجّادة في بيتنا، فلم ينتبهوا لها ولم يذهبوا ناحيتها!

 

وفتّشوا كثيراً فلم يجدوا شيئاً. وفي النهاية غادروا منزلنا مقبورين.

 

ثمّ ذهب السيِّد غياثي وأخذ سند منزله وحرّر عبد الحسين مرّة ثانية، فعاد إلى المنزل مع السيِّد رضائي7 واثنين أو ثلاثة من الطلبة. وقبل كلِّ شيء سألني عن الأشرطة، فقُلت: إنّها داخل السّجادة! ارفعها.

 

فرفعها. وعندما رأى الأشرطة بُهت الجميع. وقال عبد الحسين بتعجُّب: تعنين أنّ السافاك لم يروهم؟!

 

قُلت: لو كانوا قد رأوْهم لكانوا أخذوهم ولكنت أنت قد حقّقت أمنيتك.

 

فضحك، وسألني عن الأشرطة الأكثر حساسية! فقلت: جدوهم أنتم بأنفسكم.

 


6- أصيب ولدي حسن من يومها بتأتأة في لسانه، وبتوسل والده، وبلطف الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام ، خفّت هذه التأتأة إلى حدٍّ كبير. ومنذ ذلك الوقت ابتليت أنا أيضاً بمرض لازمني وآذاني كثيراً إلى مدَّة طويلة.

7- حجَّة الإسلام محمَّد رضا رضائي هو الآن في قم.

 

 

55


49

تراب كوشك الناعم

ففتّشوا قليلاً ولم يجدوا شيئاً، فقالوا: سيِّدتي لا تُحيّرينا، قولي لنا أين الأشرطة! نُريد أن نستمع إليها.

 

فأحضرت الوسادة، وفتحت رأسها، وعندما رأوْها قالوا: يعني هؤلاء أتَوْا هكذا ولم يَرْوا الأشرطة؟!

 

فقلت: أيضاً القسم المهمُّ في السرداب.

 

وعندما رأوْا الكتب داخل الطنجرة احتاروا ماذا يقولون من شدّة التعجُّب.

 

وبعد عدّة أيّام من حصول عبد الحسين على حريّته، عاد الإمام الخميني قدس سره من باريس. وفي 22 بهمن انتصرت الثورة.

 

وفي تلك الأيّام ذهب مع السيِّد غياثي ليحضر سند منزله، وكانوا قد أرسلوا السند إلى طهران. فذهبا معاً إلى هناك، وعندما عادا وأحضرا السند كان مع عبد الحسين عدّة أوراق أخرى، أعطاني إياها وضحك. سألته: ما هذا؟

فقال ضاحكاً: هذا حكم إعدامي.

 

دُهشت كثيراً، فقد كانوا قد أرسلوا السند مع ملف عبد الحسين إلى طهران، وقد حكمت عليه المحكمة بالإعدام. وحسب تقييمهم له فقد كان ملفُّه دسماً.

 

وعندما كُنت أنظر إلى حكم الإعدام، كُنت أشكر الله من كلِّ قلبي على عودة الإمام من باريس وانتصار الثورة، وإلّا لكانوا قد أعدموا عبد الحسين.

 

 

56

 


50

تراب كوشك الناعم

إجراء القرعة

السيِّد كاظم الحسينيّ

عندما حصلت الحوادث مع الأكراد وبدأوا هجومهم على مدينة باوة. كانت القوّات الإسلاميّة قد عزمت في تلك الأيّام على الذهاب من مدينة مشهد إلى كردستان، وكان شباب الحرس الثوريّ يعيشون حالة من الشوق والحماس لا توصف، ونظرات الجميع تحكي عن السعادة والفرح، وترى البسمة على شفاههم. ولم يكن أحد منهم يخطر على باله البقاء، بل الجميع، وبدون استثناء، يُريدُ الذهاب.

 

ثمّ بدأ الانزعاج يظهر على الوجوه عندما أتى رستمي1 إلى الشباب وقال: للأسف، إنّ حصتنا لا تزيد عن خمسة وعشرين شخصاً.

 

وفي لحظة، انقلب وضع الشباب وتغيّر من حال إلى حال. وطغى على نظراتهم الغمُّ والهمُّ، فكلُّهم يُريد أن يتطوّعَ، ولا يُمكن أن يُقال غير هذا، فهم، جميعهم، يُريدون الذهاب. فتمّ الرأي على أن يتّفقوا وينتخبوا من بينهم خمسة وعشرين شخصاً. ولكن هذا أيضاً لم يكن حلًّا لكلٍّ منهم. وفي النهاية قال السيِّد رستمي: نحن سوف نختار من بيننا خمسة وعشرين شخصاً، وسوف نُجري قرعة كي لا يضيع حقّ أحد.

 

وبدأ الشباب بكتابة أسمائهم، وكُنت أجلس في زاوية الغرفة إلى جانب عبد

 


1- في ذلك الوقت كان قائد القوّات الإسلاميّة في مشهد وقد نال وسام الشهادة العظيم، وقد بقيت منه ذكريات كثيرة لدى أصدقائه المقاتلين تحكي عن طهارته وإخلاصه.

 

57

 


51

تراب كوشك الناعم

الحسين، وأنا أُفكِّر في أنّ احتمال الذهاب مع وجود كلِّ هذه الأسماء هو احتمال ضعيف. وفجأة أخرجني من تفكيري صوت إجهاش بالبكاء، فالتفتُّ إلى ناحية عبد الحسين، لقد كان وجهه مبلّلاً بالدموع! وعيناه شاردتين، فسألته: لماذا تبكي؟!

 

فقال وهو مازال يبكي بهدوء: أخاف أن لا يأتي اسمي وأُحرم من التوفيق للقتال ضدّ أعداء الثورة.

 

ارتبكت من موقفه هذا، فإنّ كلّ هذا العشق والإخلاص الّذي يعمر قلب هذا الرجل يُحيِّر الإنسان، واستطعت أن استجمع نفسي وأقول له: في النهاية إنّ أصل العمل هو النيّة، يجب أن تكون نيّة الإنسان صادقة، فإنّ الله شاهد على هذا الموضوع.

 

قال: إنّ الله شاهد على هذا الموضوع، صحيح، إنّما الأعمال بالنيّات، صحيح، ولكن أن يوفِّق الله الإنسان ليقوم بهكذا عمل، فهذا موضوع آخر.

 

كان يبكي بهدوء ويتكلّم بهمس، وأتى على سيرة معركة بدر، وقال: هناك قضيّة واحدة على طول التاريخ وعلى طول الزمان! هناك فرق بين الّذين شاركوا في معركة بدر والّذين لم يُشاركوا، فقد كان هناك أولئك الّذين يُريدون أن يُشاركوا في المعركة ولم يوفّقوا، فبعضهم في تلك اللحظة لم يكن في المدينة، أو كان مريضاً، أو كان مصاباً بالحُمّى، أو مهما كان السبب، فهم لم يكونوا ليُخالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! ثمّ سكت، ونظر في وجهي، وقال بحرقة قلب: في يوم القيامة عندما يُنادون على البدريِّين، فإنّ النداء لن يشمل أولئك الّذين لم يُشاركوا في معركة بدر، لا يُمكن. فالّذين سوف يُجيبوا هم فقط الُذين شاركوا في معركة بدر وقاتلوا بالسيف، الكفّار، والمنافقين الّذين هم أسوأ من الكفّار.

 

بهذه الرؤية وبهذا المستوى، لحقيق بأن يبكيَ. لقد كُنت أتحسّر على نفسي.

 

وعندما انتهوا من كتابة جميع الأسماء أجروْا القرعة. وقد كان اسمه الرابع والعشرين. وكنت أنا من بين الّذين لم ينالهم التوفيق!

 

ثمّ عادوا بعد أربعة وثلاثين يوماً أو خمسة وثلاثين، وانطلقنا مع بقيّة رجال العمليّات لاستقبالهم.

 

58


52

تراب كوشك الناعم

في البداية لم يكن من المقرّر أن تكون المسألة عامّة في متناول الجميع، وشيئاً فشيئاً بدأ الناس يفهمون موضوع الصراع مع المنافقين. وكان شارع طهران مزدحماً جِدّاً، وكلّما ازداد ازدحاماً، كلّما أصبح مرورنا أصعب. وبجهد كبير وصلنا إلى ساحة الإمام عليه السلام ، لم يعد يوجد مكانٌ لإبرة. وفجأة رأيت عبد الحسين قد اعتلى المنبر، وما زالت خوذة الحديد على رأسه، وما زال يحمل على كتفه جعبة العتاد، ويلبس لباس الحرس الزيتيّ، وكان شباب الإعلام المرئيّ والمسموع قد أتَوْا من أجل التصوير، وبدأ بالكلام.

 

كان أكثر كلامه من القرآن والأحاديث، وكان قويّ الحُجّة، ويربط المسائل بموضوع كردستان. وأصغى النّاس إليه وهم مدهوشون به. وكلّما أطال الكلام كلّما كان يجذب الناس أكثر. لقد حلّل وضع كردستان جيِّداً. ثمّ رفع الستار عن خيانة البعض، وفي النهاية كان يُشجِّع الناس على الذهاب إلى كردستان ومواجهة أعداء الثورة وقطع دابر الفتنة.

 

لقد طال خطابه عشرين دقيقة تقريباً. والملفت أكثر من كلِّ شيء أنّ السيِّد هاشمي نجاد وعدد من العلماء الأفاضل كانوا من ضمن جموع الناس.

 

59


53

تراب كوشك الناعم

وسيلة للحرب

حُجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

ذات يوم أخبرني عن حادثة حصلت معه في كردستان، قال: كُنت في سنندج واقفاً في موقع الحراسة، وكانت حواسّي متنبِّهة جيِّداً إلى كلِّ شيء، ثمّ رأيت فجأة فتاةً كرديّة، كانت آتية مباشرة ناحيتي، وكانت سافرة، وترتدي ثيابها بشكل فاضح، تجنّبتها، لعلّها تُغيِّر مسيرها وتنصرف. ولكنّها، على العكس من ذلك، واصلت سيرها باتجاهي واقتربت أكثر، ولم أكن أنظر إليها، ولكنِّي كُنت متيقِّظ الحواسِّ ومنتبهاً إليها بشكل تامٍّ خشيةً من أن ترتكب أيّ خطأ، وكنت أتمنّى من كلِّ قلبي أن تمضي في طريقها وتذهب إلى الجحيم، ولكن مضت عدّة لحظات ولم تزل واقفة، فنظرت إليها للحظة، كان التبرُّج يُغطّي وجهها.. وكأنّها كانت تنتظر هذه اللحظة، فغمزتني بعينها وابتسمت لي! فأدرت وجهي عنها وصرخت بها: اغربي عن وجهي.

 

ولكنّها لم تذهب! كانت تعرف عملها، فكرّرتُ كلامي مرّة أخرى، ولكنّها لم تذهب! وفي هذه المرّة سحبتُ أقسام البندقيّة ولقّمتها طلقة في بيت النار، ونظرت إليها نظرة كلّها غضب وصرخت: اغربي من هنا، وإلّا سوف أجعل جسمك كالمصفاية! فاصفرّ لونها، ورجعت بسرعة إلى الخلف وأطلقت ساقيها للرِّيح1.

 


1-  كان أعداء الثورة في كردستان يريدون أن ينفذوا إلى صفوف ثوار الإسلام من أي طريق كان، وكان من جملة وسائلهم استعمال الفتيات الجميلات للوصول إلى مبتغاهم.

 

60


54

تراب كوشك الناعم

الملاك الحقيقيّ

معصومة سبك خيز

كلّما نظرت إلى هذه الصورة أتذكّر حادثة جميلة، كان عبد الحسين يلفُّ يديه حول كتفي اثنين من الفتيان الأكراد مثل أب عطوف. وكان يتحدّث إلى أحدهما، وكان حولهم قطيع من الغنم، وكانت الصورة تُشعرك وكأنّك تحسُّ ببرد كردستان. لقد كان عبد الحسين هو الّذي أخبرني هذه الحادثة.

 

كُنت قد رأيت الفتيين في الليلة الأولى، ولكنِّي لم أشعر بحساسيّة تجاههما. تعجّبت منهما ولكنِّي لم ينتابني شكُّ كثير فيهما، وكان بقيّة الشباب قد تعجّبوا أيضاً منهما! فهما فتيان راعيان صغيران، فأين يذهبان في مثل هذا الوقت من الليل؟!

 

لم نتحقّق منهما أوّلاً، ثمّ بعد ذلك ظهر شبح أحدهما في الظلام ثمّ اختفى.

 

وفي الليلة التّالية جاءا مرّة ثانية، فتيان صغيران، مع قطيع من الغنم، ومن نفس الطريق الّذي أتيا منه في الليلة الماضية! في هذه المرّة شككنا في أمرهما، فقال أحدنا: إنّ وراء الأكمة ما وراءها.

 

كان من أساليب الكوملة1 في أكثر الأوقات استعمال أسلوب القوّة والضغط والتخويف، فكانوا يُكرهُون العجوز والشاب، والمرأة والطفل، بلا فرق، ويُجبرونَهم على خدمتهم.

 


1- حزب المنافقين في كردستان إيران.

 

61

 


55

تراب كوشك الناعم

وهكذا! اصطدمنا بعمل يستغلُّ راعيين صغيرين، فأمسكنا بهما، ونظرت إليهما بدقّة، ولم أرَ ما يُثير الشكّ، ثمّ انتبهت إلى الخراف، فقد كانت حركتهم غير طبيعيّة.

 

وفجأة لمعت في ذهني فكرة مثل البرق. فجلست لأنظر تحت بطون الخراف. وما كان يجب أن لا أراه فقد رأيته! قنبلة!

 

كانوا قد ربطوا تحت بطن كلِّ خروف قنبلة بمهارة ودقّة. فتسمّر الفتيان مكانهما. وتفاجآ واندهشا. ولم أغضب منهما، وإذا كنت سوف أغضب، فإنِّي يجب أن أغضب من أعداء الثورة، أولئك هم أصل العلّة. فقُلت لهما: لا تخافا، نحن شغلنا ليس معكما.

 

وفكّكنا القنابل وأبقينا الفتيان إلى الصباح. وفي الصباح كُنت أُريد أن أنصحهم مثل أولادي، فوضعت يدي حول رقبتيهما وبدأت بالكلام، ولكنّهما لم يكونا ينتظران أن نتعامل معهما هكذا.

 

وفي النهاية أخذت منهما تعهُّداً، وقُلت: أنتما أحرار تستطيعان أن تذهبا.

 

فدُهِشَا ولم يُصدِّقا، ولكنّهما عندما فهما أنّني جادٌّ ودّعَانا وابتعدا بهدوء. وكانا كلّما ابتعدا ينظران خلفهما. وهما في الظاهر لا يُصدِّقان ما حصل. معهما حقٌّ، فإنّ هؤلاء الكوملية كانوا قد صنعوا لهم منّا غولاً عجيباً وغريباً، وما رأياه منّا يوجد بيننا وبينهم فرقاً ومسافة، مثلما بين السماء والأرض.

 

62


56

تراب كوشك الناعم

المنزل الاستثنائي

معصومة سبك خيز

عندما كانت تتشكّل قوّات الحرس الثوريّ، لم يعد عبد الحسين يملك وقتاً ليحكّ رأسه. كان دوامه أربعاً وعشرين ساعة في مركز الحرس وأربعاً وعشرين ساعة في المنزل، ولكنّه كان يبقى في أكثر الأوقات في مركز الحرس، وفي البداية لم يكن يأخذ حقوقاً ماليّة. وبعد أن أصبح يأخذها لم تكن تكفي مصاريفنا. لهذا كان يقبل أن يعمل في البناء أيضاً. وكان يذهب إلى العمل في أكثر الليالي.

 

في ذلك الوقت كان منزلنا في "مفرق طلّاب"1. ولم تكن مساحته أكثر من أربعين متراً. وكنت قد قُلت له عدّة مرّات: إنّ هذا المنزل ضيِّق جِدّاً، عندنا الآن خمسة أطفال، ويجب أن نُفكِّر بمكان غيره.

 

ولكنّه لم يكن عنده مجال ليفكِّر بهذا الموضوع ولو لمرّةٍ واحدةٍ، فكيف به سيفتِّش عن مكان غيره. وفي البداية كُنت آمل بأن يقوم بذلك في يوم من الأيّام، ولكن ما إنْ وقعت الحرب، حتّى قطعت أملي منه، ولم يعد من الممكن أن أنتظر منه شيئاً.

 

انتهزت الفرصة، عندما غاب لمدّة شهر في دورة عسكريّة، فبعت المنزل، واشتريت منزلاً أكبر على تقاطع في منطقة أعلى. وما زال لذكرى ذلك اليوم حلاوة خاصّة. حيث لم يكن عندنا أثاث كثير، فوضعت أنا والأولاد الأثاث الموجود في وسيلة نقل وأخذناه إلى بيتنا الجديد.

 

 


1- اسم لأحد الأحياء القديمة في مشهد المقدسة.

 

 

63


57

تراب كوشك الناعم

في وسط الطريق، وأنا متوجّهة إلى بيتنا الجديد، وقع نظري على عبد الحسين، كان يبدو من نظرته أنّه متعجِّب، فتقدّم ناحيتي، وكان قد مضى شهر ولم أره. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال، سألني: إلى أين تذهبين؟!

 

فأشرت إلى التقاطع أمامي وقُلت: هناك لقد اشتريت منزلاً.

 

فضحك وقال: حتماً هو أكبر من المنزل الأوّل.

 

قُلت: نعم.

 

فابتسم من جديد وقال: من أين سوف تأتين بالمال؟

 

قُلت: سوف نتدبّر الأمر، الله كريم.

 

لم يقل شيئاً، كنت متيقِّنة من أنّه لن ينزعج ممّا فعلت، وفرح عندما رأى بيتنا الجديد.

 

كان البيت ما زال على الآجُرِّ، ولم يُطيّن بعد، وأرضه لم تكن قد بُلِّطت. وكان حائط الباحة ما زال ترابيّاً. فتلفّت حوله في كلِّ زوايا المنزل، وقال: هذا جيِّد للأولاد ولا كلام عليه، وباحته أيضاً واسعة.

 

بعد أن أنهينا ترتيب العفش. توجّه عبد الحسين إلى الجبهة أسرع ممّا كنت أظنُّ.

 

بَقِينا لعدّة أيّام في البيت مرتاحين. ولكنّ المشكلة بدأت حين بدأ هطول المطر. كنّا نجلس في الغرفة، فجأة أحسست أنّ رأسي بدأ يبتلُّ، نظرت إلى السقف، فلاحظت أنّه يُسرّب الماء! احترت ماذا أفعل، ومضت لحظات قبل أن أُقرِّر، وعندما انتبهت. ذهبت بسرعة وأحضرت وعاءً ووضعته تحت النقط. واعتقدت حينها أنّ الوضع قد سُوِّيَ. وفجأة سمعت صوت الأولاد: ماما من هنا أيضاً ينزل الماء!

 

وكلّما كان المطر يشتدُّ، كان يكثر تسرُّب الماء من السقف. وإذا قُلت: أنّنا قد وضعنا تحت نقط الماء كلّ ما لدينا من أوعية فإنّني ما كنت لأُبالغ. وعندما توقّف هطول المطر كُنّا قد تأذّينا كثيراً. وبعد ذلك أصبحنا نعدُّ الأيّام ليوم عودة عبد الحسين، وخصوصاً وأنّها كانت قد أمطرت عدّة مرّات أيضاً.

 

وأخيراً عاد عبد الحسين. ولكنّه لم يأت بنفسه، بل أتَوْا به جريحاً في تمام بدنه

 

 

64


58

تراب كوشك الناعم

وأكثر الإصابة كانت في قدميه. وفي اليوم التالي جاء "غزالي" وعدد آخر من الشباب لعيادته. وللمصادفة فقد أمطرت السماء! عندها كنت أتآكل في داخلي من شدّة خجلي من ضيوفنا. وعندما رأى "غزالي" هذا، ظنّ أنّ سقف هذه الغرفة فقط يَدلِف الماء، فسأل الأولاد: أين غرفة الضيوف عندكم؟!

 

فدلّوه عليها، فذهب وعاد بسرعة، فرأى أنّ تلك الغرفة لم يكن وضعها أفضل من باقي الغرف، فأخذنا نُحْضِر الأوعية ونضعها تحت نقط الماء النازلة من سقوف الغرف. وبعد قليل ودّعونا وذهبوا.

 

وبعد ساعة عاد أحدهم، ليأخذ السيِّد برونسي، فقلت له: إنّ وضعه سيِّئ، أنتم تعرفون.

 

قال: نحن نأخذه بالسيّارة.

 

قُلت: ألا تستطيعون أن تأتوا في وقت آخر؟

 

قال: لا! فالسيِّد "غزالي" له معه عمل ضروري، وقد أوصانا أن نأخذه إلى هناك على كلِّ حال.

 

وعاد عبد الحسين من مقرِّ الحرس وقد تغيّر وجهه، فثار فضولي، وكُنت أُحبُّ أن أعلم ما هو الموضوع. وبعد مضيّ عدّة دقائق سألته: ما الموضوع؟ ماذا كانوا يُريدون منك؟

 

تأوّه من كلِّ قلبه وقال: لا شيء، لقد أعطوني أمراً بألّا أذهب إلى الجبهة!

 

تعجّبت كثيراً، وقُلت بحيرة: أن لا تذهب إلى الجبهة؟!

 

فهزّ رأسه وقال بهدوء: نعم لا يحقُّ لي أن أذهب إلى الجبهة ما لم أُصلح وضع هذا البيت!

 

فسألت: وماذا قال لك؟

 

ابتسم ابتسامة لها معنى وقال: أراد أن يعلم إن كنت منزعجة من وضع حياتك هذه؟ فقُلت له: لا! إنّ زوجتي راضية.

 

كُنت أُحبُّ أن أعلم في النهاية هل إنّ وضع البيت سيصلح أم لا. فقُلت: وأخيراً ماذا قال؟

 

65

 


59

تراب كوشك الناعم

قال: ما قلته لك (لا يحقّ لي الذهاب إلى الجبهة ما لم أُصلح وضع البيت).

 

وهنا سكت، وكأنّه غرق في تفكيره، ثمّ استطرد قائلاً: إذا أتَوْا من مقرِّ الحرس فقولي لهم: إنّ وضع بيتنا هكذا جيِّد، وقولي: أنا نفسي اشتريت هذا البيت، وأُحِبُّ أن أبقى هنا، أصلاً لا أُريد بيتاً جيِّداً.

 

فقُلت منزعجة: لماذا أقول هذا الكلام؟!

 

فأجاب وهو أكثر انزعاجاً منِّي: هؤلاء يُريدون أن يُعطوني مالاً لأُجدِّد هذا البيت، وأنا لا أُريد أن أفعل هذا.

 

لم أكن أُريد أن أُردّ كلامه، فطول العمر الّذي عرفته فيه، كان يسعى أن لا يعمل عملاً يُخالف رضا الله تعالى.

 

وعندما أتَوْا من مركز الحرس، أدخلهم إلى البيت، وكان أحدهم يحمل حقيبة في يده. وعندما جلس الجميع، فتحها، وأخرج منها عدّة رزم كبيرة من المال، وضعها أمام عبد الحسين. فأخذت دقّات قلبي ترتفع. لم أكن في حياتي قد رأيت هذا المقدار من المال. لم أكن أعلم ماذا سيفعل. نظر قليلاً بحيرة إلى المال. وكان مفهوماً من نظرته أنّه قد صمّم على موقف. وفجأة جمع رزم المال وأعادها كلّها إلى الحقيبة! تعجّب الشباب، مثلي أنا. فقال بِجِدّيّة وتصميم: هذا المال هو مال شرعي، وأنا لست راضياً أن أُرفِّه أولادي بهكذا مال.

 

فقالوا: ولكن...!

 

فقال بإصرار: بدون لكن، أولادي سيعيشون بهكذا وضع وهكذا حياة.

 

فقالوا: ماذا نُجيب "غزالي"؟!

 

قال: قولوا له سوف أُسوِّي وضع البيت بطريقة ما.

 

وأصَرُّوا كثيراً على أن يقبل المال، ولكنّه أصرّ أيضاً على الرفض.

 

مضت عدّة أيّام، فأصبح وضعه الصحيُّ أفضل، ولكنّه لم يكن إلى الدرجة الّتي يستطيع معها أن يعمل في البناء، وفي ذات يوم علمت أنّه سوف يبدأ بهدم جزء من البيت، فلم أُصدِّق الأمر وقلت: طبعاً أنت تمزح؟

 

 

66


60

تراب كوشك الناعم

قال: الواقع أنّني مصمِّم وبشكل جدّي.

 

قُلت: في وضعك هذا لا يُمكن أن تأتي على ذكر اسم البناء!

 

قال: إن شاء الله، وبمساعدة صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ، يُمكنني أن أذكره، وسوف أعمل به أيضاً.

 

ولكنّ إصراري لم يكن له أثر عنده، وفي ذلك اليوم هدم جزءاً من البيت، وأحضر ما يلزم وبنى غرفتين بمساعدة عدّة أشخاص.

 

وبعد ثلاثة ليالٍ، بدأ هطول المطر الشديد، فرفع الأولاد نظرهم إلى السقف، ولم يُحوِّلوا نظرهم عنه. وأنا أيضاً لم أكن أقلّ قلقاً منهم. وبعد قليل اطمأنّ بالنا جميعاً إلى أنّ السقف لا يَدْلِف ولا حتّى نقطة واحدة. لقد علمت منذ البداية أنّه في عمله لا مثيل له وأنّه متقن جِدّاً. التفتُّ إليه وقُلت له: الآن بما أنّ وضعك قد تحسّن، وغداً تُريد أن تذهب إلى الجبهة. ولكن إن شاء الله في المرّة القادمة عندما تعود سوف تُصلح الجهة الأخرى من البيت.

قال: إن شاء الله.

 

ما زلت أُحِسُّ بكلِّ وجودي بطعم حلاوة الحياة في الغرف الجديدة، وفجأة سمعت صوتاً ارتفع من باحة البيت الخارجيّة. أسرعت بالخروج، ومن شِدّة هول ما رأيت أحسست وكأنِّي سوف أُصاب بسكتة قلبيّة؛ كان قد انهدم جزء من زاوية السور المطيّن بالتراب للباحة الخارجيّة! فعدت ونظرت لعبد الحسين، فضحك، وقال: في المرّة القادمة عندما أعود إن شاء الله سوف أهدم هذا السور الترابي وأبني مكانه سوراً من الحجر.

 

قُلت: لا تستطيع أن تفعل شيئاً في خمسة أيّام تأخذها إجازة.

 

فقال: اطمئنِّي، سوف آخذ في المرّة القادمة إجازة لعشرين يوماً.

 

وفي الصباح الباكر توجّه إلى الجبهة.

 

مضى ما يقرب من الشهرين. ويوم عودته، وبعد أن سلّم علينا وسألنا عن أحوالنا قال: لقد أخذت إجازة عشرين يوماً، سوف أُصلح السور.

 

67

 


61

تراب كوشك الناعم

وبسرعة بدأ العمل. في اليوم الأوّل أنزل الحجارة وفي اليوم التّالي هدم السور كلّه حول البيت. وعندما أراد أن يبدأ ببقيّة العمل قدم أحد الشباب من الحرس بطلبه، فقال له: تفضّل ادخل.

 

قال: لا، إذا أتيت أنت إلى الخارج يكون أفضل.

 

فذهب وعاد بسرعة، ونظر إلى عينَيّ بحيرة، وقال: لقد طرأ عملٌ مهمٌّ، يجب أن أذهب.

 

كنت طبيعيّة، وببرودة أعصاب قُلت له: حسناً لا يوجد مشكلة، اذهب! ولكن عد بسرعة.

 

فأصبح صوته الآن أكثر حناناً، وقال: لا يُريدونني هنا في المدينة.

 

قُلت: أين إذن؟!

 

فقال لي بارتباك: أريد أن أذهب إلى الجبهة.

 

أحسست للحظة بغليانٍ في وجهي، وانزعجت جِدّاً، كان بيتنا يبدو بارزاً من أوّل المفرق. وحسبما يقولون أصبح واضحاً للناظر، وأصبح حديث المجالس! والتفتُّ حولي، وقُلت: أتُريد أنْ تتركني مع هؤلاء الأطفال الصغار غير الواعين في هذا البيت من دون باب ولا سور وتذهب؟!

 

لم يقل شيئاً، فتابعت: على الأقلِّ لو أنّك لم تُخرِّب هذا السور المهترئ.

 

وحسب العادة في مثل هذه الأوقات، ابتسم وقال: لا تُزعجي نفسك، أعدك أن لا تأتي حتّى ولا قطّة صغيرة فوق سطح هذا البيت.

 

امتقع وجهي واشتدّ ضيقي أكثر، وقُلت: الآن وقد خرب سور البيت، فليكن، ليس مهمّاً.

 

وقُلت بصوت متهدِّج: هل يعقل هذا، أن أكون مع عدّة أطفال صغار في هذا البيت من دون باب وسور؟

 

فحاول من جديد أن يُهدِّئني، ولم يُفلح، كان غضبي يزداد في كلِّ لحظة، فماتت البسمة على شفته. وأصبح أكثر جِدّيّة، ولكن صوته كان يقطر حناناً وقال: انظري، أنا منذ أوّل طفولتي، وأوّل شبابي! وحتّى عندما كنت في القرية، لم أصعد إلى سطح

 

68

 


62

تراب كوشك الناعم

 بيت أحد ولا تسلّقت جدار أحد، ولا نظرت إلى امرأة ولا إلى عرض أحد.

 

كانت كلماته الأخيرة قد أعادتني إلى نفسي ونبّهتني. ورغم شدّة انزعاجي، كُنت أنتظر بقيّة كلامه. فأكمل: وأقول لك الآن: إنّك إذا أردت أن تخرجي وبدون حجاب، فإنّ أحداً لن ينظر إليك، واطمئنِّي أيضاً أنّه لا يدخل إلى هذا البيت أيٌّ من الهوام، لأنِّي لم أُزعج أحداً لا تخافي.

 

كان يتكلّم بثقة واطمئنان. وعندما تنبّهت إلى نفسي كُنت لا أدري ماذا أفعل. فكلماته كانت كالماء البارد على النار. وعندما أقفل حقيبته وذهب، لم أكن قلقة أبداً وكنت مطمئنّة البال.

 

وعاد بعد مضي بعض الوقت. فنظر إليّ نظرته الحنونة الّتي أعهدها منه. وكان يحضن الأطفال واحداً واحداً ويُقبِّلهم. وقبل أن يجلس التفت إليّ وقال: "حسناً"! مدّها مدّةً طويلة، ولها معنى! ثمّ سألني: في هذا الوقت الّذي مضى، هل أتى لصٌّ أو أيُّ شيء آخر أم لا؟

 

قلت: لا.

 

فابتسم، وتابعت: لقد كان لكلماتك أثر كبير لدرجة أنّنا عشنا مطمئنِّين، ولو أنّني قُلت: إنّي كُنت قلقة للحظة، فقد كذبت.

 

رحمه الله؛ ما زال أثر كلماته إلى الآن باقياً في قلبي وقلب الأولاد. وحسب قوله فإنّ أيّاً من الهوام، لم يُزعجنا.

 

69


63

تراب كوشك الناعم

نذر في سبيل الله

معصومة سبك خيز

كان عندي دائماً من هذه النذور والأمور الشرعيّة. وفي ذلك الوقت كُنت قد نذرت أن أذبح خروفاً، إذا عاد عبد الحسين حيّاً.

 

وأخبرته عندما عاد من الجبهة. فبدأ بالعمل؛ واشترى خروفاً وأحضره إلى باحة البيت.

 

وكان عدد من الجيران وأمِّي قد رأَوا الخروف. فثار فضولهم وسألوا عن السبب، فكنت أقول لهم: عليّ نذر.

 

وأخيراً ذبحنا الخروف. ثمّ جلس، وبكلِّ صبر، قسّم كلّ اللحم، ووضع كلّ جزء في كيس. حتّى الكبد والجلد قسّمها أيضاً، ووضعها داخل أكياس. فلمّا أنهى عمله غسل يديه وقال: أعطيني كيس خيش كبير.

 

قُلت: ماذا تُريد أن تفعل بكيس الخَيْش؟

 

فأشار إلى أكياس البلاستيك الّتي تحوي اللحم وقال: أُريد أن أضعها فيه.

 

فظننت أنّه يُريد أن يوزِّعها بنفسه للعائلة والأصحاب والجيران إلى بيوتهم. فقُلت: لا تُزعج نفسك، أنا أوزِّعهم مع الأولاد.

 

فابتسم! وكأنّه قرأ أفكاري. ثمّ سأل بلهجة لها معنى: ألم تنذري هذا الخروف في سبيل الله؟

 

قُلت: طبعاً.

 

قال: إذن اذهبي وأحضري كيس الخيش.

 

70


64

تراب كوشك الناعم

فذهبت وأحضرته. فوضع جميع الأكياس الّتي وضع بها اللحم داخله. ولم يترك لنا ولا قطعة. ووضع الكيس خلف درّاجته الناريّة وقال: الحمد لله لا يوجد في عائلتنا ولا بين الجيران أحد محتاج.

 

لم أعلم إلى أين أخذ اللحم ولمن وزّعها، ولكنِّي أعلم أنّنا لم نر من اللحم ولا رأى أحد من العائلة ولا الجيران أيّة قطعة. وأراد بعضهم أن يفهم القضيّة فسألوني: هل ذبحتم الخروف؟

 

فقُلت لهم: نعم.

 

وعندما سمعوا هذا كانوا يتعجّبون ويقولون في أنفسهم!! لقد ذبحوا الخروف لأنفسهم.

 

طبعاً كان بعضهم ينتظر أن يصله جزء من هذا الخروف، ومن بعدها كنّا كلّما ذبحنا خروفاً كان يفعل نفس الشيء، وعندما كُنت أسأله أين تأخذهم؛ لم يكن يُخبرني. ولم يدع أحداً يعلم أبداً.

 

 

71


65

تراب كوشك الناعم

علامة متدنِّية

حسن برونسي

لم يكن في وقت من الأوقات غافلاً عن دروسنا، وكان كلّما أتى في إجازة يسأل عن وضعنا الدراسيِّ. وقبل كلِّ شيء كان يأتي إلى مدرستي. ما زالت ذكرى خاطرة من تلك الأيّام تُراودني وتلمع في ذهني مثل الشمس. كُنّا نجلس في الصفِّ، والمعلِّم قد أملانا الإملاء، وكان مشغولاً بتصحيح المسابقات، فأخذ ورقة ونظر إليّ. فقُلت في نفسي: طبعاً هذه ورقتي!

 

فأخذ قلبي ينبض بسرعة. علمت أنِّي ارتكبت خطأ. وكُنت كلّما رأيت شكله قد استاء أكثر، كان وضعي وحالي يسوء أكثر. وفجأة طُرق الباب وهذا ما شتّت حواسّ الجميع، فقال المعلِّم بصوت عالٍ: تفضّلوا.

 

وفتح الباب. وكاد قلبي ينخلع من مكانه؛ لقد كان والدي هو الّذي يقف أمام الباب! فتحرّك المعلِّم من مكانه ووقف. وأتى والدي إلى الأمام، فسلّما على بعضهما وسأل كلٌّ منهما عن أحوال الآخر. فقال: سبحان الله لقد أتيت في وقتك يا سيِّد برونسي. لقد كنت أُصلِّح الإملاء لحسن، وقد أتممتها الآن، قبل دخولك.

 

وذهبا معاً إلى جانب الطاولة. فأراه مسابقتي. وفجأة تغيّر وجهه. فتلاقت نظرة انزعاجه في نظرتي. فتململت مكاني. وجفّ حلقي وارتفعت حرارتي. فخفضت رأسي إلى الأرض وتسمّرت عيناي بحذائي. ولكنّ حواسّي لم تكن لا بحذائي ولا بمكان آخر. فقط كُنت خجلاً. وكُنت قد فهمت من كلام معلِّمي أنّ علامتي كانت سبعاً.

 

ما هذه العلامة الّتي حصلت عليها؟

 

 

72


66

تراب كوشك الناعم

كان صوت والدي قد هزّني، فرفعت رأسي. ولكنِّي لم أنظر إليه. قال: لماذا لا تدرس؟ يقول المعلِّم إنّك ضعيف في الدرس.

 

لم يكن عندي كلام أقوله. فبدا وكأنّه قد فهم وضعي. فخفّف من لهجته، وقال: تعالَ بعد المدرسة إلى البيت لنرى ماذا سوف نفعل.

 

فحيّيت المعلِّم وعدت إلى مكاني.

 

وعندما دقّ جرس الاستراحة التفّ حولي التلامذة، وكان كلُّ واحد يقول شيئاً. قال أحدهم: إذا ذهبت إلى البيت فسوف يضربك ضرباً مبرّحاً.

 

فضحكت من قوله وقُلت: إنّ والدي ليس من هذا النوع، وإذا كان منزعجاً كثيراً فإنّه يؤنِّبني فقط، والآن إذا أراد أن يضربني، فمعه حقٌّ ولن أستاء، لأنِّي أُحبّه كثيراً.

 

دقّ جرس الانصراف، كُنت أُحبُّ أن لا أغادرَ الصفّ، لأنِّي أتذكّر منظر والدي الغاضب، وكان منظره يأخذني إلى ألف فكرة وفكرة، وتصوّرت تعنيفه لي.

 

وأخيراً وصلت إلى البيت. فلم أذهب حيث يجلس الباقون، بل ذهبت رأساً إلى غرفة أخرى، وجلست واضعاً يدَيّ حول قدمَيّ، وأنا أرى في ذهني منظر والدي الغاضب وهو يُعنِّفني.

 

وفجاة رأيته واقفاً أمام الباب. نظرت إليه. فابتسم لي! وتقدّم منِّي ووضع يده على رأسي ورفعني وقال: تعالَ الآن، هذه المرّة سماح، إن شاء الله سوف تدرس جيِّداً بعد هذا.

 

73


67

تراب كوشك الناعم

عمليّات بلا عودة

حُجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

ذات يوم قال عبد الحسين: في الوقت الّذي كُنت فيه قائد كتيبة، كان يتردّد بين المسؤولين من المراتب العليا كلام عن العمليّات، وكانت منطقة العمليّات منطقة معقّدة وحسّاسة، فقد كانت كثرة قوّات العدُوّ من جهة، واحتمال مهاجمتنا من جهة أخرى يجعل المسألة أكثر تعقيداً، فقد كان العدُوُّ يكمن لنا وينتظر.

 

وذات يوم أتَوْا إليّ من قِبل القيادة وقالوا: عندنا مهمّة! هي فقط من اختصاصك! هل تقبل؟

 

سألت: ما هي؟

 

قالوا: الخلاصة هي مهمّة لا عودة منها.

 

واستطرد أحدهم بسرعة: إلّا إذا حدثت معجزة.

 

قُلت: قولوا حتّى أعلم ما هي هذه المهمّة.

 

قال: يُقال: إنّه قد تقرّر في هذه العمليّات أن نعمل على عدّة محاور، وأنت تعلم بعدد قوّات العدوِّ، وتعلم أنّه ينتظر عمليّاتنا؛ وعلى هذا الأساس فإنّنا حتّى لو انتصرنا في هذه المعركة، فإنّ خسائرنا سوف تكون كبيرة.

 

كُنت أعدّ اللحظات لأعلم بأسرع وقت تفاصيل مأموريّة كتيبة عبدالله1 ، فبدأوا بتوجيهي وإطلاعي على العمل. فقالوا: يجب أن تخترق بكتيبتك قلب العدُوِّ، ثمّ تشتبك معه وتُشغله، فيُصبح العدوُّ غافلاً عن أطرافه، وعندها نستطيع أن نعمل من

 


1-  أوَّل كتيبة كان يقودها الشهيد برونسي.

 

74

 


68

تراب كوشك الناعم

محاور أخرى، وقطعاً وبعون الله سوف ترتفع نسبة إمكانيّة انتصارنا.

 

كُنت ساكتاً، أفكِّر بالموضوع. فأكمل أحدهم: كما قُلت، يُحتمل أن لا يعود أحدكم حيّاً، فأنتم في الواقع سوف تكونوا محاصرين من قبل العدُوّ، وبكلِّ وضوح، سوف يُطلقون عليكم النار من كلِّ جهة!

 

الآن هل تقبل مهمّة بهذه الخصوصيّة أم لا؟

 

قُلت: نعم، عندما يكون هذا واجبنا، فأنا أقبله.

 

في ليلة العمليّات جمعت أفراد الكتيبة للمرّة الأخيرة. وقُلت لهم الملاحظات اللازمة، ووجّهتهم، وأوضحت لهم بشكل كامل الواجب المناط بنا، ثمّ توجّهنا باتِّجاه العدُوّ.

 

استطعنا، مستعينين بذكر الله تعالى والتوسُّل بأهل البيت النفوذ داخل الخطِّ الأوّل للعدوِّ. وقد كان كلُّ واحد من المقاتلين أكثر تصميماً من الآخر، وكانوا ينقلون خطواتهم باطمئنان وثقة، لقد كنّا ذاهبين لنفدي بأرواحنا القوّات الأخرى، ممّا كان يُعطي لهجومنا على العدُوِّ حلاوة مضاعفة.

 

لا أدري بدقّة ما هي المسافة الّتي سرناها. ووصلنا أخيراً إلى المكان الّذي تعيّن لنا. لقد كُنّا تماماً وسط مواقع العدُوِّ. فقد كانت قوّات العدُوِّ المدرّعة متمركزة في جهة، وفي الجهة الأخرى، آليّاته، وفي عدّة أطراف كانت تتمركز قوّات المشاة العراقيّة. وكانت مدفعيّته أيضاً أبعد قليلاً، وكأنّها كانت تنتظر رماية النار.

 

كان الصمت المشوب بالخوف والترقُّب قد أرخى بثقله على كامل المنطقة. وكان ينبغي علينا أن نُطلق النار على عدّة أطراف، فأشرت إلى الشباب أن يتّخذوا مواقعهم، وكُنت قد وضعت كلّ واحد منهم قبلاً في صورة ما يجب عليه فعله، فبدأوا باتِّخاذ مواقعهم، ولم يكن ليُسمع صوت تنفُّس أحدهم. فاستطلعت الوضع حولنا مرّة أخرى، وكان قد آن أوان الاستعراض، وسوف نُريهم ما عندنا، وكُنت أعلم أنّ الشباب واحداً واحداً ينتظرون سماع صوتي. فقلت في نفسي: إلهي توكّلتُ عليك.

 

75


69

تراب كوشك الناعم

ورفعت صوتي مزمجراً: الله أكبر.

 

فكُسر سكوت المنطقة. بعد هذا ارتفع صوت إطلاق النار، وكنّا نُطلق النار في عدّة اتجاهات. فارتبك العدوُّ، ولكنّه تماسك بسرعة. وبعد عدّة دقائق كُنّا قد أصبحنا ضمن نيرانهم من الأرض إلى السماء. فكانوا يُطلقون النار من عدّة أطراف. وكان إطلاق النار بالرشّاشات الخفيفة والرشّاشات المتوسِّطة والثقيلة من كلِّ صنف، والهاونات، والمدفعيِّة، والكاتيوشا و... وكلِّ ما كان معهم. وبعد قليل أصبح الوضع كأنّه جهنّم بكلِّ معنى الكلمة.

 

لقد فعلنا ما يجب علينا أن نفعله، وأصبح حفظ أرواح الشباب بعد ذلك هو الأهمُّ من كلِّ شيء، فصرخت بهم: انبطحوا لا يطلقَنّ النار أحدٌ بعد الآن.

 

اتّخذ كلُّ واحد من الشباب مكاناً ليحتمي به، كذلك تمدّدت أنا أيضاً في زاوية، فالأسلحة الّتي بأيدينا الآن لا يُمكن أن تفعل شيئاً، وكان لساننا يعمل داخل أفواهنا. كُنت بكلِّ وجودي مشغولاً بالذكر، مثل بقيِّة الشباب. وكان حجم نيران العدُوِّ يشتدُّ في كلِّ لحظة. فقد كانوا يرمون على كلِّ شبر في المكان الّذي كنّا مستقرِّين فيه، فاعتقدت أنّ أكثر الشباب قد استشهدوا. وكان يجب أن أنتظر أوامر القاعدة.

 

وبعد مدّة ارتفع صوت اللاسلكي، كان أحد قادة العمليّات، ولم يكن يظنُّ أنّني كنت ما زلت حيّاً، وقال: إنّ إيثاركم قد أعطى ثماره والحمد لله، إذا كُنتم ما زلتم على قيد الحياة فارجعوا.

 

كانت قوّاتنا قد كسرت خطّ دفاع العدُوّ من المحاور الأخرى. والارتباك الّذي وقعوا فيه دفعهم إلى نسياننا. فوقفت بسرعة أنا والشباب.

 

وبعد عدّة دقائق انسحبنا إلى الخلف.

 

لقد كان انتصاراً ساحقاً من نصيب الشباب. وعندما وصلنا إلى الخلف اندهشوا بشدّة! وحتّى نحن لم نكن لنُصدِّق. فنحن ذهبنا جميعنا للشهادة على أساس أن لا نرجع. ولكن وبلطف الأئمّة الأطهار عليهم السلام استشهد منّا واحد أو اثنان، وجُرح واحدٌ أو اثنان.

 

76


70

تراب كوشك الناعم

رعاية أمِّ أبيها عليها السلام

حجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

(نقلت هذه القصّة عن الشهيد برونسي)

كانت العمليّات لم تبدأ بعد بشكل جدّي عندما تعقّد العمل. فقد علقت كتيبتنا وأصبح وضع الشباب صعباً.

 

لا سابق لهذا الوضع من قبل، ولم أكن أعلم ماذا أصابهم، فلم يكونوا يسمعون الكلام؛ إنّهم أولئك الشباب الّذين كانوا إذا قُلت لهم ارموا أنفسكم في النار يرموا!

 

نظرت إلى وجه بعضهم، لقد كانوا في حال خاصّ، فلا تستطيع أن تقول: عندهم ضعف، ولا تستطيع أن تقول: إنّهم خائفون، ولا تستطيع أن تخمِّن شيئاً. ومهما تكلّمت معهم، فإنِّي لم أحصل على نتيجة! لقد كانوا وكأنّهم قد التصقوا بالأرض لا يُريدون أن يبتعدوا عنها! ومهما فعلت لأدفعهم على المسير، لم أستطع إلى ذلك سبيلاً.

 

ولو أنّنا لم نكن قد توغّلنا في العمق، لكان احتمال خسارة محاور أخرى أيضاً كبيراً، وبكلفةِ كثيرٍ من الشهداء. ولكنِّي كُنت قد عجزت، وفقدت الأمل تماماً، فتساءلت في نفسي: ماذا أفعل؟

 

رفعت رأسي إلى السماء وتأوّهت في قلبي: إلهي أنت أعنِّي.

 

ابتعدت عن الشباب قليلاً، وناديت الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام من كلِّ قلبي وتوسّلت بوجودها الشريف، وتمتمت: سيِّدتي أنت ساعديني، أرشديني

 

77


71

تراب كوشك الناعم

حتّى أستطيع أن أُحرّك الشباب، فأنت تعلمين بوضعنا أفضل.

 

أخذت أتمتم بالدعاء لعدّة لحظات ثمّ أتيت لناحية الشباب، كان عندي يقين أنّ السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام لن تتركني وحدي، وقد كُنت أصلاً أنتظر رعايتها؛ وفي تلك الظلمة وذلك الضياع المحض، لمع في ذهني إلهام، فالتفتُّ إلى الشباب وقُلت لهم بجِدّيّة وبشكل قاطع: أنا لم أعد بحاجة إليكم! ولا أُريد أحداً منكم، فقط ليأتِ معي أحد رماة الآر بي جي، ولا أُريد شيئاً بعد الآن.

 

حدّقت بهم للحظة، وأنا أعدُّ الثواني أنتظر أن يُبادر أحدهم، فقام أحدهم، وكان أحد رماة الآر بي جي، وقال بصوت مرتفع: أنا أتٍ.

 

كان في نظرته جِدّيّة وتصميم. ولم يطل الوقت لحظات، حتّى قام آخر أكثر تصميماً منه، وقال: أنا أتٍ، وقام بعده آخر، ولم أنتبه لنفسي إلّا وكانت الكتيبة كلُّها قد قامت. فسرت بسرعة، وكان باقي الشباب خلفي.

 

لقد حيّر انتصارنا في تلك العمليّات الجميع، ولو أنّا كنّا تقدّمنا إلى المعركة بوضعنا الّذي كنّا عليه، لما كنّا استطعنا تحقيق أيِّ شيء. إنّ رعاية أمِّ أبيها عليها السلام هي الّتي ساعدتنا.

 

78


72

تراب كوشك الناعم

صفُّ الطعام

حُجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

ذهبت إلى الجبهة من مدينة قم، وهو ذهب من مشهد المقدّسة. وكان من حظِّي أن أراه مرّتين أو ثلاثة في الخطّ الأمامي أو في الخلف، في إحدى هذه المرّات كان في إحدى القواعد. وقت الظهر، وبعد الصلاة كُنت خارجاً من المسجد ومتّجهاً إلى مكان الاستراحة، وفي الطريق وقع نظري على سيّارة تويوتا. كانوا يوزِّعون الغداء، وكان عدد من شباب التعبئة يقفون في الصفِّ، وفجأة وقع نظري عليه من بينهم! للحظة ظننت أنّني مشتبه، نظرت بدقّة، وقُلت في نفسي: ربما أنّني سمعت اشتباهاً أنّه أصبح قائد الكتيبة!

 

فتقدّمت إلى الأمام وسلّمت عليه وسألته: لماذا تقف في صفِّ الطعام يا سيِّد برونسي؟! هل قائد الكتيبة...

 

لم أستطع أن أُكمل كلامي. فقد ماتت البسمة على شفاهه، وقال: هل إنّ قائد الكتيبة له المِيْزَة على شباب التعبئة الآخرين، ليأخذ الطعام بدون دور؟

 

فتذكّرت الحديث الشريف، "من تواضع لله رفعه الله". وقُلت في نفسي: ليس من دون عِلّة أنّ السيِّد برونسي له هذه السمعة الكبيرة في الجبهة.

 

79

 


73

تراب كوشك الناعم

محبس الذهب

معصومة سبك خيز

في إحدى العمليّات كُنت قد نذرت محبس الزواج، وقُلت في نفسي: إذا عاد بالسلامة إن شاء الله سوف أضع هذا المحبس في ضريح الإمام الرضا عليه السلام.

 

أُصيب بالجروح في تلك العمليّات، ولكن جرحه لم يكن عميقاً. وإلى أن عاد كان هذا الجرح قد شُفي، فأتى إلى البيت سالماً.

 

وعندها، أخبرته عن نذري للمحبس، وقُلت له: لهذا أنت عدت سالماً.

 

فابتسم وقال: عندما تُريدين أن تنذري في المرّة القادمة فليكن نذرك للجبهة.

 

سألت: لماذا؟!

 

قال: لأنّ ثامن الأئمّة لا يحتاج، أمّا الجبهة الآن فهي محتاجة، والآن أيضاً لا تأخذي محبسك إلى الحرم وتضعيه هناك.

 

فانكمدت في نفسي منه قليلاً، ولكنِّي لم أقل شيئاً وأطعته كالعادة.

 

وفي العمليّات التالية أُصيب بجراح عميقة. وكانوا قد أخذوه إلى مستشفى كرج، فاتّصل أحدهم بنا إلى مشهد وأخبرنا بالموضوع. فأردت أن أكلِّمه فقالوا لي: إنّ حالته لا تسمح بالكلام.

 

في ذلك اليوم ذهب أخي مع أخ زوجي إلى كرج، وفي اليوم التّالي اتّصل أخي من طهران، ولا أدري أأجبت على سلامه أم لا، وسألته بسرعة: ما الخبر؟ هل إنّ وضعه جيِّد؟

 

 

80


74

تراب كوشك الناعم

 ووقفوا فوق رأسي، وسألوني عن أحوالي وتكلّموا معي وكانوا يمسحون بأيديهم على جروحي ويقولون: عبد الحسين لحمه قاسٍ، إن شاء الله سوف يتحسّن.

 

كان الحاجّ يقول: لقد مكثوا عندي طويلاً، وعندما أرادوا الذهاب، أراني أحد هؤلاء العظام المحبس عينه. وقال لي: بلهجة تذهب بعقل الإنسان وقلبه ووعيه: كيف حال محبسكم؟

 

لقد تعجّبت كثيراً. ثمّ رأيته يقول: قل لها: أن تضع ذلك المحبس في الضريح.

 

عندها امتلأت وجنات أخي بالدموع. أمّا أنا فلم أفهم ما حلّ بي. لقد عرفت الآن! لم تكن إرادته هو وضع المحبس في الضريح؛ بل أوامر أولئك الذين يُقاتل من أجلهم؛ وممّا يجدر ذكره هذه الملاحظة؛ أنّ لكلِّ شيء موقعه.

 

82

 


75

تراب كوشك الناعم

الأمنية الأخيرة

حميد خلخالي

كان عشقه للصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام أكثر من أن يُقال على لسان، ولا يُمكن وصفه.. وقال ذات مرّة وهو جالس بين المقاتلين: أتمنّى أن أكتب اسم أمِّي1 بدم نحري.

 

نظرنا إلى بعضنا، وبعضُنا أبدى تعجُّبه، فهو يُريد أن يكتب بدم نحره، وهذا الكلام محلُّ تساؤل، فسألناه. فبدا عليه الحزن وقال: إنّ مشهداً من يوم عاشوراء يُشعل النار في قلبي!

 

وبسماع اسم عاشوراء انقلب وضع المقاتلين من حال إلى حال. وتغيّر وضعه هو أيضاً، وتابع بصوت مرتجف: ذلك المشهد عندما رمى مولاي أبو عبد الله عليه السلام دماء عليِّ الأصغر إلى السماء وقال "اللهم تقبّل"، وأنا أتمنّى أن أكتب اسم سيّدتي بدم نحري لأُثبت عشقي وحبِّي لهم.

 

وكان ملفتاً للنظر وهو يقول: أتمنّى من الله أن تتحقّق هذه الأمنية قبل شهادتي.

 

وردّد هذا الكلام بعد ذلك عدّة مرّات. ولكن أمنيته لم تتحقّق في عدّة عمليّات كُنت معه فيها.

 

وأمّا في عمليّات والفجر الأولى فلم أكن معه، وانتابني القلق والاضطراب عندما علمت أنه قد جُرح. فقد قال الشباب: إنّ شظيّةً قد أصابت نحره.

 

 


1- كان دائماً عندما يتحدّث عن حضرة الزهراء عليها السلام يُخاطبها بهذا اللفظ.

 

83

 


76

تراب كوشك الناعم

والنحر مكان حسّاس جدّاً، وحتّى إنِّي احتملت أنّه، ربّما يكون قد استشهد. وعبّرت لهم عن مخاوفي هذه، فقالوا: لا! الحمد لله إنّ جرحه لم يكن خطيراً.

 

سألت: كيف؟

 

فقالوا: الظاهر أنّ القذيفة كانت قد أُطلقت من مكان بعيد، وعندما أصابت الشظيّة نحر الحاجّ، كانت قد وصلت إلى آخر حدود مداها.

 

وعقّب أحد الإخوة على الكلام وقال: وفي النهاية تحقّقت أمنية الحاجّ، لقد رأيته بنفسي يكتب اسم الصديقة المقدّس على صخرة من نفس الدم الجاري من نحره.

 

وكان من محاسن الصدف أن أرى عبد الحسين يوم إخلاء الجرحى. كانوا ينقلونه على الحمّالة وهو نصف فاقد الوعي، ولم يكن من الممكن التحدُّث معه، كان جرح نحره واضحاً، ولكن كان يوجد أثر دماء على سَبّابته اليمنى.

 

وعندما وصل إلى المستشفى لم ينتظر حتّى يلتئم جرحه جيِّداً. وعاد فوراً إلى منطقة العمليّات. لقد كان يبدو عليه نشاط وحيويّة خاصّة. ويقول بسعادة: لقد لطف الله بي واستجاب لدعائي، ولم يعد لديّ أمنية أخرى غير الشهادة.

 

84


77

تراب كوشك الناعم

فصيل رماة الآر بي جي

السيِّد كاظم الحسينيّ

كان شابّاً فتيّاً طويل القامة واسمه داد يرقال1 ، وقد علمت أنّهم قد طردوه من الكتيبة. وقد حمّلوه رسالة، وكان سائراً باتجاه المكتب القضائيّ.

 

فرآه السيِّد برونسي في ذلك المكان. وفهم من طريقة مشيته ومنظر وجهه، أنّه لا بدّ من أنّه يواجه مشكلة ما. فاتّجه ناحيته وقال: سلام عليكم.

 

فوقف وأجاب على سلامه. فسأله الحاجّ: ماذا حصل يا فتى؟

 

فقال بهدوء: لا شيء، لقد طردوني، وأنا ذاهب إلى المكتب القضائيِّ.

 

ولم يتردّد الحاجّ، فأخذه بيده وذهب معه. وفي المكتب القضائيِّ ردّ لهم الرسالة وقال: سيِّدي أُريد أن آخذ هذا الشابّ.

 

قالوا: سيِّد برونسي، هذا لا ينفعك.

 

ولكنّه أصرّ وأتى به إلى الكتيبة.

 

لقد كان عندنا مثله عدد آخر أيضاً، وكانوا كلُّهم شباباً وكانوا من المطرودين من بقيّة الوحدات العسكريّة. وقد كانوا ينجذبون إلى الحاجّ منذ البداية. وكان الحاجّ يعمل بكلِّ جِدّيّة لتغيير أفكارهم وأرواحهم. بشكل يجعلهم ينتمون وبكلِّ إرادة إلى الفصيل الخاصِّ، يعني فصيل رماة الآر بي جي. حيث توكل إليه أصعب المهمّات.

 


1- لقب يطلقونه على الشاب غير الجدّي من ناحية التزامه الدينيّ أو من ناحية أنّه هازئ أو أنّه لا يُخالط الآخرين.

 

85

 


78

تراب كوشك الناعم

وبعد مدّة، أصبح ذلك الفتى "داد يرقال" قائد الفصيل الخاصّ، وبعد مدّة كتب اسمه ضمن لائحة الشهداء.

 

لا زلت أذكر ذات يوم، أنّ الحاجّ كان يقول للقائد السابق الّذي كان قبل (داد يرقال): أنتم لا تعرفون هؤلاء الشباب، ربما أنّه يترك صلاته لمرّة، أو أنّه لا يُخالط الآخرين، أو أنّه يمزح قليلاً، فتطردوه بسرعة، يجب أن تُرجعوهم إلى الطريق بالكلمة الطيِّبة، وإذا كان أحد يستطيع أن يفعل لنا شيء، فهو اعتمادنا على هؤلاء الشباب.

 

86


79

تراب كوشك الناعم

الوصفة الإلهيّة

مجيد أخَوَان

"قاسم"، أحد شبّان الكتيبة الجيِّدين، ومن أصحاب المعرفة. كان الحاجّ برونسي قائد الكتيبة وكان قاسم معاونه.

 

جاء ذات يوم إلى الحاجّ وقال بلا مقدّمات: أنا لا أستطيع أن أعمل بعد الآن!

 

فسأله الحاجُّ: لماذا؟

 

جلس قاسم وأخذ يهزّ رأسه يمنة ويسرة. وكأنّه سوف يبكي، فقال بانزعاج: إنّ ذهني مشغول إلى درجة أنّه سوف يؤثِّر على عملي. أخاف أن لا أستطيع أن أعمل كما يجب. لا تنزعج مِنِّي يا حاجّ، وأرجو أن لا تحمل في قلبك منِّي ها!

 

ربما كنّا أنا والحاجّ فقط نعلم أنّ قاسم تُشغله مشاكل عائليّة. ومن ثَمّ تابع الكلام... كان معلوماً أنّه كان يحمل قلباً مليئاً بالألم. وقد كانت كلُّ عواطف الحاجّ معه.

 

كان عندنا الكثير من هذه النماذج في المنطقة. وكان الحاجُّ بمنزلة الوالد لهم. فأفراد التعبئة وحتّى أولئك الّذين كانوا أكبر سنّاً من الحاجّ، يأتون إليه ويُحدّثونه بمشاكلهم. ولم يكن الحاجُّ يُقصِّر في أيِّ عمل يستطيع القيام به، وحتّى أنّه كان يُخبر المسؤولين عندما كانوا يأتون من المنطقة لأجل الاهتمام بهذه المواضيع ومتابعتها.

 

وعندما أنهى قاسم كلامه بدأ الحاجُّ بقراءة عدد من الآيات القرآنيّة

 

87

 


80

تراب كوشك الناعم

والأحاديث الشريفة وكان يُحاول أن يجد حلّاً لهذه المشكلة، لقد كان كثيراً ما يستفيد من هكذا موارد مع الشباب ويقول: أوّلاً من أنا حتّى أُرشدكم؟ ثانياً: أنا أمّيّ.

 

على هذا الأساس كان جُلُّ حديثه من القرآن ونهج البلاغة والأحاديث الشريفة. وفي ذلك اليوم عندما أتمّ الحاجُّ حديثه كان قاسم قد أحسّ بهدوء خاصٍّ. مثل برعم قد تفتّح، ثمّ انصرف.

 

وفي مراسم الصباح التّالي، كان الحاجُّ يُلقي خطاباً في الشباب. وضمن كلامه أتى على سيرة اليوم السابق، كان يمدح قاسم بالكناية، وكان يقول: يجب أن يتعلّم البعض منه، عندما يكون لديه مشاكل يأتي ويطلب إجازة لأنّه يخاف أن تؤثِّر مشاكله على عمله.

 

ومن يومها كان قاسم يأتي إلى الحاجِّ ويُحدِّثه بكلِّ ما يدور في قلبه. وفي كلِّ مرّة كان يأخذ وصفة جديدة ويذهب.

 

وعندما استشهد قاسم ذهبنا إلى منزله في مشهد. كان يعيش في نفس المنزل أبوه وأمُّه وأخوه وزوجته. وعندما أتى الحديث عن أخلاق قاسم قالت زوجته: لقد كان لي مشاكل شديدة مع والدة قاسم، وفي أواخر أيّامه وعندما كان يأتي في إجازة، كان يقول كلاماً يحلُّ به كلُّ تلك المشاكل. فقد كان يصبُّ ماءً على نار خلافاتنا.

 

لفتت انتباهي بكلامها. وهي تتابع: لم يكن قاسم يعرف هكذا كلام، ولم يكن عنده هذا الفنُّ، ولو كان عنده هكذا فنٌّ لكان حلّ كلّ مشاكلنا من قبل؛ منذ زمن بعيد. لم أعلم ماذا علّموه في الجبهة، أعلم فقط أنّهم يقولون إنّ الجبهة هي جامعة، في الحقيقة هذا الكلام صحيح، لأنِّي أنا نفسي رأيت هذا بعينَيّ.

 

88

 


81

تراب كوشك الناعم

بلِّغوا سلامنا إلى الحاجِّ

مجيد أخَوَان

كان قد تقرّر أن تُدمج فرقة (77 خراسان) مع فرقة أخرى من أجل العمليّات. وفي ذلك الوقت كان قائد الفرقة 77 هو الضابط "صديقي". وذات يوم كان لنا جلسة معه. ذهبنا إلى غرفة التوجيه للفرقة 77 وجلسنا نتكلّم عن العمليّات.

في البداية، كان الّذي بدأ الحديث من المراتب العليا للقيادة، وكانت هناك خريطة معلّقة على الجدار، كانوا يحورون ويدورون ويتحدّثون. فوصل الدور إلى قادة الفصائل. وتكلّم شباب الفرقة، وشباب التعبئة أيضاً. وكان أكثر الكلام يجري عن النواحي الكلاسيكيّة والتكتيكيّة؛ مثلاً: كم عدد الدّبابات الّتي بحوزتنا، والعدُوّ ماذا عنده، ما هي القوّات الّتي عندنا وعند العدُوِّ، وكيف يجب أنّ نهيِّئ النيران، أو كيف يجب أن نناور ووو....

 

كان الحاجّ برونسي قد أصبح وقتها قائد لواء (18 جواد الأئمة) عليهم السلام. وكانت مسؤوليّة الركن الثّاني للّواء بعهدتي أنا. وكُنت جالساً إلى جانبه بالضبط. وأخيراً وصل الدور في الكلام إلى لوائنا. فوقف الحاجّ وتقدّم إلى الأمام. بمظهره البسيط والقرويِّ، كان لمنظره وقعٌ خاصٌّ في القلوب. كان الجميع ينظر إليه، وخصوصاً أنا فقد كانت دقّات قلبي تتسارع أكثر من ذي قبل. كُنت على علم بقدرة الحاجّ وسيطرته القويّة على بيان المعلومات. ولكنِّي لأوّل مرّة أُشارك في هكذا اجتماع وأستمع إليه، فقُلت في نفسي: ماذا يُريد الحاجّ أن يقول في هذا الجمع؟

 

89

 


82

تراب كوشك الناعم

وبعد قوله بسم الله وقراءة آية قرآنيّة وحديث شريف، مكث قليلاً وقال: لقد جرى الحديث بشكل كافٍ عن قضايا التكتيك، طبعاً كان يلزم أكثر من هذا، ولكن هذا كافٍ. وأنا أُريد بعد إذنكم أن أتحدّث في اتِّجاهٍ آخر. أُريد أن أقول: إنّنا يجب أن ننتبه إلى أن لا يأخذنا الغرور كثيراً!

 

قال هذا وعرّج بالحديث على معارك صدر الإسلام، معركة أحد. عن الغرور الّذي سبّب خسارة قوّات الإسلام. وتابع: الآن يجب أن لا يجعلنا التكتيك وهذا الكلام مغرورين. لا تقولوا: العراق عنده دبّابات ونحن عندنا أيضاً. لا تقولوا: العراق عنده مدافع، ونحن أيضاً عندنا. أتذكرون؟ في أوائل الحرب تعلمون ماذا كان عندنا، وماذا كان عند العراق؟ تذكرون كيف أنّنا استطعنا أن نُلحق بهم الهزيمة. ومع الأسف فقد أصابتنا بعض شظايا هذه الأشياء أيضاً، ولكنّنا لم نعتبر. أنا لا أُريد أن أقول: إنّ بحوث التكتيك لا طائل منها، بل هي أيضاً مهمّة جدّاً، ولكنّنا يجب ألا نغفل عن العقيدة والمعنويّات، وما هو أصلاًـ الأساس والمرتكز لهذه الحرب، ومن أجل ماذا.

 

تسمّرت عيون الجميع به. وكان حديثه يُصبح في كلِّ لحظة أكثر حرارة. ثمّ بدأ وبشكل ملفت كثيراً يُقارن بين جيش الإمام الحسين عليه السلام وجيش يزيد. ثمّ ذهب إلى صحراء كربلاء وإلى منظر القتلى.

 

انقلب جوُّ الجلسة فجأة من حالٍ إلى حالٍ أخرى. وفي ظرف عدّة ثوانٍ. ارتفع صوت البكاء من كلِّ جانب. كان الجميع يبكي بدون استثناء، وأيّ بكاء! كان الحاجُّ ما زال يتكلّم، أصبح صوته مرتفعاً ومرتجفاً. وتابع بتلك الحالة الّتي لا يُمكن وصفها: صحيح يجب أن نملك الأسلحة والمعدّات، ولكن الّذي يُريد أن يحمل قاذف الآر بي جي، في البداية يجب أن يكون قلبه ممتلئاً بعشق الإمام الحسين عليه السلام ، وإذا لم يكن هكذا، فإنّه لن يستطيع أن يثبت أمام ال T- 22 العراقيّة...

 

وفي النهاية انتهى حديثه. كان قد انقلب حال الجميع إلى حال آخر. فقام العقيد صديقي من طرف الغرفة الآخر إلى طرف الحاجِّ. ضمّه إلى صدره وقبّله في وجهه. كانت عيناه قد احمرّت من شدّة البكاء. وقال والغصّة تخنقه: يا حاجُّ كلُّ ما تُقرِّره بالنسبة إلى لوائك، فأنا سوف أُطبِّقه بدون أيِّ تغيير.

 

 

90

 


83

تراب كوشك الناعم

وبعد قليل اتّجه وأخذ بيد العقيد إيرايي، قائد لواء 1، ووضع يده بيد الحاجّ. وقال له: أنت مع لواء 1، سوف تكون بتصرُّف الحاجّ برونسي، وتُطبِّق كلّ ما يقوله حرفاً بحرف.

 

ثمّ ترك يده وتابع: قولوا هذا الأمر العسكريّ لكلّ الّذين هم في المراتب الأدنى.

 

ومنذ ذلك الوقت كنّا كلّما نحتاج أيّ شيء من الفرقة 77، كانوا يعطوننا إيّاه بسرعة، وقبل كلِّ شيء يسألون كيف هو الحاجّ؟

 

وعندما كُنّا نُريد العودة كانوا يقولون: بلِّغوا سلامنا إلى الحاجّ برونسي بكلِّ تأكيد.

 

91


84

تراب كوشك الناعم

إلقاء خطاب إجباريّ

مجيد أَخَوَان

كان يُلقي في المراسم الصباحيّة خطاباً أو خطابين في الأسبوع. وذات مرّة، وقبل المراسم الصباحيّة أرسل بطلبي، فذهبت إليه. قال: "أخوان"! سوف تُلقي اليوم أنت خطاباً للشباب.

 

لقد كانت لهجته مثل نظرته جدّيّة، وللحظة، لم أدر ما أقول وارتبكت، فحتّى الآن لم يكن لي سابقة في هكذا مجال، فقُلت بتواضع: يا حاجّ أنت خطيب وأنا لست أهلاً لهذا.

 

أصبحت لهجته أكثر جدّيّة، وقال: اذهب والق خطاباً تتعلّم.

 

فأخذت أُصرّ على موقفي بعدم الذهاب، ولكنّه، واجه إصراري في النهاية بانزعاج، وقال: أنا رجل عجوز أمّي قرويّ، وأخطب! وأنتم المتعلِّمون والدارسون لا تستطيعون؟! في الواقع هذا شيء مخجل!

 

طأطأت برأسي إلى الأسفل، ومشى الحاجّ خطوات، ثمّ التفت وقال: اذهب! اذهب هيِّئ نفسك لتأتي وتلقي خطاباً.

 

ولم أكن أنا وحدي من أجبره على إلقاء خطاب إجباريّ، بل هو أجبر كلّ كوادر اللواء أن يفعلوا ذلك.

 

وكان يقول لنا وقت الفطور: "وحيدي" و"أخوان" ومسؤول العمليّات، اذهبوا إلى كتيبة جند الله.

 

وكان يذهب هو أيضاً مع شخص آخر إلى الكتيبة التالية، ويُقسِّم الكوادر الباقين

 

 

92

 


85

تراب كوشك الناعم

 بين الكتائب الأخرى؛ وفي ذلك الوقت كنّا نُصبح في ضيافة التعبئة، ولكن عمله كان أكثر تعقيداً من عمل الباقين؛ فقد كان يأكل لقمة أو لقمتين في هذه الخيمة، ولقمة أو لقمتين في الخيمة التالية و...، وهكذا كان يمرُّ على كلِّ الخيم.

 

وكان هذا البرنامج في الغداء والعشاء أيضاً. وكنّا كلّما نسأل عن السبب في الخطاب الإجباري أو طريقة الطعام، كان يقول: يجب أن تعرف شباب التعبئة من أصواتهم لا من وجوههم.

 

كان يقول: في ليالي العمليّات، الشباب لا يرون وجه "أَخَوَان" في الظلام، بل إنّهم يسمعون صوته، وعندما يقول: تقدّم إلى الأمام، يقولون: هذا "أَخَوان"، وعندما أقول أنا: إذهب إلى الشمال يقولون: هذا برونسي.

 

وكلّ من كان يسمع هذه الأدلّة، كان يُعجبه هذا الكلام ولا يبقى في قلبه أيُّ ضغينة. وإضافة إلى عادته في الخطاب، والأكل مع أفراد التعبئة، فقد ترك أشياء جميلة كان لها تأثيرها أيضاً.

 

93

 


86

تراب كوشك الناعم

زوجتي ومئة حوريّة

مجيد أَخَوان

كان الحاجّ قد دخل مستشفى 17 شهريور. وذهب أبي لزيارته، وعندما عاد قال: إنّ قائدك هذا يا بنيّ رجل عجيب!

 

قلت: كيف؟

 

قال: أصلاً هو ليس من أهل هذه الدنيا، بل هو هنا بشكل مؤقّت، وأنا مطمئنٌّ أنّ محلّه في مكان آخر.

 

فعلمت أنّه ارتاح كثيراً من كلام الحاجّ، ثمّ تابع: كنّا نتكلّم بشكل عاديّ فوصل إلى الكلام عن الحوريّة. فهمست في أذنه: خلاصة الكلام! يا حاجّ عندما تذهب إلى تلك الدنيا دبّر لي واحدة.

 

فضحك وقال: على عيني. ثمّ تكلّم كلاماً له معانٍ كثيرة. ثمّ قال: أنا لا أُبدِّل زوجتي في هذه الدنيا بمئة حوريّة.

 

فقُلت: الحاجّ يعرف زوجته جيِّداً، ومثل الحاجّ يجب أن يُقدِّر هكذا زوجة مضحيّة وصبورة.

 

94

 


87

تراب كوشك الناعم

ذكريات الهضبة 124

السيِّد كاظم الحسينيّ

قبل عمليّات "والفجر" التمهيديّة، كنّا نأخذ الكتائب من أجل التدريب على القتال الليليِّ والمناورات الليليّة، وكانت منطقة "والفجر" التمهيديّة قد حُرِّرَت في عمليّات "والفتح المبين".

 

جاء عبد الحسين ذات يوم يطلبني، وقال: تعال لنذهب للاستطلاع ثمّ نعود.

 

كانت منطقة "فكّة"، رمليّة شديدة الصعوبة. وكان على القوّات أن تتحرّك سيراً على الأقدام من ثلاثين إلى أربعين كيلومتراً على الأقلّ حتّى تستطيع فيما بعد أن تسير في الرمل لمسافة سبعة إلى ثمانية كيلومتر مع التجهيزات. وكأنِّي تجاهلت هذا. فقُلت: حسناً نحن نقوم بذلك في كلِّ ليلة.

 

فقال: لا! يجب أن نضع برنامجاً دقيقاً من أجل تحصيل المزيد من الاستعداد عند الشباب، ثمّ ابتسم وتابع: على الأقلّ سوف نحيي ذكريات "والفتح المبين" مجدّداً.

 

جلست خلفه على الدرّاجة الناريّة، فأدارها وانطلق.

 

بعد أن سرنا في تلك النواحي خمسة عشر كيلومتراً،توقّف عند هضبة، هي الهضبة الرابعة والعشرون بعد المئة (124)، فترجّلنا وجلسنا في أعلى الهضبة. وفيما كنّا نصعد إليها قال لي: أُريد أن أسرد لك قصّة هذه الهضبة.

 

كانت عمليّات والفتح المبين، أوّل عمليّات يكون فيها هو قائد الكتيبة. وفيها

 

95

 

 


88

تراب كوشك الناعم

 أيضاً افترقنا أنا وهو عن بعض؛ كان يعمل في محور وأنا أعمل في محور آخر.

 

كانت ما تزال تفوح من الجَوِّ رائحة نسيم الصباح، وجدنا فوق الهضبة مكاناً جيِّداً وجلسنا وبدأ هو يستعيد ذكرياته، ذكريات الهضبة الرابعة والعشرين بعد المئة (124).

 

إنّ مهمّتنا كانت حسّاسة جدّاً، كما كان يقول قائد العمليّات. فيجب أن ندفع العدوّ، دخلنا مسافة تقرب من أربعة كيلومترات في عمق قوّاته كي نصل إلى هذه الهضبة. في ذلك الوقت بدأ عملنا، كان قائد أكثر قوّات العدوِّ حساسيّة في هذه المنطقة، يستقرُّ هنا، فوق هذه الهضبة.

 

ويجب بمجرّد أن نصل إلى الهضبة، أن نبقى بانتظار الأوامر، وقالوا لنا: بمجرّد إعلان بدء العمليّات، تهجمون أنتم أيضاً على هذه المنطقة.

 

تحرّكنا ليلة العمليّات قبل الباقين. وكان مسيرنا عبر أرض زراعيّة. واجتزنا خطّ العدوِّ بصعوبة كبيرة. ومن هناك وما بعد، أصبح الوضع أصعب. ولكنّنا لم نتعرّض لمشكلة حادّة حتّى وصلنا إلى قرب الهضبة. أمّا العمل الصعب فإنّه بدأ عندما اقتربنا من الاستقرار هنا. فأشرت إلى الشباب أن ينبطحوا أرضاً.

 

فانبطح الجميع فوق الأرض، ولو أنّك كُنت هناك لما كنت لتسمع صوت نفس أحدٍ منهم. وكُنت أن قد ركّزت كلّ حواسّي أراقب أطراف المكان، وكأنّ اللحظات تمرُّ بصعوبة وبطء، وكُنت أنتظر ارتفاع صوت اللاسلكي، وأنتظر أمر الهجوم.

 

مضت عدّة دقائق ولم يحصل شيء، وقد كُنت أكثر الجميع توتُّراً وتحسُّباً. إنّ ضبط القوّات في هكذا ظروف صعبٌ جدّاً، وكانت مدفعيّة العدوِّ فوق رأس الشباب تنتظر أقلّ صوت. أمّا مقرُّ قيادة لواء العدوِّ فقد كانوا قد أحاطوه بالأسلاك الشائكة، وسيّجوا كلّ الطرق المؤدِّية إليه بأكياس من الرمل، وموانع أخرى.

 

لقد صنع العدوّ لهذا المكان استقلاليّة عن الخطوط الأخرى، بحيث إنّه إذا اقتُحمَ خطّه يستطيع على الأقلّ أن يُقاوم. فقد صنع في كلِّ مسافة خطوة مركز حرس للمراقبة. وللحظة كُنت قد رفعت رأسي لأستطلع فاستطعت أن أعدّ سبعة إلى ثمانية من سيّارات الجيب.

 

 

96

 


89

تراب كوشك الناعم

مضت عدّة دقائق أخرى دون أيِّ خبر. وكان انزعاجي يزداد كلّ لحظة. فبارتفاع أقلِّ صوت من أحدنا، فسوف يرموننا من الأمام ومن الخلف أيضاً.

 

وما كان يزيد من غصّتي، أنّ كتيبتنا كانت استشهاديّة، وكان الشباب على استعداد على أن لا يعودوا. ولكنّ خوفي وقلقي كان من أن تنكشف خطّتنا. وإذا كُنّا سوف ننكشف فإنّ تخطيط كلِّ العمليّات سوف يفشل.

 

ومضت أيضاً عدّة دقائق، وعندما رأيت أنّه ما من خبر، بدأت بالذكر والتوسُّل. توسّلت بالمعصومين عليهم السلام. وكان وجهي قد ابتلّ منذ اللحظات الأولى بالدموع. لقد طلبت منهم العون، أن يُساعدونا على أن يبقى الشباب صامتين هكذا، وأن يخنقوا السعال في صدورهم إذا أرادوا أن يسعلوا، وأن لا تحتكّ الأسلحة بشيء، ولا يحتكّ شيء بشيء. وكُنت أطلب من أهل البيت عليهم السلام أكثر من أيِّ شيء آخر أن يصدر أمر العمليّات بسرعة.

 

وقرأت دعاء التوسُّل وبدأت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتّى صاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف. ولم يحصل أيُّ شيء. فتحدّثت إلى السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام وقُلت: لقد تكلّمنا معكم وذكرناكم أنتم العظماء كلّكم، ولم يحدث أيُّ شيء. لم يبق أحد، والآن ماذا نفعل؟!

 

وكأنّ السيِّدة العظيمة قد وجّهت رعايتها إليّ وأرتني طريقاً آخر. وفجأة تذكّرت حضرة رُقَيّة عليها السلام. فتوسّلت بها وقُلت: أتيت إلى بابك فابدئي بيديك الصغيرتين بالعمل وساعدينا.

 

كنت مشغولاً بالكلام مع السيِّدة رُقَيّة عليها السلام ، وانهمرت دموعي من جديد. ولم يمض وقت طويل، وفجأة أحسست بثقل يد على كتفي، كان حامل اللاسلكي، وكان يمدُّ يده لي بالسمّاعة، ولم أعلم كيف انتشلت السمّاعة من يده، لقد كان القائد، وكان يتكلّم ببطء شديد، قال: بالتوكُّل على الله ابدأ.

 

وعندما وصل عبد الحسين إلى هنا، سكت. كان وجهه قد تلوّن بحمرة، وكان يبكي، وكان شارداً في خياله في مكان بعيد، وكأنّه ما زال يرى نفس ساحات المعركة، ثمّ تابع كلامه وقال: عجيب كيف أنّ السيِّدة رُقَيّة عليها السلام اعتنت بنا!

 

97


90

تراب كوشك الناعم

 وأنا أصلاً لم أفهم ما الّذي حصل. ولكنِّي عندما انتبهت إلى نفسي، رأيت أنّني وحدي مع حامل اللاسلكي. وكان الجميع قد تقدّموا إلى الامام! لا أدري كيف اجتازوا الأسلاك الشائكة وكلّ الموانع! الّذي أعلمه فقط هو أنّهم وفي مدّة قصيرة كانوا قد هدموا كلّ المتاريس وكلّ شيء واستولوا على الموقع. وهذا ما شلّ حركة العدوّ. لقد كانت قوّات العدوّ تخسر مع وجود قائدهم، فكيف بهم إذا كانوا بدون قائد.

 

وفي منطقتنا بدأ الشباب الهجوم من المحاور الأخرى. وكان العدوُّ في كلِّ لحظة يزداد ارتباكاً ويأساً. ووقعت كلُّ تلك المنطقة في تلك الليلة في أيدينا.

 

كان في مقرِّ قيادة العدوّ عدّة نساء يعرفن اللغة الفارسيّة، وكان عملهنّ الاستماع إلينا على اللاسلكي. فأسرهُنّ الشباب. كنّ يقلن: فجأة رأينا قوّاتكم وصلت، واستولت على المواقع واحداً بعد الآخر.

 

وفي صباح يوم العمليّات، جاء أحد القادة إليّ، وحضنني وكان يُقبِّلني بشدّة ويقول: ماذا فعلت لقد استطعت بأقلِّ فرصة أن تقضي على هذا المقرِّ؟! أنت أصلاً لاتدري ماذا حصل، لقد انحلَّ خطُّ العدوِّ وداخ وضاع، يا إلهي، أنت محترف، وقُضيَ على قيادات العدوِّ واحداً بعد الآخر.

 

وكان هذا العبد لله لا يتوقّع أن نستولي على تلك المواقع في خلال عدّة دقائق. وكان يقول: منذ أن أعطينا أمر البدء بالمعركة، كنّا ما زلنا نحسب أنّنا إذا اجتزنا المعبر، ووصلنا بعدها إلى الموقع وضربنا هناك، سوف يطول الوقت؛ ولكنّنا رأينا فجأة أنّ مواقع القيادة، اختلطت خطوطها اللاسلكيّة ببعضها البعض وحصل ما حصل.

 

98


91

تراب كوشك الناعم

خدمة التنظيف

السيِّد كاظم الحسينيّ

كانت مسؤوليّة غسل الأطباق في تلك الليلة على عاتق الحاجّ، وكان يأتي دوره في هذا العمل مرّة كلّ عدّةِ ليالٍ.

 

وكان دائم الحركة، يركض من هنا إلى هناك، للاستطلاع، من أجل استقبال المتطوِّعين، وإعطاء المقاتلين الإجازات، ويذهب دائماً إلى الخطِّ الأماميّ، وعنده ألف عمل وعمل، ولكنّه لم يكن ولو لمرّة واحدة يرضى أن يُسلّم دوره الشهريّ1 في غسل الاطباق لأحد.

 

تناولنا طعامنا، وجمعنا الصحون والأواني، وبدأ الحاجّ بتنظيف السفرة، وكانت الأواني إلى جانبه، فحاول أحد الشباب أن يقوم بضربٍ من الشطارة، فتسلّل من مكانه على مهل، ومشى على رؤوس أصابعه إلى خلف الحاجّ وانحنى بهدوء وأخذ الأواني إلى الخارج بدون أن يُصدر أيّ صوت.

 

كان يظنُّ أن الحاجّ لم يَرهْ، مع أنّه رآه، ولكنّه تصرّف كأنّه لم يَرهْ. كُنت أعلم أنّه لن يمنعه من أخذ الصحون، لقد كان أكبر من أن يُفشل أحداً أمام الجمع. فجمع السفرة وخرج سريعاً.

 

لقد كان الشاب الّذي أخذ الأواني يجلس أمام حنفيّة الماء، وقد أراد البدء بالغسيل، فجاء الحاجّ من خلفه ورفعه من كتفيه، وقبّل وجنتيه وقال: مساعدتك إلى هنا، أخرجتَ الأواني، سلمت يداك، والبقيّة عليّ.

 


1- كانت مَهمَّة على أساسها يكون غسيل الأطباق واستلام الطعام على عاتق أحد الشباب.

 

99


92

تراب كوشك الناعم

فقال: يا حاجّ لا تُفشلني الآن، فقد شمّرت عن ساعدَيّ.

 

فأنزل له الحاجّ كمّيه إلى الأسفل وقال: لا يا سيّدي الحبيب، اذهب أنت إلى عملك.

 

ولكنّه قال بإصرار: لا تكسر بخاطري هذه المرّة.

 

ومع أنّه لم يحصل على نتيجة من إصراره، ولكنّه لم يتراجع، وكان الحاجّ أكثر إصراراً منه. وأخيراً قال له: أنت تُريد أن تأخذ مِنِّي أجر هذا العمل؟ إنّ أجر هذا العمل أكبر من الاستطلاع، صحيح أنّني أنا قائد الكتيبة، ولكنِّي إذا أردت أن أهتمّ بالأعمال، ويغسل لي هذا صحني وهذا ثيابي فلن أكون عندها قائداً!

 

وفي النهاية رجع الأخ وعندما عاد قال: ليس من دون سبب إذا قال الحاجُّ للشباب في ليالي العمليّات: موتوا، فيموتوا.

 

100

 


93

تراب كوشك الناعم

الصلاة بروحيّة

السيّد كاظم الحسينيّ

انتهت الجلسة وكان قد بقي ساعة إلى أذان الصبح، وعدنا إلى مركز الكتيبة، وكنّا قد ذهبنا للاستطلاع قبل الجلسة. وبمجرّد أن وصلت إلى الخيمة كانت قدماي لا تقويان على حملي، فارتميت على الأرض، وظننت أن عبد الحسين سينام أيضاً، فخلع جواربه وخرج! فخرجت خلفه.

 

فوقف أمام الحنفيّة وشمّر عن ساعديه وبدأ بالوضوء، و كان ضغط العمل عليه أكثر من أيِّ واحد فينا، فمن الطبيعي أن يكون أكثرنا تعباً، ولم يكن من المحتمل أن يكون عنده معنويّات وقدرة على أداء صلاة الليل بعد كلِّ هذا التعب.

 

أردت أن أقوم بنفس العمل، ولكنِّي لم أستطع أن أُقاوم النعاس، كنت أفكِّر بأنّه بعد ساعة أو ساعتين سوف يُطِلُّ قائد المحور برأسه، وعندها يجب أن نذهب للمراقبة ونحمل المنظار، والله يعلم متى نعود، وقُلت في نفسي: يحتاج الإنسان على مدى أربع وعشرين ساعة للاستراحة.

 

فدخلت إلى الخيمة وتمدّدت، وبسرعة نمت.

 

وعند أذان الصبح أيقظنا الحاجّ عبد الحسين، فنهضت وعركت جفوني، وتطلّب الأمر مِنِّي بضع لحظات حتّى استطعت أن أفتح عينيّ، فنظرت إلى وجهه! لقد كان معلوماً بأيِّ روحيّة صلّى صلاته، مثل كلِّ ليلة.

 

 

101


94

تراب كوشك الناعم

الفاكهة للجميع

السيِّد كاظم الحسينيّ

أحياناً كانت تطول جلسات الكتيبة. وذات مرّة كان القرار أن نستريح لعدّة دقائق، فقال أحد الشباب: يا حاجّ أنذهب إلى المطبخ لنحضر شيئاً نأكله، لقد أحسسنا بضعف كبير.

 

وبعد الاتفاق تقرّر أن يذهب أحد الشباب إلى المطبخ ليُرَتِّب الموضوع، ولا أذكر أَحضر يومئذ بطِّيخاً أم فاكهة أخرى؟ وقبل أن يبدأ الشباب بالأكل قال له الحاجّ: هل أحضرت إلى كلِّ الكتيبة أم لا؟

 

فارتبك الشاب الّذي أحضر الفاكهة وتفاجأ وأجاب: لا يا حاجّ، هكذا سوف تكون حِصّتُنا كبيرة جدّاً.

 

فقطّب عبد الحسين حاجبيه وقال: وما الفرق بيننا وبين البقيّة؟ نحن الآن نجلس هنا وندرس الخريطة والورق، ونقوم بعمل نظريّ، وأولئك سوف يصرفون طاقة غداً وينفُذون داخل خطوط العدوِّ.

 

وقال أشياءً أخرى لم أعد أذكرها الآن. ولكِنِّي أذكر جيِّداً أنّه لم يذق أيّ شيء من الفاكهة قبل أن يأكل كلُّ كادر الكتيبة1.

 

 


1- لقد كان دائماً هكذا، مثلاً ذات مرَّة أحضروا له "حراماً" جديداً، ولكنَّه لم يقبل. وأعطاه لشباب التعبئة واستعمل هو "حراماً" قديماً لونه بائر، تماماً مثل لباسه العسكريّ الَّذي كان مستعملاً.

 

 

102


95

تراب كوشك الناعم

شخصيّة القيادة

السيِّد كاظم الحسينيّ

لقد كان له تعلُّق خاصّ بحضرة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، والسّادة من ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأولادهم. فاحترامه لكلِّ سيِّد يُثير التعجُّب، ولا أذكر أنّني دخلت معه إلى أيِّ مكان، سواءٌ أكان متراساً أم خيمة أم بيتاً، أم... إلخ ودخل هو قبلي، وحتّى إنّه كان يسعى دائماً أن لا يتقدّم عليّ حتّى في المسير.

 

وذات مرّة أردنا أن نذهب إلى اجتماع، وعندما وصلنا إلى قرب باب الغرفة قدّمني كالعادة أمامه وقال: تفضّل.

 

ولكِنِّي رفضت أن أدخل، وقُلت له: تفضّل أنت.

 

فابتسم وقال: أنت تعلم أنِّي لا أتقدّم على السيِّد في أيِّ مكان.

 

فقلت باعتراض: هنا غير لائق أن أتقدّم أنا أوّلاً!

 

فقال: لأجل ماذا؟

 

قُلت: أعني، ماذا أقول؟ أنت القائد، وهنا، نحن في الجبهة أيضاً، وفي النهاية، يجب أن نحفظ أُبّهَةَ ومظهر القيادة.

 

فتأنّيْتُ قليلاً وتابعت بسرعة: إذا تقدّمت عليك، فإنّ مظهرك سوف لن يكون بالمستوى المطلوب.

 

فابتسم وقال: أنا لا أُريد أصلاً ذلك المظهر الّذي يُسبِّب عدم الاحترام للسّادة!

 

103

 


96

تراب كوشك الناعم

تراب كوشك الناعم وذكرى برونسي

السيِّد كاظم الحسينيّ

لقد جاء القائد العامّ للحرس الثوريّ إلى منطقتنا، قبل عمليّات شهر رمضان.

 

وكان الحديث بين المراتب العليا عن عمليّات خاصّة وموجعة للعدوّ. وفي النهاية أُسندت هذه العمليّات من قِبل قيادة الحرس إلى لوائنا، يعني لواء جواد الأئمّة (سلام الله عليه).

 

وفي ذلك اليوم قرّر مسؤول اللواء عقد اجتماع اضطراريّ، وكُنّا قد فهمنا الموضوع للتوّ، فإنّ العدوّ كان قد استقدم دبّابات T-72 إلى المنطقة. وكانتا كتيبتان "ميكانيكيّاً" قويّتان جدّاً للعدوّ تنتظران لشنّ الهجوم علينا خلف خطِّه المتقدّم المواجه لنا في الجبهة. وقد كان شباب استطلاع العمليّات يؤكِّدون أنّ أولئك قد حضّروا أنفسهم لهجوم كبير علينا في الغد.

 

كان القرار أن يهجموا علينا غداً وكانت دفاعاتهم محكمة إلى حدٍّ كبير ولا يُمكن اختراقها، وفي هذا الحال فإنّ عمليّات شهر رمضان محكومة بالفشل قبل أن تبدأ! وفي الاجتماع، وبعد كثير من المداولات، تقرّر أن نُبادر في نفس الوقت إلى القيام بعمل استطلاع، ونقوم في الليل بالتسلُّل إلى قلب العدوّ وتدمير دبّابات الـT- 72 بعمليّات نؤذي بها العدوّ.

 

لقد كانت المرّة الأولى الّتي يستقدم بها العدوُّ هذه الدبّابات إلى المنطقة، ولم يستعملها قبل هذا في أيّة عمليّات أخرى، ولم نكن قد تعاملنا معها قبل ذلك الوقت. وخصوصيّتها أنّ قذيفة ال آر بي جي لا تؤثِّر فيها، وإذا كانت سوف تؤثِّر بها، فيجب

 

 

104


97

تراب كوشك الناعم

 أن نرميها من مسافة قريبة جدّاً ونُصيبها في مكان حسّاس أيضاً.

 

جرى البحث في ذلك اليوم، عن عديد القوّات الّتي نحتاجها، لكي يتمّ استدعاؤها للمشاركة في تلك العمليّات، كما جرى البحث عن الطريق الّذي ينبغي أن يسلكوه، فتوجّه الأمر إلى ثلاث كتائب للقيام بهذا العمل. وكان عبد الحسين قائد إحدى تلك الكتائب. وعندما توجّهنا للاستطلاع، كانت ابتسامته الدائمة كالبحر وكان يبدو أهدأ من الجميع.

 

وصلنا إلى مكان قريب من خطّ العدوّ، وكان العراقيُّون قد عملوا لمدّة أسبوع على تدعيم هذا الخطّ. وكان يوجد أيضاً مانع صعب ومحكم، وهو قناة مائيّة. وكانت تبدو للعيان موانع عديدة أخرى، وقبل تلك الموانع، يوجد موقع يُسيطر أمامه على طريق صحراويّة واسعة وخالية. وإذا كُنّا سوف نحلّ مشكلة الموانع، فإنّنا نكون قد بدأنا، ولكنّ المسألة كانت مليئة بالمتاعب والمشاكل. مع كلِّ هذه الصعاب، فقد كان الشباب يسألون قائد الكتيبة: فقط قل لنا ماذا نفعل من أجل خطّ الرجعة.

 

كُنّا نتقدّم إلى قلب العدوّ من أجل القيام بضربة نؤذيه بها، وكان أهمُّ من كلِّ ذلك هو موضوع عودة القوّات سالمة. كان قائد الكتيبة قد أرشد البعض، وقد قمنا ببعض الأعمال الّتي تنفعنا في ذلك، كما كُنّا قد نظّمنا الأمور بناءً على خطّة تأمين خطّ الرجعة.

 

وعندما رجعنا من الاستطلاع، كان الوقت يقترب من الغروب، فذهب الشباب الّذين كانوا معنا لتوجيه بقيّة القوّات. وذهبنا أنا وعبد الحسين إلى كتيبتنا.

 

الكتيبتان الأُخرَيَان لم تستطيعا الوصول إلى نتيجة، إحداهما أضاعت الطريق بسبب استطلاعها المحدود؛ والأخرى أيضاً، داس قائدها على لغم. وكلتا الكتيبتين اتّصلتا باللاسلكي لطلب الإنسحاب والعودة إلى الخلف.

 

كانت كتيبتنا هي الأمل الوحيد، وكان أملنا بلطف ورعاية أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام. ولا أُبالغ إذا قُلت بأنّ عبد الحسين برونسي كان أكثرنا غَرَقاً

 

105

 


98

تراب كوشك الناعم

بالتوسُّل بهم عليهم السلام. وعندما أردنا الانطلاق، كان قد عطّلَنا عن المسير من أجل أن يجد عصبة رأس. لقد كان هناك الكثير من عصبات الرأس، ولكنّه كان يُفتِّش عن عصبة معيّنة. توجّهت إليه بسرعة وقُلت: ماذا تفعل يا حاجّ؟ خذ أيّ واحدة ولنذهب.

 

حتّى إنّني أخذت إحدى عصبات الرأس وأعطيته إيّاها. ولكنّه لم يقبلها. قال: أنا أفتِّش عن عصبة رأس عليها الاسم المقدّس لسيِّدتي الزهراء عليها السلام !

 

وكأنّه كان يعيش في عالم خاصّ به، ولم أُرد أن أدخل عالمه الخاصّ، فساعدته أيضاً. وفي النهاية وجدنا واحدة كُتب عليها بخطّ أخضر وبلون جميل "يا فاطمة الزهراء عليها السلام ، أدركيني!".

 

إغرورقت عيناه بالدموع، فأخذها وربطها على جبينه، وبعد عدّة دقائق كانت الكتيبة قد تهيّأت كلُّها للحركة، وسرنا بعد وداعٍ حارٍّ من الشباب، حقّاً! لقد حصل انقلاب فينا، وكان ذكر الأئمّة عليهم السلام لم يفتر عن شفاهنا.

 

كتيبتنا هي الوحيدة الّتي باشرت العمل ضدّ العدوّ؛ كنّا تقريباً ثلاث مئة أو أربع مئة من قوّات التعبئة، وكُنّا نسير بدقّة خلف بعضنا البعض بهدوء وبدون أيِّ صوت، باتجاه العدُوّ، في تلك الصحراء الوسيعة.

 

كان قد بقي تقريباً أربعون متراً لنصل إلى الموانع، وفجأة ألقى العدوّ قنابل تنوير، وكانت فوق رؤوسنا تماماً! كان الظلام الّذي كُنّا نستفيد منه قد انتهى وكأنّهم كانوا قد رأوا طرف الصفّ الّذي كُنّا نُشكّله. وفجأة ارتفعت أصواتهم وصراخهم. وبعدها تماماً ارتفعت أصوات الرمايات تباعاً، وانكسر هدوء المنطقة. ورُسمت عندها صورة غير متكافئة؛ هم داخل سدٍّ محكم وخلف الموانع، ونحن في صحراء خالية مستوية لا يوجد فيها أيّ مرتفع يقينا رماياتهم. فأخذنا جميعنا الأرض. والامتياز الوحيد الّذي كُنّا نملكه هو نعومة تراب المنطقة؛ بحيث إنّ الشباب اختبؤوا سريعاً في التراب.

 

كان العدوُّ يرمي علينا بكلِّ إمكانيّاته وقوّته. آر بي جي 11، قذائف دبّابات سبطانتان وأربع سبطانات، واستعمل كلّ ما كان يملك من الأسلحة. وفي المقابل

 

 

106


99

تراب كوشك الناعم

 كان عبد الحسين قد أعطى أمراً أن لا نُطلق ولا حتّى طلقة واحدة. كان قد درس الأوضاع بدقّة1. في هذه الحالة فإنّ العدوّ سوف يظنُّ أنّنا مجموعة استطلاع من عدّة أفراد، وسوف يظنُّ أنّه قد قضى على الجميع. وللمصادفة فإنّ هذا ما حصل.

 

كانت رماية النيران شديدة جدّاً لمدّة أربعين دقيقة. ثمّ بدأت تقلّ شيئاً فشيئاً حتّى انقطعت. كُنت ما زلت على قيد الحياة، ولكِنِّي لم أكن لأُصدّق. لأنّ العدوّ إذا كان قد اشتمّ رائحةً للعمليّات، فإنّه لم يكن ليتوقّف. فقد كانوا قد تيقّنوا بأنّنا مجموعة استطلاع. وهم لا يظنُّون أنّنا أربع مئة نفر من القوّات نفذوا إلى داخلهم.

 

كُنت ممدّداً تماماً إلى جانب عبد الحسين. قال: آتني بخبر عن الكتيبة وأعلمني عن الوضع كيف هو.

 

فزحفت حتّى آخر الصفّ. كان قد استشهد لنا ثلاثة عشر مقاتلاً. إنّ هذا العدد من الشهداء نفسه مع غزارة النيران الّتي أطلقها العدوّ، وبالنسبة لموضعنا المكشوف الّذي كنّا فيه، يُعتبر بحدِّ ذاته معجزة. وكانت جراح البعض شديدة جدّاً. ولكنّ كلّ واحد منهم صمّم على أن لا يرتفع صوت تأوُّهه. حتّى إنّ أحدهم كان من شدّة جراحه قد وضع ذراعه بين أسنانه يشدّ عليه من شدّة الألم حتّى لا يرتفع صوته. ففككت له الكوفيّة الّتي حول عنقه ووضعتها بين أسنانه وأخرجت ذراعه بكلِّ صعوبة2.

 

وكان قد وقع نظري على حسين جوانان3 ، وكان صحيحاً وسالماً، فأخذته إلى آخر الصفّ، وقُلت له: انتبه جيّداً أن لا ترتفع آهة من أحد الشباب.

 

 


1- لقد كان في أصعب الظروف، ومع حرصه الشديد على حياة الشباب، لم يفقد السيطرة على الأوضاع ولا مرَّة، وفي تلك الأحوال كان يختار أفضل الحلول.

2- وفي اليوم التالي عندما انسحبنا إلى الخلف، رأيت مكان أسنانه قد دخلت عميقاً في جلد ذراعه ولحمه من شدَّة الضغط.

3- كان قائد محاور الجيش الخامس "نصر"، وهو أحد معاوني الشهيد برونسي الَّذي حلّق بعدها إلى السماء شهيداً مثل قائده.

 

107

 


100

تراب كوشك الناعم

فسأل: ألا تعرف ماذا يُريد الحاجّ أن يفعل؟

 

فقُلت بتعجُّب: هذا لا يحتاج إلى سؤال، طبعاً سوف ننسحب.

 

فقال: والعمليّات ماذا نفعل بها؟

 

قُلت: يا رجل! العمليّات في هذه الأوضاع، تعني الانتحار!

 

ولم أنتظر سؤالاً آخر، فعدّت زاحفاً إلى أوّل الصفّ، إلى المكان الّذي كان فيه عبد الحسين، وكان يُخيّل إلى الناظر إليه أنّه نائم، لأنّه كان ممدّداً على بطنه، واضعاً جبهته على ظاهر يديه ولا يتحرّك، فناديته بصوتٍ منخفض، فرفع رأسه، فقُلت: يبدو أنّك لا تُريد الانسحاب؟

 

لم يقُل شيئاً، فأثارتني برودة دمه4 ، ثمّ أتممت كلامي وقُلت: ماذا تُريد أن تفعل يا حاجّ؟

 

فقال بهدوء وبصوتٍ حزين: قل يا سيِّد ماذا نفعل؟ أنت لك علم بالخريطة والتعرُّجات والبوصلة وأصول الحرب وتعرف مثل هذه الأشياء!

كانت طريقة كلامه عجيبة بالنسبة لي، فقُلت بدون أن أُفكِّر: حسناً، معلوم، نرجع.

فقال بسرعة: ماذا؟!

كنت أُفكِّر بالأوضاع وبألم الجرحى، فقُلت بثقة أكبر: نرجع.

فقال: وهل يُمكن أن نرجع؟!

فأجبته بسرعة قائلاً: وهل يمكن أن ننفذ من هذا السدِّ اللعين؟!

ولم يقُل شيئاً، وحتّى يكون كلامي مؤثِّراً بدأت بتوضيح المطلب: كان لدينا طريقان لا أكثر، ولأنّنا انكشفنا، ما جعل العدوّ منتبهاً جِدّاً، فقد سُدّ هذان الطريقان.

أشرت إلى ساعتي وتابعت: إنّ القائد نفسه قال: إذا لم تستطيعوا عمل شيء إلى الساعة الواحدة، فعودوا؛ والآن أصبحت الساعة الثانية عشرة والنصف. وفي هذه الدقائق المعدودة لا نستطيع عمل أيِّ شيء.

 

 


4- في الحقيقة إنّ برودة دمه كانت فقط عندما يكون في وضع حسَّاس ويُريد أن يتَّخذ قرارات هامَّة، ولكنَّه كان إذا أَحسّ بأنَّ هناك خطر على حياة القوّات فإنَّه يكون أكثر ثورة من أيِّ واحد، بل كان يُصبح في وضع آخر، حتَّى إنَّه ينسى الموقع والمكان، ولإتمام هذه الخاطرة أشير إلى هذه النقطة.

 

108

 


101

تراب كوشك الناعم

ولأنِّي نطقت باسم القائد ظننت أنِّي قد وضعت يدي على نقطة حسّاسة، فقد كُنت أعلم أنّه يُطيع المراتب الأعلى منه في أصعب الظروف. وفي أحسنها، أي: حتّى في الأوقات الّتي كُنّا نقتحم فيها موقعاً عراقيّاً وننفذ إلى عمق مواضعهم. وكُنّا نستقرُّ فيه، كانوا في المراتب الأعلى منه يُكلِّمونه باللاسلكي ويقولون: يجب أن تعودوا.

 

في تلك الظروف كان يعود بدون أيِّ تردُّد. والآن كُنت أنتظر ردّ فعله. قال: هذا رأيك؟

 

سألت: وهل لك رأي آخر؟

 

فبقي ساكتاً للحظات. وكان يبدو عليه كأنّه سوف يبكي، قال: أنا عقلي مقفل لا أستطيع أن أصل إلى حلٍّ.

 

ما زلت أذكر بدقّة أنّه كان واضعاً وجهه على تراب كوشك الناعم والرمليّ، كُنت أنتظر نتيجة المداولة الّتي جرت بيننا.

 

هكذا كانت تمضي اللحظات تباعاً، وكان القلق يأكلني، وكان هو ساكت، هكذا! ولا يتكلّم فسألته: إذن ماذا نفعل يا حاجّ برونسي؟

 

حتّى إنّه لم يُحرّك نفسه، فقُلت بعصبيّة: يا حاجّ الجميع ينتظرون، قُل ماذا تُريد أن تفعل؟!

 

أيضاً لم أسمع شيئاً، وكرّرت سؤالي عدّة مرّات أيضاً، وكأنّه ليس في هذا العالم، فشككت للحظة في أنّه قد فقد سمعه أو أيّ شيء آخر؟ أردت أن أُكرِّر سؤالي، فجلب انتباهي صوت آهة خفيفة، كان الصوت يأتي من الخلف، فزحفت بسرعة إلى وسط الصفِّ.

 

مضت عشر دقائق تقريباً، وفي هذه المدّة أتيت ثلاث مرّات إلى ناحية عبد الحسين. كان قلقي واضطرابي يزدادان في كلِّ لحظة، فكلُّ انتباهي وحواسّي عند شبابنا المقاتلين، ولا أدري ما الّذي أصابه، فهو لا يردُّ جوابي، فقُلت بغيظ: ما هذا الوضع يا حاجّ؟ قُل شيئاً!

 

لم يقُل أيّ شيء، وعندما أتيت باتجاهه آخر مرّة، رفع رأسه دفعة واحدة،

 

109

 


102

تراب كوشك الناعم

 فلم أنظر إلى وجهه بدقّة، بل لم أنظر أصلاً، كان قلبي فقط ينبض بسرعة، وبسرعة أكثر كنت أتمنّى أن نخلص من هذا الوضع وبأسرع وقت، ولم يكن العدوُّ ليبقى بدون عمل، فكان من مدّة إلى أخرى يرمي قنبلة مضيئة، وأحياناً قذيفة هاون أو يرمي طلقة من نوعٍ آخر.

 

وأخيراً تكلّم عبد الحسين، وكان صوته يختلف عمّا هو قبل عدّة دقائق، كان فيه غصّة، تماماً مثل من كان قد بكى بشدّة، وقال: سيِّد كاظم! اسمع جيِّداً ماذا سأقول.

 

وحسب القول المعروف (كان لي أذنان، فاستعرت أذنين أخرَيَيْن)، فقد كُنت على يقين بأنّه سوف يحسم أمر تكليفنا. واستجمعت حواسّي على أربع وعشرين قيراطاً لأسمع كلامه، فقال: اذهب إلى الأمام.

 

فدارت عيناي في رأسي وقُلت: أذهب إلى الأمام لماذا، ماذا أفعل؟!

 

فقال: افعل ما أٌقوله لك بدقّة؛ اذهب إلى أوّل الصفِّ، يعني عند أوّل شخص.

 

وأشار إلى جانبه الأيمن وتابع: عندما تصل إلى أوّل الصفِّ، ترجع من ذلك الموقع تماماً باتجاه يمينك، تعُد خمساً وعشرين خطوةً.

 

سكت هنيهةً، ثمّ قال مؤكّداً: احسب بدقّة! ها!

 

كُنت مأخوذاً ومبهوتاً، كُنت فقط أنظر إليه، ثمّ قال: عندما تنتهي من عدّ الخمس وعشرين، ضع علامة هناك، ثمّ ارجع وخذ الشباب خلفك إلى هناك.

 

ظننت للحظة أنّه يمزح! ولكنّه كان جِدّيّاً جدّاً، كان جِدّيّاً ومطمئنّاً أيضاً بشكل كامل. ثمّ تابع كلامه: وعندما تصل إلى هناك وتضع قدمك عند العلامة الّتي هي على طرف الخمس وعشرين خطوةً، تقدّم في عمق العدوِّ أربعين متراً. هناك أنا بنفسي أقول للشباب ماذا سوف يفعلون.

 

لم أتحرّك من مكاني، كان ينظر إليّ، وحتماً كان ينتظر أن أُنفِّذ أوامره. كلُّ حرف من حروفه، كان يرسم داخل ذهني علامة سؤال كبيرة، فقُلت: هل تعرف ماذا تفعل يا حاج؟

 

فسأل بانزعاج: هل سمعت ما قُلت؟

 

 

110

 


103

تراب كوشك الناعم

قُلت: للسمع! نعم سمعت، ولكن....

 

فقاطع كلامي، وقال: إذن أسرع ونفِّذ الأوامر الّتي قُلتها لك.

 

كاد يرتفع صوتي، ولكنِّي منعت نفسي، وقُلت باعتراض: يا حاجّ! هل أنت منتبه أصلاً لما تقول؟

 

ولم أُعطه فرصة وتابعت كلامي: إنّ هذا العمل هو الانتحار، انتحار محض!

 

فقال: بإصرار: نفِّذ الأوامر.

 

مهما حاولت أن أهضم الموضوع، لم يكن عقلي ليستوعب، ربّما لهذا تخاشنت، ونظرت في عينيه وقُلت: قُل أمر الانتحار هذا لغيري.

 

قال: لقد أعطيت هذا الأمر لك، وأنت واجبك أن تُنفِّذ، ولا تقُل ولا كلمة واحدة.

 

كانت لهجته جِدّيّة وبإصرار، وكأنّه هو أيضاً تخاشن، فلم أرَ حتّى هذه اللحظة منه هكذا أسلوب في التعامل، ولكنِّي كُنت اليوم قد علقت في ظروف سيِّئة، ولم يكن عندي حلٌّ إلّا أن أُنفِّذ أوامره. ولم أنطق بكلمة. فذهبت زحفاً حتّى طرف الصفِّ، وهناك وقفت واستدرت لجهة اليمين وبدأت بعدّ الخطوات، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة.....

 

مع أنّ ذهني وفكري أصابه خدش، فقد سعيت أن أعدّ بدقّة، ثمّ وقفت على الخمس وعشرين خطوةً. فوضعت علامة وعدت باتِّجاه الكتيبة، فأحضرت الجميع خلفي إلى تلك العلامة. ثمّ فكّرت بالأمر التالي، تقدّم لمسافة أربعين متراً بعمق العدوِّ. فأخذت الكتيبة بمساعدة قادة الفصائل وقادة المجموعات إلى تلك المسافة الأربعين متراً إلى الأمام. فرأيته قد أتى بنفسه. وكان معه السيِّد5 وأربعة، أو خمسة رماة آر بي جي آخرون. فنظر إلى السيِّد وقال: هل أنت حاضر للرماية؟

 

قال: نعم يا حاجّ.

 

فقال عبد الحسين: بمجرّد أن أقول: ألله أكبر؛ تُهدِّف باتِّجاه إشارتي بإصبعي وترمي إلى نفس الجهة.

 

 


5- رجل عجوز من خراسان كان له مهارة كبيرة في الرماية وإصابة الهدف بالآر بي جي.

 

111

 


104

تراب كوشك الناعم

وكأنّ الرجل العجوز قد بُهت، فقال بهدوء وحيرة: نحن لا نرى أيّ شيء يا حاجّ! إلى أين نرمي؟

 

فقال: ما دخلك إلى أين ترمي؟ فقط ارم إلى تلك الجهة.

 

وقال لرماة الآر بي جي الباقين أيضاً: أنتم بمجرّد أن تسمعوا صوت التكبير، ارموا وراء السيِّد إلى نفس الجهة.

 

فالتفت إليّ وتابع: أنتم أيضاً فوراً إبدؤوا الهجوم مع بقيّة الشباب.

 

كُنت مازلت لم أتنازل. فقُلت برجاء: تعال لنعود يا حاجّ، أنت تدفعهم الى القتل هنا!

 

فقال ببرودة أعصاب: لقد سبق السيف العذل.

 

فالتفت إلى السيِّد رامي الآر بي جي وقال: يا حبيبي يا سيِّد هل أنت مستعدٌّ.

 

فقال العجوز: مستعدٌّ مستعدٌّ.

 

سأل: هل فتحت الأمّان؟

 

قال: نعم يا حاجّ.

 

فرفع عبد الحسين رأسه إلى السماء. نظر إلى هذا الطرف وإلى الطرف الآخر بنظرة خاصّة. وقرأ دعاءً بإخفات. وفجأة ارتفع زئيره إلى السماء؛ الله أكبر!

 

لقد كبّر بطريقة بدا وكأنّه يُريد أن يُطيّر النوم من أعين كلِّ من في الأرض. وفوراً هتف السيِّد: يا حسين، ثمّ رمى.

 

فأصابت قذيفته حاملة جند ودمّرتها وأضاءت نيرانها المنطقة. وفوراً وبلا فاصلة رموا خمس قذائف أخرى وبعدها مباشرة بدأ الشباب الهجوم بنداء الله أكبر.

وقبل أن ينتبه العدوُّ اختلط حابله بنابله، وأراد بعض الشباب أن يلحقوا بالعراقيِّين فصرخ بهم عبد الحسين: فتِّشوا على دبّابات الـT 72، نحن طوينا كلّ هذه المسافة من أجلها.

وأخيراً وصلنا إلى الهدف، وعندما وقعت عيناي على تلك الدبّابات الفولاذيّة، كُنت سأطير من الفرح. ولم يكن الشباب أقلّ مِنِّي سروراً. في تلك اللحظات أحسست بالندم على الكلام الّذي قُلته لعبد الحسين.

 

112

 


105

تراب كوشك الناعم

وقضينا على هذه الدبّابات، وفي تلك اللحظات السعيدة نظر عبد الحسين إلى السيِّد وقال: انظر يا سيِّد يا حبيبي، هذه هي دبّابات T 72 الّتي يقولون بأنّ القذيفة لا تؤثِّر بها.

 

فهدّف باتِّجاه إحداها وأطلق طلقة آر بي جي، ولكنّها لم تؤثِّر بها. وكانت نفس المشكلة قد حصلت مع الشباب الباقين. ثمّ أتَوْا إليه وقالوا له باعتراض: نحن نرمي هذه الدبّابات ولكن جميع طلقاتنا تذهب هدراً، ماذا نفعل؟

 

فقال لهم ما بين الجدِّ والمزاح: إذن لماذا صنعكم الله العالِم؟ حسناً انطلق إلى أعلاها وارم قنبلة يدويّة في برجها، واذهب إلى مسافة قريبة منها واضرب جنازيرها.

 

وأخذ هو قاذف آر بي جي واتجه ناحية الدبّابات. وقال وهو ذاهب: في النهاية يجب أن نُفجّر هذه الدبّابات؛ لأنّهم جمعوها هنا ضدّ الإسلام.....

 

في تلك الليلة دمّرنا كتيبتين مدرّعتين بشكل كامل. وكانت عودتنا إلى موقعنا، وقت أذان الصبح.

 

وبعد أن صلّينا، ارتمى كلُّ واحد منّا إلى ناحية ونام من كثرة التعب، وتمدّدت أنا إلى جانب عبد الحسين وغفوت وأنا أفكِّر في أوامره ليلة أمس.

 

استيقظت من شدّة حرارة الشمس، وكُنت قد نمت لمدّة ساعتين. وكُنت ما زلت أحسُّ بالتعب عندما ناداني عبد الحسين، فقُلت بسرعة: نعم حبيبي، ماذا تُريد مِنِّي؟

 

فأشار إلى رقبته وقال بلهجة كأنّه يتألّم: أخرج هذه، فانتبهت لتوِّي إلى قطعة وحل يابسة كانت قد التصقت في رقبته، وقد غارت داخل جلده ولحمه! فتفاجأت وقُلت بتعجّب: ما هذه؟

 

قال: من شدّة التعب لم انتبه إلى ما تحت رأسي، فالتصقت قطعة الوحل هذه في رقبتي ولم أحسّ بها، والآن تراها بهذه الحال.

 

فأخرجتها بأيِّ شكل كان، لقد تألّم كثيراً ولكنّه لم يُبد شيئاً. أردت أن أقف، فتذكّرت ليلة الأمس، وكأنِّي كُنت في حلم جميل، حلم جميل وله طعم الجنّة.

 

113

 


106

تراب كوشك الناعم

كان عبد الحسين يُريد أن يقف، فأمسكت بيده، فالتفت إلَيّ، فغرقت في عينيه، فقُلت وأنا أمأمئ: في الحقيقة إنّ موضوع ليلة أمس يلحُّ عليّ بسؤال كبير.

 

فسأل متجاهلاً: أيّ موضوع؟

 

فقُلت بانزعاج: لا تدّعي أنّك لا تفهم ماذا حصل، ما هو موضوع هذه الخمس وعشرين خطوةً إلى اليمين وأربعين متراً إلى الأمام؟

 

فقام من مكانه، وقال: يا سيِّد يا حبيبي هيّا نذهب سوف نتأخّر، ليس لدينا متّسع من الوقت من أجل هكذا أسئلة وأجوبة.

 

فقمت من مكاني، إن كُنت أُريد أو لا أُريد، ولكِنِّي أمسكت به وقُلت: لا! الآن أُريد أن أعرف ما هو الموضوع.

 

كُنت أعرف مدى تعلُّقه بي، وعلى هذا الأساس تجرّأت وأصررت، فأراد أن يقول شيئاً وإذا بالسيِّد ظريف6 قد أطلّ. فسلّم بشكل حارٍّ وسألنا عن أحوالنا وقال: سلمت أياديكم، لقد أبدعتم ليلة أمس!

 

ولم ينتظر عبد الحسين المجاملات، فالتفت إليّ وقال: هيّا بنا نذهب يا سيِّد؟

 

وكان يجب علينا حسب العادة أن نذهب بعد كلِّ عمليّة نؤذي فيها العدوّ، وأن نُفتِّش إن كان يوجد عن جرحى أو شهداء ما زالوا على أرض المعركة، وكُنت منزعجاً جِدّاً من تملُّص عبد الحسين وعدم إجابته لي، فقُلت بضيق وتأفُّف: هذا هو الحاجّ برونسي، اذهب معه.

 

فابتسم عبد الحسين وقال لي: أنت تذكر تلك الأماكن أفضل، يا حبيبي يا سيِّد الأفضل أن تذهب أنت.

 

فقلت وقلبي حزين: لا يا حاجّ! نحن الآن لم نعد محلّاً لحفظ الأسرار، لأجل هذا، من الأفضل أن لا أذهب.

 

فقاطَعَنا ظريف قائلاً: أنا الآن ليس عندي علم بما تقولون أنتم الكبار، ولكنّ الحاجّ برونسي يقول الحقّ.

 

 


6- رجل دين، مقامه عالي، وهو مسؤول وحدة المصفَّحات في الكتيبة، ومن بعد ذلك حلَّقت روحه الشريفة والتحقت بالشهداء، (أسعد الله روحه).

 

114


107

تراب كوشك الناعم

وتابع حتّى يكون مقنعاً أكثر: أنت تعلم أنّ السيِّد برونسي عندما تكون قوّاتنا في خطر فإنّه يُصبح حسّاساً جِدّاً ولا يبقى في ذهنه شيء عن المكان، إذن! حتّى لا نتأخّر، تحرّك بسرعة ولنذهب.

 

بعدها لم أقل شيئاً. فسار ظريف وسرت أنا خلفه.

 

جلس ظريف خلف مِقْوَد السيّارة العسكريّة، وجلست إلى جانبه. وكانت تُرافقنا ثلاث سيّارات عسكريّة أخرى، واتجهنا بسرعة إلى منطقة العمليّات.

 

وصلنا إلى المكان الّذي كنّا قد علقنا به ليلة أمس. فقُلت لظريف: توقّف هنا.

 

فتوقّف، ونزلت، وكان أمامنا الكثير الكثير من الأسلاك الشائكة التي وُضعت بشكل حلقات صعبة العبور، والكثير من الموانع الأخرى، وأنا مأخوذ بهذا المنظر! عندها تذكّرت أوامر عبد الحسين ليلة أمس (اذهب خمساً وعشرين خطوةً إلى اليمين).

 

وبسرعة نظرت إلى يميني، فتجمّدت في مكاني!

 

وبعد لحظة من الذهول، أخذت بالمسير وعدّ الخطوات، فكنت أعدُّ الأرقام بصوت عالٍ وبدون أن أُلاحظ أن الآخرين معي يسمعونني: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة.....

 

تماماً، وعندما انتهت خمس وعشرون خطوةً من الأسلاك الشائكة المصنوعة بشكل حلقات صعبة العبور والموانع الأخرى للعدوِّ، وصلت إلى معبر ترابيٍّ ضَيِّق! وفهمت أنّ هذا المعبر كان قد صنعه العراقيُّون من أجل ذهابهم وإيابهم، وطريقاً لآليّاتهم. ونحن عبرنا باتجاههم من هذا المعبر بالضبط! وبدون أن أنتبه وضعت إصبعي على فمي وقُلت بهمس: الله أكبر!

 

فنبّهني صوت "ظريف"، وسألني بتعجّب: لماذا أنت منفعل هكذا ياسيِّد؟ هل حصل شيء؟

 

وكأنّني لم أسمع صوته، توجّهت إلى الأمام، يعني باتجاه عمق العدوِّ، وبدأت من جديد أعُدّ الأمتار.

 

 

115

 


108

تراب كوشك الناعم

أربعين، خمسين متراً في تلك الجهة، وتنتهي الموانع، وتصل تماماً بعد عِدّة أمتار إلى موقع، وتوجّهت إلى الأمام أكثر، لقد كانت حاملة الأفراد الّتي أشعل السيِّد فيها النيران ليلة أمس، حاملة أفراد القيادة، وذلك الموقع كان أيضاً موقع القيادة، الّذي دمّره الشباب في أوّل الهجوم بعِدّة قذائف آر بي جي. وعلمت فيما بعد أنّ ثمانية أو تسعة من أعضاء القيادة كانوا قد وصلوا إلى الدرك الأسفل من النار داخل هذا الموقع!

 

كان "ظريف" يتبعني خطوة بخطوة، ثمّ انتبهت إليه، وهو ينظر إليّ فاتحاً عينيه وقال: أصبحت غير طبيعيّ بشكل كبير يا سيِّد، ما الموضوع؟!

 

في الحقيقة إنّ حالي لم يكن طبيعيّاً. فجلست في ذلك المكان، وكانت نظرة ظريف مليئة بالتساؤل. فقُلت بهدوء: وزّع الأعمال على الشباب، وتعال أنت لأُخبرك بما جرى.

 

فذهب وعاد بسرعة، فأخبرته بأيِّ نحو من الأنحاء بقِصّة عمليّة ليلة أمس، وأصبح حاله هو أيضاً غير طبيعيّ. وكان في بعض الأحيان يقول بتعجُّب وبصوت عالٍ: الله أكبر!

 

وعندما أخبرته القضيّة من أوّلها إلى آخرها، سألته: الآن ما هو رأيك؟ كيف عرف عبد الحسين هذه الأشياء؟

 

فبكى وقال: يجب أن نتوقّع أكثر من هذا من ذلك الرجل، بسبب كلِّ هذا العشق والإخلاص الّذي يملكه، وهو قطعاً تلقّى أوامره من العالم العُلْويِّ....

 

لو أنّ سرّ هذه الأوامر لم يُفشَ لي، لما كُنت أصبحت حسّاساً إلى هذا الحدِّ. ولكنِّي الآن أعدُّ اللحظات لأرى عبد الحسين بأسرع وقت ممكن. فقُلت لظريف ونحن في طريق العودة: لن أهدأ حتّى أعرف عمق ما جرى.

 

فقال: لنذهب معاً إليه ونسأله.

 

قُلت: لا، أنت يجب أن لا تأتي، أنا عالم أكثر بخُلق وأخلاق قائدي، إذا فهم أنّك على علم، فليس بعيداً أن يُخفي أسرار هذه الأوامر في نفسه، ولا يُفشيها أبداً.

 

فقال: أنت تقول الحقّ يا سيِّد، هذا أفضل.

 

 

116


109

تراب كوشك الناعم

فتمهّل قليلاً ثمّ تابع: أنت سوف تسأله ما الّذي حصل، ثمّ بعد ذلك تقول لي.

 

وبمجرّد أن وصلنا إلى موقعنا، ذهبت رأساً إليه، كان يجلس وحده في متراس قيادة الكتيبة، وكأنّه ينتظرني، ثمّ سألني عن نتيجة العمل، فرتّبت الأجوبة وأخبرته عن كلِّ شيء بسرعة، ثمّ جلست قبالته ولم أعطه مهلة أخرى، وسألته بلا مقدّمات: ماذا حصل ليلة أمس؟

 

فشرد، فقلت بكلِّ إصرار وعناد: لن أقوم من مكاني قبل أن تخبرني، أعني أصلاً لن يهدأ لي بال.

 

كنت أعلم أنّه يعمل حساباً لكوني سيِّداً، ولن يخذلني. ثمّ أخذ إصراري يعطي نتيجة، فقد امتلأت عيناه فجأة بالدموع، وقال بتأوّه: حسناً سوف أخبرك.

 

وكأنِّي كُنت قد ملكتُ الدنيا، ففكّرت أنّه سوف يُفشي لي أسراراً أزليّة وأبديّة، وقد تملّكني حينئذ إحساس عجيب.

 

وعندما بدأ برواية ما حصل، كُنت مأخوذاً بنورانيّة وجهه، فشكله وحاله يُذكِّر الإنسان بالسماء، وبالجنّة، ويُمكن أن يُفهم حينئذ كيف لا يعرف الإنسان رأسه من قدميه. فقال بصوتٍ حزين: كُنت قد قطعت الأمل عندما انكشف أمر العمليّة، ووقعنا في تلك الظروف الصعبة. وحين قولك أنت لي أيضاً: لِنعُدْ؛ انقطع أملي أكثر وأكثر، وعندها لم يَعُد عقلي يُفرز وكما يقولون (أُقفل عقلي) ولكنّ أملي الوحيد، والطريق المتبقِّي لي، وكما كان دائماً، هو التوسُّل بوسائل الفيض الإلهيّ. في تلك الحال، وبهذه النفسيّة، وضعت وجهي على التراب الناعم لتلك المنطقة وأخذت أتوسّل بالوجود المقدّس لحضرة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام.

 

أغمضت عيني وأنا أُناجي تلك السيِّدة وأُخبرها بأسراري وحاجاتي. في الحقيقة إنِّي لم أفهم نفسي حينئذ. بل أحسست فقط بأنّ دموعي تنهمر بغزارة. وبكلِّ كياني كُنت أُريد أن يوضِّحوا لنا الطريق وأن يُخرجونا من هذه المهلكة، ومن المهالك التالية في حال خسرنا في هذه العمليّة، وأن يأخذوا بيدنا وينجُّونا.

 

117

 


110

تراب كوشك الناعم

وأنا في تلك الحال، وصل فجأة إلى سمعي صوت سيِّدة، صوت ملكوتيٌّ يهب للإنسان ألف روح جديدة. وتفضّلت عليّ: أيُّها القائد!

 

أعني أنّ تلك السيِّدة نادتني بنفس لفظ "أيُّها القائد" وتفضّلت عليّ: في هذه الأوقات عندما تتوسّلون بنا هكذا، نحن أيضاً نأخذ بيدكم، لا تنزعج!

 

أصبح صوته مرتجفاً بشكل عجيب، وأيضاً امتلأت عيناه بالدموع، وتابع: إنّ كلّ ما قُلته لك ليلة أمس، اذهب خمساً وعشرين خطوة إلى اليمين، وكلّ ما قُتله بعد ذلك، كان كلُّه بتوجيه تلك السيِّدة. ثمّ قُلت بالتماس: يا فاطمة الزهراء عليها السلام ، إذا كُنت أنت فلم لا تُظهرين نفسك؟!

 

فتفضّلت: ليس الآن وقت هذا الكلام، الأوجب أن تقوم بعملك.

 

ولم يستطع عبد الحسين أن يضبط نفسه، فأجهش بالبكاء بصوت عالٍ. ثمّ أخرج آهة من صدره وقال: لو أنّك كُنت تنظر ليلة أمس تحت وجهي، لقد أصبح ذلك التراب الناعم وحلاً من شِدّة بكائي...

 

وعندما عاد إلى حالته الطبيعيّة قال: يا سيِّد! لا أرضى أن تُخبر أحداً بهذه القضيّة!

 

قُلت: يا رجل، عندما كُنت قد ذهبت قبل قليل مع "ظريف" إلى الخطِّ الأمامي، ورأينا مكان العمليّات، كنّا متيقِّنين من أين كُنت تأخذ أوامرك، كُنّا نعلم أنّ هذه الأوامر ليست أوامرك.

 

فسأل: هل تقول لي ماذا رأيتم؟

 

فأخبرته بكلِّ ما رأيته ولم أُخفِ منه قيد شعرة. فقال: كنت مطمئنّاً إلى أنّني آخذ أوامري من مكان صحيح.

 

كان خبر العمليّة قد ذاع بسرعة وكأنّه صوت قنبلة. ووصل خبره أيضاً إلى خلف الجبهة.

 

ما زلت أذكر في ذلك اليوم، وقد أتى عِدّة صحافيين، وعِدّة قادة من المراتب العليا إلى عبد الحسين يسألونه: يا حاجّ برونسي كيف استطعتم أن تُدمِّروا كلّ هذه الدبّابات بأقلِّ الخسائر؟!

 

 

118


111

تراب كوشك الناعم

كان يُجيب بكلِّ برودة أعصاب وهدوء: هذا لم يكن عملي اذهبوا واسألوا شباب التعبئة وقائدهم الأصليّ7.

 

فكانوا يقولون: ولكنّنا سألنا شباب التعبئة، فقالوا: إنّ كلّ أمر العمليّة كان من السيِّد برونسي.

 

فيضحك ويقول: إنّهم متواضعون.

 

ولكنّ إصرارهم لم يصل إلى نتيجة. فعبد الحسين لم يتفوّه ولا بكلمة ولم يُفشِ سرّ العمليّة لا هناك ولا في أيِّ مكان آخر.

 

حتّى السيِّد "غلام بور" الّذي جاء من قاعدة "كربلا" ليسأل: ما هو سرُّ توفيقكم؟

 

فقد كان الجواب الوحيد الّذي كان عبد الحسين يُجيبه هو: إنّ سرّ توفيقنا، هو مساعدة ورعاية أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام والإمدادات الغيبيّة.

 

وطوال المُدّة الّتي كُنت موفّقاً لمرافقته، كان عنده عقيدة لا تتغيّر أبداً؛ كان يتحدّث دائماً عن الإمدادات الغيبيّة ويقول: لا تقل أبداً ما دخل هذه الأمور بهذه الأعمال؟

 

ومن ثَمّ كان يقول: إذا أردت أن تُفشيَ لأحدٍ هذه الأسرار، وتقول لأحد، فقل في المستقبل لا الآن.

 

رحمه الله، وكأنّه كان يعلم أنّه سوف يستشهد وسوف أبقى أنا، وكأنّه كان على علم بأنّ هذه الخواطر سوف تكون عبرة للآتين وسوف تُسجّل للتاريخ.

 

 


7- كان قصده الحضور المقدّس لصاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف.

 

118


112

تراب كوشك الناعم

لا رغبة لي بالقيادة

أبو الحسن برونسي

(نقلنا هذه الحادثة على لسان أخي الشهيد)

كنّا في اجتماع المنطقة. وقد أتى عدد من القادة من المراتب العليا. وبعد مقدّمات التعارف قال أحدهم لعبد الحسين: رأينا عنك أحلاماً سعيدة يا حاجّ.

فابتسم عبد الحسين وقال بهدوء: خيراً إن شاء الله.

قال: إن شاء الله.

فمكث قليلاً وتابع: باقتراحنا وبالتأييد المباشر لقائد الفرقة، أنت منذ الآن قائد "كتيبة عبدالله".

وقال آخر: وها هو حكم القيادة حاضر أيضاً.

سرّحت نظري بعبد الحسين. وعلى عكس انتظاري، فلم يبدُ عليه أيُّ أثر للسعادة. فمدّ الأخ يده بالورقة الّتي فيها حكم القيادة، ولكنّ عبد الحسين لم يأخذها! وقال: قيادة مجموعة بعيدة على رأسي، فكيف بقيادة الكتيبة!

فقالوا: ما هذا الكلام الّذي تقوله يا حاجّ؟!

وبضيق وعدم ارتياح، قال: كم كان عمر الإمام محمّد الجواد عليه السلام ؟

 

فسكت الجميع، وكأنّ أحداً لم يفهم قصده. فتابع: سيِّدي يستشهد في سن الشباب، وأنا عمري إثنتان وأربعون سنة، أصبح الآن قائد كتيبة؟

 

فقالوا: على كلِّ حال هذا الحكم من قِبلِ القيادة وأنت واجبك أن تقبله.

 

لم يتحرّك من مكانه. وقال بلهجة اعتراضيّة: لا يا روحي! ضعوا تحت اسمي

 

 

120


113

تراب كوشك الناعم

خطّاً واستثنوني، هذه الأمور تحتاج إلى من يملأ الصورة، وأيضاً تحتاج إلى اللياقة.

 

وخرج من الاجتماع.

 

وفي ذلك اليوم، ورغم كلِّ محاولاتنا لإقناعه بأن يقبل أن يُصبح قائد "كتيبة عبدالله" فقد بقي مصرّاً على موقفه ولم يقبل.

 

ولكن في اليوم التّالي تفاجأ الجميع من العمل الّذي قام به؛ ففي الصباح الباكر ذهب إلى مقرِّ اللواء وقال لقائد اللواء: لقد قبلت بالّذي طلبتموه مِنِّي أمس.

 

لم يكن أحد يظن أنّه سوف يوافق على هذا العمل. ربّما من أجل هذا سأله القائد: ماذا!؟

 

فقال عبد الحسين: مسؤوليّة "كتيبة عبدالله"....

 

ووسط تعجُّب الجميع قدّموا عبد الحسين على أنّه قائد تلك الكتيبة.

 

لقد كان حدسنا أنّ هناك سرّاً وراء قبوله هذا، وإلّا فإنّه لن يقبل بهذه البساطة. وأخيراً! ذات يوم، عندما كُنّا أنا وإيّاه في المسجد، وبعد إلحاحي الشديد عليه، أزاح الستارة عن الحقيقة، وقال: في تلك الليلة رأيت في المنام أنّني مثلت في حضرة الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف. وكان الإمام لطيفاً جِدّاً معي وأمرني عِدّة أوامر، ثمّ ملّس على رأسي، وبجماله الملكوتيّ، وبلهجة تذهب بالعقل والوعي من قلب الإنسان تفضّل وقال: أنت أيضاً تستطيع أن تكون قائد كتيبة...

 

رحمه الله، إنّ طاعته المحضة أيضاً لها مكان مُهِمّ في العجائب في حياته.

 

ما زلت أذكر أنّه كان قد كتب في وصيّته: إذا كُنت قد قبلت مقام القيادة فقط لأنّهم قالوا لي: إنّه واجبي الشرعيّ، وإلّا فإنِّي لا رغبة لي بالقيادة.

 

 

121


114

تراب كوشك الناعم

سراج

السيِّد كاظم الحسينيّ

كان هذا قبل عمليّة و"الفجر التمهيديّة". فقد نصبنا خيماً في منطقة "دشت عبّاس"، الموقع الرابع، واستقرّ فيها اللواء.

 

وكان عبد الحسين في ذلك الوقت هو قائد كتيبتنا، وكُنت أجلس معه ومع عدد آخر من الشباب المقاتلين في خيمة القيادة، وفجأة انزاحت ستارة الخيمة وأطلّ مسؤول تجهيزات اللواء، ودخل يحمل بيده مصباحاً غازيّاً ذا شاشيّة، جديداً يلمع من شِدّة النظافة. فسلّم وقال: لقد وزّعنا على كلِّ خيمة قيادة مصباحاً غازيّاً ذا شاشيّة1 ، وهذا هو سهمكم.

 

فتقدّم أحد الشباب إلى مقدّمة الخيمة، وشكر الأخ وأخذ المصباح، ثمّ قال ذلك الأخ: في أمان الله وخرج من الخيمة. فوقف الأخ "تُني" مسؤول التجهيزات في الكتيبة بسرعة، وقال: لا يوجد أفضل من هذا.

 

أخذ المصباح، وتوجّه إلى وسط الخيمة، وقد كان بالرغم من كبر سنّه ومحاسن شيبته، نشيطاً كثير الأعمال. وبكلِّ صعوبة علّق خُطّافاً في سقف الخيمة.

 

وكان الحاجّ قد جلس في زاوية الخيمة وهو يُحاول أن يلفّ الكوفيّة وهو يُدوِّرها بكلتي يديه وقد تسمّر بالسيِّد "تُني".

 

فنفخ الرجل العجوز شاشيّة المصباح، وأخرج علبة الكبريت من جيبه وأشعل

 


1- السبب الذي من أجله كانوا يعطون مصباحاً غازيّاً ذا شاشيَّة لخيمة القيادة هي لكي لا يكون عندهم مشكلة في الإنارة إذا أرادوا أن يضعوا خططاً، أو أن يقرؤوا خريطة، أو أن يعقدوا اجتماعاً.

 

122


115

تراب كوشك الناعم

 المصباح. وأراد أن يُعلِّقه فتكلّم عبد الحسين وقال: لا تعِّلقه يا حاجّ.

 

فتراجع الحاج تُني. وسأله بتعجُّب: لماذا؟!

 

وبدلاً من أن يُنفِّذ أمر الحاجّ برونسي شغّل أفكاره الشخصيّة وقال للحاجّ: إنّ نوره يصل إلى عندك يا حاجّ، ولا ينبغي أن يكون إلى قربكم.

 

فابتسم الحاجُّ وقال: لا، أحضره إلى هنا أنا أحتاجه.

 

فأحضر المصباح إلى قرب الحاجّ، ولم يُطفئه، وقد لفت الحاجّ عبد الحسين انتباهنا كلّنا، وأصبحنا كلنا نتلهّف لمعرفة ما الّذي يُريد أن يفعله به.

 

ارتفع صوت أذان المغرب، فأخذ الحاجّ المصباح وهو مضاء وخرج من الخيمة، وخرجنا نحن أيضاً خلفه. فسأله اثنان من الشباب: ماذا تُريد أن تفعل يا حاجّ؟

 

فقال: تعالوا لتَرَوْا.

 

فتوجّهنا إلى الخيمة المخصّصة مصلّى للكتيبة، فقال للحاجّ تُني: خذ هذا الفانوس من هنا وعلِّق مكانه هذا المصباح.

 

فنادى الحاج مسؤول خيمة المصلّى وقبّله في وجهه وقال: هذا المصباح هو ملك لبيت المال، يجب أن تنتبه إليه جيِّداً، لا تدع أحداً يلمسه فإنّ شاشيّته تتفتّت بسرعة.

 

ثمّ علّمه كيفيّة عمل المصباح بشكل جيِّد. ثمّ التفت إلينا وقال: هذا المصباح أصبح للمصلّى.

 

وبعد الصلاة، حملنا الفانوس وأخذناه إلى خيمة القيادة، ونحن الآن لدينا فانوس بدل المصباح، مثل بقيّة خِيَم الكتيبة.

 

123

 


116

تراب كوشك الناعم

لطف الإمام الرضا عليه السلام

مجيد أخَوَان

أُصبت في عمليّات خيبر بشظِيّة، وكان الجرح بليغاً في قدمي، فأرسلوني إلى المراكز الخلفيّة ومن ثمّ أرسلوني أيضاً إلى مشهد المقدّسة.

 

وعدت بعد عدّة أيّام من المستشفى إلى البيت، ثمّ علمت في ذلك اليوم أنّ الحاجّ برونسي قد أتى في إجازة لمُدّة أربعة أيّام، وكُنت على يقين من أنّه سوف يزورني، فقد كان هذا هو عمله في الإجازات، إذ كان يعود كلّ الشباب الجرحى، ويزور أسر الشهداء، كُنت أعلم كلّ هذا، ولكن الّذي فاجأني ولم أكن أعلمه هو أن يأتي إليّ بمجرّد وصوله إلى مشهد.

 

كان منزلنا في ذلك الوقت في الشارع المقابل لبيته، وعندما دخل إلى الغرفة كان وجهه بشوشاً وباسماً. وبعد السلام والسؤال عن أحوال بعضنا، قُلت له باسماً: يا حاجّ أنت تأخذ إجازة أربعة أيّام، ثمّ تدور وتُسلِّم على كلِّ الشباب الجرحى؟

 

قال: أنا أصلاً أتيت لأجل هذا وليس لدَيّ عمل آخر.

 

فاعتقدت أنّه يمزح، فقلت بتردّد: والعائلة؟

 

قال: لقد تركت العائلة بعهدة الإمام الرضا عليه السلام ، وزوجتي، ماشاء الله، صامدة مثل اللبوة.

 

فقُلت: إذا لم يكن هذا وقاحة مِنِّي، فأنت أيضاً لديك واجب في هذا المجال.

 

فتحرّك من مكانه قليلاً، وقرّب وجهه أكثر، ونظر تماماً في عينَيّ وقال: أتعرف "أخَوَان"! يوجد شيء عجيب بالنسبة لي. قُلت: ماذا؟

 

124

 


117

تراب كوشك الناعم

قال: عندما آتي في إجازة، وبمجرّد أن أضع قدمي في البيت، تبدأ المشاكل، أحد الأطفال يمرض، وأحدهم يكسر كتفه، والآخر يفكش يده؛ وهكذا! مشكلة وراء مشكلة. ولكِنِّي عندما أُغادر البيت، تنتهي كلُّ المشاكل ويُصبح كلُّ شيء هادئاً.

 

ثمّ ابتسم وتابع: إلى درجة أنّ زوجتي قالت لي: ألا يُمكن ألّا تأتي في إجازة!

 

فابتسمنا. وفي النهاية قال كلامه الأصليّ: يا حاجّ لقد ثبت لي أصلاً أنّ من يحفظ أسرتي أحدٌ آخر غيري؛ لأنِّي عندما أذهب إلى البيت تبدأ المشاكل، وعندما أذهب إلى الجبهة لا يعود عندهم أيّة مشكلة...

 

لقد مضى سنوات على ذلك اليوم. لقد فهمت معنى كلامه أفضل بعد استشهاده.. فزوجته ربّت وكبّرت ثمانية أطفال متقاربة أعمارهم في بيت حقير وبمعاش قليل، هذا بنفسه له قِصّة مفصّلة، اثنان من أولادها أرسلتهم إلى الجامعة، وزوّجت اثنين أيضاً. والبقِيّة ما زالوا يُكملون تحصيلهم ودروسهم وعلاماتهم جيِّدة.

 

رحمه الله لقد كان مطمئِنّاً من اهتمام الإمام الرضا عليه السلام بعائلته.

 

 

125


118

تراب كوشك الناعم

قطرة دمع

معصومة سبك خيز

ارتفع صوت جرس المنزل، فوضعت الشادور على رأسي وذهبت إلى جانب الباب، فوقع نظري على ثلاثة من شباب الحرس الثوريِّ، وكانوا قد جاؤوا إلى منزلنا مع عبد الحسين عِدّة مرّات، فسلّموا، فقُلت لهم: سلام! تفضّلوا! هل من شيء؟

 

فقالوا: عفواً يا حاجّة! لو سمحتِ، أحضري لنا هويّة السيِّد برونسي.

 

لقد كان طلبهم من جهة مفاجئاً وبلا تهيئة مقدّمة، ومن جهة أخرى مبهماً وغير مفهوم، فسألت بتعجُّب: لماذا؟

 

فقالوا: لقد تقرّر أن يتشرّف بزيارة مكّة المكرّمة (الحجّ إلى بيت الله الحرام) إن شاء الله.

 

قُلت: مكّة؟!

 

فقال أحدهم: نعم سيِّدتي، إنّ السيِّد برونسي قام بعمل عظيم في هذه العمليّة، وكانت الغنائم كبيرة، ولهذا فإنّهم يُريدون أن يُرسلوه من قبل بيت حضرة الإمام الخمينيّ إلى مكّة مكافأةً له.

 

سألتهم بحماس، وقد ظهرت الفرحة على صوتي: هل يعلم هو؟

 

قالوا: لا، نُريد أن نُنهي له عمله، حتّى يذهب من طهران إلى مكّة.

 

فدخلت بسرعة وأحضرت لهم هويّته، فأخذوها وودّعوني وذهبوا.

 

وبعد يومين، أحضروا الهويّة وقالوا الحمد لله، كلُّ الأمور تسير على خير.

 

أعطاني أحدهم لفافة، سألت: ما هذا؟

 

 

126


119

تراب كوشك الناعم

قال: لباس إحرام للسيِّد برونسي.

 

في الظاهر كان يبدو أنّ القضِيّة أصبحت جدّيّة، فقلت: حسناً لكنّه ما يزال في الجبهة!

 

قال: سوف يحين الوقت الّذي يأتي فيه إلى مشهد.

 

وعندما ذهبوا، دخلت الى البيت، وقبل أن التقط أنفاسي قرع الجرس مرّة أخرى، فقُلت في نفسي: من هذا أيضاً؟!

 

فذهبت إلى الباب، وإذا بها جارتنا، فقالت: تعالَيْ بسرعة ردِّي على التلفون.

سألت: من؟

قالت: السيِّد برونسي.

لم أدر كيف وصلت إلى جانب التلفون، وتناولت السمّاعة، فسلّمت عليه بسرعة وأخبرته بكلِّ شيء، فضحك بصوت عالٍ وقال: أين مكّة؟ وأين نحن؟

فاعتقدت أنّه يمزح، ولكِنِّي تأكّدت بعد قليل من أنّه فعلاً لا يدري، فقُلت له: أين تعمل أنت الآن؟ حتّى إنّهم اشتَرَوا لك ثياب الإحرام.

فقال: لا يا سيِّدتي، لسنا من زوّار مكّة.

وفي النهاية لم يُصدِّق، وربما صدّق ولكنّه لم يكن يجد في نفسه اللياقة.

بقي يومان ليتحرّك، فجاء، وبعد يوم ودّعنا وذهب إلى طهران. ومن هناك تشرّف بالذهاب إلى الحجِّ.

سألته قبل ذهابه: متى تعود؟

 

فقال: عندما أعود بالسلامة إلى طهران سوف أتّصل بالتلفون ببيت الجيران وأُخبرك.

 

وجاء أخي وأخوه بعد ثلاثة أيّام إلى البيت. فقُلت: حسناً عندما يعود السيِّد برونسي سوف نقوم له بعمل ما.

 

فضحك أخوه وقال: لقد اشتريت له خروفاً، وبالمناسبة، فإنّ أخاكِ اشترى أيضاً خروفاً.

 

127

 


120

تراب كوشك الناعم

وشرعت أنا بما ينبغي عليّ عمله أيضاً، وحسب القول المعروف، فقد أتممنا كلّ شيء، حتّى إنّنا اتفقنا على أن نصنع له قوس نصر، وقد نفّذنا ذلك وقُلنا: عندما يتّصل من طهران ننصبه بسرعة على أوّل المفترق.

 

أتممنا كلّ الأعمال، وذات يوم ذهبت إلى بيت أهلي، وكان قريباً من منزلنا، وفيما كنّا مشغولين بالحديث، وفجأة أتى أحد الجيران وطرق الباب ودخل راكضاً وهو شديد الحماس! فنظرت إليه، وسألته: ما الخبر؟!

 

قال: اركضي لقد أتى السيِّد برونسي من مكّة.

 

قلت بحيرة: لا!

 

تجمّدت في مكاني من التعجُّب.

 

فقال: صدِّقي إنّه قد عاد، وهو الآن في المنزل.

 

لا أدري كيف وضعت الشادور على رأسي، ووضعت قدَميّ في حذائي كيفما كان، وركضت إلى البيت. وعندما وصلت إلى الداخل وجدته! نعم! لقد عاد، كان جالساً مع اثنين من الحُجّاج في جانب من الغرفة، وكانت البسمة على شفاهه.

 

وصلت أمِّي. ثمّ الأولاد. وشيئاً فشيئاً أتى أخوه والآخرون. سلّم على الجميع وقبّلهم وسألهم عن أحوالهم ولم تخفت البسمة عن شفاهه. فقُلت له وأنا عاتبة: لماذا أتيت هكذا بصمت وبدون أيِّ خبر؟!

 

وبعد أن عرف الباقون بالّذي حصل، بدأوا بالاعتراض عليه كذلك، فقال: لا تنزعجوا أصلاً، غداً صباحاً سوف أتشرّف بالذهاب إلى الحرم، وعندما أعود، افعلوا ما شئتم.

 

زعلت أكثر من ذي قبل، فالتفتُّ إلى أخي. وقُلت له بانزعاج: لماذا تقف هكذا؟

فسألني: ماذا أفعل يا أختي؟

قلت: على الأقلّ اذهبوا وأحْضِروا أحد الخروفين واذبحوه.

فقال بمزاح: أنا الآن سوف أذبح نفسي هنا ولا أذبح الخروف! لقد قابلنا الحاجّ بغير ما كنّا مقرِّرين.

فقال: انصبوا غداً قوس نصر، واذبحوا خروفاً، الخلاصة! افعلوا ما تُريدون.

 

128

 


121

تراب كوشك الناعم

غضبت كثيراً وقُلت: لقد اشتبهت كثيراً في عملك هذا، سوف يظنُّ الناس أنّك أتيت بدون إعلان لأنّنا لا نُريد أن نُنفق وأنّنا لا نُريد أن نستضيف أحداً.

 

فقال: أنت لا تنزعجي، إن شاء الله غداً صباحاً سوف يصطلح كلُّ شيء.

 

وفي صباح اليوم التّالي عندما كان يستعدُّ للذهاب إلى المسجد قال: لا تحملي همّاً ولا تشغلي نفسك، نحن الثلاثة سوف نذهب إلى المسجد، ولن نعود قبل الساعة العاشرة.

 

كان الأولاد قد استيقظوا لِتَوِّهم، وكنت أُفكِّر بتحضير الفطور لهم، وفجأة طُرِقَ الباب، فذهبت فوجدت عبد الحسين ورفيقاه قد عادوا ثلاثتهم!

 

فقُلت بتعجُّب: أنتم قُلتم إنّكم سوف تعودون في الساعة العاشرة؟!

 

لم يقل شيئاً، ودخل النفران الآخران إلى البيت. وأردت أن أدخل فناداني وقال: تعالَيْ إلى هنا، لي معك شغل.

 

ذهبت إليه، فنظر إلَيّ وقال: أنت تُريدين أن تنصبي قوس نصر، هل تظنِّين أنّني ذهبت إلى الحج لأُغَيِّرَ اسمي؟

 

لم أقل شيئاً، فتابع حديثه وقال: الآن وقد أراد الله أن أتشرّف بزيارة مَكّة والمدينة، لم أذهب لأُغَيِّرَ إسمي، ذهبت للزيارة، كان نصيبي توفيق من الله.

 

ثمّ نظر إلى وجهي بِدِقّة وقال: اسمعي جَيِّداً ماذا أُريد أن أقول لك؛ أنا أحد رجال التعبئة، افترضي أنّه يوجد عِدّة أفراد أنا مسؤول عنهم1 ، مثل نفس هذا الشهيد صداقت2 والشهداء الآخرون؛ ضعي نفسك مكان زوجته وذهب أحد إلى الحجِّ بنفس الشروط الّتي ذكرتها وعاد، ونصبوا له قوس النصر، ومررت أنت من هناك، ماذا سوف تقولين في نفسك؟ وهي أيضاً عندها عِدّة أطفال صغار؟

 

لم أقل شيئاً أيضاً، فسأل: ألن تقولي في نفسك لقد قتلوا زوجي، ثمّ ذهبوا إلى مكّة، ألن تقولي هذا؟

 

 


1- وحتَّى بعد استشهاده لم أعلم ماذا كانت مسؤوليَّته في الجبهه.

2- من شهداء طلّاب العلوم الدينيَّة في مشهد، وكانوا جيراننا.

 

129


122

تراب كوشك الناعم

بقيت ساكتة. فأقسم عليّ أن أُجيبه، وأقول الحقّ، أرخيت رأسي إلى الأسفل، وفكّرت قليلاً ثمّ قُلت: أنت تقول الحقّ.

 

وكأنّه أحسّ بالحرارة وقال: أتدرين ما الّذي يُفعل بي يوم القيامة إذا نزلت دمعة من عيني يتيم يا امرأة؟ ماذا يعني نصب قوس النصر؟ وماذا تعني مراسم الاستقبال؟

 

وعندما رأى أنّني اقتنعت، قال: الآن أهلاً وسهلاً بكلِّ من يُريد أن يأتي إلى بيتنا، على رأسنا، وسوف نُحسن ضيافته جَيِّداً.

 

بقي الضيوف يأتون إلى بيتنا إلى ثلاثة أيّام، ونحن أيضاً نُحسن الضيافة، وبعد ثلاثة أيّام ذبحنا الخروفين ودعونا الجميع.

 

والجدير بالذكر أنّه في تلك المدّة كان كلُّ من يأتي إلى بيتنا يفهم للتَوِّ أن الحاجّ قد ذهب إلى الحجّ.

 

 

130

 


123

تراب كوشك الناعم

بقيت ساكتة. فأقسم عليّ أن أُجيبه، وأقول الحقّ، أرخيت رأسي إلى الأسفل، وفكّرت قليلاً ثمّ قُلت: أنت تقول الحقّ.

 

وكأنّه أحسّ بالحرارة وقال: أتدرين ما الّذي يُفعل بي يوم القيامة إذا نزلت دمعة من عيني يتيم يا امرأة؟ ماذا يعني نصب قوس النصر؟ وماذا تعني مراسم الاستقبال؟

 

وعندما رأى أنّني اقتنعت، قال: الآن أهلاً وسهلاً بكلِّ من يُريد أن يأتي إلى بيتنا، على رأسنا، وسوف نُحسن ضيافته جَيِّداً.

 

بقي الضيوف يأتون إلى بيتنا إلى ثلاثة أيّام، ونحن أيضاً نُحسن الضيافة، وبعد ثلاثة أيّام ذبحنا الخروفين ودعونا الجميع.

 

والجدير بالذكر أنّه في تلك المدّة كان كلُّ من يأتي إلى بيتنا يفهم للتَوِّ أن الحاجّ قد ذهب إلى الحجّ.

 

 

130


124

تراب كوشك الناعم

ميزانيّة السفر إلى الحجّ

صادق جلالي

كُنّا قد ذهبنا أنا وزوجتي لزيارته عندما عاد من الحجِّ. كان بيته في ذلك الوقت في مفرق الطلّاب. وقبل أن ندخل إلى الغرفة وقع نظري في الممرّ الّذي بين الغرف على تلفزيون ملوّن، ما زال في كرتونته مع جميع لوازمه.

وبعد سلام حارٍّ والتهنئة بالعودة سالماً، والسؤال عن الأحوال، تطرّق الحديث إلى سفره للحجّ، والأعمال الّتي قام بها وماذا أحضر وماذا لم يُحضر. أردتُ أن أسأله عن التلفزيون الملوّن، فقال هو بنفسه: كان لي الحقّ فقط بشراء تلفزيون ملوّن.

 

قُلت: مبروك وإن شاء الله يُعمِّر عندكم لوقت طويل.

 

فابتسم ابتسامة ذات معنى وقال: لم أُحضره من أجل استعماله.

 

قُلت: إذن لماذا أحضرته؟

 

قال: أحضرته لأبيعه، وأظنُّ أنّك أنت مشترٍ جيِّد له يا سَيِّد صادق.

 

فسألته بتعجُّب: لماذا تبيعه يا حاجّ؟

 

قال: في الحقيقة لقد أجريت حساباً دقيقاً لذهابي إلى الحجّ. فرأيت أنّ الميزانيّة الّتي دفعها الحرس الثوريِّ تصل إلى مبلغ ستّة عشر ألف تومان.

 

فمكث قليلاً ثمّ تابع: الآن أنا أُريد أن أبيع هذا التلفزيون بنفس هذه القيمة لأعطي قيمته إلى الحرس الثوريّ، حتّى لا أكون لا سمح الله مديوناً إلى بيت المال.

 

131

 


125

تراب كوشك الناعم

فسكت، وكأنه ُيفَكِّر بشيء ما، ثمّ تَكَلّم وقال: في الحقيقة لا علم عندي عن السوق وما هي أسعار هذه التلفزيونات.

 

احترت ماذا أقول. وبعد التفكير في هذا المطلب وتقليب هذه المسألة، قلت: هل اختبرته يا حاجّ؟

 

فقال: صحيح وسالم.

 

فقُلت له: أنا أُريد شراء هذا التلفزيون، ولكن ماذا لو كانت قيمته في السوق أكثر؟

 

قال: إذا كانت قيمته أكثر فهو حلال عليك، وإذا كانت قيمته أقلّ فسامحنا أنت.

 

فأجرينا معاملة بيع التلفزيون، بنفس القيمة الّتي قالها، ستة عشر ألف تومان. وأخذ تلك النقود وقدّمها بيديه إلى الحرس الثوري، بدل مصاريف سفره إلى الحجِّ.

 

لقد مضت سنوات على هذا الحادث، ومازالت زوجتي تتحدّث عن هذه القصّة، وعن شِدّة حساسيّة الشهيد برونسي بالنسبة إلى بيت المال.

 

132

 


126

تراب كوشك الناعم

الهدايا الشخصيّة

السيِّد كاظم الحسينيّ

ذات مرّة أتينا معاً في إجازة، وذهب هو إلى قضاء أعماله وأنا إلى البيت، وحسب القول المعروف، مازلت لم أسترح من تعب الطريق، ولم يبرد عرق بدني، حتّى أتى إلَيّ وقال: يكفي استراحة.

 

فقُلت: خيراً إن شاء الله، أتُريد أن نذهب إلى مكان؟

 

فابتسم وقال: أتيت آخذك أنت وآخذ السيّارة أيضاً.

 

ولم ينتظر جوابي، فربّتَ على كتفي وقال: هيّا أسرع حضّر نفسك لنذهب.

 

رأيت أنّ المسألة تتّخذ شيئاً فشيئاً طابع الجدّيّة، فسألته: إلى أين؟

 

قال: أعلم فقط أنّنا عندنا عمل لعِدّة ساعات.

 

فقُلت بمزاح: يا عزيزي! نحن عندنا أربعة أيّام إجازة فقط، ألا ترى أنّنا نحتاج إلى قليل من الراحة؟

 

فوقف. وأخذ بيدي وأوقفني على قدَميّ، وقال مبتسماً: دع هذا الكلام جانباً، استعجل سوف نتأخّر.

 

فحضّرت نفسي بسرعة وذهبنا معاً.

 

مررنا على عدّة محلّات للبيع في طريقنا، واشترى أشياءً كثيرة، ولفّ كلّ هذه الأشياء بأوراق الهدايا، وفي النهاية! عندما ركبنا السيّارة وسرنا، قُلت له: هل ستقول لي أخيراً إلى أين نذهب يا حاجّ، أم لا؟

 

فابتسم وقال: سوف نذهب لرؤية الشهداء.

 

133

 


127

تراب كوشك الناعم

قُلت: لرؤية الشهداء؟!

 

فقال: نذهب لرؤية عوائل الشهداء، على كلِّ حال هم يحملون رائحة الشهداء، أنت تعلم أنّ روح الشهيد تذهب إلى عوائلها، وعلى هذا الأساس نحن في الحقيقة نذهب لرؤية نفس الشهداء.

 

كان قد استشهد من كتيبتنا عِدّة شهداء. وفي ذلك اليوم ذهبنا إلى بيوتهم كلِّهم. وفي كلِّ بيت كنّا نزوره، فإنّ عبد الحسين كان يُعطي إحدى تلك الهدايا لأحد أقاربه القريبين.

 

طال عملنا إلى وقت المغرب ولم نكن قد انتهينا، وكُنّا في أحد أماكن جنوب "مشهد". وبعد أذان المغرب صلّينا جماعة في أحد مساجد تلك المحلّة، وبعد تعقيبات مختصرة، كُنت أُهيِّئ نفسي للذهاب، وفجأة قال عبد الحسين: إلهي توكّلت عليك!

 

قال هذا ووقف، وذهب مباشرة إلى إمام الجماعة، وجلس إلى جانبه قليلاً. لم أدر ما الّذي دار بينهما من الحديث. ولكِنِّي رأيتهما وقفا فجأة، وكان إمام الجماعة هذا يُعامل عبد الحسين بِوِدٍّ ويحترمه احتراماً شديداً، وتوجّها معاً إلى المنبر.

 

توجّه إمام الجماعة إلى جمع المصلّين، وبعد أن ذكر بعض المقدّمات، تابع: نحن نفتخر هذه الليلة بأنّنا في خدمة أحد قادة الجبهة والحرب الأعزّاء، لقد سمعتم طبعاً أشياءً عن بطولات وتضحيات الحاجّ برونسي.

 

ارتفعت همهمة من بين الجموع، ثمّ ارتفعت الصلوات على النبيّ وآله، وكان عبد الحسين يقف بهدوء وسكينة.

 

نحن نفتخر أن نستفيد من كلمات هذا المجاهد العزيز، وإن شاء الله نستطيع أيضاً الاستفادة منه جميعنا.

 

ومرّة جديدة ارتفعت الصلوات من الجمع، وتوجّه عبد الحسين إلى خلف المنبر. وبعد المقدّمات، بدأ الكلام، فتحدّث عن الجبهة وعن الحرب وأنّه يجب أن لا نترك الجبهة خالية. كان يتكلّم بحماس شديد، وكان يُسيطر على عباراته. وبدون أن أقصد تذكّرت اللحظات الّتي كانت تسبق العمليّات، وتذكّرت حال عبد الحسين وهيّأته،

 

134

 


128

تراب كوشك الناعم

عندما نصل إلى نقطة الانعتاق1 ، عندما يتحدث للشباب عن الانعتاق، عندها تحدّث عندنا فعلاً لحظات انعتاق من هذه الدنيا وتعلُّقاتها، بسبب تأثير كلامه.

 

وعندما عدت إلى نفسي في تلك اللحظات، رأيت عبد الحسين غاص في دنيا المعنويّات، ورأيت المسجد كلّه حماس وهيجان. كان يبدو واضحاً جدّاً تأثير كلامه على كثير من الموجودين.

 

ما زلت أذكر جيِّداً أنّ كثيراً من الموجودين وخاصّة الشباب قد وقف بعد هذه الخطبة وسجّلُوا أسماءهم في ذلك المكان للذهاب إلى الجبهة، وحتّى إنّ بعضهم قد انضمّ بعدها إلى الحرس الثوريّ.

 

وفي آخر الليل عندما كُنّا عائدين إلى البيت، قُلت له: يا حاجّ لماذا لا تطلب لك سيّارةً من أجل هذه الأعمال؟

 

فابتسم وقال: أُريد أن يصلك أنت أجرٌ أيضاً.

 

قُلت له: على الأقلّ يُمكن أن تستردّ ثمن الهدايا الّتي تُعطيها إلى عوائل الشهداء من الحرس الثوريّ.

 

قال: إنّ قيمة هذه الأعمال أن يدفع الإنسان ثمنها من جيبه.

 

وعندما كان يقول هذا الكلام كنت أُفكِّر بحقوقه القليلة وبعدد الأفراد الّذين هم تحت عيلته2.

 


1-  آخر نقطة من نقاط استقرار قوَّات الإسلام، والَّتي منها يجب أن تهجم على مواضع العدوّ.

2- وبعدها عندما كُنت أتوفَّق بمرافقته، كُنّا نذهب أيضاً إلى المدن والمناطق القريبة والبعيدة ونزور عوائل الشهداء والمفقودين، ونسأل عن المجروحين. وفي بعض الأوقات، عندما تكون سيَّارتي معطَّلة، كان يستعير سيَّارة أحد الرفاق الشخصيَّة ويُقدّم الهدايا الشخصيّة ويقوم بواجبه حسب قوله.

 

135

 


129

تراب كوشك الناعم

شمع بيت المال

السيِّد كاظم الحسينيِّ

عندما أصبح قائد كتيبة صُرفت له سيّارة بشكل إجباريّ. وأرادوا أن يصرفوا له أيضاً سائقاً ولكنّه لم يقبل. فقُلت له: أنت لا تحمل رخصة قيادة سيّارة يا حاجّ، إذن يجب أن يكون معك سائق.

 

فقال: داخل المنطقة العسكريّة، شرعاً، لا يوجد إشكال أن أقود بنفسي.

 

سألته: وفي المدينة ماذا تُريد أن تفعل؟

 

ففكّر قليلاً ثمّ قال: في المدينة، وبما أنّه لا يجوز أن أقود بدون رخصة، فإذا أردت أن أذهب إلى أيِّ مكان فسوف أذهب مع سائق.

 

وبعد مُدّة، عندما ذهبت إلى مشهد، أتى ذات يوم إليّ وقال لي: يجب أن نفعل شيئاً يا سيِّد بخصوص رخصة قيادة السيّارة.

 

فقُلت بابتسامة: أنت تستحقُّ أن يكون عندك سائق، فلأيِّ شيء تُريد رخصة قيادة سيّارةٌ؟

 

فقال: إنّ المشكلة تكمن هنا، أن يُصبح السائق بتصرُّفي، فهو أيضاً يأخذ حقوقاً من بيت المال، وله أيضاً مصاريف كثيرة أخرى.

 

أردت أن أفتح باباً للمزاح. فقُلت: حسناً! إنّ هذا هو بحقِّ قائد كتيبة.

 

قال: لا تمزح يا سيِّد! يكفي أن تكون هذه السيّارة بتصرُّفي، إنّ هذا وحده ثقيل جدّاً عليّ، وأخاف أن لا أستطيع أن أُجيب يوم القيامة، فماذا إذا وصلت القضيّة إلى

 

136


130

تراب كوشك الناعم

 موضوع سائق1.

 

كان يبدو أنّه قد صمّم بشكل جدّي، ولا يُمكن لأحد إقناعه بالعدول عمّا يُريد ولو بمقدار خرم إبرة. فسألته: كم يوماً هي إجازتك الآن؟

 

قال: سبعة، إلى ثمانية أيّام.

 

ففكّرت قليلاً وقُلت: في هذه المدّة القصيرة يصعب عمل شيء2 ، ولكن، الآن توكّلْ على الله، ولِنَرَ ماذا نستطيع أن نفعل.

 

فذهبنا إلى إدارة تسجيل السيّارات، واستطعنا أن نُيَسِّر الأمر بأيِّ حال، فقد ساعدنا كثيراً ثلاثة من الضبّاط الخَيِّرين. وفي البداية قدّم عبد الحسين امتحاناً نظريّاً، ثمّ امتحاناً تطبيقيّاً داخل المدينة، وفي النهاية أعطوه رخصة قيادة سيّارة، وقد احتاج هذا إلى مُدّة أسبوع. وعندما أراد الذهاب إلى الجبهة أتى من أجل السلام عليّ، فشكرني على موضوع الرخصة وقال: ليكن هذا التعب الّذي تكلّفته في سبيل بيت المال، إن شاء الله أجرك على الله.

 

ثمّ ابتسم وأخبرني حكاية، حكاية طلحة والزبير في زمان خلافة أمير المؤمنين عليه السلام عندما ذهبا إلى الأمير يُريدان أن يحصلا على السلطة، وعندما دخلا أطفأ الأمير شمعة بيت المال وأشعل شمعته الخاصّة. وعندما فهم طلحة والزبير الموضوع لم يقولا أيّ شيء عن موضوعهما عن طلب السلطة وعادا بخُفّي حُنين. وكان للهجته عندما روى هذه القِصّة شكلٌ معنويٌّ خاصٌّ، فقد تابع وهو يبكي، إنّ الله يُحاسب الإنسان يوم القيامة عن الأموال الّتي حصّلها بيده وبتعبه، يُحاسبه من أين حصل على المال وفي ما أنفقه، فكيف بأموال بيت المال فإنّه يُحاسب على مقدار رأس الإبرة!

1-  كان هذا عندما يأتي إلى مشهد، فإنَّ كلَّ مصاريف السيَّارة من بنزين وزيت ومصاريف أخرى يدفعها من جيبه ومن حقوقه الماليَّة.

2- في ذلك الوقت لم يكن من الميسّر الحصول على رخصة قيادة سيارة، فهي بحسب الدور وحسب حروف اسم العائلة، وكان يطول ذلك لمُدَّة ثلاثة أشهر على الأقلّ.

 

137


131

تراب كوشك الناعم

الغسّالة

السيِّد كاظم الحسينيّ

بقي هو في الجبهة وأتيت أنا في إجازة، وفي صباح اليوم التّالي ذهبت إلى "ملك آباد"، مقرّ الحرس الثوريّ. فقال لي أحد المسؤولين من المراتب العليا: قدّمنا لكلِّ قائدٍ عسكريٍّ قطعة أثاث منزليّة، وكان سهم السيِّد برونسي غسّالة.

فتمهّل قليلاً ثمّ قال: هو الآن غير موجود! أتقوم أنت بهذه المهمّة وتأخذها إلى بيته؟

 

كُنت أعلم أنّ الحاجّ إذا كان موجوداً، فإنّه لن يقبل بالغسّالة بأيِّ حال. فقُلت في نفسي: لا يوجد أفضل من هذه الفرصة، وسوف أُرتِّب أنا الموضوع بنفسي.

 

وهكذا! عندما يعلم بالّذي حصل، سوف يهدأ ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، ولذلك قلت: حسناً! أنا أقبل بهذه المهمّة بكلِّ طيبةِ خاطرٍ.

 

فوضعت الغسّالة في سيّارة بيك آب وأخذتها بسرعة إلى منزله.

 

لا تغيب عن بالي عصبيّته في ذلك الوقت، فبمجرّد أن علم بموضوع الغسّالة وفهم من أين تأخذ الماء، أتى مباشرة إلَيّ.

 

لم أره في يوم من الأيّام منزعجاً وعصبيّاً إلى هذا الحدِّ، وقال بصوت متهدِّج: بأيِّ إجازة تُحضر إلى بيتي غسّالة؟

 

فاصابني الذهول، لأنِّي لم اكن أنتظر هكذا ردّة فعل، فقُلت: لقد أخذت أوامري من المراتب العليا.

 

 

138


132

تراب كوشك الناعم

فقال منزعجاً أكثر من ذي قبل: عذر أقبح من ذنب!

 

ثمّ تمهّل قليلاً، وتابع بخشونة: أنت تذهب الآن وتأخذ تلك التحفة الّتي أحضرتها وتردُّها من حيث أتيت بها.

 

وشيئاً فشيئاً هدأت وسيطرت على الأوضاع، وقُلت له: ما الّذي حصل الآن يا حاجّ، حتّى جعلك تقلب السماء على الأرض؟!

 

فقال بغضب: هل إنّني ذهبت إلى الحرب لأحصل على غسّالة لبيتي؟

 

فقُلت: يا عزيزي قطعة صغيرة كانت من حقّك فأعطوك إيّاها.

 

فقال: أنت تُريد أن تذهب بأجري، نحن نذهب إلى الحرب من أجل شيء آخر، نحن نقوم بواجبنا الشرعيِّ والدينيِّ، إنّ هذه الأشياء يُمكن أن تحرفنا عن مسيرنا.

 

ثمّ خرجت آهة من عمق قلبه. ووجّه نظره باتجاه آخر وقال وهو شارد: إنّ الحقوق الّتي آخذها لا أعلم إن كُنت أستحقُّها أم لا، أنا يجب علَيّ أصلاً عندما آتي في إجازة أن أعمل وأُحَصِّل قوت عيالي، ومن ثمّ أذهب إلى الجبهة1 ، وأنت تُجيز لنفسك أن تُحضر إلى بيتي غسّالة؟! هذا بعيد عليك، يا سيِّد!

 

وفي النهاية لم يستسلم. فقال بشكل جِدِّي وقاطع: أنت أحضرتها، وأنت أيضاً يجب أن تردّها.

 

أنا أيضاً عاندت وقُلت: إنّ هذه الغسّالة هي من حقِّ زوجتك وأطفالك ويجب أن تبقى في المنزل.

 

فقال وهو يودُّعني: نحن لن نمسّها، حتّى تأتيَ وتأخذَها.

 

فقُلت في نفسي: أنا أطيع كلّ أوامرِهِ، ولكن هذا الأمر لن أُطيعَهُ.

لقد نسيت أن أذكر هذه النقطة وخسارة أن لا أذكرها، في أوائل الثورة وفي بداية تشكيل الحرس الثوريِّ كانوا لا يعطون حقوقاً للأفراد. ولا زلت أذكر أن هذا الشهيد الكبير كان يأتي في النهار ويعمل مع الحرسِ الثوريِّ، وفي الليل كان يعمل من أجل تأمين قوت زوجته وأطفاله، وكان عمله شاقّاً جدّاً، فقد كان بنَّاءً.

 

139

 


133

تراب كوشك الناعم

وهكذا حصل، فقد أصرّيْت ولم أذهب لأردّ تلك الغسّالة.

 

رحمه الله، وهو أيضاً كان قد قال لزوجته: لا تُخرجي الغسّالة من صندوقها.

 

وبقيت في صندوقها إلى وقت استشهاده ولم يمَسُّوها أصلاً. وبعد استشهاده بوقت طويل، أبدلت تلك الغسّالة بغسّالة أحدث منها وأخذتها إلى زوجته وأولاده.

 

140

 


134

تراب كوشك الناعم

حصّة عائلتي

معصومة سبك خيز

جاء ذات يوم مع اثنين من رفاقه المجاهدين إلى البيت. كُنّا وقتها ما زلنا نسكن في مفرق الطلّاب، وكان بيتنا صغيراً مقفلاً، غير مبرّد، وكان الفصل صيفاً، والطقس حارّاً جدّاً، وأخذ العرق يتصبّب من رؤوسنا ووجوهنا.

 

ذهبت إلى المطبخ وأحضرت إبريقاً من الماء المثلّج وأعطيتهم إياه. وحينئذ قال أحد رفاقه بكلِّ صراحة: عفواً يا حاجّ.

 

التفت إليه عبد الحسين بكلِّ وجهه، فقال: إذا لم يكن في كلامي تطاول عليك، أردت أن أٌقول إنّ المكيِّف الّذي أعطيته للآخر، كان من الأوجب أن يكون لبيتك.

 

فأيّده الرفيق الآخر وقال: نعم يا عزيزي، أولادك هنا يُعانون كثيراً من الحرّ.

 

فأثار هذا الكلام فضولي، فقُلت في نفسي: إذن إنّ زوجي يوزّع مكيّفات أيضاً!

 

كُنت أنتظر ماذا سوف يقول عبد الحسين. فابتسم وقال: ما هذا الكلام الّذي تقوله؟

 

فقال رفيقه: أنا أتكلّم بِجدّيّة يا حاجّ.

 

فضحك ثانية وقال: لا تمزح يا عزيزي أمام هذه النساء، الآن سوف تُصدِّق زوجتي وتظنُّ أنّ بيدي توزيع المُكَيِّفات على كلِّ الدنيا.

 

141

 


135

تراب كوشك الناعم

وكأنّهما فهما أنّ عبد الحسين لا يُريد أن يُثار الكَلام في هذا الموضوع، فلم يقولا شيئاً بعد ذلك، وصرفت أنا النظر أيضاً عن المُكَيِّف. كُنت أعلم بأنّه لا يقوم بالعمل الّذي يظنُّ أنّه يجب أن لا يقوم به، وخرجت من الغرفة.

 

وبعد استشهاده، قال لي نفس رفيقه ذاك: في ذلك اليوم عندما خرجتِ من الغرفة، قال الحاجّ: أيُمكن أن يبقى أولئك الّذين استشهد ولدهم في الحرِّ، تلك الأم الّتي حُرق قلبها، أيبقَوْن في الحرِّ وأطفالي يكونون في المكيَّف؟ المُكَيِّف هو من نصيب أمِّ الشهيدِ، وعائلتي تستطيع أن تتحمّل الحرارة. إضافة إلى ذلك عائلتي لم تُشارك في الثورة حتّى تأخذ مكيّفاً من بيت المال.

 

142

 


136

تراب كوشك الناعم

الظروف الصعبة

معصومة سبك خيز

في المُدّة الأخيرة وقبل استشهاده كان بتصرُّفه سيّارة للحرس الثوريِّ. وذات يوم ذهب إلى القرية لرؤية أمِّه. ولم أعلم ماذا حصل هناك. وبعد استشهاده كانت كنّة عمِّه في المجلس حزينة إلى درجة التوتُّر. لم تكن حالتها طبيعيّة.

 

ظننت أنّه يجب أن يكون عندها قصّة عن عبد الحسين. ولم أتمكّن من أن أسألها شيئاً هناك. وعندما ذهبنا إلى البيت وكانت قد هدأت قليلاً، قُلت لها: لقد بكيت كثيراً وتأوّهت، ما هو الموضوع؟

 

فامتلأت عيناها بالدموع من جديد. وكانت تهزُّ رأسها يميناً وشمالاً. فأخبرتني عن ما عندها عن عبد الحسين، في تلك المرّة الّتي ذهب فيها وحْدَهُ إلى القرية. فسألتني في البداية أتعلمين أنّ ولدي يدرس في مشهد؟

 

فهززت رأسي، نعم، أعلم، فتابعت كلامها وقالت: عندما علمت أنّ الحاجّ برونسي قد أتى إلى القرية بسيّارة، ذهبت بسرعة وأحضرت صُرّة فيها قليل من الخبز واللحم واللبن وأشياء أخرى هيّأتها. وأحضرت كلّ تلك الأشياء إلى المرحوم زوجك. ولأنِّي كُنت أُريد أن أُطمئن بالي سألته: هل تُريد أن تعود بالسيّارة إلى مشهد؟

 

فقال: للمصادفة أنا الآن عائد، أتُريدين شيئاً من مشهد؟

 

فأشرت إلى الأغراض الّتي في يدي وقُلت: إذا لم يكن من إزعاج أُريد أن تضعهم في صندوق السيّارة وتأخذهم إلى ولدي.

 

143

 


137

تراب كوشك الناعم

فسكت للحظات ولم يقل شيئاً. ثمّ رفع رأسه وأشار بيده إلى موقف الباصات وقال: الآن يوجد باص ذاهب إلى مشهد، أعطها إلى السائق ليأخذها لك.

 

فتفاجأت كثيراً! الشيء الوحيد الّذي لم أكن أنتظره، هو هكذا جواب. فقال بحنان: أنا أدفع أجرة النقل، وعندما أصل إلى مشهد أنا بنفسي سوف أخبر ولدك ليذهب إلى موقف الباصات ويأخذ الأغراض من السائق.

 

فدارت عيناي في محجرهما وقُلت: حسناً أنت لديك سيّارة يابن عمِّي، فلماذا نأخذها إلى موقف الباصات؟!

 

فقال بكلِّ جدّيّة: هذه سيّارة بيت المال.

 

فقُلت ببرودة أعصاب: ليكن.

 

قال: أنا لي الحقُّ أن آتي إلى القرية لأعود أمِّي، أنا لي هذا السهم فقط، لا غير.

 

ومهما حاولت معه على أن تُحلّ هذه القضيّة، لكنّها لم تُحلّ. وهو فهم أيضاً محاولتي. فقال: إذا أردت أن آخذ إلى ولدك لحماً وخبزاً، يجب أن أُحاسب غداً يوم القيامة! ثمّ قال المرحوم بانزعاج: يجب أن أُسأل من قبل كلِّ فرد في هذا البلد!

 

لم أقتنع في ذلك اليوم. وكُنت قد حملت في قلبي كثيراً من هذا الموقف وأنّه قد خذلني، فقُلت بانزعاج: على الأقلِّ خذ لنفسك من هذه الأغراض.

 

قال: إذا أردت أن آخذ لنفسي من هذه الأغراض فإنِّي سوف أُرسلها بالباص من موقف الباصات، أو آخذها في المَرّة التالية إذا أتيت في سيّارة شخصيّة.

 

وبكت عندما وصلت إلى هذا الموضع من الحديث. ثمّ قالت: لو أنّنِي كُنت أعلم ماذا يفعل السيِّد برونسي في ذلك الوقت لكنت ألقيت بنفسي على قدميه، ولكنّني، و يا للخسارة، لقد فهمت هذا متأخِّرة...

 

ذات مرّة، كسر أحد أولادي يده أو آذى نفسه بشكل ما، لا أذكر، ولكنِّي ما زلت أذكر أنّه كان يجب أن نأخذه سريعاً إلى المستشفى. وحتّى في هذه الظروف الصعبة كان لا يقبل أن يستعمل سيّارة بيت المال الّتي كانت متوقِّفة أمام المنزل، فذهب بسرعة وأحضر سيّارة أجرة وحلّ المشكلة، لقد كان دقيقاً وحسّاساً جدّاً في استعمال المال العامِّ.

 

 

144


138

تراب كوشك الناعم

العُلب الخالية

معصومة سبك خيز

أتى في إجازة بعد إحدى العمليّات، وعندما فتحت له الباب وقع نظري على علبتين من علب العتاد الخالية، فأدخلهما إلى المنزل. وبعد السلام والسؤال عن أحواله، أشرت إلى تلك العلب وسألته: لماذا أحضرت هاتين العلبتين؟

فقال: أحضرتها من أجل أن يضع الأولاد كتبهم ودفاترهم فيها...

 

كانت جارتي قد رأته عندما أحضر العلبتين، وبعد ذلك قالت لي: إنّ السيِّد برونسي أتى هذه المرّة بيد مليئة.

 

لم أفهم قصدها، ثمّ مأمأت وأشارت إلى العلبتين وقالت: العلبتان.

 

وبمجرّد أن نطقت باسم العلب، احمرّ وجهي وفهمت معنى كلمة مليئة. فأجبتها بسرعة: إنّ تلك العلب كانت خالية!

 

فقالت: لا لزوم لأن تُخفي عنِّي، نحن لسنا غرباء، في النهاية مهما كان الّذي أحضره الحاج، فقد أحضره.

 

وعندما ذهبت إلى البيت قُلت لعبد الحسين وأنا منزعجة ومنقبضة القلب: يا ليتك أريت بعض هؤلاء الجيران هذه العلب.

 

فقال مازحاً بوجهه البشوش والأخلاق الحسنة: طبعاً إنّ بعض الجيران قال شيئاً أزعج السيِّدة.

 

فقُلت وأنا منزعجة أكثر من الأوّل: إنّ إحدى الجارات ظنّت أنّك أحضرت إلى البيت شيئاً أخفيته في تلك العلب.

 

145


139

تراب كوشك الناعم

فقال مبتسماً: كلُّ هذا من بنات خيالها، يجب أن لا تنزعجي من هكذا كلام.

 

فقُلت بصوت عالٍ: يجب أن لا أنزعج؟!

 

لم يقل شيئاً، فتابعت: إذا كُنت أنت لا سمح الله ممّن يُقال عنه هذا الكلام ويتّهمونه هكذا تهم، فحسناً! يجب أن لا أنزعج، ولكن يجب أن أُري تلك المرأة الآن تلك العلب وأقول لها لماذا أحضرتها؟

 

فابتسم أيضاً وقال: الأفضل أن لا تفعلي هذا في الوقت الحالي.

 

أردت أن أسأله لماذا، ولكنّه لم يمهلني للكلام. وقال: هل تعلمين ماذا نُجيب تلك المرأة؟

 

لم أقل شيئاً ونظرت إليه فقط. فتابع: كان يجب أن تقولي لها إنّ الطريق مفتوحة! إنّ زوجي ذهب وأحضرها، أنتم أيضاً اذهبوا إلى الجبهة وأحضروا من هذه الأشياء فهم لا يمنعون أحداً من الذهاب إلى الجبهة.

 

تمهّل قليلاً! ثمّ تابع، بلهجة كأنّه يُلقي نكتة مضحكة: لقد أحضرنا علبتين من أجل دفاتر الأولاد، فليذهبوا وليحضروا مئة علبة.

 

ثمّ تابع متلبّساً بحالةٍ أبَويّة: إذا قالوا شيئاً مرّة أخرى، أجيبيهم هكذا.

 

146

 

 


140

تراب كوشك الناعم

الغرفة الخاصة

معصومة سبك خيز

كان يرقد في مستشفى 17 شهريور1. وكُنت دائماً عندما أذهب لزيارته، أرى عنده رجلين اثنين يجلسان إلى جانبه. في الأيّام الثلاثة الأولى ظننت أنّهما أتيا من أجل زيارته مثل البَقِيّة.

 

ثمّ فهمت بعدها أنّهما دائماً عنده مِمّا أثار فضولي، فسألت الحاج برونسي: من هما هذان؟

 

قال: إنّهما صديقاي.

 

قُلت: لماذا هما دائماً هنا؟

 

فقال: إنّهما صديقان يأتيان إلى هنا ليكونا معي.

 

كان يتكلّم بهدوء، بحيث إنّك لا تستطيع أن لا تُصدِّقه. ثمّ إنّك تُصدِّقه فعلاً، مع أنّ العقل لا يُصدِّق أن يكون اثنان من الأصدقاء دائماً إلى جانبه!

 

كان في الأيّام الأولى يرقد مع عدد من المرضى في الغرفة، وذات يوم ذهبت لعيادته، ولم أجده هناك، غلى قلبي عليه. وذهب فكري في ألف طريق. وعندما سألت ممرِّض القسم عنه، قال لي رقم غرفة وتابع: نقلوه إلى هناك.

 

كان في غرفته سرير واحد. وكان ذانك الشخصان معه أيضاً، وبمجرّد أن رأياني خرجا من الغرفة. كُنت واقفة إلى جانب سريره. سلّمت عليه وسألته عن أحواله. قُلت: لماذا أحضروك إلى غرفة خاصّة؟

 


1-  إحدى مستشفيات مدينة مشهد المقدّسة.

 

147

 


141

تراب كوشك الناعم

فقال لي بلهجة لا مبالية: قال الدكتور إنّ الضجّة والأصوات لا تُناسبني، لهذا أحضروني إلى هنا...

 

بقي راقداً في مستشفى السابع عشر من شهريور. وكان الشخصان نفسهما معه دائماً. وحتّى عندما غادر المستشفى أتيا معه إلى المنزل.

 

أرسلوا بطلبه من قيادة المنطقة وكانت جراحه ما زالت لم تشف جيِّداً. فذهب بالرغم من عدم شفاء جروحه.

 

بعد استشهاده، رأيت الشخصين نفسيهما. أتيا إلَيّ وقالا لي: نحن كُنّا حارسَا السيّد برونسي!

 

كادت عيناي تخرجان من حدقتهما من شِدّة المفاجأة، فالشيء الوحيد الّذي لم أكن أتوقّعه هو هذا، قُلت: إذن لماذا لم تُخبراني أنتما شيئاً؟!

 

قالا: إنّ الحاجّ بنفسه أراد أن لا نقول شيئاً، لا لك ولا لأيِّ شخص آخر.

 

فعقّب أحدهما على كلام زميله وقال: في تلك المرّة الّتي أتيت بها ووجدته قد انتقل إلى غرفة خاصّة، كان ذلك لأنّنا اعترضنا على وجود آخرين معه.

 

سألت: لماذا؟

 

قالا: لأنّه رحمه الله كان يُحبُّ أن يكون دائماً بين الناس، ولكنّنا كنّا نقول: إنّ هذا خطر، ونقلناه إلى تلك الغرفة بألف رجاء منّا.

 

148

 


142

تراب كوشك الناعم

المعطف الجديد

معصومة سبك خيز

كان يأتي والده من وقت إلى آخر ليطمئِنّ عن حالتنا. وذات مرّة أتى عبد الحسين في إجازة، ومن محاسن الصدف أنّ والده وصل في نفس الوقت. وقبل أن يرتاحا من تعب الطريق، فتح عبد الحسين أخبار الجبهة. كان يقول دائماً: أنا أتمنّى كثيراً أن آخذ أبي إلى الجبهة ليستشهد هناك.

 

وفي هذه المرّة أصرّ كثيراً على والده. وفي النهاية وبأيٍّ وسيلة كانت، جعله يوافق على الذهاب إلى الجبهة. ثمّ أتمّ هو كلّ الإجراءات، وعندما انتهت الإجازة ذهبا معاً.

 

وبعد ثلاثة أو أربعة أشهر عاد والده رحمه الله، وكان مجيئه مباشرة إلى مشهد ثمّ إلى منزلنا، وقد كان عنده كلام كثير عن الإيجابيّات الّتي في الجبهة، فكان يروي ونحن نستمع. وفي هذه الأثناء، كان عندي شوق كبير لأعرف شيئاً عن أخلاقيّات عبد الحسين وطريقة تعامله. وعندما سألته سؤالاً عن هذا الموضوع قال: يا عمِّي أنت لا تعلمين مدى دقّة زوجك وحساسيّته.

 

سألته: كيف؟

 

قال: عندما وصلنا إلى الجبهة أعطوني معطفاً، ويوم أمس، عندما أردت أن آتي في إجازة، أخذ مِنِّي ذلك المعطف وأعطاه لشخص آخر من أفراد التعبئة!

 

حملقت فيه من التعجُّب! في العادة إنّ المعطف الّذي يعطونه لأحد المقاتلين،

 

149

 


143

تراب كوشك الناعم

وبعد استعماله لِمُدّة، يُصبح ملكاً له. وكُنت متعجِّبة من أخذه المعطف من والده!

 

وبعد عدّة أيّام أتى عبد الحسين في إجازة. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال قُلت: المعطف شيء ذو قيمة، تُعطيه إلى رجل عجوز ثمّ تأخذه منه؟

 

فابتسم وقال: لا أدري ماذا قال لك والدي.

 

فطلبت منه أن يروي لي ما جرى، فقال:

عندما وصلنا إلى الجبهة كان الطقس بارداً، فراعيت سنّ والدي وعمره، وأعطيته معطفاً جديداً ليلبسه. وكان عندي في غرفتي معطف قديم فيه عدّة مواضع ممزّقة ومرقّعة، فرأيت أنّه وضع معطفه الجديد في الحقيبة ثمّ أخذ القديم الّذي كان لي ولبسه. ثمّ أمضى أربعة أشهر في الجبهة في ذلك المعطف القديم.

 

وعندما أراد أن يذهب في إجازة، أخرج المعطف الجديد من حقيبته ولبسه وكان ما زال جديداً لم يستعمله بعد، فقُلت له يا أبي العزيز، إلى أين إن شاء الله؟

 

قال: ذاهب إلى القرية لقد أعطوني إجازة.

 

قُلت: حسناً إذا أردت أن تذهب إلى القرية لماذا لم تلبس ذلك المعطف القديم؟

 

فلم يفهم قصدي، ونظر إليّ بحيرة ولم ينبس ببنت شفة، وأنا تكلّمت بكلِّ صراحة وقُلت له: انزع هذا المعطف الجديد والبس ذلك المعطف القديم.

 

في البداية اعترض وقال: أليس هذا لي؟

 

قلت: لو أنّه كان لك لكُنت لبسته منذ البداية.

 

وفي النهاية أرضيته، وأفهمته أن يُراعي بيت المال وأن لا يُضيّع أجره.

 

وقال عبد الحسين كلامه الأخير عن الموضوع ببسمة وقال: وأنا ساعدته أيضاً ليخلع ذلك المعطف.

 

 

150


144

تراب كوشك الناعم

بعد العمليّات

معصومة سبك خيز

كان والده قد أُصيب بنوبة قلبيّة. فذهبنا إلى القرية وأحضرناه إلى مشهد، وأخذناه إلى عِدّة أطباء، الذين أجمعوا كلُّهم بعد معاينته على أنّ وضعه لن يتحسّن.

 

ثمّ ألمحوا إلى أنّه يعيش آخر أيامه.

 

في ذلك الوقت اتّصل عبد الحسين من الجبهة فأخبرته بمرض أبيه، فقال: سوف أدعو له.

 

فقُلت له باعتراض: ماذا تعني بكلامك هذا؟! يجب أن تأتي إلى مشهد.

 

قال: لماذا يجب أن آتي؟ أنتم خذوه إلى الطبيب.

 

فقُلت منزعجة: تعني، أنّنا لم نأخذه إلى الطبيب حتّى الآن!

 

لم يقل شيئاً، وكأنّه ظنّ أنّه يُمكن أن يكون قد حدث لأبيه شيء، فأكملت: لقد قال الأطباء: إنّه لن يتحسّن، والآن إنّ وضعه سيِّئ جدّاً، حتّى إنّه...

 

أردت أن أقول: حتّى إنّه يُمكن أن يموت الآن، فارتجف صوتي ولم أستطع أن أقول شيئاً، فبقي ساكتاً للحظات، ثمّ قال بصوت مغموم ومهموم: لا أستطيع أن آتي إلى خلف الجبهات فالوضع هنا بحاجة إلَيّ، يجب أن أبقى، حتّى إذا لا سمح الله مات والدي!

 

فقُلت بخشونة: ما هذا الكلام الّذي تقوله؟

 

151

 


145

تراب كوشك الناعم

فقال: إنّ الاهتمام بالجبهة والحرب أوجب من كلِّ شيء.

 

قُلت: إذا حدث شيء لا سمح الله، ماذا نفعل؟!

 

فقال بهدوء وحزن: خذوه وادفنوه.

 

فحصل المحذور بعد عِدّة أيّام، فانتقل والده إلى رحمة الله، ولكنّنا لم ندفن الجُثّة. فإخوته وأخواته، وجميع عائلته وأقاربه كانوا ينتظرونه حتّى يعود.

 

كانت عمليّة "ميمك"1 قد بدأت للتَوِّ. فاستطعت أن أجده وأن أُكلِّمه عبر الهاتف بعد جهدٍ كبير وبعدّة وسائط. فقُلت له: لقد انتقل والدك إلى رحمة الله.

فقال بهدوء عبر الهاتف: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقُلت: إنّنا لم ندفن الجُثّة إلى الآن.

قال: لماذا؟

فقُلت: إنّ الجميع ينتظرونك أن تأتي ثمّ يدفنونه.

قال: في تلك المرّة الّتي تكلّمت معك فيها لم تكن العمليّة قد بدأت بعد، والآن وقد بدأت العمليّة، أصلاً لا يُمكن لي أن آتي.

قُلت: وهل يُمكن؟ تعالَ لمُدّة أربع وعشرين ساعة وعُدْ بسرعة.

قال: يحتاجونني الآن في الجبهة أكثر، اذهبوا وادفنوا الجُثّة أنتم2.

 

أتى في يوم أربعين والده رحمه الله. فتقبّلنا التعازي في مشهد، وفي القرية أيضاً. وفي مسجد القرية اعتلى المنبر وقال: إنّ أهالي القرية جميعهم قد اجتمعوا هنا الآن.

1- عندما علمت لاحقاً بالوضع الاستثنائي والصعب لعمليَّة "ميمك"، فهمت أنَّه إلى أيِّ حدٍّ كان قد أبدى إيثاراً وفداءً من نفسه.

2- بعد استشهاده، قال مجيد أخوان: عندما كنتِ تتحدَّثين معه على الهاتف كنَّا نحن هناك وانزعجنا من موقفه. وعندما علمنا أنَّ تصميمه لا عودة عنه، قال له أحد الشباب: يا حاجّ أيعقل أن لا تُشارك في تشييع الجنازة؟!

فقال رحمه الله: إنَّ حضوري هنا لازم أكثر، أنا أب شباب التعبئة هؤلاء، ما الفرق.

وبقي حتَّى آخر العمليَّة. وبعد أن حقَّقنا كلَّ الأهداف وثبَّتنا كلَّ المواقع، أخذ إجازة.

 

152

 


146

تراب كوشك الناعم

فسكت الّذين كانوا يتحدّثون. فقُلت في نفسي: ماذا يُريد أن يقول؟

 

فقال بصوت صافٍ وعالٍ: أرجو من كلِّ من كان له قِبل والدي أيّ حقٍّ، أو له قِبله قرضٌ أو طلب، فليأتِ الآن إليّ لنحلّ المسألة.

 

153

 


147

تراب كوشك الناعم

الخِصام

معصومة سبك خيز

عندما يكون في المنزل لم يكن يسمع لأحد أن يتحدّث في أمور فضوليّة، مثل أنّه في هذا اليوم هذا الجار فعل كذا أو ذاك الجار ذهب إلى كذا.. فإذا أردنا أن نأتي على سيرة أحد كان يقول بسرعة: هذا ليس من شأننا، نحن عندنا حياة وعمل، وما دخلنا بهذا الكلام؟

 

حتّى إنّه كان يتجنّب قول أيِّ كلام بلا طائل بشكل عجيب، فما بالك بحديث الغيبة والكذب والذنوب الّتي من هذا القبيل.

 

ذهبنا ذات يوم إلى القرية، وكان منذ وقت قد وصل إلى والدته ملكيّة أرض وماء. فأتت وجلست إلى جانب عبد الحسين وقالت له بعتب: لا أدري أيّ نوع من الأولاد أنت يا ولدي العزيز!

 

فابتسم عبد الحسين وقال لها: لماذا؟

 

قالت: دائماً تأتي إلى القرية وتسأل عنّا وتذهب، لم يحدث أنّك سألتني ولو لِمرّة واحدة: يا أمِّي أين ملكك والماء؟

 

وبمجرّد أن سمع عبد الحسين هذا الكلام قَطّبَ حاجبيه وقال بانزعاج: لا دخل لي بملكك ومائك!

 

فانصدمت أمُّه وكذلك أنا، فتابع عبد الحسين قائلاً: ظننت أنّك جلستِ إلى جانبي لتسأليني: كم قضيت من الصلاة، أو كم صلاة ليل صلّيْت، ما هذا الكلام الّذي تقولينه عن المُلك والأملاك؟

 

154

 


148

تراب كوشك الناعم

كُنت أنتظر منه هكذا ردّات فعل دائماً، ولكِنِّي لم أنتظر هذا مع والدته.

 

لم أستطع البقاء ساكتة، فقُلت معترضة: هل هذه الطريقة في التعامل صحيحة؟ إنّها والدتك على كلِّ حال!

 

فأجاب بسرعة: هل هذا صحيح أن تجلس أمِّي بهذا العمر وهذه السنِّ الكبيرة وتتحدّث عن الدنيا؟

 

ثمّ ليّن لهجته، فمكث قليلاً وتابع: إنّ الرزق على الله، هو يرزق من يشاء، أمِّي يجب أن تهتمّ أكثر من أيِّ شيء آخر بأمر آخرتها.

 

155

 


149

تراب كوشك الناعم

غرض ومرض

معصومة سبك خيز

لم أعلم أنّ عنده مسؤوليّةً مُهِمّةً في الجبهة. وأكثر معارفنا وعائلتنا وجيراننا لم يعلموا بذلك أيضاً. وأحياناً، عندما يجري الحديث عن ذهابه إلى منطقة العمليّة، كان يقول بعض معارفنا: ماذا يُريد زوجك من الجبهة ليذهب كلّ هذا المقدار؟!

 

ذات مرّة جرى هكذا حديث بين الجيران. فقالت إحدى الجارات: أنا أقول: إنّ السيِّد برونسي قد ملّ من زوجته وأطفاله ليذهب كلّ هذا الوقت إلى الجبهة ولا يبقى إلى جانبهم.

 

لم ينسجم معها أحد في حديثها، فتابعت كلامها حتّى يكون له وقعه وقالت: إنّ الرجل إذا رأى محبّة وعطفاً من زوجته وفي حياته، فسيراعيهم في النهاية حتماً.

 

كان كلامها ثقيلاً على قلبي. ولا أدري أكان لها غرض أم بها مرض، أو الاثنان معاً؟! ومهما كان، فإنِّي لم أقل شيئاً، وطأطأت رأسي، وعدت إلى البيت منزعجة.

 

كان عبد الحسين في ذلك الوقت في إجازة، فذكرت له مقالة تلك المرأة، وعلم أنِّي انزعجت كثيراً، فابتسم من أجل أن يُعطي الموضوع صبغة طبيعيّة وقال: أتعلمين ماذا يجب أن أفعل؟

 

قُلت: لا.

 

قال: يجب أن أضع كرسِيّاً في المفرق، وأجمع الجيران، ثمّ أقول للجميع: يا أحِبّائي! أنا أُحِبُّ عائلتي، وأُحِبُّهم جدّاً أيضاً، أمّا الجبهة فهي أوجب.

 

ماتت البسمة على شفاهه. ثمّ نظر في عَيْنَيّ. وتابع كلامه وقال: إنّ المرأة الّتي

 

 

156

 


150

تراب كوشك الناعم

 قالت لك هذا الكلام، لا بدّ أنّها لا تعلم أنّ عائلتي تعيش هنا في أمن وأمان، ولكن على الحدود يوجد الكثير من الّذين خسروا بيوتهم، وكلّ ما لديهم، وأصلاً لا أمن لهم ولا أمان.

 

 

157


151

تراب كوشك الناعم

حبُّ الولد

حجّة الإسلام محمد رضا رضائي

كُنّا نحن الإثنان نسكن مشهد، وكُنّا أيضاً مشغولين في مواضيع الثورة. ولهذا السبب، كُنّا نتردّد كثيراً إلى منزلهم.

 

كان من بين أفراد عائلة الحاجّ برونسي شاب اسمه عباس أكبري، وكان طالباً ثانويّاً، ذات يوم أتى إلَيّ. ومن منظره علمت أنّه يُريد أن يقول لي شيئاً مُهِمّاً. وبعد السلام قال لي بتعجُّب: لم أكن أعلم أنّ المعلِّم عبد الحسين يُحبُّك إلى هذه الدرجة!

 

لم أكن أنتظر هكذا كلام، فثار فضولي لأعرف ما الموضوع، فسألته: كيف؟

 

قال: إنّ زياراتك المتكرِّرة إلى بيته جعلت الكثير من أقاربه غير راضين.

 

لم أكن إلى هذا الوقت على علمٍ بهذا الموضوع، فسألته بتعجُّب: لماذا؟

 

قال: بسبب هذه المسائل السياسيّة، وذهاب المعلِّم عبد الحسين إلى السجن مثلاً، ومن هذا الكلام.

 

قُلت: هل أنت متأكِّد من أنّهم يتّهمونني بأنّني أنا السبب؟

 

فقال بتلكُّؤ: حسناً! نعم.

 

فابتسمت وقُلت: إنّهم لا يعلمون بأنِّي إذا كُنت قد توفّقت لخدمة الثورة، فأنا مدينٌ بهذا للسيِّد برونسي.

 

فتريّثت قليلاً ثمّ سألته ببرودة أعصاب: قل لي الآن من هم غير الراضين من أفراد العائلة والمعارف؟

 

158

 


152

تراب كوشك الناعم

فذكر بعض الأسماء، وكانوا من أقرب الناس إلى السيِّد برونسي. ثمّ تابع: لقد كُنت أمس هناك، وكان الجميع قد أتَوْا لإتمام الحجّة.

 

سألت: إتمام أيِّ حجّة؟

 

قال: كانوا يقولون بإصرار إنّك إذا أتيت إلى بيته بعد الآن وهم موجودون فسيرحلون، ولن يبقوا في بيته.

 

فعبثت بلحيتي، وهززت برأسي إلى الأعلى والأسفل وقُلت غير مصدِّق: عجيب!

 

ثمّ سألت بعدها: حسناً ماذا قال السيِّد برونسي؟

 

قال: في البداية تكلّم كثيراً ونصحهم، ولكنّه عندما رأى أنّهم لا يخزون الشيطان، قال بكلِّ جدّيّة وباطمئنان: أنا أستطيع أن أستغني عن كلِّ فرد منكم ولا أستغني عن رضائي، فبهت الجميع، ولكنّ السيِّد برونسي ومن أجل أن لا يُصيبهم جلطة قلبيّة قال: إنّ حجّة الإسلام رضائي يخدم الثورة وإنّ صحبتنا في سبيل الله.

 

كُنت أعلم مدى تعلِّقه بي، ولكنّ الّذي لم أكن أعلمه، هو أن يكون إلى هذا الحدِّ.

 

مضى عدّة أيّام على هذه الحادثة، ولم يكن حسن1 قد ذهب إلى المدرسة الإبتدائيّة في ذلك الوقت. وفي ذات يوم، وبينما كان يلعبَ في الشارع مع بعض رفاقه الّذين هم من عمره، لا أدري ما الّذي فعله ليرتفع صوت بكاء أحد الأطفال، فتقدّمت وأخذت بيد حسن وتنحّيتُ به جانباً، وحتّى لا يعترض أحد، ضربته بهدوء على رقبته صفعتين خفيفتين، أو ثلاث، فانزعج كثيراً وبكى وسحب يده من يدي وركض إلى داخل البيت.

 

كُنت قد انزعجت لأنِّي قد تسبّبت في بكائه، ولكن سبق السيف العذل، وأُسقط في يدي، وبعد عدّة لحظات خرج السيِّد برونسي مع حسن، وكُنت أنتظر

 


1- الابن الأكبر للشهيد برونسي.

 

159

 


153

تراب كوشك الناعم

 أن يُقابلني مثل العادة بوجه بشوش وباسم، ولكنّه كان منزعجاً! فلم يكن مبتسماً، ولم يكن ينظر إليّ حتّى، فكان تصرُّفه هذا لا سابقة له.

 

أتى، ووقف قريباً مِنِّي، وكأنّه يُريد أن يقول شيئاً، ولكنّه كان لائقاً فنظر إلى الأرض، وأخيراً تكلّم، وقال بلهجة بين الجدِّ وغيرِ الجدِّ: لا يحقُّ لأحد أن يمدّ يده على ولدي!

 

صُدمت وقتها، كان غريباً منه أن يقول لي هكذا كلام مع كلِّ الحبِّ الّذي يكنُّه لي، حتّى إنّني وقتها انزعجت منه.

 

ولكِنِّي عندما وضعت المشاعر جانباً، ونظرت إلى القضيّة من ناحية منطقِيّة، عرفت وقتها إلى أيِّ حدٍّ يُحبُّ أولاده.

 

160


154

تراب كوشك الناعم

الغرور

معصومة سبك خيز

ذات ليلة، كان يُريد أن يُلقي خطبة في مسجد "گوهر شاد"، ولكي لا نحسّ بأهميّته وأهميّة الموضوع كان يقول: أُريد أن أتكلّم مع الناس بصفتي أحد المقاتلين.

 

كان ولدنا أبو الفضل1 في ذلك الوقت في السنة الثانية من عمره. وعندما أراد عبد الحسين أن يخرج لحق به باكياً. فأخذته في حضني، ولكنّه كان يركل برجليه ويُحاول أن ينتزع نفسه مِنِّي، وكان يصرخ باكياً بلهجته الطفوليّة "بابا، بابا".

 

ومهما حاولت إسكاته فلم أُفلح. وفي النهاية وضع عبد الحسين إصبعه على شفاهه وقال بهدوء: حسناً يا محتال، سوف آخذك.

 

ففتحت عينيّ على وسعهما وسألته: إلى أين تُريد أن تأخذه؟!

 

قال: إلى المكان الّذي أنا ذاهب إليه.

 

قُلت: أنت تُريد أن تُلقي خطاباً، وهل يُمكنك ذلك مع وجود طفل؟

 

قال: ليس مهمّاً! أضعه مع رفقائي.

 

فغيّرت لباس الطفل، وأخذه معه.

 

وعندما عاد سألته قبل أيِّ شيء: ألم يُخرّب الشغل؟

 

فابتسم، وقال بلهجة خاصّة: هل خرّب! ماذا أقول لك: أيّ خراب!.

 


1- أصغر أبنائي وهو الآن طالب ثانويّ.

 

161


155

تراب كوشك الناعم

فأعطاني الطفل وجلس، ثمّ تابع: عندما كُنت في وسط الخطبة صرخ دفعة واحدة، واستمرّ بالبكاء، وعندما حاول الشباب إسكاته لم يُفلحوا، فلم يجدوا بدّاً من إخراجه. وعندما انهيت الخطبة، ذهبت إليه، فتعدّيت على وظيفتكِ، وفهمت أنِّي يجب أن أُغيّر له حفاظه. فأردت أن آخذه إلى مكان خالٍ، فقال أحد الرفقاء: إلى أين تأخذه؟

 

فأشرت إلى أبي الفضل وقُلت: عن إذنكم يجب أن أُغيِّر حفاظ سيِّدي الطفل هذا.

 

فانبهتوا وقالوا: إه! وهل يُمكن أن نسمح لك أن تفعل هذا!

 

فضحكت وقُلت: اطمئِنُّوا، أنا أشطر منكم في هكذا أعمال.

 

فأصرُّوا كثيراً، وفي النهاية لم يستطيعوا أن يثنوني. فأتممت العمل وهدأ الطفل.

 

162

 


156

تراب كوشك الناعم

المسؤوليّة الصغيرة

معصومة سبك خيز

كانت الساعة حوالي التاسعة مساءً، وقد أجفلني صوت جرس الباب، فنهضت من مكاني، ولا أدري لماذا خفت رغماً عنِّي، فلبست الشادور بسرعة وذهبت إلى الباب. كان يوجد بقرب الباب "درّاجة ناريّة كبيرة"، وكان يجلس عليها رجلان. وخفق قلبي بمجرّد رؤيتهما! فقد كانا يُخفيان وجهيهما بالكوفيّة ولا يبدو منهما غير عينيهما. فسلّم عَليّ أحدهما بكلِّ أدب وسألني: هل السيِّد برونسي موجود؟

 

قُلت: لا.

 

قال: أين ذهب؟

 

ففكّرت في نفسي أنّهما ربما كانا من زملائه المقاتلين. فقُلت: ذهب إلى مكان ما.

 

فسأل: متى يعود؟

 

قُلت: لا أدري، ذهب ليُلقي خطاباً ولا أدري متى يعود.

 

قال: عفواً يا حاجّة، نحن من رفاقه في الجبهة، إذا أردنا أن نراه حتماً، ففي أيِّ وقت يجب أن نعود؟

 

فقُلت: عندما يأتي في إجازة، نحن أنفسنا لا نراه إلّا قليلاً.

 

وكأنّ أسئلته لا تنتهي، فقال: هذه الليلة! في أيِّ ساعة يعود؟

 

فقُلت بتردُّد وشك: أنا لا أعلم في أيِّ ساعة يا أخي.

 

163

 


157

تراب كوشك الناعم

فسكت للحظات، فأردت أن أدخل إلى البيت، فتكلّم ثانية وقال: عفواً يا حاجّة، ما الاسم الصغير لزوجك1.

 

عندها لم أعد أتحمّل، فقُلت بخشونة: أنتم من رفاقه، يجب أن تعلموا ما اسمه!

 

وبمجرّد أن قُلت هذا، أدار ذلك الرجل الّذي يجلس خلف المِقْوَد المحرّك، وداس البنزين وذهبا بدون أن يقولا في أمان الله.

 

كانت الساعة العاشرة عندما أتى عبد الحسين. وكان برفقته أحد رفاقه، فسلّما، وقال عبد الحسين: أحضري العشاء فنحن جائعان جدّاً.

 

وبسبب استعجالي لأُخبره بموضوع راكبي الدرّاجة الناريّة. فكأنَّي لم أنتبه إلى كلامه. وقُلت له: أتى اثنان يسألان عنك.

 

سأل: من؟

 

قُلت: لا أعرف! كانا يُخفيان وجهيهما بالكوفيّة، ولم يقولا من هما، فنظر عبد الحسين وصاحبه إلى بعضهما، نظرة لها معنى.

 

فثار فضولي، وسألت بقلق: ما الّذي حصل؟

 

فقال عبد الحسين بارتباك: لا شيء، لا شيء، إنّهما من رفقائنا.

 

فسكت. وكأنّه فكّر قليلاً ثمّ سأل: ماذا قالا؟

 

فأخبرته بكلِّ الّذي جرى من أوّله إلى آخره، ماذا قالا، وماذا أجبتهما. فضحك وقال: وأخيراً أعطيتهما جواباً جيِّداً.

 

في تلك الليلة لم أستطع أن أستوضح المزيد حول الموضوع مهما حاولت لذلك.

وفي الصباح ذهبت إلى دُكّان الجيران، وكان لامرأة كُنت في العادة أشتري منها الحليب للأطفال، وبمجرّد أن رأتني سلّمت علَيّ بسرعة وقالت: أرأيت ليلة أمس؟ لقد أتَوا ليغتالوا زوجك!

فانخطف اللون من وجهي، وقلت: ل... يغتالوه! لماذا؟ لأيِّ شيء...؟

فأعطتني كرسِيّاً، فجلست وأنا مسلوبة الإرادة، ثمّ قالت: لا تُزعجي نفسك، الحمد لله، مضت على خير.

 


1- فهمت بعد ذلك أن سؤالهم كان من أجل أن يتأكَّدوا أنَّهم وصلوا إلى البيت الصحيح.

 

164


158

تراب كوشك الناعم

مضت لحظات حتّى استجمعتُ نفسي. أردت منها أن تروي لي القِصّة. قالت: إنّ الّلذين جاءا على الدرّاجة الناريّة وسألاك، أتيا إلى هنا قبلاً.

 

فقُلت بسرعة: لأيِّ حاجة؟!

 

قالت: أرادا عنوان بيتكم.

 

فقُلت: وأنت أعطيتهم العنوان؟

 

فاتخذت مظهر المحبِّ للحقِّ وقالت: من أين لي أن أدري لماذا أتيا!

 

فأتى زبون آخر فأعطته حاجته بسرعة ليذهب. ثمّ تابعت كلامها بتردُّد وقالت: لا تدري كم غضب مِنِّي "يد الله".

 

كان "يد الله" ولدها. كنت أعلم أنّه وابن خاله هم زملاء عبد الحسين في الجهاد. قالت: لقد عنّفّني "يد الله" كثيراً، وكان يقول: لماذا أعطيتهم العنوان؟ أولئك يُريدون اغتيال السيِّد برونسي!

 

فتمهّلَتْ قليلاً وتابعَتْ بتردُّد: الحقيقة تساءلت ماذا يفعل السيِّد برونسي ليغتالوه2 !

 

كُنت قد خفت كثيراً. فتساءلت بدوري، ماذا يفعل عبد الحسين ماهي مسؤوليّته؟! فقُلت مثل من لا يعلم شيئاً: أصلاً أنا لم أعلم لماذا أتى أولئك الّذين يركبون الدرّاجة الناريّة؟

 

فقالت: يا عزيزتي! ليلة أمس ذهب إبني يد الله وأخبر التعبئة وبقوا طوال الليل حتّى الصباح يحرسون بيتكم.

فبُهِتُّ. وقلتُ في نفسي: عجيب!

ولم أنتظر كلاماً آخر. أخذت الحليب وذهبت سريعاً إلى البيت. وذهبت فوراً إلى عبد الحسين. قُلت: أنا منزعجة منك كثيراً.

قال: لماذا؟

قُلت: أنت تعلم أنّهم أتوا أمس ليغتالوك ولكنّك لم تقل لي شيئاً.

فادّعى عدم الاهتمام، وضحك. وقال بكلِّ برودة أعصاب، وبشكل طبيعيٍّ جدّاً: ومن أنا حتّى يغتالوني؟

 

 


2- كان عبد الحسين يوصي دائماً زملاءه أن لا يقولوا أيّ شيء لعائلاتهم عن مسؤوليّته.

 

165

 


159

تراب كوشك الناعم

ثمّ أصبحت لهجته جدّيّة وسألني: أصلاً من قال لك هذا الكلام؟

 

فقُلت: هي أم "يد الله".

 

فهزّ رأسه، وذهب باتجاه تعليقة الثياب، ووضع سترته على كتفيه، وخرج من المنزل والوقت قبل الغروب والسماء لما تُظلم بعد.

 

ثمّ عاد بعد عدّة دقائق، فقال مبتسماً: لا يا زوجتي العزيزة، إنّهم لم يأتوا بطلبي، فقد كانوا يُريدون أن يغتالوا برونسي آخر، وقد جاؤوا إليّ اشتباهاً.

 

أردت الإصرار على موقفي القلق فقُلت: وهل إنّ التعبئة في المحلّة أيضاً اشتبهوا؟

 

فسأل: كيف؟

 

قُلت: لأنّهم بقوا طوال الليل يحرسون بيتنا.

 

فقال بإصرار وسكينة: إنّهم يكذبون! ومن أكون أنا حتّى يُضيِّع أعضاء التعبئة وقتهم من أجلي؟

 

وهنا أيضاً لم يقل: إنّ عندي ولا حتّى مسؤوليّة صغيرة في التعبئة.

 

وبعد استشهاده، علمت أنّه ذهب لعند "يد الله". ويد الله نفسه يقول: كان السيِّد برونسي قد انزعج مِنِّي كثيراً، حتّى إنّه عنّفني وقال لي: لماذا تقول أشياءً للنساء ليُشغلوا فكرهم بالمسؤوليّة الّتي أحملها؟

 

وقال يد الله: ذهبنا في ذلك الصباح إلى أمِّي، أنا والحاجّ، وأخرجنا من ذهنها كلّ شيء كان موجوداً في فكرها في ذلك الوقت3.

 

 


3- وقد أرادوا أن يغتالوا الشهيد برونسي مرَّة أخرى. حينما كان راكباً في سيَّارة وأطلقوا عليه النار، وقد سمعت أنَّه استشهد شخص في تلك الحادثة، وعندما ذكرت الموضوع للشهيد برونسي، أنكر ذلك بإصرار وقال: إنَّها شائعة.

 

166

 


160

تراب كوشك الناعم

العمليّة الجراحيّة والعمليّة العسكريّة

معصومة سبك خيز

أتى بعد العمليّة في إجازة، وكان في عضده أثرٌ لإصابة بطلقة كانوا قد أخرجوها، وكانت تتماثل للشفاء شيئاً فشيئاً.

 

وقد كان هذا مثيراً للتعجُّب، فإذا كان قد جُرح في العمليّة، وأرادوا إجراء جراحة ليُخرجوا له الطلقة، فإنّ ذلك يحتاج إلى وقت طويل، وعندما عبّرت له عن ذلك، قال: لقد أُصِبْتُ بالطلقة قبل العمليّة.

 

فازداد فضولي، ونتيجةً لإصراري بدأ يُخبرني بما جرى:

كُنت قد أُصبت بالطلقة في عضدي، فأخذوني إلى "يزد"، وأدخلوني إلى إحدى المستشفيات، وكان قد اقترب موعد بدء العمليّة، وكُنت مستعجلاً على الخروج والخلاص من هناك وأخاف أن أتأخّر، فأتى طبيب وعاينني وقال: يجب آخذ صورة شعاعيّة لعضدك.

 

وعندما أخذوا صورة شعاعيّة لعضدي، تبيّن أنّ الطلقة قد علقت ما بين اللحم والعظم، ولم أكن أحمل همّ هذه الأشياء ولا همّ الوجع الأليم لعضدي، بل كُنت أقول لهم: يجب أن أذهب بسرعة وحسب.

 

كان الطبيب أيضاً يقول: يجب إجراء جراحة لك بسرعة.

 

وعندما رأى إصراري على الذهاب، انزعج وأراني الصورة الشعاعيّة وقال: أُنظر إليها! لقد بقيت الطلقة في يدك، أين تُريد الذهاب؟

 

ثمّ أوصى الممرِّضين وقال: انتبهوا له، يجب أن تُهيِّئوه لإجراء الجراحة.

 

وبناء على هذا الأساس فقد كان يجب أن يشطب اسمي من قائمة المشاركين

 

 

167

 


161

تراب كوشك الناعم

 في العمليّة، لكن قبل أن أفكِّر بأيِّ شيء آخر فكّرت بأهل البيت عليهم السلام وفكّرت بالتوسُّل بهم، فكانت حالي مثل حال عصفور حبسوه في قفص، فكُنت منزعجاً جدّاً ومكسور القلب، فبدأت بالذكر والدعاء.

 

غلبني النوم وأنا في تلك الحالة من الدعاء والسؤال، ولا أدري أكانت في منام أو بين النوم واليقظة. وعلى كلِّ حال، في ذلك العالَم، كُنت أرى الجمال الملكوتيّ لأبي الفضل العبّاس عليه السلام ، وقد أتى لعيادتي. لقد رأيت، وبكلِّ وضوح أنّه قد مدّ يده إلى عضدي، وأحسست أنّه قد أخرج منها شيئاً، ثمّ قال: هيّا انهض، أصبحت يدك سليمة.

 

فقُلت بحالة إستغاثة: فداك أبي وأمّي، إنّ يدي مجروحة، فيها طلقة وقال الأطباء إنّهم يجب أن يُجروا لها عمليّة جراحيّة.

 

فقال: لا، أنت قد تحسّنت.

 

وبمجرّد أن خرج حضرة أبي الفضل عليه السلام ، نهضت من مكاني، وانتبهت لنفسي، وكأنّني استيقظت من النوم، فتحسّست عضدي، فلم يؤلمني! فتيقّنت عندها من أنّني قد شُفيت.

 

فنزلت بسرعة عن السرير، وأنا لم أعد أعرف رأسي من قدميّ من شِدّة الذهول، وذهبت لآخذ ملابسي، فلم يُعطوني إيّاها، وقالوا: إلى أين؟ يجب أن تُجري عمليّة جراحيّة.

 

قُلت لهم: يجب أن أذهب إلى منطقة العمليّة، لا يلزمني أن أجري عمليّة جراحيّة.

 

فتناقشنا وارتفع الصوت. وفي النهاية أخذوني إلى الطبيب، فأصرّ على أن يُبقيني. ومهما قُلت له إنِّي أتحمّل المسؤوليّة، لم يقبل. ولم أجد بُدّاً من قول الحقيقة له، فتنحّيْت به جانباً وأخبرته بما جرى معي، فلم يُصدِّق وقال: لن أدعك تذهب ما لم أصوِّر لك عضّدك.

 

فقُلت: بشرط أن يبقى الأمرُ سرّاً بيننا.

 

فقبِل وأرسلني إلى الأشعّة من أجل تصوير عضدي.

 

وكانت النتيجة الّتي كُنت أنتظرها. في الصورة الّتي أخذوها لعضدي، لم يكن أيُّ أثرٍ للطلقة.

 

 

168

 


162

تراب كوشك الناعم

مكاشفة

معصومة سبك خيز

أخبرني ذات مرّة خاطرةً من الجبهة. فقال: كُنّا ذات مرّة مشغولين جدّاً قرب أحد مراكز العتاد. وكُنّا نوزِّع العتاد في جُعب مخصوصة ونُقفل بابها. وفي حرارة العمل، وقع نظري فجأة على امرأة محجّبة، تلبس الشادور الأسود! وكانت تضع العتاد في الجعب. فقُلت في نفسي: لا شكّ إنّها من النساء اللواتي يأتين إلى الجبهة.

 

ولم أنتبه أصلاً إلى أنّه لم يكن يؤذن لأيٍّ امرأة بدخول المنطقة، فنظرت إلى الشباب، الّذين كانوا مشغولين بعملهم ويروحون ويجيؤون بدون أن يعبؤوا، وكأنّهم لا يرون تلك المرأة. فأثارت القضيّة في نفسي تساؤلاً عجيباً، لأنّ الموضوع لا يبدو عاديّاً، فثار فضولي لأعرف ما الموضوع، فاقتربت منها أكثر. ومن أجل مراعاة الأدب، وقفت مستقيماً وقُلت باحتياط: سيِّدتي! يجب ألّا تُزعجي نفسك، في مكان الرجال هنا.

 

كان وجهها متوجِّهاً للجهة المقابلة ولا تنظر إليّ، فوقفت على قدميها مستقيمة على قامتها وتفضّلت: ألا تتعبون أنتم في طريق أخي.

 

فتذكّرت الإمام الحسين عليه السلام بسرعة، وطفحت عيناي بالدموع. فتلطّف بي الله، وفهمت الموضوع، وعلمت بسرعة بحقيقة ما يجري أمامي، فشُلّت إرادتي ولم أعلم ماذا أقول. فتفضّلت تلك السيِّدة ووجهها ما زال إلى الجهة الأخرى: كلُّ من يكون لنا عوناً، فنحن حتماً سنكون له عوناً.

 

169

 


163

تراب كوشك الناعم

قرب جسر سبع فتحات

ما شاء الله شاهمردي

كان أحد الإخوة قد جُرِحَ ووقع خلف الساتر الترابيِّ، على بعد أربعين متراً، من الجهة الأخرى. وقد حاول القيام لِعدّة مرّات. وكان بشقِّ النفس، يمشي خطوتين أو ثلاث، ولكنّه كان يقع من جديد. وفي المرّة الأخيرة الّتي وقع فيها لم يستطع أن يُعاود القيام.

 

كان موقعه سَيِّئاً، فقد وقع بالضّبط تحت نظر العدوِّ، وكان العدوُّ يرمي النيران بكلِّ وحشية، فذهب أحد الإخوة بسرعة لإحضاره، وكنّا نحن نُغطِّيه بإطلاق نيران كثيفة باتجاه العدوّ.

 

وأجرى العراقيُّون ماءً بجانب الساتر الترابيّ وأصبحت الأرض موحلة كأنّها مستنقع. فكان على من يُريد أن يتحرّك هناك أن يمرّ من هناك بكلِّ شطارة وحذر. ولكنِّي لم أعلم لماذا كان قد علق هذا الأخ في الوحل منذ البداية، ثمّ استطاع أن ينجو بنفسه بكلِّ صعوبة.

 

كانت الأنفاس مشدودة، وتحمُّل هذا المشهد كان أمراً صعباً. فقد كان أحدنا يحتضر أمام أعيننا ولم نكن نستطيع أن نفعل له شيئاً. وحاول ثلاثة آخرون من الشباب أن يُساعدوه على الانسحاب وألقوا بأنفسهم في قلب نيران العدُوّ، ولكنّهم عادوا بلا نتيجة.

 

فلم أعد أطيق تحمُّل أن أبقى وأتفرّج، فقُلت لهم: هذه المرّة سوف أذهب أنا.

 

فقالوا: أوّلاً أنت نحيف البنية، وثانياً أنت لا تعرف إشكالات العمل.

 

170

 


164

تراب كوشك الناعم

قُلت: لا تحملوا همّاً، أنا سوف أتصرّف.

 

ولم أُعطهم مهلة، كي لا يعترضوا كثيراً. فذهبت بسرعة إلى موقع الهاون، وأشرت إلى الساتر الترابيِّ وقُلت للرّامي: إرم قذيفة فوسفوريّة إلى هناك.

 

وكأنّه كان قد قرأ أفكاري. فقال: هذا عمل سهل، سوف أُصعِّب الرؤية على العدوّ، ولكنّك يجب أن تنتبه للوحل.

 

فقُلت: سوف أذهب بالتوكُّل على الله، إن شاء الله أستطيع أن أُحضره.

 

فرمى القذيفة بسرعة إلى المكان الّذي أشرت إليه، وعندما عملت عملها، خرجت من الساتر الترابيِّ، واستطعت أن أصل إلى الجريح بكلِّ صعوبة. ولم ألحظ تأوُّهه وألمه، فرفعته بسرعة وألقيته على كتفي.

 

كان ضخم البنية، ولم أكن كبير السن، كما لم أكن أملك بنية قويّة جسديّاً، ولذلك كان حمله صعباً كثيراً عليّ. وعلى الرغم من أنّ رؤية العدوّ قد انعدمت ولكنّه لم يكن ليوقف إطلاق النار على المنطقة.

 

أحضرته إلى مكان قريب من الساتر الترابيِّ، وكانت مشكلة الوحل قد أعاقتنا، ونفَسي قد ضاق بسبب دخان القذيفة الفوسفوريّة، ثمّ رمى العدوّ عدداً من القذائف فقذف بي شِدّة إنفجار أحدها إلى ذلك الجانب.

 

فأصابتني حالة من الإغماء ولم أستطع التحرُّك بين كلِّ هذه الوحول. وفيما أنا في هذه الحالة أحسست أنّ أحداً أخذ ذلك الجريح. ثمّ عاد سريعاً ونجّاني أنا أيضاً، وكان يظهر من طريقة عمله أنّه من المقاتلين القدامى وأنّ له سابقةً في العمل، وسمعت أنّه كان قد عنّف الشباب في تلك الجهة من الساتر الترابيِّ وقال لهم: لماذا سمحتم له أن يذهب وهو بهذه البنية النحيفة؟

 

فقالوا: هو أصرّ على الذهاب بنفسه يا سيِّد برونسي، ومهما قُلنا له أن لا يذهب فإنّه لم يسمع كلامنا.

 

وبمجرّد أن سمعت باسم برونسي، فكأنِّي قد حصلت على روحٍ جديدة. لقد كُنت أعلم أنّه قائد كتيبة "عبد الله"، ولكن لم أكن قد رأيته قبل ذلك الوقت، ففتحت عينَيّ. وبمجرّد أن رأيت وجهه الحنون والّذي أحرقته الشمس، أشعرني بهدوء خاص.

 

171

 


165

تراب كوشك الناعم

وضعني بنفسه في سيّارة عسكريّة، وأخذ حقيبة ظهري ثمّ أوصى الشباب وقال: انتبهوا له حتّى لا يتأذّى.

 

فسألت أحدهم وأنا أتأوّه: إلى أين يأخذونني؟

 

قال: يأخذونك إلى المستوصف خلف الخطوط، لأنّه يوجد هناك تجهيزات أكثر.

 

 

ذات يوم، كان عليّ أن أذهب إلى "باختران"، ولكنِّي لم أكن أعرف الطريق، فكُنت أسير على غير هُدى، وكأنِّي شخص لا مقصد خاصّاً له محدّداً يسير إليه.

 

وعندما سمعتُ صوت درّاجة ناريّة، كدت أطير من الفرحة وكأنّهم قد أعطوني الدنيا. فالتفتُّ إلى الوراء، وإذا يفصله عنّي قرابة ثلاث مئة متر. كان يطوي الأرض ويتقدّم سريعاً، وكُنت أدعو الله أن يتوقّف. وقُلت في نفسي: ليس أفضل من أن يقلّني إلى مسافة.

 

وعندما اقترب مِنِّي عِدّة أقدام خفّف من سرعته، ووقف أمامي بالضبط. وعلى غير انتظار منّي، سلّم عليّ بحرارة وسألني عن أحوالي. كان واضحاً من كلامه وتصرُّفه أنّه أحد المقاتلين المخلصين الّذين يملكون المعنويّات العالية، ثمّ سأل: إلى أين يا أخي؟

 

قُلت: بعد إذنكم أريد الذهاب إلى "باختران"، ولا أعرف من أين أذهب.

 

فأشار إلى المقعد الخلفيّ على درّاجته الناريّة، مكان وضع الأغراض. وكُنت أتمنّى هذا من الله، فصعدت بسرعة. ثمّ انطلق ومشى.

 

كما أنّ صوته كان معروفاً لديّ، كُذلك وجهه. ولكنِّي مهما حاولت أن أتذكّر أين رأيته، فإنِّي لم أستطع ذلك. وحاولت لعدّة مرّات أن أقول له هذا ولكِنِّي كُنت أخجل منه. وفي النهاية كلّمني وناداني باسمي وقال: لقد تحدّثت عن شجاعتك في عِدّة أماكن.

 

فتعجّبت من سماع اسمي من فمه، وأيضاً من كلمة شجاعة. فقُلت وأنا مبهوت: عفواً، أيّ شجاعة؟!

 

172

 


166

تراب كوشك الناعم

فضحك وقال: فهمت من البداية أنّك لم تعرفني.

 

وكأنّ لساني قد فُكّ من عقاله للتوِّ، قُلت: في الحقيقة إنّك تبدو لي مألوفاً، ولكِنِّي مهما حاولت التفكير، لا أتذكّرك.

 

فقال: أتذكر خلف ذلك الساتر الترابيِّ؟ ذلك الجريح، القذيفة الفوسفوريّة.

 

فانتبهت للتَوِّ وعرفت أيّ افتخار كان من نصيبي، فكدت أطير من الفرح، ولم أُصدِّق أيضاً أنِّي أتكلّم وبصحبة قائد كتيبة "عبدالله"، تلك الكتيبة الّتي كان مجرّد ذكر اسمها يُجفل العدوّ ويُرجفه1.

 

عجيب كيف أنّه يفتح لنفسه مكاناً داخل قلب الإنسان، بذلك الوجه البريء والمتواضع.

 

في ذلك اليوم أوصلني إلى قرب جسر "هفت دهانه" (سبع فتحات)، ومن ثمّ وصف لي الطريق بشكل دقيق، ثُمّ تركته وتابعت طريقي وابتعدت عنه وأنا لا أطيق فراقه.

 

ما زلت أذكر، كم تعلّقتُ به لدرجة أنِّي انتهزت أوّل فرصة للذهاب إلى كتيبة عبد الله. وطرقت ألف باب وباب، ورتّبت كلّ أعمالي لتكون خدمتي هناك.

 

 


1- أحياناً تأتي هذه الكلمات في اللفظ، فقط، ولكنَّها الحقيقة تماماً وكمالاً بالنسبة إلى كتيبة عبد الله،أنَّ العدوّ كان يحسب حساباً كبيراً لهذه الكتيبة فهو في البداية كان يُعبِّر عنها بلواء عبدالله، ثمَّ أخذ يقول بكلّ حقد: إنّ هذا اللواء لواء الوحشيِّين!

 

173

 


167

تراب كوشك الناعم

التربية الصحيحة

حسن برونسي

كان آخر ربيع سنة 1363 هـ.ش. تماماً في اليوم الّذي انتهت فيه إمتحانات آخر السنة، اتّصل أبي من الجبهة فذهبت أمِّي إلى بيت الجيران وتكلّمت معه. وعندما عادت، قالت مبتسمة: يا سيِّد حسن قم وهَيِّئ أغراضك، فسوف يأتون بطلبك غداً.

 

قُلت: بطلبي أنا؟! من أجل ماذا؟

 

قالت: لأجل ذلك الّذي تُحبُّه.

 

فتذكّرت فجأة وعد والدي الّذي وعدني إيّاه. كان يُحبُّ كثيراً أن يأخذني إلى الجبهة. فقُلت بسعادة: الجبهة؟!

 

قالت أمِّي: نعم يا ولدي، سوف يأتي غداً السيِّد الحسينيّ1. قال والدك أن تُهيِّئ ملابسك وتستعد.

 

بدأ تذمُّري في ذلك الوقت من أنّ سنِّي لم يكن أكثر من إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة، وكُنت أُحبُّ إن ذهبت إلى الجبهة، أن أذهب برفقة عمِّي، وقلت ذلك لوالدتي أيضاً، فقالت: يجب أن لا تتحجّج.

 

أحسست بضيق شديد. كان منزل عمِّي قريباً منّاً وعندما أتى ليستطلع الخبر، بكِيْت وأخبرته الموضوع. وفي النهاية قُلت: أنا أحبُّ أن أذهب إلى الجبهة إمّا مع أبي وإمّا معك أنت.

 


1-  السيّد كاظم الحسينيّ، الَّذي كان قبلاً قد قدّم أحد قدميه في طريق انتصار الإسلام، وما زال الآن يعمل في طريق الجهاد.

 

174

 


168

تراب كوشك الناعم

فمسح بيده على رأسي وقال: أنا الآن لا أستطيع أن أذهب إلى الجبهة.

 

ثمّ سكت، وكُنت أنا ما أزال أبكي، ثمّ تكلّم وقال: لا تبك إلى هذا الحدِّ، غداً صباحاً سوف آتي إلى هنا وأقول للسيِّد الحسينيِّ أن لا يأخذك إلى الجبهة.

 

لم أقتنع بهذا أيضاً، وقُلت له: ولكِنِّي أُريد أن أذهب إلى الجبهة.

 

فابتسم وقال: حسناً، سوف أفعل شيئاً.

 

فسلّم علينا وعاد إلى بيته، وفي صباح اليوم التّالي باكراً، عاد ثانيةً، وانتظر حتّى عرف بقدوم السيِّد الحسيني فذهب إليه، وتكلّم معه وأخبره الموضوع. وكان السيِّد الحسينيّ يملك طبعاً مرحاً، فأتى إلَيّ مباشرة، ونظر في عينيّ. وقال مبتسماً وبصوت عالٍ: ألا تُريد أن تذهب إلى الجبهة؟!

 

فنظرت إلى الأرض. وقُلت بهدوء: لا.

 

فقال فجأة: عجيب!

 

ثمّ وضع يده على كتفي، وتابع كلامه: بهذه البساطة؟ يا رجل إنّ أباك سوف يُهلكُنا، إنّه ينتظر أن يراك اليوم، أسرع وارتد لباسك وتعال.

 

ولم يستطع عمِّي عمل شيء بسبب إصرار "حسينيّ"، حتّى أمِّي عندما تدخّلت وطلبت منه إذا أمكن أن أذهب لاحقاً، ولكنّ السيِّد الحسينيِّ أصرّ أن يأخذني معه، ولم نستطع أن نزحزحه عن موقفه، وقال: إذا أردت أن تذهب إلى الجبهة فيجب أن تكون رجلاً وتترك هذا الكلام الطفوليّ جانباً، هيّا تحضّر بسرعة لنذهب.

 

لم يكن عندنا حينئذٍ حقيبة، فوضعت لباسي وحاجياتي في صُرّة بيضاء وربطتها، ثمّ سلّمت على والدتي وعلى البقيّة وذهبت. جلست خلف السيِّد الحسينيِّ على درّاجته الناريّة. وانطلقنا فوراً إلى المطار. وعندما رأيت أنّه ذهب إلى المطار بدرّاجته الناريّة، قُلت في نفسي: حتماً سوف يأخذ درّاجته معه إلى الجبهة.

 

ولكنّه، في المطار، أعطى الدرّاجة لأحد حرّاس الثورة هناك وقال: سوف أعود الآن.

 

175


169

تراب كوشك الناعم

فأمسكت بطرف بنطاله وقُلت: ألا تُريد أن تذهب أنت؟!

 

قال: لا، سوف أُسلِّمك إلى أحد الشباب وسوف تذهب معه إن شاء الله.

 

وعندما رأى أنِّي دُهشت من جوابه، قال بسرعة: إنّه أحد أصدقاء والدك، وسوف يأخذك مباشرة إلى الحاجّ.

 

وتركني معه، وأوصاه عِدّة وصايا جادّة وصارمة ورجع. فذهبت معه إلى أرض المطار، وكان يوجد هناك أربع أو خمس طائرات. كان درج إحداها منصوباً وكان إلى جانبه عدد من العسكريِّين يصعدون. فذهبنا نحن أيضاً إلى هناك. وكان يوجد ضابط طيّار واقف إلى جانب الدرج، يُفتِّش كلّ من يُريد الصعود إلى الطيّارة تفتيشاً دقيقاً. فلما جاء دوري. بادرني بالقول: بطاقة الهوِيّة.

 

كان رفيق والدي يقف خلفي، فالتفتُّ إليه، فقال لي: حتماً ليس لديك بطاقة هوِيّة، أعطه إخراج القيد.

 

فأريته صُرّتي وقُلت بتبرُّم: ليس لَدَيّ غير هذه!

 

فقال الضّابط: على هذا الأساس يجب أن تعود إلى بيتك.

 

ارتبك رفيق والدي وقال: هذا والده في الجبهة، السيِّد برونسي...

 

ثمّ بدأ يشرح الموضوع، ولكنّه كلّما زاد في الشرح، كلّما ازداد الضّابط الطيّار ممانعة، وفي آخر المطاف لم يدعني أذهب. وأمّا أنا فلم يكن عندي حلٌّ سوى البكاء، وأيّ بكاء! ثمّ قُلت للضّابط: لماذا تؤذيني، دعني أذهب.

 

ولكنّ بكائي ونحيبي لم يؤت أُكُلَهُ، ولم يكن الضّابط ليستسلم لتضرُّعي. وفي النهاية أعطيت صُرّتي لرفيق والدي. وقُلت وأنا بحالة مزرية من البكاء والتأوّه: قل لوالدي: إنّهم لم يدعوني آتي، قل له أن يأتي ويُعنِّفهم جميعاً!

 

فمسح بيده على رأسي، وقال بعطف ومحبّة: لا تنزعج يا حبيبي يا حسن، إن شاء الله بمجرّد أن أصل إلى الأهواز سوف أقول للحاجّ أن يتّصل تلفونيّاً بهم هنا، إن شاء الله سوف تأتي في الطائرة التّالية.

 

فأخذني نفس الضّابط الطيّار إلى غرفته، وكُنت ما أزال أبكي بشدّة وأذرف الدموع، مثل المطر الّذي ينزل من الغيوم الربيعيّة، وكان معه في الغرفة ضابطان

 

 

176


170

تراب كوشك الناعم

 آخران، وعندما هدأت قليلاً نظر إليّ وقال باسماً: ما اسمك أيُّها الجنديُّ الصغير؟

 

كُنت منزعجاً إلى درجة كبيرة ولم أكن أحبُّ أن أُجيبه، ولكِنِّي عندما رأيته ما زال ينظر إلَيّ، ورغم مزاجي المتعكّر، قُلت بصوت هادئ: حسن.

 

فسألني: أنت بهذه القامة وهذا الجسم الصغير ماذا تُريد أن تفعل في الجبهة؟

 

فأجبته بتبرُّم: لماذا يذهبون إلى الجبهة؟ يذهبون ليُحاربوا.

 

ثمّ أخرجت المحرمة من جيبي وجفّفت دموعي عن وجهي. وقُلت له بإصرار ولعدّة مرّات: دعني أذهب.

 

ولكنّه لم يقبل... لم يقبل.

 

بقيت لساعتين قلق الفؤاد وأنا أنتظر، حتّى أخرجني صوت جرس الهاتف من شرودي، فتناول نفس الضّابط السمّاعة، وقال: ألو تفضّلوا... سلام عليكم... نعم، نعم... اسمكم الشريف... الحاجّ برونسي...

 

فوقفت بمجرّد أن سمعت اسم والدي، ولم يَبْقَ إلا أن ينبت لي جناح وأطير من الفرح، وكُنت مُصغيَ السمع لكلام الضّابط، ولم أكن أعلم ماذا كان يقول والدي في الطرف الآخر من الخطّ ولكنّ الضّابط كان يُجيب: على عيني يا حاجّ، طبعاً، طبعاً... يجب أن تعذروني، على كلِّ حال كان الواجب يُحتِّم عليّ... في أمان الله.

 

فوضع السمّاعة مكانها، والتفت إليّ وقال: أبشر أيُّها الجنديّ الصغير.

 

سألت: لماذا؟

 

قال: نُريد أن نُرسلك بالطائرة التالية.

 

ولم أتأخّر. أتت الطائرة التالية ووقفت في مكانها، فصعدت إليها مع كثيرين، ووصلنا قريب الظهر إلى الأهواز. وبمجرّد أن نزلت، وقع نظري على السيِّد خلخالي2 ، فقد كان يركض من بعيد باتّجاهي. وللتَوِّ انتبهت إلى حرارة

 

 


2- كان لسنوات طوال في الجبهة وما زال مشغولاً بالخدمة في لباس الحرس الثوريّ.

 

177

 


171

تراب كوشك الناعم

 الجوِّ العالية، فكأنّ الشمس تُشرق من مكان قريب. ومنذ البداية، أحسست بأنّ جلد وجهي يحترق.

 

وصل السيِّد خلخالي، فسلّمت عليه، وردّ السلام وسألني عن أحوالي، فقُلت له: لقد وصلت للتَوِّ ولا أدري إلى أين أذهب؟

 

فابتسم وقال: لهذا اتّصل والدك بي لآتي إلى هنا وآخذك إليه.

 

أخذ بيدي، وذهبنا معاً إلى إحدى سيّارات التويوتا. فجلس خلف المِقْوَد فصعدت وانطلق.

 

ذهبنا إلى داخل مدينة الأهواز ومن هناك ذهبنا إلى القاعدة، ولم أر والدي مباشرة، فبدأنا بالبحث عنه، من هذه الغرفة إلى تلك الغرفة، ومن هذا البناء إلى ذلك البناء، وفي النهاية وجدناه في أحد السراديب، وكان معه أيضاً بضعة أفراد يُشكِّلون حلقة، وبمجرّد أن رآني وقف، وأتى باتّجاهي، وكأنّ وجهه المليء بالعطف قد ملأ وجودي بالسكينة، ثمّ قال لي بابتسام وتحبُّب: ماذا تفعل هنا يا ولدي؟

 

بقيت للحظات لا أستطيع الجواب، وعندما أردت أن أُجيب بدأت بالبكاء، وقُلت وأنا أنوح: لقد آذوني كثيراً يا بابا!

 

فانحنى وقبّلني، وقال: لا تبك يا ولدي. أنت أتيت إلى الجبهة لتُصبح رجلاً إن شاء الله.

 

فالتفت إلى السيّد خلخالي وسأله عن أحواله وشكره كثيراً، ثُمّ أخذ بيدي وذهب بي إلى بقيّة رفاقه، ثمّ سألني: أتناولت غداءك؟

 

قُلت: لا.

فأحضروا لي الغداء سريعاً، فأكلت بشهيّة كبيرة، ثمّ فكّرت للتَوّ في المنطقة، وسألت أبي: هل الجبهة هنا؟

قال: لا.

قُلت: أين إذن؟

قال: إن شاء الله سوف نذهب إلى الجبهة مع قافلة في الساعة الرابعة.

ثمّ عرفت بعدها أنّ لواء الإمام الجواد عليه السلام قد نقلوه إلى قرية مهجورة.

 

178

 


172

تراب كوشك الناعم

 ثمّ تحرّكنا في الساعة الرابعة بعد الظهر مع قافلة إلى هناك، وخرجنا من الأهواز.

 

في الطريق، وداخل الصحراء، كان يوجد دبّابات كثيرة محروقة ومنقلبة ومدمّرة، كُنت أرى هكذا أشياء لأوّل مرّة، فكُنت أنظر إلى كلِّ هذا مبهوتاً ومحتاراً، فسألت أبي وأنا أجلس إلى جانبه في السيّارة: لماذا أصبحت هذه الدبابات هكذا؟

 

فابتسم وقال: لقد سألت سؤالاً جَيِّداً يا ولدي.

 

ثمّ أشار إلى الأطراف، وتابع إنّ هذا الطريق وهذه الصحراء كانت كلُّها بيد العدوّ، أعني: العراقيُّون كانوا محتلّين لأرضنا، ونحن حاربناهم وأخرجناهم من ترابنا، وهذه الدبّابات كلُّها كانت للعدوِّ تركها وفرّ هارباً من هنا.

كلُّ شيء كان بالنسبة إليَّ جديداً، حتّى القرية المهجورة، الّتي وصلنا إليها قبيل الغروب. وقد كنّا أوّل الواصلين الّذين دخلوا القرية، وكانت بيوتها المبنيّة من التراب والتبن نصف خربة، ولا يوجد غير منزل وحيد ما زال سالماً. فذهب بعض المقاتلين من التعبئة إلى تلك البيوت الخربة، ونصب البعض الآخر خيمة، وأمّا ذلك المنزل الّذي كان يبدو في الظاهر أنّه ما زال سالماً وكان من طابقين، فقد دخل إليه بعض أفراد التعبئة، واحتلُّوا أماكنهم فيه فدخل أحد أصدقاء أبي، وقال: غادروا هذا المنزل، يجب أن تُهيِّئوا لكم مكاناً غير هذا.

 

فسأله أحدهم: لماذا؟

 

قال: سلامة فهمك! إنّ هذا اللواء له مسؤول، وهذا البناء يجب أن يكون مقرّاً للقيادة.

 

فشرع المساكين بجمع أغراضهم وحاجيّاتهم، وفجأة رأيت أبي قد جاء غاضباً ومقطِّباً ما بين حاجبيه، واقترب من رفيقه وقال له: لماذا تقول هذا الكلام؟ ماذا تعني "القيادة"؟!

 

كان يتكلّم بانزعاج شديد، ثمّ التفت إلى شباب التعبئة وقال لهم: لا لزوم لأن تخرجوا من هنا، ابقوا في أماكنكم.

 

179

 


173

تراب كوشك الناعم

فقال له رفيقه: وأنتم! يا حاجّ؟

 

قال بابا: بارك الله بكلِّ هذه الخِيَمْ.

 

فخرج شباب التعبئة من المنزل وقالوا: أيُمكن يا حاجّ أن تكون أنت في الخيمة ونحن هنا؟ نحن أصلاً لم ننتبه لكم، يجب أن تعذرونا.

 

وفي النهاية لم يستطع والدي أن يُثنيهم عن عزمهم، فكان ذلك البناء هو مقرُّ القيادة، ولكنّه لم يترك شباب التعبئة يخرجون منه وقال: إنّ هذا المنزل كبير، يُمكنكم أنتم أيضاً أن تستعملوه.

 

وكان أحد المقاتلين، يمزح كثيراً مع أبي وكان يميل إلَيّ، وكان اسمه علي درويشي. رحمه الله، لقد استشهد هو أيضاً مع والدي في مواجهات بدر. وفي أوّل احتكاك لي معه أعطاني علبة فواكه معلّبة وقال: الآن وقد أتيت إلى الجبهة يجب أن تأكل الكثير من معلّبات الفواكه والخضار.

 

كان الغروب يقترب والشمس تختفي خلف الأفق، وكان طقس الجنوب يتبدّل شيئاً فشيئاً من الحرارة إلى البرودة. فتوضّأت مع الباقين وصلّيت. ومع أنّني كُنت صغيراً، ولكنّ الصلاة هناك، كانت في الحقيقة صلاةً من نوع آخر، وما زال لذكرى تلك اللحظات لذّة خاصّة عندي.

 

في تلك الليلة خلا المكان قليلاً حول أبي، فأجلسني إلى جانبه، ومسح بيده على رأسي وسألني: أتعلم لماذا وافقت على أن تأتي إلى الجبهة؟

 

فقُلت بنظرة ملؤها السؤال: لا.

 

قال: كلُّ ما أُريده منك في هذه الأشهر الثلاثة من العطلة، هو أن تتعلّم القرآن.

 

عندما كُنّا خلف الجبهات، كان دائماً يحرص بإصرار، وكان يغتنم الفرص على أن أبقى إلى جانبه وأتعلّم قراءة القرآن. وبعد أن نصحني وتكلّم معي كثيراً، قال في النهاية: الآن سوف آخذك إلى الأهواز لتتعلّم في صفِّ القرآن، وسوف أزورك كلّ يومين أو ثلاثة أيّام.

 

وبمجرّد أن قال، "اذهب، وعد" قُلت: لن أذهب إلى الأهواز يا أبي!

 

سألني: لماذا؟

 

180


174

تراب كوشك الناعم

قُلت: أنا أتيت إلى هنا لأبقى معك.

 

قال: قُلت لك، سوف أزورك يا ولدي.

 

فقُلت له بتوسُّل: افعل شيئاً لأبقى هنا.

 

لم يبق سوى أن أبدأ بالبكاء. ولم أكن لأرضى ولو بمقدار ذرّة بالذهاب إلى الأهواز. ثمّ فجأة! جاء أحد رجال الدِّين وجلس إلى جانبنا، وقال لوالدي: ماذا يا سيِّد برونسي؟ أتُريد أن يتعلّم السيِّد حسن القرآن؟

قال والدي: نعم يا حضرة الشيخ "جبّاري"، لقد أتيت به أصلاً إلى الجبهة من أجل هذا العمل.

 

فقال: والآن ماذا تُريد أن تفعل؟ لأن السيِّد حسن منزعج؟

 

قال والدي: أُريد أن أُرسله إلى الأهواز، إلى السيِّد "فتح" ليُعلِّمه القرآن هناك.

 

فنظر الشيخ "جبّاري" في وجهي وكأنّه قرأ اضطرابي، وقال لوالدي: لا لزوم لأن تُرسله إلى الأهواز، يا حاجّ.

 

فسأل والدي: لماذا؟

 

قال: أنا هنا، أُعلِّم هذه الوردة السيِّد حسن القرآن. كم شهراً سوف يبقى إن شاء الله؟

 

قال والدي: شهرين، وربّما شهرين ونصف.

 

قال: إن شاء الله سوف أُعلِّمه قراءة القرآن في مُدّة شهر.

 

وكأنّهم قد ملّكوني الدنيا بكاملها، ولم أعلم ماذا أفعل من شِدّة السعادة، فضحك والدي وقال لي: لقد أرسله الله إليك.

قال الشيخ "جبّاري": قبل كلِّ شيء سوف أعلمه دعاء كميل، وسوف نبدأ من الغد.

فقال والدي: إذن! إذا كان ممكناً فليكن وقت الصفِّ بعد الظهر من كلِّ يوم.

 

فقال: ما من مشكلة، صفُّنا سوف يكون بعد الظهر.

فسلّم علينا وذهب، فأخذتُ أفكِّر في وقت الصفِّ وسألته: ماذا سوف أفعل

 

 

181


175

تراب كوشك الناعم

في الصباح من كلِّ يوم؟

 

قال: سوف أُلحقك بمجموعة.

 

سألت: مجموعة؟ ماذا تعني مجموعة؟

 

فأوضح لي وقال: أُريد في الصباح أن تحمل أسلحة مثل الرجال، وتنضمّ إلى التعبئة وتتدرّب.

 

في صباح اليوم التّالي ذهبنا إلى الأهواز، فأعطاهم بدلة التعبئة ليخيطوها لي على مقاسي، فتحمّستُ كثيراً، ولبست اللباس عند الخيّاط. وعندما رجعنا إلى القرية المهجورة، أخذني إلى السيِّد "محمّديان"، قائد المجموعة وقال له: إنّ ولدي هذا سوف يكون بتصرُّفك منذ الغدّ، في أيّام الصباح أُريد أن تُدرِّبه بحيث يُصبح جاهزاً للعمليّات.

 

في ذلك اليوم تسلّمت كلاشنكوف، وكان طوله ربّما ثلاثين أو أربعين سنتم، أقصر من قامتي! في البداية كان حمله مشكلٌ بالنسبة لي، ثمّ تعوّدت عليه شيئاً فشيئاً وأصبح سهلاً عليّ.

 

في المراسم الصباحيّة، أصبحت حامل علَم المجموعة، وكُنت أقف أمام الجميع. وبعد المراسم الصباحيّة والرياضة، يبدأ التدريب. وبمرور الوقت تعلّمت رماية القنبلة اليدويّة، ثمّ زرع اللغم، والرماية بأنواع الأسلحة المختلفة.

 

وكُنت أتحمّس أكثر من أيِّ شيء لصفوف القرآن، وكُنت أنتظرها بفارغ الصبر. وبعد الظهر كان يأتي الشيخ "جبّاري" ويُعلِّمُني بدقّة وإتقان، وخلال أسبوع أو أسبوعين، أصبحتُ أقرأ جَيِّداً في القرآن الكريم. وذهبنا مرّة إلى والدي، فقال له الشيخ "جبّاري": لقد سار حسن في تعلُّم القراءة، والآن يُريد أن يقرأ لك القرآن عن حاضر.

 

فقال غير مصدِّق: تعني في ظرف هذه الأيّام المعدودة مضى في تعلُّم القراءة!

 

قال السيِّد جَبّاري: نعم، وهل هذا محلُّ تعجُّب يا حاجّ؟

 

فقال والدي: لأنّ ابننا هذا السيّد حسن، كان في مشهد كسولاً إلى حدٍّ ما.

 

فذهبنا إلى سطح المنزل وكان خالياً، فقرأت عِدّة آيات بتؤدة، وكانت عيون

 

182


176

تراب كوشك الناعم

والدي تبرق من السعادة. وعندما أنهيت القراءة نظر إلى الشيخ "جبّاري" وقال: بلطف الله، إنّ خلوص نيّتك وتعبك يُعطي نتيجة سريعة يا سماحة الشيخ.

 

بقيت هناك مدّة شهرين، كانت حلوة كثيراً، بالرغم من كلِّ التعب. فقد أحببت كثيراً تعلُّم القرآن والأحكام، والتدريب العسكريّ، وخصوصاً القتال الليلي. وكانت أجمل الخواطر من تلك الأيّام، في منتصف الليالي، عندما كان يستيقظ والدي في جوف الليل ويُصلِّي ويقرأ القرآن، وما زالت محفورة في قلبي تلك التأوُّهات والبكاء والدعاء بتوسُّل وبحرقة وشوق!

 

عندما اقتربت أواخر شهور الصيف قال لي والدي: يا أبت! يا حبيبي! يجب أن تستعدّ للعودة إلى مشهد إن شاء الله.

 

وكرّر هذا الكلام لعِدّة مرّات أيضاً، وكنت في كلِّ مرّة أقول له، بجدّيّة وسماجة: أنا لن أذهب من هنا بعد الآن.

 

حتّى إنّ البحث في هذا الموضوع وصل في بعض المرّات إلى أن يرتفع الصوت. كان يقول بشكل قاطع: يجب أن تعود.

 

وأنا كنت أبكي بسرعة وأقول: لن أذهب.

 

كان للبقاء هناك، بالنسبة لي، حلاوة خاصّة، خصوصاً عندما كُنت أشتمُّ رائحة عمليّات، فلم يكن عند والدي أيُّ مشكلة في مشاركتي في العمليّات، ولكنّ العقدة كانت عند القادة من المراتب العليا، فقد كانوا يقولون: إن ابن السيِّد برونسي والأولاد الّذين هم من سنّهِ يجب ألّا يُشاركوا في العمليّات بأيِّ شكل من الأشكال.

 

ربّما لأجل هذا كان والدي يقول: بعد هذا لا يجوز شرعاً أن أدعك تُشارك في العمليّات.

 

كُنت عالقاً ما بين الذهاب وعدم الذهاب، وفي الساعة الواحدة من إحدى الليالي أيقظني أبي من النوم، وقال لي بهدوء: انهض يا حبيبي يا حسن.

 

فجلست بسرعة في مكاني، وسألت بقلق: ماذا حصل؟

 

183

 


177

تراب كوشك الناعم

فمسح بيده على رأسي وقال: انهض يا ولدي واستعدّ سوف تذهب للقاء الإمام.

 

وكنت ما زلت ما بين النوم واليقظة، وقد اتسعت حدقتا عيني، وسألت بشوق: لقاء الإمام؟ متى؟

 

قال: الآن يجب أن تتهيّأ.

 

كانت السعادة تملأ كياني، ولم أدرِ كيف جمعت أغراضي، وكانت السيّارة تنتظرني في الخارج. فلمعت بذهني فكرة للحظة، أيُمكن أن يكون والدي يُريد أن يُرسلني إلى مشهد بهذه الطريقة؟

 

فتراخت قدماي عن المسير، ووقفت فجأة. التفتُّ إلى والدي وقُلت: أُريد أن أبقى معك.

 

ولكِنِّي لم أستطع أن أُقنعه. قال: اذهب الآن يا ولدي، وأنا سوف آتي بعد يومين أو ثلاثة.

 

وفي النهاية توجّهت إلى مشهد. وبعد ثلاثة أيّام أتى هو أيضاً. إجازته كانت قصيرة. وعند ذهابه أيضاً ذهب وحده. ولم ينفع كلُّ إصراري للذهاب معه.

 

رحمه الله، وبعد استشهاده بعدّة أشهر تعوّدت قدماي على الجبهة، وكان التدريب الّذي تعلّمته في ذينك الشهرين، قد نفعني جدّاً. وكلّما توفّقت لقراءة القرآن، كُنت أعلم أنّي مدينٌ لهمّته، ومدينٌ لاهتمامه وإصراره على تربيتنا تربية صالحة.

 

184

 


178

تراب كوشك الناعم

توسُّل واحد

السيِّد حسن مرتضى

كان يجب على القادة أن يوجِّهوا القوّات بالتّسلسل من المراتب العليا حتّى المراتب الدنيا، بحيث إنّ العمليّات كانت تقتضي هذه الطريقة، وأن يشرحوا لهم عن الأرض ومنطقة العمليّات. وكانت منطقة عمليّات "والفجر ثلاثة"، منطقة جبليّة وعرة مليئة بالمرتفعات الحادّة، والتعرُّجات والطلعات والنزلات.

 

وكُنت في تلك الأيّام مسؤولاً عن عتاد الفرقة، وكان مقرُّ المراقبة والإحدثيّات تحت إشرافنا، ويجب أن نُنظِّم إطلاق نيران العمليّات.

 

كان من المقرّر أن يأتي قائد الفرقة قبل ليلة من شنّ الهجوم، ومعه كلُّ القادة الأدنى رتبة إلى مقرِّ المراقبة، ويجب أن تُفحص كلُّ الوضعيّات لأنّه الليلة القادمة هي ليلة العمليّات.

 

مرّت عِدّة دقائق حتّى وصل الجميع، وكانت تبدو من بينهم طلَة الوجه المحبوب من صميم القلب للسيِّد برونسي. وبعد قراءة عدّة آيات من القرآن بدأ قائد الفرقة بالكلام، وكان يوجِّه الشباب واحداً واحداً، ويتحدّث عن المسائل والمشاكل الّتي يُمكن أن تعترضهم خلال العمليّات. وكان يبدو من لحن صوته أنّه قلق جدّاً. نعم لقد كان قلقه في محلِّه، لأن لأرض العمليِّات تعقيداتها الخاصّة، ممّا كان يُمكن أن يؤدِّي إلى احتمال أن يُضيّع الطريق أيّ واحد من القادة ولا يستطيع أن يُنجز المَهَمّة.

 

وعندما وضعوا الخريطة على الأرض، ازداد قلق قائد الفرقة والشباب

 

185

 


179

تراب كوشك الناعم

 الآخرون. فقائد الفرقة يتكلّم عن البوصلة وبقيّة المتعلِّقات، وليس عندنا فرصة إلّا ليلة واحدة فقط، وكان وضع خطة المعركة واقعاً عملاً شاقّاً بالنسبة لقائد الفرقة في هذه المُدّة الزمنيّة القليلة، وتلك الشروط الصعبة.

 

ويبدو على وجه عبد الحسين أنّه أهدأ من الجميع، وعندما انتهى كلام القائد، وقد كان يظهر عليه من حاله ووضعه أنّه ما زال قلقاً، نظر إليه عبد الحسين وابتسم، ثمّ قال بكلِّ صبر: سيِّد مرتضى!

 

قال: نعم يا عزيزي.

 

قال عبد الحسين: ائذن لي بأن أعرض عليك موضوعاً.

 

فقال القائد: أرجوك يا حاجّ تفضّل.

 

فتقدّم عبد الحسين قليلاً، وقال بكلِّ برودة أعصاب: أنا لا أحتاج في الليلة القادمة أن أذهب بخريطة وبوصلة.

 

فتساءل الجميع ماذا يريد أن يقول، فأشار إلى عتمة الليل والسماء: فقط بقول "يا زهراء عليها السلام " وبقول يا "الله" إن شاء الله سوف ننتزع المنطقة من العدوِّ.

 

لقد سمعت كثيراً من هذه الأمثال، وعندما يخرج الكلام من صميم القلب، لا شكّ في أنّه سوف يقع في القلب.

 

ولكِنِّي هناك وفي ذلك المكان رأيت عين هذا الكلام. كان عبد الحسين يتكلّم أصلاً بثقة جعلت الشباب يُحِسُّون بهدوء خاصٍّ، وقد ختم كلّ الكلام عن طبيعة الأرض المعقّدة والصعبة. ومن وقتها رأيت بوضوح أكثر، أنّ الشباب يتكلّمون عن الانتصار بأملٍ أكبر.

 

ليلة العمليّات، استطاع عبد الحسين أن يُسيطر على الهدف بسرعة أكبر من البقيّة وبخسائر أقلّ، مع أن منطقة عمليّاته كانت أرضها معقّدة وصعبة العبور أكثر من غيرها.

 

وكما قال، الأمر، يكفيه مجرّد توسُّل واحد.

 

186

 


180

تراب كوشك الناعم

 الآخرون. فقائد الفرقة يتكلّم عن البوصلة وبقيّة المتعلِّقات، وليس عندنا فرصة إلّا ليلة واحدة فقط، وكان وضع خطة المعركة واقعاً عملاً شاقّاً بالنسبة لقائد الفرقة في هذه المُدّة الزمنيّة القليلة، وتلك الشروط الصعبة.

 

ويبدو على وجه عبد الحسين أنّه أهدأ من الجميع، وعندما انتهى كلام القائد، وقد كان يظهر عليه من حاله ووضعه أنّه ما زال قلقاً، نظر إليه عبد الحسين وابتسم، ثمّ قال بكلِّ صبر: سيِّد مرتضى!

 

قال: نعم يا عزيزي.

 

قال عبد الحسين: ائذن لي بأن أعرض عليك موضوعاً.

 

فقال القائد: أرجوك يا حاجّ تفضّل.

 

فتقدّم عبد الحسين قليلاً، وقال بكلِّ برودة أعصاب: أنا لا أحتاج في الليلة القادمة أن أذهب بخريطة وبوصلة.

 

فتساءل الجميع ماذا يريد أن يقول، فأشار إلى عتمة الليل والسماء: فقط بقول "يا زهراء عليها السلام " وبقول يا "الله" إن شاء الله سوف ننتزع المنطقة من العدوِّ.

 

لقد سمعت كثيراً من هذه الأمثال، وعندما يخرج الكلام من صميم القلب، لا شكّ في أنّه سوف يقع في القلب.

 

ولكِنِّي هناك وفي ذلك المكان رأيت عين هذا الكلام. كان عبد الحسين يتكلّم أصلاً بثقة جعلت الشباب يُحِسُّون بهدوء خاصٍّ، وقد ختم كلّ الكلام عن طبيعة الأرض المعقّدة والصعبة. ومن وقتها رأيت بوضوح أكثر، أنّ الشباب يتكلّمون عن الانتصار بأملٍ أكبر.

 

ليلة العمليّات، استطاع عبد الحسين أن يُسيطر على الهدف بسرعة أكبر من البقيّة وبخسائر أقلّ، مع أن منطقة عمليّاته كانت أرضها معقّدة وصعبة العبور أكثر من غيرها.

 

وكما قال، الأمر، يكفيه مجرّد توسُّل واحد.

 

186

 


180

تراب كوشك الناعم

قرون استشعار الألغام المعوجّة

علي أكبر محمّدي بويا

في أواخر العام 1362 هـ.ش. لا أذكر بالدقّة إذا كانت هناك مناسبة أو لا، ولكِنِّي أعلم أنّه كان قد جمع شباب الكتيبة ليتحدّث معهم.

 

في بداية كلامه، وكالعادة قال: السلام عليك أيّتُها الصدّيقة الشهيدة، سيِّدة نساء العالمين، أخذته الغصّة وترقرق الدمع من عينيه. وهكذا دائماً، كلّما يذكر اسمها عليها السلام ، تجري دموعه رغماً عنه. وكأنّ كلّ وجودِه عشقٌ ومحبّةٌ لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.

 

كان موضوع كلامه حول الإمدادات الغيبيّة ومتعلِّقاتها، وكان خلال كلامه يروي لنا إحدى الخواطر الجميلة من إحدى العمليّات. قال:

"ليلة العمليّات، كُنّا نسير باتِّجاه العدوِّ بكلِّ هدوء وسكينة. وفجأة اصطدمنا في الطريق بحقل ألغام، ومن الألطاف الإلهيّة أنّنا عرفنا أنّه حقل ألغام، وإلّا فنحن كنّا متحمِّسين ولا نعرف أيّ شيء عن هذه الأمور، وأُصيب شباب الاستطلاع بصدمة الذين عرفوا بالموضوع قبل أن أعرف أنا، وعندما أخبروني صُدمت أيضاً.

 

عندما كُنّا نأتي للاستطلاع في الليالي الّتي سبقت العمليّات، لم نكن قد رأينا حقل الألغام هذا. والاحتمال الوحيد هو أنّنا كنّا قد اشتبهنا قليلاً في الطريق. وكان يبدو موقع العدوّ في الناحية المقابلة لحقل الألغام.

 

كنا نحن رأس الحربة للعمليّات وإذا كنّا سوف نتعطّل، فليس من البعيد أن

 

187

 


181

تراب كوشك الناعم

 تفشل العمليّات كلُّها. فبدأنا مع شباب الاستطلاع بالتفتيش، وكلُّ أملِنا أن نجد معبر العدُوِّ في هذا الحقل، حيث لا وقت كاف لتعطيل الألغام، ففتّشنا لدقائق ولكن بلا فائدة.

 

كانت كلُّ الكتيبة قابعة إلى الخلف منّا قليلاً، تنتظر أوامر الهجوم، ولم يكن عندهم أيُّ خبر بما جرى، فكان شباب الاستطلاع ينظرون إليّ ويقولون: ماذا سوف تفعل يا حاجّ؟

 

فأشرت بسلاح الكلاشنكوف إلى حقل الألغام وقُلت: لم يعد أمامنا أيُّ طريق.

 

قالوا: تَعني... أنرجع؟!

 

لم أقل شيئاً، لأنّه كان عندي أمل واحد، ألا وهو طرق باب أهل البيت عليهم السلام. فتوسّلت بحضرة الصدِّيقة الزهراء عليها السلام. فقُلت بتأوُّه ونَوْح: سيِّدَتي، أنتِ الآن تَرْين وضعنا، نحن متعلِّقون بك، افعلي شيئاً.

 

وسجدت على التراب، ثمّ قُلت: أنتم كُنتم في كلِّ العمليّات تهتمُّون بنا، وهنا كلُّ شيء متعلِّق بلطفكم ورعايتكم.

 

فبكيت في هذه الحالة، وكان قلبي مكسوراً إلى درجةٍ كبيرة، يا إلهي ماذا أفعل؟!

 

عندما يكون مقدّراً وقوع معجزة، ومقدّراً أن يحصل شيء، فإنّه سوف يحصل حتماً، وإذا أراد أحدٌ أن يُقارن الأمور في ذهنه، ويدرس الموضوع بواسطة الفكر، فإنّ هذا الموضوع يخرج أصلاً عن حدود العقل والمنطق البشريِّ. وأنا في تلك الأوضاع الحسّاسة، لا أدري كيف أنّني خرجت من قُوّة السيطرة على نفسي، وأصبحتُ كأنّني مسلوب الإرادة. فتوجّهتُ إلى شباب الكتيبة، الّذين كانوا حاضرين ويجلسون مستعدِّين ينتظرون أمر الهجوم. وفجأة قلت: قيام.

 

فوقف الجميع، فأشرت إلى العدوِّ، وأعطيت أمر الهجوم، وأردت أن أتقدّم، فما كان من أحد شباب الاستطلاع إلّا أن وقف بوجهي، وقال بحيرة: ماذا فعلت ياحاجّ؟!

 

عندها انتبهت وفهمت أيّ أمرٍ أعطيت، ولكن، كان الكثير منهم قد دخل إلى حقل

 

 

188


182

تراب كوشك الناعم

 الألغام، كما أنّهم بدأوا بإطلاق النار على العدوِّ. وقال آخر: يا حاجّ لقد أرسلت الجميع إلى القتل!

 

فأخذني أنا أيضاً شكّهم واضطّرابهم. وللحظة، أصبح عندي حالة عصبيّة من التوتُّر، فوضعت يَديّ على أُذُنَيّ وأخذت أضغط. وكُنت أنتظر كلّ لحظة انفجار أحد الألغام...

 

في تلك الليلة وبلطف ورعاية سيِّدة عالم الدنيا والآخرة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام فإنّ الشباب ولآخر نفر منهم كانوا قد قطعوا حقل الألغام، ولم ينفجر حتّى ولا لغم واحد. عندها انتبهت، وركضت باتِّجاه العدوِّ رجلاي تسبق رأسي، من داخل نفس حقل الألغام!

 

في الصباح الباكر وقد كُنت منشغلاً في العمليّات، وقع نظري فجأة على عدد من شباب استطلاع الفرقة، كانوا يركضون ويسألون بثورة هذا وذاك، أين الحاجّ برونسي؟! أين الحاجّ برونسي؟!

 

فاتّجهت إليهم وقُلت: ما القصّة؟ ماذا حصل؟

 

قالوا: هل تعلم في الليلة الماضية ماذا فعلت؟

 

كان صوتهم عالياً وغير طبيعيٍّ. فتجاهلت. فقُلت بشكل عاديٍّ وببرودة أعصاب: لا.

 

قالوا: أتدري من أيِّ طريق جعلت الكتيبة تعبر؟

 

سألت: من أين؟

 

فأخبروني الموضوع من أوّله إلى آخره، فقُلت ضاحكاً: وهل يُمكن أن نكون قد عبرنا من حقل الألغام؟ أنتم حتماً تمزحون.

 

فأخذوا بيدي وقالوا: تعالَ معنا لتنظر بنفسك.

 

فذهبت معهم. لقد كان النظر إلى حقل الألغام واقعاً عِبرة. كان على كلِّ الألغام آثار الأقدام. حتّى إنّ بعض الألغام قد التوى بعض قرون استشعارها، ولكن الحمد لله لم ينفجر أيّ منها.

 

رحم الله الشهيد برونسي، كان آخر كلامه يبكي ويقول: أتدرون أنّ السيّدة

 

 

189


183

تراب كوشك الناعم

 فاطمة الزهراء عليها السلام وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام كانوا يُساعدوننا في كلِّ العمليّات.

 

كان محمّد رضا فداكار، أحد زملاء الشهيد برونسي المقاتلين يقول: بعد تلك العمليّات، كان طريق اثنين أو ثلاثة من الشباب قد وقع من نفس حقل الألغام ذلك. وبمجرّد أن وضع أوّل واحد منهم قدمه داخل حقل الألغام، انفجر أحد الألغام ومع الأسف ُقطعت قدمه! ممّا جعل الشباب يختبرون باقي الألغام ليتأكّدوا إن كان قد أُبطل مفعولها!

 

كان كلُّ فكر وتمام ذكر الشهيد برونسي في العمليّات الموفّقة هو أنّه كان يقول: يجب أن نجعل قربنا من أهل البيت أكثر، وإيماننا بهم أقوى.

 

190


184

تراب كوشك الناعم

الشخص الأوّل

محمّد حسن شعباني

كانت "كلة قندي"، وردة المنطقة، ومن المرتفعات الحسّاسة والمصيريّة. وكان العدوُّ قد سيطر من تلك المرتفعات على طرق المواصلات وعلى منطقتنا، بحيث إنّ المشاكل كانت تأتينا دائماً من ذلك المكان. وكان هذا الإشكال يُعقِّد الأمور على الشباب في عمليّات تحرير مهران.

 

أذكر أنّه في اليوم السابع للعمليّات، كان قد تحرّر الكثير من المناطق الّتي كانت محلّ اهتمامنا. حتّى إنّ سلسلة المرتفعات "S" وسلسلة مرتفعات "نعل أسبي"1 (نعل الحصان) كانت قد أصبحت بيد شبابنا أيضاً. وعلى كلِّ حال، إذا كانت مرتفعات منطقة "كلة قندي" سوف تبقى بيد العدوّ فإنّ نتيجة العمليّات سوف تكون وكأنّنا لم نفعل شيئاً. وبعبارة أخرى إنّ تثبيت نتائج العمليّات أصلاً كان مرتبطاً بتحرير تلك المرتفعات.

 

إضافة إلى أنّ العدوّ كان قد فعل المستحيل من أجل أن لا يخسرها، ونحن قمنا بالهجوم عليها لعدّة مرّات، وبقيت "كلة قندي" تعدُّ اللحظات بانتظار شبابنا.

 

في اليوم السابع للعمليّات، أتى نفس عبد الحسين برونسي إلى الميدان، وتوجّه مباشرة إلى كتيبة بلال، الّتي كانت كتيبة قوّات خاصّة، واصطحب معه

 

 


1-  هذه المرتفعات، تقع من الجهة الشماليَّة لمنطقة كلة قندي.

 

 

191

 

 


185

تراب كوشك الناعم

 الشباب: "غلامي"، و"عسكري"، و"ميراني مقدم"2 وعدداً آخر من رماة الآر بي جي الّذين يملكون أجساماً ضخمة وعقلاء، وقال مؤكّداً: "كلة قندي" هذه يجب أن تتحرّر هذا اليوم.

 

أظنُّ أنّهم كانوا قد هجموا قبل الظهر بساعتين أو ثلاثة، وكان عبد الحسين ورماة الآر بي جي هم رأس حربة الهجوم، وكانت بقيّة الكتيبة الخاصّة أيضاً خلفهم.

 

وكان الضّابط (جاسم)، وهو صهر صدّام وابن خالته، مثل أفعى جريحة فوق المرتفعات، يدور على نفسه، مع عدد كبير من القوّات البعثيّة، وقد تمسّكوا بهذه المرتفعات بأظافرهم وأسنانهم. وبأمر منه أُطلقت نيران كثيفة فوق رؤوس الشباب ممّا منعهم من أيِّ تقدُّم، فتوقّف عبد الحسين هو والبقيّة بين الصخور وبين التلال، ولكن كان من المعلوم أنّه لا يوجد عند أحد منهم نيّة بالتّراجع.

 

كان حجم النيران من جهة العدوّ أغزر من نيراننا. وفجأة ظهر عدد من الطوّافات. كُنّا على يقين من أنّهم قد أحضروا التموين والعتاد للبعثيّين، فبدأ المقاتلون، من مواقعهم ومن كلِّ جانب، بإطلاق النيران الكثيفة عليها، فعادت بعد قليل من حيث أتت بدون أن تُنجز أيّةَ مَهَمّة، وأصبحت الفرصة جَيِّدة لنا الآن، فصاح عبد الحسين: الله أكبر.

 

و قام الّذي بعده بسرعة، وبدأ عبد الحسين بالتقدُّم، وهو يُطلق النار في نفس الوقت. ثمّ تبعه الشباب، وبدأ الهجوم من جديد. ولم يمض وقت طويل إلّا وعادت النتيجة علينا بالخير، وانقلب الوضع وأصبحنا نحن من يُدير المعركة.

 

أصبح وضع الضّابط جاسم مع قوّاته سيِّئاً، فنحن الآن نرميهم بنيران كثيفة من عدّة أطراف، وكان من الواضح أنّهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، فقد كانت فتيلة نيرانهم تخفت من لحظة إلى لحظة!

 

ثمّ شيئاً فشيئاً أصبحت أوضاعهم تسوء إلى درجة أنّهم لم يكن قد بقي لهم سوى أحد طريقين، إمّا أن يستسلموا، أو أن ينتحروا.

 

في هذا الحيص والبيص، ظهرت الطوّافات من جديد، وعددها في هذه المرّة

 


2- نال جميع هؤلاء فيض الشهادة العظيم.

 

192

 


186

تراب كوشك الناعم

 يبدو أكثر من المرّة السابقة، كما كان يبدو من مناوراته أيضاً أنّهم قد أتَوْا لعمل أهمّ. كان عملاً أهمّ من إلقاء المؤن والعتاد. كان تشكيلهم من نوع آخر، وقد أتَوْا إلى فوق المرتفعات تماماً.

 

فَهِم عبد الحسين القضِيّة قبل الباقين، فصاح: لقد أتوا ليُنقذوا "جاسم" يُريدون أن يُخرجوا قائدهم، يُريدون أن يُنجوه، يجب أن لا ندعهم آمنين.

 

ثمّ رمى هو إحدى قذائف الآر بي جي باتجاه الطوّافات، ولم يُعطهم الشباب مهلة لكي يُنفّذوا خطّتهم كما يُريدون. فكان كلُّ واحد منهم يُطلق عليهم النار بما كان معه من الأسلحة، حامل الرشّاش كان يرمي برشّاشه، ورامي الدوشكا يرمي بالدوشكا، ورماة الآر بي جي كذلك، كلُّهم يرمون معاً في وقت واحد، فأصبنا في هذه المرّة اثنتين من الطوّافات. ووقعتا على الصخور بضوضاء كبيرة وانفجرتا.

 

ثمّ إن الطوّافات الأخرى، قامت بإنزال لقوّاتها، وكأنّهم قد تلقّوا أمراً من نفس صدّام ليُخلِّصوا جاسم، ولكنّهم لم يتمكّنوا في النهاية من فعل شيء، وكُنّا نقترب من قمّة المرتفعات أكثر، وكانت نيراننا تشتدّ، فوضع العراقيُّون ذيلهم بين أرجلهم ولاذوا بالفرار.

 

وكان شبابنا يتقدّمون بحماسة زائدة ويعبرون الصخور واحدة بعد الأخرى، وكان المقاتل الأوّل الّذي وضع قدمه على مرتفعات "كلة قندي"، هو عبد الحسين نفسه3 ، ونصب علم الجمهوريِّة الإسلاميّة عالياً، وأسر بنفسه الضّابط جاسم وأخذ منه مسدّسه4.

 

سبّب جاسم باستشهاد أفضل وأخلص قوّاتنا، من الشباب الّذين كان كلُّ

 

 


3- كان الشهيد برونسي يومئذ معاون قائد كتيبة الإمام الجواد عليه السلام. وبسبب لياقته وقدرته الَّتي أبرزها في هذه المعركة أصبح بعدها قائد الكتيبة. حتَّى إنَّهم أرادوا أن يزينوا هذه المرتفعات باسمه. ولكنَّه رفض بشكل قويّ.

4- بقي هذا المسدَّس مع الشهيد الكبير حتَّى شهادته، وكان يمزح بعض الأحيان فيُريه للآخرين ويقول هذا تذكار من صهر صدّام. وذلك المسدَّس مازال مع السيِّد كاظم الحسينيّ ونأمل إن شاء الله وبدراية وموافقة المسؤولين ذوي العلاقة أن يوضع في متحف الشهداء ليراه الجميع.

 

193

 


187

تراب كوشك الناعم

 واحد منهم يُعتبر ابناً لعبد الحسين، وكان قد تعب كثيراً وبذل جهداً كبيراً من أجل تدريبهم.

 

عندما تمكّن الحاجُّ من أسر "جاسم"، هجم عدد من الشباب عليه يُريدون الفتك به، ولكن عبد الحسين منعهم بشكل قاطع وجدّيٍّ. وقال بانزعاج: ليس لدينا الحقُّ بفعل ذلك.

 

قال الشباب منزعجين أكثر منه: إنّه أسوأ من كلب مسعور، يجب أن يُقاصص الآن.

 

قال عبد الحسين: إذا كان يجب أن يُقاصص، فليس أنا وأنتم من يُقرِّر هذا، بل المسؤولون.

 

وأمام حيرة الشباب وتعجُّبهم، أخذ عبد الحسين "جاسم" بنفسه إلى خلف الجبهات ليُسلِّمه، وكان يقول: أخاف أن يفعلوا له شيئاً.

 

194

 


188

تراب كوشك الناعم

آخر المنسحبين

محمّد حسن شعباني

عقدوا اجتماعاً مُهِمّاً، قبل عمليّة خيبر، حضره كلُّ القادة من المراتب العليا. ما زلت أذكر أنّ أحدهم كان يشرح محاور العمليّة المُهِمّة على خريطة على الأرض، وكان يوضّح لكلِّ واحد من القادة طبيعة عمله.

 

عندما وصل الدور إلى عبد الحسين كان يجلس ببرودة أعصاب ويستمع بشكل طبيعيٍّ إلى كلام القائد. ولأنّ عمله كان مُهِمّاً، والقائد قد أطال الكلام، وقف عبد الحسين فجأة وقطع له كلامه. قائلاً: يا أخي إنّ هذا الكلام لا ينفعنا!

 

فاتّسعت حدقتا عينَيّ من التعجُّب. وكنّا كلُّنا ننظر إليه بتعجُّب مبهوتين. ففي هكذا اجتماع مُهِمّ إلى هذا الحدِّ، ننتظر أيّ كلام غير هذا. فأشار عبد الحسين إلى الخرائط وتابع: إنّ هذه الأشياء لا تداوي مرض برونسي.

 

فقال القائد بجدّيّة: ماذا يعني هذا؟! لم أفهم قصدك.

 

فابتسم عبد الحسين وقال: إذا لم تكن جسارة مِنِّي، ومن أجل عملي، فقط أُريد أن تقول لي: أين يجب أن أنتزع من العدوّ. أعني فقط أرنِي المنطقة، خُذني بالقارب، أو بأيِّ شيء إلى هناك وقُل لي: هذه هي المنطقة، يجب أن تنتزعها من العدوِّ.

 

فعمّ السكوت فضاء الاجتماع، وحتّى ذلك القائد لم يقل شيئاً، ولكن من المعلوم أنّه كان قد انزعج. فاستلم عبد الحسين دفّة الكلام وقال: يجب أن نعمل فوق الأرض، يجب أن نلمس أرض العمليّات بجلدنا ولحمنا، إنّ هذا الّذي تقوله

 

195

 


189

تراب كوشك الناعم

 وتُشير إلى الخريطة، اذهب خلف أوتوبان البصرة وافعل كذا هناك، ومِن ثمّ اذهب إلى المنطقة الفلانيّة، كلُّ هذا لا ينفعني، يجب أن تُريَني المكان مباشرة.

 

مع أنّه سبّب في ذلك اليوم الانزعاج، ولكنّه في النهاية ثبت على كلامه، فتقرّر أيضاً أن يجلعوه يرى المنطقة عن قرب، ثمّ أعطَوْه مسؤوليّة ثلاثة كتائب من القوّات أيضاً.

 

في تلك العمليّة، كان عمله الأكثر توفيقاً كما يعتقد القادة. وقد أبدى وعياً وقدرة عجيبين، فقد كان يتقدّم مع الشباب خطوة بخطوة. وكان تارة يرمي بالكلاشنكوف، وتارة بالرشّاش الثقيل، وثالثة يرمي بالآر بي جي.

 

لا أنسى أبداً قوّات (كوماندوس) العدوِّ بأجسادهم الّتي تُشبه الغيلان، وكانت آخر ورقة رماها العدوّ وآخر أمل له، أمام سيل قوّاتنا. فجأة اقتحموا المنطقة مثل النمل والجراد، وكانت أسلحتهم الصغيرة هي الرشّاش الثقيل! وكان بعضهم يحمل تحت إبطه هاون 60 مثل طفل عمره ثلاثة أشهر، وكان أحدهم يحمل الهاون والآخر يرمي وهو بنفس الوضع. أعني أنّهم لم يكونوا يضعون القاذف على الأرض!

 

وكأنّ قدرة عبد الحسين الموهوبة من الله قد تضاعفت بمجرّد رؤيتهم، فأخذ يرمي النيران بغزارة أكثر من ذي قبل. وكان الشباب ترتفع معنويّاتهم من هذا الوضع، فأخذوا يُقاتلون بروحيّة أعلى وأفضل. وفي النهاية استطعنا أن ننفذ من شرِّ هؤلاء الكوماندس، فإمّا أنّنا أرسلناهم إلى جهنّم وإمّا أنّهم فضّلوا الفرار.

 

لقد أحرزنا في تلك العمليّة انتصارات أكثر ممّا كُنّا ننتظر، ولهذا فقد تقدّمنا عن جناحي قوّاتنا اليسار واليمين، وأخذنا نُفكِّر في أن نستقِرّ ونثبت في المنطقة فأتى أمر الانسحاب، لأنّنا كنّا قد تقدّمنا أكثر من القوّات الأخرى. وفي كلِّ لحظة كان يوجد خطر أن نُطوّق وننقطع عن بقيّة قوّاتنا. وهنا بدأ عبد الحسين العمل بسرعة، فإنّ الانسحاب نفسه كان يُعتبر معركة في تلك الظروف، وكان عبد الحسين يحمل الحِمل ثقيلاً على عاتقه. ومهما كانت المشقّة فقد استطاع أن يسحب القوّات إلى الخلف.

 

ما زلت أذكر جيِّداً، أنّه كان آخر من انسحب.

 

196


190

تراب كوشك الناعم

مرتفع نارنجكي

حميد خلخالي

كان منظر شبح "كلة قندي" في ظلام الليل، يُثير في النفس حالة خاصّة، فكأنّك تُحِسُّ بتوتُّر واضطراب، وتُحِسُّ أنّها تتحرّق لحظة بلحظة وتشتاق أن تطأها أقدام قوّات حزب الله. كان العدوُّ مسيطراً من ذلك العُلُوّ على المنطقة بشكل عجيب، ممّا أدّى إلى أن تُراق دماء طاهرة من الشباب، وإلى تكبيدنا الخسائر أيضاً، فكان فتح "قلة قندي" له تقديس خاصّ. ومن أجل تحرير ذلك الموقع، كان يجب أن نمرّ عبر سدٍّ حديديٍّ منيع كبير.

 

في هذه الناحية من "قلة قندي"، كان العدوُّ قد أنشأ موقعاً قويّاً وثابتاً، ويُسبِّب لنا الكثير من المشاكل، ويُساعدهم كثيراً على حفظ قوّاتهم وحمايتها، وكان العدوُّ يضغط علينا من هناك ليُعيد احتلال المناطق الّتي تحررّت، كما أنّ هذا كان يُعتبر سدّاً أمام تقدُّمنا أيضاً.

 

ذات ليلة، وصل عبد الحسين، فالتفت إليّ وقال: حميد، اجمع لي شباب الاستطلاع.

 

سألته: لماذا؟

 

فابتسم ابتسامة جميلة وقال: بعون الله والأربعة عشر معصوماً عليهم السلام سوف نضرب هذا الخطّ الحديديّ ونخرِّبه فوق رؤوس الأعداء.

 

بدأنا العمل في تلك الليلة. كانت المنطقة بكاملها جبليّة وفيها منحدرات عميقة. وكان يجب أن تجري العمليّة من عدّة محاور. والمحور الّذي سلّمونا إيّاه صعب العبور وفيه مرتفعات ومنحدرات. وربّما كان أصعب منحدر هو الّذي

 

197

 


191

تراب كوشك الناعم

يجب أن نتجاوزه، ولقد أسماه الشباب منحدر المصلّى. ومع كلِّ هذه المتاعب كانت استحكامات العدوِّ وموانعه تزيد الطين بلّة.

 

كانت المسافة الّتي تفصلنا عن مركز العمليّة بعيدة جِدّاً، لهذا كان يجب أن نجعل لنا مركزاً في نقطة وسط نأخذ إليه تمويننا وعتادنا. وبمساعدة شباب الاستطلاع وحضور عبد الحسين لحظة بلحظة، فإنّ النقطة المركزيّة للعمليّة أصبحت معروفة.

 

وكُنّا قد تركنا بعض الشباب على طول خطِّ مسيرنا، في المنطقة الّتي تفصل خطوطنا الخلفيّة عن مركز العمليّة من أجل حفظ ظهرنا. وكانت المنطقة صعبة إلى درجة أنّنا لا نستطيع أن نُعبّد طريقاً ولا يُمكن أن نستعمل أيّة وسيلة نقليّة. والحلُّ الوحيد الّذي كان أمامنا هو استعمال الحمار لنقل المؤن والعتاد، ولكنّ إيصال الماء كان مشكلة لا يستطيع الحمار لها حلّاً. وبعد التشاور والتفكير تقرّر أن نمدّ أنابيب ماء. وكان يبدو ذلك عملاً صعباً ومستحيلاً، ولكنّنا أنجزناه، فقد مدّينا أنابيب الماء من البلاستيك على طول مسيرنا، والقسم الّذي كان منها فوق الأرض وتحت نظر العدوِّ، حاولنا بكلِّ جهدنا أن نستره.

 

وبالتزامن مع تمديد الماء نقلنا العتاد والمؤن بالتدريج. وكان الوضع حسّاساً جدّاً إلى درجة أنّ العدُوّ لو أنّه لاحظ أيّ شيء، فسوف تنفضح هذه العمليّة. وكانت كلُّ هذه الأعمال تتمُّ بالسرّ، وباستتار تامٍّ. ولكنّ العدوّ لم يكن ليقف مكتوف الأيدي، فكان يُرسل دوريّات استطلاع وكان يضع احتمالات تقدُّمنا، لهذا كان دائماً يُطلق النار في تلك الأطراف. حتّى إنّه استشهد لنا عدد من الشباب. والورقة الوحيدة الّتي كانت بيدنا هي أنّ العدوّ لا يُمكن أن يتخيّل أو يضع باحتماله أنّنا يُمكن أن نشنّ عمليّة من تلك المنطقة.

 

والّذي كان يرفع من معنويّات الشباب ويجعلهم لا يتردّدون، هو حضور عبد الحسين معنا. الّذي كانت جدّيّته لا نظير لها.

 

وفي القسم الأخير من العمل، كان هو الّذي اختبر كلّ المسير بِدقّة. فساعد قادة الكتائب والسرايا والمجموعات على العبور، وعرّف كلّ واحد منهم على مَهمّتهِ، وتحدّث بنفسه إلى القوّات، وأوضح للجميع وضع المسير والموانع الّتي يُمكنِ أن تعترض طريقهم، وقال لهم كيف يجب أن يعبُروا وكيف يجب أن يضربوا العدوّ.

 

198

 


192

تراب كوشك الناعم

ما زلت أذكر ليلة العمليّات، وكأنّ عدداً من الشباب كان قد تأثّر إلى حدٍّ ما بهول المنطقة وكونها صعبة العبور. فأحسست أنّهم يجدون العمل صعباً جدّاً. حتّى إنّ بعضهم كان قلقاً أيضاً. ولكن هذه الحالة لم تطل، فقد جلس عبد الحسين في النقطة الّتي يجب أن يفترقوا عندها وتحدّث إليهم. لقد كان يملك هدوءاً واطمئناناً عجيبين. فقد كان بذلك الوجه البسيط والنورانيِّ يتحدّث بطريقة ويقول أشياء تجعل الإنسان ينسلخ عن الدنيا وما فيها.

وخلال حديثه عندما ذكّر بالعمليّة، وعندما وصل إلى آخر النقاط، كُنت ترى التصميم في كلِّ الوجوه أكبر من ذي قبل. ومن خلال حديث الشباب تستطيع أن تفهم أنّ كلّ الظروف الخاصّة للعمليّة وصعوبة الأرض، لم تعد تهمُّ أحداً أبداً.

 

وعندما توجّهنا كُنت ترى معنويّات الشباب وكأنّهم سوف يذهبون للقيام بعمليّة عادِيّة وبدون أيّة مشاكل أو صعوبة.

 

كانت مجموعة عبد الحسين أوّل مجموعة ضربت خطّ العدوّ، ثمّ من بعده ابتدأت كلُّ المجموعات بالعمل، فكسرنا خطّ دفاع العدوِّ في أوّل هجوم.

 

ثمّ بعد العمليّة بدأنا بالتطهير السريع، وكان عبد الحسين يعمل خطوة بخطوة مع الشباب في كلِّ أجزاء العمل، فكان يُفتِّش المواقع، ويُرسل الأسرى إلى خلف الجبهة، وحتّى إنّه كان يُساعد في جمع أجساد أفراد العدوِّ. كان يعمل بنشاط ومعنويّات عالية، وكان في غمرة العمل، وفي نفس الوقت، يتحدّث إلى الشباب ويرفع من معنويّاتهم، فكانت أحواله تُثير العجب، ولم تكن معنويّاته بعد العمليّة تقلّ، بل إنّها كانت تزيد، وكانت هذه الخصوصيّة الّتي يتمتّع بها تسري إلى جميع أفراد اللواء.

 

كانت الكتيبة واللواء الّذي يكون تحت قيادته، من الألوية المعدودة الّتي لا تطلب المساعدة بعد العمليّة، ولم تكن لتقول إن أفراد قوّاتنا تعبت، وتُريد أن يحلّ مكانها لواءٌ آخر.

 

كان الشباب عندما يُحرِّرون أيّة منطقة، فإنّهم كانوا يُهيِّئون أنفسهم بسرعة من أجل قتال أصعب، ومن أجل المواجهة من جديد، والردِّ على الهجمات القويّة المضادة للعدوِّ.

 

199

 


193

تراب كوشك الناعم

في تلك العمليّة ووسط المنطقة المحرّرة الّتي كُنّا مستقرِّين بها، والّتي لا تفصلنا عنها إلا مسافة قليلة، ومن جناح آخر قام العدوُّ بهجوم كبير مضادّ من العيار الثقيل. لقد كان عدد الشباب في ذلك المحور قليلاً، وربّما لا يتجاوز عدد أصابع اليد. وكانت الظروف صعبة إلى درجة أنّ المحاور الأخرى لا يُمكن أن نُخليها من أجل مساعدتهم.

 

وفيما كان عبد الحسين يُفكِّر بإرسال مساعدة لتلك المجموعة المقاتِلة، كان قد اشتدّ الاشتباك، وكان الشباب يُدافعون دفاعاً مستميتاً، على رَغم عددهم القليل.

 

وفي مدّة قليلة اشتدّ الوطء عليهم، وأخذوا الآن يردُّون هجوم العدوّ بالقنابل1 اليدويّة، حتّى إنّهم وصلوا إلى القتال بالسلاح الأبيض، ومع ذلك، لم يستطع العدوُّ اختراق موقعهم، وكُنّا نستمع إلى لاسلكيِّ العدوِّ، ففهمنا أنّهم يُريدون الانسحاب، لقد اعتقدوا أنّ قوّاتنا المستقرّة هناك كانت كبيرة، بينما لم يبق سالماً من شبابنا إلّا اثنان، حامل اللاسلكيّ ومقاتل آخر، وأمّا الباقي فقد كانوا بين شهيد وجريح، فذانك المقاتلان كانا يُطلقان النار بطريقة جعلت العدوّ يعتقد أنّه يواجه قوّات كبيرة. وعندما كانوا يُريدون الانسحاب سمعنا في اللاسلكيِّ قائدهم يقول لهم: إذا انسحبتم فإنِّي سوف أقتلكم جميعاً.

 

بينما كان هؤلاء المساكين يُنادون قيادتهم من هذه الجهة: إنّ خسائرنا كبيرة ولم نعد نستطيع تحمُّلها.

 

ونقلت هذا باللاسلكي لشبابنا الّذين هم فوق المرتفع، ممّا ساعد على إعطائهم دفعاً معنويّاً وعلى مقاومتهم أكثر. وحسبما عبّر عبد الحسين: فإنّ الله أراد أن يحفظ ذلك المرتفع.

 

وفي النهاية، وبعد جهد، استطاع عبد الحسين أن يُرسل كتيبة من القوّات لمساعدة ذلك المرتفع، وفيما هم في الطريق إليها استشهد قائد الكتيبة، ولكن بقيّة القوّات استطاعوا الوصول إلى ذلك المرتفع.

 

وبعد ساعة تمّ تثبيت المكان.

 


1- لهذا السبب فإن تلك المرتفعات سميت بمرتفعات نارنجكي (القنبلة).

 

200


194

تراب كوشك الناعم

أحلى من العسل

محمّد حسن شعباني

في عمليّات "ميمك"، كان يعترض طريقنا مجموعة من المرتفعات. علينا أن نعبر عنها، وعلينا أن نرفع ساتراً ترابيّاً في الطرف الآخر من الصحراء. وأقلُّ نتيجة كانت لهذا العمل أنّه سوف يُضاعف من تفعيل مواقع صواريخنا. لأنّنا، من هناك، سوف نستطيع أن نردّ بشكل أفضل بكثير على هجمات صواريخ العدوِّ على مدننا.

 

كانت المأموريّة بعهدة ثلاثة ألوية من الفرقة الخامسة "نصر"، وهي لواؤنا، وهو لواء الإمام الصادق عليه السلام ، ولواء الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، واللواء الّذي كان عبد الحسين قائده، وهو لواء جواد الأئمة عليه السلام.

كانت مَهمّتهُ أصعب وأشدّ تعقيداً من بقيّة المهامِّ، فقد كان يجب أن يعمل وجهاً لوجه وكان يجب أن ينتزع من العدوِّ مرتفعات مملوءة بالحفر، ومرتفعات رمليّة، ومرتفعاً على شكل بيضة. وكان على اللواءين الآخرين أن يعملا على جناحي هذه القوّات أيضاً.

 

انتهت الاستطلاعات الصعبة والّتي احتاجت إلى طاقة كبيرة وأخيراً وصلنا إلى ليلة العمليّة، ووضعنا قدمنا في الميدان.

 

كانت عمليّة صعبة وتزهق النفس. فانتزع لواء عبد الحسين منطقته من العدوِّ، ثمّ ثبّت مواقعه فيها بعد مدّة قليلة، وأنهى لواء الإمام موسى الكاظم عليه السلام أيضاً، والّذي كان الجناح الأيمن، عمله بتوفيق تامّ.

 

201

 


195

تراب كوشك الناعم

وبدأ لواؤنا عمله من الجناح الأيسر، فانتزعنا المنطقة من العدوِّ، ولكنّنا لم نستطع أن نثبت هناك. وبدأ العدوّ من ذلك الجناح أيضاً، بالهجمات المضادّة الثقيلة وكان يضغط علينا كثيراً. وإذا لم تخنّي الذاكرة فإنّنا قاومنا بشدّة لمُدّة سبعة أيّام بلياليها وحاربنا، ولكنّنا لم نستطع أن نثبت في المنطقة.

 

في اليوم السابع كان الشباب قد تعبوا وضاق نفسهم، ولم تكن معنويّاتنا بالمستوى المطلوب، ولم يكن من الممكن أن يأتيَنا العون من الخلف، فالوضع كان صعباً، وكان تحمُّلُنا للوضع في كلِّ لحظة يُصبح أصعبَ من اللحظة الّتي قبلها. ونيران العدوِّ تشتدُّ في كلِّ لحظة أكثر من ذي قبل، ومقاومتنا تضعف.

 

كان هجوم العدوِّ المضادّ الأخير فقط من أجل تسجيل الانتصار، فكان الوضع يضيق علينا أكثر، وكاد بعضنا يقطع الأمل ويُصيبه اليأس. في ذلك الوضع، فجأة، ارتفع صوت اللاسلكيّ، وسمعت صوت عبد الحسين، فأخذت معنويّات جديدة. كان يُريد "رفيعي"1 ، وكان قريباً مِنِّي، فأتى سريعاً واستلم السمّاعة من عامل اللاسلكيِّ، وأخذ يتكلّم بصوت عالٍ بسبب الضجّة وتوالي الإنفجارات.

 

ومن بين كلامه فهمت ماذا يُريد عبد الحسين أن يفعل، كدت أصرخ من فرط السعادة! فركضت ما بين الشباب لأُخبرهم، من أجل أن تشتدّ مقاومتهم. كان عمله، في تلك الظروف الصعبة، أحلى من العسل بآلاف المرّات.

 

كان قد صمّم على أن يُرسل إحدى كتائبه من أجل معونتنا، وأرسلها. وكان أهمُّ ما في القضية أنّه أتى بنفسه. وعندما رآه الشباب إلى جانب "رفيعي" ارتفعت معنويّاتهم من أدنى ما وصلت إليه إلى أرفع مستوياتها، واستعر القتال قدماً بقدم مع بقيّة الشباب.

 

في ذلك اليوم، وخلال مدّة قصيرة من الوقت، انقلب الوضع لصالحنا، وبعد مدّة ثبّتنا منطقتنا أيضاً.

 

 


1-  كان قائد لواء الإمام الصادق عليه السلام ، وقد ذاق بعدها، شراب الشهادة الحلو.

 

202

 


196

تراب كوشك الناعم

الكوماندوس

السيِّد كاظم الحسينيّ

تشكّلت كتيبة "الحرّ"، سنة 1361 هـ.ش. وكنّا قد تعبنا كثيراً من أجل تهيئتها بشكل جيِّد. وكان عبد الحسين قد عمل بكلِّ هِمّتِه وجهده من أجلها، وفي النهاية، تمّ تشكيل الكتيبة. وكانت قيادتها منذ البداية بعهدته أيضاً.

 

وبعد تشكيل الكتيبة توجّهنا فوراً إلى منطقة "بستان"، ثمّ عقد عبد الحسين للكتيبة عدّة اجتماعات هناك. وبعد الأخذ والردّ والبحث والكلام، تقرّر أن نتولّى خطّ "شذابة" و"مالك"، فقال لنا قائد اللواء: معكم ثلاثة أيّام من أجل الاستطلاع والأعمال الأوليّة، وبعدها إن شاء الله تتولّون هذا الخطّ من الجبهة.

 

في ذلك اليوم استدعى عبد الحسين قادة الفصائل للقيام بالاستطلاع، فذهبنا مع إبراهيم أمير عبّاسي1 ، ومسؤول خطِّ اللواء، من أجل الاستطلاع الأوّلي. وكان أمير عبّاسي مطّلعاً جيِّداً على ذلك الخطِّ، وكان يعرف المكان هناك مثل كفِّ يده.

 

طال عملنا ليومين. فاستطلعنا مراكز المراقبة والحراسة وكلّ المنطقة
 


1- كان أمير عبَّاسي من قوَّات النخبة ولا نظير له في استطلاعات العمليَّة، وقد استشهد بعد مدَّة، حينما كان معاون الاستطلاع في لواء الشهداء الخاصّ، وأبدى فداءً وإيثاراً من نفسه، فتسبَّب في حماية كثير من المقاتلين. إنَّ مجريات هذه الشهادة يحلو الاستماع إليها، وقد أتى شرحها بشكل كامل في كتاب "فتح بستان".

 

203

 


197

تراب كوشك الناعم

 بشكل تامٍّ، وعلمنا أنّ كلّ نواحي المنطقة هي في مدى نيران العدُوِّ، على هذا الأساس فإنّه كان يرمي النيران بالأسلحة المباشرة دائماً، وهذا ما سوف يجعل هجومنا العتيد مشكلاً.

 

عدنا في اليوم الثالث لنهيِّئ الكتيبة للتحرُّك، فقد كان علينا ليلتها أن نستلم الخطّ. في الصباح الباكر، عندما كُنّا نجلس لتناول الفطور في إحدى الخيم، تنحّى عبد الحسين جانباً عن السفرة قبل البقيّة، وهو لم يكن يأكل كثيراً، حتّى إنّه عندما كان يجلس على السفرة، فإنّه كان يأخذ اللقمة ويضعها في فمه وكأنّ اللقمة تأكله وليس هو الّذي يأكلها.

 

كان يبدو ليومين أو ثلاثة كأنّه مهموم، ولكنّه في ذلك اليوم كان قد وصل إلى أوج همِّه، فتحرّكتُ من مكاني وقُلت مبتسماً: هل حصل شيء يا حاجّ؟

 

فابتسم قليلاً وسألني بعينين نصف مغلقتين: لماذا؟

 

قُلت: إنّك غارق في نفسك عميقاً!

 

بقي ساكتاً للحظات ثمّ قال: انتهت عمليّة "الفتح المبين"، وسألت الله أن لا أُبتلى مجدّداً بموضوع خطِّ الدفاع وردِّ الهجوم المضادِّ والحفاظ على الخطِّ.

 

فنظر إليه اثنان أو ثلاثة من الشباب نظرة خاصّة، وكأنّ هضم المسألة الّتي يتحدّث فيها كان ثقيلاً عليهم. فتابع كلامه وقال: نحن نُطيع حتماً، ونقبل أن نقوم بأيِّ مَهَمّة توكل إلينا، مهما كانت، ولكنِّي أردت هذا من الله.

 

أصبح لحن كلامه مغموماً أكثر، وتابع: والآن لم يستجب الله لدعائي، ممّا يدلُّ على أنّه حتماً لا يوجد مصلحة أن نكون في هذه المنطقة في الخطّ الهجومي الّذي يكسر خطّ العدوِّ.

 

لقد كانت أصعب الأعمال في الجبهة، هي الخطّ الهجوميّ الأوّلَ، وكان عبد الحسين في جميع الأعمال يختار أصعبها، وكان يعمل بكلِّ وجوده وبكلِّ عشقه للدِّين والمذهب، ويضع الخطط على أن يُتمّ العمل على أكمل وجه.

 

وقال بعد الفطور: اجمعوا لي شباب التعبئة وكلّ كوادر الكتيبة لأتعرّف عليهم وأتحدّث إليهم قليلاً.

 

 

204


198

تراب كوشك الناعم

جمعنا الكتيبة في ساحة المراسم الصباحيّة، وهيّأ شباب الثقافة أيضاً الميكروفون ومكبِّرات الصوت، فوقف خلف المنبر، وقرأ عدّة آيات من القرآن الكريم وبدأ بالكلام.

 

ألقى خطاباً تفصيليّاً، دام نحو ساعة. وبعد الخطاب مرّ ما بين الشباب لدقائق، يُجيب على أسئلتهم ويسأل بعضهم عن اسمه واسم عائلته، وأشياء أخرى. وعندما انتهى من هذا العمل، ذهبنا معاً إلى جانب خيمة القيادة وجلسنا في تلك الزاوية، فقال لي: كان عندي كلام كثير مع هؤلاء الشباب لأقوله، ولكِنِّي لم أقله.

 

سألته: حول ماذا؟

 

قال: حول مسائل خطِّ الدفاع وردِّ الهجوم المضادِّ.

 

قُلت: لماذا لم تقله؟!

 

فأخذ نفساً عميقاً وقال: لأنِّي أنتظر! فربّما يكون هناك فرج ونذهب هذه الليلة إلى العمليّة.

 

قُلت: لا تُصعّب الأمور كثيراً يا حاجّ، نحن يجب أن نتولّى هذه الليلة خطّ الدفاع وسوف نتولّاه إن شاء الله.

 

ومن أجل أن أجعله لا يهتمّ كثيراً، قُلت: بغضِّ النظر عن هذا، ألم تقل أنت إنّ أيّ مَهَمّة نتولّاها سوف نؤدِّيها مهما كانت؟

 

كُنّا ما زلنا نتحدّث في هذا الموضوع وفجأة ظهر من البعيد درّاجة ناريّة.

 

كان يأتي بسرعة إلى جهتنا، وعندما أصبح قريباً منّا عرفت "دُرجه إي"2 والمهندس "أميرخاني"3. فنهضنا لنستقبلهما. كان "دُرجه إي" هو الّذي يقود الدرّاجة فوقف إلى جانبنا، وترجّل عنها سريعاً وقال: يا سيِّد برونسي اجمع القوّات، اجمعهم جميعاً، لديّ كلام معهم.

 


2- السيد "هاشم درجه اي"، قائد لواء جواد الأئمة عليهم السلام الَّذي انضمّ إلى الأحرار في إحدى العمليَّات وعاد إلى الوطن بعد الحرب.

3- نال درجة الشهادة الرفيعة بعد مدَّة.

 

205


199

تراب كوشك الناعم

كان يتكلّم بسرعة ويقول كلامه بتتابع، فكان من الواضح أنّ لديه خبراً مُهِمّاً، لهذا عندما سألته عن الموضوع قال: اجمعوا القوّات لأُكلِّمكم كلِّكم في نفس المكان.

 

كان الشباب قد تفرّقوا للتَوّ، فجمعناهم من جديد بفارق عدّة دقائق. فوقف "درجه إي" للخطاب، ولم يكن قبلها قد قال كلمة واحدة ولم يُفش الخبر. وما زلت أذكر أوّل كلامه في ذلك اليوم. قال: أنتم الأعزّاء الّذين شكّلتم كتيبة إذا أراد قائدها أن يضرب الجبل، فإنّه سوف يجعله نصفين.

 

كنّا نقف أنا وعبد الحسين بعيداً عنه بمقدار خطوتين أو ثلاث. وبمجرّد أن قال تلك الجملة توجّهت الأنظار إلى عبد الحسين، لم يرتبك، بل كان يقف بأعصاب باردة وبشكل طبيعيٍّ. فابتسم بهدوء وهمس في أذني قائلاً: أترى ماذا يقول السيد "درجه إي"، أيُّ جبل الّذي نُريد أن نجعله نصفين بابا؟ أين نحن من هذه الأعمال؟

 

وبدأ السيِّد "هاشم درجه إي" من جديد بالكلام، فقاطعه عبد الحسين قائلاً: كأنّ السيِّد لا يعلم أنّنا سوف نستلم الخطّ في مستنقعات "جذّابة".

 

كان السيِّد "درجه إي" إلى هنا ما زال يُثني على عبد الحسين، وقد أثنى عليه ثناءً جميلاً، ففكّرت، تُرى ما الخبر الّذي أحضره له. ومن خلال الكلام، ذهب فجأة إلى أصل الموضوع، فقال: لقد لطف بنا الله وأتتنا مأموريّة خاصّة من مركز القدس.

 

وبمجرد أن قال هذا، فكأنّ وجه عبد الحسين كان وردة مغلقة ثمّ تفتّحت فجأة. فتابع السيِّد هاشم: أراد منّا مركز القدس كتيبة من أجل مأموريّة، ونحن درسنا كلّ كتائب اللواء، وارتاح قلبنا لكتيبة الحرّ.

 

ثمّ سكت هنيهة وقال: إن شاء الله تستطيع كتيبتكم أن تُبيِّض وجهنا في هذه العمليّة.

 

نظرت في وجه عبد الحسين. كانت دموعه تسيل على وجنتيه. كان من الواضح أنّه يبكي بدون إرادة. فقُلت له بشوق: إنّ دعاءك قد استُجيب يا حاجّ، أصبحت من جديد في الخطِّ الهجوميِّ الأوّل.

 

206


200

تراب كوشك الناعم

فضحك وهو في حالة البكاء، كأنّه لا يعلم من فرط السعادة أيبكي، أم يضحك. وانقلب وضع شباب الكتيبة أيضاً وأصبح وضعاً آخر. وبمجرّد ما أن أتمّ السيِّد "درجه إي" كلامه، كانت المأموريّة قد بُلِّغَت بشكل رسميٍّ للكتيبة. وبعد الوداع والتعليمات اللّازمة، ركب الدرّاجة الناريّة مع المهندس أميرخاني، وبعد عدّة دقائق ابتعدا.

 

تحدّث عبد الحسين من جديد إلى الشباب ولكن وضعه في هذه المرّة كان أفضل، فقد كان يتكلّم بحماس شديد ومن القلب، فأبكى الجميع بدون استثناء. بكينا جميعنا كثيراً. وفي آخر كلامه أعطى الأوامر اللّازمة وقال: اجمعوا وسائلكم بسرعة فسوف نسير بإذن الله تعالى.

 

فتهيّأنا بسرعة للحركة، وكان يجب أن نذهب إلى مركز القدس، الموجود في قلب الحميديّة وكانت قيادته بعهدة "عزيز جعفري"، فركبنا السيّارات وتوجّهنا إلى هناك.

 

وصلنا إلى المركز، وعرفنا للتَوِّ أنّ الكلام يجري عن عمليّة كبيرة في بيت المقدس. ولم نبق مُعَطّلين كثيراً. فقد أمرونا من جديد بالالتحاق بلواء بيت المقدس في الأهواز، فذهبنا إلى منطقة الاشتباك ومنطقة دُبِّ حردان.

 

كانت السماء مليئة بالنجوم عندما وصلنا، وأتى السيِّد "كلاه كج" قائد اللواء لاستقبالنا. وبعد الصلاة، شرح لنا برنامج عملنا، ووضعنا في مكان إحدى كتائب اللواء.

 

في الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً كان قد تمّ تسيير كلِّ الأمور، ووزّعنا الحرّاس، وأمّا الباقون فكان يجب أن يستريحوا بوضعهم العسكريِّ التامّ وفي حالة الاستعداد الكامل للقتال، فأصبحنا الآن نحن بانتظار أوامر بدء الهجوم، وذهبت أنا إلى المتراس.

 

كنت أُفكِّر عميقاً، عندما سمعت صوتاً يأتي من الخارج، فأصغيت إليه السمع، فإذا به صوت بكاء، فخرجت من المتراس. كان الحاجّ إلى جانب الساتر

 

207

 


201

تراب كوشك الناعم

 الترابيِّ منكمشاً على نفسه ويبكي بحرقة تجعل الإنسان يبكي بدون اختيار، وكان حاله منقلباً، فاندهشت وسألته: ماذا؟ أحصل شيء؟!

 

فمسح دموعه بيديه، وهزّ رأسه إلى اليمين واليسار، وقال: إنّ قلبي يحترق!

 

قُلت: من أجل ماذا يا حاجّ؟ هل حصل شيء؟

 

فأشار إلى خطِّ دبّ حردان وقال: أتذكر أوّل الحرب! كيف أتينا بأسلحة "أم واحد" و "أم إثنان"؟ أتذكّر بأيِّ صعوبة رفعنا الساتر الترابيّ ووضعنا الأكياس وصنعنا المتراس؟

 

كان لذكريات أوّل الحرب، حلاوة خاصّة بالنسبة لي، فهززت رأسي موافقاً على قوله. فقال: هل تذكر وقتها أنّنا أجرينا الماء خلف هذا الخطِّ؟

 

قُلت: نعم أذكر.

 

قال: إنّ هذه المياه مازالت موجودة وقد نبت فيها القصب.

 

قُلت: والآن لماذا تبكي؟

 

قال: أتعلم يا سيِّد، إنّ انزعاجي من أنّنا لماذا مازلنا بعد عامين، في نفس المكان القديم؟! يجب أن نكون الآن متقدِّمين كثيراً إلى الأمام، إنّ ما يُسبِّب الغصّة أنّ كلّ ترابنا هذا ما زال بيد العدُوِّ.

 

كُنت أغبطه كالعادة على حالته المعنويّة، فقد كانت كلُّ هذه الغيرة في الدفاع عن الدِّين والوطن واقعاً تُثير العجب. ثمّ قام من مكانه ووقف، ثمّ زحف إلى جانب الساتر الترابيِّ، ونظر قليلاً إلى تلك الجهة ثمّ عاد ونزل إلى الأسفل. كان مغموماً كثيراً. وكُنت أقرأ هذا في وجهه، ثمّ قال لي فجأة بصوته الباكي: اذهب واجمع لي الشباب.

 

ففتحت عينَيّ على وسعهما من الدهشة وقُلت بحيرَة: الشباب؟ لماذا أجمعهم؟!

فقال: لنقرأ دعاء التوسُّل.

فابتسمت وقُلت: أين حواسُّك يا حاجّ؟!

وكأنّه انتبه للتَوِّ، فالتفت حوله وقال: ها؟ من أجل ماذا؟

قُلت: سلامة فهمك يا حاجّ! نحن الآن في الخطِّ المتقدِّم للجبهة، وساتر العدوّ

 

208

 


202

تراب كوشك الناعم

علمنا هناك أنّ العمل الأصليّ هو الّذي فعله شباب لواء 21 الإمام الرضا عليه السلام ، والقوّات الأخرى. فقد كانوا قد تقدّموا من جهة محطّة الحسينيّة، وتقدّموا من كارون وقطعوا أوصال العدوِّ، فما كان من العدوِّ إلا أن ترك منطقة بادكان حميد وخرج بشكل كامل من ترابنا.

 

في ذلك الحيص بيص وتعقُّب العراقيِّين، رأينا قرابة ثلاثين جثّةً محروقةً! كانوا من شهدائنا المظلومين ومن شباب لواء 21. علمنا أنّ قوّاتنا في الليلة الماضية في البداية لم تكن موفّقة في تلك المنطقة. فسقط لنا عدّة شهداء، فما كان من العدوِّ إلا أن ألقى الجثث فوق بعضها وأحرقها بوحشيّة.

 

عندما رآهم عبد الحسين تغيّرت حاله، فجلس إلى جانب الأجساد وبدأ بقراءة الفاتحة. فكُنت عندما تنظر إليه، ترى أنّه يُريد البكاء، ولكنّه لم يفعل. كُنت أعلم أنّه يُحافظ على معنويّات الشباب. ولو أنّني لم أُذكِّره بأنّنا يجب أن نذهب، فإنّه لم يكن ليترك المكان بهذه السرعة.

 

جمعنا الكتيبة في حسينيّة المحطّة، وربطنا أيدي الأسرى فقط من أجل الاحتياط، وجمعنا الغنائم أيضاً في جانب. كُنّا ما زلنا لم نلتقط أنفاسنا عند وصول السيِّد "هاشم درجه إي"، مع "عبّاس شاملو" و"غلامبور". فضمّ "السيِّد هاشم" عبد الحسين إلى صدره وقال: ماذا فعلت يا سيِّد برونسي؟ يقولون: جعلت الكتيبة إعصاراً!

 

فقاطعه عبّاس شاملو وقال لعبد الحسين: أنت أخيراً استطعت أن تكسر الخطّ الدفاعيّ القديم دبّ حردانَ وسدّ العراقيِّين الّذي لا يُكسر.

 

فقُلت في نفسي: الآن سوف يبدأ عبد الحسين بمدح الكتيبة وإخبارهم أنّ كتيبتنا تجاوزت الخطّ الدفاعيّ للعدوِّ وكم أخذت من الأسرى وكم غنمت وماذا فعلت وماذا لم تفعل.

 

ولكن بخلاف حدسي، ابتسم ابتسامة ذات معنى وقال: لا يا إخواني الأعزّاء! كتيبة برونسي لم تكسر خطّ الدفاع. عندما وصلنا وجدنا أن شباب حزب الله هم الّذين كانوا بحول الله وقوّته قد كسروا خطّ الدفاع للعدوِّ.

 

210


203

تراب كوشك الناعم

فالتفت حواليه وأشار قائلاً: إنّ محطّة الحسينيّة هذه بناها أيضاً شباب لواء 21، والمناطق الأخرى أيضاً حرّرها جيش حضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوّات أخرى.

 

نظرت إلى "درجه إي"، فقد كان، مثلَ الباقين، لا ينتظر هكذا جواب. فقال غير مصدِّق: ولكن في كلِّ مكان يجري الكلام عن انتصاركم أنتم، يقولون بأنّكم صنعتم العجائب.

 

ولكن عبد الحسين لم يستسلم، وأصرّ قائلاً: إنّهم يكذبون! إنّ كتيبتنا لم تفعل شيئاً، والآن هم ما يزالون أصحّاء سالمين هنا، حتّى إنّ أحدهم لم يرعف أنفه.

 

مكث قليلاً. وتابع: أنا الآن أنتظر الأمر بالذهاب إلى شلمشة.

 

فابتسم السيِّد درجه اى وقال: أنتم الآن بإمرة لواء بيت المقدس، يجب أن تتكلّم مع السيِّد "كلاه كج"..

 

ذهبنا كلُّنا في الكتيبة إلى داخل الخطِّ الدفاعيِّ جُفِير وكوشك، إلى جانب سدِّ إيران. كان يجب أن نقوم بهجوم من هناك، ونمنع الهجومَ المضادّ للعدوِّ. كُنّا مشغولين مع عدد آخر من القادة حتّى الساعة الحادية عشرة. قسّمنا القوّات داخل المواقع، ونظّمناهم جَيِّداً. في هذه الأجواء كانت قلوب الجميع وأرواحهم متعلِّقة بعمليّات بيت المقدس. فقد كانت أهميّة هذه العمليّات أنّ رأس حربتها سوف يذهب باتجاه شلمشة وخرّمشهر. وأتى عبد الحسين حوالي الساعة الحادية عشر والنصف ليلاً، وكان قد ذهب إلى اجتماع اللواء. كُنت أقول في نفسي: إذا أتى فإنّه سوف يكون منزعجاً ومهموماً.

 

وعلى عكس ما توقّعت، فقد كان سعيداً، بل يبدو مفرطاً في السعادة أكثر من العادة، فقد كان يتكلّم ويضحك! وبحسب معرفتي به، فإنّه في هكذا حالات، عندما لا يستطيع أن يُشارك في العمليّة، يكون عادة مغموماً ومنزعجاً.

 

سألني عدّة أسئلة عن وضعيّة الكتيبة، وتفقّد بنفسه بعض الأمكنة، فكان مرتاحاً. وكأنّه كان يتكلّم مع نفسه، قال: حسناً تحتاج الكتيبة الآن إلى بديل.

 

211

 


204

تراب كوشك الناعم

فاندهشت، وسألته: بديل! لماذا؟!

 

كان صوتي عالياً، فوضع سبّابته على شفتيه ورأس أنفه، وقال هامساً: هُسْ.

 

كُنت قد خمّنت منذ البداية أنّ في الأمر سرّاً، ولكنّه لم يكن ليقول شيئاً، ثمّ عيّن بديلاً له في غاية الأمر، وقال له: انتبه إلى الكتيبة جَيِّداً.

 

فسأله الآخر: هل أنت ذاهب إلى مكان يا حاجّ؟

 

فقال عبد الحسين: سوف أذهب إلى مكان، ولا أعلم متى أعود، ولكن على الأكثر حتّى صباح الغد.

 

فودّع وذهب، ولم ينبس ببنت شفة!

 

وبعد قليل رأيته يأتي لناحيتي على درّاجة ناريّة، وقال لي وبدون مقدّمات: هيّا اركب لنذهب.

 

فتصوّرت أنّه يمزح معي حتماً، وقُلت: بالسلامة إلى أين؟

 

فقال: ليس شغلك، أنت فقط اركب خلفي على الدرّاجة.

 

لم يكن يبدو على وجهه أيُّ أثر للمزاح، فقد كان جدّيّاً ومصمِّماً، فقُلت له: خطُّنا هنا، وعملنا هنا، أين نذهب؟!

 

قال: كلُّ شيء بخير والحمد لله، اركب لنذهب.

 

كانت دهشتي كبيرة، فعبد الحسين لا يترك قوّاته تحت أيِّ ظرف لوحدها، فسألته: يا إلهي هل حصل شيء؟

فقال منزعجاً: ما لك ولهذا الكلام؟ اركب ولنذهب.

فركبتُ أردت هذا أم لم أُرد. وسرنا مسافة، ولا أذكر أين كان حين أوقف الدرّاجة، وقال: هيّا انزل.

فنزلت، فركن الدرّاجة في ناحية وأتى، فأشار في عتمة الليل إلى موقع كبير وقال: هيّا لنذهب إلى هناك لأخذ التجهيزات.

كانت كلمة تجهيزات تُستعمل عادة حين الاشتراك في العمليّات، فقُلت مثل المصدومين: تجهيزات؟!

 

فأمسك بيدي وجرّني خلفه، وقال: نعم تجهيزات.

 

212

 


205

تراب كوشك الناعم

فقُلت: ماذا تُريد أن تفعل يا حاجّ؟

 

فقال: تقرّر الليلة بعون الله والأربعة عشر معصوماً عليهم السلام أن تكون العمليّات شاملة وأن نلمّ بساط خرّمشهر.

 

قُلت: حسناً وما الذي يربطنا نحن بهذا؟

 

قال: يربطنا به أنّنا نُريد وبعون الله، أن نُشارك أيضاً في هذه العمليّات.

 

كُنت أنتظر أن أسمع أيّ شيء إلّا هذا، فقُلت معترضاً: بالسلامة! أنت قائد كتيبة الحرّ، وقد أعطوك مَهَمّة خطِّ التحويل، وهو خطٌّ حسّاس بالقرب من العدوِّ، وفي كلِّ لحظة يُمكن للعدوِّ أن يقوم بهجومٍ مضادٍّ، والقوّات عندها مشاكل، وهناك ألف مسألة ومسألة، وغداً لا نستطيع أن نُعطي جواباً، إنّ هذا غير شرعيٍّ!

 

وأصبحت وبحسب القول المعروف، كأنّني ملكيٌّ أكثر من المَلِك، فضحك وقال: أنت ما لك ولهذا الكلام يا عزيزي يا سيِّد؟ من قال إنّ هذ غير شرعيٍّ! كتيبتنا منظّمة ومرتّبة ومستقِرّة في الخطِّ ولها أيضاً قائد، وقد وجّهنا الجميع وفقط أنا وأنت أتينا إلى هنا، وربّما نُوَفَقُّ، ويكون لنا سهم في تحرير خرّمشهر.

 

لم يكن حلُّ المسألة بالنسبة لي بهذه البساطة، ومهما كان فإنِّي قد تبعته. وأخذنا التجهيزات، فأخذ نفساً جديداً وقال: حسناً، الآن يجب أن نجد السيِّد "آهني"4.

 

مع أنّني كُنت منزعجاً، ولكِنِّي لم أنبس ببنت شفة. فتابعت اللحاق به، فوجدنا "آهني"، وكان قائد إحدى الكتائب الّتي سوف تُشارك في العمليّات، فتشاور معه عبد الحسين وقال: أضيف إلى كتيبتكم اثنان من الرماة.

 

كان قصده، أنا وهو. فضحك "آهني" وقال: وهل أسمح أن تكون أحد الرماة يا حاجّ! يجب أن تكون إلى جانبي فأنا الليلة أحتاج إلى عونك كثيراً.

 

فقال عبد الحسين: لا تؤذني يا حاجّ، أُريد أن أُحارب في هذه العمليّات مثل أيِّ مقاتلٍ عاديٍّ.

 


4- قائد إحدى كتائب لواء 21 الإمام الرضا عليه السلام الذي نال درجة الشهادة العالية بعد عِدَّة ليالٍ.

 

213


206

تراب كوشك الناعم

لم يكن "آهني" ليستسلم بهذه البساطة، فأصرّ كثيراً على عبد الحسين، ولكن بدون نتيجة، وأخيراً قال: على الأقلِّ تعالَ أرشدنا ياحاجّ.

 

قال عبد الحسين: أحببت أن أُثبت في تاريخ حياتي أنّني شاركت في تحرير خرّمشر، بعنوان أحد المقاتلين البسطاء.

 

وفي النهاية لم يقبل. وبعد التفاهم اللازم ابتعدنا عن آهني، الّذي كان ذاهباً ليلتحق ببقيّة القوّات، فأمسكت بيده وقُلت: اصبر لحظة أنا لي معك عمل يا سيِّد برونسي.

 

فوقف، وقال: تفضّل.

 

قُلت: إذا وفّقنا الله للشهادة في هذه العمليّات، ماذا سيُصبح وضع الكتيبة؟ أنت لم تقل لأحد إلى أين سوف نذهب.

 

وكأنّه قرأ القلق في نظرتي، فتابع من أجل أن يُريح بالي: أنت تعلم جيِّداً يا سيِّد، أنا لا أقوم بأيِّ عمل بدون أوامر من الّذين هم أعلى رتبة مِنّي.

 

ثمّ سكت. فقُلت له: قُل لي أنت مع من تفاهمت ليُصبح بالي مرتاحاً؟ وإلّا لن آتي.

 

فمشى، وقال لي وهو يسير: تعال لأقول لك.

 

فلحقت به، فقال: لقد تفاهمت مع قائد لواء بيت المقدس نفسه. في البداية لم يقبل، ولكنِّي عندما رجوته أجاز لي. أردت أن آخذ إجازة لخمسة أو ستة أشخاص، ولكنّه لم يوافق إلا على اثنين، فكان هذا التوفيق الكبير أيضاً من نصيبك أنت، أعني نحن الآن نذهب بإجازة شرعيّة.

 

فأخذت نفساً عميقاً وارتحت وقُلت: لو أنّك قُلت هذا منذ البداية! الآن ارتاح بالي.

 

فابتسم ابتسامة ذات معنى ولم يقل شيئاً، فذهبنا واختلطنا ببقيّة القوّات، وكُنّا مثلهم ننتظر أوامر الهجوم.

 

كانت الأجواء كعلاقة الذئب والحمل. فقريباً من وقت الصباح كانت الاشتباكات شديدة، وحتّى إنّنا في بعض الأماكن كُنّا قد وصلنا إلى قتال الأفراد، أحياناً بالحربة

 

214


207

تراب كوشك الناعم

 والسكين، وأحياناً بالقنبلة اليدويّة، كُنّا نُرسل قوّات العدوِّ إلى الدرك الأسفل من النار ونتقدّم من موقع إلى موقع.

 

خلال الاشتباكات، كُنت أسعى ألّا أُضيِّع عبد الحسين. ذهبنا إلى جانب نهر أروند وإلى جمارك خرّمشهر، كُنّا نجتاز مواقع العدوّ ونخلِّفُها وراءنا. وكان العراقيُّون يفرُّون، بسرعة وذلّة، أو أنّهم كانوا يضعون أيديهم فوق رؤوسهم ويستسلمون.

 

وصلت الاشتباكات إلى أوجها قرب المدينة، وكان الشباب يتقدّمون مثل السيل الجارف، ولم يكن يقف بوجههم أيُّ من ال (ترفندهاي) العدوّ. كانت بعض المواقع تُقاوم آحاداً ومنفردين. فسقط هؤلاء كلُّهم أيضاً بحول الله وقوّته.

 

عندما تحرّرت خرّمشهر كانت الشمس قد طلعت، وكان لهواء الصباح لطافةٌ عجيبة، وكُنت متوتِّراً مثل باقي الشباب، لا نستطيع أن نقف على أقدامنا ونكاد نطير. كان الكثير منهم قد سجد لله شكراً وهم يبكون بكاءً من عميق قلوبهم. وفي الواقع كُنت متحمِّساً كثيراً كمن لا يعرف رأسه من قدميه، وكُنت أعدُّ اللحظات لأدخل إلى المدينة. وبالرغم من كلِّ هذا الجهد والعذاب، فقد كان المسجد الجامع مازال واقفاً مكانه، كُنت أتمنّى أن أكون من أوائل الّذين يُصلّون لله شكراً هناك. كُنت أرى بوضوح ثمرة دماء الشهداء، وكانت دموع الشوق تترقرق في العيون.

 

في هذه الأثناء كان عبد الحسين أيضاً، متحمِّساً كثيراً كمن لا يعرف رأسه من قدميه. كثيرون من المقاتلين كانوا يركضون بدون تباطؤ باتجاه المدينة. للحظة ضغطت على السلاح الّذي بيدي ونويت أن أركض أنا أيضاً. وعندما كُنت أحاول أن أدخل إلى داخل المدينة، وإذ بأحدهم يُمسك بيدي من الخلف، كدت أقع! فالتفتُّ ونظرت بحيرة. كان عبد الحسين يسألني: إلى أين؟

 

في تلك اللحظة، لم يكن بالنسبة إلَيّ أيُّ شيء أعجب من هذا السؤال. فقلت وتكاد عيناي تخرج من حدقتهما: حسناً معلوم، أنا داخل إلى المدينة!

 

215

 


208

تراب كوشك الناعم

فقال بأعصاب باردة: دع هذا لوقت آخر.

 

قُلت: ماذا يعني هذا؟ لا أفهم قصدك يا حاجّ!

 

قال: يجب أن نعود إلى الكتيبة.

 

فقُلت: هل هذا هو وقت المزاح؟!

 

أردت أن أُتابع طريقي، فأمسك بي مجدّداً. وفهمت من نظرته أنّه مصمّم بشكل جدّيّ وكامل. قُلت معترضاً: نذهب بعد ساعتين يا حاجّ، وكما قُلت أنت: كلُّ شيء في الكتيبة تمام.

 

فتذكّرت نقطة أخرى، فتابعت: وإذا كان من الممكن أن تحصل أيّةُ مشكلة فإنّها كانت سوف تحصل في عتمة الليل، والآن نحن في وضح النهار، ولا توجد أيّة مشكلة.

 

قال -وكأنّه مُعلِّم يُريد أن ينصح تلميذه-: لا، لقد أعطيت قولاً لقائد اللواء إنّه بعد العمليّات مباشرة، سوف أصل إلى الكتيبة في أوّل فرصة، أعني أنّنا بعد الآن ليس معنا إجازة شرعيّة، وكلُّ وقت نبقاه هنا، فهو مخالفة.

 

فقُلت وأنا منزعج وقلبي مقفول: إنّ السيِّد "كلاه كج" لن يقول شيئاً إذا ذهبنا متأخِّرين ساعة.

 

قال: لا شغل لنا بأحد، نحن يجب أن نعرف واجبنا، أنا أحبُّ كثيراً أن أذهبَ إلى هذه المدينة وأشمّ رائحة ترابها وأُقبِّله، ولكن هذا يُمكن فيما بعد.

 

فهيّأ درّاجة ناريّة بسرعة، وأتى بها ووقف إلى جانبي، وقال: اركب بسرعة سوف نتأخّر.

 

وما زلت لم أُصدِّق، فنظرت بحسرة إلى المدينة، وقُلت هامساً: كانت أمنيتي على الأقلِّ أن أرى المسجد الجامع.

 

فابتسم وقال: إن شاء الله سوف تتحقّق أمنيتك فيما بعد.

 

فركبت خلفه، وكان ألف فكر وخيال يؤذيني، فأدار الدرّاجة وعدنا إلى مكان الكتيبة.

 

وعندما وصلنا إلى خطِّنا، كان الراديو ما زال لم يُذع خبر تحرير خرّمشهر، فلم

 

216

 


209

تراب كوشك الناعم

 يتأخّر عبد الحسين، ومرّ على كلِّ المواقع والمتاريس ونقل إلى الجميع الخبر السعيد.

 

بعد مُدّة ذهبنا إلى منطقة "سومار" و"نفت شهر". كان من المفترض أن يكون عندنا عمليّات في تلك الأنحاء5.

 

ذات ليلة عرفنا أن "آهني" وعدداً آخر من شباب اللواء 21 الإمام الرضا عليه السلام دخلوا إلى مدينة مندلي العراقيّة، والظاهر أنّهم كانوا في عمليّة استطلاع. وعند عودتهم كشفهم العدوُّ، وحين المواجهة داس "آهني" على لغم، وربمّا أصيب بطلقة أيضاً، وعلى كلِّ حال فقد استشهد وبقي جسده الطاهر هناك.

 

مضت عِدّة ليالٍ ولم يأت خبر عن إحضار الجسد. وذات ليلة أتى عبد الحسين إليّ وقال: إنّ الشهيد "آهني" له حقٌّ برقبتنا، ونحن أيضاً كُنّا أصدقاء حميمين له.

 

فحدست أنّه ربّما يوجد في رأسه فكرة، فقُلت: كيف؟

 

فقال: هيّا لنذهب ونُحضر جسده.

 

قُلت: إنّ المنطقة حسّاسَة جدّاً، يجب أن ننسى هذا الموضوع.

 

قال: لنُحاول الآن، إذا استطعنا سوف نُحضره.

 

قُلت متردّداً: يقولون: إنّ موقعه خطر جدّاً، لا يُمكن.

 

ولكنّه لم يصرف النظر عن هذه الفكرة، وكان مصمِّماً على الذهاب. وأخيراً ذهب وأخذني معه.

 

في البداية ذهبنا إلى معسكر اللواء 21 الإمام الرضا عليه السلام ، وتحدّثنا في الموضوع، فقالوا لنا: بعد أن كلّمتُهم. قالوا: لا يُمكن يا سيِّد برونسي، لقد أرسلنا عدّة أفراد، وعادوا خالي الوفاض.

 

فأصرّ عبد الحسين على الذهاب، فقالوا: لقد فخّخوا جسده، وضعوا فيه لغم

 


5- بعد ذلك ألغيت العمليَّات لأسباب.

 

 

217

 


210

تراب كوشك الناعم

 لا يُمكن لمسه، ومنطقته منطقة سيِّئة، وهي بالدقّة تحت مرمى نيران العدوِّ.

 

قال: الآن سوف نُحاول، وإذا كُنّا نستطيع أن نُحضره، فسوف نُحضره، وإذا كُنّا لا نستطيع، عندها لن نستطيع فلا حول ولا قوّة إلا بالله.

 

لم أدر ماذا كان يُريد من هذا الإصرار، ولكِنِّي فقط أعلم أنّه لا يتعامل مع أيِّ موضوع بدون دليل.

 

في تلك الليلة اقتربنا من الجسد لعدّة خطوات، كان يحول بيننا وبين جسد ذلك الشهيد الكبير "آهني" أسلاك شائكة، فتمدّدنا على الأرض، وأراد عبد الحسين أن يتقدّم، فتمسكّت به، قُلت: إلى أين يا حاجّ؟!

 

فنظر إليّ بتعجُّبٍ قائلاً: حسناً أنا ذاهب لأُحضره.

 

كان في تلك الأوقات عندما تقع عيناه على جسد شهيد فإنّه يفقد صبره، خصوصاً عندما يكون على معرفة سابقة بذلك الشهيد. قُلت: إذا لمست هذا الجسد فإنّه سوف ينفجر.

 

فنظر إلى أسفل الجسد، وتابعت كلامي: من المعلوم أن أعداء الله هؤلاء قد فخّخوه، يكفي أن تلمسه حتّى نطير نحن الاثنان في الهواء، وإذا بقينا أحياء فإنّ موقع العدوِّ سوف يقضي علينا.

 

لاقى كلامي تأثيراً عليه، فقال: صحيح ما قاله الشباب، لا يُمكن أن نفعل أيّ شيء.

 

كان لحن صوته ينمُّ عن غمٍّ شديد، فتأوّه ووضع رأسه على الأرض، وقال بهمس: هذا ليس من عادتك، أن تذهب وحدَك! وأنا أيضاً أُريد أن آتي.

 

قال هذا وبدأ يُناجي الشهيد آهني. كُنت أعلم مدى حرقته في داخل قلبه، وأعلم أيضاً إلى أيِّ حدٍّ شوقه إلى الشهادة. ولهذا لم ألحّ عليه كثيراً، وكانت كلُّ حواسّي مركّزة في الأطراف حولنا. ابتعدت عنه قليلاً لأكون منتبهاً لأيِّ شيء قد يحصل، فقد كان موقعنا خطراً كثيراً، ولكِنِّي قُلت في نفسي: الحاجّ معه حقّ!

 

لم أدر كم مضى من الوقت، كُنت قلقاً كثيراً لأجل الحفاظ على حياته. لم يكن

 

218

 


211

تراب كوشك الناعم

من الممكن أن نبقى معَطّلين أكثر من هذا فذهبت إلى جانبه وقُلت له هذا، فكان وكأنّه يبتعد عن أعزِّ أبنائه، وبصعوبة بالغة، استعدّ للعودة.

 

كان ساكتا في الطريق ولم يتكلّم، قد سيطر الغمُّ على وجهه وكلِّ وجوده. وكُنت أعلم أنّ هذا بسبب عدم إحضار جسد الشهيد "آهني"، فقُلت له: لماذا أنت منزعج؟ إنّ الشهيد آهني قد وصل الآن إلى أجره وثوابه، وإذا كانت الظروف لا تسمح الآن بإحضار جسده، فإنّ الغضب والغمّ لا يُمكن أن يفعل شيئاً.

 

وكأنّه قد غاص في فكر عميق، ففتح شفتيه بهدوء عن بعضهما، وقال كمن يُحدِّث نفسه: إذا رأت أسرة الشهيد جسد عزيزها فإنّه أفضل لها، ياليتنا استطعنا إحضاره بأيِّة طريقة.

 

قُلت: إذا كُنت أنت استشهدت، فهل ترضى أن يستشهد أحدٌ من أجل إحضار جسدك؟

 

فأخذ حديثه منحىً آخر، وقال: أتمنّى أنّني عندما أستشهد أن لا تُرى جثّتي أصلاً، أي: أن لا يبقى منها أيُّ أثر.

 

ففهمت أنّ حواسّه في مكان آخر، فأمسكت بيده. وقُلت: إذن كيف تقول للآخرين؟ إذا لا سمح الله استشهدت، فهل أن عائلتك بدون قلب كي تتحمّل أن لا ترى جثّتك؟

 

وفجأة انتبه إلى نفسه، فابتسم وقال: لا يا عزيزي نحن لن نستشهد، نحن الآن إن شاء الله في ركاب حضرته عجل الله فرجه الشريف6.

 

مرّتان، أو ثلاثة كان يتحدث عن كيفيّة استشهاده، ولكن عندما يُصبح الكلام جدّيّاً فإنّه يُغيِّر الموضوع، ولكن كان عندي يقين بأنّه يعلم تاريخ، وحتّى مكان استشهاده، كما كان عندي يقين بعلاقته وارتباطه الخاصّ بحضرات الأئمّة عليهم السلام.

 


6- كان قصده الوجود المقدّس لحضرة صاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف.

 

219

 


212

تراب كوشك الناعم

في ليلة عمليّات والفجر التمهيديّة، كُنّا في منطقة مفتوحة، وكان والد عبد الحسين قد جاء إلى هناك لتوديعنا، فأخذنا له صورة تذكاريّة، كان عبد الحسين يقول: أُحبُّ كثيراً أن آخذ أبي إلى العمليّات ليستشهد.

 

كان عجوزاً، ولكنّه لم يكن راضياً، فسألته عن السبب، قال: أنا أمشي بصعوبة، أُحبُّ أن آتي ولكِنِّي أخاف أن أُعيق البقيّة، فأنا أحتاج إلى شخصين ليسنداني من تحت إبطي.

 

على كلِّ حال تقرّر أن يبقى هو ونذهب نحن، وعندما أطمأننت إلى أنّه لن يأتي فاض بي حسُّ الفكاهة، وكان سمعه ثقيلاً، فقُلت له بصوت عالٍ: إذا ذهب عبد الحسين واستشهد، فماذا توصي؟

 

فضحك عبد الحسين، ولكن والده غضب وَقَطّبَ حاجبيه، وقال: لا، إنّ ولدي لن يستشهد.

 

التفت إليّ عبد الحسين وقال ضاحكاً: لأنّ مكانه آمن فهو يظنُّ أنّنا نحن أيضاً آمنين وما من خطر يُهدِّدنا.

 

كان الشباب مشغولين بالحديث، ولكن أحداً منهم لم يكن يتحدّث عن الدنيا، بل كان كلُّ الكلام عن الشهادة وعن الآخرة، ووصاياهم للباقين. لا أستطيع أن أصف حماسهم وشغفهم. حتّى إنّ بعضهم كان يتكلّم وهو ينتحب باكياً.

 

ذهبنا أنا وعبد الحسين إلى ناحية، وما زلت أذكر أنّ عمليّات والفجر التمهيديّة كانت حسّاسة في منطقة فكّة. والأكثر حساسيّة كانت مأموريتنا، فقد كان يجب أن نضرب محطّة طاوُوسيّة العراقيّة. وفي هكذا مواقع حسّاسة، كان عبد الحسين يوصي أكثر بعائلته، وهناك أيضاً بدأنا نتحدّث بهكذا أمور، وأحياناً كُنّا نمزح، وأحياناً أخرى يكون حديثنا جدّيّاً.

 

كُنّا مشغولين لعدّة دقائق، وفجأة قذفني من مكاني صوت انفجار قذيفة! كأنّها كانت من جهة العدُوِّ. فركضنا بسرعة إلى موقع الانفجار، كانت محاسن عجوز خطّه الشيب، قد تلطّخت بالدماء، والشظايا قد مزّقت قلبه وضلعه. كان وضعه وخيماً، ولا يُمكن أن تَمَسّه بيدك، وكان ينزف بغزارة، فتساءلت في نفسي عن سبب عدم انقطاع سيلان دمه؟!

 

 

220


213

تراب كوشك الناعم

فقد أرسلنا بسرعة إلى خلف الجبهات اثنين أو ثلاثة آخرين من الشباب ممّن كانوا قد جُرحوا، ولكن لم يكن من الممكن أن نُحرِّكه من مكانه، وكان يقضي آخر لحظات عمره، فجلس عبد الحسين إلى جواره، ورفع له رأسه ببطء ووضعه في حضنه، وقبّل جبهته، فقال العجوز بصوت متهدِّج: كُنت أُريد أن أُشارك في العمليّات وأن أستشهد هناك، ولكن....

 

فاجتمعت الدموع في عينيه وهو في هذه الحالة، فتابع عبد الحسين جملته قائلاً: ولكنّ الله طلبك قبل العمليّات، وهو يأخذك الآن.

 

فأخذ العجوز نفساً بصعوبة، ثمّ فتح شفتيه مجدّداً، فتأوّه، وقال: كُنت أُحبُّ كثيراً أن أُشارك وأستشهد في العمليّات!

 

كان الغمُّ والحزن قد أخذ من وجه عبد الحسين الرجوليّ كلّ مأخذ، ولكنّه حاول أن يُحافظ على معنويّاته، وقال: يا والدي العزيز! أنا مستعدٌّ الآن أن أُجريَ معك معاملة.

 

قال: ماذا؟

 

قال عبد الحسين: في أيِّ مكان أستشهد فيه أنا يُسجِّلونه باسمك، والآن وأنت تستشهد هنا، يُسجِّلون هذا المكان باسمي.

 

فبدت على وجه العجوز ابتسامة باهتة، وقال: هل أنت واقعاً تُجري معي هذه المعاملة؟

 

قال عبد الحسين: حتماً! لم لا.

 

وكأنّ العجوز بوضعه هذا قد أسعده هذا الكلام، فسأله: لماذا؟

 

قال عبد الحسين: لأنّك بهذا السنِّ، أتيت إلى هنا، وهذا يُساوي مئة عمليّة أقوم بها أنا بهيكلي هذا وبنيتي هذه، الآن ونحن على بعد عدّة خطوات من العدوِّ، وحتّى لو أنّك استشهدت في الأهواز فإنِّي سوف أُجري معك هذه المعاملة.

فبكى العجوز، فقال وهو على آخر رمق: لا، مكانُ شهادةِ كلِّ واحدٍ ملكُه.

 

وأردت أن أُشارك في الحديث، فقُلت له: ياحاجّ لا تندم، المعاملة جيِّدة.

 

قال: لا، لكلّ واحد ملكه، لكلّ واحد ملكه.

 

 

221


214

تراب كوشك الناعم

قال هذا وبدأ بقراءة شهادة الموت والتكبير، والحديث مع الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ بعد ذلك أبكى الجميع عندما سلّم على الأمّ المكسورة الضلع، وعلى حضرة المولى أمير المؤمنين والأئمّة واحداً واحداً (صلوات الله عليهم أجمعين)، حتّى وصل إلى الاسم المقدس لإمام الزمان عجل الله فرجه الشريف فأراد أن يجلس، ولكنّه لم يستطع، وقال وهو في آخر رمق: السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين.

 

ثمّ أسلم الروح بهدوء.

 

كان المنظر عجيباً، فالتفت عبد الحسين إلى الشباب قائلاً: إنّ هذه اللحظات هي لحظات للعبرة، إنّ تسليم الروح بهذه الراحة، لا يكون نصيب أيٍّ كان.

 

وبعد دقائق أرسلنا الجُثّة إلى خلف الجبهات...

 

في تلك العمليّات دستُ على لغم فأرسلوني بسرعة إلى خلف الجبهة، وكُنت في إحدى المستشفيات طريح الفراش. ثمّ علمت فيما بعد بأنّ وضع قدمي تسوء جدّاً، ولم يبق وسيلة إلا قطعها، فقطعوها.

 

ومنذ ذلك الحين لم أوفّق لأكون في الجبهة مع عبد الحسين قدماً بقدم وأُشارك في الحرب.

 

بقيت في مشهد لثمانية أو تسعة أشهر حتّى تحسّن وضعي، وركّبوا لي أيضاً قدماً صناعيّة، وفي تلك المُدّة كان عبد الحسين يزورني كلّما أتى في إجازة، وكان يُصِرُّ كثيراً على أن أذهب إلى الجبهة من جديد، وكان يقول: الآن وقد خسرت رِجْلاً، أرجو أن لا تُفكِّر في أن تبقى في المدينة.

 

كُنت أقول مازحاً: آتي إلى الجبهة برِجلٍ واحدة! لأفعل ماذا؟

 

وهو يقول: هناك يوجد مقرٌّ، يوجد أشياء أخرى، أنت تعالَ يوجد عمل كثير لك.

 

وكان هذا قصدي أنا أيضاً، ثمّ شيئاً فشيئاً ذهبت إلى الجبهة. ولكن عملي في هذه المرّة كان في المقرّات، ضابط إدارة، وقبل عمليّات بدر بالضّبط، كانت بعهدتي مسؤوليّة مقرّ النجف، في إسلام آباد غرب.

 

قبل العمليّات بيومين أو ثلاثة، لا أدري ما الّذي حصل، فقد طرأ على رأسي

 

222

 


215

تراب كوشك الناعم

حنين لرؤية عبد الحسين، فيسّرت الأمور الإداريّة، وذهبت إلى محلِّ استقرار لواء الإمام الجواد عليه السلام خصوصاً لرؤيته.

كان محيط منطقة عمل اللواء وسيعاً جدّاً، فسألت عِدّة أنفار عن عبد الحسين، فكانوا لا يدرون أين هو. وفي النهاية أشار أحدهم إلى مكان المراقبة وقال: إنّ الحاجّ هناك يحلق ذقنه.

 

فذهبت فوراً إلى هناك. كان يجلس على كرسيّ ويلفُّ حول رقبته قماش. وكان أحد شباب التعبئة يُشذِّب له لحيته. أشرت إليه عندما وقع نظره عليّ أن لا يقول شيئاً. كُنت أُحبُّ أن أُفاجئ عبد الحسين. فتابع عمله ولم يقل شيئاً.

 

كان يفصلني عن كرسيِّه خطوتان لا أكثر، فقال عبد الحسين للحلّاق: شذّبت لحيتي قليلاً، قصِّرها قدر ما تستطيع، وارسم لحيتي جيّداً تحت عنقي وعلى وجنتيّ نظّفها جيّداً.

 

فاتّسعت حدقتا الحلّاق من الدهشة، وابتسم ابتسامة مُصطنعة وقال له: على ما أذكر يا حاجّ أنتم لا تقبلون أن تُقصِّروا لحيتكم كثيراً وحتّى رقبتك ووجنتاك فأنت لا ترضى أن أُقرِّب الشفرة إليها، هل حصل شيء لتقول هذا؟

 

فأجاب عبد الحسين ضاحكاً: أنت نظّف، ولا شغل لك بالباقي.

 

وتابع الشاب عمله وقال: حسناً نحن نُريد أن نعرف يا حاجّ، لا عيب في المعرفة.

 

فسوّى عبد الحسين جلسته في الكرسيّ، وقال: يا عزيزي، عندما تُنظِّف خلف الرأس وتحت العنق جيّداً، هذا حسنٌ لوضع "الماسك"7 ، فإنّه يلتصق جيّداً، بحيث إنّ الهواء لا ينفذ إلى داخله، وهكذا فمهما يرمي العدوّ أسلحة كيميائيّة، يستطيع الإنسان أن يستقيم ويُحارب.

 

رأيت من نظرة الحلّاق كأنّه زاد تعجبُّه، وقال: يا حاجّ أُريد أن أقول شيئاً إن لم تكن جسارة عليكم.

 

قال: تفضّل.

 


7- القناع الواقي من الغازات.

 

 

223


216

تراب كوشك الناعم

قال الحلّاق: الحقيقة نحن شباب التعبئة نذكر اسمكم تحت عنوان الشهامة والشجاعة، والجميع يعرف أنّ العراق قد وضع جائزة من أجل الحصول على رأسكم ويقولون عنكم "بروسلي" ويذكرونكم دائماً بالسوء.

 

فدار إلى هذا الجانب من الكرسيِّ ثمّ تابع عمله، وأضاف: وعلى هذا الأساس، فأنتم يجب أن لا تخافوا.

 

قال عبد الحسين: للمصادفة أنا أخاف، ولكن ليس من الحرب، أنا العبد أخاف من الموت الرخيص، مثلاً إذا كُنت داخل خندق وكُنت أتحدّث باللاسلكيِّ وفجأة يرمي العدوُّ كيميائيّ ومتُّ هناك، في هذه الحالة ماذا أكون قد صنعتُ من أجل الحرب؟

 

لم يقل الحلّاق شيئاً، فتابع عبد الحسين كلامه وقال: إذا وضعت "الماسك" ودائماً أقفلته جيّداً ولم أدع ذرّة من الهواء تنفذ إلى داخله، في ذلك الوقت أستطيع أن أُحارب إلى آخر لحظة وأُدير وضع الكتيبة بشكل جيِّد، المقاتل الجيِّد يجب أن يُبعد عنه القتل ما استطاع.

 

كُنت أحسّ بلذّة كلامه كالعادة، فقد كان ملفتاً بالنسبة لي أن يُحدِّث قائد لواء أحد شباب التعبئة هكذا من صميم القلب، وذلك القائد اسمه على لسان الخاصّ والعامّ، ومعروفٌ بأنه كاسر خطِّ الدفاع الأوّل.

 

أردت أن أُتابع الاستماع إلى بقيّة كلامه، ولكن على بُعد عدّة خطوات من الطرف الآخر وقع نظري على "درويشي"8 ، وبمجرّد أن رآني، صاح بصوت عالٍ: يا للعجب! السيِّد حسيني.

 

وبمجرّد أن سمع عبد الحسين هذا، وقف على طوله دفعة واحدة ولم يبال بعمل الحلّاق، فوقع الشعر على قدميه وعلى الأرض، وتقدّم وهو بهذا الوضع وضمّني إلى صدره وبدأنا بالسلام والسؤال عن أحوال بعضنا. وأمّا السيِّد درويشي فأتى إلى جانبنا. رحمه الله. وقال باسماً: يكفي يا سيِّد برونسي، نحن أيضاً نُريد أن نُسلِّم على السيِّد.

 

 


8- قائد إحدى كتائب اللواء، وقد استشهد في تلك العمليَّات.

 

224


217

تراب كوشك الناعم

وشيئاً فشيئاً أتى وحيدي وأرفعي9 ، واثنان وثلاثة آخرون من الشباب. فسألني عبد الحسين: منذ متى أنت واقف هنا؟

 

فابتسمت وقُلت: منذ عدّة دقائق، كُنت أستمع إلى خطابكم.

 

فربت على كتفي وقال: آه يا عزيزي، أتيت للتَوِّ وبدأت، خطاب ماذا؟

 

فنظر إلى الحلّاق وقال: يا حاجّ لماذا لم تقل: إنّ السيِّد يقف خلفي؟

 

قال: هو الّذي أشار إليّ أن لا أقول شيئاً، لم أكن أعلم أنّك تُحبُّه إلى هذا الحدِّ وإلّا لكنت قُلت لك بسرعة.

 

قال عبد الحسين: انتظر لأُنهي عملي، ومن ثمّ أنا في خدمتك.

 

جلس على الكرسيّ وبعد عدّة دقائق أتمّ الحلّاق عمله. فذهبنا إلى خيمة القيادة مع السبعة أو الثمانية الّذين أتَوْا، وشربنا الشاي وجلسنا نتحدّث.

 

بعد مضيّ عِدّة دقائق، قال لي: للمصادفة أنا كُنت محتاجاً إليك، أرسلك الله.

 

وقف، ووقفت أنا أيضاً، وسلّمت على الشباب وخرجنا من الخيمة، ذهبنا إلى زاوية نائية بحيث لا يسمعنا أحد. وعندما جلسنا وارتحنا في مكاننا، ذهبت البسمة عن شفتيه، واتخذ وضعاً جدّيّاً وبدأ بالحديث.

 

في ذلك اليوم، تحدّث إلَيّ قرابة ساعة ونصف، وكان كلُّ حديثه وصِيّة. فقد كان يوصي، أكثر من أيِّ شيء آخر، بعائلته وأولاده. وكان يقول: من بعدي، أنت بحكم الوالد لهم، وإذا كُنت سوف تُقصّر معهم، فتأكّد بأنِّي يوم القيامة سوف أُطالبك!

وتحدّث حتّى عن المسائل الدقيقة والحسّاسة، فكان يوصي مثلاً بأنّ الشيء الفلاني في البيت، تأخذه من المكان الفلاني وتفعل به كذا.

كُنت أقول: ما الخبر يا حاجّ الآن؟! سوف نرى بعضنا بعد ذلك.

فيقول: في النهاية الوصِيّة جَيِّدة.

وكُنت أقول له: كُنت قبل الآن عادة ما تتحدّث مثل هذا الحديث، إن شاء الله

 

 


9- استشهد الاثنان.

 

 

225


218

تراب كوشك الناعم

 تبقى صحيحاً وسالماً ولا يحدث شيء.

 

فأجابني: لا، كأنّه قد وصل الدور إلينا أيضاً10.

 

لا أدري في تلك اللحظات، فإمّا عشقي لعبد الحسين كان يمنعني من قبول الحقيقة، وإمّا أنّ الغفلة قد أخذتني ولم تدعني أفهم أنّه بكلامه الواضح هذا وضوح الشمس، يُريد أن يقول: أنا الآن ذاهب!

 

أصلاً إنّ وجهه كان يصرخ في تلك العمليّات، أنّه سوف يستشهد، ولكن قبول هذا كان ثقيلاً عليّ. ولو أنِّي كُنت على يقين بأنّ عمليّات بدر، هي عمليّاته الأخيرة، فإنِّي لم أكن لأتركه بهذه البساطة. على الأقلِّ كُنت لآخذ عليه تعهُّداً صافياً ليشفع لي ويُسامحني.

 

ثمّ علمت بعد ذلك أنّه قد أخبر الكثيرين أنّ شهادته قطعيّة، فكان غمّي وغصّتي مضاعفة. وكُنت أتحسّر، ولكن، كان قد فات الأوان.

 

في وسط عمليّات بدر، أعطوني مَهَمّة إعداد تقرير عن المنطقة، لا أدري كيف وصلت إلى الخطِّ المتقدِّم، وكان أكثر همِّي أن أرى عبد الحسين.

 

وصلت إلى قرب الخطّ، فرأيت "حجازي"، فسألته: أين السيِّد برونسي؟

قال: داخل الخطّ المتقدِّم، متقدِّمٌ على الجميع!

قُلت: ألا أستطيع أن أذهب لأراه؟

قال: لا، أصلاً لا يُمكن.

 

فانقبض قلبي بشكل كبير، وقُلت: لماذا؟

 

قال: إنّ وضعيّة الخطِّ معقّدة جدّاً، وكان العدوُّ قد قام بعدّة هجمات مضادّة.

 

في تلك الأثناء، كان أحدهم يركض، أتى إلى قرب "حجازي"، وقال وأنفاسه تتقطّع: السيد برونسي... اللاسلكيّ....

 


10- في تلك اللحظات، كان يوصيني وكأنَّه كان على يقين بأنِّي سوف أبقى حيَّاً. حتَّى إنَّني أذكر أنِّي قلت له بمزاح، ربما أنا أذهب قبلك.

فابتسم ابتسامة ذات معنى وهو يجيبني وقال: لا، إن شاء الله سوف تبقى سنوات طوال حياً.

 

226


219

تراب كوشك الناعم

ركض "حجازي" إلى ناحية موقع الإشارة، وركضت أنا بقدمي الصناعيّة، وقبل أن أصل كان الاتّصال قد قُطع11، وكانت أوضاع شباب الاتّصالات مضطّربة، فظننت أنّه قد حصل سوء لعبد الحسين، فسألتهم، فقالوا: برونسي، وحيدي، أرفعي، وعدد آخر من القادة، موجودون في تقاطع الخندق.

 

قُلت: حسناً هذا ليس مزعجاً.

 

قالوا: لقد أتى أمر من المراتب العليا أن ينسحبوا إلى الخلف، ولكنّ الحاجّ برونسي لم يقبل!

 

فقُلت بحيْرة: لم يقبل؟!

 

كان هذا مثيراً للعجب، فعبد الحسين كان لا يتمرّد على أوامر المراتب العليا في أسوأ الظروف وأحسنها. كان مراراً وتكراراً يهتم لسلسلة المراتب العليا ويقول: إطاعة الأعلى منك إطاعة للإمام.

 

على هذا الأساس فإنّ المسألة لم تكن قابلة للهضم بالنسبة لي، فسألت الشباب عن السبب. قالوا: العدوُّ يشنُّ هجوماً من كلِّ الأطراف، ورأس حربة هجومنا، متمركز تماماً في تقاطع الخندق، ويوجد كتيبتان في الجناح الأيمن والأيسر لم ينسحبوا بعد، ويقول السيد برونسي: إذا أخلينا تقاطع الخندق، فإنّ كلّ الشباب، إمّا سوف يستشهدون وإمّا سوف يؤسرون، في الواقع فإنّهم قد اشتروا حياة الكثير من الشباب، ولهذا كان يقول السيِّد برونسي: سوف نُقاوم حتّى آخر طلقة.

 

الظاهر أنّ آخر شخص كان قد رجع من الخطِّ المتقدِّم، "قانعي"، معاون اتّصالات عمليّات الكتيبة. كان يقول: لقد رأيت بنفسي جُثّة الشهيد برونسي.

 

كان نادماً ويُعنِّف نفسه. في تلك المعمعة، استطاع "قانعي" أن يحضن جُثّة عبد الحسين ويأتي باتجاه خطِّنا الدفاعيِّ. ولكنّ العدوّ تعقّبه إلى منطقة تُشبه المستنقع، وأصاب رجله، فوقعت جُثّة عبد الحسين رَغماً عنه، واستطاع بالكاد

 


11- كانوا قد سجّلوا آخر حديث لهذا الشهيد العظيم برونسي على شريط. وفيما بعد عندما استمعت إلى شريطه، علمت الموضوع بدقَّة، وأنَّه كم أظهر هذا الكبير من نفسه إيثاراً وفداءً. 

 

227


220

تراب كوشك الناعم

 أن ينجو بنفسه من تلك المهلكة. وهو الآن منزعج كثيراً لأنّ الجُثّة سوف تُصبح مفقودة. كان يقول: ليتني تركته ولم أمَسّه، عندها سوف يكون هناك أمل بأن نُحضر الجُثّة، ولكن الجُثّة وقعت هناك، حتماً.....

 

في تلك اللحظات، تذكّرت كلام عبد الحسين، عندما كُنّا ذاهبين معاً لنُحضر جُثّة الشهيد "آهني" ولم نستطع. كان يقول في طريق العودة: أتمنّى أن تبقى جثّتي وأن لا تُرى، أعني أن لا يبقى أيُّ أثر منّي.

 

 

228


221

تراب كوشك الناعم

صحراء وانفساه

معصومة سبك خيز

كان السكوت الثقيل يملأ كلّ مكان، وكان الأولاد قد ناموا جميعهم. وأنا كُنت أهيِّئ نفسي شيئاً فشيئاً للنوم.
 

فوصل إلى سمعي في عتمة الليل صوت هادئ. كان من داخل الباحة الخارجيّة لمنزلنا، كان صوت إقفال الباب الخارجيِّ، وبكلِّ احتياط. ارتجف قلبي للحظة من السعادة، فعبد الحسين لم يأت في إجازة منذ ثمانين يوماً، وخرجت من البيت إلى الباحة لمجرّد فكرة أنّه يُمكن أن يكون هو.

كان ظنِّي في محلّه، فقد رأيته أمام الباب الداخلي للبيت، بابتسامته الدائمة، فسلّمنا على بعضنا وسألنا بعضنا عن أحوالنا، وقُلت بصوت يملأه الحماس: لأذهب وأُوقظ الأولاد.

فقال هامساً: لا، لا لزوم لإيقاظ الأولاد.

قُلت متعجِّبة: لماذا؟!

قال: دعيني أدخل، سأُخبرك.

فأخبرني بطريقة تجعلني لا أنزعج، بأنّه غداً في الصباح الباكر يجب أن يذهب إلى كاشمر، فقد تقرّر أن يُلقيَ خطاباً هناك أيضاً، وكان قد تواعد أيضاً مع القائد هناك، ثمّ قال: إن شاء الله، غداً بعد الظهر سوف أعود وآتي إليكم، هكذا أرى الأولاد أفضل وأشبع منهم أكثر....

 

بقي ساعة على أذان الصبح. استيقظت من النوم، وكان ضوء المطبخ منيراً، وكُنت متأكِّدة من أنّه عبد الحسين، فقد كان يصوم أكثر الأوقات عندما

 

 

229


222

تراب كوشك الناعم

يأتي في إجازة، ولم أذكر ولو لمرّة واحدة أنّه أيقظني لأَُحضِّر له السحور، أو لأصنع له الشاي، لأنّه كان يقوم بأعماله بنفسه.

 

قمت من مكاني، وذهبت إلى المطبخ. كان يحمل في صينيّة إبريق الشاي مع كأسين فارغين، فسلّمت عليه، فردّ سلامي بابتسامة ووجه صبوح، فأشرت إلى الصينيّة وسألته: إلى أين تأخذها؟

 

ابتسم وقال بهمس: يوجد أحد عبيد الله في الخارج ولا أدري أمسافرٌ هو أم من الزوّار، أُريد أن آخذ له الشاي، نكسب فيه ثواباً، اليوم صباح الجمعة.

 

أخذ الصينيّة وخرج، بدون أيِّ حسٍّ. وكان قد مضى عليه مدّة على هذه العادة، وهي القيام بهذه الاعمال كلّما كان يأتي في إجازة، فهو إمّا أن يأخذ الشاي إلى خارج البيت أو يأخذ فواكه وطعام. وكلّما كُنت أسأله: إلى من تأخذ هذه الأشياء كان يُجيبني بنفس الجواب. ومن الملفت أنّ كلّ هؤلاء المسافرين وعابري السبيل كانوا يملكون سيّارة1.

 

وعندما أذّن الصبح، صلّى وانطلق إلى كاشمر.

 

كان الوقت قرابة الظهر عندما أتى ابن الجيران وقال: السيِّد برونسي يتّصل بكم من كاشمر، وهو يُريد أن يُكلِّمك، ويقول: إنّ له معك شغلاً.

 

في ذلك اليوم كانت أنابيب الماء العامّة عند مفترق الطريق قد انكسرت وكُنّا بدون ماء منذ الصباح. وهذا ما أغضبني جدّاً. فقُلت في نفسي: حتما إنّه يتّصل ليقول: لا أستطيع أن آتي.

 

كان ابن الجيران ما زال واقفاً ينتظر، فقُلت له بانزعاج: اذهب يا ولدي العزيز وقل للسيِّد برونسي عن لساني: فليبق ما يشاء في كاشمر، عند عائلته، وليذهب أيضاً من هناك إلى الجبهة، لا لزوم لأن يأتي إلى البيت بعد هذا!

 


1-  كان دائماً معه مرافقان لحمايته، ومن أجل الفرار من الغرور، كان يقول عنهما: إنَّهما مسافران أو عابرا سبيل، ولم أعرف هذه المسألة إلَّا بعد استشهاده.

 

230

 


223

تراب كوشك الناعم

قرابة الغروب، جاءت المياه وكنت في الباحة الخارجيّة أغسل الأطباق. وفجأة رأيته قد أتى. فلم أهتمّ، وتظاهرت كأنِّي لم أره، فقد كُنت منزعجة منه كثيراً، حتّى إنِّي لم أرفع رأسي، فتقدّم مِنِّي وجلس القرفصاء. ثمّ ضحك وقال: لماذا أنت منزعجة إلى هذا الحدِّ؟

 

لم أقل شيئاً، وكنت كأنِّي آكل نفسي، فقال بصوت أكثر حناناً من ذي قبل: لماذا لم تُجيبي على اتّصالي التلفوني؟ هل تعلمين أصلاً لماذا اتّصلت؟

 

أيضاً لم أقل شيئاً، فقال: أردت أن آخذكم لعدّة أيّام إلى كاشمر.

 

بمجرّد أن قال هذا الكلام، فهمت أنّ العيب مِنِّي لأنِّي غضبت بسرعة، ولكنِّي لم أدرِ لماذا كان يزداد انقباض قلبي في كلِّ لحظة ولا يقلّ. ثمّ أتى الأولاد وأحاطوا به، فكان يُقبّلهم واحداً تلوَ الآخر ويسألهم عن أحوالهم، ثمّ دخل معهم إلى البيت.

 

أنهيت عملي وأدخلت الأطباق، فأتى إلَيّ، وقال بحنان وهو مبتسم: أنا لم آكل شيئاً منذ الصباح، لا بأس أن تُعِدِّي لي شيئاً لآكله.

 

أراد أن يُذيب ثلج انزعاجي، ولكِنِّي كُنت في عالم آخر! فلم أقل ولا كلمة، وذهبت إلى المطبخ، وحضّرت له صحناً من البيض، وناديت ابنتي فاطمة2 ، كان عمرها في ذلك الوقت ستّ سنوات وقُلت لها: تعالي خذي الطعام لبابا.

 

عندها لم يعد يتحمّل، فأتى إلى المطبخ وقال: بابا لم يعد يُريد شيئاً.

 

ثمّ توجّه نحو المشجب حيث كان قد علّق ثيابه، وقال بانزعاج وقلب مقبوض: الآن فاطمة تُحضّر الطعام لبابا؟!

 

فحمل أولاده، عبّاس وأبو الفضل، ولحق به الأولاد الباقون وخرجوا من البيت. لم أكن أُريد أن تصل الأمور إلى هذا الحدِّ، ولكن كان قد سبق السيف العذل.

 

بعد عدّة دقائق عاد الجميع، وأتت أمي أيضاً، فتيقّنت أنّها قد علمت، وأنّه

 


2- إسم ابنتي الأولى فاطمة توفيت قبل عدَّة سنوات، وكان عمرها عدَّة أشهر.

 

 

231


224

تراب كوشك الناعم

 قد ذهب ليشكوَني عندها. ودخلوا جميعاً، فذهبت بسرعة إلى غرفة أخرى، وكأنّ الغصّة الّتي تخنقني لعِدّة سنوات انفجرت، فانفجرت بالبكاء3 ، لا يُمكن أن يخرب الوضع أكثر من هذا.

 

سمعته بعد ذلك يقول لأمِّي: من حقِّها يا خالة! مهما انزعجت لها الحقُّ! أنا لست منزعجاً أصلاً منها! ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أتخلّى عن الجبهة، أنا مسؤول يوم القيامة.

 

وكأنّه وضع إصبعه على النقطة الحسّاسة، وكأنِّي فهمت للتَوِّ أنّ انزعاجي من كثرة ذهابه إلى الجبهات، فقالت أمِّي: تعالَ لنذهبَ إلى الغرفة لتُحدِّثها.

 

أتيا، فتجمّعت على نفسي، فجلس قبالتي، وقال: أُريد أن أتحدّث معك، اسمعي جيّداً ماذا أُريد أن أقول.

 

لم أرفع رأسي، أمّا أذني فقد كانت معه، فقال: كلُّ مسلم يعلم أنّ الإسلام بخطر الآن. وإذا أردت أن لا أذهب إلى الجبهة أو أن أذهب قليلاً، فأنا مسؤول غداً يوم القيامة، إذن، فإنّ عدم ذهابي إلى الجبهة مستحيل، ولا يُمكن أن يتحقّق.

التفت إلى والدتي، وتابع قائلاً: انظري يا خالة، أنا حاضر لأن أعطي البيت وكلّ الأثاث وحتّى أن أترك معطفي لابنتك، ثمّ آخذ أولادي وأذهب إلى الجبهة. ولكن بشرط واحد، أن تُعطيني ابنتك كلاماً.

 

ثمّ سكت، فسألته أمِّي: ما هو الشرط يا عزيز خالتك؟

 

قال: أن تذهب يوم المحشر ويوم القيامة، إلى حضرة فاطمة الزهراء عليها السلام وتقول لها: إنّ زوجي يذهب إلى الجبهة ويسير في طريقكم، لهذا السبب أنا طُلِّقتُ منه، وزوجي أخذ الأولاد وذهب.

 

بقيت أمِّي مبهوتة ومصدومة، ولم أكن أقلّ منها صدمة، وللحظة رأيت نفسي في الوضع الّذي يتحدّث عنه، متجسِّمة أمام حضرة فاطمة عليها السلام ، في صحراء وانفساه في المحشر!

 


3- قالت لي أمي في ما بعد إنَّه عندما انفجرت بالبكاء، ذهب اللون من وجه عبد الحسين وكأنَّ الغمَّ والغصَّة قد ملأت كلَّ وجودِه.

 

232

 


225

تراب كوشك الناعم

كأنّ كلّ وجودي قد انقلب عالياً سافلاً. والآن، أنا لا أستطيع أن أرفع رأسي من الخجل.

 

منذ ذلك الحين لم أعد أقول ولا كلمة، وكلّما أراد أن يذهب إلى الجبهة وكلّما كان يعود، كُنت راضية بشكل كامل.

 

كان قلبي مرتاحاً بإرضاء قلب حضرة الصدِّيقة الكبرى عليها السلام.

 

233


226

تراب كوشك الناعم

كفني

حُجّة الإسلام محمّد رضا رضائي

كُنت قد تشرّفت بالسفر إلى الحجّ من مدينة قم، وسافر هو من مدينة مشهد، فلم أكن أعلم بذهابه إلى مَكّة، وهو أيضاً لم يعلم بذهابي إلى مَكّة.

 

وفي مَكّة، كُنت في ذلك اليوم قد ذهبت إلى الطواف، وقد أضعت حذائي. وعندما أنهيت أعمالي، خرجت من المسجد الحرام حافي القدمين، فذهبت إلى السوق وسرت في شوارع مكّة الساخنة من شدّة الحرارة.

 

وفيما كنت واقفاً أمام أحد المحالّ لبيع الأحذية، وقد أردت أن أدخل، وقع نظري على شخص آت من بعيد. وقد أحسست من حركاته أنِّي أعرفه، فوقفت أنظر إليه متحيِّراً، بينما هو كان يجري باتِّجاهي مباشرة. وفي النهاية وصل إلى بُعد عشرين، أو ثلاثين متراً، فعرفته، وكان كما ظننت، الحاجّ عبد الحسين برونسي.

 

كان آتياً باسماً، وكُنت أعلم أنّ نظره حادّ، وأنّه كان قد عرفني من بعيد. وعندما وصل إلى بُعد عِدّة خطوات مِنِّي رأيت أنّ قدميه حافيتين أيضاً بدون حذاء! ومن أجل إحياء الذكريات القديمة، قُلت له: سلام، معلِّم عبد الحسين.

فقال بحرارة ومن صميم القلب: سلام عليكم.

 

تعانقنا وسأل كلٌ مِنّا عن أحوال الآخر، فنظرت إلى قدميه الحافيتين، وسألته: إذن أين حذاؤك؟

 

فقابلني بالمثل وسألني: وحذاؤك أنت أين؟

 

فأخبرته بضياع حذائي، فدهش. وعندما أخبرني قِصّة ضياع حذائه، تعجّبت أنا

 

234

 


227

تراب كوشك الناعم

 أيضاً، وقُلت له: عجيب ما هذه المصادفة! فنحن الإثنين، وفي مكان واحد، قد أضعنا أحذيتنا، وكان هو قد أتى من طريق وأتيت أنا من طريق آخر إلى السوق، فقُلت له: حسناً هيّا حتّى لا نؤذي أقدامنا أكثر من هذا.

 

فدخلنا إلى المحل، واشترى كلُّ واحد منّا زوج أحذية وخرجنا، فانتبهت للتَوِّ أنّه يحمل بيده شيئاً، فدقّقت النظر، فإذا به يحمل عِدّة أكفان من البُرد اليماني، فسألته: لمن هذه؟

 

فأخذ يقول عنها واحداً واحداً: هذا لأمي، هذا لأبي، هذا لأخي.....

 

كان قد اشترى أكفاناً لكثيرين، ولكنّه لم يشتر كفناً لنفسه؛ لأنّه لم يذكر اسمه، فسألته ضاحكاً: أين كفنك أنت؟

 

فنظر إليّ نظرة ذات مغزى، ثمّ ضحك وقال: وهل أُريد أن أموت موتة طبيعيّة حتّى أشتري كفناً لنفسي؟

 

ففاجأني جوابه! ربّما لم أكن أنتظر هكذا جواب. وما زلت أذكر جملته التّالية، عندما ضحك وقال: إنّ بدلتي العسكريّة هي الّتي يجب أن تكون كفني1 !

 


1- هذه الخاطرة تتعلّق بسنة 1362 (هـ.ش)، وبعد حدود سنة، شرب هذا القائد العظيم، افتخار حلاوة شهد الشهادة اللذيذ(سعدت روحه).

 

235

 


228

تراب كوشك الناعم

جبين الحياة

مجيد أخَوَان

كانت كتيبة عبدالله معروفة بكتيبة خطِّ المواجهة الأوّل، حتّى إنّها لم تكن ولا مرّة قوّات إسناد أو قوّات احتياط. فقط كانت كتيبة خطِّ الهجوم الأوّل. وما زلت أذكر يومها عندما كُنت مسؤول التخريب للفرقة، فقد أتى الحاجّ برونسي إلَيّ وقال: "أخَوَان"، هيِّئ شباب التخريب، حتّى يكونوا عند العمل جاهزين للمسير.

 

سألته: كيف؟

 

قال: لأنّ كتيبتي هي كتيبة عبدالله، أعني كتيبة خطِّ الهجوم الأوّل.

 

كان يقول الحقيقة، فقد كانوا دائماً يُكلِّفون كتيبته، بأبعد، وأتعب، وأصعب مسير للعبور في العمليّة. وكان اسم برونسي معروفاً عندنا على هذا الأساس، وعند العدوِّ أيضاً، فقد كان الراديو العراقيُّ لمرّات ومرّات يذكر اسمه بغيظ، ويشتمه، وجعلوا جائزةً ثمناً لرأسه مثل الشهيد "كاوه".

 

في إحدى العمليّات، وقع بيد العدوِّ خمسة شهداء وجرحى من كتيبة عبدالله، وفي تلك الليلة كُنّا نستمع إلى راديو العراق، وكان الخبر الأوّل الّذي يروونه بكلِّ فخر واعتزاز: لقد قضينا على كتيبة عبدالله بقيادة "بروسلي"!!1.

 

وبمجرّد أن سمعنا هذا، ضحكنا نحن الاثنين، بسبب تهويلهم، وقولهم: إنّهم قتلوا "بروسلي" وأكاذيبهم المهولة. وكان الحاجّ يضحك بصوت عالٍ، فقُلت له: إذن

 


1-  من أجل قولهم بروسلي، يوجد أحد احتمالين: إمَّا أن العدُوّ لا يعرف اللفظ الصحيح لاسمه، وإمَّا أنَّه يورد اسمه مثل الفنّانين أبطال الأفلام.

 

236

 


229

تراب كوشك الناعم

 لأذهب وأقول لهم أن يصنعوا من أجلك الحلوى لنُقيم لك مراسم ختميّة قرآن.

 

فقال ضاحكاً: أنا أيضاً يجب أن أذهب إلى قائد الفرقة وأقول له: أنا لست بعد الآن قائد كتيبة، بل قائد لواء.

 

بعد قليل أطفأنا الراديو، فقال بجدّيّة وبهدوء: أخَوَان، يوجد رصاصة كتب عليها برونسي، فقط تلك الطلقة سوف تُصيبني في جبهتي. لا تأتي رصاصة غيرها، مطمئنٌّ أنا مطمئنٌّ.

 

 

237


230

تراب كوشك الناعم

تقاطع الخندق

عبّاس تيموري

كان الحاجّ برونسي من الّذين نسوا ذاتهم! يُمكنني أن أقول هذا بدون مبالغة، حتّى إنّه حصل على التدريب القتاليّ الصعب القاسي، بالتوسُّل بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، فقد كان ارتباطه عجيباً بأولئك العظماء.

 

ما زلت أذكر قبل عمليّة رمضان، أنِّي كُنت إلى جانبه في القتال. في تلك الأوقات كانت هناك خاطرة تدور على الألسن، وكانت بالنسبة لي محلّ تأمل، خاطرة سُجِّلت في تاريخ الحرب الدقيق. كُنت أفكِّر في نفسي، إلى أيّ حدٍّ يجب أن يكون الإنسان عاشقاً ومخلصاً ليستطيع بإذن الله وعناية الأئمة الأطهار عليهم السلام في ساحة العمل القتالي والاشتباك مع العدُوِّ، أن يأمر الشباب بالعبور من حقل ألغام! ألغام حقيقيّة! حتّى ولا واحد منها قد أُبطل مفعوله بعد!

 

وكلّما بقيتُ في كتيبته، كلّما ازداد عشقي وحبِّي له، لقد كان حقّاً ما قالوه عنه من أنّه يشتري القوّات بأخلاقه وإرادته. لم أبتعد عنه حتّى عندما أصبح معاون قائد اللواء، وبعدها قائد اللواء.

 

لا أستطيع أن أمحو من فكري الأيّام الّتي سبقت عمليّة بدر، كان يقول في خطبه الصباحيّة، وكُنت أسمعه بأذني لعدّة مرّات: لم أعد أستطيع أن أُطيق هذه الدنيا، هذا يكفي لي.

 

وذات مرّة، وكان في جمع من الإخوان شديدي الاختصاص به، سمعته يقول: إذا لم أستشهد أنا في هذه العمليّة، فإنِّي سوف أشكُّ بكوني مسلماً.

 

238

 


231

تراب كوشك الناعم

كُنت في تلك الأيّام قائد الفصيل الثالث من كتيبة وليّ الله. وفي ذات يوم، وبالتزامن مع عمليّة بدر، كان عندنا اجتماع مشترك في مقرّ اللواء 1 من قوّات الفرقة 77 خراسان1. ولم أعد أذكر اسم قائد اللواء آنذاك. فذهبنا أنا وعدد من الشباب مع عبد الحسين إلى هناك. كان قائد اللواء 1 يقف إلى جانب خريطة كبيرة كانوا قد ألصقوها بالجدار. فبدأ بشرح منطقة العمليّة، مثلاً: نحن كيف يجب أن نُطلق النيران، وكيف يجب أن نعمل، وضعية الإسناد عندنا هكذا، ورمايتنا غير المباشرة، والمباشرة كيف يجب أن تكون.

 

عندما أنهى كلامه، ابتدأ قائد استطلاعات اللواء بالكلام، لم يكن قد تعمّق كثيراً في الحديث، حتّى قطع كلامه فجأة برونسي قائلاً: عفواً، أنا العبد لله عندي كلام أعرضه.

 

ثمّ قام من مكانه وذهب باتجاه الخريطة، فتسمّرت عيناي به مثل الباقين، فلم يكن دوره قد حان بعد، وسألت نفسي: ماذا يُريد الحاجّ أن يقول؟

 

التفت هناك إلى قائد اللواء 1 وقال: تيمسار2 ، أنت تكلّمت كلاماً جميلاً، ولكنّك لم تقل من أين سوف تُرشدون قوّاتكم؟ أعني أنّكم لم تُعيّنوا مكانكم.

 

فوضع قائد اللواء طرف الآنتين، (الذي يُشير به إلى الخريطة) على مكان من الخريطة. وقال: من هنا سوف أُرشد الكتائب.

قال عبد الحسين: من هنا، هذا ليس صحيحاً.

فسأل قائد اللواء بحيْرة: لماذا؟!

فقال برونسي: لأنّكم لا تستطيعون أن تُرشدوا القوّات من هذه النقطة.

جرى بحث وأخذٌ وردٌّ بينهما، وفي النهاية لم يعرف قائد اللواء ماذا يقول.

وفجأة سأل: عفواً يا سيِّد برونسي، أنت من أين سوف تُرشد قوّاتك؟

ما زلت أذكر بدقّة أنِّي شعرت بحساسيّة تجاهه، وأحببت أن أعرف ما هو

 


1- في ذلك الوقت كانت فكرة الإجتماعات ما بين الجيش والحرس الثوريّ حتَّى يمكن الإستفادة أكثر من كلتي القوتين.

2- رتبة عسكريَّة فوق العقيد

 

 

239


232

تراب كوشك الناعم

جوابه، فأخذ الآنتين من يد التيمسار، ووضع طرفه بالضّبط على تقاطع الخندق! وقال: أنا هنا أقف.

 

تعجّب قائد اللواء، أمّا نحن فدارت أعيننا في حدقتيها، ننظر إليه بحيرة. فإنّ العمليّة تبدأ من "بد"3 الإمام الرضا عليه السلام ، ونهايتها بحدود طريق البصرة – العمارة السريع. وتقاطع الخندق يقع تقريباً في وسط منطقة العمليّات الّتي كانت على بعد عدّة كيلو مترات من الطرف الآخر الّذي بيد العدوّ! فقال قائد اللواء: لا أستطيع أن أُصدِّق.

 

فقال الحاجّ ببرودة أعصاب: لماذا؟

 

فقال له: آآه أنتم تُريدون أن تتحرّكوا مع قوّات عسكريّة، حسناً! يجب أن تكونوا هناك في بداية العمليّة، لأنّ تقاطع الخندق يقع في وسط منطقة العمليّة!

 

فقال الحاجّ: على كلِّ حال، أنا سوف أستقرُّ في تلك المنطقة.

 

انتهى الاجتماع في ذلك اليوم، وأنا ما زلت أُفكِّر في كلام السيِّد برونسي، وكُنت أسأل نفسي: لماذا تقاطع الخندق؟!

 

صباح يوم العمليّة، كُنّا الكتيبة الثالثة أو الرابعة الّتي دخلت المنطقة بأوامر السيِّد برونسي، وكان الشباب قد تقدّموا جيِّداً، وكانت الفرقة 7 ولي العصر عجل الله فرجه الشريف إلى شمالنا، وكانت فرقة الإمام الحسين عليه السلام إلى يميننا. وكانت فرقتنا نحن أيضاً في الوسط، وهي الفرقة 5.

 

وكُنّا قد علمنا من استطلاع عمق الوضع العسكريّ، أنّ كلّ التقدُّم كان محدوداً فقط بذلك التقاطع (تقاطع الخندق)، وكان العدوُّ قد ركّز كلّ ما لديه من قوّات هناك، وكان يُقاوم بِشِدّة. وفي الطريق إلى التقاطع وقع نظري على السيِّد برونسي، فلمعت فكرة في ذهني، وتذكّرت الاجتماع وتذكّرت كلامه، وأنّه سوف يُرشد القوّات

 

 


3- كلمة "بد" مصطلح إنكليزي يعنى أكثر ما يعني طريق أو مسير. وأما في المصطلح العسكريّ، خصوصاً في مناطق مثل منطقة جزر جنوبي وشمالي جزر مجنون، يعني طمر مناطق مائيَّة بواسطة القوَّات الهندسيَّة وتعبيد طريق اصطناعيَّة وسط الماء بإلقاء الرمل والتراب، أو يقولون "بد" لمكان وسيع يصنعونه من أجل الهجوم المضادّ.

 

240

 


233

تراب كوشك الناعم

 من ذلك التقاطع. كانت تفصلنا عنه خمسة عشر إلى عشرين متراً، وكان العدوُّ يُطلق النيران بشكل كثيف وانتقل شيئاً فشيئاً من حالة الدفاع، وقام بعدّة هجمات مضادّة. وكان الشباب يُقاومون بأظفارهم وأسنانهم.

 

مضى ثلاث إلى أربع ساعات، وكاد عتادنا ينفذ، وكُنّا قد طلبنا بواسطة اللاسلكيّ عدّة مرّات أن يُرسلوا لنا العتاد، ولكن إرسال العتاد تحت هذه النيران الشديدة لم يكن ممكناً، حتّى إنّ المشاة العراقيِّين كانوا قد وصلوا إلى قرية تبعد خمسة عشر متراً عنّا، وكُنّا نرميهم بالقنابل اليدويّة بكلِّ بساطة. وفي كلِّ لحظة كانت الأوضاع تسوء أكثر، وفي النهاية صدر أمر الانسحاب.

 

فانسحبنا بحسب التكتيك والأصول الحربيّة، ولكن في اللحظات الأخيرة للانسحاب صاح أحد الشباب: يا ويلي! الحاجّ برونسي!

 

فنظرنا بالمنظار، فرأيناه قد وقع على الأرض وجسده الطاهر بلا حركة وكان قد غرق بالدم فقُلت: يجب أن نذهب ونسحب الجُثّة إلى الخلف، مهما كان.

 

لم يكن هذا كلامي أنا فقط، بل إنّ الكثيرين من الشباب قالوا نفس الشيء، ولكن القائد لم يُجز لنا، وقال: إنّ الأوضاع سيِّئة جدّاً، وإذا تقدّمتم إلى الأمام فإنّكم سوف تستشهدون أيضاً.

 

ربّما كانت أصعب اللحظات على طول مدّة الحرب بالنسبة لي، كانت هذه اللحظات. فانسحبنا بكلِّ حسرة وحزن.

 

وفي النهاية لم تعد جُثّة الشهيد برونسي، وكان لدمائه الطاهرة الأثر البالغ في تثبيت المناطق الّتي تحرّرت، واستزاد الشباب روحيّة جديدة من استشهاده، حتّى استطاعوا أن يُمرِّغوا أنف العدوِّ المتوحِّش والثمل المغرور المتكبِّر، بالتراب.

 

بعد العمليّة أصبحت علاقة الشهيد برونسي المعنويّة بالصدِّيقة الكبرى عليها السلام ، واضحةً لَدَيّ أكثر، فقد استشهد في نفس المكان الّذي وضع يده عليه على الخريطة، يعني تقاطع الخندق، وهو باستشهاده كان قد أثبت إسلامه وتسليمه.

 

241

 

 


234

تراب كوشك الناعم

قبر بدون شاهد

معصومة سبك خيز

استيقظت من النوم فجأة،على صوت نحيب عالٍ! وللّحظة الأولى لم أدرِ ماذا أفعل، ثمّ انتبهت، وإذا بالصوت يأتي من موزِّع الغرف، من المكان الّذي ينام فيه عبد الحسين.

 

فأزحت الغطاء عنِّي، ونهضت وذهبت باتجاه الموزِّع، وقد ظننت أنّ عبد الحسين صاحياً يقرأ الدعاء، أو أيّ شيء آخر ولكِنِّي عندما رأيته نائماً، خفت في البداية، ثمّ دقّقت النظر، فرأيته يتحدّث إلى السيِّدة الزهراء عليها السلام.

 

لم يكن يتحدّث، بل كان يتأوّه ويُناجيها، فكان يذكر أسماء أصدقائه الشهداء، كأنّه أمٌّ ثكلى فقدت ولدها وهي تلطم صدرها وتبكي بحرقة، كان يقول: لقد ذهبوا جميعهم يا أمِّي العزيزة! متى يأتي دوري؟ آآخ ماذا أفعل؟!

 

كان صوته يرتفع شيئاً فشيئاً، فخفت أن يوقظ الجيران أيضاً، فقُلت مرتبكة: عبد الحسين!

 

لم يتغيّر شيء، فناديته بصوت عالٍ عدّة مرّات. وفجأة استيقظ من النوم، وقد ابتلّ وجهه بالدموع، فقُلت له: لكثرة ما ذهبت إلى الجبهة، فإنّك حتّى في نومك تُفكِّر في المنطقة؟

 

وكأنّه انتبه لتَوِّه، فقال منزعجاً: لماذا أيقظتني؟!

 

فقُلت بتعجُّب: لقد كُنت تتكلّم بصوت عالٍ حتّى وصل صوتك إلى كلِّ مكان!

 

فغطّى رأسه بالغطاء، وذهب إلى الغرفة، فذهبت خلفه، فجلس في زاوية متكوّماً

 

242

 


235

تراب كوشك الناعم

 على نفسه، كأنّه كان قد أضاع كنزاً كبيراً، ثمّ أخذ ينوح أكثر من الأوّل: لقد كُنت مع مولاتي أشكوها وجع قلبي، آآخ لماذا أيقظتني؟!

 

وكأنِّي انتبهت وعرفت ما الموضوع، فملأ وجودي الغمّ والغصّة، فوضعت نفسي مكانه، وأعطيته كلّ الحقِّ.

 

في تلك الليلة، أحببت أن أستطلع ما يحدث في نفسه، فلم يقل شيئاً، وبقي على صمته، لم يقل شيئاً حتّى انتهت إجازته وذهب إلى الجبهة.

 

كُنت في ذلك الوقت حاملاً، وعندما عاد في إجازة، كان قد بقي لي أربعة أيّام على وقت الوضع، فكان يعدّ اللحظات ليولد الطفل بأسرع ما يُمكن.

 

وفي النهاية، وفي آخر يوم من أيّام إجازته ذهبنا إلى المستشفى، فأجلسني على كرسيّ، وذهب هو لتدبير أمور الولادة.و كان برفقتنا سيِّدة ذهبت أيضاً مع عبد الحسين. وبعد وقت طويل، وبعد استشهاده، أخبرتني تلك السيِّدة قائلة:

"قال أحد موظّفي المستشفى للسيِّد برونسي: يجب أن تملأ ملَفّاً.

 

فقال له السيِّد برونسي: إذا كان وقت وضعها قد حلّ فأنا مستعجل.

 

فقال الآخر: ما هذا الكلام يا سيِّد؟! هل يجب أن يُملأ المَلف، أم لا؟

 

فأخرج السيِّد برونسي تذكرة سفر من جيبه، فأراه إيّاها وقال: انظر يا أخي، يجب أن أذهب إلى منطقة الجبهة، حبّذا لو تُسهِّل لي الأمر بسرعة، فالله يُعطيك الخير.

 

ففكّر ذلك الموظّف أنّ زوجك يذكر الجبهة من أجل أن يُسرِّع له عمله، وفجأة دفع السيِّد برونسي في صدره إلى الخلف وقال بخشونة: الجميع يقولون: إنّهم سوف يذهبون إلى الجبهة! المنطقة! أن تكون في المنطقة يعني ماذا سوف يحصل؟! حسناً انتظر لنر زوجتك ماذا سوف تفعل....

 

كان ولدي في الجبهة، وكُنت أعلم ما هو عمل السيِّد برونسي، فقُلت في نفسي: الآن سوف يقضي على هذا الرجل.

 

كُنت أنتظر ردّ فعل عنيف، ولكِنِّي رأيت السيِّد برونسي طأطأ برأسه إلى

 

243

 


236

تراب كوشك الناعم

صدره، ولم يقل شيئاً وخرج، فتقدّمت من الموظّف بسرعة وقُلت له بصوت خفيض: هل تعلم ما هو عمل هذا الرجل الّذي دفعته؟ فنظر ذلك الرجل إلى وجهي، وقد ظهر عليه أنّه قد تفاجأ، فقُلت له: يا مسكين! إذا أراد هو، فإنّه سوف يقضي عليك. أُشكر ربّك أنّه ليس إنساناً حقوداً ومعقّداً.

 

وأخيراً... فعل كلام تلك المرأة فعله، فأخذوني سريعاً إلى غرفة الولادة.

 

وعندما ولد الطفل، أخذوني إلى غرفة أخرى، حتّى تتحسّن حالي، ولكن مدّة غيبوبتي طالت، وعندما عدت إلى وعيي، رأيت أمِّي واقفةً إلى جانب سريري، فسألتها: بنت أم صبيّ؟

 

فابتسمت ابتسامة جميلة، كسرت تعبَ وجهها وهمّها، وقالت: بنت، يا ابنتي العزيزة.

 

قُلت: هل حالتها جيِّدة؟

 

قالت: جيِّدةً جيِّدة.

 

فتذكّرته وتذكّرت تذكرة السفر، وسألتها: هل ذهب عبد الحسين؟

 

قالت: لا، أرسل التذكرة ليردُّوها.

 

قُلت: لماذا؟!

 

قالت: من أجلك، حتّى لا تقلقي، قال سوف أبقى.

 

لم يكن عندي هديّة أحلى ولا أجمل من هذه، كُنت سعيدة من صميم قلبي. فسألت: إذن أين هو الآن؟

 

قالت أمّي: أراد أن يأخذك أنت والطفلة في هذه الليلة إلى البيت، ولكنّ الدكتور لم يوافق، فذهب ليمضي على إخراجكما على مسؤوليّته.

وأتى بعد قليل، ووقف إلى جانب السرير، وابتسم وسألني عن أحوالي، والتفت إلى أمِّي وقال: حسناً يا خالة، هيِّئي السيِّدة زينب لنذهب مع السيِّدة معصومة إلى البيت.

ففهمت أنّه كان قد اختار اسم الطفلة، وبعد عدّة دقائق، غادرنا المستشفى.

 

عندما وصلنا إلى البيت، ذهب بسرعة إلى مكان اللحف والفرش، وأحضر فرشة

 

244

 


237

تراب كوشك الناعم

 ووضعها إلى جانب المدفأة، وأراد أن يفرشها، فقالت أمِّي: ليس هنا، خذها إلى غرفة أخرى.

 

سأل: لماذا؟

 

قالت أمِّي: هنا يأتي ضيوف.

 

ففرش الفرشة وقال: ليس مُهِمّاً، الضيوف نأخذهم إلى تلك الغرفة، من الأفضل لزينب وأمِّها أن يكونوا إلى جانب المدفأة؟

 

ذهبت وتمدّدت على الفراش، وأعطاني زينب أيضاً فضممتها إلى حضني. وقال: إلى جانب المدفأة، ابنتي لن تُصاب بالبرد.

 

صدح صوت أذان الصبح من المسجد، فقال لأمِّي: اذهبي يا خالة وصلِّي، أنا أبقى إلى جانبهم حتّى تأتي....

 

كانت علاقته بزينب منذ البداية، علاقة من نوع آخر، وفي الليلة التالية، كُنت قد وضعت لِفَافة للطفلة، كان يضعها على قدميه، فوضع فمه على أذن زينب، وبدأ يتمتم، لم أدر ماذا كان يقول في أذن الطفلة، وعندما انتبهت رأيت أنّ كتفيه تهتزّ، فوقع نظري للحظة على وجهه، كان مبتلّاً، ولمّا دقّقت النظر، رأيت أنّ دموعه تنهمر مثل المطر النازل من السحاب الربيعي فأردت أن أٌقول له شيئاً، ولكِنِّي قُلت في نفسي: لأدعه بحاله.

 

وعندما أصبح عمر زينب ثلاثة أيّام، ذهب إلى الجبهة. وقال قبل ذهابه: عندما تأخذين زينب إلى الحمّام، لا تدعي أحداً يؤذِّن لها في أذنيها.

 

قُلت: لماذا؟

 

قال: عندما أعود، سوف أفعل هذا.

 

أخذنا زينب مرّة واحدة إلى الحمّام، وعندما مضى من عمرها سبعة عشر يوماً، أتى عبد الحسين. وقبل أن يجلس على الأرض سأل: هل أخذتم الطفلة إلى الحمّام؟

 

قُلت: نعم.

 

245

 


238

تراب كوشك الناعم

قال: لم تعطها إلى أحد ليؤذِّن ويُقيم في أُذنها؟

 

قُلت: لا.

 

وعندما جلس وتنفّس الصّعداء، قال لأمّي: خذوا الطفلة من جديد إلى الحمّام.

 

وعندما أخذوها وأعادوها، كان قد حلّ المغرب. وبعد صلاة المغرب، أخذ زينب بحضنه وجلس إلى جانب المدفأة.

 

لم أدرِ ماذا كان يقول في أُذن زينب. فقط كُنت أعلم أنّه يذرف الدموع بهدوء، منذ قرابة الساعتين وعندما أعاد الطفلة إلى حضني، كان قميصه ولفافة الطفلة مبتلّان بالدموع!

 

بقي معنا يومين، وفي ليلة ذهابه، أتى وقال: استعدّوا بسرعة نُريد أن نخرج.

 

سألته: إلى أين؟

قال: لا نُريد أن نذهب إلى مكان أو مكانين، نُريد أن نذهب إلى عدّة أمكنة.

ففكّرت بزينب وبرودة الهواء. قُلت: أنا آتي أيضاً؟

قال: نعم، يجب أن نأخذ السيِّدة زينب ايضاً.

 

كان قد أحضر سيّارة، فجلس هو خلف المِقْوَد، وعندما ركبنا، انطلق.

 

كان لنا عدّة أقارب في مشهد، فذهب إلى بيوتهم كلِّهم، وكان في وقت ما قد حصلت مشادّة كلاميّة مع أحدهم بسبب الثورة، وكانت مشادّة شديدة. وقد تعجّبت كثيراً في تلك الليلة، من أنّنا ذهبنا حتّى إلى بيته أيضاً! وأيُّ مكان كُنّا نذهب إليه، كان يبقى فيه واقفاً على قدميه لعدّة دقائق وهو يحمل زينب في حضنه، وكان يسألهم عن أحوالهم ويقول: إن شاء الله أنا عازم على الذهاب إلى الجبهة غداً، أتيت لأطلب منكم المسامحة.

 

لقد تعجّبُوا هم أيضاً مثلي، فقد كان دائماً يذهب إلى الجبهة، ولم يسبق أن ذهب إلى بيوت العائلة ليودِّعهم، بل كانوا في العادة هم الّذين يأتون إلى بيتنا، وهذا ما أقلقني جدّاً.

 

كان المكان الأخير الّذي ذهبنا إليه هو حرم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، وهناك لم يَعُد مستعجلاًً، لقد زار في تلك الليلة زيارة مختلفة، وبحالة عظيمة من الطمأنينة والهدوء.

 

 

246


239

تراب كوشك الناعم

وأنا أيضاً في تلك الليلة كانت حالتي منقلبة، وزرت الإمام ودعوت وأنا حزينة أكثر من أيِّ وقت مضى.

 

وبعد الزيارة، أخذ عبد الحسين الأولاد واحداً واحداً فزاروا الضريح، وأخذ زينب أيضاً، وعندما أنهى زيارتها، أحضرها إليّ وقال: أنذهب؟

 

قُلت: لنذهب.

 

عندما جلسنا في السيّارة، بدأ بالكلام بحيث لا يسمعه أحدٌ إلا أنا، فقال: غداً إن شاء الله أنا ذاهب إلى المنطقة، لا أعلم متى أعود.

 

بدا كأنّ الغصّة والغمّ يزدادان عندي، فقال: إن مقدَم زينب مبارك إن شاء الله، هذه المرّة سوف أستشهد.

 

ولم يبق إلا أن أنفجر أنا بالبكاء، ففهم أنِّي انزعجت، فضحك وقال: كُنت أمزح، يا عزيزتي، لماذا انزعجت؟ لست مؤهّلاً بعد للشهادة، أين الاستشهاد، وأين نحن؟

 

في المنزل، وعندما نام الأولاد، أتى إليّ وقال: هذه الليلة وصّيت الإمام الرضا عليه السلام بكم، وطلبت من الإمام أن يتلطّف ويطلّ عليكم. وأنتم إذا عرضت لكم مشكلة أو عرض لكم شيء، فقط اذهبوا إلى حضرة الإمام واطلبوا منه العون، يجب أن تسعَوْا لمعرفة هذه النعمة الّتي أنعمها الله على مدينتنا ووطننا، لا تغفلوا في أيِّ وقت عن زيارته وهذا بحدِّ ذاته أدبٌ، ويجب مراعاة هكذا آداب.

 

تهيّأ للذهاب بعد صلاة الصبح، فأردت أن أوقظ الأولاد، ولكنّه لم يقبل، مع أنّه كان في كلِّ مرّة يُريد أن يذهب، حتّى وإن كان الوقت في الصباح الباكر، يوقظ الأولاد ويُسلِّم عليهم جميعاً، ولكنّه في هذه المرّة، ولم أعلم لماذا، لم يرض بأن أوقظهم وقال: هذا الطريق الّذي أنا ذاهبٌ إليه، لا عودة منه بعد!

 

فجأة وقع نظري على حسن، وكان قد استيقظ من تلقاء نفسه، وكأنّه كان قد سمع هذا الكلام من والده فانفجر بالبكاء. فبكينا نحن أيضاً لبكائه.

 

كان دائماً عندما أكون منزعجة عند ذهابه، أو عندما أبكي، يضحك ويقول:

 

247

 


240

تراب كوشك الناعم

 يا عزيزتي، الباذنجان الطازج ليس به آفة، دعك من هذا، ليس من الجيِّد أن تبكوا أمام مسافر.

 

ولكنّه في هذه المرّة لم يُمانع، فكان يقول: هذا وقته، ابكوا!

 

شيئاً فشيئاً استيقظ الأولاد من النوم، فقبّلهم واحداً واحداً وودّعهم، وهذه المرّة لم يمُرّ من تحت القرآن أيضاً، بل قبّله فقط وذهب.

 

كانت زينب في يومها العشرين في اليوم الّذي ذهب فيه.

 

في آخر مرّة، اتّصل إلى بيت الجيران، كان قبل عيد إسفند، شهر إسفند سنة 1363 بعدّة أيّام، فسألته متى سوف تأتي؟

 

فضحك وقال: ما زلت تقولين متى تأتي؟ الإمام الجواد عليه السلام استشهد عندما كان عمره 25 سنة، وأنا الآن عشت أكثر منه بكثير! وما زلت تسألين متى تأتي؟ قولي متى تستشهد؟ متى يأتي خبر شهادتك؟

 

فبكيت، فقال: إنِّي أمزح، يا عزيزتي، كما قُلت لك: لست مؤهّلاً بعد للشهادة.

 

وكنت قد أخذت ابنتي المولودة حديثاً زينب معي لأردّ على التلفون. فقال: افعلي أيّ شيء لأسمع صوتها.

 

ففعلت أيّ شيء لأجعلها تبكي، وعندما سمع صوتها، قال: حسناً، الحمد لله لقد ارتاح بالي لأن زينبتي سالمة.

 

في ذلك اليوم كان يقرأ مقاطع من زيارة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام ويتحدّث معها، ولكن التلفون تشوّش صوته ولم أفهم جيِّداً ما هو الموضوع1.

 

عندما انتهى كلامنا، وضعت سمّاعة التلفون، وكان معي حسن أيضاً، فخرجنا، وعندي إحساس غريب، فكلُّ شيء كان حاكياً عن ذهابه، ولكِنِّي لم أكن أُريد أن أُصدِّق.

 

 


1-  كان هذا الموضوع مشهوراً بين رفاقه، وهو أنّ الصدِّيقة الكبرى عليها السلام كانت قد أخبرته بزمان ومكان استشهاده. وكانت هذه القضية واضحة كالشمس، فقد قال الشهيد برونسي لرفاقه إنَّني إذا لم أستشهد في التاريخ الفلاني وفي المكان الفلاني، فشكُّوا بكوني مسلماً.

 

248

 


241

تراب كوشك الناعم

عندما سمعت خبر عمليّة بدر، كُنت أنتظر في كلِّ لحظة اتّصاله التلفوني، ولكنّ انتظاري ذهب هباءً. وفي النهاية أيضاً أتى ذلك الخبر....

 

كان قد نال أمنيته، أمنيته الّتي تحمّل من أجلها متاعب جمّة.

 

أصبحت جُثّته مفقودة الأثر، مثلما كان دائماً يطلب من الله. حتّى إنّه كان قد أوصى أن لا نضع شاهداً على قبره وأن لا نكتب اسمه، وأراد أن يكون مثل والدته، حضرة فاطمة الزهراء عليها السلام ، أن يكون قبره بدون اسم ولا عنوان.

 

عندما أجرينا له تشييعاً في مدينة مشهد، كان يوماً ربيعيّاً، في التاسع من أرديبهشت سنة 1364 هـ. ش.

 

 

249

 


242

تراب كوشك الناعم

في أمان الله يا والدي

أبو الحسن برونسي

كلّما كان يتّصل بالتلفون من الجبهة إلى بيت الجيران، كان يجري نفس الوضع، بمجرّد أن آخذ السمّاعة من أُمِّي لأتكلّم معه أنفجر بالبكاء، ومهما حاولت أن أمنع نفسي، لم أكن أستطع، فكان يقول: لماذا تبكي يا ولدي؟

 

كُنت أنوح وأقول ونفَسي مقطّع: ماذا أفعل، هكذا يأتيني البكاء...

 

في ذلك اليوم، وكان من أيّام الشتاء الباردة، قرع جرس البيت فجأة عدّة مرّات متتالية، فقامت أُمِّي من مكانها ووضعت الشادور على رأسها وركضت خارجة، وخرجت أنا في إثْرِها أيضاً، فقد كنّا نعلم أنّ والدي، في هذه الأوقات، يتّصل من الجبهة، ولأجل هذا أتت جارتنا وقرعت الجرس لعدّة مرّات.

 

ذهبنا إلى جانب التلفون، وكالعادة أخذت أُمِّي السمّاعة وبدأت بالكلام. كُنت أحسُّ أن حالي متغيِّر، وكان قلبي مقبوضاً، ولكِنِّي لم أكن أُحبُّ أن أبكيَ مثل المرّات السابقة.

 

تعجّبت أُمِّي، وأنا أيضاً تعجّبت، كيف أنّه يتّصل من الجبهة وأنا أتكلّم معه من دون أن أبكي، فلم يسبق لي أن فعلت هذا. كان كلام أبي هذه المرّة يختلف عن المرّات السابقة، فقال: أعلم أنّك تعلّمت قراءة القرآن، وذلك القرآن الّذي فوق الخزانة، هو لك، يعني هو هديّة، إذا أتيتُ أعطيك إيّاه أنا، وإذا لم آتِ خذه بنفسك واقرأ به دائماً.

 

مكث قليلاً ثمّ تابع: انتبه إلى كتبي، وانتبه إلى أشرطة التسجيل الّتي عليها

 

250

 


243

تراب كوشك الناعم

الخطب، والأشرطة الّتي قبل انتصار الثورة. الخلاصة يجب أن تُحافظ عليهم يا ولدي. مسؤوليّة حفظهم عليك.

 

لم أعلم لماذا يقول هذا، وتكلّم كلاماً آخر أيضاً، والآن فهمت أنّه كان وكأنّه في تلك اللحظات كان يوصي، ثمّ قال وقتها: ألا تُريد منّي شيئاً؟

 

سألته: متى سوف تأتي؟

 

قال: إن شاء الله سوف آتي.

 

ثمّ ودّعنا بعضنا، وأعطيت سمّاعة الهاتف لأمِّي، وهي أيضاً سألته نفس سؤالي: متى سوف تأتي؟

 

لم أدرِ ماذا قال لها أبِي لأنّها اغتمّت كثيراً. وبعد قليل ودّعته، والغمّ والانزعاج يملأ لهجتها، ثمّ وضعت السمّاعة وخرجنا، وعندها سألتها: قُلتِ لبابا متى يأتي، ماذا قال؟

 

قالت: قال دائماً عندما أتّصل بكم، تقولين متى تأتي؟ قولي متى تستشهد.

 

عندما رأت أُمِّي أنِّي انزعجت، تصنّعت البسمة وقالت: إنّ والدك يمزح يا ولدي.

 

كان معلوماً أنّها هي أيضاً منزعجة كثيراً، ولكنّها لم تكن تُريدني أن أعلم.

 

وعندما رجعنا إلى البيت سألت نفسي: كيف إنّني لم أبك هذه المرّة؟!

 

فهمت السرّ بعد عدّة أيّام، بعد عدّة أيّام من عمليّة بدر، عندما أخبرونا باستشهاد والدي.

 

ذلك الاتّصال التلفوني، كان آخر اتِّصال له.

 

251


244

تراب كوشك الناعم

الكتيبة الجاهزة

مجيد أخَوَان

قبل عمليّة بدر بعدّة أيّام كان السيِّد برونسي قد ذهب في إجازة، وبمجرّد عودته إلى المنطقة بدأ بتهيئة تجهيزات الكتيبة للعمليّات.

 

ذات يوم، كُنّا نجلس في خيمة القيادة، وكان مطأطئاً رأسه وكأنّه يُفكِّر بشيء، وفجأة نظر مباشرة في عينَيّ نظرة حَيْرَى وقال: أخوان، هذه العمليّة هي آخر عمليّة لي.

 

ضحكت وقُلت: ما هذا الكلام يا حاجّ؟ لقد قُمت بعمليّات على عدد شعر رأسك، والآن يجب أن تبقى أيضاً.

 

قال: كما قُلت لك، هذه آخر عمليّة.

 

قُلت: أنت دائماً تتكلّم عن الشهادة.

 

مكثت هنيهة، ثمّ تكلّمت بطريقة مختلفة: إذا لا سمح الله ذهبت أنت، ماذا سوف يفعل الشباب؟

 

فقال بأعصاب هادئة: كلُّ ما تقوله كلام. لقد رأيت أشياء تُعلِّمني أنّها آخر عمليّاتي.

 

بعد ذلك اليوم، همس لي هكذا مرّة أو اثنتين. وبحسب علمي بمعنويّاته، ثار فضولي، فقُلت في نفسي: إنّ الحاجّ يُناور كثيراً في هذا الموضوع، لعلّه واقعاً....

 

ذات يوم كانت حاله منقلبة، فتنحّيتُ به جانباً، وسألته: ما الّذي حصل يا حاجّ؟ ما الّذي حصل ويجعلك دائماً تتحدّث عن الاستشهاد؟

 

252

 


245

تراب كوشك الناعم

كان ينظر إليّ، فتابعت: قل الحقيقة وبحسن نيّة ما الّذي حصل؟

 

فانفجر بالبكاء فجأة، وأخذ يبكي بكاءً شديداً! فلم تكن الدموع تجري من مآقيه فقط، بل إنّ كتفيه كانتا تهتزّان أيضاً، ثمّ ارتفع صوت بكائه، وقال بنواح: لقد رأيت أمِّي منذ عدّة ليالٍ.

 

كان قصده حضرة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، فقد كان دائماً يُشير إليها بلفظة أُمِّي عندما كان يأتي على سيرتها، وأشار إلى خيمة القيادة، وقال: كنت نائماً في هذه الخيمة عندما قالت لي: يجب أن تأتي.

 

فنظرت إلى وجهه نظرة قلق، وقُلت: يا حاجّ، ربّما كان قصدها آخر الحرب إن شاء الله.

 

قال: لا، ليس هذا الكلام! أنا سوف أستشهد في هذه العمليّة.

 

بقيت مصدوماً ومبهوتاً، فقد كان الشيء الوحيد، الّذي لا أُريد أن أُفكِّر به، هو ذهابه. ثمّ هدأ بكاؤه قليلاً، فتابع قائلاً: أنا متأكِّد، في هذه العمليّة، إنّ المهلة الّتي تقرّرت لي فوق هذه الأرض الترابيّة، قد انتهت، يجب أن أذهب.

 

كان يتكلّم بغير قلقٍ، وبإصرار، وبطريقة جعلتني متأكِّداً أنّه سوف يستشهد في هذه العمليّة.

 

عهد إليّ في ذلك اليوم بعدّة أعمال. ما زلت أذكر، قبل يومين أو ثلاثة من العمليّة، حدّثتني نفسي بأنّه سوف يذهب إلى مكان، فسألته عن ذلك! فقال: أُريد أن أذهب لأقُصّ شعري.

 

لم يسبق له أن ذهب إلى الحلّاق قبل العمليّة، وكان هذا ما يُثير اضطّرابي أكثر.

 

وعندما عاد، كان قد قصّ شعره، وشذّب لحيته أيضاً.

 

وأكمل كلّ شيء ليلة العمليّة، فذهب إلى الحمّام، وعندما أتى، كان يرتدي بدلة عسكريّة جديدة، وكان يضع العطر أيضاً، ولم يسبق له أصلاً في المنطقة، وأيضاً قبل العمليّة، أن ارتدى بدلة الحرس الثوريِّ، وأن يهتمّ بنفسه هكذا، فقد

 

 

253


246

تراب كوشك الناعم

 كان دائماً يلبس لباس التعبئة. فقُلت له وأنا أنظر إليه متعجبّاً: ياحاجّ! ما الّذي حصل؟

 

فابتسم، وقال بطريقة خاصّة: أنت تعلم، لماذا تسأل؟

 

انقلب حالي بشكل سيِّئ، وأصبحت بعد ذلك دائماً كأنّنِي سوف أُضيّعُ شيئاً مُهِمّاً جدّاً، وكلّما اقترب موعد العمليّة كانت ضربات قلبي تزداد أكثر.

 

كانت عمليّة بدر من العمليّات الصعبة والّتي تقطع الأنفاس. وخصوصاً منطقتها المائيّة. وكُنّا قد توغّلنا ثلاثين، أو أربعين كيلو متراً داخل الماء، واستقرّينا في جادّة حسّاسة، في الطرف الآخر لدجلة والفرات. ومن هناك تقدّمنا باتجاه تقاطع الخندق1 ودفعنا العراقيِّين إلى الخلف. وكان العدوُّ قد أصبح مجنوناً هستيريّاً بكلِّ معنى الكلمة، وقد عزم على أن يستردّ التقاطع، والجادّة بعدها، وبعد ذلك، يُلقينا في الماء.

 

كانت الاشتباكات تشتدُّ في كلِّ لحظة، وكُنت طوال مدّة ولحظات العمليّة مثل دجاجة مذبوحة، فلم أكن أعرف الهدوء ولو للحظة، فقد كُنت أنتظر استشهاد الحاجّ في كلِّ آن. كانت شخصيّته مُهِمّة بالنسبة لي، وأردت أن أعلم متى يذهب، وكيف يذهب؟ كُنت أتبعه قدماً بقدم، لأنّ واجبي كان يُملي عَليّ هذا2.

 

عندما كُنّا في بحبوحة ميدانيّة، التفت إليّ وقال: أخَوَان اذهب واستدع الكتيبة الجاهزة من الخلف إلى هنا.

 

وكأنّهم ألقوا على رأسي سطل ماءٍ بارد. فقُلت بسرعة: يا حاجّ في هذه الوضعيّة؟!

 

كُنت أُحبُّ من كلِّ قلبي أن يُغيّر أمره، ولكنّه قال: إذا لم تُحضر الكتيبة، فإنّ وضع الشباب سوف يكون مشكلاً جدّاً بهذه الهجمات المضادّة.


ونظر باتجاه العدوِّ وتابع: اذهب أنت وأحضر الكتيبة.

 


1- بعد ذلك أصبح هذا التقاطع معروفاً باسم "تقاطع الشهادة".

2- كنت مسؤول عمليَّات اللواء في ذلك الوقت.

 

 

254


247

تراب كوشك الناعم

أحضر "هذه الكتيبة"، يعني أن أعود ثلاثين، أو أربعين كيلو متراً بالقارب لأصل إلى اليابسة، ثمّ أركب من هناك على درّاجة ناريّة، وأذهب إلى القاعدة، وأرجع بكتيبة من القوّات، من نفس هذا الطريق الّذي سلكته في الذهاب. ذلك الوقت، فقط، على الأقلِّ، يطول ثلاث أو أربع ساعات.

 

إنّ الإحساس الغريب الّذي تملّكني لم يُمْكِّني أن أبتعد عن الحاجّ، بينما هو كان ينظر إليّ، وينتظر الجواب، فلم يكن عندي حلٌّ آخر، فودّعته وانطلقت.

 

وصلت بسرعة إلى جانب الماء، وركبت أحد القوارب. كُنت أسير بأقصى سرعة، وكان من الممكن في كلِّ لحظة أن تحصل حادثة ما، ولكِنِّي كُنت وكأنِّي قد سُلبت الإرادة وكُنت على يقين بأنّ حدثاً سوف يقع، فكُنت أُريد أن أعود بسرعة إليه.

 

لم أعلم كيف وصلت إلى جانب المرسى، وكم طال الزمن، وكانوا قد هيّؤوا لي درّاجة ناريّة جاهزة للانطلاق، فصعدت عليها وانطلقت.

 

كانت الكتيبة جاهزة للتحرُّك عندما وصلت، فطوينا نفس الطريق حتّى وصلنا إلى الطرف الآخر من الماء، فصففت الشباب وتوجّهنا إلى الجادّة الحياتيّة من طريقين، ثمّ من الجادّة أيضاً باتِّجاه التقاطع.

 

إنّ الاضطّراب قد عمّ كلّ وجودي الآن، ولم يكن يفصلنا عن التقاطع أكثر من كيلو مترين أو ثلاثة، وكُنت أركض أمام الكتيبة، وفجأة وقف بوجهي أحدُ شباب الفرقة، وصرخ في معمعة نيران العدوّ: أخَوَان إلى أين تذهب؟

 

قُلت: ما هذا السؤال؟! أنا ذاهب إلى التقاطع.

 

قال: لا تذهب، لا تستطيع أن تتقدّم أكثر من هذا.

 

فسألت بعينين تُريدان أن تخرجا من حدقتهما دهشة! لماذا؟!

 

قال: لا يُمكن التقدُّم أكثر، فالعراقيُّون استولوا على التقاطع.

 

قُلت: كيف أخذ التقاطع؟ "الحاجّ" هناك! "أرفعي" هناك، "وحيدي" هناك، أولئك كلُّهم هناك!

 

فطأطأ برأسه وقال منزعجاً ومغموماً: كلُّهم ذهبوا.

 

255


248

تراب كوشك الناعم

قُلت: ماذا ماذا كلُّهم ذهبوا؟! لا تمزح يا عزيزي، الحاجّ بنفسه قال اذهب وأحضر الكتيبة.

 

فقال: منذ نصف ساعة ذهب الجميع، ومهما أصرّينا عليهم أن ينسحبوا إلى الخلف، لم ينسحبوا، وكانوا ثلاثتهم قد تمركزوا في التقاطع بشكل هلال وكانوا يُقاومون بِشِدّة، وقد سبّبوا للعدوِّ خسارة كبيرة، ومازالت دبّابات العدوِّ الّتي أصابوها تحترق بالنيران، ولكن... حتماً إمّا أنّهم قد استشهدوا وإمّا أنّهم قد أُسروا.

 

لم تكن حالتي طبيعيّة، فصرخت: ماذا ماذا أُسروا؟! وهل الحاجّ من أهل الأسر؟!

 

للحظة لم يعد بي طاقة على التحمُّل، فبدأتُ بالركض، باتّجاه التقاطع، ولم أمشِ عدّة خطوات حتّى أمسك بي من الخلف، فحاولت كلّ جهدي أن أتخلّص منه، وكُنت أقول: اتركني! في النهاية إنّها جثّة الحاجّ يجب أن نُحضِرَها، الحاجّ برونسي، أتفهم؟ الحاجّ برونسي!

 

وأصرّ عَليّ ممسكاً بي ولم يدعني أذهب. كان

 

ممسكاً بي بقُوّة وهو يقول: يا سيِّدي لا يوجد حلٌّ، إذا تقدّمت فإنّك سوف تستشهد أيضاً، واستشهادك أيضاً لن يُفيد.

 

أَفْلَتُّ يدي من يده عدّة مرّات، ولم أستطع أن أفلت منه في نهاية الأمر فقد انضمّ إليه ثلاثة من الشباب لمساعدته عَليّ، وأخذوني إلى الخلف بأيِّ حالٍ من الأحوال، ولكن، كُنت كأنِّي لا أُريد أن أهدأ إلى الأبد.

 

في هذه المعمعة، وصل فجأة علي قانعي 3، وكان آخر شخص يرجع من التقاطع، فركضت باتجاهه، وقلت له: "علي"! ما الخبر؟!

فقال بتثاقل وغصّة: لقد ذهب الحاجّ.

فرفعت صوتي وصرخت: هل رأيتَ أنتَ نفسُك أنّ الحاجّ قد ذهب؟!

قال: نعم، أنا رأيتُه بنفسي.

كان يجب أن أتأكّد، قُلت: كيف رأيت الحاجّ؟ ماذا كان يرتدي؟

فقال بعصبيّة وتعب: يا عزيزي رأيته بنفسي، لقد كان يرتدي لباس الحرس

 

 


3- معاون استخبارات عمليَّة الفرقة.

 

256


249

تراب كوشك الناعم

 الثوريّ، كُنت قادماً من الساتر الترابيِّ، وكان العراقيُّون يُلاحقونني، وللحظة! عندما كُنت أنزل من الساتر الترابيِّ، رأيت شهيداً واقعاً بلباس الحرس الثوريِّ، وكان يُشبه الحاجّ كثيراً، وعندما قلبته، وجدته هو بنفسه، نفس الحاجِّ، وكان وحيدي أيضاً قد وقع بعيداً عنه عدّة أقدام.

 

فسأل أحدهم: هل أنت متأكِّد من أنّ الحاج قد استشهد؟!

 

قال: نعم، أنا متأكِّد، كان قد أُصيب في طرفه الأيسر من بدنه بشظايا قذيفة هاون، ولم يكن يتحرّك، كان معلوماً أنّه كان قد استشهد فوراً، أعني أنّه لم يحس أصلاً بأيِّ ألم.

 

يُمكن القول: إنّ أهمّ جهة في الفرقة يُمكن الركون إلى كلامها، هو قانعي، فقد كان كلامه مستنداً إلى الرؤية البصريّة، وبعد قليل كانت كلُّ الفرقة قد تجمّعت وجلست بوجوه مغمومة حزينة.

 

وفعل استشهاد الشهيد برونسي أيضاً فعلاً كثيراً كما كان يفعل طوال حياته. وبدل أن يُصاب الشباب في معنويّاتهم، أصبحت معنويّاتهم أعلى بكثير، فكانوا يقولون: إنّهم سوف يُدافعون عن هذه الجادّة بالأظافر والأسنان مهما كان.

 

كان كلّ ذهابنا وإيابنا على هذه الجادة، الّتي كان عرضها خمسة عشر متراً، والّتي إذا خسرناها فإنّنا سوف ننال هزيمة حتميّة، وكان كلُّ همِّ العدوِّ هو أن يُلقينا في الماء، فكانت نيرانه تشتَدُّ في كلِّ لحظة أكثر فأكثر، وكان يقصفنا بواسطة الطوّافات، وبالهاونات والمدفعيّة، لم يكن يهدأ للحظة. ويقوم بهجمات مضادّة من الجناحين، ولكنّ الشباب كانوا قد عقدوا العزم على أن لا يخسروا هذه الجادّة، ويقولون: إنّ هذه الجادّة هي الّتي من أجلها أُريق دم الشهيد برونسي.

 

والآن فهمت الحكمة من إحضار الكتيبة الجاهزة، فقد ردّينا كلّ الهجمات المضادّة حتّى الليل. وفي الليل، كان قد قطع نفس العدوّ ولم يعد قادراً على القيام بشيء.

 

257

 


250

تراب كوشك الناعم

وكأنّ شبابنا كانوا قد أخذوا نَفَسَاً جديداً، فكانوا يُريدون أن يذهبوا لإحضار جُثّة الشهيد برونسي وجثث الشهداء الآخرين، ولكن القادة لم يرضوا بذلك، فقد كان الوضع دقيقاً. ثمّ تقرّر أن نتّصل بقائد الفرقة، وعندما اتّصلنا به، قال: لا يوجد مصلحة أبداً، فالعدوّ بانتظاركم لأنّه يعلم أنّنا لنا عدّة شهداء على رأس التقاطع، وإذا كنتم سوف تذهبون فإنّ عدد شهدائنا سوف يتضاعف.

 

فعضّينا على الجرح، وكان الثمن غالياً.

 

وفي اليوم التّالي أسرنا عدّة جنود عراقيِّين، وعندما استجوبناهم، علمنا أنّ كلام قائد الفرقة كان صحيحاً، فلم يكونوا بانتظارنا فقط، بل كانوا قد وضعوا حول جثث الشهداء عدّة ألغام، حتّى إنّهم لم يكن لديهم الوقت ليزرعوا الألغام فرَمَوْها فوق الأرض.

 

رحمه الله. كان يقول عدّة مرّات: أُحبُّ أن أكون مثل أُمِّي، حضرة فاطمة الزهراء عليها السلام مفقود الأثر.

 

ونال أمنيته، وبعد ثلاثة أشهر4 أقاموا له تأبيناً في مشهد المقدّسة.

 

 


4- تاريخ التشييع، 9/ 2/ 1362 هـ.ش.

 

258

 


251

تراب كوشك الناعم

تلك الليلة لا تُنسى

معصومة سبك خيز

إنّ الحياة وتدبير شؤون البيت وبمعاشٍ قليل لها مشاكلها الخاصّة. كان قد مضى إحدى عشرة سنة على استشهاد عبد الحسين، وكان حِمْلُ الحياة وهمُّ تربية عدّة أطفال صغار، ثقيلاً على عاتقي. ولم أنتبه إلّا وأنا أسيرة عدّة قروض للعائلة، والجيران. وكُنّا في الأيّام الّتي تسبق العيد، فكانت هذه المشكلة تبرز أكثر في هذه الأوضاع الصعبة.

 

وكانت تمضي الأيّام وكلّ فكري كان مشغولاً بالقروض الّتي استدنتها والتعهّدات بالسداد الّتي تعهّدت بها. وكانت بعض القروض قد استدانها الشهيد برونسي بنفسه، ولم تتعهّد مؤسّسة الشهيد بسدادها. ومهما سعيت أن أُقلّل من المصروف، فإنِّي لم أستطع تدارك المشكلة، فقد كُنّا نُدير أمورنا بصعوبة، فكيف أستطيع أن أُسدِّد القروض.

 

ذات يوم دفعتني عُقَدُ المشاكل والحاجة إلى روضة الإمام الرضا عليه السلام ، فذهبت إلى تربة الشهيد برونسي. فجلست هناك أروي له وجع قلبي، وقُلت: لقد ذهبت وتركتني مع هؤلاء الأطفال، ومع جبلٍ من المشاكل، إنّ أكثر ما يؤذيني تلك الديون، ولو كان من الممكن أن أرتاح من هذه القروض، فإنّ ذلك سيكون أحسن بكثير.

 

تكلّمت معه كثيراً، فقد كُنت أُريد أن أتخلّص من همّ كلّ هذهِ القروض، وبكيت في ذلك اليوم كثيراً عند تربة عبد الحسين. وعندما أردت أن أعود، أحسست بهدوء عجيب.

 

 

259


252

تراب كوشك الناعم

في الأسبوع التّالي، وفي أيّام العيد1 ، كُنت جالسة في البيت مع الأولاد، فقرع الجرس، فقلت مرتبكة: رتّبوا البيت، حتماً أتانا ضيف.

 

فذهب حسن وفتح الباب، وعندما عاد، كان مدهوشاً، وكان يظهر عليه أنّه مرتبك جدّاً. فقال وهو مضطّرب: السيِّد!

 

فصُدمت ودُهشت، وظننت أنّ حادثاً ما قد حصل، فخرجت بسرعة، وهنا فوجئت أكثر!

 

لم أُصدّق أنّ السيِّد القائد السيِّد علي الخامنئي قد شرّف ودخل من باب الباحة الخارجيّة، فسلّم بكلِّ حرارة وحنان، فأجبته ولساني ثقيل، وتنحّيت جانباً وقُلت له بتوتُّر لا أستطيع وصفه: تفضّل إلى الداخل. فشرّفَنا هو وعدد آخر من الأفراد، وبقي الباقون من المرافقين خارجاً في الباحة الخارجيّة وفي الزقاق أمام البيت.

 

لم نكن ننتظر أن يأتي قائد الثورة، وبدون أيِّ خبر مسبق وبدون أيِّ تهيئة للاستقبال، شيء لا يُصدّق وغير منتَظَر.

 

فاستفدنا من محضره الشريف لمدّة ساعة.

 

فروى لنا خاطرة من خواطره مع الشهيد برونسي2 ، وكان الأولاد كلّهم آذاناً مُصْغِيَة، وكانوا غارقين في لذّة الذكريات الجميلة، ثمّ سأل السيِّد كلّ واحد منهم على حدة عن أحواله، وأعطى توجيهاته لكلِّ واحد منهم.

 

وأستطيع أن أقول بكلِّ جرأة: إنّ الأولاد ليسوا فقط لم يحسُّوا باليتم في تلك اللحظات، بل إنّهم كانوا سعداء وقلبهم مطمئنٌّ، ويحسّون بحرارة عاطفة الأبوّة.

 

في تلك الليلة الّتي لا تُنسى، وخلال الكلام، جرّنا الحديث صدفة إلى مشاكلنا، وأصاب أيضاً قلب الموضوع صدفةً فقُلت لقائد الثورة العظيم عن القروض، فحُلّت المسألة بأسرع ممّا كُنت أظنّ.

 


1- عيد سنة 1375 هـ. ش.

2- تلك الخاطرة لذهاب الشهيد برونسي إلى زاهدان، أيّام نفي السيِّد الخامنائي.

 

260

 


253

تراب كوشك الناعم

 

زواج

معصومة سبك خيز

كان قد مضى أربعة عشر عاماً على استشهاد عبد الحسين، وكُنت أراه كثيراً في المنام، خاصّة عندما كانت تعترضنا مشكلة. وقد أصبحت هذه المسألة طبيعيّة إلى درجة أنِّي إذا كُنت ذات يومٍ لم أره، فإنِّي كُنت على يقين أنّ المشكلة لن تُحلّ، فاعتاد الأولاد على هذا وأصبح الموضوع طبيعيّاً بالنسبة لهم.

 

أوائل أيّام زواج ابني مهدي1 ، كُنّا قد وقعنا في عدّة مشاكل سبّبت لنا أذى كثيراً.

 

فقد كُنّا قد تكلّمنا مع أهل الفتاة ووضعنا النقاط على الحروف، وقبل موعد الزواج بأربعة أيّام، أخذ الأولاد، وكلّ صباح عندما يستيقظون، يسألونني قبل أيِّ شيء: ألم تَرِ بابا في المنام؟

 

كانوا يقولون مطمئنّين: إنّ هذا الزواج لن يتمّ، لأنّ أُمِّي لم تر بابا في منامها.

 

كُنّا نُحاول أن نعتاد على المشاكل، ولم يكن عندنا أمل بحلِّها.

 

وفي النهاية وقبل عقد القران بيومين رأيت عبد الحسين في المنام. كان يجلس في غرفة جميلة جدّاً وكان الأولاد يجلسون حوله، ولم أرَ في عمري أجمل من ذلك المكان. وكان أمام عبد الحسين ورقة وكان يوجد عليها كتابة، فنظر إلى الورقة بعينيه الجذّابتين والنورانيّتين، وفجأة رأيت في أسفل الورقة توقيعه ثمّ أراه للأولاد.

 

 


1-  الولد الثالث للعائلة، هذه الحادثة حصلت في صيف سنة 1376 هـ. ش.

 

 

261


254

تراب كوشك الناعم

فوقف وأراد أن يخرج من الغرفة، قُلت: أتُريد أن تهرب من الأولاد؟

 

فابتسم وقال بهدوء: لا، لا أهرب.

 

استيقظت من النوم فجأة. كان الوقت قرابة أذان الصبح، فأيقظت الأولاد بسرعة وقُلت لهم: لقد رأيت بابا في المنام.

 

لم أدرِ كيف أحاطوا بي. مرتبكين، يقولون: هنيئاً لك! قولي ماذا رأيتِ؟

 

فأخبرتهم بموضوع الورقة وتوقيعها، فقالوا بسعادة: إذن إنّ هذا الزواج سوف يتمّ، فلا لزوم بعد الآن لتحملي الهمّ.

 

قُلت مازحة: مهدي هو الّذي يحمل الهمّ، وهو الآن أكثر سعادة من الجميع.

 

وفي الحقيقة إنّ همّنا انتهى، ولم أعلم بعدها كيف كانت تُحَلّ المشاكل، ولم أدرِ إلّا ونحن في محضر الشيخ الّذي سوف يجري عقد القران، وهو يقرأ خطبة عقد مهدي وعروسه الجديدة.

 

 

262


255

تراب كوشك الناعم

نظرة رعاية من الشهيد

معصومة سبك خيز

في تلك السنة لم يُقبل ولداي، حسين وابنتي الكبرى، في امتحان الدخول إلى الجامعة، وكان القريب والبعيد يقول: إنّهما ولدا شهيد، ولهما حصّة، فهذا شيء عجيب، كيف أنّهما لم يُقبلا في ذلك الامتحان!

 

وكان البعض فضوليّين، ويؤذوننا بكلامهم، وفي الحقيقة كانوا يسلقوننا بألسنتهم.

 

كُنت منزعجة ومكتئبة كثيراً، وكان الأولاد يُعانون أكثر مِنِّي، فقد كانا قد بذلا كلّ جهدهما، ولكن بدون نتيجة، وأصبحا وكأنّهما قد قطعا أملهما بامتحان الدخول للسنة القادمة.

 

في تلك الأيّام، ذهبت ليلة الجمعة إلى مزار الشهيد برونسي، فقرأت الفاتحة وبقيت مُدّة عند القبر، فكنت أُحدِّثه بما في قلبي وأُناجيه.

 

وعندما أردت أن أُخبره عن قبول الأولاد في امتحان الدخول وأشتكي له من بعض الّذين يلمزوننا ويسلقوننا بألسنتهم، قُلت له: أنت تعلم، وحياة زينب1 أنّ مكانك محمود عند الله، فاطلب من حضرة فاطمة الزهراء عليها السلام أن يُقْبَل الأولاد في هذه السنة.

 

وبناءً على تجاربي السابقة، فإنِّي كنت على يقين من أنّ دعائي لن يكون بدون

 


1-  ابنتي الصغرى وآخر فرد في العائلة، والَّتي كان المرحوم برونسي يكنّ لها حبَّاً خاصَّاً، والَّتي كان يعتبر ولادتها بشارة لاسشهاده.

 

263

 


256

تراب كوشك الناعم

 أثر. وبعد فترة، تعجّبت، فقد أصبح أمل الأولاد بالقبول أكبر من ذي قبل، بحيث إنّهما كانا يدرسان بجهد ورغبة كبيرين.

 

وفي العام التّالي، قُبِل الاثنان، وبدرجة جيِّدة، ودخل الاثنان إلى جامعة مشهد.

 

ولا أحسب هذا سوى أنّه نظرة رعاية من الشهيد.

 

264

 


257

تراب كوشك الناعم

نفحات من وصيّة القائد الإسلامي الرشيد الحاج عبد الحسين برونسي:

 

لقد طويت هذا الطريق بعيون مفتّحة وبقيت ثابت القدم، أرجو من الله أنّ هذه الخطوات الّتي طويتها في سبيله، أن يتقبّلها عنده وأن يعتقني من نار جهنّم.

 

أولادي، استمعوا جَيِّداً إلى القرآن واجعلوا هذا الكتاب السماويّ أنموذجاً لكم في الحياة. يجب أن تستمدّوا العون من القرآن، وأن تأخذوا منه المدد وتتوسّلوا بإمام الزمان عجل الله فرجه الشريف.

 

تمتموا دائماً بآيات من القرآن حتّى لا يترسّخ فيكم الشيطان بشكل خفيّ.

 

أيُّها الناس الّذين لا يعرفون، أيّها النّاس الّذين لم يتقبّلوا الشهادة بعد، يجب أن تسقط عن ألسنتكم ومن أفكاركم، في المجتمع المتحضّر والمتقدّم، كلمة أموات عن الشهداء، ويجب أن تتجلّى حياتهم بعزّة وافتخار، ﴿بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.

 

لا أشعر برغبة في نفسي تجاه أيّ مسؤوليّة، لكن قالوا لي: إنّ هذا تكليف شرعيّ، يجب أن توافق، لهذا قبلت، على أساس ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾. ومن المسلّم به أنّ في هذا الطريق أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.

 

سوف ترون أذيّة من الناس الجهلة، تحمّلوا وابقَوْا ثابتين على عزمكم الراسخ.

 

عبد الحسين برونسي

والحمد لله ربِّ العالمين

 

265


258
تراب كوشك الناعم