الفصيل الأول - الجزء الثاني


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-09

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفصل التاسع - الدماء

الراوي: حسن أعلايي نيا (قابل أعلا)

التشكيل: قسم الهندسة والتخريب، المجموعة الثانية.

تاريخ ومكان أول مقابلة: 1370هـ ش (1991م)، طهران

 

 

الفصل التاسع

 

الدماء

كنت في العام 1984م، تلميذًا في الصف الثانوي الأول في مدرسة "ميرداماد" في "المنطقة 12" من طهران، وكان محمد علي رجائي - رئيس الجمهورية الشهيد - قد درّس سابقًا في هذه المدرسة، الأمر الذي كنّا نفتخر ونتباهى به أمام الجميع في كل مكان.

 

التحقتُ بالجبهة في شهر أسفند (آذار1985) من ذلك العام، كان الدرس بالنسبة لي أمرًا بالغ الأهمية، لكني عندما ذهبت إلى الحرب، صرت أعتبر أنه يجب على الجميع أن يشارك في الدفاع وعليهم أن يدرسوا أيضًا. ولهذا السبب فإنني لم أترك الدراسة. كان الكثير من التلاميذ، وبمجرد أن يقرروا الالتحاق بالجبهة، يقبّلون الكتب والدفاتر ثم يودّعونها نهائيًا "وهذا فراق بيني وبينك"! لكن، بعد مضي عدة سنوات على الحرب، تم تنظيم متابعة الدراسة على خطوط التماس وصارت أمرًا عاديًّا ومتعارفًا عليه. كان الفتيان الأكبر سنًّا منّا والذين

 

7

 


1

الفصل التاسع - الدماء

سبقونا إلى الجبهات يقولون لنا: يمكن للطالب أن يدرس على الجبهة ويقدّم امتحاناته، وأن يحصل على علامات جيدة أيضًا.

 

في ذلك العام، كانت مدرسة "جهان بناه" الواقعة في شارع 17 شهريور في طهران، خاصة بالمقاتلين ودراستهم وامتحاناتهم.

 

كذلك كانت عدة مجمعات تعليمية قد افتتحت على الجبهة وكان المقاتلون يدرسون فيها ويباحثون المواد ويقدمون امتحاناتهم فيها.

 

وهذا الأمر، كان بالنسبة لأمثالي، ممن يعتبر الدرس مهمًّا ولا يريد تركه، إتمامًا للحجة، ودافعًا قويًّا للالتحاق بالجبهة.

 

في ذلك العام، كنت لا أزال فتًى صغير السن، طفولي الوجه قصير القامة ونحيل الجسم. في شهر بهمن (شباط) وهو شهر ميلادي، كنت قد بلغتُ الخامسة عشرة من عمري. ولهذا لم يوافق مسؤول التعبئة على طلب تطوعي للمشاركة في القتال. وهذا كان حال أصدقائي الآخرين أيضًا. استطاع عدد قليل جدًا من مواليد العام 1348 (1969م)، والذين ولدوا في الأشهر الأولى من ذلك العام، أن يلتحقوا بالجبهات. وعلى هذا، لم يبق أمامنا سوى طريق التزوير, لعلّه تزوير مقدّس ويسامحنا الله عليه! هذا التزوير الذي اضطر الكثير من الأصدقاء أن يقوموا به.

 

كان تزوير صورة الهويّة وتبديل تاريخ الولادة من 69 إلى 68، حلًّا للمشكلة الأولى. لكن بقيت المشكلة الثانية وهي الحصول على ورقة موافقة الوالدين، والتي كانت التعبئة تشترطها للفتيان في عمر السادسة عشرة والسابعة عشرة.

 

بدأتُ بمحاولة استرضاء أمي. على الرغم من كوني الابن السادس للأسرة وما قبل الأخير، فالمشكلة كانت كبيرة. لم تكن أمي لترضى. كنت أقول لها: إخوتي كلهم في البيت، اسمحي لي أن أذهب, كانت أمي

 

 

8


2

الفصل التاسع - الدماء

ترفض وتقاوم. إلى أن رضيت أخيرًا، بعد سيل من الأدعية والنذور التي كان يجب أن أؤديها، وهكذا سلختُ قلبي من البيت والمدرسة وانطلقت نحو مصير آخر.

 

في ربيع العام 1985م، خضعت لدورة عسكرية عامة في طهران وفي الصيف شاركت في دورة تخريبٍ تخصصية في مناطق الجبهة. أذكر بالخير مدرّبنا الذي كان يمشي خلال الدورة حافي القدمين على حصى "خوزستان" اللاهبة لكي يتعرف الشباب المتدرّبين ويعوّدهم على تحمل الصعوبات. ولكي يشجع الفتيان الصغار أمثالنا على الصبر ومواجهة الحرارة، يكرر هذه العبارات لرفع معنوياتنا:

- أيها الشباب، فكّروا بالآخرة. هذه الحرارة لا شيء أمام نار جهنم.

 

وكان المتدرّبون ينهلون من روحيته العالية ويتجاهلون الحرارة الشديدة. كانت أقدام البعض تلتهب وتصاب بالتشقق. ولكنهم لم يكونوا يتأففون أبدًا. كنت أهوى التمارين الرياضية والتخشن الجسدي، وأتقبّل هذه المشاق من كل قلبي وروحي.

 

آخر الصيف من العام نفسه، استشهد ذلك المدرب ووصل خبر شهادته إلينا. كنت أحبّه ومتعلّقًا به إلى الدرجة التي كنت أراه في منامي: رأيته مرة على شكل نور وقد دخل إلى خيمتنا, كان نوره قويًّا لدرجة تبهر الأبصار.

 

في أيلول 1985م، وبعد خمسة أو ستة أشهر من المرابطة والحضور على الجبهة في اللواء العاشر "سيد الشهداء" أنهيت خدمتي ورجعت إلى طهران. في الشهر الذي بقيت فيه بطهران، أنهيت مسائل دروسي وامتحاناتي ورتّبت أوضاعي للعودة مجددًا إلى الجبهة.

 

9

 


3

الفصل التاسع - الدماء

في يوم 14/10/1985م، انطلقت نحو خطوط النار، وهذه المرة التحقت بالفرقة "27 محمد رسول الله" صلى الله عليه وآله، ومن هناك تمّ فرزي إلى كتيبة حمزة، السرية الثانية.

 

في أوائل شهر "آبان" (الأسبوع الأخير من شهر أيلول) التحقت بالفصيل الأول من السرية الأولى.

 

كانوا قد قرروا أن يجمعوا كل الفتيان ذوي الأعمار الصغيرة في فصيل واحد. كان مركز السرية في الطابقين الأخيرين لمبنى الكتيبة، أول شخص سلمت عليه وتحدثنا معًا هو مسؤول الفصيل: الأخ "كلستاني".

 

قبل أن ألتحق بالفصيل الأول، حدث معي ولمرات عديدة أن شممت رائحة عطر جميل وقوي، في حسينية الحاج "همت"، حيث كان شباب كتيبة حمزة يتجمعون، ولطالما تمنيت أن أتعرف إلى صاحب تلك الرائحة الزكية ولكني لم أستطع تحديده في زحمة تلك الحسينية، كانت مهمّة صعبة وخاصة عندما تختلط تلك الرائحة بروائح عطور أخرى.

 

في ذلك اليوم، عندما جلست وجهًا لوجه مع "محسن كلستاني" وجدت أنه هو صاحب العطر، حظّ عجيب! ذلك الذي كنت أبحث عنه منذ مدة، أصبح مسؤول فصيلنا. لم أقل شيئًا عن الأمر ذلك اليوم, لكني كنت أشعر بالفرح ومن كل قلبي، بأنني أنتمي لفصيلٍ مسؤوله يفوح منه ذلك العطر الجميل. كان "محسن كلستاني" مربوع القامة وذا شعر أسود كثيف كريش الغراب ولحيته مرتّبة.

 

وبعد تعرّفي إلى مسؤول الفصيل، تعرّفت إلى رفاق السلاح في الفصيل, "محمد عليان نجادي" الذي كان مثلي عامل هندسة "تخريب"، يكبرني بسنة وثمانية أشهر، يدرس في السنة الثالثة المهنية اختصاص الكهرباء. كان "محمد" أقصر قامةً مني ولكنه عريض

 

10

 


4

الفصل التاسع - الدماء

الكتفين وقوي البنية، وشكله أكثر شبهًا بالرجال مني. له تجربة مثلي في الجبهة، حيث بدأ بالمرابطة من أول هذا العام. لم يشارك حتى الآن في شن هجوم مباشر في ليلة عمليات ولكنه خدم في كتيبة "عمّار" خلال دورة الدفاع في جزيرة "مجنون" ولديه ذكريات حول عمليات "عاشوراء 3" في تلك الجزيرة. أذكر أني كنت هناك في زمان تلك العمليات ولكن في اللواء العاشر. تلك العمليات اقتصرت على هجمات برمائية محدودة ولم يشارك في كسر خط التماس سوى عدد قليل من "المقاتلين" ولم أكن أنا و"محمد" ضمنهم.

 

في شهر "آبان" (أيلول - تشرين الأوّل) انتقلت الكتيبة إلى ساحل بحيرة "دز" للمشاركة في دورة تدريبيّة في معسكر "سفينة النجاة" حيث علمونا على أنواع السباحة، واستخدام سترة النجاة، والهجوم من الماء على اليابسة والعكس أيضًا. كنا نستغلّ أوقات الفراغ هناك للدرس وكذلك للتسلية والترفيه.

 

كان الدرس في الفصيل سهلًا ومريحًا. أكثر الشباب كانوا طلابًا وكانت الأجواء مجهّزة للدراسة وطلب العلم. كنّا نتسلّى هناك بصيد السمك، حيث نخترع صنارة، ونضع بها ما تيسّر من طعم ونرميها في ماء السد الصافية. كان عملًا ممتعًا. حجم الأسماك لم يكن يتعدى العشرين سنتيمترًا على الشاطئ، ولكن في وسط البحيرة توجد أسماك أكبر.

 

في الأسبوع الثاني للدورة، أعطونا مأذونية، ولكني ولشدة تعلقي بهذه الهواية الجديدة، لم أعُد إلى المدينة وبقيت في المعسكر لصيد السمك. الأمتع من صيد السمك، كان إعداده للأكل, بأنواع الشوي والقلي والطبخ. كنت أصطاد ثلاثين أو أربعين سمكة في كل مرة ثم أشكّها في حربة الكلاشنكوف ونتناولها مع الشباب. في معسكر "سفينة

 

11

 


5

الفصل التاسع - الدماء

النجاة" كان لدينا برنامج ثقافي مميز، حيث ينبغي على كل واحد منا أن يحضر موضوعًا ما بحسب رغبته ويقوم بإلقائه كدرس أو خطبة على الشباب لمدة ربع ساعة حين جاء دوري ألقيت على الشباب كلمة حول الحديث الشريف: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا بعثه الله يوم القيامة فقيهًا عالمًا".

 

في أحد الأيام، ولكثرة ما حككت البثور الجلدية في ظهري بدأتْ بالنزيف, وكأنها "حبة" اقتلعت من جذورها، كانت تسبّب لي حساسية شديدة، عندما جُرحت لم يكن الدم ليتوقف. جاء مسعف الفصيل "علي شهبازي" لمساعدتي وذهبنا معًا إلى خيمة الدفاع المدني التي تبعد عنّا مئات الأمتار. قام المسعفون بتضميد الجرح ورجعنا, لكن لم تنته المشكلة! بعد منتصف الليل عادت الحساسية و"الحكاك" وعاد النزيف بقوة حتى تبلّل قميصي كلّه بالدم. اضطررت هذه المرة، للذهاب وحدي إلى خيمة الإسعاف في ظلام الليل.

 

في طريق العودة، وسط أشجار تلك المنطقة الحارة، وفيما كان النسيم يصفّر بين الأوراق والأغصان فيُحدث نغمًا جميلًا، لفت نظري ظلّ شبح أسود يتحرك! فتحرك عندي حب الاستطلاع والحشريّة لمعرفة ما الأمر. اقتربت بهدوء فإذا بشخص ساجد على الأرض. دفعني الفضول لأعرف من هو. اقتربت بطريقة لا يلاحظني فيها. نعم كانت تلك الرائحة العطرة تفوح منه، إنه "محسن كلستاني" نفسه، ومعه سجادة صلاة وقنديل وسجدة وكتاب دعاء. لم أرغب بإزعاجه في خلوته فانسحبتُ بهدوء شديد. رؤية ذلك الوجد والمناجاة الليليّة، أنستني ألمي وحساسيتي فاستلقيت ونمت حتى الصباح.

 

في أواخر أيام الدورة، قام أحدهم بتصوير فيلم عن مناورات الكتيبة في بحيرة سد "دز". في ذلك اليوم، كان "مسعود أهري" يحمل

 

12

 


6

الفصل التاسع - الدماء

علم إيران بيده. فيما بعد عرفنا أن الفيلم تمّ عرضه على التلفاز. كان الفيلم دعائيًا للإعلام الحربي في الحرس الثوري.

 

عندما غادرنا المعسكر كنت أنا و"عليان نجادي" قد أصبحنا رفيقين حميمين جدًّا. كان لدى "محمد" لثغة في نطقه تظهر في بعض الحروف. فيقول "حثن" بدل "حسن" و"ثلاح" بدل سلاح وهكذا. ولهذا كان الشباب يمازحونه ويقلّدونه أحيانًا، وكان يرد عليهم بسرعة بديهته وأدبه الشديد. حين رجعنا إلى ثكنة "دوكوهه" أعطونا مأذونية عشرة أيام للقاء أهالينا. قبل الذهاب، أخذت عنوان محل العطور الذي يعرفه الأخ "كلستاني" وكان في قم واسمه "عطورات كلستاني". خلال العطلة، ذهبت إليه واشتريت منه قارورة عطر لونها أخضر غامق ورائحتها قوية تشبه رائحة الشوكولاتة!

 

لم تكد تمضي أيام على عودتنا إلى "دوكوهه" حتى بدأ برنامج تدريب مجدد. كانت هذه الدورة خاصة لعناصر التخريب "الهندسة" في الكتيبة، شاركت أنا و"عليان نجادي" من فصيلنا. نحن العشرون في "جماعة التخريب" في الكتيبة، صعدنا يومها في شاحنة تويوتا وتوجهنا نحو معسكر تدريب وحدة الهندسة في الجهة الغربية من الثكنة. كان التدريب تكرارًا للمكررات، لم أشعر بأني تعلمت شيئًا جديدًا, اللهم سوى التعرف أكثر إلى "عليان نجادي".

 

على الرغم أن "محمد" كان أكبر مني بسنة وأشهر, إلا أنه اضطر أيضًا إلى تزوير صورة تذكرة الهوية للالتحاق بالجبهة. ومع هذا فإنه كاد يبكي عند تركه المنزل، ولكنه منع نفسه حينها وعوّض عن تأثره بالبكاء الشديد فيما بعد! كان يستيقظ كل صباح قبلي وينشغل بالدعاء والصلاة، كان يناديني أحيانًا: "حثن"، قم، هيا استيقظ يا "حثن".. حكى لي عن ذكرى في صغره: كنت في العاشرة أو الحادية

 

13

 


7

الفصل التاسع - الدماء

عشرة من عمري، كنا نحصل على مجلات "كيهان الصغار" القديمة بأسعار منخفضة أو مجانًا لانتهاء تاريخ صدورها، فكنت أقتطع الأجزاء المسلسلة من القصص مثل "تان تان" ثم أجمعها وأجلّدها لتصبح قصصًا كاملًا وأبيعها وأدّخر ثمنها".

 

عندما انتهت الدورة، ورجعنا إلى مبنى الكتيبة. كان أغلب الشباب منهمكين بالدرس والمراجعة للامتحانات، فنحن في شهر "آذر" (تشرين الثاني-كانون الأوّل).

 

ولحسن الحظ، لم يكن لدينا تمارين صعبة وتدريبات شاقة حينها, ما أعطانا فرصة جيدة لندرس ونكتب واجباتنا ونراجع استعدادًا للامتحانات الفصلية.

 

كنت في ذلك العام في الصف الثانوي الأول. تعمّقت صداقتي في تلك الأيام مع السيد "حسن رضي". كان فتًى هادئًا ومهذبًا وحسن الأخلاق، نحن الاثنان كنّا نميل للعلوم التجريبية. كان هو في الصف الثالث ثانوي قسم العلوم. كانت علاماتنا نحن الاثنين متدنية في الرياضيات والهندسة.

 

من بين المواد الدراسية، كان السيد "حسن" يحب التاريخ والأدب والحقوق وكنت أنا أحب علوم الحياة "البيولوجيا". كان يريد إكمال دراسته ليصبح دكتورًا في الحقوق، بينما أردت أن أصبح طبيبًا. كانت ميولنا المشتركة تقوّي علاقتنا وصداقتنا أكثر فأكثر.

 

كان قد التحق بالجبهة لأول مرة في العام 1983م وبقي حينها لمدة ثلاثة أشهر، وفي العام التالي خدم في "كردستان" وحاليًا معنا في كتيبة "حمزة". ومع هذا لم يكن قد شارك في هجوم، مثلنا تمامًا. كان تلميذًا مجتهدًا في الدرس. في السنة الماضية قدّم امتحاناته في المجمع

 

14

 


8

الفصل التاسع - الدماء

التعليمي للمقاتلين ونجح في كل المواد. كانت تجاربه في هذا المجال مفيدة جدًا لي ولمحمد.

 

كان "رضي" الأكبر سنًّا بيننا نحن الثلاثة، من مواليد 1967م. لكنّنا كنّا بنفس الطول تقريبًا. "رضي" كان مربوعًا وكتفاه أعرض! عندما كانت توضع مائدة الطعام وبعد دعاء "اللهم ارزقنا رزقًا حلالًا طيبًا واسعًا برحمتك يا أرحم الراحمين"، كانت الأصوات ترتفع من أطراف المائدة "أعطوا الملح لرضي!". لم يكن "رضي" ليتناول الطعام أبدًا إن لم يبدأ بالملح!

 

في السابع عشر من ربيع الأول، أُقيم احتفال المولد النبوي في الثكنة. كانت الحسينية مزدحمة في ذلك اليوم! جاء الأخ "كوثري" قائد الفرقة وشاركنا الاحتفال. أنشدت فرقة تلاميذ مدينة آباده*[1] الانشادية "قلبي يرفرف، ويطير إلى كربلاء" بلهجة شيرازية جذّابة فأضفت على الحفل جمالًا مضاعفًا. كذلك كان هناك إلقاء لكلمات شاعرية ومقاطع مسرحية وحلوى وضيافة. لم أعرف ماذا حصل يومها إذ قام أحد شباب كتيبة الأنصار بالتقاط صور فوتوغرافية لقائد الفرقة -بالطبع بعد طلب إذنه- ومن حسن حظي أني كنت في الجمع وبقيت تلك الصور تؤرخ لهذه الذكرى.

 

تابعت حينها الموضوع، حتى وجدت ذلك المقاتل الذي صوّرَنا وأخذتُ صوري منه وشاهدها أغلب شبابنا.

 

كانت كرة القدم الرياضة المفضّلة عند شباب الفصيل. "عليان نجادي" من مشجّعي فريق "شاهين" ويتابع أخباره تباعًا.

 

أما أنا فلم أكن من أنصار فريق محدّد, لكني كنت أهوى كثيرًا لعب الكرة.


 


[1] مدينة بمحافظة فارس.

 

15


9

الفصل التاسع - الدماء

اشترى الشباب كرة بلاستيكيّة من مدينة "دزفول" وكنّا نلعب عند كل فرصة سانحة. وعليه كانت الطابة جزءًا لا يتجزأ من عتادنا وأغراضنا. كنتُ أنا و"عليان نجادي" من الأعضاء الثابتين في فريق الفصيل. كنّا نلعب أحيانًا في تحدّيات داخل الفصيل وأحيانًا أخرى بين فصائل الكتيبة وحتى بين فصيلنا وفِرق من كتائب أخرى. كان "عليان نجادي" يتميز بركلات قوية وتمريرات فنية عالية. كان السيد "حسن" يهوى المصارعة وعنده إلمام بفنونها وأسرارها. فقد كان يشرح لنا بالتفصيل وضعياتها المختلفة, لديه في المنزل فرشة مصارعة وحذاء خاص لهذه اللعبة. كان السيد "حسن" يصلّي أحيانًا مرتديًا عباءة في حسينية الحاج "همّت"، كان يتحلّى بعبادات أخرى تميّزه عن الباقين, عادات ورثها عن آبائه وأجداده السادات. كان جده لأمه وجده لأبيه من السادة والعلماء المعروفين في "كلبايكان". تناول الملح قبل الطعام وبعده، الصلاة وقراءة آية الكرسي بعد الصلاة، كانت من ذلك التراث العريق.

 

 في أواخر شهر "آذر" (كانون الأول)، كانت الأمطار تهطل بغزارة حين قَدّمنا الامتحانات في المجمع التعليمي للمقاتلين، الواقع في شمال باحة المراسم الصباحية. أخذنا نحن الثلاثة علامات عالية. وكما كان يقول طلاب المدارس: إن كانت العلامات عالية "نحن أخذناها" وإن كانت متدنيّة "هم أعطونا!".

 

اتفقنا في اليوم الأخير للامتحانات، أن نضع ثلاث لوحات إعلانية في مكان حددناه في المبنى وهي "المهندس محمد عليان نجادي" و"الدكتور حسن قابل أعلا" و"المحامي السيد حسن رضي".

 

في أحد الأيام، صدرت الأوامر بإخلاء المبنى وانتقال الفصيل إلى معسكر "كرخه". في المعسكر الجديد تموضعنا في الخيام التي

 

16

 


10

الفصل التاسع - الدماء

 كانت تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن نهر "كرخه". كان المعسكر أكبر بكثير من معسكر "سفينة النجاة" الذي لم يكن يتسع لأكثر من كتيبتين، أما هنا فقد استقرت كل كتائب الفرقة ولا يزال هناك مكان لقوات إضافية. بعد الانتقال إلى هذا المعسكر، ازدادت التدريبات العسكرية جدّيّةً ومتابعةً. كانت الفصائل حاشدة ومزدحمة بالشباب، ومن بينها كان فصيلنا الذي يضم في أغلبه مواليد 68 و1969م ولهذا كانوا يطلقون علينا لقب "فصيل الروضات!".

 

كنت مسرورًا راضيًا عن مشاركتي في الجبهة، فقد تمكّنت من متابعة دروسي وواجباتي، وعلاماتي المرتفعة ونجاحي يفرحان قلب أهلي، وكذلك كنت أشعر بأني أقوم بعمل ما في مواجهة الأعداء الذين هاجموا بلدنا للقضاء علينا وعلى ديننا، على الأقل لم أكن جليس الدار مثل بعض الذين لا يهتمون ولا يبالون بما يجري على وطنهم.

 

في الأيام الأولى لوصولنا إلى "كرخه"، وجدنا الطقس ماطرًا وعاصفًا، والأمطار تهطل بمناسبة أو من دون مناسبة. عندما توقف المطر، بدأ الشباب حملة لترتيب الخيام وتغطيتها بقطع النايلون لمنع النشّ، ولأني خفيف الوزن، كنت أتسلق برشاقة على الأعمدة وأقوم بالمهام والصيانة، وعندما أنتهي كنت أغطي الخيام بأغصان الأشجار في عملية استتار وتمويه دقيق.

 

قويت الصداقة بين الشباب في "كرخه"، ولعل ما ساعد على هذا كوننا اجتمعنا كلنا في خيمة كبيرة. وكذلك ساهم المطر في الخارج بزيادة الألفة والمودة. كنا، أنا و"محمد" ننام في وسط الخيمة مقابل بعضنا البعض، أما السيد حسن فكان على مقربة منا وبعد عدة مقاتلين. عندما كنا نقف في حالة تأهب واستعداد في الفصيل، دائمًا نكون أنا ومحمد أحدنا وراء الآخر، ولأنه في المجموعة الأولى كان يقف

 

 

17

 


11

الفصل التاسع - الدماء

على اليمين. وعندما نأخذ استراحة، نتحدث معًا وقوفًا أو جلوسًا.

 

كان يقول: أسموني في المدرسة "محمد الخمسة سنتيمتر!" لأني قصير ونحيف الجسد. وهذه الميزة قد نفعت كثيرًا في العام 1985 نفسه!

 

عندما أردنا التقدم إلى خط الدفاع في جزر "مجنون"، لم يكن لدى الكتيبة سوى خزّان مازوت بسعة ألف ليتر لوضع مياه الشرب فيه، فكّر المسؤولون بإحضار أدوات الحدادة لقص الخزان وتنظيفه لوضع الماء فيه، فقمت أنا بالدخول عبر فتحته الصغيرة وغسلته جيدًا بالماء ومسحوق الغسيل "التايد" عندما خرجت، استقبلني الشباب بعدة صلوات على محمد وآله، فزال عني التعب والإرهاق!".

 

كان في فصيلنا، العديد من الشباب من "خدام الحسين"، (يتطوعون لخدمة الآخرين)، ولكن أشهرهم كان "محمد" الذي كان يسارع فورًا وبمساعدة "سعيد بوركريم" أحيانًا لجلي أوعية الطعام. كان الجلي بتلك المياه الباردة في ذلك الجو والطقس الماطر، عملية صعبة جدًا، فكانا يسخّنان المياه بإبريق الشاي ثم ينظفان الصحون والأوعية. "رضا واكس (أنصاري)" و"مهدي كبير زاده" كانا يقومان غالبًا بمسح الأحذية العسكرية ودهنها كي تعمّر أكثر في أقدام المجاهدين.

 

لم تتوقف التمارين والتدريبات في "كرخه". في بعض الليالي كان المسؤولون يجرون "طابور الإزعاج" عدّة مرات متتالية. فكانوا يوقظوننا من النوم على عجلٍ ثمّ نقف صفًّا مرصوصًا خارج الخيام، بعد دقائق يعطوننا أمر الاستراحة للعودة للنوم، بعدها بساعة يكرّرون العملية من جديد! لكي يتعوّد الشباب على قلّة النوم والاستعداد للنشاط الفوري خلال العمليات المفاجئة. عندما لا يكون هناك مناورة أو مسير ليلي كانوا يعوّدوننا على هذه الألعاب استعدادًا لليلة الهجوم.

 

18

 


12

الفصل التاسع - الدماء

في إحدى الليالي، أمضينا أصعب وأطول مناورة ليلية شهدها الفصيل. مشينا من دون توقف من الساعة العاشرة مساءً وحتى السادسة صباحًا، اجتزنا خلالها تلالًا وشيارات ومنخفضات، حتى أذان الصبح، حيث توقفنا بالقرب من محطة "صلواتية" عند جسر "كرخه" على جادة "انديمشك - دهلران" والحال أن هذا كان نصف مهمتنا فقط! بعد الصلاة طوينا المسير نفسه رجوعًا إلى المعسكر.

 

بعد هذا المسير الطويل، غسل الجميع ثيابهم، فالعرق بلّلها وكذلك وُحُول الزحف وتراب الطريق. بعد الغسيل، وضع السيد "حسن" ملابسه بين البطانيات حتى استوى قماشها، ثم سخّن إبريق الشاي وبدأ بكويها! كان يكوي بدلته بشكل احترافي عجيب فسألته:

- هل عمِلْتَ بالكوي سابقًا؟

- نعم، كان هذا عملي من سن الثانية عشرة!

- أين؟

- في محل والدي.

- ومتى كنت تدرس وتحلّ فروضك؟

- عندما أنهي درسي، كنت أذهب للمصبغة لمساعدة والدي، لم تكن المسافة طويلة، محطة باص واحدة بين البيت والعمل.

- ألم تكن تتعب هكذا؟

- بلى، كما كنت أحبّ أن ألعب كرة القدم مثل الفتيان الآخرين.

- ولهذا لا تحب الآن كرة القدم!؟

- ربما، لكني كنت سعيدًا لأني كنت أعمل معه حتى الغروب.

- ومتى كنت تكتب واجباتك؟

 

19

 


13

الفصل التاسع - الدماء

- في المصبغة، وأحيانًا في البيت، كانت الحقيبة المدرسية رفيقتي، كيفما اتجهت وذهبت. تقع مصبغة أبي في جادة "نيكنام" شارع الشهداء، عندما تطلّ صوبنا، سأكوي ملابسك بنفسي.

 

"قبر ديلوكس"، كان اصطلاحًا رائجًا بين الشباب في معسكر "كرخه". فقد كانوا يذهبون في منتصف الليالي وبأيديهم المصابيح والبطانيات، للدعاء والصلاة في القبور المحفورة جانب الخيام. كان "غلام رضا نعمتي" و"مسعود أهري" -من قدامى محاربي الفصيل - رائدين في هذه الأعمال. "القبر الديلوكس" كان قبرًا محفورًا جيدًا وأرضه ناعمة التراب وعمقه مناسبًا!

 

جرّبت السفر للآخرة، أول مرة مع "غلام رضا نعمتي" - على تراب "كرخه" بالطبع - وكان رامي رشاش مجموعتنا، وهو المقاتل الثالث في الصف أمامي. وعلى عكس ظاهر هذه العبادة، حيث يظنّ البعض أنها تضعف الأمل عند الإنسان، فإنها كانت تمنحنا حياةً أكثرَ أملًا وسعادة. حيث أَزْهَرَ في قلبي هذا النور ولمعت الفكرة: سواء الآن أو فيما بعد سنصل إلى هذا المكان "القبر"، وهو سفر لا رجوع فيه. والآن لدينا فرصة العمل والإصلاح، فيجب أن نغتنم كل لحظة من لحظات العمر الثمينة، للرجوع إلى الله. والحق أن من يمضي ليلته في أجواء معنوية كهذه، كيف سيكون نهاره؟ هل سيقضي يومه بالذنوب والغفلة؟!

 

في ليال عديدة، حين يكون لدينا تمارين ليلية مرهقة، كنت أسمع صوتًا يوقظني قبل وقت السحر:

- الأخ "قابل أعلا" يا سيد حسن، استيقظ.. كم أن نومك ثقيل.. هيّا قم.. كم تنام!

 

كنت أفتح عيني فأرى مسؤول الفصيل وهو يحاول بكل احترام

 

20

 


14

الفصل التاسع - الدماء

إيقاظي لصلاة الليل أو صلاة الصبح. وأنا بالمقابل لكي أعوّض هذا، وجدته في إحدى المناورات الشاقة قد غطّ في نوم عميق، فذهبت نحوه وبدأت:

- يا أخ "كلستاني"، يا سيد "محسن"، هيّا قمّ.. كم تنام! استيقظ وإلاّ ستصبح صلاتك قضاءً عمّا مضى!..

 

هكذا كنا ننتقم من بعضنا البعض!

 

كان لحذاء "محمد" العسكري البالي حكاية طويلة. عندما كانت تمطر، يدخل الماء للحذاء ولا ينفع معه حتى مسح دهان "رضا أنصاري". قال "رضا" لمحمد عدّة مرات: إن لم تذهب أنت لقسم التجهيزات فسأذهب بنفسي وأحضر لك حذاء! حذاؤك انتهى عمره منذ زمن! اسأل من تريد ويجيبك بهذا!

 

وأخيرًا ضاق محمد ذرعًا بحذائه المهترئ، ذهب للتجهيزات كي يأخذ حذاءً عسكريًّا جديدًا. كنت معه حينها. فتّش العامل هناك وقلب الأحذية رأسًا على عقب فلم يجد حذاءً بمقاس 38! أراد "محمد" أن يعود لانتعال حذائه القديم. قلت له:

- خذ واحدًا جديدًا والبس جوارب قطنية سميكة فتحل المشكلة! فهذا الحذاء سيعيقك في العمليات.

 

عاد العامل هناك للبحث وأعطى "محمد" أصغر مقاس عنده. نفّذ "محمد" ما قلته له، ومع هذا بقي الحذاء يتأرجح في قدميه! وكانت النتيجة التهابات جلدية وعدد من البثور بعد المناورة الأولى. عندما عرف مسؤول الفصيل بالقصة، سمح له بانتعال حذاء رياضي كتّاني حتى تكون قدماه قد شفيتا.

 

في أحد الأيام، كان دوري أنا لأدرّب الشباب على التمارين الرياضية

 

 

21


15

الفصل التاسع - الدماء

الصباحية. كان يومًا عسيرًا على كل شباب الفصيل الأول! كان شباب الفصائل الأخرى قد أنهوا تناول الفطور وجمعوا أغراضهم، ولكنني كنت قد بدأت التحمية للتو! في ذلك اليوم، أجريت كل التمارين والتدريبات التي كنت تعلّمتها خلال سنوات المدرسة وكان على المساكين أن يتابعوني، كان العرق يتصبب من رأسي وكامل جسدي، ولكنني لم أتوقف، فاليوم يومي! ضغطت على الشباب لدرجة تمزّق معها بنطال السيد حسن على تراب "كرخه" الموحل!

 

رأيته بعد الفطور، يقطّب البنطال وبيده الإبرة والخيط، كانت خياطته محترفة أيضًا مثل كَوْيِه. كل تصرفاته كانت مؤدّبة ومرتّبة ومنظّمة.

 

كان لدي بدلتان عسكريّتان، واحدة بلونٍ واحد "سادة" والأخرى كوريّة مخطّطة كجلد النمر. قميص البدلة "الكاكية" كان على مقاسي. ولكن قميص الأخرى (جلد النمر) كان كبيرًا جدًا عليّ. ومع أني طويت أكمامه ثلاث طيات، إلا أن يديَّ بقيتا ضائعتين فيه! كنت أعِير هذا القميص أحيانًا لمحمد أمين شيرازي، ولديه صورة فيه أيضًا. كان "شيرازي" طويل القامة مربوع الجسم. وكان القميص مناسبًا يليق به.

 

في إحدى المرات، قوّيت قلبي وتشجعت فقلت له: خذ القميص إنه هدية منّي لك، لكنه لم يقبل، لعله كان يعلم قيمة هذا القميص لدي وبكم اشتريته! كان ثمنه عشقي الكبير للجبهة.

 

ذهبت في أحد الأيام، أنا ومحمد و"سيد حسن" إلى شاطئ نهر "كرخه". مزّق السيد بعض الأوراق ورماها في الماء. واضح أنها رسالة. كنت قد رأيته سابقًا في سد "دز" يفعل هذا ولم أسأله، هذه المرة لم أستطع السكوت، تجرّأت وسألته:

- ما هذه الأوراق التي تمزّقها يا سيد؟

 

22

 


16

الفصل التاسع - الدماء

- رسائل. رسائل أهلي أمزّقها بعد أن أقرأها.

- لماذا لا تحتفظ بها للذكرى؟

- أحب كثيرًا أن أعود وأقرأها مرارًا وتكرارًا ، لكني لا أريد أن أتعلّق بالأهل والأحبة. فهذا يؤذيني كثيرًا.

- من الذي يكتب لك رسائل أكثر؟

- أمي.

- أبوك في العمل دائمًا.. إنه عامل كادح، أليس كذلك؟

- نعم، والمفارقة أن أمي لا تحسن القراءة والكتابة. تستعين بابنة الجيران كي تكتب لي رسالة عن لسانها.

- والحال هذه، كل الجيران يعلمون بأنك على الجبهة؟

- ابنة الجيران، بعد أن تنهي كلام أمي، تكتب لي عدّة كلمات منها هي أيضًا!

- خيرًا إن شاء الله. مبروك على كل حال..

 

تغيّر لون وجه السيد حسن، احمرّ ثم ابيض.. وقال:

- هي أكبر مني بعدّة سنوات.

- إن كان هناك تفاهم، فلا بأس.. العمر ليس مهمًّا.

كان السيد يغلي ويفور من مزاحي وإذا بـ"عليان نجادي" بلهجته الجميلة يدخل على الخط أيضًا:

- "حثن"، لا مشكلة أبدًا.. أنا أيضًا أريد أن أبدأ حياتي الزوجية مع العجوز الساحرة في قرية "عليان".. مبروك.. إن شاء الله!..

 

طلب مني "أحمد أحمدي زاده" أن أكتب له كلمات للذكرى في معسكر "كرخه". كان معه دفتر كبير كتب على هوامشه جملًا للإمام

 

23

 


17

الفصل التاسع - الدماء

بخط "نستعليق" جميل، وكان يلصق صورةَ مَنْ يكتب له على زاوية الصفحة أيضًا. كتبتُ له عدة عبارات بما معناه:

"سلام على عوائل الشهداء وسلام على الطلاب الذين سيصنعون مستقبل البلاد, (شعر):

كم أود أن أكون شمعًا أنير في قلب الليالي

                                    أهدي النور للجميع وأحترق فداءً لهم"

 

إنّ حياة كل البشر تنتهي في هذا العالم، والشيء الوحيد الذي يبقى لهم هو الأعمال الحسنة والصحيحة. الدنيا مزرعة وما نزرعه فيها سوف نحصده في الآخرة. حاولوا أن تستغلّوا هذه الفرصة الحالية بحدّها الأقصى! كي لا تشعروا بالندم -لا سمح الله - في الآخرة. اعرفوا قدر الصداقة وقيمة بعضكم البعض. هذه نصيحتي لكم والسلام.

                                                                               "حسن قابل أعلا" 22/10/64

 

كذلك أعطيته صورتي. في منتصف شهر (ك2/1986) كانت كتيبتنا قد أعطيت مأذونية لمدة أسبوع، فأحضرت له صورة من طهران. لم تكن عطلة المأذونية قد انتهت عندما رجعت أنا و"محمد عليان نجادي" واثنان من الشباب إلى المعسكر لمراجعة دروسنا قبل الامتحان الذي كان يجب علينا تقديمه في المجمع التعليمي للمقاتلين.

 

كان لدى محمد خَتْمٌ باسمه يطبعه على دفاتره وكتبه. الفتى الصغير الذي كان يحوّل المجلات القديمة إلى قصص ويبيعها، ليس غريبًا عنه هذا النظم والانضباط الدقيق. فيما بعد، أدركت أنه ورث هذه الصفات عن والده.

 

بعد ذهابنا لآخر مرة إلى حقل الرماية وإجرائنا للتدريبات العسكرية، ذهبت أنا ومحمد إلى المدينة في مأذونية لساعات.

 

 

24

 


18

الفصل التاسع - الدماء

كان يريد أن يكلم والده هاتفيًا، لكن لم يتمكن من الاتصال، أظنّ أنّ الهاتف كان معطّلًا في المنزل أو أنّه ليس لديهم هاتف أصلًا، كان يتصل غالبًا بوزارة الدفاع حيث يعمل والده.

 

في تلك الفرصة، اشتريت دفترًا صغيرًا يضم عشرين ورقة وجلده الكرزي اللون بسعر ثلاثة أو أربعة آلاف تومان، لكي يكتب لي الشباب عليه عبارات للذكرى.

 

كان سلاحي كلاشنكوف أخمص حديدي يُطْوى من جنبه، جرّبته بشكل دقيق حين ذهبنا إلى حقل الرماية في "كرخه". ذهبت مرة أو مرتين، بعد أخذ إذن مسؤول الفصيل، مع "مهدي ملكي" الذي كان مسعفًا حربيًّا، إلى حقل الرماية ورميت برشاش "الغرينوف" كي أزيل خوفي من صوته وهيبته! كذلك قُمنا بهذا بالقرب من الخيام. شدّد مسؤول الفصيل كثيرًا أن نحتاط كي لا يصاب أحدٌ بأذى. قبلها بفترة قصيرة، وفي مناورة ليلية للكتيبة، استشهد أحد شباب التجهيزات بالخطأ وجُرح شاب آخر.

 

وقبل أن نترك معسكر "كرخه" كتبتُ وصيتي. كانت هذه أول وصية أكتبها في ذلك العمر الصغير، كلمات صادقة ومخلصة وجهتها إلى رفاق الحي والمدرسة وعندما أقرأها اليوم تبدو لي عجيبة وغريبة!

 

حقًّا إن مرور الأيام والسنوات يفعل فعله بالإنسان!

 

كتب "محمد" وصيته أيضًا في "كرخه". بقي لمدة يومين وفي كل يوم ثلاث أو أربع ساعات كي يتمّ صياغة الوصية! كان يفكر ويكتب جملة ثم يعود للتفكير والتأمل. أما السيد حسن فقد أنجز المهمة في ساعة وجلس جانبًا لأنه أطال الكتابة فهمت أنها وصيته، وإلا لو كانت رسالة لكتبها في أقل من ربع ساعة.

 

25

 


19

الفصل التاسع - الدماء

وصلت شاحنة "تعاون" الفرقة، كانت شاحنة ذات برّاد كبير وبالأصل لشركة لحومات. جمعت أغراضي الشخصية الإضافية وسلّمتها لمركز "التعاون" واستلمت وصلًا بالأمانات. سلّم الشباب حقائبهم فيما احتفظ البعض منهم بكتبهم الدراسية. في صباح اليوم التالي، جمعنا أغراض الخيام من بطانيات وصناديق وأغراض، وتركناها على حالها، كي لا يلتفت أحد إلى انتقال الكتيبة من مكانها.

 

حلّ وقت الظهر، لم يكن معنا صحون ولا ملاعق فأغراضنا كلها ضمن حمولة الباص. كان الغداء "قيمة بلو" (يخنة مع بطاطس)، فأحضروا عدة صوان كبيرة وتشارك كل خمسة أو ستة شباب في صينية تمامًا كأفراد هيئات مجالس العزاء القديمة. كان معاون مسؤول الكتيبة ضيفنا يومها. أكلنا معًا وسمعنا الكثير من الذكريات الجميلة، كان وقتًا رائعًا.

 

وُضع على الباصات بطاقات زوار الجبهة، فيظن من يراها بأن الركاب هم مدنيّون جاؤوا لتفقد الجبهات وليسوا مقاتلين! كان هذا احتياطًا أمنيًّا مطلوبًا. كانت كلها أشياء لفتت نظري: شاحنة برّاد اللحوم، بطاقات الزوار على الباصات، الخيام التي بقيت منصوبة وخالية! كانت تجارب جديدة عليّ. كنت أعتقد حينها أن الباصات ستوصلنا إلى خط التماس، فنترجّل ونشتبك مع قوات العدو.

 

تركنا معسكر كرخه بعد الظهر، ومعه كل الذكريات الجميلة. ودعنا التلال والشيارات. كان محمد لا يزال منزعجًا لأنه لم يتمكن من الاتصال الهاتفي بوالده. كان السيد حسن يتلو آية الكرسي أما "محمد شيرازي" فقد جلس يتحدث مع مسؤول الفصيل عن عمليات "بدر" التي كانا قد شاركا فيها معًا.

 

26

 


20

الفصل التاسع - الدماء

كانت برادي نوافذ الباص مغلقة كي لا يرى أحد الركاب. وكذلك السائق والجالسون في مقدمة الباص كانوا يرتدون ملابس مدنية. تحركت الباصات من "الأهواز" نحو "خرمشهر" وقطعت مثلث "جفير". حلّ الظلام ولا نزال نسير، لم يكن أحد من الشباب يعرف إلى أين نذهب. بعد ساعة تقريبًا، انعطفنا إلى جادة ترابية وبعدها بقليل توقفنا بين النخيل.

 

في ظلام الليل، أنزلنا الأغراض والبطانيات من صندوق الباص ووضعناها في خيمتنا، كنت أظن أننا سنصل إلى دشمة أو خندق، ولكن ها نحن في خيمة جديدة.

 

عند الصباح قمنا بتمويه الخيمة بأغصان النخيل والأوراق اليابسة على الأرض. كنت أنا الأخفّ وزنًا ولهذا صرت أصعد على أعمدة الخيمة وأضع الأوراق والأغصان ثم أربطها بحبل في أعلاها للاستتار.

 

كان موسم تبادل الكتابات والذكريات في ذروته. كتبت "لمحمد جواد نصيري بور":

"أنا أحقر وأصغر من أن أنصحك. إن شاء الله يسامحني ويعفو عني. ما يمكن أن أقوله لك فقط عبارة واحدة: حاول بكل ما لديك من قوة أن ترفع مستوى معنوياتك عاليًا واعرف قدر وقيمة هؤلاء الشباب المخلصين. إن شاء الله نكون شفعاء لبعضنا البعض 31/6/86. معسكر دارخوين".

 

وقد كتب جواد شيئًا على دفتري. وكذلك كتب لي "حسين كلستاني" و"أصغر أهري" و"سيد رضي" و"محمد أمين شيرازي" و"أحمد أحمدي زاده" و"علي قابل". طلبت من "محمد عليان نجادي"

 

27

 


21

الفصل التاسع - الدماء

عدة مرات, ولكن لم يكتب.

 

في هذا المخيم، أجرينا مناورة لمواجهة الهجوم بالأسلحة الكيميائية. مشينا عدة ساعات في ذلك الجو الرطب بالقرب من نهر "كارون" وفي يوم آخر أجرينا أيضًا مناورة لعمليات برمائية. بقينا ساعات داخل الزورق في النهر ثم هاجمنا مواقع العدو المفترض وقمنا بالسيطرة عليها على الشاطئ.

 

ما أذكره من معسكر "كارون" أيضًا الجوع! كنّا نجوع في "كرخه"، ولكن الجوع اشتد وزاد في "كارون". بعض ذوي الخبرة كانوا يقولون إنّ تمرين الجوع هو جزء من التدريب العسكري. ولعل هذا الكلام بالنسبة لنا أي لمن لم يشارك سابقًا في العمليات، منطقي وصحيح، لكن بعض قدامى المحاربين كان يعترض معاتبًا على قلة الطعام أيضًا.

 

جلسنا في أحد الأيام، أنا و"محمد" و"سيد حسن" على ساحل "كارون"، تحدّث السيد حسن عن ذكريات طفولته، قال:

"منذ الصف الأول الابتدائي وحتى الآن حين أذهب إلى الثانوية، لطالما كنت وما زلتُ أجلس في المقعد الأمامي في الصف. بقيت في قلبي حسرة الجلوس في الوسط أو المقاعد الخلفية! حين كنا في المرحلة الابتدائية، ذهبنا إلى الزيارة في "مشهد". قبل أن نذهب، قالت لي خالتي: إذا أمسكت ضريح الإمام الرضاعليه السلام ودعوت، فإنّ دعاءك مستجاب. حين وصلنا إلى الحرم، اخترقت الجموع ووصلت إلى الضريح ودعوت الله قائلًا: يا رب اجعلني طويل القامة! عندما رجعنا من مشهد، سألتني خالتي: "هل دعوت الله لي أيضًا؟" قلت لها: "كلا، دعوت لنفسي أولًا، وحين وصل الدور لكِ، دفعتني الحشود جانبًا، فلم أستطع الدعاء لكِ!" فسألتني مجددًا: "وماذا دعوت لنفسك؟" قلت: "دعوت أن أصبح طويل القامة" فقبّلتني وهي تضحك.

 

28

 


22

الفصل التاسع - الدماء

ضحكنا نحن أيضًا على قصة السيد حسن، لطالما كان قصر قامتنا نحن الثلاثة مدار تندّر وحوار بيننا. وبالطبع تكلمنا كثيرًا حول الحرب والمواجهة مع العراقيين بالسلاح الأبيض والاشتباك معهم وجهًا لوجه وكيف سنتمكن من رميهم أرضًا رغم ضخامة أجسامهم! وكان لكل واحد منا رأيه المختلف عن الباقين.

 

عندما كانت السماء تمطر، كانت الأرض تغدو لزجة وموحلة. فكنا نقضي معظم أوقاتنا داخل الخيمة. كنا نتبادل الحديث معًا – نحن الثلاثة - وكان "محمد أمين" يصنع من الوحل سجدات للصلاة بحجم علبة الكبريت، ثم يضعها تحت أشعة الشمس حتى تجّف ومن ثمّ يقدمها هدية للشباب.

 

توقفت كتابة الرسائل في معسكر "كارون"، فكان "محمد" مرتاح البال ولديه وقت فراغ أكثر. قبل هذا القرار، كانت تصله رسالة أسبوعيًا ويكتب الجواب لها. سألته: "ألم تشتق لكتابة الرسائل واستلامها؟" قال: "حسن"، هذا بحد ذاته له قصة ورواية!، إن جواب الرسالة مثل جواب السلام واجب شرعًا!".

 

- قبل الالتحاق بالجبهة، هل كنت تراسل أصدقاءك أيضًا؟!

- كلا، ولكني كنت أجمع الطوابع، لعل عندي أكثر من مئتي طابع.

- جمع الطوابع! يا له من عمل عجيب!

 

كان الجوع يهاجمنا ويشتدّ أحيانًا، فنصل في الكلام إلى أمهاتنا. فنتذكر بيوتنا وموائد الأمهات العامرة. كنت أحب كثيرًا "القورمه سبزي"[1]، وكان "محمد" يحب المعكرونة المطبوخة فوق قطع البطاطا، أما السيد حسن فلم يكن لديه رأي خاص حول أنواع الطعام!


 


[1] يخنة متل الملوخية

 

29


23

الفصل التاسع - الدماء

كانت أنوار القذائف المضيئة تشع بعيدًا لجهة الغرب في انتهاء الأفق. وعلى الرغم من كوننا بعيدين نسبيًّا عن خطوط التماس، إلا أنه كان لدينا وبالقرب من كل خيمة خندق على شكل "جحر الثعلب" للحماية من الغارات الجوية المحتملة.

 

في أحد الأيام سلمونا ذخائرنا والتموين الخاص بالعمليات. وكذلك ذهبنا إلى حقل الرماية لكي نختبر أسلحتنا للمرة الأخيرة. قدامى المحاربين نصحونا وقالوا تزودوا ما استطعتم بالقنابل اليدوية في العمليات فهي ستنفعكم بشكل أو آخر، وميزتها أن العدو لا يحدد من أي جهة يتعرض للهجوم.

 

كنت قد أخذت من أحد الأصدقاء القدامى - من الخبراء في التخريب - في "كرخة" قطعتي "تي أن تي" بزنة نصف باوند. القدرة التفجيرية لكل منها تساوي عشر قنابل يدوية. أعطيت إحداهما لـ"محمد".

 

كانت المرة الأخيرة التي أستحم فيها في معسكر "كارون". يبعد الحمام عن المعسكر سبعة كيلومترات، كنا نضطر للذهاب بالشاحنة. بعض الشباب اغتسلوا غسل الشهادة في ذلك اليوم.

 

وصل "الأمر" بترك "كارون"، وهذه المرة بدون أغراض ولا بطانيات. وللمرة الثانية جمعنا أغراضنا الزائدة ووضعناها في أكياس خاصة وتركناها في الخيام. كتب كل واحد منا اسمه على الكيس. فقلت لنفسي: هذه المرة سنذهب من دون صحن ولا بطانية ولا شيء! حتمًا إلى الخط الأمامي للمواجهة. حين وصلت الشاحنات لنقلنا، كنت لا أزال مصرًّا -بيني وبين نفسي - على نظريتي هذه!

 

صعدنا إلى الشاحنات بعد الظهر وغادرنا معسكر "كارون" بشكل

 

30

 


24

الفصل التاسع - الدماء

مخفي. وضعنا عدّة بطانيات على أرض الشاحنة وطوينا القليل الباقي منها لنجلس القرفصاء متكئين عليها كي لا نتجمد من البرد.

 

كانت الأمطار خفيفة هادئة، حين ترجّلنا من الشاحنات، في قلب الظلام وسط بساتين النخيل بالقرب من نهر "بهمن شير". عند الصباح علمنا بأن تلك الليلة كانت ليلة البدء بهجوم عمليات "والفجر8". لأول مرة سمعت اسم "الفاو" في تلك البيوت القروية التي كانت مركزًا لاستراحتنا.

 

كان الغداء يومها تشلو مرغ (أرز ودجاج) في الأكياس! تناولناه بالملاعق المطوية التي ترافق كلًّا منا، في ذلك البيت القروي. كالعادة كانت أحاديث الشباب تتجاوز "النق" على الطعام، فلم نكن نحتجّ ونقول لماذا تفوح رائحة البلاستيك من هذا الطعام المتحلّل!.. بعد الانتهاء، غسل كل منا ملعقته وأعادها إلى جيبه، وهكذا تعطّلت ورشة "محمد" وعمله بغسل الصحون!

 

عادت الشاحنات مجددًا بعد الظهر وانطلقنا. عادت القبلات والتوديع وطلب المسامحة للمرة الثالثة. قلتُ لنفسي مجددًا: هذه المرة نحو خط التماس بلا شك!

 

استقررنا مساءً في مستوعبات في "بهمن شير". لا أثر لخط التماس ولا خبر عن مواجهات مباشرة! نمنا في المستوعب المعدني في حال جلوس كي يستوعبنا جميعًا!

 

كان اليوم التالي، الثاني والعشرين من شهر "بهمن" (11 شباط)، سُمعت أصوات الأناشيد الثورية والمارشات العسكرية من إذاعة الإعلام. كانت أصوات انفجارات المضادات الجوية تصل إلينا من الخارج أيضًا. صرنا مقتنعين أننا فعلًا بالقرب من خط الاشتباكات.

 

31


25

الفصل التاسع - الدماء

كان الشوق ظاهرًا على الوجوه، شغفًا وحماسةً للمشاركة في العمليات. كان بعض الشباب خارج المستوعب يشاهدون وبنقل مباشر "فيلم" سقوط الطائرات الحربية العراقية، كنت أستريح أنا وبعض الشباب في الداخل.

 

كنت في حال بين النوم واليقظة، حين دخل "محمد" فرحًا يبشرنا بسقوط طائرة معادية ومقتل الطيار. كان يتحدّث ويضحك، فخطر ببالي أن أقبّل رأسه ووجهه، تعانقنا في مشهد مؤثّر، دعوت الله من أعماق قلبي أن نبقى معًا ولا نفترق. ثم قلت له بنظراتي:

- بالله عليك، لا تنس أن تشفع لي. لا تنسَني.

 

حدّقت به جيدًا، كانت عيناه تقولان لي الشيء نفسه. تعانقنا مجددًا، ولم يكن قلبانا يقويان على أن نترك بعضنا البعض.

 

توجهنا بعد الظهر نحو "المرسى"، وبعد تأخير وانتظار طويل، صعدنا إلى الزورق. في المسير إلى الطرف الآخر من "أروند"، كانت جهنم قد قامت وتأجّجت نيرانها! هنا غارات الطيران، وهناك قصف المدفعية والصواريخ. كانت القلوب تهدأ وتطمئن بالصلوات على محمد وآله وذكر الله تعالى.

 

ترجلنا على الشاطئ الغربي لنهر أروند، مشينا إلى أن وصلنا إلى منزل خالٍ. أخبرنا أحدهم أن هناك صالة سينما بالقرب من ذلك الحيّ. في المساء، أقمنا مراسم دعاء التوسل، كان الطعام: همبرغر مع خبز ومخلّل الخيار. بمجرد تناول الطعام، أصابتني حال مغص ثم استفراغ، وتصبب العرق البارد على جبهتي، ترددت ماذا أفعل؟ انتابتني حال من القلق والخوف! خوف من المرض وعدم المشاركة في العمليات. اشتدّت الدوخة. حاولت إخفاء التوعك، ولكني لم أستطع.

 

32

 


26

الفصل التاسع - الدماء

ذهب محمد وراء "سيروس مهدي بور" الذي كان مسعفًا، وأحضره لمعاينتي. لم أكن قد تعرضت سابقًا لحال كهذه.

 

قال "سيروس" إنّ الزيت المقلي للطعام قد سبب لك التسمم. قلت في نفسي: ليتني لم أتناول ذلك الطعام. بعد كل هذا التعب والجهد والمناورات وطوابير الإزعاج والتدريب.. إن لم أشارك بالعمليات.. ما أكبرها من خسارة.. ما هذا البلاء الذي أصابني؟ سيطر الرعب على قلبي بشكل عجيب!

 

استطعت الدخول إلى الحمام عدّة مرات، وبدأت حالي بالتحسّن. طوال هذه المدّة، كان "مهدي بور" يلازمني ويعتني بي، كذلك جاء "علي شهبازي" الذي كان مسعف فصيلنا، وساعدني يوم التهبت بثور ظهري ونزفت. تعاونا معًا لمعالجتي وشعرت بتحسن كبير. بعد دقائق سمعنا أصوات الشاحنات، ما يدلّ على حركة وانتقال مجدّدًا. صعدت إلى الشاحنة بمساعدة "محمد" و"السيد حسن"، سحبني أحدهما من الأعلى فيما كان الآخر يدفعني صعودًا. حين انطلقت الشاحنة وصار نسيم "أروند" العليل يداعب وجهي، شعرت بتحسن أكبر، لحظة بعد لحظة، بقي القليل من الألم ولكن لا أثر للخوف ولا القلق.

 

النار والدخان على أرض الفاو وسمائها. عبرنا عدّة شوارع رئيسية في منطقة المرفأ وخرجنا من المدينة. زالت عني نهائيًا حال التوعك السابق، لا أثر للتسمّم بالزيت ولا لاضطراب ليلة العمليات. عندما وصلنا، ناولت محمد سلاحي وجعبتي وأغراضي، وترجلت من الشاحنة لوحدي.

 

ساعات تفصلنا عن صلاة الصبح. استقرّ صف الكتيبة بالقرب من المتاريس للجهة اليمنى على الجادة، تقدّم لمدة عشر دقائق ثم توقف.

 

دخلنا هناك إلى المتراس، كان الطقس باردًا جدًّا، بقينا نرتجف

 

33

 


27

الفصل التاسع - الدماء

من البرد، كل اثنين في خندق مفتوح، حتى الصبح، لم نذق طعم النوم. عندما انهارت كل قوتي من البرد، خرجت من الخندق وجُلت قليلًا في المحيط، وجدت بطانية فأحضرتها. تغطينا فيها -نحن الاثنين- لدقائق حتى أشرقت شمس الصباح.

 

سرعان ما وصلنا الخبر بأننا الآن على جادة "الفاو- أم القصر". كنا قد تقدمنا سبعة أو ثمانية كيلومترات على الجادة. كانت المعارك الضارية تدور في المنطقة الشمالية والشمالية الغربية.

 

قبل الظهر انتقلنا إلى الحافة الرملية على الجهة اليسرى للجادة، تجنّبًا للقذائف الشاردة وخطر الرصاص الطائش.

 

هناك غَنِم الشباب من أحد المحلات التجارية شوكولاته وبسكويتًا وحليبًا ناشفًا وألبسة وبطانيات!.. كان المحل أكثر أمنًا من الجادة، كنا نتعرّض لقصف القذائف وكذلك لغارات المروحيات. أمر مسؤول الفصيل بالبقاء في النقاط الآمنة وعدم جواز التحرّك إلا بإذن خاص ولعذر مبرّر. بعد مخالفة الأمر لمرة أو مرتين - للذهاب إلى المحل التجاري - نهرني الأخ "كلستاني" قائلًا:

- يا أخ "قابل"، اذهب إلى الخندق، تحرّك. لا تقف هنا.

 

صلينا الظهر والعصر بعد التيمم. قرأ السيد حسن آية الكرسي بعد الصلاة. وقرأت أنا و"محمد" زيارة عاشوراء أيضًا. ما أجمل ما وصفت عبارات السجود حالنا، ما أروعها من حال في ذلك الزمان والمكان: "اللهم ارزقني شفاعة الحسين يوم الورود وثبّت لي قدم صدق عندك مع الحسين وأصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام".

 

كان طعام الغداء معلبات، وخوفًا من تكرار وعكة الأمس، اكتفيت

 

34

 


28

الفصل التاسع - الدماء

بتناول الخبز والتفاحة التي وزّعها علينا قسم التموين.

 

بعد صلاة المغرب، جاء معاون مسؤول الكتيبة، وقال:

- فلتقم "أزهار" الفصيل الأول... انهضوا!

 

انطلق "قطار" الكتيبة المنتظم كالصف المرصوص على الجادة في قلب الليل، وبالطبع بعد قبلات الوداع وطلب الشفاعة. كنا قد أصبحنا أساتذة محترفين في هذا المجال! صرت متأكدًا من أنّنا اقتربنا جدًّا من الخط المتقدّم، فهذه المرة لم تحضر الشاحنات لنقلنا.

 

بعد ساعة من المسير على الجادة، توقف الصف في الجهة اليمنى للطريق. طال توقفنا حوالي الساعة أيضًا. بعض الشباب نام في الانتظار كي يستعدّ للقتال فلا يغفو أثناء المعارك. تلك النقطة كانت مثلث طرق معمل الملح وخط دفاع كتيبة "الأنصار" الذين شاركوا بالأمس في العمليات.

 

فجأة رأيت الشباب يودّعون بعضهم البعض مجددًا. لقد وصل الخبر بأن الكتيبة ستقتحم خطوط العدو بعد ساعة. كان الجميع فرحين مستبشرين. حلّت روح جديدة على قلوب الشباب. وكأنه المنزل الأخير: بعد كرخه و"كارون" و"بهمن شير" و"أروند كنار" و"الفاو" و"مثلث معامل الملح". تمّ شرح مهمتنا بهذا الشكل:

- جبهة العدو هنا لا تملك العمق والقوات الكبيرة. هناك عدة دبابات وملالات يجب تدميرها، وهناك جسر كبير على هذه الجادة التي نقف الآن عليها ويجب تفجيره....

 

حين سمعت الأمر بتفجير الجسر، دبّ فيّ الحماسة والنشاط. فهذه من مهام شباب الهندسة "التخريب". سررت كثيرًا لأني سأتمكن من مشاهدة ألعاب نارية كبرى هذه المرة! قلت لـ"محمد":

 

35

 


29

الفصل التاسع - الدماء

- هل لا تزال قطعة النصف باوند معك؟

- نعم، ماذا حدث؟

- إذا كان هناك حاجة، سأعطيهم هاتين القطعتين أيضًا، لكي ينفجر الجسر بشكل أفضل!

 

حوالي الساعة العاشرة ليلًا، تحرّك الصف المرصوص. وصلنا إلى سواتر خط التماس، كان هناك متاريس قصيرة متعامدة على جادة "أم القصر". خلف هذه المتاريس الصغيرة، كانت تنشط حركة التنسيق والتواصل لتأمين انطلاق الفصيل الأول لإنجاز مهمته.

 

وأخيرًا انتشرنا. كانت المتاريس الصغيرة تلك هي حدود المنزل الأخير، والأمنية لم تعد أمنية، أمنية الهجوم في قلب الليل فوق تراب لا نعرفه، على عدو معتدٍ على الوطن، وعلى حدود ثورتنا الإسلامية وعقائدنا الدينية، أن ندمر عتاده ونطرد قواته إلى ما وراء الحدود.

 

بعد أن تقدمنا قليلًا، انطلقت صرخة "الله أكبر" وبدأ إطلاق الرصاص، تابعنا المسير بحال انحناء. كنت أعتقد أن شباب الفصيل الأول والثاني سيتكفلون بالمهمة لوحدهم، ويدمرون الدبابات والملالات ولن يصل الدور لبقية الفصائل والكتائب.

 

وصلنا إلى جادة معبّدة وتحركتُ نحو الجهة اليمنى. كان "حسين أميري فر" مسؤول السرية قد جلس على الأرض وأخذ يوجه الشباب. كانت الرشاشات العراقية تطلق نيرانها في كل حدب وصوب. شاهدت بنفسي سقوط عدة شباب أرضًا بعد إصابتهم بهذه الطلقات. وطبيعي أنه في تلك الظلمة لم نميّز الوجوه ولم نعرف من هم. أنا بدوري كنت أطلق الرصاص على دشم رشاشات العدو. كانت الصرخات ترتفع من كل مكان "اضرب... ارم نقطة الرشاش المتوسط... دمّر هذه الدشمة اللعينة".

 

36

 


30

الفصل التاسع - الدماء

انهمرت القذائف الصاروخية والرصاص من كل الجهات على تلك الدشمة، لا بد أن الرامي العراقي قُتل أو فرّ من موقعه. عند القضاء على مصدر النيران اقترب المسعفون لمساعدة الجرحى، وتقدمنا نحن للأمام.

 

لم يعد للفصيل والسرية أي نظم وترتيب. في الدقائق الأولى للهجوم انتشر الجميع وتفرّقوا في كل الأرجاء. لم يلتفت أحد لأحد! كل هذه التدريبات التي حفظنا فيها طريقة اصطفافنا وترتيبنا، مَنْ يكون أمامنا وكيف نتشكّل خلال المعارك و... كلها ذهبت هباءً منثورًا!

 

عندما رآني "محمد شيرازي" وحدي، قال لي تعال معي. نظرًا لخبرته القتالية أطعته وتقدمنا معًا حوالي عشرين أو ثلاثين مترًا. كنا نطلق الرصاص باستمرار على المواقع العراقية. كانت الدشم والمتاريس كثيرة ومتفرقة في نقاط عديدة. رأيت "السيد حسن" في المسير. كان بدوره قد افترق عن رامي الآر بي جي - حسين كلستاني - ويحاول البحث عنه ليلتحق بمجموعته. انضم السيد إلينا وكذلك التحق بنا بعد قليل شاب آخر من فصيل آخر من السرية. وهكذا صرنا صفًّا من أربعة مقاتلين.

 

صارت الاشتباكات وجهًا لوجه وفردًا مقابل فرد. كانت زخّات الرصاص تنهمر على الجادة من اليمين واليسار. لم يعد أحد يجرؤ على التحرك. تسمّرنا في مكاننا، لا خبر عمّا يحدث أمامنا ولا أثر لأحد وراءنا! كانت ظلال الآليات تلوح من بعيد فلا يُعرف إن كانت دبابات أو ملالات. كانت طلقات الدوشكا تمر كالشهب بالقرب منا، فيتخيّل الإنسان أنّ طول كل منها نصف متر من اللهب الأحمر. صرنا نزحف أو نتحرك بوضعية القرفصاء. نتقدّم على الجادة حينًا أو لجهة اليمين أو اليسار إلى جانب الطريق أحيانًا. كنا نأتمر

 

37

 


31

الفصل التاسع - الدماء

بأمر "محمد شيرازي". كذلك الشابّ الرابع الذي لا نعرفه، عندما رآنا نستمع لكلامه، انضّم عمليًا لإمرة "شيرازي"، كنا نتقدّم خطوة خطوة، ونقتحم دشمة دشمة. كان السيد حسن يقول بين المزح والجدّ:

- يا أخ حسن! النيران هنا أغزر من نيران مناورة الكتيبة...

 

كان يقاتل بروحيات عالية وبسالة نادرة، يطلق النار ويُفرغ ممشطًا بعد ممشط وقنبلة بعد قنبلة.

 

كنت أجيبه ونتبادل المزاح ضاحكين. أما "شيرازي" فلم يكن يتكلم. كل تركيزه وحواسه على ما يدور حولنا. يُدقق في مصدر إطلاق النار ونوع السلاح المعادي. كان يكرر التوصية لنا "استخدموا القنابل اليدوية ولا تدعوا الرصاص يذهب هدرًا".

 

حتى تلك اللحظة، كنا قد اخترقنا خط العدو وتقدّمنا مئة متر داخل جبهته. كنا نتحرّك باحتياط شديد. وصلنا إلى مقربة من الدبابات. لا أثر للقوات العراقية. كانت القنابل وطلقات النيران تنهمر كزخات المطر من كل مكان. اختلط الحابل بالنابل، فلم نكن نستطيع التمييز، هل هي نيران صديقة أو معادية! الجهة الوحيدة الآمنة كانت لجهة المستنقع الموحل.

 

فَرَغَتْ كل مماشطي، فأخذت ممشطًا من شيرازي، أفهمني بنظراته بأنه يجب عليّ أن أقتصد في الرمي وأتجنّب الإطلاق العشوائي، أن أرمي فقط عندما أحدد الهدف وأتمكن من إصابته. في هذه الأثناء لمحتُ عدة جنود في أحد المواقع العراقية. أخبرت "شيرازي" على الفور.

 

ترددّ قليلًا قبل أن يحسم الأمر بأنهم من الأعداء. إلى جانب موقعهم كان هناك أكياس تدشيم وشريط شائك. وضعنا خطة عمل سريعة، وكان القرار أن يزحف أحدنا حتى النقطة المستهدفة ويرمي

 

38


32

الفصل التاسع - الدماء

قنبلة يدوية بين الجنود، وبمجرد انفجارها يقوم اثنان من مقاتلينا بتمشيط مكثّف للقضاء عليهم.

 

تطوعت أنا للمهمة الأولى، وتحركت نحو القسم الأعلى من الجادة، تموضعت قرب الساتر الرملي لإحدى الدبابات، لم أتجاوز كل المسافة الإسفلتية المعبّدة، رميت القنبلة بدقة، فسقطت وانفجرت حيث كان يجب أن تنفجر. ثم استغللت عنصر المفاجأة لأطلق رشقات مركّزة على الموقع نفسه وأعود بخفّة ورشاقة للخلف.

 

ساد الفرح والسرور في مجموعتنا لإنجاز المهمة بنجاح والقضاء على ذلك الموقع.

 

لم تكن بسمات هذا الإنجاز قد فارقت شفاهنا، حين شعرت باحتراق في كتفي، وكأن ضربة كقبضة قد صفعتني بشدة على كتفي. لم أكن قد انتبهت إلى انفجار قنبلة يدوية وسط كل الأصوات والانفجارات.

 

صرخت متألمًا:

- ... احترقت... إسعاف...

 

سمعني شيرازي فسارع نحوي وبدأ بتضميد جرح كتفي بعدة الإسعاف الفردي التي كانت في جعبته.

 

- لا شيء خطيرًا يا حسن... لقد أصابتك شظية. أعلم أنك موجوع، لكن لا مشكلة. الآن نعود للخلف...

 

كنت أسمع كلماته، لكنّ الألم كان يتضاعف بسرعة. كان الدم قد سال من كتفي وشعرت بحرارته على أنحاء جسدي. كان السيد حسن مشغولًا منهمكًا بالرماية على بعد أمتار منّا، أدرك بأني جُرحت وكذلك كان الشاب الرابع بالقرب منا. قال "شيرازي": "سأرجع فورًا"،

 

39

 


33

الفصل التاسع - الدماء

وذهب. جلست على ركبتي فوق الأرض الرطبة، أردتُ أن أتابع القتال وأطلقَ النار على البعثيين حين شعرتُ فجأة بضربة قوية على بطني. لم أعرف من أين جاءت، ولكن عدة قنابل يدوية انفجرت أمامنا بشكل متتالٍ. نظرت إلى "شيرازي"، كانت شظية قد أصابته بصدره أيضًا. وضع يده اليمنى على قلبه. حين التقتْ نظراتُنا، رفع يده الأخرى ولوّح لي مودّعًا... ثم سقط على الأرض شهيدًا!

 

عُدْتُ إلى نفسي لأتفقد جراحي، وضعت يدي السليمة على جرح بطني، شعرت بأن يدي قد لمست أمعائي. فجأة، وقعت على الأرض. استرجعت مشهد اللحظات الأخيرة لشيرازي.

 

أحسست فجأة بشيء يصطدم برأسي بقوة، كانت يدان تشدّان على رأسي وتضربان بقوة... إنه السيد حسن! فهمت بأنه قد أصيب، قلت له:

- عزيزي حسن.. لا تضرب..، لا تضربني.. رأسي يؤلمني.. لماذا تضربني؟ تنحَّ جانبًا.. لا تضرب رأسي!

 

كنتُ أتكلم بشكل لا إرادي. تصوّرت بأنه كان يسمعني. ضربني ثم ضربني على رأسي وكتفي ووجهي... مرارًا... ثم ضعفتْ ضرباته حتى تلاشتْ وتوقف.. كان قد استشهد وانتهى الأمر. كانت شظية قد مزقت قفصه الصدري. كذلك الشاب الرابع الذي التحق بنا ارتفع شهيدًا! صمتوا جميعًا وهدأت أصواتهم. لم يبق من مجموعة الأربعة سواي حيًّا.. جريحًا.

 

لم أستوعب كم مرّ من الوقت حين رأيت أحدًا فوق رأسي. عرفت صوته. كان مسعف المجموعة الثانية في فصيلنا. وهو الذي لطالما اصْطفَّ خلفنا عندما نسير في الصف المرصوص. ضمّد لي جرح

 

40

 


34

الفصل التاسع - الدماء

بطني بضمادات كبيرة وبقي بالقرب مني ليتابع وصول المسعفين لنقلي للخطوط الخلفية للمعالجة.

 

جُرحت مرّة أخرى! استهدف شبابنا دبابة على الجادة، أصابتني شظية من تلك القذيفة. فجأة لمع الانفجار كالبرق فأضحى الليل نهارًا مضيئًا. كان حظي جميلًا، كانت الدبابة على الجادة وكنت أنا خلف الساتر الترابي. ومع هذا فإنّ ضغط الانفجار، هزّ رأسي بشكل عنيف.

- تقدّموا يا شباب... أحسنتم الضربة!.. لقد هرب العراقيون.. هيا للأمام.. تقدموا...

 

كانت أصوات شباب الكتيبة الثانية وهم يعبرون بالقرب منّي. ظنوا بأني شهيد، فلم يقتربوا وتركوني وشأني.

 

كانت الجراح في كتفي وبطني، وكان رأسي يؤلمني من شدة أمواج الانفجار، وكانت اللحظات تمرّ ببطء شديد، استعرضت في ذهني كل ما حصل خلال الدقائق المعدودة السابقة، نحن فجّرنا الموقع، سقوط القنابل، شهادة الرفاق الثلاثة، انفجار قذيفة الآر بي. جي، احتراق الدبابة.

 

مجددًا، سمعت صوتًا أعرفه، لم أحدّد صاحبه بدقّة، قال للمسعفين أن ينقلوني للخلف، فوضعوني على حمالة إسعاف وانطلقوا للخطوط الخلفية..

 

نظرت وللمرة الأخيرة إلى محمد شيرازي و"السيد حسن" والشاب الرابع. قلت في نفسي: يا ليتني كنت معكم! لماذا لم تكن الشهادة معكم من نصيبي؟

 

في طريق العودة، كان أحد المسعفين وهو الذي يحملني من جهة رأسي، يكرر القول:

 

41

 


35

الفصل التاسع - الدماء

- يا أخ.. اقرأ "وجعلنا"... كرّر "وجعلنا" حتى نصل...

 

ظلّ يقول هذا ويكرّره حتّى تمنيت من كل قلبي أن أصفعه بكفي على رأسه ليتوقف عن طلبه هذا، لكنه لم يسكت ولم يهدأ أبدًا..

 

كنا لا نزال بالقرب من خط التماس، حين انفجرت قربنا قذيفة هاون أو آربي جي... فأفلت المسعفون الأربعة الحمالة وانبطحوا ليزحفوا على الأرض..

 

كانت سقطتي قوية على الأرض، فقال أحدهم: "أظنه استشهد.. فلنذهب ونحضر جريحًا آخر!".

 

بصعوبة بالغة، تمكنت أن أصدر صوتًا خفيفًا من حنجرتي كي لا يتركوني ويمشوا:

- أنا حي.. أنا حي.. لا تذهبوا..

 

عادوا إليّ وحملوني وعاد المسعف فوق رأسي لتكرار مجلس العزاء...

- يا أخ، اقرأ "وجعلنا"...

 

عادت بي الذاكرة إلى معسكر كرخة، فلأني خفيف الوزن، كان المسعفون دائمًا يختارونني في التدريب لوضعي على الحمالة.

 

كانت التمارين العسكرية هناك تترافق مع المزاح والضحك واللعب، أما هنا فالمسألة بالغة الجدّيّة. أنا جريح حقيقي والرفاق الذين لا أعرفهم يحملونني لإخراجي من ساحة المعركة.

 

حين وصلنا إلى نقطة الانتشار، وضعوا الحمالة على الأرض. سمعت صوت "علي شهبازي" هناك. بعد دقائق، أدخلوني إلى غرفة صغيرة. كنت أغيب عن الوعي ثم أصحو مجددًا، فلم أعرف إن كان "علي" لا يزال قربي أو لا، وعندما استعدت وعيي في إحدى المرات،

 

42

 


36

الفصل التاسع - الدماء

وجدت أنّني على حمالة داخل "جيب" وإلى جانبي مجموعة من الجرحى الآخرين. حين أنزلونا ووضعونا على الأرض، سمعت اسم "كتيبة الأنصار" عدة مرات.

 

أصبحنا في منطقة مثلث معمل الملح - التي كنا فيها قبل 3 أو أربع ساعات وصلينا المغرب والعشاء وانطلقنا منها - شعرت أن ثلاث أو أربع سنوات قد مرّت على هذه الوقائع! كنت أتذكر الأماكن بصعوبة بالغة.

 

لم أعرف من وضعني في سيارة الإسعاف، لكن ما أذكره أن الطريق كانت طويلة، شدة الألم من جهة والخضّات القوية لسيارة الإسعاف من جهة أخرى، سلبا النوم من عيني.

 

عندما وصلنا، أنزلوني بالحمالة نفسها إلى داخل مستوعب كبير مضاء بالكهرباء، أدركت أننا في المركز الصحي. أحد الجرحى من الكتيبة الأولى عرفني وبدأ يطلب متوسلًا الممرّض:

- بالله عليك، اهتم بهذا الجريح... ألا ترى بطنه قد تمزّق.. إنه صغير السن...

 

ثم التفت إلي وقال:

يا أخ "قابل"، ستعود سالمًا معافى... لا تقلق... هل أصبت في أماكن أخرى من جسدك؟

 

حاولت وحاولت من دون جدوى، أن أتذكر اسمه. كان يتناسى وجعه ويهتم بي. وأخيرًا جاء أحدهم وعاين جراحي ثم ذهب. أخرجوني من المستوعب ووضعوني في الهواء الطلق. كان الجو باردًا. بدأت نفسي تحدثني وتوسوس لي أن أغفو قليلًا، خطر على بالي فنجان شاي من "السماور" في المنزل ولحاف يغطّيني... ولكن جاءني فجأة صوت آخر:

- لا تنم.. ا.. يا أخ حسن.. يا عمري لا تنم.. استيقظ...

 

43

 


37

الفصل التاسع - الدماء

كان أحدهم يصفعني على وجهي، بالكاد فتحت عيني، رأيت "سيروس مهدي بور" و"حميد رضا رمضاني" وهما من الإسعاف الحربي. جلس كل منهما إلى جانب وبدآ بهزّ رأسي وأكتافي كي لا أنام.

 

أخذوني في مركب إلى الطرف الآخر من نهر "أروند". في الطريق كان المسعفان يحدثاني كي لا أغفو. حين كنت أفتح عيني، كنت أشاهد خطوطًا منيرة في السماء، شهب القذائف النمساوية أو الفرنسية التي كان العراقيون يطلقونها وقد سمعت بأنها بعيدة المدى. كانت تشبه الألعاب النارية والمفرقعات التي تمر بين نجوم السماء والقنابل المضيئة الخافتة ولا نعلم أين ستسقط وأي نار ستشتعل.

 

حين نزلنا على الضفة الإيرانية، وضعوني داخل سيارة إسعاف.

 

جاء "سيروس" معي ليمنعني من النوم، وأما "حميد رضا" فقد غادر إلى مكان آخر. حين وصلنا إلى المستشفى، ودّعني "سيروس" أيضًا، وذهب لمتابعة عمله.

 

في المستشفى الميداني، سجّلوا معلوماتي الشخصية. ثم جاءني رجل كبير السن، وقال لي:

- ستتحسّن حالك وتتعافى. سأعطيك حقنة وتنام. عندما تستيقظ ستكون بوضع جيد.

 

بعدها، صارت الأضواء المستديرة فوق رأسي تختفي وتختفي وقبل أن ينهي العدّ للعشرة، لم أعد أدرك شيئًا. أجروا عملية لبطني في غرفة العمليات وغيّروا ضمادات يدي وكتفي.

 

كان رأسي يدور في جولة مظلمة وصوت مزعج يهدر في أذني، صار الصوت يقترب ويقترب أكثر، حين فتحت عيني وجدت نفسي في طائرة!

 

44

 


38

الفصل التاسع - الدماء

كان الباب الخلفي للطائرة مفتوحًا، وكنت أشاهد السماء والغيوم. إنها المرة الأولى التي أركب فيها طائرة. كلما كنت أستعيد وعيي وأسترجع حواسي، كان الألم يشتد أكثر. فجأة بدأت الطائرة تهتز بشدة، قال الممرض المرافق لنا إنها مطبّات هوائية، لا تخافوا.. من شدة الوجع أغمي عليّ مرة. ولكني كنت واعيًا حين حطت الطائرة بقوة على الأرض ثم توقفت.

 

جاء بعض الجنود والممرضين لمساعدتنا ونقلونا إلى صالون المطار. إنه مطار "مشهد"... أخذوني إلى مستشفى "القائم" وهناك استقررت في غرفة مع سبعة أو ثمانية جرحى آخرين. كنت ممنوعًا من الطعام والشراب.

 

كانت إصابات رفاقي في الغرفة متنوعة، وكان بعضهم يأكل ويشرب، كما يحلو له.

 

كان اليوم الرابع عشر من شباط يكاد ينقضي وكنتُ أعاني الجوع والعطش. عندما رأيت أنّ بعض الجرحى في الغرفة يتناولون الطعام ويشربون الشاي، اشتدّت رغبتي بأن أشرب ولو قطرات من الماء. كنت منهكًا من العطش في منتصف الليل، ولا أدري ماذا أفعل ومن أين أحصل على الماء. وعلى الرغم من المصل الموصول بيدي إلا أن العطش تمثل لي كغول لا يرحم، وأخيرًا نزعت أنبوب المصل من يدي بشكل مخفي ووضعته على فمي وتجرعت القليل منه! فماذا حدث؟ انتابني حال من الغثيان والدوار حتى وقت السحر. قطرات المصل لم تروِ عطشي وسارت عبر الأمعاء لتستقر في الكيس الموصول بمعدتي لإفراغ محتوياتها!

 

إنه يوم الجمعة والمستشفى مزدحم. على الرغم من الطقس المثلج والبارد والعواصف التي كنا نشاهدها من النافذة، إلا أن الزوار كانوا

 

45

 


39

الفصل التاسع - الدماء

كثرًا. الجرحى والمرضى المجاورون لي استقبلوا الكثير من الزوار، وكانت أجواء الأكل والشرب والضيافة حافلة ومُغرية، الفاكهة والعصير و.. وأما أنا فكان نصيبي من كل هذا الحسرة والحلق الناشف!

 

تركت الحياء والمجاملات جانبًا، واستغللت الفرصة المناسبة بعيدًا عن أعين الممرضين، قبلت من أحد الزوار هدية، عبارة عن علبة عصير فاكهة وأخفيتها تحت الغطاء. ثم نقلتها إلى تحت المخدة لتكون في مكان أكثر أمنًا! فلم أعد أنظر وأحدّق في الآخرين ماذا يأكلون وماذا يشربون. قلت في نفسي: هنيئًا لهم وألف صحة، فليأكلوا ما يشاؤون. أنا لدي عصير وسأتناوله في الليل وأخرج معدتي من حال العزاء والحداد.

 

كان انتظارًا صعبًا حتى منتصف الليل. ارتاح بالي من كل المتابعات، بدأت العملية، كانت علبة عصير تفاح. لم يكن هناك مفتاح للعلب. إن طلبت مفتاحًا من المرضى الآخرين، سيفتضح أمري ويشون بي للممرضين. وقع نظري على الطاولة المعدنية قرب التخت. يمكن إحداث ثقب في العلبة بزاويتها المسنّنة نهضت قليلًا وضربت العلبة عدّة مرّات بزاوية الطاولة، خرج القليل من رطوبة العصير من ثقب صغير. قرّبت العلبة إلى فمي، وإذا بيد تقف حائلًا بيننا وتصادر العلبة! أحد الممرضين ظهر فجأة وأخذ العصير من دون رحمة ولا شفقة! بقيت وحدي عطشان محاصرًا بنظرات المرضى والجرحى الآخرين، الذين يحاولون معرفة ماذا يجري في منتصف الليل!

 

آخر مرّة شربت الماء فيها، كانت على جادة "أم القصر"، وآخر فنجان شاي كان في معسكر "كارون". لم أتب من شيطناتي هذه!

 

عدت مجددًا لأنبوب المصل، نزعته من يدي، سحبت قطرات منه بفمي ثم أرجعته لمكانه. وحين شربتها شعرت بالندم لأني لم أسحب أكثر،

 

46

 


40

الفصل التاسع - الدماء

فالمصل كان حلو المذاق هذه المرة.

 

لم أستطع النوم. وضعت خطة لأشرب مجددًا المصل في الفرصة التي أظن بأنها مناسبة، وفي الوقت المحدد مددتُ يدي لأسحب الأنبوب، لكن الممرض الذكي الذي كان يراقبني من بعيد أمسك بي بالجرم المشهود.

 

ثم ربط يديّ الاثنين بجانبي التخت. لم أعد أستطيع أن أفعل شيئًا!

 

لم ينفع الرجاء والتوسل أبدًا:

- لماذا لا تهتمون؟ أنا عطشان.. عطشان.. بالله عليكم شربة ماء.. أكاد أموت من العطش...

 

أحد الممرضين الشباب الذي كان كلما رآني تأثر وأشفق على حالي، جاء وبلل قطعة معقمة ومسح شفتيّ بها. بعد أن هدأت قليلًا، توسط لي هذا الممرض وطبيب آخر، فتم فك القيود من يدي!

 

بعد ظهر ذلك اليوم وصلت أمي وأختي الكبيرة.

 

كانت أختي تعمل ممرضة في مستشفى "مهر" في طهران. عندما شاهدت وضعي، قالت: يجب أن نذهب إلى طهران. المكان هنا ليس مناسبًا للعلاج!.

 

عندما رأيت أمي، لم أعد بحاجة إلى أي شيء، حتى لشرب الماء! حتى لو لم تقل أي شيء، كان يكفيني أن أنظر إلى وجهها القمري لأنسى أوجاعي وأتحرّر من كل الهموم.

 

في اليوم التالي لحضورهما، وبعد أن وقّعت أنا وإياهما على وثيقة خروج من المستشفى وبصمنا بالإبهام، سمحوا لنا بالرجوع إلى طهران.

 

في المطار، انشغلت أمي وأختي بمعاملات السفر، بقيت لوحدي

 

47

 


41

الفصل التاسع - الدماء

مع الجندي المكلف بمتابعة شؤون الجرحى، عندما لاحظت أن كل الظروف مناسبة، قلت له:

- يا أخ، أنا عطشان، والطقس حار.. هل تناولني كوب ماء بارد.

 

ذهب وأحضر الماء ولكنه سأل:

- يا أخ، هل يضرّ الماء بحالك؟

- كلا يا أخ، أي ضرر!؟

 

على الرغم من أنّ تعابير وجهه لا توحي بأنّه اقتنع بكلامي، إلاّ أنه ناولني الماء فشربته بسرعة وأرجعت له الكوب. في تلك اللحظات عادت أختي، وكان أول كلامها:

- لم تشرب ولم تأكل شيئًا؟

- كلا يا أختي.

- هل أطمئن وأصدّق؟

- بالطبع، عندما نصل إلى طهران أريد منك أن تشتري لي قنينة مشروبات غازية!

 

وعدتني بأنها ستشتري لي صندوقًا كاملًا عندما تتحسن حالي.

 

في الطائرة، قاموا بطي الأجزاء الخلفية لعدة مقاعد، لكي يتسع المجال لي بالحمالة. توعكت وساءت حالي خلال هذه الرحلة، فاعتبروا ذلك بسبب المطبّات الهوائية!

 

في مطار طهران، أرادوا في لجنة نقل الجرحى إرسالي إلى مستشفى الإمام الحسينعليه السلام، لكن أختي لم تقبل وأصرّت عليهم حتى وافقوا على إرسالي إلى مستشفى "مهر" الذي كان يهتم بالجرحى ذوي الأوضاع الحرجة.

 

48


42

الفصل التاسع - الدماء

كان الممرضون في مستشفى "مهر" يعرفونني، لأني كنت قد أمضيت مشروع الخدمة التطوعية في الثانوية في المستشفى، حيث كنت أخدم يومًا في الأسبوع هناك. كانوا يقولون عني "الدكتور الصغير".

 

حين عرفت الممرضات وصديقات أختي بأن الدكتور الصغير قد أصيب، أتين كلهن لعيادتي. قامت أختي بإحضار أفضل الأطباء، وحتى رئيس المستشفى، للكشف عليّ وتحديد الوضع والعلاج اللازم، كانت الآراء متفقة بأن هذه الجراح والالتهابات لن تُبقي عليّ حيًّا حتى صباح اليوم التالي. يا لهذه البشارة!

 

أول عمل قاموا به هو التبرع لي بالدم. في مشهد قاموا بهذا مرة واحدة، ولكن هنا كانوا يصلون الكيس تلو الكيس بيدي. والهدف هو تطهير الجسم من الالتهاب. كان الأطباء يقولون إنّه لا يمكن القيام بأي عمل جراحي ما دامت حال الالتهاب هذه موجودة. ارتفعت أيادي الجميع بالدعاء، أمي وأخي وشباب مسجد الحي ورفاق المدرسة.

 

أمضيت الليلة بهذه الحال، دم جديد يُضخّ إلى جسمي ودم ملتهب يخرج منه، كان أي خلل بهذه العملية كفيلًا بالقضاء عليّ فورًا.

 

في اليوم الثالث لمجيئي إلى مستشفى "مهر"، تحسنت حالي قليلًا، كان قد مضى أسبوع كامل على إصابتي وكان الأطباء متعجّبين من بقائي على قيد الحياة!

 

وفي هذا المستشفى أيضًا، بعيدًا عن عيون أمي وأختي والممرضات، كنت أشرب من المصل الموصول بيدي، فإن كان حلوًا شربت أكثر. كنت أشرب بمقدار لا أصاب معه بالغثيان، ولكن، كنت أصاب به أحيانًا.

 

في أحد الأيام جاء زوار كثر للجريح الآخر في الغرفة وازدحمت بهم. كانت مشكلته في عينه، أحضروا له الكثير من عصير الجزر.

 

49

 


43

الفصل التاسع - الدماء

يومها تصاحبت بالسر مع أحد الزوار، فضيفني كوب عصير جزر فشربته من دون أن ينتبه المراقبون!

 

ما هي إلاّ لحظات حتى وصلت أختي وسألت:

- هل أكلت أو شربت شيئًا؟

- كلا! لست عطشان ولا جوعان. حالي جيدة جدًّا.

 

وقفت قليلًا ثم ذهبت لمتابعة عملها.

كان الصديق الجديد لا يزال في الغرفة ويحضّر عصير ليموناضة فشربته. سألني:

- إذا عرفت أختك، بالأمر فماذا سيحدث؟

 

قلت له:

- أنا لا أملِك الجرأة لأقول شيئًا لأختي، إلاّ إذا قلت لها أنت!

- كلا، كلا، أنا أيضًا لا أجرؤ!

 

لم تمض خمس دقائق حتى بدأت الغرفة تدور حول رأسي وصرت أتقيأ دمًا. كنت بين الصاحي والمغمى علي حين سمعت أختي تصرخ على ذلك "الصديق"، ثم أخرجت الجميع من الغرفة.

 

استمرت حال الغثيان وتقيؤ الدم حتى المساء. كانوا يضعون لي كيس الدم تلو الكيس، كي أبقى على قيد الحياة حتى الصباح.

 

في تلك الليلة أحضروا جهاز "ساكشن" لتفريغ كل محتويات معدتي وهكذا أخرجوا ما شربته من عصير!

 

استمر الوضع خطيرًا لمدة 24 ساعة، كان صراعًا بين الموت والحياة، لحظة بعد لحظة، كنت أعاين الصِراط الذي "أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف"، جسر أوله في الدنيا وآخره في الآخرة، تمّ ضخّ خمس

 

50


44

الفصل التاسع - الدماء

عشرة وحدة دم في عروقي، لأتمكن من رؤية فجر اليوم التالي من نافذة غرفتي في المستشفى. وصل الأمر إلى أن الدم كان يخرج عند التقيؤ ليس فقط من فمي بل من أنفي أيضًا.

 

إنّه مطلع الأسبوع الثالث لإصابتي، تم نقلي إلى غرفة ذات سرير واحد. أخبرتنا أختي أن الأطباء سيشكلون لجنة للتباحث في حالي. ضعفت ونحل جسمي حتى صار شكلي شبيهًا بتلاميذ المرحلة الابتدائية! بعض الأطباء، عندما كانوا يعرفون بإصابتي على الجبهة، كانوا ينظرون بدهشة وتعجب وكأنهم يقولون "هذا؟".

 

قال أحد الأطباء لأختي إنّ المريض هنا أشبه ما يكون بفأر تجارب، وإنّ عليكم أن ترسلوا جريحكم إلى الخارج، هذا هو الحل الوحيد. اقتنعت أختي بكلامه، وبدأت العمل الشاق لتنفيذ توصيته.

 

في أواخر الأسبوع الثالث، جاءت أختي وأبلغتني بأني سأسافر للخارج خلال 48 ساعة، في اليوم نفسه، جاء لعيادتي "أحمد أحمدي زاده" من شباب الفصيل- والذي كانوا يلقبونه بالفنان. بقي عندي حوالي الساعتين وتحدثنا واستعدنا الذكريات معًا. فرحت أختي وتأملت أن تتحسّن حالي بعد رؤيته. جاء "أحمدي زاده" ومعه صور الشهداء، وأخبرني عن شهادتهم واحدًا واحدًا. تلقيت منه خبر شهادة "محمد عليان نجادي" ثم أعطاني شريط كاسيت دعاء كميل الذي كان "محسن كلستاني" قد قرأه في المعسكر مع شباب الفصيل. وكذلك ترك بعض الصور التي كانت معه أمانة عندي وذهب.

 

بعد ظهر ذلك اليوم، وضعت الشريط في آلة التسجيل وجلست أحدّق في صور الشباب، دققتُ النظر في كل تفاصيل الصور، أرهفتُ سمعي لصوت الأخ "محسن" بينما سافرت إلى الماضي القريب.

 

51


45

الفصل التاسع - الدماء

أخذت أسترجع كل الذكريات الأولى الراسخة في خاطري وخيالي، وصولًا إلى آخر الوقائع: ثكنة "دوكوهه"، وملعب المراسم الصباحية، بحيرة سد "دز" وصيد السمك، "كرخه" و"كارون" ومستوعبات "أروند" و"الفاو" و"جادة أم القصر"... حتى نقطة الانتشار إلى اللحظات الأولى للهجوم والاشتباكات... حتى الإصابة الأولى والثانية والثالثة... وانهمرت دموعي. لا أحد في الغرفة. كانت أختي قد تركتني لأخلو بنفسي مع الشريط والصور والذكريات. بكيت وبكيت. بكت السماء معي أيضًا! فجأة غطّت الغيوم السوداء سماء شهر "اسفند" (آذار) الصافية وبدأت زخات المطر تضرب بقوة على زجاج نافذتي.

 

بقيت أبكي بشدة، حتّى عادت حال تقيؤ الدم واجتمع الأطباء والممرّضون حول تختي مجددًا، وعادت وحدات الدم للضخ في عروقي واحدة بعد الأخرى. عُدْتُ مرّة إلى جسر الصراط. بعد هذه الحادثة، كان رأي الأطباء أن لا أخرج من المستشفى حاليًّا وأنه لا ينبغي لي التعرض لأي ضغوط عصبية أو عاطفية، وعليه لا ينبغي أن يزورني أحد من الشباب ورفاق السلاح، كذلك أخذوا منّي الشريط والصور التي كانت أمانة عندي وأعادوها إلى "أحمدي زاده".

 

تعرض بنك الدم في مستشفى "مهر" لأزمة ونقص فادح في تلك الفترة. لو كنت سافرت إلى الخارج لما واجهت هذه المشكلة، لأنهم يستخدمون أمصالًا تحلّ مشكلة التبرع بالدم. في تلك الأيام لم يكن عندي خبر بما يجري وراء الكواليس، ولكن فيما بعد عرفت أن جميع أقاربي وأصدقائي قد جاؤوا إلى المستشفى وتبرعوا لي بالدم.

 

في أحد الأيام انتشر خبر بأن وزير الحرس جاء إلى المستشفى لتفقد الجرحى وأنه يقدم لكل منهم جهاز "راديو" هدية. لم يطل انتظاري كثيرًا حتى دخل السيد "رفيق دوست" إلى الغرفة مع عدد

 

52


46

الفصل التاسع - الدماء

من الأشخاص. وكان معهم مراسل ومصور. ازدحمت الغرفة كثيرًا حتى إنني شعرت بدوار في رأسي. تقدم الوزير وقبلني وتحدث بكلمات لم أسمعها وسط تلك الزحمة والضوضاء واكتفيت بهز رأسي مؤيدًا. ثم انشغل الوزير بالإدلاء بتصريح لوسائل الإعلام، فجأة عدت لأتقيأ دمًا، ارتبك الأطباء وتجمدت البسمة على شفاه الوزير.

 

كانت الدماء تخرج من الأنابيب الموصولة بين أنفي ومعدتي. صُدم الجميع وتحيروا لما حدث، واضطر الوزير والهيئة المرافقة له للخروج من الغرفة، هدأت الأجواء ولكن نزيف الدم لم يتوقف. عاد الأطباء لوصل أكياس الدم بأنبوب المصل المعلق فوق رأسي. هذه المرة كانت أزمة تأمين الدم قد تفاقمت، ليس فقط في مستشفى "مهر"، بل على مستوى المستشفيات كلها. وعادت لعبة الحافة، بين الموت والحياة... وتلقي الصفعات على وجهي كي لا أنام. إذا وصل ضغط دمي إلى أقلّ من ستة، فسينتهي أمري.

- .. لا تنم يا "حسن".. لا تنم يا "حسن"..

 

كان أحدهم يناديني وصفعني، كنت غارقًا في حالي العجيبة وأتذكر شيئًا شبيهًا بما يحصل..

- "حثن"، لا تنم يا "حثن".. لا تنم...

 

عاد صوت ليعيدني إلى الحاضر:

- حبيبي يا "حسن"، أنا أختك.. انظر إليّ، ها أنا أضحك..

 

يا أخي.. لا تنم..

 

كانت تسعى جاهدة لتبقيني مستيقظًا، لأبقى على قيد الحياة. لكن رموشي كانت ثقيلة ولا تمتثل للأوامر. ضربوني وضربوني، نادوني وصفعوني مرارًا، لأبقى صاحيًا وحيًّا.

 

53

 


47

الفصل التاسع - الدماء

مع هذا الحادث الذي حصل، بقيت محرومًا من "الراديو" هدية الوزارة! كان زوج أختي يعمل في الإذاعة. عندما نفد الدم من بنك الدم في المستشفى، قام بالتعاون مع أحد أصدقائه القدامى ومن دون إنجاز المراحل القانونية والإدارية اللازمة، بوضع إعلان فوري على الإذاعة: جريح بعمر السادسة عشرة. بحاجة ماسة إلى دم من فئة B+ في مستشفى "مهر".

 

وهكذا، في يوم واحد، تضاعف الزوار. من جميع الأنواع والأجناس، أشخاص لا أعرفهم ولم أكن قد رأيتهم قبلها. أثار الأمر فضولي فسألت ما الخبر. تبين عندها أن زوج أختي قد قام بذلك العمل ووضع الإعلان في الإذاعة. تبدلت أجواء الغرفة بل القسم كله في ذلك النهار.

 

حشود وازدحام حدّث ولا حرج. امتلأ المكان بباقات الورد. كان أهلي يستقبلونهم ويرحبون بهم ولأن الأطباء منعوا زيارتي فقد كانوا يكتفون بإلقاء التحية وإظهار المحبة من أمام الباب. كان بينهم أصحاب القبعات واللحى وربطات العنق والنظارات، جاؤوا من كل الفئات، ابتسموا وذهبوا. امتلأ بنك الدم في ذلك اليوم ولم يعد بإمكانه استقبال المزيد من المتبرعين، وتمّ ضخّ تلك الدماء في مصلي حتى صباح اليوم التالي. حقًا، ماذا يمكن للإعلام أن يفعل! وحقًا إنّ شعبنا مفعم بالمحبة والعاطفة وجاهز للتضحية والعطاء دومًا!

 

بعد هذا التيار الذي أحدثته تلك الموجة من التبرعات والزوار، زادت زيارات الأطباء من كل الاختصاصات أيضًا، كانوا يأتون ويسلمون ويطمئنون إلى حالي ويُظهرون المحبة والاهتمام، طبيب عيون، طبيب أذن وحنجرة، طبيب..، كذلك الممرضات المتزيّنات بكل أنواع الماكياج، كنّ يأتين أيضًا ويدعين الله لي بالعافية. وكأن قصتي قد تحولت إلى قضية وطنية.

 

54

 


48

الفصل التاسع - الدماء

كان وزني قبل إصابتي في تلك الأيام 38 كيلوغرامًا، بعدها لم يبق شيء! جثة نحيلة تكاد تختفي بين السرير والغطاء الأبيض.

 

وجاء اليوم الذي شاهدت فيه معجزة: شيء مدهش! كانت أختي قد جلست جانبي على السرير. شعرتْ بالملل فَخَرَجَتْ من الغرفة. كان وضعي قد تحسن وتجاوزت الأزمة التي حدثت. كان وقت صلاة المغرب والعشاء. بدأت كالعادة:

- الله أكبر. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله...

 

بعد إتمام الصلاة وقراءة آية الكرسي، جاءت ممرضة وأخرجتني من الغرفة وقالت لي: سنأخذك إلى غرفة العمليات. عندما وصلنا، رأيت أن المكان شبيه بغرفة العمليات في مستشفى "فاطمة الزهراء" الميداني. تم حقني بإبرة فغبت عن الوعي. عندما بدأت باستعادة وعيي نقلوني إلى غرفتي ووضعوني على السرير. عندما استيقظت بشكل كامل، وجدت سجدة صلاة. هل كانت معي في غرفة العمليات؟ كنت أشعر بحال جيدة حينها. ناديت أختي وسألتها: "ماذا حدث؟".

 

قالت: "لقد غفوت لساعات، كان نومك عميقًا لدرجة لم أرغب معها بإيقاظك".

 

سألتها: ألم تأخذوني إلى غرفة العمليات؟ ألم أخضع لعملية جراحية؟ أجابت متعجبة "كلا، وبالأصل من يجري عمليات في هذا الوقت من الليل؟" كان منامًا رأيته، لكن بعده، صرت أتحسن يومًا بعد يوم، وخفّتْ حال النزيف والالتهابات. عاد ضغط دمي لحاله الطبيعية تقريبًا. كان الأطباء يتعجبون من هذا الشفاء التدريجي المتسارع! لم أحتج بعدها للتبرع، وتحسنت جراح كتفي وبطني.

 

في عيد رأس السنة الهجرية الشمسية 1365 النوروز (20 آذار

 

55

 


49

الفصل التاسع - الدماء

1986) كُنت لا أزال في المستشفى وقد حضر عندي أمي وأبي وأخواتي وإخواني. ازدحمت غرفتي مجددًا بالمهنئين بالسنة الجديدة، لكن هذه المرة لم تتوعّك حالي، بل إني كنت أقوم لأرحب بالزوار والمهنّئين.

 

بعد عشرة أيام، أعطاني الأطباء إذن خروج من المستشفى، ولكن بسبب عطلة 13 "فروردين" (يوم الطبيعة) تقرر أن أبقى في المستشفى وأخرج في يوم 15 "فروردين" (5 نيسان). يوم الوداع ازدحمت غرفتي والقسم مجددًا بل المستشفى كلّه.

 

لا يزال كيس إخراج الفضلات متصلًا بخاصرتي. لقد بقي هذا الكيس مرافقًا لي لعدة أشهر تلت، وفي أحد أيام الصيف تخلّصت من رفقته بواسطة عملية جراحية.

 

شاهدت في إحدى الليالي شباب الفصيل الأول في منامي، كل شهداء الفصيل كانوا هناك: "محمد عليان نجادي"، "محمد أمين شيرازي"، "علي قابل"، "مهدي كبير زاده"، "سعيد بور كريم"، "سهيل مولاي"، وكان "محسن كلستاني" معهم فقلت له:

- لماذا لم تأخذني معك يا أخ "محسن"؟ لماذا تركتني وحدي؟ وكعادته القديمة لفّ يده على كتفي وقال:

- "حسن"، أنت أيضًا كان يجب أن تأتي.. يا أخي، كان يجب أن تأتي إلينا..

 

كنت أبكي في المنام وتنهمر دموعي بحرارة. أخذ الشهداء يعانقونني، ولكن بكائي لم يهدأ.

 

عندما وصلت إلى البيت، بحثت فورًا عن حقيبة الجبهة. كنت أعلم بأنهم قد أرسلوها إلى البيت وأن أهلي قد أخفوها كي لا أصاب باضطراب عاطفي إن رأيتها. وها هي بين يديّ بعد أشهر من الفراق،

 

56


50

الفصل التاسع - الدماء

وقد أحيت في قلبي وخاطري كل الذكريات، الوصية التي كتبتها في "كرخة"، كتبي ودفاتري والتمارين المدرسية التي حللتها بمساعدة "محمد" و"سيد حسن"، كتابات بخط أيديهم، كل شيء كان داخل الحقيبة.

 

زارني أحد شباب الفصيل في أحد الأيام - أظنه "سيروس مهدي بور" - وقال: "لقد رأيت في المنام بأنك استشهدت وأنا أتكلم معك. فقلتَ لي: يا فلان، أنا لست شهيدًا. "علي قابل" هو الذي استشهد وأنت قد اشتبهت بين اسمينا. فرحت كثيرًا في المنام كونك لا تزال على قيد الحياة. سعيت جاهدًا للحصول على عنوانك لآتي وأراك".

 

استشهد "سيروس مهدي بور" في تلك السنة 1986 خلال مشاركته في دورة دفاع جوي في "مهران".

 

بعد فترة طويلة زرت مقبرة "بهشت زهراء" لأول مرة. عندما رجعت إلى البيت أصبتُ بحال تشنّج عصبي. بعد عدة فحوصات وتحاليل طبيّة، تبيّن أن آثار أمواج انفجار تلك الدبابة لا تزال في جسدي وأن تخثرات دماء صغيرة قد تشكلت في أنسجة دماغي، وهي التي تسبّب لي آلامًا في الرأس بين فترة وأخرى. ولهذا السبب، إضافة إلى الأدوية التي كنت أتناولها، ضعفت ذاكرتي ولم تكن تعمل بانتظام لسنوات عديدة. كنت أقرأ شعرًا مرات ومرات كي أتمكن من حفظه. لم أكن هكذا قبل الإصابة. رافقتني هذه الحال خلال دراستي الجامعيّة في اختصاص الطب الذي أنهيته وتخرجت منه برفقة هذه الذاكرة وبهذه الحال!

 

لم تكن عمليات "والفجر8" آخر عمليات أشارك فيها. على الرغم من كوني جريحًا ولديّ إعفاء من خدمة العلم، إلاّ إنني عدت للجبهة وخدمت في كتيبة "حمزة" نفسها. كانت الحرب قاسية ومرّة، لكن لم يكن من خيار آخر. كان علينا أن نقاوم ونقاتل.

 

57

 


51

الفصل التاسع - الدماء

التجربة التي اكتسبتها من الحرب والجبهة، ترافقني دومًا مثل "معلّم كبير". لقد اختبرت نفسي في ساحة القتال وخاصة في المعارك غير المتكافئة ليل 24/11/1364 هـ. ش. (13/2/1986م). ونتائج هذا الامتحان تبقى دائمًا في ذهني. إذا لم يعرف الإنسان نفسه، فبماذا يفيد وما هي قيمته؟

 

من أجل الوصول للكمال، يجب على الإنسان أن يعرف نفسه أولًا، وأنا عرفت نفسي في الجبهة.

 

أنا اليوم كطبيب، عندما أعاين مريضًا حاله صعبة، أحدّثه عن ذكرياتي، عن تلك الأيام التي كنت فيها أتنقل بين الموت والحياة، ولم أستسلم، أو أنّ قدري لم يكن أن أستسلم.

 

وحاليًا، إن فُتِحَتْ ساحات التحدي مجددًا، فإني حاضرٌ وجاهز ومجهّز بتلك الروحية وذلك الإيمان وكل ما كان لدي في ذلك العام 1364 هـ. ش، إن شاء الله.

 

58

 


52

الفصل التاسع - الدماء

وثائق الفصل التاسع

 

 

 

 

1-1 المعلومات الشخصية:

- دكتوراه في الطب العام، متزوج ولديه ولدان.

- تاريخ ومحل الولادة: 1348 هـ، ش(1969)، طهران.

- مدة ونوع المشاركة على الجبهة: 24 شهر خدمة - تعبوي.

 

الخبرة العسكرية:

• قسم الدفاع في "جزيرة مجنون" 1363 هـ. ش/1984م (حراسة).

• عمليات "عاشوراء 3" (تخريب-قسم الهندسة).

• عمليات "والفجر 8" (تخريب-قسم الهندسة).

• قسم الدفاع في "مهران" 1365 ه. ش/ 1986م (تخريب).

• عمليات "كربلاء 5" (تخريب).

• قسم الدفاع في "شاخ شميران" 1367 هـ. ش/1988م (بريد السرية).

 

59


53

وثائق الفصل التاسع

الإصابات:

• تمزق الأمعاء والبطن وجرح الكتف 1364 هـ. ش/ 1986م.

• صدمة من أثر أمواج انفجار (الظهر) 1365 هـ. ش/ 1986م.

• نسبة الإصابة: 35%

 

60


54

وثائق الفصل التاسع

2-6 مقابلة مع أخي الشهيد:

على الرغم من أني أكبر سنًّا من محمد، إلاّ أننا كنا نبدو كتوأم. منذ الطفولة الأولى كنا نلعب ونمزح معًا، نقوم بالمصارعة وتحدي بعضنا البعض، نتخاصم ثم نتصالح دومًا. نبقى معًا في الليل والنهار.

 

كان يحب الملابس ذات اللون الأحمر المائل إلى البني. كانت خزانته قرب خزانتي، لكنّ خزانته كانت أشبه بدكان صغير، فهي مليئة دومًا بأنواع المأكولات: "لواشك" و"ألوتشه"..[1].

 

كان لدى محمد ألبوم طوابع وكذلك "البوم صور لاعبي فريق شاهين" لكرة القدم. كان هو يقوم بتجليد الكتب ويشتري الطوابع ويبيعها. كانت خزانته مليئة ومزدحمة دائمًا.

 

كان يشبه والدنا في أخلاقه، يحب النظام والترتيب. كان في الكشافة عنصرًا فعالًا، حيويًّا ونشيطًا جدًا. عندما كنا نلعب كرة


 


[1] أنواع من الفاكهة شبيهة بقمر الدين.

 

64


55

وثائق الفصل التاسع

القدم كان ماهرًا في حراسة المرمى وكذلك بات هدّافًا ومهاجمًا قويًّا. كان يحب مادة الرياضيات ويحل تمارينها بسهولة، يركزّ تفكيره على المسألة حتّى يَجِد الحل.

 

في تلك الأيام كانوا يعرضون على "التلفاز" برنامج ألعاب "آسمان وريسمان"[1]. لم يكن شعر محمد سهل التمشيط، ولهذا كانوا ينادونه "ريسمان" هو نفسه كان يقول "ريثمان"!

 

كان أبي يكتب له الكثير من الرسائل. وهو كان يحب أبي كثيرًا. لم يكن لدينا هاتف في المنزل، فكان محمد يتصل بمحل أبي، الذي يأتي بدوره ويطمئننا عنه ويخبرنا بسلامته وأحواله.

 

أخبرونا بشهادة "محمد" في أواخر شهر "بهمن" (منتصف شباط). أصيب بشظية في رأسه من الخلف. وكذلك أصيب بشظية حطّمت قفصه الصدري، ولعل شظية أصابت قلبه أيضًا.

 

الأغراض الشخصية التي كانت مع جثمانه: بطاقة عليها زيارة عاشوراء. صورة الإمام الخميني قدس سره، ..، 140 تومانًا، سجادة صلاة وسجدة. هذه الأغراض موضوعة في واجهة زجاجية في المنزل وهي دائمًا نصب أعيننا.

 


[1] السماء والحبال.

 

65


56

وثائق الفصل التاسع

3-5 مقابلة مع والد الشهيد

حسن هو ابني الثاني، أخلاقه وسلوكه مثل أخلاق والدته، التي كانت بدورها تحبه ومتعلّقة به كثيرًا. جدّه كان سيدًا جليلًا من أهل "كلبايكان" وكان الجميع يقولون إنّه سيكون مثل جده، مؤمنًا ومحلّ ثقة الناس.

 

في سن الثانية أو الثالثة تعرّض لحادث، حيث صدمته دراجة نارية بعد أن أفلتَ يدَ أمّه في الشارع، فقُطّب رأسُه بعدّة قطب.

 

كان يهوى الرسم كثيرًا، ورسوماته دومًا هادئة وقوية، غالبًا ما كان يرسم الطبيعة، الورد والأشجار والجبال والمياه. وحتى في لَعِبِه وشيطنته كان مميّزًا وخاصًّا، فلم يكن يؤذي أحدًا..

 

كان يعاني في المدرسة من قِصرَ قامته. كان الطلاب وحتى الأساتذة ينادونه بـ"الفتى الصغير". بدأ قراءة القرآن في سن مبكرة فحفظ قصار السور من الجزء الثلاثين. كلما كان جده يزورنا في البيت كان يلبس عباءته ويلعب معه.

 

كان يعمل معي في المصبغة منذ سنوات فتوّته الأولى. يذهب قبل الظهر إلى المدرسة ويساعدني بعد الظهر في المحل. عند الأذان كان يسبقني في الوضوء ويقف في المحل أمام أنظار الجميع ليصلي ثم يقرأ آية الكرسي بعد الصلاة.

 

لم يكن يهدر وقته أبدًا. في إحدى الصيفيات انتسب إلى نادي مصارعة وأصبح ماهرًا في هذه الرياضة. عندما ذهبنا إلى الزيارة في مدينة "مشهد المقدسة" التقطنا له صورة فوتوغرافية بلباس الدراويش والقبعة والفأس الخاصين بهم. عندما رجعنا من الزيارة عرفت أن أكثر دعائه كان أن تطول قامته!

 

 

68


57

وثائق الفصل التاسع

كان يتابع دروسه في الجبهة أيضًا. أحضر شهادته عند عودته إلى طهران في مأذونية وأراني إياها. كنت أنا ووالدته ندعو له دومًا بالعودة سالمًا معافًى.

 

لا ننسى ذكرى آخر لقاء به، كان يوم جمعة حين دخل المنزل وبيده علبة حلويات. كنا جميعًا في المنزل وكانت من أطيب الحلويات التي تناولناها في حياتنا.

 

آخر غداء تناولناه معًا، كان أرزًّا ودجاجًا. قال "حسن" إنّهم في ليلة العمليات قد أكلوا الأرزّ والدجاج في الجبهة أيضًا.

 

3-6 عنوان القبر

 

طهران، بهشت زهراء، القطعة 53، الصف 72، رقم 2

 

69

 


58

الفصل العاشر - «دز»

الراوي: كلنام باقري.

الموقعية: مسعف، المجموعة الثانية.

تاريخ ومكان أول مقابلة: 1383 هـ. ش (2004 م) دزفول.

 

 

الفصل العاشر

"دز"

لم يكن عمري قد تجاوز العاشرة، عندما توفي والدي. أخذ الماء معه كل ذكريات أبي وأغراضه. لقد رمت أسرتي في ماء "دز" كل ملابسه وتخته وتذكرة هويته.. حتى صوره. لقد أخذت بحيرة "دز"، بشكل لا واعٍ، كل مباهجنا معها! عرفتُ هذا بعد مرور الزمان. لا أعلم أي نوعٍ من المرض كان قد فتك بأبي حتى توجب رمي كل ما بقي من أثره بهذه الطريقة.

 

كنّا ثلاثة أخوة، أنا وأخ أكبر مني وأخ صغير في الثانية أو الثالثة من عمره. بعد رحيل والدي، وقع حِمْل إدارة المنزل بكل ثِقله على كاهل أمي وأخي الكبير. في تلك الأيام كان بيتنا خاليًا، فقد باعت أمي كل الأغراض والمفروشات لمعالجة أبي من مرضه العضال.

 

كان أبي في حياته يعمل حارسًا للسدّ. لم نكن نعرف ماذا يعني راتب التقاعد وتعويض نهاية الخدمة. ولهذا لم نتابع مسائل سنوات الخدمة والمعاملات الرسمية، فكانت حياتنا صعبة جدًّا بدون راتب التقاعد.

 

71

 


59

الفصل العاشر - «دز»

ترك أخي الدرس والمدرسة وتوجه نحو العمل. وأنا أيضًا صرت أعمل في فصل الصيف خلال المرحلة المتوسطة، وفي السنة التي توفي فيها أبي جاءت علاماتي المدرسية بعكس السنوات الماضية، متدنية، فلم أكن أثابر وأركز على الدرس حينها. وكانت هوايتي وتسليتي الأساسية السباحة في مياه بحيرة "دز" الصافية والباردة.

 

في بعض الأحيان، كنت أركض خلف الشاحنات التي تحمل القمح، وألحقها حتى تصل لمكان تفريغ حمولتها، وعندما يقوم العمال بإنزال أكياس القمح، كنتُ ألتقط الحبات التي تقع من الأكياس وأتلذذ بأكلها.

 

في أحد الأيام، كنت قد ملأتُ كفي بالقمح وأحاول العبور بين السيارات على الجسر القديم في "دزفول"، حين مرّت سيارة مسرعة بالقرب مني، ولا أعلم إن كانت صدمتني أم لا، ولكني وقعت على الأرض بقوة فخدشت وجهي ورأسي ويدي، وسالت الدماء مني. كانت يدي لا تزال مليئة بالقمح فوضعتها كلها في فمي كي لا تذهب هدرًا! جاء عدّة أشخاص وساعدوني على القيام.

 

علمت أميّ بسرعة البرق، وبالطبع فإن الخبر وصلها مضخّمًا من الذين "يصنعون من الحبة قبة"، إذ قالوا لها إنّ فلانًا قد صدمته السيارة ومات! قمتُ وغسلت وجهي ويديّ بماء "دز" ولم أكن قد أخذت أنفاسي بعد حتى عرفَتْ أمي بالخبر بهذه الطريقة ! ومن شدة خوفي اختبأت تحت الجسر حتى أتى أخي الأكبر وتوسّط لي كي لا تضربني أمي وأعود للبيت بسلامة! في تلك الليلة رَقَعَتْ أمي بنطالي الذي تمزّق من عدة أماكن.

 

كنتُ أحب الهوايات الفنية. تعلّمت التصوير والخط من دون معلم ولا دورات تعليمية. كذلك كتابتي لمواضيع الإنشاء كانت لا بأس بها.

 

72

 


60

الفصل العاشر - «دز»

ترك أخي الدرس والمدرسة وتوجه نحو العمل. وأنا أيضًا صرت أعمل في فصل الصيف خلال المرحلة المتوسطة، وفي السنة التي توفي فيها أبي جاءت علاماتي المدرسية بعكس السنوات الماضية، متدنية، فلم أكن أثابر وأركز على الدرس حينها. وكانت هوايتي وتسليتي الأساسية السباحة في مياه بحيرة "دز" الصافية والباردة.

 

في بعض الأحيان، كنت أركض خلف الشاحنات التي تحمل القمح، وألحقها حتى تصل لمكان تفريغ حمولتها، وعندما يقوم العمال بإنزال أكياس القمح، كنتُ ألتقط الحبات التي تقع من الأكياس وأتلذذ بأكلها.

 

في أحد الأيام، كنت قد ملأتُ كفي بالقمح وأحاول العبور بين السيارات على الجسر القديم في "دزفول"، حين مرّت سيارة مسرعة بالقرب مني، ولا أعلم إن كانت صدمتني أم لا، ولكني وقعت على الأرض بقوة فخدشت وجهي ورأسي ويدي، وسالت الدماء مني. كانت يدي لا تزال مليئة بالقمح فوضعتها كلها في فمي كي لا تذهب هدرًا! جاء عدّة أشخاص وساعدوني على القيام.

 

علمت أميّ بسرعة البرق، وبالطبع فإن الخبر وصلها مضخّمًا من الذين "يصنعون من الحبة قبة"، إذ قالوا لها إنّ فلانًا قد صدمته السيارة ومات! قمتُ وغسلت وجهي ويديّ بماء "دز" ولم أكن قد أخذت أنفاسي بعد حتى عرفَتْ أمي بالخبر بهذه الطريقة ! ومن شدة خوفي اختبأت تحت الجسر حتى أتى أخي الأكبر وتوسّط لي كي لا تضربني أمي وأعود للبيت بسلامة! في تلك الليلة رَقَعَتْ أمي بنطالي الذي تمزّق من عدة أماكن.

 

كنتُ أحب الهوايات الفنية. تعلّمت التصوير والخط من دون معلم ولا دورات تعليمية. كذلك كتابتي لمواضيع الإنشاء كانت لا بأس بها.

 

72

 


60

الفصل العاشر - «دز»

في السنة المتوسطة الثالثة، أعطتنا معلمة اللغة السيدة "خادمي" موضوع إنشاء عبارة "صِف بيتك ومدينتك وبلدك".

 

ما زلت أذكر بدقة عبارات ذلك الموضوع حتى الآن، لأن هذه الجملات البسيطة قد وضعت قدمي على مسار آخر ومصير جديد!:

"لماذا بعض البيوت كبيرة جدًّا ومريحة وبعضها الآخر صغير وضيّق؟ إن بلدنا يمتلك كل شيء: الأرض، الماء، النفط، المعادن، لماذا ينبغي أن نعيش في ظل الفقر والمصائب؟ كل هذه الثروات والإمكانات حولنا، ولكن موائدنا خالية..".

انزعجت المعلمة من موضوع الإنشاء الذي كتبته وأرسلت دفتري إلى مدير المدرسة. كان المدير ذا قامة مرعبة. كنت أرتجف خوفًا في الطريق إلى مكتبه، قرأ موضوعي وقال:

اقرأ، لأعرف ماذا كتبت؟

 

قلت له: "لقد قرأته مرة، لن أقرأه مجددًا".

 

صفعني فجأة على وجهي ثم ضرب رأسي بالجدار.

 

تركت المدرسة هربًا وغضبًا. بقيت غائبًا لمدة أسبوع، وألقيتُ حبلها على غاربها!

 

كنّا تلك الفترة في خريف وشتاء 1978م- 1979م. كانت الشوارع تغصّ يوميًا بالجماهير الغاضبة، تظاهرات واضطرابات. اشتقتُ للمدرسة ولرفاقي فرجعت إليها، وحاولت جاهدًا تحدّي أولاد الأغنياء! فإذا نال أحدهم علامة 16 في مادة من المواد، كنت أبذل قصارى جهدي لأخذ 17 على الأقل. إلى أن انتصرت الثورة في شهر "شباط" من ذلك العام (1979م).

 

في شهر "حزيران" من تلك السنة، مررت على المدرسة، ذهبت

 

73

 


61

الفصل العاشر - «دز»

لأستلم الشهادة والعلامات. وجدت مديرًا جديدًا قد حلّ مكان المدير السابق. بمجرّد أن دخلتُ إلى مكتبة المدير الجديد، قام واستقبلني بحفاوة بالغة وقدّم لي الشاي والبسكوت. تناولت الضيافة ومسحت يدي على خدّي وكأني أقول: أنا لم أنسَ تلك الصفعة وما زلت أشعر بألمها حتى الآن.

 

قبل انتصار الثورة كنتُ مولعًا بقراءة كتب الدكتور شريعتي. في أحد الأيام كنت أنا ورفيقي "إسماعيل بور كيواني" جالسين في زاوية الشارع نقرأ دروسنا. مرّ أحد عملاء السافاك (المخابرات) وظنّ بأننا نقرأ كتبًا ثورية ونوزع البيانات للناس. هجم علينا بسرعة ليعرف ماذا نفعل وليضبطنا بالجرم المشهود، لكن عندما وجد أن كتبنا مدرسية تركنا واختفى فورًا.

 

في يوم 21 "بهمن" (10 شباط، قبل يوم واحد من انتصار الثورة) شاهدتُ شهادة أحد الشباب في الشارع. كان العسكريون قد جاؤوا من ثكنة "دزفول" وأرادوا العبور من الجسر الجديد للدخول إلى المدينة، لكن حشود الناس تجمعت عند الجسر ولم تسمح لهم بالمرور. فجأة صرخ أحد الشباب:

- هناك سيارة "بيكان" تتجه صوبنا، وضعها مريب..! "تفرق الجميع وأسرعوا في كل اتجاه. بقيت أنا وأحد الشباب، حيث تأخرنا في التحرك. أصيب ذاك الشاب برصاصة بينما استطعت أنا الفرار منهم، لكن بعد ساعات، اعتقلني أحد عناصر "السافاك" وأوقفني مقابل جدار كُتب عليه "الموت للشاه" وقال لي:

- إذا التفتّ للوراء، سأطيح برأسك فورًا...

- كان يحمل بندقية "G3" ، وقفت ساكتًا ولم أقل شيئًا، لكنه كان

 

74

 


62

الفصل العاشر - «دز»

يبحث عن الشر! سألني:

- ماذا كتبت هنا؟

- أنا لا أرى شيئًا.

- هذا المكتوب بالأبيض. ماذا كُتب؟

- أنت تعلم ماذا كُتب، فلماذا تسألني؟

 

ضغط بحربة البندقية على عنقي وألصق رأسي بالجدار. فقلت بهدوء.

- "الموت للشاه".

 

قال: "لا ترفع رأسك عن الجدار... مدّ لسانك وامحُ به هذه الكلمات فورًا!".

 

قلت له: "أنا لم أكتبها ولن أقوم بهذا العمل. اذهب وابحث عمّن كتبها".

 

غضب وقال: "إن لم تفعل ما آمرك، سأرميك بطلقة واحدة مثل رفيقك". نظرت بطرف عيني إلى ذلك الشاب، كان قد فارق الحياة من شدة نزيف دمائه. مددتُ لساني محاولًا محو الشعار. بقي لساني يحرقني لمدة شهر بعد هذه الحادثة. كان الشعار مكتوبًا بالكلس.. ولو كان بالطبشور لما عانيت كل هذا الألم.

 

على كل حال، أنستنا لذة الانتصار وحلاوته كل مرارات تلك الأيام، مع أن الذكريات لا تزال تمر في البال.

 

في العام 1979م، صرت عضوًا في المجموعة التي تأسست في المسجد لحراسة الحي. هذه المجموعة صار اسمها فيما بعد "التعبئة".

 

السنة التالية، جاء أحد شباب المجموعة واسمه "رحمان" باكيًا

 

75

 


63

الفصل العاشر - «دز»

وقال: لماذا تجلسون هكذا؟ لقد دخل البعثيون العراقيون...

 

تجاوزوا الحدود ووصلوا حتى جسر "كرخه". وسيصلون إلى "أنديمشك" قريبًا!

 

تم تشكيل مجموعة من عشرة أشخاص من تعبئة الحيّ للمشاركة في مقاومة البعثيين. أخذ أخي الأكبر الذي كان أيضًا في التعبئة، مكاني في تلك المجموعة ولم يسمح لي بالالتحاق والتوجه معهم للجبهة.

 

كانت الطائرات الحربية العراقية تقصف مدينة "دزفول" بشكل يومي تقريبًا. التجأ أغلب الناس إلى المدن القريبة حفاظًا على أرواحهم، ولكنّ أمي رفضت ترك المنزل، ولعلّ السبب إنّنا لم نكن نعرف أحدًا في المدن والمناطق المجاورة، وكان علينا نصب خيمة في الصحراء، الأمر الذي فعله الكثير من الناس.

 

في خريف 1980م وبعد مدّة قصيرة من حرب العراق على إيران، صرتُ عنصر تعبئة بشكل رسمي، وتشكلت في القوة الخاصة. وصرت أقبض راتبًا مقابل هذا العمل. قبلها لم نكن نقبض أي أموال لحضورنا ومشاركتنا في العمل في المسجد، كنا أحيانًا نتناول الطعام في مركز التعبئة. عندما بدأت الحرب وثمَّ إعلان "دزفول" منطقة عسكرية، ولأنَّها جبهة بحد ذاتها، قامت التعبئة بإعادة هيكلة وتجديد التشكيل لعناصرها. كان العدو يقصف "دزفول" يوميًا بالصواريخ والقذائف كي يهجّر كل سكانها، فإذا استطاع أن يقطع جادة "خرم آباد - اندمشك" سيجعل "دزفول" قاعدة خلفية ومركز دعم لقواته، هذا الهدف الذي لم يتمكن الجيش العراقي من تحقيقه أبدًا.

 

في شتاء 1981م، ذهبتْ أمي وأخواي الاثنان إلى منزل أخي في "مسجد سليمان" وبقيت وحدي في "دزفول". كان صمت القبور يخيّم على المدينة، أغلب الأهالي قد تهجّروا ورحلوا منها. أمي وأخواي كانوا من آخر العائلات التي تركت "دزفول".

 

76

 


64

الفصل العاشر - «دز»

لم تطل إقامة أمي في "مسجد سليمان"، فعادت في ربيع 1981 إلى "دزفول". لم تكن ترتاح لترك المنزل والبقاء في أي مكان آخر.

 

كان أخي يأتي أحيانًا إلى "خوزستان" ويخدم على خطوط تماسها. عندما يكون هو على الجبهة، كان عَلَيَّ أن أبقى في المنزل مع أمي وأخي الأصغر. ممنوع أن نكون نحن الاثنان معًا على الجبهة في الوقت نفسه! هذا ما اشترطته علينا أمي.

كان لدينا نحن الاثنين حذاء عسكريّ "بوتين" واحد من نوع "تاف" رقم ثمانية، ينتعله الذي يذهب إلى الجبهة. وهذا عذر آخر ليذهب أحدنا ويبقى الآخر في المدينة. بوتين "التاف" صناعة إيرانية متينة وعملية.

 

عندما حلّ العام 1361 هـ. ش(1982م)، شارك أخي في عمليات "الفتح المبين"، وأصيب بجراح في عمليات "بيت المقدس"، كنا قد اتفقنا أن التحق أنا بالجبهة فور عودته، لكن أمي نقضت الشرط القديم حيث قالت إن أخاك جريح وغير معافى ولهذا لا يمكنك الذهاب!

 

قمت بخدعة بسيطة لتحصيل ورقة موافقة أمي للمشاركة في القتال، كانت نائمة فأمسكت بإصبع يدها ووضعت عليه حبرًا وألصقته على الورقة لتظهر بصمتها عليها! الحمد لله لم تستيقظ وأنجزتُ مهمتي بنجاح!

 

في صيف 1982م شاركتُ في عمليات "رمضان". في ذلك الوقت عرفتْ أمي بما قمت به. كنتُ على خطوط التماس في "شلمجة" حين ذهبتْ إلى مركز التعبئة وسألتْ وعرفت كل ما حدث.

 

في العام 1984م نجحت في امتحان الدخول إلى جامعة إعداد المعلمين. كنتُ في بيتنا أولَ حائزٍ الشهادة الثانوية، ويدخل إلى الجامعة. رغم أن دخولي إلى الجامعة قد حلّ لي مشكلة الخدمة

 

77

 


65

الفصل العاشر - «دز»

العسكرية، ولكن تابعتُ وبشكل متواز الدرس والحرب معًا، وحاولت بذل أقصى جهدي في المجالين.

 

كان محل دراستي في جامعة الشهيد بهشتي لإعداد المعلمين في طهران.

 

كانت الحياة الجامعية الجديدة في العاصمة وفي مطلع الشباب حافلة بالذكريات والمحطات اللافتة: سكن مناسب ومكان جيد للدراسة، طعام جيد في المطعم الطلابي، التجوال والتسلية والرحلات داخل طهران في أيام العطلات في مدينة طهران الكبرى، ولكن كل هذا لم يكن يقنعني ويرضيني. أن تكون "دزفول" مسقط رأسي، تحت قصف البعثيين وصواريخهم ولا أكون في قلب المواجهة. تركت كل شيء في طهران، وفي العام 1985م يمَّمت وجهي شطر الجبهة في حملات تعبئة من طلاب الجامعات.

 

قبل أن أنطلق لخطوط التماس، أخبرت أمي وأخي. فأرسل لي أخي "البوتين" رقم 8 كالعادة. عندما نظرت إليه تحركت كل الذكريات القديمة، لقد انتعلتُ هذا البوتين في "كرخة" و"دشت عباس" وقناة "شلمجة" وحتى "آبادان" وغيرها الكثير من المناطق العسكرية. عاد لي هذا البوتين حاملًا معه كل تلك الأحداث والذكريات، ليرافقني غدًا في أحداث ستصبح ذكريات جديدة، ولا أدري أين وكيف وماذا سيحدث.

 

عندما شاهد زملائي في الجامعة هذا البوتين، تعجبوا وقالوا: "ألا يوزعون في الجبهة أحذية عسكرية على المقاتلين؟".

 

كنت أمسح البوتين، أجبتهم: "كلا، لا يعطون، يجب على كل واحد أن يحضر بوتينه ولباسه وسلاحه معه".

 

في تلك الحملات الطلابية الكبرى، رافقتُ 1999 طالبًا ذاهبين

 

78

 


66

الفصل العاشر - «دز»

إلى الجبهة. نقلونا أولًا إلى "خوزستان" وإلى ثكنة "دوكوهه" التي كانت مركزًا للفرقة "27 محمّد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم قالوا لي: لأنك طالب جامعي، يجب أن تلتحق بالإسعاف الحربي.

 

لم أكن قد عملتُ مسعفًا قبل ذلك. كنت قناصًا وكذلك عملتُ مساعد رامي (آر بي جي) ورامي رشاش.

 

شاركتُ في شهر "دي" من العام 1364هـ.ش[1] في دورة إسعاف حربي في الكتيبة الصحية للفرقة "27" في ثكنة "دوكوهه".

 

كانت حقائبنا مليئة بأنواع الضمادات والمعقمات والمقصّات والأدوية وقطع التلصيق الصغيرة والكبيرة والمصابيح و....

تعلّمنا خلال أسابيع كل دروس الإسعاف، وفي الوقت نفسه قدّمنا في المجمع التعليمي امتحانات جامعية عديدة، حيث نلتُ علامات عالية في مواد الأدب وأساليب الكتابة.

 

في أواخر كانون الثاني، كانت تحركات الكتائب والأقسام تشير بوضوح إلى اقتراب موعد عمليات كبرى. كانت الفِرَق جاهزة ومتأهبة. وقد تم توزيعنا بين الكتائب لنرافق المقاتلين في ليلة الهجوم المنتظر.

 

التحقتُ بكتيبة "حمزة"، وكانت وقتذاك خالية، فالشباب كانوا في مأذونية ولا أحد في الخيام. رجعوا بعد أيام وعادت الحيوية والازدحام، وتمّ فرزي إلى الفصيل الأول في السرية الأولى في كتيبة "حمزة".

 

استقبلني مسؤول الفصيل بحرارة ومحبة. كان شباب "محسن كلستاني" يعرفون بعضهم بعضًا جيدًا وتجمعهم صداقة حميمة. وكنت أنا الجديد بينهم.

 

أغلبهم كان من طلاب المرحلة الثانوية أو المهنية. كان الآخرون


 


[1] دي 1364 هـ.ش: من 20 ك1 1985 إلى 20 ك2 1986م.

 

79


67

الفصل العاشر - «دز»

يطلقون عليهم لقب "أطفال روضة كلستاني". كانت علاقتهم الجميلة ببعضهم البعض مثار إعجاب ومديح لدى الجميع.

 

صرتُ أنا عنصرًا في المجموعة الثانية في الفصيل. كان "سيروس مهدي بور" مسعف المجموعة الأولى ومن أصحاب الخبرة والتجربة. كان هو أيضًا طالبًا جامعيًّا في جامعة "الشهيد بهشتي" لإعداد المعلمين في طهران ويتابع دراسته في اختصاص تعليم المرحلة الابتدائية. كان من دفعة العام 1983 فيما دخلت أنا الجامعة في العام 1984، ومن الذين شاركوا في عمليات "بدر" وجاء إلى الجبهة في صيف 1985 وأصبح قليل الحضور في الجامعة. كان يتكلم بلكنة "آذرية" ويتمتع بمهارة عالية في أعمال الإسعاف.

 

في طابور الصف المرصوص كنت أقف وراء متخصص التخريب في المجموعة الثانية، "حسن قابل أعلا" أصغر العناصر سنًّا في الفصيل، كان مقاتلًا مثابرًا وتلميذًا مجتهدًا. أما ورائي فكان يقف رجلان كهلان مهمتهما حمل الجرحى. أحدهما كان يؤم المصلين أحيانًا في خيمة الفصيل.

 

كنت قد بدأت بحفظ سور القرآن منذ مدّة. طلبت في أحد الأيام من "حسن قابل أعلا" أن يسمّع لي. كان يقرأ أول الآية وأنا أكمل الباقي.

 

كانت هذه بداية تعرفي عن قريب إلى شباب الفصيل.

 

سألني "حسن" عن أسلوب حفظي للقرآن وماذا يجب عليه أن يفعل ليبدأ بالحفظ. قلت له "التركيز والتمرين... كلّما تلفظت بآية عليك أن تفكر بالآية التي تليها... "[1].


 


[1] في آخر أيامنا في معسكر "كرخه"، علمت أنّه قد حفظ مجموعة من سور الجزء الثلاثين.

 

80


68

الفصل العاشر - «دز»

تعرفتُ أيضًا إلى "أصغر أهري"، كان مثابرًا على مطالعة كتب الشهيد مطهري، وأنا كنت متعلقًا بكتب الدكتور شريعتي، تلك الكتب التي امتزجت بذكريات الثورة ومطلع شبابي. كان "مسعود أهري" ابن عم "أصغر" يأتي إلينا أيضًا ويجلس إلى جانبنا. كان يريد التعرف أكثر إلى كتب الدكتور شريعتي. قلت له إن كتب الدكتور تتميز بأسلوب أدبي وتجذب القارئ إليها، وبالطبع فإنها تحمل مضمونًا قويًّا وأصيلًا أيضًا... حدثتهم بعدها عن حادثة حصلت معي في جبهة "آبادان" - عندما كنت حارسًا - فقلت لهم: "منذ سنوات، كنت حارسًا في "آبادان"، وجدت علبة كرتون فيها كتب، ناديت الشباب: كنز... تعالوا... وجدت كنزًا. ظنّوا بأنني وجدت ذهبًا أو مجوهرات. عندما جاؤوا وشاهدوني أقلّب الكتب بيدي، قالوا بتعجب: أين هو الكنز؟ قلت: هذا هو.. مجموعة كتب الدكتور شريعتي..".

 

كان مسعود من هواة المطالعة، وكذلك من أهل المناجاة والدعاء. كان ينام ليلًا في القبر ويناجي ربه. قلت له إنّني عندما كنت في العاشرة أو الثانية عشرة من العمر كان كل منا يضع في النهار علامة خاصة، قلمًا أو ممحاة أو..، على قبر معين في المقبرة ونجري مسابقة في الليل للعثور عليها. كانت المقبرة خالية موحشة في تلك الأيام والليالي. فيما بعد وبسبب الثورة والحرب، صارت المقبرة عامرة مزدحمة.

 

سألني "مسعود": وأنت أيضًا كنت تشارك في هذه اللعبة.

- نعم، قمنا بهذا عدة مرات.

- أنتم أهل القرى، ما أشجع قلوبكم.

 

كنت آخذ مأذونيات قصيرة إلى المدينة، سألني "محسن كلستاني" مرة: "باقري إلى أين تذهب في كل هذه المأذونيات؟".

 

81

 


69

الفصل العاشر - «دز»

قلت له ممازحًا: "أذهب لأتأمل في مخلوقات الله الجميلة !..".

 

أجابني: "أنت أيضًا تعرف هذه المسائل؟".

 

ضحكت وقلت له: "أنا من دزفول" وأعرف كل مناطق "خوزستان". منذ أن بدأت الحرب، صرت أشارك على الجبهة. أنتم التعبويون تأتون إلى "خوزستان" لتحاربوا، ولكن أنا كل حياتي كانت هنا.. ".

 

ذهبت مرة إلى زينبية "الأهواز"، حيث كان هناك محطة صلواتية تستقبل المقاتلين وتقدم لهم الضيافة ليستريحوا من عناء الحرب، استعدتُ حيويتي ونشاطي هناك وعند رجوعي، أعطوني مبلغًا ماليًا أيضًا كوني أحمل بطاقة عسكرية من "الفرقة 27".

 

كان قد مضى أسبوع كامل على حضوري في الفصيل الأول، ولكني لم أكن قد اندمجت معهم كثيرًا. كانت جَمْعَتُهُمْ عامرة وكنت أحيانًا أجلس إلى جانب أحدهم أو عدد منهم وأتجاذب معهم أطراف الحديث، ولكن مفتاح دخولي إلى ناديهم كان مسعف المجموعة الأخرى، "سيروس مهدي بور".

 

كان لدي كوفية بيضاء وبدلة "سبيليت" نايلون خضراء وخوذة معدنية، أغلب الشباب كان لديهم كوفية أو شال أسود، القليل جدًا كان معه بدلة نايلون خضراء، وأنا الوحيد الذي كان لديه خوذة. تعلّمت أن أحملها دومًا بعد تجربة عمليات "رمضان". لو لم نكن نضع الخوذات في انسحابنا من عمليات "رمضان" لما كنت الآن حيًا وأحدثكم عن هذه الذكريات، ولواجهت المصير الذي لقيه الكثير من الشباب في تلك العمليات.

 

علمنا أن الكتيبة ستقوم بمسير في الليل. في تلك الليلة بدأت سنّي تؤلمني بشدة بعد العشاء. حاولت تسكينها من دون فائدة. دققت النظر

 

82


70

الفصل العاشر - «دز»

فيها على المرآة وتحت نور المصباح المعلق في الخيمة، كان التسّوس واضحًا، فعرضتُ مشكلتي على مسؤول الفصيل. قال:

لا يوجد في المعسكر طبيب أسنان، يجب أن تذهب إلى "دوكوهه".

 

قلت له: لا أستطيع التحمّل إلى الغد. أذهب الآن إلى "أنديمشك" أو "دزفول".

 

كان الألم قد أنهكني. أخذت ورقة المأذونية وسرت وحدي، تنقلت بعدة شاحنات على الطريق، حتى وصلت إلى "انديمشك".

 

كان أحد أطباء الأسنان يناوب في المستشفى الخاص بالمقاتلين. عاين سنّي وأعطاني حقنة مسكنة وقال لي راجعني غدًا. لم أقبل بالأمر وطلبت منه العمل على سنّي في تلك الليلة. كان النعاس يغالب الطبيب ولكنه قام بترميمها لمدة نصف ساعة، ثم قال لي:

"نزعتُ مكان التسوّس في سنّك وحشوتُ مكانه، انتبه إليها جيدًا سترتاح لعدة أسابيع ثم عليك متابعة إصلاحها".

 

حين رجعت إلى كرخه بعد منتصف الليل، كانت الجادات والشوارع مزدحمة وتفوح منها رائحة العمليات. لم يكن قد أذّن الصبح عندما وصلت إلى خيمة الفصيل. كان الشباب قد عادوا للتو من المسير. سألني مسؤول الفصيل عن حالي فأخبرته بما حدث.

 

من بين جميع الشباب، كان "مسعود أهري" يملك آلة تصوير فوتوغرافي. التقطتُ عدّة صور معًا. وكأني قد أصبحت صديقًا حميمًا له.

 

كنت أعلم بأنه كان مسعفًا في "عمليات بدر". كان يهوى العمل في الإسعاف الحربي، وكنّا غالبًا ما نتحدث عن هذه الإصابات الخطيرة.. بعد أن تحدثنا عدة مرات، عرفت بأن أباه طبيبٌ مساعد، وكان يخدم في "انديمشك" على الجبهة هذه السنة.

 

83

 


71

الفصل العاشر - «دز»

غادرنا معكسر "كرخه" بالباص، بعد أن كنا تناولنا الغداء في صوانٍ كبيرة مثل هيئات مجالس العزاء. وصلنا مساءً إلى معكسر "كارون" الذي كانت الخيام فيه قريبة من بعضها البعض. كنا على بعد خطوة كبيرة واحدة من بدء العمليات. فلم يعد بالإمكان إرسال الرسائل إلى الأهل من هناك. يمكن استخدام التلغراف فقط. كتبتُ برقية وصار عدد كلماتها خمسين كلمة. قالوا لا يمكن إرسال سوى عشرين!

 

قلت لعامل التلغراف:

- احذف الكلمات الإضافية مثل من وإلى وعلى، .. يصبح العدد مناسبًا:

- إن فعلتُ هذا، فلن يفهم معاني جملات برقيتك أحدٌ سواك!

 

كانت أمي قلقة عليّ بشكل دائم. لقد عانت كثيرًا وعاشت بلاءات شاقة بعد موت أبي. وكنت بين الوقت والآخر أداريها وأتواصل معها وأطمئن عن أحوالها. كانت طلّتي على البيت مفاجأة لها. لم تكن المسافة كبيرة بين معكسر "كرخه" و"دزفول". لكن هذه المرة ولأني كنت أعلم أنّي لن أستطيع زيارتها ولا الاتصال الهاتفي، أرسلت لها تلغرافًا ليطمئن بالها.

 

في معسكر "كارون"، أجرينا في أحد الأيام مناورة على مواجهة الهجوم الكيميائي، حيث بقينا لساعات طويلة ونحن نضع القناع الواقي ونلبس البدلات النايلونية لنتعود على الحركة بها. حتى إننا نمنا في الليل ونحن نضع الأقنعة. انقطع نفسي خلال النوم فغطيت وجهي بالبطانية ونزعت القناع، تنفست لعدة دقائق ثم أعدته إلى وجهي، كررت هذا العمل مرات حتى طلع الصباح. في تلك الليلة أصبح وجه بعض الشباب أحمر كالشمندر! بعضهم كان قد تعرض سابقًا لإصابات كيميائية، وبعضهم الآخر كان يعاني من ضيق النفس، ولكنّ

 

84

 


72

الفصل العاشر - «دز»

أحدًا منهم لم يعترض. كانوا يتنشّقون الهواء المنعش ثم يضعون القناع مجددًا.

 

في إحدى المناورات، تمزّق بنطالي، لدرجة اضطررت أن أخلعه وألبس بدلة النايلون. سألت الشباب إن كان معهم إبرة وخيط كي أصلح البنطال، فلم أجد. حين استيقظت من النوم في صباح اليوم التالي، وجدت البنطال مخيطًا ومعلقًا فوق رأسي.

 

سألت الحاج "رحيمي" الذي كان ينام بالقرب منّي:

- يا حاج، من خاط البنطال؟ هل أنت تعذّبت وأصلحته؟

- نعم يا بني.

 

أردت أن أقبّل يده فلم يسمح لي وقال:

لم أفعل شيئًا، إنه مجرد عمل بسيط لا يستحق الذكر. كلما احتاج الشباب لخياطة لباس ما يعطونه لي...

- يا حاج، لو أعطيتني إبرةً وخيطًا لقمت أنا بخياطته...

 

قال ضاحكًا: "قيمة العمل أن أقوم أنا بإنجازه، فأنا أفرح كثيرًا لخدمة أي مقاتل".

 

كان الرجل العجوز يعمل في حمل الجرحى، لكنّ بنيته القوية تشير إلى ماضٍ من العمل البدني الشاق، وإلى قدرته على حمل الجرحى بسهولة. كان مسرورًا ومستبشرًا في كل الأوقات.

 

كان في فصيلنا من كل الأنواع: خياط، حلاق، إمام جماعة، فيلسوف، فنان، عارف.. وأنا مسعف تلك المجموعة الطيبة.

 

في أحد الأيام، كنّا واقفين قرب نهر كارون، قال مسؤول الفصيل: كل من يستطيع أن يسبح من الضفة إلى الضفة المقابلة فليقف إلى هذه الجهة.

 

85

 


73

الفصل العاشر - «دز»

وقفت هناك مع بضعة شباب آخرين.

 

كان الماء موحلًا. في الظاهر هادئ جدًّا، ولكن تيارات قوية كانت تجري في داخله. من لم يكن محترفًا بالسباحة فلا شك أنه سيغرق ولن يتمكّن من اجتياز النهر. تحدث مسؤول الفصيل مع كل الشباب الذين تطوّعوا للسباحة.

 

كنت قد عبرت النهر وأهمّ بالعودة بينما كان الباقون لم يصلوا حتى لمنتصف المسافة. استغرق اجتيازي ورجوعي حوالي عشر دقائق.

 

سألني مسعود أهري عن خبرتي بالسباحة. قلت له: "منذ طفولتي وأنا أسبح في دز. وكبرت بالقرب من الماء، بالطبع ماء النهر وليس ماء المسبح!".

 

كان هو يتقن سباحة الكرول والضفدعة، ولكنه يتعب بسرعة. في اليوم التالي، كان لدى الكتيبة مناورة وعمليات برمائية. قلت للأخ كلستاني: "أنا مصاب بنزلة برد، لكن إن كان رأيك أن أشارك في المناورة فسأشارك". فطلب مني أن أبقى وأستريح كي أكون مستعدًّا للعمليات الحقيقيّة القريبة.

 

عانينا من الجوع الشديد في معسكر كارون حيث انخفض التموين والدعم للنصف. كان تدريبًا إلزاميًّا على تحمّل الجوع. وصل بنا الأمر إلى أكل الخبز الناشف والمتعفّن. ولم نكن نستطيع الخروج من المعسكر كي نعوّض هذا الجوع في المدينة.

كان "جواد نصيري" بور مساعد رامي الآر بي جي في المجموعة الثانية، يشبهني في قلّة الكلام. تعمّقتْ صداقتنا أكثر في معسكر كارون. طلب مني في أحد الأيام أن أكتب له عبارات للذكرى. استجبت له وكتبت بضع جمل على دفتره الصغير وأبياتًا شعرية: (ترجمة الشعر)

 

86

 


74

الفصل العاشر - «دز»

لا يمكن إظهار صرخة القلب المحترق

لا يمكن الحديث مع أحد عن اللوعة الخفيّة

ما عانيته أنا من جفاء الهجر

لا يمكن بيان لحظة منه بمئة سنة كلام

 

وفي آخر الصفحة تمنيت له التوفيق: "آمل أن تكون في كل أيام حياتك ناجحًا منتصرًا دومًا".

 

عندما أعطيته الدفتر سألني عن تاريخ ولادتي فقلت له 1344هـ.ش.(1965م). سألني عن اسم "إسماعيل" الذي أسمّي نفسي به. فأخبرته:

"لديّ صديق حميم في دزفول اسمه إسماعيل، ونحن رفاق منذ أيام الدراسة الابتدائية، ولدينا ذكريات قديمة زمان الثورة والحرب. كان رفاقنا يمزحون معي ومعه ويقولون عنّا: ليلى ومجنون ليلى. كنّا معًا دائمًا. فكان شباب الحيّ ينادونني باسم إسماعيل وينادونه باسمي. ولهذا صرت أكتب اسمه دائمًا إلى جانب اسمي".

 

في ليالي الشتاء الطويلة، كنّا نجتمع فنقرأ القرآن معًا. كانت المصاحف الصغيرة لا تحوي ترجمة فارسية للآيات، فطلب مني نصيري بور أن أترجم لهم معاني الآيات. كنت قد درست في الجامعة مواد اللغة العربية والمعارف ويمكنني أن أقوم بالترجمة.

 

وفي ليالٍ أخرى كنّا نجري مسابقات "مشاعرة"، نتنافس بالأشعار الدينيّة والعرفانيّة وأحيانًا بأشعار اللطميات والأناشيد التي نعرفها.

 

أبى الجوع أن يتركنا بحالنا. في أحد الأيام كان الطعام حساء "الآش" بالشعيريّة، نصف كاسة ونصف رغيف لكل مقاتل! تذكرت "الآش" الذي كانت تحضّره والدتي بالطحينة، كان عامرًا بالأرز

 

87

 


75

الفصل العاشر - «دز»

والماش وتسكب الطحينة على وجهه، كان طبقنا الشهي في الشتاء. قلت للشباب: فليعطونا الخبز على الأقل لنشبع، وإلا فليعطونا قمحًا!

 

كان مسعود أهري لا يزال مصدومًا لأنّي كنت آكل القمح في أيام طفولتي! في أحد الأيام كنت جالسًا إلى جانبه على ضفة نهر كارون، سألني:

- يا أخ باقري، إذا استشهدت هل تشفع لي؟

- نعم.

- أليس لديك رغبات في الدنيا؟ أحلام وآمال؟

- هل يمكن ألا يكون عندي آمال وأحلام؟ أحب أن أكمل درسي وأُتقن هواية التخطيط وألتقط الصور الفوتوغرافية.

 

لديّ مشاريع كثيرة في الحياة، ولكنّي الآن على الجبهة ويجب أن أكمل هذه المهمة للنهاية. إذا استشهدتُ فما أحلاها من نهاية، يزولُ عني كل تعب العمل والمشاق في الدنيا وأنام بهدوء حتى يوم القيامة..

 

كان مسعود يكرّر اعتذاره منّي على نهر كارون:

- يا أخ باقري سامحني.. عن مزاحي معك في ذلك اليوم حين أخذت بوتينك وأخفيته. أسأت الأدب معك، العفو العفو سامحني بلطف أخلاقك.

- يا سيد مسعود ما هذا الكلام الذي تقوله؟ لم تقم بشيء..

- وفي يوم آخر أخذت بدلتك وخبّأتها أيضًا.. كنت أمزح!

 

وكأنه كان يريد المسامحة على كل مزحاته واحدة واحدة!

 

حان وقت توزيع الذخائر والتموين العسكري بين الشباب. وضعت زادي وأغراضي في جعبتي، طويت عدة أرغفة خبز مرقوق لواش وأدخلتهافي جعبة مطرة الماء وأنا أقول في نفسي: إذا كنا عانينا كل هذا

 

 

88


76

الفصل العاشر - «دز»

الجوع قبل العمليات، فماذا سيحلّ بنا عند الهجوم على خط التماس؟!

 

وكانت بضع قنابل يدويّة من حصتي أيضًا.

 

بعد ظهر غائم في أحد أيام الشتاء، ركبنا شاحنة مغطّاة وتركنا معسكر كارون، وصلنا مساءً إلى "بهمن شير" واستقررنا في بيت قروي.

 

كان غداء اليوم التالي "تشلومرغ" (أرزًّا ودجاجًا). لم يأكل محسن كلستاني منه. أعطيته بعضًا من حصتي في الخبز كي لا يبقى جائعًا. أخذه منّي وهو مسرور ومتعجّب.

 

كانت العمليات قد بدأت الليلة الماضية، واتّخذ القرار بأن تلتحق "الفرقة 27" في الليلة الثانية وتشارك في الهجوم. بعد الظهر ركبنا الشاحنة وغادرنا بهمن شير وتحرّكنا إلى الأمام. كانت الطائرات الحربيّة المعادية تتحرّك في الأجواء بشكل مستمر. ترجّلنا في حقل نخيل. انزلقت قدمي ووقعْت في جدول ماء مُوحل، ساعدني الحاج رحيمي على النهوض، والحمد لله لم تتبلّل جعبة الإسعافات.

 

وصلنا إلى المستوعبات الحديديّة التي سنبيت فيها الليلة، كان وضعها الأمني جيّدًا ولكنها ضيقة. استرحنا هناك، خلعت بدلتي لتجفّ وارتديت بدلة النايلون. نمنا من جلوس من دون القدرة على الاستلقاء. كان صوت مارش العمليات يُبثّ من الإذاعة، وكل الوجوه تشعّ شوقًا وحماسةً.

 

عند الظهيرة وصلتْ وجبة "مجدرة الأرز" في أكياس نايلون. لم تكن رائحتها جيدة. لم آكل منها. فتحت أنا ومسعف الفصيل الثاني علبة كنسروة وتناولناها بالخبز الذي كان معي في جعبتي. أنهينا كل الخبز قبل البدء بالعمليات!

 

تحرّكت الكتيبة بعد الظهر. وقفنا قرب نهر كبير حتى نركب في

 

89

 


77

الفصل العاشر - «دز»

زورق، لكنّ القصف المستمر للعدو جعلنا ننتظر حتى وقت الغروب. صعد كل سبعة أو ثمانية منّا في زورق، كل فصيل في أربعة زوارق. هَدَرَت محركات الزوارق التي انطلقت بسرعة وكان رذاذ الماء يرشّ على وجوهنا ورؤوسنا. في تلك الأجواء خطر على بالي المرحوم أبي واليوم الذي توفّي فيه، وأنَّ مياه دز الهادرة قد أخذت كل أغراضه وتراثه. هل كنتُ أنا جزءًا من ذلك التراث وكان عليّ الرحيل، وتأخّر موعدي حتى هذا اليوم؟ هل تقرّر أن يأخذني الماء أنا هذه المرة ويُبعدني عن أمي نحو الحياة الأبديّة؟ أم أنّني سأعبر هذا الماء كما عبرتُ مياهًا كثيرة من قبل وأتابع حياتي؟

 

أعادتني قطرات ورذاذ الماء المتساقط على وجهي مجدّدًا إلى نفسي وحالي. غفلت لدقائق عن كل ما حولي وحلّق ذهني كالعصفور في بلاد اللامكان! حين انتبهتُ عرفت أنّ انفجار قنابل الطائرات قد أحدث بركانًا مائيًّا هائلًا في النهر، وقد وصلنا إلى الضفة الغربية من أروند. كان الظلام قد حلّ بشكل كامل.

 

ترجّلنا من الزوارق واصطففنا طابورًا على الطريق الساحلي. شاهدنا رادارًا من الرادارات التي يُقال إنها قادرة على رصد أي مخلوق يتحرّك على وجه الماء. وصلنا بعد وقتٍ قصير إلى بيوت استرحنا فيها حتى منتصف الليل، حيث عدنا فصعدنا إلى شاحنة وتحرّكنا مجدّدًا. كانت مخازن النفط الكبرى في مرفأ الفاو تحترق وتنير سماء المدينة باللون الأحمر والدخان المتصاعد. بعد ساعة، ترجّلنا من الشاحنة في صحاري غرب الفاو والتجأنا إلى السواتر الترابيّة على الجبهة اليمنى للجادة.

 

كانت السواتر مليئة بالحفر الإفراديّة أو الثنائيّة المفتوحة، لكنّ الصقيع ورطوبة الأرض لا يسمحان بالجلوس. لا أعرف من أين أحضر

 

90

 


78

الفصل العاشر - «دز»

بعض الشباب بطانيات. أما أنا فبقيت أرتجف بردًا في خندق حتى الصباح. بعد صلاة الصبح كنت قد أُنهكت من الصقيع. سألتهم: من أين جئتم بالبطانيات؟ من تجهيزات الكتيبة؟

 

أجاب أحدهم: كلا، خندق العراقيّين مليء بالبطانيات، اذهب وأحضر واحدة وتدَثَّر بها.

 

لكن لم يعد هناك فائدة من هذا، فقد طلع الصباح و اشتدّت نيران العدو منذ الدقائق الأولى لشروق الشمس، وكأنهم كانوا يستعدّون للتصدّي للهجوم.

 

في الساعة العاشرة صباحًا في يوم 12 شباط، اشتدّ القصف المعادي لدرجة صدرت معها الأوامر بالتراجع إلى جادة أم القصر. لم تكن المسافة طويلة. عدة مئات من الأمتار تفصلنا عن الجادة المعبّدة بين الفاو وأم القصر. قطعنا هذه المسافة بموازاة الحافة الترابية والتجأنا إلى الجهة اليسرى للجادة، كذلك نيران القصف هناك كانت أخفّ قليلًا.

 

بعد استقرارنا هناك، جُلت قليلًا في الأهواز، كان هناك خنادق ومستوعبات وعنابر كبيرة ودكان ومقهى ذو ستة أو ثمانية أضلاع. وجدت في مستوعب كبير تحت الأرض مخزن التجهيزات العراقي. كان مليئًا بالأغراض والبضائع المتنوّعة، بدلات جديدة لا تزال في علبها. في قسم من المخزن كان هناك مواد غذائية، معلّبات لحم عجل، حليب ناشف، كاكاو، وأنواع الكنسروة المختلفة و..

 

فتحتُ إحدى علب اللحم، لم تكن بحاجة لمفتاح، أكلت قليلًا منها، ودعوت أحد شباب الكتيبة لمشاركتي، لكنّه امتنع وقال ربما لم يكن الذبح شرعيًّا. تابعت التجوال في المخزن، وجدت غازًا صغيرًا للطبخ، سخنت العلبة عليه وملأت معدتي الخاوية. بعد ذلك جمعتُ في كيس

 

91


79

الفصل العاشر - «دز»

كميّة من المعلبات والأغراض اللازمة وأخذتها معي. كذلك ملأت حقيبة الإسعاف بأغراض الإسعاف الجيدة وخرجت من هناك. خطر على بالي أن آخذ هذه العلب الجديدة من البدلات وأبيعها في منطقة "الجمرك" في طهران.

 

الإحساس بالأمان والمعدة المليئة، حقيقةً فعلا فعلهما بي. وكأنّ اللحم الذي أكلته كان مشكوكًا فيه، جعل هذه الوسوسات والخيالات المحضة تدور في رأسي! أين الفاو من "جمرك طهران"؟

 

وبالأصل هل يمكن القيام بعمل كهذا؟ لعنتُ الشيطان وقلت لنفسي: يا باقري هل جئت إلى هنا كي تجمع الغنائم أو لتقاتل العدو المعتدي؟!

 

كان غداء ذلك اليوم معلّبات سمك التونة. ولكني اشتهيت اللحم الأحمر مجدّدًا. أشعلت الغاز الصغير وسخّنت علبة لحم. أحضر أحد الشباب بيضًا وزيتًا ومقلاة ليقلي البيض على الغاز، قلت له: "أليس من المؤسف أن أهدر هذا الغاز على البيض المقلي؟ تعال وشاركني لحم العجل". لم يقبل وقال: "هذا اللحم غير شرعي".

 

دعوتُ مسؤول الفصيل، ولكنه رفض أيضًا وقال لي: يا أخ باقري، لا تُكثر الطعام، إذا تقدّمنا إلى خطوط التماس وحاصرونا هناك، حينها قد لا تستطيع التحمّل.

 

قلت له: "يا أخ محسن، ما دمنا نحن هنا ويوجد طعام آكله، وحين ننقطع.. الله كريم".

 

لم يتناول شباب الفصيل من تلك المواد الغذائية سوى الحليب الناشف. وضعوا البودرة في غالون عشرين ليترًا وأعدّوا حليبًا طيّبًا. حين سمع شباب بقية الفصائل بالخبر، قالوا ساخرين: ها هم أطفال روضة كلستاني قد تناولوا حليبهم!

 

92

 


80

الفصل العاشر - «دز»

عند الغروب، صدر الأمر بالتحرك، صلّينا المغرب والعشاء ومشينا. عبرنا إلى جانب قاعدة صاروخيّة على الطريق. بعد مسيرنا عدة كيلومترات، توقف الطابور. قلت للحاج رحيمي: أنا سأنام، إذا صدر الأمر بالتحرك أيقظني.

 

تُسمّى المنطقة هناك مثلّث معمل الملح. بعد مدة تقرّر أن تتقدّم كتيبة حمزة حتى الجسر الكبير على جادة أم القصر.

 

ودّعت أصدقائي، حسن قابل أعلا والحاج رحيمي ومهدي ملكي ومسعود وأصغر أهري وجواد نصيب بور ومسؤول الفصيل محسن كلستاني، وطلبت منهم أن يسامحوني.

 

قلت لمحسن كلستاني: أنت مثل أخي الكبير، سامحني.

 

قال ضاحكًا:

- يا أخ باقري، إن كنتُ أنا أيضًا قلتُ أو فعلتُ ما قد أزعجك فسامحني.

- أخ محسن، إنما أتعلّم منك، اشفع لي.

 

كان الوقت ضيّقًا وصفُّ الطابور مستعدٌّ للحركة. كنت أودّع سيروس، مهدي بور وأقبّله فإذا بالكتيبة قد انطلقت. عبرنا مثلّث الطرق ووقفنا لمدة نصف ساعة في نقطة عسكرية، حتى حانت لحظة انتشار السريّة الأولى، وأمر الاقتحام للفصيل الأول. كنت في آخر الصف المرصوص. اقتربنا من القوات العراقية لدرجة كنّا نسمع أصواتهم. كذلك كان صوت حركة جنازير الدبابات يرتفع أكثر فأكثر. فجأةً بدأ الاشتباك بإلقاء عدد من القنابل اليدويّة وإطلاق قذيفة آر بي جي. بدأت المعارك بعنف شديد، شباب الفصيل الأول - باستثناء المسعفين وحملة الجرحى - اقتحموا خط التماس. انطلقت أنا وسيروس أيضًا

 

93


81

الفصل العاشر - «دز»

بعد دقائق معدودة. أول جريح، أُصيب في قدمه. تقدّم سيروس فورًا لمعالجته. قلت له: هل تضمّد جرحه أنت؟

 

قال: تقدّم إلى الأمام.

 

أخذتُ بندقية ذلك الجريح فورًا وهي من نوع كلاشنكوف، وأحكمت ربط خوذتي على رأسي وركضت بسرعة. شاهدت انفجار دبابتين أمامي. فجأة رأيت مسعود أهري والدماء تسيل من رأسه ووجهه. أخذته جانبًا وضمّدت رأسه جيّدًا وقلت له: لو كنت وضعت خوذة معدنيّة على رأسك لما أصابك هذا!

 

عاد مسعود فانطلق للأمام وركضت أنا وراءه أيضًا. بعد قليل، شاهدنا بعض شبابنا وهم يتحلّقون حول أسير عراقي. كان متوسّط العمر وطويل القامة. كان يحمل صورة زوجته وأولاده ويتوسّل الشباب ألّا يؤذوه. أشفق قلبي على حاله.

اقتربتُ منه وأفهمته بإشارة من يدي بأن يضع يديه وراء ظهره. وضع الصورة في جيبه ووقف. كان بعض الشباب ينقلون جريحًا على الحمّالة. طلبت منه شريط حذائه. قال: خذ هذا الحذاء كلّه.. ماذا ينفعني الآن.

 

ربطت يديه وقدميه، وبقي جالسًا القرفصاء على جنب الطريق. تركته وتابعتُ معالجة الجرحى.

 

وجدت بضعة جرحى على الجهة اليسرى من الجادة، اقتربت منهم. كانوا من شباب الفصيل الأول. أحدهم حسن قابل أعلا، أُصيب بجرح عميق في معدته. وضعت يدي على جرحه فبانت أمعاؤه. ضمّدت جراحه بعدة ضمادات كبيرة. كان يتألم بشدة ويكرّر طلبه منّي: "يا أخ باقري، جرحي خطير.. لا تتركني هنا.. خذني معك".

 

94


82

الفصل العاشر - «دز»

- لا تقلق لا شيء خطيرًا. الشباب هنا، الآن يأتون، وينقلونك للخط الخلفي، ستتحسّن حتمًا.

 

الشاب الذي كان بالقرب منه استشهد فور إصابته.

 

لم أضيّع أي لحظة. بدأت أبحث عن شباب حمل الجرحى كي أدلّهم على مكان حسن. التجأتُ إلى مكان خلف دبابة كي لا أُصاب بالرصاص المنهمر. فجأة انفجرت تلك الدبابة مصدرةً صوتًا مرعبًا ونورًا مبهرًا، رماني الانفجار من شدته جانبًا.

 

فتحتُ عيني على نور مصباح كهربائي. كنت مستلقيًا على سرير مستشفى الزهراء عليها السلام الميداني. كانت إحدى أذنيّ لا تسمع أي صوت وكنت أشعر بألم شديد في كتفي الأيسر.

 

قال لي الطبيب بعد معاينتي: "طبلة أذنك قد تمزّقت، ولكن سوف تتحسّن".

 

هذه المرة أيضًا حمت خوذتي المعدنية جمجمتي من الإصابة.

 

قبل مغادرتي المستشفى الميداني، حقنوني بمسكّن قوي. توجّهنا إلى مستشفى الشهيد بقائي في الأهواز. كنت أغفو وأصحو على الطريق، وأسمع أصواتًا مهمة تدوّي في أذني. عندما وقفت لأول مرة، نظرت إلى قدميّ ولم أرَ البوتين.

 

ناديت الممرّض فورًا وقلت له: يا أخي، البوتين.. أين وضعتم بوتيني؟

 

قال ببرودة واضحة: لقد أُصبت بجراح، ماذا تريد أن تفعل بالبوتين؟

 

قاطعت كلامه قائلًا: فقط قل لي أين هو البوتين؟

 

انزعج ولكن تابع ببرودة: لقد تلوثت أحذيتكم بالأسلحة الكيماوية، رميناها جانبًا مع ألبستكم، لا تقلق، أغراضك لا تزال موجودة.

 

95

 


83

الفصل العاشر - «دز»

قلت بحال من الأسى والأسف: البوتين..

 

قال متعجّبًا: ماذا تريد أن تفعل بالبوتين؟ إمّا يُدفن أو يُحرق..

- أين وضعتموه الآن؟

 

دلّني على مكان، كان تلًّا كبيرًا من البدلات والأحذية العسكرية، ممزّقة ودامية وموحلة. تقدمتُ بهدوء. تناولت بعض الأحذية ودققت النظر فيها. لم يكن في ذهني أي إشارة تدلّ على بوتيني وتذكّرني فيه. كلها شبيهة ببعضها البعض. عدت إلى غرفتي يائسًا، أحمل الهمّ والقلق على أخي الأكبر، كيف ستكون حاله إن عرف ماذا حلّ بالبوتين، لعلّها أوهام راودتني في تلك الوضعيّة العجيبة! أردت الرجوع إلى مكان الأحذية والملابس، لكنّ قدميّ لم تحملاني. كان رأسي يدور حول نفسه.

 

انتقلنا إلى مدينة آراك بطائرة عسكرية، ومن هناك إلى المستشفى. خلال الأيام العشرة التي بقيتها هناك، كانوا يبدّلون ضمادات أذني وقد انتهى النزيف وتحسّنت حالها.

 

عند خروجي من المستشفى، أخذوني إلى غرفة ليعطوني بدلة وبوتينًا جديدين. عدت وتذكرت بوتين أخي. وكأنه لا يريد أن يتركني وشأني! أرادوا إرسالي إلى طهران، حكيتُ لهم قصتي ليرسلوني إلى دزفول. سلّموني أغراضي ومستنداتي وأرسلوني في سيارة إسعاف.

 

عندما رأتني أمي على مدخل المنزل، انهمرت دموعها. حاولتُ جاهدًا تهدئتها، ولكنها استمرت بالبكاء. قلت لها: يا أمي إن استمررت بالبكاء سأعود إلى الجبهة.

 

وصل أخي بعد قليل، وكذلك إسماعيل بور كيواني. كنتُ قليل الكلام، أستمع إليهم وأجيبهم أحيانًا بالكتابة على ورقة.

 

96

 


84

الفصل العاشر - «دز»

حتى أواخر نيسان كنتُ أتابع العلاج بسبب تقرير الأطباء الذي يشمل إجازة مرضيّة. بعد ذلك ذهبت عدة مرات إلى مدينة شيراز للمعالجة وبعد خضوعي لعملية جراحية تحسّن سمعي قليلًا، لكن طبلة أذني لا تزال ممزّقة. قال الطبيب إنها سترمّم بشكل تدريجي.

 

في العام 1365 هـ. ش. (1986م) بعدما قدّمت الامتحانات في اختصاص علم النفس وحصلت على الشهادة الجامعية، عندما تخرجت كان عليّ أن أذهب للمناطق المحرومة وأقوم بالتدريس في المرحلة الابتدائية لعدة سنوات.

 

أحببتُ كثيرًا أن أعمل وفي الوقت نفسه ألتحق بالجبهة. ولكني لم أتمكّن من ذلك في تلك السنة. إن لم أتمسّك بعملي في التعليم، يعطوه لشخص آخر.

 

 

عندما رأت أمي أنّ أمنية المشاركة في الحرب لا تزال تدور في رأسي، قالت: شاركتَ سابقًا ولم أقل شيئًا. زوّرت ورقة رضاي وبصمت عني وأنا نائمة ولم أقل لك شيئًا. جُرحت ولم أقل شيئًا، ولكن إن ذهبت الآن فلن أسامحك ولن أقبل..

 

ثم أجهشت بالبكاء وقالت: عندما تتثبّت في عمل رسمي، اذهب للجبهة ولكن هذه السنة والسنتان ابقَ هنا..[1]

 

بدأتُ التعليم في قرية نائية في محافظة دزفول، للوصول إليها كان عليّ المشي على قدمي حوالي الساعة بعد انتهاء الطريق المعبّد.

 

بعد هذا، لم تصلني أي أخبار عن "الفرقة 27" وكتيبة حمزة والفصيل الأول. لم أبقَ معهم أكثر من شهر، والآن قد بَعُدَتْ المسافات.

 

 


[1] طال الزمان بهاتين السنتين إلى خمس عشرة سنة. وعندما صرت موظّفًا رسميًّا كانت الحرب قد انتهت. لكن قلبي لم يطاوعني أن أترك تلك القرية، أردت أن أستمرّ في تعليم الأطفال القرويّين.

 

97


85

الفصل العاشر - «دز»

في إحدى المرات، كنت أتحرّى أخبارهم من مركز تعاون الفرقة 27، قالوا إنّ كتيبة حمزة قدمت أكبر عدد من الشهداء وإنّ نصف شباب الفصيل الأوّل -أطفال روضة كلستاني- ومعهم أستاذهم، قد استشهدوا، المعلم وتلاميذه الذين كانوا يحبّون بعضهم بعضًا حبًّا جمًّا، وصلوا إلى مقام الشهادة وتخرّجوا معًا.

 

عرفتُ أنّ "سيروس مهدي بور" ما زال حيًّا، لكنّ الحاج علي رحيمي - من عناصر حمل الجرحى - قد استشهد، وكذلك مسعود أهري، ولا شكّ أنه قد أُصيب واستشهد لكثرة ما تقدم للأمام في تلك العمليات. وبالتأكيد ليس لديّ أي خبر عن ذلك الأسير العراقي الذي ربطتُ يديه وقدميه بشريط بوتين أحد جرحانا.

 

أما قصة شهادة "نجات باقري" فهي جديرة أن تُروى! بعد مرور حوالي سنة على عمليات "والفجر 8"، وصلتني رسالة كُتب فيها: "عائلة الشهيد نجات باقري المحترمة"!

 

لم أدرِ حينها هل أضحك أم أبكي على نفسي حين رأيت كلمة شهيد قرب اسمي. فتحت الرسالة. كانت موجّهة إلى أهلي كي يحضروا إلى ميدان الإمام الحسينعليه السلام في طهران ومعهم صورة شمسيّة لي، للمشاركة في الذكرى السنويّة الأولى لشهداء عمليات "والفجر 8".

 

احتفظت بهذه الرسالة عندي لسنوات متمادية، لكنّي بحثت عنها مؤخرًا فلم أجدها.

 

كذلك وصلتني رسائل عدة مرات من وزارة التربية والتعليم تُخبرني بأني يمكنني أن أنقل مكان تعليمي إلى منطقة ذات مناخ جيد وإمكانيات عالية، ولكني لم أقبل، وذلك شكرًا لله على هذا التكامل

 

98

 


86

الفصل العاشر - «دز»

والرشد اللذين حصلتُ عليهما في سنوات الحرمان تلك، والتوفيقات التي وهبني الله إياها وسأبقى ما دمتُ أستطيع، هنا على هذا الطريق، لعلّي بذلك أتمكّن من المحافظة على اسم وذكرى أولئك العشاق في القلوب العطشى.

 

99


87

وثائق الفصل العاشر

وثائق الفصل العاشر

 

 

 

 

1-1 المعلومات الشخصيّة:

- إجازة من دار المعلّمين، متزوج، لديه ولدان، معلم في المرحلة الابتدائية.

- تاريخ ومحل الولادة: 1344هـ. ش. (1965م) - مدينة دزفول.

- مدة المشاركة على الجبهة ونوعها: 36 شهرًا - خدمة تعبئة (بسيج)

- العمليات والموقعية: دزفول 1359هـ. ش. (1980م) قنّاص، دفاع كرخه 1359هـ. ش. (1980م) قنّاص، عمليات رمضان مساعد رامي آر بي جي، دفاع فكه 1362هـ. ش. (1983م) مساعد رامي آر بي جي، عمليات والفجر8 مسعف.

- الإصابة: جراح في الأذن والكتف اليسرى (1364هـ. ش.)

- نسبة الإصابة: 15%.

 

100

 


88

الفصل الحادي عشر - الصفير

الراوي: مهدي ملكي          

التشكيل: حمل الجرحى، المجموعة الثانية

تاريخ ومحل أوّل مقابلة: 1382هـ. ش. (2003م) طهران

 

 

 

 

الفصل الحادي عشر

الصفير

 

التحقت بالجبهة في العام 1364 هـ. ش. (1985م) ضمن "قوافل طريق كربلاء". كانت المرة الثانية لي في المشاركة بالحرب، كان رحلةً جديدة وسفرًا آخر وصلاة قصر.

 

قبل أن يصل قطار القوات المتطوّعة إلى محطة "أنديمشك"، توقّفنا في الصحراء. لم نكدْ نقف وننظر من نافذة القطار لنعرف سبب التوقف، حتى سمعنا صوت المسؤولين ينادوننا:

- ترجّلوا.. ترجّلوا

 

قفزنا من القطار، صعدنا على درجات مدخل الثكنة على الجهة اليمنى، وعبرنا مركز الحراسة.

 

كنّا ننظر من جهة إلى المقاتلين القدامى الذين يعرفون ماذا يفعلون وأين يذهبون، ومن جهة أخرى إلى تلك الثكنة المترامية الأطراف والتي ليس لها أوّل ولا آخر.

 

103

 


89

الفصل الحادي عشر - الصفير

تمّ فرز وتشكيل القوات، وجرى إلحاقي بكتيبة "حمزة"، فانضممتُ للسريّة الأولى وشُكِّلْتُ في الفصيل الأوّل. كان مسؤول الفصيل شابًّا ذا لحية كثّة الشعر وحاجبين عريضين، اسمه "محسن كلستاني". رحّب بي هو ومعاونه وطرحا عليّ بعض الأسئلة لمعرفة خبراتي وتجاربي العسكريّة السابقة لتكليفي بمهمة في الفصيل.

 

أخبرتهما أنّي كنت رامي رشّاش في كردستان.

 

كانت مجموعة رماة الرشاش في الفصيل مكتملة، فتمّ تعييني قناصًا، أغلب شباب الفصيل كانوا من عمري تقريبًا.

 

لم يكن شهر "آذر" (ت2/ك1) قد انتهى حين غادرنا ثكنة "دوكوهة" وانتقلنا إلى معسكر خيام "كرخة". لم أكن قد صرت صديقًا حميمًا لشباب الفصيل بعد، لعلّ السبب أنّ أغلبهم كان يدرس ويقوم بواجباته المدرسيّة. كنت أقلّل من الكلام معهم كي لا أثقل عليهم وأزاحم دروسهم. بعض الشباب بقي في "دوكوهه" لتقديم امتحاناته، ثمّ يلتحق بنا. عندما عادوا كان واضحًا نجاحهم وعلاماتهم المرتفعة في الامتحانات.

 

في معسكر كرخه، بدأت التدريبات والتمارين العسكرية. كانوا يعلّموننا على استخدام أنواع الأسلحة في النهار، ونقوم بمسير ومناورات ليليّة أحيانًا.

 

لم يكن شهر دي (ك1/ ك2) قد انتصف حين انضمّ مقاتل جديد إلى الفصيل. كان تلميذًا وجديدًا على الأجواء. الأمر الذي أدّى إلى تمتين علاقتنا وصداقتنا نحن الاثنين. كنت أتقرّب منه كي أخفّف عنه الشعور بالوحدة والغربة، ذلك الشعور الذي جرّبته أنا قبل مدة قصيرة. كان اسمه "سهيل مولانا" وجرى ضمّه إلى قسم التجهيزات في الفصيل.

 

كان مكان تراصفنا نحن الاثنين في آخر الطابور.

 

104

 


90

الفصل الحادي عشر - الصفير

لم يكن سهيل قد شارك في أعمال الجبهة ولا خضع لدورة عسكريّة جاء مباشرةً من المنزل إلى الجبهة!

 

كان الشباب يمازحونه قائلين: حتمًا لديك واسطة كبيرة لتأتي إلى هذا الفصيل، لأنّ قواته كانت مكتملة.

 

سألته: سهيل في أي صف؟

- في الثالث.

- نحن في الصف نفسه!

- كلا أنا في الثانوي الثالث.

- ألستَ من مواليد 1969م؟

- نعم، ولكنّي قطعتُ مرحلة المتوسّط بشكل استثنائي، كل سنتين دراسيّتين في عام واحد.

- أنا على العكس منك، أعدتُ صفّي في إحدى السنوات بسبب مشاركتي في القتال على الجبهة.

- لا بأس، سندرس معًا.

 

ولعلّي بسبب كلامه هذا، أو بسبب الجوّ العام لشباب الفصيل الذين كانوا طلابًا مُجدّين، انتسبتُ إلى مجمع "الشهيد همت" الدراسي واستلمت كتبي وقرطاسيّتي هناك، بالطبع لم يكن أحد منّا يتمكّن من الحضور في المجمع، فهو يبعد مسافة طويلة عن مراكز الكتائب. كان كلّ منّا يدرس بطريقته الخاصة في مركز خدمته.

 

من ألطاف الله، أنّ خيمةَ فصيلنا كانت تضمّ معلّمًا، "سيروس مهدي بور" الذي كان مسعفًا أيضًا. في الأيام الأولى لانضمام سُهيل إلى الفصيل، كنت أجالسه كثيرًا كي لا يشعر بالوحدة، لكن لم تمضِ عدة أيام حتى كان قد سبقني وجمّع حوله العديد من الأصدقاء.

 

105

 


91

الفصل الحادي عشر - الصفير

كان مميّزًا جدًّا في فهم دروس الرياضيات والجبر والهندسة، بينما أغلب الطلاب كانوا يعانون في هذه المواد. أصبح سهيل مساعدًا تعليميًّا لـ"سيروس" فكان الشباب يرجعون إليه لمساعدتهم في حلّ تمارين هذه الدروس.

 

كنّا دائمًا في حال درس، إما واجبات مدرسة أو تدريبات عسكريّة بين حمل السلاح وحمل الكتب والأقلام والدفاتر.

 

كانت مدة نومنا قليلة جدًّا ليلًا ونهارًا. لا معنى للتعب هنا، كنّا نستفيد من وقتنا ونستغلّ الدقائق فضلًا عن الساعات.

 

كنت قد اختبرت هذا في تجربتي السابقة في كردستان، وأتمكّن من تحمّل هذه الأوضاع لكن "سهيل" كان يصعب عليه تحمّل السهر وقلّة النوم. أحيانًا كان يغلبه النعاس وهو يقوم بحلّ تمرين رياضي!

 

كان سهيل الابن الأكبر في الأسرة. في الأيام الأولى لالتحاقه بالفصيل، وصل مرة متأخرًا إلى الخط. أمره مسؤول الفصيل بمشي البطة. لم يكن يعرف ما هي هذه العقوبة، ولهذا علّمه مسؤول الفصيل هذه المشية ورافقه في عقوبته كي لا يبقى وحيدًا!

 

كان سهيل يتأخر كثيرًا في المسير عن باقي عناصر الطابور. كان الأخ حسين فياض معاون مسؤول الفصيل يرافق الشباب من آخر الصف، كان يقول لسهيل بلطف ومودة:

- مولايي.. التحق بالطابور.. لقد تأخرت يا أخي.

 

حدثنا الأخ فياض في إحدى المرات عن تجاربه العسكرية، قال لي ولسهيل:

- في عمليات "والفجر 4"، اختلط المنافقون بطابور الشباب ونصبوا لهم كمينًا، ثم قتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا.

 

106

 


92

الفصل الحادي عشر - الصفير

تعوّد سهيل بسرعة على الوضع الجديد.

 

كان ثلثُ شباب الفصيل من مواليد 1969م، أصحاب ألاعيب ومقالب وروح مرحة. ومع أنّ أمير عباس كان من مواليد 68، إلا أنه فاق الجميع في مقالبه وشيطنته. كان يقلّد صوت صفير رصاص الأسلحة المختلفة: دوشكا، كلاشنكوف، غرينوف.. ويؤدي كل منها بطريقة لا تشبه الأخرى. تخصّص في هذه المصلحة لدرجة أني شاهدته في إحدى المرات قد جمع حوله عددًا من الشباب وبدأوا يقلّدون صفير الأسلحة بشكل جماعي! وبالطبع لم أتأخّر عن قافلة المواهب، وتعلّمت تقليد صفير قذيفة الهاون ودوران الرصاصة في الهواء بشكل جيد. كان البعض أيضًا في أوقات الفراغ يقلّدون أصوات المارشات العسكرية، وأصوات المراسلين الحربيّين الذين ينقلون وقائع العمليات على الإذاعة. كنّا ننتهز أي فرصة أيضًا للعب كرة القدم في ملعب المراسم الصباحية للكتيبة.

 

أخذنا مأذونية في أواخر شهر دي (20 ك2). حين ترجّلنا من القطار في محطة السكّة الجديدة في طهران، كان صباح يوم الجمعة والثلج يتساقط على الأرض. عدنا إلى الصلاة الرباعية الركعات!

 

في البيت نقاهة واستراحة، حدّث ولا حرج. برغم حلاوة صعوبات الجبهة، إلا أنّها أتعبتني. كان للنوم بملابس النوم المريحة ومن دون اضطراب وانتظار طابور الإزعاج طعمٌ آخر ولذّة. تذكّرت سهيل عدة مرات ولكني لم أكن قد دوّنت رقم هاتفه، كل ما كنت أعرفه أنه يسكن في منطقة "بيروزي".

 

انقضت أيام العطلة بسرعة وحان وقت العودة إلى الجبهة. كان الرجوع إلى الخدمة بعد المأذونيّة شبيهًا بالالتحاق الأوّل من جديد حيث الحاجة الماسّة إلى النيّة الراسخة الخالصة، قوة القلب

 

107

 


93

الفصل الحادي عشر - الصفير

ووداع الأحبة. قالت لي أمي: "يا بني ابقَ لمدة أطول لمَ هذه العجلة".

 

فما كان جوابي؟

 

حين لمحتْ أمي التردّد في وجهي رافقتني حتى محطة السكّة الحديد لتطلب من المسؤول تمديد مأذونيّتي عدة أيام أخر، وهكذا، تقرّر أن أبقى في المنزل ثماني وأربعين ساعة إضافيّة. التقيتُ بشباب فصيلنا في محطة القطار: سهيل وسيروس وأمير عباس و.. واعتذرت من مسؤولي الفصيل.

 

استأنست بأجواء طهران وكأنّ المشقّات كانت تخيفني من العودة إلى الجبهة. ماذا يمكنني أن أفعل في هذه الحال؟ أَأَرتعبُ وأبقى في طهران؟ أم أقوّي قلبي وأنسلخ من أجواء البيت وطهران وأسارع للالتحاق؟

 

رجعتُ إلى الجبهة وكان موعد الامتحانات المدرسيّة قد حان. نجحت في جميع المواد بمساعدة سهيل طبعًا!

 

ذهبنا إلى حقل الرماية مجدّدًا. أطلقت عدة رصاصات من كلاشنكوفي الأخمص الخشبي لكي أتأكد من دقّة إصابته. ذهبت مرة مع "حسن قابل أعلا" لرماية الرشاش بعد أن أخذتُ من معاون الفصيل - الأخ فياض- عدة طلقات، رمينا بالقرب من شيار جانب الخيام. رافقنا أحد الأصدقاء وكان معه آلة تصوير. التقط لنا عدة صور ونحن نحمل رشاش الغرينوف.

 

بدأ لحن الرحيل يُدغدغ الأسماع. تناولتُ ورقة وقلمًا وكتبتُ وصيتي، ثم وضعتها مع أغراضي الشخصية وسلّمتها إلى مركز "تعاون" الفرقة. لا أعرف لماذا لم يكتب سهيل وصيّته في كرخة.

 

انتقلنا إلى معسكر جديد، بين أشجار النخيل بالقرب من نهر

 

108

 


94

الفصل الحادي عشر - الصفير

كارون. كان المطر يتساقط في أغلب الأوقات، فكنّا نبقى داخل الخيام. لكنّنا تابعنا التدريبات العسكرية. قمنا بمناورة كبرى ومسير لعدة كيلومترات ونحن نضع الأقنعة المضادة للأسلحة الكيمائية، كان تدريبًا منهِكًا، تقطّعت فيه أنفاس قدامى المحاربين، فما بالك بالمقاتلين الجدد من أمثالنا.

 

كذلك أجرينا في أحد الأيام مناورة عمليات برمائية. ركبنا في قوارب من على ضفة كارون وانطلقنا داخل الماء عدة كيلومترات وقمنا بهجوم على العدو الافتراضي، وبالطبع فقد توحّلنا بشكل كامل. وعليه، فقد ازدهر عمل "رضا أنصاري" الذي كان يقوم بمسح الأحذية في الفصيل.

 

في أحد الأيام كنّا نتدرّب على مستوى الفصيل، كدت أن أضيع! أذكر أنّه كان اليوم الخامس عشر من شباط. تحرّك طابور الفصيل داخل حقول القصب والأعشاب اليابسة. لم أعرف ماذا حدث، وإذا بي أجد نفسي وحيدًا! فجأةً لم يعد هناك أي أثر لمن كان أمامي ولا خلفي. بقيت متحيّرًا مذهولًا لعلّه لم تمرّ سوى ثوان معدودة غرقت فيها بالتفكير فإذا بي أغفل وأرى نفسي وحيدًا! تخيّلت الثعالب والخنازير، اقشعرّ بدني وتصبّبت عرقًا. بدأت أركض إلى هنا وهناك لعلّي أجد آثار الشباب، لكنّي لم أعثر على شيء. خطر على بالي أن أقف وأبقى ساكتًا هادئًا وأطرق السمع مليّا لعلّي أسمع صوتًا ما. وهذا ما حدث فقد أرشدني صوت أقدام الشباب على العشب اليابس إلى جهتهم، فَتَبِعْتُ الصوت ووصلت إليهم.

 

في ذلك اليوم، هطل المطر وكنّا داخل الخيمة. لا يزال صوت سقوط قطرات الماء على سقف الخيمة يتردّد حتى الآن في مسامعي. كنت أركّز بانتباه على سهيل مولايي الجالس على بعد مترين مني والغارق

 

109

 


95

الفصل الحادي عشر - الصفير

في أفكاره. كانت خلوته بنفسه جميلة جدًّا إلى درجة لم يطاوعني قلبي أن أكسر هذا الهدوء العميق وأتحدّث معه.

 

كان جواد نصيري يجلس خلفي. أخذ ورقة من دفتره وناولني إياها كي أكتب له عبارات للذكرى. أعطاني الورقة وذهب، وبقيت وحدي أفكر: ماذا أكتب له. تذكرت نشيدًا باللغة اللورية يقول: "أماه أماه إنه زمان الحرب"، فكتبت له: "والله إنّ كل إنسان سيموت، سواء في شبابه أو كهولته، في الحرب أو على الفراش. هنيئًا لمن يقدم دمه على درب الإمام الحسين عليه السلام ويجود برأسه ويديه في سبيل الله.

 

مهدي ملكي 16/11/1364هـ.ش (5/2/1986م)

 

حين أعدت له ورقة الذكرى، سألني عن تاريخ ولادتي ومهمتي ودوّنها تحت كلماتي: حمل الجرحى.

 

نظرت مجدّدًا إلى سهيل مولايي. وجدته يكتب شيئًا هذه المرة. إنها وصيّته. كانت خلوته تلك لهذا السبب، التركيز على الكلمات الأخيرة. طننت في أول الأمر أنّه يكتب رسالة فقلت له:

- يحتفظون حاليًّا بالرسائل ولن يرسلوها إلا بعد العمليات.

- يا سيد مهدي، هذه ليست رسالة عاديّة، إنها وصيّة.

 

ثمَّ سكتُّ وتركته يتابع كتابته. حين أنهى مهمته، اقترب منّي وبدأ بالكلام والمزاح. من حديث إلى حديث، وصلنا إلى الكلام عن الطعام وأكل المنزل والوجبات المباركة التي تُقدّم عن روح الإمام الحسينعليه السلام وانتقد "اليخنة" التي يحضّرونها في مطبخ الفرقة حيث يتركون حبات البطاطا كبيرة ولا يقطّعونها جيّدًا ولا يحمّرونها عند القلي فتصبح اليخنة كالحساء! في تلك الأيام كنّا نعاني الجوع وقلّما شعرنا بالشبع، كنّا نتسلّى بهذه الأحاديث.

 

110

 


96

الفصل الحادي عشر - الصفير

بمحض الصدفة، كان عشاؤنا في تلك الليلة حساء "الآش"، كأنّهم قد صبّوا بعضًا من مياه كارون أو الأمطار مع بعض حبات الفاصولياء والحمص في تلك الطناجر الكبيرة! كانت حصة كل مقاتل عشرين ملعقة من ماء الحمص هذا. أكلت أنا وسهيل في الصحن نفسه في تلك الليلة، مع الخبز المرقوق - الذي كان نصفه عجينًا ونصفه الآخر محروقًا - وكنت أتشوّق في خيالي لطبق من اليخنة اللذيذة في منزل سهيل.

 

أما بالنسبة لقصة انتقالي من مهمة القناص إلى "حمل الجرحى"، فالذي جرى أنّ فصيلنا كان يضمّ رجلين عجوزين لحمل ونقل الجرحى. مؤخّرًا، قرّر المسؤولون أن يُبقوا أحدهما في خيمة الفصيل ولا يشارك في العمليات. وهكذا، صرت في حمل الجرحى وسلّمت سلاحي إلى قسم التسليح (التجهيزات) واستلمتُ حمّالة جرحى وصرت رفيقًا للسيد رحيمي.

عندما ناديته لأول مرة وقلت له "يا حاج"، قال لي ضاحكًا:

- يا سيد مهدي، حتى الآن لم أذهب للحج في مكة. صحيح أنّ الشباب ينادونني "يا حاج"، لكن أنا وأنت سنترافق معًا، وأحبّ منك أن يكون كل ما تقوله حقيقيًّا في الواقع.

 

وبعد ذلك لم أنادِه "يا حاج" أبدًا.

 

حان موعد الرحيل مجدّدًا، تركنا المعسكر واقتربنا خطوةً أخرى نحو العمليات. قبل أن نتحرّك، أعطونا ذخائر وتسليحات. أخذت أنا عددًا من القنابل اليدوية فقط، ثم تناولت قذيفة (آر بي جي) ووضعتها في جعبتي لعلّي أساعد قليلًا رماة الآر بي جي خلال المعارك.

 

في الأيام الأخيرة تمّ نقل "سهيل" من آخر الطابور إلى الأمام، وصار

 

111

 


97

الفصل الحادي عشر - الصفير

رفيقًا ملازمًا في الصف المرصوص لـ"سيروس مهدي بور". بعدها، قلّ تواصلي مع سهيل، وصار صديقًا لسيروس أكثر من باقي الشباب.

 

تركنا معسكر كارون في غروب أحد الأيام وترجّلنا من الشاحنات المغطّاة على ضفّة نهر بهمن شير. كانت الأمطار خفيفة ناعمة والأرض موحلة زلقة. كنّا نمشي باحتياط شديد. كان الشباب يحملون جبلًا من التجهيزات والأسلحة على أكتافهم، ما يجعل حركتهم مغامرة خطيرة. كنت أتناوب مع السيد رحيمي على حمل حمالة الإسعاف. كان حملًا ثقيلًا!

 

عبرنا بالقرب من نهر بهمن شير. انزلقت أقدام بضعة شباب فسقطوا أرضًا وتوحّلت بدلاتهم. بعد مدّة من السير، أخذت الرشاش من الأخ نعمتي وحملته عنه كي يستريح قليلًا. المطر لا يزال يتساقط. استغرق المسير وقتًا طويلًا. كان الليل قد انتصف حين وصلنا إلى مقرّ الكتيبة في بيوت قرويّة قديمة. قام نعمتي في تلك الليلة وعلى ضوء الفانوس بفكّ رشاشه وتنظيفه وتزييته، كان الرشاش قد وقع على الوحل عدة مرات.

 

صباح اليوم التالي أعلن عن خبر بدء العمليات. قام المسؤولون بشرح الأوضاع وما يجري على المقلب الآخر من خط التماس. طعام الغداء كان "تشلو مرغ" (أرزًّا ودجاجًا). بعد الظهر، تقدمنا إلى الأمام عبر شاحنات مكشوفة. وعلى رغم أني كنت جديدًا على الأجواء، إلا أنّ قلقي كان على سهيل. ولكن وجوده مع سيروس كان يطمئنني. حين أنظر إليهما معًا أشعر بعمق صداقتهما ومحبتهما لبعضهما البعض.

 

ليلة 11 شباط، نمنا جالسين في مستوعب. كان المكان ضيّقًا جدًّا.

 

في صبيحة اليوم التالي، كانت أصوات المارشات العسكرية ترتفع من المذياع. ارتفعت معنوياتنا كثيرًا. في ذلك اليوم كانت جملة "لقد

 

112

 


98

الفصل الحادي عشر - الصفير

تحرّرت الفاو" هي محطّ كلام الجميع. كان الفرح يسود الأجواء ويغمر القلوب.

 

كانت الطائرات الحربية العراقية تحلّق في سماء "أروند" فتلاقيها المضادات الإيرانيّة بطلقات متتالية. تقرّر أن نعبر من ذلك الماء الهادر تحت نيران العدو وطائراته المغيرة، لكن غزارة الغارات منعتنا من التحرّك حتى الغروب.

 

كانت الشمس تميل للغروب حين ركبنا القارب من مجرى نهر فرعي ودخلنا في مياه أروند. لم يكن نهرًا، بل بحرًا هائجًا وأمواجًا متلاطمة. على الضفة الأخرى لم يكن هناك جدول ماء هادئ لنتمكّن من النزول. ترجّلنا من القارب وسط المياه الهادرة على الضفة الغربية لأروند. كان الشباب يمزحون معًا ويسألون بعضهم البعض: هل نذهب للسينما أو المطعم؟

 

قال أحد الشباب: "هيا لنذهب إلى جلوكبابى1 (أي مطعم المشاوي)"[1].

 

حين رآنا نضحك، قال: "العراقيون ليس لديهم حرف 'چ'"[2].

 

بقينا حتى منتصف الليل في مبنى إداري أبيض اللون وإسمنتي الهيكل. لم تنفع حشرية الشباب في البحث في الغرف المحيطة بنا. كانت خالية!

 

جهّزنا الأجواء وأقمنا دعاء التوسل. بعض الشباب بقوا في الخارج للحراسة. كان الأخ فياض يتفقّدهم. لم تكن المدينة قد تطهّرت بالكامل، واحتمال تسلّل القوات العراقيّة وهجومها علينا موجود ويجب الاحتياط والحذر الشديد.


 


[1] بدلًا من چلو كباب.

[2] يُلفظ "تش".

 

113


99

الفصل الحادي عشر - الصفير

عند منتصف الليل، غادرنا مدينة الفاو وتحرّكنا بالشاحنة نحو الجادة الإسفلتيّة بين الفاو وأم القصر. حين ابتعدنا عن المدينة شاهدنا خزانات النفط الكبيرة وقد نشبت فيها النيران.

 

حين وصلنا إلى الجادة، ترجّلنا ولجأنا إلى السواتر الترابية إلى الجهة اليمنى. تموضعت أنا والسيد رحيمي في خندق مكشوف. اضطر بعض الشباب إلى حفر خندق بأنفسهم للاحتماء من القصف.

 

أشرقت الشمس واشتدّ قصف العدو. كانت قذائف الهاون تصفر ثم تنفجر حولنا. أُصيب عدد من شباب الفصيل الأول بجراح مختلفة.

 

قبل الظهر، صدر الأمر بالتحرّك من هناك. انتقلنا من ذلك الموقع إلى الجهة اليسرى من جادة أم القصر. كانت نيران القصف هناك أقل بكثير. بدأنا بالتجوال والتفتيش في الدشم العراقيّة، فوجدنا "دكانة". أخذ الشباب إذن المسؤولين وأحضروا تموينًا من هناك: بسكويتًا وشوكولا وعصيرًا وحلويات وحليبًا ناشفًا.

 

في اليوم الثالث والعشرين من شهر بهمن (12 شباط)، جاء مسؤول التخطيط والعمليات في الفرقة على دراجة ناريّة إلى كتيبة حمزة. في ذلك اليوم فهمت من هو الواسطة الذي يسّر لسهيل التحاقه بالجبهة! كان خاله[1]، لم يكن سهيل قبل ذلك قد أخبر أحدًا بأنّه ابن أخت فلان. وقد عرفت يومها من الأخ فياض بهذا، ولم أذكر هذا أمام سهيل ولا أمام أي أحد آخر.

 

لم يكن قد حان موعد أذان المغرب حتى بدأت مراسم الوداع والعناق. أخبار بدء الهجوم تتسرّب بين الشباب. ودّعت السيد رحيمي


 


[1] القائد سعيد سليماني، استشهد في العام 1384ه.ش/ 2005م في حادثة سقوط طائرة عسكريّة كانت تقلّ قادة القوة البريّة.

 

114


100

الفصل الحادي عشر - الصفير

أوّلًا ثم الأخ فياض ومسعف الفصيل الذي كان خوزستانيًّا وقد جاء من القسم الصحي في الفرقة، ثم شباب مجموعة الرماية و.. باقي الشباب الأعزاء وصولًا إلى أحد شباب منطقتنا الذي ذكّرني بمحل حلويات فلاح، فتحدّثنا عنه وضحكنا معًا.

 

كنّا قد ذهبنا مرات عديدة معًا إلى حلويات فلاح في ميدان أبي ذر في طهران وتناولنا عنده الحلو بالقشطة. في ذلك الغروب قال لي بين المزح والجدّ:

- ملكي، هل ترانا نلتقي بعد هذا ونذهب معًا لأكل الحلو بالقشطة عند فلاح؟

- إنّ حلويات الجنة أطيب وألذّ[1].

 

صلّينا صلاتَي المغرب والعشاء، وصدر الأمر بالتحرّك. كانت السماء حالكة الظلام لا ينيرها سوى القنابل المضيئة أحيانًا. بعد مدة من السير، وقف الطابور للاستراحة قليلًا. كتيبة الأنصار كانت هناك أيضًا. ذهب مسؤول فصيلنا للاشتراك في جلسة ميدانيّة على بعد حوالي40 مترًا من مكان استراحتنا.

 

بعد قليل، تبعه معاونه أيضًا. عندما رجع الأخ فياض، أخبرنا بأنّ كتيبة حمزة ستقتحم اليوم خط التماس وتسيطر على الجسر الكبير على جادة "أم القصر". ثم قام كل مسؤول بتوجيه عناصره وشرح وضعية العدو وقواته.. يوجد عدة دبابات محترقة وعدة دبابات سليمة على الطريق، اضربوها وتحرّكوا مباشرةً نحو الجسر.

 

انتعش مجدّدًا سوق الوداع. أنا أيضًا قبّلت "سهيل" على جبينه وخدّه. حين صرنا وجهًا لوجه، لمحت تحت ضوء القنابل المضيئة، بسمة


 


[1] حتى الآن، ما زلنا نذهب أحيانًا معًا لتناول هذه الحلوى هناك.

 

115


101

الفصل الحادي عشر - الصفير

جميلة لم أرَها سابقًا على وجهه. تسمّرت نظراتي على الحاجبين الكثّين، الوجه الأمرد والقبّعة الصوفيّة المنسوجة يدويًّا وقد غطّت رأسه وصولًا لأذنيه.

 

تحرّكت الكتيبة مجدّدًا. تجاوزنا مثلّث مصنع الملح حيث كان شباب كتيبة الأنصار، وكان تشكيل جلسة مسؤولي الفرقة والعمليات، وصلنا إلى الخط الأمامي، ساتر ترابي سبق وكان فيه عدد من القوات المتموضعة التي تركت أغلبها المكان عند وصولنا، هذا الاحتياط اتُّخذ هناك كي لا يتأذّى عدد كبير إن تساقطت قذائف العدو علينا.

 

بقي أقلّ من ساعتين لمنتصف الليل. انطلقت قوات كتيبتنا. بدت لنا الدبابات المحترقة. تقدم الطابور صفًّا مرصوصًا. تحرّكنا بمشية البطة قرفصاء، وبعدها بدأنا بالزحف. كانت أصوات باللغة العربية تصل إلى مسامعنا وتشبه صراخ قائد على الجنود. امتلأ قلبي حماسةً وترقّبًا. في ذلك الصقيع كانت شفتاي مجمّدتين كالخشب، ولساني جافًّا في حلقي. كنت قد سمعت كلامًا كثيرًا حول ليلة العمليات وها أنا أشارك في الهجوم ليلة العمليات.

 

فجأةً دوّى صوت انفجار قنبلة يدويّة، تبعه صفير إطلاق قذيفة آر بي جي. ثم طلقات رشاش متوسط كانت تضعف ثم تقوى.

 

كنت أنا والسيد رحيمي ننتظر حركة المسعفين. فجأةً توقف الطابور. لم يعد أحد يتحرّك للأمام. التفتّ إلى نفسي حينها: ركضت بسرعة حوالي مئة متر. حين انتبهت إلى ما جرى حولي لم أرَ أحدًا ممّن أعرفهم، لا المسعف الخوزستاني[1]، ولا السيد رحيمي، والحمّالة المشتركة بيني وبينه. لم يكن هناك أحد من شباب الفصيل هناك.


 


[1] نجات (بهنام) باقري.

 

116


102

الفصل الحادي عشر - الصفير

صرت أبحث عن سلاح. أخذت بندقيّة كلاشنكوف من يد أحد الشهداء. كان قد أُصيب برصاصة في رأسه وسالت دماؤه على إسفلت الجادة.

 

تفحّصت البندقيّة ومشيت. كانت نيران العدو غزيرة وتزداد ضراوةً. لا يوجد أي أثر لعنصر المفاجأة ولا لغفلة العدو وقلّة عدده! أفرغت عدّة مماشط من سلاحي وأعطيت قذيفة الآر بي جي التي كانت بجعبتي إلى أحد رماة الآر بي جي. تقدمت هكذا عدة دقائق حتى وصلت إلى آلية مدرّعة عراقيّة. كانت متوقّفة وتبدو معطّلة. كان الرصاص ينهمر من كل حدب وصوب. غير واضح من أين تأتي النيران المعادية ولا الصديقة. وكأنّنا اختلطنا بالعراقيّين. ولهذا تراجعت قليلًا لأتموضع في مكان آخر وأجد أصدقائي.

 

رأيت "أصغر لك علي آبادي" جريحًا. كانت شظيّة قد أصابت رجله وقد تمزّق بنطاله. أرجعه أحد شباب نقل الجرحى إلى الخلف، دقّقت نظري كثيرًا في تلك الظلمة، ولكني لم أستطع أن أجد السيد رحيمي. وسط هذه الأجواء الرهيبة والرصاص والقذائف بمختلف الأنواع والأحجام، كنّا نحاول اللجوء إلى أي مأمن، وإذا بي أشاهد الأخ قيومي مسؤول السريّة الثانية، قد وقف منتصب القامة وهو يذكر اسمه بصوت عالٍ ويوجّه الشباب: أنا قيومي.. يا شباب من هذه الجهة.

 

كانت صرخاته الشجاعة تعيد الروح والمعنويات لشبابه من جهة وتدلّهم على الطريق فلا يشتبهون ويضلّون الطريق من جهة أخرى.

 

كانت الجادة تشهد لهيبًا جهنّميًّا. وكأنّ الطلقات كانت تصيب الطلقات. رصاصات الخطّاط كانت تصطدم بخطّاط مقابل فتتقوّس وتغيّر مسيرها في ظلام الليل.

 

لم أعرف ماذا ينبغي أن أفعل. لا أثر للأخ كلستاني ولا للأخ فياض

 

117

 


103

الفصل الحادي عشر - الصفير

ولا للمقاتلين القدامى لأسألهم عن تكليفي. تقدّم شباب السرية الثالثة كان يدلّ على أنّ السريّتين الأولى والثانية قد انهارتا! وهذا يعني أنه لم يبقَ شيء من الفصيل الأوّل للسريّة الأولى التي كانت القوة الضاربة في كتيبة حمزة، إما أنّ الشباب استشهدوا أو جُرحوا، وإما التحقوا بالسرايا الأخرى.

 

التحقت أنا أيضًا بالسرية الثالثة وتقدمت معهم. على الجادة وصلنا إلى صفّين من المدرعات العراقية، بعضها كان يحترق والبعض الآخر كان سليمًا. لم يكن عدد الآليات ليُحصى ولا نهاية للصف على امتداد النظر.

 

ركضت إلى الأمام بين صفّي المدرّعات. شاهدت فجأةً جنديّين عراقيّين يخرجان من إحدى المصفّحات ويصرخان بصوت عال، كانا ورائي، وإن أرادا الالتحاق بعسكرهما فلا بد لهما من المرور بالقرب منّي، أطلقت النار عليهما فلاذا بالفرار نحو الطريق الترابي المحاذي للجادة. قلت لنفسي: كان عليّ أن أرمي قنبلة يدويّة، فهذا أفضل من الرصاص.

 

عندما شاهدت هروب البعثيين، ارتفعت معنوياتي أكثر وتجرّأت على اقتحام عمق قواتهم. وصلت إلى فسحة ساكنة هادئة، كان صمت مريب يلفّ المكان. فجأةً وجدت نفسي محاصرًا بالعراقيين من كل الاتجاهات!

 

نظرت حولي فرأيت جثّة عراقي بالقرب منّي. خطرت ببالي فكرة فنفّذتها فورًا من دون أي إبطاء. ذخّرت سلاحي وألقيت نفسي على الأرض وكأنّي جثّة هامدة. وضعت أذني على الإسفلت لأدقّق السمع بالأصوات. فوضى الكلام والصراخ العراقي دليل على ضياع واضح

 

118

 


104

الفصل الحادي عشر - الصفير

لديهم. كانت أصوات أقدامهم تمرّ بالقرب منّي لدرجة أنّي تشهّدت وقلت: ما هي إلا ثوانٍ ويطلقون عليّ رصاصة الرحمة! لكنّ شيئًا لم يحدث.

 

فتحت عينيّ ونظرت بطرف خفيّ. لا شيء ولا أحد بالقرب منّي. رفعت رأسي باحتياط شديد. لا أصوات ولا ظلال. نهضت ورجعت للخلف.

 

كان شبابنا قد تجمّعوا في أوّل صف المدرعات. التقيت بعدة شباب من عاملي الإشارة والاتصالات، عرفت أنّ أحد قادة السرايا هنا. انتبهت إلى مهمتي الأساسيّة: حمل الجرحى. أسرعت إلى جريح على الأرض. ساعدته للعودة إلى الوراء. كان شباب كتيبة الأنصار قد أحضروا الحمّالات وأسرعوا للدعم ولمساعدة جرحى كتيبتنا.

 

رجعت مجدّدًا لأساعد جريحًا آخر، لكن في وسط الطريق انفجرت قربي قنبلة يدويّة أو قذيفة هاون 60، فاجأني دويّ الانفجار. شعرت بألم شديد في رأسي وأذني وكتفي اليسرى. مسحت يدي على هذه المواضع، لم تتبلّل ولا أثر للدماء. كاد رأسي ينفجر من شدّة الألم. أردت أن أصرخ ولكنّي لم أفعل. كانت أصوات الانفجارات تدوّي في أذني. لم أعد أسمع أزيز الرصاص، وصرتُ أسمع الانفجارات القريبة مني وكأنها تبعد عدة كيلومترات. نهضت وسرت قليلًا. لم أكن أستطيع السيطرة على قدمي، كنت أمشي وأتعثّر من دون تركيز. عدت وتحسّست رأسي بيدي لعلّ الدماء بدأت بالنزيف. لا أثر للجراح. ما سبب كل هذا الألم؟ حتى تلك الليلة لم أكن قد أُصبت بجراح. لم أعرف سرّ ذلك الوجع، ولا ماذا عليّ أن أفعل، هل أجلس أم أسير.

 

قررت الرجوع للخلف، لكنّي ندمت فجأةً وتوقّفت. خطر على مسمعي نشيد "أمّاه أمّاه.. إنّه زمن الحرب". قلت لنفسي يجب أن أتقدّم وأتابع

 

119

 


105

الفصل الحادي عشر - الصفير

المسير. كانت الجادة تَنُّور نار، رمايات قريبة متقطّعة. نظرت إلى السماء فلم أجد أي نجمة. اختلط الحابل بالنابل فوق رأسي!

 

مشيت قليلًا فوجدت جريحًا على الأرض. جلست قربه وقلت له: "يا أخي، سأحملك الآن وأعيدك للخطوط الخلفيّة. أين الحمّالة؟".

 

كان ينظر إليّ بتعجّب. تذكّرت الصرخات التي كنّا نردّدها أثناء المراسم الصباحيّة فصرت أكرّرها وأسأل وأجيب نفسي:

- من الذي هرب؟

- العدو.

- من الذي تعب؟

- العدو.

- أين العدو؟

- إنّه هنا.

 

فجأةً خطر على بالي أنّني قد سمعت هذه الكلمات نفسها من هذا الجريح في معسكر كرخه حين كان ينادي بصوت شجيّ ومرتفع والشباب يجيبونه!

 

بدأت أشعر بالغثيان، نهضت ومشيت. كنت لا أزال أردّد الصرخات. كان ينظر إليّ ويضحك! قلت في نفسي متعجّبًا: كيف يمكنه أن يضحك؟ ألا يشعر بالألم؟ لا شكّ أنّ الأمواج الانفجاريّة قد أفقدته صوابه! كنت أسمع الطنين في إحدى أذنيّ وصفير الانفجارات في الأذن الثانية. لم أعد أسمع صوتًا آخر. قدماي لم تعودا تتوازنان، وكنت أسير وأكاد أقع مرة بعد مرة. فأضبط نفسي في اللحظة الأخيرة. لم يكن واضحًا ماذا حلّ بي، وأي بلاء أصابني. كنت أسير كالنائم وأتكلم مع نفسي: يا شباب كلّكم ضيوفي تفضّلوا الحلوى بالقشطة على حسابي! موعدنا

 

120

 


106

الفصل الحادي عشر - الصفير

في ساحة "أبو ذر" أمام محل الحلويات.

 

أيقظني رذاذ الماء البارد على وجهي من غفلتي، فتحت جفوني المثقلة. انتبهت جيّدًا. سمعت صوت محرّك قارب. جلستُ في مكاني. صحت بصوت عال: من الذي تعب؟!..

 

لم أسمع جوابًا فرفعتُ صوتي أكثر: من الذي تعب؟!..

 

كان سائق القارب ينظر إليّ فقط وكأنّ التعب يمنعه من الإجابة!

 

عندما طلبت منه أن يقلّني ويأخذني لخط التماس أدرك أنّ وضعي ليس على ما يرام وأنّي لا أعرف ما أقول.

 

حين تحسّنت حالي قليلًا رأيت حسين دستواره أيضًا على متن القارب. كان صدره مجروحًا. تحدّث معي قليلًا محاولًا أن يهدّئ من روعي.

 

لم أعرف كيف وصلتُ من منطقة الاشتباكات إلى نهر أروند، وكيف عبرت هذا الطريق الطويل. كنت أفقد الوعي ثم أستفيق وأنظر مجدّدًا. لم أعرف كم غبتُ عن الوعي وكم مرة وقعتُ على الأرض.

 

في المستشفى سألوني عن معلوماتي الشخصية وكيف وماذا حلّ بي. لم أكن أتذكّر اسمي! أفرغوا محتويات جيوبي ودوّنوا معلوماتي على أوراقهم وذهبوا.

 

نقلوني من ذلك المستشفى الميداني إلى مستشفى في الأهواز. كانت يدي اليسرى تؤلمني كثيرًا، لكنها لم تُصب بجراح. حتى ذلك الوقت لم أكن أعلم ما الذي حدث لي بالضبط، وهذا ما كان يثير تعجّبي ولا أجد له تفسيرًا.

 

التقيتُ بصديقٍ قديم في المستشفى. سلّم عليّ فأجبته بعد مكث

 

121

 


107

الفصل الحادي عشر - الصفير

طويل. لم أستطع تذكّر اسمه إلا بعد فترة[1].

 

كانوا يعطوني حقنة دواء كل عدة ساعات. الدوخة لا تزال مستمرة، وكذلك صوت الطنين والصفير في أذني.

 

جاء وقت الانتقال مجدّدًا، هذه المرة إلى طهران وبواسطة القطار. ترجّلنا في محطة قم. هناك انتبهت أنهم قد وضعوا مشدًّا على رقبتي كي لا يتعرّض رأسي للاهتزاز الشديد في القطار. انتقلت من قم إلى طهران بالباص، وهناك إلى مستشفى "فيروزكوه". قال لي الممرضون المرافقون لنا: "إن كنتَ تريد الاتصال بالمنزل أعطنا رقم هاتفكم": لكني لم أجد من المناسب أن أتّصل في أوضاع كهذه.

 

في مستشفى فيروزكوه أجروا لي فحوصات وصورًا ومسحًا صوتيًّا للدماغ. وكانت النتيجة أنّ كورتكس الدماغ (الطبقة الخارجية من المخّ) قد أُصيب برضوض واهتزاز مؤذٍ.

 

تحسّن وضع يدي اليسرى، ولكنّها لا تزال تُصاب بالخدر أحيانًا. لم أكن أستطيع النوم ليلًا إلّا بواسطة المسكّنات القوية. أصبح الليل والنهار سيّان بالنسبة لي. أسهر طوال الليل أحيانًا. أعادوا الفحص والصور للدماغ بعد أيام، وكانت النتيجة نفسها.

 

في أوائل شهر أسفند (20 شباط) أعطوني إذن الخروج من المستشفى، ونقلوني بسيارة الإسعاف، هذه المرة إلى البيت.

 

على مدخل البيت، حين رأتني أمي أصابها الذهول، لكنها ساعدتني على الدخول للمنزل. ثم قامت وهي مصدومة لترتّب لي مكان استراحتي. كانت تتكلم معي وتسألني أحيانًا، لكنّي لم أكن أسمع


 


[1] حين عدت فرأيته بعد عدة أسابيع وكانت حالي قد تحسّنت قال لي: كنت في ذلك اليوم مثل ملاك العذاب! كانت عيناك حمراوين وتنظر شذرًا إلى الجميع، تهدأ ثم تثور فجأة.

 

122

 

 

 


108

الفصل الحادي عشر - الصفير

سوى أصوات مبهمة وضوضاء غير مفهومة، وهذا ما كان يزعجني ويؤذيني.

 

حين رأت أمي أنّ كل جسمي سليم أدركتْ ماذا حلّ بي. في ذلك اليوم عاد أبي باكرًا من عمله. أدرك الجميع أن ما يلزمني ويساعدني على الشفاء هو الهدوء والسكون. في تلك الليلة وما تلاها من الليالي، بقيت أمي ساهرة قرب سريري. كنت أرى أمي الحنونة تصلّي وتدعو قرب سريري. وكذلك أبي كان يؤمّن لي كل ما أطلبه بكل طيب خاطر.

 

كانت حالي تتحسّن يومًا بعد يوم، لكنّ الصفير استمرّ في أذني، يشتدّ حينًا ويخفّ أحيانًا، في الليل أكثر من النهار، صوت يشبه تشويش التلفاز عند إقفال البثّ! صفير مؤلم ومزعج لا ينتهي.

 

بدأتُ أستعيد توازني وأعيد ترتيب أوضاعي وأتأقلم مع إصابتي ومع هذا الألم والأذى الذي حلّ بي، أخذت أتذكّر رفاق الجبهة وأحنّ إليهم. اتصلت هاتفيًّا واستعلَمْتُ عن الشهداء والجرحى في تلك العمليات.

 

كان سهيل مولايي ضمن الشهداء. ذهبت إلى بيت أهله في ذكرى مرور أربعين يومًا على شهادته. لم يكن قد ارتدى بدلة التعبئة أكثر من شهرين حين استشهد. جاء في شهر دي ورحل في شهر بهمن (شباط).عرفتُ أنّ رصاصةً قد أصابت صدره وقلبه فقضى نحبه فورًا. كذلك استشهد إمام جماعة فصيلنا السيد رحيمي وأمير عباس أيضًا. كان عدد الجرحى كبيرًا، بعضهم أتى لعيادتي وبعضهم اتصل هاتفيًّا.

 

كان حسن قابل أعلا من الجرحى، وكانت حاله وخيمة. طلبوا منا أن ندعو الله لشفائه.

 

في العام 1986، التحقتُ بالجبهة مرة أخرى، وجُرحتُ في رأسي

 

123

 


109

الفصل الحادي عشر - الصفير

مرة أخرى، وحلّت ضيوفًا على حياتي الآلام والأرق وصفير الأذن.

 

في السنة الأخيرة للحرب، في العام 1367هـ. ش. (1988)، عدت فالتحقت بالجبهة ورجعت إلى كتيبة حمزة. هناك التقيتُ بعض الأصدقاء القدامى. شاركنا مع شباب الكتيبة في التصدّي للمنافقين في عمليات المرصاد.

 

بعد انتهاء الحرب، تابعت دراستي وتخرجت من كلية الحقوق. لو كان سهيل حيًّا لكان مهندسًا مميّزًا، لطالما كنت أشعر بأنّ مكانه خالٍ في الجامعة.

 

حين أنهيت دراستي، افتتحت مكتبًا للاستشارات القانونيّة. بدأت أعمل على ملفات النصب والاحتيال والتهرّب من القانون والاعتداء على الناس و.. وأتذكّر الجبهة وأهلها بين الحين والآخر، في أيام الجبهة لم يكن هناك أثر لهذه الرذائل، وكل شيء هناك كان يرشح فضيلة وصفاءً.

 

كان هناك نيران ورصاص ودماء وجراح وروائح بارود، لكن كل هذا كان جميلًا، لم يكن هناك أي قبح ولا حقد ولا حسد في القلوب. أهل الجبهة لم يكونوا يحتالون على الآخرين، ولا يأخذون حقوقهم، ليس ذلك فحسب، بل كانوا دومًا يؤثرون الآخرين على أنفسهم.

 

ماذا بقي الآن من كل تلك الفضائل؟ أين التضحية والفداء؟ أين الإيثار؟ لعلّها موجودة ولكن لا نراها نحن.

 

لو عاد بي الزمان إلى عشرين سنة لكنت كما أنا وفيًّا للعهد الذي قطعته. كلما سمعت صوت صفير - عندما يلعب ابني - أعود لأيام الماضي، بفضل الله الرحيم، لا أشعر بأي ذرّة ندم أو تردّد حول الدرب الذي اخترته وسرت فيه.

 

124

 

 


110

وثائق الفصل الحادي عشر

وثائق الفصل الحادي عشر

 

 

 

من مجموع مستندات الفصل، أُدرجت في هذا القسم 4 أوراق من الوثائق المكتوبة و5 صور:

1- مهدي ملكي

1-1 المعلومات الشخصية

- إجازة في الحقوق، متأهّل وله ولد، يعمل في مكتب للمحاماة.

- تاريخ ومحلّ الولادة: طهران 1969.

- مدّة الحضور في الجبهة ونوع المشاركة (الصفة): اثنا عشر شهرًا متطوّعًا في صفوف التعبئة.

- العمليّات التي شارك فيها والرتب العسكريّة: بوكان، 1984 (قنّاص)، عمليّات والفجر 8 (مسعف)، مهمّة دفاعيّة في مهران، 1986 (قنّاص)، عمليّات مرصاد (قنّاص).

- عدد الإصابات: التعرّض لعصف انفجار في الرأس والرقبة (1985)، إصابة في الرأس (1986).

- درجة الإصابة: 15%.

 

125

 


111

وثائق الفصل الحادي عشر

2-3 مقابلة مع والد الشهيد

وُلد سُهيل في شهريور من العام 1348 (1969). ومضافًا إلى دروسه المدرسيّة كانت والدته تعلّمه سورًا من القرآن الكريم. فحفظ بعض سور الجزء الثلاثين. في المرحلة الابتدائيّة، قُفّز من الصفّين الرابع والخامس لشدّة تفوّقه.

 

وفي المرحلة المتوسّطة نجح نجاحًا باهرًا. وحيث كان يحبّ الرياضيّات كثيرًا، التحق في المرحلة الثانويّة بفرع الرياضيّات والفيزياء.

 

ذات يوم كنّا في "تفرش" إلى جانب بستان. وكان البستاني يقطف ثمار الجوز عن طريق ضربها بعصا طويلة لتسقط. ولمّا كانت بعض حبّات الجوز تسقط في غدير ماء يمرّ من تحت الأشجار، راح أولاد العائلة يجمعونها، ولو لم يفعلوا ذلك، لذهبت مع المياه هدرًا.

 

سألتُ سهيل: لِمَ لا تأكل من هذا الجوز؟

 

قال: بابا! أليس من الأفضل أن نعطي البستاني ثمن هذه الجوزات؟

 

أوضحتُ له المسألة ببضع كلمات، إلّا أنّ ذلك لم يجدِ نفعًا. حين أخذ منّي ثمن حبّات الجوز وأعطاها للبستانيّ، عاد ببعضها وأكلناها معًا.

 

127

 


112

وثائق الفصل الحادي عشر

شرع سهيل بالعام الدراسيّ 1985 - 1986. وكان حينها في السنة الثانويّة الثالثة. درس الأشهر الثلاثة الأولى، وتقدّم بامتحانات الفصل الأوّل ونال فيها درجة جيّد، لكنّ أمرًا آخر كان يشغل تفكيره. قال لي ذات يوم:

ــ أبي، أريد الالتحاق بالجبهة.

ــ عندما تنهي السنة الرابعة، تذهب.

ــ لا أريد أن أذهب قبل هذا الوقت.

ــ إذًا، أنهِ امتحانات السنة الثالثة، ومن ثمّ اذهب.

ــ لا، قبل هذا.

 

لم أعد أطيق صبرًا وسألته: "لِمَ بهذه السرعة؟ اذهب في عطلة الأعياد. اذهب 45 يومًا، وعُدْ عند الشروع في امتحانات آخر العام الدراسي.

ــ لا، يجب أن أذهب الآن.

 

يومها، مهما فعلت لثنيه عن قراره لم يجدِ نفعًا. قال: هناك بعثة طلّابيّة، وأريد الالتحاق بها.

 

كذلك، لم يجدِ كلام والدته نفعًا. كان قلبه في مكان آخر. أخيرًا، وقّعنا على ورقة موافقة الأهل، فذهب إلى قاعدة مالك الأشتر والتحق من هناك بالجبهة.

 

كان خال سهيل يتسنّم مسؤوليّة في الفرقة 27. لهذا السبب، كان بالي مرتاحًا بعض الشيء. وبتوصية منه، التحق سهيل بكتيبة حمزة. لم يكد يمضي شهر على ذهابه حتّى عاد في مأذونيّة. وحين عودته حمل معه بعض الكتب الدراسيّة والدفاتر، سألته متعجّبًا:

- ولدي، أنت ذاهب إلى الجبهة أم إلى المدرسة؟ أجابني بسرور:

 

128

 


113

وثائق الفصل الحادي عشر

- يوجد الكثير من التلامذة في فصيلنا، وهم في السنة الثانويّة الأولى أو الثانية أو ملتحقون بالمعاهد الفنيّة. وأنا أقوم بتدريسهم هناك.

 

لم تدم مأذونيّته لأكثر من أسبوع. جاءَ صباح يوم الجمعة وودّعنا عصر يوم الخميس بغية العودة. قبّلت وجهه. كانت علامات الرجولة بادية على وجهه وفي سلوكه. وكنت بدوري فخورًا به، لكنّني كنت قلقًا عليه. ذهب سهيل، وأرقنا خلفه الماء. كان ذلك آخر لقاء لنا به.

 

إلى ذلك اليوم، كنت حين أسمع الموسيقى العسكريّة الخاصّة بالعمليّات، أشعر بالسعادة. لكن، لا أعلم لِمَ انقبض قلبي حين سمعت الموسيقى الخاصّة بعمليّات "والفجر 8". كنت قلقًا، في غاية القلق. قلت لزوجتي:

- علينا أن نرتّب غرفة سهيل. يلزمها طلاء. علينا أن نقوم بشيء يفرح سهيل حين عودته إلى البيت. ذات يوم، اشتريت من محلّ السمانة في حيّنا بعض قناني الحليب الزجاجيّة.

 

وقبل أن أصل إلى البيت، سقطت القناني الزجاجيّة من يدي وانكسرت. اعتراني شعور غريب بالقلق. قلت لزوجتي:

ــ سنسمع اليوم خبرًا سيّئًا.

 

ذهبتُ إلى مركز عملي. حين رأى زملائي حالتي، قالوا لي: عُد إلى البيت. عدت. كنت أنتظر وصول خبر ما، وإذا بجرس الباب يُقرع. كان جارنا. عندما سمعته يذكر اسم سهيل قلت:

ــ أستطيع تحمّل سماع ما عندك من أخبار.

 

قال الجار:

ــ لقد أُصيب سهيل.

 

قلت:

 

 

129


114

وثائق الفصل الحادي عشر

ــ لم يُصب، استُشهد.

 

اغتسلتُ في البيت وذهبت إلى معراج الشهداء لأرى ابني. كان ينام بهدوء. كان وجهه سليمًا، أمّا صدره فكان ممزّقًا. سُلّمت إلينا ملابسه وأغراضه الشخصيّة. لم يصرف مبلغ المال الذي أعطيته إيّاه في المأذونيّة الأخيرة.

 

ذات يوم، صادف أن رأيت معلّم سهيل في الثانويّة. وكان يستلم مسؤوليّة في عمليّات (والفجر 8) في عداد كتيبة حمزة، إلّا أنّه لم يكن يعلم بشهادة سهيل. وحين علم بذلك تأثّر كثيرًا وقال:

- لقد تعرّف سهيل بسرعة على الأسلحة. جاءني ذات يوم، أشار إلى بندقيّته وقال: "إنّها مريحة في الحمل". كان مسرورًا لكونه سيشارك في العمليّات ليلة الهجوم. لقد كان في المدرسة تلميذا ممتازًا، وفي الجبهة كان جنديًّا شجاعًا وذا روحيّة عالية.

 

وعلى الرغم من صغر سنّه، إلّا أنّ الجبهة قد صنعت منه رجلًا.

 

2-4 عنوان القبر

طهران، بهشت زهراء، القطعة 53، الصفّ 79، الرقم 3

 

130

 


116

الفصل الثاني عشر - الأمانة

الراوي: "حسين فياض".

التشكيل: معاون مسؤول الفصيل.

تاريخ ومكان أول مقابلة:1382 هـ. ش (2003 م) طهران.

 

 

 

 

الفصل الثاني عشر

الأمانة

أبصرت النور في منطقة "سرآسياب دولاب" في طهران. كنت الابن الأخير لأهلي. كان أبي بائع أقمشة. كنت في الثامنة عشرة من عمري حين التحقت للمرة الأولى بالجبهة في شتاء العام (1983م) عن طريق مقر تعبئة "مالك الأشتر"، وبقيت على خطوط التماس حتى خريف 1984 حيث أصبت بجراح في وجهي ويدي اليمنى خلال عمليات "والفجر 4" في مرتفع "كاني مانكا"، اكتسبتُ الكثير من الخبرات والتجارب في تلك المدة.

 

أصبحت الجبهة بالنسبة لي بيتًا ثانيًا. كنت أرغب بالمشاركة في كل العمليات. لم تكن صعوبات الجبهة ومشاكلها تعني لي أي شيء!

 

في خريف العام 1984م، انتسبتُ إلى حرس الثورة الإسلامية بشكل رسمي، وشاركت في عمليات "بدر"، لكن بعد انتهاء العمليات، اعترض مسؤولو الحرس على وجودي في الجبهة، وقالوا إن هناك نقصًا في قوات الحرس في "طهران"، ولكن في ربيع 1985 وبعد إصراري الشديد

 

131


117

الفصل الثاني عشر - الأمانة

قبلوا أن يرسلوني إلى الأهواز لتكون خدمتي على حدود محافظة "خوزستان"، ولكن هذا لم يرضِني فرجعتُ إلى "طهران". حين غبتُ لفترة عن العمل ولم أحضر إلى مركز الحرس، رضخوا لطلبي وقد نجحت هذه الحيلة، فوافق مسؤولي المباشر على انتقالي إلى الوحدات العسكرية المقاتلة.

 

في صيف العام 1985م، كنت قد أصبحت ضمن عديد الفرقة "27 محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتيبة "حمزة"، غدوت فرحًا مسرورًا بأني رجعت مرّة أخرى إلى الوحدات الهجومية القتالية لخطوط التماس. في ذلك الصيف، ذهبت مع الكتيبة إلى الخط الدفاعي في "مهران"، استقررنا هناك لمدة شهر. بعد رجوعنا، وفي شهر "مهر" 1364 هـ. ش (تشرين الأول 1985م)، كانت قد حصلت مجموعة مناقلات وتحولات في قيادة الكتيبة، فأصبح "محمود أميني" مسؤول الكتيبة، وتم نقلي إلى الفصيل الأول حيث أصبحتُ معاون مسؤول الفصيل، هذه المسؤولية التي كنتُ أقبلها وأتحمّلها لأول مرّة.

 

قبل ذلك، عملتُ مساعدَ رامٍ ورامي آر. بي. جي، وكذلك مسؤول طاقم الرمي. كان مسؤول الفصيل تعبويًّا قديمًا، وعلى معرفة جيدة بكل عناصره، الذين كانوا يعرفونه وبالحد الأدنى قد سمعوا صوته يقرأ القرآن ودعاء الصباح خلال المراسم الصباحية، إنه "محسن كلستاني".

 

في أحد الأيام أرسل لي "محسن" أحد المقاتلين لكي أحدّد له موقعه ومهامه. كان اسمه "علي قابل" وقد شارك سابقًا في عمليات "بدر". بعد حواري معه، عرفت بأنه كان مساعد رامي آر. بي. جي فقط، ولديه خبرة بسيطة في مجال التخريب وبعد أن تحدثت مع "محسن كلستاني"، قلت له أن يتولى مهمة مساعد رامي رشاش.

 

132

 


118

الفصل الثاني عشر - الأمانة

بعد أيام جرت مسابقة رماية بين عناصر الفصيل، وحلّ "علي قابل" الأوّل في الرمي بالكلاشنكوف، فأهداه مسؤول الفصيل علبة بسكويت ورمانة واحدة كجائزة له. كان واضحًا بأنه قد شارك في دورات تدريبية واستفاد منها بشكل مميز. لا أظن بأنه تناول شيئًا من تلك الجائزة يومها، فشباب الفصيل تحلقّوا حوله وقضوا على جائزته فورًا!

 

عندما ذهبنا من ثكنة "دوكوهه" إلى ساحل بحيرة "دز" للمشاركة في تدريب على العمليات البرمائية، انقسمت كتيبة "حمزة" إلى سريتين، كنا في فصل الخريف. أوصينا الشباب الأصغر سنًا أن يتناولوا "اللفت"، كي لا يمرضوا وقلنا لهم: إن لم تأكلوا "اللفت" وأصابكم أي مرض فلا تفكروا أبدًا بالمشاركة في العمليات!

 

كانوا يستمعون إلى كلامنا ما بين المزح والجد، لكنّ مائدة اللفت كانت عامرةً دومًا في خيمة فصيلنا. بعضهم كان يبلع اللفت من دون أن يقضُمه، والبعض الآخر كان يغلق أنفه بيده كي لا يشم رائحته.

 

شملت تلك الدورة مهارات السباحة وقيادة القوارب وبعض أساسيات الغوص واستخدام سترة النجاة و.. كان الشباب يتعلمون كل هذا ويقومون بصيد السمك في أوقات الفراغ. كانت بحيرة "دز" تحوي أنواعًا عديدة من الأسماك، فجذبت الشباب واصطادتهم قبل أن يصطادوا أسماكها! بعضهم لم يذهب في مأذونية إلى مدينته وبيته وبقي ليمارس هواية الصيد.

 

في تلك الأيام، تمّ تصوير فيلم عن الشباب. وقد صدرت الأوامر حينها بأن تظهر علامات النظم والانضباط في الفيلم بشكل واضح. إضافة إلى كل جهود الشباب وقفتُ أنا والأخ "محسن" من جهتَي صفيّ الطابور للإشراف على الحركة ولحسن الحظ فقد تم إنجاز تصوير الفيلم بشكل جيد.

 

133

 


119

الفصل الثاني عشر - الأمانة

رجعنا إلى الثكنة في أواخر شهر "آبان" (18 تشرين الثاني)، وأخذ كل شباب الكتيبة عطلة لمدة عشرة أيام لتجديد نشاطهم بلقاء أهاليهم. كنت أعلم جيدًا بأنني عندما أصل إلى "طهران" سوف تستقبلني أمي بفرح وتعدّ لي المأكولات الشهية، وسأجالس والدي كل مساء عندما يعود من المحل. وعندما أريد الرجوع للجبهة مجددًا وأقوم بإعداد حقيبتي، كيف ستأتي أمي وتقول: "يا بني، لمَ هذه العجلة، لقد رجعت للتوّ... ابقَ قليلًا"، كانت الكلمات والتصرفات قد أضحت معروفة بالنسبة لي ويمكن توقّعها بسهولة.

 

ذهبنا ورجعنا. في طريق العودة، ركبتُ أنا و"محسن كلستاني" و"علي قابل أعلا" في القطار في مقصورة واحدة. كان علي قد أحضر ملاعق معدنية لكل الشباب كي يتمكنوا خلال العمليات من طيّ رأسها ووضعها في جيوبهم.

 

بعد المأذونية، اكتمل تشكيل الكتيبة بانضمام قوات "قوافل كربلاء" إليها. التحق منهم بالفصيل الأول "علي آقا رحيمي"، ورجل آخر اسمه "الحاج ناصري"، وكانت مهمتهما حمل ونقل الجرحى في المجموعة الثانية. لم يكن شهر "آذر" (كانون الأول) قد انتهى عندما صدرت الأوامر مجددًا بالانتقال من ثكنة "دوكوهه"، إلى معسكر "كرخه" هذه المرة.

 

في "كرخه" كان الطقس باردًا وممطرًا. على الرغم من أننا وضعنا عدة طبقات من النايلون على سقف الخيمة، إلّا أن الصقيع كان يخترقها بسهولة. في الأيام الممطرة، كنا نقضي أغلب الوقت داخل الخيمة ونعاني ليلًا من شدة البرد. عندما كنا نجتمع ونجلس جميعًا كان الأخوان "محسن كلستاني" و"محسن كودرزي" يحدثاننا عن ذكرياتهما على الجبهات. في إحدى المرات رويتُ للشباب قصة إصابتي في عمليات "والفجر 4":

 

134

 


120

الفصل الثاني عشر - الأمانة

"في عمليات والفجر4"، كنت في عداد قوات "كتيبة كُميل"[1]. بدأت العمليات في منتصف شهر "آبان" (6 تشرين الثاني) واستطاع مقاتلو الكتيبة تحرير قمة جبل "1904/كاني مانكا" والاستيلاء على مواقع العدو. في اليوم التالي بدأ الهجوم المضاد للقوات العراقية، كنا مقابل قوات الحرس الجمهوري العراقي وجهًا لوجه. كنت مع قائد الكتيبة الشجاع "إبراهيم معصومي"[2]. بدأ العطش يشتعل ويزداد، لم يكن لدينا ماء ولا طعام وكانت الذخيرة قليلة وتكاد تنفد. أفرغنا كل المطرات التي حملها الشهداء. حين لم يعد هناك أي أمل بإيجاد الماء، تجاهلت الموضوع وشغلت نفسي بمواجهة العراقيين. في هذه الأثناء انفجرت قذيفة هاون أمام وجهي مباشرة وأدت إلى ارتجاج دماغي!

 

انتشر الغبار والدخان في كل الأرجاء أمام عينيّ، لكني أغمضتهما بشدة، كان عملًا من غير انتباه ولا فائدة منه. بعد لحظات، وحين برد جرحي، شعرت بأن شرايين وجهي قد خرجت من مكانها وأنّ وجهي قد تلاشى وتشوّه بشكل كامل، كذلك شعرت بألم في عضلات ساعدي الأيمن. ولكن أقل من وجهي حين تجرأت وفتحت عيني، كانت أكياس تراب الدشمة قد انهارت واسودّت من نار القذيفة.

 

كان إلى جانبي مقاتل بنظّارات، ورغم أنّه لم يصب، إلّا أن شكله كان يوحي بالرعب الشديد. كانت دماء وجهي قد تناثرت على نظارته، ولا شك أنه كان يرى كل شيء باللون الأحمر.

 

مسحت وجهي بالتراب لأفهم ماذا حدث بدقة. كان جلد شفتيّ وجبهتي قد تمزق، كذلك أنفي، وكانت الدماء تنزف من أسناني وكأنني


 


[1] ضُمن هذه السلسلة سادة القافلة، كتاب "تحيا كتيبة كُميل" الذي يروي بطولات شباب هذه الكتيبة.

[2] بعد إصابتي بجراح، شرب هو كأس الشهادة.

 

135


121

الفصل الثاني عشر - الأمانة

قد قضمت بأسناني لحم حيوان حيّ. وقع نظري عل ذلك الشاب ذي النظارات. كان قد تجمّد وتسمّر في مكانه من ضغط انفجار القذيفة أو من رؤية وجهي. وأخيرًا أدرك أنه يجب أن يسعى لإحضار مسعف. ذهب وعاد معه بعد قليل. وضع المسعف أنبوب قلم حبر فارغ في فمي، ثم ضمّد كل وجهي بالقطن والقماش المعقم.

 

بعد إصابتي بساعة، سقطت القمة "1904" مجددًا واستولى عليها العدو... ".

 

في الفصيل الأوّل رجلان عجوزان، أحدهما إمام جماعة الفصيل. كان الشباب غالبًا ما يؤدون صلاتهم جماعة في حسينية الكتيبة، لكن خلال العواصف والأمطار كانوا يصطفون داخل الخيمة لصلاة الجماعة. قبل حضور السيد "رحيمي"، كان "أصغر أهري" - فيلسوف الفصيل- يؤم الشباب في الصلاة.

 

عندما جاء السيد "رحيمي" رجع "أصغر" للتنظير والفلسفة.

 

كان السيد "رحيمي" موظفًا قديمًا في "جهاد البناء" ولديه سجل حافل بالخدمة هنا منذ العام 1358 هـ. ش (1979م). كان يتكلم "الآذرية" ويتمتع بقامة ضخمة وبنية قوية. مهمة حمل الجرحى ونقلهم لم تكن تتطلب مهارات وإبداعًا عسكريًّا كبيرًا، ولكنها تحتاج إلى صبر كبير جدًّا، وهذا ما يتحلى به السيد "رحيمي". كان أبًا لثلاثة عشر ابنًا وبعد أن بلغ من العمر عتيًّا، بدل أن يستريح في المنزل، جاء إلى الجبهة متحمّلًا المشاق والصعوبات بكل رحابة صدر وروحية عالية، وكان يقوم بأعمال الخياطة لملابس الشباب أيضًا.

 

ولأني كنت معاون الفصيل، كان لدي مهمات ومسؤوليات خاصة. كان "محسن كلستاني"، يخبرني أحيانًا أنه ستجري هذه الليلة مناورة

 

136

 


122

الفصل الثاني عشر - الأمانة

أو مسير ليلي - للفصيل أو السرية أو الكتيبة - وكان عليّ أحيانًا أن أذهب مع شاب أو اثنين لنقوم بنصب كمين للشباب أثناء مسيرهم، وأن نمطرهم بالرصاص والقنابل، وكنا نوصي بعضنا البعض دومًا بالحذر والاحتياط كي لا يصاب الشباب بأي مكروه.

 

في أحد الأيام قال لنا "أمير عباس رحيمي" الذي كان مشهورًا بلقب "الأخ المهندس":

- شاهدت في المنام بأنني في "خرمشهر". كنت في مدخل المدينة أقف محدقًا بالسماء، وإذا بماء زلال ينبع من ينبوع نور عند قدمي ويصل رذاذ الماء إلى رأسي ووجهي.

 

صار الشباب يفسّرون له منامه حزمًا وجدًّا، كذلك قام واحد أو اثنان من الشباب بتقبيله وطلب الشفاعة منه، قالا له: إن شهادتك قد تم إمضاؤها بهذا المنام.

 

كان مسؤول الفصيل شخصًا محبوبًا جدًّا، وكنت أغبطه كيف أنه بعد كل هذه المشاركات والمعارك لا يزال تعبويًّا ومتطوعًا. كان يرتدي ملابس بسيطة ويقلل الطعام، أقام في الفصيل درس قرآن، جمع حوله الشباب الراغبين تعلم القرآن، فكانوا يرتّلون الآيات بأصوات وأنغام متعددة. كان هذا المعلم متمكنًا من قراءة الأساليب والألحان المختلفة بمهارة عالية.

 

كنت أعلم أنه كان أحيانًا قليلة يقوم بقراءة مجالس العزاء واللطميات، ولكنه لم يتخذها عملًا يتكسّب به، كان يكرّر بين المزح والجدّ بأن أجره كان دائمًا طبقًا من الحلويات.

 

في أحد الأيام وجدت ظرفًا في صندوق التجهيزات. كان مكان نومي بالقرب من الصندوق وأمام مدخل الخيمة. وكان "محسن" ينام

 

137

 


123

الفصل الثاني عشر - الأمانة

في مقابلي في الجهة الأخرى. تعجبت أولًا من وجود هذا الظرف في الصندوق، لكن عندما فتحته فهمت القضية. كان شخص مجهول قد وضع مبلغًا من المال في الظرف وكتب فيه أن من يجده فليسلّمه إلى "محسن كلستاني" أو لي، أنا وبالصدفة فقد وجدته. كتب داخله: فليصرف هذا المال على شباب الفصيل. أخبرت "محسن" بالموضوع، دقق بالنظر وقال: وكأن من كتبه أعسر وقد كتبه بيده اليمنى أو بالعكس".

 

تصرف بمهارة كي لا يعرفه أحد. لم يكن مبلغًا بسيطًا، خمسمائة أو سبعمائة تومان. وقد تم صرفه في مدة أسبوع أو عشرة أيام على شراء أغراض وحلويات وفاكهة للشباب.

 

قبل أن يعمل أبي في بيع الأقمشة، كان بائع حلويات وطالما ساعدته في مطلع شبابي، كنت أعرف أشياء عن الحلويات وكيفية إعدادها.

 

وكان رفاقي في الحي يغبطوني على هذا العمل قائلين: هنيئًا لك، تستطيع أكل الحلويات متى تشاء! ولهذا السبب كنت أذهب مع الأخ "محسن" لمساعدته في شرائها من محل الحلويات القريب من جسر "دزفول" القديم.

 

عندما كان شباب الفصائل الأخرى يأتون لزيارتنا في خيمتنا، كانوا يلتذّون بسماع صوت "محسن" الجميل وكذلك بطعم الحلويات اللذيذ.

 

تكررت حادثة المال المجهول والظرف مرة أخرى، هذه المرة كان المبلغ نصف المبلغ السابق.

 

عندما كنا نقوم بمسير، كنت أركض في آخر الطابور وأقوم بتشجيع المتأخرين وإلحاقهم بالمسير، قائلًا لهم:

 

138

 


124

الفصل الثاني عشر - الأمانة

- اتصل بالصف... اركض يا أخي... لقد تأخرت.. هيّا..

 

ذات مرة، وخلال تمرين عسكري شاقٍّ، لاحظت أن أحد الشباب يعرج في مشيته. لم يكن يظهر ألمًا أو شكوى، لكني رأيت كيف أن قدمه ملتهبة ومتقرحة الجلد. أخبرت الأخ "كلستاني"، الذي سمح له بانتعال حذاء رياضي كتاني في التمارين الصباحية حتى يتحسن وضع قروح قدمه.

 

في إحدى المناورات، الليلية، أصيب اثنان من الشباب بجراح، علمنا في صباح اليوم التالي بأن أحدهما، وقد كان تعبويًّا، قد استشهد. تركت شهادته - بسبب شظية قنبلة يدوية - تأثيرًا سلبيًّا على معنويات الجميع. أقمنا لراحة نفسه مجلس ختم وذكرى ثالث وأسبوع في حسينية الكتيبة، بعد هذا الحادث، صدر قرار بمنع حمل المعدات العسكرية خلال التدريب، وطُلب من كل من يملك ذخيرة أن يسلمها إلى قسم التسليح في الكتيبة.

 

فضلًا عن تشجيعي لأتابع دراستي، كان شباب الفصيل أحيانًا يضغطون على الأكبر سنًّا، مثلي ومثل الأخ "كلستاني" و"أصغر أهري" و"كودزي" كي نروي لهم ذكرياتنا ومغامراتنا. كانوا بغاية الشوق لسماع تفاصيل أحداث عمليات "والفجر-التمهيدية" و "والفجر واحد" حيث كنت حينها أخدم في كتيبة "ذو الفقار" الحديثة التأسيس والتي تم تشكيلها لمواجهة الآليات المدرعة والمصفحات المعادية.

 

قلت للشباب: لم يكن لدى كتيبة "ذو الفقار" سوى ثلاثة رشاشات، رشاش واحد لكل سرية! في مواجهات منطقة "فكّة" الصحراوية، كان العدو يستخدم بنادق "السيمينوف" المجهزة بمنظار، والتي كانت تصيب الشباب بدقة عالية. إن أخطأ رامي الآر بي جي عندنا في

 

139

 


125

الفصل الثاني عشر - الأمانة

قذيفته الأولى وأطلق قذيفة ثانية من النقطة نفسها، كانت رصاصة "السيمينوف" تطبع بصمتها على جبهته فورًا.

 

ثم قلت لهم:

- كذلك الشباب الذين كانت معهم بنادق "كلاشينكوف"، ينبغي أن لا يطلقوا النار من وراء بعضهم البعض من الدشمة نفسها. الأفضل أن يتحركوا ويغيّروا أماكنهم. فبهذا الأسلوب، تقلّ الخسائر ولا يتمكن العدو من معرفة أعدادنا ومواضعنا.

 

في أحد الأيام، حين كان السيد "رحيمي" يخيط ملابس أحد الشباب، تجاذبت معه أطراف الحديث، عرفت بأن أحد أبنائه قاتل في عمليات "خيبر" معه وكان في إحدى الكتائب المقتحمة لخطوط التماس:

- أحد أولادي، أنهى خدمته في هذا الصيف منذ أربعة أو خمسة أشهر في كتيبة الأنصار وعندما عاد واستقر في المنزل نهائيًّا، جئت أنا إلى الجبهة.

 

كان اثنان من أولاده من أهل الجبهة. وقد أوصى أحدهما وهو المتزوج أن يهتم بباقي أفراد الأسرة.

 

كان إعداد أسماء المناوبين للحراسة الليلية جزءًا من مهامي، وقد قمت بشكل دقيق بوضع نوبة حراستي مع السيد "رحيمي" عدة مرات لأتعرف إليه أكثر فأكثر.

 

بعض الشباب كانوا يوقظون المناوب التالي لهم لمجرد إنهاء نوبتهم، لكنّ الغالبية منهم كانت تتأخر عمدًا، فكانوا يحرسون جزءًا من نوبة غيرهم أو يقومون بحراسة كل النوبة التالية ليريحوا إخوانهم الباقين، كنت أنا و"كلستاني" نحرص على عدم وقوع هذا الأمر لأن الحراسة بحد

 

140

 


126

الفصل الثاني عشر - الأمانة

ذاتها هي تمرين على تحمل السهر وعدم النوم. هذا الإيثار والتضحية من الشباب جدير بالاحترام، ولكن على الجميع أن يعوّد نفسه على عدم النوم كي لا يتعرض لمشاكل في ليالي العمليات والمواجهات.

 

كانت كتابة كلمات الذكرى، وطلب الكتابة من الشباب الآخرين، عادة رائجة وعرفًا جيدًا على الجبهة. أخذتُ أول كتابة للذكرى من "محمد عليان نجادي"، أهداني صورة شخصية له وقد كتب خلفها: تحيات لا حدّ لها، لحضرة صاحب الزمان ونائبه بالحق الإمام الخميني، وسلام عليك يا أخ "فياض". "اذكروا انقضاء اللذات وبقاء التبعات" (الإمام علي عليه السلام). 24/10/64 هـ. ش (14 كانون الثاني 1986م) "محمّد عليان نجادي".

 

آخر مأذونية أُعطيت قبل العمليات، كانت لمدة أسبوع في أواخر شهر "دي". في الليلة التي رجعنا فيها للخدمة، قرّر محسن إجراء مناورات ورماية ليلية للشباب في معسكر "كرخة"، ولكن بشكل مختصر بالتأكيد. قال:

- أريد إخراج أجواء "طهران" من رؤوس الشباب، يجب أن يرجعوا إلى جهوزيتهم نفسها التي كانت لديهم قبل المأذونية.

 

وكذلك قمنا، في صباح اليوم التالي، بمسير للسرية من الساعة العاشرة وحتى ما قبل الغروب، لا بد أن مسؤول السرية قد فكر أيضًا بتجديد نشاط الشباب. مشينا حتى جسر "كرخه" على جادة "أنديمشك - دهلران" ورجعنا. وقد شاركت في المسير رغم تعرضي لنزلة برد، مشيت مع الشباب ولم أقصِّر. حين رجعنا، قلت لنفسي: يا حسين لقد أضحت قدماك حديديّتين. سارتا كل هذه المسافة مع الشباب ولم تتعبا!

 

141


127

الفصل الثاني عشر - الأمانة

آخر من التحق بالفصيل الأول واكتمل به عديد أفراده، كان مسعفًا اسمه "نجات باقري". قبل هذا، كان مسعف الفصيل "علي شهبازي" قد انتقل للفصيل الثالث ولم يبق عندنا سوى "سيروس مهدي بور". لم يكن لدى المسعف الجديد فرصة كبيرة ومدّة كافية للتعرف إلى شباب الفصيل، فلم نكمل الأسبوع حتى غادرنا "كرخه". كان طالبًا جامعيًّا ويتكلم بلهجة "خوزستانية". عندما أطل إلى الفصيل، قمت أنا والأخ "كلستاني" بالترحيب به وتعريفه بشكل عام إلى أوضاع الفصيل، ثم أوصى "محسن" "سيروس مهدي بور" بأن يشرح له الأوضاع أكثر، ويعرّفه إلى معلومات الفصيل وأحوال الشباب.

 

ذهبنا إلى حقل الرماية في معسكر "كرخه"، وجرّب الشباب أسلحتهم وتحققوا من دقة إصابتها. نزلة البرد انتهت بعد أسبوع من تناول الأدوية والمداراة والتجاهل أيضًا.

 

الشوق والمشاعر الجياشة مع اقتراب العمليات، كل ذلك شافاني من نزلة البرد، لكنّ شغفًا ما خفق في قلبي. حتى لو شارك الإنسان عشر مرات في العمليات، فإنه في المرة الحادية عشرة أيضًا سيشعر بهيبة الموقف. فهل اللعب مع الموت مجرد مزحة؟

 

وصل بلاغ بأن يسلّم الجميع كل أغراضهم الشخصية وحقائبهم إلى قسم الأمانات "التعاون" في الفرقة. وهذا يشير إلى هجرة جديدة أخرى. وقع نظري على إمام جماعة الفصيل، كان غارقًا في التفكير. كنت أظن بأنه يريد كتابة وصيته، ولكن لم يكن هناك أثر للقلم والورقة. جلست بالقرب منه. قلت له:

- هل هناك أي مشكلة يا سيد "رحيمي"؟ هل جدّ عليك شيء؟ هل تريد أخذ مأذونية؟

- كلا، يا سيد "حسين"، لا شيء مهمًّا.

 

142

 


128

الفصل الثاني عشر - الأمانة

- هل يمكنني المساعدة؟

- كلا، أنا أقدر على معالجة الموقف.

 

عندما رأى نظرة القلق في عينيّ قال:

- أبي، أبي ليس راضيًا أن أكون في الجبهة، وقد أخذ مني وعدًا بأن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي أشارك بها في الحرب.

- وهل قطعت له هذا الوعد؟

- نعم... ولكنّي أظنّ أني لن أراه مرة أخرى.

 

تحيرت كثيرًا. هذا الرجل في الخمسين من عمره، قد ألزم نفسه بأن لا يغضب أباه من جهة، وقلبه يحن للحضور في الجبهة من جهة أخرى. سألت نفسي: هل يا ترى سيحصل ما يقول؟

 

في تلك الأيام وزع قسم التموين أكياس مُكسرات هدايا من الناس للمقاتلين. وجدت في كيس هديتي رسالة بخط يد تلميذة في المرحلة الابتدائية واسمها "مهرناز". شبعتْ بطوننا من أكل المكسرات، وقويتْ أرواحنا بقراءة هذه الرسائل. كنا نقرأ رسائل بعضنا البعض وترتفع معنوياتنا أكثر.

 

كتبتُ وصيتي، ووضعتُ أغراضي الإضافية مع صورة "عليان نجادي" التذكارية ورسالة "مهرناز كوجك زاده"، داخل حقيبتي وسلمتها إلى قسم "التعاون".

 

آخر إحصاءات الفصيل في "كرخه"، كانت اثنين وثلاثين مقاتلًا، ثلاثين من عناصر الفصيل، واثنين من شباب الدفاع الجوي المرافقين لنا. كانا يخدمان في الفصيل، لاحتمال أن نغنم صواريخ ضد الطيران من العدو في صبيحة ليلة العمليات، فيقومان بإطلاقها على طائراته. كانا ضيفين مرافقين للفصيل ويأخذان الأوامر من مسؤولهما.

 

143

 


129

الفصل الثاني عشر - الأمانة

قبل مغادرة المعسكر، روى لي الأخ "كلستاني" منامًا شاهده، قال إنّه رأى شهادة شباب من الفصيل، وإنّه هو استشهد أيضًا.

 

كنت أنظر إليه مترددًا حائرًا في أمري، هل أصدق هذا أم أتجاهله وكأنني لم أسمعه. كان وجهه يبدو أجمل من المعتاد، وتصرفاته تفيض بالحب والحنان. لم أشعر بهذا في تلك اللحظة فقط، منذ عدة أيام وأنا أراه قد تغير عن السابق. كنت قلقًا عليه وقلقًا على نفسي خوفًا من أن يكون هذا لقاءنا الأخير. قلت له:

- إن شاء الله لا شيء من هذا.. ستبقى وتستمر في الخدمة. إن شباب الفصيل بحاجة إلى شخص مثلك.

- يكفي.. ولا حاجة للبقاء أكثر.. لقد رحل كل هؤلاء الرفاق وأنا بقيت متحسرًا..

 

في اليوم المحدد لمغادرتنا "كرخه"، وضعنا أغراضنا منذ الصباح الباكر في الشاحنات: صعدتُ أنا أوّلًا إلى صندوق الشاحنة التي ينبغي أن تتسع لكل أغراض الكتيبة، رتبتُ كل شيء بطريقة دقيقة كي لا يكون هناك فراغات بين الأغراض. عندما امتلأت الشاحنة، قمت بربط الأغراض وتثبيتها بالحبال.

 

ثم غادرنا معسكر "كرخه" بالحافلة. اتجهنا إلى المعسكر التالي الذي كان على الضفة الغربية لنهر كارون في المنطقة العامة لـ"دارخوين".

 

عندما وصلنا، كان عناصر الفصائل الأخرى يحلقون لحاهم. كانت هذه أوامر القيادة. بالطبع، لم يكن هناك مشكلة لحى وحلق لحى في الفصيل الأول، إلا لدى اثنين أو ثلاثة من الشاب. السيد "رحيمي" قصّر لحيته، فبرز شاربه أكثر من السابق. كذلك قصّرت

 

 

144

 


130

الفصل الثاني عشر - الأمانة

أنا لحيتي، كانت لحيتي تغطّي جرح وجهي، لا مناص من ذلك، يجب حلق اللحى، فقد كان هناك احتمال تعرّضنا لهجوم كيميائي، ووجود اللحى الطويلة يعيق وضع القناع المضاد، إذ يجب أن تلاصق الأطراف البلاستيكية للقناع الوجه بشكل كامل لكي يدخل الهواء للفم فقط من فتحة الأنبوب المخصّصة له.

 

كان وجه السيد "رحيمي" يحمل آثار العمر وتجاعيده، ساعدته كي يضع القناع ويسحب منه الهواء.

 

تابعنا التدريب العسكري في معسكر "كارون". من التمارين الهامة والكبرى، مناورة اقتحام الجسر. تلك المناورة أجريناها قبل أشهر في بحيرة سد "دز"، أعدنا تنفيذها في نهر "كارون" هذه المرة. بقينا لساعات وسط الماء وكانت مناورة جيدة.

 

ازداد عمل إمام صلاة الجماعة أكثر من السابق. كان الشباب في معسكر "كرخه" يؤدون صلاتهم في حسينية الكتيبة، لكنّ معسكرنا الحالي معرّض بشدة لخطر غارات الطيران، فكان على كل القوات أداء الصلاة في خيامهم. لم يكن السيد "رحيمي" يطيل في القراءة للحمد والسورة ولا ذكر الركوع والسجود، وبالأصل كانت معنويات الشباب مرتفعة لدرجة أنه لو أطال الصلاة فلن يعترض عليه أحد.

 

في "كارون"، استلمنا أسلحتنا وذخائرنا، وهي التي يُفترض أن نحملها في العمليات القادمة. وضعتُ قذيفة (آر بي جي) إضافية في جعبتي.

 

في المرتفعات وقمم "كاني مانكا"، كانت القنابل اليدوية فعّالة وعملية، ولكن في السهول والأراضي المنبسطة في الجنوب، فالآر بي جي هو الحل. عندما وقعت الأسلحة بيد الشباب، بدأ صغار السن

 

145

 


131

الفصل الثاني عشر - الأمانة

باللعب بها! لم تنفع تحذيراتي ولا تنبيهات "محسن"، اجتاحتهم العجلة لاستخدام هذه الأسلحة والذخائر على رؤوس الأعداء ليلاً أو نهارًا. غاب عن بالهم ما جرى في معسكر "كرخه" والمصيبة التي حلت بنا عند شهادة ذلك المقاتل في المناورة. عندما شعرنا أن الكلام لا يؤثر فيهم، وضعنا خطة، بأن تقع قنبلة يدوية، بدون ضامن، من يد أحد المقاتلين أثناء اصطفافهم في الطابور... فيعاقب ذلك المقاتل ويأخذ الباقون درسًا وعبرة!

 

اخترنا أنا و"محسن" "السيد رحيمي" لتنفيذ هذا السيناريو، تحدثنا معه ووافق أن يشاركنا التنفيذ.

 

بعد ظهر ذلك النهار، تحركنا كفصيل وبعد مدّة، جلسنا بين النخيل ليستريح الشباب. أخرج "السيد علي رحيمي" هناك قنبلته اليدوية وبدأ باللعب بها ورميها بين يديه ثم إمساكها.

 

كان يقوم بهذا بطريقة يراه فيها كل الشباب. أمسك السيد "رحيمي" بالضامن. كنت أتابعه بدقة شديدة. عندما أخرج الضامن من القنبلة، صرخت أنا بصوت عال:

- .. قنبلة..

 

لم تنفجر القنبلة، لكن الأخ "كلستاني" خرج منتصرًا وحقق هدفه، قام خطيبًا في الشباب وحدّثهم عن عدم الاحتياط ووجوب الحذر.

 

كانت أيام عشرة الفجر وذكرى انتصار الثورة (بداية شباط). في اليوم الذي أطلق عليه اسم "يوم الثورة الإسلامية والشهادة" بثت الإذاعة نداء الإمام، والذي كان الحاج "السيد أحمد" (ابن الإمام) يتلوه من مقبرة "بهشت زهراء" (جنة الزهراء). انقلبت أحوال الشاب وانهمرت دموعهم. لعل بعضهم كان يرى نفسه على أعتاب الشهادة، والبعض الآخر كان يتحسر حزينًا لأنه لم يُرزق الشهادة.

 

 

146


132

الفصل الثاني عشر - الأمانة

وقع نظري على السيد "رحيمي"، كان وجهه مبتلًّا بالدموع. بعد الأخبار، جلست إلى جانبه وتحدثنا معًا، حتى وصلنا إلى قصة اللقاء بالإمام (الخميني):

- في العام 1358 هـ. ش (1979) رأيت الإمام مرتين عن قرب، وكلتا المرتين كانتا في "قم". في المرة الأولى مرت السيارة التي كان الإمام داخلها من قربي، وفي المرة الثانية، شاهدت الإمام قرب منزله، وكانت لفترة أطول من الأولى.

 

طال حديثنا، انتبهت وقتها فقط للتاريخ العريق لهذا الرجل الصامت. كان قد التقى بالإمام في العام 1963م وذلك بعد خروج الإمام من معتقلات الشاه، وكان عمر السيد رحيمي 27 سنة، ذلك اللقاء الذي كان يمكن أن يؤدي به إلى السجن أو النفي والملاحقة، كان لديه جعبة كبيرة من الذكريات والمعلومات ولكن الوقت لم يسمح بالاستماع أكثر.

 

بناءً على أوامر القيادة، تم وضع اللمسات الأخيرة على التشكيلات العسكرية للقوات ومن جملتها فصيلنا. كذلك تقرر أن يبقى شخص من كل فصيل في الخيمة لحراسة المخيم وعتاد الكتيبة. كان اتخاذ القرار في هذا المجال صعبًا جدا، ولكن بعد جدال ومناوشات، أُجبر "الحاج ناصري" - زميل "السيد رحيمي" والمماثل له في العمر أيضًا - على البقاء. بعد هذا التغيير، أصبح "مهدي ملكي" من عناصر "حمل الجرحى"، فسلّم سلاحه وصار زميلًا للسيد "رحيمي".

 

وعلى الرغم من أنّه في مقتبل العمر، إلاّ أن قامته الطويلة وبنيته القوية تدلّان على أهليته لهذا العمل الشاق الذي يحتاج إلى قدرات كبيرة.

 

147

 


133

الفصل الثاني عشر - الأمانة

بعد هذا، تحدثنا وللمرة الأخيرة مع الأخ "كلستاني" حول شباب الفصيل ومهامهم ومعنوياتهم. تفقّدنا بعد ذلك استعدادات المجموعتين وجهوزية رماة الآر بي جي والرشاشات، بشكل دقيق كي لا نتعرض لأي مشكلة في ليلة العمليات. كذلك دقّقنا في معنويات الشباب. باستثناء واحد أو اثنين من الشباب العاديين الذين لا يختلف الجو عندهم بين "طهران" والجبهة، فإن باقي الشباب كانوا يعدّون اللحظات بانتظار الهجوم وليلة العمليات. كنا قلقين على وضع المسعف، الذي التحق مؤخرًا بالفصيل ولم يندمج بعدُ بأجواء الشباب. كان ينبغي أن يتعود عليهم ويستأنس حتى بأصواتهم، كي يعرفهم في ظلام الليل أيضًا، لكنه في هذه المدّة، أمضى أغلب أوقاته بين زملائه الجامعيين وشباب في فصيلين آخرين، ومن جهة أخرى، كان المطلوب منه أيضًا الانسجام والتعاون الجيد مع شباب نقل الجرحى لضمان إنقاذ أرواح الجرحى أثناء المعارك.

 

في أحد الأيام كان الجو ماطرًا وبقي الشباب في الخيمة أغلب الوقت. بعد صلاة الظهر والعصر جماعة، جاءني "جواد نصيري بور" حاملًا دفترًا صغيرًا وطلب مني أن أكتب له عبارات للذكرى. كتبتُ وأعدته له. سألني أيضًا عن تاريخ ميلادي وكتبه في زاوية الصفحة.

 

في ذلك اليوم، جلست أنظف سلاحي، ولعلها المرة الأخيرة، بندقية ذات أخمص يُطوى، قمت بتزييتها وتفقّد دقة إصابتها. كان مسؤول الفصيل مثل جميع عشاق الله، بسيطًا وترابيًّا، يحمل كلاشنكوفًا بأخمص خشبي - مثل عناصر المشاة العاديين - وحَمْلُ هذا السلاح أصعب من الأخمص الحديدي الذي يُطوى، وبالطبع كان ذلك "الكلاشنكوف" غنيمة من غنائم قوات العدو ممن كانوا يتركون سلاحهم ويهربون عند اشتداد المعارك.

 

148

 


134

الفصل الثاني عشر - الأمانة

أخبرني الأخ "كلستاني" في أحد الأيام، بأن قوات بعض الكتائب قد تقدمت نحو خط التماس، وأن "كتيبة حمزة" ستلحق بهم قريبًا.

 

بعض الأخبار التي كان يقولها لي، كان يعود فيخبرها للشباب بعد ساعات أو بعد أيام، كذلك كان يطلب مني أحيانًا أن أقوم أنا بإخبار الشباب ببعض المعلومات.

 

في اليوم التالي، غادرنا معسكر "كارون" وتوجهنا إلى قرية بالقرب من نهر "بهمن شير"، وصلنا مع حلول الظلام، في تلك الليلة التي بدأت فيها عمليات "والفجر 8"، قام الشباب بالحراسة الليليّة وفق لائحة نوبات، تحسبًا من خطر عناصر الطابور الخامس أو مجموعات الرصد والاستطلاع المعادية.

 

ظهر اليوم التالي، اليوم الأول للعمليات، كان الغداء "تشلو مرغ" (أرزًّا ودجاجًا)، بالنسبة لي وكوني قد تناولت هذا الطعام عدة مرات في السابق، لم يكن له نكهة خاصة، إلاّ مع استخدامي للملعقة التي أهداني إياها الأخ "علي قابل" ضمن مجموعة ملاعق أحضرها من "طهران" بشكل خاص لليلة العمليات، كان البعض يتناول "تشلو مرغ" لأول مرة على الجبهة، أما أنا فكانت المرة الأولى لي في شتاء العام 1983م.

 

بعد ظهر ذلك اليوم، غادرنا ذلك البيت القروي وانتقلنا إلى عنابر*[1] "أروند كنار". نمنا في تلك الليلة ونحن جالسون. وتناوبنا على الحراسة أيضًا ضمن لائحة قمت أنا والأخ "كلستاني" بإعدادها.

 

اليوم ذكرى انتصار الثورة الإسلامية، 22 "بهمن" (11 شباط). كانت طائرات العدو تغير وتقصف بجنون، ربما لإشغال القوات وتشتيتها، أو انتقامًا للضربة التي تلقاها العدو من حيث لم يكن يحتسب.


 


[1] مستوعبات أو هنغارات حديدية.

 

149


135

الفصل الثاني عشر - الأمانة

بعد الظهر، تركنا المقرّ (العنبر) وذهبنا إلى مرسى الفرقة. بعد ساعة أو ساعتين من الانتظار، صعدنا إلى الزوارق المتوقفة على الضفة الموحلة للنهر، وتقدمنا مئات الأمتار حتى وصلنا إلى نهر "أروند" الهادر وانطلقنا عبره للأمام، في هذه الأثناء كانت طائرات العدو تقصف النهر والمناطق المحيطة به، قصف الطائرات لم يجد نفعًا لأن الزوارق صغيرة ولا يُمكن إصابتها.

 

وصلنا إلى الضفة الأخرى من "أروند" عند الغروب، إلى الأراضي العراقية ومرفأ "الفاو". استقررنا في عدة "مبانٍ حكومية". وعلى الفور حُدّدت لائحة نوبات الحراسة وأَعْلمتُ الشباب بأوقاتها، مع التحذير بأن "الفاو" لم يتم تطهيرها نهائيًا حتى الآن، ويجب أخذ أعلى درجات الحيطة والحذر.

 

كانت ليلة الأربعاء والموعد مع دعاء التوسل، كان الأخ "كلستاني" صاحب الفكرة والمتابع لتنفيذها، كان يعلم بأن هناك فرصة ووقتًا كافيًا لهذا. جلس الشباب في غرفة بالكاد تتسع لهم وغرقوا في الدعاء. في هذه الأثناء تذكرت مسألة الحراسة، وخشيت أن يكون الحارس قد انشغل بالدعاء وغفل عن مراقبة الأعداء.

 

تركت المراسم وأسرعت نحو المدخل، كانت نوبة "علي قابل" وكان ظني في محله! فالمسافة لا تزيد عن عشرة أمتار وصوت الأخ "كلستاني" الشجي يصل إليه بوضوح، كان مستغرقًا بكل خشوع في الدعاء والمناجاة. لم أقل له أي شيء وتابعت الحراسة والانتباه. لم يطاوعني قلبي أن أرجعه من السماء للأرض!

 

بعد دعاء التوسل الذي لم يستغرق أكثر من نصف ساعة، استرحنا حتى منتصف الليل حيث صدر الأمر بالتحرك. حين سمعنا صوت الشاحنات، ركبنا وانطلقنا. سارت الشاحنات بهدوء قرابة الساعة.

 

 

150


136

الفصل الثاني عشر - الأمانة

وصلنا إلى مسافة عشرة كيلومترات عن "الفاو"، وترجلنا على جادة "أم القصر". كان تجمّع الكتيبة في مكان واحد يمثّل خطرًا كبيرًا. فانتشر الشباب، كل اثنين في نقطة وسط الخنادق المحاذية ليمين الجادة. الكل هنا يقوم بالحراسة والمراقبة حمايةً لنفسه وللآخرين. كانت أوامر الأخ "كلستاني" أن لا يخرج أحد من الخندق. سرت على طول الخندق ذهابًا وإيابًا لأتأكد من تنفيذ الأمر.

 

البعض لم يجد خندقًا فتدشّم بأكياس الرمل وجلس يستريح خلفها، ولكن من أين تأتي الراحة؟! لم يترك البرد لنا فرصة للراحة.

 

بعض الشباب طلبوا بطانيات. أبلغت الأخ "كلستاني"، ولكن من أين يأتي بها؟ عدد قليل من البطانيات كان غنائم وإلاّ فالمطلوب تحمّل البرد والصقيع.

 

صلّينا الصبح عن قعود وبتيمّم. لم يواجه قدامى المحاربين أي مشكلة في هذا الأمر، أما الجدد فأخذتهم الدهشة: صلاة الصبح ونحن جالسون، والبوتين في أقدامنا، وتيمّم بدل الوضوء؟!

 

سألني بعضهم ليرفعوا الشك باليقين ويتأكدوا من صحة عملهم "يا أخ فياض هل نصلي منتعلين البوتين؟"، أو "يا أخ فياض، ألا يمكننا الوقوف والصلاة من قيام؟" فكان جوابي:

- داخل الخندق، من قعود، بـ"البوتين"، تيمّمًا، ركعتي صلاة الصبح قربة إلى الله تعالى...

 

في تلك الليلة، لم أشعر بقسوة البرد لأنني كنت في حركة دائمة ومتابعة للأوضاع، لكنّ الشباب الذين بقوا مجبرين على الجلوس من الليل حتى السحر والفجر داخل الخندق، كانوا يرتجفون بردًا. غفوتُ قليلًا فتابع الأخ "كلستاني" شؤون الشباب وإدارتهم.

 

151

 


137

الفصل الثاني عشر - الأمانة

عندما أضاء النهار، نظرت حولي، إنها صحراء تحاصرها النيران من ثلاثة اتجاهات: مدافع العدو، ومدينة "الفاو" التي ينهمر القصف عليها، وكذلك خط التماس الذي يبعد عنا أقل من كيلومترين. عندما ارتفعت الشمس، جاء الطيران الحربي وبدأ بالإغارة على محيطنا. ولأجل التخلّص من شر هذا القصف، صدرت الأوامر بالانتقال إلى الجانب الأيسر للجادة، والتحرّك بموازاة الحافة الترابية والتقدم للأمام. فعلى مسافة كيلومترًا إلى الأمام كانت الغارات والقصف أقل بكثير.

 

عند الساعة العاشرة تقريبًا، حضر فريق إعلامي وقام بتصوير الشباب في الخنادق، ولأننا في الخط الثاني، لم يمكث معنا طويلًا وتابع مسيره للخط الأول.

 

حتى في النهار، لم يكن مسموحًا للشباب الخروج من الخنادق والدشم من دون سبب. كنت أبلغهم التنبيهات والأوامر من قبل الأخ "محسن" باستمرار: "لا يحق لأحد الخروج من الخندق" أو "ممنوع التحرك والذهاب والإياب لأي مكان من دون إذن". في ذلك النهار وبسبب تساهل بعض الشباب، فقد أصيبوا بجراح من القصف المعادي.

 

في تلك الجهة حيث كنّا، غطّى الماء الراكد أجزاءً من الأرض، وبعدها يوجد مستنقع ويظهر وراءه في الأفق الخليج الفارسي. غسلت يدي ووجهي بذلك الماء. كان مالحًا لدرجة احترقت معها بشرة وجهي. فقمتُ وغسلته بماء مطره الشرب التي بحوزتي ليخفّ التهابه وحريقه!

 

كان الغداء معلبات، تناولنا الطعام ثم أخذ الشباب استراحة في انتظار الأوامر الآتية. عندما تأكد الأخ "محسن" بأني سأبقى مستيقظًا، استلقى في خندق وغفا تحت الشمس، مستفيدًا من دفئها الممتع في ذلك الجو الشتوي البارد.

 

في تلك الأثناء، رأيت الأخ "سليماني" الذي كان مسؤول التخطيط

 

 

152

 


138

الفصل الثاني عشر - الأمانة

للعمليات في الفرقة. جاء والتقى مسؤولي الكتيبة، ثم أتى وسلّم على "سهيل مولايي" الذي كان مسؤول التجهيزات في فصيلنا ورحل.

 

صدر الأمر بالاستعداد عند الغروب. انشغل الشباب بعناق بعضهم البعض والوداع وطلب الشفاعة. استأذن "علي قابل" ليذهب ويودّع أخاه الذي كان يخدم في فصيل آخر. ذهب وعاد بسرعة. وكذلك قمت أنا بتوديع السيد "رحيمي" والشباب الآخرين ومسؤول الفصيل ومسؤولي السرية و... واستودعتهم في أمان الله. عندما صلينا المغرب والعشاء، اصطفّ شباب الكتيبة في صف مرصوص. وقف الأخ "محسن" على رأس طابور الكتيبة، فهو مسؤول الفصيل الأول في السرية الأولى في "كتيبة حمزة" وكنت أنا أتابع الشباب في آخر الطابور، سار الشباب بانتظام لمدة ساعة ومن ثم توقف الطابور. التجأ الشباب كلهم إلى الساتر الترابي المحاذي للجادة. ذهب الأخ "كلستاني" للمشاركة في جلسة ميدانية وبعد نصف ساعة، وصل بلاغ "على القوات الرسمية أن تنفصل عن الطابور وتتجمع جانبًا". التحقت أنا أيضًا بتلك الجلسة، تحت جسر إسمنتي كبير فوق جدول ماء على الجادة.

 

وكان الموضوع هو اتخاذ القرارات النهائية بشأن عمليات هذه الليلة. بعد وصولي بمدة، أخذوا القرار الأخير، وتم إبلاغه للجميع. كان هناك خريطة عمليات بين يدي مسؤولي الفرقة والكتيبة، وقد بُسطت على الأرض ووُضِع فوقها أوراق بلاستيكية شفافة. ركّزت عليها لأرى ما الخبر، أين نحن وإلى أين نتحرك؟

 

كان الهدف المحدد، السيطرة على جسر كبير على جادة "الفاو- أم القصر"، ويفصلنا عنه مسافة خمسة كيلومترات. كانت الجادة منبسطة وخالية من العوارض، أي إنّ قواتنا ليس أمامها أي ساتر أو ملجأ يحميها. قالوا إنّ العدو ليس عنده أي نقاط أو حواجز على

 

 

153


139

الفصل الثاني عشر - الأمانة

الطريق، هناك فقط عدة دبابات محترقة وخلفها عدة دبابات سليمة، خنادق ودشم وقوات العدو ليست كثيرة، إلى الشرق من الجادة، الأرض أكثر صلابة، أما لجهة الغرب فالأرض رطبة وموحلة... أما آخر توصيات القادة فكانت "قوموا بالنفوذ من الجهة الغربية للجادة كي تكسروا خط التماس العراقي الأول ثم طهّروا المناطق الشرقية وتقدّموا حتى تصلوا إلى الجسر... ".

 

فور إبلاغ أمر العمليات، تجدد الشغف والشوق الحماسي بين الشباب، وعادوا للعناق والوداع وطلب المسامحة من بعضهم البعض. وأنا كذلك قبّلت السيد "رحيمي" للمرة الأخيرة، كان يقف منتصب القامة وكأنه يعانق الحمّالة، فلم أستطع معانقته جيدًا! اضطررت أن أنحني وأخفض رأسي لأقبل بقية شباب الفصيل من الفتيان الصغار السن والقصار القامة. وضع "محمد عليان نجادي" صورة للإمام الخميني على صدره وقد ثبتها بزر جيبة بدلته. أغلب الشباب وضعوا عُصابات ملونة على جباههم وقد كُتب عليها: "هيهات منّا الذلة" و"زائر كربلاء" و"يا حسينعليه السلام" و"يا عليعليه السلام" و... انطلقنا أخيرًا، عبرنا مثلث مصنع الملح وأكملنا المسير حتى وصلنا إلى سواتر دفاع رملية. توقفنا هناك قليلًا كي نعيد ترتيب كل القوات. كانت الساعة ما بين التاسعة والعاشرة ليلًا، ليلة 24 "بهمن" 1364 هـ.ش (13 شباط1986م). تم تشكيل مجموعة متقدمة من مسؤولي السرية الأولى ومسؤول الفصيل الأول واثنين من رماة الآر بي جي ومساعديهما. وتجهّزْت أنا وبقية أفراد الفصيل الأول للتحرك على بعد أمتار من مجموعة الاقتحام تلك. وكانت آخر أوامر الأخ "كلستاني":

- "فياض"، أشرف على آخر الطابور وتابع نَظْمه وجَمْعَه.

 

ذلك العمل الذي طالما كنت أقوم به. كنت أعرف واجبي ومسؤوليتي،

 

154

 


140

الفصل الثاني عشر - الأمانة

لكن هذه هي العبارات الأخيرة لمسؤول حريصٍ غيور وقلق على أرواح الشباب ويسعى لأداء التكليف الملقى على عاتقه. وذهب، ومشى خلف المجموعة المقتحمة ليكون رائد هذا الطابور أيضًا.

 

حان موعد الانتشار، لا أثر لنور القمر في السماء، القنابل المضيئة فقط تنشر ضوءها بعيدًا وقريبًا منّا، كانت تنير السماء. كان الشباب يتحركون منحني الظهور من الجهة اليمنى للجادة إلى الجهة اليسرى. تأخّرنا في التقدم بسبب اضطرارنا في أماكن للزّحف ومشية "البطّة". كانت أصوات العراقيين تصل إلى أسماعنا.

 

لم أحدّد كم من الوقت مرّ بالضبط وإذا بتكبير الشباب ينهض الطابور وننطلق للأمام. كانت نيران القصف المعادي كثيفة، وكأنّ العراقيّين كانوا يعرفون كل شيء.

 

وصلنا إلى محل سقوط أول شهيد لنا وأول قتيل بعثي على مسافة ثلاثين مترًا من النقطة التي زحفنا منها. تقدّمنا فإذا بشهيد آخر وجريح وقتلى من جنود العدو. كانت الخسائر كبيرة من الطرفين. كان يمكن تحديد مسير حركة القوّة المقتحمة من آثار القتل والسير على خط سقوط الجثث. وعلى الرغم من تأثري بحال جرحانا، إلاّ أنه لم يكن هناك مجال للتوقف ومتابعة إسعافهم. كان عليّ الإشراف على حركة الطابور والتقدم بالشباب للأمام. كان مسؤول الفصيل يقتحم ويقود شبابه بكل شجاعة وبسالة وكان واجبي أن أشجع كل عناصر الفصيل على الحركة، بكل صبر ودقة، لأعيد النظم للفصيل الذي تفرق في الهجوم ولا أسمح بتشتت القوات وزيادة الخسائر.

 

تقدمت كثيرًا للأمام، وعلى الرغم من تناقص عديد الفصيل، إلاّ أنني لم ألمح الأخ "كلستاني". كانت نيران الأعداء قد حولت الساحة

 

155

 


141

الفصل الثاني عشر - الأمانة

إلى جهنم. كلما رأيتُ مقاتلًا منفردًا أعدْتُه إلى تشكيل الطابور. كنت أتقدم مترًا بعد متر، أحيانًا إلى اليمين وأحيانًا أخرى إلى اليسار أو وسط الجادة. بعد قليل بدت لنا الدبابات المحترقة، كانت القذائف والرشاشات تنهمر من كل الجهات.

 

لم يعد السير قُدمًا ممكنًا بعلامة خط أجساد الشهداء، اختلط الحابل بالنابل. كان الشهداء متفرقين في شتى الأنحاء. ولا إمكان بعد هذا لإعادة تنظيم الطابور والعمل على نظمه. كان الشباب يرمون قذائف الآر بي جي ويطلقون رصاص "الكلاشينكوف" ويرمون القنابل اليدوية. وبالمقابل كانت القنابل اليدوية تسقط أيضًا بين شبابنا. فجأة ناداني "حسين كلستاني" وهو أخو مسؤول فصيلنا:

- أخ "فياض"، هل لديك قذيفة آر بي جي؟

 

أعطيته القذيفة التي كانت معي. وضعها على عجلٍ في القاذف وسدّد ورمى. لم يكن هناك أي فرصة للسلام والكلام، عن الطابور ولماذا تفرق؟ وهل تراجع العدو أم لا... و.. لم يكن لدي أي أخبار عن "محسن". افترقنا عن بعضنا البعض. وصلت أنا إلى مكان الدبابات المحترقة، فوق الجادة وعلى مدّ النظر وحيثما ترَ العين كانت القنابل المضيئة تنوّر السماء في تلك الليلة المظلمة، يوجد آليات ومدرعات للعدو. قلت في نفسي: كل هذا العدد ومهما يكن، يجب أن يُدمّر حتى تصل الكتيبة إلى هدفها: الجسر الكبير عل الجادة.

 

وصل الخبر بأن "حسن أميري فر" - مسؤول السرية - قد جُرح. حتى ذلك الحين لم يكن هناك أي معلومات عن "محسن كلستاني".

 

لم أكن قد أطلقت أكثر من ممشط "كلاشنكوف"، خوفًا من أن تصيب رصاصاتي قواتنا. لم أصطدم بعد بالعراقيين وجهًا لوجه.

 

156


142

الفصل الثاني عشر - الأمانة

تذكرت كلمات "محسن": "فياض، قم بالإشراف على آخر الطابور لنظمه وجمعه". كنتُ لا أزال أتجرع تلك الغصة وأتمنى لو كان هناك مجال لجمع وتنظيم القوات المتبقية وتوجيهها نحو الهدف. كان عليّ أن أقوم بعمل لإزالة هذا الهاجس.

 

سرتُ على الجادة، بمجرد أن مشيت قليلًا على الإسفلت، رأيت إلى جانبي ملالة كبيرة للأعداء، كانت هادئة مطفأة. التجأت وراءها لأطل على أوضاع العدو. في تلك الأثناء، فجأة سمعت سقوط قنبلة يدوية قرب قدمي. لم يكن هناك أي وقت لردّ فعل، انفجرت القنبلة. عندما شاهدت ضوء الانفجار أغلقت عيني. وبشكل لا إرادي وقعت على الأرض قرب جنزير الملالة مستلقيًا على إسفلت الجادة. وكأن جزءًا من رجلي قد تمزّق. أصبت بذهول من الخوف والدهشة. على الرغم من أنّي قد أصبت بجراح في السابق، إلاّ أنّني اضطربت وقلت يا الله ما الذي حدث فجأة، ولكن بالتدريج أخذت أضبط وضعي وأسيطر عل نفسي لأتقبّل بأنني جُرحت. وذلك لأستعيد زمام المبادرة في تلك الاشتباكات وأنقذ نفسي.

 

لم يكن عندي أي خبر عن "محسن" وها أنا الآن مجروح على الجادة قرب هذه الملالة ولا أحد يعرف عن إصابتي شيئًا.

كان عليّ أولًا أن أجد مكانًا آمنًا. كانت الرصاصات التائهة تطلق من كل حدب وصوب. كنت أسمع صدى ارتطام بعضها بأجسام صلبة. خطر لي بأن اللجوء إلى ما بين جنازير الملالات هو حل جيد وآمن نسبيًا. زحفتُ على الأرض حتى وصلت.

 

كانت الدماء تنزف من رجلي اليمنى غزيرة وكأنها أنبوب ماء. الدماء الأولى خرجت وفجوة الجرح لم تكن قد فتحت بعد، ثم صار

 

157

 


143

الفصل الثاني عشر - الأمانة

البخار يتصاعد من الدماء الجديدة، إلى أن خطر ببالي أن أنزع الكوفية عن رقبتي وأربط بها رجلي النازفة، لم أعد أستطيع تحريك يدي وساعدي. حاولت وحاولت من دون جدوى، أن أرفع يدي نحو رقبتي، لم أقدر، كنت كالطفل الرضيع العاجز عن إبعاد بعوضة عن وجهه! أو المشلول الذي لا يقدر على فعل أي شيء. بدأت جفوني تطبق على عينيّ وتتشوش الرؤية أمامهما.

 

كنت ألمح ظلالًا قاتمة تتحرك أمامي في كل اتجاه. لم أعرف ماذا حصل، ولكنني رأيت شهيدًا يسقط إلى جانبي فجأة. لعله كان أصيب قبل هذا واستشهد الآن، أو أصيب الآن وسقط فورًا. سيطر النوم بالتدريج على عينيّ. أردت أن أصرخ، لكن همهمة خافته كانت تنطلق من حنجرتي فلا يسمعها أحد. قلت لنفسي: يا فياض، وكأنك قد استشهدت! لكن ذهني كان مشوشًا ويسرح في ألف طريق وطريق، ولا طريقًا واحدًا صحيحًا في الواقع.

 

بعد قليل، ربما عشر دقائق، أقل أو أكثر. استعدتُ وعيي وتركيزي. كان هناك شخص يرتدي اللباس الترابي اللون ويقف فوق رأسي. قلت: من جماعتنا! فإذًا أنا لا أزال حيًّا!

 

استعدتُ معنوياتي عند رؤيته. نزع حقيبتي عني ووضعها تحت رأسي مثل وسادة. ثم بدأ بتضميد الجرح مستخدمًا كيس الإسعاف الذي كنت أحمله معي. دققت في ملامح وجهه، لم يكن من شباب فصيلنا. عندما ربط جرحي عدّة مرات ووجد أن نزيف الدم لم ينقطع، التفت إلى كوفيتي. ربطها فوق ركبتي فتوقف النزف أو خفّ كثيرًا.

 

كان هناك مسعف آخر يعالج جريحًا آخر بالقرب منّا. لم أعرف من هو ذلك المصاب. وضعني عناصر حمل الجرحى على الحمالة. عندما رأيت الحمالة، تذكرت السيد "رحيمي" في لقائنا الأخير عندما

 

158

 


144

الفصل الثاني عشر - الأمانة

قبلته وكانت الحمالة مانعًا بيننا فلم أعانقه كما يجب.

 

استلقيت منهكًا على الحمالة. كانت عيناي تغلقان رغمًا عني. كنت أعلم أنه يجب علي ألاّ أنام. كنت متعبًا جدًّا، ولكني سعيت جاهدًا للبقاء مستيقظًا. كانت دماء كثيرة قد نزفت من جسدي فصار باردًا كلوح ثلج، إذا انخفض ضغط الدم، فالموت حتمي!

 

وأخيرًا وضعوني على الأرض بالقرب من كوخ صغير، شبيه "كشك" الحراسة. حين أدخلوني، شاهدت "علي شهبازي"، مسعف فصيلنا الذي انتقل إلى الفصيل الثالث. بعد أن أنهى إسعاف بعض الجرحى الآخرين، وصل إليّ، عاين جرح قدمي مستخدمًا مصباحًا آليًّا، ثم وضع عدة ضمادات فوق الضمادات السابقة. أخذوني بعدها إلى خارج تلك الغرفة. بعد ذلك وصلت سيارة "جيب" وتوقفت هناك. رفعوا الحمالات ووضعوها في القسم الخلفي للجيب، جاء دوري فرفعوني ولم ينزلوني بعدها، ثبتوني على القسم المرتفع من "الجيب". فكنت أشاهد كل شيء بشكل أفضل من الأعلى. وبالطبع فإن احتمال إصابتي برصاصة طائشة كان واردًا جدًّا!

 

انطلقت السيارة. كان الهواء البارد يلفح جسدي فأكاد أتجمد. وبينما السيارة تسير، كانت تصطدم بالمطبات والحفر فترتفع ثم تهبط. لحظة بعد أخرى، كنا نبتعد عن خط التماس وتلك الجادة المشتعلة. رجعتُ من العمليات أو نزلت من السماء للأرض أو عدت من الآخرة للدنيا، إحساس غريب مذهل.

 

توقفنا، أنزلوني ووضعوني إلى جانب بقية الجرحى على الأرض. وعادت سيارة "الجيب" مرة أخرى إلى الخط الأمامي لتنقل جرحى آخرين. المكان الذي وضعونا فيه، كان مثلت طرق مصنع الملح. كان شباب كتيبة الأنصار مستقرين هناك. بقيت منتظرًا لمدة نصف

 

159


145

الفصل الثاني عشر - الأمانة

ساعة، حتى جاء دوري للانتقال بسيارة الإسعاف.

 

وضعوني بالحمالة في الإسعاف وانطلقنا، هنا لا أثر للرياح الباردة. فتحت عينيّ عدة مرات وأطبقتهما فكنا قد وصلنا. فُتح باب الإسعاف أدخلوني إلى عنبر كبير فيه كهرباء. جاء ممرض ونظر إلى رجلي الجريحة. لا أعلم إن قام بفعل شيء ما أم لا، بقي عندي عدّة دقائق ثم تفّقد جريحًا آخر.

 

بعد قليل، أخرجوني من العنبر وغطّوني ببطانية، كان البرد شديدًا لدرجة كنت أرتجف حتى مع الغطاء.

 

استيقظتُ بعد دقائق، على صوت محرك القارب، كلا، بل بسبب قطرات الماء التي كانت تتناثر على وجهي. انتبهت أن الحمالة - وأنا فوقها - قد وضعت في قارب.

 

عندما استيقظت مجددًا وجدت نفسي في مستشفى ميداني. كان الأطباء هناك يرتدون ملابس خضراء. سألت الممرضين عن اسم المستشفى فقالوا: "فاطمة الزهراء". إنّه اسم المستشفى وكذلك كان رمز العمليات العسكرية!

 

هناك، نزعوا عني لباسي العسكري والـ"بوتين" وألبسوني لباس المستشفى. وضعوا أغراضي الشخصية في كيس نايلون ليعيدوها لي عندما أخرج من المستشفى. ثم دونوا معلومات عن إصابتي وأخذوا مني رقم هاتف وعنوان منزلنا. حقنوني ضد "الكزاز" وبفيتامين "ك" الذي يساعد على انعقاد الدم، ثم غيّروا لي الضمادت وغسلوا مكان الجرح بمضاد للالتهابات. بعد ساعات تم نقلي من هناك إلى مدينة "الأهواز".

 

في يوم 13 شباط أدخلوني إلى غرفة العمليات في مستشفى الشهيد

 

160


146

الفصل الثاني عشر - الأمانة

"بقائي" في الأهواز. بقيت هناك ليلة واحدة، أرسلوني بعدها إلى مستشفى "كامياران" في مدينة "مشهد".

 

كان المستشفى مزدحمًا جدًّا، لم يكن هناك مكان في الغرف، فوضعوني على سرير في الممر. كان الأطباء والممرّضون يمرّون قربي ولا أحد ينظر إليّ. حتى الساعة التاسعة لم يأتِ إليّ أي طبيب، ولا وضعوا لي مصلًا ولا أحضروا لي طعامًا.

 

كنت أشعر بضعف شديدٍ من الجوع. آخر طعام ساخن تناولته ليلة 22 بهمن (11 شباط) في البيوت الساحلية المحاذية لشاطئ "الفاو"، "همبرغر" مقليّ بالزيت المحترق ومخلّل الخيار وخبز مرقوق يابس.

 

بعد 15 ساعة، أتى الطبيب وعاين إصابتي وطرح عليّ عدة أسئلة، ثم سأل الممرضين متعجبًا:

- لماذا لم تقدّموا الطعام لهذا المريض؟! لا يعاني من مشاكل في الأعصاب ولا الدماغ، يجب أن يأكل...

 

لم يحضروا الطعام بعد، وقد ارتفعت معنوياتي بسبب كلام الطبيب! كان الجرحى والمرضى العاديّون لديهم من يرافقهم ولكني لم أرغب بإخبار أهلي بحالي. منذ سنتين، عندما جُرحت وجاءت أختي لعيادتي، بمجرد أن شاهدت وجهي مصابًا ومتورّمًا، أغشي عليها وغابت عن الوعي. لم أُرِد أن أثقل على أحد هذه المرة. لكن عندما نَفَدَت طاقتي ولم أعد أستطيع التحمّل، أعطيتُ هاتف منزلنا لإحدى الممرضات، لكنها قالت لي بوجه عبوس:

- يا سيد، يجب أن تنتظر ليأتي دورك بالاتصال بالمناطق. سأكتب اسمك في اللائحة، وعندما يصل دورك سنخبرك بذلك...

 

لم أحمل أي ذكرى طيّبة عن مستشفى "كامياران"، المكان الذي

 

 

161

 


147

الفصل الثاني عشر - الأمانة

وضعوني فيه، تلك الممرضة، طعامهم القليل والخالي من الملح. ولولا شفقة إحدى الممرضات وتعاونها، حتى الاتصال الهاتفي بـ"طهران" لم يكن ليحصل!

 

لم يكن لدينا هاتف في منزل والدي. تحدثت مع أختي. عندما أخبرتها أني أصبت برجلي وإنها ملتهبة وتنزف. سألتني بقلق: "لم يقطعوا رجلك أليس كذلك؟".

 

قلت: "كلا، لا تزال رجلاي لي!".

 

لم يكن قد حضر أحد من أهلي بعد، حين أدخلوني إلى غرفة العمليات ليقوم الأطباء بوصل الشرايين والأعصاب المقطوعة في قدمي اليمنى. عندما استعدت وعيي، وجدت نفسي في غرفة فيها أربعة أسرّة، مع إنها صغيرة ومخصصة بالأصل لسريرين فقط.

 

في يوم 28 بهمن (17 شباط)، جاءت أمي ومعها ابن خالتي. لقاء أمي أعاد لي الروح ورفع معنوياتي عاليًا. ليبدأ العطف والاهتمام الأمومي ومعه الفاكهة والعصير والطعام المغذّي و...

 

شاهدت أمّي قدمي المجروحة والملتهبة، ولكنها لم تقل شيئًا. كانت قدمي من الركبة للأسفل تعاني من التهابات خضراء، وقد اسودّت كما يُقال. لم تنجح عملية وصل الأعصاب والشرايين كذلك كان الطبيب المعالج يغرز الإبرة في باطن قدمي، ولكني لم أكن أشعر بأي شيء، أرى الإبرة بعيني وهي تدخل في قدمي، ولكن، لا ألم ولا من يشعرون!

 

كان وجه أمي يمطر أسًى وخوفًا. كنت قلقًا عليها وكانت هي قلقة عليّ. لكننا لم ننطق أي كلمة. عندما فقد طبيبي الأمل، جاء أطباء آخرون وقاموا بمعاينتي. حضروا بعدها مرة أخرى وشكلوا لجنة طبية خاصة بحالي، كانوا يتناقشون ويتحدثون عن وضعي، وما فهمت

 

162

 


148

الفصل الثاني عشر - الأمانة

أي كلمة منهم، اصطلاحات طبية وكلمات أجنبية. نتيجة آرائهم أن الالتهاب يتمدد لما فوق الركبة، وأنه ينبغي قطع رجلي من تحت الركبة.

 

نظرتُ إلى وجه أمّي. تكاد تنفجر من الغصة والحزن. لكنها حبستْ دمعتها واكتفت بالقول:

- أماه ليتني كنت أنا المصابة وليس أنت!

 

ولكي لا تجرح مشاعري وتشجعني، عدّلت من لهجتها وقالت:

- ستتحسن يا ولدي، إن شاء الله...

 

أصابتني الحمى، فقد انتقلت الالتهابات من رجلي إلى دمي ورفعت حرارة جسمي درجات، وكذلك فإن رائحة التعفن كانت تؤذي كل المحيطين بي. وكأنه صار واجبًا عليّ أن أقطع كل تعلّق قلبي بهذه القطعة من جسدي التي فَسدت ويُحتمل أن تقضي عليّ وتخطف روحي أيضًا. لا خيار آخر ولا سبيل. سلّمت قلبي للقضاء ورضيت برضى الله.

 

في صباح أحد الأيام، أخذوا من أمي إمضاءً وأثر بصمتها كوثيقة قبول بعملية قطع الرجل من تحت الركبة. للحظة، وضعتُ نفسي مكان أمي، إمضاء تعهد بالرضى عن قطع رجل الابن، ما أصعبه مِن موقف مخيفٍ وقاس، قمة العجز والتسليم عند الأم: إن وقّعت، يقطعون قدم ابنها، وإن لم تفعل يَخْسَر روحه.

 

أخذوني إلى غرفة العمليات بعد ظهر ذلك اليوم. في الطريق توسلت بالإمام الثامن (الإمام الرضاعليه السلام) وأنا ضيف مدينته. استعدت ذكريات ضريحه، المرقد المطهر والقبة الذهبية. جرى على لساني ذكر "يا غريب الغرباء ويا معين الضعفاء" حتى وصلت إلى داخل غرفة العمليات. كان قلبي هادئًا مطمئنًا بذكر الله وذكر الإمام الثامن. شعرت بحال معنوية خاصة. تذكرتُ يَدَيْ حامل لواء كربلاء المقطوعتين

 

163


149

الفصل الثاني عشر - الأمانة

وانهمرت دموعي. في تلك الحال كنت مستعدًّا وراغبًا من كل قلبي أن يقطّع جسدي إربًا إربًا في سبيل رضى الله، فلم يعد التخلّي عن قطعة من رجلي صعبًا ولا قاسيًا. أعددتُ قلبي وفوّضت أمري إلى الله.

 

كانت تلك العملية الجراحية الثالثة التي أُجريها. عندما استعدتُ وعيّ. رأيت أمي وأخي أمامي. نظرت للأسفل، لا أثر لرجل تحت الشرشف. لكنّ الأطباء بعد العملية، ما زالوا قلقين من أن تكون الالتهابات قد تمددت للقسم الأعلى من الرجل. قوة الالتهابات منعتهم من الإبقاء على قسم من الجلد لتغطية القسم المقطوع من الرجل.

 

كانت أمي قد شاهدت منامًا في الليلة التي جُرحتُ فيها، رأت عصفورين من طيور الحب يزقزقان في قفص وفجأة يبدأ أحدهما بالارتجاف ويسقط مغشيًّا عليه على أرض القفص. انتبهت من نومها مضطربة واستمرت حتى الصبح بالصلاة وقراءة القرآن والدعاء لسلامة المقاتلين وانتصارهم على المعتدين.

 

في اليوم الثاني من شهر "إسفند" (21 شباط)، استطاعت أمي ومعها أختي وابن خالتي، وبشق الأنفس والرجاء والتهديد، أخذ ورقة خروج لي وانتقال إلى "طهران". عندما وقع نظري على نور القبة ومرقد الإمام الثامن خاطبته عن بعد قائلًا:

- إنّ رجلي المقطوعة هذه، أمانة عندك إلى يوم القيامة!

 

عندما وصلنا إلى "طهران" نقلوني إلى مستشفى أمير المؤمنين عليه السلام في شارع "ستارخان"، ما إن عاينني الطبيب وشاهد اصفرار وجهي ونحول جسمي حتى قال:

- أعطوه دمًا!...

 

كان اسم الطبيب "موسى عدالت"، هذا الاسم الذي لا أنساه أبدًا،

 

164

 


150

الفصل الثاني عشر - الأمانة

أول وصفة أعادت الروح لجسدي. فور تلقي وحدتي دم، تحسّنت حالي كثيرًا. وَصْفَتُه الثانية كانت عبارة عن غسيل وتعقيم كامل الجرح ومحل العمليّة، قامت الممرضات بها بدقة شديدة. كان لا يزال يخرج من جرح رجلي تراب ورمال منطقة العمليات وقِطَع شظايا القنبلة، فكنتُ أرميها في وعاء خاص وضعته الممرضات تحت قدمي.

 

لا أعلم كيف أجروا لي في "مشهد" عملية جراحية بوجود كل هذه الأجسام الغريبة في رجلي؟! وهذا من إتقان ومهارة أطباء وممرضي مستشف "كامياران" وحنانهم الدافق! يضاف إلى فضائلهم وحسناتهم الأخرى!

 

تقرّر أن أدخل مجدّدًا إلى غرفة العمليات بعد أسبوع، والهدف هذه المرة شدّ جلد الرجل ليغطي مكان القطع والجرح ومن ثم تقطيبه.

 

عندما أفقتُ من المخدر، رأيت أنبوبًا موصولًا بجانب الجرح ليخرج منه التعفن والدم المتخثر ضمانًا لعدم عودة الالتهاب للرجل.

 

أمضيتُ كل شهر "اسفند" (شباط/آذار)، أعاني الألم والحمى وآثار الجراح، مع استمرار وجود حوالي خمسين قطعة شظية صغيرة من أجزاء القنبلة في رجلي. كانوا قد أخرجوا الشظايا الكبيرة، لكن القطع الصغيرة من الصعب إخراجها، وكذلك فهي لا تشكل خطرًا ولا تؤدي للالتهابات.

 

اقترب عيد "النوروز" ورأس السنة 1365 هـ. ش./ 21 آذار1986م.

 

في أحد الأيام وجدتُ فرصة وفراغ بال لأستعيد ذكريات السنة الماضية كلها، انتبهت إلى أن رجلي اليمنى تعرضت لثلاثة أحداث هامة في تلك السنة! في المرة الأولى وقع إبريق الماء المغلي الموضوع على المدفأة النفطية (الصوبيا) على قدمي فأحرقها وبقيتُ أعرج

 

165


151

الفصل الثاني عشر - الأمانة

لمدة عشرة أيام، لم أتمكن فيها من انتعال "البوتين" ولا المشاركة في التدريب والتمارين الصعبة. والمرة الثانية التهب ظفر إصبع قدمي اليمنى الكبير بسبب ضيق البوتين واسودّ لونه حتى وقع.

 

في اللحظات التي تسبق تحويل العام الجديد، دعوت دعاء التحويل (يا مقلب القلوب والأبصار... حوّل حالنا إلى أحسن حال) في المستشفى وطلبت من الله أن يمنحني الصبر والقوّة لأعود مجددًا لخدمة الدين والناس وأرجع إلى الجبهة من جديد.

 

عندما خرجتُ من المستشفى كان وزني خمسين كيلوغرامًا، سابقًا كان اثنين وسبعين كيلوغرامًا! نزل وزني أكثر من عشرين كيلوغرامًا. كنت أشعر بالضعف في يدي ورجلي. لم أكن أستطيع المشي لوحدي حتى لو توكأتُ على العصا. طلب مني الطبيب الفيزيائي المعالج أن أمشي وأتحرك.

 

وأخيرًا رجعتُ إلى البيت، برجل واحدة، ذهبت باثنتين وعدت بواحدة! ما إن وصلت إلى المدخل وخزانة الأحذية، هجمت الأفكار والذكريات على ذهني. أصبح فكري مشغولًا بالمقارنة بين الماضي والحاضر: رِجلان ورجل واحدة، زوج أحذية وفردة واحدة. درجات المنزل التي كنت أجتازها كل اثنتين بخطوة، أصبح عبور درجة منها صعبًا عليّ، الألعاب التي كنت أمارسها ولم أعد أقدر و... كانت هذه الهواجس تجعل العرق البارد ينساب على جسدي فأشعر بالوهن والضعف.

 

عندما بدأت بالمشي، تعرفت بسرعة إلى مسير مؤسسة "جانبازان" (الجرحى). ذهبتُ ورجعت، وتعرفت هناك إلى أصدقاء جدد من الجرحى مثلي. كانوا هناك وتوطدت علاقتنا. كنت أطلّع على آخر الأخبار منهم أيضًا، وخاصة ما يتعلق بالجرحى، مثل قصة الجريح

 

166

 


152

الفصل الثاني عشر - الأمانة

الذي بُتِرَت رِجله من فوق الركبة فدخل في أزمة وحبس نفسه في البيت ولم يخرج منه لعدّة أشهر، ولم يرغب حتى في لقاء أقرب المقربين عنه، ثم تأقلم بالتدريج وتكيّف مع إصابته و...

 

كان مهمتي الثانية أن أزور الأصدقاء والأقارب الذين كانوا يقومون بعيادتي أثناء مدّة العلاج في المستشفى. وبهذا كنت أبادل محبتهم بمحبة من جهة، ومن جهة أخرى كنت أروّح عن نفسي وأستعيد نشاطي ومعنوياتي. في إحدى زياراتي، عندما أردت الخروج، لم يلتفت صاحب البيت وبدأ يبحث عن "الفردة" الثانية من حذائي! ويقول:

- لا بأس.. الآن نجدها.. يا ويلنا من شيطنة الأولاد.. الحياة في الشقق هكذا.. !

 

عندما انتبه إلى المسألة، .. كان وجهه محمرًّا من الخجل والارتباك..

 

لم يكن ربيع العام 1986م قد حل، إلاّ وكنت قد وضعت قدمًا صناعية وتركت العصا تدريجيًّا. إضافة إلى صعوبة التعوّد على هذه الرفيقة الجديدة، كان هناك مشكلة أخرى هي الرائحة الكريهة التي تنبعث من جواربي. تعودت على هذا وصرت أغيرها وأغسل قدمي في كل مرة.

 

في صيف ذلك العام، عاد الحنين إلى الجبهة يشعل كياني. فذهبت من "طهران" إلى "كوزران"، المعسكر الصيفي للفرقة. تقدّمت حتى وصلت إلى خيام كتيبة "حمزة" الواقعة فوق الجبل. كان الحاج "أميني" هو أول من شاهدته هناك. استقبلني بحرارة وحفاوة بالغة.

 

تحدثنا عن ذكريات تلك الليلة، فقال لو لم يقاتل شباب "حمزة" بضراوة لكان ممكنًا أن يقوم "العراق" بهجوم مضاد يستولي به على

 

167

 


153

الفصل الثاني عشر - الأمانة

كل المحور، ثم اقترح عليّ أن ألتحق بالخط الخلفي الداعم للجبهة.

- يا أخ فياض، أنت عنصر متفرغ في الحرس الثوري، وحيثما كان عملك فأنت في خدمة الجبهة.

 

خلوت بعد ذلك بنفسي وصرت أفكر: إن بقيتَ في الجبهة فستُربَكْ في ليلة العمليات وتَضْطَرِب. ولهذا صرتُ أفكر بنصيحة الحاج "أميني".

 

اشتاق قلبي للفصيل الأول. ذهبت إلى خيمة الفصيل. لا آثار ولا أخبار عن المقاتلين القدامى. كان هناك بعض الشباب في الخيمة: "أحمد أحمدي زاده" و"علي شهبازي" و"سيروس مهدي بور". جلست وصرت أسترجع معهم ذكريات ليلة العمليات. ذكر لي أحدهم بأن أحد شباب السرية الأولى في ليلة العمليات، اشتبه بيني وبين أحد العراقيين وصار يناديه يا أخ "فياض"، أخ "فياض".. يا سيد "حسين" التفت العراقي فانتبه الشاب إلى خطئه ولكن حين لا ينفع الندم، فقد أمسك العراقي الضخم بالفتى الإيراني ورماه أرضًا ثم أطلق النار على رأسه. أخطأت طلقات الرشق الهدفَ إلا واحدة أصابته في جبهته. ولكن البعثي حين شاهد الدماء تغطي وجهه، تركه ومضى.

 

لم يعرف أحد اسم ذلك الفتى، لكن هذه الحادثة تدلّ على أن المعارك كانت بالسلاح الأبيض ووجهًا لوجه، ولكن أي وجه ضد أي وجه؟ الغيلان البعثية المدربة والمدججة بالسلاح مقابل فتيان صغار من دون تجربة، ولكنهم مفعمون بالإيمان والشجاعة.

 

كنت أعلم بأن "محسن كلستاني" و"محمد عليان نجادي" و.. آخرين قد استشهدوا. ولكني هناك عرفت بأن السيد "علي رحيمي" أيضًا قد ارتقى شهيدًا. قال الشباب إنّ السيد "علي" كان يساعد الجرحى

 

168

 


154

الفصل الثاني عشر - الأمانة

وينقلهم للخطوط الخلفية ولكنه عندما لاحظ نقص الذخيرة صار يحمل السلاح والعتاد وينقله للمقاتلين. آخر مرة تقدّم للخط الأمامي سقطت قنبلة يدوية وراءه فأصابت شظية كبيرة رأسه ونال مقام الشهادة[1].

 

في تلك الليلة، استشهد "علي قابل" وأخوه الذي كان في الفصيل الثالث في السرية، فارتفعا معًا شقيقين شهيدين.

 

تلك الليلة، كانت آخر ليلة عمليات أشارك بها في حياتي، بعدها تابعت خدمتي في عمل إداري في وزارة الحرس الثوري.

 

في أواخر العام 1986م تزوجت من امرأة مضحية وفيّة، تقبّلت إصابتي وساعدتني كثيرًا فبذلت جهودًا كبيرة لتأسيس أسرة صالحة. في أحد الأيام وبعد الزواج، التهبت رجلي بشدة وأصبتُ بحمى ورجفة. أخذتني زوجتي إلى عيادة الطبيب بصعوبة. فكان كلامه:

- لن يبقى حيًّا حتى الصباح...

 

كانت رجلي المقطوعة قد انتفخت وصارت بحجم وسادة، ولم تنفع معها الأدوية والعلاجات. وصلت حرارتي للأربعين. اضطر الأطباء لإجراء عملية جراحية، وعلى الرغم من أن التخدير كان خطرًا عليّ ومن الممكن أن لا أستعيد وعيي منه أبدًا، أجروا الجراحة، وأخرجوا التعفن من رجلي، وشاء الله أن أعود للحياة مجددًا.

 

هذه المرة أيضًا، أخرجَ الطبيب الجرّاح عدّة شظايا من رجلي وأعطاني إياها. احتفظت بها كي لا تذهب ذكرى تلك الليلة وذكريات سنوات الدفاع المقدس الثماني من بالي أبدًا. أراني الطبيب قطعة


 


[1] في شتاء العام 1987م، سمعت أن ابنه "جواد" قد استشهد أيضًًا بعد 11 شهرًا من شهادة أبيه.

 

169


155

الفصل الثاني عشر - الأمانة

سوداء وسألني ما هذه؟ نظرت وأجبته:

- أيها الطبيب العزيز، هذه قطعة إسفلت من جادة "الفاو – أم القصر".

 

أخذتها كذلك واحتفظت بها.

 

في أحد الأيام، التقيت "علي بي بي جان" في مؤسسة الجرحى. كان قد فقد بصره. قنبلة عراقية سلبت منه نور عينه. في تلك الليلة اقتحم عمق جبهة العدو وأصيب بالقرب من الملالات.

 

لم تكن الحرب قد انتهت، عندما توفّقتُ مجددًا للقاء الإمام الخميني قدس سره. كان ابني في الأشهر الأولى من عمره. أخذته معي. كنّا بالضبط تحت منصة الإمام في حسينية "جماران". حين دخل الإمام كنتُ تحت المكان الذي وقف الإمام عليه. رفعت ابني بيدي. عندما شاهد الإمام طفلًا صغيرًا التفت إليه ومسح على وجهه ورأسه. كان هذا آخر لقاء مع مراد الشهداء والعاشقين.

 

انتهت الحرب، ورحل الإمام أيضًا. مضت سنوات طوال وأنا ما زلت كلما ارتفعت حرارتي أرتجف وأخاف أن تكون رجلي قد التهبت مجددًا.

 

كلّما توفّقتُ لزيارة "مشهد"، أتذكر مستشفى "كامياران" وغربتي في ذلك المستشفى، وكيف علّقتُ قلبي بنافذة الضريح المبارك للإمام الثامن ودخلت غرفة العمليات تحت عنايته وحين غادرت "مشهد"، كنت راضيًا مستبشر القلب بأني تركت أمانة عند الإمام الرضا عليه السلام وهذه الأمانة المتواضعة التي لا قيمة لها، يمكن أن تلفت نظره الكريم فيرافقني كَرَمُه ولطفُه حتى الموت ويوم القيامة.

 

لو لم تقع الحرب، ربما عملتُ في صناعة الحلويات أو تجارة القماش،

 

170

 


156

الفصل الثاني عشر - الأمانة

ولكني الآن قد تقاعدت بعد خدمتي في الحرس الثوري وقلبي يرغب في متابعة مهنة والدي في الحلويات. بعد تلك الليلة التي لا تُنسى، واجهت مصاعب عديدة، بعضها لا يعلمه إلا الله. إليه أرغب ومنه أطلب حسن العاقبة في حياتي وإن كانت تلك الأمانة مقبولة لديه ولدى الإمام الثامن، أن يلحق بها بقية هذا الجسد والروح، إن شاء الله.

 

171

 


157

وثائق الفصل الثاني عشر

وثائق الفصل الثاني عشر

 

 

 

 

 

1- حسين فيّاض

1-1 المعلومات الشخصية:

- حاصل على الشهادة الثانوية، متزوج، لديه ثلاثة أبناء، موظف في وزارة الدفاع.

 

تاريخ ومكان الولادة:

- العام 1343 هـ. ش (1964م)، طهران.

- مدة المشاركة على الجبهة ونوعها:

19 شهرًا خدمة تطوعية في التعبئة.

18 شهرًا في حرس الثورة الإسلامية.

 

العمليات والمهام:

- عمليات "والفجر" التمهيدية (مساعد رامي آر بي جي).

- عمليات "والفجر1" (مساعد رامي آر بي جي).

- عمليات "والفجر3" (مساعد رامي آر بي جي).

- عمليات "والفجر4" (مساعد رامي آر بي جي).

- دفاع "شاخ شميران" 1363 هـ. ش/ 1984م(رامي آر بي جي).

- عمليات "بدر" (قناص).

- دفاع "مهران" 1364 هـ. ش/ 1985م. (معاون فصيل).

- عمليات "والفجر8" (معاون فصيل).

 

172


158

وثائق الفصل الثاني عشر

الجراح:

- كسر عظام الفك والوجه واليد اليمنى. 1362هـ. ش./ 1983م.

- إصابة بالقنابل الكيماوية في الرئة 1363هـ. ش./ 1984م.

- قطع الرجل اليمنى من تحت الركبة 1363 هـ. ش/ 1984م.

- نسبة الإصابة: 70%

 

173


159

وثائق الفصل الثاني عشر

2-5 مقابلة مع زوجة الشهيد (علي رحيمي).

كنتُ في العاشرة أو الحادية عشرة عندما زوّجوني لشاب في التاسعة عشرة. في العام 1965م وعندما أنجبتُ طفلي السابع، انفصلتُ عن زوجي. كنت أعيش في منطقة "آريانا" وبالتدريج تعرفنا إلى أسرة "السيد رحيمي"، وصار بيننا تواصل وزيارات. كنت قد سمعت من أبي بأنه رجل مؤمن ومن فدائيّي الإمام الخميني، وأنه يعرف السيد "نواب صفوي" ولديه نشاط سياسي وثوري. كذلك سمعتُ عنه أنه يعمل في فرن وأنه يضع بيانات الإمام بين أرغفة الخبز ويوزعها على بيوت الناس. حتى جاء اليوم الذي حضر والده ووالدته لخطبتي. يومها عرفت بأنه كان متزوجًا أيضًا في السابق وقد انفصل عن زوجته ولديه ثلاثة أبناء ويعيش معهم في منزل والده ووالدته. التجربة المريرة التي كنت عشتها في زواجي منعتني من قبول عرض السيد "رحيمي" ببساطة، لكنّ إصرار والِدَيْه وزيارتهما المتكررة لم تترك لي مجالًا فقبلتُ وتزوجنا.

في العام 1347 هـ.ش (1968م) بدأت حياتنا المشتركة بشكل بسيط ومتواضع جدًّا. لم تمض فترة طويلة حتى كان حبّ السيد قد استقر في قلبي وأزال كل قلقي وهواجسي. عندما شاهدتُ تعامله الأبوي الحنون مع أولادي، اطمأننت وارتاح قلبي.

 

بعد عدة أيام، جاء أولاده أيضًا للعيش معنا. بعد سنة ولد ابننا "جواد"، وبعده "محسن" و"معصومة". أصبحنا أسرة مكوّنة من ثلاثة عشر فردًا. في تلك الأيام كان عند السيد "علي" مكتب معاملات عقارية، ولكنه كان يقوم بالاستخارة ويعتمد عل القضاء والقدر، لدرجة لم يكن ينجز في السنة أكثر من معاملة واحدة! صارت السنة تمضي وراء السنة ونحن في حال فقر مدقع. وعلى الرغم من أني

 

177

 


160

وثائق الفصل الثاني عشر

أمّيّة ولم أتلقّ أي تعليم مدرسي إلاّ إني كنت أعمل كي نتعاون على تدبير معيشتنا. أحيانًا في "طهران" وأحيانًا أخرى في "كرج" وأينما توافر عمل لتأمين لقمة عيش للأولاد. لم نكن نملك حتى أبسط وسائل الحياة في البيت. كنا أحيانًا ولأجل الاستماع إلى أخبار الثورة، نذهب إلى بيت الجيران!

 

في العام 1977م، تعرض السيد "علي" لحادث سير خطير، فتكسرت كل أسنانه، ما اضطره لتركيب طقم أسنان صناعيّة.

 

عندما انتصرت الثورة، وتم تشكيل "جهاد البناء" بأمر من الإمام، انضمّ السيد "علي" إلى "جهاد البناء". في العام 1359 هـ.ش (1980م) أعطونا غرفة في مبنى "جهاد البناء"، كانت غرفة صغيرة جدًّا وكأنها مكان مصعد معطّل، وصار عندنا نوع من الاستقرار النسبي.

 

كان يبقى في العمل ليلًا حتى وقت متأخر لدعم وتجهيز الجبهة، فيقوم بالعمل تطوعًا ومن دون حقوق وراتب، فكنا نعاني شظف العيش.

 

كان حنونًا ومضحّيًا. يساعدني في أعمال المنزل. كنّا نتعاون معًا على غسل الألبسة والبياضات التي يحضرها للمنزل لتنظيفها.

 

كان يدفع فواتير الماء والكهرباء عن حساب "جهاد البناء" ويرفض استخدام سيارات المؤسسة أو الهاتف للأمور الشخصية. كان في كثير من الأحيان، يتناول كمية صغيرة جدًّا من الطعام كي يأكل الأطفال أكثر. وأحيانًا كان يتذرع بأنه سيتناول الفطور مع الأخوة الحرس في العمل، يخرج من البيت من دون فطور. ومع هذا كان نشيطًا قوي البنية والحركة. كنت أمازحه فأقول: "أنت تشبه شابًّا في الثامنة عشرة من العمر ولستُ كهلًا".

 

عندما بدأت الحرب، قرّر السيد "علي" الالتحاق بالجبهة. لم أكن

 

178


161

وثائق الفصل الثاني عشر

راضية عن هذا القرار. قلت له:

- يا سيد "علي"، هل هذا ما اتفقنا عليه؟

- أنا وعدتك أن أبقى معك حتى آخر العمر، ولكني لم أكن أعلم أن الحرب ستبدأ. إنه أمر الإمام ويجب أن أذهب.

 

أنت لا تزالين صبية وجميلة، لا تعتمدي على الأولاد. إن أنا استشهدت تزوجي حتمًا. أرجو أن تسدّدي لي ديوني، لا أريد أن يبقى حقّ الناس في ذمتي.

 

قلت له: "أنت لا تحتاج للذهاب إلى الجبهة، عملك في المؤسسة يعادل ثواب الجهاد والشهادة".

- أين أنا من الشهادة؟

- للأسف فأنا مقيّدة بعهد الإيمان، وإلاّ لما كنتُ أَدَعَكَ تذهبْ.

 

ذهب أولًا إلى جبهة "كردستان". فيما بعد التحق "مهدي" و"محسن" - وكانا قد تأثّرا - بأبيهم وذهبا إلى الحرب أيضًا. كان "مهدي" مع أبيه وأصيب في عمليات "والفتح المبين".

 

في العام 1364 هـ. ش (1985م) وفي آخر مأذونية جاء فيها إلى البيت أعددت له حساء "آب كوشت" (مرق اللحم). كان محمومًا وضعيف الجسم. سألته: "ألا تأكلون في الجبهة حتى أصبحت ضعيفًا ونحيلَ الجسم".

- "الأكل في الجبهة، متوافر بكثرة، طعام ساخن وأطيب ما يكون!".

 

تغيرت تصرفاته، صار صامتًا وصابرًا.

 

في الليلة الأخيرة لتلك العطلة ذهبنا لزيارة والده الذي لم يكن راضيًا بذهاب "علي" إلى الجبهة. كان يقول له: "أنتَ يجب أن تبقى وترعى شؤون زوجتك وأولادك. لم يقبل السيد "علي". صار يقبّل يديّ وقدميّ أبيه واعدًا إياه أن تكون هذه المرة الأخيرة التي يذهب فيها إلى

 

179


162

وثائق الفصل الثاني عشر

الجبهة. بكى والده وناح ولطم باللغة التركية، وكأن قلبه أخبره بأنه لن يرى ولده بعد هذا اللقاء.

 

عند الوداع، كرر توصيته لي بالأولاد. أخذ معه مقصًّا كبيرًا وإبرة وخيطانًا كي يقوم بأعمال الخياطة وإصلاح ثياب الشباب. كان وداعه لي قصيرًا وسريعًا. بكيت كثيرًا وشعرتُ بأنه لن يعود إلينا.

 

في الخامس والعشرين من شهر "بهمن"، أحضروا جثمانه شهيدًا. كانت شظية قد أصابت عنقه، كان وجهه من دون لحية ولا أسنان، بدا أكثر نحولًا. كانت تلك أول مرة أراه فيها من دون لحية. كان نائمًا بهدوء. طالما تمنّى أن يستشهد ببدلة "التعبئة" وقد تحقّقت أمنيته.

 

كان جديرًا بالشهادة، ومن حقّه أن يغادر الدنيا بأفضل شكل. دفنّاه في مقبرة "بهشت زهراء"، وأقمنا له مراسم حافلة.

في العام 1986م التحق ابني "جواد" بالجبهة. عندما كنت أربط له عُصابته على جبينه في مركز "المقداد" كان مشهد تشييع جثمانه متجلّيًا أمام ناظري. بعد خمسة أشهر، عاد شهيدًا ودفنّا جسده إلى جانب أبيه.

 

في العام 1993م وبإصرار الأولاد عليّ سافرت إلى مكّة لأداء فريضة "الحج". طوال فترة السفر كنت أبكي على "السيد علي"، حزنًا على براءته وطيبته، وكيف لم يستطع أن يذهب للحج. في إحدى الليالي في "مكة" شاهدته في منامي بلباس الإحرام الأبيض و"القلنسوة" البيضاء. قلت له وأنا أبكي.

- يا حاج، لقد اشتقت إليك. ليتك جئت إلى هنا معي!

 

قال ضاحكًا:

- لقد كنت معك من اليوم الأول، لكنك لم تريني!

 

180

 


163

وثائق الفصل الثاني عشر

مضت السنوات وأنا كبرت وهرمت وانحنى ظهري من حمل مشقات الحياة وفراق أحبتي. لم أعد أقوى حتى على المشي، ولكني كلما سنحت لي الفرصة أذهب إلى زيارة ضريح "السيد علي وجواد". في إيران، الكثيرات مثلي من الأمهات والزوجات، لكن الويل لمن يخون دينه ووطنه.

 

2-6 عنوان القبر

طهران، بهشت زهراء القطعة 53، الصف 70، رقم 4

 

181


164

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الراوي: عربعلي قابل (شهيد)

التشكيل: مساعد رامي آر بي جي، الفصيل الأوّل

الراوي: عبد الله قابل (شهيد)

التشكيل: ناقل جرحى (مساعد مسعف)، الفصيل الثالث

 

 

 

الفصل الثالث عشر*[1]

المذكرات اليومية

نورد في هذا الفصل المذكرات اليومية المدوّنة لعربعلي قابل، ومن ثم المذكرات اليومية لعبد الله قابل.

 

تعود مذكرات عربعلي إلى أشهر خلت قبل عملية "والفجر8"، حتى ما قبل تنفيذ العملية بعشرة أيام، فيما كتب عبد الله مذكراته خلال الأيام العشرة التي انتهت بتنفيذ العملية.

 

النقاط على السطر هي علامة على امتناعنا عن تكرار الموارد أو المواضيع المتفرقة. الجدير ذكره أنّ مطالعة دفتر مذكرات عبد الله قابل والبحث فيه، كان عملًا جذابًا وفريدًا من نوعه، كانت صفحات دفتر الشهيد ذات لون خافت وقد خضبت بدمائه.

 

سيتمّ عرض ورقات من هذا الدفتر في وثائق هذا الفصل.


 


[1] الفصلان 13 و 14، ترجمة الحاج علي مهدي.

 

185


165

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

1- المذكرات اليومية المدونة لعربعلي قابل

( يوم السبت 24 فروردين (13 نيسان)

.. ومحمد عليان نجادي التحقوا بالجبهة.

 

ليلًا عقد مسؤولو التعبئة جلسة في مسجد الإمام الهادي عليه السلام[1]، وقد تم اختياري مسؤولًا تنظيميًّا.

 

علوم الحياة، الدين، اللغة العربية، الأدب، الجغرافيا. علوم الحياة[2]: ساعتان في النهار، ساعة واحدة في الليل. الدين ساعة واحدة نهارًا وأخرى ليلًا. اللغة العربية نهارًا ساعتان ونصف ساعة في الليل. الأدب ساعتان نهارًا . الجغرافيا ساعة ونصف الساعة نهارًا، ونصف ساعة ليلًا.

 

يوم الاثنين 26 فروردين (15 نيسان)

ذهبت صباحًا إلى مدرسة دار الفنون. بعد ذلك ذهبت إلى المدرسة الابتدائية ولاحقًا إلى السوق. بعد الظهر ذهبت إلى ثانوية الإرشاد في يومي الدراسيّ الأول وقد كان يومًا ممتازًا جدًّا.

 

يوم الأربعاء 4 أرديبهشت (24 نيسان)

صباحًا أخذت الأولاد لمشاهدة العرض العسكري في "يوم الجندي" ثمّ أكملت طريقي إلى المدرسة. كانت المدرسة مقفلة. ذهبت إلى ساحة الإمام الحسين عليه السلام لمشاهدة العرض العسكري. ليلًا، بعد الصلاة، عقدنا جلسة للتعبئة في المسجد.

 

يوم الخميس 5 أرديبهشت (25 نيسان)

اليوم يصادف ذكرى مرور أربعين يومًا على شهادة صديقي وابن


 


[1] في محلة مجيدية في طهران.

[2] مواد السنة الثالثة الثانوية في اختصاص العلوم الاختبارية.

 

186


166

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

محلتي حميد[1]، تلك الشهادة المفجعة والمظلومة.. أربعون يومًا خلت منذ أن طار إلى معشوقه وانتقل إلى لقاء الله تعالى.

 

يوم الأربعاء 18 أرديبهشت (8 أيار)

ذهبنا إلى حقل الرماية في ثكنة الإمام الحسين عليه السلام ونلت الدرجة الأولى في مسابقة الرماية.

 

يوم الأحد 22 أرديبهشت (12أيار)

.. زرعوا عبوات أمام "شمس العمارة": سقط 15 شهيدًا، وأصيب خمسون آخرون بجراح .. لقد صمتُ اليوم استحبابًا..

 

يوم السبت 4 خرداد (25 أيار)

استيقظتُ عند الساعة التاسعة صباحًا ودرست مادة الجبر. أرسلت رسالة إلى عبد الله[2] بواسطة البريد. ذهبت ظهرًا إلى المسجد لإقامة الصلاة ولحضور جلسة التعبئة.

 

..قصفت الطائرات العراقية شارع "أنديشة".

 

يوم الاثنين 6 خرداد (27 أيار)

.. ليلًا قصفت الطائرات العراقية منطقة "جهارده مترى لشكر".

 

بقينا هناك حتى الصباح نقوم بأعمال المساعدة والإغاثة، ورجعت إلى المنزل عند الساعة 4:30 فجرًا.

 

يوم الاثنين 31 تير (22 حزيران)

.. ومحمد عليان نجادي جاؤوا في إجازة من منطقة القتال. كنا خارجًا برفقة الشباب منذ مطلع الصباح.


 


[1] حميد محمدي استشهد في عملية بدر.

[2] آنذاك كان عبد الله موجودًا في منطقة القتال.

 

187


167

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]    

.. ومحمد عليان نجادي عادوا إلى الجبهة. ذهبت إلى المسبح.

 

[*]     يوم الخميس 4 مهر (26 أيلول)

كان يومًا رائعًا.. استمعنا إلى مجلس عزاء ولطمنا صدورنا. لا أعلم الحال التي أمسيتُ عليها. فقد كنت أجهش بالبكاء كلما ذكر اسم الإمام الحسين عليه السلام. أمضيت اليوم كله أبكي حتى الليل. كانت ليلة الحادي عشر من شهر محرم، ليلة غربة أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام. كانت قراءة النعي رائعة. رحتُ أبكي بشكل دائم:

وا أسفاه على ورود حديقة المصطفى      تناثرت أوراقها في كربلاء وا أسفاه

وقعت وردة على شطّ العلقمي            انفصلت يدها عن جسدها وا أسفاه

 

كان جميلًا جدًّا. صرتُ أبكي بشكل دائم. أتمنى كثيرًا أن تحصل مجددًا تلك الحال التي غمرتني في ذلك اليوم. كنت أقرأ كتابًا. وما إن وقعت عيني على اسم الإمام الحسين عليه السلام حتى أجهشت بالبكاء. كنت أتصور في ذهني قصة سبي السيدة زينب عليها السلام وأبدأ بالبكاء.

 

[*]     يوم الخميس 25 مهر (17 تشرين الأول)

الالتحاق بمنطقة القتال والانضمام إلى كتيبة الحمزة رحمه الله في "الفرقة 27 محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". وقفت بالصف عند الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. شباب الفصيل الأوّل شباب جيّدون. صرت مساعدًا لرامي رشاش، مساعد الأخ غلام رضا نعمتي. بقيت اليوم بأكمله عند أخي عبد الله في الفصيل الثالث. ليلًا، بعد قراءة الدعاء

 

188

 


168

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

نمت في الحسينية برفقة أخي.

 

[*]     يوم الجمعة 26 مهر (18 تشرين الأول)

ذهبت صباحًا مع عبد الله إلى مركز الاتصالات، وبعد ذلك قصدت دزفول للمشاركة في صلاة الجمعة. تناولنا الطعام والبوظة قبل الصلاة. التقيت هناك بالشباب، وذهبنا بعد الصلاة إلى ثكنة دوكوهة. كان طعام الغداء كبابًا بالأرز ولبنًا وخيارا. توجّهنا بعد الغداء إلى حسينية الحاج همّت، وشاهدنا فيلمًا هناك. وقفنا في الصف عند الساعة 4:20 دقيقة، ثم ذهبت عند الساعة الخامسة إلى الفصيل الثالث لأرى عبد الله. كانوا قد قاموا بتسوية حسابهم.

 

[*]     يوم السبت 27 مهر (19 تشرين الأول)

ذهبنا بعد صلاة الصبح لتنفيذ البرامج الصباحية. اليوم سيغادر عبد الله إلى طهران. بعد الصلاة وتناول طعام الغداء رافقت عبد الله إلى المدينة. مضى هو إلى طهران فيما رجعت أنا إلى دوكوهه. عندما ودّعته نظرت إليه داخل القطار. انقبض قلبي وشعرت بالحزن. ذهبت إلى حمام الثكنة. اغتسلت ونسيت مئزري هناك. ذهبت إلى الحسينية قبل الصلاة حيث قرأت ما تيسر من القرآن حتى شعرت بالارتياح والانفراج.

 

.. طلبت من الله في صلاتي أن ينزع حبّ عائلتي من قلبي أثناء خدمتي في الجبهة. لقد اشتقت إلى عبد الله. جلست في الغرفة أنتظر طعام العشاء. لقد أحزنتني الوحدة، فأنا أحب البيت ومدينتي طهران كثيرًا. كم أرغب الآن أن أكون في طهران، ولكن ماذا أفعل، فإنّ إيماني بالله لا يسمح لي بالعودة، كما كان إيماني هو الداعي لي للمشاركة في الجبهة.

 

عندما أرى شباب الفصيل تنفرج أساريري. إنهم شباب طاهرون.

 

189

 


169

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

مؤمنون وقلوبهم صافية كصفو عين المياه. إني لأغبطهم. لقد نفذ الإيمان إلى أعماق وجودهم فلا يفكرون بغير الله. عندما أتحدث مع الشباب أبدأ بالبكاء، فالجميع يتحدثون بنفس العشق لله، بينما جلّ حديثي عن طهران، وانا أتنفس خوفًا ومن انعدام الإيمان. أطلب من الله أن يجعلني واحدًا منهم.

 

.. كان أحد الشباب يبكي، ظلّ يبكي كذلك أثناء الصلاة. رأيته أيضًا بعد الصلاة وما زال يبكي. لقد غبطته كثيرًا.

تمنيت لو أن ذرة من إيمانه تصل إليّ. لا أدري لماذا أحب أن أكتب بهذا القدر. ربما هي عقدة في قلبي آن أوان حلّها. والله العالم. (الساعة السابعة وخمس وعشرون دقيقة عصرًا.)

 

يوم الأحد 28 مهر (20 تشرين الأول)

استيقظت من نومي صباحًا قبل حلول وقت الأذان. بعد الصلاة ذهبنا لأداء البرنامج الصباحي. كان برنامجًا جيدًا، وركضنا بما فيه الكفاية. في طريق العودة قرأ مسؤول الفصيل الأخ كلستاني نعيًا على مسامعنا: قدوة كل حرٍّ، يا عزيزي يا حسين..

 

وأكملنا طريقنا إلى مبنى كتيبة حمزة.

 

ظهرًا قصدنا حسينية الفرقة لإقامة الصلاة. بعد ذلك عدنا إلى مبنى الكتيبة لتناول طعام الغداء. تحدث الشيخ الذي يؤمنا بالصلاة في حسينية الحاج همت عن الدراسة وأهميتها بالنسبة للمقاتلين، وعن أهمية الالتحاق بالجامعة، وإن لم نتابع دراستنا فإن الآخرين من أعداء الثورة سيحلّون مكان عناصر حزب الله.

 

ذهبت إلى خياط الثكنة وقصّرت سروالي الجديد وأنّقته[1] وارتديته.


 


[1] جعلته أنيقًا

 

190


170

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

وقفنا في الصف عند الساعة الرابعة والعشرين دقيقة عصرًا، وجمعنا القمامة المنتشرة حول مبنى الكتيبة. قصدتُ الحسينية لإقامة صلاة المغرب. أنشد الفتيان بين الصلاتين نشيدًا (يك دكلمه)، كان لطيفًا جدًّا. عدنا إلى مبنى الكتيبة. تناولت طعام العشاء الذي كان "لحمًا بالمرق" مع الأرز الذي قدّموه لنا على الغداء، والآن أريد أن أحل جداول الكلمات المتقاطعة وأخلد للنوم.

 

[*]     يوم الاثنين 29 مهر (21 تشرين الأول)

استيقظت قبل أذان الفجر ذهبت إلى صلاة الجماعة. وقمنا في الصف عند الساعة الخامسة والأربعين دقيقة لأداء البرنامج الصباحي. ذهبنا إلى ساحة الغرفة المخصصة للبرنامج الصباحي بعد ذلك ألقى الأخ شمخاني كلمة في تلك الساحة.

 

دار الكلام حول المبادئ الأساسية للمجتمع، وقد أكد على ضرورة استمرار الحرب حتى تحقيق النصر النهائي إما بالشهادة أو بالذهاب مشيًا إلى كربلاء. عدنا إلى مبنى الكتيبة وتناولنا طعام الفطور.

 

.. بعد الظهر غسلت ثيابي وقصدت الحسينية لإقامة الصلاة. تحدث الشيخ بعد الصلاة حول الولي الفقيه.

 

اليوم كنت حزينًا وقد اشتقت كثيرًا إلى طهران. ذهبت إلى الحسينية وقرأت القرآن. لقد انفرجت أساريري برؤية الشباب.

 

عدت إلى مبنى الكتيبة بعد الصلاة والآن أنتظر طعام العشاء. الساعة الآن 8:15 دقيقة مساءً.

 

[*]     يوم الثلاثاء 30 مهر (22 تشرين الأول)

استيقظت صباحًا مع أذان الفجر وذهبت للصلاة. بعد الصلاة ذهبنا لأداء مراسم الصباح. في ساحة المراسم الصباحية في الفرقة

 

191

 


171

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

تحدث إلينا مسؤول منظمة ثار الله الأولى حول تاريخ الثورة وأكد على استمرار الحرب. بعد ذلك ركضنا قليلًا وعدنا إلى مبنى الكتيبة. تناولنا طعام الفطور وسبحت في أفكاري قليلًا. عند الساعة 9:20 دقيقة صباحًا كان لدينا صفّ دراسي حول أصول العقائد.

 

عند الساعة 4:20 دقيقة عصرًا وقفنا في الصف وركضنا قليلًا.. ليلًا خطب فينا الشيخ قراءتي في حسينية الفرقة. كان كلامه جميلًا جدًّا، وقد نبّه إلى الكثير من المسائل كالإسراف وما شاكل..

 

قرأ مرثية عن أهل البيت عليهم السلام بشكل لطيف وجميل، وقد استأنست أيّما استئناس.

 

بعد الشيخ قراءتي قرأ أحد المداحين مجلس عزاء، والآن نحن في مبنى الكتيبة ننتظر طعام العشاء. الساعة الآن السابعة وخمس وأربعون دقيقة.

 

[*]     يوم الأربعاء 1 آبان ( 23 تشرين الأول)

استيقظت قبل أذان الفجر وذهبت إلى المصلى. تحضّرت عند الساعة 6:50 دقيقة للمراسم الصباحية. كان البرنامج الصباحي هذه المرة أفضل من الأيام السابقة، ولكننا لم نحظ بليونة جيدة.

 

.. رأيت أحد الشباب من منطقتي (حيّنا). فرحت لدرجة أوشكت أن أبدأ بالبكاء. وصل اليوم عدد كبير من العناصر من طهران.

 

رجعنا إلى مبنى الكتيبة لتناول الغداء. انطلقت كتيبة حبيب إلى الخط الدفاعي عند الساعة الواحدة.

 

[*]     يوم الخميس 2 آبان (24 تشرين الأول)

.. ذهبنا إلى الموعد الصباحي، وركضنا قليلًا، ولكن لم نحقّق الليونة المطلوبة.

 

192

 


172

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

.. عادت كتيبة الأنصار من الخط الدفاعي. التقيت بالشباب. ذهبت إلى حسينية الفرقة لإقامة الصلاة، وتناولت طعام الغداء في مبنى الكتيبة. لم نجتمع بعد الظهر ( لم نقف في الصف).

 

[*]     يوم الجمعة 3 آبان (25 تشرين الأول)

استيقظت قبل أذان الفجر وذهبت إلى الحسينية. قرأت دعاء الندبة بعد الصلاة منفردًا. لقد استأنست كثيرًا وغرقت في حال معنوية. رجعت إلى مبنى الكتيبة وتناولت طعام الفطور. بعد ذلك ذهبت واتصلت هاتفيًا بطهران وتحدثت إلى أمي وأبي وأختي الصغيرة "رضوان". يُذكر أن سماعة الهاتف كانت معطلة وكان التواصل الصوتي من خلالها رديئًا. بعد ذلك ذهبت إلى دزفول واشتريت صحيفة، أكملت طريقي إلى مكان إقامة صلاة الجمعة. عدت إلى الثكنة بعد الصلاة، تناولت طعام الغداء، وكتبت رسالة أرسلتها إلى طهران.

 

تجمعنا (في الصف) عند الساعة 4:20 دقيقة عصرًا، وتحدث مسؤول الفصيل الأخ كلستاني. لم أعد أشعر بالوحدة. أصبحت أشعر أن الله معي قبل كل شيء، وأن الشباب أخوة لي.

 

في الآونة الأخيرة عشقت الله سبحانه بشكل عجيب، وكثيرًا ما أصبحت أشعر أني عاشق. لكم أحببت أن أعرف الله وأن أدركه وأشعر به في كل ذرة من وجودي. ولكن ماذا أفعل، فأنا أشعر به بقلمي وعقلي فقط.

 

أتمنى لو استطعت أن أخبر أحدًا بهذا ولكني خشيت أن يفقد الأمر شيئًا من قيمته. لو استطعت ذلك لأخبرت – أولًا – محمد عليان نجادي، كان شابًّا جيدًا ذا أخلاق حميدة.

 

فقط كان متصلبًا قليلًا. كنت أستحسن أخلاقه. كانت أخلاق

 

193

 


173

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الأخ كلستاني جيدة أيضًا. كانت تربطه علاقات طيبة بالشباب وكان حازمًا عند اللزوم.

 

إني لفي عجب، كم أنا ضعيف في نفسي حتى تخيفني عطسة عطسها محمد. فكيف لي أن أتحمل عذاب الذنوب التي أذنبتها. أرى أنه ليس لي إلا سبيل واحد، وهو التوسل بعفو الله وشفاعة الأئمة عليهم السلام وخصوصًا سيدي أبا عبد الله الحسين عليه السلام.

 

.. أنتظر الآن طعام العشاء في المبنى.

 

[*]     يوم السبت 4 آبان (26 تشرين الأول)

كانت نوبة حراستي من الثانية حتى الثالثة فجرًا. اغتسلت غسلًا واجبًا قبل أذان الفجر. لم نذهب إلى المراسم الصباحية، وعند الساعة 8:30 انطلقنا في مسير. عندما وصلنا إلى مقصدنا أقاموا مسابقة رماية. نلت المرتبة الأولى في الفصيل الأوّل، وحصلت على جائزة: حبّة رمان وبسكوت.

 

[*]     ( يوم الأحد 5 آبان (27 تشرين الأول)

استيقظت قبل أذان الفجر وذهبت إلى الحسينية وأقمت الصلاة. تجمعنا عند الساعة 6:50 دقيقة، ثم انطلقنا لأداء البرنامج الصباحي. كان الركض جيدًا خلال هذا البرنامج، وكذلك الليونة. بعد ذلك عدنا إلى المبنى وتناولنا طعام الفطور. بعد الظهر خلدت إلى النوم، ومن ثم تجمعنا عند الساعة 4:20 دقيقة.

 

اليوم لم يكن تصرفي سيئًا مع أحد. تحسّن قليلًا سلوكي تجاه محمد عليان نجادي. سلوك شباب الفصيل تجاه بعضهم البعض جيد نسبيًّا وأنا أيضًا أسعى إلى أن لا أمازحهم. بعض الشباب يمزحون مع بعضهم البعض (وتُكسر الحواجز بينهم). أسأل الله أن يهدينا إلى

 

194

 


174

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الصراط المستقيم.

 

كان الأخ كلستاني يتحدث ويقول: "إذا رضي الله عن عبده أذاقه حلاوة مناجاته وحفظه من ارتكاب الذنوب.." كأن الله سبحانه قد رعاني ونظر إليّ بلطفه، أشعر في داخلي برغبة بالدعاء والمناجاة.

 

لا تصدر مني الذنوب إلا نادرًا. أسأل الله أن أبقى على هذه الحال دائمًا وأن أحفظها. في كل مرة أذهب في إجازة إلى المدينة أفقِد هذه الحال، ثم تنظف تلك البقعة السوداء وتزول عند أول دعاء، أو عند استماعي لمجلس عزاء أو مع قليل من البكاء. يوم الجمعة الفائت كنت في مزار "سبز قبا" في دزفول حيث وقع نظري على مشهد ما وارتكبت إثمًا.

 

ليلًا، شعرت بالضربة أثناء استماعي لمجلس العزاء، وأدركت كيف أن ذلك الذنب قد سوّد قلبي.

 

إن شاء الله، من الآن وصاعدًا سأسعى أن أسير في المدينة ورأسي إلى الأسفل حتى لا تقع عيني على أجنبية فأرتكب ذنبًا.

 

أسأل الله تعالى أن يعينني على هذا الأمر.. والسلام. الساعة الآن 7:40 دقيقة مساءً.

 

[*]     يوم الاثنين 6 آبان (28 تشرين الأول)

استيقظت صباحًا قبل صلاة الفجر، وذهبت إلى الحسينية وصليت فريضة الصبح، بعد ذلك ذهبنا إلى المراسم الصباحية.

 

بعد الفطور أحضرت صندوق ذخائر فارغًا لأضع أمتعتي بداخله. ظهرًا صليت وتناولت طعام الغداء. عند الساعة 4:40 دقيقة تجمعنا في الصف (الطابور) وركضنا قليلًا، ثم اندمجت السرية الثانية بالسريّتين الأخريين. لقد فكرت كثيرًا اليوم، فقد

 

195

 


175

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

تحدثت مرة مع محمد عليان نجادي، وقد كان مستاءً لماذا ألقي التحية عليه!. كان يتصور أن هذا الأمر سيكون له تأثير في خلوص نيّته[1].

 

كان شابًّا فهيمًا. يسعى دائمًا أن لا تكون له عداوة مع أحد، وفي أغلب الأحيان يحاسب نفسه ويحاكمها.

 

مساءً قرأ الأخ كلستاني دعاء الإمام علي عليه السلام بين الصلاتين، فأدركت أن قلبي قد تلطخ مرة أخرى بالسواد.

 

أشعر أن سبب هذه النقاط السوداء هو الغيبة، فهي أكثر الذنوب رواجًا بيننا ولا نلتفت إليها، وفي أغلب الأحيان نغتاب بدون أي التفات وهذا الذنب عظيم جدًّا، نسأل الله أن نكون في حفظ منه.

 

اليوم، كتبت رسالتين واحدة لأهلي والأخرى لهادي عامري[2].. كتبت عن فصيلنا الجيّد وكيف نرى فيه مبادئ الأخوّة والمساواة.

 

المبادئ التي لا تتحقق إلا في هذا المكان (الجبهة). اليوم كنت أفكر في الروح المعنوية العجيبة للشباب. فهم لا يفكرون بطهران إطلاقًا، وكل همهم وشغلهم الشاغل عبادة الله سبحانه وذكره وطاعته.

 

ليلًا، بعد العشاء تحدثت مع الأخ كلستاني حول الأخ مسعود أهري، ففهمت إلى حدّ ما طريقة تفكيره وتقرر أن أتحدث مع مسعود قليلًا على أن يكون أساس كلامنا مبنيًّا على ما يقوم به كل شخص من اختياره.. كل شخص يستطيع أن يزيد من احترامه أو يقلّله وأنه كيف لنا أن نزيد من قيمتنا أو ننقصها من خلال حديثنا.. والسلام. الساعة 8:45 دقيقة مساءً.


 


[1] كان محمد عليان نجادي أصغر سنًّا من علي قابل، ومن الآداب أن يلقي الصغير التحية على الكبير.

[2] مقاتل سابق في الفصيل الأوّل وصديقي وابن منطقتي (محلّتي).

 

196


176

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]     يوم الثلاثاء 7 آبان (29 تشرين الأول)

ذهبنا إلى برنامجنا الصباحي صباحًا بعد صلاة الفجر، ولكننا لم نركض.

 

تحدث بعضهم إلينا، وقالوا إننا ذاهبون إلى بحيرة سدّ دز لإجراء التدريبات البرمائية. صباحًا ذهبت إلى دز برفقة أربعة عناصر من الشباب، ونصبنا الخيام وجهزناها. مرة أخرى يغمر الحزن قلبي فأنا مشتاق لطهران فقد تذكرت الشباب في منزلي ومحلتي.

 

كنت حزينًا كثيرًا، ولكن هذا الحزن والاشتياق زال مع قدوم شباب الفصيل. حقًّا إنهم يملكون روحًا معنوية وعجيبة. الجميع فرح وضاحك.

 

إني أتعجب من محمد عليان نجادي فهو يملك روحًا قوية وعجيبة قياسًا إلى عمره وصغر سنه. أساسًا لا تجد في وجوده وكيانه أي أثر للرغبة في هذه الدنيا. أسأل الله سبحانه أن يجعلني مثلهم. الله أكبر! كم يمكن أن نرى عظمة الله في هذا المكان! أيّ شباب هم هؤلاء الشباب! إذا عدّدت أسماءهم ستجد كل واحد منهم يليق بالجنة.

 

مساءً قرأنا دعاء التوسل، ومرة أخرى أشعر بالسواد في قلبي، إذ لم تخرج أيّ دمعة من عيني. فقط أخيرًا عندما خرجت من الحسينية خرجت دمعة من عيني، وآمل أن يزول السواد عن قلبي بالقدر ذاته.

 

[*]     يوم الأربعاء 8 آبان (30 تشرين الأول)

وقفتُ صباحًا لقراءة زيارة عاشوراء ثم ذهبنا إلى البرنامج الصباحي.

 

كان البرنامج الصباحي في هذا اليوم جمادًا لا روح له. فالبرنامج كان سيّئًا، وكذلك كان الركض والليونة. بعد طعام الفطور ذهبت

 

197

 


177

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

ومسعود أهري لصيد السمك، تحدّثت معه وأدركت كم هو صغير. بعد اصطياد مقدار من السمك رجعنا إلى المقر، لم تكن الحصص الدراسية قد بدأت بعد. أنا منزعج كثيرًا إذ لا طاقة لي على الدراسة.

 

بعد الظهر نمت قليلًا، ثم تجمعنا عند الساعة الخامسة، وتحدث الأخ كلستاني يسيرًا وأوصانا بأن لا يسأل أحد عن القضايا العسكرية. بعد صلاة المغرب تحدثت مع الأخ كلستاني وقد كنا متفقين في أكثر المسائل. قال إنّه يعاني من مرض قلبي ولا يستطيع القيام بالأعمال الحربية. جاء إلى هنا ومضت الأمور حتى الآن على خير، والآن يرغب بالمغادرة. طلبنا منه البقاء وعدم تركنا. قرر الذهاب في إجازة حتى انتهاء فترة المخيم. العملية قريبة، هكذا بدا من خلال كلامه. تحدّثت معه عن الشباب، كم هم جيدون، وأنّ مرتفعة في الفصيل. إني أغبط هؤلاء الشباب كثيرًا، كم هم طاهرون وأنقياء، تحدثنا أيضًا حول مسعود أهري.

 

قررت أن أنطلق في الدرس بإذن الله ابتداءً من يوم الغد. الساعة 9:45 دقيقة.

 

يوم الخميس 9 آبان (31 تشرين الأول)

صباحًا ذهبنا بعد البرنامج الصباحي في مسير وصعدنا الجبال. عبرنا من الفجوة بين الجبلين. كم كان الأمر عجيبًا وجذابًا! حقًّا كان يمكن أن نرى الله بعين العقل كيف جعل فجوة بحجم تسمح للإنسان بالعبور من خلالها ربما تصبح عبرة للمتكبرين. أثناء العودة تناقشت مع محمد عليان نجادي حول الفصيل وعناصره. في طريق العودة قمنا بعمليات الرابّل[1]. ورجعنا عند الساعة الرابعة إلى مقرنا ثم نمنا


 


[1] الرابّل العبور بين مرتفعين باستخدام حبل مشدود وبكرة.

 

198


178

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

بعد تناول طعام الغداء. درست قليلًا بعد أن استيقظت من نومي ليلًا قرأنا دعاء كميل بجوّ من الصفاء، وتلذذنا كثيرًا بقراءته. الساعة 8:45دقيقة.

 

[*]     يوم الجمعة 10 آبان (1 تشرين الثاني)

بعد البرنامج الصباحي وتناول طعام الفطور ذهبنا للمسير في الجبال. في آخر المسير تحدث الأخ صابري وهو أحد المدرّبين العسكريّين، وقدم شروحًا عن الحرب، وقال إنّ هذه التدريبات ضرورية لنا لكي نستطيع أن ندافع عن الإسلام والقرآن في أيّ مكان وزمان. فخلدت إلى النوم بعد تناول طعام الغداء ومن ثم درست قليلًا. صباحًا قرأت دعاء الندبة وبعد الظهر قرأت أيضًا سورة المؤمنون. بين الصلاتين تحدث إمام الجماعة حول حياة الإمام علي عليه السلام.

 

[*]     يوم السبت 11 آبان (2 تشرين الثاني)

استيقظت قبل أذان الفجر وقرأت سورة من القرآن المجيد، بعد الصلاة ذهبنا لأداء البرنامج الصباحي حيث أعلنوا أن صفوف العمليات البرمائية ستبدأ من اليوم. عند الساعة 7:30 صباحًا بدأ الصف التعليمي الأول، إنه درس تعلم السباحة. خلال هذه الحصة علّمونا سباحة الكورال. طبعًا لم أتعرف إلى أي شيء لكي أنفذه بشكل عملي. عدنا إلى خيمنا بعد تنفيذ اختبار السباحة العملي، ودرست فصلًا من مادة علم المثلثات وتناولت فاكهة معلبة.

 

عند الساعة 1:45 دقيقة كان لدينا حصة دراسية عن قيادة الزوارق، وقد تعرفنا خلالها إلى أنواع الزوارق. ومن ثم ذهبنا إلى السباحة، حيث قضينا ما يقارب الساعتين في المياه.

 

بعد عودتنا ذهبنا إلى الصلاة حيث تحدث الشيخ بين الفريضتين

 

199

 


179

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

عن نقطة أخرى من حياة الإمام عليعليه السلام. الساعة الثامنة وخمس عشرة دقيقة.

 

يوم الاثنين 13 آبان (4 تشرين الثاني/أربعون الإمام الحسين عليه السلام)

صباحًا، ذهب الشباب إلى المدينة للمشاركة في مجالس العزاء، فيما بقيت من أجل الدراسة ودرست قليلًا. ظهرًا جاء الشيخ بروازيان (محمد بروازي). لديه قدرة جاذبة عجيبة! فلم أعد أشعر بالوحدة هنا على الإطلاق.

 

.. قال الأخ كبير زادة الآن: "اكتب إسمي أنا أيضًا، وكذلك فعل محمد عليان نجادي". عصرًا ذهبت برفقة الأخوة عليان نجادي وأحمدي زادة وبور كريم وأكبر مدني إلى السباحة، وقد استمتعنا كثيرًا. كذلك عاد الشباب عصرًا من إجازتهم في المدينة. قررت أن أحاسب نفسي ظهرًا وليلًا من كل يوم، حتى أصفي أعمالي إن كان ثمة خطأ فيها، قبل أن تتثبت في كتاب أعمالي السماوي.

 

يوم الثلاثاء 14 آبان (5 تشرين الثاني)

استيقظت قبل أذان الفجر وذهبت لأصلي صلاة الصبح. توجّهنا إلى صف السباحة بعد البرنامج الصباحي، ومن ثم ذهبنا بعد التدريب إلى داخل المياه، وسبحنا بموازاة سد البحيرة ذهابًا وإيابًا.

 

عندما وصلنا إلى المخيم كنا متعبين منهكين. بعد الظهر كان لدينا حصة تجديف وكنت أنا في نوبة الحراسة. درست. ليلًا قرأنا دعاء التوسل وشعرت بأنس ولذة عارمة أو كما يقال فرحت كثيرًا[1].

 

يوم الأربعاء 15 آبان (6 تشرين الثاني)

صباحًا ذهبت إلى الحمام لكي أغتسل، ومن ثم ذهبت إلى صلاة الصبح.


 


[1] (حال كردم)

 

200


180

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الحصة الأولى كانت عن التجديف. جدّفنا بشكل جيد، ولكن في طريق العودة وقعت حادثة فدخل مقدار كبير من المياه إلى أحد الزوارق ما سبّب وقوع شابّين في مياه بحيرة دز. لاحقًا ذهبت إلى الصف لحضور حصة عقائدية.

 

يوم الخميس 16 آبان (7 تشرين الثاني)

ليلة البارحة رأيت منامًا عجيبًا، وقد دوّنته في صفحة يوم 31 خرداد[1].. صباحًا ذهبت إلى صلاة الجماعة وبعد البرنامج المعتاد، في حصة تدريب السباحة تعلّمنا طريقة الضفدع. ظهرًا جاء عناصر الفصيل الثالث إلينا وتناولنا طعام الغداء معًا. بعد الظهر كان لدينا حصة عن التجديف، وقد كانت جيدة جدًّا. بعد انتهائها جمعنا النفايات المتناثرة في محيط ساحتنا. ليلًا لم أذهب إلى دعاء كميل ونمت في الخيمة.

 

يوم الجمعة 17 آبان (8 تشرين الثاني)

أعلنوا اليوم أن صفوف الدرس معطّلة. عندما تجمّعنا في الطابور تحدّث قائد الكتيبة الأخ أميني قليلًا. وبعد الظهر تجمّعنا مرة أخرى في طابورنا لتصوير شريط مسجّل. لم أشارك بسبب ألم أصابني في أسناني وبقيت أستريح داخل الخيمة. ظلّ الألم يلازمني طوال اليوم وكنت منزعجًا، تقرّر أن أزور غدًا طبيب الأسنان حتى ينزع ضرسي.

 

يوم السبت 18 آبان (9 تشرين الثاني)

ذهبت صباحًا إلى قسم الرعاية الصحية، وحصلت على وصفة لأحملها معي إلى المدينة. ركبت باص شباب بوشهر المتّجه إلى إنديمشك. أعطاني الطبيب دواءً وقال: "تعال في الغد" حتى أنزع


 


[1] هذه الوثيقة ليست موجودة.

 

201


181

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

ضرسك. ذهبت إلى ثكنة دوكوهه ونمت هناك ليلًا.

 

يوم الأحد 19 آبان (10 تشرين الثاني)

.. ذهبت صباحًا إلى المدينة لنزع ضرسي. وتمّ ذلك عند الساعة التاسعة ومن ثم رجعت إلى الثكنة. عندما وصلت إلى مخيم سفينة النجاة كانت رسالة هادي عامري قد وصلت. حتى الآن لم تصلني أي رسالة من أهلي. كان الدم ينزف من مكان ضرسي المنزوع بشكل دائم. ليلًا جاءنا إمام جمعة .. (غير مفهوم) وتحدّث إلينا. لم يكن يفقه شيئًا وكان يتحدث ويصرخ عبثًا. كان يتكلم ولم يكن كلامه واضحًا، لا أوله ولا آخره.

 

يوم الاثنين 20 آبان (11 تشرين الثاني)

.. كانت البرامج كالمعتاد: البداية البرنامج الصباحي، ومن ثم حصة عن التجديف. حضر المدرّبان العسكريان الأخ صابري وروغنكرها معنا. أساسًا لم يكونا يجدّفان وأمضيا الحصة بالمزاح (والتعليقات الساخرة).

 

بعد حصة التجديف درست مادة الجبر مع الأخ شجاعيان[1] حتى قرابة الظهر. بعد ذلك انطلقنا إلى صف السباحة. ثم بقينا من دون عمل حتى حلول الليل.

 

تجمعنا في الطابور عند 7:10 دقائق مساءً بعد صلاة المغرب، ثمّ ذهبنا إلى حصة تجديف. جدّفنا لمدة أربع ساعات.

 

تعبنا كثيرًا. جدّفنا وجدّفنا ولم نصل إلى هدفنا. أخيرًا بعد كثير من الجهد والإصرار وصلنا إلى رصيف الميناء. لم يكن أحدٌ يجدّف. الشباب قليلًا جدًّا


 


[1] شابور (مهدي) شجاعيان، قبل عملية "والفجر ثمانية" ترك الفصيل الأوّل لينضم إلى أركان السرية، واستشهد في ليلة يوم 24/11/64 (13/2/1986) التي عرفت بليلة كتيبة حمزة.

 

202


182

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

ما كانوا يجدّفون، وتجديفهم من دون نتيجة. وصلنا إلى المخيم عند الساعة 12 من منتصف الليل.

 

أصبحت جاهزًا للنوم بعد أن ذهبت إلى المرحاض.

 

[*]     يوم الثلاثاء 21 آبان (12 تشرين الثاني)

صباحًا استيقظت في وقت الصلاة رغمًا عني. كنت تعبًا جدًّا. صليت صلاة الفجر في الخيمة، ووقفنا في الطابور الصباحي بحذاءٍ وثيابٍ مبلولة.

 

ذهبنا إلى البرنامج الصباحي، وبعده إلى صف السباحة، وبدأنا الحصة بهذه الثياب المبلولة. في البداية قمنا بحركات الليونة والإحماء، بجسد عار بالطبع. كان المطر يتساقط خفيفًا كالرذاذ، وعندما وصلنا إلى حافة المياه ازداد تساقط الأمطار. عندئذٍ قال مدرب السباحة يمكنكم الانصراف. عندما رجعنا من حافة المياه اشتدّ هطول المطر وأصبحت قطراته تنفذ كالإبر في الأبدان. راح الجميع يركضون بأجساد عارية نحو المخيم. كان المطر يهطل كالسيل. عندما وصلنا إلى الخيمة كانت الفوضى تعمّها. ليلًا ، وقفنا مرة أخرى في الطابور بعد صلاة المغرب وذهبنا إلى صف السباحة. سبحنا لساعتين أو ثلاث ورجعنا إلى هذه الجهة من الماء. أشعل الشباب الدواليب كي ننعم بالدفء قليلًا، ثم رجعنا إلى الخيم بأقدام حافية، والآن أنا جاهز للنوم. الساعة 10:45 دقيقة.

 

[*]     يوم الأربعاء 22 آبان (13 تشرين الثاني)

استيقظت صباحًا مع حلول أذان الفجر، ولكنّي تباطأت في الذهاب إلى الحسينية بسبب الأمطار. توقف هطول المطر سريعًا، فندمت لأنني لم أشارك في صلاة الجماعة في الحسينية. ذهبنا إلى البرنامج

 

 

203


183

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الصباحي، وبعد ذلك رجعنا إلى الخيم.

 

عند الساعة التاسعة وعشر دقائق التحقنا بصفّ "السيطرة على منطقة حيوية"[1]، وقمنا بتمويه أنفسنا أثناء الهجوم.

 

أصبحت وجوه الجميع مثيرة للضحك. امتلأنا وحلًا من رؤوسنا إلى أخمص قدمينا. التقطنا صورًا بعد انتهاء الصف.

 

ذهبت إلى الحسينية لإقامة الصلاة ولم أجد فيها متّسعًا فرجعت إلى خيمة الفصيل. أقمت الصلاة بإمامة أصغر أهري.

 

نمت قليلًا بعد الظهر فلم يكن ثمة عمل. ليلًا ذهبت إلى صلاة الجماعة ورجعت. والآن أنا جاهز للنوم. الساعة 9:15 دقيقة مساءً.

 

يوم الخميس 23 آبان (14 تشرين الثاني)

استيقظت قبل صلاة الفجر وذهبت إلى الحسينية برفقة السيد حسن رضي. أقمنا الصلاة وقرأنا زيارة عاشوراء وما تيسر من القرآن.

 

بعد ذلك ذهبنا إلى البرنامج الصباحي وركضنا. حلقت شعر رأسي وبقيت عاطلًا من العمل حتى الليل. صباحًا قرأت فصلين من مادة المثلثات. ظهرًا حللنا ضيوفًا عند الفصيل الثاني على الغداء. ثم ذهبنا بعد الظهر إلى الماء، جُلنا قليلًا في المحيط أيضًا، ثم ذهبت إلى الحسينية قبل صلاة المغرب، وأنهيت قراءة سورة القصص وشرعت بقراءة سورة العنكبوت، وقرأت الآيات العشرين الأولى من سورة العنكبوت.

 

ليلًا قرأنا دعاء كميل ثمّ رجعت إلى الخيمة. الآن أنا جاهز للنوم. الساعة 8:30 مساءً.


 


[1]  (سربل گيري: أي احتلال منطقة رأس الجسر، وهو اصطلاح عسكري كناية عن السيطرة على هدف أو منطقة).

 

204


184

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

 يوم الجمعة 24 آبان (15 تشرين الثاني)

اليوم سنجري مناورة ليلية. لم أشأ أن أوصي، ولكن بما أنه يمكن أن ينقضي أجلي الليلة سأتكلم ببضع كلمات:

أطلب المسامحة من أبي وأمي وأختي وأخي وأسألهم أن يدعوا لي.

 

أرجو من جميع أصدقائي ومعارفي أن يسامحوني.

 

لا أملك شيئًا من أموال هذه الدنيا، وأترك لأخي عبد الله حرية التصرف بكتبي وبما أملك.

 

ليصلوا عنّي صلاة قضاء ما مقداره خمسة عشر يومًا.

 

أسألكم الدعاء للإمام الخميني.

 

إن شاء الله بعد أن تفتح طريق كربلاء أسألكم أن تنوبوا عني بزيارة الإمام الحسين عليه السلام وأن تسألوا الله أن يجعلني في زمرة أصحابه.

 

أطلب من أصدقائي أن لا يتركوا الجبهة، وأولئك الذين لا يستطيعون المشاركة فيها ليكونوا في طهران في متاريس المدرسة والمسجد. أسأل الله أن يحشرنا مع الشهداء. والسلام. ( الساعة 6:10 دقائق عصرًا.)

 

يوم السبت 25 آبان (16 تشرين الثاني)

ليلة البارحة قمنا بمناورة جيدة. المشكلة الأساسية في الكتيبة سبّبها ربابنة الزوارق الذين ارتكبوا خطأ. بقينا عاطلين من العمل حتى الليل.

 

يوم الأحد 26 آبان (17 تشرين الثاني)

فجرًا توجّهت إلى المصلى، صلّيت وقرأت ما تيسّر من الدعاء. ذهبنا إلى البرنامج الصباحي وركضنا. أخبرونا على مائدة الفطور

 

205


185

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

بأن نجمع أمتعتنا ووسائلنا ونتجهّز للانطلاق. بعد تجميع أغراض ووسائل خيمتنا عدنا إلى الماء للسباحة. سبحنا في البحيرة بدون ارتداء سترة النجاة. بقينا إلى الظهر مشغولين بالسباحة. ظهرًا ذهبت إلى الحسينية وقرأت القرآن. أريد أن أختم القرآن. لقد قرأت إلى الآن حوالي ثمانٍ من كبار السور. بدأت من سورة المؤمن (غافر) وبقيت سورة الفرقان فقط. بعد الصلاة عدت إلى الخيمة، وبعد تناول الغداء ركبنا شاحنة وانطلقنا نحو ثكنة دوكوهة. كان الجميع فرحًا كأننا ذاهبون إلى البيت. كادت الشاحنة أن تنحرف عن مسارها في طريق المخيم الرملي، ولكن مضى الأمر على خير. نمت ليلًا بعد العشاء. الساعة 8:30 مساءً.

 

[*]     يوم الاثنين 27 آبان (18 تشرين الثاني)

استيقظت قبل أذان الفجر، وقرأت شيئًا من القرآن وصليت صلاة الليل. وفي البرنامج الصباحي بعد صلاة الجماعة، تحدث إلينا الأخ مير كياني (معاون قائد الكتيبة) حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظم والانضباط في محيط الكتيبة. كذلك قدّم لنا العم حسن (حسن أميري فر) مسؤولًا جديدًا للسرية الأولى.

 

بعد تناول طعام الفطور تجمعنا مرة أخرى في الطابور عند الساعة العاشرة والنصف، وذهبنا إلى خارج الثكنة. تحدّث إلينا العم حسن عن نفسه وأخلاقه وأسلوبه. عدنا إلى الثكنة. حدّثت محمد عليان نجادي عن طباعي، ثم ذهبنا إلى "حسينية الحاج همت" لإقامة الصلاة.

 

بدأ الشباب يتناقلون كلامًا عن إجازة إلى طهران، وأسأل الله أن نحصل على إجازة. ليلًا ذهبت إلى الحسينية قبل صلاة المغرب وبدأت بقراءة سورة الأحزاب. ها أنا قد عدت وأصبحت جاهزًا للنوم. الساعة 9 مساءً.

 

 

206


186

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]     يوم الثلاثاء 28 آبان (19 تشرين الثاني)

ذهبت إلى الحسينية قبل أذان الفجر وقرأت ما تيسر من القرآن وصليت صلاة الليل. وفي الموعد الصباحي بعد صلاة الجماعة، كان العم حسن يتقدّم السرية بنفسه. قطعنا محيط ساحة البرنامج الصباحي (ساحة الثكنة) حوالي خمس مرات ركضًا. قام بإعطائنا حركات الإحماء العم حسن نفسه. كان ممتعًا كثيرًا، وبعد ذلك عدنا إلى مبنى الكتيبة.

 

عند الساعة العاشرة والنصف تحدث الأخ مير كياني حول مسألة حفظ الأسرار العسكرية، وقال أنه يريد الانتقال لتشكيل كتيبة جديدة. استأنفت قراءة سورة الأحزاب في الحسينية بعد تلك الخطبة.

 

بعد الظهر ذهب الأخوان كلستاني وشيرازي في إجازة. ليلًا قرأنا دعاء التوسل. خلدت إلى النوم بعد تناول طعام العشاء.

 

[*]     يوم الأربعاء 29 آبان (20 تشرين الثاني)

عند الفجر قصدت الحمام لأغتسل غسلًا واجبًا. بعد صلاة الجماعة بدأت بقراءة سورة سبأ. ركضنا كثيرًا خلال البرنامج الصباحي، وبعد ذلك قمنا بحركات الليونة والإحماء. بعد الظهر لم يكن لدينا أي عمل. كان من المحتمل أن نحصل على إجازة. أُحضِرت خيم الكتيبة من مخيم سفينة النجاة. من المقرر أن نجتمع بالطابور عند الساعة 10 مساءً. فلدينا حصة دراسية عن معرفة النجوم. تجهزت للنوم عند أوّل الليل.

 

[*]     يوم الخميس 30 آبان (21 تشرين الثاني)

استيقظت قبل أذان الفجر، ولكن عدم توافر الماء في بيت الخلاء ألزمني بانتظار دوري حتى حلول الأذان، وفي بدايته ذهبت إلى

 

207

 


187

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الحسينية. لم نركض في البرنامج الصباحي. صعدنا إلى سطح مبنى الكتيبة وقالوا إنّنا حصلنا على إجازة لمدة عشرة أيام. انتظرنا ورقة المأذونية حتى الليل. أخيرًا تحركنا عند الساعة 8 مساءً وركبنا القطار في انديمشك عند الساعة 9:30. كنت مع أهري وأحمدي زادة في المقصورة ذاتها. ليلًا تجهزت سريعًا للنوم.

 

[*]     يوم الجمعة 1 آذر (22 تشرين الثاني)

توقف القطار في محطة أراك لإقامة صلاة الفجر. لم أنم بعد الصلاة ورحت أجول بين المقصورات لأرى الشباب. كان لدينا خبز وزبدة ومربّى ومعلبات طعامًا للفطور، تناولناها مع الشباب. تناقشت مع أصغر أهري حول قضايا الحرب المعاصرة. كان يملك وعيًا واطلاعًا جيدًا حول الأمور الراهنة. وصلنا عند الساعة 7:30 صباحًا إلى محطة قم. ترجّل محمد عليان نجادي وآخرون. وصلنا عند الساعة 11 إلى طهران، وذهبنا مباشرة مع أكبر مدني وبور كريم وأهري وأحمدي زادة لإقامة صلاة يوم الجمعة.

 

.. كان مفتاح البوابة الرئيسية لمنزلنا بحوزتي، فشكّل دخولي المفاجئ صدمة للجميع. بعد تناول الغداء جلست لمشاهدة التلفاز.

 

[*]     يوم الثلاثاء 5 آذر (26 تشرين الثاني)

رأيت ليلًا في المنام أنني استشهدت، وأن رصاصة قد أصابتني في رأسي، تحديدًا في أذني اليمنى وخرجت من الأذن اليسرى. شعرت أنني فجأة في حرم الإمام الحسين عليه السلام، ولكن مهما أمعنت النظر على أطرافي لم أرَ الضريح المقدس ذا الزوايا الست. كان الشهيد رجائي والشهيد باهنر نائمين هناك، وكان صدراهما مليئين بالدم. نهضت فجأة من نومي.

 

208

 


188

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]     يوم الأحد 10 آذر (1 كانون الأوّل)

ذهبت إلى السوق واشتريت مئة ملعقة بعدد عناصر السرية. في طريق العودة إلى بيتنا، مررتُ بمعرض التعبئة في مسجد المحلّة، ثم ذهبت إلى أخي عبد الله لنرجع بعد ذلك معًا إلى المنزل. توجّهت أختي وقريباي حسن ومحسن إلى كركان عند الساعة 1:30. أنا أيضًا انطلقت عند الساعة 1:55 دقيقة. أثناء الوداع، كانت والدتي حزينة جدًّا فقد ذهبت أختي وها أنا أيضًا أذهب. كان فراقنا صعبًا عليها. ركبت القطار عند الساعة الخامسة والنصف.

 

كان كل من أحمدي زادة وفياض وبي بي جاني وكلستاني وشيرازي وأنا، جميعنا في مقصورة واحدة. هناك تعرفت أكثر إلى محسن كودرزي. نمت ليلًا في مكان الأمتعة.

 

[*]     يوم الاثنين 11 آذر (2 كانون الأوّل)

وصلنا عند الساعة 7:30 صباحًا إلى ثكنة دوكوهه وذهبنا إلى مبنى الكتيبة.

 

[*]     يوم الثلاثاء 12 آذر (3 كانون الأوّل)

استيقظت قبيل الفجر. صليت صلاة الليل في الحسينية وقرأت شيئًا من الدعاء، وبعد صلاة الجماعة كنت جاهزًا للموعد الصباحي. ركضنا قليلًا، وأعطى حصة الليونة والإحماء العم حسن بنفسه. عدنا إلى مبنى الكتيبة لتناول طعام الفطور. مضت الاستراحة من دون أي عمل حتى فترة بعد الظهر.

 

تجمعنا في الطابور عند الساعة 4 عصرًا، وقاموا بعملية إحصاء لنا. بعد انتهاء عملية الإحصاء ذهبت إلى الحسينية وقرأت القرآن حتى حلول الأذان، في تلك الليلة قرأت جزءًا من دعاء التوسل، ولكن

 

209

 


189

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

لما وجدت أني لست متفاعلًا مع الدعاء توقفت عن القراءة ونهضت.

 

كانت علاقتي اليوم مع أهري وأحمدي زادة جيدة جدًّا، وقررنا أن نتناول طعام الغداء معًا. ليلًا عند الساعة 8 كنت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الأربعاء 13 آذر (4 كانون الأوّل)

استيقظت مع أذان الفجر. ذهبنا إلى الموعد الصباحي بعد صلاة الجماعة وركضنا قليلًا. أعطى حسن قابل أعلا حصة الإحماء والليونة.

 

عدنا إلى مبنى الكتيبة لتناول طعام الفطور. كان أصغر أهري قد ذهب إلى منزل عمه في انديمشك يرافقه أحمدي زاده. عندما رجع قال إنّه قد تناول طعام الغداء. تحدثنا معًا. قدموا لنا الهمبرغر طعامًا على العشاء. أكلنا قليلًا من الطعام وقررنا أن نغيّر في سلوكياتنا.

 

[*]     يوم الخميس 14 آذر (5 كانون الأوّل)

استيقظت قبل صلاة الفجر.. ذهبت اليوم إلى المدينة واتصلت هاتفيًّا بالمنزل.. ليلًا تحدث الشيخ نجفي في حسينية الحاج همت بعد الصلاة. كان كلامه لطيفًا جدًّا وأمتع أسماعنا. دار موضوع حديثه حول قلّة تناول الطعام، وماذا نأكل وأي شيء نسكبه في داخل بطوننا. أصبحت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الجمعة 15 آذر (6 كانون الأوّل)

استيقظت مع أذان الفجر. تحدث الشيخ نجفي بعد صلاة الجماعة في الحسينيّة: "العلم على ثلاثة أنواع: علم العقائد، علم الأخلاق وعلم الأحكام". بعد ذلك حدّثَنا عن أنفسنا وحذّر من خطورة ارتكاب المعاصي. بكيت كثيرًا.

بعد تناول الفطور، ذهبت مع أحمدي زاده في إجازة إلى داخل المدينة وعدنا. درست مقدارًا من دروسي بعد صلاة المغرب وتهيّأت للنوم.

 

210

 


190

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]      يوم السبت 16 آذر (7 كانون الأوّل)

استيقظت قبل أذان الفجر. صليت صلاة الليل وقرأت قسمًا من الدعاء. لم أذهب إلى الموعد الصباحي ودرست. بعد الفطور ذهبت كي أقدم الامتحان، وإن شاء الله سأحصل على علامة ناجح. بقيت من دون عمل حتى بعد الظهر. عصرًا ذهبت إلى الحمام (مع أصغر أهري). ليلًا تحدث الشيخ جلالي في الحسينيّة، كان كلامه مبعثرًا ولم يكن مهمًّا. بعد تناول طعام العشاء تحدثت مع أصغر أهري واستعددت للنوم.

 

[*]     يوم الأحد 17 آذر (8 كانون الأوّل)

.. كنت مكلّفًا اليوم بأعمال تنظيف الخيمة ولم أذهب إلى الموعد الصباحي. قال قائد الكتيبة الأخ أميني إنّه ابتداءً من19/9 على قوات التعبئة تمديد خدمتهم ثلاثة أشهر إضافيّة. بدوري قمت أيضًا بتمديد فترة خدمتي. ذهبت بعد الظهر أنا وأهري وأحمدي زاده إلى الحمام. ليلًا عند الساعة 9 كنت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الاثنين 18 آذر (9 كانون الأوّل)

.. اليوم كان مقرّرًا القيام بتنظيف الحسينيّة بدلًا من إجراء البرنامج الصباحي. بعد تناول الفطور ذهبت في إجازة إلى المدينة واتصلت بالمنزل. قالت أمي: "أقدِم إلى المنزل لحضور جلسة محاكمة حسين". تحدثت إلى الأخ الحاج أمين وتقرّر أن أغادر. انطلقت عند الساعة3 نحو طهران بالقطار.

 

[*]     يوم الجمعة 22 آذر (13 كانون الأوّل)

ذهبت صباحًا بعد الصلاة لشراء الخبز. يذكر أني رأيت في المنام ليلة البارحة أنّي أصبت بجراح. هذه المرة أصابت رصاصة ظهري.

 

211

 


191

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

 كنت برفقة قابل أعلا.

 

بعد الفطور ذهبت إلى محطة سكّة الحديد في طهران لشراء تذكرة، اشتريت واحدة لقطار الساعة 4:30. كان قطارًا سريع السير مخصّصًا للنوم. كنت حزينًا جدًّا. أردت أن أبكي. تجاذبني في داخلي حديثان، الأول يقول: طهران، أمي، أصدقائي في البيت والمحلّة، وآخر يقول: الجبهة، الدعاء والمعنويات والشهادة. في الخلاصة كانت معركة انتصر فيها الحديث الثاني. فكرت قليلًا في نفسي: لقد كنت شخصًا آذى الكثيرين بلعبه وشقاوته، كنت شخصًا غارقًا في الفساد والخطايا والذنوب ورأيت كيف تبدّلت أحوالي مع انتصار الثورة، وصرت على ما أنا عليه الآن فوضعت قدمي في الجبهة وأصبحت أتمنّى زيارة كربلاء والشهادة. أناجي الله تعالى وأبثّه أسراري، هو الله الذي يبدل إنسانًا ما في لحظة واحدة.

 

[*]     يوم الجمعة 29 آذر (20 كانون الأوّل)

ذهب شباب الكتيبة إلى مخيم كرخة يوم الأحد، ولكن بقيت أنا وأحمدي زاده للقيام بدهن الجدار الأمامي حيث البوابة الرئيسية لمبنى كتيبة سلمان. تساقط المطر ثلاثة أيام متتالية ولم نستطع القيام بأي عمل. لونّا قليلًا في يوم الأربعاء، وكذلك فعلنا يوم الخميس. كانت خطبة الشيخ نجفي في ظهر يوم الخميس عن الأخلاق ومقام الشهيد عندما دخل عدد من عوائل الشهداء إلى الحسينيّة وهم يرددون المرثيات. بكى الشباب في حضورهم. لقد كان أمرًا رائعًا. بعد انتهاء قراءة المرثيات استأنف الشيخ خطبته. تحدّث صباح اليوم أيضًا، كان حديثه عن الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف. ذهبنا ظهرًا إلى صلاة الجمعة وجُلنا قليلًا في المدينة. رجعنا إلى ثكنة دوكوهه بعد صلاة الجمعة.

 

212

 


192

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

يوم السبت 30 آذر (21 كانون الأوّل)

توجّهت في أول الصباح إلى الحمام، وبعد ذلك إلى الحسينيّة. بعد الصلاة وتناول طعام الفطور، ذهبنا لإنجاز أعمال الطلاء، وقمنا بطلاء الواجهة الأماميّة لمبنى كتيبة سلمان حتى فترة بعد الظهر. ليلًا، بعد تناول طعام العشاء أصبحت جاهزًا للنوم. والسلام. الساعة 8:30.

 

يوم الثلاثاء 3 دي

منذ الصباح كنّا ننتظر الآليات لتنقلنا إلى مخيم كرخة. ولكنّها لم تتوافر لهذا الغرض.. ذهبنا بعد صلاتي المغرب والعشاء مع الأخ أسد الله بازوكي[1] إلى مخيم كرخة. قبّلت أغلب شباب الفصيل وأصبحت جاهزًا للنوم. الساعة التاسعة وخمس وثلاثون دقيقة.

 

يوم الأربعاء 4 دي (25 كانون الأوّل)

استيقظت عند الساعة 5 فجرًا وصلّيت في الخيمة. ذهبت إلى البرنامج الصباحي حيث تحدث إلينا الأخ أميني وبعد ذلك ركضنا ركضًا جيدًا. عند الساعة 9 كان لدينا حصة دراسية عن سلاح الآر بي جي، وأعطانا أستاذ التدريب العسكري الأخ سربي درسًا في هذا السياق. أقاموا صلاة الظهر في باحة البرنامج الصباحي. بعد الظهر تجمعنا في الطابور بكامل عتادنا وتجهيزاتنا، وذهبنا في مسير، ثمّ عدنا. عند الغروب لم يكن لديّ أي عمل. يشار إلى أنّ عناصر الفصيل الثالث من السرية الثالثة حلّوا علينا ضيوفًا على طعام الغداء ظهرًا. ليلًا أيضًا استضفنا الأخ نائب قائد الكتيبة السيد مجتهدي والأخ روغنكرها قائد السرية. قال السيد حسن رضي: اكتب اسمي أنا أيضًا[2]..


 


[1] القائد السابق لكتيبة حمزة.

[2] (المقصود: اجعل لي نصيبًا في الدعوة على العشاء)

 

213


193

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

يوم الخميس 5 دي (26 كانون الأوّل)

استيقظت قبل الفجر. صليت صلاة الليل وقرأت ما تيسّر من القرآن. بعد ذلك توجّهت نحو الحسينيّة لصلاة الصبح ومن ثم ذهبنا إلى ساحة المراسم المعتادة وركضنا. لم يكن ثمة عمل حتى المساء. ظهرًا حلّ شباب الفصيل الثاني من السرية الثانية ضيوفًا علينا على مائدة الغداء. ليلًا ذهبنا لأداء برنامج "التدريب القتالي"[1]. نشير إلى أنّ اليوم كان لدينا حصة دراسيّة عن سلاح رشاش الـ BKC. كنت جاهزًا للنوم بعد انتهاء برنامج الحرب الليلية عند الساعة 9 مساءً.

 

يوم الجمعة 6 دي (27 كانون الأوّل)

سقط لنا البارحة شهيد خلال تنفيذ برنامج التدريب القتالي وأصيب أيضًا الأخ روغنكرها بجراح. حتى الساعة 8 لم أكن قد نمت أساسًا. نمت من الساعة 8 وحتى الساعة 12. لقد فقدنا هذا الشهيد نتيجة لعدم دقة وعدم احتياط أحدهم. كان الشباب منزعجين. تحدث السيد مجتهدي وقال إنّ المقصّر في هذه الحادثة هم العناصر وليس المسؤولين. أيضًا نمت بعد الغداء. لم يكن لدينا عمل حتى المساء. أصبحت جاهزًا للنوم عند الساعة 8:30. أشير إلى أنهم قدموا لنا اليوم معلبات وفواكه معلّبة وكميّة كبيرة من الحلوى.

 

يوم السبت 7 دي (28 كانون الأوّل)

.. لم أذهب إلى البرنامج الصباحي. كنت أشعر بصداع في رأسي. بقيت مستريحًا حتى المساء. يذكر أنّه كان لدينا حصة دراسيّة عن سلاح الدوشكا. لم أقم بأي عمل حتى حلول الليل. قرأت القرآن وصولًا إلى سورة الصف. مساءً استعددت للنوم عند الساعة 9:30.


 


[1] أو التدريب الليلي.

 

214


194

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]     يوم الأحد 8 دي (29 كانون الأوّل)

استيقظت قبل صلاة الفجر. كان لدي نوبة حراسة ليلة البارحة. فجرًا، كنت أشعر بنعاس شديد أثناء الصلاة. عوضًا عن البرنامج الصباحي المحذوف، ذهبنا في مسير ورجعنا ظهرًا. قدموا لنا البسكوت والفواكه المعلبة بدلًا من طعام الفطور.

 

جاء اليوم أخي عبد الله و.. . كان مقرّرًا أن يلتحق هؤلاء الشباب بفرقة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ليلًا في حسينية الكتيبة، أقمنا مراسم تأبين للشهيد موميان الذي فارقنا أثناء المناورة حيث تحدث أحد المشايخ وقرأ الأخ كلستاني مرثية، لقد كانت المراسم جيدة جدًّا. عند الساعة 10كنت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الاثنين 9 دي (30 كانون الأوّل)

استيقظت قبل أذان الفجر. ليلة البارحة كان لدينا برنامج عن القتال الليلي. ذهبنا خارجًا كل فصيل على حدة وتدرّبنا على معرفة النجوم.

 

بعد الانتهاء من العمل على معرفة النجوم تحدّث الأخ كلستاني عن التربية الشخصية والعائلية وبعد ذلك رجعنا إلى خيمنا. ذهبت إلى ثكنة دوكوهه. بعد ذلك تناولت الساندويش في المدينة أنا وعبدالله وآخرون، ثم رجعت إلى مخيم كرخه. كان مقرّرًا أن يلتحق عبدالله بالفصيل الثالث ليعمل مسعفًا ينقل الجرحى.

 

[*]     يوم الثلاثاء 10 دي (31 كانون الأوّل)

.. في البرنامج الصباحي وأثناء الركض على شاطئ كرخه ملأنا حقائب ظهورنا بالحجارة. تمزقت حقيبة ظهري. رجعنا إلى الخيمة حيث طلبوا منّا أن لا يتناول أحد طعام الفطور. جاء عبد الله بعد الظهر وبقي ضيفًا عندنا في الفصيل الأوّل على طعام العشاء.

 

 

215

 


195

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

يوم الأربعاء 11 دي (1 كانون الثاني)

.. ذهبت إلى العم حسن بعد الفراغ من البرنامج الصباحي وطلبت منه أن يسمح لعبد الله و.. أن يأتوا إلى سريّتنا فوافق على الأمر والتحقوا بالفصيل الثالث مسعفين في نقل الجرحى. صباحًا ذهبت إلى صف رياضيات الجبر ودرست. أنا التلميذ الوحيد في هذا الصف، وإن شاء الله سوف أحصل على علامة النجاح. لم يكن ثمة عمل حتى المساء. أيقظونا عند الساعة 11 وطلبوا منّا أن نحضّر أنفسنا لبرنامج القتال الليليّ. أخبرنا العم حسن أننا سنذهب والسرية الثالثة للقيام ببرنامج قتال ليليّ طويل! انطلقنا عند الساعة 12 في منتصف الليل، ومشينا من دون توقف حتى الساعة 6:20 دقيقة صباحًا. صلينا صلاة الفجر في مركز التخريب التابع للواء سيد الشهداء عليه السلام، وتناولنا طعام الفطور في محطة جسر كرخه المجانية الصلواتية[1]. رجعنا إلى محل المخيم بعد استراحة قصيرة.

 

يوم الخميس 12 دي (2 كانون الثاني)

في طريق العودة عبرنا بجانب نهر كرخه ووصلنا ظهرًا إلى محل خيمنا في المخيم. ذهبت بعد الظهر مع أصغر أهري إلى حمام المخيم، وعند الساعة 5:15 دقيقة كنت في حسينية الكتيبة لأداء صلاة المغرب.

 

يوم السبت 14 دي (4 كانون الثاني)

.. بعد الركض الصباحي انطلقنا في مسير ورجعنا عند الساعة 9:40 دقيقة. بعد ذلك ذهبنا إلى صف "رشاش الـBKC"، أيضًا علمونا اليوم بعض الفنون والتكتيكات القتالية. ظهرًا تجمّعنا في طابورنا مرة أخرى بعد الصلاة، وذهبنا إلى شاطئ نهر كرخه للتدرّب على


 


[1] مصطلح يعني مجانًا، على أن يُصلّي على محمد وآل محمد.

 

216


196

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الرماية، وأطلقت اثنتين وأربعين رصاصة. عدنا إلى الخيمة وذهبت إلى صلاة الجماعة، وبعد ذلك أصبحت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الأحد 15 دي (5 كانون الثاني)

.. كان الركض الصباحي على مستوى الكتيبة، وقد ركضنا بمقدار ما. عاقبونا بعد إنجاز حركات الليونة فركضنا مرة أخرى إضافة إلى المرة الأولى. استلمنا اليوم أقنعة مضادة لغازات الهجمات الكيماويّة. أقيم صف أخلاق الأستاذ مظاهري المصوّر عند الساعة العاشرة صباحًا، وقد غفوت من أوّله إلى آخره. بعد الظهر كان لدينا حصة حول مواجهة الهجوم الكيماوي، ولم أشارك بها لأني ذهبت إلى صف الجبر. انشغلنا بعد صلاة المغرب والعشاء بخياطة أكياس من الخيش لنؤمّن من خلالها استتارًا لخيمتنا. بقينا منهمكين في هذا العمل حتى الساعة الثانية عشرة ليلًا، وبعد ذلك أصبحت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الاثنين 16 دي (6 كانون الثاني)

.. في البرنامج الصباحي ركض الجميع باستثناء رماة الآر بي جي. عدنا إلى الخيمة، وبعد تناول طعام الفطور درست مادة علم الأرض. بعد الظهر غطينا خيمتنا بأكياس الخيش. بعد صلاتي المغرب والعشاء تحدث الأخ كلستاني عن السلوكيات الشخصية، وأتى على ذكر أصدقائه الذين استشهدوا في عملية "والفجر4". بكى الشباب بكاءً كثيرًا.

 

حسين كلستاني أيضًا بكى كثيرًا. أصبحت جاهزًا للنوم عند الساعة التاسعة والنصف.

 

[*]     يوم الثلاثاء 17 دي (7 كانون الثاني)

.. ذهبت بعد البرنامج الصباحي إلى مجمع المقاتلين الدراسي

 

217

 


197

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

حيث أخذت كتاب علوم الحياة ودرست قليلًا حتى الظهر. بعد الظهر كان لدينا صف عن القتال الكيماوي، الميكروبي والنووي". وبقينا في هذا الصف حتى المساء. ليلًا قرأنا دعاء التوسل في الحسينية. عندما عدت إلى الخيمة قمت بحزم تجهيزاتي وعتادي بإحكام.

 

كذلك تدرّبنا ليلة البارحة على القتال في تشكيل بمستوى سريّة. تحدث العم حسن قليلًا حول معرفة النجوم والقبر (منزل الآخرة).. رجعت إلى الخيمة ونمت.

 

[*]     يوم الأربعاء 18 دي (8 كانون الثاني)

استيقظت مع أذان الفجر. كان البرنامج الصباحي بعد الصلاة، وركضنا فيه على مستوى الفصيل. بعد ذلك حضرنا صفًّا حول الحماية والأمور الوقائية. ظهرًا حللنا ضيوفًا عند الفصيل الثالث من السرية الثالثة لتناول طعام الغداء. بعد الظهر، قرأت قليلًا في مادة اللغة. بعد ذلك كان لدينا صف حول القتال الكيماوي، الميكروبي والنووي.

 

[*]     يوم الخميس 19 دي (9 كانون الثاني)

استيقظت قبل أذان الفجر. صليت صلاة الليل وقرأت شيئًا من الدعاء. ذهبنا إلى البرنامج الصباحي بعد صلاة الجماعة. كان برنامجًا صعبًا هذه المرة فقد ركضنا ونحن نضع الأقنعة. بعد ذلك ذهبنا إلى صف الحماية والوقاية. رحنا بعد الظهر إلى شاطئ نهر كرخه ودخلنا هناك إلى حجرة الغاز حيث تنفسنا من خلال الأقنعة بعد أن رموا قنابل مسيلة للدموع. مساءً، قرأت القرآن في الحسينية وتهيّأت للنوم بعد قراءة دعاء كميل وتناول طعام العشاء. ليلًا نمت وأنا أضع القناع أيضًا، وذلك للتدرّب والتمرّن عليه.

 

218

 


198

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]      يوم الجمعة 20 دي (10 كانون الثاني)

.. زرتُ قبل الظهر مع عبدالله كتيبة حبيب ورجعنا ظهرًا. قدّموا لنا الكراعين على مائدة الغداء. عرضوا لنا عند الساعة 3 بعد الظهر الفيلم السينمائي "عقود" بواسطة جهاز الفيديو.. ليلة البارحة، قامت كتيبة مالك بمناورة كبيرة وضخمة. يُحتمل أن ألتحق بكتيبة أخرى في حال عدم تنفيذ عملية. ريثما تذهب كتيبة حمزة إلى الخط الدفاعي وترجع. أصبحت جاهزًا للنوم عند الساعة 9:30.

 

[*]     يوم السبت 21 دي (11 كانون الثاني)

.. لم نركض أثناء البرنامج الصباحي. التقطت وحدة الإعلام في الفرقة صورًا للفصائل والحظائر. ذهبت أنا وسيد حسن رضا إلى مجمع المقاتلين الدراسي حيث درست ونمت في "سايبان" قليلًا. بقيت نائمًا حتى الساعة الحادية عشرة. بعد ذلك، رجعت إلى الخيمة ونمت مرة أخرى حتى موعد حلول أذان الظهر.

 

بعد الظهر انطلقنا في مسير امتدّ من جانب نهر كرخه حتى المحطّة الصلواتيّة على جسر النهر. صلّينا هناك العشاءين ثم رجعنا. وصلنا عند الساعة 12:30 في منتصف الليل إلى الخيمة، ونمت بعد تناول العشاء.

 

[*]     يوم الأحد 22 دي (12 كانون الثاني)

.. استأذنت الأخ كلستاني قبل البرنامج الصباحي، وذهبت إلى الحمام ثم رجعت إلى الخيمة، وتناولت طعام الفطور. بعد ذلك ذهبت مع حسين كلستاني إلى مجمع المقاتلين الدراسي حيث لم نجد معلمًا، وبعد ذلك ذهبنا إلى المكتبة الصوتية في وحدة الإعلام في الفرقة.

 

أعلن الأخ حسن أميري فر -العم حسن- أنه لا يحق لأحد أن ينام

 

219


199

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

اليوم أو حتى أن يستلقي. لهذا ولإنجاز هذا التدريب القتالي بقينا مستيقظين وجالسين إلى حلول الليل. ليلًا منذ الساعة 11 كنت جاهزًا للنوم.

 

[*]     يوم الاثنين 23 دي (13 كانون الثاني)

.. أعلنوا عن حصص تدريبيّة على القتال الكيماوي: حصة صباحًا وأخرى أيضًا بعد الظهر. أعادوا شرح جميع الدروس المتعلّقة بالقتال الكيماوي مرة أخرى. ذهبت قبل الظهر إلى مكتبة الصوتيات في وحدة الإعلام واستمعت إلى شريط مسجّل يحكي عن "قساوة القلب".

 

لم يكن لدي أي مهمّة حتى الليل. انطلقنا في مسير الساعة 12 ليلًا، وقمنا بدورية في الجبال المحيطة بالمخيم. كان هذا المسير مفعمًا بالكثير من الصفاء.

 

[*]     يوم الثلاثاء 24 دي (14 كانون الثاني)

.. في طريق العودة من المسير الليلي وصلنا إلى الخيم لأداء صلاة الصبح. لم نركض في البرنامج الصباحي. تناولت طعام الفطور في الفصيل الثالث برفقة أخي عبد الله وبقيت نائمًا حتى الساعة العاشرة. بعد ذلك، ذهبت إلى مجمع المقاتلين الدراسي (التعليمي) ونمت هناك أيضًا. رجعت ظهرًا إلى الخيمة وكنت بلا عمل خلال فترة بعد الظهر. تحدثت مع الأخ أصغر أهري والتقطت صورة مع أخي عبد الله. ليلًا قرأ الأخ كلستاني دعاء التوسل وقام الشباب بلطم صدورهم. كان هذا الأمر جيدًا جدًّا ومفعمًا بالكثير من الصفاء. تهيّأت للنوم عند الساعة 10:15. يُشار إلى أنّ كتيبة مالك وكتيبة الأنصار ذهبوا اليوم في إجازتهم.

 

220

 


200

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

( يوم الأربعاء 25 دي (15 كانون الثاني)

.. استيقظت مع أذان الفجر وذهبت إلى الحسينية. بعد صلاة الصبح، صلّيت صلاة قضاء وقرأت زيارة عاشوراء ودعاء العهد. أدّينا البرنامج الصباحي وركضنا على مستوى الفصيل. بعد البرنامج الصباحي كان لدينا صف دراسي عن الإسعاف. لم نقم بأي عمل حتى الظهر. كان لدينا بعد الظهر أيضًا صف عن الإسعاف. بعدها ذهبت مع الأخ سعيد بوركريم إلى الحمام ورجعنا مع حلول المغرب. أصبحت جاهزًا للنوم بعد العشاء وبعد قراءة سورة الواقعة.

 

يوم الخميس 26 دي (16 كانون الثاني)

.. قال الأخ أميني أثناء البرنامج الصباحي: "ستذهب الكتيبة اليوم في إجازة لمدة ستة أيام. نرجع يوم الجمعة المقبل. انطلقت الكتيبة بعد الظهر إلى دوكوهه وركبنا قطار الساعة الثامنة مساءً متوجّهين نحو مدينة طهران. لم يأتِ محمد عليان نجادي برفقتنا. لقد التحق بدورة تدريبية حول التخريب. يُشار إلى أنّ أحد شباب محلّتي كان قد أحضر أمانة لي من طهران: لقد سلّمني جهاز الراديو الذي كانت أمي قد أرسلته لي.

 

يوم الجمعة 27 دي (17 كانون الثاني)

.. ترجّلت صباحًا أنا وأمي في محطة قم. ذهبنا إلى زيارة المقام[1] هناك، وركبنا الباص عند الساعة 11:30 وانطلقنا نحو طهران. وصلنا إلى المنزل عند الساعة 3:00.

 

يوم الجمعة 4 بهمن (24 كانون الثاني)

.. في طريق العودة إلى منطقة الحرب صلّينا صلاة الصبح في


 


[1] المقصود على الأرجح مقام السيدة المعصومة (أخت الإمام الرضا عليه السلام).

 

221


201

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

محطة أراك. كانت السكة معطّلة وبقينا حتى الظهر ننتظر إصلاحها. أُصلحت السكة وانطلق القطار، ولكنّه توقف مرة أخرى في المحطة "سبعة". تناولت اللبن والخبز على طعام الغداء. كان لذيذًا جدًّا. وصلنا عند الساعة 7 مساءً إلى ثكنة دوكوهه. بعد أداء الصلاة انطلقنا نحو مخيم كرخه، ووصلنا إلى الخيم عند الساعة 9. خلدت إلى النوم بعد تناول العشاء.

 

[*]     يوم السبت 5 بهمن (25 كانون الثاني)

.. ليلة البارحة قمنا بتدريب ليلي عند الساعة 12:30. بعد المسير رجعنا إلى الخيمة عند الساعة 2 بعد منتصف الليل وخلدنا إلى النوم. استيقظت مع أذان الفجر. لم أذهب إلى البرنامج الصباحي بعد صلاة الجماعة لأني كنت مكلّفًا بأداء الخدمة في الخيمة. انطلقنا عند الساعة10 بمسير نحو المحطة الصلواتية عند جسر كرخه. أثناء الطريق تحدث الأخ كلستاني عن الهجوم المقبل وعن الإمام الخميني. تناولنا طعام الغداء في المحطة الصلواتية عند الجسر، وتوقفنا في الجبل من الساعة 2 حتى 4 حيث تحدث الأخ كلستاني مرة أخرى عن أنواع الهجوم ومكانه، وكيفية نقل الرسائل أثناء وقوفنا في الطابور في ليلة العملية، وعن كيفيّة تعقّب الخطوات. رجعنا إلى المقرّ. بعد صلاة المغرب حلّ الأخوة مجتهدي وروغنكرها والعم حسن ضيوفًا على فصيلنا لتناول طعام العشاء. ليلًا أصبحت جاهزًا للنوم بعد تقسيم الرصاص المخصّص لحقل الرماية. يُذكر أنّ الأخ حسين فياض كان مريضًا اليوم.

 

[*]     يوم الأحد 6 بهمن (26 كانون الثاني)

استيقظت مع أذان الصبح. صلّيت الصلاة جماعة في الحسينية.

 

222

 


202

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

تجمّعنا في طابورنا عند الساعة 6:15 وانطلقنا في مسير. أصبحت المساعد الثالث لرامي الآر بي جي الأخ حسين كلستاني. لهذا السبب أطلقت قذيفة آر بي جي. رجعنا من حقل الرماية إلى الخيمة. نمت حتى وقت صلاة المغرب.

 

بعد الصلاة قرأ الأخ كلستاني مرثيّة كانت جميلة جدًّا وقد استفدت منها. تحدث بعد العشاء أيضًا مع الشباب عن العملية.

 

2- مدوّنات عبدالله قابل اليوميّة

سلام على جميع الشهداء من صدر الإسلام حتى ثورة إيران. سلام على شهداء المستقبل في هذه العملية.

 

[*]     يوم الجمعة 11 بهمن (31 كانون الثاني)

اليوم هو يوم الجمعة الواقع فيه 31/ك2/1986م، وغدًا هو الذكرى التاريخية لدخول الإمام الخميني إلى ربوع الوطن. الليلة الماضية كانت مليئة بالصفاء فقد قرأ الأخ كلستاني دعاء كميل في خيمة "عليّ" المخصصة للفصيل الأوّل.

 

تذكرت الإمام عليًّا عليه السلام خصوصًا أننا كنّا بين أشجار النخيل بالقرب من الحدود مع العراق. خلاصة القول إنّها كانت ليلة ممتعة. صباحًا ذهبنا إلى برنامج الصباح، وكان هذا خلافًا لأيام الجمعة الماضية. أرادوا من خلال هذا العمل أن يؤكدوا أنّ يوم الجمعة في الحرب ليس بيوم عطلة. ترك الأخ أميري فر (العم حسن) لمسؤولي الفصائل أن يفعلوا ما بدا لهم بالشباب. ذهبنا في مسير، وعند الفطور - تمنّينا لو تكونوا معنا - فقد تناولنا الحليب. كان لدينا صف عن القتال الكيماوي، الميكروبي والإشعاعي. كان تركيز القادة على هذا الموضوع واهتمامهم به عجيبًا، لأنّ من لا يراعي جانب الاحتياط في هذا الشأن سيهلك.

 

 

223

 


203

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

[*]     يوم الثلاثاء 15 بهمن (4 شباط)

اقتربت اللحظات الأخيرة. تمضي الأيام كسرعة البرق. في الليلة الماضية خرجنا عند الساعة 5 عصرًا من المخيم وبقينا حتى 12 من منتصف الليل لتنفيذ المناورة. ليلة البارحة نقلوا كتيبة حبيب إلى منطقة العمليات. الله وحده يعلم ما الذي سيحدث خلال الأيام القليلة المقبلة! أحيانًا أفكر في نفسي مَن مِن الشباب سيصل إلى معشوقه في المستقبل القريب. وهل سأكون أنا أحدهم. أسأل الله أن أكون واحدًا من هؤلاء، وإلا بأيّ وجه سأذهب إلى محلّتي ومنزلي، وأقول إني كنت مع الشهداء في المتراس ذاته!؟ الويل لي، خصوصًا إذا بقي أحد أجساد الشهداء في مكان استشهاده ولم نستطع سحبه. إن شاء الله نرجع جميعًا متوّجين بالنصر النهائي سالمين إلى منازلنا. ما أودّ قوله هو: إن استشهد علي كيف لي أن أذهب إلى البيت، وأُجيب عن تساؤلات أمي وأبي؟ ربما لا أذهب أساسًا! أسأل الله أن نرجع سالمين متوّجين بالنصر. أساسًا لا أعلم ماذا أكتب. الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 4/2/1986 إلى جانب نهر كارون.

 

[*]     يوم الجمعة 18 بهمن

اليوم هو يوم الجمعة 7/2/1986، تهيّأت لتنفيذ البرنامج الصباحي بعد صلاة الصبح. وقد بدأ فعلًا بتلاوة القرآن، بعد ذلك فصلوا رماة الأر بي جي ومساعديهم جانبًا. أصبح كل واحد منا يفكر على طريقته. أنا كنت في حيرة من أمري ولا أدري ما الذي يريدون أن يتكلموا عنه. بعد وقوفنا في الطابور تحدث نائب قائد الكتيبة الأخ مجتهدي بكلمات عن ليلة العملية وقال: لقد سمّموا الشباب في عملية والفجر 4 و.. أشار إلى الجناية الأخيرة واعتبرها معجزة، وقال إنّ إمام الزمان ناظر إلى العملية المقبلة وإلى المقاتلين الأعزاء.

 

224

 


204

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الخيانة التي حصلت هي أنه وبعد عجز المنافقين عن توجيه ضربة للمقاتلين بواسطة الطعام وعوامل أخرى، قاموا هذه المرة بإفساد عدد من صواريخ الأر بي جي. وهو الذي كان في ليلة العمليات سلاحنا الثقيل بعد الإيمان بالله تعالى. فتصوّروا الحال مع وجود خيانة ومؤامرة المنافقين أي فاجعة ستحلّ بنا في ليلة العمليات: أن يرى الشباب دبابات العدو ولا يستطيعون القيام بأي عمل لمواجهتها. قال مجتهدي: إننا نشكر الله تعالى الذي أولى المقاتلين عناية خاصة وأفشل مؤامرة المنافقين ضد الإسلام.

 

أسأل الله تعالى أن نكون في العملية القادمة أكثر توفيقًا وأكبر نصرًا من العمليات التي خلت. على أمل النصر النهائي للمقاتلين ضد الكفر العالمي. 18/11/64 (7/2/86) نهر كارون.

 

[*]     يوم السبت 19 بهمن

يوافق اليوم 8/2/1986، من المقرّر أن تنتقل كتيبة مالك الأشتر إلى منطقة القتال. تحدث إلينا أيضًا الأخ مجتهدي حول المكان المقصود لنذهب إليه. ليلًا، عند الساعة 8:30 غادرت كتيبة مالك.

 

[*]     يوم الأحد 20 بهمن (9 شباط)

صباحًا، تجمّعنا نحن أيضًا في طابورنا للقيام بالبرنامج الصباحي، وتقرّر أن ننتقل اليوم إلى الخطوط الأماميّة. كان الشباب حاضرين للانطلاق منذ الساعة 8 صباحًا. الساعة الآن تشير إلى 12 ظهرًا. جميع الشباب سالمون وبصحة جيدة. كذلك كان عليّ أيضًا. غدًا سيكون شعب إيران سعيدًا وبالأخص عوائل الشهداء. لكلّ واحد من الشباب حالته وإحساسه الخاص، دائمًا عند اقتراب العملية يصبح الشباب على هذه الحال.. على أمل النصر النهائي. نهر كارون.

 

225

 


205

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

 يوم الاثنين 21 بهمن (10 شباط)

للأسف فإنّ جميع الكتائب غادرت البارحة وبعد ذلك انطلقنا نحن ليلًا. أثناء المسير عبرنا نهر بهمن شير. قطعنا جزءًا من المسافة سيرًا على الأقدام، ولقد فاتكم ما فاتكم فقد وقعت على الأرض مرتين. أخيرًا وصلنا عند الساعة الثانية فجرًا إلى البيوت القروية حيث محل استراحتنا. الليلة تمركزت كتائب الأنصار، عمار وحبيب على خط الهجوم[1].

 

كذلك نحن ستصدر التعليمات إلينا اليوم (12/9/1985). على أمل النصر النهائي لمقاتلينا. ضفة نهر بهمن شير.

 

شرحوا لنا اليوم منطقة العمليات وتقرّر أن نتقدم إلى خط الهجوم الليلة. جاءنا خبر مفاده أنّ إحدى القواعد الصاروخيّة التي كان مقرّرًا أن تسيطر عليها فرقتنا قد تمّت السيطرة عليها من قبل فرقة "ولي العصر|" وفرقة "كربلاء 25". انطلقنا بعد الظهر من بهمن شير نحو العنابر في "أروند كنار". انطلقت كتيبتا الأنصار وعمّار للتمركز عند خط الهجوم. نحن الآن موجودون داخل العنبر، الساعة تشير إلى الثامنة مساءً. على أمل الانتصار النهائي لمقاتلينا في كل الجبهات. نشير إلى أننا جاهزون للذهاب إلى خط الهجوم.

 

يوم الثلاثاء 22 بهمن (11 شباط)

استرحنا ليلًا داخل العنبر. منذ الصباح بدأ العراقيون بالقصف بشكل هستيري. لعلّ العدو قد قام بهجوم قوي ولكن مدفعيتنا كانت تقصف عليهم قذائفها كل دقيقة. صباحًا قالوا في أخبار الساعة 8 إنّه حتى الآن تمّ نقل 100 أسير إلى الخطوط الخلفية لجبهتنا، فيما نحن ما زلنا لم نتقدّم إلى الأمام حتى اللحظة، وننتظر صدور الأوامر


 


[1] في هذا التاريخ تقدمت هذه الكتائب إلى الخطوط الأمامية في الفاو واستعدّت للهجوم.

 

226


206

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

لكي نجعل زمن الصداميّين دمارًا. يُذكر أنّ أخي علي ومحمد عليان نجادي موجودان في العنبر الذي خلفنا. أحيانًا يقومون بزيارات خاطفة إلينا.

 

منذ الصباح زارتنا المقاتلات العراقية مرات عدة ولم تستطع - بحول الله وقوته - فعل أي شيء. يا إلهي، اصفح عن جميع ذنوبنا في هذه اللحظات الأخيرة، واجعل النصر حليف مقاتلينا وأطل عمر إمامنا بطول عمر الشمس. الساعة 8:39 دقيقة. صباح يوم 22 بهمن.

 

لقد انتبهت الآن وتذكرت مبلغ الـ500 تومان الذي أخذته من لواء سيد الشهداء. كان ذلك بعد عملية "عاشوراء 3" عندما أعطوا كل شخص 500 تومان ليذهب إلى زيارة مشهد. أنا أيضًا حصلت على هذا المبلغ ولكني لم أوفّق بالذهاب إلى الزيارة. أعطوا 500 تومان إلى مكتب دعم لواء "سيد الشهداء"، وادفعوا 500 تومان أخرى صدقة. خذوا هذه المبالغ من المال الذي يعود إليّ من الجبهة. الساعة 8:50.

 

اليوم هو الثاني والعشرون من شهر بهمن (11شباط) وسيخرج الناس جميعًا اليوم من بيوتهم كما قال الشيخ رفسنجاني، ليشاركوا في المظاهرة. آمل أن لا يتحقّق التهديد الذي توعّد به نظام البعث العراقي الناسَ في طهران. وخلافًا لمقولة صدام آمل أن يشارك الناس أكثر وأكثر وتنزل الحشود إلى الشارع ليشكّلوا سندًا للمقاتلين. في هذه الأثناء يقاوم المقاتلون تحت نيران العدو الثقيلة ويسطّرون الملاحم.

 

جاء خبر مفاده أنّ نائب قائد كتيبة عمار قد استشهد، وأنّ قائد الكتيبة قد أُصيب بإصابة بالغة. بلغ عدد قتلى العدو أكثر من 3000 قتيل ووصل عدد أسراهم إلى 800 أسير. انطلق الآن شباب كتيبة أنصار الرسول إلى الأمام لكي يضربوا - إن شاء الله - الخط الدفاعي للعدو. يُذكر أنّ "عليّ" كان صباحًا عندنا في الفصيل الثالث. تحلّق

 

227

 

 


207

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الآن الطائرة العراقية فوق رؤوسنا لذلك التجأنا جميعًا إلى داخل العنبر. بعد ذلك ودّعنا "علي" ومضى. يُذكر أنه لم يصلنا أي خبر حتى الآن عن كتيبة مالك التي تقدمت ليلة البارحة إلى الأمام ولم ندرِ ماذا فعلوا. كذلك لا نعلم أين استقرّ الأمر بكتيبة حبيب. إن شاء الله سيكون الله تعالى ناصرهم ومعينهم أينما حلّوا. 22 بهمن الساعة 2:30 بعد الظهر. في هذه اللحظة أتت عدة مقاتلات عراقية فتعامل معها دفاعنا الجوي. بحول الله وقوته احترقت الطائرة، وبعد ذلك انفجرت وقد كنت شاهدًا على احتراقها. نزل الطيار مستخدمًا المظلّة. لقد قُتل هو الآخر أيضًا.

 

بعد ذلك ركبنا الشاحنة وتوجّهنا نحو رصيف الميناء. بقينا هناك لفترة. عندما أردت أن أركب في الزورق رأيت أحد أصدقائي من حيّنا. المهم أننا عبرنا نهر أروند بالزوارق ووصلنا إلى ميناء الفاو في أرض العراق. استرحنا حتى الساعة 12 منتصف الليل في المبنى الإداري.

 

[*]     يوم الأربعاء 23 بهمن (12 شباط)

نقلونا إلى الأمام إلى جادة أم القصر. يبعد عنا خط الهجوم حوالي 3 كلم حيث توجد كتيبة مالك هناك، وقد باشرت عملها، وبحسب بعض الأخبار فإنّ كتيبتي الأنصار وحبيب هناك أيضًا. العدو في حيرة عجيبة من أمره، فهو يطلق النيران عبثًا وبشكل عشوائي. أُصيب علي ليلة البارحة بجراح سطحيّة. تقع منطقة مصنع الملح في شمال وشرق جادة أم القصر، وهي مقر تكتيكي للجيش العراقي، وقد أصبحت تحت سيطرة قوى الإسلام. أسأل الله تعالى أن يرجع مقاتلونا الأعزاء إلى أهلهم مؤزّرين بالنصر النهائي. الساعة 9:54 دقيقة صباحًا في23 بهمن 1364.(12/2/86) محمد عليان نجادي وأخي علي وآخرون موجودون في متراسهم بصحة وعافية. 12/2/1986.

 

228

 


208

الفصل الثالث عشر - المذكرات اليومية

الساعة الآن 1:20دقيقة بعد الظهر. مروحيات العدو تأتي بشكل دائم وتُناور. لقد استهدفت إحدى هذه المروحيات - بحول الله وقوته - وبدأت بـ"التشقلب" وسقطت.

 

كنّا نجلس في الدشمة عندما سقطت قذيفة هاون بشكل مفاجئ، صرخ أحد الشباب في الدشمة المجاورة قائلًا: "يا حسين". ذهبت إليه، كان يقول لقد أُصبت بظهري. نظرت إليه فوجدت أنّ الشظايا قد أصابت كتفه ورقبته من الخلف. بعد أن ضمدت جراحه نقلوه إلى الخلف.23/11/64 الساعة 4:30 بعد الظهر. جادة أم القصر.

 

229

 


209

وثائق الفصل الثالث عشر

1-3 جزء من رسالة عبد الله قابل

والدي وأمي وأختي الأعزاء، ربما هي اللحظات الأخيرة وقد لا نرى بعضنا البعض بعد الآن، وقد حان الوقت لأطلب منكم المسامحة وأن أشكركم على الجهود التي بذلتموها من أجلي خلال حياتي. أسأل الله تعالى أن يمنحكم الأجر العظيم والصبر الكبير.. أبي وأمي، أنتما أيضًا ادعوا لي. لا تعلمون بأي حال نحن هنا. في الليالي الباردة تحت أشجار النخيل يتضرّعون إلى الله وينتحبون ويذكرون الإمام عليًّا عليه السلام. أنتم أيضًا اسألوا الله تعالى أن يحيطنا بعناية خاصة منه في هذه اللحظات، واطلبوا النصر من الله تعالى. بالخلاصة، لقد سبّبتُ لكم المتاعب، ولكن لم يكن باليد حيلة سوى أن أقول لكم: لا تنتظروا ابنكم، لأنّ الله تعالى قد منّ عليكم بنعمة، وعليكم أنتم أن تتصرّفوا بهذه النعمة في سبيله. ولن يكون شيء أفضل من أن تقدموا هذه الهدية في سبيل الجهاد ضد أعداء الله والإنسانيّة. إذًا لا تنتظروني. إن عدت إليكم فاشكروا الله تعالى، واشكروه أكثر وأكثر إن لم أعد، لأنّ القرآن يقول: "ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون". ادعوا للإمام الخميني. الشهداء أحياء.. الله أكبر، مضرّجون بدمائهم.. الله أكبر. عبدالله قابل.

 

232

 

 

 


210

وثائق الفصل الثالث عشر

2-5 مقابلة مع والدة الشهيد

عندما وُلد عبدالله اخترت اسمه من القرآن في حرم "ابن الإمام صالح"(20) في تجريش. كان عبدالله جدّيًّا، وحازمًا نشيطًا ومنظّمًا منذ طفولته في البيت وفي المدرسة. لقد كان يملك وقارًا خاصًّا ولكنّه كان خجولًا.

 

بعد سنة من ولادة عبدالله وُلد عربعلي. لقد اختارت الجدة اسمه. علي اسم معروف لدينا نحن الإيرانيّين. لهذا قالت الجدة: لنسمّه عرب أو عرب علي. يوجد علاقة مميزة بالإمام علي عليه السلام في كاشمير ونائين حيث مسقط رأسنا.

 

كبُر عبد الله وعلي معًا، كانا صديقين حميمين يحب أحدهما الآخر. يتصارعان مع بعضهما البعض ويلعبان. اختلفت طباع علي عن طباع عبد الله. كان يندمج سريعًا مع أولاد الحيّ ورفاق المدرسة، ويصبح صديقًا حميمًا لهم. وقد أحبّ المزاح وصعود الجبال.

 

كان علي ينام إلى جانبي حتى الثامنة من عمره. كانوا يطلقون عليه اسم "دلوع أمِّه" في البيت. ولكن لقد كان حقًّا أكثر شجاعةً من أخيه الأكبر عبدالله والتحق قبله بالجبهة.

 

اللعب والشغب سمتان بارزتان في علي. وقع ذات مرة على أرض الحمام وانشقّ رأسه فاضطررنا أن نخيطه حتى يتعافى. يوجد على جسد علي علامة أخرى هي الرقطة على صدره، كانت رقطة كبيرة نسبيًّا.

 

كانا كلاهما يتابعان دروسهما. وفي المرحلة الثانوية التحقا بالجبهة. طبعًا كانا ينشطان بفعالية كبيرة في مقر التعبئة في الحيّ الذي نسكن

 

238


211

وثائق الفصل الثالث عشر

فيه قبل التحاقهما بالجبهة. ولكن أعمال الحراسة والحراسة الليلية لم تكن لتقنعهما. في العام 1983 التحق علي بالجبهة، وفي السنة التالية لحقه أخوه ليصبحا كلاهما موجودين في الجبهة.

 

في العام 1985م بعث ولداي كلاهما رسالة لي من الجبهة. لم يكونا يملّان من الكتابة والدرس. ولربما لهذا السبب دأبا على كتابة المزيد من الرسائل. رغم وجودهما في الجبهة استأنفا كلاهما دراستهما. دائمًا كنت تجد كتبًا دراسية في حقائبهما الخاصة بالجبهة. أنا أيضًا كنت أطلب منهما أن يكتبا لي في رسائلهما عن حال دراستهما.

 

كان عبد الله يحب طعام الـ"فسنجان" بينما أحبّ علي "الأرز باللوبياء". عندما كانا كلاهما يأتيان معًا في مأذونية من الجبهة كنت في حيرة من أمري، أيّ طعام أصنع أوّلًا، وفكرت بأن أصنع لونين من الطعام وأقدمهما على المائدة. حقًّا كم كان صعبًا عليّ اختيار أيّ طعام أصنعه قبل الآخر.

 

كان عبدالله الأكبر سنًّا خجولًا، بينما كان علي مشاغبًا كثير المزاح. كان عبدالله يتأثر بالدغدغة، وكان علي يمازحه ويدغدغه. كنت أحبهما بالمقدار ذاته.

 

في إحدى المرات اشترى علي ملعقة معدنية من السوق. عندما سألته لعلّهم لا يعطونكم ملاعق أجابني قائلًا: "هذه الملعقة مخصّصة لليلة الهجوم. لم آخذ كلامه على محمل الجد، ولاحقًا أدركت ما القضية.

 

في إجازتهما الأخيرة، لم يمكثا أسبوعًا واحدًا. كان يوم الجمعة عندما أتيا، وهو يوم عطلة، ومن ثم غادرا في آخر الأسبوع. قبّلت أنا ووالدهما وجهيهما. كانت هي الإجازة الأخيرة وقد غدوا كلاهما كثيري المزاح. أصبح عبدالله أيضًا يمزح. كانا يتصارعان مع والدهما.

 

239


212

وثائق الفصل الثالث عشر

أحيانًا ما كنت أستطيع صبرًا، فأقدّر أنّ "علي" يتعب أثناء المصارعة وكنت أتقدّم للدفاع عنه، ولكن في الواقع لم يكن الأمر كذلك. كان والدهما يصارعهما بليونة وبما يلائم حالهما، ولكنّي كنت أُبدي اهتمامًا بعليّ، لأنه كان أصغر سنًّا. لم يكن الأمر بيدي حتى إنّي صرخت ذات مرة: تنحّوا جانبًا. لقد دُهس طفلي سأزجّ بكم جميعًا في السجن. في إجازتهما الأخيرة صنعت لهما طعام "الكتلت" ليتناولاه في القطار، ووضعته في حقيبة عبدالله. فقد كانا في الجبهة جنبًا إلى جنب.

 

بدايةً أتى جثمان عبدالله. كان شهر بهمن (20شباط) قد شارف على نهايته عندما رأيت جثته، أُصيب بجراح في رقبته وفي أضلاعه واستشهد بسبب النزيف. دفنّناه وأقمنا أيضًا مراسم تأبينيّة بعد مرور ثلاثة أيام. كنّا نسمع كلامًا متناقضًا عن علي. لا أعلم ما الذي جرى لولدي: هل استشهد أم وقع في الأسر؟ هل أُصيب بجراح أو..

 

كنّا بصدد التحضير لذكرى أسبوع عبدالله عندما وصل خبر يفيد بأنّ جنازة علي قد وصلت. كان جثمانه قد احترق من صدره إلى أسفل قدميه، ولم يكن يحمل قلادةً عسكريّة. ربما كان السبب في التأخير في إحضار جنازته هو عدم حيازة جثمانه القلادة، ولأنّ الأخوين كليهما كانا قد استشهدا في الليلة ذاتها. عندما سألت زملاءه في الجبهة والقتال والمتراس: لماذا لم يكن لدى علي قلادة؟ أجابوني: لعلّه أراد أن يكون شهيدًا مجهول الهوية. عند انتهاء الأسبوع الأول من شهر أسفند (28شباط) كنّا قد دفنّا كلا الجثمانين في القطعة رقم 53 في مقبرة "جنة الزهراء". لقد دُفن ولداي في القطعة ذاتها.

 

رأيت ملعقة بين الوثائق والمستندات التي أُرفقت بالجثمان، كانت هي الملعقة ذاتها التي اشتراها علي قبل عدة أشهر.

 

كان رأس الملعقة ملتويًا. عندما سألت زملاءه في القتال أجابوني: ملاعق الجبهة خفيفة

 

 

240

 


213

وثائق الفصل الثالث عشر

وقابلة للكسر ولا يمكن ثنيها.

 

لهذا السبب كان الشباب يهيّئون ملاعق خاصة بأنفسهم ليلة الهجوم.

 

وُلد عبدالله وعلي كلاهما في فصل الشتاء. كان عبدالله يبلغ من العمر 19 عامًا وعلي 18 عامًا. ونال الاثنان شرف الشهادة في فصل الشتاء.

 

بعد استشهاد ولديّ أعطاني الله ولدًا آخر أسميته عبد العلي. لقد أخذت اسمه من عبد الله وعلي. لم أستطع أن أرجّح شهيدًا على آخر. تربط صداقة قديمة عائلتنا بعائلة الشهيد محمد عليان نجادي. أصبحنا أكثر قربًا وحميميّةً معهم بعد استشهاد ولديّ.

 

241


214

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

الراوي: علي شهبازي

التشكيل: مسعف، الفصيل الثالث

تاريخ ومكان أول مقابلة: 1988م، دوكوهه

 

الفصل الرابع عشر

دفتر المذكرات

عندما بدأت الحرب ولكثرة الأخبار المحزنة التي كانت تأتي من الجبهة، لم يتمالك والدي، الذي كان يعمل بالنجارة، نفسَه، ولم يسمح له قلبه بالمكوث فالتحق بالجبهة. وما لبث أن تبعه أخي، وأخيرًا جاء دوري.

 

التحقتُ بالجبهة في العام 1981م، عن طريق ركن دعم الجبهة والحرب في وزارة التربية والتعليم، وخدمت مدة 45 يومًا في مدينة الأهواز التي كانت في تلك الأثناء تُعتبر واحدة من مدن الحرب والقتال.

كان محلّ خدمتي في نقطة الشهيد جرفي في إحدى ضواحي مدينة الأهواز. في بداية الأمر كانت مهمتي الحراسة، بعد ذلك أوكلوا إليّ القيام بأعمال أخرى، خصوصًا عندما لاحظوا كفاءتي وقدرتي على تقدير مساحة غرفة أو مخزن أو باحة ومقاساتها، وتحديد عدد الصناديق التي يمكن وضعها بداخلها. فقد اكتسبتُ هذه المهارة أثناء عملي مع والدي في النجارة. كانت تسلية الشباب وسرورهم في أن

 

243

 


215

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

يسألوني: كم يبلغ طول ذلك الشيء أو الشخص، وكنت أجيبهم بدقّة. بعد مرور أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع أوكلوا إليّ أيضًا القيام ببعض أعمال النجارة، فصنعتُ خلال المدة التي قضيتها هناك 20 غرفة صغيرة وبرجًا للمراقبة.

 

لم يكن التحاقي بالجبهة على هذا الشكل ليرضيني. كنت أتصوّر الجبهة بشكل آخر، ولم يكن هذا الذي أتوقّعه منها. هناك لم يكن بعض الأشخاص يولون الصلاة والأمور المعنوية والروحية الاهتمام الكافي، الأمر الذي كان يؤذيني.

 

بعد ذلك وحتى شتاء العام 1985م انشغلت بدرسي وواجباتي المدرسية في مدينة طهران. خلال هذا الفصل عزمت مرة أخرى على الالتحاق بالجبهة. أرسلني موقع مالك الأشتر التعبوي للخضوع إلى تدريب عسكري. هناك وبعد انتهاء الدورة العامة خضعت لدورة إسعاف حربي في مكان قريب من جادة جالوس، وقد صادف زمانه مع عملية بدر.

 

في تلك الأيام كان ابن عمي حاضرًا في الجبهة. أثناء قيلولة يوم الجمعة رأيت في المنام أنه قد استشهد. اتصلت بالمنزل، لكن أحدًا لم يقل شيئًا. عندما رجعت إلى طهران أدركت أنّ رؤيتي كانت صادقة، وقد فُسّرت.

 

في ربيع العام 1985م وبعد انتهاء دورة التدريب العسكرية، حصلنا على مأذونية لعدة أيام، وبعد ذلك التحقنا بجبهة الجنوب. وهناك، بعد تحديد مكان خدمتي في فرقة "27 محمد رسول الله " تفرّغت للخدمة والعمل في مستوصف "ثكنة دوكوهه". رافقني في هذا السفر السيدان "مصطفى بهار" و"حشمت الله معتمدي" اللذان كانا من

 

244

 


216

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

زملائي في الدورة التدريبيّة. ذهبت لمدة إلى وحدة التخريب، ثم عدتُ مجدّدًا إلى المستوصف، لعلّي كنت حيرانَ وأبحث عن شيء آخر. قصدتُ أخي الذي كان يعمل في لواء "رمضان" لأستشيره حول مهمتي الآتية ومكان خدمتي الجديد. كان يكبرني بسنوات، وقد اكتسب خبرةً راكمها من خلال عمليات عدة شارك بها. نظر إلينا نحن الثلاثة نظرة، ولخّص كل كلامه في جملة واحدة، متوجّهًا إليّ قائلًا: إن أردت أن تبقى حيًّا ابقَ في عملك في المستوصف، وإن أردت أن تستشهد التحق بكتائب القتال والهجوم.

 

سألته مباشرةً: ماذا عن كتيبة حبيب وكتيبة حمزة.

 

قال بصلابة وبشكل قاطع: لا تكاد تلتحق حتى تستشهد.

 

رجعتُ من عنده مطمئن البال. فقد كانت الشهادة كل أملنا. كنا نعلم أنّ لكتائب الهجوم معنويات وروحية خاصة. أصبحنا أكثر اطمئنانًا أنّ مكاننا هناك.

 

في النصف الثاني من شهر تموز، كُلّفت مع مجموعة من المسعفين بمأمورية في كتيبة حمزة. رافقنا مسؤول الرعاية الصحية في الفرقة إلى مبنى كتيبة حمزة الذي كان يقع بعد حسينية "الحاج همت" ليعرّفنا إلى المسؤولين هناك. جلس فريقنا منتظرًا في غرفة "مساعد الطبيب". كان أثاثها غير مرتّب، حتى الحصيرة كانت مطويّة، وقد وضِعت في إحدى زوايا الغرفة.

 

تعرّفنا بدايةً إلى مساعد الطبيب في الكتيبة، السيد "تششمه اي". كنّا نهمّ بالخروج من غرفة الرعاية الصحية عندما أتى قائد الكتيبة. كانت يده اليسرى أول ما لفت انتباهنا، وقد قُطعت من فوق المرفق. كان يرتدي ثيابًا ترابيّة اللون وقد ثنى كمّ يده المقطوعة حتى لا يبقى معلّقًا. كان طويل القامة،

 

245

 


217

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

عريض المنكبين. يصل رأسي إلى كتفه. صافح الجميع ورحّب بهم فردًا فردًا. كان يحمل اسم أسد الله بازوكي. تحدّث إلينا لمدة عشر دقائق. ما أذكره من كل كلامه ذاك أنه قال: "لا يجولنّ أحد في الباحة وهو يرتدي فانيللا وسروالًا كرديًّا".

 

أثناء توزيع العناصر أُرسلت أنا و"أصغر نيكبخت" إلى الفصيل الأوّل في السريّة الأولى. استقبلنا نائب مسؤول الفصيل بصدرٍ رحب. تعرّفنا إلى وجهه في باحة "البرنامج الصباحي" للفرقة، وسمعنا صوته في مراسم الدعاء في حسينية الحاج همت. إنه محسن كلستاني الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الفصيل في وقت لاحق.

 

في تلك الليلة وضعت رأسي على وسادتي -التي كانت غطاءً مطويّا- منعّم البال مرتاحًا لأنتفض من نومي فجأةً على صوت مخيف. بدايةً اعتقدتُ أنّه قصفٍ جويّ، أو صوت صاروخ أتى خطأ إلى دوكوهه بعد أن كان مسيره الافتراضي سيوصله إلى دزفول. وإذا بأصوات الانفجارات وإطلاق النيران تأتي من كل مكان. الدفاعات الجوية أيضًا كانت ترمي بشكل متواصل. نهضت من مكاني وركضت نحو الشرفة. أردت أن أقفز من الطابق الخامس إلى الأسفل. عندما دققت النظر جيدًا من الأعلى وجدت مسؤولي الفصيل والسريّة يطلقون الرصاص. عندئذ أدركت أنه تدريب على القتال الليلي[1]. كنت من بين العناصر الأخيرين الذين وقفوا في طابورهم. ولكن بدون عتاد وحذاء عسكريّ.

 

طبعًا، لم أكن أنا وحدي الذي أُصيب بالصدمة. منحنا مسؤول السريّة -نحن المصدومين- ثلاث دقائق لنذهب ونرجع مع كامل عتادنا. كنّا عشرة إلى خمسة عشر شخصًا. أثناء عودتنا قطعنا


 


[1]  نوع من التدريب ويقال له "طابور ازعاج".

 

246


218

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

حوالي 50 مترًا مشيًا، كقفز الغراب عقابًا لنا. وبحسب قول شباب التعبئة إنها مراسم ترحيب الكتيبة بالقوات الجديدة وتعريفهم بالكثير من الأمور: هذه الكتيبة كتيبة قتاليّة، لا يوجد معنى هنا للأكل والنوم، عليكم أن تكونوا جاهزين لهذه الأصوات وهذه المعارك، الكسل ممنوع.. وألف كلام آخر.

 

بعد أيام غادرت الكتيبة "ثكنة دوكوهه". وصلنا في منتصف ليلة من الليالي الأولى في العشر الأواخر من شهر تموز إلى مدينة مهران. كان مقرّرًا أن نحلّ محلّ كتيبة مستقرة عند الخط الدفاعي لمدينة مهران. انفصل فريقان من فصيلنا واستقرّ كل واحد منهما في جزء من الخط الدفاعي لمدينة مهران. كان لفريقنا دشمتا تجمّع ودشمتان للحراسة. كُتب اسمي في أعلى قائمة الحراسة. ردّدت كثيرًا: أنّي مسعفُ ولا أستطيع الحراسة، ولكنّي لم أجد آذانًا صاغية.

 

كنت خائفًا من عمل الحراسة، ما الذي يجب الانتباه إليه، ماذا عليّ أن أفعل عند رؤية العدو، وماذا على الحارس فعله إن سمع صوتًا ما. أثناء الحراسة حافظتُ على عينيّ مفتوحتين بصعوبة، وعندما كانت جفوني تطبق على عينيّ أتذكر ذلك العراقي ذا الشارب العريض المزعوم، وأتصوّر أنّه يكاد يصل إليّ ليقطع رأسي فيطير النوم من عيني.

 

مع طلوع نهار اليوم الأول لحضورنا عند خط مهران الدفاعي وقعتْ عيناي على جادة تصل إلى داخل تراب العراق، ولوحة كبيرة خضراء مزّقها الرصاص وهشّمتها الشظايا وقد كُتب عليها "كربلاء- 85 كلم". حقًّا تبلغ المسافة من هناك حتى كربلاء 85 كلم فقط؟

 

أغمضت عينيّ وقلت في نفسي: "لو أنّ الحرب لم تكن قائمة لقطعت كل هذه الطريق زحفًا". فتحت عينيّ على قيظ شديد. كنت أرى

 

247

 


219

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

السراب فوق الطريق، تذكّرت عطش الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في يوم عاشوراء. بكيت ثم هدأت. قلت في نفسي: لقد جئت إلى كتيبة جيدة، والكتيبة أيضًا جاءت إلى مكان جيّد!

 

كانت دشمة تجمّعنا هي دشمة قيادة العراقيين أثناء احتلال مدينة مهران. كانوا قد وضعوا في سقفها أوتادًا من حديد، يبعد كل وتد عن الآخر مسافة عشرين سنتيمترًا، وقد أقاموا جدارًا أمام باب المدخل وذلك ليحدّوا من الخسائر إذا ما وقعت قنبلة من العدو الافتراضي في داخل الدشمة.

 

كنّا في خط دفاعي هادئ. أدركنا أنّه ما لم نزعج العراقيّين فلن يقوموا بأي مبادرة تجاهنا، وفي الوقت عينه، فإنّ إنجاز الأعمال العادية اليومية في ذلك الطقس الحار كان أمرًا صعبًا. وقد كنّا في ظرف لم يكن يصلنا فيه المقدار الكافي من الطعام والمؤن. كان محسن كلستاني يبذل قصارى جهده ليسهّل الأمر على الشباب، ولكي تبقى روحياتهم ومعنوياتهم قويّة. من جهتهم، عندما كان الشباب يرون كيف أنّ محسن وبقية المسؤولين يبذلون قصارى جهودهم، كان كل واحد منهم يقوم بما يستطيع فعله: فترى واحدًا دأبه تأمين المياه الباردة للشباب، وآخر يهيّئ المصابيح للّيل، وثالثًا يفرش المائدة ويجمعها، وآخر يغسل الصحون والأواني، و.. ولم يكن شيء يُهمل أو يُترك أرضًا، وكانت الأعمال تُنجز جميعها. كان اهتمام الشباب بنظافة الدشمة ومحيطها سببًا في تقليل إزعاج الذباب والبعوض.

 

ذات يوم، جاءنا خبر من الفريق الآخر، يشكون فيه عدم وجود رادود (قارئ عزاء) وإمام صلاة. ذهب محسن كلستاني وأقام لهم عدة مراسم أدعية وصلاة جماعة حتى زالت شكواهم. لم يكن لذلك

 

248

 


220

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

الفريق دشمة تجمعه. فكانوا يقرأون أدعيتهم ويقيمون صلاتهم في فناء خارجي إلى جانب الساتر الترابي. فكان أن اتّخذت مراسمهم أجواءها وطابعها الخاص: أصوات الرصاص والانفجارات تُسمع بشكل جيد، وأحيانًا تسقط قذيفة هاون على مقربة منهم أو بعيدة. مهران لم تكن أكثر من خراب، ولكنّ أطراف المدينة كان مليئًا ببساتين النخيل. أحيانًا كان الشباب القدامى يذهبون إلى تلك البيوت الخاوية يجولون بينها، وأحيانًا كان يذهب أحدنا إلى بستان النخيل ويحضر معه ثمرًا. في إحدى المرات رجع محسن كلستاني بكوفية مليئة بالتمر الأصفر (البلح) فتلذّذ الجميع بتناوله.

 

في منتصف شهر آب انتهت مهمة الكتيبة الدفاعية في مدينة مهران. سلّمنا الخط الدفاعي وعدنا إلى ثكنة دوكوهه. مضت ستة أشهر على وجودي في الجبهة. كنت أستطيع الحصول على تصفية الحساب[1]، ولكن عندما حصل عناصر الدفاع على إجازة من الكتيبة حصلت أنا أيضًا على إجازة. أثناء الخروج من الثكنة، كنت أحمل بيدي ورقتين: ورقة تصفية حساب من الدائرة الصحية في الفرقة وأخرى ورقة مأذونية من كتيبة حمزة. كنت أستطيع -بعد انتهاء الإجازة- أن أرجع إلى الكتيبة أو أقوم بتصفية الحساب النهائية.

 

غمرنا جو من الصفاء في مقصورة القطار. فلا رياء في جمعنا. هناك لم يكن شيء من ملذّات الدنيا، وكان الصدق والصفاء والنقاء والمعنويات بالقدر الذي نتمنّاه، وهذا ما كنت ألتذّ به. كان محسن كلستاني يريد أن يترجّل في محطّة "جهار دانكه" قبل محطة مدينة طهران. قبل أن يهمّ بالنزول من القطار قرأ بيتين جميلين من الشعر


 


[1] (معاملة إنهاء الخدمة في الجبهة والعودة إلى المدينة)

 

249


221

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

على مسامع الجميع:

في طريق العشق لسنا ناقضي العهود  نسترخص الأرواح في سبيله

لو مُلئت الدنيا باليزيديين             لن نترك سيد الشهداء وحيدا

 

هذان البيتان جعلاني أغوص في بحر أفكاري. ذكّرنا بلسان الشعر أن لا نكون كصديق نصف الطريق، بل فلترجعوا، إنّ الحسين عليه السلام هنا، كل طريق غير طريق الحسين هو طريق ليزيد، ونحن نفدي طريق الحسين بأرواحنا. كنت متردّدًا ماذا أفعل وماذا أقول لعائلتي، هل أقول لأمي وأبي إنّي أتيت في إجازة، أو أقول إني أتيت لأبقى وأتابع دروسي وفروضي.

 

شغل كلام محسن كلستاني ذهني: "في هذا الزمن عندما رهن الكثيرون أنفسهم لعملهم ومعيشتهم وظيفتنا نحن أن نرهن أنفسنا للحرب والجبهة. إن بقينا أحياء حتى نهاية الحرب نرجع إلى مدينتنا ونهتمّ بأعمالنا، وإن لم نعد واستشهدنا في الجبهة نكُن قد حصلنا على سعادة الدنيا والآخرة أنْ بذلنا أنفسنا في سبيل الإسلام وطريق الإمام". لقد كابدْنا المشقّات والجوع في الخط الدفاعي لمدينة مهران في شهر أب الحار، ولكنّ قلوبنا كانت سعيدة برؤية بعضنا بعضًا. كنّا نسكن بقراءة القرآن والدعاء وتحلّق قلوبنا عاليًا في السماء. أنا أيضًا حظيتُ بأصحاب طالما بحثت عنهم وبلغت أملي ومناي. كأنّ قلبي أصبح معقودًا على شباب الفصيل الأول. لم أكن أريد ولم أستطع تحمّل فراقهم. وصل بي الأمر أن أخفيت ورقة تصفية الحساب الصحية

 

250

 


222

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

في جيبي، وقررت أن لا أتكلم بشيء عن هذا الأمر. فأيُّ مكان أبتغي الذهاب إليه هو أفضل من المكان الذي كنت فيه؟

 

انتهت إجازة الأيام العشرة وذهبت في اليوم المحدّد إلى محطّة القطار، ولكنّ أكثر الشباب لم يحضروا في الموعد المقرّر. الشيء الوحيد الذي خطر على بالي أنهم أحجموا وبقوا في منازلهم حتى ينعموا باستراحة أكثر طوال الطريق كنت أفكر في هذا الموضوع.

 

ما إن وصلت إلى الثكنة حتى وجدتهم جميعًا هناك. سألت وتحققت فتبيّن لي أنهم رجعوا إلى الجبهة بعد مضيّ يومين أو ثلاثة أيام من إجازاتهم. أين تفكيري الساذج من روحية أولئك الشباب؟ ذهبت إلى الرعاية الصحية في الفرقة، وحصلت على مأمورية جديدة في كتيبة حمزة لمدة ثلاثة أشهر التي كانت آنذاك في المخيم الصيفي للفرقة في كوزران. بعد ذلك انتقلت من دوكوهه إلى باختران في كرمانشاه، ومن هناك أكملت طريقي إلى كوزران. هناك أرسلني مسؤول عديد الكتيبة مباشرةً إلى الفصيل الأول. كان مسؤول الفصيل قد غادر وحلّ محلّه محسن كلستاني.

 

في تلك الأثناء لم تكن هيكلية الكتيبة مكتملة، فسنحت فرصة جيدة للتلاميذ حتى يتابعوا دروسهم وفروضهم بشكل جيد وهم فارغو البال في ذلك الطقس الجبلي المنعش. كانوا يتابعون عملهم هذا بحماس قلّ نظيره تجعل من يراهم على حالهم يشتاق لمتابعة دراسته.

 

حان وقت الامتحانات. أنا أيضًا كان عليّ تقديم امتحان في مادة المعارف الإسلاميّة. ذهبت إلى حصة الامتحان في الموعد المحدّد. وجدت أحد أفراد التعبئة من سريّتنا. شاب لطيف، كثير الحركة والكلام، ذو وجه دائري وجسم أقوى من جسمي. بدّل مكانه مع

 

251


223

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

الآخرين عدة مرات قبل بدء الامتحان. عندما بدأ الامتحان لم يكن تركيزه في ورقة امتحانه، بل دائمًا كان مراقبًا لأطرافه في جلسة الامتحان. أمعنت النظر جيدًا فوجدته يضع كتاب درسه تحت رجله ويفتحه في الوقت المناسب ليكتب جواب الأسئلة منه.

 

بعد انتهاء جلسة الامتحان، ذهب كل واحد منّا إلى خيمته. لقد أزهر في داخلي حسّ النهي عن المنكر. قصدته وقلت ما في جعبتي من كلام. أجابني ضاحكًا:

يا أخي لا تأخذ الأمور على محمل الجد كثيرًا. أنا أساسًا لن أنجح.. وما الفرق في أن أكتب نقلًا عن الكتاب أو لا؟ ما الفرق بين العلامة 2 و 3 والعلامة 7 و 8؟

 

كان اسمه محمد عليان نجادي. كان يصبح حميمًا مع الآخرين بسرعة ولم يكن في قلبه أي غلّ أو ضغينة.

 

تشكّلت هيئات للعزاء في الكتيبة في أيام شهر محرم الحرام. أحيانًا أيضًا كنّا نذهب إلى الكتائب المجاورة كمالك وعمار والأنصار لحضور مجالس العزاء. ذهبنا في يومي تاسوعاء وعاشوراء بالباص إلى مدينة باختران في كرمانشاه وشاركنا في مجالس العزاء الشعبية، وتناولنا طعام "القيمة" مطهوًّا بسمن كرمانشاه.

 

في أحد الأيام، خلال طريق عودتنا من مسير متعب وشاق، لم يكن الشباب يردّدون الشعارات التي يطلقها محسن كلستاني بشكل منظم وبلحن وصوت عال. فما كان من محسن إلا أن أوقف مسير الفصيل حتى يرتاح الشباب فيجدّدوا نشاطهم ويستمع بدوره إلى كلام قلوبهم. سأل: لماذا لا تجيبون جيدًا؟ لعلّكم تعبتم من الجبهة؟

 

أجابه أحد الشباب عن ظهر قلب قائلًا: لماذا نقول كذبًا؟ لقد

 

252

 


224

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

شارفت مهمة معظم الشباب على نهايتها، ونحن نريد أن نرجع إلى مدرستنا ودروسنا..

 

بعد أن استمع محسن إلى كلام الشباب العفوي قال: هذا الكلام علامة على منتهى صدقكم. إن لم تستطيعوا أن تلتحقوا بالجبهة، إن شاء الله ستُنجزون أعمالًا جيدة ولائقة في المدينة حتى لا يذهب ماء وجه التعبئة ولا يُحبط أجركم.

 

بعد أن استأنفنا مسيرنا ومع أنّا كنّا نمشي صعودًا، لكن الشباب كانوا يردّدون هتافات محسن كلستاني بصوت عال وبليغ. عندما اقتربنا من المخيّم كان عدد من الشباب يقفون ويشاهدون حماسة شباب الفصيل الأول.

 

في أواخر أيلول، عندما أصبح الطقس الجبلي باردًا، وضّبنا الخيم في أحد الأيام بشكل مفاجئ وسريع وحمّلناها في الشاحنة، ومرة أخرى انطلقنا نحو الجنوب وثكنة دوكوهه.

 

لم يكن لكتيبة حمزة نشاط لافت في دوكوهه. في أحد الأيام من أواسط شهر مهر قالوا : الليلة لدينا برنامج ليلي وعلى جميع العناصر التجمّع فوق سطح مبنى الكتيبة.

 

حلّ الليل، الجميع حاضرون على سطح المبنى. ومع أنّ عديد الكتيبة لم يكن مكتملًا إلا أنّ ضيق المكان لم يسمح بأن نقف في تشكيل عسكري. شكّلت السرايا صفوفًا وجلسنا على السطح.

 

وقف السيد رضا دستواره وثلّة آخرون إلى جانب أسد الله بازوكي. تحدّث الأخ دستواره عن تاريخ كتيبة حمزة المشرّف وشكر الأخ بازوكي على جهوده. قال إنّه من المقرّر أن يتسلّم الأخ بازوكي عملًا أكثر تخصّصيّة في الفرقة، وسيترك مسؤولية كتيبة حمزة للأخ أميني:

 

253


225

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

كما تعلمون فإنّ الأخ بازوكي هو جريح وشهيد حي. الحاج أميني أيضًا لا يقلّ عنه شأنًا فقد أصابت رصاصة دوشكا رأسه في عملية "الفجر4" و..

 

لم يكن أحد راضيًا عن مغادرة بازوكي. التفّ الشباب حوله بعد الجلسة وودّعوه.

 

في الأيام التالية، لم يستغرق الأمر كثيرًا حتى سلك الحاج أميني طريقه إلى قلوب الشباب.

 

في منتصف تشرين الأول، قام عدد من العناصر بتصفية حسابهم وغادروا، وجاء عدد من العناصر الجدد إلى الكتيبة. في بداية الاسبوع الاخير من الشهر غادرت الكتيبة ثكنة دوكوهه لإجراء دورة تدريب عسكري على العمليات البرمائية.

على شاطئ بحيرة سد دز، تدرّبنا على السباحة، ركوب الزوارق، الهجوم من اليابسة على الماء، والهجوم من الماء على اليابسة وغير ذلك.. بعد مضيّ عدة أيام ولما كنّا نقوم بحصّتي سباحة في اليوم، أصبحت جميع عضلاتي وعظامي تؤلمني. كانوا يضغطون علينا كثيرًا حتى تصبح أجسامنا أكثر تحمّلًا ومقاومة. ولكن بالرغم من كل التعب الذي حلّ بأجسادنا إلا أنّ الإيثار والتضحية لم يتغيّرا. في أحد الأيام رأيت "عرب علي قابل" يغسل الثياب المتّسخة التي وجدها في الطشت المملوء والتي لم يكن معلومًا من هو صاحبها وبعد ذلك بدأ بغسل ثيابه.

 

ذات يوم ذهبنا في مسير طويل. ابتعدنا عن مركز الشرطة العسكرية لمخيم سفينة النجاة، ومشينا عدة كيلومترات إلى الأمام، وأكملنا مسيرنا في داخل أخدود حتى وصلنا إلى آخره. حيث كان يوجد

 

254

 


226

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

مغارة تشبه النفق. كانت الظلمة حالكة في داخل المغارة. رحنا نخطو خطواتنا بهدوء، ملتصقين حتى لا يضيع بعضنا البعض الآخر. كانت جدران المغارة كأرضها، مملوءة بالحصى وحبات الرمل الملتصقة ببعضها (المتحجرة) فيما تنزل قطرات من الماء قطرة قطرة من سقفها. لقد أزال المسير في تلك المغارة الجميلة التعب عن أجسادنا، وأخيرًا بعد حوالى الساعة من السير، خرجنا من الطرف الآخر من النفق. كان مسير عودتنا أكثر إثارةً للذكريات. نزلنا من فوق صخرة مرتفعة باستخدام الحبال لنسلك مسيرًا أكثر سهولة ونصل من خلاله إلى خيمنا.

 

كنت قد تعرفت بأحمد أحمدي زاده قبل مدة. ولكن لما كان قليل الكلام فقد طال الأمر حتى أعلم ما هو عمله، وما هي المناطق التي ذهب إليها، وقد كان تردّده بشكل متكرّر إلى خيمات أركان السرية يدلّ على أنه أحد العناصر القدامى.

 

كان قد مضى حوالي سنتين على وجوده في الجبهة. في صيف العام 1982، وبعد إنهائه لدورة عسكرية أرسل إلى سوريا وقام هناك بدور تبليغي، بالإضافة إلى عمله العسكري. كان فنّانًا ينجز التصاميم ويرسم على الجدران. خدم لمدة ستة أشهر في المنطقة الحدوديّة بين لبنان وسوريا وبعد ذلك عاد إلى إيران. شارك في عمليّتي "والفجر4" و"خيبر" وأُصيب بجراح في ساعده. مع أنه كان هادئًا ويتمتّع بذوق فنّي، إلا أنه كان يحب أن يكون أحد العناصر في كتيبة الهجوم.

 

لم يكن يهتم كثيرًا بالنشاطات الإعلامية. ذات مرة أطلعني على بطاقته العسكرية فوجدت أنّ اسم شهرته يُنسب إلى "طوزن" سألته:

- أين تقع طوزن هذه؟

 

555

 


227

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

- هي قرية معروفة برمانها تقع بالقرب من مدينة "زواره واردسنان" في محافظة أصفهان.

 

تاريخ ولادته يعود لشهر أبان من العام 1344 (تشرين أول 1965). سألته: "هل ولدت في تلك القرية؟".

 

- كلا، ولدت في مدينة طهران في ليلة المبعث النبوي الشريف ولهذا أسماني أهلي أحمد.

 

رأيت دفتر مذكراته الإبداعي للمرة الأولى في خيمتنا في مخيم سفينة النجاة. كان دفترًا مؤلفًا من مئتي ورقة بحجم يكبر ورقة الـA4 قليلًا وجلده كحلي اللون. أطلعني على دفتره من الخارج فقط. وقد قطع وعدًا للمقاتلين الذين دوّنوا مذكرات في هذا الدفتر أن لا يطلع أحدًا على مضامين مذكراتهم قبل استشهادهم. حتى ذلك الوقت امتلأت خمس عشرة صفحة من الدفتر. كان قد درس التصميم الكرافيكي في مدرسة الفنون، ولهذا زيّن صفحات دفتره بأجمل الرسومات والأشكال. فتراه قطَع عبارات الحِكم الدينيّة من المجلات وألصقها في أطراف الصفحات، كذلك كان يضع صورًا للشخصيات المرموقة فيها، ولم ينسَ وضع صورة كاتب التذكار في زاوية الصفحة.

 

إنّه الرابع من تشرين الثاني، يوم التلميذ واليوم الأساسي في أسبوع التعبئة المدرسيّة. كانت حوارات ذلك اليوم بين الشباب حول "حسين فهميده" والدبابة العراقية ونوع القنبلة التي استخدمها لتدميرها.

 

في تلك الأيام قامت مجموعة من تلاميذ ثانوية "أبو ذر الغفاري" من المنطقة التربوية الـ14 لمدينة طهران بزيارتنا في الجبهة، واطّلعوا على كيفية التدريبات البرمائية هناك. أنشد لهم محسن كلستاني نشيد "يا أيّتها الدشمة سأبقى مكاني".

 

ليلًا أيضًا شاركوا في مراسم

 

 

256


228

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

دعاء التوسل معنا. عندما رأوا أترابهم يخضعون لتدريبات عسكرية شديدة في الفصيل، ويدرسون دروسهم ولديهم تلك الروح المعنوية العالية، تغيرت أحوالهم وبدا واضحًا تأثرهم بذلك[1].

 

كان الشباب في هذه الدورة يتسلّون باصطياد السمك. في أوّل إجازة حصلوا عليها قصدوا دزفول واشتروا صنارة صيد السمك وأحضروها معهم. أصبح القيام بهذا العمل منتهى المتعة عند الشباب. بعد ذلك، لم يعد يذهب في إجازة إلى المدينة سوى قلّة قليلة. خلال يوم واحد فقط استطاع "حسن قابل أعلا" استخراج حوالي 180 كائنًا حيًّا من الماء.

 

طبعًا كان جزءٌ من هذه الكائنات أسماكًا يمكن أكلها، بينما أُرجع الباقي إلى الماء.

 

في أحد الأيام، كنا نقوم بدورية بالزورق في البحيرة. تقدمنا حتى المنعطف الأخير حيث النقطة الأقرب من السد. كان الحارس هناك رجلًا مسنًّا يصطاد السمك ولم يسمح لنا أن نقترب أكثر من حائط السد.

بدأ أحد الشباب بالتحدث معه وسأله: "أيها الوالد العزيز، ما هو حجم الأسماك هنا؟".

 

حكّ الشيخ صنارته وقال: "يوجد أسماك كبيرة بكثرة، ولكن لا يستطيع أحد اصطيادها".

- أسماك كبيرة لا تزن الواحدة منها أكثر من ثلاثة إلى أربعة كلغ؟؟

- ثلاثة إلى أربعة كلغ؟! البارحة اصطدت واحدة يصل وزنها إلى 18 كلغ.

 

في طريق العودة وفي الخيمة كان محور حديثنا حول تلك السمكة


 


[1] لاحقًا رأيت مجموعة من أولئك التلاميذ أنفسهم ينشدون نشيد "يا أيّتها الدشمة" على ذكرى الشهيد كلستاني.

 

257


229

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

الكبيرة. لم تكن الأسماك كبيرة بما يكفي عندنا. حاز أحد الشباب الرقم القياسي باصطياده سمكة كانت الأكبر ولم تكن تزن أكثر من كيلوغرام واحد.

 

في أحد الأيام رأيت أحمدي زاده جالسًا عند البحيرة يرسم المناظر الجميلة المحيطة به ويلوّنها. كان يلوّن بالأزرق البحيرة التي رسمها حين سألته:

- يا أحمد كم هو عدد إخوتك؟

- جميع الشباب في الجبهة هم إخوتي.

 

لم أفهم ما الذي يقصده وعاودت السؤال: "كم لديك من الإخوة في المنزل؟".

 

أجابني وهو مستمر في تلوين البحيرة التي رسمها: "ليس لديّ أي أخ".

 

- هل لديك أخت؟

- لقد تزوجتْ، مضى على زواجها عدة سنوات.

 

تحدثت معه أكثر، وعلمت أنّ والده يعمل سائقًا في مؤسسة البريد. لقد كان قليل الكلام لدرجة لم يكن يجيب فيها إلا باليسير اليسير من الكلمات.

 

كنت قد اشتريت فيلمًا لآلة التصوير من مدينة دزفول لكي ألتقط صورًا تذكارية مع الشباب. ذات يوم جاء إلى مخيمنا السيد رضا دستواره والأخ بازوكي الذي كان قد عُيّن آنذاك مسؤولًا عن وحدة التدريب العسكري في الفرقة. كان مسؤول كتيبة مالك يرافقهما أيضًا. استغلّ الفرصة أحد الشباب والتقط صورة مع أسد الله بازوكي

 

258

 


230

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

فاستحييت أن أتقدم إلى الأمام وعدت أدراجي. فجأةً يضع أحد يده على كتفي، لقد كان هو بنفسه. من المؤكّد أنه كان قد رآنا - يعني أنا والأخ بهار - نحمل آلة التصوير بأيدينا ووقع في قلبه أننا نحن أيضًا نريد أن نلتقط صورة معه ولكننا خجلنا ولم نقدم على هذا الأمر. قال بلطف وحنان:

- يا أخ شهبازي، ألا تلتقط صورة معنا؟

 

التقطنا صورة إلى جانبه والبهجة تملأ قلوبنا. بعد ذلك رافقناه إلى خيمة القادة ودخلنا إليها. بعد السلام، قال رفيقي للسيد رضا دستوارة ممازحًا: هل تسمح لنا أن نلتقط صورة معك؟

 

قال مبتسمًا: إن كنت ستعطينا نسخة منها إذًا لماذا لا يمكن؟ التقط صورًا بالقدر الذي تريد.

 

نحن بدورنا أبدينا شهامة والتقطنا عددًا من الصور. بعد انتهاء الدورة التدريبية عدنا إلى مبنى كتيبة حمزة في ثكنة دوكوهه. كانت رائحة الإجازة تنتشر في الأجواء. شاركت في مسابقة الأحكام التي أقامتها الوحدة الثقافية السياسية قبل ذهابي إلى الإجازة.

 

ذهبنا بالقطار إلى طهران وعدنا بعد عدة أيام. أخبرونا أننا فزنا في مسابقة الوحدة الثقافية (عقيدتي - سياسي). كانت جائزة المسابقة كتاب أصول الكافي وزيارة إلى مدينة مشهد. مع أننا كنّا قد أتينا حديثًا من الإجازة إلا أننا حزمنا حقائبنا وأغراضنا مرة أخرى وتوجهنا إلى مشهد برفقة الآخرين. أمضينا أربعة أيام ذهابًا وإيابًا، ومكثنا ثلاثة أيام في مشهد. كنا جميعا حوالي مئتي شخص. انضم إلينا الشيخ بروازي في مدينة طهران. أقمنا في حسينية في مدينة مشهد. كنّا نصلي صلواتنا الخمس في حرم الإمام الرضا عليه السلام. من جهة أدّينا

 

259


231

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

زيارة جيدة ومن جهة أخرى أبدوا اهتمامًا جيدًا بنا. كذلك خطب الشيخ بروازي فينا عدة مرات في الحسينية. سأل أحد الشباب عن الجزيرة الخضراء فأجابه الشيخ في خطبة طويلة بحث فيها الموضوع من كافة جوانبه ليجيب عن مسألة هل هذه الجزيرة هي مثلث برمودا ذاك الموجود في المحيط الهادئ أم لا. كان الشباب متعطّشين للمعرفة. كانوا يجتمعون حول الشيخ ويسألونه كلما سنحت الفرصة لذلك. في إحدى المرات سأل أحدهم لماذا قبل الإمام الرضا عليه السلام ولاية العهد من المأمون. كانت أسئلة الشباب حول موضوعات لطيفة ومؤثّرة يشتاق الجميع إلى سماعها.

 

عندما رجعت من مشهد وجدت أنّ أحدًا أخذ مني مكاني في الفصيل الأول. لهذا السبب وبعد مشاورة محسن كلستاني، ذهبت إلى الفصيل الثالث لأكون في خدمة زملائي الجرحى، وقد كان في استطاعتي أن أستأنف عملي في الفصيل الأول في اختصاص آخر. لم يستغرق الأمر كثيرًا حتى غادرنا ثكنة دوكوهه مرة جديدة.

 

كانت الوجهة هذه المرة إلى مخيم كرخه المعروف بمخيم فتح المبين. كان الطقس ممطرًا في بداية فصل الشتاء. ربطنا الخيم بإحكام، ومنعنا دخول ماء المطر إلى الخيمة. حتى ذلك الحين لم يكن قلبي يجافي الفصيل الأول، وكنت أذهب أحيانًا للقاء أصدقائي.

 

في أسبوع التعبئة، حصل أحمدي زاده وشخصان آخران من كتيبتنا على جائزة "عنصر التعبئة النموذجي". كان أحمدي زاده يحمل في حقيبته قرطاسية متنوعة، ووسائل العمل الفني كقلم الرصاص والممحاة والمقصّ ومجلات مختلفة كان يستخدمها في تزيين دفتره ذاك. ذات مرة طلب مساعدتي عندما كان يقصّ أطراف صورة

 

260

 


232

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

محسن كلستاني حتى يصبح حجمها مناسبًا للإطار المخصّص لها في صفحته. قمت بأخذ أبعاد الصورة وقياسها. طبعًا لم يكن عملي من دون شوائب. بعد تهيئة الصورة ألصقها في صفحة التذكار المكتوب من قبل محسن كلستاني.

 

في مخيم كرخه غادر مسؤول السرية الأولى كتيبة حمزة ليلتحق بكتيبة سلمان التي كانت قد أسست حديثًا، وحلّ محلّه "حسن أميرى فر" في مسؤولية السرية الذي كان المساعد الثاني لمسؤول الكتيبة أيضًا، ويبلغ من العمر حوالى25 سنة، قوي البنية، طويل القامة، داكن اللون، شعره مجعّد، صدره عريض وخصره نحيف. كنا نناديه باسم "العم حسن". تضاعفت التدريبات العسكرية عدة أضعاف منذ يوم مجيئه. كنّا بعد انتهاء البرنامج الصباحي الذي يُنفّذ على مستوى الكتيبة، نتمرّن لفترة على مستوى السرية. كأنه كان قبل ذلك أستاذًا في التدريبات العسكرية. لقد كانت التمرينات التي يقوم بها دقيقة ومحسوبة لدرجة لم يكن أحد يشعر بالتعب جراء كل تلك الحركات الرياضية. عندما نصل إلى خيمتنا بعد انتهاء البرنامج الصباحي كنّا نجد أنّ السريتين الأخريين قد تناولتا طعام فطورهما وخلدتا إلى الراحة.

 

حظيتُ بأصدقاء جيدين في الفصيل الثالث. كان من بينهم "عبدالله قابل" الأخ الأكبر لعلي قابل الذي يعمل في الفصيل الأول. لم تنقطع علاقتي بالشباب من الفصيل الأول. عندما تقرّر توصيل أسلاك كهربائية من مولّد الديزل التابع لوحدة الدعم إلى خيم الكتيبة تطوّعت أنا وسيروس بور للقيام بهذا العمل. استغرق الأمر أيامًا حتى أوصلنا الأسلاك الكهربائية إلى الخيم. أطلق الشباب صيحات الصلوات بصوت عالٍ في الليلة الأولى، عندما أُضيئت خيمهم

 

261

 


233

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

بالكهرباء بعد تشغيل المولّد. كانت ليالي الشتاء طويلة، ولهذا كانت الفائدة المرجوّة من مصابيح الفلورسنت أكبر خصوصًا بالنسبة للشباب الذين كانوا يريدون أن ينكبّوا على دروسهم بعد نشاطات النهار المتعبة. أيضًا عندما تتوافر الكهرباء نهارًا نشاهد أشرطة فيديو مسجّلة لدروس أستاذ الأخلاق الشيخ مظاهري.

 

لم يكتب لهذه الإمكانات والمتع الكثير من العمر. في إحدى الليالي ذهب أحد الشباب إلى خيمة المولّد حتى يشغّله، وضع الفانوس عليه فوقع أرضًا وشبّت النيران بالخيمة واحترق المولد أيضًا. في مخيم كرخه، خضعنا لأنواع متعددة من التدريبات العسكرية. كان بينها مادة معرفة الأسلحة والتعرف إلى سلاح "ك، م، أ" (كيماوي، ميكروبي، إشعاعي). كانت غرفة الغاز هي أحد التدريبات على مواجهة السلاح الكيماوي. كنا ندخل مجموعة تلو مجموعة إلى الغرفة المبنيّة من التبن والطين حيث يرمون بداخلها قنبلة مسيّلة للدموع. هناك أيضًا لم يضل الشباب الطريق، ففي الوقت الذي تعرضوا فيه لضيق في النفس وسالت دموعهم بدأوا يلطمون صدورهم ويقرأون مجالس العزاء.

 

في الأسبوع الأخير من شهر دي (منتصف ك2) أرسلت الكتيبة الشباب في إجازة مرة أخرى، لعلّها مأذونية الوداع. في تلك الإجازة كانت زيارة مشهد من نصيبي مرة أخرى، كنت مع مجموعة مؤلفة من اثني عشر أو ثلاثة عشر شخصًا، ركبنا مقصورتين في القطار. كان من عناصر الفصيل الأول كل من محسن وحسين كلستاني، أحمدي زاده، سعيد بوركريم ومهدي كبير زاده. كان سفرًا مليئًا بالبركة، وقد أمتع أسماعنا محسن كلستاني خلال هذا السفر بندبيّاته ومجالس عزائه.

 

بعد أن رجعنا إلى المخيم في نهاية الإجازة ذهبت الكتيبة إلى حقل

 

262

 


234

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

الرماية للقيام بعملية تصحيح للرماية عبر تصفير الأسلحة. بعد ذلك تسلّمت وحدة التعاون في الفرقة الحقيبة والأغراض الشخصية للأفراد، وتجهّزنا لمغادرة مخيم كرخه نحو المقصد التالي. كانت رائحة العملية تنتشر في كل مكان.

 

بعد ظهر يوم من الأيام، ركبنا باصًا وغادرنا مخيم كرخه لنصل ليلًا إلى مستقرّنا التالي، إنه مخيم كارون الذي نصبت خيامه بين بساتين النخيل الكثيفة إلى جانب نهر كارون.

 

صباحًا، ألقيتُ نظرة على الأطراف. كانت أرض البستان مليئة بالأعشاب التالفة والأغصان اليابسة، ما يدلّ بوضوح على إهماله منذ سنوات عديدة. لم نكن نبعد كثيرًا عن نهر كارون. بالرغم من أنّ أشجار النخيل كانت تشكّل ساترًا جيدًا للخيم إلا أننا قمنا بتغطيتها بالأغصان اليابسة وأكياس الخيش.

 

كان الوضع الصحّي في المخيّم سيّئًا. لم يكن عدد المراحيض كافيًا. عندما كنّا نسير يلتصق الطين المنتشر في أرض المخيم بأحذيتنا فيزيد وزنها كثيرًا. لم يكن الطعام بكميات كافية، وكان أقل من المخيم السابق. الحمام أيضًا كان بالقرب من مركز دعم الفرقة الذي يبعد عن كتيبتنا مسافة ساعة من الزمن سيرًا على الأقدام، كان الحمام عبارة عن عنبر بداخله 7 إلى 8 "دوشات" حيث كنّا ننتظر نصف ساعة في الصف حتى يأتي دورنا فندخل للاستحمام، ولا نكاد نفتح حنفية المياه حتى يأتي النداء تلو النداء أن: "يا أخ، أسرع.. ".

 

في أحد الأيام، قصد أحد الشباب مركز الدعم في الفرقة لكي يستحمّ، وفي طريق عودته وجد كيسًا من الخبز اليابس المتعفن فأحضره معه إلى الخيمة. بقينا لعدة أيام نتناول الأجزاء السليمة

 

263

 


235

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

من ذلك الخبز حتى تغاث به بطوننا الجوعى. كان مطبخ الفرقة يوزع الطعام على الكتائب مرة في الأسبوع تقريبًا فكان الشباب يطلقون على ذلك اسم "الحدث الأسبوعي". كان يبدو وكأنّهم يجمعون الطعام المتبقّي على مدار الأسبوع ثم يضعونه مجددًا في القدر ويخلطونه ويقدمونه كطعام للشباب.

 

في مخيم كارون، قمنا مرة أخرى بالتدرّب على مواجهة الهجمات الكيماوية. كان العراقيون قد وجهوا لنا ضربات شديدة بالسلاح الكيماوي خلال العملية السابقة. هناك قمنا أيضًا بعدّة مناورات ليلية، كان من بينها تمرين على استخدام الأقنعة المضادة للسلاح الكيماوي، حيث قطعنا مسافة ستة عشر كيلومترًا - ذهابًا وإيابًا - ونحن نضعها على وجوهنا.

 

التمرين التالي كان على كيفية التحرك في جادة قد غمر الماء طرفيها[1]. في المناورة الأخيرة كان مسؤول الكتيبة يردد على مسامعنا دائمًا وبشكل صارم:

- ليلزم الجميع مكانه في الطابور ولا يحدثنّ أي انقطاع فيه..

 

حقًّا، كم كان عملًا صعبًا ومضنيًا السيرُ والجلوس والقيام والركض، ونحن نحمل كل تلك التجهيزات، خصوصًا بالنسبة لنا نحن الذين كنا في آخر الفصيل الثالث عند مؤخرة طابور الكتيبة. ومن نافل القول لو أنّ كلّ واحد من العناصر في بداية الطابور ابتعد لمسافة عشرة سنتمترات عن العنصر الذي يتقدمه، فإنّه عندما نجمع هذه المسافات الصغيرة مع بعضها البعض وتصل إلينا في آخر الطابور ستصبح حوالي عشرة أمتار. وهذا يعني أننا نحن في آخر الطابور كنا مضطرين أن نركض كل


 


[1]  كان هذا التدريب يشبه بالضبط ما حدث معنا بعد عشرة أيام في الفاو.

 

264


236

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

المسافة أو نتوقف وقفات غير محسوبة. لطالما كرّر مسؤول الكتيبة القول إنّه كان موجودًا في عملية "والفجر 4"، وشاهد كيف أنّ أحد الشباب لم يحافظ على المسافة، فتفرق الطابور وضاع الشباب ووقعوا في كمين العراقيين، وبعد ذلك استشهد عدد كبير من الشباب، وأصيب عدد آخر بجراح إلى أن التقى قسما الطابور مجددًا واتصلا ببعضهم مجددًا.

 

كانت المناورات متعبة، لا أدري ما كان السبب، هل بسبب الجوع الذي لم يكن منه شفاء، أو بسبب التجهيزات الثقيلة التي كنا نحملها. كنت أحيانًا أردد لنفسي مصرع بيت من الشعر حيث يقال: "إن روح المؤمن الكبيرة لا تقبل التمرد" عساني أقوى على نفسي الضعيفة وأستطيع تحمل التعب والعناء، ولكن في بعض الأوقات لم يكن هذا المصرع ليأتي بنتيجة، فكنت أحيانًا أرغب في التخلّص من كل تلك الأثقال المضنية وأغطي نفسي بالأغطية القديمة في خيمتنا وأنام وأرتاح. كنت أفكّر ربما لو تناولنا كمية طعام أكبر لاستطعنا تحمل هذه المصاعب أكثر. أحيانًا كنت أقول أيضًا: "ربما لو امتلأت بطوننا لشعرنا أكثر بالنعاس ولن نجد طاقة على إنجاز أعمالنا".

 

في أحد الأيام وزعوا علينا الذخائر الأساسية وحصصًا غذائية حربية. سمعت أن كتائب حبيب وعمار ومن بعدهما كتائب الأنصار، مالك والشهادة قد غادروا جميعًا مخيم كارون. وصل الدور إلينا بعدهم، عصر أحد الأيام ركبنا شاحنات مغطاة وانطلقنا نحو مقصدنا التالي. كان المطر يتساقط رذاذًا خفيفًا. مضينا إلى أن وصلنا إلى نهر بهمن شير. ترجلنا هناك من الشاحنات، وعبرنا من فوق جسر ومشينا نصف ساعة تقريبًا إلى أن بلغنا إحدى القرى وتموضعنا في بيوتها. تلك الليلة هي ذاتها ليلة بدء عملية "والفجر8".

 

265


237

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

بعد ظهر اليوم التالي غادرنا ضفة نهر بهمن شير بشاحنات غير مغطاة. كانت العملية قد بدأت ولم يعد للتخفي تلك المنفعة الكبيرة.

 

عند الغروب وصلنا إلى أروند كنار. كان هناك عدة عنابر مجهزة لاستقبالنا. نزل في كل عنبر ثلاثون إلى أربعين شخصًا في الوقت الذي لم يكن يتسع الواحد منها إلا لعشرين شخصًا.

 

استراح البعض مستلقيًا والبعض الآخر جالسًا، ونام آخرون. كنت أرتاح في وضعية الجلوس في آخر العنبر. ذهب من كان يجلس إلى جانبي إلى الحمام وعندما رجع لم يجد مكانًا يضع فيه قدميه ليدخل، فبقي جالسًا عند الباب حتى الصباح.

 

اليوم التالي كان يوم الثامن والعشرين من شهر بهمن (17 شباط). كان صوت الراديو يعلو من مكبرات صوت وحدة الإعلام في الفرقة ويذيع موسيقى العمليات العسكرية.

 

قرابة الظهر تم استهداف مقاتلة عراقية وسقطت. رأيت طيارها يقفز منها خارجًا. بعد ساعة عندما غادرنا "أروند كنار" لنذهب إلى حافة المياه رأيت مظلة ذلك الطيار العراقي وقد علقت بأغصان إحدى شجرات النخل.

 

لم تكن حافّة المياه تبعد مسافة كبيرة عن "أروندكنار". قطعنا قسمًا منها بالشاحنة والقسم الآخر سيرًا على الأقدام.

 

ترجلنا بعد رصيف المرسى كيلا تستدل الطائرات على محل تجمع الشباب. لقد سلبت غارات الطائرات الأمن والسكون من الجميع. كانت تنقضّ من أعلى إلى أسفل لتطلق القنابل والصواريخ ثم تمضي.

 

مرات عدّة جاءنا أمر بالتفرق في بستان النخيل حتى لا نتعرض لضربة جماعية.

 

266

 


238

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

استغرق طريق ذهابنا نصف ساعة. وصلنا إلى المرسى الذي كان يقع إلى جانب منزل قروي بُني من التبن والطين. كنا نرفع أرجلنا فوق الوحل والطين المنتشرين على ضفّة النهر الفرعيّة لنضعها في داخل المركب.

 

عند رصيف المرسى، كانت هذه الحال العملياتية للفرقة. كان يركب في كل زورق خمسة عشر شخصًا من الشباب. في الوقت ذاته كان مسؤول الدائرة الصحية في الفرقة يسعى لينقل سيارة إسعاف بواسطة مركب خاص إلى الجهة الأخرى من النهر. وصل الدور إلى الفصيل الثالث وكنا نحن آخر مجموعة، قال ربّان زورقنا: "البسوا سترات النجاة هذه". كان التعب باديًا على وجهه. كان واضحًا أنه قد عمل بشكل متواصل منذ الليلة السابقة، أعاد كلامه مرة ثانية وقاد الزورق بسرعة نحو أروند. بداية لم أعِر كلامه أي أهمية. قلت: "قطعًا، إن نهر أروند مثل بهمن شير وكارون ودز". ولكن عندما دخلنا من الرافد الفرعي إلى نهر أروند أدركت حينها ماذا يعني هذا النهر. التقطت سترة النجاة وارتديتها. بعد ذلك ضحكت على حالي وخيالاتي، إذ كنت قد قلت في نفسي: "إذا استهدف الزورق سأسبح لأصل إلى الشاطئ".

 

بعد أن ارتديت سترة النجاة أمسكت بحافة الزورق بيديّ وبدأت أعد اللحظات بانتظار وصولنا إلى الشاطئ الغربي لنهر أروند، ولكن المسافة كانت طويلة. ولم تكن طائرات العدو لتدعنا وشأننا. كانت كنسر جائع يبحث عن فريسته. كانت الصواريخ الجوية تنفجر حولنا في الماء فيهيج النهر أروند وتتلاطم أمواجه. مع انفجار كل صاروخ أو قنبلة كانت المياه ترتفع صعودًا في الهواء على شكل نافورة وترجع فتتساقط قطرات الماء على رؤوسنا ووجوهنا.

 

 

267

 


239

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

أخيرًا رأينا المرسى. رصيفٌ مؤلف من عدة قطع من جسر متحرك (پل خيبرى) وألواح من الخشب وجذوع النخل وضعت جميعها على شاطئ النهر حتى ترسو الزوارق إلى جانبها. فلا مجرى نهر فرعي للترجل من الزوارق. نزل الشباب من زورقنا في الماء على مسافة حوالي خمسة عشر مترًا من الرصيف، فيما بقيت جالسًا أنتظر توقف الزورق إلى جانبه. في تلك الأثناء أدى انفجار قذيفة أطلقتها إحدى الطائرات إلى تراجع زورقنا في عمق الماء. قام الربان مرة أخرى بقيادة الزورق بأعصاب هادئة إلى الرصيف حيث ترجل الشباب الباقون.

 

كان الحاج بخشي موجودًا على الشاطئ يعمل على رفع معنويات الشباب. مشينا على الطريق المعبّد إلى جانب الشاطئ حوالي ربع ساعة من الزمن لنصل إلى منازل اتّخذناها محل استراحتنا.

 

كان الظلام قد حلّ. على وقع أصوات الانفجارات التي ينبعث ضوؤها من بعيد والقنابل المضيئة تتألق وتلمع في السماء. جلنا قليلًا بين تلك البيوت النظامية، وأخيرًا خلدنا إلى الراحة. تلك كانت ليلة الأربعاء، أي مناسبة دعاء التوسل، وصوت محسن گلستاني يصل من الفصيل الأوّل إلى مسامعنا. نحن أيضًا تلونا الدعاء معه. هذا طعام العشاء قد أتى أيضًا: همبرغر وخبز اللواش وكبيس الخيار.

 

في منتصف الليل جاءنا أمر بالتحرك. ثم وصلت بعد ذلك الشاحنات، خلال عدة ساعات لم يغمض لنا جفن من شدة الحماسة. فلم نكن ندري أين نحن، متى وإلى أين سنذهب. ركبنا الشاحنات وترجلنا بعد ساعة على جادة معبّدة يُقال لها جادة أم القصر. ترجلنا

 

268

 


240

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

في موقع "الهلال" الصاروخي[1]. ولجأنا إلى السواتر الترابية التي أقيمت على يمين الجادة. بقينا هناك إلى أن سطع ضوء النهار ثمّ انتقلنا إلى الكتف اليسرى من الجادة واختبأنا هناك. خلال النهار تفقدتنا الطائرات والمروحيات العراقية عدة مرات لتسأل عن أحوالنا! كنا نرى آثار الاشتباكات ونسمعها من بعيد.

 

ظهرًا انتقلنا مئات الأمتار وتقدمنا إلى الأمام على امتداد الجادة. أرهقتنا هذه الانتقالات إلى أن استرحنا في مكان، واستحدثنا دشمة نحتمي بها. جاء أمر بالانتقال. قلت في نفسي: ليست الجبهة إلا هذا. لقد أتيت لتحارب. الحرب هي شيء يختلف عن المخيم والبرنامج الصباحي والتدرّب على الحرب الليلية. لقد انتهى زمن الأكل والنوم التقليدي والمعتاد على رأس الساعة. تهيّأ للحرب.

 

عند الغروب أيضًا جاءنا أمرٌ بالتحرك. قبّلنا شباب الفصيل. التقيت "أحمدي زادة" وودّعته أيضًا. جاءني "محمد أمين شيرازي" من الفصيل الأوّل، وقال:

- يا أخ شهبازي، سامحني، لا تنساني من الشفاعة..

 

لم أكد أكمل صلاة العشاء حتى انطلق طابور الفصيل الثالث، فأوصلت نفسي إليه على عجل. بدأت الكتيبة تتحرك إلى الأمام بهدوء وصمت. عندما كانت القنابل تضيء السماء يتوقف الطابور فنجلس وننتظر إلى أن تنطفئ. بعد ساعة من المسير استرحنا نصف ساعة. كان القادة يستقرون تحت جسر بالقرب منّا. كان بينهم الحاج رضا دستواره، أسد الله بازوكي وعدة أفراد من وحدة استطلاع العمليات.

 


 


[1] ربّما قصد: الموقع الصاروخي ذو السواتر الهلالية الشكل.

 

269


241

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

في ذلك المكان اتُّخِذ القرار حول العملية الليلية لكتيبة حمزة في تلك الليلة نفسها. كان القرار: التقدم على جادة الفاو - أم القصر واحتلال الجسر الكبير الذي يبعد أربعة كيلومترات إلى الأمام، ومن ثم يقوم عناصر التخريب في الفرقة بتدمير الجسر، وبعد ذلك تشكيل خط هجومي جديد خلف الجسر واستحداث قناة لتأمين مياه مصنع الملح.

 

بعد أن أصبحت خطة العملية حتمية جاءنا أمر جديد بالتحرك. الحافة الأمامية لمنطقة القتال كانت مقصدنا التالي. كان السيد مجتهدي - المساعد الأول لقائد الكتيبة - يسير بمحاذاة الطابور ويردد ذكرًا لله يهبه وللشباب قوة القلب:

- يا منزل السكينة في قلوب المؤمنين!

 

في تلك الليلة قطعنا كيلومترًا واحدًا خلال ثلاثة أرباع الساعة. الجميع مشغول بذكر الله وبالتوسل بالمعصومين عليهم السلام.

 

كنت قلقًا جدًا. قلق مقداره ألف ضعف من قلق التلميذ الذي يشارك في الامتحانات الرسمية للدخول إلى الجامعة. لم نكن نذهب لنواجه ورقة وأربعة أسئلة، بل كنا عازمين على مقارعة عدو مجهّز بالعتاد في ساحة القتال أتى إلى أرضنا لسحقنا. طبعا، في تلك الأثناء، نحن من كان يبحث عن موطئ قدم في أرضه عسى أن نستحوذ على ورقة رابحة. لقد زاد من قلقنا عدم معرفتنا بأرض العدو. بالنسبة لذلك التلميذ لم يكن خطر الموت وبتر الأعضاء والأسر محدقًا به، فيما نذهب نحن إلى معركة حلواها و"مقبّلاتها" المدفع والهاون والرشاش واللغم والقصف الجوي. أضف إلى ذلك أنه الامتحان الأول - بعد أشهر من الجهد والسعي- الذي أواجهه والشبان اليافعين أمثالي.

 

270

 


242

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

لم يسبق أن شاركت في امتحان من هذا القبيل. كذلك كان لبنيتنا الجسدية وقوتنا البدنية حكاية أخرى قياسًا إلى العراقيين المتعجرفين الذين كنا قد سمعنا عن أوصافهم ورأينا صورهم.

 

ما ذكرته هو واحد من الاضطرابات الكثيرة، وقد بقي عالقًا في ذهني، تلك الأرض المجهولة والمعركة التي تقطع الأنفاس.

 

مع ذكر الله تعالى والمعصومين الأربعة عشر الأطهار، تلاشى كل هذا القلق بالنسبة لنا جميعًا وكنا نؤنس قلوبنا أننا حملنا دماءنا وأرواحنا بأكفّنا ووضعنا أرجلنا في طريق يحمل مشعله "شيخ جماران"[1] لذلك فإن الأيدي الغيبية سترعانا وتحفظنا بكل تأكيد. وحتمًا فإن كل ما يصيبنا في هذا الطريق الذي اخترناه بأنفسنا سيكون خيرًا، وكل ما سيحدث سيكون جميلًا.

 

بعد وقفة على الحافة الأمامية حان وقت الانفصال. فانطلقت السرية الأولى. كان مقررًا أن يقوم الفصيل الأوّل وفريق من الفصيل الثاني بتطهير الجهة اليمنى من الجادة، وعُهِد أمر تطهير الجهة اليسرى منها إلى الفصيل الثالث والفريق الآخر من الفصيل الثاني، وأيضًا على كلا الفريقين التقدم بقدر ما يستطيعون.

 

بعد أن عبرنا الساتر الترابي ركضنا قليلًا، ومن ثم تقدّمنا زحفًا وبجسم منحنٍ من الجهة اليمنى للجادة إلى الجهة اليسرى منها. وبعد ذلك مشينا مشية البطة. رأيت أول دبابة محترقة على الجادة. كان جندي عراقي يتمشّى إلى جانبها، وقد وصلنا ونحن نمشي مشية البطة إلى مسافة عدة أمتار منه. لقد أعمت عيناه الآية الكريمة : ﴿وَجَعَلْنَا

 

 


[1] الإمام الخميني قدس سره.

 

271


243

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا..﴾[1] ولم تسمع أذناه أيضًا الأصوات المحيطة.

 

أوصل إلينا الشخص الذي أمامنا خبرًا مفاده: "يبدأ الهجوم عند انفجار أول قنبلة يدوية وتكبير العم حسن" تم تحرير "أمان" الأسلحة لتصبح جاهزة للاشتباك. الجميع ينتظر أن يعلو ذانك الصوتان.

 

ما إن بدأ الهجوم حتى امتلأ جسم ذلك العراقي السيّئ الحظ ثقوبًا، فلم يكد يصل صوت انفجار القنبلة وتكبير العم حسن إلى مسامعنا حتى استهدف عدد من الشباب ذلك المسكين برشاشاتهم، بعد رماية الشباب تدفق سيل من رصاص العدو نحونا. أردت أن أصل بنفسي إلى فوق الجادة، ولكن لم أستطع. لقد كان الرصاص غزيرًا لدرجة لا يمكن معها التقدم على الجادة. تحركت من الجهة اليسرى للجادة. لم يستغرق الأمر أكثر من عدة دقائق حتى استطاع الشباب أن يتقدموا خمسين إلى ستين مترًا إلى الأمام، ولكن الخسائر لم تكن قليلة أيضًا.

 

كان محسن كودرزي الجريح الأول الذي ضمدت جراحه. هو أحد شباب الفصيل الأوّل. لقد رأيته يرجع إلى الوراء يضع يده على صدره وقد تغير لون وجهه. ما إن رآني حتى نادى: "يا شهبازي" ثم وقع أرضًا. حملته إلى جانب الطريق وبدأت أسعفه. كانت رصاصة قد أصابت قفصه الصدري وكان جرحه يتعرض للهواء. لم يكن لديه خبرة، فقط كان يعلم أنه في حالات كهذه عليه أن يضع يده على الجرح ويضغط عليه. وضعت عليه شاشًا معقمًا وجبصًا (مشمع) حتى لا يسحب الهواء.

 

 


[1] سورة يس، الآية:9.

 

272


244

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

تحسنت حاله قليلًا بعد أن ضمدت جرحه جيدًا وقال:

- بداية عندما أصبت بالجراح كان الرصاص غزيرًا جدًّا فأخفيت نفسي بين الجثث. بعد ذلك بقليل عندما انخفضت حدة النيران رجعت إلى الخلف.

 

كانت الدشم والدبابات العراقية تُدمّر واحدة تلو الأخرى، ولكن كأنه لا لها نهاية. كان عناصرهم منتشرين كالجراد.

 

بدا واضحًا أن تقرير استطلاع العمليات لم يكن صحيحًا. ذهبت إلى الأمام. رأيت الأخ بهار - مسعف الفصيل الثاني - يجلس إلى جانب جريح. هو مهدي شجاعيان عامل بريد السرية حيث كان قد داس على لغم قفاز فبترت رجلاه كلاهما، واحدة من الأسفل والأخرى من فوق الركبة. وقد نزف بشدّة. قلت لبهار: "هل تريد مساعدة؟".

- "كلا، اذهب واهتم بالآخرين".

 

وجدت أن مهدي أصيب بجرح في صدره كان بهار قد ضمده. تحدثت معه قليلًا لكي أسليه وأعزيه، فكأنه لم يسمع صوتي.

 

كان يلتف فجأة، وأحيانًا يحاول الجلوس ليرى رجليه المقطوعتين، ومن ثم يسكن من جديد. نفد الشاش من المسعف (بهار)، ولكن النزيف لم يتوقف. ربط بهار كوفيته بالجرح أيضًا، ولكن من دون جدوى.

 

وصل معتمدي -وكان مسعفًا في الفصيل الثاني أيضًا - وسأل:

- ألا تريد مساعدة يا أخ بهار؟

 

قبل أن يتفوه بهار بكلمة قلت:

- أنا موجود هنا، اذهب أنت.

 

273

 


245

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

مضى الأخ معتمدي واستطاع بهار جاهدًا أن يوقف النزيف[1].

 

بعد أن ارتاح بالي انطلقت. وصلت إلى طابور (رتل) العدو المؤلل الذي لم يكن له نهاية. رأيت معتمدي هناك وقد استشهد إلى جانب جريح مستلق بجانبه. ذهبت إليه لأكمل عمل معتمدي الذي لم ينته منه.

قال الجريح بغصة ومرارة:

- لقد استشهد من أجلي. لو لم يكن مشغولًا بتضميد جراحي لما استشهد، كان يضمد جرحي عندما سدد نحوه أحد العراقيين من تحت الدبابة. لقد رأيته ولكن انعقد لساني ولم أستطع الكلام. لم ينتبه إلى العراقي مهما حاولت تنبيهه.

 

كان يعتقد أنني أتأوه بسب جرحي وألمي، ولكني كنت قلقًا عليه. في نهاية المطاف فعل ذلك العراقي فعلته..

 

كان يبكي. أنا أيضًا خنقتني العبرة أنه لماذا لا يحمل المسعفون سلاحًا صغيرًا يدافعون فيه عن أنفسهم. حتى لو انتبه معتمدي إلى ذلك العراقي ماذا كان يستطيع فعله (ولا سلاح بيده)؟

 

بدأت السريّتان الثانية والثالثة في كتيبة حمزة عملهما أيضًا. كانت الاشتباكات شديدة. كنت أضمد جراح شاب حينًا وآخذ بطرف نقالة الجرحى لننقل جريحًا إلى الخلف حينًا آخر.

 

لو لم أضمّد جراحه وبقي على الأرض لاستشهد من شدة النزف والضعف والبرد.

 

في إحدى المرات عندما أوصلت أحد الجرحى إلى نقطة الانفصال وجدت فوضى عارمة هناك. كان ناقلو الجرحى يحضرون المصابين إلى ذلك المكان، ويضعونهم أرضًا ويذهبون. كان بعض الجرحى


 


[1] لاحقًا سمعت أنهم استطاعوا إيصاله إلى رصيف الميناء، ولكنه استشهد من شدة النزيف.

 

274


246

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

بحاجة إلى اهتمام أكثر.

 

جُلت قليلًا في المكان هناك. على بعد أربعين مترًا من الجادة وجدت غرفة بنيت جدرانها من حجارة الباطون وصنع سقفها من ألواح الـPlate. دخلت إلى الغرفة وأضأت المصباح اليدوي. كانت فارغة تقريبًا. بدا لي أن أجعل من ذلك المكان مستشفًى ميدانيًّا صغيرًا. في تلك اللحظة رأيت ناقلي الجرحى يضعون حمالة على الأرض، ناديتهم:

- يا أخ، أحضر الجريح إلى هنا.. أحضر الحمالة إلى هنا..

 

هكذا كانت انطلاقة هذا المستشفى، وجدت مصباحًا (سراجًا) نفطيًّا وأشعلته. شع نور خفيف في تلك الغرفة الصغيرة. بعد دقائق امتلأت الغرفة بالجرحى. ومنذ ذلك الحين أصبحت سيارات الإسعاف تقصد ذلك المكان لنقل الجرحى. تحت ضوء ذلك المصباح النفطي كنت أنظر إلى ضمادات جراح الجرحى. فكنت أضمد مرة أخرى الجراح التي لم يُعتنَ بها بشكل جيد، وأترك الجراح التي أتقن المسعفون ضمادتها. بعد ذلك كنت أخرجهم أيضًا إلى خارج تلك الغرفة ريثما تأتي سيارة الإسعاف وتنقلهم.

 

فجأة أحضروا عددًا من الجرحى بحالات حرجة. واحدٌ خرجت أمعاؤه وآخر قطعت رجله، وجريح وقع في مياه خليج عبد الله المالحة، وذاك فقد عينه، وآخر تعرض لعصف انفجاري ولم يكن يدرك ما الذي يفعله.

 

فقدت القدرة على متابعة العمل، طلبت العون من الله:

- يا منزل السكينة في قلوب المؤمنين، أدركني!

 

ذكرت هذا فسكنتْ نفسي واستأنفتُ عملي من جديد، ولكن أي عمل؟ في تلك الأثناء كانت الثواني واللحظات مصيرية. فحين كنت

 

 

275

 


247

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

منكبًّا على معالجة أحدهم، كنت أعلم أن العد العكسي لحياة جريح آخر قد بدأ وربما تنتهي حياته إن تأخرتُ بإسعافه. أدت جراحهم البالغة وحالاتهم الحرجة إلى اضطرابي وقلقي. أحيانًا كنت أذهب إلى جريح لأداويه فيموت، فتغمرني كل أحزان العالم. كنت أعتبر نفسي مسؤولًا عن موته.

 

لم يعد لدي الكثير من العمل في تلك الغرفة الصغيرة فانطلقت مرة أخرى نحو ميدان القتال. كان شباب كتيبة الأنصار قد أتوا - بدون أسلحتهم - لمساعدة ناقلي الجرحى. تقدمت إلى قلب المعركة. ما زالت مسافة تفصلني عن الطلائع الأولى حيث وجدت عامل بريد السرية جريحًا. كان قد أصيب في وجهه وجبهته. ذهبنا معًا إلى مكان آمن كي أضمد جراحه. سألته:

- كيف أصبت بالجراح؟ أين تشعر بالألم..

- عندما عبرت عن رتل الدبابات رأيت شخصًا واقفًا أمامي. كان يحمل رشاشًا بأخمص حديدي قابل للثني. اعتقدت أنه حسين فياض نائب قائد الفصيل. ناديته: يا حسين، هل هذا أنت؟ سحب أقسام رشاشه قبل أن يلتفت إلى الخلف. أدركت أنني أخطأت، ولكن متأخرًا جدًا. التفت خلفه. عينان واسعتان ووجه أسود وشاربان عريضان. لم أكد أتحرك من مكاني حتى ضغط على الزناد ورماني بصلية من الرصاص. من بين تلك الصلية أصابت رصاصة يدي ثم وقعت أرضًا. بعد ذلك اقترب مني. وضع سبطانة سلاحه على رأسي وأطلق علي رصاصة الرحمة! فتناثر الدم على عيني. لم أكن أصدق أنني ما زلت حيًّا. فتحت عيني رويدًا رويدًا. كان رأسي يؤلمني ولكن ليس هناك ما يشير إلى عالم الموت، ما زلت حيًّا فالرصاصة قد احتكت بجمجمتي

 

 

276

 


248

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

وذهبت. عندما أدركت جيدًا ما الذي حصل وما يدور حولي نهضت من مكاني ورجعت إلى الخلف.

 

أخبرني بقصته بعد أن لففت يده ورأسه بالشاش بشكل جيد، ومضى وتركني أفكر في مشيئة الله.

 

إلى الأمام أكثر، بين مدرعات العدو، وجدت جريحًا يتأوه ويئن من الألم. كان قصير القامة ونحيفًا. كان الظلام حالكًا هناك. بدا لي أنه "ما شاء الله نانگير" الذي كان يعمل في وحدة الإعلام في الكتيبة.

ضمدت جرحه. بعد أن فرغت من عملي سألته:

- يا "ما شاء الله " هل هناك جرح آخر؟

 

فارق الحياة في تلك اللحظة. فلم يصدر منه صوت أو نفس بعد ذلك.

 

قلتُ: هنيئًا لك يا "ما شاء الله "! لقد بلغت مناك..

 

فجأة أضاءت قذيفة مضيئة السماء فوق رؤوسنا. نظرت فوجدت أنه ليس "نانگير" ولكنه جريح عراقي ذو وجه خشن وشاربين عريضين. كان جسمه وبنيته أشبه "بنانگير". شعرت بالخوف وغضبت، من الوحدة ومن الحزن والأسى الذي بذلته له. امتلأت يداي وثيابي ورأسي ووجهي دمًا. لعلّ انتابني الخوف ودهمني عندما رأيت كل هذا الدم خلال زمن قصير.

 

تذكرت مقولة مدربنا في وحدة الرعاية الصحية حيث قال: "يجب أن لا يخاف المسعف من الدم، وإلا فإنه سيفقد معنوياته ويعتقد أن جميع أفراد الفصيل أو السرية قد استشهدوا.. ". وفي مقولة أخرى: "يجب علينا أن نفكر بالجرحى وأن لا نهتم بالعدو وبخسائرنا. علينا أن نحصي الجرحى حتى لا يكون فكرنا وعملنا في المكان غير الصحيح".

 

277

 


249

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

عدّدت الجرحى الذين ضمدت جراحهم فوجدت أنهم حوالي العشرين جريحًا. عزيت نفسي قائلًا: إذًا لا يوجد داعٍ للقلق. رجعت إلى غرفة الإسعاف فوجدت أن الجريح الذي كان قبل نصف ساعة هناك ما يزال موجودًا في مكانه يئن من الألم. سألت: "ما الذي يحدث هنا؟".

 

قالوا: "لا سيارة إسعاف هنا".

 

تذكرت نائب مسؤول وحدة الرعاية الصحية في الغرفة الذي كان يسعى لنقل إسعاف بواسطة زورق خاص. ذكرته بالدعاء له في قلبي.

 

كان الحاج رضا دستواره موجودًا هناك. قلت له:

- يا حاج، لدينا عدد كبير من الجرحى. إن لم نوصلهم سيفارقون الحياة..

- أخبرناهم بواسطة جهاز اللاسلكي. وهم في طريقهم إلينا.

 

مهما انتظرنا لم يحدث شيء. كنت بحال من الغضب إذ لم أتمكّن من فعل شيء للجرحى. وقعت عيني على آلية إي?ا عراقية. ذهبت إليها ومهما حاولت أن أشغلها لم تعمل. لم أكن أستطيع البقاء ساكنًا. عدت مرة أخرى إلى غرفة الإسعاف لأكون بالحد الأدنى مسليًا ومعزيًا لهم. هكذا كنت بنفسي أهدأ وأسكن أيضًا.

 

وصلت سيارة الجيب القيادية لرضا دستوارة. كانت تؤدي دور سيارة الإسعاف في غيابها، ملأنا السيارة بالجرحى المحمولين على نقالة، أو الآخرين الذين يستطيعون التحرك حتى يتم نقلهم بسرعة. لم أعد أستطيع القيام بأي عمل هناك فقصدت ساحة القتال مرة أخرى.

 

فجأة، بين رتل الدبابات، رأيت مجروحًا إلى جانب دبابة مشتعلة

 

278


250

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

قد شبت به النار ولم يكن باستطاعته أن يخلص نفسه. تبيّن أنّه كان أحد العاملين بنقل الجرحى، وقد ذهب ليحضر جريحًا، كان قد ضمد جراحه مسعفٌ واستطاع أن يحضره إلى الخلف، ولكن، في اللحظات الأخيرة، شبت به النار. تقدّمت إلى الأمام، ولكني لم أستطع القيام بأي عمل. وفي المحاولة الثانية وضعت يدي على وجهي عسى أن لا يحترق بألسنة النار الملتهبة، ولكن لم أستطع فعل شيء أيضًا. بلّل أحد الشباب غطاءً بالماء الراكد إلى جانب الطريق وركض به مقتحمًا قلب النار لينجي الجريح.

 

رأيت حسين گلستاني أيضًا وقد أصيب بجراح، ففقد جزءًا من العظم المتحرك في ركبته، وقام المسعفان بتضميد جراحه. كان يرجع بنفسه إلى الخلف ولم يكن يسمح لأحد بمساعدته ويقول:

- اذهبوا واهتموا بباقي الجرحى. أنا في وضع جيد..

 

في المرة التالية التي ذهبت فيها إلى غرفة الإسعاف وجدت جرافة تشق الساتر الترابي حتى تتمكن سيارات الإسعاف من التقدم إلى الأمام.

 

لم يكن سائق الجرافة الذي أحيط بالأصوات والضجيج يعير انتباهًا لأي شيء أو لأي شخص حوله، وكان جلّ اهتمامه منصبًّا على إنهاء عمله بأسرع وقت ممكن. كاد -ذات مرة- أن يسحقنا تحت العجلة، ومرة أخرى كاد أن يدفننا تحت رفشه الكبير.

 

مرة أخرى ذهبت إلى الأمام لأنقل جريحًا آخر إلى الخلف. كان محمد قمصري، أحد شباب الفصيل الأوّل، وقد أُصيب بفخذه وأسفل بطنه. أنجز المسعف عمله بحذاقة، واستطاع أن يوقف نزيف الدم، ولكنّ لون وجه محمد كان قد تغير، فقد أصيب بالجراح منذ بداية

 

 

279


251

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

العملية، وبقي على الأرض حتى ذلك الحين. وضعناه على الحمالة وأخذت بطرفها من الأمام وانطلقنا. في الطريق توقفت الحمالة بشكل مفاجئ وارتفع صوت تأوه وأنين محمد. سحبت الحمالة عدة مرات عسى أن تتحرك ولكن كأنها قد أقفلت ولم تتحرك أبدًا. أمعنت النظر جيدًا وجدت الطرف المسدل لكوفية محمد السوداء قد علق بشريط شائك.

فصلت الكوفية عن الشريط الشائك وفي اللحظة نفسها أدركت أننا دخلنا حقل ألغام. تعجبت كيف أنني ترددت عدة مرات في هذا الطريق ذهابًا وإيابًا ولم يصِبني أي مكروه[1]! مرة أخرى أصاب بدهشة من مشيئة الله وتقديره الجاري. قلت في نفسي: لقد كانت كوفية محمد في هذا المشهد مظهرًا لقدرة الله تعالى، إن لم تكن آية ظاهرة وواضحة فماذا عساها تكون؟

 

لاحقًا قمتُ بتفقد المنازل التي بنيت بشكلٍ ولونٍ موحّد، وتوّزعت على الجهة اليمنى من الجادة، عسى أن أجد شهيدًا أو جريحًا لأنقله إلى الخلف. خطّطت جدران هذه المنازل بشكل يساعد في استتارها.

 

ما إن تقدمتُ قليلًا إلى تلك الجهة حتى بدأ الرصاص يأتيني من كل مكان، من جهة تلك المنازل، من تحت الدبابات، من الصحراء ومن المستنقع، ولم يكن من مجال للتقدم فرجعت أدراجي.

 

في تلك الليلة تراجعت جميع قوات العمليات (الهجومية) في كتيبة حمزة ولم تستطع الوصول إلى هدفها. أصبحت نقطة الانفصال هي الحافة الأمامية لمنطقة القتال مجددًا. ما زال الجرحى في داخل غرفة الإسعاف وخارجها ممددين أرضًا. قاموا بتجبير يد أحدهم ولكنها كانت ما زالت تؤلمه. جلست وفككت ضمادة جرحه ووضعت


 


[1] في صباح اليوم التالي جمعوا كيسًا من الألغام من ذلك المكان.

 

280


252

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

عليها جبيرة مرة أخرى بعد ذلك علّقت يده برقبته بواسطة ربطة، ثم ألصقتها بصدره حتى لا تهتز. ما إن خفّ ألمه حتى شكرني.

 

لا زال صوت السيد رضا دستوارة بواسطة اللاسلكي يتردد طالبًا سيارة إسعاف من الخلف:

- أسد - أسد، رضا.. يلزمنا "ممقاني"[1] من عندك.

أجبته:

- من بين الجرحى يوجد عدة أشخاص لديهم جراح شفّاطة في الصدر، وعدة آخرون مصابون بنزف وريدي..

أجابني بمحبة ولطف:

-عافاك الله.. على عيني.. قواكم الله..

ومرة أخرى ينادي صارخًا عبر اللاسلكي على القوات الخلفية. لم يبق متّسع من الوقت حتى يطلع النهار واقترب بزوغ الفلق. لم يبق رمق في جسمي. كان شباب كتيبة الأنصار يرتبون دشم الحافة الأمامية.

جاء أمر يقضي بأن يجهّز عناصر كتيبة حمزة أنفسهم للرجوع إلى الخلف، الرجوع إلى المكان ذاته الذي كنا فيه عند الغروب.

 

انطلقنا في طريق العودة مشيًا على الأقدام. جاء الكثير من عناصر الاحتياط إلى الحافة الأمامية للمساعدة ولم يكن شيء لينتج من جسمنا المرهق ومعنوياتنا المهزومة. عبرنا مثلّث مصنع الملح. كان الطقس باردًا جدًّا.

 

فجأة سمعنا صوتًا جعلنا نقف في أماكننا من دون حركة:

- قف.. قف..


 


[1] هي الكلمة المشفرة رمز لكلمة إسعاف على جهاز اللاسلكي.

 

281


253

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

قلت بصوت عالٍ:

- نحن قوات صديقة..

- ماهي كلمة السر؟

- نحن قوات صديقة، من شباب كتيبة حمزة.. أتينا من الخط الأمامي..

 

عندما تأكد من كوننا قوات صديقة أظهر نفسه وقال:

- يا أخي، تعال إلى أسفل.. الجادة في مرمى نيران المدافع المباشرة.

 

أصغينا إلى كلامه والتعب بادٍ علينا وبدأنا بالسير على كتف الجادة الترابي. وبعد دقيقة واحدة أصابت قذيفة مباشرة المكان الذي كنا فيه بالضبط فانبطحنا جميعًا على الأرض.

 

كانت تراودني أفكار مشوشة. كان ذهني كطائر غدا فريسة للعاصفة، يطلّ في كل لحظة على مكان، يذهب ويأتي.

 

فتراه تارة في المخيمات التي كنا فيها، وأخرى في التدريبات التي خضعنا لها، وثالثة يعرّج على قصص الليلة الماضية.

 

أخيرًا وصلنا إلى المقر، كان ثمانية أفراد فقط من السرية الأولى موجودين هناك. صلينا صلاة الصبح ونحن نرتدي ثيابنا المليئة بالدم وجسمنا المعرق والممزوج بالتراب بعد أن أسبغنا التيمم. كنت تعبًا ومرهقًا، أشعر بالنعاس ويكاد النوم يغلبني، وبطني لا طاقة لها ولا صبر على الجوع. حصلت على علبة فواكه معلبة من الدعم. ثقبتها وشربت ماءها فرُدت روحي إليّ قليلًا. قلت في نفسي: الشهداء الآن ضيوف على مائدة سيدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأمه فاطمة الزهراء عليها السلام وأنت تفرح بالتفاح المعلب هذا! بعد ذلك أنبت نفسي

 

282


254

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

بكل ما خطر على بالي، وندبت سوء حظي وعدم لياقتي وتفاهتي.. ثم غلبني النوم من شدة التعب.

 

لم أكد أستيقظ من نومي الذي استغرق عدة ساعات، وقبل أن أنهض من مكاني حتى بدأت تلك الحرب الذهنية تدور في رأسي: هي حرب، وهي عاصفة، سؤال وجواب، تأنيب واستجواب وأحيانًا أملٌ أيضًا وبشارة أنه ما زالت الفرصة سانحة. لقد قلت في نفسي وأنا أبكي: إلهي، إذًا لن أرى شباب الفصيل الثالث بعد الآن؟ أين هم شباب السرية الأولى الآن؟ ألن أسمع صوت محسن بعد اليوم؟ أين محمد عليان نجادي، محمد أمين شيرازي، معتمدي والآخرون.. لقد استشهدوا جميعهم؟ خرجت من العنبر حتى أرى شخصًا ليهدأ روعي، ولكني لم أجد أحدًا. حتى إن التقيت بأحد ما فالجميع حالهم كحالي. كأن كتيبة حمزة قد استحالت ماءً وذهبت إلى باطن الأرض، أو ربما إلى السماء.

 

كنت أبكي وأتمشى وأبحث عمّن يسلّيني، ولم أجد أحدًا. لقد ذهب جميع أصحابي، فهم إما شهيد أو جريح، لم يبقَ أحد منهم أبدًا.

 

وأنا على هذه الحال والأوضاع وصل الحاج بخشي يحمل معه آلة التصوير خاصته. ما إن أتى إليّ حتى قلت باكيًا:

- ما الذي تريد أن تصوره؟ أنني لم أستشهد؟! في ذلك اليوم رجع بعض الجرحى الذين كانت جراحهم طفيفة إلى الكتيبة فازداد عديد قواتها عشرة إلى عشرين عنصرًا، كان سيروس مهدي پور وحميد رضا رمضاني من جملة هؤلاء. كان سيروس قد لفّ رجله بالشاش، فيما لف رمضاني رأسه.

 

هل العمل لم يكن ليتقدم من دونهم؟ أو هل للعمل أن يتقدم كثيرًا

 

283

 


255

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

بوجودهم؟ أو أنهم وجدوا أنفسهم يدينون لأصحابهم الشهداء، فرجعوا ليحاربوا حتى آخر قطرة من دمائهم وآخر نفس يتنفّسونه؟ إن كنت أنا مكانهم هل كنت سأرجع؟

 

كنا ثلاثة أشخاص، أقمنا صلاتي المغرب والعشاء جماعة. كان إمام الجماعة يقرأ سورة الفاتحة ويبكي، يقرأ سورة بعدها ويضجّ بالبكاء، يقول ذكرًا ويبكي، وكذلك كانت الحال بالنسبة للمأمومين!

 

عند غروب يوم الخامس عشر من شباط غادرنا الموقع "الصاروخي" الهلالي وذهبنا إلى الموقع الصاروخي "ذوذنقة" الذي يبعد عنه عدة كيلومترات. الموقع الأول هو في هذه الجهة من الجادة بينما يقع الموقع الآخر في الجهة الأخرى منها. في هذا الموقع الذي أقيم على خليج عبد الله كانت قوات كتيبة مالك تدافع دفاعًا ساحليًا لتحول دون تقدم العدو من الماء. هناك حرستُ عدة ساعات.

 

في ليلة الثامن عشر من شباط صنعنا طعامًا ساخنًا وجيدًا للعشاء لنتناوله معًا، "يخنة القيمة" بالبهارات والحامض المجفف[1]. كانت رائحتها مسكرة لدرجة لم ندرك كيف أقمنا صلاتنا. كنا نتجهز للجلوس إلى المائدة حين سمعنا صوتًا يشبه نداء قائد الكتيبة يصل إلى مسامعنا من خارج العنبر الدافئ والناعم والمضيء. ركضنا إلى الخارج، قال القائد:

- ليتجهز كل من يريد المشاركة في العملية. عديد قوات الانقضاض(الهجوم) قليل.. كل من يريد التبرع ليكن جاهزًا.. يا علي..

 

كان نائب قائد الكتيبة برفقته. قال:


 


[1] ليمو عماني.

 

284


256

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

- اليوم ستنقض كتيبة حبيب على خط العدو، ومن المقرر أن تنجز فرقتنا المهمة الليلة، بالإضافة إلى فرقتي "ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف" و"علي بن أبي طالبعليه السلام". علينا احتلال جسر جادة أم القصر وإن شاء الله سوف تتم السيطرة عليه..

 

لم يكن ذلك الطعام اللذيذ من نصيبنا. وقفت شاحنة تويوتا -من الطراز الحديث- مشغلة المحرّك أمام عنبر القيادة وكان الشباب المتبرعون يركبون فيها. استخرت الله بحضور قلب وذكر الصلوات وفتحت قرآني الجيبي. نظرت فوقعت عيني على الآية: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾[1] من سورة الرحمن. أصبح قلبي مستنيرًا. ازددت يقينا أن ذلك الطريق الصعب هو مسير السعادة وإدراك النعم واللذات الإلهية والمعنوية. جهزت حقيبة الإسعاف وأخذت عتادي وهربت من تلك الدنيا الدنية التي لم نر بعدها إلّا عملًا يبقى ناقصًا، وعذابات جمة وشهادة الأصدقاء، وحتى إنها لم تمنحنا فرحًا ولو يسيرًا. فررت إلى الله وإلى الملذات الخالدة.

 

عندما رآني الحاج أميني جاهزًا سألني:

- ما هو اختصاصك؟

- أنا مسعف.

 

مباشرةً قال: "لا حاجة لمسعف، فقط مساعد رامي آر بي جي.. ".

- "يا حاج، الشباب يصابون بالجراح، وجود المسعف ضروري".

 

وقف وتوجه نحوي قائلًا:

- كما قلت، نريد عناصر قتالية فقط.

 


[1] سورة الرحمن، الآية 68.

 

285


257

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

- لم يكن باليد حيلة، بحثت فوجدت بندقية كلاشنكوف وحقيبة ذخائر فغدوت مساعدًا لرامي آر بي جي. الأخ المسعف "بهار" التقط بندقية أيضًا وحمل حقيبة وذخائر آر بي جي وغدا مساعدًا مثلي. بعد ذلك ركبنا وانطلقنا.

 

بدأ أحد شباب الإعلام الذي كان يرافقنا بإنشاد نشيد "كل هدفنا هو عقيدتنا". فتوجه قلبي نحو كربلاء ومصائب يوم عاشوراء. ولكني كنت سعيدًا أنني وبعد حوالي 1300 عام على تلك الحادثة المفجعة أضع قدمًا على طريق شهداء كربلاء، وأركب في شاحنة تحملني إلى ساحة هي ميدان قتال بين حسين زمانه ويزيد عصره السفاح. شكرت الله إنني نزعت -بلطف منه- التعلق بهذه الدنيا الدنية من قلبي بسهولة وتحررت من التعلقات المادية، ووضعت قدمي مسرعًا في طريق سفر مليء بهذا القدر من الأخطار.

 

تتقدم الشاحنة بمصابيحها المطفأة في قلب الظلام فيما أتمتم مع نفسي:

- يا منزل السكينة في قلوب المؤمنين!

 

عبرنا من نفق النار والانفجارات وترجلنا بالقرب من الخط الأمامي وأكملنا طريقنا سيرًا على الأقدام. بدا واضحًا منذ لحظة وصولنا أن قوات الهجوم والانقضاض تفتقر إلى التنسيق والنظم. قالوا: بداية تقوم كتيبة من فرقة "ولي العصر7" بالهجوم ثم تكمل العملَ كتيبة "حبيب" من الفرقة 27. كانت كلمة السر، السكين والمقص. عندما يواجه شخصان غريبان أحدهما الآخر ويقول الأول: "سكين" على الآخر أن يقول: "مقص" وإلا اعتبر عدوًّا. أو إن قال الأول: "ما هو لون كوفيتك" على الآخر أن يجيبه قائلًا: "لونها أسود".

 

286

 


258

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

بدأ الهجوم بدون تنسيق. لا أدري هل عناصر فرقة ولي العصرعليه السلام أو فرقة علي بن أبي طالب عليه السلام أطلقوا صيحات التكبير بأصوات عالية هناك أمام أعيننا وانطلقوا؟! علمًا أن نقطة انفصالهم (انتشارهم) كانت عند الساتر الترابي الأمامي. عندما علت أصواتهم بالتكبير حوّل العراقيون المكان إلى جهنم، كانوا يطلقون في كل دقيقة حوالي مئة قذيفة هاون تنفجر جميعها حولنا، وقد التصقنا بالساتر الترابي. كان يوجد إلى جانبنا قبضة(قطعة) هاون 60 ملم ترد على مصادر النيران العراقية بشكل منتظم ودائم.

 

أيضًا كانت دبابة تابعة لوحدة المدرعات في الفرقة 27 تدك خط الدفاع العراقي بالقذائف المدفعية والمباشرة. فيما نحن كنا كقوة احتياط، وقد جلسنا إلى جانب حفرة النيران هذه ننتظر الأوامر.

 

كنا منشغلين بالمشاهدة عندما جاء مقاتل إلى متراسنا وقال:

- أيها الأخوة، لقد وصلت سيارة الذخائر، إن لم نتحرك بسرعة ستتطاير السيارة في الهواء.. تعالوا لنفرغ الصناديق من السيارة.

 

لم يصغ أحدٌ إلى كلامه. قلت لبهار: "هيا بنا نذهب للمساعدة".

 

قال بهار: "الذخائر ضرورية بكل تأكيد. ما زلنا في بداية الاشتباك، ولكن أن يذهب واحد منّا أفضل، فإن لدينا مهمة أخرى".

 

أجبته مباشرة: "إذًا أنا سأذهب.. أنت ابق هنا".

 

ذهبت ونقلت عدة صناديق تحوي ذخائر هاون 81 ملم. بقي عدة صناديق، فقد سقطت قذيفة "آر بي جي 11" عراقية حالت دون نقلها. استطعتُ التملّص من القذيفة الأولى ولكني أصبت من القذيفة الثانية.

استلقيت على الإسفلت فأصابت شظيتها ساقي. جلست ووضعت يدي على الجرح. كان الدم يتدفق. لم أكن أشعر بأي

 

287

 


259

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

ألم. مشيت لأذهب إلى بهار حتى يضمد لي جرحي. كان بهار خارج الدشمة مشغولًا بتدعيم جدرانها. قبل أن أصل إلى الدشمة أصابت قذيفة دبابة مباشرة الساتر الترابي، حيث كان متراسنا. حال تراب الساتر دون تطاير الشظايا، ولكن بهار والدشمة امتزجا بشكل لم يعد شيء واضحًا في قلب ذلك التراب والغبار. عندما انحسر الغبار رأيت بهار بين أنقاض الدشمة المنهدمة. كان حيًّا وقد أصيب بالجراح.

 

عندما وصلت إليه نسيت أوجاعي. كان الدم يغطي وجهه بالكامل، لم أستطع أن أساعده كثيرًا فقد نقلوه بسرعة. شعرت بالارتياح.

 

ضمدت جرح رجلي مستخدمًا تجهيزات الإسعاف التي بحوزتي. كنت أشعر بحدة الشظية وألمسها بيدي. أستطيع البقاء أو الرجوع.

 

جلست هناك داخل دشمة نصف مهدمة حتى لا تصيبني شظية أخرى. سمعت من الدشمة المجاورة صوت تأوه وأنين. كان الصوت يصدر من جريح. صرخت:

- مسعف.. نريد مسعفًا..

 

لم يسمع أحدٌ صوتي في وسط جهنم تلك المليئة بالأصوات والضجيج. ذهبت إليه. وجدتُ جراحات ثلاثًا في صدره. هو نفسه أحد مسعفي كتيبتنا. كانت حاله تبدو وخيمة. وضعت يدي على صدره. كان قلبه ينبض ببطء. إنه بحاجة إلى تدليك قلبي وتنفس صناعي.

 

بدأت القيام بأعمال إسعافه. وصل أحد المقاتلين. استطعنا معًا أن نحسّن حاله. أفاق ثم غاب عن الوعي مجددًا. لم أعد أستطيع القيام بأي عمل هناك. أصبحت حالي أكثر سوءًا.

 

كنت أخشى أن أتركه هناك فيفارق الحياة. ولكني أنا نفسي لم يعد

 

288

 


260

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

لي طاقة على البقاء. في النهاية تركته وحيدًا[1]. سحبت نفسي زحفًا وانطلقت نحو الخلف وأنا أعرج. وصلت إلى حاوية حيث طوارئ الخط الأمامي. كان صوت الجرحى يعلو من داخلها. ما إن دخلت حتى ناداني أحدهم. كان الأخ "بهار". كان صوت الانفجارات من حولنا يدوي في داخل تلك الحجرة الحديدية ويبدو مهولًا. في الصباح الباكر وصلت عدة سيارات إسعاف ونقلت الجرحى الذين كانت أحوالهم وخيمة. كان عددهم كبيرًا لدرجة لم أحظ بفرصة لنقلي. أخيرًا جاءت آلية نقل الجند وقال سائقها:

- كل من هو هنا عليه أن يركب، إنها وسيلة النقل الأخيرة، من لا يركب عليه أن يرجع سيرًا على الأقدام..

 

ركبنا على ذلك الحصان الحديدي وعبرنا من قلب النيران الصاخبة سالمين.

 

عبرنا نهر أروند في ظهر اليوم الثامن عشر من شهر شباط، وسجلوا اسمي وعنواني في مستشفى فاطمة الزهراء عليها السلام الميداني، ثم أرسلت إلى الأهواز بعد معاينتي وتضميد جرحي. أُجريت صورة أشعة لرجلي في مستشفى الشهيد بقائي في الأهواز. في غروب ذلك اليوم أيضًا ركبت القطار متوجهًا نحو مدينة طهران.

 

وصلنا في الصباح الباكر إلى مدينة قم. نقلوني من المحطة إلى "مستشفى نكوئي" في مدينة قم. هناك وبعد معاينة الأطباء كان تشخيصهم أنه يُفضل عدم إخراج الشظية لأن عصب رجلي ما


 


[1] بعد عشرين يومًا ، عندما كنت أتمشى في مقبرة جنة الزهراء في طهران في القطعة (53) لفت نظري وجهُ شهيدٍ وتجمّدت في مكاني. كان هو بذاته. كانت أمه العجوز تغسل بلاطة قبره.

 

289

 


261

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

زال سالمًا. بعد ذلك غسلوا جرحي ونظفوه وعقموه، ومن ثم ضمّدوه وأرسلوني بسيارة الإسعاف -بالطبع مع عكاز- إلى منزلي في طهران.

 

عند باب المنزل فكرت لو أن والدتي رأتني بلباس المستشفى أحمل عكازًا فإنها ستصاب بسكتة قلبية - لا قدر الله. أعطيت العكاز لسائق الإسعاف، ولم أطرق الباب، بل ناديت أخي من وراء الباب الخارجي. جاء وفتح الباب. أخذت العكاز من السائق وأعطيته لأخي، وغادرت سيارة الإسعاف. تقدّمت حتى باب الغرفة من دون عكاز وبدون أي ضجة. كان لدى أمي ضيوف. دخلت الغرفة، جلست في إحدى الزوايا وألقيت التحية.

 

التفتت والدتي متعجبة إليّ وقالت والفرحة تغمرها:

- السلام عليك يا روح أمه!

 

وقفت وتقدمت نحوي. لم أستطع الوقوف. جلستْ إلى جانبي، أخذتني بأحضانها وقبلتني. حتى الآن لم تعرف شيئًا عن إصابتي. نظرتْ إلى رأسي وصدري وعانقتني مرة أخرى.

 

لقد تحررتُ من كل ذلك التعب والألم، والعطش والضغط الذي لازمني لعدة أشهر وشعرت بالسكون والراحة تمامًا كما أشعر عندما أقرأ القرآن أو أدعو بدعاء.

 

لم يطل أمر إخفائي لما أصابني فأدركت والدتي كل شيء. سألتني:

- ما هذه الثياب التي ترتديها؟ لماذا لا تثني رِجْلك؟

 

طأطأتُ رأسي وقلت:

- أصبت بجرح طفيف. ليس شيئًا مهمًّا.

 

ودّعت أمي ضيوفها وجاءت إليّ. لا مناص لي من أن أُجيب عن

 

290

 


262

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

أسئلتها. فأجبت عنها كلّها بالصدق والحقيقة.

 

تحسّن جرح رجلي سريعًا، ولكنّ ذكريات تلك الليلة والعبر التي أخذتها من مشاركتي في تلك العملية بقيت عالقة في ذهني، وغدتْ مصباحًا يضيء لي الطريق ولا يفارقني.

 

في تلك الليلة كان "أحمدي زاده" قد أصيب بجراح. ذات يوم قرأنا معًا في طهران ذكريات الشهداء المدوّنة، ونهلنا من أخلاقهم وروحيتهم ومعنوياتهم. في ذلك اليوم أدركت قيمة عمل أحمدي زاده، وكذلك قيمة تلك الكتابات.

 

في ربيع وصيف العام 1986 كنت حاضرًا في الجبهة، ولكن هذه المرة لم أكن في كتيبة حمزة. سمعت أن أحمدي زاده أصيب مرة أخرى ببطنه في خط الفاو الدفاعي في أواخر أيام الربيع. كانت هذه هي إصابته الثانية. في خريف ذلك العام التحقتُ مرة أخرى بالفصيل الأوّل.

 

استشهد "سيروس مهدي پور" في خط مهران الدفاعي في أواخر فصل الخريف.

 

في تلك الأثناء كنت في الدشمة المجاورة عندما سقطت قذيفة هاون (60 ملم) على دشمتهم، واستشهد هو بالإضافة إلى ثلاثة أشخاص آخرين.

 

بعد ذلك الحين، ازدادت مرافقتي لأحمدي زاده. في فصل الشتاء من ذلك العام(الشمسي) شاركت أنا وأحمدي زاده معًا في عملية "كربلاء 5". خلال تلك المدة كنت أساعده في الحصول على ذكريات مدوّنة من زملائنا في المعارك.

 

في آذار من العام 1987، ذات ليلة طلب مني أن أدوّن له ذكرى.

 

291

 


263

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

استغرقني الأمر أسبوعًا لكي أكتب شيئًا وأعيد الدفتر إليه.

 

في النهاية، استشهد أحمد أحمدي زاده في عملية "كربلاء8" في شهر نيسان من العام 87، إلى جانب قناة سمك شلمجة، وبقي جثمانه في منطقة القتال. أنا أيضًا كنت موجودًا في تلك الليلة. وقد انتهى الأمر ليلتها بالتراجع والانسحاب تمامًا، كما حصل في عملية ليلة13/2/1986. وضع زملاؤنا جثمانه إلى جانب الجادة حتى ينقلوه إلى الخلف عندما تسنح الفرصة. ولكن هجوم العراقيين المعاكس في سحر تلك الليلة، لم يدع مجالًا للقيام بهذا العمل.

 

حتى الآن لم يرجع جثمانه الطاهر. ربما يكون في مقبرة جماعية أو ربما تحت ردم ساتر ترابي، لعله في حقل ألغام أو لعله.. ولكن دفتر ذكرياته المدوّنة ما زال حيًا باقيًا.

 

بعد نهاية الحرب ما زلت أتتبّع أثر ذلك الدفتر القيّم، وأتابع مآله ومصيره. عندما كنت في السبعينات (التسعينات الميلادية) أعمل في مؤسسة الشهيد وصل ذلك الدفتر إلى يدي. أدركت أن من بين 85 شخصًا كتبوا مذكراتهم في ذلك الدفتر، استشهد سبعة وثلاثون. كنت أرغب أن أجعل من ذلك الدفتر كتابًا وما استطعت. وكان مآله أن عرض في متحف الشهداء أمام أعين الناس جميعًا، في شارع طالقاني في مدينة طهران. اليوم أيضًا ما زلت آمل أن أقدم - بشكل من الأشكال - تلك الذكريات الثمينة إلى الباحثين عن الحق والطريق السوي، من الجيل الحاضر والمستقبلي. وفي هذا السبيل أعقد أملي على العون من الله تعالى.

 

292

 


264

وثائق الفصل الرابع عشر

وثائق الفصل الرابع عشر

 

 

 

1-1 معلومات شخصية

- ليسانس في علم النفس، متأهل، له ولد واحد، يعمل في مؤسسة الشهيد وشؤون المضحّين (ايثار گران).

- تاريخ ومحل الولادة: العام 1968 طهران.

- مدة المشاركة في الجبهة ونوع العضوية: 25 شهرًا خدمة تعبئة، و17 شهرًا خدمة جندية.

- تاريخ المشاركة بالعمليات والرتب العسكرية: الأهواز، 1982 (الشرطة العسكرية)، خط دفاع مهران، 1986 (مسعف)، عملية والفجر8 (مسعف)، خط الفاو الدفاعي، 1987 (مسعف)، عملية كربلاء1 (مسعف)، خط مهران الدفاعي 1987 (مساعد طبيب الكتيبة)، عملية كربلاء5 (مساعد طبيب الكتيبة)، عملية

 

293

 


265

وثائق الفصل الرابع عشر

كربلاء8 (مساعد طبيب الكتيبة)، خط شلمجة الدفاعي، 1982 (مساعد طبيب الكتيبة)، خط دوبازا الدفاعي، 1988 (مساعد طبيب الكتيبة)، عملية بيت المقدس 2 (مساعد طبيب الكتيبة)، عملية بيت المقدس4 (مساعد طبيب الكتيبة)، خط دفاع شاخ شميران، 1989 (مساعد طبيب الكتيبة).

 

- تاريخ الإصابات: إصابة بالرجل اليسرى (1985)، إصابة كيماوية بالرئة والجلد (1986)، إصابة اليد اليسرى والرجل اليسرى (1987)، إصابة اليد اليمنى (1988)، إصابة كيماوية بالرئة (1989).

 

- نسبة الإعاقة المئوية: لم يقدم على إنشاء ملف في المؤسسة.

 

1-2 الوثائق المغتنمة من جبهة البعثيين

- شرح الوثيقة رقم 141: صورة لبطاقة تجوال في منطقة القتال ممهورة بإمضاء قائد الوحدة عن أشهر خريف العام 1984م.

شرح الوثيقة رقم 142: صورة لبطاقة تجوال في منطقة القتال ممهورة بإمضاء نقيب من الوحدة الصاروخية عن أشهر صيف العام 1984م.

 

294

 

 

 

 


266

وثائق الفصل الرابع عشر

2-4-2 وصية العام 1986

تم تفريغ هذا المتن عن شريط صوتي مسجل.

 

أنا أوجد في كل مكان مملوء بكامله بالصفاء وحب الله تعالى. هو مكان يفوح عطر الله من كل نواحيه. عندما ترى أي شخص سيذكّرك بالله. هو مكان تتنزل فيه العطايا الربانية وتغمره النعم الإلهية في كل لحظة. ترى العشق إلى عالم الوجود والعشق إلى اللقاء مشهورين في آن. هم لم يأتوا ليبقوا، وهم لم يأتوا ليذهبوا، بل إنّ جلّ مطلبهم وأملهم أن يؤدوا وظيفتهم على أكمل وجه بما يرضي الله تعالى.

 

إن بقوا سيتقدّمون مجددًا إلى الأمام، وإن ذهبوا فهنيئًا لهم إذ سينظرون إلى وجه الله تعالى..

 

مرت تلك اللحظات كالبرق من أمام ناظري. لقد انتهى كل ذلك الكلام وذلك الحب في ليلة واحدة. تلك الليلة كانت ليلة المغادرين لنا. ليلة الوصول إلى وصال الحق، ليلة معرفة النفس، ليلة لقاء الحبيب وتجاهل النفس. ليلة مظلمة كانت تضيئها قنابل العدو الضوئية ونيران قذائفه. في تلك الليلة كانت صيحات التكبير عالية. بعضهم كانوا يضرّجون بدمائهم، وبعضهم الآخر كانوا يحملون إلى الخلف بعد أن يصابوا برصاصة أو شظية، وآخرون ما زالوا يتقدمون إلى الأمام. في تلك اللحظات كان يوجد أناس آخرون أيضًا كانوا يرون كل هذا المشهد، ولكنهم لم يكونوا قد وجدوا الحقيقة. هل سيصل الدور إليّ في آخر المطاف؟

 

 

298

 

 


267

الفصل الرابع عشر - دفتر المذكرات

2-5 مقابلة مع والدة الشهيد

فقدت ثلاث بنات وابني الوحيد قبل ولادة أحمد. كانوا إما أطفالًا أو حديثي الولادة. في العام 1962 ولدت أخت أحمد الأكبر منه سنًّا، وبقيت على قيد الحياة.

 

كنت قد نذرت نذرًا للسيدة فاطمة عليها السلام. أحمد أيضًا ولد في ليلة المبعث النبوي الشريف في العام 1965 وهو أيضًا بقي حيًّا بالنذر والدعاء.

 

كان أحمد يحب الحيوانات المنزلية كالدجاجة والديك. أيضًا كان يحب الرسم. كان يرسم بشكل جيد الشجرة والجبل والنهر ومظهر الإنسان والحيوان. لهذا السبب تسجل في مهنية الغرافيك.

 

التحق بالجبهة في العام (1361) 1982 ، وخدم حتى العام (1366) 1987، اي حوالي 45 شهرًا.

 

في نيروز العام (1366) 1987 جاء في إجازة للمرة الأخيرة. في المرة الأخيرة التي جلسنا فيها إلى المائدة ذاتها كان الطعام "اللحم بالمرق" كان يحب هذا الطعام. وضعنا أيضًا على المائدة اللبن والخضار الطازج والخبز الحصوي(السنكك). طلب مني أن أُجهز له شيئًا من اللحمة المهووسة كزادٍ لطريقه. قال:

- تناول اللحم المدقوق على مائدة الفطور في القطار لذيذ جدًّا.. كان يجيد ركوب الدراجات الهوائية والنارية جيدًا. كان قد مضى حوالي السنتين على شراء أبيه دراجة هوندا 125 له.

 

لقد تحولت هذه الدراجة سببًا للتحسر بعد رحيله. كان أحمد يملك رخصة قيادة. في تلك الأيام كنا نملك سيارة بيكان من طراز ال52.

 

أحيانًا كان يركب هذه السيارة - بإذن والده - ويقوم بزيارات

 

299

 


268

وثائق الفصل الرابع عشر

لمنازل أصدقائه ورفاق خندقه، وإلى مقبرة جنة الزهراء عليها السلام وينجز مستعينًا بها الأعمال الفنية المتعلقة به.

 

كان أحمد قليل الكلام، غارقًا في ذاته وخجولًا. حتى إنه كان يخجل مني، أنا أمه. عندما أصابته شظية في بطنه وبقي عدة أيام في المستشفى لم يخبرنا. في آخر المطاف جاء إلى البيت وقال إنه أصيب بجرح طفيف في بطنه.

 

عندما بلغ الواحدة والعشرين من عمره قلت له:

- تزوج يا ولدي.

- يا أمي العزيزة لقد تزوجت بالجبهة.

- دع المزاح جانبًا، إن أردت أن تذهب إلى الجبهة، اذهب وانتسب عضوًا في الحرس. فتتزوج وتذهب إلى الجبهة أيضًا.

- كلا يا أمي العزيزة، أحب أن أكون أحد أفراد التعبئة دائمًا. إن

 

 

300


269

وثائق الفصل الرابع عشر

انتسبت للحرس يصبح ذهابي إلى الجبهة للحصول على المستحقات والمال. الآن لا أريد مالًا ولا زوجة. سأتزوج بعد أن تنتهي الحرب.

 

في صباه لم يكن يحب يخنة الـ"قورمه سبزي" ولكنه كتب لي ذات مرة من الجبهة في رسالة: "يا أمي أنا هنا آكل الـ"قورمه سبزي" والترشي أيضًا".

 

كان أحمد قد طلب من أخته أن تخيط قطعة قماش مكتوب عليها "يا فاطمة الزهراء" على جيب قميص جبهته. ذهب إلى الجبهة مرتديًا هذا القميص، وبكل تأكيد استشهد وهو يرتديه ونام في قلب التراب في زاوية من أرض شلمجه.

 

هو أيضًا قبره مخفي كالسيدة الزهراء عليها السلام.

 

301


270

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

الراوي: هادي قيومي

التشكيل: قائد السريّة الثانية

تاريخ ومكان المقابلة الأولى: 2003 م، طهران

 

 

 

الفصل الخامس عشر*[1]

ليلة السرطان

حين اتّصل الحاج أميني - القائد الجديد لكتيبة حمزة - بي هاتفيًّا، أدركتُ أنّ ثمّة أخبارًا قادمة من الجبهة. فالشواهد والقرائن كانت تشير إلى أنّ عمليّة مصيريّة بانتظارنا. كنتُ المدرّب في الثكنة، وعضوًا رسميًّا في الحرس الثوري، وكانت معرفتي بالحاج أميني تعود إلى عمليّات "والفجر1" في العام 1983. كان شجاعًا وصبورًا وهادئًا. وقد خبِرتُ فيه هذه الصفات الثلاث ورأيتها أثناء العمليّات بأمّ عيني. لم يساورني أدنى تردّد للعمل معه.

 

كانت زوجتي قد دخلت الشهر الأخير من حملها، وكنّا جميعًا ننتظر بلهفة مسافرنا الصغير الذي كان يتدلّل قُبيل قدومه. وعلى الرغم من أنّي كنت قلقًا جدًّا عليه وعلى أمّه، إلّا أنّي انقطعت عن تلك العلائق وانسلختُ عنها. شعرتُ بأنّي وجدتُ مكانًا مناسبًا للعمل في الجبهة. وكلتهما إلى الله وتوجّهتُ إلى الجبهة.


 


[1] الفصلان: 15 و 16، ترجمة: سمية يوسف.

 

305


271

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

لازمتني هواجسي حتى "خوزستان". كنت أعلم أنّ غيابي يؤذيهما، لكنّني كنت أعزّي نفسي بأنّ ذهابي إنّما هو لأجلهما، بل لأجل جميع أمّهات إيران وأبنائها، سواء لحاضرهم أو لغَدِهم. غير أنّ الاضطراب عاد ليساورني مجدّدًا، فكانت السكينة تلازمني تارة وتهجرني طورًا. كنت أتواصل عبر الهاتف أو الرسائل أو التلغراف حتى الخامس من كانون الأول حيث وصلتني برقيّة عبر التلغراف مفادها: "هادي، لقد وُلد ابنك محمد". كان ذلك في شهر ربيع الأوّل. كنت قد أخبرتهم قبل ذهابي بأنّه إن كان ذكرًا فسمّوه "محمّد". وُلد محمد في 2/1/1985.

 

أعطاني الحاج أميني مأذونيّة، فذهبتُ لثلاثة أيّام ثم عدت. في طريق العودة ما برحتُ أتصوّر وجه طفلي الرضيع. لقلّة ما رأيته كانت ملامح وجهه تغيب عن ذهني. بذلتُ جهدًا ذهنيًّا كبيرًا لكي أتذكّر تفاصيل وجهه وألصقها معًا فتشكّل وجه "محمد".

 

رافقني في سفري شعور جديد، هو شعور الأبوّة المركّب من التعلّق والمسؤوليّة. كنت أظنّ أنّ الأبوّة ستقيّد يديّ ورجليّ، لكنّها لم تفعل. بل زادت من شعوري بالمسؤوليّة تجاه جيل المستقبل. كنت طوال الطريق فرحًا بأنّ هذا الشعور الغريب والجديد لم يعِق تحرّكي، وإنّما كان محرّكًا يقودني إلى الأمام.

 

في أواسط شهر كانون الثاني تقرّر أن نغادر الثكنة ونذهب إلى مخيّم "كرخه". أذهلتني زحمة العمل عن محمد ووالدته، وبات فكري مشغولًا بعمل السريّة. قبيل مغادرة الثكنة، ونظرًا لعلمي ببُعد المخيّم عن المدينة، أجريت مكالمة هاتفيّة أخرى مع العائلة.

 

ذكرايَ التي لا تُنسى من مخيّم "كرخه"، كانت تعرُّفي إلى حسن أميري فر، المعاون الثاني لمسؤول الكتيبة، والذي أصبح بُعَيد وصولي قائدَ السريّة الأولى مع احتفاظه بالتوصيف السابق. كان عضوًا في

 

306


272

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

الحرس. وكان طويل القامة، عريض المنكبين، وذا لحية سوداء كثّة. كان من مواليد "رفسنجان" وذا لهجة كرمانيّة، لكنّه ترعرع في محلّة "رباط كريم" في طهران.

 

كانت خطط التدريبات العسكريّة والتمارين والمناورات تُعدّ في خيمة الكتيبة، ثمّ يتمّ تنفيذها على مستوى الكتيبة أو السريّة أو المجموعة. كنت أقصد خيمة قيادة الكتيبة بشكل متواصل، فأتسلّم خطط المناورات والقتال الليلي، وأبلّغها لقادة المجموعات الذين كانوا يتردّدون إلى خيمة قادة السرايا.

 

كانت خيمة قادة السرايا تَسعُ خمسة عشر شخصًا. فيما كان لكلّ فصيل خيمة تَسعُ ثلاثين شخصًا أو خيمتان متلاصقتان تضمّ كلّ منهما خمسة عشر شخصًا. وكانت خيمة تجهيزات السريّة تستوعب خمسة عشر شخصًا، وقد نُصبت قرب خيمة قادة السرايا.

 

كان شباب التعبئة يخضعون للتدريبات العسكريّة الصعبة بشوق ونشاط. كانوا من كافّة أطياف الناس، شيبًا وشبابًا، ومن أعلى المدينة وأدناها. في السريّة الثانية كان هناك تلميذ مدرسة يافع من عائلة مرفّهة. كان أبوه صاحب مصنع، وصديقًا للسيّد حسين دستواره شقيق السيّد رضا دستواره، معاون قائد الفرقة. كنت على معرفة بوالد الأخَوين دستواره، الذي امتهن بيع الملح الذي كان يستخرجه من المنجم ويبيعه في المدينة. معيار التفاضل في الجبهة كان الأمور المعنويّة، أمّا متاع الدنيا والأمور المادّية فلم يكن لها مكان داخل إطار القِيَم.

 

بعد المراسم الصباحيّة كانت السرايا تحضر دروسًا عسكريّة أو دينيّة بإدارة المدرّبين العسكريّين أو المبلّغين التابعين للكتيبة. ما خلا بعض الصباحات التي كان العناصر قد قاموا في لياليها بمسير طويل أو مناورة شاقّة، حيث كانت الدروس تعطَّل في اليوم التالي.

 

 

307

 


273

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

خلال جلساتنا في خيمة الكتيبة أخذتُ أتعرّف إلى "أميري فر" أكثر فأكثر. لقد رُزق مثلي بطفل في السنة ذاتها اسمه عبد الله. وُلد ابنه في شهر ربيع الأوّل أيضًا، فسمّاه باسم والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ذات مرّة ذهبنا معًا إلى أطراف المخيّم بغية إيجاد مكان مناسب لإجراء المناورة أو القتال الليلي. خلال الطريق سألته:

- حسن، متى انخرطت في صفوف الحرس؟

- في العام 1982.

- هل كنت في الجبهة قبل ذلك؟

- كنت تعبويًّا. وطئت قدماي ميدان الجبهة لأوّل مرّة عام 1981م، بعد أسْر أخي.

- متى وقع في الأسر؟

- في شهر تشرين الثاني من العام 1980.

- في أي منطقة؟

- "مهران".

 

سبق لـحسن أن شارك في عمليّات: الفتح المبين، بيت المقدس، رمضان، مسلم بن عقيل، والفجر التمهيديّة، والفجر1، والفجر4، خيبر وبدر. بِدوره سألني عن سوابقي العسكريّة فأجبته. سألته مجدّدًا:

- متى جُرحتَ لأوّل مرّة؟

- في شتاء العام 1983. في عمليّات "والفجر التمهيديّة"، انفجرت بقربي قذيفة هاون (60 ملم)، وكان لرأسي ورقبتي نصيبهما من شظاياها.

- هل جُرحت غير تلك المرّة؟

 

308

 


274

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

- جُرحت في عمليّات "خيبر" أيضًا، في رجلي وظهري. قبعت في المستشفى مدّة شهر كامل.

 

في الفترة ذاتها التحق أخوه الأصغر معه أيضًا بجبهة "كردستان". في السنوات الأولى للحرب تولّى مسؤوليّة الحرس في "رباط كريم"، لكنّه ما لبث أن ترك العمل في المدينة وذهب إلى الجبهة.

 

في ذلك اليوم وجدنا معًا مكانًا قرب النهر لإجراء المناورة ونصب كمين، وفي الليلة نفسها أجرت السريّتان معًا مناورة جيّدة. كما صبّ عناصر الكمين نيرانًا مباشرة على رؤوس القوّات المهاجمة.

 

ذات يوم وبينما كنّا نعقد جلسة في خيمة قيادة الكتيبة، أحضر لنا القيّمون على تجهيزات الكتيبة بضعة أكياس من المكسّرات. وبعد أن تأكّد الحاج أميني من تقسيم المكسّرات على جميع عناصر الكتيبة، فتح كيسًا وقدّمه لنا. انشغلتُ مع حسن بأكل المكسّرات فيما انساق حديثنا إلى "رفسنجان" وبساتين الفستق. كان لأبيه بستان كبير من الفستق، وقد دعاني للذهاب إلى هناك بصحبة العائلة.

 

في خيمة مسؤولي السريّة الثانية كنت ومساعداي "حسن خاني وقاسم كودرزي" وصياد ساعي بريد السريّة. أحيانًا كان لمسؤول السريّة مساعدان، ولكلّ سريّة أمين سرّ. وكان يوجد في بعض الأحيان عنصر أو أكثر ممّن يخدم بشكل حرّ في السريّة. في الأزمنة الحرجة كان عناصر القوّات الحرّة يَلِجون ميدان العمل في أيّ مكان مُمسكين بزمام المسؤوليّة، فلو جُرح أحد قادة الفصائل أو أي قائد آخر، وأُخرج من الميدان أخذ العنصر الحرّ في السريّة مكانه لكي يستكمل إنجاز العمل. طبعًا، قُبيل العمليّات كان قسم الاتّصالات في الكتيبة يرسل عاملَي إشارة أو ثلاثة عمّال إلى السريّة، فكانت خيمة الأركان مكان استراحتهم.

 

في أحد الأيّام وأثناء المراسم الصباحيّة

 

309

 


275

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

التي جرت على مستوى الفيلق خطب محسن رضائي، القائد العام للحرس الثوري. وصلت إلى مشامّنا رائحة العمليّات. في تلك الليلة حضر والد زوجتي لرؤيتي وأطلعني على أحوال العائلة. هو أيضًا كان يخدم في الفرقة. عندما حلّ المساء ذهبنا معًا إلى حسينيّة الكتيبة لكي يؤدّي نافلة الليل. كان الجوّ في الحسينيّة باردًا. في تلك الليلة رأيت فيها عددًا كبيرًا ممّن حضر للمناجاة في السحر. لا بدّ أنّ هذا كان دأبهم كلّ ليلة.

 

قُرعت طبول المأذونيّة على مستوى الكتيبة ولمدّة أسبوع واحد. كان ولدي محمد قد تجاوز الأربعين يومًا. في المأذونيّة السابقة لم يتسنَّ لي رؤية أحد. أمّا في هذه المأذونيّة فقد اكتظّ المكان بالأصدقاء والأقرباء الذين حضروا إلى منزلنا ليقدّموا لنا التهنئة والتبريك.

 

لم أشعر كيف انقضى ذلك الأسبوع. ركبت القطار مجدّدًا نحو الجنوب. كنت في المقصورة مع أميري فر، وكانت فاكهة مجلسنا الحديث عن محمد وعبد الله. بدا مثلي مشتاقًا لولده. حين وصلنا إلى "كرخه" أصدر الحاج أميني أمره بالذهاب إلى حقل الرماية، فذهبنا وجرّب جميع العناصر أسلحتهم.

 

وفي أحد الأيّام قال الحاج أميني:

- بعد أسبوع سنغادر "كرخه"..

 

انطلق عدّة أشخاص من كل سريّة لتجهيز المخيّم التالي، نَصْب الخيم وخزّان المياه و.. . فيما سلّم الآخرون أغراضهم الشخصيّة لقسم الأمانات (التعاون) في الفرقة. بعد ظهر اليوم التالي أو غدِه غادرنا مخيّم "كرخه" بالحافلات. قبيل الانطلاق كتبتُ آخر رسالة لي وأجريت الاتّصال الأخير، إذ كانت جميع أشكال الاتّصال في المخيّم

 

310

 


276

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

التالي غير ممكنة رعايةً لشروط السلامة.

 

في مخيّم "كارون" لم يفصل بين الخيم سوى مسافات قصيرة، وكانت الخيم مستترة بشكل جيّد. أصدر المسؤولون أوامر مشدّدة بأن نأخذ تمام الحيطة تحسّبًا لهجوم بالأسلحة الكيميائيّة من قِبل العدوّ. كان على العناصر حمل "الأقنعة الواقية" معهم أينما ذهبوا. كما صدر أمر بإجراء تمرين عسكريّ بها. بدوري أكّدتُ على قادة الفصائل بأن يتشدّدوا في هذا الأمر منعًا لفشل العمليّات - التي بُذلت قصارى الجهود للتّهيّؤ لها - قبل شروعها، في حال قصف العدوّ الخطوط الخلفيّة للمواجهات بالأسلحة الكيميائيّة. أحيانًا كنت أرى أحد المسؤولين يعاقب عنصرًا عقابًا عسكريًّا، مشي القرفصاء، أو قيام - جلوس... وحين رأيت أن أحدهم ذهب للوضوء أو لقضاء الحاجة ولم يكن القناع بحوزته، أعلمت أفراد السريّة أنّه في حال تخلّف أحد عن الامتثال لهذا الأمر العسكريّ المهم فسوف أعاقبه بنفسي.

 

أوّل من عُوقِب كان محمود أستاد نظري. رأيته وقد خرج من الخيمة وسار بضع خطوات، ولم يكن القناع الواقي بحوزته. ولمّا ابتعد عن الخيمة مضيتُ نحوه وسألته:

- أين قناعك؟

 

أجاب مضطربًا:

- سآتي به حالًا.

 

ذهب وأتى به من داخل الخيمة. أمّا عناصر المجموعة فحين رأوا اضطرابه خرجوا من الخيمة خلفَه. قلت له: "اتبعني".

- إلى أين؟

- إلى السباحة.

 

311


277

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

انطلق عناصر الفصيل أيضًا. همس السيد حسين دستواره في أذن محمود شيئًا. مضينا حتى وصلنا إلى مرسىً مهجور قرب الخيم. وحين وصلنا قلت له:

- اقفز في الماء...

 

جعل يماطل وقد اعتراه الخوف والخجل. لمّا رأيته على تلك الحال غطستُ بنفسي في مياه "كارون". فأَتْبعني أستاد نظري ودستواره وبضعة أشخاص آخرين قفزًا في الماء. بعد عدّة لحظات التفتّ إلى الخلف لأرى مئة شخص داخل الماء. عندما خرجنا قال لي العناصر: "كنّا نغتسل غسل الشهادة!".

 

تكرّرت هذه القصّة مرة أخرى، لكنّ بطلها كان فتى يُدعى أمير حسين مينائي. عندما انتبه إلى أنّه كان واقفًا قربي من دون قناع خنقَتْه الغصّة. وحين أمرته بأن يتبعني مضى مسرعًا وأحضر قناعه. عندما رآني الشباب ذاهبًا نحو الضفّة غضبان، وأحدهم يركض خلفي باكيًا عرفوا القصّة، فانطلقوا جميعًا في أثرنا للمرّة الثانية. عند الضفّة قلت له:

- اقفز في الماء.

 

فعلا صوته بالبكاء. أمّا أنا فلم أنتظر وقفزتُ في الماء، فلحق الفتى بي. لم تمضِ أكثر من دقيقة واحدة على وجودي في الماء حتى رأيت جميع عناصر السريّة قد قفزوا داخل النهر أيضًا.

 

لم يكن وضع الطعام والتجهيزات جيّدًا في مخيّم "كارون". فكان معظم الشباب يعانون الجوع في أغلب الأوقات. لم يكن تحمّل هذا الوضع بالنسبة لنا صعبًا، نحن الشباب والعناصر القدامى. أمّا الفتيان فكانوا يعانون الأمَرّين في ظلّ تلك الظروف، خصوصًا عندما

 

312


278

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

كنّا نخضع لتمارين أو نجري مناورة صعبة. ذات مرّة وإثر عودتنا من تمرين على مستوى الكتيبة، نفَحَ (أَمدّ) قسم التجهيزات الشبابَ خبزًا وتمرًا، فعاجلنا تلك الضيافة غير المنتظرَة أكلًا، والفرحة تغمرنا!

 

في أحد الأيّام، وبعد تنسيق تمّ ما بين الكتيبة وقسم البحريّة في الفرقة، وصلت عدّة زوارق حملت الشباب على متنها، فأجرينا تمارين على الماء لمدّة نصف يوم.

 

ذات يوم أُبلغنا بأن نجتمع في خيمة قيادة الكتيبة. تعرّفنا، إلى حدٍّ ما، في تلك الجلسة التي عُقدت بشكل سرّي، إلى منطقة العمليّات. في ختام الجلسة تقرّر أن نذهب بعد صلاة فجر اليوم التالي إلى أقرب نقطة ممكنة، ليتمّ تعريفنا إلى منطقة العمليّات عبر المنظار ومِن على برج المراقبة.

 

صباح اليوم التالي، ومن دون أن يطّلع أحد على ذهابنا، مضينا على جادّة "آبادان"، ودخلنا بستان النخيل الواقع على ضفاف نهر "أروند". كان هناك برج يبلغ طوله ستّين مترًا. وقد حضر قادة الكتائب يرافق كلًّا منهم مسؤولو سراياه الثلاثة. كنّا ما بين العشرين والثلاثين نفرًا. أخذ قادة الكتائب يصعدون وينزلون، مجموعةً بعد أخرى. كان الوقت الأمثل للرؤية والاستطلاع من أوّل الصباح حتى أذان الظهر، وذلك لأنّ ضوء الشمس كان يسطع على المشهد من خلفنا.

 

أبدى الحاج أميني جَلَدًا هذه المرّة أيضًا، فوقف آخر صفّ الكتائب، لكي يكون لنا الوقت الكافي للتعرّف والتوجيه.

 

وصل دور كتيبة "حمزة"، فتقدّم الحاج أميني وصعد إلى أعلى البرج، فتبعه مسؤولو الكتيبة واحدًا تلو الآخر. كان حارس برج المراقبة أعلى البرج. استطلعتُ مع أميري فر كلّ المنطقة عبر المنظار. كانت شبه جزيرة "الفاو" محاطة بمياه نهر "أروند" وخور "عبد الله"، وقد

 

313


279

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

ظهرت فيهما السفن الغارقة. على الجهة الأخرى من الخور بدا لنا واضحًا كلٌّ من الميناء ومصفاة النفط الكويتيّة المعروفة بـ"أحمدي". كما رأيت منصّات صواريخ هلاليّة الشكل وأخرى مستطيلة. هذا وقد تمّ تعيين جادّة "أمّ القصر" كنطاق لعمليّات كتائب فرقة "27محمد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم. كانت تلك الجادّة ثالث الطرق التي تربط بمنطقة "الفاو"، الجادّة الأولى: الفاو - البحار، الجادّة الثانية: الفاو - البصرة، والجادّة الثالثة: الفاو - أم القصر.

 

استمعنا بدقّة إلى كلام راصد برج المراقبة كاملًا. ممّا قاله: أصابت قذيفة دبابة البرج في اليوم السابق فجرحت عددًا من الأشخاص، ما رفع من معنويّاتنا بشدّة! في ذلك اليوم لم يحدث شيء لحسن الحظ، وعدنا جميعًا سالمين إلى المخيّم.

خلال الطريق تحدّثتُ وأميري فر. سألته:

- هل رأيت عبد الله؟

- عبد الله؟!

- أجل، خور عبد الله...

 

فضحك، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث بحميميّة. حدّثته عن والدي الذي اعتقله عملاء الـ"سافاك" والشرطة في ميدان "آستانه" في قم، وذلك ليلة التاسع من محرّم من العام 1966، ولم نرَه بعدها أبدًا. أمّا هو فحدّثني عن قصّة زواجه قائلًا:

- في صيف العام 1984 كنّا سبعة أشخاص في الجبهة، حيث عزمنا جميعًا على أن نذهب في أقرب فرصة إلى طهران لأجل الخطبة والزواج. كنّا من "رباط كريم"، "ورامين" و"شهر ري". تزوّجتُ إحدى

 

 

314


280

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

قريباتي، وأقمنا حفلًا متواضعًا. بِدَورهم نفّذ أولئك الشباب ما اتّفقنا عليه أيضًا، فكنّا جميعًا في عمليّات "خيبر" عزّابًا، وغدونا في عمليّات "بدر" متأهّلين.

 

في مخيّم "كارون" ذهبنا إلى ميدان الرماية مرّة أخرى. بعد ذلك تسلّم الشباب المعدّات الحربيّة الأساسيّة والحصص الغذائيّة. في المرّة الأخيرة التي اصطففنا فيها أكّدتُ مجدّدًا على مسألة حمل الأقنعة الواقيّة في كلّ زمان ومكان.

 

صباح اليوم المقرّر لمغادرتنا المخيّم، جال شباب قسم الإعلام على العناصر فردًا فردًا بغية تسجيل رسائلهم. جاءني أحدهم، فعرّفت عن نفسي وذكرتُ عنوان بيتي، ثمّ وجّهتُ رسالة مختصرة جدًّا أنْ: "واصلوا طريق الإمام الحسينعليه السلام".

 

وفي ظلّ طقس غائم خرج عناصر كتيبة "حمزة" من مخيّم "كارون" على متن شاحنات مسقوفة، وبعد برهة من الزمن ترجّلنا على الأطراف الشرقيّة لنهر "بهمن شير"، وعبرنا في رتلٍ جسرَ النهر، ثم دخلنا قرية مهجورة واقعة غرب النهر، وتموضعنا هناك.

 

طوينا الليلة داخل غرف أحد البيوت القرويّة. لم تنقطع أصوات الانفجارات لحظة. ما برحت مدفعيّة قوّاتنا ترمي بقذائفها، فيما كانت القنابل المضيئة تنير السماء البعيدة بلا انقطاع، كأنّه مهرجان للأضواء والأصوات.

 

في صباح اليوم التالي المصادف للعاشر من شهر شباط ذهب الحاج أميني إلى مقرّ قيادة الفرقة. أخبرَنا نائبه الأخ السيّد مجتهدي ببدء العمليّات وكسر الخطّ الأماميّ للعدوّ. حينئذ أُذِن لنا أن نُطلع عناصرنا

 

 

315


281

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

على ما بجعبتنا من معلومات، ففعلنا. في ذلك اليوم تمّ توجيه جميع مجاهدي كتيبة "حمزة" وإطلاعهم على منطقة العمليّات بشكل دقيق.

 

ظهر اليوم نفسه، وصل طعام العمليّات، مرق الدجاج مع الأرز. فما كان من الشباب إلّا أن انقضّوا على الدجاج، فكان يوم سَعدهم، بعد مقاساة أسبوعين من الجوع في مخيّم "كارون".

 

بعد الظهر انطلقنا على متن شاحنة مكشوفة. كانت العمليّات قد بدأت، فلم يعد ثمّة داعٍ للكتمان. في تلك المرّة أخذ الشباب ينظرون من داخل الشاحنة إلى كلّ مكان بحُريّة ودقّة. قبيل الغروب وصلنا إلى دشم "أروندكنار"، مقرّنا التالي. كان لكلّ سريّة دشمتان غير كبيرتين كفاية، ما اضطرّ الشباب الذين ضاق بهم المكان إلى الاستراحة جلوسًا حتى أسفر الصبح.

 

جاء الحاج أميني إلينا ليلًا، بعد أن أمضى يومه مع قادة الصفّ الأوّل في المقرّ وقادة "الفرقة 27". هذا وكان قد ذهب إلى الجهة الأخرى من "أروند"، أعني مدينة "الفاو"، فحمل لنا في جعبته الكثير من الكلام. تحدّث معنا لعدّة ساعات، وراح يوجّهنا ويرشدنا عن طريق الخريطة.

 

صباح الحادي عشر من شهر شباط كان العدوّ قد عرف لتوّه مكان حصول العمليّات الأصليّة، فأخذ يشنّ غارات جويّة شرسة. كانت العمليّات الوهميّة قد جرت تزامنًا مع العمليّات الأصليّة في جزيرة "أمّ الرصاص" العراقيّة، وتكلّلت بالنّجاح. في ذلك اليوم قصد الحاج أميني مقرّ الفرقة مرة أخرى ثمّ عاد. كانت أخباره تحكي عن نجاح كتائب "الفرقة 27" المولجة بالعمليّات في مهمّتها. بدورنا أوصلنا الأخبار إلى أسماع جميع الشباب بغية رفع معنويّاتهم.

 

 

316


282

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

بعد الظهر غادرنا الدشم على متن شاحنات قلّابة، وترجّلنا بعد ساعة عند مرسى الفرقة الواقع على أحد الأنهار المتفرّعة من "أروند". نظرًا لقلّة الزوارق وكثافة الغارات الجويّة اضطررنا إلى الانتظار في نواحي المرسى لساعة. وصل دورنا بعد كتيبة "الأنصار". ركب أوّلًا شباب السريّة الأولى مجموعة تلو أخرى، ثم ركب أميري فر بعد جميع قوّاته على متن الزورق ومضى. جاء دور سريّتنا، فكانت الزوارق المسرعة تغادر الضفّة واحدًا بعد آخر، وهي تشقّ عباب مياه "أروند" المتلاطمة كالحوت. انطلقتُ مع المجموعة الوسطى من سريّتي، فيما بقي مساعدي لكي يأتي مع المجموعة الأخيرة. أثناء الطريق أتحفتنا الطائرات الحربيّة بحسن ضيافتها. نظرتُ إلى السماء وإذ بي أرى صاروخين فضّيين يخرجان من بطن الطائرة الحربيّة، وأخذا بالهبوط حتى سقطا قرب زورقنا بحيث كنّا قاب قوسين أو أدنى من أن ينقلب الزورق بنا رأسًا على عقب.

 

في عتمة الليل ترجّلنا عند الساحل الغربي لنهر "أروند"، حيث وطئت أقدامنا تراب "الفاو". سرنا صفًّا على الجادّة الساحليّة مئات الأمتار إلى الأمام، واستقررنا في منازل تابعة لمؤسّسات قد هجرها أصحابها. في تلك الليلة قرأ الشباب دعاء التوسّل. كان ذلك مساء الثلاثاء، ليلة الثاني عشر من شباط. سَرَتْ إلى مشامّنا رائحة خفيفة مُريبة، كأنّها رائحة أسلحة كيميائيّة، ما حدا بي إلى إصدار توصية بتوخّي الحذر. كان الحُرّاس الليليّون مكلّفين بالمبادرة إلى إيقاظ الآخرين بمجرّد استشمام رائحة مشكوكة.

 

عند انتصاف الليل حضرت الشاحنات لتنقلنا نحو جادّة "أمّ القصر". ركبنا الشاحنات ثمّ ترجّلنا منها بعد مسير سبعة أو ثمانية كيلومترات. تمترس الشباب خلف ساتر ترابيّ على يمين الجادّة الذي

 

317

 


283

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

كان ساترًا هلاليًّا لقاعدة مهجورة. بقينا حتى الصباح ننتظر أمر مقرّ القيادة بالذهاب لمساندة الكتائب المولجة بالعمليّات لكن لم يكن ثمّة حاجة لذلك. فجميع الأخبار كانت تزفّ بشائر النصر.

 

في اليوم التالي رأيت عبر المنظار القوّات العراقيّة، التي قيل إنّها قوّات الحرس الجمهوري، تقاتل بجنون وعشوائيّة. أكّد أميري فر، الذي كان له سابقة في المواجهات مع العراقيّين في عدّة جبهات، أنّ البعثيّين يحاربون بتهوّر واستهتار موقعين بأنفسهم الخسائر، وهذا يعني أنّ فتْح جبهة الفاو قد فرط عقد عملهم وأقضّ مضاجعهم!

 

قرابة التاسعة صباحًا اشتدّ القصف العراقيّ على موضع استقرارنا. أصدر الحاج أميني أمرًا بالانتقال منعًا لوصول الأذى إلى قوّات الكتيبة.

 

بعد الظهر وصلت رسالة من الحاج أميني يطلب فيها من قادة الصفّ الأوّل في الكتيبة الذهاب إلى مثلّث مصنع الملح. انطلقتُ بصحبة "أميري فر" و"فرّخي". كان المثلّث يبعد عن جبهة القتال مسافة كيلومتر واحد. حين وصلنا وجدنا قادة الصفّ الأوّل للفرقة هناك أيضًا. من ثَمّ سرنا مشيًا على الأقدام نحو الخطّ الأمامي. في غضون نصف الساعة التي قضيناها هناك اطّلعنا، من خلال المنظار وصفحة الخارطة، على منطقة العمليّات بأكملها، وعلى أوضاع الخطّ ونطاق عمل الفرقة. شاهدنا الساتر الترابي المواجه الذي نُصب عموديًّا على الجادّة، والذي اخترقته قذائف الدبابات المباشرة. إلى الجهة اليسرى كان خور عبد الله والمستنقع، وإلى اليمين عدد من الغرف الصغيرة المستترة. بالإضافة إلى عدد من الدبّابات وناقلات الجند المحترقة على الجادّة، وأخرى سالمة كانت خلفها.

 

318

 


284

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

نظر "حسن أميري فر" عبر المنظار وقال مستذكرًا عمليّات "والفجر1":

- ينبغي استطلاع هذه البيوت المرقّطة إلى اليمين بدقّة، وإلّا فقد يتعرّض كلّ من يتقدّم لضربة قاسية.

عندما أنهينا الاستطلاع والتوجيه عدنا أدراجنا. خلال ذهابنا إلى الخطّ الأمامي ورجوعنا منه جُرح ساعي بريد الكتيبة - محسن كاظمي - وتمّ نقله إلى المشفى.

 

قبيل الغروب مضينا سيرًا على الأقدام نحو "مثلّث مصنع الملح"، سالكين الطريق نفسها التي سبق أن سلكتُها برفقة عدد من الأشخاص في وضح النهار. استغرق مسيرنا ساعة واحدة. ما إن وصلنا حتى لاذت قوّاتنا بصدر الساتر الترابي. مكثنا ساعة إلى ساعتين بانتظار اتّضاح مهمّة الكتيبة ووصول الأمر بالانطلاق.

 

حتى الساعة العاشرة من مساء 13 شباط، لم يكن من الواضح بعد أيّ الكتيبتين - "حمزة" أم "الأنصار" - ستكون هي الكتيبة المهاجِمة. وأيًّا كانت الكتيبة المهاجِمة، كان على الأخرى الانتظار كقوّة احتياط بغية دخولها الميدان عند اللزوم. في النهاية، وتحت جسر صغير على مجرى مائي قريب، حيث مقرّ قادة الصفّ الأوّل للفرقة، اتّخِذ القرار النهائيّ وانطلقت كتيبة "حمزة". كما تقرّر أن تتموضع سريّة "الشهادة" الخاصة، بقيادة الأخ صفرخاني، على السدّ الغربي لمصنع الملح، والذي يبعد مسافة كيلومترين تقريبًا عن الجادّة، وذلك منعًا لوصول أيّ ضربة على خاصرة القوّات الأصليّة المهاجِمة.

 

ما إن وصل خبر الهجوم إلى أسماع الشباب حتى دبّت الحماسة والشوق في نفوس الجميع، وازدحم سوق القبُلات وطلب الشفاعة. لدى

 

319

 


285

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

رؤيتي ذلك المشهد اعترى قلبي سرور مَشوبٌ بكآبة. كنت مسرورًا لأني ماضٍ إلى العمليّات بصحبة مَن هم بعين الله، وحزينًا أتساءل أيّهم سيكون بعد ساعة واقفًا على التراب أو ممدّدًا عليه.

 

اجتمعنا مجدّدًا، مسؤولو السرايا والحاج أميني والسيد مجتهدي، لكي نبتّ الأمر فيما يتعلّق بخطط عمل السرايا. وبعد أخذٍ وردٍّ في محضر قائد الكتيبة، تقرّر أن تتولّى سريّة "حسن أميري فر" الهجوم، فيما تتولّى سريّتي أنا مهمّة التطهير حتى الجسر الكبير، أمّا السريّة الثالثة فتبقى كقوّة احتياط لكلا السريّتين، على أن تتصدّى لأيّ هجوم مرتدّ صباح العمليّات، وذلك خلف الجسر المدمّر.

 

بعد تلك المقرّرات طوى رتل الكتيبة طريقه حتى جبهة المعركة التي لم تكن تبعد أكثر من مسير عشر دقائق. المرّة الأخيرة التي رأيت فيها حسن أميري فر كانت في منطقة خطّ التماس، إذ كان ينظّم صفوف عناصر سريّته. وكان قد شكّل مجموعة خاصّة تحت إشراف قسم المعلومات في العمليّات، بغية بدء العمل وكسر خطّ دفاع العدوّ. قبّلتُه وطلبت منه الشفاعة. كانت عيناي مسمّرتين على قامته حين صدر الأمر بتحرّك السريّة الأولى.

 

تحت سماء خلت من قمر أو نجم انطلق أفراد السريّة الأولى، فساروا من الجهة اليمنى لجادّة "أم القصر" نحو الجهة اليسرى، وهناك بدأت الاشتباكات. كنتُ وفرّخي إلى جانب الحاج أميني في منطقة خطّ التماس نراقب تحرّكهم. كان إطلاق النار كثيفًا من كلا الطرفين، ما دلّ على أنّ العراقيّين لم يُباغَتوا. توقّعنا أن تقِلّ حدّة نيرانهم بعد بضع دقائق، لكنّ هذا لم يحصل، بل اشتدّت كثافتها. كان الحاج أميني على اتّصال بـأميري فر عبر اللاسلكي، وذلك من خلال عامل الإشارة أحيانًا مستخدمًا الرموز ولغة الشيفرة، وأحيانًا كان

 

320

 


286

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

يأخذ سمّاعة الجهاز بنفسه فيرسل ويتلقّى. بعد مرور ربع ساعة لم تعد السمّاعة تبارح يد الحاج أميني. ما عنى بأنّ الوضع بات حساسًا أو متأزّمًا! سمعتُ مرارًا خلال الكلام المتبادل كلمة "السرطان". كانت كلمة "السرطان" رمزًا للآليّات المدرّعة التي اتّضح أنّ بَراثِنها أوقعت بالشباب. سرعان ما وصل خبر جرح حسن أميري فر. قلت في نفسي: لا بدّ أنّ جرحه ليس لدرجةٍ تُعيقه عن مواصلة عمله. كنت آمل هذا، لكنّ الأمر لم يكن كذلك. بدا أنّ عدد سراطين العدوّ وتشكيلاتهم كان غير ذلك الذي أُخْبِرنا به.

 

انطلق الحاج أميني. عند ذهابه أمرني قائلًا: "ابقَ هنا خلف الساتر الترابي قرب جهاز اللاسلكي بانتظار الأوامر. لا تتحرّك حتى أطلب منك ذلك".

 

في النهاية صدر أمر بتحرّك السريّة الثانية. عَبَرْنا خطّ التماس وواصلنا المسير حذو الفصيل الأوّل. كانت الخسائر كبيرة لكلا الطرفين، فقد امتلأ جانبا الجادّة ووسطها بالقتلى والجرحى. كان مسعفونا يتعاهدون أمر الجرحى. عَبَر رتل سريّتنا وسط كلّ ذلك حتى وصلنا إلى المعركة الأصليّة. وخلافًا لخطّة تحرّك فصيل أميري فر، الذي كان القرار أن يباشر العمليّة في الجهة اليسرى من الجادة (خور عبد الله)، مضيتُ بقوّاتي نحو الجهة اليمنى من الجادّة، لكي يتسنّى للشباب الاشتباك مع تجمّع العدوّ في تلك الجهة، وبالتالي كشف مصير تلك البيوت المرقّطة.

 

في تلك الليلة كنّا قد توغّلنا مسافة مئة وخمسين مترًا إلى الأمام داخل شرخ الجادّة، أي الخطّ الأماميّ للعدوّ، حين رأيت بضع دبابات محترقة. كان الحاج أميني نفسه هناك أيضًا. تداولنا أوضاع قوّاتنا وموقعيّة العدو. قال الحاج أميني:

 

321


287

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

- لم يعد بالإمكان التعويل على السريّة الأولى. قيّومي، تقدّم ما استطعت. لدينا الكثير من العمل الليلة.

 

بعد مسافة قليلة رأيت رتلًا من الدبابات وناقلات الجند. كنّا قد أُبلغنا بأنّ عددها ليس كبيرًا، غير أنّه كان من الواضح جدًّا في تلك العتمة أنّ رتلًا لا نهاية له قد اصطفّ قبالتنا. بعد التنسيق مع الحاج أميني وعقد جلسة مع قادة المجموعات في خضمّ تلك الغوغاء، فصلتُ رماة الآر بي جي عن الفصائل، ووكلت أمرهم إلى قادة المجموعات لكي تكون الاستفادة منهم أكبر. بعد تلك الخطوة انفصل الفصيل الأول عن السريّة الثانية، هذا في الوقت الذي كنّا قد ابتعدنا قرابة (300 متر) عن خطّ التماس، وقد مضى نصف ساعة من بدء العمليّات.

 

كانت نيران العدوّ غزيرة وشديدة. قرأتُ في بعض الوجوه أمارات ضعف الهمم. لذا ما عدتُ أسير منحنيًا أو بطريقة (مشية البطة)، بل أخذت أذهب وأجيء منتصبَ القامة قرب رتل قوّاتي الذين كانوا قد التصقوا بالحافّة الترابيّة للجادّة، وجعلت أتكلّم بصوت عالٍ، بغية شحذ همم مَن ضعفت عزيمته. فقد كان لسقوط عدد كبير من الضحايا من السريّة الأولى وتعقّد أمور العمليّات أثرهما البالغ في إضعاف المعنويّات.

 

وصلتنا رسالة مفادها أنّ الفصيل الأوّل في السريّة الثانية بقيادة الأخ ميرآخوري قد واجه مشكلة. تقدّمتُ حتى وصلتُ إليهم فرأيت أنّ أحدًا منهم لا يضغط على الزناد. تحقّقت من موقعيّة الشباب. كانوا على بُعد خمسين مترًا من رتل الآليّات العسكريّة. أمّا العراقيّون فكانوا قد شقّوا قناة في الأرض ورموا ترابها إلى الجهة الأخرى. تلك القناة والساتر الترابي الصغير الذي تلاها كانا عَقَبتَين في طريق الشباب. هذا وكانت البيوت المرقّطة قد بدت على بعد مئة متر من الجادّة. لم

 

322

 


288

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

يفصل بين الشباب والعدوّ سوى عشرين مترًا. كنّا على هذا الجانب من القناة وكان العراقيّون على الجانب الآخر من الساتر الترابي الذي يلي القناة، لكنّ أحدًا لم يأتِ بحركة. كأنّ الأجساد قد تجمّدت. كان على أحد كسر هذا الجليد. تطوّع أحدهم، ذاك الذي قد لا يتوقّع أحد منه ذلك. إنّه تعبويّ السريّة الفوضويّ الثرثار: الحاج هاشم!

 

كان في العشرين من عمره، وكان مُفعمًا بالنشاط والحيويّة. كما كان فوضويًّا ومشاغبًا بعض الشيء. كانت حركاته من بين سائر التعبويّين لا تخلو من غرابة. فقد كان باستطاعته، بمفرده، إثارة الفوضى في الفرقة كلّها، ناهيك عن السريّة والكتيبة. لقد فعلها ذات مرّة فِعلًا. ففي أحد الأيّام أُبلِغ الجميع بأنّ درّاجة ناريّة خاصّة بالفرقة قد فُقِدت، وأعني بـ"فُقِدت" أنّها سُرِقت. نقّب عناصر الشرطة العسكريّة التابعة للفرقة معسكرَ "دوكوهه" المترامي الأطراف، وقلبوه رأسًا على عقب، لكنّهم لم يجدوا الدرّاجة الناريّة. أين كانت الدرّاجة طوال تلك المدّة؟ كانت بحوزة السيّد هاشم! متى عرفنا؟ حين قبض عليه حارسُ المعسكر لحظة خروجه من المعسكر وهو على متن الدرّاجة. خضع الحاج هاشم للتحقيق من قِبَل قسم القضاء في الفرقة، وأخذوا منه تعهّدًا بعدم القيام بمثل تلك التصرّفات ثانية. أردتُ أن أصرفَه، إلّا أنّ أميري فر وآخرين توسّطوا له لكي يبقى. غير أنّه لم يكفّ عن شغبه. ففي مخيّم "كرخه" لم يفتأ يستفزّ عالم الدين، ويقابله بالسخرية والهذر حتى تكدّر خاطر ذلك المسكين، وهمّ بأن يغادر المعسكر، وكدنا أن نبقى من دون إمام للصلاة لولا تدخّل الآخرين.

 

قُبَيل العمليّات، اعترت هذا الشخص نفسه -الحاج هاشم- سكينةٌ عجيبة أثارت استغرابنا. كأنّه جمر تحت الرماد أو ضوضاء في قلب السكوت!

 

323

 


289

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

صحتُ قرب رتل الفصيل الأوّل من سريّتي:

- أطلقوا النار.. أطلقوا النار على هؤلاء الجبناء..

 

كان الحاج هاشم أوّل المتقدّمين في الهجوم، فصوّب نحو أحد البعثيّين التعساء وأخذ يركض خلفه. فيما تولّى سائر العناصر أمر بقيّة الجنود الذين قُتل بعضهم، ولاذ الآخرون بالفرار. لاحق الحاج هاشم ذلك العراقيّ التعيس الحظّ حتى البيوت المرقّطة. وهناك كان العراقيّون قد اتّخذوا دشمة للرشّاش الثقيل، فما كان من الحاج هاشم إلّا أن دمّرها. عندما رأى الشباب بسالته وإقدامه تعبّأوا روحيًّا فتغيّرت المعادلة، وحلّ التقدّم والتطهير محلّ الجلوس والنظر.

 

ركض عراقيّان نحو ناقلات الجند، فشغّلا محرّك إحداها وهمّا بالفرار. أعطيتُ أمرًا لأحد رماة الآر بي جي المحاذي لي بإطلاق النار، فجثا على ركبته واستعدّ لإطلاق النار. صحت:

- أطلِق.. أطلِق..

 

انعطفت ناقلة الجند بغية الرجوع. أمّا رامي الآر بي جي فكان لا يزال يعالج قبضة السلاح، فما كان منّي إلّا أن أخذتها منه ووضعتها على كتفي لكي أرمي بنفسي، غير أنّ الناقلة اختفت. لم يكن ثمّة أثر لها سوى دخان في السماء. أرجعتُ الآر بي جي لصاحبه خائبًا.

 

أصيب مير آخوري، قائد الفصيل الأوّل بجروح، فشدّ المسعف جرحه وأخذه العناصر المكلَّفون بنقل الجرحى. تواصل التقدّم على الجادّة وطرفَيها، وشنّ الشباب هجومًا على رتل الآليّات العسكريّة. كنت على اتّصال بالحاج أميني، إمّا أكلّمه بنفسي عبر جهاز اللاسلكيّ، أو يوصل عامل الإشارة رسائلي إليه. عندما وصلتُ إلى الرتل وجدتُ أنّ ناقلات الجند قد رُكِنت قرب بعضها البعض بحيث لا يمكن فتح

 

324

 


290

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

باب إحداها. لعلّ ذلك كان من أجل أن لا يتمكّن الجنود العراقيّون من الترجّل منها والفرار.

 

لم يكن للصّف نهاية. أبلغتُ الحاج أميني عبر جهاز اللاسلكي بإمكانيّة بدء عمل السريّة الثالثة. كنت مشغولًا بالتطهير حين رأيت فرّخي. قسّمنا العمل فيما بيننا، فتولّى هو وسريّته - التي نزلت الميدان للتّو وما زالت تتمتّع بالنشاط - مهمّة تطهير الجهة اليمنى للجادّة التي كانت الأصعب. أمّا سريّتي فتولّت مهمّة الجهة اليسرى منها. فيما كانت الجادّة نفسها بعُهدة كلا السريّتين.

 

ذات مرّة، وبينما كنت واقفًا على الجادة بين ناقلات الجند سمعتُ جلبة عالية. كان أحدهم يقول: "اقتله"، ويصيح الآخر: "لا، لا تقتله، حرام عليك". تقدّمتُ من الصوت وإذ بستة أو سبعة من شبابنا ومعهم أسير عراقيّ قد جلس مطرقًا برأسه إلى الأسفل. سكت الشباب لدى رؤيتهم لي. أمّا العراقيّ فقد عرف أنني المسؤول حين رأى عامل الإشارة برفقتي. وضع الحاج هاشم سبطانة سلاحه على صدغ ذلك المسكين وهو ينظر إليّ متسائلًا أَيقتلُه أم لا؟ قال مساعدي ويُدعى خاني:

- يا أخ قيومي، امنع هؤلاء. صحيح أنّ الشباب قد استشهدوا وجُرِحوا، لكنّ هذا أسير..

 

حين استتبّ الهدوء عرفتُ أنّ الأسير العراقيّ أراد أن يأخذ خاني من الخلف ويدخله إلى ناقلة الجند، غير أنّ الشباب اكتشفوا أمره وحالوا دون ذلك. يا لحال الدنيا! لقد كان قلب خاني يحترق عليه أكثر من الآخرين!

 

أشرتُ إليه بأن ينهض. عندما نهض رأيت أنّه ليس إنسانًا، بل مارد! فقد كان رأسي يصل إلى صدره. كانت عيناه مغرورقتين بالدموع. رقّ

 

325

 


291

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

باب إحداها. لعلّ ذلك كان من أجل أن لا يتمكّن الجنود العراقيّون من الترجّل منها والفرار.

 

لم يكن للصّف نهاية. أبلغتُ الحاج أميني عبر جهاز اللاسلكي بإمكانيّة بدء عمل السريّة الثالثة. كنت مشغولًا بالتطهير حين رأيت فرّخي. قسّمنا العمل فيما بيننا، فتولّى هو وسريّته - التي نزلت الميدان للتّو وما زالت تتمتّع بالنشاط - مهمّة تطهير الجهة اليمنى للجادّة التي كانت الأصعب. أمّا سريّتي فتولّت مهمّة الجهة اليسرى منها. فيما كانت الجادّة نفسها بعُهدة كلا السريّتين.

 

ذات مرّة، وبينما كنت واقفًا على الجادة بين ناقلات الجند سمعتُ جلبة عالية. كان أحدهم يقول: "اقتله"، ويصيح الآخر: "لا، لا تقتله، حرام عليك". تقدّمتُ من الصوت وإذ بستة أو سبعة من شبابنا ومعهم أسير عراقيّ قد جلس مطرقًا برأسه إلى الأسفل. سكت الشباب لدى رؤيتهم لي. أمّا العراقيّ فقد عرف أنني المسؤول حين رأى عامل الإشارة برفقتي. وضع الحاج هاشم سبطانة سلاحه على صدغ ذلك المسكين وهو ينظر إليّ متسائلًا أَيقتلُه أم لا؟ قال مساعدي ويُدعى خاني:

- يا أخ قيومي، امنع هؤلاء. صحيح أنّ الشباب قد استشهدوا وجُرِحوا، لكنّ هذا أسير..

 

حين استتبّ الهدوء عرفتُ أنّ الأسير العراقيّ أراد أن يأخذ خاني من الخلف ويدخله إلى ناقلة الجند، غير أنّ الشباب اكتشفوا أمره وحالوا دون ذلك. يا لحال الدنيا! لقد كان قلب خاني يحترق عليه أكثر من الآخرين!

 

أشرتُ إليه بأن ينهض. عندما نهض رأيت أنّه ليس إنسانًا، بل مارد! فقد كان رأسي يصل إلى صدره. كانت عيناه مغرورقتين بالدموع. رقّ

 

325

 


292

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

قلبي لحاله. أرسلته برفقة أحدهم إلى الخلف بغية أخذ المعلومات منه. وبذلك نجا العراقيّ وفُضّ النزاع في آنٍ معًا.

 

همس عامل الإشارة في أذني بأنّ الحاج أميني يريدني في أمر ما. رجعت إلى الخلف مسافة مئة متر حتى وصلت إليه. كان الحاج جالسًا في المكان نفسه حيث انطلقت ناقلة الجند العراقيّة لائذة بالفرار.

 

جلستُ بجانبه. كانت خلاصة حوارنا أنّ قدرة كتيبة حمزة شارفت على النفاد، وأنّ الطريق ما زالت طويلة حتى تحقيق هدف العمليّات. طلب منّي الحاج أن أرجع إلى خطّ التماس، لكي أُطلع قادة الصفّ الأوّل في الفرقة على أحوال الكتيبة والعدوّ وأرض المواجهات. بينما كنت أهمّ بالنهوض لأنفّذ أمره سألته مستغربًا:

- يا حاج، لمَ لا تخبرهم عبر جهاز اللاسلكي؟

- من الممكن أن ينتبه العراقيّون. أخبرتهم عبر اللاسلكي ما أمكنني. ينبغي على أحدٍ أن يذهب ويخبرهم بذلك شخصيًّا، ويأتي بقوّات الدعم.

 

انطلقتُ سريعًا وطويتُ الطريق حتى خطّ التماس ركضًا، والبالغة مسافتها ثلاثمئة متر. عثرتُ على السيد رضا دستواره. لم أكن قد تفوّهتُ سوى ببضع كلمات حين قطع كلامي وقال:

- يا أخ قيّومي، أنا لا أريد أن أرى قائد سريّتي هنا أثناء العمليّات...

 

قلت بغصّة:

- الحاج أميني... الدبّابات... شبابُ محتشم...

 

فكرّر قائلًا:

- على قائد السريّة أن يبقى إلى جانب قوّاته. مكانك ليس هنا...

 

هممتُ بالرجوع. ما إن رآني أهمّ بذلك حتى قال:

 

326

 


293

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

- سأرسل شباب "الأنصار" إلى الأمام بنفسي...

 

كان إيابي أسرع من ذهابي. قصصتُ على الحاج أميني القصّة كاملة. ولمّا وصلتُ إلى نهايتها أبلغَنا رضا دستواره عبر جهاز اللاسلكي رسالة مفادها: إنّ الأخ جعفر طهراني، أحد العناصر القدامى في قسم معلومات العمليّات وأحد كوادر الفرقة، سيتقدّم إلى الأمام بغية التحقّق من وضع قوّاتنا وقوّات العدو. عندما رأيتُ أنّ عملي قد انتهى هناك، تركتُ الحاج أميني وعدتُ إلى قوّاتي.

 

عندما وصلتُ قرّرتُ أن أكتشف مدى طول رتل الآليّات العسكريّة ذاك. قمتُ بتشكيل دوريّة مؤلّفة من خمسة أو ستّة أشخاص، بعد ذلك انطلقنا. كنّا نسير من الجهة اليسرى للجادّة تارة ومن الجهة اليمنى لها طورًا، وعلى الجادّة نفسها تارة أخرى حتى وصلنا إلى نهاية رتل الدبّابات وناقلات الجند بعد طيّ مسافة خمسمئة إلى ستمئة متر. كان عددها يقارب السبعين. أثناء الطريق كان الشباب يطلقون النار أحيانًا أو يلقون القنابل اليدويّة. ساد المكان صمت عجيب! بدت الأرض والسماء وهميّتين. لم يكن ثمّة إطلاق نار حقيقيّ سوى رصاصات كانت تُطلق من رشاش "دوشكا" بعيد. واصلنا التقدّم. بعد مسافة مئتي متر واجهتنا مجموعة حلقات من الأسلاك الشائكة، وهذا يعني أننا اقتربنا من مكان عسكريّ مهم. تابعنا سيرنا متوخّين حيطة أكبر. سبقَنا أحد العناصر، ما لبث أن عاد وقال:

- ليس هناك شيء. لا يوجد على الطرف الآخر من الأسلاك سوى بضع جثث ممدّدة.

 

تقدّمنا جميعًا. كانت إحدى الجثث تعود للحاج هاشم، وأخرى لفتى من السريّة الثانية. كما كان هناك جثّتان لعراقيَّين. كأنّهم تقاتلوا رجلًا لرجل. فصلنا جثتَي المجاهدين الِمقدامَين عن ذينك القتيلين

 

327

 


294

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

وأخرجناهما من بين الأسلاك الشائكة لكي نحملهما معنا.

 

فجأة، وفي خضمّ ذلك السكوت تناهى إلى أسماعنا صوت يرافقه نور لاح لأبصارنا. اختبأنا. كانت مركبة "جيب" عراقيّة. عندما اقتربت بما فيه الكفاية أطلقنا النار نحوها. بدورهم ردّوا علينا بشكل عشوائيّ. كانت الغلبة لنا نظرًا لأننا كنّا نطلق النار على هدف متحرّك من مكان مستتر. فجأة اخترق الأسماع صوت غير منقطع لبوق المركبة. بدا وكأنّ السائق أصيب برصاص فهَلَك ووقع على المقود. اقتربنا من المركبة بحذر. فقد كان من الممكن أن يكون أحدهم حيًّا أو جريحًا. وعندما رأينا أن ليس هناك سوى بخار متصاعد من دمائهم تقدّمنا، فأزحتُ السائق عن المقود بِرَكلة منّي لكي يتوقّف صوت البوق. كانوا ثلاثة أشخاص. كان الشخص الجالس قرب السائق ضابطًا. كما بدا أنّ الشخص الذي جلس في الخلف هو من أطلق النار علينا. قبل وقوع تلك الحادثة أردت أن أجمع معلومات استخباريّة أكبر عن عمق جبهة العدو، لكن وبعد ذلك التأخير لم يعد الوقت متاحًا لذلك. أبلغَنا الحاجُ أميني بأنّ قيادة الفرقة أصدرت أمرًا بانسحاب الكتيبة إلى خطّ التماس، نقطة بدء العمليّات. طبقًا لهذا الأمر كنّا مكلّفين بإخلاء الجرحى والشهداء وتدمير آليّات العدوّ ومدرّعاته قدر المستطاع.

 

لدى سماعي ذلك الأمر المُرّ سرى التعب في جسدي وروحي، لكن لم يكن ثمّة مجال لكي أُظهِر ذلك. فما كان ينبغي لقوّاتي أن يروني خائبًا ومنكسرًا. ومهما كان الأمر كنّا تبعًا له، سواء أكان أمرًا بالتقدّم أو التراجع. جعلتُ أوصي نفسي بالصبر. نهضتُ واضعًا يديّ تحت جثّة الحاج هاشم وانطلقت. حضر الشباب ومدّوا يد العون، وحمل آخرون الشهيد الآخر الهمام من كتيبة حمزة، وأخذنا نطوي مسير العودة.

 

قبل وصولنا إلى آخر رتل الآليّات أرسلتُ أحد الشباب لكي يدمّر

 

328

 


295

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

دبابة مطفأة كانت على الجهة اليسرى للجادّة، فقد تكون مصدرًا للمشاكل لو بقيت سالمة. كما أنّ الأمر بتدمير الآليّات قد صدر.

 

حين وصلنا إلى طابور الإخوة رأيت فرخي، فتبادلنا الحديث. كانت الأوضاع مُعقّدة، فقد اختلّ نظم قوّاتنا، أمّا البعثيّون فمنهم من لاذ بالفرار، ومنهم من قُتل أو تظاهر بالموت، ومنهم من اختبأ في جُحر ما. وبما أن تطهير المكان من العدوّ لم يكن ممكنًا في ذلك الوضع، كان الأمر بالانسحاب هو القرار الأمثل. قرّرتُ وفرّخي أن ندمّر مدرّعات العدوّ من نقطة نهاية الرتل، غير أنّ مشكلة واجهتنا وهي أنّ الجرحى والشهداء كانوا لا يزالون على أرض الجادّة وبين الآليّات وعلى طرفَي الجادة أيضًا. أبلغْنا الحاجَ أميني عبر جهاز اللاسلكي بذلك، فما كان جوابه إلّا أن قال: إنّه من المقرّر أن تنجز قوّات كتيبتَي "الأنصار" و"حبيب"، بالإضافة إلى وحدة "تعاون" الفرقة، مهمّة إخلاء الجثث سريعًا.

ريثما ينهي أولئك عملهم بادرْنا إلى جمع الذخائر الحربيّة، فتشكّلت على الجادّة تلّة من الذخائر العائدة لنا وللعدوّ. هذا وقد سقط عدد من البعثيّين الفارّين نحو "خور عبد الله" على الأرض بعد أن استهدفهم عناصرنا بنيرانهم. قلت في نفسي: الموت بالرصاص خير من الغرق في مستنقع الخور.

 

قرابة الثالثة فجرًا بدأنا عمليّة تدمير الآليّات ابتداءً من نهاية الرتل. دمّرنا ناقلات الجند الأواخر بواسطة الآر بي جي نظرًا لإمكانية وجود البعثيّين فيها، فلا يصحّ الاقتراب منها في تلك الحال. أمّا تلك التي في أواسط الرتل وبدايته فقد دمّرناها بواسطة القنابل اليدويّة. كنت وأحد الشباب نقفز فوق الناقلة، فيرمي كلٌّ منّا قنبلة يدويّة داخلها ثمّ نقفز إلى الأسفل. وهكذا فعلنا بالتالية والتالية.

 

329

 


296

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

أحيانًا كنّا نسمع صوت أحد العراقيّين من بين الناقلات فننتقل إلى الناقلة التالية. كنّا نهدف من عملنا هذا إلى عدم إتاحة الفرصة للعراقيّين، لأن يشغّلوا الآليّات في صباح اليوم التالي، ولا يكون هناك أدنى فرصة للاشتباك في الساعات المتأخّرة من تلك الليلة.

 

ذرعنا الطريق جيئة وذهابًا ما بين كومة الذخائر ورتل الآليّات مرّات عدّة. فحين كانت ذخائرنا تنفد كنّا نقصد التلّة فنملأ جيوبنا وأيدينا ونقفل عائدين.

 

في نهاية المطاف أنهينا عملنا عند الساعة الخامسة صباحًا. كان الحاج أميني لا يزال في الموقع. قلت له إنّني سأسلّط ضوء المصباح لآخر مرّة على الأجساد، لئلّا يبقى جريح أو شهيد لنا في المنطقة لا سمح الله. عندما اطمأنّ باله قفل عائدًا إلى خطّ التماس بإصرار منّي.

 

أنجزت العمل الذي ذكرتُه، وكنتُ آخر مَن خرج من ميدان المواجهات.

 

في خطّ التماس بحثتُ عن أميري فر، إلّا أنّ أحدًا لم يكن لديه خبرٌ يقين عنه. خلال الساعات العدّة التي أمضيناها في الميدان أَوْلت وحدة الهندسة في الفرقة عناية تامّة بهيكل الساتر الترابي الواقع على الخطّ الأمامي وأعادت ترتيبه. كان هناك عدد هائل من الشهداء والجرحى الممدّدين على الأرض. عَمَد أحد مُسعفي السريّة الأولى، ويدعى علي شهبازي، إلى إعداد حُجَيرة للإسعاف، ولم يألُ جهدًا في خدمة الجرحى. أمّا مركبة "الجيب" الخاصّة بِرضا دستواره فغَدَت سيّارة إسعاف الخطّ الأمامي. كانوا ينقلون فيها أوّلًا الجرحى، مجموعة تلو أخرى إلى الخلف، يليهم الشهداء. في إحدى المرّات، وبينما كنت أرفع أحد الشهداء لأضعه على سقف "الجيب" سالت دماء حارّة من جميع أجزاء بدنه على رأسي وجسدي! كما كانت جثّة محمود أستاد نظري

 

330

 


297

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

- صديق السيد حسين دستواره الذي سبق أن ذكرتُ أنّه كان يعيش حياة الرفاهية - ممدّدة على الأرض، فما كان منّي إلّا أن وضعتها هي الأخرى على ظهر "الجيب".

 

عندما تركتُ خطّ التماس كان إخلاء الشهداء قد شارف على الانتهاء. صدر الأمر بتراجع كتيبة حمزة إلى الخطوط الخلفيّة. هذا وقد كان مثلّث مصنع الملح مزدحمًا. بعد أن أدّيتُ صلاة الصبح رأيت السيد رضا دستواره يبحث بين جثث الشهداء عن شخص ما. ما إن رآني حتى خاطبني قائلًا:

- هل قَتلتَ شقيقي يا أخ قيّومي؟

- لا يا سيّد رضا... إنّه حيّ. يقولون إنّه جريح. حملوه إلى الخلف..

 

لكنّ كلامي لم يقنعه، فواصل البحث بين الشهداء حتى تعب وكفّ عن عمله.

 

كانت ثيابي - كقماش الشوادر - سميكة وثقيلة جرّاء الدماء التي جفّت عليها. كما ودخلت الدماء إلى جزمتيّ. وصلت شاحنة قلاب - كنّا قد غنمناها - لنقل الشهداء فيها. تعاون الشباب في حمل جثث الأصدقاء ووضعوها داخل الشاحنة. أصدقاء كانوا حتى ليلة الأمس يجلسون معنا على هذا التراب، وكان لكلّ واحد منهم مَن ينتظره في البيت أو المدينة، وكان كلٌّ منهم عزيزًا بالنسبة لكثيرين. حين تمّ تحميل جثث الرفاق، انعطفت الشاحنة استعدادًا للمغادرة وإذ بنهر من الدماء انهمر من خلفها وسال على التراب.

 

بدوري ركبتُ الجيب وتركتُ ذاك المثلّث الدامي الذي لا يُمحى من الذاكرة، ومضيتُ عائدًا على الطريق الذي قطعناه ذهابًا وكُلُّنا أمل بالنصر. كانت سلواي الوحيدة أنّي أدّيت تكليفي في ذلك الطريق المليء بالأخطار، وقد أدّيته بشكل جيّد. كانت المركبة تشقّ طريقها

 

331


298

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

قُدُمًا، أمّا أنا فكنت أتساءل: هل بقيتُ لأكون شاهدًا على السيطرة على ذلك الجسر وغيره من الجسور؟ غير أنّ هواء شهر شباط البارد لم يُبقِ لذهني المُنهك رمقًا لكي أجد جوابًا لهذا السؤال.

 

عُيِّنَت قاعدة الصواريخ المهجورة - المعروفة بالساتر الهلالي - محلًّا لاستراحتنا. عندما وصلنا انضممنا إلى رفاقنا المجاهدين. لم يكن هناك أكثر من مئة شخص من كتيبة حمزة. عثرتُ على زاوية ونمتُ فيها.

 

استيقظت من نومي قبيل الظهر. ناولني الرجل الهرم المتولّي أمور الطعام في السريّة الثانية كوبًا من الشاي، فشربته وزال عنّي العناء. كانت وظيفتي الأولى في ذلك اليوم إعداد إحصائيّة للسريّة تبيّن عدد الشهداء والجرحى والأصحّاء. طلبتُ من مسؤولَي الفصيلين اللذين بقيا سالمين أن يحضرا إحصائيّتيهما. كما ذهب المعاون مير آخوري لإحضار إحصائيّة الفصيل الأول.

 

وصلَنا خبرٌ مفاده أنّ الجيش العراقيّ شنّ يوم 13/2 - أي في رابع أيّام العمليّات - هجمات مرتدّة عنيفة خصوصًا على جادّة "الفاو- البصرة". أمّا في جادّة "أمّ القصر" فلم يتمكّنوا من القيام بأيّ عمل وذلك لأننا لم نترك لهم أيّ دبابة أو ناقلة جند سالمة.

 

في الرابع عشر من شهر شباط أبلغَني الحاج أميني بأن أستعدّ لحضور جلسة في المقرّ. بعد الظهر ذهبنا معًا، يرافقنا فرخي، إلى مقرّ التكتيك في الفرقة. كان قريبًا. تناهى إلى أسماعنا بشكل متواصل أصوات متداخلة لعدد من الأجهزة اللاسلكيّة وجلبة صادرة من الغرفة المحاذية للغرفة حيث الجلسة المنعقدة. كنتُ أكثرَ مَن تحدّث في تلك الجلسة التي دامت ساعة واحدة. تكلّمتُ حول جميع

 

332


299

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

الأمور، حتى الماء والطعام. في نهاية الجلسة تقرّر أن أذهب برِفْقة الكتيبة المقتحِمَة التالية بغية الاستفادة من معلوماتي. وهذه كانت نتيجة كثرة الكلام! لكنّي وافقتُ بكلّ سرور.

 

بقي الحاج أميني في مقرّ أركان الفرقة، فيما عدتُ وفرخي إلى مقرّنا على متن سيّارة تابعة للكتيبة. تولّيت القيادة بنفسي. كان الظلام قد حلّ. كنت أقود بمصابيح مطفأة. فجأة رأيتُ سيّارة قُبالتي، فأدرتُ المقود فَزِعًا، ونجونا بلطف الله من الحادث. عندما سكن روعي قلت: "الحمد لله، مرّت على خير!".

 

قال فرخي: "يا أخ قيومي، لو كنت مكانك لمنعتُ حتى عجلات السيّارة من أن تسير على الرمل المحاذي للجادّة".

 

قلت وأنا أرى نفسي محقًّا: "سيّد مهدي، هل نسيتَ أننا نسير بمصابيح مطفأة..!".

 

لكنّ فرخي لم يأبه لما قلتُ وقال إنّ قيادتي غير جيّدة، وإنّ عليّ أن أتوخّى الدقّة أكثر. لم أسترسل في الجدال معه، واكتفيت بقولي: "على عيني"، ثم سكتُّ.

 

في الخامس عشر من شباط علمتُ بأنّ الفرقة قد اتّخذت قرارًا حاسمًا بالسيطرة الكاملة على الجسر. كان كلّ من كتيبتَي الاقتحام المتجدّدتي النشاط، "سلمان" و"مسلم" قد تأهّبتا لهذا العمل. عند الغروب وصلتُ إلى مقرّ كتيبة "سلمان". ورغم أنّه عمل غير صائب، إلّا أنّ المجاهدين كانوا يؤدّون صلاة الجماعة في الساحة المفتوحة. التحقتُ بصلاة الجماعة. كانت القذائف تتساقط قريبًا وبعيدًا ثمّ تنفجر، غير أنّ أحدًا لم يأبه لتلك الانفجارات. لقد كانت تلك الصلاة، بالنسبة لكثيرين، آخر صلاة لهم على وجه الأرض. بعد

 

333

 


300

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

الأمور، حتى الماء والطعام. في نهاية الجلسة تقرّر أن أذهب برِفْقة الكتيبة المقتحِمَة التالية بغية الاستفادة من معلوماتي. وهذه كانت نتيجة كثرة الكلام! لكنّي وافقتُ بكلّ سرور.

 

بقي الحاج أميني في مقرّ أركان الفرقة، فيما عدتُ وفرخي إلى مقرّنا على متن سيّارة تابعة للكتيبة. تولّيت القيادة بنفسي. كان الظلام قد حلّ. كنت أقود بمصابيح مطفأة. فجأة رأيتُ سيّارة قُبالتي، فأدرتُ المقود فَزِعًا، ونجونا بلطف الله من الحادث. عندما سكن روعي قلت: "الحمد لله، مرّت على خير!".

 

قال فرخي: "يا أخ قيومي، لو كنت مكانك لمنعتُ حتى عجلات السيّارة من أن تسير على الرمل المحاذي للجادّة".

 

قلت وأنا أرى نفسي محقًّا: "سيّد مهدي، هل نسيتَ أننا نسير بمصابيح مطفأة..!".

 

لكنّ فرخي لم يأبه لما قلتُ وقال إنّ قيادتي غير جيّدة، وإنّ عليّ أن أتوخّى الدقّة أكثر. لم أسترسل في الجدال معه، واكتفيت بقولي: "على عيني"، ثم سكتُّ.

 

في الخامس عشر من شباط علمتُ بأنّ الفرقة قد اتّخذت قرارًا حاسمًا بالسيطرة الكاملة على الجسر. كان كلّ من كتيبتَي الاقتحام المتجدّدتي النشاط، "سلمان" و"مسلم" قد تأهّبتا لهذا العمل. عند الغروب وصلتُ إلى مقرّ كتيبة "سلمان". ورغم أنّه عمل غير صائب، إلّا أنّ المجاهدين كانوا يؤدّون صلاة الجماعة في الساحة المفتوحة. التحقتُ بصلاة الجماعة. كانت القذائف تتساقط قريبًا وبعيدًا ثمّ تنفجر، غير أنّ أحدًا لم يأبه لتلك الانفجارات. لقد كانت تلك الصلاة، بالنسبة لكثيرين، آخر صلاة لهم على وجه الأرض. بعد

 

334

 


301

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

على جادّة "أم القصر" من الخاصرة، وذلك على بُعد مئات الأمتار من نقطة بدء العمليّات.

 

ما إن بدأت العمليّات حتى أصيب مسؤول السرية الأولى في كتيبة "سلمان" بجروح، وهو المصير ذاته الذي كان لمسؤول السرية الأولى في كتيبة "حمزة"، ما أدّى إلى تعقّد عمل السرية. أرسل قائد الكتيبة معاونه لكي يحلّ المشكلة، وقد حلّها بالفعل. فلولا شجاعته لبقيت الأمور معقّدة. وهو نفسه ارتقى شهيدًا.

 

عندما وصل نبأ شهادة صفا مظفري، شكّل قادة الكتيبة مجموعة من سبعة أشخاص -وكنت واحدًا منهم- لكي تتقدّم وتعاين الأوضاع عن كثب. عندما عبرنا خطّ التماس تذكّرتُ ليلة 13/2. بدا كلّ شيء كما كان في تلك الليلة تمامًا، غير أنّ العراقيّين أخلوا الدبابات وناقلات الجند المحترقة وجاؤوا بأخرى سالمة عوضًا عنها.

 

لم تصل مجموعتنا إلى رتل الآليّات العسكريّة، لكنّ الأخبار الواصلة عن مواجهات سريّتَي كتيبة "سلمان" كانت تحكي عن ذلك. استطاعت السرية الثانية -طِبق ما توقّعته- أن تُلحق الخلل في صفوف تشكيلات العدوّ، وأن تمهّد الطريق لاختراق جبهته.

 

كان البعثيّون يقاومون بشكل متفرّق. وقد اشتبكت مجموعتنا الصغيرة مع إحدى مجموعاتهم وجهًا لوجه. رميتُ القنبلتين اللتين كانتا بحوزتي نحوهم، فعلَت صيحات الألم منهم. فجأة وجدتُني وقد ابتعدتُ عن مجموعتي. جعلتُ أجيل بطرفي يمينًا وشمالًا قَلِقًا، بينما أنا كذلك وإذ بي أسمع دويّ انفجار قنبلة يدويّة خلفي، تَلاهُ مباشرة ألم في مؤخّرة رأسي. لقد أصِبتُ بجروح. حللتُ الكوفية عن عنقي وربطتها حول رأسي. لم يعد بقائي مجديًا. فلو بقيتُ لسبّبت المتاعب للآخرين. فما كان منّي إلّا أن انطلقت عائدًا إلى الخلف. كان ثمّة 

 

335


302

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

جرحى آخرون على الطريق فسرتُ برفقتهم.

 

في خطّ التماس رأيت رضا دستواره فقلت له:

- يا حاج، لقد واجهت كتيبة "سلمان" مصير كتيبة "حمزة" نفسه. إنّ عدد دبّاباتهم لا يُحصى...

 

قلت هذا وقصدتُ الدائرة الصحيّة. ضمدتُ جرح رأسي. ومضيتُ من مكان إلى آخر، حتى وصلتُ إلى طهران.

 

كان ولدي محمّد قد بلغ الشهر الثالث من عمره، وقد حملت زوجتي على عاتقها مسؤوليّة الحياة بكلّ محبّة.

 

لم أكمل فترة نقاهتي وعدتُ مجدّدًا إلى "خوزستان". تنقّلتُ من مكان إلى آخر حتى وجدتُ كتيبة حمزة في دشم وعنابر "أروند كنار". كانوا يستعدّون للذهاب إلى مخيّم "كارون"، فرافقتهم.

 

باستخدامهم الأسلحة الصاروخيّة ضدّ قوّات المشاة، حالَ العراقيّون دون وصول الشباب إلى الجسر تلك الليلة. جُلّ ما تقدّمه الشباب خلال تلك الليالي كان أربعة كيلومترات، وفي الليلة السادسة عشرة من الشهر كان لا يزال يفصلنا عن الجسر مسافة كيلومتر ونصف الكيلومتر. بات الجسر يشكّل شاخصًا لكلا الطرفين، شاخصًا للنصر بالنسبة لنا، ولعلّه بالنسبة لهم شاخص للشرف الذي عدموه! لقد خسروا شرفهم منذ سنوات عديدة مضت، يوم قال صدّام: "إن استرجع الإيرانيّون خرّمشهر فسأسلّمهم مفتاح البصرة". ولكنّه لم يفعل. هذا وقد شنّ نظام العراق في الثامن عشر من شهر شباط هجومًا مضادًّا، وأجبر القوّات الإيرانيّة على التراجع، فتراجعنا إلى الوراء نصف المسافة التي كنّا قد تقدّمناها تقريبًا.

 

مهدي فرّخي الذي ما فتئ يتّهمني بجهلي بفنّ القيادة حين كنت أقود السيّارة ليلة رجوعنا من مقرّ أركان الفرقة إلى مقرّ كتيبة

 

336

 


303

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

حمزة، تعرّض نفسه لحادث سيّارة بعد أربع وعشرين ساعة، ونُقل إلى مستشفى "نجميّة" في طهران. تزامن هذا الحادث - الذي شاءه المولى - مع وضع زوجته حملها في المستشفى ذاته، فذهب مهدي للقاء زوجته وابنه بيَدٍ ورِجلٍ مكسورتين ومع باقة من الزهور طبعًا! وبهذا رُزق قادة سرايا كتيبة حمزة الثلاثة خلال ذينك الخريف والشتاء بذكور، هم: عبد الله أميري فر، وابني محمد، وميثم فرخي.

 

حتى أوائل شهر آذار كان كلّ ظنّنا أنّ "أميري فر" قد جُرح، لكنّنا لم نجد له أثرًا في أيّ مكان. لم يكن اسمه موجودًا في أيّ مستشفى. ذات يوم قصدتُ "معراج شهداء الأهواز" بغية التعرّف إلى أحد العناصر المفقودين في سريّتي، فرأيت جثّة "أميري فر" هناك، فأخبرتُ عائلته. لا أدري لماذا اسودّت جثّته وانتفخت. لعلّه كان قد سقط في المياه الراكدة بجانب الجادّة. كان قد أصيب برصاص في صدره ورِجله. هذا وقد وجدتُ ورقة مُرفقة بالجثّة، فقرأتها، وقد كُتِب عليها: أُخلي في 16/2/1986، جادّة أم القصر.

 

نُقِلت جثّة حسن إلى طهران، فيما عُدتُ إلى مخيّم "كارون". وهناك ذكرتُ يوم صعدنا برج المراقبة برفقة سائر مسؤولي كتيبة حمزة. يومها قلتُ لـحسن:

- سنذهب إلى خور عبد الله، وستستشهد في ذلك المكان الموافق لاسم ابنك...

 

فقال: لا يذهبنّ خيالك بعيدًا! سأسقيك هذا الشراب وأصلّي على محمّد وآل محمّد.

 

وهكذا، فقد أتى على ذكر اسم ابني في كلامه أيضًا.

 

أعيد تأهيل كتيبة حمزة في مخيّم "كارون". فأُلحِقَت قوّات كتيبة

 

337

 


304

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

سلمان بكتيبة حمزة. لقد أدهش فتح "الفاو" الكثير من القوّات القديمة وجذبهم إلى الجبهة. أحد هؤلاء كان الأخ كبريائي الذي أصيبت رجله في عمليّات "بيت المقدس"، فلم يعد قادرًا على العمل كما في السابق. وقد عاد بعض جرحى عمليّات الفاو من المستشفى الميداني أو من طهران إلى المنطقة. وهكذا كُلّفت الكتيبة ذات السريّتين بمهمّة الدفاع على جادّة أم القصر. بعد انتهاء فترة المأموريّة عُدنا إلى عنابر "أروند كنار". وهناك حلّت السنة الشمسيّة الجديدة 1365-، فعاد أفراد الكتيبة إلى طهران في إجازة لمدّة عشرة أيّام.

 

ذهبتُ إلى "رباط كريم" في أوّل فرصة، فتفقّدتُ أسرة الشهيد حسن أميري فر، وقرأت الفاتحة عند ضريحه. أُطلِق على مقرّ التعبئة التدريبي في "رباط كريم" اسم "مقرّ الشهيد حسن أميري فر التدريبي". بعد ذلك قصدتُ منطقة "جهاردانكه" وتفقّدتُ أسرة الشهيد كلستاني. لا أزال أذكر من شهداء تلك العمليّات: الحاج هاشم، أستاد نظري، مينائي، وكثيرين غيرهم.

 

حين انتهت المأذونيّة، عدنا إلى الجبهة لنبدأ من جديد. فالحرب لمّا تضع أوزارها، ولم تكن ثمّة فرصة للاستراحة والجلوس. لم يكن أحد يفكّر بالبقاء في المدينة. أمّا أولئك الذين ذاقوا مرارات الجبهة فكانوا أشدّ شوقًا للعودة إلى ساحات الجهاد.

 

في شهر آذار من العام 1986 أُقحِمَت كتيبة حمزة في قتال رَجُل لِرَجُل مع البعثيّين، فَهُمْ من بدأ الهجوم هذه المرّة. حين وصلنا إلى الخطّ الأمامي وجدنا أنّ شكله قد خضع لتغييرات جمّة، وقد أجريت عليه أعمال هندسيّة كثيرة. فخطّ التماس بات على مسافة بضعة كيلومترات إلى الأمام من مثلّث مصنع الملح. حُفرت قناة بشكل عموديّ على الجادّة.

 

قبل القناة بمسافة خمسمائة متر بُني ساتر ترابيّ على 

 

338


305

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

هيئة يد عصا (هلاليّ الشكل). أسفل منه استُحدِث ساترٌ ترابيّ ذو جدارين. كما إنّ المستنقع على الجهة اليسرى من الجادّة كان قد جفّ فكان العناصر يتنقّلون عبره.

 

تموضعت فصائل كتيبة حمزة الثلاثة على النحو الآتي: واحدٌ على الخطّ الأمامي، الثاني على مثلّث مصنع الملح، والثالث إلى الوراء قليلًا، في قاعدة "ذو زنقة" الصاروخيّة. كان هذا التموضع للحؤول دون وقوع ضحايا بلا طائل.

 

في ليلة الهجمة المرتدّة شنّ البعثيّون هجومهم على خطّ التماس. كان الحاج أميني نفسه داخل القناة. بادرت القوّات المساندة بالتقدّم السريع من مثلّث مصنع الملح والقاعدة الصاروخيّة وذلك بشكل تدريجيّ، للوقوف في وجه العدوّ. عند منتصف الليل هاجم العدوّ الساتر الترابيّ الهلاليّ الشكل، فوقعت قوّاته في حصار مطبق بين كلّ من القناة، الجادّة على امتدادها، والساتر الترابي ذي الجدارين. فكانت النيران تنهمر عليهم من ثلاث جهات. سقط لنا في تلك الليلة مئة شخص ما بين شهيد وجريح، كما وأصيب حسين دستواره في الليلة نفسها بجروح للمرّة الثانية.

 

بعد تلك الهجمة المضادّة الخائبة رضي نظام العراق بخسارة أرضه واحتلالها من قِبل إيران. ثبّت كلا الطرفين مواقعهما، واقتصر عملهما على تبادل القصف المدفعيّ.

 

كنتُ في الجبهة عندما وُلد محمّد، وحين نطق أولى كلماته، وكذا حين سار أولى خطواته أيضًا. جئت ذات يوم في إجازة فرأيت في وجهه ملامح حال لا تُمحى من ذاكرتي بتاتًا. حالٌ بين البكاء والضحك، بين الحزن والفرح. لقد سُرّ لرؤيتي وفي الوقت عينه كان يفرّ منّي. كان يركض مسرعًا إلى أحضاني تارة ويشعر بالغربة طورًا. يومها التهب

 

339

 


306

الفصل الخامس عشر - ليلة السرطان

كلّ كياني، ولم أعلم كيف أتصرّف إزاء ذلك الغم! إلّا أنّه لم يكن باليد حيلة. لم يكن بأيدينا حيلة. إنّها الحرب!

 

محمّد اليوم رجل أتمّ العشرين من عمره. أستطيع الآن أن أعتمد عليه. لكن ماذا عن عبد الله أميري فر؟ ألم أقصّر أنا وغيري في حقّه؟ فهو لم يجرّب من ذلك الشعور المختلط الذي رأيته يومذاك في وجه ولدي فاشتعلت، سوى الشعور بالغربة. ولم يذق لذّة طعم حضن الأب. أليس هو أقرب إلى الله من ابني؟ لم يبقَ لي من تلك الحرب المهولة سوى بعض الجراح التي بقيت آثارها في جسدي والمذكّرات التي كتبتها. لكن في قلوب عوائل الشهداء، في قلب عبد الله أميري فر جراح لا تعرف الالتئام. فليرحمنا الله جميعًا، فليرحمنا الله!

 

 

340

 

 


307

وثائق الفصل الخامس عشر

وثائق الفصل الخامس عشر

 

 

 

1-1 معلومات شخصية

- إجازة في العلوم التربويّة، متأهّل وله ثلاثة أبناء، موظّف في مؤسّسة الثقافة والفن التابعة لبلديّة طهران.

- تاريخ ومحل الولادة: سنة 1961، قم.

- مدة الحضور في الجبهة ونوع الخدمة: خمسة عشر شهرًا خدمة في التعبئة، وخمسة وعشرون شهرًا خدمة في الحرس الثوري.

- التاريخ الجهادي والرتب العسكريّة: آبادان 1980 (قنّاص)، مهاباد، 1981 (قنّاص). عمليّات طريق القدس (رامي آر بي جي). عمليّات محمد رسول الله (ص) (رامي آر بي جي)، عمليّات والفجر1 (معاون سرية)، عمليّات والفجر4 (معاون سرية)، عمليّات خيبر (معاون كتيبة)، خط شاخ شميران الدفاعي، 1984 (معاون سرية). عمليّات بدر (قائد سرية) عمليّات والفجر 8 (قائد سرية). خطّ الفاو

 

341

 


308

وثائق الفصل الخامس عشر

الدفاعي، 1986 (قائد سرية). عمليّات كربلاء 4 (قائد سرية). عمليّات كربلاء 5 (قائد سرية)، عمليات كربلاء 8 (قائد سرية)، عمليّات بيت المقدس 2 (قائد كتيبة)، عمليّات مرصاد (عنصر حرّ في اللواء).

 

- جراحه: إصابة في الرجل اليمنى (1983)، إصابة في مؤخّرة الرأس (1985)، إصابة كيميائيّة في الرئة والعين (1985)، إصابة في مرفق اليد اليسرى (1986).

- درجة الإصابة: 10 %

 

342


309

وثائق الفصل الخامس عشر

2-4 الوصيّة

نسخة خطّ اليد غير متوافرة.

 

أعزّائي، دين الإسلام اليوم هو المسؤول عن تحقيق السعادة والهناء، والضامن لتحقيق الراحة والرفاه في المجتمع، ولا يمكنه الأخذ بيد الناس نحو التعالي والتكامل إلّا حين يكثر الفداء في سبيله، وترخص الأرواح، ويطيب الجود بالأنفس في سبيل تطبيق أحكامه. فكما قال قائد الثورة الكبير: عندما يتذوّق الناس لذّة الثقافة الإسلاميّة سينتشر الإسلام بسرعة على امتداد العالم، ويعود المحرومون والمستضعفون إلى حضن الإسلام، ولن ينحنوا أمام ذلّ المجرمين والظَلَمة أبدًا، ولن يطأطئوا رؤوسهم لهم تعظيمًا.

 

أعزّائي، اشكروا الله كثيرًا على نعمة القيادة العظيمة التي منّ الله بها علينا، فتشملنا بذلك رحمته وبركاته ونصره، ونوفّق لأداء تكليفنا بالنحو الأحسن. لقد أوجب الله علينا الحرب والقتال وقال: إنّه وإن

 

344

 


310

وثائق الفصل الخامس عشر

كان في الحرب والقتال مشقّة ونصَب، وأنتم لهذه المشقّات كارهون، ولكن اعلموا أنّ عاقبة هذه الصعوبات والمآسي خير وسعادة لكم*[1].

 

في الختام، لديّ كلام مع عوائل الشهداء الأعزّاء.

 

يا عوائل الشهداء، أيّها الآباء والأمّهات، ويا زوجات الشهداء وأبناءهم. اعلموا أنّ الله تعالى يريد بعباده كمال اللطف والمرحمة، ولا يأمر عباده إلّا بما فيه علو درجات إيمانهم ومقامهم ومنزلتهم. صحيح أنّكم فقدتم أعزّاءكم، ولا شكّ أنّ تحمّل فقد الأحبّة وفلذات الأكباد أمرٌ صعب، ولكن، بما أنّ هذا العمل هو امتثال للأمر الإلهي، وفقدكم أحبّتكم كان في سبيل الله، فكونوا على يقين بأنّكم لم تخسروا، بل إنّكم تركتم أيدي شهدائكم وسلّمتموها ليد الربّ القادر المقتدر.

أعزّائي، من المسلّم أنّ تحمّل فقد الشباب أمر مرير، وأنّ فقد الولد والزوج والأخ والأب أمر لا يطاق، ولكن اعلموا أنّ حفظ الإسلام أعزّ من دماء شهدائنا.

 

يا من قدّموا أحبّتهم قرابين في سبيل الله اعلموا أنّ لكم عند الله مقامًا رفيعًا جدًّا.

 

2- 5 مقابلة مع ابن الشهيد

ما سأقوله لكم بشأن والدي إنّما هو ممّا قد سمعته، ومن أخبار أمي وجدّتي والأصدقاء والمعارف. لقد أتعبوا أنفسهم وساهموا في أن أتعرّف إلى والدي من خلال ذكرياتهم رغم قِصَرها.

 

لقد كان لي من العمر بضعة شهور عندما استشهد أبي. اليوم مضى عشرون عامًا على ذلك الوقت ويملأني الشوق لسماع أخباره.


 


[1] مضمون الآية: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم..(البقرة، قسم من الآية 216).

 

345


311

وثائق الفصل الخامس عشر

لقد سجّل أبي تاريخ ولادتي - التي كانت في خريف العام 1985 م - في بطاقة الهويّة في شهر آب (الذي سبق). وهذا يدلّ على أنّه كان على عجلة لكي أتعلّم. كان يريدني أن أصل بدراستي إلى مرتبة ما.

 

ما أعرفه عن حياة والديّ القصيرة هو أنّهما كان يتبادلان المحبّة. كانت أمّي، كغيرها من زوجات المجاهدين، تحمل على كاهلها عبء البعد الثقيل عن أبي. عبءٌ تضاعف ثقله أضعافًا كثيرة بعد شهادته.

 

قيل لي إنّ أبي كان يحبّ الرياضة، فريق "رباط كريم" لكرة القدم، الذي كان أحد أفراده ويلعب في خطّ الدفاع، فاز مرّات عدّة بلقب البطولة. كما قيل لي إنّه كان مُلمًّا بالمصارعة التقليديّة.

 

قالوا لي إنّه وفي السنوات الأولى للحرب كان مسؤول الحرس في مدينة "رباط كريم"، لكن العمل خلف الجبهة لم يكن بحجم طموحه، فتوجّه إلى الجبهة.

 

بقي لي بستان فستق في "رفسنجان" كذكرى من أبي. لقد أمضى المرحلة المبكرة من شبابه هناك. كلّما قصدتُ رفسنجان وبستان الفستق ذاك، أشمّ رائحته وأسمع وقع أقدامه قرب كل شجرة.

 

تقول والدتي إنّ جثّة والدي كانت قد اسودّت. وكان فخذه مربوطًا بكوفيّة وثمّة أثر لرصاصة أصابت صدره. وأحدثت لدى خروجها من الخلف فجوة كبيرة في ظهره.

 

هذا كلّ ما لديّ من معلومات عن رجل يقولون "إنّه كان والدي"، لكنّي أشعر بسعادة لا توصف كوني ابنًا لبطل قاتل في الجبهة ببسالة، لكي أعيش وجميع أطفال إيران براحة. أنا أعلم أنّ الأمن الذي نعيشه اليوم إنّما هو نتيجة تضحياته وتضحيات رفاق دربه، وعلينا أن نقدّر هذا الأمر.

 

346

 


312

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الراوي: محمود أميني

التوصيف: قائد كتيبة

زمان ومكان المقابلة الأولى: 1992م، طهران

 

 

 

الفصل السادس عشر

الجادّة الثالثة

في منتصف آذار[1] من العام 1985م، وفي عمليّات "بدر"، كانت قدماي قد وطئتا للتوّ الجهة الأخرى من الهور وشرق دجلة حين أُصبتُ بجروح. فأرجعوني، أنا القادم لتوّي، لتستغرق فترتَي العلاج والنقاهة عدّة شهور. عندما جُرحتُ كنت قائد كتيبة كميل.

 

في صيف العام 1985 عدتُ إلى منطقة الحرب. حينها كانت الفرقة قد حطّت رحلها في مخيّم "كوزران" الحديث الإنشاء. سألتُ عن موقع كوزران، قيل لي إنّها منطقة واقعة بين "باختران" (كرمانشاه) و"إسلام آباد".

 

وصلتُ إلى هناك، فمررتُ على مقرّ الفرقة أوّلًا وأعلمتهم بحضوري، ثمّ قصدتُ مقرّ "كتيبة كميل"، فلم أجد سوى عدد قليل من الخيام شبه المقفرة. فبعد إصابتي، سقط المساعدون وسائر قادة الكتيبة ما بين شهيد وجريح، وقدّمت الكتيبة في عمليّات "بدر" خسائر


 


[1]  أواخر العام الهجري الشمسي 1363.

 

349


313

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

جمّة. لم يبقَ من الكتيبة سوى قلّة قليلة.

 

أوّل خطّة خطرت في بالي كانت إعادة بناء هيكليّة الكتيبة، إلّا أنّ آراءً أخرى طُرحت بين شهرَي آب وأيلول من العام 1985، وظهرت أمامي سُبلٌ أخرى.

 

كانت كتيبة حمزة بقيادة الأخ الجريح أسد الله بازوكي، جارتنا في "كوزران". لقد عرفت "أسد الله" منذ عمليّات "فكّة" سنة 1982. في تلك العمليّات بُتِرت يده من أعلى المرفق. اقترح عليّ ذات يوم أن أتولّى قيادة كتيبة حمزة. لمّا سألته عن السبب، قال إنّ الفرقة اقترحت عليه إنشاء وحدة التدريب العسكري، وإنّه رفض الاقتراح لتبقى راية كتيبة "حمزة" مرفوعة، لكن بُعيد مجيئي أخبر قيادة الفرقة بأنّه إن وافق الحاج أميني على تولّي مسؤوليّة الكتيبة فسيكون حاضرًا لإنشاء تلك الوحدة.

 

كنت أتفهّم شعوره. فكلّ قائد تربطه باسم كتيبته وذكرياتها علاقة وطيدة ومشاعر جيّاشة. لم يُرِد لكتيبته التي بذل جهودًا حثيثة مدّة سنة كاملة حفاظًا عليها أن يُمحى اسمها دفعة واحدة. وأنا، كذلك، لو لم أفقد قوّاتي دفعة واحدة لكان لديّ الشعور نفسه تجاه كتيبتي.

 

كان هذا الحوار لا يزال قائمًا ولمّا يصل إلى نتيجة تُرجى، حين حزمنا أمتعة السفر تاركين "كوزران" لنقصد معسكر "دوكوهه". في "دوكوهه" أخذتُ أجادل نفسي. درستُ الظروف وقمت ببعض الاستشارات، وفي نهاية المطاف حسمت رأيي، فقطعتُ آمالي من كتيبة كميل وإعادة إصلاحها، وقبلت مسؤوليّة قيادة كتيبة "حمزة". وبهذا لم يبقَ من كتيبة "كميل" إلّا اسمها وذكراها.

 

في ذلك الحين وقبله، لم يكن للكتائب في "دوكوهه" مبنًى خاصّ. 

 

350


314

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

عندما وصلنا إلى "دوكوهه"، ونظرًا إلى انعدام القوّات في كتيبة "كميل"، استقرّت قوّات كتيبة "حمزة" في مبنى كُتب فوق بابه اسم "كميل". وعندما بات أمر دمج الكتيبتين قطعيًا أخذ اسم كتيبة "حمزة" مكانه أعلى الباب.

 

بعد انحلال كتيبة "كميل" أحضرنا التجهيزات التموينيّة والإعلاميّة الخاصّة بها إلى كتيبة "حمزة". كان لكتيبة "كميل" تاريخ عريق، فقد كان لدينا حتى ظروف رسائل تحمل اسمَ وشعارَ الكتيبة. خُيّرت القوّات في الكتيبة بين الانضمام إلى كتيبة "حمزة"، أو تصفية حساباتهم[1]، أو أخذ مأذونيّة. من بين كوادر الكتيبة انضمّ السيد محمد مجتهدي معي -مساعدي في كتيبة كميل- إلى كتيبة حمزة.

 

أقيمت جلسةُ تعارف بيني وبين قوّات كتيبة حمزة ووداعٌ لـ"أسد الله بازوكي" في أجواء حميميّة. اجتمع شباب كتيبة حمزة على سطح المبنى، وعرّفني رضا دستواره إلى أفراد الجمع المؤلّف من مئتي شخص. قال في نهاية حديثه عنّي:

- الأخ أميني جريح أيضًا. أصيب برصاصة "دوشكا" في رأسه، وقد ملأوا قسمًا من جبهته بالإسمنت.

 

تلاه بازوكي فتحدّث لعدّة دقائق، وفي الختام تحدّثتُ مع الشباب عشر دقائق أيضًا. حين انتهت الجلسة تحلّق الجميع حول أسد الله ليودّعوا قائدهم. لمحتُ في عيون بعضهم غصّة عميقة، كانت لي نموذجًا يُحتذى.

 

في النصف الأوّل من شهر تشرين الثاني أمضيت وقتي في ترتيب


 


[1] معاملة خروج العناصر من الجبهة بعد أداء وظائفهم ومأموريّاتهم التي حُدّدت لهم، أو انتهاء أعمال المحور، أو لأي سبب آخر كالانصراف من الجبهة..

 

351


315

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

أمور كتيبة حمزة. قام عدد من العناصر بتصفية حسابه والمغادرة من البداية. فيما أخذ بعضهم إجازة فذهب ثمّ عاد. حين انتهى الذهاب والإياب أعلمتُ الجميع بأنّ على الراغبين بالبقاء في الكتيبة أن يقدّموا تعهّدًا بالحضور لثلاثة أشهر، لكي يتسنّى لي التعويل على قوّاتي خلال إعداد الخطط، ولن يسوّى حساب أحد قبل انتهاء الأشهر الثلاثة.

 

كان قراري الأوّل مع قيادة الفرقة هو خضوع عناصر الكتيبة لدورة تدريبيّة على العمليّات البرمائيّة. سعيًا منّي لإصلاح تشكيلات الكتيبة حللتُ السريّة الثانية التي كانت تفتقر إلى الكوادر والقوّات، وذلك لتكميل السريّتين الأُخريين. كان علي ليائي قائد السرية الأولى، وقاسم كاركر قائد السرية الثالثة. أمّا علي ميركياني معاون الكتيبة فبات معاوني الخاص. كان هؤلاء الثلاثة من كوادر كتيبة حمزة الذين بقوا معي. أمّا السيد محمد مجتهدي الذي جاء برفقتي من كتيبة كميل فعيّنته مساعدي الثاني. هذا وقد أبقيتُ كُلًّا من مسؤولي أقسام التجهيزات، شؤون العاملين، التعاون، الاستشفاء (الدائرة الصحيّة)، التسليح، الاتصالات، المعدّات والإعلام في مسؤولياتهم في الكتيبة.

 

بهذا توجّهت الكتيبة بسريّتَيها المكتملتين وأقسام أركانها نحو مخيّم "سفينة النجاة" التدريبي الواقع على ضفاف بحيرة سد "دز"، والمزوّد بخيم جاهزة معدّة لسكن العناصر. قبل الانطلاق رافقَتنا سرية من القوّات التابعة لوحدة "ذو الفقار" - وهي قسم المعدّات في الفرقة - لئلّا تذهب قدرات مدرّبي وحدة البحرية سُدى. حلّ أولئك ضيوفًا على كتيبة حمزة أثناء مدّة الدورة التدريبيّة، بعد ذلك عادوا إلى عملهم الخاص.

 

في تلك الدورة جرى التدريب على طريقة استخدام سترة النجاة، السباحة، إدارة الدفّة، الاستتار في الماء واليابسة، وكذا طريقة الهجوم

 

352

 


316

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

من اليابسة إلى الماء وبالعكس. وفي نهاية الدورة أقيمت مناورة مهمّة وناجحة في أخذ موطئ قدم على ساحل العدوّ. كانت مياه بحيرة "دز" باردة في تلك الأجواء الخريفيّة، وقد تحمّلت القوّاتُ التدريبات والتمارين وتلقّتها بقوة وثقة. في يوم المناورة الختاميّة حلّ كلٌّ من قائد الفرقة: محمد كوثري، ومعاونه رضا دستواره، ومسؤول وحدة التدريب العسكري: أسد الله بازوكي يرافقهم آخرون من قادة الفرقة ضيوفًا علينا، ليشاهدوا نتيجة التدريبات. وقد تمّ تصوير فيلم لهذه المناورة بُثّ عبر شاشة التلفاز[1].

 

سررتُ للقاء أسد الله. إذ ما برح رفاقه الذين بقوا في الكتيبة، مثل قاسم كاركر وميركياني، يحدّثونني عن خصاله الحميدة، فكنت أزداد شوقًا لرؤيته يومًا بعد يوم. كان له من العمر حوالى ثماني وعشرين سنة. بعد عمليّات "خيبر" التي استشهد فيها قائد الكتيبة حسن زماني، قصد رفاقُه أسدَ الله بازوكي ليسلّموه راية الكتيبة. كان أسد الله حينها يعمل في طهران إثر قطع يده في عمليّات "والفجر1".

 

كان الشهيد حسن زماني من قدامى المجاهدين في الجبهة، ومن ذوي الأسماء اللامعة في كتيبة حمزة. ولقد زُيّنت عتبة باب مبنى الكتيبة العليا في معسكر "دوكوهه" باسمه المبارك منذ العام 1984. وفي أيّ مكان نُصبت لوحة مكتوب عليها: "نقطة الشهيد حسن زماني" كانت هذه اللوحة تُعلِم بحضور كتيبة حمزة[2].

 

إنّ تاريخ كتيبة حمزة حافل وجدير بالمطالعة. فقد أسّس هذه


 


[1] قام بتصوير الفيلم قاسم دهقان، وهو أحد قادة الفرقة القدامى الذي تفرّغ للأعمال الفنّية في الجبهة بعد تعرّضه لإصابة. في النهاية استشهد الحاج قاسم في آب من العام 1996.

[2] تأسّست كتيبة حمزة على يد رضا جراغي في شباط 1982، وذلك قبل عمليّات "الفتح المبين". وقد استشهد رضا سنة 1983 في عمليّات "والفجر1" وكان قائد فرقة.

 

353


317

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الكتيبة مَن بقي من قوّات كتيبة "سيف" التي انحلّت بعد عمليّات "والفجر1". يومها تولّى حسن زماني في مخيّم "قلاجه" مسؤوليّة الكتيبة. وقد ارتقى شهيدًا في جزيرة "مجنون" بعد أن سطّرت قوّاته أروع الملاحم في عمليّتَي "والفجر4" و"خيبر". بعد ذلك قصدت هيئةُ أركان كتيبة "حمزة" الاخ بازوكي الذي رفع بدوره راية الكتيبة ثانية. بعد حضوره في خطّ "شاخ شميران" الدفاعي سنة 1984، والمشاركة في عمليّة "بدر"، وكذا قيادة خطّ الفرقة الدفاعي في "مهران" سلّمني بازوكي مسؤوليّة الكتيبة وذلك سنة 1985.

 

استغرقت دورة التدريب على العمليّات البرمائيّة 15 يومًا، وبعد انقضائها قفلنا عائدين إلى معسكر "دوكوهه". وبما أنّ معظم القوّات كان من الشباب والفتيان وهواة السباحة وركوب الزوارق، فقد تخطّوا صعوبات التدريب ومشاكله من خلال التسلية والترفيه السليمين، كصيد الأسماك، فباتوا أكثر حيويّة. حينها أيقنتُ أنّ في جعبتهم تجاربَ عن العمليّات المائيّة. في المخيّم التدريبي كنتُ أمرّ أحيانًا بجانبهم وهم مشغولون بشيّ السمك بواسطة سيخ تنظيف البندقيّة، فكانوا يدعونني إلى مائدتهم. كان رواج فنّ صيد الأسماك وطهوها إحدى نتائج تلك الدورة التدريبيّة أيضًا!

 

بعد وصولنا إلى المعسكر مررتُ على مبنى قيادة الفرقة وعلى السيد رضا دستواره لتلقّي الأمر التالي. كان الأمر كالآتي: عشرة أيام مأذونيّة!

 

صباح اليوم الذي نقلتُ فيه خبر المأذونيّة أثناء المراسم الصباحيّة للكتيبة، لم أرَ بريق السعادة في عين أي عنصر من العناصر. كان من الواضح أنّي نقلت لهم خبرًا بائتًا، وأنّ "إذاعة التعبئة" أطلعت المجاهدين المحترمين على تفاصيل عمل الكتيبة!

 

354

 


318

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

ذهبتُ أنا أيضًا مع العناصر في إجازة. تفقّدتُ زوجتي وأطفالي وعائلتي ورفاقي، ثم عدتُ أدراجي.

 

ما إن عدتُ حتى علمتُ بأن الفرقة تلقّت أمرًا بزيادة عدد الكتائب بغية الاشتراك في العمليّات الآتية. لهذا كان واضحًا للعيان وجود حركة دؤوبة في كلّ مكان بهدف تشكيل كتائب جديدة. من بين كوادر كتيبتنا تلقّى علي ميركياني أمرًا بتشكيل كتيبة. لدى رؤيتي لهذه الأوضاع بادرتُ سريعًا إلى الاتصال هاتفيًّا بعدد من رفاقي القدامى الذين كانوا يعملون في طهران، وطلبتُ منهم الحضور الفوري إلى معسكر "دوكوهه". من بين هؤلاء كان هادي قيّومي ومهدي فرخي.

 

في شهر كانون الأوّل خضعت الكتيبة لتغييرات جمّة فكان لا بدّ من إجراء ترتيبات جديدة فيها. انفصل عنّا كلّ مِن علي ميركياني والحاج علي ليائي وعدد آخر بغية تشكيل كتيبة جديدة باسم "سلمان". من جهة أخرى حضر قيّومي وفرخي من طهران لكي يساعداني في إدارة الكتيبة. تزامنت هذه الأحداث - بلطف المولى - مع أسبوع التعبئة وتوافد "قاصدو كربلاء"، الذين أثارت أمواج حضورهم ضجّة في معسكر "دوكوهه".

 

مع وصول القوّات المتوافدة اكتملت تشكيلات جميع الكتائب بما فيها كتيبة حمزة، فأَتْمَمْتُ الحجّة مرّة أخرى في المراسم الصباحيّة: أنّ على من يرغب البقاء في الكتيبة الحضور مدّة ثلاثة أشهر، وأنّه لن يسوّى حساب أحد في وسط الطريق.

 

كان قادة سرايا كتيبتي حينها: حسن أميري فر، قائد السرية الأولى، هادي قيومي، قائد السرية الثانية، مهدي فرخي، قائد السرية الثالثة، ما شاء الله نانكير، مسؤول الإعلام، حميد سربي، مسؤول التسليح (الذخيرة والعتاد العسكري)، السيد مجتهدي، مساعِدِي، قاسم

 

355

 


319

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

كاركر، عنصر حرّ، وغيرهم... هؤلاء هم أنفسهم الذين رافقوني في عمليّات "والفجر8" التي بدأت في 9 شباط 1986.

 

كان حسن أميري فر رفيق الجهاد القديم لـبازوكي. وقد سلّمتُه مسؤوليّة السرية الأولى، التي تقع على عاتقها أشقُّ الأعمال عادة، بعد استشارة بازوكي. الحدث الذي لا أنساه من تلك الأيّام هو أنّ قادة السرايا الثلاثة كانوا جميعًا بانتظار أوّل مولود لهم، فكانوا يبحثون عن هاتف عند أيّ فرصة سانحة، بغية محادثة عائلاتهم في طهران. أذكر أنّ ابن أميري فر سبق الآخرَين في الولادة، وأنّهم سمّوه عبد الله.

 

اجتمعنا ذات يوم في مقرّ الفرقة، فتقرّر أن نبحث عن مكان لنصب الخيام في أطراف الثكنة، لئلّا تبقى جميع الكتائب في داخلها، فيتهدّد أرواحَ الشباب ومصيرَ العمليّات المقبلة خطرُ القصف الجويّ. لم يكن المخيّم السابق للفرقة الواقع شرقَ الثكنة، آمنًا جغرافيًّا. فقد كان يحدّ أحدَ أطرافه جبلٌ، فيما تحيط الصحراء بجهاته الثلاث الأخرى. حضر ذلك الاجتماع كلٌّ مِن السيّد رضا دستواره، أسد الله بازوكي، جعفر محتشم، نصرت أكبري، علي ميركياني، وآخرون. كان ذلك قُبيل الظهر. قال أحدهم: "هذا غير ممكن اليوم، الوقت يقترب من الظهر، وحتى نذهب ونعود سيتأخّر الوقت".

أمّا أنا فقلت:

- على العكس، الوقت مناسب. سنصِل ظُهرًا إلى مقام الولي الصالح "سبزقبا" في "دزفول"، فنؤدّي صلاتنا، ونزور الضريح، ثمّ نتناول طعام الغداء ضيوفًا على السيد رضا دستواره. بعد ذلك نقوم بعملنا.

 

حسمتْ صلوات الأصدقاء الأمر. أمّا دستواره فبقي متحيّرًا لمَ اخترتُ أن "أَخْرِب بيته" من بين جميع أولئك! لكن لم يكن لديه سبيل للفرار.

 

357

 


320

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

بعد الصلاة والغداء مضينا على جادّة "دهلران"، فتوجّهنا نحو منطقة "شاوريه" الواقعة غرب نهر "كرخه"، والتي تبعد مسافة ثمانين كيلومترًا عن ثكنة "دوكوهه". لكنّ أسد الله بازوكي أشار إلى مكان قريب من النهر يبعد نصف المسافة السابقة. بتوجيه منه ذهبنا إلى "شاوريه" وإلى المكان الذي أشار إليه. كان نظام صدام قد شقّ طريقه الرمليّ المليء بالمنعطفات في سنوات الاحتلال، وكانت المنطقة تعجّ بالمقرّات والدشم التي اتّخذت شكل حدوة الخيل. بدا مكانًا مناسبًا. من فوق مرتفع بعلوّ مئتي متر أخذنا نجول بنظرنا على أرض المخيّم المستقبلي الذي يقع إلى الشرق منه نهر "كرخه" الهادر، وفي غربه وادٍ فسيح يشبه الدهليز. وبوضع برج للحراسة أمكن مراقبة جميع أنحاء المخيّم. هذا وقد بدت الأخاديدُ الكثيرة والوديان التي تتخلّلها،مكانًا مناسبًا لاستقرار الكتائب.

 

حظي المكان برضى الجميع، وأخذ كلّ قائد يعيّن مكان كتيبته أو قسمه، وإذ بصوت بازوكي يرتفع معترضًا:

- ماذا عن قسم التدريب العسكري؟!

 

قال رضا دستواره:

- إنّ أرضَ الله وهذا الجبل واسعان، وكلُّ مسلم له مكان يكفيه.

 

ثمّ أردف مشيرًا إلى شمال المخيّم:

- سيكون أعلى المدينة و"شميران" مخيّمًا خاصًّا بالتدريب العسكري!

 

اتُّخذ لمقرّ كتيبة حمزة مكانٌ في زاوية المخيّم، والذي يعتبر مكانًا جيّدًا من الناحية الأمنيّة. فقد أحاطت التلال بجهتيه الغربيّة والجنوبيّة، وكان طريق الوصول إليه عبر الجهة الشرقية والشماليّة.

 

357

 


321

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

غادرنا المكان عند الغروب. كان بإمكان وحدة الهندسة العسكريّة في الفرقة إنجاز بناء الساحة وإنشاء الطرق في غضون أسبوع واحد. هذا وقد تقرّر استقرار شرطة حراسة الفرقة في تلك المنطقة بدءًا من اليوم التالي.

 

في طريق العودة مررنا ثانيةً على بائع الكباب الدزفولي حيث أكلنا ظُهرًا. كان طعام عشائنا على نفقة الحاج عباديان، مسؤول قسم التموين والتجهيز آنذاك.

 

حين رجعنا إلى الثكنة تقرّر إرسال مجموعة من كلّ كتيبة إلى المخيّم الجديد، بغية المساعدة في أعمال البناء. بدوري أرسلتُ لهذا العمل مجموعة من 15 شخصًا بإشراف حسن أميري فر.

 

في أواسط شهر كانون الأوّل، تسلّم العناصر غير المسلّحين أسلحةً من قسم التسليح في الكتيبة، واستعدّت الكتيبة للانتقال. أخيرًا، وفي يومٍ شددنا الرّحال نحو المخيّم الجديد على متن الحافلات والشاحنات.

 

في مخيّم "كرخه" بدأت التدريبات والتمارين الخاصّة بالكتائب والأقسام، وكنت أشترك بنفسي في المراسم الصباحيّة وتمارين الليونة والرياضة الصباحيّة التي كانت تقام غالبًا على مستوى الكتيبة مستغرقة وقتًا طويلًا.

 

قام حميد سربي، مسؤول التذخير في الكتيبة - الذي خضع لشتّى أنواع التدريب العسكري الكلاسيكي، والذي كان ذائع الصيت في الرماية - بإنشاء عدّة صفوف للتدريب العسكري للشباب أسبوعيًّا. فكان يعلّمهم فيها طرق استعمال أنواع الأسلحة العاديّة وكيفيّة فكّها وتركيبها.

 

هذا وقد أقام قسم الإعلام في الكتيبة صفوفًا متنوعّة لتعليم القوّات

 

358

 


322

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

المعارف العقائديّة. تولّى إدارة بعض تلك الصفوف أساتذة في مادّة العقيدة، فيما كانت تُبَثّ في البعض الآخر أشرطة مسجّلة ومصوّرة. وبما أنّ خيمة الإعلام كانت تُعنى بإقامة المراسم الصباحيّة وبثّ القرآن الكريم والأذان في أرجاء الساحة، فقد كانت الخيمة الوحيدة المزوّدة بالتيار الكهربائي من مولّد يعمل على البنزين.

 

بعد مدّة أحضرنا إلى الكتيبة - بمساعدة مسؤول التجهيزات والتموين - مولّدًا كهربائيًا يعمل على الكاز، فتولّى الشباب أنفسهم مهمّة التمديدات الكهربائيّة إلى كافّة خيم الكتيبة بغية إنارتها ليلًا. إلّا أنّ تلك الإنارة وفرحة الشباب لم تدُم لأكثر من أسبوع واحد، فقد اشتعل المولّد واحترق، وعُطِبَت جميع الأسلاك!

 

حينما كان أحدهم يدخل فِناء الكتيبة لم يكن يجد صعوبة في العثور على خيمة القيادة فيها. فقد كانت شاحنة "تويوتا" وقاطرة مركونتين بجانب خيمتنا غالبًا. كان لكلّ كتيبة شاحنتان، وُضعت إحداهما في تصرف قسم التجهيزات في الكتيبة. في العام نفسه استرجعت وحدة النقل في الفرقة الشاحنات القديمة من جميع الأقسام والكتائب، واستبدلتها بأخرى ذات هياكل جديدة، فكان الشباب يُطلقون عليها اسم "التويوتا الفاسقة" بسبب شكلها الخارجي الجميل!

 

في خيمة قادة الكتيبة التي تُسمّى بخيمة القيادة، كنت أنا ومساعداي وساعيا بريد وأمين سرّ الكتيبة وعددٌ من العناصر الحرّة. عندما كانت تقام في خيمتنا جلسة مع قادة الكتائب كان المكان يضيق بالجميع.

 

كان ذلك يحدث عدّة مرّات أسبوعيًّا. في تلك الجلسات كنت أنقل إليهم الأخبار الجديدة، أو نتحادث بشأن التخطيط لمناورات على صعيد الكتيبة.

 

359

 


323

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

في كتيبة حمزة كان ارتداء البنطال الكرديّ - كما كان رائجًا في بعض الكتائب - والتدخين ممنوعَين. أمّا مسنّو الكتيبة المعتادون على التدخين، فقد سُمح لهم بالتدخين في الخفاء وبعيدًا عن الأنظار. لم يكن أحد في خيمة أركان الكتيبة مدخّنًا. وإن كان ثمّة مدخّن فكان يمتنع عن التدخين داخل الخيمة احترامًا لأمري. كنت أعتمد الاعتدال والوسطيّة في كلّ الأمور. فالتدخين في الملأ العام ممنوع على الجميع، أمّا كبار السنّ الذين قضوا عُمرًا وهم يمارسون هذه العادة الخاطئة فقد كان مسموحًا لهم بالتدخين بقدر رفع الحاجة بشكل مخفيّ. كانت هذه طريقتي في مجالس العزاء أيضًا. وقد رضي الشباب بهذه الطريقة وتقبّلوها بشكل صحيح. فلو سبّب منشدٌ ما في كتيبة حمزة هرجًا ومرجًا كان الشباب أنفسهم يبتعدون عنه.

 

كانت الأعمال التدريبيّة في الكتيبة تسير على ما يرام، إلى أن حدث في إحدى المناورات أن استشهد أحد التعبويّين، كما أصيب الأخ سربي بجروح طفيفة سرعان ما برئ منها.

 

كدّرت تلك الحادثة الأليمة صفو حياة الجميع. لم يكن بيدي حيلة سوى تقصّي أسبابها. وكانت النتيجة أن أمرتُ بأن يسلِّم كلّ من بحوزته نوع من العتاد الحربي سلاحه إلى قسم التسليح في الكتيبة، وأبلغتهم بأنّه لا يحقّ لأحد حمل السلاح سوى مسؤولي الفصائل والسرايا. وقد أقمنا في الكتيبة مجلس تأبين تخليدًا لذكرى رفيق جهادنا الشهيد. في تلك الأيام أيضًا قدّمت كتيبة "الأنصار" شهيدًا في إحدى مناوراتها، ما زاد من عزيمتنا على توخّي الحيطة أكثر.

 

بين أواخر شهر كانون الأوّل وبداية كانون الثاني، حضر محسن رضائي إلى مخيّم "كرخه". أُخْبِرنا من مقرّ الفرقة فذهبنا إلى

 

360

 


324

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

هناك. وُجد في خيمة قيادة الكتيبة هاتف عسكري[1] تصلنا عبره الأخبار العادية من قِبَل قسم الاتّصالات في الفرقة. أمّا الرسائل المهمّة والسريّة فكان ساعي بريد الفرقة يبلغنا بها حضوريًّا. عندما وصلتُ إلى خيمة المقرّ كان جميع مسؤولي الكتائب والأقسام في الفرقة حاضرًا. كنت منشغلًا بالاستفسار عن أحوال بازوكي حين بدأت الجلسة. تحدّث محسن رضائي، وقد جلس بإزائه محمد كوثري، لمدّة ساعة أمام الحاضرين. ما بقي في ذاكرتي من كلامه هو: إنّ كسر خطّ العدوّ والتقدّم إنّما هو نصف العمل فحسب، أمّا النصف الآخر، ولعلّه أصعب من الأوّل، فهو حفظ المنطقة المحرّرة. فصدُّ هجوم العدوّ المضاد في نهار العمليّات لا يقلّ أهمّية عن التقدّم ليلة العمليّات، بل قد يكون الأوّل أكثر أهمّية.. لو نجح العدوّ في إجبارنا على التراجع أثناء الهجوم المضاد، فكأنّما لم نقم بأيّ عمليّة.. لا ينبغي للقوّات أن تخلد إلى الرّاحة مباشرة بعد العمليّات، عليهم أن يحفروا دشمًا لهم، أو أن يعدّوا ملجأً ولو كان صغيرًا ومؤقّتًا، لكي يأمنوا شرّ الرصاص والشظايا المتطايرة.

 

قام محسن رضائي في تلك الجلسة بتحليل نقاط قوّة الجيش العراقيّ ونقاط ضعفه، وأعلن أنّ العمليّات القادمة ستترك تأثيرًا بالغًا على ظروف وأوضاع منطقة الشرق الأوسط برمّتها. سيصيب الهلعُ حماة نظام العراق، وستفقد طرق إمدادات العدوّ أمنها. في ختام حديثه شدّد على أهمّية التدريبات مقابل الأسلحة الكيميائيّة التي كانت تمثّل حيلة العدوّ الجديدة، والتي كان يلجأ إليها عند المواقف الحساسة.


 


[1] تلفن قورباغه اي، الهاتف القديم المربع الشكل ذو القرص الدائرة الذي يأخذ الأرقام بالإصبع مع عقارب الساعة..

 

361


325

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

تلا ذلك تقرير وضعه قائد الفرقة بين يدي القائد العام للحرس الثوري يرتبط بالوضع العام للفرقة، ومدى جهوزيّة الكتائب. بعد ذلك أدّينا صلاة الجماعة ثمّ جلسنا على مائدة العشاء. بالطبع، المكان هنا ليس "دزفول"، وبالتالي لم نحلّ ضيوفًا على أحد. كان الطعام طعام الفرقة وسائر التعبويّين نفسه، وكانت حصّة كلّ شخص محدّدة ومساوية لحصص الآخرين.

 

في اليوم التالي جرت مراسم صباحيّة مشتركة على صعيد كتائب ووحدات الفرقة كافّة، وخطب محسن رضائي أمام جموع المجاهدين الثائرين. أثناء ورودهم أنشد شباب كتيبة حمزة شعرًا بشكل جماعيّ. كانت تلك الأبيات الشعريّة تتناهى إلى الأسماع كل صباح من ساحة المراسم الصباحيّة الخاصّة بالكتيبة:

يجب العبور من الدنيا بِيُسر             يجب الاستعداد للفداء

أن نمضي نحو الحسين بوجه دامٍ         ما أجمله من عروج إنساني

 

سُرَّ الشباب كثيرًا لدى رؤيتهم القائد العام للحرس الثوري، وبعد سماعهم خطابه أخذ كلّ واحد منهم يتكهّن حول منطقة العمليّات القادمة. بدا واضحًا من خلال الأحاديث التي طُرحت بأنّ "إذاعة التعبئة" لم تستطع هذه المرّة أن تقدّم أيّ تخمين يقارب الواقع. مساءً، عندما عُقدت جلسة في خيمة قيادة الكتيبة، كان ظنّ قادة السرايا أنّني على علم بمكان العمليّات، وعلى حدّ قول التعبويّين: إنّ القضية من باب "قالوا لا تقُولوا". إلّا أنّه وحتى ذلك الحين لم يكن لديّ أنا أيضًا أدنى اطّلاع على منطقة العمليّات. في ذلك الحوار الساخن

 

362

 


326

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

أخذ كلّ واحد يدلي بدلوه ويقدّم حدسه.

 

بدوري رجعتُ بذاكرتي إلى الوراء، فحدّثتُهم عن تخميني فيما يرتبط بعمليّات "والفجر7" التي كنت قد سمعت خطّتها قبل عمليّات "بدر".

 

يومذاك عَلِمتُ من الأخ دستواره بأنّ قادة الجيش والحرس يخطّطون لعمليّة تقوم على عبور نهر "أروند"، وهي خطّة تُعتبَر غير قابلة للتنفيذ في انظمة وخطط جيش نظاميّ كلاسيكي. وبما أنّ تلك البقعة كانت المنطقة الوحيدة التي لم تصل إليها جبهات القتال فقد عرضتُ تكهّناتي حينها في الجلسة، وقلت: ربما عادت تلك الفكرة إلى الحياة ثانية، ولعلّه قد تقرّر العمل في ذلك المكان مجدّدًا. كما إنّ تاريخ العمليّات الماضية يلفت نظر المرء إلى المكان نفسه. بعد فتح "خرّمشهر" أُقفِلت[1] المنطقة إثر عمليّات "رمضان" في منطقة "شلمجه" ونقطة حراسة "زيد". كانت تلك المنطقة النقطة الأقرب إلى مدينة البصرة في العراق. في شتاء العام 1983 ونيسان جرت عمليّتا "والفجر التمهيديّة" و"والفجر1" في منطقة "فكّة"، وتعطّل طريق الحلّ ذاك. في شتاء العام 1984 وشتاء العام التالي جرت عمليّتا "بدر" و"خيبر" الكبيرتان في الهور العظيم بغية النفوذ إلى البوّابة الشماليّة للبصرة، ولكن لم يتحقّق الهدف النهائيّ. بناء على ذلك كان السبيل الوحيد المتبقّي لكسر ذلك الحصار وفكّ عقدة العمليّات هناك هو عبور نهر "أروند" الصاخب. إلّا أنّ عمليّات "والفجر7" التي كان من المقرّر إجراؤها بالتعاون ما بين الجيش والحرس توقّفت بسبب اختلاف وجهات النظر في طريقة العمل. كان الجيش يخطّط لأخذ موطئ قدم على ساحل العدوّ بالطريقة الكلاسيكيّة وعبر نيران المدفعيّة الثقيلة.


 


[1] أقفلت المنطقة أي كُشف أمرها، وبالتالي لم يعد العمل فيها ممكنًا، وذلك بسبب يقظة العدوّ وتعسّر العمليّات، وترافق ذلك مع سقوط عدد كبير من الضحايا.

 

363


327

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

في حين أنّ رؤية الحرس كانت مبنيّة على العمليّات المباغتة والليليّة.

 

كان ثمّة عدد كبير من التلاميذ في كتيبة حمزة. حتى العام 1983م، وبحكم توالي العمليّات العسكريّة لم يجد الطلّاب التعبويّون فرصة للدراسة. لكن، وبعد عمليّات "خيبر"، حيث بات يفصل بين العمليّات فترة زمنيّة طويلة، قرّر الطلّاب الحاضرون في الوحدات العسكريّة متابعة تحصيلهم العلميّ. في ذلك الوقت، ولحسن الحظّ، كانت كتيبة "حمزة" تضمّ مديري مدارس فضلًا عن معلّمين، حتّى إنّ الأخ مظفّر - المسؤول الرفيع المستوى في وزارة التربية والتعليم - كان موجودًا. وبذلك فقد كانت العناصر البشريّة متوافرة من أجل نجاح التلاميذ في بلوغ مقاصدهم.

 

كنت أتمشّى في ساحة الكتيبة يومًا فرأيت أحد المجاهدين غارقًا في مطالعة كتاب ما. كان مشدودًا إلى عمله بالكامل بحيث لم يلتفت إليّ إلّا بعد أن صرتُ مواجهًا له. حين رآني أدّى التحيّة والاحترام. قلت له وقد غمرتني الفرحة لرؤيته مشغولًا بالدرس:

- ادرس جيّدًا لكي لا تتأخّر عن زملائك لدى عودتك إلى بيتك.

- حاضر يا حاج... ولكن أليست الجبهة جامعة كما يقولون؟

 

حرّكت رأسي موافقًا. فقال:

- إذًا ما دمنا أتينا إلى الجامعة فما الداعي إلى الذهاب والحضور في صفوف الأكابر مجدّدًا؟

 

رأيت حسّ الدعابة في عينيه، وضحكنا معًا. نظرتُ إليه، فرأيت فيه خليطًا من الفضائل: فتى يافع، تلميذ، تعبويّ، سعيد، طريف، مؤدّب، محبّ، جريء و... وغيرها من عشرات الفضائل التي ربما خفيت عليّ. غمر كياني سرور عظيم لكوني قائدًا - أعني خادمًا - في

 

364

 


328

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الجبهة لديه أمثال هؤلاء المجاهدين.

 

في إحدى الليالي قرّرنا تنظيم مسير ليليّ للحفاظ على جهوزيّة الكتيبة. كنّا بانتظار توقّف الذهاب والإيّاب ونوم الجميع وسكونهم. جلسنا ورحنا وجئنا وانتظرنا، لكن من دون جدوى. ففي الساعات التي تسبق طلوع الصباح إذ يحلو النوم، كان نصف الكتيبة مستيقظًا ومنشغلًا بتهجّد الليل.

 

كانت ثيابي تماثل ثياب التعبويّين هيئة ولونًا. أحببتُ أن أكون كالآخرين. إلّا حين كنت أذهب إلى جلسة رسميّة فكنت أرتدي زيّ الحرس الثوري.

 

كنت وسائر قادة الكتيبة نقصد خيم الفصائل بين الحين والآخر، فنحلّ ضيوفًا عليهم. في بعض الأحيان، كان أحد الفصائل يدعو فصيلًا آخر فيخبروننا بذلك. حينئذ كان الشباب أنفسهم يهيّئون ضيافة إضافيّة كعلبة حلوى أو بعض الخضار أو الفاكهة أو شراب اللبن[1] "دوغ".

 

أيّام الجمعة، كانت الكتيبة تعطي إجازة قصيرة الأمد للعناصر، فكان أكثر العناصر يقصدون المدينة لشراء الحاجيات أو إجراء المكالمات الهاتفيّة أو الاستحمام. أحيانًا كنت ومسؤولو السرايا نذهب إلى "دزفول" بقصد الزيارة والسياحة في آنٍ. كان اسم بائع الكباب المعروف في المدينة "إحسان"، ذاك الذي قصدناه برفقة دستواره وعباديان وسائر الأصدقاء مرّات عدّة، وأسعدنا النفوس بتناول الغداء عنده. كان حسن أميري فر يتلو هذه الآية من باب الفكاهة:

- هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟

 

كان يقصد بذلك - بلا قياس أو تشبيه - أنّنا حين نأتي إلى "دزفول"،


 


[1] دوغ، اللبن المضاف إليه الماء- يشبه معلبات العيران في لبنان.

 

365


329

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

أَيحسُن أن لا نقصد محل الكباب "إحسان"؟

 

في أواخر شهر كانون الأول 85، ذهبنا إلى حقل الرماية ليجرّب العناصر أسلحتهم. وبسبب الحادث الذي وقع في المناورة التي جرت قبل عدّة أسابيع، أكّدتُ أن لا مجال للمزاح، وأنّ على القادة أن لا يغفلوا عن عناصرهم ولو للحظة. لحسن الحظ لم يحصل هناك أيّ مكروه.

 

كانت الكتيبة على أتمّ الجهوزيّة. أبلغتُ مقرّ القيادة والسيد رضا دستواره بجهوزيّة الكتيبة، وطلبتُ مأذونية لها. تمّت الموافقة على ذلك: خمسة أيّام، بالإضافة إلى "يومين على الطريق". كانت تلك المأذونية الأخيرة للكتيبة قبل عمليّات "والفجر8". قبيل الذهاب أكّدت على الجميع أن لا يتكلّموا مع أحد في طهران حول وضع الكتيبة والفرقة والتدريبات والتمارين العسكريّة وتنظيم القوّات ومنطقة استقرارهم وكلّ ما يعلمونه عن الجبهة، وذلك لكي لا يكون مصير العمليّات القادمة عرضة لفتنة العدوّ.

 

في الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول شاركتُ في جلسة قيادة الفرقة. كانت الفرقة في حالة من الفوضى بسبب نقل القوّات وانتقالها. بعد ذلك توالت الجلسات الواحدة تلو الأخرى.

 

في أحد الأيّام غادرنا مخيّم "كرخه" برفقة دستواره وسائر المسؤولين، وتوجّهنا نحو جادّة "الأهواز" وصولًا إلى "دارخوين". كان المخيّم الجديد للفرقة - وبالطبع لسائر الفرق - يقع هناك، غرب نهر "كارون"، من جنوب "الأهواز" حتى "خرمشهر" وفي أطراف بساتين النخيل. بعد أنّ حدّد السيد رضا موقع كلّ كتيبة، رجعنا إلى مخيّم "كرخه"، وتوجّهت مجموعة من كل كتيبة - كما جرت العادة - نحو المخيّم الجديد بغية نصب الخيام. طلبتُ من المسؤولين تهيئة القوّات لتسليم حقائبهم ووسائلهم الشخصيّة إلى "قسم التعاون". كما طلبت

 

366

 


330

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

منهم أن يكتبوا آخر رسائلهم، لأنّ جميع أشكال الاتصال بطهران ستكون مقطوعة في المخيّم الجديد، وستقتصر على الرسائل الواردة.

 

دبّ النشاط والحماسة في الكتيبة من جديد. في زوايا الباحة وأطرافها انشغل بعض العناصر بكتابة وصاياهم لكي يسلّموها إلى قسم تعاون الفرقة مع وسائلهم الشخصيّة، إذ إنّ حقائب الجرحى والشهداء كانت تُرسَل إلى عناوين بيوتهم بعد العمليّات. كانت الوصيّة التي كتبتُها قبل عمليّات "الفتح المبين" لا تزال بحوزتي. بعد مرور عدّة سنوات فتحت الظرف وقرأت محتواها. لم يكن ثمّة ما أضيفه. كلامي هو ذاك الذي كنت قد كتبته. اكتفيتُ بكتابة تاريخ اليوم أسفل الوصيّة ووقّعتها، ثمّ وضعتها قرب كتاب "مفاتيح الجنان" الجيبيّ الذي لازمني منذ العام 1983، حينها وزّعت الفرقة كتب "المفاتيح" على الجميع، فكان أحدها من نصيبي. كان حجم الكتاب وخطّه جيّدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا.

 

قبل مغادرتنا مخيّم "كرخه" خطب السيّد مجتهدي ذات ليلة في جمع قوّات الكتيبة خطبة رائعة نفذت إلى قلوب الجميع. كانت خطبته عن الشهادة والشفاعة. كان الجميع، شيبًا وشبّانًا، يبكون، لا من الخوف، بل شوقًا إلى السبيل السامي الذي اختاروه.

 

في اليوم التالي غادرنا مخيّم "كرخه". انطلقنا عند الظهر بغية الوصول إلى مخيّم "كارون" مساءً. كان المخيّم الجديد صغيرًا جدًّا، وكانت الخيم ضيّقة. نبّهت إلى ضرورة ستر الخيام جيّدًا.

 

في مخيّم "كارون" كانت المراسم الصباحيّة والتمارين الرياضيّة التي تليها تقام كما في السابق. وكنت أتردّد بشكل متواصل بين الكتيبة ومقرّ قيادة الفرقة. رحلة كانت تستغرق في كل مرّة ما بين العشرين دقيقة إلى نصف ساعة بالسيّارة.

 

367


331

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

تارة كنت أذهب لتلقّي خبر جديد، وأخرى كانوا يستدعونني، وطورًا أذهب وسائر القادة لحضور جلسة مع مسؤولي مقرّ القيادة أو قيادة الفرقة.. بِدوره ما برح رضا دستواره يؤكّد كلّ مرة على تعليم سبُل التصدّي للهجمات الكيميائيّة.

ذات مرّة تقرّر إجراء مناورة مشتركة بيننا وبين قسم البحريّة لأخذ موطئ قدم عند ساحل العدوّ الافتراضي. لدى عودتي أعطيت مسؤولي السرايا والوحدات التوجيهات اللازمة، ووضعتُ بالتعاون مع أميري فر، قيومي وفرخي خطّة جيّدة أجريناها بنجاح في اليوم التالي بمساعدة قسم البحريّة في الفرقة. في تلك المناورة ركب الشباب على متن الزوارق لعدّة ساعات في نهر "كارون"، وأحكموا في النهاية السيطرة على ساحل العدوّ الافتراضي.

 

هذا وقد أجرينا، بناءً على توصيات دستواره، مناورة تدريبيّة على مستوى الكتيبة في كيفيّة التصدّي للهجمات الكيميائيّة. في تلك المناورة سار جميع عناصر الكتيبة لساعات، واضعين الأقنعة الواقية على وجوههم، ومرتدين السترات الواقية من المطر لكي يتعرّفوا إلى هذه الصعوبات. وقد قمتُ في تلك المناورة الشاقّة بمشاركة أفراد كتيبتي.

 

في مخيمّ "كارون" ذهبنا إلى حقل الرماية لتجريب الأسلحة مجدّدًا ورفع إشكالاتها. وحسنًا فعلنا، إذ إنّ بعض قذائف "الآر بي جي" لم تعمل حسب ما أذكر. عرضتُ المشكلة على مسؤول التسليح في الكتيبة، لكي يتنبّه عند استلام العتاد الحربي.

 

تواصلت مشكلة نقص المواد الغذائيّة في المخيّم الجديد. عندما عرضتُ ذلك على قسم التموين في الفرقة تبيّن أنّ تلك لم تكن مشكلة كتيبة "حمزة" فحسب، إذ ليس بوسع الفرقة تخزين كميّات كبيرة من المواد الغذائيّة وذلك لأسباب أمنيّة ووقائيّة. وعلى الرغم من أنّ ذلك

 

368

 


332

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

تارة كنت أذهب لتلقّي خبر جديد، وأخرى كانوا يستدعونني، وطورًا أذهب وسائر القادة لحضور جلسة مع مسؤولي مقرّ القيادة أو قيادة الفرقة.. بِدوره ما برح رضا دستواره يؤكّد كلّ مرة على تعليم سبُل التصدّي للهجمات الكيميائيّة.

ذات مرّة تقرّر إجراء مناورة مشتركة بيننا وبين قسم البحريّة لأخذ موطئ قدم عند ساحل العدوّ الافتراضي. لدى عودتي أعطيت مسؤولي السرايا والوحدات التوجيهات اللازمة، ووضعتُ بالتعاون مع أميري فر، قيومي وفرخي خطّة جيّدة أجريناها بنجاح في اليوم التالي بمساعدة قسم البحريّة في الفرقة. في تلك المناورة ركب الشباب على متن الزوارق لعدّة ساعات في نهر "كارون"، وأحكموا في النهاية السيطرة على ساحل العدوّ الافتراضي.

 

هذا وقد أجرينا، بناءً على توصيات دستواره، مناورة تدريبيّة على مستوى الكتيبة في كيفيّة التصدّي للهجمات الكيميائيّة. في تلك المناورة سار جميع عناصر الكتيبة لساعات، واضعين الأقنعة الواقية على وجوههم، ومرتدين السترات الواقية من المطر لكي يتعرّفوا إلى هذه الصعوبات. وقد قمتُ في تلك المناورة الشاقّة بمشاركة أفراد كتيبتي.

 

في مخيمّ "كارون" ذهبنا إلى حقل الرماية لتجريب الأسلحة مجدّدًا ورفع إشكالاتها. وحسنًا فعلنا، إذ إنّ بعض قذائف "الآر بي جي" لم تعمل حسب ما أذكر. عرضتُ المشكلة على مسؤول التسليح في الكتيبة، لكي يتنبّه عند استلام العتاد الحربي.

 

تواصلت مشكلة نقص المواد الغذائيّة في المخيّم الجديد. عندما عرضتُ ذلك على قسم التموين في الفرقة تبيّن أنّ تلك لم تكن مشكلة كتيبة "حمزة" فحسب، إذ ليس بوسع الفرقة تخزين كميّات كبيرة من المواد الغذائيّة وذلك لأسباب أمنيّة ووقائيّة. وعلى الرغم من أنّ ذلك

 

368

 


332

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

لم يكن عذرًا مقبولًا يبرّر نقص كميّة المواد الغذائيّة، إلّا أنّنا لم نجد حيلة سوى القبول والتحمّل.

 

فضلًا عن السرايا كانت أقسام الكتيبة منهمكة بعملها وتأدية وظائفها بجدّية.

 

كان تسجيل الرسائل وتصوير الشباب جزءًا من الأعمال التي أنجزها قسم إعلام الكتيبة بشكل جيّد قُبيل العمليّات، وكنت مطّلعًا على سير عملهم وراضيًا عنه. كان "ألبوم" صورهم الذي أعدّوه فريدًا من نوعه. فقد أخذ قسم إعلام الكتيبة صورًا لعناصر الكتيبة فردًا فردًا، البالغ عددهم أربعمئة عنصر!

 

أمّا قسم الاتّصالات فقد كان يؤدّي عمله بصعوبة وجدّية. كذلك قسم الاستشفاء (الدائرة الصحيّة) في الكتيبة الذي كان يسعى بكلّ ما أوتي من قوّة لكي لا يواجه أيّ من العناصر مشكلة ما فيُحرم من المشاركة في العمليّات. كما أخذ شباب قسم التعاون يعدّون أنفسهم للأيّام الآتية الصعبة والمليئة بالعمل. لم يألُ قسم التجهيز والتموين جُهدًا في توفير سُبل الراحة للشباب، على الرغم من أنّ النقص كان سيّد الموقف دائمًا وفي كلّ مكان.

 

كان قد مرّ على وجودنا في مخيّم "كارون" عشرة أيّام حين اسْتُدْعيتُ لجلسة في مقرّ الفرقة. وهناك تقرّر أن نذهب إلى منطقة العمليّات لتلقّي التوجيهات الخاصّة بها. في الموعد المحدّد انطلقتُ برفقة أميري فر، قيّومي وفرّخي نحو جزيرة "آبادان" ومنطقة "أروندكنار". وهناك، قرب برج للمراقبة، نقل لنا مسؤولو الصفّ الأوّل في الفرقة كلّ ما يعرفونه عن منطقة العمليّات العتيدة:

- ستجري العمليّات المقبلة في مدينة "الفاو" العراقيّة، ومرحلتها

 

369

 


333

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الأساس عبور نهر "أروند". لن تشارك الفرقة 27 في الخطوة الأولى، بل سيكون عملها في العمق والداخل. فبعد كسر الخطّ الأمامي والسيطرة على الفاو (من قبل قوات الهجوم) تتوجّه "الفرقة 27" نحو جادّة "أم القصر". هذه الجادّة هي الجادّة الثالثة الواقعة بموازاة "أروند"، والتي تقع على ساحل "خور عبد الله" والحدود العراقيّة - الكويتيّة باتّجاه الشمال. عندها ستخوض كتائب الفرقة غمار العمليّات كتيبة تلو الأخرى بغية إيصال خطّ الفرقة إلى مثلث مصنع الملح الذي هو الحدّ النهائيّ لنطاق عمل فرقتنا...

 

بعد ذلك، وبينما كانت الشمس تسطع على المنطقة من خلفنا حيث الوقت الأنسب للمشاهدة، صعدنا برج المراقبة العالي - الذي لم يكن خاصًّا بالفرقة 27 - مجموعة تلو أخرى، ونظرنا عبر المنظار في كلّ ناحية: الساحل الغربي لأروند، ميناء الفاو المضيء، مدينة الفاو، جادّة الفاو - البحار، جادّة الفاو - البصرة الاستراتيجيّة وجادّة الفاو الثالثة التي يطلق عليها اسم "أمّ القصر"، والواقعة في عمق الجبهة العراقيّة. بعد ذلك ألقينا نظرة على تجهيزات العدوّ وانشاءاته المحكمة التي كانت تقلّ أو تبدو كذلك كلّما ابتعدنا بنظرنا عن أروند. بنظرة شاملة أمكن رؤية ثلاث منصّات صواريخ في المنطقة يطلَق على اثنتين منها "هلالي" و"ذوزنقه". كان مصنع الملح ومثلّثه من المعالم البارزة على جادّة أم القصر، والتي كانت مفاتيح خطّة معركة "الفرقة 27". نظرنا عبر المنظار إلى كل مكان كُتب اسمه على الخارطة، ولم نترك مكانًا منها.

 

كان أسد الله بازوكي موجودًا يومئذ، فأفرغ لي ما في جعبته من معلومات. كانت الخارطة والصورة الجويّة بين أيدينا. جلسنا في ظلّ نخلة، وبدأنا الحديث عن العمليّات فما لبثنا أن سقنا الحديث إلى كلّ

 

370

 


334

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

اتّجاه، إلى الماضي والمستقبل. عرفت عن ماضيه أنّه حضر قبل الثورة دورة جنديّ ومظلّي. كان عضوًا في الكتيبة الرابعة للحرس. تزوّج بفتاة من أقاربه وله ولدان، وهم يعيشون الآن جميعًا في "أنديمشك" في بيتٍ مستأجر هيّأه لهم مقرّ القيادة.

 

كانت فكرة جيّدةً نفّذها بعض القادة الذين كانوا موجودين في الجبهة بشكل دائم. من خلالها كان باستطاعتهم رؤية زوجاتهم يومًا أو بعض يوم في الأسبوع، على الرغم من ابتعاد عائلاتهم عن أقاربهم في طهران. كانت مدّة ابتعادي عن عائلتي طوال سنوات الحرب الثماني تطول، ولم أستطع أن أقوم بما قام به غيري، فلم أستطع الحضور بقربهم إلّا في فترة الاستشفاء بعد كلّ إصابة أو في المأذونيّات.

 

تحدّثتُ في الوقت المتبقي مع السيد رضا دستواره حول عمليّات "والفجر7" التي لم تُنفّذ بتاتًا. بدوره أكّد أنّ المنطقة التي أخذت بعين النظر في تلك العمليّات كانت أعلى قليلًا من نطاق العمليّات الآتية، وبالطبع فقد كان عبور نهر"أروند" جزءًا منها. كما شدّد على الفكرة القائلة إنّ هذا العمل لا يمكن إنجازه بالطريقة الكلاسيكيّة، وقال: إنّه لهذا السبب لن يكون للجيش حضور سوى من خلال المدفعيّة والقوّات الجوّية.

 

عدنا إلى مخيّم "كارون" بذهن ممتلئ. بدت الكتيبة في حال من النشاط المتجدّد. كان قسم التسليح في الكتيبة يسلّم الشباب العتاد الحربيّ. كما سلّم قسمُ التموين الحصصَ الغذائيّة الحربيّة إلى مسؤولي التموين في السرايا، فوزّعوها بدورهم بين القوّات. أمّا شباب قسم الإعلام فكانوا يواصلون عملهم في تلك اللحظات المزدحمة بالذكريات. لم يكن أحدٌ عاطلًا من العمل.

 

371

 


335

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

أخيرًا، وبعد أن طرق سمعي خبر انتقال الكتائب الأخرى من مخيّم "كارون" جاء دور كتيبة "حمزة". كان يتحتّم أن تتمّ عمليّة الانتقال بشكل مخفيّ وعبر شاحنات مغطّاة. أكّدت وحدة أمن المعلومات في الفرقة على أن لا يخرج أحد رأسه من تحت الشادر، وأن لا تظهر أي بندقيّة خلال عمليّة الانتقال وحركة الشاحنات... بدوري أبلغتُ قادة السرايا والوحدات بكلّ ذلك، لكي يتشدّدوا في مراقبة تنفيذه، لئلّا يكون مصير عمليّات بتلك الأهميّة رهينة أخطاءٍ سخيفة.

 

كانت المشكلة الكبرى قبيل التحرّك هي اختيار حرس للخيام، التي بقيت منصوبة لتكون لنا مكانًا للاستراحة عند عودتنا (بعد العمليات)، فلزم أن يكون حارس لخيام كلّ فصيل. أمّا الحرّاس المنتخَبون فكانوا إمّا رجلًا كبيرًا في السنّ، أو جريحًا جاء على عكّازه، أو شخصًا صادف أن مرض في تلك الأيّام، أو.. إثر ذلك نشب خصام عجيب بين المنتخَبين والمسؤولين. من كان الحكَم بين هؤلاء؟ أنا. لم أدرِ كيف أتصرّف حيال هذه المصيبة التي كنت بالطبع قد واجهتُها مرارًا! فالحرب ضدّ ألف بعثيّ عراقيّ وجهًا لوجه وجسدًا لجسد كانت أسهل من إقناع تعبويّ متحمّس وصل إلى النقطة الأخيرة بقبول هذا الأمر.

 

انطلقنا بعد الظهر، فوصلنا مساءً إلى قرية "أبو شانك" الواقعة على أطراف نهر "بهمن شير". كانت تلك الليلة ليلة بدء عمليّات "والفجر8" الكبيرة في أرض العدو وفي منطقة الفاو. عندما اطمأننتُ إلى استقرار كامل الكتيبة في البيوت القرويّة، أبلغتُ العناصر التعليمات الوقائيّة الصادرة عن مقرّ القيادة، وكان السيد مجتهدي رفيقي كعادته في كل مكان.

 

عندما سنحت الفرصة تحدّثتُ إلى السيد مجتهدي وبقيّة الأصدقاء الذين خبروا الحرب حول جميع ما يتعلّق بعمليّات "والفجر8"، وأقرّ

 

372

 


336

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الجميع - وكانوا سعداء لذلك - بأنّه قد تمّت دراسة كلّ خطوة من العمليّات، وجرى التفكير حولها بدقّة، من جملة ذلك وجود كتائب "الفرقة27" في منطقة آمنة قريبة من منطقة العمليّات، على الرغم من أنّ اشتراك تلك الكتائب في العمليّات كان في الخطوة الثانية حسبما تقرّر. كان دخولنا إلى المنطقة في الوقت المناسب، لا مبكّرًا ولا متأخّرًا. فلو حضرنا في وقت مبكّر لكان من الممكن أن يتنبّه العدوّ لتجمّعنا، ولو وصلنا متأخّرين لكان من المحتمل أن يقصف العدوّ بأسلحته الجويّة جسور نهرَي "كارون" أو "بهمن شير"، فتحبط العمليّات قبل بدئها. طريقة انتقال القوّات، وضعُ المنطقة تحت المراقبة قبل فترة طويلة، وأهمّ من ذلك كلّه عمليّة العبور من أروند الصاخب، كلّ ذلك دلّ على التدابير العالية التي اتّخذها القادة، فسُررنا من أعماق قلوبنا لذلك!

 

في العاشر من شهر شباط قصدتُ بمفردي عبر شاحنة صغيرة خاصّة بالكتيبة مقرّ القيادة المستقرّ في منطقة "أروندكنار". كانت خشخشة الأجهزة اللاسلكيّة والرسائل المتبادلة بشكل متتابع تُسمع إلى خارج حجرة القيادة. كان ثمّة قادة كتائب آخرون غيري. وهؤلاء مثلي لم يستطيعوا البقاء ضمن كتائبهم في تلك الدقائق. كانت زوايا حجرة القيادة وجدرانها تعجّ بخرائط منطقة العمليّات. كان الخبر يتلو الخبر، والجميع توّاقون للخبر اللاحق. حتى ذلك الحين عملت الوحدات المقتحمة بشكل جيّد ونجحت في عملها. كما إنّ العمليّة الموهمة في جزيرة "أم الرصاص" كانت ذات تأثير كبير، ما أدّى إلى تخبّط العدّو وحيرته. علاوة على تحرير الفاو، كان عبور نهر "أروند" الثائر نفسه وأخذ موطئ قدم على ساحل العدوّ معجزة تحقّقت باللطف الإلهي!

 

بعد ساعة ركبنا على متن زورق برفقة السيد رضا دستواره

 

373


337

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

ومسؤولين آخرين وتوجّهنا نحو الضفّة الأخرى من أروند، ووطئت أقدامنا تراب مدينة الفاو المحرّرة.

 

كان أزيز الرصاص يتناهى إلى الأسماع من كافّة أنحاء المدينة وأزقتها وشوارعها. بدا واضحًا أنّ المدينة لمّا تُطهّر بشكل جيّد. جُلنا في المدينة على متن سيّارة كان الإخوة قد غنموها من العدو. شمال غرب المدينة كان هناك مبنى مرتفع أشار إليه دستواره، فصعدنا جميعًا إلى سطحه. كانت المدينة خالية من المدنيّين. شاهدنا من خلال منظار أحد المرافقين جادّة "أم القصر" التي كانت تمتدّ نحو الغرب والشمال الغربي. من هناك كانت قاعدة الصواريخ الهلالية الشكل واضحة. من الأعلى تحدّثنا حول جميع ما يتعلّق بالعمليّات، وضع جبهة العدوّ وجبهتنا، الكتائب التي دخلت العمليّات في الليلة الأولى لعمل الفرقة، الكتائب الاحتياطيّة، كتائب الليالي اللاحقة و..

 

بعد برهة عدنا أدراجنا برفقة سائر قادة الكتائب. فيما بقي السيد رضا دستواره وأسد الله بازوكي في الفاو. سبق أن سمعتُ بأنّ من المقرّر أن تدخل القوّات أرض العراق عبر مروحيّات "شينوك"، لكن حتى ذلك الحين كانت الكتائب المولجة بالعمليّات قد وصلت إلى هذه الجهة عن طريق المياه وعلى متن الزوارق.

 

حين وصلتُ إلى الجهة الأخرى من "أروند" علمتُ أنّ كتيبة "حمزة" قد انتقلت من قرية "أبوشانك" إلى دشم "أروندكنار" التي لا تبعد كثيرًا عن مقرّ الفرقة 27. وقبل حلول الغروب انضممتُ إلى السيد مجتهدي وقوّات كتيبتي.

 

جاء كلّ مِن حسن أميري فر، هادي قيّومي ومهدي فرخي إليّ بغية سماع الأخبار الجديدة منّي، ونقل ما يهمّ منها لقادة الفصائل. فتحتُ خارطة العمليّات التي كانت وحدة معلومات العمليّات قد أعطتنيها،

 

374

 


338

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

فوضعتها على الأرض أمام الجمع، وأخذت أخبرهم بما شاهدته. اعترتهم الدهشة مثلي، مع فارِقٍ أنّ الذي سمعوه بآذانهم كنت قد شاهدته بأمّ عيني.

 

كانت ليلة الحادي عشر من شهر شباط الليلة الأولى التي دخلت فيها الفرقة 27 الميدان. دعَونا جميعًا لنصر رفاقنا المجاهدين. بعد ذلك خلدتُ إلى النوم. إذ كنت أعلم أنّ عينيّ لن تذوقا طعم النوم في الطرف الآخر من "أروند"!

 

صباح اليوم التالي الموافق لذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة زفّ لنا بريد الفرقة أخبار النصر، فقد حقّقت كافّة كتائب الفرقة الأهداف المرسومة لها. كما إنّ شدّة هجمات العدوّ الجويّة كانت خير دليل على أنّهم بوغتوا وأدركوا للتوّ ماذا يجري حولهم!

 

بعد ظهر الحادي عشر من شباط جاء الأمر من قِبل مقرّ القيادة بالتحرّك. فمضينا إلى رصيف المرسى بواسطة الشاحنات. لم يكن المكان يبعد أكثر من سبعة أو ثمانية كيلومترات، لكنّ طيّ ذلك الطريق بواسطة الشاحنات كان من أجل عدم التسبّب للإخوة بالعناء من جهة، ولضمان أمنهم وسلامتهم من جهة أخرى.

 

عند الرصيف انتظرنا ريثما يتمّ نقل كتيبة "الأنصار"، وبعدها وصل دورنا. بين النور والعتمة عبرنا نهر أروند الصاخب، وما إن حلّ الظلام حتى كانت كتيبة حمزة قد استقرّت بشكل كامل في مدينة الفاو. لدى وصولنا إلى الجهة الأخرى شغّلنا جهاز اللاسلكي الخاص بالكتيبة لكي نكون على اطّلاع تامّ بكلّ حركة أو تغيير طارئ أو أمر صادر. في تلك الليلة كانت كتيبتا "مالك" و"الأنصار" وسريّة "الشهادة" الخاصة تخوض المعارك، فيما كانت كتيبة حمزة "كتيبة الاحتياط". في الليلة نفسها كان من المقرّر أن تسيطر كتيبة مالك على قاعدة "ذوزنقه"

 

375

 


339

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الصاروخيّة القريبة من خور عبد الله والمليئة بالعديد والعتاد، وذلك لم يكن بالعمل السهل.

 

منتصف الليل تقدّمنا من الفاو حتى جادّة أم القصر وقاعدة الصواريخ على متن الشاحنات، واستقررنا خلف السواتر الترابيّة الهلاليّة الشكل، والواقعة على يمين الجادّة. تلك الليلة وُفّقت جميع الكتائب التي خاضت المعارك في عملها ولم يكن ثمّة حاجة إلى كتيبة "حمزة".

 

كان الثاني عشر من شباط يوم الهجمات المضادّة الثقيلة التي شوهدت أماراتها بدون منظار. أصدرتُ أمرًا للقوّات بالابتعاد عن جادّة البصرة والاستقرار في أطراف جادّة أم القصر. في ذلك اليوم طالت شرارات تلك النيران الثقيلة بعض أطراف مواضع استقرار كتيبة حمزة ما أدّى إلى إصابة اثنين من المجاهدين بجروح. أُبلِغنا أنّ الكتائب الأخرى، وإن كانت قد نجحت في عملها، إلّا أنّها خسرت الكثير من قوّاتها حتى على مستوى القادة. فقد استشهد كلّ من مسؤول[1] كتيبة عمار ومعاونه[2] في الحادي عشر من شباط، ثمّ استشهد خَلَفُهما[3] في الثاني عشر منه.

 

بعد ظهر الثاني عشر من شباط جاءني رضا دستواره. شكّلتُ وإيّاه وقادة فصائلي الثلاثة جلسة في دشمة عراقيّة. في تلك الجلسة شرح دستواره على صفحة الخارطة آخر أوضاع خطّ قوّاتنا وخطّ العدو. بعدها قصدنا جميعًا مثلّث مصنع الملح ومن ثَمّ خطّ التماس لكي نعاين ما سمعناه. كان خطّ التماس يبعد مسافة كيلومتر واحد عن


 


[1] رضا إصفهاني

[2] أمير كره كشا

[3] حسن شيخ آذري

 

376


340

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

المثلث، وكان ساتره الترابي منخفضًا جدًّا وغير آمِن. بعد مرور نصف ساعة على حضورنا في الخطّ الأماميّ جُرح ساعي بريد الكتيبة فلم نمكث بعدها، وقفلنا عائدين إلى مقرّ كتيبة حمزة. حلّ المساء، فأمرنا الكتيبة بالانطلاق إلى الأمام لكي تستقرّ في دشم كتيبة "الأنصار". في تلك الليلة كان من المقرّر أن تخوض كتيبة "الأنصار" المعركة ونكون نحن في احتياطها. كانت كتيبة "الأنصار" قد سيطرت على مثلث مصنع الملح في الليلة الفائتة من دون أن تقدّم خسائر تُذكر. عندما وصلنا المثلث رأيت دشم كتيبة "الأنصار" ما تزال تعجّ بالقوّات. وقع نظري على نائب قائد الكتيبة[1] فسألته:

- لماذا لم تستعدّوا للعمليّات؟

 

فقال:

- بقيت قوّاتنا ترزح تحت النار من الصباح حتى الغروب. كانت خسائرنا في الصباح أكثر من ليلة الأمس إذ خضنا المعركة. لم يعد لدينا قدرة على العمل..

 

مضيتُ وقائد كتيبة "الأنصار" - الحاج جعفر محتشم - إلى دستواره وبازوكي. فما كان من دستواره إلّا أن أكّد الكلام نفسه وأردف قائلًا:

- وردت كتيبة "حمزة" الميدان للتوّ، وتستطيع أن تمضي بالعمل قُدُمًا. الأفضل أن تكون كتيبة "الأنصار" في الاحتياط.

 

قلت لـرضا دستواره إنّ عليّ إطلاع مسؤولي سراياي لأرى مدى جهوزيّتهم!

 

أرسلت ساعي بريد الكتيبة خلفَ: أميري فر، قيّومي، وفرّخي. حضر الثلاثة وعقدنا جلسة طارئة تحت جسر صغير بحضور رضا

 

 


[1] رضا بور أحمد (شهيد عمليّة كربلاء5).

 

377


341

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

دستواره. كان أسفل الجسر مكانًا مناسبًا لنشر الخارطة وتسليط نور المصباح عليها. هناك شرح دستواره وضع كتائب الفرقة، وطلب منّا أن نحرّك الخطّ الأماميّ للفرقة، ونتقدّم به حتى جسر جادة "أم القصر" الكبير. عندما أعلن قادة سراياي الثلاثة عن كامل جهوزيّتهم رُفعت جميع الشكوك، وفي الساعة التاسعة من تلك الليلة بات محسومًا أمر خوض كتيبة حمزة المعركة وبقاء كتيبة "الأنصار" في الاحتياط. بالطبع، كنّا على اطّلاع بأنّ تلك الليلة، وبالتزامن مع معركتنا، ستخوض سرية "الشهادة" الخاصة -بقيادة صفرخاني- معركة على السدّ الغربي لمصنع الملح الموازي لجادّة أم القصر.

 

ولكن بما أنّهم كانوا على بعد مسافة كيلومتر واحد أو أكثر منّا فإننا لم نكن نراهم. كان هذا العمل يهدف إلى تشتيت انتباه القوّات المعاديّة وإضعاف قواهم.

 

في الجهة المقابلة أبلغَنا عناصر معلومات العمليّات عن وجود عدد من الدبابات المحترقة وبعض ناقلات الجند السالمة المتموضعة على جادّة أم القصر. كما علمنا بأنْ ليس ثمّة حقل ألغام للعدوّ، وأنّ جبهته ليست عميقة. كانت رؤية قادة الصفّ الأوّل تقوم على ما يلي: بما أنّ كتيبة "الأنصار" تمكّنت في الليلة الفائتة من التقدّم خمسة أو ستّة كيلومترات، فإنّ باستطاعة كتيبة حمزة التقدّم إلى الجسر المحدّد بسهولة، وبالتالي التقدّم بالخطّ الأمامي للفرقة (إلى مسافة مهمة).

 

هذا وقد وعد دستواره بإيصال تجهيزات الفرقة وذخائرها إلى الخطّ الأمامي لئلّا تبقى كتيبة حمزة بمفردها، ولتتمكّن من الردّ على هجوم العدوّ المضاد وصدّه ريثما تستقرّ قوّات الاحتياط. كما تلقّى قسم "التخريب" في الفرقة أمرًا بالتأهّب خلف "كتيبة حمزة" بغية وضع العبوات والمواد المتفجّرة على أعمدة الجسر الكبير استعدادًا لتفجيره

 

378

 


342

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

وتدميره بمجرّد السيطرة عليه.

 

ريثما يبدأ العمل عقدتُ جلسة بحضور أسد الله بازوكي ومسؤولي سراياي الثلاثة لكي نصل إلى أفضل خطّة للهجوم. راجعنا معلوماتنا ثانية. لم يكن أمامنا حلّ سوى العبور من جادّة أم القصر وطرفيها وذلك بسبب وجود مستنقع على يسار الجادّة، ووجود مياه راكدة على يمينها.

 

اقترحتُ أن تتولّى السرية الأولى الاقتحام. أيّد بازوكي اختياري، لعلّ ذلك بسبب معرفته الجيّدة بـأميري فر وثقته الكبيرة به. أمدّني تأييد بازوكي بقوّة القلب. عهِدتُ إلى قيّومي أمر السيطرة على الجسر، ووضعتُ السرية الثالثة في احتياط السريتين، إضافة إلى إيلائها مسؤوليّة صدّ الهجمة المضادّة صباح اليوم التالي للعمليّات. كنت أعلم أن مهمّة الدفاع صباح العمليّات لا تقلّ أهمّية عن الهجوم ليلتها.

 

أنهينا حديثنا، فأرسلتُ قادتي لكي يخبروا قادة الفصائل ويتولّوا توجيه قوّاتهم. مرّت برهة قصيرة وإذ بهلال الشهر الدقيق يظهر ثم ما يلبث أن يختفي مؤذنًا بساعة الانطلاق.

 

تأهّبت الكتيبة، ما لبثت أن أخذت تشقّ طريقها داخل أرض العدوّ وفي جنح الظلام مشكّلة رتلًا مؤلّفًا من أربعمئة نفر. أبلغَنا حسن أميري فر بتشكيله فريقًا خاصًّا بهدف اقتحام خطوط العدوّ وتوجيه أوّل ضربة له. ونظرًا لأنّ عرض منطقة العمليّات ليس سوى الجادّة وطرفيها فقد وافقتُه الرأي. فوجودُ قوّات إضافية ليس أمرًا غير مُجدٍ فحسب، بل إنّه يعيق التحرّك أيضًا. جعلتني كفاءته وفكرته أكثر طمأنينة، وبعثتا فيّ أملًا متجدّدًا بالنصر.

 

أخذنا مواضعنا في الخطّ الأماميّ للفرقة 27 على جادّة "الفاو - أم القصر". اتّصل رضا دستواره عبر جهاز اللاسلكي بمقرّ قيادة الفرقة

 

379


343

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

طالبًا الإذن ببدء العمليّات من محمّد كوثري. ألقيتُ نظرة على ساعة يدي الليليّة التي كنت قد سترتُ زجاجها برباطٍ جلديّ. كانت تشير إلى العاشرة والربع. ما إن وصل إذن قائد الفرقة حتى أمرتُ بانطلاق السرية الأولى التي ستعبر الساتر الترابي لخطّ التماس - حيث استقرار كتيبة حبيب - وتبدأ العمليّات. تقدّم أميري فر يرافقه عنصران من عناصر معلومات العمليّات وبقية أفراد فريقه، ولحق به سائر عناصر السريّة بعد أن عبروا الساتر الترابي بفواصل زمنيّة متفرّقة. كان جهاز اللاسلكي الخاص بالسريّة يعمل، إلّا أنّ أحدًا لم يتحدّث عبره لئلّا يتنبّه العدو. كانت اللحظات تمرّ ببطء. مرّت برهة قصيرة من دون أن تنشب أيّ مواجهة. تناهى إلى سمعنا بضع كلمات مرموزة عبر جهاز اللاسلكي. أوضح عامل الإشارة أنّ القوّات واجهت حقل ألغام. تعجّبتُ من ذلك، لكنّي لبثت منتظرًا. بعد قليل سُمع دويّ إطلاق نار كثيف على بُعد مئة وخمسين مترًا، كما اخترق عدد من القنابل المضيئة عنان السماء، فراحت القوّات الموجودة على خطّ التماس تطلق نيرانها على جهة القنابل المضيئة بهدف مساندة مجاهدي كتيبة حمزة. أخذت نيران العدوّ تزداد كثافة. بدا الوضع مضطربًا. أثار خبر حقل الألغام قلقي. لم أكن أتوقّع مثل هذه المقاومة من قِبل العدو. أخذتُ أتساءل: هل كان ثمّة خطأ في معلوماتنا أو حساباتنا؟ هذا ولم تُصلح الرسائل اللاسلكيّة من سوء حالي. كنت قلقًا. تناولت سمّاعة جهاز اللاسلكي لأتصل بـأميري فر. حين تمّ الاتصال به عرفت بأنّه أصيب بجروح. إذًا، كان قلقي في محلّه. لم أطِق البقاء فأخبرتُ دستواره وانطلقتُ بنفسي نحو الميدان، فتبعني عاملا الإشارة. أمّا السيّد مجتهدي والسريّتان الأخريان فقد بقوا خلف الساتر الترابي لخطّ التماس.

 

بعد عدّة خطوات صار أزيز الرصاص يأتي من كلّ حدب وصوب

 

380

 


344

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

وصار يتطاير حولنا. بدا من خلال نيران العراقيّين أنّهم لم يُباغَتوا وأنّهم كانوا بالانتظار. بعد برهة قصيرة وجدتُ "حسن أميري فر". كانت رصاصة قد أصابت فخذه، فراح يقود قوّاته وهو جالس على الأرض. كان قد ربط جرحه بالكوفيّة، غير أنّ الدماء صبغت فخذه بالكامل. سألتُه غير مكترث لجرحه:

- ما الخبر؟

- العراقيّون يبدون مقاومة شرسة. أعدادهم كبيرة. لديهم من الدبّابات والمدرّعات فوق ما تتصوّر.

 

قلت في نفسي: لعلّهم جاؤوا بجميع هذه الدبابات وناقلات الجند إلى الجادّة أوّل الليل.

- إنّ دشمهم في الجهة اليمنى أكثر منها في اليسرى، وهناك عدد من الرشاشات الثقيلة يُطلق النار من وسط المياه في الجهة اليسرى...

 

قلت له:

- ارجع إلى الخلف.. سآخذ مكانك..

 

بعد مسافة قصيرة رأيت "محسن كلستاني" فسألته:

- كيف حالك يا سيّد محسن؟

 

أجابني بهدوء:

- ليست سيّئة يا حاج.

- سمعتَ بأنّ الذهاب إلى كربلاء يتطلّب بذل الدماء؟ ذاك الدم هو دمك...

 

فضحك، ولكن بوجه يغشاه الغمّ. سألته عن وضع العدوّ. قال:

- كالجراد المنتشر على الجادّة وطرفيها، كما إنّهم محصّنون.

 

381

 


345

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

بذلت المجموعة الخاصّة والفصائل الثلاثة في السرية الأولى كلّ ما بوسعهم، فاقتحموا الخطّ العراقيّ الأمامي، وتقدّموا مسافة مائة وخمسين مترًا. غير أنّهم قدّموا الكثير من الخسائر في هذه الأمتار المئة والخمسين التي استغرق التقدّم فيها خمس عشرة دقيقة. كان رتل الآليّات المدرّعة العراقيّة يبدو تحت نور القنابل المضيئة كحيّة حديديّة.

 

اتّصلت عبر جهاز اللاسلكي وأصدرتُ أمرًا للسريّة الثانية بالانطلاق. لم تمضِ بضع دقائق حتى كان قيّومي بجانبي يتبعه رتل سريّته. ارتفعت معنويّات الجميع لدى رؤيتهم وقد وصلوا إلينا سريعًا. أخبرتُ قيّومي كلّ ما أعلمه، لكي يبدأ مهمّته باطّلاع كامل. طلبتُ منه أن يتقدّم من الجهة اليمنى من الجادّة، وأن يعمد إلى تطهير دشم تلك الجهة والجادّة نفسها. فمن الجهة اليسرى منها حيث المستنقع لم يكن ثمّة خطر يتهدّدنا. عند الساعة الحادية عشرة ليلًا، لحظة انطلاق السرية الثانية، كنت لا أزال أظنّ أنْ ليس على الجادّة أكثر من عشرين أو ثلاثين دبابة. لم يكن يفصل بين نقطة انطلاق السرية الثانية ورتل الآليّات العراقيّة سوى مسافة خمسين مترًا. كان الرجل منهم يبرز لدبابة. مع تقدّمهم بات عمل المسعفين ونقل الجرحى أفضل.

 

بعد برهة قصيرة اتّصلت بـقيّومي عبر الجهاز اللاسلكي. بدا من كلامه أنّهم ألحقوا هزيمة نكراء بالعدوّ، إلّا أنّهم كانوا يحتاجون إلى المساندة بسبب وجود عدد هائل من الآليّات والجنود العراقيّين. تقدّمتُ حتى رتل الآليّات العراقيّة. كانت ناقلات الجند تقف على الجادّة وطرفيها، وهي مفتوحة بقدر مرور سيّارة فقط. أمّا ناقلات الجند فقد كانت من القرب إلى بعضها البعض بحيث كنت أمرّ بينها بشكل جانبيّ. أمّا عامل الإشارة لديّ، الذي كان يحمل على ظهره جعبة جهاز اللاسلكي، فقد كان يمرّ بينها بصعوبة. لم أرَ طوال عمري

 

382

 


346

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

العسكريّ مشهدًا كهذا. حينئذ أدركت أنّ الحيّة الحديديّة كانت من نوع "كوبرا"، ولكن لا نهاية لها!

 

حان وقت دخول السرية الثالثة المعركة. وصل مهدي فرخي وقوّاته بُعيد اتّصالي بهم. طلبتُ منه ومن قيّومي التقدّم من طرفَي الجادّة إلى نهاية رتل الآليّات بغية التطهير العسكري. أوكلتُ المهمّة الأصعب، وهي التقدّم من الجهة اليمنى للجادّة وتطهيرها، إلى سرية فرخي نظرًا لكونها وردت الميدان للتوّ، ولم تستنفذ طاقتها بعد. كان لا يزال يفصلنا عن الجسر مسافة خمسة كيلومترات. لم أدرِ كيف السبيل إلى طيّ هذا الطريق. هل أنجزنا العمل الصّعب وما بقي كان سهلًا، أم أننا كلّما تقدّمنا كانت الأمور ستزداد تعقيدًا؟ لا شيء كان واضحًا. وكان علينا متابعة العمل على أي حال.

 

مضى وقت طويل على تركي خطّ التماس. كنت قد أجريت عدّة اتّصالات لاسلكيّة بـرضا دستواره، ولكن أنّى يمكن شرح ذلك الوضع الحرج وطلب المساعدة عبر اللاسلكيّ ولغة الرموز؟! لم أشأ التحدّث من دون رموز، لئلّا يتوصّل التنصّت العراقيّ إلى معرفة شيء عن وضعنا. فلو أدرك العدوّ قلّة عددنا لأنزل بنا ضربة أشدّ إيلامًا. لذا أخبرت هادي قيّومي وطلبتُ منه الرجوع إلى خطّ التماس وإخبار دستواره بما عليه الكتيبة من وضع حرج بشكل مفصّل، وبأن يأتي بكتيبة "الأنصار" إن أمكن.

 

مضى قيّومي، وسرعان ما عاد خالي الوفاض وحيدًا. سألته:

- ماذا حدث؟

- عندما رآني دستواره قال: لا أريد أن أرى قائد سريّتي هنا!

- هل ذكرت له ما لدى العراقيّين من كمّ هائل من الدبابات وناقلات الجند؟

 

383

 


347

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

- لا!

- هل طلبت منه إرسال شباب كتيبة "الأنصار"؟

- لا!

- ماذا فعلت إذًا؟!

- ذهبت وعُدت فحسب. لم يدعْ لي دستواره مجالًا لأن أنطق بكلمة.

 

أرسلتُ قيّومي إلى قوّاته. فكّرت للحظة أن أذهب بنفسي لكنّي سرعان ما صرفت النظر عن ذلك. إذًا كيف لي أن أنقل مجريات العمليّة إلى دستواره ومقرّ القيادة؟ الطريقة الوحيدة التي خطرت في بالي هي أن أكرّر عبر جهاز اللاسلكي وبفواصل زمنيّة:

- سرطان .. سرطان..

 

بعد ذلك طلبتُ من دستواره أن يقف على الساتر الترابي لخطّ التماس ويشاهد السرطانات من هناك تحت نور القنابل المضيئة. فمن جهة لم أشأ ترك أرض المعركة، ولم أستطع إيصال رسالتي واضحة عبر جهاز اللاسلكي من جهة أخرى، كما إنّ دستواره أجاب مسؤول سريتي بتلك الطريقة، لذلك كلّه لم أجد أمامي سوى ذلك الحلّ.

 

بعد قليل وصل جعفر طهراني، وكان من قدامى المجاهدين في الجبهة، برفقة رضا دستواره الذي حضر لمعاينة الوضع عن كثب، ثمّ العودة بتقرير إلى مقرّ القيادة. فرحتُ لمجيئه ومشاهدته، وكذا لعودته سالمًا. أمّا جعفر طهراني فبقي. تشاورنا معًا، بعد ذلك أخذ يتردّد بين مقرّ القيادة وميدان المعركة مرارًا ناقلًا الأخبار وحاملًا الأوامر.

 

كنت جالسًا بين جهتين غلبت الفوضى على بعض أجزائهما. فعلى إحدى جهتيّ تمدّد الجرحى والشهداء، وكنت أشرفُ على عمل المسعفين ونقل الجرحى. وعلى الجهة الأخرى استقرّ رتل آليّات العدوّ

 

384

 


348

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

التي انشغلت سريتا كتيبتي بتدميرها وتطهيرها، فيما كنت على اتّصال لاسلكيّ دائم بقائديهما.

 

الأوضاع ما زالت مضطربة، والطريق طويلة حتى الوصول إلى الجسر. فجأة ظهر شباب كتيبة "الأنصار". سألني قائدهم:

- أهذا أنت يا حاج أميني؟

- أجل.

- نحن مستعدّون للعمل.

 

كانوا قرابة فصيل واحد. كلّفتُ شخصًا لإيصال القوّات المساندة إلى قيّومي. كان من الواضح أنّ فصيلًا واحدًا لن يتمكّن من المضيّ بالأمور قُدُمًا.

 

اتّضح لي من خلال الاتّصالات اللاسلكيّة التي جرت بين دستواره ومحتشم -قائد كتيبة "الأنصار"- أنّ كتيبة "الأنصار" لن تدخل المعركة بشكل كامل. قال محتشم: إنّه لا يستطيع العبور من منطقة لم يتمّ تطهيرها ولا مواصلة التقدّم. أمّا دستواره فقد أجبرني بالقوّة مجدّدًا على جمع قوّاتي ومواصلة التقدّم. بدا متعبًا، وكان يتكلّم بلا رموز. فما كان منّي إلّا أن أجبته بالنفي. أيّ قوّات يقصد؟ من عليّ أن أجمع؟ ماذا كان بوسعي أن أفعل وأنا أرى بأمّ عينيّ كلّ هذا العدد من قوّاتي قد سقطوا بين شهيد وجريح؟ حين تكلّم بلا رموز ثانية ضغطتُ على زرّ جهاز اللاسلكيّ، لكي يسود صمت على الأثير ولا يستفيد العدوّ ممّا سمعه من حوارنا. بعد برهة رفعتُ يدي عن الزرّ فصاح دستواره:

- يا أخ أميني، أمسك زرّ السمّاعة بشكل صحيح..

 

جاءنا جعفر طهراني، ولكن هذه المرّة بأمر انسحاب كتيبة حمزة إلى خطّ التماس، أي الرجوع إلى حيث كنّا. فما لم يكن ثمّة قرار

 

385

 


349

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

بإحضار قوّات لاستكمال عملنا فلا خيار آخر لدينا. ناديتُ قيّومي وأبلغته أمر الانسحاب. على الرغم من أنّ ما طلبتُه كان أمرًا صعبًا إلّا أنّه قبِل من دون أيّ جدال. رأيتُ في وجهه علامات التعجّب والطاعة في آن معًا.

 

اتّصلتُ لاسلكيًّا بـفرخي . كانت سريّته قد عبرت رتل الآليّات، إلّا أنّي فهمت من كلامه أنّ العراقيّين المختبئين داخل ناقلات الجند وتحتها قد عاثوا فسادًا بنظم قوّاته. وهذا ما أشار إليه محتشم في كلامه: لا يمكن التقدّم بنحو مؤثّر من دون تطهير، وحتى لو كان التطهير جيّدًا فلن يكون بالإمكان السير قُدُمًا كلّ تلك المسافة. لعلّ شباب كتيبة "حمزة" وقعوا ضحيّة هذا التناقض. حين تكون المعلومات ناقصة أو خاطئة فلن يكون إلّا ما كان.

 

وافق فرخي على أمر الانسحاب أيضًا. فمع تشتّت نظم قوّاته لم يكن لديه حلّ سوى الإطاعة. لو كان ثمّة مخرج أو مفرّ في ظروف أخرى لأتَوا بحجّة ما، أو لتمرّدوا وحالوا بإيثارهم وفدائهم دون فشل العمليّات. لكنّهم ما قبلوا الأمر بالانسحاب سوى لقلّة الحيلة، وهو أمر يتطلّب شجاعة لا مثيل لها. الانسحاب جزء من القتال، وهو أحيانًا نوع من التكتيك.

 

بات الأمر بالانسحاب علنيًّا وسارت عملية إخلاء الجرحى والشهداء بوتيرة سريعة. كانت وظيفة جميع أفراد الكتيبة في تلك الظروف أن لا يدَعوا جريحًا أو شهيدًا على أرض المعركة قبل طلوع الصباح. في ذلك الحين وضع أفراد الفصيل المرسَل من قِبل كتيبة "الأنصار" أسلحتهم في دشمهم، وأعانوا شباب كتيبة حمزة في عملهم.

 

كانت المهمّة الأخرى تدمير الآليّات العراقيّة. تولّى هذه المسؤوليّة كلٌّ مِن قيّومي وفرخي وبضعة عناصر مدرّبين. قبل أن يشرعوا بعملهم

 

386

 


350

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

أوصيتهم بأن يتوخّوا الحذر من أسفل ناقلات الجند وحتى من الجثث. فلا يبعد أن تنتفض إحدى الجثث من مكانها فجأة وتطلق النار أو تلوذ بالفرار! بدأ الشباب عملهم من نهاية الرتل وجعلوا يتقدّمون بعد تفجير الآليّات واحدة تلو الأخرى.

 

كان انبلاج صباح يوم 13 شباط وشيكًا. عند الساعة السادسة صباحًا أُنجِزت مهمّة تدمير آليّات العدوّ. وقبل ذلك تمّ إخلاء جميع الجرحى والشهداء من أرض المعركة. دنا بزوغ نور الشمس، ولم يبقَ لنا عمل فغادرنا المنطقة بأقدام ثقيلة، تلك المنطقة التي تَعمّد كلّ شبر منها بدم شهيد من شهدائنا أو جريحٍ من جرحانا. عندما وصلنا إلى الساتر الترابي الخلفي لخطّ التماس، تشابه المكان علينا. فقد رفعت الجرّافات الساتر وباشرت العمل في مكان آخر. كانت أصواتها تتناهى إلى الأسماع من مكان قريب. صنع شباب قسم التخريب حقل ألغام أمام الساتر الترابي وجعلوا له معبرًا تمّ إقفاله عقب رجوع آخر عنصر من الكتيبة.

 

خلف خطّ التماس افترش الجرحى والشهداء من عناصر كتيبتي الأرض، ولم نجد سيّارة إسعاف، بل حتّى سيّارة عاديّة تحملهم. جاء رضا دستواره بسيارة من نوع "جيب"، فكان يحمل معه مجموعة وما يلبث أن يعود. أظهرت أوضاع الكتيبة أنّ نصف أفرادها سقطوا بين شهيد وجريح. رأيت أسد الله بازوكي هناك. كان الشباب يجلسون جماعات وأشتاتًا. فما كان من بازوكي إلّا أن جعل يمسح على رؤوسهم ووجوههم ويسأل الله لهم العافية. فأولئك كانوا من عناصره أيضًا. سألني عن حال أميري فر. قلت:

- لقد أصيب بجروح.

- سمعت ذلك.. هل نقلوه إلى الخلف؟

 

387

 


351

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

لم يكن لي علم. كان القلق يطفح من وجهه. بقيتُ في خطّ التماس حتى إخلاء آخر جريح. التجربة الجميلة ذاتها التي حملتها في ذاكرتي من عمليّات "والفجر4" والأخدود الجوزيّ*[1] في مرتفعات "كاني مانكا". بقيتُ هناك أيضًا حتى إخلاء آخر جريح من الأخدود.

 

نُقل الشهداء على متن الشاحنة أيضًا. ذهبت الشاحنة وجاءت مرارًا حتى تمّ إخلاء جميع الشهداء. وحين لم يبقَ أحد من كتيبة حمزة في خطّ التماس غادرتُ المكان وانسحبت إلى مثلث مصنع الملح. وهناك أيضًا مكثتُ حتى نُقل شهداء الكتيبة وجرحاها إلى الخطّ الخلفي للفرقة. بعدها عدتُ على متن شاحنة صغيرة إلى مقرّ الكتيبة في القاعدة الهلاليّة برفقة مجموعة من المسؤولين، وخلدتُ إلى النوم سُوَيعات.

 

بعد ظهر يوم 13 شباط طلبت من قسم شؤون الأفراد في الكتيبة تقديم إحصائيّة بعدد الشهداء والجرحى وكانت على الشكل التالي: قرابة السبعين شهيدًا، ومائة وثمانون جريحًا. لم يبقَ من السريّة الأولى أكثر من عشرة أشخاص سالمين.

 

أمّا السريتان الثانية والثالثة فقد سقط نصف أفرادهما بين شهيد وجريح. بات ثلثا قوّات الكتيبة غير مؤهّلين للعمل.

 

كان حقل الألغام الذي لم يجد العراقيّون فرصة لتغطية ألغامه بالتراب والكمُّ الهائل من الآليّات المدرّعة أمرين لم نكن على علم بأوّلهما، كما صُوّر لنا الثاني بطريقة مصغّرة جدًّا. هذان الأمران أفشلا العمليّات برمّتها، وشتّتا شمل السريّة الأولى في كتيبة "حمزة".

 

حين نقل لي "حسن أميري فر" خبر وجود هذا العدد الكبير من


 


[1] جاء في النص: شيار "كردويي".

 

 

388


352

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الدبّابات وناقلات الجند قلت له: إنّك مخطئ، ماذا تفعل كلّ تلك الدبابات والناقلات على الجادّة! لكنّ دخول قوّات السريّتين الثانية والثالثة أرض المعركة، وبجعبتها معلومات أصحّ، ساهم في تقليص حجم الضربات، وخوّلها في الواقع أن تسدّد ضربات أفضل للجيش العراقيّ وتُفرّق صفوفه. ومع ذلك فقد نال السريّتين ما نالهما مِن تَبِعات ذلك النقص والخطأ في المعلومات.

 

أمّا محسن كلستاني، قائد الفصيل الأوّل في السرية الأولى، والذي مازحته في ميدان المعركة مُردّدًا قول الحاج همّت الشهير: "الذهاب إلى كربلاء يتطلّب بذل الدماء"، فقد نال مع كثير من عناصر فصيله الفتيّ - الذين كانوا طليعة الكتيبة - وسام الشهادة.

 

في 13 شباط قصفت الطائرات الحربيّة العراقيّة مدينة الفاو وطرقها والمواقع المهمّة فيها قصفًا مركّزًّا. كان سرب الطائرات يشنّ كلّ نصف ساعة هجومًا جويًّا ثمَّ يغادر، فترتفع إثر ذلك سحب الدخان والنار من مخازن النفط في الفاو. كانت مضادّاتنا الجويّة تقوم بعملها بشكل جيّد. في خضمّ ذلك المخاض لم يجد من تبقّى من كتيبة حمزة، الذين قضوا ليلة عصيبة في معركة طاحنة دامية، حرجًا في أن يخلدوا إلى الراحة بلا خوف من الهجمات الجويّة، ولا ضيقٍ من دويّ كل ذلك القصف والانفجارات.

 

وصلت أنباء من جادّة الفاو - البصرة، ذات الأهميّة، مفادها أنّ العدوّ يشنّ هناك هجومًا مضادًّا شرسًا. لو كانت مواقعنا قد سقطت على تلك الجادّة وتمكّن العراقيّون من التقدّم لوقعت جادّة أمّ القصر وجميع القوّات المرابطة عليها في دائرة الحصار، ولأُبيدوا جميعًا! لذلك فقد كنّا نتابع أخبار تلك المنطقة على الدوام. كنت سعيدًا بأنّ تدمير آليّات العدوّ المتموضعة على جادّة أم القصر لن يمكّنه من

 

389

 


353

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

القيام بأيّ عمل يُذكَر.

 

خلوتُ ونفسي، وأخذت أقوّم في ذهني عمل الجميع، قيادة الفرقة، وحدة معلومات العمليّات، نفسي، قوّات كتيبتي والتدريبات التي تلقّوها... وعمليات "والفجر 8" وذلك حتى صباح الثالث عشر من شباط. درستُ عمل كل واحد منهم وحلّلته بموضوعيّة. ثمّ أعطيت علامة لكلّ منهم. بين ذلك كلّه نقدتُ نفسي كالتالي:

كان باستطاعتي أن أتمرّد على أمر دستواره بعد تهرّب كتيبة "الأنصار" من العمليّات، أو أن آتي بعذر، لكنّي لم أفعل. فخبرتي العسكريّة كانت تقضي بإطاعة القيادة. ومن دون هذه الإطاعة - التي كان منشأها فينا العشق والتعقّل أكثر من كونها ذات منشأ عسكريّ بحت - ما أُنجِز عمل صعب ولن يُنجَز. لقد أطعت الأوامر وحدث ما حدث، وجرى ما جرى على قوّاتي. لا يستطيع أحد أن يخمّن ماذا كان مصير العمليّات وقوّات الكتائب الأخرى لو لم أُطِع الأمر.  

 

لعلّ قوّاتي كانوا كبش فداء لمصير العمليّات أو لرفاقهم المجاهدين.

 

لو علمتُ مبكرًا أنّ من المقرّر أن تخوض كتيبتي المعركة، ربما - بل ومن المؤكّد - كنتُ تحقّقتُ ممّا بأيدينا من معلومات، ولألقيتُ نظرة على المنطقة عبر المنظار، ولأعدتُ النظر في جميع العوائق والمعلومات واحدًا واحدًا، ولواجهتُ عناصر المعلومات التي أعدّت التقرير، وتحدّثتُ إليهم للتأكّد من صحّة معلوماتهم، ولنظّمت صفوف قوّاتي على أساس مواجهة الآليّات، و...

 

ما إن أنهيتُ نقد نفسي بما فيه الكفاية حتى شعرتُ بدوار شديد في رأسي. نهضتُ لكي أذهب إلى دستواره. لحسن الحظ كانت السيّارة والدرّاجة الناريّة الخاصّتان بالكتيبة قد جاءتا من الجهة الأخرى من "أروند". كان دستواره لا يزال في الخطّ الأماميّ، فسلّمته إحصائيّة

 

390


354

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الكتيبة تحت الجسر نفسه القريب من مثلّث مصنع الملح. فهمت من كلامه أنّ كتيبة حمزة قدّمت أكبر عدد من الخسائر. ثم قال:

- قام العراقيّون اليوم بتطهير الجادّة فحسب. لم يفعلوا شيئًا غيره...

 

كان عناصر الرصد قد أفادوا بأنّ العراقيّين سحبوا الدبابات وناقلات الجند المحترقة بواسطة القاطرات.

 

عند الغروب رجعتُ إلى مقرّ الكتيبة. لم تَقُم الفرقة في تلك الليلة بأيّ عمل.

 

في اليوم الرابع عشر علمنا أنّ الفرقة تنوي خوض المعركة مجدّدًا، فذهبتُ وقيومي وفرخي إلى قائد الفرقة لنقل ما عاينّاه تلك الليلة، عسى أن ينفع القوّات المقتحمة. وفي جلسة امتدّت لساعة واحدة أفرغ كل واحد منّا ما في جعبته، وكان قيومي أكثر من تكلّم بيننا[1].

 

في تلك الجلسة أبدى قيومي استعداده لمرافقة أعضاء قيادة كتيبة سلمان في الهجوم التالي، لكي يضع خبرته وتجربته في تلك الليلة تحت تصرّفهم على أرض الميدان. لا حدّ لطاقته! ذكر الشباب أنّه في هجوم ليلة الثالث عشر كان يصيح: "أين أنت يا صدام؟ لقد جئنا لنقاتلك..".

 

بقي قيومي هناك. أمّا أنا وفرخي فقفلنا عائدين إلى مقرّ كتيبة "حمزة".

 

في اليوم الخامس عشر كانت الفرقة تضجّ بالحماسة والنشاط المتجدّدين استعدادًا للهجوم التالي. كانت وظيفة كتيبة "حمزة" الذهاب إلى قاعدة "ذوزنقه" الصاروخيّة لكيّ تتصدّى للهجوم على ساحل "خور عبد الله". إذ كان من الممكن أن يشنّ العدو هجومًا على


 


[1] سنأتي على ذكر محضر تلك الجلسة كاملًا في المجلد الثاني من هذا الكتاب.

 

391


355

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

جادّة أم القصر من الخاصرة.

 

أوائل الليل تعرّض فرخي لحادث سيارة مريع بحيث اضطر الشباب أن يُخرجوه من بين أنقاض السيارة المحطّمة. حين نُقل إلى المستشفى، لم يبقَ لديّ سوى قيومي الذي تقرّر اشتراكه في الهجوم مع كتيبة سلمان.

 

في ليلة 16 شباط أصيب قيومي بجروح خلال هجوم كتيبة سلمان، فكان هذا مصير قائد السرية الثالثة في كتيبتي! جدير بالذكر أنّ الفرقة استطاعت التقدّم بالخطّ الأمامي إلّا أنّها لم تصل إلى الجسر أيضًا. على بعد كيلومتر ونصف الكيلو من الجسر توقّفت العمليّات وأُجِّلت إلى النهار. وفي النهار حالت دبابات العدوّ وآليّاته دون تقدّم قوّاتنا.

 

في ليلة 18 شباط حاولت قوّات الفرقة مجدّدًا الوصول إلى الجسر، لكنّ العراقيّين منعوها وشنّوا في الصباح هجومًا مضادًا شرسًا. ما اضطرّنا إلى التراجع مسافة كيلومتر ونصف، فتمّ تثبيت مواقعنا على بعد ثلاثة كيلومترات من الجسر.

 

في تلك الأيّام أُطلق على ذلك الجسر الصعب المنال "جسر صدّام"، وأشيع بأنّ صدّام نفسه يشرف على القوّات المدافعة عن الجسر. كل ذلك لم يكن مهمًّا بالنسبة لنا، ما أهمّنا هو أنّ الفرقة 27 بذلت كلّ ما بوسعها للسيطرة على الجسر، لكنّها لم تتمكّن من ذلك. كما إنّ العدوّ البعثيّ أبدى عنادًا شديدًا، وخسر كثيرًا من نخبة قوّاته من أجل الحفاظ على الجسر الذي كان يمثّل لنا أهمّية استراتيجيّة.

 

في يوم 20 شباط صدر أمر بمغادرة كتيبة حمزة منطقة العمليّات. يومها كان لدى هذه الكتيبة قرابة 110 عناصر. ذهبنا على متن شاحنات إلى الساحل الغربي، ومنه عبر الزوارق إلى الساحل الشرقي. أمضينا النهار في دشم "أروندكنار". وفي المساء ذهبنا إلى مخيّم "كارون" على

 

392

 


356

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

متن الحافلات المطلية بالوحل. قبل 13 يومًا خرجنا من المخيّم وعددنا 400، وها نحن الآن نعود إليه ولا يتجاوز عددنا 100 شخص.

 

وصل هادي قيّومي إلى المخيّم، وكان قد جُرح قبل عدّة ليال خلال مرافقته كتيبة سلمان. سررتُ لرؤيته، وتذكّرت قائدَي سريتَيّ الآخرَين: حسن أميري فر ومهدي فرخي. تمنّيت من كلّ قلبي لو كانا حاضرين هنا أيضًا.

 

ابتداءً من اليوم التالي شاركتُ في جلسات مقرّ قيادة الفرقة، والتي كانت تُقام يوميًّا وأحيانًا مرّة كلّ يومين. صدر عن الجلسة أمر بإعادة هيكلة الفرقة. صُودِق في تلك الجلسات على قرار تكميل كتيبة حمزة بقوّات عددٍ من الكتائب المنحلّة.

 

أمّا المهمّة الثانية فكانت إجراء بعض التعديلات على إحصائيّة قوّات الكتيبة حتى ذلك الحين لأقدّم بها تقريرًا إلى مقرّ قيادة الفرقة. عندما قدّمتُ التقرير كُلِّف عدد من العناصر التابعين لسرية "الشهادة" الخاصة وكتيبة "سلمان" بالانضمام إلى كتيبة "حمزة" لتكميل تشكيلتها. كان قادة سراياي الثلاثة في التشكيلة الجديدة: قاسم كاركر، هادي قيومي ونعمة الله سوري. أمّا السيّد مجتهدي الذي جُرح في عمليّات الليلة الثالثة عشرة فقد عاد ليعينني في مواصلة العمل. وقد بعث حضوره الأمل في قلبي.

 

عندما سنحت الفرصة ذهب قيّومي للبحث عمّن فُقد من عناصره، فتعرّف في إحدى المرّات إلى جثّة "حسن أميري فر" في "معراج شهداء أهواز". إذ لم تجد عائلة "أميري فر" له أثرًا حتى ذلك اليوم، وكان آخر خبر لدينا عنه أنّه جُرح.

 

أخبرتُ بازوكي بالأمر، فتغيّرت حاله. فهو أيضًا لم يكن يتوقّع هذا الخبر. واسيته، ثمّ تحدّثنا معًا، وأخذتُ الحديث في كلّ اتّجاه لكي أُنسيه. في تلك الأيام كان يفكّر في إعادة

 

393


357

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

عائلته من "أنديمشك" إلى "باكدشت ورامين" لقضاء عطلة العيد.

 

في أحد الأيّام كنت في مقرّ القيادة فجاءنا نبأ شهادة بازوكي الذي قلب أحوال الجميع. كان ذاهبًا لتفقّد مواقع الفرقة في جادّة أم القصر حيث استشهد على مثلث مصنع الملح، والمعروف بمثلث "محتشم". يومها كنّا كالسمكة داخل الماء، فرفاق الجهاد يملأون ما حولنا، فلم نشعر بألم الغصّة حينها. فيما بعد، وحين خلا المكان من حولنا، عرفنا عِظَم ما حلّ بنا.

 

في النصف الأول من آذار عادت كتيبة "حمزة" إلى المنطقة للمرابطة على خطّ دفاع جادّة "أم القصر". رابطنا مدّة 5 أيّام في الخطّ الأماميّ و10 أيّام في الاحتياط. قضينا ليلة رأس سنة 1365 هـ- ش (20 آذار 1986) في عنابر "أروندكنار"، ما لبثنا أن عدنا في الثاني والعشرين من آذار إلى مخيّم "كارون"، ومن ثَمّ إلى معسكر "دوكوهه". وفي النهاية ذهبت الكتيبة في مأذونية بعد ستّين يومًا من العناء والمشقّة.

 

في طهران قصدتُ أوّلًا "باكدشت ورامين"، فتفقّدتُ عائلة بازوكي، وقرأت الفاتحة عند ضريحه. كان غروبًا كئيبًا. شعرتُ بحزن مرير في قلبي. لقد كان بازوكي رجلًا فريدًا. بعد ذلك قصدتُ المستشفى لعيادة مهدي فرخي، وأطلعته على أخبار الجبهة. من ثَمّ ذهبتُ إلى "جهاردانكه" حيث ضريح محسن كلستاني، قائد الفصيل الأول في السرية الأولى، والتي كلّما انتسب أحد الشباب اليافعين إلى الكتيبة أرسلته إلى فصيل كلستاني، ليتم استيعابه فيه. فقد كنت مرتاح البال بالنسبة لكافّة شؤون الفصيل الأول. بعد ذلك حاولت قدر الإمكان أن أتفقّد عوائل شهداء كتيبتي بمساعدة "ما شاء الله نانكير"، مسؤول الإعلام في الكتيبة.

 

394

 


358

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

بعد المأذونية عدنا إلى المعسكر. في مقرّ قيادة الفرقة أُقيمت جلسات متتالية لدراسة نتائج عمليّات "والفجر8". في النصف الأول من شهر نيسان أعادت الفرقة "5 نصر" خطّ الدفاع على جادّة أم القصر إلى "كتيبة حبيب" التابعة للفرقة "27 محمد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ذات يوم كان حسن محقق - مسؤول كتيبة "حبيب" - يستعرض في إحدى الجلسات تقريرًا حول وضع الخطّ وقوّاته:

- إنّ نيران قذائف المدفعيّة العراقيّة كثيفة جدًا. إنّهم يقصفون خطّ التماس على الدوام بقذائف هاون (60 ملم) يطلقون قذائف هاون (81 ملم) على الجادّة، يدكّون الساتر الترابيّ ذا الجدارين بقذائف هاون (120ملم)، ويقصفون القاعدة الصاروخيّة بقذائف هاون (120ملم)، إضافة إلى القذائف المدفعيّة. أمّا جُدَد الخطوط الخلفيّة فيقصفونها بمدافع (130ملم) وأخرى فرنسيّة. زد على ذلك أنّهم يشنّون هجمات على الخطّ الأماميّ بالمروحيّات وطائرات (PC7)..

 

قلت في نفسي: فليكن الله بعون الكتيبة التالية!

شارفت الجلسة على الانتهاء حين التفتَ إليّ محمد كوثري - قائد الفرقة - وقال:

- ستتسلّم كتيبة "حمزة"، إن شاء الله، خطّ الدفاع من كتيبة "حبيب". مستعدّون، أليس كذلك؟

 

لم يكن الرفض غير مجدٍ فحسب، بل أطلق محقّق رصاصة الخلاص بقوله:

- على كتيبة "حمزة" تسلّم الخطّ فورًا. لقد أُنهِك شباب كتيبة "حبيب"، ولدينا الكثير من الشهداء والجرحى.. إن تأخّرتم في المجيء فقد يؤدّي ذلك إلى سقوط الخطّ!

 

395

 


359

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

أعطيته وعدًا بأن أُعدّ كتيبة حمزة للتحرّك سريعًا. أثناء الطريق شعرت بالندم لأنني عارضتُ لِلحظة أمر القائد، وأخذت أخاطب نفسي قائلًا: هل أتيتَ إلى الجبهة لتأكل وتنام في المعسكر أم لتقاتل؟ الآن وبما أنّك أردت أن تكون في كتيبة جهاديّة مقتحِمة فلا تتردّد أبدًا..

 

كنت غارقًا في الحديث مع نفسي حين وصلت إلى مبنى الكتيبة. أرسلتُ خلف قادة سراياي الثلاثة، فلمّا حضروا أبلغتهم بمأموريّة الكتيبة الجديدة، ونقلت لهم أخبار خطّ الدفاع لكي يستعدّوا. على الفور بادر قسم تسليح الكتيبة بتوزيع الأسلحة والذخيرة على الشباب، ثمّ ذهبت السرايا إلى حقل الرماية الواحدة تلو الأخرى، بعدها أعلن الجميع عن جهوزيّته.

 

لم يمضِ على الوعد الذي قطعتُه لـمحقّق 24 ساعة عندما كانت الكتيبة مستعدّة للانطلاق. بعد الظهر مضينا على متن حافلات مطليّة بالطين إلى "أروندكنار" من دون أيّ توقّف، وقضينا الليل في دشم المنطقة. عند غروب اليوم التالي عبرنا نهر "أروند"، واستقررنا مساءً في القاعدة الصاروخيّة في منطقة "خور عبد الله".

 

تمّ تبديل كتيبة "حبيب" بكتيبة "حمزة"، دشمة إلى دشمة، ومجموعة إلى مجموعة، وفصيل إلى فصيل وسرية إلى سرية. استمرّ هذا الأمر لليلتين، لكي لا يشعر العراقيّون بذلك، ولئلّا تكون قوّاتنا عرضة للقصف المعادي المركّز، ولتتعرّف قوات كتيبتنا إلى تجارب قوات كتيبة حبيب المفيدة في فرصة زمنيّة أطول. لقد أكّد لي قائد الكتيبة نفسه أنّ وضع الخطّ متأزّم، وقد يشنّ العدوّ هجومًا في أيّ لحظة. هذا وقد أُجرِيت تغييرات جمّة على جميع الخطوط الخلفيّة، وكذا على الخطّ الأمامي، وبات شكل المنطقة وهيئتها مختلفين كثيرًا عمّا في السابق. في شهر شباط حين بدأت العمليّات، كانت جادّة أم القصر جادّة إسفلتية

 

396


360

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

صحراويّة عادية. في شهر آذار صُنع ساتر ترابيّ من إسفلت الجادّة وممّا تحته من تراب. أمّا في شهر نيسان فقد كان استحداث عدد من الجُدَد وساتر ترابيّ وقناة كفيلًا بتغيير شكل المنطقة بالكامل.

 

بات خطّ التماس على بعد 3 كلم من مثلث مصنع الملح، كما بقيت مسافة 3 كلم للوصول إلى الجسر العصيّ. بين المثلث وخطّ التماس لم يعد ثمّة أثر للإسفلت، بل كان هناك طريق رمليّة محصورة بين ساترين ترابيّين مرتفعين. على بعد كيلومتر واحد قبل خطّ التماس استحدِثت قناة مخفيّة بعمق متر واحد وطول حوالي 150 مترًا داخل جبهة العدو، وذلك بغية تأمين الجناح الأيسر لخطّ التماس. على مسافة كيلومتر واحد من القناة، وبموازاتها، استحدِث ساتر ترابيّ بجدارين لجهة الخور يمتدّ حتى المستنقع، ونُصبت فيه دشمة "دوشكا". في ذلك الساتر كان ثمّة دشمة خاصّة بقوّات وحدة "ذو الفقار"، قسم المعدّات والتسليح في الفرقة. هذا ولم يجلس الجيش العراقيّ -على الجهة المقابلة- مكتوف اليدين، بل استحدث قناة ساعدته على التوغّل إلى حيث استطاع من جهة خور عبد الله، أي من الجهة الشمالية لخطّ تماسه.

 

شكّلتُ وكلًّا مِن دستواره وجعفر تهراني وآخرون جلسة للتنبّؤ بخطّة العدو في هجمته المضادّة المحتملة. كنّا نتوقّع أن يشنّ نظام العراق هجومه من الجناح الشمالي لخطّ الدفاع، وأن يستفيد من الزوارق. لذا تقرّر، بعد استشارة الرفاق، أن أضع سريّتين في الخطوط الأماميّة، وأترك سرية احتياط في عنابر القاعدة الصاروخيّة.

 

في ليلتي 17 و19 شباط تفقّدتُ خطّ الدفاع مرّات عدّة، لأطّلع عن كثب على مجريات الأحداث هناك، فيما أمضيت الليالي الأخرى في مقرّ التكتيك. في تلك الأحيان حين كان يستلزم الأمر حضوري في

 

397


361

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الخطّ كنت أُبَلَّغ عبر جهاز اللاسلكي، فأحضر سريعًا إلى هناك على الدرّاجة الناريّة. في ليلة العشرين أخبرتُ رضا دستواره بأنّي سأبقى في الخطّ طوال الليل. فقال دستواره: "سآتي أنا أيضًا". حين سمع جعفر طهراني بذهاب كلينا إلى الخطّ أراد المجيء معنا. كأنّ شيئًا ما وقع في قلوبنا نحن الثلاثة. لكن، نظرًا لعدم إمكانية خلوّ مقرّ القيادة من قائد بقي دستواره هناك بغية حفظ الاتصال بالمقرّ المركزيّ، فيما توجّهتُ و"جعفر طهراني" نحو الخطّ.

 

جُلّ ما كانت الفرقة قد أعدّته للمواجهة هو تموضع دبابة مهمّتها الدفاع عن خطّ التماس، ساتر ترابي ذو جدارين، وعدد من المخازن الملأى بالذخيرة، والموجودة في أماكن مناسبة عدّة، لكي لا نحتاج إلى ذخيرة الخطوط الخلفيّة ونضطرّ إلى نقلها خلال هجوم العدوّ.

 

استقررتُ وعمّال الإشارة خاصّتي في القناة المخفيّة من أوّل الليل. كانت الفرقة تلك الليلة على أهبة الاستعداد. عند منتصف الليل شوهِد رتل من العراقيّين يقترب ما أمكنَه من خطّ تماسنا. كنّا نراهم بشكل واضح من القناة المخفيّة من الجانب بل من الخلف تقريبًا. أعلمتُ القوّات المستقرّة على خطّ التماس بحضورهم عبر الجهاز اللاسلكي. كانت قوّاتنا متيقظة ومنتبهة. عطّل العراقيّون الألغام، واقتربوا من الأسلاك الشائكة. بعد ذلك وبحماقة مشهودة، أخذوا الأقسام جميعًا وفي آن واحد، فكان هذا كافيًا لتنبيه قوّاتنا بشكل أفضل! إمّا أنّهم لم يكونوا على اطّلاع بفنون القتال الليلي، أو أنّهم كانوا خائفين ومضطربين. كانت قوّات خطّ التماس تنتظر أمري والأيادي على الزناد. كانت خطّتي أن ندعَ البعثيّين يقتربون إلى حدّ الإمكان، لكي نتمكّن من إيقاع أكبر عدد من الخسائر في صفوفهم.

 

وفي الوقت المناسب أمرتُ بإطلاق النار. وفي لحظة واحدة ضغط

 

398

 


362

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الجميع على الزناد، فسقط العراقيّون على الأرض وعلت صرخاتهم. لو أمرت بإطلاق النار مبكّرًا للاذوا بالفرار، أو متأخّرًا لتمكّن بعضهم من عبور الساتر الترابي لخطّ التماس. بعد أن تبعثر نظم القوّات المعادية استمرّت قوّاتنا بإطلاق نيرانها على جبهة العدو نحوَ نصف ساعة، فيما لم تستطع نيرانهم المتفرّقة إحداث أيّ فارق.

 

عند الساعة الواحدة فجرًا ساد الهدوء أرجاء المكان، لكنّه هدوء يسبق العاصفة. كان من الواضح أنّ تلك الهجمة ليست كلّ ما لدى البعثيّين من قوّة. انتظرنا خطوتهم التالية. انتاب جعفر طهراني القلق من هدوئهم، الذي فاق الحدّ. هدوء استمرّ لساعتين، من الساعة الواحدة حتى الثالثة فجرًا.

 

عند الساعة الثالثة شنّ البعثيّون هجومًا هستيريًّا من جهة الخاصرة على الساتر الترابي ذي الجدارين. لو نجحوا في ذلك لوقعت جميع قوّات خطّ التماس في دائرة الحصار. عبرت طلائع قوّاتهم الساتر الترابيّ وتمكّنوا من السيطرة على دشمة الدوشكا. كنت من داخل القناة أشرف على الساتر الترابي وعلى خطّ التماس في آن. أطلقت القوّات المستقرّة في القناة نيرانًا كثيفة نحو الساتر، حتى اضطر مساعد رامي الرشاش إلى تغيير سبطانة الرشاش مرّات عدّة.

 

ذهبتُ برفقة جعفر طهراني باتّجاه الساتر الترابي. اتّصل جعفر بقسم المدرّعات في الفرقة. بعد برهة وصلت الدبابة المستقرّة قرب الساتر إلى أرض المعركة. مضى نصف ساعة على شروع الهجمة العراقيّة الثانية، فيما استمرّت المواجهات على الوتيرة ذاتها. وشنّت القوّات المعادية هجومًا على خطّ التماس، فبات خطّ الدفاع في جادّة أم القصر مهدّدًا بشكل جدّي. عقِب قصف الدبابة الإيرانيّة - التي لم تتمكّن من التقدّم على الطريق الترابيّة أكثر من نصف المسافة بسبب

 

399

 


363

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

الوحول - تراجع العراقيّون إلى ما وراء الساتر الترابي ذي الجدارين.

 

عند الساعة الرابعة والنصف فجرًا ساد الهدوء الأجواء من جديد، إلّا أنّهم كانوا يظهرون لنا تحت نور القنابل المضيئة. بدا واضحًا أنّهم ما زالوا في مكان قريب، فيما كان بزوغ شمس النهار وشيكًا، وهو أمر لمصلحتنا.

 

في تلك الدقائق المتبقيّة حتى الصباح تحتّم على العراقيّين إمّا الهجوم ثانية أو الانسحاب كاملًا. بينما هم حيارى في البقاء أو العودة وقع عدد منهم - سالمين وجرحى - في الأسر. أمّا نحن فسقط لنا في ذلك الهجوم المضاد الذي شنّه العدو ليلًا نحو مئة بين شهيد وجريح. في تلك الليلة أيضًا استشهد جعفر طهراني الذي كان رفيقًا شفيقًا لي.

 

بقيتُ قائدًا لكتيبة حمزة -ميراث أسد الله بازوكي- حتى نهاية الحرب عام 1988. كانت كتيبة "حمزة" بيتي الأوّل. كنت أقضي جُلّ أيّامي ولياليّ في الكتيبة، ما خلا أيّام المأذونيّات والاستشفاء. كان كلّ واحد من التعبويّين قد أنِس بكتيبة ما. أواخر الحرب انضمّ بعضهم إلى عوائل الشهداء. في الأيام الأخيرة للحرب استشهد "بهروز بازوكي" - شقيق أسد الله - في عمليّات "مرصاد". كنت حينها مسؤول أحد محاور الفرقة ومهمّتي الإشراف على عدد من الكتائب، وكان بهروز معاوني. ذات مرّة قصفت طائرات العدوّ المدرج الجويّ الاضطراري على تقاطع "إسلام آباد – كرمانشاه - أنديمشك"، ما أدّى إلى شهادة بهروز.

 

إنّ صحيفة أعمال كتيبة "حمزة" بعد بازوكي مشرّفة. ولم تقلّ فعّالية الكتيبة في العمليّات من بعده عمّا مضى إن لم نقل إنّها زادت.

 

في حرب السنوات الثماني جُرحتُ 5 مرّات، لا يزال كلّ مِن رأسي ورجلي وحنجرتي وظهري يحتفظ بذكريات منها، ما خلا الجروح السطحيّة التي تعرّضت لها، وبقيت شظايا صغيرة وأخرى كبيرة في

 

400

 


364

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

جسدي. إلّا أنّ الحرب تخلّف آثارها على روح الإنسان ونفسه أكثر ممّا تخلّفه في جسده. ففي الحرب يتغيّر الإنسان. لو لم تكن الحرب في حياتي وفي إيران لكنت إنسانًا آخر من دون أدنى شكّ. فميدان القتال يسهم في نضج الإنسان. في زمن الصلح والهدوء يولد الناس مرّة ويموتون مرّة، أمّا في الحرب فقد يطوي المرء هذه الفترة الطويلة مرّات ومرّات!

 

في ليالي العمليّات التي لا تُنسى، كان العبور من نقطة الانطلاق يمثّل ولادة، ولعلّه يمثّل موتًا. إذ يترك المرء جميع العلائق خلف الساتر الترابي، ويشقّ كالزورق عباب البحر الهائج إلى حيث لا عروة يُستمسَك بها، ولا أمل يُتعلَّق به سوى الله. الانطلاق من الساتر الترابي ليس عملًا جسديًّا فحسب، بل هو هجرة روحيّة. كما إنّ مشاهدة ضوء صبح العمليّات ولادة جميلة. فرؤية نور الشمس بعد كل تلك الصعاب، من انفجارات ورصاص، ومطر وبرد أحيانًا، وجراح وشهادة وأسر، لم تكن بمنزلة ولادة للأشخاص فحسب، بل هي ولادة للحياة. أوَلا يحكي العبور من بين زخّات الرصاص الأفقيّ، والنجاة بالنفس من بين وابل القذائف والمدافع العمودي شدّة التصاق الموت بالحياة وامتزاجهما؟

 

لكنّ الديمومة - في البين - هي للحياة والسعي المقدّس فيها. فالحرب، وإن طالت، إنّما هي كطلّ الربيع، أمّا الحياة فهي نهر دائم الجريان. الحرب نار تُحرق الجسد والروح لتُزهر الحياة من بينهما. كانت الحرب - لا سيّما حربنا التي تضجّ بالمعاني السامية والعرفانيّة - صقلًا للجسد والروح. على الرغم من أنّ الحرب مظلمة قبيحة مُرّة، إلّا أنّها تصنع البشر والحياة. من ذا الذي لا يلتذّ لرؤية شجاعة مجاهد ولا يكاد يطير فرحًا؟ لا تتجلّي تلك الشجاعة إلا في ساحة المعركة وفي قلب النار والدخان والدماء!

 

401

 


365

الفصل السادس عشر - الجادّة الثالثة

لقد مرّت سنون على نهاية تلك الحرب بجميع ما حملت من ويلات ودمار وقتل، إلّا أنّها لا تزال تمثّل مدرسة لنا ولأبنائنا. في تلك الحرب لم يحنِ أبناء هذه الأرض رؤوسهم أمام الظلم، ولم يخضعوا للذلّ. لقد وقفوا بأيدٍ خالية وذادوا عن دينهم وأرضهم. لقد انتهت الحرب، لكنّ ذكرياتها المفعمة بالعِبر لا تُنسى. كلّ مَن خطا خطوة في تلك الحرب هو بطلٌ وطنيّ سعى في خلق ملحمة. لقد بذل مجاهدو الفصيل الأول أرواحهم من أجل الإسلام وإيران، ومن أجل ابتسامة أزهرت على ثغر الإمام الخميني. فلتُخلَّد أسماؤهم وذكراهم! والخزي والعار الأبديّ على من أشعل فتيل الحرب من البعثيّين وجميع داعميهم والراضين بفعلهم!

 

402

 


366

وثائق الفصل السادس عشر

وثائق الفصل السادس عشر

 

 

 

 

ورد في هذا القسم من مجموع وثائق الفصل: 14 ورقة وثيقة مكتوبة و7 قطع من الصور.

1- محمود أميني جز

1-1 المعلومات الشخصية

- إجازة من الكليّة الحربيّة، متأهّل، وله ولدان، يعمل في الحرس الثوري (عميد).

- تاريخ ومحلّ الولادة: سنة 1956، أصفهان.

- مدّة الحضور في الجبهة ونوع الخدمة: أربعة عشر شهرًا في صفوف التعبئة، وخمسة وسبعون شهرًا في صفوف الحرس الثوري.

- التاريخ الجهاديّ والرتب العسكريّة: خطّ دفاع دلهران، 1981 و1982 (عنصر حرّ في السرية)، عمليّات الفتح المبين (قائد فصيل)، عمليّات بيت المقدس (قائد سرية)، عمليّات رمضان (قائد سرية)، عمليّات مسلم بن عقيل (قائد سرية)، عمليّات والفجر التمهيديّة

 

403


367

الفصل التاسع - الدماء

(قائد كتيبة)، عمليّات والفجر1 (قائد كتيبة)، عمليّات والفجر4 (قائد كتيبة)، عمليّات خيبر (قائد كتيبة)، عمليّات بدر (قائد كتيبة)، عمليّات والفجر8 (قائد كتيبة). خطّ دفاع الفاو، 1986 (قائد كتيبة). خطّ دفاع مهران، 1986(قائد كتيبة). عمليّات كربلاء1 (قائد كتيبة). عمليّات كربلاء5 (قائد كتيبة). عمليّات كربلاء8 (قائد كتيبة). خطّ دفاع دوبازا، 1987 (قائد كتيبة). عمليّات بيت المقدس2 (قائد كتيبة). عمليّات بيت المقدس4 (قائد كتيبة). خطّ دفاع شاخ شميران، 1988 (قائد لواء). عمليّات مرصاد (قائد لواء).

 

- الجراح التي أصيب بها: إصابة في الساق اليسرى (1982)، كسر في عظمة كفّ اليد اليسرى (1982)، إصابة في الرئة (1982)، جروح في العنق والظهر (1983)، كسر في الجمجمة وجرح في الساعد الأيمن (1983)، جروح في الفخذين والكتف (1984)، إصابة في الساق اليسرى (1986)، جروح في الجبهة والوجه (1986)، جروح في الساق والفخذ الأيمن (1987)، إصابة كيميائيّة في الرئة (1988)، جروح في الوجه والصدر (1988).

 

- نسبة الإصابة: 50%

 

 

     

 

404


368

وثائق الفصل السادس عشر

2-5 مقابلة مع زوجة الشهيد

كان أسد الله ابن خالي. وبرغم وجود هذه الصلة القريبة لم أكن على اطّلاع دقيق على تفاصيل حياته وعمله. وُلد سنة 1957 في "بيلاقي لار". لكنّه ترعرع ونشأ في "باكدشت ورامين".

 

 

 

 

407


369

وثائق الفصل السادس عشر

الثانويّة، التحق بالقوّات الجويّة في الجيش. وبعد انتصار الثورة دخل في صفوف الحرس الثوري، وذهب إلى كردستان لمحاربة المجموعات المناهضة للثورة.

 

في تلك الأيّام قلّما رأيته، لكنّه بدا لي ممّا سمعتُ عنه شابًّا شجاعًا ومؤمنًا، وفي الوقت عينه جدّيًّا ومنضبطًا. فيما بعد تبيّن لي أنّه ودود ومتسامح أيضًا.

 

ربطتني به علاقة حبّ، فتزوّجنا عام 1981. أقيم حفل زفافنا بنحو جيّد وفق العادات والتقاليد العائليّة.

 

بعد الزواج مضى أسد الله إلى الجبهة فيما بقيتُ أنا في طهران. تعرّض في عمليّات بيت المقدس (تحرير خرّمشهر) لجروح طفيفة لكنّه لم يأتِ إلى طهران لتلقّي العلاج.

 

في خريف العام 1982، ولد ابننا الأوّل، علي.

 

بعد سنة أصيب أسد الله وأخوه الأصغر "مسعود" بجروح. جُرِح أسد الله جرّاء انفجار قنبلة، واحترقت يده اليسرى وتلاشت بحيث اضطرّ إلى قطعها من فوق المرفق. كانت اليد نفسها التي أصيبت بشظايا في كردستان. كما جُرح فخذه الأيمن والتهب. جاؤوا به إلى طهران بعد مرور أسبوع على إصابته، فذهبتُ لرؤيته خارج وقت الزيارة. كانت حاله سيّئةً. كان كيس المغذّي(المصل) موصولًا إلى يده اليمنى، فيما أُخْفيت اليسرى تحت البطّانيّة. ما إن رآني حتى سألني عن علي. بعد ذلك أزاح البطّانيّة بإعياء وقال: "هل ترين حالي؟ ألستِ مستاءة؟".

 

قلت: "أشكر الله أنّك لا تزال على قيد الحياة. وهذه الجروح سرعان ما تبرأ".

 

بعد إصابته طُلب منه البقاء في طهران، وتَسَلُّم مسؤوليّة غير

 

408

 


370

وثائق الفصل السادس عشر

القتال، لكنّ أسد الله قال: "أنا مستعدّ أن أكون في خدمة التعبويّين بيد واحدة وأن لا أبقى في طهران".

 

في شتاء العام 1984، وبعد أن تعافى بشكل نسبيّ ذهبنا إلى كردستان وبالتحديد إلى مدينة "سنندج" المنكوبة، على أمل أن نبقى معًا مدّة أطول. فقد تحمّلت سنتين من البعد عن أسد الله، وكنت حاضرة لمرافقته أنّى ذهب، ولو تحت وابل المدافع والقذائف.

 

رغم فقدانه إحدى يديه، كان أسد الله يقوم بكثير من الأعمال لوحده. حتى إنّه كان يقود بيد واحدة. لقد كان منظّمًا في عمله. فكان يسجّل برنامجه اليوميّ في دفتر صغير لكي لا يغفل عن أيّ عمل. كما كانت ثيابه مرتّبة ومكويّة دومًا.

 

أردت ذات مرّة أن أقصّ كمّه لكي لا يعيقه فمنعني قائلًا: "إن قصصتِ الكمّ فلن يكون قابلًا للاستفادة ثانية".

 

كان أسد الله رجل حرب، لكنّه عندما يكون بقربي أراه شخصًا آخر. لم يكن يطيق رؤية أذى عائلته أو مرضها، وكان دائم القلق على سلامتنا. لا أدري كيف كان يقوى، بقلبه الحنون ذاك، على القتال في الحرب؟!

 

عام 1984 ذهبنا إلى "إسلام آباد الغرب" وسكنّا في منزل قريب من المعسكر حيث محلّ خدمة أسد الله.

 

في أحد الأيّام، وبينما كنت أُلبِس ولدي "علي"، تنبّهتُ لوجود ورم صغير تحت إبطه. أخذناه إلى طبيب المعسكر.

 

احتمل الطبيب الجرّاح وجود مرض السلّ وقال: "هذا الورم هو أحد عوارض مرض السلّ".

 

توجّهنا على الفور إلى طهران، فقيل لنا إنّ الورم غير خطير لحسن الحظّ، وإنّه لا داعي للجراحة. الأمر لا يستدعي سوى إخراج السائل من الداخل على ثلاث مراحل، بعدها يزول الورم بشكل نهائي.

 

409

 


371

وثائق الفصل السادس عشر

بعد إجراء الأعمال الأوّليّة رجعنا إلى المنطقة العسكريّة. بعد أيّام حضر أسد الله بشكل مفاجئ إلى البيت. وعندما سألته عن سبب مجيئه قال: "غدًا موعد زيارة طبيب علي"!

 

عام 1985، وفي أوج القصف الصاروخي على المدن الحدوديّة، ذهبنا إلى "دزفول"، واستقررنا في بيت مستأجر. في أحد الأيّام هزّ المدينة اثنا عشر صاروخًا. كنت كلّما سمعتُ صوت الموسيقى العسكريّة أو جرس الخطر اعتراني الخوف، فأجلس منتظرة وقوع حادثة ما. في بعض الأحيان كنت أملّ كلّ تلك الأسفار الحربيّة وأبدأ بالشكوى، فيضحك أسد الله قائلًا: "يا سيّدة، إنّه لَمِن دواعي السرور أن تتعرّفي إلى مدن كثيرة خلال هذه الأسفار"!

 

في شهر رمضان من تلك السنة، كنت في أيام حملي الأخيرة، وبما أنّ جميع القوّات عادت إلى طهران، عدنا إلى طهران أيضًا. وُلد ابني الثاني في أيّام ذكرى شهادة الإمام علي عليه السلام، فسمّيناه "مرتضى" إحياءً لمظلوميّة أمير المؤمنين. كان مرتضى يشبه أباه. وهو الآن يشبهه إلى حدّ كبير أيضًا.

 

في تلك الأيّام كان أسد الله كثير المشاغل، وقلّما كنّا نراه. كنت أعدّ اللحظات بانتظار رؤيته. وبدوره كان يحضر لرؤيتنا ولو لبضع ساعات إن استطاع.

 

كان علي قد تجاوز السنتين من العمر، وكان حديث العهد بالمشي، ويتكلّم بشكل جيّد. كان مولعًا بكرة القدم، وقد طلب من أبيه ذات مرّة أن يشتري له كرة. لم يترك أسد الله مكانًا في المدينة إلّا وبحث فيه، فإيجاد كرة قدم في تلك المدينة المنكوبة كان عملًا شاقًّا. لكنّه على الرغم من ذلك عاد إلى المنزل أواسط الليل وبيده كرة بلاستيكيّة.

 

410

 


372

وثائق الفصل السادس عشر

كان علي نائمًا. عندما قبّله والده استيقظ وسُرّ لرؤية الكرة، فما كان منه إلّا أن رمى نفسه في حجر أبيه وهو يضحك. في تلك الليلة بقي علي وأبوه يلعبان بالكرة حتى وقت متأخّر.

 

في آخر مأذونيّة له أثنى أسد الله على طبخي، وقال: "لا شيء يعلو على طبخ المنزل"!

 

في آخر غروب له في المنزل جلس وقت الأذان على سجّادة الصلاة وجعل يبكي. لم أكن قد رأيته قبل ذلك الحين يبكي، فظننت أنّ مكروهًا لم أعلم به قد وقع لأخيه. جلست بجانبه وسألته عن سبب بكائه. قال: "أشعر بكآبة غريبة. كلّما سمعت باسم علي احترق قلبي لمظلوميّته".

 

ثم سألني: "ماذا ستفعلين لو سمعتِ نبأ شهادتي؟".

 

قلت: "ما هذا الكلام؟ أنا لا أطيق ذلك، سأموت!".

 

فقال بحال من الضحك المشوب بالبكاء: "ليس الأمر كذلك. إنّ الله يمنحك صبرًا لن تتخيّليه!".

 

تلك الليلة كان قلبي ينبئني بأنني لن أراه ثانية. صباح اليوم التالي حضر رضا دستواره مبكرًا ليذهبا معًا. عند ذهابه، وخلافًا للعادة، لم يقبّل الطفلين، واكتفى بإلقاء نظرة عليهما. ثم قال: "سأعود سريعًا، ونذهب معًا إلى طهران".

 

كما وعد علي بأن يأخذه في المرّة القادمة لرؤية البحر.

 

مضيا سريعًا. بدا واضحًا أنّ لديهما عملًا مهمًّا. كان ذلك في شهر شباط. بعد أيّام سمعتُ أخبار عمليّات "والفجر8" عبر المذياع.

 

في أوائل شهر آذار، أخبرني أصدقاؤه ذات ليلة بأنّه جُرح، لكنّي كنت على يقين بأنّ أسد الله قد نال الشهادة.

 

عندما وصلت إلى طهران كان والده قد علم بأمر شهادته. كان

 

 

411

 


373

وثائق الفصل السادس عشر

الرصاص قد فلق مؤخّر رأس أسد الله وخاصرته.

 

في ذلك اليوم ما برح علي يدور حولي ويسألني: "هل أصيب بابا برصاصة؟ إذًا متى سيأتي لنذهب إلى البحر؟".

 

مضى أسد الله، لكنّ ذكراه لا تزال حيّة في قلبي. لقد كان والد ابنيّ وشريك حياتي. لا أزال حتى اليوم أكلّمه في وحدتي وأبثّه لواعج أشجاني. حين استشهد أبوهما كان علي ومرتضى صغيرين لدرجة أنّهما لا يذكران شيئًا عنه، لكنّهما مع ذلك يعلمان جيّدًا أنّ أباهما كان رجلًا عظيمًا، رجلًا يعشق عائلته وولديه، لكنّه بذل مهجته فداءً لعشقٍ أسمى.

 

 

412

 

 

 


374
الفصيل الأول - الجزء الثاني