رسالتي إلى الشباب

قراءة في رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى الشباب الغربي


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2019-02

النسخة: 0


الكاتب

دار المعارف الإسلامية الثقافية


المقدّمة

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدّنا محمّد وآله الطاهرين.

إنّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا، هو قراءة في رسالة وجّهها سماحة الإمام السيّد علي الخامنئيّ دام ظله للشباب الغربيّ في أوروبّا وأمريكا الشماليّة، يبيّن لهم فيها بعض المسائل المهمّة المتعلّقة بالنظرة الصحيحة عن الإسلام، والتي عمل الاستكبار العالميّ، عبر إعلامه وسياساته الثقافيّة المختلفة على تشويهها وإيصالها لهم بشكل مغاير للحقيقة والواقع.

لأهمّيّة هذه الرسالة، أولاها سماحة الشيخ نعيم قاسم، الخبير بقضايا الشباب، الأصيل في معالجته، اهتماماً يَظْهَر من خلال هذه القراءة الجامعة بين العمق في الوصول إلى مراد الوليّ، والسلاسة في تقديمه، والتي يسرّ دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة أن تضعها بين أيدي القرّاء الأعزّاء، سائلين المولى – تعالى - أن يديم علينا نعمة الولاية.

 

والحمد لله رب العالمين

 


7

الرسالة الأولى للإمام الخامنئيّ دام ظله إلى الشباب الغربيّ في أوروبّا وأمريكا الشماليّة

الرسالة الأولى للإمام الخامنئيّ دام ظله

 

إلى الشباب الغربيّ في أوروبّا وأمريكا الشماليّة[1]

إنّ الأحداث الأخيرة في فرنسا وما شابهها في بعض الدول الغربيّة الأخرى، دفعتني وشجّعتني أن أتحدّث معكم عنها مباشرة.

إنّي أخاطبكم - أيّها الشباب - ولا يعني هذا أنّني أتجاهل آباءكم وأمّهاتكم، بل لأنّي أرى مستقبل شعبكم وبلادكم بأيديكم، وكذلك أرى بأنّ حِسّ البحث عن الحقيقة في قلوبكم أكثر حيويّة ووعياً. وأنا أيضاً لا أخاطب في كلمتي هذه السياسيّين والمسؤولين عندكم, لأنّي أتصوّر أنّهم - وعن سابق تصوّر وتصميم - قد فصلوا درب السياسة عن مسار الصدق والحقيقة.

حديثي معكم عن الإسلام، وبصورةٍ خاصّةٍ، عن الصورة التي يجري تقديمها لكم عن الإسلام.

منذ عقدين، وإلى يومنا هذا - أي بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ تقريباً - بُذلت جهود ومحاولات كثيرة، لتقديم هذا الدين العظيم بصورة العدوّ المخيف. وللأسف، إنّ عمليّة إثارة مشاعر الرعب والكراهية واستغلالها، لها ماضٍ طويلٍ في التاريخ السياسيّ للغرب.

لا أريد هنا أن أتعرّض إلى ما يثيرونه من أنواع الرُّهاب (الفوبيا) في أوساط الشعوب الغربيّة حتّى الآن. أنتم، وعند استعراضكم الموجَز[2] للدراسات التاريخيّة والنقديّة المعاصرة، ستجدون كيف تذمّ وتستنكر الكتاباتُ التاريخيّةُ التعاملَ غيرَ الصادقِ والمزيَّفَ للحكومات الغربيّة تجاه سائر الشعوب والثقافات. إنّ تاريخ أوروبّا وأمريكا يطأطئ رأسه خجلاً أمام سلوكه في استرقاق العبيد وسلوكه الاستعماريّ وظلمه الذي ألحقه بذوي البشرة الملوّنة وغير المسيحيّين. إنّ المؤرِّخين والباحثين عندكم، عندما يمرّون على عمليّات سفك الدماء باسم الدين بين البروتستانت والكاثوليك، أو باسم القوميّة والوطنيّة خلال الحربين العالميّتين، الأولى والثانية، يشعرون بالخجل والخزي. وهذا بذاته يدعو إلى التقدير، ولست استهدف من خلال استعادة قسم من هذه اللائحة الطويلة معاتبة التاريخ، ولكنّي أريد منكم أن تسألوا مثقفيكم ونخبكم كلّهم: لماذا لا يستيقظ الوجدان العامّ في الغرب دائماً إلّا متأخّراً عشرات السنين، وأحياناً مئات سنين؟ ولماذا تتّجه إعادة النظر في الوجدان العامّ نحو الماضي البعيد، وتُهْمَل الأحداث المعاصرة؟

وفي موضوع مهمّ، من قبيل أسلوب التعامل مع الثقافة والفكر الإسلامي، لماذا يُمنع تشكّل وعيٍ عامّ؟

أنتم تعلمون جيّداً أنّ الاحتقار وإيجاد الكراهية والرُّهاب والخوف الوهميّ من "الآخر"، قد شكّلت أرضيّة مشتركة لكلّ حالات الاستغلال الظالمة تلك. الآن، أطلب منكم أن تسألوا أنفسكم: لماذا استهدفت سياسة نشر الكراهية والرُّهاب القديمة، هذه المرّة، الإسلام والمسلمين بقوّة، وبشكل لا سابق له؟ لماذا يتّجه نظام القوّة والسلطة، في عالمنا اليوم، نحو تهميش الفكر الإسلاميّ، وجرّه إلى حالة الانفعال وردّات الفعل؟

ما هي تلك المفاهيم والقِيم الموجودة في الإسلام، والتي تزعج برامج القوى الكبرى ومشاريعها وتزاحمها؟ وما هي المنافع التي تجنيها هذه القوى عبر تقديم صورة مشوّهة وخاطئة عن الإسلام؟ لهذا، فإنّي أتمنّى عليكم أوّلاً أن تتساءلوا وتبحثوا عن عوامل هذا التشويه الواسع للإسلام.

الأمر الثاني الذي أرغب منكم أن تقوموا به، في مواجهة سيل الاتّهامات والتصوّرات المسبَقة والإعلام السلبيّ، أن تسعَوا لتكوين معرفة مباشرة، وبدون واسطة، عن هذا الدين. إنّ المنطق السليم يقتضي - وبالحدّ الأدنى - أن تدركوا حقيقة الأمور التي يسعَون لإبعادكم عنها وتخويفكم منها، فما هي؟ وما هي حقيقتها؟

أنا لا أصرّ عليكم أن تقبلوا رؤيتي أو أيّة رؤية أخرى عن الإسلام، لكنّي أدعوكم ألّا تسمحوا أن يقدّموا لكم، وبشكل مراءٍ، الإرهابيّين العملاء لهم على أنّهم[3] يمثّلون الإسلام. اعرفوا الإسلام من مصادره الأصيلة ومنابعه الأولى. تعرّفوا إلى الإسلام من القرآن الكريم ورسوله العظيم صلى الله عليه وآله وسلم. وأودّ هنا أن أتساءل: هل سبق أن رجعتم إلى قرآن المسلمين مباشرة؟ هل طالعتم تعاليم رسول الإسلام صلى الله عليه و، ووصاياه الإنسانيّة والأخلاقيّة؟ هل اطّلعتم على رسالة الإسلام من مصدر آخر غير وسائل الإعلام؟ هل سألتم أنفسكم مرّة، كيف استطاع الإسلام، ووفق أيّة قِيم طوال قرون متمادية أن يبني أكبر حضارة علميّة وفكريّة في العالم، وأن يربّي أفضل العلماء والمفكّرين؟

أطالبكم ألّا تسمحوا لهم بوضع سدّ وحاجز عاطفيّ وإحساسيّ بينكم وبين الحقيقة والواقع، عبر رسم صورة سخيفة مهينة عن الإسلام، ليسلبوا منكم إمكانيّة الحكم الموضوعيّ. اليوم، ونحن نرى أنّ وسائل التواصل اخترقت الحدود الجغرافيّة، لا تسمحوا لهم أن يحاصروكم في الحدود الذهنيّة المصطنَعة، وإن كان من غير الممكن لأحد أن يملأ الفراغات التي تمّ إيجادها بشكل فرديّ، ولكن كلّ واحد منكم يستطيع، وبهدف توعية نفسه ومحيطه، أن يبني جسراً من الفكر والإنصاف فوق هذه الفراغات.

على الرغم من أنّ هذه الأزمة المفتعلة لخلق نوع العلاقة بين الإسلام وبينكم - أنتم الشباب - هي أمر مؤلم، لكن بإمكانها أن تثير تساؤلات جديدة في أذهانكم الوقّادة والباحثة عن الحقيقة. إنّ سعيكم لمعرفة الأجوبة عن هذه التساؤلات يشكّل فرصة مغتنمة لكشف الحقائق الجديدة أمامكم. وعليه، يجب أن لا تفوّتوا هذه الفرصة للوصول إلى الفهم الصحيح وإدراك الواقع دون حكم مسبَق، ولعلّه وبنتيجة (ببركة) تحملّكم هذه المسؤوليّة تجاه الحقيقة، سترسم الأجيال الآتية[4] صورة هذه المرحلة من تاريخ التعامل الغربيّ مع الإسلام، بألمٍ أقلّ زخماً ووجدانٍ أكثر اطمئناناً.

 

[1] أُلقيت في تاريخ 21/01/2015م.

[2] أو: بإطلالة سريعة وموجزة على الدراسات و...

[3] بمعنى: بعنوان أنّهم هم من يمثّل الإسلام...

[4] أو بمعنى: ستخرج الأجيال المقبلة بتقييمٍ لهذه المرحلة.


9

1 | الرسالة بعد أحداث فرنسا

حصلت أحداثٌ إرهابيّةٌ في فرنسا بتاريخ ٧ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٥م، على خلفيّة نشر صحيفة "شارلي إيبدو" في باريس رسومات مسيئة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين مرّات عدَّة - على ما قيل -ـ وذلك من خلال الهجوم المسلّح الذي قام به مسلَّحون من تنظيم القاعدة بأمر زعيمهأيمن الظواهريّ، فدخلوا إلى المبنى، وبدؤوا بإطلاق النار من أسلحة كلاشنكوف، وقد أدّى الهجوم إلى مقتل ١٢ شخصًا، بينهم شرطيّان وأربعة من أبرز رسّامي الكاريكاتور في الصحيفة، وإصابة ١١ آخرين بجروح.

1 | الرسالة بعد أحداث فرنسا

وجَّه الإمام الخامنئيّ دام ظله رسالته الأولى إلى الشباب الغربيّ في أوروبا وأمريكا الشماليّة، على خلفيّة أحداث فرنسا وما شابهها، بتاريخ 21 كانون الثاني 2015م، واستهلَّها بقوله:

"إنَّ الأحداث الأخيرة في فرنسا وما شابهها في بعض الدول الغربيّة الأخرى، دفعتني وشجّعتني على أن أتحدّث معكم عنها مباشرة".

دفعت الأحداث الإمام القائد دام ظله للكتابة, لأنَّ الظلم والعدوان مرفوضان إنسانيًّا واسلاميًّا، وهما مؤلمان للشباب الغربيّ، كما هما مؤلمان لشباب أمّتنا, ما جعل مخاطبته للشباب مفيدة بسبب وجود قواسم مشتركة تتأثّر بها الشعوب كلّها. وشجّعته لأنَّ الألم عند المصيبة، وتحرّك المشاعر الباحثة عن الحقيقة والأسباب، تكسر الحواجز المصطنعة التي وُضِعَتْ أمام الشباب الغربيّ وعقله وطريقة تفكيره، فتجعل الخطاب المبيِّن للأحداث وتحليلها مسموعًا من الآخر، وتتحقَّق الفرصة لعدم تكبيل الحقيقة بالأحكام المسبقة عن الإسلام والمسلمين. وما يشجّع على التحرّك باتِّجاه الشباب هو انفتاحُهم على النقاش وبحثُهم عن الإجابات.

 

 


15

2 | إلى الشباب

2 | إلى الشباب

كتَبَ الإمام الخامنئيّ دام ظله:

"إنِّي أخاطبكم أيُّها الشباب، ولا يعني هذا أنَّني اتجاهل آباءكم وأمّهاتكم، بل لأنِّي أرى مستقبل شعبكم وبلادكم بأيديكم، وكذلك أرى أنَّ حسَّ البحث عن الحقيقة في قلوبكم أكثر حيويّة ووعيًا. وأنا أيضًا لا أُخاطب في كلمتي هذه السياسيّين والمسؤولين عندكم, لأنّي أتصوّر أنّهم - وعن سابق تصوّر وتصميم - قد فصلوا درب السياسة عن مسار الصدق والحقيقة".

خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله موجَّهٌ إلى الشباب, لأنهَّم أكثر تحرّرًا من القيود، وهم يكوِّنون شخصيّاتهم مستفيدين من المعارف والتجارب، والآفاقُ مفتوحةٌ أمامهم لخيارات المستقبل، ولم يصبحوا جزءًا من المنظومة أو المكتسبات المجتمعيّة أو السياسيّة التي تقيّدهم وتأسر طموحاتهم خشية خسارتها.

ولدى الشباب المقدرة والجرأة على التعبير، فإذا ما اقتنعوا يتّخذون المواقف المفاجئة بعزيمةٍ وتصميم، وهم صُنَّاع المستقبل ومربّو الأجيال، فإذا ما صلحوا وأحسنوا الاختيار قادوا أمّتهم نحو صلاحها. وقد عبَّر النبي الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عن دور الشباب ومكانتهم، فقال: "إنَّ أحبَّ الخلائق إلى الله - عزَّ وجلَّ - شابٌّ حَدَثُ السّن، في صورةٍ حسنة، جعَلَ شبابَه وجمالَه لله وفي طاعته، ذلك الذي يُباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقًّا"[1]. وعن الإمام الباقر عليه السلام لمن استنصحه بمن يهتمّ: "عليكَ بالأحداث (الشباب), فإنَّهم أسرعُ إلى كلِّ خير"[2].

الشبابُ أكثر حيويّةً وبحثًا عن الحقيقة والحلول للمشاكل، وهم الأكثر وعيًا في زمن توفّرت فيه المعرفة بشكل واسع، وأصبحت تجارب الشباب والشعوب متاحة من خلال الاطّلاع عبر وسائل التواصل، وقد تقدَّم التعليم كثيرًا في زمن التقدّم العلميّ، وتوفّرت سبل الوعي بشكل كبير.

أمّا السياسيّون والمسؤولون، فقد بنوا حياتهم على أساس المواقع والمكتسبات والرؤى التي أوصلتهم إليها، فلم يعد لديهم قابلية للتغيير, لأنَّهم يخشون خسارة ما هم عليه، وأصبحت تتحكَّمُ بهم مواقعهم وليس الحقيقة، فالصحيح عندهم ما يُبقيهم في مواقعهم، والخطأ ما يؤدّي إلى خسرانها، وهم ليسوا جاهزين للحقيقة إذا ما أدّت إلى خسارتهم. إذًا، لا فائدة من الحديث معهم, لأنَّهم لن يسمعوا، ولن يحاوروا، ولن ينصروا الحقّ.

 


[1] المتقي الهندي، كنز العمال، مؤسسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1989م، لا.ط، ج15، ص785.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363هـ.ش، ط4، ج8، ص93.


19

3| الصورة المشوَّهة عن الإسلام

3| الصورة المشوَّهة عن الإسلام

بدأ سماحته خطابه للشباب بالحديث عن الصورة المشوهَّة التي قُدِّمت للشباب الغربيّ عن الإسلام:

"حديثي معكم عن الإسلام، وبصورةٍ خاصّةٍ عن الصورة التي يجري تقديمها لكم عن الإسلام. منذ عقدَين وإلى يومنا هذا -أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تقريبًا - بُذلت جهود ومحاولات كثيرة لتقديم هذا الدين العظيم بصورة العدوّ المخيف. ومع الأسف إنَّ عملية إثارة مشاعر الرعب والكراهية واستغلالها، لها ماضٍ طويلٍ في التاريخ السياسيّ للغرب".

يُبيِّن القائد للشباب من خلال هذا العرض الموجز، الصورة المشوَّهة عن الإسلام بحيثيّاتها المختلفة، لينطلق من هذه الصورة إلى عرض الحقيقة الإسلاميّة المقابلة لها.

منذ عقدين, أي بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وتفككّه في 26 كانون الأوّل 1991م، وتسلُّم يلتسين رئاسةَ روسيا خلفًا لغورباتشوف، وسهام الغرب تتَّجه ضدّ الإسلام، لماذا؟

بعد الحرب العالميّة الأولى، ونشوء الاتّحاد السوفياتيّ، بدأ الصراع بين أيديولوجيّتين: الرأسماليّة والشيوعيّة، وقد تبلورت رمزيّتهما من خلال معسكرين، وانقسمت الدول بين هذين المحورين: أمريكا ومعها الغرب، والاتّحاد السوفياتيّ الذي ضمَّ عددًا من دول الشرق، وكان الشغل الشاغل لكلّ منهما تسجيل مكاسب على حساب الآخر، فكريًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وفي المجالات كلّها.

لكن بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، لم يعد للشيوعيّة وجودٌ مؤثّرٌ فكريًّا وسياسيًّا، وعلى مستوى الدولة الراعية، فبدأت تتبلور آحاديّة القيادة الغربيّة الأمريكيّة للعالم.

في هذه الأجواء، بدأ الإسلام يعود إلى مسرح الحياة، وذلك من خلال تجربتين:

التجربة الأولى: قيامُ الجهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة عام 1979م، والتي كانت ثمرة الثورة التي قادها مفجِّرها ومؤسّس الجمهوريّة الإسلاميّة الإمام الخمينيّ قدس سره، وقد ثبَّتت رؤيتها بأنَّها لا شرقيّة ولا غربيّة، عقائديًّا وسياسيًّا، وطرحت الإسلام بديلًا فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وفي مجالات بناء الفرد والدولة والمجتمع كلّها. هذه الجمهوريّة الإسلامية الناشئة، أسقطت حكم شاه إيران التابع لأمريكا، وأخرجت إيران من تبعيّتها للمعسكر الغربيّ، وبدأت تشكِّل خصوصيّتها واستقلالها.

عادى الغرب إيران الإسلام, لأنَّها اختارت منهج الإسلام، الذي يمثّل منظومة كاملة للحياة، مخالفةً في الكثير من جوانبها المنظومة الغربيّة, ولأنّها خرجت من دائرة نفوذه وسيطرته. فعداءُ الغرب لإيران بسبب منظومتها واستقلالها.

ولو راجعنا سجل إيران الإسلام منذ نجاح الثورة وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في 11 شباط 1979م، لوجدناه سجلًّا دفاعيًّا في مواجهة العدوان عليها من الاتجاهات الدوليّة والإقليميّة كلّها، ومواجهة محاولات إسقاط النظام من داخل البلد.

لقد واجهت إيران احتلال العراق لأراضيها في معركة دامت ثماني سنوات (1980-1988م)، وضعَ الغرب والشرق والدول التابعة لهما كلّها ثقلها السياسيّ والعسكريّ والماليّ والإعلاميّ كلّه... مع العراق ضدّ إيران، لكنَّ إيران خرجت منتصرة بعد أن استردَّت أراضيها المحتلّة عام 1988م، وذلك بتكلفةٍ وتضحياتٍ كثيرة، ثمّ توقَّفت الحرب بناءً على القرار الدوليّ 598.

وواجهت إيران العقوبات الأمريكيّة والدوليّة التي أرادت إضعافها وشلّ اقتصادها بحجة البرنامج النوويّ، ومحاصرتها إقليميًّا ودوليًّا، لكنَّ إيران تغلَّبت بشكلٍ كبير على الحصار، بنهضتها العلميّة وأدائها الاقتصاديّ، والتفاف الأجيال والشعب الإيرانيّ حول الثورة, ما جعلها تستمرّ وتنمو وتتقدّم على جاراتها من دول المنطقة في الميادين كافّة، فاضطُرَّت أمريكا "أوباما" ومعها الدول الكبرى ومجلس الأمن إلى أن تعقد الاتفاق النوويّ مع إيران.

وواجهت إيران تحريكًا للمعارضة الداخليّة لإسقاط النظام بتمويلٍ ودعمٍ غربيّ، وقد واجهت أكبر مخاض لها في فتنة الانتخابات الرئاسيّة عام 2009م، حين رفض السيّد مير حسين الموسويّ والشيخ مهدي كروّبي نتائج الانتخابات الرئاسيّة، التي نجح فيها الرئيس أحمدي نجاد في دورة رئاسيّة ثانية في إيران، وبقيت إيران في حالة اضطراب سياسيّ سبعة أشهر، تغلّبت عليها القيادة والشعب، فتجاوزوا محنة التخريب الداخليّ لإيران.

لماذا واجهت أمريكا والغرب إيران؟ وهل اعتدت إيران عليهما ليهجما عليها ويحاصراها؟ وهل تدخَّلت في أيّ بلدٍ من بلدانهما؟ وهل نافستهما اقتصاديًّا على مصالحهما الممتدّة في المنطقة كلّها؟

إنَّ عداء الغرب لإيران هو بسبب منظومتها الإسلاميّة، واستقلالها عن الانضواء تحت جناحه. ولأنَّ العداء يتطلّب تبريرًا وشعارًا، كان التخويف من الدين الإسلاميّ، ليصيب بذلك أهدافًا عدّة، منها:

أ- إنَّ إخافة المسيحيّين من الإسلام تجد لها صدًى ثقافيًّا ودينيًّا في الغرب, ما يسهِّل نشر الكراهية والعداء، انطلاقًا من العنوان الدينيّ.

ب- إنَّ ترويج النوايا التوسّعيّة لإيران لارتباطها بالإسلام يمكن تصوّرها، انطلاقًا من التاريخ الإسلاميّ الذي حصل فيه التوسّع في بعض البلدان الغربيّة.

ج- يُسهِّل التخويف من إسلام إيران الخطوات والمواقف التي تتّخذها دول الغرب سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا... على أساس أنّها تحمي شعوبها، فتقبل الثمن والتضحيات للانتصار على إيران وكفِّ يدها!

د- يضعُ التخويفَ من الإسلام حاجزًا أمام الشعوب

الغربيّة يمنعُ من الاطِّلاع على تجربة إيران وقراءتها بطريقة عادلة وموضوعيّة، ويصدُّ عن سماع ومناقشة الطرح الإسلاميّ الأصيل الذي قدَّمه الإمام الخمينيّ قدس سره، والذي استقطب الشعب الإيرانيّ، وشعوب العالم الإسلاميّ.

التجربة الثانية: عندما دخل الاتحاد السوفياتيّ بجيشه إلى أفغانستان لنصرة رئيسها، وتموضع في العاصمة "كابل" وجوارها في 25 كانون الأول 1979م، تحرَّكت أمريكا، فدعمت "المجاهدين المسلمين" بالإدارة والسلاح والتنظيم، بالتمويل السعوديّ والخليجيّ, وذلك لطرد الاتحاد السوفياتيّ، الذي انسحب بعد عشر سنوات في 15 شباط 1989م. ومع بداية الغزو السوفياتيّ، نشأت "حركة طالبان"، وتنظيم "القاعدة"، الذي تفرَّع منه مَن يسمّونهم "الأفغان العرب"، وهم الذين قَدِموا من الدول العربيّة لنصرة الشعب الأفغانيّ، ثمّ عادوا إليها بأفكارهم التكفيريّة، وقد بدأ هذا الاتجاه ينتشر في العالم الإسلاميّ،

ثمّ خرج تدريجيًّا وفي قسم من تحرّكاته وأهدافه عن إدارة مُنشئيه ومُشغّليه.

ثمّ كان الحدث الأبرز في 11 سبتمبر 2001م، وهو تفجير البرجَين في نيويورك وإسقاطهما، وحصلت بعده تفجيرات في دول عدّة، فأعلن الغرب أنَّه سيواجه الإرهاب والجماعات التكفيريّة، ثمّ عاد ودعمها بالإمكانات كلّها لإسقاط الدولة السورية، لكنَّها خرجت بجزءٍ من حركتها عن إرادته. وعندما أصبح من مصلحة الغرب تقييد حركة هذا الاتجاه، شنَّ حملةً واسعة ضدّ الإرهاب الذي مثَّلته هذه المجموعات التكفيريّة، رابطًا حركتها بتحميل الإسلام مسؤوليّة توجيهها، وكأنَّها الممثّل الحقيقيّ والحصريّ لهذا الدين، وذلك لمنع أيّ إمكانيّة للتفاعل مع الإسلام الحقيقيّ، على الرغم من وجود حركة تبليغ إسلاميّة واسعة ونماذج إسلاميّة مختلفة في العالم الإسلاميّ, كالأزهر وعلماء المسلمين من المذاهب الإسلاميّة، والذين يختلفون تمامًا عن هؤلاء، وكذلك الحركة الصوفيّة. إنَّ الانتشار الإسلاميّ من غير المذهب الوهابيّ التكفيريّ يشكّل قاعدةً أساسيّةً لنشر الإسلام، الذي أصبح في نظر الغرب خطرًا مستقبليًّا على منظومته، فعملَ على تخويف الناس منه، مبرّرًا ذلك بتصرّفات القاعدة وداعش وأقرانهما.

هذا التخويف من الإسلام، ومحاولة محاصرته، وتشويه صورته، وقمع حركة مريديه... ليست جديدة، فمع نهاية الحرب العالمية الأولى، شُنَّت حملة كبيرة على الإسلام والمسلمين فكريًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وجرى احتلال دول إسلاميّة وتقسيمها، وتعطيل قدراتها على النمو، والتحكّم بإداراتها، ذلك كلّه في إطار العمل لإنهاء الحضور الإسلاميّ وموقعية الدين الإسلاميّ في مستقبل هذه الأمّة، وكي لا تصل آثاره إلى الغرب.

فالغرب يصوِّر الدين الإسلاميّ بصورة العدوّ المخيف، ليمنع انتشاره، ويحول دون التعرف إليه، ويُقفل أبواب الحوار معه وعنه... وذلك لتعطيل تأثير الإسلام في الشعوب الغربية، والمرء عدوُّ ما يجهل، وما يخاف منه.


22

4 | الفوبيا من الإسلام!

4| الفوبيا من الإسلام!

هذه الفوبيا التي تمارَس على الشعوب الغربيّة من حكوماتهم ومسؤوليهم في الزمن الحاضر، لها أشكال وأبعاد مختلفة. قال الإمام الخامنئيّ دام ظله:

"لا أريد هنا أن أتعرّض إلى ما يثيرون من أنواع الرهاب (الفوبيا) في أوساط الشعوب الغربيّة حتّى الآن، أنتم وعند استعراضكم الموجز للدراسات التاريخيّة والنقديّة المعاصرة، ستجدون كيف تذمّ وتستنكر الكتاباتُ التاريخيّةُ التعاملَ غير الصادق والمزيِّف للحكومات الغربيّة تجاه سائر الشعوب والثقافات. إنَّ تاريخ أوروبا وأمريكا يطأطئ رأسه خجلًا أمام سلوكه في استرقاق العبيد، وسلوكه الاستعماريّ وظلمه الذي ألحقه بذوي البشرة الملوّنة وغير المسيحيّين. إنَّ المؤرّخين والباحثين عندكم، عندما يمرّون على عمليات سفك الدماء باسم الدين بين البروتستانت والكاثوليك، أو باسم القوميّة والوطنيّة خلال الحربين العالميّتين الأولى والثانية، يشعرون بالخجل والخِزي".

بإمكان الشباب الغربيّ أن يقرأ بعض الدراسات والكتابات التي صدرت عن مؤّرخين أو باحثين غربّيين، ليرى ما فعلته الدول الغربيّة بالشعوب والثقافات المختلفة، فالغرب هو الذي استقدم العبيد من أفريقيا، واحتل بلدانها عقودًا من الزمن، وتحكَّمَ بإدارتها وخياراتها، ونشر ثقافته ولغته فيها، وسيطر على ثرواتها، والغرب هو الذي اخترع تعبير الانتداب ليلطِّف احتلاله، وقد انتشر كلّ من الانتدابَين الفرنسيّ والإنكليزيّ في ربوع كثيرة من المعمورة، وعمل على تعديل اتجاهات بلدانها، وإكساب شعوبها اتجاهات الدول المستعمرة، لعزلهم عن تاريخهم وحضاراتهم، وجعلهم ملحقًا - في زمن الضعف - بالغرب المتقدم والقدوة!

بإمكان الشباب الغربيّ أن يقرأ في تاريخه ما مارسته حكوماته في حقّ شعوب العالم، من ظلمٍ وقتلٍ وتغيير ديموغرافيّ وثقافيّ، وكيف استثمرت فائض القوّة لديها لتسيطر وتتحكَّم بمقدرات هذه الشعوب.

يوجّه سماحة القائد دام ظله الشباب الغربيّ ليطَّلع على تاريخ أوروبا وأمريكا، وذلك من موقع العارف والمطَّلع. فالقائد يعرض بعض إشارات التاريخ، وهو الذي تميَّزَ بثقافته الواسعة، واطِّلاعه الشامل، في المسائل الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة وشؤون العالم المعاصر، فضلًا عن مرجعيّته الدينيّة الفاعلة، وقيادته الرائدة، وهو كثير القراءة للكتب والنشريّات والتقارير والأخبار.

الإمام القائد مطّلع على التاريخ جيّدًا، وهو الذي قال: "لقد قرأت مرارًا صفحات تاريخ السنوات السبعين والثمانين سنةً الماضية وما قبلها، سطرًا سطرًا. وأنا العبد، لي في باب شبه القارّة الهنديّة مطالعات مطوَّلة، وقد ألَّفتُ كتابًا في هذا المجال أيضًا".

وهو قارئُ رواياتٍ محترف، قال: "ألكسي تولستوي، هو كاتب قويّ جدًّا وله روايات كثيرة، وهو من كُتَّاب الثورة الروسيّة، وتجدون مذاق العهد الجديد في كتاباته، بينما ترون في كتاب "الحرب والسلم" لـ "ليو تولوستوي" الآثار القوميّة الروسيّة، لكنَّكم لا ترون آثار فترة الستّين سنةً الأخيرة، فتلك حقبة أخرى وآثار أخرى، ومرتبطة أساسًا بمكان آخر. ما هو الشيء الّذي يبيّن ملامح روسيا المعاصرة؟ إنَّه أثر شولوخوف، وأثر ألكسي تولستويّ وأمثالهما".

وقد قرأ آلاف القصص، وعن ذلك يقول: "قرأتُ على امتداد هذه السنوات الثلاثين أو الأربعين من عمري، التّي اهتممت فيها بالكتب الروائيّة، آلاف القصص لأهمّ الكتّاب في العالم".

ومنها: "الدون الهادئ"، و"الأرض البكر"، ورواية البؤساء لـ "فيكتور هيغو". كما طالع موسوعات في الأدب العربيّ، ووضع عليها هوامش وتعليقات، ومن ذلك كتاب الأغاني للأصفهانيّ، وقرأ "لجبران خليل جبران"، وديوان الجواهري...

وهو مطَّلعٌ على الثورات والأحداث العالميّة، وأهمّها: الثورة الفرنسيّة، والثورة الأمريكيّة، والثورة الروسيّة.

قالوا في الإمام الخامنئيّ دام ظله الكثير عن سَعة اطّلاعه. قال السيّد عليّ محمّد بشارتيّ: "بعد إصدار الأمم المتحدة عام 1988م للقرار 598، وتدخُّل الدول الكبرى للضغط على إيران للقبول به، توجّه خافيير دكويار، أمين عام الأمم المتّحدة في ذلك الوقت إلى طهران للتفاوض حول هذه الوثيقة. وكان من ضمن لقاءاته، لقاء مع السيّد القائد الذي كان يومذاك رئيسًا للجمهوريّة. بعد إنهاء محادثاته مع السيّد القائد، خرج دكويار مستفسرًا: "من أيّ جامعة في العلوم السياسيّة تخرَّجَ رئيسكم؟ لقد حزتُ شهادات دكتوراه عدّة في العلوم السياسيّة من أفضل جامعات العالم، وأعمل في السياسة منذ ثلاثين عامًا، وأنا الآن أشغل منصب الأمين العام للأمم المتّحدة منذ عشر سنوات، وما من رئيس أو سياسيّ إلَّا وقابلته، ولكنَّني حتّى الآن لم أرَ رئيسًا محنّكًا في السياسة مثل رئيسكم، ولا شخصيّة أشدّ ذكاءً منه".

وفي اللقاء الأوّل بين السيّد القائد وأمين عام الأمم المتّحدة "كوفي أنان"، تطرّق القائد في البداية إلى تاريخ غانا ورجالها الكبار، وأبدى ملاحظات دقيقة حول وضعها السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. وقد صرَّح كوفي أنان بعد لقائه بسماحته: "مع أنَّني من غانا، إلَّا أنَّني لا أعرف عن بلدي بالقدر الذي يعرفه السيّد الخامنئيّ. يجب أن يفتخر الإيرانيّون والمسلمون بأنَّ لديهم مثل هكذا قائد. ليته كان هو الأمين العام للأمم المتّحدة". وقد أضاف يومها بتأثُّر واضح: "لقد أَسَرَ السيّد الخامنئيّ قلبي منذ بداية اللقاء".

أنتم، أيّها الشباب، تتوقون إلى العدالة والتعامل الإنسانيّ، فاستمعوا إلى قائد واسع الاطّلاع، ولديه خبرة مهمّة، وهو محلُّ ثقة, بسبب إيمانه وقناعاته لخدمة البشريّة. إنَّ فطرتكم تدعوكم إلى ذلك. ومن خلال تقييمكم للأدلَّة تُصدرون أحكامكم عمّا هو عادلٌ وترضونه، أو ما ترفضونه وتستنكرونه. لقد عرض المؤرّخون والباحثون الأحداث المؤلمة والتصرّفات اللّاإنسانيّة التي حدثت في الغرب ومع شعوب العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة، فقد جرى استرقاق العبيد السود، وهم من البشر، الذين يستحقّون الحقوق الإنسانيّة ذاتها لأصحاب البشرة البيضاء، في الوقت الذي يدعو الإسلام إلى احترام حرّيّة الإنسان. قال الإمام علي عليه السلام: "ولَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرًّا"[1].

وقد توسَّع الاستعمار ليطال أغلب بلدان العالم، في مصادرة حقيقيّة لحقوق الإنسان والمجتمعات، وتعامل مع شعوب هذه البلدان كبشر من الدرجات الأدنى، وسخَّرهم لمصالحه، وأنزل بهم المصائب والنكبات، وظلمَهم بأشكال الظلم كلّها ليحافظ على مصالحه. والتاريخ يشهد على سقوط مليون شهيد في الجزائر وحدها لتحريرها من الاستعمار الفرنسيّ وويلاته، ويشهد على ما حصل من إبادةٍ وإخراجٍ للمسلمين من الأندلس عام 1492م، ويشهد على الحروب الصليبّيّة التي استمرّت متقطّعة باسم المسيحيّة ضدّ المسلمين وبلدانهم، وخاصّة القدس (1096-1291م)، بل وقع الظلم بأشكاله كلّها، والعدوان، والسلوك الإجراميّ والدمويّ، والحروب الواسعة والمتنقّلة، بين دول الغرب، وبين مذاهبه الدينيّة، وبين قوميّاته المختلفة.

فحرب الأعوام الثلاثين هي سلسلةُ صراعاتٍ داميةٍ مزَّقت أوروبا بين عامي (1618 و1648م)، وقد اندلعت حربُها كصراعٍ دينيٍ بين الكاثوليك والبروتستانت، فوقعت معاركها بدايةً وبشكل عام في أراضي أوروبّا الوسطى (خاصة أراضي ألمانيا الحالية) العائدة إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة، ثمّ اشتركت فيها تباعًا معظم القوى الأوروبيّة الموجودة في ذلك العصر، ما عدا إنكلترا وروسيا. تمَّ تدمير مناطق بأكملها وتُركت جرداء من نهب الجيوش، وخلال الحرب انخفض عدد سكان ألمانيا بمقدار الثلث، من عشرين مليونًا إلى ثلاثة عشر ونصف مليونًا، وكذلك انخفض عدد سكان الأراضي التشيكيّة بمقدار الثلث.

أمّا الحرب العالميّة الأولى، فقد نشبت بين القوى الأوروبيّة في 28 تموز 1914م، وهي كانت بين قوّات الحلفاء الثلاث: المملكة المتّحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا، وفرنسا، والإمبراطوريّة الروسيّة، ثم انضمّت إليها إيطاليا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبين دول المركز: الإمبراطوريّة الألمانيّة، والإمبراطوريّة النمساويّة المجريّة، ثمّ انضمَّت إليها الدولة العثمانيّة، ومملكة بلغاريا. وانتهت في 11 تشرين الثاني 1918م، مخلِّفة ما يقارب تسعة ملايين مقاتل لقوا حتفهم.

وأمَّا الحرب العالميّة الثانية (1939-1945م)، فقد نشبت بين قوّات الحلفاء: فرنسا وبولندا وبريطانيا العظمى، ثمّ التحق بها الاتحاد السوفياتيّ، كما شاركت الصين، وموَّلتهم ودعمتهم الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ثمّ شاركت في القيادة، وبين دول المحور: ألمانيا وإيطاليا واليابان... في هذه الحرب، ألقت الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ولأوّل مرَّة، قنبلتَين نوويَّتين على اليابان، واحدة على هيروشيما في 6 آب، وواحدة على ناكازاكي في 9 آب من العام 1945م، مخلِّفة أكثر من 220 ألف قتيل، عدا عن الجرحى والمشوَّهين، وانعدام الحياة في البلدَين المستهدفَين. وانتهت الحرب باستسلام اليابان، وقد خلَّفت وراءها اثنين وستين مليونًا من القتلى العسكريّين والمدنيّين، عدا عن الجرحى والمفقودين والنازحين.

لم يتحمّل زعماء الغرب الخلاف في العقيدة والموقف داخل بلدانهم، فكانت الحروب الدينيّة المسيحيّة في دائرة الاختلاف المذهبيّ بين البروتستانت والكاثوليك، عنوانًا لمرحلةٍ مؤلمةٍ ومُرَّة في التاريخ. وما الأحلاف التي انعقدت لخوض الحربَين العالميَّتين، الأولى والثانية، إلَّا شكلٌ من أشكال الظلم والانحراف الفكريّ والفساد الأخلاقيّ، حيث تحكَّمَ بعض الناس بمقدّرات العباد، وعاثوا في الأرض فسادًا... هذه الحروب لا تشرِّف الإنسان، الذي سخَّر الله -تعالى- له الأرض وما فيها ليعمِّرها، لا ليخرِّبها ويعبث بها، قال – تعالى -: ﴿اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[2].


 

[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق الصالح، لا.ن، بيروت، 1967م، ط1، ص401.

[2] سورة الجاثية، الآية 12.


31

5| أين الوعي؟ وأين الوجدان الغربي؟

5| أين الوعي؟ وأين الوجدان الغربي؟

إنَّها علامة مضيئة أن يذكر المؤرّخون والمثّقفون الغربيّون هذه الأحداث وينتقدوها.

قال الإمام القائد الخامنئي دام ظله:

"وهذا في حدّ ذاته يدعو إلى التقدير. ولست استهدف من خلال استعادة قسم من هذه اللائحة الطويلة معاتبة التاريخ، ولكنّي أريد منكم أن تسألوا كلّ مثقّفيكم ونُخَبَكم: لماذا لا يستيقظ الوجدان العامّ في الغرب دائمًا إلَّا متأخرًا عشرات السنين، وأحيانًا مئات السنين؟ ولماذا تتَّجه إعادة النظر في الوجدان العامّ نحو الماضي البعيد، وتُهمل الأحداث المعاصرة؟".

لا يسرد الإمام الخامنئي دام ظله هذه اللائحة من الأحداث لمحاكمة التاريخ، ولكن للاعتبار منها، كي لا تتكرَّر الأحداث نفسها، ولا تستمرّ الأخطاء والانحرافات والفساد والظلم...

ماذا ينفع أن يستيقظ الضمير الإنسانيّ عند قادة الرأي والمفكّرين بعد عشرات أو مئات السنين من الأحداث التي جرت، فيعترضون عليها؟! وأحيانًا يقدِّمون الاعتذار لأحفاد المتضرّرين عمّا سبق! إنَّ هذا الموقف لا يغيِّر شيئًا، فالدماءُ سالت، والاحتلالُ حصل، والإضرار بالأجيال تحقَّق، والانحراف في الاتجاه الإنسانيّ اتَّخذَ سبيله، وأسَّسَ معالم المستقبل بطريقة غير عادلة.

لماذا لا يعتبرون من الماضي، ويكرِّرون أفعال أجدادهم؟

ماذا ينفع الاعتذار بعد مرور عشرات أو مئات السنين؟

أليس الأجدى بهم أن يراقبوا الأحداثَ المعاصرة، ويتصرَّفوا معها بإنسانيّةٍ وعدالة؟

لماذا يتَّجهون في وجدانهم إلى الماضي البعيد، ولا يُحكِّمونه في الواقع المعاصر؟


41

6| يتساءل سماحة الإمام القائد دام ظله:

6| يتساءل سماحة الإمام القائد دام ظله:

"وفي موضوعٍ مهمّ، من قبيل أسلوب التعامل مع الثقافة والفكر الإسلاميّين، لماذا يُمنع تشكُّل وعيٍ عامّ؟".

يبثُّ الغربُ معلوماتٍ خاطئةً عن رسالة الإسلام الكاملة التي تعالج شؤون البشر كلّها، والسمحاء التي تتعامل مع فطرة الإنسان بالإقناع وحرّيّة الاختيار. قال -تعالى-: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1],ويُشوِّه الغرب تعاليمها بالاجتزاء والتَّضليل، ويُعرِّف الإسلام بممارسات بعض المسلمين الخاطئة، علمًا بأنَّ المسلم الحقيقيّ يجري تقييمه بحقيقة الإسلام، وليس العكس.

هذا الأسلوب الغربيّ في تشويه حقيقة تعاليم الإسلام، والذي يستند إلى تصرفات بعض المسلمين الخاطئة والبعيدة عن الإسلام، يستهدفُ منع تشكيل وعيٍ عامٍّ سليم، عن الإسلام، وهي محاولة بدأت منذ بعث الله محمّدًا رسولًا إلى البشريّة، فقال المشركون في مكّة المكرَّمة عنه إنَّه: ساحرٌ، ومجنون، وكذّاب... ومنعوا الناس أن يسمعوا منه مباشرةً خشية التاثّر به، وواجه الكفّار من تأثَّر منهم بكلامه بالضغط عليه، ليتراجع عن موقفه. ففي حادثة روتها السيرة النبوية: أنَّ عتبة بن ربيعة سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامًا عن الإسلام من القرآن الكريم، فقال لجماعته من المشركين: "قد سمعتُ قولًا والله ما سمعتُ مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم، فإنْ تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإنْ يظهر على العرب فمُلكُه مُلكُكم، وعزُّه عزُّكم، وكنتُم أسعدَ النَّاس به. قالوا: سحرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم"[2]. لقد صَمُّوا آذانهم كي لا يسمعوا كلمة الحقّ والدليل القاطع.

يَمنع الغربُ الشبابَ من التعرُّف على الإسلام، كي لا يتشكَّل لديه وعيٌ حرّ، أو رأيٌ إيجابيّ تجاه الإسلام، وذلك من خلال الكتابات والدعاية والإعلام، بطريقة مزوَّرة ومجافية للحقيقة.

 

[1] سورة البقرة، الآية 256.

[2] ابن هشام الحميري، السيرة النبوية، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر - القاهرة، 1385 - 1963م، لا.ط، ج 1، ص 190.


43

7 | ينشرون الكراهية والإسلام رحمة

7 | ينشرون الكراهية والإسلام رحمة

يتدرَّج سماحة الإمام القائد الخامنئي دام ظله مع الشباب، ليكتشفوا بأنفسهم، من خلال تفكيرهم الحرّ، ووجدانهم اليقظ، الحقيقة، فينبِّههم إلى خلفيات الكراهية لطمس الحقيقة، بقوله:

"أنتم تعلمون جيدًا أنَّ الاحتقار، وإيجاد الكراهية، والرُّهاب، والخوف الوهميّ من "الآخر"، قد شكَّلت أرضيّة مشتركة لكلّ حالات الاستغلال الظالمة تلك. الآن، أطلب منكم أن تسألوا أنفسكم: لماذا استهدفت سياسة نشر الكراهية والرهاب القديمة، هذه المرّة، الإسلام والمسلمين بقوّة، وبشكل لا سابق له؟ لماذا يتَّجه نظام القوّة والسلطة في عالمنا اليوم نحو تهميش الفكر الإسلاميّ وجرِّه إلى حالة الانفعال وردّة الفعل؟".

وهذا معروفٌ بين البشر، فالاحتقار والنظرة الدونيّة إلى الآخر، تولِّد حالةً من الاستعلاء والتكبُّر، وتُوجِد تباعدًا مع الآخر ورفضًا له. وأمَّا إيجاد الكراهية، فيولِّد حالةً من الرغبة في المواجهة والإلغاء للآخر، وتضع الحواجز أمام الحوار أو الاستماع أو البحث عن القواسم المشتركة، فالكراهية سدٌّ منيع ومقدمةٌ لأشكال الظلم كلِّها.

أمَّا الرُّهاب والخوف الوهميّ من الآخر، فهو حالةٌ نفسيّة ترفض الآخر رفضًا قاطعًا، تتحوَّل إلى مصدرِ خوفٍ وقلقٍ على الحياة والمصير، وعادةً ما يؤدّي الرُّهاب إلى رفض الآخر، بكلّ ما يعنيه من رأي وموقف وسلوك...

لماذا استهدفت سياسة نشر الكراهية والرِّهاب القديمة - هذه المرّة - الإسلام والمسلمين بقوّة، وبشكل لا سابقة له؟

انتبهوا، إنَّها سياسةُ نشر الكراهية, أي إنَّها خطةٌ مدروسة تستهدف التَّعمية على العقول والقلوب، وزرع الحقد، من دون معرفة أيّ شيء عن الإسلام والمسلمين! إنَّه الرُّهاب من المجهول لديهم، بناءً على نصائح ساستهم ومفكّريهم، بحيث يتحوّل الإسلام والمسلمون إلى فزَّاعة يجب تجنّبها وعدم الاقتراب منها، بل وعدم إتاحة أيّ فرصة لمعرفة الأسباب الدافعة إلى هذا الرِّهاب!

هذه المرّة، تمّ استهداف الإسلام والمسلمين بقوّة، لماذا؟ ألم تتعرَّفوا على بعض المسلمين، وتتعاطوا معهم؟ ألم تسمعوا أو ترَوا عبر وسائل الإعلام أو الاتّصال بعضهم في تصرّفاتهم الإنسانيّة ومستواهم المعاصر؟ ألم يتاجر بعضكم مع مسلمين من الدول الإسلاميّة، أو في مجتمعاتكم؟!... المسلمون، كجميع البشر، منهم الصالح ومنهم الفاسد، منهم المستقيم ومنهم المنحرف، منهم المفعم بالإنسانيّة ومنهم المغالي في الظلم...

ماذا قالوا لكم عن الإسلام الذي يرفضونه؟ هل يقولون لكم الصدق؟ اسألوا أنفسكم عن سبب هذه الحملة؟ يشهد العالم اليوم نهضة إسلاميّة فكريّة تُنافس الفكر الرأسماليّ السائد، وتقدِّم حلولًا لمشاكل الناس الروحيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وهم لا يريدونكم الاطّلاع عليها، كي لا تتأثّروا! الإسلامُ منافسٌ حقيقيٌّ لأفكارهم وممارساتهم المنحرفة والظالمة, لذا فهم يواجهونه. إنَّهم لا يوفّرون وسيلة للكذب والتحريض والافتراء والتضليل، إلَّا ويستخدمونها.

إنَّ ساسة الغرب وقادته يعملون على ترسيخ العداء للإسلام، ويستفزُّون مريديه، لاستدراجهم إلى ردّات فعل ضدّ الظلم، ليكون الشباب أمام المواجهة، بدل الحوار والإقناع والتعايش السلميّ مع الاختلاف.

 


46

8 | اسألوا وابحثوا؟

8 | اسألوا وابحثوا؟

يقول الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله:

"ما هي تلك المفاهيم والقيم الموجودة في الإسلام، والتي تزعج وتزاحم برامج ومشاريع القوى الكبرى؟ وما هي المنافع التي تجنيها هذه القوى عبر تقديم صورة مشوّهة وخاطئة عن الإسلام؟ لهذا، فإنّي أتمنّى عليكم – أوّلًا - أن تتساءلوا وتبحثوا عن عوامل هذا التشويه الواسع للإسلام".

اسألوا أنفسكم: ما هي المفاهيم والقيم التي تزعجهم في الإسلام؟ ما الذي يعارض مشاريعهم؟ ستجدون أنَّ قيم الحقّ والعدالة لا تناسبهم، والاختيار الحرّ لا يناسبهم، واستقلال الشعوب لا يناسبهم، ورفض التبعيّة للغرب لا يناسبهم، والتعبير عن الآراء القويّة والمتينة في السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ على أساس الفضيلة لا يناسبهم!...

سيُحرجون أمامكم، وتنكشف أخطاؤهم، فيسقطون من موقع القدوة والرأي الصائب عندما تعرفون الحقائق.

واسألوا أنفسكم أيضًا: ما هي منافعهم من تشويه صورة الإسلام؟ ألا تقتضي الأمانة والصدق أن يعرِّفوكم الإسلام كما هو، ثم يقدِّمون أدلّتهم لرفضه أو قبوله؟ إنَّهم يشوِّهون صورة الإسلام كي لا تعرفوا حقيقته وعظمته، ويضعون حاجزًا أمامكم كي لا تقتربوا من تعاليمه. إنَّهم يخافون من أن تتقبّل فطرتكم السليمة مبادئ الإسلام، أو أن تُوجد لديكم تساؤلات تحرجهم وتفضحهم. إنَّهم يشوِّهون صورة الإسلام, لأنّهم ضعفاء في حجّتهم وقناعاتهم، فلا يريدونكم أن تفهموا، فتميِّزوا وتختاروا ما يُسقطهم في أعينكم، ويُلغي أدوارهم.

ابحثوا عن سبب التَّشويه، لترفعوا هذا الحاجز من أمامكم، فتكونوا أحرارًا في خياراتكم، حتّى ولو كانت مخالفة للإسلام، ولكن بعد أن تطَّلعوا على الحقيقة.


49

9 | تعرَّفوا إلى الإسلام

9 | تعرَّفوا إلى الإسلام

يدعو الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله الشباب الغربيّ إلى التعرّف إلى الإسلام:

"الأمر الثاني الذي أرغب منكم أن تقوموا به، في مواجهة سيل الاتّهامات والتصوّرات المسبقة والإعلام السلبيّ، أن تسعَوا لتكوين معرفة مباشرة، ومن دون واسطة، عن هذا الدِّين. إنَّ المنطق السليم يقتضي - وبالحدّ الأدنى - أن تُدركوا حقيقة الأمور التي يسعَون لإبعادكم عنها وتخويفكم منها، فما هي؟ وما هي حقيقتها؟".

 السُّبل كلّها اليوم متاحة أمام المعرفة، وأنتم - أيُّها الشباب - تستطيعون معرفة الإسلام بأنفسكم من خلال المطالعة، أو الاتّصال بأحد العلماء ليعرِّفكم على هذا الدين، ويجيب عن أسئلتكم، أو الدخول إلى المواقع الإلكترونيّة المهتمّة بنشر مبادئ الإسلام، أو المشاركة في دورات تثقيفيّة مباشرة أو عبر الإنترنت... لستم معذورين في الاستسلام لأفكارٍ مشوَّهة تُضلِّلكم وتخرِّب حياتكم.

 إحدى المشاكل الكبرى التي برزت في هذا العصر هو الإرهاب التكفيريّ الذي يدَّعي معتنقوه بأنَّهم يمثّلون الإسلام الأصيل، وهم يُخالفون مبادئه في الرحمة والعدالة والنظرة الإنسانيّة... فانتبهوا أيُّها الشباب، ولا تدعونهم يقدِّمون لكم الإسلام عن طريق الإرهابيّين التكفيريّين، بل تعرَّفوا إلى الإسلام من مصادره.

 يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في رسالته إلى الشباب الغربيّ:

"أنا لا أصرُّ عليكم أن تقبلوا رؤيتي، أو أيّة رؤية أخرى عن الإسلام، لكنِّي أدعوكم ألّا تسمحوا أن يقدِّموا لكم - وبشكلٍ مراءٍ - الإرهابّيين العملاء على أنّهم يمثّلون الإسلام. اعرفوا الإسلام من مصادره الأصيلة ومنابعه الأولى، تعرّفوا إلى الإسلام من القرآن الكريم، ومن رسوله العظيم صلى الله عليه وآله وسلم. وأودّ هنا أن أتساءل: هل سبق أن رجعتم الى قرآن المسلمين مباشرة؟ هل طالعتم تعاليم رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ووصاياه الإنسانيّة والأخلاقيّة؟ هل اطّلعتم على رسالة الإسلام من مصدر آخر غير وسائل الإعلام؟ هل سألتم أنفسكم مرّة: كيف استطاع الإسلام، ووفق أيّة قيم طوال قرون متمادية، أن يبني أكبر حضارة علميّة وفكريّة في العالم، وأن يربّي أفضل العلماء والمفكّرين؟".

 تعرَّفوا إلى الإسلام من القرآن الكريم، وهو كتاب المسلمين، أنزله الله -تعالى- على نبيَّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، هذا القرآن هو معجزة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الله -جلَّ وعلا- إلى البشر، وهو بنَصِّه من عند الله -تعالى-، لم يتغيَّر ولم يتبدَّل منه حرفٌ واحدُ عبر التاريخ، فمنذ سنة 610 إلى سنة 633م اكتمل نزول القرآن الكريم من عند الله -تعالى- على دفعات، فجمعه النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بين أيدينا اليوم. وما يسهِّل الأمر عليكم، أنَّكم أمام قرآنٍ واحد، وكتابٍ واحد، ما يطمئنكم بأنَّكم تطَّلعون على كلام الله -تعالى- عند المسلمين من مصدٍر موثوق وثابت ومحفوظ بإرادة الله -تعالى- من التحريف والتبديل، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[1].

 هل تعلمون - أيُّها الشباب - بأنَّ الإسلام دين الرحمة؟ قال -تعالى- عن سبب إرسال النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى البشريّة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[2].

 ويدعو إلى تعاليمه بالحكمة والموعظة الحسنة: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[3].

 ويترك الحرّيّة في الإيمان وعدمه إلى الإنسان، فلا يُكره أحدًا على الإيمان به: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[4].

 وهو يُحاكي متطلّبات الفطرة, ولذا فهو الكامل والأرقى لمصلحة الإنسان: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[5].

 وهو يمدّ اليد إلى أصحاب الرسالات السماويّة، فيخاطبهم بأنَّهم "أهل الكتاب"، ويدعوهم للتعاون، وإلّا فمع الافتراق لا شيء إلَّا تأكيد الإيمان من دون ردّة فعل تجاه الآخر: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[6].

 ارجعوا إلى آيات القرآن الكريم، فستكتشفون خطابًا إلهيًّا واضحًا لمصلحة الإنسان في حياته.

 هل طالعتم تعاليم رسول الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ووصاياه الإنسانيّة والأخلاقيّة؟ إنَّه داعيةٌ إلى مكارم الأخلاق، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق"[7]. وهو الداعي إلى الرحمة بين الناس: "ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء"[8]. ويحثّنا على خدمة الناس: "الخلق كلّهم عيال الله، وإنّ أحبّهم إليه أنفعهم لخلقه"[9]. ويقول في خطبته في استقبال شهر رمضان المبارك: "وقّروا كباركم، وارحموا صغاركم"[10].

 ويؤكّد الإسلام على صلة الرحم، فعن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ علي عليهم السلام: "صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، ولَوْ بِالتَّسْلِيمِ. يَقُولُ اللَّه - تَبَارَكَ وتَعَالَى -: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[11].[12]

 وقال: "وقولوا خيرًا تُعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، صِلُوا أرحامَكم وإن قطعوكم، وعودوا بالفضل على من حرَمَكم، وأدَّوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وأوفوا بعهد من عاهدتم، وإذا حكمتم فاعدلوا"[13].

 هل اطَّلعتم على الإسلام من مصدر آخر من غير وسائل الإعلام؟! لأنَّ وسائل الإعلام غالبًا ما تكون موجَّهة ولها أهدافها، بينما عندما تطَّلعون على الإسلام من مصادره المباشرة فبإمكانكم أن تعرفوه على حقيقته.

 لا بدَّ أنّكم قرأتم في التاريخ بأنَّ الإسلام حَكَمَ منذ سنة 623م، عندما أقام الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوّل دولة إسلاميّة في المدينة المنورة، واستمرّ الحكم الإسلاميّ كذلك إلى بداية القرن العشرين, يعني ما يقارب 1300 سنة، أنجزت خلالها بعض الدول الإسلاميّة في مراحل متعدّدة أعظم حضارةٍ وتقدّمٍ علميّ ساهم في ازدهار البشريّة، وقد بنى الغرب مدنيته الحديثة على ما قدَّمته المدنية الإسلاميّة وتطوّرها العلميَّ, ما يعني بأنَّ الإسلام قادرٌ على أن يُحدث نهضة علميّة وسياسيّة وتربويّة وأخلاقيّة... عندما يتسنّى له من يحمله بشكل صحيح، ويعمل به، ويدافع عنه، ويعتمده كنظام متكامل في حياة الأفراد والمجتمع.

 هل سألتم أنفسكم: كيف استطاع الإسلام أن ينجب العلماء الكبار في العلوم كلّها، من أمثال من سمعتم عنهم: الخوارزمي، والملّا صدرا، وابن سينا، والفراهيديّ، وجابر بن حيّان، والرازيّ، والشريف الرضيّ، وابن الهيثم، وحافظ الشيرازيّ، والجاحظ، وغيرهم...


 

[1] سورة الحجر، الآية 9.

[2] سورة الأنبياء، الآية 107.

[3] سورة النحل، الآية 125.

[4] سورة البقرة، الآية 256.

[5] سورة الروم، الآية 30.

[6] سورة آل عمران، الآية 64.

[7] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، نشر الشريف الرضيّ، إيران - قم، 1412هـ، ط4، ص8.

[8] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم، 1413، ط2، ج4، ص379.

[9] الشيخ الديلميّ، أعلام الدين في صفات المؤمنين، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1408هـ، ط1، ص276.

[10] الشيخ الصدوق، الأمالي، نشر كتابجي، إيران - طهران، 1418هـ، ط6، ص94.

[11] سورة النساء، الآية 1.

[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 2، ص 155.

[13] الحر العاملي، الشيخ محمد بن الحسن، وسائل الشيعة (الإسلامية)، تحقيق الشيخ الرباني، دار إحياء التراث، إيران -  قم، 1404 - 1363ش، ط2، ج 11، ص 17.


51

10| أزيلوا الحواجز عن الحقيقة

10 | أزيلوا الحواجز عن الحقيقة

المفتاح أن تتعرّفوا إلى الحقيقة، قال الإمام الخامنئي دام ظله:

"أطالبكم ألّا تسمحوا لهم بوضع سدٍّ وحاجز عاطفيّ وإحساسي بينكم وبين الحقيقة والواقع، عبر رسم صورة سخيفة مهينة عن الإسلام، ليسلبوا منكم إمكانيّة الحكم الموضوعيّ. اليوم، ونحن نرى أنّ وسائل التواصل اخترقت الحدود الجغرافيّة، لا تسمحوا لهم بأن يحاصروكم في الحدود الذهنيّة المصطنعة، وإن كان من غير الممكن لأحد أن يملأ الفراغات التي تمّ إيجادها، بشكل فرديّ، ولكن كلّ واحد منكم يستطيع، وبهدف توعية نفسه ومحيطه، أن يبني جسرًا من الفكر والإنصاف فوق هذه الفراغات".

أيُّها الشباب، ابحثوا من خلال وسائل التواصل التي اخترقت الحدود، لتتعرَّفوا إلى الإسلام من مصادره وأهله، ولا تقبلوا الأحكام المسبقة والمعلَّبة عن الإسلام، ولا تسمحوا لأيٍّ كان أن يمنعكم من التعرّف إلى هذا الدين الذي يُسعد الحياة، ولا تكتفوا بكلماتٍ موجزة تُقال لكم وتُقفل باب الحقيقة أمامكم، من دون أيّ دليل أو برهان أو تعليل، ولا تردُّوا على النقل الببغائيّ من دون تحقيق ولا تدقيق بالحكم السلبيّ على الإسلام، ولا تكترثوا للصخب الإعلاميّ ضد هذا الدين, فكثيرون هم الذين يتناقلونه بشكل خاطىء كأدوات، ويسيرون مع التيار، فلا تكونوا مثلهم: يقولون وتقولون، ولا يعودون إلى الخير، بل اعتمدوا على البرهان الذي دعا إليه الإسلام لثقته بأهميّة الدليل، قال تعالى: ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[1].

الواقعُ مؤلمٌ ومُضلِّل من مصدرين: من المعادين للإسلام، ومن التكفيريّين المشوِّهين لتعاليمه, فلا تَدَعُوا هذا الواقع يحولُ بينكم وبين الحقيقة، واسمعوا نصيحة أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أَمَا إِنَّه لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ، فسُئل عليه السلام عن معنى قوله هذا؟ فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثمّ قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، والْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ"[2].

حكِّم عقلك - أيُّها الشاب - وحرِّره، فالإيمان بالله – تعالى - ودينه يؤثِّر على مسيرة حياتك وخياراتك كلّها, لأنَّ الإسلام منهج حياة في ميادين الحياة كلّها، وليس دينًا معزولًا في دور العبادة فقط، ومن دونه سيكون لك منهجٌ آخر للحياة، فبدل أن تكون منساقًا إلى ما قالوه لك، وقد أخفوا الحقيقة عنك، وبدل أن تكون منقادًا إلى ما أرادوه لك في إطار الحصار الفكريّ والمجتمعيّ وتقاليد الآباء والأجداد، حكِّم عقلك وحرِّره، واطَّلِع على الإسلام من مصادره، لتكون أمام خيار آخر غير ما ألزموك به، أو طوّقوك في إطاره، وبعدها تختار ما تريد.

إنَّنا نراهن على تحكيم عقلك، وتأثير فطرتك السليمة، على الرغم من ضغوطات الواقع, لأنَّك مسؤول، أمام نفسك، وأمام ربّك، وأمام مجتمعك، وأنت تملك حرّيّة وقدرة الاختيار كما خلقك الله – تعالى -، قال – تعالى - في القرآن الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[3].

أيّها الشباب، لا تنقصكم القدرة لمعرفة الحقيقة، يقول الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله:

"على الرغم من أنَّ هذه الأزمة المفتعلة لخلق نوع العلاقة بين الإسلام وبينكم، أنتم الشباب، هي أمر مؤلم، لكن بإمكانها أن تثير تساؤلات جديدة في ذهنكم الوقّاد والباحث عن الحقيقة".

لقد اتَّسعت لديكم المعرفة في الغرب، وحصل لديكم التقدّم العلميّ بشكل كبير، وأصبحت تجارب العالم وأفكاره متاحة لكم لتطَّلعوا على كلّ شيء، من خلال العولمة، وكأنَّكم في قرية صغيرة. بإمكانكم أن تبحثوا وتحلِّلوا، فتقبلوا أو ترفضوا، من دون أن يؤثِّر عليكم أحد. أنتم، أيُّها الشباب الغربيّ، تبحثون اليوم عن خياراتكم بحرّيّة، ولديكم الذهن الوقَّاد، والرغبة في معرفة الحقيقة, فاستثمروا هذه النعمة الإلهيّة.

إنَّكم مسؤولون, فلا ترموا المسؤوليّة عن كاهلكم، ولا تحمِّلوا آباءكم أو مجتمعكم إثم خياراتكم. إنَّكم مسؤولون، وهو ما سيسألكم الله – تعالى - عنه في نهاية المطاف، قال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾[4]. إنَّكم مسؤولون، فأنتم تعرفون أنفسكم، ولا أحد من الناس أعلم بكم منكم: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[5].

يختم الإمام الخامنئيّ دام ظله رسالته إلى الشباب الغربيّ بقوله:

"إنَّ سعيكم لمعرفة الأجوبة عن هذه التساؤلات يشكِّل فرصة مغتنمة لكشف الحقائق الجديدة أمامكم. وعليه، يجب أن لا تفوّتوا هذه الفرصة للوصول الى الفهم الصحيح، وإدراك الواقع، دون حكم مسبق. ولعلّه وبنتيجة (ببركة) تحملّكم هذه المسؤوليّة تجاه الحقيقة، سترسم الأجيال الآتية صورة هذه المرحلة من تاريخ التعامل الغربيّ مع الإسلام، بألمٍ أقلّ زخمًا، ووجدانٍ أكثر اطمئنانًا".

لا تتركوا فرصة الفهم والمعرفة قبل فوات الأوان. ولعلّكم تستطيعون إيجاد التغيير في علاقة الغرب مع العالم الإسلاميّ، فالأمور كلّها تبدأ بسيطة وعاديّة، لكنَّها تكبُر وتتسع، وقد يكون لكم الفضل في إتاحة الخير للبشريّة، بمعرفة حقيقة الأشياء، ومعرفة دين الإسلام الحقّ.

لعلَّكم، إذا حملتم المسؤوليّة، تخفِّفون الآلام، وتوجدون الاطمئنان، لتسير الأجيال الصاعدة على درب الحقيقة، وتخفِّفون من الأزمة الحادّة بين الإسلام والغرب، ومن تزوير الحقائق، بل تستطيعون استعراض الصورة وعرضها عن الإسلام والمسلمين بواقعيّتها وحقيقتها, وبذلك تكونوا - أيُّها الشباب - قد أنجزتم إنجازًا عظيمًا معاكسًا للأضاليل وتزوير الحقائق.

أيها الشباب الغربي

نريدكم أن تعرفوا حقيقة الإسلام، وأنتم أحرارٌ في خياراتكم ومسؤولون عنها، ولكن أسقطوا حواجز التزوير والعداء المفتعل، لنتواصل إنسانيًا، ما يجعلنا نافعين لبعضنا بالحدِّ الأدنى، ومتفاعلين معًا مع رسالة الإسلام السمحاء بالحدِّ الأقصى، وفي الحالتين: لا حواجز، ولا عداء، بل قناعة مشتركة أو اختلاف واقعي، في إطار احترام حرية الاختيار.


[1] سورة النمل، الآية 64.

[2] نهج البلاغة، ص198.

[3] سورة الشمس، الآيات 7 - 10.

[4] سورة الصافات، الآية 24.

[5] سورة القيامة، الآية 14.


58

الرسالة الثانية للإمام الخامنئيّ دام ظله إلى الشباب الغربيّ

مُلحق

الرسالة الثانية للإمام الخامنئيّ دام ظله إلى الشباب الغربيّ[1]

إلى الشباب في البلدان الغربيّة

إنّ الأحداث المريرة التي ارتكبها الإرهاب الأعمى في فرنسا، دفعتني مرّة أخرى لمحاورتکم. إنّه لأمر مؤسف بالنسبة لي، أنّ أحداثاً كهذه توفّر الفرصة للحديث، لكنّ الحقيقة هي أنّ القضايا المؤلمة، إذا لم توفّر الأرضيّة للتفكير بالحلول، ولم تُعطِ الفرصة لتبادل الأفكار، فإنّ الخسارة ستكون مضاعفة. إنّ معاناة أيّ إنسان، في أيّ مكان من العالم، هي بذاتها تثير الحزن لبني البشر, فمشهد طفل تفارق روحه جسده أمام أحبّائه! وأمٍّ تبدّلَ فرحُ عائلتِها إلى عزاء! وزوجٍ يحمل جسد زوجته القتيلة مسرعاً إلى ناحية ما! أو مُشاهِدٍ لا يعلم أنّه سيحضر، بعد لحظات، المقطع الأخير من مسرحيّة حياته! (هذه كلّها) مشاهد تثير العواطف والمشاعر الإنسانيّة. كلّ من له نصيب من المحبّة والإنسانيّة يتأثّر ويتألّم لرؤية هذه المناظر، سواءٌ أوقعت في فرنسا، أم في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا. ولا شكّ أنّ ملياراً ونصف المليار من المسلمين لديهم هذا الإحساس نفسه، وهم براء ونافرون من مرتكبي هذه الفجائع ومسبّبيها. غير أنّ القضية هي أنّ آلام اليوم، إذا لم تؤدِّ إلى بناء غدٍ أفضل وأكثر أمناً، فسوف تُختَزل (تتنزّل) لتكون مجرّد ذكريات مريرة، لا فائدة منها ولا ثمر.

إنني أؤمن أنّكم - أنتم الشباب - وحدكم قادرون، ومن خلال استلهام العِبر والدروس من مِحن اليوم، أن تجدوا السُبل الجديدة لبناء المستقبل، وتسدّوا الطرق الخاطئة التي أوصلت الغرب إلى ما هو عليه الآن.

 

[1] أُلقيت في تاريخ 29/11/2015م.


65

تناقض السياسات الغربيّة

تناقض السياسات الغربيّة

صحيح أنّ الإرهاب اليوم هو الهمّ والألم المشترك بيننا وبينكم، لكن من الضروريّ أن تعرفوا أنّ القلق وانعدام الأمن الذي جرّبتموه في الأحداث الأخيرة يختلف اختلافين أساسيّين عن الآلام التي تحمّلتها شعوب العراق واليمن وسوريا وأفغانستان طوال سنين متتالية.

أوّلاً، إنّ العالم الإسلاميّ كان ضحيّة الإرهاب والعنف بأبعاد أوسع بكثير، وبحجم أضخم، ولفترة أطول بكثير.

وثانياً، إنّ هذا العنف كان – للأسف - مدعوماً على الدوام من قِبل بعض القوى الكبرى، بشكل مؤثِّر وبأساليب متنوّعة. قلّ ما يوجد اليوم من لا علم له بدور الولايات المتّحدة الأمريكيّة في تكوين القاعدة وطالبان وامتداداتهما المشؤومة، وتقويتهم وتسليحهم. إلى جانب هذا الدعم المباشر، نرى أنّ حماة الإرهاب التكفيريّ العلنيّين المعروفين كانوا دائماً في عداد حلفاء الغرب، على الرغم من أنّ أنظمتهم هي أكثر الأنظمة السياسيّة تخلّفاً، بينما تتعرّض أكثر الأفكار ريادةً وإشراقاً، والنابعة من السيادة الشعبيّة الحيويّة في المنطقة إلى القمع بكلّ قسوة. إنّ الازدواجيّة في تعامل الغرب مع حركة الصحوة في العالم الإسلاميّ، هي نموذج ساطع يحكي التناقض في السياسات الغربيّة.

الوجه الآخر لهذا التناقض يُلاحظ في دعم إرهاب الدولة الذي ترتكبه "إسرائيل". يعاني الشعب الفلسطينيّ المظلوم، منذ أكثر من ستّين عاماً، من أسوأ أنواع الإرهاب. إذا كانت الشعوب الأوروبيّة اليوم تلتجئ في بيوتها لعدّة أيام، وتتجنّب الحضور في التجمّعات والأماكن المزدحمة، فإنّ العائلة الفلسطينيّة لا تأمن من آلة القتل والهدم الصهيونيّة، منذ عشرات الأعوام، حتّى وهي في بيتها. أيّ نوع من العنف يمكن مقارنته اليوم، من حيث شدّة القسوة، ببناء الكيان الصهيونيّ للمستوطنات؟! إنّ هذا الكيان يدمّر كلّ يوم بيوت الفلسطينيّين ومزارعهم وبساتينهم، من دون أن يتعرّض أبداً لمؤاخذة جادّة مؤثِّرة من قبل حلفائه المتنفّذين، أو على الأقلّ من المنظَّمات الدوليّة التي تدّعي استقلاليّتها، من دون أن يُتاح للفلسطينيّين فرصة نقل أثاثهم أو حصاد محاصيلهم الزراعيّة بالحدّ الأدنى، ويحصل هذا كلّه في الغالب أمام الأعين المذعورة الدامعة للنساء والأطفال الذين يشهدون ضرب أفراد عوائلهم وجرحهم، أو نقلهم في بعض الأحيان إلى مراكز التعذيب المرعبة! هل رأيتم في عالم اليوم قسوةً متواصلة مع الوقت بهذا الحجم وهذه الأبعاد؟! إنّ إطلاق الرصاص على سيّدة في وسط الشارع لمجرّد الاعتراض على جنديّ مدجَّج بالسلاح، إنْ لم يكن إرهاباً، فما هو إذاً؟! وهل من الصحيح أن لا تعدّ هذه البربريّة تطرَّفاً لمجرّد أنّها تُرتكب من قِبل قوّات شرطة حكومة محتلّة؟! أو هل من المفترض أن لا تستفزّ هذه الصور ضمائرنا، فقط لأنّها تُشاهد تكرارًا على شاشات التلفزة منذ ستّين سنة؟!

إنّ الحملات العسكريّة التي تعرّض لها العالم الإسلاميّ في السنوات الأخيرة، والتي تسبّبت في الكثير من الضحايا، لَهي نموذج آخر لمنطق الغرب المتناقض. وإنّ البلدان التي تعرّضت للهجمات، فقدت بناها التحتيّة، الاقتصاديّة والصناعيّة، وتعرّضت مسيرتها نحو الرقيّ والتنمية, إمّا للتوقّف أو للتباطؤ، وفي بعض الأحيان، تراجعت لعشرات الأعوام، فضلاً عمّا تحمّلته من خسائر إنسانيّة. وعلى الرغم من هذا كلّه، يُطلب منهم بوقاحة أن لا يعتبروا أنفسهم مظلومين! كيف يمكن تحويل بلد إلى أنقاض، وإحراق مدنه وقراه، وتحويلها إلى رماد، ثمّ يُقال لأهله وشعبه: رجاءً، لا تعتبروا أنفسكم مظلومين؟! أليس من الأفضل الاعتذار بصدق، بدل الدعوة إلى تعطيل الفهم أو نسيان الفجائع؟ إنّ الألم الذي تحمّله العالم الإسلاميّ خلال هذه الأعوام، من نفاق المهاجمين وسعيهم لتلميع صورتهم، ليس بأقلّ من الخسائر المادّيّة.

أيّها الشباب الأعزّاء،

إنّني آمل أن تغيّروا أنتم في الحاضر أو المستقبل هذه العقليّة الملوَّثة بالتزييف والخداع، العقليّة التي تمتاز بإخفاء الأهداف البعيدة وتجميل الأغراض الخبيثة. أعتقد أنّ الخطوة الأولى في توفير الأمن والاستقرار هي إصلاح هذه الأفكار المنتِجة للعنف. ينبغي عدم البحث عن جذور العنف في أماكن أخرى، ما دامت المعايير المزدوجة تحكم السياسة الغربيّة، وما دام الإرهاب يقسّم في أنظار حماته الأقوياء إلى أنواع حسنة، وأخرى سيّئة، وما دام يتمّ ترجيح مصالح الحكومات على القِيَم الإنسانيّة والأخلاقيّة.

لقد ترسّخت – للأسف - هذه الجذور تدريجيّاً على مدى سنين طويلة في أعماق السياسات الثقافيّة للغرب أيضاً، وقامت بغزوٍ ناعم وصامت. إنّ الكثير من بلدان العالم تعتزّ بثقافاتها المحلّيّة والوطنيّة، ثقافات رفدت المجتمعات البشريّة على أحسن وجه، وغذّتها طوال مئات الأعوام، وفي الوقت نفسه حافظت على ازدهارها وإنتاجها. العالم الإسلاميّ ليس استثناءً لهذه الحالة، ولكنّ العالم الغربيّ في هذا العصر، ومن خلال استخدامه لأدوات متطوّرة، يمارس ضغوطه، مُصِرّاً على الاستنساخ الثقافيّ للعالم على شاكلته!

إنّني أعتبر فرض ثقافة الغرب على سائر الشعوب، واحتقار الثقافات المستقلّة، عنفاً صامتاً وشديد الضرر، يجري تحقير الثقافات الغنيّة والإساءة إلى جوانبها الأكثر حرمةً، في حين أنّ الثقافة البديلة ليست جديرة، ولا تمتلك القدرة لأنْ تحلّ محلّها بأيّ وجه من الوجوه. وعلى سبيل المثال، إنّ عنصرَيّ "العدوانیّة" و"التحلّل الأخلاقيّ"، اللذين تحوّلا -للأسف- إلى مكوِّنين أصليّين في الثقافة الغربيّة، هبطا بمكانتها ومدى تقبّلها، حتّى في موطن ظهورها. السؤال الآن هو: هل نحن مذنبون لأنّنا نرفض ثقافة عدوانيّة وهابطة وبعيدة عن القِيم؟ هل نحن مقصِّرون إذا منعنا سيلاً مدمِّراً من أن ينهال على شبابنا على شكل نتاجات شبه فنيّة مختلفة؟


67

أواصر ثقافيّة فاشلة أنتجت "داعش"

أواصر ثقافيّة فاشلة أنتجت "داعش"

إنّني، لا أنكر أهمّيّة التبادل الثقافيّ وقيمته. فهذا التواصل، كلّما حصل في ظروف طبيعيّة حَظي باحترام المجتمع المتلقّي له، وإنّه ينتج النموّ والازدهار والإثراء. وفي المقابل، فإنّ التبادل والعلاقات غير المنسجمة والمفروضة، لطالما جرّت الفشل والخسائر الفادحة. بمنتهى الأسف، يجب أن أقول: إنّ جماعات منحطّة مثل "داعش" هي ثمرة مثل هذه العلاقات الفاشلة مع الثقافات المستورَدة. إذا كانت المشكلة عقائديّة حقّاً، لَوَجَب مشاهدة نظير هذه الظواهر في العالم الإسلاميّ قبل عصر الاستعمار أيضاً، في حين أنّ التاريخ يشهد بخلاف ذلك. إنّ الوثائق التاريخيّة الأكيدة تدلّ بوضوح كيف أنّ التقاء الاستعمار بفكرٍ متطرِّف منبوذ، ناشئ في قلب قبيلة بدويّة، قد زرع بذور التطرّف والعنف في هذه المنطقة. وإلّا، فكيف يمكن أن تخرج حثالة مثل "داعش" من إحدى أكثر المدارس الدينيّة أخلاقيّةً وإنسانيّةً في العالم، التي تعتبر وفق نصّها الأصليّ أن قتل إنسان واحد يعدّ بمنزلة قتل الإنسانيّة كلّها؟!

 

ومن جانب آخر، ينبغي طرح السؤال: لماذا ينجذب شابّ قد وُلِد في أوروبّا، وتربّى في تلك البيئة الفكريّة والروحيّة إلى هذا النوع من الجماعات؟ هل يمكن التصديق بأنّ الأفراد ينقلبون فجأةً، بسَفْرة أو سَفْرتين إلى المناطق الحربيّة، إلى متطرِّفين يمطرون أبناء وطنهم بالرصاص؟! بالتأكيد علينا أن لا ننسى آثار التنشئة الثقافيّة غير السليمة ونتائجها في بيئة ملوّثة ومنتجِة للعنف على مدى عمر كامل. ينبغي امتلاك تحليل شامل في هذا الخصوص، تحليل يكشف النقاب عن أنواع التلوّث الظاهرة والخفيّة في المجتمع. ولعلّ الكراهية العميقة التي زُرعت في قلوب شرائح من المجتمعات الغربيّة طوال سنوات الازدهار الصناعيّ والاقتصاديّ، ونتيجة حالات عدم المساواة، وربّما حالات التمييز القانونيّة والبنيويّة، قد أوجدت عُقَداً تتفجّر بين الحين والآخر بهذه الأشكال المريضة.

 


72

تجنّب التدابير الانفعاليّة

تجنّب التدابير الانفعاليّة

على كلّ حال، أنتم الذين يجب أن تقوموا بتشريح الطبقات الظاهريّة لمجتمعاتكم، وتجدوا مكامن العُقَد والأحقاد، وتزيلوها. ينبغي ترميم الهوّات بدل تعميقها. إنّ الخطأ الكبير في محاربة الإرهاب هو القيام بردود الأفعال المتسرّعة التي تزيد من حالات القطيعة الموجودة. إنّ أيّ خطوة انفعاليّة متوترة ومتسرّعة، تدفع المجتمع المسلم في أوروبّا وأمريكا، والمكوَّن من ملايين الأفراد الناشطين المتحمّلين لمسؤوليّاتهم، نحو العزلة أو الخوف والاضطراب، وتحرمهم أكثر من السابق من حقوقهم الأساسيّة، وتقصيهم عن ساحة المجتمع، فهي لن تعجز عن حلّ المشكلة فحسب، بل ستزيد المسافات الفاصلة وتعزّز الأحقاد. لن تثمر التدابير السطحيّة والانفعاليّة - وخاصّةً إذا تمّت بغطاء قانونيّ - سوى تكريس الاستقطابات القائمة وفتح الطريق أمام أزمات مستقبليّة.

وفقاً للأنباء الواصلة، فقد سُنّت في بعض البلدان الأوروبيّة قوانين ومقرّرات تدفع المواطنين للتجسّس على المسلمين. إنّ هذه السلوكيّات ظالمة، وكلّنا يعلم أنّ الظلم يعود عكسيّاً ويرتدّ على صاحبه، شئنا أم أبينا. ثمّ إنّ المسلمين لا يستحقّون نكران الجميل والجحود هذا. إنّ العالم الغربيّ يعرف المسلمين جيّداً منذ قرون.

حين كان الغربيّون ضيوفاً في دار الإسلام، وامتدّت أعينهم إلى ثروات أصحاب الدار، أو يوم كانوا مُضيفين وانتفعوا من أعمال المسلمين وأفكارهم، لم يرَوا منهم في الغالب سوى المحبّة والصبر. وعليه، فإنّني أطلب منكم -أيّها الشباب- أن تُرسوا أسس تعاملٍ صحيحٍ وشريفٍ مع العالم الإسلاميّ، قائمٍ على ركائز معرفة صحيحة ونظرة عميقة، وبالاستفادة من التجارب المريرة. في هذه الحالة ستجدون في المستقبل غير البعيد أنّ البناء الذي شيّدتموه على هذه الأسس يمدّ ظلال الثقة والاعتماد على رؤوس بُناته، ويهديهم الأمن والطمأنينة، ويشرق بأنوار الأمل بمستقبلٍ زاهرٍ على أرض المعمورة.


74
رسالتي إلى الشباب