الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)

الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-07

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾[1].

 

عن الإمام الكاظم  عليه السلام: "رجلٌ من أهل قمّ، يدعو الناس إلى الحقّ، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، ولا يملّون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى اللّه يتوكّلون، والعاقبة للمتّقين"[2].

 

تتميّز شخصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره بأبعاد متعدّدة، فهو الفقيه والعارف والفيلسوف والمتكلّم، والقائد ورجل السياسة. وتتكامل هذه الأبعاد لتشكّل معًا هذه الشخصيّة الاستثنائيّة في تاريخ الأمّة الإسلاميّة.

 

ومن هذه الشخصيّة المتكاملة والسامية، ينبع فكره السياسيّ. فهو فكر إسلاميّ أصيل خالص، يستقيه من أصول الإسلام وتعاليم القرآن، ويتمحور حول ضرورة إقامة الحكومة الإلهيّة الإسلاميّة العادلة، وتأسيس نظام سياسيّ في عصر الغيبة، يرتكز دستوره على أحكام القرآن الكريم والشريعة المقدّسة.

 

ويتجلّى فكره السياسيّ في مواقفه في مواجهة النظام الملكيّ الظالم والمستبدّ، والقوى الغربيّة المستكبرة التي تسعى للهيمنة على ثروات الشعوب، وخطبه وأحاديثه في مبادئ الحكم والسياسة. وقد قام المؤلّف بجمعها في كتاب "الحياة السياسيّة للإمام

 


[1] سورة غافر، الآية 51.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج57، ص216.

 

7


1

المقدّمة

الخمينيّ قدس سره"، الصادر في دمشق، في الثالث من ذي القعدة 1414ه، الموافق فيه 24/04/1993م. حيث ضمّن هذا الكتاب القيِّم خطبًا وبياناتٍ وتوجيهاتٍ وتوصياتٍ صادرة عن الإمام قدس سره، يسجّلها بدقّة وأمانة، ويشفعها بتحليلاتٍ تبيّن مضامينها والأفكار والمبادئ التي تشتمل عليها.

 

وانطلاقًا من أهمّيّة الكتاب، وكونه مرجعًا في قراءة الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ قدس سره، ومعرفة مبادئه في الفكر السياسيّ الذي يمثّل الفكر الإسلاميّ الأصيل والخالص في السياسة والحكم، ارتأينا إعادة طباعة الكتاب ونشره بعد مرور ثلاثة قرون على صدور الطبعة الأولى تقريبًا، راجين من اللّه أن ينتفع به أبناء هذا الجيل من رجال السياسة والفكر والشباب المؤمن المجاهد طلّاب الحقّ والعدالة والحرّيّة، وأن يتمسّكوا بمبادئه المرتكزة على الدين والعدل والحرّيّة والاستقلال عن هيمنة الدول المستكبِرة، وذلك بعد مراجعة نصوصه والتثبّت منها، وتعديلها عند اللّزوم، ومطابقة النصّ الأصليّ في اللغة الفارسيّة، أو بما يكون أصحّ لغةً في العربيّة، وإضافة ترجمة ثانية إذا اقتضت الحاجة.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 


2

مقدّمة المترجم

مقدّمة المترجم

 

﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾[1].

 

تنبع أهمّيّة كتب السير والتاريخ من مدى إظهارها للحقائق، وتَتَبُّع طبيعة الشخصيّة التي تتناولها، وآفاق عناها الذاتيّ، وأبعاد حضورها التاريخيّ. لذلك، لا نبالغ إذا عددنا هذا الكتاب، الذي نضعه بين أيدي القرّاء، واحدًا من الكتب ذات الشأن والأهمّيّة.

 

إنّه كتاب الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ قدس سره الذي ألّفه السيّد محمّد حسن رجبيّ، وهو كتاب مفعم بالحقائق، حافل بالفوائد النظريّة والعمليّة، يتعامل مع الأحداث بموضوعيّة. وقد ضمّنه الكاتب كلّ ما توافر لديه من خطب وبيانات وتوجيهات وتوصيات للإمام قدس سره، يسجّلها بمنتهى الدقّة والأمانة، ويشفّعها بتحليلات تنطوي على رصيد قدراته وكفاءاته، ليُطلع الرأي العامّ العالميّ والإسلاميّ على أبعاد هذه الشخصيّة التي غيّرت مجرى التاريخ.

 

فالإمام قدس سره من الشخصيّات الاستثنائيّة ذات الخصب والعمق، تتعدّد فيها الجوانب بتناغمٍ يقلّ نظيره، فهو أستاذ الفقه والأصول والفلسفة والأخلاق، وهو المفكّر والمؤلّف والأديب والخطيب، وهو العارف العابد العاشق السالك، ثمّ هو إلى ذلك كلّه، أبرع مَنْ فهم السياسة جزءًا لا يتجزّأ من الدين، وبُعدًا حيويًّا يحقّق أهداف الشريعة في استنقاذ البلاد والعباد، واستئصال الشرّ والفساد.


 


[1] سورة الأعراف، الآية 43.

 

9


3

مقدّمة المترجم

وهكذا استطاع أن يجمع في شخصه مرجعَ التقليد الذي يستوعب الزمان والمكان، والمجدّد الذي يرتقبه المسلمون في كلّ قرن، وقائد حركة الأمّة، وأن ينطلق ليزلزل عرش للطغاة، ويفجّر أوّل ثورة إسلاميّة كبرى، ويؤسّس أوّل جمهوريّة إسلاميّة حقيقيّة.

 

وبأنفاسه الثوريّة، دخل المسلمون عصرًا جديدًا من اليقظة والحيويّة والمقاومة، وصار الإسلامُ الرايةَ التي تظلّل ثوريِّي العالم، والشجى الذي يعترض في حلوق المستكبرين جميعًا، ويهدّد أحلامهم وأطماعهم.

 

ولا يمكن لأحد بعد ذلك أن يدرس عصرنا الحاضر، وأن يدرس تاريخ البشريّة المعاصر، والسياسة العالميّة، وموقع الإسلام والمسلمين فيها، بمعزل عن الدراسة المعمّقة لحياة الإمام قدس سره السياسيّة.

 

وهكذا تظهر، أكثر فأكثر، أهمّيّة هذا الكتاب، والفراغ الذي يسدّه في المكتبة العالميّة عمومًا، والإسلاميّة خصوصًا.

 

وعندما وقع الكتاب بين يدَيّ، قرأته، ووجدت أنّ هناك حاجة ماسّة لترجمته إلى اللغة العربيّة، ليتسنّى للقارئ العربيّ الاطّلاع على مضمون هذا الكتاب القيّم.

 

لقد بذل المؤلّف قصارى جهده من أجل الحصول على أكبر عدد ممكن من المصادر والمراجع، وتُقدَّر "بأكثر من 126 مرجعًا ومصدرًا"، تتناول المدّة ما بين 1900 - 1977م، وكذلك راجع المؤلِّف بعض الوثائق والمستندات المتوافرة لديه، وبعض وثائق السافاك المنشورة حول الإمام قدس سره خلال الأعوام ما قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، فأثبتها للتوثيق، والتقى عددًا من المقرّبين للإمام قدس سره وتلاميذه، ليطّلع عن كثب على نهضة الإمام قدس سره في مرحلة ما قبل عام 1960م، ممّا أكسبت البحث طابعًا أكاديميًّا ووثائقيًّا.

 

لقد عمدتُ إلى كتابة بعض الحواشي؛ وذلك من أجل تبسيط بعض الأفكار، وتوضيح بعض النقاط، وشرح خلفيّات الحوادث، فرجعت إلى عدد من الكتب المنشورة باللغة الفارسيّة حول الثورة الإسلاميّة وحياة الإمام قدس سره توخّيًا للدقّة.

 

10

 


4

مقدّمة المترجم

يشتمل الكتاب على واحد وثلاثين فصلًا، يتحدّث فيها الكاتب عن الموضوعات الآتية:

المرحلة من ولادة الإمام قدس سره حتّى عام 1945م، عرض موجز عن أوضاع البلاد حتّى انقلاب رضا خان وموقف الإمام قدس سره من رضا خان، الأوضاع السياسيّة بعد رضا خان وغياب القيادة الدينيّة عن الساحة السياسيّة، الحديث عن آراء الإمام قدس سره في كتاب كشف الأسرار، وبخاصّة ولاية الفقيه.

 

السياسة الداخليّة والخارجيّة للشاه، الكتل والأحزاب السياسيّة من 1953- 1963م، ومواقف الإمام قدس سره من الشاه، اعتقال الإمام قدس سره وإطلاق سراحه، خصائص الحركة الجهاديّة للإمام قدس سره، ونهج الشاه بعد إبعاد الإمام قدس سره وحتّى عام 1971م، حياة الإمام قدس سره في المنفى، مواقف الإمام قدس سره تجاه تحرّكات الشاه، وتجاه النظام العراقيّ وقضيّة ترحيل الإيرانيّين من العراق، الإمام قدس سره والحرب الإسرائيليّة العربيّة، اتّساع رقعة الفقر في إيران في الأعوام 1973 - 1978م، فتوى حرمة الانتماء إلى حزب الرستاخيز، وتحريم التاريخ الشاهنشاهي، تغيّرات السياسة الأمريكيّة الخارجيّة وانفتاح الأجواء السياسيّة في إيران، استشهاد نجل الإمام قدس سره الأكبر السيّد مصطفى، وانفجار بركان الثورة الإسلامية، مجزرة 9 كانون الثاني في قمّ (19 دي)، وحادثة 9 شباط في تبريز (29 بهمن)، وأربعينيّات متتالية واستمرار الثورة، إعلان الأحكام العرفيّة في أصفهان، حكومة الوفاق الوطنيّ، مجزرة الثامن من أيلول (17 شهريور) ومحاصرة منزل الإمام قدس سره في النجف.

 

في الختام، لا يفوتني أن أشكر كلّ من أمدّني بالعون وآزرني بالمعاضدة لإخراج هذا الكتاب، وأتقدّم بالشكر للأستاذ عبد الله حسّون العليّ على مراجعته للنصّ العربيّ، والله من وراء القصد.

 

فاضل عبّاس بهزاديان

دمشق، 3 ذي القعدة 1414هـ (24/4/1993م)

 

11


5

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

الفصل الأوّل

 

 

الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

 

في العشرين من جمادى الآخرة عام 1320 هجريّة (الموافق عام 1902 ميلاديّة)، بزغ ضياء حياة الإمام الخمينيّ قدس سره في مدينة خُمين[1]، وكان آخر مولود للأسرة، وسمّاه والداه روح الله. ووالد سماحته هو العلّامة الفاضل السيّد مصطفى الخمينيّ، الذي تابع دراساته الدينيّة في مدينتَي سامرّاء والنجف في عهد مرجعيّة آية الله الميرزا الشيرازيّ الأوّل، فتبوَّأ مكانة علميّة مرموقة، وعُدَّ من عصبة علماء العصر آنذاك. وبعد رجوعه من النجف إلى مسقط رأسه، تولَّى الزعامة الدينيّة في مدينة خُمين وضواحيها.

 

ودَّع السيّد مصطفى الدار الفانية عن عمر يناهز السابعة والأربعين، مسرعًا للّحاق بالدار الباقية إثر حادثٍ مؤسف، فبينما هو في طريقه إلى مدينة أراك، اعترضه عددٌ من الجلاوذة المسلَّحين والأشرار، فأردوه قتيلًا، بعدما أطلقوا عليه عيارات ناريّة أصابته في خاصرته وكتفه، وذلك في ذي الحجّة من عام 1320هـ. ونُقِل جثمانه إلى النجف، ووُوري التراب هناك إلى جوار إمامه وجدِّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام.


 


[1] إحدى مدن المحافظة المركزيّة، وتقع جنوب العاصمة طهران على بُعد 350 كم.

 

12


6

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

أمّا والدته، فهي السيّدة "هاجر"، وهي من أسرة علميّة عريقة اشتهرت بالعلم والفضيلة، فوالدها وأعمامها وأخوالها كلّهم من الفقهاء وعلماء الدين الذين يتصدَّرون مكانة سامية ومرموقة بين أهالي مدينة خُمين.

 

وبأفول نجم حياة السيّد مصطفى - والد الإمام - انتقلت عمَّة الإمام السيّدة "صاحبة"، التي عُرِفَت بالتقوى والورع، إلى منزل أخيها الشهيد، لتقف إلى جانب السيّدة هاجر لإدارة المنزل ورعاية الأطفال وتربيتهم والإشراف عليهم. وقد بلغ السيّد روح الله من العمر آنذاك ستّة أشهر فقط.

 

ومنذ ذلك الحين، فَقَد السيّد روح الله والده، وفَقَد معه الحنان والعطف الأبويّ، مقتديًا بجدِّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تحمَّل عبء عائلته منذ الصغر، وتحمَّل كذلك أعباء الأمّة بأسرها. لقد ظهرَت علامات الذكاء والفطنة على الإمام، فراح يتعلّم القراءة والكتابة على يد مُعلّمه المدعوّ ميرزا محمود، وبدأ دراسته الدينيّة عند أستاذه مُلّا أبو القاسم، وواكب مسيرته العلميّة عند مُدرِّس آخر يُعرَف بالشيخ جعفر، ثمّ انضمَّ إلى المدرسة العصريّة الحديثة، وأتقن الخطّ على يد الأستاذ آغا حمزة المحلّاتيّ، وأنهى مرحلته الابتدائيّة قبل بلوغه الخامسة عشرة من عمره.

 

إلّا أنَّ الدهر قد فجعه برحيل عمّته السيّدة "صاحبة" إلى دار الخلد والنعيم، وقد كان لتلك العمّة الحنون العطوف اليد الكبرى في تربية هذا السيّد الجليل، وكانت أقرب إليه حتّى من ظلّه، حيث عوّضَت له حنان أمّه وعطف أبيه، فلم يشأ القدر إلّا أنْ يحرمه ذلك العطف والحنان، حيث انتقلَت مربّيته هذه إلى جوار ربّها راضية مرضيّة.

 

مرَّت هذه المصائب والفجائع على إمامنا بصعوبة بالغة الأهمّيّة، لكنّها فتحت بابًا وأُفقًا واسعَين للسيّد الإمام، ليستوعب هذه الدنيا وما فيها من مصائب ومِحَن، حيث تلقَّى دروس الصمود والثبات أمام عواصف الدهر، وازداد شجاعةً وموهبةً واقتدارًا بتوكّله على الله تعالى، وباعتماده على نفسه، واستمرّ في مسيرته الدراسيّة والعلميّة، راجيًا من الله اللطف والرعاية والعَون.

 

13


7

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

ابتدأ الإمام قدس سره دراسة العلوم الإسلاميّة عند أخيه الأكبر العلّامة السيّد مرتضى بسنديده، وشرَعَ بدراسة النحو والصرف والمنطق، وأمضى ثلاث سنوات من التتلمذ على يد أخيه، إلى أن فرغ من مرحلة المقدّمات، وكان ذلك عام 1338هـ.

 

وقد عزم على متابعة تحصيله في الحوزة العلميّة في مدينة أصفهان، لكن سرعان ما تبدَّل رأيُه، وقَصَدَ مدينة آراك ليتزوَّد من حوزتها العلميّة المرموقة بفضل مرجعيّة آية الله الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ وزعامته. فانتقل إلى الحوزة العلميّة في آراك عام 1339هـ، وشرَعَ بدراسة الأدب أوّلًا. وبعد عام، نقل آية الله الحائريّ الحوزة العلميّة بأسرها إلى مدينة قمّ، وانتقل الإمام معها، وكان قد ابتدأ وقتئذٍ بكتاب "المطوّل"[1]، وأقام في مدرسة تُدعى "دار الشفاء".

 

وفي أجواء هذه المدينة، اشتدَّ عزم الإمام على مواصلة الدراسة والبحث ليلَ نهار، حتّى تسلَّق المعرفة والعلم بسرعة مذهلة، وفاز بالرتب العليا لدى الحوزة، وتخرَّج منها، وتوجَّه إلى حلقة البحث عند آية الله الحائريّ عام 1345هـ، لينهل من محاضراته القيِّمة، ويشحذ بها فكره.

 

وإنّنا عندما ندرس أساتذة الإمام ومشايخه، الذين تربّى وترعرع على أيديهم، يلفت نظرنا شخصيّتان بارزتان، هما: المرحوم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائريّ، والمرحوم آية الله الشيخ محمّد عليّ الشاه آباديّ (1292 - 1373هـ). هذان النجمان الساطعان عُرِفا بالمكانة العلميّة العليا، والمنزلة الرفيعة، واللياقة العلميّة البارزة، وقد استفاد الإمام منهما استفادة عظيمة وكاملة لفترات طويلة، حيث لازما مدينة قمّ حتّى عام 1354 هجريّة. وعند دراستنا لحياة الإمام قدس سره، نرى أنّ هناك حوادث ووقائع سياسيّة وتاريخيّة مهمّة كان لها تأثير كبير في منهجيّة الإمام وتجربته السياسيّة، التي سنعرض لها ونلفت النظر إليها.


 


[1] من الكتب الدراسيّة الموسّعة للبلاغة.

 

14


8

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

أوّلًا: تزامُن البُعد الزمنيّ لحياة الإمام في الحوزة العلميّة مع انقلاب رضا خان عام 1921م

بعد انتخاب السيّد حسن المدرّس رئيسًا للبرلمان مِن قِبَل الأكثريّة الساحقة للنوّاب - والتي أصبحَت الأقلِّيَّة فيما بعد - تعرقلَت مسيرة رضا خان، وبات في عزلة سياسيّة واجتماعيّة، فلم يجد بُدًّا من كسب المواقف الإيجابيّة لاسترداد الاعتبار الماضي، فأخذ يتودَّد إلى العلماء والفقهاء، ويُكنُّ لهم الاحترام والتبجيل، وبالأخصّ للحوزةِ العلميّةِ الجديدةِ التأسيس في مدينة قمّ، والتي ترأّسها المرحوم الشيخ الحائريّ - وسوف نتحدَّث عن هذا بالتفصيل مستقبلًا - وقد كان لهذا التعامل مجرى خاصّ لافتًا للنظر، وتفاعل بين رجالات السلطة ورضا خان وأحمد شاه - آخر سلاطين الأسرة القاجاريّة - ثمّ تصاعدت الزيارات واللقاءات والمحادثات السياسيّة مع الشيخ آية الله الحائريّ؛ ممّا أدّى إلى ظهور اتّجاه سياسيّ في الحوزة العلميّة بشكل لا إراديّ، وأخذ الطلبة وعلماء الدين يطّلعون على الخفايا نتيجة هذا التماس المباشر.

 

ثانيًا: إبعاد بعض مراجع العراق

خلال العام الثاني لإقامة الإمام الخمينيّ قدس سره في مدينة قمّ، استقبلت هذه المدينة ثلَّةً من مراجع الدين والحوزة في العراق، الذين أُبعِدوا عن بلدهم إثر قيامهم بالثورة المسلَّحة ضدّ الاحتلال البريطانيّ بقيامة آية الله الميرزا محمّد تقيّ الشيرازيّ (الميرزا الثاني)، وقد استقبلهم آية الله الحائريّ استقبالًا حارًّا.

 

وكان من جملة هؤلاء العلماء الأفاضل، آية الله النائينيّ صاحب النظريّة الدينيّة لانتفاضة الدستور، وآية الله محمّد الصدر، وآية الله السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ، وآية الله الشيخ محمّد الخالصيّ نجل آية الله الشيخ مهديّ الخالصيّ الذي أُبعِد إلى الحجاز. وقد استجاب كلٌّ من سماحة النائينيّ وأبي الحسن الأصفهانيّ لطلب آية الله الحائريّ لإلقاء المحاضرات والدروس الفقهيّة في الحوزة العلميّة في مدينة قمّ خلال فترة إقامتهما، والتي لم تَدُم سوى بضعة أشهر، وذلك لدعم الحوزة وشدّ أزرها وتقوية بنيتها العلميّة.

 

15

 


9

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

كان الإمام قدس سره خلال هذه الفترة على اتّصال مباشر مع هذه الثلّة المجاهدة، يتتبَّع الأخبار ويستقصيها. لقد تفهَّم أوضاع الشيعة، وعرف همومها في العراق؛ هذا ما نستنتجه من خلال كلماته وخطبه، فقد تطرَّق لهذا الموضوع أكثر من مرّة، حيث قال في إحدى الخطب:

"... إنّ مَن نهض بالعراق وعمل على إنقاذه... عالِمٌ جليلٌ، رفيعُ القدر والمنزلة، صاحبُ السموّ والفضيلة الميرزا الشيرازيّ الثاني... الذي أفتى بالجهاد... وقدّموا قرابينهم، وقاتلوا وضحّوا إلى أن استقلَّ العراق... وكانوا قد أَبعدوا علماءه ومفكّريه إلى إيران قرابينهم، وقاتلوا وضحّوا إلى أن استقلّ العراق... وكانوا قد أَبعدوا علماءه ومفكّريه إلى إيران بسبب خلافهم مع الزمرة الحاكمة. لقد أُبعِد المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ، والمرحوم الشهرستانيّ، والمرحوم الخالصيّ لا لذنبٍ اقترفوه، بل لأنّهم قاوموا وعارضوا المعتدِين البريطانيّين. ألم نكن نشاهد ذلك بأمّ أعيننا؟".

 

وقبل إبعاد هذه الثلّة من العلماء بسنتَين، فرَّت شخصيّتان كبيرتان من العراق، ودخلتا الحدود الإيرانيّة، هربًا من القوّات البريطانيّة التي كانت تطاردهما، وهما: آية الله أبو القاسم الكاشانيّ، وآية الله السيّد محمّد تقيّ الخوانساريّ، وهما من زعماء الثورة في العراق ضدّ الاحتلال البريطانيّ، وقد استقبلهما الشعب وكبار الشخصيّات بحفاوة بالغة على الحدود الغربيّة للبلاد. وقد مَرَّا في مدينة قمّ عام 1920م، ومكثا فيها فترة وجيزة، ثمّ انتقل آية الله الكاشانيّ إلى طهران، بينما ألقى آية الله الخوانساريّ رَحْلَه في مدينة قمّ، وأقام فيها، وباشر عمله في الحوزة، وعمد إلى إلقاء المحاضرات والدروس استجابةً لطلب آية الله الحائريّ، حيث كانت الحوزة فتيّة، وفي بداية تأسيسها، وفي أوّل فترة تشييدها، وذلك عام 1340هجريّة.

 

ثالثًا: الإمام قدس سره والانتفاضة الدستوريّة

كان بعض أساتذة الإمام قدس سره هم تلاميذ كبار وزعماء انتفاضة الدستور، كالمرحوم

 

16

 


10

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

الآخوند الخراسانيّ، ومن أولئك الأساتذة: الشيخ عبد الكريم الحائريّ، الشيخ ميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ، والسيّد محمّد تقيّ الخوانساريّ، والميرزا محمّد عليّ الشاه آبادي.

 

وكان أكثرُ الأساتذة تحرُّكًا، وأمضاهم عزيمة، وأشدُّهم حماسًا، آيةَ الله الشاه آبادي والمرحومَ الشيخ محمّد تقيّ البافقيّ، اللذَين تشرَّبت نفسَيهما بروح الجهاد. لقد نهلا من أساتذتهما روح العزيمة والتضحية، حتّى أصبحا، بدورهما، منهلًا عذبًا للشباب المتحمّس في الحوزة العلميّة، وبخاصّة السيّد روح الله قدس سره.

 

لقد اهتمَّ الإمام قدس سره بهذه الذكريات، وبهذه الروح الجهاديّة، اهتمامًا بالغًا؛ ممّا جعل هذا كلّه يؤثّر على منهجيّته وأسلوبه، وبوسعنا أن نلمس ذلك من سياق خطبه وكلماته، وممّا قام به لرفع راية الإسلام ودحض راية الشرك والضلال. ونلاحظ مثلًا، موقفًا للإمام قدس سره في غاية الأهمّيّة، وهو ائتمامه بآية الله الخوانساريّ في صلاتَي المغرب والعشاء في المدرسة الفيضيّة طيلة حياة آية الله الخوانساريّ، ولم نشاهده يأتمّ بأحد غيره من بعده. وتفسير هذا، هو التعبير عن مدى اهتمام الإمام قدس سره بمواقف أولئك العلماء المجاهدين، واحترامهم، وتقديس مبادئهم التي تهدف إلى دحر الأعداء وإفشاء مخطّطاتهم الاستعماريّة.

 

رابعًا: مواكبة المسيرة الجهاديّة

وإنّ ما نلحظه من الإمام قدس سره تحرّكًا سياسيًّا مواكبًا لتحرُّك سائر العلماء المجاهدين ضدّ رضا خان، كالسيّد حسن المدرّس، والمرحوم الحاجّ ميرزا جواد آغا، والمرحوم الميرزا صادق آغا، والمرحوم أنكجي، وغيرهم. وقد خاض معهم معترك الصراع السياسيّ، ووقف إلى جانب علماء الدين في مدينة أصفهان عندما اعتصموا في مدينة قمّ عام 1928م.

 

وهذا ما سنتطرّق إليه بالتفصيل فيما بعد، إن شاء الله.

 

17

 


11

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

خامسًا: اهتمامات الإمام قدس سره الخاصّة

كان الإمام قدس سره مهتمًّا بشؤون البلاد السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، وملمًّا بما يتعلّق بالنظام الحاكم و... كما كان يستقصي الأخبار والأنباء عن طريق الصحف والمجلّات والنشرات، التي تُعتَبَر آنذاك الأداة الوحيدة للإعلام. وإنّ المتتبِّع لخطابات الإمام قدس سره ومقالاته ومؤلّفاته، يلاحظ هذا وذاك كلّه بجلاء ووضوح، وبخاصّة عندما يتطرّق إلى انتقاد وسائل الإعلام، ويفضح أوضاعها المأساويّة والدنيئة في كتابه "كشف الأسرار"، وسنُفرد لهذا بحثًا مستقلًّا.

 

ومن خصائصه قدس سره، مضافًا إلى مكانته العلميّة والسياسيّة، أنّه كان مثالًا رائعًا للأخلاق الفاضلة. فقد كان يتحلّى بالصدق والإيمان والشجاعة والصراحة، كما كان شديد الالتزام بالواجبات الدينيّة والفرائض والمستحبّات، آمرًا بالمعروف، وناهيًا عن المنكر، واتّصف كذلك بالرزانة والهدوء والوقار والإرادة الصلبة والعزم الراسخ، وكان قويّ الذاكرة، بعيد النظر، قويّ الفكر، بليغًا ساطع الحجّة... إنّ هذه الخصال التي تميَّزت بها شخصيّته، وهو الشابّ الفتيّ، جعلَت له منزلةً خاصّة ومرموقة عند آية الله الحائريّ.

 

يروي لنا أحدُ زملائه في الحوزة، وهو آية الله الشيخ محمّد باقر الكرمانيّ، فيقول: لقد كان آية الله الحائريّ يُولي السيّد روح الله اهتمامًا بالغ الأهمّيّة. ففي يومٍ من الأيّام، تقدّم روح الله نحو الشيخ الحائريّ، ومَثَل أمامه بحالة قلق شديد وتوتّر، شاكيًا له سوء معاملة مدير المدرسة الفيضيّة تجاه الطلبة قائلًا:

"لِمَ هذه المعاملة السيّئة؟ ألم يكن هؤلاء جنود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ ألم يأتوا لخدمة الدين والإسلام؟ إنّ هؤلاء تركوا ديارهم وأهلَهم خدمةً للدين وإعزازًا للإسلام، ألم يأتوا إلى الحوزة ليُعبِّروا عن مدى حبّهم وولعهم بكسب الفضائل ونيل الرفعة والسموّ؟ ألم يأتوا ليتزوَّدوا من أخلاقكم وعلمكم، وليتهذَّبوا في هذه الحوزة بإشرافكم وإرشاداتكم؟ ولكن، مع الأسف، نرى العكس تمامًا من جرّاء معاملة المدير السيّئة".

 

18

 


12

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

وطالب الإمامُ الشيخَ الحائريّ، بإلحاحٍ شديد، لاتّخاذ الإجراءات المناسبة لهذا الموضوع، وكان الشيخ يستمع إليه بهدوء، مُظهِرًا له اهتمامه ومحبّته، على الرغم من انفعال الإمام قدس سره وتوتّره الشديد. والجدير بالذكر أنّه لا يوجد من يجرؤ للتكلّم بهذه الصورة وبهذه الجرأة أمام الشيخ الحائريّ، لِما كان يتمتّع به من هيبة ووقار من جهة، وأمام مدير المدرسة، لِما كان يتمتّع به من رهبة وسلطة آنذاك، والذي كان بوسعه أن يتّخذ عددًا من الإجراءات ضدّهم. لكن بعد هذا بسنوات، أمَرَ رضا خان بفرض امتحانات واختبارات لطلّاب الحوزة، ليتمّ فصل الخامِلين والمتكاسِلين الذين لا يليق بهم زيّ العلماء عن الطلبة المجِدّين الفضلاء، فرحَّب بعضٌ من المشايخ والأساتذة بالمبادرة بحسن نيّة، لكنّ الإمام قدس سره أعلن صرختَه المدوّية ضدّ هذا الأمر المزري، وأخذ يُندّد به، ويحذّر إخوانه الطلبة من الأهداف الخفيّة التي تكمن وراءه، واعتبره تدخّلًا سافرًا في شؤون الحوزة العلميّة أوّلًا، ومؤامرةً لتقليص عدد العلماء ثانيًا.

 

أمّا من جهة اهتمامه بالدراسة وتحصيل العلوم، فعلاوة على اهتمامه بدروس الحوزة وما يفرضه منهجها، اهتمّ بعلومٍ إضافيّة، كالعرفان والفلسفة، ولشدّة حبّه لهذه الموادّ، وشوقه إليها، ولهفته عليها، عَكَفَ ستّ سنوات متواصلة على تحصيلها عند الشيخ آية الله الشاه آبادي، العاشق الكبير والعارف المهيب، الذي كان يلقي محاضراته على أشخاص معدودين لا يتجاوزون أصابع اليد، بل وكان أحيانًا يقتصر على الإمام فقط. ولا يفوتنا أنّ الإمام قدس سره كان مولعًا باستقصاء العلوم الحديثة وما وصلت إليه الدراسات والبحوث في الجامعات والمجامع العلميّة، خارج البلاد وداخلها، وقد عكف على دراسة نظريّات داروين، وعمل على نقدها على يد المرحوم آية الله الشيخ محمّد رضا النجفيّ الأصفهانيّ المسجد شاهي (1278 - 1392هـ)، الذي يُعَدُّ ذروةَ علماء أصفهان، ومن فطاحلها. ثمّ انتقل الإمام قدس سره إلى قمّ بسبب وقائع وأحداث هجرة آية الله نور الله الأصفهانيّ - هذا ولم يبلغ من العمر سوى ستّة وعشرين عامًا -، وبرواية أحد الأشخاص أنّه أخذ يتعلّم اللغة الفرنسيّة لفترة ما.

 

 

19

 


13

الفصل الأوّل: الإمام قدس سره من ولادته وحتّى عام 1941م

لقد شرع الإمام قدس سره في التأليف والتصنيف وهو ابن سبع وعشرين سنة، رغم انشغاله بالدراسة والتدريس في الحوزة، وأخرج عددًا من المؤلّفات القيّمة، وكَتَبَ شروحًا وحواشٍ على كتبٍ عدّة في مجال الفقه والأصول والعرفان والفلسفة والتفسير، ونشرَ بعضها. واستمرّ نشاطه هذا في مجال التأليف والتصنيف طيلة أعوام مديدة من عمره، حتّى أثناء حياته السياسيّة، التي برزَت إلى الوجود منذ عام 1963م، واستمرّت حتّى شباط 1978م، حيث موعد انتصار الثورة الإسلاميّة. وبعد هذا، لم تُتَح الفرصة للإمام قدس سره للتحرير والتأليف، لانشغاله بأمور عدّة تتعلّق بالبلاد والعالَم الإسلاميّ. بينما ظلّ جهاز التلفزة يبثّ له محاضرات قيّمة وفريدة في التفسير لفترة محدودة، ويعرض محاضراته وخطبه وكلماته، التي من خلالها يمكن أن نتبيّن البُعد العلميّ والثقافيّ للإمام قدس سره. كما نلاحظ المخزون العلميّ الثرّ، والثروة الثقافيّة الهائلة والقيّمة في كتابه القيّم "صحيفة النور"[1]، والذي سيظلّ ذكرى خالدة بين أيدي أبناء أمّته المجيدة.

 


[1] صدر منه حتّى هذا التاريخ 22 مجلّدًا.

 

20


14

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

 

 

أ- عقيدة النظم وسلوكه

تعتمد عقيدة رضا خان وسلوكه على ركيزتَين:

1- الجنوح للقوميّة

2- التجدّد والتمدّن

 

1- الجنوح للقوميّة

القوميّة مصطلح سياسيّ له وجوه وتعاريف عديدة، وقد يصعُب حصرها تحت تعريف جامع وشامل، نظرًا لاختلاف أوجه مجالاته من زمن إلى آخر، ومن بقعة إلى أخرى، ومن ظرف إلى آخر، إلّا أنّه بمقدرونا أن نعرّفه بصيغةٍ قد تتلاءم مع واقعيّته وحقيقته أكثر فأكثر، فنقول: إنّه مصطلح يُطلَق على خليطٍ من أفكار وآراء ونظرات تخرج بمفهومِ الوحدة في الاشتراك البشريّ لقوم أو لشعب من الشعوب، ولأنّ القوميّة تتعلّق بالآداب والتقاليد والثقافة واللسان والتاريخ والعنصريّة والأرض، فإنّها بأجمعها تصوغ الشكل العامّ لمنتميها، وبدوره يحسّها بنفسه، فيتعاطف معها ويتكيّف معها لا إراديًّا، فيخرج بهيئةٍ تؤيّد أصالته وعراقته منفردًا بها. ومن هنا، جاءت الوطنيّة والقوميّة منفصلةً عن الدين والعقيدة الإلهيّة بهذا المجال، لأنّ العقيدة الدينيّة هي أوسع شموليّةً ونطاقًا من فكرة القوميّة والوطنيّة.

 

ولو رجعنا إلى هذا المصطلح السياسيّ ودخوله في الأوساط الإقليميّة والدوليّة، لوجدناه قد نشأ في أوروبّا بعد انطواء القرون الوسطى، ودخول عصر الازدهار والتقدّم.

 

أمّا في إيران، فلقد ظهرت أثناء انتشار الثقافة الغربيّة واجتياحها لبلاد الشرق، وتهاتَفَ بها المتأثّرون بالحضارة الغربيّة، وشجّعوا على التمسّك بها، وفضّلوها على التراث والحضارة الشرقيّة، أمثال: الميرزا عليّ آخوند زاده (1227 - 1295هـ) والميرزا آغا خان الكرمانيّ (1270 - 1314هـ)، وراح بعضهم يصرّح علنًا بعدم وجود أيّة علاقة بين القوميّة والعقيدة الدينيّة، مستندًا إلى بعض التعارض والازدواجيّة الحاصلة في اللغة والثقافة والدين والعنصريّة قبل دخول الإسلام إلى إيران وبعده. والواقع أنّ أمثال هؤلاء

 

43


15

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

كانوا على وعي كامل للقوميّة ومفهومها، لكنّهم سخّروها لمنافعهم ومصالحهم، بل جعلوها جسرًا عَبَرَ عليه الاستعمار إلى البلاد، وروّج ثقافته وأفكاره، فمثلًا، آخوند زاده والكرمانيّ كانا مُسلمَين اسمًا، بينما لا نشمّ منهما أيّة رائحة للإسلام، بل كانا مجرَّدَين من أيّة عقيدة وديانة إطلاقًا، حيث كانا يتمنّيان إعادة تلك الأيّام المزهرة السابقة، متظاهرَين بالقوميّة والوطنيّة، وأظهرا من الحقد والتحامل على الدين والإسلام، حتّى راحا يُروِّجان لإحياء السنن والتقاليد الزردشتيّة وأكثر... فلقد تعرّضا لشخصيّة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم بالإهانة، وعمِلا على النيل منه، ودعيا إلى محو الإسلام وتعاليمه من البلد، وسلب جميع الاختيارات والصلاحيّات من علماء الدين.

 

وظهر هذا اللون من الانحراف الفكريّ في عهد الدستور، ولكن تعدّدَت ألوانه وأقسامه عندها، فظهرَت قوميّة متشدّدة، وقوميّة معتدلة، وقوميّة حكوميّة تُعَدّ إحدى الركيزتَين لعقيدة رضا خان.

 

* القوميّون المتشدّدون

هم الواقفون على مبادئ مؤسّسي القوميّة الإيرانيّة الحضاريّة، وهذا جليّ وواضحٌ أنّهم متمسّكون بقوميّة تتشابه مع مثيلتها الأوروبّيّة، لأنّها تأثّرت بالثقافة الأوروبّيّة وحضارتها التي ترسّخت على مدى أجيال في عقول القوميّين الإيرانيّين في العهود البائدة، ويؤكّدون على تشدّدهم في أفكارهم القوميّة هذه، مدلِّلين بأنّها فكرة تعيد أمجاد إيران القديمة في العهد الكسرويّ والقيصريّ، ويرون بأنّ الإسلام هو الذي جعل إيران متخلِّفةً ورجعيّةً بعيدةً عن التطوّرات والتقدّم العلميّ، وكان همّهم الوحيد هو إزالة هذه العقبة بأيّ ثمن، ويعتقدون أيضًا بعدم تأثير الإصلاحات البرلمانيّة والقضائيّة على إصلاح الوضع الدائر، واتّخذوا من الدين والإسلام ألعوبةً يسخرون منها، وانضمّ إليهم كثيرٌ من المتطرّفين وأيّدوهم، وكذلك عدد من الجماعات وبعض القطاعات، كالصحفيّين والشعراء السياسيّين والكتّاب والموظّفين المتغرّبين والضبّاط ورؤوساء الجيش - الذين تكلّمنا عنهم سابقًا - و... الذين لم يُلَمّ شعثهم ولا لمرّة واحدة في أيّ

 

44

 


16

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

مجال من المجالات، إلّا في مجالٍ واحدٍ، وهو وقوفهم أمام الإسلام والدين الحنيف.

 

وتصاعد نشاط الكتّاب والشعراء في هذا الجناح، بطبع كتبٍ وصحفٍ ومقالات تبجّل الماضي الأسود، ونَشْرِها، وسعوا لإعادة أمجاد الماضين من الهخامنشيّين والساسانيّين، وكانوا يعبّرون عن مدى بهجتهم بالانتصارات التي تحقّقت في الماضي البعيد، متّهِمين الإسلام والعرب بالخرافات التي حطّمت الحضارة الإيرانيّة ومسختها وصرفتها عن مسارها الأصيل.

 

* القوميّون المعتدلون

وهم جناحٌ نتج جرّاء انتفاضة الدستور. كانوا يطالبون بالحرّيّة الفرديّة والعدالة القضائيّة وتوزيع القدرات السياسيّة بالتساوي، ويرون أنّ الدين الذي له ركائزه وجذوره المتأصّلة في العادات والتقاليد، ليس هو الأداة الفاعلة الأساسيّة لحلّ الأوضاع المتدهورة، وفي الوقت ذاته، يشاركون النظام الإسلاميّ في بعض الأفكار والمناهج، وإن كانوا بعيدين عن هذا المستوى.

 

واتّصف هؤلاء بالجمع بين الحضارة الإيرانيّة والحضارة الغربيّة وثقافتها، فهم من كبار عوائل الأعيان والأكابر، الذين قضوا شطرًا من حياتهم في الغرب من أجل الدراسة وكسب المعرفة، وهم من المتشدّدين في مجال الحرّيّة السياسيّة والفرديّة، ويطالبون بوضعٍ برلمانيّ حرّ، ويؤكّدون على قدراتهم الداخليّة وتنميتها بعيدًا عن الانحياز والاتّكال على الدول الكبرى والغرب بصفة عامّة. لكن لم نشهد لهذا الجناح شيئًا من الشجاعة والبسالة والجرأة أمام ما يعتريهم من تهديدات وتنديدات داخليّة ودوليّة، فكانوا يلجؤون إلى الصمت أحيانًا، وأحيانًا أخرى إلى الاستقالات حفاظًا على سمعتهم، تاركين البلد يخوض في بحرٍ من الفتن والفوضى. وكانوا يُبدون نوعًا من المرونة تجاه رضا خان، ويحاذونه ويتماشون معه بحذر وهدوء، وهذا دَيدن كلّ من لم تختلط حياته بالدماء التي سطّرها الشهداء لتحرير بلادهم ونصرة حقّهم المشروع.

 

وكما أشرنا سابقًا إلى انقلاب رضا خان وما بعده، فقد راح الكثير من القوميّين

 

45

 


17

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

المتشدّدين يسعى لدعم رضا خان، ويعمل على ترسيخ أقدام حكومته، كالشعراء والصحفيّين والوكلاء والعسكريّين، ظانّين أنّه وطنيٌّ وقوميٌّ على أقلّ التقديرات، وأنّه سوف يحقّق شيئًا من طموحاتهم وأهدافهم. أمّا القوميّون المعتدلون -وخلافًا لما قام به الشهيد حسن المدرّس من معارضة عارمة ضدّ رضا خان- فأخذوا يسايرون رضا خان، ويشاورونه في بعض الأمور، وانطبعت في أذهانهم نظرةً إيجابيّة عنه. ولكن، ما إن أدركوا أهداف رضا خان، ومطامعه بالسلطة والهيمنة، وعدم مبالاته واكتراثه بمعارضات المعارِضين وتربّصه بهم، حتّى أخذوا موضع الحياد منه، عدا الدكتور مصدّق، الذي أخذ الليبراليّون والقوميّون بتأييده والانضمام إليه شيئًا فشيئًا، بينما سلك بعضٌ آخر مسلك الصمت والاستقلاليّة، وانضمّ إلى مجالات ثقافيّة. ومع هذا الحياد والابتعاد والانطواء، استفاد رضا خان أكثر، وسيّر أموره بهدوء وطمأنينة، وعمل على ترسيخ سلوكه وعقيدته التي سوف نتطرّق إليها فيما بعد، إن شاء الله.

 

* القوميّة الحكوميّة

سعى القوميّون المتشدّدون إلى أن يوفّقوا بين قوميّتهم وقدرة رضا خان وسلطته. ومنذ الأيّام الأولى التي استقوى بها رضا خان، وحتّى استلامه زمام الأمور، كان القوميّون المتشدّدون يبجّلونه ويحترمونه ويقارنونه بالملوك والسلاطنة والأباطرة الماضين -كداريوش وكوروش- مدّعين بأنّ سلطة رضا خان هي كإمبراطوريّة إيران المجيدة في العهود السابقة.

 

وأُفصِح عن هذا بوضوح وبجلاء، عندما ألقى "فروغي" خطابه أثناء مراسم تتويج الملك، وأكّد في خطابه على أنّ رضا خان "هو السلطان العظيم الإيرانيّ الأصيل"، وهو "وارث التاج والعرش والكيان"، ومُنجي إيران من التقاليد والسنن الرجعيّة. والجدير بالذكر أنّ فروغي هو الذي اقترح لقب "بهلويّ" لرضا خان، وحُصِرَ هذا اللقب عليه شخصيًّا، ولم يجعله يسري على بقيّة أفراد العائلة.

 

وبالغَت سياسة هذه القوميّة في إحياء تقاليد العصر الكسرويّ ودحض سنن الإسلام

 

 

46


18

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

وثقافته، وتصاعدَت الحفلات والمجالس العامّة بالمناسبات الدنيئة من العصور الجاهليّة والزردشتيّة، وأحيَت سنن زردشت وعقائده علنًا، وغُيّرَت أسماء الأشهُر الإسلاميّة في مراسلاتهم وكتبهم الرسميّة، إلى أسماء لم يُعهَد بها إلّا بالماضي البعيد الأسود، وأصبح اسم رضا خان على أطراف الألسن وحديث الناس والساحة، فهو اسم الشارع والمدرسة والساحة والمعهد، وعلى جميع المراكز الحكوميّة والشخصيّة، ورُوِّجَت الأسماء الإيرانيّة القديمة، وأثّرَت في الناس وفي ثقافتهم بوساطة الدعايات والإعلام، فراح الناس يطلقون أسماء غريبة وعجيبة على أبنائهم، ممّا لها جذور زردشتيّة وكسرويّة، وشجّعوا على إنشاء الأبنية والعمارات على طرازٍ هندسيٍّ وفنّيٍّ قديم، يرجع أصله إلى عهد الساسانيّين، كبناء المتحف الوطنيّ للتحف القديمة الإيرانيّة، وكبناء مديريّة الشرطة، والبنك الوطنيّ، والمحكمة العليا، و... وبالطبع، كان هذا يكلّف وقتًا وجهدًا كبيرَين، ومبالغ طائلة من حيث الدراسة المعماريّة القديمة ونقلها إلى الواقع المعاصر، وكانت تهون جميع هذه الصعاب مقابل دحض الدين وتراثه الأصيل، وتركه عرضة للدمار والانهيار.

 

وقام رضا خان بخطوة أخرى نحو دعم قوميّته، تلك هي دراسة اللغة الفارسيّة وتطهيرها من المصطلحت والكلمات الأجنبيّة، بل بالأحرى العربيّة، وأحلّ محلّها كلمات ومصطلحات إيرانيّة أصيلة على النسق القديم، وفرض استعمالها لدى الدوائر الرسميّة والمنظّمات والمعسكرات والجيش و... وبلغ غلوّهم وتطرّفهم في هذا المجال إلى حدٍّ بحيث أصبحوا ينشئون ويصوغون كلمات بحسب أهوائهم عند عدم عثورهم على البديل من الكلمات والمصطلحات القديمة، ويُصدرون مراسيم حكوميّة يفرضون تداولها واستعمالها في الصحف والكتب الرسميّة لدى الدوائر الحكوميّة.

 

وبلغت المسألة درجةً كانت تُعرقَلُ معها المعاملات والمراجعات في الدوائر الرسميّة والحكوميّة بسبب عدم فهم نصوص الكتب والبلاغات واستيعابها، لأنّ كلّ كتاب ومرسوم له لهجته وأسلوبه الخاصّ المتعلّق بالمديريّة الدائرة الصادرة عنه. وأثار

 

47

 


19

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

هذا النسق والنهج في اللغة حفيظةَ الرأي العامّ، وبالأخصّ قطاع المثقّفين والمفكّرين المرموقين، وعلى أثره، أمر رضا خان عام 1936م بتشكيل لجنة خاصّة باللغة لعلاج هذه المعضلة، لحذف الأسماء العربيّة، لتحلّ محلّها الأسماء الفارسيّة الأصيلة، وعندما لا يتمّ التوصّل إلى المصطلح المطلوب، تقوم اللجنة باختيار مصطلح مقابل للكلمة المحذوفة بالإجماع ليخرج إلى حيّز التنفيذ رسميًّا. وعلى الرغم من إجادة تنفيذ هذا الأمر في بدئه، إلّا أنّه للسرعة التي حصلَت، ولمشقّة اقتناء الكلمة المناسبة - التي قلّما اتُّفِق عليها بالإجماع - حدثَت بعض المشاكل والعراقيل، وثارت ضجّة كبيرة لدى الأوساط المختلفة، معترضةً على حذف الأسماء والكلمات العربيّة والإسلاميّة، وتبديل ما كان ساريًا في الماضي البعيد بها. ومن تبعات هذا القرار، اختلال نظام التربية والتعليم، واضطراب المناهج المدرسيّة. فمن جهة، احتار المدرِّس في كيفيّة إلقاء المحاضرة التي اعتاد على تدريسها سنوات مديدة، ومن جهة، وقع الطالب والتلميذ فريسةً لمصطلحات وكلمات لم تطرق ذهنه من قبل، ما أدّى إلى تراجع مستوى النجاح والتقدّم للطلبة بشكل عامّ، والذي أثار اعتراض أوليائهم وشكواهم لدى المدارس والمعاهد وغيرها من مراكز التعليم، ودخلت هذه الكلمات والمصطلحات في قاموس أصحاب المقاهي الفكاهيّ، رمزًا للهزل والمزاح والسخريّة بين أوساط العامّة من الشعب.

 

هذه النعرة العنصريّة إنّما تفاعلت من قِبَل القوميّين، لسبب وجود مؤهّلات وأرضيّة مناسبة وسليمة لها، ودخلوا من خلالها، فأثر الشاعر الكبير الفردوسيّ، المعروف بـ"شاهنامه"، راح ضحيّةً لأهداف أولئك القوميّين الخونة، وكلّما مرّ اسم هذا الشاعر أو ديوانه، كانوا يثنون عليه أشدّ الثناء، ويكنّون له الاحترام والوقار، ويعتبرون "الشاعر" مُنجي اللغة الفارسيّة وحاميها، والمدافع الصلب عن القوميّة الإيرانيّة وعن دين المجوسيّة أمام لغة العرب والاجتياح الإسلاميّ. وتصاعدَت الإشادة بالشاهنامه، من قِبَل الصحف والمناشير وكلمات المفكّرين وخطبهم، على أنّها هي هويّة الشعب الإيرانيّ وهويّة الإمبراطوريّة الإيرانيّة العريقة، وقرنوا خدمات كوروش ومنجزاته بخدمات الشاعر فردوسيّ ومنجزاته تجاه الوطن وتراثه وحضارته، وبهذا

 

48


20

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الشعار، شيّدوا مقبرته على نسق مقبرة كوروش. وفي عام 1935م، أُقِيمَ مؤتمر دوليّ في مدينة مشهد تحت شعار الاعتزاز والاحتفاظ بالتراث الإيرانيّ الأصيل، وحضره عدد من المثقّفين والباحثين من داخل البلاد وخارجها، واستهلّ المؤتمر كلمته الافتتاحيّة بخطاب رضا خان، الذي حضر لتفقّد البناء الجديد وافتتاح المؤتمر. والمضحك المبكي في المؤتمر، هو ما تضمّنته كلمات بعض المشاركين وخطبهم من أهازيج وتلويحاتٍ سامّةٍ مدمّرة، فادّعى أحدُهم أنّ الإيرانيّين هم حملة الإسلام الحقيقيّ إلى القارّة الهنديّة، وأنّ اللغة الفارسيّة في الواقع هي لغة الإسلام، ومن ثمّ فإنّ الإنسان المسلم هو الإنسان الفارسيّ السائر على منهج الشاهنامه، لأنّه الأثر الإسلاميّ الخالد، وادّعى آخرون على لسان فردوسيّ بأنّ الساسانيّين هم من أتباع "يزدان"[1] وأنصاره، وأنّ أعداءهم العرب – المسلمين - هم أتباع "أهريمن"[2] وأنصاره، ومسألة انتصار العرب والمسلمين على إيران كان شيئًا مؤقّتًا وقَدَرًا مقدّرًا.

 

ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى هذه المسألة بالذات، وهي أنّ ما ادّعاه هؤلاء الجلاوزة والمتآمرين على الإسلام والدين الإلهيّ مِن ادّعاءات وأقاويل نُسِبَت إلى الشاعر الكبير فردوسيّ، ولأثره الخالد "الشاهنامه"، هو كذب محض ودجل وافتراء، بل كان فردوسيّ أثناء شعره ونثره يحارب ويقارع الملكيّة والظلم والطغيان، حتّى إنّه كان يُطلق على مجموعته الأثريّة هذه اسم "لسان الضعفاء"، ونلمس هذا المعنى بوضوح عند قصيدته "يوسف وزليخا"، حيث يُلقي اللوم على نفسه لِما مدح به الملوك والقياصرة سابقًا.

 

وعلى العموم، توسّع نطاق الدعايات والترويج لهذه القوميّة المناوئة للإسلام بشكل غريب وفاضح، حتّى هيمن على أفكار الشباب والجامعيّين والكتّاب، وانجرفوا في بحر مدح القوميّة التي أرادها رضا خان، القوميّة التي تهدف إلى انتزاع الإيمان من قلوب الناس، ومسخ التراث الإسلاميّ، ومحو صورته من ذهن الشعب الإيرانيّ ومن التاريخ،


 


[1] يزدان: مبدأ الخير في مذهب زردشت.

[2] اهريمن: مبدأ الشرّ في مذهب زردشت.

 

49


21

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

وزرع بذور العنصريّة والإلحاد مكانها، وأقاموا مجالس وحفلات فخمة وكبيرة في طهران لإحياء سنن الماضي وإعادة التراث الساسانيّ في العهد المظلم البائد، ويُبدون أسفهم لتعرُّض هذا التراث إلى هجوم المسلمين، حتّى وإنّ أحدهم، من إحساسه الأعمى، أجهش بالبكاء، وسحّت دموعه على نوائب الدهر! والإمام قدس سره أشار، بدوره، إلى تلك الحفلات، قائلًا:

"... لقد سُبَّ الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم في زمن ذلك اللّعين علنًا، وفي الصحف اليوميّة... عُقِدَت مجالس ومحافل انتُقِدَ فيها الإسلام، وتأسّفوا لانتصاره على الشرك (الساسانيّين)، وأخذ المتمدّنون يصبّون الدموع ويجرون الحسرات بسبب انتصار الإسلام على يزدجرد الثالث... أولئك شعراؤهم وكتّابهم كتبوا، وخطباؤهم خطبوا...".

 

لقد بلغت هذه القوميّة العنصريّة، في أواخر عهد رضا خان، حدًّا من التطرُّف، فوصلت إلى درجة أصبح من السهل مقارنتها بالنازيّة والفاشيّة الألمانيّة بقيادة هتلر من هذه الناحية، فرضا خان وهتلر يشتركان في هذه النقطة، ويتّفقان أشدّ الاتّفاق، فهما يريان الطريق الأوحد لوصولهما إلى مطامعهما - وبالتحديد السلطة والحكم - هو طريق العنف والقوّة العسكريّة. وقد نلحظ أنّ هناك من الإيرانيّين مَن شدَّد بالترويج والدعاية للنازيّة في أواخر عهد رضا خان، وأخذوا يعملون جادّين على ربط قوميّة رضا خان بنازيّة هتلر، وربط التراث والثقافة الإيرانيّة بالتراث والثقافة الألمانيّة، وعلى إثرها، راح الخبير القوميّ والسياسيّ الألمانيّ "روزنبرغ" يؤكّد أنّ شعب إيران هو شعبٌ خليط من قوميّات كثيرة ومختلفة، كذلك أخذت بعض الصحف الموالية للألمان تبثّ دعاياتها المتنوّعة في مجال القوميّة والعنصريّة وعلاقتها بالتراث الألمانيّ، قياسًا بين منجزات رضا خان وهتلر، فإذا كان هتلر قد فرض عنصريّة ألمانيّة دون أوروبّيّة، فإنّ رضا خان فرض عنصريّة وقوميّة على الجميع، وبالقوّة، مهما يكن انتماء الوطن الحقيقيّ، فما دام على أرض إيران، يجب أن يتحلّى بعنصريّة رضا خان، بقوميّته. ولإمامنا الراحل قدس سره بحوث وآراء حول هذه القوميّة، تطرّق لها خلال خطبه وكلماته، وسوف نتعرّض لها بالتفصيل مستقبلًا، ونفرد لها بابًا خاصًّا، إن شاء الله.

 

50


22

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

2- التجدّد والتمدّن

يجد الباحث عن معنى هذا المصطلح في دوائر المعرفة للّغة، معنيَين: إيجابيّ وسلبيّ، فالإيجابيّ يُطلَق على التجدّد والتقدّم والازدهار ورفع المستوى العلميّ والثقافيّ ضمن المسيرة العلميّة المقدّسة، والسلبيّ يُطلق على التغريب وتقليد الغرب بثقافته وآدابه ورسومه التي لا تشترك مع ثقافتنا وتراثنا الإسلاميّ في شيء.

 

والواقع أنّ هذا المصطلح لم يرد في قاموس اللغة الفارسيّة، ولم يطرأ على أذهان الجماهير المسلمة قبل زمننا المعاصر هذا. ولا يتنافى هذا مع قِدَم الروابط والعلائق التجاريّة مع الغرب، والتي تعود إلى بضعة قرون، إلّا أنّه دخل البلاد تدريجيًّا، وعلى نطاق ضيّق، خلال القرنَين المنصرمَين.

 

فخلال هذين القرنَين، ومنذ أوائلهما، ونتيجةً للأجواء السياسيّة والعسكريّة الحاكمة، استطاع بعض الأكابر والأشراف أن يعبروا الحدود إلى الغرب، وبمرور الزمن، توسّعَت حركة النقل والسفر، واطّلع الإنسان الشرقيّ على الإنسان الغربيّ، وتعرّف على ثقافته الغربيّة، وتصاعد هذا الأمر عندما عزم بعضهم على الإقامة في تلك البلاد لتحصيل العلوم وكسب المعرفة، وبهذا، تفاعَلَ التبادل الثقافيّ في جميع المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة، ممّا أثّر في الشرقيّين تدريجًا ولا إراديًّا، مضافًا إلى التبادل الثقافيّ في مجال الصحافة ونشر الكتب الغربيّة في الشرق.

 

هذا الانفتاح والتطلُّع إلى العالم الغربيّ، أفرز نتيجة واحدة لا غير لدى الإنسان الشرقيّ، وهي "قياس الشرق بالغرب". وما ابتُلِيَت به إيران خلال القرنَين المنصرمَين، إنّما هو نتيجة هذه الفكرة الخاطئة التي خيّمَت على المثقّفين والمفكّرين والسياسيّين الإيرانيّين. ومن هنا، ينتج سؤالٌ طرح نفسَه أمام هذه الثلّة والشريحة، عن التدابير والخطط التي وضعتها الحكومة لأجل رفع المستوى العلميّ والثقافيّ للمجتمع، وما هي القدرة النموذجيّة التي يجب أن يتحلّى بها المجتمع ويقتدي بها على الصعيدَين الفرديّ والاجتماعيّ، وكذلك السياسيّ؟

 

51


23

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

وانقسم المجيبون عن هذا التساؤل إلى مجموعات ثلاث: ففرقة تعتمد أنّ الغربيّين يمتلكون قدرات علميّة وتقنيّة عليا لرفع المستوى الاجتماعيّ وإخراجه من الجهل والظلم والرجعيّة، فهدفهم هو إيصال البشريّة إلى السعادة والفلاح. بناءً على هذا، فطريق الخلاص والنجاة من التخلّف والانحطاط هو رفع جميع الموانع والعقبات الاقتصاديّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، وحتّى العقائديّة، وفتح أبواب البلاد أمام الغرب، وجعله المثال والقدوة.

 

أمّا الفرقة الثانية، فتعتقد العكس تمامًا، فهي تطالب بالمحافظة على التقاليد والرسوم والآداب والسنن التي خلّفها السلف، وتدعو إلى إحيائها والالتزام بالثقافة والتراث الفارسيّ الأصيل.

 

في حين أنّ الفرقة الثالثة أيّدت رأيًا آخر متميّزًا. فنظرًا لسوء نوايا الاستعمار والغرب للتوصّل إلى أهدافهم الهدّامة، كانت ترى هذا اللون من الانفتاح عليهم خطرًا ومدمّرًا لعقائد الناس وثقافتهم الإسلاميّة، وخطرًا كبيرًا على استقلال البلاد على الصعيد السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ. لكنّ أصحاب هذه النظريّة والرأي قدّموا اقتراحًا معتدلًا لرفع المستوى العلميّ والثقافيّ للبلد، ينصّ على عدم الانغلاق، والخروج من الماضي المتزمّت، وفي الوقت نفسه، الانتفاح على الغرب من الجانب العلميّ والتقنيّ، دون الانجراف في ثقافته المنحرفة، وأكّدوا أنّ الدين لا يتنافى مع التطوّر العلميّ والمهنيّ، بل يؤكّد عليه ويحثّ على الالتزام به، لكنّه يحارب الاستعمار والاجتياح الإلحاديّ.

 

ولكن بعد مرور الزمن، تحلّلَت الفرقة الثانية من هذا السيل الجارف، ولم تستطع الصمود أمامه، وتسارع نجم الفرقة الأولى إلى الأفول حينما واجهَت معارضة عامّة من الجماهير تجاه معتقداتها ونظراتها، ولِما يخالف معتقدات الأمّة الإسلاميّة ومقدّساتها، بينما انتصرت الفرقة الثالثة، وحظيَت بالتأييد العامّ من الجماهير المسلمة، التي ترى قيادتها الواعية المتشكّلة من العلماء المجاهدين المصلحين والمرشدين والسياسيّين، الذين تجب طاعتهم والأخذ بنهجهم، نظرًا لما يملكونه من وعي واعتقاد وتمسّك

 

52

 


24

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

بدينهم الحنيف، وبهذا استطاعوا أن يشعلوا فتيل الثورة ضدّ حكومة الدستور المستبدّة. لكن كما ذكرنا آنفًا، وبما أشار إليه الإمام قدس سره أثناء خطاباته ملمّحًا إلى التقصير الذي حصل من أولئك العلماء المجاهدين تجاه نجاح الثورة الإسلاميّة بالكامل، فلقد جاهدوا وعملوا وأنتجوا وانتصروا، لكنّهم تركوا الساحة السياسيّة بعد ذلك كلّه، وإنّ وجود شخص أو شخصَين من هؤلاء بين أولئك الخونة، لا يمكن أن يحقّق شيئًا مقابل تلك الأمواج من الفتن ودعايات المستبدّين المتآمرين، وبهذا أخرجوهم من الساحة بالتهديدات والاعتقالات والاغتيالات، وخلَت الساحة لهم، وضاعت فرصة كبرى لتحقيق أهداف الإسلام والدين المبين، وانتهزها الطامعون والمتغرّبون الخونة، كي يصلوا إلى أهدافهم ومآربهم.

 

وبدأت المأساة من جديد، فانظر إلى المتسلّطين الجدد، فهم من جهة أناس بعيدون كلّ البُعد عن أجواء الشعب الدينيّة والثقافيّة، ولا يملكون أيّة معرفة تامّة عنه سوى نظرات سطحيّة وقشريّة، ومن جهة أخرى ولوعهم وشغفهم وسوء تدبّرهم وفهمهم للثقافة الغربيّة، قد طبع في أذهانهم الطابع السطحيّ فقط، وابتعدوا عن العوامل الإيجابيّة لرقيّ المجتمعات، بما فيها المجتمع الغربيّ. ومن هنا، ارتأوا بأنّ أفضل طريق للوصول إلى التمدّن والحضارة المثاليّة هو الانفتاح على الغرب، ونقل منتجاته الصناعيّة إلى الوطن، وتعويد الشعب عليها وعلى كيفيّة استخدامها على النمط الأوروبّيّ الحضاريّ، نظرًا لثقافتهم وآدابهم وتقاليدهم، ومنها ننتقل إلى مستوى أعلى، وهو نقل التكنولوجيا، ورفع المستوى العلميّ والتقنيّ للبلاد، وإخراجها من الماضي المظلم إلى عصرٍ جديدٍ مزدهر.

 

إنّ فكرة التجدّد والتمدّن، إذًا، قامت هنا على ركائز ثلاث:

أوّلًا: طيّ العادات والآداب والرسوم والتقاليد الإيرانيّة الوطنيّة والإسلاميّة، والضرب بها عرض الحائط، على أنّها عامل التخلّف والرجعيّة.

 

ثانيًا: شدّة تأثّرهم وشغفهم بالحضارة الغربيّة، بما فيها من تقاليد وآداب وسنن.

 

53

 


25

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

ثالثًا: العمل على بثّ هذه التقاليد والآداب والسنن وتطبيقها في البلاد.

وبطبيعة الحال، واجهت هذه الأفكار ردّ فعل عنيف من الجماهير المسلمة، فمن الصعب أن تنفصل أمّة بكاملها عن عقائدها وآدابها وسننها - التي تربَّت عليها منذ قرون وعقود مديدة من الزمن - بين عشيّة وضحاها، وتتّجه إلى عادات وطقوس لم تشهدها أو تسمع بها. صحيحٌ أنّ البلاد كانت، لفترات طويلة، تحت سيطرة هؤلاء من عهد حكومة الدستور، إلّا أنّ نظريّاتهم وأفكارهم وتقاليدهم لم تؤثّر إلّا على أشخاص عدّة، وبشكل صوريّ، وبدورهم، لم يكن من الممكن أن يشكّلوا شيئًا مقابل عقيدة الشعب وتقاليده. من هنا، نَبعَت الحاجة إلى حكومة قويّة شرسة، تفرض ما تريد من أفكار ومعتقدات إلحاديّة ومادّيّة بالقوّة وحدّ السيف. وفسحَت حكومة رضا خان المجال لدعاة التجدّد والتمدّن، فأخذوا يبثّون أفكارهم السامّة بقوّته وبطشه.

 

وقد أشار الإمام قدس سره إلى تلك الوجوه التي تقنّعت بقناع رضا خان، قائلًا:

"هو من المستبعد، ومن المستحيل، أن تكون خططٌ كهذه صادرةً عن فكر وعبقريّة رضا خان الذي عُرف بعقله المتحجّر. ولهذا، فهي بالتأكيد مخطّطة ومرسومة من أفراد آخرين...".

 

فالتقدّميّة والتمدّن، الذي كان يهدف إليه نصرة الدولة وداور وفروغي وتيمور تاش، والذين كان بعضهم مشهورًا بالفساد والانحراف الخُلُقيّ، لم يكن إلّا بعض المظاهر المعدودة المغرية الخدّاعة في الآداب والعادات والسنن التي ابتدعوها وفرضوها على الشعب بالقسوة والسيف. فحركتهم هذه، المدعوّة بالحركة الإصلاحيّة، علاوة على تهديمها للثقافة والاقتصاد وإذلال الشعب، حقّقَت هدفًا آخر، وهو دعم الحفلات والمجالس التي أيّدت ورسّخت زمام سلطة رضا خان الديكتاتوريّة، وتأييدها.

 

تتمحور الحركة الإصلاحيّة في مجالات عدّة، فمنها:

 

* البيروقراطيّة - الإصلاح الإداريّ

كان الوضع الإداريّ والاقتصاديّ والعسكريّ متدهورًا جدًّا، وكانت البلاد بحاجة

 

54

 


26

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

ماسّة إلى نظام قويّ ومستقرّ، وهذا ما كان يدور برأس رضا خان منذ وصوله سدّة الحكم. ولقد كان هذا الرجل بدوره ضعيفًا، يحتاج إلى نظام متكامل وصارم، حيث إنّ مثل هذا النظام يتماشى مع بعض أهداف القوميّين المتشدّدين، تلك الأهداف التي تنصّ على إحياء الإمبراطوريّة بوجه حضاريّ، وتعمل على إعادة شعارات الساسانيّين إلى العصر الحاضر. والملاحَظ أنّ هذه الخطّة قد تنامَت وامتدَّت إلى نطاق واسع بعد أن خضعَت لسيطرة رجالات رضا خان، ومن خلال هؤلاء، استطاع أن يفرض إرادته ورغباته. وقد عمل على دعم أعوانه في المحافظات، حيث كانوا يتلقّون الأوامر والتعليمات من العسكريّين وكبار القادة. وعلى الرغم من أنّنا كنّا نرى الإصلاحات الإداريّة، وبخاصّة في مجال الخدمات والقضاء والماليّة و...، إلّا أنّها لم تكن ذات مردود مفيد للشعب أو للمحرومين، حتّى إنّ بعض المسؤولين ورجال الدولة أعلن بصراحة متناهية: إنّ هذه الإصلاحت يجب أن تخدم الحكومة ورجالات البلاط والمقرَّبين والقادة العسكريّين ورؤوساء الدوائر، قبل أن تعود بالفائدة على الشعب. وتصاعدَت حملة رضا خان الاختلاسيّة، فشهدَت إيران وضعًا إقطاعيًّا من قِبَل رضا خان وأعوانه.

 

فعلى سبيل المثال، نشاهد أنّ مَهمّة دائرة سجلّات الأملاك والعقارات، وفي النصف الثاني من عهد رضا خان بالذات، هي اغتصابٌ للأراضي الخصبة والعقارات المتميّزة المرغوبة، من أصحابها الشرعيّين، والعمل على ضمّها إلى أملاك رضا خان الخاصّة ظلمًا وعدوانًا، وبخاصّة أراضي المناطق الشماليّة ذات المردود الجيّد. وكانت تتمّ هذه العمليّات بالتهديد والقسر أحيانًا، أو عن طريق شرائها بثمن بخس أحيانًا أخرى. أمّا القوّة القضائيّة والمحكمة العليا والقوانين، فكانت كلّها لصالح الحكومة وأعوانها وأتباعها، فلا تُطبَّق القوانين والأحكام إلّا على المحرومين والضعفاء، الذين راحوا يتعرّضون لشتّى أنواع الاضطهاد والإذلال.

 

ومن المؤسف أن نرى نتائج الإصلاحات، في هذا المجال، تبرز في ميدان توظيف الطاقات الفنّيّة في الدوائر الحكوميّة بشكل مذهل، فخرّيجو الجامعات والثانويّات

 

55

 


27

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

يُوَظَّفون في الدوائر الرسميّة، بدل أن يُوَظَّفوا في مجالات الصناعة والإنتاج، وكان هؤلاء الموظّفون يزدادون يومًا بعد يوم، وتُسنَد إليهم مهمّات شكليّة، وتُطلَق على وظائفهم تسميات متنوّعة، ونتيجة لهذه التعدّديّة في الوظائف، والكثرة الكاثرة، أخذَت حركة إجراء المعاملات تسير ببطء أحيانًا، وتؤول إلى التوقّف أحيانًا أخرى، وممّا ساعد على ذلك، روح اللامبالاة التي سيطرت على الموظّفين، الذين كثروا بشكل غير معقول، وساندَتهم الحكومة، وأرخت لهم العنان، كما وقفَت إلى جانب مؤيّديها وأتباعها وساندتهم، وأغدقَت عليهم النِعَم، وأجرت لهم العطاء، وقد دعا مثل هذا الوضع إلى اعتراض عدد من كبار السياسيّين والمفكّرين. ولا يفوتنا أن نذكر أنّ الكثير من الأموال كانت تتدفّق على الدوائر والموظّفين لإنفاقها على الاحتفالات والأعياد، ولتزيين الدوائر وإضاءتها، بدلًا من أن تُصرف في خدمة الشعب، ولم تعد الدوائر الرسميّة تنجز أيّة معاملة إلّا ما كان لبعض الأفراد المتميّزين والمتنفّذين وذوي المعارف الشخصيّة، أو ما كان يخصُّ دوائر الدولة الأخرى. وقد أطلق الإمام الراحل قدس سره عليهم لقب "عبّاد الشهوات والمناصب"، وكان ينتقدهم بسبب عدم اهتمامهم بأماناتهم الوظيفيّة، وعرقلة معاملات الناس، فيقول:

"جديرٌ بكم أن تلاحظوا وتدرسوا الوضع القائم في البلاد. فانظروا، أوّلًا، إلى وضع البلاط المؤسف، ثمّ انتقلوا إلى الوزارات، وإلى رجالات الدولة فردًا فردًا، ومن بعد ذلك إلى الجيش والقوّات العسكريّة وقياداتهم، ثمّ انزلوا درجة، وشاهدوا رؤوساء الدوائر وسائر الموظّفين والجيش في جميع المدن، ثمّ إلى أعضاء البرلمان الوطنيّ، وأعضاء الهيئة التشريعيّة، وانظروا من هم أقلّ شأنًا منهم، مِن أولئك الذين يحرسون الأزقّة والشوارع، أو مَن هم أكبر منهم شأنًا، إلى آخر ما ترون، فإنّكم لا تشاهدون إلّا وضعًا مأساويًّا قائمًا على التخيّلات والأباطيل والمظاهر الزائفة والشهوات والرغبات، لا ترون إلّا الجنايات والخيانة! انظروا، وشاهدوا، واعقلوا! أين تذهب ميزانيّة هذه الحكومة؟ أين تُنفَق؟ وأين تأتي؟".

 

56

 


28

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

وفي مجال آخر، انتقد قدس سره وضع الدوائر لِما تبذّره وتسرفه لأجل الزينة والإنارة المفرطة وغيرها، في الوقت الذي يعاني فيه المحرومون من أبسط حقوقهم الإنسانيّة ما يعانون، قائلًا:

"... اليوم، ناهيك عن ثقافة البلد وما آلت إليه... وما يُنفَق هنا وهناك، تعال وانظر إلى الفساد الإداريّ... انظر إلى الفجائع المتعاظمة، والجرائم المتلاحقة... انظروا، على سبيل المثال، إلى وزارة الصحّة، وإلى ممارساتها، ماذا قدّمت للمحرومين والمرضى والمستضعفين؟ لقد كرّسَت نشاطاتها ومساعيها كلّها لصالح المظاهر والكماليّات... إنّك لا ترى إلّا أنواع الأبنية الشاهقة والعمارات الفخمة، ومعظم المصاريف والنفقات لزراعة الورود فيها وتنسيق حدائقها، في الوقت الذي يلوذ فيه المرضى بالمساجد والأزقّة، وهم يئنّون من وطأة المرض، وعدم توفّر العلاج، والإهمال. إنّ هذه الوزارة تهدر سنويًّا الملايين لقضايا واهية، والكلّ يعلم ذلك، بما فيهم الكتّاب والصحفيّين، فلا يتكلّم أيّ شخص! ولا يتنفّس أحد... لا لشيء، بل لأنّهم من هذه البطانة ذاتها. وإذا وُجِد من بينهم شخصٌ متحمّس أو معارض... فالويل، كلّ الويل، له إذا نطق بشيء، أو أعرب عن معارضته لشيء من هذا القبيل!".

 

وعلى الرغم من تصريحات الإمام قدس سره هذه، وتنديداته، وانتقاداته للموظّفين والمؤيّدين في زمن رضا خان، فإنّه وبالوقت نفسه، مدح وأثنى على الصلحاء والشرفاء بتلك المرحلة وما بعدها، قائلًا:

"... نحن نمدح ونقدّر موظّفي الحكومة في الدوائر، والذين يعملون بإخلاص متناهٍ لوطنهم ولشعبهم، والذين يؤدّون دورهم الخالد من خلال وظائفهم الرسميّة، نشكرهم ونقدّرهم، لأنّهم قاموا بواجبهم الشرعيّ خير قيام، وتقيّدوا به، وهم أناس مؤمنون حقًّا، ففي ذلك الزمن الديكتاتوريّ، كانت هناك ثلّة مؤمنة من الموظّفين وأصحاب الأعمال في الحكومة، وكنّا نعتقد ونؤمن بوجوب وجودهم ضمن ذلك النظام، وكنت أعتقد بأنّ خروج هؤلاء من وظائفهم، أو تركهم لها، هو عمل منافٍ

 

57

 


29

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

لواجبهم الدينيّ والشرعيّ، وعلى كلّ شخص يحظى بأيّ واحد من أولئك، عليه أن يقرّبه منّا، ونحن نستقبله بصدر رحب، ووجه باسم، وبشكل أخويّ، بل وباعتزاز...".

 

* إصلاح الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ

إنّ أهمّ ما قام به نظام رضا خان هو الدعاية المكثّفة لمنجزاته التي قدّمها بعهده، كإيجاد الطرق العريضة مثلًا، وتنظيم الشوارع الرئيسة وتوسيعها، وإنشاء الحدائق ودُور السينما في طهران وسائر المدن الكبرى، وفتح الثانويّات والمستوصفات والمستشفيات، والاهتمام بالمواصلات وبعض مستلزمات الحياة المدنيّة وغيرها، إلّا أنّ الخطط لتنفيذ هذه المنشآت والمشاريع كانت ناقصة وسطحيّة، ولا يُراد بها إلّا الاسم والصورة فحسب. وفي الحقيقة، كانت المشاريع هدّامة أكثر من كونها بنّاءة، فنرى مثلًا أنّ فتح شارع معتدل كان يقتضي أن يمرّ بمناطق أثريّة تعود إلى مئات السنين، لها أهمّيّتها السياحيّة والتاريخيّة، لم يكونوا يعبؤون بذلك، بل كانوا يهدمون كلّ ما يقف أمامهم، حتّى إنّهم هدموا وخرّبوا أمكنة عريقة تضمّ آثارًا قديمة لها ارتباط وثيق بالتراث الإيرانيّ والإسلاميّ الأصيل. وهناك - على سبيل المثال لا الحصر - خطّة إنشاء السكك الحديديّة، التي تربط الغرب بالجنوب الغربيّ وطهران، ومن ثمّ شمال البلاد، تلك الخطّة جرى بحثها في البرلمان، فواجهَت خلافًا شديدًا ومعارضة، وبخاصّة من الدكتور مصدّق، إلّا أنّهم لم يكترثوا بذلك كلّه.

 

فيا عجبًا كيف يعدّون هذا الإنجاز من الإصلاحات؟! ولم تتوقّف المسألة عند هذا الحدّ، بل كانت تطال سائر المشاريع، مثل خطوط السكك الحديديّة، والمنشآت، والمعامل، وما يتعلّق بها من خطط فنّيّة وهندسيّة. يقول الخبراء الاقتصاديّون: إنّها كانت مشاريع مكلفة، وقياسًا لنتائجها، لا تحقّق أيّة فائدة مرجوّة، بل كثيرًا ما كانت تقود إلى الخسائر.

 

إنّ هذه الإنجازات كلّها، وإن كانت موضع فخر وإعجاب بالنسبة لرجال الدولة، حيث يعتبرونها من الإنجازات الهامّة والعظيمة لرضا خان، فإنّنا نرى هناك عددًا من

 

58

 


30

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الشخصيّات الكبيرة في الحكومة تدرك مدى سطحيّة هذه المنجزات، فتنظر إليها على أنّها مشاريع صوريّة خدّاعة، وبعيدة كلّ البُعد عن النفع والفائدة الوطنيّة والشعبيّة، فيكتب أحدهم - وهو المدعوّ مخبر السلطنة هدايت -: ذات يوم، كنتُ إلى جانب رضا خان أُحدّثه، فقلت له: إنّ التقدّميّة والحضارة والتمدّن تنقسم إلى قسمَين: قسم مزيّف وقسم حقيقيّ، فالمزيّف ظاهريّ، وهو ما يراه الجاهل بالشوارع والعمرات والأبنية و... وأمّا الحقيقيّ، فهو ذلك الذي يشمل المخابر العلميّة والمصانع والجامعات والمكتبات... إلخ، وحسبتُ أنّه سوف ينتبه إلى ما أعنيه وأقصده، إلّا أنّه - حسب الظاهر- كان يرى ذلك من النوع الأوّل.

 

وحتّى المؤسّسات الكبيرة، كجامعة طهران، ومؤسّسة الثقافة والإعلام، وغيرها من المشاريع التي أُسِّسَت في ذلك الوقت، كانت من الإنجازات الشكليّة فقط، والهدف دعائيّ وإعلاميّ. وإنّ ما كان يرنو إليه رضا خان هو بناء القوّة العسكريّة، ولا يعرف أكثر من هذه الحدود ممّا ينفع البلاد ويخدم العباد. ولهذا نراه يخصّص لوزارة الدفاع نسبة 41 بالمئة من ميزانيّة الدولة بين الأعوام 1929 و1939م، في الوقت الذي كان فيه سهم وزارة الثقافة أقلّ من 7 بالمئة، ولوزارة الزراعة بحدود 2 بالمئة!

 

وللإمام الراحل قدس سره عبارات ساخرة يُحجِّم بها شخصيّة رضا خان، فيقول:

"... إنّ رضا خان ومَن لفَّ لفّه، لا يعرف أن يُحرِّر كلمة "روحانيّ"[1]، ويخلط بين حرف الحاء وحرف الهاء نظرًا لتشابههما باللفظ (باللغة الفارسيّة)... ذلك الشخص الذي قال: الجنديّ السارق عندي أفضل من جميع ثقافة إيران وعلمها... إنّه حقًّا لم يكن يعرف ما هو العلم، وما هي الثقافة، لأنّه لا يعرف معنىً للصلاح والفساد...".

 

وإنّ أسوأ عمل قام به رضا خان، مدّعيًا أنّه من المقوّمات الأولى للخروج من الرجعيّة والتخلّف، هو مسألة تبديل الزيّ ونزع الحجاب، الذي فسح مجالًا واسعًا للفساد والانحطاط في المجتمع، ما أدى لارتفاع الصيحات والصرخات وانتشارها في جميع أرجاء الوطن.


 


[1] تعني بالفارسيّة عالِم الدين.

 

59


31

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

* تغيير الزيّ

إنّ الشعب الإيرانيّ، كسائر الشعوب والأقوام، يرتدي زيًّا يتناسب مع سننه وآدابه المرتبطة بمعتقداته: فالرجال مثلًا غالبًا ما يرتدون أنواع القبّعات، ولكلّ قوم وقبيلة شكلٌ خاصّ لهذه القبّعات. أمّا النساء، فيرتدين ثياب الحشمة الفضفاضة، تماشيًا مع العقيدة السائدة. وأمّا العلماء، فيرتدون العمامة والعباءة. وإنّ مسألة تبديل هيئة الألبسة التي اعتاد عليها الناس وشكلها، جاءت نتيجة اتّجاهٍ للأفكار الإصلاحيّة التي يحملها، بل ويطرحها رضا خان، من أدعياء التجدّد والتمدّن، الذين كانوا يرون الزيّ السائد مظهرًا من مظاهر الرجعيّة والتخلّف. لذا، يجب استبداله بالزيّ الأوروبّيّ، الذي يُعَدّ في نظرهم مظهرًا من مظاهر الحضارة والتقدّم.

 

لقد كان الهدف الأساس من وراء هذه المسألة هو تغيير زيّ العلماء، وذلك بزعم شخصيّ من رجالات الدولة آنذاك، وعلى رأسهم مخبر السلطنة هدايت (رئيس الوزراء)، وصدر الأشراف (وزير العدليّة). وقبل سنتَين من صدور قرار عام 1929م بهذا الشأن، كانت هناك مقدّمات لهذا الغرض، مثل عدم احترام هذا الزيّ، والقيام بإبعاد الشخصيّات الدينيّة من الساحة، وعزلهم من مناصب القضاء في المحاكم.

 

وممّا كتبه صدر الأشراف في مذكّراته، قوله: "كان هناك بعض الرموز الذين يؤيّدون ويشجّعون رضا خان، ويشجّعونه على تغيير الزيّ واستبداله بالطراز الأوروبّيّ، من أمثال تيمور تاش وداور ونصرت الدولة وغيرهم...".

 

وقبل صدور القرار، أمر رضا خان الوزراءَ والوكلاءَ ورؤوساءَ الدوائر والموظّفين، بارتداء زيّ موحّد، وهو عبارة عن بدلة - جاكيت وبنطال - وقبّعة على الطراز البهلويّ - من نوع القبّعات الفرنسيّة المستديرة التي يستعملها الجيش الفرنسيّ حاليًّا - والتي كان يرتديها هو بالذات. ثمّ بعد ذلك، أُمِرَت المدارس والثانويّات بارتداء زيّ موحّد، وارتداء قبّعة كقبّعة محمّد رضا بهلويّ.

 

ولا ننسى بأنّ هناك بعض الأفراد المتأثّرين بالغرب وثقافته، كانوا يرتدون الزيّ الأوروبّيّ

 

60

 


32

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

ويظهرون بمظاهرهم، إلّا أنّهم، على قلّة عددهم، كانوا موضع السخريّة والاستهزاء من قِبَل المارّة. وبعد صدور هذه القوانين والقرارات بشأن الزيّ الموحّد لرجالات الحكومة والموظّفين والطلّاب، أصدر البرلمان مرسومًا تشريعيًّا عام 1929م - وذلك لإعطاء القرارات صبغة قانونيّة - يقضي بإجبار جميع الموظّفين بارتداء الزيّ الموحّد، وقد نصّ البند الأوّل على ارتداء الزيّ الموحّد من قِبَل أفراد الشعب كافّة، ابتداءً من العام الشمسيّ[1] الجديد، كما نصّ البند الثاني استثناءَ بعض العلماء، وقد شمل كلًّا من: المجتهدين الذين يحملون الإجازات الاجتهاديّة من المراجع، ومفتيي أهل السنّة والجماعة الذين يحظون بتأييد من شخصَين من كبار أهل السنّة والجماعة، والذين لهم إجازة الفتوى، وأئمّة الجماعات، وأصحاب المحاريب، ومدرّسي الفقه والأصول والحكمة، ورجال الدين من الأقلّيّات الأخرى. أمّا العلماء الذين كانوا يؤدّون خدماتهم في القرى والأرياف، فيشملهم هذا الاستثناء بشرطَين: أوّلهما أن يكونوا من أصحاب إجازات بالرواية من عادلَين فقيهَين، وثانيهما أن يكونوا من المعفيّين من امتحانات وزارة الثقافة في دروس الفقه والأصول.

 

وعلى إثر هذا القانون، راح رجال الشرطة والحرس يتعرّضون لعلماء الدين وطلبة المعاهد والمدارس الدينيّة، ويهتكون حرمة الزيّ الإسلاميّ، وحرمة الصلحاء والفضلاء، بحجّة تطبيق القانون. إنّ هذه المؤامرة التي تحمل عنوان حركة إصلاح الحوزة وتمييز المتفوّقين من غيرهم.

 

وقد كان لهذه الحركة هدف آخر، هو تقليص عدد الطلبة، وضبط تحرّكاتهم، والهيمنة على الحوزة العلميّة، بغية تدميرها وإذلالها. وهذا ما أعلن عنه الإمام الراحل قدس سره في حينها، حيث أعرب عن سوء نوايا النظام الحاكم إزاء هذا القرار، وخالفه مخالفة صريحة، فأكّد في إحدى خطبه قائلًا:


 


[1] تبدأ السنة في 21 آذار من كلّ عام.

 

61


33

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

"... كثيرٌ من الناس يذكرون ما فعله رضا خان ضدّ العلماء باسم إصلاح الحوزة وتطويرها. لقد شكّلوا حلقات الامتحانات في المدرسة الفيضيّة وغيرها، وشاهدنا كيف راح أتباعهم يحضرون بجدّيّة تامّة للامتحانات. ومن المؤسف والمؤلم حقًا، أنّ بعض رجالنا وعلمائنا قد خُدعوا بهذه الأقاويل والخطط والادّعاءات، وظنّوا أنّهم يريدون تمييز الطلبة المتفوّقين من المهملين، وأن يُبرزوا ويُحدّدوا الطالب اللائق الذي يجب أن يتحلّى بهذا الزيّ، حتّى إنّ بعضًا من كبارنا في قمّ راح ضحيّة هذه الادّعاءات، وهذا أمر ليس فيه بأس أن يفرزوا الجيّدين عن الكسولين، فليُعينوهم وليُبعدوهم عنّا! عندئذٍ، أجبته بالإيجاب، وقلت له: صحيح، إنّهم يعنون المتفوّقين منّا دون المتخلّفين، لكنّهم لا يريدون بهذا طرد المتخلّفين عنّا، بل يريدون طرد المتميّزين منّا وقمعهم، وهذا ما حصل فعلًا فيما بعد...".

 

ومن جانب آخر، نرى الإمام الخمينيّ قدس سره يؤكّد في كتابه "كشف الأسرار" تأييده لفكرة تمييز الطلبة الجادّين من المتخلّفين، ولكن كان يرى أنّ رضا خان ومَن حوله بعيدون البُعدَ كلّه عن هذه المسألة، وعن الحوزة وما يخصّها، فيقول قدس سره:

"نحن لا ننزّه هذه الطبقة من المجتمع بكاملها وبجميع أفرادها، بل نرى من الضروريّ أن نخطو خطوات جادّة لإصلاح الحوزة وتعديلها، فهؤلاء مثل باقي طبقات المجتمع، فيهم الجيّد، وفيهم السيّئ... لكن هذا ليس مدعاة لأن يأتي رجل كرضا خان، الذي لا يعرف إنشاء كلمة "روحانيّ"، ولا يعلم أبالحاء تُكتَب أم بالهاء - نظرًا لتشابههما اللفظيّ في اللغة الفارسيّة - أن يأتي ويميِّز الجيّد من الرديء، ويحدّد للحوزة ما ينفعها وما يضرّها... حقًا، فهو لا يُميِّز بين الصالح والطالح أبدًا، وكلّ ما في الأمر أنّه يريد بذلك أن يقتلع جذور الحوزة وعلماء الدين من أصلها...".

 

ومن ثمّ يستطرد الإمام قدس سره، متابعًا حديثه حول الشخصيّات المناسبة للحوزة، وما يجب أن تتحلّى به من صفات ومواهب... وممّا هو جدير بملاحظته، أنّ قانون اختيار الزيّ الموحّد خرج إلى حيّز التنفيذ بعد أن حظي بالتصويت من البرلمان الدوريّ السابع

 

62


34

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

- البرلمان الصوريّ والمصطنع الذي اختير أفراده اختيارًا، وكان خاليًا من الشخصيّات المعروفة، أمثال السيّد حسن المدرّس، الذي لو كان موجودًا فيه، لواجهَ هذا القرار بعنف، وشنّ حملة شعواء، وأثار ضجّة كبيرة لدحض الباطل. وممّا لا بدَّ من ذكره في هذا المجال، هو أنّ المدرّس رشّح نفسه للعضويّة لهذه الدورة، وقد تمّ اختيار الأعضاء اختيارًا تبعًا لهوى الحكومة ورغباتها، ثمّ ادّعوا أنّ السيّد المدرّس لم يحصل على رأي واحد عند فرز الأصوات.

 

وانكشف التزييف عندما وقف المدرّس وقال مستهزئًا: إذا كانت الآراء لي صفرًا، فأين رأيي الذي أدلَيْتُ به لنفسي؟ وهنا بانَ الزيف والفشل، وانفضح الأمر أمام الجميع. حتّى إنّ هذا الموقف جعل بعض الذين رُشِّحت أسماؤهم أوّل مرّة في البرلمان، وحازت على الأكثريّة، جعلهم ينسحبون من هذه الدورة، وأعلنوا استقالتهم علنًا.

 

ثمّ وصل فروغي، العقل المدبّر لنظام رضا خان، إلى رئاسة الدورة عام 1934م، وأُسنِدَت إليه المهامّ التي كان من هدفها الإطاحة بالتراث الدينيّ والوطنيّ. ولكي يتحقّق حلم الحكومة في مسألة التجدّد والتمدّن على النسق الأوروبّيّ، صدر أمرٌ باستبدال نوع القبّعة المستديرة الشكل - المعروفة بقبّعة بهلويّ - بنوع آخر من القبّعات المنحنية الشكل، والتي تشبه قبّعات شعب المكسيك. وبما أنّ هذا الإجراء سوف يُواجِه - بطبيعة الحال - معارضة العلماء، على أنّه من جديد الخطط التقليديّة للأوروبّيّين، قام فروغي بعمل آخر ليكون مقدّمة لهذا العمل، هو مواجهة علماء الدين والحدّ من تحرّكاتهم أكثر فأكثر، وكانت استدلالاتهم وحججهم هذه المرّة بأنّه يجب أن نوقّر زيّ العلماء، وأن نعطيه التقدير والاحترام أكثر ممّا هو عليه، وأن نفصل عنهم الأفراد غير اللائقين بهذا الزيّ. وعلى هذا، صدر قرار في شتاء عام 1935م، يقضي بصلاحيّة ارتداء هذا الزيّ لأشخاص يتمتّعون بتأييدٍ من مرجعَين، وأن تصدِّق وزارة الثقافة على هذَين التأييدَين، ومن ثمّ يحقّ لهم ارتداء هذا الزيّ الموقّر. وشرع رجال الشرطة والأمن والحرس يضايقون المعمّمين وعلماء الدين في كلّ مكان، بحجّة أنّهم مأمورون لأداء

 

63

 


35

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الخدمة، وكانوا يطلبون منهم الوثائق المصدَّقة من وزارة الثقافة، ومن لم يُبرز وثيقة مصدَّقة، يرفعون عمامته على مرأى جميع الناس، ويسوقونه قسرًا إلى مركز الشرطة، وكانوا أحيانًا ينهالون عليهم بالسبّ والشتم والضرب المبرح وحلق لحاهم، ووصل بهم الأمر إلى درجةٍ يصفها صدر الأشراف في مذكّراته، فيقول: "لقد ضُيِّق الخناق عليهم، حتّى إنّهم أصبحوا حبيسي ديارهم وبيوتهم، وإذا اضطرّوا للخروج، فإنّهم يخرجون آخر الليل، متستّرين بظلمته، ومتخفّين عن أعين الشرطة في الأزقة والطرق الموحشة. وأكثر من هذا، فإنّ بعضهم اعتزل الوظيفة الدينيّة، وراح يتستّر على نفسه وعياله".

 

وكان للإمام الخمينيّ قدس سره تلميحات وإشارات كثيرة وردَت في خطبه، منها:

"... لاحِظوا المدرسة الفيضيّة، التي كانت تضمّ من ستّمئة إلى سبعمئة طالب يفرّون جميعهم نهارًا إلى الحدائق والبساتين، ويعودون مساءً، لماذا؟ لأنّهم يخشون أن يقعوا فريسةً للشرطة والحرس، فيهينونهم ويعرّضونهم للأذى والسجن... وحتّى علماء طهران، كانوا يأخذونهم إلى مراكز الشرطة، ويهينونهم ويمزّقون ملابسهم وعمائمهم حتّى لا يستطيعوا الخروج من هناك...".

 

هذه الحركة وهذا التهجّم على العلماء والحوزة العلميّة، هذا كلّه عملٌ للقضاء على الخطّ الدفاعيّ الأوّل للشعب، وعمليّة تمهيد لمراحل أخرى قادمة. وعندما التزم بعض العلماء الصمت تجاه هذه الحملات والتهجّمات، انفتحت طرق أخرى لخطط رضا خان، وثبَّتَ قدمَيه أكثر فأكثر، ودمّر كثيرًا من المقاومات الشعبيّة المناوئة له. فبعد شهر من هذا القرار، وبعد انتهاك حرمة الحوزة والعلماء، أُقيم حفل كبير، هُيِّئ لإقامته منذ فترة، بأمر من وزارة الثقافة والإعلام، وشهده حشدٌ كبيرٌ من الناس. وفي ختام الحفل، في آخر فقرة منه، شهد المسرح فرقة فتيات متبرّجات، بل عاريات، يرقصنَ ويعزفنَ الموسيقى أمام أعين الحاضرين، الذين انتباتهم دهشة غريبة، وانتشر هذا النبأ في أرجاء البلاد، وأخذ يطرق أسماع الناس. ثارت ضجّة واسعة، وقُوبِل هذا الحدث باستنكار صارخ من قِبَل الشعب، فأغلقَت الأسواق والمحلّات أبوابها في اليوم

 

64

 


36

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

التالي، استنكارًا لهذا الوضع المأساويّ الخطير. وقد أقدمَت السلطات على اعتقال السيّد حسام الدين الفالي - أحد العلماء البارزين في شيراز - إثر تنديده بهذا الاحتفال، وقد أُخفِيَت جميع التعليلات والاستجوابات عن الشعب والعلماء، وبقيَت هذه التصرّفات الشنيعة مجهولة الدواعي والأسباب والدوافع، فقد كان بعض الناس يعتقدون أنّه تصرّف شخصيّ من قِبَل مدير ثانويّة البنات في شيراز، واعتقد آخرون أنّها أوامر وزير الثقافة، راح كلٌّ يفسّر حسبما يقوده إليه تفكيره وفهمه وإدراكه للحوادث، ولكنّ أحدًا منهم لم يعلم بأنّ هذا جزءٌ من ألعوبة كبيرة وخطيرة، قد كشفوا النقاب عن صفحاتها الأولى فقط.

 

وبعد هذه الحادثة، أُقِيم احتفالٌ آخر في طهران، وأُعِيدَت الكرّة من جديد، وبالطريقة السالفة الذكر ذاتها، وقد رقصَت وعزفَت هذه المرّة فتياتٌ من عوائل الأشراف والطواغيت ورجال الدولة. ومن جملة الذين حضروا هذا الاحتفال، بعض الرجالات الكبار، أمثال فروغي ووزير الثقافة. وقد تضمّن الاحتفال كلمةً لوزير الثقافة، وأشار إلى هذه المحافل قائلًا: "وهذه الاحتفالات تُقام بأمر من سعادة الشاه، ويجب أن نزيل الحجاب، وسعادتُه يرغب أن ترقى نساء إيران إلى درجة الكمال والتمدُّن، حتّى يبلغنَ ما بلغَته المرأة الغربيّة".

 

وبانتهاء خطابه، أكّد أنّه سوف يُعامِل المخالفون بقسوة وعنف.

 

* القبّعة الجديدة

تزامنًا مع هذه الاحتفالات، أُعلن عن تبديل القبّعة السابقة -التي كان يرتديها رضا خان، والمعروفة لدى العامّة بقبّعة بهلوي- إلى قبّعة جديدة تشبه قبّعة المكسيكيّين. وقد انتشر هذا النوع من القبّعات في تركيا بعد تبديل الحكم على يد أتاتورك، ومن الظاهر أنّ هذا أثّر على رضا خان عندما سافر إلى تركيا، وعزم على ألّا يرجع إلى بلاده صفر اليدين من الهدايا الأجنبيّة.

 

65


37

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

جاء في صحيفة "اطّلاعات":

بعد رجوع رضا خان من تركيا، عزم على تغيير القبّعة المستديرة الشكل، هادفًا بذلك رفع كلّ الظواهر التي تميّز الفرد الإيرانيّ عن نظيره الأوروبّيّ، وكان يقول: "يجب على الإيرانيّين أن يصلوا إلى درجات الغربيّين العليا، وأن يعوا جيّدًا بأنّ ترقّيهم وتقدّمهم - روحيًّا وجسديًّا ومعنويًّا ومادّيًّا - لا يسير بوتيرة عالية ولا يتكامل، إلّا بتغيير هذه القبّعة، ويجب أن يتحقّق هذا، كي يصلوا إلى مستواهم ودرجاتهم".

 

كذلك، فإنّ صدر الأشراف له تصريحات شبيهة بهذه التصريحات، إذ يقول: "بعد رجوع رضا خان من تركيا، كان كثيرًا ما يؤكّد ويشير إلى تقدّم تركيا وتطوّرها على صعيد الحرّيّة ومسألة الحجاب وغيرها، ويشجّع عليها، إلى أن حان ذلك الوقت الذي جمع به أعضاء الدولة عام 1936م، وأكّد لهم -ضمن كلامه- بأنّه يجب علينا أن نتغرّب ظاهريًّا وباطنيًّا، والخطوة الأولى هي تغيير القبّعة".

 

يذكر لنا مُخبر السلطنة هدايت، فيقول: "دخلت على رضا خان حينها، وقال لي: أريد أن نصبح معهم بشكل واحد، حتّى لا نكون موضع سخريّتهم واستهزائهم. على العموم، فإنّ التقدّم والتطوّر الحضاريّ والعلميّ والفنّيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ للشعب الإيرانيّ، أصبح عند رضا خان وأشياعه هو القبّعة المحوّرة!". أصدر فروغي -رئيس الوزراء- قرارًا إلى جميع الولايات والمدن، يأمر بموجبه بارتداء القبّعة الجديدة إجباريًّا من قِبَل الموظّفين والمسؤولين وغيرهم، وإلّا فسيواجهون ردًّا عنيفًا وتقريعًا شديدًا. وبعد هذا القرار، أصدر قرارًا آخر يتضمّن سبعة بنود، ينصّ على آداب استعمال القبّعة، وما يترتّب على مرتديها من واجبات، فمثلًا: جاء في المادّة الرابعة: عندما يتقابل شخصان أثناء لقائهما أو مرورهما عبر الشوارع والأزقّة، يجب على الأصغر سنًّا ومقامًا أن يقف ويرفع قبّعته بشكل مهيب أمام الأكبر، وبعد تكرار العمليّة من الشخص المقابل، يرجع الطرفان بوضع قبّعتَيهما على رأسَيهما باحترام ووقار خاصّ.

 

66

 


38

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

إنّ هذا التصوّر والتفكير المضحك المبكي، الذي يُرى من خلاله تقدّم الإيرانيّين مجاراةً للأوروبّيّين، هو في الحقيقة قصورٌ ساذج لا يراه أحد إلّا واختلج في ذهنه مدى سخافة تصوّرات هؤلاء الجهلة، الذين لا يرون من التقدّم والازدهار إلّا هذه المظاهر الشنيعة الهدّامة. وفي الوقت نفسه، فإنّها مدعاة للتعريف بمدى انصياعهم للغرب، وانصهارهم في بوتقته، واتّباع مظاهره، بحيث يشير الإمام الخمينيّ قدس سره إلى هذا الجانب في كتابه "كشف الأسرار"، فيقول:

"... نحن لا نتكلّم ولا نخاطب أولئك الجهلة الذين يعتقدون بأنّ قبّعة الأوربّيّين المستعمِرين هي أساس التقدّم، ونحن أيضًا لا نتوقّع أن يعوا ويسمعوا ما نقول، لأنّ الأوروبّيّين سرقوا عقولهم...

 

ففي ذلك اليوم الذي ارتدوا فيه القبّعة المعروفة بقبّعة بهلويّ، كانوا يقولون: يجب على الدولة أن ترفع شعار الوطنيّة، والاستقلال في الملبس، والقوميّة، فهو شعار استقلال البلاد والمحافظ عليها. لكن بعد فترة، وعندما أبدلوا تلك القبّعة بالقبّعة الأوروبّيّة، تغيَّر الكلام فجأة، وأخذوا ينادون بمجاراة الأجانب واتّباع سننهم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، كي نكون من عظماء العالَم مثلهم!

 

ولكن نسوا أنّ البلاد التي تكون عظمتها بقبّعتها، هي عرضة للسرقة والاختطاف في أيّ وقت كان، ما دامت هذه القبّعة قابلة للتغيّر والتبديل.

 

والأجانب، وفي هذه المراحل جميعها، إنّما وضعوا القبّعات على رؤوسكم، ومن ثمّ رفعوها وأبدلوها ووضعوا غيرها، إنّما أرادوا بهذا أن ينظروا إليكم من بعيد، ويشغلوكم بهذه القوامة، كي تتحقّق أهدافهم جميعها في البلاد، بينما أنتم غائصون في بحر المظاهر والتقليد، وهم ينظرون إليكم كما ينظرون إلى الأطفال، ويضحكون. قضيتم أيّامكم وحياتكم بهذه التفاهات، وأخذتم ترتدون القبّعة الأوروبّيّة، وتسيرون في الشوارع، وتقضون أوقاتكم مع العاريات الفاحشات، وتفخرون بهذا أشدّ الافتخار، ونمتم في غفلة كبيرة عن البلاد، وعرّضتموها لغدرهم، فسلبوا مفاخركم

 

67

 


39

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

جميعها، وتراثكم وثرواتكم من البحر إلى بحر الشمال، وسحبوا البساط من تحت أرجلكم، وأوصلوكم إلى مثل هذا البلاء...".

 

* رفع الحجاب والستر

مسألة رفع الحجاب جرَت على الظاهر عام 1936م، ولكنّ ولادة الفكرة كانت قبل هذا العام بسنوات عدّة. في تلك الفترة التي انتشرت فيها العقائد والأفكار الأوروبّيّة، وبعد انتفاضة الدستور، ظهرَت الفكرة، وأخذت تتوسّع عن طريق الشعراء والصحفيّين والسياسيّين، فلقيَت بعض التأييد من قِبَل بعض المتخاذلين وضعفاء النفوس. ونظرًا للبُعد الثقافيّ والاجتماعيّ العقائديّ السائد في البلاد، لم يجرؤ أحدٌ على إخراج الفكرة إلى حيّز التنفيذ، عدا بعض نساء البلاط المعدودات، مثل المسمّاة "تاج السلطنة".

 

وإنّ المخطِّط الرئيس لهذه الفكرة - وعلى قول مخبر السلطنة وصدر الأشراف - هم ثلاثة رجال من المقرّبين جدًّا لرضا خان، وهم: تيمور تاش، ونصرة الدولة، ووثوق الدولة. وعلى حدّ قول مخبر الدولة: إنّ هذه الفكرة كان يتداولها رجالات الدولة عام 1931م.

 

ومن أجل نشر هذه الفكرة وتنفيذها عمليًّا في البلاد، كان المسؤولون يتداولونها بالسرّ، خشية ردود فعل العامّة والخاصّة. لهذا، صمّمت عائلة رضا خان على أن تكون العائلة المتطوّعة الأولى لهذا الغرض. عندما حان عيد النوروز لعام 1307 شمسيّ (1931م)، كانت عائلة رضا خان في مدينة قمّ، فخرجَت على شرفة البناء، وأمام عامّة الناس، كاشفةً عن جسدها، وبمظهر لم يكن يتصوّره أحدٌ من قبل. وبعد هذا، أخذت الملكة تروِّج أنواع الموديلات من الأزياء المبرزة لمفاتن الجسد خلال حفلاتها وجلساتها في المناسبات، وأمرَت بمنع استعمال الشادور، الحجاب الإسلاميّ.

 

يقول "هدايت" في مذكّراته قبل عامَين من هذا القرار، حيث كان آنذاك رئيسًا للدولة: "في اجتماعٍ من اجتماعات أعضاء الدولة - لوضع حدودٍ للتصدير والاستيراد للبلد - سجّل تيمور تاش القبّعة النسائيّة ضمن الموادّ المرخّص بها، فقلتُ له: وما

 

68

 


40

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

حاجتنا لهذا؟ قال: سيأتي وقتها...". ولما رجع رضا خان من تركيا، أثّرت به أفكار نظيره أتاتورك ومظاهره، وأخذ بعدها يطرح هذه الأفكار علنًا في اجتماعات الدولة".

 

وبعد أن أُعلن القرار الأوّل بشأن تغيير القبّعة إلى الطراز الجديد، واجَه اعتراضات وخلافات كبيرة من الشعب ورجالات العلم في آذربيجان وخراسان. أمّا في آذربيجان، فاعتُقِل رجالات العلم المعارضين جميعهم، ومن ثمّ تمّ إبعادهم، وأمّا في مشهد، فواجهوا المعارضين بالرصاص والسلاح في مسجد "كوهر شاد"، وأبادوهم إبادةً تامّة، واعتقلوا العلماء وأودعوهم السجن، وبهذا، استطاعوا أن يفسحوا المجال ويهيّئوا الأجواء لمسألة رفع الحجاب. من جهة أخرى -عندما كانت تقام الاحتفالات والمراسم في جميع أرجاء البلاد- كان الخطباء يتكلّمون حول مسألة تبديل القبّعة، وما لها من آثار، وكانوا يتطرّقون استطرادًا - بشكل مباشر وغير مباشر - إلى مسألة رفع الحجاب وفوائدها، وحرّيّة المرأة، وغير ذلك، كي يُهيّئوا أفكار الناس وأذهانهم لتقبّل هذه المسألة.

 

يجدر بنا أن نقتبس نبذًا من مذكّرات محمود جم - رئيس الوزراء بعد فروغي - أثناء محاوراته مع رضا خان، فيكتب قائلًا: "... التفَتَ إليّ رضا خان وقال: كيف يمكننا أن نقضي على هذه الشوادر (الحجاب الشائع للنساء في إيران)، إنّها فكرة تدور في ذهني منذ عامَين بعد أن رجعتُ من تركيا، وقد رأيتُ نساءها كاشفات متبرّجات يحذين حذو الرجال أينما كانوا، ومنذ ذلك الوقت، كرهتُ هذه السواتر والعباءات، وكرهتُ كلّ من يرتديها، فهي عدوّ لدود للتقدّم والتطوّر لشعبنا...".

 

ويستمرّ في مذكّراته قائلًا: "كان رضا خان يقول: الأفضل أن تكون عائلتي هي المتطوّعة الأولى لتنفيذ هذه الفكرة. لذا، قرّر أن تحضر زوجته وابنتاه وجميع زوجات الوزراء ورجالات الدولة الاحتفال الذي سيشهده المعهد التعليميّ ليوم افتتاحه عام 1935م. وبالفعل، تحقّق الأمر يوم الافتتاح، فحضرَت زوجته وابنتاه الحفل بدون ستر أو حجاب، وكذلك حضرت نساء رجالات الدولة بصورة مماثلة، فبدا انتعاش بعضهم

 

69


41

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

لدى رؤيتهم هذا المشهد المثير والمغري، مشهد النساء الكاسيات العاريات، في حين أنّ بعضًا آخر كان ينتظر مجيء مثل هذا اليوم.

 

وأشار رضا خان، أثناء خطابه بهذه المناسبة، قائلًا: إنّني مسرورٌ جدًّا وفرحٌ لِما أشاهده من الصحوة الفكريّة لدى النساء اللواتي عرفنَ مكانتهنَّ في الحضارة والتمدّن، فنصف البلد كان معطّلًا ومخذولًا، والآن تحرّك كلّه...

 

وبعد أن أدلى بخطابه هذا، نزل عن المنصّة، وأخذ يشقّ صفوف الحاضرين بين الرجال والنساء، إلى أن تواجَه مع النساء السافرات، فخاطبهنّ قائلًا: ... استطعنا أن نحطّم قيود الزنزانات والسجون، والآن، وبمساعدة السجناء الذين أُطلِق سراحهم، سوف نبني صرحًا كبيرًا جميلًا بدل تلك الأقفاص والزنزانات. ثمّ أوصى بعد ذلك المعاونين والوزراء أن يصطحبوا نساءهم بهذه الهيئة كلَّ أسبوع إلى النوادي والحفلات.

 

وبعد أيّام قلائل، صدر قرار إلى الوُلاة والمحافظين، يقضي بإقامة حفلات أسبوعيّة مصطحِبين نساءهم ونساء الأشراف والأعيان في البلد، وذلك عن طريق التشجيع أو الإكراه والجبر، كي يتمّ هذا الأمر، ويصبح شيئًا اعتياديًّا لدى العامّة...".

 

ولأجل تعميم السفور، استعملوا كافّة الطرق والحيل المشجّعة والرهيبة، ويقول صدر الأشراف: "أمر رضا خان وزير الثقافة بإرسال تعليمات إلى المدارس والثانويّات، يقضي برفع الحجاب عن المدرّسات والطالبات، وكلُّ من يخالف، يُطرَد من وظيفته أو مدرسته... كذلك يجب عدم السماح للمحجّبات بركوب الباصات والوسائط الحكوميّة...".

 

ويضيف قائلًا: "... لقد أعطَت الحكومة الصلاحيّة العامّة لرجال الشرطة في أنحاء البلاد كلّها، ممّا زاد وحشيّتهم وتهجّمهم على النساء في المدن والمحافظات الأخرى، فمثلًا، كانوا يتعرّضون للنساء المحجّبات في المعابر وطرق المارّة، وكانوا يرفعون الستر عنهنّ أمام الجميع ويمزّقونه. حتّى وفي بعض القرى والنواحي، كانت النساء ترتدين الشال والشراشف - والتي هي ليست كالشادور - والجلباب الطويل،

 

70

 


42

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

فكان رجال الشرطة يتعرّضون لهنّ، ويسحبون النساء من رؤوسهنّ، إمعانًا في القهر والإذلال، فإذا ما تهيّأت فرصة لهروب إحداهنّ من أيديهم، يطاردونها حتّى منزلها، فيدخلون عليها ويفتّشون أنحاء البيت كافّة، فإذا ما عثروا على أيّ نوع من أنواع الحجاب، فإنّهم يمزّقونه إربًا إربًا... هذا كلّه سمعَته أذناي من أولئك المتوحّشين الخبيثي الفطرة والأساس...".

 

على ضوء هذه القرارات الصارمة، اختفَت كثيرٌ من النساء، وأصبحنَ حبيسات البيوت، وإذا ما اضطررنَ للخروج، فإنّهنّ يخرجنَ مساءً عندما يجنّ الليل ويخيّم بظلامه الدامس، مصطحبات أزواجهنّ وإخوتهنّ، يتستّرنَ بالظلام عن أعين الشرطة والمراقِبين. بعد هذه الإصلاحات المزعومة لرضا خان -التي لم يخرج منها إلى حيّز التنفي سوى القرارَين: الأوّل مسألة القبّعة، والآخر السفور، واللذَين تمّ تعاقبهما- وما هي إلّا فترة وجيزة، حتّى كُشِف النقاب بشكل جليّ وواضح للرأي العامّ، عن خطط رضا خان وعدائه للإسلام والشعب.

 

لاقَت هذه الإصلاحات المزعومة صرخات كبيرة ومدوّية من علماء الدين والحوزات العلميّة بأسرها، وبخاصّة من الإمام الخمينيّ قدس سره الذي واجهها بشدّة وصرامة. يقول أحد شهود المعاينة لهذه الحوادث: "بعد قرار رفع الحجاب وتعميم السفور، ذُهِلَت الحوزة العلميّة - الجديدة التأسيس في قمّ - وأخذَت تفكّر في الردّ السليم على هذه الخطط، وهم في حيرة من أمرهم، فهم من جهة يخشون من سحق الحوزة وتدميرها أو إجهاضها -إذ هي في مهد ولادتها -، ومن جهة أخرى إحساسهم بالمسؤوليّة والواجب الدينيّ، حيث لا يمكن اختيار السكوت وترك النهي عن المنكر".

 

فقد تقدَّم جمعٌ غفير من فضلاء الحوزة، وعلى رأسهم الإمام قدس سره، المعروف آنذاك - بالسيّد روح الله آقا - إلى مسؤول الحوزة المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزديّ، بطلبٍ يقضي إرسال برقيّة إلى الحكومة، فليس ثمّة حلّ أفضل من هذا الحلّ، فالحجاب ضرروة شرعيّة، والدفاع عن المعتقدات والدين واجب مقدّس، وإذا لاقى هذا الطلب إعراضًا

 

 

71

 


43

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

من الحكومة، فإنّ المرجعيّة والعلماء عندئذٍ يُعذَرون شرعًا أمام الله، وتكون هذه، عند ذلك، نقطة اعتزاز سيسجّلها التاريخ لنا.

 

بناءً على هذا، أبرق آية الله الحائريّ تلغرافًا مختصرًا إلى رضا خان، جاء فيه: "إنّ الحجاب هو من ضروريّات الدين، ومسألة السفور يجب ألّا تكون جبرًا وقهرًا و..."، فواجَه هذا التلغراف ردًّا بشعًا من محمّد عليّ فروغي رئيس الوزراء، وآخر عنيفًا من رضا خان.

 

على العموم، تغيّر الوضع العامّ لرضا خان تغيّرًا عامًّا، وقبل هذا التلغراف، كان بعض العلماء الثائرين قد ندّد بهذه الإصلاحات، وراح كثيرٌ من الناس يستنكر الوضع وما وصلَت إليه البلاد إثر هذه التغييرات وانتهاك حرمة الدين والتراث، حتّى إنّ بعض رجالات الدولة المتمسّكين بأعرافهم وتقاليدهم الشعبيّة والوطنيّة، راح يعارض الوضع أيضًا كذلك، وأصبحوا يتوقّعون الشرّ من وجود رضا خان، ويتوجّسون خيفةً من أفكاره المرعبة، حتّى إنّ هذَين القرارَين من الإصلاحات البهلويّة، كشفا النقاب عن كذب رضا خان ودجله عندما نادى بالوطنيّة والقوميّة، معتزًّا بسنن بلاده وتراثها.

 

أين التراث والسنن والتقاليد عندما استبدل القبّعة العاديّة للناس؟ وأين هو من نزع الحجاب الذي توارثَته نساء إيران كابرًا عن كابر؟ فهذا التغيير، بل وهذا التعدّي على حقوق الإنسان، وعلى ثروة البلاد الثقافيّة والعقديّة، ما هو إلّا مخطّط استعماريّ وُضِعَ في حيّز التنفيذ، هدفه الأوّل القضاء على الإسلام، ونشر رايات الضلال والفكر الأوروبّيّ المنحرف، وهذا ما واجهَه بعض رجالات الحكومة آنذاك.

 

وفي الحقيقة، إنّ هذه الازدواجيّة والتناقض بين ادّعاء القوميّة والوطنيّة، وبين مسألة التمدّن والتجدّد، كان أمرًا فاضحًا. وعلى كلٍّ، فلقد رُفِعَ حاجز الحياء والعفّة قهرًا عندما نفّذوا قرار منع الحجاب، وقد قضوا على الأُسَر وفكّكوا كيانها باسم حرّيّة المرأة، وبدل أن تكون المرأة حصنًا حصينًا لأسرتها، ومصدرًا للحبّ والعطف والحنان، تؤدّي وظيفتها التي شرّعها لها الله، من إطاعتها زوجها وتربيتها لأطفالها، أصبحَت

 

72

 


44

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

مصدرًا للشرّ، ومثارًا للفساد والطغيان، عندما ظهرت مع الرجال والأجانب في الدوائر والمعامل والوظائف سافرةً كاسيةً عاريةً...

 

لقد انخرطَت النساء في معركة التسابق للمثول أمام رؤوساء الدوائر، بهدف الترفيع وزيادة الرواتب والفوز بالمناصب، حتّى وقعنَ فريسة التملّق، والاستهتار، وكسب ودّ أولئك المجرمين المفسدين، وإرضاء حماقاتهم ورعونتهم...

 

إنّ مسألة السفور ولّدَت قضايا عديدة خطيرة ومدمّرة، فسرعان ما فسد الشباب والشابات، وسرعان ما نزلَت أنواع الألبسة، التي غفل الغافلون عن المخاطر والشرور الناتجة عن ارتدائهم لها، كاستهلاك الموادّ وهدر الطاقات الكثيرة، ناهيك عن أساليب اللهو بأنواعها وأشكالها وألوانها، وكذلك نسوا كيف سيتحوّلون إلى مظهر من مظاهر الغرب والانصياع لهم. والمحرِّك الأكثر خطرًا والأوّل لهذا كلّه، هو الدعايات التي قامت بها الصحف والمجلّات لكسر طوق الخجل والحياء، فأينما يولّي الفتى والفتاة وجهه، وإذا بالصورة العارية، والقصّة الفاسدة، والكتاب الجنسيّ. أمّا دُور السينما والمسارح، فحدِّث ولا حرج عن الفضائح والإثارات الجنسيّة وغيرها، التي جرَّت الشباب إلى الويلات والدمار، فقد نهبوا أموالهم، ولوّثوا عقولهم بتحريك الغرائز وإثارة الشهوات.

 

هذا هو ما كان يريده رضا خان بالتحديد، فهدفه الأصليّ هو إشغال الشباب، والناس عامّةً، بالفساد واللهو واللعب، حتّى تنقلع جذور الدين والإسلام من أصلها، وتتهدّم صروح الثقافة والعلوم والفنون بأجمعها.

 

وقد أشار الإمام قدس سره في كتابه "كشف الأسرار" إلى هذه الخطط والمؤامرات المدمِّرة للشعب، والتي يدّعي رضا خان بأنّها المطهِّر الحضاريّ للبلد، وكشف أهدافه الحقيقيّة قائلًا:

"... نحن نقول ونؤكّد بأنّ هذه الدولة والحكومة هي دولة كفر وظلم، والذي يساندها فهو أكثر كفرًا وإلحادًا. وهل هذه حكومة؟! الحكومة التي تصفّ الآلاف من الناس والمظلومين، وترشقهم بالرصاص لأجل تغيير قبّعة وتبديلها، أهي حكومة؟

 

73

 


45

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

ما هي هذه الحكومة المخالِفة للعدالة والدستور؟ ما هذه الحكومة التي تُطلق المتوحّشين والظلمة على العفيفات والمحترمات من النساء في كلّ مدينة وقرية... فيهتكوا أعراضهنّ، ويعتدوا عليهنّ مستخدمين القوّة والعنف؟ هؤلاء الأوغاد الذين جعلوا من النساء المحجّبات هدفًا لركلات أرجلهم وأحذيتهم! فكم وكم كسروا أضلعهنّ وأجهضوهنّ!... ما هذه الحكومة الظالمة؟ فهي، وكلّ من يعينها ويساندها، كافرٌ وجاحدٌ بالله... ما تلك الصحف والمجلّات التي تساند الحكومة، وتساند رضا خان الديكتاتور الظالم أشدّ المساندة، وبخاصّة في قضيّة السفور الهدّامة للشعب وللثقافة الإسلاميّة؟ يجب أن تُلَمّ وتُحرَق جميع تلك الأوراق المؤيّدة للديكتاتور في الشوارع والميادين...

 

أمّا الناس عمومًا، يجب عليهم أن ينظروا إلى تلك الصحف والمقالات المسانِدة والمؤيِّدة لحركة رضا خان بعين الحقارة، وأن لا يعتبروها إلّا أقلّ شأنًا من الأوراق المهملة والقذرة، تلك الأوراق والصحف والمقالات التي لا تحمل معها إلّا أفكار رضا خان المنحرفة، وإنّما هي أخطر بكثير من أمثال أحمدي -دكتور السجناء السياسيّين، الذي كان يقتلهم عبر زرق الهواء بشرايينهم سرًّا وخفيةً - ومختاري - الجلّاد رئيس شرطة رضا خان - على الشعب والوطن، فإذا كان أحمدي يقتل أفرادًا وأشخاصًا معدودين، فإنّ هذه الصحف والمجلّات تقتل المئات من الناس الأبرياء، بما حوته من أفكار سامّة ودسائس. وليعلم الشعبُ أنّ غرز أقلام هؤلاء تُعادِل مئات المرّات من غرز إبر أحمدي وأمثاله.

 

... وإنّ من سار على نهج الاستعمار وحقّق لهم مآربهم، هو ذلك الديكتاتور الذي صنعوه، كنظيره السابق أتاتورك، فهؤلاء هم الذين نفّذوا جميع خططهم بالقوّة والعنف. فرضا خان كان يضغط على الشعب بقوّته وقسوته من جهة، ومن جهة أخرى، كان يفسد أفكار الناس بالكاريكاتورات الصحفيّة والمجلّات، مضافًا إلى ذلك، ضغطه على العلماء، وضبط تحرّكاتهم، وإشاعة الفساد والفحشاء والسفور، وبثّ

 

 

74


46

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

دعاية العشرة والمؤانسة والعمل، وكذلك مسألة تغيير القبّعة، والسينما والتمثيل، وإلى غير ذلك من الألاعيب التي يخدع بها الشعب على أنّها الطرق الحضاريّة الأصيلة للتقدّم والرفاه، ولرفع المستوى الحضاريّ للبلاد، وأنّ الدين هو المانع لهذا. وبهذه الحيل والألاعيب، جعلوا الناس يتذمّرون من العلماء، وكانوا يريدون من ذلك إبعادهم عن الإسلام. إنّهم لعبوا بأفكار الشباب اليافعين والمراهقين، الذين يعيشون قمّة الشهوات والنزوات، وخلطوهم بالفتيات المتبرّجات، ولوّثوا أدمغتهم بأنواع الموسيقى المطربة والمهيّجة، وربّوهم على أيدي أولئك الأساتذة المنحرفين، وأخرجوهم عن ربقة الإسلام والدين، وانحرفوا بهم عن العلائق الزوجيّة المشروعة، إلى ساحات الانحراف والفساد في أرجاء الوطن كافّة...".

 

وأخيرًا، يحصر أفكار رضا خان "الحضاريّة" في عبارة واحدة، فيقول:

"نعم... كلّ ما ورثناه من قبّعات مستجدّة، وسفور قاتل للعفّة، وبإيجاد شوارع عريضة طويلة، ذلك كلّه ما هو إلّا سرقة ثروات البلاد، ووأد جميع الفضائل الأخلاقيّة".

 

هذا، ومضافًا إلى ما ذكرناه سابقًا من تركيز الحكومة بدعايتها لحرّيّة المرأة وتحرّرها من قيود الرجعيّة، فإنّه كانت، هنا وهناك، صرخات ضدّ هذه الدعايات والإغراءات من الحكومة، مع العلم بأنّ كثيرًا من المثقّفين والشعراء والأدباء تأثّروا أيّما تأثّر، وانغمرت أفكارهم بتلك الدعايات، وراحوا يؤيّدونها بأقوالهم وأقلامهم، إلّا أنّ هناك كثيرًا من الفكّرين والأدباء والمثقّفين الإيرانيّين والأجانب ندّدوا بهذه الظاهرة، وألقوا اللوم على الحكومة.

 

المستشرق "بيتر آفري" المؤرّخ البريطانيّ المعنيّ بدراسة تاريخ إيران وتحليله، يذكر في كتابه "تاريخ إيران المعاصر"، والذي يعود تأليفه إلى ثلاثين سنة، آداب العوائل الإيرانيّة وسننها وحرّيّة المرأة في أسرتها واجتماعها، إلى حين فرضت مسألة السفور على الشعب من قِبَل رضا خان، فيقول: "صحيحٌ أنّ النساء قديمًا كنّ يرتدينَ الحجاب ويتستّرن من الرجال عدا محارمهنّ، لكن في الوقت نفسه، كان لهنّ نفوذ كبير في مجالات الحياة، كالأمور البيتيّة، وفي السوق والشارع، وزيارة الأقارب والمعارف، بل

 

75


47

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

تعدّى ذلك إلى السياحة والسفر وزيارات العتبات المقدّسة في المدن البعيدة، كمدينة مشهد والنجف، وكافّة العتبات في العراق.

 

والمرأة الإيرانيّة المتمكّنة ماليًّا هي أكثر سفرًا بالقياس إلى المرأة البريطانيّة".

 

وكاتب آخر، وهو كاتب إيرانيّ، يصف إصلاحات رضا خان، وأهمّها السفور، فيقول: "حقًّا، إنّه انتصارٌ لحقوق الإنسان، والكرامة، والحرّيّة الفرديّة والشخصيّة، والأمن الفرديّ، والآداب الاجماعيّة، والحقوق القانونيّة، والعدالة الاجتماعيّة، والأهمّ من هذا كلّه، حرّيّة المرأة! مع هذا الوصف والتقدير، راح الكثير من المفكّرين والمثقّفين الإيرانيّين والأجانب يعتقدون أنّ هذا القرار الصارم من الحكومة، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخ إيران الدكتاتوريّ، أنّه نقطة انعطاف وتحوّل تصنع من إيران القرون الوسطى إيران متقدّمة ومتطوّرة.

 

... ألم يكن هذا مثيرًا للاشمئزاز والتنفّر عندما تسمع بنداء حرّيّة المرأة وتحرّرها، في حين أنّ الرجال أصبحوا ألاعيب ودُمى بيد قوانين الحكومات المتغيّرة والمتنوّعة؟

 

وعلى العموم، تحقّقَ هذا الأمر، وتبدّلَت البلاد، وبقيَت الأمور الأخرى كافّة معلَّقة ومتروكة، والشاه غارق وتائه بين زوجاته الثلاث اللواتي يؤدّين جميع علائقهنّ العائليّة كالحيوانات... وبعد، فهل السفور هو حرّيّة المرأة؟

 

إنّ ما وقع، في الحقيقة، ليس تقدّمًا ولا تحرّرًا، إنّما هو إقدام شرس وشنيع، يحمل عنوان التجدّد والتقدّم، إقدام مستبدٌّ وجاهليٌّ، راح يؤيّده ويرفع لواءه جمعٌ من المتعصّبين الحاقدين على أنّه السبيل الأمثل لنجاة إيران من الرجعيّة".

 

ب- السياسة الدينيّة

أشرنا سابقًا إلى أنّ رضا خان كان يرى نفسه مجبرًا ومنقادًا إلى ارتداء قناع دينيّ له، ليضلّل الرأي العامّ به، فأظهر اهتمامًا بظواهر الشرع والدين، واحترامه الخاصّ لمقدّسات الإسلام، فمثلًا قُبَيل استلامه زمام السلطنة بشهر واحد، أصدر بيانًا ينسب فيه إلى شخصه أنّه المنفِّذ لأحكام الله ودستور الإسلام والشرع المبين، وراح يلوّح بأنّه

 

76

 


48

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

السائر على نهج مراجع الشيعة والعلماء في الحوزة، ليحظى بتأييد العامّة والخاصّة، إلّا أنّه يهدف إلى اتّباع سياسة هدّامة حاضرًا ومستقبلًا. في الوقت نفسه، كان لا يتراجع عن تهديداته تجاه مخالفيه ومنتقدي أعماله في المجلس، وكان يتّبع جميع الأساليب والوسائل من ترغيب وترهيب واغتيال فكريّ ومادّيّ لمعارضيه، الذين كانوا يعرفون مقدّمات سياسة رضا خان الديكتاتوريّة، والمستقبل الأسود الذي ينتظر البلاد. كان رضا خان لا يستطيع أن يرى بصيص الحرّيّة المختصر الموجود في المجلس، والذي هو من بقايا انتفاضة الدستور، وحين تصاعد اعتراض النوّاب ضدّ سياسة رضا خان، إذ راحوا يعكسون أفكارهم في الصحف والمجلّات والمجالس لعامّة الناس، كان لهم بالمرصاد، فكان يواجههم إمّا بالتهديد، وإمّا بالتحذير، وأحيانًا يلجأ إلى الاغتيال، تلك كانت وسائله لإخماد فتيل نيران أعدائه ومناوئيه.

 

وبعد أن وصل رضا خان إلى السلطة والحكم، ابتدأ بتنفيذ خططه الاستعماريّة ضدّ الإسلام والمسلمين، وشملَت هذه الخطط مرحلتَين:

المرحلة الأولى: تمّت بالقضاء على جميع تحرّكات العلماء، وعزلهم عن مناصبهم السياسيّة والقضائيّة. ورافقت هذه التحرّكات هجمات كبيرة على الفقهاء وعلماء الدين، وتعريتهم من الفضائل، والمبالغة بتسقيطهم، وإبعادهم عن الحضارة والتمدّن، وكان ذلك عبر الصحف والمجلّات والإذاعة والحفلات والمجالس العامّة، حيث شوّهوا سمعة العلماء والفقهاء.

 

والمرحلة الثانية: هي القمع، والقضاء على الحوزة العلميّة، وتبديد شملها، وزلزلة الإيمان والعقيدة والتراث الإسلاميّ من الحياة والمجتمع، وترسيخ سلك رضا خان وعقيدته، التي كانت تعتمد على ركنَين: القوميّة والتمدّن، واللذَين أشرنا إليهما بالتفصيل سابقًا.

 

منذ عام 1927م، حدثت تغييرات في دار العدالة، فقد مات المدير المعنيّ بالشؤون القضائيّة المدعوّ عليّ أكبر داور -وهو من المتجدّدين والمثقفّين، والذي يشغل هذا

 

77

 


49

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

المنصب منذ عشرة أعوام - قام بعزل القضاة المعمّمين من العلماء، وأحلّ محلّهم رجالًا من الحقوقيّين والمتجدّدين، علمًا أنّ الكثير لم يكن بدرجة عالية كدرجة القضاة، لا علمًا ولا مكانة، وتزامنًا مع هذه الخطوات، غُيّرَت القوانين العامّة - والتي كان فيها شيء من اسم الإسلام ورسمه - إلى قوانين عرفيّة مدنيّة. فاللائحة الجديدة للقوانين التي قُدّمت للبرلمان عام 1929م، فيها بنود كثيرة تشابه ما جاء بشأنها في القوانين الفرنسيّة.

 

وفي عام 1932م، دُوِّنَت مقرّرات العقود الزوجيّة طبقًا للقانون المدنيّ، وبعيدًا عن دستور الإسلام، ومن عهدها، أصبحت عقود الزواج والطلاق تُجرَى على أيدي المسؤولين والموظّفين المخوّلين، بعد أن كانت تتمّ بواسطة العلماء في المراكز الشرعيّة. وخلافًا للشرع الحكيم، جُعِل سنّ الزواج ثمانية عشر عامًا. كذلك غُيِّرَت قوانين السجلّات والأملاك، وحُصِرَت معاملاته في نطاق المحاكم وممثّليهم. وأخيرًا، صوّت البرلمان على تبديل قوانين السلطة التشريعيّة إلى قوانين مدنيّة وعُرفيّة في عام 1937م، وقد كانت هذه المشاريع والإجراءات تُنَفَّذ عبر علماء الدين، علاوة على أنّها وظيفة من وظائفهم الدينيّة والشرعيّة، فهي كانت نقطة ارتكاز سياسيّة واجتماعيّة لهم، حيث نرى بذلك توسيع روابطهم وعلاقاتهم مع عامّة الناس، ووسيلة التقرّب إليهم، وهذا كان يبعث عند الناس الطمأنينة والمحبّة لهم، ويدعو للالتفاف حولهم، وفي الماضي، كنّا نرى أنّ السلاطين والحكّام والولاة كانوا يقرّبون هذه الشخصيّات لديهم، فيسندون إليهم مناصب القضاء وغيرها، كي يتّخذوا بذلك وجهًا مسالمًا للشعب، ويستثمروا طاقات هؤلاء العلماء، ويستفيدوا منهم ومن مكانتهم.

 

لكن بعد ذلك كلّه، كان دعاة التجديد يرون أنّ إحدى الطرق المؤثّرة والعائدة بالصلاح للمحاكم الشرعيّة، هو عزل العلماء عنها، كي ينقطعوا عن الأمور السياسيّة، ويُحَدُّ من تدخّلاتهم بالحكومة، وينتهي تسلّطهم على زمام الأمور السياسيّة والاقتصاديّة تمامًا. ومن هنا، لم يكن عبثًا توجيه الإصلاحات ذات الطابع الغربيّ من قِبَل "سِبَّهسالار"[1]


 


[1] ميرزا حسن خان سِبَّهسالار وزير الحرب والخارجيّة في العصر القاجاريّ.

 

78


50

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

بعزل العلماء من دار العدالة (وزارة العدل)، والتي اشتدَّت فاعليّتها في عهد رضا خان.

 

على أيّة حال، إنّ ظاهرة عزل العلماء أو استقالتهم من مناصبهم القضائيّة، أثّرت بشكل واضح وجليّ على نشاطهم وتماسّهم مع العامّة، وعملَت على تقليم أظافرهم وإبعادهم عن الساحة السياسيّة نوعًا ما، علمًا أنّ منهم من استطاع أن يمسك بكرسيّه ومهمّته، ويواجه الصعوبات والمضايقات الكبيرة، إلّا أنّه مع ذلك، أصبح مجمّدًا في نطاق دائرته ومهمّته، ولا يؤدّي منها سوى الطابع الرسميّ والشكليّ لها.

 

ومضافًا إلى كلّ ما مرَّ بنا، فإنّ رضا خان كان يطمع بتصفية الكادر الدينيّ بتمامه، والقضاء عليه قضاءً تامًّا، لذلك قام بممارسات وإجراءات وحشيّة لا إنسانيّة ضدّهم، حيث حاول عام 1927م اغتيال السيّد حسن المدرّس، الذي نجا منه بأعجوبة، وأدرك السيّد المدرّس أنّ ذلك كان من وراء رضا خان وتدبيره.

 

واشتدَّت المضايقات والإجراءات التعسّفيّة من قِبَل رضا خان ضدّ الدين والإسلام، والتي كانت تثير مشاعر العلماء السياسيّين الواعين، منهم الشيخ محمّد تقي بافقي، وهو أحد العلماء المسؤولين المعروفين لدى الحوزة العلميّة، والذي كان يتحلّى بالإخلاص والشجاعة والجرأة، فيندفع تلقائيًّا إلى العمل والجهاد. فقد أرسل رسائل عنيفة ومؤنّبة إلى رضا خان، يطلب منه الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على إثر تلك الرسائل، شنَّت الحكومة هجمة عنيفة بوسائل الإعلام على العلماء، وهدّدتهم لعدم تكرار هذه العمليّات وإرسال الرسائل، وأكّدت بأنّ كلّ ما يُدَّعى من أمر بمعروف ونهي عن منكر من قِبَل العلماء، ما هو "إلّا إلقاء شُبهة في المجتمع، وإحياء النفاق بينهم" وهو عمل فاسد، ومن ورائه أيدٍ أجنبيّة، وأنّهم محكومون "حكم المفسد في الأرض"، ويستحقّون أنواع التأديب والتأنيب والجزاء.

 

وعلى أيّة حال، فإنّ هذه التهديدات والتوعّدات والإهانات العلنيّة للعلماء ورجال الحوزة العلميّة تُعَدّ مؤشّرًا صريحًا، يعني عدم تدخّلهم بشؤون السلطة والسياسة وإدارة البلاد وكلّ ما يصدر من رضا خان، وهذا أمرٌ لا ينبغي السكوت عنه. وقام

 

 

79


51

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الشيخ بافقي بإدانة هذه الهجمات، ووقف صامدًا ضدّ الحكومة، ما جعل المأمورين يرفعون مثل هذه الإعلانات والبلاغات عن جدران المدينة. علاوةً على هذا، قام العلماء المجاهدون في مدن أخرى، وندّدوا بهذه التصريحات والتهديدات الحكوميّة، ورفعوا حاجز الصمت، وبيَّنوا ما سيصيب البلاد من إجراءات رضا خان المدمّرة، وصمّموا على الصمود والوقوف بوجهه إلى أن يرتدع أو ينتهي وجوده.

 

وقام علماء مدينة أصفهان باعتراضهم الظاهريّ على مسألة التجنيد الإجباريّ لطلبة المدارس والحوزات العلميّة، الذي صدر قراره في البرلمان عام 1926م، وكانوا يريدون بهذا كسر حاجز الصمت والسكوت أمام رضا خان، وفتح مجال الاعتراض والانتقاد مقابل تجاسر الحكومة وعنفها، وخرجوا من أصفهان يرأسهم المجاهد الشيخ آغا نور الله الأصفهانيّ، متوجِّهين إلى مدينة قمّ.

 

عندما أُشيع خبر اجتماع العلماء في مدينة قمّ، صمّم جميع العلماء في باقي المدن على الالتحاق بهم، عندها كان السيّد حسن المدرّس عضوًا في البرلمان، فأصدر بيانًا يتضمّن تأييده ورعايته للعلماء المهاجرين.

وبقي هؤلاء جميعًا في مدينة قمّ لأشهر عدّة، وقدّموا طلباتهم لأعضاء البرلمان، والتي كانت تشتمل على إعادة النظر في مسألة التجنيد، وانتخاب خمسة من العلماء البارزين من قِبَل البرلمان طِبقًا للبند الثاني من متمّم الدستور العامّ، وتعيين مراقب وناظر للشرائع في الولايات جميعها، وعدم التعرّض للعلماء، وإعادة مكاتب الشرع لأعمالها كما في الماضي.

 

وراح رضا خان يتهيَّب ويتخوَّف من حدوث ضجّة كبيرة لدى الشعب، قد تؤدّي إلى الثورة عليه، جرّاء هذا الاجتماع الكبير في قمّ، وعندها يكون قمعها أو السيطرة عليها شيئًا عسيرًا، ومن جهة أخرى، فهو لا يريد أن يرضخ لطلبات العلماء، أو يتنازل عن قانون التجنيد الإجباريّ وغيره، لأنّه إجراء خطر على الدولة، يجعل موقفها ضعيفًا أمامهم، وسوف يضطّره مستقبلًا للتراجع أمام طلبات هؤلاء كلّها.

 

بناءً على هذا، قام رئيس الحكومة "مخبر السلطنة هدايت" بصيغة حلّ للمشكلة،

 

80


52

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

تقضي بترغيب كبار العلماء بالجلوس على طاولة المفاوضات مع الحكومة، وتقوم هذه الأخيرة بتفرقة آرائهم ونظريّاتهم وتشتيتها وهدمها، ومن جهة أخرى، فرض حصار عسكريّ لمدينة قمّ لمنع خروج العلماء والمعمّمين وعامّة الناس من قمّ، كي لا يتسرّب نبأ الاحتجاج والمعارضة إلى باقي المدن. والأهمّ من هذا كلّه، فإنّ آية الله الحائريّ، الذي كان لا يميل إلى السياسة والتدخّل بشؤونها، ويواظب على حفظ كيان الحوزة بعيدًا عن تيّار سياسة رضا خان، أخذ يخالف هجرة العلماء والمعمّمين من سائر المدن إلى قمّ، وعزل نفسه عنهم منذ البدء.

 

وفجأة، فُجِعَت الحوزة بوفاة الشيخ آغا نور الله - وقد ذهب بعضهم إلى أنّه قُتِل مسمومًا بوساطة طبّاخه أو طبيبه بأمر من رضا خان - وانشقّ اجتماعهم واعتصامهم، بما فيهم العلماء المهاجرون من المدن الأخرى، واغتنمَت الحكومة هذه الفرصة، وألقَت بمطالبهم في عالم النسيان.

 

وعلى مدى هذه الفترة، كان إمامنا الراحل قدس سره - الذي لم يبلغ من العمر إلّا ستّة وعشرين عامًا- على صلة دائمة بهم، وكان يتتلمذ على يد آية الله الشيخ محمّد رضا النجفيّ الأصفهانيّ المسجد شاهي، وعلى هذا، فهو على علم كامل بما جرى من حوادث جمّة وكبيرة في ذلك الوقت، وبما قام به رضا خان من خداع ومكر لإبادة كيان ذلك التجمّع الكبير، ويتطرّق الإمام قدس سره لهذه الحوادث مرّات عدّة، وممّا جاء في أحد خطاباته:

"في زمن ذلك الرجل الجاهليّ... رضا خان السفّاح القذر، قامت ثورة عارمة من قِبَل العلماء في أصفهان، وشهدناها نحن بأمّ أعيننا. قَدِم علماء أصفهان إلى قمّ، وتبعهم آخرون من سائر المدن الأخرى واجتمعوا فيها، وندّدوا بالنظام، واعترضوا عليه، وانتقدوه. لكنّ تفرّقهم وتشتّت آرائهم أدّى إلى ضعفهم وعدم سيطرتهم على الموقف، فتبدّد كلّ شيء على إثر الخداع والمكر والحيل وغيرها...".

 

وبعد شهرين من نهضة علماء أصفهان، حدثَت واقعة أخرى اصطدم فيها رضا

 

81

 


53

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

خان مع علماء الدين. ففي مراسم بداية العام الشمسيّ الجديد 1307 (1929م)، دخل رضا خان مع زوجته وبناته - وهنّ سافرات متبرّجات - إلى مرقد السيّدة معصومة[1] في مدينة قمّ، ولاقى اعتراضًا وانتقادًا شديدَين من عامّة الناس والزوّار، وبالأخصّ من المجاهد الشجاع الشيخ محمّد تقي بافقي، ومباشرةً ودون تأنٍّ، أحضر رضا خان الشرطة والحرس والضبّاط، ودخل الحرم، وبعد أن دخل هؤلاء الأوغاد إلى الحرم، انهالوا على الناس والزوّار بالضرب والشتم، وبدّدوهم عن آخرهم، وأمّا الشيخ بافقي، الذي عمل طبقًا لوظيفته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أحضروه أمام رضا خان، وأخذ هذا الأخير يتطاول عليه بالسبّ والشتم والضرب أمام الجميع، وبالحرم المقدّس، ومن ثمّ أمر جلّاديه أن يزجّوه في قعر السجن، حيث لبث في السجن إلى أن توسّط الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ له، وأخرجه من زنزانات رضا خان، وقطن منطقة السيّد عبد العظيم، فوضعوا عليه رقابة مشدّدة، وبقي فيها حتّى انتهاء حياة رضا خان السياسيّة، إلى أن وافاه الأجل عام 1942م.

 

كان إمامنا الراحل يُشيد بهذا الشيخ الجليل والمجاهد والمتّقي، ويكنّ له الاحترام الكبير. يُروى بأنّ الإمام قدس سره كثيرًا ما كان يذكر هذا الشيخ أثناء إلقاء درس الأخلاق في المدرسة الفيضيّة، وكان يقول بحقّه:

"على كلّ من يريد أن يحظى بزيارة مؤمن خضعَت له الشياطين وطأطأت له، فليذهب إلى ناحية ريّ، بعد زيارة السيّد عبد العظيم، فليزر الشيخ محمّد تقي بافقي".

 

هذه الحركة، وهذه الظاهرة الخطرة التي قام بها رضا خان، ودنّس بها العتبات المقدّسة بدخوله إيّاها مع أتباعه وأعوانه الظلمة، حطّمَت حرمة الأماكن المقدسة، وداسَت على جميع معتقدات الحوزة العلميّة، وكانت بمثابة إخطار وتنبيه للحوزة وعلماء الدين. وللأسف الشديد، لم تلقَ أيّ ردع أو تنديد من رئيس الحوزة، بل وأكثر،


 


[1] السيّدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.

 

82


54

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

فقد عمد إلى تهدئة الناس، وتوصيتهم بالصبر والتحمّل وعدم المواجهة، وحرَّمَ عليهم النشاط الجهاديّ ضدّ الطعمة الحاكمة، ولعلّ تعليله لذلك كان خشية تبديد الحوزة العلميّة، وخشية أن يدفع رضا خان بالقيام ضدّها بأكثر من هذا، وحفاظًا على سمعة الحوزة ووجاهتها ومكانتها والاحتفاظ بوجودها، أمر بذلك، ولكن على أيّة حال، هذا السكوت والتراجع جعل رضا خان يتجاسر ويتطاول على الحوزة والدين أكثر فأكثر.

 

مع حلول الدورة السابعة لانتخابات البرلمان في عام 1929م، وانتهاء الدورة السادسة، سيطرت الحكومة، عسكريًّا ودبلوماسيًّا، على الانتخابات والبرلمان بالكامل، ومن الطبيعيّ أنّ فرز الأصوات سوف لن يكون له أيّة أهمّيّة، وسوف تُسحَقُ أصوات الشعب، وتخرج النتائج حسب رغبات الحكومة، وبما يتماشى مع أهدافها. وهذا هو ما تحقّق فعلًا.

 

وبعد إعلان أسماء الأعضاء الجدد للبرلمان، أصدر رضا خان قرارًا بنفي السيّد حسن المدرّس وإبعاده - وهو الذي وقف في وجه مآربه وأهدافه طيلة حياته السياسيّة في البرلمان، والتي تجاوزت السبعة أعوام - أبعده إلى مدينة خواف الصحراويّة البعيدة.

 

هدأ بال رضا خان، وارتاح من السيّد حسن المدرّس، وضمن سكوت الحوزة العلميّة والعلماء وهدوءهم، وخلا له الجوّ، وتهيّأَت له أجواء جديدة وآفاق أوسع لتحقيق أهدافه ووضعها قيد التنفيذ، فقام بعد ثلاثة أشهر من نفي السيّد المدرّس، بإصدار قانون صوَّتَ عليه البرلمان المزيّف، هو قانون الزيّ الموحّد - الذي أشرنا له سابقًا بشيء من التفصيل - وبعد هذه الحوادث والمواقف، أصدر بيانًا من البرلمان عام 1935م لا يسمح بارتداء زيّ علماء الدين إلّا بعد حصولهم على الموافقة من وزارة الثقافة، وبعد شهر واحد من هذا القرار، أُقِيمَت تلك الحفلات والسهرات وبرامج رقص الفتيات العاريات، ومن ثمّ مسألة تبديل القبّعة بالطراز الأوروبّيّ، ونشر مسألة السفور.

 

لكنّ هذه الحوادث والوقائع لم تكن تحتفظ بشكلها الصوريّ لكثير من الناس وعلماء الدين، وراحوا يتنبّؤون بهجمة كبيرة، ويفسّرون هذه الصور بأنّها مقدّمة

 

83

 


55

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

لهذه الهجمة الكبيرة والعنيفة، وقد تكون هي بالذات مسألة إشاعة السفور والإقرار به. وعلى هذا، اجتمع علماء الدين من مدن عدّة، وشكّلوا حلقات اجتماع وبحث، وأصدروا بيانات معارضة للحكومة.

 

ففي تبريز، قام آية الله ميرزا صادق آغا وآية الله السيّد أبو الحسن أنكجي بالمعارضة، وبدون أيّ تأنٍّ، صدر قرار بإلقاء القبض على هذين العالِمَين المجاهدَين، وقد أُبعِدا إلى محافظة كردستان. وبعد انتهاء فترة النفي هذه، اتّخذ آية الله آغا ميرزا صادق آغا من قمّ سكنًا له. وبوجود هذا العالِم الجليل بهذه المدينة، أخذ الإمام قدس سره يُكثر التردّد عليه، ويتداول معه بما يجري من أحداث ووقائع وأمور تخصّ الحوزة والشعب وحِفظ الدين الحنيف، وأخذ يتزوّد من نظراته وآرائه، ويؤكّد الإمام قدس سره هذا الجانب بقوله:

"... في عهد رضا خان أيضًا، حدثَت ثورة في آذربيجان، وتولّاها المرحوم آغا ميرزا صادق آغا والمرحوم أنكجي و... لكن أبعدوهم عن ديارهم فترات طويلة. وبعد إطلاق سراح المرحوم آغا ميرزا، رغب بالإقامة في مدينة قمّ، على أنّه كان يحظى بمحبوبيّة كبيرة في آذربيجان، وبقي طوال عمره في قمّ، وكنّا نتنوّر بزيارته والتردّد عليه دائمًا...".

 

وشهدَت مدينة مشهد اجتماعات مكثّفة لشخصيّات دينيّة وعلميّة، شملَت كلًّا من السيّد حسين القمّيّ، والسيّد يونس الأردبيليّ، والسيّد نجل آية الله الآخوند الخراسانيّ، وغيرهم. ووعوا جميعهم بأنّ هذه الإجراءات والحفلات وسهرات الدعارة في شيراز وطهران، ومسألة القبّعة وغيرها، ما هي إلّا مقدّمة لعمليّة كبرى، وهي مسألة السفور ورفع الحجاب. على إثر هذا، قام السيّد حسين القمّيّ بزيارة إلى طهران، ليلتقي برضا خان ويصرفه عن مسألة السفور ورفع الجاب، ولكن ما إن استقرّ في محلّ إقامته، حتّى حاصرته القوّات المسلّحة، ومن ثمّ أبعدوه إلى العتبات المقدّسة. وبعد وصول نبأ هذا الحادث إلى مشهد، أدرك العلماء أنّ رضا خان مُصمّمٌ ومُصرٌّ على ما يروم القيام به.

 

84

 


56

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

لذا، شرع العلماء والوعّاظ والخطباء بالوقوف بوجه الحكومة والتنديد بها، وحرّضوا الشعب على الثورة والنهضة ضدّ هذه الحكومة والنظام، وشهد مسجد "كَوهر شاد" تظاهرات واجتماعات كبيرة بهذه الأزمة.

 

ولمّا رأى رضا خان أنّ عرشه ونظامه قد يتعرّض إلى هزّة من جرّاء هذه المظاهرات المعارِضة، وخشية أن تكون كتلك التي نشأت بأصفهان وبرزَت من قمّ، أصدر أحكامًا وقرارات لقمع هذه الحركات والكتل المجتمعة بهذه المدينة، وبالمسجد هذا بالأخصّ.

 

يكتب مؤلّف كتاب "ثورة كَوهر شاد" حول اجتماعات الشعب في المسجد واعتراضاتهم، ووقوفهم المشرِّف والشجاع أمام القوّات المسلّحة، ويستشهد في مقالاته بأشخاص شاهدهم بأمّ عينه، وعاشوا الحوادث، فيقول: في صباح يوم الجمعة 10 ربيع الثاني في 1354، أُعلِنَت صفَّارة الإنذار للقوّات المسلّحة في مدينة مشهد للتدخّل العسكريّ لتبديد الاجتماعات والكتل الشعبيّة، وتفريقهم بعضهم عن بعض، وفُتِحَت النيران عليهم دون أيّ حذر أو قيد، وجُرِح وقُتِل أكثر من مئة شخص، ومع هذا، اشتدّ تماسك المتظاهرين، وجُمِعَ شملهم أكثر فأكثر. وأخذت القوّات تتراجع ظاهريًّا، ولكنّها كانت تتراجع لتتجهّز وتستعدّ مرّة أخرى وتُعيد الكرّة. وبعد هذه الكارثة والقتل، انهال أهالي الأرياف والضواحي لمدينة مشهد، وكلٌّ منهم رافعٌ بيده معولًا أو مسحاة أو شوكة وغيرها، لدعم الشعب والمجاهدين، والوقوف أمام الوحوش والجبابرة المسلّحين. ومُلِئ المسجد الجامع بالنساء اللواتي شاركنَ الرجال واجتمعنَ في جناح مُصلَّى المسجد. وأخذ الخطباء والمتكلّمون يحرّضون الناس، وينبّهونهم لِما قام به النظام من فساد وانحراف، وتطرّقوا إلى مسألة الزيّ الموحّد، وتبديل القبّعة، والأهمّ حادثة السفور. وبناءً على أوامر القيادة، تجمّعَت القوى العسكريّة، بما فيها الجيش والشرطة ورجال الأمن، تحت ظلّ قيادة العقيد "إيرج مطبوعي"، الذي صمّم على اقتحام المسجد، وإراقة الدماء، وقمع الانتفاضة عسكريًّا في اليوم التالي.

 

وفي صبيحة يوم السبت، توزّعَت القوى العسكريّة، وشغلَت الأماكن الاستراتيجيّة

 

85

 


57

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

في المنطقة والمسجد، ونصبَت الرشّاشات في الزوايا والمشارف المطلّة على المسجد تمامًا، ودخل رجال قوى الأمن إلى المسجد خفيةً، وهيّؤوا الأرضيّة المناسبة لدخول القوّات إلى داخل المسجد في الوقت المناسب، وقد حصل هذا بالفعل.

 

لم يمضِ وقتٌ من ظلام ليلة الأحد الدامس، إلّا وفُتِحَت النيران على تلك الحشود في المسجد، من أعلاه ومن جوانبه. وفي بضع ساعات، تبدَّد ذلك الاجتماع العظيم، وسط صراخات الجرحى - الذين تلقّوا رصاصات الآثمين بصدورهم الجيّاشة بالإيمان - واستغاثاتهم، وتراوح عدد القتلى ما بين ألفَين إلى خمسة آلاف قتيل، كما بلغ عدد الجرحى حوالي ألف وخمسمئة جريح، ونُقِلوا مباشرةً بشاحنات إلى خارج المدينة، وأُلقِيَت جثثهم، بما فيهم الجرحى، في مقابر جماعيّة تحت التراب، وسِيق البقيّة إلى السجون الانفراديّة.

 

أمّا السجون، فشهدت تعذيبًا وحشيًّا وقاسيًا لآية الله آغا زاده وآية الله السيّد يونس الأردبيليّ، مع ثلاثين شخصًا من العلماء البارزين، الذين أُلقِيَ القبض عليهم مباشرةً بعد تلك الحادثة.

 

وأشار الإمام قدس سره في كتابه "كشف الأسرار" إلى هذه الواقعة والمذبحة الراعبة، ووصف حكومة رضا خان بـ"حكومة الكفر والظلم"، وأنّ إعانتها هو "الكفر بعينه"، لأنّهم ولأجل فرض القبّعة الغربيّة الجديدة، أراقوا دماء الآلاف من المسلمين في مسجد من مساجد الله، وإلى جانب إمام معصوم.

 

وبعد الثورة الإسلاميّة، أشار الإمام قدس سره، ضمن خطاباته، إلى هذه الوقائع والحوادث المؤلمة، وأشار بالذات إلى هذه المذبحة الأليمة، عندما تشرَّف علماء الجماعات في خراسان وأئمّتهم بمحضره وزيارته، ذكر ذلك أثناء خطابه قائلًا:

"... لقد قمعوا تلك القدرة وسيطروا عليها، وعزلوا العلماء تمامًا، وأينما وُجِدَ نداءٌ يعارضهم ويُندّد بهم... انهالوا عليه، وقضوا عليه بمهده.

 

ونهضَت مدينة مشهد كذلك، فقام العلماء قومةً واحدة، ولكن قبض عليهم

 

86


58

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

جميعًا، حتّى المرحوم السيّد نجل آية الله الخراسانيّ، الذي كان يحظى بقدرة وهيمنة وفاعليّة من الشعب، مضافًا إلى اعتقال كثير منهم، ونقلهم إلى طهران.

 

اختطفوا هذا العالِم الجليل من الشارع، وأودعوه السجن، وقضوا على جميع تحرّكاته ونشاطه. فالقضاء على شخصٍ كهذا، بقدرته وجهاده، ليس أمرًا يفي بمسألة خلافيّة بين رضا خان وهذا العالِم المبجّل، إنّما هي مسألة وجود رجل علم، ووجود خطر يجب أن يزول...".

 

ويضيف الإمام مشهدًا آخر يرقّ له القلب، مستعرِضًا:

"... في تلك الانتفاضة التي قام بها علماء خراسان، أُلقِي القبض على المرحوم آغا زاده والسيّد يونس وغيرهما من العلماء، وزجّوهما في سجون طهران، وأنا بنفسي شهدتُ المرحوم آغا زاده (رضوان الله عليه)... رأيته وهو جالسٌ في جانبٍ من السجن بدون زيّه وعمامته، ولم يَسْلم من الرقابة أيضًا. وكانوا يأخذونه بهذا الشكل إلى المحكمة، ويمرّون به في الشوارع، وأمام الناس، وقد جُرِّد من لباسه الدينيّ، ونُزِعَت عمامته.

 

وفي هذا الوقت بالذات - الذي قام به العلماء المجاهدون -، لم نشهد أيّ تحرّك لأيّ حزب من الأحزاب الموجودة، فأين هم؟ وكأنّهم مقبورون في القبور...".

 

وطبقًا لما حرّره "صدر الأشراف" بمذكّراته، يذكر أنّ بعد قمع الانتفاضة وإبادة العلماء والناس في مدينة "مشهد"، أخذ رضا خان يشعر أنّ هناك خطرًا كبيرًا من المتديّنين والملتزمين، يمنع إدامة مشاريعه المدعوّة بالإصلاحات، مِن قَبيل تغيير القبّعة والسفور وغيرهما... لهذا، أخذ يخطّط لاستئصال جذور العلماء والمتديّنين من أصلها، وأبرق سرًّا إلى جميع مراكز الشرطة في أرجاء البلاد كافّة، تقضي بمضايقة العلماء والتعرّض لهم أينما وُجِدوا، وأن يبرّروا ذلك بأنواع التبريرات والحجج. وبالمقابل أيضًا، فقد عَمَدَ إلى قتل الكثير من كبارهم، كقتله للسيّد الشهيد حسن المدرّس، الذي قضى نحبه بصورة مفجعة.

 

87

 


59

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

لذلك، أخذ رجال الشرطة يتعرّضون إلى العلماء في الطرقات والشوارع، ويشتمونهم ويسبّونهم علنًا، وأحيانًا كانوا يتطاولون عليهم، ويخلعوا عمائمهم أمام الناس، ويستهزئون بهم، كما كانوا أحيانًا يمزّقون ملابسهم أمام مرأى من العامّة، ويزجّون بهم في السجون، ولهذا السبب، أخذ العلماء يختبؤون ويحترسون من خروجهم إلى أنحاء المدينة والأماكن العامّة، والكثير منهم جعل من المدرسة محلًّا لإقامته، والتي لم تكن بأمانٍ من رجال الشرطة. والإمام له مذكّرات عن تلك الأيّام التي كان يلقي فيها دروسًا وبحوثًا في الأخلاق، فيقول:

"... كانت لي حلقة بحث في (المدرسة) الفيضيّة. وذات يوم، دخلتُ ورأيتُ شخصًا واحدًا حضر للدرس، وعندما سألتُ، قيل: لم يرَ الطلبة بُدًّا إلّا الهروب من المدرسة قبل شروق الشمس، وسوف يعودون ليلًا، كي لا يقعوا بأيدي الشرطة ويخلعوا عنهم زيّهم ويزجّوهم في السجن...".

 

هذا واستمرّت الهجمة تأخذ أبعادًا أكثر ضدّ الدين والإسلام، وإبعاده عن التراث والشعب، وبموازاتها كانت تزداد دعايات الوطنيّة والقوميّة والعنصريّة.

 

وفي السنين الأولى لسلطنة رضا خان، أُلغِيَت مادّة القرآن الكريم والتربية الدينيّة، ومُنِعَت إقامة الصلاة فيها، وبُثَّت الدعايات لإقامة الحفلات والمجالس القوميّة والوثنيّة المشركة وإحيائها، والتي تُرِكَت في متاحف التاريخ منذ دخول الإسلام إلى إيران. وبلغ الحدُّ بهم إلى أن أقاموا حفلاتهم على شكل مسيرة أفراح تطوف في الشوارع والطرقات، كما يفعل الأوروبّيّون. وكانت النساء تُحمَل على سطح الشاحنات أو العربات أو الوسائط الأخرى، وهنّ عاريات متبرّجات متزيّنات، ترافقهنّ فرقة من الفرق الموسيقيّة، وأمام أعين الجميع يقمنَ بالرقص والغناء جماعات جماعات، ويمارسنَ الدعارة والفحشاء دونما أيّة عفّة أو حياء!

 

وكانوا يفرضون على الأهالي والكسبة، على مختلف قطاعاتهم، أن يقدّموا فرقًا وحشودًا بأسماء قطاعاتهم وحرفهم، ويشاركوا هذه المسيرات المختلفة. وبهدف

 

88

 


60

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

القضاء على الإسلام، كانوا يخرجون بهذه المراسم أيّام محرّم وليالي عاشوراء! وعلى العكس أيضًا، فأيّام الأعياد الإسلاميّة كانت تمرّ وكأنّها أيّام عاديّة، ولا يُذكر فيها أيّ شيء عن أهل البيت والأئمّة عليهم السلام. ووصل الحال بهم إلى قطع مراسم عاشوراء، التي كانت تُقام في أقسى الأوضاع والأجواء منذ قرون الدهر، وكذلك منعوا مجالس التعزية والعزاء، وراحوا يقتنصون الخطباء وأصحاب المآتم والمجالس الحسينيّة، ويزجّون بهم في السجون. كذلك وضعوا قيودًا وحدودًا لمجالس الفاتحة. وفي عام 1940م، أصدر رضا خان أمرًا بعدم طبع التاريخ القمريّ ونشره، لئلّا يعرف الناس تاريخ مراسمهم الدينيّة وشعائرهم الإسلاميّة.

 

ثمّ اتّخذت الحكومة قرارًا بتشكيل حوزة جديدة، لتكون تحت مراقبتهم، لأجل إعداد خطباء ووعّاظ تابعين لهم يخدمون مآربهم، وتَهيئتهم، ولأجل القضاء على الحوزة العلميّة. ولهذا، أُسِّسَت مدرسة "سِبَّهسالار" - المعروفة اليوم باسم مدرسة الشهيد مطهّري - وبخطوة أخرى أكبر، وإتمامًا لِما سبق لتهديم كيان الحوزة، أُصدِرَت تعاليم جديدة:

أوّلها: إنشاء مؤسّسة للوعظ والإرشاد عام 1937م، بأمر من وزارة الثقافة إلى جميع الدوائر التابعة لها ومراكز الأوقاف.

 

ثانيها: بناء "منظّمة تنمية الأفكار"، وهدفها هو جمع الخطباء والوعّاظ فيها خلال جلسات خاصّة ومعيّنة من قبل، وإعداد الخطباء والمتكلّمين إعدادًا موافقًا للسلطة ولسياسة رضا خان المعادية للدين، وبعبارة أخرى، هي مدرسة لتخريج وعّاظ السلاطين.

 

ويتوضّح هذا أكثر عندما نرى أوّل الشروط للانتساب إلى هذه المنظّمة، وهو أنّ على المنتسب أن لا يكون ذا سابقة في مراكز الشرطة، وهذا يدلّنا على أنّ الراغب بالانتماء يجب أن يكون خاليًا من أيّة نقاط تدلّ على معارضته للنظام، أو أنّه ارتكب عملًا سياسيًّا أو جهاديًّا سابقًا ضدّه. وقد جاء في البند الثاني من هذا القانون: "على كلّ

 

89

 


61

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الراغبين بالانتساب إلى المنظّمة لنيل درجة المحدِّث وإجازة الرواية، أن يكون قد تجاوز الخامسة والأربعين من العمر، وأن يحظى بتأييد من فقيهَين عادلَين بإجازة الرواية، وأن يكون حائزًا على تأييد من مراكز الشرطة ببراءته من أيّة سابقة سيّئة، وبذلك سوف يُستَثنى من ارتداء الزيّ الموحّد".

 

هذه المنظّمة التي أُسّست عام 1939م، شُكِّل أفرادها من الجامعيّين والمثقّفين، الذين يجتمعون كلّ أسبوع اجتماعًا واحدًا، يلقون فيه الخطب والكلمات حول مواضيع مختلفة. وكانت تطبع وتنشر هذه الكلمات والخطب على شكل مقالات، وتصبّ هذه الموضوعات كلّها في مجرى واحد، وهو تأييد سياسة رضا خان، واستنزاف الدين والإسلام وتشويهه، وبثّ الدعاية للتراث القوميّ الأصيل.

 

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:

"طيلة العشرين عامًا... لم يوجد أيّ متنفّس لعلماء الدين، ولم يكن هناك طريق لنشر أفكارهم وبثّ الوعي الإسلاميّ والثقافة الدينيّة في صفوف الجماهير، فقد تسلّط المجرمون على المدارس الدينيّة وأغلقوها، وأقاموا في بعضها مجالس الدعارة والفسوق، والتي هي بدورها تُعَدّ أخطر من مجالس المخدّرات. فمدرسة "مروي" الدينيّة، التي خرّجَت الآلاف من العلماء والمدرّسين، أصبحَت مركزًا لإقامة الأرمن المسيحيّين، ومدرسة "سِبَّهسالار" أودعوها لتربية مجموعة شباب وتنميتهم، وباسم الدراسة والتدريس، هيّؤوهم لإدارة أعمال الدوائر، ولقلب موظّفيها بالتمام لصالحهم، ومن ثمّ نقلوا ممتلكاتهم إلى الدوائر الرسميّة، وبقيَت حتّى الآن - بعد رضا خان - على ذلك الحال، كذلك خرّجوا خطباء ووعّاظ إلى الساحة الجماهيريّة، وبدورهم حرّفوا أذهان الناس عن الدين، ووجّهوها إلى أهداف رضا خان، التي هي في الواقع أهداف الاستعمار والغرب".

 

والإمام قدس سره أشار إلى الهدف الرئيس الذي أدّى إلى وصول رضا خان إلى سدّة الحكم، وما أوكلوا إليه من خطط لتنفيذ أهدافهم الاستعماريّة. وهذه التجربة والخبرة

 

90


62

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

السياسيّة الثمينة حصلَت بعد دراسة ومطالعة ومتابعة دقيقة ومستمرّة لِما جرى من حوادث ووقائع في عهد رضا خان. والإمام قدس سره ذكر هذا الجانب أكثر من مرّة، بقوله قدس سره: "كنتُ مراقبًا لجميع الأحداث منذ انقلاب رضا خان، وحتّى اليوم".

 

وخلال زيارة جمع من الخطباء وعلماء الدين لسماحته، أشار إلى أهداف الاستعمار عبر رضا خان في خطاباته، قائلًا:

"... هنا يجب عليّ أن أنوّه إلى نقطة هامّة، وهي أن نتعلّم دروسًا وعبرًا من خبراء الدول العظمى هؤلاء... درسوا أوضاع البلاد الإسلاميّة دراسة عميقة منذ ثلاثمئة عام، وبخاصّة بلادنا إيران، التي يعتبرونها – بحقّ - أهمّ دولة بالنسبة لهم، فدرسوا كلّ ما لدينا من ثقافة وعلوم واقتصاد و... أكثر منّا نحن... ويجب أن ننتبه، بعد تلك الدراسة المكثّفة التي أجروها، إلى الأهداف التي يرمون إليها، وما الذي ينفعهم كي يستثمروه؟ وما الذي يضرّهم فيجتنبوه؟ ما هي خططهم وسياساتهم للحركات والفرق المضادّة، والحركات والفرق الموالية وذات المصلحة؟

 

فلننظر إلى إيران منذ انقلاب رضا خان ودخوله إليها - وما أَحتفظ به من ذكرياتي عنها -، ولنرَ كيف أراد البريطانيّون تنصيب رضا خان في السلطة، وإلى حين خروجه من إيران. انظروا كيف تعامل البريطانيّون مع الفئات والحركات السلميّة، وما هو ردود فعلهم للحركات والفئات المعادية. نحن لا نشكّ في أنّ رضا خان لم يكن بمستوى علميّ للغاية، لكنّهم عرفوا أنّه أداة جيّدة ومنفّذ جيّد وجسور وقويّ، ولذلك اختاروه لمهمّتهم. ولعلّ كبار السنّ منّا يتذكّرون عندما سمعوا راديو دهلي - الذي كان تحت سيطرة البريطانيّين وقتها - يبثّ تقريرًا ويقول: نحن الذين أوصلنا رضا خان إلى السلطة، ونحن الذين سحبنا هذه الصلاحيّة منه، لأنّه بأيّامه الأخيرة، أخذ يتردّد على الألمان ويخالف أوامرنا.

 

هؤلاء كانوا على علم ودراية بأنّ رضا خان لا يملك أيّ حسّ سياسيّ، وكلّ ما في

 

91

 


63

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الأمر أنّه رجل شرس وذو سلطة وقوّة، ومن الممكن أن يصبح آلة بأيديهم. واستلم رضا خان السلطة بعد انقلابه المزعوم، وقضى على كثير من الرجالات والأفراد، بحيث أصبح المتتبّع للأحداث يرى بأنّ رضا خان، بأعماله هذه، يسير وفق خطّة ومنهج مُدبَّر من قبل. وابتدأ بالرياء والتظاهر أمام الشعب، متقنِّعًا باسم الدين، وبحضوره إلى مجالس العزاء، بل كان يقيمها بنفسه، وكان يتردّد من مجلس إلى آخر وهو حافي القدمَين! واستمرّ على هذا المنوال إلى أن صعد على دفّة السلطة وتسلّمها، فتغيّرت أساليبه بكاملها فجأة، حيث انعكست على الفئات والحركات والأشخاص، ومع مَن تآلف، ومع مَن تخالف.

 

والكثير منّا يعلم أنّه بادئ ذي بدء، خالف علماء الدين بعنوان التقدّميّة والحركة الإصلاحيّة... وتحرّك أكثر على هذا النطاق، وفرض الامتحانات في المدرسة الفيضيّة، والتي شهدناها بأمّ أعيننا، والتي راح ضحيّـتها عددٌ من رجال الدين والعلماء، وخُدِعوا بهذه الحيل والألاعيب، حتّى إنّ أشخاصًا من كبار الحوزة أخذ هذا القرار مأخذ الجدّ، وصدّقه تصديقًا كاملًا، لأنّه يفصل الطلبة اللائقين عن غيرهم الذين لا يليق لهم هذا الزيّ المحترم والمقدّس... ورحم الله المرحوم "فيض"، حيث قال لي: لا بأس بهذا... هذا مشروعٌ جيّد، والأفضل أن نُعزَل عن الطلبة الكسالى غير اللائقين... وقد أجبته: صحيحٌ ما تقوله، لكنّ هؤلاء يريدون فصلهم عنّا، لتعيين الجيّدين منّا للقضاء عليهم، لا لطرد الكسالى غير اللائقين. وبالفعل، هذا هو ما حدث، ونفّذوا خططهم باسم الاختبارات والامتحانات، وخرجوا وقد تركونا على هذا الحال المؤلم. ولم تنتهِ المسألة هنا، فما إن مضَت فترة وجيزة، إلّا وأعلنوا عن الزيّ الموحَّد للشعب أجمع، ونزعوا العمائم عن المعمّمين عنوةً، ودمّروا الحوزة، هكذا لطّخوا وجه التاريخ بأعمالهم هذه.

 

هذه كلّها أمور سجّلها التاريخ، وسيسجّلها القادمون واللّاحقون... لا ننسى كيف استطاعوا منع إقامة المآتم الحسينيّة، ولعلّه من قبيل المصادفة أن تجد مجلسًا أو

 

 

92


64

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

مأتمًا من مجالس تلك الأيّام علنًا في إحدى المدن. حتّى الآن، أتذكّر أحد الأشخاص، كان يقيم مجلسًا صغيرًا يحضره بعض الأشخاص، وكانوا يتفرّقون قبل طلوع الشمس، وقد رُوقِب هذا المجلس، ومُنِع صاحبُه من إقامته.

 

... لقد واجهَت الحوزة بجناحيها، الخطباء والعلماء، حملةً شعواء شُنّت عليهم.

 

يقول: يجب أن تكون في إيران كلّها ستّ عمائم لا غير. والحقيقة، حتّى هذا كان كذبًا محضًا، ولو كان بإمكانهم ذلك، لقمعوا المعمّمين عن بكرة أبيهم، ونستطيع أن تستنتج من خلال هجماتهم هذه على مجالس العزاء والمآتم، وعلى المتديّنين، أنّهم أدركوا أنّ هذا كلّه هو مصدر الخطر الأوحد الذي يقف في وجوههم، ويحطّم أهدافهم. وبعد هذا، أعلنوا عن السفور الإجباريّ ونزع الحجاب عن النساء، لكي يقضوا على كلّ متديّن وملتزم، والله هو العالِم كم من جناية وقعَت من جرّاء هذا القرار...

 

... لقد أراد أولئك الأشرار أن ينفّذوا خططهم قسرًا أو قهرًا... واستطاعوا، من خلال دراساتهم ومطالعتهم، معرفة الموانع جميعها، فقضوا عليها بجميع الوسائل والطرق، وبخاصّة من خلال أقلامهم وصحفهم وكتّابِهم وخطاباتهم، وحقّقوا أهدافهم... ووصلَت دعاياتهم البشعة إلى حدّ أن أصبح الشعراء، ومن خلال وسائل الإعلام، يتهجّمون على الدين، ويستهزئون به وبالعلماء علنًا. ولا ننسى ذلك الشاعر الذي أنشد قصيدته الغنائيّة التي تقول: "ما دام رجال الدين في البلاد، فلننظر إلى أين سيوصلونه!"، وأخذ يشجّع الشعراء وغيرهم على مثل هذا، وما أرادوا بذلك شخص المتديّنين أنفسهم، إنّما أرادوا بذلك طمس معالم الإسلام، وإبعاد الناس عنه، فأقاموا لهذا الغرض الحفلات الغنائيّة والأمسيّات الشعريّة وغيرها... وأولئك يعلمون جيّدًا بأنّ الإسلام ما دام قويًّا في بلد ما، فإنّه يَحُول دون تسلّطهم.

لذا، يجب إزالة الإسلام وأحكام الدين ومظاهره، ثمّ التوجّه إلى العرش والسلطة بعد ذلك. ولهذا، أخذوا يدرسون دعائم الإسلام وركائزه، كي يحاربوه ويقتلعوه من جذوره، وراحوا يراقبون ما هو متمسِّكٌ به الناسُ أكثر، ويحاربونه أكثر وأكثر...".

 

93


65

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

وتزامنًا مع خطوات رضا خان المدمّرة للدين والشريعة، ظهرَت خطوط مستقلّة ظاهريًّا لتضعيف عقائد الناس، وإهانة المقدّسات والشعائر الإسلاميّة. وكان ممثّلا هذه الخطوط هما "أحمد كسرويّ" و"شريعت سنكلجي"، اللذَين كانا يتمتّعان بكامل الحرّية والصلاحيّة بالاجتماعات السياسيّة والدينيّة، وكذلك بإلقاء الخطب والكلمات وبثّ أفكارهم من خلالها، والتي كانت النشاطات المماثلة لها آنذاك محرّمة وممنوعة من قِبَل الدولة.

 

وراح "شريعت سنكلجي" يبثّ سمومه وأفكاره لمحاربة بعض عقائد الشيعة، ويدعو إلى تصحيح العقائد والأفكار حسبما تشتهيه نفسه. فمثلًا، أخذ يهاجم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ومسألة الظهور وقيام الدولة الإسلاميّة العادلة وما إلى ذلك، أمام الملأ دون أيّ قيد أو حذر. وراح يدعو الجماهير إلى ظهور عصر جديد، يتحلّى بالحضارة المتمدّنة، دون الانتظار لعصر يظهر بحدّ السيف. ولهذا، ذكر الإمام قدس سره في كتابه "كشف الأسرار" بأنّ أفكاره ودعاياته ضدّ الإسلام هي خدمة لصالح رضا خان:

 

"بهذه الأجواء، أعَدَّوا رجالًا من المعمّمين، فارغين، بعيدين عن الدين والعقيدة والتقوى، وزجّوهم في الساحة الاجتماعيّة، فراحوا يروِّجون العقائد الباطلة والفاسدة باسم التقوى والحركة الإصلاحيّة. كذلك أخذوا يؤلّفون الكتب المحرّفة والمنحرفة إلى الأسواق للتوزيع على حسابهم الخاصّ، أو على حساب الأفراد المغفّلين. فإذا قُدِّم طلبُ موافقةٍ لإصدار كتابٍ يردّ على تلك الكتب، قوبل بالرفض، وحِيل دون صدوره. فمثلًا، ألّف أحد العلماء كتابًا باسم "الإيمان والرجعة"، وهو ردٌّ على كتاب شريعت سنكلجيّ المدعوّ "الإسلام والرجعة"، والذي تطرّق بالردّ على ما ذكره من أكاذيب وأساطير خلال كتابه المشؤوم، فرُفِض طبعه، وبقي الآن مخطوطًا".

 

أمّا أحمد كسرويّ[1]، فقد بدأ نشاطه الهدّام بعد انتهاء النصف الأوّل من فترة حكومة رضا خان. وأخذ هذا يبثّ أفكاره المتأثّرة بالوهّابيّة، التي تدور حول بناء صيغة


 


[1] أحد الكتّاب الذين تهجّموا على الإسلام في كتاباته. والشهيد نوّاب الصفويّ: أحد أعضاء منظّمة فدائيّي الإسلام، كان قد وضع حدًّا لمهاترات هذا الكاتب الملحد.

 

94


66

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

جديدة للأديان، ومن ضمنها الدين الإسلاميّ، وأن تُخرَج من إطارها الذي كان بعهد الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه منهج قديم وغير عمليّ. وكان يرى أنّ الإسلام هو دين غير متناسق، وعيَّنَ نفسه نبيًّا له، وأخرج كتابًا يقدّسه أطلق عليه اسم "ورجاوند بنياد"، الذي حرّره بإنشاءٍ فارسيٍّ قديم. وسمّى دينه هذا باسم "آئين باك" - أي العقيدة الطاهرة، أو الدستور الخالص - الذي يراه مناسبًا مع التطوّرات العلميّة والعقليّة في عصرنا هذا، وبعيدًا عن الخرافات الماضية. وما هو جدير ذكره، أنّ كلّ ما يمرّ بذهنه من أمور ويراها مخالفة لهواه، كان يطلق عليها اسم الخرافة، لهذا، قام بحرق كثير من كتب الأدعية والعرفان في ذلك اليوم الذي أُقيم فيه حفل حرق الكتب الخرافيّة.

 

واستمرّ أحمد كسرويّ بمهمّـته هذه بعد هروب رضا خان. وبهذا، وقع الكثير من الشباب في الشكّ والتردّد في اعتقاداتهم وأفكارهم، بينما نجوا لتوّهم من بطش رضا خان وفساده وتشويه الإسلام أمامهم.

وقام أحد الشباب المغفّلين التائهين في بحر هذا المنحرف، بنشر كرّاس يضمّ تلك الأفكار الواهية والتائهة، والتي واجهَت ردًّا معمّقًا مليئًا بالملاحظات الفقهيّة والتاريخيّة والسياسيّة والحكميّة بعد شهرَين من الإمام قدس سره، عبر كتابه الثمين "كشف الأسرار".

 

وكان ردّ الإمام قدس سره عليه وعلى أستاذه "كسرويّ" الخائن المنحرف، بشكل غير مباشر، حيث لم يذكر أيّ اسم لهما أثناء استدلالاته، التي تردُّ مزاعمه حول قِدَم الإسلام وعدم انسجامه مع العلوم العقليّة والمتطلّبات الحياتيّة حاليًّا، فيستطرد قائلًا:

"إنّ هؤلاء لا يرَون من الكون شيئًا سوى هذه الحياة المادّيّة الحيوانيّة. ولهذا، فهم يقيسون الدين وتعاليمه بهذه الحياة، ويعتقدون أنّ انسجام الدين والحياة، هو عبارة عن انسجام الدين مع حياتنا المادّيّة التي نعيش. إنّهم غفلوا عن هذه المسألة، إذ يعتبرون الحياة - هذه الحياة المليئة بالهموم والمشاكل والابتلاءات - ليس إلّا عملًا صبيانيًّا، لا يُوجِده أيّ عالِم عاقل؟! كيف والخالق - عزّ وجلّ - الذي أعماله كلّها على أساس الحكمة!

 

95


67

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

نحن آمنّا بربٍّ وإله جبّار عادل يجازي كلّ مجرم بجزائه في محكمته العادلة المنصفة، ويأخذ حقّ المظلومين من الظالمين، الذين تسلّطوا على رقاب الناس، وشربوا دماءهم، وسحقوهم بدبّاباتهم، وقضوا على الآلاف المؤلّفة من النساء والأطفال بمدافعهم وأسلحتهم[1].

 

إنّ الله - سبحانه وتعالى - وضع قوانين وأصولًا ومنهجًا لهذه الحياة، لا لأجلها، بل لأجل الإعداد لحياة أخرى، وضمان الحياة الأبديّة للكون، لهذا أشار الله - عزّ وجلّ - في كتابه المجيد إلى هذه الدنيا بأنّها (لهو ولعب وتفاخر بالأموال والأولاد)...".

 

وفي خاتمة الكتاب، وبعد أن أجلى عن الدعايات المضادّة للإسلام، التي كانت الصحف آنذاك تروّجها وتنشرها، تطرّق إلى أفكار "كسرويّ" وتابعيه السائرين على تلك الأهداف المشؤومة، حيث خاطب مؤلِّف الكتاب بقوله:

"أنتم وأمثالكم من المغفّلين الجهلة، السائرين على نهج إمامكم المنحرف اللادينيّ (كسرويّ)، أخذتم - ودون أيّ شعور وإحساس - تلتهمون ما تبقّى من تلك القصعة النتنة، ورحتم تهاجمون الدين والإسلام وحرّيّة البلد بكتبكم الواهية المخزية الحاوية على التهم والافتراءات والتنكيل، دون أيّ خشية وحياء ووجل، وتطلقون على أفكاركم ودينكم اسم "الدين النقيّ". هذا، مع علمكم كلّه بسوابق كبيركم الأبله (كسرويّ)، الذي ذاع صيته كمفسد ومنحرف ومتسكّع في طهران وتبريز، وبكلّ صلافة تبجِّلونه، وتطلقون على أفكاره وأعماله "الدين النقيّ"، الذي راح يشوِّه الأديان السماويّة جميعها بنظر الناس، ويصدّهم عمّا جاء به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم من رسالاتٍ من الربّ الرؤوف الرحيم".

 

ج- السياسة العسكريّة

ترعرع رضا خان في أجواء المعسكرات، وفي أحضان القوّات المسلّحة، ونشأ نشأة عسكريّة، وبمساعدة القوّات العسكرّيّة ودعم البريطانيّين، استطاع أن يصل إلى سدّة


 


[1] هذه إشارة إلى أمراء الحرب العالميّة الثانية وقادتها.

 

96


68

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

الحكم. وكان شديد التأثّر بالقوّة والسلاح والعنف والعسكر، ومن اعتقاداته أنّ القوّات العسكريّة هي عمود الدولة ونظام البلد، وأنّ ما يتحلّى به الجنديّ المسلّح الجاهل الوضيع هو أكبر وأعظم ممّا تملكه إيران كلّه، من تراث وعراقة وأصالة. وهذا ليس غريبًا منه، كونه أحد أولئك الجنود الذين لا يعرفون عن وجودهم سوى هذا المعنى، مضافًا إلى أنّه يرى نفسه مدينًا لهم، نظرًا لما يسعى له. وبهذا، أخذ يُولي اهتمامًا واسعًا وكبيرًا للقادة العسكريّين، الذين يتلقّون الترقيات الرفيعة في المدن والولايات كافّة، حتّى إنّه كان يُخضِع الأمراء والولاة والمحافظين للانصياع إلى أوامر أولئك القادة والروّاد العسكريّين، وفسح لهم المجال أكثر فأكثر، وأَوْلاهم قدرات، فأصبحوا مبسوطي اليد باقتناء الأموال والثروات الطائلة، ابتداءً من نفسه، فمن حياةٍ بسيطة عاديّة متواضعة، إلى خزانة أموال البلد والشعب، يتصرّف كما يشاء ويهوى، ويُسخّرها لصالحه ولصالح أتباعه ومواليه.

 

وعندما فاز بالسلطة والهيمنة، أخذ يرسل جلاوزته إلى أفضل المناطق في إيران، حيث مناطق مازندران وجيلان وجرجان. وبالقوّة والتهديد، سيطروا على جميع الأراضي والبساتين والمراتع، المنقطعة النظير من حيث الجودة ووفرة الإنتاج، وانتزعوها من أصحابها عنوةً وظلمًا، بأسعار زهيدة لم تبلغ العشر من ثمنها، وصودِرَت لصالح رضا خان نفسه. إنّها قصّة مؤلمة حين تستعرضها، وحينما تتعرّف ما كانت تقوم به دائرة الأراضي من انتهاكات، واستباحة الأموال والأعراض، وارتكاب المجازر والظُلَم التي تهزّ الإنسان، ولا يمكن لأحدٍ هضمها أو تحمّلها، حتّى الحجر والمدر[1]، وانتشرت تلك الغارات والظلامات في الصحف والمجلّات، بعد هروب رضا خان، انتشارًا فظيعًا، لم يسمع أحدٌ الكثير عنها سابقًا.

 

وإذا وددتَ، أيّها القارئ النبيل، أن تتعرّف ما بحوزة رضا خان من ملكيّة، فتعالَ واستمِع إلى خطاب أحد نوّاب البرلمان الثالث عشر، بعد هروب رضا خان من البلاد، إذ


 


[1] المدر: الطين.

 

97


69

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

يقول: إنّ رضا خان يملك 44 عنوانَ مُلكٍ، تشمل قرى ونواحٍ وقصبات، وما يدّخره في البنوك الأجنبيّة خارج إيران مبلغٌ يُقَدَّر بـ360 مليون دولار، مضافًا إلى مبلغ قدره 58 مليون جنيه في بنوك بريطانيا، وغيرها، كما سُجِّل رسميًّا مبلغٌ قدره 68 مليون تومان في البنك الوطنيّ الإيرانيّ. هذا، ومضافًا إلى ما مرّ، فهو يملك مراكز تجاريّة ومعامل ضخمة تدرّ عليه الآلاف المؤلّفة، كفندق "آبعلي"، ومعمل الإسمنت في "جالوس" و"رامسر"، والمنطقة السياحيّة التجاريّة "دربند" في شمال طهران، صالة فردوسيّ، فيلّات منطقة مبارك آباد، معامل نسج الحرير في "جالوس"، والأقمشة والنسيج في "عليّ آباد"، معمل جلاء الرزّ، وتطهير القطن، ومعمل الصخور والأحجار، وغير ذلك.

 

وإذا تطلّعنا إلى ثروات وأموال كلّ من "إقبال السلطنة ماكوئي" والعميد "معزّز بجنورديّ" و"الشيخ خزعل" والعميد "أسعد" وغيرهم، فسوف يتبيّن أنّ ثروات رضا خان وأمواله أكثر من هذا بكثير. ولهذا، نرى أنّ أحد نوّاب البرلمان البريطانيّ، عندما زار إيران واطّلع على الفَرق بين حياة رضا خان وحياة الفرد الإيرانيّ العاديّ ومعاناته، عاد إلى بلده وكتب عنهم قائلًا: "إنّ رضا خان قضى على جميع قطّاع الطرق والسرّاق والمهرّبين والجناة، وأفهمَ الشعب الإيرانيّ أنّه وبعد هذا سوف لن يوجد أيّ من هذه الفضائل، سوى قاطع طرق واحد فقط!".

 

كذلك المسؤولون وأصحاب السمة، فإنّهم وحسب درجاتهم ورتبهم، جمعوا الكثير من الأموال والثروات من الأغنياء والضعفاء بطرقٍ شتّى، حيث استطاع قائد الجيش "أمير أحمديّ" الملقَّب بفاتح كردستان - من خلال ما جناه من محافظة كردستان - أن يبتاع خمسين منزلًا في طهران. وسرى هذا الوضع حتّى إلى الجيش بذاته. فإذا ما أعرضنا عن مسألة الارتشاء والاختلاس من ميزانيّة الجيش صفحًا، سوف تُكشَف لنا أمورٌ عدّة، فمنهم من كان مبسوط اليد، وكان يستعمل من أنواع الضغوط على الجنود وأقسامها، لجني المال والثروات. أمّا ميزان التقدّم والترفيع في الجيش ومعياره، فهو أن يُظهِر الفرد كامل الطاعة، بل التملّق والاسترضاء من الدرجة التي تعلوه، وهذا بدوره كان يُطَبَّق أيضًا على كبار رجالات الجيش بالنسبة لرضا خان.

 

98

 


70

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

وعلى العموم، فإنّه ليس من العجيب أن تَظهر هذه الصور والظواهر والثقافة المنحرفة اللاإنسانيّة، فهذا نتاج طبيعيّ ومتوقَّع من حكومة ديكتاتوريّة كحكومة رضا خان، ومن جيشٍ عمَّهُ الفساد والرذيلة والبطش القائم على القوّة والاضطهاد. فرضا خان يهوى قلبُه جيشًا جرّارًا مرعِبًا للناس ولمن يخالفه، ولكنّه - وكما سنرى في المستقبل - مجرّد جبل من قشور ورماد تذروه الرياح.

 

وممّا هو جديرٌ ذكره، أنّ هذا الجيش أُنشِئ بمساعٍ كبيرة وعظيمة، وفُرِضَت خدمة العَلَم إجباريًّا بقانون من البرلمان عام 1926م، والذي نصّ على تجنيد الذكور الذين يتمتّعون بصحّة جسديّة وعقليّة، لمدّة سنتَين. وكان إعداد الجيش قبل هذا يتمّ عبر الجنرالات والعمداء والضبّاط، باقتنائهم أفرادًا لهم حسب اختيارهم. ولكن بعد هذا القانون، أصبح على كلّ شخص مشمول أن يقضي الخدمة لمدّة سنتَين، سواء أكانت البلاد في حالة حرب، أم في حالة سلم، ومن جرّاء هذا القانون، أصبحت القرى والأرياف وبعض المدن خالية من الشباب، الذين هم لولب الحياة وعجلة الحركة الاقتصاديّة، وبالأخصّ في المناطق الريفيّة والقرى، وذلك لأنّ القانون يشمل كلّ فرد يكون سنّه 18 عامًا وما فوق، وسِيقوا جميعًا إلى المعسكرات، وظلّت الأسواق والحركة التجاريّة والعجلة الاقتصاديّة بيد كبار السنّ والمقعدين، حيث أدّى ذلك إلى الفقر الشديد في تلك المنطقة البعيدة والنائية.

 

أمّا في المدن الكبيرة، فعادةً ما يكون الشباب فيها قليلًا من جهة، ومن جهة أخرى، راحت العوائل الغنيّة والقريبة من السلطة وغيرها تبذل الرشوات والمبالغ الطائلة للحصول على العفو لأبنائهم المدلّلين.

وعلاوة على ما يجب أن يتقنه الجنود من تدريبات على مختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة طيلة العامَين، فإنّهم يُعامَلون من قِبَل الضبّاط والقوّاد بأبشع المعاملة، ويُعتَبرون لديهم خدمًا، بل وأقلّ، وحتّى إنّهم كانوا يكلّفونهم بما لا يطيقون إنجازه من أعمال شاقّة.

 

بناءً على هذا وما ذكرنا سابقًا، اعترض علماء وفقهاء أصفهان وبعض المدن، الذين

 

99

 


71

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

اعتصموا في مدينة قمّ، اعترضوا على هذا القانون الإجباريّ، مطالِبين بإلغائه. يتطرّق لهذا إمامنا الراحل قدس سره في كتابه "كشف الأسرار"، والذي كان بوقتها على تماسٍ مباشر مع العلماء المعتصِمين المعترِضين، فيروي لنا قائلًا:

"أفرز قانون الخدمة العسكريّة الإجباريّ نتائج غير جيّدة، فمن جهة، أخلّ بالدستور وبقوانين النظام العسكريّ، ومن جهة، نُفِّذ تنفيذًا غير جيّد، وكثيرة هي أخطاؤه وعراقيله وظلمه، بحيث لو أردنا أن نتحدّث عن ذلك ونكشف الستار عنها، لوجب علينا إخراج كتيّب بذلك. لكنّنا نترك كلّ شيء لكم ولِما تحكمون به أنتم. انظروا جيّدًا إلى نتائج هذا القانون الإجباريّ وما تركه للبلاد من سرقات وغارات وتسلّط على رقاب الضعفاء ونهبهم أموالهم وأملاكهم، ليقيموا وينشئوا تلك الأبنية والفيلّات في طهران، بدلًا من أن يوفّروا الأمن والاستقرار في البلاد. الكلّ يعلم جيّدًا أنّ كلّ حجر من تلك البيوت والقصور أُخِذَ قهرًا وظلمًا، ملطّخًا بدماء تلك النساء العاجزات المقعدات اللواتي قدَّمنَ كلّ ما يمكن إلى السلطة، خوفًا من ظلمهم وبطشهم، ثمّ قضينَ باقي حياتهنَّ باللوعة والحرمان. وما استهلكته القصور من موادّ وطلاء وغيرها للتجميل والزينة، إنّما استُخلِصَت من دماء الأطفال المحرومين.

 

لقد حطّم هذا القانون نصف محاصيلنا الزراعيّة والصناعيّة، ولم تحصل منه أيّة نتيجة، سوى تلويث شبابنا العفيف المتديّن، خلال خدمته العسكريّة طوال السنتَين، بأبشع أنواع الفساد والفحشاء والمنكر، والذين قضوا أيّامهم ولياليهم مع ثلّة من الأوغاد والجلاوزة، وهدروا فضائلهم كلّها، فضلًا عن اكتساب رذائل المعسكرات، والتي انعكست بعد رجوع عدد منهم إلى قراهم وأريافهم، فعاثوا فيها فسادًا، وقلبوا موازين الأمن والاستقرار، ولجؤوا إلى السرقة والخيانة والفساد، ونقلوا الأمراض المعدية والخبيثة من العاصمة طهران إلى مناطقهم، كمرض "السفليس" وغيره، لتلويث الشباب وإسقاطهم، كي تنتهي حياتهم المادّيّة والمعنويّة بالتمام".

 

إنّ 40 بالمئة من ميزانيّة الدولة كانت مخصّصة للجيش، ومع ذلك، كان لا يجيد

 

100

 


72

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

سوى إقامة المسيرات والاستعراضات. وأمّا الدعايات التي كانت تُقام له، فحدِّث ولا حرج، فيدعونه بمؤسّس المجد والافتخار لـ"إيران المتجدّدة"، بل "حامي الوطن والأرض"، ومن وراء هذه الدعايات المكثّفة داخل المعسكرات وخارجها، كانوا يهدفون إلى غرس بذور حبّ الوطن وبناء كيان الوطنيّة والقوميّة، وغرس بذور الطاعة والحبّ في قلوب الجنود والضبّاط تجاه السلطنة والسلطان.

 

وقبل تعرُّض إيران لهجوم البريطانيّين والروس عام 1941م، كان الكثير من الشعب ورجالات الدولة، بل رضا خان نفسه، يرى ويعتقد بقوّة الجيش وصلابته، وأنّ باستطاعته الصمود والتصدّي لكلّ ما يداهم البلد، مهما بلغت قوّة العدوّ. بينما الحقيقة غير ذلك، فما إن طَرَق أسماع الجيش خبر هجوم الروس من الشمال، والبريطانيّين من الجنوب على البلاد، حتّى تبدّد الجيش بأكمله، وهيمنَت عليه حالة الفزع والرعب والقلق خلال ساعات.

 

يذكر لنا الجنرال "حسين فردوست" - الشخص المقرَّب لوليّ العهد محمّد رضا خان، وأمين السرّ الذي كان آنذاك يشغل منصب المراقب المفتّش على الفرقتَين الدفاعيّتَين للعاصمة، مضافًا إلى مركزيّته في المقرّ العامّ للقوّات المسلّحة، والتي كان يرأسها محمّد رضا خان آنذاك بتنصيب من والده رضا خان - يذكر لنا في مذكّراته في هذا مجال قائلًا: "نستطيع أن نقول: إنّ هناك شخصًا واحدًا وقف وصمد أمام العدوّ واجتياحه، وهو قائد القوّة البحريّة في جنوب البلاد الجنرال "بايندَر". فعندما داهمَت القوّات الأمريكيّة الجنوب، تصدّى لها بشرف، لكنّ الأمريكيّين دمّروا نقالته بالكامل بالمدفعيّة، فتحطّمَت وغرقَت واستشهد آنذاك". هذه هي الصلابة والمقاومة والإخلاص الذي حدث نتيجة عزم الشهيد "بايندَر" وشدّة بأسه، وإلّا لَما لاقت القوّات الأمريكيّة أبدًا أيّة مقاومة تُذكر، واستولَت القوّات الأمريكيّة على ميناء

مدينة "خرّمشهر"، وانتشرَت قوّاتهم في محافظة خوزستان، ولعلّه قام بعضُ من يدّعي المقاومة بإطلاق الرصاص وما إلى ذلك، إلّا أنّنا نقول بجزم: لم تكن هناك أيّة مقاومة، أو قوّة، أو صمود، أو دفاع.

 

أمّا في الشمال، حيث منطقة آذربيجان، فيا للفضيحة! تعالَ وانظر إلى مقاومة 

 

101


73

القسم الثاني: سلطة رضا خان، بدايتها ونهايتها

بسيطة وغير استراتيجيّة. لم يعرف الجيش، من كبيرهم إلى صغيرهم، سوى إلقاء السلاح على الأرض، مخفِّفًا عن نفسه ثقل الحديد، ليتسنّى له تسلّق الجبال، وللاختفاء بفجواتها وكهوفها.

 

وفي محافظة جيلان، كان هناك جيش بقيادة اللواء "قَدَر"، الذي نال وسام الشجاعة فيما بعد على إثر إصابة الروس بقذائف مدفعيّة عدّة. أمّا العقيد "هنكي"، المسؤول عن قاطع "مرزن آباد"، فلم يستطع أن يحقّق أيَّ نصر على الروس، ولم يقم بفعل أيّ شيء يُذكَر، بل احتمى بالجبل، وفرَّ مسرعًا إلى أن لحق بفرقته الأولى بقيادة الجنرال "بوذر جمهري"، والذي نال ميداليّة الفضيحة العظمى بهذا الرَكب الذي جيّش مشهد، فمع إمكانيّاتهم واستعداداتهم، تركوا الساحة للروس، وهربوا إلى الصحراء بدرّاجاتهم الناريّة خوفًا وذعرًا، حتّى إنّه، ومن فرط خوفهم وذعرهم، وصل بعضُهم إلى مدينة "بندر عبّاس"، بعد أن قطعوا الصحراء! وبعد فترة من الزمن، وصلَتنا أنباء بوجود قوّات عسكريّة من خراسان إلى مدينة "بندر عبّاس".

 

هذا، وكذا الحال في مواجهة القوّات البريطانيّة، فلم يحرّك أحدٌ ساكنًا. وهذا كلّه نشأ من جرّاء جبن القيادات والشخصيّات العسكريّة وخوفهم - ومن قسوة الروس والبريطانيّين - فكيف الحال بالجنود والعسكريّين؟ يشير الإمام الخمينيّ قدس سره إلى هذه المسألة بالذات، إلى هروب رجال السلطة والقوّاد قائلًا:

"هل تريدون من جنديٍّ عاديٍّ أن يجاهد أعداءَه، ويلقي بنفسه أمام دبّاباتهم ومدرّعاتهم، وهو يرى القادة العسكريّين جميعهم، من أوّلهم إلى آخرهم، عند هجوم العدوّ، أوّلَ الفارّين والهاربين؟ يرى منه ذلك، وكان يقسو عليه ويحرمه حتّى من مرتّبه الشهريّ -الذي لا يتجاوز السبعة ريالات وعشرها- يراه وهو يرتدي زيّه المدنيّ في ساحة القتال، لينجو بنفسه من الهلاك، فكيف تريدون منه أن يصمد أمام العدوّ؟".

 

ثمّ يتطرّق إمامنا قدس سره إلى أسباب هذه الفجائع والهزائم وعللها، معلِّلًا ذلك بإهمال الدين والالتزام الخُلُقيّ، والابتعادِ عن الإسلام والعقيدة، وبما حلَّ في الجيش من منكر وبغي، يقول:

 

102

 


74

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

"مَن الذي يدفع بروح الجنديّ إلى ساحة القتال عند ذلك الليل المظلم والموقع الخطر، حيث يرى الموت إلى جنبه ولا يهابه؟ مَن الذي يدعه يندفع بروح قتاليّة ونافذة، يتأهّب الموت في كلّ حين، سوى الإيمان فقط؟ الإيمان بحياةٍ دائميّة غير زائلة. ما هو الدافع والحافز لروح التضحية عند ذلك الحارس لثغور البلاد ليلًا ونهارًا، سوى الإيمان بالله - تعالى-، والإيمان بجزاء الله الآخر؟ لو كان الجيش آنذاك يبثّ في نفوس الجنود التعاليمَ الدينيّة، والقيمَ الروحيّة، ويستقدم رجالَ العلم والدين إلى المعسكرات ليعظوا الجنود، ويشحنوا نفوسهم بروح الجهاد، ويحرّكوا فيهم المشاعر والأحاسيس الوطنيّة والدينيّة، بدلًا من أن يلقّنوهم الأهازيج الجوفاء، والأناشيد المثيرة، ولو أنّ الإذاعة كذلك كانت تبثّ القيم، وتنشر الفضائل، بدلًا من أن تنشر الرذيلة وتدعو إلى الفساد، لَما وصلَت البلاد إلى ما وصلَت إليه في هذه الصورة الرعناء، ولم يصل مستوى الجيش إلى ما وصل إليه أيضًا من الانحلال والضعف والفساد".

 

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

 

نلمح انتقادات ومعارضات شديدة وعديدة من سماحة الإمام قدس سره، في كتابه "كشف الأسرار"، لنظام رضا خان الديكتاتوريّ، ونقتطف مشاهد منها حسب الحاجة والمقام. من بين تلك الانتقادات، يبرز انتقادٌ مهمٌّ لم يلتفت إليه أحدٌ من رجال العلم والعلماء وغيرهم، حول تبديل أوضاع الحكومة والدستور بعد هروب رضا خان. فيرى الإمام قدس سره بهروبه هذا عدمَ تغيير الأحوال السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، أو تبديلها البتّة. ولهذا، يثير هذه النقطة أمام قرّاء كتابه، ويدعوهم إلى إصلاح تركة الوضع الثقيل من عهد رضا خان، وما فيها من أمراض وعلل، والقيام بإصلاحها ومعالجتها بالعلاج المناسب، وإعادة المناسبات والاحتفالات الدينيّة إلى ما كانت عليه قبل حكومة رضا خان. ومن هنا، نسعى إلى إعادة النظر في بعض نظرات الإمام قدس سره، ونعرضها للتحليل والدراسة، بضمّ بعضها إلى بعضها الآخر.

 

103


75

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

معظم علماء الشيعة يعتقدون "بأنّ الحاكميّة المطلقة لله - سبحانه وتعالى -، وكلّ ما في الكون من حكومات، فهي حكومات جائرة ومعارِضة لمصلحة العامّة"، "فهُم لا يعارضون قيام دولة إسلاميّة مستقلّة، ولا يعارضون حكومات كهذه. وعلى فرض أنّها مخالفة لقوانين الله ودستوره، وهي قائمة بالجور والظلم، إلّا أنّهم لا يخالِفون هذه الحكومات، ولن يخالفوها، لأنّهم يرون وجود نظامٍ خاوٍ جائرٍ خيرًا من عدمه"، "إذًا، نلاحظهم قاموا بثورة ومعارضة ضدّ شخص كرضا خان، وهي مخالفة شخص، لا حكومة، لأنّه رجلٌ معارِضٌ لصلاح البلد والشعب".

 

وعلى هذا، فحكومة رضا خان تعرّضَت لمخالفة العلماء، رجال العلم، بما فيهم الإمام قدس سره، لأنّها حكومة غير مشروعة، ولأنّها "تأسّسَت من داخل البرلمان بحدّ السيف"، وبصورة غير قانونيّة. يرى الإمام قدس سره أنّ رضا خان شخصٌ غير لائق بالسلطة، لأنّه "إنسان عسكريّ خشن، والذي يطمح للسلطة والرئاسة يجب أن يطبّق القانون على نفسه أوّلًا، ويرى نفسه كسائر الجماهير، منصاعًا له، كي يحظى بتأييد الشعب ورجالات الحكومة والدولة. السلطان يجب أن يُجسِّد البلاد بجسمه، وإنْ أصابها شيء، فإنّه يحسّ به في جسده وبجوارحه، فينطلق ليعالجه. وهكذا، فهو يحفظ الأمن والاستقرار وشرف البلاد وعرضها ومالها، فإنْ أصبح غارقًا في بحرٍ من الشهوات والنزوات والاختلاسات والسرقات، لا يهمّه ما يدور في البلاد والعباد، فكيف يُطلَق على هذا الشخص الحيوانيّ بالسلطان أو الرئيس".

 

إنّ قوانين هذه الحكومات الديكتاتوريّة ودستورها هي قوانين تُؤمّن منافعَ الحاكم ومَن يلوذ به من الجلاوزة المختلسين، ومصالحَههم، ولهذا، "فإنّ قوانين رضا خان المدسوسة لا تعادل قرشًا واحدًا، ويجب إتلاف جميع الوثائق والقوانين التي صادق عليها البرلمان، وحرقها، وإسقاط جميع الاعتبارات لدى الأعضاء. وإذا كان البرلمان اليوم يريد إعادة النظر بأعضائه، فيجب عليه إقالة جميع عُمّال الأمس الخونة"، لأنّهم "غالبًا ما اختيروا ولم يُنتخَبوا، ولا يهمّهم من أمر البلاد شيءٌ سوى الاختلاس وتكديس الأموال في الخارج، وتراهم عند ضيق الوقت، وفي الساعة الحرجة، يتركون البلاد ناجين بأنفسهم".

 

104


76

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

إذًا، أين ادّعاءاتهم وهتافاتهم بالقوميّة والوطنيّة؟ وأين تكالبهم عليها؟ "لقد كانت تلك مجرّد شعارات كاذبة خادعة، وباسم الوطن والتراث القوميّ، جعلوا من أنفسهم كلماتٍ تدور على ألسن العامّة المغفّلة، ليتسنّى لهم ملء الجيوب ونهب الوطن وثروته، والتجربة أكبر برهان لمن أراد الفحص أو الدليل. كلّهم يعلم جيّدًا أنّه يمكن استنزاف الملايين لأجل كرسيّ حسّاس واحد، وإلّا لَما كانوا يُنفقون مئات الآلاف لأجل الحصول عليه"، وبالطبع "إذا استطاع فردٌ الوغول في تلك الشبكة الديكتاتوريّة الحاكمة، ويعطّل من حركتها ومسيرتها، وليعود على البلاد بالخير والصلاح منها، فهو عملٌ مطلوبٌ، بل أحيانًا يتوجّب عليه شرعًا أداءه".

 

لكنّ بحثَنا لا يدور حول الاحتمالات والاستثناءات والمفردات، بل يدور حول الواقع ومتطلّباته. لذا، "يجب الانقلاب على هؤلاء المتسلّطين الخونة، ومَن شاكلهم من الكبار والصغار الطامعين المهرّبين، وإلّا سوف تأتي حكومة وسلطة أقذر من هؤلاء، وعندها ترون السابقين كانوا أصلح قومًا وأنسب حكمًا!". لقد هرب رضا خان، لكن "له جماعات وأيدٍ خبيثة تعمل له سرًّا، وقد تقنّعت بقناعٍ جديد وثياب جديدة، وأخذت تفترس الشعب وتنهبه من جديد". وعلى هذا، فإنّ الشعب نفر من جميع رجالات رضا خان وأتباعِه وكلِّ من ساهم في عمليّة دحض راية الإسلام والدين الحنيف، "فالجماهير المحرومة والمظلومة، التي قاسَت أنواع الظلم والجور من رضا خان وعمّاله، أصبحت غير قادرة على أن ترى شخصًا واحدًا من أولئك المجرمين الخونة، الذين تلوّثَت أياديهم بالآثام، حيث العبث بمقدّرات أبناء هذا الشعب، وهتك عرضه، وانتهاك حرماته، وكلّ من يؤيّد ويحترم ويقدّر تلك الحثالات في يومنا هذا، إنّما هو إنسانٌ بعيدٌ عن الشرف والعفّة والنصف. أمّا الصحف التي روّجَت لرضا خان وأتباعه، بأعماله التي تحمل شعار الحركة الإصلاحيّة، والتي من أبرزها مسألة السفور، يجب أن تُحرَق بأجمعها في الشوارع والساحات أمام الجميع".

 

105

 


77

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

يجب أن لا ننشغلَ بإصلاح بعض الرموز والشخصيّات، وبعض المناصب والسمات، ونحيلَهم إلى المحاكمات، ونغفلَ عن غيرهم بدلًا منهم، من الرموز السياسيّة الأجنبيّة القذرة، بل يجب إصلاح الوضع بأكمله، وعلى رأس الأمور كلّها، مسألة إصلاح الجوّ الثقافيّ ورموزه، حيث انحرف الشباب والأشبال إلى ساحات الفساد الخُلُقيّ والتباهي، والذي كان يُعَدُّ أحد أهداف رضا خان الرئيسة. ثمّ يستطرد الإمام قدس سره قائلًا:

"من المجالات التي هي بحاجة فاعلة للإصلاح والتطهير، مجال الصحافة والنشر، فالصحف والمجلّات والنشرات الدوريّة التي وصلت إلى حدّ الفساد والانحطاط، وأصبحت مصدرًا له، يجب محوها من الوجود. وإذا كنّا نريد نشر الفساد وإطلاق عنانه، فلا شيء يساعدنا عليه إلّا هذه الحثالات والأوراق المخزية.

 

هؤلاء باسم التجدّد والتمدّن، جرّوا فتياتنا وفتياننا إلى ساحات الشهوات والنزوات، وأخذوا يرقصون مع فتيات وطننا، بعد أن أخرجوهم من ربقة الإيمان والحجاب والستر إلى السفور والفساد، وقد غفل رضا خان، عند تنفيذ خططه المدمِّرة هذه، عن أن يأتي زمانٌ يثور عليه المؤمنون، ويُنزلون به ضرباتهم المسدّدة له ولخططه بإذن الله تعالى، ويهدمون صرح الفسد والطغيان والانحراف.

 

على العموم، يجب على الشعب والجماهير أن لا تعتبر تلك الصحف والمجلّات التي غاصت فيها أفكار رضا خان وأهدافه، سوى أوراق مهملة نتيجتها النيران، وضرر تلك الصحف والمجلّات التي كانت تبثّ أفكار رضا خان ورجالاته، هو أكثر بمئات الأضعاف من المجرم أحمدي والظالم مختاري وغيرهم. إذا كان مختاري يعتدي على سجين واحد ويعذّبه حتّى الموت، فإن هذه الصحف والمجلّات قاتلةٌ لأمّةٍ بأكملها، لِما تفتقر إليه من عفّة وشرف. إنّ أقلام هذه الصحف وأمثالها، لهي أشدّ ضررًا على الأمّة الإسلاميّة بمئات المرّات من الإبر التي كان يزرقها أحمدي للسجناء المظلومين.

 

أولئك الذين يدّعون انقراض رضا خان وأعماله وأهدافه طيلة العشرين سنة الماضية، أليسوا هم الذين ينشرون تلك الصحف والمجلّات في بيوت هذه الأمّة

 

106

 


78

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

والشعب، ويشيدون بأفكار رضا خان وأعماله؟ إذا كان ادّعاؤهم ذلك صحيحًا وصائبًا، فلماذا لا يلقون بتلك الصحف والمجلّات إلى الشوارع ويحرقونها، كي يلقّنوا كتّابها درسًا لن ينسوه أبدًا؟ لقد صادروا جميع معتقداتنا وعاداتنا. وأكثر ما يؤلم القلب ويجرحه، هو إماتة الحسّ الدينيّ والهاجس العقيديّ للأمّة، والذي من خلاله يُحفظ الشرف وتُربى الفضائل الأخلاقيّة".

 

إنّ الجانب الآخر من انتقادات الإمام قدس سره كان موجّهًا لنوعيّة النظام الدستوريّ للبلد، والذي أشرنا إليه مسبقًا. يتأثّر الإمام قدس سره ويتأسّف للجوّ الحاكم في الجيش، فيكتب قائلًا:

"مع هذا الجوّ الحاكم في الجيش، الذي لا يمكن للجنديّ أن يتأقلم معه، وصل إلى درجة حيث أصبح جليًّا للعموم، أنّه لم يؤسَّس لمصلحة عليا، ولهذا نرى الجنود لا يرون سبيلًا لنجاتهم إلّا الهروب. يجب إصلاح البلاد من جميع جوانبها، وبكافّة قطاعاتها، وإلّا فالأفضل رميها في سلّة النسيان".

 

ومن ثمّ يُظهر الإمامُ قدس سره دهشتَه لعدم تبديل النظام السابق، فيقول:

"في عهد ذلك الطاغية، كانت الأعذار تُطرَح خوفًا من بطشه وقدرته، ولكن اليوم ما الخبر؟".

ثمّ بعد انتقاده هذا، يقترح قائلًا:

"إذا كان المسؤولون يريدون إعداد الجيش، ويبثّون فيه روح الوطنيّة، وحبّ الوطن، والدفاع عنه، يجب عليهم أن يسلّموه إلى رجال العلم والخطباء والوُعَّظ الدينيّين، وأن يربطوا الجنديّ بالعالِم الربّانيّ والرجل الدينيّ العقائديّ... وطريق الفتوة والذبّ عن كرامة الوطن وحبّه، لا يمرّ إلّا عبر الروح الإيمانيّة والإلهيّة، التي تؤمن بالله وبمدده الغيبيّ".

 

ثمّ يستطرد الإمام قدس سره ويتطرّق إلى الوضع الإداريّ المدنيّ للبلاد، وإلى الفساد الإداريّ الذي حصل، وذهب إلى أنّ مصدره هم الموظّفون وأصحاب المشاغل، فهؤلاء

 

107

 


79

القسم الثالث: معارضة الإمام الخمينيّ قدس سره لنظام رضا خان

برذائلهم الأخلاقيّة وسوء تصرّفهم وتهتّكهم، جعلوا المواطن يردّ عليهم بما هم عليه، ويهرب من النظام الإداريّ، وإذا بالجماهير منفصلة عن قوانين الدولة، وإذا الفساد والفوضى تعمّ البلد، ذلك نتيجة المعاملة السيّئة وإضراب الشعب عن إيصال الضرائب والحقوق للدولة. إذًا، "يجب أن لا تتوقّعوا حُسن ظنّ الجماهير لدى الدولة، وتنتظروا مساهمة الشعب بما يجنيه بعرق جبينه وتعبه، ويهبه إلى عصابة من المهرِّبين والمختلسين، ويؤدّي بحالة لا يصل معها ميزانيّة الدولة". والطريق الأمثل والأفضل لإثبات حُسن الظنّ وحُسن النوايا من الحكومة تجاه الشعب، هو: "إصلاح الوضع القائم، وقمع الغارات والنهب والتهريب، وعزل الخونة والمتربِّصين بالدوائر لمصالحهم الذاتيّة. وبعبارة أخرى، يجب تبديل أحوال البلاد بأكملها، دون استثناء... وإلّا فسيبقى الوضع كما هو عليه، والجماهير على حقّ بما تقوم به تجاه الحكومة".

 

108


80

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

الفصل الرابع

غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

 

تصاعدَت الأجواء السياسيّة، وضُيِّق الخناق على رضا خان، وهو يعيش الأسابيع الأخيرة من سلطته، إذ دخل جوًّا مضطربًا وخطرًا، وهذا ما كان ناتجًا عن تأزُّم العلاقات البريطانيّة الإيرانيّة، نتيجة توطيد العلاقات المتينة بين رضا خان والنازيّة الألمانيّة. وفي الوقت الذي كان فيه رضا خان يتعامل مع هاتَين الدولتَين العظيمتَين تعامُلًا متينًا وسرّيًّا، وعلى انفراد، صمّمَت بريطانيا على عزل رضا خان من السلطة، حفاظًا على مصالحها، وضمانًا لمستقبلها هناك، وإن تطلّب هذا استخدام القوّة العسكريّة. وقد عمدَت بريطانيا إلى شنّ حملة دعائيّة وإعلاميّة كبيرة ضدّ رضا خان عبر الإذاعات الأجنبيّة، وراحت تستفزّ عواطف الجماهير ومشاعرهم، عن طريق التشهير به، وفضح جرائمه وجناياته وظلمه وجوره.

 

ونتيجةً لضعف حكومة رضا خان ووهنها، مضافًا إلى تصاعد الحملات الدعائيّة الأجنبيّة التي أشعلت نار ثورة كبيرة في نفوس الشعب ضدّ رضا خان، أخذت الحركات الجماهيريّة تتعاظم، والكتل الشعبيّة تتزايد، وتقوّي من نشاطها. وممّا زاد من فورة الشعب وثورته - مضافًا إلى ما سبق - فقدان لقمة العيش، وقلّة الموادّ الغذائيّة، وخاصّةً الدقيق والقمح. وفجأةً داهمت القوّات الروسيّة البلاد، فأطلق رضا خان ساقيه للريح، وولّى هاربًا ليرتميَ في أحضان أسياده البريطانيّين، الذين عملوا على تثبيت حكمه لعقدين من الزمن، فنجا بذلك من قبضة الشعب الثائر المتحمّس، ذلك الشعب العظيم الذي

 

109

 


81

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

لم يكترث لدخول القوّات الأجنبيّة وهيمنتها على البلاد، إذ غلب عليه الفرح وطغت عليه البهجة والسرور بسقوط رضا خان وهروبه، ذلك الطاغية الذي تحمّلت الجماهير من بطشه وظلمه وجوره ما تحمّلت. لقد كان الشعب على اعتقاد كامل بعدم سقوط ذلك الجبّار لولا دخول تلك القوّات إلى البلاد. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره:

"... ولعلّ الجميع يتذكّر مدى فرحة الجماهير عند هروب رضا خان، وسرورهم بدخول القوّات الأجنبيّة على أنّها هي سبب السقوط...".

 

لقد تعاظمَت الأخطاء، وتردَّت أوضاع البلاد، نتيجة الأوضاع السياسيّة الجديدة، وتهدّمَت أركان النظم، ووهَنَت قواه، وبانَ ضعفه. وبالمقابل، فالشعب كان على أهبّة الاستعداد للقيام بثورة عارمة وكبيرة، وكاد يشكّل خطرًا كبيرًا وجسيمًا يؤدّي إلى انقلاب واسع، لكنّ الذي حال دون ذلك، وأعاد الماضي من جديد، عاملان أساسيّان:

العامل الأوّل: هو اتّفاق بريطانيا وروسيا على تسليم زمام الأمور لمحمّد رضا بن رضا خان، وساعدَت هذه العمليّة نشاطات "فروغي" المكثّفة والمتواصلة، حيث بذل فروغي هذا ما بوسعه كلّه من جهود، لإبقاء نظام الحكم على صيغته السابقة - أي النظام البهلويّ - وواصل جهوده ومساعيه لتهدئة الشعب والجماهير المنفعلة والمتحمّسة، وإعادة سيطرة الحكومة من جديد. وتطرّق في خطابه الذي ألقاه في البرلمان، وبعد أن قَرأ قرار إقالة رضا خان، تطرّق إلى مدحِ محمّد رضا، وذمِّ المجرمين والجلاوزة السابقين، بقوله: سوف يتسلّم محمّد رضا زمام السلطنة، ويسير على نهج الدستور، وسوف يعاقب كلّ مَن ألحق الضرر والأذى بالشعب، وكلَّ من تسبَّب في ظلم الجماهير وسلبها حقوقها المشروعة، وإنّ ما أُشيع عن محمّد رضا وانسجامه مع أفكار أبيه وأعماله، هو كذبٌ محض، وعارٍ عن الصحّة، وإنّه سوف يطلق عنان الحرّيّة للشعب باختيار الزيّ المناسب، والتزام العقيدة والرأي الذي يرتئيه، وإقامة الشعائر الدينيّة، وإلى غير ذلك.

 

وسيقوم بإجراء محاكمة عامّة وشاملة لكلّ من تسبَّب في توسيع رقعة الظلم والجور سابقًا.

 

110

 


82

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

العامل الثاني: وهو الأهمّ، غياب القيادة الجماهيريّة. ففي عهد رضا خان، أُلقِيَ القبض على كثير من رجالات السياسة وعلماء الدين البارزين المعارِضين للنظام، وأُودِعوا السجون، وأصاب بعضهم القتل والاغتيال، وأُبعِدَ آخرون وشُرِّدوا عن أوطانهم، ورُوقِب بعضٌ آخر، كما حُدَّ من تحرّكاتهم. أمّا الباقون من علماء الدين، فاختاروا الصمت والسكوت، حفظًا لكرامتهم ومراعاةً لمكانتهم من جهة، ولفرض الرقابة المشدَّدة عليهم من قِبَل النظام من جهة أخرى.

 

وكانت تُوَجَّه إليهم التهم المتنوّعة والغريبة، فتردَّت منزلتُهم، وذهبَت هيبتُهم، فسقطوا من أعين الشعب، حتّى صاروا موضع سخريّة واستهزاء، هذا مضافًا إلى انزوائهم المفرط، وعدم نضج وعيهم السياسيّ. هذا كلّه أدّى إلى فشل الكثير من انتفاضاتهم وتحرّكاتهم، فانصرفَت الجماهير عنهم، وقد بلغ بهم الأمر إلى درجة أصبح فيها عالِم الدين يتمنّى أن لا يُذكَر عنده اسمٌ للسياسة، لأنّها أضحَت - في نظره - إهانةً لصاحب العمامة، ولمقام الحوزة العلميّة. وهذا ما دعا الإمام أن يذكر هؤلاء بتعليق جميل وجذّاب، فيقول:

"... من خطط المستعمِرين التي هُيِّئت من قَبل، ونفّذها عمّالهم بجدّيّة تامّة، هي خطّة القضاء على علماء الدين، فأشاعوا فكرة انفصال الدين عن السياسة، وأصبح لدى العامّة شيءٌ من السخريّة إذا تفوَّهَ العالِم بكلمةٍ تخصّ هذا المجال، وسرَت الفكرة إلى بعض العلماء أنفسهم، فإذا دار الكلام حول السياسة وما يعاني البلد من أزمات ومشاكل، سحبوا أنفهم فورًا، مُعلِنين عدم علاقتهم بالسياسة. وإذا تطرّق أحد العلماء إلى مشكلة يعاني منها الشعب والبلد، أو إلى مسألة قد تمسّ نظام الحكم شيئًا ما، تراهم يفرّون منه فرارهم من الأسد... ويُطلقون عليه "رجل دين السياسة".

 

أولئك يرون ويعتقدون بأنّ مَهمّة عالِم الدين هي ملازمَتُه منزله ومسجده فحسب، وإذا تخلَّل بين الفريضتَين محاضرةٌ أو كلمةٌ، فيجب أن تكون فقهيّة أو أخلاقيّة، لا غير، ولا يجوز له التطرّق إلى المشاكل الاجتماعيّة، وإلى فساد الوضع القائم، وأولئك تربَّوا هكذا، وهكذا أثّرت فيهم الدعاية والإشاعات الغربيّة...".

 

111

 


83

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

ولقد كان هذا مؤثّرًا على الزعامة الدينيّة السياسيّة، وعامِلًا من عوامل غيابها عن السياسة بعد رضا خان، إلّا أنّ الظروف كانت مُهيّئة للثورة، حيث جعلَت الإمام قدس سره يجرّ حسرات وآهات على خلوّ الساحة من رجال الدين، فراح يقول:

"... مع بالغ الأسف، لم يكن هناك شخصٌ يقوم بالمهمّة ويُنجي الشعب، حتّى استلم ابن رضا خان زمام الأمور، فلو كانت هناك حركتان أو ثلاث في بعض المدن، لتفجّر البركان. وللأسف، لم نجد صوتًا معارِضًا واحدًا، وقد ضرب الخوف والهلع أطنابه من جديد، وذهبَت آمالُ الشعب أدراج الرياح... فلو كان "المدرِّس"، لأحدَث شيئًا، لكن خلت الساحة خلوًّا تامًّا...".

 

لقد كان هناك من علماء الدين السياسيّين، الذين لو سنحَت لهم الفرصة، لركبوا معارج الثورة، لكن قيّدوهم وأجهضوا نشاطاتهم وهي في مهدها. فهذا العالِم المجاهد آية الله الكاشانيّ، الذي له اليد الكبيرة في مقارعة البريطانيّين، كان أحد المرشَّحين لقيادة ثورة عارمة، لكنّ البريطانيّين ألقوا القبض عليه بتهمة إقامة علاقات سرّيَّة مع الألمان، ولَبِثَ مدّة 28 يومًا في سجون آراك وكرمنشاه ورشت.

 

كذلك آية الله حسين القمّيّ، الذي أُبعِد إلى مدينة كربلاء عام 1936م إثر معارضته السلطة وتحريضه ضدّ قرارات رضا خان الإصلاحيّة، وقد عزم على الرجوع إلى بلاده -إلى مدينة مشهد- عام 1945م، وعند مروره بطهران، استقبلته الجماهير استقبالًا باهرًا، وقد تقدَّم إلى الحكومة القائمة بخمسة طلبات، وهي:

1- فتح مجال الحرّيّة للمرأة باختيارها الزيّ المناسب، وإلغاء حكم السفور.

2- إغلاق المدارس المختلطة.

3- إقامة الشعائر الدينيّة في المدارس الحكوميّة.

4- إصلاح الوضع الاقتصاديّ المتأزّم.

5- حرّيّة نشاط الحوزة وعلماء الدين.

 

وبعد هروب رضا خان، أعلن بعضُ سجنائه الشيوعيّين عن تنظيمٍ لهم، وأعلنوا عن

 

112

 


84

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

ظهور "حزب تُوده" في الساحة عام 1942م. واستطاع هذا الحزب أن يستغلّ غضب الجماهير على الحكومة، فروَّجَ الشعارات الحماسيّة والثوريّة المزيّفة على طلبات الجماهير وما تهدف إليه، فعملَت على نصرته حشودٌ كبيرةٌ من قطاعات الشعب كافّة، وبالأخصّ الشباب والطلبة الجامعيّون والموظّفون والعسكريّون والعمّال.

 

إنّ الإمام قدس سره الذي درس عهد رضا خان، ولمس خططه ودسائسه جيّدًا، وكشف ماهيّة ذلك النظام الجائر، لم يُخدَع بإصلاحاتٍ جزئيّة وشكليّة من قِبَل دولة فروغي، ويرى أنّ طلبات العلماء غير كاملة، ولا تفي بالغرض المطلوب، ولا تعمل على تحقيق أهداف الشعب، ويُشير لهذا في كتابه "كشف الأسرار"، الذي حرّره وصنّفه بعد عامَين من سقوط عرش رضا خان، ويُظهِر ما يجب إصلاحه وتطهيره، وما غفل عنه العلماء، وأخذ يدعو إلى فهم الجوّ السياسيّ الجديد ووعيه، ويحذّر من الأحزاب والكتل غير الإسلاميّة التي تريد الاصطياد في الماء العكر، ثمّ يبدي أسفه الشديد لِما أضاعه العلماء من فرصة ذهبيّة مهيّأة، فيقول:

"عند هروب رضا خان، وانتهاء العهد الديكتاتوريّ، ظَننّا أنّ الشعب قد عرف علّته ووعاها، وذلك جرّاء ضغطٍ دام عقدَين من الزمن، تعرّض فيهما إلى أبشع حالات الظلم والجور والدمار، وأدرك أنّه سوف يقضي على تلك الشرذمة الباقية من ذلك العصر، وسوف يدوس على جميع بِدَعِه وسُنَنه، لكن - ومع شديد الأسف - ظلّ غارقًا في سباته العميق، وتناسى حياته المظلمة. وعندما سكت الشعب عن حقوقه، ولم ينهض للثأر، أعطى الفرصة إلى قنَّاصيها، فاعتدوا على علماء الدين وعلى الحوزة العلميّة دون أيّ رادع، وأعرضَت المحاكم عن القرآن، وضربَت به صَفْحًا، وشهَّرَت بالدين والقرآن، وألصقَت به أنواع التهم والافتراءات، حتّى أصبحت الساحة خالية لهم، ولِما يهدفون إليه من أهداف، وما يبيّتونه من نيّات فاسدة مدمّرة تعيد تلك الفترة المظلمة والأيّام المؤلمة".

 

وفي مجال آخر، نرى الإمام قدس سره يُولي مسألة الإخلاص لله - تعالى - في الميادين

 

113

 


85

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

جميعها اهتمامًا واسعًا. إذ يجب على الإنسان أن يكرّس جميع أعماله ونشاطاته في إطار واحد، وهو الإخلاص لله، وإلّا فنشاطاتنا وتحرّكاتنا جميعها سوف تكون شيطانيّة. وعلى المرء أن يعلم أنّ الأهواء هي سبب الانحرافات على اختلاف أنواعها، وقد أوصى الإمام الشعب، بفئاته كلّها، بانتهاز الفرص الثمينة للخلاص من الضعف والوهن المُهيمن عليهم، وأن يقوموا بأعمالهم جميعها بنيّة القربة إلى الله، وإلّا فسيعود الجوّ كما كان سابقًا، وستسيَّر الأمور حسب الأهواء، ويتسلّط الظالمون على المتشتّتين من جديد، ويبشّر الجميع بسلطة أقسى وأبشع من سلطة رضا خان. وقد عبّر الإمام قدس سره عن رأيه هذا بمقال منفرد حسّاس، ونظرًا لأهمّيّته، ولِما جاء به من نقاط حسّاسة ومثيرة، وما شمله من توقّعات وتنبّؤات حدثَت فيما بعد، ننقله بنصّه الكامل:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾[1].

 

"بيّن الله - سبحانه - في هذه الآية الشريفة المسيرة الإنسانيّة، من المبدأ الأوّل للطبيعة المظلمة، وحتّى المنتهى. وقد اختار إله العالم - من بين المواعظ كلّها - أفضل المواعظ، ليضع إزاء الانسان عبارةً تمثّل طريق الإصلاح الوحيد للدارَين:

"القيام لله" هو الذي أوصل إبراهيم خليل الرحمن إلى مقام الخلّة، وحرّره من أسر المظاهر المختلفة لعالَم الطبيعة...

 

"القيام لله" هو الذي نصر موسى الكليم بعصاه على الفراعنة، وألقى بتيجانهم وعروشهم في مهبّ الريح...

 

إنّ الأنانيّة وترك القيام لله، هما اللذان أوصلانا إلى هذا اليوم الأسود، وسلَّطا علينا العالَم كلّه، وجعلا البلدان الإسلاميّة تحت هيمنة الآخرين.

 

القيام من أجل المنافع الشخصيّة هو الذي قضى على روح الوحدة والأخوّة لدى أبناء الأمّة الإسلاميّة.


 


[1] سورة سبأ، الآية 46.

 

114


86

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

القيام من أجل النفس (الذات) هو الذي فرّق بين أكثر من عشرة ملايين شيعيّ، وباعَدَ بينهم بنحوٍ أضحوا فريسةً لثلّةٍ من عبدة الشهوات المتربِّعين على كراسي السلطة.

 

القيام من أجل الشخص هو الذي يسلّط شخصًا مازندرانيًّا أمّيًّا (محمّد رضا بهلويّ) على عدّة ملايين، ليعيث بحرثهم ونسلهم، إشباعًا لشهواته.

 

القيام من أجل المنفعة الشخصيّة هو الذي سلَّط علينا الآن عددًا من الأطفال المتسكِّعين، ومكّنَهم من التحكُّم بأموال المسلمين ونفوسهم وأعراضهم في أنحاء البلاد كلّها.

 

القيام من أجل النفس الأمّارة هو الذي سلّمَ مدارس العلم والفكر لثلّة من الأطفال السذَّج، ليحوِّلوا مراكز تعليم القرآن إلى مراكز للفحشاء...

 

القيام من أجل النفس هو الذي سلب عباءة العفّة من على رؤوس النساء المسلمات العفيفات، وما زال هذا الأمر المخالف للدين والقانون ساريًا في هذا البلد، ولم ينبس أحدٌ ببنت شفة.

 

القيام من أجل المصالح الشخصيّة هو الذي صيّر الصحافة وسيلةً لنشر الفساد الأخلاقيّ، وهي اليوم أيضًا تواصل ممارسة القضايا ذاتها التي تفتّق عنها الذهن المتحجِّر لرضا خان العديم الشرف، وتنشرها بين الناس.

 

القيام من أجل الذات هو الذي سمح لبعض هؤلاء النوّاب المزيّفين، بالتفوُّه في البرلمان بما يحلو له ضدّ الدين ورجاله، دون أن يعترض عليه أحد.

 

يا علماء الدين الإسلاميّ، أيّها العلماء الربّانيّون، أيّها المفكِّرون المتديِّنون، أيّها الوعّاظ المؤمنون، أيّها المتديِّنون الموحِّدون، أيّها الموحِّدون طلاب الحقّ، يا أنصار الحقّ الشرفاء، أيّها الشرفاء الوطنيّون، أيّها الوطنيّون الغيارى!

 

اقرؤوا موعظة إله العالَم، وتمسّكوا بطريق الإصلاح الوحيد الذي اقترحه لكم، وتخلّوا عن المنافع الشخصيّة، لتنالوا سعادة الدارَين، واحتضنوا العالمَين من خلال

 

115


87

الفصل الرابع: غياب القيادة الدينيّة السياسيّة بعد رضا خان

الحياة الحرّة الشريفة، "إِنَّ للهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَها".

 

فاليوم يومٌ هبَّ فيه النسيم المعنويّ الإلهيّ، وهو أفضل الأيّام للقيام من أجل الإصلاح، فإذا ضيّعتم الفرصة، ولم تقوموا لله، ولم تدعوا للشعائر الدينيّة، فسوف تتسلَّط عليكم في الغد شلّةٌ من الزناة المتهتِّكين، وتجعل من دينكم وشرفكم لعبةً لنوازعهم الباطلة.

 

ما هو عذركم اليوم عند إله العالَم؟ كلّكم رأيتم كُتُبَ شخصٍ تبريزيٍّ تائه (كسروي)، اتّخذَت من شريعتكم موضوعًا للتشهير، وتطاولَت، في مركز التشيُّع، على الإمام الصادق والإمام الغائب - روحي له الفداء -، دون أن تتفوّهوا بكلمة.

 

فما هو عذركم اليوم في محكمة الله؟ ما هذا الضعف والعجز الذي يسيطر عليكم؟

 

أيّها السيّد المحترم الذي جمعتَ هذه الوريقات، وعرضتَها على علماء البلاد والوعّاظ! يا حبّذا لو تقدّم كتابًا يزيل الفرقة من بين صفوف هؤلاء، ويعينهم على تحقيق الأهداف الاسلامية. كان عليك أن تحصل على تواقيعهم (وعودهم) بالتعهُّد بالقيام يدًا واحدة، وقلبًا واحدًا، في أيّة بقعة من بقاع هذه البلاد، إذا ما حصل تطاولٌ على الدين.

 

حبّذا لو يتعلّمون الإخلاص - على الأقلّ - من البهائيّين[1]، الذين لو عاش أحد أتباعهم في قرية نائية، لكانت مراكزهم الحسّاسة على اتّصال به، وإذا ما اعتدى عليه أحد، هبّوا لنصرته.

 

أنتم لم تنهضوا بحقّكم المشروع. فنهض المتهوِّرون عديمو الدين يروّجون لأفكارهم الإلحاديّة في كلّ مكان، ولن يمضي وقت طويل حتّى يتسلّطوا عليكم - أنتم المنهمكون بإثارة الفرقة - بنحوٍ تُضْحي فيه أيّامكم أسوأ ممّا كانت عليه في عهد رضا خان".


 


[1] فرقة ضالّة.

 

116


88

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

الفصل الخامس

ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

 

تتجلّى أهمّيّة كتاب "كشف الأسرار" أكثر عند بحث مسألة "ولاية الفقيه" و"الحكومة الإسلاميّة"، والتي -مع الأسف- لم تحظَ بالاهتمام جيّدًا. يعتقد الكثير أنّ الإمام الخمينيّ قدس سره طرح مسألة ولاية الفقيه خلال بحوثه الدراسيّة في مدينة النجف، بينما بحث المسألة في كتابه "كشف الأسرار" قبل خمس وعشرين سنة. وكما ألمحنا سابقًا، فإنّ الإمام قدس سره نشر كتابه وأفكاره هذه في وقتٍ لم تشهد الساحة نشاطًا من علماء الدين بالأخصّ، والأمّة لم تُشعل فتيل انتفاضاتها الشعبيّة ضدّ الاستعمار.

 

والجدير بالذكر، أنّ ما ذكره الإمام قدس سره في كتابه "ولاية الفقيه"، وأثناء خطاباته وكلماته، حول ماهيّة المسألة وحدود اختيارات الحكومة الإسلاميّة وأبعادها، هو بعينه ما ذكره في كتابه "كشف الأسرار" سابقًا. ومن هنا، نرجع لنرى أبعاد المسألة، وبشيءٍ من الاختصار.

 

يبدأ الإمام قدس سره بتفسير آية ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾[1]، ويعتقد الإمام قدس سره "أنّ الله أمر، بهذا، بناء كيان دولة إسلاميّة... ولمّا كان الأمر شاملًا للأمّة الإسلاميّة كافّة، بأنّ تطيع تلك الحكومة المعبَّر عنها بـ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾، فلا بدّ من وجود حكومة واحدة لا غير...".

 

أمّا من هم ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ فهنا تقع المسألة في بحث عميق بين المذاهب الإسلاميّة، ويتطرّقون لها بالبحث والتفصيل المعمّق.


 


[1] سورة النساء، الآية 88.

 

117


89

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

وبعد أن يطرح آراء بعض المذاهب بـِ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾، بأنّهم حكّام البلاد القائمون في أيّ زمان ومكان، يردّهم بالدلائل والبراهين العقليّة. "يرى أنّ أشخاصًا جهلة ومهرّبين جناة لا يمكن أن يكونو أولي أمرٍ لأمّةٍ ما"، ومن ثمّ يتطرّق إلى آراء ونظريّات علماء الشيعة. والإمام قدس سره، كغيره من كثير من العلماء والفقهاء الشيعة الآخرين، يرى أنّ تفسير ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ هو "ولاية المجتهد"، أو "ولاية الفقيه"، ويستدلّ بآراء فقهيّة شافية. والولاية، برأيه، هي ليست ولاية تنفيذيّة فقط، بل هي قيادة وهداية ورشاد.

 

"حينما نقول ولاية الفقيه، لا نقصد أن يكون الفقيه رئيسًا أو وزيرًا أو قائدًا عسكريًّا، إنّما نقصد بذلك إشرافه التامّ والنافذ على القوى التشريعيّة والتنفيذيّة للبلاد، تحت إطار الدين الإسلاميّ".

 

"نحن لا نريد حكومةً باسم فقيه، إنّما نطالب بحكومةٍ تتماشى مع قوانين الله تعالى ودستوره الحكيم، الذي هو رحمة للعالمين، وهذا لا يتحقّق إلّا بوجود العلماء وأهل الدين".

 

والإشراف ليس شكلًا صوريًّا لأوامر ونَواهٍ، بل هو ضمان التنفيذ:

"الكلام بذاته لا يغيّر شيئًا... يجب فرض قوّة تنفيذيّة بعد القوّة التشريعيّة... ويجب الربط والانسجام بين هاتَين القوّتَين. وما دامت هاتان القوّتان منفصلتَين عن بعضهما، فإنّه من المستحيل الوصول إلى الهدف". ولفهم المسألة أكثر، يتطرّق إلى مقايسة نظام الحركة الدستوريّة بالنظام الإسلاميّ الذي يطرحه.

 

إدارة النظام الإسلاميّ ممكن أن يترأّسها فقيهٌ أو أشخاص أُخر، وتجب طاعته، شريطة أن يكون هذا الشخص أو الأشخاص جامعًا للشرائط: "الرسول والإمام والمجتهد، في حال يستطيعون منح القيادة لفردٍ ما، شريطة عدم إعراضه عن قوانين الله - سبحانه وتعالى -، والتي من أساسها العدل والعقل. قوانين حكومته الرسميّة هي قوانين الله السماويّة نفسها، لا قوانين أوروبّيّة تعيسة. وطبقًا للعقل والدستور،

 

118

 


90

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

فكلّ قانون يخالف قوانين الإسلام هو ليس مشروعًا في البلد".

 

ثمّ يتطرّق الإمام قدس سره إلى الإجابة عن السؤال الذي يستفسر عن تعليل وجود بعض العلماء والمتديّنين في النظام غير الإسلاميّ آنذاك، فيجيب قائلًا:

"نحن نؤكّد أنّ كلّ من يستطيع أن يخترق ويَنفذ إلى النظام الديكتاتوريّ الجائر، ويستطيع أن يقدّم ما بوسعه من خير للشعب والبلاد، ويعرقل أعمال الجهاز الحكوميّ البشعة والمنافية للأخلاق والمُثل، هو عمل محبّذ ومقبول، بل وأحيانًا قد يتعيّن عليه ذلك بالوجوب". ويدعم قوله هذا ويؤيّد رأيه بتصريحات الشيخ مرتضى الأنصاريّ.

 

إنّ سعة النظام الإسلاميّ وقوانينه وشموليّتهم لا تنحصر في مجالٍ من مجالات الحياة الاجتماعيّة، بل "هو قانونٌ شاملٌ كامل، يتطرّق إلى المجالات كافّة، بما فيها كيفيّة صبغة النظام، وتقنين نظام الضرائب، ودروس القوانين الحقوقيّة والجزائيّة، وما يرتبط بنظام البلد من تهيئة الجيش وإدارة الدوائر الرسميّة، وكلّ ما يرتبط بالحكومة وكيانها...".

 

يؤكّد الإمام قدس سره، من جانب آخر، على إقامة الحكومة الإسلاميّة بمجالاتها وأبعادها كافّة، فيقول: "أساسُ الحكومةِ الإسلاميّةِ: القوّةُ التشريعيّةُ، والقوّةُ التنفيذيّة،ُ والقوّةُ القضائيّةُ، وبيتُ مال المسلمين، والجهادُ في سبيل الله، إن كان دفاعًا عن البلاد والدين، أو هجومًا لبسط رقعة الإسلام، هذا كلّه أتّى مفصّلًا في القرآن والسنّة. فالقرآن كما هو دستور ومجموعة قوانين، فهو مهتمّ بالجانب التفيذيّ أيضًا، وكما وصفَ ودرسَ ميزانيّة البلاد بأحسن وجه، فهو كذلك رسم لنا الطريق بكيفيّة إدارة البلاد والحفاظ عليها".

 

وبعد هذا، يتطرّق إلى شرح أصول الدستور الإسلاميّ وتفصيله، في مجال القضاء (الحقوقيّ والجزائيّ والجنائيّ)، والنظام (الجبريّ والاختياريّ)، والضرائب (وكيفيّة جمعها وصرفها)، و... إلخ، مُستندًا إلى دلائل وأصول فقهيّة. فمثلًا، عندما يتطرّق إلى شرح بنود الضرائب، يقول: "في النظام الإسلاميّ، تتفرّع الضرائب إلى فروع، فبعضها

 

119

 


91

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

يُفرَض فرضًا، وبعضُها يُؤَدَّى ندبًا واختيارًا. وأرى من الضروريّ شرحها باختصار.

 

تنقسم الواجبة أيضًا إلى قسمَين:

الأوّل: الضرائب السنويّة الدائمة، وهي التي تُؤخَذ في حالة السلم، وعند قيام الحروب والانتفاضات.

 

والثاني: الضرائب المؤقّتة، وهي التي تُؤخَذ عند الضرورة، وهي غير محدّدة. بالطبع، تُفرَض حينما ترى الحكومة الإسلاميّة عدم كفايتها واعتمادها على الضرائب من القسم الأوّل، ولأنّها ضرائب غير مباشرة، فللحكومة الخيار بتحديد الكمّيّة التي تتطلّبها، قد تجعلها الحكومة قرضًا موقّتًا إذا رأَت في ذلك صلاحها -ويجب مراعاة العدل والقسط بذلك- أمّا عند عدم كفايتها، واحتمال الضرر على الحكومة وكيانها، فلها أخذ ما يملكونه كلّه لدفع الضرر".

 

ومن ثمّ يتطرّق إلى شرح البنود الخمسة من الضرائب المباشرة: "التي تُصرَف لإدارة البلاد، ولاحتياطيّ الميزانيّة، ولتأمين مصالح البلاد والجيش، التي هي من قسم الضرائب المفروضة".

 

سؤال يطرح نفسه، وهو: هل القوانين والأحكام التي أشارَت إليها الكتب الفقهيّة وصرّحت بها، هل هي كافية لإدارة بلد إسلاميّ بمستحدثاته وظروفه المستجدّة؟ وإذا لم تكن هناك تصريحات وأخبار بهذا الصدد، ما هو واجب الدولة الإسلاميّة تجاهها؟ يجيب الإمام قدس سره قائلًا:

"إنّ القوانين التي تستجدّ وتُستَحدَث بمرور الزمن، وتشكّل ركنًا من أركان الدولة الإسلاميّة، تُطرَح للدراسة والبحث... فإذا وافقَت الشرع، ولم تخالف الدستور الإسلاميّ، وهي بذاتها عائدة بالمصلحة والنفع على البلاد والعباد، فإنّها تُقَرَّر حسب الشريعة الإسلاميّة، عبر علماء الدين من ذوي الاختصاص والمهارة، وتخرج إلى حيّز التنفيذ... ولو لم يأتِ لها ذِكرٌ في النصوص والأخبار".

 

ومضافًا إلى شرحه بعض قوانين الإسلام، فإنّه تطرّق إلى النشاطات الداخليّة ضمن

 

120

 


92

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

 الإطار الدينيّ والإسلاميّ، من قِبَل منظّمة الإعلام الإسلاميّ ودائرة الإرشاد الدينيّ، فيقول:

 

"دائرة الإرشاد الدينيّ هي من أكبر الدوائر في الحكومة الإسلاميّة وأهمّها، ويشكّل منتسبوها أبناء الشعب جميعهم من رجال ونساء". مَهمّة هذه الدائرة هي القيام بالنشاط الدينيّ عن طريق الصحف والمجلّات والإذاعة، وتقوم بتربية الشعب على الأخلاق الإسلاميّة الفاضلة، وهي مُقيّدة "ببثّ الجوّ الروحانيّ في صفوف الجيش"، من أجل بناء الروح الإلهيّة الفدائيّة في قلوبهم، وهذا هو الذي "يدفع المقاتل للتضحية والجهاد حتّى آخر قطرة دم في عروقه".

 

يعتقد الإمام قدس سره أنّ جميع قوانين الله - سبحانه وتعالى - لها جانبان: معنويّ ومادّيّ. ونلاحظ البُعد الدنيويّ والبُعد الأُخرويّ: "فمثلًا، نرى نداء التوحيد والتقوى للبشريّة من قِبَل الله - سبحانه وتعالى - بلغ أهمّيّة قصوى في الجانب المعنويّ، حيث تدخَّل في بناء نظام الدولة والحياة الاجتماعيّة والتطوّر والتمدّن بشكلٍ كاملٍ وملحوظ".

 

وهذه المعنويّة دخلَت أيضًا في المجال المادّيّ، فمثلًا "قانون الضرائب... الذي يؤمّن الحياة الاقتصاديّة للحكومة وإدارتها للبلد... صِيغَ بشكلٍ نلحظ فيه الجانب المعنويّ، فالذي ينفق ماله استجابةً لقوانين الدولة الإسلاميّة، يحسّ ويشعر بأنّه يسير في طريقٍ يتقرّب به إلى الله تعالى، والذي يضمن به الروح المعنويّة والإنسانيّة، وكذا الحال بالنسبة لقوانين القضاء وغيرها... وهذا من فضل هذا النظام المتكامل"، وهو خلاف "ما جاءت به البشريّة من قوانين مادّيّة بحتة، تدعو الجماهير للسير نحو حياة فانية، غافلين عن الآخرة الباقية". مضافًا إلى أنّ الحكومات غير المسلمة تبني نفسها على المصالح الذاتيّة والديكتاتوريّة، وإن تغيّرَت ألقابها وأسماؤها:

"... منذ أوّل حكومة سجّلها التاريخ لنا، وليومنا هذا، فإنّ جميع الحكومات العظمى قامت بحدّ السيف والقوّة على رؤوس الضعفاء، متّخذةً أسماءً وألقابًا

 

121

 

 


93

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

مصطنعة، تخدع بها الشعوب، وتخضع لها رقابها، وتقدّمها قرابين لمصالحها وغرائزها... تلك الأسماء والألفاظ كلّها - باختلاف ألوانها وألفاظها - هي غطاء لشكل واحد، وحكومة واحدة، ولا فرق بين تلك الحركة الدستوريّة والاستبداد والجور، ولا بين الديكتاتوريّة والديمقراطيّة، فكلّها حيل وخداع...".

 

وفي نهاية المطاف، نرى أنّه من الضروريّ الإشارة إلى بعض النقاط:

أوّلًا، يرى الإمام قدس سره أنّ جميع الحكومات الإسلاميّة والمتحضّرة السابقة هي حكومات غير إسلاميّة بكلّ معنى الكلمة، وذلك "لعدم تمسّك زعمائها بالدين الإسلاميّ الحنيف وتعاليمه"، وأنّ ما قاموا به من كسب وموافقات وتأييدات من رجال الدين "كان شيئًا صوريًّا روتينيًّا". ومع هذا كلّه، "وإن كانت بعض قوانينهم بعيدة عن الإسلام، فالمسلمون أقاموا دولًا وحكومات عديدة ومتحضّرة أدهشوا بها العالَم آنذاك".

 

أمّا النقطة الثانية التي تطرّق لها الإمام قدس سره، فهي مسألةُ انخداع بعض المتحضّرين المسلمين بثقافة الغرب وتحضّره... ففي طوال المئة والخمسين عامًا المنصرمة، انجرف كثيرٌ من المسلمين المغفّلين، وحتّى بعض الواعين أيضًا، في بحر الدعاية والإعلام الغربيّ، إذ كانوا يرون أنّ الغرب هو المطبّق الأصيل للتعاليم الإسلاميّة، دون دخول الإسلام إليهم، ولهذا وصلوا إلى هذه الدرجة من الرُقيّ والتحضّر، وما علينا إلّا أن نتّبع خطواتهم في كيفيّة تطبيق قوانين الإسلام حسب المنهج الغربيّ، فبذلك نرتقي إلى عصر الحضارة والتجدّد. وكان هذا مدعاة لشعور بعضهم بإحساسهم بالحقارة وبالذلّة أمام الحضارة الغربيّة، وإن وعى هذه الخديعة ثلّةٌ منهم فيما بعد. ويصوّر لنا الإمام قدس سره مشهدًا رائعًا لتنديده بهؤلاء الجهلة المغفّلين، ويشير إلى جرائم الأوروبّيّين أثناء الحرب العالميّة الثانية، فيقول:

"...إنّه لمن المؤسف حقًّا، بل هو من العار، أن يتصوّر أحدٌ أنّ الغربيّين طبّقوا تعاليم الإسلام وبلغوا هذه الدرجة من الحضارة! فأين هذه الحضارة؟ وإلى أين

 

122

 


94

الفصل الخامس: ولاية الفقيه في كتاب "كشف الأسرار"

وصلوا؟ هل حضارة أوروبّا، التي يتمنّاها ثلّةٌ من المنحرفين، هي جزءٌ من الأمم المتحضّرة؟ ما هي علاقة أوروبّا بالإسلام والدين الحنيف... أوروبّا التي قامت على سفك الدماء والقتل وإذلال الشعوب لأجل شهواتها وغرائزها وآمالها الدنيئة، فأين هذه وهؤلاء من الإسلام وعدالته وقوانينه الإنسانيّة؟... إلى أين بلغت أوروبّا كي نمدحها ونثني عليها؟ أوروبّا التي قضت على النساء والأطفال، وقطّعتهم إربًا إربًا بقنابلها وسلاحها، ومع هذا كلّه نعتبرها تحضّرًا؟! أين مكانة الإسلام في أوروبّا؟ إنّ ما يجول في أوروبّا من ظلمٍ وجورٍ لَهو بعيدٌ عن الإسلام وعدالته أشدّ البُعد... لو كان الإسلام قد دخل أوروبّا حقًّا، لقضى على جميع فِتَنِهم وإرهابهم التي يقرفها حتّى الوحش... إنّ حياة أوروبّا اليوم هي أقذر حياة تمرّ بها القارّة الأوروبّيّة وأسخفها، بحيث لا تنسجم مع أيّ دين وعقيدة".

 

أمّا النقطة الأخرى والأخيرة، فهي تعرّض الإمام قدس سره لأفكار المستشرقين، أمثال "غوستف لوبون" و"جرجي زيدان"، الذين سُحِروا ببعض المظاهر، فابتعدوا عن فهم الدين الإسلاميّ واستيعابه، رغم ثقافتهم:

"... الناس أقلّ شأنًا من أن يعوا أبعاد التحضّر الإسلاميّ... أولئك لا يفهمون من حضارة الإسلام سوى الرسوم المزخرفة والفنّ المعماريّ الإسلاميّ والأبنية العجيبة والأقمشة المطرّزة وغيرها، التي لا هي، ولا مئات منها، تُحسَب على التحضّر الإسلاميّ والدينيّ".

 

وإلى هنا، نُنهي تعليقاتنا على كتاب "كشف الأسرار"، ونتركه للباحثين والدارسين والمحقّقين، سائلين المولى التوفيق والسداد.

 

123

 


95

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

الفصل السادس

 

الإمام الخمينيّ قدس سرهبين أعوام 1942م و 1964م

 

القسم الأوّل: الإمام قدس سره والحوزة العلميّة

ينقسم نشاط الإمام قدس سره السياسيّ، في الفترة بين أعوام 1942 و1964م - حين وفاة آية الله العظمى البروجرديّ - إلى قسمَين:

الأوّل: هو ما قام به ضمن إطار الحوزة العلميّة في قمّ، ومن خلال علاقاته المتينة مع علماء الدين والمراجع الكبار.

 

والثاني: هو تحرّكه السياسيّ الملحوظ خارج نطاق الحوزة، وبالأخصّ خلال السنين المتأزّمة والملتهبة بين أعوام 1940 و1954م، وما بعدها.

 

وكما ذكرنا سابقًا، بدأ نشاط الإمام قدس سره السياسيّ علنًا بعد نشر كتابه القيّم "كشف الأسرار" عام 1944م، والذي ضمّ انتقادات شديدة وصارمة للاجتياح الاستعماريّ، وما نفّذه رضا خان لأسياده، و... وشمل كذلك تنبيهاتٍ وتحذيراتٍ للأمّة وعلمائها من تأزّم الأوضاع أكثر ممّا مضى... إلخ.

 

والحادثة الأخرى التي دعَت الإمام قدس سره للخوض في معترك الساحة السياسيّة أكثر، هي مسألة المرجعيّة الدينيّة، إثر وفاة المرجع الكبير آية الله السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ عام 1947م، وتزامنها مع الفترة المتأزّمة والحسّاسة بعد هروب رضا خان.

 

بهذه المسألة، كانت للإمام قدس سره أفكار وآراء خاصّة به، نظرًا لِما يتمتّع به من مكانة علميّة مرموقة على صعيد الحوزة والعلماء والفضلاء. فهو يرى بأنّ المرجعيّة

 

 

125


96

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

الدينيّة يجب أن تكون واعية وعارفة بأمور زمانها وكيانها ومكانتها السياسيّة، بقدر ما هي ملتزمة ومهتمّة بالجانب الدينيّ والثقافيّ والفكريّ، وما يتعلّق بها من أمور دينيّة وعباديّة وفقهيّة بحتة. إنّ تفكير الإمام قدس سره هذا ناتجٌ عن خبرة سياسيّة طويلة شاهدها ومارسها بنفسه، فإنّه لم ينسَ إهمال بعض الزعامات الدينيّة وتقصيرها، والتي أدّت بالتالي إلى تثبيت أقدام رضا خان، حيث لزم بعضُ العلماء آنذاك الصمت، ومنها استطاع رضا خان أن يرسّخ قدميه، ويتعدّى على مقدّسات الدين الحنيف ورجاله والحوزة العلميّة، حتّى بلغ تطاوله التعدّي على كلّ مَن يتطرّق إلى الأمور السياسيّة منهم، فضلًا عن تشويه سمعتهم أمام الشعب والجماهير. ولم يكتفِ بهذا، فلقد تطاول أكثر فأكثر، وعبث بأمور الحوزة الداخليّة، وفرض نظام الامتحانات، وحدّد ارتداء الزيّ الروحانيّ الدينيّ، وفرض كلّ ما يريد عليهم دون أيّ رادع، لأنّ الهدف كان محوَ الحوزة والعلماء، وإنهاء الدين.

 

من خلال هذه التجارب والمحن، استطاع الإمام قدس سره أن يقوم بمهمّة في غاية الصعوبة، ويوصلها إلى النجاح. فحسب معرفته ودراسته لشخصيّة آية الله البروجرديّ - الذي كان من ألمع تلاميذ آية الله الآخوند الخراسانيّ قائد الحركة الدستوريّة، وأشهرهم - ولِما يتحلّى به السيّد البروجرديّ من مواقف مشرّفة وعريقة وشجاعة تجاه رضا خان ومحمّد رضا.

 

بذل الإمام قدس سره ما بوسعه من جهود لنقل السيّد البروجرديّ إلى قمّ، لاستلامه الزعامة الدينيّة بعد آية الله الأصفهانيّ. وقام الإمام قدس سره بتحرّك مكثّف ومستمرّ، وتنقّل عبر المدن والولايات، وخاض جولة واسعة بين علماء البلاد، وتمكّن من إحراز موافقة الجميع وتأييدهم تجاه زعامة آية الله البروجرديّ. وبعد اتّصالاته وإرساله الكتب المتواصلة، تمكّن الإمام قدس سره من نقل السيّد إلى مدينة قمّ، وإذا به، بدخوله، يَلمّ شَعثَ الحوزة العلميّة، فتستعيد كيانها وشخصيّتها بجهوده البنّاءة، وسرعان ما أخذت الجماهير بالتوجُّه نحوه، والالتزام بتقليده، حتّى ذاع صيته في أرجاء البلاد كافّة، بل وحتّى خارجها.

 

126

 


97

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

بعد مرور فترة هدوء واستقرار لبضع سنوات، ساد الحوزة العلميّة نظامٌ وانضباط خاصّ، وسارَت الأمور حسب منهج تربويّ وتعليميّ خاصّ، ونُظِّمت الرواتب الشهريّة، وفُتِحَت مدارس جديدة في مدن أخرى، لغرض توسيع رقعة الحوزة والتعليم الدينيّ، ولمساعدة الطلبة المتعسِّر حضورهم إلى مدينة قمّ. وبهذا، سُيِّرَت الأمور العامّة في الولايات والقرى البعيدة مِن قِبَل تلك المدارس وطلبتها، وفي جميع المجالات الدينيّة والثقافيّة والإعلاميّة. وكذلك، لأوّل مرّة، استطاع بعضُ أفاضل العلماء أن يسافروا إلى خارج البلاد، وبخاصّة إلى أوروبّا، وزيارة المسلمين، لإرشادهم وتوجيههم. كذلك ازداد الوعي الثقافيّ لدى الطلبة، فكثرَت المقالات والبحوث والخطابات وغير ذلك.

 

كان الإمام قدس سره، في تلك الفترة، حريصًا على مراقبة أوضاع الحوزة والبلاد والأمور السياسيّة، وكان يعكس كلّ ما يصله ويطرق سمعه من أخبار وأحداث إلى آية الله البروجرديّ، ليجعله على علم بجميع ما يدور في الساحة. ومن هنا، اقترح الإمام قدس سره تشكيل لجنة خاصّة بمراقبة أوضاع الساحة ومستجدّاتها ودراستها، وفي الوقت نفسه، مراقبة الحوزة وما يخصّها. وانضمّ الإمام قدس سره أيضًا إلى عضويّة هذه اللجنة، بعد أن شُكّلَت ونُفِّذ اقتراحه، وبهذا أحرز الإمام قدس سره توجيهَ آية الله البروجرديّ ورعايته، حتّى كان للإمام قدس سره كامل التصرّف والاختيار بالنيابة عنه، بل وأكثر من مرّة ندبه ممثّلًا له في المداولات والحوارات السياسيّة مع أطراف النظام، متمتّعًا بالصلاحيّات والاختيارات كافّة.

 

فمثلًا، بعد عام من إقامة السيّد البروجرديّ في مدينة قمّ، عزم على زيارة مرقد الإمام الرضا  عليه السلام، فترك أمور الحوزة وإدارتها للإمام الخمينيّ قدس سره بينما كان هناك من هو أكبر سنًّا ومقامًا في الحوزة. كذلك عندما حدثَت فوضى وضوضاء من بعض العلماء المزيّفين، وبإيعازٍ من حزب توده (الشيوعيّ) عام 1953م، والتي أدّت إلى قتل عدد من الفوضويّين وجرحهم، أَوكل آية الله البروجرديّ مَهمّة دراسة القضيّة ومعالجتها للإمام قدس سره، ونصّبه ممثّلًا عنه في اللقاءات الصحفيّة، وقد أدرجت مجلّة

 

127

 


98

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

"الترقّي" نصَّ الحوار الذي دار بين مندوبها والإمام قدس سره حول الواقعة الآنفة الذكر. وأيضًا، أوفده السيّد البروجرديّ لاستقبال آية الله الكاشانيّ عند منطقة "عليّ آباد"، الواقعة على طريق قمّ - طهران، فاستقبله خير استقبال، وبحفاوة بالغة.

 

في عام 1953م، قام الإمام قدس سره، وبرفقة زميله المفكِّر آية الله الشيخ مرتضى الحائريّ - نجل آية الله الشيخ عبد الكريم الحائريّ - بدراسة مشروع وإعداده، لجمع عوائد الأوقاف في جميع أرجاء البلاد، والتي تُقدَّر بخمسين مليون تومانًا سنويًّا، لصرفها وبذلها في مجال ارتقاء الحوزة والوضع الاقتصاديّ للطلبة، وما تقوم به الحوزة وعلماء الدين من نشاطات وأعمال لصالح الدين والعقيدة، ولرفع المستوى العلميّ والاقتصاديّ للحوزة بصورة عامّة.

 

وبعد هذا، قدّما المشروع للسيّد آية الله البروجرديّ، وأدلَيا بأنّ هذه العوائد والمبالغ يجب أن تكون تحت اختيار الحوزة وتصرّفها، لا بيد رجال النظام الحاكم، الذين لا يتمتّعون بالصلاحيّات الشرعيّة والخُلُقيّة، وكانا على أمل بموافقة السيّد البروجرديّ وتأييده لهذا المشروع، كي يتسنّى لهم بعد ذلك رفعه إلى آية الله الكاشانيّ، ليطرحه في البرلمان أمام النوّاب، حيث كان السيّد الكاشانيّ رئيسًا للمجلس، والفكرة بمضمونها لم تواجِه حتّى مخالفًا واحدًا، إذ كان الإمام قدس سره قد أجرى محاورة مع السيّد الكاشانيّ مِن قَبل بهذه الفكرة. لكنّ آية الله البروجرديّ أعرب عن مخالفته للفكرة، مشيرًا إلى بعض الأمور التي يراها بتأمّلٍ وببُعدِ نظر، ولِما يراه من مصلحة عامّة، وخوفًا من احتمال الضرر وردود الفعل المعاكسة - لا سمح الله - في المستقبل.

 

لقد كان آية الله البروجرديّ محافظًا وحريصًا أشدّ الحرص على نظام الحوزة، وإعادة نشاطها الثقافيّ والدينيّ، الذي بات في عهد رضا خان مشلولًا ومعوّقًا، وصعّد من نشاطه الإداريّ والحوزويّ والتبليغيّ بجدّيّة وفاعليّة تامّة، طيلة زعامته الدينيّة ورئاسته للحوزة العلميّة بصورة عامّة. والذي دعا السيّد البروجرديّ إلى عدم التطرّق إلى الأمور السياسيّة بشكل مباشر، وإلقاء جميع ثِقله واهتمامه في الجانب الدينيّ

 

128


99

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

والثقافيّ للحوزة، وبالأخصّ في تلك الفترة -أي بعد سقوط رضا خان- عاملان مهمّان:

العامل الأوّل: هو انفتاح المجال بالتمام لنشاط الحوزة، ونشر الفكر والوعي الإسلاميّ، وإعادة إقامة الشعائر الدينيّة، وانسجام الشعب وإقباله على الحوزة وعلى علمائها بعد إطلاق الحرّيّة التامّة إثر سقوط رضا خان، وازدياد نشاط علماء الدين في الوعظ والإرشاد والخطابة والتدريس، والانشغال بالمساجد والمحافل الدينيّة، وأخيرًا، تصاعد الجوّ الثقافيّ الدينيّ تصاعدًا مذهلًا، مضافًا إلى اطمئنان الحوزة الظاهريّ من كيد الحكومة والأعداء.

 

العامل الثاني: هو تجارب آية الله البروجرديّ، وخبرته السياسيّة، وما قاساه من عذاب ومرارة أثناءها، ممّا دعا السيّد للأخذ بالاحتياط والحذر ممّا صدر بالأمس القريب من الحركة الدستوريّة، وما نتج عن ذلك.

 

إنّ السيّد البروجرديّ كان على اطّلاعٍ مباشر على أحداث الحركة الدستوريّة، فلقد كان من المقرّبين جدًّا من قائد الحركة الدستوريّة (آية الله الخراسانيّ)، ويتذكّر ويعي جيّدًا ما حلّ بعلماء الدين المجاهدين إثر عدم تدبّر الأمور وتكرار الاشتباهات وسرعة اتّخاذ القرارات، وما قام به المتربّصون من إشاعة الفرقة وتهديم الوحدة الفكريّة، والذي أدّى إلى قتل عدد من رجال الحركة الدستوريّة واغتيالهم، وكان من بينهم العلماء والصلحاء.

 

هذه الحوادث والوقائع ليست بقصص وروايات، بل هي دروس وعِبَر، زادَت من قوّة فكر آية الله البروجرديّ، ووعيِه السياسيّ الحاذق. لهذا نراه، إلى نهاية حياته، لم يتدخّل بالشؤون السياسيّة تدخّلًا اعتباطيًّا، إنّما كان يرى ذلك في الوقت المناسب، وبالفرصة المناسبة، حيث لا بدّ من التدخّل عند انتهاك الحرمات، أو الاعتداء على البلاد.

 

مضافًا إلى ذلك، هناك عامل مهمّ آخر لعب دوره بهذا المجال، وهو وجود بعض الأفراد والرموز، إذ كانوا يبثّون ويروون بعض الحوادث والوقائع مشوّهة بعيدة عن

 

129

 


100

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

الحقيقة، وأحيانًا يتسبّبون بعدم وصول الأخبار الهامّة إلى الزعامات، وإن كان تأثيرهم على الأحداث المصيريّة ضئيلًا أو منعدمًا. ومع هذا، كان الإمام قدس سره يبذل قصارى جهده لدعم مقام آية الله البروجرديّ على الصعيد القياديّ وزعامة الحوزة والجماهير، سياسيًّا ودينيًّا، وكثيرًا ما كان الإمام قدس سره يشكو من سوء تصرّفات بعض الذين كان يعتبرهم من غير اللائقين، ويكشف له عن خططهم ودورهم المخرِّب في الحوزة، وما ينعكس على الحوزة من سوء تصرّفاتهم، مضافًا إلى ذلك، شرح وتفصيل الوضع السياسيّ الحاكم، وما يقوم به رجالات الدولة والسلطنة من خطط وأفكار، حتّى أصبحت للإمام مكانة سامية وخاصّة عند السيّد البروجرديّ، إذ كان يقول بحقّه: "إنّه قرّة عين الحوزة".

 

وكان الإمام قدس سره كثيرًا ما يتداول مع السيّد حوارات عديدة حول مستقبل البلاد والحوزة، وما تقوم به الحكومة تجاههما، وكان هذا عاملًا للحدِّ من زيارات الإمام قدس سره لمنزل آية الله البروجرديّ، لأنّ بعض أصحاب المصالح راحوا يَحُولون دون لقاء الإمام قدس سره بالسيّد بأساليب شتّى، وبهذا استطاعوا أن يحدّوا بعض الأنشطة.

 

ولكنّ الإمام قدس سره ومؤيّديه صمّموا على أن يطرحوا الموضوع على سماحة السيّد بشكل صريح، ولكن عندما رأوا أنّ ذلك من الممكن أن يعطي نتيجة عكسيّة، وقد يتسبّب بإزعاج السيّد وإقلاقه، وأنّ ما ينتج عن ذلك سوف يكون مضرًّا بسمعة الحوزة والمرجعيّة، فقد آثروا الصمت، وتماشوا تماشيًا تامًّا مع الزعامة والمرجعيّة، حفظًا للمصلحة العامّة، ولكرامة الحوزة، وقداستها، ومكانتها. فمثلًا، عندما بلغ الإمام قدس سره أنّ السيّد البروجرديّ غير مرتاحٍ تجاه درس الفلسفة، أوصى تلاميذه بعدم إقامة دروس كهذه، ولمّا رأى الإمام قدس سره عددًا من الطلبة المتحمّسين قصدوا السيّد البروجرديّ للاحتجاج، قام بهم خطيبًا، وأثنى على مرجعيّة آية الله البروجرديّ، وقال مخاطبًا إيّاهم:

"إنّ آية الله البروجرديّ اليوم عَلمٌ، وبالعَلَم نقتدي ونهتدي، وبه نحتمي، ونحن سائرون على خطاه ونهجه، ونُظهِر مطلق الطاعة لأوامره ونواهيه، لأنّ مرجعيّة اليوم تمركزَت واستقرَّت بهذا السيّد الجليل، ويجب أن لا يُخدَش بها".

 

130

 


101

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

وهكذا كان الإمام قدس سره أيضًا بعد رحيل السيّد البروجرديّ إلى الدار الآخرة، فاستمرّ بمدحه والثناء عليه، حتّى بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، وطيلة الأعوام العشرة الأخيرة من عمره.

 

ففي السنين الأولى لإقامة آية الله البروجرديّ في قمّ، وقعَت حادثة تسبّبَت بوقوف الإمام قدس سره والسيّد البروجرديّ أمام النظام في خندق واحد. والحادثة هي تعرُّض محمّد رضا لعمليّة اغتيال مشكوك بأمرها، وذلك عندما قام بزيارة تفقّديّة لجامعة طهران عام 1949م، وأفلح بالنجاة منها. وأصبح محمّد رضا يتربّص الدوائر بأعدائه ومناوئيه، وكأنّ هذه الحادثة فتحَت له باب القمع والإرهاب والاغتيال. وقد رأى محمّد رضا أنّ تثبيت حكومته المتزلزلة بهذه الطريقة أفضل وأجدى من الطرق والمحاولات الأخرى، فقامت الحكومة بإعلان حالة الطوارئ وإقامة نظام الأحكام العرفيّة في ليلة يوم الحادث، وأُلقِيَ القبض على السيّد الكاشانيّ، واتّهموه بتدبير هذه العمليّة، وأُعلِنَ عن حلّ حزب توده (الشيوعيّ)، وأخذوا يطاردون قياديّيه وسياسيّيه في البلد.

 

وبعد أن تمكّن محمّد رضا من القضاء على هذَين التيّارَين، عزم على إعداد "مجلس المؤسّسين" وتشكيله، بعد أن أجرى محادثات وحوارات مكثّفة مع كبار السياسيّين من ذوي الخبرة. وكان القصد من وراء هذا الاجتماع الطارئ، هو منح اختيارات وصلاحيّات أكبر وأوسع لمحمّد رضا، طبقًا لموادّ الدستور، وعليه، يكون باستطاعته حلّ البرلمان ومجلس الشيوخ. ومع إلقاء القبض على آية الله الكاشانيّ، وإبعاده إلى لبنان، انفتح المجال أكثر أمام الشاه، ووقع البرلمان في حالةٍ من الرعب والهلع. لكنّ اضطراب الشاه لم يهدأ بهذا، لأنّه كان يخشى معارضة آية الله البروجرديّ المحتملة، وذلك بسبب ما أُشِيع في أوساط البلد من احتمال التعرُّض إلى فقرتَين أساسيّتَين من مُكمّل الدستور، الذي دُوِّن بعد الحركة الدستوريّة، وهما: الفقرة الأولى، والتي تنصّ على تعيين المذهب الرسميّ للبلاد، والفقرة الثانية تنصّ على اختيار خمسةٍ من المجتهدين الواعين الحاذقين لمراقبة قرارات البرلمان، لئلّا تخرج عن قواعد النظام الإسلاميّ عند التنفيذ.

 

131

 


102

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

وعزم الشاه على إرسال وزير الداخليّة الدكتور "إقبال" مُمثّلًا عنه إلى آية الله البروجرديّ، ليُطلعه على التغييرات التي حصلَت، وليُطَمْئنه على عدم التعرّض للفقرتَين المذكورتَين، وبهذا يكون إحراز الموافقة أو عدم المعارضة من السيّد، لتحقيق الاطمئنان والسكينة وراحة البال للشاه.

 

ينقل لنا السيّد حميد روحانيّ، في كتابه "دراسة وتحليل ثورة الإمام الخمينيّ في إيران"، يقول: لقد شارك الإمام الخمينيّ في تلك المحاورة، وبطلب من السيّد البروجرديّ، حيث عيّنه ممثّلًا في الحوارات السياسيّة مع الدكتور إقبال. وبعد أن أتمّ إقبال كلامه، ارتفع صوت الإمام عاليًا، وبشيء من الحدّة، قائلًا:

"نحن لا نُجيز لكم إطلاقًا العَبَث في موادّ الدستور. وإنّ مثل هذه التغييرات سوف تفسح المجال أمام الحكومة للعبث بكافّة القوانين وموادّ الدستور متى ما شاءت وأرادت أو اقتضت مصالحها، وعندما ترى عدم تحقُّق مصالحها السياسيّة وأهوائها ورغباتها، فإنّها تلغي قانونًا وتفرض آخر".

 

أمّا الدكتور إقبال، فأشار إلى لقائه مع آية الله البروجرديّ أثناء انعقاد بعض اجتماعات البرلمان، ولكنّه لم يُشر إلى لقائه مع الإمام الخمينيّ قدس سره، بينما أكّد أنّه التقى السيّد البروجرديّ مرّتَين، وطمأنه بأنّ "مجلس المؤسّسين"[1] سوف لن يتعرّض إلى مبادئ الدين الإسلاميّ مطلقًا. وخاطب أعضاء البرلمان ونوّابه قائلًا: "إنّني فردٌ مسلم وذو عقيدة، وأكنُّ احترامي البالغ إلى كبار العلماء كافّة، وأتمنّى أن يكون كافّة العلماء والفقهاء ملتزمين ومؤمنين وراسخي العقيدة كالسيّد آية الله البروجرديّ، الذي هو قدوة وأسوة وذخر لنا ولجماهيرنا. أتمنّى من الجميع أن يقتدوا به، فهو مسلمٌ بكلّ معنى الكلمة، وهو إنسان متديّن وعقائديّ، يبذل جميع جهوده وطاقاته لخدمة الدين ونشره لا غير. لقد تشرّفتُ بزيارته بأمرٍ من الشاه، وذلك لطمأنته بعدم التعرّض للشريعة الإلهيّة، والذي راح بعض المزيّفين ينقل له بعض الأساطير والاتّهامات


 


[1] مجلس المؤسِّسين: مجلس مهمّته إعداد القوانين ودستور البلاد.

 

132


103

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

 تجاهنا وتجاه قراراتنا، على أنّنا نريد هدم الدين الإسلاميّ في البلاد... في الحقيقة، وكما ذكر سعادة رئيس البرلمان، إنّ كلّ ما حدث هو من قبيل الحرص على تعاليم الدين الإسلاميّ. فقد اصطحبتُ السيّد المحافظ، وتشرّفت بلقائه، وأدليتُ له بتصريحاتٍ وتوصياتٍ من صاحب الجلالة، وأبديتُ خالص شكري وتقديري لسماحته على مدى اهتمامه هذا بالشؤون الدينيّة للبلاد. وكما ذكرت آنفًا، فإنّ الدين هو إحدى دعائم وأُسُس حكومتنا، هذا ما جرى فحسب... وكان حاضرًا في المجلس عددٌ آخر". فأجاب السيّد قائلًا: "إذا كان الأمر هكذا، فلا شيء إذًا".

 

وهنا سؤالٌ يطرح نفسه، وهو: هل كان لقاء إقبال مع الإمام الخمينيّ قدس سره أثمر شيئًا؟ أم استدعى الأمر لقاءً آخر مع السيّد البروجرديّ، كما يدّعون؟ وعلى العموم، فإنّ محمّد رضا استقرّ واطمأنّ بعد هذا اللقاء الأخير، وابتدأ نشاط "مجلس المؤسّسين"، واستمرّ لمدّة واحدٍ وعشرين يومًا.

 

أمّا مسألة سكوت آية الله البروجرديّ، فقد فُسِّر بعلامة الرضا والموافقة، وانعكس هذا في داخل الحوزة وخارجها. وعندها، قام بعض كبار الحوزة وفضلائها، بما فيهم الإمام قدس سره، باستفتاءٍ مفتوح قُدِّم إلى السيّد البروجرديّ. ونصّ الاستفتاء هو الآتي:

"س: سماحة آية الله العظمى السيّد حسين البروجرديّ - متّع الله المسلمين بطول بقائه، لقد طرق لقاء سماحتكم بأعضاء مجلس المؤسّسين أسماعَ الجميع، وفُسِّرَت نتيجة الحوار بالتأييد والموافقة لكلّ ما يقوم به التجمّع المزبور. ونظرًا لعواقب هذا الاجتماع على الصعيد الدينيّ والوطنيّ والاجتماعيّ، وما يخرج به من قوانين جديدة قد لا تتلائم مع المصالح الدينيّة ومستقبل البلاد، مضافًا إلى الصلاحيّات الجديدة لبعض النوّاب، والتي قد تساهم في الوقوف أمام مفاجآت كبيرة وخطيرة في المستقبل، رأينا من الضروريّ لفت أنظار الجميع حول نظركم المبارك لِما انتشر من أقاويل ودعايات بهذا الصدد، وبيان الواجب الشرعيّ تجاه المسألة، ودمتم".

 

22 جمادى الأولى 1370 (1950م)

 

 

133


104

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

فأجاب آية الله البروجرديّ بجوابٍ مفصّل، ولمَّح على الفور بعدم موافقته.

 

نصّ الجواب كالآتي:

"بسم الله الرحمن الرحيم، نحن على أمل كبير بالعلماء عند ظهور تناقضاتٍ وفتنٍ كهذه، للقيام بمجابهتها والوقوف في وجهها. إنّ الجميع يعرف تصرّفاتي وأفعالي وأفكاري جيّدًا، ومدى حرصي على حفظ ديننا ومصالح بلادنا، إنّما ليس من الضروريّ أن يعلم العامّة بكلّ خطوة نخطوها. وثانيًا، عندما أمر الشاه بـمجلس المؤسّسين، حرصًا منّا على المساس بالأمور الدينيّة، قمنا بتحذير الحكومة وإنذارها من المساس بتلك الفقرات والبنود. وبالمقابل، حضر وزير الداخليّة والمحافظ، وردّوا عليّ الجواب من قِبَل الشاه، وأعطونا المواثيق بعدم التعرّض للأمور الدينيّة وما يخصّها من قوانين. ومع هذا، إنّني لم أُلمِّح، ولم أُفْصِح بأيّ موافقة أو تأييد في المجالس كافّة التي دار فيها الحوار حول هذه القضيّة، وكثيرٌ من السادة والعلماء والفضلاء قد حضروا هذه المجالس، وهم شهودٌ على ما ندّعي. ثمّ كيف يحقّ لي قبولها والرضى بها، وبعض جوانبها غامضة ومبهمة لي؟".

 

وممّا هو جدير ذكره، أنّه في هذه الفترة، كان آية الله الكاشانيّ[1] مُبعدًا عن بلده، وهو بالمنفى، فأصدر بيانًا ونشره في إيران، قد تطرّق البيان إلى هدف تشكيل مجلس المؤسّسين، والذي هو - برأيه - تغيير بعض قوانين الدستور لصالح أهداف خاصّة ضدّ الشعب والدين، وطلب من الجماهير أن تعلن معارضتها لهذا القرار.

 

وفي عام 1956م، أخذ البهائيّون يشقّون الطرق، ويتوغّلون في الدوائر الرسميّة والمراكز الحسّاسة، وازداد تحرّكهم هذا يومًا بعد آخر، الأمر الذي دعا الإمام قدس سره أن يقتحم عقبة منزل آية الله البروجرديّ، ويدخل على السيّد، رغم المخالفة والمعارضة لبعض الرموز المشبوهة والمتنفّذة - التي أشرنا لها سابقًا - ويعرض المسألة بتفاصيلها


 


[1] آية الله الكاشانيّ: أحد أبرز علماء الدين الإيرانيّين، الذي قاد حركة الشعب ضدّ النظام الشاهنشاهيّ، وساعد في ارتقاء الدكتور مصدّق إلى رئاسة الوزراء.

 

134


105

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

على سماحة السيّد. ولأجل مطاردة هذه الفرقة الضالّة، كثّف الإمام قدس سره من نشاطه ضدّهم، وصعّد من زياراته ولقاءاته مع آية الله البروجرديّ، ولكنّ جميع المحاولات كانت دون جدوى، وكان السيّد رحمه الله يبدي برودًا تجاهها، ولهذا تُرِكَت المسألة للقضاء والقدر.

 

من نشاطات الإمام قدس سره السياسيّة المهمّة في العقد الخامس: جهوده المتواصلة والمكثّفة لإلغاء حكم الإعدام عن أربعة أشخاص من "حركة فدائيّي الإسلام"[1]، ومن ضمنهم السيّد "نوّاب صفويّ". هؤلاء اتُّهِموا بعمليّة اغتيال لبعض رموز الدولة، وبعض ممثّلي بريطانيا عام 1956م. وبعد أن تحمّلوا شتّى أنواع التعذيب في السجون لمدّة أشهر من اعتقالهم، أصدرَت المحكمة العسكريّة حكمَ الإعدام بحقّ هؤلاء.

 

وكان لمساعي الإمام قدس سره هذه، لنجاة هؤلاء من حكم الإعدام، دلائل:

فأوّلها: أنّ الذين اغتيلوا هم من الرموز الخونة للبلاد أو العميلة للأجانب.

 

وثانيها: أنّ هذه العمليّة كانت مؤيَّدة من قِبَل آية الله الكاشانيّ، المجتهد الجامع للشرائط آنذاك.

 

ثالثها: في قاموس أحكام الإعدم، تُفسَّر ظاهرة إعدام السيّد نوّاب صفويّ، بزيِّه الدينيّ، عمليّة إعدام لعلماء الدين، وبهذا سوف تكون مقدّمة لحملة اعتقالات ومحاكمات وإعدامات واسعة، على نطاق الحوزة والعلماء المجتهدين. وبالفعل، وكما رأينا، مباشرةً بعد إعدام نوّاب صفويّ، ألقوا القبض على آية الله الكاشانيّ بتهمة التنسيق مع تلك الجماعة، وأودعوه السجن.

 

فلعلّه بدافع هذه الدلائل، وبالأخصّ عندما رأى الإمام قدس سره صمتًا ومعارضةً من قِبل الزعامة الدينيّة، ولِما يحسُّ به من واجب شرعيّ ملقًى على عاتقه، نظرًا لما يتمتّع به من دراسة وبُعد نظر لعواقب هذه الأحداث، قام بتوجيه ثلاث رسائل إلى ثلاث


 


[1] حركة فدائيّي الإسلام: حركة مناهضة للنظام الشاهنشاهيّ، بقيادة الشهيد السيّد نوّاب الصفويّ، كانت لها اليد في عمليّات عدّة ضدّ رموز الشاه.

 

 

135


106

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

على سماحة السيّد. ولأجل مطاردة هذه الفرقة الضالّة، كثّف الإمام قدس سره من نشاطه ضدّهم، وصعّد من زياراته ولقاءاته مع آية الله البروجرديّ، ولكنّ جميع المحاولات كانت دون جدوى، وكان السيّد رحمه الله يبدي برودًا تجاهها، ولهذا تُرِكَت المسألة للقضاء والقدر.

 

من نشاطات الإمام قدس سره السياسيّة المهمّة في العقد الخامس: جهوده المتواصلة والمكثّفة لإلغاء حكم الإعدام عن أربعة أشخاص من "حركة فدائيّي الإسلام"[1]، ومن ضمنهم السيّد "نوّاب صفويّ". هؤلاء اتُّهِموا بعمليّة اغتيال لبعض رموز الدولة، وبعض ممثّلي بريطانيا عام 1956م. وبعد أن تحمّلوا شتّى أنواع التعذيب في السجون لمدّة أشهر من اعتقالهم، أصدرَت المحكمة العسكريّة حكمَ الإعدام بحقّ هؤلاء.

 

وكان لمساعي الإمام قدس سره هذه، لنجاة هؤلاء من حكم الإعدام، دلائل:

فأوّلها: أنّ الذين اغتيلوا هم من الرموز الخونة للبلاد أو العميلة للأجانب.

 

وثانيها: أنّ هذه العمليّة كانت مؤيَّدة من قِبَل آية الله الكاشانيّ، المجتهد الجامع للشرائط آنذاك.

 

ثالثها: في قاموس أحكام الإعدم، تُفسَّر ظاهرة إعدام السيّد نوّاب صفويّ، بزيِّه الدينيّ، عمليّة إعدام لعلماء الدين، وبهذا سوف تكون مقدّمة لحملة اعتقالات ومحاكمات وإعدامات واسعة، على نطاق الحوزة والعلماء المجتهدين. وبالفعل، وكما رأينا، مباشرةً بعد إعدام نوّاب صفويّ، ألقوا القبض على آية الله الكاشانيّ بتهمة التنسيق مع تلك الجماعة، وأودعوه السجن.

 

فلعلّه بدافع هذه الدلائل، وبالأخصّ عندما رأى الإمام قدس سره صمتًا ومعارضةً من قِبل الزعامة الدينيّة، ولِما يحسُّ به من واجب شرعيّ ملقًى على عاتقه، نظرًا لما يتمتّع به من دراسة وبُعد نظر لعواقب هذه الأحداث، قام بتوجيه ثلاث رسائل إلى ثلاث


 


[1] حركة فدائيّي الإسلام: حركة مناهضة للنظام الشاهنشاهيّ، بقيادة الشهيد السيّد نوّاب الصفويّ، كانت لها اليد في عمليّات عدّة ضدّ رموز الشاه.

 

 

135


106

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

شخصيّات مرموقة ذات مكانة عليا في النظام، وهم: المحافظ "رفيع" و"بهبهانيّ" و"صدر الأشراف"، وطلب منهم التدخّل وعدم تنفيذ القرار بحقّ أولئك الأربعة، نظرًا لِما قدّمه من دلائل وبراهين تبرّر عمليّتهم الجهاديّة تلك. هذا، وقد ردّ عليه أحدُهم بجوابٍ هادئ، بينما أحجم الآخرون عن الجواب.

 

القسم الثاني: الإمام قدس سره والانتفاضة الوطنيّة

 

إنّ ما وحّد بين صفوف القطاعات الدينيّة والوطنيّة طيلة العقد الرابع، وألّف بين قواهم، وجمع ما بين رؤوسائهم وكبارهم، هو الأهداف المشتركة فيما بينهم، وعلى رأسها مسألة تأميم النفط. فطبقًا لقرار عام 1900م، كان النفط الإيرانيّ يدخل كلّه بمُلكيّة البريطانيّ "ويليام ناكس دارسي وشركاه"، وقد عُرِف هذا القرار بـ"قرار دارسي". وبعد سبع سنوات من هذا القرار - أي عام 1907م - تحوّل اسم الشركة إلى "شركة النفط الإيرانيّة البريطانيّة"، حيث ابتاعت بريطانيا إحدى وخمسين سهمًا من أسهم الشركة، وعاد هذا بالمنفعة الكبرى على بريطانيا، مقابل حصص إيران المتواضعة.

 

ونظرًا لموقع إيران الجغرافيّ والسياسيّ، ولوجود ثروات طائلة وغنيّة به، تحوّلت مسألة النفط الإيرانيّ إلى مسألة اقتصاديّة سياسيّة كبيرة. ومن هنا، اشتدّ حرص بريطانيا على استعمار إيران والتسلّط عليها. وقد رأينا كيف أخذَت تشكيلة الحكومات في إيران تتبدّل من هيئة إلى أخرى، وفي فترات قصيرة، حفظًا لمصالح بريطانيا. ولهذا، أصبح النضال من أجل تأميم النفط هو نضالٌ ضدّ الاستعمار، ولاستقلال البلاد. ولأهمّيّة هذه المسألة التاريخيّة، وعلاقتها بالانتفاضة الوطنيّة العارمة طيلة العقد الرابع، نرى من الضروريّ إلقاء الضوء على بعض جوانبها المهمّة والحسّاسة.

 

أ. النفط من عام 1942م وحتّى 1954م

بعد هروب رضا خان بسنوات عديدة، ونظرًا لغياب القيادة السياسيّة الرشيدة، وكذلك عمالة كثير من رجالات الدولة ورؤساء الأحزاب السياسيّة، بقيَت قضيّة النفط

 

136

 


107

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

وأهمّيّتها غير واضحة عند الشعب بصورة عامّة، إذ لا أحد هناك يعلم بأنّ هذه المادّة الغنيّة هي بمثابة الدم الذي يجري في عروق الاستعمار.

 

قضيّة النفط لم يتطرّق إليها البرلمان الثالث عشر-الذي كان في عهد رضا خان - أبدًا، لكن في انتخابات الدورة الرابعة عشرة للبرلمان[1] عام 1944م، ولنفوذ السلطة فيه تمامًا، استطاع بعض المرشّحين الشعبيّين، الذين يحظون بتأييد كبير من الأمّة والجماهير، أن يخترق الحواجز ويتمركز في البرلمان، أمثال السيّد أبو القاسم الكاشانيّ، والدكتور محمّد مصدّق.

 

أمّا بريطانيا، التي تحمّلَت الويلات والمصائب من وقوف آية الله الكاشانيّ أمام مخطّطاتها الاستعماريّة، فقد اعتقلَته قبل بدء الانتخابات، وأودعَته السجن، ومكثَ فيه مدّة سنتَين وأربعة أشهر، وبهذا حُرِمَ من النيابة والعضويّة في البرلمان.

 

في عام 1945م، قُدِّمت اقتراحات ومشاريع للحكومة مِن قِبَل شركات أمريكيّة وبريطانيّة، ووُضِعَت قيد الدراسة والتحليل. وقام الدكتور "راد منش" ممثّل حزب توده (الشيوعيّ) في البرلمان، نيابةً عن حزبه، بمعارضة التعامل مع الدول الجنبيّة وبيعها حصصًا من النفط. وبعد أشهر، قدّم الكتور مصدّق مشروعًا منسّقًا كاملًا، وصوَّت عليه البرلمان، ينصّ على عدم التعامل مع الدول الأجنبيّة بالنفط مطلقًا، ولا يحقّ للحكومة وأعضائها إجراء محادثات بهذا الصدد.

 

واقترح نائبٌ آخر مشروعًا جديدًا، وهو سحب صلاحيّة نفط الجنوب من اتّفاقيّة "دارسي" عام 1900م، لأنّها عُقِدَت في زمن الحكومة الجائرة، وسرى مفعولها بعهد رضا خان الديكتاتوريّ، وتحمّلَت إيران من جرّاء هذا خسائر ماليّة فادحة. لكنّ هذا الاقتراح باء بالفشل، لعدم موافقة النوّاب.

 

في انتخابات الدورة الخامسة عشرة للبرلمان، حدث تزوير كبير من قِبَل بعض المتآمرين في جهاز الحكم. ومع هذا، استطاع عددٌ ضئيل من ممثّلي الشعب الحقيقيّين


 


[1] في تلك الفترة، كانت مدّة عمل المجلس سنتان.

 

137


108

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

 كَسْبَ مقاعد في البرلمان. وتعرّض السيّد الكاشانيّ للاعتقال أيضًا من قِبَل رجال الدولة، في يوم الانتخابات عام 1947م، وأوُدع السجن، ولبث فيه عامًا وحدًا، ولمّا يكمل بعد سنة واحدة من إطلاق سراحه. وكان من المؤمّل بدخول السيّد الكاشانيّ إلى البرلمان، نظرًا لمكانته الدينيّة والسياسيّة، أن يترأّس الخطّ المعارض للدولة، وتبدّدَت الآمال ثانيةً باعتقاله للمرّة الثانية، وبقي الأمل في أولئك النوّاب القلّة الذين ساروا على خُطاه، وأوقفوا كثيرًا من المحادثات، بالأخصّ بيع حصصٍ من النفط، والتي أُرجِئَت للدورة التالية.

 

أمّا انتخابات الدورة السادسة عشر، التي أُجرِيَت عام 1951م، فقد حظيَت بنوعٍ من الحرّيّة والانفتاح، واستطاع عددٌ لا بأس به من ممثّلي الشعب الحقيقيّين أن يفوزوا بعضويّة في البرلمان، كالدكتور مصدّق، وآية الله الكاشانيّ، الذي كان مُبعَدًا إلى لبنان إثر اتّهامه بتدبير عمليّة اغتيال الشاه. واضطرَّت الحكومة لإعادته، نتيجة تصاعد أصوات الناخبين له في العاصمة طهران. وبعد سنة ونصف من إبعاده، عاد إلى البلاد عام 1950م، واستقبلَته الجماهير استقبالًا لم يشهد له التاريخ نظيرًا ليومه ذاك.

 

وقد أصدر بيانًا فور دخوله البلاد، شرح فيه أسباب إبعاده إلى الخارج، منها: معارضته لتمديد اتّفاقيّة "دارسي" عام 1933م، ومخالفته لعقد مجلس المؤسّسين، الذي اعتبره فاقدًا للصلاحيّة والاعتبار، وكذلك لإرهاب الجماهير وإلقاء الرعب في نفوسهم. وأكّد قائلًا: "إنّ نفط إيران ملكٌ للشعب الإيرانيّ كلّه، وكلّ ما يصدر حوله من قرارات واتّفاقيّات إجباريّة أو إكراهيّة، ليس لها أيّ اعتبار قانونيّ أو قضائيّ، ولا يستطيع أحدٌ أن يسلب أيَّ حقّ من حقوق الشعب المحروم".

 

صعَّد هذا البيان - الذي ألقاه الدكتور مصدّق في البرلمان - من عزيمة نوّاب الأقلّيّات في البرلمان وحماسهم، فهو يُعَدّ بحقّ، بمثابة صرخة قويّة في وجه المؤامرات التي تُحاك في جهاز الحكم، بمساعدة أغلبيّة النوّاب الخونة، والعلماء في بريطانيا. وكما كان متوقَّعًا، ازداد نشاط الجهاد والنضال لدى الأمّة ضدّ الاستعمار والاضطهاد.

 

138

 


109

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

سعَت الحكومة آنذاك، معتمدةً على نوّاب البرلمان الخونة، لتكثيف ضغوطها على البرلمان، كي يرضخ للتصويت على اللائحة الملحقة بقرار عام 1933م، والتي عُرِفَت فيما بعد باتّفاقيّة "غِسْ - غلشائيان".

 

بموجب هذه اللائحة، يرتفع سعر الطنّ الواحد من النفط من أربع إلى ستّ شلنكات، لصالح الحكومة الإيرانيّة، أمّا في حال مبيعه إلى إيران، من قِبَل شركة النفط، فبسعر يعادل 25 بالمئة من سعر النفط المصدَّر.

 

وكما ذكرنا آنفًا، فلسبب معارضة بعض النوّاب المعارضين ومخالفتهم، لم تُفلح هذه اللائحة بالنجاح، وتسبّبَت بإعادة تشكيل هيئة الدولة مرّتَين.

 

وتزامنًا مع تشكيل الدورة السادسة عشر، انتقل "رزم آراء" من رئاسة الجيش إلى رئاسة الوزراء. وكان الهدف من وراء هذا الانتقال هو إرغام البرلمان على الموافقة على اللائحة الملحقة المعروفة بـ"غِس- غلشائيان"، نظرًا لِما يتمتّع به "رزم آراء" من القوّة والحزم. لكنّ العكس بالتمام هو الذي حدث، ووقف السيّد الكاشانيّ والدكتور مصدّق وآخرون في صفّ واحد في وجه المؤامرات الدنيئة، التي كرّسَت جهودها لإيقاف مسيرة تأميم النفط.

 

أعلن آية الله الكاشانيّ عن معارضته لدولة "رزم آراء". أمّا الدكتور مصدّق، الذي كان يرأس قسم النفط في البرلمان، وما حُوِّل إليه من قرارات واتّفاقيّات، بما فيها اللائحة الإلحاقيّة، للدراسة والبحث، فأعلن -أثناء لقائه مع إحدى الصحف به- عن مخالفته للحكومة، وأنّ كلّ ما اتّخذ من قرارات واتّفاقيّات، كاتّفاقيّة "دارسي" عام 1933م، وكذلك اللائحة الإلحاقيّة، هو باطل غير قانونيّ، وليس له أيّ اعتبار.

 

وبعد أشهرٍ، طالَبَ عددٌ من النوّاب، وعلى رأسهم الدكتور مصدّق، بتأميم النفط في البلاد كافّة. ومباشرةً بعد هذا، أعلن آية الله الكاشانيّ عن رأيه الصارم، ودعا جميع أبناء البلاد إلى القيام بمهمّتهم الدينيّة والوطنيّة، وإلى الوقوف بجانبها، وسانده جمعٌ غفير من العلماء والفضلاء في الحوزة العلميّة في قمّ، أمثال السيّد محمّد تقيّ الخوانساريّ

 

 

139


110

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

والشيخ بهاء الدين المحلّاتيّ والشيخ عبّاس عليّ الشاهروديّ وشخصيّات أخرى، وأعلنوا عن تأييدهم المطلق عبر إصدار الفتاوى والبيانات. وتصاعدَت المشاحنات، وتأزّم الجوّ السياسيّ تأزّمًا ملحوظًا. فمن جهةٍ، اشتدّت المعارضة من قِبل أقلّيّة النوّاب، فوقفوا إلى جانب الدكتور مصدّق وآية الله الكاشانيّ، ومن جهةٍ أخرى، برزَت مقاومة رئيس الوزراء "رزم آراء" والأكثريّة الغالبة في البرلمان. فأدّى ذلك كلّه إلى عرقلة نشاط البرلمان، وإيصاله إلى طريقٍ مغلقٍ مسدود. وتزامنًا مع هذا الوضع، اغتيل "رزم آراء" على يد خليل طهماسبي - الذي ينتمي إلى حركة فدائيّي الإسلام - عام 1950م، على إثر هذا الحادث، أُصيبَت الحكومة والبرلمان بنكسة كبيرة، وانتابهم رعب وهلع كبيرَين. وفي اليوم الثاني من الواقعة، صادَقَ البرلمان على اقتراح لجنة النفط في البرلمان، وصُوِّت عليه بعد أيّام عدّة، ووافق مجلس الشيوخ عليه فورًا، وأُعلِن عن تأميم النفط في أرجاء البلاد كافّة.

 

وبعد أسبوع واحد من اغتيال "رزم آراء"، عُيِّن "حسين علاء" رئيسًا للوزراء، وهو أحد عملاء بريطانيا، ومن أياديها الخبيثة. لكنّ هذا الأمر واجَهَ معارضة شديدة من قِبَل البرلمان والشعب، واضطرّ "حسين علاء" أن يستقيل من منصبه على وجه السرعة. واقترح البرلمان على الدكتور مصدّق استلام هذه المهمّة، وبعد محاولات كبيرة من آية الله الكاشانيّ، وافق الدكتور مصدّق على استلام رئاسة الوزراء (1953م).

 

أعلن السيّد الكاشانيّ أنّ البرلمان خوّل جميع الصلاحيّات لاختيار الوزراء إلى الدكتور مصدّق، وسوف لن يتدخّل بأيّ شأن من شؤونه، وسوف يبذل البرلمان قصارى جهوده للدفاع والذبّ عن دولته.

 

ولاقى الدكتور مصدّق - بمهمّته هذه - صعابًا كثيرة، وعارضه ووقف أمامه عددٌ من الخونة عملاء بريطانيا، داخل البرلمان وخارجه، وأخذوا يحاولون عرقلة جميع نشاطاته وقراراته، وقد أُحبِطَت جميع مؤامراتهم عندما دعا العلماء كافّة الناس إلى الاتّحاد والعمل على دعم حكومة الدكتور مصدّق. وحرّض آيةُ لله الكاشاني عامّةَ الشعب

 

140

 


111

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

على المظاهرات المؤيّدة للدكتور مصدّق، وشجّعهم على إفشال المؤامرات الاستعماريّة، وأُغلِقَت على إثرها القنصليّات البريطانيّة، وقام موظّفوا شركة النفط بالتوقّف عن العمل.

 

ب- نشوء الاختلافات السياسيّة بين آية الله الكاشانيّ والدكتور مصدّق

في حزيران عام 1952م، نشب خلافٌ بين الشاه والدكتور مصدّق حول استلامه منصب وزير الدفاع، وعلى إثره، قدّم الدكتور مصدّق استقالته دون مشاورة آية الله الكاشانيّ. أمّا الشاه، الذي كان يتمنّى هذه الفرصة، أصدر على الفور قرارًا بتنصيب "قوام السلطنة" رئيسًا للوزراء، وأصدر "قوام السلطنة" بيانًا يهاجم به المناوئين للسلطة - أي الشعب والسيّد الكاشانيّ - وهدّد بالمقابل القوى العسكريّة، وحذّرهم من أيّ تحرّك يصدر، وأمر بانتشار القوّات المسلّحة والدبّابات في شوارع العاصمة طهران وساحاتها. أمّا آية الله الكاشانيّ، فأصدر بيانًا يدعو فيه الشعب والجماهير إلى الجهاد والنضال، جاء فيه:

"... يجب على كافّة إخوتي المسلمين التأهّب للجهاد الأكبر لمقارعة الاستعمار والخونة. فليُثبِتوا أمام الجميع، مرّة أخرى، أنّ الاستعمار وأياديه وكافّة الخونة المرتزقة لا مكانة لهم في بلادنا، وسوف لن يعود العهد البائد أبدًا...".

 

وبعد هذا، دعا مندوبي الصحف الداخليّة والأجنبيّة، وأعلن خلال لقائه الصحفيّ هذا، أنّه سوف لن يعلن الجهاد والثورة، وسيرتدي بنفسه كفن الشهادة، إذا لم يتنحَّ "قوام السلطنة" عن مركزه هذا. وعلى إثرها، خرج الناس معارِضين ومندِّدين بالحكومة، وهم يطوفون في الشوارع والأزقّة، وإذا بالقوّات العسكريّة تداهمهم، وأسقطَت الكثير منهم قتلى وجرحى. وتعرّض قائد الجيش ورئيس الدرك إلى قافلة المجاهدين، الذين قَدِموا من مدينة "كرمانشاه" للوقوف بجانب الجماهير الثائرة في طهران، فرشقوهم بالرصاص، فسقط الكثيرون مضرّجين بدمائهم، نتيجة طيش الجيش والدرك وحماقاتهم.

 

141

 


112

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

ولمّا زاد قلق الشاه من تحرّكات السيّد الكاشانيّ، عمد إلى إرسال ممثّلين عنه لزيارته، كي يرغموه على السكوت بأيّ وجه كان، لكنّه ردّهم خائبين، وأعلن بصراحة تامّة، مطالِبًا بإرجاع الدكتور مصدّق إلى منصبه ومهمّته من جديد. وبعدها بأيّام، بعث رسالة إلى وزير البلاط حسين علاء، جاء فيها:

"سعادة السيّد علاء، أفيدكم علمًا أنّه بالأمس، وبعد زيارتك، وفدَ إليّ "أرسنجانيّ" المبعوث من قِبل "قوام السلطنة"، وعرض عليّ اقتراحًا يقضي باختيار ستّة من الوزراء من قِبَلي أنا، مقابل السكوت وعدم تحريض الجماهير. فرددتُ عليهم فورًا، أطلب منك أن تخبر الشاه وتحذّره، إن لم يُرجِع مصدّق إلى رئاسة الوزراء خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة، سوف أقود ثورة عارمة، وأتقدّمها شخصيًّا، وسأُداهم البلاط بنفسي...، على أمل تنفيذ المطلوب بجدّيّة تامّة".

 

في اليوم التالي لهذا الإنذار، خرج الشعب إلى الشوارع والأزقّة والساحات، تنفيذًا لأوامر آية الله الكاشانيّ، ودفاعًا عن الدكتور مصدّق، على الرغم من فرض منع التجوّل من قِبَل الحكومة. وواجهَت القوّات العسكريّة حشود الجماهير، وشتّتها بالرصاص، وأردَت المئات منهم قتلى وجرحى. وعُرِفَت هذه المذبحة بواقعة "30 تير/ 21 تمّوز". ونتيجة لذلك، رضخ الشاه لأوامر آية الله الكاشانيّ، وعزل "قوام السلطنة"، وأعاد الدكتور مصدّق إلى منصبه في 22 تمّوز 1952م، مضافًا إلى منحه مهمّة قيادة وزارة الدفاع. وتحقّق هذا النصر بوقوف الجماهير المسلمة بعضها إلى جانب بعض، وامتثالها لإرشادات قائدها الدينيّ آية الله الكاشانيّ وبياناته:

إنّ واقعة "30 تير" كانت قمّة التآلف والتضامن بين الجبهة الإسلاميّة بقيادة آية الله الكاشانيّ، والجبهة الوطنيّة بقيادة الدكتور مصدّق. وتلا ذلك انشغال الوطنيّين والإسلاميّين فيما بينهم، إلى أن عمد أحدهما إلى عزل الآخر نهائيًّا، وبهذا فقدت الجبهة الوطنيّة شعبيّـها التي كوّنها وشيّدها الكاشانيّ، وأصبح هذا سببًا لوقوع انقلابٍ أمريكيّ في 19 آب عام 1952م.

 

142

 


113

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

ولعلّه من الضروريّ أن نذكر شيئًا عن أسباب اختلاف الجبهتين المذكورتين ودواعيه، بشيء من الاختصار: بعد تحقيق هذا النصر الكبير، سلّم الدكتور مصدّق بعض المهامّ والصلاحيّات إلى بعض من الرموز والشخصيّات التي لم تحظَ بتأييد آية الله الكاشانيّ. ومن خلال مطالبة الجماهير وآية الله الكاشانيّ وبعض من نوّاب البرلمان، لمعاقبة ومحاسبة الذين تسبّبوا في سفك الدماء وقتل الأبرياء في واقعة "30 تير"، ووُوجِهوا بالإعراض عن الاستجابة لمطالبهم. وممّا زاد الطين بلّةً، هو اختيار اللواء "وثوق الدولة" قائدًا للجيش، وهو الذي رشق الثوّار القادمين من كرمانشاه إلى طهران بالرصاص، كما ذكرنا آنفًا، وانتُخِب اللواء زاهدي، الذي كان مطاردًا من قِبل آية الله الكاشانيّ في البرلمان، وزيرًا للداخلية. كذلك استطاع شاهبور بختيار أن يصعد إلى منصب عالٍ في وزارة العمل والشؤون الاقتصاديّة، إذ كان مديرًا لدائرة العمل في محافظة خوزستان قبل تأميم النفط، والتي كانت دائرةً تحت نفوذ شركة النفط الإيرانيّة البريطانيّة وسلطتها آنذاك، مضافًا إلى كشف وثائق جاسوسيّة في منزله، تعود إلى مدير شركة النفط الإيرانيّة البريطانيّة. هذا مضافًا إلى عدم تقيّده ببعض الالتزام والأمور الإصلاحيّة، كعدم منعه قانون استعمال المُسكِرات، وسكوته عن بعض رجالات الدولة الذين يتطاولون على رجال العلم والدين، ويتعرّضون لهم بالأذى، مضافًا إلى سفر الشاه المفاجئ إلى الخارج في ربيع عام 1952م، والتي يراها آية الله الكاشانيّ مؤامرةً دوليّة متّفق عليها، يجب الحذر منها... إلخ. ومن الأسباب المهمّة جدًّا لوجود هذه الاختلافات، هو مطالبته بإعطاء الصلاحيّات المطلقة ذات الستّة أشهر، ومن ثمّ تجديدها وإنهاء إجراء الاستفتاء العامّ لحلّ دورة البرلمان السابع عشر، الذي كان يحظى الدكتور مصدّق بدعم كبير من نوّابه، مضافًا إلى وجود آية الله الكاشانيّ فيه كرئيسٍ له.

 

ويرى بعض المؤرِّخين أنّ اختلاف نظرات وآراء كلّ من الطرفين يتعدّى المسائل السياسيّة والدينيّة وما يدور حولها، والسبب الرئيس لذلك هو نوع المنهج الفكريّ وأسلوبه لكلّ منهما، وهما اللذان لا يتّفقان على أيّة نقطة.

 

 

143


114

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

يقول المؤرّخ "سبهر ذبيح": إنّ الدكتور مصدّق هو رجل سياسيّ ليبراليّ صرف، وغير عقائديّ أو دينيّ، ويرى أنّ رجال العلم والحوزة يجب أن يؤهّلوا الجماهير للوقوف إلى جانب الحركات الوطنيّة والدفاع عنها، لا غير، أمّا مسألة تدخّلهم بالشؤون التنفيذيّة وما شابهها، فهو أمر غير لائق بهم. وهذه هي العلّة الأساسيّة للخلاف بين الجناح الدينيّ والجناح الوطنيّ، والتي لم تصل يومًا لحلّ سليم ودائم، بل صعّدَت من الخصومة والجدال بينهما، ممّا أثّر تأثيرًا كبيرًا في سقوط حكومة مصدّق في 19 آب عام 1953م.

 

وعلى أيّة حال، ومن هنا، ابتدأ نشاط الأعداء من جديد، بعد أن كانوا ينتظرون هذه النتيجة بفارغ الصبر، وبتدبير أنواع الحيل والمكر، لأجل توسيع رقعة الخلاف بين كبار قياديّي الثورة. وتحامل حزب توده على السيّد الكاشانيّ، وأخذ يفتري عليه الافتراءات، ويُلصق به التهم، ويتعرّض له بالكلام الرديء، وينهال عليه بالسباب في الصحف والمجلّات علنًا، وشجّع شبابه المنخدعين على نشر تلك الاتّهامات والافتراءات في أوساط الشعب، من أجل محاربة آية الله الكاشانيّ، وتشويه سمعة العلماء والحوزة العلميّة. وتسابق في هذا المجال أيضًا، بعضُ مؤيّدي الدكتور مصدّق من الوطنيّين المتشدّدين، وراحوا يبثّون سمومَهم وأفكارهم واتّهاماتهم للسيّد الكاشانيّ، عبر وسائل الإعلام الحكوميّة. أمّا بالنسبة لشخص الدكتور مصدّق نفسه، وفضلًا عن عدم تعرّضه لتلك الافتراءات الباطلة والسخيفة، فقد التزم الصمت، معلِّلًا ذلك بأنّه مسألة حرّيّة الصحافة، وبهذا فسح لهم المجال أكثر لاعتدائهم على آية الله الكاشانيّ.

 

ولإمامنا الراحل قدس سره خواطر وذكريات مؤلمة عن تلك الأيّام، حيث تطرّق في إحدى خطبه لهذه المسألة قائلًا:

"لقد واجَهَ المرحوم آية الله الكاشانيّ حملةً شنيعة مِن قِبل الوطنيّين، حتّى إنّهم ربطوا كلبًا على باب البرلمان، ووضعوا نظّارات على عينيه، وجعلوا اسمه الكاشانيّ، وقد حدث هذا فعلًا!".

 

144

 


115

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

وأصدر علماء الدين، في كلٍّ من الحوزة العلميّة في النجف الأشرف وقمّ، بياناتٍ منفصلة، تطالب البرلمان والحكومة بالحدّ من تلك الافتراءات والاتّهامات الباطلة والمزيّفة، احترامًا لِما قدّمه السيّد الكاشانيّ من خدمات وجهود للثورة الشعبيّة والوطنيّة، وتقديسًا لمكانته ووجاهته الدينيّة.

 

لقد أثّرت هذه الإشاعات والأفكار السامّة على عامّة الناس البسطاء، ولكن لمرّة أخرى، نهض الشعب، واستطاع أن يمسك بزمام الثورة، ويرشد الجماهير إلى طريقها الصائب. وبعد أن عرّضوا بمنزلة السيّد الكاشانيّ وأبعدوه عن الساحة والثورة، تراجع كثيرٌ من الشعب والجماهير عن مواصلة الثورة، وتركوا حكومة مصدِّق دون مساندة أو دعم، لأنّهم هم الذين قدّموا القرابين من الشهداء والقتلى والجرحى، وتعرّضوا للقوّات المسلّحة، وبعثروا صفوفها بأمرٍ وإرشادٍ من آية الله الكاشانيّ، وهم الذين ساروا وأخذوا بنهجه.

 

وعلى الرغم من جميع تصرّفات الدكتور مصدّق المنفردة، وسكوته وتساهله بالأمور، بعث السيّد الكاشانيّ رسالةً إليه -قبل وقوع الانقلاب بيوم واحد - ودعاه إلى الصلاح والتُقى والتزام ما يخدم البلاد والشعب، وأن يترك المصالح الشخصيّة والعواطف الذاتيّة. وأكّد له في حال استمرار هذا الوضع، فسوف يتعرّض الوطن إلى حدوث انقلاب جديد، ونخسر جميع الجهود المبذولة، وطلب منه مدّ يد العون والمساعدة والتضامن للوقوف أمام المؤامرات الهادفة للإطاحة بنا. لكن بلغت غطرسة الدكتور مصدّق إلى حدّ أنّه أجابه بجواب مختصر، وبعبارةِ مَن يردُّ دعوة الاتّحاد والتضامن، ويدّعي بأنّ الجماهير واقفةٌ خلفه لمساندته ودعمه. وفي هذه الأجواء المحمومة، قام اللواء "زاهدي"، وبمساعدة معاونيه ورجاله، بعمليّة انقلاب كبرى ومدبّرة، وذلك بأمر من وكالة الاستخبارات الأمريكيّة، وأطاحوا بالدكتور مصدّق، وشيّدوا صرح الشاه، وقوّموه من جديد. ووقتئذٍ، رجع الشاه إلى البلاد، بعد أن تركها ألعوبة بيد الأجانب.

 

هكذا قُضِيَ على آمال الشعب جميعها، وما قدّمه لأجل استقلاله، وحفاظًا لدينه وعقيدته.

 

145

 


116

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

إنّ كلّ ما قدّمناه من عرض سريع وموجز، هو من أجل إلفات نظر القارئ الكريم إلى مواقف الإمام الخمينيّ قدس سره، والتي أشار إليها خلال بعض خطاباته، وفي مناسبات أخرى، للتدليل على مدى اهتمام الإمام قدس سره بدراسة الحوادث السياسيّة وتتبّعها بوعي تامّ، وما نجم عنها في ذلك الحين، مضافًا إلى علاقاته المتينة بالسيّد الكاشانيّ، والتي يرشدنا إليها عددٌ من الرسائل والدلائل وبعض الخطب، فضلًا عن مذكّرات شهود المعاينة.

 

نضيف هنا أنّ هذه الروابط والعلائق المتينة بين الإمام قدس سره وآية الله الكاشانيّ، هي ليست سببًا لأنْ لا يقوم الإمام قدس سره بتوجيه النقد لجميع تحرّكات آية الله الكاشانيّ ونشاطه وقيادته للانتفاضة الوطنيّة والسياسيّة.

 

ج. الإمام قدس سره والقوميّون

لتحليل مواقف الإمام قدس سره تجاه الوطنيّة ودراستها، وما دار من حوادث ووقائع في هذه الفترة، نضطرّ إلى دراسة مواقفه في ثلاثة مجالات رئيسة وهامّة:

1. فكرة القوميّة

يرى الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ فكرة القوميّة وليدة فكرةٍ غربيّة استعماريّة، إذ لمّا كان الاستعمار يخطّط منذ أبعد القرون للاستيلاء على البلاد الإسلاميّة، ولم يرَ مقاومة أمامه سوى الفكر الإسلاميّ، أخذ يفكّر بكيفيّة تمزيق الأمم التي وحّدها الدين الإسلاميّ، ولم يرَ حلًّا إلّا بثّ العنصريّة والأفكار الجاهليّة وما كانت عليه تلك الأمم قبل مجيء الإسلام.

 

واستطاع بالفعل أن يحرز تقدّمًا بمخطّطه هذا، ونشبَت النزاعات والحروب بين الدول الإسلاميّة، وتسلّط على البلاد والعباد والثروات...

 

جاء في إحدى خطب الإمام قدس سره (9 أيلول 1964م) الآتي:

"إحدى الخطط والحيل التي بثّها الاستعمار في بلادنا، وسيطر بها علينا، هي مسألة التفرقة العنصريّة وإحياء القوميّة... فالتركيّ يجب أن يؤدّي طقوسه الدينيّة على

 

146

 


117

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

الطريقة التركيّة، والإيرانيّ يجب أن يتعلّم ويرجع إلى لغته الأصليّة الفارسيّة البحتة، والعربيّ يجب أن تكون حكومته وكيانه مبنيَّين على أساس العروبة، لا على أساس الدين والإسلام. وإنّ بعضًا من إخواننا وكبارنا، مع شديد الأسف، وقعوا في هذا الفخّ الواهي، وأصبحوا كالأطفال الذين نُشغلهم باللعب، كي نُسَرّ بهم ونأمن صراخهم. وهكذا الحال لرؤساء الدول وقادتها، لماذا نطلق على فلان بالعربيّ، وعلى الآخر بالتركيّ، وآخر كذا وكذا...؟ وغفلنا عن ديننا ووحدتنا ومبادئنا الإسلاميّة الموحّدة...؟ وللأسف الشديد... لقد شتَّتَ الاستعمار شملنا، وبدَّد جموعَنا بسرقته لمبادئنا وأفكارنا السليمة. ولا أعلم، ولا أدري إلى أين سيؤول بنا هذا الوضع المتشرذم...؟".

 

وأعاد الكرّة، وردّد الفكرة، وحذّر من مؤامرات المستعمرين وما يهدفون إليه، وذلك عبر بعض خطبه بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة، وأشار محذّرًا إلى الآتي:

"... بذلَت الدول العظمى جهودًا كبيرة وواسعة منذ مئات السنين... وبعد دراسةٍ وبحثٍ طويل وعميق أجروه على شخصيّاتنا وكبارنا وأحزابنا وشعوبنا... فخلصوا إلى نتيجة هامّة واحدةً لا غير، وهي عقبة الإسلام، فهو الخطر والمهدِّد الوحيد لهم ولأهدافهم، ولهذا أصبح موضوع اهتمامهم البالغ. ولم يرَوا حلًّا لنفوذهم إلّا من خلال الحكومات الإسلاميّة الضعيفة والفاسدة، التي لا تعرف إلّا الحكم وعبادة الملذّات والشهوات. واستطاع الغربُ أن يصطنع حكومات موالية له، لبثّ سمومه وأفكاره، وترسيخ أقدامه، والعمل على التفرقة العنصريّة والقوميّة، إذ استطاع أن يحقّق أهدافه، فأصبح العربيّ يشتم العَجميّ، والعَجميّ يسيء للعربيّ، والتركيّ يعتدي على فلان، وهلمّ جرًّا...

 

على العموم، فإنّ فكرة الوطنيّة والقوميّة هي فكرة تطالب بإحياء الجذور والأُسُس للنزعة العنصريّة التي تتعارض مع فكرة الدين الشاملة والعامّة. لقد كرّرتُها أكثر من مرّة...

 

وإنّ أساس انحطاط المسلمين هو ذلك التعصّب القوميّ والعنصريّ الأعمى...

 

147

 


118

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

أمّا الإسلام، فقد جاء معلِنًا روح التسامح والتضامن: "لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى"... إنّ الإسلام أتى وقال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[1]، وقال: "النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المِشْطِ"، وأكّد أن "لَا فَضْلَ لِأَحْمَر عَلَى أَسْوَد" و... إلخ. فالأفضليّة هي التقوى، والميزان هو مدى الالتزام بتعاليم الإسلام. فكانت الدعوة إلى العنصريّة والقوميّة مِن قبيل الدعايات والإشاعات التي روّجها الغرب، لإضعافنا وتمزيقنا والاستيلاء علينا".

 

2. القوميّون: تاريخهم وأهدافهم

تطرّقنا إلى هذا البحث سابقًا، وأشرنا إلى أنّه كان أحد الركيزتَين لعقيدة نظام رضا خان وأسلوبه، وتوسّعَ نطاقُه توسّعًا كبيرًا، بالأخصّ خلال النصف الثاني من عهد رضا خان. وإذا كان القوميّون المتشدّدون قد سبقوا هذه الضائقة زمنيًّا، فإنّ نشاطهم كان من أجل تركيز جذور سلطة رضا خان وتثبيتها، على أنّه القدوة والمثال للوحدة الوطنيّة، والحريص على وحدة إيران وعدم تمزّقها. بينما أعرب القوميّون المعتدلون، الذين برزَت نشاطاتهم بشكل واضح وجليّ خلال العقد الرابع، أعربوا عن شعورهم الداخليّ وهو إيمانهم بأنّ القوميّة هي الطريقة الأمثل لمحاربة الاستعمار، والحدّ من اجتياحه للبلاد. وعلى الأظهر، نشأت هذه الفكرة بعد تطوّر الأوضاع المتأزّمة التي خلّفتها الحرب العالميّة الثانية. ومع ما تظهره القوميّة هذه من وقوفٍ أمام الاستعمار، إلّا أنّها في واقع الأمر لا تختلف شيئًا عن عقيدة القوميّين المتشدّدين، لأنّهم متّفقون معهم من حيث المبنى الفكريّ العامّ، وعدم انسجامهم مع الفكر الدينيّ والإسلاميّ. وما الفرق بينهما، إذا كانت تلك وليدة فكرة تعمل لبناء نظام رضا خان، وهذه وليدة فكرة تدعم هذا الكيان، فضلًا عن اشتراكهما في نقاط بارزة، والتي ترى بأنّ رضا خان هو الوجه الحقيقيّ والقدوة والأسوة لكلّ وطنيّ، وهو المدافع عن كرامة الوطن وأصالته.


 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

 

148


119

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

ومن هنا، نرى الإمام قدس سره ينادي قائلًا:

"إلى متى نتلقّى صفعات من هذه الشعارات وأمثالها؟ إنّني لا أريد أن أتطرّق إلى تلك الوطنيّة التي حكمتنا بعهدِ "مصدّق"، حيث راحوا يؤيّدونها أشدّ التأييد، وإلى ما لقينا منها صفعات وصفعات".

 

وأظهر مؤكّدًا سوابق الجبهة الوطنيّة، وابتعادها عن الإسلام من حيث المبدأ، قائلًا:

"بعض التيّارات والجهات الوطنيّة كُشِفَت حقائقها منذ اليوم الأوّل لبدء تأسيس تلك الجهات الوطنيّة. ولقد عُزِل الإسلام عن الخطّ الفكريّ والمنهجيّ لهم تمامًا... إنّ كلّ ما تفانوا من أجله هو الوطنيّة، التي تُعَدُّ مبعثًا للشكّ والريبة. لقد رأينا كبارهم ورؤساهم - المعروفين بالوطنيّين وحبّ الوطنيّة - كيف حطّموا آمال الشعب، ووقفوا ضدّه... إذًا، أين الوطنيّة؟ ولِمَ التكالب عليها؟".

 

ويرى الإمام قدس سره أنّ مسألة حبّ الوطنيّة والتفاني من أجلها عند أولئك، هي شيء مزيّف وبعيد عن الواقع، إذ إنّ هؤلاء كانت لهم أهداف ومآرب لم تُحَقَّق، ولن تُنجَز، إلّا عن طريق هذا الغلاف، ولهذا نراهم، ولأكثر من مرّة، ضدّ الشعب، وقمعوا تحرّكاته - ملمِّحًا إلى حكومة بختيار والانقلابيّين في معسكر "نُوجه"[1]- ومن خلال دراسته وتتبّعه لتحرّكات وخطب الوطنيّين، خرج الإمام قدس سره بهذه النتيجة:

"لم نَجْنِ من هؤلاء الوطنيّين سوى الدمار. إنّهم جيوشٌ للشياطين، وأتباعٌ لهم... وللدول العظمى المعادية للقرآن والدين الحنيف.

 

الوطنيّون لم ولن يخفِّفوا من آلامنا شيئًا، بل إنّ النخوة والمروءة والشهامة من سِمات المسلمين الموحِّدين فقط. لقد جرّ لنا الوطنيّون الويلات المتلاحقة... لذا، فإنّنا نريد الإسلام حاكمًا وقائمًا، لا هؤلاء...".

 

3. ماهيّة الانتفاضة الوطنيّة وأهدافها

إنّ الثورة الشعبيّة التي حدثَت في العقد الرابع، هي ثورة مادّيّة في رأي الإمام قدس سره،


 


[1] قاعدة جوّيّة كانت مركزًا للانقلابيّين، وقد كُشِف أمرُهم قبل القيام بأيّ عمل.

 

149


120

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

ولكونها حاربت الاستعمار من أجل النفط لأهمّيّته، فهي ثورة سياسيّة. وعلى العموم، فهي خارجة عن نطاق الإسلام والهدف الإلهيّ. وأشار الإمام قدس سره لهذا المعنى مرّات عديدة، وفصّل ضمن خطبه خصائص هذه الثورة، فقال:

"كانت هتافات الجماهير سابقًا لأجل النفط والمادّة، بينما هتافات جماهيرنا بهذه الثورة "الإسلاميّة" هتافاتٌ إسلاميّةٌ تُطالب بالسير على خُطى الإسلام. وثمّة فرق شاسع بين مَن يجاهد ويناضل لأجل الدين والعقيدة، ومَن يقاتل ويناضل من أجل المادّة. إنّ النهضة السابقة كانت مادّيّة، بينما نهضتنا اليوم نهضة إسلاميّة وإنسانيّة، كنهضة الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم... أمّا ثورة مصدِّق، فقد كانت سياسيّة بحتة، وثورتُنا هي سياسيّة دينيّة وذات أصول وجذور عميقة وعريقة...".

 

إنّ الإمام قدس سره يقدّس ثورة هذه الأمّة، كونها ثورة إسلاميّة لا تريد سوى وجه الله -تعالى-، وبهذا، فجذورها وأُسُسها ضاربةٌ في أعماق الجماهير، وهي أصل عقيدتهم، وركيزة ثقافتهم. ونظرًا لوجود قيادة حكيمة ورشيدة، فسوف يصل فداء الأمّة وإيثارها ونضالها إلى الهدف المنشود. ومن هنا، أتَت ثقة الإمام قدس سره بانتصار أمّةٍ كهذه.

 

والعكس بالعكس، فكثير من الثورات السياسيّة الماضية، بما فيها الوطنيّة، مُنِيَت بالفشل، فتقهقرَت لكونها بعيدة عن الأهداف الإسلاميّة والإلهيّة، ولا تملك أيّة صفة من صفات الثورات الإسلاميّة، ولهذا فهي إمّا أن تتقهقر في منتصف الطريق، كالحركة الدستوريّة، أو تتقدّم خطوات لتصطدم بحواجز تقلبها رأسًا على عقب، كالنهضة الوطنيّة. يقول الإمام قدس سره:

"... الحركات والنهضات والثورات التي شاهدناها على التاريخ، أو تلك التي رأيناها بأمّ أعيننا -كالثورة من أجل النفط- اضمحلَّت وذابت وغابت في عالَم النسيان، بل تبخّرَت بتمامها، لأنّ أهدافها لم تكن إسلاميّة، بل كانت وطنيّة، ومثلها حركة تأميم النفط التي وضعَت أقدامها على طريق النجاح، وأخفقَت...".

 

وبهذا الصدد، نرى انتقاد الإمام قدس سره للحركة الوطنيّة الإسلاميّة ولقادتها، انتقادًا

 

150

 


121

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

بنّاءً وأصوليًّا، فيعتقد قدس سره بأنّ القيادة الدينيّة للحركة - آية الله الكاشانيّ - كان عليها ترسيخ جذور الثورة وتعميقها إسلاميًّا وعقائديًّا، من حيث الشكل والمحتوى، لا أن تتجاهل هذه الأمور، فتتعالى وتطغى عليها الحنكة السياسيّة، وتستأثر بالمنهج السياسيّ لها - أي القيادة الدينيّة -.

 

ولقد أعلن الإمام قدس سره عن رأيه هذا بصراحة تامّة قبل الثورة الإسلاميّة، حيث قال:

"عندما قامَت ثورة الكاشانيّ ومصدّق، التي طغى عليها الجانب السياسيّ دون الدينيّ، بعثتُ برسالة إلى السيّد الكاشانيّ، طلبتُ منه فيها الاهتمام بالإسلام، والتركيز على الطابع الدينيّ، فلم يهتمّ بها، بل اتّخذ مسارًا عكسيًّا، وآثر الجانب السياسيّ، إلى أن أصبح رئيسًا للبرلمان، فأضحى موضعًا للشبهة. ولقد رجوتُه أن يكرّس نشاطَه لصالح الدين، لا أن يصبح سياسيًّا محترفًا...".

 

وفي نهاية المطاف، إنّ الإمام قدس سره يعتقد أشدّ الاعتقاد، بأنّ أيّة نهضة أو حركة ثوريّة في العالَم الإسلاميّ، لم تجعل أهدافها إسلاميّة، ولم تخطُ بخطواته، فإنّ مصيرَها الفشل، لأنّها جعلَت هدفها المنشود هو الاتّجاه السياسيّ، ولم تتّجه إلى الله -سبحانه وتعالى-، وبمثل هذا، تضيع الآمال، وتذهب الجهود أدراج الرياح، بينما تُعقَد الآمال عندما تكون الثورة أو النهضة سائرةً بخطى حثيثةٍ نحو تحقيق المبادئ الإسلاميّة والإلهيّة، وعند ذلك سوف تتبعها الأماني السياسيّة لا إراديًّا، وإلى هذا يشير قائلًا:

"... طريقنا ليس طريق النفط، فلا هو ولا تأميمه هدفٌ وغاية لنا. إنّ ذلك عينُ الخطأ وذاته. غايتنا الإسلام وحده لا غير. فعندما يحكم الإسلام، سوف يرضخ النفط لأحكامه، ويصبح تحت سيطرته. نحن هدفنا الأوحد هو الدين الإسلاميّ، لا النفط الذي إذا أمَّمَهُ شخصٌ ما، فإنّه ينتهي به المطاف إلى العدول عن الإسلام والتنحّي عنه...".

 

151

 


122

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

والجدير بالذكر في آخر هذا الفصل، هو ما قام به الإمام قدس سره من إبراز مشاعر التقدير والتبجيل لآية الله الكاشانيّ، تجاه نضاله وجهاده الذي قارع به الأعداء لسنوات مديدة متواصلة. وعلى الرغم من المضايقات والقيود المفروضة، أقام الإمام قدس سره مجلس عزاءٍ استمرّ ليومين، إثر رحيل آية الله الكاشانيّ إلى دار الخلود. تغمّده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنّاته.

 

152


123

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

الفصل السابع

 

سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

 

عاد الشاه إلى عرشه في اليوم التاسع عشر من آب عام 1953م، إثر انقلابٍ مُدبَّرٍ ومُنسَّقٍ من قِبَل إدارة المخابرات الأمريكيّة والبريطانيّة، عبر رجالاتهم وعملائهم في الداخل. وبهذا، قُضِيَ على منجزات الحركة الوطنيّة جميعها، سياسيًّا واقتصاديًّا، وبالأخصّ عندما دعا زاهدي شركات النفط الأوروبّيّة والأمريكيّة، ووقّع معاهداتٍ واتّفاقيّاتٍ معها. وبناءً على ما جاء ضمن العقود والمعاهدات، تمّ توزيع الحصص والأسهم فيما بين الشركات على النحو الآتي:

- شركة "بريتِش بتروليوم" (شركة النفط الإيرانيّة البريطانيّة سابقًا): 04%.

- مجموع خمس شركات أمريكيّة: 04%.

- الشركة البريطانيّة الهولّنديّة "رويال داش - شل": 41%.

- شركة "فرانس دويترول" الفرنسيّة: 6%.

 

وكما يُلاحظ، فقد تقاسم مُدبِّرو الانقلاب حصصهم بالسويّة، لينالوا ثمرة جهودهم بالتساوي. بيدَ أنّ الأمر لم يستمرّ على هذا النحو، وأخذ كلُّ واحدٍ يكيد للآخر، ويطمع بأكثر من المقسوم له. من هنا، شهدَت البلاد تحوّلات سياسيّة واقتصاديّة متضاربة مِن قِبَل بريطانيا وأمريكا، إلّا أنّ الأولى خسرَت المعركة، نتيجة هيمنة هذه الأخيرة وسيطرتها على سياسة البلد واقتصاده، نظرًا لِما لها من اعتبار ومكانة على الصعيد الدوليّ والعالميّ. ونعود هنا ونؤكّد أنّ هذا ليس بدليلٍ على انعدام الوجود البريطانيّ،

 

 

153


124

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

إنّما تضاءل نشاطُهم، وقُلِّمَت أظافرهم، وبالأخصّ منذ بدء الستّينات، التي لُوحِظ فيها التواجد الأمريكيّ بشكل واضح وجليّ.

 

لقد استأنف الأمريكيّون، بعد عام 1953م، توظيفَ خبرائهم ورجالاتهم في أهمّ المراكز الحسّاسة في البلاد، كالمراكز السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، والتي برزَت من خلالها هيمنتُها على البلاد كافّة. وسنتطرّق إلى نشاطات الأمريكيّين وخططهم ونفوذهم في البلاد، ونفصّل بعض أطرافها، كي يدرك القارئ الكريم السبب والعلّة الرئيسة التي وقف الإمام الخمينيّ قدس سره من أجلها متحدّيًا أمريكا العدوّ اللّدود، والشيطان الأكبر.

 

خلال السنوات 1953م- 1963م، استخرجت الشركات النفطيّة 340 مليون طنّ من النفط الخام، والذي فاق ما استخرجَته بريطانيا ونهبَته طيلة خمسين عامًا منذ اتّفاقيّة "دارسي"، ومع تزايد عوائد النفط خلال هذه الفترة، شهدَت ميزانيّة الدولة عجزًا كبيرًا، وبلغَت الديون حدًّا تصاعديًّا سنةً بعد أخرى، وذلك لسبب تقوية البنية العسكريّة، وكثرة الاختلاسات العظيمة من قِبل الشاه ورجالاته.

 

بعد عقدٍ واحد من الانقلاب، أُسِّسَت مئات الشركات في البلاد برؤوس أموال أجنبيّة، وأخرى مشتركة داخليًّا، وحظيَت هذه الشركات بإعفاء من الضرائب الجمركيّة والسنويّة وغيرها. وبلغَت أموال أوروبّا خلال 1959م مليار دولار، وظّفَتها بشركات ومؤسّسات إنتاجيّة، وفي مجالات عديدة. وللترغيب في فتح شركات أجنبيّة أخرى في البلاد لنهب خيرات البلاد وثرواتها، قامَت الحكومة في نهاية شتاء 1955م، برفع جميع العقَبات التي قد تؤدّي إلى عدم رغبة الشركة للاستقرار في البلاد، وفسح المجال لها للعمل بحرّيّة، فمثلًا، ضمِنَت الحكومة لأصحاب الشركات الأجنبيّة عدمَ التعرُّض لمنتجاتها، ووعدَت بأنّها سوف تقف ضدّ أيّ موقف يقضي بتأميم الشركات في إيران، هذا مضافًا إلى تحسين التعامل معهم، ومعاملتهم كمعاملة التجّار وأصحاب رؤوس الأموال الإيرانيّين. وبهذا، فإنّ التاجر الأجنبيّ يستطيع -مثله كمثل الإيرانيّ- إخراج

 

 

154


125

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

جميع عوائده وفوائده خارج البلاد بحرّيّة، ودون أيّة رقابة تُذكر. وعلاوةً على ما سبق، فقد صدر قانونٌ خاصّ آخر في بداية عام 1956م، يضمن سلامة التجّار الأمريكيّين وأمنهم في البلد، والمحافظة عليهم.

 

لقد تصاعدَت عوائد النفط والشركات، وبدلًا من أن تُستَخدَم لخدمة الشعب ولصالح البلاد، راحَت تُصرَف على القوّات العسكريّة، وتقوية البنية العسكريّة، وعلى رجال البلاط، ولمشتهيات الشاه، ولإشباع غرائزه النهمة. فلقد بلغَت نفقات السلاح وتكاليفه بين أعوام 1953م - 1961م، ما يعدل 65 مليار ريال. وبعد عشر سنوات من الانقلاب، تضاعفَت ميزانيّة الجيش والقوى العسكريّة إلى أربعة أضعاف.

 

وبالتزامن مع تصاعد نفقات الجيش والمصاريف الكماليّة، كانت ميزانيّة الدولة تأخذ بالعدّ التنازليّ والعجز الماليّ، سنةً بعد أخرى. فمثلًا، بلغَت ميزانيّة الدولة عام 1958م رصيدًا قوامه 1965 مليار ريال، بينما بلغَت في عام 1963م مبلغًا قدره 3775 مليار ريال، أي ضعف ما كانت عليه الميزانيّة قبل خمسة أعوام، مضافًا إلى تصاعد الديون في هذا العام إلى 574 مليون دولار.

 

على العموم، فإنّ نفوذ أمريكا اقتصاديًّا وعسكريًّا في البلاد، كان يحتاج إلى حزامٍ أمنيّ يدفع احتمال أيّ ضرر يتوجّه إلى المصالح الأمريكيّة، وهذا كان يكمن في الدور السياسيّ فقط. من هنا، دخلَت حكومة إيران -برئاسة حسين علاء، وبإيعاز من أمريكا- في حلف بغداد. وفي آذار عام1957م، أعربَ الرئيس "إيزنهاور" عن تأييده لهذا الانضمام الذي أُعلَن عنه في كانون الثاني عام 1956م.

 

وفي عام 1956م، تأسّسَت منظّمة السافاك - الأمن والمخابرات - بإيعازٍ من الأمريكيّين، وكان دورها - منذ بدأت هيمنة الشاه، وحتّى نهايتها - هو مطاردة المتمرّدين والمعارِضين، وقمع الحركات المخالِفة، وتعذيب المناضِلين والمجاهِدين ضدّ الطغمة الحاكمة. وبعبارة مختصرة، هدفها النهائيّ ضمان الأمن والاستقرار للشاه وسلطته، وإلقاء الرعب والخوف في قلوب الجماهير. وفي عام 1958م، عُقِدَت معاهدة عسكريّة

 

155

 


126

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

بين إيران وأمريكا، وبها تركت إيران الخيارات جميعها لأمريكا. وتنصّ المعاهدة على تدخّل أمريكا العسكريّ حين تَعَرُّض البلاد لأيّ عدوان، مباشر أو غير مباشر، مِن قِبل دولة ثالثة. وعلى إثر هذه المعاهدة، تدفّقَت أعداد هائلة من المستشارين والخبراء الأمريكيّين إلى البلاد، وأقاموا معسكرات ووحدات رصد وقواعد متعدّدة في أرجاء البلاد كافّة. لكن في أواخر العقد الخامس، اضطرّت أمريكا لتغيير سياستها القائمة على الصعيد العسكريّ، لأسباب داخليّة وخارجيّة.

 

فعلى الصعيد الداخليّ، تردّى الوضع الاقتصاديّ والمعيشيّ، فازدادَت القروض والديون الأجنبيّة، وفسد النظام الإداريّ، وقُمِع المخالفون السياسيّون... وثمّة عوامل وأسباب تعتبرها أمريكا مسبّبات لثورة داخليّة، تنتهي لصالح نفوذ الروس. أمّا على الصعيد الخارجيّ، فشهدَت المنطقة والعالَم أحداثًا كبيرة، لم تسلم إيران بدورها منها، فيما إذا استمرّ الوضع كما هو عليه، كانقلاب عام 1958م في العراق، إذ طُويَ به ملفّ الملكيّة، وحلَّ محلّه النظام الجمهوريّ، والانقلاب العسكريّ في تركيا عام 1960م، والقضاء على الحكم الملكيّ في مصر عام 1952م، وانحياز مصر إلى الاتّحاد السوفياتيّ.

 

لكنّ الأكثر أهمّيّة هو ما زرعَته بعض الثورات في الجماهير مِن عداء وحقد للاستعمار، ونخصّ بالذكر ثورة الصين وفيتنام وكوبا، التي طالما قارعَت المعتدين والمستعمِرين، وحرّضَت المظلومين من الطبقة العاملة والفلّاحين للقيام بوجه الإقطاعيّين الجبابرة، الذين ولّدَهم الاستعمار، وجعلهم يعيثون في الأرض فسادًا وظلمًا وإلحادًا. ولهذا، قامت أمريكا بإجراء إصلاحات زراعيّة في مستعمراتها المحدودة ذات الثروة الزراعيّة، خوفًا من نقمة الشعوب، ودعمًا لحكوماتها العميلة، وتحسُّبًا لاحتمال الضرر والنفوذ الاشتراكيّ.

 

بناءً على هذا، قام الرئيس الأمريكيّ "ترومن" عام 1950م، باقتراح البند الرابع، الذي يؤكّد على مساعدة الدول المتخلّفة والنامية ودعمها، لرفع المستوى الاقتصاديّ والمعيشيّ فيها، والتي يهدف من خلالها إلى تكوين الأنظمة الديمقراطيّة وبنائها فيها.

 

156

 


127

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

واضطرَّت أمريكا لهذا الحلّ الوحيد، وبخاصّة عندما أحسَّت بالخطر من خلال بروز انتفاضات وثورات فلّاحيّة، تزامَنَ معها انتشار المدّ الشيوعيّ إبّان العقد السابع. ومن هنا، جاءت أيضًا الحركة الإصلاحيّة للزراعة والاقتصاد، والوضع الاجتماعيّ في الدول المستعمِرة والتابعة لأمريكا، فكانت شعارًا للحزب الديمقراطيّ الأمريكيّ إبّان الانتخابات الرئاسيّة، التي فاز بها جون كنيدي عام 1960م.

 

وبناءً على هذا، كانت تهدف الحكومة الديمقراطيّة الجديدة من وراء الحركة الإصلاحيّة الزراعيّة إلى أهداف مختلفة ومتنوّعة، أهمّها:

أ- مهاجمة ما تبقّى من رموز الاستعمار من العهد البائد، كبريطانيا وفرنسا وهولّندا والبرتغال وبلجيكا و... لإزاحتهم عن الطريق.

ب- تضليل مُثقَّفي الدول المتخلّفة ومُفكِّريهم، وجذب أنظارهم وأفكارهم تجاه الغرب، وكسبهم إلى جانبهم.

ج- فسح المجال أمام التجّار وذوي الصناعات ورؤوس الأموال، من أجل غزو الأسواق بالبضائع والمنتجات الأمريكيّة، لرفع المستوى الاقتصاديّ والدخل المادّيّ.

د- وأخيرًا، بسط سلطتهم الاستعماريّة، وإغلاق جميع النوافذ والمجالات أمام باقي المستعمرين، وبالأخصّ بريطانيا.

 

وبعد رجوع الشاه من أمريكا عام 1949م، أعلن عن استعادة الأراضي التابعة لدائرة أراضي الشاه، وتوزيعها على الفلّاحين، وأخذ بتشجيع أصحاب الأراضي والمتموّلين والمالِكين على بيع أراضيهم الشاسعة إلى الحكومة، والتي ستقوم بدورها بتقسيمها وتوزيعها على الفلّاحين والأيدي الكادحة. وقد بقيَت هذه الدعوة والوعود حبرًا على ورق.

 

وفي هذه السنة نفسها، أُعِيد كثيرٌ من الأراضي الزراعيّة المحسّنة، التي كانت بحوزة رضا خان قبل هروبه من البلاد، وأُعِيدت إلى ملكيّة الشاه بعد أن صوّت البرلمان عليها. ولكن بعد ضغوط أمريكيّة، وحفاظًا لمصالحها وسمعتها السياسيّة، أمر الشاه ببيعها إلى

 

 

157


128

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

الفلّاحين والمزارعين. وعُقَيْبَ هذه الخطوة، أعرب وزير الزراعة الأمريكيّ عن ارتياحه لهذا التصرّف من قِبل الشاه، إذ قال: "نحن على عقيدة تامّة بأنّه ما دام الفلّاحون واقفين ومشرفين على أراضيهم وأملاكهم، فليس هناك أيّ خطر يهدّدنا من الاشتراكيّة".

 

واستمرّ بيع الأراضي من قِبل الحكومة بشكلٍ متقطّع وبطيء. وبعد عشر سنوات، انتقدَت مجلّة الاشتراكيّة طريقة تقسيم هذه الأراضي، قائلة: "لقد مضت عشر سنوات على تقسيم الأراضي وتوزيعها، ولم تُقَسَّم سوى 120 قرية من أصل 2200 وحدة زراعيّة متعلّقة فقط بعائلة البهلويّ، وإذا استمرّ الوضع على هذا النحو، فسنحتاج إلى مئة سنة لتوزيع الأراضي الخاصّة بهذه العائلة... وعلى هذا الترتيب، فإنّنا بحاجة إلى 2000 عامًا لتقسيم جميع قرى البلاد وأريافها، وتوزيعها".

 

من الطبيعيّ جدًّا أن لا يرغب الشاه ببيع أراضيه، فضلًا عن عدم استطاعته الكاملة إقناع أصحاب الأراضي الكبيرة والإقطاعات الزراعيّة بهذا، وخاصّة أنّ معظمهم كان من كبار رجالات الحكومة والبلاد. وبما أنّه كان يعي جيدًّا أنّ انتصار الديمقراطيّين في أمريكا سوف يفرض الإصلاحات الزراعيّة عليه قسرًا، صمّم على مماطلة الانتخابات الأمريكيّة، منتظِرًا نتائجها بفارغ الصبر. وعندها، قام الدكتور إقبال[1] بتقديم لائحة "تجديد أوراق الثبوت المِلكيّة" إلى البرلمان في كانون الثاني عام 1959م. كذلك صُوِّت على قانون آخر في هذا العام، لغرض مكافحة الفساد والخلل الإداريّ، والذي عُرِف بقانون "مِنْ أينَ لك هذا؟". من جهة أخرى، كان الشاه يحبّذ فوز الحزب الجمهوريّ الأمريكيّ بقيادة نيكسون، وصرف مبالغ طائلة لمساعدتهم وتقويمهم ومساندتهم، ضمانًا لجميع مطامعه السياسيّة داخل البلاد.

 

لقد واجهَت لائحة تجديد أوراق الثبوت الملكيّة تعديلًا وترميمًا من قِبل البرلمان، وهي في حقيقة الأمر ورقة عمل لتخفيف الضغوط السياسيّة الخارجيّة، حيث أصبحت موضع استهزاء وسخريّة من قبل الحكّام اللاحقين، الذين اعتبروها لائحة تهدف إلى


 


[1] رئيس وزراء، ومن ثمّ رئيس شركة النفط الوطنيّة، من أبرز المقرّبين للشاه، عضو المحفل الماسونيّ في الشرق الأوسط.

 

158


129

الفصل السابع: سياسة الشاه الداخليّة والخارجيّة (1953م- 1963م)

تثبيت الملكيّة المتعلّقة بها، لا وسيلة للقضاء عليها.

 

بالمقابل، كان الأمريكيّون على وعي وفهم تامّ بما يجري من فساد وخلل في النظام الإداريّ في البلاد، وأنّ ما ادُّعِيَ من إصلاحات صوريّة وشكليّة، سوف لن يحقّق أيّ إنجاز لها، ولهذا صمّمت على إجراء الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة بعد فوز جون كيندي في انتخابات عام 1959م. وقد احتاجَت أمريكا إلى أرضيّة سياسيّة مناسبة لبعث الاطمئنان والثقة في الجماهير والأحزاب السياسيّة كافّة. ولكي يتمّ تنفيذ الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المعنونة بالديمقراطيّة، كان لا بدّ من الانفتاح السياسيّ، متزامنًا مع شيءٍ من الحرّيّة. ومن هنا، انفتح المجال للفئات والأحزاب كافّة، وكذلك الحكومة، بين أعوام 1963م- 1963م، وشهدَت البلاد تحوّلات وتغييرات سياسيّة واجتماعيّة مهمّة ولافتة للنظر، والتي سوف نتطرّق إليها بالتفصيل، إن شاء الله، بعد إشارة مختصرة إلى تاريخ الأحزاب والتكتّلات السياسيّة وحالهم، منذ الانقلاب، وحتّى سنوح هذه الفرصة والانفتاح السياسيّ في عام 1960م.

 

 

159


130

الفصل الثامن: الأحزاب والكتل السياسيّة بعد الانقلاب (1953م - 1963م)

الفصل الثامن

الأحزاب والكتل السياسيّة بعد الانقلاب

(1953م - 1963م)

 

بعد وقوع الانقلاب، قدّم بعضُ أعضاء الجبهة الوطنيّة والموالين للدكتور مصدّق اعتذارَهم للشاه، نادمين على ما فعلوه بالأمس، واستطاع بعضُهم أن يرتقي بعض المناصب والمراكز العليا، بينما حُكِم على البقيّة الباقية من الموالين الخلّص للدكتور مصدّق بالسجن، وأُعدِم أحدُهم ظلمًا وعدوانًا، وشكّل آخرون حزبًا وتكتّلًا جديدًا يُدعى حزب "المقاومة الوطنيّة"، لكن ما إن نشبَت بعض الخلافات بين أعضائه، استطاع النظام الحاكم كشفهم وإلقاء القبض على بعض كبارهم، ما أدّى إلى حلّ الحزب.

 

في هذه الفترة، أدبر الكثيرون من كبار رجال الثورة الوطنيّة عن نشاطهم السياسيّ، وانصرفوا إلى نشاطات اقتصاديّة وتجاريّة، ما عاد عليهم بالأرباح والأموال الطائلة. وقام بعض اليمينيّين واليساريّين بالدفاع عن السياسة الأمريكية وتأييدها طوال هذا العقد، فلقد أصدر "اللهيار صالح" - رئيس حزب إيران عام 1956م - بيانًا يقضي بتأييد حزبه لطروحات الرئيس الأمريكيّ إيزنهاور ومواقفه، وأعرب عن قلقه من نفوذ الاشتراكيّة في أوساطهم.

 

وراح "خليل مكّي" زعيم الحركة الاشتراكيّة يتطرّق إلى المشاكل والأمور الاجتماعيّة في مجلّة "العلم والحياة"، ليُعرِب عن قلقه إزاء الميول الماركسيّة، وتفسير ما يقابلونهم به

 

161

 


131

الفصل الثامن: الأحزاب والكتل السياسيّة بعد الانقلاب (1953م - 1963م)

وتوجيهه، وأعلن عن تأييده الكامل لنموّ الرأسماليّة المرتبطة بالإقطاع ودفعها، وكذلك الإمبرياليّة الأمريكيّة الموازية للإمبرياليّة البريطانيّة. وقد لاقَت الجهود والتصريحت والبيانات دعمًا وتأييدًا بالقياس إلى طروحات إيزنهاور، ووُصِفَت بأنّها "مساعٍ حميدة وناجحة للخروج من المأزق"، على أنّها خير وسيلة للوقوف أمام الخطر الشيوعيّ.

 

في عام 1954م، فُتِك بقوّات حزب تودة الشيوعيّ المسلّحة، وعلى إثرها، تهدّم الحزب بأكمله، وأُلقِيَ القبض على مئة عضوٍ منهم، من بينهم كبار القادة، وأُعدِم عدد منهم، بينما أعرب الكثير عن ندمهم واعتذارهم، واعترفوا بأنّهم عملاء للأجانب، يرتجون الرحمة والعفو من الشاه. وعُفِي عن عدد منهم، وسلّموهم مَهمّات جديدة في دائرة الشرطة والمخابرات – السافاك -، فاستثمرت هذه الدوائر طاقاتهم وخبراتهم وتجاربهم التي اكتسبوها إبّان انتمائهم للحزب المذكور ونشاطهم فيه، ووُظِّف آخرون في مجالات جاسوسيّة، مندسّين بين عناصر المعارضة. هذا هو حال الأحزاب والكتل السياسيّة خلال السنوات العشر الأولى من الانقلاب.

 

وفي عام 1955م، أُلقِي القبض على رؤساء منظّمة فدائيّي الإسلام وأعضائه، الذين لهم اليد الطولى في مقارعة الظلم والطغيان خلال سنين عدّة متواصلة، وأُودِع الكثير منهم في السجون، بينما لقي آخرون حتفهم وقضوا شهداء في سبيل الله.

 

أمّا خلال فترة الانفتاح السياسيّ الأمريكيّ عام 1960م، فقد استطاعَت تلك الأحزاب أن تستعيد أنفاسها وتجدّد حياتها من جديد. ففي أواسط عام 1960م، تقاربَت واتّحدَت تكتّلات وأحزاب عدّة، وشكّلوا "الجبهة الوطنيّة الثانية"، وبعد أشهرٍ من هذا، وإثر ضغوط أمريكيّة، مضافًا إلى معارضته الأحزاب السياسيّة لتزوير الانتخابات، اضطرّ الشاه إلى إلغاء انتخابات الدورة العشرين للبرلمان. وممّا جاء في وثائق السفارة الأمريكيّة، حسب تقرير أحد أعضائها: "وقع التزوير بالفعل، ولكن هذا ليس بجديد، لأنّه بإمكاننا أن نحكم على جميع الانتخابات السابقة بالحكم نفسه".

 

وتصاعدَت قوّة الجبهة الوطنيّة تصاعدًا كبيرًا منذ عام 1960م، وحتّى عام 1963م.

 

162

 


132

الفصل الثامن: الأحزاب والكتل السياسيّة بعد الانقلاب (1953م - 1963م)

وخلال هذه الفترة، استطاعَت أن تُبدي بعض النشاطات الكبيرة، وبحرّيّة كاملة، فمثلًا، عقدَت مؤتمرًا كبيرًا لها - حيث بدأ الانشقاق بين صفوفهم - ونشرت بياناتها ومناشيرها علنًا، وقدّمَت رسائل مفصّلة وعرائض كبيرة للحكومة، وأقامَت جلسات وندوات مُصغّرة لم تعارِض من خلالها أيّ إجراء حكوميّ، ولم تعلن عن أيّة مخالفة للدولة، بل راحت الجبهة الوطنيّة تخوض في حوارات وبحوث طويلة وعريضة للنظام الداخليّ كطريقة للسيطرة، وفصل الكتل والتجمّعات بعضها عن بعض، ما أدّى بالنهاية إلى حلّ الجبهة وهدم كيانها. ولأجل مسايرة الشاه والوصول معه إلى اتّفاق شامل، لاذ كبار أعضاء الجبهة بالصمت، وعملوا على مجاملة الحكومة، وابتعدوا عن أيّة حركة يمكن أن تُفَسَّر بالمعارضة أو المخالفة، وبلغ الحدّ من الحذر والخشية أنّهم رفضوا حضور الندوة الطلّابيّة في الجامعة. وعلى الرغم من أنّ أعضاء الجبهة كانوا يعتقدون ويتصوّرون أنّ الجبهة الوطنيّة الثانية هي وريثة سياسة الدكتور مصدّق والجبهة الأولى، فإنّ الدكتور مصدّق كان غير مبالٍ ولا مكترثٍ لِما تقوم به الشورى المركزيّة للجبهة، والذين لم يكونوا محترسين على استمرار حركتها، وإن قام الدكتور مصدّق بمعارضتهم.

 

وفي عام 1961م، انشقّ الجناح الأصوليّ من الجبهة الوطنيّة، وأعلن عن وجوده ونشاطه، حاملًا اسم "حركة تحرير إيران". وكان في موقف هذه الحركة السياسيّ شيءٌ من التصلّب والتشدّد أكثر ممّا كانت عليه الجبهة الوطنيّة، وانضمّ بعض أعضاء هذه الحركة الأخيرة من الأصوليّين إلى الحركة الجديدة.

 

وقد أعلنت "حركة تحرير إيران" عن نهجها وفكرها على الصعيد السياسيّ والدينيّ، وممّا جاء في بيانها: "... أوّلًا، نحن مسلمون، ونعتقد بأنّ السياسة جزءٌ لا يتجزّأ من الدين... ثانيًا، إنّنا إيرانيّون... ثالثًا، منهجنا يسير على خُطى الدستور... رابعًا، نحن أنصار مصدّق، سائرون على نهجه وفكره...".

 

وفي هذه الأجواء والأحوال التي كانت الجبهة الوطنيّة فيها منشغلةً بالنزاع والجدل السياسيّ داخليًّا، ومتأهّبةً لاستقبال تشكيل الوزارة الجديدة من قِبَل الشاه، أصدر

 

163

 


133

الفصل الثامن: الأحزاب والكتل السياسيّة بعد الانقلاب (1953م - 1963م)

الشاه بيانًا يعلن فيه تعيين "شريف إمامي"[1] رئيسًا للوزراء، بعد أن قدّم الدكتور إقبال استقالته من رئاسة الوزراء (1956م- 1960م). وشريف إمامي هذا، الذي كان يتحلّى بتأييد المجتمع، وله مكانةً ووجاهةً على الصعيد السياسيّ، أُوكِلَت إليه مَهمّة تهدئة الأوضاع، ومسايرة الأحزاب والكتل السياسيّة، واستتباب الأمن والاستقرار، لإقامة انتخابات الدورة العشرين، ولتتوفّر الأرضيّة اللازمة لإجراء الإصلاحات المطلوبة وتنفيذها. ولهذا، أدلى بوعوده منذ البدء، بالقضاء على الحالة المتأزّمة التي لحقَت بهم، وبضمان الحرّيّة في الانتخابات، وملاحقة المخالفات وحالات خرق القوانين السابقة. ومع هذه الحرّيّة التي سنحَت، ظهر النوّاب السابقون بأجمعهم مرّة أخرى على مقاعد البرلمان، باستثناء عدد قليل منهم.


 


[1] دخل السلك الحكوميّ عام 1960م، وتنقّل في مناصب عدّة: رئيس وزراء، ووزير، ورئيس مجلس الشيوخ، و... وأحد أقطاب المحفل الماسونيّ في الشرق الأوسط.

 

164


134

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

الفصل التاسع

إصلاحات الشاه الأمريكيّة

 

خلال هذه الفترة، وقع محمّد رضا شاه في مأزق حرج، وبين دفّتَين متناقضتَين: إحداهما الضغوط الأمريكيّة لتنفيذ الإصلاحات، والأخرى خشيته من موقف آية لله البروجرديّ المعارِض لتلك الإصلاحات المذكورة. لذا، سعى بتغيير الوزارة وفتح المجال أمام الأحزاب والكتل السياسيّة، واعتمد على الوعد والوعيد لتنفيذ الإصلاحات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإداريّة، ليخفّف من ضغوط أمريكا، ومن ثمّ ليقنعهم ويرضيهم بشيءٍ ما. إلّا أنّ "كنيدي" كان مصرًّا على تنفيذ ما يريده من إصلاحات بحسب ما تقتضي مصالحهم وأهدافهم، لا بتغييرات جزئيّة وشكليّة. لذا، صمّم على تغيير الحكومة كلّيًّا، وأمر بتنصيب الدكتور عليّ أميني، بعد أن درس الموضوع وانتهى إلى النتيجة التي لا تؤدّي معنًى مقصودًا، أو مفهومًا خاصًّا يمكن أن تقدّمه الحكومة والأطراف المعنيّة. ومن جهة أخرى، وكما ذكرنا، فالشاه كان لا يستطيع أن يشرع بإصلاحاته هذه دون اطمئنانه لعدم تعرُّض آية الله البروجرديّ، فضلًا عن تأييده وموافقته.

 

آية الله البروجرديّ - الذي يتمتّع بزعامة الطائفة الشيعيّة في إيران والعالم الإسلاميّ - أبدى عدم موافقته البتّة بهذا الصدد، وعلى الرغم من أنّ الشاه قد أرسل له وفودًا للتفاوض معه، إلّا أنّه رفضهم وأجابهم بأنّ هناك إصلاحات أخرى لها حقّ الأوّليّة على هذه.

 

وقد زال هذا المانع والحاجز من أمام الشاه، وانتفى القلق الداخليّ، بعد أن انتقل آية الله البروجرديّ إلى الدار الآخرة في أيّار عام 1961م.

 

165

 


135

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

وبعد سنوح هذه الفرصة، التي لطالما كان الشاه يحلم بها، حوَّلَ مَهامّ رئاسة الوزراء إلى الدكتور عليّ أميني، المرغوب أمريكيًّا، بعد أن عجز شريف إمامي عن أداء واجبه، وانهار أمام الأزمات والمشاكل. وبوصول أميني إلى السلطة، وابتداء الحركة الإصلاحيّة، فقدَت الجبهة الوطنيّة صلاحيّتها السياسيّة والعسكريّة، وسحبوا ما بحوزتها من سلاح وذخائر ومعدّات. ولم ترَ الجبهة الوطنيّة مكانًا لها بَعدُ - بالأخصّ وقد وعَت بأنّ الأمر ليس قرارًا داخليًّا، وإنّما هناك أوامر وضغوط وترتيبات أجنبيّة مفروضة - وشرع أميني بتسخير طاقاته واستعمال حيله ليسيِّر الحركة الإصلاحيّة بأفضل ما يكون، وكان على وعيٍ كامل بأنّ ذلك سوف لن يكون إلّا بمداراة أهل العلم والعلماء، ومسايرتهم، ومراوغتهم بالهدوء والسكينة. هذا، وبعد بضعة أشهر، عزم على زيارة "قمّ" معقل العلم والعلماء والمراجع والحوزة العلميّة. وخلال زيارته هذه، التقى بجمعٍ من أهل العلم والعلماء الكبار على انفراد، وتبادل معهم وجهات النظر بشكل خاصّ وسرّيّ، بينما امتنع الإمام الخمينيّ قدس سره من اللقاء به سرًّا[1] أو بشكل خاصّ ومنفرد. وكان أحد الطلبة - حجّة الإسلام العقيقيّ - قد شارك في الجلسة المفتوحة هذه، وسجّل بعض النقاط من خلالها - وبالأخصّ امتناع الإمام قدس سره من اللقاء الخاصّ - ومن ثمّ نشَرَها في إحدى الصحف آنذاك. كان هدف الإمام قدس سره من وراء هذا، هو خشيته استغلال الدكتور عليّ أميني هذا اللقاء على هذه الصورة السرّيّة، حيث إنّه إذا تمّ اللقاء بشكل انفراديّ، فلعلّه يعلن عن اتّفاق مزيّف حول برامج ومشاريع غير إسلاميّة، مدّعيًا بأنّه شاور رجال العلم والمراجع فيها، وحظيَ بموافقتهم عليها.

 

وقد نشر الشيخ العقيقيّ مقالًا في إحدى صحف تلك الفترة عن هذا اللقاء، حيث قال: بعد تبادلهما التحيّة، شرع الإمام قدس سره بشرح المسؤوليّات الملقاة على عاتق رجال الدولة وأصحاب السماتْ، وما يتوجّب عليهم من مهامّ تجاه إخوانهم المواطنين، فخاطبه قائلًا:


 


[1] راجع: مقال الشيخ العقيقيّ، مجلّة الثقافة الإسلاميّة، العدد (43)، أيّار وحزيران 1992م، ص67.

 

166


136

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

"بما أنّكم اليوم، يا سعادة السيّد أميني، أصبحتَ رئيسًا للوزراء، وتسلّمتَ زمام الأمور، فلقد حمّلتَ نفسك مَهمّة كبيرة وصعبة. يجب عليك أن تتعامل بشكل سليم للغاية مع الشعب والجماهير، وتخطو خطوات بالغة ومؤثّرة تعود بالمنفعة على المجتمع والوطن، وتؤدّي خدمتك بأفضل ما يكون، كي تحرز رضا الله عزّ وجلّ، وتأمن عقابه، وتصبح مرتاح الضمير والوجدان. لقد شهد مسرح الأحداث في إيران رؤساء كثيرين، أمثال أمير كبير والفراهانيّ و... الذين خلّدهم التاريخ، وكلّما مرّ ذكرهم على أفواه أبناء وطننا، ذكروهم بالخير، وترحّموا عليهم، لأنّهم جعلوا أعمالهم لله، وخدموا الشعب والوطن، وقارعوا الاستعمار ودحضوه. وبالمقابل، هناك الكثيرون من الرؤساء والوزراء الذين جرَّعوا الشعب آلامًا مريرةً من العذاب، وكلّما جاء ذكرُهم، لم يُحرزوا شيئًا سوى اللعن والغضب والبغضاء. أدعوك راجيًا أن تتمسّك بالواجب الدينيّ تجاه الجماهير والأمّة، كي تُخَلَّد في الوطن، وعلى مرّ العصور، وإلى الأبد، فسوف لن يذكرك الشعب إلّا بالخير والحبّ والوفاء".

 

بعد هذا، تطرّق الإمام قدس سره إلى دور العلماء ورجال العلم في المجتمع، وعلى الأصعدة كافّة، وبالأخصّ في مجال التعليم، وبناء الأسرة، التي هي أساس المجتمع، وسبيل حلّ مشاكل الناس وهمومهم العامّة والاقتصاديّة.

 

ويضيف الشيخ العقيقيّ قائلًا: "الجدير ذكره في ذلك اللقاء، هو إعجاب الدكتور ومرافقيه واندهاشهم الكبير بما لاقوه من شجاعةٍ وفصاحةٍ وشهامةٍ عُليا من الإمام، إذ تطرّق الإمام إلى عمالة رضا خان للأجانب، وشهَّر به وبخطط الاستعمار التي أُوكِلت إليه. وعندها ردّ أميني عليه قائلًا: إنّ الواجب الملقى علينا اليوم هو واجب أهل العلم فقط، لأنّه آنذاك لم تكن هناك طبقة مثقّفة وواعية سوى العلماء فقط، وكان عليهم مقارعة الحضارة الغربيّة الزائفة والفكر الغربيّ بذلك الوقت. ولو كان ذلك، لَما كُنّا اليوم بهذا الشكل. كان عليهم التوجّه إلى مراكز البلد الثقافيّة والتعليميّة ليتصدّروها ويقضوا على النفوذ الغربيّ، لأنّ المسؤوليّة انحصرت بهم، ولم يكن في البلد رجال فكر وعلم سواهم.

 

 

167

 


137

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

فأجابه الإمام قدس سره بكامل القوة والشجاعة قائلًا:

ما استعرضتَه كان صحيحًا وحقًّا، فإنّه لم يكن سوى تلك الطبقة المفكّرة. ولكنّك تعلم جيّدًا أنّ البلاد وحكومتها كانت بيد الأجانب، وكان رجالها أُناسًا خونة وعملاء، في الوقت الذي كنّا نفتقر فيه إلى قوّة أو جبهة أو حكومة مستقلّة. ألم يكن رضا خان عميلًا للغرب؟ كيف تظنّ أنّ بإمكان رجال الحوزة التصدّي لمَهامّ ووظائف حكوميّة تتعاون وتتساعد مع أولئك الخونة العملاء؟ وكيف نتوافق مع أهداف أولئك الأجانب المعتدين؟ أوَلستَ كنتَ تحكم علينا بالعمالة والقصور لو كنّا نتعاون مع رضا خان عميل بريطانيا القذر؟ ولكُنتَ تتّهمنا كذلك بالوقوف إلى جانبه وتقوية كيانه، وتتّهمنا أيضًا بتأييد الحوزة العلميّة بأكملها له؟ في تلك الفترة التي حكمَنا فيها ديكتاتور عميل، وحكمَتنا فيها العمالة الأجنبيّة، لم نرَ بُدًّا من الابتعاد عنهم، والعدول إلى بناء بذور الكتل الشعبيّة والجماهيريّة، وزرعها. اتّخذنا ذلك من أجل تقوية وبناء كيان الثورة الشعبيّة والوطنيّة، للوصول إلى يومٍ نقف فيه أمام السلطة المعادية للشعب والوطن، لنطيح بها".

 

لقد تصاعد غضب الشعب على الحكومة نتيجة الأوضاع المتردّية والسيّئة، فلقد عمّ الفسادُ الدوائر، وضُيِّق المجال السياسيّ، وقُمِع الكثير من السياسيّين المعارضين، بالإضافة إلى تردّي الوضع الاقتصاديّ، وتصاعد الديون الخارجيّة، وهبوط الاحتياطيّ للميزانيّة. إنّ أمريكا أدركت الهدف، وأصابَت عندما رأت أنّ العوامل المحفِّزة للثورات في الدول المتأخّرة، كإيران، والتي تُدار حكوماتها بالظلم والجور والاستبداد، هي هذه العوامل نفسها، وأنّ القوّة العسكريّة ليس لها أيّ شيء بهذا المضمار. ويشير "كنيدي" إلى هذه النقطة بالذات، عندما ألقى خطابه في إحدى المؤتمرت في أمريكا في 25 أيّار عام 1960م، قائلًا: "... إنّ المعاهدات والمساعدات العسكريّة هي ليست حلًّا لبلدٍ ساده الجور والفساد والاقتصاد المدمَّر، ممّا فتح الباب للثورات والانتفاضات والغوغاء. أمريكا بمقدورها أن تعالج مشاكل الدول المتخلّفة بالطرق العسكريّة فقط. ويشمل

 

168

 


138

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

هذا الوضع حتّى الدول التي تحوّلَت أراضيها إلى ساحات معارك وحروب طاحنة. لذا، يجب أن يكون موقفنا أكبر وأوسع نطاقًا من أن نتعامل بالخيارات الأخلاقيّة والإنسانيّة، لا العسكريّة. نحن نريد بناء الآمال في هذه الدول... فإذا صمّمنا على حلّ مشاكلهم بالطرق العنيفة والعسكريّة، فإنّنا واقعون في خطأ كبير، حيث إنّه مهما بلغت المساعدات الأمريكيّة والقوى والضغوط، فإنّه ليس بالإمكان تسيير وتسخير الحكومات التي لا تستطيع أو لا تريد تنفيذ الإصلاحات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تهدف لها...".

 

هذه النقطة فيها الكفاية لوعي أمريكا ومثابرتها وجدّيّتها لتنفيذ أهدافها في بلادٍ عديدة كإيران. وعُقيب هذا، رفع أميني شعار الحركة الإصلاحيّة للدوائر وللمعسكرات وللوضع الاقتصاديّ ومحاربة الفساد والخلل، وأعلن عن تردّي الوضع الاقتصاديّ وتأزّمه وانحطاطه في البلد، ليتّخذ ذلك حجّةً ووسيلةً لاستمداد القروض الأجنبيّة، ولدعوة الشركات وأصحاب الثروات في الخارج. أمّا الشاه الذي كان يتهرّب من الإصلاحات الزراعيّة والملكيّة، حسب الظاهر، وخلافًا لباطنه، فقد استعدّ لتنفيذها، وقال مخاطبًا أصحاب الأراضي والتجار: "اعدلوا عن طريقكم، وإلّا سنواجه كبيرة". وكذلك أعرب أميني قائلًا: "بعقيدتي وبرأيي، إنّه من صالحكم، ولفائدتكم، أن تخطوا هذه الخطوات... وإذا أحجمتم عن ذلك، فسوف نتضرّر بأجمعنا، دون استثناء". وأعلن "حسن أرسنجاني" - وزير الزراعة والقائم بمَهمّة الإصلاحات الزراعيّة والأراضي المِلكيّة - قائلًا: "الهدف من وراء هذا هو نجاة أصحابها المالكين والتجّار الكبار، ونجاة ثرواتهم".

 

إنّ هذه ليست تهديدات وتحذيرات، بل وكما تؤكّده تجاربنا، إنّها الحقيقة بذاتها، وإنّها خطوة لنجاة أولئك الظلمة، وفخٌّ نصبوه للمزارعين والفلّاحين. على العموم، وبعد دعايات مكثّفة، صوَّت البرلمان يوم 10 حزيران 1961م على اللائحة الإصلاحيّة هذه، وأُظهِرَت إلى حيّز التنفيذ. أمّا الإمام قدس سره، فعلى الرغم من علمه بأنّ هذا ليس من

 

169

 


139

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

صالح المزراعين والفلّاحين، ولن يعود عليهم بالخير، بل بتجرُّع الغصص، إلّا أنّه سكت وأحجم، لئلّا يستثمر الشاه اعتراضه فيما إذا أعرب عنه.

 

عُلِمَت مكانة أميني، وازدادت هيبتُه داخل البلاد، إثر إجرائه الإصلاحات الزراعيّة، وبالأخصّ حين حارب وقمع الفساد الداخليّ. من جهة أخرى، أحرز أميني عنايةً خاصّة من أمريكا، وأصبح معتمدًا لديها، بينما زاد قلق الشاه نتيجة إعراض أميني عنه وعن إرشاداته وتهاونه. لذا، صمّم على مغادرة البلاد، متّجهًا إلى أمريكا، ليعطي المواثيق والعهود لحكومة "كنيدي"، ولإجراء الإصلاحات التي تهدف إليها أمريكا دون قيد أو شروط أو تباطؤ، مضمِّنًا مواثيقه هذه خشيتَه وقلقَه إزاء مواقف أميني.

 

عندما أحرز الأمريكيّون اطمئنانًا خاصًّا من قِبَل الشاه بهذا الشأن، صمّموا على دعمه وتأييده بجدّيّة تامّة. وقد أعلنَت صحيفة "اطّلاعات" المؤرّخة بـ 15 نيسان 1962م، إبّان رجوع الشاه إلى إيران، الآتي: "لقد اطمأنّ جلالة الشاه بأنّ أمريكا سوف تستمرّ بتقديم الدعم السياسيّ والعسكريّ له. وبالمقابل، اطمأنَّت أمريكا بأنّ سعادة الشاه سوف يؤمّن جميع مطالبها، وسينفّذ الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة على أسرع وجه، وبالصورة التي يرغبها".

 

بعد هذه المعاهدات والاتّفاقيّات بين الشاه و"كنيدي"، أحجمَت أمريكا عن استعدادها لتنفيذ طلبات أميني وآماله بدلائل عدّة، ومن ثمّ اضطرّ أميني إلى الاستقالة (18 تموز 1962م)، وسلّم الشاه زمام رئاسة الوزراء لـ "أسد الله عَلَم".

 

بعد رحيل آية الله البروجرديّ، أرسل الشاه برقيّة تعزية إلى علماء النجف ومراجعها، دون مدينة قمّ، وفسّر زعماءُ الحوزة في قمّ ذلك بأنّه إهانة لهم، وبذاتها هي خطوة أولى للقضاء والسيطرة عليهم. وما هو جدير ذكره، أنّه في الوقت الذي كان فيه أميني يتقرّب إلى بعض رجال الحوزة، ويُجري لقاءات وحوارات معهم، كان الشاه يتوعّدهم ويندّد بهم عبر رجاله.

 

170


140

الفصل التاسع: إصلاحات الشاه الأمريكيّة

وأُشِيع في قمّ أنّ الشاه يريد أن يستثمر غياب المرجعيّة في هذه المدينة، ليفتح دُور الملاهي والبارات والنوادي الليليّة. وعلى إثر ذلك، قام عددٌ من الطلّاب بترتيب بيان مفصّل وموقّع من قِبَل أكثر طلبة الحوزة، أعلنوا من خلاله عن معارضتهم ومخالفتهم لهذه الخطط، ولما تقوم به الحكومة.

 

يقول مؤلّف كتاب "تحليل ودراسة ثورة الإمام الخمينيّ": لقد أهمل بعض العلماء في قمّ هذه الخطوة، ولكنّ الإمام فقط قام باستدعاء مدير الشرطة والأمن، وسلّمه البيان المذكور، وحذّره تحذيرًا شديدًا وصارخًا. وشجّع الإمام قدس سره الطلبة المناضلين على مواصلة الكفاح، والانتباه إلى الدسائس كافّة، ثمّ قام بتحذير أحد الطلبة المغفّلين وتأنيبه، والذي كان مع الذين قَدِموا إلى البلاط وباركوا للشاه بقدوم وليده الجديد.

 

ومع أنّ الإمام قدس سره لم يطبع وينشر رسالته العمليّة[1]، إلّا أنّه كان متأهّبًا ومستعدًّا لمعارضة الحكومة والقوى المسيطرة، ولأيّة حركة قد تصدر عن الشاه وتضرّ بالدين والشعب والوطن.

 

في هذه السنة أيضًا، فُجِعَت الطائفة والأمّة بمصيبة أخرى، عندما انتقل آية الله الكاشانيّ إلى دار الخلود. وبهذه الحادثة المؤلمة، زالت العقبة الثانية من وجه السلطة والشاه، وأقام الإمام قدس سره مجلس تعزية ضخم، إجلالًا لمقام السيّد الكاشانيّ ومكانته السامية، وتصدّر المجلس بنفسه.

 

وبهذا، تسنّى لـِ"أسد الله عَلَمْ"[2] أن يشرع بتنفيذ الخطط التي رُسمت له من قبل، وتطبيقها، وسوف نتحدّث عنها في الفصول القادمة، إن شاء الله، ونسلّط الأضواء على الأساليب الاستعماريّة الجديدة ومواقف الإمام تجاهها.

 


[1]  رسالته العمليّة: مجموعة الأحكام الفقهيّة، العبادات والمعاملات.

[2] أحد كبار الإقطاعيّين في منطقة قائنات بمحافظة خراسان، رئيس وزراء، ووزير بلاط الشاه.

 

171


141

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

الفصل العاشر

الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

 

القسم الأوّل: تعديل موادّ انتخابات البرلمان ومخلّفاتها

إنّ مسألة لائحة إصلاحات موادّ الانتخابات هي نقطة الانطلاق لنشوب النزاع والمواجهة بين الإمام قدس سره ودولة "أسد الله عَلَم"، والتي توسّع نطاقها، ممّا أدّى أخيرًا إلى مواجهة بين الإمام قدس سره والشاه، حيث انفجرت انتفاضة 15 خرداد (5 حزيران)، أدّت في النهاية إلى إبعاد الإمام قدس سره من البلاد، ونفيه إلى الخارج. إذًا، فقضيّة لائحة إصلاحات الانتخابات نستطيع أن نعبّر عنها بأنّها نقطة انطلاق الحركة الإسلاميّة السياسيّة بقيادة الزعامة الدينيّة المتمثّلة بالإمام الخمينيّ قدس سره، والتي خاض بها غمار معارك عديدة، حتّى وصل بها إلى انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة. وهذا المجال بالذات، تناوله أكثر من مؤرّخ وباحث ومحقّق، وأُلِّف أكثر من كتاب حوله، ما يدعونا إلى التمسّك بالاختصار، وعدم الإطالة والتعمّق، تاركين التفصيل لحضرات السادة القرّاء، بمراجعتهم المصادر والوثائق المتعلّقة بهذا الشأن.

 

بغياب مرجعيّة آية الله البروجرديّ، تصوَّر الشاه والحكومة أنّ الحوزة العلميّة افتقرَت إلى العامل الأوّل والأساس للوقوف أمام مشاريعهم ومخطّطاتهم، وبهذا سوف يكون الأفق واسعًا ليتحرّكوا من خلاله بحرّيّة مطلقة، دون خشية أو قلق.

 

وللاطمئنان أكثر، صوَّتوا على اللائحة الإصلاحيّة للأراضي، وأخرجوها إلى حيِّز التنفيذ بسرعة فائقة، وأرادوا بذلك استمالة الحوزة لجهتهم، وفي حال نشوب الاختلاف والمعارضة، فطريق

 

173

 


142

الفصل السادس: الإمام الخمينيّ قدس سره بين أعوام 1942م و 1964م

التمسّك بالأساليب الأخرى مفتوح، كتعريفهم، وإلقاء الشبهات عليهم، وتضليل الرأي العامّ تجاههم، بأنّ مَهمّة الحوزة هي مخالفة الإصلاحات الزراعيّة، وأنّها وقفَت في صفٍّ واحد مع الإقطاعيّين، معتقدين بأنّ ذلك سيؤدّي لموافقتهم وتراجعهم، وبه ستُفتَح آفاق جديدة للخوض في برامج ومشاريع أخرى.

 

أمّا الإمام قدس سره، فهو أكبر من أن يُخدَع بخططٍ وألاعيب كهذه، فقد كان بعيد النظر، واعيًا، يرى بأنّ المسألة أكبر وأبعد من هذا، ولهذا اختار السكوت والصبر، متحسِّبًا ومتأهِّبًا لقرارات وخطوات أُخر، كي ينقضّ على خصمه في الوقت المناسب، وذلك لأنّ الخطّة الإصلاحيّة - لذلك الوقت - لم تُدرَك جميع أبعادها وثمارها العمليّة، ويرى أنّ التسرّع بهذا المجال شيءٌ خارجٌ عن الحكمة.

 

ولمّا أدرك "عَلَمْ" بأنّ خطّته تبخَّرَت وتطايرَت، عمد إلى إخراج سيناريو جديد، وهو "لائحة تعديل موادّ الانتخابات في البرلمان"، التي قدّمها للبرلمان، وصُوِّت عليها بتاريخ 8/10/1962م.

 

بموجب هذه اللائحة، تقرَّر حذف عدد من الشروط للناخبين والمنتخَبين، ومن بينها حذف كلمة "الإسلام"، وكذلك باستطاعة المنتخَب أن يؤدّي القسم بأيّ كتاب سماويّ، مضافًا إلى فسح المجال للمرأة بإدلاء الرأي والتصويت.

 

بناءً على هذا، وتحسُّبًا للمستقبل المظلم، وما قد تلاقيه الحوزة العلميّة والبلاد من خطر كبير، قام الإمام الخمينيّ قدس سره بدعوة جميع العلماء والفضلاء الكبار في الحوزة العلميّة لمداولة الأمور المهمّة، والتأهّب لمواجهة المؤامرات المستجدّة. وضمن حواره وكلامه، تطرّق بالتفصيل إلى أهداف الحكومة من وراء هذه الإجراءات والخطط، وأبدى رأيه في اتّخاذ تدابير فاعلة لمواجهة التحدّيات كلّها، وانتهى الاجتماع بالاتّفاق على ما يأتي:

1. إبلاغ الشاه برقيًّا بمعارضة الحوزة والعلماء ومخالفتهم للائحة المذكورة، مطالِبين بإلغائها على الفور.

2. إبلاغ جميع رجال العلم والعلماء في المدن كافّة بمواقف الحوزة ومعارضتها

 

174

 


143

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

لتلك الإجراءات، حتّى يتمّ إبلاغ الشعب، ومن ثمّ التأهّب للمواجهة المحتملة.

 

3. اجتماع العلماء وفضلاء الحوزة أسبوعيًّا - مرّة واحدة أو أكثر حسب اللزوم - للمشاورة والتداول في الأوضاع والأمور الهامّة، والمتعلّقة بمصير الدين والشعب والوطن، وذلك لأجل وحدة العمل والهدف.

 

وأمر الإمام قدس سره بطبع نصّ البرقيّة الموجّهة إلى الشاه، وتوزيعه، ونشره في الأوساط الاجتماعيّة. وممّا جاء في ذلك:

"لقد قلق علماء الدين والحوزة وسائر شرائح الشعب المسلم ممّا نشرَته الصحف من اتّخاذ الدولة قرارها بحذف كلمة الإسلام من شروط الناخبين والمنتخَبين. إنّ صلاح البلاد كامنٌ في حفظ الشريعة المقدّسة والدين الحنيف، ففي الدين اطمئنان النفوس، متمنّين توجيه إرشاداتكم وأوامركم للأطراف المعنيّة بحذف كلّ ما يعارض الشريعة الإلهيّة ومذهب البلاد الرسميّ، وما ترومه الأحزاب وغيرهم من رجالات الدولة ضدّها".

 

وبعد مضيّ ستّة أيّام، وصلَت البرقيّة الجوابيّة من الشاه إلى الإمام قدس سره، واتّصل هاتفيًّا بثلاثةٍ من مراجع الحوزة آنذاك، ملمِّحًا بجوابه أنّ ما صدر هو شيء طبيعيّ وغير مهمّ، وأنّه حوّل هذه المَهمّة إلى الدولة، وألمح قائلًا: بأنّ هذا هو من مقتضيات الزمن والظروف الراهنة.

 

وبعد أن أحال الشاه المهمّة إلى "أسد الله عَلَم"، قام المراجع بالاتّصال به. وأوضح الإمام قدس سره خلال برقيّته بأنّ اللائحة المذكورة "معارِضة للشريعة المقدّسة" و"ناقِضة لِما جاء في الدستور". وأكّد بأنّه يجب على الدولة احترام الإسلام ودستور البلاد، وأضاف "بأنّ علماء الدين والمسلمين سوف لن يسكتوا على أيّ تعرُّض يهدّد الشريعة الإسلاميّة".

 

تلقّى "عَلَم" برقيّات وبيانت ووسائل معارضة كثيرة من سائر العلماء ورجال العلم، ولكنّه لجأ إلى الصمت، وأهملها بالمرّة، ما أثار حفيظة العلماء والمراجع، وأبرقوا

 

175

 


144

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

تحذيرات للشاه من جديد. وتطرّق الإمام قدس سره في برقيّته الموجَّهة إلى الشاه، إلى أنّ أسد الله عَلَم نقض "الدستور"، واستهان بـ"قوانين البرلمان"، وأهمل "نصائح العلماء وإرشاداتهم"، وأضاف: "لقد ظنّ "عَلَم" أنّ القسم واليمين بالكتب السماويّة سوف يُخرج القرآن الكريم عن إطاره الرسميّ..." وأنّ الشاه سوف "يعظِّم ويبجِّل كلّ من يُهين القوانين الإسلاميّة، هادفًا إرضاء الشاه، طمعًا بالمصالح الشخصيّة". وختم برقيّته بقوله:

"آملين بإصدار أوامركم اللازمة كي يتقيّد "عَلَم" باحترام قوانين الإسلام والدستور، وأن يقدّم اعتذاره عن اعتدائه وجسارته على حرمة القرآن المقدّس".

 

وإنّ الموقف الذي اتّخذه عَلَم تجاه برقيّات الإمام قدس سره والمراجع في النجف وقمّ، حفَّز الإمام قدس سره إلى تكرار العمليّة، ولكن بلهجة أشدّ، وبتحذير أكبر. وابتدأ برقيَّته قائلًا:

"الظاهر أنّكم عزمتم على عدم الاهتمام والالتزام بنصائح رجال العلم والعلماء الأفاضل وإرشاداتهم، والذين هم عماد الأمّة، وملاذ الجماهير، والناصحين المشفِقين، وتظّنون بأنّكم تستطيعون الوقوف أمام القرآن والدستور ومشاعر الجماهير المسلمة..."، وحذّره قائلًا: "... إذا كنتم مصمِّمين على هجر القرآن وإهانته، وعازمين على إحياء التراث الجاهليّ، فإنّكم واقعون في خطأ كبير، وغارقون بحلمٍ لا يراه إلّا الخائبون". كذلك أكّد عليه "ضرورة التمسّك بأوامر الله -سبحانه وتعالى-، والالتزام بقوانين الدستور"، وحذَّره من "تبعات التهاون بتعاليم القرآن وإهانتها، وإرشادات علماء الإسلام، ومخالفة القوانين"، وأن يتجنّب كلّ ما يهدّد البلاد من خطر، وإلّا "فعلماء الإسلام والمراجع سوف يتّخذون الإجراءات اللازمة" (6/11/م1962).

 

وفي هذه التحذيرات جميعها، أكّد "عَلَم" خلال إحدى خطبه، بأنّه سوف يقمع أيّ تحرّك معارِض، فوصَف العلماء والفضلاء بالرجعيّين بدل أن يُقدِّم لهم اعتذاره، وقال: "إنّ الزمن لا يرجع إلى الوراء مطلقًا، والدولة مصمِّمة على تنفيذ الإصلاحات بأيّ

 

176

 


145

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

ظرف كان". وعلى هذا، انتفض الشعب وكافّة القطاعات العاملة في طهران، لمساندة العلماء ورجال العلم، وراح الخطباء والوعّاظ يصعِّدون مهاجماتهم ومعارضتهم للنظام الحاكم، وسعَت الدولة إلى إجراء الإصلاحات وتوزيع الأراضي، عسى أن تقضي على هذه المعارضة التي وصفوها بالغوغائيّة، إلّا أنّ محاولاتهم باءت بالفشل.

 

وبعد توتّرٍ دام ستّة أشهر، أرسل "عَلَم" في 13/11/1962م، برقيّةً جوابيّةً إلى ثلاثةٍ من مراجع قمّ، دون الإمام قدس سره، يُظهِر فيها مواقفته لتلبية طلباتهم. وأشار إلى هذا أيضًا أثناء لقاء صحفيّ له، متزامنًا مع برقيّته هذه، يقصد من وراء ذلك الاستهانة بالإمام قدس سره، ومن ثمّ عزله جانبًا، بينما أدركت الجماهير بأنّ الحكومة تخاف الإمام قدس سره وتخشاه أكثر، ولهذا ازدادَت شعبيّته، وكثر التفاف الجماهير حوله.

 

وخُدِع بعض الرجال بهذه البرقيّات، وتصوّروا بأنّ المسألة انتهَت بتقديم "عَلَم" اعتذاره لهم، لكنّ الإمام قدس سره الذي انتبه إلى المؤامرة جيّدًا، أعلن بأنّ اللائحة المذكورة لم تسقط ببضع برقيّات سرّيّة، بل يتوجّب على "عَلَم" أن يُعلن بشكل رسميّ في الصحف عن ذلك.

 

وتزامنًا مع هذا الموقف، قامَت مختلف القطاعات في سوق طهران باستفسارات من الإمام قدس سره حول لقاء "أسد الله عَلَم"، مستوضِحين ردود فعل الإمام قدس سره الإيجابيّة والسلبيّة، فأجاب الإمام قدس سره ببيان علنيّ جاء فيه:

"بعقيدتي، أنّ لقاء رئيس الوزراء هذا ليس له أيّ اعتبار قانونيّ، وإنّني لم أحصل على مواثيق وعهود وضمانات... وذلك لأنّ المصوَّت عليه من قِبَل الوزراء كافّة لا يمكن نفيه بسحبة قلم من رئيس الوزراء، وأنَّ ذلك يتمتّع بقوّة وفاعليّة... وإن لم تُعَدْ دراسته من جديد من قِبَل الوزراء كافّة، فإنّ القانونَ قانونٌ، وسيادته مفروضة...".

 

بعد هذه الحوادث والوقائع، أعلن الإمام قدس سره، ولأوّل مرّة في تاريخ إيران، خطر مداهمة الصهيونيّة وتأثيرها على الوضع السياسيّ والاقتصاديّ للبلاد، فقال:

"انطلاقًا من المسؤوليّة الشرعيّة الملقاة على عاتقي، أُحذّر الأمّة الإسلاميّة والإيرانيّة

 

 

177


146

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

من خطر الصهيونيّة على البلاد! وأُعلن بأنّ القرآن والإسلام مُهدَّد بالخطر! إنّ استقلال البلاد واقتصادها متعرّضان لسيطرة الصهاينة، الذين ظهروا في البلاد باسم البهائيّة. وبالتراجع والسكوت، سوف لن تمضي فترة إلّا ونرى اقتصاد البلاد الذي يملكه الشعب، بأيدي هؤلاء، وسوف ينزعون جميع ما يملكه الشعب، ويصبح صفر اليدَين في المجالات جميعها... إنّ الأمّة الإسلاميّة سوف لن يهدأ لها بال، إلّا باجتثاث جذور هذه المخاطر، وإنّ من يسكت على حقوقه، ويصمت ويتراجع عنها، فهو مسؤولٌ أمام الله، وهو زائلٌ لا محالة، إذ سوف لن يُبقي عليه الزمن، ولن يبقى له أيُّ أثر...".

 

إنّ تحرّكات الإمام قدس سره هذه ليست معارضة لبعض القوانين واللوائح والمصوِّبات... إلخ، بل إنّ المتتبِّع والمراقب لكلمات الإمام وخطبه وتحرّكاته، يدرك بأنّه قدس سره كان قد بدأ شوطًا كبيرًا من الجهاد والنضال ضدّ النظام بأجمعه وضدّ أسياده، وأنّه بجهوده ونشاطاته هذه، يدرّب ويهيّئ الأمّة لمواجهةٍ كبيرة وعنيفة. وقد أثمرَت جهودُه الأوّليّة هذه، وكان من ثمارها مساندة رجال العلم والعلماء له، والتفاف الجماهير حوله، وقام إثرها بدعوةٍ عامّة، وبالأخصّ لعلماء العاصمة ورجالها، إلى اجتماعٍ عَقَدَهُ في أحد المساجد، لحلّ الأزمة القائمة مع النظام نهائيًّا. واضطرَّت الحكومة قبل يومٍ من الاجتماع - أي في 28/11/1962 - أن تعلن رسميًّا إلغاءها لائحة تعديل موادّ الانتخابات، وإبلاغ ذلك مراجعَ الحوزة، باستثناء الإمام قدس سره.

 

أمّا الإمام قدس سره، فقد أعلن مرّة أخرى عن عدم الاكتفاء بهذا، وطالب الحكومة بإعلان ذلك رسميًّا في الصحف. وفي يوم 30/11/1962م، وفدت عليه جماعات وكتل شعبيّة من طهران، وأثناء خطابه، قال مهدِّدًا:

"مع أنّ مضمون البرقيّة التي أُرسِلَت إلى السادة العلماء في الحوزة يؤيّد شيئًا ما صحّة القرار، لكن إن لم تعلن الحكومة عن ذلك رسميًّا وعلنًا في الصحف الرسميّة، فسوف لن يكون بمقدورنا التراجع عن قرارنا، وإن أحجمَت الحكومة عن طلبنا هذا، فإنّنا سوف نعتبر البرقيّة شيئًا لم يكن مذكورًا، وسوف نواجهها بالمعارضة والكفاح".

 

178

 


147

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

وأخيرًا، رضخ "عَلَم" لأوامر الحوزة، وأعلن الإمام قدس سره - في لقائه الصحفيّ يوم السبت 1/12/1962م - عن إلغاء اللائحة، ووصَفَها بأنّها غير قابلة للتنفيذ.

 

وباختتام هذه الجولة، نشر الإمام قدس سره بيانًا يُظهر فيه امتنانه وشكره لجهاد الأمّة ووقوفها جنبًا إلى جنب مع علمائها ومراجعها، وأشاد بمواقفها البطوليّة، وممّا جاء فيه:

"... إنّ مواقفكم هذه كانت درسًا وعبرةً للأجانب. إنّني أُلفت أنظار إخوتي المسلمين إلى الحذر والانتباه أكثر ممّا مضى، أرجو منكم وعي الحوادث والوضع المتغيّر، وأن تنتبهوا لمصالح الإسلام، لئلّا تقع فريسةً بأيدٍ قذرة تُسيء إلى الدين ومقدّساته...".

 

وفي يوم الاثنين 2/1/1963م، استأنفَت الحوزة العلميّة دروسها، بعد وقفةٍ دامَت شهرَين. وبهذه المناسبة، ألقى الإمام قدس سره خطابًا تاريخيًّا مُهمًّا حول الحوادث الأخيرة وما نتج عنها.

 

وممّا أشار إليه أثناء خطابه هذا، هو موقف الإمام عليّ وسائر الأئمّة عليهم السلام مِن حكّام الجور والطغيان، وتطرّق إلى ماهيّة حكومة الإمام عليّ  عليه السلام، وتطرّق إلى مواقف علماء العصر إزاء الحكومات الظالمة والاستعمار، الذين تمثّلوا بدورهم مواقف الأئمّة عليهم السلام. وممّا يتعلّق بالحوادث الأخيرة، أشار قائلًا:

"فليأتوا ولينظروا كم وَفَد إلينا من وفود، وكم وصلَنا من برقيّات، وليروا ما قالوا وما كتبوا. زارتنا شخصيّات عديدة تطلب منّا أن نتمسّك بالجانب الدينيّ والروحيّ، ولنرَ ما سيحدث مستقبلًا. لو كانت كلمةً واحدةً مدوِّيةً تصدر منّا، لشهدوا انفجارًا ليس له مثيل. مَن الذي سيطر على هذا وسخّره؟ إلى متى تبقون عديمي الإحساس؟ لماذا تُصرَف تلك الجهود للقضاء على هذه القوّة العظيمة؟ لماذا يعمدون إلى قمع هذه القوّة التي هي عماد استقلال الوطن وحرّيّته؟... لماذا بموت عالِمٍ، يتعزّى عالَمٌ بأكمله، بينما بسقوط دولةٍ، يطير الناس فرحًا؟".

 

ثمّ يشير إلى خطط الاستعمار ومشاريعه، التي تعنونَت بالحرّيّة الاجتماعيّة،

 

179

 


148

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

فينتقدها قائلًا:

"لماذا يُلقون بحبل الصحف على غاربه، ويدَعونها تنال من العلماء والمراجع ومقدّسات الإسلام؟ لماذا يطلقون كامل الحرّيّة لاحتفال (17 دي)[1]؟ إنّ هذا مدعاة لنفور الشعب من حكومته، وعامل محفّز لسوء ظنّ الشعب برجالاته وكباره الذين هم على رأس السلطة. فلا تجعلوا الجماهير تبتعد عنكم بسمومكم هذه، وكُفُّوا عن هذه الاحتفالات، وأزيحوها عن طريق الشعب، فإنّ رقيّ البلد وتقدّمه ليس كامنًا في احتفالٍ كهذا، وإنّما ذلك كامنٌ بمعاهد العلم والجامعات ومراكز الفضيلة...".

 

ثمّ يتطرّق بخطابه إلى ظاهرة الاستعمار والعمالة للأجانب وخيانة الأمّة والوطن، وبالأخصّ في المجالات العلميّة والتقنيّة والاقتصاديّة، ويؤكّد قولَه: بأنّ خلاف الحكومة مع العلماء والحوزة هو خلاف من أجل الاستقلال والحرّيّة، والعلم والفضيلة، وما يتطلّبه العصر، ذلك ما تريده الحوزة والعلماء، أمّا تريده الحكومة، فهو ادّعاء ورسم خطط مدمّرة تهدف إلى الإطاحة بالإسلام والدين، وقال:

"هل كان العلماء ورجال العلم يومًا ما يخالفون التحضّر والتقدّم العلميّ؟ ففي أيّ مجال من هذا القبيل قاموا بالمخالفة؟ هل أردتم بناء مدارس ومعاهد وخالفكم العلماء؟ هل أردتم استيراد معمل مفيد وعارضوكم؟ أين معمل صهر الحديد الذي طبَّلتم له؟ هل عزمتم على اختراع مركبة فضائيّة تحلّقون بها في الفضاء لدراسة الأجرام السماويّة، ومنعكم علماء الدين من ذلك؟ نحن نطالب بعدم جرِّ النساء إلى ساحات الفساد والفحشاء، صيانةً لهنّ من الانحراف. إنّ العشرين وبضع سنين انقضت من السفور ومنع الحجاب، فبماذا عادت علينا وعلى رجالنا وبلادنا؟... انصرفوا عن هذه الألاعيب، ودعونا منها، وارفعوا أيديكم عن القرآن والدين الإلهيّ، ولا تعتدوا على دستور البلاد باسم الرقيّ والتحضّر والتمدّن الكاذب".


 


[1] كانون الثاني، اليوم المشؤوم في تاريخ إيران، حيث تمّ إعلان السفور رسميًّا من قِبل رضا خان، وكانت تُقام الاحتفالات في جميع أنحاء إيران ابتهاجًا بهذا العمل من قِبل النظام البائد.

 

180


149

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

إنّ ما يؤكّد عليه الإمام قدس سره خلال خطابه هذا - وكما مرّ سابقًا حول الالتزام بالدستور - لم يكن إلّا فرصةً كان ينتهزها ويسخّرها لصالح الحركة والمسيرة الإسلاميّة، لا لأهداف أخرى. فبذلك الوقت، حيث الوضع المتأزّم، كانت الكثير من الأحزاب والكتل السياسيّة تطالب بالالتزام بالدستور، حتّى وإنّ النظام نفسه كان كثيرًا ما يؤكّد على الالتزام بدستور البلاد واحترامه. ومن هنا، تأكيد الإمام قدس سره لهذا، كي يجعله جسرًا يعبر من خلاله إلى أهدافه الخاصّة. ولا ننسَ بأنّ تأكيده هذا لحاجة في نفس يعقوب، ليس إلّا، فلا ينسَ قارئنا الكريم أنّ ما تطرّقنا إليه سالفًا بالنسبة لمتمّمات الدستور، وبالأخصّ البند الثاني منه، والذي يؤكّد على مرقابة خمسة من العلماء المجتهدين لِما يُسَنّ من القوانين والدساتير، خشية تعارضها مع أحكام الدين والقرآن المجيد. وقد تعرّض الإمام لهذه النقطة بالذات في خطابه هذا نفسه، حيث قال:

"إنّ ما نؤكّد عليه باسم الدستور، هو ليس بالضرورة معبّرًا عن تأييدنا القاطع له، إنّما نؤكّد على ذلك من باب "ألزموهم بما ألزموا أنفسَهم به". إذا كان علماء الدين يتكلّمون عن الدستور، فإنّهم يخصّون بندَه الثاني من الملحق، لئلّا يخالف شيئًا من القرآن والشريعة، وإلّا "فما لنا والقانون"؟ نحن مع القرآن، مع الإسلام، مع السيرة النبويّة، ومع أحاديث أئمّتنا عليهم السلام. كلّ ما يصدر مسايرًا ومتماشيًا مع الإسلام، نحن ننفِّذه ونتقبّله ونُظهر تواضعنا واحترامنا له، وكلّ ما خالف الدين والقرآن، نحن نخالفه ونعارضه، ولو كان قانونًا أو دستورًا للبلاد، بل حتّى وإن كان اتّفاقًا دوليًّا أو عالميًّا.

 

هذه حقائق يجب أن تُطرح، وتحذيرات يجب أن تُقال، ولكن، يا للأسف! أين الآذان الصاغية؟ وإذا كان ذلك، فأين العلاج الشافي الذي لا يلتئم الجرح إلّا به؟".

 

وإنّ ما يلفت النظر في خطاب الإمام قدس سره هذا، أنّه كان يخاطب مخاطَبيه بالاحترام والوقار، وإلى جانب انتقاداته السياسيّة الشديدة، فقد كان يدعوهم إلى تزكية النفس وتهذيب الأخلاق. ولعلّ هذا مثيرٌ للاستفسار والتساؤل مِن قِبَل الذين ليست لهم معرفة تامّة بسجايا الإمام قدس سره وفضائله وأخلاقه، حول علاقة هذا الأسلوب بالهدف

 

181

 


150

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

الذي يرنو إليه قدس سره، وبالأخصّ عندما نلاحظ بأنّ الخطاب يُلقَى على قطاعٍ خاصّ من الأمّة، أي العلماء وطلبة العلم والفضيلة. باعتقادي، رأيي الشخصيّ أنا - المؤلّف - أنّ الإمام قدس سره أراد بذلك تنبيه العلماء ورجال العلم المناضِلين بأنّ جهادنا ليس "جهادًا سياسيًّا صرفًا"، وهو ليس جهادًا ونضالًا لأجل "بسط السلطة والنفوذ"، ولم يكن له كذلك "هدفٌ اجتماعيٌّ متعالٍ صرفًا"، إنّما أراد بذلك أن يعطيهم الطابع الدينيّ والأخلاقيّ، ليُبعدهم عن استعمال الكلام البذيء الذي لا يليق بالعلماء وبمكانتهم، بل يتنافى مع تعاليم الإسلام.

 

"يجب عليكم أن تهذّبوا أخلاقكم وتزكّوا أنفسكم، يجب أن تعتدلوا وتعدلوا، وإنّ التعرّض للوزراء والرؤساء بالسبّ والشتم ليس حلًّا لمشكلة الأمّة، وإنّكم أكبر من أن تكونوا سبّابين ومتهتِّكين، وذلك لا يناسب وقاركم ومكانتكم...".

 

كانت نظرة الإمام قدس سره هي نظرة إلى الجهاد والنضال لهدف ما وراء المادّيّات وما وراء الطبيعة، ذلك هدف إلهيّ، وتكليف دينيّ، لا علاقة به بالانتصار والهزيمة في عالَمنا هذا، إنّما نحن سائرون وفق أوامر الله -سبحانه وتعالى-...

"... كلّ ما يحدث ليس خارجًا عن حالَتَين اثنتَين: إمّا النصر، وإمّا الهزيمة. وإذا انهزمتم، فذلك ليس محفِّزًا لهزيمة العزم والثبات، أو التراجع. الهزيمة الظاهريّة ليست مهمّة... الهزيمة هي لشخصٍ علّق آماله وأهدافه داخل حدود هذه الدنيا التي وعَت قلبَه وهيمنَت عليه، الهزيمة صفةٌ لأناسٍ اعتمدوا على الشياطين، وأساؤوا الظنّ بالحياة الآخرة، وإنّ من يتّكل على الله، وينظر إلى خارج هذا العالَم المادّيّ المحدود، فسوف لن يعرف أيّ معنى للهزيمة".

 

ثمّ يضيف الإمام قدس سره قائلًا:

"منذ اليوم، نباشر مَهامَّنا، ونعود إلى مواقعنا... نستأنف الدراسة والبحث وطلب العلم، الذي هو أكبر العبادات... وإذا داهمَنا العدوّ تارةً أخرى من الخارج، فنحن متأهِّبون لصدّه وردعه، والأمّة هي هي، والدولة كما هي".

 

182


151

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

إنّ قضيّة لائحة الإصلاحات، وتعديل موادّ الانتخابات البرلمانيّة، كان لها بُعدان:

1. فمن جهة، كانت مقدِّمة لاستئناف مشاريع وخطط كبيرة مكمِّلة ومتمِّمة للإصلاحات الأمريكيّة.

2. ومن جهة أخرى، كانت لعبةَ استفتاءٍ وبلورة، لفرز المعارِضين والمؤيِّدين والمحايِدين، مضافًا إلى دراسة ردود فعل الرأي العامّ.

 

القسم الثاني: استفتاء الثورة البيضاء وثورة الإمام قدس سره عليها

ثمّة لائحة واجهت ردًّا عنيفًا وشديدًا من الإمام قدس سره وعددٍ كبير من العلماء ورجال العلم المناضلين، وبدا للشاه أنّ هذه المعارضة هي نتيجة تبنِّي "أسد الله عَلَم" تنفيذَها وإجراءاتها، لأنّه الرجل الثاني للبلاد، وأنّه لو يتبنّاها بنفسه، فسوف تخمد المعارضات والمخالفات جميعها، وتبلغ جميع الآمال أهدافها المنشودة. إنّ الهاجس الأوّل الذي دفع بالشاه إلى تحمّل هذه المسؤوليّة - وكما ذكرنا سابقًا - هو تعهّده لأسياده الأمريكان بإجراء الإصلاحات، وذلك منذ أن استسلم لهم بعد تنحّي الدكتور أميني عن السلطة. لذا، كان مفروضًا على الشاه تنفيذ هذه الخطّة لا محالة. ومن هنا، وبتاريخ 9/1/1963م - أي بمناسبة ذكرى ما سُمِّي بالإصلاح الزراعيّ- كان ينوي طرح مبادئه الستّة، التي أسماها بـ"الثورة البيضاء"، للاستفتاء العامّ، وهي في الواقع "ثورة فوق"، اعتادت أمريكا أن تُمليها على زعماء بلدان العالَم الثالث، لتُنَفَّذ في هذه البلدان، وقد تمَّ بالفعل إعداد مسودَّة هذه الثورة.

 

وما إن اطّلع الإمام قدس سره على الأمر، حتّى بادر فورًا إلى دعوة العلماء والمراجع إلى الاجتماع في قمّ، حيث تقرّر في الاجتماع مطالبةُ الشاه توضيحَ شأنِ أبعادِ خطوته المزعومة وجوانبها، وقد تمّ بالفعل إرسال آية الله "كمال وند" إلى الشاه، ليستجلي حقيقة الأمر منه مباشرة. وبدل أن يجيب بشكل واضح وصريح على أسئلة العلماء، ركَّز على الأهمّيّة السياسيّة لهذه الخطوة، مع استخدامه لأسلوب التهديد والوعيد،

 

 

183


152

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

وإعطائه وعودًا كاذبة بتحسين وضع العلماء وتلبية مطالبهم، وقال مقسمًا: "لو أطبقَت السماء على الأرض، أو رُفِعَت هذه إلى تلك، لَما تخلَّيتُ عمّا هو ملقى على عاتقي. ولو فعلتُ ذلك، فلسوف أُعزَل من مكاني هذا، وسيُولُّون عليكم أشرارًا من بعدي، لا يعتقدون ولا يؤمنون قيد أنملةٍ بكم، بل وسيهدمون مساجدكم ويفنونكم ويزيلونكم من الوجود"، ثمّ يضيف: "فيما إذا كفّ المراجع عن معارضتهم لمخطّطنا الإصلاحيّ، فأنا على عهدٍ معهم بأن أُلبِّي أيَّ طلب يتقدّمون به إلينا".

 

ثمّ يتطرّق بعد ذلك إلى موقف العلماء في إيران، من رجال النظام والبلاط، وأنّهم ليسوا كغيرهم من علماء البلدان الإسلاميّة الذين يؤيّدون السلاطين والملوك، فأجابه آية الله "كمال وند" مقاطِعًا: "يجب أن تعيَ الفرق، بأنّ علماء الشيعة ومراجعهم، على طول تاريخهم الذي يمتدّ لأكثر من ألف عام، لم يكونوا أبدًا موظّفين في الحكومات، ولن يكونوا كذلك مستقبلًا، وعليك أن تفرّق في تصوّرك بين هاتَين المجموعتَين من العلماء".

 

بعد رجوع آية الله "كمال وند" إلى قمّ، اجتمع العلماء ثانيةً حتّى يدرسوا ردود الشاه بشأن هذه القضيّة، وقد أدرك الإمامُ أنّ المؤامرة محاكةٌ من قِبَل أمريكا، وهي إن نُفِّذت، فإنّها ستُحقّق مصالح أمريكا على حساب المصالح الوطنيّة، لذلك فقد حدَّد موقفه الصريح تجاه مخطّط الشاه قائلًا:

"عليكم، أيّها السادة، أن تنتبهوا... إنّ ما يُحاك لبلدنا من مخطّطات يُنبّئ عن مستقبل أسود، ما يزيد من مسؤوليّاتنا ويجعلها صعبة للغاية. وإنَّ الأحداث التي تجري اليوم تهدّد أساس الإسلام، وتُعرّضه للخطر الكبير والدمار الشامل، حيث إنّ المؤامرة محاكة بدقّة ضدّ الإسلام والشعب المسلم واستقلال إيران.

 

ولو أنّنا تمكّنّا من أن نبثّ الوعي في نفوس الناس، ونوقظهم من سباتهم، ليقفوا بوجه هذه المؤامرات وباقي مخطّطات الشاه، ولا ندع مجالًا لممارسة الاستعمار أساليب الخداع بألاعيبه المريبة، فإنّنا سنتمكّن من هزيمته ودحره، ونحول دون تنفيذ

 

184

 


153

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

مخطَّطه الخبيث. نحن إذا استطعنا أن نوقظ الأمّة من غفلتها، ونوجّهها إلى وعي مؤامرات الشاه وما يُحيكه لها، فإنّنا سوف ننتصر عليه بالتأكيد لا محالة، بإذن الله".

 

وفي جوابٍ للإمام قدس سره على رأي بعض العلماء الذين رأوا أنّه ليس من صالح الأمّة أن يواجَه الشاه مباشرة بسبب امتلاكه للقوّة العسكريّة الضخمة، قال:

"إنّنا لا نريد أن نخوض حربًا بالمدفع والدبّابة، حتّى لا يقول أحدٌ عنّا: لا يمكنكم فعل شيء تجاه الشاه، بل إنّ أكبر عمل نريد أن نقوم به، وأهمّه، هو توعية الناس وإرشادهم، وآنذاك سيعرف الجميع ما نملكه من قوّة عظيمة، لن تزول أبدًا، ولا يمكن حتّى للمدفع والدبّابة أن ينافسها. وفي الوقت ذاته، فإنّ أمامنا طريقًا صعبًا وخطيرًا، وإنّ مَن يَعتبر المواجهةَ من واجباته، عليه أن يدرس جوانب القضيّة بدقّة، ويستعدّ لعواقب الأمور، ويُحدّد مدى قدرته على الصمود والاستقامة في مواجهة المصائب والنوائب التي تتمركز في هذا الطريق الشائك".

 

في 22/1/1963م، أصدر الإمام قدس سره بيانًا حرَّم فيه المشاركة في "الاستفتاء العامّ"، أو كما سمّاه الشاه: "المصادقة الوطنيّة"، وأطلق سماحتُه عليه اسم "الاستفتاء الإجباريّ".

 

وعلى إثر هذا، تعطّلَت الأسواق في طهران، وخرجَت الجماهير متظاهرةً رافعةً شعار المعارضة على الاستفتاء المزعوم، وانتقلَت الانتفاضة إلى داخل الجامعات، وخرج الشباب الجامعيّ بمسيرات معارضة، بيد أنّ الشرطة واجهتهم بالسلاح، فسقط منهم القتلى والجرحى. وكان الشاه قد أعلن من قبل بأنّه سوف يقصد مدينة قمّ لإجراء حوارات مناقشات مع علماء الدين والمراجع، بما فيهم الإمام قدس سره، ليضمن عدم معارضتهم ومخالفتهم للاستفتاء الذي سيجري بعد ذلك.

 

وقام محافِظ قمّ بالضغط والتهديد غير المباشر على العلماء والمراجع، وذلك لإقناعهم باستقبال الشاه عندما يفد إلى قمّ، لكن سرعان ما تدخّل الإمام قدس سره وحال دون ذلك، وفورًا أصدر بيانًا يُوصي به الجماهير والأمّة لزومَ المنازل وعدم التجوّل. ودخل الشاه قمّ يوم 14/1/1963م، والمدينة خالية من الناس، عدا رجال الشرطة والأمن، والموكب

 

185

 


154

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

العسكريّ الذي تصدّره. وهذا ممّا زاد في عداء الشاه له، وتصاعد غضبه، إذ وصف المراجع في خطابه بأنّهم "الرجعيّة السوداء المظلمة"، وأنّهم "أردأ من حزب توده الشيوعيّ بمئة مرّة" وأنّهم "ضدّ الإصلاح"... وقد بالغ بتعريتهم وشتمهم وإهانتهم.

 

وفي يوم 26/1/1963، أُجرِيَ الاستفتاء، علمًا بأنّ الجماهير لم تشارك به في معظم المدن والولايات. وأعلنَت الصحف، دون أيّ حياء، وبصفاقة، بأنّ اللائحة صوَّتَ عليها خمسة ملايين وستّمئة ألف ناخب، وخالفَها أربعة آلاف ومئة وخمسون ناخبًا! بعد إعلان النتائج وفرز الأصوات، مباشرةً أزجى "كنيدي" تبريكاته وتهانيه للشاه، وصرّح قائلًا: "إنّ الطريق الذي سلكه الشاه - أي الإصلاحات الأمريكيّة - سوف يلاقي دعمًا ومساندة أمريكيّة"، وقابله الشاه بجوابٍ أشار فيه إلى موقف الشعب ومشاركته في الاستفتاء، قائلًا: "إنّني على ثقة تامّة بحسن نوايا رفاقنا الأمريكان نحو تنفيذ مشاريعنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة... إلخ".

 

وتطرّقَت صحيفة نيويورك تايمز إلى هذا الموضوع، مشيرةً إلى "أنّ إيران حظيَت بموقع ممتاز تستطيع من خلاله كسب دعم أمريكا ومساعداتها". هذا وأعلنَت صحفٌ أخرى عن رأيها ودعمها للحركة الإصلاحيّة في إيران.

 

ولم تكن الصحف الروسيّة بعيدة عن هذه الأجواء، فأعربَت عن تأييدها للثورة البيضاء، ووصفَتها بأنّها حركة ضدّ الإقطاعيّين، ومَن خالفها فهو إقطاعيّ لا محالة، إذ أنّه فَقَدَ مصالحه الشخصيّة، وراح يحارب الشاه من أجلها.

 

بعد يومَين من الاستفتاء - أي يوم 28/1/1963م، الذي صادف اليوم الأوّل من شهر رمضان - دعا الإمام قدس سره عددًا من كبار الحوزة والمراجع للاجتماع، واقترح بأن تُعَطَّل النشاطات الدينيّة جميعها في هذا الشهر، وبكافّة المساجد في إيران، كعدم إقامة صلاة الجماعة وإلقاء الخطب والوعظ والإرشاد الدينيّ. وعلى إثر هذا، أصبح الشعب أكثر وعيًا عندما رأى هذه المبادرات والتصرّفات من العلماء، وأخذَت نظرة العلماء ورجال العلم للشاه تسترعي انتباه العامّة والشعب أكثر فأكثر.

 

186

 


155

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

وفي عيد الفطر، وفد إلى قمّ حشودٌ من أهالي طهران لزيارة الإمام قدس سره، حيث ارتجل قدس سره خطابًا أفصح فيه عن ماهيّة "الاستفتاء المزيّف"، وأشاد بمواقف الشعب عندما أعرض عن المشاركة بالاستفتاء وأحجم عنها، وعبّر عن موقفهم هذا بأنّه انتصار كبير لنا، وهزيمة كبرى للشاه. وأكّد قائلًا: "إنّ النظام الحاكم لن يستطيع أن يحجب الحقائق بإيداع العلماء والفقهاء والوعّاظ السجونَ والزنزانات". وبتاريخ 31 آذار1963م، هاجم الشاه مراجع الدين والعلماء أثناء خطابه، وراح ينال منهم علنًا، بعبارات دميمة وقبيحة، وهدّد المناضلين والمجاهدين، متوعِّدًا بتصفية حساباته معهم، وملوِّحًا باتّخاذ تدابير قمعيّة جديدة.

 

بينما ازداد الإمام قدس سره حماسة وقوّة، وأعرب عن موقفه الصارم، وذلك لإيقاظ الأمّة وإطلاعها على ما ينفّذه الشاه من مؤامرات ودسائس، ووزّع بيانًا بذلك اليوم، طالبَ فيه الشعبَ بالحداد العامّ في أعياد رأس السنة الإيرانيّة (21 آذار). من هنا، كان مدى قوّة ردود الفعل واضحًا إزاء تحرّكٍ خطيرٍ كهذا التحرّك ضدّ النظام الحاكم.

 

مذبحة المدرسة الفيضيّة وموقف الإمام قدس سره

عندما ازداد غضب الشاه وحقده على الإمام قدس سره ومواقفه الصارمة، عزم على مواجهة الحوزة ومداهمتها بقسوة وشدّة، لإلقاء الرعب والهلع في قلوبهم، والعمل على إخضاعها وإذلالها، لتلتزم الصمت. بمناسبة مرور ذكرى شهادة الإمام جعفر الصادق  عليه السلام، والتي صادفت في حينها بتاريخ 22 آذار 1963م، أُقيمت مجالس تأبينيّة كثيرة في قمّ، ومن جملتها مجلس الإمام الخمينيّ قدس سره في داره، الذي شهد زخمًا هائلًا من المشاركين والمؤبّنين. وفي اليوم ذاته، طرق المدينة شرٌّ عظيم، فدخلَت حافلات عدّة قادمة من طهران، تُقِلُّ أناسًا عاديّين حسب الظاهر، توجّهوا مباشرةً إلى منزل الإمام قدس سره، وتغلغلوا بين الجماهير المحتشدة في المجلس، وراحوا يُثيرون البلبلة والضوضاء عند خطاب الإمام قدس سره، للقضاء على هيبة المجلس والهيمنة عليه. وعندما لاحظ الإمام قدس سره هذه الظاهرة من بعيد، أعلن - عبر أحد الطلبة - بأنّ كلّ من يسعى

 

187

 


156

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

لخلق البلبلة والفوضى، سوف يضطرّني إلى أن أنقل هذا المجلس إلى الحرم الشريف، وأعلن عن أشياء وأسرارٍ يتلهّف الشعب لسماعها، فالويل كلّ الويل لكم حينها! بعد هذا، هدأ المجلس وانتهى بسلام، ولكن حضر أولئك الأشخاص ثانيةً عصر ذلك اليوم في مجلس الفيضيّة، وتمكّنوا من قلب المجلس رأسًا على عقب، فبرزَت المشاحنات والاختلافات، وإذا بالمجلس يتحوّل إلى ساحة معركة بين رجال العلم والطلبة، وأولئك المدسوسين. وتدخّلَت القوّات الخاصّة، وحمِيَ الوطيس، وقد رأى الطلبة أن لا خيار لهم إلّا أن يقابلوا تلك القوّات بالحجارة والحصى، في حين أنّ قوّات الشاه الخاصّة كانت قد طوّقَت المدرسة بأكملها، وفتحت النيران على الجماهير والطلبة، وهتكوا حرمة الحرم.

 

فسقط العشرات من الطلبة قتلى، وسقط المئات منهم جرحى مضرّجين بالدماء. واستمرّ هذا الهجوم حتّى الساعة السابعة مساءً. وأخيرً،ا قامت القوّات بجمع كتب الطلبة، وأثاثهم، وحتّى ألبستهم، في ساحة المدرسة، وأشعلوا فيها النيران، ومن ثمّ تركوا المدرسة والدخان يتصاعد منها، والقتلى والشهداء والجرحى أشلاء متناثرة هنا وهناك، والآخرون تتصاعد منهم الآهات والأنّات، يستغيثون ولا مغيث لهم. وقد تكرّرَت الحادثة أيضًا في المدرسة العلميّة الطالبيّة في تبريز، وشهدَت الواقعة عشرات القتلى والجرحى.

 

وعندما بلغ الخبر الإمام قدس سره، وما فعله أوغاد الشاه، عزم على الخروج من منزله قاصدًا المدرسة الفيضيّة، وحاول الطلبة والناس المجتمعين في داره منعه من ذلك، خشيةً على سلامته. فأغلق بعض الطلبة الباب خوفًا من اقتحام رجال الشرطة والقوّات الخاصّة البيت. ولمّا رأى الإمام قدس سره ذلك كلّه عندما كانت متّجهًا إلى خارج المنزل، هتف بأعلى صوته قائلًا: "مَن الذي أجاز لكم إغلاق الباب؟"، ثمّ بعد ذلك أدلى بخطابٍ تاريخيّ في تلك الأجواء الراعبة والموحشة، وتعرّض من خلاله للشاه والنظام، وأعطى الجماهير شحنةً جديدةً من القوّة والصبر والثبات، وقال:

 

188

 


157

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

"... حذارِ من القلق والهلع! وتحاشوا الاضطراب، واخلعوا رداء الخوف عن أنفسكم. إنّكم أتباع أئمّة وعظماء تحمّلوا شتّى المصائب والآلام في سبيل الله، وعند ذكركم مصائبهم وآلامهم سوف تخفّ عليكم جميع المصائب والصعاب. أئمّتنا عليهم السلام تحمّلوا مصائب عظمى، كمصيبة العاشر من محرّم وليلته، رغبةً في إقامة دين الله. تُرى ممّ تخافون؟ ومن أيّ شيءٍ تقلقون؟ إنّه عارٌ على أيّ مسلم يدّعي التفاني والولاء لأهل البيت والأئمّة عليهم السلام أن يتنازل عن مطالبه، ويتقهقر أمام حوادث وصعاب كهذه التي صدرت عن النظام الحاكم. إنّها بعملها هذا، قد أثبتَت ضعفها وخوفها، وأعلنَت عن ماهيّتها المغوليّة الوحشيّة والهمجيّة. إنّ النظام قرَّب زمن سقوطه، ولفّ حبل المشنقة حول عنقه بيده، عندما اقترف هذه الجناية. إذًا... نحن منتصرون، إن شاء الله! انتصرنا، لأنّ الله كشف عن هويّة النظام، وعن حقيقته. إنّ عظماءنا تحمّلوا السجون، وتعرّضوا لمختلف أنواع التعذيب، وقدّموا أنفسهم قرابين في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله ودينه الحنيف، ولهذا سَلِم الإسلام وبقي إلى يومنا هذا. اليوم، وقع العبء علينا، وإنّ واجبنا المقدّس أن نتحمّل المصائب والصعاب لقطع أيدي الخائنين، ودحض الكافرين الطامعين...".

 

لقد تصوّر الشاه أنّه بعمله هذا، سوف يُبعد الحوزة، وعلى رأسها الإمام قدس سره، عن الساحة السياسيّة والتدخّل بشؤون الدولة والنظام، أو على الأقلّ يفتح ثغرة بين العلماء ورجال العلم والحوزة، ويقسّمهم إلى فئتَين متناحرتَين أو أكثر، إلّا أنّه بفعله هذا، جعل الإمام قدس سره يزداد صلابة، فوقف قدس سره في وجه الشاه وأعوانه، غير هيّاب ولا وجل، ممّا زاد في وحدة الحوزة ورصِّ صفوفها وتكاتفِها.

 

وفي ذلك اليوم، بل وفي تلك الأجواء، ألقى الإمام قدس سره خطابًا دعا فيه إلى عدم التظاهر بالتقيّة، وشجّعهم على كسر حواجز الخوف والاضطراب، وأكّد ذلك ببرقيّةٍ كان قد أرسلها إلى علماء طهران، قال فيها:

"... إنّ هجوم القوّات الخاصّة للشاه، الذي تسانده الشرطة، لم يكن سوى تجديد

 

189

 


158

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

الخواطر لأعمال المغول الوحشيّة، مع فرقٍ واحد، هو أنّ أولئك هاجموا بلادًا أجنبيّة، وهؤلاء هاجموا أبناء وطنهم ودينهم من الطلبة ورجال العلم... هؤلاء باسم الشاه، سحقوا مقدّساتنا، وأهانوها، وتعدّوا على مقدّسات الإسلام، وتجاوزوا حقوق المسلمين، واعتدوا كذلك على معاهد العلم والتربية. إنّهم وجّهوا بهجومهم هذا، ضربةً تكاد تكون قاضيةً على القرآن والإسلام...

 

وإنّني أسترعي انتباه إخوتي الفضلاء إلى خطر اضمحلال الدين وأصوله في البلاد. إنّ القرآن والدين في خطر، ومع هذا، فإنّ التقيّة لا مكان لها اليوم، وإظهار الحقائق أمرٌ واجبٌ اليوم مهما كانت النتائج".

 

وتطرّق الإمام قدس سره إلى الفاجعة الأليمة، والقتل المروّع في المدرسة الفيضيّة، محمِّلًا الشاه وجلاوزته والنظام مسؤوليّة كبرى، وحذّر من تحوّلات كبيرة ستشهدها البلاد في المستقبل، إذ قال:

"... بأيّ تصريح، وبأيّة موافقة سُمِحَ لكم بانتهاك حرمة مجالس العزاء في يوم وفاة الإمام الصادق  عليه السلام، فاستبحتم دماء الناس والطلبة، وارتكبتم تلك الجرائم العظيمة؟ لقد هيّأتُ نفسي وجسدي وصدري لاستقبال رماحكم وسهامكم، وسوف لن أرضخ لكم، أو أتنازل، أو أتقهقر أمام جبروتكم واضطهادكم، بإذن الله تعالى.

 

سوف لن أسكت عن أيّ عمل مخالف للإسلام ولمصلحة البلاد يصدر عنكم. وما دام القلم بيدي، فسوف أسطّر الفتاوى والبيانات والمنشورات لمحاربتكم أبد الدهر. عيون المسلمين اليوم تذرف دموعها، وتسكب عبراتها لِما هي عليه بلادنا، وتُهمَل هي الأخرى من شدّة الجور على ديننا. إنّ النظام الحاكم - الذي يشعر بنهايته ومصيره المحتوم، وبسبب دموعكم وعبراتكم هذه - أخذ يتخبّط بتصرّفاته وحركاته وسكناته، ويعرّض نفسه للسقوط والاضمحلال. نسأل الله العليّ القدير أن يحفظنا من كيد الأعداء، وأن يسبغ علينا السكينة والثبات...".

 

190

 


159

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

لقد سعى بعضهم، وبطرق شتّى، للتخفيف من حماس الإمام قدس سره، وإعادة الهدوء والطمأنينة إلى نفسه. في الوقت الذي كان الإمام قدس سره يصرف معظم طاقاته لتوحيد رجال العلم والمراجع والعلماء، ووضعهم في خندق واحد -واستنادًا لوثائق المخابرات "السافاك"- بعد 16 يومًا من ارتكاب الفاجعة في المدرسة الفيضيّة، التقى بعضُ رجالات الدولة "شريعتمداري"، وأعطاهم المواثيق والعهود بأن يجمّد تحرّكاته ونشاطاته كلّها ضدّ النظام، ولأئمّة الإصلاحات بالذات، وأن يحترس عن إصدار أيّ بيان أو إعلان مناوئ، وكذلك أن يبذل ما بوسعه لمنع الإمام قدس سره التهجّمَ على السلطة. ولمّا وجد نفسه عاجزًا عن الوقوف في وجه ثورة الإمام قدس سره، صدر بيانًا وهميًّا ينطوي على المجاملة عن هذه الأخيرة والمحاباة، وذلك رغبة منه لتهيئة جوّ سلميّ ومهادن للنظام، أصدر بيانًا ملفّقًا ومتملّقًا، وكان هذا قبل يومٍ واحد من اعتقال الإمام قدس سره. (الوثيقة رقم 2)[1].

 

وفي هذه الفترة، عزم الشاه على فرض الخدمة العسكريّة الإلزاميّة على طلبة الحوزة والمعاهد الدينيّة، وذلك لتفريق جمعهم، ولإذلالهم واحتقارهم وإهانتهم. وكان هذا بمثابة صاعقة نزلَت على كثير من الطلبة الذين يرون في ذلك قمّة الإهانة والإذلال[2]، وأنّهم أعلى وأكبر بكثير من أن يكونوا جنودًا مطيعين للنظام الشاهنشاهيّ الظالم.

 

أمّا الإمام قدس سره، فقد زفّ لهم البشرى ببيانه الذي أصدره في هذه المناسبة، ودعاهم إلى الثبات والصبر وعدم التقهقر، وسمّاهم جنود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنّهم رسلٌ إلى المعسكرات والمخيّمات لتبليغ الدين الإلهيّ، وتعرية النظام أمام الجنود والقادة والضبّاط، وحمّلهم مسؤوليّة كشف الحقائق وما يدور في الكواليس لفضح جرائم الشاه. وأوصاهم بالتربية الرياضيّة للروح والبدن.


 


[1] وثائق محضر اجتماع مجلس الوزراء بعد انتفاضة 5 حزيران 1963م، وقد نشرتها عام 1974م مديريّة العلاقات العامّة والمكتب الخاصّ لرئاسة مجلس الوزراء.

[2] من الذين أدّوا الخدمة الإلزاميّة، سماحة رئيس الجمهوريّة هاشمي رفسنجانيّ، والسيّد محمّد خاتمي وزير الثقافة والإرشاد الإسلاميّ السابق (انتُخِب رئيسًا للجمهوريّة في عام 1997م).

 

191


160

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

وبحلول ذكرى الأربعين على أحداث الفيضيّة، أصدر الإمام قدس سره بيانًا موجّهًا للشعب، أشار فيه إلى مواقف رجال العلم والطلبة، وأعرب عن أسفه الشديد لهتك حرمة الحوزة العلميّة والعلماء والأعلام. وممّا جاء فيه، قوله:

"... ذنبُنا هو دفاعنا عن الإسلام، وعن استقلال البلاد. لقد تحمّلنا هذه الإهانات من أجل الإسلام، وسنتحمّل أكثر وأكثر. لقد جلسنا على قارعة الطريق، وفي السجون، وتحمّلنا الظلم، وحُكِمَ علينا بالإعدام، من أجل إعلاء كلمة الله. دع النظام يرتكب ما يريده من جرائم لاإنسانيّة، فليقطعوا أوداج الشباب، وليسحبوا المرضى من على أسرّتهم، دعوهم يبيدونا بالقتل وهتك الأعراض، لا ضير في ذلك، فليهدموا المدارس ومراكز العلم والفضيلة"، وأشار أيضًا إلى عدم خشية الحوزة من التجنيد الإلزاميّ، وطالب المعسكرات والقوّات المسلّحة بمدّ يد الأخوّة لهم، فقال:

"... نحن غير مبالين بخدمة أبنائنا العسكريّة، دعوهم ينخرطوا في صفوف الجند والعسكر، ليرفعوا من مستواهم الثقافيّ والدينيّ. دعوا أبناءكم الخلّص النجباء يقتحموا المعسكرات، فوجود عناصر الخير والإخلاص في صفوف الجيش قد يكون مدعاةً لنصر الله أبناءنا ووطننا. نحن على ثقة تامّة بأنّ الضبّاط وأصحاب الرتب والصلاحيّات الكبيرة في جُلّ المعسكرات هم من النجباء الكرماء، وسوف يقدّمون ما بوسعهم لإعلاء راية الوطن خفّاقة عالية مستقلّة. إنّني على يقين بأنّ أولئك النبلاء بعيدون البُعد كلّه عن تلك الجرائم، إنّني على علم كامل بما يُمارَس عليهم من الضغوط، إنّني أمدّ يد الإخاء والتضامن لأولئك على أن ننقذ الإسلام والبلاد، إنّني على اعتقاد كامل بأنّ أولئك ليسوا من الضعفاء الجبناء الذين ترتعد فرائصهم بمجرّد سماع كلمة "إسرائيل"، إنّهم لم يرضخوا ولا لمرّةٍ واحدة لليهود، ولن يخضعوا لهم أبدًا".

 

وأخيرًا أضاف:

"... إنّه من اللائق جدًّا، وعلى قدر المستطاع، أن تعيد الأمّة الإسلاميّة مراسم العزاء والفاتحة على أرواح الشهداء الذين سقطوا في المدرسة الفيضيّة، وأن لا تنسى

 

192

 


161

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

هذه الأمّة التوجّه باللعن والطعن لأولئك الذين تسبّبوا في هذه الجريمة...". وارتفع عدد المآتم والمجالس التأبينيّة لأربعينيّة الشهداء، ولم تعارض الحكومة ذلك، لكن عندما كادت تلك المجالس تصبح مركزًا للنيل من الشاه ونظامه، شرعَت السلطة بمنع إقامتها. خلال هذه الأيّام، أصدر الإمام قدس سره بيانًا آخر يندّد بالشاه ويهدّده ويضع النقاط على الحروف، بينما أخذ يتساءل عن أسباب منح ألفَي شخص من فرقة البهائيّة جوازات سفر إلى لندن، في الوقت الذي تُلقَى المعاذير والحجج لعدم إمكانيّة الدولة للسماح بالسفر إلى حجّ بيت الله الحرام. ثمّ عاد تارةً أخرى يحذّر من الخطر اليهوديّ، مطالِبًا الجماهير والشعب بالوقوف في وجه السلطة ومخطّطاتها، وأكّد أخيرًا على ضرورة الجهاد، فقال:

"لقد عزمتُ على النضال والجهاد، وسوف لن أتقهقر أبدًا إلى أن أرى، بعينيَّ هاتَين، انهيار النظام الشاهنشاهيّ، أو أفدَ على ربٍّ غفورٍ رحيمٍ، حاملًا عذري معي. يا علماء الإسلام، ويا مراجع المسلمين، توكّلوا على الله، فإنّ النصر حليفنا".

 

وبدأت أيّام الشهر المحرّم تقترب، وأخذَت تتقارب معها احتمالات المواجهة بين الإمام قدس سره والشاه، وذلك بسبب فرض الحصار، وممارسة الضغوط، وعدم منع قيام المناسبات بين أحداث الفيضيّة وشهر المحرّم، ولم نشهد خطابًا أو كلامًا من الإمام قدس سره سوى بعض البيانات والإعلانات التي مرّ ذكرها آنفًا. إنّ أيّام الشهر المحرّم هي أفضل ظرف وأحسن مناسبة لتعرية النظام الحاكم، والكشف عن مؤامراته الدنيئة. ولهذا، وجّه "السافاك" دعوة لحضور كافّة الخطباء والوعّاظ، وحذّرهم من التطرّق إلى ثلاثة مواضيع فقط، وأمّا ما سواها، فلهم الحرّيّة التامّة، وتلك هي:

1. عدم المساس بشخصيّة الرجل الأوّل للبلاد.

2. عدم التطرّق إلى إسرائيل نهائيًّا.

3. الكفّ عن الكلمات والعبارات الحماسيّة المحرِّضة للشعب، كذكر الإسلام والخطر الذي يواجهه.

 

193

 

 

 


162

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

وبعد هذا مباشرةً، وجّه الإمام قدس سره بيانًا إلى الخطباء والوعّاظ والهيئات الحسينيّة، وصف فيه مطالب "السافاك" هذه بأنّها خارقة للقانون، ولا يترتّب على مخالفتها أيّ أثر، وإنّ كلّ من يلتزم ويتعهّد بتلك المطالب فهو إنسان مجرم، ويستحقّ الجزاء والتأنيب. وهاجم الإمام قدس سره الشاه، وتحدّاه على ما كان يزعم بأنّ الشعب يؤيّده ويطالب بالثورة البيضاء.

 

فقال: "إذا كان حقًّا ما تدَّعون، فنرجو منكم إعطاء الشعب هذه الأيّام حريّته الكاملة، ولنرَ كيف أنّ الشعب أيّد السلطة. فلتظهر الحقائق للعالَم بأسره، وإلّا فإنّ الادّعاءات كاذبة، والإشاعات واهية، لا تضرّ إلّا بالأمّة والوطن، وإنّ القانون سيلاحقها ويفرض العقوبات على كلّ من يقف وراءها".

 

وأكّد أيضًا على موقفه الصارم من الكيان الإسرائيليّ وعملائه البهائيّين، وأضاف:

"إنّ النظام الحاكم يبذل قصارى جهوده لمساندة إسرائيل وعملائها - الفرقة الضالّة والمُضِلَّة - ومساعدتهم. لقد فتحَت أبواب البلاط أمامهم، وفُسِحَ المجال لهم، ولقد تمركزوا في جميع المراكز والنقاط المهمّة، وشغلوا الوزارات والمعسكرات والمجالات الثقافيّة".

 

ثمّ طالب الخطباء والوعّاظ بالتعرّض لإسرائيل، وتحذير الشعب من الخطر القادم، رغمًا عن الحكومة والشاه، وأن لا يكفّوا عن إرشاد الناس وتوعيتهم، لأنّ "السكوت في هذه الأيّام هو تأييد ودعم للسلطة وللجبابرة ولأعداء الإسلام كلّهم".

 

 

القسم الثالث: خطاب الإمام قدس سره في يوم عاشوراء وانتفاضة

(15 خرداد - 5 حزيران 1963م)

عقد الإمام اجتماعًا مع كافّة العلماء والمراجع في الحوزة العلميّة، اتُّفِق فيه على فضح جرائم الشاه والحكومة ودسائسهم يوم العاشر من المحرّم، وذلك أثناء خطبهم التي نُسِّقَت من قبل مع أصحاب المآتم والمجالس. ولكن مع شديد الأسف، انسحب

 

 

194


163

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

السيّد شريعتمداري من الاتّفاق هذا قبل العاشر من المحرّم بيوم، وتبعه آخرون، وذلك خشية العواقب. كذلك سعى بعضهم لثني الإمام قدس سره عن خطابه، حتّى قبل لحظات من ذهابه إلى المدرسة الفيضيّة، بيدَ أنّ الإمام قدس سره مضى بعزيمة قويّة، ولم يبالِ بشيء. وبينما هو في طريقه، فإذا بأحد الأجانب يسير بجانبه، ويهمس بأذنه قائلًا: "إنّني مبعوثٌ من قِبل صاحب الجلالة لأحذّرك من عملك، وإيّاك أن تلقي الخطاب! وإذا كنت مصرًّا على ذلك، فسوف تعترضك القوّات الخاصّة، وعندها سترى ما لا يُحمَد عقباه!"، فأجابه الإمام قدس سره: "وعندها أيضًا سوف يؤدِّب الطلبةُ ممثّلي الشاه!".

 

وفي تمام الرابعة عصر يوم عاشوراء 1963م، اعتلى الإمام قدس سره المنبر، وألقى خطابه التاريخيّ أمام حشود كبيرة من رجال العلم والجماهير ومواكب العزاء، التي قَدِمت من العاصمة ومن محافظات أخرى. وهاجم الإمام قدس سره النظام الحاكم، وفضح مؤامراته وخططه وتآمُرَه مع أسياده على الوطن، قائلًا:

"بسم الله الرحمن الرحيم، نعيش الآن أجواء العاشر من محرّم، ويتبادر للذهن أحيانًا عددٌ من التساؤلات والتصوّرات حول واقعة الطفّ، فمثلًا، يخطر سؤالٌ بالبال، ويطرح نفسه: لو كان الخلاف والعداء منحصرًا بين بني أميّة وحكومة يزيد بن معاوية وبين الحسين  عليه السلام، إذًا ما بال النساء والأطفال اللواتي سُبِينَ وتعرّضْنَ للتمزيق من قِبَل أولئك الوحوش الكواسر؟ ما ذنب النساء والأطفال؟ ما ذنب الطفل الرضيع؟ أعتقد أنّ أولئك كانوا يقصدون هدفًا أكبر وأبعد، وذلك هو خلافهم مع أساس الفكرة، لا مع الحسين  عليه السلام وعياله وأطفاله كأناس. إنّ بني أميّة كانوا يريدون محوَ العترة، كانوا حاقدين على بني هاشم، هدفُهم هو القضاء على هذه الشجرة الطيّبة.

 

ويعود هذا السؤال يطرح نفسه اليوم مرّة أخرى: ما الذي يريده النظام الحاكم المتغطرس من العلماء والمراجع؟ لماذا يهاجمون علماء الإسلام؟ لماذا يُمزّقون ويحرقون القرآن في المدرسة الفيضيّة؟ (يقصد الإمام هنا تمزيق القرآن من قِبل جلاوزة الشاه في مجزرة المدرسة الفيضيّة).

 

195

 


164

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

من هنا، نفهم أنّ عداء هؤلاء ما هو إلّا عداء للإسلام وللعلماء ولأصل الفكرة. إنّ إسرائيل لا تريد أن ترتفع راية القرآن في بلدنا. إنّ إسرائيل لا تريد علماء في هذا البلد. إسرائيل لا تريد الإسلام في هذا البلد.

 

إنّ إسرائيل هاجمَت المدرسة الفيضيّة عبر عملائها الخونة، هاجمتنا نحن، وتهاجمكم أنتم أيّها الشعب الأبيّ. ذلك كلّه، من أجل سيطرتها على ثرواتنا. إنّ إسرئيل تريد إزالة الحواجز جميعها التي تقف في طريقها، والحواجز هي: الإسلام، والقرآن، ورجال العلم، والمراكز العلميّة، والمدارس الفقهيّة، والطلبة المجِدّون. وجزاء الطلبة هو قذفهم من أعلى الأبنية إلى الأرض، لقتلهم وتكسير أيديهم وأرجلهم، لماذا؟ لأنّ إسرائيل تريد الوصول إلى أهدافها، بمساعدة حكومتنا الخائنة ومساندتها.

 

يا أهالي مدينة قمّ الصامدة! لقد شهدتم بأُمِّ أعينكم يوم الاستفتاء القهرَ، ورأيتم تلك اللعبة المفضوحة، رأيتم كيف جرى الاستفتاء بحدّ السيف والقوّة، لقد شاهدتم كيف انتشرَت القوّات المسلّحة في شوارع المدينة وأزقّتها، ودنّستها بآثامهم، لقد رأيتم وسمعتم كيف استلّوا سيّارات الإعلام، وراحوا يطلقون العبارات التافهة علينا، لقد صاحوا بأنّ حياة النهب قد انقضَت، وحياة الراحة والبطر قد انطوَت، وحياة العلماء ورجال العلم وأهل الدين انتهت.

 

بالله عليكم، هل إنّ طلّابًا يقضون زهرة شبابهم بحُجَرٍ وغُرَفٍ كهذه، ولا يتقاضون سوى 40 تومانًا في الشهر، هم أهل البطر وأهل راحة ونعيم؟ بينما أولئك الذين تتدفّق عليهم المبالغ الطائلة والملايين تباعًا، هم ليسوا بأهل بطر ونعيم، وأهل نهب وسرقات واختلاس؟

 

هل آية الله الحائريّ كان منعّمًا، حيث انتقل إلى الدار الآخرة وفي ليلته تلك ينام أطفاله جياعًا؟ أم هل السيّد البروجرديّ كان منعّمًا ومتبطّرًا، حيث ترك الحياة الدنيا وعليه قروض قدرها ستّمئة ألف تومان، من أجل تسديد معاش الطلبة؟ إنّ أولئك الذين نهبوا وينبهون أموال الشعب والوطن، وملؤوا بنوك أوروبّا، ويسعون

 

196

 


165

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

إلى النهب والاختلاس والسرقة كلّ يوم، ليؤمّنوا مصالح إسرائيل، هم ليسوا بأهل نعيم وبطر؟

 

يجب أن يحكّم التاريخ، أن تحكّم الشعوب... مَن المتبطِّر والمتنعّم؟ إنّني أنصحك أيّها الشاه، يا حضرة الشاه! إنّني أنصحك أن تبتعد عن هذه الحيل والألاعيب. إنّني لست براغب أن يأتي يومٌ يزفّ أساتذتك إليك التهاني أمام عيون شعبك ووطنك، إنّني لا أريدك أن تصبح مثل أبيك.

 

أيّها الشعب، إنّكم على علم كامل، أنتم أيّها الشيوخ، أنتم أهل الأربعين، بل وحتّى الثلاثين... إنّ ذاكرتكم لن تخونكم. تذكّروا ما جرى في الحرب العالميّة الثانية، أظنّكم لم تنسوا البهجة الكبرى والفرحة العظمى حينما هاجمَت ثلاث دول عظمى بلادنا -أي بريطانيا وأمريكا وروسيا- وسيطروا على البلاد، وعاثوا فيها فسادًا، وأهلكوا الحرث والنسل. لكن مع هذا كلّه، تعاظمت الفرحة عندما أُقِيل رضا خان من السلطة، وفرّ هاربًا. إنّني لا أريدك أن تصبح هكذا، تصبح كأبيك. استمع إلى هذه النصيحة، وأصغِ لِما يقوله أهل العلم والعلماء، امتثل لأوامر الإسلام.

 

هؤلاء يريدون صلاح الملّة، صلاح الوطن. أعرِض عن إسرائيل صفحًا، فإنّها لن تنفعك يومًا، بل ساعة. أيّها التعيس! أيّها الذليل! لقد انقضى من عمرك خمس وأربعون سنة، تأمّل قليلًا، تدبّر قليلًا، لاحِظ عواقب الأمور، اعتبِر بما مضى كلّه، اعتبِر بأبيك، لا تُصغِ إلى ما يلقّنونك إيّاه من أكاذيب ودجل، إنّك مسالم، وحالك حال الجميع، إنّك لست عدوّ الدين والعلماء، لا تتأثّر بما يشيرون به إليك. لِمَ هذا الهراء كلّه؟ من هي الرجعيّة السوداء؟ الإسلام والعلماء؟ أم أنت يا صاحب الثورة البيضاء؟ ما هي هذه الثورة؟ عرِّفنا جذورها، اكشف النقاب عن أساسها، إلى متى تطمع بالسلطة؟ وإلى متى تريد تضليل الشعب؟ لِمَ تهدّد الشعب والجماهير؟

 

لقد بلغني اليوم، أنّك أرسلتَ المخابرات إلى عدد من السادة الخطباء والوعّاظ والمرشدين، فحذَّروهم وهدّدوهم من التعرّض لمواضيع ثلاثة: أولًا: عدم المساس بالشاه، ثانيًا: عدم التعرّض لإسرائيل، ثالثًا: عدم الإكثار والتكرار من القول: إنّ الإسلام في خطر. وما دون ذلك، فسطِّروا ما شئتم.

 

 

197


166

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

إنّ جميع مشاكلنا واختلافاتنا هي مُنْصَبّة في هذه المواضيع الثلاثة. فإذا ما عدلنا عن هذه المواضيع، فلا مشكلة إذًا هناك، ولا خلاف. وهل إذا أعرضنا عن تعرية الشاه، فهل الشاه سوف يكون مبرّءًا ممّا ادّعينا؟ وهل إذا أعرضنا عن قول الإسلام في خطر، فهل الحقيقة والواقع هكذا؟ وهل إذا صمَتنا عن إسرائيل وخطرها، فهل هذا يبرّئ إسرائيل ممّا هي عليه؟ ولنتأمّل قليلًا هنا، ما هو السرّ الذي جعل المخابرات تدعو في آنٍ واحد إلى عدم التعرّض للشاه ولإسرائيل؟ هل بعقيدة المخابرات أنّ الشاه شخصٌ إسرائيليٌّ، أم تربطه علاقات متينة مع إسرائيل؟

 

هناك نقطة مهمّة كبيرة، وحسّاسة للغاية، وأكبر ممّا يُتَصَوَّر، هناك أسرار وراء الستار، البلاد في خطر، الإسلام في خطر! إنّنا قلقون، خائفون ممّا يبنونه ويشيّدونه من صرحٍ أو كيان مجهول لا نعرف سوى ومضان منه. إنّنا في قلق وهلع شديد تجاه ما يداهم البلاد، بلادنا الخربة، بلادنا الفاسدة، إدارةً وحكومةً، نرجو من العليّ القدير أن يصلح أمورنا وأمور المسلمين...".

 

وفي منتصف ليلة الرابع من حزيران، وبعيدًا عن أعين الناس، وبهدوء كامل، هاجمَت القوّات الخاصّة المتستّرة بالزيّ العاديّ منزل الإمام قدس سره، وأُلقِي القبض عليه. إنّهم على علمٍ كافٍ بما يواجهونه من الجماهير فيما لو كانوا ينفّذون مهمّتهم علنًا. ونقلًا عن الإمام قدس سره، إنّهم كانوا مرتدين زيًّا أسود، وعندما تمكّنوا من الإمام قدس سره، دفعوا السيّارة التي تقلّه بأيديهم إلى نهاية الزقاق، لئلّا يسمع الجيران صوتًا! وانطلقوا بالإمام قدس سره إلى طهران مباشرة. وكان قد أحجم عن الكلام نهائيًّا، ولم يتكلّم مع هؤلاء الأوغاد شيئًا. وحينما اقتربوا من طهران، وبانت نيران مصافي النفط[1]، أخذ يقول: "لقد أصبحنا فديةً وقربانًا لهذا النفط. من أجل هذا نهبوا جميع ثرواتنا وينهبون". كان القلق يبدو جليًّا على وجوه أولئك الخاطفين الأوغاد، خوفًا من ملاحقة الجماهير لهم فيما إذا علموا بالأمر، وعلى هذا، لم يستجيبوا لطلب الإمام قدس سره حينما كرّر عليهم


 


[1] تقع هذا المصافي على طريق قمّ - طهران.

 

198


167

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

الرجاء لبضع دقائق أن ينزل ويؤدّي صلاة الصبح جانب الطريق، ممّا اضطرّه إلى التيمّم والصلاة بالسيّارة، وهي تخطف الطريق كالبرق نحو زنزانات النظام.

 

بعد دخولهم العاصمة مباشرةً، حلّوا بنادي الضبّاط، وأودعوا الإمام قدس سره في زنزانة منفردة. وعند الغروب، نُقِلَ إلى "معسكر القصر"، ولبث بهذا السجن 19 يومًا، أي لغاية 25 حزيران، ومن ثمّ نُقِلَ إلى معسكر "عشرت آباد".

 

بعد إلقاء القبض على الإمام قدس سره بدقائق، انتبه بعض الأفراد المجاوِرين للإمام قدس سره، وهتف مناديًا الناس في الشارع، فاجتمع الناس وتوجّهوا إلى حرم مرقد السيّدة المعصومة - فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر  عليه السلام - وشهد الحرم حشودًا كبيرة من الشعب، معترضةً على إلقاء القبض على الإمام قدس سره. وتكاثرَت الجماعات والجماهير صباحًا، وأُطلِقَت عبارات وشعارات عديدة، كالموت للشاه، وتحيّة للإمام... ولكن سرعان ما أُخمِدَت صيحاتهم بالنيران والرصاص، ولم يرَ الناس بُدًّا من المواجهة بالحجارة وقِطَع الحديد والخشب، واستمرّت القوّات المسلّحة بفتح نيرانها حتّى عصر ذلك اليوم، حيث سقط المئات من الناس قتلى، وجُرح الكثير.

 

في صبيحة اليوم الخامس من حزيران، طرق الخبر أبواب العاصمة طهران، واندلعت مسيرات الطلبة من الجامعة، رافعةً شعارات المعارَضة ضدّ الشاه، ولحقهم فئات وهيئات حسينيّة كبيرة، مناديةً: "إمّا الموت، وإمّا الإمام"، و"الموت للشاه"... إلخ. وتوسّعت المسيرة، وتعاظمت، وأحدثت ضجّة كبيرة في البلاد، ما أدّى إلى تدخُّل القوّات المسلّحة بالعنف والسلاح، فسقط المئات من الناس قتلى، وامتلأت الشوارع والميادين بالجرحى مضرّجين بالدماء، وأُلقِيَ القبض على عدد كبير منهم. وبمجرّد وصول خبر اعتقال الإمام قدس سره لأهالي منطقة "ورامين"[1]، انطلقَت الجماهير نحو العاصمة مرتديةً أكفانها، ولكن سرعان ما قامت القوّات المجرمة باعتراضها، وسقتهم كؤوس حتوفهم، فأبادَتهم عن بكرة أبيهم. وتسرّبَت المظاهرات والمعارضات إلى


 


[1] تبعد 40 كيلومترًا جنوب شرق طهران.

 

199


168

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

مدينتَي مشهد وشيراز، بيدَ أنّ القوّات الحكوميّة تمكّنَت من السيطرة عليهم. وخلال هذه الأيّام الثلاثة الملتهبة والمتأجّجة، تمكّنَت المخابرات من إلقاء القبض على جميع الخطباء والوعّاظ والمرشدين، وكثير من رجال العلم والعلماء المجاهدين في العاصمة. أمّا في تبريز، وبناءً على توصية السيّد شريعتمداري "بعدم التظاهرات والمعارضة"، وعدم المساس "بجلالة صاحب الجلالة الشاه"، لم تخرج إلّا بضع مظاهرات بسيطة وغير فاعلة، وأُلقِيَ القبضُ على بعض رجال العلم الموالين للإمام.

 

بهذه الفاجعة الأليمة والواقعة السقيمة، تمكّنت البلاد من استعادة أنفاسها، بقيادة شخص يدّعي الروحانيّة والزعامة الدينيّة... وبالمقابل، فمن اليقين عندنا أنّه كان من العملاء للأجانب، حيث بعد مضيّ فترة من الزمن، طرق أسماعنا من راديو حزب توده الشيوعيّ، بالمديح والثناء على ذلك الشخص، فوصفه مرّاتٍ ومرّات بآية الله، ولا نعلم كيف التَأَم هذا وذاك، فأين الإلحاد من الإيمان؟ إنّ حادثة الخامس من حزيران لخير دليل على ائتلاف جناحَي الرجعيّة السوداء والاشتراكيّة الحمراء، اللذَين كانا يسترزقان من بعض أصحاب الأراضي المشمولة بقوانين الإصلاحات. وعلى العموم، فهذه التصريحات لها دلالاتها وتفسيرات الواضحة والجليّة، ولا حاجة لنا للخوض فيها، لأنّها لا تستحقّ النظر والتدقيق.

 

ولنترك جهاد الإمام قدس سره ونضاله ضدّ الطغمة الحاكمة هنيهة، لتسليط الأضواء على هذه الفاجعة من خلال تحليل مواقف الشاه والحكومة والأحزاب والكتل السياسيّة في البلاد، مشيرين إلى تحليل الصحف الداخليّة والخارجيّة إبّان تلك الفترة، وذلك لاستيعاب ردود الفعل تجاه هذه الانتفاضة الجماهيريّة العظيمة.

 

أ- موقف الشاه والسلطة

بعد يومَين من الواقعة، أي في السابع من حزيران، ظهر الشاه على مسرح الأحداث، ووجَّهَ خطابًا بهذه المناسبة: "بكلّ أسف، يجب أن أكشف لكم عن أفعال مسبِّبي حادثة الخامس من حزيران، مع أنّ الكثير من الجرحى والسجناء يبرِّئون أنفسهم، ويدّعون

 

200

 


169

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

بأنّهم قاموا بهذه الغوغاء مقابل استلام كلّ فرد منهم ما يعادل 25 ريالًا، على أن ينادي "فليعش فلان"[1]. لقد أدركنا جيّدًا من أين أتتنا هذه النماذج، وسوف نوضّح للشعب جميع تفاصيل الحادثة، ونعلن عن الجنايات كلّها. ولكن الآن، أتساءل فقط وأقول: ما الذي ينبغي أن نفعله تجاه إيرانيّ يثور على شعبه بأموال الأجانب؟ بأيّ وصف نصف شخصًا كهذا؟ ثانيًا: ما العلاقة بين السنّة والشيعة، حتّى يُقْدِم شيعيٌّ ويمدّ يده إلى فردٍ سنّيّ[2]؟ مَن المسؤول عن الدماء التي أُرِيقَت يوم الخامس من حزيران؟ إنّ كلّ من تسبّب في إشعال فتيل تلك الفاجعة، وتسبّب في الغوغاء والضوضاء وقتل الأبرياء من الناس، سوف يلقى جزاء أعماله، وبأسرع وقت...".

 

كذلك عاد مؤكّدًا في كتابه "الثورة البيضاء"[3]، على معاقبة مسبِّبي حادثة حزيران، ملوِّحًا بالتهديد والتأنيب. وممّا جاء فيه: "... هذه الغوغاء سبّبَتها عوامل الرجعيّة السوداء".

 

وقد تطرّق أسد الله عَلَمْ لهذه الحادثة في يوم 7 حزيران، عند لقائه الصحفيّ بصحيفة نيويورك هرالدتريبون، قائلًا: "لقد أُلقِيَ القبض على 15 شخص من كبار رجال الدين الذين شاركوا في الثورة ضدّ الحكومة، وسُلِّموا إلى المحاكم العسكريّة، التي قد ترى نفسها مكلّفة بإعدامهم". ثمّ أضاف: "خلال هذه الواقعة، قُتِل 20 شخصًا، واعتُقِل آخرون، واختفى الكبار منهم، ولكنّنا استطعنا أن نعتقل رؤساءهم".

 

وقال العميد باكروان، رئيس دائرة "السافاك" المخابرات، خلال لقائه الصحفيّ في عصر يوم الحادثة: "في الفترة الأخيرة، اتّخذ رجال الدين مسلكًا لم يرتح له كبار رجال البلاط ورجال السلطنة، ما دعاهم إلى التدخّل، حفظًا لمصالح البلاد العظمى... هذه العناصر المغرضة سحقَت جميع مصالح البلاد، ووقفَت إلى جانب رموز المرجعيّة، وظلَّت تستثير الشعب، وتُشيع الافتراءات، وتلصق بهم التهم والكلام الفارغ، ولم نسلم


 


[1] يقصد بذلك الإمام الخمينيّ قدس سره.

[2] يقصد بذلك جمال عبد الناصر.

[3] يُقال بأنّ هذا الكتاب من تأليف أحد أعوانه الجامعيّين.

 

201


170

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

من هؤلاء العملاء، وقد وصل بهم الأمر إلى أنّهم اتّصلوا بالقوى الخارجيّة والأجنبيّة. ولو تمعَّنّا بأحاديثهم وخطاباتهم، لَلَمسنا هذا جيّدًا، وبدون تكلُّف...". وعندما اعترضَه أحدُ الصحفيّين بسؤاله عن أولئك الأجانب الذين موّلوهم بالأموال، مطالبًا بالكشف عن هويّتهم، أجاب قائلًا: "هذا ما سنعلن عنه مستقبلًا". ثمّ أعرب عن رأيه تجاه الانتفاضة هذه في نهاية لقائه الصحفيّ، دون أيّ حياء أو خجل، قائلًا: "المهمّ هو أنّنا لمسنا شيئًا واحدًا، وهو أنّ الشعب كان بعيدًا عن هذه الواقعة أشدّ البُعد، وبريئًا منها".

 

وعندما نشرت وثائق حكومة أسد الله عَلَمْ 1984م المتعلّقة بأيّام 5 و8 و9 حزيران عام 1963م، لوحِظ بأنّها كانت تعبّر عن مدى تزلزل أقدام النظام وخشيته، بما فيهم الوزراء ورئيس الوزراء، من عواقب تلك الواقعة. إنّهم وإن كانوا يعبّرون عنها بأنّها كانت مثالًا "للرجعيّة" و"الاشتراكيّة"، لكنّهم اعترفوا بأنّ "هنالك واقعة كبيرة حصلت"، وأنّ إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة هو "آخر حلٍّ للوقوف في وجه الانتفاضة".

 

إنّها انتفاضة عظيمة! وكفاها فخرًا أن يصفها أولئك الأوغاد بأنّها: "حادثة لم يسبق لها مثيل، إنّها لأعظم وأخطر من واقعة 21 تمّوز/ 30 تير!". ولهذا، ومع وجود كافّة رموز المخابرات والقوّات المسلّحة المتأهّبة، فإنّهم لم يستطيعوا الوقوف في وجهها أو التعرّض لها.

 

لقد سعى أسد الله علم جادًّا، متّبِعًا السبل كافّة لإعطاء هذا التحرّك صبغةً أجنبيّة -خارجة عن نطاق الشعب- ممثّلةً بالعراق ومصر، وبمساعداتهم الماليّة، بينما نفى وزير الخارجيّة احتمال ضلوع العراق بهذه المؤامرة، لأنّ "حكومة العراق منعَت نشر بيانات رجال الدين (العراقيّين). وإنّ الحكومة العراقيّة أكّدت على صداقتها وحسن جوارها معنا". على هذا، فإنّهم اعترفوا بثورة الشعب ومشاركة أقطابه وقطاعاته كافّة، وحتّى موظّفي الدوائر الحكوميّة، حتّى إنّهم اعترفوا بأنّ "النساء والفتيات شاركن في الانتفاضة، بمسيرتهنّ التي شهدتها العاصمة عصر يوم الحادث".

 

202

 


171

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

من هنا، كان مفروضًا على الحكومة مراعاة الشعب "بتأبين قتلاهم". ونؤكّد بأنّ هذه الأساليب غير مُرضية وغير مقنعة، ويجب احتمال الخطر مرّة أخرى. وعليه، "فيجب اتّخاذ تدابير صارمة جديدة، وإلّا فسيُسحَب البساط من تحتنا". ويجب خلق مجالات اجتماعيّة عديدة وجديدة، لحفظ الشعب من خطر المتديّنين، ولإبعادهم عنهم، "فالقوّة والقمع حلّ صحيح لمواجهة المشكلة، وهنا يجب إشغال الجماهير وحرف الأمّة عنهم، فالضغط يولد الانفجار. إنّني ألفتُ أنظاركم (الكلام هنا لويزر الاقتصاد) إلى أنّ المشكلة باقية، والخطر كامن" (وثيقة رقم 3).

 

هذا مضافًا إلى سيطرة المخابرات على الصحف والمجلّات وما تصدَّرها من أخبار وشؤون متعلّقة بالحادثة، فكانت الصورة المشوّهة والمزيّفة ملموسة في المقالات المدرجة في الصحف بشكل عامّ. فمثلًا، جاء في صحيفة "اطّلاعات" المؤرَّخة في 5 حزيران: "إنّ متظاهري الرابع من حزيران انقسموا إلى فئتَين: الأولى قوامها مئتا نفر، والأخرى تقارب المئة نفر من الوحوش الضارية، ومن الدراويش المفترسة الذين خرجوا إلى الشوارع دون هدف، سوى إلقاء الرعب والأذى، إذ كانوا يطيحون بأيّ شخص يلاقونه في طريقهم. فمثلًا، عارضوا سيّارة نقل آنسات وسيّدات محترمات، ما أدّى إلى تدخُّل القوّات المسلّحة، وسقط العديد من القتلى نتيجة الاصطدام الذي حصل".

 

ب. رؤية الأحزاب والحركات السياسيّة الداخليّة للواقعة

فالجبهة الوطنيّة الثانية كانت الكتلة السياسيّة البارزة طوال فترة "الانفتاح السياسيّ" المُدبَّر أمريكيًّا. وكانت متّصفة بضبط النفس، والالتزام بالاحترام المتبادل، حتّى أصبحَت موضع اعتماد وثقة لدى كلّ من الشاه والأمريكان، طامعين بمستقبل زاهر تعلو فيه حكومة وطنيّة. ولهذا، وعلى حدّ تعبير أحد أعضاء الجبهة، كان زعيم الجبهة على اتّصال دائم بالشاه والأمريكان. وجاء في وثائق وكر الجاسوسيّة الأمريكيّة في طهران، أنّ أحد رموز السفارة التقى بالدكتور مهدويّ - أحد زعماء الجبهة الوطنيّة - عصر الخامس من

 

203

 


172

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

حزيران، ودار الحديث بينهما حول الواقعة، وكتب قائلًا: "لقد أكّد مهدويّ بأنّ الجبهة الوطنيّة ليس لها أيّ يدٍ وأيّة مشاركة ودعم لِما وقع يوم الرابع من حزيران".

 

وقال أيضًا: "لقد استدعَت المخابرات الدكتور مهدويّ، مستفسرةً عن موقف الجبهة تجاه الانتفاضة، وهل ستشارك وتدعم الانتفاضة فيما بعد؟ فأجاب الدكتور مهدويّ بالنفي. وفي عصر ذلك اليو،م قام الطلبة الجامعيّون من أتباع جناح الجبهة الوطنيّة المنشقّ، برفع لافتات وشعارات ضدّ الشاه والحكومة، كالموت للمستبدّ وغيرها، وتسبّبوا أيضًا بإشعال النار في سيّارة نقل حكوميّة. وحين وصل النبأ إلى الجبهة، اتّصل الدكتور مهدويّ برجال المخابرات، طالبًا التدخّل السريع لإخماد فتيل الحركة هذه، والقضاء عليها".

 

كذلك أكّد العميد "باكروان" خلال لقائه الصحفيّ عصر الخامس من حزيران، وحينما ردّ على سؤال أحد المراسلين، أكّد بأنّ الجبهة الوطنيّة لم تشارك مطلقًا في المظاهرات جميعها، منذ اليوم الأوّل المصادف 3 حزيران، وحتّى الآن.

 

أمّا الدكتور مصدّق، الذي أُبعِد إلى قرية "أحمد آباد"، والذي كانت له اتّصالات مستمرّة مع أعضاء الجبهة، فآثر السكوت والصمت تجاه هذه الواقعة.

 

أمّا حزب توده الشيوعيّ، فأخرج رأسه من مكمنه، متضامنًا مع الشاه، مناديًا بتنفيذ الإصلاح الزراعيّ والثورة البيضاء المزعومة، ووصف انتفاضة الخامس من حزيران بأنّها نتائج "الرجعيّة السوداء ضدّ الحركة الإصلاحيّة وحرّيّة المرأة".

 

لقد أدرجَت صحيفة "حزب توده" مقالًا في عددها (تمّوز 1963م)، جاء فيه: "ليس ثمّة أدنى شكّ بأنّ ما قام به المغفّلون من الناس البسطاء، بأعمالهم المتوحّشة تلك، كان نتيجة استغلال جماعات رجعيّة لمراسم العزاء والبكاء الدينيّة، وقد استطاعوا أن يثيروا مشاعر العامّة والبسطاء وأحاسيسهم، للقضاء على الإصلاحات الإنسانيّة والتحضّر والحرّيّة".

 

وأضافت من جهة أخرى، قائلة: "إنّ أوّل من خالف الإصلاح الزراعيّ وعارض حرّيّة

 

204

 


173

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

المرأة ومشاركتها بالانتخابات هم الإقطاعيّون وأصحاب الأراضي، الذين كانوا يتلقّون دعمًا ومساندة من رجال الحوزة والدين. والآن، صمّم الرجعيّون على الخروج من مرحلة النظريّة، إلى التطبيق والعمل".

 

بينما نشر حزب العمّال والكادحين الوطنيّ بيانًا في 6 تمّوز 1963م، أعلن فيه عن حياده، ومسايرة الاتّجاهين، وأظهر ولاءه ودعمه لقيادة الإمام الخمينيّ قدس سره وزعامته الدينيّة لشيعة العالَم، وحذّر السلطة من القيام بمحاولة محاكمته. لكن في الوقت نفسه، طالب بلمّ شتات الآراء المتضاربة والمختلفة، وجعلها تصبّ في مجرى واحد، هو "الالتزام الكامل بالدستور، وما يصوِّت عليه البرلمان حصرًا". ومن البديهيّ أنّ هذا الأمر كان مخالِفًا لرأي الإمام قدس سره، كما أشرنا في الفصول الماضية.

 

ج. أقوال الصحف الأجنبيّة

من الغريب والمثير للدهشة أنّ الصحف الشرقيّة والغربيّة كافّة، شنّت هجمة شعواء ضدّ هذه الحركة الجماهيريّة، ونتكفي بذكر مقتطفات من أقوالها: صوّرَت صحف الولايات المتّحدة الأمريكيّة انتفاضة الخامس من حزيران أبشع صورة، وبالغَت بإطلاق مختلف العبارات الهزيلة والسخيفة تجاهها.

 

جاء في مجلّة "التايم"، في مقالتها الافتتاحيّة، والصادرة بتاريخ 14 حزيران 1963م، الآتي:

"باتت طهران ثلاثة أيّام بلياليها في ساحة معركة دامية، والناس يستغيثون، وصوت الرصاص يُسمَع في كلّ مكان، وارتفع دخان النفايات المحترقة، ليختلط مع الغازات المسيّلة للدموع. يا لخيبة الأمل! انظروا ما يفعله الدهر تجاه التقدّم والتحضّر".

 

ووصفَت الشاه بقولها: "إنّه المصلح المفكّر الخارق للعادة"، وأشادت بمواقفه البطوليّة ضدّ الإقطاعيّين، لقلبِ وجهِ الوطن إلى وجهٍ حضاريّ متقدّم، وأضافت: "إنّ أعداءه يتشكّلون من "بعض رجال البلاد الفاسدين" و"أصحاب الأراضي الشاسعة"، ورجال الدين الذين يحرمون المرأة حرّيّتها ومشاركتها بالانتخابات، ويقفون ضدّ

 

205


174

الفصل العاشر: الإمام قدس سره ومحمّد رضا بهلويّ

الرواتب الشهريّة للكادحين والفلّاحين الذين يحرثون الموقوفات والأراضي الخاصّة".

 

وجاء في "يونايتد برس إنترناشيونال": "إنّ آلاف المسلمين المتعصِّبين هاجموا قلب العاصمة طهران". وفي تقرير آخر، وصفَت مسبّبي هذه الحوادث بأنّهم معارِضون لإصلاحات الشاه، "لأنّها تعارض مصالحهم الشخصيّة والماليّة، التي تتعلّق بالأراضي التي وهبها الشاه للفلّاحين".

 

وإنّ ما يلفت النظر هنا، أنّ إذاعة الاتّحاد السوفياتيّ (سابقًا) وصحفه، التي هي لسان حال الحزب الحاكم هناك، راحَت تردّد عبارات الصحف الأمريكيّة والأوروبّيّة ذاتها حول فاجعة الخامس من حزيران. لقد عبّرَت إذاعة موسكو الناطقة بالفارسيّة، ليلة السادس من حزيران، عن رأيها تجاه الواقعة، قائلة: "لقد تظاهر اليوم الشعبُ في كلٍّ من طهران ومشهد وقمّ، بإيعاز من العناصر الرجعيّة المتخلِّفة المعارِضة للتحضّر والتمدّن، وبالأخصّ تجاه إصلاحات الشاه ورفع رواتب الموظّفين وفسح مجال الحرّيّة للمرأة... وإنّ زعماء هذه الحركة الهدّامة هم رجال الدين... لقد تسبَّبَ الرجعيّون في حرق سوق طهران التجاريّ، وداهموا مراكز المبيعات والمراكز التجاريّة، وسطوا على معظمها، وعطّلوا حركة السير، وحرقوا الباصات والسيّارات، وداهموا بعض الوزارات".

 

أمّا مجلّة "أيزفستيا" الناطقة بلسان الحكومة في الاتّحاد السوفياتيّ (سابقًا)، فتطرّقت إلى الحادثة في عددها الصادر في 7 حزيران، وقالت: "نتيجة استغلال الشعب من قِبل رجال الدين المسلمين في إيران، حدثَت مظاهرات وحوادث عدّة في طهران وقمّ ومشهد. لقد استغلّ الغوغائيّون أيّام العزاء والمراسم الدينيّة، وداهم عددٌ من الشباب المغفّل المراكزَ التجاريّة، وأضرموا النيران في السيارّات".

 

وأعربت مجلّة "العصر الجديد" الروسيّة عن رأيها، في عددها الصادر في اليوم نفسه، قائلة: "إنّ الخمينيّ وأتباعه حرّضوا المؤمنين على السلطة، واتّخذوا من إعطاء حقوق المرأة ذريعةً لتعصّبهم الأعمى، والخروج إلى الشوارع، وأحدثوا ضجّة كبرى".

 

ونكتفي بهذا القدر من مطالعة آراء الصحف والإذاعات الأجنبيّة وأقوالهم حول فاجعة 5 حزيران 1963م.

 

206

 


175

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

الفصل الحادي عشر

 

الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

حزيران 1963م - آذار 1964م

 

ذكرنا آنفًا أنّ الإمام قدس سره بعد اعتقاله مباشرةً نُقِل إلى العاصمة طهران، وأُوقِف في "معسكر القصر" لبضع ساعات، ونُقِل بعدها إلى معسكر "عشرت آباد". واستثمر الإمام قدس سره أيّامَ سجنه هذه بمطالعة الكتب المختلفة، كالتي تدور حول "استقلال الهند" و"استقلال أندونيسيا" و"الثورة الدستوريّة".

 

في 2 آب، نُقِل من السجن إلى منزلٍ أُعِدَّ له في منطقة "داووديّة" في طهران. وقبل يومٍ من انتقاله هذا، كان قد أُودِع في زنزانة انفراديّة، لا يزيد عمقها على الأربعة أقدام. لقد ازدادَت وتصاعدَت البرقيّات المعارِضة والمندِّدة للشاه والحكومة، مطالِبةً بالإفراج عن الإمام قدس سره، مِن قِبَل العلماء والمراجع من أرجاء إيران كافّة. وعندما علم الناس بموضع إقامة الإمام قدس سره الجديد، أخذَت الجماهير تشقّ الطرق نحوه زرافاتٍ ووحدانًا، من أجل التشرّف بلقياه والاطمئنان على سلامته، مع أنّ المنزل كان بعيدًا شيئًا ما، ومراقَبًا من قِبَل رجال المخابرات والشرطة، بيدَ أنّهم لم يكونوا على أهبّة الاستعداد للتصدّي لتلك الجموع الكثيرة.

 

إنّ الإمام قدس سره منذ لحظة اعتقاله، وحتّى ساعة حلوله في المنزل، لم يكن يعلم بما جرى من حوادث ووقائع يوم الخامس من حزيران في طهران ومشهد وقمّ، لكن عندما أُتِيحَت له الفرصة، واستطاع بعض المقرَّبين منه قدس سره مقابلته، عندها علم بما قام به

 

211

 


176

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

الشعب تجاهه وتجاه الوطن والدين، وإذا به يتمتم مع نفسه قائلًا: "إنّ مسؤوليّتي كبرَت وتعاظمَت... إنّني لم أقدّم شيئًا للأمّة مطلقًا...".

 

لقد وقفَت الجماهير أمام المنزل تنتظر بفارغ الصبر لحظة إطلالة نور وجه الإمام قدس سره من الشبّاك المطلّ على الخارج، وتقديرًا لهذه المشاعر، بالفعل واجه الإمام قدس سره الجماهير، التي ما إن أشرق نور وجهه عليها، حتّى انهالت دموعُها، وجرَت عبراتُها من شدّة الفرح الذي غمرها. ولم يتمالك الإمام قدس سره نفسَه، فصاح معتذرًا: "كيف أستطيع أن أُقابل هذه المشاعر والأحاسيس من الأمّة؟".

 

وانحدرَت دموعه على وجناته بغزارة. إنّ هذه أوّل مرّة، وآخر مرّة، يُرى فيها الإمام قدس سره باكيًا، باستثناء مجالس العزاء على الإمام الحسين  عليه السلام.

 

لقد انفعل الإمام قدس سره بشدّة عندما سمع بفاجعة الخامس من حزيران، وكانت محور حديثه الدائم قبل الثورة الإسلاميّة وبعدها، والتي لطالما كان يصفها بالفخر بالشعب والتبجيل له، وبالذلّ والهوان للسلطة والشاه.

 

إنّ عمليّة نقل الإمام قدس سره من السجن إلى منزل سكنيّ في أحد أحياء طهران كانت عمليّة سياسيّة ماكرة لهم، فيها مآربُ خاصّة وأهداف بعيدة. فبعد انتقال الإمام قدس سره إلى هذا المنزل بيوم واحد - أي في 3 آب - أعلنَت المخابرات عن هذا بصيغة ماكرة، بحيث يفسّرها الشعب والناس بأنّها نوع من التفاوض بين الإمام قدس سره و"قوى الأمن". وصيغة الإعلان هي كالآتي:

"استنادًا إلى تقرير دائرة المخابرات والأمن، بلغَنا الآتي: اتّفق رجال الأمن والسادة العلماء: الخمينيّ، والقمّيّ، والمحلّاتيّ، على عدم تدخُّل العلماء بالأمور السياسيّة، وأُخِذَت المواثيق منهم على عدم تعرّضهم لمصالح البلاد وأمنها... وبناءً على هذا، تمّ نقلهم إلى منازل خاصّة تؤويهم".

 

في هذه الفترة، لم ينسَ الإمام قدس سره المحرومين والذين يُدفَع لهم مساعدات ماليّة

 

208

 


177

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

من الخمس، فأرسل رسالةً لنجله الشهيد آية الله السيّد مصطفى، يأمره بإعطاء المساعدات، ولا ينسى المحرومين الذين كانوا يتقاضون المبالغ شهريًّا.

 

بيدَ أنّ هذه المؤامرة فشلَت وبدّدتها الرياح، عندما أصدر مراجع الحوزة والعلماء بيانًا يُكذِّب هذه التلفيقات والمؤامرات.

واستمرّ النظام يبعث برجال وأفراده إلى الإمام قدس سره طيلة فترة اعتقاله، للتفاوض والتفاهم معه. فسلكوا أسلوب الترغيب والترهيب لإرغامه على التنازل عن بعض مطالبه أمام السلطة والشاه، أو على الأقلّ العمل على إقناعه ليلتقي مع الشاه شخصيًّا، إلّا أنّ السيّد الإمام قدس سره لم يكترث بهم ولا بمغرياتهم، ولم يأبه لمكرهم أو لتهديدهم ووعيدهم.

لقد تصوّر الشاه أنّه بارتكابه جريمة الخامس من حزيران، وإلقائه القبض على الإمام قدس سره، وإذلاله لبعض علماء الدين، وإشاعة نبأ التفاوض بين الإمام قدس سره ورجال السلطة، بأنّ المسألة قد أشرفَت على النهاية، وأنّ الهدوء والاستقرار سيعمّ البلاد. فعمد إلى عزل "أسد الله عَلَم" من منصب رئاسة الوزراء، متذرّعًا بأنّه هو المسبِّب لما جرى من حوادث مؤسفة، وعمد إلى تضليل الرأي العامّ من خلال إعلانه بأنّ أحد المواضيع كان ضمن الاتّفاق والتفاوض مع الإمام قدس سره، وعيَّن "حسن عليّ منصور" بدلًا من "عَلَم"، وسرعان ما ظهر "حسن عليّ" على ساحة المسرح، ليُلقي خطابًا سياسيًّا يعتمد فيه أسلوب المراوغة، ليؤكّد من خلاله على ضرورة احترام الدين والمقدّسات، وأثنى على الإسلام، ووصفه بأنّه "من أكمل الأديان السماويّة وأروعها"، وتطرّق أيضًا إلى مواقف الشاه واحترامه الشديد للدين والمذهب والمقدّسات.

 

وبعد يومَين من خطاب "حسن عليّ منصور" - أي في ليلة 7 نيسان - أُدخِل الإمام قدس سره مدينة قمّ دون إعلامٍ مسبق، وأُطلِق سراحه. ومنذ الدقائق الأولى، وحتّى صباح اليوم التالي، تصاعدَت زيارات الجماهير له وكثرت، وانتشر النبأ في أنحاء البلاد

 

 

209


178

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

كافّة، وتوالت الحشود الجماهيريّة على منزله قدس سره من جميع أرجاء البلاد، لزيارته وللتزوّد من روحه النضاليّة المجاهدة.

 

وفي اليوم نفسه، أصدرَت صحيفة "اطّلاعات" مقالًا تحت عنوان "الثورة البيضاء وأمريكا"، وجاء فيه: "إنّه لمن المفرح حقًّا، ومن دواعي سروري، أن نرى المرجعيّة الدينيّة اليوم والشعب، تقف إلى جانب الحكومة، لبدء حركة الإصلاح وإقامة الثورة البيضاء التي دعا إليها الشاه!". هكذا أرادوا الانتقاص من المرجعيّة وشخص الإمام قدس سره، بغية تحقيره وتصغيره في أعين الشعب والجماهير المسلمة.

 

وبعد مطالعة الأمر ودراسته وتبلوره لدى الإمام قدس سره، ألقى قدس سره خطابًا مهمًّا في يوم 10 نيسان، أثناء اجتماعه بالطلبة الجامعيّين الذين قدِموا من العاصمة لزيارته ومقابلته، حيث كان هذا أوّل خطاب يُلقيه الإمام قدس سره بعد خروجه من السجن.

 

تطرّق الإمام قدس سره في بداية خطابه هذا إلى إرشاد الطلبة، وتقديم النصائح لهم، وبيَّن لهم أنّ المسألة ليست مسألة إفراج عن شخص أو أشخاص من السجن، بل إنّ الهدف أكبر وأعظم، إذ قال:

"لو لم تكن مرارة السجون وعذابها، لَما كانت هناك لذّةٌ للنصر. حقًّا، كان الهدف أكبر من السجن وإطلاق السراح... هدفنا هو الإسلام، استقلال البلاد، نفي عملاء إسرائيل ومسخهم، الاتّحاد مع البلاد الإسلاميّة كافّة".

 

ونبَّه إلى خطر إسرائيل وعملائها في البلاد، قائلًا:

"إنّ اقتصاد البلاد الآن بيد إسرائيل. وعملاء إسرائيل[1] تسلّطوا اليوم على معظم المراكز الاقتصاديّة، اقتصاد البلاد الآن بقبضتهم واختيارهم... إنّ بلدنا لا يمكن أن تديره إسرائيل".


 


[1] يقصد البهائيّين.

 

210


179

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

ثمّ عاد مشيرًا إلى هدف الإفراج عنه، بأنّه كان "عارًا" و"هزيمةً" للنظام، قد أُفرِج عنه نتيجةً لضغوطٍ سياسيّة داخليّة وخارجيّة، وأشار أيضًا إلى الإشاعات التي صدرَت من قِبَل الحكومة حول مفاوضاته واتّفاقه معها، قائلًا:

"لقد نشرَت صحيفةُ "اطّلاعات"[1] المنحطّةُ مقالًا تحت عنوان "الاتّحاد المقدّس"، يتّهم المرجعيّة بأنّها توصّلَت إلى وفاق واتّفاق مع ثورة الشاه والشعب. فأيّ ثورة هذه؟! وأيّ شعب هذا؟! إنّ هذه الثورة ليست لها أيّة علاقة مع المرجعيّة والشعب. أيّها الطلبة الأعزّاء، بلِّغوا كلَّ مَن لم يصل له صدانا بأنّ المرجعيّة معارِضةٌ ومخالِفةٌ لهذه الثورة.

 

نحن نمرُّ بفترة اختناق، وليست لدينا أيّ أداة إعلاميّة... ولهذا يُضلَّل بعض الناس المنقطعين عنّا بهذه المؤامرات، ويُخدَعون بالأكاذيب والادّعاءات. أين المرجعيّة من هذه المفاسد؟ هنالك بون شاسع...".

 

ومن ثمّ تطرّق إلى موقفه السياسيّ، وقال:

"إنّ الخمينيّ سوف لن يجلس على مائدة التفاوض، حتّى وإن عُرِّض لحبل المشنقة... إنّني لستُ من أولئك المعمَّمين ورجال الدين الذين لا يعرفون من الإسلام سوى الجلوس والتسبيح والتهليل. إنّني لست كالبابا، كي أخرج في الأسبوع يومًا لأداء الطقوس الدينيّة، وأركن باقي الأيّام إلى أموري الخاصّة وزعامتي العامّة.

 

يجب علينا أن نُخلِّص هذه الدولة والأمّة من هذه المصائب... نحن لسنا أعداء لأيّ شخص، ولسنا مخالِفين لأيّ فرد. إنّما عداؤنا ومخالفتنا هي لنوع العمل والطريق والمسلك".

 

ثمّ تطرّق بخطابه هذا إلى ما يُطلقه النظام من إشاعات حول الإصلاحات، وكذلك يشير إلى الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ للشعب، فيقول:


 


[1] هذه الصحيفة نفسها نشرت مقالًا مُهينًا لشخص الإمام قدس سره، ما أدّى إلى اندلاع الثورة العارمة في مدينة قمّ، ومن ثمّ تبريز، وجميع مناطق البلاد. وقد سقط جرّاء هذا عددٌ كبير من الشهداء عام 1977م.

 

211


180

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

"... لا يمكن القيام بالإصلاحات بالحراب (بالسلاح). ولا يمكن أن يصلح البلد بكتابة "الخمينيّ خائن" على جدران طهران! فهل لاحظتم أنّكم أخطأتم؟... لقد لفَتَ نظري مقالٌ في صحيفة "اطّلاعات" حول أوضاع المناطق الجنوبيّة الفقيرة، واستغربتُ كيف أقدمَت هذه الصحيفة على نشره. لقد كتب مراسلُ الصحيفة الذي زار منطقة الجنوب، قائلًا: "إنّ القرى والأرياف في جنوب البلاد تفتقر إلى الأطبّاء، والعلاج، والماء الذي كان ينعدم وجوده. وقد رأيتُ إحدى القرى، وكان أكثر أهاليها فاقدي البصر. وخلاصة القول: إنّهم محرومون من أبسط الحقوق!". وفي ذلك الوقت، كانت تُعقَد مؤتمرات وندوات يُدعَى إليها ممثّلون من دولٍ عظمى وصغرى، وعندما كان الأعضاء المشاركون، سواء من الدول الصغيرة أو الدول الكبيرة، يتحدّثون بالمشكلات الاقتصاديّة لبلدانهم، كان الوفد الإيرانيّ يصف الوضع الاقتصاديّ في إيران بأنّه جيّد للغاية، ولا يعاني أزمةً ما!".

 

وفي مجال آخر، يتعرّض لحياة الضعفاء والفقراء قائلًا:

"... عندما كنت في السجن، بلغني أنّ درجة الحرارة في همدان هبطت إلى 33 درجة تحت الصفر، وعقّبَه نبأ ثانٍ يقول: بأنّ متضرّري الكتلة الهوائيّة الباردة هذه بلغ 2000 مواطن[1]. وحينها لم أستطع أن أفعل شيئًا، وما الذي كان بوسعي أن أعمله ويداي مربوطتان؟ وتأمّلوا هنيهة، فهذا وضع همدان! فكيف حال القرى والمناطق البعيدة والمنقطعة عنّا؟ فما الذي قدّمته الحكومة؟ في ظروف كهذه، وحيال مثل هذه المصائب، بينما يقوم رجال البلاط بطلب أنواع الزهور من هولّندا، وتنقلها بالطائرات الخاصّة للبلاد لتقدَّم لأسيادهم في المراسم والاحتفالات، وهكذا تُبذَّر أموال الشعب المحروم، حيث إنّ كلفة رحلة واحدة من هولّندا إلى إيران تعادل 300 ألف تومان!


 


[1] أجهش الحاضرون بالبكاء عند سماعهم هذا الكلام.

 

212


181

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

صحِّحوا أعمالكم هذه. فإذا كان ما تدّعون حقًّا، فهيّا، أفسِحوا المجال للشباب العاطل عن العمل. شبابنا بعد عشرين سنة من الدراسة يريدون عملًا، طلّابنا الجامعيّون يتخرّجون من جامعاتهم إلى ساحة البطالة. المواطن الذي لم تُؤمَّن حياته ولم تُوفَّر له لقمة العيش، يفقد دِينه بسرعة.

 

هل تعتقدون بأنّ السارق يُعرِّض نفسه للخطر ليتسلّق جدران منازل الناس؟ أو تلك المرأة التي تبيع كرامتها وشرفها، هم مقصِّرون ومذنبون؟ لا... فالسبب الرئيس هو فساد الوضع الماليّ والاقتصاديّ، وهو وحده الذي يسبِّب مثل هذه الجنايات والجرائم التي تعرضها الصحف كلّ يوم".

 

والنقطة التي تلفت النظر هنا، هي أنّ الكثير من العلماء المسلمين القدامى والمعاصرين يرون أنّ البدع والأفكار المنحرفة هي طريق الانحراف فقط، وهي الخطر الأكبر للدين الإلهيّ والعقيدة الإسلاميّة، بينما نرى الإمام قدس سره يرى غير ذلك، ويؤكّد عليه مرارًا وتكرارًا، ألا وهو مسألة "الفقر المادّيّ والاقتصاديّ". يرى أنّ ذلك هو السبب الأكبر لفساد المجتمع، والدافع الأوّل لمسخ الدين والأخلاق. وبعبارة أخرى، فإنّ الإمام قدس سره لا يتطرّق إلى معالجة المشاكل بشكلها الظاهريّ، إنّما يطرح فكرًا أساسيًّا لحلّ المشكلة من أساسها، واقتلاع الفساد من جذوره.

 

والنقطة الأخرى الجديرة بالذكر، هي وصاياه وإرشاداته للطلبة الجامعيّين بالالتزام الدينيّ والخُلقيّ، والتمسّك بتعاليم الدين الحنيف، لأنّها المنهج الوحيد والنظام الأكفأ لإيصال حياتنا الاجتماعيّة والفرديّة إلى التكامل والسعادة. وشجّع الطلبة على الاتّحاد والتعاون والتماسك فيما بينهم، لأنّهم مظهر الدين والإسلام في الجامعة، وقال:

"بالله، إنّ هذا ليس بإسلام، الإسلام كلّه سياسة. لقد حرّفوا مفهوم الإسلام الحقيقيّ. السياسة المدنيّة أساسُها من الإسلام... إنّ الإسلام يهتمّ بالإنسان منذ ولادته وحتّى يوم دفنه، وسَنَّ لكلّ مرحلة ولكلّ يوم من حياته دستورًا، وسَطّر له تعاليم عظيمة".

 

213


182

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

وفي ختام خطابه، عرّج على واقعة الخامس من حزيران، قائلًا:

"... ملحمة يوم الخامس من حزيران كانت أبشع وأقسى ممّا يفعله العسكر والجيش بأمّةٍ معادية لنا. إنّ أولئك لم نسمع يومًا ما عنهم بأنّهم تعرّضوا لقتل طفل أو لقتل... إنّ أمّتنا ما دامت على قيد الحياة، فهي معزّاة بهذه الفاجعة. لقد سمعتُ أحدَهم يقول: إنّ حدث الخامس من حزيران وصمة عار للأمّة والشعب الإيرانيّ. لكنّني أرى هذا الكلام ناقصًا، فأُكمله وأقول: نعم، إنّه وصمة عار للشعب، لأنّ الرصاص الذي رشقهم كان من أموال الشعب، وبسلاحه هو بالذات تعرَّض للقتل والدمار".

 

وقد أعلن في خطابه هذا عن موقفه الصارم والشجاع، وفنّد جميع الادّعاءات والأكاذيب التي ألصقوها به، وصمّم على المضيّ في الطريق إلى أن يصل إلى الهدف المنشود، مهما بلغ الثمن، متمسّكًا بمبدأ الإسلام، ومقتديًا بسيرة الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الميامين عليهم السلام.

 

وبعد أيّام من هذا الخطاب، وبالتحديد في 15 نيسان، شهد المسجد الجامع في مدينة قمّ حشودًا كبيرة من مختلف القطاعات، بما فيهم علماء الدين وكبار أهل العلم، وذلك لاستماع خطاب الإمام الخمينيّ قدس سره الذي واجَهَ فيه الدعايات والإشاعات التي تُطرَح وتُطلَق ضدّه وضدّ الإسلام. وممّا جاء في خطابه هذا:

"يتّهموننا بالتخلّف وبالرجعيّة و... الصحف الأجنبيّة تصفنا بأنّنا ضدّ الإصلاحات، إنّهم يدّعون بأنّنا لا نريد الكهرباء، لا نريد الطائرات... إنّنا نريد الرجوع للقرون الوسطى! إنّ علماء الدين يعارِضون هذه الإصلاحات، لأنّها تدحض التخلّف والرجعيّة...

 

كلّا، إنّنا نخالف الوحشيّة، نخالف القتل، نخالف الدكتاتوريّة. هل هذا رجعيّة وتخلّف؟ إنّنا نصرخ قائلين: لا، وألف لا للعمالة. إنّنا ندعو إلى التحرّر والاستقلال، نقول: لا تمدّوا أيديكم إلى بضع دولارات وتبيعون كرامتكم... نحن نريد تطبيق

 

214

 


183

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

القانون... إنّكم أنتم الذين عرّضتم الجماهير للقمع والقتل والنفي، أنتم الذين ملأتم زنزاناتكم وسجونك بالأبرياء... أأنتم متحضّرون؟ أأنتم غير رجعيّين وغير متخلِّفين؟... نحن لسنا معارِضين للتحضّر والتمدّن، إسلامنا لا يخالف التحضّر... هذه أفكار قيّمة وذات أهمّيّة لدى علماء الإسلام...، لكنّ الرجعيّة هي الانصياع للغير، ووضع المخازن والمصانع بِيَد الأجانب، التخلّف هو العمالة للأجانب، الرجعيّة هي حكم الشعب بالقوّة والسلاح... أأنتم المتحضّرون؟ وأنتم لا تعرفون من القانون شيئًا، لا تعرفون من الدين شيئًا، إنّكم لا تريدون من الشعب سوى إذلاله ونهبه. عجبًا لكم! أهذا هو الرقيّ؟!".

 

ثمّ تطرّق بخطابه إلى اجتياح الاستعمار الثقافيّ للبلد، وأبدى رأيه ووجهة نظره بعزمٍ ثابتٍ وجزمٍ كاملٍ، فقال:

"إنّكم - مسؤولي البلاد - تدّعون التحضُّر والرقيّ، لكن ما إن يدخل البلد هذا الرقيّ، حتّى نرى الحرام ينقلب إلى حلال، والحلال إلى حرام! هل هذا تحضّرٌ وتمدّنٌ حينما تقوم الإذاعة ببثّ برامج مسمومة كهذه؟ هل هذا تحضّرٌ حينما أصبحَت الصحف والمجلّات تنشر تلك الصور المبتذلة؟ ألم تكن هذه أفكارًا استعماريّة لإفساد الشباب وحرفهم عن الصواب؟ لا شكّ في أنّ الأمور كلّها خططٌ استعماريّة بحتة، لا تريد وجودَ شبابٍ متميّز، وأيدٍ عاملة نظيفة ومفكِّرة في البلاد. الاستعمار هو الذي يرتّب برامج الإذاعة والتلفزة حسب أهدافه الخاصّة، فيعمد إلى فتح طرق شرّيرة لإرهاق أعصاب المستعمين والمشاهدين وإضعافها، ولإيهان قواهم وتشويش أذهانهم وأفكارهم.

 

نحن نخالف هذا التحضّر... نحن نؤكّد على سلامة الجامعات، وعدم التعرّض للشباب وإلقائهم في بؤر الشبهات والانحرافات والفساد. نحن نريد من جامعاتنا أن تصنع وتنتج عقولًا مفكِّرة مخلِصة للأمّة والوطن، تُخرِّج شبابًا يُسيِّرون البلاد بإخلاص وأمانة، ويقفون في وجه أيّ خطر أجنبيّ أو نوع من أنواع الاستعمار.

 

215

 


184

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

وأمّا ما أُشِيع عن المرجعيّة بأنّها تخالف وتعارض حرّيّة المرأة، من قِبل وكالات الإعلام الشرقيّة والغربيّة، فهو مردودٌ عليها، ونحن نقول:

لسنا مخالِفين لتحضّر المرأة وتمدّنها، نحن نخالف الفحشاء والمنكر، نخالف هذه المشاريع والبرامج المبتذلة. ومن ثمّ متى كان الرجال أحرارًا وطلقاء، حتّى أصبحت النساء مقيّدات ويطالبن بالحرّيّة؟ هل الحرّيّة هي تحريك لسان فقط؟".

 

ثمّ تعرَّض لإسرائيل مرّة أخرى، وقال:

"إنّكم تستقبلون بعثات من الخبراء والمتخصّصين الإسرائيليّين، وترسلون بطلباتنا إلى إسرائيل... إنّنا نعارض ونخالف هذا كلّه... أيّها العالَم، إنّ أمّتَنا معارِضةٌ لأيّ اتّفاق يحصل بين حكومتنا وإسرائيل. أمّتنا، علماؤنا، مراجعنا، والمسلمون كافّة يعارضون أيَّ تقارب واتّفاق مع إسرائيل...".

 

لقد اقترح الإمام قدس سره على العلماء، اقتراحًا يقضي باجتماع علماء الدين والحوزة، ولو لمرّة واحدة في الأسبوع، لدراسة الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلاد، وكلّ ما يستجدّ من مستجدّات وحوادث. واتّفق أيضًا على إقامة اجتماع آخر لعلماء الدين في باقي المحافظات، في أقاليمهم المتقاربة، نظرًا لبُعد المسافة بينها وبين العاصمة الدينيّة قمّ. بيدَ أنّ هذه الفكرة تعرّضَت للانهيار بعد فترة وجيزة، بسبب معارضة بعض العلماء ورجال الدين، وكذلك نتيجةً لضغوط المخابرات، وخشية بعضهم الآخر وخوفهم.

 

وبعد فترة من الزمن، أصدر الإمام قدس سره بيانًا شديد اللهجة، عندما عزمَت المحكمة العسكريّة إلى تنفيذ حكمها على كبار "حركة التحرير" (المرحوم آية الله الطالقانيّ، والمهندس مهديّ بازركان)، ووصفَها بمحاكمة الزور والبهتان، وقال: يجب "أن تعيد النظر في القرار"، وعارضَ إجراءَ المحاكمة بصورة "سرّيّة"، والتعرُّضَ لهم قبل "ثبوت أيّ دليل على الاتّهامات الواردة".

 

216

 


185

الفصل الحادي عشر: الإمام الخمينيّ قدس سره منذ اعتقاله وحتّى إطلاق سراحه

وهاجم إسرائيل ثانيةً، وكشف القناع عن الروابط بين إيران وإسرائيل، فقال:

"إنّي أعلن لكافّة الدول الإسلاميّة، ولمسلمي العالَم أينما كانوا، أنّ الأمّة الشيعيّة العزيزة ساخطةٌ على إسرائيل وعملائها، وتُعرِب عن سخطها واستنكارها للدول المساوِمة لإسرائيل. وليس الشعب الإيرانيّ الذي يُقدِم على مساومة إسرائيل المنبوذة، بل الحكومات التي لم تحظَ بتأييد الشعب مطلقًا، هي التي تسعى لذلك، والشعب الإيرانيّ بري‏ءٌ من هذا الذنب العظيم‏!".

 

217


186

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

الفصل الثاني عشر

 

 

محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

قبل أن نتناول خطاب الإمام قدس سره التاريخيّ حول منح للحصانة للأمريكان، بالبحث والدراسة والتحليل، نرى من الضروريّ تقديم مقدّمة ترتكز على ثلاث نقاط مهمّة، نحصرها في فصلٍ مستقلّ ومختصر، وذلك لأنّها كانت تحظى باهتمامٍ وتأكيدٍ متواصل من قِبَل سماحة الإمام قدس سره طيلة سنواتٍ مديدة، تحسُّبًا لعواقبها ومخلّفاتها، وهي:

1. منجزات الثورة البيضاء.

2. تكريس الروابط مع أمريكا وتصعيد الاتّكال عليها.

3. توطيد العلاقات الإيرانيّة الإسرائيليّة.

 

1. منجزات الثورة البيضاء

أشرنا سابقًا إلى أنّ السلطة والشاه كثيرًا ما كانوا يتباهون ويتفاخرون بتنفيذ البند الأوّل -الإصلاح الزراعيّ- من البنود الستّة لورقة العمل الإصلاحيّة الملقَّبة بالثورة البيضاء، وتطبيقه، وذلك لإثارة حفيظة العلماء والحوزة، التي واجهَت الكثير من الاتّهامات والدعايات المغرضة على أنّهم المساندون والمعاضدون للإقطاعيّين الذين يرون زوال أهدافهم الذاتيّة بإجراء الإصلاحات القيّمة هذه. لكنّ الإمام قدس سره أكبر من أن يُخدَع بمراوغاتٍ وحِيَلٍ كهذه، ولهذا، أحجم عن معارضته للبند الأوّل، منتظِرًا فرصةً زمنيّةً أخرى مناسِبة. وبعد مضيّ عامٍ على التصويت على الإصلاح الزراعيّ، قدّم الشاه ورقة عمله الإصلاحيّة ذات البنود الستّة إلى الاستفتاء العامّ، وعندها نهض

 

219

 


187

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

الإمام قدس سره بوجه النظام، معلنًا معارضته ومخالفته، مشيرًا إلى عواقبها ومخلّفاتها المدمِّرة. ومن المناسب أن نورد هنا بعض النماذج من مخلّفات الإصلاحات الزراعيّة وعواقبها في القرى والأرياف، وما تعرَّض له القرويّون والمزارعون قبل تنفيذها وبعده، ليكون القارئ الكريم على علمٍ كافٍ بادّعاءات النظام والشاه، التي لم تكن سوى طبول مليئة بالهواء، وليعي أكثر أهداف الإمام قدس سره عبر إرشاداته وتوصياته.

 

بعد عامٍ من استئناف الإصلاحات الزراعيّة، عُقِدَت ندوة رسميّة بين كبار اقتصاديّي البلاد (عام 1963م)، وتطرّق مدير البناء والعمران الريفيّ والقرويّ أثناء خطابه بهذا الصدد، وقال: "... القرية عبارة عن مجموعة دُورٍ طينيّة تحتوي على غرف عاديّة مسقوفة بالخشب وسعف النخل وأغصان الأشجار، تُؤوي هذه الغرف البسيطة عائلة بأكملها، أي الأب والأم والأبناء، بل وأحيانًا يشاركهم الصهر بذلك! وإلى جانب هؤلاء، توجد حظيرة صغيرة للأبقار والأغنام، وهي عبارة عن مسكنٍ وملاذ لها، وعلى هذا الترتيب، فإنّ الميكروبات والجراثيم والعفونة تختلط بحياة هذه الأُسَر.

 

وأثاث هذه العوائل يتشكّل من بعض المستلزمات البسيطة دون الاعتياديّ، كالبطّانيّات التي تُثقلها الأقذار والأوساخ، والتي لم تعرف طعم المساحيق أو الصابون مطلقًا، كذلك ترى في طرفٍ آخر من المسكن عددًا من الصحون والأواني الصغيرة وإبريق الشاي وبعض الفناجين والملاعق الخشبيّة. وإذا انتقلتَ إلى بعض الأُسَر الأحسن حالًا منهم، فإنّك قد تشاهد عددًا من الصحون النحاسيّة والملاعق الفلزيّة، وربّما ترى مصباحًا نفطيًّا عند بعضهم الآخر.

 

أمّا غذاؤهم المثاليّ أيّام الصيف والخريف، فهو الخبز واللبن والحليب، وبعض مشتقّاته أحيانًا. أمّا في أيّامهم الصعبة، أي الشتاء والربيع، فيقتصر غذاؤهم على الخبز اليابس أو خبر الشعير، وأحيانًا تتواجد إلى جانبه بعض الخضار، كالشغلم المسلوق أو... إلخ. ونادرًا ما يتناولون شيئًا من اللحم، وقد يقتصرون على ذلك مرّةً أو مرّتَين خلال

 

220


188

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

السنة... وإنّ معظم القرى تفتقر إلى العلاج والأطبّاء والمحلّات والحمّامات الصحّيّة[1]، وإنْ طرق أسماعَنا شيءٌ من هذا القبيل، فإنّ ذلك يكون ضمن إطار الدعاية والإعلام فقط.

 

ومعدّل المحاصيل الزراعيّة متدنٍّ جدًّا قياسًا إلى وحدة المساحة الموزَّعة على عدد النفوس، وما يعود عليهم من المحاصيل ضئيلٌ جدًّا، حيث يتقاسمها الأقوياء وأفراد العصابات، أو تتعرّض للغارات وما شابهها. وخلاصة القول، فإنّ سكّان القرى هم أُناسٌ متخلِّفون، جياع، عراة، أذلّاء، مرضى، وسقيمون. هذا هو حال طبقة الشعب الذي يُعتَبَر العموم الفقريّ للبلاد، وهذا هو وضع جماهيرنا التي تحتضن القرى القسم الأعظم منهم".

 

في الملتقى الخامس للخبراء والمتخصِّصين الاقتصاديّين، أعلن أحدُهم - والذي أصبح فيما بعد معاون وزارة الإصلاح الزراعيّ - الآتي: "إنّ سوء التغذية وشيوع الأمراض ناتجٌ عن شحّ الموادّ الغذائيّة، وانعدام الفيتامينات والبروتينات الحيويّة، وبالأخصّ عند الأطفال، والتي تسبّب في ارتفاع نسبة الوفيّات في القرى والأرياف". وأضاف: "إنّ نسبة الوفيّات هذه يُقَدَّر معدّلُها بحدود 45.6 بالمئة".

 

في عام 1968م، أدرجَت صحيفة "اطّلاعات" عريضةً من قِبَل فلّاحي محافظة مازندران، موجّهةً إلى الشاه، وممّا جاء فيها: "إنّنا الموقِّعون أدناه، نمثّل ما يقرب من مئتَين وأربعين قرية، ومئة ألف قصبة تتعلّق بمنطقة "جهار دانكَه" من محافظة مازندران، نحيط صاحب الجلالة عِلمًا بأنّ هذه المنطقة بأكملها أُلقِيَت في عالَم النسيان، والناس يقضون حياتهم بأصعب الظروف وأقساها، عِلمًا بأنّ المنطقة من أغنى المناطق الزراعيّة المثمرة في إيران وأشهرها، وتضمّ مئات الآلاف من الأهالي المزارعين، وتُنتج مئات الآلاف من الأطنان ثمرًا ورزقًا، إلّا أنّها تعرّضَت للتلف، والناس


 


[1] معظم قرى إيران كانت قبل الثورة الإسلاميّة تفتقر إلى كافّة الخدمات، وبعض سكّان القرى لم يروا الحمّامات في حياتهم. ولكن بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة، وبأمر من الإمام قدس سره، تأسّسَت مؤسّسة تُعرَف بجهاد البناء، حيث قامت بفتح الطرق وإنشاء الحمّامات وتمديد الكهرباء ومياه الشرب...

 

221


189

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

يتعرّضون لضغوط متنوّعة، ويعانون ما يعانون من سوء المعيشة، ويفتقرون إلى أبسط الحقوق الطبيعيّة، بسبب انقطاع الطرق وبُعد المسافة، وأحيانًا لكثرة الأمطار والسيول التي تغيّر الطرق الرمليّة، وتقطع السير، وتبدّل الاتّجاه الرئيسيّ. إنّ الموت وتصاعُد الوفيّات يهدّدنا بأجمعنا، لأنّنا نفتقر إلى الأطباء والعلاج المناسب، مضافًا إلى شيوع الأمراض، وعدم وجود الأجواء الصحّيّة. وكان من المفروض شقُّ طريق مُعبَّد بين مدينة "سارى" و"كياسر"[1]، بيدَ أنّ الأمر هذا مضى عليه سبعة عشر عامًا، ولم يُنجَز منه سوى عشرين كيلومترًا فقط، ووُضِعَت الجسور الجانبيّة المؤقّتة وغيرها. إنّ هذا ممّا يزيد من محنة الناس ومعاناتهم على مدى حياتهم هذه...".

 

ولقد قام متخصّصان فرنسيّان بدراسة الموادّ الغذائيّة في مناطق عشائر "القشقائيّين"[2] وتحليلها، فجاء في تقرير لهما: "إنّ العشائر تلك قد ضربها قحطٌ شديد، نتيجةً لنفاذ الموادّ الغذائيّة. ويجب إغاثتهم بأسرع وقت، وإلّا فسيتعرّضون للهلاك. كذلك، فإنّ أرياف طهران الفقيرة شَهِدَ سكّانُها نوعًا من الأمراض والضعف والانهيار العضليّ، نتيجة انعدام الفيتامينات والبروتينات من موادّهم الغذائيّة. إنّ فقر الدم يجتاح البلاد بأجمعها تقريبًا، وعوارض الغدّة الدرقيّة أصابت سكّان المدن البعيدة عن البحار، وتشوُّه الأبدان والخلقة انتشر في أصفهان، وشهد سكّان ساحل الخليج الفارسيّ ضعف البصر وشحّ الفيتامين (أ)، وكذا الحال في سائر المناطق...". واستنادًا لتصريحات المتخصّصين الإيرانيّين، جاء الآتي: "طبقًا لإحصائيّات منظّمة الشؤون الغذائيّة، إذا كان استهلاك الموادّ الغذائيّة في أنحاء إيران كافّة قبل الانقلاب يعادل ربع ما تستهلكه أوروبّا بأسرها، فإنّ المحاصيل الوطنيّة اليوم لا تؤمّن ما يحتاجه 30 بالمئة من أبناء الوطن!".

 

ويضيف قائلًا: "قبل تطبيق الإصلاح الزراعيّ كانت القرى هي التي تمدّ المدن وتغذّيها بأجمعها، لكن بعد هيمنة السوق العالميّة على إيران، وقيام الشركات الأجنبيّة


 


[1] مدينتان تقعان شمال إيران.

[2] يقطنون في إقليم شيراز (فارس).

 

222


190

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

بتعليب الموادّ الغذائيّة، صارت المدن تسعف القرى بالغذاء[1]! والحقيقة والواقع أنّ العجز بلغ في هذه القرى مبلغه، حيث أصبحت عاجزةً عن تغطية ما يحتاجه سكّانها البسطاء من الموادّ الغذائيّة الأوّليّة. ومن هنا، قامت الشركات التعاونيّة الحكوميّة بإرسال الموادّ الغذائيّة المستوردة من الخارج إليهم. وبهذا ارتفع معدّل الاستهلاك المحلّيّ، فلقد كانت المستوردات تسدّ حاجات المدن، وإذا بها تتعدّاها إلى القرى والأرياف، وإنْ كان استهلاك القرويّين لا يعادل شيئًا من استهلاك المدنيّين".

 

2. تكريس الروابط الإيرانيّة الأمريكيّة وزيادة الاتّكال على أمريكا

تطرّقنا سابقًا إلى الروابط بين إيران وأمريكا بعد نجاح انقلاب 1954م، وقلنا بأنّ أمريكا استطاعت أن تهيمن على البلاد سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا، بعد أن نقلَت أعدادًا هائلة من خبرائها ومختصّيها إلى إيران، حيث شغّلتهم في مراكز ومواقع حسّاسة للغاية في المجالات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وبهذا أصبحَت عجلة البلاد تسير تحت إمرة أمريكا بشكلٍ لا شعوريّ. وبعد مضيّ عشر سنين على الانقلاب، بلغَت ميزانيّة الجيش أربعة أضعاف ما سبق، وارتفعَت المصاريف والتكاليف العسكريّة سنويًّا 26 بالمئة، وانهالت المعدّات والأسلحة على البلاد بشكل مذهل، وارتفع عدد الخبراء والمتخصّصين الأمريكيّين بالتدريج ارتفاعًا كبيرًا. وكثيرًا ما كانوا يدّعون بأنّ السلاح هذا لتقوية البُنية العسكريّة للبلاد، خشيةً من الروس وتهديداتهم وخطرهم على البلاد. أمّا الجميع، فقد كان على علمٍ بأنّ هذه الأسلحة أُعِدَّت لفرض السيطرة وقمع الحركات والثورات الداخليّة.

 

يذكر مؤلِّفو كتاب "إيران ضدّ الشاه" في إحدى زواياه: "لقد بلغَت البُنية العسكريّة في إيران حدًّا، حيث دعَت قائد أركان الجيش الإيرانيّ في عام 1962م لأنْ يدعو الجنرال الأمريكيّ هوبرت همفري بمتابعة الدعم العسكريّ، قائلًا: "ادّخرنا من السلاح قدرًا،


 


[1] معدّل الهجرة من الريف إلى المدينة، واشتغال الفلّاحين بالأعمال الكاذبة (بيع الدخان في الطرقات، غسيل السيّارات...)، وانتشارهم في العاصمة طهران وغير ذلك من الأمور.

 

223


191

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

بحيث يمكننا الآن قمع أيّ تحرُّك أو ثورة داخليّة، والآن نستمدّكم أكثر، كي نبلغ مرحلة تشجيعنا على الوقوف أمام الروس".

 

لقد كان اضطراب الشاه وهلعه من احتمال مداهمة الروس لبلاده أمرًا مصطنعًا ومفتعلًا، بل صوريًّا ماكرًا، لتضليل الرأي العامّ تجاه ما ينهال على البلاد من سلاح ومعدّات.

 

وبعد ستّ سنوات من انقلاب 1953م، انتبه المفسّر والمحلّل السياسيّ الأمريكيّ المعروف "والتر ليبمان" لهذه اللعبة، وراح يحلّلها مستندًا إلى مصادر ودلائل، قائلًا: "إنّ مساعداتنا العسكريّة لإيران هي ليست لمواجهة الخطر الروسيّ كما يتوهّم بعضهم، إنّما هي لبناء القوّة العسكريّة للوقوف أمام الحركات الداخليّة الخطرة. هذه المساعدات بعيدة عن المخطّطات الاستراتيجيّة والتكتيكيّة الفنّيّة، فهي لغرضٍ سياسيّ داخليّ، لا غير. إنّ ما يدّعونه من خطرٍ روسيّ هو ادّعاءٌ باطل وفارغ. إنّما هم يقصدون من وراء هذا الضغط على أعضاء الكونغرس، كسبَ تأييدهم ودعمهم لمساعدات أمريكا للشاه. إنّ الهدف الحقيقيّ من وراء هذه المساعدات الأمريكيّة ليس هدفًا استراتيجيًّا متعلِّقًا بحربٍ عالَميّة، بل هو هدفٌ لتثبيت حكومة الشاه وتقويتها، لتبقى إيران إلى الأبد من رفاقنا المخلصين الأوفياء".

 

في عام 1975م، وجَّه رئيس لجنة التحقيقات في مجلس الشيوخ سؤالًا إلى وزارة الدفاع الأمريكيّة، فكان الجواب كالآتي: "إنّ مَهمَّة مُمثّلنا العسكريّ في إيران هي المشاورة وتبادل وجهات النظر مع وزير الداخليّة الإيرانيّ، لإرشاده إلى كيفيّة التعامل مع مسائل عديدة، كالتربية والتعليم وحدود الاختيارات في وزارة الداخليّة، وكذلك حول كيفيّة استخدام المعدّات التي أُرسِلَت إليهم بالشكل المناسب، مضافًا إلى أمور أخرى متّفق عليها".

 

وبطبيعة الحال، لا أحد يعلم بالمقصود من "أمور أخرى متّفق عليها"! أمّا ما يلفت النظر هنا، فهو الآتي: "بعد رفع التقرير هذا إلى لجنة التحقيقات في مجلس الشيوخ،

 

224

 


192

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

فإنّه لأوّل مرّة، وبعد 22 عامًا، تُبَلَّغ الحكومة الأمريكيّة بشكل رسميّ عن وجود قوّات عسكريّة في إيران، تشارك الجيوش والقوّاد في مَهامِّها، وحتّى دوائر الشرطة وقوّات الدرك، التي تقتصر مَهمَّتها على الأمن والاستقرار الداخليّ، ولحفظ كيان الشاه ودولته!".

 

وفي عام 1966م، أُدمِجَت دائرة التحقيق التابعة للشرطة مع الشعبة الثانية لقيادة أركان الجيش، وأُلحِقَت بدائرة المخابرات العامّة "السافاك". بعد هذا، وقعَت هذه الدائرة بأتمّها تحت نفوذ وكالة المخابرات الأمريكيّة وسيطرتها، وتولَّت مَهامَّها وتنظيمها وتدريب أفرادها. ومنذ تلك السنة، تصاعدَت بعثات رجال المخابرات والأمن إلى أمريكا، لتَلَقّي الدروس والمهارات العالية هناك.

 

ومنذ عام 1970م، اتُّفِق على إرسال 250 ضابطًا إلى أمريكا سنويًّا، لتَلَقّي أحدث فنون القتال والمواجهة، وذلك استعدادًا لمواجهة أيّ ردّ فعل أو تحرُّك جماهيريّ ضدّ السلطة والشاه.

 

وأمّا جواسيس المخابرات الأمريكيّة، فلم يُعرَف عددهم يومًا ما، ولكن على أقلّ التقديرات، كانوا يبلغون المئات. المهمّ لدى أمريكا هو تقديم كافّة المساعدات والإمكانات لحفظ كيان الشاه، مهما بلغ الأمر، ولبسط سلطة قوّات أمن النظام ونفوذهم، ولضمان الاستقرار الداخليّ، والسيطرة الكاملة عليه. لقد كانت المخابرات الأمريكيّة تبثُّ عيونًا وجواسيس في كلّ مكان ومجال. ومضافًا إلى قمع الحركات والأشخاص المدنيّين، كان لها نفوذ داخل الجيش الإيرانيّ والمعسكرات، فهي تبعث بتقارير دائمة عمّا هي عليه حالة العسكر والجند. وبدورها، كانت تصل إلى الخبراء والمستشارين الأمريكيّين، ومن ثمّ يتّخذون القرارات اللازمة إذا اقتضى الحال.

 

إنّ استمرار الحكومة وبقاءها وبقاء الشاه كان مرتبطًا بحضور هؤلاء المستشارين وقوّتهم وفعاليّتهم، ولهذا كان الشاه يرضخ لأيٍّ منهم ويهيّئ السبل، وبالأخصّ عندما جُوبِه بالضغوط الأمريكيّة لتنفيذ الإصلاحات السياسيّة والاقتصاديّة بأسرع وقت،

 

 

225


193

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

ولهذا استسلم الشاه لهم، ومنحهم الحصانة الأمنيّة. صدر ذلك منه بعد أن وقّع عليه كافّة أعضاء حكومة "أسد الله عَلَمْ" في تشرين الأوّل 1963م، ومن ثمّ وافق عليه مجلس الشيوخ[1] في أيّار 1964م، وفي أيلول قدّمه "حسن عليّ منصور"[2] للبرلمان، وصادق عليه بالإجماع. وبهذا، فلقد حمّل الشاه والحكومة بلادَهم عارًا لم يسبق له مثيل في تاريخ إيران!

 

بموجب هذا القانون، أصبحَت الأحكام الصادرة عن المحاكم ودُور العدالة في إيران لا تنطبق على أتباع أمريكا، وغير شاملةٍ لهم، وإنّ أيّ خطأ أو جريمة أو حادثة تصدر من عسكريّ أو مستشار أو متخصّص أمريكيّ، تُوجب عليه المحاكمة والعقاب، فإنّ ذلك ما تقوم به لجنة خاصّة من قِبَل أمريكا فقط، إذ ليس لإيران أيّ دخل بهذا المجال مطلقًا.

 

ومن هنا، هُيِّئَت الأرضيّة لارتكاب مختلف أنواع الجرائم والاعتداءات من قِبَل الأمريكيّين المقيمين في البلاد، فلهم مطلق الحرّيّة دون أيّة خشية أو ريبة، وهذا ما حدث فعلًا. وبعد سنين، اعترفَت وزارة الدفاع الأمريكيّة بأنّ معظم المتخصّصين والخبراء الأمريكيّين في إيران هم من ضبّاط الجيش وأفراده المسرَّحين من حرب فييتنام! وقد نشر أحد الصحفيّين الأمريكيّين مقالًا استطلاعيًّا حول الأمريكيّين في إيران في صحيفة "واشنطن بوست"، جاء فيه:

يقول أحد شركاء شركة "بل"، واصفًا أولئك الذين حرّضوه على العمل في إيران: "إنّ هؤلاء الأمريكيّين الذين ترونهم هنا، هم أفراد الجيش الأمريكيّ القديم. أولئك من القدماء الذين لا يعرفون كيف يدبّرون حياتهم اليوميّة والشخصيّة، لكنّهم منذ أن دخلوا هذه البلاد، أصبحوا من المتموِّلين، وتحسّنَت ظروفهم المعيشيّة نوعًا ما"[3].


 


[1] كان في إيران مجلس الشيوخ وبرلمان.

[2] اغتيل بعد فترة على يد أحد أعضاء منظّمة فدائيّي الإسلام.

[3] يتقاضى "الخبير" الأمريكيّ 5000 دولار شهريًّا، مضافًا إلى السكن مجّانًا، ووسيلة النقل، وعلاوات أخرى، على بقائه في إيران.

 

226


194

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

ويضيف أحد أصدقائه قائلًا: "إنّني لا أعلم لماذا يجب علينا أن نوظّف هؤلاء في شركتنا، هؤلاء نُقلوا من سجون "تكساس" و"تينيسي" إلى إيران، وأُجبِرنا على توظيفهم. إنّهم أُناس قساة، لا يعرفون معنى للرحمة، وهم أشخاص مدمنون على تناول الكحول وعلى الاستهتار، وقلّما تشاهد بينهم رجلًا لم يرتكب جريمة، أو لم يُودَع في السجن في حياته، ولو لمرّة واحدة على الأقلّ!".

 

يقول الدبلوماسيّون الأمريكيّون: "لقد دخل بعضهم بالدرّاجات البخاريّة داخل مسجد الجامع في طهران. وكما تعلمون، فإنّ المسلمين يقدّسون ويحترمون هذه الأماكن... وذات مرّة، وفي القاعدة الجوّيّة، اعتدى أحدُ الطيّارين على زوجته الألمانيّة، فضربها، في حين أنّه لم يمضِ على زواجهما سوى فترة وجيزة، وبضربته تلك فصم كتفها، فقضى عليها وماتت".

 

يقول أحد مدرِّسي اللغة: "إنّ أغلبهم من المستهتِرين والحقراء المعتَدِين، أولئك أرذال البِيض المجرمين الفقراء، والذين أُرسِلوا إلى هنا لهدفٍ واحد لا غير ذلك، هو المال فقط".

 

بينما الأمريكيّون البِيض العاديّون لهم مزايا خاصّة، "... لا يبذلون أيّ جهد لتهيئة ما يحتاجونه يوميًّا، تُعرَض لهم البضائع والموادّ الغذائيّة المعلّبة بسعر زهيد ومناسب. إنّهم يعيشون بعيدًا عن أجواء عامّة الناس، ولأبنائهم مدارس خاصّة، ولا يلتقون ولا يتزاورون إلّا فيما بينهم، وبحدود مجتمعاتهم الكنسيّة. أمرَتهم وزارة الدفاع الأمريكيّة بعدم تناول الحليب ومشتقّاته المحلّيّة كافّة، وتبعث كلّ يوم طائرة نقل من طراز (C-130)، تحمل لهم الأطنان من الحليب والألبان المعلّبة على اختلاف أنواعها".

 

3. توطيد العلاقات الإيرانيّة - الإسرائيليّة

يعود تاريخ العلاقات الإيرانيّة - الإسرائيليّة إلى عام 1951م. وفي عام 1960م، اعترفَت إيران بإسرائيل بشكل رسميّ.

 

وعلى هذا، تعزّزَت الروابط رسميًّا بين البلدَين،

 

227


195

الفصل الثاني عشر: محمّد رضا بهلويّ وخطواته المهمّة بعد الانقلاب

وبالأخصّ بعد الانقلاب. وخلال هذه السنين المتواصلة، استقبلَت إسرائيل ضبّاطًا وعقداء وعمداء إيرانيّين عديدين، لتلقّي أحدث التدريبات وآخِر التجارب، بإشراف جهاز المخابرات الإسرائيليّة "الموساد". وبالمقابل، انهال عددٌ كبيرٌ من رموز المخابرات الإسرائيليّة وكبارها إلى إيران، لمساعدة المخابرات الإيرانيّة "السافاك"، وللتنسيق معهم.

 

جاء في أحد أعداد مجلّة "نيوزويك" لعام 1974م: "ولقد كانت إسرائيل تؤكّد على روابطها مع إيران، وكانت تدّعي بأنّ لها اليد الطولى في تدريب طاقم السافاك وإعداده. إلّا أنّها وبعد حربها مع العرب عام 1973م، أنكرَت مرارًا وتكرارًا أيَّ تدخُّلٍ لها في المخابرات الإيرانيّة، وادَّعَت بأنّ كلّ ما في الأمر هو علاقة تبادل أمنيّ مشترك. بينما أكّد الشاه خلال إحدى لقاءاته الصحفيّة، بأنّ إيران لها علائق أمنيّة وعسكريّة مع إسرائيل".

 

وعلى الرغم من وجود علاقات سياسيّة وأمنيّة وعسكريّة بين البلدَين، فقد وُجِدَت علاقات أخرى على الصعيد الاقتصاديّ، فإيران كانت المموّل الرئيس لإسرائيل بالمحروقات، وما تحتاجه من النفط، في الوقت الذي اتّفقَت الدول العربيّة على عدم التعامل مع إسرائيل بهذا المجال. وبالمقابل، كانت إسرائيل تُرسِل بعثات زراعيّة عديدة مكوَّنة من كبار الاختصاصيّين والخبراء الإسرائيليّين في مجال الزراعة، لتوظيفهم في المنشآت الزراعيّة، مضافًا إلى تصديرها أنواعًا من مختلف المحاصيل الزراعيّة والغذائيّة إلى إيران. وناهيك عن هذه الروابط العلنيّة والاعتياديّة، فكما ذكرنا سابقًا، فإنّ إسرائيل وعملاءها من البهائيّين كانت لهم اليد الطولى في تسيير مراكز البلاد الحسّاسة والهيمنة عليها، كالمراكز العسكريّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

 

228

 


196

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

الفصل الثالث عشر

الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

 

بعد أن صادق البرلمان على لائحة الحصانة للأمريكيّين في أيلول 1964م، عزم الإمام قدس سره على تفنيد كافّة المؤامرات التي تُحاك سرًّا مع النظام الحاكم ضدّ الإسلام، وضدّ استقلال البلاد. ووعد الجماهير المسلمة بخطابٍ مهمٍّ يلقيه في يوم ولادة السيّدة الزهراء  عليها السلام، وكان النظام يهيّئ الأوضاع للاحتفال بذكرى ميلاد الشاه[1].

 

وسرعان ما بعث الشاه أحدَ رجاله إلى قمّ، ليلتقي الإمام قدس سره ويتباحث معه، وليصرفه عن عزمه هذا. وقد رفض الإمام قدس سره استقبالَه، ولم يرَ بُدًّا من إبلاغ رسالة الشاه الشفويّة إلى نجل الإمام الشهيد السيّد مصطفى -وأكّد على لسان الشاه- محذّرًا الإمام قدس سره من التهجُّم على أمريكا، ووصف ذلك بأنّه عمل خطير وله عواقب سيّئة، وأنّه أخطر من التحامل على رجل البلاد الأوّل (الشاه). بَيْدَ أنّ الإمام قدس سره لم يكترث لهذا التهديد، وخرج من داره في اليوم المقرّر، وألقى خطابَه بالساعة المحدّدة، على الرغم من جميع المحاولات اليائسة. وظهر الإمام قدس سره في ذلك اليوم حزينًا كئيبًا، فيما كانت آلاف الجماهير تحيّيه، وتهتف له بالنصر والمقاومة والسير على نهجه. ونظرًا لأهمّيّة خطاب الإمام قدس سره الكبيرة، ارتأينا نَقلَه بالكامل هنا، لنطلع القارئ الكريم على النقاط المهمّة كافّة، التي ركّز عليها الإمام قدس سره كثيرًا:


 


[1] كان النظام يحتفل سنويًّا بعيد ميلاد الشاه وزوجته وابنه وكلّ هذه الأيّام تعطّل فيها الدوائر والوزارات مدّة أسبوع لكلّ واحد منهم!

 

229


197

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

"إنّني لعاجزٌ عن إبداء جميع مشاعري القلبيّة! إنّ قلبي تعتريه حالة من الضغط والغليان منذ أن اطّلعتُ على الدسائس والمؤامرات الأخيرة، وعلى ما يُداهم البلاد. لقد تبدّلَت حياتي بأسرها، إنّ نومي لقليل، وقلبي عليل، أصبحتُ كئيبًا حزينًا. إنّني أنتظر الموت ساعةً بعد أخرى. (هنا أجهش الحضور بالبكاء).

 

إيران، منذ اليوم معزّاةٌ، ولا عيد لها بعد اليوم. لقد جعلوا عيد إيران مأتمًا. جعلوه مأتمًا، ثمّ أضاؤوا المصابيح (احتفالًا)‏!

 

جعلوه مأتمًا، ثمّ رقصوا جماعيًّا! لقد باعونا، وباعوا استقلالنا، وأضاؤوا المصابيح ورقصوا مرّة أخرى!

 

ولو كنتُ محلَّهم، لمنعتُ إضاءة المصابيح، ولأمرتُ بنصب الرايات السود فوق الأسواق والمنازل (بكاء الحضور)، فقد دُعِسَت كرامتنا، وتلاشت عظمة إيران، وداسوا عظمة جيش إيران!

 

لقد عرضوا في المجلس قانونًا ألحقونا به بمعاهدة فيينّا أوّلًا، ومنحوا الحصانة للأمريكيّين ثانيًا. وذلك يعني أنّ جميع الخبراء العسكريّين الأمريكيّين وأُسَرهم وموظّفيهم الفنّيّين والإداريّين وخدمهم وكلّ من يتعلّق بهم، أصبحوا جميعًا يتمتّعون بالحصانة عن كلّ جريمة يرتكبونها في ايران. فإذا قام خادمٌ أمريكيٌّ أو طبّاخٌ أمريكيٌّ باغتيال مرجِعكم، فإنّ الشرطة الإيرانيّة لا يحقّ لها أن تمنعه من ذلك! ولا يحقّ للمحاكم الإيرانيّة أن تحاكمه وتحقّق معه، بل يجب أن يذهب الى أمريكا، حيث يحدّد الأسيادُ وضعَه!

 

وكانت الحكومة السابقة قد صادقت على (هذا القانون)، ولم تُفْشِ ذلك لأحد. وقدّمت الحكومة الحاليّة هذا القانون قبل أيّام إلى المجلس، وكانت قد قدّمته قبل ذلك إلى مجلس الشيوخ، وصادقوا عليه هناك بإشارة واحدة، ولم يتفوّه منهم

 

 

230


198

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

أحدٌ. ثمّ قدّموه في الأيام القليلة الماضية إلى مجلس الشورى، حيث أجروا مناقشات واعتراضات، وتحدّث بعض النوّاب معترِضين، إلّا أنّ القانون صُودِق عليه بكلّ وقاحة!

 

ودافعت الحكومة، بكلّ وقاحة، عن وصمة العار هذه. وقد جعلت الشعب الإيرانيّ أدنى من كلاب أمريكا، فإذا دهس أحدٌ كلبًا أمريكيًّا، يحاسبونه، وإذا دهس شاهُ إيران كلبًا أمريكيًّا، يحاسبونه، كما أنّه إذا دهس طاهٍ أمريكيٌّ شاهَ إيران، ودهس أكبرَ مسؤول، فلا يحقّ لأحدٍ أن يعترضه! لماذا؟ لأنّهم أرادوا أن يقترضوا قرضًا من أمريكا، وطلبَت منهم أمريكا إقرار هذا القانون، ولا بدّ أن يكون الأمر كذلك.

 

بعد ثلاثة أو أربعة أيّام، طلبوا قرضًا بمئتَي مليون دولار، وافقَت الحكومة الأمريكيّة على دفعه لإيران خلال خمس سنوات، على أن تأخذ ثلاثمئة مليون دولار خلال عشر سنوات! فهل عرفتم ماذا يعني هذا؟

 

يعني أنّها تُقرض حكومة إيران ونظامها مئتَي مليون دولار - كلّ دولار بقيمة ثمانية تومانات - في غضون خمس سنوات، على أن تأخذ - كما حسبوه - في ظرف عشر سنوات، ثلاثمئة مليون دولار من إيران، أي أن تأخذ مئة مليون دولار، أو ثمانمئة مليون تومان ربحًا من إيران مقابل هذا القرض. ومع ذلك، باعت إيران كرامتها من أجل هذه الدولارات، لقد باعت حكومة إيران استقلالنا، واعتبرتنا جزءًا من الدول المستعمرة، وأظهرَت شعبَ إيران المسلم في العالَم أدنى من الوحوش! أتعطي ثلاثمئة مليون دولار مقابل قرض مئتَي مليون دولار؟! فما نفعل مع هذه المصيبة؟ وماذا يفعل العلماء أمام هذا الأمر؟ وإلى أين يلجؤون؟ لأيّ بلد يشكون أمرهم؟

 

إنّ بقيّة البلاد تتصوّر أن الشعب الإيرانيّ هو الذي عمل على الحطّ من شأنه إلى هذا الحدّ، ولا يدرون أنّ هذه الحكومة ومجلس إيران (هما اللذان فعلا ذلك). وهذا المجلس لا علاقة له بالشعب، وهو مجلس الحراب، فأيّة علاقة لهذا المجلس بشعب إيران؟ شعب إيران لم ينتخبه، فقد قاطع معظمُ العلماء الكبار والمراجع الانتخابات، وتبعهم شعبُ إيران في ذلك، ولم يصوِّتوا، إلّا أنّ القوّة والحراب أجلسَت هؤلاء على هذه المقاعد.

 

231

 


199

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

لقد جاء في أحد كتب درس التاريخ الذي طُبِعَ هذا العام، ويجري تدريسه للأطفال، بعد ذكر بعض القضايا الكاذبة: (لقد تبيَّن أنّ قطعَ نفوذ العلماء كان مفيدًا في تحسين وضع هذا الشعب)! فهل تحسين وضع الشعب هو في القضاء على العلماء؟ والحقيقة هي هذه:

لو كان للعلماء نفوذ، لَما سمحوا أن يكون هذا الشعب أسيرَ بريطانيا وأمريكا.

 

ولو كان للعلماء نفوذ ها هنا، لما سمحوا أن تُحكِم إسرائيل قبضتها على اقتصاد إيران، وأن تُبَاع البضائع الإسرائيليّة في إيران بلا رسوم جمركيّة!

 

ولو كان للعلماء نفوذ، لَما سمحوا أن يُكَبِّلَ هؤلاء شعبَ إيران بمثل هذا القرض الكبير، من دون مشورة أحد، ولا سمحوا أن تقع هذه الفوضى في بيت المال، أو تعمل كلّ حكومة ما تشاء، ولو كان ذلك ضدّ الشعب مئة في المئة!

 

لو كان للعلماء نفوذ، لَما سمحوا بتحوُّل المجلس إلى هذا الشكل من الابتذال، ولا أجازوا قيام المجلس بالقوّة وحدّ السيف ليرتكب مثل هذه الفضحية!

 

... ولو كان للعلماء نفوذ، لصفعوا هذه الحكومة وهذا المجلس على أفواههما، ولطردوا النوّاب منه!

 

ولو كانوا متنفّذين، لَما كان ممكنًا أن يتحكّم عددٌ من النوّاب في مصير بلد ويحكموه!

 

ولو استطاعوا، لَما سمحوا لعميلٍ أمريكيّ أن يرتكب مثل هذه الحماقات، ولَطردوه من إيران.

 

أنفوذ عالِم الدين ضارٌّ للشعب؟! لا، بل إنّه مضرٌّ بكم أنتم الخونة، لا يضرّ بالشعب. فقد رأيتم أنّكم لا تستطيعون أن تفعلوا ما يحلو لكم مع وجود نفوذ علماء الدين، فصرتم تريدون أن تقضوا على نفوذ عالِم الدين، وتصوّرتُم أنّكم تستطيعون، بحركاتكم المسرحية، بثَّ الخلافات بين العلماء؟ لا، لن يحصل هذا، ولا يتحقّق لكم هذا الحلم إلّا في الموت، ولا تستطيعون القيام بمثل هذا العمل! فعلماء

 

232

 


200

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

الدين متّحدون، وإنّني أُعَظِّم شأنَ جميع العلماء، وأقبّل أيديَهم جميعًا. وإن كنتُ سابقًا أُقبّل يدَ المراجع، فإنّني اليوم أقَبِّل يد الطلبة (بكاء الحاضرين). إنّني اليوم أُقبّل أيدي البقّال أيضًا (بكاء الحاضرين).

أيّها السادة، إنّني أنذر بالخطر!

يا جيش إيران، إنّني أنذر بالخطر!

يا ساسة إيران، إنّني أنذر بالخطر!

أيّها التجّار، إنّني أنذر بالخطر!

يا علماء إيران، يا مراجع الإسلام، إنّني أنذر بالخطر!

 

أيّها الفضلاء، أيّها الطلبة، أيّها المراجع، أيّها السادة، أيّتها النجف، يا قمّ، يا مشهد، يا طهران، يا شيراز، إنّني أنذر بالخطر!

 

إنّ هناك خطرًا! وإنّ خلف الكواليس أمورًا نحن لا نعرفها! وقد قالوا في المجلس: لا تسمحوا بكشف الستار! والظاهر أنّهم بيّنوا لنا أمرًا! وماذا سيفعلون أسوأ من هذا؟ ولا ندري ما الذي أسوأ من الأسر والذلّ! ماذا يريدون أن يفعلوا بنا؟ ماذا يُبيِّت هؤلاء؟ أيّة محنة جلبها هذا القرض على الشعب؟! وهل يجب أن يدفع هذا الشعب الفقير، خلال عشر سنوات، مئة مليون دولار، أي ثمانمئة مليون تومان، ربحًا لأمريكا؟! وفي الوقت نفسه، تبيعوننا من أجل هذا العمل!

 

ما الفائدة التي تعود عليكم من العسكريّين والخبراء العسكريّين الأمريكيّين؟ إذا كان هذا البلد تحت الاحتلال الأمريكيّ، فلماذا تعربدون إذًا إلى هذا الحدّ؟! ولماذا تتحدّثون إلى هذا الحدّ عن الرُقيِّ؟ وإذا كان هؤلاء الخبراء خدمًا لكم، فلماذا إذًا تجعلونهم أسمى من الأسياد؟ ولماذا جعلتموهم إذًا أعلى من الشاه؟! إن كانوا خدمًا، فعامِلوهم مثل بقيّة الخدم. وإن كانوا موظَّفين، فعامِلوهم كما تُعامِل بقيّةُ الشعوب موظّفيها. وإن كان بلدُنا تحت احتلال أمريكا، فقولوا ذلك، بل واطردونا نحن من هذا البلد!

 

233

 


201

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

ماذا يريدون أن يفعلوا بنا؟ وماذا تقول لنا هذه الحكومة؟ ماذا فعل بنا هذا المجلس؟ إنّ هذا المجلس غير القانونيّ، الذي قُوطِعَ بفتوى مراجع التقليد وحكمهم، لا يمثّل الشعبَ نائبٌ من نوّابه! هذا المجلس، الذي يدّعي ويقول: إنّنا انبثقنا من "الثورة البيضاء"!

 

أيّها السادة، أين "الثورة البيضاء" هذه؟! لقد حطّموا الشعب، وإنّني على عِلمٍ - والله يعلم أنّني أتألّم! - إنّني على عِلمٍ بأوضاع القرى والنواحي النائية، وبوضع قمّ البائس، وبمجاعة الناس، وبأوضاع زراعتهم.

 

أيّها السيّد، فكِّروا في وضع هذا البلد، فكِّروا في وضع الشعب. فإنّكم باستمرار تقترضون قرضًا بعد قرض، وتصبحون خدَمًا! والدولار طبعًا ترافقه العمالة، فتريدون أن تستفيدوا من الدولارات لأنفسكم، ونحن ندفع ضريبة عمالتها! فإذا دهسَتنا سيّارة، فلا يحقّ لأحدٍ أن يقول للأمريكيّين شيئًا. أنتم ترحّبون بمنافعها، وهذه هي الحقيقة، أفلا يجب أن نقول ذلك؟

 

ونسأل هؤلاء السادة الذين يقولون: ينبغي أن نخرس، هل يجب أن نخرس حتّى مقابل هذا الأمر؟ وهنا يجب أن نخرس؟! يبيعوننا ثمّ نخرس؟! يبيعون قرآننا ونخرس؟ فوالله، آثمٌ مَن لا يصرخ! والله، يرتكب معصيةً كبيرةً من لا يرفع صوته! (بكاء الحضور).

 

يا زعماء الإسلام أغيثوا الإسلام!

يا علماء النجف، أغيثوا الإسلام!

يا علماء قمّ، أغيثوا الإسلام!

لقد ذهب الإسلام! (بكاء الحضور).

 

أيّتها الشعوب الإسلاميّة! يا زعماء الشعوب الإسلاميّة! يا رؤساء جمهوريّات الشعوب الإسلاميّة! يا ملوك شعوب البلاد الإسلاميّة! أيّها الشاه[1]، أغث نفسَك! أغيثونا جميعًا!


 


[1] لاحِظ أيّها القارئ الكريم، أنّ الإمام قدس سره  يقول هذا الكلام، والشاه في أوجّ قدرته وجبروته وطغيانه، ولا يهاب الإمامُ قدس سره من شيء أبدًا، إلّا من الله سبحانه وتعالى.

 

234


202

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

هل يجب أن نُسحَق تحت أقدام أمريكا، لأنّنا شعبٌ ضعيفٌ، لأنّنا لا نملك الدولار؟ إنّ أمريكا أسوأ من إنجلترا، وإنجلترا أسوأ من أمريكا، والاتّحاد السوفياتيّ أسوأ منهما، وكلّ واحد أسوأ من الآخر وأقذر!

 

لكنّنا اليوم مبتلون بهؤلاء الخبثاء، بأمريكا. على الرئيس الأمريكيّ أن يعلم بأنّه أبغض أبناء العالَم عند شعبنا! وقد ارتكب أبغضُ أبناء العالَم عند شعبنا مثلَ هذا الظلم بحقّ بلدٍ إسلاميّ، فخصمه اليوم هو القرآن، وخصمه اليوم الشعبُ الإيرانيّ! ولتعلم الحكومة الأمريكيّة أنّها فقدَت سمعتَها في إيران، وقضّت على نفسها!

 

وهل تمنحون الحصانة للمستشارين؟! وقد صرخ النوّاب المساكين بأن تطلبوا من أصدقائنا ألّا يفرضوا علينا كلّ هذا، ولا تبيعونا، ولا تجعلونا مستعمرة. فمن الذي استمع؟ إنّهم لم يتعرّضوا البتّة لإحدى فقرات معاهدة فيينّا، وهي المادّة 32، ولا أعرف ماهيّة هذه الفقرة، ولا يعرف ذلك رئيس المجلس، والنوّاب لا يعرفون أيضًا، ولكنّهم صوّتوا لمصلحة المشروع، ووقّعوا عليه. ولكنّ عددًا منهم اعترفوا بأنّنا لا ندري ما القضية -وربّما هم لم يصوّتوا ولم يوقّعوا. وعددٌ آخر كانوا أسوأ من هؤلاء، وهم من الجهلة.

 

لقد عُزل رجال السياسة وأصحاب المناصب الكبيرة في بلدنا، الواحد تلو الآخر، حتّى إنّه لم يعد في بلدنا شي‏ءٌ بيد رجال السياسة الوطنيّين. وعلى قادة الجيش أن يعلموا أنّهم سيقيلونهم الواحد بعد الآخر، فهل أبقوا لكم من كرامة؟ وهل أبقوا لنظامكم (العسكريّ) قيمة، بعد أن أصبح الجنديّ الأمريكيّ مفضَّلًا على مشيرنا؟ لقد صار طاهٍ أمريكيّ في إيران مفضَّلًا على مشيرنا، فهل بقيَت لكم بعد الآن كرامة؟ لو كان الأمر يتعلّق بي، لقدّمتُ الاستقالة. ولو كنتُ عسكريًّا، لاستقلتُ، ولم أكن لأقبل بهذا الهوان. ولو كنتُ نائبًا في المجلس، لاستقلتُ.

 

فيجب قطع نفوذ الإيرانيّين، ويجب أن تكون الحصانة للطهاة الأمريكيّين، والميكانيكيّين الأمريكيّين، والموظّفين الإداريّين والفنّيّين الأمريكيّين، ورجالهم وأُسَرهم،

 

235

 


203

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

ولكنّ السيّد "القاضي" يُسجَن، والسيّد "إسلامي" يُؤخَذ مكبّلًا هنا وهناك، وخدم الإسلام وعلماء الإسلام وخطباؤه، هؤلاء يجب أن يُسجَنوا! وهكذا أنصار الإسلام في "بندر عباس"، لأنّهم أنصار العلماء، أو لأنّهم علماء!

 

لقد دسَّ هؤلاء في تاريخ إيران (أي الكتب المدرسيّة) وثيقةً تبيّن أنّ رفاهَه يكمن في القضاء على نفوذ العلماء، فماذا يعني هذا؟ وهل رفاه الشعب يكمن في قطع يد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومن هذا الشعب؟ فالعلماء لا يملكون شيئًا من أنفسهم، فكلّ ما يملكونه هو من رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الشعب. إنّهم يريدون ذلك، حتّى تفعل إسرائيل وأمريكا ما يحلو لهما براحة بال.

 

أيّها السادة، إنّ جميع مصائبنا من أمريكا وإسرائيل. وإسرائيل هي من أمريكا، وهؤلاء النوّاب هم من أمريكا، والوزراء من أمريكا، فتعيين الجميع يصدر من هناك، وإلّا، فلماذا لا يقفون في وجههم، ولا يصرخون؟

 

إنّ ذاكرتي ضعيفة الآن، ولا أستطيع أن أتذكّر الأمور جيّدًا، فحالي الآن منقلب. في مجلسٍ من المجالس السابقة، كان المرحوم السيّد حسن المدرّس نائبًا، وقد جاء إنذارٌ من روسيا لإيران، وَرَدَ فيه أنّه إذا لم تعملوا الأمر الفلانيّ - لا أتذكّر الآن شيئًا منه - نتوجّه إلى طهران من المكان الفلانيّ - يبدو أنّه كان قزوين - ونحتلّ طهران، فضغطَت الحكومة الإيرانيّة على المجلس لإقرار ذلك الأمر.

 

ويذكر أحد المؤرِّخين الأمريكيّين أنّ عالِم دينٍ (السيّد حسن المدرّس) وقف خلف منصّة الخطابة بيدٍ مرتعشة، وقال: أيّها السادة، إذا كان مقرَّرًا أن نزول، فلماذا نزول بأيدينا نحن؟ ورَفَضَ المشروع، فتجرّأ المجلس ورفض الطلب الروسيّ، ولم يستطع الروس أن يعملوا شيئًا. هذا هو عالِم الدين، عالِمٌ دينيٌّ واحدٌ داخل‏ المجلس، عالِمٌ ضعيف، هو حفنة من العظام، رفض إنذار روسيا المتعجرفة!

 

إنّهم يرون أنّه يجب أن لا يكون هناك عالِم دين، ينبغي قطع يد عالِم الدين حتّى يحقّقوا آمالَهم وأمنيّاتهم. فماذا أقول؟ المواضيع كثيرة، والمفاسد في هذا البلد

 

236

 


204

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

كثيرة كثيرة، لا أستطيع أنا، بوضعي هذا، وصدري هذا، أن أذكرها، ولا أستطيع أن أشرح الأمور لكم بالمقدار الذي أعرفه، إلّا أنكم مسؤولون عن إيصالها إلى اصدقائكم، والسادة مسؤولون عن اطّلاع الشعب وتوعيته، والعلماء مسؤولون عن توعية الشعب، والشعب مسؤول أن يحتجّ على هذه المسألة، ويرفع صوته معترضًا على المجلس والحكومة بهدوء، ويسأل: لماذا فعلتم ذلك؟ لماذا بعتمونا؟ وهل نحن عبيد لكم؟ أنتم لستم ممثّلينا. ولو كنتم نوّابًا، فعندما خنتم أنفسكم وبلدكم، طُرِدتُم من النيابة، لأنّ هذه القضيّة خيانةٌ للبلد. الهي إن هؤلاء قد خانوا بلدنا، الهي لقد خانت الحكومة بلدنا.

 

إلهي، لقد خانوا الوطن. إلهي، حكومة بلدنا خانت الإسلام، وخانت القرآن. نوّاب المجلس قد خانوا، والذين صوّتوا على هذا المشروع في مجلس الشيوخ خانوا، هؤلاء الشيوخ، ونوّاب مجلس الشورى، وأولئك الذين صوّتوا (على هذا المشروع) قد خانوا، وهم ليسوا نوّابًا. وليعلم العالَم أنّهم ليسوا نوّاب إيران، وإن كانوا، فقد عزلتُهم أنا! وهم معزولون عن النيابة، وكلّ القرارات التي دوّنوها، منذ الحركة الدستوريّة وحتّى الآن، غير صحيحة، حيث إنّه طبقًا لنصّ الدستور -إن كانوا يعترفون به- وطبقًا للمادّة الثانية من ملحق الدستور، لا يُعتَبَر القانون قانونًا أساسًا، طالما لم يُشرِف العلماءُ المجتهدون على المجلس، والآن، أيُّ مجتهدٍ يمارس الإشراف؟ ولو كان في هذا المجلس خمسة علماء دين، أو واحد منهم، لَصَفعهم، ولم يسمح بذلك العمل.

 

منذ اليوم الأوّل من الحركة الدستوريّة وإلى يومنا هذا، أيُّ فقيه أو مجتهد كان مطّلعًا على القوانين المصوّبة واللوائح المقدّمة؟ لو كان واحدًا من المجتهدين في البرلمان لكان يقلب حساباتكم الخائنة هذه رأسًا على عقب.

 

إنّني أقول لمن عارَضَ في الظاهر: أيّها السادة، لماذا لم تنتفضوا؟ لماذا لم تنهضوا وتأخذوا بتلابيب ذلك القزم؟ لِمَ اكتفيتم بالمعارضة والجلوس مكانكم والتملُّق؟ هل هذه هي المعارضة؟ يجب أن تصرخوا، وتنزلوا إلى وسط المجلس، وأن يفعل الجميع

 

237

 


205

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

ذلك، لكي لا يسمحوا بذلك. فلا يصحّ الاكتفاء بالقول: إنّي مخالف. وعندما شاهدتم التصويت على المشروع، كان عليكم منع قيام مثل هذا المجلس، وطرد هؤلاء منه. إنّنا لا نعتبر ما صُودِق عليه في المجلس قانونًا، ولا نعتبر هذا المجلس مجلسًا، ولا نعتبر هذه الحكومة حكومةً. إنّهم خانوا إيران، إنّهم خونة خونة!

 

اللهمّ، أصلح أمور المسلمين. اللهمّ، تفضّل بالعظمة على الدين الإسلاميّ المقدَّس. اللهمّ، دمِّر مَن يخون هذا البلد، ويخون الإسلام، ويخون القرآن".

 

بالإضافة إلى هذا، قام الإمام قدس سره بنشر بياناتٍ تطرّق فيها لخيانة رجال النظام والمسؤولين تجاه المصادقة على لائحة الحصانة للأمريكيّين، ووصف الإمامُ قدس سره هذا القانون بأنّه:

"إقرار على إذلال إيران والشعب الإيرانيّ" و"هو تأكيد على استمراريّة الاستعمار للبلاد"، وإنّه "إجراء لم يحدث له مثيل في السابق، مِن أيّ حكومة وسلطة اضطهدَت شعبها بهذا الشكل!".

 

وأكّد أيضًا خلال بياناته هذه:

"إنّني أؤكّد، معلنًا بأنّ مجلس الشيوخ والبرلمان هما عدوّان للإسلام والقرآن، مخالفان له، ولا يمتلكان أيّة صفة رسميّة وقانونيّة. أعضاؤهم أعداء للأمّة والوطن، إنّهم ليسوا ممثِّلين للشعب، ولن يكونوا مطلقًا كذلك، إنّما فرضَتهم القوّة وحسب. آراؤهم وأصواتهم لا تعادل شيئًا عند الشعب المسلم. وإذا كان الأجانب يستندون إلى آرائهم وأصواتهم، فإنّ الشعب والأمّة الإسلاميّة سوف تقرّر المصير بنفسها. ليعلم أبناء العالَم بأسره، بأنّ جميع مصائبنا ومشاكلنا ومشاكل الأمّة الإسلاميّة، هي من أولئك الأجانب، من أولئك الأمريكيّين. العالَم الإسلاميّ يتبرّأ من الأجانب المستعمِرين عامّة، ومن الأمريكيّين خاصّة...".

 

ثمّ يضيف قائلًا:

"إنّ أمريكا هي التي تقف وراء إسرائيل. أمريكا هي التي تساند إسرائيل لدحر

 

238

 


206

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

العرب المسلمين وتشريدهم. أمريكا هي التي تسيِّر أمور بلادنا عبر عملائها مباشرة، أو بصورة غير مباشرة. أمريكا هي التي ترى أنّ القرآن والإسلام خطرٌ عليها، وتريد دحضهما. أمريكا هي التي ترى علماء الدين المجاهِدين عائقًا وسدًّا منيعًا حائلًا أمام أهدافها ومآربها. أمريكا هي التي تأمر النظام بالمثول لأوامرها، وهي التي أمرتهم بالموافقة والمصادقة على هذا القانون الشنيع المذلّ للمسلمين ولمفاخرهم الإسلاميّة والوطنيّة. فالاقتصاد الإيرانيّ اليوم في قبضة أمريكا وإسرائيل. والسوق الإيرانيّة خرجَت من يد الإيرانيّ المسلم، وقد بدأَت ملامح الفقر والإفلاس على وجوه التجّار والمزارعين، وأدَّت إصلاحات السادة إلى إيجاد سوقٍ سوداء لأمريكا وإسرائيل، ولا مِن أحدٍ يُغيث الشعب الفقير".

 

ثمّ يؤكّد الإمام قدس سره قائلًا:

"... تحطيم السلاسل هذه ملقى على عاتق الأمّة، وعلى عاتق الجيش الإيرانيّ، الذي سوف لن يسمح للمعتدين بالتعرّض لنا... يجب علينا جميعًا إسقاط هذه الحكومة، يجب علينا أن نقضي على أعضاء البرلمان وأن نلقيهم خارجه، على الطلبة والمعمّمين مناشدة كبارهم من المراجع والمجتهدين لتحريضهم على الخروج من هذا السكوت والصمت... على طلبتنا الجامعيّين الوقوف أمام هذه الطغمة الفاسدة... يجب على الطلبة الجامعيّين في البلاد الأجنبيّة دعمَ الحركة الإسلاميّة، فليندّدوا بمواقف العملاء والمستعمِرين هذه".

 

لقد انعكسَت بيانات الإمام قدس سره هذه، مضافًا إلى خطابه التاريخيّ، انعكاسًا كبيرًا في أجواء البلاد. وأصبح الشعب يزداد بغضًا للحكومة والنظام يومًا بعد يوم. ومن هنا، وبعد أيّام من التفكير ووضع الخطط والطرق الفاعلة، صمّمَ الشاه على اتّخاذ قرار نهائيّ بحقّ الإمام قدس سره.

 

وبعد تسعة أيّام من خطاب الإمام قدس سره هذا، أي في 4 تشرين الثاني 1964م، شهدَت مدينة قمّ حشودًا كبيرة من رجال القوّات الخاصّة، حيث حاصروا منزل

 

239

 


207

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

الإمام قدس سره واقتحموه، وألقوا القبض على الإمام، وسرعان ما نقلوه إلى العاصمة، ومن ثمّ إلى المطار، فأقلّته طائرة شحن أُعِدَّت لهذه المهمّة من قبل، حيث نقلَته إلى منفاه في تركيا. وأعلنَت النبأَ الصحفُ الرسميّة لليوم التالي، وقد جاء ما نصّه: "استنادًا للدلائل والأسباب والشواهد الشافية التي لدينا حول تحرّكات السيّد الخمينيّ السرّيّة، وقيامه بمعارضة مصالح الوطن والشعب وأمن البلاد وتهديدها، ارتأت الجهات الرسميّة إقصاءه خارج البلاد، فتمّ ذلك بتاريخ 4 تشرين الثاني 1964م".

 

240


208

الفصل الرابع عشر: خصائص حركة الإمام قدس سره الجهاديّة

الفصل الرابع عشر

 

خصائص حركة الإمام قدس سره الجهاديّة

 

اتّصفَت حركة الإمام قدس سره الجهاديّة والنضاليّة طيلة حياته السياسيّة بصفات عدّة، أهمّها:

1. إنّ حركة الإمام قدس سره كانت مستلهمة أصلًا من فكر أهل البيت عليهم السلام، وأساسها هو العقيدة الإسلاميّة. وهي سائرةٌ على نهج القرآن ودستوره، وعلى خطى الرسول وأهل بيته عليهم السلام. ولهذا، لا يمكننا أن نقيس أو نقارن حياة الإمام قدس سره السياسيّة بالسياسيّين المحترِفين الكبار. وقد كان جهاد الإمام قدس سره نابعًا من شعور وإحساس بالمسؤوليّة الدينيّة والشرعيّة، لا لأجل الحصول على مكاسب دنيويّة ومادّيّة وسلطويّة، ولهذا كانت مسألة النصر لا تبعث على الغرور، والهزيمة الظاهريّة لا تشكّل أيّ خطر على حركته المباركة، لأنّ هدفه أبعد من هذا المجال والمستوى. ومن هنا، تمثّلَت القيادة الحكيمة بشخص الإمام قدس سره، وجعلَت منه قائدًا فذًّا ومهيبًا شجاعًا. إنّ الإمام قدس سره قد مضى بعزمٍ لا يلين، وقوّةٍ خارقة، لأنّه كان يقدّس حركته هذه، واضِعًا المسؤوليّة الشرعيّة الكبيرة نصب عينَيه، ولهذا لم نرَهُ يومًا يستسلم لأعدائه، أو يسير إلى جانبهم مراعاةً لمصالحه. والشعب كذلك كان معتقدًا بحركة الإمام قدس سره، ومتمسّكًا بها، ومطيعًا لأوامره، لأنّه مرجع تقليدهم وإمامهم وزعيمهم الروحيّ الكبير، فهم يرون أنّ طاعته من طاعة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها واجبة عليهم، كباقي الفرائض والواجبات الدينيّة.

 

241

 


209

الفصل الرابع عشر: خصائص حركة الإمام قدس سره الجهاديّة

2. نهضة الإمام قدس سره كانت ثورة بوجه الطغاة والظالمين، الذين كانوا يبثّون الدعايات المضادّة للإسلام، ويُجهِدون أنفسَهم لعزل الجماهير عن المرجعيّة والزعامة الدينيّة، تحت شعار فصل الدين عن السياسة. لقد استطاع الإمام قدس سره أن يُوصِلَ جهودَ العلماء المجاهدين من السلف الصالح إلى النجاح. إنّ نضال الإمام قدس سره لم يكن ضدّ الظلم والجور والاستبداد فقط (كالحركة الدستوريّة)، ولم يكن ضدّ الاجتياح الاستعماريّ فقط (كالحركة الوطنيّة)، إنّما هو نضالٌ وجهادٌ قارَع به الظلم والطغيان والاستعمار في آنٍ واحد.

 

3. إنّ حركة الإمام قدس سره السياسيّة كانت موجَّهة للسلطة والبلاط وشخص الشاه بالذات في آنٍ واحد. ومنذ أن بدأ المعركة، كان يسعى إلى مداهمة الشاه مباشرةً أثناء خطاباته الانتقاديّة الموجَّهة للنظام ككلّ، خلافًا لبعض الحركات وبعض السياسيّين الذين لم تكن لديهم الجرأة على المساس بشخصيّة الشاه، والذين كانوا يعارضون الحكومة وبعض الإجراءات دون التعرّض له.

 

ونرى أنّ الإمام قدس سره، بعد مسألة الاستفتاء الذي أعلنه الشاه، انتفض بخطابه التاريخيّ الآنف الذكر، وخاطب الشاه بنفسه، ويدينه بالعمالة والخيانة و...، لأنّه يرى البلاط والنظام بأجمعه نمطًا واحدًا، ويدًا واحدة، والجميع خونة للإسلام والوطن والأمّة. بحركة الإمام قدس سره الجريئة هذه، انكشف القناع عن وجه الشاه المزيَّف -الذي لطالما لوّح للجماهير والشعب بأنّه رجل مسلم شيعيّ موالٍ لأهل البيت عليهم السلام، ويلتزم بالمقدّسات والاعتقادات الإسلاميّة كافّة- وبالأخصّ بعد قمعه الجماهير في انتفاضة الخامس من حزيران بشكلٍ مفجع لم يسبق له مثيل.

 

4. إنّ الإمام قدس سره قد طهّر حركته الجهاديّة الإسلاميّة هذه من كافّة الرواسب، ونزّهها وجعلها خالصة لله، يريد بها وجهه فحسب. وهذا عكس الكثير من الحركات والجبهات والشخصيّات السياسيّة، الذين كانوا يتنافسون فيما بينهم

 

242

 


210

الفصل الرابع عشر: خصائص حركة الإمام قدس سره الجهاديّة

لتعزيز علاقاتهم بأمريكا، طمعًا بالسلطة التي يرونها الهدف النهائيّ لمسيرتهم وجهادهم. لقد تعرّض الإمام قدس سره لأمريكا منذ اليوم الأوّل لحركته المباركة، واعتبرها العدوّ اللدود للإسلام والقرآن والشعوب المسلمة، وبريطانيا والاتّحاد السوفياتيّ عدوًّا مشتركًا واحدًا يهدّد الإسلام والمسلمين في أراضيهم، ووصفَهم بالشيطنة والمكر حتّى على بعضهم بعضًا.

 

5. إنّ الإمام قدس سره هو الشخص الأوّل والوحيد الذي تعرّض لخطر إسرائيل على البلاد، وحذَّر منه. وهو أوّل من حارب البهائيّة في إيران، وحرّض الجماهير عليها. إنّه يرى الخطر الإسرائيليّ أعظم وأكبر من خطر أمريكا وغيرها من المستعمِرين. إسرائيل استطاعت أن تسيطر على اقتصاد إيران، وعلى ثقافة إيران، وعلى رجال السياسة في إيران، حتّى إنّه اتّهم الشاه بالعمالة لهم، وأنّه المسبِّب الأوّل لدمار الأمّة، والخائن الأوّل للوطن والشعب. ويرى الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ العلاقة مع إسرائيل هي وصمة عار يصعب محوها، سَجَّلها الشاهُ في تاريخ إيران الإسلاميّ، إنّها لفاجعة عظمى وكارثة عظيمة.

 

6. ومن خصائص حركة الإمام قدس سره اللافتة للنظر أيضًا، والتي يفتقر إليها كثير من الزعماء والرؤوساء، عظمةُ نفوذه، وشدّةُ تأثير كلامه في قلوب الجماهير، وعظمةُ هيمنة أفكاره على عقول الناس، حتّى صارت تنصاع إليه متلهّفةً لسماع كلماته الحماسيّة والبطوليّة، فلا ترغب بمفارقته، حتّى لو أنّها أشبعَت نفسها، وشحنَت قواها بالطاقة الجبّارة النابعة من عمق العقيدة الإسلاميّة، والعقيدة بالله وبنصره للمؤمنين. وإنّ حَمَلَةَ خطاب الإمام قدس سره وكلماته وعباراته، يشكّلون طاقمًا من العلماء وأهل العلم المكلَّفين بحملها إلى كافّة نواحي البلاد، على سعتها، فتثير حميّةً وحماسًا وشجاعةً لا مثيل لها، في أُناسٍ لم يرَوا الإمام قدس سره قطّ.

 

7. حركة الإمام قدس سره كانت منطلقةً من الحوزة والأوساط الدينيّة، ومن قلب

 

243

 


211

الفصل الثالث عشر: الإمام قدس سره وموقفه من الحصانة للأمريكيّين

الأوساط الفقهيّة والمرجعيّة. ومن هنا، اتّسمَت حركتُه بالحركة السياسيّة الدينيّة، التي أثّرت في النفوس تأثيرًا بالغًا، وسارَت على طريق النجاح بشكلٍ مذهلٍ وعجيب، أثّرت في الطلبة الجامعيّين بشكلٍ منقطع النظير. الطلبة الذين كانوا يعيشون الأوضاع السياسيّة المنحرفة والعميلة، أصبحوا يتوجّهون إلى حركةٍ إسلاميّة سياسيّة دينيّة مجيدة، ويشكّلون السواد الأعظم لها، خاصّةً في السنين الأخيرة من عمر السلطة البلهويّة.

 

 

244


212

الفصل الخامس عشر: المنهج السياسيّ للنظام بعد إبعاد الإمام قدس سره

الفصل الخامس عشر

المنهج السياسيّ للنظام بعد إبعاد الإمام قدس سره

وحتّى عام 1971م

 

 

القسم الأوّل: المنهج السياسيّ الاقتصاديّ

بعد انتفاضة حزيران المجيدة، أصبح الشاهُ قلقًا على مصيره ومصير نظامه، من ثورة الشعب، وبعد أن زرع البغضاء والنفور في أنفسهم بارتكابه تلك الفاجعة الأليمة، وراح يوثّق علاقته بأمريكا، ويطوّر عمالته بها أكثر فأكثر، ليفوز بدعمها، حفاظًا على عرشه، ومساندةً لبقائه في الحكم. ومن هنا، توالَت المعاهدات المدمِّرة للوطن والأمّة، فجاءت الواحدة تلو الأخرى. إنّ ثورة الشاه البيضاء هيّأت الأرضيّة اللازمة لانحطاط الوضع الزراعيّ والاقتصاديّ للبلاد، وعبثَت في تعادل السكّان بين المدن والقرى والأرياف، إلى غير ذلك من الأمور التي أدّت إلى اعتماد البلاد على صادراتها النفطيّة فقط، بل وأصبحَت تستورد الحبوب والأرزّ من الخارج. وكثرَت المصانع والمعامل التجاريّة، التي حفّزَت المزارعين والفلّاحين وشباب القرى للانتماء إليها والعكوف عليها، وهذا بدوره شلّ من الحركة الزراعيّة، ومن جهة أخرى، ساعد على هجر القرى، وتضخُّم المدن الكبيرة، وبالأخصّ العاصمة. وتسبّبَت المصانع والمعامل هذه أيضًا في تغيير الحياة الطبيعيّة، وجَعلِها حياةً تقليديّة مصرفيّة بحتة، ما أدّى إلى انحلال الخُلُق الاجتماعيّة، وانتشار الفساد والفحشاء.

 

إنّه موضوعٌ طويل عريض، لا ينحصر في بضع عبارات أو صفحات أو فصول، بل وإنّ الحديث لذو شجون، وذلك لِما خلّفَته إصلاحاتٌ مزعومةٌ شاهنشاهيّةٌ أمريكيّةٌ.

 

 

245

 


213

الفصل الرابع عشر: خصائص حركة الإمام قدس سره الجهاديّة

وعلى الحصر، نذكر نموذجًا واحدًا من مخلَّفاتها الهدّامة للوطن والأمّة، ولاستقلال البلاد.

 

في أيّار 1970م، أعلنَت الصحف الرسميّة عن سفر 35 تاجرًا متموِّلًا أمريكيًّا إلى إيران، لمطالعة مشاريع اقتصاديّة تجاريّة عديدة في مجال السياحة والزراعة والتوزيع واستثمار الغابات و...

 

وصرّحَت صحيفة "اطّلاعات" آنذاك، قائلة: "يُشاهَد من بين الوفد التجاريّ الاقتصاديّ القادم إلى إيران، وجوهٌ لها صبغتها العالَميّة والدوليّة، أمثال: "راكفلور" و"ليليانتال" و"جورج بوش" و... الذين تُقَدَّر كلُّ لحظة من لحظات حياتهم بعشرات الآلاف من الدولارات، ولهذا نرى حياتهم مبرمجةً على عدد الدقائق والثواني، كالساعات".

 

على العموم، وكما كان مرتقبًا، أُنفِقَت تلك الأموال الطائلة في مجالات تافهة، عادَت على البلاد بالضرر والحرمان والديون، بدلًا من أن تُصرَف وتُسَخَّر لأمور أساسيّة عمرانيّة واقتصاديّة للبلاد. ومن هنا، أضرَّت هذه الحركة بأجمعها في اقتصاد البلاد، وأدَّت إلى انهياره، وعادت بالفائدة العظيمة على الشركات الأجنبيّة والتجّار الأجانب.

 

القسم الثاني: المنهج السياسيّ الثقافيّ

إنّ نهضة الإمام قدس سره، بين سنوات 62 و1964م، تميّزَت من بين كافّة النهضات والثورات التي سبقتها، وذلك نظرًا للأهداف المرسومة لها، والروحانيّة التي اتّسمَت بها.

 

حقًّا، إنّها حركةٌ إسلاميّةٌ إيرانيّةٌ إلهيّةٌ، نابعةٌ من قلوب الجماهير وعواطفها السائرة خلف مرشدها وزعيمها المخلص لها. وهذا الأمر لم يكن شيئًا يسيرًا قابلًا للهضم، أو داعيًا للإهمال مِن قِبَل السلطة، وعلى رأسها الشاه، ولهذا عمد الشاه إلى اتّخاذ سياسة خاصّة تجاه هذه الحركة، تقاومها وتجتثّها من أصولها وجذورها. هذه السياسة هي

 

 

246


214

الفصل الخامس عشر: المنهج السياسيّ للنظام بعد إبعاد الإمام قدس سره

تشويه الطابع الثقافيّ والوعي الإسلاميّ لديهم، لإقصائهم عن الساحة الإسلاميّة، مهما بلغ الثمن. بَيْدَ أنّ الخطّة والمؤامرة هذه باءت بالفشل، حينما تصدّى لها جماعةٌ من الأفاضل الحوزويّين، وعلى رأسهم الإمام قدس سره، حقًّا، إنّها معركةٌ حامية الوطيس، وصعبة المراس، ولولا وعي الجماهير وإرشادات علماء الدين، لأُجهِضَت الحركة لمباركة وهي بمهدها، لأنّهم اتّخذوا من الإسلام والدين اسمًا لخططهم الهدّامة هذه، حيث يصعب على المسلم البسيط معرفة الأمر، فيتقبّله بشكل عفويّ.

 

لقد اتّسعَت رقعة الحركة الإسلاميّة، خلال الأعوام ما بعد عام 1963م، اتّساعًا مذهلًا وكبيرًا، رغم مكايد السلطة ودسائسها، فافتُتِحَت المدارس الدينيّة في طهران والمحافظات، وتصاعدَت الكتل والتجمّعات الإسلاميّة في الجامعات وخارجها، واستطاع بعض الطلبة الحوزويّين الانخراط في جامعات البلاد[1]، وتعدّدَت المجالس الإسلاميّة والاحتفالات بشكلٍ منقطع النظير. لقد كثرَت مراكز التوجيه الدينيّ والعلميّ، وتصاعد نشاطُها إلى حدٍّ كبير جدًّا، وكان لها الباع الكبير في تثقيف الشباب، وتسخير طاقاتهم لصالح الحركة الإسلاميّة المباركة، وكثرَت كذلك طباعة الكتب التوجيهيّة الدينيّة والعقائديّة والأخلاقيّة و... ونَشرِها، وقد لُوحِظَ هذا بشكل ملموس، فكان لها الدور الكبير في تثقيف الشباب بشكل خاصّ، والشارع الإسلاميّ بشكل عامّ. ونخصّ بالذكر هنا، تأليفات العلّامة الشهيد "مرتضى مطهّري"، والدكتور "عليّ شريعتي"، التي قلّما تجد بيتًا ومنزلًا لم تقتحم عقبة داره مؤلّفاتُهما. هذان المفكِّران المبدعان خَلَقا، بجهادهما الفكريّ، جوًّا جديدًا واعيًا متفتّحًا في فهم الإسلام والدين الإسلاميّ. إنّهما بمؤلّفاتهما وخطاباتهما العديدة وجلساتهما المفتوحة، استطاعا خَلْقَ الجوّ الثقافيّ المرموق في البلد، ما جعل الكثير من الطلبة والحوزويّين والجامعيّين ينتمون إلى مجالسهم، وكذلك راح كبار المثقّفين والخطباء والعلماء في البلد يعكسون أفكارهما في قطاعات المجتمع كافّة. وبهذا، فهما قد قادا حركةً ثقافيّةً إصلاحيّةً لم تشهدها إيران قبل الستّينيّات.


 


[1] من هؤلاء، الشهيد محمّد مفتح، والشهيد العلّامة مرتضى مطهّري.

 

247


215

الفصل الخامس عشر: المنهج السياسيّ للنظام بعد إبعاد الإمام قدس سره

وبديهيّ أنّ الشاه لا يستطيع القضاء على هذه الحركة، أو إقصاء رجالاتها، لأنّها رسّخت جذورَها. أجل، لقد سبق السيف العذل! ما اضطرّ الشاه لأن يدخل مدخلًا خطرًا جدًّا، وهو وضع خطّة لتسخير هذه الحركة لأغراضه ومراميه بشكل أو بآخر. من هنا، ابتدأت الحيل والمراوغات والمكر والتزييف، فقد فرض طابعًا خاصًّا يظهر من خلاله تديّنَه، والتزامه بالفكر الشيعيّ، وولاءَه لأهل البيت عليهم السلام، متّخِذًا بعض الرموز الدينيّة مطيَّة له، ومسخِّرًا أياديه الخبيثة، حيث قصد بيت الله الحرام وأدّى فريضة الحجّ، وافتعل ضجّةً إعلاميّةً كبيرةً ملأ من خلالها صفحات الصحف والمجلّات وبطون الكتب والنشرات، ليخدع الجماهير المؤمنة. وقام بطباعة المصحف المبارك طباعةً منقطعة النظير، وطعّمَه بالذهب، وزيّنه وزخرفه... وأطلق عليه "قرآن آريامهر"، نِسبَةً لعائلته وعرشه، وأمر بتوزيعه. واهتمّ أيضًا بإقامة مجالس العزاء بشكل رسميّ للمناسبات الإسلاميّة، فكان يستقدم بعض رجال الدين حين يعزم على السفر، ليودّعه بتلاوة القرآن والدعاء... وشارك في المؤتمرات الإسلاميّة الإقليميّة والعالميّة... ولم يترك أسلوبًا من أساليب الخداع والمراوغة إلّا واتّبعه.

 

أمّا على الصعيد الجامعيّ، فقد استدعى أساتذة مستشرِقين للقيام بتدريس الموادّ الدينيّة والتاريخيّة في الجامعات. ومن الطبيعيّ أنّ هؤلاء كانوا لا يدركون من الإسلام أصولَه ومعانيه ومفهومَه الحقيقيّ كدينٍ حنيف، إنّهم يعرفون الإسلام والتحضّر الإسلاميّ على أنّه مجموعة من الآثار والفنون المعماريّة والفنّيّة القديمة، ويتعمّدون تزييف الأفكار العقديّة والتشريعيّة، للنيل من هذا الدين الحنيف، فتعمّدوا مثلًا إحياء أفكار شهاب الدين السهرورديّ الفلسفيّة وبلورتها، والتي هي في الحقيقة عبارة عن خليطٍ بين الثقافة والفلسفة الإسلاميّة والتراث الإيرانيّ القديم.

 

وبطبيعة الحال، إسلامٌ كهذا، وموادّ دراسيّة كهذه، لم تقتصر على مساعدة النظام إلى الوصول إلى أهدافه فحسب، وإنّما كانت هي الهدف النهائيّ لسياسة الشاه المدمِّرة للدين المحمّديّ الأصيل. ومن هنا أيضًا، نعي وندرك هدف الشاه من تأسيس "المركز الفلسفيّ

 

248

 


216

الفصل الخامس عشر: المنهج السياسيّ للنظام بعد إبعاد الإمام قدس سره

الشاهنشاهيّ"، الذي جمع فيه كبار المفكّرين الماركسيّين واليساريّين حول مائدته، لتشويه أفكار الطلبة والشباب المثقّفين، ولمحاربة الحركة الإسلاميّة المجيدة، والإطاحة بها.

 

"الإسلام الشاهنشاهيّ"[1] هو إسلامٌ مجرّدٌ من الإيمان والعمل، يحمل طابعًا فلسفيًّا وفكريًّا يتماشى مع الفكرة الغربيّة. لم يكن إسلامًا محمّديًّا، بل تجاوز المرحلة هذه ليتّخذ الطابع العموميّ للأديان كافّة على وجه البسيطة. وفي الوقت ذاته، كانوا يؤكّدون على التعارض بين "الالتزام الدينيّ" و"التطوّر العلميّ". إنّ إبعاد إسلام النبوّة المحمّديّة عن الدين الشاهنشاهيّ كان لغايةٍ خاصّة، هي إعطاءُ وجهٍ مشترَكٍ بمفهومٍ واحدٍ لكافّة الديانات السماويّة، الظاهريّة والباطنيّة، بل وحتّى الوثنيّة، وذلك لصَبّ أصول المعرفة والكلام والعقيدة في مصبّ واحد و"جوهر واحد"، ليتمكّن النظام من السيطرة عليهم بأكملهم، فضلًا عن تشويه الطابع المحمّديّ وتحريفه.

 

إنّ الهدف النهائيّ هو تزوير الهويّة الإسلاميّة ومسخها، من خلال مزجها بالأديان والمذاهب القديمة، كالزرادشتيّة الهخمامنشتيّة، والزرادشتيّة الأشكانيّة، والساسانيّة، لينتهي الدور بالإسلاميّة الإيرانيّة على السياق الماضي.

 

ذلك إسلامٌ يَعتبر الملكيّة والشاهنشاهيّة منهجًا إداريًّا له، ويهتمّ بمقام المَلِك والشاه اهتمامًا بالغًا، يُطلق عليه اسم "ظلّ الله في الأرض"! بينما الإمام الخمينيّ قدس سره يعارض الفكرة من أساسها، ويقول:

"إنّ الإسلام ضدّ الملكيّة والشاهنشاهيّة. إنّ المطّلع على حياة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم الإداريّة، يرى أنّه بُعِثَ لمحاربة الشاهنشاهيّة، ولمحاربة الطغاة المتسلّطين ظلمًا وعدوانًا ودحضهم. وإنّ الشاهنشاهيّة هي مظهرٌ من مظاهر الرجعيّة فحسب".

 

وفي هذه الظروف والأجواء، عَمَدَت السلطة إلى منع الكُتّاب المسلمين وعلماء الدين من التأليف والتصنيف والتحرير، كما منعَت الخطباء والمرشدين من إلقاء الخطب والكلمات، واعتقلَت عددًا من الطلبة الجامعيّين، وطلبة آخرين من الحوزة العلميّة.


 


[1] كان الإمام قدس سره يطلق عليه في الأعوام الأخيرة: "الإسلام الأمريكيّ".

 

249


217

الفصل الخامس عشر: المنهج السياسيّ للنظام بعد إبعاد الإمام قدس سره

تماشيًا وتزامنًا مع هذه التدابير والإجراءات، شجّع النظام على نشر الفحشاء والمنكر والفساد وتعاطي الموادّ المخدّرة في أوساط الشباب. ومن هنا، قامت بعض أقطاب العائلة الحاكمة بفتح نوادٍ مخصّصة لهذا الغرض، وقدّمت التسهيلات والمساعدات للانتماء إليها، فمثلًا، "قصر الشباب"[1]، بدلًا من أن يكون مركزًا للتوجيه الروحيّ والتدريب الجسديّ السليم للشباب، أصبح محلّ فسادٍ وعبثٍ وطيشٍ. وكذلك الحال للسينما والتلفزيون والإذاعة والصحف والمجلّات، فهي كذلك مكرَّسة لدعم هذه الحركة الهدّامة. والهدف النهائيّ لهذا واضحٌ جدًّا، فمراكز البغي والفحشاء والإعلام والتلفزة، هذه الوسائل كلّها لإغراق الشباب في بُؤَر الشهوات والنزوات، ولمسخ أفكارهم وأذهانهم، وإبعادهم عمّا يدور في فُلك الحكم والسياسة وإدارة دفّة الحكم، ولإبعاده عن كلّ فكر دينيّ أو مذهب إسلاميّ فاضل. فالحفلات ومجالس السمر كانت هي الأخرى السبّاقة بهذا المجال لإشغال الشعب، ولإماتة روح القوّة والعزيمة للشباب خاصّة. وكانت نفقات هذه الحفلات والمجالس والبرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة والصحفيّة تبلغ الآلاف المؤلّفة، وتُنهَب من جيوب الشعب، ومن بيت مال المسلمين. هذا كلّه لإحياء مجالس اللّهو والترف والطرب، فمثلًا في عام 1961م، وبمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتتويج الشاه، وفي عام 1962م، بمناسبة ذكرى تتويج المَلِك والملكة بتاج السلطنة الشاهنشاهيّة، صُرِفَت مبالغ طائلة لا حدود لها[2].

 

هذا كلّه، مضافًا إلى الحفلات والأعياد والمجالس، كاحتفال السلطة مثلًا، بمرور العام 2500 على الشاهنشاهيّة. يقول أحد المؤرّخين والكُتّاب المعاصرين: إنّه خلال سنة واحدة، تشهد البلاد أكثر من ثلاثين مناسبة وعيد وذكرى تعود لنظام السلطنة والعائلة الحاكمة! وللإمام قدس سره وقفات وملاحظات نتطرّق إليها في الفصول القادمة، إنْ شاء الله.


 


[1] في كلّ مدينة من إيران، كان هناك "قصرٌ للشباب".

[2] عدد قطع ألماس تاج الشاه 3380 قطعة تزن 1144 قيراط، و50 قطعة زمرّد وزنها 199 قيراط، وقطعتا ياقوت وزنهما 19 قيراط، و368 قطعة لؤلؤ كبيرة، وزن الذهب المصنوع منه التاج 2.800 كيلوغرام، وتاج الملكة 1.480 كيلوغرامًا، وعدد كبير من الأحجار الكريمة..!

 

250


218

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

الفصل السادس عشر

الإمام قدس سره في المنفى

 

القسم الأوّل: في تركيا

 

"من أجل استقلالِ وطني، نُفِيتُ عنه".

 

إنّها أوّل عبارة أطلقها الإمام قدس سره، مخاطبًا أحد مراقبيه في الطائرة التي أقلّته إلى تركيا. وهذا هو واقع الأمر بعينه، لأنّ جرمه وذنبه هو تنديده بالحكم الجائر، ومعارضته للسلطة، ومخالفته لدستور البلاد، حيث راح يدعو لطرد المستعمِرين والقوّات الأمريكيّة، وتطهير البلد من أدران أمريكا، حفظًا لاستقلال البلاد، وصيانةً لكرامتها من أولئك المعتدين الآثمين. أجل، إنّ هذه الدعوة هي، في نظر السلطة الخائنة، أكبر جرم، وأعظم ذنب يقترفه الإمام قدس سره.

 

إنّ مثل هذه الإجراءات والتهديدات والتصرّفات، لم تستطع يومًا تغيير شيء من النهج الذي انتهجه الإمام قدس سره، ولم تُثْنِ عزمه أو تزعزع ثباته وصموده، بل زادت من تعزيز معنويّاته وتجديد قواه، إذ إنّ ما يقوم به هو واجبٌ وتكليفٌ إلهيّ. وعلى الرغم من جميع الصعاب والعقبات، تأقلم الإمام قدس سره مع الموقف الجديد والموطن الغريب، وتكيّف مع الظروف والبيئة الجديدة، واستعاد نشاطه، وعاد إلى أعماله اليوميّة المنتظمة، فكان أوّل قرار يتّخذه الإمام قدس سره عند دخوله العاصمة أنقرة، هو التعرُّف على الأوضاع الاجتماعيّة والثقافيّة للبلد، واقتنى من مكتبة المطار نسخةً من كتاب تعليم اللغة التركيّة، وشرع بتعلُّمها. بعد ثلاثة أيّام، وإثر إصرارٍ شديدٍ منه على رجال الأمن، حصل على الموافقة للقيام بجولة سياحيّة استطلاعيّة في أرجاء

 

251

 


219

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

العاصمة لمدّة 40 دقيقة، تحت مراقبة رجال الأمن ومرافقتهم. وبعد ثلاثة أيّام، أعاد الكرّة، واستطاع خلالها زيارة بعض الأماكن الأثريّة، وبعض المراكز والمتاحف والجسور الجديدة والشوارع الكبيرة والرئيسة، والتعرُّف على أنقرة القديمة. إنّ مَن يقرأ هذه العبارات، يتبادر إلى ذهنه أنّ الإمام قدس سره قام بجولة ترفيهيّة ليخفّف عن نفسه بعض الآلام والمتاعب، إلّا أنّ جولته هذه كانت ذات أهدافٍ سياسيّة، على الرغم من أنّه مبعدٌ سياسيٌّ، وضيفٌ على تركيا، إلّا أنّه عمد إلى زيارة العلماء المسلمين، والشهداء الذين قُتِلوا على يد "أتاتورك" دكتاتور تركيا الظالم.

 

وبقيَت السلطة تلاحق أفكاره هناك، حيث فرضَت عليه ارتداء الزيّ الروحانيّ المتعارَف عليه في تركيا، وهو عبارة عن معطف طويل، مضافًا إلى وضع قبّعةٍ متعارف عليها، بدلًا من العمامة. وقد ارتدى الإمام قدس سره المعطف رغمًا عنه، إلّا أنّه لم يتنازل عن العمامة، لم يضع القبّعة الأتاتوركيّة، بل التزم لبس العمامة، التي كانت تثير حفيظة السلطات وتقلقهم، على الرغم من بُعد المسافة.

 

بعد مضيّ ثمانية أيّام على إقامته في أنقرة، نقَلَه رجالُ الأمن إلى مدينة "بورسا" المطلّة على بحر "مرمرة" - التي تقع على بُعد 460 كم من أنقرة غربًا - وذلك خوفًا من اجتماعه بالصحفيّين الأتراك والأجانب، الذين كادوا يكتشفون محلَّ إقامته في أنقرة.

 

وبعد وصول الإمام قدس سره إلى أنقرة، وانتقاله إلى محلّ إقامته، بعث برسالة إلى عائلته الكريمة[1]، ليُطلِعَهم على أوضاعه وأخباره، وعلى ما هو عليه في المنفى.

 

إنّ رسالةً من زعيمٍ دينيٍّ ومرجِع ِتقليدٍ، عادةً ما تكون بالغة الأهمّيّة، يستعمل محرّرُها كلماتٍ وعباراتٍ دقيقةً للغاية، فكيف إذًا بزعيمٍ كهذا، ذي رسالة دينيّة وسياسيّة؟ إنّها رسالة معبِّرة ومهمّة للغاية، وكلّ كلمة منها لها حساب خاصّ... إنّها عبارات ذات وقع خاصّ ومدلول كبير، لا تنطلق من موقع ضعف أو ندامة، بل من موقع الشعور بالمسؤوليّة و... عبارات حماسيّة تنطلق من موقع القوّة والاقتدار والصمود والتحدّي، لتعيد أمجاد الأمّة، وتدعو الشعب لمواصلة مسيرته بعزم وحزم


 


[1] رسالة موجّهة إلى نجله الشهيد آية الله السيّد مصطفى.

 

252


220

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

كبيرَين. رسالة الإمام قدس سره كانت موجَّهةً إلى نجله الشهيد السيّد مصطفى، وهي بمثابة نداء للأمّة بأجمعها، وإليكم نصّها:

"29 جمادى الثاني 84، نور عيني السيّد مصطفى (أيّده الله -تعالى- ووفّقه لمرضاته)، بحمد الله – تعالى - وصلتُ إلى أنقرة صباح الأربعاء المنصرم بخيرٍ وسلامة. الجوّ هنا ملائمٌ وطيّبٌ، وهو أفضل من جوّ قمّ. أرجو أن لا تقلقوا علَيّ، فالحمد لله، إنّني بخير وعافية، ولا شيء يقلقني. إنّ الله لا يقدّر سوءًا لعباده. إنّني من هنا، أوصيكم وأوصي كافّة أفراد الأسرة والأقارب، بعدم الالتجاء إلّا إلى الله تعالى، وعدم الفزع للآخرين، وأطلب منك الصبر والثبات.

 

إنّ الذي يقدّره العزيز المتعالي يجب أن يُنَفَّذ. المهمّ هو أن أنبّهَك فيما إذا كنتَ تريد مرضاة الله سبحانه ورضايَ، أن تُحسِنَ معاملتَك للأسرة والعيال والأقارب والمعارف بأجمعهم. لقد عُرِضَ عليَّ حين السفر، وهنا أيضًا، فيما إذا كنتُ أودّ اصطحابَكم معي. لكن، مع كلّ شوقي إليكم، رفضتُ ذلك، وإنّني لا أرضى بمجيئكم إلى هنا بالمرّة، لأنّ بلد الغربة لا يلائم طباعكم وعاداتكم. وإنّ وسائط الراحة سوف تُهَيَّأ لي، إن شاء الله تعالى. ما أطلبه منكم هَيِّؤوه لي بأسرع وقت، لأنّه تمّ الاتّفاق على أن يأتيكم بعض الأفراد، ويأخذوا ما أريده ليحضروه لي إلى هنا. وإذا نسيت شيئًا لم أذكره هنا، فأرسِلوه أنتم. أرسِلوا لي كتاب "مفاتيح الجنان" و"الصحيفة السجّاديّة" وكتاب "المكاسب والحواشي"[1]، وبعض الألبسة، كالعباءة والثياب وغيرها. مضافًا إلى ذلك، أريد مقصّ الأظافر، ومقصّ الحلاقة، والسجّادة، والخواتم. أمّا بالنسبة لمصاريف هذا الشهر، فراجِعوا السيّد... ووزِّعوا الرواتب الشهريّة، وخُذوا ما تحتاجونه لشراء الفحم"[2].


 


[1] كتب تُدَرَّس في الحوزة العلميّة.

[2] رواتب طلبة الحوزة ومخصّصاتهم من الإمام قدس سره، لم تُقطَع حتّى في الأوقات العصيبة، وإعطاء الفحم للمحتاجِين أيضًا لم يُقطَع حتّى السنوات الأخيرة.

 

253


221

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

هذا، وبعد عشرة أيّام، أرسل الإمام قدس سره رسالةً أخرى، يؤكّد فيها على عدم الالتجاء إلى أحدٍ، ويؤكّد أنّ هذا كلَّه من قضاء الله وقدره، ويصف حالَه هذا بأنّه: "لطف من الله، لا يصدر منه إلّا الجميل، وهذا يحتاج إلى صبر جميل". وينبِّه نجلَه السيّد مصطفى بأنّه سوف تُجرَى بعض التخفيضات، وتُرفَع عنه بعض القيود، نتيجةً للضغوط الداخليّة والخارجيّة على النظام.

 

كان قدس سره يستقصي أخبار البلاد من الإذاعات ووكالات الأنباء، عبر المذياع الذي هُيِّئ له من ذي قبل. بعد شهر ونصف الشهر من إبعاده إلى تركيا، سُمِح له بإجراء اللقاءات الشخصيّة، وأوّل من التقى به هو مندوب آية الله الخوانساريّ، حيث نقل له أخبار البلاد الخاصّة، كمظاهرات السائقين وإضرابهم إثر ارتفاع أسعار المحروقات، وما قام به رئيس الوزراء من إعطاء وعود كاذبة وخادعة، حيث أظهر الإمام قدس سره قائلًا: "نحن سوف نستمع لوعودٍ جديدةٍ في العام المقبل مِن هذا الشخص أو غيره...". ثمّ تساءل الإمام قدس سره عن الأوضاع الاقتصاديّة في قمّ بالأخصّ، عندما ضربها برد شديد وقارس، سأل قائلًا:

"لقد بلغني أنّ رئيس الوزراء يدّعي بأنّ الأمور على ما يرام، ولا شيء هناك غير طبيعيّ وناقص. وردتَني تقارير من مدينة قمّ مفادها أنّه إذا لم يصل الوقود الكافي والمناسب إلى هذه المدينة، سوف يتعرّض سكّانها إلى الهلاك، ولكن استطعت أن أوزّع 1000 طنّ من الفحم على هؤلاء الناس. ويقول رئيس الوزراء: كلّ شيء على ما يرام!".

 

وكما تلاحظ عزيزي القارئ، إنّ الإمام قدس سره، بمكانه هذا وهو تحت رقابة السافاك، لم يكن ليحترز من بيان الحقائق والتعرُّض للسلطة الحاكمة. وعندما استجلى مندوب النظام رأيَ سماحة الإمام فيما إذا هيّأت له الحكومة مقدِّمات العودة للبلاد، أجابه قائلًا: "... إنّ موقعي هذا لا بأس به، وسأبقى أجاهد إلى أن يكلَّ أحدُنا، إمّا أنا، وإمّا السلطة".

 

254

 


222

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

وبعد ثلاثة أشهر، نفَت السلطةُ السيّدَ مصطفى نجل الإمام قدس سره إلى تركيا، ليلحق والدَه بمنفاه. يقول السيّد مصطفى: إنّه بمجرّد أن رآني والدي، قال لي: "أتيتَ، أم أتوا بك؟".

 

وعندما علم بأنّهم أبعدوني قهرًا، قال لي: "لو كنتَ قد أتيتَ برغبتك، لأرجعتُك من حيث أتيتَ".

 

نرى الإمام قدس سره بمواقفه هذه، هو أكبر حجمًا وأعظم مكانًا من أن يستسلم لعاطفته الأبويّة تجاه ولده الذي غاب عنه مدّة ثلاثة أشهر. إنّه بموقفه هذا، أراد أن يعرف إذا ما كان نجله قد وضع الوساطات للحصول على موافقة السلطة للسفر إلى تركيا لرؤية والده، أم هناك أمر آخر، حيث يترتّب على ذلك موقف سلبيّ تجاه حركته المباركة. يقول السيّد مصطفى: "عندما وصلتُ إلى تركيا، رأيتُ طعام والدي بعد أيّامٍ ليس جيّدًا، ولو لم أصل بهذا الوقت، لسقط والدي بعد أيّام مريضًا، ولازم الفراش نتيجة الضعف البدنيّ الذي خيّم عليه، والسبب كان أنّه لا يطلب الطعام الذي يناسب صحّته ويلبّي حاجته، بل كان يأكل الطعام المقدَّم إليه".

 

وبعد أشهر من هذا، وفد عليه ممثّل آية الله الكلبايكانيّ. وعندما تراءى له شخص الإمام قدس سره، وهو لا يضع العمامة، عادلٌ بردائه وزيّه الدينيّ، أخذَته العاطفة، ولم يتمالك نفسه حتّى تناثرَت عبراته الحزينة والمؤلمة لحال الإمام قدس سره وأوضاعه. وعندما سأله أحدُ ممثّلي بعض مراجع المسلمين آنذاك حول احتمال تسهيل سُبل العودة، أجاب مقاطِعًا: "لقد عاهدتُ الله ونفسي على أن لا أتراجع أمام السلطة، وأن لا أستسلم لأعمالهم الدنيئة".

 

وقد وُفِّق الإمام قدس سره خلال فترة إقامته في تركيا، التي استمرّت أحد عشر شهرًا، إلى جمع فتاويه وآرائه الفقهيّة وتحريرها وتأليفها في كتابٍ عُرِف بـ"تحرير الوسيلة". جاء في قدّمة هذا الكتاب:

 

255

 


223

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

وفي اليوم التالي، غادر البلدة، متّجهًا إلى مدينة كربلاء، حيث استقبلَته جموعٌ غفيرة أثناء حلوله المدينة، وهم يردّدون هتافات التبريك، ويزفّون البشرى لمقدَمه المبارك.

 

ووسط تلك الجموع الجماهيريّة الكبيرة، واكب مسيره حتّى بلغ المشهد الحسينيّ مثوى الإمام السبط الحسين بن عليّ  عليهما السلام. وأقام الإمام قدس سره في كربلاء أسبوعًا واحدًا، وأَمَّ سماحتُه المصلّين طيلة فترة إقامته، بدلًا من السيّد محمّد الشيرازيّ، نزولًا عند رغبة الأخير. وبعد مضيّ أسبوعٍ من إقامته، اتّجه الإمام قدس سره إلى النجف، واستقبلته المدينة استقبالًا منقطع النظير، حيث لم تشهد مدينة النجف استقبالًا مهيبًا كهذا قط!

 

وهنا، أخذ الإمام قدس سره يتحيّن الفرص الملائمة والجوّ المناسب لكشف القناع عن مؤامرات الدول العظمى، وخيانات الشاه والسلطة، وما يُحاك للعالم الإسلاميّ من دسائس خلف الستار، وذلك من أجل تماسُك علماء الدين وتعاضُدهم، والظهور بمظهر الوحدة والصمود والقوّة. وبعد أيّام أربعة من دخول الإمام مدينة النجف، التقى آيةَ الله السيّد محسن الحكيم زعيمَ الطائفة الشيعيّة في العراق آنذاك، وحاول خلال حديثه معه أن يَلقى بعضَ الدعم منه، لمواصلة مسيرة الكفاح والنضال ضدّ الأعداء المتربِّصين بأمّتنا، وضدّ أهداف الشاه التي ترمي إلى النيل من الإسلام[1].

 

إنّ ذلك اللقاء يعطي مؤشّرًا هامًّا، يحكي عن مدى وعي الإمام قدس سره للجوّ السياسيّ الحاكم.

 

بعد أربعين يومًا من دخول الإمام قدس سره العراق، افتتح حوزتَه الدينيّة والعلميّة في النجف في جامع الشيخ الأنصاريّ. وفي اليوم الأوّل من استئناف محاضراته، خطب بالحاضرين خطابًا مهمًّا، عبّر فيه عن مشاعره وأفكاره واتّجاهه ومنهجه، وأكّد على مجالات كثيرة ومهمّة، وتكلّم حول الكمالات الخلقيّة السامية، وعن جهاد الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل إعلاء كلمة الإسلام والتوحيد، وإقامة الدولة الإسلاميّة، وتطرقّ أيضًا إلى


 


[1] تفاصيل اللقاء هذا يجده المطالع والمنقِّب عنه في المجلّد الثاني من كتاب "نهضة الإمام الخمينيّ"، ص151 و152.

 

256


224

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

الأحكام السياسيّة في الإسلام، وأبعاد الإسلام السياسيّة والاجتماعيّة، ومسؤوليّة العلماء ومراجع الدين تجاهها، وحذّر من الفرقة وخطر الصهيونيّة، وأكّد على تهذيب النفس وكسب الفضائل و... وممّا جاء في خطابه، قوله قدس سره:

"... الإسلام ليس جنبًا تعبُّديًّا ينحصر في إطار الصلاة والصيام والدعاء والتسبيح، هذا بابٌ واحدٌ من أبواب الإسلام. إنّ الإسلام له منهج خاصّ، وسياسة خاصّة به. الإسلام يعني إدارة البلاد، وإدارة الأمور العامّة، و... ومع الأسف الشديد، إنّنا اتّخذنا طرقًا ومناهج ليست مجدية، وبذلنا جهودنا في المجال الدينيّ البَحت فقط، ولم نتطرّق إلى أمور الأمّة وإدارة نظامها".

 

بينما نرى أكثر أحكام الإسلام تتعلّق بالإدارة والنظام، ودراسة المجتمع سياسيًّا وحكوميًّا، وقال أيضًا:

"... المساجد في عهد الرسول وفي الصدر الأوّل، كانت كلّها قواعد سياسيّة للإسلام. في المساجد كانت توضع مخطّطات الحروب... في المساجد كانت تُدار أمور البلاد... وكانت خطب صلاة الجمعة تدور حول السياسة والحروب وإدارة البلاد و...".

 

ثمّ تطرّق إلى مسؤوليّة العلماء والمراجع تجاه إقامة الحكومة الإسلاميّة، فقال:

"... كما أنّ رسول الله كان مسؤولًا عن إقامة الدولة الإسلاميّة، فعلماء اليوم هم أيضًا مسؤولون عن ذلك، ويجب عليهم أن يبيّنوا أحكام الإسلام بشكلها الصحيح، بدلًا من الوقوف عند صيغتهم الجامدة التي لا يعرفون منها سوى تحريك اللسان بها، وحمل كتاب الدعاء... على أولئك توضيح حقيقة الدين الإسلاميّ كما هي. يجب أن يعرف العالَم أنّ لنا دينًا متكاملًا شاملًا لمجالات الحياة كلّها، وأنّ لنا دينًا متكاملًا دنيويًّا وأخرويًّا. إنّ دينًا مثل هذا، مَن الذي يجب عليه أن يُظهِرَه؟ ألم تكن هذه وظيفة العلماء؟".

 

هذا الخطاب أبان للعالَم والنظام الشاهنشاهيّ أنّ الإمام قدس سره ماضٍ على ما مضى عليه في السابق، ولم يعدل عن مسيرته ومبادئه مطلقًا، خلافًا لتوقّعات الشاه والكثير

 

257

 


225

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

من المراقِبين السياسيّين، بل بدا لهم واضحًا أنّه مصمّمٌ على إقامة الحكومة الإسلاميّة، مهما كلّف الثمن. من هنا، بدأ النظام بنشر الدعايات، وبثّ السموم والافتراءات على الإمام قدس سره، عبر الجهلاء والمغفَّلين من الشباب والطلبة البسطاء، الذين استغلّهم لهذه المهمة، وغيرهم من العلماء والمأجورين.

 

قام الإمام قدس سره بإرسال عدّة رسائل وبرقيّات إلى الكثير من العلماء المجاهدين في إيران، يحثّهم فيها على متابعة النضال والجهاد والكفاح، ويعزّز من مواقفهم، ويمدّهم بشحنات إيمانيّة صلبة وصادقة. وقد جاء في بعضها:

"يؤلمني كثيرًا ما حَلَّ بالمسلمين في إيران، بالأخصّ بعلماء الدين والطلبة الدينيّين، طلبة السنوات الأخيرة. بيدَ أنّ هذه الآلام والضغوط والتضحيات، التي تحمّلَتها الحوزة العلميّة والسادة الفضلاء وكافّة الإخوة المؤمنين، عادَت على المسلمين وعلى العالَم الإسلاميّ بالمنفعة، والحمد لله... إنّها من الألطاف الإلهيّة التي دعَت الأمّة أن تبلغ مرحلةً من النضج والوعي والتجدّد، لم تشهدها من قبل... إنّ مَهمّة علماء المسلمين اليوم قد تعاظمَت وكبرَت، وهي تحتاج اليوم إلى صمود وشجاعة، وصدٍّ عن حرمات الله، وعن الدين والمقدّسات والحوزة العلميّة، وعليهم تبليغ أحكام الإسلام بوعيٍ متفتّحٍ.

 

طلبتنا الشباب الأعزّاء (وفّقهم الله -تعالى- وأيّدهم) هم الآخرون المسؤولون عن دعم الحركة الإسلاميّة، والوقوف إلى جانب علمائهم وأساتذتهم. وعليهم أن يعوا المسؤوليّة الكبيرة الملقاة على عاتقهم، والتي ستتعاظم في المستقبل، لكي يستعدّوا للتصدّي لأعداء الأمّة، وللقيام بواجبهم المقدّس المثاليّ.

 

إنّ هذه الدنيا الدنيئة، بزخرفها وزينتها، سوف تمرّ علينا جميعًا. إنّه لمن دواعي السرور والفرح أن يقضي الإنسان عمره المعدود هذا في طاعة الله، وخدمة دينه القويم، وخدمة إخوانه المسلمين، ونصرتهم من ظلم المتجاوزين والمستبدّين".

 

258


226

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

ثمّ يبتهل إلى الله داعيًا، فيقول:

"إنّني أرفع يدَيّ نحو السماء، وتحت قباب أئمّتنا، وأتضرّع إليه، وأسأله نصرة الإسلام والمسلمين والحوزة والشباب المؤمن المناضل".

 

ونرى الإمام قدس سره متلهِّفًا ومتشوّقًا إلى أيّامه الحوزويّة السابقة في قمّ، وذلك عبر رسائله التي كان يرسلها إلى علماء إيران طيلة خمس سنوات من الزمن، ويُرى الإمام قدس سره فيها حزينًا وكئيبًا لِما كان يلاقيه من جمود وخمول سياسيّ في الحوزة العلميّة في النجف. ويشيد بعلماء إيران والحوزة العلميّة في قمّ، فيقول:

"... لقد أشرفَت السنينُ الأخيرة من عمري، ولا أعلم أين سيؤول بنا الدهر، ونحن واقعون بين مطاردةٍ وضغوط بعضهم (يقصد الشاه ونظامه)، وبين تساهل بعضنا ولا مبالاتهم".

 

وجاء في إحدى رسائله الموجّهة إلى بعض مراجع الدين في قمّ، قائلًا:

"... إنّني مضطربٌ وواقعٌ في هلع شديد تجاه مستقبل الحوزة في قمّ مستقبلًا... مضطربٌ من احتمال إطالة إبعادي أكثر ممّا مضى، والذي قد يؤدّي إلى تهاون بعضهم وتراجعهم. إنّني أبتهل إلى الله، وأسأله أن يصلح أمورنا... أبلغ الجميع بأنّي مشتاقٌ جدًّا للمثول بين أياديكم، لأشارككم أفراحكم وأحزانكم، وإنّ أولئك الثلّة من العلماء الفضلاء الذين أثبتوا جدارتهم ووفاءهم تجاه قضيّتهم، هم الذين أنظر إليهم بأمل كبير. وإنّني لأرى طريقي مشرِقًا بأنوارهم. وإن شاء الله، سأكون بينكم في أوّل لحظة يسهّل الله بها عليّ".

 

إنّ أوّل بيان رسميّ صدر عن الإمام، كان بعد نفيه بعامَين ونصف العام، فضح من خلاله دسائس الاستعمار، عبر عميله الشاه، وكشَفَ النقاب عنها، وبَيَّن واجب العلماء وأهل العلم تجاهها وتجاه سلطة الجبابرة، مطالِبًا إيّاهم بعدم التراجع والتقهقر أمامهم، وموصيًا بالعزم والصمود والتصدّي. وجاء فيه:

"بين الآونة والأخرى، تصلني أخبار مفزعة ومؤلمة عن أوضاع البلاد والحوزة

 

 

259


227

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

العلميّة، وأنا قاطن بمنفاي هذا. إنّني على علم بما يجول في عقول السلطة الظالمة من أفكار تجاه المسلمين والإسلام والمقدّسات والقرآن وأحكامه. إنّكم عند رجال السلطة أناسٌ مجرمون! جريمتكم هي خدمة القرآن والدين الإسلاميّ، وعداؤكم للاستبداد والاستعمار، ومعارضتكم النهب والسلب والسرقات... وهدف الاستعمار هو قمع الدين ومحو الإسلام... كُتِب عليكم القتل والتشريد والسجن والظلم والإهانة والنفي، ذلك كلّه لفتح البلاد أمام الأجانب والإسرائيليّين. لقد كُتِب على الطغاة أن يغوصوا في بحار شهواتهم ونزواتهم، وترك بلادهم، والتوجّه إلى أنفسهم، وكُتِب عليكم التشريد والقتل والنفي والتعذيب، لوقوفكم بوجه هؤلاء...

 

أيّها الشعب الإيرانيّ البطل، إنّني أبشّركم بالنصر القريب، وبهزيمة النظام الجبّار! اصمدوا أمام الظلم والقمع. إنّهم زائلون لا محالة، وأنتم، أيّها الصامدون، باقون إن شاء الله. إنّ الظلم لا يدوم أبدًا أمام عواطف الأمّة الجيّاشة. لقد مرَّت علينا أيّامٌ صعبة سوداء من قبل، ممّن سبق هؤلاء الجبابرة. لقد وقفنا في وجههم طيلة أيّام حكمهم، ولم تتزلزل أقدامنا أبدًا، واجهنا ضغوطهم واغتيالاتهم وغاراتهم وظلمهم، ولم نركن للجمود والخمول والتراجع أبدًا. لقد صمدنا ووقفنا، حتّى انهاروا وسقطوا أمام أعيننا. وما عليكم سوى الصمود والوقوف أمام هؤلاء، كي يهووا من تلك المشارف المزيّفة، ليلقى كلُّ واحدٍ منهم جزاءه الموعود.

 

الاستسلام لا معنى له... إنّهم صمّموا على محوكم تمامًا. لا تُخدَعوا بأساليبهم ومكرهم إذ يأخذونكم باللين والرفق، وبمختلف الأساليب. وما عليكم سوى الاستقامة والصمود وإظهار الحقّ، حتّى يتقهقروا".

 

من خصائص الإمام قدس سره الجهاديّة، عدم تأكيده على مسائل عاديّة وبسيطة، بل كان يلقي بثقله على أهمّ المسائل، وعلى الأمور الكبيرة. وقد رأينا كيف خالف الإمامُ قدس سره الحكومةَ حول لائحة المجالس المحلّيّة، وكيف وقف في وجهها، وقد أراد من وراء ذلك إعلانَ موقفه تجاه السلطة، وفضح المؤامرات التي تُحاك ضدّ البلد، ولم

 

260

 


228

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

يُرِد اللائحة بذاتها. لقد قام بعضُ علماء قمّ بإرسال بعض الطلبة كممثّلين لهم إلى سماحة الإمام، وهو بمنفاه في النجف، ليستفسروا عن رأيه حول لوائح جديدة للبرلمان صدرَت حديثًا، تمسّ مقدّسات المسلمين والنظام الإسلاميّ. ولَمّا مَثَلوا بين يدَيه، أجابهم بأنّ المسألة أكبر حجمًا من هذا، وأنّها تكمن في إسقاط النظام فقط، فلو استجبنا لمثل هذا الإغراءات، وأقدمنا على مثل هذه الأفعال، فإنّنا سوف نقرّ بشرعيّة النظام القائم، وأنّ الخلاف يقع في مدى تطبيق القوانين فحسب. ومن هنا، أحجم الإمام عن إصدار أيّ بيان، أو إعطاء رأيه حول اللوائح الجديدة. كذلك أكّد الإمام في رسالة جوابيّة لأحد علماء الدين، أنّ القيام بنشر عدّة بيانات وإعلانات واتّصالات ببعض الهيئات الدبلوماسيّة والسياسيّة، وحتّى الأمم المتّحدة، ليست مثمرة، ولن تعود علينا بالفائدة. وحذّر جماعةَ العلماء المجاهدين وغيرهم ممّن هم في ساحة النضال، تحذيرًا شديدًا، وأعلن بأنّ هذا سوف لن يكون لصالح الحوزة والإسلام.

 

تزامنًا مع بيان الإمام الذي وجّهه إلى الحوزة العلميّة في إيران، أرسل سماحتُه رسالةً إلى رئيس الوزراء آنذاك "أمير عبّاس هويدا"[1].

 

وهذه الرسالة هي آخر نداء من سماحة الإمام يوجّهه إلى السلطة الجائرة، ليقيم عليها الحجّة، وليقطع كافّة الاتّصالات بهم نهائيًّا.

 

هذه الرسالة تذكّرنا برسائل الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم إلى النجاشيّ مَلِك الحبشة، وأكاسرة الإمبراطوريّة في إيران وروما آنذاك، وعلى الرغم من أنّ موقف بعض أولئك الملحدين والمشركين تجاه الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم كان سلبيًّا، نرى أنّ دعوته ورسالته كان لها أثرها البارز والهامّ، وظهر مفعولُها بعد برهة من الزمن، وتحطّمَت القيصريّة والكسرويّة أمام عظمة الإسلام. وهذه الرسالة هي الأخرى سائرة على النهج ذاته، حيث لم يمضِ عليها إلّا بضع سنوات، حتّى شهد النظام آثارها، وكان ضحيّةً لمواقفه الخيانيّة، ولعنجهيّته واستبداده.


 


[1] بقي في هذا المنصب حتّى انتصار الثورة الإسلاميّة، وقد حكمَت عليه محكمة الثورة بالإعدام، وهو أحد أقطاب الماسونيّة والبهائيّة في إيران.

 

261


229

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

نصّ رسالة الإمام:

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

 

حضرة السيّد هويدا، أرى من الضروريّ أن أتقدّم إليكم ببعض النصائح، وأكشف عن بعض الأمور، وإن كان الخيار لكم في قبول ما أقول، أو عدم قبوله.

 

طوال هذه المدّة التي قضيتُها هنا منفيًّا من وطني، بجريرةِ معارضة قانون حصانة الأمريكيّين، الذي قوّض أُسُس استقلال البلاد، وأعيش في المنفى خلافًا للشرع والدستور، فإنّ قلبي يعتصره الألم ممّا أطّلع عليه بشكلٍ نسبيٍّ، مِن ظلمٍ ومصائب يُلحِقها النظام المتجبِّر بالشعب الإيرانيّ الأصيل المظلوم.

 

إنّ ممّا يُؤسَف له أنّ معزوفة إصلاحاتكم النشاز لم تتجاوز تقريبًا سوى العرض الإعلاميّ في الإذاعة والصحف الموجَّهة، وبعض الكتابات المشحونة بالهراء، وكلّ يوم يزداد الشعب فقرًا وتردّيًا، وتتفاقم حالات الإفلاس بين التجّار في السوق.

ولم يكن لهذا الهراء الإعلاميّ كلّه غيرُ خَلقِ سوقٍ سوداء للأجانب، والإبقاء على الشعب بحالةٍ من الفقر والتخلُّف، بدعوى الشعب المتقدِّم. إنّ حكومتكم وحكومة أسلافكم، ونزولًا عند رغبة أولئك الذين يريدون الإبقاء على شعوب الشرق بحالتها المتخلِّفة، مارسَت وتمارس أبشع أنواع التسلُّط البوليسيّ. إنّها حكومةٌ من القرون الوسطى، حكومة الأسنّة والرماح والتعسُّف والسجون، حكومة الكبت وقمع الحرّيّات، حكومة الخوف والتسلُّط، تقوم باسم المشروطيّة بممارسة أسوأ أنواع الحكم الديكتاتوريّ المستبدّ، وتوجِّه باسم الإسلام أشدَّ الضربات إلى القرآن الكريم والأحكام السماويّة، وتنتهك باسم التعاليم السامية للإسلام أحكامَ الإسلام، واحدًا تلو الآخر. ولو أنّها وجدَت الفرصة - لا سمح الله - فإنّها ستواصل ذلك مستقبلًا، وستُبقي على البلاد في حالةٍ من التخلُّف، بدعوى التقدُّم والازدهار.

 

هذه حقائق مرّة، ينبغي عليّ أن أُطلِع الدنيا عليها، وألفتَ الأنظار إليها، حتّى

 

262

 


230

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

يتحرّك أولئك الغافلون أو المتغافلون، ويشعروا بمسؤوليّاتهم، ولا ينخدعوا بمراءاتكم ومظاهركم الخدّاعة.

 

وإذا أردتُ أن أشير إلى مظاهركم تلك، فلا أشير فقط إلى الاحتفالات غير الوطنيّة التي تُقام لشخصٍ واحد عدّة مرّات في كلّ عامٍ، ويرافقها في كلّ مرّةٍ مصائب مفجعة للإسلام والمسلمين، وللشعب الإيرانيّ الفقير البائس... في إحدى تلك الحفلات التي لا يمكنني إلّا أن أسمّيها بحفلات الهوس والشهوة والتلاعب بأحاسيس الناس، قِيل: إنّ الحكومة أنفقَت 400 ألف مليون ريال، تمّ تأمين نصفها من خزانة الدولة، ونصفها الآخر من جيوب التجّار في البازار وغيرهم، أُخِذَت بالإرعاب والتهديد.

 

إنّكم تُنفِقون دماء قلوب الفقراء، لتحقيق الشهرة والسلطة لكم. وما دام هذا الشعب في حاله من الجهل بدوره وحقوقه، فكلّ يومٍ لكم عيد ومسرّة، ولهذا الشعب النكبات والمصائب.

 

أشير فقط إلى ما يرافق هذه الاحتفالات غير الميمونة من هتكٍ لأعراض المسلمين وحرمات الإسلام، والتي يأنف القلم عن تسطيرها.

 

أنتم في قصوركم الفخمة التي تغيّرونها في كلّ بضعة أعوام بملايين التومانات، من النفقات التي لا يمكن للشعب مجرّد تصوّرها، تعكفون على جمعِ ذلك كلّه من جيوب المواطنين البائسين، وترون بأعينكم جوعَ الشعب، وانهيار البازار (السوق)، وبطالة الشبّان والخرّيجين، وتدهوُر الزراعة، واختلال أوضاع السوق، وسيطرة إسرائيل على الشؤون الاقتصاديّة في البلاد، بل وكما تشير بعض التقارير، فإنّهم يتدخلون الآن في الثقافة أيضًا!

 

... فكيف يقبل ضميركم أن تتملّقوا إلى هذه الدرجة للأجانب، من أجل حكومةٍ سرعان ما تزول، وتسلّمونهم ثروات الشعب مجّانًا، أو مقابل أشياء تافهة، لتُلحِقوا الظلم والاستبداد برعيّتكم، أعني هذا الشعب المظلوم؟ وكيف ترضون أن تبيّنوا للعالَم حكومتكم والدولة الإسلاميّة بمظهر التخلُّف والرجعيّة؟ فنقض الدستور دليلٌ على التخلُّف، وكذلك الاستفتاء غير القانونيّ والمزيَّف هو دليلٌ على التخلُّف. ومصادرة حرّيّة الشعب في انتخاب ممثِّليهم، وتعيين أفراد معروفي الاتّجاه تبعًا لأوامر الآخرين،

 

263


231

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

وبدون تدخُّل الشعب، هو دليلٌ على الضعف والتخلُّف أيضًا.

 

إنّكم تعلمون بأنّ الشعب إذا ملك خيار تقرير مصيركم، فإنّكم لن تكونوا على هذا الوضع، وإنّكم ستُنبَذون إلى الأبد. ولو أنّكم أعطيتم الحرّيّة للخطباء والكتّاب مدّة عشرة أيّام، فإنّ جرائمكم ستُكشَف للملأ العامّ... هل تعلمون ما هي الخيانة التي ارتكبتموها بحقّ هذا البلد، وبحقّ الإسلام، بمصادقتكم على هذا المشروع؟ وأيّة ضربة وجّهتموها لاستقلال البلاد؟ طبعًا، فإنّ المعارِض لهذا المشروع هو خائن، ويستحقّ النفي من البلاد!

 

... توقّفوا عن التعاون مع إسرائيل عدوّ الإسلام والمسلمين، التي شرّدَت أكثر من مليون مسلم مظلوم، ولا تجرحوا عواطف المسلمين، ولا تُفسِحوا المجال أكثر من ذلك لإسرائيل وعملائها الخونة للنفوذ في أسواق المسلمين، ولا تعرّضوا اقتصاد البلاد للخطر، من أجل إسرائيل وعملائها، ولا تخاطروا بثقافتنا من أجل شهواتهم وملذاتهم... لا تجعلوا علماء الأمّة يضطرّون للتصرُّف معكم بشكلٍ آخر...

 

كانت هذه ثلّة قليلة من الفجائع التي ارتكبتموها ضدّ الدين والشعوب، أقولها لعلّكم تتّعظون وترعوون، ولعلّ مراجع الإسلام والعلماء الأعلام والخطباء المحترَمين يستشعرون مسؤوليّتهم، ولعلّ... ولعلّ...".

 

ولم تهتمّ السلطة بتحذيرات الإمام قدس سره هذه، وأعرضَت عن الأمر نهائيًّا، واستمرّت بعقد المعاهدات التجاريّة والسياسيّة مع الأمريكيّين والأجانب بأكثر ممّا مضى. وبناءً على آخر الاتّفاقيّات، تعاهد الطرفان على تسليم كافّة الاختيارات، بما يتعلّق بالبلاد، إلى الاستثمارات الأجنبيّة. ولم يسكت الإمام قدس سره عن هذا أبدًا، وأعلن عن رأيه وتنديده للسلطة تارةً أخرى، وذلك بمناسبة استشهاد حجّة الإسلام "سعيدي"[1] على يد أزلام النظام في صيف 1970م. وأوضح الإمام قدس سره، من خلال بيانه هذا، أهدافَ أمريكا الرأسماليّة في إيران، وقال:


 


[1] أحد العلماء المجاهدين، الذي كان يهاجم النظام بخطبه الناريّة، وكان ذلك ما أدّى إلى اعتقاله، ومن ثمّ استشهد في السجن إثر التعذيب الوحشيّ، حيث تمّ ثقب رأسه بالمثقب الكهربائيّ.

 

264


232

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

"... إنّ المتخصّصين والخبراء الأمريكيّين الكبار، باسم الرأسماليّة والاستثمار، هجموا على بلادنا وعلى أمّتنا لنهب ثرواتنا. إنّ أولئك المستثمرين الذين كتبَت عنهم الصحف بأنّ لحظاتٍ من حياتهم تعادل آلاف الدولارات، يجب أن يُعرَف لأيّ سبب قدِموا إلى البلاد؟ هل لحلّ مشاكل البلاد، ولمسائل إنسانيّة؟ أولئك الذين تسبّبوا في قتل الآلاف من الناس الأبرياء وتشريدهم وسجنهم، هل هم إخوان وأصدقاء حميمون لنا؟ أمّ إنّ هناك أمرًا ما يقف له الشاه ليعربَ عن عمالته وانصياعه للغرب به؟ إنّ هذا هو العار، وهو الخذلان، وهو الذلّة!".

 

وتطرّق الإمام قدس سره مرّات ومرّات إلى نفوذ إسرائيل، وبيَّنَ خطرَها، وطالب الأمّة بأن تعزب عن معاملة اليهود في البلاد، وتقطع كافّة الروابط معهم. وفي نهاية بيانه هذا، أكّد قائلًا:

"إنّني أعلن للجميع بأنّ أيَّ اتّفاق ومعاهدة تُوَقَّع مع الأمريكيّين، هي مخالفة للدستور وللإسلام وللدين. أعضاء البرلمان الإيرانيّ هم أعضاء مزيَّفون، وليسوا ممثِّلين عن الشعب الإيرانيّ حقًّا. كافّة آرائهم غير قانونيّة، ومخالفة للدستور ورأي الشعب... على كافّة علماء الدين والطلبة الجامعيّين المثقّفين أن يقفوا أمام هذه الاتّفاقيّات، لكي لا تخرج إلى حيّز التنفيذ".

 

أ. الإمام قدس سره وموقفه إزاء الحرب العربيّة الإسرائيليّة الثالثة

في صيف 1967م، وقعَت الحرب الثالثة بين إسرائيل والدول العربيّة، والتي دامت ستّة أيّام فقط. هذه الحرب شنَّتها إسرائيل بصورة باغتة، وألحقَت بهم أضرارًا كبيرة، وأضرَّت بالعالَم العربيّ والإسلاميّ بشكل عامّ. وقد تأثّر مسلمو العالَم بأجمعهم بما حلَّ بإخوانهم المضطهدين، وأخصّ بالذكر الإيرانيّين، الذين راحوا يجمعون تبرّعاتهم وهداياهم عبر حسابات خاصّة، ليقدّموها معونةً لإخوانهم المسلمين المظلومين.

 

أمّا الشاه، فقد راح يوثّق علاقاته مع إسرائيل أكثر فأكثر، ووقّع معاهدات عديدة في مجالات النفط، وتبادل الخبرات الجاسوسيّة والعسكريّة. وبموقفه هذا، غرز في ظهر

 

265


233

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

الدول العربيّة خنجرًا مسمومًا. أمّا الإمام قدس سره، فأصدر بيانًا بهذه المناسبة (وأُذِيعَ عبر الإذاعة العراقيّة من بغداد)، وأعلن عن رأيه، مندِّدًا بالهجوم الوحشيّ هذا، وحرَّم كافّة الروابط والعلائق مع إسرائيل، وعلى كافّة الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة. وإليكم نصّ البيان:

بسم الله الرحمن الرحيم

"لقد حذّرَت الدول الإسلاميّة مرارًا وتكرارًا، وبالأخصّ دولة إيران، من مؤامرات الاستعمار والصهاينة، وما يدبّرونه لنا من خطط وأفكار هدّامة يبثّونها بين صفوفنا، من أجل فرقتنا والسيطرة علينا وعلى بلادنا وثرواتنا. إسرائيل، هذه الجرثومة الفاسدة الفتّاكة، استعملها الاستعمارُ أداةً له، لتخريب صفوفنا وتهديمها. وكلّ يوم يمرّ علينا، نراها تتوغّل في بلادنا الإسلاميّة أكثر فأكثر. ويجب على الدول الإسلاميّة الكبرى وعلى المسلمين كافّة الاتّحاد والوفاق، من أجل التصدّي لهذا العدوان. إسرائيل قامت بقوّة الدول الاستعماريّة الكبرى، ويجب على المسلمين والدول الإسلاميّة قمعَها وإسقاطَها. مساعدة إسرائيل وبيعها السلاح والنفط وأيّ شيء حرام، وغير جائز، ومخالف لأوامر الإسلام ونواهيه. يجب على المسلمين كافّة قطع الروابط التجاريّة والاقتصاديّة معهم، وعليهم مقاطعة البضائع الإسرائيليّة أينما وُجِدَت. أسأل الله تعالى نصر الإسلام وأهله، آمين ربّ العالمين".

 

وبعد عامٍ واحد على هذا، أصدر الإمام قدس سره فتوى شرعيّة تجوّز صرف الزكاة والصدقات على المدافِعين المجاهِدين الفلسطينيّين، معلنًا بذلك دعمه واهتمامه بالقضيّة الفلسطينيّة والإسلاميّة.

 

وبعد مرور عامَين على هذا العدوان الشرّير، قامت إسرائيل بقصف المسجد الأقصى، وأضرمَت النيران لتعرب عن سوء نواياها تجاه المسلمين والعالَم الإسلاميّ. إنّ قصف المسجد الأقصى، القبلة الأولى للمسلمين، وإحراقه، ما هو إلّا عمليّة تحدٍّ وعدوان على مقدّسات الإسلام والدين الحنيف. تلك حادثة هزّت ضمير العالَم، وأرعبَت قلوب

 

266

 


234

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

المسلمين عامّة في كلّ مكان، وما كان من حكومة الشاه سوى تقديم بعض التأوّهات، وإظهار الأسف لِما حَلَّ بالمسجد المبارك، وحرصَت على إدانة النظام الإسرائيليّ، وأَعلَن عن افتتاحه صندوق مساعدة وتبرّعات لإعادة بناء المسجد وترميمه فقط، حيث قال: "إنّ الشاه والأمّة الإيرانيّة هم السبّاقون الأوائل لإعادة بناء المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، وترميمه، وإنّهم يعتزّون ويفتخرون بذلك".

 

أمّا الإمام قدس سره، فقد أعلن عن رأيه تجاه هذه الحادثة عندما التقته صحيفة "الجمهوريّة" العراقيّة، فقال:

"ما دامت فلسطين محتلّة، يجب على المسلمين ترك المسجد بصورته هذه، لتبقى صورة إسرائيل الجنائيّة والمدمِّرة ذكرى على مدى الزمن، ولكي يدرك العالَمُ من هي إسرائيل، وما هي خططها".

 

وبعد أشهر، أعرب الإمامُ قدس سره عن رأيه تارةً أخرى، حينما تناول بحث "الحكومة الإسلاميّة"، فقال:

"... لقد أحرقوا المسجد الأقصى وكلَّ شيء. فنادينا وصرخنا ودعونا إلى تركه على حاله تلك، كي يتعرّف العالم على آثار جرائم إسرائيل، إلّا أنّ الشاه فتح صندوقًا لإعادة بنائه وترميمه، وشجّع الشعب على التبرّعات والهِبات، ليملأ جيوبه من جهة، وليغسل عار إسرائيل من جهة أخرى".

 

ب. الإمام قدس سره واهتمامه بالطلبة الجامعيّين الإيرانيّين خارج البلاد

طيلة فترة إقامة الإمام قدس سره في منفاه الثاني، وبالتحديد النجف، كانت له لقاءات ومكاتبات ومحاورات عدّة مع الطلبة الجامعيّين الإيرانيّين الذين يواصلون دراستهم خارج البلاد، مضافًا إلى عدّة لقاءات أخرى التحق بها كُتّاب وأدباء وسياسيّون كبار. والإمام قدس سره بدوره، كان يبذل لهم العطاء والاهتمام الكبيرَين، مضافًا إلى إرشاداته وتعاليمه وتوصياته الحكيمة. ونرى الإمام قدس سره في مشهد رائع، إذ يجيب على إحدى رسائل بعض الكُتّاب المسلمين، ويشرح له خطر الاستعمار على البلاد الإسلاميّة، ويبيّن له سبب

 

267

 


235

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

خمول الأمّة، ومدى خيانة الحكومات، ويؤكّد له أنّ الشبيبة المؤمنة والطليعة المسلمة هي أمل الأمّة الوحيد في التحرّر والخلاص، فيقول:

"إنّني كُلّي أملٌ في أن أرى شبابنا - وهم بقوّتهم وعزّهم ونشاطهم، وقبل فوات الأوان وبلوغهم الكبر والعجز - يقومون بمَهمّتهم، ويؤدّون رسالتهم، وهي إيقاظ الأمّة من نومها العميق، وذلك على الأصعدة كافّة، بالشعر والنثر والخطابة والكتابة والنشر و... التي هي أداة إيقاظ الأمّة من سباتها. وأدعوكم إلى ذلك حتّى في اجتماعاتكم الخاصّة والصغيرة، فلعلّ دعوتنا هذه تكون مدعاة لبروز رجال غيارى وشجعان، يحملون على عاتقهم عبء التصحيح، ويقضون على هذه الأوضاع المؤلمة.

 

على أبنائي الشباب الطلبة أن يعوا كيد الأعداء، وأن يجدّوا بالدراسة وتحصيل العلم، وأن يعزبوا عن كافّة المخدّرات والمحرّمات المثبطة لنشاطهم وتحصيلهم، وأن يُعرِضوا عن كافّة المغريات والشهوات وأنواع اللهو والطرب، فإنّها فخٌّ وضعَه الاستعمار لإماتتهم والقضاء عليهم. يجب على المفكِّرين والواعين والمخلِصين أن يعدّوا خطط تنمية لإعداد أفرادٍ مثلهم، وعليهم أن يتواصلوا بالحقّ، ويتواصوا بالصبر، وألّا يخافوا في الله لومة لائم".

 

كذلك قام الإمام قدس سره بإرسال رسالة جوابيّة مفتوحة، ردًّا على رسالة وجّهها اتّحاد الطلبة المسلمين الإيرانيّين في أوروبّا عام 1969م، أكّد فيها على جرائم المستعمرين ومؤامراتهم في إيجاد التفرقة وشقّ صفوف الطلبة والشباب وعلماء الدين، وقال:

"... إنّ الأنظمة الخائنة والعميلة حاولَت جاهدةً مسخَ أفكار الشباب، وإبعادَهم عن أحكام الدين الإسلاميّ الحنيف، وبالأخصّ في الجانب الاجتماعيّ والاقتصاديّ والإداريّ، وسعَت بوسائلها وأساليبها كلّها لتجعل من الإسلام والدين أفيونًا ومخدّرًا لطاقاتهم، حيث أكّدَت على الجانب العباديّ والدينيّ فقط، لا غير، وفي الحال، نرى قواعد ديننا القويم مرتكزةً على الأصول السياسيّة والاجتماعيّة، أكثر ممّا هي على القواعد العباديّة".

 

268

 


236

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

وفي مجالٍ آخر، أوضحَ الإمام قدس سره سوءَ نوايا الغرب بإرساله بعثات المستشرقين والبحّاثة، واتّهمهم بالعمالة، حيث إنّ هدفهم النهائيّ هو تمزيق صورة الإسلام الجليّة والواضحة، وتشويهها. وأعرب عن ذلك، قائلًا:

"لقد سعى المستشرقون وعملاء الغرب، وباسم معرفة الإسلام والدين والشعوب الشرقيّة، للقضاء على الأفكار الإسلاميّة الواعية، وصرفوا جلّ جهودهم على ترويج الأفكار الهدّامة، فعرّفوا الإسلام بأبنيته وزخارفه ونقوشه وفنونه، وشوّهوا تاريخَه، فجعلوا سيادتَه بيد الأمويّين والعبّاسيّين والعثمانيّين الجائرين، وقد أدّى هذا بأجمعه إلى صفع المسلمين صفعةً غيّرَت كافّة مفاهيمهم وأفكارهم، حيث صَعُب علينا الآن إفهامهم ما هو الإسلام الحقيقيّ والحكومة الإسلاميّة".

 

ثمّ يؤكّد الإمام قدس سره على مسؤوليّة الشباب ورسالتهم، ويقول:

"يا معشر الشباب الواعي، تقع اليوم عليكم مَهمَّة الإصلاح وإيقاظ الشباب الغافل المتأثِّر بالغرب وبثقافته. عليكم بفضح جرائم الغرب وأعماله الشنيعة بحقّ البشريّة. وعليكم توضيح الصورة الحقيقيّة للإسلام وللحكومة الإسلاميّة التي كانت في الصدر الأوّل، والتي لم تَدُم سوى وقتٍ قصير. عليكم رَصُّ صفوفكم، وتوحيد طاقاتكم، وفضح مؤامرات الأعداء كافّة أمام الأنظار كافّة، وبالأخصّ المسلمين".

 

إذًا، بهذا كان الإمام قدس سره، على مدى فترة إقامته في منفاه، كثيرًا ما يؤكّد على الجانب السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في الإسلام، وكثيرًا ما كان يدعو إلى إسلامٍ ثائرٍ على الدكتاتوريّة والاستبداد والاستعمار، حيث حمّلَ الطلبة والشباب المسلم مسؤوليّاته.

 

في تشرين الثاني عام 1969م، سنحَت فرصة ثمينة للإمام ليعلن عن آرائه ونظريّاته حول الحكومة الإسلاميّة ودستورها، والتي كان يتكلّم عنها في السابق وبين الحين والآخر، بشيءٍ من الإشارة والتلميح. وسرعان ما قام بإعداد حلقة بحث، طرح فيها محاضراته المتواصلة حول أهمّيّة الحكومة الإسلاميّة وقوامها، وسرعان ما كانت

 

269

 


237

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

محاضراته تُطبَع، وآراؤه تلك تُنشَر باللغتين العربيّة والفارسيّة، وتقع في متناول الأيدي. وقد لاقَت استقبالًا كبيرًا من الطلبة وعلماء الدين والشباب المؤمن. وقد انتقد الإمام قدس سره الحوزة العلميّة، واتّهمها بالتقصير بممارسة مَهمَّتهم الأساسيّة، وتطرّق إلى الركود والجمود المخيّم عليها بصورة عامّة في الجانب السياسيّ والإداريّ والاقتصاديّ، وكذلك إهمال الحوزة كلّ ما يتعلّق بأمور المسلمين وبلادهم من خطر الاستعمار، وابتعادهم عن المؤامرات الدنيئة التي تخطّط وتنسّق للإطاحة بهم.

 

أكّد الإمام قدس سره على أنّ مَهمَّة العلماء ومراجع العصر هي إقامة الحكومة الإسلاميّة، مستدلًّا بذلك الامتداد الرساليّ والقياديّ للأئمّة عليهم السلام والرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم. وأبان مستجليًا الفكرة الإسلاميّة وأبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، مؤكِّدًا ذلك بدلائل موثَّقة، وشواهد عقليّة ونقليّة.

 

إنّ بحث "الحكومة الإسلاميّة" طويل وعريض، ويحتاج إلى اهتمام كبير وبالغ، نترك مطالعته للقرّاء الأفاضل، نظرًا لسهولة تناوله في كتب مستقلّة، وفي متناول الأيدي، وأكتفي هنا بذكر الإشادة، الإشادة التي صدرت عن العلّامة آية الله "جوادي الآمليّ" حول هذا البحث، إذ يقول:

"عظمة الإمام وعظمة بحثه هذا تكمن في تغيير إطار بحث ولاية الفقيه وشكله، من المجال الفقهيّ، إلى المجال الكلاميّ، حيث الأصل والأساس، إذ استطاع، مستعينًا بالأدلّة العقليّة والكلاميّة، أن يفجّر المعنى الحقيقيّ لها، وجعل منها نورًا ساطعًا على جوانب الفقه كافّة".

 

وبعبارة أخرى: "إنّ الإمام أكّد على أنّ ولاية الفقيه هي امتدادٌ لخطّ الإمامة أوّلًا. وثانيًا، رسّخَ الإمامة والولاية في مكانتها التي تليق بها. وثالثًا، أوضح مفهوم الإمامة والولاية العصريّ والمتحضّر. ورابعًا، جعلها مطلّةً على أبعاد المجالات الفقهيّة".

 

ج. الإمام قدس سره والنظام العراقيّ

قام حزب البعث العراقيّ بانقلاب على "عبد الرحمن عارف" عام 1968م، وتربّع

 

270

 


238

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

على سدّة الحكم، مُعرِبًا عن سياسته الثوريّة ضدّ الصهيونيّة، مضافًا إلى اتّخاذه شعارات شيوعيّة. وكان الكثير من العامّة يتصوّرون بأنّ حزب البعث العراقيّ هو حزبٌ شيوعيّ. بَيْدَ أنّ الإمام قدس سره كان يلمّح منذ ذلك الحين، بأنّ النظام العراقيّ له قواعد بريطانيّة، ويحمل شعارات مزيّفة وماكرة. وبمرور الزمن، اتّضحَت الصورة الحقيقيّة للنظام العراقيّ، وتأكّد الجميع من صحّة رأي الإمام قدس سره، وذلك في حرب إسرائيل مع الدول العربيّة عام 1973م. وأعلنَت السلطات الإسرائيليّة بوقتها عن أملها في اتّخاذ سياسة مرنة وملائمة معه، مع أنّ النظام العراقيّ كان مستمرًّا بإطلاق الشعارات والهتافات الحماسيّة والشديدة ضدّها.

 

في عام 1969م، تكدّرَت العلاقات الإيرانيّة العراقيّة، وأخذ أحدُهما يكيد للآخر. وعمدَت إيران إلى تحريك الأكراد ضدّ الحكومة العراقيّة، معلنةً بذلك تدخّلها بشؤون العراق الداخليّة، فيما قامت السلطات العراقيّة بطرد الكثير من الإيرانيّين المقيمين في العراق، وحتّى المقيمين منذ سنوات عديدة، والذين حصلوا على الجنسيّة العراقيّة. لقد ألقى بهم العراقيّون خارج البلاد على الحدود، للضغط على الحكومة الإيرانيّة، وكذلك حاول النظام العراقيّ التقرّب من المعارضة الإيرانيّة، ليستغلّها لخدمة أهدافه الخاصّة.

 

بناءً على هذا، قام مدير الأمن العامّ وقائم مقام مدينة النجف بزيارة الإمام قدس سره لأوّل مرّة منذ إقامته قدس سره في النجف. وطلب هذا وقتًا خاصًّا من سماحة الإمام قدس سره للتحدّث معه بشكل سرّيّ، وعلى انفراد. بَيْدَ أنّ الإمام قدس سره أعرب عن عدم موافقته، وسمح لهم بزيارته في الوقت العامّ المخصَّص للزيارات العامّة، أسوةً ببقيّة الزائرين. ولم يرضخ الإمام قدس سره إلى ضغوطهم وإصرارهم على ذلك، خشيةً منه وتجنّبًا لاحتمال وقوعه في مصيدة النظام العراقيّ، والذي قد يتّخذ من لقائه الخاصّ هذا ورقة رابحة له، تعود على الإسلام والمسلمين والحوزة بالخذلان والذلّ، مضافًا إلى احتمال اتّهام الشاه بتعامله مع السلطات العراقيّة سرًّا.

 

نصّ الحوارات واللقاءات التي دارَت بين الإمام قدس سره ورجال السلطة في العراق،

 

 

271


239

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

نقلَها السيّد "روحانيّ" في كتابه "نهضة الإمام الخمينيّ". مجمل لقاءاتهم كانت منصبّة على كسب دعم الإمام قدس سره لهم، لكونه معارضًا لنظام الشاه، بينما الإمام قدس سره ردّ عليهم ردًّا عنيفًا وقاطعًا، فقال:

"أوّلًا، إنّ خلافنا مع النظام الشاهنشاهيّ هو اختلاف عقائديّ وأصوليّ متجذّر، وليس له حلٌّ مطلقًا، بينما خلافكم مع إيران خلافٌ موسميّ وفصليّ، وستعود العلاقات على ما كانَت عليه بمرور الزمن. ثمّ إنّ أحدَكم يتعرّض للآخر ويطعن به، وسوف تمرّ الأيّام والليالي، وتصبحون يدًا واحدة وأصدقاء حميمين، بينما نحن لنا مبادئ وأصول ثابتة، ولا نستطيع أن نركن للظالمين أبدًا".

 

ثمّ تطرّق إلى جرائم الحزب الحاكم، وقال:

"ثانيًا، ما الذي أعرضتُم عنه وفعلَته إيران؟ لقد قمعَت السلطات الإيرانيّة الجماهير بأبشع صورة، وقتلَتهم شرَّ قتلة، وأنتم اليوم بطرقكم الوحشيّة الشنيعة، تشرّدون الآلاف من الإيرانيّين، وتطردونهم ظلمًا وعدوانًا من العراق. ولم تكتفوا بذلك، بل أهنتم العلماء وأهل العلم الفضلاء الكبار. وحسب ما بلغني، فإنّكم سحبتم الإيرانيّين في مدينة الكاظميّة من الحمّامات، وألقيتم بهم بسيّارات خاصّة، وبصورة بشعة، ونقلتموهم إلى الحدود... إذا كان الشاه قد اقترف سيّئة، فلقد اقترفتم سيّئات وسيّئات!".

 

وبعد أشهر، قام محافظ مدينة كربلاء، نيابةً عن رئيس الجمهوريّة، بزيارة مراجع النجف، ومن ضمنهم الإمام قدس سره. ولمّا حضر عند الإمام قدس سره، بلّغه تحيّات رئيس الجمهوريّة وقائد مجلس قيادة الثورة في العراق وسلامه، ومع أنّه كرّر هذه العبارة مرّتَين، إلّا أنّه لم يلقَ من الإمام قدس سره تجاوبًا واهتمامًا، والتزم سماحتُه الصمت والسكوت. في اليوم التالي، أعلنَت صحيفة "الجمهوريّة" العراقيّة نبأَ زيارة المحافظ لمراجع النجف، وأعلنَت الآتي:

"... إنّ الزعامة الدينيّة والمراجع ورجال الحقّ والعدالة يؤيّدون ويبجّلون ثورة السابع عشر من تمّوز أشدّ التأييد والتبجيل. وإنّ رجال الدين أعربوا عن امتنانهم

 

272

 


240

الفصل السادس عشر: الإمام قدس سره في المنفى

لزيارة السيّد المحافظ، ودعوا له وللنظام بالنصر والتوفيق. وأثنى رجال الدين على مواقف الحكومة العراقيّة من الحكومة الإيرانيّة الجبّارة، وشكروا المسؤولين على مواقفهم بإرجاع المبعَدين الإيرانيّين إلى العراق. وأعربوا عن استيائهم من الحكومة الإيرانيّة، لمواقفها العدوانيّة لمشكلة أروند رود".

 

وبعد يومَين، استدعى الإمام قدس سره قائم مقام النجف الأشرف، وطالبه بتكذيب كلّ ما ورد في صحيفة الجمهوريّة رسميًّا، عبر رجال السلطة والمسؤولين، وهدّده قائلًا:

"إذا لم يتمّ هذا، فسوف أستدعي كافّة سفراء الدول الإسلاميّة، وأبلغهم بكلّ ما اتّهمتمونا به وافتريتموه علينا. فمن الآن وصاعدًا، سوف لن أستقبل أيّ مسؤول عراقيّ، كي لا يكون لكم مجال لافتراءات أخرى".

 

إنّ أزلام النظام الحاكم ليسوا مرنين، بل إنّهم متغطرسون وغير مبالين. بَيْدَ أنّهم كانوا يهابون مواقف الإمام قدس سره، فعمدوا إلى تكذيب الخبر ذلك بأسلوب فنّي، حيث أعلنَت الصحيفة عن وقوع اشتباه في المفهوم والأداء، وأنّ ما جاء في الصحيفة من الأخبار هذه عارٍ عن الصحّة.

 

بعد هذا، سُئِلَ الإمام قدس سره عن سبب عدم استقباله رجال السلطات الإيرانيّة، فيما هو يستقبل نظراءهم العراقيّين، فأجاب قائلًا:

"نحن في بلادنا لنا قواعدنا وشعبيّتنا، ومن هنا، استطعنا أن نجاهد النظام ونعلن محاربته. وبالطبع أثناء النضال والقتال، لا معنى للقاءات والزيارات. أمّا هنا، وفي العراق بالذات، نحن غرباء وحيدون، والشعب العراقيّ يجهلنا، ولا يعرف شيئًا عنّا، وليس من حقّنا معارضة النظام أو الثورة عليه، ومسألة قطع العلاقات معه سوف لن تفيدنا مطلقًا. ومع هذا، إنّني حريصٌ جدًّا على عدم تمكين النظام من انتهاز فرصة مناسبة يستغلّنا بها، وإنّني أنظّم أوقات اللقاءات والزيارات لرسله، وأجعله في الأوقات العموميّة، لكي يشهد اللقاء عددٌ من الناس والزائرين، وتكون المسألة علنيّةً بعيدةً عن كلّ شبهة، ولا تفسح لهم المجال لاستغلال أيّ موقف لتسخير لقاءاتنا لمآربهم".

 

273

 


241

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

الفصل السابع عشر

 

 

تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

ومواقف الإمام قدس سره تجاهها

 

احتفل النظام في عام 1971م احتفالًا عظيمًا وكبيرًا بمناسبة مرور العام 2500 على قيام الشاهنشاهيّة (الملكيّة) الإيرانيّة. وقد ظلّ النظام أشهرًا، بل سنوات طويلة يعدّ لهذا الاحتفال ويتهيّأ له، وقد دعمته الصهيونيّة دعمًا فاعلًا، ولا بدّ لنا من أن نقف عند الجانب السياسيّ له وقفة وجيزة.

 

كان احتفال إيران بمرور 25 قرن على النظام الملكيّ أملَ رضا خان وابنه محّمد رضا خان من بعده، إلّا أنّ الأوّل لم يتحقّق له أمله لعزله عن السلطة. وكان الهدف من وراء هذا يكمن في أحابيل سياسة رضا خان ونجله محمّد رضا، ومراوغات الشخصيّات المؤثّرة التي طالما رأيناها تلتفُّ حولهما منادين بالوطنيّة والقوميّة والماسونيّة، وهم يشجّعون على إعادة التراث الملكيّ والأثريّ السابق، وإحياء سنن الأوّلين لإماتة الروح الإيمانيّة والإسلاميّة وإعلاء النَفَس الوطنيّ والقوميّ لمسخ أفكار الشعب وتطعيمها بالوثنيّة والزرادشتيّة.

 

ولهذا استنفرت الدوائر الحكوميّة بأجمعها، وبذلت قصارى جهدها، وبالأخصّ عام 1970م، من أجل تهيئة الجوّ المناسب والأرضيّة المناسبة لهذا الاحتفال الذي يدور في ذهن الشاه وأبيه منذ سنوات عديدة، وقامت وسائل الإعلام بدعم هذه الخطوة ومساندتها، فمنذ شهور بعيدة أخذت تتطرّق إلى القوميّة والوطنيّة، وصعّدت

 

274

 


242

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

من موجتها الإعلاميّة والدعائيّة لهذا الاحتفال على الصعيدين الداخليّ والخارجيّ. وخصّصت الدولة مبلغًا عظيمًا من ميزانيّتها، وفتحت صناديق التبرّعات والهبات في الشوارع، وأجبرت الكثير من القطاعات على مدّ يد المساعدة والمساهمة لهذا المشروع، حيث لم يسلم طلّاب المدارس والثانويّات، فألزم كلّ طالب بدفع مبلغ 50 ريالًا بعنوان تهيئة مبلغ لبناء 2500 مدرسة في كافة أنحاء إيران!

 

وعمدت السلطة قبل أيّام من إقامة الحفل، إلى شنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف الطلبة الجامعيّين وبعض علماء الدين وكلّ من يُشَكّ في أمره، نظرًا لخشيتهم احتمال ردود الفعل الجماهيريّ بصورة أو بأخرى.

 

وبناءً على الدعوة التي قدّمها الشاه، شهدت البلاد حضورًا دبلوماسيًّا من قِبل العديد من رؤساء الجمهوريّات والوزراء والملوك و... يرافقهم المئات من المرافقين السياسيّين، وكذلك الصحفيّين والإعلاميّين.

 

ينقل المؤرِّخ الفرنسيّ بيير بلانشه في كتابه "إيران، ثورة باسم الله" حول أبّهة الاحتفال المزعوم، واصفًا إيّاه بالآتي:

"... هي استضافة تحت فسطاط كبير مطرَّز من نوع المخمل، يحتوي على 22 لوسترًا عملاقًا، يتضمّن فرقة موسيقيّة، أمّا مائدتهم...، ذلك المطبخ الفرنسيّ الذي جمع أفضل طبّاخي العالم، أعدّ تلك المأكولات العريقة من الدرجة الأولى، كالطاووس المشويّ والكباب والسرطان المقليّ، إلى جانب ذلك الكافيار الإيرانيّ، كلّها أُعِدّت من باريس، ونُقلت الأزهار العظيمة والمنقطعة النظير من هولندا بطائرة خُصِّصت لهذا الغرض...".

 

كما ويؤكّد مؤلّفو كتاب "إيران ضدّ الشاه" بقولهم:

"إنّ إقامة مثل هذا الحفل بعظمته وأبّهته هذه، والذي أُعِدّ من أموال الشعب التي صرفوها لديكورات جونسون العالميّة ولأطعمة مطعم مكسيم الفرنسيّ، ومن إعداد وتنفيذ ايبل جونس و... لم تكن إلّا لهدف واحد، هو كسب دعم الغرب وتأييده لهم.

 

275

 


243

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

لقد وقف الشاه أمام قبر كورش[1] مخاطبًا إيّاه أمام تلك الحشود الحاضرة والملايين المشاهدة والمستمعة عبر الإذاعة والتلفزة، فخاطبه قائلًا:

"كورش، نحن واقفون أمامك لنزفّ إليك التهاني والبشرى، وأنت بقبرك هذا، ونقولُ: نم قرير العين، فنحن مستيقظون، فإنّه من دواعي سرورنا وافتخارنا أن نرى علم إيران اليوم يرفرف على أرضه بسلام وهدوء واطمئنان بعد أن مرّ بموجات اضطراب وقلق وخشية، طيلة عهود مديدة من الزمن. اليوم، إن تكن بلادنا بهذا الخير وبهذه السعادة، فإنّ ذلك هو ممّا قدّمْته لها من جهود ونضال فجعلتها عزيزة تعلو رايتها خفاقة، وهي اليوم رسالة ومؤشّر لندائك الإنسانيّ المتحرّر الباقي والأبديّ...".

 

هذه الكلمات التي تفوّه بها لم تكن إلّا عبارات هزل وتهكّم في الشارع الإيرانيّ، يتداولها الشعب باستهزاء وسخرية. وكان الهدف من ورائها هو تعهّد الشاه للأجانب والغرب على مضيّه على سيرة كورش ونهجه... ويضيف المؤلِّفون كذلك مؤكّدين:

"إنّ النظام عزب عن فتح الدعوة للشعب، وجعلها دعوة عامّة، واستدعى قوى عسكريّة ونظاميّة من مراكز ثلاثة، إضافة إلى مشاركة القوّة الجوّيّة، وطوّق منطقة "تخت جمشيد"[2] بدائرة قطرها 120 كلم تطويقًا أمنيًّا مشدّدًا. كما وأُلقي القبض على أفراد عديدين كانوا موضع شكّ وشبهة لدى رجال الأمن والحرس. والجدير ذكره أنّ بعض القرى البسيطة توسّطت هذه المساحة العظيمة، ومن أجل ائتمان شرّها عمدت السلطة إلى فرض حصار على شكل أسوار عالية للإحاطة بها طيلة فترة الاحتفال! كما أنّ مدينة شيراز (تبعد عن المنطقة قليلًا) أُعلنت بها الأحكام العرفيّة، وطوّقها البوليس. ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الاحتفال كان مدعاة للدهشة والإعجاب لدى الحضور، وبخاصّة الأجانب منهم، فعندما أدركوا مقدار تكاليفه التي وصلت إلى خمسمئة مليون دولار على حدّ زعم أحد المسؤولين، أدهشهم هذا الرقم، وأدّى إلى عدم سكوتهم من شدّة الذهول الذي أصابهم. نعم، هي أموال طائلة ألحقت الأضرار


 


[1] مؤسّس الأمبراطوريّة الفارسيّة الهخامنشيّة.

[2] منطقة أثريّة تقع في محافظة فارس.

 

276


244

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

بميزانيّة الدولة بشكل خاصّ، وامتصّت دماء الشعب وعرق جبينه بشكل عامّ...".

 

في شهر ذي الحجة عام 1970م، وحيث كان النظام يبذل الجهود المتواصلة لإقامة الاحتفال، وجّه الإمام الخمينيّ قدس سره خطابًا مهمًّا إلى حجّاج بيت الله الحرام، تخلّله بحث فلسفيّ يشرح فيه سبب وجوب فريضة الحجّ من قِبل الله سبحانه وتعالى، والتي هي بحدّ ذاتها تآلف المسلمين، وتبادل الآراء فيما بينهم، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، وتطرّق إلى ما يداهم المسلمين من خطر عظيم، وهاجم النظام الشاهنشاهيّ، وكشف النقاب عن بعض مؤامراته وجرائمه، حيث داهمه مداهمةً صارمةٍ مجابهًا الاحتفال الذي سيُقام، وتناول البعد السياسيّ لفريضة الحجّ المقدّسة قائلًا:

"إنّ هذا الاجتماع العظيم والمقّدس الذي يُعقد في كلّ عام مرّة واحدة في هذه البقعة المطهَّرة، يجعلنا ملزَمين ومكلَّفين بمسؤوليّة كبيرة تجاه دعم الوحدة الإسلاميّة، ورصّ الصفوف، ودراسة أهداف الإسلام والشريعة السمحاء، وتبادل هموم المسلمين وما يداهمهم من أخطار، والعمل على حلّها والتصدّي لها. يجب على حجّاج بيت الله تداول أوضاع المسلمين ودراسة سبل الكفاح ومقاومة الاستعمار الذي يداهم بلادنا الإسلاميّة بأسرها. عليهم استقصاء وتناول أخبار المسلمين على وجه البسيطة عبر زائري البيت الحرام مباشرة ومن أفواههم. عليهم تداول وضع المسلمين الاقتصاديّ وما يعانونه من حرمان. عليهم دراسة القضيّة الفلسطينيّة وكيفيّة تحرير فلسطين من سيطرة ألّد أعداء الإسلام والمسلمين. اهتمّوا بتقديم العون والمساعدة لإخوانكم الفلسطينيّن الفدائيّين الذين وقفوا حياتهم كلّها من أجل بلدهم المغتصَب...".

 

لقد دعا الإمام قدس سره المفكّرين والعلماء والمجاهدين إلى توعية شعوبهم، وطالب رؤساء الدول الإسلاميّة بالوحدة الشاملة ونبذ الخلافات الداخليّة، والوقوف في وجه الاستعمار وما يبثّه من أساليب خطرة لتمزيق صفوف المسلمين وإيجاد الفرقة والخلاف بينهم. ومن ثمّ تطرّق بخطابه إلى ما يواجهه الشعب الإيرانيّ المسلم من ضغوط ومحن

 

277

 


245

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

وبلايا عبر الطغمة الشاهنشاهيّة الظالمة، ليعلم المسلمون ما يجري لإخوانهم في إيران.

 

ثمّ تطرّق الإمام قدس سره إلى روابط إيران وإسرائيل العدوّ الأوّل للإسلام والمسلمين، وإلى ما يشنّه النظام من حملات الظلم والاضطهاد لأبناء الإسلام وعلماء الدين والحوزات العلميّة والمدارس الدينيّة، ومن قم تطرّق إلى أهداف النظام من وراء إقامته تلك الحفلات الفاسدة والمنحرفة، وقال:

"إنّ النظام بثورته المدعوّة بالبيضاء، قضى على خمسة عشر ألف مسلم في يوم واحد، وسوّد تاريخ الأمّة والوطن بجريمته النكراء تلك. إنّ النظام هو المسبِّب الوحيد لتهدّم الوضع الاقتصاديّ والزراعيّ للبلاد. وإنّ أكثر القرى والأرياف اليوم تفتقر إلى أبسط الحقوق البشريّة، فلا علاج، ولا صحّة، ولا مدارس، ولا مصحّات، ولا مياه شرب، ولا... وحسب ما ادّعته إحدى الصحف: إنّ الأطفال الأبرياء خرجوا إلى الحقول والمراتع ليتناولوا الحشائش وما شابهها حفظًا لحياتهم، وذلك من شدّة القحط، بينما نرى النظام الجائر يبذل الملايين من أجل إقامة حفلات ماجنة فاجرة، حفلات باسم هذا وذاك، حفلات بمرور 25 سنة على سلطة الشاه، والأكبر عارًا احتفال الملكيّة بمرور العام 2500 على قيامها وتأسيسها، إنّ ذلك الحفل الذي عاد على الأمّة والشعب بالخذلان والحرمان. ولو أنّ ما صُرف على الاحتفالات كان يُصرف على الفقراء والمحرومين، لخفّف الكثير من آلامنا ومشاكلنا، بيد أنّهم لا يريدون سوى إذلال الشعب والمحافظة على بقائهم وتعزيز وجودهم. إنّ النظام الجائر باستيلائه على أموال المسلمين ونهبه ومصادرته لأموالهم يسعى لإعادة أمجاد الطغاة والملوك والأباطرة الذين سحقوا شعوبهم ودمّروها بأسرها من أجل عرشهم وبسط سلطتهم، إنّ الملوك الذين حاربوا المذاهب العادلة، والأباطرة الذين أعرضوا عن دعوة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم سابقًا هم ذاتهم طغاة اليوم، وهم نماذج لأولئك الفجرة الكفرة، الذين يسعَون لإعادة أمجاد هؤلاء بوسائلهم المشبوهة.

 

ليعلم العالم بأسره أنّ الشعب المسلم المضطهد في إيران ليست له أيّة علاقة

 

278

 


246

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

وصلة بهذه الحفلات الدعائيّة الفاجرة، وليعلم الجميع بأنّ كلّ من يشارك أو يساهم بمثل هذه، فهو خارج على الإسلام والمسلمين، ويُعَدُّ خائنًا للأمّة وللدين الحنيف".

 

هذا البيان طُبع ونشر باللغة الفارسيّة والعربيّة، ووُزّع على زائري البيت الحرام، وانتشر بين الحجّاج الإيرانيّين بشكل مذهل، على الرغم من مراقبة أجهزة الأمن والسافاك. وبهذا، وعبر زائري البيت الحرام، انتقلت هذه النشرات إلى إيران، واطّلع عليها الكثير من أبناء الأمّة، فيما راح بعضهم ينقل مضامينها شفويًّا لتعذّر نقل البيان إلى بلاده، وتمّ هذا قبل بضعة أشهر من إقامة الحفل الكبير الذي كان يستعدّ له النظام. وقبل ثلاثة أشهر من موعد إقامة الحفل، بذل النظام قصارى جهده، وأعدّ ترتيباته العامّة لاستقبال ضيوفه، وجّه الإمام قدس سره خطابًا مهمًّا من النجف الأشرف، جاء في مطلعه:

"إنّني أشعر بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقي، لذا أحذّر بعض الرموز من الخطر المحدق بنا، وأذكّر بعضَ السادة (العلماء) بما يجري ويُخطَّط لدحر المسلمين والقضاء عليهم، علّه يكون سببًا لإعادة حساباتهم الخاصّة ليشعروا بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم أيضًا...".

 

ثمّ يتطرّق أثناء خطابه إلى الوضع الاقتصاديّ والمعيشيّ للشعب، بالأخصّ عشائر الجنوب وخراسان وبلوجستان و...، قائلًا:

".. البلاد يداهمها الحرمان ومختلف أنواع الشدائد والبلايا، فيما يقوم النظام باحتفال كبير للملكيّة والشاهنشاهيّة. لقد أعلنت إحدى وسائل الأنباء أنّ جزءًا من كلفة الاحتفال هذا قد فُرض على العاصمة طهران، وقُدِّرت بـ80 مليون تومان (10 مليون دولار). نعم، هذا فقط للعاصمة بذاتها... لقد بلغني أنّ النظام هيّأ طاقمًا من الخبراء والفنيّين الإسرائيليّين لقيامهم بإعداد الحفل والإشراف عليه، وأنّ كلّ ما يُتَّخذ ويُصمَّم هو من قبلهم!

 

 

279

 


247

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

وصلة بهذه الحفلات الدعائيّة الفاجرة، وليعلم الجميع بأنّ كلّ من يشارك أو يساهم بمثل هذه، فهو خارج على الإسلام والمسلمين، ويُعَدُّ خائنًا للأمّة وللدين الحنيف".

 

هذا البيان طُبع ونشر باللغة الفارسيّة والعربيّة، ووُزّع على زائري البيت الحرام، وانتشر بين الحجّاج الإيرانيّين بشكل مذهل، على الرغم من مراقبة أجهزة الأمن والسافاك. وبهذا، وعبر زائري البيت الحرام، انتقلت هذه النشرات إلى إيران، واطّلع عليها الكثير من أبناء الأمّة، فيما راح بعضهم ينقل مضامينها شفويًّا لتعذّر نقل البيان إلى بلاده، وتمّ هذا قبل بضعة أشهر من إقامة الحفل الكبير الذي كان يستعدّ له النظام. وقبل ثلاثة أشهر من موعد إقامة الحفل، بذل النظام قصارى جهده، وأعدّ ترتيباته العامّة لاستقبال ضيوفه، وجّه الإمام قدس سره خطابًا مهمًّا من النجف الأشرف، جاء في مطلعه:

"إنّني أشعر بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقي، لذا أحذّر بعض الرموز من الخطر المحدق بنا، وأذكّر بعضَ السادة (العلماء) بما يجري ويُخطَّط لدحر المسلمين والقضاء عليهم، علّه يكون سببًا لإعادة حساباتهم الخاصّة ليشعروا بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم أيضًا...".

 

ثمّ يتطرّق أثناء خطابه إلى الوضع الاقتصاديّ والمعيشيّ للشعب، بالأخصّ عشائر الجنوب وخراسان وبلوجستان و...، قائلًا:

".. البلاد يداهمها الحرمان ومختلف أنواع الشدائد والبلايا، فيما يقوم النظام باحتفال كبير للملكيّة والشاهنشاهيّة. لقد أعلنت إحدى وسائل الأنباء أنّ جزءًا من كلفة الاحتفال هذا قد فُرض على العاصمة طهران، وقُدِّرت بـ80 مليون تومان (10 مليون دولار). نعم، هذا فقط للعاصمة بذاتها... لقد بلغني أنّ النظام هيّأ طاقمًا من الخبراء والفنيّين الإسرائيليّين لقيامهم بإعداد الحفل والإشراف عليه، وأنّ كلّ ما يُتَّخذ ويُصمَّم هو من قبلهم!

 

 

279

 


247

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

إسرائيل هي عدوّة الإسلام والمسلمين، إسرائيل التي شنّت حربها ضدّ الإسلام علنًا، إسرائيل...".

 

ثم يرجع الإمام قدس سره إلى تاريخ إيران في العهد الماضي، ويتطرّق إلى أحوال الملوك والقياصرة، ويتناول بعض جرائمهم وأفعالهم المشينة، فيقول:

"جاء في رواية عن الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم - نقلها الطبريّ - أنّه كان ينفجر ويتنفّر عندما يطرأ على ذهنه اسم "الملوكيّة" أو كلمة الملوك وما شابهها. و"الشاهنشاهيّة" هي المعنى الآخر لتلك الاصطلاحات المهجورة التي يطلقونها اليوم على بعض أفراد البشر...

 

إنّ الملكيّة في إيران، منذ اليوم الأوّل لولادتها وحتّى يومنا هذا، لم تقدّم للبشريّة شيئًا سوى الفقر والدمار. لقد سوّدت جرائمُ الطغاة تاريخَ إيران منذ يومها الأوّل، لقد مرّ زمن صُنِع فيه برج مرتفع من جماجم القتلى! كان الناس دائمًا عرضة للقتل والقمع، يسفكون دماء الناس ويهتكون أعراضهم، ليحقّقوا فكرة صنع برجٍ خَطَر على ذهن شاهٍ ما...

 

... بأعمالهم تلك وجرائمهم هذه يريدون إقامة احتفال لتخليدهم!

 

... لماذا يُقيم السلاطين اليوم الحفلات؟ أيّ عمل وخدمة قدّموها للشعب والأمّة؟... أنا بنفسي وبزمني رأيتُ بأمّ عيني ما فعله أولئك الأوغاد بالشعب وبالمسلمين، ألم تتذكّروا واقعة كوهر شاهد بمشهد، تلك الواقعة التي راح ضحيّتها الآلاف من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ذلك المسجد الذي بقي مغلقًا فترة من الزمن من أجل أن لا يدنو أحد منه، ويرى آثار القتلى والشهداء على جدرانه وأرضه! أبعد هذا كلّه يريدون منّا مشاركتهم احتفالاتهم؟!

 

هل نشارك نظامًا ارتكب مجزرة الخامس من حزيران... في احتفالاته هذه؟ لقد قال (محمد رضا) في إحدى خطاباته: إنّ الحلفاء أتَوا إلى بلادنا لأنّهم رأَوا إصلاح البلاد بوجودي وإمارتي أنا، ولأنّني وريث الشاهنشاهيّة والملكيّة. فليخسؤوا! وليُلعنوا! أين هو الإصلاح؟! وما الذي بقي للشعب والأمّة كي يصلحوه؟!".

 

280

 


248

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

ومن ثمّ يحمِّل الإمام قدس سره الشعبَ الإيرانيَّ مسؤوليّته تجاه إقامة هذا الحفل المشؤوم، ويقول:

"اليوم تقع مسؤوليّة التحدّي لهذ الاحتفال على عاتق شعبنا وأّمتنا في إيران، والتحدّي لهذا الاحتفال لا يكون ذا طابع عنف وخشونة، بل إنّه يكفي أن لا يخرج (الناس) من بيوتهم أثناء إقامة هذه الاحتفالات استنكارًا لها، ويجب أن نهمل النظام، فالمشاركة والمساهمة في هذا الاحتفال حرام وغير جائزة، ابذلوا كلّ ما في وسعكم من أجل الابتعاد عنهم".

 

وأخيرًا، قال:

"مسؤوليّتي تفرض عليّ أن أحذّر وأنذر ما دام صوتي يصل إلى مسامعكم، وأصارع وأقاوم وأناضل ما دامت يدي قادرة على مسك القلم ونشر ما تكتبه... هذه هي مشاكلنا ومصائبنا، فما الذي يمكن أن أقدّمه؟ أأجلس وأدرّس دروس الأخلاق؟ والشعوب المسلمة تُنهَب وتُسرَق، وتُهتَك أعراضها، ويُستولى على مقدّساتها وكرامتها؟ لو كان معي في إيران في قم في طهران في مشهد في تبريز... رجال يعاضدونني ويشدّون أزري لمحاربة النظام والاعتراض على ما يقوم به من برامج فساد ودمار للأمّه والبلاد لتراجع الظلمة أمام الشعب، ولقضينا عليهم نهائيًّا".

 

وبالفعل، فلقد تفاعل الشعب مع خطاب الإمام قدس سره وتوجيهاته، وشوهِدت إيران في جميع أيّام إقامة الاحتفال المشؤوم خالية من حركة الناس، فالمحلّات عُطِّلت، ولزم الناس مساكنهم. وخلت المدن الكبيرة من الحركة والتنقّل، ممّا دعا الكثير من الكتّاب والصحفيّين المدعوّوين لنقل هذه الصورة بمقالاتهم وصحفهم ومجلاتهم.

 

أمّا الشاه الذي واجه هذه الحركة المقصودة، والتي تمّت بتحريضٍ من الإمام قدس سره، فقد عمد إلى استخدام طرق ماكرة لخداع الشعب، ولفت أنظاره نحو النظام، حيث أوعز إلى أسد الله علم - رئيس الوزراء آنذاك - بتعليمات هذا مفادها: (إنّ الأموال التي فاضت على الكلفة، والتي هُيِّئت من مساهمة أبناء وطننا يجب أن يُبنى بها مسجدٌ

 

281


249

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

كبير وضخم). وقد أعلن عن ذلك أسد الله من خلال مقابلة صحفيّة في نهاية الحفل.

 

نعم، فكما ذكرنا سابقًا، كان النظام قد اتّخذ أسلوبًا خاصًّا لمحاربة الدين والعقيدة، وذلك عبر قناتين: الأولى للإشادة بالملكيّة والشاهنشاهيّة ولإحياء التراث الوثنيّ الدفين. والثانية ترويج خطّة مدروسة متكاملة لتشويه الإسلام أمام أنظار الشعب عبر رجال الدين المزيّفين وعبر الدعايات الكاذبة والمزيفة، إضافة إلى قمع علماء الدين المناضلين والمجاهدين وسجنهم وتجميدهم، وكذلك سائر المفكّرين المسلمين الواعين. هذا كلّه من أجل بناء فكرة الشاهنشاهيّة والملكيّة وترسيخها في أذهان الناس وتزييف عقائدهم وتنفيرهم من الدين الإسلاميّ والعقيدة الإلهيّة.

 

تقول الصحفيّة الإيطاليّة "أوريانا فالاجي": إنّ الشاه كان يعتقد بأنّ كيانه الذاتيّ أصبح محلًّا لاناخة روح داريوش الكبير، وأنّ الله أرسلها إليه ليحقّق أحلام كورش الملكيّة التي لم يستطع إنجازها وتحقيقها، وراح محمّد رضا يستعمل مصطلحات وألقاب كثيرة ومختلفة "كالشاه" و"الشاهنشاه" و"صاحب الجلالة" و"آريامهر" و... ليعلن بأنّه ماضٍ على نهج أولئك القياصرة والأباطرة، وأنّه الوريث الوحيد لهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يتنكّر بجلباب الدين والمذهب، فيدّعي بأنّه يتمتّع بصفة الإلهام الإلهيّة، حتّى أنّه رأى الحجّة القائم  عليه السلام مرّتين بالمنام، بل بعالم الغيب!...

 

عندما عمد الشاه إلى إعداد "جيش العقيدة" عام 1971، إنمّا شرع بذلك بعد أن استطاع تضليل الرأي العام وخداعه، وذلك من أجل أن ينشر أفراد الجيش هذا بمختلف المدن والمحافظات للتبليغ والإرشاد والدعاية. والذي يهدف إليه من وراء ذلك تضليل الشعب ومسخ عقيدته ودينه. وإنّ الهدف الأكبر والأعظم من وراء هذا هو إضعاف الحوزة العلميّة والسيطرة عليها، وجرّها إلى ربقة النظام. وإنّ تلك الحوزة كانت مستقلّة وغنيّة على الصعيدين الاقتصاديّ والسياسيّ، وكانت تشكّل الخطر الرئيسيّ والأوّل على النظام. ومن هنا، عمد إلى تشكيل هذا اللواء من رجال الدين

 

282


250

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

المزيّفين وإعداده ليملؤوا المساجد والمراكز الدينيّة، وليشوّهوا صورة الإسلام الحقيقيّة، وليشوّهوا سمعة علماء الدين للقضاء عليهم بالكامل.

 

وبمجرّد قيام السلطة باستئناف الخطّة الجديدة هذه، وجّه الإمام قدس سره نداءً إلى الشعب الإيرانيّ، جاء فيه:

"اليوم يقوم النظام باستخدام طرق ماكرة وأساليب ملتوية جديدة من أجل الإطاحة بالإسلام والمسلمين، لقد عمد النظام إلى تشكيل ما يُسمّى "جيش العقيدة"، مهمّتها الدعوة والإرشاد، بينما هو اليوم يقتل ويقمع علماء الدين المخلصين، ويسجن العديد منهم بسجونه المظلمة، ويُبعِد ويعذّب آخرين وآخرين. إنّني أحذِّر من الخطر المداهم إذا استمرّ النظام في عمله هذا، ووُفِّق بخطواته هذه، ولسوف يقضي على كافّة الخطباء والعلماء وأهل العلم المخلصين من جهة، ويمحو كلّ آثار الدين والعقيدة والإسلام من جهة أخرى".

 

ويؤكّد قائلًا:

"إنّ جيش العقيدة المزعوم هذا يخدم مصالح الاستعمار بأسرها، بتزويره وتشويهه وجهة الدين الصحيحة، ويشكّل اليوم خطرًا كبيرًا على المسلمين، وبالأخصّ على علماء الدين المخلصين".

 

وبعد استعراضه لمواقف علماء الدين المسلمين وتبجليهم والإشادة بنضالهم، طالب الإمامُ قدس سره الشعبَ الوقوف في وجه هذه المؤامرة الجديدة، ودعاه إلى الجهاد والنضال بقوله:

"... إنّ النظام الجائر عمد اليوم إلى هذه الخطّة والمؤامرة، لأنّه على وعي كامل بما يتميّز به علماء الدين ومراجع الأمّة الإسلاميّة. إنّه يعلم أنّ هؤلاء بنشاطهم عبر المساجد والخطب والإرشاد جعلوا الأمّة متمسّكة بهم وبكتاب الله والشريعة المقدّسة. وما دام هؤلاء العلماء المجاهدون موجودين، فإنّ النظام سوف لن يستطيع أن يصل إلى مآربه وأهدافه، لأنّهم السدّ المنيع الأوّل في وجهه. وقد عمد النظام إلى

 

283


251

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

إعداد أشخاص مزيّفين مدسوسين بزيّ العلماء لتشويه الوجه الحقيقيّ والأصيل لنا، وليشوّهوا صورنا، هادفين بذلك إبعاد الأمّة عنّا وإسقاطنا، وإذا كان بعض رجال الدين المغفّلين أو الطامعين يقفون إلى جانب النظام الجائر، فليعلموا أنّ الأمّة الإسلاميّة لا تُقيم لهم أيّ اعتبار، ولا تعيرهم أيّ اهتمام، ولا تنظر إليهم إلّا بازدراء وغضب. إنّ النظام بواسطة هؤلاء يريد السيطرة علينا وبيعنا وبيع ثرواتنا وبلادنا الإسلاميّة للمستعمرين والمعتدين.

 

اليوم تقع مسؤوليّة الجهاد والنضال على الشعب الإسلاميّ بأسره، وبالأخصّ على شبابنا المثقّف الواعي، إذ عليهم تكثيف نشاطاتهم في المساجد والمراكز الدينيّة، وإقامة الندوات والمحاضرات الدينيّة في المناسبات، والعطل والفرص الأسبوعيّة، وعليهم الالتفاف حول علماء الدين الواعين لاستلهام تعاليم الدين الحنيف الحقّة، ليطاردوا كلّ مستعمر وكلّ جائر معتدٍ، ليعلنوا موقفهم المشرّف أمام النظام المستبدّ الجائر".

 

وفي عدّة بيانات ورسائل أخرى وجّهها الإمام قدس سره إلى الطلبة الجامعيّين خارج البلاد، وكذلك طلبة الحوزات العلميّة، مؤكّدًا خطورة الخطوة الجديدة التي عمد إليها النظام. إنّه أكّد على أنّ المعمّمين المزيّفين "هم أعظم وأكبر خطرًا على الإسلام والمسلمين. وقد اتّبع أعداؤنا هذه السبل، لأنّهم رأَوها الطريقة المثلى التي يستطيعون من خلالها تحقيق أهدافهم وأهداف الاستعمار، وتحقيق آمال أعداء الإسلام الدفينة والقديمة. إنّ واجبنا اليوم هو القضاء على هذه الطائفة من المعمّمين وقطع أياديهم وإبعادهم عن التجمّعات والمحافل الإسلاميّة، وإلّا فإنّهم سوف يسخّرون الإسلام والقرآن والتعاليم الإسلاميّة لصالح النظام الجائر، ومن ثمّ يقضون على هُويّة الدين الإلهيّ الحقّة".

 

وقد نعتَ الإمام قدس سره خططهم هذه بالإسلام الشاهنشاهيّ، وذكّر بخطط الحكّام وترّهاتهم في العهدين الأمويّ والعباسيّ، ونلمس ذلك جيّدًا عبر رسائله وبياناته التي وجّهها للطلبة آنذاك.

 

إنّه كان يهدف بذلك كلّه إلى توعية الجيل الجديد وتوعية الشباب وإرشادهم،

 

284


252

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

ودفعهم إلى ساحة الفكر وحمل الرسالة، لقد كان يبيّن لهم من خلال بياناته الموجّهة إليهم الفرق الشاسع بين الإسلام الأصيل والإسلام المزيّف، بين الدين المحمّديّ وبين التشويه الشاهنشاهيّ، إنّه كان كثيرًا ما يدعوهم إلى التمسّك بتعاليم الإسلام التي طُبّقت في عهد الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم وعهد خلافة الإمام عليّ  عليه السلام. إنّ الإمام قدس سره يرى سبب انحراف الشباب وميلهم إلى الشيوعيّة والإلحاد والكفر، ما هو إلّا بسبب ابتعادهم عن صبغة الله وعن الدين المحمّديّ الأصيل، إذ لو كانوا على وعي تامّ ورشد كامل لما وجدت مثل هذه الأفكار الإلحاديّة طريقها إلى عقولهم، وأكّد قائلًا:

"يجب عليكم اليوم تبليغ الدين الإسلاميّ وتعرية الأنظمة الكافرة المزيّفة التي تطعن بالإسلام والدين الحنيف حتّى تتوفّر الأرضيّة اللازمة لإقامة حكومة إسلاميّة عادلة على وجه الأرض تدحض الكفر والإلحاد والظالمين. إذا اتّجه الشباب اليوم إلى دراسة حياة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ  عليه السلام، واتّبعوا وصاياهم وإرشاداتهم وتعاليمهم، فسوف يقلبون الدنيا رأسًا على عقب، ولسوف تُمحى آثار الإلحاد والشيوعيّة كلّها. إنّ ما يقوم به هؤلاء الطغاة، وما يعدّونه من قصور شاهقة وامبراطوريّات عظيمة، وما يمارسونه من ظلم واستبداد، كلّها من أجل تضليل الشعوب المسلمة وتشويه عقائدهم وإسلامهم.

 

لو وُجدت حكومة إسلاميّة عادلة، لكان قصرُ قائدها المسجدَ وفراشُه الترابَ، يجالس رعيّته وأمّته، ويشاركها همومها ومشاكلها، ويقيم العدل، ويحارب الظلم، لذهبت كلّ سبل الانحرافات أدراج الرياح".

 

ويؤكّد لهم في بيان آخر:

"إنّ ما يُظهِره أعداء الدين اليوم من أفكار يساريّة ويمينيّة، هي ليست إلّا لتدمير الإسلام والمسلمين، ولإذلالهم والسيطرة عليهم، وإبعادهم عن معتقداتهم، وعن القرآن والدستور الإلهيّ المبين. لقد اتّحد الشرق والغرب، واتّفقوا على محاربة الإسلام وإذلال المسلمين، والتسلّط على بلادهم وثرواتهم لنهبها وسلبها".

 

 

285


253

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

ثمّ يدعوهم إلى السبيل القويم، ويناشدهم قائلًا:

"ابذلوا قصارى جهدكم لدراسة الفكر الإسلاميّ الأصيل، تعلّموا أحكام القرآن ودستوره، وروِّضوا أنفسكم على التمسّك بها أكثر فأكثر، اسعَوا إلى بثّ الفكر الإسلاميّ في كافّة الأوساط والمجتمعات التي تتواجدون فيها، ابذلوا قصارى جهودكم لبناء حكومة إسلاميّة عادلة".

 

ثمّ يدعوهم إلى مقارعة النظام وتعريته والكشف عن جرائمه، فيوصيهم:

"عليكم ألّا تغفلوا عن تعرية النظام، وفضح مؤامراته، كونوا أداة لنقل وبثّ صرخات واستغاثات إخوانكم في الداخل إلى شعوب العالم، وشاركوهم مآسيهم ومصائبهم. أعلنوا عن معارضتكم لما يقوم به النظام من وحشيّة وظلم وقمع وتعدٍّ وخرق للقوانين. نحن على أمل أن تكون هذه الجهود والتحرّكات خالصة لله، لتحظى بالنصر والتوفيق الإلهيّ، كي تحرز البلاد استقلالها، ونفكّ قيود الأمّة الإسلاميّة، ونُسقِط الأنظمة العميلة الجبّارة...".

 

وأخيرًا، يُعرِب عن نجاح أمله بائتلاف الطلبة الجامعيّين والشباب المفكّرين من إخوانهم الطلبة في الحوزات الدينيّة وعلماء الإسلام وأهل العلم خلال السنين الأخيرة، ويسأل الله السداد والتوفيق لهذه الحركة المباركة، فيقول:

"إنّ ما يفرحني أكثر، وأنا أقضي آواخر سنين عمري، هو بزوغ الصحوة الإسلاميّة لدى الشباب والطلبة والمفكّرين والمثقّفين، الصحوة الإسلاميّة التي سرعان ما رأيتها وأراها تتعاظم وتتوسّع بشكل كبير وعظيم، وأسأل الله تعالى أن يوفّقها لدحض الشرك والإلحاد، ولقطع أيادي المعتدين وتحقيق العدالة الإسلاميّة إن شاء الله".

 

إنّ اهتمام الإمام قدس سره هذا كلّه بالشباب والطلبة كان له جانب آخر. فكما أنّه كان يحثّهم على التمسّك والالتزام بالتعاليم الإسلاميّة والقرآنيّة، كان أيضًا يحذّرهم من الأفكار الشيوعيّة الماركسيّة وسائر الأفكار المنحرفة. ففي عام 1971 قام بزيارة الإمام قدس سره في مقرّه بالنجف عدد من أعضاء منظّمة المجاهدين "المنافقين"، وذلك لكسب موافقته

 

286


254

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

على عملهم المسلّح، ودعم تحرّكاتهم العسكريّة، فاستقبلهم الإمام قدس سره خير استقبال، وفسح لهم المجال في عدّة جلسات لطرح أفكارهم، واستعرض وجهات نظرهم، وبعد أن اطّلع الإمام قدس سره على أفكارهم ومعتقداتهم، وعلى منهجهم الفكريّ والعمليّ، أعلن معارضته لهم ولما يقومون به، على الرغم من أنّ بعض العلماء كانوا مؤيّدين لهم ويمدّونهم بالمال والعون والمساعدة، ذلك لأنّ الإمام قدس سره كان يرى أنّ هؤلاء لا يعتقدون بأصل المعاد، ويرَون السير التكامليّ والنهائيّ للإنسان مقرونًا بحياته الدنيا هذه. رأى الإمام قدس سره هذا فكشفه وأوضحه بعد أن طالع ودقّق كتيّباتهم الفلسفيّة والدينيّة، وبخاصة نظامهم الداخليّ، وفي النهاية قال لهم:

"إنّه ليس بمقدوري تقديم الدعم المعنويّ والمادّيّ لكم، ولا أستطيع أن أؤيّدكم. إنّكم مصمّمون على العمل العسكريّ، وبنظري أنّ الوقت غير مناسب، وسوف لن يحالفكم النصر".

 

وفي عام 1975م، ونتيجة لنشوب الاختلافات الفكريّة والعقائديّة داخل أركان المنظمة، أصدر المكتب السياسيّ لهم بيانًا يقضي بتجديد أفكارهم والعدول عن التعاليم الإسلاميّة إلى الفكر الشيوعيّ، ظانّين بأنّه الطريق الأفضل والأمثل لاستمرار النضال. وعلى هذا قطع علماء الدين المؤيّدون لهم علاقتهم بهم، بعد كشف اللثام عن وجههم المنافق. واستفسر بعضهم من سماحة الإمام قدس سره عن علاقة هؤلاء وصلتهم بسماحته، نظرًا لوجود الخطّ والفكر الإسلاميّ سابقًا، فأجاب الإمام قدس سره قائلًا:

"إنّه ليس من المستبعد وجود عناصر وحركات تتحرّك ضدّ الإسلام والدين بأسماء وعناوين عديدة. ثمّة تجمّعات وتكتّلات سياسيّة تساند الغرب لإضعاف الإسلام والشيعة والزعامة الدينيّة... اليوم وقد واجه الفكر الماركسيّ الانهيار والسقوط، واتّضحت مقوِّماته الواهية كافّة. يقوم عملاء الغرب والاستعمار بدعمه والالتفاف حوله لطعن القرآن والقضاء على الإسلام والمسلمين".

 

287

 


255

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

ثمّ يعلن للأمّة الإسلاميّة موقفه إزاءهم، فيقول:

"إنّني أعلن بصراحة وشجاعة عن موقفي السلبيّ تجاه هذه الكتل والجماعات المنحرفة الماركسيّة والشيوعيّة، وكافّة التكتلات المبتعدة عن الفكر الإسلاميّ الشيعيّ الأصيل، فكر الأئمّة وأهل بيت الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، إنّني أعلن عن اتّهامي لهم بالخيانة والمروق عن الدين، ومهما يكونوا فهم خونة للإسلام والدين والوطن".

 

288


256

الفصل السابع عشر: تحرّكات نظام الشاه بين أعوام 71 و1977م

الفصل الثامن عشر

 

مواقف الإمام قدس سره تجاه النظام العراقيّ

وترحيل الإيرانيّين المقيمين في العراق

 

إنّ مسألة ترحيل الإيرانيّين المقيمين في العراق كانت هي الأخرى من القضايا الهامّة والكبيرة خلال فترة نفي الإمام قدس سره من البلاد، والتي دعته لاتّخاذه مواقف جديرة بالذكر تجاه النظام الحاكم. وقد أشرنا آنفًا إلى ركود العلاقات الإيرانيّة - العراقيّة، والتي انتهَت بالعداء والمواجهة بين الطرفَين، حيث قام النظام العراقيّ بعمليّة لا إنسانيّة بحقّ الإيرانيّين المقيمين في العراق، ومعظمُهم كان في كربلاء والنجف والكاظميّة، حيث قام بترحيلهم إلى إيران قسرًا.

 

فراحوا يخطفونهم من الأسواق والشوارع والمعابر والبيوت، وينقلونهم مباشرة إلى الحدود، في أيّام شديدة البرودة، دون أيّ ذنب اقترفوه، فكانوا ضحيّةً لظلم النظامَين واضطهادهما على حدٍّ سواء. لقد كان الكثير من هؤلاء قد وُلد في العراق، وتربّى هناك منذ نعومة أظافره، بَيْدَ أنّ النظام كان لا يهتمّ لمثل هذه الأصول، ما دام الفرد منهم ينتمي إلى أبوَين إيرانيَّين. إنّ النظام العراقيّ كان يعتقد بأنّ أيَّ شخص من أصل إيرانيّ يجب أن يُعامَل معاملة الجاسوس الذي تدعمة حكومة بلاده. لقد كان المرحَّلون يشكّلون أعدادًا غفيرة من الرجال والنساء، والأطفال والشيوخ، وقد مات الكثير من الأطفال ضحيّةً لهذه المعاملة اللاإنسانيّة، قبل وصولهم إلى الحدود الإيرانيّة. وقد كان نظام الشاه يسوق الكثير من المهجَّرين إلى المحاكمات بتهمة العمالة والدسّ والتخريب.

 

290

 


257
الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ (قدس سره)