الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
حقيقة الإنسان
ما لا شكّ فيه، أنّ الإنسان يحتلّ مكانةً متميّزةً، ورتبةً عالية في سلّم الكائنات، ومراتب المخلوقات المادّيّة، فقد أنشأ الله سبحانه هذا النوع مركّباً من جزأين ومؤلّفاً من جوهرَين، الأوّل ينتمي إلى عالم المادّة، يُنال بالحسّ، فيُرى ويُلمس، وهو البدن، والثاني غير مادّيّ، وتقصُر الحواسّ الخمسة عن الوصول إليه، وهو النفس والروح، لكنّ هذين الجزأين متلازمان ومترابطان في الحياة الدنيويّة، تنقطع العلاقة بينهما، وينفكّ ذلك الترابط عند الموت، فيرجع البدن إلى العالم الذي ينتمي إليه، لينال نصيبه من التفسّخ والتحلّل، حسبما تفرضه قوانين المادّة وسنن الطبيعة، بينما ينصرف الجزء غير المادّيّ إلى عالم المجرّدات التي لا تخضع لقوانين المادّة، من التغيّر والنموّ والتلف والهلاك.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[1].
وفي الحقيقة، إنّ النفس التي يتوفّاها الله عند الموت لا تفنى ولا تنعدم، وإنّما ينفكّ ارتباطها بالبدن فقط، وهذا البدن هو الذي يموت وتنتهي حياته عند انفصال الروح عنه.
[1] سورة الزمر، الآية 42.
11
1
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
فحقيقة الإنسان هي هذه النفس، التي يُعبَّر عنها بـ"أنا"، وتتفرّد بخصائص عدّة، منها: العلم والمعرفة، والعقل والإدراك والاختيار... وغير ذلك، وهي التي تُخاطب بالتكاليف، وتُحاسب يوم القيامة، وليس البدن سوى مستقرٍّ لها، وأداة من أدواتها تحتاج إليه في هذه النشأة بحسب مقتضى الحكمة الإلهية، لاكتساب الكمال والرقيّ.
الأخلاق طبّ النفس
من البديهيّ، أنّ البدن منذ الولادة، بل قبل ذلك، يحتاج في نشأته ونموّه وصلاحه إلى مجموعة من الشروط والعوامل التي لا يستغني عنها، وإلى نظامٍ لا بدّ من التزامه، من بيئة خاصّة، وظرفٍ مناسب، وغذاءٍ متناسق، ورعايةٍ دائمة، وحمايةٍ من أسباب التلف والمرض، وغير ذلك ممّا هو واضح للعيان.
ومع ذلك، فقد يُصاب البدن في كثيرٍ من الأحيان - نتيجة نقصٍ في النظام المطلوب، أو فقدان الحماية والتعرّض للظروف غير الملائمة - بأمراضٍ وعاهات، تعوقه عن أداء وظيفته المرجوّة، وعند ذلك يحتاج هذا البدن إلى علاجٍ لسدّ النقص الذي أصابه، وإصلاح الفساد الذي طرأ عليه، لذلك وُضع علم الطبّ الذي يعتني بدراسة أوضاع البدن، ويزوّده بنظام يؤمّن له السلامة والصحّة، ويعالج ما يلمّ به من خللٍ، وما يصيبه من فساد.
وأمّا النفس، فإنّها لمّا كانت ذات طبيعة غير مادّيّة، فهي لا تخضع لتلك الأنظمة، بل تحتاج إلى طبّ من نوعٍ آخر، إذ إنّ لها
12
2
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
- أيضاً - ما يفسدها وما يصلحها، ولها ما يسعدها وما يشقيها. والعلم الذي يتكفّل بطبّ النفس، هو علم الأخلاق.
فالغاية من علم الأخلاق هي بلوغ الإنسان كماله اللائق به في الدّارَين، والوصول إلى السعادة الدائمة الأبديّة، عبر التحلّي بأسباب السعادة والكمال، والتخلّص من موجبات الشقاوة السرمديّة، بالتخلّي عن عوامل الشقاء والفساد. وهذه الغاية هي التي من أجلها أرسل الله تعالى الرسل والأنبياء عليهم السلام، وسنّ الشرائع والديانات.
ففي الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق"[1].
فمن رام العروج في مراتب الكمال، والفوز بالسعادة الأبديّة، فلا غنى له عن الغوص في أعماق هذا البحر الزاخر، والحصول على كوامن دُرره، واكتشاف كنوزه.
غذاء النفس
عندما يتناول الجائع طعاماً طيّباً يشعر باللّذّة، وإذا لبّى حاجته الجنسيّة يشعر باللّذّة أيضاً، ومرجع هذه اللّذّة إلى البدن. وقد أودع الله تعالى بحكمته هذا الشعور في الإنسان، عندما يؤدّي عملاً يلائم بدنَه، كما جعل فيه الشعور بالألم عند فقدان ما يلائمه أو حدوث ما يضرّ به ولا يناسب طبيعته.
[1] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قم، 1392ه - 1972م، ط6، ص5.
13
3
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
وأمّا النفس، فإنّها تلتذّ بأمور قد لا يلتذّ بها البدن، فهي تلتذّ بالمعارف والعلوم، ولا تميل إلى اللّذّات الجسميّة والخياليّة والوهميّة، والسبب هو اختلاف الطبيعة، فإنّ طبيعة النفس غير المادّيّة تجعلها تحنّ إلى الابتهاجات العقليّة الصرفة، وتميل إلى الأعمال التي توجب لها قرباً من عالمها - عالم التجرّد - وبُعداً عن عالم المادّة والأجسام، لذا، فإنّها تبتهج بالمناجاة والأدعية والأذكار التي تربطها بذلك العالم، وكلّما استغرقت النفس في هذه الأعمال غفل الإنسان عن ملاذّه الجسديّة، وذابت نفسه في عالم التجرّد والملكوت.
ومن هنا، يظهر أنّ لذّة النفس تتحقّق بما يلائمها، وهو يختلف عمّا يلائم البدن، وكذلك ما يحصل به كمالها ونعيمها وسعادتها مغاير تماماً لما فيه كمال البدن.
إنّ عضلات الجسد تنمو وتتكامل بالرياضة البدنيّة، بينما تتكامل النفس وقواها بالرياضات النفسانيّة. وإذا كان كمال الأجسام محدوداً بحدودٍ تكوينيّة ضيّقة، فإنّ كمال النفس أوسع أفقاً، وأبعد حدوداً، وأسمى رتبةً.
قوى النفس
للنفس قوّتان: قوّة نظريّة وقوّة عمليّة. وكمال القوّة النظريّة بالعلوم والمعارف، والإحاطة بحقائق الوجود، ومراتب الموجودات غير المتناهية، والترقّي منها إلى معرفة المطلوب الحقيقيّ، لأنّ
14
4
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
غايتها هي الوصول إلى التوحيد الحقيقيّ، والتخلّص من وساوس الشيطان، وبالتالي، اطمئنان القلب بنور الإيمان. وهذا الكمال هو الحكمة النظريّة.
وأمّا كمال القوّة العمليّة، فهو بالتخلّي عن الصفات الرذيلة، والتحلّي بالأخلاق الحميدة، ثمّ الترقّي إلى تطهير السريرة وتخليتها ممّا سوى الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يسمّى بالحكمة العمليّة.
ولا ينبغي للإنسان أن يفصل بين القوّتين، بأنْ يسعى إلى كمال إحداهما دون الأخرى، لأنّهما مرتبطتان ولا فصل بينهما، فالعلم، وإنْ كان يوجب كمالاً في النفس، لكنّه يزول مع ترك العمل، وكذلك العمل من دون علمٍ يؤدّي بالإنسان إلى الوقوع في المهالك، لذا، فإنّ الإقبال على الطاعة والإعراض عن المعصية يوجبان جلاءً ونوراً للقلب، يستعدّ به لإفاضة علم يقينيّ.
وبعبارة أخرى، إنّ كمال القوّة النظريّة يفتح طريقاً أمام كمال القوّة العمليّة، وكمال القوّة العمليّة يوجب استعداداً لمرتبة أخرى من كمال القوّة النظريّة.
وكذلك، فإنّ الانغماس في المعاصي وترك الطاعات يُحدثان ظلمةً في القلب، ويقضيان على استعدادات الكمال في القوّة النظريّة.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[1].
[1] سورة العنكبوت، الآية 69.
15
5
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
وقال تعالى أيضاً: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[1].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم"[2].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل، فإنْ أجابه وإلّا ارتحل عنه"[3].
وفي حديثٍ آخر عنه عليه السلام: "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا يزيده سرعة السير إلّا بُعداً"[4].
وعنه عليه السلام أيضاً: "لا يقبل الله عملاً إلّا بمعرفة، ولا معرفة إلّا بعمل، فمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، ألا إنّ الإيمان بعضه من بعض"[5].
فإذا كان القلب صافياً وطاهراً، ظهر له كثير من المزايا والمَلَكات، وصار محلّاً مناسباً للإفاضات الرحمانيّة. وممّا لا شكّ فيه، أنّ الرحمة الإلهيّة مبذولة للجميع، لكنّها موقوفة على شروط في محلّ نزولها، أهمّها أن تُصقل مرآة القلب وتُصفّيه من الخبائث، وإلّا فإنّ تراكم الصدأ الحاصل من المعاصي والخبائث
[1] سورة المطفّفين، الآية 14.
[2] قطب الدين الراونديّ، سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهديّ عليه السلام بإشراف السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ، مؤسّسة الإمام المهديّ عليه السلام، إيران - قم، 1409ه، ط1، ج3، ص1058.
[3] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص44.
[4] المصدر نفسه، ص43.
[5] المصدر نفسه، ص44.
16
6
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
يمنع الحقيقة من أن تتجلّى للقلب. فالأنوار العلميّة لا تُحجب عن القلوب لبخلٍ من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل إنّ الاحتجاب يكون من جهة القلب نفسه، لتراكم الكدورات والخبائث، واشتغاله بما يمنع من ذلك.
وإلى هذه الحقيقة يشير أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّه إِلَيْه عَبْداً أَعَانَه اللَّه عَلَى نَفْسِه فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِه، وأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِه النَّازِلِ بِه، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِه الْبَعِيدَ وهَوَّنَ الشَّدِيدَ، نَظَرَ فَأَبْصَرَ وذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَه مَوَارِدُه، فَشَرِبَ نَهَلًا وسَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً، قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ، إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِه، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، ومُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى، ومَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى، قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَه، وسَلَكَ سَبِيلَه، وعَرَفَ مَنَارَه، وقَطَعَ غِمَارَه واسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، ومِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ"[1].
ويقول عليه السلام أيضاً في وصف الراسخين من العلماء: "هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، واسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَه الْمُتْرَفُونَ، وأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْه الْجَاهِلُونَ، وصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الأَعْلَى"[2].
[1] الشريف الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد الرضيّ بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص118.
[2] المصدر نفسه، ص497.
17
7
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
علاقة الأخلاق بالفقه
تقدّم أنّ الدّين من أهم المنابع التي يستقي منها علم الأخلاق أحكامه، وأنّ مكارم الأخلاق هي الهدف الأسمى للدين، فقد يتساءل الإنسان عن الفرق بين الحكم الشرعيّ المبحوث عنه في علم الفقه وبين الحكم الأخلاقيّ المبحوث عنه في علم الأخلاق، مع أنّ كلّاً منهما حكمٌ وقانون إلهيّ يتعلّق بأفعال الإنسان وسلوكه، وذلك من أجل سعادته ونجاته من الشقاء.
ويتركّز السؤال إذا علمنا أنّ الأحكام الشرعيّة، التي هي نتائج علم الفقه، جميعها تابعة للمصالح والمفاسد، بمعنى أنّ الواجب لم يصبح واجباً لولا المصلحة والخير الذي يترتب على فعله، والمحرّم لم يحرّم إلّا لأنّ فيه مفسدة وشرّاً، والمباح لم تُشرّع إباحته إلّا لأنّه لا مفسدة في فعله أو في تركه، فالحكم الشرعيّ - إذاً - يدور مدار الخير والشرّ، وهذا المدار هو نفسه الذي تتمحور حوله أحكام الأخلاق وقوانينه.
والجواب: إنّ الحكم الشرعيّ في جوهره حكمٌ أخلاقيّ، لا يختلف إلّا بالاصطلاح وبعض الاعتبارات، لكنّ هذا لا يعني الاستغناء عن علم الأخلاق، لأنّ الفقيه ينظر إلى مستوى الإلزام في الحكم الشرعيّ، ويحدّده على أساس الثواب والعقاب، فيفتي بأنّ هذا واجب وذلك مستحبّ، وذلك مباح، وربّما مكروه أو محرّم، فهذه الأحكام التكليفيّة مستويات من الإلزام.
وأمّا الأحكام الأخلاقيّة، فإنّها تعمل على تحقيق حالة الالتزام، وذلك بخلق المَلَكات في النفس أو صقلها وتقويتها، وهذه المَلَكات
18
8
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
تجعل الفرد عنصراً ملتزماً بأحكام الدين من دون عناء، ومن دون بذل كبير جهد، ولعلّه من دون حاجة إلى قانونٍ للعقوبات.
فإذا أدرك الإنسان أنّ له نفساً لا تؤول إلى الموت والفناء، وأنّها يمكن أن ترتقي سلّم الكمالات، أو تهبط في حضيض الشقاوة والرذائل، وإذا عرف أنّ ذلك لا يحصل إلّا بالعمل الدؤوب، ومواصلة السلوك فيما يلائمها، واجتناب ما يفسدها ويهلكها، لم يجد بدّاً عندئذٍ من أن يشمّر عن ساعد الجدّ والاجتهاد، ويتخلّى عن شهوات البدن، ولذّات المادّة، لتحصيل السعادة الدائمة، لأنّ البدن مصيره إلى الفناء، وأمّا النفس فنصيبها البقاء. فإنِ اكتسب الإنسان كمالاً في الدنيا خُلِّد في النعيم، وإنْ جنى على نفسه وبالاً وعرّضها للفساد، كان مصيره الخلود في الشقاء.
وبذلك يظهر أنّ الأحكام الفقهيّة أحكامٌ أخلاقيّة بلحاظ آخر.
الأخلاق النظريّة والأخلاق العمليّة
في الاصطلاح الشائع قد يطلق اسم "العلم" على أمور لا تنفع معرفتها من عرفها، ولا يضرّ الجهل بها من جهلها، فمثلاً: معرفة الأنساب والقبائل، أو معرفة طول سفينة نوح عليه السلام، وعرضها، وارتفاعها، أو معرفة اسم النملة التي كلّمها سليمان عليه السلام، وأشباه ذلك - وإن سمّاها الناس علماً -، فإنّه لا تترتّب ثمرة على العلم أو الجهل بها، بل قد يكون في الاشتغال بها مضيعةٌ للوقت، وتفويتٌ للأهمّ.
19
9
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
روي عن الإمام علي عليه السلام: "أولي العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلّا به، وأوجب العلم عليك ما أنت مسؤول عنه، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك، وأظهر لك فساده..."[1].
وهذه الأوصاف كلّها تصدق وتنطبق على علم الأخلاق، فهو بقواعده ومبادئه يهدي للّتي هي أقوم وأسلم من السلوك والأفعال.
وقد قُسّم علم الأخلاق إلى قسمين، باعتبار أنّه يحتوي على جانب نظريّ، وآخر عمليّ، لكنّ المقصود الأوّل هو السلوك، أي الجانب العمليّ في علم الأخلاق.
ولتقريب الفكرة إلى الذهن، نرجع إلى علم الطبّ، مثلاً، فإنّ من درس الطبّ وتعرّف إلى أسراره، لم يحصل على الصحّة والسلامة، ولم يتخلّص من الأمراض الجسدّية، إلّا إذا عمل بمقتضى ما درسه، أي التزم بمتطلّبات الصحّة، واجتنب موجبات المرض.
كما أنّ مجرّد التعرّف إلى أحكام الشريعة وتمييز الحلال من الحرام، والواجب من المباح، لا ينجّي المتعلّم من عذاب الله الأخرويّ، ولا يوصله إلى ثوابه، ما لم يقترن ذلك العلم بالعمل، فيؤدّي المكلّف ما أوجبه الله، ويجتنب ما حرّمه.
فالأخلاق النظريّة ليست غاية في ذاتها، بل خطوة مرحليّة يُنتَقل منها إلى عالم التطبيق العمليّ، وهذه المرحلة التطبيقيّة هي الهدف الأسمى لعلم الأخلاق، بل لكلّ علمٍ على الإطلاق.
[1] ابن ورّام، ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1368ش، ط2، ج2، ص473.
20
10
الفصل الأوّل: مباحث تمهيديّة في علم الأخلاق
الباعث على الالتزام
إذا كنت تقود سيّارة، وأردت الدخول في شارع معيّن، فوجدت على مدخله إشارة - وُضعت من قبل السلطات المختصّة - تدلّ على أنّ المرور في هذا الشارع ممنوع، فإنّك مباشرة تتجنّب الدخول، وتغيّر من اتّجاه السيّارة. وهذا التزامٌ منك بنظام السير، فما هو سبب مثل هذا الالتزام؟
وإذا أمر الطبيب مريضاً بالامتناع عن تناول طعام معيّن أو شراب معيّن، فإنّ المريض يلتزم بأوامر الطبيب وينفّذها بحذافيرها، فما هو الباعث على مثل هذا الالتزام؟
وإذا أدرك الطفل - من خلال الاستقراء وتكرار التجربة - أنّ النار تسبِّب ألماً شديداً له، فإنّه يمتنع عن الاقتراب منها، ويلتزم باجتنابها، فما الذي جعله يلتزم بذلك؟
وإذا أيقن المؤمن أنّ الله يعاقب على ارتكاب المحرّمات، وأيقن أنّ الخمر من هذه المحرّمات، فإنّه يمتنع عن تناوله، فما الذي دفعه إلى الالتزام باجتناب شرب الخمر؟
في جميع هذه الأمثلة، نجد أنّ الجزاء هو الباعث على الالتزام
23
11
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
واجتناب ما نهى عنه القانون أو الشرع أو الطبيب أو العقل، وإنْ كان الجزاء يختلف باختلاف الأمثلة، فالجزاء المترتّب على مخالفة قانون السير يختلف عن الجزاء المترتّب على مخالفة أوامر الطبيب، فإنّ الأوّل يمكن الفرار منه عند غفلة السلطة أو التواطؤ مع الشرطيّ مثلاً، وأمّا الثاني فلا مفرّ منه، لأنّه أثر تكوينيّ لتناول الطعام الممنوع، والأوّل يمكن أن يعلّق فيه الجزاء على العلم بالقانون، فيعذر الجاهل، بخلاف الثاني. ولا مانع من أن يترتّب نوعان أو ثلاثة أنواع من الجزاء على فعل واحد، كشرب الخمر الذي يجازي عليه القانون والشرع، ويحدث ضرراً تكوينيّاً في البدن.
أقسام الجزاء
يقسّم الشهيد مرتضى مطهّريّ الجزاء إلى أقسام ثلاثة[1]، هي:
1- الجزاء التأديبيّ الاعتياديّ:
وهو يوضع - عادة - لتنبيه الناس وتأديبهم، كالضرب، والجلد، والتعزير، والحبس، وحرمان بعض الحقوق. وهذا الجزاء منفصل تكوينيّاً عن الذنب، فيمكن الشفاعة فيه، والعفو عنه، والتهرّب منه. ولعلّ الجزاء الذي تتضمنّه القوانين الوضعيّة من هذا القسم.
[1] انظر: مطهّريّ، الشيخ مرتضى، العدل الإلهيّ، ترجمة: محمّد عبد المنعم الخاقانيّ، بيروت، الدار الإسلاميّة، 1405هـ.ق/ 1985م، ط2، ص256-265.
24
12
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
2- الجزاء المتّصل:
وهو الذي تكون له رابطة تكوينيّة وطبيعيّة بالذنب، كأنْ يكون الذنب بنفسه يترتّب عليه الجزاء، ويوصل إليه، بدون مدخليّة للقانون أو القضاء، ومن أمثلته: الجزاء المترتّب على مخالفة أوامر الطبيب، فإنّ الطبيب لا سلطة له على المريض تمكّنه من فرض الجزاء، وإنّما هو يحصل بشكل متّصل عند ارتكاب ما نهى عنه، فتناول السمّ جزاؤه التسمّم وربّما الموت، ووضع اليد في النار جزاؤه الاحتراق والألم الشديد الناشئ منه. وهنا، لا تنفع شفاعة ولا جهل في دفع العقاب والجزاء عن مرتكب الذنب.
وفي بعض الأمثلة قد يجتمع هذا القسم من الجزاء مع القسم السابق، فإنّ شارب الخمر له جزاءان، أحدهما متّصل، والآخر منفصل، والأوّل هو ما يحصل من السكر والأضرار على الكبد والمعدة وغيرهما، والآخر هو الحدّ الشرعيّ الذي وضعه الشارع لشارب الخمر، والحكم بفسقه، وعدم قبول شهادته، وأمثال ذلك، وربّما ترتّب القسم الثالث الآتي أيضاً.
3- الجزاء الذي هو من قبيل تجسّم الأعمال:
أي تجسّم الذنب، وهو غير منفصل عنه، يرتبط ارتباطاً تكوينيّاً به، ولكنّه أقوى من الارتباط الحاصل في القسم الثاني من الجزاء، فهنا تكون الرابطة بين الذنب والجزاء رابطة الاتّحاد والعينيّة. ولعلّ الجزاء الأخرويّ من هذا النوع، بمعنى أنّ ما يعطى للمحسنين بعنوان الثواب، وللمسيئين بعنوان العقاب ليس سوى تجسّم الأعمال التي صدرت عنهم في الدنيا.
25
13
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
تجسّم الأعمال
قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾[1].
وقال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[2].
وقال تعالى أيضاً: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[3].
وقد دلّت هذه الآيات الشريفة وغيرها من الآيات، على أنّ الجزاء في الآخرة هو العمل نفسه، وليس العمل سبباً له، لكنّ الإنسان في هذه النشأة غافل عن ذلك، غير ملتفت إلى ما يتجسّم بعمله من الآثار المتّصلة، فينصرف ذهنه إلى الجزاء المنفصل التأديبيّ أو الانتقاميّ.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[4].
ففي الآية إشارة إلى الجزاء الحاضر، فما يلقاه الإنسان يوم القيامة كان حاضراً في الدنيا، لكنّه لم يكن يرَه، بسبب الحجب الدنيويّة.
[1] سورة آل عمران، الآية 30.
[2] سورة الكهف، الآية 49.
[3] سورة التحريم، الآية 7.
[4] سورة ق، الآية 22.
26
14
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
وقد ورد كثير من الأخبار التي تدلّ على تجسّم الأعمال، منها:
ما ورد عن قيس بن عاصم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "وأنّه لا بدّ لك من قرين يُدفن معك، وهو حيّ، وتُدفن معه وأنت ميّت، فإنْ كان كريماً أكرمك، وإنْ كان لئيماً ألأمك، ثمّ لا يُحشر إلّا معك، ولا تحضر إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، فلا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إنْ صلح أَنِسْتَ به، وإنْ فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فعلك"[1].
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة، فرأيت فيها قيعاناً، ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وربّما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم قد أمسكتم؟ فقالوا: حتّى تجيئنا النفقة، قلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، فإذا قال بنينا، وإذا سكت أمسكنا"[2].
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "إنّما هي أعمالكم تُرَدّ إليكم"[3].
[1] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح: محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران - قم، 1404ه، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1378ه - 1959م، ط1، ج1، ذيل شرح الخطبة1، ص128.
[2] الطوسي، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق ونشر: مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1414هـ.ق، ص458.
[3] المفضل بن عمر الجعفي، التوحيد، تعليق: كاظم المظفر، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1404. 1984م، ط2، ص50، المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد، الحكايات، تحقيق: السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414. 1993م، ط2، ص85.
27
15
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
الخلود في النعيم والجحيم
إنّ مسألة تجسّم الأعمال تبرّر الخلود في الجنّة، والخلود في النار، إذ ربّما يُتساءل: كيف يجازى الإنسان على أفعال محدودة بزمان محدود، بجزاء دائم غير محدود؟ وإنْ كان الخلود في النعيم تفضّلاً من الله على عباده، فكيف ينسجم الخلود في النار مع عدل الله تعالى؟
يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾[1].
وفي آية ثانية: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[2].
ويُجاب عن ذلك، بأنّ الأفعال المتكرّرة للإنسان تُحدث آثاراً ومَلَكاتٍ في النفس، وتصوّر النفس بصور باطنيّة باقية ببقاء النفس خالدة بخلودها، فما يثبت في النفس في عالم الدنيا لا يتغيّر بعد مفارقتها للجسد، تماماً كالذي يتناول من العقاقير ما يتلف بعض أعضائه، أو يحدث نقصاً في جسده لا يعوّض، فإنّه يبقى يعاني آثار فعله طيلة حياته، فإنّ من اقتصر في سعيه وعمله في النشأة الدنيا على طلب الدنيا، ولذّات البدن وشهواته من غير التفات إلى متطلّبات نفسه، من غذاء خُلُقي، ومعارف حقيقيّة، وأعمال صالحة تزكّيها وتنفعها في عالم البقاء، ولم يرجُ ما يرجوه المؤمنون ويؤمّله المتّقون من الخير الدائم، مات على حسرة وندامة، قائلاً: ﴿يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾[3].
[1] سورة النساء، الآية 40.
[2] سورة الكهف، الآية 49.
[3] سورة الزمر، الآية 56.
28
16
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
يقول تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[1].
إنّ الناس يصنعون جنّاتهم وجحيمهم في هذه الدنيا، وإذا جاء وقت الحساب رُدّت إليهم أعمالهم بالصورة التي أحدثوها، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربّك أحداً. فالتناسب محفوظ بين الذنب والجزاء.
الفرق بين النشأتين الدنيويّة والأخرويّة
يتضّح ممّا تقدّم وجود بعض الفوارق بين النشأتين الدنيويّة والأخرويّة[2]، أبرزها:
1- التغيّر والثبات:
هذا العالم محكوم بالحركة والتغيّر، فالطفل يكبر فيصبح شاباً، ثمّ شيخاً، ثمّ يموت. والجديد في هذا العالم يتغيّر فيصير قديماً. كلُّ شيء يتطوّر، ثمّ مآله إلى الفناء. وأمّا العالم الأخرويّ، فلا شيخوخة فيه ولا قِدَم، لا موت ولا فناء. كلّ شيء ثابت.. إنّه عالم البقاء، وعالم الاستقرار.
2- الحياة الخالصة والمشوبة:
في الدنيا تختلط الحياة بالموت، فالجمادات والنباتات كلّ واحدٍ منها يتبدّل إلى الآخر، جسمنا هذا حيّ الآن، وقد كان مَيْتاً
[1] سورة البقرة، الآية 281.
[2] انظر: الشيخ مطهّريّ، العدل الإلهيّ، مصدر سابق، ص247-253.
29
17
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
وجامداً في زمان مضى، وسيموت ويعود إلى الجمود مرةً أخرى، قد يموت جانب معيّن منّا ويبقى الجانب الآخر، يموت جهاز دون بقيّة الأجهزة. وأمّا الآخرة، فحياة خالصة لا يشوبها موت، كلّ شيء فيها حيّ: أرضها، وجواهرها، وأحجارها، وأشجارها.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[1].
وهكذا، فالأعضاء والأجسام التي لا شعور لها في هذا العالم، تشعر وتتكلّم هناك، تُختم أفواه وتُغلق، وتُترك الأعضاء تتكلّم وتنطق، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[2].
وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[3].
3- البذر والحصاد:
الدنيا مزرعة ودار بذر، والآخرة دار حصاد. والدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنّ اليوم عمل بلا حساب، وغداً حسابٌ بلا عمل"[4].
[1] سورة العنكبوت، الآية 64.
[2] سورة يس، الآية 65.
[3] سورة فصّلت، الآية 21.
[4] الديلميّ، الشيخ الحسن بن محمّد، إرشاد القلوب، إيران - قم، انتشارات الشريف الرضيّ، 1415ه - 1374ش، ط2، ج1، ص192.
30
18
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
لذلك، فإنّ الكافر - يومئذٍ - عندما يرى العذاب، لا ينادي: ارفعوا عنّي العذاب، وإنّما يقول: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[1]، فلا حصاد من دون بذر.
4- المصير الخاصّ والمشترك:
في الدنيا يوجد مصير مشترك بين جماعات كبيرة من الناس، كما نشاهد في غالب المجتمعات البشريّة، البلاء ينزل فيعمّ الجميع، يطال الكبير والصغير، المجرم والبريء. وأمّا في الآخرة، فثمّة اختلاف وتمايز في المصير، من فردٍ إلى آخر، فإذا كان عمل الفرد في الدنيا يترك أثراً على المجتمع، ويوجب مصيراً واحداً للجميع، فإنّه في الآخرة لا أثر لعمل فردٍ على آخر بتاتاً: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[2].
وإذا ثقب شخص - في الدنيا - سفينة ولم يمنعه الآخرون، بحجّة أنّه يثقب محلّه فقط، فإنّ السفينة ستغرق بجميع ركّابها، وهذا معنى المصير المشترك. وأمّا في الآخرة فالأمر ليس كذلك.
طبعاً، لا نقصد عدم الاشتراك حتّى في الأعمال التي هي بطبعها مشتركة، لكنّ المقصود أنّ كلّ إنسان يلقى مصيره دون أن يترك ذلك أثراً على أحدٍ سواه.
التربية وأثرها على النفس
إنّ النفس الإنسانيّة عند الولادة تكون كالصفحة البيضاء الخاليّة من أيّ شيء، إلّا من الاستعداد الفطريّ، والتهيّؤ للتلقّي
[1] سورة المؤمنون، الآيتان 99-100.
[2] سورة فاطر، الآية 18.
31
19
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
والتأثّر، فتنمو بالأعمال، وتفسد بالأعمال، وتستعدّ بذلك لتقبّل النعيم، وتقبّل العذاب، وربّما أفسدها عملٌ سيّئ فتحتاج إلى إصلاح، وربّما تكاملت بعض الشيء فتحتاج إلى مناعة، خوفاً من أن يُذهِب بذلك الكمال عملٌ مفسد.
وتكمن أهمّيّة الأخلاق في أنّها تدلّنا على طريق إصلاح ما فسد من نفوسنا قبل فوات الأوان، وأسلوب الوصول إلى الكمال، وكيفيّة تحصيل المَلَكات الصالحة والفضائل، وكيف يمكن أن نستفيد من حياتنا في هذه النشأة لبناء نفوسنا وتطهير قلوبنا قبل حلول يوم الحساب: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[1].
فعمليّة التخلّق هي جعل النفس بصورة تعشق الفضائل وتمقت الرذائل، وهي عمليّة إصلاح النفس بإزالة ما علق فيها من الشوائب، وتنقيتها وتزكيتها، وهذا يحتاج إلى جهد كبير، وعمل مستمرّ دؤوب، وإلى التزام ببرنامج تربويّ، لأنّ الفضائل التي يأمر بها علم الأخلاق - في الغالب - تخالف هوى النفس، ولا تنسجم مع شهوات البدن.
ثمّ إنّ هذه العمليّة تختلف من شخص لآخر، فثمّة عوامل كثيرة تُعين النفس على تلقّي الفضائل، وتسهّل عمليّة التخلّق، وثمّة عوائق تجعل من التخلّق أمراً صعباً. فبعض الأشخاص، لو خلّي ونفسه، يغضب أو يخاف أو يحزن لأدنى سبب، وبعض الأشخاص يضحك لأتفه الأمور، وبعضهم يأتي بالأعمال مع الرويّة والتأمّل، وآخرون بعكسهم تماماً.
[1] سورة الشعراء، الآيتان 88-89.
32
20
الفصل الثاني: الجزاء والعمل
إذاً، ثمّة أمر يسمّى "المزاج"، قد يسهّل اكتساب الأخلاق الحميدة، وقد يعوقها. وهذا المزاج ربّما جاء عن طريق الوراثة. ولعلّ ما ورد من أخبار ونصوص شرعيّة توصي الأبوَين بوصايا خاصّة عند الوصال، وفي محطّات كثيرة من حياتهم، هو ممّا له تأثير على المولود سلبّاً وإيجاباً، فربّما كان بعض الأمزجة منشؤه سلوك الأبوَين في بعض مراحل حياتهما، لكنّ هذه الأمزجة لا تمنع عمليّة التخلّق، ولا تخرج الإنسان عن عالم الاختيار، وكلّ ما في الأمر أنّها تعسّر تلك العمليّة أو تسهّلها. وهذه الأمزجة يمكن التغلّب عليها ومحو آثارها بالتربية، خاصّة في المراحل المبكّرة.
فالقول إنّ الأطباع لا يمكن تغييرها ليس صحيحاً، إذ إنّها ليست ثابتة في النفس إلى حدّ العجز عن تغييرها، لكنّ الأمر ليس بسيطاً، ولا يخلو من صعوبات، لذا، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهاداً، فقال: "إنّ أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"[1].
وهنا ربّما يتساءل بعضهم: كيف يكون الإنسان عدوّاً لنفسه ومجاهداً لها، وما هو إلّا هي، وما هي إلّا هو؟
والجواب: إنّ المراد بمجاهدة النفس هو أن لا يستجيب الإنسان لتلك الرغبات والشهوات التي تدعوه إليها، إذا كانت تضرّه، وأن يحملها ويجبرها على فعل ما فيه صلاحها وكمالها، ولو كان على خلاف هواها.
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، الأمالي، تحقيق ونشر: مؤسّسة البعثة، قم المقدّسة، 1417هـ.ق، ط1، ص553.
33
21
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
فلسفة وجود الغرائز في الإنسان
أوّل ما يبحث عنه الطفل بعد الولادة هو ثدي أمّه، وكلّما أحسّ بشيء يقترب منه فَتَح فاه، وعندما تصبح لديه القدرة على الإمساك بالأشياء، فأوّل ما يفعله هو وضعها في فمه.. هذه التصرفات كلّها تعبّر عن غريزة الأكل عند الإنسان.
وثمّة غرائز أخرى تظهر في مراحل مختلفة من حياة الإنسان، كالغريزة الجنسيّة، وحبّ التغلّب على الآخرين، والدفاع عن النفس، وحبّ حيازة الأشياء...، وهذه الأمور كلّها خلقها الله تعالى في الإنسان، وأودعها فيه بمقتضى حكمته، فإنّ حياة الإنسان في هذه النشأة تحتاج إلى جميع هذه الغرائز والقوى المودعة فيه، فجسم الإنسان – مثلاً - يحتاج إلى الطاقة المستمدّة من الطعام، لأجل نموّه وبقائه وقدرته على الحركة والعمل. ولمّا كان الإنسان قد لا يدرك في تمام مراحل حياته دور الطعام في تحضير تلك الطاقة، بل قد لا يدرك أهمّيّة العمل والتحرّك، أودع الخالق الحكيم فيه الشهوة إلى الطعام، وجعل فيه لذّة ليندفع إلى تناوله بدافع تلك الشهوة أو تحصيل اللّذّة.
وكذلك بالنسبة إلى بقاء النوع، فقد شاء الله تعالى أن يكون
37
22
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
بواسطة التناسل والتوالد المتوقّف بدوره على حصول العلاقة الجنسيّة بالشروط المعلومة، فأوجد في الإنسان غريزة تدفعه إلى تحقيق هذه الغاية.
والكلام نفسه بالنسبة إلى الغرائز الأخرى، التي تحمي الإنسان من الأخطار المحدقة به، وتعوق استمرار حياته.
هذه الغرائز والقوى أودعها الخالق المبدع لحكمةٍ، وغاية تتوقّف عليها، لكنّ الإنسان كثيراً ما يتمادى في استعمال هذه القوى إلى ما يتجاوز الغاية والهدف، بل ربّما حصر همّه في إشباعها، في حين أنّها خُلقت لخدمته، وبقائه، ونموّه، واستمرار حياته.
فقد يطلق الإنسان العنان لغريزة حبّ التغلّب، فيتسلّط على بني جنسه من البشر، ويستعبدهم ويظلمهم، ويتجاوز الحدود، فتتحوّل هذه القوة المودَعة فيه من أجل خير الإنسانيّة، إلى قوّة تضرّ بها وتعوق المسيرة التي أرادها الله.
ولا ينحصر الخطر في تجاوز حدود استعمال القوى والغرائز، لكنّه قد يحصل بترك استعمالها وتحطيمها وإلغائها أو إضعافها، فيسبّب ذلك تخلّفاً عن الحكمة الإلهيّة، فالإضراب عن الزواج يعوق أمر التكاثر وبقاء النوع، كما أنّ الامتناع عن الطعام لفترة طويلة يوجب ضعفاً وهزالاً يمنع الإنسان من أداء وظائفه المطلوبة، والتخاذل أمام الأخطار الأخرى يقضي على أمن المجتمع واستقراره.
فظهر أنّ لكلّ غريزة ولكلّ قوّة حدّاً لا يتحقّق الغرض والحكمة إلّا بالتزامه والوقوف عنده، وكلّ من طرفي الحدّ، سواء في طرف الإفراط أو في طرف التفريط، خلاف الحكمة، وخلاف العدل.
ويعبّر عن هذه الحدود في الاصطلاح الأخلاقيّ بالفضائل، وما يتجاوزها في طرفي
38
23
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
الإفراط والتفريط يسمّى بالرذائل. وسيأتي تفصيل الكلام فيها.
القوى المودعة في النفس
إنّ أهمّ القوى المودعة في النفس ثلاث:
1- القوة العاقلة:
وشأنها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخير والشرّ، والأمر بالأفعال الصالحة، والنهي عن الصفات والأفعال الذميمة.
وقد عُبِّر عن هذه المدركات بطريقة أخرى، فقيل: إنّ مدركات القوّة العاقلة على قسمين: نظريّة، وعمليّة. وأطلق على القوّة العاقلة اسم "القوة الملكيّة"، لأنّها من سنخ الملائكة، وهي التي تسمو بالنفس إلى عالمهم، وبها يتمكّن من العيش معهم وبقربهم، بل ربّما جعلته مقدّماً عليهم. وقد يُطلق عليها – أيضاً - اسم "القلب".
2- القوّة البهيميّة:
وهي التي تدفع الإنسان إلى طلب الأطعمة والأشربة والشهوة الجنسيّة. وسُمّيت بذلك، لأنّها تطلب ما يطلبه البهائم، وهي تمثّل الجانب الحيوانيّ في الإنسان.
39
24
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
3- القوّة السبُعيّة:
وهي غريزة الدفاع عن النفس، وحبّ التغلّب والقهر والسيطرة. وقد سُمّيت بهذا الاسم، لكونها موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب، والتوثّب، والفتك.
ومن البديهيّ أنّ الإنسان يتفرّد عن بقيّة الحيوانات بالقوّة العاقلة، ويشاركها في القوّتَين البهيميّة والسبُعيّة. ويختلف الناس بحسب توزيع هذه القوى ومراتبها، فإذا سيطرت القوّة العاقلة وتحكّمت بسائر القوى، عندئذٍ تحصل الحكمة المطلوبة من القوى جميعاً، وأدّت كلّ واحدة منها وظيفتها المنشودة، ويظهر الإنسان عندها بالصورة الكاملة المتحلّية بالفضائل.
وأمّا إذا اختلّ التوازن المطلوب، وانساق الإنسان وراء شهواته البهيميّة، أو سيطرت عليه طباع السباع وشهوة الفتك والغلبة، اقترب من عالم البهائم والسباع، وظهرت عليه صفاتها التي هي صفات منحطّة بالنسبة إلى البشر، واختلّت الحكمة التي من أجلها أُودعت فيه تلك القوى.
فالمال -مثلاً- شيء يحبّه الناس، ويتسابقون للحصول عليه، من أجل توفير متطلّبات معيشتهم، وسدّ حاجات عيالهم، فهو -إذاً- نعمة من نعم الله تعالى الدنيويّة التي تساعد الإنسان في إشباع بطنه، وستر بدنه، وسائر شؤونه. وفي الغالب، تحصل عند الإنسان لذّة خاصّة، وشعور بالاطمئنان عند الفوز به. وهذا الأمر قد يدفع ببعض الأشخاص إلى الحرص عليه والإصرار على جمعه وتكديسه، ولو على حساب نفسه، فيضحّي ببطنه وفرجه، ويتخلّى عن صحّته
40
25
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
وعافيته، وعن ملبسه ومسكنه في سبيل تخزينه وتوفيره، فيصبح همّاً، ويصير غايةً، بعد أن كان وسيلةً، ويغدو بلاءً، بعد أن كان نعمةً! وفي ذلك انحراف عن الطبع السويّ، يصبح معه الإنسان مريضاً محتاجاً إلى علاج!
فضائل النفس الأساسيّة
قسّمت فضائل النفس الأساسيّة إلى ثلاث، هي:
1- الحكمة:
وهي الفضيلة التي يتّصف بها من يتمكّن من إعطاء قوّته العاقلة قيادة نفسه، ويمكّنها من السيطرة على تصرّفاته وبناء مَلَكاته، فيُخضع بقيّة قواه إلى هذه القوّة.
2- العفّة:
وهي فضيلة تُطلق على الصفة الحاصلة من انقياد القوّة البهيميّة إلى العقل، الذي يقوم بتنظيم غرائزه بما يخدم مصالح الإنسانيّة، ويلبّي حاجاته الذاتيّة.
3- الشجاعة:
وهي الفضيلة الحاصلة من انقياد القوّة السبُعيّة للقوّة العاقلة، التي تقوم بالإشراف على تلك القوّة وتسخّرها لما يخدم بقاء الإنسان واستقراره، من دون إخلال بالنظام العامّ والمصالح العامّة للبشريّة.
41
26
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
اعتدال قوى النفس وانحرافها
تمثّل الفضائل - التي أشرنا إليها - الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط، أي حالة الاعتدال في قوى النفس. وكلّ من طرفي الزيادة والنقصان يمثّل حالة من الانحراف، فاعتدال الأخلاق هو تحقّق تلك الحالة التي يكون الانحراف عنها فساداً للنفس ورذيلة. وإذا كانت الفضائل هي حالة الاعتدال والاستقامة، فالانحراف له مراتب ومستويات عدّة، ولأجل ذلك قالوا إنّ بإزاء كلّ فضيلة عدداً كبيراً من الرذائل في طرفي الزيادة والنقصان.
ومن هنا، يدعو علم الأخلاق الإنسان إلى المحافظة على توازن القوى، ذلك التوازن العادل الذي يجعل من تلك القوى المودَعة في النفس مصدر خير، ووسيلة من الوسائل التي تخدم الأغراض التي خُلِق الإنسان من أجلها، وتُعِينه على الوصول إلى المَلَكات النفسانيّة الفاضلة.
روي عن ابن عبّاس أنّه قال: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من هذه الآيــة: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾[1]، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، حين قالوا له: أَسْرَعَ إليك الشَيب، يا رسول الله، فقال: "شيّبتني هود والواقعة"[2].
ونحن لا نحتاج في المقام إلى إحصاء الرذائل بجزئيّاتها كلّها، إذ يمكن جمعها تحت ثمانية عناوين تقابل الفضائل المذكورة سابقاً:
[1] سورة هود، الآية 112.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص304.
42
27
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
1- اثنان بإزاء الحكمة، وهما الجربزة والبله، ويمثّلان حالتَي الإفراط والتفريط.
2- اثنان بإزاء الشجاعة، وهما التهوّر والجبن، ويمثّلان حالتَي الإفراط والتفريط أيضاً.
3- اثنان بإزاء العفّة، وهما الشره والجمود، ويمثّلان حالتَي الإفراط والتفريط أيضاً.
4- اثنان بإزاء العدالة، وهما الظلم والانظلام، ويمثّلان حالتَي الإفراط والتفريط أيضاً.
معالجة الانحراف في قوى النفس
علم الأخلاق أشبه ما يكون بعلم الطبّ من جهات عدّة، كما تقدّم بيانه، حيث إنّ ما يصيب الخُلُق من انحراف عن العدالة والخطّ الوسط، هو بمثابة مرضٍ يصيب النفس، فيحتاج إلى استكشاف وعلاج. ومن هنا، كان متوقّفاً على مقدّمات مشتركة بين علم الأخلاق والطبّ الجسمانيّ، وهي:
1- معرفة نوع الانحراف، وهي مرحلة تشخيص نوع المرض:
إنّ القوى الثلاثة المتقدّم ذِكْرها قد تتعرّض للانحراف تارةً في الكمّيّة وأخرى في الكيفيّة. والانحراف في الكمّيّة إمّا لزيادة، وهو الإفراط، وإمّا لنقصانٍ عن رتبة الاعتدال، وهو التفريط. وأمّا الانحراف في الكيفيّة، فيكون بالرداءة فحسب. ومن الأمثلة على ذلك:
43
28
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
أ- انحرافات القوّة العاقلة:
إنّ الإفراط فيها يُعبّر عنه بالجربزة، وهو تجاوز حدّ النظر، والمبالغة في التدقيق والتنقير والتوقّف في غير مواضع الشبهة لأمور واهية، والحكم على المجرّدات بالوهم، وإعمال الذهن في إدراك ما لا يمكن إدراكه عادة.
والتفريط فيها يقع عندما يصاب الإنسان بالبلاهة، وقصر النظر عن إدراك المقدار الواجب من العلوم، كإجراء أحكام المحسوسات في المجرّدات غير المحسوسة، وهو الأمر الذي يقع فيه المادّيّون عندما يُخضعون المفاهيم الفلسفيّة المتعلّقة بما وراء المادّة لمنهجهم التجريبيّ، ويحكمون عليها من خلاله.
وأمّا الرداءة في القوّة العاقلة، فمن أمثلتها:
السفسطة في الاعتقاد، أي إنكار الواقع المحسوس.
الميل إلى العلوم غير اليقينيّة أكثر من الميل إلى اليقينيّات.
استعمال الجدل في اليقينيّات، والتعلّق بعلم الكهانة والشعبذة وأمثالهما.
ب- انحرافات القوّة البهيميّة:
الإفراط فيها، كالحرص على كثرة الأكل، والركض وراء الملاذّ الجنسيّة، بما يتجاوز المقدار الطبيعيّ المعروف، ومنه: حبّ الدنيا الزائد، والبخل، والحرص، وأمثال ذلك.
وأمّا التفريط فيها، فمثاله الفتور عن تحصيل المعاش
44
29
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
الضروريّ، وانعدام الشهوة الجنسيّة أو خمودها.
وأمّا الرداءة، فمثالها الميل إلى الشذوذ الجنسيّ، ومقاربة الذكور والبهائم، والميل إلى تناول ما لا يستسيغه الإنسان الطبيعيّ من الطين – مثلاً - ويغرّه ممّا لا يعدّ من الأطعمة.
ج- انحرافات القوّة السبُعيّة:
مثال الإفراط فيها: شدّة الغضب، والغيظ، وفرط الانتقام والفتك.
وأمّا التفريط، فمثاله: الجبن، وانعدام الغيرة والحميّة، والميل إلى التشبّه بالأطفال والنساء.
وأمّا الرداءة، مثالها: الانتقام من الجمادات، والبهائم، والغيظ من الناس بلا موجب.
2- معرفة الأسباب التي أدّت إلى الانحراف:
توجد أسباب عدّة للانحرافات الأخلاقيّة، أبرزها:
أ- أسباب مزاجيّة حاصلة في النفس في بدء فطرتها.
ب- أسباب اكتسابيّة حاصلة للنفس، نتيجة مزاولة الأفعال الرديئة.
ج- أسباب جسميّة، من قبيل: الأمراض الجسديّة المؤثّرة في زرع المَلَكات الرديئة، مثل: الحمّى التي تؤثّر على القوّة العاقلة، وأمراض المعدة والأعصاب التي توجب سرعة الغضب، والأمراض التي تؤدّي إلى فتور الشهوة الجنسيّة دون الحدّ الطبيعيّ وانعدام الميل نحو الطعام.
45
30
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
والسرّ في ذلك، إنّ النفس لمّا كانت تربطها بالبدن علاقة وثيقة، فيتأثّر كلّ منهما بالآخر، وكلّ كيفيّة تحدث في أحدهما تسري إلى الآخر، فإنّ بعض الأمراض السوداويّة يوجب فساد الاعتقاد، واضطراب المخيّلة، والجبن، وسوء الظنّ، ومن بعضها يحصل التهوّر، وفي كثيرٍ منها سوء الخلق، كما أنّ الغضب يحدث اضطراباً في الجسد، وارتعاشاً، وسوءاً في الهضم، وأمثال ذلك.
3- معرفة كيفيّة العلاج وأساليب الوقاية:
وأمّا المعالجات الأخلاقيّة، فهي على نحوين: تارة توضع قاعدة عامّة وطريقة كلّيّة لمعالجة الانحرافات الأخلاقيّة كافّة، وأخرى يبحث عن الأساليب الخاصّة في كلّ حالة من حالات الانحراف، ولكلّ رذيلة على حِدة.
العلاج الأخلاقيّ العامّ
بعد التعرّف إلى نوع الانحراف الأخلاقيّ الحاصل للنفس بإحدى الوسائل التي سيأتي التعرّض لها، لا بدّ من اتّباع الخطوات الآتية لمعالجة ذلك الانحراف، وهي:
1- المبادرة إلى صفة الفضيلة المضادّة لتلك الرذيلة المبتلى بها، والمواظبة على الأفعال التي تحقّق تلك الصفة وتحصّلها. وهذه الخطوة بمنزلة تناول الغذاء المضادّ للمرض.
2- إذا لم تنفع هذه الخطوة في إزالة الانحراف، فلا بدّ من المبادرة إلى توبيخ النفس وتعييرها، فكراً وقولاً وعملاً.
46
31
الفصل الثالث : الفضائل والرذائل
3- اللجوء إلى ارتكاب الرذيلة المقابلة للرذيلة المبتلى بها، مع الحذر، والمحافظة على التعديل بينهما حتّى لا تغلب الثانية. فصاحب الجبن - مثلاً - يمكنه اللجوء إلى أفعال المتهوّرين، فيرمي نفسه في المخاوف والأهوال وموارد الحذر والأخطار التي من شأنها تنمية حالة الجرأة لديه، وبالتالي التخلّص من الجبن. والمبتلى بالبخل يلجأ إلى البذل الكثير، وهكذا... وهذه الخطوة لا يتمّ اللجوء إليها في الشريعة الإسلامية، وفق البناء الأخلاقي الإسلامي.
4- إذا استحكمت الرذيلة، ولم يمكن علاجها بما تقدّم، فلا بدّ من اللجوء إلى تعذيب النفس بأنواع التكاليف الشاقّة والرياضات المتعبة المضعِّفة للقوّة الباعثة على هذه الرذيلة. وهذا بمثابة الكيّ والقطع، وهو آخر العــلاج. ومثال ذلك: إذا ابتُلي الإنسان بالنظر إلى ما حرّم الله، ولم ينفع - في كفّ نفسه عن هذه الرذيلة - شيء من الوعظ والتوبيخ، فعليه أن يعاقب نفسه بحرمانها من الملاذّ، وتجويعها، كلّما كرّرت الفعل المبتلى به، أو يضع غرامة مادّيّة على نفسه، أو يلزمها بعملٍ شاقّ.
47
32
الفصل الرابع: جهاد النفس
جهاد النفس وأهمّيته في الإسلام
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[1].
الجهاد: هو بذل الطاقة والجهد في محاربة العدوّ، وإعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الدين[2].
ويستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام أنّ الجهاد جهادان:
الأوّل: الجهاد الأصغر، وهو جهاد العدوّ الكافر أو الباغي بالتفاصيل المذكورة في كتب الفقه.
الثاني: الجهاد الأكبر، والمقصود به جهاد النفس، وهو الذي صرّحت به النصوص والأخبار، منها:
[1] سورة العنكبوت، الآية 69.
[2] ابن منظور، محمّد بن مكرم، لسان العرب، لا.ط، قم المقدّسة، نشر أدب الحوزة، 1405هـ.ق، ج3، ص135، مادّة "جهد".
51
33
الفصل الرابع: جهاد النفس
ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريّة، فلمّا رجعوا، قال: مرحباً بقومٍ قضَوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبَيه"[1].
فالجهاد الأكبر هو جهاد العدوّ الداخليّ الذي هو أعدى الأعداء، وجهاد الأهواء وطغيان الشهوات، وما تميل إليه النفس من اللّذّات، وتحديد الغرائز والشهوات.
ورد في وصايا الإمام الكاظم عليه السلام: "وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك، كجهاد عـــدوّك"[2].
أوصاف النفس في القرآن الكريم
إنّ النفس الإنسانيّة لها أحوال، وكذلك أوصاف تتبع تلك الأحوال. وقد وصفها القرآن الكريم بثلاثة أوصاف، هي:
1- النفس المطمئنّة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾[3]. وسمّيت مطمئنّة، لارتباطها بالله، ووثوقها به،
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص553.
[2] ابن شعبة الحرّانيّ، الحسن بن عليّ، تحف العقول، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، 1404هـ.ق/ 1363هـ.ش، ط2، ص399.
[3] سورة الفجر، الآيتان 27-28.
52
34
الفصل الرابع: جهاد النفس
واطمئنانها به وله، ولأنّها سَمَت عن مهاوي الرذيلة، وتحرّرت من قيد الشهوات وأسر الغرائز البهيميّة والسبُعيّة، فتحلّت بالسكينة والاطمئنان.
2- النفس اللوّامة:
قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾[1]. وسمّيت لوّامة، لأنّها تلوم صاحبها عند تقصيره، وتعاتبه على تفريطه، فهي مرحلة محاربة الشهوات، ومحاولة الإفلات من المغريات، والاعتراض على ميول النفس نحو غرائزها.
3- النفس الأمّارة:
قال تعالى، حكايةً عن امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2]. وسمّيت أمّارة، لأنّها غلبت عليها شقوتها، وأذعنت لداعي شهواتها وغرائزها، واستجابت لشيطانها، فسقطت ضحيّة الأهواء.
وهذه هي التي لا بدّ من مجاهدتها وردّها عن هواها، وهي أشبه شيء بالعدوّ، لأنّها تُرديه، وتقوده نحو الهلاك، كما هو فعل العدوّ.
[1] سورة القيامة، الآيتان 1-2.
[2] سورة يوسف، الآية 53.
53
35
الفصل الرابع: جهاد النفس
سبيل مجاهدة النفس
يوجد خطّان متوازيان على المجاهد لنفسه أن يسلكهما معاً، أحدهما يوصله إلى منع نفسه عمّا تميل إليه بحكم الغرائز والشهوات، وهو المعبّر عنه بهوى النفس، والآخر يؤدّي به إلى حمل نفسه على تحصيل الكمالات، وأداء الطاعات، وتحصيل مراتب السعادة الدائمة.
فإنّ المجاهد لنفسه لا يكفيه اجتناب المعاصي والموبقات للوصول إلى المرام، بل عليه أن يعمل من الصالحات ما يستحقّ به مقام المقرّبين من الشهداء والصالحين، وهو لا ينال إلّا بالعمل والاجتهاد، فإنّ كلّ لحظة من لحظات العمر جوهرة نفيسة لا تُعوَّض إذا ذهبت، ويمكن أن يشترى بها كنز لا يتناهى نعيمه، ولا يفنى أبداً، لذا، فإنّ ترك العمل بالصالحات تضييع لهذه الجوهرة.
ورد في بعض الأخبار: أنّه يُنشر للعبد بساعات اليوم والليلة أربع وعشرون خزانة، فيُفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيناله من الفرح والسرور والاستبشار لو وزّع على أهل النار لأشغلهم ذلك عن الإحساس بألمها، ويُفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة يفوح نتنها ويتغشّاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى الله الخالق الجبّار فيها، فيناله من الهَول والفزع ما لو قسّم على أهل الجنّة لتنغّص عليهم نعيمها، ويُفتح له خزانة أخرى، فيراها خالية ليس فيها شيء، وهي الساعة التي نام فيها، واشتغل بشيء مباح من المباحات، فيتحسّر على خلوّها، ويندم على ما فاته من الربح العظيم الذي كان قادراً على
54
36
الفصل الرابع: جهاد النفس
تحصيله في تلك الساعة، وهكذا تعرض عليه خزائن ساعاته من أوقاته في طول عمره[1].
مراحل مجاهدة النفس
ذكر العلماء أربع مراحل لمجاهدة النفس، هي:
1- المرحلة الأولى:
التعرّف إلى عالَم النفس، وما فيه سعادتها وشقاؤها، وصحّتها ومرضها، وكمالها ونقصها، وإلى أسرار الحياة الأخرى، وما فيها من عظيم الثواب والعقاب. وقد تجاوزت الآيات القرآنيّة والروايات التي وصفت الحياة الأخرويّة حدّ الكثرة، وبيّنت أنّ تلك الدار ليس فيها عمل، ولا استكمال للنقص، ولا جبران للتلف، وإنّما هي دار الجزاء.
ومن هنا، فإنّ الكافر - يومئذٍ - لا يطلب إعطاءه فرصة للتوبة والعمل، وإنّما يقول: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[2]، أي أعيدوني إلى الدنيا لعلّي أعمل هناك ما فيه صلاح آخرتي، فيُجاب: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[3].
[1] انظر: ابن فهد الحلّيّ، أحمد بن فهد، عدّة الداعي، تصحيح: أحمد الموحّدي القمّيّ، لا.ط، قم المقدّسة، مكتبة وجداني، لا.ت، ص103.
[2] سورة المؤمنون، الآيتان 99-100.
[3] السورة نفسها، الآية 100.
55
37
الفصل الرابع: جهاد النفس
وهذه المرحلة في الواقع، ليست من مراحل الجهاد، وإنّما هي ضروريّة لإيجاد الدافع، وتحقيق النيّة عند الإنسان، لإصلاح نفسه وجهادها.
2- المرحلة الثانية:
وهي مرحلة اكتشاف العيوب والأمراض، فإنّ من لا يعرف عيب نفسه، لا يجد عنده الدافع لإصلاحه، ولا الداعي إلى معالجته، لكنّ الإنسان يغفل - غالباً - عن عيوب نفسه، أو يطّلع عليها ولا يعدّها عيوباً.
3- المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة إصلاح العيوب، وتعويض النقائص، وتحصيل الكمالات. ومن هنا، تبدأ المعركة، وتستعر الحرب مع هوى النفس وشيطانها، فالمجاهد لنفسه لا بدّ له من أن يتعامل معها معاملة المروِّض، بالصبر والمواظبة، فيحملها على الإقلاع عمّا اعتادته من مساوئ، ويجبرها على المداومة على فعل ما فيه الصلاح، كي تترسّخ المَلَكات الفاضلة، وتصبح الفضيلة عادة وسجيّة لها. وهنا، تظهر الشجاعة وقوّة الإيمان، فإنّ الشجاع القويّ من غلب أهواء نفسه وميولها، وليس الشجاع من غلب الأقران وصرع الفرسان.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الشديد من غلب نفسه"[1].
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج4، ص378.
56
38
الفصل الرابع: جهاد النفس
وإصلاح العيوب، يبدأ بالمواظبة على الأعمال التي من شأنها إيجاد المَلَكات المضادّة لتلك العيوب، فمن كان – مثلاً - مُبتلى بعيب من عيوب اللسان، فليجاهد نفسه بالصمت، إلّا عمّا هو ضروريّ ولا بدّ منه، ومنْ كان عيبه الاستسلام لشهوات البطن، فعلاجه الصوم، ومن كان مُبتلى بالتثاقل عن أداء العبادات، فليكلّف نفسه بالعبادات الشاقّة، فتهون عليه الواجبات، والمصاب بحبّ الجاه، عليه أن يذلّ نفسه بخدمة المؤمنين والتواضع لهم.
فإنّ النفس في ترويضها ومجاهدتها، كالطفل تحتاج إلى تربية وتأديب، إنْ لم ينفع الوعظ، فلو أنّ إنساناً وجد أنّه لا يرتدع عن الغيبة، فليفرض على نفسه عقوبة كلّما اغتاب أحداً، بالصيام، أو الصدقة، أو الأعمال الشاقّة، أو حرمان النفس من الملاذّ المحبوبة المباحة.
4- المرحلة الرابعة:
وهي مرحلة المرابطة والمراقبة للنفس، ومحاسبتها باستمرار، فعلى الإنسان أن لا يُترك بعد اكتشاف العيب من غير مراقبة وحساب، وإنْ أمكن معالجته، بل عليه أن يكون دائماً في حذر ويقظة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[1].
[1] سورة الحشر، الآية 18.
57
39
الفصل الرابع: جهاد النفس
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "عِبَادَ اللَّه زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا"[1].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه، ولم يكن له قرين مرشد، استمكن عدوّه من عنقه"[2].
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد منه، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه"[3].
طرق اكتشاف عيوب النفس
إنّ نفوسنا لا تخلو من العيوب، ومسألة اكتشافها من أهمّ المسائل التي يتوقّف عليها إصلاحها، كما تقدّم، وخاصّة أنّ الإنسان هو الطبيب المعالج، ونفسه هي المريض. ومن لا يعرف عيبه، فلا يمكن المبادرة إلى إصلاحه، ومن لا يشعر بالنقص، لا يعمل على إكماله وسدّه.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لرجل: "إنّك قد جُعِلتَ طبيب نفسك، وبُيِّنَ لك الداء، وعرفت آية الصحّة، ودُلِلتَ على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك"[4].
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص123.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص526.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص453.
[4] المصدر نفسه، ص454.
58
40
الفصل الرابع: جهاد النفس
وغالباً ما يغفل الإنسان عن عيوب نفسه، لكونها تتلاءم مع هوى النفس وشهواتها، فاكتشافها لا يكون تلقائيّاً، وليس ضروريّاً، كما في كثير من أمراض الجسد، والسبب في ذلك أنّ أمراض الجسد محسوسة وآثارها في الأغلب ظاهرة، ومن عالم المادّة، وهي غير ملائمة لهوى النفس. وأمّا أمراض النفس وآلامها فهي غير ظاهرة وغير محسوسة، ولكي يعرف الإنسان آفات نفسه، عليه أن يستعين بإحدى هذه الوسائل:
1- الأسلوب الذاتيّ:
إنّ الإنسان الحازم في وسعه أن يقف من نفسه موقف المحاسب، وينظر إليها بتجرّد، وكأنّها غيره، فيستعرض صفاتها بالنقد والتمحيص، ويكتشف مواضع الخلل ومواطن النقص.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "أنفع الأشياء للمرء سبقه إلى عيب نفسه"[1].
2- أسلوب الاستعانة بالإخوة المؤمنين:
إنّ "المؤمن مرآة لأخيه المؤمن"[2]. وقد يطّلع الأخ والصديق على العيوب التي لا يطّلع عليها صاحبها نفسه، وقد يرى ما لا يرى من نفسه، فعلى من أراد بإخلاص أن يعرف عيوب نفسه، فليلجأ إلى إخوته المؤمنين وأصحابه المخلصين، ممّن يرى فيهم الأمانة والوثوق، فيتّخذ منهم مرآة عاكسة يرى نفسه من خلالها، وذلك
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص243.
[2] فضل الله الراوندي، فضل الله بن علي، النوادر، تحقيق: سعيد رضا علي عسكري، مؤسسة دار الحديث الثقافية، إيران - قم، لا.ت، ط1، ص99.
59
41
الفصل الرابع: جهاد النفس
بأن يجعلهم عيوناً عليه، يستدلّ بهم على عيوبه وثغراته.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا خير في صحبة من لم يرَ لك مثل الذي يرى لنفسه"[1].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي"[2].
وعنه عليه السلام - أيضاً -: "من رأى أخاه على أمر يكرهه، فلم يردّه عنه، وهو يقدر عليه، فقد خانه"[3].
3- أسلوب الاتّعاظ بعيوب الآخرين:
ويكمن ذلك بأنْ ينظر إلى ما يظهر له من عيوب الناس في أخلاقهم وأعمالهم وأقوالهم، ثمّ يرجع إلى نفسه، باعتبار أنّه إنسان، كغيره، في معرض الابتلاء بما ابتلوا به من آفات. والالتفات إلى العيب عندما يكون في الآخرين أيسر من الالتفات إليه في النفس، فالظالم - مثلاً - لا يلتفت إلى أنّه ظالم، لكنّه إذا رأى ظلم غيره، فسرعان ما يلتفت إليه، فليكن ذلك وازعاً ومنبّهاً للإنسان، كي يتّعظ بعيوب الآخرين.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُه مِنْ غَيْرِكَ"[4].
وعنه عليه السلام أيضاً: "السعيد من وُعِظ بغيره"[5].
[1] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، مصدر سابق، ص368.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص639.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص343.
[4] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص548.
[5] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص585.
60
42
الفصل الرابع: جهاد النفس
4- أسلوب الاستفادة من لسان العدوّ:
إنّ الصديق قد يخفى عليه من العيوب ما لا يخفى على العدوّ، الذي يترصّد العيوب والنقائص، وقد قيل: إنّ عين الحبيب عن كلّ عيب غضيضةٌ، وعين البغض تبدي المساوئ. فيمكن الاستفادة من هذه العين في سدّ النواقص وإصلاح العيوب، وبذلك يتحوّل ما أراده العدوّ من الإساءة إلى واعظ للنفس، ورادع لها عن التمادي في الغفلة. وهذا خير من التأذّي لذكر العيوب، والاشتغال في المقابل بعدّ عيوب الآخرين وإحصائها، للتقليل من أهمّيّة عيوب النفس، كما يُفعل - غالباً - في المنازعات والعداوات.
ثمّ إنّ الانشغال بعيوب العدوّ في المقابل، يؤدّي إلى إقناع النفس بأنّه لا غضاضة عليها بما ذكره العدوّ من عيوبها، وخاصّة إذا كان لدى الناس مثلها، بل ما هو أشنع منها، وهو – بالتالي - يؤدّي إلى تكريس العيب بدلاً من إصلاحه.
61
43
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
خطر الذنوب والخطايا على النفس
الذنوب والخطايا تعبيران يشتملان على جميع المحظورات الشرعيّة. ومن المسلّم به، أنّ الشريعة الإسلاميّة لم تَسُنّ للبشريّة أحكاماً إلّا بحسب المصالح والمفاسد التي لا يطّلع على حقائقها ووقائعها بشكلٍ كاملٍ إلّا خالق البشر ومصوّرهم.
ومن هنا، كانت الذنوب والخطايا من أخطر الأمراض التي تهدّد مصالح المجتمع البشريّ بشكل مباشر أو غير مباشر.
وإذا كانت الذنوب والمعاصي تختلف من حيث آثارها، ومن حيث مراتب عقوباتها، لكنّها تشترك جميعاً في كونها تؤدّي إلى حالة من الانحراف، وتهدّد سلامة الإنسانيّة.
وإذا كانت الشريعة الإسلاميّة قد وضعت سلسلة من العقوبات الجزائيّة الدنيويّة على بعض الذنوب، فإنّما هي لأجل الحدّ من ارتكاب الجرائم والمعاصي والتخلّفات التي تنخر المجتمعات البشريّة بشكل مباشر.
والخطر لا ينحصر في هذا النوع من الذنوب، لذا، فإنّ تلك العقوبات تهدف إلى استئصال الجريمة عند من لا يدرك الخطورة الكامنة وراء ارتكاب الجريمة، فهي خطابات بلغةٍ يفهمها كلّ إنسان،
65
44
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
حتّى أولئك الذين أعمت الدنيا أبصارهم، وطمست على قلوبهم.
إنّ الإسلام يسعى إلى اجتثاث الانحراف من جذوره، ويركّز على تربية الإنسان فكراً وروحاً، وإبعاده عن كلّ ما يعكّر صفاء نفسه، ويعوق سموّه في مراتب الكمال الروحيّ. وهو يسعى – كذلك - من خلال أسلوبه التربويّ إلى ردع الإنسان عن التفكير في ارتكاب الذنب، فيحول دون حصول البذرة التي قد تجد الظرف الملائم للنموّ، وبالتالي السقوط في مستنقع الرذائل والذنوب.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "من كثر فكره في اللّذّات غلبت عليه"[1].
وروي أنّ نبيّ الله عيسى عليه السلام قال للحواريّين لمّا اجتمعوا إليه: "إنّ موسى نبيّ الله عليه السلام أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدّثوا أنفسكم بالزنا، فضلاً عن أن تزنوا، فإنّ من حدّث نفسه بالزنا، كان كمن أوقد في بيت مزوّق، فأفسد التزاويق الدخان، وإنْ لم يحترق البيت"[2].
وإنّ دراسة آثار الذنوب من موقع ما يهتمّ به علم الأخلاق تختلف عن دراستنا لها من موقع ما يهتمّ به علم الفقه، فإنّ الفقه - كما تقدّم سابقاً - يهتمّ بدراسة الحكم من حيث مستوى الإلزام، والذنب من حيث العقوبات الدنيويّة المترتّبة عليه، وهي وظيفة الإمام أو القاضي أو الولي. مثلاً: عندما يدرس الفقيه مسألة الزنا، ينظر إليها
[1] الواسطيّ، عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسين الحسينيّ البرجنديّ، قم المقدّسة، دار الحديث، 1376هـ.ق، لا.ط، ص457.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص542.
66
45
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
من زاوية ما يترتّب على ذلك، من حدٍّ، وعدّةٍ، ومهرٍ، وتحريم نكاحٍ، وأمثال ذلك. لكنّ علم الأخلاق يهتمّ بدراسة زاوية أخرى، وهي ما يتركه الزنا من آثارٍ على النفس، وعلى المجتمع، وكيفيّة إزالة تلك الآثار، والوقاية من ذلك العار.
أقسام الذنوب والمعاصي
تقسم الذنوب والمعاصي إلى الصغائر والكبائر، لكنْ إذا لوحظ في الذنب أنّه تمرّد على المولى - عزّ وجلّ - وخروج عن مقتضى العبوديّة له سبحانه، لم يبقَ شيء من الذنوب صغيراً، وكان بهذا اللحاظ كبيراً، وإلى هذا الأمر تشير روايات عدّة، منها:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا تستصغروا قليل الآثام، فإنّ الصغير يحصى ويرجع إلى الكبير"[1].
وعنه عليه السلام أيضاً: "أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِه صَاحِبُه"[2].
وروي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "الصغائر من الذنوب طرق إلى الكبائر، ومن لم يَخَفِ الله في القليل لم تخفه في الكثير"[3].
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، الخصال، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص616.
[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص535.
[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلميّ، الناشر: مؤسّسة الأعلميّ، بيروت - لبنان، 1404. 1984م، لا.ط، ج2، ص193.
67
46
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
وكفى في عِظَم الذنب أنّه جرأة على حدود الله سبحانه، وكفران بِنعَمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى، كيف لا، وهو حينما عصاه استعان ببعض نعمه على معصيته، إذ إنّ اليد التي حرّكها، والطاقة التي بذلها، وكلّ ما استخدمه في سبيل الوصول إلى تلك المعصية، من عطاءات الله التي لا تُعدّ. والواقع أنّ الله سبحانه يراه وهو على تلك الحالة، ولا يعاجله بالعقوبة، لكرمه ولطفه، فيفسح له المجال، ويفتح له باب الرجوع والتوبة.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أَقَلُّ مَا يَلْزَمُكُمْ لِلَّه، أَلَّا تَسْتَعِينُوا بِنِعَمِه عَلَى مَعَاصِيه"[1].
ويمكن تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر بلحاظ آخر، فإنّ كِبَر الذنب أو المعصية يتحقّق بأهمّيّة النهي وشدّته، إذا قيس إلى النهي المتعلّق بغيره. فلو رافق النهي تهديد بالعذاب، وتهديد بجهنّم، كان هذا النهي - بلا شكّ - أشدّ وأهمّ من النهي الخالي من ذلك، أو الذي يتبعه وعد بالمغفرة والعفو. وصِغَر الصغيرة جاء من قياسها إلى الكبيرة، وإلّا فإنّ المعصية إذا لوحظت مستقلّة عن غيرها، وبقطع النظر عن سواها، فهي تمرّد على سلطان الله، وبهذا الاعتبار كانت كلّ معصية كبيرة. وقد نسب إلى ابن عبّاس أنّ ما نهى الله عنه كلّه فهو كبيرة، ولعلّه لكون مخالفته تعالى أمراً عظيماً، لكنّ القرآن الكريم قسّم المعاصي والذنوب إلى القسمين المتقدّمين، ولولا ذلك، لكان ما نسب إلى ابن عبّاس وجيهاً جدّاً.
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص533.
68
47
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
قال تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾[1].
آثار الذنوب والمعاصي
قد يتصوّر بعض الأشخاص أنّ المعاصي والذنوب ليس لها إلّا أثر واحد، وهو استحقاق العقاب الأخرويّ الإلهيّ. وقد يغرّه الأمل، ويمنّي نفسه بالتوبة والرجوع، فيتمادى في السيّئات والمعاصي، غاضّاً بصره عن كونه بذلك الفعل يتجرّأ على حدود الله وعلى سلطانه، غافلاً عن أنّ الله تعالى قد يأخذه على حين غرّة، وعندئذٍ لا ينفع الندم.
لكنّ الواقع أنّ الذنوب لها آثار عدّة تنعكس على الإنسان في الحياة الدنيا، فضلاً عن الآثار الأخرويّة، وهي أشبه بالأمراض الجسديّة من حيث المنشأ والآثار. والفرق، أنّ الأمراض الجسديّة تتعلّق بالجسد، بينما الذنوب والمعاصي والسيّئات تتعلّق بالنفس، وعلى الإنسان أن يبحث عن أسباب نشوئها، وعن علاجها قبل أن تستفحل، وعندئذٍ يعسر علاجها.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار!"[2].
[1] سورة النساء، الآية 31.
[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص359.
69
48
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
وسنحاول في هذا البحث المختصر أن نستقرئ آثار الذنوب والمعاصي من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، وهي كما يلي:
1- الذنوب تؤدّي إلى فساد الفطرة وظلمة القلب، وإلى الاضطراب في السليقة والتفكير، وإذا حصل ذلك للإنسان، فسوف تظهر آثاره في طريقة حياته وفي رؤيته للحقائق.
روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإنْ تاب انمحت، وإذا زاد زادت، حتّى تغلب على قلبه، فلا يفلح بعدها أبداً"[1].
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "كان أبي يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته، إنّ القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال به حتّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله"[2].
ومعناه أن تنقلب أحواله ويضطرب نظامه، لأنّه يصير منكوساً، كالإناء المقلوب لا يستقّر فيه شيء، ولا يؤثّر فيه شيء من الحقّ، كما في الخبر المرويّ عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: "القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعثر على شيء من الخير، وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء، فالخير والشرّ فيه يعتلجان، فما كان منه أقوى غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصباح يزهر، فلا يطفأ نوره إلى يوم القيامة، وهو قلب المؤمن"[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص271.
[2] المصدر نفسه، ص268.
[3] المصدر نفسه، ص423.
70
49
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
والمراد بالقلب في مثل هذه الموارد، هو قوّة الإدراك عند الإنسان، ولذا كان الشخص الذي فسد قلبه أبعد عن الحقيقة، منحرف الرؤية والبصيرة.
2- الذنوب تجلب البلاء في دار الدنيا، ويشهد لذلك الكثير من النصوص، منها:
ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون"[1].
وهذه حقيقة ندركها بالوجدان في هذا العصر أكثر من أيّ عصر مضى، ونلمس آثارها لمس اليد، بعد أن انغمس العالم بالرذيلة، وغرق في بحرها النتن. فالذنب سبب نزول المصائب والنكبات.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا عليّ، ما من خدش عود، ولا نكبة قدم إلّا بذنب"[2].
وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "أما إنّه ليس من عرق يضرب، ولا نكبة، ولا صداع، ولا مرض إلّا بذنب، وذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، ثمّ قال: ويعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به"[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص275.
[2] الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصائيّين، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط1، ج9، ص53.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص269.
71
50
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
3- من الذنوب ما يقطع الرزق ويُوقع في الضيق، وقد ورد كثير من الروايات عن أئمّة الهدى عليهم السلام بهذا المضمون، منها:
ما روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ الرجل ليذنب الذنب، فيدرأ عنه الرزق - وتلا قوله تعالى: ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾[1]"[2].
وعنه عليه السلام أيضاً: "إنّ العبد ليذنب الذنب، فيزوي عنه الرزق"[3]، وفي النصّ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فيُحْبَس عنه الرزق"[4].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ المؤمن لينوي الذنب، فيُحرَم الـــرزق"[5].
وهذا النص الأخير أبلغ في المطلوب، حيث جعل حرمان الرزق مترتّباً على النيّة، فضلاً عن الفعل، ولعلّ الآية السابقة تدلّ - أيضاً - على ذلك.
4- من الذنوب ما يردّ الدعاء ويمنع الاستجابة، فإنّه ليس من الصواب أن يقدّم الإنسان الذنب، ثمّ يتبعه بالدعاء وطلب الخير، فإنَّ الذي أفسد علاقته مع ربّه، وتجرّأ على معصيته،
[1] سورة القلم، الآيات 17 - 19.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص271.
[3] المصدر نفسه، ص270.
[4] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، مصدر سابق، ص110.
[5] البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق: جلال الدين الحسينيّ (المحدّث)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1370هـ.ق/ 1330هـ.ش، لا.ط، ج1، ص116.
72
51
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
وارتكب ما يبعده عن ساحة رحمته، عليه أن لا يتوقّع الاستجابة.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد يسأل الله - تبارك وتعالى - الحاجة من حوائج الدنيا، قال: فيكون من شأن الله قضاؤها إلى أجل قريب ووقت بطيء، قال: فيذنب العبد عند ذلك الوقت ذنباً، فيقول للملك الموكل بحاجته: لا تُنجِز له حاجته، واحرمه إيّاها، فإنّه قد تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان منّي"[1].
5- الذنب يسلب الإنسان التوفيق لعمل الخير، لأنّ عمل الخير دائماً يحتاج إلى توفيق من الله عزّ وجلّ، ولا يعني ذلك أنّه يعمله من دون إرادة واختيار، لكنّ الإرادة والاختيار ليسا علّة كافية لحصول العمل، فربّما عزم المؤمن على التصدّق، أو عزم على الاستيقاظ لصلاة الليل، وأراد فعل الخير، لكنّه مع ذلك سُلِب منه التوفيق، فالإرادة لا تكفي، لأنّ القدرة من الله، والتوفيق منه أيضاً.
وهذا المعنى مرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: "إنّ الرجل يُذنب الذنب، فيُحرم صلاة الليل، إنّ العمل السيِّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم"[2].
ويمكن أن يُعكس الأمر، فيقال: إنّ العمل الصالح يفتح الطريق أمام التوفيق، فإذا التزم بطاعة، وفِّق لأداء طاعة أخرى، وارتقاء درجة جديدة في سلّم التسابق نحو العمل الصالح والخير، وهكذا.
[1] ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى، فتح الأبواب، تحقيق: حامد الخفاف، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1409 - 1989م، ط1، ص298.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 272.
73
52
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[1].
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾[2].
6- من آثار بعض الذنوب تقصير الأعمار وتقريب الأجل، كما أنّ من آثار بعض الطاعات تطويل العمر وتأخير الأجل، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "تجنّبوا البوائق، يمدّ لكم في الأعمار"[3].
وفي حديث آخر: "من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار"[4].
7 - تأخير الشفاعة وطول الوقوف في الحساب، فقد روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وإنّه لينظر إلى أزواجه في الجنّة يتنعّمن"[5].
وثمّة آثار كثيرة غير ذلك، وما ذكرناه إنّما هو أبرزها وأهمّها، ففي دعاء كميل بن زياد الذي يرويه عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتِكُ العِصم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تُنزِل النِقَم، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تُغيّر النِعمَ، اللهمّ
[1] سورة العنكبوت، الآية 69.
[2] سورة محمّد، الآية 17.
[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص40.
[4] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص305.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص272.
74
53
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
اغفر لي الذنوب التي تَحبِسُ الدعاء، اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تُنزِل البلاء"[1].
وهو صريح في تعدّد آثار الذنوب وتنوّعها، فالجدير بالمؤمن أن يتّقي الذنوب والمعاصي مهما صغرت، لأنّها تُحصى وتجتمع، وتصبح جمّة كثيرة. ومن أهمّ الآثار التي تتركها الذنوب على القلب، أنّها تدخله في عالم الظلمة، وتخمد نوره، وتعمي بصيرته، وخاصّة إذا تراكمت وتوالت، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[2].
خطوات التخلّص من الذنوب
توجد مجموعة من الخطوات التي تساعد المذنب في التخلّص من ذنوبه ومعاصيه، وهي:
1- دراسة الدوافع الباعثة على الوقوع في المعصية، فقد يكون الباعث هو الاستجابة للنزعات والميول الغريزيّة والشهوانيّة، مع الجهل بعواقب الاستجابة غير المشروعة، وتارةً يكون الباعث حالة من التعلّق بالدنيا والارتباط بها، ما يدفعه إلى ارتكاب سلسلة من المعاصي التي تكرّس ذلك التعلّق وتلبّي مقتضياته، كالكذب، والظلم، وأمثالهما. وقد يكون الغرض قائماً بالذنب، كالزنا الذي يحقّق اللّذّة المقصودة، وقد يكون وسيلة لتحقّق
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد، لبنان - بيروت، مؤسّسة فقه الشيعة، 1411هـ.ق/ 1991م، ط1، ص844.
[2] سورة المطفّفين، الآية 14.
75
54
الفصل الخامس: آثار الذنوب والخطايا
الغاية، كالكذب. وفي جميع هذه الحالات ينصبّ العلاج على العامل والدافع والباعث على الذنب، والسبب الموجب للوقوع في المعصية، وذلك بإزالة الباعث، أو وضع الموانع والعقبات.
2- تحصيل اليقين بالله، وتقوية الإيمان باليوم الآخر، ومعالجة الشبهات التي تزلزله.
3- تقوية الإرادة التي تجعل الإنسان أقدر على مقاومة الميول والغرائز والقوى التي تتجاذبه، وذلك عن طريق الصوم، وترويض النفس، وحرمانها من مشتهياتها.
4- الحذر من مكائد الشيطان التي لها دور مهمّ في التغرير، واستسهال ارتكاب المعاصي، وتأجيل التوبة.
5- تذكّر الموت باستمرار، فإنّه يقضي على طول الأمل، وتسويف التوبة، والتمادي في المعصية.
6- المواظبة على ذِكْر الله، الذي به تطمئنّ القلوب، ويوقظ من الغفلة. ويتحقّق ذلك من خلال العبادة والأذكار، والحضور في الأماكن التي تذكّر بالله، والابتعاد عن الأماكن والأجواء التي تنسي ذكر الله.
7- حسن اختيار الرفقة، بأن يسعى الإنسان للارتباط بأصحاب مؤمنين يعينونه على الطاعة، ويبتعد عن رفقاء السوء الذين ينسونه ذِكر الله، ويغرونه بالمعصية وارتكاب الذنب.
8- اعتماد أسلوب فرض العقوبات على النفس، لردعها عند عدم إذعانها وعدم استجابتها، وتماديها في الغفلة.
76
55
الفصل السادس: التوبَة
تمهيد
لمّا كان سلوك طريق السعادة والوصول إلى الكمال المنشود لا يتأتّى إلّا بطاعة الله والالتزام بالشريعة الإلهيّة في مختلف جوانبها، والتقيّد بتوجيهاتها ونصائحها، فإنّ الإنسان على الرغم من إيمانه قد تزلّ قدمه في مسيرته الشاقّة تلك، وقد يضعف أمام بعض المغريات التي تعترض طريقه، فيعثر ويخطئ، وتقترف يداه ذنباً هنا وذنباً هناك، فهل ينقطع به الطريق لأجل ذلك، ويحرم من النجاة، ويمتنع عليه بلوغ المرام، أم أنّه يمتلك فرصة للنجاة والعودة والإصلاح!
والجواب: إنّ رحمة الله الواسعة فتحت للمخطئين طريق الرجوع إلى جادّة الصواب، والعودة إليه سبحانه، وهو "التوبة"، فإنَّ الله يحبّ التائبين، ويحبّ المتطهّرين.
معنى التوبَة
التوبة معناها الرجوع والإياب[1]، وهي الندم على الذنب، والرجوع
[1] انظر: ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج1، ص233.
79
56
الفصل السادس: التوبَة
إلى خطّ الطاعة والانقياد، والتسليم لأمر الله تعالى. ويتحقّق ذلك بالإقلاع عن المعصية، والعزم على عدم العودة إلى مقارفتها.
واستُعملت التوبة في القرآن الكريم بمعنيَيْن، أحدهما أُسند إلى العبد، والآخر إلى الربّ:
الأوّل: توبة العبد، وهي رجوعه إلى ربّه بالندامة، والعودة إلى نَير العبودية له، فإنّ العبد إذا عصى كان بمنزلة الهارب من رَبق العبودية لربّه، المتمرّد على أوامره، فإذا تاب رجع إليه.
الثاني: توبة الربّ على عبده، وهي رجوعه تعالى بالرحمة الإلهيّة والمغفرة على عبده، فإنّ العبد الذي يفرّ من مولاه يتعرّض لغضبه، ويستوجب عقابه وانقطاع معروفه عنه، فإذا عاد إلى طاعة مولاه لا يُسقط ذلك ما استحقّه وما استوجبه، إلّا بتوبة المولى عليه، ورجوعه بالعفو والمغفرة، وعودته بالمعروف الذي قطعه، والإحسان الذي حجبه.
قال تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[1].
منزلة التوبة والتائب
إنّ الله سبحانه رحيمٌ بعباده رؤوفٌ بهم، فتح لهم باب التوبة والمغفرة، وجعل للتائبين منزلة خاصّة، بفضله وكرمه، كما تشير النصوص الواردة في هذا الصدد، ومنها:
[1] سورة المائدة، الآية 39.
80
57
الفصل السادس: التوبَة
1- التائب محبوب عند الله تعالى:
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[1].
وروي عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة"[2].
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ الله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها"[3].
2- التوبة حسنةٌ تمحو السيّئات، وتنير القلب بالطاعة، وتكشف الظلمة الحاصلة فيه بسبب الذنوب:
قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾[4].
3- التوبة تجعل الإنسان مورداً لثناء الملائكة ودعائها واستغفارها له:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾[5].
[1] سورة البقرة، الآية 222.
[2] زيد بن عليّ، مسند زيد بن عليّ، منشورات لبنان - بيروت، دار مكتبة الحياة، لا.ت، لا.ط، ص471.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص435.
[4] سورة مريم، الآية 60.
[5] سورة غافر، الآية 7.
81
58
الفصل السادس: التوبَة
4- التائبون من أهل الجنّة. وعدهم الله بذلك، وهو لا يخلف الميعاد:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[1].
5- التوبة توجب إطالة العمر، وسَعَة العيش، وتستنزل الرحمة:
قال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾[2].
وقال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾[3].
وروي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "التوبة تستنزل الرحمة"[4].
شروط التوبة وأركانها
التوبة شعبة من الفضل الإلهيّ العظيم، وباب من أبواب الرحمة مفتوح على مصراعيه. والسعيد من عرف أهمّيّة هذا الباب فطرقه وولجه، كما أنّ التوبة من مُخزيات الشيطان الذي يسعى
[1] سورة آل عمران، الآية 135.
[2] سورة هود، الآية 3.
[3] سورة نوح، الآيات 10-12.
[4] الواسطيّ الليثيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص43.
82
59
الفصل السادس: التوبَة
إلى التغرير بالعباد وإضلالهم والإيقاع بهم، ليبعدهم عن رحمة الله، فإذا تاب العبد العاصي ذهبت أتعاب الشيطان وآماله أدراج الرياح، لكنّ للتوبة شروطاً، أهمّها:
1- تعجيلها والمبادرة إليها، خوفاً من تراكم الذنوب واسوداد القلب، وقبل أن يحيط به الرَين، فتتعسّر عليه العودة، مضافاً إلى أنّ الأجل قد يفاجئ العاصي، فعليه أن يبادر إلى التوبة.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾[1].
2- من الشروط ما ورد في الرواية[2] عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ التوبة تجمعها ستّة أشياء:
أولاً: الندم على الماضي من الذنوب.
ثانياً: إعادة للفرائض.
ثالثاً: ردّ المظالم واستحلال الخصوم.
[1] سورة النساء، الآيتان17-18.
[2] انظر: الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، جوامع الجامع، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم المقدّسة، 1421هـ.ق، ط1، ج3، ص594.
83
60
الفصل السادس: التوبَة
رابعاً: العزم على ترك العود.
خامساً: أن يذيب نفسه في طاعة الله، كما ربّاها في معصيته.
سادساً: أن يذيقها مرارة الطاعات، كما أذاقها حلاوة المعاصي.
2- من الشروط ما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ التوبة تجمعها ستّة أشياء:
وهذا التوصيف ناظر إلى ما ورد عنه عليه السلام أيضاً، في قوله لرجل قال بحضرته: أستغفر الله، فقال له الإمام عليه السلام: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ! الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، والثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْه أَبَداً، والثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ، حَتَّى تَلْقَى اللَّه أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، والرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا، فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، والْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ، فَتُذِيبَه بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ، ويَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، والسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ، كَمَا أَذَقْتَه حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّه"[1].
التوبة النصوح
وهي أن يعقد التائب العزم على عدم مقارفة الذنب بعد توبته، ويعمل وَفق ذلك.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص549.
84
61
الفصل السادس: التوبَة
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[1].
وروي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "التوبة النصوح هي أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضـــل"[2].
التوبة ومعاودة العصيان
التوبة -كما تقدّم- عودة إلى الحالة الفطريّة، وإزالة الكدورات التي تعكّر صفو القلب، ولذا كان تأثيرها وفاعليّتها عندما يستيقظ الإنسان ونور الفطرة لم ينطفئ، وقبل أن يستوعب الظلام القلب كلّه.
والتوفيق إلى التوبة النصوح الكاملة بشرائطها ليس صعباً، ومع ذلك، فإنّ ترك الذنب أهون من طلب التوبة، وليس كلّ من طلب التوبة وجدها. فعلى من وُفِّق للتوبة ونال درجتها، أن يكون أحرص على التمسّك بها، والوقوف عند الحدود والطاعات التي يتّقي بها الزلّة والسقوط، فقد لا يوفّق لها ثانيةً، إذا ما عاود الذنب.
[1] سورة التحريم، الآية 8.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، 1379هـ.ق/ 1338هـ.ش، لا.ط، ص174.
85
62
الفصل السادس: التوبَة
لكن مع ذلك، فإنّ رحمة الله بعباده، وكرمه الواسع يأبيان أن يغلقا أمام العبد العاصي باب التوبة مجدّداً، إذا ما طرقه، فإنْ تاب ورجع قَبِلَ الله توبته، فلا ييأسنّ العاصي ولا يقطع رجاءه.
فإنّ الله تعالى إنّما فتح لعباده العاصين هذا الباب، ليسهّل لهم الرجوع إلى ساحة العبوديّة له، وليخزي عدوّه الشيطان الرجيم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لمّا هبط إبليس، قال: وعزّتك وجلالك وعظمتك، لا أفارق ابن آدم حتّى تفارق روحُه جسدَه، فقال الله سبحانه: وعزّتي وجلالي وعظمتي، لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يُغرغر بها"[1].
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قيل له: فإنْ عاد وتاب مراراً؟ قال: "يغفر الله له"، قيل: إلى متى؟ قال: "حتّى يكون الشيطان هو المحسور"[2].
إنّها حرب مستعرة بين الإنسان والشيطان، فيها كرّ وفرّ، وحيثما انتصر الإنسان على الشيطان وجد نفسه في ظلّ رحمة الله، وعلى باب عفوه.
وقد يُتوهّم أنّ فتح باب التوبة بهذا الشكل يغري بالذنوب، وذلك لأنّ أكثر الناس إنّما يمنعهم عن ارتكاب الذنوب خوف العقاب، فإذا أمن العبد ذلك لم يبقَ ما يحول بين العبد وبين إرضاء هواه وإشباع
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العامليّ، طهران، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1409هـ.ق، ط1، ج3، ص147.
[2] الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص146.
86
63
الفصل السادس: التوبَة
لكن مع ذلك، فإنّ رحمة الله بعباده، وكرمه الواسع يأبيان أن يغلقا أمام العبد العاصي باب التوبة مجدّداً، إذا ما طرقه، فإنْ تاب ورجع قَبِلَ الله توبته، فلا ييأسنّ العاصي ولا يقطع رجاءه.
فإنّ الله تعالى إنّما فتح لعباده العاصين هذا الباب، ليسهّل لهم الرجوع إلى ساحة العبوديّة له، وليخزي عدوّه الشيطان الرجيم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لمّا هبط إبليس، قال: وعزّتك وجلالك وعظمتك، لا أفارق ابن آدم حتّى تفارق روحُه جسدَه، فقال الله سبحانه: وعزّتي وجلالي وعظمتي، لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يُغرغر بها"[1].
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قيل له: فإنْ عاد وتاب مراراً؟ قال: "يغفر الله له"، قيل: إلى متى؟ قال: "حتّى يكون الشيطان هو المحسور"[2].
إنّها حرب مستعرة بين الإنسان والشيطان، فيها كرّ وفرّ، وحيثما انتصر الإنسان على الشيطان وجد نفسه في ظلّ رحمة الله، وعلى باب عفوه.
وقد يُتوهّم أنّ فتح باب التوبة بهذا الشكل يغري بالذنوب، وذلك لأنّ أكثر الناس إنّما يمنعهم عن ارتكاب الذنوب خوف العقاب، فإذا أمن العبد ذلك لم يبقَ ما يحول بين العبد وبين إرضاء هواه وإشباع
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العامليّ، طهران، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1409هـ.ق، ط1، ج3، ص147.
[2] الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص146.
86
63
الفصل السادس: التوبَة
نزواته بالمعاصي والذنوب، وقس ذلك على القوانين الوضعيّة، فإنّ عامّة الناس إذا أمنوا العقوبة، ووعدوا بالعفو بمجرّد الندم والتوبة، فسوف يشيع فيهم التساهل بالأنظمة والقوانين، والتمادي في المخالفة.
والحقيقة، إنّ هذا التوهّم ينشأ من قلّة التدبّر في حقيقة التوبة، فكيف يأمن العاصي أن تدركه العقوبة، وهو مستغرِق في المعصية! وليست التوبة أماناً من ذلك، وإنّما هي إقالة العاثر والعفو عنه إذا ندم وعاد إلى دائرة الطاعة قبل أن يؤخذ، وأصلح ما أفسد من عمله. وليست التوبة مجرّد قول يظهره التائب بعد الوقوع في قبضة السلطة - كما في الأنظمة الوضعيّة -، وإنّما هي حالة قلبيّة قبل كلّ شيء، يطّلع عليها من لا تخفى عليه خافية، فإذا كان عنده ندم حقيقيّ، ورجوع واقعيّ إلى دائرة الطاعة ورَبق العبوديّة، فسوف يقيّده ذلك من التمادي في الذنب ومقارفة المعصية.
وكيف يطمئنّ العاصي المتمادي في المعصية إلى التوبة، آملاً الرجوع والتوبة فيما بعد! ومن الذي يضمن له البقاء إلى غدٍ ليتوب فيه! وإذا ضعف الآن أمام مغريات الهوى وتسويلات النفس الأمّارة بالسوء، فما الذي يضمن له عدم السقوط أمامها غداً! وإذا لم يوفّق للتوبة اليوم، فكيف يطمئنّ إلى أنّه سيوفّق غداً، وقد يزداد قلبه ظلمة بسبب الذنوب الجديدة فالأمر بالعكس تماماً، إنّ التوبة تجذب العاصي إذا استيقظ من غفلته، وتفتح له باب العودة إلى سواء السبيل، وإصلاح حاله، وتدارك ما فسد منها، ولا تتركه طعمة اليأس والقنوط الذي يدفعه عادة إلى التمادي والإيغال في المعاصي.
87
64
الفصل السادس: التوبَة
آداب التوبة وكمالها
1- غسل التوبة:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله لمن تاب: "قم، فاغتسل، وصلّ ما بدا لك، فإنّك كنتَ مقيماً على أمرٍ عظيم، ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك!"[1].
2- الصلاة:
صلاة ركعتين أو أربع ركعات، بالفاتحة والإخلاص ثلاث مرّات، والمعوذتين، والاستغفار سبعين مرّة، والدعاء بعد الصلاة بهذا الدعاء: "لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاّ بِالله العَلِيِّ العَظِيمِ، يا عَزِيزُ يا غَفَّارُ اغْفِرْ لِي ذُنوبِي وَذُنُوبَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ أَنْتَ"[2].
3- صيام ثلاثة أيّام:
عن الإمام الصادق عليه السلام - في قول الله عزّ وجلّ: ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾، قال: "هو صوم الأربعاء، ويوم الخميس، ويوم الجمعة"[3].
وورد استحباب صيام يوم واحد على الأقلّ[4].
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج1، ص80.
[2] ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى جعفر، إقبال الأعمال، تحقيق: جواد القيّوميّ الأصفهانيّ، طهران، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1415هـ.ق، ط1، ج2، ص20.
[3] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص174.
[4] لم نعثر عليه.
88
65
الفصل السادس: التوبَة
4- الاستغفار ودعاء التوبة:
الوارد في الصحيفة السجّاديّة رقم (31)، ومناجاة التائبين.
5- الاستغفار والتضرّع:
اختيار وقت السحر للاستغفار والتضرّع، لقوله تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[1].
[1] سورة الذاريات، الآية 18.
89
66
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
معنى النيّة ودورها في صلاح العمل
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[1].
النيّة هي القصد إلى الفعل، وهي واسطة بين العلم والعمل، فإنّه ما لم يُعلَم الشيء لم يمكن قصده، وما لم يُقصَد لم يصدر عن الجارحة.
وكلّ عمل يصدر عن الإنسان لا بدّ له من باعث ودافع يدفع العامل إلى قصده وإنجازه. وهذا الباعث هو أمر دخيل في القصد. فالغاية المطلوبة تخطر بالبال أوّلاً، ثمّ تحرّك الرغبة نحوها، والرغبة تحرّك العزم، والعزم يحقّق النيّة، والنيّة تحرّك الجوارح باتّجاه الفعل.
فالنيّة - إذاً - بداية الطريق نحو الصلاح والفساد، فإذا صلحت النيّة صلح العمل، وإذا فسدت النيّة فسد العمل. وهي وإنْ لم تكن علّة تامّة للعمل، حيث إنّه ليس كلّ من نوى شيئاً قدر عليه، وليس كلّ من قدر على شيء وفّق له، لكنّ النيّة تصبغ العمل بصفات
[1] سورة الأنعام، الآية 162.
93
67
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
الحُسن والقبح، وسمات الصلاح والفساد، والخير والشر... وغير ذلك.
وهذا هو المقصود في الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال: "إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"[1].
فكلّ عمل يصنّف على أساس النيّة، وعلى أساس الباعث والدافع إليه، فالصلاة - مثلاً - يمكن أن تقع عبادة لله، إذا جاءت عن نيّة خالصة، وكانت الغاية منها هي الانقياد لله تعالى والطاعة له، أو كانت الغاية تحصيل ثوابه والتخلّص من عقابه. كما يمكن أن لا تعدّ الصلاة عبادة لله، وذلك عندما تقع لغيره، كأن تقع لأجل السمعة والرياء، ولكي لا يسقط المصلّي من أعين الناس لو تركها وتزول ثقتهم به، فيضرّ ذلك في مصالح دنياه، ولأجل ذلك لا تحقّق مثل هذه الصلاة غاياتها التي شرّعت من أجلها، كما ورد في النصوص الدينيّة، منها:
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾[2].
[1] ابن أبي جمهور الإحسائيّ، محمّد بن عليّ، عوالي اللآلي، تقديم: شهاب الدين النجفيّ المرعشيّ، تحقيق: مجتبى العراقيّ، ط1، قم المقدّسة، مطبعة سيّد الشهداء، 1403هـ.ق/ 1983م، ج1، ص81-82.
[2] سورة العنكبوت، الآية 45.
94
68
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
وفي الحديث المرويّ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة معراج المؤمن"[1].
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ صِيَامِه إِلَّا الْجُوعُ والظَّمَأُ، وكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ قِيَامِه إِلَّا السَّهَرُ والْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الأَكْيَاسِ وإِفْطَارُهُمْ"[2].
فعندما نجد أنفسنا نصلّي ولا تمنعنا صلاتنا عن ارتكاب الفحشاء والمنكر، ولا تسمو بنا عن حبّ الدنيا، ولا تقرّبنا إلى الله، فلا نشعر أنّنا بحالة من الصفاء وحالة من الارتباط الوثيق بالله، ولا نشعر في قلوبنا بعد ذلك اللقاء العباديّ بحالة جديدة، كما يشعر الإنسان بعد لقائه بأحد أعزّائه أو قادته، ذلك كلّه، لأنّنا لا نجعل من عبادتنا وصلاتنا لقاءً حقيقيّاً، فصلاتنا قد لا تخرج عن كونها حركات اعتدنا عليها، ومجرّد كلمات نستظهرها.
وكذلك الإنفاق والبذل في جهات البرّ قد يقع خالصاً لوجه الله، فتترتّب عليه آثاره المرجوّة في الدنيا والآخرة، وربّما وقع بنيّة مشوبة بما يفسدها، كما لو أنفق ماله لأجل السمعة، أو ليصرف إليه وجوه الناس، ويتأمّر عليهم، أو ليكون له المنّة عليهم، فلن يجني من إنفاقه عند الله إلّا الخسران، ولن يترتّب على مثل هذا الإنفاق آثار الصدقة الواردة في الأخبار.
[1] الفخر الرازيّ، محمّد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (تفسير الرازيّ)، لا.ن، لا.م، لا.ت، ط3، ج1، ص266.
[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص495.
95
69
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
والأمر نفسه في طلب العلم أيضاً، حيث روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار. إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها"[1].
فالنيّة - إذاً - هي أساس العمل، وهي التي تعطي العمل قيمته الحقيقيّة، وتصنّفه تحت عنوانه الصحيح.
روي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أغزى عليّاً عليه السلام في سريّة، وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريّته، فقال رجل من الأنصار لأخ له: اُغز بنا في سريّة عليّ، لعلّنا نصيب خادماً أو دابّة أو شيئاً نتبلّغ به، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله، فقال: "إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله - عزَّ وجلّ -، فقد وقع أجره على الله - عزَّ وجلّ -، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً، لم يكن له إلّا ما نوى"[2].
وحيث إنّ قيمة العمل تقوم على أساس النيّة، ولا اعتداد بالعمل بلا نيّة، صحّ أن يُقال إنّ النيّة هي العمل، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عزَّ وجلّ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[3], قال: "ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة: خشية الله، والنيّة الصادقة، والخشية، ثمّ قـال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل، والعمل
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص47.
[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص618.
[3] سورة هود، الآية 7.
96
70
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله - عزَّ وجلّ، النيّة أفضل من العمل، ألا وإنّ النيّة هي العمل"، ثمّ تلا قوله عزَّ وجلّ: " ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[1]، يعني على نيّته"[2].
مراتب النيّة
تختلف مراتب الناس في العلم والتقوى والصلاح، وتبعاً لذلك يختلفون في الغايات التي يقصدونها في أعمالهم، وعليه، فيمكن أن نتصوّر للنيّة مراتب عدّة، هي:
1- نيّة مَن عمل خوفاً من العقاب، وحذراً من العذاب.
2- نيّة مَن عمل رغبةً في الثواب، ورجاءً له.
3- نيّة مَن عبد الله شكراً له على نعمه وعطاءاته، وعمل لأجل ذلك.
4- نيّة مَن عبد الله حياءً من مخالفته وعصيانه، بعد أن أدرك مقتضى العبوديّة له -سبحانه-.
5- نيّة مَن عبد الله شوقاً إليه، ورغبةً في التقرّب إليه.
6- نيّة مَن عبد الله، لأنّه وجده أهلاً للعبادة، وأدرك عظمته.
7- نيّة مَن عبد الله حبّاً له، واستجابةً للتعلّق القلبيّ الذي وجده في داخله تجاهه.
[1] سورة الإسراء، الآية 84.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص47.
97
71
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
وهذه المراتب كلّها مراتب النيّة الصالحة التي لم يشبها شيء من مقاصد الدنيا. ولا يمنع صلاح النيّة كون بعض مراتبها تتعلّق بصرف العقاب أو جلب الثواب الأخرويّ، فإنَّ المانع من صلاح النيّة وخلوصها أن يشوبها شيء من أغراض الدنيا والتقرّب لغير الله تعالى.
وقد يتخيّل بعضٌ أنّ قصد النجاة من النار، والفوز بالجنّة ينافي الإخلاص، باعتبار أنّ هذه النيّة غايتها دفع الضرر عن النفس أو جلب المنفعة لها، فالقصد والغاية لا زالا في دائرة النفس، وإخلاص النيّة أن تكون لله لا يشوبها شيء، لكنّ هذا يدفعه ما ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾[1]، ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[2]، ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾[3].
وفي كتابٍ لأمير المؤمنين عليه السلام في بعض أوقافه: "هذا ما أوصى به، وقضى به في ماله، عبد الله عليٌّ، ابتغاء وجه الله، ليولجني به الجنّة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عنّي يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوه"[4].
وهذا لا ينافي كونه عليه السلام في أعلى مراتب الإخلاص، فهو على الأقلّ يدخل في باب التعليم والتوجيه، وهو يكفي. فإخلاص النيّة لله هو الانبعاث عن أمره ونهيه، سواء كان خوفاً من عقابه، أو
[1] سورة الأعراف، الآية 56 .
[2] سورة الأنبياء، الآية 90.
[3] سورة الإنسان، الآية 10.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص49.
98
72
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
طمعاً بثوابه، أو انبهاراً بجمال جلاله وإقراراً بعظمته.
فإذا غلب على المصلّي الانشغال بأمور الدنيا والتفكير فيها، وجعل الصلاة من أجلها تحصيلاً للسمعة والرياء، لم يكن عمله بنيّة خالصة ولا صادقة، وإنْ قال: أصلّي قربةً إلى الله، لأنّ العبرة بالقصد لا بالقول. وكذلك إذا غلب على المدرّس والأستاذ حبّ الشهرة وإظهار الفضيلة، فليس عمله عن نيّة صلاح.
ويشترط في صحّة التكاليف العباديّة إخلاص النيّة، بأنْ لا يدخل فيها مع الله تعالى قصد غيره من المعبودين، لتقع العبادة انقياداً وإذعاناً لأمره دون الأغراض الأخرى. وأمّا الأعمال غير العباديّة، فإنّ اتّصافها بالانقياد والإذعان وترتّب بعض الآثار يتوقّفان على النيّة الخالصة أيضاً.
نيّة المؤمن خيرٌ من عمله
روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "نيّة المؤمن خيرٌ من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله، وكلّ عاملٍ يعمل على نيّته"[1].
يظهر من هذا الحديث أهمّيّة النيّة ودورها، لكنّ هذا لا يعني أنّ الأفضل هو الاقتصار على النيّة والاجتزاء بها عن العمل، كما قد يتوهّم بعض البسطاء، وإنّما المراد هو إبراز ما في سريرة المؤمن والكافر، وما فيها من الدفائن التي هي أساس العمل وأصله. وقد ذكر في بيان المراد من الحديث وجوه، هي:
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص84.
99
73
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
الأوّل: إنّ المراد من نيّة المؤمن، اعتقاده الحقّ، ونيّة الكافر، اعتقاده الباطل. ولا شكّ في أنّ العقيدة أهمّ من العمل، فعقيدة الحقّ خيرُ الأعمال وباب قَبولها، وعقيدة الباطل توجب ردّ الأعمال والخلود في النار.
وهذا التوصيف ناظر إلى ما ورد عنه عليه السلام أيضاً، في قوله لرجل قال بحضرته: أستغفر الله، فقال له الإمام عليه السلام: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ! الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، والثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْه أَبَداً، والثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ، حَتَّى تَلْقَى اللَّه أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، والرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا، فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، والْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ، فَتُذِيبَه بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ، ويَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، والسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ، كَمَا أَذَقْتَه حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّه".
الثاني: إنّ المراد تقويم النيّة بشكل عامّ، فالمؤمن ينوي الخير دائماً، وقد لا يوفَّق لأدائه على مستوى الكمّ وعلى مستوى الكيف، فينوي الإتيان بالكثير من الأعمال الصالحة ولا يحالفه التوفيق لأداءها، وينوي الإتيان بالطاعات على أفضل وجه، فلا يتيسّر له ذلك كما أراد، فنيّته دائماً تتعلّق بالأفضل وبالأكثر حسناً، وما يأتي به دونها مستوىً، فكانت النيّة عنده أفضل من العمل، وأمّا الكافر فبالعكس تماماً، لأنَّه ينوي الشرّ دائماً، ولا يتهيّأ له كلّ ما نوى وكيفما نوى، فكانت النيّة عنده شرّاً من العمل.
ولعلّ هذا ما يشير إليه بعض النصوص الأخرى، منها:
ما روي من أنّه سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الخلود في الجنّة والنار، فقال: "إنّما خلّد أهل النار في النار، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا لو بقوا أن يطيعوا الله أبداً ما بقوا، فالنيّات تخلّد هؤلاء وهؤلاء"، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[1]، قال: على نيّته"[2].
[1] سورة الإسراء، الآية 84.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص85.
100
74
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
الثالث: إنّ النيّة لمّا كانت هي الباعث على العمل وأصله وعلّته، والعمل فرعها، فنيّة المؤمن أصل الخير، ونيّة الكافر أصل الشرّ، فكانت لأجل ذلك خيراً من العمل، وشرّاً منه، بهذا اللحاظ.
الرابع: إنّ النيّة روح العمل، والعمل بمثابة البدن لها، وما يلحق البدن من صفات الخير والشرّ تابع للروح وناشئ منها، فكما أنّ الروح هي الأصل، فكذلك النيّة صفة العمل آتية من قبلها.
وربّما كانت هذه الوجوه جميعاً مقصودة، لتقاربها، ولكونها مجموعة لحاظات تلتقي على محلّ واحد، فالنتيجة التي يمكن الالتزام بها، والتي تتناسب مع ذيل الحديث هي: أنّ النيّة أساس العمل وعلّته، وهي المحرّكة للجوارح، وهي تتّبع وضع القلب، فكلّما كان القلب صافياً نقيّاً، خالياً من الكدورات، وعامراً بحبّ الله، وزاهراً بنوره، جاءت النيّة صادقة وخالصة، وانعكست على العمل، فأعطته قيمة عالية، وكذلك العكس عندما يكون القلب مظلماً، خالياً من حبّ الله ومن التعلّق به، انعدمت فيه البصيرة، وعلاه الرين، وامتلأ بالزيغ، فلا تصدر عنه إلّا النيّة الفاسدة، ولا ينتج عنها إلّا العمل الخبيث، ولمّا كانت قدرات الإنسان، مؤمناً كان أو كافراً، محدودة، جاء العمل دون النيّة، كمّاً وكيفاً، وأقلّ تأثيراً من النيّة.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات، بتخليص النيّة لله في الأمور كلّها، قال الله عزَّ وجلّ:
101
75
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[1]"[2].
وبهذا تظهر أهمّيّة إخلاص النيّة وتصفيتها، فإذا سلمت النيّة، سلم القلب وسلم العمل، فمن هنا يبدأ جهاد النفس، والصلاح والفساد.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الوسيلة أنّه قال: "تصفية العمل أشدّ من العمل، وتخليص النيّة عن الفساد أشدّ على العاملين من طوال الجهاد"[3].
حيث إنّ تصفية العمل بتصفية النيّة وتخليصها من شوائب الكدورات والشرك وحبّ الدنيا. وهذا هو الذي جعله عليه السلام يعقبه بالكلام عن صعوبة تخليص النيّة عن الفساد، وهو الجهاد الأكبر الذي لا ينقطع ولا يقف عند حدّ. فطوبى لمن جاهد نفسه وغلبها وأمسك بزمامها.
وعليه، تظهر بصورة جليّة أهمّيّة النيّة ودورها في صفاء القلب والثواب والعقاب، من خلال النصوص الواردة في شأن من بلغه ثواب على عمل، فعمله رجاء ذلك الثواب، ومن بلغه رغبة مولاه في شيء، فجاء به رجاء تحقيق رغبة المولى، فإنّ هذا الانقياد يُعدّ حسناً ودليل خير، وإنْ تبيّن بعد ذلك أنّ المولى لم يكن له رغبة في ذلك ولا طلبه واقعاً.
[1] سورة الشعراء، الآيتان 88 ـ 89.
[2] "مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة" المنسوب للإمام الصادق عليه السلام، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1400ه - 1980م، ط1، ص53.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص24.
102
76
الفصل السابع: النيّة والإخلاص
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "من بلغه ثواب من الله على عمل، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب، أوتيه، وإنْ لم يكن كما بلغه"[1].
وقد جعلت هذه الروايات أساساً لقاعدة فقهيّة أُطلق عليها اسم: "قاعدة التسامح بأدلّة السنن"، وهي تدلّ على أنّ الثواب والعقاب يتركّزان أوّلاً وبالذات على الانقياد والطاعة والنيّة الخالصة الصالحة، فمن صلحت نيّته، صلح أمره وصلح عمله، ومن فسدت نيّته، فسد أمره وفسد عمله.
فالدين - إذاً - لا يقوم إلّا بالنيّة الصادقة، ولا تثبت النيّة الصادقة إلّا بالعمل.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص87.
103
77
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
معنى التوكّل
التوكّل على الله يعني الاعتماد عليه والاطمئنان إليه، وذلك أنّه تعالى خالق كلّ شيء، ومدبّر كلّ أمر، وإليه ترجع الأسباب كلّها، وكلّ سبب دونه مقطوع، فلازم اتّخاذه ربّاً ووليّاً في جميع الأمور إرجاع أمر التدبير إليه، بالانقطاع عن الأسباب الظاهريّة، والركون إليه تعالى، وهو معنى التوكّل.
فالتوكل مأخوذ من الوكالة، يقال: وكَلَ أمره إلى فلان، إذا أحاله عليه، وفوّضه إليه.
والتوكّل في اللغة له استعمالان:
الأوّل: يقال: توكّلت لفلان، بمعنى تولّيت له أمره، وصرت وكيلاً عنه.
الثاني: يقال: توكّلت على فلان، إذا جعلته وكيلاً ومعتمداً في أموري[1].
والمعنى الثاني هو المقصود بالبحث.
والتوكّل على الله من ثمرات التوحيد الخالص، ومن الفضائل
[1] راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص734-736.
107
78
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
التي لا تُنال إلّا بالوصول إلى جوهر التوحيد وحقيقته، أي الإقرار بأنَّه تعالى لا فاعل غيره ولا مؤثّر سواه، وكلّ أمر من أمور التكوين مرجعه ومردّه إليه، ومنه تستمدّ وجودها وبقاءها.
مراتب التوكّل ودرجاته
فللتوكّل درجات عدّة، تبعاً لدرجة الإيمان ومستوى المعرفة، وهي:
الدرجة الأولى:
درجة الموحّدين الذين يعرفون أنّ الباري عزَّ وجلّ هو الحقّ، وهو خالق كلّ شيء، لكنّ توحيدهم هذا ناقص، فهم يغفلون عن عدم استقلاليّة الأسباب المادّيّة والظاهريّة، فيتمسّكون بها، فيلاحظ أنّهم يؤمنون بقدرة الله - سبحانه - وسلطانه المطلق، لكنّهم يتّكلون في شؤونهم الدنيويّة على غيره، ويعتمدون على الأسباب الظاهريّة عمليّاً، وإنْ أقرّوا بألسنتهم خلاف ذلك.
الدرجة الثانية:
درجة الموحّدين الذين صدّقوا بأنَّ الله تعالى مقدّر الأمور، ومُسَبّب الأسباب، والمؤثّر الأوحد في الوجود، ولا حدود لقدرته وتصرّفه، وهؤلاء يتوكّلون على الحقّ - سبحانه - عن طريق العقل، أي أنّ أركان التوكّل عندهم تامّة بالدليل العقليّ أو النقليّ، وهذه الأركان هي:
1- إنَّ الله تعالى عالِم بحاجات العباد.
108
79
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
2- إنَّه تعالى قادر على تلبية تلك الحاجات.
3- إنَّه ليس في ذاته المقدّسة، بخل.
4- إنَّه تعالى رؤوفٌ بالعباد، رحيمٌ بهم.
فلا بدّ من التوكّل عليه، لأنّه هو العالم القدير، الكريم، الرحيم بالعباد، وهو القائم بمصالحهم. وأصحاب هذه الدرجة من المتوكّلين عمليّاً، لكنّهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان الخالص، فإنّ عقولهم في صراع مع قلوبهم التي لا زالت متعلّقة بالأسباب.
الدرجة الثالثة:
وهي درجة الذين وصلوا بقلوبهم إلى معرفة الله عزَّ وجلّ، فآمنوا، فحازوا درجة المتوكّلين المتمسّكين بأسباب الله، والمنقطعين عمّا سواه.
روي عن الإمام الكاظم عليه السلام في تفسير قول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[1]، فقال: "التوكّل على الله درجات، منها: أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضياً، تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها وفي غيرها"[2].
وقد عبّر بعض العرفاء عن هذا المقام بالقول: "التوكّل طرح البدن في العبوديّة وتعلّق القلب بالربوبيّة"[3]، و"التوكّل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين..."[4].
[1] سورة الطلاق، الآية 3.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص65.
[3] التستري، سهل بن عبد الله، تفسير التستري، منشورات محمد علي بيضون / دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1423، ط1، ص54.
[4] الطريحي، الشيخ فخر الدين، تفسير غريب القرآن، تحقيق وتعليق: محمد كاظم الطريحي، انتشارات زاهدي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص485.
109
80
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
وقد وُصِفَ حال المتوكّلين في الدرجات الثلاث بالآتي:
الدرجة الأولى: أن تكون حاله في حقّ الله والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.
الدرجة الثانية: أن تكون حاله مع الله كحال الطفل مع أمّه، فإنّه لا يعرف غيرها، ولا يفزع إلى سواها. والفرق بين حالة الأوّل، وحالة الثاني، أنّ الأخير متوكّل قد فُنِيَ في توكّله، وغفل عن توكّله، فهو لا يلتفت إلى التوكّل وحقيقته، بل إلى المتوكّل عليه فقط، بينما الأوّل، فمتوكّل بالكسب والتكلّف وليس فانياً ولا غافلاً عن توكّله، بل ربّما توكّله صار صارفاً له عن ملاحظة المتوكَّل عليه وحده.
الدرجة الثالثة: وهي أعلاها، أن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته، مثل: الميّت بين يدي الغاسل، وهذا الإنسان قد قوي يقينه بأنَّ الله مجري الحركة والقدرة والإرادة والعلم وسائر الصفات.
وخلاصة القول: إنّ التوكّل على الله يتطلّب الثقة بالله سبحانه والانقطاع عمّن سواه، فهو من مظاهر التوحيد ودرجاته. فإنّ التخلّي عن الأسباب الظاهريّة وترك التعلّق بغير الله، إنّما ينشأ من شدّة الوثوق بالله تعالى، وشدّة الوثوق بالله تحتاج إلى دقّة في المعرفة، ولذا، فإنّ تمام الإيمان الثقة بالله، وتمام التقوى التوكّل عليه.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من أحبّ أن يكون أتقى الناس، فليتوكّل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس، فليكن بما عند الله عزَّ وجلّ أوثق منه بما في يده"[1].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص381.
110
81
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتَّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّه أَوْثَقَ مِنْه بِمَا فِي يَدِه"[1].
آثار التوكّل
تظهر آثار التوكّل على الله تعالى في حركة المؤمن وسعيه إلى مقاصده، وذلك في أموره الدنيويّة التي لا تخرج عن ثلاثة أغراض، هي:
1- جلب المنافع المفقودة.
2- حفظ المنافع الموجودة.
3- دفع المضارّ التي لم تنزل، وإزالة المضارّ التي نزلت.
فإنّ الإنسان، مهما امتلك من قدرات، وتوافر لديه من أسباب وأدوات، وبلغت ثقته بنفسه، وخبرته في معالجة الأمور وتدبيرها، فإنَّ هذا لا يجعله يستغني عن ربّه الذي يمسك بحبل الأسباب وإليه ترجع الأمور، ولا يخرج عن سلطانه شيء، ولا يمكن أن يتحقّق شيء إلّا بأمره وبإذنه، فهذا يعني أنّ الإنسان بدون الله سبحانه عاجز جاهل فقير.
فلا ينبغي أن يعتمد الإنسان على قوّته، وخبرته، والأسباب المتوافرة لديه، لأنّ الله تعالى قادر على سلبها منه، وقادر على إفقاره وإهلاكه، وفي الوقت نفسه فإنّه - سبحانه - قادر على أن يعوّضه عمّا ذهب، لكنّ هذا لا يعني أن يترك الإنسان الأسباب
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص529.
111
82
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
الظاهريّة، فيترك - مثلاً - طلب الرزق، ويترك الاحتياط في حفظ ما في يده من الخيرات، ويهمل الوقاية والتداوي من الأمراض، والإعداد لدفع العدوّ، بل يجب عليه أن يعدّ لكلّ شيء عدّته، فيسعى، ويعمل، ويطلب الرزق من الله، ويتناول الدواء، ويرجو الشفاء من الله، ويقاتل عدوّه ...، دون أن يجعل اعتماده واتّكاله على تلك الأسباب الطبيعيّة، فإنّ الرزق لا يأتي عن طريق السعي فحسب، وإنّما هو من الله، لكنّه تعالى جعل الأرزاق منوطة بالطلب والسعي، لذلك ورد الحثّ على طلب الرزق، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"[1].
وروي أنّه سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن رجل فقير أصابته الحاجة، قال: "فما يصنع اليوم؟، قيل: في البيت يعبد ربّه، قال: فمن أين قوته؟، قيل: من عند بعض إخوانه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: والله، للذي يقوته أشدّ عبادةً منه"[2].
وروي عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال له رجل: لأقعدنّ في بيتي، ولأصلّينّ، ولأصومنّ، ولأعبدنّ ربّي، فأمّا رزقي فسيأتيني، فقال عليه السلام: "هذا أحد الثلاثة الذين لا يُستجاب لهم"[3].
وفي مورد محاربة العدوّ، وردت نصوص عدّة تحثّ على تهيئة الأسباب الظاهريّة، منها:
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص78.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص510.
112
83
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[1].
وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوسائل الطبيعيّة والأسباب الظاهريّة كلّها في حربه وسلمه، وهو ما يدلّ على عدم التنافي أبداً بين التوكّل على الله تعالى والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه، وبين السعي والعمل والإعداد والاستعداد.
إنّ التوكّل على الله لن يؤدّي إلى العجز أو الضعف والوهن، وإنّما يبعث في الإنسان الثقة والقوّة والعزيمة والطمأنينة، ويعصمه من الاستسلام لليأس والقنوط، كما يقيه من الغرور والعجب، عندما يرى أمانيّه ومقاصده تتحقّق.
لكنّ الإنسان عندما يصل إلى مرامه، ويرى النعم تنهمر عليه، يغفل عن الله سبحانه، وينسى أنّ من أعطاه كان قادراً على أن يحرمه، وهو قادر فعلاً على استرجاع ما أعطاه، كما حصل لقارون: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ
[1] سورة الأنفال، الآية 60.
113
84
الفصل الثامن: التوكّل على الله تعالى
فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾[1].
الفرق بين التوكّل والتواكل
ما تقدّم يلقي الضوء على الفرق بين التوكّل والتواكل، فإنّ التواكل معناه ترك السعي والعمل، وعدم التعرّض للأسباب أصلاً، وهذا يؤدّي إلى العجز والضعف والذلّ، وهو ما لا يرضاه الله، وقد نهت عنه الشريعة الغرّاء، بينما التوكّل على الله، يضع الإنسان على الطريق الصحيح، فيجعله يطلب الأمور بأسبابها، معتمداً على مسبّب الأسباب، عارفاً بأنّه هو الذي بيده الأمور، فيوظّف الإمكانيّات التي تحت تصرّفه كلّها بكلّ دقّة، ولا يحصر روحه وتعلّقه بتلك العلل والأسباب والعوامل، ويربط نشاطه وفعاليّته ومطالبه كلّها بالقدرة الكبرى، ويعلّقها بالمدبّر الذي لا يعجزه شيء ولا يفوته أمر.
[1] سورة القصص، الآيات 76-81.
114
85
الفصل التاسع: الإيثار والمواسَاة
معنى الإيثار
الإيثار هو تفضيل غيرك على نفسك وتقديمه عليها. تقول: آثرت فلاناً على نفسي، أي قدّمته، وفضّلته، وخصصته بما لم أخصّ به نفسي.
قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1].
وقال تعالى: ﴿قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾[2], أي فضّلك وقدّمك.
والإنسان الذي يستطيع التخلّص من عقدة "الأنا"، ويمحو عن نفسه آثار الأنانيّة وحبّ الذات، ويتجاوز حبّ الدنيا والتعلّق بها، يَسهل عليه بلوغ هذه المرتبة العظيمة التي يُتوّج بها مسيرته الجهاديّة.
وأمّا الإنسان الذي يعيش في أَسر "الأنا"، فإنّه يميل - دائماً - إلى الاستئثار الذي يقابل الإيثار، حيث يكون الشخص متفرّداً بالأشياء لنفسه، ولذلك يُقال في اللغة: استأثر بالشيء على غيره، أي خصّ نفسه، وانفرد، واستبدّ به[3].
[1] سورة الحشر، الآية 9.
[2] سورة يوسف، الآية 91.
[3] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج4، ص8، مادّة "أثر".
117
86
الفصل التاسع: الإيثار والمواسَاة
الإيثار من أسس البناء الاجتماعيّ
حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يؤسّس مجتمعاً تحكمه القيم الأخلاقيّة. وقد كانت المهمّة شاقّة، لأنّه أراد أن ينتقل بالمجتمع من أَسر الجاهليّة والعصبيّة ومستنقع الرذيلة، إلى ساحة القيم الدينيّة والأخلاق السامية. وقد غرس صلى الله عليه وآله وسلم بذور هذه القيم فيه ورعاها بنفسه، وسقاها من فيض روحه الطاهرة وعلمه الربّانيّ، فعمل جاهداً على إحلال الأخوّة الدينيّة محلّ العصبيّة القبليّة، والأخلاق المصلحيّة والمحبّة والتعاون والتكافل محلّ العدوان والظلم والاستغلال والتضحية والإيثار، والمواساة محلّ الأنانيّة والاستئثار وحبّ الذات.
ويمكن القول: إنّ الأخلاق الإسلاميّة السامية كلّها تقوم على مبدأ العطاء والتضحية، مثل: قضاء حوائج المؤمنين، وإدخال السرور إلى قلوبهم، وصلة الأرحام، وعيادة المرضى، والاهتمام بأمور المسلمين، ورعاية حقوق الجيران، والدفاع عن المظلومين، والجهاد في سبيل الله، وإصلاح ذات البين، ومساعدة الفقراء والمساكين، ورعاية الأيتام، وإفشاء السلام، وتشييع الجنائز، وإجابة دعوة المؤمن، والنصيحة للمؤمنين، والتزاور والتواصل، والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواضع، والإحسان، وأمثال ذلك، وكلّها خصال ترسم للمجتمع الإسلاميّ طريقاً نحو السموّ والالتزام بالقيم على قاعدة التضحية والعطاء، بعيداً عن الأنانيّة وحبّ الذات.
وبناءً على ذلك، فإنّ تنمية روح العطاء والتضحية بالنفس من
118
87
الفصل التاسع: الإيثار والمواسَاة
شأنها أن تفتح الباب نحو رياض الفضيلة، والسجايا الأخلاقيّة السامية، بما فيها من تنوّع وتعدّد. وهذه حقيقة نطقت بها مجموعة من النصوص الدينيّة، منها:
قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾[1].
وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّه قال: "الإيثار أعلى المكارم"[2].
العطاء بين المصلحة والإيثار
كثيراً ما يُقدِم الإنسان على البذل والعطاء بدافع المصلحة، فالمجاهد الذي يجاهد بنفسه ودمه، ويتعرّض للأخطار العظيمة، إذا كان هدفه من ذلك المال والغنيمة، وحسن السمعة بين الناس، فجهاده مصلحيّ، والإنسان الذي يتصدّق وينفق أمواله ليكون له بين الناس مكانة اجتماعيّة مرموقة ومنزلة عظيمة، فلا يدخل عمله في باب العطاء والتضحية، فهو في الحقيقة يأخذ ولا يعطي، لأنّه يشتري بماله الذي بذله ما يريد من المكانة والسمعة.
وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى، فيقول: يا ربّ، صلّيت ابتغاء وجهك، فيقال له: بل صلّيت ليقال ما أحسن صلاة فلان! اذهبوا به إلى النار. ويُجاء بعبد قد قاتل، فيقول: يا ربّ قاتلت ابتغاء وجهك، فيقال له: بل قاتلت فيقال: ما أشجع فلاناً! اذهبوا به إلى النار. ويُجاء بعبد قد تعلّم القرآن، فيقول: يا ربّ، تعلّمت القرآن ابتغاء وجهك، فيقال له: بل تعلّمت ليقال: ما أحسن صوت فلان! اذهبوا به إلى النار.
ويجاء بعبد قد أنفق ماله، فيقول: يا ربّ، أنفقت مالي ابتغاء وجهك،
[1] سورة الحشر، الآية 9.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص19.
119
88
الفصل التاسع: الإيثار والمواسَاة
فيقال له: بل أنفقته ليقال: ما أسخى فلاناً! اذهبوا به إلى النار"[1].
وهذا بخلاف العطاء الحقيقيّ الخالص لوجه الله، حيث يتخلّى المؤمن عن ذاته، ويغفل عن نفسه، وينصبّ نظره على ما عند الله تعالى.
إنّ مثل هذا العطاء والبذل والتضحية يترك أثره الإيجابيّ، ويحقّق غاياته المرجوّة، وهو لا يقاس بالمقدار والكمّ، وإنّما يقاس بالكيف وبالروحيّة التي دفعت إليه، إذ ليس البرّ بالكثرة، وإنّما هو بطيب النيّة، وقَبولِه من قبل الله سبحانه.
في خبر عن أبي ذرّ رحمه الله أنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الصدقة أفضل؟ قال: "جهدٌ من مقلّ، في فقير ذي سنّ..."[2].
فمن يعطي ويبذل ممّا فَضُل عنه، فهو فاعل خير ومتصدّق، إذا كان ذلك لوجه الله، لكنّه ليس من المؤثرين، إذ إنّ الإيثار أن يبذل في حال العسر، ويعطي ممّا هو محتاجٌ إليه، فيقدّم قضاء حاجة أخيه المؤمن على قضاء حاجة نفسه.
[1] حسين بن سعيد الكوفيّ، الزهد، تحقيق: ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399ه، لا.ط، ص63.
[2] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص524.
120
89
الفصل التاسع: الإيثار والمواسَاة
فقد تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بخاتم أثناء الصلاة، فنزلت الآية الشريفة في مدحه وبيان فضله، لا لقيمة الخاتم وأهمّيّته، وإنّما لقيمة الفعل ومنزلته. وقد حاول بعض الصحابة أن يحاكوا فعل أمير المؤمنين عليه السلام، عسى أن تنزل بفضلهم الآيات، فتصدّقوا بعشرات الخواتم، لكنْ لم يكن لها قيمة عند الله تعالى.
معنى المواساة وأهمّيّتها في المجتمع
المواساة هي المشاركة والمساهمة في المعاش. واساه وآساه بماله: أناله منه[1]. وقيل لا يكون ذلك إلّا من كفاف، فإنْ كان من فضله، فليس بمواساة. والمواساة قريبة من الإيثار، لكنّ المواساة إشراك الغير فيما عندك، وأمّا الإيثار فهو تفضيله به وتقديمه على نفسك.
ومن جملة حقوق الإخوان والمؤمنين التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المواساة، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة من الله عليه: الإجلال له في عينه، والودّ له في صدره، والمواساة له في ماله، وأن يحرّم غيبته، وأن يعوده في مرضه، وأن يشيّع جنازته، وأن لا يقول فيه بعد موته إلّا خيراً"[2].
[1] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج14، ص35.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص84-85.
121
90
الفصل التاسع: الإيثار والمواسَاة
والمواساة من الأمور التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أساساً للأخوّة، عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، فقد روي أنّه آخى بينهم على الحقّ والمواساة. ومن أوصاف شهر رمضان المبارك أنَّه شهر المواساة، لأنّه يدفع المؤمن الصائم إلى الإحساس بآلام الفقراء والمساكين، فيواسيهم ويبذل لهم ما يرفع من معاناتهم، أو لأنّ المواساة فيه لها من الفضل العظيم ما يفوق ما لها من غيره.
وليست المواساة حكراً على أصحاب المال، فمن الضروريّ أن يربّي الإنسان نفسه على هذه السجيّة، ففي الحديث: "فإن لم يكن له مال يحتمل المواساة، فليجدّد الإقرار بتوحيد الله، ونبوّة محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليجهر بتفضيلنا، والاعتراف بواجب حقوقنا أهل البيت وبتفضيلنا على سائر النبيّين وتفضيل محمّد على سائر النبيّين، وموالاة أوليائنا، ومعاداة أعدائنا، والبراءة منهم كائناً مَن كان، آباءهم وأمّهاتهم وذوي قراباتهم ومودّاتهم، فإنّ ولاية الله لا تُنال إلّا بولاية أوليائه ومعاداة أعدائه"[1].
[1] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهديّ عليه السلام، قم المقدّسة، 1409هـ، ط1، ص595.
122
91
الفصل العاشر: الصدق
تمهيد
يعدّ الصدق من أهمّ القواعد التي يشيّد عليها بناء المجتمعات الفاضلة، وتنتظم بها وحدات الأمم وشرائحها.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدق صلاح كلّ شيء، والكذب فساد كلّ شيء"[1].
من هنا، فإنّ السالك إلى الله، العامل في سبيله، الساعي إلى تزكية النفس وكمالها، لا غنى له عن جلباب الصدق في القول والعمل، واجتناب الكذب.
والإنسان يدرك بفطرته - إذا كان سليم الفطرة - أهمّيّة الصدق، ويميل إلى الالتزام به، ولا يحيد عنه، إلّا بسبب التربية الفاسدة، أو غير ذلك من الأسباب والعوامل التي سوف تأتي الإشارة إليها.
معنى الصدق
عُرِّفَ الصدق بأنّه مطابقة القول للواقع، ويقابله الكذب الذي هو عدم مطابقته للواقع.
[1] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص44.
125
92
الفصل العاشر: الصدق
وهذا التعريف لاحظ الصدق في خصوص القول، ولكنّ القرآن الكريم يستعمل الصدق بمعنى أوسع من ذلك، قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[1].
وقد وصف تعالى المؤمنين الذين تمسّكوا بالبرّ والتقوى، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأوفوا بعهدهم... بالصادقين، وذلك لأنّ الصدق صفةٌ تصاحب جميع الأخلاق، فإنّ الإنسان ليس له إلّا الاعتقاد والقول والعمل، فإذا صدق تطابقت الثلاثة، فلا يفعل إلّا ما يقول، ولا يقول إلّا ما يعتقد. ولا شكّ في أنّ الإنسان لا يقبل أن يُنسب إليه إلّا صفات الفضيلة، فإذا لم يكن عمله مطابقاً لذلك، لم يكن صادقاً. وقد توسّع في إطلاق الصدق على العمل إذا كان صالحاً، لأنّ العمل الصالح يطابق ما يدّعيه أو يحبّ أن يوصف به الإنسان من صفات الصلاح.
وعرّف أمير المؤمنين عليه السلام الصدق والكذب في قوله: "الصدق مطابقة المنطق للوضع الإلهيّ، الكذب زوال المنطق عن الوضع الإلهيّ"[2]. ولعلّ مراده عليه السلام من الوضع الإلهيّ هو الحقّ، فيكون الصدق مطابقة المنطق للحقّ، والكذب زواله عنه، وهو يتناسب
[1] سورة البقرة، الآية 177.
[2] الآمديّ، عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق: مير سيّد جلال الدين (المحدّث)، طهران، جامعة طهران، 1360هـ.ش، ط3، ص387.
126
93
الفصل العاشر: الصدق
مع الاستعمال القرآنيّ، حيث أطلق لفظ الصادق والصادقين على المؤمنين الذين آمنوا وصدّقوا واتّبعوا النهج الإلهيّ.
الصدق عنوان المؤمن
أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام بخصال وسأل الله تعالى أن يعينه عليها، فقال: "أمّا الأولى، فالصدق، ولا تُخرِجنّ من فيك كذبة أبداً"[1].
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أقربكم منّي غداً، وأوجبكم عليَّ شفاعةً، أصدقكم لساناً، وأدّاكم للأمانة، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس"[2].
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدق: عماد الإسلام، ودعامة الإيمان"[3].
هذا لأنّ الصدق باب الفضائل، والطريق الموصل إليها، بينما الكذب مفتاح الرذائل، إذ ليس من مفسدة ولا رذيلة إلّا والكذب مدخلها ومفتاحها. وهذا لا يقتصر على الرؤية الشرعيّة، بل من الأمور التي يدركها الإنسان بعقله وفطرته.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنَّه قال: "إنّ الله عزَّ وجلّ جعل للشرّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ من الشراب"[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص79.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص598.
[3] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص22.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص339.
127
94
الفصل العاشر: الصدق
وعن الإمام العسكريّ عليه السلام: "جعلت الخبائث في بيت، والكذب مفاتيحها"[1].
وعلى الرغم من إدراك الإنسان لقبح الكذب، لكنّ شيوع الرذيلة بين الناس يجعله يفقد الإحساس بشدّة خطورتها، بل قد يجرّه ذلك إلى التساهل بخطورتها، والتآلف معها، عندئذٍ يفقد الحسّاسيّة المفرطة تجاهها، وإذا مارسها بنفسه، فسوف يعتاد عليها، ويغفل نهائيّاً عن قبحها.
ولذا، أتت الأخبار الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام لتنبّه إلى هذه الحقيقة، وتشدّد عليها، حتّى إنّها ألفتت إلى أنّ الإيمان لا يُعرف بالصلاة والصوم، وإنّما بصدق الحديث.
فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش، ولكنْ اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"[2].
ونكتة التركيز على صدق الحديث ترجع إلى أنّ اللسان هو ترجمان القلب، وخطيب الجوارح، وأمين الإنسان على تبليغ آرائه ونقل أفكاره، وهو السفير بين الفرد والأمّة، والصلة التي تربط بين المجتمعات، وتصل بين الأمم.
[1] الديلميّ، الحسن بن محمّد، أعلام الدين في صفات المؤمنين، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص313.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص104.
128
95
الفصل العاشر: الصدق
ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَن صدق لسانه زكا عمله"[1].
كيف يصبح الكذب خُلُقاً؟
كثيراً ما يسرف الإنسان في التعاطي مع بعض الممارسات، نتيجة الجهل بنتائجها وعواقبها، فيصبح خُلقاً عنده، وربّما دفعه إلى تلك الممارسات إرضاءُ غريزة عنده، أو شهوة، أو فضول. والكذب أحد تلك الأمور، بحيث يندفع الإنسان إلى سلوك طريق الكذب للتخلّص من شدّةٍ تواجهه، أو توفير منفعة دنيويّة يحرص على الحصول عليها، أو دفع خسارة يتعرّض لها، وهو غافل عن الأخطار التي تترتّب على هذا النوع من السلوك، وأنّ الإنسان يفقد بذلك ما هو أهمّ ممّا حصل عليه من نفع عاجل، أو يصيبه ما هو أخطر ممّا يريد دفعه بذلك السلوك.
والكذب بقطع النظر عن آثاره الأخرويّة، أو عن الآثار التي يتركها على النفس الإنسانيّة، فإنّه يحرم الإنسان نفسه من فرصة التأمّل، والتفكير المنطقيّ، فإنّ الصعاب التي تواجه الإنسان في حياته عادة يكون لها دور في تنمية طاقاته وصقل مواهبه، وتدفعه إلى التفكير وابتكار الوسائل الطبيعيّة التي توصله إلى أهدافه، لكنْ عندما يسلك طريق الكذب، بوصفه أيسر طريق للوصول إلى مراده، فإنّه في الحقيقة يختار أسلوب الحيلة والخداع الذي لا يتيسّر دائماً، ولا
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص104.
129
96
الفصل العاشر: الصدق
يدوم الأمر حتّى يُكتَشَف ويفقد الإنسان رصيده عند الآخرين من الأمانة والوثوق، ويجد نفسه بحاجة إلى مستوىً أعلى من الكذب والاحتيال، فيرى أنّه لا يمكن أن يعيش بدون الكذب.
وبعد أن يعتاد الإنسان على الكذب يُصبح خُلقاً لديه، ويستسهل أمره، فيكذب حيث يحتاج وحيث لا يحتاج، لأنّه يكون قد فقد فطرته السليمة وذوقه السليم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه الله صدّيقاً، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه الله كذّاباً"[1].
وقد فرّقت النصوص الدينيّة بين الكاذب والكذّاب، فإنّ الثاني اسم فاعل من صيغ المبالغة، استُعملت للإشارة إلى مَن كان قد بلغ الكذب عنده حالة التخلّق والانطباع عليه، فعن عبد الرحمن بن الحجّاج أنَّه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الكذّاب هو الذي يكذب في الشيء؟ قال: "لا، ما من أحدٍ إلّا يكون ذلك منه، ولكن المطبوع على الكذب"[2]، أي المجبول عليه، بحيث صار عادة، ولا يتحرّز عنه، ولا يبالي به، ولا يندم عليه. ولعلّه هو المراد في خبر آخر عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قيل: ويكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: ويكون كذّاباً؟ قال: لا"[3].
[1] الديلميّ، إرشاد القلوب، مصدر سابق، ج1، ص132.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص340-341.
[3] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص118.
130
97
الفصل العاشر: الصدق
وإذا ما اعتاد الإنسان على الكذب، اضطربت موازينه وضعفت قدراته، لأنّه يصرف جلّ تفكيره وطاقاته في ابتكار أساليب الكذب، فيصبح خبيراً، حتّى إنّ الشيطان يحتاج إليه، ويستعين به في تنفيذ أهدافه.
روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "إنّ فيمن ينتحل هذا الأمر لمن يكذب، حتّى يحتاج الشيطان إلى كذبه"[1].
أنواع الكذب
1- الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وهو أشدّ أنواع الكذب حرمة، وأكثرها قبحاً، وأسوأها آثاراً ومرتبةً، فهو من الكبائر، وقد ورد في النصّ أنّه من المفطّرات، ومعنى ذلك أن ينسب إليهم ما لم يقولوا ولم يفعلوا من أمور الدنيا والدين. ولا فرق في وضع الرواية عنهم بين أن يكون موضوعها ومضمونها حقّاً أو باطلاً، فربّما زيّن الشيطان للبعض وضع الأخبار بحجّة نشر الدين والطاعات، كمن يضع الأخبار للترغيب في القرآن، والحجّ، والزيارة، وأمثال ذلك.
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص415.
131
98
الفصل العاشر: الصدق
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ قال عليَّ ما لم أقل، فليتبوّأ مقعده من النار"[1].
2- القسم بالله تعالى على أمر كذباً، وهو من الكبائر.
3- الشهادة من غير علم ولغير رؤية، وإنْ كان حقّاً، فهي شهادة زور، لأنّ الشاهد يدّعي المشاهدة، فإذا لم يكن قد رأى ولا شاهد، فهو كاذب بشهادته، ولو كان المشهود عليه حقّاً.
4- الكذب بدافع المزاح والهزل. والمؤسف أنّ هذا النوع لا يعدّه الناس من الكذب المحرّم، بينما يقول أمير المؤمنين عليه السلام -كما روي عنه-: "لا يجد عبد طعم الإيمان حتّى يترك الكذب، هزله وجدّه"[2].
وعن أبي ذر في وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له: "يا أبا ذرّ، مَن ملك ما بين فخذيه، وما بين لحييه، دخل الجنّة (...) إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها، فيهوي في جهنّم ما بين السماء والأرض"[3].
5- الكذب الضارّ، وهو ما يوقع الناس في المفاسد والمهالك الدنيويّة والأخرويّة، وربّما اجتمع مع عناوين أخرى، كالنميمة، والوشاية، والفتنة، وغيرها.
وهذه الأنواع تُضاف إلى الكذب المعروف الذي يمارسه الناس لجلب منافع دنيويّة، ودفع المضارّ الدنيويّة، وتحقيق الأهداف الأخرى التي يسعى من أجلها الإنسان.
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص569.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص340.
[3] الشيخ الطوسيّ، الأماليّ، مصدر سابق، ص525-537.
132
99
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
مسوِّغات الكذب
على الرغم ممّا تقدّم من التشديد على قبح الكذب وحرمته في الجدّ والهزل، وكون النصوص الواردة في النهي عنه وبيان آثاره السيّئة تفوق حدّ الإحصاء، إلّا أنّ ثمّة موارد يجوز فيها الكذب، بل ربّما وجب وحرم الصدق في بعضها، ومن تلك المسوّغات:
1- إصلاح ذات البين:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا كذب على مصلح"[1].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "المصلح ليس بكاذب"[2].
وروي عن أبي كاهل، قال: وقع بين رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلام حتّى تصادَمَا، فلقيت أحدهما، فقلـت: ما لك ولفلان، فقد سمعته يحسن الثناء عليك؟ ولقيت الآخر، فقلت له مثل ذلك، حتّى اصطلحا، ثمّ قلت: أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين، فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "يا أبا كاهل، أصلح بين الناس ولو بكذا وكذا، كلمة لم أفهمها، فقلت: ما عَنَى بها؟ قال: عَنَى الكذب"[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص343.
[2] المصدر نفسه، ص210.
[3] الطبرانيّ، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفيّ، دار إحياء التراث العربيّ، لا.م، لا.ت، ط2، ج18، ص361.
135
100
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
ولعلّ المراد من الكذبة البيضاء التي تشيع تسميتها على ألسنة العوامّ هو هذا المعنى، أي كذبة الإصلاح بين الناس، لا سواها.
ولعلّ سرّ استثناء هذا النوع من الكذب يكمن في أنّ قبح الكذب يرجع إلى كونه يفسد الإنسان، ويذهب بالثقة بين الناس، ويفكّك العلاقات الاجتماعيّة، ويشيع الكثير من المفاسد. وهذا النوع من الكذب على العكس، يزيل المفاسد، ويصلح، ويؤلّف بين القلوب، فيؤثّر أثراً إيجابيّاً مطلوباً.
2- في دفع الظلم والتقيّة:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الكذب مذموم إلّا في أمرين: دفع شرّ الظلمة، وإصلاح ذات البين"[1].
وأدلّة التقيّة التي استفاضت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أكبر شاهد على ما نحن فيه. وهنا لا يفرّق بين دفع الظلم عن النفس وعن الغير.
وعنه عليه السلام أيضاً: "أيّما مسلم سُئل عن مسلم فصدق، فأدخل على ذلك المسلم مضرّة، كُتب من الكاذبين، ومن سُئل عن مسلم فكذب، فأدخل على ذلك المسلم منفعة، كُتب عند الله من الصادقين"[2].
[1] المجلسيّ، العلامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج69، ص263.
[2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد، الاختصاص، تحقيق: عليّ أكبر الغفّاريّ والسيّد محمود الزرنديّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1993م، ط2، ص224.
136
101
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
3- في الحرب إذا اقتضت الحكمة:
وهو ما يطلق عليه اسم خديعة الحرب، فلو توقّفت خديعة العدوّ على الكذب عليهم أو على المسلمين، من أجل إيجاد وضع نفسيّ خاصّ، أو إشاعة معيّنة تقتضيها خطّة الحرب، فإنّه يستثنى من الكذب الحرام، وإنْ أطلق عليه الاسم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار، كلّ الكذب مكتوب كذباً لا محالة إلّا كذب الرجل في الحرب، فإنّ الحرب خدعة، أو يكذب بين الرجلَيْن ليصلح بينهما، أو يكذب امرأته ليرضيها"[1].
والمعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حروبه أنّه كان يمارس مثل هذه الخِدَع التي تنمّ عن خبرة ومهارة في التخطيط. ولا شكّ في أنّ ذلك بتسديد من الباري عزَّ وجلّ.
فقد روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم اعتمد أسلوب الإعلام الحربيّ، وأحياناً الإيقاع بين القبائل المتحالفة والأحزاب المجتمعة، ليفرّقها، ويثير فيها حالة من التشكيك والرعب، ويزرع في نفوس أعدائه الخوف والريبة. ومن هذا القبيل: ما تكرّر من إظهار التكبير الذي هو علامة النصر، ليلقي في قلوب الأعداء الذعر، ويرفع الحالة المعنويّة للمسلمين.
[1] البيهقيّ، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، تحقيق: أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيونيّ زغلول، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1410 - 1990م، ط1، ج4، ص204.
137
102
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
حكم المبالغة
المبالغة على نوعين: نوع منهما يدخل في الكذب، ونوع آخر لا يعدّ منه، فالمبالغة التي تؤدّي إلى إيهام السامع وتشويش الصورة الواقعيّة لا تخرج عن الكذب، وهي صيغة من صيغه.
وأمّا المبالغة التي يكون المقصود فيها معلوماً واضحاً، فهي من الكنايات والاستعارات، مثل: ما جرت العادة به، أن يقال: قلت لك كذا مائة مرّة، وناديتك مائة مرّة، مع أنّ القول والنداء لم يحصل بهذا العدد، وإنّما المراد التعبير عن الكثرة. ومثل هذا الاستعمال يجري في المخاطبات العرفيّة. وكلّ الاستعارات والمجازات من هذا القبيل، فإنّهم يقولون: "زيد كثير الرماد"، كناية عن كرمه، مع أنّه قد لا يكون له رماد أصلاً.
حكم المجاملة
جرى العرف على استعمال عبارات عدّة للمجاملة، لا يقصد معناها الحقيقيّ، أو ربّما قصد إظهار نوع من الاحترام، أو ما شابه من الأغراض. وهي لا مشكلة فيها، ما لم تؤدِّ إلى إيهام السامع وتشويش الصورة الواقعيّة، بحيث لا تخرج عن الكذب حينها.
ومن هذا القبيل: ما يقوله الضيف لصاحب المنزل: لا أشتهي مع كونه يشتهي، وقول صاحب البيت لضيوفه: البيت بيتكم، وعلى الرحب والسعة، ونفي حصول المضايقة، وأنواع الترحيب،
138
103
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
والمجاملات، مع أنّ أكثرها قد يقع مخالفاً لما هو مقدور ولما هو واقع الأمر.
حكم التورية
التورية معناها: الستر والإخفاء[1]، وهو هنا إخفاء الخبر وستره بإظهار غيره، فيكون للّفظ معنيان، معنىً يفهمه المخاطب، ومعنىً آخر يقصده المتكلّم.
وقد روي عن الأئمّة عليهم السلام وأصحابهم استخدام هذا الفنّ في المواقف الحرجة. قال بعض المخالفين في حضرة الإمام الصادق عليه السلام لرجل من الشيعة: ما تقول في العشرة من الصحابة؟ قال: أقول فيهم الخير الجميل، الذي يحطّ الله به سيّئاتي، ويرفع لي درجاتي، قال السائل: الحمد لله على ما أنقذني من بغضك، كنت أظنّك رافضيّاً تبغض الصحابة، فقال الرجل: ألا من أبغض واحداً من الصحابة، فعليه لعنة الله، قال: لعلّك تتأوّل، ما تقول فيمن أبغض العشرة؟ فقال: من أبغض العشرة، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فوثب فقبّل رأسه، وقال: اجعلني في حلٍّ ممّا قذفتك به من الرفض قبل اليوم، قال: أنت في حلّ، وأنت أخي، ثمّ انصرف السائل، فقال له الصادق عليه السلام: "جوّدت،
[1] الخليل الفراهيديّ، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهديّ المخزوميّ والدكتور إبراهيم السامرائيّ، مؤسّسة دار الهجرة، إيران - قم، 1409ه، ط2، ج8، ص301.
139
104
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
لله درّك! لقد أعجبت الملائكة من حسن توريتك، وتلفّظك بما خلّصك، ولم تثلم دينك"[1].
ومن بدائع التورية في مقام التقيّة ما ذُكِر من أنّ حجراً البدريَّ أخذه الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على أن يسبّ عليّاً، فصعد المنبر، وقال: "يا أيّها الناس، إنّ أميركم هذا أمرني أن ألعن عليّاً، ألا فالعنوه لعنه الله"[2].
ولا شكّ في أنّه أراد من الضمائر في قوله (فالعنوه) و(لعنه) الحجّاج نفسه الذي أمره باللّعن.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في قصّة مؤمن آل فرعون: "ولقد كان لحزقيل المؤمن من قوم فرعون، الذين وشوا به إلى فرعون، مثل هذه التورية، كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله، ونبوّة موسى، وتفضيل محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جميع رسل الله وخلقه، وتفضيل عليّ بن أبي طالب عليه السلام والخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيّين، وإلى البراءة من فرعون، فوشى به واشون إلى فرعون، وقالوا: إنّ حزقيل يدعو إلى مخالفتك، ويعين أعداءك على مضادّتك، فقال لهم فرعون: ابن عمّي، وخليفتي في ملكي، ووليّ عهدي، إن كان قد فعل ما قلتم، فقد استحقّ العذاب على كفره نعمتي، وإن كنتم عليه كاذبين، فقد استحققتم أشدّ العذاب، لإيثاركم الدخول في مساءته، فجاء بحزقيل وجاء
[1] المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص12.
[2] ابن شهر آشوب، محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب عليه السلام، تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، النجف الأشرف، المطبعة الحيدريّة، 1376هـ.ق/ 1956م، لا.ط، ج2، ص104.
140
105
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
بهم، فكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبيّة فرعون الملك، وتكفر نعماءه، فقال حزقيل: أيّها الملك، هل جرّبت عليّ كذباً قط؟ قال: لا، قال: فسلهم مَن ربّهم، قالوا: فرعون، قال: ومن خلقكم؟ قالوا: فرعون هذا، قال: ومن رازقكم الكافل لمعايشكم، والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا، قال حزقيل: أيّها الملك، فأُشهدك وكلّ من حضرك: أنّ ربّهم هو ربّي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي ولا خالق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم، وأُشهدك ومن حضرك: أنّ كلّ ربّ وخالق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم، فأنا بريء منه، ومن ربوبيّته، وكافر بإلهيّته. يقول حزقيل هذا، وهو يعني: أنّ ربّهم هو الله ربّي، ولم يقل إنّ الذي قالوا هم إنّه ربّهم هو ربّي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره، وتوهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي وخالقي ورازقي"[1].
ومن أساليب التورية تغيير الحركات الإعرابيّة على نحو يتغيّر المعنى، ويوهم السامع خلاف ذلك، واستعمال المشتركات اللفظيّة، والعدول عن الخبر إلى الاستفهام أو التعجّب، وأمثال ذلك.
والناس يختلفون من حيث قدرتهم على استعمال التورية وابتكار أساليبها. وهي من أفضل وسائل التخلّص دون الوقوع في الكذب.
[1] الطبرسيّ، الشيخ أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج، تعليق: السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386ه - 1966م، لا.ط، ج2، ص131-132.
141
106
الفصل الحادي عشر: مسوّغات الكذب وأحكام المبالغة والمجاملة
وفي الموارد التي يباح الكذب، يحسن بالمؤمن أن يطرق باب التورية، فإنّها أفضل من أن يدنّس لسانه بالكذب، لعلّه إذا فعل، سهل عليه الأمر، وسقطت رهبة ارتكابه.
روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله تعالى جعل هذه التورية ممّا رحم به شيعتنا ومحبّينا"[1].
[1] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص236.
142
107
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[1].
يُعدّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الواجبات والتكاليف الشرعيّة التي نصّ عليها القرآن الكريم، وأكّدتها السنّة الشريفة، وحثّ عليها أئمّة أهل البيت عليهم السلام، لكونهما الضمانة الأولى لحفظ الدين من الضياع، وصيانة المجتمع الإسلاميّ من الفساد والانحراف.
وقد جعلهما الله سبحانه على عاتق كلّ فرد من أفراد المجتمع الإسلاميّ، بما يتناسب مع موقعه وقدراته، لتتشكّل حالة من التكافل الاجتماعيّ في المجال التربويّ والأخلاقيّ، على غرار التكافل الاجتماعيّ في المجال الاقتصاديّ والمعاشيّ الذي وضعت له الشريعة الإسلاميّة سلسلة من الأحكام والقوانين.
[1] سورة التوبة، الآية 71.
145
108
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفي العصر الحاضر، ونتيجة للتطوّر الحضاريّ السريع الذي عمّ العالم أجمع، نجد أنّ وسائل التأثير الثقافيّ والتربويّ قد تطوّرت أيضاً، وتصاعدت بذلك قدرة زعماء الكفر وروّاد الفساد على بثّ سمومهم وأفكارهم المنحرفة، وإيصالها إلى كلّ مكان، مستخدمين أكثر الوسائل الشيطانيّة، إغراءً وإيحاءً، مضافاً إلى السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة التي تمهِّد الأرضيّة الملائمة لنشر الفساد، وزرع بذور التفكّك الخُلُقيّ، بحيث يمكن أن يُقال إنّ مهمّة الأنبياء والرسل عليهم السلام والشرائع السماويّة تتعرّض اليوم لأعتى الحروب وأشرسها، وبوسائل حديثة وفتَّاكة، لذا، يجب العمل على تطوير أدواتنا، وشحذ أسلحتنا، وزيادة استعدادنا، لخوض هذه الحرب بكامل القدرات والإمكانيّات، والسعي إلى ترك التواكل.
معنى المعروف والمنكر
1- المعروف:
اسم مفعول من المعرفة، والمقصود منه: الفعل الذي يُحمد فاعله عند العقلاء والمتشرّعة، فيدخل فيه مجموعة الأخلاق الحميدة، وأفعال الخير، وما يحكم العقل العمليّ بحسنه، ويدخل فيه جميع ما أمرت به الشريعة المقدّسة وندبت إليه.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[1].
[1] سورة النحل، الآية 90.
146
109
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد سمّي المعروف بهذا الاسم، لكونه ممّا يعرف عند العقلاء أو عند المتشرّعة ويُعهد منهم، ولا يُنكر أحد فعله أو اتّصافه به.
2- المنكر:
المقصود من المنكر ما يقابله، أي ما يستنكر فعله العقلاء وأهل الشرع، فتدخل فيه الصفات والسجايا المذمومة والأفعال السيّئة والرذائل، أي ما يحكم العقلاء بقبح فعله أو الاتّصاف به، ويدخل فيه أيضاً ما نهت عنه الشريعة الإسلاميّة، وحذّرت منه، وأمرت باجتنابه.
وقد يُطلق المعروف على معنى أخصّ ممّا تقدّم، وهو خصوص الإحسان أو الخير الذي يُسدى إلى الآخرين. وهذا الإطلاق ورد في كثير من النصوص التي تحثّ على اصطناع المعروف مع الآخرين، منها:
ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اصطنعوا المعروف بما قدرتم عليه، فإنَّه يقي مصارع السوء"[1].
وعنه عليه السلام أيضاً: "أبذل معروفك للناس كافّة، فإنّ فضيلة المعروف لا يعدلها عند الله سبحانه شيء"[2].
الرقابة الذاتيّة والاجتماعيّة
تهدف الشريعة الإسلاميّة إلى كمال الإنسانيّة وتنظيم شؤون
[1] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، مصدر سابق، ص107.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص80.
147
110
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
البشر، وتولي عناية خاصّة بإصلاح الفرد عن طريق الرقابة والمحاسبة النفسيّة، فتعتمد على قدرة الإنسان على التحكّم بقواه الشهوانيّة، وغرائزه الحيوانيّة، بما أوتي من عقل وقوّة مدركة. ومجموعة الأحكام والتعاليم التي تُعنى بهذا الجانب الاستصلاحيّ أُطلق عليها اسم جهاد النفس والجهاد الأكبر.
كما أنّ للشريعة الإسلاميّة عناية خاصّة بالإصلاح من خارج النفس عن طريق الغير، أُطلق عليها اسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي وظيفة الإنسان تجاه بني جنسه، وتجاه مجتمعه، وظيفة تُحمِّل الفرد مسؤوليّة إصلاح المجتمع ومراقبته، كما حمّلته مسؤوليّة إصلاح نفسه ومراقبتها في مرتبة سابقة.
ويحكي لنا القرآن الكريم وصايا لقمان لابنه، وهو يعظه، فيقول: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[1].
حيث جعل الأمر بالمعروف بعد إقامة الصلاة، لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي من أبواب إصلاح النفس، كما أنّ الأمر بالمعروف مسؤوليّة إصلاح المجتمع. وهذا الترتيب طبيعيّ جدّاً، فالنفس أوّلاً، ثمّ الغير. ولا شكّ في أنّ طلب إصلاح الغير قبل إصلاح النفس لن يجد أذناً صاغية، ولن يترك أثراً إيجابيّاً، ففاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الصلاح والهداية ليس أهلاً لإصلاح غيره وهدايته.
[1] سورة لقمان، الآية 17.
148
111
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[1].
وبهذا الترتيب الطبيعيّ ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "... وانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وتَنَاهَوْا عَنْه، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي"[2].
الأسلوب العمليّ في الأمر والنهي
بناءً على ما تقدّم، تظهر أهمّيّة الالتزام العمليّ بالمعروف، حتّى إنّه في كثير من الأحيان يكون الالتزام العمليّ نفسه كافياً في دعوة الآخرين إلى العمل بالمعروف وترك المنكر، فكيف إذا اقترن بالقول!
فيمكن أن نعمّم مفهوم "الأمر" إلى ما هو أوسع دائرة من الأمر القوليّ، فإنَّـه وإنْ كان ظاهر الأمر اختصاصه بالقول، لكنْ باعتبار أنّ الغرض من ذلك تحقيق الالتزام بالمعروف والإتيان به من قبل المأمور، ترتفع خصوصيّة الأمر القوليّ، ويتعدّى ملاك الحكم إلى كلّ أسلوب من أساليب الدعوة إلى المعروف والزجر عن المنكر، فربّما تكون - في بعض الأحيان - الممارسة العمليّة من أفضل وسائل نشر المعروف، كما هي الحال بالنسبة إلى نشر المنكر والفساد.
فللممارسة العمليّة - إذاً - دَوْران مهمّان، دور باعتبارها إحدى وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأساليبه، ودور باعتبارها
[1] سورة يونس، الآية 35.
[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص152.
149
112
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أحد شروط تأثير الأمر اللفظيّ بالمعروف. ومن الطبيعي جدّاً أن لا يجد الداعية إلى الخير وإلى المعروف أيّ نتائج عمليّة في نشاطه التبليغيّ والتربويّ، إذا كان شخصيّاً ممّن يتسامح عمليّاً بالتزاماته، ولا يدعم نظريّاته بالتطبيق، ولا يتقيّد بالتناهي عن المنكرات. ولعلّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد الإشارة إلى هذا الأمر في خطبته التي يقول فيها: "... أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي - واللَّه - مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ، إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا"[1].
فهذه نقطة جديرة بالاهتمام، والوقوف عندها، بالنسبة إلى مؤسّساتنا المتصدّية للدعوة، والتبليغ، والإصلاح، وقيادة المجتمع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن الضروريّ جدّاً التأكيد على عناصر هذه الأجهزة، بأن يتقيّدوا بدقّة بالأحكام الشرعيّة والقوانين الموضوعة من قبل الدولة الإسلاميّة، ليكونوا مثالاً يُقتدى به من جهة، ولتصدِّق أعمالُهم أقوالَهم فيما لو طلبوا من الآخرين التقيّد بها.
وفي مجال التأكيد على الأسلوب العمليّ، يخاطب الإمام الصادق عليه السلام شيعته، فيقول: "كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنّ ذلك داعية"[2].
والمقصود من قوله عليه السلام: "بغير ألسنتكم"، أي بجوارحكم وأعمالكم.
وبهذا تبرز أهمّيّة الأساليب التربويّة وخطورتها، فإنّها في الغالب
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص250.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص78.
150
113
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
تعتمد المؤثّرات غير المباشرة. ومن أهمّ تلك المؤثّرات: شخصيّة المعلّم أو المعلّمة، وما تلعبه من دور في السيطرة على مشاعر الأطفال في المراحل الأولى التي تُعدّ من أفضل المراحل لغرس الصلاح وتلقين الفضائل، حيث تكون نفسه كالصفحة البيضاء، يسهل أن يكتب فيها، وأن ينقش عليها أيّ شيء.
في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن عليه السلام، يقول: "... وإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ، مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْه..."[1].
ويوصي الإمام الصادق عليه السلام أحد أصحابه العاملين على نشر الدين، فيقول: "عليك بالأحداث، فإنّهم أسرع إلى كلّ خير"[2].
ولعلّ مسألة تقديم الأنموذج الحيّ الذي يجسّد المبادئ والمعروف، والقدوة الصالحة، لهو من أهمّ الوسائل في التأثير. وللشريعة عناية خاصّة بهذا الأمر، فقد اعتمدت دائماً الأئمّة المعصومين عليهم السلام للتأسّي والاقتداء، وحاول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يبني بينهم وبين الأمّة رابطة المودّة والمحبّة، التي هي من شروط الانبهار والتأثّر بشخصيّة الأسوة.
ويرى علماء التربية أنّ علاقة المحبّة التي تربط الأطفال بالمربّي أو المربّية تجعل الأطفال يقلِّدون مربّيهم أو مربّيتهم تقليداً أعمى وبكلّ دقّة، دون التفكير والتأمّل، بمعنى الفعل الذي يكتسبونه، بل كثيراً ما يبقى ذلك التأثير إلى سنّ متقدّمة.
[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص393.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص93.
151
114
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولعلّ الكثير من العقائد الفاسدة والعادات التي لا معنى لها قد انتشرت عن طريق الشخصيّات ذات التأثير والإيحاء، فينسحر بها أقوام، ويتابعونهم على أفعالهم بحرفيّة، حتّى تصبح سنناً جارية.
ففي عصرنا الحاضر، يستخدم أصحاب دور الأزياء وصالات العرض النجوم المحبوبة عند الناس، لترويج منتجاتهم، ويدفعون المبالغ الطائلة للمشاهير ليلبسوا تصاميمهم في الأزياء، أو يركبوا عرباتهم، أو يظهروا إلى جانبها، حيث إنّ ذلك يؤثّر تأثيراً ساحراً في بسطاء الناس، ويجعلهم يرغبون في تلك البضائع، لمجرّد تقليد النجوم والشخصيّات.
ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساحتان، تتطلّب كلّ منهما من الأدوات والأساليب والمخطّطات ما يغاير الأخرى، وهما:
1- الساحة الأولى: داخليّة:
وهي ساحة المجتمع الإسلاميّ، الذي يغلب عليه الالتزام بالدين، عقيدة وشريعة. والتركيز هنا يكون على حفظ المجتمع من الانحراف، وتحصينه ضدّ المفاسد الخُلُقيّة والاجتماعيّة، وتعميق ثقافته ووعيه، بما يكفل استمرار المسيرة، وتحقيق أهداف الشريعة.
وفي هذه الساحة: تارة يكون ترك المعروف وارتكاب المنكر حالة فرديّة، فيعمل على إصلاحها، وأخرى يكون حالة جَماعيَّة
152
115
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
منظّمة، وتيّاراً عامّاً، فتتطلّب مواجهة منظّمة أيضاً، وقدرات مُجتمِعَة، وقيادة جادّة قديرة. وإذا أطلق على هذه المواجهة اسم الجهاد، فلا يمنع ذلك من كونه بعضاً من أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ الجهاد إذا اعتمد القوّة والسيف في معالجة الانحرافات الجماعيّة، فإنّ ذلك لا يعني أنّ كلّ جهاد يحتاج إلى السيف، وإنّما هو بعض وسائله.
2- الساحة الثانية: خارجيّة:
وهي المجتمعات غير المسلمة التي لها على عاتق المسلمين الرساليّين حقّ التبليغ والإرشاد والدعوة إلى الدين، وتعريفها بالإسلام ومعارفه ونظامه، بما يتيح لها فرصة الاستنارة بنوره، والاهتداء بهديه، والدخول تحت ظلّه.
وربّما خصّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الساحة الثانية، باسم التبليغ والإرشاد والدعوة، وهذا يُبنى على أساس أنّ ذلك منحصر في تعريفهم بالدين، باعتبار أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُشترط فيه أن يكون المأمور عارفاً بالمعروف والمنكر، وهو هنا، ونتيجة لجهله بأحكام الدين، لا يعرف المعروف ولا المنكر، فلا بدّ أوّلاً من إرشاده إليه، فإذا عرفه ولم يتقيّد به، صار مورداً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، بل ربّما يُفرّق بين الإرشاد إلى المعروف وبين الأمر بالمعروف في المجتمع الإسلاميّ أيضاً، لكنّ العمل في الساحة غير الإسلاميّة لا ينحصر بتعريفهم بالدين، فكثيراً ما يكون
153
116
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المعروف عند المسلمين معروفاً عند غيرهم أيضاً، والمنكر كذلك، كالسرقة التي يستقبحها العقل، فضلاً عن الشرائع، وكالكذب الذي يعتبره جميع البشر منكراً، وغير ذلك، من الزنا، والقتل، والظلم، والجَور، والإخلال بالعهود والعقود.
فالنهي عن مثل هذه المنكرات يدخل في إطار هذه الفريضة. ويمكن بذلك تعديتها إلى المجتمعات غير الإسلاميّة، مع قطع النظر عن دعوتهم إلى الإسلام وإرشادهم إلى تعاليمه القيّمة. وقد يستفاد من بعض الأخبار انطباق عنوان الأمر بالمعروف على إرشاد الجاهل أيضاً.
فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط وسيف فلا"[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص60.
154
117
قائمة المصادر والمراجع
قائمة المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قم، 1392هـ.ق/1972م، ط6.
3- قطب الدين الراونديّ، سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهديّ عليه السلام بإشراف السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ، مؤسّسة الإمام المهديّ، إيران - قم، 1409هـ.ق، ط1.
4- الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363هـ.ش، ط5.
5- الشريف الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد الرضيّ بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ.ق/1967م، ط1.
6- ابن ورّام، ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1368هـ.ش، ط2.
155
118
قائمة المصادر والمراجع
7- مطهّري، الشيخ مرتضى: العدل الإلهيّ، ترجمة: محمّد عبد المنعم الخاقانيّ، بيروت، الدار الإسلاميّة، 1405هـ.ق/1985م، ط2.
8- الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق ونشر: مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، 1414هـ.ق.
9- المفضل بن عمر الجعفيّ، التوحيد، تعليق: كاظم المظفّر، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1404هـ.ق/1984م، ط2.
10- المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الحكايات، السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ.ق/1993م، ط2.
11- الديلميّ، الشيخ الحسن بن محمّد، إرشاد القلوب، إيران - قم، انتشارات الشريف الرضيّ، 1415هـ.ق/1374ش، ط2.
12- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، الأمالي، تحقيق ونشر: مؤسّسة البعثة، قم المقدّسة، 1417هـ.ق، ط1.
13- ابن منظور، محمّد بن مكرم، لسان العرب، لا.ط، قم المقدّسة، نشر أدب الحوزة، 1405هـ.ق.
14- ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن عليّ، تحف العقول، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، 1404هـ.ق/1363هـ.ش، ط2.
15- ابن فهد الحلّيّ، أحمد بن فهد، عدّة الداعي، تصحيح: أحمد الموحّديّ القمّيّ، لا.ط، قم المقدّسة، مكتبة وجداني، لا.ت.
16- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، تصحيح
156
119
قائمة المصادر والمراجع
وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1414هـ.ق، ط2.
17- الواسطيّ، عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسين الحسينيّ البرجنديّ، قم المقدّسة، دار الحديث، 1376هـ.ق، لا.ط.
18- فضل الله الراوندي، فضل الله بن علي، النوادر، تحقيق: سعيد رضا علي عسكري، مؤسسة دار الحديث الثقافية، إيران - قم، لا.ت، ط1.
19- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، الخصال، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1403هـ.ق/1362هـ.ش، لا.ط.
20- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلميّ، الناشر: مؤسّسة الأعلميّ، بيروت - لبنان، 1404هـ.ق/1984م، لا.ط.
21- الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصّائيّين، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415هـ.ق/1995م، ط1.
22- البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق: جلال الدين الحسينيّ (المحدّث)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1370هـ.ق/1330هـ.ش، لا.ط.
23- ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى، فتح الأبواب، حامد
157
120
قائمة المصادر والمراجع
الخفاف، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1409هـ.ق/1989م، ط1.
24- الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد، لبنان - بيروت، مؤسّسة فقه الشيعة، 1411هـ.ق/1991م، ط1.
25- زيد بن عليّ، مسند زيد بن عليّ، منشورات لبنان - بيروت، دار مكتبة الحياة، لا.ت، لا.ط.
26- الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، جوامع الجامع، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم المقدّسة، 1421هـ.ق، ط1.
27- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، معاني الأخبار، باب معنى التوبة النصوح، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاريّ، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، 1379هـ.ق/1338هـ.ش، لا.ط.
28- الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العامليّ، طهران، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1409هـ.ق، ط1.
29- ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى جعفر، إقبال الأعمال، تحقيق: جواد القيّوميّ الأصفهانيّ، طهران، مكتب الإعلاميّ الإسلاميّ، 1415هـ.ق، ط1.
30- ابن أبي جمهور الإحسائيّ، محمّد بن عليّ، عوالي اللآلي، تقديم: شهاب الدين النجفيّ المرعشيّ، تحقيق: مجتبى العراقيّ، ط1، قم المقدّسة، مطبعة سيّد الشهداء، 1403هـ.ق/1983م.
31- الفخر الرازيّ، محمّد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير
158
121
قائمة المصادر والمراجع
الكبير (تفسير الرازيّ)، لا.ن، لا.م، لا.ت، ط3.
32- "مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة" المنسوب للإمام الصادق عليه السلام، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1400هـ.ق/1980م، ط1.
33- حسين بن سعيد الكوفيّ، الزهد، تحقيق: ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399هـ، لا.ط.
34- التستري، سهل بن عبد الله، تفسير التستري، منشورات محمد علي بيضون / دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1423، ط1.
35- الطريحي، الشيخ فخر الدين، تفسير غريب القرآن، تحقيق وتعليق محمد كاظم الطريحي، انتشارات زاهدي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط.
36- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهديّ عليه السلام، قم المقدّسة، 1409هـ.ق، ط1.
37- الآمديّ، عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق: مير سيّد جلال الدين (المحدّث)، طهران، جامعة طهران، 1360هـ.ش، ح1552-1553، ط3.
38- الديلميّ، الحسن بن محمّد، أعلام الدين في صفات المؤمنين، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، لا.ت، لا.ط.
39- الطبرانيّ، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفيّ، دار إحياء التراث العربيّ، لا.م، لا.ت، ط2.
40- المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار
159
122
قائمة المصادر والمراجع
الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ.ق/1983م، ط2.
41- المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد، الاختصاص، تحقيق: عليّ أكبر الغفّاريّ والسيّد محمود الزرنديّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ.ق/1993م، ط2.
42- البيهقيّ، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، تحقيق أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1410هـ.ق/1990م، ط1.
43- الخليل الفراهيديّ، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهديّ المخزوميّ والدكتور إبراهيم السامرائيّ، مؤسّسة دار الهجرة، إيران - قم، 1409هـ.ق، ط2.
44- ابن شهر آشوب، محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، النجف الأشرف، المطبعة الحيدريّة، 1376هـ.ق/1956م، لا.ط.
45- الطبرسيّ، الشيخ أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج، تعليق: السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386هـ.ق/1966م، لا.ط.
160