فن الخطابة

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-09

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

المقدمة

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين، قال الله - تعالى - في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[1].

 

قبل الخوض في غمار قواعد هذا الفنّ، وتلمّس قعر هذا اليمّ، لا بدّ من مقدّمة بسيطة نتعرّف من خلالها على أنواع الخطب، وكيفيّة تقسيم البحث في هذا الكتاب، الذي نأمل أن يفيد القارئ الكريم، ويساعده على صياغة وإلقائها الكلمات والخطب بنجاح أكبر.

 

وأنواع الخطب كثيرة إلّا أنّه يمكن إرجاعها إلى ثمانية أنواع، وهي تشترك فيما بينها بأمور وتختلف في أخرى، والأنواع الثمانية هي:

 

1- الخطب الدينيّة، ويلحق بها مجالس التعزية.

 

2- الخطب السياسيّة، ويلحق بها الخطب البرلمانيّة.


 


[1] سورة فصّلت، الآية 33.

 

9


1

المقدمة

3. الخطب العسكريّة، ويلحق بها خطب الفتوحات.

 

4. خطب المنافرات والمفاخرات.

 

5. خطب المناسبات والأعياد وتشمل:

1. خطب المحافل.

2. خطب التكريم والمدح والتهنئة.

3. خطب النكاح والمصاهرة.

4. خطب الرثاء والعزاء.

 

6. الخطب الشرعيّة، وتشمل:

1. خطب صلاة الجمعة.

2. خطب الأعياد, عيد الأضحى وعيد الفطر.

 

7. خطب المرافعة والاتّهام، وتشمل الخطب القضائيّة.

 

8. الخطب العلميّة، وتشمل خطب المناظرات.

 

وباستعراض كلّ واحد من هذه الأنواع على حدة مع ذكر خصائصه ومميّزاته وضبط موارده وأوقاته، يُعلم ما بينها من الفرق.

 

هذا، وللخطابة ثلاثة أركان واضحة، وهي: الخطيب، والخطاب، أي الكلام الذي يلقيه الخطيب، والمخاطب، أي الجمهور، وقد يسمّى بالمستمِعين والنظّارة، وهذا ما سوف يتم التطرّق إليه تفصيلاً في هذا الكتاب.

 

وهذا التقسيم يعتمد على تقسيم فطاحل العلماء الذين تعرّضوا لعلم الخطابة أمثال ابن رشد والفارابي وابن سينا.

 

10


2

المقدمة

وأخيراً، نشكر معهد سيّد الشهداءعليه السلام للمنبر الحسينيّ الذي ساهم بإعداد هذا الكتاب "فنّ الخطابة" ضمن سلسلة الموادّ الدراسيّة لإعداد وتأهيل الخطباء وقرّاء العزاء، وهو تلخيص لكتاب "فنّ الخطابة" من تأليف سماحة الشيخ إبراهيم البدوي، والذي نشكره على جهوده المباركة التي قدّمها لنا، وقد قام مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية بإعادة قراءة الكتاب، وإدخال التعديلات المناسبة والضرورية عليه حتى خرج بحلّته الجديدة.

 

سائلين الله – تعالى - أن يوفّقنا للمزيد من العطاء في سبيل إبقاء شعلة الإسلام مضيئة للسالكين في طريق الهدى، إنّه نعم المولى، ونعم المجيب.

 

والحمد لله رب العالمين

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

 

11


3

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

الدرس الأوّل

الخطيب (1)

الجهة العامّة للخطيب

 

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى منزلة الخطيب عند المخاطب.

2- يعدّد طرق التعريف بمنزلة الخطيب.

3- يعرف سلوك الخطيب في نظر المخاطب.

 

13


4

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

الجهة العامّة للخطيب

وهي التي تبحث عن الحالة العامّة للخطيب, بمعنى أنّها لا تختصّ بحال الخطاب وإلقاء الكلام، بل تتعرّض لحالات الخطيب عموماً، وماذا يجب عليه أن يفعل قبل حال الخطابة، كي يستطيع التأثير على الجمهور بالشكل المطلوب، ويُبحث فيها عن نقطتين رئيستين:

النقطة الأوّلى: منزلة الخطيب عند المخاطب:

ممّا يزيد في تأثير هذا الأسلوب -أي الخطابة- على الجمهور، منزلة الخطيب في نفوس سامعيه[1], فلمعرفة شخصيّة الخطيب الأثر البالغ في التأثير على المخاطب. وذلك فيما إذا كان له شخصيّة محترمة سعى في إيجادها قبل أن يخاطب الناس ويطلب منهم الاقتناع بما يقوله. فلمعرفة منزلة الخطيب تأثير كبير في سهولة انقياد المستمعين إليه والإصغاء له وقبول قوله، فإنّ الناس تنظر إلى من قال لا إلى ما قيل, وذلك بديهيّ، إذ إنّهم إذا عرفوا أنّ الخطيب الذي يتحدّث إليهم هو

 


[1] انظر: هاشمي، أحمد، جواهر البلاغة، الإدارة العليا للحوزات العلميّة، إيران -قم، 1396ه.ش، ط9، ص29.

 

15


5

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

العالم الفلانيّ أو القائد الكذائيّ أو الوجيه الفلانيّ، فإنّهم يُنصتون أكثر ممّا يُنصتون لرجل عادي، وتؤثّر كلماته فيهم بشكل أكبر من تأثير كلمات أخطب الخطباء فيما لو كان مجهولاً، إلّا ما ندر من الحالات ممّا هو على خلاف ذلك.

 

والمنزلة الجيّدة يكتسبها الخطيب في الحياة العامّة من كسب علم أو منصب أو نبوغ في ميدان من الميادين الحياتيّة المحبّبة إلى الناس.

 

ثمّ إنّ معرفة هذه المنزلة أو فلنقل تعريف المخاطب على هذه المنزلة (وهي أمر مهمّ وإلّا لا يتحقّق المطلوب) تحصل بإحدى طريقتين:

الطريقة الأوّلى: التعريف الشخصيّ:

والأسلوب الذي كان متّبعاً قديماً, وذلك بأن يبدأ الخطيب بتعريف نفسه، حسبه ونسبه إن كان له ما يتشرّف به منهما أو يثبت لنفسه فضيلة يكون بها أهلاً لأن يصدّق، كما قال تعالى حاكياً عن هود عليه السلام[1]: ﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾[2].

 

فإنّ ذلك يستدعي احترام المستمعين وإقبالهم عليه. وكذلك لو أثبت الخطيب لنفسه فضيلة لا يمكن لأحد نكرانها أو نفي سيّئة عنها، ما نجا منها إلّا أصحاب الفخر والفضل, كأن يقول: "أيّها الناس، اعلموا أنّي أنا من لا يعرف الفرار ولا النكوص"، ونحو ذلك.


 


[1] ابن رشد، تلخيص الخطابة، ص30.

[2] سورة الأعراف، الآية 68.

 

16


6

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

ولذلك نجد كثيراً من الخطباء القدامى كانوا يبدأون خطابهم بقول: "أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، فاعل كذا وكذا، تارك كذا وكذا... وهكذا".

 

ولْنُعطِك على ذلك أمثلة حيّة. استمع إلى قول السيّدة الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة التي ألقتها في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بحضور الخليفة الأوّل تطالبه بحقّها من ميراث أبيها، حيث قالت في مستهلّ كلامها: "أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة، وأبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً"[1].

 

ومن ذلك أيضاً قول بعلها عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مستهلّ خطبة يعظ بها الناس ويبلغهم فيها أحكام الله: "تَاللَّه لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَاتِ، وإِتْمَامَ الْعِدَاتِ وتَمَامَ الْكَلِمَاتِ، وعِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وضِيَاءُ الأَمْرِ..."[2].

 

فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ المخاطب بعد أن يعلم أنّ المتحدّث إليه لا يقول غلطاً أو يعلم أنّ المتكلّم معه خبير في تبليغ الرسالات، وعنده العلم بالأحكام، سيتوجّه إلى استماع ما يقوله غاية التوجّه وبالتالي يكون مجال إقناعه بما يراد إقناعه به أكبر وأسهل.

 


[1] الطبرسي، أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج، تعليق السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر،العراق- النجف الأشرف، 1386هـ، لا.ط، ج1، ص134.

[2] الشريف الرضي، السيد محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1،من كلام له عليه السلام، رقم 120، ص176.

 

17


7

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

الطريقة الثانية: التعريف بالخطيب عن طريق المعرِّف:

وهي الطريقة المتّبعة حاليّاً, وهي أن يأتي شخص آخر يسمّى بالمعرِّف أو عريف الحفل فيُطلع الحاضرين على مكانة وقدر المتكلّم، ويبيّن لهم منزلته، وعظم أمره، ويعدِّد له فضائله، ويشوّقهم إلى ما سيقوله لهم، ثمّ يمدح الموضوع الذي سيتكلّم الخطيب فيه. وبكلمة أخرى يمهّد للخطيب أرضيّة الإلقاء المثمر. ولكنّ هذا الأسلوب يكاد يُهجر, لأنّ المعرِّف بات يهتمّ بتبيين منزلة الخطاب أكثر من اهتمامه بتبيين منزلة الخطيب، بل ربّما لا يشير إلى الخطيب إلّا بذكر اسمه أو لقبه.

 

والمعرِّف لا بدّ له من إجادة الخطابة أيضاً كي يتمكّن من تقديم الخطيب إلى الناس بالشكل المطلوب الذي يترك فيهم التأثير، ويهيّئهم للاستماع إليه والإقبال عليه. ولا بدّ للمعرِّف من أمور:

1. أن يكون صوته جَهْوَريّاً عاليّاً مسموعاً لجميع الحاضرين.

2. أن يتكلّم بهدوء وكأنّه يلقي الشعر على مسامعهم.

3. عليه أن يهتمّ بمخارج الحروف وإتقان التلفّظ بالكلمات بشكل سليم وواضح وقوي.

4. أن يستعمل العبارات الجزلة الفخمة حتّى كأنّه يقول شعراً، إذ إنّ التعريف أشبه شيء بالشعر الحديث، فلا بدّ أن يشتمل على تشابيه وكنايات واستعارات بشكل مناسب.

5. عليه أن يُلبس كلامه ثوباً من البديع، بأن يُطَعّمه بشيء من السجع العفويّ المطلوب أو بقليل من الجِناس وما شابه ذلك.

 

18

 


8

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

6. عليه أن لا يطيل الكلام وألاَّ يكون قد أخذ دور من يقوم بتقديمه للجمهور لإلقاء الخطاب، فإنّ هذا يثير اشمئزازهم.

 

النقطة الثانية: سلوك الخطيب في نظر المخاطب:

إنّ قناعة المستمع بسلوك الخطيب لها مزيد التأثير في إمكان إقناعه وعدمه، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الخطيب إذا أراد أن يُثبت أمراً ما ويُقنع به الناس لا بدّ أن يكون مقتنعاً به أوّلاً وقبل الآخرين، فإذا كانوا يعلمون أنّ سلوكه على خلاف ما يقوله، فسوف لن يكون لكلامه أيّ تأثير فيهم, إذ كيف يُقنعهم بحسن قول الصدق والابتعاد عن الكذب مثلاً في حال أنّهم يعلمون أنّه من الكذّابين، أم كيف يُقنعهم بضرورة الاستبسال في الحرب وهو المعروف عندهم بأنّه جبان، وكيف يطلب منهم أن يزهدوا في الدنيا وهو مقبل عليها؟ فإنّ خطيباً كهذا لن يحصدمن كثرة كلامه إلّا التعب والنصب، هذا إن لم يستهزئوا به، بل ربّما ضربوه ببعض ما تيسّر لهم من الأدوات وغيرها.

 

وأحسن مثال يُضرب لتبيين تناسب سلوك الخطيب مع كلامه ومدى تأثيره عليهم خطبة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ في أهل العراق، وما جاءت به من أثر عجيب أدّى إلى إذعان الجميع لأمره وأمر خليفته، بعد أن عجزت الدولة الأمويّة عن ضبط أمور العراق،وكبت الفتن والمشاكل التي ما تكاد تخبو حتّى تهبّ من جديد.

 

19

 


9

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

فقد جاء في تاريخ ابن عساكر: "هذا الحجّاج قد قدم أميراً على العراق، فإذا به وقد دخل المسجد متعمّماً بعمامةٍ غطّى بها أكثر وجهه، متقلّداً سيفاً، متنكّباً قوساً، يؤمّ المنبر، فقام الناس نحوه، حتّى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلّم، فقال الناس بعضهم لبعض: "قبّح الله بني أميّة حتّى يُستعمل مثل هذا على العراق.

 

فقال عمير بن ضابئ البرجميّ: ألا أحصبه لكم[1]؟

قالوا: أمهل حتّى ننظر.

فلمّا رأى عيون الناس إليه حسر اللّثام عن فيه، فنهض فقال:

أنا ابن جلّا وطلّاع الثنايا    متى أضع العِمامة تعرفوني

وقال: يا أهل الكوفة، إنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإنّي لصاحبها، كأنّي أنظر إلى الدماء بين العمائم واللّحى.

ثمّ قال: ليس بعشّك فادرجي قد شمّرت عن ساقها فشمري[2]"[3].

 

فإنّ كلامه هذا، مع ما كان قد اشتُهر عنه من الظلم والقسوة، وأنّه من أشدّ الناس حبّاً لسفك الدماء، وأنّه من أقسى الناس قلباً، حتّى قيل إنّه لم يأخذ ثدي أمّه ليرضعه حينما كان طفلاً إلّا بعد أن لُطِّخ بدم شاة، قد عمل فيهم عمله وأخافهم من بطشه وسطوته المعروفين.

 


[1] معنى أحصبه هو أرميه بالحجارة ولكنّه هنا كناية عن القول القاسي.

[2] هذا مثل يضرب في الحثّ على الجدّ في الأمر، راجع: الميداني، أحمد بن محمد، مجمع الأمثال، المعاونية الثقافية للآستانة الرضوية المقدسة، آذر 1366 ش، لا.ط، ج2، ص93.

[3] ابن عساكر، أبو القاسم عليّ بن الحسن ابن هبة الله الشافعي، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق عليّ شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، 1415هـ، لا.ط، ج12، ص130.

 

20


10

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

وممّا يدلّ على مدى تأثيره فيهم ما جاء في كتاب العقد الفريد بعد إيراد خطبته المتقدّمة من أنّه قال: "يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين.

 

فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى مَن بالكوفة من المسلمين... سلام عليكم...".

فلم يقل أحد منهم شيئاً فقال الحجّاج: اكفف يا غلام.

 

ثمّ أقبل على الناس فقال: أسَلَّمَ عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا عليه شيئاً؟! هذا أدب ابن نهية[1]، أمّا والله لأؤدبنّكم غير هذا الأدب أو لتستقيمنّ! اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين".

 

فلمّا بلغ إلى قول (سلام عليكم) لم يبقَ في المسجد أحدٌ إلّا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام"[2].

 

وهذا يدلّ بشكل واضح على مدى تأثير كلامه عليهم، وما ذلك إلّا لما ذكرنا من التناسب بين السلوك والقول، ولذلك ترى أنّ خطبه الوعظيّة لم يكن لها ذلك الأثر على أحد، بل كانت موضع اشمئزاز وتعجّب. استمع إلى ما ورد من مثال لعدم التناسب بين سلوك الحجّاج وخطبه الوعظيّة:


 


[1] ابن نهية اسم صاحب الشرطة الذي كان قبل الحجّاج في الكوفة.

[2] المبرّد، محمّد بن يزيد، العقد الفريد، تصحيح تغاريد بيضون ونعيم زرزور، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1987م، لا. ط،ج1، ص 313.

 

21


11

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

خَطَب الحجّاج يوماً فقال: "أيّها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محفوظ...، هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التّبابعة والأكاسرة، وخزائنهم السائرة بين أيديهم، وقصورهم المشيدة، ثمّ طلعت على قبورهم. أين الملوك الأوّلون؟ أين الجبابرة المتكبّرون؟ المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم تزفر وتتوقّد[1]، وأهل الجنّة ينعمون في روضة يحبرون[2]، جعلنا الله وإيّاكم من الذين إذا ذكِّروا بآيات الله لم يخرّوا عليها صمّاً وعمياناً".

 

فكان الحَسَن البصريّ يقول: "ألا تعجبون من هذا الفاجر؟ يرقى عتبات المنبر، فيتكلّم كلام الأنبياء، وينزل فيفتك فتك الجبّارين. يوافق الله في قوله، ويخالفه في فعله"؟![3].

 

وبما أنّ الحَسَن البصريّ وغيره من أهل العراق وساكنيه ممّن حضر خطبته لم يكونوا ليجرؤوا على معارضة الحجّاج، والردّ عليه ولم يجيبوه بما يستحقّه من الجواب ويسخروا منه. أمّا لو كان المتكلّم غيره لكان لقي جزاءه موفوراً، كما حصل للضحّاك بن قيس حين خطب في أهل الكوفة فقال: "بلغني أنّ رجالاً منكم ضُلاَّلاً يشتمون أئمّة الهدى، ويعيبون أسلافنا الصالحين، أمّا والذي ليس له ندٌّ ولا


 


[1] زفرت النار: سمع لتوقّدها صوت.

[2] أحبره: سرّه، والحبور: السرور.

[3] أحمد زكي صفوت، جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - محمود نصار الحلبي وشركاه - خلفاء، 1381 - 1962، ط2، ج2، ص301.

 

22


12

الدرس الأوّل: الخطيب (1) الجهة العامّة للخطيب

شريك، لئن لم تنتهوا عمّا يبلغني عنكم, لأضعنّ فيكم سيف زياد، ثمّ لا تجدونني ضعيف السورة[1]، ولا كليل الشفرة[2]. أما إنّي لَصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أوّل من غزاها في الإسلام، وشرب ماء الثعلبيّة ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئت، وأعفو عمّن شئت. ولقد ذَعرْتُ المخدَّرات في خدورهنّ، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلّا بذكر اسمي، فاتّقوا الله يا أهل العراق. أنا الضحّاك بن قيس، أنا قاتل عمرو بن عميس".

 

فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد (الأزديّ) فقال: صدق الأمير، وأحسن القول! وما أعرفنا والله بما ذكرت! ولقد لقيناك بغربيّ تدمر فوجدناك شجاعاً مجرّباً صبوراً[3].

 

ثمّ جلس، وقال: أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أوّل ما قدِم؟ وأيم الله لأُذكِّرنّه أبغض مواطنه إليه[4].

 

 فسكت الضحّاك قليلاً، وكأنّه خزيٌّ استحيا، ثمّ قال: - وبكلام ثقيل: نعم، كان ذلك اليوم بآخره[5]، ثمّ نزل"[6].

 


 


[1] سورة السلطان: سطوته واعتداؤه.

[2] الشفرة: حدّ السيف. وكليل: غير قاطع.

[3] هذا القول تهكّم به كما ترى.

[4] ويعني بأبغض مواطنه أنّه حينما أغار الضحّاك على الحيرة أرسل له عليّ عليه السلام جنوداً كثيرين, منهم عبد الرحمن بن عبيد هذا، فهرب الضحّاك فأدركوه وقتلوا أصحابه ثمّ أوغل في الفرار فلم يلحقوه.

[5] آخره بثلاث فتحتات يعني آخر الشيء ونهايته، يريد كان ذلك اليوم نهاية أمري، أقرب الموارد، ج1، ص6.

[6] أحمد زكي، جمهرة خطب العرب، مصدر سابق، ج2، ص 278 - 279.

 

23


13

الدرس الثاني: الخطيب (2) الجهة الخاصـّة للخطيب (أ)

الدرس الثاني

الخطيب (2)

الجهة الخاصّـة للخطيب (أ)

مقدّمات إلقاء الخطاب

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد مقدّمات إلقاء الخطاب.

2- يشرح بعض الأمثلة الواقعية التي حصلت مع العديد من الخطباء.

3- يطبّق ذلك في خطاب أمام زملائه.

 

25


14

الدرس الثاني: الخطيب (2) الجهة الخاصـّة للخطيب (أ)

مقدّمات إلقاء الخطاب

إنّ لإلقاء الخطاب ثلاث مقدّمات رئيسيّة، وهي:

الأوّلى: معرفة أصول وفنّ الخطابة:

ينبغي على الخطيب الاطّلاع على أصول فنّ الخطابة، وحفظ قواعده والسعي لتطبيقها أثناء إلقاء الخطاب مهما أمكن، فإنّ ذلك أمر أساسيّ لمن يريد أن يصبح خطيباً ناجحاً. وأمّا أولئك الذين يخطبون في الناس دون أن يسيروا على هدى من أمرهم، ودون أن يعرفوا ما يجب فعله وما يجب تركه، فأولئك سيبقون خطباء فاشلين مدى عمرهم، وإن وصلوا فسوف يصلون متأخرين بعد أن يكونوا قد أفنوا كثيراً من عمرهم في التعلّم من التجارب.

 

الثانية: المطالعة:

ينبغي على الخطيب أن يكثر من المطالعة والتمعّن في كلّ ما يقرأ، وحفظ أكبر قدر ممكن من القرآن الكريم وخطب ومواعظ نهج البلاغة مع الاطّلاع التامّ على معنى ما يحفظ، وعلى المناسبة التي

 

27


15

الدرس الثاني: الخطيب (2) الجهة الخاصـّة للخطيب (أ)

نزلت فيها الآية، وألقيت فيها الخطبة، وعلى ما ورد فيها من محطّات بيانيّة أو مفردات لغويّة فصيحة أو تراكيب بليغة، إلى ما هنالك من أمور تساعد من يطّلع عليها في طلاقة اللّسان وحسن التعبير عن المقصود، ويعطيه مخزوناً من الألفاظ والمعاني الجميلة التي لا غنًى في هذا المضمار عنها.

 

وقد أكّد ابن الأثير على ذلك حيث قال: "وهو الاطّلاع على كلام المتقدّمين من المنظوم والمنثور، فإنّ في ذلك فوائد جمّة، لأنّه يُعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم، ويُعرف به مقاصد كلّ فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك. فإنّ هذه الأشياء ممّا تَشحذ القريحة، وتذكي الفطنة...، فإنّه إذا كان مطّلعاً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يُسبق إليه"[1].

 

ثمّ إنّ من يريد أن يكون خطيباً ناجحاً, فعليه أن يطّلع على مقدار جليل من العلوم خصوصاً السيرة والتاريخ، والأخلاق والتفسير، وأصول الفقه، والسياسة، وعلم الاجتماع وعلم النفس، والمنطق، بالإضافة إلى جمع المعلومات المتفرّقة والذي يحصُل بالإكثار من مطالعة المجلّات التي تحتوي على مباحث دقيقة، وإحصائيّات ذات أرقام موثوقة، وأخبار العالم الإسلامي وحتّى غير الإسلامي، فإنّ الخطيب يحتاج إلى كثرة الاطّلاع من جهة، وإلى حفظ أهمّ ما يقرأه من جهة أخرى. وقد


 


[1] ابن الأثير، نصر الله بن محمّد، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمّد محيي الدّين عبد الحميد، المكتبة العصريّة، لبنان- بيروت، 1420هـ، ج1، ص 46.

 

28


16

الدرس الثاني: الخطيب (2) الجهة الخاصـّة للخطيب (أ)

نقل الجاحظ في البيان والتبيين عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ أنّه قال: "تكثّر من العلوم لتعرف، وتقلّل منها لتحفظ"[1].

 

وكلّما ازداد المخزون الثقافيّ عند المرء ازدادت قدرته على اكتساب ثقة الناس الذين يستمعون لكلماته.

 

الثالثة: المران والممارسة:

لا يكفي للخطيب أن يتعلّم أصول وفن الخطابة، ويقرأ كثيراً، فإنّه ما من علم إلّا ويحتاج صاحبه للممارسة والتمرّين، وإلّا فسوف يأتي عليه يوم يرى نفسه فيه وحيداً نضب ما كان له من ماء علم، وجفّ ما كان لديه من معين فنّ. وربّما أعطت الممارسة ما لا يمكن أن تعطيه المطالعة أو الدراسة، إذ قد يتوصّل المتمرّس إلى قواعد جديدة ونظريّات حديثة، ويحصل على ملكات خطابيّة لا يمكن تحصيلها إلّا بكثرة التجارب في هذا الحقل.

 

ولا أدلّ على ذلك ممّا نشاهده ونلمسه من أنّ الإنسان الذي يقف على المنبر لأوّل مرّة يُرى فيه ارتباك واضطراب ظاهران، ولا يقدر على أداء ما لديه من معلومات بشكل مطلوب، ولو كان عالماً متبحّراً.

 

وأمّا من تمرّس بصعود المنابر، وإلقاء الخطب، وتعوّد على مقابلة الناس، والتحدّث إلى الجماهير، والإقبال عليهم بوجهه، فنراه يهدر كالسيل الجارف، بل لا يكاد يتمّ عبارة جيّدة إلّا ويبدأ بأخرى


 


[1] الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان والتبيان، قدّم له وشرحه د. عليّ بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، لبنان- بيروت، 2002م، لا.ط، ج1، ص 216.

 

29


17

الدرس الثاني: الخطيب (2) الجهة الخاصـّة للخطيب (أ)

أجود، وهكذا إلى أن يشغف الجمهور بقوله ويأنس بكلامه، ويتمنّى المستمعون لو أنّ خطبته تلك ليس لها نهاية.

 

وقد أطلعني أحد المعارف - العلماء - أنّه بينما كان يحضر حفلاً خطابيّاً - قد دُعي إليه كبار الخطباء في إيران - جاءه أحد الأشخاص سائلاً إيّاه عن تفسير إحدى الآيات، فشرحها له بما حضره، وما هي إلّا دقائق حتّى ارتقى ذلك الشخص المنبر، وبدأ خطاباً حول معنى تلك الآية، وما يرتبط به من أمور، وهو يتدفّق كالشلّال بأسلوب رزين وحركات محكمة ونظرات موزّعة، والناس مشدودون إليه وكأنّ على رؤوسهم الطير، حتّى أنّني قد أُعجبت به وكدت أشكّك في نفسي بأنّ الذي فسّر الآية لم يكن إيّاي. وهذا يشير بوضوح إلى أهمّيّة الممارسة والمران.

 

أمثلة تأثير الممارسة على متعلّم الخطابة

أمّا أمثلة تأثير الممارسة على متعلّم الخطابة فكثيرة، نكتفي منها بمثالين:

المثال الأوّل: ديموستين:

يعتبر ديموستين[1] أحد أخطب اليونانيّين القدامى, وقد قيل


 


[1] ولد ديموستين في أثينا عام 384ق.م، وكان من أشهر خطباء اليونان، وقام بأول خطاباته القضائيّة في سنّ العشرين، وتُسمى خطبه "مرايا الشخصيّة" نظراً لأنّ المتحدّث كان قادراً على التعرّف بشكل لا لبس فيه على ما يكمن في روح المحاور، وإيجاد الكلمات الصحيحة التي يودّ سماعها.

 

30


18

الدرس الثاني: الخطيب (2) الجهة الخاصـّة للخطيب (أ)

إنّه حينما حاول التكلّم على المنبر لأوّل مرّة أثار في سامعيه غريزة الضحك، وأخذوا يسخرون منه، إلّا أنّه صمّم على أن يكون خطيباً، وأخذ يتمرّن على الخطابة إلى أن وصل إلى مرتبة من التمكّن منها أمكن معها القول إنّه خطيب اليونانيّين الأوحد.

 

المثال الثاني: فضيلة الشيخ أحمد الوائليّ:

ما يحكى عن فضيلة الشيخ أحمد الوائليّ, وهو من مشاهير الخطباء المسلمين المعاصرين في ميدان الخطب الدينيّة، بل بعض أنواع المحاضرات العلميّة أيضاً, فقد نُقل أنّه قال - عن نفسه -: "إنّه حينما حاول الخطابة لأوّل مرّة ضحك منه زملاؤه الذين كانوا يشاركونه درس الخطابة", ولكنّنا نرى أنّه بالممارسة والمثابرة وصل إلى مرتبة يُغبط عليها، ومُدح من كبار العلماء.

 

حقيقة الاستعداد الفطريّ للخطابة

وأمّا بالنسبة إلى ما قيل من لزوم وجود ما سُمّي بالاستعداد الفطريّ للخطابة عند من يريد أن يصبح خطيباً، فليس لذلك أساس من الصحّة, إذ يُمكن لأيّ إنسان وطّد نفسه على أن يصبح خطيباً، وعزم على تحمّل المشاق من أجل اكتساب ملكتها، وسعى لذلك دون يأس أو ملل محاولاً جهده تعلّم فنونها وتطبيق قواعدها, فإنّه سينالها لا محالة، ولو لم يكن عنده ذلك الاستعداد المزعوم.

 

31

 


19

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

الدّرس الثالث

الجهة الخاصـّة للخطيب (ب)

ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى بعض الوصاية الأساسيّة قبيل إلقاء الخطاب.

2- يشرح أسس الاستحضار وكيفيته.

3- يبيّن كيفيّة الاهتمام بالمظهر الخارجي.

 

33


20

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

تمهيد

تقدّم الكلام في الدرس السابق حول الموضع الأول الذي يجب فعله حال إلقاء الخطاب من تهيئة مقدّمات إلقاء الخطاب، ونشير في هذا الدرس إلى الموضع الثاني، وهو ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب، ويندرج تحت هذا العنوان الكثير من المسائل الأساسيّة التي لا يمكن للخطيب أن يستغني عنها، أو أن يتساهل في التدرّب والتمرّس والمران عليها.

 

وصايا أساسيّة قبيل إلقاء الخطاب

لا بُدّ من ذكر توصيّات نقدّمها للخطيب كي ينتفع بها في هذا المجال، وهي:

الأولى: عدم الجوع والشبع:

من المستحسن للخطيب ألّا يكون جائعاً فارغ المعدة، ولا شبعاناً متخماً. فإنّ لكلّ منهما أثرًا سلبيًّا عليه, فالشبع يمنعه من أن يتمتّع بصوت عال ونفس طويل، بل قد تتلبّد أفكاره ويأخذه النعاس فيتثاءب،

 

35

 


21

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

حاجته كي لا تصيبه المدافعة حين التكلّم فيضطر أن يقصّر خطبته فيخلّ بالمطلوب أو يضطرّ إلى أفعال أخرى لا تليق به. وممّا لا يُشَكُّ فيه أنّ ذلك له تأثير قويٌّ على التفكير.

 

ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب

إنّ ما يجب فعله حال الخطاب يُمكنُ حصره في سبع مسائل:

المسألة الأوّلى: الاستحضار

يجب أن يكون الخطيب مستحضراً كلّ النقاط التي يريد أن يتعرّض لها فيما لو كان خطابه ارتجاليّاً، وذلك بأن يكون قد نسّق أفكاره التي يريد أن يطرحها ورتّبها مسبقاً. فلا بدّ أن يقدّم ما حقّه التقديم ويؤخّر ما حقّه التأخير، ويهيّئ لذلك بعض الألفاظ المعيّنة يستعين بها حال الإلقاء، تكون كمخزون لُغويّ عنده، ولا بدّ أن يكون مستذكراً الكلام الذي يريد إلقاءه, كي لا يأخذه حصر الكلام، فيصيبه العِيّ كما حصل مع كثيرين أمثال مصعب بن حيّان حين دُعي لإلقاء خطبة في مناسبة عقد نكاح، ولمّا وقف للتكلّم أخذه العِيّ وارتبك وتشتّتت أفكاره، فنسي ما كان يريد قوله، فإذا به يقول: "لقّنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلّا الله".

 

فغضبت أمّ العروس أشدّ الغضب، وقالت له: "عجّل الله موتك ألهذا دعوناك"[1].


 


[1] وفي كتب أخرى "ثابت بن قطبة"

 

37


22

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

ولو لم يكن الخطيب مستعدّاً ومستحضراً أفكاره لواجه أحد أمرين:

1- أن يقول ما لا يريد قوله، وقد يكون ثمن ذلك غالياً، بأن يتلفّظ بألفاظ لا يريدها تضع من شأنه، أو يتلفّظ بما يكون مستمسكاً عليه لخصومه، فيفسح لهم في المجال للحطّ من قدره وسمعته، أو يتكلّم بما يثير السخرية والاشمئزاز، كما حصل لأحد الخلفاء العبّاسيّين حينما صعد المنبر لإلقاء خطبة الجمعة، وقد كان على نزاع مع زوجته إثر خلافات وقعت بينهما فخرج وهو يفكّر بطلاقها، وحينما استوى على المنبر، قال: "أمّا بعد...- فانعقد لسانه ونسي ما كان يريد أن يقوله، فما نطق إلّا بقول- : زوجتي فلانة طالق"، فضحك الناس منه ضحكاً شديداً.

 

2- أن يترك المنبر دون أن يتكلّم بشيء وسط جوّ من اشمئزاز الجمهور وسخريته، اللّهمّ إلّا إذا كان حادّ الذهن متوقّده، فإنّه قد ينجو بنفسه بأن يورد كلاماً آخر غير ما كان يريد قوله أوّلاً.

 

وقد اتُّفق ذلك لكثيرين من الخطباء المشهود لهم، ومنهم ثابت قطنة[1] أحد أمراء سجستان، حيث صعد المنبر يوم الجمعة فنسي ما كان يريد قوله وأُرتج عليه، وظهر ذلك للناس، فتدارك قائلاً: "سيجعل الله بعد عسر يسراً، وبعد عِيّ بياناً، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم


 


[1] وفي كتب أخرى "ثابت بن قطبة".

 

38


23

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

إلى أمير قوّال: وأنشد:

وإلّا أكن فيكم خطيباً فإنّني بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيب

فبلغت كلماته خالد بن صفوان، فقال: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه"[1].

 

المسألة الثانية: الاهتمام بالمظهر الخارجي

الاهتمام بالمظهر الخارجيّ للخطيب بحيث يظهر أمام المُخاطبين بما يدعو إلى تقديره واحترامه والوثوق بقوله، وبما يتناسب مع ما يريد أن يقوله, وذلك يحصل بأمرين:

الأمر الأوّل: لباسه وهندامه:

من اللّازم على الخطيب أن يعرف نفسيّات المجتمعين، وما يجب على مثله أن يظهر به بينهم, فقد يقتضي المقام أن يظهر الخطيب بأفخر لباس، وقد يقتضي أن يظهر بمظهر متواضع كزاهد أو ناسك، وذلك يختلف باختلاف الدعوة التي يدعو إليها وباختلاف طباع الحاضرين, فكثير من الواعظين يتأثّر الناس بهم بمجرّد النظر إليهم قبل أن يتفوّهوا بكلمة.

 

ألا تعتقد أنّ خطيباً على الهيئة التي يصفها نوف البكاليّ حيث يقول في مستهلّ خطبة من خطب أمير المؤمنين عليه السلام قبل أن يرويها: "خطبَنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام


 


[1] أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني، دار إحياء التراث العربي، لا.م، لا.ت، لا.ط،ج14، ص 428.

 

39


24

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

بالكوفة، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزوميّ، وعليه مدرعة من صوف[1]، وحمائل سيفه ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وكأنّ جبينه ثَفِنة[2] بعير"[3].

 

ألا تعتقد أنّ الخطيب الذي على هذه الهيئة سيؤثّر في سامعيه وعظُه وحثُّه لهم على الزهد والتقوى والتقشّف؟

 

وكم من خطيب في مجالس ذكرى عاشوراء يدفع الناس بمجرّد مشاهدة هيئته إلى البكاء قبل أن ينبس ببنت شفة.

 

ولا بدّ أيضاً للخطيب أن يظهر بما يليق به أمام الجمهور كي لا يثير تهكّمهم واشمئزازهم.

 

فمثلاً: لو كانت عمامة الخطيب مائلة أو كانت عباءته مقلوبة أو كان ثوبه ممزّقاً أو قميصه متسخاً وما شابه ذلك، فسوف لن يكون الأقدر على الإقناع، ولا الأقوى في الحمل على الانقياد والاستماع.

 

الأمر الثاني: سحنة وجه الخطيب:

قال الفارابيّ: "ومنها - أي من الأمور التي لا بدّ منها للخطيب - سحنة وجه الإنسان، أو شكله وشكل أعضائه ومنظرها، أو فعله عندما


 


[1] المدرعة: ثوب يُعرف عند بعض العامّة بالدراعيّة قميص ضيّق الأكمام، قال في القاموس: ولا يكون إلّا من صوف.

[2] الثفنة (بكسر بعد فتح): ما يمسّ الأرض من البعير عند البروك ويكون فيه غلظ من ملاطمة الأرض، وكذلك كان جبين أمير المؤمنين عليه السلام من كثرة السجود.

[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، خطبة رقم 182، ص260.

 

 

40


25

الدّرس الثالث: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (1)

يتكلّم، مثل أن يخبر بورود أمر مخوف قد قرب، فيرى وجهه وجه خائف أو هارب"[1].

 

وقد قال أبو عليّ ابن سينا في هذا المضمار: "وأمّا الحال المحسوسة غير القول، كمثل من يخبر ببشارة، وسحنة وجهه سحنة مسرور بهج، أو يخبر بإظلال آفة وسحنة وجهه سحنة مذعور خائف، أو ينطق عن تقرير بالعذاب أو الثواب"[2].

 

فملامح وجه الخطيب، وتقاطيع جبينه ونظرات عينيه وحركات يديه، أمور معبّرة ومؤثّرة في السامعين فيما إذا استطاع أن يحسن التصرّف بها حسبما يقتضيه البيان.

 

وبعبارة أكثر صراحة، يجب على الخطيب أن يكون ممثّلاً في مظهره الخارجيّ وحركات حاجبيه، ويبدو حزيناً في موضع الحزن، وغليظاً فظّاً في موضع الشدّة.

 

بل ربّما يجب عليه في بعض الأحيان أن يبكي أو يتباكى في موضع الحزن، وأن يبدو مسروراً مستبشراً في موضع السرور فيما لو دعت الحاجة لذلك، وأن يبدو بمظهر الواثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع يتطلّب ذلك.


 


[1] الفارابي، أبو نصر، كتاب المنطقيات: الخطابة، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ج1، ص 474.

[2] ابن سينا، عليّ بن الحسين، الشفاء: المنطق، راجعه وقدّم له د. إبراهيم مدكور، تحقيق د. محمّد سليم سالم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404هـ، لا.ط، ج4، ص10.

 

41


26

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

الدّرس الرابع

الجهة الخاصـّة للخطيب (ب)

ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يلخّص كيفيّة مدح القبيح وذمّ الحسن عند الخطابة.

2- يتعرّف إلى تأثير الوقوف على مرتفع أثناء الخطاب على الجمهور.

3- يتعرّف إلى أمثلة تطبيقية في هاتين المسألتين.

 

45


27

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

تمهيد

أشرنا في الدرس السابق إلى أن من المسائل الأساسية التي ينبغي على الخطيب القيام بها حال إلقاء الخطاب، هي: الاستحضار، والاهتمام بالمظهر الخارجي، ونشير في هذا الدرس إلى مسألة مدح القبيح وذمّ الحسن التي تؤثر بشكل في شكل الخطاب، وقضيّة الوقوف على مرتفع التي لها علاقة بالتأثير على الجمهور والمستمعين.

 

المسألة الثالثة: مدح القبيح وذمّ الحَسن

لا بدّ للخطيب أن يكون قد تدرّب على تطويع العبارات، والاستفادة من الأمور بحسب الحاجة، وتسخير كلّ الأدلة لصالحه حتّى لو كان ظاهر الدليل غير موافق لمطلوبه، وذلك بأن يتمكّن من أمرين:

الأمر الأوّل: مدح القبيح:

قد تدعو الحاجة لإظهار وجه الحُسن في من اشتُهر بالقبح.

 

فمثلاً، قد تدعو الحاجة إلى مدح فاسق، فينظر الخطيب إلى النواحي الأخرى غير الفسق، ويختار منها ما يمكن مدحه به. فيقول

 

47


28

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

مثلاً: "أنّه سمح سهل، غير متزمّت ولا متعنّت، منفتح على الآخرين، لطيف المعاشرة، خفيف الروح، يخدم الناس... إلخ"، وما شابه ذلك.

 

وقد يمدح الأبله الأحمق بأنّه بسيط، صافي النفس، بريء براءة الأطفال، لا تشوبه شائبة الغدر والمكر، ولا يهتمّ بأمور الدنيا مهما عظمت وتعقّدت، وأنّه لا يزال على فطرته التي فطره الله عليها لم تغيّرها الخطايا والذنوب...

 

وقد يمدح الهمَّاز النمَّام الذي يتتبّع عورات الناس فلا يكاد يرى عيباً إلّا وينشره في المجتمع، فيخبر به القاصي والداني بأنّه صادق وصريح، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وأنّه يقول الحقّ ولو على نفسه، وأنّه لا يمكنه السكوت عن قبيح الفعال، ولا يستطيع أن يغضّ طرفه حينما يرى شرّاً لما فيه من علوّ الهمّة وكبر النفس، ولأنّه ليس بشيطان أخرس... إلى ما هنالك.

 

الأمر الثاني: ذمّ الحَسن:

قد يقتضي الأمر إظهار بعض مساوئ أمرٍ معلوم الحُسن. فقد يذمّ الإنسان المؤمن المحافظ على دينه بأنّه جافّ متزمّت رجعيّ لا يمكن الكلام معه، وليس عنده للحلّ الوسط مجالٌ ولا يقتنع بشيء ولا يقبل نصيحة أحد... إلخ.

 

وقد يذمّ الشجاع بأنّه متهوّر طائش يرمي بنفسه في كلّ مخوفة، ويبحث عن الشرّ، ويلقي بيديه إلى التهلكة... إلخ.

 

48


29

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

وقد يذمّ الكريم بأنّه مسرف جاهل بحقّ المال وقيمته، ويعطي من يستحقّ ومن لا يستحقّ، وأنّ الناس يستفيدون من طيب قلبه ويأخذون أمواله بحجّة أنّه كريم، وهو لا يعرف أنّهم يستحمقونه، وبأنّه سوف يأتيه يوم يلتفت فيه إلى نفسه ويدرك خطأه، وذلك حينما يجد نفسه محتاجاً لما في أيدي الناس حيث لن يجد من يساعده بدرهم.

 

وقد يذمّ الحليم الذي يصفح عمّن آذاه أو تصابى معه أو تكلّم معه بما لا يليق به، يذمّ بأنّه جبان لا يجرؤ على دفع الاعتداء عن نفسه حتّى تطاول عليه الكبار والصغار، وأنّ فيه ذلّة، وأنّه متعوّد على استماع السباب والشتائم فلم تعد تؤثّر فيه شيئاً... إلى ما هنالك من أمثلة لمدح القبح وذمّ الحَسن ممّا لا يخفى على القارئ الكريم. فإنّ التدرّب على هذه الأمور تطوّع الاستعمالات والعبارات بين يدي الخطيب وتجعل ذهنه متوقّداً مستحضراً لكلّ سؤال جواباً ومهيّئاً لكلّ شخص ما يناسبه من الكلام.

 

واعلم أنّ ما قدّمناه لك ليس دعوة لاعتماد أسلوب الكذب في الخطاب أبداً، وليس تشجيعاً على التعرّض للآخرين بالنقد والتجريح - كما قد يسبق إلى أذهان بعض الطّلبة ممّن تخفى عليهم النكات العلميّة - وإنّما هو توضيحٌ لفكرة أدبيّة، وجلاءٌ لقاعدة خطابيّة، لو أتقنها الخطيب لأخذت بيده إلى إظهار الحقّ والدفاع عنه، وكشف زيغ المبطلين، وتفنيد كلام من لا يستعين على مراده إلّا بالكذب

 

49


30

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

والنفاق، فيسلّط الضوء على نقاط ضعفه ومواضع زلّاته كي لا يعود إلى استحماق الناس للتسلّط عليهم.

 

واعلم أيضاً أنّه ليس فيما ذكرنا شيء من الكذب بل هو صدق ناصع, غاية ما في الأمر أنّه تصويرٌ قبيحٌ للصورة الحسنة أو تصويرٌ حسَنٌ للصورة القبيحة، وذلك يحصل بالسكوت عن المحاسن وذكر ما هو موجود من المساوئ، وهذا أمر شائع بين الفصحاء ممّن يعرفون مواضع الكلم، ولم يُنكر من الشرع، ولْنُعطك على ذلك شاهداً حيّاً:

ورد في كتاب البيان والتبيين: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر[1] قال: مانع لحوزته[2]، مطاع في أذينة (ناديه)، فقال الزبرقان: أما إنّه قد علم أكثر ممّا قال، لكنّه حسدني شرفي. فقال عمرو: أما لئن قال ما قال، فوالله ما علمته إلّا ضيّق الصدر، زمر المروءة[3]، لئيم الخال[4]، حديث الغنى، فلمّا رأى أنّه خالف قولُه الآخر قولَه الأوّل ورأى الإنكار في عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا رسول الله، رضيت, فقلت أحسن ما علمت، وغضبت, فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: إنّ من البيان لسحراً"[5].


 


[1] عمرو بن الأهتمّ والزبرقان بن بدر من سادات تميم، عرفا باللّسن والبلاغة والخطابة والشعر.

[2] حوزته: ما يحوزه الشخص ويملكه.

[3] زمر المروءة: أي قليلها.

[4] لئيم الخال: أي أنّ أمّه كانت من قبيلة باهلة.

[5] الجاحظ، البيان والتبيان، مصدر سابق، ص43.

 

50


31

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

وحتّى تطمئن نفسك إلى ما قلناه لك ولا يبقى في نفسك منه شيء، سنضرب لك مثالاً حيّاً على مدح القبيح، وآخر على ذمّ الحَسن.

 

ورد أنّه مرض الحجّاج فأرجف به أهل الكوفة، فلمّا تماثل من علّته صعد المنبر وهو يتثنّى على أعواده، فقال: "إنّ أهل الشقاق والنفاق نفخ الشيطان في مناخرهم، فقالوا: مات الحجّاج، ومات الحجّاج فمَه! والله ما أرجو الخير كلّه إلّا بعد الموت، وما رضي الله الخلود لأحد من خلقه في الدنيا إلّا لأهونهم عليه، وهو إبليس"[1].

 

كما روى ابن سلام الجمحيّ في طبقات الشعراء ما ملخّصه: "أنّه اجتمع جرير والفرزدق عند سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة، وأتى بأسرى من الروم، وكان في حرسه رجل من بني عبس قد علم أنّ سليمان سيأمر أصحابه بضرب أعناقهم، فأتى الفرزدق فقال: إنّ أمير المؤمنين جرى بأن يضرب هؤلاء الأسرى. وحثّه على أن يكون هو الضارب لهم، وأتاه بسيف كليل كهام[2]، فقال الفرزدق: ممّن أنت؟

قال: من بني ضبّة أخوالك.

وأمره سليمان بضرب عنق بعضهم، فتناول السيف من العبسيّ ثمّ هزّه فضرب به عنقه فما حصّ[3] شعرة، ولم يؤثّر به أثراً. فضحك سليمان والناس، وقال: هذه ضربة سيقول فيها هذا يعني جريراً، وتقول فيها العرب.

 


[1] المسعودي، عليّ بن الحسين، مروج الذهب ومعادن الجوهر، منشورات دار الهجرة، إيران - قم، 1404ه - 1363 هـ. ش - 1984م، ط2، ج3، ص143.

[2] السيف الكهام هو الضعيف الذي لا يقطع.

[3] حصّ يعني قطع وحلق. يقال حصّ الشعرة أي قطعها.

 

51


32

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

فقال الفرزدق - متخلّصاً من سيّئته مصوِّراً لها بصورة حسنة -:

فهل ضربة الروميّ جاعلة لكم أباً عن كليب أو أباً مثل دارم

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم[1].

 

فانظر كيف بدّل السيئة بالحسنة، وعبّر عن عجزه عن قتل الروميّ بأنّه قد تعوّد على فكّ الأسرى، ولم يتعوّد على قتلهم، وهذه مفخرة ما بعدها مفخرة، وتعريض بالخليفة وتفاخر عليه.

 

وقد نسب أبو حيّان التوحيديّ في كتابه البصائر والذخائر إلى سقراط تعريفاً للخطابة، ورد فيه هذا القول:

"قيل لسقراط الفيلسوف - وكان من خطبائهم - ما صناعة الخطيب؟ قال:

أن يعظّم الأشياء الحقيرة، ويصغّر شأن الأشياء العظيمة"[2]، وهذا تعبير آخر عن مدح القبيح وذمّ الحسن.

 

المسألة الرابعة: الوقوف على مرتفع

لا بدّ للخطيب أن يقف على مرتفع يطلّ به على الجمهور, كي يروا وجهه، ويتأثّروا بكلماته وإشاراته. ولقد جرت العادة قديماً وحديثاً بأن يُنصَب للخطيب منبرٌ من خشب، ولو لم يكن هناك منبر وكانت الخطابة في الفلاة، يُعمل له منبرٌ بسيطٌ من الحجارة كما


 


[1] راجع: الجمحي، ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمّد شاكر، دار المدني، السعوديّة- جدّة، لا.ت، لا.ط، ج2، ص400-402.

[2] التوحيدي، أبو حيان، البصائر والذخائر، تصحيح وداد قاضي، دار صادر، لبنان- بيروت، 1999م، لا.ط، ج1، ص100.

 

52


33

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

مرّ في وصف نوف البكاليّ للإمام عليّ عليه السلام، أو من رحل الدوابّ، كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في خطبة الوداع حين نصّ على خلافة الإمام عليّ عليه السلام، أو أن يقف الخطيب على مرتفع عال، أو يصعد إلى هضبة كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما صعد الصفا، وقال: "يا صباحاه".

 

فاجتمعت إليه قريش. فأخبرهم بنزول آية: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[1].

 

ويحسن في الخطيب أن يقف معتمداً على إحدى رجليه فإذا تعب اعتمد على الأخرى، فإنّ ذلك يعينه على تحمّل طول الوقوف إلى إتمام خطبته، وإن طالت.

 

وأمّا الإشارات فهي أمر مهمّ للخطيب، ولا يمكن الاستغناء عنها في إثارة مشاعر مستمعيه. قال الجاحظ: "الإشارة واللّفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللَّفظ، وما تغني عن الخطّ"[2].

 


[1] سورة الشعراء، الآية 214، ولتفسير الآية راجع: الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط1، ج7، ص355, مغنيّة، الشيخ محمد جواد، التفسير الكاشف، لبنان - بيروت، دار العلم للملايين، 1981م، ط3، ج5، ص 520, الطباطبائي، العلامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417ه‏، ط5، ج15، ص 250.

[2] الحاحظ، البيان والتبيان، مصدر سابق، ج1، ص 83.

 

53


34

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

ولا بدّ في الإشارة من أمور:

الأمر الأوّل: العفويّة:

ألّا تكون مبتذلة متصنّعة يشعر المخاطبون أنّها مقصودة، وأنّ الخطيب يتعمّدها، فإنّ ذلك يذهب بتأثيرها ويُفقدها رونقها, فلا بدّ أن تبدو عفوية قد صدرت منه من غير قصد، وأنّه لم يتصنّع فيها ولم يتكلّف.

 

الأمر الثاني: الاختلاف والتنوع:

ألّا تكون على نسق واحد بحيث يكون تكرارها واضحاً للناظرين، وذلك كما لو ظلّ يحرّك يده بحركة واحدة وعلى نسق واحد طيلة الخطبة, إنّ ذلك يجعل الخطيب في موضع انتقاد الجمهور، ولا يعطي النتائج المطلوبة في المساعدة على الإقناع. فلا بدّ أن تكون الحركات متنوّعة بتنوّع أسلوب الكلام من الإخبار والإنشاء، ومن التعجّب والاستفهام وما شابه ذلك، ولا بدّ أن تكون كثيرة كفعل الممثّلين وإلّا لم تكن "نعم العون".

 

الأمر الثالث: الضبط والرزانة:

يجب على الخطيب أن لا يتنقّل على المنبر، ولا يعتمد الإشارات المضحكة، ولا الحركات الخفيّة، كي لا يتحوّل إلى ممثّل أو إلى مهرّج. فعليه مثلاً أن لا يهتزّ ولا يستدبر، ولا يلتفت بكلّ بدنه من جهة إلى أخرى، ولا يحرّك رجله، ولا يهزّ برقبته، ولا يغمز بعينيه، ولا يخرج

 

 

54

 

 


35

الدّرس الرابع: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (2)

لسانه، ولا يقلّد الآخرين بأفعالهم وأقوالهم، فكلّ هذه الأمور تُفسد الجوّ العامّ للخطبة.

 

وهناك بعض الحركات التي تُعدّ من آفات الخطيب، وهي أن يُكثر من السعال أثناء الإلقاء، أو من الالتفات يمنة ويسرة، أو بأن يَقصُرَ نفَسُهُ عن إتمام الجملة التي بدأها فيستعين بنفَس ثانٍ لإتمامها، وأن يفتل أصابعه، أو أن ينشغل بالعبث بلحيته، أو يُكثر من المسح عليها أو على شاربيه، فإنّ كلّ ذلك من العيب الذي لا بدّ للخطيب أن يتخلّص منه فيعوّد نفسه على النفَس الطويل، ويسعى جهده للتخلّص من السّعال في الخطابة، ويُقلع عن العادات الأخرى المُشار إليها.

 

وقد جمع أحدهم هذه الحركات ببيت من الشعر، فقال:

مليءٌ ببَهرٍ[1] والتفاتٍ وسعلةٍ ومسحةِ عُثنونٍ[2] وفتْلِ أصابعِ[3]


 


[1] البهر يعني انقطاع النفس والإعياء.

[2] العثنون هو اللّحية وقيل ما ينبت على الذقن خاصّة.

[3] الحاحظ، البيان والتبيان، مصدر سابق، ج1، ص 28.

 

55


36

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

الدّرس الخامس

الجهة الخاصـّة للخطيب (ب)

ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد مقتضيات الإلقاء أثناء الخطاب.

2- يبيّن أهمية حضور الذهن وحسن التخلّص أثناء الخطاب.

3- يشرح كيفيّة اكتساب القدرة في السيطرة على الجمهور.

 

59


37

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

تمهيد

تقدّم الكلام عن أربعة مسائل ينبغي على الخطيب الالتزام بها أثناء إلقائه لخطابه، ونشير في هذا الدّرس إلى المسائل المتبقية، والتي بها نختم الحديث حول الجهة الخاصة للخطيب، ولا بُدّ من الالفات إلى أنّ سير الخطيب على هذه الآليات والقواعد تكسبه القدرة على امتلاك شخصيّة خطابية مميّزة، وتساعده على إيصال ما يريده من مفاهيم وأفكار للمخاطبين.

 

المسألة الخامسة: مقتضيات الإلقاء

هناك أمور يقتضيها الإلقاء تختلف باختلاف أنواع الخطب، وتتلخّص في ستّة أمور:

الأمر الأوّل: كيفيّة الوقوف على المنبر:

لا بُدّ للخطيب الذي يكون في موضع الحماس، ويريد أن يُدِبَّ الشجاعة في قلوب سامعيه أن يقف وقفة متأهّب مستعدّ وكأنّه سينزل إلى ساحة الحرب بعد لحظات، وأن تكون أعصابه مشدودة،

 

61

 


38

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

والتفاتاته سريعة وخاطفة، وحركات يديه عصبيّة، ونظراته إلى المستمعين محرقة تخرج من عين تتأجّج فيها النّار حماساً وقوّة, فإنّ كلّ ذلك مهمّ في الخطب العسكريّة، وهو أدعى لحملهم على الاستبسال ولدبّ الشجاعة والجرأة في قلوبهم.

 

ولا بُدّ لمن كان في مقام الوعظ والإرشاد، وأمر الناس بالتقوى وترك المعاصي، أن يقف بارتخاء نوعاً ما، ويحرّك يديه بحركات خفيفة بطيئة في موضع الخشوع، وبحركات الحذر في موضع إثارة الخوف، فيفتح فاه قليلاً بما يعبّر عن ذلك فيما لو تعرّض لذكر أمر مخيف، كما لو تكلّم عن جهنّم أو عذاب القبر أو شدّة الألم وما شابه ذلك. وهكذا في سائر أنواع الخطب فيراعي ما يناسبها.

 

الأمر الثاني: طريقة النطق بالكلمات:

يقتضي أمر الخطابة تارة أن تخرج الكلمات من الفم مشدودة متراصّة، وكأنّ هناك من ينتزعها من الفم بقوّة، فيصدر للحرف صوتٌ يتناسب معه شدّة وضعفاً، وتارة يقتضي أن تخرج هادئة ناعمة تكاد تشبه النجوى، فإنّ ذلك أبلغ في إيصالها الخشوع إلى قلوب السامعين، وتارة أخرى تقتضي أن تخرج عاديّة لا شدّة فيها ولا ضعف، كما في الخطب العلميّة، وكلّ ذلك يرجع إلى معاني الكلمات وما يتناسب معها.

 

62


39

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

الأمر الثالث: نظرات الخطيب:

لا بُدّ من توزيع النظرات على المستمعين كلّ بحسَبه, فالذي يكون مشدوداً للكلام متوجّهاً لما يقال، ينظر الخطيب إليه وكأنّه المستمع الوحيد، فيزداد أنساً واستماعاً وإقبالاً، والذي يكون في سهو وغفلة عمّا يقوله الخطيب، يتوجّه الخطيب إليه وكأنّه يسأل عن أمر عرض له في أثناء الكلام، ثمّ ينصت قليلاً ليتوهّم المستمع أنّه يسأله عن الجواب، وأنّه ينتظر منه الإجابة، وبما أنّه غير ملتفت إلى السؤال ولا يعرف بماذا يجيب تدخل الرهبة في قلبه في اطّلاع الحاضرين على غفلته أو جهله بالإجابة، فيضطرّ حينذاك للتوجّه وتركيز ذهنه على فهم ما يقوله الخطيب، كي لا يقع في ذلك مرّة أخرى، وحينئذ يسهل إقناعه. ولا بُدّ للخطيب أن ينظر في عيون السامعين كيّ لا يشعروا أنّه بعيد عنهم، فيما لو ركّز نظراته في السقف كما يفعل كثير من المبتدئين في الخطابة, خوفاً من أعين الناظرين.

 

وهناك كثير من الخطباء ليس لهم الجرأة على مواجهة المستمع والنظر في عينيه كما حصل للجنرال كرافت[1] حيث كان يخشى من ذلك، فنصحه أحد علماء الخطابة بالنظر في أنوفهم كي يتوهمّوا أنّه ينظر إلى أعينهم، فلا يشعرون بأنّه بعيد عنهم[2].

 


[1] الجنرال كرافت: رئيس أمريكا عام 1869م.

[2] صالح، علي باشا، أصول فن الخطابة، ص29.

 

63


40

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

وكذلك عليه أن لا ينظر من خلال النافذة إلى الخارج، ولا يلهو عن مستمعيه بمراقبة كتاب أو أيّ شيء آخر.

 

الأمر الرابع: خروج الكلام من القلب:

يجب على الخطيب أن يُشعر السامع بأنّ ما يقوله يخرج من قلبه، وأنّه من جملة اعتماداته التي لا تقبل الشكّ والترديد, وذلك بأن يتفادى قدر الإمكان التوقّف بين الكلمات والتلكّؤ في النطق بها، فإنّ ذلك ممّا يجعل المستمع مشتّت الذهن، ومتردّداً في الاقتناع بما يقال أو على أقلّ تقدير لا يجد في نفسه ما يشدّه للاقتناع به.

 

وقد قيل قديماً: "الكلام الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب، والذي يخرج من اللّسان لا يجاوز الآذان".

 

الأمر الخامس: تناسب المعاني مع طريقة التلفّظ:

على الخطيب أن يحرص على أن تكون طريقة التلفّظ بالعبارات مناسبة لمعانيها, فمثلاً: الجملة الاستفهاميّة تحتاج إلى نمط خاصّ من التلفّظ مغاير لنمط تلفّظ الجملة الخبريّة، والجملة المنفيّة تختلف طريقة تلفّظها عن الجملة المثبتة، وكذلك سائر أنواع الجمل. وأوضح ممّا ذكرنا أسلوب تلفّظ الجملة التعجبيّة, فإنّ لها أسلوباً خاصّاً لا يقوم مقامه غيره، ولا يمكن توضيحه للقارئ الكريم بالعبارة، إلّا أنّ الإنسان يدرك ذلك بطبعه السليم وسليقته الصحيحة

 

64

 


41

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

في التلفّظ بالكلام العربيّ، بل إنّ ذلك لا يختلف من لغة إلى أخرى، وهو مشترك بين جميع الناس.

 

فلو تلفّظ الخطيب بالجملة التعجبيّة أو الاستفهاميّة كما يتلفّظ بالجملة الخبريّة لدلّ ذلك على أنّه غير ملتفت إلى معناها، ولما حصل للمستمع تلك الفائدة المرجوّة منها.

 

وأكثر ما يقع الخطيب بهذا النوع من الخطأ فيما لو كان يقرأ خطابه عن الورقة، إذ يجد نفسه قد بدأ بجملة على النهج الخبريّ مثلاً، ولا يلتفت إلى أنّها تعجبيّة إلّا بعد أن يتمّها، خصوصاً إذا كان يقرأ الخطبة لأوّل مرّة.

 

وهذا لا يحصل لمن يخطب ارتجالاً إلّا نادراً، كذلك يمكن تجنّبه إذا حضَّر خطبته وطالعها مراراً قبل إلقائها.

 

الأمر السادس: مراعاة أماكن الوقف والدرج:

حينما تنتهي الجملة، لا بدّ من التوقّف هنيهة ليعلم المخاطب انتهاءها، ولا يتوهّم اتّصالها بما بعدها. وأمّا في وسط الجملة فلا بدّ من وصل الكلام مع بعض حتّى لا يصبح مقطعاً خالياً عن الفائدة التامّة المرجوة من الكلام. ولا يصحّ الدرج في أماكن الوقف، ولا الوقف في أماكن الدرج، فلا بدّ من مراعاة كلّ منهما بحسب المقام.

 

ولا بدّ أن تكون أماكن الوقف شافية بيّنة. ولا يمكن معرفة ذلك وإدراكه من خلال القراءة بل لا بدّ من تتبّع استعمالات الخطباء

 

65


42

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

والاستماع إلى خطبهم والتأمل في الأماكن التي يقفون عليها والأماكن التي يدرجونها.

 

المسألة السادسة: نباهة الخطيب وفطنته

لا بُدّ للخطيب أن يتحلّى بخصلتين مهمّتين في باب الخطابة تشيران إلى نباهته وفطنته، وهما:

الأولى: حضور الذهن:

يجب أن يكون الخطيب حاضر الذهن حال الإلقاء، ملتفتاً إلى كلّ ما يقوله، وإلى ما يمكن أن يرد عليه من اعتراضات، وكيفيّة التخلّص منها والإجابة عنها. فإذا فاجأه أحدهم باعتراض، ردّه بردّ حسن ليّن دون إظهار عجز أو جهل أو تأفّف. وإذا سأله بعضهم عن أمر يتعلّق بخطبته يكون معدّاً له الجواب الشافي وإلّا وجد نفسه في مأزق لا يعرف الخروج منه وينقض بذلك غرضه، فلا يتمكّن من إقناع الجمهور بفكرته ولا تلقينهم عقيدته. ولْنُعطك على ذلك مثالاً:

دار بين السيّدة زينب بنت عليّ  عليه السلام وعبيد الله بن زياد حوارٌ بعد خطبة ألقتها بحضوره، أظهرت فيها نقصه، وعدم تديّنه، وأحصت عليه عيوبه وذنوبه، فقال رادّاً عليها، يقصد إبطال قولها أمام الحاضرين:من هي هذه المتنكّرة؟

 

فقال بعض من حضر: هي زينب بنت عليّ.

 

فقال لها:- بمكر وخبث محاولاً إظهارها مستحقّة لما وقع بهم

 

66


43

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

من السبي والإذلال فيكون بذلك بريئاً ولم يفعل ذنباً يستحقّ عليه التوبيخ -: الحمد لله الذي فضحكم، وأكذب أحدوثتكم.

 

فقالت الحوراء عليها السلام: الحمد لله الذي أكرمنا بالنبوّة وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفتضح الفاسق ويُكذّب الفاجر وهو غيرنا.

 

فلمّا سمع هذا التعريض به أمام مناصريه سلك طريقاً آخر لإفحامها: هل رأيت ما صنع الله بأخيك الحسين؟

 

فقالت له ببيان فصيح: ما رأيت إلّا جميلاً, هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن الفلاح يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة.

 

فأطرق عبيد الله بن زياد لا يحير جواباً، وقد أُفحم، واسودّ وجهه[1].

 

وليس هناك أوضح دلالة على أهمّيّة حضور الذهن حال الخطاب ممّا جاء في آخر خطبة المتقين للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حينما صعق همّام العابد، فاعترض رجل من الحاضرين على الإمام بقوله: فما بالك يا أمير المؤمنين؟ - يقصد أنّه هو الذي كان السبب بموت همّام -.

 


[1] راجع: ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان، المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف، 1369 - 1950م، لا.ط، ص71.

 

67


44

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

فأجابه عليه السلام: "وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوه - وسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُه فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا - فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ"[1].

 

الثانية: حسن التخلّص:

إنّ من الأمور المهمّة للخطيب أن يجيد التخلّص من الخطأ لو حصل ووقع فيه، ويُحسن الاعتذار عن ذلك، فإنّ كلّ إنسان معرّض للخطأ لا محالة، ولعلّه من المواقع الصعبة عليه أمام الجمهور الذي كان يقف فيه ملقّناً ومسدّداً أن يظهر بمظهر المحتاج إلى من يعلّمه، ويقوّم اعوجاجه ويصلح خطأه, فإن كان الخطيب ماهراً يعرف كيف يدير دفّة الخلاص، نجا بنفسه إلى شاطئ الأمان باعتذار حسن أو بطريقٍ خفيّ يسلكه للهروب من ورطة الغلط، ويُظهر نفسه كأنّه تعمّد ما صدر منه، وأنّ ذلك لم يكن خطأ، وإنّما قصده لعلّة في نفسه، ثمّ يبرِّر تلك العلّة ويوضّح السبب الذي دعاه إلى ذلك بوجه سليم بسيط لا يدع للمستمعين شكّاً ولا ريباً.

 

وسنضرب لك مثالين لتوضيح حسن التخلّص والاعتذار:

الأوّل: في فتح بلاد خراسان، كان قتيبة بن مسلم قائداً لجيوش بني أميّة، وكان وكيع أبن سود التميميّ أحد قادة جنوده، وقد صعد وكيع هذا يوماً لوعظ الناس وإرشادهم، فقال ضمن خطبته:

 


[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 93، خطبة المتقين، ص503.

 

68


45

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

"إنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أشهر. فقيل له: إنّها ستّة أيّام[1].

 

فقال وكيع بلهجة البصير الواثق من نفسه وكأنّه لم يصدر منه أيّ خطأ: وأبيك لقد قلتها، وإنّي لأستقلّها"[2].

 

أيّ أنّه يرى أنّ ستّة أشهر قليل على خلق السماوات والأرض فكيف بستّة أيام؟ فما ذلك إلّا لأنّ الله قويّ عزيز، فلا بدّ من إطاعته وعدم التعرّض له بالمعصية.

 

الثاني: رُوي أنّ الشيخ محمّد تقي فلسفيّ صاحب كتاب "الطفل بين الوراثة والتربية"، وهو من مشاهير الخطباء الإيرانيّين المعاصرين، كان يخطب في مناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة المرحوم آية الله البروجرديّ الذي كان مرجعاً للشيعة آنذاك، فقال في طيّ خطابه هذه العبارة: "إنّ آية الله البروجرديّ دامت بركاته...".

 

وهذا خطأ منه إذ كان عليه أن يقول "قدّس سرّه" أو "رحمه الله" أو "أسكنه الله فسيح جنّاته" أو ما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هكذا مقام، فالتفت إلى خطئه وتابع قائلاً: "نعم، دامت بركاته, لأنّه وإن ذهب للقاء ربّه إلّا أنّ بركات أفعاله الخيّرة دائمة ولا تزال بيننا".

 


[1] إشارة إلى قوله تعالى: ﴿خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، سورة الأعراف، الآية 54.

[2] أحمد زكي، جمهرة خطب العرب، مصدر سابق، ج3، ص357.

 

69


46

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

المسألة السابعة: السيطرة على المجلس

لا بدّ أن يتحلّى الخطيب بالقدرة على السيطرة على المجلس من جهة إصغاء الحاضرين جميعاً، فإن حاول بعضهم التشويش عرف كيف يتوجّه نحوه وهو يتابع كلامه بصوت عالٍ، وكأنّه يقول له: "لا تتكلّم أثناء كلامي"، وإذا أحسّ بأنّ هناك من يتكلّم مع جالسٍ بجانبه، عرف كيف يورد في ضمن كلامه، وعلى نحو الجملة الاعتراضيّة، ما يعرّض فيه بهما ممّا يجعلهما يقلعان عن ذلك ويؤدّب بذلك الباقين فلا يحاول أحد خلق ضوضاء أثناء الإلقاء.

 

وقد يكون من المناسب أن يصمت قليلاً بشكل ملحوظ ليسمع الناس الحاضرون صوت الذي يتكلّم مع زميله، فيخجل ويمسك ولا يعود لمثلها.

 

وكلّما كان الخطيب متفاعلاً مع خطابه، وكان خطابه مؤثّراً في المستمعين كلّما سيطر على الحفل أكثر، وإلّا فسوف لن يتمكّن من كبح جماح الضوضاء التي قد تزداد حتّى تتغلّب عليه وتلزمه الصمت.

 

وقد ورد أنّ ديكوب، وهو أحد علماء النفس الفرنسيّين، وكان نائباً في البرلمان الفرنسيّ، يصف الخطيب النيابي الفاشل الذي لا يعرف كيف يسيطر على المستمعين: "إذا استوى – الموصوف - على منبر الخطابة أخرج من محفظته أوراقاً فنشرها أمامه على الترتيب وشرع يخطب مطمئناً، وهو يفتخر في نفسه بأنّه سيبثّ عقيدته لتسكين روح سامعيه, لأنّه وزن أدلّته وحرّرها، وأعدّ شيئاً كثيراً من

 

70


47

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

الإحصاءات والحجج، وأيقن أنّ الحقّ في جانبه، وأنّ مُعارضَه لا يثبت أمام الحقيقة الناصعة التي يأتي بها، وهكذا يبدأ معتمداً على صواب رأيه وإصغاء إخوانه, لاعتقاده أنّهم لا يطلبون إلّا السجود أمام الحقّ. وبينما هو يخطب إذ تأخذه الدهشة من اضطراب الحاضرين، ثمّ يتقزّز بالضوضاء الناتجة من ذلك الاضطراب، ويتساءل كيف لا يسود السكون؟ وما السبب يا ترى في هذا الانصراف العامّ؟ وما الذي يدور على ألسنة أولئك الذين يتحادثون فيما بينهم؟ وما السبب القوي الذي يحمل ذاك على ترك مجلسه؟ يتساءل الخطيب هكذا والحيرة تعلو جبهته، فيفرك حاجبيه ويمسك عن الكلام، ويشجّعه الرئيس فيعود بصوت مرتفع، فيزيد الأعضاء في عدم الإصغاء إليه، فيجهر ويهتزّ، فتزداد الجلبة حواليه، ويعود لا يسمع نفسه فيمسك عن الكلام مرة أخرى ثمّ يخشى أن يدعو سكوته إلى أصوات (الأقفال الأقفال)، فيرجع إلى خطابته بما فيه من قوّة، وهناك تعلو الجلبة ويختلط الحابل بالنابل ممّا لا يقدر على وصفه الواصفون"[1].

 

خلاصة المسائل السبعة

ومن كلّ ما تقدّم خلال المسائل السبع، نستخلص أنّه يجب على الخطيب أن يكون سائقاً ماهراً يعرف مقصده وهدفه جيّداً، فيسير


 


[1]  لوبن، غوستاف، روح الاجتماع، ترجمة أحمد فتحي زغلول، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر-القاهرة، ص 136 - 137.

 

71


48

الدّرس الخامس: الجهة الخاصـّة للخطيب (ب) ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب (3)

بمن معه من المسافرين الذين يُقلّهم إلى النقطة التي حدّدها لنفسه، عالماً بمكان تحرّكه وابتدائه، عارفاً بموضع وصوله وانتهائه، يُسرع بهم طوراً ويبطئ أحياناً، ويذهب بهم شمالاً مرّة ويميناً مرّة أخرى، حتّى إذا تعب الركّاب من السفر وشعروا بالملل من طول الجلوس عرف كيف يعرج بهم على واحة مريحة يتناولون قسطاً من الراحة في ظلالها، فيورد لهم قصّة طريفة أو حكاية مضحكة أو مثالاً غريباً، فيستعيدون نشاطهم وتتجدّد عزيمتهم، ثمّ يتابع بهم المسير إلى الهدف المحدّد والنقطة المرجوّة وهم في غاية النشاط والسرور والراحة.

 

72


49

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

الدرس السادس

الخطاب (1)

تهيئة موادّ الخطاب‏

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى مفهوم تهيئة مواد الخطاب.

2- يعدّد مراحل تهيئة مواد الخطاب.

3- يبيّن كيفيّة كتابة خلاصة الخطاب للمتمرّسين.

 

75


50

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

تمهيد

يمكن وضع منهاج تدريجيّ لتهيئة موادّ الخطاب، وجمعها يتكوّن من ستّ مراحل تخدم الخطيب بشكل كبير، ولا بدّ من اتّباعه للمبتدئ، وكلّ من لم يتمرّس في هذا الفنّ.

 

وأمّا من تمرّس فيه واشتدّ ساعده فقد لا يحتاج لتحضير خطابه إلّا إلى مراجعة بسيطة لبعض المصادر ليضيف إليها ما لديه من معلومات سابقة، وينسّق الجميع في ذهنه ليخرج بخطبة كاملة متكاملة.

 

تهيئة موادّ الخطاب‏

لتهيئة موادّ الخطاب مراحل عديدة، وهي:

المرحلة الأوّلى: تحديد نوعيّة الخطاب:

تحديد نوعيّة الخطاب المنويّ إلقاؤه، كأن يكون في حقل الأخلاق أو في حقل التفسير أو السياسة أو التاريخ أو القضاء، كما لو كان الخطيب قائداً عسكريّاً أو مسؤولاً سياسيّاً أو واعظاً دينيّاً أو محاضراً

 

77


51

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

في علم التاريخ أو كان محامياً عن متّهم أو وكيلاً للنيابة العامّة أو ما شابه ذلك، فإنّ عليه أن يحدّد نوعيّة الخطاب.

 

المرحلة الثانية: تحديد عنوان الموضوع:

تحديد عنوان الموضوع الذي سيتناوله في خطبته، مثلاً:

"الغيبة" في الموضوع الأخلاقيّ.

"تفسير سورة القدر" في علم التفسير.

"تحديد الموقف العمليّ للمسلمين في مقابل الغزو الفكريّ" في عرض المفاهيم الإسلاميّة، أو تطبيق السياسة الإسلاميّة.

"معركة النهروان" في التحليل التاريخيّ.

"الدفاع عن متّهم بالقتل" في القانون والقضاء. وما شابه ذلك.

 

المرحلة الثالثة: الرجوع إلى المصادر الأساسيّة حول الموضوع:

طلب الموضوع من مظانّه من الكتب التي تتعرّض لهذا النوع من الخطب أو البحوث، وعليه أن يراجع كتابين في كلّ علم على أقلّ تقدير، وكلّما طالع أكثر وعدد المصادر كان أفضل، فإنّ ذلك يعطيه مجالاً أوسع في استعراض الآراء ومناقشتها والاستفادة منها في إثبات المطلوب، ويفسح له في المجال للتعرّض لدقائق الأمور وجزئيّاتها, ففي موضوع "الغيبة" يراجع مثلاً: "المحجّة البيضاء" للفيض الكاشانيّ، وكتاب "الغيبة" للشهيد الثاني...

 

78


52

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

وفي موضوع التفسير يراجع مثلاً: "الكشّاف" للزمخشريّ، و"مجمع البيان" للطبرسيّ...

 

وفي الموضوع التاريخيّ يراجع مثلاً: "تاريخ الطبريّ"، و"مروج الذهب" للمسعوديّ...

 

ويمكن معرفة الكتب التي تحتوي على مراد الخطيب بواسطة أمرين:

1- أن يكون عنده اطّلاع تفصيليّ على ما في الكتب التي تخدمه نتيجة مطالعاته السابقة، أو اطّلاع عامّ إجماليّ على الكتب التي تمتّ إلى موضوعه بصلة، بحيث لو راجعها لتفتّحت أمامه أبواب أخرى ومصادر ثانية لموضوعه.

 

2- مراجعة فهارس المكتبات العامّة في المادّة التي يريد البحث فيها، فيبحث في فهارس مادّة التاريخ عن الكتب التي تناسب موضوعه، وهكذا في التفسير والأخلاق وغيرهما[1].

 

ويجب ألّا تخفى على الخطيب أمورٌ كهذه، وإلّا فعليه أن يعود للمطالعة العامّة لمدّة من الزمن، فيقرأ بتروٍّ وإمعان، ويكتب رؤوس أقلام لما قرأ، ويحفظ ما له علاقة بالمواضيع التي يحتمل أن يتطرّق إليها ويبحث عنها.


 


[1] راجع: أحمد شلبي، كيف تكتب بحثاً أو رسالة، ص41.

 

79


53

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

المرحلة الرابعة: البحث عن الشواهد الداعمة:

البحث عن الشواهد التي تنفع الخطيب في دعم الموضوع الذي يريد التحدّث فيه كالبحث عن الآيات التي تتعرّض للغيبة مثلاً، والأحاديث الشريفة، والأقوال المأثورة، والقصص التي تناسب المقام، وبعض الأشعار والأمثال وما شابه ذلك، ممّا سيأتي تفصيله وكيفيّة الاستفادة منه.

 

ولعلّ البحث عن الشواهد أو ما نسمّيه بالأعوان أصعب وأشقّ من البحث عن أصل الموضوع، وذلك لأنّ الأعوان أمور جزئيّة متفرّقة هنا وهناك، فربّما تحصل على شاهد للأخلاق من كتب التاريخ، وربّما تحصل على شاهد للسياسة من كتب التفسير وهكذا...

 

ويمكن القول بكلّ وضوح إنّ سعة اطّلاع الخطيب، وكثرة معلوماته ومحفوظاته تظهر جليّة في هذا المضمار.

 

فمن الخطباء البارزين من باستطاعته أن يعتمد على محفوظاته في إلقاء الخطب الطوال، ويذكر فيها من الشواهد والأعوان ما لا يدع عند السامع شكّاً في صحّة كلامه وأحقّيّته، فيورد قصّة من هنا، ويروي حادثة من هناك، ثمّ يدعمه بالآيات القرآنيّة، وبالشعر المحفوظ بشكل دقيق، وعليه ألّا ينسى إيراد اسم صاحب الأبيات أو أسماء الأشخاص الذين نزلت الآية فيهم أو دارت القصّة حولهم.

 

80


54

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

المرحلة الخامسة: تلخيص الخطاب بشكل نقاط رئيسة للمتمرّسين:

كتابة النقاط الرئيسيّة على ورقة بشكل مرتّب ومنسّق على هذا الشكل:

1- الآية أو الحديث أو القول المأثور الذي يفتتح به الخطاب.

 

2- بعض الألفاظ الخاصّة التي تصلح للمقدّمة كمدخل إلى قلب الموضوع.

 

3- طرح الموضوع، وذلك على النحو التالي:

أ- تعريف محور البحث وتوضيح المعاني التي تحيط به.

ب- ذكر التقسيمات والتفريعات بشكل مرتّب ومنظّم.

ت- تبيين حكم كلّ قسم.

 

4- الأدلّة والشواهد والأمثلة على كلّ قسم من الأقسام المتقدّمة، بأن تُكتب إلى جنبه.

 

5- القصص المناسبة للمقام، والتي لا بدّ من توزيعها بالشكل الذي يتناسب مع نقاط البحث...

 

6- الأعوان العامّة أو الخاصّة كالآيات والأحاديث والأمثال والأشعار...، بشرط توزيعها في أماكنها المناسبة حين الكتابة أو على الأقل حين الإلقاء.

 

7- الخاتمة وما يمكن أن يوجد فيها من ألفاظ بها أو أعوان، كما سيأتي في بحث الخاتمة.

 

81


55

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

فإذا كان للخطيب سابقة خطابيّة ويتمتّع بذهنيّة جيّدة، يمكنه أن يكتفي بهذا المقدار من التحضير، وإلّا فلا بدّ أن يمرّ في المرحلة السادسة.

 

المرحلة السادسة: كتابة الخطاب مفصّلاً:

كتابة الخطاب مفصّلاً، كما لو كان الخطيب يكتب بحثاً أو رسالة أو مقالة، ولا يوجد كثير فرق بين الخطاب والبحث إلّا من حيث نوعيّة القضايا التي تستعمل في الخطابة، فإنّها مشهورات ذائعات في الغالب دون البحث العلميّ أو المقالة الأدبيّة، ومن حيث الألفاظ الرنّانة التي يمتاز بها الأسلوب الخطابيّ عن غيره، وهكذا من حيث التكرار, فإنّه يستحسن في الخطابة ولا يستحسن في غيرها.

 

ثمّ بعد إتمام الكتابة يطالع الخطاب عدّة مرّات ويصحّح ما وقع فيه من الخطأ ثمّ يقرأه بصوت عالٍ عدّة مرّات ليتعوّد على قراءته ولا يُفاجأ به على المنبر.

 

فإن كان الخطيب مبتدئاً، فلا بدّ له أن يصطحب معه الأوراق التي كتب الخطاب عليها ليتلوه من على المنبر.

 

وننصح الخطيب هنا ألّا يظهر الأوراق للمخاطبين - إن أمكنه ذلك - وخصوصاً إذا كان الموضوع طويلاً، وقد استغرق عدّة أوراق، أو كان قد كتبه على ورقة كبيرة، فإنّ رؤية المخاطب لهذه الأوراق الكبيرة ومعرفته بأنّها ستتلى عليه بعد قليل بأكملها، تقود إليه الضجر والسأم

 

82


56

الدرس السادس: الخطاب (1) تهيئة موادّ الخطاب

باكراً حتّى في بداية القراءة. فإن أمكنه ستر الأوراق الكثيرة خلف المنبر سترها، وإلّا فالأحسن أن تُكتب على ورقة واحدة أو اثنتين من الحجم المتوسّط أو الصغير، وعدم مراعاة هذا الأمر سيؤدّي بالخطيب إلى نفس المصير الذي وصل إليه الخطيب النابي الذي مرّ كلام "ديكوب" عنه.

 

وأمّا إذا كان صاحب خبرة سابقة وتجربة ماضية، فالأحسن له أن يكتب رؤوس الأقلام فقط، أي يكتفي بالمرحلة الخامسة التي تقدّم الكلام عنها، ثمّ يضع الورقة في كفّه بشكل غير ملحوظ للجمهور، ويشرع في خطابه. فإذا احتاج إلى مراجعة آية أو نقطة ما، استرق النظر إلى الورقة فقرأها أو استذكر بها ما يريده.

 

وهذا الأسلوب متّبع عند كثير من الخطباء. وقد شاهدت العديد من الخطباء لا يبدو عليهم التحرّج من هذا الأسلوب، وميزته أنّه ارتجال إلى حدّ ما، ويُعين على الارتجال التامّ. والمخاطب يرتاح إلى الخطاب الارتجاليّ أكثر بكثير من ارتياحه للخطاب المقروء عن الورقة، وهذا ما سنشير إليه في الدرس الآتي.

 

83

 


57

الدرس السابع: الخطاب (2) الارتجال‏

الدرس السابع

الخطاب(2)

الارتجال‏

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف مفهوم الارتجال.

2- يعدّد الأمور المساعدة على الارتجال.

3- يبيّن كيفية اكتساب الارتجال.

 

85


58

الدرس السابع: الخطاب (2) الارتجال‏

الارتجال

لا بدّ للخطيب أن يعوّد نفسه على الارتجال، فيشارك في إلقاء الخطب في المناسبات البسيطة وبين أصدقائه، ثمّ يحاول أن يرتجل في مناسبات أكبر وأهمّ، وهكذا إلى أن يصل إلى المرتبة المطلوبة، ويقصد بالارتجال:

أ- لغة:

قال الزبيدي: "ارْتَجَلَ الكَلامَ، ارْتِجالاً: مِثْلُ اقْتَضَبَهُ اقْتِضاباً، وهُما إذا تَكَلَّمَ به مِن غَيْرِ أنْ يُهَيِّئَهُ قَبْلَ ذلك.

وقال الرَّاغِبُ: ارْتَجَلَهُ: أَوْرَدَهُ قائِماً، مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ.

وقالَ غيرُه : مِن غَيْرِ تَرَدُّدٍ ولا تَلَعْثُمٍ.

وقال بَعْضُهم: مِن غَيْرِ رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ، وكُلُّ ذلكَ مُتَقارِبٌ..."[1].

 


[1] الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس، تحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1994م، لا.ط،ج14، ص267.

 

87


59

الدرس السابع: الخطاب (2) الارتجال‏

ب- اصطلاحاً:

المراد من الارتجال هنا الاستغناء عن الورقة، وإن كان بعضهم يفسّره بأنّه الإلقاء دون تحضير مطلقاً.

 

الأمور المساعدة على الارتجال

من أهمّ الأمور التي تساعد على الارتجال كثرة محفوظات الخطيب وسعة اطّلاعه، بل يمكن القول إنّه من الصعب جدّاً أن يصبح المرء خطيباً مرتجلاً بدون محفوظات يعتمد عليها.

 

وهناك أشياء معيّنة إذا حفظها الخطيب ساعدته على الارتجال:

أوّلاً: أكبر قدْر ممكن من القرآن الكريم حفظاً محكماً مع مراعاة كلّ ما في الآية من حركات وسكنات، والاطّلاع على معاني الآيات إجمالاً.

 

ثانياً: أكبر قدْر ممكن من الأحاديث النبويّة، وروايات الأئمّة عليهم السلام، وخصوصاً الأحاديث القصيرة أو ما يُسمّى بالكلمات القصار.

 

ثالثاً: بعض خطب نهج البلاغة مثل:

1- خطبة المتّقين.

2- خطبة الجهاد.

3- الخطبة الشقشقيّة.

4- خطبة الحثّ على الصلاة.

5- كتابه عليه السلام إلى عامله في البصرة عثمان بن حنيف, فإنّ فيها مادّة واسعة يمكن الاستشهاد بها في كثير من الموضوعات.

 

88

 


60

الدرس السابع: الخطاب (2) الارتجال‏

6- عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر عامله على مصر.

 

رابعاً: أكبر قدْر ممكن من الأقوال المأثورة والحِكم والأشعار والأمثال.

 

خامساً: جمع ما تيسّر من القصص الهادفة والقصيرة التي كان لها أساس في الكتب دون ما كان على سبيل الخرافة والأسطورة، اللّهمّ إلّا بعض القصص العظيمة الفائدة.

 

سادساً: أكبر قدْر ممكن من استعمالات البلغاء وعباراتهم، وتركيباتهم القابلة للحفظ.

 

سابعاً: الاعتياد على استعمال الكلمات الجَزلة مكان الكلمات المبتذلة.

 

مثل أن يقال: "ديمة" مكان "غيمة"، و"عَبرة" مكان "دمعة"، و"ليث" مكان "أسد"، و"صارم" مكان "السيف" و"أديم" مكان "التراب"، و"قرطاس" مكان "الورق"، وما إلى ما هنالك من ألفاظ من الواضح إنّها أجمل من غيرها ممّا سار على ألسن الناس وتؤدّي نفس المعنى تقريباً.

 

كيفيّة اكتساب الارتجال

إنّ الشي‏ء الأساسي الذي يحتاجه الارتجال هو الإلقاء وممارسته بين الناس والتعوّد على مواجهتهم والإقبال عليهم, فإنّ ذلك يعلّم الخطيب أشياء كثيرة لا يمكنه أن يتعلّمها من الخطابة التي تعتمد

 

89


61

الدرس السابع: الخطاب (2) الارتجال‏

على الورقة, فقد يحتاج الخطيب في بعض الأحيان أن يغيّر بعض الأفكار التي وردت ضمن خطابه نتيجة عروض طارئ يستلزم ذلك، كما لو كان ضمن الخطاب فقرة ترحيب بقدوم شخص يُتوقّع حضوره الحفل ولم يحصل ذلك أو بالعكس، فقد يلزم الترحيب به لمجيئه فجأة. فإن كان الخطيب مرتجلاً أمكنه فعل ما يريد من الإطالة أو التقصير أو الحذف أو الزيادة أو التبديل لبعض الأمور أو غير ذلك ممّا لا يتيسّر فعله لمن لا يمكنه الاستغناء عن الورقة.

 

وللخطابة تلاوة مميّزة عن الارتجال يجب أن لا نبخسها حقّها وهي: أنّ الخطيب المرتجل قد يلتبس عليه ما كان يريد أن يقوله ثمّ يأتي إلى ذهنه أيّ شي‏ء ممّا يصلح للمقال، بخلاف من يستفيد ممّا كتبه، فإنّ ورقته في جيبه يتفقّدها قبل الصعود إلى المنبر، فإذا استوى عليه أخرجها وتلا ما فيها.

 

ولا يمكن للمرتجل التخلّص من هذه الحالة إلّا إذا كان متمرّساً حادّ الذهن متوقّد البصيرة، فإنّه يأتي بدل الكلام الذي كان يريد أن يقوله ونسيه بكلام آخر ربّما كان أحسن من الأوّل وأجمل.

 

وجدير بالذكر هنا، أنّ العرب لم يكونوا ليستعملوا الإلقاء الإملائيّ أو ما شابه ذلك في خطبهم مطلقاً، بل كان عالمِهم وجاهلهم، سيّدهم ومسودهم، أميرهم ومأمورهم، يلقون خطبهم ارتجالاً، ولذلك اشتُهروا بأنّهم أقوى الشعوب طرّاً على الارتجال.

 

90


62

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

الدرس الثامن

الخطاب (3)

صياغة الخطاب‏

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح مقدّمة الخطاب وتركيبتها.

2- يبين مفهوم العرض وكيفيّته.

3- يعدّد محتويات الخاتمة.

 

93


63

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

تمهيد

يقع البحث في صياغة الخطاب من جهتين: الجهة الأولى: هيئة الخطاب‏، وهذا ما سنشير إليه في هذا الدرس، والجهة الثانية: مادة العرض كما سيأتي بيانها في الدرس الآتي.

 

صياغة الخطاب‏

تتشكّل الهيئة العامّة للخطاب من ثلاثة أجزاء رئيسيّة هي:

1- مقدّمة.

2- عرض.

3- خاتمة.

 

وقد قال عنها الشيخ الرئيس: "وللأقاويل الخطابيّة صدر واقتصاص وخاتمة"[1]، وإليك بيانها على الشكل الآتي:


 


[1] ابن سينا، الشفاء، قسم الخطابة، مصدر سابق، ج4، ص236.

 

95


64

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

2- محتويات مقدّمة الخطاب:

لا بدّ أن تحتوي المقدّمة على ما نفتتح به الخطبة كالبسملة والحمد والصلاة على النبيّ وآله عند المسلمين، أو الاكتفاء بالسلام على الجمهور كما يفعل غيرهم، وربّما كان هناك من غير المسلمين من لا يتحرّج من البدء بها بدون أيّ شي‏ء من هذا القبيل.

 

وكان المسلمون يسمّون الخطبة التي لا يُبتدأ فيها بما ذكرنا بالبتراء، ولعلّه لأجل ذلك سمّيت خطبة زياد بن أبيه التي ألقاها حينما تولّى البصرة من قِبل معاوية بـ"البتراء" حتّى عُرفت بهذا الاسم.

 

ثمّ بعد الحمد والثناء يدخل الخطيب في ذكر أمور عامّة تكون كعَنْونة لما سوف يأتي الكلام عنه مفصّلاً في العرض.

 

ولا بدّ في المقدّمة من مراعاة الهدوء والتمهّل في الإلقاء واستعمال الألفاظ الجزلة الرقيقة الناعمة مهما أمكن.

 

ولا بأس بأن تكون محتوية على بعض الاستعارات والتشابيه ممّا يجعلها حسنة مقبولة لدى السامع.

 

وغالباً ما تُلقى المقدّمة بصوت منخفض كما قدّمنا في بحث الإلقاء، إلّا الخطب العسكريّة, فقد يلزم الأمر، بل لعلّ ذلك هو الغالب فيها، أن يبدأ الخطيب بكلمات قاسية فخمة وبصوت عالٍ، كأن يقول: "الحَمْدُ للهِ قاصِمِ الجَبَّارينَ مُبِيرِ الظَّالِمِينَ مُدْرِكِ الهارِبِينَ نَكالِ الظَّالِمِينَ صَرِيخِ المُسْتصرِخِينَ..."[1].


 


[1] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص580.

 

97


65

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

وتختلف افتتاحيات الخطب باختلاف أنواعها, فالخطب الدينيّة مثلاً إن كانت من خطب الوعظ والإرشاد تُفتتح عادة بآية كريمة من القرآن الكريم أو بحديث نبويّ أو حديث قدسيّ وما شابه ذلك، وإن كانت من خطب المجالس الحسينيّة تُفتتح عادة بعدّة أبيات شعريّة تصوّر بعض ما جرى في كربلاء وما شابه ذلك.

 

وفي غير الخطب الدينيّة تختلف الافتتاحيّات من خطيب إلى آخر ومن حفل إلى حفل ومن موضوع إلى موضوع ومن جمهور إلى جمهور ممّا لا يمكن تحديده.

 

فقد يبدأ الخطيب افتتاحيّته بذكر قول مأثور لأحد الحكماء أو الفلاسفة، وربّما بدأ بذكر مَثَل شعبيّ أو ببيت من الشعر. وقد يشرع الخطيب في خطبته بتقديم نفسه كأحد أفراد الجمهور طالباً منهم أن يَعدّوه واحداً منهم وألّا ينظروا إليه باعتباره صاحب مركز مرموق أو منصب اجتماعيّ أو مسؤوليّة سياسيّة، وربّما كثر ذلك في افتتاحيّات الخطب الأخلاقيّة حيث يذكر لهم الخطيب أنّ ما سيعظهم به إنّما هو تذكرة له قبلهم، وأنّه يعلّم نفسه قبل نفوسهم، فإنّ ذلك يدعو لراحة نفوس سامعيه وإقبالهم عليه.

 

وقد يبدأ الخطيب بذكر ما هو مسلّم عندهم ممّا لا يشكّون في صحّته، حتّى إذا دلف إلى العرض اتّخذ ذلك ذريعة وبنى عليه أفكاره ليصل إلى مطلوبه ممّا لم يكونوا يتوقّعونه، وحينئذٍ لا يجدون مفرّاً من الإذعان بما جاء، ومن أمثلة ذلك ما ورد في افتتاحيّة خطبة الوداع

 

98

 


66

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

التي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خمّ حيث أراد إلزامهم بولاية عليّ بن أبي طالب بعده وفيهم من يكره ذلك، فقال:

"ألست أوّلى بكم من أنفسكم؟

قالوا: اللّهمّ بلى.

فقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذُل من خذله..."[1].

 

وكذلك ما ورد في خطبته بقومه حينما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[2], فجمعهم، وقال لهم: "أرأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبّحكم أو ممسّيكم ما كنتم تصدّقوني؟

قالوا: بلى.

قال: فإنّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد"[3].

 

ومن الافتتاحيّات الناجحة في استدراج المستمعين أن يقول الخطيب إذا كان يخطب خطاباً عسكريّاً ويهدف إلى حثّهم على الاستبسال والتضحية: "أيّها الأبطال، يا من قهرتم الأعداء حتّى خافتكم الأمم، يا من لم يركعوا لظالم قطّ، ولن يركعوا مهما تكاثرت الأعداء، وتكالبت في وجههم الوحوش الضارية، أنتم الشجعان يا أباة الضيم...".

 

ثمّ بعد تقديم مقدّمة كهذه يذكر لهم ما يريده.


 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص479.

[2] سورة الشعراء، الآية 214.

[3] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج7، ص357.

 

99


67

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

وممّا يحسن في المقدّمة مراعاة الاستهلال, وهي من المحسّنات البديعيّة وقد عرّفوها بأنّها: "... ما ناسب المقصود وكان فيه إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله ليكون المبدأ مشعراً بالمقصود، والانتهاء ناظراً في الابتداء، ويُسمَّى ذلك (براعة الاستهلال)"[1].

 

ولنوضّح لك براعة الاستهلال بالمثال نعرض بين يديك ما ورد في مقدّمة كتاب الصمديّة في النحو، للشيخ البهائيّ، حيث قال: "أحسن كلمة يبتدأ بها الكلام، وخير خبر يختم به المرام، حمدك اللّهمَّ على جزيل الأنعام، والصلاة والسلام على سيّد الأنام، محمّد وآله البررة الكرام، سيّما ابن عمّه عليّ عليه السلام الذي نصبه علماً للإسلام، ورفعه لكسر الأصنام، جازم أعناق النواصب اللّئام، وواضع علم النحو لحفظ الكلام..."[2].

 

انظر إلى كلمة "يبتدأ"، "خبر"، "كلمة"، "نصبه"، "رفعه"، "علماً"، "جازم"، "النواصب"، وكلمة "كسر"، ولاحظ تناسبها مع الموضوع الذي وضع له ذلك الكتاب وهو علم النحو.

 

وهكذا ظهر لنا كيف نأتي بمقدّمة موفّقة في مستهلّ خطبتنا، وما علينا إلّا التمرّن والتطبيق.

 

 


[1] نظام الأعرج، حسن بن محمد، شرح النظام على الشافيّة، تحقيق محمد زكي جعفري، دار الحجة للثقافة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص35.

[2] الحسيني، صادق مهديّ، شرح الصمديّة (للشيخ البهائي)، مطبعة الآداب، العراق- النجف الأشرف، 1385هـ، لا.ط، ص4 - 5.

 

100


68

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

وفي ختام بحث المقدّمة نقدّم لك مثالاً حيّاً يحتوي على ما ذكرنا من شرائط، ويأخذ بيدك كي تحسن افتتاحيات الخطب: قال الإمام عليّ عليه السلام في مقدّمة خطبة المنافقين، بعد البسملة: "نَحْمَدُه عَلَى مَا وَفَّقَ لَه مِنَ الطَّاعَةِ، وذَادَ عَنْه مِنَ الْمَعْصِيَةِ ونَسْأَلُه لِمِنَّتِه تَمَاماً، وبِحَبْلِه اعْتِصَاماً، ونَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللَّه كُلَّ غَمْرَةٍ وتَجَرَّعَ فِيه كُلَّ غُصَّةٍ، وقَدْ تَلَوَّنَ لَه الأَدْنَوْنَ وتَأَلَّبَ عَلَيْه الأَقْصَوْنَ، وخَلَعَتْ إِلَيْه الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِه بُطُونَ رَوَاحِلِهَا...".

 

ثمّ قال ضمن العرض: "أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّه بِتَقْوَى اللَّه وأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ والزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً ويَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، ويَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ ويَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ..."[1].

 

فلاحظ كيف بدأ بالحمد والصلاة، وكيف ضمّن الصلاة الإشارة إلى ما يريد التعرّض له في العرض، وكيف ذكر ألفاظاً توحي بما سيأتي، مثل كلمة "الاعتصام بحبل الله"، وكلمة "تلوّن"، وكلمة "تألّب" ممّا يتناسب مع النفاق كما هو ظاهر.

 


[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، خطبة رقم 194، ص207.

 

101


69

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

الجزء الثاني: العرض:

وهو ما يريد الخطيب طرحه من الدعاوى والأدلّة ممّا عليه أن يُقنع الجمهور به. وهو العمدة في الخطاب وأساسه وركيزته, فإن نجح الخطيب فيه حقّق هدفه من الخطبة وإلّا فليس نصيبه إلّا الإخفاق،

ويُشترط فيه أمران أيضاً:

الأوّل: تقسيم الأفكار:

أن يقسّم الأفكار التي يريد عرضها تقسيماً سليماً شاملاً لجميع ما يحتوي عليه المقسَّم من جزئيّات يلزم طرحها. ولا بدّ أن يعرض الأقسام بشكل واضح وسهل خالٍ من التعقيد كي يَسهُل على السامع تصوّرها وضبطها، والتحرّز قدر الإمكان عن استعمال الأسلوب العلميّ الجافّ كأن يقول: "الشيء الفلانيّ لا يخلو إمّا كذا أو كذا, فالأوّل دليله كذا ويردّ عليه بكذا، والثاني كذا ويردّ عليه بكذا"، وإنّما من المستحسن جدّاً الاستفادة من الأسلوب الأدبّي بأن يعرض الأقسام متناسيّاً الطريقة المبتذلة للتقسيم، مستعملاً عبارات أدبيّة جيّدة، على هذه الطريقة:

قسّم المتقدّمون الكائنات الأرضيّة إلى ثلاثة أجناس عامّة تُسمّى بالمواليد الثلاثة، وهي: الجماد، والنبات، والحيوان، وعرّفوها بأنّ منها ما ينمو، ومنها ما ينمو ويعيش، ومنها ما ينمو ويعيش ويحسّ.

 

102

 


70

الدرس الثامن: الخطاب (3) صياغة الخطاب‏

الثاني: الترتيب والترابط:

أن تكون الأفكار والأقسام التي يراد طرحها مرتّبة ومترابطة بعضها ببعض كي يسهل على السامع الانتقال من أوّلها إلى ثانيها وهكذا حتّى الوصول إلى الغاية المنشودة. وهذا الأمر له فائدتان: الأولى أنّه يسهّل على السامع تصوّرها واستيعابها جميعاً، والثانية أنّه يسهّل على الخطيب حفظها وإلقاءَها.

الجزء الثالث: الخاتمة:

وتحتوي الخاتمة على صورة إجماليّة لما جاء في العرض، مصوغة بشكل محكم ومختصر، بحيث يبقى ما ورد فيها عالقاً في أذهان السامعين أطول مدّة ممكنة بعد انتهاء الخطاب. وفي الخاتمة يكون

استخلاص النتائج من الموضوع وتقديمه كقضيّة كلّيّة إلى الجمهور.

 

103

 


71

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

الدرس التاسع

الخطاب (4)

مادّة العرض‏

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد شروط مادّة العرض.

2- يشرح أهمية مراعاة القواعد النحوية والصرفيّة.

3- يتعرّف إلى حسن استخدام الألفاظ البلاغية وسبك الجمل.

 

107


72

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

تمهيد

تقدّم الكلام حول الجهة الأولى التي ينبغي مراعاتها عند صياغة الخطاب، وبينا الشروط اللازم توفرها في الهيئة العامة، وأمّا الجهة الثانية تقع للبحث في مادة العرض التي ينبغي على الخطيب أن يراعى فيها العديد من القواعد اللغوية في عدّة مستويات.

 

مادة العرض

1- أهميّة اللفظ:

يعتبر اللفظ هو العنصر الأساس في مادة العرض، وجاء في كتاب الشفاء حول أهمّيّة جهة اللَّفظ في الخطاب قوله: "للّفظ سلطان عظيم، وهو أنّه قد يبلغ به، - إذا أحكمت صنعته - ما لا يبلغ بالمعنى، لما يتبعه أو يقارنه من التخيّل. فإذعان النفس لما تُهيِّؤها له قوّة اللّفظ يقرّب البعيد من التصديق"[1].


 


[1] ابن سينا، الشفاء، قسم الخطابة، مصدر سابق، ج4، ص220.

 

109


73

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

فلا يمكن للنفس أن تركن للخطيب، وأن تذعن له بالاستماع، وأن تهيئ كل الجوارح للاستفادة منه إلا من خلال حسن استخدام الألفاظ وفق الشروط التي ينبغي مراعاتها فيه.

 

2- ضوابط استخدام اللفظ في مادة العرض:

ينبغي على الخطيب أن يراعي في مادة العرض للخطاب العديد من الشروط والضوابط المتعلّة بألفاظ العرض، وهذه الشروط والضوابط إمّا لازمة أو مستحسنة لا يجب مراعاتها - لن نذكرها لعدم الحاجة لها -، أمّا الأمور التي يلزم مراعاتها فعشرة أمور، هي:

الأوّل: وضوح اللفظ:

لا بدّ أن تكون الألفاظ التي يتكوّن منها الخطاب واضحة للمخاطبين بحيث يمكنهم فهمها بسرعة من دون حاجة إلى كثير تأمّل وإعمال نظر, فإنّ وضوحها يقرّب الهدف من متناول يد الخطيب، حيث يصبح من السهل عليه حملهم على الاعتقاد بصحّة ما يقوله، وكيف يأمل التأثير عليهم إذا استعمل كلمات غريبة بعيدة عن أذهانهم لا يفهمونها إلّا بالرجوع إلى كتب متن اللّغة؟!.

 

الثاني: مراعاة القواعد النحويّة:

يجب أن يحرّك الخطيب أواخر الكلمات تحريكاً صحيحاً، ويبتعد عن أسلوب تسكين أواخر الكلمات فراراً من الوقوع في الأخطاء النحويّة، فإنّ ذلك يعود عليه بسلبيّة كبيرة حيث ينزل مستوى خطابه

 

110


74

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

إلى أدنى المستويات ويصبح عاميّاً ليس عليه أي مسحة من الفصاحة.

 

ولا يخفى عليك أيضاً أنّ الخطأ في تحريك الكلمات يغيّر المعنى تغييراً أساسيّاً، بل ربما أفسد المعنى في بعض الحالات. ألا ترى أنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[1], لو قرئ بضمّ لفظ الجلالة لصار المعنى: أنّ الله هو الذي يخاف من العلماء، وأنّ قوله -تعالى-: ﴿أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[2]، لو قرأت كلمة "رسوله" بالكسر لصار المعنى أنّ الله بري‏ء من رسوله.

 

كلّ هذا بالإضافة إلى ما يتركه الخطأ النحويّ من اشمئزاز في نفوس سامعيه، واستصغار قدْره وقد مرّ ما لذلك من تأثير عليهم.

 

الثالث: مراعاة القواعد الصرفيّة:

اللّغة العربيّة لغة الاشتقاق، وللكلمة اشتقاقات متنوّعة ومتعدّدة، وعلى الخطيب أن يجيد اشتقاق ما يريده من ألفاظ كي تكون ألفاظ خطابه صحيحة الصياغة والتصرّف، وذلك يحتاج إلى اطّلاع على القواعد الرئيسيّة في علم الصرف وإتقانها، فمثلاً: يقال "نهى" "ينهى" وليس "ينهي" و"ينهَون" وليس "ينهُون". ويقال: "حاك الثوب" "يحوكه" وليس "يحيكه"... وهكذا.

 


[1] سورة فاطر، الآية 28.

[2] سورة التوبة، الآية 3.

 

111


75

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

الرابع: التلفّظ اللّغويّ الصحيح:

لكلّ كلمة، بالإضافة إلى ما لها في علمي النحو والصرف من أحكام، تَلفُّظ خاصٌّ من الناحية اللّغوّية, أي في أصل وضعها، يفرّقها عن غيرها ممّا يشابهها من الألفاظ. فمثلاً يقال: "مِنْ ثَمَّ" وليس "مِنْ ثُمَّ"، ويقال: "الغَسْل" إن أردنا المصدر، و"الغُسْل" إن أردنا اسم المصدر... وهكذا.

 

الخامس: مراعاة التذكير والتأنيث:

والمراد هنا المراعاة في كامل الخطبة في الحالات كلّها، إذ إنّ هناك بعض الحالات المحرجة للخطيب من هذه الناحية، فقد يتعرّض للكلام عن مجموعة نساء ومجموعة رجال ويُبتلى بلزوم إرجاع الضمائر بشكل صحيح إلى كلٍّ بحسبه، فيقال مثلاً: "حينما دخل عدّة نساء دكّان بائع الأزهار وهنّ يلبسن ثياباً فاخرة، أسرع البائع لخدمتهنّ ثمّ دخل ثلاثة رجال وألقوا التحيّة على الجميع فأجبن: عليكم السلام. وعندما حاول الرجال أن يجلسوا خجل النسوة وأردن الانصراف...".

 

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا

 

112

 


76

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[1].

 

السادس: مراعاة المفرد والمثنّى والجمع:

أمّا مراعاة المفرد فأمر يسير وكذلك الجمع إلى حدّ ما، وأمّا المثنّى فلا تخلو مراعاته من صعوبة بخاصّة إذا اجتمع المثنّى مع الجمع أو مع المفرد.

 

ولْنعد إلى نفس المثال المتقدّم لنطبّقه على حالة التثنية: "حينما دخلت امرأتان دكّان بائع الأزهار وهما تلبسان ثياباً فاخرة، أسرع البائع لخدمتهما، ثم دخل ثلاثة رجال وألقوا التحيّة على الجميع فردّتا: عليكم السلام. وعندما حاول الرجال أن يجلسوا خجلت المرأتان وأرادتا الانصراف".

 

قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾[2].

 

السابع: الترفّع عن الألفاظ الدنيئة:

كثيراً ما يحتاج الخطيب أن يعبّر عن أمر يُستقبح ذكره، كالعورة وفضلات الإنسان وما شابه ذلك، فلا بدّ له حينئذ من استعمال الكناية


 


[1] سورة الممتحنة، الآية 10.

[2] سورة القصص، الآيتان 23 - 24.

 

113


77

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

بدل التصريح كي لا يثير اشمئزاز السامعين.

 

وقد قال الشيخ الرئيس في هذا المضمار: "وقد يبدّل الاسم بالقول، إذا كان الصريح يُستبشع، مثل الاسم الصريح لفرج النساء، فالأحسن أن يبدّل فيقال: "عورة النساء"، كما يبدّل اسم "الحيض" بدم النساء، ويبدّل الاسم الصريح للجماع "بلمس النساء"، وربّما بدّل الاسم بالصفة المفردة، فيقال بدل الاسم الصريح للجماع: الوطء، وبدل اسم ذلك الذي لهنّ "العورة"، وربّما تُركت الصفة وفُزِع إلى التشبيه والاستعارة"[1].

 

الثامن: مراعاة تعدية الفعل المتعدّي ولزوم اللّازم:

لا بدّ أن يُعدّى الفعل المتعدّي إلى مفعوله أو مفعوليه أو مفاعليه بحسب استعمال كلّ فعل.

 

كما لا بدّ من التعدية بالحرف المناسب إذا أريد تعدية الفعل اللّازم فيقال مثلاً: "ذهبت إليه"، ولا يقال: "ذهبت له". ويقال: "رغبت عنه" إذا أريد التعبير عن إدبار النفس عن الشيء، و"رغبت فيه" إذا أريد إقبال النفس... وهكذا.

 

التاسع: مراعاة الرباطات:

الرباطات هي الحروف والأدوات التي يقتضي النطق بها مرّة أخرى لارتباط كلام آخر بها، فيجب الالتفات إليها ومراعاتها، فمثلاً إذا قال

 


[1] ابن سينا، الشفاء، قسم الخطابة، مصدر سابق، ج4، ص217.

 

114


78

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

المتكلّم: "أمّا أنا فقد قلت كذا", فإنّه يجب أن يأتي بأمّا أخرى تقابلها فيقول مثلاً: "وأمّا أنت فما فعلت شيئاً".

 

فإنّ الوقوف على "أمّا" الأوّلى هو نقصان في الكلام إلّا في حالة يراد فيها التعويض وهي نادرة. وعلى الخطيب أن لا يباعد بين الرباطين بحشو كثير ينسي ما بينهما من الاتّصال، وأن يراعي حقّ الرباط من التقديم والتأخير. قال الشيخ الرئيس:" فإنّه يجب أن يقول: "لمّا كان كذا، كان كذا".

 

فإنّ حقّ "لمّا" أن يقدّم ويقول: "كان كذا لأنّه كان كذا".

 

فإنّ تقديم "لأنّ" قبل الدعوى سَمْجٌ[1]"[2].

 

العاشر: سبك الجمل:

يجب مراعاة الدقّة في سبك الجمل، بحيث تكون محكمة ومتينة وكأنّها تصدر عن تصميم ورويّة، وذلك بأن يقدّم الفعل ويأتي بالمفعول بعد الفاعل إلّا إذا كان مقتضى الحال خلاف ذلك. مثلاً، لو أراد الحصر فيقدّم المفعول به على الفعل أو على الفاعل وما شابه ذلك. والخلاصة, لا بدّ من مراعاة ما تتطلّبه قواعد علم المعاني في هذا المضمار.


 


[1] سمج: سمج الشيء سماجة أي لا ملاحة فيه، راجع: الخليل الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، إيران - قم، 1409ه، ط2، ج6، ص 60.

[2] ابن سينا، الشفاء، قسم الخطابة، مصدر سابق، ج4، ص213 - 214.

 

115


79

الدرس التاسع: الخطاب (4) مادّة العرض‏

ولترابط الجمل وقوّة سبكها الأثر الفعّال في مساعدة السامع على سلامة الانتقال من فكرة إلى فكرة والارتقاء بمشاعره وأحاسيسه من حالة إلى حالة حتّى الوصول إلى حالة الإقناع بالغرض، وذلك بالوصول إلى ذروة الانفعال مع الخطيب والتأثّر بقوله.

 

116


80

الدرس العاشر: الجمهور

الدرس العاشر

الجمهور

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى الجمهور بالنظر إلى الخطاب.

2- يتبيّن موقع الجمهور بالنظر إلى الخطيب.

3- يشرح خصائص الجمهور بالنظر إلى الإلقاء.

 

117


81

الدرس العاشر: الجمهور

تمهيد

الجمهور هو المستمع الأساسيّ الذي يتوجّه إليه الخطيب بكلامه في كلّ أنواع الخطب ليقنعه بما يريد، وينقل إليه أفكاره وتصوّراته، فهو المقصود بالوعظ، فيريده الخطيب أن يتّعظ، وهو المراد بالتحميس، فيريده أن يستبسل، وهو المعني في إلقاء الخطب العلميّة، فيريده الخطيب أن يتعلّم وتزداد معرفته وهكذا، ويبحث في الجمهور من جهات ثلاثة أساسيّة.

الجهة الأوّلى: الجمهور بالنظر إلى الخطاب:

ينقسم الجمهور بالنسبة إلى ما يقوله الخطيب إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأوَّل: الجمهور العامّيّ:

1- مفهومه:

ونريد منه من لا حظَّ له من العلم إلّا ما قلّ وندر.

 

119

 


82

الدرس العاشر: الجمهور

2- خصائصه:

وغالباً ما يكون الجمهور العامّيّ غير منطقي، فلا يقبل الأمور البرهانيّة المعقّدة ولو كانت على حقّ وصدق وأفادت اليقين، فيرفضها لا لأنّها على حقّ وإنّما لتعقيدها. ولذا يحبّ هذا الجمهور الكلام السهل، المبسّط الذي يتناسب مع مستواه، وقدرته على الفهم.

 

يقول الشيخ المظفّر: "والجمهور لا يخضع للبرهان ولا يقنع به، كما لا يخضع للطرق الجدليّة, لأنّ الجمهور تتحكّم به العاطفة أكثر من التعقّل والتبصّر، بل ليس له الصبر على التأمّل والتفكير ومحاكمة الأدلّة والبراهين، وإنّما هو سطحيّ التفكير فاقد للتمييز الدقيق، تؤثّر فيه المغريات وتبهره العبارات البرّاقة وتقنعه الظواهر الخلّابة، ولعدم صبره على التمييز الدقيق نجده إذا عرضت عليه فكرة لا يتمكّن من التفكيك بين صحيحها وسقيمها، فيقبلها كلُّها أو يرفضها كلُّها"[1].

 

وعلى هذا يحتاج من يريد التأثير على العوامّ أن يسلك مسلكاً غير المسلك البرهانيّ والجدليّ، بأن يلجأ إلى أسلوب الخطابة، ويستفيد من المشهورات الذائعات، والاستشهادات بالأقوال المأثورة، والكلمات العاطفيّة، وقد مرّ كيفيّة ذلك في محلّه.


 


[1] المظفر، الشيخ محمّد رضا، المنطق، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، إيران -قم، لا.ت، لا.ط، ص422.
 

120


83

الدرس العاشر: الجمهور

النوع الثاني: الجمهور المتعلّم‏:

1- مفهومه:

نعني به من تعلّم إلى مرحلة لا تجعل منه عالماً صاحب رأي في قضايا تهم مجاله وتخصّصه.

 

2- خصائصه:

ممّا لا شكّ فيه أنّ المثقّف أميل إلى البرهان من العامّيّ، وهو في بعض الأحيان يحبّ الأفكار المعقّدة والأرقام الدقيقة ممّا يحتاج إلى التركيز والتأمّل، حتّى إذا أعمل فيها فكره وركّز تأمّله إلى فهمها شعر بلذّة غريبة ونشوة عارمة، وحسب نفسه نابغة عظيماً وعالماً كبيراً، وكبر في عينيه الخطيب الذي استطاع أن يأتي بهذه الفكرة على دقّتها، فيتأثّر به ويقبل كلامه في الحال.

 

والمتعلِّم مع هذا لا يختلف كثيراً عن العوامّ، فإنّ الإثارات العاطفيّة والأساليب الخطابيّة تؤثّر فيه تماماً كما تؤثّر في العامّيّ، إذ إنّ المثقّفين أيضاً لا يتخلّون عن عواطفهم في كثير من آرائهم واعتقاداتهم، بالرغم من قناعاتهم في بعض الأحيان بأنّها غير صادقة، ويجب الاستغناء عنها واتّباع التعقّل والتروّي.

 

فمن أراد أن يخطب في المثقّفين لا بُدّ له أن يدمج البرهان بالجدل وكليهما مع الخطابة، حتّى ينسج من الجميع نسيجاً جديداً

 

121

 


84

الدرس العاشر: الجمهور

له كلّ القدرة على التأثير على هذا المخاطب، ويتكفّل بحمله على الاقتناع والرضوخ والإذعان.

 

والخطاب مع المثقّفين والمتعلّمين يجب ألّا يكون بالأمور التي يتعلّمونها في مدارسهم وحوزاتهم وإلّا صاروا حينئذ علماء وتحوّل الخطاب إلى خطبة علميّة. نعم، يمكن الاستفادة من بعض ما تعلّموه كشواهد وأمثلة، شريطة أن يتقن الخطيب الفكرة التي سيعرضها أو الأمر الذي يستشهد به بكلّ دقّة. ويمكن أن يكون تأثير الخطيب أكبر في حال عرض فكرة معيّنة درسوها واقتنعوا بها، فعارضها وفنّدها، وأثبت بطلانها، ثمّ أظهر لهم فكرة صحيحة أكثر دقّة واستواء، فإنّ مناورة كهذه كفيلة بأن تجعله عندهم مقبولاً إلى أقصى الدرجات.

 

النوع الثالث: الجمهور العالم‏:

1- مفهومه:

وهو من استنار بنور الهدى، وعكف على الكتب دراسة وفهماً حتّى صار له رأي صائب، واطّلاع واسع.

 

2- خصائصه:

إذا كان الجمهور مكوّناً من العلماء، كما يحصل عادة في المؤتمرات الفكريّة والعلميّة أو المهرجانات الأدبيّة وما شابه ذلك، فإنّه لا بدّ للخطيب من أن يُحكم أدلّته ويزن براهينه، ويعضد كلامه بما يفيد

 

 

122


85

الدرس العاشر: الجمهور

القطع واليقين، ولا يستعمل معهم من الأساليب ما يستعمله مع العوامّ كالأقيسة الظنّيّة والمغالطات، وأخذ النتائج من المشهورات، والاعتماد على ما يعرف العلماء ضعفه ويدركون زيفه وعدم صدقه.

 

إلّا أنّه مع كلّ ذلك لا يستغني الخطيب عن الأساليب الخطابيّة في إيصال المعاني إلى أذهان العلماء بشكل مؤثّر، وخصوصاً جودة الألفاظ والفصاحة والبلاغة والاستشهادات بالمأثور.

 

وأحسن ما يرتاحون إليه كعلماء، الإيجاز وحسن الأداء، وأن يكون كلام الخطيب معهم من موقع مخاطبة العلماء، فإنّ ذلك يشجّعهم على إبداء مزيد اهتمام ويُقبلون على الاستماع بكلّ عناية، وبالتالي يُصبحون في حيِّز الاقتناع.

 

وأكثر ما يُعجب العلماء في الخطيب أمران: الجِدّة، وحسن البيان, فإنّ العالِم الواعي إذا عُرضت عليه فكرة جديدة، أو مطلب علميّ حديث، أو أُلفت نظره إلى نكتة دقيقة لم يكن ملتفتاً إليها من قبل، ارتاح كثيراً وازداد احترامه لمن جاء بها، فإنّه يَعُدّ ذلك من الامتنان عليه، وهكذا إذا أحسن المتكلّم البيان وأظهر مكنونات صدره وبنات أفكاره بكلام واضح وفصيح. فكم من فكرة قديمة أعجبت العلماء حين ألبسها قائلها ثوباً جديداً من البيان ولوّنها بلون من الفصاحة والبلاغة.

 

فالألفاظ الجزلة، والتنسيق المحكم، والاستغناء عن الزوائد والحشو، وترابط الكلام وتزيينه ببعض الاقتباسات، والمقابلة والطباق، كلّ ذلك

 

123


86

الدرس العاشر: الجمهور

يجعل أنواع الجمهور واقعين تحت تأثير سحر لا يمكن الإفلات منه، وهو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله كما مرّ: "إنّ من البيان لسحراً"[1].

 

ورد في مقدّمة كتاب "النصّ والاجتهاد" أنّ السيّد المرحوم العلّامة عبد الحسين شرف الدين "قدّس سرّه" حينما سافر إلى مصر للمرّة الثانية متخفيّاً بكوفيّة وعقال بدل العمامة خوفاً من جور الفرنسيّين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار، قادته الأقدار للمشاركة في مهرجان أدبيّ حضره كبار الأدباء أمثال الشعراء أحمد شوقيّ، والشاعر حافظ إبراهيم، ومي زيادة وغيرهم من الأدباء. ووقف على المنبر بزيّه الذي لم يدعهم يتعرّفون عليه، فبدأ كلامه بقول الشاعر:

إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم          فلا مشت بي في طرق العلى قدم‏

 

فصفّق الجمهور عالياً، وظنّوا أنّه صاحب هذا البيت، ولمّا هدأوا قال: رحم الله الشاعر السيّد حيدر الحلّيّ حيث يقول:

إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم          فلا مشت بي في طرق العلى قدم‏

 

فدوّت القاعة بالتصفيق مجدّداً أكثر من الأولى، ثمّ أفاض عليهم من سجال بيانه فرواهم بمعين تبيانه، يزيّن الفكرة بالألوان، ويعضد الدعوى بالبرهان، وهو خلال ذلك ينقل خاتمه من أصبع لآخر حتّى

 


[1] الجاحظ، البيان والتبيان، مصدر سابق، ص43.

 

124


87

الدرس العاشر: الجمهور

أتى على نهاية كلامه، وهم به مشغوفون، ويتمنّون إطالة الكلام واتّساع الوقت.

 

وعند نزوله عن المنبر عبّر أحدهم عن مدى إعجابه، والظاهر أنّها كانت الأديبة اللّبنانيّة مي زيادة، فقالت: "لست أدري هل البيان أطوع إلى لسانه أم الخاتم إلى بَنانه"[1].

 

ويعود الفضل في ذلك كلّه إلى قدرة الخطيب على دمج المؤثّرات الخطابيّة بالبراهين والأقيسة دون أن يبخس البلاغة حقّها في كلامه فيخرج بالنتيجة المتوخّاة. ولقائل أن يقول إنّه وإن كان المُخاطب جمهوراً خاصّاً، إلّا أنّه في هذا العصر الذي انتشرت فيه آلات التسجيل لا بدّ أن ينقل كلامه إلى مسمع جمهور آخر غير الذي خاطبه أوّلاً، فيرى في الكلام ما لا يقبله كما لو كان الخطاب أوّلاً مع جمهور عامّيّ ثمّ سمعه العالم، فلا بدّ أن يرى فيه قضايا ذائعة لا تقوم على البراهين والأدلّة، فيكون ذلك عيباً فيه، وضعفاً في خطابته، وفي الجواب على ذلك نقول: إنّ البلاغة هي أن تراعي المخاطب الذي تتوجّه إليه بخطابك دون أن تلحظ مَن سيأتي بعده ليسمع أو يقرأ خطابك، فإنّ مراعاة مقتضى الحال حسبما قرّرها علماء البلاغة لا تشمل إلّا حال المستمع المباشر، ولا يعيب أحد على البليغ إذا تكلّم بحسب مستوى المخاطب، تارة بأسلوبٍ وطوراً

 


[1] قصة منقولة ومشهورة جداً.

 

125


88

الدرس العاشر: الجمهور

بأسلوبٍ آخر أو تارة بسهولة وطوراً بتعقيد. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدْر عقولهم"[1].

 

وفي هذا المقام يُذكر أنّه قيل لبشّار بن برد[2]: "إنّك لتجي‏ء بالشيء الهجين المتفاوت. قال: وما ذاك؟ قال: بينما تثير النقع وتخلع القلوب بقولك:

إذا ما غضبنا غضبه مضريّة                هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما

إذا ما أعرنا سيّداً من قبيلة                 ذُرا منبرٍ صلّى علينا وسلّما

 

نراك تقول:

ربابة ربّة البيت                   تصبّ الخلّ في الزيت

لها عشر دجاجات‏               وديك حسن الصوت‏

 

فقال بشّار: لكلّ وجه موضع, فالقول الأوّل جدّ، والثاني قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات

 


[1] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص23.6

[2] بشّار بن برد، أبو معاذ الشاعر، ولد أعمى، وهو المقدّم من الشعراء المحدثين. أكثر الشعر وأجاد القول، وهو بصري قدم بغداد (راجع: ابن النجار البغدادي، ذيل تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر يحيى، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1417 - 1997م، ط1،ج7، ص116.

 

126


89

الدرس العاشر: الجمهور

وديك، فهي تجمع لي البيض، فهذا القول عندها أحسن من: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل عندك"[1].

 

الجهة الثانية: الجمهور بالنظر إلى الخطيب:

الجمهور بالنسبة إلى الخطيب متعدّد الآراء متنوّع الأهواء، فلا بدّ للخطيب، كي يؤثّر على الجمهور، من أن يدرس بيئتهم وعاداتهم, فمن السامعين من يحبّ أن يكون الخطيب فصيحاً مفوّهاً، ومنهم من يحبّه ذا أسلوب مبسّط إلى العاميّة أقرب، ومنهم من يحترم الخطيب ويقدّره غاية التقدير، فيعطيه كامل اهتمامه وخالص إصغائه، ومنهم من لا يعطيه أدنى اهتمام، فلا يتوجّه لما يقوله ولا يتهيّأ لسماع كلامه وكأنّ الخطاب ليس موجّهاً إليه، وفي مثل حالة كهذه لا بدّ من مراعاة بعض الأساليب الخطابيّة الخاصّة لجذب اهتمامهم وإلزامهم بالإصغاء والتوجّه.

 

فمن هذه الأساليب:

1- أن يبتدرهم الخطيب بفعل غريب وغير مألوف لهم، كأن يقوم بعمل مخالف لما اعتادوا عليه سابقاً. فإذا كان المتعارف عليه عندهم صعود المنبر إلى أعلى درجة صعد هو إلى بعضه أو بالعكس أو يخطب فيهم واقفاً إن جرت العادة أن يخطب فيهم من جلوس، وربّما لزم الأمر أن يأتي بكلمات غريبة في

 


[1] عليّ، جارم, مصطفى، أمين، البلاغة الواضحة، مؤسّسة الصَّادق عليه السلام، إيران - قم، 1387هـ. ش، لا.ط، ص259-260.

 

127


90

الدرس العاشر: الجمهور

مستهلّ الخطبة لإثارة اهتمامهم، كما يذكر بعض المفسّرين أنّ ذلك قد حصل مع رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾[1].

 

فربّما صفّقوا، وربّما صفّروا، وربّما غلطوا فيه, ليغلطوا النبيّ في تلاوته، فأنزل الله تعالى في مستهلّ بعض السور الحروف المقطّعة التي كانت تثير استغرابهم، مثل: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[2]، و﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾[3]، و﴿عسق﴾[4], و﴿حم﴾[5]، وما شابه ذلك، فإنّهم كانوا حينما يلغون ويصفّقون كي لا يسمعوا، يبدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة هذه الحروف تدريجيّاً، فيجدون أنفسهم في وضع جديد وغريب، فلا يملكون أنفسهم عن الإنصات وهم يحسبون أنّ محمّداً قد فقد عقله، فيأتيهم كلام الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[6].

 

2- أن يثير الخطيب في مستمعيه انفعالاً نفسيّاً أوّل الأمر كالخوف أو الغضب، أو الفرح والسرور، أو الانزعاج والتذمّر، أو أن يخبرهم خبراً مشوّقاً ومثيراً ثمّ يعدهم بالتفاصيل، وأنّه

 


[1] سورة فصّلت، الآية 26.

[2] سورة البقرة، الآيتان 1 - 2.

[3] سورة مريم، الآيتان 1 - 2.

[4] سورة الشورى، الآية 2.

[5] سورة الزخرف، الآية 1.

[6] راجع حول الموضوع: العلّامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج18، ص6.

 

128


91

الدرس العاشر: الجمهور

سيوضح لهم الأمر خلال الخطبة، فينتظرونه بشوق، أو أن يروي لهم حادثة طريفة تضحكهم فتُقبل أنفسهم على الاستماع إليه.

 

وقد يبدأ الخطيب بما يزعج المستمعين، وهذا قليل ولا يحصل النفع منه إلّا إذا كان الخطيب أمير القوم وقائدهم ممّا لا بُدّ للجمهور من الاستماع إليه والانصياع لأوامره، وذلك كما كان يصنع الحجّاج بن يوسف الثقفيّ حيث كان يبدأ خطبته بقول الشاعر:

أنا ابن جلّا وطلّاع الثنايا            متى أضع العمامة تعرفوني[1]

 

129

 

والأسلوب الأكثر نفعاً في مسألة الانفعالات النفسيّة استعمال ما يسمّى عند علماء الخطابة بالأقاويل الخلقيّة، وهي "الأقاويل التي تحملهم على أن يتخلّقوا بأخلاقٍ ما، وإن لم تكن فيهم، وتتصوّر أنفسهم بصورة أهل العلم بالشي‏ء، وتفعل أفعال من له تلك الأخلاق وتلك العلوم، وإن لم يكن لهم شي‏ء من ذلك"[2].

 

"وذلك يحصل بادّعاء المتكلّم أنّ قوله إنّما يتّضح لذوي الفكر الثاقب والذهن السليم عن وساوس المضلّين، مثل ما كان يستعمله جالينوس الذي يتكلّم بالطبّ"[3].


 


[1] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، مصدر سابق، ج12، ص127.

[2] الفارابي، كتاب المنطقيات: الخطابة، مصدر سابق، ج1، ص472.

[3] ابن سينا، الحكمة العروضيّة، ص21 - 22.

 

129


92

الدرس العاشر: الجمهور

أو أن يقول لهم الخطيب أوّل كلامه أنّه متعجّب من نفسه، فهذه أوّل مرّة يخطب في قوم وترتاح نفسه ارتياحًا كهذا: "ولا أظنّ ذلك إلّا لأنّ الذين أقف بين أيديهم خطيباً هم من أهل العلم والوعي والإيمان والتديّن، وممّن يعرفون قيمة العلم والمعرفة".

 

3- "إظهار أنّ الأمر الذي يتكلّم فيه أمر عظيم ومهمّ، وذلك بأن يقدّم في مستهلّ كلامه مقدّمة تحتوي على تعظيم الأمر الذي فيه وتفخيمه وتصغير ضدّه وتهوينه"[1].

 

وأمّا الجمهور الذي يحبّ المدح والإطراء فلا بأس بأن يمدحهم الخطيب بما يتناسب مع غرضه، كأن يثني على علمهم وحبّهم للمعرفة إذا كان يخطب فيهم يحثّهم على العلم والتعلّم، أو يمدح شجاعتهم وإخلاصهم إن كان يريد منهم التوجّه إلى ساحة الحرب أو يمدح وطنيّتهم وحبّهم للوطن وتفانيهم من أجله إن كان يريد أن يحملهم على موقف سياسيّ معيّن، وهكذا.

 

وليس أفسد على الخطيب من ابتداء كلامه بذم ّالجمهور والحطّ من قدره وتعنيفه ولو كان ذلك حقّاً وصدقاً، فإنّ استقبالهم بالذمّ يُذهب من نفوسهم حبّ التوجّه ورغبة الاستماع.

 

فإن كان لدى الخطيب حاجة في تأنيبهم على أمر بدر منهم فيمكنه أن يستعمل في مطاوي كلماته أسلوب التعريض دون التصريح، "وذلك

 


[1] الفارابي، المنطقيات: الخطابة، مصدر سابق، ج1، ص35.

 

130


93

الدرس العاشر: الجمهور

بأن ينسب الفعل إلى واحد والمراد غيره"[1]، فيتكلّم عن جماعة من الناس دون تسميتهم ويصفهم بأنّ فيهم الخصال التي يريد أن يذمّها ويظهر قبحها، وأنّ هؤلاء قد يكون بعضهم ضمن الحاضرين، أو ربّما لا يوجد أحد منهم، وأنّهم قلّة، وأنّهم لا قيمة لهم ولا وزن عند الناس[2].

 

والخلاصة، أنّ التجاوب النفسيّ بين الخطيب والجمهور أمر أساسيّ ولا بدّ منه, فلو حصل من الخطيب ما ينافي ذلك من أذيّة أو تضجير، فإنّه لن يجني من خطبته إلّا الفشل والخيبة والخسران. ولمهارة وبراعة الخطيب هنا مجال واسع حيث يمكنه قبل الشروع بالخطبة الاستعلام عن حال الجمهور، والاطّلاع على خصائصه وعاداته، وما يحبّ وما لا يحبّ، وأن يرسم خطّته للدخول إلى قلوب مستمعيه قبل الوقوف على المنبر، حتّى إذا وقف عليه أخذ يطبّقها على أكمل وجه.

 

ولا أزال أذكر أنّ أحد العلماء خطبنا بخطبة في أيّام عاشوراء من إحدى السنوات، وكان لها الأثر الكبير في نفوسنا، ولا أزال أذكر أنّه حينما اعتلى المنبر كان الجوّ السائد غير ملائم على الإطلاق، وشوشات وضحكات، ذهاب وإياب، وهمس ودندنة في كلّ اتّجاه، ولكنّه وقف صامتاً لا يأتي بأيّ حركة سوى النظر في وجوهنا، صامتاً كأنّه ينتظر نزول الوحي، حتّى أخذ منّا العجب من هذا الخطيب مأخذه،


 


[1] راجع: التفتازاني، أسعد الدين، مختصر المعاني، دار الفكر، إيران - قم، 1411، ط1،ص93.

[2] راجع: الشيخ المظفر، المنطق، مصدر سابق، ص430.

 

131


94

الدرس العاشر: الجمهور

فأنصت المجلس أيّما إنصات، وعلامات الفضول على وجوهنا نسائل أنفسنا ماذا دهى هذا الشيخ؟ حتّى إذا وجد الجوّ ملائماً بدأ كلامه مفتتحاً بالحمد والثناء، ثمّ قدّم مقدّمة عن أهمّيّة الذكرى وأهمّيّة الحسين عليه السلام، وكم يجب أن نحترمه ونحترم ذكراه ومجلسه، وهكذا أكمل مستمرّاً بأسلوب سلس وعبارة واضحة حتّى أخذ بمجامع قلوبنا، وأوصلنا إلى الهدف الذي حدّده لنا.

 

ولا يظنّن خطيب أنّ بإمكانه أن يصل إلى مبتغاه في إقناع المخاطب ما لم يراع هذه الجوانب التي هي على قدر كبير من الأهمّيّة.

 

الجهة الثالثة: الجمهور بالنظر إلى الإلقاء:

ليس للأسلوب الذي يتبنّاه الخطيب درجة معيّنة من القبول عند أنواع الجمهور، بل لكلّ جمهور ذوق خاصّ وحالة مميّزة تجعله يقبل أسلوباً ويرفض آخر. فالأسلوب الحماسيّ يُضحك الشيوخ ويثير تهكّمهم وسخريتهم، والأسلوب الرصين يُضجر الشباب والناشئين. فلا بُدّ من معرفة أخلاق الجمهور وأهوائه وأذواقه، وما هو المقبول لديهم، وما هو المرفوض عندهم، وما هو المؤثّر عليهم دون سواه، كي يتمكّن الخطيب على ضوء ذلك من تهيئة خطابه وإعداده، ثمّ إلقائه بالشكل الذي يتناسب معهم، كي لا يكون كطاحن الماء أو ناقل الهواء.

 

132

 

 


95

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة الأوّلى

صفات المتّـقين

 

رُوي أنّ صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يُقال له همّام كان رجلاً عابداً، فقال: يا أمير المؤمنين، صف لي المتّقين حتّى كأنّي أنظر إليهم.

 

فتثاقل عليه السلام عن جوابه، ثمّ قال: "يَا هَمَّامُ، اتَقِ اللهَ وَأحسِنْ فإنَّ اللهَ مَعَ الذينَ اتَقُوا وَالذِينَ هُمْ مُحْسِنُون، فلم يقنع همّام بهذا القول حتّى عزم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ قال: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ ولَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.

 

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَاد[1]، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ،


 


[1] ملبسهم الخ، أي أنّهم لا يأتون من شهواتهم إلّا بقدر حاجاتهم في تقويم حياتهم فكان الإنفاق كثوب لهم على قدر أبدانهم لكنّهم يتوسّعون في الخيرات.

 

138


96

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاء[1]، ولَولَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.

 

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا[2] فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ[3]، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.

 

صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً، أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ[4] يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ. أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِم[5]. فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا

 

 


[1] نزلت الخ، أي أنّهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في الله كأنّهم كانوا في رخاء لا يجزعون ولا يهنون، وإذا كانوا في رخاء كانوا من خوف وحذر النقمة كأنّهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون.

[2] أي هم على يقين من الجنّة والنّار كيقين من رآهما، فكأنّهم في نعيم الأولى وعذاب الثانية رجاء وخوفاً.

[3] نحافة أجسادهم من الفكر في صلاح دينهم والقيام بما يجب عليهم له.

[4] يقال أربحت التجارة إذا أفادت ربحاً.

[5] استثار الساكن هيّجه، وقارئ القرآن يستثير به الفكر الماحي للجهل فهو داؤوه.

 

139


97

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ[1]، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَكُفِّهِمْ ورُكَبِهِمْ وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ. وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ[2]، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا[3]، ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ.

 

لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ[4]. إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ[5] خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.

 

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، وحَزْماً فِي لِينٍ، وإِيمَاناً فِي يَقِينٍ، وحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وعِلْماً فِي حِلْمٍ، وقَصْداً فِي غِنًى[6]، وخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ، وصَبْراً فِي شِدَّةٍ، وطَلَباً


 


[1] زفير النّار, صوت توقّدها، وشهيقها الشديد من زفيرها كأنّه تردّد البكاء أو نهيق الحمار، أي أنّهم من كمال يقينهم بالنّار يتخيّلون صوتها تحت جدران آذانهم، فهم من شدّة الخوف قد حنوا ظهورهم وسلّطوا الانحناء على أوساطهم، وفكاك الرقاب خلاصها.

[2] القداح: جمع قدح -بالكسر- وهو السهم قبل أن يرشّ. وبراه: نحته، أي رقّق الخوف أجسامهم كما ترقّق السهام بالنحت.

[3] خولط في عقله أي مازجه خلل فيه، والأمر العظيم الذي خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله.

[4] مشفقون: خائفون من التقصير فيها.

[5] زُكّيَ: مدحه أحد.

[6] قصد أي اقتصاداً. والتجمّل: التظاهر باليسر عند الفاقة أي الفقر.

 

140


98

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

فِي حَلَالٍ، ونَشَاطاً فِي هُدًى، وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع[1]، يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وهُو عَلَى وَجَلٍ، يُمْسِي وهَمُّهُ الشُّكْرُ، ويُصْبِحُ وهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، ويُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ والرَّحْمَةِ. إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ[2] لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ، وزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى[3]، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلًا زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلًا أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ[4]، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ. الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ. إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ[5]. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ويُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، ويَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ. بَعِيداً فُحْشُه[6]، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلًا خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ. فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ[7]، وفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ. لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، ولَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبّ[8]. يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ

 


[1] التحرّج: عدّ الشيء حرجاً أي إثماً، أي التباعد عن طمع.

[2] إن استصعبت: أي إذا لم تطاوعه نفسه فيما يشقّ عليها من الطاعة عاقبها بعدم إعطائها ما ترغبه من الشهوة.

[3] ما لا يزول هو الآخرة وما لا يبقى هو الدنيا.

[4] منزوراً: قليلاً. وحريزاً: حصيناً.

[5] أي إن كان بين الساكتين عن ذكر الله فهو ذاكر له بقلبه، وإن كان بين الذاكرين بلسانهم لم يكن مقتصراً على تحريك اللّسان مع غفلة القلب.

[6] الفحش: القبيح من القول.

[7] في الزلازل أي الشدائد المرعدة، والوقور الذي لا يضطرب.

[8] لا يأثم إلخ لا تحمله المحبّة على أن يرتكب إثماً لإرضاء حبيبه.

 

141


99

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ. لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ، ولَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، ولَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ[1]، ولَا يُضَارُّ بِالْجَارِ، ولَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ، ولَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُو الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ. نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ، وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ، ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ ورَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وعَظَمَةٍ، ولَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وخَدِيعَةٍ.

 

قَالَ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا[2]، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام:

أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا! فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ[3]؟! فَقَالَ عليه السلام: وَيْحَكَ! إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ، وسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلًا، لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ"[4].

 


[1] أي لا يدعو باللّقب الذي يكره ويشمئزّ منه.

[2] صعق: غُشي عليه.

[3] فما بالك لا تموت مع انطواء سرّك على هذه المواعظ البالغة، وهذا سؤال الوقح البارد.

[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم الخطبة 193، ص303.

 

142


100

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة الثانية

صفات المنافقين

 

 

قال أمير المؤمنينعليه السلام: "أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ، وأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، والزَّالُّونَ الْمُزِلُّون[1]، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، ويَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً[2]، ويَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ، ويَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ، قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ[3]، وصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاء[4]، ويَدِبُّونَ الضَّرّاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ[5]، حَسَدَةُ


 


[1] الزالّون من زلّ أي أخطأ. والمزلّون من أزلّه إذا أوقعه في الخطأ.

[2] يفتنّون أي يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهباً واحداً. ويعمدونكم أي يقيمونكم بكلّ عماد. والعماد ما يقام عليه البناء أي إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتّى توافقوهم. والمرصاد: محلّ الارتقاب، ويرصدونكم يقعدون لكم بكلّ طريق ليحوّلوكم عن الاستقامة.

[3] دوية: أي مريضة من الدوى بالقصر وهو المرض، والصفاح: جمع صفحة، والمراد منها صفاح وجوههم، ونقاوتها صفاؤها من علامات العداوة وقلوبهم ملتهبة بنارها.

[4] يمشون مشي التستّر ويدبّون أي يمشون على هيئة دبيب الضرّاء أي يسيرون سريان المرض في الجسم أو سريان النقص في الأموال والأنفس والثمرات.

[5] الداء العياء:- بالفتح- الذي أعيى الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.

 

144


101

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الرَّخَاءِ[1]، ومُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ، ومُقْنِطُو الرَّجَاءِ، لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ[2]، وإِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ، ولِكُلِّ شَجْو دُمُوعٌ[3]، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاء[4]، ويَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ، إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا[5]، وإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا، قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا، ولِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا، ولِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا، ولِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً، ولِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً، يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، ويُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ[6]، يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ[7]، ويَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ، قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ[8]، وأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ[9]، وحُمَةُ النِّيرَانِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ"[10].

 


[1] حسدة: جمع حاسد، أي يحسدون على السعة وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه وإذا رجا أحد شيئاً أوقعوه في القنوط واليأس.

[2] الصريع: المطروح على الأرض، أي أنّهم كثيراً ما خدعوا أشخاصاً حتّى أوقعوهم في الهلكة.

[3] الشجو: الحزن، أي يبكون تصنّعاً متى أرادوا.

[4] يتقارضون كلّ واحد منهم يثني على الآخر ليثني الآخر عليه، كأنّ كلًاً منهم يسلّف الآخر ديناً ليؤدّيه إليه وكلّ يعمل للآخر عملاً يرتقب جزاءه عليه.

[5] بالغوا في السؤال وألحّوا. وإن عذلوا أي لاموا كشفوا أي فضحوا من يلومونه.

[6] ينفقون أي يروّجون من النَفاق- بالفتح-، ضدّ الكساد. والأعلاق: جمع علق، الشيء النفيس، والمراد ما يزيّنونه من خدائعهم.

[7] أي يشبّهون الحقّ بالباطل.

[8] يهوّنون على الناس طرق السير معهم على أهوائهم الفاسدة ثمّ بعد أن ينقادوا لهم يضلعون عليهم المضائق أي يجعلونها معوجّة يصعب تجاوزها فيهلكون.

[9] اللمّة- بالضمّ- الجماعة من الثلاثة إلى العشرة والمراد هنا مطلق الجماعة، واللمّة بالتخفيف: الإبرة تلسع بها العقرب ونحوها، والمراد لهيب النيران.

[10] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم الخطبة 194، ص307.

 

145


102

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة الثالثة

خطبة الجهاد

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ, فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وهُو لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ اللهِ الْحَصِينَةُ، وجُنَّتُهُ الْوَثِيقَة[1]، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وشَمِلَهُ الْبَلَاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَة[2]، وضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْأسْدَاد[3]، وأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وسِيمَ الْخَسْفَ[4] ومُنِعَ النَّصَفَ.

 


[1] جنّته - بالضمّ - وقايته.

[2] دُيّث مبنيّ للمفعول من ديّثه أي ذلّـله. وقمؤ الرجل ككرم قمأة وقماءة أي ذلّ وصغر.

[3] الأسداد: جمع سدّ يريد الحجب التي تحول دون بصيرته والرشاد، قال الله: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾، ويروى بالإسهاب وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام، أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة.

[4] أديل الحقّ منه أي صارت الدولة للحقّ بدله. وسيم الخسف أي أوليَ الخسف وكلفه، والخسف الذلّ والمشقّة أيضاً، والنصف- بالكسر- العدل، ومنع- مبني للمجهول- أي حرم العدل بأن يسلّط عليه من يغلبه على أمره فيظلمه.

 

146


103

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرّاً وإِعْلَاناً، وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا[1]، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ (وَ) قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَار[2]، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا[3]، ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعَاثَهَا[4]، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ[5]، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ[6]، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ، ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَو أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً، عَجَباً واللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، ويَجْلِبُ الْهَمَّ، مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ

 


[1] عقر الدار- بالضم-وسطها وأصلها، تواكلتم: وكّل كلّ منكم الأمر إلى صاحبه، أي لم يتولّه أحد منكم بل أحاله كلّ على الآخر، ومنه يوصف الرجل بالوكل أي العاجز، لأنّه يكل أمره إلى غيره. وشنّت الغارات: فرقت عليكم من كلّ جانب كما يشنّ الماء متفرّقاً دفعة بعد دفعة، وما كان إرسالاً غير متفرّق يقال فيه سنّ  بالمهملة.

[2] أخو غامد: هو سفيان بن عوف من بني غامد، قبيلة من اليمن من أزد شنوءة، بعثه معاوية لشنّ الغارات على أطراف العراق تهويلاً على أهله. والأنبار: بلدة على الشاطئ الشرقيّ للفرات، ويقابلها على الجانب الغربيّ هيت.

[3] جمع مَسلحة- بالفتح- وهي الثغر. والمرقب: حيث يُخشى طروق الأعداء.

[4] المعاهدة: الذمّيّة. والحِجل- بالكسر-: خلخالها. والقُلب بالضمّ: سوارها. والرُعاث: جمع رُعثة ويحرّك بمعنى القُرط، ويروى رُعُثها بضمّ الراء والعين جمع رُعاث جمع رعثة.

[5] الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء، والاسترحام: أن تناشده الرحمة.

[6] وافرين: تامّين على كثرتهم لم ينقص عددهم، والكَلم- بالفتح-: الجرح.

 

147


104

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً[1]، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ، ويُعْصَى اللهُ وتَرْضَوْنَ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ[2]، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرّ[3]، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ[4]، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ، كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ.

 

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ[5]، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً واللهِ جَرَّتْ نَدَماً، وأَعْقَبَتْ سَدَماً[6]، قَاتَلَكُمُ اللهُ، لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً[7]، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ


 


[1] تَرحاً بالتحريك: أي همّاً وحزناً أو فقراً، والغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها، فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون وهم نصب لا يدفعون، وقوله: ويعصي الله، يشير إلى ما كان يفعله قوّاد جيش معاوية من السلب والنهب والقتل في المسلمين والمعاهدين ثمّ أهل العراق راضون بذلك إذ لو غضبوا لهمّوا بالمدافعة.

[2] حمارّة القيظ: شدّة الحرّ.

[3] التسبيخ بالخاء المعجمة: التخفيف والتسكين.

[4] صبارّة الشتاء: برده، والقُرّ- بالضمّ-: البرد.

[5] حجال جمع حجلة: وهي القبّة وموضع يزين بالستور والثياب للعروس. وربّات الحجال: النساء.

[6] السَّدَم محرّكة: الهمّ أو مع أسفٍ أو غيظٍ. والقَيح: ما في القُرحة من الصديد. وشحنتم صدري: ملأتموه.

[7] النُّغَب جمع نُغبة: كجُرعة وجرع لفظاً ومعنى، والتَّهمام- بالفتح-: الهم وكلّ تفعال فهو بالفتح إلّا التبيان والتلقاء فإنّهما بالكسر، وأنفاساً: أي جرعة بعد جرعة.

 

 

148


105

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلهِ أَبُوهُمْ, وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً[1]، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي، لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ[2]، ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ"[3].


 


[1] مراساً: مصدر مارسه ممارسة ومراساً أي زاوله وعاناه.

[2] ذرّفت على الستين: أي زدت عليها، ويروى نيّفت بمعناه. وفي الخطبة روايات أخرى لا تختلف عن رواية الشريف في المعنى وإن اختلفت عنها في بعض الألفاظ. أنظر الكامل للمبرّد.

[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم الخطبة 27، ص69.

 

149


106

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة الرابعة

فضائل أهل البيت عليهم السلام

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام "ونَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَه[1]، ويَعْرِفُ غَوْرَهُ ونَجْدَهُ، دَاعٍ دَعَا ورَاعٍ رَعَى، فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي واتَّبِعُوا الرَّاعِيَ.

 

قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ، وأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ، وأَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ[2]، ونَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ، نَحْنُ الشِّعَار[3] والْأَصْحَابُ والْخَزَنَةُ والْأَبْوَابُ، ولَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً.

 

(منها) فِيهِمْ كَرَائِمُ الْقُرْآنِ[4]، وهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ، إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا،

 


[1] ناظر القلب، استعارة من ناظر العين: وهو النقطة السوداء منها، والمراد بصيرة القلب بها يدرك اللبيب أمده أي غايته ومنتهاه، والغور ما انخفض من الأرض. والنجد ما ارتفع منها، أي يدرك باطن أمره وظاهره.

[2] أرز يأرز- بكسر الراء في المضارع- أي انقبض وثبت، وأرزت الحيّة لاذت بحجرها ورجعت.

[3] ما يلي البدن من الثياب والمراد بطانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

[4] الضمير لآل النبيّ والكرائم: جمع كريمة، والمراد أنزلت في مدحهم آيات كريمات. والقرآن كريم كلّه وهذه كرائم من كرائم.

 

150


107

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

وإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا[1]، فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ، ولْيُحْضِرْ عَقْلَهُ، ولْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ، فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، والْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَسَائِرٌ هُو أَمْ رَاجِعٌ، واعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ، ومَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ، وقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ[2] ويُبْغِضُ عَمَلَهُ ويُحِبُّ الْعَمَلَ ويُبْغِضُ بَدَنَهُ"[3]، واعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً، وكُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ، والْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وحَلَتْ ثَمَرَتُهُ، ومَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ"[4].

 


[1] لم يسبقهم أحد إلى الكلام وهم سكوت أي يُهاب سكوتهم فلم يجرؤ أحد على الكلام فيما سكتوا عنه.

[2] أنّ الله يحبّ الخ أي يحبّ من المؤمن إيمانه ويبغض ما يأتيه من سيئات الأعمال ولا يفيده ذلك الحبّ مع هذا البغض إلّا عذاباً يتطهرّ به من خبث أعماله، ويحبّ من الكافر عمله إن كان حسناً ويبغض ذاته لالتياثها بدنس الكفر، ولا ينتفع بالعمل المحبوب إلّا نفعاً مؤقّتاً في الدنيا وله في الآخرة عذاب عظيم، فلا يكمل للإنسان حظّه من السعادة إلّا إذا كان مؤمناً طيّب العمل.

[3] يوجد بهامش الأصل: (المؤمن إذا صدرت منه صغيرة فالله يحبّه ويبغض عمله، والكافر إذا أحسن فالله يحبّ عمله ولا يحبّه).

[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم الخطبة 154، ص215.

 

151


108

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة الخامسة

في ذم إبليس

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ والْكِبْرِيَاءَ، واخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وجَعَلَهُمَا حِمًى[1] وحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، واصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ، وجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وهُو الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ، ومَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ*  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ  * إِلَّا إِبْلِيسَ﴾[2] اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ، وتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ، فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، ونَازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّرِهِ، ووَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا

 


[1] الحمى: ما حميته عن وصول غيرك إليه والتصرّف فيه.

[2] سورة ص، الآيات 71- 74.

 

152


109

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

مَدْحُوراً، وأَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً.

 

ولَو أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ، يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، ويَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ[1] وطِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ، لَفَعَلَ، ولَو فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً، ولَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، ولَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ، ونَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ، وإِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ"[2].

 


[1] الرُّواء- بضمّ ففتح- حُسن المنظر. والعَرف- بالفتح- الرائحة.

[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم الخطبة 192، ص285.

 

153


110

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة السادسة

خطبة عيد الفطر

 

يخطب بها إمام الجماعة بعد صلاة العيد، وهي على ما رواها الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام كما يلي:

الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضَ، وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً ولَا نَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً، والْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ومَا فِي الْأَرْضِ، ولَهُ الْحَمْدُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وهُو الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ مِنْهَا، ومَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ومَا يَعْرُجُ فِيهَا وهُو الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، كَذَلِكَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، والْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

 

اللّهُمَّ ارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، واعْمُمْنَا بِمَغْفِرَتِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، والْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَا مَقْنُوطٌ مِنْ رَحْمَتِهِ، ولَا مَخْلُوٌّ مِنْ نِعْمَتِهِ، ولَا مُؤْيَسٌ مِنْ رَوْحِهِ، ولَا مُسْتَنْكِفٌ عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي بِكَلِمَتِهِ قَامَتِ

 

154

 


111

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ، واسْتَقَرَّتِ الْأَرْضُ الْمِهَادُ، وثَبَتَتِ الْجِبَالُ الرَّوَاسِي، وجَرَتِ الرِّيَاحُ اللَّوَاقِحُ، وسَارَ فِي جَو السَّمَاءِ السَّحَابُ، وقَامَتْ عَلَى حُدُودِهَا الْبِحَارُ، وهُو إِلَهٌ لَهَا وقَاهِرٌ، يَذِلُّ لَهُ الْمُتَعَزِّزُونَ، ويَتَضَاءَلُ لَهُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ويَدِينُ لَهُ طَوْعاً وكَرْهاً الْعَالَمُونَ، نَحْمَدُهُ كَمَا حَمِدَ نَفْسَهُ، وكَمَا هُو أَهْلُهُ، ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَسْتَهْدِيهِ، ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَعْلَمُ مَا تُخْفِي النُّفُوسُ ومَا تُجِنُّ الْبِحَارُ، ومَا تَوَارَى مِنْهُ ظُلْمَةٌ، ولَا تَغِيبُ عَنْهُ غَائِبَةٌ، ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ شَجَرَةٍ، ولَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا هُو، ولَا رَطْبٍ ولَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، ويَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ، وأَيَّ مَجْرًى يَجْرُونَ وإِلَى أَيِّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، ونَسْتَهْدِي اللهَ بِالْهُدَى، ونَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ونَبِيُّهُ ورَسُولُهُ إِلَى خَلْقِهِ، وأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ، وجَاهَدَ فِي اللهِ الْحَائِدِينَ عَنْهُ، الْعَادِلِينَ بِهِ، وعَبَدَ اللهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ نِعْمَةٌ، ولَا تَنْفَدُ مِنْهُ رَحْمَةٌ، ولَا يَسْتَغْنِي الْعِبَادُ عَنْهُ، ولَا يَجْزِي أَنْعُمَهُ الْأَعْمَالُ، الَّذِي رَغَّبَ فِي التَّقْوَى، وزَهَّدَ فِي الدُّنْيَا، وحَذَّرَ الْمَعَاصِيَ، وتَعَزَّزَ بِالْبَقَاءِ، وذَلَّلَ خَلْقَهُ بِالْمَوْتِ والْفَنَاءِ، والْمَوْتُ غَايَةُ الْمَخْلُوقِينَ، وسَبِيلُ الْعَالَمِينَ، ومَعْقُودٌ بِنَوَاصِي الْبَاقِينَ، لَا يُعْجِزُهُ إِبَاقُ الْهَارِبِينَ، وعِنْدَ حُلُولِهِ يَأْسِرُ أَهْلَ الْهَوَى، يَهْدِمُ كُلَّ لَذَّةٍ، ويُزِيلُ كُلَّ نِعْمَةٍ، ويَقْطَعُ كُلَّ بَهْجَةٍ، والدُّنْيَا دَارٌ كَتَبَ اللهُ لَهَا الْفَنَاءَ، ولِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءَ، فَأَكْثَرُهُمْ يَنْوِي بَقَاءَهَا،

 

155


112

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

ويُعَظِّمُ بِنَاءَهَا، وهِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ، والْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ، ويَضَنُّ ذُو الثَّرْوَةِ الضَّعِيفَ، ويَجْتَوِيهَا الْخَائِفُ الْوَجِلُ، فَارْتَحِلُوا مِنْهَا يَرْحَمُكُمُ اللهُ، بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، ولَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْقَلِيلِ، ولَا تَسْأَلُوا مِنْهَا فَوْقَ الْكَفَافِ، وارْضَوْا مِنْهَا بِالْيَسِيرِ، ولَا تَمُدُّنَّ أَعْيُنَكُمْ مِنْهَا إِلَى مَا مُتِّعَ الْمُتْرَفُونَ بِهِ، واسْتَهِينُوا بِهَا ولَا تُوَطِّنُوهَا وأَضِرُّوا بِأَنْفُسِكُمْ فِيهَا، وإِيَّاكُمْ والتَّنَعُّمَ والتَّلَهِّيَ والْفَاكِهَاتِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ غَفْلَةً واغْتِرَاراً.

 

أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَنَكَّرَتْ وأَدْبَرَتْ، واحْلَوْلَتْ وآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، أَلَا وإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ رَحَلَتْ فَأَقْبَلَتْ وأَشْرَفَتْ، وآذَنَتْ بِاطِّلَاعٍ، أَلَا وإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ، والسِّبَاقَ غَداً، أَلَا وإِنَّ السُّبْقَةَ الْجَنَّةُ، والْغَايَةَ النَّارُ، أَلَا فَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ يَوْمِ مَنِيَّتِهِ، أَلَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ وفَقْرِهِ، جَعَلَنَا اللهُ وإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَخَافُهُ ويَرْجُو ثَوَابَهُ، أَلَا وإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمٌ جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ عِيداً، وجَعَلَكُمْ لَهُ أَهلْاً، فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ، وأَدُّوا فِطْرَتَكُمْ فَإِنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ، وفَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَلْيُؤَدِّهَا كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ عَنْهُ وعَنْ عِيَالِهِ كُلِّهِمْ، ذَكَرِهِمْ وأُنْثَاهُمْ، صَغِيرِهِمْ وكَبِيرِهِمْ، وحُرِّهِمْ ومَمْلُوكِهِمْ، عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ صَاعاً مِنْ بُرٍّ أَو صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَو صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، وأَطِيعُوا اللهَ فِيمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ وأَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وحِجِّ الْبَيْتِ وصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ والْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ والْإِحْسَانِ إِلَى نِسَائِكُمْ ومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وأَطِيعُوا اللهَ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، مِنْ قَذْفِ الْمُحْصَنَةِ،

 

156


113

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

وإِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ، وشُرْبِ الْخَمْرِ، وبَخْسِ الْمِكْيَالِ، ونَقْصِ الْمِيزَانِ، وشَهَادَةِ الزُّورِ، والْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ، عَصَمَنَا اللهُ وإِيَّاكُمْ بِالتَّقْوَى، وجَعَلَ الْآخِرَةَ خَيْراً لَنَا ولَكُمْ مِنَ الْأُولَى، إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وأَبْلَغَ مَوْعِظَةِ الْمُتَّقِينَ كِتَابُ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[1]"[2].

 


[1] سورة التوحيد، الآيات 1 - 4.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج1، ص514 - 518.

 

157


114

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة السابعة

خطبة الإمام الحسين عليه السلام

 

روي أنّه صلوات الله عليه لمّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً، فقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ ما شاءَ اللَّهُ‏ وَ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏، وَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (وَ آلِهِ‏) وَ سَلَّمَ خُطَّ الْمَوْتُ‏ عَلَى‏ وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ، وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، وَ خُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَ أَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَى اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَ يُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَحْمَةٌ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ، وَ يُنَجَّزُ لَهُمْ وَعْدُهُ، مَنْ كَانَ بَاذِلًا فِينَا مُهْجَتَهُ، وَ مُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[1].


 


[1] الإربلي، الشيخ عليّ بن أبي الفتح، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، دار الأضواء، لبنان - بيروت، 1405هـ/ 1985م، ط2، ج2، ص239.

 

158


115

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة الثامنة

خطبة السيـّـدة الزهراء عليها السلام

 

حدّثنا محمّد بن المتوكّل عن عليّ بن الحسين السعد آباديّ عن أحمد بن عبد الله البرقيّ عن إسماعيل بن مهران عن أحمد بن محمّد بن جابر عن زينب بنت عليّ عليه السلام، قالت: قالت فاطمة عليها السلام في خطبتها فِي مَعْنَى فَدَكَ‏: "لِلَّهِ فِيكُمْ‏ عَهْدٌ قَدَّمَهُ‏ إِلَيْكُمْ‏ وَ بَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ[1]، كِتَابُ اللَّهِ بَيِّنَةٌ بَصَائِرُهُ وَ آيٌ مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ وَ بُرْهَانٌ مُتَجَلِّيَةٌ ظَوَاهِرُهُ مُدِيمٌ لِلْبَرِيَّةِ اسْتِمَاعُهُ وَقَائِدٌ إِلَى الرِّضْوَانِ أَتْبَاعَهُ مُؤَدِّياً إِلَى النَّجَاةِ أَشْيَاعَهُ فِيهِ تِبْيَانُ حُجَجِ اللَّهِ الْمُنَوَّرَةِ وَ مَحَارِمِهِ الْمَحْدُودَةِ وَفَضَائِلِهِ الْمَنْدُوبَةِ، وَجُمَلِهِ الْكَافِيَةِ وَرُخَصِهِ الْمَوْهُوبَةِ[2]، وَشَرَائِعِهِ الْمَكْتُوبَةِ، وَبَيِّنَاتِهِ الْخَالِيَةِ[3]، فَفَرَضَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً

 


[1] لعل المراد بالعهد الكتاب و بالبقية العترة كما في حديث الثقلين.

[2] الرخص في مقابل العزائم و الموهوبة كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم "فى القصر صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته"، وفي بعض النسخ "المرهوبة" أي رخص و رهب في الزيادة عن قدر الضرورة.

[3] المكتوبة: الواجبة أو الأعمّ منها و من الاحكام التي يجب العمل عليها من الديات و المواريث و الحدود (م ت) و البينات المعجزات و الخالية الماضية، و في بعض النسخ "الجالية" أى الجليلة الواضحة، و لعلّ المراد بالخالية أي الخالية من الاشتباه و الريب كما قيل.

 

160


116

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

مِنَ الشِّرْكِ وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ وَالزَّكَاةَ زِيَادَةً فِي الرِّزْقِ وَالصِّيَامَ تَبْيِيناً لِلْإِخْلَاصِ وَالْحَجَّ تَسْنِيَةً لِلدِّينِ[1]، وَالْعَدْلَ تَسْكِيناً لِلْقُلُوبِ وَالطَّاعَةَ نِظَاماً لِلْمِلَّةِ وَالْإِمَامَةَ لَمّاً مِنَ الْفُرْقَةِ[2]، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى الِاسْتِيجَابِ‏[3]، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وِقَايَةً عَنِ السَّخَطِ وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ وَ تَوْفِيَةَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَعْيِيراً لِلْبَخْسَةِ[4]، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ حَجْباً عَنِ اللَّعْنَةِ[5]، وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ[6]، وَأَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِجَارَةً مِنَ الظُّلْمِ‏[7]، وَالْعَدْلَ فِي الْأَحْكَامِ إِينَاساً لِلرَّعِيَّةِ وَحَرَّمَ اللَّهُ الشِّرْكَ إِخْلَاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ‏ فِيمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ"[8].


 


[1] "تسنية" أي توضيحا أو رفعة، و السناء بالمد الرفعة، و في بعض النسخ "للتثبيت الدين" و في الاحتجاج "تشييدا للدين" و هو الاوضح. و في نسخة "تلبية للدين".

[2] الجمع، أي جمعاً للفرقة.

[3] كما في قوله تعالى‏"وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"، سورة هود، الآية 85، فعيرهم بالافساد. وفي بعض النسخ "تغييرا" بالغين المعجمة، و في بعضها "للحنيفية" و لعل الصواب ان كان بالمعجمة "تغييرا للحنيفية" و ما في المتن أظهر و أصوب.

[4] أي استيجاب المطلوب و الظفر به، و عون الصبر على استيجاب المطلوب أمر مشهور. و في الاحتجاج" على استجلاب الاجر".

[5] كأنّه إشارة الى قوله تعالى‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، سورة النور، الآية 23.

[6] أي لعفة النّفس فإنها قبيحة عقلاً و شرعاً.

[7] أي انقاذا و اعاذة منه، أجاره أنقذه و أعاذه.

[8] الشيخ الصدوق، من لايحضره الفقيه، ج3، ص568.

 

161


117

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة التاسعة

خطبة السيـّدة زينب عليها السلام

 

قال الراوي: قامت زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مجلس يزيد لعنة الله عليه فقالت:"الحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾[1] أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعِظَم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً، مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[2] أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك


 


[1] سورة الروم، الآية 10.

[2] سورة آل عمران، الآية 178.

 

162


118

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هُتكت ستورهن، وأُبديت وجوههن، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من رجالهن وليّ، ولا من حماتهنّ حميّ، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء، وكيف يستبطئ في بغضنا أهلَ البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان، ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم:

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً         ثمّ قالوا يا يزيد لا تَشَلّ

 

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخصرتك؟! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشافة، بإراقتك دماء ذريّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شَلَلت وبَكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، اللّهمّ خذ بحقّنا وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.

 

فوالله ما فريت إلّا جلدك، ولا جززت إلّا لحمك، ولتردنّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعَثَهم ويأخذ بحقّهم ﴿وَلاَ

 

163


119

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[1]، حسْبك بالله حاكماً وبمحمّدٍ خصيماً وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوَّل لك، ومكّنك من رقاب المسلمين، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، أيّكم شَرٌّ مَكاناً وأَضْعَفُ جُنْداً، ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها أمّهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدّمت، وما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

 

فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم يناد المناد: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[2]، فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الْوَكِيلُ"[3].


 


[1] سورة آل عمران، الآية 169.

[2] سورة هود، الآية 18.

[3] ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى، اللّهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص 105.

 

164


120

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

الخطبة العاشرة

خطبة الزواج

 

وكمثال على خطب النكاح نذكر الخطبة المعروفة باسم "خطبة عليّ بن موسى الرضا عليه السلام" حيث يقول فيها: "الحمد لله الذي حمد في الكتاب نفسه، وافتتح بالحمد كتابه، وجعل الحمد أوّل محلّ نعمته، وآخر جزاء أهل طاعته، وصلّى الله على محمّد خير البريّة، وعلى آله أئمّة الرحمة، ومعادن الحكمة.

 

"والحمد لله الذي كان في نبئه الصادق، وكتابه الناطق، أنّ من أحقّ الأسباب بالصلة وأولى الأمور بالتقدمة، سبباً أوجب نسباً، وأمراً أعقب غنًى، فقال جلّ ثناؤه: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾[1], وقال جلّ ثناؤه: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[2], ولو لم تكن في المناكحة والمصاهرة

 


[1]  سورة الفرقان، الآية 54.

[2] سورة النور، الآية 32.

 

166


121

نماذج خطب أهل البيت عليهم السلام

آية منزلة ولا سنّة متّبعة لكان ما جعل الله فيه من برّ القريب، وتألّف البعيد ما رغب فيه العاقل اللّبيب، وسارع إليه الموفّق المصيب، فأولى الناس بالله من اتّبع أمره، وأنفذ حكمه، وأمضى قضاءه، ورجا جزاءه، ونحن نسأل الله تعالى أن يعزم لنا ولكم على أوفق الأمور، ثمّ إنّ فلان بن فلان من قد عرفتم مروءته وعقله وصلاحه ونيّته وفضله، وقد أحبّ شركتكم، وخطب كريمتكم فلانة، وبذل لها من الصداق كذا، فشفّعوا شافعكم، وأنكحوا خاطبكم في يسر غير عسر، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"[1].

 


[1] الطبرسي، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، 1392ه - 1972م، ط6، ص206.

 

167


122
فن الخطابة