المقدّمة
المقدّمة
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...
المرأة قلب المجتمع، ومركز حياته وبقائه. فكما أنّ القلب في الجسم البشريّ مركز حياة، وديمومة بقاء واستمرار، كذلك المرأة قلب المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع. والمرأة تُمثِّل نصف المجتمع من الناحية العدديّة، وهي تلد وتربّي النصف الآخر منه، فتكون بمثابة المجتمع كلّه ومدرسة تربويّة له، وتعكس عنوان حضارته، وقوّته، ومقدار تقدُّمه ورفعته، وكذلك إذا فسدت المرأة تكون مصدر فساد المجتمع وضياعه. ولدورها الكبير ووظيفتها العظمى في الحياة، فطرها الله سبحانه وتعالى على المودّة والعطف، وزيّنها بالرحمة، "فالمرأة هي رمز تحقّق آمال البشريّة، وهي المربّية للنساء والرجال العظام، فمن أحضان المرأة يتسامى الرجل، وحضن المرأة هو الموضع الذي يتربّى فيه النساء العظام والرجال"[1].
والعفّة والحياء من عناصر الإيمان والأمان في شخصيّة المرأة. ولأنّ الخالق الحكيم قد منح المرأة وظيفة بناء المجتمع، بجعلها الركن الثاني في تأسيسه من خلال الحياة الزوجيّة، والركن الأهمّ في تربيته من خلال إدارة الحياة الأسريّة وحمايتها، فقد أباح لها أن تفيض مكنون مشاعرها وعاطفتها في أعماق حياتها الزوجيّة والأسريّة. ولأنّه سبحانه يريدها شريكةً في الجهاد الاجتماعيّ والتفاعل في ساحات العلم والتعلّم، فقد أكرمها بفريضة الستر والحجاب، لتكتمل فيها صفات العفّة والحياء، حرصاً على نقاء جوهرها وصفاء سريرتها.
وإنّ الهدف السامي لتشريع الستر والحجاب في الإسلام هو منع السفور والخلاعة بصورهما وأشكالهما كلها، وبما يترتّب عليهما من مفاسد وأضرار، وإغلاق منافذ الانحلال الخلقيّ كلّها،
[1] الإمام الخمينيّ، روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره، إيران - طهران، 1430هـ - 2009م، ط1، ج7،ص341.
9
1
المقدّمة
ووقاية المجتمع من الانحدار إلى حضيض الفساد المدمّر للمجتمع والحياة بكاملها. وقد أثبتت الشواهد أنّ عدم التستّر والتبرّج والسفور والاختلاط هي العوامل الأساس في حصول التمرّد الأخلاقيّ والميوعة والانحراف. وها هم عقلاء الغربيّين يستغيثون من ويلات الاختلاط والتبرّج، والفوضى الجنسيّة، ومن تبعاتها التي لم تقف دون الانهيار الشامل، ولن تقف.
والإسلام حين أوجب الحجاب وحرّم السفور والتبرّج، هدف إلى إرساء قواعد الأخلاق والقيم التي تحمي الإنسان على مستوى الأفراد والمجتمعات، وترتقي به حضاريّاً، ليكون في مصافّ الذين ينسجمون مع فطرتهم التي فطرهم الله عليها. لهذا، فالحجاب في الإسلام أحد أرفع درجات الاحترام للمرأة، وهو يحفظ حرمتها، لئلّا تكون لعبة للشهوات ومسرحاً لأتباعها. ويستفاد من القرآن الكريم أنّ الحجاب والعفاف من عوامل رفع مستوى احترام المرأة.
ويرى الشهيد مطهّري قدس سره أنّ المرأة كلّما كانت ثابتةً ووقورةً وعفيفةً، ولا تستعرض نفسها أمام الرجل، زاد احترامها عنده أكثر. قال الله تعالى بعد أن أمر النساء بالحجاب: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾[1]، يعني أنّ الحجاب والستر لأجل أن تُعرف بعفافها، فيعلم الناس أنّها ليست في متناول أيدي الجميع، وهو أفضل لها، لأنّه يمنع التعرّض لها، ويحفظها من أتباع الشهوات والغرائز[2].
يتضمّن هذا الكتاب: "الستر والحجاب"، مجموعةً من الدروس التي تشرح مفهوم الحجاب والستر في الإسلام، مع بيان لحكمه الشرعيّ في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، مضافاً إلى أهدافه وغاياته، وصولاً إلى دفع العديد من الشبهات المثارة حول الحجاب، ذلك كلّه بلغة علميّة ميسّرةّ، ليحقّق الكتاب أهدافه لدى أكثر من شريحة مخاطبة، سائلين العليّ القدير أن يوفّق الأخوات الكريمات وغيرهنّ للاستفادة من مضامينه.
والحمد لله ربّ العالمين
مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية
[1] سورة الأحزاب، الآية 59.
[2] مرتضى مطهّري، مسأله حجاب، (بالفارسيّة)، ص95.
10
2
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
الدرس الأوَّل
مفهوم الحجاب وأنواعه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف معنى الحجاب في اللغة والاستعمال القرآنيّ.
2- يشرح معنى الحجاب في الاصطلاح.
3- يتعرّف إلى أنواع الحجاب وأحكامها.
11
3
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
تمهيد
يعدُّ الستر من المفاهيم الثقافيّة الإسلاميّة التي تخصّ المرأة، وتحيط بجانب مهمّ من جوانب شخصيّتها الأساس، ألا وهو جانب العفّة، وصون نفسها من نظر الأجنبيّ.
ومن جانب آخر، يعدُّ الستر من الأمور الأساس التي تؤثّر في حفظ المجتمع، وتسهم في منع انتشار الفساد فيه، وتعمل على بناء مجتمع بعيد عن مظاهر الرذيلة، والتفلُّت والانحلال الأخلاقيّ.
وانطلاقاً من ذلك، دعا الإسلام إلى صون المرأة وحفظ جمالها من خلال ستر كامل جسدها ما خلا المستثنى منه، لحفظ نفسها، وحفظ المجتمع.
مفهوم الحجاب
أ- الحجاب لغةً:
قال ابن منظور: "حجب: الحِجابُ: السِّتْرُ. وحَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْباً وحِجاباً وحَجَّبَه: سَترَه. وقد احْتَجَبَ وتحَجَّبَ إذا اكْتنَّ من وراءِ حِجابٍ. وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ"[1]. فالحجاب في اللغة بمعنى الستر، والتستّر بسترٍ. والحجاب هو اسم لما يُحتجب به.
ب- الحجاب اصطلاحاً:
لم يستعمل الفقهاء مصطلح الحجاب في معرض فتاويهم وأبحاثهم حول ما تستتر به
[1] ابن منظور، محمّد بن مكرم، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1408 هـ، لا.ط، ج1، ص298، مادة حجب.
13
4
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
المرأة، بل إنّ أبحاث الفقهاء وفتاويهم كلّها تنصبّ حول مصطلح الستر والساتر، والذي يقصد به ما يستر به كامل جسد المرأة ما عدا الوجه والكفّين أمام الأجنبيّ.
فقد ذكر الفقهاء أنّ الستر الواجب على المرأة هو: ستر جميع بدن المرأة عدا الوجه والكفّين عن الرجل الأجنبيّ، وكذا يجب ستر الزينة، ولو كانت الزينة في اللباس، كأن تكون مظهرةً للبدن وكاشفةً عن تفاصيله، بحيث توجب جلب نظر الرجال الأجانب، الذين يحرُم عليهم النظر إلى ما يحرُم النظر إليه من جسد المرأة[1].
ثمّ إنّه في أوساطنا الحديثة ثمّة تفصيل في الحديث عمّا يُستَر به جسد المرأة، فتارةً يكون الحديث عمّا يستر الرأس، وأخرى عمّا يستر الجسد من الأعلى كالقميص، وأخرى عمّا يستر الجسد من الأسفل كالسروال، وتارة عمّا يستر كامل الجسد دون الرأس (يعبّر عنه مثلاً اللباس الشرعيّ). أمّا الحديث عمّا يستر الرأس فهو أمر مستقلّ. ويطلق على ما يستر رأس المرأة فقط الحجاب، وهو ما يستر رأس المرأة في ما يجب ستره منه ما عدا الوجه ممّا دارت عليه الإبهام والوسطى، وهو ما يعرف بالمقنعة، ويُعرَف في أوساطنا بالإيشارب.
مصطلحات حول الستر والحجاب
استخدمت مصطلحاتٍ عدّةً ترتبط بالحجاب والستر، أهمّها:
1- الخمار: ثوبٌ تغطّي به المرأة رأسها. وهذا هو تعريفه لغةً[2]، واصطلاحاً[3]. وقد أمر القرآن الكريم النساء بإسدال الخمار على الصدر والعنق ستراً لهما[4]. ومن تعريفه
[1] التبريزي، جواد بن علي، صراط النجاة، دار الصديقة الشهيدة، إيران - قم، 1427 هـ، ط1، ج9، ص116.
[2] الفيّوميّ، أحمد بن محمد، المصباح المنير، مؤسّسة الهجرة، إيران - قم، 1405 هـ، ط1، ص181.
[3] المحقّق الحلّيّ، جعفر بن الحسن، المعتبر في شرح المختصر، تحقيق وتصحيح محمد علي الحيدري - سيد مهدى شمس الدين - سيد أبو محمد المرتضوي - سيد علي الموسوي، مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام، قم- إيران، 1407 ه، ط1، ج1، ص286.
[4] سورة النور، الآية 31. قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
14
5
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
يظهر الفرق بينه وبين الحجاب، ذلك أنّ الحجاب ساتر عامّ لجسد المرأة، أمّا الخمار فهو غطاءٌ لرأسها، وهو مرادفٌ للمقنعة[1].
2- النقاب بكسر النون: القناع تجعله المرأة على مارن أنفها تستر به وجهها، ويطلق عليه البرقع، والبرقع ما تستر به المرأة وجهها[2]. والفرق بينه وبين الحجاب، أنّ الحجاب ساتر عامّ لجسد المرأة، والنقاب مختصّ بالوجه[3].
3- الجلباب: ثوبٌ أوسع من الخمار، دون الرداء، تُغطّي به المرأة رأسها وصدرها، وقيل: هو ثوبٌ واسعٌ، دون المِلحَفةِ، تلبسه المرأة، وقيل: هو المِلحفَة[4].
وفي بعض الأحاديث ورد تعبير الجلباب مجازاً وكنايةً عن الإنسان الكيّس، وهو في الاصطلاح الدينيّ مَنْ كان يتّصف بصفة الحياء، كما ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: "الكيّسُ من تجلبب الحياء"[5].
مدلول لفظ الحجاب في القرآن الكريم
وردت كلمة "الحجاب" في القرآن في مواضع عدّة، منها:
1- قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾[6]، أي حجاباً من الجدران[7]، وهذا يعني أنّ مريم ابنة عمران جعلت بينها وبين قومها حاجزاً وستراً[8]. والحجاب هنا يعني الاعتزال والستارة التي اعتزلت وراءها.
[1] الطريحي، الشيخ فخر الدين، مجمع البحرين، مؤسسة البعثة، إيران - قم، 1414 هـ، لا.ط، ج1، ص553.
[2] الفيومي، المصباح المنير، مصدر سابق، ص45.
[3] المصدر نفسه.
[4] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج1، ص272.
[5] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج8، ص23.
[6] سورة مريم، الآيتان 16 - 17.
[7] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الإعلام الإسلامي، لا.م، 1409هـ، ط1، ج7، ص114.
[8] الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1418هـ، ط1، ج2، ص445.
15
6
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
2- قوله تعالى: ﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾[1]. والتواري بالحجاب في الآية هو الغياب عن العين[2].
3- قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾[3]. وهذا يعني: أن يا محمّد إذا قرأت القرآن على هؤلاء المشركين، الذين لا يصدّقون بالآخرة، جعلنا بينك وبينهم حجاباً خفيّاً، يحجب عنهم فهمه، ولا يمنعهم من استماعه. إذاً، الحجاب هو الطبع الذي على قلوبهم، والطبع هو المنع الذي منعهم من أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه. فالمراد بالحجاب المستور هو ذلك الطبع الذي في قلوبهم.
4- قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾[4], أي قلوبنا لا تفقه، لأنّها في حجاب. والحجاب في هذه الآية مرادف للأكنّة التي هي غلافٌ، كالغلاف الذي يحمي القوس[5]. فحين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشركين للإيمان قالوا: قلوبنا في أغطيةٍ متكاثفةٍ لا يصل إليها شيءٌ ممّا تدعونا إليه من الإيمان والتوحيد، وفي آذاننا صممٌ يمنعنا من فهم ما تقول. فلقد شبّهوا أسماعهم بآذان فيها صمم من حيث إنّها تمنع الحقّ، ولا تميل إلى سماعه، وبيننا وبينك حاجز يمنع أن يصلنا شيء ممّا تقول. فليعمل كلّ واحد حسب ما يعتقد أنّه الحقّ، لأنّ ثمّة حاجزاً يحجزنا عنك، فلا نجتمع معك على شيءٍ ممّا تريد.
5- قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[6].
[1] سورة طه، الآية 32.
[2] الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج8، ص561.
[3] سورة الإسراء، الآية 45.
[4] سورة فصّلت، الآية 5.
[5] الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص342.
[6] سورة الشورى، الآية 51.
16
7
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
.ما قُدّر لأحد من البشر أيّاً كان أن يكلّمه الله إلّا بطريقة الوحي في المنام أو الإلهام، أو يكلّمه من وراء حجابٍ، كما كلّم موسى عليه السلام، أو يرسل ملكاً فيبلّغ الوحيُ رسولَ الله بأمره تعالى ما يشاء تبليغه، كما نزل جبرئيل بالوحي على الأنبياء. وليس المراد أن يكون هناك حجاب يفصل موضعاً عن موضع، ويدلّ على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم يرَ المتكلّم[1].
6- قوله تعالى: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾[2]. ومعنى الآية أنّ بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار حجاباً، وهو السور الذي يمنع وصول أهل النار إلى الجنّة. والحجاب هنا بمعنى الحاجز.
أنواع الحجاب
تحدّث الله سبحانه في كلّ من سورتَي الأحزاب والنور عن موضوع الحجاب بجوانبه المتعدّدة. ويمكننا رصد ثلاثة أنواع من الحجاب تضمّنتها الآيات:
النوع الأوّل: الحجاب المرتبط بلباس المرأة:
جاءت الآيات المباركة لتشير إلى عنوانَين في مجال لباس المرأة، هما: الخمار والجلباب. ففي سورة النور جاء الأمر بالخمار: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، وفي سورة الأحزاب جاء الأمر بالجلباب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾، وكلاهما - الخمار والجلباب - يشير إلى معنى الستر.
وعدّ المفسّرون أنّ الخمار المضروب على الجيوب في الآية هو غطاء الرأس الذي يستر الشعر والرقبة والصدر، وأمّا الجلباب، فقد ذكروا له معانيَ عدّةً:
- إنّه "الملحفة"، وهي قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر، وهو الجيب.
[1] الصالحي الشامي، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد، تحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1414 - 1993م، ط1، ج3، ص61.
[2] سورة الأعراف، الآية 46.
17
8
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
- إنّه المقنعة والخمار.
- إنّه القميص الفضفاض الواسع.
ومع أنّ هذه المعاني يختلف بعضها عن بعض، إلاّ أنّ العنصر المشترك فيها أنّها تستر بعض البدن، إلاّ أنّ الأظهر أنّ المراد هو الحجاب الذي يكون أطول من الخمار وأقصر من العباءة، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب.
والمراد بـ (يُدنين): يقرّبن الجلباب إلى أبدانهنّ، ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيفما كان بحيث يظهر موضع ما يجب ستره. وبتعبير أبسط: أن يلاحظن ثيابهنّ، ويحافظن على حجابهنّ[1].
النوع الثاني: الحجاب على مستوى الكلام:
لم تقتصر الآيات القرآنيّة على حصر الحجاب باللّباس، بل أكّدت الآيات أنّ حجاب المرأة يجب أن يكون مشتملاً على مجموعة ضوابط، منها ما هو مرتبطٌ بسلوكها، ومنها ما هو مرتبطٌ بكلامها. فالكلام، مضموناً وأسلوباً، أداة تواصل مع الآخرين، وبالتالي يؤثّر فيهم بحسب محتواه وأسلوبه، ولهذا المعنى تشير الآية: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾، فإنّ جملة: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ إشارةٌ إلى طريقة التحدّث، وجملة: ﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ إشارةٌ إلى محتوى الحديث[2].
ومع أنّ أصل الكلام مع غير المحارم مباح، إلّا أنّه لا بدّ من تقييده بعدم الميوعة في الكلام، وعدم ترقيق الصوت، وأن لا يؤدّي إلى إثارة شهوةٍ أو لذّةٍ، أو ريبةٍ وخوف الوقوع في الحرام.
النوع الثالث: الحجاب في السلوك والمشي:
أشارت الآية الآتية إلى ضابطة عدم لفت الأنظار عندما نهت عن إبداء الزينة المستورة ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾. فلا بدّ للمرأة من مراعاة هذه
[1] الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، إيران - قم، 1426هـ، ط1، ج13، ص35.
[2] المصدر نفسه، ص233.
18
9
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
الضابطة في جميع سلوكيّاتها، وعدم إثارة الفتنة والشهوة في مشيها وسلوكها وحركاتها، مضافاً إلى ضرورة عدم إبداء أيّ زينةٍ مستورةٍ. ويلحق بهذا المجال موضوع التبرّج والمساحيق والعطور الّتي تثير الفتنة، وذلك كلّه منهيّ عنه.
يقول الشهيد مطهّري قدس سره: "إنّ الشرف الإنسانيّ للمرأة يقتضي حين الخروج من المنزل أنْ تكون وقورة، تُثقل الأرض بمشيتها، وأنْ تتجنّب كلَّ ممارسة تستهدف الإثارة، فلا تدعو الرجل إلى نفسها عمليّاً، وأن لا تلبس اللّباس الحاكي وتمشي المشية الناطقة، وأنْ لا تعتمد الحديث المثير، فمشية الإنسان تحكي، وأسلوبه في الحديث يحكي أمراً آخر غير الكلام نفسه"[1]. فللسلوك في حدّ ذاته لغة، هذه اللغة هي ما يطلق عليه اليوم "لغة الجسد"، ففي هذا الفنّ توضّح معاني الحركات والتصرّفات التي يقوم بها الإنسان، وتمييزها عن غيرها.
[1] الشهيد مطهّري، مسألة الحجاب، مصدر سابق، ص50-51.
19
10
الدرس الأوَّل: مفهوم الحجاب وأنواعه
المفاهيم الرئيسة
- الستر: هو تغطية المرأة لجميع بدنها عدا الوجه والكفّين، وتغطية الزينة الظاهرة عن الرجال من غير المحارم.
- استخدمت مصطلحاتٍ عدّةً ترتبط بالحجاب والستر، أهمّها: الخمار، النقاب، الجلباب.
- تحدّث القرآن الكريم في كلّ من سورتَي الأحزاب والنور عن موضوع الحجاب بجوانبه المتعدّدة. ويمكننا رصد ثلاثة أنواع من الحجاب تضمّنتها الآيات:
النوع الأوّل: الحجاب المرتبط بلباس المرأة.
النوع الثاني: الحجاب على مستوى الكلام.
النوع الثالث: الحجاب في السلوك والمشي.
20
11
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
الدرس الثاني
حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
1. القرآن الكريم
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم المُراد من الآيات الدالّة على الستر والحجاب.
2- يستدلّ على وجوب الستر من القرآن الكريم.
3- يعرف حكم القواعد من النساء.
21
12
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
تمهيد
الآيات القرآنيّة الدالّة على وجوب الستر قسمان: آيات دلّت على وجوب الستر بشكلٍ غير مباشرٍ، وبطريقة الأولويّة أو الإيحاء. وهذه الآيات وردت في سورتَين من سور القرآن: النور، والأحزاب.
وإنّ هذه الآيات القرآنيّة ذكرت حدود ستر المرأة وطبيعة تعاملها مع الرجال الأجانب، دون أن تستخدم كلمة "الحجاب". نعم، توجد آية في القرآن استخدمت كلمة "الحجاب"، وهي خاصّة بنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن نعلم أنّ ثمّة أحكاماً خاصّة بنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وردت في القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يخاطب نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صراحةً: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، حفظاً لهنّ من الاستغلال السياسيّ والاجتماعيّ. والآية التي استخدمت فيها كلمة "الحجاب" هي الآية (53) من سورة الأحزاب: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾. وحينما يستخدم مصطلح "آية الحجاب" في التاريخ الإسلاميّ يراد به هذه الآية لا غير.
القسم الأول: آيتا سورة النور
1- نصوص الآيات الكريمة:
إنّ الآيتَين اللتَين تتعلّقان بهذا الموضع في سورة النور هما الآيتان 30 - 31، وقد سبقتهما بضع آيات كريمة تحدّثت عن وجوب الاستئذان قبل دخول البيوت، كانت بمثابة مقدّمة وتمهيدٍ لتلك الآية، قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
23
13
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[1].
2- مفاد الآيات:
أ- على كلّ مؤمن ومؤمنة أن يغضّ بصره عن الجنس الآخر.
ب- على المؤمنين والمؤمنات أن يحفظوا عفّتهم، ويستروا عوراتهم.
ج- على المرأة أن تتّصف بالستر والحجاب، وأن تخفي زينتها عن الآخرين، وأن لا تسعى إلى جذب أنظار الرجال وإثارتهم.
د- يوجد استثناءان من لزوم الحجاب للمرأة، وهما:
الأوّل: في قوله تعالى: ﴿فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.
الثاني: في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾.
3 - الأحكام المستفادة من الآيتين:
قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.
تدلّ الآيتان الكريمتان على حكمين:
أ- يجب على المؤمنين غضّ أبصارهم عن المؤمنات، كما يجب على المؤمنات غضّ أبصارهنّ عن المؤمنين.
ب- يجب على المؤمنين حفظ فروجهم، كما يجب على المؤمنات ذلك أيضاً.
[1] سورة النور، الآيتان 30 - 31.
24
14
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
الحكم الأوّل: وجوب غضّ البصر:
أمّا بالنسبة إلى الحكم الأوّل، فقد يُفهم من وجوب الغضّ حرمة النظر. فالمؤمن إذا وجب عليه غضّ بصره عن المؤمنة، فهذا يعني حرمة نظره إليها. وهكذا الحال في المؤمنة، فإنّه إذا وجب عليها غضّ بصرها عن المؤمن، فهذا يعني حرمة نظرها إليه.
ومن هنا استُدلّ بهاتَين الآيتَين الكريمتَين على حرمة نظر كلّ واحد إلى غير مماثله.
وكذلك استُدلّ على حرمة نظر الرجل إلى المرأة، ولو من دون تلذّذ، بما يلي:
1- قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[1], فإنّه إذا وجب ستر الجيب بمعنى الصدر[2]، فبالملازمة العرفيّة تثبت حرمة نظر الرجال إلى الجيب وغيره ممّا وجب ستره.
2- قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾[3]، فإنّ حرمة الإبداء أمام الآخرين تستلزم عرفاً حرمة نظرهم. والمراد بالزينة إن كان مواضعها فالأمر واضح، وإن كان المقصود هو نفسها فحرمة إبدائها تستلزم حرمة إبداء مواضعها بالأولويّة العرفيّة.
الحكم الثاني: وجوب حفظ الفرج:
وأمّا الحكم الثاني، فقد يقال إنّ المراد من حفظ الفرج حفظُه عن كلّ ما يوجب الاستلذاذ ويرتبط به، بما في ذلك نظر الأجنبيّ إليه، وليس المراد حفظه عن خصوص الزنا أو لمس الأجنبيّ له وما شاكل ذلك، بل ما يشمل النظر، وبذلك يثبت وجوب ستر العورة عن الأجنبيّ.
ثمّ إنّه كما يمكن أن يُستدلّ بوجوب حفظ الفرج على وجوب ستره، كذلك يمكن أن يُستدلّ به على حرمة نظر الآخرين إليه بعد ضمّ الملازمة العرفيّة.
ثمّ إنّ مسألة حفظ الفرج وردت الإشارة إليها في آيات عدّة أُخرى، منها: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾[4].
[1] سورة النور، الآية 31.
[2] الشيخ الطريحي، مجمع البحرين، مصدر سابق، ج2، ص28.
[3] سورة النور، الآية 31.
[4] سورة المؤمنون، الآيتان 5 - 6، وسورة المعارج، الآيتان 29 - 30.
25
15
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[1].
4- وجوب الستر:
وموضع الاستدلال في هذه الآية هو فقرتان:
الفقرة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.
وفي تفسير الزينة التي نهى الله عن إبدائها رأيان:
الأوّل: أن يُراد بها الزينة الطبيعيّة، أي مواضع الزينة من البدن، مثل الذراع والساق والعضد والرقبة...، فتكون دلالة الآية على لزوم ستر مفاتن الجسد واضحةً ومُباشرةً. وهذا التفسير يوحي به بعض الروايات الواردة عن الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، من قبيل رواية الفضيل، قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذراعين من المرأة، أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارَين"[2]. وقوله عليه السلام: "ما دون الخمار"، يعني ما يستره الخمار من الرأس والرقبة، وقوله: "ما دون السوارَين"، أي ما دون الكفّين، فتشمل الساعدَين والعضدَين[3].
الثاني: أن يُراد بالزينة معناها الظاهر، وهي الزينة الخارجيّة المعروفة التي تضعها النسوة على أجسادهنّ. والنهي عن إظهار الزينة ملازم للنهي عن إظهار مواضعها، لأنّ كشف الزينة متلازم مع كشف مواضعها. وبعض الروايات الواردة عن الأئمة عليهم السلام يشهد للتفسير الثاني[4].
[1] سورة الأحزاب، الآية 35.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص521.
[3] فتكون الزينة الظاهرة هي الوجه والكفّان، وسيأتي النصّ عليها في بعض الروايات.
[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص521.
26
16
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
الفقرة الثانية: قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾.
الخُمُر جمع خمار، وهي كما هو معروف أغطية الرأس[1]. والجيوب جمع جيب وهو فتحة القميص، والمراد به الصدر والعنق من باب إطلاق اسم الحال على المحلّ. والآية كما يُلاحظ لم تأمر المرأة بارتداء الخمار، وإنّما أمرت بإلقائه على الجيب، ما يعني أنّها - أي الآية - قد فرضت الخمار (غطاء الرأس) موجوداً وقائماً ومفروغاً منه، ولكنّها تأمر بارتدائه بكيفيّة خاصّة، وهي ستر الجيب به. وهذا المعنى يتّضح جليّاً من خلال الرجوع إلى عادة النساء إبّان نزول الآية، ممّا ذكرته المصادر التاريخيّة، حيث قيل: إنّ جيوب النساء في الجاهليّة كانت واسعة تبدو منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليها، وكنّ يسدلن الخُمُرَ من ورائهنّ فتبقى مكشوفة، فأُمِرْنَ أن يَسْدُلْنَها من قُدامهنّ حتّى يغطّينها[2].
الحكم الثالث: حرمة كلّ ما يُثير الشهوة:
قال تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾[3].
فإذا كان ضرب الأرجل بالأرض بهدف إلفات نظر الرجال وإثارتهم أمراً محرّماً، فيستفاد من ذلك أنّ كلّ ما يحقّق الإثارة هو أمر محرّم ولا يرضى به المشرّع الإسلاميّ، من قبيل التعطّر بالعطور المثيرة أو ارتداء الملابس الضيّقة وما شاكل ذلك، لعدم الخصوصيّة للضرب بالأرجل في الآية.
[1] يقول ابن فارس في خمر: "الخاء والميم والراء أصلٌ واحد يدلّ على التغطية والمخالطة في ستر، فالخمر: الشراب المعروف، قال الخليل، الخمر معروفة، واختمارها إدراكها وغليانها، ومخمِّرها: متّخذها، ومخمِّرها: ما غشي المخمور من الخُمار والسكر في قلبه... والخِمار: خمار المرأة، وامرأة حسنة الخِمْرة، أي لبس الخمار..."، ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1404 هـ، ج2، ص315 - 316، وقال ابن منظور: "والخِمار للمرأة وهو النصيف، وقيل: الخمار ما تغطي به المرأة رأسها"، ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج4، ص213، وقد أطلق الخمار على عمامة الرجل، "لأنّ الرجل يغطي بها رأسه، كما أنّ المرأة تغطيه بخمارها"، انظر: المصدر نفسه، ج2، ص213.
[2] الزمخشريّ، جار الله محمود، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، شركة مكتبة ومطبعة الحلبيّ، مصر، 1385هـ - 1966م، لا.ط، ج3، ص62.
[3] سورة النور، الآية 31.
27
17
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
القسم الثاني: آية سورة الأحزاب
1- نصّ الآية الكريمة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[1].
2- سبب النّزول:
جاء في تفسير "عليّ بن إبراهيم" في سبب نزول الآية، أنّ النساء كنّ يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كان باللّيل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة، يقعد الشبّان لهنّ، في طريقهنّ فيؤذونهنّ ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾[2].
3- الحكم المستفاد من الآية الكريمة:
هنا لا بدّ من الحديث عن نقطتين اثنتين، هما:
أوّلاً: ما هو الجلباب؟ وما معنى أن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ؟
وثانياً: ما المقصود بأنهنّ بذلك سوف ﴿يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾.
أمّا من حيث المراد بالجلباب، فقد اختلف المفسّرون في ذلك عن اللّغويّين بحيث أصبح من الصعب معرفة المقصود الصحيح بالجلباب.
فالمنجد يقول: الجلباب: القميص أو الثوب الواسع[3]. وفي "مفردات الراغب" -وهو كتاب دقيق مختصّ بشرح ألفاظ القرآن الكريم - جاء: الجلابيب: القمص والخُمر[4].
[1] سورة الأحزاب، الآية 59.
[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج75، ص194.
[3] مجموعة من الباحثين، المنجد في اللغة والأعلام، دار الشروق، توزيع المكتبة الشرقية، بيروت - لبنان، ط37، 1998م، ص96.
[4] الراغب الأصفهانيّ، الحسين بن محمّد، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، لا.م، 1404هـ، ط2، ص95، كتاب الجيم وما يتّصل بها.
28
18
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
وفي القاموس المحيط: "والجلباب... القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة أو ما تغطي به ثيابها من فوق كالملحفة، أو هو الخمار"[1].
وجاء في مجمع البيان: "الجلباب خمار المرأة الذي يغطّي رأسها ووجهها إذا خرجت لحاجة"[2]. وفي مضمار تفسير الآية يقول: "أي قل لهؤلاء فليسترن موضع الجيب بالجلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة"[3]. ومع أنّ هذه المعاني يختلف بعضها عن بعض، إلّا أنّ المشترك بينها أنّها تستر البدن. وتجدر الإشارة إلى أنّ "الجلباب" تُقرأ بكسر الجيم وفتحها.
وإنّ المقصود من ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾ هو التستّر بها، أي أنّ على المرأة إذا أرادت الخروج من البيت أن ترتدي الجلباب. بديهيّ أنّ كلمة "يُدْنِينَ" لا تعني "يلبسن" لغويّاً، ولكنّ القصد هو تقريب أطراف الجلباب لإتقان التستّر.
وبهذا يكون المعنى: قل للنساء يسترن جميع أبدانهنّ بواسطة جلابيبهنّ، فإنّ ذلك أقرب لأنْ يعرفن بأنّهنّ من أهل الصلاح والعفاف فلا يؤذَين من قبل أهل الفسوق والفجور.
وتفسير الآية بهذا الشكل لعلّه أولى من تفسيرها بأنّ سترهنّ أقرب لأن يجعلهنّ يُعرفن بأنهنّ حرائر لا إماء فلا يؤذَين، حيث كان المتعارف في الإماء خروجهنّ مكشوفات الرأس والرقبة، ولضعف التزامهنّ الأخلاقيّ كنَّ يؤذَين من قبل الرجال. والآية الكريمة قد أمرت النساء الحرائر بستر أبدانهنّ لكي يعرفن بأنّهنّ حرائر فلا يؤذَين، حيث ذكر بعضهم أنّ الآية أكّدت أحد موارد الأذى، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين: فأمرت المؤمنات أوّلاً بألّا يدعن في يد المفسدين والعابثين حجّة يتشبّثون بها في سبيل تحقيق أذاهم، ثمّ هاجمت المنافقين ومختلقي الإشاعات وهدّدتهم تهديداً قلّ نظيره في آيات القرآن الكريم[4].
[1] الفيروزآبادي، الشيخ محمّد بن يعقوب، القاموس المحيط، دار العلم، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص48.
[2] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، لبنان - بيروت، 1995م، ط1، ج8، ص178.
[3] المصدر نفسه، ص181.
[4] الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج13، ص48-49.
29
19
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
ثمّة رأيان لدى المفسّرين في المراد بـ "المعرفة":
الأوّل: إنّه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة، ولمّا لم يكنّ مقبولات من الناحية الأخلاقيّة، فقد كان بعض الشباب المتهوّر يضايقونهنّ، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التامّ ليتميّزن من الجواري، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهنّ أولئك الشباب.
ومن البديهيّ أنّ هذا الكلام لا يعني أنّه كان لأولئك الطائشين حقّ أذى الجواري، بل المراد سلب الحجّة من الأفراد الفاسدين.
والثاني: إنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب، كبعض النساء المتحلّلات والمتبرّجات المسلوبات الحياء على الرغم من التظاهر بالحجاب. هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل، ويلفت انتباههم.
والمراد بـ (يُدنين): أن يقرّبن الجلباب إلى أبدانهنّ ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيفما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف بعض البدن، وبتعبير أبسط: أن يلاحظن ثيابهنّ، ويحافظن على حجابهنّ.
وعلى كلّ حال، يستفاد من هذه الآية أنّ حكم الحجاب بالنسبة إلى الحرائر كان قد نزل من قبل، إلاّ أنّ بعض النسوة كنّ يتساهلن في تطبيقه، فنزلت الآية المذكورة لتأكيد الدقّة في التطبيق.
حكم القواعد من النساء
قال تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1].
رخّصت هذه الآية في التخفّف من اللّباس للنساء اللّاتي لا يرجون نكاحاً، وهنّ اللّواتي مَن بلغن سنّاً لا يرغب فيهنّ الرجال، ولا يرغبن في الرجال. وهذا معناه أنّ النساء اللّاتي
[1] سورة النور، الآية 60.
30
20
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
ما زِلْنَ في سنٍّ يَرْغَبُ فيهنّ الرجال ويرغبْنَ في الرجال، لا يجوز لهنّ التكشّف أمام الرجال الأجانب، إلّا ما خرج بالدليل من الوجه والكفّين[1].
ونلاحظ أنّ الحكم بجواز التخفّف من اللّباس بالنسبة إلى العجائز قد قُيِّد في الآية بقيد ذي دلالة، وهو أن لا يتبرّجن بزينة. فمع اختلال هذا الشرط بخروجهنّ متبرّجات تسقط الرخصة، لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه.
وما يُستفاد من ذلك أمران:
- إذا كانت المرأة العجوز ممنوعة من التبرّج، فالأولى أن تمتنع من ذلك النساء الشابّات.
- يستفاد من السماح بالتخفّف للعجائز أنّ وجوب الستر كان واضحاً وشائعاً، وإلّا فلا معنى للسماح بالتخفّف مع عدم وجوب الستر أصلاً.
خلاصة واستنتاج
يستفاد من الآيات الشريفة الدلالة على وجوب الحجاب على المرأة، وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾, وقوله تعالى في سورة النور: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾. فكلمتا "جلابيبهنّ" و"خمرهنّ" دالّتان على تحديد ماهيّة الحجاب وحدوده، فخمرهنّ، أي مقانعهنّ، والمقنعة هي غطاء الرأس المنسدل على جيبها - أي صدرها - مضافاً إلى تغطية الوجه دون العينين. وقد أمر اللهُ عزّ وجلّ النساءَ بإلقاء المقانع على وجوههنَّ وصدورهنّ تغطيةً لوجوههنَّ ونحورهنّ، وذلك لأنّ النساء قبل نزول الآية كنّ يلقين مقانعهنّ على
[1] على خلاف بين الفقهاء، ففي حين ذهب جمعٌ من الفقهاء القائلين بالاستثناء إلى اختصاص الاستثناء بالوجه والكفّين فقط، انظر: الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسوي، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلميّة، العراق - النجف، 1390هـ.ق، ط2، ج2، ص223، السيستانيّ، السيّد عليّ الحسينيّ، منهاج الصالحين، مكتب آية الله العظمى السيّد السيستانيّ، إيران - قم، 1414هـ، ط1، ج3، ص13، ثمّة قول آخر لا يرى الاستثناء من أصله، فيذهب أصحابه إلى عدم جواز كشف المرأة لشيء من جسدها بما في ذلك الوجه والكفّان والقدمان، انظر: الخوئيّ، السيّد أبو القاسم الموسويّ، منهاج الصالحين، لا.ن، لا.م، 1410، ط28، ج2، ص260، فقد ذهب إلى هذا القول على نحو الاحتياط الوجوبيّ، وكذلك السيّد الگلپايگاني، انظر: الگلپايگاني، السيد محمد رضا، هداية العباد، دار القرآن الكريم، إيران - قم، 1413هـ، ط1، ج2، ص307.
31
21
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
ظهورهنّ فتبدو صدورهنّ. وأمّا الجلابيب فجمع جلباب، وهو الرداء أو الملاءة التي تلبسها المرأة فوق ثيابها فتغطّي الرأس وسائر الجسد. ولعلّ من معانيه إسداله على الوجه... ووظيفته هي ستر الثياب التي قد تكون عليها زينة، وقد تكون ضيّقة تبرز نتوءات جسم المرأة، وقد تكون قصيرة الأردان أو الذيول فيبدو منها بعض الذراعين والساقين، أو مفتوحة الأعلى فيبدو منها بعض العنق والكتفين. فالمراد بآية سورة الأحزاب - والله تعالى أعلم بحقائق كلامه - زيادة الحيطة في ستر الزينة المنهيّ عن إبدائها لغير الزوج ومن ذُكروا في آية الغضّ في سورة النور.
ولسان آيتي الجلابيب والنور هو لسان الإلزام والوجوب في ستر الرأس وكامل الجسد بالجلباب الذي أخذ في مفهومه اللغويّ أن يكون فضفاضاً وواسعاً... وآية الغضّ في سورة النور سابقة في نزولها زماناً على آية الجلباب في سورة الأحزاب. ويستفاد من آية الجلباب أنّ حكم الحجاب بالنسبة إلى الحرائر كان قد نزل من قبل، إلاّ أنّ بعض نساء المسلمات لم يكُنّ ليطبّقنه بدقّة، فنزلت آية الحجاب لتأكيد الدقّة في التطبيق.
32
22
الدرس الثاني: حكم الستر في الشريعة الإسلاميّة
المفاهيم الرئيسة
- اشتمل القرآن الكريم على آياتٍ عدّةٍ دلّت على وجوب الحجاب، إمّا بشكل مباشر وإمّا بشكل غير مباشر، وعلى طريقة الأولويّة أو الإيحاء. وهذه الآيات وردت في سورتين من سور القرآن، الأولى هي سورة النور، والثانية هي سورة الأحزاب.
- تدلّ الآيتان الكريمتان على حكمَين: يجب على المؤمنين غضّ أبصارهم عن المؤمنات، كما يجب على المؤمنات غضّ أبصارهنّ عن المؤمنين، ويجب على المؤمنين حفظ فروجهم كما يجب على المؤمنات ذلك.
- رخّصت الشريعة الإسلامية في التخفّف من اللباس للنساء اللّاتي لا يرجون نكاحاً، وهنّ اللّواتي مَن بلغن سنّاً لا يرغب فيهنّ الرجال، ولا يرغبن في الرجال.
33
23
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
الدرس الثالث
حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
2. الروايات الشريفة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدلّ على وجوب الحجاب من الروايات.
2- يطّلع على مفهوم الجلباب والعباءة في الروايات.
3- يستدلّ بسيرة المتشرعة على وجوب الحجاب.
35
24
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
تمهيد
وردَت روايات كثيرة ومستفيضة عن أهل البيت عليهم السلام تدلّ على وجوب الستر والحجاب، بعضها يدلُّ على هذا الحكم بالصراحة، وبعضها بالملازمة. ولا شكَّ في حصول الوثوق بصدور مضمون هذه الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، وإليك بعضاً من هذه الروايات.
الروايات الشريفة حول الستر والحجاب
صحيحة الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام، وقد سئل عن الذراعَين من المرأة، أهما من الزينة التي أمر الله تعالى بعدم إبدائها في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ فقال عليه السلام: "نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارَين"[1].
صحيحة مسعدة بن زياد قال: سمعتُ جعفراً وسُئِل عمّا تُظهر المرأة من زينتها؟ قال: "الوجه والكفّين"[2].
صحيحة البزنطيّ عن الرضا عليه السلام: سألته عن الرجل يحلّ له أن ينظر إلى شعر أخت امرأته؟ فقال: "لا، إلّا أن تكون من القواعد"، قلت له: أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال: "نعم"، قلت: فما لي من النظر إليه منها؟ فقال: "شعرها وذراعها"[3].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص521.
[2] الحميري القمي، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، 1413هـ، ط1، ص82.
[3] المصدر نفسه، ص336.
37
25
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
صحيحة عبادة بن صهيب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة، والأعراب، وأهل السواد والعلوج، لأنّهم إذا نُهوا لا ينتهون..."[1].
ويمكن أن يستدلّ بهذا الحديث بتقريبين:
الأوّل: إنّ المستفاد من قوله: "لأنهنّ إذا نُهين لا ينتهين"، أنّ النهي عن السفور وكشف الرأس مطلوب، لكن إذا كانت المرأة لا تمتثل للنهي، ولا ترتدع عن السفور، فلا مانع حينها من نظر الرجل إليها.
الثاني: إنّ الرواية - بمقتضى مفهوم الشرط - دلّت على حرمة نظر الرجل إلى شعر المرأة ورأسها إذا كانت تنتهي في حال نهيها. وإذا كان نظر الرجل إلى رأس المرأة وشعرها محرّماً فيدلّ ذلك بالملازمة العرفيّة على حرمة كشفها لرأسها وشعرها، إذ من البعيد جدّاً أن يبيح الشارع لها الخروج حاسرةً، ومع ذلك يحرّم على الرجل النظر إليها. إلى غير ذلك من الروايات الواردة من طرق الشيعة والسُّنّة[2].
وورد مجموعة من الروايات ذكرت عقوبة من ينظر إلى امرأة من غير محارمه، فهي تدلّ بطريقة غير مباشرة على وجوب أن تستر المرأة شعرها وجسدها ومفاتنها عن غير المحارم، نذكر منها:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأةً بالمدينة، وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلةٌ، فلمّا جازت نظر إليها، ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأخبرنّه، فأتاه، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[3],[4].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص524.
[2] راجع لمزيد من التوسّع: شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، الستر والنظر، مؤسسة المنار، ط1، 1996م، ص123 وما تلاها، فقد أورد العديد من الروايات بهذا الشأن.
[3] سورة النور، الآية 30.
[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص521.
38
26
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من اطّلع في بيت جاره، فنظر إلى عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقّاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات النساء في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتّى يفضحه الله، ويبدي للناس عورته في الآخرة، ومَن ملأ عينيه من امرأة حراماً حشاهما الله يوم القيامة بمسامير من نار، وحشاهما ناراً حتّى يقضي بين الناس، ثمّ يؤمر به إلى النار"[1].
الجلباب والعباءة في الروايات
يستفاد من بعض الروايات والقرائن أنّ الجلباب هو العباءة المتعارف عليها في الأوساط الإسلاميّة في زماننا، وذلك لقرينتَين مهمَّتين:
القرينة الأولى: تفسير أهل اللّغة والعرف للجلباب بأنّه الملاءة أو الملحفة تشتمل بها المرأة، وهذا عين ما ورد في الأخبار الشريفة - كما سيأتي - المصرّحة بالملحفة والريطة، بل قد دلّ بعضها بوضوح على لفظ "العباءة" كما سوف نرى. فالتعبير بالملحفة والريطة والعباءة إشارةٌ واضحةٌ إلى العباءة، التي تعارف عليها المسلمون أباً عن جدّ، في سيرتهم المتّصلة بعصر النصّ، ممّا يصبغ على المسألة عنوان وجوب كون لباس المرأة فضفاضاً على هيئة العباءة.
القرينة الثانية: ما ظهر من النصوص الشريفة الدالّة على ماهيّة الحجاب الشرعيّ، وهو ما قلنا إنّه العباءة. وخير دليل على هذا، هو ما عكسته النصوص الشرعيّة عمّا كانت تلبسه سيّدتنا ومولاتنا الصدّيقة فاطمة عليها السلام، وبناتها ونساء المسلمين، ومنها النصوص الآتية:
الأوّل: عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد فاطمة عليها السلام وأنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب، وضع يده عليه فدفعه، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت فاطمة عليها السلام: عليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟
[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، ثواب الأعمال، تقديم السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، 1368 ش، ط2، 286.
39
27
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
قالت: اُدخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومن معي؟ فقالت: يا رسول الله ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك، فقنّعي به رأسك، ففعلت، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: نعم، اُدخلْ يا رسول الله، قال: أنا ومن معي؟ قالت: أنت ومن معك..."[1].
الثاني: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: يا معشر الخلائق، غضّوا أبصاركم حتّى تمرّ بنت حبيب الله إلى قصرها، (فتمرّ إلى قصرها) فاطمة ابنتي وعليها ريطتان خضراوان..."[2]. فقد عبّر الحديثان عن: القناع والملحفة والريطة.
وبحسب ما ذكرنا، فالقناع: هو قماش تغطّي به المرأة رأسها ووجهها وتترك عينيها، كهيئة المقنَّع يغطّي رأسه ووجهه إلى طرف الأنف الأعلى، ويترك فتحتين لعينيه. والملحفة: هي قماشٌ واسع، تلتحف به المرأة، أي تضعه المرأة فوق ما سواه، كما ورد في كلمات اللّغويّين.
والريطة هي الملاءة إذا كانت قطعةً واحدةً ونَسْجاً واحداً. قال صاحب المنجد: إنّ الريطة هي كلّ ثوبٍ يشبه الملحفة[3].
وقد سلك مسلك عامّة اللّغويّين الذين فسّروا الملاءة بما ذكره.
الثالث: "روي أنّ الإمام عليَّاً استقرض من يهوديّ شعيراً، فاسترهنه شيئاً فدفع إليه ملاءة فاطمة رهناً، وكانت من الصوف..."[4].
فقد ذكر الحديث الشريف الملاءة. والملاءة واضحةٌ ومعلومةٌ لدى المسلمين يومذاك. والمُلاَءَةُ - كما في المعجم الوسيط -: المِلْحَفَة، والمُلاَءَةُ ما يُفرَشُ على السرير، والجمع: مُلاءٌ.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص528.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج7، ص336.
[3] المنجد في اللغة والأعلام، مصدر سابق، ص290.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 43، ص30.
40
28
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
الرابع: روى عبد الله بن الحسن المثنّى عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قال:
"لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً وبلغها بذلك، لاثت خمارها على رأسها (أي لفّت مقنعتها على رأسها)، واشتملت بجلبابها (أي أسدلت عباءتها الواسعة فوق ثيابها بحيث جعلتها شاملةً ومحيطةً على جسدها الطاهر المقدّس)، وأقبلت في لمّةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأُ ذيولها (الذيل هو آخر الشيء، وذيل الثوب: ما جُرّ منه إذا أُسبل. فالأثواب التي كانت ترتديها عليها السلام - والله العالم - هي: القميص الطويل، الإزار الطويل، والملحفة، أي العباءة. "تطأ ذيولها" أنّها عليها السلام كانت ترتدي أثواباً متعدّدة طويلةً تستر قدمَيها، فكانت تطؤها عند المشي)، ما تخْرِمُ مشيتها مشية رسول الله حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت (أي عُلّقتْ) دونها ملاءةٌ (أي إزارٌ كبيرٌ واسعٌ يحجبها عن الرجال)، فجلست ثمّ أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس..."[1].
يشير النصّ الشريف إلى ثلاثة أمور مهمّة في لباس سيّدة النساء فاطمة عليها السلام، هي:
- الخمار: لاثت خمارها.
- الجلباب: اشتملت جلبابها.
- الذيول: تطأ ذيولها.
إذاً، كانت عليها السلام ترتدي ثلاثة أثواب على جسدها الطاهر: المقنعة، وثوبٌ طويلٌ تحت الملاءة (الجلباب)، والملاءة فوق الجميع.
الخامس: ما ذكره ابن طاووس قدس سره في موضعَين من كتابه من أنّ مولاتنا الحوراء زينبَ عليها السلام لمّا تسابق القوم يوم كربلاء على نهب بيوت آل الرسول وقرّة عين الزهراء البتول، جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها... إلخ[2].
[1] الطبرسيّ، الشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، تعليق السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386هـ - 1966م، لا.ط، ج1، ص131.
[2] ابن طاووس، السيّد علي بن موسى، اللّهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص77.
41
29
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
وقوله: "حتّى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها" واضح الدلالة على العباءة أو التشادور. والأخذ من الظهر دلالة واضحة على أنّ قماشاً فضفاضاً هو في الواقع تشادور كانت النسوة يلقينه على ظهورهنّ.
وفي موضع آخر، قال ابن طاووس قدس سره: "وسار ابن سعدٍ بالسبي، فلمّا قاربوا الكوفة، اجتمع أهلها للنظر إليهنّ. قال الراوي: فأشرفت امرأةٌ من الكوفيّات، فقالت: من أيّ الأُسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أُسارى آل محمّد، فنزلت من سطحها، فجمعت ملاءً (أي ملاحف وجلابيب) وأُزراً ومقانع، فأعطتهنّ فتغطّين..."[1].
والملاحظ في هذه النصوص أنّ الستر بالأُزر والمقانع والملاحف كان شائعاً في عصر النصّ.
السادس: وفي روايةٍ واضحة الدلالة أنَّ أمّ كلثوم خرجت وعليها برقعة (نقاب يغطّى به الرأس والوجه)، تجرُّ ذيلها، متجلببةً برداءٍ عليها تسحبهما (أي تسحب ذيل الثوب والجلباب، والجلباب هو العباءة)، وهي تقول: يا أبتاه، يا رسول الله، الآن فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً[2].
السّابع: وردت في الأخبار الرخصةُ للقواعد من النساء، أي العجائز، في أن يضعن ثيابهنّ، لقوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾. فقد وردت الرخصة بخلع الجلباب والقناع[3]. وقد وردت في ذلك أخبارٌ عدّة، منها:
عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام - في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ ما الذي يصلح لهنّ أن يضعن من ثيابهنّ؟ - قال: "الجلباب"[4].
[1] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص180.
[2] النيسابوري، الشيخ محمد بن الفتال، روضة الواعظين، تقديم السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص152.
[3] الحر العاملي، الشيخ محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج14، ص 146 - 147.
[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص522.
42
30
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
وعن الحلبي، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أيضاً: "أنّه قرأ ﴿أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ قال: الخمار والجلباب، قلت: بين يدَي مَن كان؟ فقال: بين يَديْ مَن كان، غير متبرّجةٍ بزينةٍ، فإن لم تفعل فهو خيرٌ لها، والزينةُ التي يُبدينَ لهنّ شيءٌ في الآيةِ الأُخرى"[1].
وعن محمّد بن أبي حمزة، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ قال: تضع الجلباب وحده"[2].
وعن حريز بن عبد الله، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "أنّه قرأ يضعن من ثيابهنّ، قال: الجلباب والخمار إذا كانت المرأة مسنّةً"[3].
الثامن: ما جاء في دلائل الإمامة، عن الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، - في حديث طويل - أنّه قال: "هممت بتزويج فاطمة حيناً، ولم أجسر على أن أذكره لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ذلك يختلج في صدري ليلاً ونهاراً،... وكان رسول الله سريّ الكفّ، فدعا بلالاً وملأ قبضته، فقال: يا بلال، ابتَعْ بها طِيباً لابنتي فاطمة، ثمّ دعا أمّ سلمة وقال لها: يا أمّ سلمة، ابتاعي لابنتي فراشاً من حلس مصر، واحشيه ليفاً، واتّخذي لها مدرعةً وعباءةً قطوانيّةً، ولا تتّخذي أكثر من ذلك فيكونا من المسرفين..."[4].
فالشاهد في الحديث ما جاء التعبير عنه بالعباءة والمدرعة التي معناها: جُبَّة مشقوقة المقدّم، وهي ثوبٌ من كتّانٍ كانت تلبسه المرأة التقيّة تحت العباءة، زيادةً في الحشمة والستر والعفاف.
التاسع: ما عن دلائل الإمامة، عن سلمان (رضي الله عنه) قال: كنت خارجاً من منزلي ذات يوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لقيني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام،
[1] المصدر نفسه.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه.
[4] الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، إيران - قم، 1413هـ، ط1، ص85 - 88.
43
31
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
فقال: "مرحباً يا سلمان، صر إلى منزل فاطمة بنت رسول الله، فإنّها إليك مشتاقة، وإنّها قد أُتحفت بتحفةٍ من الجنّة، تريد أن تتحفك منها". قال سلمان: فمضيت إليها، فطرقت الباب، فاستأذنت، فأذنت لي في الدخول، فدخلت، فإذا هي جالسة في صحن الحجرة، وعليها عباءة..."[1].
سيرة المتشرّعة حول الستر والحجاب
يتّضح من هذه الأخبار أنّ سيرة النساء المؤمنات المتديّنات كانت قائمةً على الستر بالحجاب، خصوصاً بالثوب الفضفاض والواسع والطويل، والذي يشبه العباءة أو التشادور في زماننا، مع تغييرٍ - بمقتضى الزمان والمكان - على مستوى الاسم والشكل، لكنّ الروح واحدة.
والسيرة حجّة في هذا المورد وغيره ما لم يرد الردع عنها، خاصّة أنّها كانت على مرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام نفسه، فتكون ممضاة منهم عليهم السلام.
وما يؤكّد هذا، أنّ المتشرّعة والمتديّنين من زماننا إلى زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستنكرون على المرأة المسلمة تبرّجها أو كشف شعرها أو كشف ساقَيها أو زندَيها، معتبرين أنّها بذلك تجاوزت الحدود الشرعيّة. ولو كانت هذه السيرة حادثة في الأزمنة المتأخّرة لأمكن الاعتراض عليها بأنّها انطلقت من فتاوى الفقهاء أو من خلال بعض العادات أو التقاليد الاجتماعيّة، لكن بما أنّها سيرة ممتدّة إلى عصر النصّ وزمن المعصومين عليهم السلام، فهذا يعني أنّها مستقاة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّةعليهم السلام، ولا سيّما بملاحظة ما أشارت إليه الروايات من أنّ النساء في الجاهليّة لم يكنّ يسترن رقابهنّ والجزء الأعلى من صدورهنّ، ومع مجيء الإسلام ونزول آيات الحجاب صرن يسترن ذلك.
العباءة السوداء
جاء في لسان العرب: "كسا: الكِسْوةُ والكُسْوةُ: اللّباس، واحدة الكُسا، قال الليث: ولها معانٍ مختلفة. يقال: كَسَوْت فلاناً أَكْسُوه كِسْوةً إِذا أَلبسته ثوباً أَو ثياباً فاكْتَسى"[2].
[1] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص107.
[2] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج15، ص223، فصل الكاف.
44
32
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
وبهذا يظهر أنّ كلمة "الكسا" هو في الثياب التي تكسو الإنسان، وهذا يتحقّق بالملحفة أو بالعباءة.
فالظاهر أنّ الكساء بمعنى الملحفة التي تشتمل على البدن. ولذا، فإنّ العباءة المتعارفة عندنا تكون من مصاديق الكساء، فضلاً عن أنّ سائر النصوص التي استُفيد منها كراهة السواد في اللباس لا تخلو من التأمّل سنداً ودلالة.
كما أنّنا يمكن أن نستفيد من بعض الروايات التي وردت في لباس المصلّي[1]، أنّه كانت للنساء في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام من بعده، ملاحف يشتملن بها وتغطّي كلّ أجسادهنّ، كنّ يلبسنها فوق الثياب، وقد استفاد بعضهم هذا المعنى من آية سورة الأحزاب: ﴿قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾، حيث إنّه قد ورد في تفسير البيان تفسيرُ الجلباب بالملاءة، كما تقدّم، وفي تاج العروس: "الملحفة: ثوبٌ ليس له بطانة يكسو جسد المرأة"[2].
وعلى كلّ حال، فإنّ للعباءة خصائص تجعلها تحقّق المستوى الأعلى من الستر المادّيّ والمعنويّ، وهي:
1- أنّها تستر تمام بدن المرأة من رأسها حتّى قدميها، أي أنّها تتميّز بالستر الشامل.
2- أنّها تستر شكل الجسد ولون البشرة، فلا تحكي عمّا تحتها من أعضاء الجسد.
3- تخفّف الأعباء الاقتصاديّة التي تترتّب على مصاريف الألبسة المتنوّعة أو الغالية الثمن.
4- تساوي في المظهر بين طبقات المجتمع كلّها الغنيّة والفقيرة.
هذه الخصائص في العباءة تؤهّلها لأن تكون المصداق الأفضل الذي يحقّق غايات تشريع الستر والحجاب، والأهداف التي تحدّثنا عنها بأفضل صورةٍ ممكنةٍ.
[1] راجع: الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج4، ص407.
[2] الزبيدي، السيد محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1994م، لا.ط، ج6، ص244، مادّة لحف.
45
33
الدرس الثالث: حكم الحجاب في الشريعة الإسلاميّة
المفاهيم الرئيسة
- وردت روايات كثيرة ومستفيضة عن أهل البيت عليهم السلام تدلّ على وجوب الستر والحجاب، بعضها يدلُّ على هذا الحكم بالصراحة، وبعضها بالملازمة.
- ووردت مجموعة من الروايات ذكرت عقوبة من ينظر إلى امرأة من غير محارمه، فهي تدلّ بطريقة غير مباشرة على وجوب أن تستر المرأة شعرها وجسدها ومفاتنها عن غير المحارم.
- يستفاد من بعض الروايات والقرائن أنّ الجلباب هو العباءة المتعارف عليها في الأوساط الإسلاميّة في زماننا، وذلك لقرينتين مهمّتين: الأولى: تفسير أهل اللغة والعرف للجلباب بأنّه الملاءة أو الملحفة تشتمل بها المرأة، والثانية: ما ظهر من النصوص الشريفة الدالّة على ماهيّة الحجاب الشرعيّ، وهو ما قلنا إنّه العباءة.
- يتّضح من هذه الأخبار أنّ سيرة النساء المؤمنات المتديّنات كانت قائمة على وجوب الستر بالحجاب، وخصوصاً بالثوب الفضفاض والواسع والطويل الذي يشبه العباءة أو التشادور في زماننا.
- إنّ أحد معاني كلمة "الكسا" هو الثياب التي تكسو الإنسان، وهذا يتحقّق بالملحفة أو بالعباءة. وللعباءة خصائص متعدّدة تجعلها تحقق المستوى الأعلى للستر المادّيّ والمعنويّ.
46
34
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
الدرس الرابع
التبرّج والحجاب
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدّد مفهوم التبرّج.
2- يتعرّف إلى آثار التبرّج في المجتمع.
3- يبيّن حكم لباس الموضة.
47
35
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
تمهيد
استخدم القرآن الكريم لفظ التبرُّج، وهو بمعنى استعراض النساء أنفسهنّ، وإظهار جمالهنّ وزينتهنّ للأجانب، وكلّ عمل تقوم به المرأة للاستعراض والظهور، ولفت نظر الرجال إلى ما يُقصد به فتنتهم، والتأثير في قلوبهم. ويُبحث عن التبرّج في مواطنَ عدّة في الفقه، وذلك بمعنَييْه: الأوّل: التبرّج بمعنى إظهار الزينة. والثاني: التبرّج بمعنى الظهور مقابل الاحتجاب.
مفهوم التبرّج
1- التبرّج: مأخوذ من البُرج، وهو الأمر الظاهر المرتفع، ومعناه: إظهار المرأة زينتها وإبداء محاسنها للرجال[1]، ممّا يستدعي إثارة شهوتهم[2]. ولقد حكم فقهاء الإسلام بحرمة التبرّج، وهو مقابل للستر والعفاف والاحتجاب.
2- والتزيّن: وهو اتّخاذ الزينة لتحسين الشيء وتجميله[3]. والتبرّج: إظهار تلك الزينة للأعمّ ممّن يحلّ له النظر إليها أو لا يحلّ.
[1] ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1404هـ، ج1، ص238.
[2] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج1، ص359، راجع: مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ، موسوعة الفقه الإسلاميّ المقارن، إشراف السيّد محمود الهاشميّ الشاهروديّ، الناشر: مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ، إيران - قم، 1434 هـ - 2013م، ط1، ج4، ص336.
[3] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3، ص41.
49
36
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
التبرّج في القرآن الكريم
ذُكر مصطلح التبرّج في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾[1]. كذلك أشير في الأحاديث وكتب التفسير إلى التبرّج والنهي عن ارتداء الملابس الكاشفة للجسد، والتشبّه بالرجال، والتعطّر أكثر من الحدّ، وغير ذلك ممّا يلفت نظر الرجال، وكلّ ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلّة الغيرة[2]، ونحو ذلك من مصاديق لمعنى الجاهليّة الأولى.
أنواع التبرّج
للتبرّج أنواعٌ كثيرةٌ ومصاديقُ عدّة، كما جاء في كتب الفقه والتفسير، ومن أهمّها:
1- التبرّج بمعنى إظهار الزينة:
يقع التبرّج بمعنى إظهار الزينة على قسمين:
الأوّل: ما هو جائز، كتبرّج المرأة لزوجها أو تبرّجها أمام المحارم من الرجال مع أمن الريبة، أو أمام الصبيّ والمجنون، أو أمام النساء[3].
الثاني: ما هو محرّم، كتبرّج المرأة المسلمة للرجال الأجانب[4]، بأن تبدي زينتها أو تظهر محاسنها لهم، قال تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾[5].
2- التبرّج بمعنى الظهور مقابل الاحتجاب
لا يحرم على المرأة التبرّج بمعنى الظهور والخروج من المنزل مقابل الاحتجاب وعدم الظهور، إذ لم يقم دليل على حرمة ذلك، بل سيرة المتشرّعة قائمة على خروج النساء
[1] سورة الأحزاب، الآية 33.
[2] الآلوسي، محمود بن عبد الله، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1420هـ، ط1، ج22، ص258.
[3] العلّامة الحلّي، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي، تحرير الأحكام، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادريّ، إشراف جعفر السبحانيّ، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، إيران - قم، 1420هـ، ط1، ج3، ص 420 ــ 421.
[4] المفيد، الشيخ محمد بن محمد، أحكام النساء، تحقيق الشيخ مهدي نجف، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ج9، ص56.
[5] سورة النور، الآية 31.
50
37
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
للأسواق والمساجد، والسفر مع أرحامهنّ إلى بلاد مختلفة، ويُشترط أن لا ينافي هذا الخروج حقّ الزوج على المرأة. ولعلّ ما ورد من النهي عن ذهابهنّ إلى المساجد وعن مشاركتهنّ في الجنائز ناظر إلى كراهية أصل خروجها واستحباب بقائها في المنزل[1].
حكم التبرّج بمعنى إظهار الزينة
بناءً على الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، عدّ الفقهاء التبرّج حراماً، بمعنى: أنّ كلّ عمل تقوم به المرأة للاستعراض والظهور ولفت نظر الرجال الأجانب، والتأثير في قلوبهم، هو مصداقٌ للتبرّج المنهيّ عنه في القرآن الكريم[2].
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في سياق حديثه عن آثار التبرّج: "لقد حرّم الإسلام التبرّج بما يعنيه من إظهار النساء زينتهنّ أمام الرجال. إنّه من أنواع إثارة الفتنة، وعليه مؤاخذات كثيرة لا تقتصر إفرازاتها على وقوع الشابّ والشابّة في الإثم. فالإثم أوّلها، وإنّما تسري مخلّفاتها إلى كيان الأسرة أيضاً، لأنّ مثل هذه العلاقات المتحلّلة من القيود كلّها، ذات أثر مدمّر في كيان الأسرة، فبناء الأسرة قائم أساساً على الحبّ، وإذا وُجد هذا الحبّ -وحبّ الجمال وحبّ الجنس الآخر في موضع آخر- لا تبقى ثمّة دعامة قويّة يرتكز عليها بناء الأسرة، ممّا ينتهي إلى ضعضعة كيانها، وتصبح على غرار ما هي عليه في البلدان الغربيّة، وخصوصاً دول أوروبا الشماليّة وأمريكا.
أخذ الأمريكيّون في الآونة الأخيرة يعانون الأمرّين من هذه المشكلة. فالعوائل أخذت تتلاشى حتّى أصبحت هذه الظاهرة معضلة مستعصية لديهم، وتنعكس أضرارها بالدرجة الأولى على النساء، مضافاً إلى ما يعانيه الرجال بسببها من متاعب، إلّا أنّ ضررها يصيب النساء أكثر، ثمّ يصيب الجيل الوليد. ألا تلاحظون هذا الجيل الضائع الفاسد الموجود في
[1] موسوعة الفقه الإسلاميّ، مصدر سابق، ج24، ص148.
[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 14، ص 145. نظراً إلى مصاديق القرآن والحديث لا يمكن حصر لفظ التبرّج بالملابس الظاهرة فقط، بل تشمل قبل ذلك السلوك والأخلاق غير الرصينة (في مقابل العفاف). ومن هنا، فإنّ معنى التبرّج أعمّ من الحجاب، والستر، راجع: ابن إدريس، محمّد بن منصور بن أحمد الحلّيّ، السرائر، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1417هـ، ج2، ص120.
51
38
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
العالم عامّة وفي أمريكا خاصّة! فهذا كلّه نابع أساساً من ذاك، أي أنّ تلك هي المقدّمة والمنفذ الذي تأتي من خلاله بقيّة الشرور"[1].
الآثار الشرعية للتبرّج
للتبرّج آثار كثيرة، منها ما يترتّب عليه أحكام شرعيّة أخرى، ومنها ما له انعكاس اجتماعيّ على المرأة، ومن أهمّها:
1- عدم قبول شهادة المتبرّجة: ذكر الفقهاء أنّه يشترط ترك التبرّج في مَن تُقبل شهادتها من النساء، عملاً بما رواه عبد الكريم بن أبي يعفور، عن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء[2]، (البذاء: النطق بهجر، يقال امرأة بذية، إذا كانت بيّنة البذاءة)، والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم"[3]. والظاهر أنّ وجود هذه الصفات يوجب الظنّ بعدم تحقّق صفة العدالة فيهنّ[4].
2- كراهة الذهاب إلى المساجد والجنائز لكونه مظنّة التبرّج: ثمّة موارد يكره للمرأة إتيانها لاستلزامه للتبرّج المنهيّ عنه، من قبيل الذهاب إلى المساجد[5]، أو اتّباع الجنائز[6]، لخبر أبي بصير عن الصادق عليه السلام أنّه قال: "لا ينبغي للمرأة الشابّة أن تخرج إلى الجنازة تصلّي عليها إلّا أن تكون امرأةً دخلت في السنّ"[7]. كما أنّه يحتمل تقييد الكراهة بما إذا لم يكن الميت امرأةً، لما روي من أنّ "زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا توفّيت
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهوريّة الإسلاميّة، في طهران، بحضور جمع من الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعيّة، بتاريخ 11/01/1419هـ.ق.
[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج27، ص398.
[3] المحقّق النراقي، أحمد بن محمّد، مستند الشيعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، 1415هـ، ط1، ج18، ص97.
[4] العلّامة الحلّيّ، تحرير الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص426، ج3، ص420 ــ 421.
[5] النجفي، الشيخ محمّد حسن، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج4، ص272.
[6] المصدر نفسه، ص 272.
[7] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الاستبصار، تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان، الناشر دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، 1363هـ.ش، ج1، ص486.
52
39
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
خرجت فاطمة عليها السلام في نسائها وصلّت على أختها"، أو يقال: إنّ أمر الصلاة غير التشييع، فتأمّل جيّداً[1].
ويمكن القول: إنّ كراهة ذهاب النساء إلى المساجد إنّما هو للخوف عليهنّ من الفساد واطّلاع الأجانب عليهنّ، وإلّا فلا يخفى شرعيّة ذهابهنّ للمساجد[2]، خصوصاً مع مراعاتهنّ للحشمة، والأفضل لهنّ الصلاة في بيوتهنّ[3].
حدود التجمّل والتزيّن وآثارهما الاجتماعيّة
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في معرض حديثه عن التبرّج والزينة: "يجب أن لا يكون الجمال والزينة مدعاةً إلى تفشّي الفساد والرذيلة في المجتمع، وأن لا يقودا إلى إشاعة التحلّل الخُلقيّ. ولكن كيف يشيع التحلّل الخلقيّ؟ لا شكّ في أنّ أساليب شيوعه واضحة. فإذا كانت علاقات الرجل والمرأة لا تخضع لحدود أو قيود، فهي تؤدّي تلقائيّاً إلى نشر الفساد. وكذلك الغلوّ في الاندفاع نحو التجديد (الموضة) في الثياب والملابس ينتهي بإشاعة الفساد. إذا أصبح الاهتمام بالزينة والظاهر الجميل وأمثالهما هو الهاجس الأساسي والهمّ الرئيس في الحياة، فهو عين الانحطاط والانحراف، كما كانت حال النساء من طبقة الأشراف ممّن كُنَّ يجلسن خلف طاولة التجميل في عهد النظام البائد. هل تتصوّرون كم ساعة كُنَّ يجلسن على تلك الهيئة؟ كُنَّ يجلسن ستّ ساعات. وهذه حقيقة كانت لدينا معلومات دقيقة عنها، حيث كان بعض النساء يستهلك مثل هذا الوقت من أجل تجميل وجهها، وتصفيف شعرها، وإعداد نفسها للذهاب إلى حفلة زواج مثلاً. فإذا بلغت الأمور هذا الحدّ فهي عين الانحراف والانحطاط، ولكن لا إشكال في ترتيب المظهر والملبس بالشكل المناسب بعيداً عن مظاهر التبرّج والمباهاة"[4].
[1] الشيخ النجفي، جواهر الكلام، مصدر سابق، ج4، ص272.
[2] الشهيد الأوّل، محمّد بن مكي العامليّ، الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417هـ، ط2، ج1، ص156.
[3] الشيخ النجفي، جواهر الكلام، مصدر سابق، ج14، ص150.
[4] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهوريّة الإسلاميّة، في طهران، بحضور جمع من الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعيّة، بتاريخ 11/01/1419هـ.ق.
53
40
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
حجاب الموضة نوع من التبرّج بالمعنى العامّ
يلعب عالم الأزياء والموضة دوراً خطيراً وحسّاساً في حياة الإنسان على الصعيد الاجتماعيّ والثقافيّ فيما يتعلّق بلباسه وشكله الخارجيّ، خصوصاً في ظلّ ما نشهده في العالم اليوم من ظاهرة العولمة، والتي تشمل عولمة الأزياء. وحيث إنّ المسيطر على قضيّة الأزياء ومصمّميها هو العقل الاستهلاكيّ الذي يستنزف أموال الناس، بحيث إنّ المرأة لا تكاد ترتدي الثوب مرّة أو مرّتين حتّى تتخلّى عنه لمصلحة الموضة الجديدة، انتشرت أشكال متنوّعة من الحجاب الذي يجاري الموضة العالميّة، فبتنا نرى فتيات يرتدين السراويل والقمصان الضيّقة والمناديل المرصّعة، ناهيك عن مساحيق التجميل، والعطور الفوّاحة، والإكسسوارات المتنوّعة، من حزام الخصر إلى العقود والأساور الملوّنة والساعات المزخرفة أيّما زخرفة... ويطلق عليهم المجتمع وصف محجّبات، وبذلك خرج الحجاب عن روحه المتمثّلة بالستر والحياء، وأصبح وسيلة لإبراز المفاتن.
حكم حجاب الموضة
لقد بات من الواضح في عصر التكنولوجيا الحديثة - مع ملاحظة عدم توقّف تطوّر وسائل التواصل الاجتماعيّ عند حدٍّ أو قيدٍ - أنّ المجتمع البشريّ على اختلاف إثنيّاته وثقافاته وأعرافه قد ارتبط بعضه ببعض، ما ولّد تداخلاً وتفاعلاً كبيرَين بين ثقافات الشعوب. وثقافة اللباس، بكلّ ما تحمله من عادات وتقاليد وغزو قيميّ، من جملة الأمور التي تم ّ تصديرها إلى البلدان الإسلاميّة...، فلحقت الموضة اللّباس المسمّى باللّباس الشرعيّ، فباتت هذه الألبسة متلائمة مع الموضة العالميّة لجهة الألوان والموديلات والزوائد...، وتفصيل مفاتن الجسد عند الخصر والصدر، مضافاً إلى زخرفة اللّباس، بحيث أصبح هذا اللّباس في حدّ ذاته زينةً، مضافاً إلى الخمار المزركش بألوان لا تنسجم بنفسها مع اللّباس الشرعيّ.
54
41
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
ولعلّ السبب في انتشار هذا النوع من الحجاب يعود إلى الفهم الخاطىء من المرأة ومن المجتمع لدور المرأة وموقعها الاجتماعيّ، وفكرتَي الجمال والأناقة اللتَين ترتكزان على عامل الجذب ولفت أنظار الآخرين.
وعليه، فإنّ هذا اللّباس المندرج تحت حجاب الموضة ليس حجاباً شرعيّاً، لأنّه لا يستجمع شروط الحجاب الشرعيّ، بل ربَّما يشكّل تشويهاً لصورة الحجاب في نظر الآخرين.
55
42
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
المفاهيم الرئيسة
1- التبرّج، بمعنى: استعراض النساء أنفسهنّ وإظهار جمالهنّ وزينتهنّ، للأجانب، وكلّ عمل تقوم به المرأة للاستعراض والظهور. ذُكر مصطلح التبرّج في القرآن الكريم والروايات الشريفة.
2- يقع التبرّج بمعنى إظهار الزينة على قسمَين: الأول: ما هو جائز كتبرّج المرأة لزوجها أو تبرّجها أمام المحارم من الرجال مع أمن الريبة، أو أمام الصبيّ والمجنون، أو أمام النساء. والثاني: ما هو محرّم كتبرّج المرأة المسلمة للرجال الأجانب.
3- إنّ للتبرّج آثاراً كثيرة، منها: عدم قبول شهادة المتبرّجة، وكراهة الذهاب إلى المساجد، وحضور الجنائز.
4- إنّ حجاب الموضة ليس حجاباً شرعيّاً، لأنّه لا يستجمع شروط الحجاب الشرعيّ، بل ربَّما يشكّل تشويهاً لصورة الحجاب في نظر الآخرين.
5- إنّ الحجاب هو مسؤوليّة شرعيّة، وإذا أحسنت المرأة المحجّبة وكانت على مستوى الحجاب، باعتباره رمزاً للطهر والعفّة، فإنّها بذلك تقوم بعمل رساليّ وتقدِّم صورةً طيّبةً عن نفسها وعن دينها وعن عموم النساء المحجّبات.
56
43
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
الدرس الخامس
الحجاب قيمة وحصانة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفسّر كيف يكون الحجاب مصدر عزّة وحرّيّة.
2- يتعرّف إلى الستر الظاهريّ والستر الباطنيّ.
3- يبيّن أنّ الحجاب آية الجلال وستار الجمال.
57
44
الدرس الرابع: التبرّج والحجاب
تمهيد
يُعدّ الستر والحجاب من أهم العناصر في الشريعة الإسلاميّة التي تكوّن شخصيّة المرأة المسلمة، حيث يقدّم الحجاب المرأة بمظهر العفّة والحصانة السلوكيّة والأخلاقيّة، ويبعد عنها المفاسد الأخلاقيّة، فتصبح المرأة بمظهرها وسلوكها الشخصيّ والاجتماعيّ متميّزة عن غيرها من النساء الأخريات، وتمنح نفسها حيّزاً مستقلّاً بين المجتمعات الإنسانيّة.
الحجاب مدعاةٌ إلى الحرّيّة والعزّة
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "الحجاب مدعاة إلى رفعة شخصيّة المرأة وحرّيّتها، خلافاً للدعايات المغرضة للمادّيّين. وليس الحجاب مدعاةً إلى أسر المرأة. المرأة بتركها حجابها وبتعرية الشيء الذي أراد الله تعالى والطبيعة أن تستره، إنّما تصغّر نفسها وتحطّ من قدرها وتهين ذاتها. الحجاب وقار ورصانة وقيمة للمرأة. إنّه رجحان كفّة سمعتها واحترامها. ينبغي معرفة قدر ذلك حقّ المعرفة، ويجب تقديم الشكر للإسلام على نعمة الحجاب هذه، فهذا من النعم الإلهيّة"[1].
ويقول أيضاً: "إنّ عظمة المرأة لا تكمن في جذب أنظار الرجال وهوس المهووسين إلى نفسها، وليس هذا فخراً للمرأة، وليس هذا تعظيماً لها، بل هو تحقير للمرأة. إنّ عظمة المرأة في تمكّنها من الحفاظ على الحجاب والحياء والعفاف الأنثويّ الذي أودعه الله في جِبلّتها، فتقوم بجعل هذا كلّه مع العزّة الإيمانيّة، وتضيف إليه الشعور بالتكليف والمسؤوليّة،
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام، بمناسبة ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران - حسينيّة الإمام الخمينيّ قدس سره، بحضور جمعٍ من الشعراء والمدّاحين لأهل البيت عليهم السلام، بتاريخ 12/05/2012م.
59
45
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
فتُعمل تلك اللّطافة في محلّها، وذاك الحزم الإيمانيّ في محلّه. فمثل هذا التركيب الدقيق مختصٌّ بالنساء فقط، ومثل هذا العمل الدقيق، من اللّطف والحزم، من خصائص النساء"[1].
الستر الظاهريّ والستر الباطنيّ
للإنسان بُعدان: مادّيّ ومعنويّ، أو ظاهريّ وباطنيّ. والمقصود من البُعد الظاهريّ للإنسان هو جميع الأمور المشهودة التي تظهر منه وتبدو عليه، ومحلّ ظهورها هو جسد الإنسان نفسه الذي هو قضية مادّيّة. ومثال ذلك: شكل اللّباس وطريقة المشي والنظر، فهي أمور مشهودة، ترتبط بالبُعد المادّيّ للإنسان.
والمراد بالبُعد الباطنيّ للإنسان، جميع الأمور غير المشهودة ممّا لا تدركه الحواسّ المادّيّة والظاهريّة، لأنّها غير قابلة للمشاهدة، ومنشؤها هو الروح، وهي قضيّة معنويّة. ومثال ذلك الأفكار والعقائد والنيّات والفضائل والرذائل الأخلاقيّة، فهي أمور غير مشهودة وترتبط بالبُعد الباطنيّ للإنسان.
وكما أنّ الإنسان يحافظ على ظاهر جسده، فيحفظه من البرد والحرّ، أو يتجمّل ويتنظّف بهدف المحافظة الظاهريّة على شكله وظاهره، فهو بحاجة إلى نوع آخر من المحافظة على باطنه وروحه ونفسه، بهدف التكامل والرقيّ، وهي أنواع الستر الباطنيّ المعنويّ الإيجابيّ[2]، من قبيل الحياء والعفّة والإيمان والدين والتديّن.
ويمكن القول بشكل عامّ: إنّ نتيجة هذا النوع من الستر الباطنيّ وفائدته تكمن في حصول الإنسان على فضيلة التقوى، عن طريق السيطرة على ميول النفس وشهواتها.
قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[3].
[1] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ذكرى ولادة السيدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة، في طهران، بحضور جمع غفير من الممرضات النموذجيات، بتاريخ 21/04/2010م.
[2] في مقابل أنواع الستر الباطنيّ الإيجابيّ ثمّة أنواع من الستر الباطنيّ السلبيّ من قبيل قلّة الحياء وعدم العفّة وعدم التقوى، وهي ما يُعبّر عنها بالرذائل الأخلاقيّة. وهي في نظر أهل العرفان من الرذائل الأخلاقيّة وهي حُجُب وموانع تمنع الإنسان من التكامل والرقيّ. ومن هنا كان للحجاب في العرفان معنى سلبيّ بهذا المعنى.
[3] سورة الأعراف، الآية 26.
60
46
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
الستر المطلوب من المؤمن على نحوَين:
الستر الظاهريّ: وهو اللّباس الذي يستر محاسن الجسد وعوراته عن عين الناظر الأجنبيّ.
الستر الباطنيّ: هو حجب النفس عن المفاسد والمعاصي، بتزيينها بلباس التقوى.
والتقوى هي حفظ النفس وصونها عن المحرّمات، وعمّا يوجب الخلاف والعصيان.
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "المتّقي مَنِ اتّقى الذنوب"[1].
تقدّم المرأة في التشرّف بالتكليف
لقد قرّب الله المرأة وأدناها منه، إذ خاطبها بالالتزام بالتكليف قبل الرجل. ولقد استقبل الله المرأة ستّ سنوات تقريباً قبل أن يصبح الرجل مكلّفاً، فجاء الأمر بتجنّب وضعها في حِجر الرجال وتجنّب تقبيلها. وفي سنّ التاسعة أوجب عليها الصلاة التي هي عمود الدين، والصوم الذي هو حصن الدين، والحجّ الذي هو وِفادة إلى الله، في حين أنّ سنّ البلوغ للفتى أبعد من سنّ البلوغ للفتاة، وبالتالي هو مطالب بأداء التكاليف بعد الفتاة، فهو يكسب لياقة الخطاب الإلهيّ عند بلوغه، وقبل ذلك ليس لديه هذه اللياقة.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: إنَّ "المرأة ريحانة"[2]. هذه الزهرة يجب عدم تركها، هذه الزهرة يجب أن تكون بيد البستانيّ الذي يعتني بها ويعطيها ما يتناسب مع طبيعتها واحتياجاتها وحسب، لكنّ هذه الزهرة ليست كأيٍّ من الزهور، ولا يحيط بها سوى الله تعالى الذي خلقها، فهو الذي يقول: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾[3], وهو يعلم أيّ زهرة يحفظها أفضل من أخرى وقبل أخرى، وأيّ زهرة تجب العناية بها أكثر.
هذه الفسائل من الرجال والنساء خلقها الله، وهو يعلم أنّ بعض الفسائل يجب رعايته قبل فسائل أخرى. وتلك الفسيلة التي يجب وضعها تحت رعاية الدين، فيتوجه
[1] الليثي الواسطي، الشيخ علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، إيران - قم، 1418هـ، ط1، ص56.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص510.
[3] سورة نوح، الآية 17.
61
47
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
إليها التكليف قبل الرجل هي المرأة، لئلّا تتلوّث، فيتلوث المجتمع أيضاً. وهذا دليل على عظمتها، فهي تعرف عظمتها عندما يقال لها: إنّ الله يقبلك قبل الرجل، فإنّ الله قبلك وسمح لك بأداء التكاليف التي تدوّن في صحيفة أعمالكِ وتقرّبكِ منه تعالى، فلقد أعطاكِ الإذن في السلوك إليه تعالى.
وهذا كلّه دليل على أنّ قابليّة تلقّي المرأة الفضائل كاشفة عن ضرورة حفظها لها، ورعايتها لشؤون العفّة والطهارة والقداسة قبل الرجل، وإنّ الحفاظ على الفضيلة هو من مهامّها قبل الرجل، بل قد يكون من خصوصيّات وجودها. ولهذا، نجد في دعاء الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف تكليفاً للنساء بالعفّة والحياء: "وعلى النساء بالحياء والعفّة"[1].
في المحصّلة، إنّ الحجاب سرّ من أسرار جلال المرأة وجمالها، وهو يندرج في جنبة حقّ الله تعالى، لأنّه أراد للزينة التي زيّنها بها أن تكون سبباً لتأسيس مجتمع التكامل، وإنّ روح مسألة الحجاب مرتبطة بالحياء الذي يجب وجوده لدى المرأة، وهو إعلاء لشأنها ومكانتها في هذا المجتمع، فالله لم يرد لها أن تكون محطّاً لميل شهوانيّ غرائزيّ، بل أرادها مصدراً للرأفة والسكن والمودّة والرحمة داخل الأسرة وفي المجتمع، وأرادها مظهراً لرقيّ الروح والعقل والعاطفة.
المرأة وخاصّيّة الحجاب
يُطرح في مجتمعنا المعاصر العديد من التساؤلات والإشكاليّات حول موضوع حجاب المرأة، فنجد من يسأل عن سبب تخصيص المرأة بالحجاب دون الرجل، وهناك آخر يسأل عن مسألة الجمال والحجاب، مستنداً إلى قاعدة: إنّ الله جميل يحبّ الجمال، والمرأة مظهر للجمال، فلماذا يتوجّب عليها أن تخفي هذا الجمال وتستره خلف حجابها؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بالآتي:
[1] الكفعمي، الشيخ إبراهيم بن علي، البلد الأمين والدرع الحصين، مكتبة الصدوق، إيران - طهران، 1383هـ، لا.ط، ص350.
62
48
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
1- الجمال في القرآن:
إنّ جميع الخلق ممزوج بالجمال في رؤية القرآن الكريم: الجمال النفسيّ والجمال النسبيّ، سواء في حدود الكائنات المادّيّة أو في منطقة الكائنات المجرّدة والمعنويّة. والجمال في القرآن مادّيّ ومعنويّ، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "الجمال الظاهر حُسنُ الصورة، والجمال الباطن حُسنُ السريرة"[1].
وإنّ الترغيب في الجمال والحثّ على العمل الجميل مشهودان في القرآن وكلام العترة، فقد ورد في خطبة المتّقين للإمام عليّ عليه السلام أنّ الرجال المتّقين خاشعون في العبادة، ومتجمّلون على الرغمِ من الفاقة والحاجة. وهذا التجمّل الذي هو من أوصاف الرجال المؤمنين يشمل قسمَي الجمال كليهما، على الرغم من أنّ له شمولاً أكثر بالنسبة إلى الجمال المعنويّ. لذا، قال الإمام عليّ عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "... فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفي عنك وبَاله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له"[2]. وكذا الجمال المادّيّ الظاهريّ فهو لا يبقى، بل يزول ويفنى مع مرور أيّام العمر، فجمال الإنسان يكون في المعارف والفضائل. وهذه الأحاديث محورها كلّها هو الإنسان، ولا تؤثّر خصوصيّة الذكورة والأنوثة في حقيقة الإنسان والإيمان.
فالجمال الذي يبقى هو الجمال المعنويّ. ولهذا، لا بدّ للمرأة من أن تسعى لتقوية جانب الجمال المعنويّ الذي خصّها الله به، لتكون مظهراً لائقاً بجماله تعالى، وبذلك تكون قد سارت نحو الهدف من خلقها.
والجمال المعنويّ يتمثّل بأن تتحلّى المرأة بالأخلاق والفضائل، كالعفّة والتقوى...
أمّا الجمال المادّيّ الظاهر المتمثّل بجمال الخلقة، كمفاتن الجسد وغيرها من مظاهر الزينة الملازمة لخلقة المرأة، فيجب أن تترفع عن استخدامه واستغلاله، لأنّ الله تعالى
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص45.
[2] الشريف الرضي، السيّد محمد الرضي بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1،
ص48.
63
49
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
زيّنها به لهدف خاصّ مرتبط بمسألة الزواج واستمرار النسل. وهو ملك خاصّ لها ولمن ترتضيه زوجاً، لا مُلكاً عامّاً لجميع الناس.
2- الحجاب وانجذاب الرجل للمرأة:
لقد خلق الله تعالى المرأة والرجل من نفسٍ واحدةٍ، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾[1]، وقال تعالى: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾[2]. فمن الواضح أنه ليس بين الناس تفاضل في الإنسانيّة، بلا فرق بين أنثى وأنثى، وبين ذكرٍ وذكرٍ، وبين ذكرٍ وأنثى، وليست ثمّة أيّ فضيلة للرجل على المرأة في أصل الخلق.فقوله تعالى: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ أصلٌ تشريعيّ يُعبّر عن وحدة موقع المرأة والرجل في نظام القيم والحقوق والواجبات في الإسلام، فكلٌّ منهما ينتمي إلى حقيقة واحدة، ويتكامل مع الآخر في هذه الحقيقة. وقد كثرت الآيات التي تتحدّث عن وحدة أصل الخلق، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾[3]. وصفوة القول: إنّ تمايز الرجل عن المرأة هو تنويعٌ حكيمٌ هادفٌ وليس تمييزاً ظالماً يُحابي أحدَ الجنسين على حساب الآخر، ولا يترتّب على هذا التمايز أيّ أثرٍ قيميٍّ أو أخلاقيٍّ. بل وتُعتبر المرأة أساساً في تأسيس الأسرة على أساس الرأفة والميل والجذب. ولكنّ السرَّ الأصيل لخلق المرأة هو شيءٌ غيرُ الميل الغريزيّ، وتلبية الشهوة، وهذا ما أخبر به الله تعالى. ففي القرآن الكريم في الآية 189 من سورة الأعراف، والآية 21 من سورة الروم، ورد بيان سكون المرأة والرجل، وأعطيت الأصالة في إيجاد هذا السكن إلى المرأة، واعتُبرت أساساً في هذا الأمر النفسيّ، ووُصف الرجل بكونه منجذباً إلى رأفة المرأة ضمن اعتبار أنّ حقيقة كليهما جوهرةٌ واحدةٌ، حيث قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
[1] سورة النساء، الآية 1.
[2] سورة آل عمران، الآية 195.
[3] سورة النجم، الآيتان 45 ـ 46.
64
50
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾[1].
المقصود من ?نَفْسٍ وَاحِدَةٍ? هو حقيقة واحدة. وهذا النوع من التعابير هو كالتعبير بـ"بني آدم" الذي يشمل جميع الناس حتّى آدم عليه السلام، مثل آية الذرّيّة: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾[2]، حيث إنّ أخذ الميثاق هذا لا يختصّ بأبناء آدم، بل يشمل آدمَ عليه السلام أيضاً.
انطلاقاً ممّا تقدّم بيانه، ولأنّ الله أراد أن تكون الأصالة في ميل الرجل إلى المرأة لا الانجذاب الشهوانيّ، فقد فرض عليها الحجاب دون الرجل، ليستر مزايا جسدها التي تمثّل جانب الجمال الظاهريّ الجاذب للغرائز، فتظهر منها مزايا جمال الروح والعقل. يقول السيّد الطباطبائيّ قدس سره في تفسيره الميزان - في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[3] -: "المودّة، كأنّها الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل، فنسبة المودّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثُّرٍ نفسانيٍّ عن العظمة والكبرياء. ومن أَجَلِّ موارد المودّة والرحمة: المجتمع المنزليّ، فإنّ الزوجين يتلازمان بالمودّة والمحبّة، وهُما معاً، وخاصّة الزوجة، يرحمان الصغار من الأولاد، لمّا يريان ضعفهم وعجزهم عن القيام بواجب العمل، لرفع الحوائج الحيويّة، فيقومان بواجب العمل في حفظهم، وحراستهم، وتغذيتهم، وكسوتهم، وإيوائهم، وتربيتهم. ولولا هذه الرحمة لانقطع النسل، ولم يعِش النوع قطّ"[4].
3- الحجاب آية الجلال وستار الجمال:
إنّ التكليف الإلهيّ، وإنْ رافقه كلفة ومشقّة، فهو في الوقت نفسه تشريف ومنّة وإكرام من الله للمكلّفين. وهذه الكلفة والمشقّة العابرة في امتثال الأوامر الإلهيّة
[1] سورة الأعراف، الآية 189.
[2] سورة الأعراف، الآية 172.
[3] سورة الروم، الآية 21.
[4] الطباطبائي، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417هـ، ط5، ج16، ص166.
65
51
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
تجلب شرفاً راسخاً. من هنا، نقرأ في القرآن الكريم بعد الأمر بالوضوء والغسل والتيمّم ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ﴾، أي أنّ هذا التكليف الظاهريّ يرافقه تطهير معنويّ يعمل على ضمان جمال القلب: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[1].
فكما أنّ زكاة المال هي ظاهراً عامل نفاده ونقصانه، ولكنّ باطنها مليءٌ بالنموّ والنضج، ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾[2]، ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾[3].
والحجاب للمرأة من جملة التشريعات والتكاليف الظاهريّة التي تنطوي على تطهيرٍ معنويٍّ يتمثّل في نماء جمال العقل والروح لديها.
فقد جاءت الشريعة الإلهيّة لتقيّد جمال المرأة بما يحفظه ويصونه ويرفع من شأنها، لأنّ رؤية الإسلام للمرأة وتنظيم حقوقها وحيثيّتها، لها جنبة حقٍّ لله لا حقٍّ للناس فحسب، فلا يجوز هتك حرمتها لأحد.
وقاعدة أنّ الجميع مكلّفون بالحفاظ على مقام المرأة مشهودة في خلال الأحكام الدينيّة، فمثلاً إذا تجاوز أحد على حيثيّتها وهتك ناموسها يجب أن يُحدّ ولا يسقط حدّ الزاني لأيّ سبب، لا رضى الزوج ولا رضى المرأة نفسها، لأنّ ناموسها له جنبة حقّ لله، وليس هو كالمال إذا سرق ورضي المسروق منه بإسقاط حقّه يسقط الحدّ، ولكنّ مدنيّة الغرب والشرق المادّيّة تعتبر ناموس المرأة كالبضاعة. لذا، يُبرَّأ المتّهم إذا رضيت المرأة أو رضي الزوج ويغلق الملفّ، كما كان رائجاً في الجاهليّة القديمة.
[1] سورة المائدة، الآية 6.
[2] سورة البقرة، الآية 276.
[3] سورة الروم، الآية 39.
66
52
الدرس الخامس: الحجاب قيمة وحصانة
المفاهيم الرئيسة
- الحجاب مدعاةٌ إلى رفعة شخصيّة المرأة وحرّيّتها، خلافاً للدعايات البلهاء والسطحيّة للمادّيّين. وليس الحجاب مدعاة إلى أسر المرأة.
- إن الستر المطلوب من المؤمن على نحوَين:
الستر الظاهريّ: وهو اللباس الذي يستر محاسن الجسد وعوراته عن عين الناظر الأجنبيّ.
الستر الباطنيّ: هو حجب النفس عن المفاسد والمعاصي بتزيينها بلباس التقوى.
- إنّ الحجاب سرّ من أسرار جلال المرأة وجمالها، وهو يندرج في جنبة حقّ الله تعالى، لأنّه أراد للزينة التي زيّنها بها أن تكون سبباً لتأسيس مجتمع التكامل.
- الجمال الذي يبقى هو الجمال المعنويّ. ولهذا، لا بدّ للمرأة من أن تسعى لتقوية جانب الجمال المعنويّ الذي خصّها الله به، لتكون مظهراً لائقاً بجماله تعالى، وبذلك تكون قد سارت نحو الهدف من خلقها.
والجمال المعنويّ يتمثّل بأن تتحلّى بالأخلاق والفضائل، كالعفّة والتقوى.
- أراد الله أن لا تكون الأصالة في ميل الرجل إلى المرأة هي الانجذاب الغرائزيّ والشهوانيّ، ففرض عليها الحجاب دون الرجل، ليستر مزايا جسدها التي تمثّل جانب الجمال الظاهريّ الجاذب للغرائز، فتظهر منها مزايا جمال الروح والعقل.
- إنّ التكليف الإلهيّ، وإن رافقه كلفة ومشقّة، فهو بدوره آية لجلال الله، ولا يكون باطنه إلّا تشريفاً وهو آية جمال الله. لذا، يتشرّف كلّ مكلّف، وهذه الكلفة والمشقّة العابرة في امتثال الأوامر الإلهيّة تجلب شرفاً راسخاً.
- لقد جاءت الشريعة الإلهيّة لتقيّد جمال المرأة بما يحفظه ويصونه ويرفع من شأنها، لأنّ رؤية الإسلام للمرأة وتنظيم حقوقها وحيثيّتها لها جنبة حقّ لله لا حقّ للناس فحسب، فلا يجوز لأحد هتك حرمتها.
67
53
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
الدرس السادس
أهداف الحجاب وآثاره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى آثار الحجاب التربويّة والاجتماعيّة.
2- يبيّن كيف يكون الحجاب جهاداً للمرأة.
3- يشرح أثر الحجاب في بناء المجتمع الإسلاميّ الصالح.
69
54
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
تمهيد
إنّ تشريع الستر في الإسلام، كسائر أحكام الشريعة، له غاياتٌ ومصالح يهدف إلى تحقيقها. فإنّ مسألة الحجاب لا تُقاربَ من زاوية الحرّيّة الشخصيّة فحسب، لأنّ لها بعداً اجتماعيّاً، باعتبار أنّ السفور ليس عملاً فرديّاً تمارسه المرأة داخل بيتها لتُترك وشأنها، وإنّما تخرج بفعلها هذا إلى الشارع لتواجه به الناس والمجتمع. وسنعرض في هذا البحث بعض المصالح والحكم من وراء هذا التشريع الإلهيّ.
الآثار التربويّة
1- استشعار العبوديّة لله:
من المهمّ جدّاً أن نعي الصفة الإلهيّة التي يمثّلها الستر، فإنّ عبوديّة المرأة لله سبحانه وتعالى تتطلّب منها الامتثال للتكاليف الإلهيّة التي منها الستر، فهو عبادة دائمة لله تعالى.
فعبوديّة الله هي طاعته والالتزام بأمره ونهيه، وتتحقّق بفعل الواجبات وترك المحرّمات. والحجاب عبادة، بل من الفرائض التي أمر الله بها في كتابه ونهى عن تركها بإبداء الزينة والتبرّج.
والعبادات لها مقاصد وغايات، فمقاصدها تحقيق المصلحة للعبد ودفع المفسدة عنه، وغايتها أن يصل الإنسان المؤمن إلى كماله اللائق بحاله، وهو مرتبة العبوديّة لله تعالى، التي وصف بها أشرف خلقه وسيّد رسله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾، وبقوله جلّ من قائل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾[1].
[1] سورة الكهف، الآية 1.
71
55
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
والمرأة بالتزامها الستر، تكون في عبادة دائمة واستحقاق للثواب المترتّب على الطاعة، وفي استشعار دائم لرقابة المولى عزّ وجلّ التي تسدّد سيرها في طريقها نحو الكمال والعبوديّة لله عزّ وجلّ.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّه لا يُدرك ما عند الله إلّا بطاعته"[1].
2- طهارة القلب:
قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾[2].
والخطاب في الآية متوجّه لنساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والحجاب حكمٌ مختصّ بهنّ، إلّا أنّنا نستفيد أنّ الحكمة والمصلحة من فرض الحجاب هي طهارة القلوب، قلوب الرجال والنساء المؤمنين إذا احتاجوا إلى مخاطبة بعضهم بعضاً، قلوب من يسمع النساء فضلاً عمّن يراهنّ.
ثمّ إنّ لهذه الطهارة مراتبَ ومقاماتٍ مختلفةً ومتعدّدة، وهي:
المرتبة الأولى: طهارة الظاهر، وهي تطهير البدن من الأحداث والخبائث، وتكون بمراعاة الأحكام الشرعيّة المذكورة في الكتب الفقهيّة.
المرتبة الثانية: طهارة الجوارح من الذنوب والمعاصي، وإنّما يتحقّق ذلك بتوبة العبد التوبة النصوح إلى بارئه.
المرتبة الثالثة: طهارة النفس، بتخليتها من الرذائل والصفات الذميمة، وتحليتها بالفضائل والصفات الحميدة، وهذا معنى تهذيبها وتذكيتها.
المرتبة الرابعة: طهارة القلب، وتلوُّث القلب بتعلُّقه بغير الله تعالى، وتطهيره بطرد غير الله من قلبه.
[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص234.
[2] سورة الأحزاب، الآية 53.
72
56
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "القلب حرم الله، فلا تُسكن حرم الله غير الله"[1].
وهذه المراتب مترتّبة، والحجاب في طريق حفظه لطهارة القلب، يعزّز القيم الأخلاقيّة التي تصون المرأة، وهي: العفّة والحياء والغيرة.
3- جهاد المرأة:
يشكّل الحجاب فعل جهاد مهمّاً في أكثر من ميدان، فهو:
1- جهاد للنفس: بالتزام الطاعة وعدم إظهار المفاتن والزينة، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، كما ورد وصفه في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أفضل الجهاد جهاد النفس عن الهوى، وفطامها عن لذّات الدنيا"[2]، وعنه عليه السلام: "إنّ المجاهد نفسه على طاعة الله وعن معاصيه عند الله - سبحانه - بمنزلة برّ شهيد"[3].
2- جهاد ضدّ الغزو الثقافيّ والحرب الناعمة: وهذه الساحة من أهمّ ساحات الجهاد في معركتنا الحاضرة، حيث لا ينفكّ الغرب جاهداً بشتّى الوسائل يشوّه القيم الإسلاميّة وتضييع هويّة الإنسان المسلم، ومنها الستر والحجاب، بالوسائل الممكنة كلها. فلباس المرأة في الإسلام يشكّل عنصراً أساسيّاً في تكوين هويّتها وبناء شخصيّتها.
فالتزام المرأة المؤمنة بحجابها يرمز إلى تمسّكها بهويّتها الإسلاميّة والإيمانيّة، ورفضها للتنميط الثقافيّ والقيميّ الغربيّ.
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص25.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص122.
[3] التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيد مهدي رجائي، نشر دار الكتاب الإسلامي، إيران- قم، 1410هـ، ط2، ص 232.
73
57
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
الآثار الاجتماعيّة
1- تحقيق الأمن الأخلاقيّ:
إنّ الغريزة الجنسيّة في منظور الإسلام تمثّل طاقةً إيجابيّةً وضروريّةً لاستمرار الحياة. وهي عندما تتحرّك في النطاق الصحيح والمشروع، فإنّها تقوم بوظيفة شريفة هي مساهمتها في تحقيق تناسل الجنس البشريّ واستمراره وبقائه.
ومنعاً لانحراف هذه الغريزة عن مسارها الصحيح، فقد اتّخذ المشرِّع الإسلاميّ جملةً من الإجراءات التي تساهم في تحقيق العفّة والاستقرار الأخلاقيّ. ولا يخفى أنّ للغريزة الجنسيّة عناصرَ إثارةٍ معيّنة. ولهذا، فإذا أُريد ضبط الشهوة حتّى لا يحصل التفلّت الأخلاقيّ، وتشيع الفاحشة، وينتشر الزنا، كان لا بدّ من سدّ الأبواب التي تؤدّي إلى ذلك.
فللإسلام فلسفة خاصّة تتعلّق بحجاب المرأة تؤيّدها النظرة العقلائيّة، بعيداً عن المسوّغات التي وضعها مخالفو الحجاب، تتجلّى في قصر التمتّع بالمرأة على الحياة الزوجيّة بين زوجَين شرعيّين.
فإنّ الإسلام يرى أنّ اقتصار هذه المُتَع الجنسيّة على الزوجين في حياةٍ عائليّةٍ مشروعةٍ يوطّد الروابط بين الزوجين، ويحافظ على قوى المجتمع ونشاطه، ويرفع قيمة المرأة في عين الرجل، فقد روي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تزوج أحرز نصف دينه..."[1].
2- حماية الحياة العائليّة:
لا شكّ في أنّ كلّ ما يوطّد العلاقة العائليّة، ويتسبّب باستحكام الروابط بين الزوجين، يكون مفيداً للحياة العائليّة. وعلى العكس من ذلك، فإنّ كلّ ما يُضعف من هذه الروابط بين الزوجين ويوجد بينهما الفتور والبرود، يكون مضرّاً بالحياة العائليّة، ويستوجب مكافحته والقضاء عليه.
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص329.
74
58
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
إنّ تخصيص العلاقة الزوجية الخاصّة بالمحيط العائليّ، وضمن العلاقة الزوجيّة المشروعة يزيد من استحكام الروابط الزوجيّة، ويزيد الزوجين اقتراباً فيما بينهما. إنّ فلسفة الحجاب ومنع المتعة الجنسيّة إلّا عن طريق الحياة الزوجيّة المشروعة، من حيث وجهة نظر علم اجتماع العائلة، هي أنّ الزواج الشرعيّ يسبغ السعادة والراحة على نفسيّة طرفَيه. أمّا في حالة التحرّر الجنسيّ فيكون الزوجان القانونيّان، من حيث وضعهما النفسيّ، طرفَين متنافسَين، ويرى كلّ منهما الآخر حائلاً في طريقه، وتكون النتيجة أنّ الحياة العائليّة تقام على أساس من العداء والنفور.
إنّ نظام حرّيّة الروابط الجنسيّة يحمل الشبّان على تأخير موعد الزواج وتكوين عائلة إلى أبعد حدٍّ ممكنٍ، فلا يقدمون على الزواج إلّا بعد أن تضعف قواهم ويخفت نشاطهم وتخفت فورة الشباب عندهم، وفي هذه الحالة فهم لا يريدون المرأة إلّا للإنجاب، وأحياناً للخدمة.
3- الحجاب وسيلة للتقنين:
يدعو القرآن الرجل والمرأة إلى الرضى والقناعة في العلاقات الاجتماعيّة[1]، ويأمر النساء بالحجاب والستر[2]، وينهاهنّ عن التبرّج الجاهليّ، كما ينهاهنّ عن إبراز البعد الأنثويّ في علاقتهنّ بالآخرين[3]. وتأتي هذه التشريعات الإسلاميّة كلّها في سياق تحقيق الأمن الاجتماعيّ. فالحجاب مثلاً تشريع ملزم للمرأة بوجوب ستر مفاتنها وحفظ أنوثتها عن غير المحارم من الرجال، لأنّ التبرّج، والتجمّل، والتقليل من الملابس شيئاً فشيئاً، تثير نار الشهوة البهيميّة المتأجّجة في صدور الرجال، الذين لا يزيدهم ذلك إلّا عطشاً لرؤية منظر آخر أكثر منه سفوراً وكشفاً، وكأنّ المرأة لم تُخلق إلّا لتمتُّع الرجل بجسدها[4]، وهذا
[1] سورة النساء، الآية 32.
[2] سورة النور، الآية 31، سورة الأحزاب، الآية 59.
[3] سورة الأحزاب، الآيات 31 ـ 33.
[4] انظر: السحمراني، أسعد، المرأة في التاريخ والشريعة، دار النفائس، ط2، لبنان ـ بيروت، ص64 - 66.
75
59
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
ما يؤدّي إلى الاضطراب الاجتماعيّ، واختلال موازين القيم التي تضمن سلامة المجتمع وتحفظ استقراره.
ولهذا، فإنّ الحجاب وكلّ ما يتعلّق بأحكام نظر الجنسين بعضهما إلى بعض، والروايات التي تحثّ على الزواج، تتكامل لتعزيز هذا البناء الأخلاقيّ الوقائيّ في المجتمعات الإسلاميّة. ورد في الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّ السيّد المسيح عليه السلام قال: "إنّ موسى نبيّ لله عليه السلام أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدّثوا أنفسكم بالزنا، فضلاً عن أن تزنوا"[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص452.
76
60
الدرس السادس: أهداف الحجاب وآثاره
المفاهيم الرئيسة
- إنّ تشريع الستر في الإسلام، كسائر أحكام الشريعة، له غايات ومصالح يهدف إلى تحقيقها.
- إنّ عبوديّة المرأة لله سبحانه وتعالى تتطلّب منها الامتثال للتكاليف الإلهيّة التي منها الستر، فهو عبادة دائمة لله تعالى.
- يشكّل الحجاب فعل جهاد مهمّاً على أكثر من ميدان، فهو: جهاد للنفس بالتزام الطاعة وعدم إظهار المفاتن والزينة، وجهاد ضدّ الغزو الثقافيّ والحرب الناعمة.
- إنّ الشهوة الجنسيّة في منظور الإسلام تمثّل طاقة إيجابيّة وضروريّة لاستمرار الحياة، وهي عندما تتحرّك في النطاق الصحيح والمشروع، فإنّها تقوم بوظيفة شريفة هي مساهمتها في تحقيق تناسل الجنس البشريّ واستمراره وبقائه.
- يرى الإسلام أنّ اقتصار المتع الجنسيّة على الزوجين في حياة عائليّة مشروعة يُحسِّن الصحّة النفسيّة للمجتمع، ويوطّد الروابط بين الزوجين، ويحافظ على قوى المجتمع ونشاطه، ويرفع قيمة المرأة في عين الرجل.
- جاء الحجاب كوسيلة من وسائل الضبط الأخلاقيّ وتنظيم حركة الشهوة، وهو يُساهم في تعزيز المناعة الأخلاقيّة في المجتمعات. وإنّ السفور، ولا سيّما الفاضح منه، هو مدخل إلى التفلّت الأخلاقيّ.
- إنّ إخراج التمتّع الجنسيّ من المحيط الزوجيّ إلى المحيط الاجتماعيّ يُضعف من قوّة العمل والنشاط في المجتمع.
77
61
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
الدرس السابع
العفّة والحجاب (1)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مفهوم العفّة.
2- يشرح أهمّيّة العفّة.
3- يبيّن العفّة في القرآن الكريم والروايات الشريفة.
79
62
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
تمهيد
إنّ المحور الأساس لصفات الإنسان النفسيّة، كما بيّنه علماء الأخلاق، يكمن في قوى النفس الإنسانيّة، فإليها تعود جميع الملكات والتوجّهات النفسيّة.
إنّ العديد من الأخبار والروايات يُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، ويدلّ على أنّهما من أفضل العبادات، لكونهما أشقّ على النفس.
مهفوم العفّة
1- المعنى اللُّغوي: العَفاف - بفتح العين - من العفّة. قال الرَّاغب الأصفهاني في معناها: "العفَّة حصول حالة للنَّفس تمتَنع بها عن غلبة الشَّهوة"[1].
وقال عنها الطّريحي في "مجمع البحرين": "كفّ عن الشيء، أي امتنع عنه، فهو عفيف"[2].
أمَّا ابن منظور فكتب في "لسان العرب": "العفّة: الكفّ عما لا يحلّ ولا يجمل"[3].
فأساس العفاف، إذاً، هو الكفّ والامتناع، من دون أن يتضمّن المعنى اللُّغويّ اختصاص المعنى بجنس معيّن، كالمرأة مثلاً من دون الرجل.
2- المعنى الاصطلاحيّ: العفاف، في منظومة الفكر الإسلامي، مصطلح له حمولة معنويّة خاصّة منبثقة من الآيات والرِّوايات، ومن ثمّ فهو تعبير عن حالة تترافق مع نسق خاصّ في القول والسُّلوك.
[1] الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داودي، طليعة النور، لا.م، 1427هـ، ط2، ص350.
[2] مصدر سابق، ج5، ص101.
[3] مصدر سابق، ج9، ص253.
81
63
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
فقد عرّفها النراقيّ بأنّها "انقياد القوّة الشهويّة للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه، حتّى تكتسب الحرّيّة، وتتخلّص عن أسر عبوديّة الهوى"[1].
وقد عرّفها أيضاً في مكان آخر بأنّها: "عبارة عن مَلَكة انقياد القوّة الشهويّة للعقل، حتّى يكون تصرّفها مقصوراً على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عمّا يتضمّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه"[2].
وهي من الصفات الممدوحة، فقد عُرِّفت بأنّها الكفّ عمّا لا يحلّ القيام به من الأفعال القبيحة والشنيعة[3].
العَفاف في القرآن
استخدم القرآن الجذر اللُّغوي لمصطلح العفاف، وما يحفّ به من اشتقاقات، في أربع سور، هي:
1- قال تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾[4]. والعفاف في هذه الآية ضرب من السُّلوك ينمّ عن السموّ والرِّفعة، ويومئ إلى كفِّ النَّفس والامتناع عن مدّ يد الحاجة إلى الآخرين عن عزّة نفس.
2- ورد في سورة النّساء الآية السادسة التي تنظِّم مقاربة أموال اليتامى، وهي تسجّل في إحدى هذه الحالات: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾[5]، فقد أطلق وصف العفاف على الكفّ والامتناع في هذه الآية أيضاً.
3- قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ﴾[6]. و"الاستعفاف" هنا بمعنى كبح جماح القوَّة الجنسية والسيطرة عليها.
[1] النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 2002م، ط7، ج1، ص70.
[2] المصدر نفسه، ص87.
[3] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لا.ت، لا.ط، ص654.
[4] سورة البقرة، الآية 273.
[5] سورة النساء، الآية 6.
[6] سورة النور، الآية 33.
82
64
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
4- قال تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1].
العفاف هو مطلق الكفّ والامتناع، كما يتّضح من الاستعمال القرآني في الآيات المذكورة، إذ تراه يشمل أيضاً التَّعفُّف في المضماريَن الاقتصاديّ والماليّ.
على ضوء ذلك كلّه، سيكون السؤال: هل العفاف حالة باطنيّة نفسيَّة محضة، ما يعني أن لا علاقة له بالصِّيغة التي تتمظهر فيها هذه الحالة خارجيّاً، ولا صلة تربطه بالشكل الذي تكتسبه اجتماعيّاً؟
لا يقرّ القرآن الكريم مثل هذه الرؤية، بل ثمّة تركيز على الصِّيغة الأدائيَّة والتّعبيريّة للحالة، تومئ إلى الأهمّيّة التي يوليها لكيفيّة تجلِّي العفاف. ففي الآية الأولى، عُني المشهد القرآنيّ بإبراز سلوك المسلم الفقير، وبيان مدى حرصه في التَّصرُّف على نحو عفٍّ كريم لا يوحي بالعِوَز والحاجة.
أمّا الآية الثانية، فقد وصفت النَّزو على أموال اليتامى بعدم العفّة، في حين عدّت الآية الثالثة السَّيطرة على الغريزة الجنسيّة وعدم الانزلاق إلى هوَّة الشهوات استعفافاً. أمّا الآية الرابعة فقد أوصت النساء المسنّات بالعفاف وعدم التبرّج، فساوقت العفاف بـ"الحجاب".
في ضوء ما سبق، يتَّضح أن للعفاف، من منظور الفكر الإسلامي، تعبيرَين: داخليّ وخارجيّ. ففي التَّعبير الدَّاخليّ، يُعَدّ العفاف حالة نفسيّة للسَّيطرة على الشهوة وضبطها، أما في التَّعبير الخارجيّ، فهو علامات ودلالات تظهر في السلوك والقول، لتشير إلى الحالة الدَّاخليّة التي ينطوي عليها الإنسان العفيف.
هذه الدَّلالة المزدوجة التي تعطي للعفاف معنىً يشمل الكفّ والامتناع، ويبرز على مستوى المظاهر السلوكيّة والقوليّة، لها ما يؤيّدها في الرِّوايات الإسلاميّة.
يكتب الشيخ عبّاس القمّي عن المصطلح في "سفينة البحار": "ويُطلق، في الأخبار، غالباً، على عفّة الفرج والبطن وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة"[2].
[1] سورة النور، الآية 60.
[2] القمي، الشيخ عباس، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، دار الأسوة، إيران - قم، 1414هـ، ط1، ج2، ص207.
83
65
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "العفاف زهادة"[1]، وكذلك: "العفَّة تُضعف الشهوة"[2].
فضيلة العفّة
إنّ أغلب الأخبار والروايات يُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، ويدلّ على أنّهما من أفضل العبادات، لكونهما أشقّ على النفس، ولملازمة النفس لهذه المشتهيات منذ الصغر حتّى صارت جزءاً منها. ولهذا، يشقّ على الإنسان مجاهدة نفسه، وقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"[3]، وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "العفاف يصون النفس وينزّهها"[4].
والعفّة هي حدّ الاعتدال في القوّة الشهويّة - وهو استعمالها كما ينبغي كمّاً وكيفاً - فهي فضيلة هذه القوّة، وهي حدّ الوسط بين الخمود والشرَه. ويشير المحتوى القرآنيّ والروائيّ إلى أنّ العلاقة التي تنظّم العفّة والشهوة هي علاقةُ تقاطعٍ حادٍّ، عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "العفاف يصون النفس وينزّهها"[5]، وكذلك: "العفّة تضعف الشهوة"[6]. وعلى هذا، فالعفّة واحدة من أمّهات الفضائل.
وقد ذكر علماء الأخلاق الفضائل المتفرِّعة عن العفّة وأوصلوها إلى ستٍّ وعشرين فضيلةً. وممّا ذُكر من فضائل العفّة: "الحياء، والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والمساعدة، والسخط، والظرف".
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في خطابه للنساء، موضّحاً أهمّيّة العفّة: "إنّ عفاف الرجل مهمّ، فالعفّة ليست مختصّة بالمرأة... كلّ ما في الأمر أنّ الرجل في المجتمع يمتلك قدرة
[1] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص19.
[2] المصدر نفسه، ص124.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص84.
[4] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص110.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه، ص124.
84
66
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
وقوّة جسميّة أكبر، ويمكنه بذلك أن يظلم المرأة... لذلك طُلب من المرأة الاحتياط أكثر. عندما تنظرن إلى العالم تَرَيْنَ أنّ إحدى مشاكل المرأة في العالم الغربيّ، وخاصّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، هي استغلال الرجال لقوّتهم والاعتداء على عفّة النساء.
إنّ الإحصاءات التي نشرها المسؤولون الرسميّون في أمريكا نفسها... إحصاءات مرعبة حقّاً، ففي كل ّستّ ثوانٍ يقع اعتداءُ عنفٍ في أمريكا. انظرن إلى مدى أهمّيّة العفّة، عندما أهملوا العفّة بلغ بهم الأمر هكذا... إنّ الإسلام يلاحظ ذلك. إنّ قضيّة الحجاب التي أكّدها الإسلام إلى هذا الحدّ هي من أجل هذا...".
مجالات العفّة
1- عفّة البطن والفرج: عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج".
2- عفّة البصر: دعت الآيتان من سورة النور إلى غضّ البصر: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾.
3- عفّة اللسان: عن سليمان بن مهران، قال: "دخلت على الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول، وقبيح القول"[1].
4- عفّة السمع: قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[2].
العفَّة والغريزة
يشير المحتوى القرآني والرِّوائي إلى أنَّ العلاقة التي تنظم العفَّة والشَّهوة هي علاقة تقاطع حادّ، وعليه تمّ تحذير المتديّنين بأن أتباع الشهوات ليسوا أعفّاء. لكن يبدو أن نظرة بعض المتديِّنين اقتصرت على جزء من النِّطاق الذي يشمله معنى الشهوة، وبيانه:
[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج12، ص193.
[2] سورة الإسراء، الآية 36.
85
67
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
1- المعنى اللّغويّ:
يسجّل الرَّاغب الأصفهاني في "المفردات": "أصل الشَّهوة نزوع النفس إلى ما تريده، وذلك في الدنيا ضرْبان صادقة وكاذبة. فالصادقة ما يختلّ البدن من دونه، كشهوة الطعام عند الجوع، والكاذبة ما لا يختلّ من دونه"[1].
أمّا الطُّريحي في "مجمع البحرين" فقد قال: "الشَّهوات بالتحريك جمع شهوة، وهي اشتياق النفس إلى شيء آخر"[2].
وجاء في قاموس "دهخدا" الفارسي: إنّها الميل والرَّغبة والاشتياق، وشوق النَّفس وحصول اللَّذة والمنفعة[3].
وعندما نصل إلى القرآن الكريم نراه قد استعمل "الشهوة" بالمعنى العامّ أيضاً، كما في قوله سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[4].
2- المعنى الاصطلاحيّ:
يُطلق لفظ الشَّهوة في الاستخدام الاصطلاحيّ على طلب اللَّذَّة الجنسيَّة. وبذلك، فإنّ هذا الاستخدام يحدّ الشهوة في اتّباع شطر ضئيل من الميول النفسيّة، من حين يفضي بها التحليل القرآنيّ والرِّوائيّ إلى معنىً عامّ يقابل العفّة في معناها العامّ أيضاً. الشهوة، في المعنى العامّ، هي ميل النفس والسعي إلى إشباع ذلك الميل، في مقابل الامتناع والكفّ عن الاستجابة للميول النفسانيّة.
فالإنسان الذي يتّبع الشهوات واضح في حركته وطبيعة سلوكه، ونمط حديثه، وكذلك الإنسان العفيف الذي يحظى بالمروءة والأصالة، إذ هو الآخر تبرز آثار عفَّته في سلوكه وتظهر في كلامه.
[1] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مصدر سابق، ص276.
[2] مصدر سابق، ج1، ص252.
[3] قاموس دهخدا، ج9، ص13894 (بالفارسية).
[4] سورة آل عمران، الآية 14.
86
68
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
هنا، يكتب الشهيد مرتضى مطهَّري في كتاب: "التربية والتعليم في الإسلام" ما نصُّه: "العفاف هو تلك الحالة النَّفسانيّة، وهو يعني كبح جماح القوّة الشَّهويَّة ووضعها تحت سلطة العقل والإيمان. معنى العفاف أن لا يقع المرء ضحيَّة الشَّرَه، ولا يكون تحت سلطة القوّة الشَّهويَّة، ولا يكون في عداد المستسلمين الذين يخضعون بالكامل عند مواجهة شهوة من الشَّهوات، بحيث يسلّمون أزِمّة أنفسهم ويصيرون ضحيَّة هذه الغريزة. هذا هو معنى العفاف"[1].
3- خصائص مفهوم العفاف:
يدخل العَفَاف، بمعنى الكفّ والامتناع، في علاقة تضادّ مع حالة الميل نحو الشهوات، والنُّزوع النفسيّ، وهو ينطوي على الخصائص الآتية:
1- إنَّه تعبير عن خصلة إنسانيّة.
2- إنَّه تعبير عن حالة داخليَّة باطنيّة.
3- إنَّ له مظاهر خارجيّة تعبّر عنه.
4- تبرز المظاهر تلك من خلال النَّسق السلوكيّ ونمط الحديث والكلام.
5- لا ينسجم العفاف مع حالة السلوك المضطرب، ولا يتّسق مع الدَّلالات المتناقضة.
6- ينطلق الالتزام بالعفَّة من موقع العزّة والاقتدار، وليس من موقع الضعف والعجز.
يرتبط العفاف، إذاً، بدلائل سلوكيّة، ويقترن بنمط خاصّ من الكلام والحديث، فلا معنى لوجوده من دون وجود تلك الدلائل والعلامات، ومن ثمّ لا سبيل إلى حفظ العفاف من دون الالتزام بتلك الدلائل ورعاية تلك العلامات. فالعفّة ليست أمراً داخليّاً وباطنيّاً صرفاً، بحيث لا تكون لها علامة تدلّ عليها في الخارج.
عند النَّظر إلى المفهوم، من خلال أفق الحياة الإنسانيّة، يلحظ أنّ جزءاً من الاختلاف في دلالات العفَّة بين المرأة والرجل، يعود إلى التفاوت الموجود في الخلقة بين الاثنين، وأنّ الحجاب هو إِحدى علامات العفاف، حيث لا يمكن تصوّره من دون الحجاب. إنّ المرأة
[1] مطهري، الشيخ مرتضى، دار سلام (التربية والتعليم في الإسلام)، منشورات الزهراء، ص106.
87
69
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
أو الرجل اللذَين لا يلتزمان بأحكام الستر الإسلاميّة، لا يستحقّان وصف العفَّة، ولا يمكن نعتهما بـ"العفاف"، وهما على هذه الصِّفة. هذا، على الرغم من أنّ الاختلاف في ضروب السلوك الإنسانيّ والحيوانيّ له مناشىء في اختلاف الفطرة والخلقة من جهة، وفي الميول والأنماط السلوكيّة من جهة أخرى. وفي المنظار السلوكيّ الإسلاميّ يُعَدّ الحجاب الإسلاميّ إحدى الدلالات البارزة للعفاف[1].
يقول الشهيد مطهَّري في كتابه "قضيّة الحجاب": "عندما تخرج المرأة من البيت، وهي محجَّبة ومتسربلة بالوقار، تكون قد راعت جانب العفاف، فإنّ الأفراد الفاسدين والمتهتِّكين لا يجرؤون على التعرّض لها"[2].
وعند تفسير الآية (61) من سورة النُّور، يقول الشهيد مطهّري: "يمكن استنباط قانون عامّ من جملة: ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾ مفاده: كلّما التزمت المرأة برعاية جانب السَتر والعفاف أكثر، كان ذلك أرضى من منظور الإسلام، الذي منح نظامه التشريعيّ رخصاً تسهيليّة وإرفاقيّة حيال حكم الوجه والكفّين. هذا أصل أخلاقيّ عامّ لا ينبغي أن يغيب عن الذاكرة"[3].
في الحقيقة، إنّ "الحجاب" هو دلالة لا محيص عنها على "العفاف"، وهو علامة العفاف. يقول الشهيد مطهَّري: "العفَّة والحياء خصلتان لا ينال منهما التأريخ، فقد آمنت بهما الإنسانيّة جمعاء منذ البدء حتّى الآن، كما حرصت عليهما الأديان السماويّة جميعاً، ودعت إلى الالتزام بهما. الشخصيات البارزة، على مرّ التاريخ، من جهتها، حثّت الشريعة الإسلاميّة على العفّة والحياء، وركّزت عليهما كثيراً، ولا غرو، فإنّ هاتين الخصلتين الإنسانيَّتين تؤلِّفان بعداً من أبعاد فلسفة السَّتر الإنسانيّ"[4].
[1] الشهيد مطهري، تعليم وترتيب در اسلام (التعليم والتربية في الإسلام)، ص106 (بالفارسية).
[2] المصدر نفسه، ص177 (بالفارسية).
[3] المصدر نفسه، ص168.
[4] مهريزي، حجاب (الحجاب)، ص39، (بالفارسية).
88
70
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في حكمة تشريع الستر والحجاب: "فقضيّة الحجاب، والمحارم وغير المحارم، والنظر وعدم النظر، كلّها إنّما وضعت للمحافظة على سلامة العفّة. فالإسلام يولي مسألة عفاف المرأة أهمّيّة كبيرة".
ويقول تأكيداً على فضيلة العفّة: "كلّ حركة تسعى للدفاع عن المرأة يجب أن يكون ركنها الأساس هو عفّة المرأة، وكما قلت، فإنّ الغرب لم يهتمّ بقضيّة عفّة المرأة ولم يعتنِ بها، فانتهى الأمر به إلى التهتّك".
أمّا عن الباعث إلى ارتباط السِّتر بالحجاب، فإنّ الشهيد مطهَّري يوضّح ذلك بقوله: "العفاف والحياء هما من الخصائص الباطنيّة للإنسان، والحجاب يرجع بدوره إلى الشكل الذي يتموضع به الستر ونوعه وطبيعته. وفي هذا السِّياق، يمكن مقاربة المسألة بالتفاوت الموجود بين الباطن والظاهر، وبين الروح والجسد، أو الجوهر والمظهر. هذان الاثنان هما - في نظرنا - تعبير عن حقيقتين تحتاج معرفة طبيعة الارتباط في ما بينهما إلى الفحص والتأمّل"[1]. يذهب الشهيد مطهّري إلى أن الحجاب والسِّتر هما علامة للعفاف، دالّة عليه، كما هو واضح من الأمور الآتية:
عندما يبلغ الآية (59) من سورة الأحزاب، التي أمر الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يلتزمن بالحجاب ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾، تراه يقول: "توفّر هذا المقطع على عرض قاعدة عامّة تفيد أنّ على المرأة المسلمة أن تتحرّك بطريقة بحيث تبدو علائم العفّة والوقار واضحة على محيَّاها"[2]. كما يقول أيضاً: "السَّتر والحجاب هما تكليف فحسب، وعلامة على خصلة إنسانيّة هي العفاف"[3].
كذلك: "الحجاب والسِّتر هما علامة العفّة"[4].
[1] الشهيد مطهّري، مسألة الحجاب، مصدر سابق، ص52 - 57.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه.
89
71
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
ويقول أيضاً: "يتحدّث القرآن عن عفَّة بنات شعيب، وهنّ في حال رعي الأغنام وسقيها بين الرجال، كما يثني على عفَّة مريم في معبد يقصده النساء والرجال للعبادة"[1]. أليست عفَّة بنات شعيب والسيِّدة مريم عليهم السلام هي الاحتراز عمَّا ينافي العفاف، والتوفُّر على الالتزامات الدالّة عليه في السلوك وفي نمط القول والحديث؟
ويقول: "إنَّ تمثُّل الوقار في السلوك الظاهريّ، وفي انتخاب الحجاب، ينبىء عن العفاف الباطنيّ"[2].
في الحقيقة، ما لم يُجَزم قطعيّاً بالعلاقة ما بين الحجاب والعفاف، لا يمكن الحديث عن الارتباط بين "الدَّالّة" و"الواقع" في الاستدلال على الحجاب.
[1] الشهيد مطهّري، مسألة الحجاب، مصدر سابق، ص52 - 57.
[2] المصدر نفسه.
90
72
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
المفاهيم الرئيسة
- عرّفت العفّة بأنّها مَلَكةُ انقياد القوّة الشهويّة للعقل حتّى يكون تصرّفها مقصوراً على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة، وينزجر عمّا يتضمّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه.
- لقد استخدم مصطلح العَفاف في القرآن بمعانٍ عدّة، الأوّل: ضرب من السُّلوك ينمّ عن السموّ والرِّفعة، ويومئ إلى كفِّ النَّفس والامتناع عن مدّ يد الحاجة إلى الآخرين عن عزّة نفس، والثاني: وصف العفاف على الكفّ والامتناع المتعلّق بتنظِّم ومقاربة أموال اليتامى، والثالث: استُخْدم "الاستعفاف" بمعنى كبح جماح القوَّة الجنسيّة والسيطرة عليها، والرابع: مطلق الكفّ والامتناع فيشمل الجانب الاقتصاديّ والماليّ.
- إن للعفاف من منظور الفكر الإسلامي، تعبيريَن: داخليّ وخارجيّ. ففي التَّعبير الدَّاخليّ يُعَدّ العفاف حالة نفسية للسَّيطرة على الشهوة وضبطها، أمّا في التَّعبير الخارجيّ فهو علامات ودلالات تظهر في السلوك والقول لتشير إلى الحالة الدَّاخليّة التي ينطوي عليها الإنسان العفيف.
- إنّ أغلب الأخبار والروايات يُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، ويدلّ على أنّهما من أفضل العبادات لكونهما أشقّ على النفس، ولملازمة النفس لهذه المشتهيات منذ الصغر حتّى صارت جزءاً منها. ولهذا، يشقّ على الإنسان مجاهدة نفسه.
- إن للعفّة مجالات عدّة، وهي: عفّة البطن والفرج، وعفّة البصر، وعفّة اللسان، وعفّة السمع.
- يشير المحتوى القرآنيّ والرِّوائيّ إلى أنَّ العلاقة التي تنظم العفَّة والشَّهوة هي علاقة تقاطع حادّ. وعليه، تمّ تحذير المتديّنين بأنّ أتباع الشهوات ليسوا أعفّاء.
91
73
الدرس السابع: العفّة والحجاب (1)
- يرتبط العفاف بدلائل سلوكيّة، ويقترن بنمط خاصّ من الكلام والحديث، فلا معنى لوجوده من دون وجود تلك الدلائل والعلامات، ومن ثمّ لا سبيل إلى حفظ العفاف من دون الالتزام بتلك الدلائل ورعاية تلك العلامات. فالعفّة ليست أمراً داخليّاً وباطنيّاً صرفاً، بحيث لا تكون لها علامة تدلّ عليها في الخارج.
92
74
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
الدرس الثامن
العفّة والحجاب (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى فلسفة العفة.
2- يشرح معطيات العفة وآثارها.
3- يبيّن دور العفة في حياة المرأة في عصر الغيبة.
93
75
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
تمهيد
إنّ الحفاظ على العفّة على المستويَين الفرديّ والاجتماعيّ له تأثير كبير في بناء المجتمع الإسلاميّ وصيانته. فالعفّة هي صمّام الأمان الذي يمنح الفرد الطمأنينة، ويبعده عن المحرّمات والشهوات، وهي العنصر الأساس في حفظ المجتمع عن الفساد والتدهور الأخلاقيّ والسلوكيّ.
مضافاً إلى ذلك، فإنّ العفّة صفة أساسيّة في المجتمع المنتظِر الذي تُمثّل المرأة الجزء الأهمّ فيه، فبعفّتها وحفظها لنفسها تحفظ المجتمع الإسلاميّ المنتظِر، وتكون ممهِّدة لعصر ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فصل العفاف عن الحجاب
ذكرنا أن للسِّتر علاقة أساسيّة وثيقة بالعفاف، ومن ثمّ لا يجوز لإنسان أن يكون منحازاً للعفاف والحياء، ويكون مخالفاً للحجاب في الوقت نفسه. فالحجاب الإسلاميّ هو الصيغة الأكمل في التعبير عن الالتزام بالعفاف. أما إذا أردنا أن نفصل ما بين الحجاب والعفاف، فسيفضي ذلك إلى بروز مشكلتين أساسيَّتين[1]، هما:
الأولى: إلى أيّ مدى يمكن الإذعان إلى حالة الفصل ما بين العفاف والحجاب؟ ثمّ ما ملاك هذه القطيعة؟ وما المعيار الذي تقوم عليه؟ وفي حال تجريد العفاف عن الحجاب، فما طبيعة السَّتر الذي ينبغي الالتزام به حفظاً لحالة العفاف؟ أجل، يمكن أن نقرّ بوجود أفراد أعفّاء وملتزمين، لكنّهم لا يراعون الحجاب بالصيغة التي أمر الشارع بها، بيد أن
[1] الشهيد مطهّري، مسألة الحجاب، مصدر سابق، ص52 - 57.
95
76
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
السؤال المهمّ الذي ينبغي الالتفات إليه: ما المدى الذي يمكن أن تبلغه حالة الانفصال هذه والتفكيك ما بين الاثنين؟[1].
الثانية: إذا ما تمَّ القبول بحالة القطيعة بين الاثنين والقول بانفصال العفاف عن الحجاب، بحيث لا يكون الحجاب شرطاً في العفاف، فعندئذ لا يبقى دليل لوجوب الحجاب على النساء غير تهتُّك الرجال وأهوائهم ونزوعاتهم، يقول الشهيد مطهري قدس سره: "إذا ما كانت النساء عفيفات من دون حجاب، فهل الرجال كذلك؟ وهل سيمتنعون عن التَّهتُّك، ويكفّون عن الابتذال؟"[2].
لقد نهض الشارع بعمليّة التَّشريع لضوابط ستر جسد المرأة من خلال مراعاة طبيعة الرجال وتكوينهم النفسيّ، كما حثّ الاثنين على التزام جانب العفاف، انطلاقاً من رؤيته الشاملة إلى كينونة المرأة والرجل، ونظرته السامية إليهما، ليتحوَّل الحجاب إلى أحد ثوابت أحكام الإسلام، بحيث لا يمكن تصوُّر انفصال الحجاب عن العفاف بلحاظ النظرة إلى الآيات والروايات.
الأسس الفلسفيَّة للعفاف
1. الرؤية الإنسانيّة للإنسان:
الإنسان موجود حرّ ومختار، يستطيع أن ينال بنيّته وإرادته أعمالاً الباعث إليها الحبّ أو العبوديّة، وأن يبادر إلى فعاليّات بدافع التوجّه إلى الله، وملامسة الفطرة، والحسّ الأخلاقيّ، والنزوع إلى الآخر، بيد أن هذا الموجود الحرّ واقع تحت تأثير قوى داخليّة وخارجيّة تؤدّي دوراً أساسيّاً ومصيريّاً في قراراته. لقد رُكّزت في الإنسان القوّة العاقلة، والقوّة الشهويّة والقوّة الغضبيّة، بحيث يستطيع أن يستفيد على نحو أفضل من جميع النِّعم الإلهيّة والاستعدادات الإنسانيّة المركوزة فيه من خلال منهجيّة ذكيّة، وعبر الركون إلى الوسطيّة والاعتدال.
[1] الشهيد مطهّري، مسألة الحجاب، مصدر سابق، ص52 - 57.
[2] المصدر نفسه.
96
77
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
إنّ الإنسان بمقدوره أن يصعد ويرقى حتّى يصير عقلانيّاً كبيراً، كما له أن يهوي ويسقط حتّى يكون ضلّيلاً راتعاً في الملذّات، أو أن تتبدّل هويّته آخر المطاف إلى حيوان ضارّ.
ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة سامية، ويطلّ عليه من منطلق عقلانيّ كريم، ومن منظور ربّانيّ عزيز، كما يبغي أن لا تقع نظرتي إليك تحت تأثير مكوّنات أخرى غير المساواة الإنسانيّة والتقوى، فلا ينبغي النظر إلى الآخر - في مقاييس الرؤية الإسلاميّة - مطلقاً من خلال الجنس أو العنصر أو اللون أو الانتماء القوميّ وما شابه ذلك. فالإسلام يواجه جميع الأدوات التي تدخل في الأغلب في منافع النُّزوع الشهويّ القائم على اللّذّة أو التفوّق العنصريّ، ويعدّها غير إنسانيّة.
يُعَدّ العفاف أذكى حالة للسَّيطرة على النفس، وأفضل إطار لاستعمال القدرة في نطاق الدّائرة الشّخصيّة، من خلال الدور الذي ينهض به في إبراز إنسانيّة الإنسان، والحؤول دون التبرُّج والتَّهتُّك الجنسيّ.
2- تكامل الإنسان:
ينبغي الحفاظ على العفاف بوصفه خصلةً إنسانيّة خاصّة. وإنّ أبرز أبعاد الفلسفة المعنويّة للستر والحجاب بين الأمم والشعوب، وعلى صعيد الأديان والحضارات، يتمثّل في حفظ الخصلة الإنسانيّة المتمثِّلة بالعفّة والحياء. لا يُخفي الإسلام انحيازه إلى هذه الخصلة الإنسانيّة، وهو يدعو المرأة والرجل إلى رعايتها على السواء، بلوغاً لحالة الكمال، وتحقيقاً للفضيلة. كما يحثّ الزوجين على التزام السلوك الإنسانيّ، حيث تأتي في السياق نفسه دعوته إلى ممارسة العلاقة الزوجية واللذّة المشروعة، ما بين الزوج والزوجة.
يُحرّم الإسلام النَّظرات المريبة غير الإنسانيّة، ويوصي المؤمنين من النساء والرجال بغضّ النظر، ويدعوهم إلى النظرة العفيفة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾[1], وقال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[2].
[1] سورة النور، الآية 30.
[2] سورة النور، الآية 31.
97
78
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
آثار العفاف
يَهَبُ العفاف الإنسان طاقة روحيّة متميّزة، لكي يثبت في مواجهة أعاصير الهوى، ولا يضعف أمام الميول الهابطة، ويواصل من ثمّ مساره في منعطفات الحياة حتّى يبلغ الكمال. إنّ الإنسان الذي يعتقد بالأصول والقيم يؤمن، في الحقيقة، بالنَّبع الذي تنبثق منه أنواع المحبّة جميعها، وتتفجّر منه العواطف كافّة، وتصدر عنه صنوف الجمال وضروب الحبّ، وألوان الفنون والإبداعات. وإيمان مستقرّ كهذا، يجعل الإنسان كالبنيان المرصوص[1]، ثابتاً لا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه رياح الحرص والطمع، ولا يخضع لنزعات العنف والقسوة.
ولهذا العفاف آثار عدّة، هي:
1- السَّكينة الرُّوحيّة للفرد والمجتمع (الصحَّة النفسية):
يمكن الحفاظ، من خلال العفاف، على المواهب، والحؤول دون هدر الطاقات وتضييع الإمكانات، وبالعفاف تتمّ صيانة المُثُل والقيم، ويُصار إلى إعلائها: "حصر اللَّذّة الجنسيّة، من منظور الإسلام، في النطاق العائليّ وممارستها من خلال الزِّيجات المشروعة، يسهم في إرساء الصحَّة النفسيّة للمجتمع، ويساعد عليها من زاوية روحيّة"[2].
في المقابل، يقود التبرُّج إلى ضرب مرتكزات استقرار الأسرة والمجتمع، ويفضي إلى إشعال فتيل الاضطراب: "من منظور الاجتماع العائليّ، تكمن فلسفة السَّتر ومنع العلاقة الجنسيّة من غير طريق الزيجة الشرعيّة، في أنّ الزوج القانونيّ للإنسان يتحوّل، على المستوى النفسيّ، إلى عنصر إسعاد له، في حين يتبدَّل هذا الموقع في نظام اللّذّة المفتوحة، حيث يتحوَّل الزوج القانونيّ على الصعيد النفسيّ إلى رقيب ومنافس وسجّان، ما يؤدّي إلى أن تقوم أركان مؤسّسة الأسرة على أساس العداوة والبغضاء"[3].
[1] سورة الصف، الآية 4.
[2] الشهيد مطهّري، مسألة الحجاب، مصدر سابق، ص83.
[3] المصدر نفسه، ص89.
98
79
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
2- استقرار نظام الأسرة:
تفضي رعاية العفَّة في القول والسلوك إلى حفظ الأسرة وبقائها سليمة معافاة. هل استطاع أولئك الذين رفعوا – مكراً - شعار حرِّية المرأة، وعمدوا إلى فصل الحجاب عن العفّة، أن يحافظوا على نظام الأسرة واستقرارها عبر جرّ النساء في الغرب إلى التهتُّك ودفع الرجال نحو الانحلال والفساد؟
3- إصلاح المرأة "المتشيِّئة":
للإمام الخمينيّ الراحل قدس سره تعبير جميل في بيان الرؤية الغربيّة للمرأة بوصفها بضاعة، يقول فيه: "في خصوص المرأة، لم يعارض الإسلام حرّيّتها مطلقاً، بل على العكس ترى الإسلام يعارض مفهوم "تشيُّؤ المرأة"، والتعامل معها كـ"شيء"، ومن ثمّ - فإنّ هذا الدين - قد أعاد لها شرفها وحيثيّتها"[1].
4- العفاف منشأ الثقافة والأدب:
يمكن اختزال جميع ما تزخر به حياة الإنسان من ضروب الجمال ومن جلال الحضارة والثقافة، بكلمة واحدة هي الحبّ! إنّ الحبّ ليستند إلى أساطير قلّما يمكن بلوغها. فلُغة المحبِّين هي لغة الشعر، متوهّجة كتوهّج قلب العاشق. لغة ملتهبة لا تعرف الجسد، معطاءة تضحّي بالحياة، بيد أنّها تفيض حناناً وعطفاً، تثير الرحمة وتجذب إليها حتّى قلب المعشوق على قسوته، وتبعث على الثناء والإعجاب.
هذه القمم الشاهقة في الثقافة الشرقيّة، وخاصّة في الأدب الشرقيّ، وهذه الذرى السامقة التي تتضوَّع بالعطاء العرفانيّ والإسلاميّ، هي رصيد جيل أصيل عفيف ومتحضّر، ينظر إلى الآخر، ويتعاطى معه من زاوية العفّة.
تعيش المرأة في مهابة الحشمة والجلال، والرجل ينشدّ على الدوام إلى هذه الحشمة وذاك الجلال اللذين لا يتأتَّيان بسهولة، ولا يتحصَّلان ببساطة ويسر. في أجواء هذه الحالة،
[1] الإمام الخميني، السيد روح الله الموسوي، زن وآزادي در كلام امام خميني (المرأة والحرية في أحاديث الإمام الخميني)، منظمة الطبع والنشر التابعة لوزارة الإرشاد، ص32 (بالفارسية).
99
80
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
قلّما كانت المرأة ألعوبة بيد أهواء الرجل وأحابيله، ومن ثمّ كانت تحظى بقيمة أعلى وبمنزلة أكبر.
يطرح الشهيد مطهّري هنا السؤال: "هل يصل هذا الاستعداد (الكماليّ) إلى حالة الفعليّة على نحو أفضل في ظلّ مجموعة من الضوابط الأخلاقيّة التي تهيمن على روح الرجل والمرأة بعنوان العفّة والتقوى، حيث تكون المرأة في إطار هذه الحالة شيئاً ثميناً لا يناله الرجل، أو يتحقّق ذلك أفضل في ظلّ أجواء لا تعيش فيها روح الرجل والمرأة من خلال رادع عنوانه العفّة والتقوى، ولا وجود فيها لمثل تلك الضوابط أساساً، حيث تكون المرأة بيد الرجل في غاية الابتذال؟"[1].
إنّ المرأة لتفقد هذا الجمال الشاعريّ الغامض بغياب العفّة والستر، وتتحوّل إلى سلّة مهملات لشهوة الرجال المتهتّكين، رجال ليسوا شعراء، بل هم مجرمون!
أهمّيّة العفّة للفرد والمجتمع
إنّ اتّصاف أفراد المجتمع بالعفّة كصفة نفسيّة باطنيّة ينعكس حتماً على علاقاتهم وسلوكيّاتهم الاجتماعيّة، وهذا ما يؤدّي إلى تجلّي العفاف في المجتمع كصفة عامّة تحكم جميع العلاقات الاجتماعيّة والمعاملات الماليّة وغيرها، بل إنّ تحقّق الأمن الفرديّ والاجتماعيّ مرتبط بشكل رئيس بتحكّم صفة العفّة بالقوّة الشهويّة للأفراد.
فحين تغيب العفّة عن الاجتماع البشريّ يؤدّي ذلك إلى العديد من النتائج التي لا تجني الأمّة من ورائها إلّا حصاداً مرّاً ومشكلاتٍ لا تنتهي، يصعب التحكّم فيها أو تجاوز نتائجها، كشيوع الفاحشة، وزيادة التوتّر الاجتماعيّ والنفسيّ، وارتفاع معدّلات الجرائم، وانتشار الجرائم الأخلاقيّة، مضافاً إلى طغيان القويّ على الضعيف والغنيّ على الفقير، ناهيك عن التفكّك الأسريّ، وارتفاع معدّلات الطلاق، وغير ذلك من المشاكل التي تعود إلى آفات نفسيّة منشؤها تطرّف القوّة الشهويّة وخروجها عن حدّ الاعتدال، ما يولّد لدى الأفراد سعياً وراء الجاه والسلطة والإشباع الغريزيّ وغيره، بطريقةٍ غير مشروعة.
[1] الشهيد مطهّري، أخلاق جنسي (الأخلاق الجنسية)، ص84 (بالفارسية).
100
81
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
العفّة وظيفة المنتظرات
إنّ النساء جزء مهمّ من المجتمع الإنسانيّ، تقع على عواتقهنّ مسؤوليّة توفير السكينة والطمأنينة والأمن النفسيّ للمجتمع، وهي وظيفة لا مثيل لها في الأهمّيّة والخطورة. فالمرأة التي هي مرآة جمال الله وجلاله قد أُوكلت إليها مهامّ صلاح النسل الحاضر وسداد الأجيال القادمة. وتحقّق ذلك يتوقّف على صلاحهنّ وسدادهنّ.
والآفة الكبرى التي يمكن أن تمنع من أن تكون هذه الفئة من المجتمع منتجةً مثمرةً - مع التسليم بقدرتهنّ على إضفاء السعادة على الفرد والمجتمع، وإن أمكن أن تكون أداةً وسبباً في انحطاطهنّ وانحطاط مجتمعهنّ - هي فقدانهنّ الصفات التي أشار إليها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في الدعاء الشريف الآتي. وهذا ما يساهم في فهمنا سبب تقديم الزانية على الزاني في الآية الثانية من سورة النور، فإن دلّ ذلك على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ فساد المرأة هو السبب الرئيس في شيوع الفاحشة وانتشارها.
لذا، فإنّنا نستنتج أنّ وظيفة النساء المنتظرات هي تلبّس العفّة والحياء كصفتين شخصيّتين لهنّ، والعمل الحثيث على غرس هاتين الصفتين في نفوس الأبناء، وإشاعتهما في المجتمع، ليصبح مجتمع سيادة فضيلتي العفّة والحياء، وبذلك يكتسب اللياقة ليتشرّف بالطلعة المباركة لصاحب الزمان (أرواحنا لتراب مَقدَمه الفداء).
فحرّاس العفّة في مجتمع الانتظار هنّ النساء الطاهرات اللّواتي تحصّنّ بحصن العفّة المنيع، مرابطات على ثغور أنفسهنّ ومجتمعهنّ في مسيرة نورانيّة تستهدف تجلّي التقوى، في انتظار تحقّق الوعد الإلهيّ، بظهور النور الإلهيّ بشخص صاحب العصر والزمان، المقيم للمجتمع الربّانيّ الموعود.
في هذا الإطار، تُعدّ أدعية الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف من أفضل الدروس التربويّة التي تساعد السالكين لطريق الانتظار، كالدعاء المأثور عنه: "اللّهمّ ارزقنا توفيق الطاعة"، الذي يبيّن جملة من الواجبات الفرديّة والاجتماعيّة للمنتظر. هذا الدعاء يشتمل على جملة من الأوصاف المطلوبة في آخر ذخيرة إلهيّة، فعلى كلّ منتظر أن تكون له لياقة
101
82
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
التحلّي بتلك الأوصاف[1]. ومن هذه الأوصاف قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف في الدعاء: "وتفضّل... على النساء بالحياء والعفّة"[2].
وقد خصّ الإمام النساء بمسؤوليّة كبرى، إذ دعا لهنّ "بالحياء والعفّة"، ففي هذا الدعاء دلالة على أهمّية فضيلة العفّة وخصلة الحياء وانعكاسهما على الفرد والمجتمع، ومحوريّة دور المرأة في تكوين مجتمع الفضيلة.
[1] راجع: الجوادي الآملي، الشيخ عبد الله، الإمام المهدي الموجود الموعود، دار الإسراء للطباعة والنشر، لبنان، 2013هـ، ط1، ص219.
[2] الكفعمي، الشيخ إبراهيم بن علي العاملي، المصباح (جنة الأمان الواقية وجنة الإيمان الباقية)، دار الرضي (زاهدي)، إيران - قم، 1405هـ، ط2، ص 280- 281. والدعاء: "اللهمّ ارزقنا توفيق الطاعة، وبعد المعصية، وصدق النيّة، وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والاستقامة، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة، وطهّر بطوننا من الحرام والشبهة، واكفف (وكفّ) أيدينا عن الظلم والسرقة، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة، وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلّمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشائخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفّة، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة، وعلى الغزاة بالنصر والغلبة، وعلى الأسراء بالإخلاص والراحة، وعلى الأمراء بالعدل والشفقة، وعلى الرعية بالإنصاف وحسن السيرة، وبارك للحجّاج والزوّار في الزاد والنفقة، واقضِ ما أوجبت عليهم من الحجّ والعمرة، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين".
102
83
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
المفاهيم الرئيسة
- إذا تمّ الفصل ما بين الحجاب والعفاف، فسيفضي ذلك إلى بروز مشكلتين، وهما: الأولى: إلى أيّ مدى يمكن الإذعان إلى حالة الفصل ما بين العفاف والحجاب؟ ثمّ ما هو ملاك هذه القطيعة؟ وما هو المعيار الذي تقوم عليه؟ الثانية: إذا ما تمَّ القبول بحالة القطيعة بين الاثنين والقول بانفصال العفاف عن الحجاب، بحيث لا يكون الحجاب شرطاً في العفاف، فعندئذ لا يبقى دليل لوجوب الحجاب على النساء غير تهتُّك الرجال وأهوائهم ونزوعاتهم.
- إنّ للعفاف بعض الأسس الفلسفيّة، من قبيل: الرؤية الإنسانيّة للإنسان: فالإنسان موجود حرّ ومختار، يستطيع أن ينال بنيّته وإرادته أعمالاً الباعث إليها الحبّ أو العبوديّة، وأن يبادر إلى فعاليّات بدافع التوجّه إلى الله، وملامسة الفطرة والحسّ الأخلاقيّ والنزوع إلى الآخر.
ومن قبيل: تكامل الإنسان: ينبغي الحفاظ على العفاف بوصفه خصلةً إنسانيّة خاصّة. وإن أبرز أبعاد الفلسفة المعنويّة للستر والحجاب بين الأمم والشعوب، وعلى صعيد الأديان والحضارات، يتمثل في حفظ الخصلة الإنسانيّة المتمثِّلة بالعفّة والحياء.
- معطيات العفاف: السَّكينة الرُّوحية للفرد والمجتمع (الصحَّة النفسيّة)، واستقرار نظام الأسرة، وإصلاح المرأة "المتشيِّئة"، والعفاف منشأ الثقافة والأدب.
- إن اتّصاف أفراد المجتمع بالعفّة كصفة نفسيّة باطنيّة، ينعكس حتماً على علاقاتهم وسلوكيّاتهم الاجتماعيّة، وهذا ما يؤدّي إلى تجلّي العفاف في المجتمع كصفة عامّة تحكم جميع العلاقات الاجتماعيّة والمعاملات الماليّة وغيرها، بل إنّ تحقّق الأمن الفرديّ والاجتماعيّ مرتبط بشكل رئيس بتحكّم صفة العفّة بالقوّة الشهويّة للأفراد.
103
84
الدرس الثامن: العفّة والحجاب (2)
- إنّ وظيفة النساء المنتظرات هي تلبّس العفّة والحياء كصفتين شخصيّتين لهنّ، والعمل الحثيث على غرس هاتين الصفتين في نفوس الأبناء، وإشاعتهما في المجتمع، ليصبح مجتمع سيادة فضيلتي العفّة والحياء، وبذلك يكتسب اللياقة ليتشرّف بالطلعة المباركة لصاحب الزمان (أرواحنا لتراب مَقدَمه الفداء).
104
85
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
الدرس التاسع
ظاهرة السفور
(الأسباب والعلاج)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعدّد أسباب انتشار السفور.
2- يقترح وسيلة لمواجهة السفور.
3- يلخّص كيفيّة مواجهة السفور.
105
86
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
تمهيد
غير خافٍ أنّ وضع السفور يزداد سوءاً وتردّياً يوماً بعد يوم، حتّى صرنا نشهد في بعض المجتمعات الإسلاميّة سفوراً فاضحاً وصل إلى حدِّ التهتّك التامّ، وعَرْض المرأة لمفاتنها بطريقة مُسِفَّة تجاوزت الآداب والقيم والأخلاقيّات كلّها.
وأخطر ما في الأمر، أنّ هذا السفور قد تحوّل إلى ممارسة تستند إلى خلفيّة ثقافيّة ترى أنّ ذلك حقّ من حقوق المرأة.
وأخطر من ذلك، أنّ السفور قد غدا أمراً مألوفاً نتعايش معه دون أن نشعر أنّه يُمثِّل انحداراً في الأخلاق الدينيّة والإنسانيّة. ولا شكّ، في أنّ أسوأ مرحلة يصل إليها المنكر في استحكامه هي أن يغدو أمراً طبيعيّاً ومعتاداً ولا يستنفر المشاعر ولا يخدش الحياء العامّ. ولعلّ هذا ما نبّه إليه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في ما روي عنه: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؟! فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك! كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف! قيل: يا رسول الله، ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك! كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً!"[1].
خطورة ظاهرة السفور
يتحدّث الإمام الخامنئيّ دام ظله في سياق كلامه عمّا قام به الغربيّون من إساءة إلى المرأة: "لقد قاموا بأمرٍ، جعلوا فيه إحدى أهمّ وظائف المرأة، إن لم نقل الأهمّ على الإطلاق، هي التبرّج وإبراز جمالها بهدف تلذّذ الرجال، حتّى أصبحت هذه من الخصائص الحتميّة
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص59.
107
87
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
واللّازمة للمرأة. مع الأسف، هذه هي حال عالمنا اليوم. ففي الوقت الذي يحضر الرجال في أكثر المجالس رسميّةً - الاجتماعات السياسيّة وغيرها - بالبنطال الطويل والثياب المحتشمة، نجد أنْ لا إشكال في أن تحضر النساء بمزيد من التعرّي وعدم الاحتشام. فهل هذا أمرٌ عاديٌّ وطبيعيٌّ؟ هل يتوافق ذلك مع الطبيعة البشريّة؟ أجل، لقد فعلوا ذلك. على المرأة أن تعرض نفسها أمام الرجال، لتكون وسيلة لتلذُّذه. فهل من ظلم أكبر من هذا؟ ويطلقون عليه اسم "الحرّيّة"، بينما يُطلقون على نقيض هذا التوجّه اسم "الأسر" أو (القيد)! في حين أنّ احتجاب المرأة وحجابها هو تكريم لها، هو احترام وحُرمة لها. لقد حطّموا هذه الحرمة، ويمعنون في تحطيمها يوماً بعد يوم، مُطلقين على ذلك مُسمّيات عدّة"[1].
خلع الحجاب ثقافة غربيّة
يؤكّد الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ عالم الغرب الفاسد أراد أن يحشو أذهان العالم بفكرة تعرّي المرأة وشخصيّتها من خلال الأساليب الخاطئة والمنحرفة التي تتلازم مع تحقير جنس المرأة، فلأجل أن تُظهر المرأة شخصيّتها، ينبغي أن تمتّع أنظار الرجال. فهل هذه هي شخصيّة المرأة! وأن تضع حجاب العفاف جانباً وتتظاهر، لكي يستمتع الرجال. فهل هذا تعظيمٌ أم تحقيرٌ للمرأة! هذا الغرب الغارق في سكرته وخباله لا يعرف شيئاً ممّا يجري، وتحت تأثير الأيادي الصهيونيّة رفع ذلك كعنوان لإجلال المرأة، وقد صدّق بعض الناس هذا الأمر[2].
فإنّ الغرب بصدد تصدير ثقافته إلى البلاد كلّها، وإنّ الثقافة الغربيّة تعني ثقافة الفساد والتعرّي. هذه الصورة الفظيعة لحياة بعض النساء في المجتمعات الغربيّة، ليست شاملة - وللّه الحمد - لجميع النساء هناك، بل إنّ هذه الحالة هي نتيجة للإعلام الخاطئ
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء جمع من مدّاحي أهل البيتعليهم السلام، بمناسبـة ذكرى ولادة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جمع من الشعراء والمدّاحين، بتاريخ 01/05/2013م.
[2] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة ذكرى ولادة السيّدة زينب عليها السلام ويوم الممرضة، في طهران، بحضور جمع غفير من الممرضات النموذجيات، بتاريخ 21/04/2010م.
108
88
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
والمتزايد يوماً بعد يوم. فقبل أربعين أو خمسين سنة لم يكن الفساد في المجتمعات الغربيّة بالصورة التي هو عليها اليوم، والغرب ينوي تصدير هذا الفساد الواقع فيه إلى الدول الإسلاميّة. إنّنا لا نريد ذلك، فهذا يعود بالضرر على حياتنا الاجتماعيّة وعلى حياتهم الاجتماعيّة أيضاً. إنّ الحياة الإسلاميّة هي أفضل أسلوب حياة لنا[1].
ولقد جاء المتغرّبون إلى بلدنا بالاختلاط بين الرجل والمرأة، والحرّيّة الجنسيّة، والتربّع وراء طاولات العمل، والاهتمام باللّذّات والشهوات! ولمّا أراد الطاغية رضا خان المجيء لنا بهدايا الغرب كان أوّل ما جلبه خلع الحجاب وفَرَضَه (المنع) بقوّة حرابه وعنجهيّته، وفرض أن يكون اللّباس قصيراً، وأن يكون ارتداء القبّعة وفق طريقة معيّنة، ثمّ تغيّرت فيما بعد، بل لا بدّ من أن تكون القبّعة على طريقة الـ"شاپو"! وكلّ من يتجرّأ ويرتدي غير القبعة البهلويّة التي اشتهرت وقتذاك أو يرتدي الملابس الطويلة (من النساء) فإنّه يواجَه الضرب والطرد. ولم يكن مسموحاً للنساء ارتداء الحجاب، ليس العباءة التي مُنعت يومذاك وحسب، بل لو غطّت النسوة رؤوسهنّ بالخمار، وأخفين مقدّمة شعورهنّ، فإنّهنّ يتعرّضن للضرب، فلم ذاك؟! إنّه نتيجة السفور الذي ظهرت به المرأة في الغرب! وهذا ما جلبوه لنا من الغرب. إنّهم لم يأتوا بما هو ضروريّ للشعب الإيرانيّ، فلم يجلبوا العلم والخبرة والجدّ والاجتهاد والمثابرة والمخاطرة - وبطبيعة الحال، فإنّ لكلّ شعب خصالاً جيّدة -. إنّهم لم يأتوا بتلك الخصال كلّها، وما جاؤوا به من فكر وعلم تقبّلوه دون تردّد بعيداً عن التحليل، قائلين بوجوب تقبّله، لأنّه صادر عن الغرب، فلا بدّ من القبول بطريقة الملبس والطعام والتكلّم والمشي، لأنّها وصفة غربيّة ولا مجال في ذلك للنقاش! وهذا بمثابة أخطر سمّ يتناوله أيّ شعب[2].
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة ولادة السيّدة زينب الكبرى عليها السلام، في طهران، بحضور حشود من الأخوات، بتاريخ 05/05/1415هـ.ق.
[2] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة زيارة محافظة جيلان، في مدينة رشت، بحضور الآلاف من شباب محافظة جيلان، بتاريخ 08/02/ 1422هـ.ق.
109
89
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
أسباب السفور
لا شكّ في أنّ للسفور أسباباً مختلفة ودوافع شتّى. ومن الطبيعيّ أنّ علينا في سعينا لمحاصرة هذه الظاهرة والحدّ من مخاطرها أن نتعرّف إلى هذه الأسباب وتلك الدوافع، التي أهمّها:
1- الغزو الثقافيّ:
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "الغزو الثقافيّ هو أن تشنّ قوّة سياسيّة أو اقتصاديّة حرباً على المبادئ الثقافيّة لشعب من الشعوب، وذلك لتنفيذ أهدافها الخاصّة والتحكّم في مصير ذلك الشعب. إنّهم يفرضون بالقوّة عقائدَ جديدةً على تلك الدولة وعلى شعبها، من أجل ترسيخها، بدلاً من ثقافة ذلك الشعب ومعتقداته، وهذا هو الغزو الثقافيّ. وإنّ الغزو الثقافيّ تماماً كالعمل الثقافيّ، يجري بهدوء ومن دون ضجّة. وأحد أساليب الغزو الثقافيّ هو محاولاتهم الدؤوبة لأن يُعرض الشباب المؤمن عن مراعاة حدود الإيمان التي لا يمكن التساهل والتسامح فيها، تلك الحدود التي تمثّل ثقافة وحضارة مستقلّين، فتراهم يعملون على جرّ الشباب إلى دنيا الفساد والشهوة وتعاطي المخدِّرات. ولقد قلت مراراً إنّ بعضهم يرون نساءً عدّةً في الشارع لا يلتزمن كثيراً بالحجاب، فتدمى قلوبهم. بالطبع، إنّ هذا عمل سيّئ، ولكنّه ليس العمل السيّئ الرئيس. العمل السيّئ الرئيس هو ما لا ترونه في الشوارع والأزقّة. قال شخص لآخر: ماذا تفعل؟ أجابه: أقرع طبلاً. قال: لماذا لا يخرج منه صوت؟ قال: سوف يخرج صوته غداً"[1].
السفور ظاهرة منتشرة في العالم، وقد غزانا - ونحن في زمن العولمة والتواصل المباشر والسريع - الكثير من العادات والتقاليد الوافدة من خلف البحار. وظاهرة السفور هي أمر أو مظهر واحد من أشياء كثيرة غزت مجتمعاتنا، وقد انطلقت مع بدايات ما عُرف بعصر النهضة الدعواتُ إلى تحرير المرأة، وافترض بعضهم أنّ تحريرها إنّما يكون بتحرّرها من الحجاب، وكأنّ الحجاب عائقٌ أمام حرّية المرأة وانعتاقها من أسر التخلّف والقيم
[1] كلمته دام ظله بتاريخ 13 صفر.
110
90
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
الجاهليّة المكبِّلة لإرادتها، أو مانع من قيامها بدورها في الحياة على أتمّ وجه وأكمل صورة. وهذا خطأ فادح بكلّ تأكيد، فالحرّيّة تكون من داخل النفوس، وبالثورة على التقاليد البالية، ولم تكن الحرّيّة يوماً ولن تكون بنوع اللّباس أو بشكله. إنّ المشكلة هي في عقدة التغرّب أو الانبهار والانسحاق أمام الآخر، الذي أعطى المرأة ما يُسمّى حرّيتها، لكنّه لم يعمل من جهة أخرى على منع جعلها سلعةً والإساءة إلى كرامتها، بتحويلها إلى مجرّد عنصر للإثارة والإغراء.
2- الضعف الثقافيّ والتربويّ:
نحن بحاجة إلى تعزيز ثقافة الحجاب والستر. وليس صحيحاً أن نُلزم بناتنا بارتداء الحجاب من دون أن نشرح لهنَّ معنى الحجاب ومغزاه وفلسفته، ومن دون أن نقنعهنّ بأهمّيّته، وأنّه يشكِّل ضرورة لهنَّ قبل غيرهنّ، ويساهم في حمايتهنّ وحفظ كرامتهنّ، وذلك أمام موجات التشكيك في جدواه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[1].
إنّ هذا الضعف الثقافيّ والتربويّ في مسألة الحجاب، والمتزامن مع اجتياح موجة السفور العارمة، كان له تأثيرٌ بالغٌ في مجتمعاتنا الإسلاميّة، فسقط الكثيرون ضحايا لهذا الضعف وذاك الانبهار، وصار بعض المؤمنين والملتزمين بدينهم، رجالاً ونساءً، لا يجدُ غضاضةً في سفور ابنته أو زوجته، ولا يرى في ذلك ما ينتقص من إيمانه، بل ربّما شجّعت بعض الأمّهات بناتها على ترك الحجاب، بحجّة أنّ ذلك أسرع في زواجها! وتلك - والله - طامّة كبرى وداهية عظمى، تعكس انحداراً أخلاقيّاً فظيعاً. فالمرأة التي كرّمها الله بإنسانيّتها غدت سلعةً للعرض، يتفنّن "العقل" الاستهلاكيّ والمادّيّ المهيمن في إبراز مفاتنها، ويستعرض جسدها القريب والبعيد والفاسق والفاجر، حتّى يكاد بعضهم يلتهمها بنظرات السوء، من دون أن تشعر بحياء أو يشعر ذووها بخجل!
[1] سورة التحريم، الآية 6.
111
91
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
وهكذا، أصبح قبول المرأة في بعض المهامّ أو الوظائف موقوفاً على شكلها وجمالها وسفورها، حتّى لدى بعض المؤسّسات التي تصنّف نفسها في عداد المؤسّسات الإسلاميّة!
المرأة هي الضحيّة
إنّ هذه الثقافة التي روّجت للسفور كان لها نتائج سلبيّة وكارثيّة، وكانت المرأة هي الضحيّة الأولى لذلك، حيث جرى تسليعها وتحويلها إلى عنصر للإثارة والمتاجرة بجسدها فحسب.
إنّ هذه الظاهرة إذا ما وزنّاها بميزان العقل والدين والأخلاق لم نجد توصيفاً لها سوى أنّها تُمثِّل أكبر إهانةٍ للمرأة وإساءةٍ إلى كرامتها واحتقارٍ لإنسانيّتها، لأنّها تعني أنّ قيمة المرأة هي في جسدها ومفاتنها، لا في أخلاقها ولا في علمها ولا في كفاءتها أو ملكاتها الروحيّة.
من هنا، فإنّ دعوة الإسلام إلى الحجاب هي قبل كلّ شيء دعوة إلى حفظ كرامة المرأة واحترام إنسانيّتها، ليتعامل معها في المجتمع باعتبارها إنساناً، بحيث تكون خارج البيت كإنسان، وتُحترم كإنسان، وتنال الوظيفة بجدارتها لا بمواصفات جسدها، ولتحتلّ المكانة اللّائقة في المجتمع من خلال رجاحة عقلها وكفاءتها ودورها الفاعل، لا بما تملكه من عناصر الإغراء في جسمها ولا مفاتنها التي تبرز بها إلى الشارع أو السوق، أو تطلُّ بها من خلال شاشات التلفزة.
واجبنا تجاه ظاهرة السفور
وفي ضوء هذا، فإنّ من واجبنا الدينيّ والأخلاقيّ الدفاع عن الحجاب، باعتباره رمزاً لكرامة المرأة. والدفاع يجب أن يتّخذ أشكالاً عديدة، ومن أهمّها:
1- أن ننتصر للحجاب بالموقف والكلمة والقصّة والقصيدة، مستخدمين جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ.
2- أن نشجّع المحجّبات، ونعزّز ثقتهنّ بأنفسهنّ وحجابهنّ، كي لا يشعرن أنّ الحجاب بالنسبة إليهنّ هو عبء، أو تكليف يمتثلنه دون وعي، أو أنّه فُرض عليهن رغماً عن إرادتهنّ.
112
92
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
3- أن نكثِّف الندوات والمحاضرات والكتابات حول فلسفة الحجاب وهدفه.
4- أن نكرّم المحجّبة ونحتفي بها وبحجابها، وأن نرغّب بناتنا الصغيرات في الحجاب، ونحبّبه إليهنّ، ونلبسهنّ إيّاه بين الفينة والأخرى، تشجيعاً وتهيئةً لهنّ.
5- أن نعتبر الحجاب قضيّةً إسلاميّة، وأنّ حماية هذا الرمز وهذا الواجب الشرعيّ هي من مسؤوليّاتنا.
كيف نواجه ظاهرة السفور
مضافاً إلى الجهود الفكريّة التي تعمل على بيان فلسفة الحجاب وأهمّيّته، فإنّ من الضروريّ في مواجهة ظاهرة السفور والتبرّج، أن نركّز في أمرين أساسيّين:
1- تعزيز قيم الحياء والعفّة والغيرة:
أ- الغيرة: هي قيمة أخلاقيّة تشكّل قوّة الرفض الداخليّة في الإنسان، وتجعله ينتفض في وجه التفلّت الأخلاقيّ أو الاعتداء على العرض والكرامة. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى غيور، يحبُّ كلّ غيور، ولغيرته حرّم الفواحش ظاهرها وباطنها"[1].
ب- العفّة: هي قيمة إنسانيّة متأصّلة في النفس، تعمل على تحصين حاملها، وتمنحه انضباطاً خُلُقيّاً، وتُسهم في إيجاد قناعة داخليّة لديه، حتّى يخال الآخرون أنّه مستغنٍ عن الحاجة إلى غيره، سواء كانت الحاجة إلى الآخر مالاً أو جاهاً أو غريزةً. وقد امتدحت الأحاديث الشريفة المرأة العفيفة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نسائكم العفيفة"[2]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من سعادة المرء الزوجة الصالحة"[3]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر: "وعليك بذات الدين"[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص536.
[2] المصدر نفسه، ص324.
[3] المصدر نفسه، ص327.
[4] المصدر نفسه.
113
93
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
3- الحياء: الحياء أيضاً هو خُلُقٌ كريم، وفطرة أصيلة، هي بمثابة الضمير الداخليّ الذي يشكّل وازعاً يمنع صاحبه من التفلّت، ويُحصِّنُه من الانحراف، ويقيه من الفجور. ولذا، عدّت الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من أهل البيت عليهم السلام الحياء مساوياً للدين والإيمان، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"[1]، وفي حديث آخر عن أحدهما (الباقر أو الصادق عليهما السلام): "الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه"[2].
2- تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهذه الفريضة الإسلاميّة على أهمّيتها إلى درجة عبّرت عنها بعض الروايات بأنّها "فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض وتأمن المذاهب"[3]، فإنّها - مع الأسف - فريضة غائبة ومغيّبة، وقَلَّ أن نجد عاملاً بها في أيّامنا، ولا سيّما في قضيّة الحجاب والسفور، فأين الآمرون بالحجاب والمشجّعون على الستر والعفّة؟ وأين الناهون عن السفور؟!
والأسوأ من ذلك، أنّ بعضهم يستنكر على مَن ينكر المنكَر ويعترض على السفور والتبرّج، بحجّة أنّ الناس أحرار فيما يفعلون وفيما يلبسون، ولا دخل لنا في ذلك! إنّ هذه الأفكار التي تعبّر عن انقلاب المفاهيم هي أفكار غريبة عن ثقافتنا، وهي مرفوضة في ديننا، لأنّ النهي عن المنكر مسؤوليّة عامّة على كلِّ عارف بالمنكر وقادر على النهي عنه، من دون أن يكون في معرض الضرر والأذى.
وإنّني عندما أقوم بالنهي عن المنكر، فإنّني بذلك أحمي نفسي وأهلي ومجتمعي من عدوى المنكر، لأنّ من طبيعة المنكر، إذا لم نعمل على مواجهته وإنكاره، أنْ ينتشر ويستشري شيئاً فشيئاً، حتّى يسود ويعمّ ويصل إلى جميع أبناء المجتمع. إنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما انطلقت لحماية المجتمع وتحصينه في وجه الانحراف، فإنّ فِعْلَ الفرد وعِلمه لا يؤثّران في نفسه فحسب، بل يؤثّران في الآخرين من حوله، فإن كان
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص107.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه، ص56.
114
94
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
فعلاً حسناً فسوف ينعكس ذلك على الآخرين بشكلٍ إيجابيّ وإن كان فعلاً سيّئاً فسوف ينعكس عليهم بشكلٍ سلبيّ.
على ما تقدّم، يتّضح أنّ أقلّ ما يفرضه علينا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أن نمتدح الحجاب، ونعلن رفضنا للسفور والتبرّج والتعرّي.
3- مراقبة وضع الحجاب والعفاف والضوابط والالتزام:
يشرح الإمام الخامنئيّ دام ظله مواضع ضعف الإنسان، ويؤكّد ضرورة اليقظة والانتباه، حيث يقول: "الإنسان معرّض للزلل، الرجال معرّضون للزلل، والنساء معرّضات للزلل، والشباب معرّضون للزلل، وكذلك الشيوخ، والعالم والجاهل، والكلّ معرّضون للزلل... "والمخلصون في خطر عظيم"[1]. أين المخلص الآن؟ كلّنا سينطبق علينا هذا المعيار. حتّى لو حقّقنا هذا المعيار وكنّا من المخلصين، فإنّ المخلصين في خطر عظيم أيضاً! لذلك، علينا أن نراقب أعداء دنيانا، وأعداء آخرتنا، وأعداء عزّتنا، وأعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. الذين يستغلّون نقاط ضعفنا: كالميل إلى الشهوات، ومشاعر الغضب، وسعينا للسلطة، وحبّنا للتباهي والتظاهر. لذا، يجب أن نراقب أنفسنا، والسيّدات العزيزات أيضاً يجب أن يراقبن أنفسهنّ، والفتيات الشابّات أيضاً يجب أن يراقبن أنفسهنّ.
هذه الحياة تنقضي، وملذّاتها وصعابها تنقضي بطرفة عين. إنّكم في فترة الشباب لا تدركون هذا الكلام جيّداً. الإنسان في فترة الشباب يتصوّر أنّ الدنيا ثابتة وساكنة، وأنّ الأمر هو هكذا دائماً. لكن حينما تصلون إلى أعمارنا وتلقون نظرة، تجدون كم الدنيا سريعة الانقضاء، تنقضي بطرفة عين، وفي ذلك الجانب: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾[2]. الحياة هناك، ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾[3]، وهناك البشارات الإلهيّة. لذا، على النساء أن يراقبن وضع الحجاب والعفاف والضوابط والالتزام. هذا واجب، فالاستعراض والتمظهر بالزينة (يدومان) لحظةً واحدةً، وآثارهما السيّئة في البلاد وفي المجتمع وفي الأخلاق، حتّى في السياسة، آثار تخريبيّة دائمة. والحال أنّ مراعاة العفاف والحدود الشرعيّة في سلوك
[1] ذكرها سماحته بالعربيّة في سياق خطبته.
[2] سورة العنكبوت، الآية 64.
[3] سورة الشورى، الآية 23.
115
95
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
السيّدات وتحرّكاتهنّ حتّى لو كان فيها صعوبة فهي صعوبة قصيرة الأمد، لكنّ آثارها عميقة باقية. السيّدات أنفسهنّ يجب أن يراقبن بدقّة قضيّة الحجاب والعفاف، فهذا من واجبهنّ وفخر لهنّ، ويمثّل شخصيّتهنّ[1].
الأسلوب الأجدى
ما هو الأسلوب الأجدى والأنفع؟ وكيف يتحقّق؟
إنّ الأسلوب الأجدى، ولا سيّما في زماننا، هو أسلوب الرفق واللّين والحكمة. وهذا الأسلوب يفرض علينا أن نكسب صداقة الناس، ونربح قلوبهم ومحبّتهم، ما يعني أنّ علينا أن لا نعدّ المرأة غير المحجّبة امراة ساقطة، ولا نُهين كرامتها، بل علينا أن نأخذ بيدها ونحاورها ونناقشها، ونبيّن لها ضرورة الحجاب وأهمّيّته، ومفاسد السفور وسلبيّاته.
إنّ المرأة التي تلتزم بجميع أحكام الإسلام وتعاليمه، باستثناء الحجاب، هي امرأة مسلمة، نرجو لها الهداية، ونسأل الله لها أن تُتمِّمَ هذا النقص في التزامها الدينيّ، لكنّ هذا النقص لا يجعلها امرأة كافرة أو فاجرة أو لا أخلاق لها، وسفورها لا يبرّرُ التعرّض لشرفِها، فربَّما كانت منضبطة أخلاقيّاً، ما يجعلها أحسن من بعض المحجّبات اللّاتي لا يعشن معنى الحجاب.
وبكلمة مختصرة: لا أحد يمتلك مفاتيح الجنّة، ليوزّع الناس يميناً وشمالاً، كما أنّنا نرفض ثقافة التخوين أو خطاب التكفير والتنفير.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾[2].
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام، بمناسبة ولادة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران - حسينيّة الإمام الخمينيّ قدس سره، بحضور جمعٍ من الشعراء والمدّاحين لأهل البيت عليهم السلام، بتاريخ 12/05/2012م.
[2] سورة إبراهيم، الآيات 24- 26.
116
96
الدرس التاسع: ظاهرة السفور (الأسباب والعلاج)
المفاهيم الرئيسة
- إنّ وضع السفور يزداد سوءاً وتردّياً يوماً بعد يوم، حتّى صرنا نشهد في بعض المجتمعات الإسلاميّة سفوراً فاضحاً وصل إلى حدِّ التهتّك التامّ.
- يؤكّد الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ عالم الغرب الفاسد أراد أن يحشو أذهان العالم بفكرة تعرّي المرأة وشخصيّتها من خلال الأساليب الخاطئة والمنحرفة التي تتلازم مع تحقير جنسها.
- تعود أسباب السفور إلى الغزو الثقافيّ، والضعف الثقافيّ والتربويّ.
- إنّ الثقافة التي روّجت للسفور كان لها نتائج سلبيّة وكارثيّة، وكانت المرأة هي الضحيّة الأولى لذلك، حيث جرى جعلها سلعةً وتحويلها إلى مجرّد عنصر للإثارة، والمتاجرة بجسدها.
- إنّ من واجبنا الدينيّ والأخلاقيّ الدفاع عن الحجاب، باعتباره رمزاً لكرامة المرأة، والدفاع لا بدّ من أن يتّخذ أشكالاً عديدة.
- مضافاً إلى الجهود الفكريّة التي تعمل على بيان فلسفة الحجاب وأهمّيّته، فإنّ من الضروريّ في مواجهة ظاهرة السفور والتبرّج، أن نركّز في تعزيز قيم الحياء والعفّة والغيرة.
- إنّ الأسلوب الأجدى، ولا سيّما في زماننا، هو أسلوب الرفق واللّين والحكمة. وهذا الأسلوب يفرض علينا أن نكسب صداقة الناس، ونربح قلوبهم ومحبّتهم.
117
97
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
الدرس العاشر
شبهات حول الحجاب (1)
العقل ـ العفّة ـ العمل
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتبيّن معنى الحجاب في الرؤية الإسلاميّة العامّة.
2- يلخّص شبهة مخالفة الحجاب للعقل.
3- يستدل على أنّ الحجاب لا ينافي العفّة العفّة وعمل المرأة.
119
98
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
الحجاب في إطار الرؤية الإسلاميّة العامّة
إنّ القضايا الإسلاميّة الإشكاليّة، ومنها القضايا المتّصلة بالمرأة، كقضيّة الحجاب، لا يصحّ أن تُدرس بشكلٍ تجزيئيّ، لأنّ دراستها كذلك لن تقدِّم رؤية كاملة عن حقيقة التصوّر الإسلاميّ إزاء القضيّة التي هي مورد النظر، وربّما نخرج بنتائج مغايرة لحقيقة التعاليم الإسلاميّة، وإنّما يُفترض أن تُدرس - قضيّة الحجاب - في إطار الرؤية الإسلاميّة العامّة حول المرأة ودورها في الحياة، التي هي بدورها جزء من الصورة الإسلاميّة العامّة حول موقع الإنسان - رجلاً أو امرأة - ودوره في نظام الخلافة الإلهيّة، ووظيفته في الحياة.
فالمنهج الصحيح في دراستها هو وضعها في إطار الرؤية الإسلاميّة العامّة حول المرأة ودورها في الحياة، جنباً إلى جنب مع دور الرجل، هذه الرؤية المنطلقة من مبدأ تكريم المرأة كإنسان، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[1].
ولهذا، فإنّ البحث في موضوع المرأة يجب أن يتّجه إلى المناهج العامّة التي يُعتمد عليها في بحث قضايا المرأة وحقوقها، ما يعني الخروج عن دائرة الأحكام التفصيليّة والبحث في المناهج التي تؤدّي إلى ولادة مثل هذه الأحكام. ويجب تركيز البحث في كيفيّة ولادة هذه الأحكام، بدراسة المناهج المعتمدة في دراسة الأحكام الفرديّة والاجتماعيّة. وهذا يعني ضرورة الخروج والابتعاد عمّا كان سائداً في طرح الباحث لإشكاليّاته في بعض الموضوعات والأحكام، فيتساءل عن مسألة قتل المرتدّ أو حجاب المرأة، ليثير إشكاليّة
[1] سورة الإسراء، الآية 70.
121
99
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
الحرّيّة الإنسانيّة في وجه الحكم الشرعيّ القاضي بقتل المرتدّ، وتستّر المرأة أمام الأجانب، ويطرح ما لديه نتيجة ما يعيشه في حياته من اضطهاد، أو نتيجة تأثُّره بالغرب وبالحرّية المطلقة التي منحها لإنسانه. ويأتي الجواب من قِبَل أصحاب النظر لطرح أجوبتهم عن هذه المفردة بخصوصها، طارحين حقيقة الحكم الإسلاميّ القاضي بمثل هذا الحكم.
السؤال والشبهة
ورد الحثّ في تعاليم الإسلام الحنيف في القرآن والأحاديث على الإكثار من الأسئلة، وعلى البحث والتحقيق كذلك، قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[1].
وفي حديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الْعِلْمُ خَزَائِنُ، وَمِفْتَاحُهُ السُّؤَالُ، فَاسْأَلُوا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ: السَّائِلُ، وَالْمُعَلِّمُ، وَالْمُسْتَمِعُ، وَالْمُحِبُّ لَهُمْ"[2].
وفي مقابل حثّ الإسلام على السؤال في محلّه في التعاليم الإسلاميّة، ورد النهي عن إلقاء الشبهات والانشغال بها، وذلك أنّ ثمّة فرقاً بين السؤال والشبهة. والفرق الأساس بين السؤال والشبهة يكمن في أنّ السؤال عادةً ما يكون بقصد معرفة الحقّ، ويصدر بنيّة صادقة، وأمّا الشبهة فتكون بقصد التشكيك والتردّد في الحقّ، وبنيّة غير صادقة، وبهدف إيجاد الانحراف الفكريّ والعقائديّ لدى المخاطب.
وفي الواقع، إنّ الشبهة باطل يشبه الحقّ، فيطرحها الفرد لأنّها تشبه الحقّ، وهي في الحقيقة باطل، فيسعى بذلك إلى إثبات مدّعاه بالاستفادة من أسلوب المغالطة ممّا ليس له ثمرة إلّا ترويج الباطل وإيجاد الانحراف الفكريّ لدى السامع. وبالنظر إلى هذه الحقيقة، فإنّ العقل والنقل لا يقبلان إلقاء الشبهات وإيقاع الآخرين في شباكها، فالعقل يقول: كما أنّ الإنسان يسعى في تطهير الملوّثات التي تلوّث بدنه، فإنّ عليه السعي إلى
[1] سورة النحل، الآية 43.
[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تحقيق وتصحيح مهدي اللاجوردي، نشر جهان، إيران - طهران، 1420هـ، ط1، ج2، ص28.
122
100
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
تطهير روحه ونفسه من الشبهات التي هي ملوّثات فكريّة وروحيّة، وقد ورد في ذلك رواية: "إيّاك والوقوع في الشبهات"[1].
وفي الإجابة عن السؤال: لمَ مُنع الإنسان من الوقوع في الشبهات؟ ينبغي القول إنّ المنع ورد بسبب التأثير السلبيّ للشبهات في سلوك البشر، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لكل ضِلّةٍ علّة، ولكلّ ناكث شبهة"[2]. وبسبب التأثير السلبيّ للشبهات، ورد المنع من الوقوع فيها بالدرجة الأولى، مضافاً إلى ورود الحثّ على التخلّص من مفاعيل الشبهات، والعمل على علاجها في الدرجة الثانية، بهدف تطهير الذهن منها. ورد في بعض الأحاديث: "نزّهوا أديانكم عن الشبهات، وصونوا أنفسكم عن مواقع الرِيب الموبقات"[3].
الشبهة الأولى: الحجاب والمنطق
1- توضيح الشهبة:
أوّل نقدٍ يوجَّه إلى حجاب المرأة هو أنّه لا يستند إلى دليل معقول. لذلك، ينبغي ألّا ندافع عن أمر غير منطقيّ. يقولون: إنّ منشأ الحجاب إمّا أن يكون التهجّم وفقدان الأمن، وهذا غير موجود في هذا الزمان، وإمّا أن يكون الرغبة في الترهّب والزهد وترك اللذّة، وهي فكرة باطلة وغير صحيحة، وإمّا أن يكون أنانيّة الرجل، وحبّه التسلّط والاستحواذ، وهذه بالطبع من الرذائل التي تجب مكافحتها.
2- جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الانتقادات ممّا سبق قوله. فقد تبيّن لنا من ذلك أنّ للحجاب الإسلاميّ دليله المنطقيّ المعقول من جوانب مختلفة، كالجوانب النفسيّة، والعائليّة، والاجتماعيّة، حتّى من حيث الارتفاع بقيمة المرأة ومقامها.
[1] التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص72.
[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص206، الخطبة 148.
[3] التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص72.
123
101
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
الشبهة الثانية: فصل العفاف عن الحجاب
1- توضيح الشبهة:
تعتبر شبهة فصل العفاف عن الحجاب واحدة من أهمّ الشبهات التي - عادةً - يردّدها الناس، بحيث وردت في بعض الأشعار المشهورة[1]. ومفادها: أنّ ما ينبغي أن يحصل لدى المرأة هو العفاف لا الحجاب. يقول ويل ديورانت المؤرّخ الأمريكي المشهور: "لا علاقة للعفّة باللّباس"[2].
وبعبارة أخرى: لا تلازم بين العفاف والحجاب، وذلك أنّ كثيراً من النساء غير المحجّبات هنّ من العفيفات. وفي المقابل، ثمّة الكثير من النساء المحجّبات، ولكنهنّ غير عفيفات. وإنّ المهمّ باطن الإنسان، وأمّا الظاهر فليس مهمّاً على الإطلاق. ولمّا كان من الصعب الحكم على باطن الإنسان من ظاهره، كان لا بدّ من الحكم عليه من باطنه، وهو العفّة، وذلك أنّ الأصل في الإنسان هو سيرته وباطنه. وفي النتيجة، نصل إلى القول المشهور: إنّ قلب الإنسان ينبغي أن يكون طاهراً.
2. جواب الشبهة:
لمّا كانت الشبهة المذكورة من أهمّ الشبهات، وهي مطروحة بقوّة بين الناس، لزم أن نوضّح في البداية تأثير الظاهر في الباطن، وتأثير الباطن في الظاهر، وهو ما يساعد في توضيح الجواب عن الشبهة نفسها:
أ- تأثير الظاهر في الباطن:
في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "اعلم أنّ لكل ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه"[3].
وبالنظر إلى الأحاديث المماثلة، فقد ورد في بحث "مواضيع مباني التربية الإسلاميّة"
[1] انظر: رسول جعفريان، داستان حجاب در ايران بيش از انقلاب، بحث حجاب وضد حجاب در شعر فارسى معاصر، ص159 - 237.
[2] ويل ديورانت، تاريخ تمدن، ج1، ص58، نقلاً عن مهدى مهريزى، حجاب، بالفارسية، ص68.
[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص286.
124
102
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
البحث حول "تأثير الظاهر في الباطن" و"تأثير الباطن في الظاهر"، لكونهما مبنيَين من أهمّ مباني التربية الإسلاميّة.
ومن الجدير بالذكر، بيان أنّ المقصود بالمبنى التربويّ القائم على أساس "تأثير الظاهر في الباطن" هو أنّ ظاهر الإنسان له التأثير الفاعل والقويّ في الباطن، كما قال الشاعر:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
ومن هنا، ختم الله تعالى آية: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء﴾[1] بتوصية النساء في ذيل الآية بأفضليّة رعاية الحجاب والعفاف، حتّى لو كان الحجاب ظاهريّاً: ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[2]، وذلك بسبب تأثير الحجاب والستر ودورهما في ظهور صفة العفاف الباطنيّ.
من هنا، نهى القرآن الكريم النساء عن المشي بطريقة محرّكة للغرائز[3]، كما نهاهنّ عن الكلام بأسلوب مثير للشهوة في مواجهة غير المحارم[4]، وذلك أنّ أسلوباً كهذا، في الكلام وفي المشي، علامة على قلّة الحياء من جهة، وهو موجبٌ للاضطراب الداخليّ وما يليه من إثارة الشهوة لدى الرجال من جهة أخرى.
فثمرة أفعال الإنسان تظهر في قلبه، ولكن لا بمعنى أن باطنه يتأثّر دُفعةً واحدةً، بل بمعنى أنّ الظاهر له التأثير الفاعل في الباطن. فكلّ ما يبذر الإنسان في قلبه، تظهر أغصانه وآثاره في ظاهره، فإذا لم يتغيّر الظاهر، فعلى الإنسان أن يبحث عن السبب في باطنه وداخله وقلبه. لذا، يجب تطهير الباطن والظاهر معاً، قال تعالى في قرآنه المجيد: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾[5]. والظاهر والباطن في الآية عامّ، ومن مصاديق الظاهر الأفعالُ التي تقوم بها الجوارح، وفي المقابل، فإنّ من مصاديق الباطنِ الفضائلَ الأخلاقيّة[6].
[1] سورة النور، الآية 60.
[2] سورة النور، الآية 60.
[3] ﴿وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ﴾، سورة النور، الآية 31.
[4] ﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ﴾، سورة النور، الآية 32.
[5] سورة الأنعام، الآية 120.
[6] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص149.
125
103
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
وبناءً على الآية المتقدّمة، فإنّ عدم رعاية الحجاب من الذنوب الظاهريّة، وقلّة الحياء، وعدم الاتّصاف بالعفاف من الذنوب الباطنيّة، كلّها مذمومة، وينبغي التطهّر منها بنصّ الآية الشريفة. وقد قدّمنا العلاقة والتأثير المتقابل بين الباطن والظاهر. ومن ناحية أخرى، لمّا كان الحجاب أمراً ظاهريّاً، وكانت العفّة أمراً باطنيّاً، فهما مصداقان للظاهر والباطن، فثمّة علاقة وتأثير متقابل بينهما. وعليه، فإذا وجدت العفّة في المرأة، ستظهر في ظاهره بصورة الحجاب، ما يعني أنّ ارتفاع نسبة العفّة لدى المرأة ينعكس التزاماً ورعايةً للحجاب أكثر، ممّا له – بالتالي - الأثر الفاعل في رفع مستوى العفّة في الباطن.
2- العفّة والحجاب:
وأمّا الجواب عن القسم الآخر من الشبهة، والمتعلّق بادّعاء أن كثيراً من النساء المحجّبات لسن من العفيفات، فنقول: إنّه، وبالنظر إلى مراتب العفّة ودرجاتها المختلفة لدى النساء المحجّبات، فإنّه ليست كلّ امرأة ملتزمة بأشرف مراتب الحجاب الظاهري، يعني قطعاً أنّها تتمتّع بجميع درجات العفاف الباطنيّ وبأشرف مراتبه، ولكن لمّا كان للعفّة في الباطن -كما قدّمنا- من الأثر الفاعل في الظاهر، فإنّ الحجاب الظاهريّ سيكون علامة ظاهريّة، ولا أقلّ يشير إلى وجود العفّة في اللّباس والستر في هذا الصنف من النساء. يمكن أن يُسيء بعض المحجّبات إلى الحجاب في موارد معدودة، وهنّ لا يتمتّعن بالعفّة المطلوبة، حتّى حجاب هذا الصنف من النساء ليس أكثر من غطاء يسترن به باطنهنّ المريض. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ من الواضح أنّ وجود جماعة من هذا الصنف لن يكون دليلاً على عدم جدوى الحجاب الإسلاميّ، بل ينبغي العمل على حلّ مشكلة هذا الصنف القليل بين النساء من المتستّرات بالدين لأغراض شخصيّة، المتمثّلة بضعف الإيمان، وعدم الاعتقاد الجادّ والتامّ بآثار الستر والحجاب.
والمسألة نفسها تنطبق على ارتداء العباءة، إذ إنّه من الممكن أن تسيء امرأة سيّئة وغير عفيفة من النساء إلى العباءة، بهدف الاحتيال على الآخرين والإيقاع بهم. ولا يعني هذا التصرّف أبداً أنّ العباءة نفسها هي أمر سيّئ ودليل على عدم طهارة الشخص، بل
126
104
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
العكس هو الصحيح، إذ لو لم يكن الحجاب الإسلاميّ علامةً على العفاف والطهارة لما اتّخذته تلك المرأة غطاءً تتستّر به، ولم يكن باستطاعتها أن تدسّ نفسها بين أهل العفّة والطهارة في سبيل الوصول إلى أهدافها الدنيئة. وعليه، فلا تصحّ المغالطة في مثل هذه الموارد بأن يقال إنّ رعاية الحجاب الظاهريّ لا تنفع، وإنّها لا قيمة لها، بل ينبغي التعامل مع مثل هؤلاء الأفراد بتعليمهم إن هم أساؤوا استعمال الحجاب، فإذا أصرّوا على عملهم عن عمد، فينبغي مواجهتهم بقصد منعهم من ذلك العمل، لا أن يُقال: إنّ الحجاب الظاهريّ لا قيمة له ولا نفع. ولا شكّ في أنّ هذا الصنف من النساء اللّواتي لا يلتزمن بالحجاب يدّعين أنّ قلوبهنّ طاهرة، وأنّ الله تعالى ينظر إلى تلك القلوب. إنّ نساءً كهؤلاء ينبغي أن يضعن في حسابهنّ أنّ الباطن العفيف يؤثّر في الظاهر العفيف، فلا يمكن قبول الاعتقاد بأنّ القلب العفيف والطاهر، يوصل إلى ظاهر سيّئ وغير طاهر ولا عفيف، ما يؤدّي بالتالي إلى عمل غير طاهر وإلى ارتكاب الذنوب، من قبيل عدم الالتزام بالحجاب. ويشير الله سبحانه إلى هذه الحقيقة في القرآن الكريم، بقوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾[1]. أضِف إلى ذلك الأحاديث التي تربط بين العفاف والعمل، ومنها: "بالعفاف تزكو الأعمال"[2]، و"ثمرة العفّة الصيانة"[3].
الشبهة الثالثة: الحجاب وإعاقة التقدّم الاجتماعيّ والتقدُّم العلميّ
1- توضيح الشهبة:
يرى بعضهم أنّ الحجاب يؤدّي إلى إعاقة التقدّم الاجتماعيّ والتقدُّم العلميّ لدى المرأة، فإنّ المرأة بحجابها لا يمكنها أن تمارس أنشطتها الاجتماعيّة العامّة، أو أن تشارك في التقدّم العلميّ لبلدها ومجتمعها.
[1] سورة الأعراف، الآية 58.
[2] التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص72.
[3] المصدر نفسه، ص72.
127
105
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
2- جواب الشبهة:
يعالج الإمام الخامنئيّ دام ظله ما يثيره بعض الناس بزعمهم أنّ النساء لا يمكنهنّ كسب العلم إذا حافظن على الحجاب والعفّة، وإدارة البيت وتربية الأولاد، ولكنّ الواقع بخلاف هذا الكلام، فكم من النساء العالمات لدينا في مختلف المجالات في مجتمعنا؟ فثمّة عدد كبير من الطالبات الجامعيّات المجدّات ومن ذوات الأهليّة والجدارة، وكذلك هناك خرّيجات ذوات مستويات عالية، وطبيبات ممتازات ومتخصّصات في مجالات علميّة متنوّعة[1]، وقد حافظن على الحجاب والعفّة.
واليوم، فإنّ صراع الأبواق الإعلاميّة الغربيّة مع المسلمين هو حول هذه النقطة. انظروا إلى مدى حسّاسيّتهم إزاء الحجاب الإسلاميّ، فإن كان هذا الحجاب يُراعى في الجمهوريّة الإسلاميّة يعتبرونه قبيحاً، وإن كان في جامعات الدول العربيّة، والذي اختارته الشابّات والجامعيّات الواعيات وذوات المعرفة عن ميل ورغبة، أبدوا حسّاسيّتهم تجاهه، وإن كان لأهداف سياسيّة، أبدوا حسّاسيّة أيضاً، وإن كان في مدارسهم التي هي تحت سيطرتهم حتّى الابتدائيّة، أبدوا حسّاسيّتهم تجاهه كذلك.
إذاً، هنا تكمن نقطة الصراع، فتراهم يصرّحون في إعلامهم دائماً - وإن كانوا لا يؤمنون به - بأنّ حقّ المرأة في الإسلام أو الجمهوريّة الإسلاميّة يُنتهك. كلّا، فحقّ المرأة في الجمهوريّة الإسلاميّة لم يُنتهك، بل يُحترم أكثر من ذي قبل، فهل عدد الجامعيّات والطالبات في المعاهد العليا اليوم أكثر أم في عهد الطواغيت؟ وهل عدد طالبات الجامعات البارزات والممتازات في العلم اليوم أكثر أم في ذاك الزمان الغابر؟ وهل عدد العاملات في مجال العلم والتحقيق في المراكز الطبّيّة والعلميّة المختلفة، في أنحاء البلاد، اليوم أكثر، أم في ذاك الزمان؟ تشاهدون، أنّ العدد اليوم أكبر. وهل عدد النساء في ميادين سياسة الدولة، وفي ميادين المؤتمرات الدوليّة، حيث يحضرْنَ بكلّ قوّة، ويدافعن عن حقوق هذا الوطن وهذا الشعب ومعتقداته اليوم أكثر أم سابقاً؟ لقد كانت النساء يسافرن في السابق مع الوفود
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة مولد الصدّيقة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جموع من أعضاء المراكز والجامعات الثقافيّة والسياسة وأسر الشهداء، بتاريخ 21/06/1413هـ.ق.
128
106
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
المختلفة، لكن كان حضورهنَّ صوريّاً ولأجل اللهو واللعب، ولإظهار أجسامهنّ للرجال، أمّا المرأة المسلمة اليوم، فلها حضور علميّ وسياسيّ وخدماتيّ في المجامع الإسلاميّة، وفي المؤتمرات الدوليّة المختلفة، وفي المراكز العلميّة والجامعات. كانوا في السابق ينتزعون الفتيات من حِمَى أسرهنّ ليدخلوهنَّ في مستنقع الفساد، ويرسموهنَّ في لوحات فنيّة تحت عنوان المرأة المثاليّة. طبعاً، هذا لا وجود له اليوم[1]. وإنّه لفخرٌ للنظام الإسلاميّ، أن تشاهد فيه الكثير من النساء المسلمات المؤمنات بما للكلمة من معنى، مشغولات بالدراسة أو التدريس في الجامعات في أرقى أنواع العلوم وأعلى مدارج العلم، وترى نساء في أعلى التخصّصات في الطبّ والعلوم المختلفة، الإنسانيّة والتجريبيّة، نساء قد بلغن في العلوم الدينيّة أعلى المراتب، فإن كانت في يوم ما امرأة عظيمة الشأن مجتهدة عارفة فقيهة في أصفهان اسمها (بانو اصفهاني)، فاليوم يوجد الكثير من الفتيات اللّائي سيبلغن في المستقبل القريب المدارج العلميّة والفقهيّة والفلسفيّة العليا، وهذا معنى تقدّم المرأة[2].
[1] خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة ولادة السيّدة زينب الكبرى عليها السلام، في طهران، بحضور حشود من الأخوات، بتاريخ 05/05/1415هـ.ق.
[2] المصدر نفسه.
129
107
الدرس العاشر: شبهات حول الحجاب (1)
المفاهيم الرئيسة
- يُفترض أن تُدرس قضيّة الحجاب في إطار الرؤية الإسلاميّة العامّة حول المرأة ودورها في الحياة، والتي هي بدورها جزء من الصورة الإسلاميّة العامّة حول موقع الإنسان رجلاً كان أو إمرأة، ودوره في نظام الخلافة الإلهيّة، ووظيفته في الحياة.
- تُعدّ شبهة فصل العفاف عن الحجاب واحدة من أهمّ الشبهات التي كثيراً ما يردّدها الناس، بحيث وردت في بعض الأشعار المشهورة.
- النساء اللّواتي لا يلتزمن بالحجاب يدّعين أنّ قلوبهنّ طاهرة، وأنّ الله تعالى ينظر إلى تلك القلوب. إنّ مثل هؤلاء النساء، ينبغي أن يضعن في حسابهنّ أنَّ الباطن العفيف يؤثّر في الظاهر العفيف.
- فخر للنظام الإسلاميّ، أن تشاهد فيه الكثير من النساء المسلمات المؤمنات (الملتزمات)، بما للكلمة من معنى، مشغولات بالدراسة أو التدريس في الجامعات، في أرقى أنواع العلوم وأعلى مدارج العلم.
130
108
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
الدرس الحادي عشر
شبهات حول الحجاب (2)
الحجاب والحرّيّة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أنّ الحجاب لا يعارض الحرّيّة.
2- يجيب عن الشبهات المطروحة حول الحجاب.
3- يتعرّف إلى أنواع الحرّيّة.
131
109
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
الشبهة الرابعة: الحجاب يعارض الحرّيّة
1- توضيح الشبهة:
تشتهر شبهة كون الحجاب معارضاً للحرّيّة والاختيار، حتّى تكاد من أهمّ الشبهات في هذا المجال.
كتبت "شهرهمستشار"، وهي إيرانيّة، كتاباً بعنوان (مساجين العباءة)، ونشرته في إنكلترا.
وكما يبدو من عنوان الكتاب، فإنّ المراد منه وضع الحجاب في مقابل الحرّيّة والاختيار وجهاً لوجه.
ومن الجدير بالذكر، أنّ بعض الحركات والجمعيّات النسويّة الناشطة ينظر إلى الحجاب مثل هذه النظرة، حيث ترفع تلك الحركات والجمعيّات شعار المساواة بين الرجل والمرأة بالمطلق، وفي المجالات كافّة.
2- جواب الشبهة:
1- إنّ الكلام عن الحرّيّة في كثير من المجتمعات الغربيّة لا يعدو كونه شعاراً لا أكثر، بل إنّ المواطنين في كثير من تلك البلاد لا ينعمون بالحرّيّة المتوخّاة، ومثال ذلك فرنسا وما جرى فيها من منع الحجاب،،فهو دليل واضح على هذه الحقيقة.
2- الحرّيّة واسعة المجال ومتنوّعة، ومنها حرّيّة الدين والمعتقد، وحرّيّة النشاط السياسيّ وغير ذلك. والسؤال الذي يُطرح هو: ما الحرّيّة التي يسلبها الحجابُ المرأةَ؟
فإذا قلنا إنّ الحجاب لا يسلب المرأة حضورها ونشاطها السياسيّين، فماذا يسلبها إذاً؟ إلّا
133
110
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
أنْ يكون المقصود بالحرّيّة هنا حرّيّة الفسق، والخلاعة، والفجور، والإغواء، والتفلُّت الجنسيّ. هذا النوع من الحرّيّات يجعل الحجابُ لها حدّاً. وهذا ما ينبغي أن يكون فعلاً، ذلك أنّ الحجاب يعمل على الحدّ من المفاسد الجنسيّة والاجتماعيّة الأخرى.
3- إنّ رعاية القوانين توجِد نوعاً من المحدوديّة للإنسان، وبشكل طبيعيّ، ولكن لا يمكن اعتبار رعاية القوانين مخالفةً للحرّيّة الحقيقيّة، وذلك أنّ رعاية القوانين من قبيل قوانين السير، وما شابَهَها، تضع حدّاً طبيعيّاً لتصرّف الإنسان، لأنّه لا يعود بمقدروه أن يفعل ما يشاء، فلا يستطيع مثلاً أن يذهب من حيث يريد هو، بل عليه أن يطيع قانون السير، الذي يحدّد له المسير اللّازم اتّباعه.
فهل بالإمكان القول: إنّ إطاعة قانون السير أو قوانين الصحّة العامّة مثلاً متعارضة مع الحرّيّات العامّة؟
الجواب: كلّا، لأنّه من غير المعقول وغير المنطقيّ أبداً أن تكون رعاية قوانين السير، والقوانين التي تحفظ السلامة العامّة للناس، متعارضة مع الحرّيّات العامّة.
وقانون الحجاب قانون إلهيّ، شأنه شأن سائر القوانين العامّة الأخرى، يعمل على الحفاظ على السلامة الروحيّة للفرد والمجتمع. وحيث لا يمكن عدّ القوانين الاجتماعيّة العامّة متعارضة مع الحرّيات العامّة، فلا يمكن عدّ قانون الحجاب متعارضاً مع الحرّيّات العامّة. إنّ رعاية الحجاب كقانون إلهيّ لها آثار طبيعيّة في الحدّ من الحرّيّة الشخصيّة للإنسان ظاهراً، وأمّا في الحقيقة والواقع، فهي تضمن الحرّيّة الفكريّة والمعنويّة للإنسان، أي أنّ رعاية الحجاب رعايةٌ لحرّيّة الفكر الفرديّة التي تحرّر الإنسان من العبوديّة للموديلات والأهواء الشخصيّة.
إنّ الحصول على الحرّيّة الحقيقيّة في الفكر الإسلاميّ، مشروط بترك الأهواء والشهوات الشخصيّة. وقد أشار أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة، في حديث له، حيث قال عليه السلام: "مَن ترك الشهوات كان حرّاً"[1].
[1] ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسولصلى الله عليه وآله وسلم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، إيران - قم، 1404هـ، ط2، ص89.
134
111
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
وبناءً عليه، فإنّ من استسلم للشهوات المادّيّة والنفسانيّة كان أسيراً لها.
فالحجاب نوع من المحدوديّة الظاهريّة لجسد الإنسان، ولكنّه يعطي الإنسان نوعاً آخر من الحرّيّة الفكريّة والروحيّة. وعلى العكس من ذلك، وهذا يعني أنّ عدم رعاية الحجاب، وإن كان حرّيّةً في ظاهر الأمر، ولكنّه في الحقيقة عبوديّة فكريّة وروحيّة للفرد والمجتمع، لأنّه، وبشكل طبيعيّ، ليس إلّا ارتباطاً عبوديّاً واضحاً بالموديلات وترويج البضائع التجميليّة الأجنبيّة، وهو بالتالي يستتبع التفلّت الجنسيّ والمفاسد الاجتماعيّة، وهو، بلا شكّ، يشكّل الأرضيّة اللّازمة للسلطة الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الاستعماريّة والأجنبيّة.
ولكي تتّضح حقيقة أنّ الحجاب لا يعارض الحرّيّة، بل على العكس من ذلك، هو وسيلة للتحرّر بذاته، ينبغي توضيح بعض أنواع الحرّيّات الأخرى:
أ- الحرّيّة الحقيقيّة: والمراد بهذا النوع من الحرّيّة هو التحرّر من القيود ومن أسر الشهوات والميول النفسيّة والمادّيّة الفانية. وتكمن فائدة الحرّيّة المذكورة في أنّها وسيلة للتحرّر من القيود الإضافيّة، وغير الضروريّة، من أمام العين واللسان والأذن والعقل، وتحمّل الإنسان على عدم الارتباط أكثر بما لا يفيده، ولا ينفعه. وفي النتيجة تُزيح من أمام الإنسان ما يخالف الوحي والعقل ممّا يمنع رقيّه وكماله الإنسانيَّين.
والحجاب ليس مخالفاً للحرّيّة الحقيقيّة، بل على العكس من ذلك، هو يساعد الإنسان على الوصول إلى الحرّيّة الحقيقيّة تحديداً، وذلك أنّ المرأة عندما تفهم معنى الحجاب، وتلتزم بالستر الكامل، فإنّها تعمل على احتواء ميولها النفسانيّة، وتمنع وسوساتها الروحيّة من التأثير فيها، وهي بالتالي تصل إلى الانتصار الكبير في هذا الصدد. وتوضيح ذلك، أنّ عدم رعاية الحجاب نوعٌ من استجابة الفرد لشهواته، ما يستلزم التبعيّة المطلقة للميول النفسانيّة بلا قيد ولا شرط. وفي المقابل، فإنّ رعاية الحجاب تفرض عدم التبعيّة للأهواء النفسانيّة لدى الأفراد المستهترين، ما يبعث – بالتالي - على التحرّر من أهواء الآخرين الشهوانيّة والجنسيّة. تقول ايوت بالداجينا، وهي من النساء اللواتي اعتنقن الإسلام حديثاً:
135
112
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
قبل اعتناقي الإسلام كانت غايتي القصوى أن أصبح مثل اللعبة باربي[1]، وكانت أدوات التجميل والمجلّات الأجنبيّة هي مرجعي الروحيّ الوحيد، وكان همّي الوحيد هو أن أظهر في المجتمع بذلك المظهر. وعندما اعتنقت الإسلام، واخترت الالتزام بالحجاب واللّباس الإسلاميَّين، تغيّرت حياتي رأساً على عقب، ولم أخترَ الحجاب تقليداً أو لسبب شخصيّ قطّ. لقد كنت أبحث عن حقيقة الإسلام، وعندما اكتشفتها اخترت الحجاب عن قناعة، وأنا أعتبر الحجاب راية الإسلام، وهو دليل على إسلاميّ.
وتضيف: الحجاب خياري، وهو لم يقيّدني قطّ، بل على العكس من ذلك، منحني حريةً إضافيّة. وبعد اختياري الحجاب تحرّرت من النظرات الجنسيّة المزعجة كلّها، وأحسست بالأمان والهدوء من جديد، وأقنعت من حولي بألّا يحكموا على ذلك اللّباس الطاهر بتسرّع، بل عليهم أن ينظروا إلى شخصيّتي فحسب. أعتقد أنّ الحجاب يعطي المرأة هويّتها الحقيقيّة، والحجاب وحده هو الذي منحني الحرّيّة[2].
ب- الحرّيّة غير الحقيقيّة: والمقصود بهذا النوع من الحرّيّة، أن يكون للشخص حقّ اختيار الأمور السلبيّة ممّا يميل إليه قلبه أو ممّا يريد الآخرون منه أن يفعل. ومن الطبيعيّ أن يفكّر الآخرون في مرادهم، وفي ميولهم المادّيّة والنفسانيّة. والحجاب يعارض هذا النوع من الحرّيّة غير الحقيقيّة، وذلك أنّه يمنع من الأهواء الشخصيّة والفرديّة والاجتماعيّة.
إنّ أتباع المستعمرين ينشرون هذا النوع من الحرّيّة غير الحقيقيّة، ليواجهوا الحجاب في المجتمعات البشريّة، وذلك أنّه لا شكّ لديهم في أنّ الترويج لهذا النوع من الحرّيّة في مقابل الحجاب الإسلاميّ، هو أحد العوامل المؤثّرة في انعدام الأمن الأخلاقيّ في المجتمع، وهو ما يقصده المستعمرون وأتباعهم. ومن الطبيعيّ أن يفعلوا ذلك، لأنّ هذا النوع من
[1] باربي: اسم مخفّف من باربرا، وهو اسم البنت الصغرى لرئيس شركة أمريكيّة تصنع الدمى المعروفة باسم باربي، وهي نوع من الثقافة الأمريكيّة تهدف إلى التأثير الثقافيّ والتربويّ في الناس. انظر: باربى، پژوهش درعروسكهاى أمريكايى باربى، بالفارسية، ص43 ـ 44.
[2] بانوى مسلمان، برتو سخن، بالفارسية، خرداد 1389، ش 531، ص11.
136
113
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
الحرّيّة ينسجم مع أهدافهم في النيل من الحرّيّة الحقيقيّة للأفراد، ممّن يريدون العيش بأمان أخلاقيّ وروحيّ[1]، وهو ما يتعارض مع أهدافهم الدنيئة.
4- إنّ قانون الحجاب مطابق للفطرة البشريّة وللعقل والشرع. من هنا، فإنّ أيّ مجتمع يسعى إلى السلامة الروحيّة والأخلاقيّة لن يقبل بالتعرّي. وعليه، فإنّ الحرّيّة في كلّ مجتمع يدافع عن السلامة الروحيّة والأخلاقيّة لأفراد لا بدّ من أن تكون مقيّدةً بنوع من القيود. ولمّا لم يكن لرأي أحد من الناس الأفضليّة على آراء الآخرين، فقد كان أفضل أسلوب يؤيّده العقل هو اختيار الحدود والقيود الشرعيّة التي تنسجم مع فطرة البشر، وقد جعلها الله تعالى فيهم، وهو خالقهم، وهو أعرف بمصالحهم الحقيقيّة، وأعلم بطريق نجاتهم وسعادتهم.
وعليه، فإذا كانت رعاية المصالح الفرديّة والاجتماعيّة، من قبيل حفظ العفّة والطهارة، بأن يلتزم الرجل والمرأة بعدم تعدّي الحدود في معاشرتهما، ويسيران سيرةً تُضفي على الآخرين نوعاً من الأمان والهدوء، ولا تُسيء إلى التوافق الأخلاقيّ في المجتمع، فإنّ سلوكاً كهذا لا يمكن أن يسمّى بالحبس أو بالعبوديّة، وليس هو مخالفاً للحرّيّة. وهذا ما يحدث في كثير من بلاد العالم، حيث لو خرج أحدهم بلباس النوم في الشارع لاعتقلته الشرطة، بذريعة الإساءة إلى الذوق العامّ، وأنّه ارتكب ما يخالف حيثيّة المجتمع[2].
5- قد يكون على الإنسان أحياناً القبول ببعض القيود في سبيل الحفاظ على قيمةٍ أكبر، والوصول إلى الكمال الأتمّ. وهذا ليس أمراً سلبيّاً ولا هو بجديد، ومن ذلك، أنّ البشر يسعون في تحصيل العلوم على اختلاف أنواعها، وهم يفقدون، وبشكل طبيعيّ، بعض أنواع التسلية والراحة والملذّات المادّيّة في سبيل ذلك، بل يجب على بعض الناس أن يفعل ذلك في سبيل الوصول إلى لذّة العلم والمعرفة المعنويّة.
وقد يستفيد الإنسان من الستائر في سبيل الحفاظ على خصوصيّته، وإبعاداً للمزعجين من حوله، ما يشكّل عائقاً أمام عينيه ويحرمه النظر إلى ما حوله، بشكل أو بآخر. وهذا
[1] حميد كريمي، بررسي مسأله حكمت وبوشش، مجله معرفت، بالفارسية، ش 118، ص78.
[2] مرتضى مطهرى، مسأله حجاب، بالفارسية، مصدر سابق، ص101.
137
114
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
العمل مقبول عند أهل العقل بلا شكّ ولا ريب. ويستعمل العقلاء الثياب الثقيلة لدرء برودة الشتاء عنهم، ومع كون كثرة الثياب مزعجة لهم، وذلك أن اختيار قليل من الإزعاج في سبيل الكثير من المصلحة والمنفعة أمر عقلائيّ[1].
من هنا، يورد القرآن الكريم استدلالاً معقولاً ومنطقيّاً، بقوله تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[2].
وتفيد الآية أنّ إدناء الجلابيب فيه منفعة ومصلحة للنساء، وهي أنّ الناظر إليهنّ سيعرف أنّهنّ عفيفات فلا يتجرّأ على أذيّتهنّ والإساءة إليهنّ. يوصي القرآن الكريم النساء في هذه الآية الشريفة، وبكلّ سلاسة ولطافة، بأن يستعملن الحجاب في سبيل التخلّص من أذيّة مَن لا يبالون باحترامهنّ ويسعون إلى أذيتهنّ، وفي سبيل الوصول إلى مقام العفّة الشامخ، كذلك فيقبلن بالقليل من الإزعاج الظرفيّ ليحصلْن على الصون والعفاف والأمن الذاتيّ.
[1] مريم حاج عبد الباقي، بوشش وفلسفه آن در قرآن كريم، فصلنامه قرآني بينات، بالفارسية، ش55، ص206.
[2] سورة الأحزاب، الآية 59.
138
115
الدرس الحادي عشر: شبهات حول الحجاب (2) الحجاب والحرّيّة
المفاهيم الرئيسة
- تشتهر شبهة كون الحجاب معارضاً للحرّيّة والاختيار، حتّى تكاد من أهمّ الشبهات في هذا المجال.
- إنّ الكلام حول الحرّيّة في كثير من المجتمعات الغربيّة لا يعدو كونه شعاراً لا أكثر.
- إذا كان المقصود بالحرّيّة، حرّيّة الفسق والخلاعة والفجور والإغواء والتفلُّت الجنسيّ، فهذا صحيح. مثل هذا النوع من الحرّيّات يجعل الحجاب لها حدّاً. وهذا ما ينبغي أن يكون فعلاً.
- إنّ رعاية الحجاب، كقانون إلهيّ، لها آثار طبيعيّة في الحدّ من الحرّيّة الشخصيّة للإنسان ظاهراً، وأمّا في الحقيقة والواقع فهي تضمن الحرّيّة الفكريّة والمعنويّة للإنسان.
- إنّ الحجاب لا يعارض الحرّيّة، بل على العكس من ذلك هو وسيلة للتحرّر بذاته. والحرية على نحوين:
أ- الحرّيّة الحقيقيّة: والمراد بهذا النوع من الحرّيّة هو التحرّر من القيود، ومن أسر الشهوات والميول النفسيّة والمادّيّة الفانية.
ب- الحرّيّة غير الحقيقيّة: والمقصود بهذا النوع من الحرّيّة أن يكون للشخص حقّ اختيار الأمور السلبيّة ممّا يميل إليه قلبه، أو ممّا يريد الآخرون منه أن يفعل.
- إنّ قانون الحجاب مطابق للفطرة البشريّة وللعقل والشرع. من هنا، فإنّ أيّ مجتمع يسعى إلى السلامة الروحيّة والأخلاقيّة لن يقبل بالتعرّي.
139
116
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
الدرس الثاني عشر
شبهات حول الحجاب (3)
الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يجيب عن شبهة أنّ الحجاب حقّ شخصيّ.
2- يعرف أنّ الحجاب حكم اجتماعيّ.
3- يفهم أن لا تمييز عنصريّاً بين الرجل والمرأة.
140
117
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
الشبهة الخامسة: الحجاب حقّ شخصيّ
1- توضيح الشبهة:
من الشبهات المطروحة بقوّة في باب الحجاب، أنّ الحجاب حقٌّ شخصيّ. وعليه، فإنّ رعايته أو عدم رعايته هو شأن الأفراد وحدهم، ولا يصحّ أن يتدخّل الآخرون لكي يحدّدوا تكليف الناس.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الحجاب فعلاً حقٌّ شخصيّ وفرديّ، وأمرٌ راجع إلى الشخص نفسه أم هو حكم إلهيّ واجتماعيّ؟
2. جواب الشبهة:
قبل الجواب عن الشبهة، فإنّ من الجدير بالذكر أنّ بحث مواضيع الحقّ والتكليف والحكم، والفرق بينها، وعلاقة كلٍّ منها بالآخر من البحوث الدقيقة والهامّة، وهو عملٌ يحتاج إلى بحث مستقلّ، لا يتّسع له هذا الكتاب. وسنستعرض ما يلزم في بيان الجواب عن الشبهة من الفرق بينها، وبعض خصائصها.
من خصائص الحقّ أنّه قابل للانتقال والإسقاط، وأنّه يتبع المصالح والمفاسد، وأنّه عامّ للمكلفين كافّة.
ولمّا كنّا قد قدّمنا فيما سبق أنّ الحجاب له فوائد فرديّة وأُسريّة واجتماعيّة عدّة، وأنّ تلك المصالح تعود بالنتيجة إلى المجتمع، وأنّ لعدم رعاية الحجاب مفاسد وأضراراً تفتك بالمجتمع، يظهر أنّ الحجاب تكليف وحكم إلهيَّان، وذلك أنّ إحدى فوائده المهمّة هي حفظ الحياء والعفّة الجنسيّة وتقويتهما في المجتمع. ومن أهمّ فوائده الأخرى: حفظ
142
118
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
المجتمع وصونه، والأمان الفرديّ والاجتماعيّ، والمحافظة على كيان الأسرة.
ومن ناحية أخرى، فإنّ المشرّع يجب أن يراعي وضع الناس - ومنه النساء - في المجتمع، وهو في صدد تحميلهم آثار حكم ما، ففي مثل هذه الحال لا أثر لإرادة الفرد نفسه، وأكثر ما يمكن قوله: إنّ إرادة الفرد هنا شرطٌ في إجراء الحكم، وليست علّة في ظهور التكليف نفسه[1].
وعليه، ينبغي القول: إنّ الحجاب ليس حقّاً شخصيّاً، بل هو تكليف وحكم إلهيَّان، أضِف إلى ذلك أنّ ثمّة آيات وروايات تشير بوضوح إلى أنّ الحجاب تكليف وحكم إلهيَّان.
الحجاب حكم اجتماعيّ
بعد ثبوت أنّ الحجاب تكليف وحكم إلهيَّان، فإنّ السؤال الذي يُطرح هو: هل شأن الحجاب شأن سائر العبادات، من قبيل الصلاة، فهو تكليف شخصيّ وفرديّ، وهو بالتالي من جملة الأمور الشخصيّة، كما زعم بعضهم، أم هو أمر غير شخصيّ وغير اجتماعيّ؟
وينبغي القول في الجواب:
أوّلاً: إنّ الحجاب مسألة مطروحة في مواجهة الآخرين، ولا سيّما غير المحارم في العادة، فكيف يمكن أن يكون أمراً شخصيّاً وغير اجتماعيّ؟
وثانياً: ما هو الملاك في كون العمل شخصيّاً أو اجتماعيّاً؟ يبدو أنّ الملاك يكمن في تأثير العمل سلباً أو إيجاباً في المجتمع أو في الشخص وحده. فإذا كان ضرر العمل وسلوك الفرد ومنفعته تتعلّق به وحده شخصيّاً فهو شخصيّ، ولكن إذا كان الضرر ومنفعة العمل تؤثّران في الآخرين فهو اجتماعيّ.
وقد يكون عمل واحد له جنبتان، فيكون فرديّاً من ناحية، واجتماعيّاً من ناحية أخرى. ويبدو أنّ الحجاب من هذا القبيل، وذلك أنّ اللّباس والستر عملٌ فرديّ من ناحية، فهو مثلاً
[1] سيد ابو الحسن نقيبى، تحليلى بر حكم يا حق بودن حجاب، فصلنامه فقه وحقوق اسلامى دانشكاه امام صادق عليه السلام، بالفارسية، ش46، ص28 ـ 29.
143
119
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
يعطي الدفء للشخص نفسه، واجتماعيّ من ناحية أخرى، فيقال إنّ نظافتنا أو ما يقابلها، وقُبحنا أو ما يقابله، ولون ثيابنا... لها التأثير المباشر والعميق والكبير أحياناً في نفوس الآخرين.
وتوضيح ذلك، أنّ المجتمع البشريّ مثله كمثل سفينة كبيرة، فلا يحقّ للفرد أن يفعل ما يشاء في محلّه من السفينة، لأنّ المحلّ متعلّق به من ناحية، ومتعلّق بالآخرين من ناحية أخرى. من هنا، فإنّ من حقّ الآخرين أن يمنعوا الفرد من تخريب محلّه في السفينة، إذا أصرّ على فعله، ولو بالقوّة، لأنّه يعود بالضرر عليهم مباشرة.
ولا شكّ في أنّ كلّ إنسان لن يقبل بتخريب جسم المجتمع وروحه وإيمانه من قِبل من لا يلتزمن بالحجاب، لأنّ هذا العمل ليس بأقلّ من خرق السفينة وغَرَق من فيها[1].
وعليه، فإنّ مسألة الحجاب اجتماعيّة، لأنّها تعود بالتأثير مباشرة في العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد. وبعبارة أخرى، فإنّ وضع من لا يلتزمن بالحجاب يؤثّر، وبشكل مباشر، في روح الناظرين إليهنّ. ومن الواضح، أنّ هذا الوضع الظاهريّ مؤذٍ لأهل الدين والأخلاق الإلهيّة، بل هو يرتدّ عليهم بالضرر المعنويّ. ولذا، فإنّ عدم رعاية الحجاب والستر في الحقيقة هو تجاوز لحرمة الآخرين وحقوقهم المعنويّة والروحيّة.
ولمّا كان عدم رعاية الحجاب موجباً لظلم الآخرين، ولتجاوز حرماتهم وحرّياتهم وحقوقهم الروحيّة والمعنويّة، وما فيه من تضييع حقّ الناس، نستنتج أنّ الحجاب من الأحكام الاجتماعيّة.
ومن ناحية أخرى، يمكن الاستدلال على أنّ الحجاب حكم اجتماعيّ بالقول: إنّ رعاية الحجاب والستر تؤمّن منفعة الفرد الملتزم به ومصلحته، وهي بالتالي لا تخلو من النفع والمصلحة لباقي أفراد المجتمع. فلو أنّ أفراد المجتمع راعوا مسألة الحجاب، فإنّهم يقضون على أهمّ سبب في ظهور،ما يساعد على إثارة الشهوة الجنسيّة، ويؤمّنون بذلك أهمّ سبب مؤثّر في السلامة الروحيّة والأخلاقيّة والدينيّة للمجتمع.
إنّ عدم رعاية الحجاب في الحقيقة أحد الموانع، أمّا السلامة الأخلاقيّة للمجتمع،
[1] حميد كريمي، بررسي مسأله حكمت وبوشش، مجله معرفت، بالفارسية، ش 118، ص79.
144
120
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
والحجاب والستر فهي تُزيح ذلك المانع. وإزاحة مانع السلامة الأخلاقيّة للمجتمع هي أمرٌ يصبّ في مصلحة المجتمع نفسه، بلا شكّ ولا ريب. وعليه، فإنّ الحجاب فيه مصلحة للفرد ومصلحة للمجتمع، ومصلحة المجتمع فيه أكثر، وهو حكم اجتماعيّ، وإن كان فيه مصلحة للفرد كذلك[1].
الشبهة السادسة: التمييز العنصريّ بين الرجل والمرأة
1. توضيح الشبهة:
طبقاً لفتاوى الفقهاء، فإنّ على المرأة أن تغطي جسمها بالكامل أمام غير المَحارم باستثناء وجهها وكفَّيها، ولا يجب على الرجل فعل ذلك، فلمَ الفرق بين حجاب المرأة وحجاب الرجل؟
أولَيس هذا الفرق تمييزاً عنصريّاً، وظلماً للمرأة وتحقيراً لها؟ وقد وردت هذه الشبهة في بعض المطبوعات[2].
2- الجواب عن الشبهة:
أولاً: إنّ الأحكام التشريعيّة في الإسلام جاءت متناسبة مع الخصائص التكوينيّة للإنسان، وذلك بهدف تأمين مصالحه ودفع المفاسد عنه، ومن ذلك التفاوت في بعض الأحكام، من قبيل وجوب الحجاب على المرأة، ووجوب الجهاد على الرجل، فهو بسبب الفروقات التكوينيّة بين الجنسين.
وقد جعل الدين الإسلاميّ المقدّس تشريعاته متناسبة مع الخصائص والفروقات التكوينيّة لدى كلّ من الرجل والمرأة. ونذكر مثلاً، أنّه لمّا كان حبّ التبرّج والظهور لدى المرأة أقوى منه لدى الرجل، فقد أُمرت المرأة بالحجاب والستر، ولمّا كانت حسّاسيّة الرجال أمام المحرّكات والإثارات البصريّة أكثر، فقد أُمر الرجل بالحجاب البصريّ (غضّ البصر).
[1] حسن علي اكبريان، مبانى مسؤليت حكومتا سلامى در ترجيح حجاب، مجله كاوشى نو در فقه اسلامى، بالفارسية، ش51 و52، ويژه حجاب ص76 ـ 79، بتصرفٍ يسير.
[2] لمزيد من الاطّلاع حول الموضوع، انظر: مهدى مهريزى، حجاب، بالفارسية، ص65.
145
121
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
هذا، ولا يخفى أنّ حجاب النظر الذي توجّه الخطاب به إلى الرجال أمر صعب ومُشكل أكثر من حجاب الجسد والستر، الذي خوطبت به النساء، وذلك أنّ حجاب البصر بحاجة دوماً إلى إرادة عظيمة وإيمان قويّ ومستمرّ، خلافاً لما الأمر عليه في حجاب الجسد وستره لدى النساء، حيث يصبح الأمر أكثر سهولة بمجرّد ارتداء الحجاب ووضعه في مكانه، فهو ليس بصعوبة حجاب البصر.
ثانياً: ورد في الأحاديث أنّ ميزان الحياء لدى النساء أكثر منه لدى الرجال، فقد ورد أنّ "الحياء عشرة أجزاء تسعة في النساء وواحد في الرجال"[1]. وإنّ زيادة ميزان الحياء لدى النساء، اقتضى تركيز الأمر بوجوب الحجاب أكثر، فهو أمرٌ متناسبٌ مع خصائص المرأة التكوينيّة والفطريّة. وكذلك مقدار الحجاب والستر الظاهريّ.
وإنّ التناسب والانسجام بين حكم تشريع الحجاب وبين الخصائص التكوينيّة للنساء ليس ظلماً للمرأة ولا تمييزاً عنصريّاً ضدّها، بل هو أمر عادل وحكيم، وذلك أنّ التفاوت في الأحكام الشرعيّة بين الجنسَين لم يكن بهدف التمييز العنصريّ مطلقاً، بل جاء نتيجةً طبيعيّةً للتفاوت التكوينيّ بين الجنسين.
إنّ ما ينبغي التركيز عليه في هذا المجال، أنّ الموجود في الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالرجال والنساء هو مجرّد تفاوت طبيعيّ وليس تمييزاً عنصريّاً، لأنّ التمييز يكون في حال المساواة والاستحقاقات المتساوية، وما نحن فيه هو تفاوت وفروقات تكوينيّة وطبيعيّة، والتفاوت يكون في حال عدم المساواة[2]. ومثال ذلك، أنّ الله تعالى أوجب الجهاد على الرجال دون النساء، بسبب بنيتهم الجسديّة وهياكلهم الضخمة، بينما لم يوجبه على النساء، لضعف بنيتهنّ وظرافة هياكلهنّ. ومن هنا، فقد أوجب عليهنّ الحجاب حفظاً لهنّ. وعليه، فكما أنّ التحاق الرجال بالجيوش للقتال بحكم القانون الطبيعيّ والتكوينيّ
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج100، ص244.
[2] لمزيد من الاطلاع، انظر: استاذ شهيد مطهرى، عدل الهى، بالفارسية، ص99 ـ 100. 3 نَيّره توحيدى، مسئله زن وروشنفكران طي تحولات دهه أخير، نيمه ديكر، بالفارسية، ش10، ص65.
146
122
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
ليس من التمييز العنصريّ، فإنّ الحكم بوجوب الحجاب كذلك ليس تمييزاً عنصريّاً، لأنّ كلا الحكمين مبنيّ على فروقات تكوينيّة وطبيعيّة.
ثالثاً: خلافاً للتصوّر السطحيّ الساذج لبعض الناس أنّ الحجاب يشكّل تحقيراً للمرأة، ينبغي القول إنّ التكليف ليس تحقيراً، بل هو علامة الاحترام والاعتبار والتكريم، وذلك من قبيل بعض التكاليف التي خصّ الله بها تعالى نبيّه الكريم، كصلاة الليل التي أوجبها عليه خاصّة، ولم يوجبها على غيره من الناس، فهل كان ذلك التكليف منه عزّ وجلّ تحقيراً -والعياذ بالله- لرسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أم هو تكليفٌ بهدف التكريم والتعظيم والاحترام، ما يعطيه قوةً معنويّةً أعظم تُعينه في تبليغ رسالته الأخلاقيّة والتربويّة؟ والجواب واضح لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد.
وبناءً عليه، يمكن القول: إنّ تكليف النساء بالحجاب والستر ليس تحقيراً لهنّ، بل هو علامة التكريم الإلهيّ لهنّ، بهدف قيامهنّ برسالتهنّ الأخلاقيّة والتربويّة، ولا سيّما في الأسرة، على أفضل وجه ممكن.
147
123
الدرس الثاني عشر : شبهات حول الحجاب (3) الحقُّ الشخصي - التمييز العنصريّ
المفاهيم الرئيسة
- إنّ الحجاب ليس حقّاً شخصيّاً، بل هو تكليف وحكم إلهيَّان، أضِف إلى ذلك أنّ ثمّة آيات وروايات تشير بوضوح إلى أنّ الحجاب تكليف وحكم إلهيَّان.
- لمّا كان عدم رعاية الحجاب موجباً لظلم الآخرين، وتجاوز حرماتهم وحرّيّاتهم وحقوقهم الروحيّة والمعنويّة، وما فيه من تضييع حقّ الناس، نستنتج أنّ الحجاب من الأحكام الاجتماعيّة.
- إنّ الأحكام التشريعيّة في الإسلام جاءت متناسبة مع الخصائص التكوينيّة للإنسان، وذلك بهدف تأمين مصالحه ودفع المفاسد عنه.
- لمّا كان حبّ التبرّج والظهور لدى المرأة أقوى منه لدى الرجل، فقد أُمرت المرأة بالحجاب والستر. ولمّا كانت حسّاسيّة الرجال أمام المحرِّكات والإثارات البصريّة أكثر، فقد أُمر الرجل بالحجاب البصريّ (غضّ البصر).
- إنّ ميزان الحياء لدى النساء أكثر منه لدى الرجال.
- إنّ تكليف أكثر النساء بالحجاب والستر ليس تحقيراً لهنّ، بل هو علامة التكريم الإلهيّ لهنّ، بهدف قيامهنّ برسالتهنّ الأخلاقيّة والتربويّة، ولا سيّما في الأسرة، على أفضل وجه ممكن.
148
124