الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي

الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-10

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للدراسات الثقافيَّة


مقدِّمة البحث

مقدِّمة البحث

يرى بعض خبراء علم الاجتماع التكنولوجي أنَّ الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ هي ايديولوجيَّة استلابيَّة بحدِّ ذاتها تقوم على تفريغ الإنسان تدريجيًّا من محتواه الذاتيّ، حتى لو ظنَّ المستخدم أو الناشط أنَّه على العكس من ذلك يقوم بتفريغ محتواه الذاتي في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ، عن طريق توظيفه لبثّ ونشر المحتوى الذي ينتجه أو يؤيِّده، وبين تفريغ الإنسان لذاته وتفريغ الإنسان من ذاته وُلِد سؤال الاستلاب وإشكاليَّة الاستقلال الفكريّ والثقافيّ في التعامل مع الرقميّات والإنترنت.

ويقول بعض خبراء علم الاجتماع التكنولوجي أنَّنا دخلنا منذ عقدين في عصر الهويَّات السائلة والمتحوِّلة المتشكِّلة التي يشكِّلها الأفراد والمجموعات من شتات متنوِّع لهويَّات وثقافات متعدِّدة، مستقاة من المصادر المفتوحة على شبكة الإنترنت العالميَّة ووسائل الإعلام التي تجد منابعها في المحتوى الثقافيّ والفكريّ الذي يغزو الجمهور عبر منصَّات يسيطر عليها تيار الليبراليَّة الدوليَّة -الأميركيّ والغربيّ وعموم أنصار العولمة- الذي يهدف إلى إحداث تغيير ثقافي يخدم استراتيجيَّة النفوذ إلى «البنية الاجتماعيّة للعالم ونخبة المؤثِّرين» وفق تعبير مايكل زوكربيرغ مؤسس ومالك موقع

 

7

 

 


1

مقدِّمة البحث

وتطبيق فيسبوك الشهير[1]؛ وهو ما شكَّل أكبر تهديد تاريخي وجِدِّي للهويَّات والثقافات الفرديَّة والاجتماعيّة المحليَّة ذات الهويَّات الصلبة أو ما يُسمى بالمؤسَّسات الثقافيّة والاجتماعيّة التقليديَّة (أفكار وعقائد ومفاهيم/ مذاهب ومناهج ومدارس فكريَّة/ عائلات وأُسَر وتقاليد اجتماعيَّة/ قبائل وعشائر وأقوام وأديان/ مؤسَّسات علميَّة تقليديَّة/ منظومات قيم تقليديَّة/ ثقافات وتقاليد قوميَّة وشعبيَّة/ إلخ).

 

ويُعتبر تيَّار الحداثة والليبراليَّة من أبرز التيارات التي ضخَّت أكبر كميَّة ونوعيَّة من المنتجات الثقافيّة والفكريّة والقيم والسلوكيات بهدف تشكيل العالم على صورته، بالاعتماد على نشر الجامعات والإرساليَّات والكتب وتغريب النخب، منذ بداية القرن العشرين.

 

لكن مع نهاية القرن العشرين وسقوط الاتّحاد السوفياتي وهزيمة الفكر والنموذج الشيوعيّ صعد تيَّار العولمة والليبرليَّة مجدّدًا بداية القرن الـ21، مستخدمًا أدوات تكنولوجيَّة ومدجّجًا بآفاق استعماريَّة جديدة، استندت إلى منصَّات القوَّة الناعمة Soft Power، مع انتشارٍ لأدوات وتقنيَّات الرقمنة من خلال شبكات الإنترنت ومنصَّات ومواقع التواصل الاجتماعيّ والهواتف الذكيَّة والبرمجيَّات الناعمة، وتضاعف تاثير هذه القوَّة الناعمة، خاصَّة في ظلّ استراتيجيَّات مرسومة لاختراق النخب والجماهير في ساحات القتال الجديدة (العالم الإسلاميّ وإيران ومحور المقاومة وخاصَّة حزب الله) تتضمَّن برامج تُشرف عليها وزارة الخارجيَّة الأميركيَّة ومعهد الحزب الديموقراطيّ الأميركي تعمل على توظيف هذه القوَّة وهذه الموجة باتّجاه بقع ومناطق جغرافيَّة محدَّدة، منها إيران والعراق وسوريا واليمن وفلسطين وعموم بيئة المقاومة

 


[1]  الترجمة الكاملة لمانيفيستو زوكربرغ..رؤية مؤسِّس فيسبوك، نشرت بتاريخ 21/2/2017، موقع ساسة بوست.

 

8


2

مقدِّمة البحث

في العالمين العربي والإسلامي، ولبنان وبيئة حزب الله بصورة خاصة؛ بما له من نموذجيَّة مؤثِّرة في العالم العربي والإسلاميّ، وفق المعلومات التي أشير إليها في منشورات وإصدارات سابقة لمركز المعارف للدراسات الثقافية[1].

 

وفي ضوء ما ورد، وصلت موجة القوَّة الناعمة إلى ساحتنا وجبهتنا ومجتمعاتنا، متحوِّلةً إلى حربٍ ناعمة مخطَّطة ومموَّلة وموجَّهة. وبات من الضروريّ دراسة مدى تأثير الهويَّات الرقميّة ذات المحتوى الناعم على هوية الفرد والجماعة في بيئتنا الافتراضية، حيث انعكست هذه التأثيرات على عدد من المواقف والمظاهر الاجتماعيّة والسياسيَّة والثقافيّة، مُحدِثةً مفاجأة لبعض صُنَّاع القرار في حجم تغلغلها وشدَّة فتكها الفكريّ والثقافيّ، خاصَّةً أنَّ بيئتنا التواصليَّة أظهرت تفاعلًا ونقاشًا ملحوظًا ذهب في اتّجاهات سلبيَّة وخطيرة في عدد من القضايا والمسائل المطلبيَّة والسياسيَّة والثقافيّة، كما سنُبيِّن من خلال عيِّنات ومحطَّات تواصليَّة، وهو ما ظهر بصورة خاصَّة في الحملات التشويهيَّة والاحتجاجيَّة التي سبقت استحقاق انتخابات مجلس النواب عام 2018 بعد إقرار النظام النسبيّ والصوت التفضيليّ الذي فتح المجال لإعلاء الصوت والرأي الفردي، وفي غيرها من المواقف والمحطّات السابقة واللاحقة.

وما أكَّد دقَّة هذا الاستنتاج، خطاب سماحة الأمين العام لحزب الله(حفظه الله) في أكثر من مناسبة خلال عام 2018 حيث تطرَّق إلى مخاطر وتحدِّيات التواصل الاجتماعيّ، في ضوء وجود حملة على مواقع التواصل الاجتماعيّ وحرب نفسيَّة لتشويه صورة حزب الله أمام بيئته الحاضنة، مطالبًا الجميع بالحذر في «ترتيب كلماته وتغريداته»، وما نُقل عن سماحته خلال لقاء الأخوات في معهد سيِّدة نساء العالمين حول الموقف من نشر صورة الأخوات المحجَّبات

 

 


[1] مثل دراسة الحرب الناعمة على حزب الله الصادرة عن المركز عام 2018.

 

9


3

مقدِّمة البحث

على وسائل التواصل، قوله: «اشكروا الله أنِّي لست مرجع فتوى، ولو كنت مرجع فتوى لأصدرت حكمًا بحرمة استخدام مواقع التواصل الاجتماعيّ»[1].

المعركة على الاستقلال والاستلاب الفكريّ والثقافيّ في عصر القوَّة الناعمة ظهر قبل 10 سنوات في إيران خلال الانتخابات الرئاسيَّة التي حصلت في 12 حزيران من عام 2009 وما شابها من أحداث الفتنة الرئاسيَّة- فيما سمِّي آنذاك بالثورة الخضراء- وهو ما أظهر تاثير شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ في توجيه الأحداث والشعارات بما يناهض الثقافة الإسلاميَّة الأصيلة من جماهير ونخب يُفترض أنَّها مؤيِّدة ومحسوبة على النظام الإسلاميّ، خاصَّة مع إعلان السيِّد القائد الخامنئي (دام ظله)دخول المعركة مرحلة «الحرب الناعمة بأدوات إعلاميَّة وثقافيَّة واتّصاليَّة»، وتحدَّث سماحته في أكثر من مناسبة عن ضرورة معرفة الأسباب العميقة التي تدفع بعض النخب والشباب للتأثّر بالدعايات والشعارات والأخبار التي يروِّجها الأعداء من خلال وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت والأدوات التواصليَّة من خارج إيران للانخراط في موجة الفوضى رغم أنَّهم يؤمنون بقيم الثورة والنظام الإسلامي، داعيًا إلى ضرورة إجراء دراسات وتحليلات «سيكولوجيَّة» [2].

وممّا جاء في خطاب القائد حرفيًّا «إنَّ المدبِّرين الرئيسيِّين لفتنة العام 2009 كانوا يريدون تسخير إيران في خطّتهم المعقَّدة، وإنَّ عناصر الفتنة الذين دخل معظمهم في هذا الحدث من غير علم كانوا يسيرون دون أن ينتبهوا لأنفسهم باتَّجاه أهداف المدبّرين

 


[1] نَقل الخطاب بالتواتر الشفهي الموثوق من خلال لقاء سماحة الأمين العام في حفل التخرّج لمعهد سيِّدة نساء العالمين، بتاريخ 25/11/2018 .

[2] خطاب الإمام الخامنئي تحت عنوان:13 آبان رمز لتواجد الجيل الشاب وريادته في الساحة، نُشر بتاريخ 3/11/2010 منشور على الرابط : http://www.leader.ir/ar/content/7554.

 

10


4

مقدِّمة البحث

الرئيسيّين، وأنَّ هذا الأمر بحاجة إلى تحليلات سيكولوجيَّة دقيقة لمعرفة كيف أنَّ عددًا من الأفراد ساعدوا العدو بلا علم» [1].

ويتّضح هذا المنظور أكثر إذا تعرَّف المُتابع على رأي القائد الخامنئي (دام ظله)في أهمّيَّة هذه الوسائل وخطورة دورها، حيث يرى أنَّ هناك «تأثير واسع للأجواء الافتراضيَّة باعتبارها قوَّة ناعمة متميِّزة في مختلف الصعد بما فيها الثقافة والسياسة والاقتصاد ونمط المعيشة والإيمان والعقائد الدينيَّة والأخلاق السامية وهناك ضرورة للتخطيط المناسب والدقيق لصيانة الحدود الأمنيَّة والفكريّة والأخلاقيَّة للمجتمع على هذا الصعيد» [2].

تقع هذه الدعوة من الإمام الخامنئي (دام ظله)في صلب أهداف هذا البحث في محاولةٍ للإجابة عن إشكاليَّةٍ طُرحت في الآونة الأخيرة تتمحور حول «دور محتوى شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ والرقميّات عامَّةً في التأثير على الإستقلال الفكريّ والثقافيّ والبصيرة السياسية للناشطين والمستخدمين لها؟».

 


[1] م.ن خطاب الإمام الخامنئي.

[2] الإمام الخامنئي خلال إستقباله رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للأجواء الإفتراضيَّة (الإنترنت)، نُشر بتاريخ 7/9/2015.

 

11


5

دوافع البحث

دوافع البحث

1. المشاهدة لعيِّنات منتشرة في واقعنا الاجتماعيّ وبيئتنا بما يشبه الـ «فقاعات التواصليَّة» التي تظهر أسبوعيًّا في فضائنا التواصلي، مُحدثةً ضجَّة ما تلبث أن تتلاشى، لكنَّها للأسف تؤثِّر عن طريق التراكم والعدوى والانتشار في المجتمع وفي نظرته إلى صورة رموزه ومؤسَّساته وإنجازاته وبرامجه، وهو ما ينعكس في سلوكيَّات الثرثرة والإحباط والجدل والنقاش الداخليّ غير الصحيّ وغير المنهجيّ، لأنَّه من قبيل نجاح العدو في نقل المعركة إلى الداخل، والأخطر احتمال تأثيرها على متانة وقوَّة الولاء والانتماء لبعض الأفراد من جمهورنا في بيئة حزب الله، ومنشأ الخشية، ما يُلاحظ من انتشار لموجات الاشتباك والتضخيم الإعلامي والسياسي ومظاهر الانحرافات الثقافيّة والعقائديَّة في بعض القضايا والعناوين، وسرعة رواج وتداول الأخبار والإشاعات والفبركات والدعايات المضادة على شبكات التواصل الاجتماعيّ، التي تشير إلى دور وظيفي خفيّ للتقنيَّات الرقميّة في التأثير على الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للناشطين والمستخدمين.

 

2. صدور كتاب جديد ضمن سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان «تغّـيُر العقل، كيف تترك التقنيَّات الرقميّة بصماتها

 

13


6

دوافع البحث

على أدمغتنا» وهو يبحث موضوع العلاقة بين المنصَّات الرقميّة والعقل بالعمق، وهو عبارة عن دراسات وأبحاث علميَّة بريطانيَّة وغربيَّة، وفي الكتاب مناقشات علميَّة رصينة وجادَّة لخبراء في مختلف فروع العلوم الطبيَّة والعصبيَّة وعلوم النفس والاجتماع والتربية، تؤكِّد على الدور الحاسم والحتميّ والمحوريّ للتقنيَّات الرقميّة في «تغيُّر بنية العقل وإعادة تشكيل الهويَّات الفرديَّة بصورة خطيرة تهدِّد المنظومة الثقافيّة والسياسيَّة السائدة».

 

يهدف البحث إلى تقديم إجابات وتفسيرات حول الفرضيَّات الآتية: هل يوجد علاقة ارتباطيَّة بين استخدام المنتجات الرقميّة وبين الاستلاب لقيم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للفرد، هل يوجد تأثير مادي فيزيولوجي للمنصَّات والتقنيَّات الرقميّة على بنية الدماغ البشري؟ ما هو التأثير الناعم غير الماديّ على بنية العقل عن طريق سموم وموجهات المحتوى المعنويّ والمواد الثقافيّة المنشورة؟ ما هو مدى حدوث ذلك التأثُّر بمجرد الاستخدام بمعزل عن فرضيَّة المؤامرة أو التخطيط من العدو أو تداعيات المحتوى المنشور؟

 

وللإجابة عن الإشكاليَّة وفرضيَّاتها سنبحث في عددٍ من العناوين:

1. مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني (قدس سره) والخامنئي (دام ظله).

2. المبانى الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة.

3. تأثير المنصَّات الرقميّة على الآليَّة الفيزيائيَّة لعمل الدماغ.

4. فرضيَّة «العقل الممتدّ».

5. تأثير المنصَّات الرقميّة على تشكيل الهويَّة.

 

14


7

دوافع البحث

6. تأثير المنصَّات الرقميّة على البنية الثقافيّة.

7. التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع.

8. التواصل الاجتماعيّ وإثارة الأنا الفرديَّة وروح المقارنة الاجتماعيّة.

9. أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد.

10. شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفها ايديولوجيا.

11. مكوّنات وعناصر ايديولوجيا الإنترنت والمنصَّات الرقميّة.

12 التواصل الاجتماعيّ وتشكيل الرأي العام الرقميّ.

13. ثورتي تويتر 2009 وتلغرام 2018 في إيران كحالتين ونموذجين دراسيَّين.

وبما أنَّ البحث من النوع الموجز في حجمه، فقد اعتمدنا على تقسيمه إلى نقاط وفقرات متسلسلة تعالج الموضوع وفق المنهج الوصفيّ، مع الاستناد إلى مقابلات مع عيِّنات لعدد من الناشطين والمستخدمين للإنترنت والتواصل الاجتماعيّ في بيئتنا لبنان وخاصَّة في مجتمع المقاومة وبيئته، ودراسة لحالات من «الأحداث والظواهر التواصليَّة» التي حصلت خلال الأعوام السابقة 2016 - 2018.

 

 

15

 


8

أولًا: مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني والخامنئي

أولًا: مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني (قدس سره) والخامنئي (دام ظله)

لا بدَّ من تعريف وعرض مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ في فكرنا الإٍسلاميّ، ويمكن القول بحق أنَّ الإمام الخميني (قدس سره)كان من المؤسّسين لمفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ ودوره المرجعيّ في السياسة والاقتصاد والاجتماع، بالنظر إلى ارتباطه بالضرورة بهويَّة واتّجاه سائر المباني المؤسِّسَة والمُشكِّلة للمجتمع والدولة الإسلاميَّة، خاصَّة في ظلِّ الصراع مع التيَّارات المنحرفة المدعومة من الغرب والشرق. وقد سار على نهجه الإمام الخامنئي (دام ظله) في إيلاء هذا المفهوم أهميَّة خاصَّة.

 

ما هو الاستلاب الفكريّ والثقافيّ المضادّ لمفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ؟

الاستلاب من السلب، وهو دال مفهومي يُستعمل خاصَّةً من قِبل الاتّجاه الناقد للتقليد والانسحاق أمام الغرب وهو يدلّ على حالة التبعيَّة الثقافيّة، ويرادفه في اللغة الأجنبيَّة Alienation[1]، ويمكن تعريفه بأنَّه «وقوع الكائن العاقل الذي يمتلك حيِّزًا من التفكير العادي والمتفاعل مع محيطه بالضرورة، في موقع الأسر الكليّ أو شبه المطلق لفكرة ما أو لمقدرة ما أكثر تأثيرًا من مثيلاتها بحيث تكون هذه المقدرة هي الرأس الموجِّه، وهو سيطرة فكر ما

 


[1] الاستلاب مفهوم ملتبس، نشر في 25/7/2007، موقع الجزيرة، باب المعرفة.

 

17


9

أولًا: مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني والخامنئي

أو مجموعة أفكار على البنى العقليَّة والنهج الفكريّ لإنسان ما أو مجتمع محدَّد [1].

 

وقد نظَّرت الماركسيَّة لمفهوم الاستلاب واعتبرت أنَّه: «اغتراب الإنسان عن ماهيَّته الإنسانيَّة بسبب انفصاله عمَّا يُنتجه بقوَّة عمله، ويصير تابعًا للآلات التي يخترعها غيره بدل أن يجد فيها تحقُّقه الذاتيّ، ويتجلَّى استلابه الأساسي في تبعيَّته للآلات التي يخترعها ومنها نظم الإعلام والمعلومات، والتي يأتي على رأسها الإنترنت، في حين يرى جورج لوكاش مفهوم آخر للدّلالة على حالة الغربة والاغتراب وهو مفهوم التشيُّؤ chosification»[2].

 

وغير بعيد عن ذلك ما كتبه المفكر الماركسيّ الإيطالي غرامشي حول مفهوم «الهيمنة الثقافيّة» للدلالة على ثقافة الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج، وبطبيعة الحال منها وسائل الإعلام والإنترنت ومواقع التواصل.

 

1 - نظرة الإمام الخميني (قدس سره) إلى الاستقلال الفكريّ والثقافيّ:

بالعودة إلى مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ، يقول الإمام الخميني (قدس سره) «خلال هذه المدَّة الطويلة التي اعتقدنا فيها أنَّه لا شي‏ء ينفعنا غير الغرب، تحوَّلنا إلى موجود متغرّب! أي: أن الأدمغة صارت أدمغة غربيَّة تقريبًا. ولهذا عندما تريد بلادنا الآن أن يكون لها استقلالها، فإنَّ منطلق كلّ أنواع الاستقلال أن يكون تفكيرها مستقلًّا. أي يجب أن تزول التبعيَّة الفكريّة القائمة الآن، إذ يعتبرون أنفسهم لا شي‏ء، وأولئك كلَّ شي‏ء. إذا كان على البضاعة إسم بريطانيا يهجمون لشرائها، والدواء إذا جاء من الخارج ويصنعون هنا

 


[1] عماد يوسف، مفهوم الاستلاب العقلي الفكري والثقافي رؤيا في نهج الاستلاب، نشر في 8/2/2011، موقع الحوار المتمدن.

[2] عبد العالي معزوز، الانترنت والاستلاب التقاني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2011، ط1، ص 23.

 

 

18


10

أولًا: مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني والخامنئي

شبيهه أو أفضل منه، لكنَّه إذا جاء من الخارج يحرصون على شرائه، الأدوية التي يصنعونها بأنفسهم يضعون عليها كلمات أجنبيَّة، لأنَّ السوق أصبح هكذا، أي: أنَّ السوق متغرّب. البضائع التي تنتجها معاملنا يكتبون على حواشيها باللغة اللاتينيَّة إنَّ هذا القماش إنجليزي! سوقنا هو الآخر أضحى سوقًا متغرّبًا، أي ساد الاعتقاد بأنَّ كلّ ما يأتي من الغرب جيِّد، وليس لنا شي‏ء من أنفسنا هنا! وثقافتنا أيضًا صارت هكذا، فالثقافة التي صنعوها لنا ثقافة غربيَّة، ونحن متغرّبون حتى في الثقافة»[1].

 

ويضيف الإمام في بيان مرتبة الاستقلال الثقافيّ في بناء الاجتماعيّ: «الاستقلال الثقافيّ أوَّل خطوة على طريق استقلال البلاد، إذا أردنا أن نكون مستقلِّين، فيجب أوَّلًا أن تكون أفكارنا مستقلَّة، أي يجب (أن نبدأ) من الحرّيَّة الفكريّة. هنالك حرّيَّة خارجيَّة (موضوعيَّة) لا يجوز لأحد التعرّض لها، ومثل هذه الحرية إذا تركوها فهي موجودة. أمَّا الحرّيَّة الفكريّة فهي أن يكون الإنسان حرًّا في تفكيره، فيفكِّر من دون ميول إلى هذا الجانب أو ذاك. وكذلك الحال في المسائل العلميَّة، إذا فكَّر الإنسان بحرّيَّة في المسائل العلميَّة يخرج بتصوُّرات معيَّنة، وإذا كان ذهنه مرتهنًا، وكان طفيليًّا على القضيَّة، فسيخرج بتصوُّرات وأفكار أخرى. حتَّى تصوُّراتنا العلميَّة ليست حرَّة الآن».

 

ويقول الإمام الخميني (قدس سره): «هنالك أفكار هُزِمَت في أوروبا، واضمحلَّت و(شاعت‏) في زمانٍ ما ثم أدركوا أنَّها سخيفة. الذين نادوا بتلك الأمور، زعموا مثلًا أنَّه ينبغي التعامل بأخوَّة مع الناس، و(المساواة) مع الناس، كانوا يعملون خلاف ذلك، هم أنفسهم كانوا يعملون بخلاف ما يقولون، والمدارس التي عرضوها على الجماهير في المدارس الفكريّة والعقليَّة التي لم تكن لها (قيمة) منذ البداية

 

 


[1] الاستقلال الفكري والثقافي- دور الإسلام في حركات التحرر، موقع المعارف، التاريخ: 16 آذر 1358 هـ. ش/ 17 محرم 1400 هـ. ق .

 

19


11

أولًا: مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني والخامنئي

أصلًا، وفي المدارس الاقتصاديَّة أيضًا اتّضح أنَّها لم تكن صحيحة. والآن رغم ثبوت عدم صحَّتها وصل الدور لشبابنا وللشرق، وفدت من هناك إلى الشرق، في الشرق يتوهَّمون أوَّلًا أنَّ هذه مدارس، وأنَّها الهدف الذي يلهثون وراءه (دائمًا).. [1].

 

2 - نظرة الإمام الخامنئي (دام ظله) إلى مفهوم الاستقلال الفكريّ:

وفي نفس السياق، نرى أنّ الإمام الخامنئي (دام ظله)قد ركّز كثيرًا على مفهوم الاستقلال الفكريّ في عدد من المناسبات منها ما ذكره في لقائه مع مجلس خبراء القيادة [2]. حيث قال: «على مجلس الخبراء أن يتحلّى باستقلال فكريّ، وسأتناول الحديث عن مبنى هذا الاستقلال الفكريّ، والأساس هو أن لا يقع في فخ الأدبيَّات المفروضة لنظام الهيمنة، حيث تُنشر طائفة من الرؤى والمفاهيم بشكل متواصل في جميع أقطار العالم عبر الإعلام المكثّف لنظام الهيمنة، وإنَّ من أهم الأمور هي أن لا نقع في أحابيلها» [3].

ولا تختص هذه التوصية بمجلس الخبراء وحسب، وإنّما هي توصية لكافَّة المسؤولين في البلد ولجميع أركان النظام، بل وتوصية لكلّ المنظّرين في المجال السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ بأن يتوخّوا الحيطة والحذر، وأن يعلموا أنَّه: ﴿وَإِن تُطِعْ أَکثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ یُضِلّوكَ عَن سَبیلِ الله﴾[4]. فلا معنى لذلك إذا ما ركّز الأعداء على موضوع معيّن واستندوا إليه وباتوا يكرّرونه على ألسنتهم، ويبيّنونه بلغات مختلفة عن طريق كمٍّ هائل ٍمن الإعلام المكثَّف، أن نكون مضطّرين لأن نصطبغ بصبغتهم وأن نطرح نفس ذلك الموضوع ونكرّره؛ كلَّا، فإن لنا مبانينا ورؤانا.

 

 


[1] م.س.

[2] كلمة الإمام الخامنئي خلال لقائه رئيس وأعضاء مجلس خبراء القيادة في ختام أعمال دورتهم الثامنة عشرة. بتاريخ 2015/09/03، نشر موقع القائد على الانترنت www.leader.ir.

[3] م.ن.

[4] سورة الأنعام، الآية 116.

 

20


12

أولًا: مفهوم الاستقلال الفكريّ والثقافيّ لدى الإمامين الخميني والخامنئي

يضيف القائد: «يحاول الاستكبار أن يفرض أدبيَّاته المطلوبة لديه على جميع أهل العالم بمن فيهم الشعوب، والمسؤولين والمؤثّرين في البلدان بالخصوص، وهم الحكومات ونوَّاب المجالس والمتّخذون للقرار والصانعون للقرار، وعلى حدّ تعبيرهم غرف العمليَّات، حيث يبتغون فرض أدبيَّاتهم على هؤلاء كافّة وزجّها في أذهانهم»[1].

 

ويؤكِّد القائد: «هؤلاء يرغبون في أن ينظر الجميع إلى العالم من منظارهم، وأن يحدِّدوا ويدركوا المفاهيم التي يركّزون عليها من خلال توجّههم ونظرتهم. وهذا التوجّه هو التوجّه السلطوي، حيث يعمدون من خلال هذا التوجّه والمنحى السلطويّ إلى افتعال بعض المفاهيم أو التلاعب فيها وتفسيرها، ويحبّذون في أن يقوم الجميع على أساس تفسيرهم بإدراك هذه المفاهيم واستخدامها واستعمالها في أدبيَّاتهم»[2].

 

 


[1] م.س، كلمة الإمام الخامنئي خلال لقائه رئيس وأعضاء مجلس خبراء القيادة.

[2] م.ن

 

21


13

ثانيًا: المباني الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة

ثانيًا: المباني الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة

من الناحية الفكريّة، لا تزال نظريَّة الحتميَّة التكنولوجيَّة التي طرحها المفكر الإعلامي الشهير شارل ماكلوهان صاحب مقولة «الوسائل رسائل» تُشكل إحدى أهم المناهج والنظريَّات الإعلاميَّة في تفسير الفعل والسلوك الإعلامي وما يسمى الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام وعلاقة الفرد والمجتمع مع وسائل الإعلام، حيث ترى نظريَّة الحتميَّة التكنولوجيَّة أنَّ «الشبكة العنكبوتيَّة تشكل امتدادًا للأنا بكل مركّباتها، كما شكّلت السيارة امتدادًا للقدمين، والراديو امتدادًا للأذن، والتلفزيون امتدادًا للعَيْن، وتستتبع هذا الأمر جملة من السلوكيَّات منها إبراز وإشهــار وإظهار الذات وفقًا لقاعدة (أنا على الشبكات الاجتماعيّة، إذًا أنا موجود) وإعلان وعرض الخصوصيَّات الحميميَّة، الذي يشكل الوجه المتقدم لإشهار وإعلان الذات والتعبير عنها، وهذه الظاهرة مكوّن بارز لولادة كيان وهوية جديدة للفرد الإنسان أو الفرد الرقميّ»[1].

 

إنَّ فلسفة التواصل الاجتماعيّ تشير إلى أنَّه منصة أوَّلًا، ومحتوى ثانيًا. لقد انجذب الجميع إلى المنصَّة والأداة الساحرة للتواصل الاجتماعيّ، التي همَّشت أهميَّة المحتوى، وهو ما أوصل إلى انقلاب

 


[1] الإشكالات المنهجيَّة في دراسة الشبكات الاجتماعيَّة الرقميَّة وسبل التغلّب عليها، عبد الوهاب الرامي، المعهد العالي للإعلام والاتصال في المغرب، ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي «وسائل التواصل الاجتماعي التطبيقات والإشكالات المنهجيَّة»، كلية الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة بتاريخ 10/3/2015 السعوديَّة.

 

23


14

ثانيًا: المباني الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة

الأدوار في العلاقة الارتباطيَّة بين المنصَّة والمحتوى، وهو ما يحيلنا إلى نظرية «الوسائل رسائل».

 

لقد تحدَّث عددٌ كبير من الخبراء وعلماء الاجتماع عن «ايديولوجيا شبكة الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ»، مؤكّدين على صيرورة ايديولوجيا ثقافيَّة - سياسيَّة - تقنيَّة، فهي ليست مجرَّد أدوات ومنصَّات رقميَّة محايدة رغم طابعها التقني، وخاصَّة التطبيقات والبرامج المشغِّلة للأدوات والمنصَّات، حيث يتبيَّن أنَّها منصَّات مصمَّمة بنيويًّا لخدمة ايديولوجيَّات أميركيَّة ليبراليَّة ورأسماليَّة يتمّ تصديرها وتسويقها في مجتمعاتنا الاستهلاكيَّة وفي أنحاء العالم بطبيعة الحال، من خلال ترجمة المحتوى والقيم والرسائل في صميم هذه المواقع والتطبيقات وهو ما تظهره لغة الأوامر وهيكلَّة الخيارات التي تُخرجها شركات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ الخاضعة كليَّا لوكالة الأمن القومي NSA والبنتاغون كما أشار إلى ذلك أريك شميدت مدير شركة غوغل في تصريحٍ قال فيه: «إنَّ شركات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ مرتبطة بأهداف ومصالح السياسة الأميركيَّة الخارجيَّة، وهي مرهونة بربط الدول غير الغربيَّة بالأسواق والشركات الأميركيَّة»[1].

 

في دراستنا لحقل جاذبيَّة «التواصل الاجتماعيّ» وجدنا أنَّه محتوى وخطاب ايديولوجيّ اندمج في داخل قالب المنصَّة، وهو ما يفرض على مستخدميه السياق التواصلي وعدد المشاركين واللغة والأوامر والخيارات والطريق، وشكل الجلوس والحركة، وعدد الساعات المستهلكة يوميًّا على متن هذه المنصَّات.

 

وهذا ما يُفسِّر لدى الخبراء سلوك الإدمان والاندماج مع الرقميّات، وهو ما يمكن تبسيطه من خلال طرح السؤال والإشكال التالي: لماذا

 


[1] فادي الطويل، صراع الجبابرة، عندما التقى «غوغل» بـ«ويكيليكس»، منشور بتاريخ 7/8/2014، جريدة السفير.

 

24


15

ثانيًا: المباني الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة

يقرأ ويتصفَّح ويتفاعل معظم الناس على مواقع التواصل لساعات طويلة تصل إلى 5 أو 6 أو 7 ساعات لدرجة الإدمان المرضي، ونرى الشباب والشابات يسيرون في الطرق العامَّة وبأيدهم الهواتف الذكيَّة لا يفارقونها، وحتى أثناء قيادة السيارات والدراجات الناريَّة في مشهد غريب عجيب، وبالمقابل لا نلاحظ لديهم اهتمامًا أو جهدًا لقراءة وتصفّح الكتب الورقيَّة، أو للمشاركة في الندوات الثقافيّة وغيرها من المنصَّات والأدوات التقليديَّة؟ وما يؤكِّد صحَّة ومصداقيَّة هذا الاستنتاج بالدليل الملموس، هو ما يُسببه فقدان الهاتف الذكي أو قرصنة أو توقّف حساب التواصل الاجتماعيّ فجأة من ارتباك ذهني واضطّراب نفسي لدى الناشط أو المستخدم.

 

وفي هذا السياق، يرى الباحث الفرنسي الخبير في التواصل الاجتماعيّ «باتريس فليشي» أنَّ هناك نمو مطّرد لأشكال جديدة من العيش والتواجد الاجتماعيّ يقوم على تفاعل فريد بين أنماط مستحدثة من الفردانيَّة وعلى تنظيمات اجتماعيَّة جديدة، يمكن أن نطلق عليه «العيش الجمعي المنفرد» الذي يتشكَّل في سياق مجتمعات الحداثة السائلة حيث تفقد المؤسَّسات الاجتماعيّة صلابتها وتصبح الهويَّات الفرديَّة متحوّلة، وعلى هذا النحو يتيح الفيسبوك، على سبيل المثال، فضاءً ومنصةً وقدرةً للأفراد لإبراز هويَّاتهم وعوالمهم وإدارة علاقاتهم الاجتماعيّة والاندماج في شبكات مهنيَّة وعائليَّة وسياسيَّة متغيِّرة وغير مستقرَّة؛ كما تمتدّ إلى الاستخدامات السياسيَّة، حيث باتت تمثّل منظومة يوظّفها الأفراد والجماعات في الولوج إلى الفضاء العمومي والمجال السياسيّ بشكلٍ خاص[1].

 


[1] الميديا الاجتماعيَّة من منظور التنظيم والتنظيم الذاتي، الصادق الحمامي، مجلة اتحاد إذاعات الدول العربيَّة، ملف مواقع التواصل الاجتماعي الاستخدامات والسياقات، العدد 1 – 2016، ص 56 – 57.

 

25


16

ثانيًا: المباني الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة

وقد لخَّص مارك زوكربرغ الرئيس التنفيذيّ ومالك شركة فيسبوك الأميركيَّة رؤية شركته بوصفها «البنية الأساسيَّة الاجتماعيّة للعالم والحصن الواقي ضد الانعزاليَّة المتزايدة» حيث كتب في رسالته إلى مستخدمي موقع فيسبوك «إنَّ موقع فيسبوك قد يكون البنية الأساسيَّة الاجتماعيّة للعالم، حيث أنَّ هناك أشخاص في جميع أنحاء العالم تعرضوا للتهميش بفعل العولمة مع دعوات للانسحاب من التواصل العالمي»[1]. إذًا هناك صعوبة في فكَّ الارتباط بين الثقافة والتقانة، إذ تقوم تكنولوجيا المعلومات الجديدة على تحطيم العقبات والعراقيل الزمنيَّة، والعلاقات الاجتماعيّة الهرميَّة والتصنيفات الطبقيَّة التقليديَّة، لأنَّ ثقافة الوسائط المتعدِّدة والشبكات تُشجِّع المستخدم على الذوبان والانصهار في عالم الرَّقْمَنَة.

وما يجمع بين المجتمع والشبكات ما أطلق عليه البعض: المجتمع ذو البُعد الواحد، أو تعبير فلاسفة ما بعد الحداثة مجتمع «الرُّحَّل الجدد» الذي يُجْهِز على جميع الاختلافات والتمايزات ويُوحِّد أفراده في نظمهم ومعاييرهم وأذواقهم في نمطٍ واحدٍ انطلاقًا من مبدأ الحركة، سواء كانت حركيّة واقعيّة أو افتراضيّة عن طريق السفر والترحال عبر وسائط الاتصال والشبكة العنكبوتيّة، وهو ما يدفع إلى انصهار والتقاء وتزاوج ثقافات عديدة بين شعوب مختلفة في بقع جغرافيّة محدَّدة[2].

إنَّ الأفراد أو الجماعات، عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعيّة، يحتكمون إلى الاهتمامات، التي تُعدُّ بدورها مُحدِّدًا ايديولوجيًّا ينطوي على عنصر اختيار يَستمدُّ مرجعيّته من الأطر الفكريّة الحاكمة للمستخدمين. وتكشف الحروب الإلكترونيّة التي يشنُّها الأفراد، أو

 


[1] زوكربيرغ يكتب لمليار شخص رسالة استخدم فيها كلمات رئيس أميركي شهير.. ما الذي أخبرهم به؟ هافينغتون بوست عربي| رويترز، نشر: 17/02/2017.

[2] أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، محمد الراجي، الجزيرة .

 

26


17

ثانيًا: المباني الفكريّة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ مطابقة للحرب الناعمة

الجماعات، أو الدول، مُسْتَهْدِفَةً مواقع شبكات التواصل الاجتماعيّ، الطابع الايديولوجيَّ لهذه الحروب، وتؤكِّد من جانب آخر الصراع حول المعاني والأفكار والتصوّرات والرؤى (صراع ايديولوجيّ) التي تحملها المضامين الإعلاميَّة لتلك المواقع.

 

إنَّ التدفُّق المعلوماتي بمصادره المختلفة، الذي يُشكِّل سَيْلًا مُنْهَمِرًا باتّجاه مستخدمي الشبكات الاجتماعيّة، يَرْسُمُ طريقة التفكير أو ما يجب أن يُفَكِّر فيه المستخدم ويعرف عنه ويشعر به، وهو جوهر مضمون الإعلام الـمُؤَدْلَج[1]. 

 


[1] م. س. محمد الراجي.

 

27


18

ثالثًا: تطبيقات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ والتلاعب بفيزيولوجيا الدماغ

ثالثًا: تطبيقات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ والتلاعب بفيزيولوجيا الدماغ

تزداد اليوم الترجيحات العلميَّة البحثيَّة المنشورة من قبل المؤسَّسات الأكاديميَّة ومراكز الأبحاث الغربيَّة التي ترى أنَّ «المنصَّات الرقميّة أصبحت تشكِّل امتدادًا عقليًّا وعصبيًّا للدماغ البشري، عن طريق دمج عناصر من البيئة الرقميّة الخارجيَّة في صميم طريقة تفكير الفرد، وامتداد تلك العناصر للعب نفس الدور الإدراكي لأدمغتنا» - إلى درجة أنَّ البعض وصل إلى قناعة لا تزال موضع نقاش وجدل أكاديمي- أنَّ «التواصل الرقميّ يؤدي إلى رسم خرائط مباشرة على البنية الماديَّة لدماغ الإنسان مشابهة لخرائط وأشكال الرقميّات»[1].

ومن خلال البحث حول مدى تأثير التصفّح المستمر للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ على العقل وجد خبراء إنَّ وجود الفرصة لتعدّد المهام مضرٌّ للأداء الإدراكي، وهو ما يسمى بـ«الهوس المعلوماتي» حيث أنَّ حالة وسلوك المحاولة والانشغال الذهني للتركيز في مهمة ما بينما توجد رسالة في صندوق الوارد غير مقروءة قد تقلل من كفاءة معدل الذكاء بـ10 نقاط. ووجد «روس بولدتراك»، أحد علماء المُخ والأعصاب في ستاندفورد، أن أخذ المعلومات أثناء تعدُّد المهام العصبيَّة يُسبب تخزين

 


[1] سوزان غرينفيلد، تغير العقل، كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على ادمغتنا، ، نشر مجلة عالم المعرفة 2017، ص 142.

 

29


19

ثالثًا: تطبيقات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ والتلاعب بفيزيولوجيا الدماغ

المعلومات الجديدة في المكان الخاطئ في المخ[1].

 

وكمثال تطبيقيّ، مُذاكرة الطلاب ورؤيتهم للتلفاز في نفس الوقت تُذهب المعلومات الدراسيَّة إلى السترياتوم (الجزء المُخطط)، وهو جزء في المخ مخصّص لتخزين المهارات والإجراءات الجديدة ولا يستخدم لتخزين الحقائق والأفكار. أمَّا بدون تشتيت التلفاز، تذهب المعلومات إلى الهيبوكامبوس (الجزء الحصين)، حيث يتمّ تنظيمها وتقسيمها بمختلف الطرق، ممَّا يجعل استرجاعها أسهل. يضيف «إيرل ميللير» من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «لا يستطيع الناس القيام بمهام متعدِّدة في نفس الوقت بطريقة جيِّدة، حتى عندما يقولون أنَّهم يستطيعون، فإنَّهم يخدعون أنفسهم. والمخ مُخادع جيّد»، ويأتي دور الأيض، فطلب نقل الانتباه من نشاط لآخر من المخ يتسبب في حرق الجلوكوز المؤكسد من قبل قشرة الفص الجبهي والسترياتوم، وهو نفس ما يحتاجونه لتكملة مهمة واحدة. يتسبب التنقل المستمر الذي نقوم به عند تعدد المهام في جعل المخ يحرق الكثير من وقوده بسرعة حتى نشعر بالتعب والإرهاق بعد وقت قليل. لقد استنزفنا العناصر الغذائيَّة في المخ. يؤدي ذلك إلى خلل في التركيز والكفاءة البدنية. كما يؤدي التنقل المستمر بين المهام إلى القلق، والذي يرفع درجة هرمون الكورتيزول المسؤول عن الإجهاد في المخ، والذي قد يؤدّي إلى تصرفات عنيفة ومندفعة»[2].

 

على الجانب الآخر، «تتحكم الحزاميَّة الأماميَّة والسترياتوم في استمراريَّة التركيز على مهمة واحدة، ويؤدي التركيز على مهمة واحدة إلى استهلاك طاقة أقل وتقليل احتياج المخ من الجلوكوز. ويتطلب تعدد المهام في آن واحد القدرة على اتخاذ القرار: هل يجب أن أرد على تلك الرسالة النصيَّة أم تركها؟ كيف أرد عليها؟ كيف

 


[1] Why the modern world is bad for your brain.

[2] كيف يؤثر تصفحك المستمر لوسائل التواصل الاجتماعي على عقلك، مترجم عن الغارديان البريطانية، محمد علاء عيسى، 27/12/2015، نشر موقع ساسة بوست.

 

30


20

ثالثًا: تطبيقات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ والتلاعب بفيزيولوجيا الدماغ

أقوم بترتيب تلك الرسالة البريديَّة؟ هل يجب أن أستكمل ما أقوم بعمله الآن أم أحصل على استراحة؟ يتضح أنّ اتّخاذ القرار صعب على الموارد العصبيَّة وأنّ القرارات الصغيرة تتساوى في استهلاك الطاقة مع القرارات الكبيرة. التحكم في الانفعالات هو أول الموارد التي نفقدها. ومن الممكن أن ينتهي بنا الحال باتخاذ قرارات سيّئة للغاية بخصوص مواضيع مهمة»[1].

وفي هذا الإطار يرى الخبير المتخصّص باللسانيّات الرقميّة د.غسّان مراد في بحثه بعنوان «تقنيات القراءة الرقميّة وآثارها على الدماغ والذاكرة»، أنّ ثمَّة فروقات جدِّيَّة بين القراءة الورقيَّة والإلكترونيَّة، حيث أنَّ «القارئ على الشاشة يبقى يحلِّق فوق النص، ويقوم بمسح أفقي وآخر عمودي، وأنَّ مراقبة حركة العينين على الشاشة أظهرت أن المتصفّح لا يقرأ أكثر من 20% من النصوص المعروضة أمامه، وما تبقَّى يظل في إطار المرئي وليس المقروء»[2].

 


[1] م.ن.

[2] علم الإنسانيات الرقمية.. مستقبل البشرية الذي يتجاهله العرب، جريدة الشرق الأوسط، 19/10/2014.

 

31


21

رابعًا: شبكة البحث غوغل Googleونظريَّة الامتداد العقلي

رابعًا: شبكة البحث غوغل Googleونظريَّة الامتداد العقلي

لم تعد إحدى أكثر الأسباب إثارةً للقلق، وهي ما يسمى «بإدمان الهواتف الذكيَّة»، مجرد مشكلة نادرة. فبعد 20 سنة على نشوء شركة Google، أصبحت خدمات جوجل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليوميَّة، مما أدَّى إلى تغيير هيكلة بنيتنا الذهنيَّة في حدِّ ذاتها. وهكذا، امتدَّت أدمغتنا إلى الفضاء الإلكتروني، في الحقيقة، هذا ليس من وحي الخيال العلمي، ولكنَّه وليد ما يُعرف بفرضيَّة «العقل الممتد»، وهي النظريّة المعتمدة على نطاق واسع في مجال الفلسفة وعلمي النفس والأعصاب[1].

 

إنَّ اتّكالنا المتنامي على خدمات Google «المخصّصة» والقائمة على الذكاء الاصطناعي، جعلنا نتخلى عن قدر أكبر من مساحتنا الذهنيَّة الشخصيَّة لصالح Google. وهكذا، بدأت خصوصيَّتنا الفكريّة وقدرتنا على التفكير بحريَّة، بالتلاشي تدريجيًّا.

 

عدا عن ذلك، بدأت الدلائل تشير إلى إمكانيَّة وجود صلة بين استخدام التكنولوجيا وبعض المشاكل النفسيَّة. بعبارة أخرى، ليس من الواضح ما إذا كانت أدمغتنا قادرة على تحمّل الإجهاد الناجم عن توسّع العالم الافتراضي. وربما نكون قد اقتربنا من نقطة الانهيار. هذا هو السؤال الذي طُرح في سنة 1998 (الذي صادف نفس سنة

 


[1] جوجل بعد 20 سنة- هكذا أضحى محرك البحث امتدادًا لأدمغتنا، بنيامين كرتس، المصدر: ذي كونفرسايشن، ترجمة موقع نون بوست.

 

33


22

رابعًا: شبكة البحث غوغل Googleونظريَّة الامتداد العقلي

إطلاق محرّك غوغل) من قِبل اثنين من الفلاسفة والمختصّين في علم الإدراك، آندي كلارك وديفيد تشالمرز، في مقال بات اليوم مشهورًا ويحمل عنوان «العقل الممتد».

 

قبل هذا البحث، كانت الإجابة المتّفق عليها بين العلماء هي القول إنَّ العقل محدود بالجلد والجمجمة (أي يحد أداءه الدماغ والجهاز العصبي). 

 

في المقابل، قدَّم كل من كلارك وتشالمرز، إجابة قاطعة. وفي هذا الصدد، «أشارا إلى أنَّه عند دمج عناصر من البيئة الخارجيَّة ضمن طريقة تفكيرنا، يصبح لتلك العناصر نفس الدور الإدراكي لأدمغتنا»[1].

 

ونتيجةً لذلك، باتت هذه العناصر تشكل جزءًا من أدمغتنا كغيرها من الخلايا والتشابكات العصبيَّة. وعلى الرغم من أن فرضيَّة كلارك وتشالمرز أثارت الجدل، إلا أنَّها لاقت منذ ذلك الحين دعم العديد من المختصّين في دراسة الدماغ.

 

1. كيف باتت عقولنا متّصلة بغوغل؟

وضع كلارك وتشالمرز هذه الفرضيَّة قبل ظهور الهواتف الذكيَّة والجيل الرابع للشبكات الخلويَّة، بالتالي كانت الأمثلة التوضيحيَّة المعتمدة في هذا البحث خياليَّة نوعًا ما. فعلى سبيل المثال، اعتمد الباحثون مثال الرجل الذي اعتمد على مذكرة في حياته اليوميَّة وجعلها بمثابة الذاكرة الخارجيَّة له. لكن كما أوضحت الأبحاث الأخيرة، تمسّ فرضيَّة «العقل الممتد» بشكل مباشر هوسنا بالهواتف الذكيَّة وغيرها من الأجهزة المتّصلة بالويب.

 

عمومًا، أصبح العديد منا حبيسي هواتفهم الذكيّة منذ الصباح حتى ساعات متأخرة من الليل. فبات من الطبيعي اللجوء إلى

 

 


[1] م.س. جوجل بعد 20 سنة.

 

34


23

رابعًا: شبكة البحث غوغل Googleونظريَّة الامتداد العقلي

خدمات Google (على غرار محرّك البحث والتقويم والخرائط والمستندات ومساعد الصور وما إلى ذلك). وفي الحقيقة، أضحى اندماجنا الفكريّ مع جوجل واقعًا، حيث تعتمد عقولنا بشكل جزئي على خوادم غوغل Google.

 

لكن هل يُعدّ هذا مهمٌ فعلًا؟ نعم، لسبب رئيسي: حيث لا يُعَدّ جوجل مجرَّد أداة معرفيّة سلبيّة، فقد أضحت ترتكز آخر تحديثاتها، القائمة على الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، على الاقتراحات.

 

في الوقت الراهن، لم تعد خرائط جوجل تكتف باطلاعنا على كيفيَّة بلوغ وجهتنا (سواء سيرًا على الأقدام أو بالسيارة أو بوسائل النقل العامة)، بل أصبحت تقدِّم لنا اقتراحات حول الأماكن التي قد تنال إعجابنا. كما لم يعد مساعد جوجل، الذي لا يتطلب تشغيله سوى استخدام كلمتين فقط (هاي غوغل)، يقدِّم معلومات سريعة فحسب، بل أصبح بإمكانه حجز المواعيد عوضًا عنَّا وإجراء حجوزات للمطاعم. فضلًا عن ذلك، أصبح «جي ميل» يقدِّم اقتراحات حول ما نرغب في كتابته. كما باتت أخبار جوجل تعرض آخر المستجدات التي لها علاقة شخصيَّة بنا. فقد ساهمت جميع هذه العناصر في تبديد حاجتنا إلى التفكير واتّخاذ القرارات بأنفسنا.

 

ويؤكِّد خبراء أن Google يعمد إلى سدّ نقائصنا المعرفيَّة، وبالتالي الذهنيَّة. وفي هذه الحالة، ستتلاشى خصوصيّتنا الذهنيَّة وقدرتنا على التفكير بحرّية.

 

2. الإدمان أم الاندماج؟

لم تعد إحدى أكثر الأسباب إثارةً للقلق، وهي ما يسمى بـ«إدمان الهواتف الذكيَّة»، مجرّد مشكلة نادرة. فوفقًا لتقارير نُشرت مؤخرًا، يتحقّق مستخدم الهواتف الذكيَّة العادي في المملكة المتحدة من هاتفه كل 12 دقيقة. وفي الواقع، هناك مجموعة كاملة من

 

35


24

رابعًا: شبكة البحث غوغل Googleونظريَّة الامتداد العقلي

التداعيات السلبيَّة لهذه الظاهرة على النفسيَّة، حيث يُعدُّ الاكتئاب والقلق من أبرزها.

 

في هذه الحالة، يصبح مصطلح «إدمان»، ليس سوى مجرَّد مرادف للاندماج المتقدم الذكر.

 

إنّ السبب الحقيقي وراء عجز أغلب المستخدمين عن وضع الهواتف الذكية والتقنيات الرقميّة جانبًا، هو أنَّهم قاموا بادماج استخدامها في طريقة تفكيرهم اليوميَّة. فقد أضحوا فعلًا يفكرون من خلالها، وبالتالي لا عجب في أن يصبح من الصعب التوقف عن استخدامها.

 

وما يؤكِّد هذا الأمر بدليل ملموس، هو ما يسببه فقدان الهاتف الذكي فجأة من ارتباك ذهني واضطراب نفسي، فهو أمر شبيه بخضوع الفرد لجراحة دماغيَّة. بدلًا عن ذلك، يتعيَّن تعلّم التفكير بشكل مختلف من أجل التخلّص من الإدمان والاندماج واستعادة الصحَّة الذهنيَّة، والمدارك العقليَّة.

 

36

 

 


25

خامسًا: الرقميّات وإضعاف قدرات التلقّي والتحقيق في المعلومات المنشورة

خامسًا: الرقميّات وإضعاف قدرات التلقّي والتحقيق في المعلومات المنشورة

نشرت جامعة ستانفورد الأميركيَّة دراسة أشارت فيها إلى أنَّ قدرة الطلاب على التحقق من صدقيَّة مصادر المعلومات عن الإنترنت «مُفزعة تمامًا» وسبب هذا الفزع هو أنَّ الغالبيَّة المطلقة من الطلاب الذين شملتهم الدراسة على مدار عام كامل تعاملت مع مصادر المعلومات على الشبكة بأنَّها «حقيقة لا ريب فيها»، ووصفت الدراسة المستقبل الذي يفترض أن تديره عقول «الجيل الجديد» بأنَّه مستقبل مليء بمعلومات ناقصة[1].

 

يغفل الكثيرون ممن يتعاملون مع هذه المواقع أن اللاوعي لديهم والتفكير والعواطف والإدراك، تلعب دورًا كبيرًا في طريقة استخدامهم لها، بدءًا من كتابة منشور أو مشاركته أو الإعجاب بمنشورات الآخرين أو حتى المتابعة بصمت.

 

استنتجت الكثير من الأبحاث وجود عوامل مؤثّرة عند النشر وأنَّ العديد من الأسباب التي تدفع الأفراد للمشاركة بأشكالها المختلفة في هذه المواقع، قد يكون أبرزها ناتجًا عن احتياجات نفسيَّة فرديَّة مثل تعزيز الذات والهويَّة الشخصيَّة وشعور الانتماء والترابط الاجتماعيّ وخلق محتوى مفيد وفعّال. لكن كيف تلعب طريقة

 


[1] غسان مراد، دهاء شبكات التواصل الاجتماعي وخبايا الذكاء الاصطناعي، شبكة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط 1، 2019، ص 37.

 

37


26

خامسًا: الرقميّات وإضعاف قدرات التلقّي والتحقيق في المعلومات المنشورة

تفكيرنا دورًا مهمًّا في تعاملنا مع ما نشاهده من أخبار ومنشورات في تلك المواقع؟.

 

يتأثَّر العقل البشري بكثير من المحفزات الخارجيَّة التي تدفعه لاتخاذ قرار أو تحديد طريقة تعامله مع ما يواجهه في حياته اليوميَّة. ولنفهم أكثر كيف تتعامل عقولنا مع تلك المحفّزات التي تجعلنا نشارك وننشر الأخبار والقصص على فيسبوك وغيره من المواقع، قد تكون الاستعانة بكتاب دانيال كانيمان «التفكير.. بسرعة وببطء» خيارًا جيدًا.

 

أشار كانيمان إلى أنَّ «العقل البشري يتّبع في تفكيره على نظامين اثنين: أحدهما سريع والآخر بطيء. يتعامل النظام السريع مع الملاحظات اللاواعية البديهيَّة، أي مع المهارات الفطريَّة أو الأساسيَّة، فيما يختصّ النظام البطيء بالتعامل مع الملاحظات الواعية والمنطقيَّة الناتجة أساسًا عن المهارات المُكتسبة من تجاربنا الحياتيَّة. يحدث النظام السريع بشكل تلقائي، ويحتاج النظام البطيء إلى الكثير من الاهتمام والتركيز»[1].

 

يشتمل العقل البشري على حالتين من الإدراك وفقًا لهذين النظامين المختلفين، أوّلهما ما سمّاه كانيمان بالسهولة المعرفيَّة، أي «الحالة التي يكون فيها العقل حينما يشعر أن الأمور تسير على ما يرام، لا تهديدات ولا أخبار تستدعي الانتباه وتركيز الجهد تجاهها».

 

ولو نظرنا إلى الطريقة التي نستخدم بها مواقع التواصل الاجتماعيّ لوجدنا الآتي: تصفّح سريع للمشاركات والأخبار، ومرور سريع بدون تركيز بين المنشورات سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، أي أننا في معظم الوقت نكون في حالة من الارتياح والاسترخاء، حتى إن خضنا نقاشًا أو كتبنا تعليقًا هنا أو هناك، ننظر إلى الأمر على أنَّه وضع

 

 


[1] عوامل مؤثرة عند النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، غيداء ابو خيران، نشر موقع منتدى تواصل نقلا عن موقع الجزيرة، بتاريخ 6/11/2017.

 

38


27

خامسًا: الرقميّات وإضعاف قدرات التلقّي والتحقيق في المعلومات المنشورة

سهل مريح لا يتطلب الجهد أو التحدي. الأمر ينطبق على تصفّحنا للأخبار الثقافيّة أو الطبيّة أو أخبار المشاهير، أكثر مما ينطبق على تصفّحنا للأخبار السياسيّة.

 

1. عوامل مؤثّرة عند النشر

على مستوى رغبة المستخدم في نشر التعليقات ومواد المحتوى الرقميّ، تلعب مجموعة من العوامل والأسباب التي تؤدي إلى السهولة المعرفيَّة دورًا في جعلنا نشارك خبرًا أم لا، منها وضوح ما نقرأ وسهولة فهمه، وتكرار المعلومات التي نتصفّحها، ومطالعة الأخبار التي تتوافق مع أفكارنا ومعلوماتنا التي بدورها تجعلنا نشعر باليقين حول الأشياء، فالعالم وما يحدث فيه يبدو منطقيًّا بالنسبة لنا، مما يجعلنا نشعر بالراحة واليُسر ويضعنا في مزاج جيد.

 

الأخبار العاجلة والنصوص الواضحة: (المبرزة تقنيًّا ورقميًّا): يؤدي هذا النوع من الأخبار إلى السهولة المعرفيَّة وتحفيز عمل نظام التفكير السريع بشكلٍ جيد.

 

لو جئنا إلى المثال الآتي وطلب منك اختيار أحد الخيارين: 

وُلد أدولف هتلر عام 1892: وُلد أدولف هتلر عام 1887 (خط البولد Bold متعمَّد)

 

وفقًا لنتائج الدراسة التي أجراها كانيمان، فإن معظم الأشخاص يميلون إلى اختيار الجملة الأولى أكثر من الثانية، بالتأكيد تستطيع استنتاج أن الخط العريض والواضح أثَّر في الاختيار.

 

وإذا قمنا بإسقاط هذه النتيجة على مشاركة الأخبار في مواقع التواصل الاجتماعيّ، سنلاحظ أن الأخبار العاجلة لها تأثير مماثل تمامًا، فيميل الأشخاص إلى مشاركتها لأنَّها تجذب اهتمامًا أكبر من الأخبار العاديَّة، خاصَّة أنَّها تمتاز بقصر جُملها مما يجعلها تبدو بشكلٍ أوضح وأسهل.

 

39

 

 


28

خامسًا: الرقميّات وإضعاف قدرات التلقّي والتحقيق في المعلومات المنشورة

النصوص البسيطة: غالبًا ما تكون الأخبار المكتوبة بنصوص بسيطة أكثر سهولة في التحليل والفهم وأكثر عرضةً للمشاركة، لأنَّها تعمل على تحفيز نظام التفكير السريع فلا تحتاج وقتًا أو جهدًا كبيرين للوقوف عندها والتفكير فيما إذا كانت تستحق المشاركة أم لا.

 

«تأثير التهيئة» وطرح الأسئلة: فلنفرض أنَّك حدّثت شخصًا ما عن قصص الملوك والسلاطين ثم طلبت منه أن يكمّل الحرف الناقص في الكلمة التالية:... صر، بالتأكيد سيضع حرف القاف لتصبح قصر.

 

غير أنك لو حدّثت شخصًا آخر عن قصص الفراعنة وحضارتهم وتاريخهم وطلبت منه أن يكمل الكلمة نفسها، فسيكملها لتصبح مصر، أي أنك لعبتَ دورًا بالقصة التي رويتها في قراره النهائي.

 

يُعرف هذا في علم النفس بتأثير التهيئة (priming effect) أي زيادة الحساسيَّة تجاه مثير معيَّن وفق تجربة سابقة، فقد قمتَ بتحفيز الشخصين بطريقة لاواعية وجعلتهما يصلان إلى قرار محدَّد بناءً على تجربة سابقة، وهي القصة التي رويتها. وإذا طبّقنا هذا المفهوم على وسائل التواصل الاجتماعيّ، فهل يمكن أن نستنتج أن طرح الأسئلة يحفّز التفكير كما في القصة السابقة؟

 

يرتبط طرح الأسئلة غالبًا بمزيدٍ من التعليقات والنقاشات أو حتى مشاركة الخبر، فبمجرد طرح السؤال حول الخبر المنشور يبادر الفرد إلى الإجابة عنه بتعليق أو مشاركة للأسباب النفسيَّة التي ذكرناها سابقًا، أي التعريف بالهويَّة الشخصيَّة وتعزيز الانتماء وخلق محتوى قيّم. فلو أنك وضعتَ خبرًا عن أحد الأحزاب السياسيَّة وألحقته بسؤالٍ للقارئ من قبيل «هل تؤيَّد ما قام به الحزب؟»، فإنَّ علامة الاستفهام تحفّزه للتعليق أو المشاركة.

 

40


29

خامسًا: الرقميّات وإضعاف قدرات التلقّي والتحقيق في المعلومات المنشورة

2. التوتّر المعرفي والنظام البطيء

على النقيض تمامًا من السهولة المعرفيَّة، يعتمد التوتر المعرفي على النظام البطيء، أي مع الملاحظات الواعية والمنطقيَّة التي يتّخذها الأفراد بعناية كبيرة لتجنّب أكبر قدر من الأخطاء، لكنَّها في الوقت نفسه تستغرق وقتًا أطول ومزيدًا من الجهد والتركيز.

 

يعتمد التوتر المعرفي في مواقع التواصل الاجتماعيّ على العوامل النقيضة التي ذكرناها سابقًا، ولو جئنا إلى عالم الفيسبوك فسنجد أنَّ الكثير من مستخدميه يمرّون سريعًا على الأخبار المعقَّدة والمنشورات التي يصعب تحليلها، أي أنَّهم فضّلوا الاعتماد على نظام التفكير السريع، في حين أن الذين قرَّروا تحفيز النظام البطيء وبذل بعض الجهد والوقت لقراءة الخبر وتحليله، ومن ثم فهمه وتكوين رأي حياله؛ ربما يكونون ميَّالين إلى ترك تعليق على الخبر مقابل مشاركته أو الإعجاب به.

 

في المحصّلة، هناك عوامل مؤثّرة عند النشر، والكثير منها تؤثّر على الطريقة التي يتعامل بها الأفراد مع الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعيّ، منها الصور الجميلة أو العبارات البسيطة والخط الكبير وطرح الأسئلة، الأمر الذي يجذب اهتمامهم ويحفّز التفكير اللاواعي لديهم لمشاركتها أو التعليق عليها. هنا نتحدّث عن عناصر الجذب والتأثير وتلازمهما الأزلي.

 

41


30

سادسًا: تأثير المنصَّات الرقميّة في بناء هويَّة جديدة للفرد

سادسًا: تأثير المنصَّات الرقميّة في بناء هويَّة جديدة للفرد

يُشكّل الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ والرقميّات عالمًا ثالثًا إلى جانب العالم الأوَّل الذي يتجسَّد في الواقع الموضوعي الخارجي المُعاش، والعالم الثاني المتمثل بالأحلام والرغبات، والعالم الثالث ما استجد من هذه الرقميّات التي تستعير مكوّناتها من تفاعل العالمين الأوَّل والثاني في إطار تشكيل الهويَّة والصورة والتعبير عنهما[1].

 

عليه، توصَّل خبراء التواصل الاجتماعيّ إلى عدد من المفاعيل الأساسيَّة والمؤثرة على هويَّة وثقافة وسلوك الفرد والمجتمع، نذكر أبرزها[2]:

- في توصية رفعها السير جون بدينغتون المستشار العلمي للحكومة البريطانيَّة قال: «إنَّ المنصَّات الرقميّة ستلعب دورًا تفاعليًّا متزايدًا يؤثِّر في تشكيل الهوية الذاتيَّة للأفراد من حيث اتصال الأفراد بصورة مستمرَّة ويوميَّة عبر الإنترنت وانتشار وسائل التواصل وزيادة المعلومات»[3].

 


[1] م.س. ص69.

[2] اعتمادنا على عدد من الكتب، وخاصة كتاب خبيرة التواصل البريطانيَّة سوزان غرينفيلد، «تغير العقل كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على ادمغتنا» نشر مجلة عالم المعرفة 2017، وكتاب الدكتور غسان مراد، «دهاء شبكات التواصل الاجتماعي وخبايا الذكاء الاصطناعي، نشر شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2019.

[3] م. س.، تغيّر العقل، كيف تترك التقنيَّات الرقميَّة بصماتها على أدمغتنا، الكاتبة البريطانيّة سوزان غرينفيلد.

 

43


31

سادسًا: تأثير المنصَّات الرقميّة في بناء هويَّة جديدة للفرد

- قدرة المنصَّات الرقميّة على التلاعب بين الذات الحقيقية (الباطنيَّة الشخصيَّة) والذات الفعليَّة (التي تظهر في المجتمع) والذات الوهميَّة التفاعليَّة التي تعكسها وتُظهرها المنصَّات الرقميّة من خلال أداء وسلوك الأفراد.

- قُدرة هائلة للرقميَّات والمنصَّات على تقليص الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للفرد المستخدم واستلابه وإضعاف انتاجه.

- إنَّ انخراط الأجيال الشابة الكبير في شبكة الإنترنت في ظل ذاكرة لم تتشكَّل بعد لهم، جعل لثقافة صانعي هذه الوسائل انتشارًا واسعًا، واستُغلت بدورها في نشر فكرها وأديولوجيّتها وسلوكياتها.

- هناك علاقة ارتباطيَّة بين الانجذاب للإنترنت والرقميّات ومنصَّات التواصل وبين الاعتلال العاطفيّ والنفسيّ والذهنيّ للأفراد.

- وجود إمكانيَّات هائلة لأن تتحوَّل المنصَّة الرقميّة من وسيلة إلى غاية.

- المنصَّات الرقميّة وسيلة تنفيس للاحتقان الناجم عن التوتّر والقلق المتفاعل بين العالم الحقيقي (باطن النفس) والواقع (قيم وضغوطات المجتمع).

- هناك قدرة لأي فرد على تشويه أكبر قضيَّة بسهولة وبأبخس الأثمان، من خلال قدرة النشر العام دون أي ضوابط.

- تبيِّن أنَّ الفرد يستكشف هويَّاته المكبوتة عبر الإنترنت والرقميّات في حين كانت سابقًا مُصانة بالخصوصيَّة والستر.

- همَّشت منصَّات التواصل والإنترنت وسائل الإعلام التقليدي لدى الجيل الجديد، وهي وسائل كانت تحت سيطرة الحكومات

 

44


32

سادسًا: تأثير المنصَّات الرقميّة في بناء هويَّة جديدة للفرد

والقوى الاجتماعيّة والسياسيَّة المركزيَّة، وكانت تعمل بقواعد مهنيَّة مسؤولة (التلفزيون والصحف والكتب).

- ساهمت الرقميّات والمنصَّات في تبديد حاجتنا إلى التفكير واتّخاذ القرارات بأنفسنا، وهو ما يؤثِّر على بناء الشخصيَّة واتّخاذ القرارات والسلوكيَّات.

- هناك خطورة لمنصَّات التواصل الاجتماعيّ في تجنيد الأفراد عبر سلوك القطيع عن طريق عمليَّات التعبئة والاحتشاد، وهذا ما سنشير إليه مفصلًا في الفقرة التالية القادمة.

 

45


33

سابعًا: التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع

سابعًا: التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع

من أخطر الظواهر وأطرفها التي عرفت في سوسيولوجيا الجماعات والمجتمعات ما يعرف بظاهرة القطيع أو الحشد Crowed، إذ لا تنطبق ديناميَّات الفعل الجمعي على مثل هذا النوع من الجماعات، من هنا يصعب التنبؤ بسلوك الحشد واتجاهاته والمآلات التي ينتهي إليها[1].

يتكوَّن الحشد من مجموعة من الأفراد المتنوّعين في الخصائص والأهداف، وليس من المفيد كثيرًا التعرّف على خصائص كل فرد على حدة لأن خصائص الحشد لا تعادل مجموع خصائص أفراده، ذلك أن شخصيَّة الحشد تتكوَّن تحت تأثير عوامل أخرى غير خصائص أفراده، إذ تعمل عناصر كامنة مكبوتة في دواخل الأفراد وعقلهم الباطن بما يشكّل العقل الجمعي للحشد، وهذا ما تؤيّده نظريَّة التقارب في تكوين الحشود، ولو حاولنا التعرّف على تلك العوامل الكامنة في كل فرد لوجدناها متنوِّعة وجميعها لا يساوي بالضرورة العقل الجمعي للحشد، ذلك أن أهم ملامح ذلك العقل الجمعي تتشكل وفق تفاعل المكبوتات المتنازعة، فيتغلب القوي منها على الأقل قوة، مثلًا قوَّة الغضب قد تتغلب على قوة العقل ما قد يدفع الحشد للتخريب، وقد تبرز الغريزة الجنسيَّة الكامنة فيميل الحشد إلى العدوانيَّة الجنسيَّة نحو الجنس الآخر، ما قد يُترجم إلى

 


[1] سلوك القطيع في وسائل التواصل الاجتماعي، عزام ابو الحمام، موقع عربي 21، نشر بتاريخ 6/1/2016

 

47


34

سابعًا: التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع

سلوك التحرّش مثلما وقع أكثر من مرة في بعض شوارع القاهرة بما في ذلك سلوكيَّات مشينة رُصدت حتّى أثناء ما سمي بحراك الربيع العربي.

أفراد الحشد يجمعهم حافز أو هدف آني مؤقَّت في الزمان والمكان. غالبًا ما يتعلَّق بخوف غير محدَّد الأبعاد (منع أو وقف سلوك سابق) أو بتحقيق منفعة عاجلة (نهب وسلب مثلًا)، وقد يبدأ بناء الحشد نتيجة إثارة آنيَّة كرد فعل مثلما يجري في ملاعب كرة القدم أحيانًا (الاحتجاج على قرار حكم المباراة)، وقد يتمثَّل الحافز نتيجة حوافز تؤثِّر بالغرائز الكامنة (الاستعراض الجنسيّ وحشود التحرش).

وهكذا تتعدَّد الحوافز والدوافع التي تشكّل الحشد، وكما يقول الكاتب رائد الدبس: «وأيًّا تكن الفكرة التي يُساقُ القطيع من أجلها: أصوليَّة دينيَّة متطرّفة، أم شموليَّة لا دينيَّة متطرَفة تدّعي لنفسها صفة الكُلَّويَّة، والكمال، أم عرقيَّة وطائفيَّة منغلقة أو قبليَّة وإن اتخذت لنفسها أشكالًا حداثيَّة، فإنَّ القطيع هو القطيع وإنْ اختلف لونه»[1].

قد يبدأ الحشد بالتجمّع حول زعيم طارئ أو مجموعة تشكَّلت لتحقيق أغراض واعية أو غير واعية تبدأ ببثّ صوتها أو تأثيرها إلى آخرين، وهذا ما تؤيّده نظريَّة العدوى التي تقول بانتقال الحمُى من فرد لآخر. وقد يبدأ تشكّل الحشد بناءً على بروز قضيَّة عامَّة أو شبه عامَّة، بصرف النظر عن مدى صحَّة المعلومات فيها، وهذا ما يُسمى نظريَّة التقارب، أي تجمّع الأفراد على أساسٍ من تقارب الاهتمام.

ظاهرة الحشد بدأت تزدهر الآن في مواقع التواصل الاجتماعيّ خاصَّةً «فيبسوك»، وقد ساعدت طبيعة تكنولوجيا الاتصال في تعزيز ظاهرة الحشد، فالتكنولوجيا توفّر للفرد التخفّي خلف شاشة

 

 


[1] م.س

 

48


35

سابعًا: التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع

لا تُظهر هويَّته الحقيقيَّة، تمامًا كما في الحشد الواقعي الذي لا قيمة فيه للفرد أو لهويته، فالفرد يتنكر باسم مستعار إن رغب، وقد يفصح عن هويته لكن نادرًا ما تتحقَّق الثقة بأي هويَّة بما في ذلك النجوم والمشاهير، وما أن تتجمَّع النواة الأولى للحشد حتى يبدأ الحشد بإطلاق طاقة غريبة أو مجال يشبه المجال الكهرومغناطيسي قد يجذب المزيد من الأفراد والجماعات الصغيرة الأخرى مثلما قد يستبعد عناصر أخرى.

في ظاهرة الحشد أو القطيع يفقد الفرد فرديّته ويذوب في كتلة غير متجانسة من الأفراد والأفكار والأجساد والأهداف. في حشد مواقع التواصل الاجتماعيّ لا قيمة للفرد بحد ذاته، فهو يستمدّ قيمته من مشاركته بالصراخ العالي الذي يتمثل في (Comments) والصور الرمزية التي قد تمثِّل سبابًا وشتائمًا، أو في الهمهمة الخافتة التي تتمثَّل في Like. في موقع «فيسوك» مثلًا، تتجمَّع الحشود حول نمطين من المحاور:

الأوَّل شخص أو أكثر يمثّلون دور القيادة أو صوت الحشد، هؤلاء لديهم القدرة على التعبير عن رغبات الحشد الكامنة والظاهرة، وكلَّما أتقنوا التعبير عن الكامن كلَّما تجمَّع حولهم المزيد من العناصر لأنَّ الكامن مُحمَّل بعديد التأويلات بينما الصريح محدَّد التأويل، ويتجلَّى هذا النمط في بعض الشخصيَّات السياسيَّة والأدبيَّة والإعلاميَّة التي تستحوذ على متابعة فئات واسعة من مستخدمي الإنترنت، مثلًا صفحة الإعلامي والمحرّض السوري المعارض فيصل القاسم تحظى بمتابعة ما يزيد عن (8،901،000) ليس لأنَّ الصفحة توفّر معلومات ذات مصداقيَّة لا توفرها وسائل الإعلام الأخرى، بل لأنَّ صوت منشورات الصفحة تداعب الكوامن الفكريّة والنفسيَّة والعاطفيَّة لشرائح تنقاد في سلوك القطيع وتمثّل رهانات جمعيَّة مبنيَّة على التحريض الطائفي والمذهبي.

 

49


36

سابعًا: التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع

النمط الثاني الذي يمثل بؤرة التجمع هو «قضيَّة أو مجموعة قضايا» تعبّر عن اتّجاهات أو رغبات أو معتقدات، مثلًا صفحات الحراك المدني في لبنان كـحراك «طلعت ريحتكم» الذي أسهم في إشعال الحراك المدني في لبنان عام 2015، لم تكن الصفحات الشخصيَّة معيَّنة أو محدَّدة، بل قامت حول قضيَّة تتجمَّع فيها الكثير من التأويلات الصريحة والكامنة لكنَّها حشدت الأصوات حول قضيَّة أزمة النفايات، ولكنَّها استبطنت في خلفيتها أهدافًا تتّصل بدوافع حول الأزمة الاقتصاديَّة والمشاركة السياسيَّة وإقرار قانون انتخابات جديد ومكافحة الفساد وصولًا إلى إعادة تشكيل وإنتاج السلطة، وهو ما أكّد ارتباطها بأجندات وتدريبات مع جهات دوليَّة وخاصَّة المعهد الأميركي الديموقراطي الذي يموّل هذه المشاريع من خلال وكالة التنمية الأميركيَّة [1].

إن الحشد سواء في الواقع أو في مواقع التواصل الاجتماع، يمكن أن يدفع نحو تحقيق نتائج إيجابيَّة على مستوى القضايا الشعبيَّة، كالضغط على الحكومة في اتّجاه معين، لكن الحشد قد يتدحرج إلى منزلقات النزعات الكامنة، والتوظيف المشبوه، وأقل ذلك هو صرف النظر عن القضايا الحقيقيَّة التي تواجه المجتمع، ففي الوقت الذي كان فيه البرلمان الأردني يناقش عددًا من مشاريع القوانين الحسَّاسة مثل قانون «اللامركزيَّة» في أواخر العام 2015، فإنَّ حشود «فيسبوك» ظلَّت مستمرَّة في الاهتمام بمقطع من بضع دقائق على قناة رؤيا التلفزيونيَّة حينما عُدَّ ذلك المقطع خادشًا للحياء، رغم أنَّ المقطع التلفزيوني كان قد بُثَّ قبل شهرين، قبل أن يبرز فيه الاهتمام بشكلٍ مفاجئ؛ بعد أن أظهره أحدهم على «فيسبوك»، فثارت ثائرة الجماعات بزعم التقوى والأدب والحياء!!

 


[1] للتوسع يراجع كتاب الحرب الاميركية الناعمة على حزب الله، دار المعارف الاسلامية الثقافية، ط1، 2018، ص 79 - 83

 

50


37

سابعًا: التواصل الاجتماعيّ وسلوك القطيع

وقد أظهر بعضهم نزعات طائفية ضد القناة على اعتبار أنَّ صاحبها ومديرها مسيحي الديانة، ولأجل ذلك أُنشئت صفحات على «فيسوك» كان منها «الحملة المليونيَّة لإغلاق قناة رؤيا»، واستدعى ذلك الضغط تدخل «هيئة المرئي والمسموع» الحكوميَّة لتحيل الفيديو إلى النائب العام للنظر في محتواه «غير الأخلاقي» كما وصفه الناشطون، أما مآل الصفحة وعدد المتعاطفين معها فلم يتجاوز بضعة آلاف بما فيهم المراقبون والفضوليَّون، هكذا يمكن الاستنتاج أن صوت الحشد كان أكبر من مجموع عدد أصوات أفراده.

في الحصيلة نجد أنَّ الحشود على مواقع التواصل الاجتماعيّ تتصرف بديناميات الحشد وتنزع إلى الفوضى وإلى التعتيم على الأجندة الحقيقيةّ للمجتمع وقد تسهم في تشويه وعيه بدرجة كبيرة، والأمر سيكون في غاية الخطورة في حالات وقوع أزمات حقيقية في المجتمع على خلفيات طائفيّة أو عرقيَّة أو عشائريَّة، فلا أحد منَّا يستطيع التنبؤ بما سيؤول إليه دفع الحشود التي قد تنتقل من فضاء الإنترنت إلى فضاء الواقع.

 

 

51


38

ثامنًا: التواصل الاجتماعيّ وإثارة الأنا الفرديَّة وروح المقارنة الاجتماعيّة

ثامنًا: التواصل الاجتماعيّ وإثارة الأنا الفرديَّة وروح المقارنة الاجتماعيّة

أظهرت إحدى الدراسات أنَّ 90% من الجيل الجديد يقولون أنَّ وسائل الإعلام الاجتماعيّة تُجبرهم على مقارنة ثروتهم أو أسلوب حياتهم بأقرانهم، ما يجعل 60% منهم يعبّرون عن عدم اكتفائهم بما يملكون بسبب ما يرونه في وسائل الإعلام الاجتماعيّة، واعتبارًا لذلك قال 57% منهم أنَّهم أنفقوا أموالًا لم يخططوا لإنفاقها، عدا عن ميلهم إلى التفاخر بتجاربهم وأغراضهم على منصَّات السوشيال ميديا كطريقة للمواكبة العصرية[1].

وتسمح مواقع التواصل الاجتماعيّ بمراقبة حسابات العديد من الأشخاص، وهذا ما يجعل البعض يرى صور بعض الناس يستمتعون على شواطئ البحر، وآخرين يتسوّقون في المحلات التجاريَّة في باريس، وآخرين يقضون وقتًا ممتعًا مع الأصدقاء بتناول وجبات لذيذة من الممكن ألَّا تكون للفرد القدرة على شرائها، كل ذلك وأكثر من صور العديد من المشاهير يبنون أجسادهم في صالات الرياضة، أو أخريات يستعرضن فساتين للسهرة باهظة الثمن، هذا لا يمرّ مرور الكرام أمام مرأى الأعين، بل له دور ضخم في اهتزاز ثقة بعض الأفراد بأنفسهم، واستيائهم من حياتهم التي يعتبرونها مملَّة.


 


[1] طبقة الأثرياء الجدد- مظاهر خدّاعة عززتها منصات التواصل الاجتماعي، نور علوان، نون بوست، نشر بتاريخ 20 سبتمبر 2018.

 

53


39

ثامنًا: التواصل الاجتماعيّ وإثارة الأنا الفرديَّة وروح المقارنة الاجتماعيّة

وهنا لا بد من ذكر أنَّ هذه المقارنة تُشعر المطّلع بعدم الاكتفاء وتزعزع من قناعاته بنفسه، وتقلّل من احترامه لذاته، وقد تجعله في أحيانٍ أخرى غير واثقٍ في قدراته العمليَّة لإنجاز مهمَّة ما، أو للوصول إلى هدف معيَّن، بالرغم من أنَّ هذه التصرّفات قد لا تكون واقعيَّة أو ملائمة لنمط الحياة الخاصّ بنا.

 

54

 

 


40

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

هناك ثلاثة مستويات بين الاستقلال والانغماس الثقافيّ للأفراد على الشبكة:

الأوَّل: هو الأقل حجمًا والأكثر فكرًا وثقافةً وسيبقى محافظًا على وضعه أو قد يزداد تألّقًا إذا ما انخرط في منصَّات ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وهذه المجموعة هي الأكثر إنتاجيَّة في الواقع والأكثر تأثيرًا على الشبكة ويسمّون بالمؤثّرين حسب مايكل زوكربرغ في رسالته الشهيرة للعالم وقدَّرهم بـ «100 مليون شخص مؤثّر في مجموعات مؤثّرة أي 100 مليون ناشط ومُحرك يوجِّه سائر المجموعات على الشبكة»[1]، فيما البقيَّة هم من المتلقين والمتفاعلين غير المنتجين للمحتوى الرقميّ بطبيعة الحال.

الثاني: هو أقل من المستوى الأوَّل ثقافيًّا ولكنَّه الأكثر حجمًا وسيبقى متأرجحًا بين المستوى الأوَّل والتزوّد منه والانخراط مع المستوى الثالث والاندماج معه، لكن بشكل عام هذا المستوى متّجه نحو الأعلى على الرغم من حثيث سيره.

 


[1] الترجمة الكاملة لمانيفيستو زوكربرغ..رؤية مؤسس فيسبوك، نشرت بتاريخ 21/2/2017، موقع ساسة بوست.

 

55


41

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

الثالث: هو الأعمّ الشائع المنغمس مع شبكات التواصل الاجتماعيّ ويسير مع كل ما يُطرح لكن من دون تأمّل وتفحّص ويمكن القول عنه أنَّه «يسير مع الهواء» وهو بشكل عامّ لا يبشر بخير ومتّجه نحو الأسفل مع شديد الأسف[1].

وقد رصد بعض الخبراء والباحثين آثارًا سلبيَّة لشبكات التواصل الاجتماعيّ والإنترنت على البنية الثقافيّة للفرد، نورد بعضًا منها:

1. تستطيح الثقافة: إذ يمتلك كلّ فرد معلومات طفيفة عن الموضوعات والظواهر المهمَّة وذلك بسبب كثرة عرض المعلومات التي تقلِّل من التركيز على مادَّة معيَّنة.

2. ذوبان الثقافات المحلّيَّة وسط بحر الثقافات العالميَّة: وبالتالي غلبة الثقافة الغربيَّة المستوردة ذات المحتوى الهائل في ظل قلَّة وندرة المحتوى العربيّ والإسلاميّ الرصين على الإنترنت ووسائل التواصل؛ وهو ما أثبته عدد من الدراسات لمؤسَّسة الفكر العربي التي نُشرت في التقارير الثقافيّة السنوية[2] وتحوِّل الثقافات المحليَّة إلى مجرد شعارات وقشور.

3. الاغتراب: هي الحالة التي يشعر بها الفرد أنَّه غريب وسط العالم. ثقافته المحليَّة قديمة وعاجزة عن مسايرة التطور.. والثقافة المستوردة مستعجلة وليس من السهولة تطبيقها في مجتمعه.

 

 


[1] مستقبل الثقافة والفكر في ظل هيمنة شبكات التواصل الاجتماعي، موقع النبأ، نشر الأحد 26 اذار 2018، رابط المقال : https://annabaa.org/arabic/informatics/14678

[2] التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية الصادر عام 2011 / الشباب العربي على الانتنرت مؤشرات ودلالات، ومشروع المحتوى الرقمي العربي

 

56


42

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

4. عجز وسائل التنشئة والتعليم القديمة: أي نكوصها أمام قوَّة تأثير وسائل التواصل الاجتماعيّ التي باتت تشكل 85% من ثقافة الطلبة.

5. تراجع مكانة العائلة: أضعفت شبكات التواصل الاجتماعيّ مكانة ومقدرة الأب والأم على التربية السلوكيَّة، بسبب فقدان السيادة على العائلة (الأولاد) التي أصبحت تُربَّى من قبل شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ؛ مع وجود استثناءات من دون شك.

6. كثرة الأفكار المطروحة: تجعل شبكات التواصل الاجتماعيّ قيمة الأفكار الجديدة معدومة أو ضئيلة، بمعنى أنَّ الفرد لا يجد حاجة للتفكير ما دام كلّ شيء قد تمَّ طرحه ونشره بغزارة لا توصف.

7. موت الايديولوجيا: لأنَّ الأفكار قد تلاقحت واختلطت وباتت العقول الإنسانيَّة رقميَّة لغةً وتفكيرًا وهي متقاربة إلى حدٍّ كبير، وبالمقابل تولَّدت ايديولوجيَّات أو قناعات هجينة جرَّاء تيَّار شبكات الإنترنت ومواقع التواصل مكانها، كما سنبيِّن في فقرة مستقلَّة.

8. مخاطر الانتشاريَّة: هو ما يصطلح عليه في الغرب (Proliferation) أو الانتشاريَّة التي تحقق للمنتّج الثقافيّ الوصول إلى ملايين المشتركين حتى من غير المتابعين وهو ما يثير الفضول (Curiosity) لدى الكثير منهم. وهنا لا بدَّ من التمييز بين عالمين يختلفان في التلقي أوَّلهما راسخٌ وله تقاليد قديمة في المتابعة (الغرب) والثاني لديه فوضى في التلقّي لم ترسّخها التقاليد المجتمعيَّة (الشرق)، والدليل أنَّ السويد مثلًا وبقيَّة الدول الاسكندنافية توزِّع أجهزة iPad على جميع المراحل الدراسيَّة وتدخلهم دورات في صناعة البرامجيَّات

 

 

57

 


43

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

وتقيم لهم المعارض النصف سنويَّة لإبراز انتاجاتهم، في حين أن قياس الحصيلة في العالم العربي يعطي نتائج سلبيَّة على مستوى إنتاج المحتوى.

9. إضعاف الذاكرة المؤقَّتة: يؤدِّي التعرّض الدائم لمواقع التواصل الاجتماعيّ إلى ضعف في الذاكرة المؤقَّتة للإنسان «short-term memory»، فالتعرّض للكلام المستمر على الفيسبوك والتغريدات السريعة على تويتر يضعف من قدرة الدماغ على تخزين المعلومات، ولا يسمح لها بالراحة من أجل المواصلة على تخزين كمّ كبير من المعلومات، فبالإضافة إلى التأثير المباشر على الذاكرة المؤقتة، تمنع مواقع التواصل الاجتماعيّ كذلك العقل من الدخول في حالة «الراحة» أو «Down Time»، وهو الوقت الذي يستغلُّه الدماغ لنقل وتخزين المعلومات التي تعرض لها الفرد طوال اليوم، لذا يقول الأطبَّاء إنَّ التحديق من نافذة الحافلات في الشارع أكثر صحيَّة للدماغ من التحديق المستمر في شاشة المحمول.

10. جعل الفرد أكثر عرضة للضغط العصبيّ: تُعرِّض مواقع التواصل الاجتماعيّ الفرد لآراء آلاف وعشرات آلاف بل ربما لملايين البشر في اللحظة نفسها، فإذا قرَّرت شراء أي منتج معيَّن من الإنترنت، ربما لن يعجبك المنتج في البداية، إلَّا أنك وبعد أن تقرأ تعليقات مختلف المستخدمين على المنتج، يمكنك أن تغيّر رأيك بمنتهى السهولة، حيث جاءت إحدى الدراسات الاجتماعيّة بنتيجة مفاجئة، أنَّه يمكن لبضعة نقرات على زر الإعجاب في الفيسبوك أن يغير رأي الكثير من الأفراد، ولا يحتاج الأمر لآلاف من الأعداد، هذا أيضًا ما يفسِّر طريقة تعامل الجيل الحديث مع ما ينشرونه على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ، فإن لم تأت صورة لهم بعدد معين

 

58

 

 


44

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

من نقرات الإعجاب، فإنَّهم سيقومون بحذفها من الصفحة، والعكس صحيح.

 

11. إفساد التفكير النقديّ: تدفع مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى إعادة التغريد، وإعادة النشر، والإعجاب بما يفعله مشاهير مواقع التواصل الاجتماعيّ، كما تدفعك بدون وعي إلى أن تتبنَّى رأيهم، فتقلِّل من التفكير الذاتيّ والتفكير النقديّ، وتجعلك وسيلة لإعادة النشر فحسب، كما لا تسمح لك بالتعبير المفتوح عن آرائك مع تحديد عدد الكلمات المسموح لك بنشرها، وهنا تختصر كلامك وتبسّطه ليصل إلى أبسط المستويات، ولا يكون في الواقع ما تريد حقًا أن تعبِّر عنه.

 

12. أوهام نمط الحياة المثاليَّة: لم تعد وسائل التواصل الاجتماعيّ مجرَّد وسيلة لمشاركة الأفكار والأفعال بين الأقران، لكنَّها أصبحت وسيلة لتأسيس سمات ومشاركات لأنماط الحياة، ومع ذلك، فهذا النمط من الحياة قد يكون مختلقًا وملفَّقًا في أوقات كثيرة، وهؤلاء الأشخاص الذين يتابعون مشاهير وسائل التواصل الاجتماعيّ يعتقدون بصدق أن هؤلاء الناس يعيشون حياة مثيرة لا تشوبها شائبة. وبدرجةٍ ما، فهؤلاء الذين شحذوا مشاعر نمط حياتهم المهنيَّة يبدو كأنَّهم اكتشفوا الأمر برمَّته وحقَّقوا الحريَّة المطلقة، لذا أصبحت حياتهم هي مهنتهم وكلّ ما يقومون به في حياتهم غرضه العرض، لكن لا شيء منه أصيل حقًا[1]. وبلا شك أنَّ وسائل التواصل الاجتماعيّ لها العديد من المميِّزات، إعلانات مجانيَّة وفرص لا نهائيَّة من التواصل خاصَّة مع الأصدقاء القدامى، لكن هناك جانب شرير تزداد خطورته عند البقاء «متّصلًا» طول الوقت، فوسائل

 


[1] كيف تؤثر السوشيال ميديا على تقديرنا لذواتنا؟، جينيفر بيتش، ترجمة حفصة جودة، نشر بتاريخ 22/5/2017 موقع نون بوست

 

59


45

تاسعًا: أثر شبكات التواصل الاجتماعيّ على البنية الثقافيّة للفرد

التواصل الاجتماعيّ غيَّرت بشكل سلبي من نظرتنا لأنفسنا وللآخرين، والأمر يزداد سوءًا.

 

 

 

60


46

عاشرًا: شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفها ايديولوجيا

عاشرًا: شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفها ايديولوجيا

يحصل تأثير شبكات التواصل الاجتماعيّ في الرأي العام من خلال ثلاثة مستويات مترابطة:

1. المستوى العاطفي: حيث إنَّ تزايد المجموعات عبر الشبكات يؤدّي إلى إعادة صياغة العواطف والتأثير في الأذواق والاختيارات بناءً على النموذج الـمُقدَّم في هذه المجموعات.

2. المستوى المعرفي: مرتبط بالبُعد السابق، فالمجموعات أصبحت مصدرًا جديدًا من مصادر إنتاج القيم وتلقين المعارف (الايديولوجيا) وتشكيل الوعي بالقضايا المختلفة.

3. المستوى السلوكي: الذي يُعَدُّ أعمق هذه المستويات ولاحقًا لها.

تكمن المقاربة في الدراسة أنَّ «الأطر المرجعيَّة التي تُحدِّد ديناميَّة هذه الشبكات بوصفها وسيطًا ايديولوجيا، يُنْشِئُ السياقات (العوالم الافتراضيَّة) التي تجعل المستخدمين يحتكمون إلى الاهتمامات السائدة فيها، فتصبح هنا الوسيلة أو المنصَّة في ذاتها مُؤَدْلَجَةً، وليس المحتوى وحده، خلافًا لما دَرَجَتْ عليه الدراسات والنظريَّات الإعلاميَّة التقليديَّة التي تربط جوهر أو طبيعة الوسيلة بمضمون الرسالة الإعلاميَّة»[1].

 


[1] أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، د.محمد الراجي،موقع الجزيرة، نُشر بتاريخ 27/12/2015.

 

61


47

عاشرًا: شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفها ايديولوجيا

من الصعوبة فكَّ الارتباط بين الثقافة والتقانة، إذ تقوم تكنولوجيا المعلومات الجديدة بتحطيم العقبات والعراقيل الزمنيَّة، والعلاقات الاجتماعيّة الهرميَّة والتصنيفات الطبقيَّة التقليديَّة، لأنَّ ثقافة الوسائط المتعدِّدة والشبكات تُشجِّع المستخدم على الذوبان والانصهار في عالم الرَّقْمَنَة... لذلك فالمجتمع في علاقته مع وسائط الاتّصال الجديدة لا يتم تشكيله وبناؤه وفق التأثيرات الوافدة عليه عبر هذه الوسائل فحسب، بل يذوب معها كليًّا.

فمُؤَسِّسو الشبكة سواء كانوا أفرادًا أو جماعات يتبنَّون أفكارًا معيَّنة، وتنشأ بناءً على هذه الأفكار الشبكة (نموذج شبكة الفيسبوك). وهذا لا يعني أن هناك حالة سكونيَّة في البناء الشبكيّ، إذ قد تتغيَّر الوُجهات الفكريّة لمؤسِّسي الشبكة تبعًا لتغيُّر الايديولوجيا المسيطرة على تفكيرهم، خاصَّة أن الايديولوجيَّات ليست حتميَّة.

 هناك عِدة مُحدِّدات مختلفة تُبرز الطابع الايديولوجيَّ للشبكات الاجتماعيّة، ويأتي في مقدِّمتها:

1 - الايديولوجيا السياسية:

وما يدور حولها من أحداث، إذ احتضنت هذه الشبكات أشكالًا من المداولة والنقاش حول الشأن العام، وسمحت للنخب السياسيَّة بتجاوز آليَّات تغييبها من المجال العموميّ التقليديّ الذي تسيطر عليه الدولة.

2 - الشبكات الاجتماعيّة:

- لا تعمل بمعزل عن سياقها، أي: المجتمع الافتراضي. وإذا كانت الفرضيَّة الأساسيَّة للمجتمع الافتراضي منذ نشأته ترتكز على مشاركة الاهتمامات، فإنَّ الأفراد أو الجماعات عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعيّة يحتكمون إلى الاهتمامات، التي تُعدُّ

 

62


48

عاشرًا: شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفها ايديولوجيا

بدورها مُحدِّدًا ايديولوجيًّا ينطوي على عنصر اختيار يَستمدُّ مرجعيَّته من الأطر الفكريّة الحاكمة للمستخدمين.

- الدخول إلى الشبكة والخروج منها تبعًا للتغيّرات التي تطرأ على معتقدات وأفكار المستخدمين، فالتفاعلات التي تتمّ في إطار الشبكات الاجتماعيّة تتحرَّر فيها الايديولوجيا من حواجز الزمان والمكان، ولكنهالم تستطع أن تنفكَّ عن أصولها الفكريّة التي تمنح الفرصة للنفاذ أو الخروج أو عدم الاشتراك.

- أفرزت الشبكات الاجتماعيّة أشكالًا جديدة من الفعل الجماعي، وخلقت فضاءاتٍ بديلة احتضَنت جماعات افتراضيَّة تكوَّنت حولها مشاغل مشتركة، سياسيَّة واجتماعيَّة وفنيَّة ورياضيَّة ومهنيَّة تنطلق من ايديولوجيَّات متعدِّدة.

- بروز قادة رأي عام جدد لهم منابرهم الإعلاميَّة وتقنيَّاتهم الخاصَّة لحشد الجماهير وتعبئة الأفراد.

تكشف الحروب الإلكترونية التي يشنُّها الأفراد، أو الجماعات، أو الدول، مُسْتَهْدِفَةً مواقع شبكات التواصل الاجتماعيّ، الطابع الايديولوجيّ لهذه الحروب، وتؤكِّد من جانب آخر الصراع حول المعاني والأفكار والتصوّرات والرؤى (صراع ايديولوجيَّ) التي تحملها المضامين الإعلاميَّة لتلك المواقع. فتكون بذلك الشبكات منصَّات لصراع ايديولوجيَّ فكريّ أو عقائديّ أو مذهبيّ أو سياسيّ أو صراع حول النفوذ والمصالح، بل تتحوَّل إلى وسائط حرب ايديولوجيَّة وفكريَّة بالموازاة مع الحرب التقليديَّة.

ويَرْسُمُ التدفُّق المعلوماتيّ بمصادره المختلفة، الذي يُشكِّل سَيْلًا مُنْهَمِرًا باتّجاه مستخدمي الشبكات الاجتماعيّة، طريقة التفكير أو ما يجب أن يُفَكِّر فيه المستخدم ويعرِّف عنه ويشعر به، وهو جوهر مضمون الإعلام الـمُؤَدْلَج. 

 

 

63


49

عاشرًا: شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ بوصفها ايديولوجيا

وبجانب تلك المحدِّدات، تبرز أهميَّة ايديولوجيا المضامين الإعلاميَّة نفسها، أو ايديولوجيا الإعلام باعتبار الإعلام رسالة، والرسالة لابد أن تكون مُؤَطَّرَةً برؤية، وهي فكرة أو مجموعة أفكار تسبق السلوك الاتّصالي؛ مما يجعل الممارسة الإعلاميَّة نتاج رؤية اديولوجيَّة؛ وهي المحدِّدات التي تُؤثِّر في عمل القائم بالاتّصال.

 

64


50

حادي عشر: مكوِّنات وعناصر ايديولوجيا الإنترنت والمنصَّات الرقميّة

حادي عشر: مكوِّنات وعناصر ايديولوجيا الإنترنت والمنصَّات الرقميّة

استنادًا إلى ما سبق حدَّد البعض ايديولوجيا المنصَّات الرقميّة بخمسة أنواع: الايديولوجيا التقنيَّة (الوسيلة)، ايديولوجيا اللغة، ايديولوجيا النصّ، ايديولوجيا الصورة، ايديولوجيا الإعلان، وهي تثير إشكالًا منهجيًّا يمكن توضيحه بعد استعراض المقصود منها:

1. ايديولوجيا الوسيلة: ترتكز الايديولوجيا التقنيَّة على منح تقنيَّات الاتّصال سلطة معياريَّة تجعلها العامل الأوَّل في تنظيم المجتمع وإعطائه معناه، والتسليم بخضوع التقدُّم في التواصل الإنسانيّ والاجتماعيّ لتقدّم التقنيَّات، ومن ثمَّ الاعتراف لتلك التقنيَّات بالقدرة على تغيير المجتمع تغييرًا بنيويًّا؛ ذلك أنَّ البُعد الايديولوجيَّ للتقانة قد لا يتراءى في جانب الاستعمال، لكن يظهر جليًّا في جانب التوظيف؛ أي توظيف المستجد التكنولوجيّ لأغراض لا يغدو عنصر الاستعمال في خضمِّها إلا تجلّيًا من تجلّيات تلك الأغراض.

2. ايديولوجيا اللغة: تكمن في المعنى الذي يحاول القائم بالاتصال إبلاغه للمستقبل عن طريق الرسالة الإعلاميَّة التي تصل إلى الجمهور عبر اللغة الإعلاميَّة التي تبني بدورها مفاهيم عن الأشخاص والأحداث والوقائع والقضايا التي يعيشونها أو يسمعون عنها، والتي تنقلها وسائل الإعلام. ولا شك أن اللغة الإعلاميَّة التي تحمل هذه الايديولوجيا إنّما هي فعل

 

65

 


51

حادي عشر: مكوِّنات وعناصر ايديولوجيا الإنترنت والمنصَّات الرقميّة

القائم بالاتّصال الذي يحاول إيصال المعنى (الايديولوجيا) إلى الجمهور.

3. ايديولوجيا النص: قد تكون مباشِرة أو غير مباشِرة، ولكنَّها تُمثِّل على المدى البعيد والتراكمي توجُّهًا ايديولوجيًّا يعكس القيم والأفكار والمعتقدات للقائم بالاتصال، أو المؤسَّسة الإعلاميَّة، أو المجتمع الذي تُوجَّه إليه الرسالة الإعلاميَّة. إنَّ صناعة الأنباء والأخبار والتعليقات سيرورة تفسيريَّة تشييديَّة إلى حدٍّ بعيد، وليست مجرَّد نقل للوقائع. وفي بعض الحالات يمكن البرهنة على أنَّ المسلَّمات، وضروب الخطاب التي ترتبط بها، ايديولوجيَّة، والمعاني المسلَّم بها ذات أهميَّة ايديولوجيَّة كبيرة.

4. ايديولوجيا الصورة: تعتبر الصورة مضمونًا تواصليًّا فعَّالًا وعنصرًا من عناصر التمثيل الثقافيّ البصري؛ إذ يمكن بواسطتها الوقوف على أهميَّة العالم البصريّ في إنتاج المعاني وتأسيس القيم الجماليَّة والإبقاء عليها، وكشف الديناميَّات النفسيَّة الخاصَّة بعمليَّات المشاهدة والتلقي. ومن هنا، فإنَّ للصورة قدرة احتلاليَّة عميقة في التحوُّل إلى فكرة (ايديولوجيا)، ومن ثمَّ تتحوَّل إلى هدف، والهدف إلى مشروع، والمشروع إلى رأي جماهيريّ عامّ، ومن ثم إلى سلوك بشري عن طريق الفضاء وشبكات التواصل الاجتماعيّ.

5. ايديولوجيا الإعلان: كما يؤثِّر الإعلان في ترويج السلع والخدمات، فإنَّه يُسهم في نشر القيم والاتجاهات الجديدة، ويدفع المتلقي إلى تقبُّل أفكار أو أشخاص أو منشآت مُعلَن عنها، كما يعمل على تغيير العادات والأذواق وسط مستقبليه. وحينما يستقبِل مجتمعٌ ما إعلانات تمَّ إنتاجها من قِبَل ثقافة مغايرة لثقافته، فإنَّ الإعلانات تحمل معها قيم ثقافتها، وقد تكون عاملًا من عوامل التغيُّر الاجتماعيّ.

 

66

 


52

حادي عشر: مكوِّنات وعناصر ايديولوجيا الإنترنت والمنصَّات الرقميّة

ويبدو هذا التفصيل في ايديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعيّ مهمًّا من الناحية المنهجيَّة؛ إذ يُقرِّبنا من آليات اشتغال ايديولوجيا الإعلام، لكن يكشف في الوقت نفسه أنَّ مسألة «ايديولوجيا الوسيلة» لا يمكن أن تكون حاسمة في التأثير على الرأي العام معرفيًّا وعاطفيًّا وسلوكيًّا، كما لا ينبغي أن تأخذ حجمًا أو دورًا يتجاوز أهميَّة العناصر الأخرى.

وقد تابعنا خلال السنوات الماضية فيما سُمِّي بالربيع العربي حجم الدور الذي اضطلعت به شبكات التواصل الاجتماعيّ؛ فبالقدر الذي كان لها دور في مسارات تلك الأحداث كان هناك أيضًا مستخدمون لهذه الوسائل (المستخدمون الذين ينتجون المحتوى)، ومُسْتَقْبِلون لهذا المحتوى، ثم رجع الصدى، فضلًا عن السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيَّة للمضامين الإعلاميَّة. ولعل مآلات بعض الحالات ما يؤكِّد محدوديَّة هذه الوسائل وفاعليَّتها «في التغيير البنوي».

 

67


53

ثاني عشر: شبكات التواصل الاجتماعيّ وتشكيل الرأي العام الرقميّ

ثاني عشر: شبكات التواصل الاجتماعيّ وتشكيل الرأي العام الرقميّ

تنطلق دراسة دور شبكات التواصل الاجتماعيّ واستراتيجيَّاتها في تشكيل الرأي العام من أبنية نظريَّة إعلاميَّة متعدِّدة ومداخل مختلفة لتحديد التأثير الذي تُحدثه الشبكات الاجتماعيّة في المستخدمين، وتشمل هذه المداخل نظريَّة التسويق الاجتماعيّ التي تتناول كيفيَّة ترويج الأفكار التي تعتنقها النخبة في المجتمع لتصبح ذات قيمة اجتماعيَّة معترف بها.

وتقوم وسائل الإعلام وفق هذه النظريَّة بإثارة وعي المستخدمين عن طريق الحملات الإعلاميَّة التي تستهدف تكثيف المعرفة لتعديل السلوك بزيادة المعلومات المرسلة للتأثير على القطاعات المستهدفة من الجمهور، وتدعم الرسائل الإعلاميَّة بالاتصالات الشخصيَّة، وكذلك الاستمرار في عرض الرسائل في وسائل الاتّصال، عندها يصبح الجمهور مُهْتَمًّا بتكوين صورة ذهنيَّة عن طريق المعلومات والأفكار، وهنا تسعى الجهة القائمة بالاتصال إلى تكوين صورة ذهنيَّة لربط الموضوع بمصالح الجمهور وتطلّعاته.

وترصد أهميَّة الثورة الاتّصاليَّة الكبرى والتكنولوجيا الجديدة لوسائل الإعلام الإلكترونيَّة في ظهور فضاء عام اجتماعي جديد يخضع لمثاليَّة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، ويعتمد على أن يكون الرأي العام حرًّا في حركة المعلومات وتبادل الأفكار بين المواطنين.

 

69

 

 


54

ثاني عشر: شبكات التواصل الاجتماعيّ وتشكيل الرأي العام الرقميّ

وتؤكِّد نظريَّة المجال العام على أنَّ وسائل الإعلام الإلكترونيَّة تخلق حالة من الجدل بين الجمهور حيث تمنح تأثيرًا في القضايا العامَّة وتؤثِّر على الجهة الحاكمة، وهذا «المجال العام يمكن رؤيته كمجال حياتنا الاجتماعيّة الذي من خلاله يمكن تشكيل الرأي العام. ولمواقع التواصل الاجتماعيّ دور في المجال العام وينظر إليها المحيط كإحدى مصادر التغيير السياسي، عن طريق تأثير حركات الاحتجاج في عقول الناس، فرديًّا وجماعيًّا، عن طريق التعبير عمّا يشعرون ويفكرون، وفتح الباب أمام إمكانيَّة مقاومة النظام القائم، وطرح مشروعات بديلة»[1].

وفي ذات السياق يمكن توظيف نظريَّة الاستخدامات والإشباعات لبيان دور شبكات التواصل الاجتماعيّ في تشكيل الرأي العام؛ وذلك بالنظر إلى الإشباعات التي تُقدِّمها شبكة الإنترنت لمستخدميها بأصنافها المختلفة (إشباعات المحتوى، وإشباعات الاتّصال).

وتُعتبر الشبكات الاجتماعيّة أيضًا وسائلَ اتّصال ثريَّة، لأنَّها استنادًا إلى نظريَّة ثراء وسائل الإعلام تمتلك قدرًا كبيرًا من المعلومات، فضلًا عن تنوُّع المضمون المقدَّم من خلالها، ومن ثم تستطيع هذه الوسائط التغلُّب على الغموض والشك الذي ينتاب الكثير من الأفراد عند التعرُّض لها. 

كما أنَّها تتميَّز بسرعة ردّ الفعل، وقدرتها على نقل الإشارات المختلفة باستخدام تقنيَّات تكنولوجيَّة حديثة، والتركيز الشخصي على الوسيلة، واستخدام اللغة الطبيعيَّة.

 


[1] شبكات الغضب والأمل- الحركات الاجتماعيَّة في عصر الإنترنت، مانويل كاستلز، ترجمة، هايدي عبد اللطيف، نشر في المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، بتاريخ آذار 2018 .

 

70


55

ثالث عشر: ثورتي تويتر 2009 وتلغرام 2018 في إيران كحالتين دراسيَّتين

ثالث عشر: ثورتي تويتر 2009 وتلغرام 2018 في إيران كحالتين دراسيَّتين

استند الباحث وعالم الاجتماع الكندي ماكسيميان فورت في دراسته عن أحداث إيران (حزيران 2009 وما بعدها)، إلى معطيات علميَّة إحصائيَّة حينما سبق الجميع بنشره مقالًا بعد أسبوعين فقط من اندلاع الأحداث في إيران كشَف خلفيَّات فيه ما أطلق عليه وصف «ثورة تويتر في ايران».

واستخدم فورت في حُججه دراسة أجرتها كليَّة الاقتصاد في جامعة هارفارد وجدت أنَّ 10% من مستخدمي تويتر هم من ينتجون 90% من محتوى الموقع، والباقي يتلقون ويستهلكون هذا المحتوى دون أدنى نقد وتَبَصُّر بهذا المحتوى [1].

وتحت عنوان «ثورة تويتر أحلام أميركا في إيران» شرح فورت كيف أنَّ شبكات التواصل الاجتماعيّ والرقميّ وخاصَّة موقع توتير استطاعت استدارج عشرات الآلاف من الشباب الإيراني إلى مشهد وحراك اجتماعي وسياسيّ وثقافيّ لا صلة لهم به، وأنَّه تمّ صناعة مناخ إعلاميّ نشره بضع عشرات من الناشطين بعضهم من الشباب والطلاب السذج، الذين قد لا يتجاوز عددهم 45 شخصًا، وقال فورت «إنَّ ثورة تويتر هذه، لا تعكس الفئة المشاركة فيها اتّجاهات مستخدمي الإنترنت من الإيرانيين، كما أنَّ مستخدمي الإنترنت لا

 


[1] ثورة تويتر ..أحلام أميركا في إيران، ماكسيمان فورت، نشر موقع الجزيرة، بتاريخ 26/6/2009.

 

71


56

ثالث عشر: ثورتي تويتر 2009 وتلغرام 2018 في إيران كحالتين دراسيَّتين

يمثّلون العدد الأكبر منهم، ثم إنَّ الشباب لا يمثِّلون الشباب، وحتى الإيرانيين ربما كانوا غير إيرانيين، فقد شارك في هذه الثورة عبر المنصَّات الإلكترونيَّة حسابات من إسرائيل وأميركا ومن بلدان الغرب، وهذه هي القوَّة الساحرة حقًّا لوسائل الإعلام الاجتماعيَّة، وقد أكَّد هذا التحليل استطلاع قامت به وكالة أسوشيتد برس لعدد من الإيرانيين قالوا إنَّ ما يُسمى تويتر أوجد وَهمًا بأنَّ طهران تشهد ثورة أخرى»[1].

وبعد العام 2009، وبعد أن عالجت الحكومة الإيرانيَّة قضيَّة التأثير الخارجيّ للانترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ الأميركيَّة والغربيَّة من خلال إنشاء شبكة وطنيَّة إيرانيَّة للإنترنت، برز في نهاية العام 2018 دور الإنترنت ومواقع التواصل في انهيار سعر العملة الإيرانيَّة، وتبيَّن أنَّ هناك ثغرة جديدة تمثَّلت في تطبيق تلغرام الروسي للتواصل الاجتماعيّ، الذي غضّت الحكومة في إيران النظر عنه وسمحت باستخدامه باعتباره تطبيق تابع لدولة روسيا الصديقة غير المعادية، وعن غير تعمّد وتخطيط من روسيا، ساهم التطبيق إلى جانب عوالم نفسيَّة وسوء إدارة للأزمة الاقتصاديَّة والماليَّة بانهيار العملة الإيرانيَّة، وعلى سبيل المثال بلغ أعضاء بعض قنوات تلغرام الإخباريَّة حوالي مليوني عضو، وهو ما سبَّب خوفًا لدى الرأي العام نتيجة موجة الشائعات التي تلت العقوبات الأميركيَّة وإلغاء الاتّفاق النوويّ وتوجّه اغلب الناس وتجار العملة للاستفادة من المضاربة على أسعار العملات بهدف الربح، وقد كشفت هذه الأحداث حجم تأثير الرقميّات وارتباطها بالاستقلال الثقافيّ والفكريّ لأيّ فرد ومجتمع، دون إغفال أنَّ الثغرة المركزيَّة تكمن في ضعف نفسي بنيويّ لدى الجمهور نفسه أيضًا بمعزل عن دور المنصَّات الرقميّة.

 


[1] م. س، « ثورة تويتر ..أحلام أميركا في أيران».

 

72


57

خاتمة ومقترحات

خاتمة ومقترحات

1. هناك تأثير عميق وبنيويّ وتدريجيّ يحصل للمستخدم الذي يتعامل مع الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ على عدَّة مستويات تربويَّة وعصبيَّة ومعرفيَّة ونفسيَّة وسلوكيَّة.

2. قد يفسِّر البحث جانبًا من السؤال المطروح في أوساطنا حول سبب التأثّر الزائد لجمهورنا وبالحساسيّة والتفاعليَّة العالية مع الإشاعات والمنشورات التي تعمِّمها الجهات المعادية أو الجاهلة التي تنخرط في الحملات بدون عدائيَّة.

3. قد لا تشكِّل الرقميّات خطرًا راهنًا على انتماء أو ولاء جمهورنا، خاصَّة الجمهور المتشكِّل هويَّةً وتنظيمًا، ولكنَّها تُشكِّل تهديدًا للجيل الأصغر وللجيل الوافد تعبويًّا وطلابيًّا.

4. شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ تملك جانب ايديولوجيَّ أميركي خاصَّة وغربي عامَّة بصورة حتميَّة، وهي ليست أداة محايدة، ويتمّ الاستثمار فيها من قبل الحكومات لغايات وأهداف كبرى.

5. يجب تثقيف جمهورنا على الآليَّة التي تعمل بها شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ ومخاطرها على الأمن الثقافيّ والفكريّ والسياسيّ.

6. الخطر الأكبر هو على الجيل الجديد الذي لم يتثقَّف من مصادر

 

73


58

خاتمة ومقترحات

ومنابع فكريَّة صافية بالقدر الكافي، في حين أنَّه يغرق في موجات تأثير الإنترنت والتواصل الاجتماعيّ.

7. المفروض تكثيف البرامج الثقافيّة والتعبويَّة الجذَّابة لسد جزء من فراغ الجمهور وحاجاته إلى المعرفة والاطلاع والتي يعوِّض عنها بزيادة ساعات الاستهلاك التواصلي بشكل مُضرّ وسلبيّ.

8. تكثيف بثّ المحتوى التحذيريّ والتوعويّ للجمهور حول أضرار الإدمان الإلكتروني والتواصل الاجتماعي وضرورة التعرّف عليها، فضلًا عن مخاطر التجسّس الذي له مجال اخر.

9. التوعية على ضرورة عدم التفاعل والنشر لدعايات الأعداء ولا التفاعل مع منشوراتهم تحت عنوان الرد، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى تضخيمها وخدمتها.

 

74

 

 


59

لائحة المصادر والمراجع

لائحة المصادر والمراجع

1. ايديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعيّ وتشكيل الرأي العام، محمد الراجي، الجزيرة.

2. الإشكالات المنهجية في دراسة الشبكات الاجتماعيّة الرقميّة وسبل التغلّب عليها، عبد الوهاب الرامي، ورقة مقدَّمة للمؤتمر الدولي «وسائل التواصل الاجتماعيّ التطبيقات والاشكالات المنهجيَّة»، كلّيَّة الإعلام والاتصال بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتاريخ 10/3/2015 السعوديَّة.

3. الإنترنت والاستلاب التقني، عبد العالي معزوز، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، 2011، ط1، ص 23

4. تغير العقل، كيف تترك التقنيات الرقميّة بصماتها على أدمغتنا، سوزان غرينفيلد، نشر مجلة عالم المعرفة 2017.

5. التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافيّة الصادر عام 2011، الشباب العربي على الإنترنت مؤشرات ودلالات، ومشروع المحتوى الرقميّ العربي.

6. ثورة تويتر..أحلام أميركا في إيران، ماكسيمان فورت، نشر موقع الجزيرة، بتاريخ 26/6/2009.

7. جوجل بعد 20 سنة، هكذا أضحى محرّك البحث امتدادًا

 

75


60

لائحة المصادر والمراجع

لأدمغتنا، بنيامين كرتس، المصدر: ذي كونفرسايشن، ترجمة موقع نون بوست.

8. حزب الله والوطني الحر الأقوى في التواصل الاجتماعيّ، نادين مهروسة، موقع المدن، نُشر بتاريخ 09/07/2016.

9. زوكربيرغ يكتب لمليار شخص رسالة استخدم فيها كلمات رئيس أميركي شهير. ما الذي أخبرهم به؟ هافينغتون بوست عربي، رويترز، نُشر بتاريخ: 17/02/2017.

10. سلوك القطيع في وسائل التواصل الاجتماعيّ، عزام ابو الحمام، موقع عربي 21، نُشر بتاريخ 6/1/2016.

11. شبكات الغضب والأمل- الحركات الاجتماعيّة في عصر الإنترنت، مانويل كاستلز، ترجمة، هايدي عبد اللطيف، نُشر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتاريخ آذار 2018.

12. صراع الجبابرة؛ عندما التقى غوغل بويكيليكس، فادي الطويل، منشور بتاريخ 7/8/2014، موقع جريدة السفير.

13. طبقة الأثرياء الجدد- مظاهر خدّاعة عززتها منصَّات التواصل الاجتماعيّ، نور علوان، نون بوست، نُشر بتاريخ20 أيلول 2018.

14. علم الإنسانيَّات الرقميّة.. مستقبل البشريَّة الذي يتجاهله العرب، جريدة الشرق الاوسط، 19 نوفمبر 2014.

15. عوامل مؤثِّرة عند النشر في مواقع التواصل الاجتماعيّ، غيداء أبو خيران، نشر موقع منتدى تواصل نقلًا عن موقع الجزير، بتاريخ 6/11/2017.

16. كيف تؤثِّر السوشيال ميديا على تقديرنا لذواتنا؟، جينيفر بيتش، ترجمة حفصة جودة، نُشر بتاريخ 22/5/2017 موقع نون بوست.

 

76


61

لائحة المصادر والمراجع

17. كيف يؤثِّر تصفّحك المستمر لوسائل التواصل الاجتماعيّ على عقلك، مترجم عن الغارديان البريطانية، محمد علاء عيسى، 27/12/2015، نشر موقع ساسة بوست.

18. مستقبل الثقافة والفكر في ظل هيمنة شبكات التواصل الاجتماعيّ، موقع النبأ، نُشر في 26 اذار 2018.

19. الميديا الاجتماعيّة من منظور التنظيم والتنظيم الذاتي، الصادق الحمامي، مجلة اتّحاد إذاعات الدول العربيَّة، ملف مواقع التواصل الاجتماعيّ الاستخدامات والسياقات، العدد 1 - 2016.

 

77


62
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي