سيرة الأئمة عليهم السلام

دروس في الحياة الأخلاقيّة والتربويّة والسياسيّة


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-10

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى آله الطاهرين، وبعد...

 

تعتبر معرفة أهل البيت عليهم السلام وولايتهم والإيمان بهم، وأنّهم آل بيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم المطهّرون، وولاة الأمر وخلفاؤه على العباد والبلاد، أساس وركيزة البنية الإيمانية والعقائدية للإنسان المسلم. وقد حثّت الروايات على معرفتهم، وقد ورد الحثّ على معرفة أهل البيت عليهم السلام: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من منَّ الله عليه بمَعرِفةِ أهلِ بيتي وولايتهم فقد جمع الله له الخيرَ كُلّه"[1].

 

وورد ذمّ عدم معرفتهم عليهم السلام حيث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من ماتّ لا يَعرِف إمامَهُ ماتَ ميتةً جاهلية"[2].

 

ومن أهم خصائص أهل البيت عليهم السلام: أنّهم أفضل الخلق وأكملهم وأزكاهم وأطهرهم، وقد ذكرت أوصافهم في القرآن الكريم وفي عشرات الروايات، نذكر أهمها:

الطهارة والعصمة: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[3].

 

وروي عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعةٌ

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص 561.

[2] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363 ش، ط 5، ج2، ص 20، 62.

[3] سورة الأحزاب، الآية 33.

 

11


1

المقدّمة

من ولدِ الحسين مطهّرون معصومون"[1]. وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إنّما أمَر الله عزّ وجل بطاعةِ الرسول لأنّه معصومٌ مطهر، لا يأمُر بمعصيته. وإنّما أمر بطاعة أولي الأمر لأنّهم معصومون مطّهرون، لا يأمُرون بمعصيته"[2].

 

وخزنة علم الله وتراجمه وحيه: "عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "نحن خزّان علم الله، ونحنُ تراجمَةُ وحي الله"[3]. وفي عدّة روايات أنهم ورثة علم الأنبياء عليهم السلام.

 

وهم معدن الرسالة: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نحنُ أهلُ بيتِ شجرة النبوّة، ومعدن الرسالة، ليس أحدٌ من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري"[4].

 

وأبواب الله: روي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "نحنُ باب الله الذي يُؤتى منه، بنا يهتدي المهتدون"[5].

 

وأركان العالم وأمان أهل الأرض: وعنه النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض"[6]، وغير ذلك من المقامات الكثيرة.

 

ولقد تحدّثت الروايات الواردة عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عن فضل حبهم، وأنه كحب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، وحثّ الناس على حبهم، وأنهم خلفاء الله، وأوصياء نبيه  صلى الله عليه وآله وسلم، وفي مودتهم وولايتهم صراط النجاة وطريق الحق، روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "الأئمة

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، عيون أخبار الرضاعليه السلام، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، 1404 - 1984م، لا.ط، ج1، ص64.

[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص139.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 19.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 378.

[5] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، فضائل الشيعة، كانون انتشارات عابدي، إيران - تهران، لا.ت، لا.ط، ص 7.

[6] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1405 ه - 1363 ش، لا.ط، ص 205.

 

12


2

المقدّمة

خُلفاء الله عزّ وجلّ في أرضه"[1].

 

وعن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا سيّدُ النبيين، وعليّ بن أبي طالب سيّدُ الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم"[2].

 

وورد الحثّ على تحبيبهم إلى الناس وتعريفهم بسيرتهم الأخلاقيّة والتربويّة والسياسية، فروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس ولم يُبغّضنا إليهم"[3].

 

وهذا الكتاب هو أحد المتون الدراسيّة المخصّصة لدراسة سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهو جزء من مجموعة متون في هذا المجال، حيث تم توزيعها على مجموعة من المراحل الدراسيّة، وقد راعينا فيها الشرائح المخاطبة وَفق الأهداف المحدّدة لكل شريحة.

 

                                                                              والحمد للَّه ربّ العالمين

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 19.

[2] الشيخ الصدوق،كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص 280 - 292.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص229.

 

13


3

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

الدرس الأوّل

أئمّة أهل البيت عليهم السلام

الأدوار والأهداف

 

 

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يبيّن أنّ للأئمّة عليهم السلام هدفاً واحداً، لكنّ أدوارهم كانت مختلفة.

 

- يستنتج أنّ هدف الأئمّة عليهم السلام هو تربية عوالم الإمكان.

 

- يتعرّف إلى شذرات من المقام المعنويّ للأئمّة عليهم السلام.

 

15


4

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

تمهيد

إنّ من أكبر النعم وأعظمها على الإطلاق على البشريّة أجمع وعلى الشيعة الاثني عشريّين خصوصاً، هي نعمة الوجود المقدّس للمعصومين عليهم السلام في هذه النشأة، بدءاً بالنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وصولاً إلى الامام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكونهم عليهم السلام القادة الحقيقيّين والولاة الأصليّين المنصّبين من قبل الحقّ تعالى للارتقاء بالمسيرة البشريّة نحو الكمال الإنساني.

 

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "نحن نفخر بأنّ أئمّتنا هم الأئمّة المعصومون، بدءاً من عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وختماً بمنقذ البشريّة حضرة المهديّ صاحب الزمان - عليه وعلى آبائه آلاف التحيّة والسلام -، وهو بمشيئة اللَّه القدير، حيّ يراقب الأمور... نحن نفخر بأنّ أئمّتنا المعصومين عليهم السلام قضَوا أعمارهم سجناً وتشريداً في سبيل رفعة الإسلام وتحقيق أهداف القرآن الكريم، والتي أحدها تأسيس حكومة العدل"[1].

 

كان الأئمّة عليهم السلام التجلّي الأتمّ لجمال وجلال الذات الإلهيّة المقدّسة، وأناروا لنا من خلال حياتهم ومسيرتهم الطريق التفصيليّ الصحيح في جوانب الحياة كلّها، حيث مثّلوا التطبيق العمليّ للإرادة الإلهيّة في كلّ شيء، فكانوا النموذج الأكمل والمثال الأصلح للاقتداء، وكانوا الطريق الصحيح، بل الوحيد نحو اللَّه - عزّ وجلّ -، فالمعصومون عليهم السلاموالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بخاصّة، هم المصداق الواقعيّ للأسوة الحسنة التي أمرنا اللَّه بالاقتداء بها في القرآن الكريم، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[2].

 

 


[1] أهل البيت عليهم السلام في فكر الإمام الخمينيّ، مركز نون للتأليف والترجمة، بيروت، ط2، 2006، ص 5.

[2] سورة الأحزاب، الآية 21.

 

17


5

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

ونحن، وإن كنّا سنتناول في هذه الأوراق المختصرة حياة الأئمّة عليهم السلام، فلا بدّ لنا من التوقّف قليلاً للإشارة إلى بعض الأسس والمقدّمات التي ستحكم نظرتنا وتحليلنا وكيفيّة استفاداتنا من الأئمّة عليهم السلام، فنتعرّف بدايةً إلى دور الأئمّة عليهم السلام وهدفهم الذي أرادوا تحقيقه، ثمّ التعريج على أصلٍ بالغ الأهمّيّة يدور حول مقام المعصومين المعنويّ، والذي يُعدّ أصلاً ثابتاً ينبغي أن يؤمن به كلّ إنسان مسلم مؤمن بمذهب أهل البيت عليهم السلام، لتُشكّل هذه الأسس مجتمعةً الخلفيّة التي نعاين فيها الأحداث المختلفة ونستخلص من خلالها دروسنا الأخلاقيّة والتربويّة والسياسيّة، لنستفيد منها ونعتبرها قدوتنا في حياتنا، مع المحافظة على النظرة الواقعيّة والصحيحة للأئمّة عليهم السلام.

 

الأئمّة عليهم السلام: إنسانٌ واحد.. هدفٌ واحد

يقول الإمام القائد دام ظله حول قضيّة تاريخ الأئمّة عليهم السلام: "على الرغم من الاختلاف الظاهريّ بين سِيَرهمعليهم السلام حتّى إنّ "بعضاً" ليشعر بالاختلاف الشاسع والتناقض فيها، إلّا أنّها عبارة عن مسيرة واحدة وحياة واحدة استمرت 250 سنة، ابتداء من سنة11.هـ. ق. إلى 260.هـ.ق، أي انتهت بانتهاء الغيبة الصغرى للإمام الحجّة  عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

هؤلاء العظماء كانوا شخصاً واحداً، ولا ينبغي الشكّ في أنّ هدفهم هو واحدٌ... فيجب أن نفرض وجود إنسان عمّر 250 سنة... عندها سوف تصبح حركات هذا الإنسان كلّها، العظيم والمعصوم، قابلةً للفهم والتفسير وَفق هذا المنظار"[1].

 

وهذه الرؤية والمقاربة هي التي تتكفّل تفسير مختلف تحرّكات الأئمّة عليهم السلام وَفق ميزان الحكمة والعدل والمعرفة، فهي الرؤية التي تبيّن لنا الأهداف والحكمة من الاختلاف في الأدوار بين الأئمّة عليهم السلام وَفق مقتضيات الزمان والمكان. ويؤكّد الإمام الخامنئيّ على هذه الفكرة فيقول: "أيّ إنسان يملك شيئاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك شيئاً من العصمة، تكون له تكتيكات ومواقف موضعيّة خاصّة خلال حركته البعيدة

 


[1] الخامنئي، السيد علي الحسيني، إنسان بعمر 250 سنة، إعداد ونشر جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، بيروت، ط2، 2005، ص 14.

 

18


6

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

المدى، وقد يجد هذا الإنسان أنّه من الضروريّ أن يُسرِع في حركته تارةً، وأن يبطئ تارةً أخرى، أو حتّى أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى في هذا التراجع، بالنظر إلى هدف هذا الإنسان، حركةً وتقدّماً نحو الأمام"[1].

 

لذا، فإنّ المنهج الذي سنعتمده في هذا المختصر سيجمع بين النظرة والمنهج الترابطيّ في فهم حياة الأئمّة عليهم السلام مع تسليط الضوء على حياة كلّ إمام على حدة، حفاظاً على النظرة الشموليّة بحسب الهدف الأصليّ لهم جميعاً، فننظر إلى الأئمّة عليهم السلام ككلٍّ ووحدةٍ مترابطة الأجزاء يواصل كلّ جزء في تلك الوحدة دور الجزء الآخر ويكمله...

 

ما الهدف والدور المشترك للأئمّة عليهم السلام؟

1- تربية الإنسان:

ليس للأئمّة عليهم السلام هدف يغاير هدف الأنبياء عليهم السلام وبعثهم إلى البشر، فهم امتدادٌ لخطٍّ واحد هو خطّ السماء، لذا يقول الامام الخمينيّ قدس سره حول المهمّة الأساسيّة للأنبياء وهدف بعثاتهم: "إنّ هدف سعي الأنبياء وفكرة البعثة في جميع القرون هو تربية هذا الموجود (الإنسان‏)، هذا الموجود الذي يمثّل خلاصة جميع المخلوقات، وبإصلاحه يتمّ إصلاح العالم، وبفساده ينجرّ العالم إلى الفساد. إنّ سعي الأنبياء من البداية إلى النهاية هو دعوة هذا الموجود (الإنسان) إلى الصراط المستقيم وشدّه إليه، ليس بمجرد الهداية بالقول فقط، بل بجعل أنفسهم قدوة ومرشدين في العمل والأفعال والأقوال، من أجل إيصال هذا الموجود إلى كماله اللّائق به"[2].

 

انطلاقاً من هذا الهدف النبويّ الذي يبينه الإمام قدس سره وهو تربية الانسان، ونظراً إلى كون الأئمّة عليهم السلام هم الورثة الحقيقيّين لرسالة السماء، فإنّ الهدف الذي سعى

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 14 - 15.

[2] الإمام الخمينيّ دام ظله، صحيفة الإمام، نشر مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره، ط1، 2009م، ج14، ص 13.

 

19


7

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

أئمّة الهدى عليهم السلام إلى تحقيقه في حياتهم هو هدف الأنبياء عليهم السلام جميعاً. وتظهر هذه الحقيقة واضحة في دعاء الندبة، حين يبيّن لنا الإمام المهديّ  عجل الله تعالى فرجه الشريف كيف أنّ مسيرة الأنبياء وأوصيائهم، وصولاً إلى الامام المهديّ  عجل الله تعالى فرجه الشريف، كلّها مسيرة واحدة، فيقول: "أللَّهمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤكَ في أَوْلِيائِكَ الَّذينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدينِكَ... فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ... وَبَعْضٌ حَمَلْتَهُ في فُلْكِكَ... وَبَعْضٌ اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ خَليلاً... إِلى أَنِ انْتَهَيْتَ بالأمْرِ اِلى حَبيبِكَ وَنَجيبِكَ مُحَمَّدٍ... فَلَمَّا انْقَضَتْ أَيّامُهُ أَقامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبي طالِب... وَلَمّا قَضى نَحْبَهُ وَقَتَلَهُ أَشْقَى الآخِرين..."[1].

 

فالإمامة ليست سوى الامتداد الطبيعيّ للنبوّة، ووظائف الإمام المعصوم تتطابق ووظائف النبيّ المعصوم، عدا تلقّي الوحي، كما يُبحَث في علم الكلام، وعليه، فوظيفة النبيّ ووظيفته التي يعبّر عنها القرآن ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[2] هي نفسها بالنسبة إلى الإمام.

 

إنّها عمليّة صناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعي وتكريم الإنسان، وتحريره، وتحقيق المساواة الحقوقيّة والقانونيّة بين المجموعات والأفراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار، وفسح المجال للطاقات والكفاءات الإنسانيّة، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير، إنّها عمليّة إقامة مجتمع تنمو فيه جميع عوامل سموّ الإنسان في جميع الأبعاد الأساسيّة من أجل حياة كريمة وسعيدة، ليندفع الكائن البشريّ فيها باتّجاه الكمال الإنسانيّ الحقيقيّ والتكامل دوماً. وليس هذا فحسب، فأهداف الأنبياء والأوصياء من بعدهم لا تنحصر بالبعد الدنيويّ للبشر، بل إنّهم يرمون إعمار الدنيا والآخرة وتربية البشر للوصول إلى السعادة الأخرويّة التي هي الأصل.

 


[1] ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال، نشر دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1409هـ، ط2، ج1، ص 295.

[2] سورة الحديد، الآية 25.

 

20


8

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

وهذا الهدف في الحقيقة هو الهدف الحقيقيّ من الخلق، المتمثّل بتربية الموجودات كلّها - كما عبّر الإمام الخمينيّ قدس سره -، وجعل عالم المُلك، بل عوالم الوجود كلّها، حاكيةً عن الذات الإلهيّة، كلٌّ بحسبه، فينبغي تدبير ما في عالم الوجود كلّه وتربيته، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[1], ليصل إلى الهدف المنشود ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾[2].

 

بعد هذا البيان المختصر، يمكننا القول إنّ حركة المعصومين عليهم السلام كلّها كانت في الحقيقة حركة إصلاحيّة لأجل أهداف أخلاقيّة وتربويّة وسياسيّة، وإنّ تحرّكاتهم كلّها كانت تصبّ في خدمة الوصول إلى هذه الأهداف، فأفعالهم وممارساتهم كلّها، السياسيّة والعقائديّة والاجتماعيّة والفقهيّة وغيرها، يمكننا مقاربتها من هذه الزاوية، وعندها سيتسنّى لنا أن نستخلص الدروس الاخلاقيّة، والتربويّة، والسياسيّة من محطّات حياة الأئمّة عليهم السلام كلّها لنطبّقها في حياتنا وَفق الظروف والمقتضيات.

 

2- تأسيس الحكومة الإسلاميّة:

بعدما تبيّن لنا أنّ المهمّة الأساسيّة والكليّة للأئمّة عليهم السلام هي تربية الإنسان، فإنّا لا بدّ من أن نبحث عن الطرق العمليّة والخطوات الفعليّة في عالم الدنيا التي ستحقّق ذلك الهدف، أي خطّة عمل الأئمّة عليهم السلام. وفي هذا السياق، وضع أئمّة الهدى عليهم السلام أولى تلك الخطوات في مسيرة تحقيق التكامل اللّامتناهي، والتي تبدأ من عالم الدنيا، متمثّلة في تطبيق أصل العدل في هذه النشأة، وذلك من خلال السعي الدؤوب لإقامة حكومة العدل الإلهيّ ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[3]، وهذا هو محور الهدف الذي سعى إليه الأنبياء على مرّ العصور أيضاً. فالبداية من هنا، من السعي لإقامة حكومة العدل، وتطبيق قوانين هذه الحكومة في الأرض.

 


[1] سورة الجمعة، الآية 2.

[2] سورة الانشقاق، الآية 6.

[3] سورة الحديد، الآية 25.

 

21


9

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

في بيان تفاصيل هذا الهدف، يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان سعي الأئمّة عليهم السلام ومنذ وفاة الرسول ‏ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى عام 62 هـ هو هدف إيجاد حكومة إلهيّة وتأسيسها في المجتمع... ولا نستطيع أن نقول إنّ كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكنّ هدف كلّ إمام كان يتضمّن تأسيس حكومة إسلاميّة مستقبليّة"[1].

 

ثمّ يضيف القائد دام ظله: "... ولا شكّ في أنّ تبيين وتفسير الدين بحسب الرؤية الخاصّة لأهل بيت الوحي، ورفع التحريفات والتفسيرات المغلوطة للمعارف الإسلاميّة والأحكام الدينيّة، كانت أيضاً هدفاً مهمّاً لجهاد أهل البيت عليهم السلام، إلّا أنّه بناءً على القرائن الحتميّة لم يكن جهاد أهل البيت منحصراً بهذه الأهداف، ولم يكن أكبر أهدافهم إلّا تشكيل الحكومة العلويّة وتأسيس النظام الإسلاميّ العادل"[2].

 

وبملاحظة هذه الأمور، نستطيع أن نفهم المنهج العامّ لأئمّة أهل البيت عليهم السلام، فنستخلص أنّه منهج ذو جانبين متلازمين: الأوّل يرتبط بالبعد العقائديّ، والثاني يرتبط بالبعد السياسيّ والاجتماعيّ للأحكام الشرعيّة وطرق تطبيقها في المجتمع.

 

فقد كان الأئمّة عليهم السلام يوجّهون جهودهم ومساعيهم في الجانب الأوّل في نشر مفاهيم الرسالة وبلورتها وترسيخها، والكشف عن الانحرافات التي تصدر عن المغرضين والمنحرفين، وبيان الأطروحة الإسلاميّة الصحيحة والمتينة، وتلبية ما يستجدّ من أمور على الصعيدين الفكريّ والفقهيّ، وإحياء ما اندثر من معالم الرسالة، وبيان القرآن وتفسيره وتأويله... فكانت خلاصة جهودهم عليهم السلام فيما يخصّ الجانب الأوّل هي صيانة الرسالة الإسلاميّة حيّة بنّاءة متحرّكة على مرّ الأجيال.

 

وأمّا فيما يخصّ الجانب الثاني، فإنّهم كانوا يسعون، وَفقاً لما تقتضيه الظروف السياسيّة والاجتماعيّة في المجتمع الإسلاميّ، والحكمة فيما يخصّ حفظ الدين وصيانته، إلى إعداد المقدّمات اللّازمة لتسلُّم زمام القيادة والحكم، عاجلاً أم آجلاً.

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 16 - 17.

[2] المصدر نفسه، ص 89.

 

22


10

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

3- حفظ الرسالة:

عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام جاهدين في سبيل تحقيق الأهداف التفصيليّة التي أشرنا إليها، فبذلوا في ميدان حفظ الرسالة الغالي والنفيس. وكثيرة هي المواقف والأحداث التي صدرت عن الأئمّة عليهم السلام، والتي كانت تمثّل تجلّياً عمليّاً وتكتيكاً تفصيليّاً لهذا الجانب، والتي سنتعرّض إلى بعضها باختصار، تباعاً.

 

يقول السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره في هذا الصدد: "كلّنا يعلم أنّ الرسالة الإسلاميّة، بوصفها رسالة عقائديّة، قد خطّطت لحماية نفسها من الانحراف، وضمان نجاح التجربة خلال تطبيقها على مرّ الزمن، فأوكل أمر صيانة التجربة وتحويلها وتوجيهها سياسيّاً إلى الأئمّة عليهم السلام بوصفهم أشخاصاً عقائديّين، بلغوا في مستواهم العقائديّ درجة العصمة من الانحراف والزلل والخطإ..."[1].

 

وعليه، "فالأئمّة عليهم السلام على الرغم من إقصائهم عن مجال الحكم، كانوا يتحمّلون باستمرار مسؤوليّتهم والحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلاميّة، وتحصينها ضدّ التردّي إلى الهاوية، هاوية الانحراف والانزلاق عن مبادئها وقيمها... كان الأئمّة عليهم السلام يحافظون على المقياس العقائديّ والرساليّ في المجتمع الإسلاميّ، ويحافظون على أن لا يحبط إلى درجة تشكّل خطراً ماحقاً، وهذا يعطي ممارستهم جميعاً دوراً إيجابيّاً فعّالاً في حماية العقيدة، وتبنّي مصالح الرسالة والأمّة... وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظريّة سليماً من الانحراف، وإن تشوّهت معالم التطبيق... وتَمثَّل الدور الإيجابيّ بالأئمّة عليهم السلام، في تحويل الأمّة العقائديّة بشخصيّتها الرساليّة والفكريّة من ناحية... ومقاومة التيّارات الفكريّة التي تُشكّل خطراً على الرسالة، وضربها في بدايات تكوُّنها من ناحية أخرى..."[2].

 


[1] الصدر، السيّد محمّد باقر، أهل البيت عليهم السلام تنوّع أدوار ووحدة هدف، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ص 145.

[2] المصدر نفسه، ص 144 - 145.

 

23


11

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

4- رعاية القاعدة الشعبيّة:

حازت القاعدة الشعبيّة للأئمّة عليهم السلام، ولا سيّما الشيعة منهم، اهتماماً كبيراً ورعايةً شديدةً من قِبل الأئمّة عليهم السلام، وقد مثّل مبدأ رعاية الشيعة وتربيتهم التكتيك العمليّ الذي يؤسّس لهدف الإمام المعصوم عليه السلام الأهمّ، ولا سيّما في الجانب السياسيّ الاجتماعيّ، فكانت رعاية الشيعة خصوصاً تجلّياً لهذا الجانب. وقد كان دور الأئمّة عليهم السلام دوراً إيجابيّاً وفاعلاً ومؤثّراً في الأمّة أجمع، بأطيافها كلّها، وكانت القاعدة الجماهيريّة للأئمّة عليهم السلام عريضة عرض الأمّة عموماً، وإن اقتصر الأمر على المودّة السطحيّة. ولم تكن تلك المكانة للأئمّة عليهم السلام بسبب الانتساب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، بل إنّ إيجابيّة الأئمّة عليهم السلام تجاه المجتمع ككلّ رفَعَ مكانتهم عند الجميع.

 

هذا، وقد كان للشيعة الحظّ الأوفر من رعاية الأئمّة عليهم السلام وتدبير شؤونهم. ويُبيّن الشهيد الصدر هذه المسألة، فيقول: "رعاية الشيعة بوصفهم الكتلة المؤمنة بالإمام عليه السلام، والإشراف عليها بوصفها المجموعة المرتبطة به، والتخطيط لسلوكها وحمايتها وتنمية وعيها، وإسعافها بکل الآساليب التي تساعد على صمودها في خضم المحن، وارتفاعها إلى مستوى الحاجة الإصلاحيّة، إلى جيش الإسلامية إلى عقائديّ وطليعة واعية.

 

ولدينا عدد كبير من الشواهد في حياة الأئمّة عليهم السلام على أنّهم كانوا يباشرون نشاطاً واسعاً في سبيل الإشراف على الكتلة المرتبطة بهم والمؤمنة بإمامتهم، حتّى إنّ الإشراف كان يصل أحياناً إلى درجة تنظيم أساليب الحلّ للخلافات الشخصيّة بين أفراد الكتلة، ورصد الأموال لها"[1].

 

لذا، فقد أولى الأئمّة عليهم السلام مهمّة رعاية الشيعة في مختلف المجالات رعاية كبيرة، بوصفهم القاعدة التي سيحقّق المعصوم هدفه من خلالها، فهم المؤمنون بهدف المعصوم، العاملون على خطاه وتبعاً لإرشاداته على الدوام. وقد تجلّى هذا المنهج

 


[1] السيد الصدر، أهل البيت عليهم السلام تنوّع أدوار ووحدة هدف، مصدر سابق، ص 148.

 

24


12

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

في الكثير من المواقف في حياة الأئمّة عليهم السلام تجاه أشياعهم، وسيتبيّن ذلك معنا في الدروس القادمة، إن شاء اللَّه.

 

شذرات من المقام المعنويّ لأئمّة أهل البيت عليهم السلام

إنّنا، وتفادياً لأيّ لغط يمكن أن يحصل في فهم العلاقة مع الأئمّة عليهم السلام، ينبغي لنا التوقّف قليلاً عند مسألة مقامهم المعنويّ عليهم السلام، وذلك لنعي خطورة القضيّة وعِظَمَها، ونعرف أيّ وادٍ عميقٍ ذاك الذي نسلكه بأفهمامنا القاصرة، فإنّ الاقرار بمقامهم الشامخ ومكانتهم التي لا يقربها أيّ موجود، هو من أهمّ الأسس لبناء معرفةٍ صحيحة بهم صلوات اللَّه عليهم دون إفراط وغلوّ أو تفريط وتقصير. وقد روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لَا تَتَجَاوَزُوا بِنَا الْعُبُودِيَّةَ ثُمَّ قُولُوا فِينَا مَا شِئْتُمْ وَلَنْ تَبْلُغُوا"[1]. فهُم الكلمة التامّة للَّه تعالى، المنزّهون عن كلّ نَجَس ورِجس، وهم أصحاب التجلّي الأعظم للَّه تعالى، فلا يُدرك مقامَهم أحد، ولا يصل إلى عليائهم أيُّ ممكن.

 

ومع ذلك، يجب الالتفات إلى حقيقة متأصّلة في وجودهم الشريف عليهم السلام، وهي أنّهم العباد الحقيقيّون للَّه تعالى، لا يعصون اللَّه ما أمرهم، ولا يحيدون عن إرادته قيد أنملة، وأنّ مسارهم كلّه في العوالم كلّها، ولا سيّما عالم الدنيا، وما سجّله التاريخ من سِيَرهم، ليس سوى تجلٍّ لتلك العبوديّة الحقّة، وهي المعيار الذي يجب أن نقيس أفعالهم كلّها وَفقه.

 

وقد أشار الإمام الخمينيّ قدس سره إلى جانبٍ من مقاماتهم المعنويّة السامية، نشير إليها على نحوٍ مختصر:

1- مقام لا يُدرك:

عبّر الإمام قدس سره في أكثر من موضع أثناء أبحاثه العرفانيّة والأخلاقيّة عن العجز وعدم القدرة لدى أيّ إنسان للإحاطة والمعرفة بمنزلة الأئمّة الواقعيّة والوقوف على

 

 


[1] الطبرسيّ، الشيخ أحمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللّجاج، الناشر: نشر المرتضى، مشهد، 1403، ط1، ج2، ص 438.

 

25


13

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

أسرارهم إلّا أنفسهم عليهم السلام، فهم التجلّي الأعظم والأكمل على الإطلاق للحقّ جلّا وعلا، وهم واسطة الفيض التي فنيت في المطلق، فكيف يمكن للمحدود أن يحيط بمن اتّصل بالمطلق!

 

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ مقام هؤلاء الأولياء عليهم السلام أسمى وأرفع من أن تنال آمال أهل المعرفة أطراف كبرياء جلالهم وجمالهم، وأن تبلغ خطوات معرفة أهل القلوب ذروة كمالهم... إنّ لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام مقاماً روحانيّاً شامخاً، في السير المعنويّ إلى اللَّه، يفوق قدرة استيعاب الإنسان حتّى من الناحية العلميّة، وأسمى من عقول ذوي العقول وأعظم من شهود أصحاب العرفان"[1].

 

2- أصحاب مقام روح القدس:

يبيّن الامام قدس سره في موضع آخر أنّ للأئمّة عليهم السلام مقام روح القدس الذي هو المكانة والقدرة والإحاطة التي لم يصل إليها أقرب المقرّبين من ملائكة اللَّه تعالى كجبرائيل عليه السلام، فتشمل ولايتهم التكوينيّة ما في الكون كلّه.

 

يقول قدس سره: "إنّ لهم مقاماً شامخاً من الروحانيّة يدعى "روح القدس"، من خلاله يتمتّعون بالاحاطة القيّوميّة لجميع الكائنات حتّى ذراتها الصغيرة جدّاً، ولا توجد فيها الغفلة والنوم والسهولة والنسيان وكافّة الحوادث والتغيّرات والنقائص الملكيّة، بل تكون من عالم الغيب المجرّد، والجبروت الأعظم.. إنّ تلك الروح المجرّدة الكاملة، أعظم من جبرائيل وميكائيل عليهما السلام، على الرغم من أنّهم أعظم القاطنين في مقام قرب الجبروت"[2].

 

3- أصحاب مقام الاسم الأعظم:

إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام هم أصحاب التجلّي الأعظم والأتمّ للحقّ جلّ جلاله، وهذا المقام يُعبَّر عنه بمقام الاسم الأعظم، حيث يقول الامام قدس سره في هذا المقام: "إنّ الأحاديث المنقولة في طينة أبدانهم وخلق أرواحهم ونفوسهم، وفيما مُنحوا من

 


[1]  أهل البيت عليهم السلام في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 11-12.

[2] المصدر نفسه، ص 13.

 

26


14

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

الاسم الأعظم والعلوم الغيبيّة الإلهيّة من علوم الأنبياء والملائكة، وممّا هو أعظم، ممّا لا يخطر على بال أحد"[1].

 

ويؤكّد قدس سره ثبوت ذلك لهم عليهم السلام في موضع آخر من كلامه أثناء الحديث عن الاسم الأعظم في مقام الألوهيّة وتجلّيه ضمن شرح دعاء السحر، قائلاً: "لا يتجلّى هذا الاسم بحسب الحقيقة تامّاً إلّا لنفسه ولمن ارتضى من عباده، وهو مظهره التامّ، أي صورة الحقيقة الإنسانيّة التي هي صورة جميع العوالم، وهي مربوب هذا الاسم، وليس في النوع الإنسانيّ أحد يتجلّى له هذا الاسم على ما هو عليه إلّا الحقيقة المحمّدية  صلى الله عليه وآله وسلم، وأولياؤه الذين يتّحدُون معه في الروحانيّة، وذلك هو الغيب الذي استثنى منه من ارتضى من عباده"[2].

 


[1] أهل البيت عليهم السلام في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 14.

[2] المصدر نفسه.

 

27


15

الدرس الأوّل: أئمّة أهل البيت عليهم السلام الأدوار والأهداف

المفاهيم الأساسيّة

- إنّ من أكبر النعم وأعظمها نعمة الوجود المقدّس للمعصومين عليهم السلام، وكونهم عليهم السلام القادة الحقيقيّين للارتقاء بالمسيرة البشريّة نحو العلا.

 

- لا ينبغي الشكّ في أنّ هدف الأئمّة عليهم السلام كان واحداً، وكأنّهم إنسان عمّر 250 سنة، يعمل على الرغم من الاختلافات كلّها التي ظهرت في حياتهم، وهدفهم هو هدف الأنبياء عليهم السلام، فهم امتدادٌ لخطّ السماء، والإمامة هي استمرارٌ للنبوّة بأهدافها ووظائفها.

 

- سعى الأنبياء عليهم السلام لصناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعيّ وتكريم الإنسان وتحريره، من خلال تربية الإنسان، ليندفع باتّجاه كماله الحقيقيّ، وأكمل الأئمّة عليهم السلام هذه المهمّة.

 

- كانت خطّة عمل الأئمّة عليهم السلام هي إقامة حكومة العدل وتطبيق قوانينها، فكان مجمل أعمالهم يصبُّ في مصلحة إقامة العدل الإلهيّ، فسعوا لإعداد المقدّمات لتسلُّم زمام القيادة عاجلاً أو آجلاً.

 

- كان تبيين الدّين وتفسيره بحسب الرؤية الخاصّة لأهل البيت، ورفع التحريفات والتفسيرات المغلوطة أيضاً، هدفاً مهمّاً لجهادهم عليهم السلام.

 

- على الرغم من إقصاء الأئمّة عن الحكم، فقد حفظوا عليهم السلام الرسالة الإسلاميّة وحصّنوها، وقاوموا التيّارات الفكريّة التي تُشكّل خطراً على الرسالة.

 

- ينبغي لمن يريد التعرّف إلى أهل بيت العصمة عليهم السلام أن يأخذ بالاعتبار مقامهم المعنويّ، ويلتفت إلى هذه القضيّة، ليقترب من تلك المعرفة والفهم الصحيح لهم عليهم السلام، فهم العباد الحقيقيّون للَّه تعالى، لا يعصونه ما أمرهم، ولهم مقام معنويّ لا يُدرك، وهو أسمى وأرفع من أن تناله آمال أهل المعرفة، وهم أصحاب مقام روح القدس الذي يعني الإحاطة والولاية التكوينيّة، وهم أصحاب مقام الاسم الأعظم، وهم صورة الحقيقة الإنسانيّة الكاملة.

 

28


16

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

الدرس الثاني

الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يعدّد مراحل حياة أمير المؤمنين عليه السلام.

- يتعرّف إلى أبرز محطّات حياة أمير المؤمنين عليه السلام إلى حين الهجرة النبويّة.

- يستنتج الدروس التربويّة من حياة الإمام عليّ ومواقفه عليه السلام.

 

29


17

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

تمهيد

إنّ الكلام عن أكمل خلق اللَّه - عزّ وجلّ - بعد نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم صعب مستصعب، فالتواضع والاعتراف بالعجز عن تأدية شيء من حقوق أشرف الخلق لهو السبيل الأسلم للحديث عنهم عليهم السلام والتعرّف إليهم. ومع ذلك، فإنّ اللَّه تعالى أنعم علينا بأن كان لهم عليهم السلام حياةٌ أرضيّة تشبه حياة الناس، وأنّهم عاشوا مع الناس مثل الناس، فكان لهم سيرة يمكن تتّبعها، وأفعال تعبّر عن حقيقتهم عليهم السلام، لذا فإنّ هذا البعد التاريخيّ في شخصيّاتهم هو بابنا للولوج إلى بحر معرفتهم اللّامتناهي.

 

الإمام عليّ عليه السلام الشخصيّة الجامعة

إذا أردت أن تطلّع على حياة الإمام عليّ عليه السلام على هذه البسيطة، وأردت أن تلاحظ مختلف جوانبها الظاهريّة فقط، فإنّك ستجده صاحب شخصيّة جامعة، شخصيّة حوت من المكارم أرفعها ومن الفضائل أرقاها، بل كلّ كمال وكلّ فضل وكلّ خير كان عليّ عليه السلام معقله. وليست تلك بمبالغة البتّة، بل إنّ الوقائع التاريخيّة تُظهر ما سلف، وهذا ما سيتبين شيءٌ منه فيما يأتي.

 

فللباحث في حياة إمام المتّقين عليّ عليه السلام أن يُذهل ويدهش من عظم شخصيّته وجامعيّتها، فتحار من أيّ معينه تنهل، فإذا بك تغوص في بحرٍ لُجّيٍّ لا قرار له، بحرٍ من العظمة والجود والعبوديّة والحبّ والرأفة والزهد في حطام الدنيا، ورحمة الأيتام والعدل في كلّ حال.

 

يُبيّن الإمام الخمينيّ قدس سره مسألة جامعيّة شخصية الإمام عليّ عليه السلام فيقول:

 

31


18

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

"عليّ عليه السلام هو التجلّي العظيم للَّه"[1]، ويضيف: "هذا العظيم يمتاز بشخصيّة ذات أبعاد كثيرة، ومظهر لاسم الجمع الإلهيّ الذي يحوي جميع الأسماء والصفات، فجميع الأسماء والصفات الإلهيّة في ظهورها وبروزها في الدنيا وفي العالم ظهرت في هذه الشخصيّة (شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام) بوساطة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّ أبعاده الخفيّة هي أكثر من تلك الأبعاد الظاهرة، وإنّ هذه الأبعاد نفسها التي توصّل إليها البشر، ويُتوصّل إليها، قد جمعت في رجل واحد، في شخصيّة واحدة، جهات متناقضة ومتضادّة... تمتلك جميع الأوصاف وجميع الكمالات... لم يكن حضرة الأمير عليه السلام من الجهة المعنويّة شخصاً مفرداً، بل كان كلّ العالم"[2].

 

ثمّ إنّ هذا المقام المعنويّ العظيم الذي يتحدّث عنه الإمام الخمينيّ قدس سره ووصفه بأنّه مظهر لاسم الجمع الإلهيّ، والذي هو أصل كمالات الإمام عليّ عليه السلام الظاهريّة كلّها، لم يُكتب له أن يظهر كما ينبغي، وذلك بفعل الأحداث التاريخيّة، والتمرّد المتكرّر على إمام الحقّ.

 

لكن ينبغي لنا أن لا يغيب هذا البعد الغيبيّ المعنويّ الحقيقيّ عن أذهاننا في معالجتنا للقضايا المتعلّقة بالمعصومين عليهم السلام، كي لا نُخفق في معرفتنا لهم، فنظلم أنفسنا ونسدّ عليها أبواب الاقتداء بهم عليهم السلام. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره حول هذه المسألة: "يجب علينا أن نأسف لأنّ الأيدي الخائنة، والحروب التي أشعلوها، ومثيري الفتن، لم يسمحوا لبروز الشخصيّة الفذّة لهذا الرجل العظيم في أبعادها المختلفة".

 

فإذا كان الكثير من أبعاده الظاهريّة خافياً عنّا، فكيف بالأبعاد المعنويّة التي لا ينال معرفة حقائقها أحد من العالمين كما جاء في الأحاديث الشريفة، حيث روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا عليّ، ما عرفني إلّا اللَّه وأنت، وما عرفك إلّا اللَّه وأنا"[3].

 


[1] أهل البيت عليهم السلام في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، مصدر سابق، ص 17.

[2] المصدر نفسه، ص 17 - 18.

[3] المجلسيّ، محمّد تقي، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، الناشر: مؤسّسة كوشانبور للثقافة الإسلاميّة، قم، ط2، 1406هـ، ج5، ص 492.

 

32


19

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

وفيما يأتي سوف نتعرّض لحياة أمير المؤمنين عليه السلام من جهة تاريخيّة بصبغة تحليليّة تربويّة، في محاولة لاستنتاج القيم التي تجلّت في سلوك الإمام عليّ عليه السلام، والتي حكمت مساره في حياته، ليكون ذلك مشعلاً لنا نحمله في مسيرة تعرّفنا إليه عليه السلام، وليكون دستوراً لنا في حياتنا، يحدّد لنا كيفيّة الاقتداء به وبغيره من المعصومين عليهم السلام.

 

نسب الإمام علي عليه السلام

هو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، واسم والده المكنّى بأبي طالب هو عبد مناف، وقيل عمران[1]، وهو أخو عبد اللَّه عليه السلام والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأمّه وأبيه.

 

أمّه هي فاطمة بنت أسد بن هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكانت من السابقات إلى الإيمان، وقد تكفّلت وأبو طالب رعاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد موت أمّه آمنة[2] عليه السلام، فكانت بمثابة الأمّ له صلى الله عليه وآله وسلم، قال فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد موتها: "رحمك اللَّه يا أميّ، كنت أمّي بعد أمّي..."[3].

 

وقد كانت السيّدة فاطمة بنت أسد أوّل هاشميّة وُلدت لهاشميّ[4]، فعراقة النسب ورفعة الحسب أحاطتا بالإمام عليّ عليه السلام لجهة أمّه وأبيه، وكفى بشرافة نسبه عليه السلام أنّه هو فرع ذلك النسب.

 

مراحل حياة الإمام عليّ عليه السلام

كان الإمام عليه السلام في فترة حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تابعاً بالكلّيّة، ومنقاداً قلباً ووجداناً لشخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومدافعاً مستميتاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة، ومن ثمّ أمسى هو

 


[1] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام، الناشر: دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1403هـ، بيروت، ج35، ص 138.

[2]  المصدر نفسه، ص 179.

[3] المجلسيّ، محمّد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الناشر: دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1404هـ، ط2، ج5، ص 278.

[4] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج1، ص 230.

 

33


20

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

بنفسه المحور الذي ينبغي أن يُدار حوله، وذلك بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وبناءً على تنوّع أدوار الإمام في هذين العصرين من حياته الشريفة بحسب الظروف، يمكن لنا أن نصنّف حياته إلى مراحل عدّة كالآتي:

1- من الولادة المباركة حتّى البعثة النبويّة، أي من 13 رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة إلى البعثة النبوية في 27 رجب، أي عشر سنين.

 

2- من البعثة النبويّة حتّى الهجرة، وهي ثلاث عشرة سنة.

 

3- من الهجرة حتّى رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي عشر سنوات، حيث يكون عمر الإمام عليه السلام إلى وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وثلاثين سنة.

 

4- وهي مرحلة الخلفاء الثلاثة، أي من حين حادثة سقيفة بني ساعدة إلى وفاة عثمان بن عفان، وهي خمس وعشرون سنة. وهذه المرحلة هي مرحلة إبعاد الإمام عليه السلام عن الحكم والقيادة المباشرة للمسلمين.

 

5- من البيعة للإمام عليه السلام سنة35ه حتّى استشهاده عليه السلام في21 من شهر رمضان سنة 40هـ. وتقرب هذه المرحلة من خمس سنوات، وهي مرحلة الحكم والقيادة المباشرة للمسلمين.

وفيما يلي سوف نتعرّض لحياة الإمام عليّ عليه السلام وفقَاً لهذه المراحل.

 

الإمام عليّ عليه السلام من الولادة حتّى البعثة النبويّة

1- ولادته عليه السلام:

بعد مضيّ ثلاثين سنةً من عام الفيل، شرّف اللَّه - عزّ وجلّ - الكعبة المكرّمة وبيته الحرام بمزيد تشريف، فكانت محلّ ولادة أعظم الخلائق بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الإمام عليّ عليه السلام، وذلك في يوم الجمعة في 13 من شهر رجب، عندما شُقّ جدار البيت المعظّم لفاطمة بنت أسد عليه السلام ودخلت فيه. وقد بقيت فاطمة في بيت اللَّه - عزّ وجلّ - ثلاثة أيّام ثمّ

 

34


21

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

خرجت وبين يديها سيّد الأوصياء[1] عليه السلام. وهي فضيلةٌ خصّه اللَّه - عزّ وجلّ - بها إجلالاً وإعلاءً لمرتبته عليه السلام، حيث لم يولد قبله في البيت الحرام أحد ولا حدثت لأحدٍ بعده.

 

2- من كناه وألقابه عليه السلام:

إنّ لأمير المؤمنين عليه السلام ألقاباً وكنًى كثيرة يصعب إحصاؤها، كلّها صادرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في شتّى المواقف، منها: سيّد الأوصياء، أمير المؤمنين، قائد الغرّ المحجّلين، الصدِّيق الأكبر، الفاروق الأعظم، وغيرها. وأمّا كناه فعديدة، منها: أبو الحسن، أبو السبطين، أبو تراب[2].

 

3- الإعداد النبويّ للإمام عليّ عليه السلام:

كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كثير التردّد إلى منزل عمّه أبي طالب، على الرغم من زواجه بخديجة وعيشه معها في منزل منفرد، وكان يُظهر رعايةً وعنايةً خاصّتين بعليّ عليه السلام الصغير، فيحمله على صدره، ويحرّك مهده عند نومه.

عاش الإمام عليّ عليه السلام خلال المرحلة الأولى من حياته، وهي الفترة الحسّاسة لتكوين شخصيّته وتربيته روحيّاً ومعنويّاً، في بيت الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وفي ظلّ تربيته، وذلك بعدما أصابت قريشاً أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرين، فتفرّق أبناء أبي طالب بين إخوته، إلّا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ عليّاً فضمّه إليه، وكان عمره ستّ سنوات، فلم يزل عليّ عليه السلام مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بيته حتّى بعثه اللَّه نبيّاً، فاتّبعه عليّ وأقرّ به وصدّقه[3].

 

وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام في الخطبة القاصعة إلى هذه الفترة من حياته، فقال: "وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمُّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه...، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً، ويأمرني بالاقتداء به"[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 132 - 133.

[2] راجع: الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص11، الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص126، الخصيبي، حسين بن حمدان، الهداية الكبرى، الناشر: البلاغ، بيروت، 1419ه، ص 93.

[3] راجع: العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج35، ص 43 - 44.

[4] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة اللَّه، شرح نهج البلاغة، الناشر: مكتبة السيّد المرعشي النجفيّ، قم، 1404هـ، ط1، ج13، ص 197.

 

35


22

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

وقد شاءت الارادة الإلهيّة أن يتربّى الإمام عليّ عليه السلام في حجر أفضل البشر. ويرشدنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في خطوته تلك المحاطة بالعناية الإلهيّة إلى مسألة تربويّة غاية في الأهمّيّة، وهي الاهتمام بالبيئة المحيطة بالمتربّي وتنقيتها من الشوائب، خصوصاً إن كان صاحب استعدادات وقابليّات عالية. فمع أنّ المتربّي ليس بطفلٍ عاديّ وليس مجرّد طفلٍ يملك استعدادات روحيّة عالية، بل هو الوليّ المطلق للَّه تعالى، إلّا أنّ ذلك استدعى مزيد عنايةٍ من اللَّه - عزّ وجلّ - عبر نبيّه الذي هيّأ البيئة الملائمة لظهور استعدادات ذلك العظيم عليه السلام.

 

4- الإمام عليّ عليه السلام في غار حرَاء:

كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يُبعث، يجاور في غار حرَاء من كلّ سنة شهراً. وقد دلّت الروايات على أنّ رسول اللَّه كان يأخذ عليّاً معه إلى غار حرَاء. وحينما هبط ملك الوحي على النبيّ أوّل مرّة، وكرّمه بالرسالة، كان الإمام عليّ عليه السلام بجانبه في ذاك الغار، وقد قال عليه السلام عن ذلك في الخطبة القاصعة: "ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يجاور في كلّ سنة بحَرَاء، فأراه ولا يراه غيري...، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي، فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أَيِسَ من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبيّ، ولكنّك لَوزير، وإنّك لَعلى خير"[1].

 

وفي تلك الحادثة دلالة على شدّة الاستعدادات الروحيّة التي كانت نفس أمير المؤمنينعليه السلام تكتنفها، وعلى قُوّتها، حتّى قبل ظهور الإسلام، وهذه الحادثة وغيرها تعبّر عن حقيقة جاء نصّها على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "إنّ اللَّه - تبارك وتعالى - خلقني وعليّاً من نور واحد قبل أن خلق الخلق بخمسمائة ألف عام، فكنّا نسبّح اللَّه ونقدّسه، فلمّا خلق اللَّه تعالى آدم، قذف بنا في صلبه، واستقررت أنا في جنبه الأيمن وعليّ في الأيسر، ثمّ نقلنا من صلبه في الأصلاب الطاهرات إلى الأرحام الطيّبة، فلم نزل كذلك حتّى أطلعني اللَّه -تبارك وتعالى- من ظَهْرٍ طاهر،  وهو عبد اللَّه بن عبد

 


[1] المصدر نفسه.

 

36


23

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

المطّلب، فاستودعني خير رحم، وهي آمنة، ثمّ أطلع اللَّه - تبارك وتعالى - عليّاً من ظَهْرٍ طاهر، وهو أبو طالب، واستودعه خير رحم، وهي  فاطمة بنت أسد"[1].

 

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام هما من حقيقة واحدة بشهادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ريب في أن يكون للإمام عليه السلام قابليّات واستعدادات تماثل ما عند الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

الإمام عليّ عليه السلام من البعثة إلى الهجرة النبويّة

استغرقت هذه الفترة ثلاثة عشر عاماً، وتشتمل على مجموعة كبيرة من الأعمال العظيمة والبارزة التي قدّمها الإمام عليّ عليه السلام في سبيل ازدهار الإسلام ورفعته:

1- الإمام عليّ عليه السلام أوّل من أسلم، وأوّل من صلّى:

كان الإمام عليّ عليه السلام لم يتجاوز عشرة أعوام من عمره الشريف لمّا بُعث رسول اللَّه  صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّ أُولى مفاخر الإمام عليّ عليه السلام هي سَبْقه في الإسلام، وتقدّمه على الجميع، وهي فضيلة يقرّ بها جميع المسلمين، لطهارة روحه وصفاء نفسه وبغضه لعبادة الشرك والأوثان، فقد كان عليه السلام مؤمناً موحّداً منذ خلقه اللَّه عزّ وجلّ. فالأدقّ أن نقول إنّه أوّل من جهر بإسلامه وأعلنه، ذلك أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يشرك بربّه منذ ولادته، فلا يصحّ أن نقول إنّه أسلم أو آمن، حيث يقول عليه السلام عن نفسه: "فإنّي وُلدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة"[2]. وقد كان الإمام عليّ عليه السلام أوّل من صلّى بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فصلّى معه جماعة في شعاب مكّة متخفيين، حيث كانا يخرجان بعيداً عن أعين الناس عموماً للصلاة[3]، وكانت السيّدة خديجة تصلّي معهما[4].

 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج35، ص 10.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص 54.

[3] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج35، ص 43.

[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص 119 - 120.

 

37


24

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

إنّ إعلان الإمام عليّ عليه السلام إسلامه وهو دون العاشرة من عمره، وتلبيته لنداء الصلاة كما فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تماماً، وعدم اكتراثه عليه السلام بتبعات ذلك كلّه، من استهزاءٍ ونبذٍ ومطاردةٍ، لهي موضع تأمّل وتفكّر! فليس أيّ شخص قادراً على نبذ الموروثات والعقائد والسلوكيّات كلّها التي يدين بها رهطُه وعشيرتُه دونما أيّ التفات، بل إنّ ذلك يحتاج قوّة شديدة في روحه!

 

فهذه المواقف تبيّن قوّة الشخصيّة التي كان يتحلّى بها الإمام عليّ عليه السلام منذ صغره، ورقيّ نفسه الطاهرة، وليس هذا فحسب، بل إنّ تلك المواقف تُظهر القوّة الحقيقيّة التي يهبها الحقّ لأتباعه المخلصين، فلا يعبؤون بكلّ ما سوى الحقّ. وقوّة الدين نفسه، وتفاعل الإمام عليه السلام الإيجابيّ مع الدين قد أسهمَا في دفعه إلى التخلّي بسهولة شديدة عن كلّ ما يعادي الدين أو حتّى يقف حياديّاً تجاهه، فكثير من وجهاء قريش ممّن هم من أصحاب القوّة والكلمة في قريش وسواها لم يجرؤوا على فعل بعضٍ من أفعال عليّ عليه السلام، ولا سيّما في بداية الدعوة، بل إنّ أطواق الجاهليّة بقيت تكبّلهم حتّى حين، إلى أن أسلم بعضهم فيما بعد، وأعلن آخرون الحرب، كأبي سفيان، ضدّ الإسلام.

 

2- مساندة الإمام عليّ عليه السلام للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

لم يفارق الإمام عليّ عليه السلام رسولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم منذ صغره، وقد تأكّد هذا الترابط الوثيق بعد بزوغ فجر الإسلام، حيث كان الإمام عليّ عليه السلام يساند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في فترة الدعوة السرّيّة مدّة ثلاث سنوات. وعندما أُمِر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بدعوة قومه إلى دين اللَّه، أمر صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّاً عليه السلام بأن يُعدّ وليمة غداء دعا إليها وجهاء بني هاشم، ثمّ دعاهم إلى الإسلام، وقال: "يا بني عبد المطلب، أنّي واللَّه ما أعلم أنّ شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، أنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟"، فلم يُجبه أحد إلّا عليّ عليه السلام وله من العمر نحو 14 عاماً، فقال في حقّه: "هذا عليٌّ أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا"[1].

 

وقد كان الامام عليه السلام ينبري للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الدوام، وكأنّه الحارس

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج13، ص 210 - 211.

 

38


25

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

الشخصيّ له صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يتصدّى لصبية قريش الذين كانوا يرمون الحجارة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويدمونه، ويستهزؤون به بعد أن جهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة، وكان عليّاً عليه السلام يمنعهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ويقضم لهم أنوفهم، حتّى سُمّي بالقضيم[1].

 

وبعد أن عجزت قريش عن إيقاف مدّ الدعوة، اجتمع المشركون في دار الندوة وقرّروا قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فانتدبوا من كلّ قبيلة شابّاً يشارك في قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليضيع دمه بين القبائل. أطلع جبرائيل رسولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وأبلغه أمر اللَّه بأن يترك مكّة ويتّجه نحو يثرب. واختار اللَّه عليّاً ليفدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، فبات في فراشه ليوهم المشركين أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في الدار، وليَسلم نبيّ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم من كيد المشركين، فأيّ إيثار ذلك، وأيّ تضحية وأيّ فداء وشجاعة!

 

إنّ مثل هذه الأفعال والتضحيات هي سمة المخلَصين الذين لا يحيدون عن إرادة بارئهم مطلقاً، ولا يرون لأنفسهم أيّ وجود ما خلا وجود المحبوب الحقيقيّ الذي قد فنوا في إرادته. فعندما طلب النبيّ المصطفى عليه السلام من الإمام عليّ عليه السلام أن يبيت في فراشه، لم يتردّد عليه السلام ولم يتوانَ، بل لم يسأل الإمام عليه السلام عن أيّ تفصيل، فضلاً عن أن يفكّر في الموافقة وعدمها، وكان جلّ همّه هو الرسالة وحاملها.

 

وقد خلّد القرآن تضحية عليّ عليه السلام، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. ثمّ لمّا اجتمع عليه القوم نهض فيهم وفرّقهم عنه، ولمّا رأوا أنّ البائت ليس هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل عليّ عليه السلام تركوه، وذهبوا يقتفون أثر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي خرج من مكّة يريد يثرب[2]، ثمّ لحقه الإمام عليّ عليه السلام بعد أيّام.

 

وقد سنّ الإمام عليّ عليه السلام سُنّة الإيثار والتضحية والفداء بفعله ذاك، وقدّم للجميع درساً عمليّاً حول نكران الأنا وعدم رؤيتها البتّة في قبال الحقّ، وهو يعلّم الجميع أنّ المنتسب الحقيقيّ إلى الرسالة والدين ينبغي أن يتحلّى بالشجاعة التي تؤهّله لأن يضحّي بأغلى ما يملك في سبيل قيمه ومشروعه الذي يؤمن به.

 


[1] القمّيّ، علي بن إبراهيم، تفسير القمّيّ، الناشر: دار الكتاب، قم، 1404هـ ط3، ج1، ص 114.

[2] المصدر نفسه، ص 273 - 277.

 

39


26

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- الإمام عليّ عليه السلام شخصيّة حَوَت كلّ كمال وكلّ فضل، وهو التجلّي الأعظم للَّه، ومظهر لاسم الجمع الإلهيّ، فينبغي لنا أن لا يغيب هذا البعد الغيبيّ عن أذهاننا في تعرّفنا على سيرته عليه السلام.

 

- هو عليّ بن أبي طالب ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّه هي فاطمة بنت أسد بن هاشم، أسلمت وهاجرت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكانت من السابقات إلى الإيمان، وكانت بمثابة الأمّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد موت أمّه.

 

- يمكن لنا الحديث عن مراحل عدّة في حياة الإمام عليّ عليه السلام على الشكل التالي:

1- من الولادة المباركة حتّى البعثة النبويّة.

2- من البعثة النبويّة حتّى الهجرة، وهي ثلاث عشرة سنة.

3- من الهجرة حتّى رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهي عشر سنوات.

4- مرحلة الخلفاء الثلاثة، وهي مرحلة إبعاد الإمام عليه السلام عن الحكم والقيادة المباشرة للمسلمين.

5- من البيعة للإمام عليه السلام حتّى استشهاده.

 

- أولى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليه السلام عناية خاصّة، وقد أخذه للعيش معه صغيراً بعدما ضاقت حال أبي طالب، فتربّى في حجره، وكان أوّل من آمن به وصدّقه.

 

- لم يتجاوز الإمام عليّ عليه السلام السنوات العشر عندما بُعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فآمن به وآزره، وكان أوّل من صلّى معه هو وخديجةّ عليها السلام، وكان يدرأ عنه أذى صبية قريش ويمنعهم منه.

 

- لمّا أجمع المشركون على قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بخطّتهم باغتياله ليلاً على فراشه، أوعز إلى الإمام عليّ عليه السلام بالمبيت مكانه ليتسنّى له الهجرة نحو يثرب، ففعل الإمام وفدى الرسول بنفسه.

 

40


27

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

الدرس الثالث

الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى محطّات حياة أمير المؤمنين عليه السلام من الهجرة إلى وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- يبيّن المواقف والتكاليف التي قام بها الإمام عليّ عليه السلام في كلّ مرحلة.

 

- يتعرّف إلى نشاط الإمام عليّ عليه السلام في عهد الخلفاء الثلاثة.

 

41

 


28

الدرس الثاني: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

الإمام علي عليه السلام من الهجرة إلى وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:

1- الهجرة نحو المدينة:

هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نحو يثرب، ونزل في منطقةٍ تُدعى قباء بانتظار الامام عليّ عليه السلام ومَن معه، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل رسالةً إلى الإمام عليّ عليه السلام أوكله فيها بمهمّة تأدية الأمانات التي كانت لا تزال في عهدة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. كذلك وقد هاجر جمع من ضعفاء المسلمين خفاءً نحو يثرب بأمر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أدّى إمامنا عليّ عليه السلام الشجاع مهمّته على مرأى من الجميع، فكان يقيم صارخاً يهتف غدوة وعشيّاً أمام الملإ: "من كان له قِبل محمّد أمانة أو وديعة فلْيأتِ لنؤدّي إليه أمانته". ثمّ أعدّ الإمام عليه السلام العدّة، واشترى الركائب للخروج برفقة الفواطم، وهنّ: السيّدة فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب.

 

وفي الطريق، عندما وصل خبر خروج القافلة إلى مسامع قريش، لحق بالركب سبعة فرسان من قريش ليحولوا بينهم وبين هجرتهم، فأرعبوا النساء وأمروا الإمام عليّاً عليه السلام بالعودة، لكنّ الإمام عليه السلام قاتلهم وتصدّى لهم ببسالته وشجاعته وأبعدهم عن القافلة، وقال لهم: "فإنّي منطلق إلى أخي وابن عمّي رسول اللَّه، فمن سرّه أن أفري لحمه وأريق دمه فليدنُ منّي".

 

ثمّ وصل الإمام عليّ عليه السلام بقافلته المباركة بعد خمسة عشر يوماً من قدوم النبيّ إلى قباء، والتقى بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم هناك، وكانت قدما الإمام عليه السلام قد تورّمتا وتقطران دماً، ولم يعد قادراً على المشي، فلمّا رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حاله تلك اعتنقه وبكى رحمةً له،

 

43

 


29

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

وقال: "يا عليّ، أنت أوّل هذه الأمّة إيماناً باللَّه ورسوله، وأوّلهم هجرة إلى اللَّه ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبّك، والذي نفسي بيده، إلّا مؤمن قد امتحن اللَّه قلبه للإيمان، ولا يُبغضك إلّا منافق أو كافر"[1].

 

شيّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام أوّل مسجد في قباء، ثمّ انطلقا ومن معهما نحو المدينة ودخلا يثرب معاً.

 

نزل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برفقة عليّ عليه السلام عند أبي أيّوب الأنصاريّ، وهو أفقر رجل في المدينة، ومكثوا عنده شهراً إلى أن أتمّوا بناء المسجد النبويّ، وبيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبيت الإمام عليّ عليه السلام، فتحوّلوا إليها[2].

 

ثمّ آخى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأخّر الإمام عليّاً عليه السلام عن الجميع، فآخى صلى الله عليه وآله وسلم بين نفسه وأمير المؤمنين[3] عليه السلام.

 

إنّ هذه الأفعال والمواقف كلّها التي سجّلها التاريخ للإمام عليّ عليه السلام والتي تفرّد وحده بها، تُبرز لنا بشكل عمليّ كيفيّة تطبيق العبوديّة الحقيقيّة والطاعة الخالصة لوليّ الأمر الإلهيّ في الحياة، كما تبيّن أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان الرجل الوحيد آنذاك القادر على القيام بمثل تلك الأفعال، وأنّه لم يقم للاسلام قائمة لولا سواعد أمير المؤمنين عليه السلام الإلهيّة، ولأنّه الذي أخلص وجهه للَّه تعالى، أبى - عزّ وجلّ - إلّا أن تكون بصمات عليّ عليه السلام المخلصة موجودة في كلّ خطوة يخطوها الإسلام العزيز، وأن تُخلَّد بطولاته وإنجازاته، على الرغم من البغض والحسد والحقد كلّه الذي ناله في حياته الشريفة.

 

2- اقتران الإمام عليّ عليه السلام بالسيّدة فاطمة عليها السلام:

في السنة الثانية للَّهجرة، وبعد أن بلغت السيّدة فاطمة  عليها السلام مبلغ النساء، بدأ

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، الناشر: دار الثقافة، قم، 1414هـ، ط1، ص 472 - 468.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 339-340.

[3] سليم بن قيس الهلاليّ، كتاب سليم بن قيس الهلاليّ، الناشر: الهادي، قم، 1405هـ، ط1، ج2، ص 640.

 

44


30

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

الخطّاب من الأصحاب والوجهاء يتسابقون في طلب الاقتران بها، لكنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يردّهم ردّاً جميلاً قائلاً: "إنّي أنتظر فيها أمر اللَّه"[1].

 

إلى أن تقدّم الإمام عليّ عليه السلام وطلب يد السيّدة الزهراء عليها السلام، وكان في قرابة الخامسة والعشرين من عمره الشريف، لكنّه كان فقيراً لا مال له، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يكلّمه في أمر فاطمة  عليها السلام، لكنّه هابه واستحيا منه، فقال له رسول اللَّه  صلى الله عليه وآله وسلم: ألك حاجة؟ فسكت. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لعلّك جئت تخطب فاطمة؟ فقال عليه السلام: نعم، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: فهل عندك من شيء فتستحلّها به؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه، فقال: ما فعلت بالدرع التي سلّحتكها؟، فقال عليه السلام: عندي[2]. لكنّ الإمام عليه السلام استرخص درعه ولم يجدها لائقة بأن تكون صداق فاطمة  عليها السلام، فقال: والذي نفسي بيده إنّها لحطميّة[3] ما ثمنها أربعمئة درهم[4].

 

لكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صاحب القيم العليا، والذي أراد أن يكون من تزويجه لابنته سنّة يقتدي بها الجميع، رحّب بالصهر الكفوء ذي المعايير الأخرويّة الإلهيّة، والذي لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، وقَبِل ذلك المهر القليل، والذي يمثّل ما كان يستطيع أن ينفقه الإمام عليه السلام، وذلك بعد أن كان وجهاء العرب قد قدّموا الأموال والثروات للاقتران بابنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ثمّ دخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة  عليها السلام يسألها رأيها، فقال: إنّ عليّاً... قد ذكر من أمرك شيئاً... فسكتت، ولم يُرَ منها أيّ كراهة، بل كان سكوتها خجلاً وتأدّباً. فخرج صلى الله عليه وآله وسلم مهلّلاً يقول: اللَّه أكبر! سكوتها إقرارها! وتمّ الزواج المبارك[5]. وقد أشرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه على ترتيبات الزواج، فتولّى تقسيم المهر على حاجيات العروسين وبيتهما ووليمة العرس، ثمّ انتقلت العروس إلى بيتها الجديد[6].

 


[1] البحرانيّ الأصفهانيّ، الشيخ عبد اللَّه، عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال (مستدرك سيّدة النساء إلى الإمام الجوادعليه السلام)، الناشر: مؤسّسة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، 1413هـ، قم، ص 451.

[2] الإربليّ، الشيخ عليّ بن عيسى، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة عليهم السلام، الناشر: بني هاشمي، تبريز، 1423هـ، ط1، ج1، ص 348.

[3] نسبةً إلى بطن من عبد القيس كانوا يعملون الدروع.

[4] الشيخ الإربلي، كشف الغمّة، مصدر سابق، ج1، ص 364.

[5] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 40.

[6] المصدر نفسه، ص 40 - 41.

 

45


31

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

وكان للإمام عليّ عليه السلام سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى: الإمام الحسن، والإمام الحسين، وزينب الكبرى، وزينب الصغرى المكنّاة أمّ كلثوم، والمحسن السقط، أمّهم جميعاً السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. وبعد شهادة الزهراء عليها السلام تزوّج الإمام عليه السلام من أخريات وكان له منهنّ باقي الأولاد[1].

 

3- شذرات من حياة الإمام عليّ عليه السلام العائليّة:

لم يكن الإمام عليّ عليه السلام شخصاً عاديّاً أو يشبه أيّ شخص في جلّ حياته وعلاقاته، وقد أسّس هو وزوجته الحبيبة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام أروع عائلة على الإطلاق، إذ أنبتت تلك الشجرة الطيّبة أطيب الثمر في صفحة الوجود، الإمامين الحسن والحسين عليه السلام والسيّدة زينب عليها السلام.

 

ومن يطّلع على الجوّ العائليّ، وقيم تلك العائلة الشريفة ومكوّناتها الأساسيّة (عليّ وفاطمة)، سوف لن يستغرب خروج مثل ذاك الثمر منهما. فالجوّ الإيمانيّ المعنويّ القيميّ المتّصل بالسماء مباشرة، والذي يملؤه الحبّ والاحترام والسكينة ومساعدة الآخر والفرح لفرحه والحزن لحزنه، هو الجوّ الذي كان يسود العائلة العلويّة الفاطميّة.

 

وتنقل لنا الأخبار كيف أنّ الإمام عليّاً عليه السلامعلى مستوى علاقته بالسيّدة فاطمة عليها السلام كان عوناً لها على الدوام، فناهيك عن الأعمال خارج المنزل، والتي تقع على عاتقه، من تأمين أمور المعاش وما شاكل، فإنّه ما كان ليقبل إلّا أن يشاركها القيام بأعباء المنزل ومتطلّباته، فكان يكنس البيت[2]، وكان يقدّم للسيّدة الزهراء عليها السلام يد العون في الطبخ أيضاً، فكان عليه السلام مثلاً ينقّي العدس، والسيّدة فاطمة عليها السلام جالسةٌ عند القدر تطهو الطعام[3]، كذلك فقد كان عليه السلام يطحن معها عليها السلام في الجاروش[4]. وكان يتألّم حين


 


[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد، الإرشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد، الناشر: مؤتمر الشيخ المفيد، قم، 1413هـ، ط1، ج1، ص 354.

[2] البروجرديّ، السيد حسين، جامع أحاديث الشيعة، الناشر: منشورات فرهنك سبز، طهران، 1428ه، ط1، ج‏25، ص 508.

[3] المحدّث، النوريّ، الشيخ حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الناشر: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، قم، 14078هـ، ط1، ج13، ص 49.

[4] الشيخ البحراني، عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال (مستدرك سيّدة النساء إلى الإمام الجواد، مصدر سابق، ج‏1، قسم1، فاطمة، ص 356.

 

46


32

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

يراها وقد أعياها عمل المنزل، حتّى إنّه عليه السلام شجّعها على طلب أَمَةٍ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تساعدها في تلك الأعمال، ونُقل في بعض الروايات أنّه هو من طلب لها خادمة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تحسّنت حال المسلمين جميعاً.

 

أمّا فيما يخصّ علاقة أمير المؤمنين عليه السلام بأولاده، ولا سيّما أبناء الزهراء عليها السلام، وبخاصّة بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا وشهادة السيّدة فاطمة عليها السلام، فإنّ اهتمامه التربويّ بهم كان كبيراً، كيف لا، وهو من خطّ أسس المناهج التربويّة في الإسلام! فها هو يوصي ولده الإمام الحسن عليه السلام بأروع الوصايا وأدقّها، ويبيّن له المنهاج التربويّ الصحيح في التعامل مع النفس ومع الآخرين، فيقول عليه السلام - لِابْنِه الْحَسَنِ عليه السلام -: "يَا بُنَيَّ، احْفَظْ عَنِّي أَرْبَعاً وأَرْبَعاً، لَا يَضرُّكَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ: إِنَّ أَغْنَى الْغِنَى الْعَقْلُ، وأَكْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ، وأَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ، وأَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ. يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ ومُصَادَقَةَ الأَحْمَقِ، فَإِنَّه يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرَّكَ، وإِيَّاكَ ومُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ، فَإِنَّه يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْه، وإِيَّاكَ ومُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ فَإِنَّه يَبِيعُكَ بِالتَّافِه، وإِيَّاكَ ومُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنَّه كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ ويُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ"[1].

 

فهذه الوصيّة تُبرز حرص الأب العطوف على تعليم أطفاله والتودّد إليهم وتربيتهم على الأسس التوحيديّة الإسلاميّة، والمبادئ الأخلاقيّة والسلوكيّة.

 

4- جهاد الإمام عليّ عليه السلام:

تخلّلت حياةَ عليّ عليه السلام منذ هجرة الرسول حتّى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم أحداثٌ كثيرة، والتي منها بشكل خاصّ تضحياته العظيمة في الغزوات وجبهات القتال. وقد كان لنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة سبعٌ وعشرون غزوة مع المشركين واليهود والمتمرّدين[2]. وقد شارك الإمام عليّ عليه السلام في ستّ وعشرين منها، ولم يشارك في غزوة تبوك للظروف الحرجة والحسّاسة التي كانت تُنذر بتدبير مؤامرة من قبل المنافقين عند غياب رسول

 


[1] الشريف الرضيّ، السيد محمد الرضي بن الحسن، تحقيق صبحي الصالح، لا.ن، لبنان، بيروت، 1967، ط1، نهج البلاغة، ج4، ص 11.

[2] محيي الدين النووي، روضة الطالبين، الناشر: دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، ج7، ص 410.

 

47


33

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

اللَّه عن المدينة، فأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّاً عليه السلام بأن يخلفه في المدينة[1].

 

وقد كان لمشاركات الإمام عليّ عليه السلام في الغزوات والحروب المختلفة الدور الأبرز والأهمّ في انتصار المسلمين، حتّى قيل: "استوى الإسلام بسيف عليّ عليه السلام"[2]. وكذا كانت الحال في معارك بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها من الغزوات. وقد سطّر الإمام عليّ عليه السلام بشجاعته وبسالته أرقى البطولات الخالصة للَّه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في العديد من المعارك، كقتله أكثر قتلى المشركين في معركة بدر[3]، وكان هو الوحيد الذي ثبت بدايةً مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدفع عنه المشركين وسيوفهم في معركة أحد[4]، وهو من تصدّى لعمرو بن عبد ودّ وحيداً في معركة الخندق، وأرداه قتيلاً[5]، وقد قلع اللَّه باب خيبر بيده الشريفة، وكان هو قاتل مرحب أقوى فرسان خيبر[6].

 

إنّ الشجاعة والقوّة الفريدة للإمام عليّ عليه السلام وغير المسبوقة، كانتا مدعاةً للعجب على مرّ التاريخ، فبطولاته التي سطّرها التاريخ أكثر بكثير من أن تُذكر ولو سريعاً في هذا المختصر. هذا، مع أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يكن ذا بنية ضخمة كحال الفرسان المشهورين بقوّة الجسد والذين يخافهم الناس لأشكالهم بداية، وكانت المفاجأة بالنسبة إلى هؤلاء أنّ النصر كان دائماً حليف الإمام عليه السلام حتّى قتل أشجع فرسان الجاهليّة وأعتاهم (عمرو بن عبد ودّ)، وأقوى فرسان اليهود (مرحب). لكنّ هؤلاء كانوا أضلّ من أن يفهموا سرّ قوّة عليّ عليه السلام، والتي لم تكن تكمن في جسده المادّيّ، بل في روحه ومتعلّقها، فعندما يخرج عليه السلام لقتال عمرو، يبيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقيقة فيقول: "خرج الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"[7].

 


[1] الشيخ القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ص 292 - 293.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمّة، مصدر سابق، ج1، ص 316.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص 67.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 110.

[5] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج13، ص 261.

[6] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص 561.

[7] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج13، ص 261.

 

48


34

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

أجل! إنّها تلك القوّة الإلهيّة التي كان يتحلّى بها الإمام عليّ عليه السلام، وهي التي مكّنته من قلع باب خيبر، حيث سُئل بعد قلع الباب: "يا أبا الحسن، لقد اقتلعت منيعاً، وأنت ثلاثة أيّام خميصاً، فهل قلعتها بقوّة بشريّة؟! فقال عليه السلام: ما قلعتها بقوّة بشريّة، ولكن قلعتها بقوّة إلهيّة، ونفس بلقاء ربّها مطمئنّة رضيّة"[1].

 

إنّ هذا الفهم هو ما يفسّر لنا استعانة الإمام عليّ عليه السلام بركبته ليكسر قرص شعيره، حيث جاء في خبر أنّه كان "بين يديه طبق من خوص عليه قرص أو قرصان من خبز شعير نخالته تبين في الخبز، وهو يكسره على ركبتيه ويأكله على جريش"[2]. فلمّا كان الإمام عليه السلام دائم التعلّق بالقوّة المطلقة، فلا قوّة له من نفسه البتّة، والإرادة الإلهيّة والقوّة الإلهيّة هي التي تحدّد متى لعليّ أن يتحلّى بالقوّة القاهرة التي تُذهل البشر ومتى يستعين بركبته ليكسر قرص شعيره، وما ذلك إلّا لأنّه العبد الحقيقيّ للَّه تعالى المُظهر لإرادة مولاه على الدوام.

 

5- حجّة الوداع ورحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

كان الإمام عليّ عليه السلام من الشخصيّات البارزة في التاريخ الإسلاميّ، ولم يكن في العالم الإسلاميّ شخص يرتقي إلى شيء من فضله وتقواه وفقهه وقضائه وجهاده وعلمه والصفات الإنسانيّة العالية كافّة باستثناء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه، فقد كان عليه السلام الشخص الوحيد المؤهّل لخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في مناسبات عديدة، كحديث الدار، وحديث المنزلة، وغيرها الكثير. وأهمّ تلك المناسبات على الإطلاق هو ما حدث في غدير خمّ.

 

فبعد أن انتشر خبر الحجّة الأخيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، جاءت وفود المسلمين من أقطاب العالم الإسلاميّ كلّه للحجّ مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حجّة وداعه التي سيفارق الدنيا بعدها بقليل. وبعد إتمام مناسك الحجّ، وعند انصراف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً إلى المدينة ومعه تلك الحشود

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج21، ص 40.

[2] البحراني، السيّد هاشم، حلية الأبرار في أحوال محمّد وآله الأطهارعليهم السلام، الناشر: مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1411هـ، ط1، ج2، ص 230.

 

49


35

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

الغفيرة من المسلمين، وصل إلى غدير خمّ من منطقة الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدينة والعراق ومصر، وكان ذلك في 18 ذي الحجّة.

 

نزل ملاك الوحي على قلب النبيّ قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[1]، وكان الأمر بإعلان عليّ عليه السلام وليّاً للمسلمين بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ثمّ قام النبيّ في الناس خطيباً، وأعلن وجوب ولاية الإمام عليّ عليه السلام على كلّ من يوالي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع يدَ الإمام عليه السلام وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللَّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله". وجاء المسلمون يبابعون الإمام عليه السلام، ويهنّئونه بالمقام، ويسلّمون عليه بإمرة المسلمين، وممّا قاله له عمر: "بخٍ بخٍ لك يا عليّ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة"[2]. ثمّ نزلت الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[3].

 

6- رحيل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا:

حان وقت المصاب، وجاء موعد الفاجعة الكبرى بانقطاع الوحي عن الأرض ورحيل خير خلق اللَّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عن دنيا الفناء. وكانت آخر لحظات حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة في بيت فاطمة عليها السلام وفي حِجر عليّ عليه السلام، حيث فارق صلوات اللَّه عليه الدنيا على صدره الشريف.

 

وقد تولّى الإمام عليّ عليه السلام مع خلّص الأصحاب وأهل البيت تجهيز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتكفينه ودفنه صلى الله عليه وآله وسلم. لكنّ العديد من المهاجرين والأنصار قد تغيّبوا عن حضور مراسم التغسيل والتكفين والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودفنه، منشغلين باجتماع عقدوه في سقيفة بني ساعدة يعدّون العدّة للاستيلاء على الخلافة، منتهزين فرصة انشغال الإمام عليه السلام والهاشميّين بفاجعة وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 


[1] سورة المائدة، الآية 67.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج‏1، ص 237.

[3] سورة المائدة، الآية 3.

 

50


36

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

شهدت سقيفة بني ساعدة الكثير من الجدال والنزاع حتّى استقر الأمر على بيعة أبي بكر. وبعد أن أنهى الإمام عليّ عليه السلام دفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانتهى إلى مسامعه ما حدث، انبرى هو ومجموعة من خلّص الأصحاب للدفاع عن الحقّ المغتصب، وطاف هو والزهراء عليها السلام ومعه الحسن والحسين عليهما السلام على منازل المهاجرين والأنصار لياليَ يستنهضهم لاسترداد حقّه الشرعيّ. ثمّ لمّا لم يجد من الأنصار عدداً يتجاوز الستّة، وكان الوضع ينبئ بانشقاق عصا المسلمين، اعتزل الناس وانكبّ على جمع القرآن.

 

لطالما كان أمير المؤمنين عليه السلام مشغولاً بالتكليف يؤدّيه على أتمّ وجه، وفي هذه الحادثة الأليمة أيضاً كان كذلك، فلم يكن أمير المؤمنين ليدع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مسجًّى عند علمه بمؤامرة القوم، ويذهب إلى السقيفة ليحتجّ على الجميع بما احتجّ به "بعضهم" بأنّه من عَشيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك ينال الخلافة! فإنّ تصرف كهذا يمسّ بأحد القيم المقدّسة، وهي حرمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقدسيّته وكرامته، وما يكتنفها من تعظيم للدين، وما يمثّله، وتركُ النبيّ والسعي لأيّ شيء كان يوجب توهيناً شديداً واستهانة بحرمة النبيّ ودينه. هذا، مضافاً إلى أنّ الإمام عليّاًعليه السلام كان موصًى من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على ما سيحصل في الآتي من الأيّام.

 

ويذكر الإمام عليّ عليه السلام في خطبة الشقشقيّة هذا المفترق الصعب، وسبب اختياره للمهادنة في نهاية المطاف، فيقول: "فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْها كَشحاً، وطَفِقْتُ أرتَئي بَين أن أصولَ بيد جَذّاء، أو أصْبِرَ على طَخية عمياء، يَهْرَمُ فيها الكَبير، وَيشيبُ فيها الصَغير، ويَكْدَحُ فيها مؤمِنٌ حَتّى يَلقى ربَّهُ، فَرَأيْتُ أنَّ الصَّبرَ على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العَيْنِ قَذى وَفي الحَلْقِ شَجى، أَرى تُراثي نَهباً"[1]، وقال: "لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، وواللَّه لأسلِمنَّ ما سلمت أُمور المسلمين، ولم يكن فيها جَورٌ إلّا عليَّ خاصّة"[2]

 


[1] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج‏1، ص 192.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج‏6، ص 166.

 

51


37

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

مرحلة عهد الخلفاء الثلاثة

تركّزت نشاطات الإمام عليّ عليه السلام في هذه الفترة على الأُمور التالية:

1- الإجابة عن شبهات علماء الأديان المختلفة وتساؤلاتهم، كما تولّى مهمّة بيان الحكم الشرعيّ للمواضيع المستحدثة، والتي لم يكن لها سابقة في الإسلام أو للقضايا المعقّدة والغامضة بحيث يعجز غيره عن الحكم فيها[1].

 

2- عندما كانت الخلافة تصل إلى طريق مسدود في القضايا السياسيّة وبعض القضايا والمشاكل الأُخرى، كان الإمام عليه السلام المستشار الوحيد والمعتمد الذي يُعالج المشاكل بموضوعيّة وحلول واضحة، وقد سجّلت ذلك كتب التاريخ[2]، وقد تكرّر أكثر من مرّة على لسان الخليفة الثاني: "لولا عليّ لهلك عمر"[3].

 

3- صيانة الرسالة الإسلاميّة، حيث قام بجمع المصحف الشريف وشرحه وتفسيره وذكر أسباب النزول، والمحكم والمتشابه، وغيرها من الأمور المهمّة. وكان عليه السلام قبل ذلك قد قام بعمل مهمّ أيضاً وهو تدوين (الجامعة الكبرى)، وهذه الجامعة هي صحيفةٌ بإملاءٍ من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ الإمام عليّ عليه السلام. وقد احتوت هذه الجامعة على جميع الأحكام حتّى أرش الخدش، والأئمّة عليهم السلام كانوا يتوارثونها ويعتمدونها كمصدر أساس في الأحكام[4].

 

4- صيانة الأمّة والكيان الإسلاميّ ووحدة الصفّ، فبعد غياب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أحدقت بالأمّة الإسلاميّة أخطار كثيرة دفعت بالإمام عليه السلام إلى العمل باتّجاه صيانة الأمّة، ولذلك لم يُشهر سيفه للمطالبة بحقّه خوفاً من شقّ الصفوف مع الأخطار الداهمة في تلك الفترة بسبب أطماع الفرس والروم، وبروز الردّة عن الإسلام، كذلك لم يرفع الإمام سيفه للمطالبة بحقّ زوجته السيّدة فاطمة عليها السلام في فدك، بغية الحفاظ

 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج40، ص 286.

[2] الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح، الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1411هـ، ج1، ص 224.

[3] الحرّ العامليّ، محمّد بن حسن، وسائل الشيعة - قم، ط1، 1409هـ، ج9، ص 20.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 239.

 

52


38

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

على وحدة الصفّ في الإسلام، وصيانة ما تبقّى منه.

 

إنّ الإيثار والانصياع للتكليف الإلهيّ، ونكران الأنا التي لم يكن لها وجودٌ أساساً عند الإمام عليّ عليه السلام، لهي مدعاةً للعجب، فلم يكن الوضع أنّه انكفأ واعتزل الناس وترك الأمور بيد الآخرين، بل إنّه، وبعد أن لم تُجدِ محاولاته لاسترجاع الخلافة نفعاً، وبعد أن بيّن الحقّ وأتمّ الحجّة على الجميع، وبعد أن استدعت الظروف وجود عليّ عليه السلام أثناء حركة الردّة، نزل أمير المؤمنين عليه السلام ساحة الأمّة بشكل قويّ جدّاً وفعَّالٍ للغاية، فقلّما نجد حدثاً جرى في حياة الأمّة آنذاك دون تدخّل الإمام عليه السلام ومشورته، فهو لم يكن بالشخص الذي يمكن تنحيته أو الاستغناء عنه البتّة، وهذا ما ساعد على ظهور أحقّيّة الإمام عليه السلام في خلافة الرسول وفضح الآخرين، وساهم في احتلال الإمام عليّ عليه السلام مكانة في وجدان الأمّة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

53


39

الدرس الثالث: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نحو يثرب، ونزل ينتظر عليّاً عليه السلام ومن معه في قباء بعد أن أوكله مهمّة تأدية الأمانات.

 

- وصل الإمام عليّ عليه السلام قباء، وشيّد مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوّل مسجد، ثمّ انطلقا إلى المدينة، ونزلا عند أبي أيّوب إلى أن أتمّوا بناء المسجد النبويّ وبيوتهم، ثمّ آخى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأخّر الإمام عليّاً عليه السلام عن الجميع وتآخى معه.

 

- شارك الإمام عليّ عليه السلام في26 غزوة في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يشارك في غزوة تبوك، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خلّفه في المدينة، وكان لمشاركاته عليه السلام الدور الأبرز والأهمّ في انتصار المسلمين.

 

- حُسمَ الكثير من المعارك بسيف عليّ عليه السلام، فقد قتل أغلب قتلى بدر، وعمرو بن عبد ودّ في الخندق، ومرحبَ اليهوديّ في خيبر، وثبت وحيداً مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أُحُدٍ بدايةً، وقد خلّد التاريخ تلك البطولات.

 

- حجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجموع المسلمين حجّة الوداع، وفي طريق العودة جمع الناس في غدير خمّ ليعلن لهم وجوب ولاية الإمام عليّ عليه السلام بأمر من اللَّه.

 

- انتقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربّه، وعلى الأثر اجتمعت مجموعة من المهاجرين والأنصار في السقيفة وبايعوا أبا بكر خليفة، حيث كان الإمام عليه السلام والمخلصون وبنو هاشم مشغولين بتغسيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودفنه.

 

- تركّزت نشاطات الإمام عليّ عليه السلام منذ رحيل الرسول إلى حين تولّيه الخلافة على الأعمال العلميّة والاستشاريّة لصيانة الرسالة والأمّة الإسلاميّة وعدم تفكّكها أمام الأخطار المحيطة.

 

54


40

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

الدرس الرابع

الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى أهمّ محطّات حياة أمير المؤمنين منذ خلافته إلى حين شهادته عليه السلام.

- يشرح حقيقة العدل والانصاف في شخصية الإمام عليّ عليه السلام.

- يبيّن بعض خصال الإمام عليّ عليه السلام وخصائصه.

 

55


41

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

الإمام عليّ عليه السلام من الخلافة إلى الشهادة

1- الإمام عليّ عليه السلام والشورى:

عيّن عمر بن الخطاب قبيل وفاته ستّة أعضاء للشورى، ينتخبون الخليفة من بينهم، وهم: الإمام عليّ عليه السلام، عثمان بن عفّان، عبد الرحمان بن عوف، سعد بن أبي وقّاص، وطلحة والزبير.

 

وقد حدّد عمر للأعضاء كيفيّة الانتخاب، حتّى إذا تساوت الأصوات رجّحت كفّة الفريق الذي فيه عبد الرحمن بن عوف. ويوضّح الإمام عليّ عليه السلام واقع الحال في حديثه مع عمّه العبّاس عندما استفسره، فبادره قائلاً: "يا عمّ، لقد عُدِلَتْ عنّا"، فقال العبّاس: من أعلمك بذلك؟ فقالعليه السلام: "قُرِن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر، فإن رضيَ رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيولّيها عبد الرحمن عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني"[1].

 

وحصل ما كان تفرّسه أمير المؤمنين عليه السلام، فبعد كثير من الجدال والنزاع قال عبد الرحمن للإمام عليه السلام: "أبايعك على كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه وسيرة الشيخين"، فرمقه الإمام عليّ عليه السلام وعرف غايته، فأجابه وقال: "بل على كتاب اللَّه وسنّة نبيّه واجتهاد رأيي"، فعدلوا البيعة عنه وولّوها عثمان‏[2].

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج12، ص 262.

[2] المصدر نفسه، ج1، ص 188.

 

57


42

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

ثم بيّن الإمام للناس خطأهم مرّة ثانية، فقال: "أيّها الناس، لقد علمتم أنّي أحقّ بهذا الأمر من غيري، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون، فواللَّه لأُسلمنّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمين، ولم يكن فيها جَور إلّا عليّ خاصّة"[1].

 

إنّ مثل هذا الموقف لهو حقّاً مدعاة للتعجّب والفخر بالانتساب إلى إمام الحقّ والقيم عليّ عليه السلام، ومع أنّه كان الأوفر حظّاً من بين الجميع في وصوله إلى الخلافة، لكنّ العقبة كانت مستبطنة في كلام عبد الرحمن "سيرة الشيخين"، فلو أنّ عليّاً عليه السلام قَبِل بكلامه لصار خليفة وسُوّي الأمر، لكن لا! هيهات أن يقبل إمام الحقّ شرط كهذا! ولو صُوريّاً. فلمّا كان هدف الإمام عليّ عليه السلام إقامة حكومة العدل والقيم الإلهيّة لا يمكنه أن يقبل بالخلافة كيفما كان وأن يساير أو يداهن، فالخلافة ليست بشيء بالنسبة إلى عليّ إن لم تخدم أهدافه الإلهيّة، لذا بيّن عليه السلام المعيار الذي يقبل على أساسه خلافة الناس (كتاب اللَّه، سنّة النبيّ واجتهاد).

 

2- مبايعة الناس للإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

بعد الأحداث التي جرت في خلافة عثمان وقيام جماعة من الناس عليه، بعد أن وجدوا تسلّط جماعة من بني أميّة على رقاب الناس، حيث كانوا ينهبون أموال المسلمين، وبعد مقتل عثمان، تهافت الناس إلى منزل أمير المؤمنين عليه السلام للمبايعة، لكنّ الإمام عليه السلام رفض غير مرّة، لأنّه كان يرى أنّ الظرف غير مناسب لقبول الخلافة بهذه الحالة التي وصلت إليها، فالناس غير مستعدّة لقبول حكمه العادل، فقال: "دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت، والحجّة قد تنكّرت، واعلموا أنّي وإن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً"[2].

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، مصدر سابق، ج6، ص 166.

[2] المصدر نفسه، ج7، ص 33.

 

58


43

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

إنّ هذا البيان الجامع من أمير الكلام يحمل سبب عدم قبول الإمام عليّ عليه السلام بدايةً للبيعة، فقد بيّن عليه السلام أنّ خلافته وولايته ليستا بالأمر المطاق لبعض الناس، لأنّه إن حكم فلن يحكم إلّا بالعدل العلويّ الإلهيّ! فهو بكلامه هذا أتمّ الحجّة على الناس من جهة، ومن جهة أخرى بيّن للناس أنّ تولّيه عليهم ليس بالأمر السهل، ولن يطبّق فيه إلّا الإرادة الإلهيّة. وما دام الناس في ذلك المستوى من ضياع المعايير والانحطاط، وما داموا غير مستعدّين لهذا الحكم الإلهيّ فهو لهم وزير خير لهم منه أمير!

 

لكنّ الناس لم تقبل اعتذاره عليه السلام وكثر توافد المسلمين على الإمام عليّ عليه السلام وازدحامهم عليه، واكتظّت داره بهم، وازداد إصرارهم عليه، تنفيساً عن عناء الاضطهاد السابق، وشوقاً إلى العدالة، فعاد الإمام عليه السلام وقبل التولّي عليهم. ويصف الإمام عليّ عليه السلام تلك البيعة، فيقول: "وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثمّ تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتّى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووُطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل"[1].

 

وهكذا تمّت بيعة الإمام عليّ عليه السلام من قبل الناس، تلك البيعة التي لا مثيل لها في التاريخ الإسلاميّ، وبدأت معها مرحلة حكم السماء، حكم الولاية التي لم يكتب لها البقاء إلّا أربع سنوات وبضعة أشهر.

 

3- بعض إنجازات حكومة الإمام عليّ عليه السلام[2]:

على الرغم من أنّ أمير المؤمنينعليه السلام قد واجه عقبات في أيّام خلافته، إلّا أنّه استطاع - بلا شكّ - أن يطرح نموذجاً ناجحاً للحكومة وَفق تعاليم الإسلام ومعاييره، وقد طبق العديد من الإصلاحات حتّى في تلك الظروف الصعبة والمدّة القصيرة التي لم تتجاوز 4 سنوات و9 أشهر، والتي نذكر بعضها بإيجاز:

 

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ، مصدر سابق، ج13، ص 4.

[2] ياسين، الشيخ كاظم، تاريخ سيد الأوصياء (الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام)، دار المحجة البيضاء، لبنان - بيروت، ط1، 2016م، ج2، ص 95.

 

59


44

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

1- الإصلاح الاجتماعيّ والاقتصاديّ:

كانت أوّل مسألة قام بها الإمام عليه السلام هي ضرب النظام الطبقيّ الذي خلّفته السياسات الخاطئة قبله، فطبّق مبدأ المساواة في العطاء، حيث قال: "وأيّما رجلٍ استجاب للَّه وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم فصدّق ملّتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد اللَّه، والمال مال اللَّه، يقسم بينكم بالسويّة"[1]. كذلك، فقد استرجع عليه السلام الأموال المنهوبة في السنوات التي مضت، حيث يقول: "ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال اللَّه فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شي‏ء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وفرّق في البلدان لرددته، فإنّ في العدل سَعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق"[2].

 

2- الإصلاح الإداري:

اختار الإمام عليه السلام ولاة جدداً على أسس موضوعيّة لا تعتمد على الحسابات الشخصيّة والفئويّة، ونقل مركز الخلافة من المدينة المنوّرة إلى الكوفة، الأمر الذي كان له أبعادٌ استراتيجيّة متعلّقة بتحديّات العصر.

 

3- الإصلاح الدينيّ والثقافيّ:

حدّد الإمام عليه السلام أسباب الانحراف بكلمة مختصرة قال فيها:

"وَإِنَّمَا ابْتِدَاءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فيها حُكْمُ اللَّه، يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالاً، وَتَبَرَّأُ رِجَالٌ مِنْ رِجَالٍ. أَلَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنَّ الْبَاطِلَ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيُحْسَبَانِ مَعاً، فَهُنَالِكَ اسْتَوْلَى الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَنَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى"‏[3]. وقام من أجل هذا الإصلاح بخطوات، منها: فتح باب العلم والحوار بأمور

 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج32، ص 17.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص 269.

[3] كتاب سليم بن قيس الهلالي، مصدر سابق، ج2، ص 719.

 

60


45

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

الدين، فهو القائل: "سلوني قبل أن تفقدوني"[1]، والاهتمام بقراءة القرآن، وربطه بالسنّة النبويّة الشريفة، والاهتمام بالتدوين، وهو القائل: "قيّدوا العلم، قيل: وما تقييدة؟ قال: كتابته"[2].

 

4- القتال في ثلاث جبهات:

إنّ تطبيق العدل العلويّ ولمدّة وجيزة جدّاً لم يَرُقْ للكثير من الناس والوجهاء وأتباع الهوى، وقد أدّت الإصلاحات وسيادة الدين في عهده عليه السلام إلى نشوب العديد من المعارضات المناوئة، وانتهت هذه المعارضات إلى حدوث ثلاث حروب مع الناكثين والقاسطين والمارقين، سنمرّ على كلٍّ منها مروراً سريعاً:

أ- قتال الناكثين[3]: وقد كان سبب هذه الحرب مع الناكثين (ناقضي العهد) هو أنّ طلحة والزبير اللّذَين بايعا الإمام عليّاً قد طلبا منه أن يولّيهما أعمال البصرة والكوفة، ولكنّ الإمام رفض ذلك، فتركا المدينة سرّاً والتجآ إلى مكّة وجيّشا جيشاً بأموال بيت المال المختلس من قبل بني أُميّة وبمساعدة عائشة، وانطلقا نحو البصرة واستوليا عليها، فتحرّك الإمام عليّ عليه السلام تاركاً المدينة لمعالجة أمر الناكثين، فحدثت حرب طاحنة قرب البصرة انتهت بانتصار الإمام عليّ وهزيمة الناكثين، وتُسمّى "حرب الجمل" التي كان لها مساحة كبيرة في التاريخ، والتي اندلعت سنة 36 هجريّة.

 

ب- قتال القاسطين[4]: كان معاوية قد أعدّ منذ فترة سبقت خلافة الإمام عليّ عليه السلام مقدّمات الخلافة لنفسه في الشام، ولم يرضَ بعزل الإمام عليّ عليه السلام له. وكان حصيلة هذا النزاع أن تقاتل جيش العراق وجيش الشام في أرض تُدعى صفّين، وكان الانتصار لجيش الإمام عليّ عليه السلام، لكن حصل تمرّد في جيش الإمام من

 

 


[1] كتاب سليم بن قيس الهلالي، مصدر سابق، ج2، ص 802.

[2] المصدر نفسه، ج1، ص 18.

[3] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج32، ص 17.

[4] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، الناشر: علامة، قم، 1421هـ، ط1، ج3، ص 363.

 

61


46

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

قبل من عرف فيما بعد بالخوارج، وذلك بعد خديعة معاوية وأمره جيشه برفع المصاحف على الرماح، والتفاوض. وفي النتيجة، وبعد الضغط الكبير على الإمام عليّ عليه السلام من قِبَل جيشه، والذي كان سيؤدّي إلى الانشقاق وقتل الإمام عليه السلام، قبل بتحكيم أبي موسى الأشعريّ وعمرو بن العاص، ثمّ خدَعَ موفدُ معاوية عمرو بن العاص موفدَ جيش الإمام عليه السلام أبي موسى، وأعلن معاوية خليفة. وبعد ذلك خرج بعض من المسلمين الذين كانوا في صفّ الإمام عليه السلام، وانتقدوه لقبوله التحكيم الذي فرضوه هم أنفسهم عليه، فسُمُّوا بالخوارج. وقد حدث قتال القاسطين عام 37 هجرية.

 

ج- قتال المارقين[1]: والمارقون هم أُولئك الذين أجبروا الإمام عليّاً عليه السلام على قبول التحكيم، وندموا بعد حادثة التحكيم على ذلك، وطلبوا منه أن ينقض العهد من جهته، غير أنّ الإمام عليه السلام لم يكن بذلك الشخص الذي ينقض عهده، ولهذا خرجوا على الإمام، ووقفوا ضدّه، وقاتلوه في النهروان. انتصر الإمام عليه السلام في هذه الحرب، غير أنّ الأحقاد ظلّت دفينة في النفوس. اندلعت هذه الحرب سنة 38 أو39 هجرية.

 

الإمام عليّ العدل الصرف

لم يقبل الإمام عليّ عليه السلام - إمام الحقّ - أيّ نوع من أنواع المساومات وأنصاف الحلول في أيّ مرحلة من حياته، ولا سيّما عند تسلّمه الخلافة. وهو أمر واضحٌ جليٌّ لكلّ من يقرأ سيرة هذا العظيم إلى درجة أنّ الخلافة قد نُحّيت عنه في شورى عمر لعدم قبوله المساومة على سيرة الشيخين، حتّى قال هو بنفسه: "ما ترك الحقّ لي صديقاً"[2].

 

ولكنّ هذا السلوك والمنطق العلويّ يطرح أمامنا تساؤلاً كبيراً، حيث كان ذلك العدل بالخصوص، والقيم التي حملها الإمام وقاتل طيلة حياته الشريفة لأجلها، كانت هي

 


[1] راجع: الشاميّ، يوسف بن حاتم، الدر النظيم في مناقب الأئمّة اللَّهاميم، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ- جماعة المدرّسين بقم، قم، 1420هـ، ط1، ص 368.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج3، ص 58.

 

62


47

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

السبب الذي أثار في وجهه المخالفين، وكلّف الإمام ثلاثة حروب طاحنة، وكانت سبب شهادته في النهاية.. ألم يكن بإمكان الإمام عليه السلام أن يتّبع سياسة معيّنة يجري فيها بعض المساومات إلى فترة معيّنة في سبيل الحفاظ على دولته مثلاً؟!

 

يجيب الإمام الخامنئيّ دام ظله على هذه المسألة، فيقول: "لقد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة معسكرات بثلاثة خطوطٍ منفصلة... وفي النهاية استُشهد على هذا الطريق، حتّى قيل بشأنه إنّ عدل عليّ عليه السلام قد قتله. لو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام مريداً للعدالة، وعمد بدل ذلك إلى رعاية هذا وذاك... لكان أكثر الخلفاء نجاحاً وقدرةً، ولما وجد له معارضاً، لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ميزان الحقّ والباطل، ولهذا كان عليه السلام يتحرّك وَفق جوهر التكليف دون أيّ ذرّة من تدخّل الأنا والمشاعر الشخصيّة والمنافع الذاتيّة، وقد تحرّك على هذا الطريق الّذي اختاره..."[1].

 

ويقول: "أثبت أمير المؤمنين خلال هذه المدّة أنّ الأصول الإسلاميّة والقيم الإسلاميّة الّتي وُجدت في مرحلة عزلة الإسلام، وفي مرحلة صغر المجتمع الإسلاميّ، هي قابلةٌ للتطبيق مثلما أنّها كذلك في مرحلة الرفاهية والتوسّع والاقتدار والتقدّم والازدهار الاقتصاديّ للمجتمع الإسلاميّ... فلقد نزل الوحي الإلهيّ بالأصول الإسلاميّة.. وقد ازدادت مساحة الدولة الإسلاميّة، خلال هذه المدّة، مئات الأضعاف لا ضعفين أو ثلاثة أو عشرة... لو لم يكن الإمام عليّ عليه السلام في البين، لربّما كان التاريخ سيحكم قائلاً إنّ المبادئ الإسلاميّة والقيم النبويّة كانت جيّدة لفترة المدينة النبويّة فقط، أي لذلك العهد الّذي تميّز بضآلة حجم المجتمع الإسلاميّ وفقره، أمّا بعد أن اتّسع المجتمع الإسلاميّ واختلط بالحضارات المختلفة.. فلا تبقى تلك المبادئ كافية ولا قادرة على إدارة البلد"[2].

 

فلأنّه عليّ، ولأنّه ميزان الحقّ والباطل، ولأنّه صوت العدل الذي لا بدّ من أن يبقى صادحاً على مرّ التاريخ، ولأنّه لم يحيَ إلّا بقيم الإسلام التي يعلوها العدالة، وهي التي

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 108-109.

[2] المصدر نفسه، ص 110-111.

 

63


48

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

قاتل مع الرسول لأجل ترسيخها، لا يمكن أن يساوم بأيّ شكل من الأشكال، فخلافة ودولة دون قيم ودون عدل ليست بدولة، فإمّا أن تكون الدولة العلويّة حافظةً للقيم الإلهيّة وإمّا أن لا تكون، وإن ساوم الإمام وقبِل بأنصاف الحلول، ولو لفترة وجيزة، لاختلّ ميزان القيم، ولمهّد الطريق لاعوجاج دائم لا زوال له، يتلقّفه كلّ فاسد ذريعةً لفساده، ويسمّيه سياسة مؤقّتة وتسوية لا بدّ منها، وقد تعالى إمام الحقّ عن ذلك علوّاً كبيراً.

 

شهادة الإمام عليّ عليه السلام

وأخيراً، حان موعد تسليم الروح لبارئها، فتضرّج الإمام عليه السلام بدمه على يد أحد المارقين، وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي في 19 من شهر رمضان المبارك عام 40 للَّهجرة، وهو ابن ثلاث وستّين سنة، وذلك أثناء صلاته الصبح في مسجد الكوفة، ودُفن في النجف الأشرف[1].

 

شذرات من خصائص الإمام عليّ عليه السلام

1- عبادة الإمام عليّ عليه السلام:

لو سألت عن إمامنا عليّ عليه السلام: أين ولد؟ لقلنا: في بيت اللَّه الحرام، ولو سألت عنه عليه السلام أين استشهد؟ لقلنا: في بيت اللَّه أيضاً. إنّ هذين المشهدين يختصران سيرة أمير المؤمنين عليه السلام التي كانت تنقّلاً ما بين طاعة وطاعة للباري - جلّ وعلا -، ولا شيء غير الطاعة.

 

والعبد العاشق المتألّه خزانة أسرار الإله، لا بدّ من أن يفصح عن عشقه لمولاه بشتّى الطرق وفي كلّ حين استطاع إلى ذلك سبيلاً، لذا نرى أنّ العبادة كان لها مقام عظيم في حياة أمير المؤمنين عليه السلام. فالعبادة هي تلك الصلة الحقيقيّة والباب المفتوح بين العبد وربّه، وهي تعبّر عن مدى معرفة الإنسان باللَّه وارتباطه به، ولكن بشرطها وشروطها.

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص 211-212، الشيخ الإربلي، كشف الغمّة، مصدر سابق، ج1، ص 436.

 

64


49

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

ففي رواية عن شخص يدعى أبا الدرداء أنّه قال: "شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممّن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبعد عن مكانه، فقلت ألحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجيّ، وهو يقول: إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك... فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالبعليه السلام بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف اللّيل الغامر، ثمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبثّ والشكوى... ثمّ أمعن في البكاء، فلم أسمع له حسّاً، ولا حركة. فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته، فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزوِ، فقلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، مات - واللَّه - عليّ بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليها السلام: هي واللَّه - يا أبا الدرداء - الغشية التي تأخذه من خشية اللَّه"[1].

 

هذا شاهد من شواهد تعلّق الإمام عليه السلام باللَّه تعالى وشدّة انشداده إليه ورهبته منه، ويبدو أنّ هذا كان ديدن عليّ عليه السلام كما يظهر من قول الزهراء عليها السلام، وكأنّ هذه الحادثة كثيراً ما تتكرّر مع الإمام عليه السلام، وهذه ميزة عند توجّهه إلى اللَّه تعالى في صلاته وضراعته، الأمر الذي ألفه أهل البيتعليهم السلام في عليّ عليه السلام.

 

هذا، وقد وُصف بأنّه كان صوّاماً بالنهار قوّاماً باللّيل[2]، ولم تكن تلك العبادات كلّها ابتغاء أجر معيّن أو خوفاً من العقاب، بل إنّ أمير المؤمنين هو الذي عبد اللَّه شكراً، إذ يقول عليه السلام: "إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"[3]. وقد كان الإمام عليه السلام لا يترك قيام اللّيل، حيث يُروى عنه عليه السلام أنّه قال: "ما لا يترك صلاة اللّيل منذ سمعت قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة اللّيل نور"[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 77 - 79.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج2، ص 103.

[3] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج41، ص 14.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص 123.

 

65


50

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

وإلى جانب تعاهد الإمام عليه السلام لأمر الصلاة، فقد كان كثيراً ما يوصي أتباعه أيضاً بتعاهد أمرها، وأدائها في أوقاتها، وتعريفهم بأهمّيّتها وأثرها في شخصيّة المسلم، فيقول: "تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقرّبوا بها"[1].

 

2- ورع الإمام عليّ عليه السلام:

إنّ الورع - وهو شدّة التقوى - من الصفات التي ينبغي للمؤمن التحلّي بها على الدوامّ، وعلى كلّ حال، في الشدّة والرخاء والفقر والغنى، وهي تجلٍّ لحقيقة إيمان ذلك المؤمن بربّه، وخوفه منه، وتعظيمه له، ومَن أولى بالورع من إمام المتّقين عليّ عليه السلام!

 

اشتُهر الإمام عليّ عليه السلام بورَعٍ لا مثيل له، وقد ظهر ذلك في محطّات حياته كلّها، ولا سيّما أيّام خلافته، حيث كان حكمه للأمّة مسرح تطبيقه لتقواه وورعه، فلم يظلم في حكمه أحداً، ولم يُؤثر أيّ طلب وطاعة لمخلوق قبال إرادة خالقه، مهما كان طلبه بسيطاً.

 

وذات مرّة جاءه أخوه عقيلٌ يطلب صاع قمح أزيد من حصّته لحاجة، فرفض، وجاء آخر بهديّة للإمام عليّ عليه السلام يهديه إيّاها لحاجة يريده أن يقضيها له فرفض أيضاً، وقد أخبر الإمام عليّ عليه السلام عن هاتين الحادثتين فقال: "واللَّه، لئن أبيت على حسك السعدان[2] مسهّداً، أو أُجرّ في الأغلال مُصفّداً أحبّ إليّ من أن ألقى اللَّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام... واللَّه، لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتّى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم، كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكّداً.. فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنَفٍ من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للَعِبِه وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه، أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى!

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج10، ص 202.

[2] أي أن ينام على نبات شوكي أرقاً.

 

66


51

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة[1] شنئتها، كأنّما عُجنت بِرِيق حيّةٍ أو قيئها، فقلت: أصِلةٌ أم زكاةٌ أم صدقةٌ فذلك مُحرّم علينا أهلَ البيت، فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنّها هديّة، فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين اللَّه أتيتني لتخدعني! أمختبطٌ أم ذو جنّة أم تهجر! واللَّه، لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللَّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهونُ من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليٍّ ونعيمٍ يفنى ولذّةٍ لا تبقى، نعوذ باللَّه من سُبات العقل وقُبح الزلل وبه نستعين"[2].

 

هذا هو إمامنا عليّ عليه السلام، الذي لا يُؤثر طاعةً لأيّ مخلوق في معصية الخالق، ولا يستصغر أيّ ذنب، لأنّه يعرف ربّه ويستعظم شأنه، فيرى أنّ استجابته لأخيه في زيادة حصّته بسبب فقره المدقع يستلزم دخول النار!! فأين المتأسّون بعليٍّ الماشون على دربه!

 

3- زهد الإمام عليّ عليه السلام:

"إنّ الزهد بالدنيا والحياة الفقيرة التي اشتُهر بها الإمام عليّ عليه السلام لهيَ مدعاةٌ للعَجَب بحقّ، فقد طلّق هذه الدنيا ثلاثاً لا رجعة فيها[3]، لِهوانها عليه، واستحقاره شأنها، وقد كان الإمام عليّ عليه السلام هو زينة الزهد ومفخرته، حتّى إنّه كان لا يرضى بأن يلبّي بعضُ عُمّاله دعواتٍ لموائد فيها البذخ وأنواع الأطعمة وقد استنكر عليه السلام فعل عامله على البصرة، لأنّه لبّى دعوةً مماثلة فأنّبه[4].

 

ثمّ يُبيّن لنا الإمام عليّ عليه السلام كيف أمضى عمره الشريف، فيقول: "ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع

 


[1] حلواء جاء بها إليه الأشعث بن قيس الكنديّ وقد تأنّق في صنعها.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج11، ص 244 - 245.

[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 283.

[4] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج33، ص 474.

 

67


52

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

واجتهاد، وعفّة وسداد، فواللَّه، ما كنزت من دنياكم تِبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً[1]... وإنّما هي نفسي أُروّضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر"[2].

 

وليس زهد أمير المؤمنين بالأمر القسريّ والقهريّ، بل كان خياراً له عليه السلام، وهو القائل: "ولَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ، ولَعَلَّ بالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ‏، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَنْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى‏"[3].

 

أمّا ذاك الطعام الذي كان يدخل جوفه الشريف، فقد كان خبز شعير غير منخّل يفتُّهُ في قصعة، ويصبُّ عليه الماء، ثمَّ يذرُّ عليه الملح، وكان يقول: "لقد حانت هذه - ومدّ يده إلى محاسنه - وخسرت هذه، وأشار إلى بطنه أن أُدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يُجزيني"[4].

 

إنّ اللّسان يعجز - بحقّ - عن وصف محاسن أفعال إمام كهذا، فللَّه درّ أرض حملته، وثوبٍ لبسه، وطعامٍ أكله، ومتأسٍّ اقتدى به! فليس للبشر إلّا الانحناء إجلالاً واستعظاماً لأروع البشر ودرّة الخلق عليّ عليه السلام، فهو مفخرة بني آدم كلّهم، والعبد الناطق المبرّز لمحاسن مولاه وجماله، فهو كما وُصِف، بل أعلى وأرقى، "كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله"[5].

 


[1] أي: ما كان يهيّئ لنفسه طمراً آخر بدلاً عن الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتّى يبلى ثمّ يعمل الطمر.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج16، ص 205.

[3] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج33، ص 474.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج2، ص 98.

[5] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج1، ص 78.

 

68


53

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

علّمني إمامي

 

- أنّ العدل مبدأ إلهيّ ينبغي أن يسود حياتي كلَّها.

- أنّ الشدّة على الكفّار، وأنّ المؤمن يكون قويّاً في الحقّ.

- أن أكون متفانياً لأجل المشروع الإلهيّ، فأقدّم التضحيات كلّها في سبيل نجاحه.

- أنّ الحفاظ على الإسلام هو الأساس، ولو تطلّب الصبر المرّ على أشدّ المِحن.

- أن لا أساوم على القيم الحقّة مهما كلّف الأمر من تضحيات.

 

69


54

الدرس الرابع: الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

المفاهيم الأساسيّة

 

- عيّن عمر ستّة أعضاء للشورى وحدّد كيفيّة الانتخاب من بينهم، فطلبوا من الإمام عليّ عليه السلامأن يقبل البيعة على كتاب اللَّه وسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الشيخين فأبى، فعدلوا عنه إلى عثمان.

 

- تهافت الناس إلى دار الإمام عليّ عليه السلام للبيعة بعد مقتل عثمان، لكنّه عليه السلام رفض في البداية، لأنّهم غير مستعدّين لحكمه وعدله، لكنّه عاد وقبل بعد إصرار الناس، ودام حكمه أربع سنوات وبضعة أشهر.

 

- واجه الإمام عليه السلام عقبات في أيّام خلافته، إلّا أنّه استطاع أن يطرح نموذجاً ناجحاً للحكومة وَفق تعاليم الإسلام ومعاييره وطبَّق العديد من الإصلاحات، فساوى بين الناس في العطاء، وردّ الأموال المنهوبة.

 

- جرّاء حكم الإمام عليّ عليه السلام العادل نشبت في وجهه معارضات عديدة، فخاض ثلاث معارك قاسية، معركة الجمل مع طلحة والزبير وعائشة، ومعركة صفّين مع معاوية، ومعركة النهروان مع الخوارج من جيشه.

 

- لم يقبل الإمام عليّ عليه السلام أيّ نوع من أنواع المساومات في أيّ مرحلة من حياته، ولا سيّما عند تسلّمه الخلافة، حيث كان بصدد تأسيس نموذج إسلاميّ إلهيّ للحكم، ويتحرّك وَفق جوهر التكليف.

 

- عُرف الإمام عليّ عليه السلام بشدّة ورعه حتّى في أضعف الأمور، فكان لا يعطي أحداً أزيد من حصّته من بيت المال، ولو كان ذا قربى.

 

- اكتفى إمامنا عليّ عليه السلام من هذه الدنيا بطمريه، ومن الطعام بقرصيه، واستحقر أمر الدنيا كثيراً، وزهد فيها أشدّ الزهد.

 

70


55

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

الدرس الخامس

الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى محطّات حياة الإمام الحسن عليه السلام منذ ولادته إلى حين صلحه مع معاوية.

 

- يبيّن مختلف الخصائص الشخصيّة للإمام الحسن عليه السلام.

 

- يستنتج الدروس التربويّة من مختلف مواقف الإمام الحسن عليه السلام.

 

71


56

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

تمهيد

هو النور الأوّل الذي شعّ من بيت السيّدة الزهراء عليها السلام والإمام عليّ عليه السلام، وهو أصل الخير... كلّ الخير، ومن جُمعت له الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، هو ثاني أئمّتنا عليهم السلام الإمام الحسن بن عليّ المجتبى عليه السلام.

 

وبقي نور الإمام الحسن عليه السلام مشعّاً على امتداد التاريخ، يهدي إليه كلّ محبّ، على الرغم من جهود بني أميّة بزعامة معاوية في تشويه صورته عليه السلام وحياكة الفتن، وكَيل التُّهم إليه، فوضعت الأحاديث التي تصفه بأنّه شخص يحبّ هذه الدنيا ويكره النزال مثلاً، حتّى ذهب "بعضهم" لأخيه الإمام الحسين عليه السلام يحثّونه على الانقلاب على رأي إمامه في الصلح وإعلان الحرب على معاوية[1]! وبأنّ عدد زوجاته كبيراً جدّاً[2]!! وقد كتب علماؤنا قديماً وحديثاً العديد من الكتب في تفنيد تلك الدعاوى وتبيان صحّة مواقف الإمام الحسن عليه السلام، ولا سيّما في صلحه مع معاوية!

 

أمام هذه الوقائع، لا بدّ لمن يريد التعرّف إلى الإمام الحسن عليه السلام وحياته من أن يصاحب كثيراً من الدقّة والتمحيص والإنصاف، بسبب مظلوميّته في صفحات التاريخ الإسلاميّ عموماً، كما لا بدّ للموالي خصوصاً من أن يستعبر كثيراً من هذه الحوادث، فيعمل على تقوية ولايته وتعميقها، لأنّ أحداً لا يدري ما هي الفتن التي يمكن أن تزلزل إيمانه وتوقعه في ذلك الاختبار الذي وقع فيه بعض الشيعة آنذاك.

 

 


[1] ياسين، الشيخ كاظم، تاريخ السبطين، دار المحجة البيضاء، لبنان - بيروت، 2014م، ط2، ص 41 - 45.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج16، ص 22.

 

73


57

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

ولتحصيل شيءٍ من الوعي بحياة إمامناعليه السلام بما يسعه المقام، لا بدّ لنا من التوقّف قليلاً عند مختلف محطّات حياة كريم أهل البيت عليهم السلام، ومن ثمّ تحليل تلك الأحداث في محاولة لفهم نهج الإمام الحسن عليه السلام وجعله قدوة نتأسّى بها في حياتنا عمليّاً.

 

السبط الأوّل لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم

هو الحسن بن عليٍّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ثاني أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وأحد اثنين انحصرت بهما ذرّيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ولد الإمام الحسنعليه السلام ليلة النصف من شهر رمضان المبارك[1]، في السنة الثالثة للَّهجرة في المدينة المنوّرة[2]. نشأ وترعرع في أحضان النبوّة والإمامة في كنف جدّه النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأبيه أمير المؤمنين عليه السلام وأمّه فاطمة الزهراء عليها السلام وهو ولدهما الأوّل. وقد سمّاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من اللَّه - عزّ وجلّ - حسناً، وأدّى عليه السلام سنن الولادة ومستحبّاتها، فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، وحلق له رأسه وتصدّق بوزن شعره، وطلى رأسه بالطيب، ثمّ عقّ عنه[3].

 

تسلّم الإمام الحسن عليه السلام إمامته التي استمرّت عشر سنوات تقريباً، بعد شهادة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، واستمرّت خلافته أربعة أشهر وثلاثة أيّام، حيث كان له من العمر سبعة وثلاثون سنة[4]. كان عليه السلام يكنّى بأبا محمّد، ولكنّ ألقابه عديدة، منها: الزكيّ، التقيّ، السّبط، الوليّ، الطيّب والسيّد[5]، كما كان له عليه السلام نحو خمسة عشر ولداً، 13 ذكراً وبنتاً أو بنتان[6].

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج‏2، ص 5.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 461.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 26.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 29.

[5] الخصيبي، الهداية الكبرى، مصدر سابق، ص 143.

[6] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 29.

 

74


58

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

حياته في كنف جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم

عاش الإمام الحسن عليه السلام في كنف جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبع سنوات وستّة أشهر من عمره الشريف[1]، كانت كفيلة في صوغ شخصيّة الحسن الصغير عليه السلام على طبق شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أشبهتَ خلقي وخُلُقي"[2].

 

وقد قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بدورٍ بالغ الأهمّيّة في تعظيم مكانة أهل بيته، ولا سيّما ابنيه الحسن والحسين في وجدان الأمّة الإسلاميّة، فلم يكن يترك موقفاً يمرّ أو مناسبة تمضي إلّا بيّن فيها منقبة لهم وأبرز عظم حقّهم على الأمّة.

 

فكثيرة هي الروايات التي تتحدّث عن مواقف حدثت بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والحسن والحسين عليهما السلام التي تبيّن وتؤكّد هذه المسألة عليها، حيث رُوي عنه أنّه قال في حقّهما عليه السلام: "ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا"[3].

 

كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حقّ الحسن عليه السلام أنّه قال: "وَأَمَّا الْحَسَنُ، فَإِنَّهُ ابْنِي ووُلْدِي وَبَضْعَةٌ مِنِّي وَقُرَّةُ عَيْنِي وَضِيَاءُ قَلْبِي وَثَمَرَةُ فُؤَادِي، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَحُجَّةُ اللَّه عَلَى الأمّة، أَمْرُهُ أَمْرِي، وقَوْلُهُ قَوْلِي، مَنْ تَبِعَهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصَاهُ فَلَيْسَ مِنِّي"[4].

 

وقد بلغ من تعظيم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحبّه للإمامين الحسن والحسين عليهما السلام أنّه كان يقطع خطبته في المسجد وينزل عن المنبر ليحتضنهما[5]. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض صلواته إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فيأتي بعض الناس ليمنعوهما فيشير إليهم أن دعوهما، فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال: "من أحبّني فليحبّ هذين"[6].

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 28.

[2] المصدر نفسه، ص 21.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 30.

[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 114.

[5] الحكيم، السيد منذر، أعلام الهداية (الإمام الحسن عليه السلام)، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، دار الأميرة، 2005م، ط1، ص 51.

[6] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص 384.

 

75


59

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن لا يُفهم كسلوك البشر العاديّين انطلاقاً من أهوائه وعواطفه الذاتيّة، بل هو ما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يُوحى، لذا فإنّ تصرّفاته ومواقفه كلّها - ومنها مواقفه مع الحسنين عليهما السلام - هي مواقف إلهيّة، تعبّر عن إرادة اللَّه - عزّ وجلّ - ومبتغاه، فبتعظيمه لهما أراد أن يربّي أمّته على احترامهما وتعظيمهما، كما أراد تبيان عظمة هذين الإمامين ومكانتهما عند اللَّه تعالى، فسعى بالسبل كافّة لزرع ذلك الودّ والحبّ للقربى والتعظيم الواجب في نفوس أمّته، وليكون بذلك أرسى أكبر حجّة على الجميع.

 

حياته عليه السلام في كنف أبيه الإمام عليّ عليه السلام

عايش الإمام الحسن عليه السلام أباه الإمام عليّاً عليه السلام حتّى استشهاده عليه السلام، وقد كان مواكباً بالمجريات والأحداث كلّها آنذاك، بل كان في وسطها بما تقتضيه الحاجة ويقرّه التكليف من إمام زمانه في ذلك الوقت - أبيه الإمام عليّ عليه السلام -.

 

فمع صغر سنّه إلّا أنّه كان في قلب الأحداث التي تلت رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا، فكان يخرج مع أبيه وأمّه وأخيه الإمام الحسين عليه السلام ليلاً يستنهضون الناس لنصرة إمامهم عليّ عليه السلام لاسترداد الخلافة[1]. وقد سجّل له التاريخ احتجاجاً له عليه السلام على الخليفة أثناء خطبة له فقال: "انزل عن منبر أبي"[2]. ذلك كلّه وأكثر يعكس شخصيّة ذلك الإمام الفذّة الشجاعة المتحمّلة للمسؤوليّة منذ نعومة أظافره، ويبيّن مكانته بين الناس، وعند أهله أيضاً.

 

وبعد انقضاء تلك الفترة والانحراف الواقع في الخلافة حينها عن مسارها السليم، تهافت الناس على الإمام عليّ عليه السلام لمبايعته، فتسلَّم عليه السلام زمام الحكم. ولمّا أعلن الإمام عليّ عليه السلام رفضه لما جرى سابقاً من سياسات، واعتماده مبدأ إعادة الحقوق

 


[1] كتاب سليم بن قيس الهلاليّ، مصدر سابق، ج‏2، ص 581.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج6، ص 42.

 

76

 

 


60

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

لأصحابها، أعلن معاوية تمرّده ورفضه مبايعة الإمام عليّ عليه السلام، فبدأ الإمام عليّ عليه السلام يُعدّ العدّة لقتال معاوية.

 

وقد كان للإمام الحسن عليه السلام دورٌ بارزٌ وفعّالٌ في تلك المرحلة، حيث كان الإمام عليّ عليه السلام يرسله للمهامّ الصعبة التي تحتاج إلى صلابة وشجاعة وحكمة وخطاب مفوّه. ففي وقت أراد الإمام عليّ عليه السلام تعبئة الناس لحرب الجمل، بعد أن أعلن أبو موسى الأشعريّ، الذي كان والي الكوفة وفي جيش الإمام عليّ عليه السلام، التمرّد على إمامه عليه السلام، وعدم استجابته لاستنصار الإمام عليّ عليه السلام لمقاتلة الناكثين. وبعد فشل الوفود المتكرّرة مع أبي موسى لإقناعه بالعدول عن رأيه، أرسل الإمام عليّ عليه السلام إليه ابنه الإمام الحسن عليه السلام، فعزله من منصبه، وخطب في الناس خطبةً استنهضهم فيها لنصرة إمامهم كانت نتيجتها نصرة أهل الكوفة للإمام عليّ عليه السلام والانتصار في حرب الجمل[1].

 

الإمام الحسن عليه السلام يخلف أباه في الإمامة

بعد أن فتّتت الفتنة معسكر الإمام عليّ عليه السلام وقادته إلى حرب النهروان، وتآمر القوم على قتل أمير المؤمنينعليه السلام، وقعت الفاجعة، وهُدَّ ركن الدين، وضُرب خاتم الوصيّينعليه السلام في محرابه ضربة كانت شهادته على إثرها.

 

ولمّا عرف أمير المؤمنين عليه السلام أنّه مفارق هذه الدنيا، عهد بالخلافة والإمامة إلى ولده الحسن عليه السلام نصّاً عن اللَّه - عزّ وجلّ - ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم تختلف كلمة الشيعة في ذلك، وأشهدَ عليه السلام على وصيّته الحسين وابنه محمّداً وجميع وُلده ورؤساء شيعته وأهلَ بيته، ثمّ دفع إليه الكتب والسلاح، وقال له: "يا بنيّ! أمرني رسول اللَّه ودفع إليّ كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين"[2].

 

ثمّ في صباح اللّيلة التي دَفن فيها الإمام الحسن أباه أمير المؤمنين عليه السلام، ألقى عليه السلام خطبةً في الناس، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصلّى على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال: "لقد قُبض

 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج32، ص 86 - 89 .

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 297.

 

77


61

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

في هذه اللّيلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخِرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول اللَّه فيقيه بنفسه، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يوجّهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، ولا يرجع حتّى يفتح اللَّه على يديه. وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله..."[1].

 

ثمّ لمّا أنهى الإمام الحسن عليه السلام خطابه، انبرى عبيد اللَّه بن العبّاس فحفّز المسلمين إلى المبادرة لمبايعته قائلاً: "معاشر الناس! هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه"، فاستجاب الناس لهذه الدعوة، وهتفوا بالطاعة، وأعلنوا الرضا والانقياد له عليه السلام، قائلين: "ما أحبّه إلينا، وأوجب حقّه علينا، وأحقّه بالخلافة!"[2].

 

وتمّت البيعة يوم الجمعة في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 40 للَّهجرة. ثمّ قام الإمام الحسن بأمور الحكم، ورتّب العمال، وأمّر الأمراء، ونظر في الأمور[3].

 

شذرات من خصائص الإمام الحسن عليه السلام

1- الشخصيّة الجهاديّة للإمام الحسن عليه السلام:

كان الإمام الحسن عليه السلام - كما يشهد التاريخ - شجاعاً مقداماً وشهماً، لا يعرف الخوفُ طريقه إليه، ولم يبخل يوماً في تقديم أيّ تضحية في سبيل تقدّم الإسلام وإعلاء كلمته، وكان دائم الاستعداد للجهاد في سبيل اللَّه. وقد شارك عليه السلام في مختلف الحروب مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، ففي حرب الجمل، كان الإمام الحسن عليه السلام يقاتل مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام جنباً إلى جنب، وفي الخطّ الأماميّ من ساحة القتال.

 

وفي حرب صفّين، كان له دور فاعل في تعبئة القوّات وإرسال الجيش إلى قتال معاوية، وقد كان هو صاحب ميمنة جيش الإمام عليّ عليه السلام مع الإمام الحسين وعبد اللَّه بن جعفر ومسلم بن عقيل[4]. وقد بلغ عليه السلام في شجاعته وإقدامه على القتال

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 8.

[2] المصدر نفسه، ص 8 - 9.

[3] المصدر نفسه.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 3، ص 168.

 

78


62

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

واستعداده للتضحية في سبيل الحقّ مبلغاً جعل أمير المؤمنين عليه السلام يطلب من أصحابه أن يمنعوه هو وأخاه الحسين من مواصلة القتال في حرب صفّين، لئلّا ينقطع بهما نسل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لأصحابه: "املكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني، فإنّي أنفس بهذين الغلامين - أي الحسن والحسين - لئلّا ينقطع بهما نسل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم"[1].

 

2. الشخصيّة العلميّة للإمام الحسن عليه السلام:

لا يختلف أيّ من الباحثين والعارفين بأهل بيت العصمة والطهارة بأدنى معرفة، أنّهم عليهم السلام آلٌ زُقُّوا العلم زقّاً، فكانوا معدناً للحكمة والمعرفة والعلوم في مختلف المجالات. وليس يحيد سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسن عليه السلام عن هذه القاعدة الثابتة، وهو من تربّى بين يدي جدّه وأمّه وأبيه.

 

وقد برزت الشخصيّة العلميّة للإمام الحسن عليه السلام في مختلف محطّات حياته الشريفة، وإن لم تظهر بأجلى صورها، بسبب الظروف المحيطة والناس الذين لم يكونوا على استعداد لاستقبال ذلك الفيض العلميّ الإلهيّ على لسان وليّه، لقصورهم وتقصيرهم.

 

ومع ذلك، فقد خلّف الإمام المجتبىعليه السلام تراثاً فكريّاً وعلميّاً ثرّاً، من خلال ما قدّمه من نصوص للإسلام على شكل خطب أو وصايا أو احتجاجات أو رسائل أو أحاديث وصلتنا في فروع المعرفة المختلفة، وهو أمر يكشف عن تنوّع اهتمامات الإمام الحسن عليه السلام وسَعة علمه، وإحاطته بمتطلّبات المرحلة التي كانت تعيشها الأمّة الإسلاميّة في عصره المحفوف بالفتن والدواهي التي ندر فيها من كان يعي بطبيعة تلك المرحلة إلّا من حُفّ برعاية اللَّه - عزّ وجلّ - وتسديده، لشدّة الفتن والتباس الحقّ بالباطل.

 

هذا، وقد امتلأت كلماتهعليه السلام بالمفاهيم والقيم العليا، حيث ظهرت على لسانه الشريف ببليغ العبارة وجميل البيان، وتجلّت تلك القيم في تربيته لتلامذته وأصحابه، فتنوّع تراثه عليه السلام بين كلام في رحاب العلم والعقل والقرآن وتفسيره، وكان ممّن روَوا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونشَر أحاديثه. كما روي عن الإمام الحسن عليه السلام أحاديث متنوّعة

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج11، ص 25.

 

79


63

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

في مختلف مسائل العقيدة، كالتوحيد، والتعريف بولاية أهل البيت عليهم السلام وحقيقتها، والأخلاق، والتربية، والمواعظ الحكيمة، وغيرها من المسائل والأمور التي لا يسع المقام لذكرها[1].

 

وممّا رُوي عن الإمام الحسن في العلم أنّه قال عليه السلام: "علِّم الناس وتعلّم علم غيرك، فتكون قد أتقنت علمك وعلم ما لم تعلم"[2]. كما روي عنه كلام في التوحيد في خطبة له عليه السلام في مسجد الكوفة، فقال: "الحمد للَّه بغير تشبيه، والدائم بغير تكوين، القائم بغير كلفة، الخالق بغير منصبة، والموصوف بغير غاية، المعروف بغير محدود، ولم يزل قديماً في القدم..."[3].

 

3- عبادته عليه السلام:

رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في الإمام الحسن عليه السلام: "إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍعليه السلام كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ، وَأَزْهَدَهُمْ، وَأَفْضَلَهُمْ، وَكَانَ إِذَا حَجَّ، حَجَّ مَاشِياً، وَرُبَّمَا مَشَى حَافِياً، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ بَكَى، وَإِذَا ذَكَرَ الْقَبْرَ بَكَى، وَإِذَا ذَكَرَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ...، وَكَانَ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ...، كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَفْصَحَهُمْ مَنْطِقاً"[4]. وهو وصف جامع لحالات عباديّة تَعدَّد ظهورها من الإمام الحسن عليه السلام.

 

وكان له عليه السلام حالات خاصّة أثناء قيامه بين يدي اللَّه تعالى للصلاة، فإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي اللَّه - عزّ وجلّ -، وكان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه[5].

 


[1] راجع: السيد الحكيم، أعلام الهداية، الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، مصدر سابق، ج4، ص201.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج1، ص 571.

[3] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 43، ص 351.

[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 178 - 179.

[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 14.

 

80


64

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

وللإمام المجتبى عليه السلام أدعية شتّى رُويت عنه تتضمّن مجمعاً من المعارف والآداب، كما تحمل أدب التقديس للَّه تعالى والخضوع والتذلّل بين يديه تعالى، منها: "إِلَهِي، مَنْ أَحْسَنَ فَبِرَحْمَتِكَ، وَمَنْ أَسَاءَ فَبِخَطِيئَتِهِ، فَلَا الَّذِي أَحْسَنَ اسْتَغْنَى عَنْ رِفْدِكَ وَمَعُونَتِكَ، وَلَا الَّذِي أَسَاءَ اسْتَبْدَلَ بِكَ وخَرَجَ مِنْ قُدْرَتِكَ، إِلَهِي بِكَ عَرَفْتُكَ، وَبِكَ اهْتَدَيْتُ إِلَى أَمْرِكَ، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ أَدْرِ مَا أَنْتَ"[1].

 

4- مكارم أخلاقه عليه السلام:

جسّد الإمام عليه السلام أخلاق الإسلام وقيمه السامية في التعامل مع الناس، فكان نبراساً يُستضاء به في ذلك، وقد نُقلت عنه العديد من المواقف التي تمثّل قمّة الأخلاق، وقد عرف بعظيم حلمه وجميل صفحه عن المسيئين إليه، وما أكثرهم!

 

ومن عظمة حلمه عليه السلامأنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه، والإمام لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلّم عليه وضحك، ثمّ قال: "أيّها الشيخ! أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك... وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك...، فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة اللَّه في أرضه، اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق اللَّه إليَّ، والآن أنت أحبّ خلق اللَّه إليَّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم"[2].

 

وقد ظهر حلمه الكبير وصبره الجليل بعد صلحه مع معاوية، حيث كابد وتحمّل الجاهلين والحاقدين والسفهاء من الناس، وكلٌّ كان يطعن به بطريقته، حتّى إنّ بعض مواليه صار يُسلّم عليه فيقول: "السلام عليك يا مذلّ المؤمنين"[3]. وسلّم عليه ذات يوم رجلٌ من شيعته بذلك، فما كان من الإمام الرؤوف الرحيم إلّا أن استعطفه ولم يؤنّبه، بل

 


[1] ابن طاووس، السيد علي بن موسى، مهج الدعوات ومنهج العبادات، الناشر: دار الذخائر، قم، ط1، 1411هـ، ص 144.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص 184.

[3] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن عليّ، تحف العقول، الناشر: جماعة المدرّسين، قم، ط2، 1404هـ، ص 308.

 

81


65

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

دعاه إلى النزول عن ركبه وتحدّث إليه يبيّن له أسباب وعلل صلحه[1].

 

إنّ الإمام الحسن عليه السلام، بسيرته المشعّة، على الرغم من كيد الحاقدين، يعلّم شيعته ومحبّيه ويربّيهم على القيم العظيمة والأخلاق الكريمة وضرورة الحفاظ عليها، أيّاً كانت الظروف، ومهما كانت صعبة وقاسية، بل حتّى لو كان الإنسان أعظم أولياء اللَّه وسُبّ وشُتم وكيلت له الاتّهامات، لا بدّ من أن يحافظ على مكارم أخلاقه، أمّا المواجهة فلا بدّ منها، لكن بما ينسجم مع القيم والأخلاق التي أرساها الإسلام الحنيف وثبّتها الأئمّة عليهم السلام، بل ويمكن أن تتحوّل تلك الأخلاق والقيم إلى أقوى أداة للمواجهة وأنجعها على مرّ الزمن، وهي مسألةٌ سوف نتعرّض لها في الدرس القادم فيما يتعلّق بالإمام الحسن عليه السلام.

 

5- جوده وكرمه عليه السلام:

رُوي أنّ الإمام الحسن عليه السلام خرج من ماله مرّتين، وقاسم اللَّه - عزّ وجلّ - ماله ثلاث مرّات، وكان يعطي نعلاً ويمسك نعلاً[2]. فقد عُرف الإمام الحسن عليه السلام بجزيل عطائه وكثرة إنفاقه على الفقراء، فكان محسناً سخيّاً حتّى عُرف بكريم أهل البيت[3] عليهم السلام. فما كان للمال قيمةٌ عنده عليه السلام سوى ما يردّ به جوع جائع أو يكسو به عارياً أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي به دين غارم.

 

وقد سجّلت صفحات التاريخ العديد من المواقف التي تُظهر سخاء الإمام الحسن عليه السلام وكرمه، في حال يسره وعسره. والبذل والسخاء عن طيب نفس دونما أيّ تكلّف وحرص[4]، قيمة يعلّمنا إيّاها إمامنا المجتبى عليه السلام، فحريّ بمن أراد التأسّي به عليه السلامأن يتحلّى بتلك الصفة، ويوطّن نفسه عليها، فهي من أنجع الطرق العمليّة لإخراج حبّ الدنيا من وجود الإنسان.

 


[1] الشيخ المفيد، محمّد بن محمّد، الاختصاص، المؤتمر العالميّ لألفيّة الشيخ المفيد، قم، ط1، 1413هـ، ص 82.

[2] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج43، ص 357.

[3] السيد منذر الحكيم، أعلام الهداية الإمام الحسن عليه السلام، مصدر سابق، ج5، ص 38.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 17.

 

82


66

الدرس الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- الحسن بن عليٍّ هو ثاني أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وأحد اثنين انحصرت بهما ذرّيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وسبطُه الأوّل صلى الله عليه وآله وسلم. وُلد الإمام الحسن عليه السلام ليلة النصف من شهر رمضان سنة 3هـ في المدينة المنوّرة.

 

- استمرّت إمامة الإمام الحسن عليه السلام نحو 10 سنوات، واستمرّت خلافته أربعة أشهر وثلاثة أيّام.

 

- عمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على تعظيم شأن الإمام الحسن عليه السلام وبيان مكانته منذ صغره، ليظهر ذلك لأمّته ويتمّ الحجّة عليهم.

 

- كان الإمام الحسن عليه السلام مُواكباً لجميع المجريات والأحداث في عهد إمامة والده عليه السلام، وكان في قلب الحدث منذ وفاة جدّه إلى حين تولّي الإمام عليّ عليه السلام الحُكم.

 

- كان الإمام الحسن عليه السلام إلى جنب أبيه الإمام عليّ عليه السلام في حروبه المختلفة.

 

- خلّف الإمام المجتبى عليه السلام تراثاً فكريّاً وعلميّاً ثرّاً في مختلف فروع المعرفة، كالتوحيد، والولاية، والأخلاق، والتربية، والمواعظ الحكيمة، والأدعية، وغيرها.

 

- كان الإمام الحسن عليه السلام أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، فكان يحجّ ماشياً، وإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه، وقد جسّد أخلاق الإسلام في التعامل مع الناس.

 

- رُوي أنّ الإمام الحسن عليه السلام خرج من ماله مرّتين، وقاسم اللَّه. عزّ وجلّ - ماله ثلاث مرّات، وقد عُرف بجزيل عطائه وكثرة إنفاقه على الفقراء حتّى عُرف بكريم أهل البيت عليهم السلام.

 

83


67

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

الدرس السادس

الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يبيّن الظروف التي صاحبت إمامة الحسن عليه السلام، وأدّت إلى الصلح مع معاوية.

 

- يُعدّد شروط صلح الإمام الحسن عليه السلام ونتائجه.

 

- يتعرّف إلى طريقة مواجهة الإمام الحسن عليه السلام وتصدّيه لمعسكر الباطل.

 

 

85


68

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

دوافع الصلح

اجتمعت العديد من العوامل في عصر الإمام الحسن عليه السلام، وحاصرته، وألزمته باللّجوء إلى خيار الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، لكنّ تلك العوامل والمؤثّرات لم تكن واضحة وظاهرة للجميع، بل تحتاج معرفتها إلى التدقيق وإمعان النظر، ولا سيّما أنّ الإمام المجتبى عليه السلام قد ورث إرثاً ضخماً من أيّام أبيه الإمام عليّ عليه السلام يضرب بجذوره إلى عصر الرسالة الأوّل، إرثاً مشحوناً بالفتن والتناقضات والأحقاد والأطماع. ويمكن لنا القول بالإجمال: إنّ اختلال موازين القوى كان لصالح معاوية، وهو ما وقف في طريق استمرار تولّي الإمام الحسن عليه السلام للسلطة. وفيما يلي سنشير إلى بعض تلك العوامل:

1- خارجيّاً: لم تكن الحرب الداخليّة بين المسلمين في صالح العالم الإسلاميّ، لأنّ الروم الشرقيّة التي كانت قد تلقّت ضربات قويّة من الإسلام كانت تتحيّن الفرصة المناسبة دائماً لضرب الإسلام ضربة انتقاميّة كبيرة كي تأمن سطوته وسلطته[1].

 

2- داخليّاً: لقد كانت حروب الجمل وصفّين والنهروان، والحروب الخاطفة التي نشبت في عصر الإمام عليّ عليه السلام قد ولّدت عند أصحابه حنيناً إلى السلم والموادعة، وذلك لأنّهم لم يكونوا أصحاب بصيرة حقّة. وقد عبّر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الاستجابة للإمام عليّ حين دعاهم إلى الخروج ثانية إلى صفّين .فلمّا استُشهد الإمام عليّ عليه السلام وبويع الإمام الحسن عليه السلام بالخلافة، برزت هذه الظاهرة على أشدّها، وخاصّة حين دعاهم الإمام الحسن إلى التجهّز لحرب الشام، فكانت الاستجابة بطيئة جدّاً.

 


[1] اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، مؤسّسة ونشر فرهنگ أهل بيت عليهم السلام - قم ، ج2، ص 217.

 

87


69

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

3- مجتمعٌ متناقض: لم يكن المجتمع العراقيّ في تلك الفترة مجتمعاً مترابطاً ومتّحداً يسوده الانسجام، بل كان مؤلّفاً من شرائح وتيّارات عديدة متناقضة فيما بينها. فقد كان هناك أنصار الحزب الأمويّ الخطير، والخوارج الذين يوجبون محاربة الفريقين، والمسلمون الموالي الذين وفدوا إلى العراق، وأخيراً جماعة شكّاكون بلا عقيدة ثابتة يتأرجحون بين تأييد هذا التيّار وذاك. هؤلاء جميعاً شكّلوا المجتمع العراقيّ في تلك الفترة، هذا مضافاً إلى تلك الشريحة التي تشايع خطّ أمير المؤمنينعليه السلام وأهل البيت[1] عليهم السلام.

 

4- جيش مفكّك: انعكست ظاهرة التعدّدية العقائديّة، والتباين الفكريّ والتفكّك، على جيش الإمام الحسن عليه السلام أيضاً، وجعلت منه جيشاً لا يتمتّع بالانسجام والتماسك، ولذلك كان من غير الممكن الاعتماد على هذا الجيش في مواجهة العدوّ الخارجيّ.

 

وقد خطب الإمام الحسن عليه السلام نفسه خطبة جامعة أعطى فيها صورة شاملة وواضحة عن طبيعة المجتمع العراقيّ وتخاذله في الحرب قال: "إنّا - واللَّه - ما ثنانا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنّما كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. ألا وإنّا لكم كما كنّا، ولستم لنا كما كنتم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين، قتيل بصفّين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره، فأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر. ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى اللَّه - عزّ وجلّ - بظباء السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى". فناداه القوم من كلّ جانب: "البقيّة البقيّة"[2]، أي أنّهم يريدون الحياة، يريدون أن يبقوا على هذه البسيطة كيفما كان. فكيف يمكن للإمامعليه السلام أن يواجه عدوّاً قويّاً مثل معاوية بالاعتماد على مثل هذا الجيش الفاقد لروح الجهاد، الفاقد للروح الواحدة، والذي تتحكّم الأهواء في أغلبه؟!

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 10.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص 107.

 

88


70

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

5- شراء الضمائر والمؤامرات الغادرة: قام معاوية بشراء ضمائر ضعاف النفوس من جيش الإمام الحسن عليه السلام، كما حصل مع قائد جيش الإمام الحسن عليه السلام[1]، وراح معاوية، وبدافع اختراق جيش الإمام الحسن، يبثّ روح الفرقة والأراجيف من خلال جواسيسه ومرتزقته، وقد نجح في ذلك إلى حدّ كبير.

 

أحداث ما قبل الصلح

بعد فترة وجيزة من شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، عبّأ معاوية جيشاً ضخماً، وبدأ تحرّكه العسكريّ لغزو العراق. وعلى الأثر تحرّك الإمام الحسن عليه السلام، واستنفر الناس للجهاد، فتثاقلوا عنه، ثمّ ذهب معه مجموعة من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه عليه السلام وبعضهم من الخوارج الذين كانوا يرومون قتال معاوية، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم أصحاب عصبيّة اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين[2].

 

وتجدر الاشارة إلى أنّ أهل الكوفة - كما بات واضحاً - لم يكونوا في تلك المرحلة من الشيعة الموالين حقّاً، حيث كانت الكوفة تجمع أناساً مختلفي المشارب، بل يمكن القول إنّ القلّة القليلة كانت من أصحاب البصائر، أمّا عموم الناس -ما خلا الخوارج- فقد كانوا من الموالين سياسيّاً لأهل البيتعليهم السلام، يرون أنّهم الأحق بأمر الخلافة، ولا سيّما أنّهم قد نهضوا مع الإمام عليّ عليه السلام في حرب الجمل، لكنّهم ليسوا بالشيعة الحقيقيّين المدركين لحقيقة الولاية، وهذا ما يفسّر تثاقلهم عن الإمام عليّ عليه السلام وخياناتهم للإمام الحسن عليه السلام وعزمهم على تسليمه عليه السلاملمعاوية. فقد كتب جماعة من رؤساء القبائل لمعاوية سرّاً، وبايعوه، وحثّوه على المسير إليهم، وضمنوا له تسليمهم الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية أو الفتك به![3] وعليه، فقد ساد أهل الكوفة طمعٌ في أن يسير معاوية معهم بسيرته مع أهل الشام بالعطايا والبذخ وغيره، وكان هذا من أهمّ أسباب ارتخائهم وتخاذلهم عن القتال، وظهور الكثير من الخونة والمنافقين.

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج16، ص42.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 10.

[3] المصدر نفسه، ص 12.

 

89


71

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

ثمّ سرت حرب الشائعات، والتي كانت أمضى سلاح بيد معاوية، فنشر إشاعة في جيش الإمام الحسن عليه السلام أنّه عليه السلام قد صالحه، فلمّا كان اللّيل أرسل معاوية إلى عبيد اللَّه بن عبّاس قائد جيش الإمام الحسن عليه السلام: أنّ الحسن قد راسلني في الصلح وهو مسلّم الأمر إليّ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً وإلّا دخلت وأنت تابع، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجّل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسلّ عبيد اللَّه إليه ليلاً فدخل عسكر معاوية[1].

 

وقد أَرَادَ الإمام عليه السلام أن يمتحن أصحابه ليميز أولياءه من أعدائه ويكون على بصيرة من أمره في قتاله معاوية، فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً فَاجْتَمَعُوا، فصلّى وخطب فيهم، ولمّا فرغ نَظَرَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: "مَا تَرَوْنَهُ يُرِيدُ بِمَا قَالَ، قَالُوا: نَظُنُّ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَالِحَ مُعَاوِيَةَ وَيُسَلِّمَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: كَفَرَ وَاللَّه الرَّجُلُ، وَشَدُّوا عَلَى فُسْطَاطِهِ فَانْتَهَبُوهُ حَتَّى أَخَذُوا مُصَلَّاهُ مِنْ تَحْتِهِ، ونُزع مِطْرَفُهُ عَنْ عَاتِقِهِ فَبَقِيَ جَالِساً مُتَقَلِّداً السَّيْفَ، ثمّ دعا بفرسه وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته ومنعوا منه من أراده[2].

 

ثمّ تعرّض عليه السلام لمحاولة الاغتيال مباشرة، وقد أقدم عليها مرتشون وعملاء لمعاوية، وذلك لإلقاء تبعات الاغتيال على أهل العراق، ولكي يستفيد معاوية من ذلك كما استفاد من مقتل عثمان، فيتخلّص من خصمه بسيف غيره، بل ويطالب بدمه وثاره! فبدر إلى الإمام الحسن عليه السلام رجلٌ من بني أسد وبيده مِغْوَل[3] وقال: "اللَّه أكبر! أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!"، ثمّ طعنه في فخذه فشقّه حتّى بلغ العظم، فاعتنقه الإمام وخرّا جميعاً إلى الأرض، فجاء خُلّص أصحاب الحسن عليه السلام وقتلوا الرجل[4].

 

وحُمل الإمام الحسن على سرير إلى المدائن، واشتغل بنفسه يعالج جرحه، وقد نزف نزفاً شديداً[5]. وبعد كلّ ما حصل ازْدَادَتْ بَصِيرَةُ الْحَسَن عليه السلام بِخِذْلَانِ الْقَوْمِ لَهُ وَفَسَادِ نِيَّاتِ الْمُحَكِّمَةِ فِيهِ (الخوارج) بِمَا أَظْهَرُوهُ لَهُ مِنْ السَّبِّ وَالتَّكْفِيرِ وَاسْتِحْلَالِ

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج16، ص42.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج1، ص 540.

[3] سيف دقيق له حدٌّ ماضٍ.

[4] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج1، ص 540.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 12.

 

90


72

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

دَمِهِ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِ، ولَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَنْ يَأْمَنُ غَوَائِلَهُ إِلَّا خَاصَّةٌ مِنْ شِيعَتِهِ وشِيعَةِ أَبِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، وَهُمْ جَمَاعَةٌ لَا تَقُومُ لِأَجْنَادِ (جنود) الشَّام[1].

 

فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فِي الْهُدْنَةِ وَالصُّلْحِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بِكُتُبِ أَصْحَابِهِ الَّتِي ضَمِنُوا لَهُ فِيهَا الْفَتْكَ بِهِ وَتَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ، وَاشْتَرَطَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي إِجَابَتِهِ إِلَى صُلْحِهِ شُرُوطاً كَثِيرَةً، وَعَقَدَ لَهُ عُقُوداً كَانَ فِي الْوَفَاءِ بِهَا مَصَالِح عامّة. ولم يعد بالإمكان الإبقاء على العراق بعيداً عن القبضة الأمويّة، ولم يكن غير الصلح سوى خيار القتال والمواجهة وإفناء الشيعة دون أيّ أمل محدود بالنصر، وحينئذٍ اتّخذ الإمام الحسن عليه السلام قرار مصالحة خصمه مجبراً.

 

وبعد أن شرط الإمام الحسن عليه السلام شروط الصلح، وحلف معاوية الأيمان المغلّظة على الوفاء بها، خطب الإمام الحسن عليه السلام في الناس، وأبلغهم قرار مصالحته معاوية على شروط سنأتي على ذكرها[2].

 

بنود الصلح[3]

عندما ارتأى الإمام الحسن أنّ الحرب تتعارض مع المصالح العليا للمجتمع الإسلاميّ والحفاظ على كيان الإسلام، ودخل في السلم مكرهاً بسبب الظروف العصيبة التي أُشير إليها سابقاً، بذل قصارى جهده لضمان تحقيق أهدافه العليا والمقدّسة بأقصى ما يمكن من خلال هذا الصلح، وبطريقة سلميّة.

 

ومن ناحية أُخرى، ولأنّ معاوية كان مستعدّاً لأن يُقدّم أيّ نوع من الامتيازات والتنازلات للدخول في السلم وتسلّم السلطة، لدرجة أنّه أرسل صحيفة بيضاء مختومة إلى الإمام عليه السلام، استغلّ الإمام الحسن عليه السلام هذه الفرصة، فكتب في معاهدة الصلح جميع القضايا المهمّة والحسّاسة ذات الأولويّة التي تمثّل مبادئه الكبيرة، وطلب من معاوية الالتزام بما جاء فيها، وإن كان على علم بنكث معاوية لبنود الصلح، ولكن ليتمّ الحجّة، ويفضح معاوية، ويحقّق أهدافه، وقد كان له ما أراد عليه السلام.

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 13.

[2] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص 566 - 567.

[3] راجع، السيد الحكيم، أعلام الهداية، الإمام الحسن المجتبى، مصدر سابق، ص 146 - 148، 160.

 

91


73

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

ويمكننا حصر نصّ المعاهدة في خمسة بنود:

البند الأوّل: تسليم الأمر - الخلافة - إلى معاوية على أن يعمل بكتاب اللَّه وسنّة رسوله.

 

البند الثاني: أن تكون للحسن عليه السلام الخلافة من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين عليه السلام، وليس لمعاوية أن يعهد بها إلى أحد.

 

البند الثالث: أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه في الصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلّا بخير.

 

البند الرابع: استثناء ما في بيت مال الكوفة ليكون بحوزة الإمام الحسن، وأن يفضِّل بني هاشم في العطاء على بني أُميّة، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل وصفّين مليون درهم.

 

البند الخامس: الناس آمنون حيث كانوا في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما صدر من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بغلٍّ وحقد، وأن يأمن أصحاب الإمام عليّ عليه السلام حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة الإمام عليّ عليه السلام بمكروه، وأنّ أصحابه عليه السلام وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً، ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وأن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت الرسول غائلة سرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق[1].

 

فكتب معاوية جميع ذلك بخطّه وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكّدة والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام.

 

ولَمَّا اسْتَتَمَّتِ الْهُدْنَةُ سَارَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى نَزَلَ بِالنُّخَيْلَةِ (موضع قرب الكوفة) وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ضُحَى النَّهَارِ، وَخَطَبَهُمْ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنِّي، وَاللَّه، مَا أُقَاتِلُكُمْ لِتُصَلُّوا وَلَا لِتَصُومُوا وَلَا لِتَحُجُّوا وَلَا لِتُزَكُّوا، إِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَعْطَانِي اللَّه ذَلِكَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ، أَلَا وَإِنِّي كُنْتُ مَنَّيْتُ الْحَسَنَ وَأعْطَيْتُهُ أَشْيَاءَ،

 


[1] البلاذري، أحمد بن يحيى، جمل من أنساب الأشراف، الناشر: دار الفكر، بيروت، 1417ه، ط1، ج3، ص 41 - 50.

 

92


74

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

وَجَمِيعُهَا تَحْتَ قَدَمِي، لَا أَفِي لَهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا"[1]. وهكذا داس معاوية كلّ ما تعهّد به وشرطه، ونقض معاهدة الصلح علانية.

 

الصلح في الروايات

لاقى الإمام الحسن عليه السلام اعتراضات قاسية حول ذلك الصلح، ولامه أناس على قراره! فأيّ صبر حمله قلب إمامنا الحسن عليه السلام الرؤوف! وأيّ حلمٍ ذاك الذي اختلجه صدره، فوسع تلك التهم كلّها! حتّى إنّه تحمّل مكر الأعداء، وسذاجة المؤيّدين، وضعف بصيرة الأصحاب! فهو مع تلك الاعتراضات كلّها التي سجّلها التاريخ، واللّوم الذي لاقاه، كان ثابت الجناب، نافذ البصيرة، رؤوفاً رحيماً، يردّ على كلّ واحد بحسبه، ويحتويه ويُفهمه ما أراد، فأجاب حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين عليه السلام المخلص، لمّا اعترض عليه بقوله: "وإنّي لم أفعل ما فعلت إلّا إبقاءً عليكم.."[2].

 

وردّاً على اعتراض أحدهم على صلحه، وضع الإمام يده على هذه الحقائق المريرة، ووضّح دوافع مبادرته هذه، فقال: "واللَّه، ما سلّمت الأمر إليه، إلّا أنّي لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتّى يحكم اللَّه بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح ليمنهم من كان فاسداً، إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا في فعل، إنّهم لمختلفون يقولون لنا إنّ قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا"[3].

 

هذا، وقد تعرّضت الروايات لذكر بعض الأسباب وفوائد الصلح، حيث نستفيد من أكثرها أنّ هذه الخطوة الدقيقة والخطيرة التي قام بها الإمام عليه السلام لم تكن واضحة لدى أذهان أكثر الناس، ما شكّل ضبابيّة في فهم موقفه عليه السلام. وهذه الروايات يمكن تقسيمها إلى قسمين:

الأوّل: روايات تؤكّد أنّ للصلح مصلحة عظيمة ومهمّة من دون ذكر الأسباب أو الدّواعي لهذا الصُّلح.

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج1، ص 541 - 542.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 35.

[3] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 291.

 

93


75

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

منها: عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "... أَنّ الْعِلْمَ الَّذِي وَضَعَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عِنْدَ عليّ عليه السلام، مَنْ عَرَفَهُ كَانَ مُؤْمِناً، وَمَنْ جَحَدَهُ كَانَ كَافِراً، ثُمَّ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ الْحَسَنُ عليه السلام، قيل: كَيْفَ يَكُونُ بِذَلِكَ الْمَنْزِلَةِ وَقَدْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ، دَفَعَهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ عليه السلام: اسْكُتْ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ، لَوْلَا مَا صَنَعَ لَكَانَ أَمْرٌ عَظِيمٌ"‏[1].

 

الثاني: روايات تؤكّد على أهمّيّة الصلح، وتذكر الأسباب الداعية إليه.

 

منها: عن الإمام المجتبى عليه السلام عن أبي سعيد قال: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه، لِمَ دَاهَنْتَ مُعَاوِيَةَ وَصَالَحْتَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحَقَّ لَكَ دُونَهُ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ ضَالٌّ بَاغٍ، فَقَالَ: "... سَخِطْتُمْ عَلَيَّ بِجَهْلِكُمْ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَلَوْلَا مَا أَتَيْتُ لَمَا تُرِكَ مِنْ شِيعَتِنَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا قُتِل"‏[2]. فيبيّن الإمام الحسن عليه السلام في هذه الرواية أنّ أحد أهمّ أسباب اضطراره إلى الصلح هو الحفاظ على حياة من بقي من الشيعة.

 

نتائج الصلح

1- انكشاف الوجه الحقيقيّ لمعاوية والمشروع الأمويّ:

أعلن معاوية في خطبته الأولى لأهل الكوفة مبتغاه الحقيقيّ، وكشف زيف ادّعاءاته السابقة، فبيّن أنّ كلّ ما أراده هو السلطة والإمرة على الجميع ولا شيء يعنيه غيرها، لا دين ولا إسلام. وإثر تسلّم مقاليد الحكم، ازداد معاوية طغياناً وإجراماً أكثر من السابق، فقد أشاع بدعة سبّ أمير المؤمنين عليه السلام، وهتك حرمة ساحته المقدّسة أكثر ممّا مضى، وضيّق الخناق على أهل الكوفة والشيعة، فكان أزلام معاوية يتتبّعونهم ويقتلونهم تحت كلّ حجر ومدر، وقُطّعت الأيدي والأرجل، وصُلبوا في جذوع النخل، وسمّلت أعينهم، وطُردوا وشُرّدوا حتّى نُفوا عن العراق، فلم يبقَ بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد[3].

 

ومع أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان على دراية كاملة بشخصيّة معاوية وأهدافه وجِبِلّته

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، علل الشرائع، الناشر، مكتبة داوري، قم، 1427هـ، ط1، ج‏1، ص 211.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 259.

 

94


76

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

الفاسدة، إلّا أنّ معاوية لم يكن معروفاً عند الناس كذلك، بل إنّه كان يتلبّس بلباس الإسلام، فلم تكن نواياه الحقيقيّة ومؤامرة آل أبي سفيان على الإسلام واضحة للناس. هذا، مع أنّه كانت تظهر على معاوية سلوكيّات مخالفة للإسلام، كلبس الحرير، واستعمال أواني الذهب والفضّة، لذا كان لا بدّ من أن يختبر الناس ذلك الحاكم، وليكشف بنفسه عن أنيابه الفتّاكة، ويبيّن نيّته الحقيقيّة المبيّتة، ويُظهر ذلك للنّاس، لتعود إلى أحضان الوليّ الشرعيّ!

 

وقد تحقّق هدف الإمام الحسن عليه السلام، فمنذ اليوم الأوّل لتسلّم معاوية الحكم أخذ يعمل على خلاف الإسلام، ورأى جميع المسلمين جوره وطغيانه وعدوانه، بعد أن نهب مال المسلمين وأراق الدماء المحترمة، ولم يكتفِ بذلك، بل كلّل جرائمه بتعيين يزيد وليّاً للعهد بالإكراه، ومع يزيد فُضحت المؤامرة الأمويّة على الإسلام، وباتت الحجّة قائمة على الجميع.

 

2- الإبقاء على الشيعة من القتل:

قد كان الإمام الحسن عليه السلام شديد الحذر على إبقاء البقيّة الصالحة من الشيعة المخلصين على قيد الحياة، وجعلهم القاعدة الصالحة للانطلاق من جديد. وقد بقي هذا الحذر هو الصفة الملازمة لقرارات الإمام الحسن عليه السلام السياسيّة، فبقيت خطواته متّزنة وواقعيّة حتّى بعد الصلح، فلم يستجب للتحريض المستمرّ من بعض أنصاره على تغيير نهجه هذا، ولم يقبل المخاطرة ببقايا الملتزمين بالخطّ المحمّدي الأصيل الذين صمدوا في وجه إرهاب بني أميّة وإغراءاتهم الدنيويّة، فهم النخبة التي ستنبعث من جديد[1].

 

3- حفظ النظام القيمي للإسلام:

كان الإمام الحسن عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام يمثّلون - حصراً - التيّار القيميّ في الإسلام، وكانت القيم الإسلاميّة العليا وإرساؤها في المجتمع وتربية الناس عليها هي

 


[1] ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبد الله بن مسلم، الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر / مراجعة الدكتور جمال الدين الشيال، دار إحياء الكتب العربي - عيسى البابي الحلبي وشركاه / منشورات شريف الرضي، 1960م، ط1، ص 220.

 

95


77

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

ما يعنيهم، إذ إنّ ذلك يشكّل قاعدة الإصلاح الحقيقيّ والفعليّ والثابت. يقول الإمام الخامنئيّ في هذا الإطار: "وبفضل وجود الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، حافظ هذا التيّار القيميّ للنهضة الإسلاميّة على الإسلام، فلولا صلح الإمام المجتبى لما كُتب لذلك الإسلام القيميّ الثوريّ البقاء، ولزال من الوجود... ولولا لجوء الإمام الحسن عليه السلام للصلح، لكانوا قد قضوا على وجود آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تماماً، ولم يبق من يحفظ الإسلام الأصيل بنظامه القيميّ، ولانتهى كلّ شيء بانهيار اسم الإسلام.... وهذا دَينٌ عظيم أسداه الإمام المجتبى عليه السلام في محافظته على الإسلام"[1]. إنّ صلح الإمام الحسن عليه السلام قد كشف زيف الحكم الأمويّ، وكان التمهيد الطبيعيّ لنهضة الإمام الحسين عليه السلام المباركة التي تجلّت في المواجهة المسلّحة للحاكم.

 

المنتصر الحقيقيّ: الإمام الحسن عليه السلام أم معاوية؟[2]

بقي الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة أيّاماً، ثمّ عزم على الرحيل إلى مدينة جدّه  صلى الله عليه وآله وسلم، ليبدأ عملاً ثقافيّاً تربويّاً قيميّاً جذريّاً من هناك. وقد بقي الإمام الحسن عليه السلام في المدينة عشر سنين إلى حين شهادتهعليه السلام كاظماً غيظه، منتظراً لأمر ربّه[3]، ملأ المدينة في تلك السنوات بعطفه المستفيض ورقيق حنانه وحلمه.

 

أنعش الإمام الحسن عليه السلام ذاكرة الأمّة، وأعاد مركزيّة أهل البيتعليهم السلام ومحوريّتهم إلى الأذهان، بعد أن عمل حزبان حاقدان على محو ذلك من وجدان الأمّة، هما حزب الناكثين وحزب الأمويّين. وجدير بالذكر، أنّ الإمام الحسن عليه السلام، والذي تتالت عليه الظروف المعوّقة كلّها وسُلبت منه جميع إمكانيّات المواجهة تقريباً، لم يستعن إلّا بالسلاح الفتّاك الذي لا يقوى أحد على مواجهته لعذوبته، ألا وهو سلاح القيم والأخلاق في مقابل استخدام معاوية لجميع الطرق المخالفة للإسلام لاستتباب الأمر له.

 

استفاد الإمام الحسن عليه السلام من مكانته الشخصيّة في وجدان الأمّة، والتي عمل

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر250 سنة، مصدر سابق، ص 167 - 168.

[2] راجع: السيد الحكيم، أعلام الهداية، الإمام الحسن، مصدر سابق، ص 166 - 169.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 15.

 

96


78

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً على إرسائها، فهو سبط الرسول وابن الزهراء، وهو أمر لم يتسنَّ للإمام عليّ عليه السلام، مع عظمته تحقيقه، بسبب الأحقاد المكنونة له عند الجميع عموماً، أمّا الحسن عليه السلام فقد كانت ظروفه مختلفة.

 

لذا، نراه في المدينة قد تحوّل إلى مرجعٍ وقطبٍ علميٍّ فيها، فراح يعمل مُجدّاً على نشر الثقافة الإسلاميّة في المجتمع الإسلاميّ، وإيجاد العلماء والمحدّثين والرواة، وتربية الثلّة الصالحة المخلصة التي ستكون نواة التغيير فيما بعد.

 

كما حصل على مرجعيّة اجتماعيّة كبيرة في أوساط الناس، فصار ملجأ المكروب والفقير والمستجير، ولا سيّما الهاربين من ظلم الأمويّين وجَورهم. وكان عليه السلام كثير العطاء، لا يردّ سائلاً، ينفق جميع ما عنده على الفقراء والمحتاجين، فحارب سياسة الابتزاز والإغراء الأمويّة، التي تذلّ الناس، وتأخذ منهم أكثر بكثير ممّا تعطيهم، بسياسة الكرم المحمّديّ، الذي لا يريد جزاءً ولا شكوراً، وكان كثير الإحسان حتّى للمسيئين إليه[1].

 

أضف إلى أنّه عليه السلام لم يخسر مرجعيّته السياسيّة حتّى بفقدانه السلطة، بل إنّ تلك المرجعيّة قد تعزّزت، فكان مراقباً لعمل الولاة، معترضاً عليهم، وكان يستقبل بعض المعارضين للسياسة الأمويّة، ويعطيهم التوجيهات[2].

 

وعليه، إذا أردنا أن نعرف من المنتصر الحقيقيّ لا بدّ لنا من ملاحظة أيّ أهداف الفريقين تحقّقت، ومَن الذي مكر بمَن؟

 

فالصلح في الحقيقة في مصلحة الإمام الحسن عليه السلام وليس في مصلحة معاوية، كما قد يُتوهَّم، فالصلح كان خطأ معاوية المميت الذي أسّس لنعش بني أميّة، فبالصلح حُفظ الإسلام، وبه حُفظ التشيّع، وبه كُشف زيفُ الأعداء. ويُعلمنا الإمام الحسن عليه السلام أنّ هذا النهج الأخلاقيّ القيميّ الأصيل لا يمكن التنازل عنه ولا المساومة عليه، بل ويمكن أن يكون سلاحنا وطريقنا للانتصار، فالسيف يمكن أن نتركه أو نحمله حسب الظروف، لكنّ النهج القيميّ لا مساومة عليه، وهو الذي ينبغي أن يمثّل هويّتنا التي تُحرّك سيفنا ووجودنا.

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص 82.

[2] راجع: القرشي، الشيخ باقر، حياة الإمام الحسن عليه السلام، دار البلاغة، 1993م، ط1، ج2، ص 292 - 293.

 

97


79

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا الصدد: "على مستوى السلطة والحكم، هُزم تيّار الحق في عهد الإمام الحسن عليه السلام، والسبب الأساس في الهزيمة كان ضعف الرؤية العامّة، وامتزاج الإيمان بالدوافع المادّيّة... وأمّا الجّماعة المغلوبة، فماذا فعلت مع الغالبين؟ لقد كانت استراتيجيّتهم أن يُنظّموا تيّار الحقّ وسط هذا الفضاء المليء بالفتن والغشاوة والمخاطر والسّموم، وأن يعطوه شكلاً ليكون العمود الفقريّ لحفظ الإسلام... وهو تيّار الأصحاب أو الأنصار، وأصحاب أهل البيت عليهم السلام، أي تيّار التشيّع... وأمّا العاقبة، فإنّ جماعة الغالبين والمتسلّطين والمنتصرين أضحوا مُدانين ومغلوبين، والمستضعفون أضحوا الحكّام والفاتحين في ذهنيّة العالم الإسلاميّ... وهي تلك الذهنيّة الّتي روّج لها الإمام الحسن عليه السلام وأمير المؤمنين عليه السلام، فهي ليست الذهنيّة الّتي أرادها معاوية ويزيد من بعده... لو أردنا أن نُطلق عنواناً على ذهنيّتهم لقلنا إنّها ذهنية النّواصب... فلو كان من المقرّر أن يكون معاوية فاتحاً وحاكماً، لكان اليوم من المفترض أن يكون تيّاره هو الحاكم في العالم الإسلاميّ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك. إنّ التيّار الفكريّ لأمير المؤمنينعليه السلام وللإمام الحسن عليه السلام هو الحاكم في العالم... الإمام الحسن عليه السلام، بناءً على هذا، هو الفاتح، وتيّاره هو الّذي انتصر"[1].

 

شهادة الإمام الحسن عليه السلام

حاول معاوية أن يجعل الخلافة ملكاً وراثيّاً في أبنائه، وصرف لذلك الأموال الطائلة، فوجد أنّه لا سبيل إلى ذلك والحسن عليه السلام على قيد الحياة، فالمسلمون باتوا ينتظرون حكمه عليه السلام العادل بعدما قاسوه من معاوية، لذا قرّر معاوية اغتيال الإمام الحسن عليه السلام، فأغرى معاوية زوجة الإمام الحسن عليه السلام جعدة بنت الأشعث لتدسّ له السمّ على أن يزوّجها ابنه يزيد ففعلت، وبالطبع لم يفِ معاوية لها. وكانت شهادته عليه السلام بالمدينة في السابع من شهر صفر سنة خمسين للَّهجرة، ودُفن بالبقيع بقرب جدّته فاطمة بنت أسد[2].

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر250 سنة، مصدر سابق، ص 190 - 192.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 15.

 

98


80

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

علّمني إمامي

 

- أنّ الكرم والعطاء دون مقابل هو منهجٌ حياتيّ للمؤمن.

- أنّ القيم والأخلاق هما التيّار المنتصر دوماً ولو غُلب ظاهريّاً.

- أنّ الحِلم العظيم وسَعة الصدر وتفهّم الآخرين والعفو عن إساءاتهم من أهمّ القيم التي ينبغي أن يتحلّى المؤمن بها.

- أن لا نخاف في اللَّه لومة لائم، وأن نتّخذ القرارات على ضوء الحكمة والظروف المناسبة.

 

99


81

الدرس السادس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- اضطُرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح مع معاوية للعديد من الأسباب، فلم تكن الحرب الداخليّة في صالح الإسلام، وكانت الحروب المتكرّرة في عصر الإمام عليّ عليه السلام قد ولّدت عند أصحابه حنيناً إلى السلم، فتثاقلوا عن الاستجابة للإمام الحسن عليه السلام.

 

- لم يكن المجتمع الكوفيّ مجتمعاً منسجماً، بل يسوده التناقض الفكريّ، وكذا حال جيش الإمام الحسن عليه السلام، مضافاً إلى المؤامرات وسياسة شراء الذمم التي اعتمدها معاوية لتفكيك جيش الإمام عليه السلام، على ضوء ذلك كلّه اضطرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح في النهاية.

 

- إثر انتشار شائعات قبول الإمام الحسن عليه السلام بالصلح مع معاوية، شدّ القوم على فسطاطه فانتهبوه، ثمّ تعرّض عليه السلام لمحاولة اغتيال.

 

- كثرت الاعتراضات من قبل الشيعة على الإمام الحسن عليه السلام بسبب الصلح، وكان عليه السلام يبين لهم أنّه قَبِل به للحفاظ على البقيّة الصالحة منهم، وأنّ في ذلك خير عظيم لهم.

 

- من أهمّ نتائج صلح الإمام الحسن عليه السلام هو انكشاف الوجه الحقيقيّ لمعاوية والمشروع الأمويّ للجميع، والإبقاء على الشيعة من القتل، وحفظ النظام القيميّ للإسلام.

 

- أغرى معاوية زوجة الإمام الحسن عليه السلام لتدسّ له السمّ على أن يزوّجها يزيد ففعلت، وكانت شهادته بالمدينة يوم الخميس لليلتين بقيتا من صفر سنة 50ه، ودُفن بالبقيع بقرب جدّته فاطمة بنت أسد.

 

100


82

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

الدرس السابع

الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى محطّــات حياة الإمام الحسين عليه السلام الأساسيّة إلى حين ثورته.

- يبيّــــن بعــض الخصــائص الشخـصيّـة للإمـام الحسين عليه السلام.

- يستنتج الـدروس التربويّة من مختلـف مواقف الإمام الحسين عليه السلام.

 

101


83

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

الإمام الحسين عليه السلام ثاني سبطٍ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

هو أبو عبد اللَّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثالث أئمّة أهل البيت الطاهرين الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهو ثاني سبطَي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة المصطفى، وخامس أصحاب الكساء.

 

وُلد بالمدينة المنوّرة في الثالث من شعبان في السنة الرابعة للَّهجرة[1]، ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن عليه السلام إلّا الحمل الذي كان ستة أشهر وعشرة أيّام[2].

 

وضعت السيّدة فاطمة عليها السلام وليدها المبارك، فاستبشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال لأسماء التي كانت حاضرة: "هَلُمِّي ابْنِي يَا أَسْمَاءُ، فَدَفَعْتهُ إِلَيْهِ فِي خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ، فَفَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِالْحَسَنِ عليه السلام (أي أذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى)، قَالَتْ: وَبَكَى رَسُولُ اللَّه  صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكَ حَدِيثٌ، اللَّهمَّ الْعَنْ قَاتِلَهُ، لَا تُعْلِمِي فَاطِمَةَ بِذَلِكِ.

 

وقَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ سَابِعِهِ جَاءَنِي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: هَلُمِّي ابْنِي، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَفَعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِالْحَسَنِ، وعَقَّ عَنْهُ كَمَا عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ، كَبْشاً أَمْلَحَ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقَ بِوَزْنِ الشَّعْرِ وَرِقاً، وَخَلَّقَ رَأْسَهُ بِالْخَلُوقِ (طيب)، وَقَالَ: إِنَّ الدَّمَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَتْ: ثُمَّ وَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، عَزِيزٌ عَلَيَّ، ثُمَّ بَكَى‏. فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَعَلْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: أَبْكِي عَلَى ابْنِي هَذَا، تَقْتُلُهُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ كَافِرَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، لَا أَنَالَهُمُ اللَّه شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقْتُلُهُ رَجُلٌ يَثْلَمُ الدِّينَ،

 


[1] الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى (الطبعة الحديثة)، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1417هـ، ج1، ص 240.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 464.

 

103


84

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

وَيَكْفُرُ بِاللَّه الْعَظِيمِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ فِيهِمَا مَا سَأَلَكَ إِبْرَاهِيمُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، اللَّهمَّ أَحِبَّهُمَا، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا، وَالْعَنْ مَنْ يُبْغِضُهُمَا مِلْ‏ءَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"[1]. وسمّاه حسيناً بأمر من اللَّه[2].

 

أمّا كنيته فهي أبو عبد اللَّه، وأمّا ألقابه، فمنها: الرشيد، الطيّب، المبارك، سيّد شباب أهل الجنّة، السبط[3] وذُكر أنّ للإمام الحسين عليه السلام سِتَّةَ أَوْلَادٍ منهم عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عليه السلام، وَعَبْدُ اللَّه، وَسُكَيْنَةُ وَفَاطِمَةُ[4].

 

حياته في كنف جدّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

حاز الإمام الحسين عليه السلام اهتماماً كبيراً من قبل جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خلال السنوات الستّ أو السبع التي عاشها الإمام عليه السلامفي كنفه وتحت رعايته، فحين أشرقت الدنيا بولادة الحسين عليه السلام، أخذ مكانته السامية في قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وموضعه الرفيع في حياة الرسالة.

 

وقد بذل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما في وسعه في سبيل إعداد سبطه المبارك للدور العظيم الموكل إليه، وكذا بذل مساعيه الحثيثة في سبيل تحضير الأمّة وتعريفها عليه وتهيئتها لدورها في نصرة الإمام الحسين عليه السلام والاستجابة له فيما بعد.

 

فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يتألّم لبكاء الإمام الحسين عليه السلام، وكثيراً ما كان يلاعبه ويضاحكه ويترأّف به[5]، حتّى إذا درج الحسين عليه السلام صبيّاً يتحرّك، شرع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يلفت نظر الناس إليه وإلى سموّ مكانتهعليه السلام، فكان يتأنّى في سجوده إذا علا الحسين الصغير ظهره، وكان يسارع عليه السلام فيقطع خطبته ليلقف ابنه القادم نحوه متعثّراً فيرفعه معه على منبره. كلّ ذلك ليُفهم الأمّة مقامه وعظيم شأنه، ويزرع محبّته في وجدانه،


 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 367 - 368.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 135.

[3] الخصيبي، الهداية الكبرى، مصدر سابق، ص 201 - 202.

[4] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ص 255 - 256.

[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 71.

 

104


85

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

وكذا كان يفعل مع أخيه الحسن عليه السلام.

 

كذا، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذكر مصاب الحسين عليه السلام وما يحلّ عليه مراراً ويبكي، فحينما حضر الإمام الحسين عليه السلام عند جدّه في لحظات فراقه الدنيا، ضمّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رآه وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ: "مَا لِي ولِيَزِيدَ لَا بَارَكَ اللَّه فِيهِ، اللَّهمَّ الْعَنْ يَزِيدَ. ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ طَوِيلاً وَأَفَاقَ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ الْحُسَيْنَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ وَيَقُولُ: أَمَا إِنَّ لِي وَلِقَاتِلِكَ مُقَاماً بَيْنَ يَدَيِ اللَّه - عزّ وجلّ"[1].

 

الإمام الحسين عليه السلام قبل تسلُّم الإمامة

عايش الإمام الحسين عليه السلام عن كثب الفترة العصيبة التي تلت رحيل رسول اللَّه  صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الدنيا، وكان أحد أفراد البيت الذي حلّت عليه مصائب الدهر، فلم يزل قلب ذلك البيت يعتصر ألماً لفقد رسول السماء صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مُني بفقد حبيبته وقرّة عينه السيّدة فاطمة عليها السلام بعد أحداث مأساويّة مؤلمة أفضت بانحراف الأمّة عن خطّ الولاية المستقيم.

 

ثمّ واكب الإمام الحسين عليه السلام حركة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام طيلة فترة حكم الخلفاء، إلى حين تسلّم الإمام عليّعليه السلام السلطة بعد مقتل عثمان. وقد كانت للإمام الحسين عليه السلام مشاركاته في تدعيم دولة الحقّ، بناءً على إرشادرات أمير المؤمنين عليه السلام وتوجيهاته، وقد سجّل التاريخ مشاركته في حروب أبيه المختلفة مع أخيه الإمام الحسن[2] عليه السلام.

 

وبعد انقضاء فترة وجيزة، لم تتعدّ السنوات الخمس من الحكم العلويّ، اغتيل أمير المؤمنينعليه السلام بعد كثير من الفتن والمصائب على يد الخارجيّ عبد الرحمن بن ملجم. وتسلّم الإمام الحسن عليه السلام إمامة أمّةٍ نهشتها الفتن، وضلّلتها المؤامرات، ولعبت بها الأهواء، وكان الإمام الحسين عليه السلام في تلك الفترة إلى جنب أخيه الإمام الحسن عليه السلام

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 266.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 25.

 

105


86

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

يعاين خذلان الأمّة لإمامها مرّةً بعد أخرى، ويشارك أخاه كلّ المصائب التي ألمّت به من ما قبل الصلح إلى الشهادة المسمومة، ففي تلك المراحل كلّها كان الإمام الحسين عليه السلام، مع جليل قدره وعظم منزلته وبالغ علمه، الفرد المطيع لإمامه، العامل بتكليفه، وما يمليه عليه إمام زمانه الإمام الحسن عليه السلام، وفي ذلك درسٌ عظيم لكلّ مُوالٍ باحثٍ عن بصيرة، فالتسليم لإمام الزمان، والذي كان متمثّلاً بالإمام الحسن عليه السلام في ذلك الوقت، هو رأس مال التكامل والولاء الحقيقيّ.

 

وبعد أن استشهد الإمام الحسن عليه السلام، أمسى الإمام الحسين عليه السلام مركز الهموم والبلايا أجمع، والتي حطّت رحلها في قلبه المبارك، حيث ما برحته حتّى آخر رمق من وجوده الشريف. وقد بدأت تلك المصائب من حين استشهاد الإمام الحسن عليه السلام وحادثة دفنه عليه السلام.

 

فَلَمَّا مَضَى (الإمام الحسن) عليه السلام لِسَبِيلِهِ، غَسَّلَهُ الْحُسَيْنُ عليه السلام، وَكَفَّنَهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ مَرْوَانُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّهُمْ سَيَدْفِنُونَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فَتَجَمَّعُوا لَهُ وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام إِلَى قَبْرِ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لِيُجَدِّدَ بِهِ عَهْداً، أَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ فِي جَمْعِهِمْ، وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ... وَقَالَ الْحُسَيْنُ عليه السلام: "وَاللَّه، لَوْلَا عَهْدُ الْحَسَنِعليه السلام إِلَيَّ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَأَنْ لَا أُهَرِقَ فِي أَمْرِهِ مِحْجَمَةَ دَمٍ، لَعَلِمْتُمْ كَيْفَ تَأْخُذُ سُيُوفُ اللَّه مِنْكُمْ مَأْخَذَهَا"...، وَمَضَوْا بِالْحَسَنِ عليه السلام فَدَفَنُوهُ بِالْبَقِيعِ عِنْدَ جَدَّتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، كما أوصى الإمام الحسن[1] عليه السلام.

 

بعضُ الخصائص الشخصيّة للإمام الحسين عليه السلام:

1- معالي أخلاقه عليه السلام:

تأدّب سبط الأصغر بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. لقد كان قلبه يتّسع للناس كلّهم، وكان حريصاً على هدايتهم، متغاضياً عن إساءة جاهلهم، كثير الإحسان

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج‏2، ص 18 - 20.

 

 

106


87

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

للناس على اختلافهم، وقد بلغ من سَعة صدره وحبّه للتوّابين أن قبل توبة الحرّ الرياحيّ يوم عاشوراء، وضمّه إلى أصحابه، وفتح له باب الشهادة.

 

وقد روي عنه عليه السلامأنّه قال: "لو شتمني رجلٌ في هذه الأذن - وأومأ إلى اليمنى -، واعتذر لي في اليسرى، لقبلت ذلك منه، وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام حدّثني أنّه سمع جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يَرِدُ الحوض من لم يقبل العذر من محقّ أو مبطل"[1]. تلك هي مكارم الأخلاق التي يرسيها إمامنا الحسين عليه السلام في نفوس محبّيه وشيعته بطريقة عمليّة، علّ أفعاله تكون مناراً لنا نهتدي به في حياتنا.

 

وقد كان الإمام الحسين عليه السلام يُعين الفقراء والمحتاجين، ويقضي حوائج السائلين، من دون أن يشعرهم بذلّ المسألة. وقد جاءه سائلٌ ذات مرّة إلى بابه فأنشد مادحاً عليّاً عليه السلام، سائلاً الحسين عليه السلام العطاء، فأسرع أبو عبد اللَّهعليه السلام إلى الباب، وما إن وجد أثر الفاقة عليه، حتّى نادى بقنبر: "ما تبقّى معك من نفقتنا؟، قال: مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال: فهاتها فقد أتى من هو أحقّ بها منهم"، فأخذها ودفعها إلى السائل، معتذراً منه لقلّة عطائه وذات يده[2]!

 

فأيّ نفس تلك التي تستعظم أيّ خير صادر عن غيرها، وتستصغر أيّ معروفٍ ناتجٍ عنها؟! إنّها نفس الكريم ابن الكرام الذي يعلّمنا أن نكون على أثره لاحقين به وبآبائه الكرام، مقتفين أثرهم في علوّ أخلاقهم وعظيم خصالهم.

 

2- إباؤه عليه السلام وشجاعته:

لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى صورها وأكملها في إباء الإمام الحسين عليه السلام ورفضه للصبر على الحيف والسكوت على الظلم، فسنّ بذلك للأجيال اللّاحقة سنّة الإباء والتضحية والشجاعة لأجل العقيدة وفي سبيلها، حين وقف ذلك الموقف الرساليّ العظيم، يهزّ الأمّة ويشجّعها أن لا تموت هواناً وذلّاً، فقال: "ومثلي لا يبايع مثله"[3].

 


[1] المرعشي، السيد نور الله الحسيني، شرح إحقاق الحقّ، منشورات مكتبة السيّد المرعشيّ النجفيّ، قم، ج11، ص 431.

[2] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 1415هـ، ج14، ص 185.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 325.

 

107


88

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

فكلمات الإمام الحسين عليه السلام التي خلّدها التاريخ مشحونة بإباء الضيم، معبّرةً عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات الإلهيّة، كما تنمّ عن عزّته واعتداده بنفسه، كما في قوله المشهور: "واللَّه، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد"[1]. وهكذا علّم الإمام الحسين عليه السلام البشريّة أجمع كيف يكون الإباء في المواقف، وكيف تكون التضحية المشرّفة من أجل الرسالة وقيمها.

 

أمّا شجاعة الإمام الحسين عليه السلام فإنّ المرء ليقف عاجزاً عن الوصف والكلام فيها، فهو من معدن الشجاعة وأصلها، وهو الشجاع في قول الحقّ، والمستبسل للدفاع عنه، وهكذا تربّى بين أحضان جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأبيه أمير المؤمنينعليه السلام، وأمّه فاطمة عليها السلام.

 

وعندما تقاعست جماهير المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية وضلاله وإجباره الناس على بيعة يزيد، لم يخشَ الإمام الحسين عليه السلام التهديدات كلّها التي وُجّهت إليه، بل انتفض يريد الإصلاح في أمّة جدّه. وقد تجلّت شجاعته وقوّته في معركة كربلاء في قتال الأعداء، حتّى وقف مواقف أذهلت عدوّه، فلم ينكسر أمام جليل المصاب عندما بقي وحيداً غريباً قد قُتِل جميع أولاده وأصحابه، فشهد له عدوّه بذلك، فقال أحدهم: "فواللَّه، ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل وُلده وأهلُ بيته وأصحابه، أربط جأشاً، ولا أمضى جناباً منه، إن كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فيكشفهم عن يمينه وشماله"[2].

 

3- عبادته عليه السلام وتقواه:

ما انقطع الإمام أبو عبد اللَّه الحسين عليه السلام عن الاتّصال بربّه في لحظاته وسكناته كلّها، وقد كانت حياته الشريفة تجلّياً واضحاً لذلك، وكانت عبادته عليه السلامثمرة معرفته الحقيقيّة باللَّه - عزّ وجلّ -. وإنّ نظرة خاطفةً على دعائه عليه السلام في يوم عرفة، تبيّن عمق هذه المعرفة وحرارة العلاقة وشدّتها مع الباري جلّ وعلا، فهو القائل: "كيف يُستدلّ

 


[1]  السيد الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص 602.

[2] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص 468.

 

108


89

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً..."[1].

 

ومن شواهد تعظيمه وحرصه على الصلاة، أنّه عليه السلام حرص على أدائها في أحرج المواقف في ظهر يوم عاشوراء، وقد أحاط به الأعداء من كلّ جانب، ويرمونه من كلّ صوب، حتّى إنّه في آخر لحظات حياته، وهو على رمضاء كربلاء، نطقت شفتاه الشريفتان الذابلتان بدعاء عظيم المعاني، زاخر بمشاعر الانقطاع إلى اللَّه والتذلّل له. ومن كلماته: "اللَّهمّ، أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المِحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما يشاء...، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً..، احكم بيننا وبين قومنا، فإنّهم غرّونا وخذلونا، وغدروا بنا وقتلونا"[2].

 

4- عطفه عليه السلام وحنانه:

لو تصوّر أحد أنّ الإنسان إذا قوي جنابه، وارتفع علمه، وعظمت شجاعته، وبات قائداً ثوريّاً، فإنّه لا بدّ من أن يكون جافّ المشاعر، قليل التفاعل، صلب الأحاسيس، فقد لُبس عليه أمره! فالإنسان الحقيقيّ المتمسّك بالقيم الإنسانيّة الإلهيّة المجبولة عليها فطرته، لا بدّ له كلّما ارتقى وتكامل من أن يتكامل بعده المعنويّ العاطفيّ أيضاً، وهذا ما نراه جليّاً في حياة أئمّتنا عليهم السلام، ولا سيّما إمامنا الرؤوف الحسين عليه السلام.

 

لم يكن الإمام الحسين عليه السلام أباً عاديّاً، يرعى شؤون أولاده ويربّيهم وحسب.. بل كان والداً متدفّق الحنان والمشاعر، ساكباً حبّاً جمّاً على عياله، يدلّل بناته ويكرمهنّ إلى حدٍّ كبير، ويغمرهنّ بحبّه وعطفه، إلى حدٍّ لم تقوَ معه فاطمته العليلة على فراقه، وإلى حدٍّ طلب فيه من ابنته سكينة أن لا تريه دمعاتها في عاشوراء، فهو لا يتحمّل ذلك.

 


[1] النراقي، الملا محمد مهدي، جامع السعادات، الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر، ج3، ص 135.

[2] السيّد ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1416هـ، ط1، ج3، ص 304.

 

109


90

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

ويشير الإمام الخامنئيّ دام ظله إلى حادثة تبرز عاطفة الحسين عليه السلام الفوّارة، فيقول: "هذا الّذي يقف مقابل العالم كلّه،  وهو يواجهه في بيداء الذئاب المفترسة، ويقاوم ولا يهتزّ، لكنّه مقابل هذه الأشياء الصغيرة، فإنّه ينقلب، مثلما حدث عندما صُرع ذلك الغلام الأسود الحبشيّ، فجاء الإمام عليه السلام ووقف على رأسه. إنّه غلامٌ أسود، ومن المخلصين والمحبّين... فإنّه لم يكن صاحب مرتبة شريفة ورفيعة، فهو عندما يُقتل يأتي إليه الحسين عليه السلام. الكثيرون قُتلوا، من أشراف الكوفة، والوجهاء والمشهورين فيها، كحبيب بن مظاهر وزهير بن القين.. وعندما صُرعوا أرضاً لم يُظهر الإمام مثل هذه الحركة.. لكن مقابل هذا الغلام الأسود الّذي ليس له أحد ولا ولد ولا تنتظره أسرةٌ تبكي عليه، جاء الحسين بن عليّعليه السلام، وأظهر ما أظهره مع عليّ الأكبر، مع هذا الغلام، وقف على رأسه ووضع رأسه المدمّى في حجره... فقد شاهد الجميع كيف أنّه انحنى ووضع وجهه على وجه هذا الغلام الأسود. هكذا كانت العاطفة الإنسانيّة الفوّارة!"[1].

 

كان هذا هو ديدن سيّد شباب أهل الجنّة، الحبّ والعاطفة والرحمة في عين الصلابة والقوّة، وكثيراً ما خطب في أعدائه يوم عاشوراء رحمةً بهم، وأبدى لهم عظيم حسرته عليهم، لأنّهم سيدخلون النار بسببه. فقد مثّل عليه السلام بتلك السلوكيّات كلّها أعظم القيم من أعظم البشر، ليكون مثالاً وقدوة للجميع، لأنّ العلوّ والتكامل الحقيقيّ لا يكونان في جهة دون أخرى، فجناح العاطفة لا بدّ من أن يكون قويّ الحضور عند الإنسان، وفي الظروف كلّها حتّى لو كان أشجع الشجعان وأقوى القادة، فبه يحافظ الإنسان على إنسانيّته!

 

بداية عصر الإمام الحسين عليه السلام

1- سياسات معاوية الظالمة:

بدأ عصر الإمام الحسين عليه السلام في ظلّ حكم الطاغية معاوية، الذي أراد إعادة الجاهليّة الأولى إلى المجتمع الإسلاميّ باسم الإسلام وإمرة المؤمنين، وقد كان يبغي

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 225 - 226.

 

110


91

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

محق الدين باسم الدين، وهو ما تمثّل بالمشروع الأمويّ الذي سعى إليه أبو سفيان منذ البداية. وقد اعتمد معاوية من أجل الوصول إلى هذا الهدف خطوات عدّة منها:

1- اغتيال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.

2- إشاعة الإرهاب والتصفية الجسديّة للقوى كلّها المعارضة للحكم، وقد صوّر الإمام الباقرعليه السلام هذه الحالة بقوله: "فقُتِلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكَر بحبنّا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد اللَّه بن زياد قاتل الحسين عليه السلام"[1].

 

3- تمييز أهل الشام، فبينما كانت البلاد الإسلاميّة تعاني الجهد والحرمان، كانت الشام في رخاء شامل، بل حمل أهلها على رقاب الناس، فكان الشاميّ هو الأولى دائماً، وهو المخدوم والسيّد، وله الامتيازات الماليّة والسياسيّة والاجتماعيّة[2].

 

4- إغداق الأموال: لشراء ضمائر الناس وذممهم ودينهم وضمائرهم، وهكذا ضَمِنَ العديدَ من الوجوه الاجتماعيّة إلى جانبه. وقد صرّح معاوية بذلك، فقال: "إنّي اشتريت من القوم دينهم"[3].

 

5- الحطّ من قيمة أهل البيت عليهم السلام، تمادى معاوية في سياسة سبّ أمير المؤمنين عليه السلام ولعنه، فأعلن ذلك في نواديه العامّة والخاصّة، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبّه بين الناس، وقد استخدم لتلك الغاية الوعّاظ الذين سخّرهم واستأجرهم لكي يحوّلوا القلوب عن أهل البيت، فوضعوا الأحاديث في فضل الصحابة لجعلهم قبال أهل البيت[4] عليهم السلام، ووضعوا الأخبار لذمّ العترة الطاهرة[5].

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج11، ص 43.

[2] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط4، ج4، ص 413.

[3] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، مصدر سابق، ج10، ص 279.

[4] الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1408ه - 1988م، لا.ط، ج9، ص 67.

[5] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص 73.

 

111


92

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

6- المضايقة الاقتصاديّة وأسلوب التجويع، وقد قال معاوية في هذا الصدد: "انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبُّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه"[1].

 

7- فرضُ البيعة لولده يزيد المعلن بفسقه، وتحكيمُه في رقاب المسلمين.

 

8- مواجهة الإمام الحسين عليه السلام لسياسات معاوية، انتهج الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة هذه الخطوات منهجاً يقوّض هذا البناء من أساسه:

أ- مواجهة معاوية ورفض البيعة ليزيد:

فقد ردّ الإمام الحسين عليه السلام على معاوية حين عرض ولاية ابنه يزيد وبالغ في مدحه، فقالعليه السلام: "تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخُذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى اللَّه من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فواللَّه ما برحت تقدح باطلاً في جَور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ، في يوم مشهود، ولات حين مناص..."[2].

 

ب- جمع الأمّة الإسلاميّة على الحقّ:

فقد لبّى الإمام الحسين عليه السلام الدعوات والوفود الكثيرة التي تطلب منه مواجهة الظلم والطغيان المتمثّل بالحاكم الأمويّ معاوية، وقد بدأت ظاهرة التجمّع مع الإمام تظهر أمام أعين السلطة الحاكمة، ممّا اضطر معاويّة إلى أن يرسل له رسالة فيها تهديد وتحذير من مواقفه[3].

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج11، ص 45.

[2] ابن قتيبة الدينوري، عبدالله بن مسلم الإمامة والسياسة، مؤسّسة الحلبيّ وشركاه للنشر والتوزيع، ج1، ص 160 - 161.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 212.

 

112


93

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

ج- فضح جرائم معاوية:

أرسل الإمام الحسين عليه السلام رسالة جاءت كردّ على رسالة من معاوية له يطالبه فيها بتوضيحات حول تحرّكات وصلت إلى مسامع معاوية حول قيام الإمام الحسين عليه السلام على حكمه، وقد فضح الإمام الحسين عليه السلام برسالته هذه معاوية وجرائمه، وقد جاء في هذه الرسالة[1] مجموعة أمور، منها:

- وصف حزب معاوية بحزب الظَّلَمة.

 

- تذكيره بجرائمه المختلفة التي أدّت إلى إراقة دماء الأبرياء والعظماء من الصالحين الأصحاب، كحجر بن عديّ، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ، وصاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الحضرميّ، وغيرهم.

 

- وصف خلافة معاوية بأنّها أعظم فتنة تمرّ بها الأمّة الإسلاميّة.

 

- تذكيره بنقض العهد، وبنود الصلح الذي أبرمه مع الإمام الحسن عليه السلام.

 

- تهديده لمعاوية بالعذاب الأخرويّ، حيث قال: "فأبشر. يا معاوية - بالقَصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ للَّه تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، وليس اللَّه بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك إيّاهم من دُورهم إلى دار الغربة"[2].

 

- تذكيره بنقضه العهد بتولية ابنه يزيد الغلام الحدث، شارب الخمر، مُلاعب الكلاب.

 

وهكذا استكمل معاوية مخطَّطه الجاهليّ حين نقض بنود الوثيقة كلّها الّتي عقدها مع الإمام الحسن عليه السلام، وكان أعظم تجاوز له على حدود المفهوم الإسلاميّ في الحكم من خلال اتّخاذ الوراثة ذات الطابع الدكتاتوريّ أُطروحة للحكم في دنيا المسلمين.

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 212 - 214.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص 327.

 

113


94

الدرس السابع: الإمام الحسين الشهيد عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- الإمام الحسين هو ثالث أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وُلد بالمدينة المنوّرة في 3 من شعبان سنة 4هـ، ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن عليه السلام إلّا الحمل الذي كان ستّة أشهر وعشرة أيّام.

 

- حاز الإمام الحسين عليه السلام اهتماماً كبيراً من قبل جدّه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد بذل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مساعيه في سبيل إعداد سبطه المبارك للدور العظيم الموكل إليه، وتحضير الأمّة لنصرته. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذكر مصاب الحسين عليه السلام، وما يحلّ به مراراً ويبكي.

 

- بدأت أولى مصائب الإمام الحسين عليه السلام باستشهاد الإمام الحسن عليه السلام ودفنه، حيث رمى بنو أميّة الجنازة بالسهام، ظنّاً منهم أنّ بني هاشم يريدون دفن الإمام الحسن عليه السلام قرب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- تميّز الإمام الحسين عليه السلام بمعالي أخلاقه ورفعتها، فكان عليه السلام يُعين الفقراء، ويقضي حوائج المحتاجين. هذا، وقد تجلّت فيه صورة الثائر المسلم بأبهى صورها، فسنّ بذلك للأجيال اللّاحقة سنّة الإباء والتضحية والشجاعة لأجل العقيدة وفي سبيلها.

 

- بدأ عصر الإمام الحسين عليه السلام في ظلّ حكم الطاغية معاوية، الذي أراد إعادة الجاهليّة الأولى، فعمد إلى اغتيال الإمام الحسن عليه السلام وإشاعة الإرهاب، ومارس سياسة الضغط والتصفية الجسديّة لقوى المعارضة.

 

- واجه الإمام الحسين عليه السلام سياسات معاوية، فرفض البيعة ليزيد، وأظهر قبائحه المعلنة، كما عمل على جمع المسلمين وتوحيد صفوفهم، تمهيداً للثورة، وفضح جرائم معاوية وعدم التزامه بأيٍّ من شروط الصلح.

 

114


95

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

الدرس الثامن

الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

 

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى دوافع ثورة الإمام الحسين عليه السلام القيميّة.

- يبيّن أهداف الثورة الحسينيّة ونتائجها.

- يستنتج الدروس التربويّة من مختلف مواقف الإمام الحسين عليه السلام وثورته.

 

115


96

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

لماذا لم تحدث الثورة الحسينيّة في حياة معاوية؟

كانت مبرّرات الثورة على الحكم الأمويّ متوافرة في عهد معاوية، وقد عبّر عنها الإمام الحسين عليه السلام في كتب وجّهها إلى معاوية جواباً عن كتبه إليه، فلماذا لم يثر على حكمه الباطل؟

 

إنّ قعود الحسين عليه السلام عن الثورة في عهد معاوية كانت له أسباب موضوعيّة لا يمكن تجاهلها، ويمكن إجمالها في ما يلي:

1- الوضع النفسيّ والاجتماعيّ للمجتمع: كان الإمام الحسين عليه السلام مدركاً لواقع مجتمع العراق، عارفاً بتذبذبه وعدم استقراره، وهو الذي عايش خذلان الناس للإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام. وذاك التخاذل، والذي شكّل السبب الأبرز في دفع الإمام الحسن عليه السلام نحو الصلح، لا يزال قائماً، حيث لم يكن المجتمع جاهزاً آنذاك لاستقبال ثورة الإمام الحسين عليه السلام وجعلها تثمر، بل إنّ تحرّك الحسين عليه السلام في حياة معاوية هو عمليّة استشهاديّة لن تؤتي ثمارها المرجوّة، فآثر عليه السلام أن يعدّ مجتمع العراق للثورة المرتقبة.

 

لذا، عندما كتب بعض أهل العراق إلى الإمام الحسين عليه السلام يسألونه أن يجيبهم إلى الثورة على معاوية، امتنع عن ذلك، وكتب إليهم: "أمّا أخي، فأرجو أن يكون اللَّه قد وفّقه وسدّده في ما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا - رحمكم اللَّه - بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً"[1].

 


[1] ابن قتيبة الدينوري، عبدالله بن مسلم، الأخبار الطّوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، الناشر: دار إحياء الكتاب العربيّ، القاهرة، 1960هـ، ط1، ص 222.

 

117


97

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

2- شخصيّة معاوية: إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام لو حصلت في أيّام معاوية لم يكن ليسطع نورها، ويصدح دويّها عبر التاريخ الذي خلّدها في ضمائر الناس وقلوبهم، والذي ظلّ يدفعهم عبر السنين الطويلة إلى الثورة واستيحائهم في أعمال البطولة والفداء، ذلك أنّ شخصيّة معاوية وأساليبه الخبيثة كانت ستؤثّر في مجريات الأحداث.

 

فمعاوية لم يكن من الجهل بالسياسة بحيث يتيح للإمام الحسين عليه السلام أن يقوم بثورة مدوّية، بل كان يتحرّز منه، فكان يوصي يزيد بأن لا يقربه[1]. ومن المرجّح أنّ معاوية كان سيعمد إلى أسلوبه المعتاد بالتخلّص من أعدائه بالسمّ، كما فعل مع الإمام الحسن ومالك الأشتر[2] وغيرهما.

 

3- العهد والميثاق: روى أصحاب السِيَر، فقالوا: "لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام تَحَرَّكَتِ الشِّيعَةُ بِالْعِرَاقِ، وَكَتَبُوا إِلَى الْحُسَيْنِ عليه السلام فِي خَلْعِ مُعَاوِيَةَ وَالْبَيْعَةِ لَهُ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُعَاوِيَةَ عَهْداً وَعَقْداً لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُهُ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ، فَإِنْ مَاتَ مُعَاوِيَةُ نَظَرَ فِي ذَلِكَ"[3]. ويقصد الإمام عليه السلام بذلك العهد، الصلح الذي أبرمه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، حيث كان بإمكان معاوية أن يستغلّ هذا النقض لو حصل من قبل الحسين عليه السلام كورقة رابحة ضدّه، ويضلّل بها الرأي العامّ، ويوجّه ضربة للثورة في مهدها.

 

لماذا ثار الإمام الحسين عليه السلام

عند التعرّف إلى محطّات حياة الإمام الحسين عليه السلام، والتعرّض لحادثة عاشوراء المؤلمة، يبرز أمامنا السؤال الآتي: لماذا ثار الإمام الحسين عليه السلام؟ لماذا لم يهادن الحكم الأمويّ، كما فعل أمير المؤمنينعليه السلام مع الخلفاء، وما قام به الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية؟ لماذا اختار هذا اللّون من المواجهة، وهذه الطريقة من المقاومة؟

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 151.

[2] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، مصدر سابق، ج56، ص 391.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 32.

 

118


98

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

سنستعرض في ما يلي أبرز الأسباب وأهم الدوافع التي أدّت إلى قيام الثورة الحسينيّة في محاولة للإجابة عمّا تقدّم:

1- استنصار أهل الكوفة:

"مات معاوية حين مات، وكثير من النّاس، وعامّة أهل العراق بنوع خاصّ، يرون بغض بني أميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً"[1]، فقد اكتشف المجتمع الإسلاميّ ما فيه الكفاية من عورات الحكم الأمويّ، وذاق طعم عذابه وخبر ألواناً من ظلمه في الأرزاق والكرامات، وانزاحت عن بصيرته الغشاوة التي رانت عليها في أوّل عهد معاوية. ولم يكن يزيد في مثل تروّي أبيه، وحزمه واحتياطه للأمور، ولم يلتزم أسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغطاء الدينيّ مسدلاً على أفعاله وتصرفاته، كما لم يكن بين الحسين عليه السلام ويزيد أيّ عهد أو ميثاق، كما كانت الحال مع معاوية.

 

لذا، وبعد اغتصاب يزيد الخلافة، بات المسلمون يشعرون بضرورة العمل على تحسين واقعهم السيّئ. والذين كتبوا للإمام الحسين عليه السلام من العراق لم يكونوا أفراداً قليلين، وإنّما كان عددهم كبيراً جدّاً، حتّى اجتمع عند الإمام الحسين عليه السلام في نُوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق، من الرجل والاثنين والأربعة[2].

 

فنلاحظ أنّنا لسنا أمام حركة استنهاض فرديّة قام بها بعض المؤمنين أو الذين ضاق ذرعهم بالأُمويّين، وإنّما نحن أمام حركة جماعيّة قام بها المجتمع العراقيّ أو الأكثريّة الساحقة من هذا المجتمع، وذلك يدلّل على أنّ الجوّ العامّ مستعدّ للثورة في وجه هذا الحكم الغاشم، فتكون الحجّة قد قامت على الإمام الحسين عليه السلام بوجود الناصر، ولم تكن هذه حال أبيه عليّ عليه السلام وأخيه الحسن عليه السلام.

 


[1] مغنيّة، الشيخ محمّد جواد، الشيعة في الميزان، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1399هـ، ط4، ص 101.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 334.

 

119


99

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

2- السبب الرئيسيّ للثورة الحسينيّة:

تبيّن معنا أنّ الاستعداد الذي أظهره أهل الكوفة خصوصاً، وكثرة أعداد الأنصار أو مدّعي النصرة ظاهريّاً، شكّل سبباً محفّزاً ومحرّكاً للإمام الحسين عليه السلام على طريق الثورة، لكن ومع تلكم الكتب والادّعاءات كلّها يبقى احتمال خذلان أهل العراق للإمام احتمالاً مطروحاً، وكان الإمام عليه السلام بدرايته السياسيّة على معرفة بذلك، وهو الذي خبر أهل الكوفة وتصرّفاتهم. إذاً، لماذا استجاب لذلك الاستنصار، ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه؟

 

والجواب يكمن في العودة إلى بعض الأمور التي تُشكّل أسباباً لثورة الإمام الحسين عليه السلام، والتي يبيّنها الإمام الخامنئيّ دام ظله، بما يلي:

أ- السعي لإسقاط حكومة يزيد:

"بعض النّاس يودّ أن يقول: إنّ هدف ثورة أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام هو إسقاط حكومة يزيد الفاسدة، وإقامة حكومة بديلة. هذا القول شبه صحيح، وليس بخطإ، فلو كان القصد من هذا الكلام هو أنّ الحسين عليه السلام ثار لأجل إقامة حكومة، بحيث إنّه لو رأى أنّه لن يصل إلى نتيجة لقال: لقد قمنا بما علينا، فلنرجع، فهذا خطأٌ. أجل، إنّ الذي يتحرّك لأجل الحكم، يتقدّم... إنْ كان الأمر ممكناً، فإذا رأى أنّ احتمال حصول هذا الأمر أو الاحتمال العقلائيّ غير موجود، فتكليفه هو أن يرجع. فإذا كان الهدف تشكيل الحكومة، فالجائز هو أن يتحرّك الإنسان إلى حيث يُمكن، وعندما يُصبح غير ممكنٍ، يجب أن يرجع، وعليه، لم يكن إسقاط حكومة يزيد وإقامة حكومة العدل الإسلاميّة هو الهدف الأساسيّ للإمام الحسين عليه السلام"[1]، لأنّ الإمام الحسين عليه السلام استمرّ في تحرّكه حتّى بعد خذلان الناس له واتّضاح الأمر أنّ حكومة يزيد باقية في ذلك الوقت.

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 202.

 

120


100

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

ب- الوصول إلى الشهادة:

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "على عكس الرأي الأوَّل، قالوا: إنّ الحسين عليه السلام كان يعلم بعدم تمكّنه من إقامة الحكومة، إنّه جاء لأجل أن يُقتل ويُستشهَد. لقد شاع هذا الكلام على الألسن كثيراً مدّةً من الزّمن، وكان بعضٌ يُبيّن ذلك بعباراتٍ شاعريّة جميلة... بالنّسبة إلى هذا الكلام أيضاً، ليس لدينا في المصادر والأسانيد الإسلاميّة ما يجوّز للإنسان إلقاء نفسه في القتل، ليس لدينا مثل هذا الشيء. إنّ الشهادة، الّتي نعرفها في الشّرع المقدّس والآيات والرّوايات، معناها أن يتحرّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدفٍ مقدّس واجب أو راجح، هذه هي الشّهادة الإسلاميّة الصّحيحة... إذاً، هذا الأمر، وإن كان فيه جانب من الحقيقة، لكن لم يكن هدفَ الحسين عليه السلام"[1]. وعليه، لم يكن هدف الإمام الحسين عليه السلام الشهادة لأجل الشهادة، بل الصحيح أن نقول إنّ هدف الإمام الذي سعى إلى تحقيقه إن لم يتحقّق إلّا بالشهادة، فأهلاً بالشهادة.

 

ج- أداء التكليف (الرأي الصحيح):

يبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله فيما يلي الهدف الحقيقيّ لتحرّك الإمام الحسين عليه السلام، والذي أوجب عليه القيام، ولو وحيداً دون وجود أيّ ناصر، فيقول: "والقائلون إنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف والنتيجة. فقد كان للإمام الحسين عليه السلام هدفٌ آخر، والوصول إليه يتطلّب طريقاً وحركةً تنتهي بإحدى النتيجتين: الحكومة أو الشّهادة، وكان الإمام مستعدّاً لكلتا النتيجتين... إنّ هدف ذلك العظيم كان عبارة عن أداء واجبٍ عظيم من واجبات الدّين، لم يؤدّه أحدٌ قبله، لا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أمير المؤمنين عليه السلام ولا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، واجبٌ يحتلّ مكاناً مهمّاً في البناء العامّ للنّظام الفكريّ والقيميّ والعمليّ للإسلام... كان ينبغي للإمام الحسين عليه السلام أن يؤدّي هذا الواجب ليُصبح درساً عمليّاً للمسلمين، وعلى مرّ التاريخ"[2]. ذلك الواجب

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 203.

[2] المصدر نفسه، ص 204 - 205.

 

121


101

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

هو أداء التكليف بإصلاح اعوجاج الأمّة، حيث بلغت الأمور حدّاً من الانحراف أمسى السكوت عليه تهديداً لكيان الإسلام ككلّ.

 

ويؤكّد الإمام الخامنئيّ دام ظله على ذلك، فيقول: "وهنا يُطرح سؤال، وهو: ماذا يكون التكليف فيما لو جاءت يدٌ أو حادثة وأخرجت هذا القطار الّذي وضعه النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه السكّة؟ وماذا يكون التكليف فيما لو انحرف المجتمع الإسلاميّ، وبلغ الانحراف درجة بحيث خيف من انحراف أصل الإسلام والمبادئ الإسلاميّة؟ ... لقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التكليف، وحدّده القرآن (أي وجوب القيام بالثورة)، ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[1]، مضافاً إلى آيات وروايات أخرى كثيرة... فلو خرج المجتمع بالتّدريج عن مساره، وخرُب وفسد، وتبدّل حكم اللَّه، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الواقع، وتجديد الحياة، أو بتعبير اليوم (الثورة)، فماذا تكون الفائدة من الحكومة عندها؟"[2]، أي أنّه لو لم يُصدر الإسلام حكماً فقهيّاً يقضي بوجوب القيام والانتفاضة في قبال هذه الأوضاع التي باتت تهدّد الإسلام ككلّ، سوف لن يعود هناك أيّ قيمة لإنشاء حكومة إسلاميّة، إذ إنّ الإسلام يكون قد مُني بالضياع، ولا سبيل لإقامة حكومة إسلاميّة حقيقيّة.

 

وعليه، القيام بالثورة هي الحكم اللّازم على كلّ فردٍ في هذه الحالة، ومهما بلغت التضحيات، وهذا بالتحديد ما قام به الإمام الحسين عليه السلام. وقد بيّن الإمام الحسين عليه السلام، هدفه هذا وعبّر عنه، فقال: "وإنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً، وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وأَبِي"‏[3]، وذلك بعد أن بات واضحاً أنّ استمرار حكم يزيد يمثّل هلاك الإسلام، حيث قال الإمام الحسين عليه السلام: "عَلَى الإسلام السَّلَامُ إِذْ قَدْ بُلِيَتِ الأمّة

 


[1] سورة المائدة، الآية 54.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 206 - 207.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 329.

 

122


102

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيد"[1]، فهدفه عليه السلام كان طلب الإصلاح من خلال إحياء الإسلام الذي أوشك على الهلاك بوجود يزيد.

 

مسار الثورة الحسينيّة

عانت الأمّة الإسلاميّة في زمن الحكم الأمويّ من مرض خطير، وهو فقدان الإرادة مع وضوح الحقّ، والتي لخّصها الإمام الحسن عليه السلام بقوله: "إِنَّ قُلُوبَهُمْ مَعَنَا، وَإِنَّ سُيُوفَهُمْ لَمَشْهُورَةٌ عَلَيْنَا"[2].

 

ومع كثرة الكتب التي أُرسلت للإمام الحسين عليه السلام، إلّا أنّ هذا المرض المستشري في وجدان الأمّة سارع وطفا على سطح الثورة. وقد تجلّت هذه الهزيمة النفسيّة في مواقف كثيرة، منها:

1- إجماع كلمة العديد من الوجهاء والعلماء والشخصيّات البارزة، كمحمّد بن الحنفيّة وعبد اللَّه بن عبّاس وابن الزبير على تخويف الإمام عليه السلام من رفض بيعة يزيد، فكتب للجميع قبل خروجه كتاباً جاء فيه: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي استشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام"[3].

 

2- عدم استجابة أغلب زعماء البصرة لنداء الإمام الحسين[4] عليه السلام.

 

3- استطاع ابن زياد بعد أيّامٍ قليلة من مجيئه إلى الكوفة أن يجنّد الألوف ممّن كان بعضهم مع الإمام عليّعليه السلام، وقلب الموازين لصالحه، وقتل مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة وهانئ بن عروة أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في الكوفة[5].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 326.

[2] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 291.

[3] الطبري، محمّد بن جرير، دلائل الإمامة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، 1413هـ، ط1، ص 188.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 338 - 341.

[5] المصدر نفسه، ص 340 - 352.

 

123


103

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

وكان أمام الإمام الحسين عليه السلام خيارات عدّة، نفنّدها سريعاً:

الأوّل: أن يبايع يزيد، ويقضي على آخر أملٍ لإصلاح الإسلام، وينحرف الإسلام عن مساره دون رجعة.

 

الثاني: أن يرفض البيعة، ويبقى في مكّة أو المدينة في انتظار اغتياله. وقد عبّر الإمام الحسين عليه السلام عن عزم بني أميّة على قتله، فقال: "وأيم اللَّه، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم"[1].

 

الثالث: أن يرفض البيعة، ويذهب إلى بلد من بلاد العالم الإسلاميّ الموالين لأهل البيتعليهم السلام كاليمن، ويتوارى عن الأنظار، وبالتالي يتمّ إقصاؤه عن ساحة العالم الإسلاميّ، وتتمّ ملاحقته في الجبال النائية وقتله، كما حصل مع الموالين للإمام عليّعليه السلام الذين فرّوا بهذه الطريقة.

 

الرابع: أن يرفض البيعة، ويلبّي نداء الرسائل الموجّهة إليه، ويسعى للإصلاح مهما كانت النتائج، الانتصار أو الشهادة المدوّية التي ستوقظ الأمّة من سباتها العميق.

 

فما كان من الإمام الحسين عليه السلام، إمام البصيرة إلّا أن اختار المسار الرابع دون تردّد وبكلّ حزم وقوّة، وكان ذلك مبنيّاً على إدراك طبيعة الظروف الموضوعيّة المحيطة بالأمّة، وهو الموقف الوحيد الذي يحقّق أهداف الإمام الحسين عليه السلام، فاستطاع عليه السلام أن يهزّ ضمير الأمّة من ناحية، ويُشعرها بأهمّيّة الإسلام وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية، ويعيد للأمّة إرادة المواجهة من ناحية ثالثة، وأن يوضّح للمسلمين كلّهم أنّ مفهوم الصلح عند الإمام الحسن عليه السلام لم يكن موقفاً إمضائيّاً، وإنّما كان أسلوباً تمهيديّاً لموقف الإمام الحسين عليه السلام، وعليه، انطلقت رحلة الثورة.

 

خروجه عليه السلام من المدينة

عزم الإمام الحسين عليه السلام على ترك المدينة المنوّرة، حيث لم يكن له فيها مأمن يقيه شرّ بني أميّة، وكان من المتوقّع أن تقع مواجهة عسكريّة في المدينة المنوّرة بين

 


[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج4، ص289.

 

124


104

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

الإمام عليه السلام وبين قوّات السلطة الأمويّة من جهة أخرى، وذلك بسبب رعونة يزيد بن معاوية التي تجسّدت في أوامره المشدّدة لوالي المدينة الوليد بن عتبة بقتل الإمام الحسين عليه السلام في حال رفضه للبيعة[1].

 

وكانت السلطة ستتّجه إلى محاولة اغتيال الإمام عليه السلام سرّاً إن لم تستطع بطريقة علنيّة، وهذا ما كان يخشاه الإمام الحسين عليه السلام، ما يؤدّي إلى قتل ثورته المباركة في مهدها، فكان خروجه عليه السلام من المدينة إنقاذاً للثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الأمويّ ومحاولة القتل قبل الولادة.

 

الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة

ارتحل الإمام الحسين عليه السلام من المدينة المنوّرة سنة ستّين للَّهجرة في أواخر شهر رجب متوجّهاً إلى مكّة المكرّمة، وأقام في مكّة منذ اليوم الثالث من شعبان إلى اليوم الثامن من ذي الحجّة من نفس السنة[2]، أي ما لا يقلّ عن مائة وخمسة وعشرين يوماً، وهي فترة طويلة نسبيّاً في إطار حساب عمر النهضة الحسينيّة.

 

وقد توجّه الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة وهو يعلم بأنّ أهل مكّة لا يميلون إلى بني هاشم عامّة وإلى أبيه وآل عليّعليه السلام خاصّة، بل هم في الطرف المقابل لهم، فقد روي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أنّه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا"[3]. وهذا يكشف لنا عن حقيقة، وهي أنّه لم يكن لأهل البيتعليهم السلام في مكّة قاعدة شعبيّة واسعة تتولّاهم وتدعم مواقفهم وتنصرهم، أو تحبّهم على الأقلّ. ومن جهة أخرى، يبيّن لنا هذا الأمر أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يقصد من توجّهه إلى مكّة أهلَ مكة جميعهم، بل كان قاصداً الموالين منهم، ومن يمكن أن يكون لديه البصيرة، وتتّضح لديه الحقيقة فيساند الثورة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، كان عليه السلام قاصداً بالأساس الوفود الإسلاميّة، من المعتمرين والحجّاج طلباً للنصرة، وإتماماً للحجّة على الناس.

 


[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج4، ص260.

[2] المصدر نفسه، ص 286.

[3] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج4، ص 104.

 

125


105

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

فأقبل أهل مكّة يختلفون إلى الإمام الحسين عليه السلام ويأتونه، وكذا من كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق‏[1].

 

هذا، مضافاً إلى أنّه عليه السلام كان يعمل على إنضاج مقدّمات ثورته، وينتظر الأخبار من الكوفة، ويتسلَّم الكتب والرسائل، ويُعدّ العدّة للتحرّك في الوقت المناسب، وكان هذا الوقت الطويل والتحرّكات التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة كفيلة بانتشار خبر نيّته للثورة على الحكم في مختلف الأقطار، حيث لم يعد لأحد حجّة في التخلّف عن الركب عموماً.

 

الخروج من مكّة إلى العراق: بعد قضاء تلك الفترة في مكّة المكرّمة، علم الإمام عليه السلام أنّ السلطة الأمويّة تريد غيلته وقتله. ويُروى أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولّاه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين عليه السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة[2]. ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الإمام الحسين عليه السلام على أيّ حال اتّفق[3]، فلمّا علم الإمام الحسين عليه السلام بذلك، قرّر أن يخرج من مكّة متوجّهاً إلى العراق، فخرج من مكّة في الثامن من ذي الحجّة بعد أن دخلها معتمراً، وكان الناس يروحون إلى منى[4]، فخرج عليه السلام كي لا يكون ممّن تُستباح حرمة البيت الحرام بقتله، فقال مخاطباً أخاه محمّداً ابن الحنفيّة: "يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت"[5].

 

نحو كربلاء: خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة مبتغياً العراق، لكنّ الظروف التي حصلت في الطريق غيّرت مسار الركب الحسينيّ. وقد كان للإمام الحسين عليه السلام محطّات عديدة في طريقه تلك نحو العراق، فالتحق بالثورة في تلك المحطّات العديد

 


[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج4، ص 286.

[2] السيد الأمين، أعيان الشيعة، مصدر سابق، ص 593.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 45، ص 99.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص 535.

[5] ابن طاووس، السيد عليّ بن موسى، اللَّهوف على قتلى الطفوف، ترجمة فهري، 1389هـ، طهران، ط1، ص 64.

 

126


106

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

من الأنصار، كزهير بن القين[1]، كما تخلّف عن ركب الحقّ العديد من طلّاب الدنيا[2].

 

وفي الطريق، وصل إلى الإمام الحسين عليه السلام نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وانقلاب الأمر في الكوفة، بعد أن نصّب يزيد عبيد اللَّه بن زياد والياً عليها[3].

 

والتقى الإمام الحسين عليه السلام بقسمٍ من الجيش الأمويّ بقيادة الحرّ الرياحيّ في الطريق، وكان قد أُمر بأخذ الإمام الحسين عليه السلام أسيراً إلى الكوفة، وخيّره في الذهاب إلى أيّ مكان آخر، فلمّا أبى الحسين عليه السلام، بقي جيش الحرّ مياسراً له (يسير على مقربةٍ منه) طوال الطريق، وبقي الأمر كذلك والإمام الحسين عليه السلام مصرٌّ على التوجّه نحو الكوفة إلى أن جاء كتاب عبيد اللَّه بن زياد للحرّ، وكان فيه: "أَمَّا بَعْدُ فَجَعْجِعْ بِالْحُسَيْنِ (احبسه أو ضيّق عليه) حِينَ يَبْلُغُكَ كِتَابِي، وَيَقْدِمُ عَلَيْكَ رَسُولِي، وَلَا تُنْزِلْهُ ‏إِلَّا بِالْعَرَاءِ فِي غَيْرِ حِصْنٍ وَعَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَقَدْ أَمَرْتُ رَسُولِي أَنْ يَلْزَمَكَ وَلَا يُفَارِقَكَ حَتَّى يَأْتِيَنِي بِإِنْفَاذِكَ أَمْرِي، وَالسَّلَام"‏[4]. فمشى الركب قليلاً بمواكبة الجيش حتّى نزلوا في كربلاء، وكان ذلك في اليوم الثاني من شهر محرّمٍ الحرام سنة إحدى وستّين للَّهجرة[5]. وكانت واقعة عاشوراء المفجعة في العاشر من المحرّم بعد أن أُرفق جيش الحرّ بجيش الشام، فوصل قوامه إلى ثلاثين ألفاً، وترك الحرّ قتال الحسين عليه السلام، والتحق بنصرة إمامه في يوم عاشوراء[6].

 

نتائج الثورة الحسينيّة

لكي نفهم نتائج الثورة الحسينيّة ينبغي لنا تقييم ما حصل بناءً على الأهداف التي قامت الثورة من أجلها، وعليه، يمكننا أن نقول إنّ من أبرز الأمور التي حقّقتها الثورة الحسينيّة وأهمّها ما يلي:

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص72.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ص74.

[4] المصدر نفسه، ص 83.

[5] المصدر نفسه، ص 84 - 85.

[6] المصدر نفسه، ص 100 - 101.

 

127


107

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

1- تحطيم الإطار الدينيّ المزيّف: وهو الإطار الّذي كان الأمويّون وأعوانهم يحيطون به سلطانهم، وفضح الروح اللادينيّة الجاهليّة بشكل تامّ.

 

2- الشعور بالإثم: حيث أثار استشهاد الإمام الحسين عليه السلام موجة عنيفة من الشعور بالإثم في ضمير كلّ مسلم استطاع نصره ولم ينصره، خصوصاً من كاتبه بدواً. وقد قُدِّر لهذا الشعور بالإثم أن يبقى مشتعلاً في النفوس، فيشكّل حافزاً على الثورة والانتقام، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الأمويّين، كلّما سنحت الفرصة لهم.

 

3- إحياء الروحيّة النضاليّة في المجتمع الإسلاميّ: فقد كانت النهضة الحسينيّة السبب في انبعاث الروح الجهاديّة في الإنسان المسلم من جديد بعد فترة طويلة من الخمود والخنوع، فقامت ثورة أهل المدينة،. وأعقبها واقعة الحرّة[1]-، وثورة التوّابين، وثورة المختار الثقفيّ[2]، حتّى إنّ العبّاسيّين قد استولوا على الحكم فيما بعد، وحطّموا الحكم الأمويّ، رافعين شعار "الرضا من آل محمّد"[3].

 

4- إحياء الإسلام: يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا المجال: "عندما ننظر اليوم، نرى أنّ الذي أحيا الإسلام وحفظه هو الحسين بن عليّ عليه السلام". فقد أحيا الإمام الحسين عليه السلام الإسلام وقوّم اعوجاج الأمّة بدمه بعد كربلاء، ويبدو ذلك واضحاً عندما نلاحظ النتائج السابقة، فلم يعد بالإمكان أن يأتي فاسق كيزيد يستبيح الحرمات دون حسيب أو رقيب، بل باتت الثورات لأجل إحياء الدين شوكة تقضّ مضاجع الحكّام بشكل دائم. وقد بيّن الإمام السجّاد عليه السلام هذا الانتصار حين استقبله إبراهيم بن طلحة، فقال له: "يا عليّ بن الحسين، من غلب؟ والإمام عليه السلام مغطّى رأسه وهو في المحمل، فقال له عليه السلام: "إذا أردت أنت علم من غلب،

 


[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد، الإفصاح في الإمامة، مؤتمر الشيخ المفيد، قم، 1413ه، ط1، ص 44.

[2] العسكريّ، السيّد مرتضى، معالم المدرستين، مؤسّسة النعمان للطباعة والنشر، بيروت، 1410هـ، ج3، ص 199.

[3] القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار، تحقيق السيد محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1414ه، ط2، ج3، ص 418.

 

128


108

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

ودخل وقت الصلاة، فأذِّن ثمّ أقِم"[1]. إذاً، هذا هو المعيار، دين من الذي سيبقى ويستمرّ؟ لأنّ أصل المعركة كانت على الإسلام أو جاهليّة بني أميّة، وقد انتصر إسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

الثورة الحسينيّة: ملحمة القيم الإنسانيّة الخالدة

روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبّ اللَّه من أحبّ حسيناً"[2]، وهي روايةٌ زاخرةٌ بالمعاني، يختصر فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما انتجته الثورة الحسينيّة فيقول: وأنا من حسين!

 

فأن يكون "حسينٌ منّي"، أي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هو أمرٌ مفهوم على مختلف المستويات، فهو جدّه وأصله ونبيّ دينه أمّا أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الحسين فهي عبارة تحتاج إلى تدقيق. وحرصاً منّا على الاختصار، لو اطّلعنا على أبرز آثار الثورة الحسينية الممتدّة عبر التاريخ، لوجدنا أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أعاد الحياة للإسلام -كما مرّ معنا-، ومنع انحرافه الذي يؤدّي إلى زواله تماماً، وإن كانت الانحرافات ستبقى موجودة لكن لن تصل إلى الحدّ الذي يُمحى فيه الإسلام، وتتبدّل معالمه كلّها، وهذا ما كان ليحصل لولا دم الإمام الحسين عليه السلام. فكما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مصدراً لنزول هذا الدين الحنيف، وقوّم انحراف البشريّة عن الخطّ الإلهيّ الذي ينبغي أن تسلكه في الدنيا، فأتى بالدين القويم، كذلك الحسين عليه السلام أعاد ضخّ الحياة لذلك الإسلام العتيد، وضمن بدمه عدم انحراف مسار البشريّة بشكل تامّ، لذا كان "وأنا من حسين".

 

كذلك فقد حقّق الإمام الحسين عليه السلام الهدف السابق بشكل عمليّ، فكما أرسى النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم دعائم الإسلام بشكل عمليّ، وقدّم تعاليم الإسلام عبر تطبيقها، كذلك الإمام الحسين عليه السلام حمل مشعل القيم الإسلاميّة الإنسانيّة، وأرساها بشكلٍ عمليّ... بالدم!

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 677.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 127.

 

129


109

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

فقد استطاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسي العديد من القيم الإسلاميّة الإنسانيّة، وأن يقدّم نموذجاً ساطعاً للبشريّة أجمع، تمثّل بتجربته التي استغرقت 23 سنة، أمّا في حالة الإمام الحسين عليه السلام فلو أردنا أن نرى القيم الإسلاميّة الإنسانيّة السامية بأبهى صورها وأعلى تجلّيها وبشكلٍ قويٍّ زاخر ليس لنا إلّا حادثة عاشوراء!

 

عاشوراء ليست ملحمةً دمويّةً انتهت بمقتل مفجع لجماعة ثائرة وسبيٍ لذراريها!، بل هي ملحمةٌ قيميّة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى! فيمكن للملحمة الدمويّة أن تسير بطرق وأطر مختلفة، ويتداخل فيها الحقّ والباطل، لكنّ المسألة ليست كذلك في عاشوراء، فمسار الثورة الحسينيّة منذ بدايتها إلى ما بعد المصرع لم تكن سوى تجلٍّ عالي المستوى لقيم إنسانيّة نادى بها الإسلام. فلو قلنا إنّ الإمام الحسين عليه السلام أراد أن يقدّم - كما جدّه صلى الله عليه وآله وسلم - نموذجاً ساطعاً قويّاً مشرقاً يمثّل أكبر قدرٍ من القيم الإسلاميّة في أقصر وقتٍ ممكن ليضمن الأثر، ما كنّا قد بالغنا.

 

فمن أراد أن يرى قيمة العشق الإلهيّ، العبوديّة، الرحمة، الصحبة الوفيّة، الإيثار، حبّ الوليّ، الولاء المطلق، البصيرة، الحبّ في اللَّه، الصبر، التضحية، الإيمان، الشجاعة، الزهد، العبادة، العاطفة الجيّاشة، الحنان، الصحبة الصالحة، الوفاء، حبّ الشهادة، حسّ المسؤولية، حمل المبادئ الرساليّة والدفاع عنها، الإباء، رفض الذلّ، رباطة الجأش، العفّة، الستر، الرحمة، وغيرها الكثير من القيم، عليه بعاشوراء! وعليه كان "وأنا من حسين". تلك قيم أحياها الإمام الحسين عليه السلام، وأظهرها للوجود بدمه ودم أصحابه وأهل بيته، فقدّم بذلك نموذجاً صارخاً للبشريّة من القيم النقيّة الصافية على مرّ التاريخ، فالسلام التامّ الدائم الشامل على تلك الدماء الزاكية التي نزفت فأثمرت ما لا ينضب!

 

130


110

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

علّمني إمامي

 

1- أن أكون إنساناً رساليّاً مبدئيّاً، لا يتنازل عن مبادئه.

 

2- أن أضحّي بكلّ ما أملك عند الحاجة في سبيل إعلاء كلمة اللَّه المتمثّلة بقيم الإسلام وتعاليمه.

 

3- أن أملك البصيرة التي تؤهّلني لأن ألتحق بجبهة الحقّ.

 

4- أنّ الجميع مسؤول ومطالب، ولا يمكن أن يكون الفرد حياديّاً.

 

5- أن أمثّل القيم والأخلاق الإسلاميّة التي أحملها في تفاصيل حياتي كلّها، وفي أصعب الظروف.

 

131


111

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

المفاهيم الأساسيّة

 

- لم تحدث ثورة الإمام الحسين عليه السلام المرتقبة في حياة معاوية، لأنّ المجتمع العراقي لم يكن جاهزاً، ولأنّ الصلح لا زال قائماً، مضافاً إلى شخصيّة معاوية الماكرة التي انطلت بحيلها على المسلمين.

 

- عانى المسلمون أشدّ المعاناة جرّاء الحكم الأمويّ، فكاتبوا الإمام الحسين عليه السلام، وحثّوه على القيام، فتمّت الظروف، وصار القيام واجباً على الإمام الحسين عليه السلام لإتمام الحجّة.

 

- لم يكن هدف الثورة الحسينيّة النهائيّ إسقاط حكومة يزيد فحسب، ولم يكن هدف الإمام الحسين عليه السلام هو الاستشهاد والموت، بل كان يبغي الإصلاح وأداء التكليف تجاه اللَّه تعالى والدين، بغضّ النظر عن النتائج.

 

- لم يستجب العديد من الوجهاء والزعماء لنداء نصرة الإمام عليه السلام في المدينة والبصرة، فأجمع أمره وخرج نحو مكّة معتمراً بعد أن أمر يزيد والي المدينة بقتله عليه السلام إن رفض البيعة.

 

- علم الإمام الحسين عليه السلام بنيّة بني أميّة قتله في مكّة بأيّ وسيلة، فخرج منها حتّى لا تُستباح حرمة بيت اللَّه بدمه الشريف، متّجهاً نحو الكوفة.

 

- أثناء طريق الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة، انضمّ إليه بعض الأنصار، وتخلّف عنه آخرون، بعد أن وصله نبأ استشهاد مسلم وهانئ، وانقلاب الوضع في الكوفة.

 

- التقى الإمام الحسينَعليه السلام بقسمٍ من الجيش الأمويّ بقيادة الحرّ في الطريق، وقد جاء أمر ابن زياد أن يُنزل الحسين عليه السلام وركبه في أرض عراء ففعل، ونزل الركب المبارك كربلاء التي وقعت فيها فاجعة عاشوراء في العاشر من المحرّم.

 

- كان النصر الحقيقي حليف الثورة الحسينيّة، لأنّ أهداف تلك الثورة هي التي تحقّقت، فقد قوّمت اعوجاج الدين، وحطّمت الإطار الدينيّ المزيّف الذي ادّعاه بنو أميّة طويلاً، كما بثّت في النفوس روحاً جهاديّة لا تنطفئ، كانت سبب إشعال العديد من الثورات.

 

 

132


112

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

الدرس التاسع

الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى سيرة الإمام السجّاد عليه السلام منذ ولادته إلى حين عودته إلى المدينة المنوّرة.

 

- يبيّن بعضــاً من الخصـــائص الشخــصيّة للإمام السجّاد عليه السلام.

 

- يستنتج كيفيّة تثمير الإمام السجّاد للثورة الحسينيّة وأهدافها.

 

133


113

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

الإمام زين العابدين عليه السلام

هو عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، رابع أئمّة أهل البيت عليهم السلام المعصومين المطهّرين من كلّ رجس.

 

وُلد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في المدينة المنوّرة يوم الخميس، في الخامس من شعبان من سنة ثمان وثلاثين للَّهجرة في أيّام جدّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وقبل شهادته بسنتين[1]، أمّه المكرّمة هي شهربانو(شاه زنان) بنت يزدجرد، وهي ابنة آخر ملوك فارس[2].

 

نشأ الإمام عليه السلام في هذا البيت الكريم، وتخلّق بأخلاق الأنبياء والأوصياء، فكان كثير العبادة للَّه -سبحانه وتعالى-، حتّى كانت ألقابه تُشير إلى ذلك، فكان من ألقابه: زين العابدين، السجّاد، سيّد العابدين، ذو الثفنات، وأمّا كناه فمنها: أبو الحسن وأبو محمّد[3].

 

عاش في كنف عمّه الإمام الحسن عليه السلام وأبيه الإمام الحسين عليه السلام، وتوّلى الإمامة بعد شهادة أبيه الحسين عليه السلام في كربلاء في العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين للَّهجرة، وقد استمرّت إمامته أربعاً وثلاثين سنة، وقبل شهادته أوصى إلى ابنه الإمام محمّد الباقر[4]. استشهد الإمام زين العابدين عليه السلام مسموماً على يد الوليد بن عبد

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 74.

[2] المصدر نفسه، ج1، ص 467.

[3] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص 265.

[4] النوريّ، حسين بن محمّد تقي، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، قم 1408هـ، الناشر: مؤسّسة آل البيتعليهم السلام، ط1، ج9، ص 38.

 

135


114

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

الملك سنة خمسٍ وتسعين للَّهجرة، في الخامس والعشرين من المحرّم، ودُفن في البقيع في المدينة المنورة إلى جانب عمّه الإمام الحسن عليه السلام. وقيل في سنة وفاته (سنة الفقهاء) لكثرة موت الفقهاء والعلماء فيها. وكان عمره ستّاً وخمسين سنة[1]. وكان له من الأولاد خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى من أمّهات عدّة[2].

 

بعضُ الخصائص الشخصيّة للإمام زين العابدين عليه السلام:

1- حلمه عليه السلام:

كان الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أعظم الناس حلماً وأكظمهم غيظاً، وكذا حال أئمّتناعليهم السلام، وقد سجّل التاريخ العديد من مواقف الإمام عليه السلام التي تبيّن عظيم حلمه وصفحه عمّن أساء إليه من أقاربه وأرحامه أو من غيرهم. ففي خبرٍ أنّه كان بينه وبين أحد أبناء عمومته[3] بعض الأمر، فجاء إلى الإمام عليه السلام وهو مع أصحابه في المسجد، فما ترك شيئاً إلّا قاله له من الأذى، وعليّ بن الحسين عليه السلام ساكت، ثمّ انصرف. فلمّا كان اللّيل أتى الإمام زين العابدين إلى منزل ابن عمّه، فقرع عليه الباب، فخرج إليه، فقال له الإمام السجّادعليه السلام: "يا أخي، إن كنت صادقاً في ما قلت لي يغفر لي اللَّه، وإن كنت كاذباً يغفر اللَّه لك، السلام عليكم"، وولّى. فاتّبعه ابن عمّه والتزمه من خلفه وبكى، ثمّ قال: "واللَّه لا عدت في أمر تكرهه"، فقال عليّ: "وأنت في حلٍّ ممّا قلته"[4].

 

ومن مظاهر حلمه عليه السلامأن كان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه، فثارت إليه العبيد والموالي، فقال لهم الإمام زين العابدين عليه السلام: "مهلاً كفّوا، ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه عليّ خميصة (كساء أسود مربّع) كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرسل"[5].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 154.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 91.

[3] ابنٌ للامام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

[4] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 75.

[5] المصدر نفسه، ص 81.

 

136


115

الدرس الثامن: الإمام الحسين عليه السلام الشهيد -2-

إنّ المرء ليعجب عندما يطّلع على سيرة هذا الإمام العظيم، وقاساه وعاناه في حياته منذ بدايتها التي رافقت فترة حروب جدّه أمير المؤمنين عليه السلام إلى نهايتها، مروراً بفاجعة كربلاء التي بكى لها ما بقي من عمره الشريف، ومع ذلك تراه في قمّة الحلم والصفح والتجاوز وكظم الغيظ عمّن يهينه ويسيء إليه، إنّه بحقّ قدوة وأسوة لكلّ مؤمن متخلّق بأخلاق الإسلام.

 

2- كرمه عليه السلام وصدقاته:

عُرف الإمام زين العابدين عليه السلام بكرمه وسخائه وكثرة صدقاته سرّاً، وبودّه وعطفه على الفقراء، فكان يطعم الناس إطعاماً عامّاً[1]. أمّا في تكريمه للفقراء، فقد كان يحتفي بهم، ويراعي عواطفهم ومشاعرهم، فإذا قصده سائل كان عليه السلام يرحّب به يقول: "مرحباً بمن يحمل لي زادي إلى دار الآخرة"[2].

 

وكان عليه السلام كثير العطف والحنان على الفقراء والمساكين الذين لا حيلة لهم، فكان يعجبه أن يحضر على مائدة طعامه اليتامى والمساكين، وكان يناولهم بيده المباركة[3]. هذا، وقد كان للصدقة حيّزٌ كبيرٌ من اهتمام الإمام زين العابدين عليه السلام، فكان يحثّ عليها قولاً، ويقوم بها فعلاً، لما يترتّب على ذلك من الأجر الجزيل والآثار الاجتماعيّة الحسنة في رفد المقلّين، ولا سيّما في ظلّ الحكم الظالم لبني أميّة من آل أبي سفيان وآل مروان. ومن أقوالهعليه السلام في حثّه على الصدقة: "مَا مِنْ رَجُلٍ تَصَدَّقَ عَلَى مِسْكِينٍ مُسْتَضْعَفٍ فَدَعَا لَهُ الْمِسْكِينُ بِشَيْ‏ءٍ تِلْكَ السَّاعَةَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ"[4].

 

كانت صدقات الإمام زين العابدين عليه السلام متنوّعة، ويمكن القول إنّه كان يتصدّق بكلّ ما يستطيع التصدّق به، فكان يتصدّق بثيابه[5]. كذا، فكان عليه السلام يعمد إلى التصدّق باللّوز والسكّر، فسئل عن ذلك، فتلا قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ

 


[1] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، مصدر سابق، ج2، ص 259.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 86.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص 154.

[4] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9، ص 424.

[5] المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج3، ص 205.

 

137


116

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[1]. وكان من أحبّ الأشياء عند إمامنا العطوف عليه السلام هي الصدقة في السرّ، لئلّا يعرفه أحد، وكان يقول: "إنّها تطفئ غضب الربّ"[2]. وقد اعتاد الفقراء على صلته لهم عليه السلام في اللّيل، فكانوا يقفون على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا وقالوا: جاء صاحب الجراب![3] ولكثرة ما كان يحمل الصدقات سرّاً إلى فقراء المدينة، ترك ذلك أثراً على جسده الطاهر رأوه حين غسّلوه عليه السلام[4]. إنّ مثل تلك السلوكيّات لهي منارٌ لشيعة زين العابدين عليه السلام، وكأنه بتلك السيرة العطرة كلّها يقول لنا أن تكون من شيعتنا ذلك يعني أن تقتفي أثرنا، فتفعل كما كنّا نفعل!

 

3- علمه عليه السلام:

ربّما استطاعت قوى الضلال والنفاق وأعوان الشيطان، بل الشياطين في كلّ زمان أن يقصوا أئمّة أهل البيتعليهم السلام عن دورهم السياسيّ القياديّ الظاهريّ على الأمّة، لكنّهم لم يستطيعوا بقواهم الشيطانيّة كلّها أن يقصوا معدن العلم عن مكانتهم الواقعية التي فرضوها بحضورهم العلميّ الذي كان ملجأ الجميع.

 

وقد تميّز الإمام زين العابدين ببروز هذا الجانب العلميّ بعد عودته إلى المدينة، وقد روي عنه الكثير من الأخبار في علوم القرآن والحديث والفقه والأخلاق والعقائد، مضافاً إلى ما أفاضه في طيّات أدعيته ووصاياه واحتجاجاته في التربية والعرفان ومعرفة النفس، وغيرها من العلوم.

 

ولو أردنا الوقوف - ولو سريعاً - على ما مرّ، لطال بنا الكلام، لكن يكفي في بيان علمه عليه السلام هو الصحيفة السجّاديّة التي عرفت بزبور آل محمد[5]، وكذا رسالة الحقوق

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 154.

[2] المصدر نفسه، ص 153.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه، ص 155.

[5] كبير المدني، عليّ خان بن أحمد، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1409هـ، ج1، ص 5.

 

138


117

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

التي فصّل فيها عليه السلام الحقوق التي على الفرد وله، تفصيلاً تامّاً، وهي دستوراً يمكن اعتماده لدى الإنسان واتّخاذه معياراً لاستصواب فعله أو عدمه. ومن غرر الأدعية المرويّة عن الإمام زين العابدين دعاء "مكارم الأخلاق" والدعاء المعروف "بدعاء أبي حمزة الثمالي". وكمثال على ما تتضمّنه رسالة الحقوق، كلام الإمام عليه السلام عن حق اللَّه، حيث يقول: "حَقُّ اللَّه الْأَكْبَرُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْبُدَهُ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِإِخْلَاصٍ، جَعَلَ لَكَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكْفِيَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"[1].

 

هذا، وقد اشتهر الإمام زين العابدين عليه السلام بين المسلمين جميعاً في عصره بأنّه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم، فلم يكن في قريش أفضل منه، بل لم يكن في المسلمين أفضل منه، وقد شهد بفضله علماء المذاهب الأخرى، فقال سفيان بن عيينة: "ما رأيت هاشميّاً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه"[2].

 

4- سيرته عليه السلام في بيته:

كان الإمام زين العابدين عليه السلام من أبرّ الناس، وأرأفهم، وأرحمهم بأهل بيته، وقد أُثر عنه أنّه قال: "لَئنْ أَدْخُلِ السُّوقَ وَمَعِي دِرْهَمٌ أَبْتَاعُ بِها لِعِيَالِي لَحْماً وَقَدْ قَرِمُوا (يشتهون اللّحم) أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ نَسَمَةً"[3]. هذا، وقد عُرف عنه شدّة برّه بأمّه، فكان لا يأكل قبلها، فسُئل عن ذلك، فقال: "أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَ يَدِي إِلَى مَا سَبَقَتْ عَيْنُهَا إِلَيْهِ، فَأَكُونَ قَدْ عَقَقْتُهَا"[4]. أجل! تلك كانت معايير العقوق والبرّ لدى إمامنا زين العابدين عليه السلام.

 

كما أنّه عليه السلامثبّت قاعدة تربويّة سامية بالغة الأهمّيّة، تتمثّل بالدعاء للأبوين بشكل دائم، فكان من دعائه لأبويه عليه السلام: "... واخصص، اللَّهمّ، والديّ بالكرامة لديك، والصلاة

 


[1] ابن بابويه، محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1413هـ، ط2، ج2، ص 618.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 159.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج21، ص 543.

[4] الطبرسي، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، 1392ه - 1972م، ط6، ص 221.

 

139


118

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

منك، يا أرحم الراحمين...، اللَّهمّ اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الأمّ الرؤوف...، حتّى أؤثر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما..."[1].

 

5- عبادته عليه السلام:

عُرف الإمام زين العابدين بكثرة العبادة حتّى لُقّب بالسجّاد وزين العابدين، كما مرّ، ومع الأخذ بعين الاعتبار الدور المحوريّ الذي لعبته العبادة والدعاء في مواجهته للسلطة، وتقويم اعوجاج الأمّة -كما سيأتي معنا- في الدرس اللّاحق، إلّا أنّنا سنشير هنا فقط إلى بعض مواقفه العباديّة.

 

فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِجِسْمِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَهْ، كَمْ هَذَا الدُّؤوبُ؟ فَقَالَ: أَتَحَبَّبُ إِلَى رَبِّي لَعَلَّهُ يُزْلِفُنِي"[2]. كما روي أنّه عليه السلام كان يصلّي في اليوم واللّيلة ألف ركعة، كما كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا قام في صلاته غشي لونَه لون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية اللَّه - عزّ وجلّ -، وكان يصلّي صلاة مودّع يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً[3]. وقد سُمّي بذي الثفنات لظهور نتوءات في جبينه، لكثرة عبادته وسجوده للَّه - عزّ وجلّ -، حيث روي عن الإمام الباقرعليه السلام أنّه قال: "كان لأبي عليه السلام في موضع سجوده آثار ناتية، وكان يقطعها في السنة مرّتين، في كلّ مرّة خمس ثفنات، فسُمّي ذا الثفنات لذلك"[4].

 

مراحل حياة الإمام زين العابدين عليه السلام الأساسيّة

يمكن لنا تقسيم المراحل أو المحطّات الأساسيّة والمفصليّة في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام إلى ثلاث مراحل، وذلك بحسب تغيّر أدواره وجهاده في تلك المراحل:

 


[1] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجّاديّة، نشر الهادي، قم، 1418هـ، ط1، ص 116.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 155.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج2، ص 517.

[4] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص 233.

 

140


119

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

المرحلة الأولى: الإمام زين العابدين عليه السلام، من الولادة إلى الإمامة

مرّ بنا الكلام أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام وقبل تسلُّمه الإمامة يوم العاشر من المحرّم عند استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، كان قد عاصر جدّه أمير المؤمنين ما يقارب السنتين، ثمّ عاصر أيّام صباه وفتوّته الإمام الحسن عليه السلام وأباه الإمام الحسين عليه السلام، وعايش الأحداث كلّها التي جرت في تلك الفترات، إلى أن انتهى الأمر إلى ثورة الإمام الحسين عليه السلام على يزيد، ومعركة كربلاء.

 

1- الإمام زين العابدين عليه السلام في كربلاء:

تؤكّد المصادر التاريخيّة أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان حاضراً في كربلاء، إذ شهد واقعة الطفّ بجزئيّاتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها المروّعة. ومن المتّفق عليه، أنّه عليه السلام كان يوم كربلاء مريضاً للحدّ الذي لا يستطيع معه حمل السيف، وكان طريح الفراش، ومع ذلك فقد لبّى نداء نصرة الإمام الحسين عليه السلام، وتوكّأ على سيف ليقاتل، فمنعه الإمام الحسين عليه السلام وقال: "يَا أُمَّ كُلْثُومٍ خُذِيهِ لِئَلَّا تَبْقَى الْأَرْضُ خَالِيَةً مِنْ نَسْلِ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم"[1].

 

ولعلّ أقسى ما مرّ على الإمام السجّاد عليه السلام، ومن أكثر ما اعتصر قلبه الشريف، أن يكون حاضراً في تلك المعركة المصيريّة المفصليّة، ويواكب ما يجري مع غير قدرةٍ منه على الدفاع عن أبيه. فسلامٌ على قلبه الصبور، ووجده المثبور.

 

وبعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام وأولاده وأهل بيته وأصحابه، هجم الأعداء على المخيّم الحسينيّ لانتهابه، فدخل القوم خيمة الإمام زين العابدين عليه السلام، فلمّا رآه الشمر أمر بقتله، وكان جسده الشريف هزيلاً لكثرة الأسقام، فظنّه القوم صبيّاً صغير السنّ، فتعالت أصوات النساء وصيحاتهنّ، ثمّ أمر عمر بن سعد بالعدول عن قتل الإمام عليه السلام، وهكذا شاءت الإرادة الإلهيّة أن يبقى الإمام زين العابدين عليه السلام حيّاً لإبقاء نسل النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ويكمل دوره الرسالي.


 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 46.

 

141


120

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

النصّ على إمامة زين العابدين عليه السلام

كان دأب الأئمّة عليهم السلام أن ينصّ كلّ واحد منهم على إمامة من يليه، ويبيّن أنّه المعصوم من بعده، وذلك في أماكن مختلفة بما يتناسب مع ظروف عصره. وفي مسألة النصّ على إمامة زين العابدين عليه السلام، فقد نصّ الإمام الحسين عليه السلام على إمامة ابنه تارةً في المدينة، وأخرى في كربلاء قبيل استشهاده، حيث روي عن الإمام الباقرعليه السلام أنّه قال: "إنَّ الْحُسَيْنَ عليه السلام لَمَّا حَضَرَهُ الَّذِي حَضَرَهُ دَعَا ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى، فَدَفَعَ إِلَيْهَا كِتَاباً مَلْفُوفاً وَوَصِيَّةً ظَاهِرَةً، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام مَرِيضاً لَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلام وَرَجَعَ أَهْلُ بَيْتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، دَفَعَتْ فَاطِمَةُ الْكِتَابَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام‏"[1].

 

هذا، وقد احتجّ الإمام زين العابدين عليه السلام على عمّه محمّد بن الحنفيّة عندما طالبه ابن الحنفية بأن يقرّ له بالإمامة، مفترضاً أنّ الحسين عليه السلام لم يوصِ لأحد بعده، فرأى نفسه أهلاً لذلك، فقال له الإمام عليه السلام: "يَا عَمِّ، اتَّقِ اللَّه، وَلَا تَدَّعِ مَا لَيْسَ لَكَ بِحَقٍ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ‏، إِنَّ أَبِي يَا عَمِّ (صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ) أَوْصَى إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ‏، وَعَهِدَ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِسَاعَة"[2]. وقد ابتهل الإمام زين العابدين عليه السلام ومحمّد ابن الحنفية في مكّة عند الحجر الأسود لتبيان الإمام الحقّ، فأنطق اللَّه الحجر، وعرّف الإمام السجّاد، فتولّاه ابن الحنفية[3].

 

المرحلة الثانية: الإمام زين العابدين عليه السلام، من كربلاء إلى المدينة

2- الإمام زين العابدين عليه السلام في الكوفة

دخل موكب السبايا الكوفة وقد علتها المظاهر الاحتفاليّة، وطاف الجنود بالرؤوس والموكب المفجوع في شوارع الكوفة وسككها، وخرج الناس للنظر إليهم، فجعل نساء

 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 257.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 348.

[3] المصدر نفسه.

 

142


121

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

الكوفة يبكين ويلتدمن! فسُمع عليّ بن الحسين عليه السلام وهو يقول بصوتٍ ضئيل، وقد أنهكته العلّة، وفي عنقه الجامعة (أيّ أنّه مقيّد في عنقه بسلاسل من حديد)، ويده مغلولة إلى عنقه: "إنّ هؤلاء النسوة يبكين، فمن قتلنا؟!"[1].

 

ثمّ كان لكلٍّ من السيّدة زينب[2] عليها السلام وفاطمة بنت الإمام الحسين[3] عليه السلام والسيدة أمّ كلثوم[4] خطاب تقريع لأهل الكوفة، وكذا خطب الإمام زين العابدين عليه السلام في أهل الكوفة، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصلّى عليه، وكان ممّا قاله: "...أيّها الناس! فأنشدكم اللَّه، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟! فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم!، فعلا صوت الناس، وقالوا له: ... فمرنا بأمرك يرحمك اللَّه! فإنّا حرب لحربك!.. فردّ عليهم: هيهات، هيهات أيّها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم! أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيت إلى آبائي من قبل؟!..."[5].

 

ثمّ أُدخل أهل البيت عليهم السلام على ابن زياد(لعنه اللَّه)، وجرى بينه وبين الإمام زين العابدين عليه السلام كلامٌ وتلاسن، وهمّ اللّعين بقتل الإمام عليه السلام، فردّ عليه الإمام عليه السلام: "أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟! أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة!"[6]، وتعلّقت به عمّته زينب عليها السلام، واعتنقته تمنعهم عنه، وتريد القتل معه إن قتلوه، فتركه ابن زياد، وبعثه معهم إلى الشام[7].

 

وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم، توّجه الإمام زين العابدين عليه السلام إلى كربلاء

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 91.

[2] المفيد، الشيخ محمد بن محمد، الأمالي، تحقيق: حسين الأستاد ولي، علي أكبر الغفاري، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414 - 1993م، ط2، ص 321.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 110.

[4] المصدر نفسه، ص 112.

[5] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 306.

[6] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 118.

[7] المصدر نفسه، ص 117 - 118.

 

143


122

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

بقدرة إلهيّة لدفن الأجساد الطاهرة، لأنّ الإمام لا يلي أمره إذا مات إلّا إمامٌ مثله[1]، وقد ساعده على ذلك قوم من بني أسد جاؤوا لدفن الأجساد الطاهرة[2].

 

3- الإمام زين العابدين عليه السلام في الشام

وصل موكب الإباء الشام، وأدخلوا على يزيد (لعنه اللَّه) مقرّنين بالحبال، وكانوا قد أعدّوا مجلس احتفال بانتصار يزيد دُعي إليه الأشراف والأعيان والشخصيّات، لإظهار القوّة والبأس. كان هذا المجلس بالنسبة إلى يزيد في غاية الأهمّيّة، سياسيّاً واجتماعيّاً وخارجيّاً، فأراد أن يظهر نفسه هو الغالب، وأنّه سيطر على الوضع، حتّى إنّه حضر المحفل كبار أهل الكتاب ورسول ملك الروم ليهنّئوه[3]. ثمّ بدأ يزيد بالتشفّي من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنشد أبياته المعروفة، وكان للسيّدة زينب عليها السلام خطبةٌ مدوّية[4]، ثمّ قام الإمام زين العابدين عليه السلام، وخطب في الناس على المنبر خطبةً كشف فيها بني أميّة، وفضح فعلتهم، فانقلب المجلس على يزيد إثر خطاب السيّدة زينب عليها السلام والإمام عليه السلام حتّى خاف أن تكون فتنة بعد أن ضجّ أهل الشام بالبكاء[5].

 

وبعد الكثير من الأحداث في المجلس العامّ، أمر يزيد بحبس السبايا مع عليّ بن الحسين عليه السلام في محبس لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ، فأقاموا فترة[6]، ثمّ أمر بتجهيزهم ليعودوا إلى المدينة[7].

 

إنّ المشيئة الإلهيّة حكمت وقضت بأن يمرّ موكب السبي بتلك المحطّات كلّها بين الكوفة والشام، ثمّ من الشام إلى المدينة لتتحقّق أهداف الثورة الحسينيّة، ويصل صداها إلى كلّ بقعة من بقاع العالم الإسلاميّ، بفضل صوت عقيلة الوحي السيّدة زينب عليها السلام

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 269.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص114.

[3] السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص 190.

[4] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 307 - 310.

[5] المصدر نفسه، ص 137 - 140.

[6] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 140.

[7] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 122.

 

144


123

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

وإمام الساجدين عليه السلام، وهكذا يتجلّى دور الإمام السجّاد عليه السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح في مجتمع أكلته الفتن واستفحل فيه الضلال. ومن هذه المحطّة تبدأ رحلة الألف ميل مسافةً وعمقاً من الشام إلى المدينة، ليستأنف الإمام عليه السلام مهمّته الرساليّة في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.

 

الإمام زين العابدين يحيي أهداف الإمام الحسين عليه السلام

إنّ الشخصيّة التي ظهرت للإمام زين العابدين عليه السلام خلال فترة الأسر تختلف عن تلك الشخصيّة التي ظهرت في السنوات الـ35 التي تلتها. وفي الحقيقة، فإنّ ذلك كان تبعاً للَّهدف الذي أراد الإمام السجّادعليه السلام تحقيقه. ففي مرحلة الأسر كان عليه أن يكون ذا شخصيّة صريحة لا تقبل اللّين ولا المهادنة، تبيّن الحقائق بأعلى صوت وأجلى بيان.

يبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله هذه المسألة فيقول: "لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام يرسم ملحمة طويلة عظيمة كبطلٍ عظيم بأقواله وأفعاله خلال فترة الأسر والمرض هذه، والّتي تُعتبر فترة مختلفة تماماً عن المرحلة الأساس من حياته، حيث بدأ يعمل على البنية التحتيّة باعتدالٍ ودقّة وهدوء... في هذه المرحلة، فإنّنا نشاهد الإمام بصورة ثائرٍ هادرٍ لا يسكت على أيّ كلمة، وكان أمام الملأ يردّ بأجوبة تزلزل أركان أعدائه المقتدرين... وقد تضمّنت خطبه وكلماته حقّانيّة أهل البيت بالخلافة، وفضحت جرائم النظام الحاكم، وحذّر الناس الغافلين الجاهلين بأسلوبٍ شديدٍ وبليغ"[1].

 

ويتحدّث الإمام الخامنئيّ دام ظله في موضع آخر عن حقيقة دور الإمام زين العابدين عليه السلام في تلك المرحلة، والتي كانت استثماراً لما سبق، وتأسيساً لما يأتي، فيقول: "كان على الإمام السجّاد عليه السلام، وبمعزل عن كونه إماماً، أن يهيّئ أرضيّة التحرّك المستقبليّ لإقامة الحكومة الإلهيّة والإسلاميّة، وقد كان اللّسان الناطق للدماء المسفوكة في عاشوراء. فالإمام السجّاد عليه السلام لم يكن هنا بحقيقته، بل كان لسان الحسين عليه السلام الصامت الّذي تجلّى في هذا الشابّ الثوريّ في الشام والكوفة. فلو لم يكن الإمام

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 237 - 238.

 

145


124

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

السجّاد عليه السلام شديداً وحادّاً وصريحاً في بيان القضايا، فإنّه لن يبقى في الحقيقة مجال لعمله المستقبليّ، لأنّ مجال عمله المستقبليّ ينطلق من دم الحسين بن عليّ عليه السلام الهادر... لذلك كان دور الإمام السجّاد عليه السلام في هذا السفر، ودور زينب عليها السلام حمل نداء ورسالة ثورة.. إذ إنّ معرفة الناس بقتل الحسين عليه السلام، ولماذا قُتل، وكيف قُتل، سوف تؤثّر على مستقبل الإسلام ومستقبل دعوة أهل البيت عليهم السلام... لهذا تحرّك الإمام السجّادعليه السلام في هذا الاتّجاه مثل سكينة وفاطمة الصغرى، ومثل زينب نفسها، ومثل كلّ أسير (كلٌّ بقدر استطاعته)، كحمَلة لرسالة. لقد اجتمعت هذه الطاقات كلّها حتّى تنثر دم الحسين عليه السلام المسفوك في الغربة في المناطق الإسلاميّة كلّها الّتي مرّوا بها من كربلاء إلى المدينة"[1].

 

وقد استطاع الإمام السجّاد عليه السلام أن يحيي أهداف ثورة والده ويستثمرها ويبني عليها، ولا سيّما أنّ جهوده تلك أثناء الأسر، وجهود السيّدة زينب عليها السلام والسبايا وعرضهم للثورة الحسينيّة بأهدافها، أدّت إلى قيام العديد من الثورات، كثورة التوّابين وثورة المختار وغيرها، كما مرّ، وقد استطاع الإمام السجّاد أن ينطلق من الثورة الحسينيّة ليؤسّس مرحلته التالية من المواجهة والجهاد، كما سيتبيّن معنا.

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 239 - 240.

 

146


125

الدرس التاسع: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- هو عليّ بن الحسين، رابع الأئمّة عليهم السلام، وُلد في 5 شعبان 38ه، وأمّه هي شهربانو ابنة آخر ملوك فارس.

 

- كان الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام أعظم الناس حلماً، وأكظمهم غيظاً، فكان يصفح عمّن أساء إليه، ولا سيّما أرحامه.

 

- عُرف الإمام عليه السلام بكرمه وسخائه وكثرة صدقاته سرّاً، وبودّه وعطفه على الفقراء، فكان يحتفي بهم، وكان يناولهم الطعام بيده المباركة، وكان يخرج ليلاً إلى دور الفقراء يحمل لهم الصدقات، وكان من أبرّ الناس وأرأفهم وأرحمهم بأهل بيته، فلا يبدأ طعاماً في حضور أمّه، وكان يسعى في حاجات عياله. كما كان عليه السلام كثير العبادة، صائم في النهار، قائم في اللّيل، حتّى عُرف بسيّد الساجدين وذي الثفنات.

 

- شهد الإمام زين العابدين عليه السلام معركة كربلاء، وكان مريضاً شديد العلّة، لم يقوَ على حمل السيف، وهكذا حفظ اللَّه تعالى فيه ذرّيّة الحسين عليه السلام.

 

- ادّعى محمّد ابن الحنفيّة الإمامة، فاحتجّ عليه الإمام زين العابدين عليه السلام بوصيّة الإمام الحسين عليه السلام له ثمّ ابتهلا عند الحجر الأسود الذي نطق وشهد بإمامة زين العابدين عليه السلام، فتولّاه ابن الحنفيّة.

 

- بعد دخول موكب السبي الكوفة، خطب الإمام عليه السلام خطبة تقريع وتوبيخ لأهل الكوفة على خذلانهم أبيه عليه السلام، وقد ذهب في 13 محرّم خفاءً إلى كربلاء، ودفن الأجساد الطاهرة بمعونة بني أسد.

 

- كان الإمام زين العابدين عليه السلام طول فترة الأسر صوت الإمام الحسين عليه السلام ولسانه الناطق، فأحيا مع السيّدة زينب عليها السلام والسبايا ملحمة عاشوراء وقيمها.

 

147


126

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

الدرس العاشر

الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام – 2 -

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى ملامح عصر الإمام السجّاد عليه السلام.

 

- يبيّن أهداف الإمام السجّاد ودوره خلال فترة إمامته عليه السلام.

 

- يستنتج الدروس التربويّة من حياة الإمام السجّاد ومواقفه المختلفة.

 

149


127

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

تمهيد

بعد استعراض المفاصل الأساسيّة من حياة الإمام السجّاد عليه السلام، وانتقاله من مرحلة فرضت نوع مواجهة ثوريّة واضحة، انتقل الإمام عليه السلام ومفهوم الإمامة الذي عمل الأئمّة على إرسائه وتطبيقه، وانتقلت الأمّة بأسرها معه، إلى مرحلة أخرى، لها خصائصها وطرقها الخاصّة في المواجهة، لذا قبل الحديث عن المرحلة الثالثة من حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، لا بدّ لنا من الوقوف قليلاً للاطّلاع على ملامح عصره في تلك المرحلة، لنكون قادرين على فهم تحرّكات الإمام السجّاد وأهدافه ودوره في تلك المرحلة.

 

ملامح عصر الإمام زين العابدين عليه السلام

1-  الوضع العامّ للمجتمع الإسلاميّ

أ- الانحطاط الفكريّ والعقائديّ:

ساد الانحطاط الفكريّ أرجاء العالم الإسلاميّ، وقد كان للظروف كلّها التي سبقت عهد الإمام السجّادعليه السلام الدور الفاعل في ذلك الانحطاط، بدءاً من إقصاء الوليّ الشرعي إثر رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا، وصولاً إلى شهادة الإمام الحسين عليه السلام. ويبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله هذه المسألة فيقول: "انتشر الانحطاط الفكريّ في أغلب أطراف العالم الإسلاميّ وأكنافه، نتيجة عدم الاهتمام بتعاليم الدّين في مرحلة العشرين سنة الماضية. وفيما بعدُ، هُجر التّعليم الدينيّ، وتعليم الإيمان، وتفسير الآيات، وبيان الحقائق منذ زمن النبيّ -في مرحلة السنوات العشرين بعد عام 40 للَّهجرة، وإلى ذاك الوقت -، فابتُلي النّاس، بلحاظ الاعتقاد والأصول الإيمانيّة، بالخواء والفراغ... كان هناك علماء وقرّاء

 

151


128

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

ومحدّثون... لكنّ عامّة النّاس ابتُلوا بعدم الإيمان، وضعف الاعتقاد ضعفاً كبيراً، وقد وصل الأمر ببعض أيادي جهاز الخلافة يُشكّكون في النبوّة![1]"[2].

 

ب- الانحطاط الأخلاقيّ:

مُني العالم الإسلاميّ في عهد الإمام زين العابدين عليه السلام بفساد أخلاقيّ وانحطاط قيميّ غير مسبوق! حيث حوت مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأحد أشرف بقاع الأرض عدداً كبيراً من الماجنين والمغنّين وجواري السوق! وهذا ما زاد الوضع الدينيّ سوءاً، مضافاً إلى بلاياه كلّها. ويصوّر الإمام القائد دام ظله الوضع الأخلاقيّ في تلك المرحلة فيقول: "في عهد الإمام السجّادعليه السلام، انحطّت الأخلاق بدرجة شديدة... فإنّ أشهَر المغنّين والمطربين واللّاعبين والعابثين في العالم الإسلاميّ كانوا في المدينة أو في مكّة، وكلّما كان يضيق صدر الخليفة في الشام شوقاً إلى الغناء، ويُطالب بمغنٍّ أو مطرب، كانوا يرسلون له من المدينة أو مكّة أحد المطربين المعروفين، أو المغنّين... فمهبط وحي النبيّ، ومنشأ الإسلام، أضحى مركزاً للفحشاء والفساد... والقصص كثيرة عن سهرات مكّة والمدينة. ولم تكن المسألة منحصرة بالأفراد المنحطّين، بل شملت الجميع في المدينة"[3].

 

ج- الفتوحات الإسلاميّة:

بعد حركة الفتوحات الإسلاميّة التي غزت العالم الإسلاميّ، دخلت العديد من الشعوب والأمم في الإسلام، وقد أدّى ذلك إلى بعض التداعيات الخطيرة، باعتبار أنّ الاهتمام بهذه الفتوحات لم يرافقه تحصين داخليّ للأمّة، متمثّلاً بتعميق الثقافة والأخلاق والقيم الإسلاميّة الصحيحة.

 


[1] ذُكر في الكتب أنّ خالد بن عبد اللَّه القسريّ -ويُعدّ من عمّال بني أميّة المنحطّين جدّاً، والسيّئين- كان يُفضّل الخلافة على النبوّة، ويقول: "إنّ الخلافة أفضل من النبوّة"، ثمّ يستدل قائلاً: "أخليفتك في أهلك أحبّ إليك وآثر عندك، أم رسولك؟" (الأخبار الطوال، ص 346)؛ أي لو أنّك تركت في أهلك شخصاً يخلفك في غيبتك، فهل هو أفضل وأقرب إليك، أم ذاك الّذي يأتيك برسالةٍ ما من مكانٍ معيّن؟ فمن الواضح أنّ ذاك الّذي جعلته في بيتك خليفةً لك سيكون أقرب إليك. فخليفة اللَّه -وهنا لا يقول خليفة رسول اللَّه- هو أفضل من رسول اللَّه!

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 249 - 250

[3] المصدر نفسه، ص 250-251.

 

152


129

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

وعليه، فقد عرّضت هذه الفتوحات المسلمين لخطرين كبيرين خارج النطاق السياسيّ والعسكريّ، وكان لا بدّ من العمل الحاسم للوقوف في وجههما. أوّل تلك الأخطار هو خطر التأثّر السلبيّ بالثقافات الأخرى، ما يعرّض المفاهيم الإسلاميّة للتشويه، والخطر الآخر هو خطر الانهيار الأخلاقيّ، إذ إنّ موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلاميّ في أعقاب ذلك الامتداد الهائل للفتوحات والغنائم الكثيرة، عرّضت المجتمع الإسلاميّ إلى خطر الانسياق مع ملذّات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة، وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقيّة والصلة الروحيّة باللَّه واليوم الآخر[1]. وقد عايش الإمام زين العابدين عليه السلام تلك الفترة المليئة بهذه التحدّيات الضخمة، وورث تداعيات الفتوحات كلّها السابقة لعهده، وكانت مهمّة الدفاع والحفاظ على الإسلام موكلة إليه.

 

د- الحكومات الطاغوتية المنحرفة:

مضافاً إلى ما مرّ كلّه، فإنّ الحكومة الطاغوتيّة لبني أميّة من آل أبي سفيان وآل مروان الذين تسلّموا الحكم كانت لا تزال قائمة، حيث كان الجوّ القمعيّ سائداً طول فترة الحكم الأمويّ، وإن اختلف من فترة إلى أخرى، كما أنّ الانحراف في تلك الحكومات بقي مستشرياً. وقد مارست السلطة الكثير من السياسات القمعيّة والتجويعيّة والترهيبيّة في حقّ للناس، منها ما حصل مع ثورة أهل المدينة وواقعة الحرّة وثورة التّوابين والمختار الثقفيّ وغيرها، فسعوا لضرب المعارضة أيّاً كانت بأساليب القمع والعنف كلّها. والأخطر من ذلك كلّه، أنّ هذه الانحرافات وجدت غطاءً شرعيّاً وسياسيّاً ضَمِنَ لها الاستمرار في ظُلمها، وقد تمثّلت هذه الانحرافات بعناصر عدّة، منها: وعّاظ السلاطين، بثّ مفاهيم عقائديّة ودينيّة خاطئة، وإبعاد الناس عن مفهوم الإمامة والخلافة الصحيحة.

 


[1] راجع: الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة الكاملة، تقديم السيّد محمّد باقر الصدر، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، بيروت، ص 11 - 13.

 

153


130

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

2-  وضع الشيعة في عهد الإمام السجّاد عليه السلام:

أ- القمع والخوف والضعف:

استفحل الخوف والرعب والضعف في الجسد الشيعيّ بدايةً بعد عاشوراء، كما سادت حالة من اليأس، فقد ذُهل الناس من هول ما قامت به السلطة، حيث لم تتورّع عن هتك حرمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آله إلى درجة القتل المفجع والسبي! فكان أثر ذلك تشتُّت الشيعة وانكفاؤهم لفترة معيّنة. وقد كان لحركة الإمام السجّاد عليه السلام الدور الأهمّ في إعادة بثّ الحياة في جسد الشيعة المتآكل.

 

يتحدّث الإمام القائد دام ظله عن وضع أتباع أهل البيت عليهم السلام في تلك البرهة فيقول: "... جمعٌ مؤمن، لكنّه مشتّت وغير منظّم ومرعوب، وقد انصرف من النّاحية العمليّة عن طريق الإمامة، هذا هو الإرث الّذي بقي للإمام السجّاد من جمع الشّيعة، القمع الكثير والجماعة المناصرة الضّعيفة جدّاً... هذا الرعب من الجهاز الحاكم، الّذي ظهرت آثاره في الكوفة والمدينة، بلغ ذروته بعد مرور زمان معيّن، إثر وقوع عدّة حوادث أخرى - إحداها حادثة الحرّة -، فسيطر جوّ القمع الشّديد في منطقة نفوذ أهل البيت عليهم السلام في الحجاز (وخاصّة المدينة)، وفي العراق (وخاصّة الكوفة)، فضعفت الاتّصالات، وصار أتباع الأئمّة والمعارضون لنظام بني أميّة أقلّيّة، وفي حالة ضعف وعدم ثبات. وتُنقل رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في الحديث عن أوضاع الأئمّة الّذين سبقوه: "ارتدّ النّاس بعد الحسين عليه السلام إلّا ثلاثة..."[1]، وفي رواية عن الإمام السجّاد عليه السلام.. أنّه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يُحبّنا"[2]"[3].

 

ب- ظهور التشكيلات الشيعيّة السرّيَّة رغم حالة القمع:

على الرغم من حالة القمع والعنف الشديدين، وما تعرّض له خطّ أتباع أهل البيت عليهم السلام في تلك المرحلة، إلّا أنّ ذلك لم يصل إلى حدّ إخماد كلّ حركة في الجسم

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 380.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 34، ص 297.

[3] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 241 - 243.

 

154


131

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

الشيعيّ أو إبقاء الشيعة على حالة من التهرّب من مسؤوليّاتهم الدينيّة تُجاه الإمام المعصوم، بل إنّ ذلك الوضع كان أيضاً محفّزاً لاستنهاض جمع من أتباع أهل البيت عليهم السلام للأخذ بثأر الإمام الحسين عليه السلام، كما حصل من خلال الأحداث المتلاحقة، ويبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله بعض تفاصيل التشكيلات السرّيّة التي أنشئت في تلك المرحلة، فيقول: "الرّواية التي ذكرناها عن قلّة الأنصار وارتداد الناس (ارتدّ أناس بعد الحسين عليه السلام إلّا ثلاثة)، يُكمل الإمام الصادق عليه السلام القول: "ثمّ إنّ النّاس لحقوا وكثروا"[1]. وتفصيل القضيّة المذكورة هو (أنّه) بعد واقعة شهادة الإمام الحسين عليه السلام صار النّاس في خوفٍ ورعب، لكن ليس إلى درجة زوال تشكيلات أتباع أهل البيت، ودليل ذلك، أنّه في الوقت الّذي جاؤوا بأسرى كربلاء إلى الكوفة، شوهدت التحرّكات الّتي تدلّ على وجود التنظيمات الشيعيّة. وعند الحديث عن "التنظيمات الشيعيّة السرّيّة" لا نقصد نمط التنظيمات الموجود في هذا العصر، بل المقصود تلك الرّوابط العقائديّة الّتي كانت تصل النّاس بعضهم ببعض، وتحملهم على التّضحية والأعمال السرّيّة، والّتي تؤلّف في أذهاننا مجموعة واحدة"[2].

 

ثمّ يبيّن الإمام القائد حادثة من الحوادث التي استدلّ من خلالها على وجود مثل تلك التنظيمات العقديّة بالدرجة الأولى التي جمعت أواصر التشيّع، والتي عمل الأئمّة عليهم السلام على إيجادها بشكل مباشر وغير مباشر، فيقول: "في تلك الأيّام الّتي كان فيها أهل البيت عليهم السلام في الكوفة، يسقط في إحدى اللّيالي حجرٌ في السجن الّذي كانوا فيه، وإذ بالحجر ورقة كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلى يزيد في الشّام حتّى يعلم ماذا يفعل بكم، فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير فاعلموا أنّكم ستُقتلون هاهنا، وإذا لم تسمعوا، فاعلموا أنّ الوضع سيتحسّن". عندما نسمع بمثل هذه القصّة نُدرك جيّداً وجود شخص من الأصدقاء وأعضاء هذه التّنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد، يعلم القضايا، وتطال يده السّجن.. بناءً على هذا.. لم ينهدم نظام عمل أتباع أهل

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 380.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 241 - 242.

 

155


132

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

البيت عليهم السلام، ولم يحصل لهم التشتّت والضّياع... وخلال هذه المرحلة.. قام الشّيعة بترتيب أعمالهم وتنظيمها، واستعادة انسجامهم السّابق.. وقد استمرّ هذا الوضع إلى أن هلك يزيد بن معاوية"[1].

 

المرحلة الرابعة: الإمام زين العابدين عليه السلام من الاستقرار في المدينة إلى الشهادة

عاد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى مدينة جدّه، وقد احتشد الناس لاستقباله خارج المدينة، ثمّ ألقى خطبةً فيهم بيّن فيها ما جرى في كربلاء وما حصل معهم أثناء السبي[2]، وقد استقرّ في المدينة إلى حين شهادته مسموماً على يد الوليد بن عبد الملك.

 

وفي إطار مقاربة هذه المرحلة من حياة الإمام عليه السلام، لا بدّ لنا من الأخذ بعين الاعتبار أنّها مرحلة تُسجّل منعطفاً مهمّاً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام:

الأولى: مرحلة التصدّي والصراع السياسيّ والمواجهة العسكريّة ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين، وقبلهم الكفرة والمنافقون وأعداء الدين الواضحون.

 

الثانية: مرحلة المعارضة السياسيّة الصامتة، أو الرفض المسؤول الهادئ لانحراف السلطة، أمام الضبابيّة والزيف المشفوع بالدين، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبيّة والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللَّذين أُغرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينيّة تحت شعارات الإسلام نفسها والآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة.

 

ومع الإمام زين العابدين عليه السلام، انتقل عمل أهل البيت عليهم السلام من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية.

 

وعليه، كان على الإمام السجّاد عليه السلام، من أجل حفظ تيّار الإسلام الأصيل أن ينهض للجهاد، ويجمع هذا الشّتات الإسلاميّ كلّه، ويتّجه به نحو الحكومة

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 242 - 244.

[2] المصدر نفسه، ص 148 - 149.

 

156


133

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

العلويّة، ويمكن لنا الحديث عن جهادٍ تمثّل ببعدين أساسيَّين في حياة الإمام السجّاد، البعد العلميّ، والبعد السياسيّ:

أوّلاً: دور الإمام زين العابدين عليه السلام العلميّ:

عاش الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة المنوّرة، حاضرة الإسلام الأولى، ومهد العلوم والعلماء، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة، مع كبار علماء التابعين، فكان عليه السلام بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم، الأعلم والأفقه والأوثق، بلا تردّد. فقد كان الزهريّ يقول: "ما كان أكثر مجالستي مع عليّ بن الحسين، وما رأيت أحداً كان أفقه منه"[1]. وممّن عرف هذا الأمر، وحدّث به، الفقيه الشهير سفيان بن عيينة[2]. وبمثل هذا كان يقول الشافعيّ محتجّاً بعليّ بن الحسين عليه السلام على أنّه كان (أفقه أهل المدينة)[3]. هذا، وقد حمل عنه الكثير من العلماء العلم والأدب، ونقلوا عنه الحديث[4]. وكان من أبرز أنشطة الإمام عليه السلام على الصعيد العلميّ، أدعيته وخطبه ومواعظه، فقد لعبت الصحيفة السجّاديّة (زبور آل محمّد) دوراً بالغ الأهمّيّة في تحقيق أهداف الإمام السجّاد عليه السلام بطريقة سلميّة دون اللّجوء إلى المواجهة المسلّحة.

 

1- حفظ الفكر الإسلاميّ الأصيل وتدوينه:

عمل الإمام السجّاد عليه السلام من خلال أدعيته ومواعظه وخطبه على حفظ الفكر الإسلاميّ الأصيل، بغية تبيان تلك الأصول وترسيخها في المجتمع قدر المستطاع، ولتبقى معالم الدين محفوظة للأجيال اللّاحقة. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا المجال: "إنّ أعظم الأدوار الّتي مارسها الإمام السجّاد عليه السلام هي أنّه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوّة، وحقيقة المقام المعنويّ للإنسان، وارتباطه باللَّه. وأهمّ دور أدّته الصّحيفة السجّاديّة هو

 


[1] السيد المرعشي, شرح إحقاق الحق, مصدر سابق, ج19, ص 475.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه, ج15, ص274.         

[4] الطوسي, الشيخ محمد بن الحسن, الأبواب (رجال الطوسي), تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني, مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة, إيران – قم, 1415 هـ, ط1, ص109, وللإطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.

 

 

157


134

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصّحيفة، ثمّ جولوا ببصركم في أوضاع النّاس على صعيد الفكر الإسلاميّ في ذلك الزّمن، ستجدون مدى المسافة الّتي تفصل بين الاثنين. قام الإمام السجّاد عليه السلام بعملٍ كبيرٍ لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلاميّ. ويظهر هذا الأمر في كلمات الإمام عليه السلام، فنجد رسالة الحقوق، وهي رسالة مفصّلة بحجم رسالةٍ حقيقيّة بحسب اصطلاحنا، وهي رسالة كتبها الإمام لأحد أصحابه، يذكر فيها حقوق الأفراد والإخوان بعضهم على بعض، ويذكر فيها أيضاً حقّ اللَّه علينا، وحقّ أعضائنا... فالإمام، وبهدوءٍ تامّ، ومن دون أن يأتي على ذكر الحكومة والجهاد والنّظام المستقبليّ، قد ذكر في هذه الرسالة أسس علاقات النّظام المقبل، بحيث إنّه لو جاء يومٌ وتحقّق نظام الحكومة الإسلاميّة في عصر الإمام السجّاد نفسه -وهو بالطبع احتمالٌ بعيد- أو في العصور اللّاحقة، فهو يُعرّف النّاس إلى الإسلام الّذي ستُحقَّق حكومته في المستقبل، ليلقي في أذهانهم مسبّقاً طبيعة العلاقات الّتي تربط بينهم في ذلك النّظام"[1].

 

2- إصلاح النّاس وإرشادهم:

بعد أن انتشر الفساد الأخلاقيّ والانحطاط الفكريّ في المجتمع الإسلاميّ، كما ذكرنا سابقاً، مضافاً إلى مشاعر اليأس التي سادت المجتمع الإسلاميّ بعد الحوادث الأليمة والمفجعة التي مرّ بها الإسلام على يد بني أميّة، أمسى الناس بأمسّ الحاجة إلى الارتباط بعالم الغيب والمعنويّات، ووجود المصلح الذي يتولّى إعادة بناء تلك النفوس الرثّة، وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام بصحيفته الملكوتيّة وخطبه، ومواعظه وكلماته الربّانيّة المشعّة بالأنوار الرحمانيّة، هو من تولّى تلك المهمّة، فقد تولّى عليه السلام بيان تلك المعارف والقيم الإسلاميّة السامية من خلال الدعاء، وقد كانت على ما يبدو الطريقة الوحيدة للكلام إبّان القمع والحصار الذي كان أهل البيت عليهم السلام يتعرّضون له، فلم يكن الوضع ملائماً للإمام عليه السلام لأنّ يتحدّث بشكل صريح أمام الناس، ويبيّن المعارف والقيم المخالفة للنظام.

 

وليس ذلك بسبب قمع السلطة فحسب، بل إنّ الناس لم يكونوا على استعداد لذلك

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 288 - 289.

 

158


135

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

- أيضاً - بسبب الفساد، والضياع الذي وصل إليه وضعهم الدينيّ آنذاك، كما بيّنّا سابقاً. وعن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "ما ندري كيف نصنع بالناس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا، وإن سكتنا لم يسعنا"[1].

 

وهذا الحديث يبيّن حجم الانحطاط الذي كان سائداً حيث وصل الحدّ ببعض المسلمين في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يضحك استهزاءً إذا سمع ما قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم!

 

3- تعريف النّاس إلى أحقّية أهل البيت عليهم السلام:

من الأمور المهمّة التي عمل الإمام السجّاد على تثبيتها في المجتمع علميّاً وسياسيّاً هي تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصّة، ومن ثمّ توضيح الخرق الفاضح الذي جرى خلاله فصل المرجعيّة الدينيّة عن المرجعيّة السياسيّة أو الاجتماعيّة، وبيان أنّ مقام الولاية والإمامة حقّ ثابت لأهل البيتعليهم السلام، وقد تجلّى ذلك في كلامه وإرشاداته لأتباعه بشكل خاصّ.

 

فمع أنّه لا يوجد تصريح واضح من قبل الإمام السجّادعليه السلام، بعد استقراره بالمدينة، بشيء معارض للجهاز الحاكم، لكنّ ذلك الطرح الأصيل للإمامة، الذي يستبطن مناوءة السلطة الحاكمة يُفهم من كلامهعليه السلام، ويضرب الإمام الخامنئيّ مثالاً على ذلك، في معرض حديثه عن موعظة للإمام السجّادعليه السلام، فيقول: "... وأثناء عرضه هذه العقائد الأصيلة، والمطالب الأساس للإسلام، كالتوحيد والنبوّة والقرآن والدين، يُبيّن عليه السلام هذه النقطة الأساس بقوله: "وعن إمامك الّذي كنت تتولّاه"[2]، فهو هنا يطرح موضوع الإمامة. وقضيّة الإمامة عند الأئمّة تعني قضيّة الحكومة أيضاً، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمّة عليهم السلام... وهكذا، عندما كان الإمام السجّاد عليه السلام يقول إنّك ستُسأل عن إمامك في القبر، كان يُشير إلى أنّك هل انتخبت الإمام المناسب والصّحيح؟ وهل أنّ ذلك الشّخص الّذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الّذي تعيش فيه، هو حقّاً

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 234.

[2] المصدر نفسه، ج8، ص 73.

 

159


136

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

إمام؟ وهل هو ممّن رضي اللَّه عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ النّاس، ليجعل هذه القضيّة حسّاسة في نفوسهم. بهذه الطريقة كان الإمام يحيي قضيّة الإمامة"[1].

 

ثانياً:  دور الإمام زين العابدين عليه السلام السياسيّ:

1- المواجهة السياسيّة مع الحكومة:

ظهرت المواجهة السياسيّة للإمام زين العابدين عليه السلام بأشكال عدّة، ففي مرحلة الأسر كانت قد اتّخذت طابعاً ثوريّاً ينسجم مع تلك المرحلة كما حصل في مجلس ابن زياد ويزيد، ثمّ فيما بعد اتّخذت طابعاً هادئاً حيناً، وقاسياً حيناً آخر.

 

ومن الأمثلة على ذلك، المراسلات العديدة والمختلفة التي حصلت بين الإمام عليه السلام وعبد الملك بن مروان، حيث يروى أنّ عبد الملك لمّا علم بوجود سيف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لدى الإمام السجّاد عليه السلام، طلب إليه أن يسلّمه السيف على أن يهب له ما يحتاج، فردّ الإمام عليه السلام بالرفض، ثمّ كرّر عبد الملك طلبه مهدّداً إيّاه بوقف حصّة الإمام من بيت المال، فأجابه الإمام عليه السلام: "أمّا بعد، فإنّ اللَّه ضمن للمتّقين المخرج من حيث يكرهون، والرّزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾[2]، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية"[3]. وهذه لهجة قاسية جدّاً تجاه الخليفة، فهم من خلالها أنّه لا يمكنه المسّ بأمور كهذه، وأنّ الإمام عليه السلام لا يركن إلى التهديد، ثمّ امتنع عبد الملك عن مطالبته بالسيف.

 

ومن الأمثلة على تصرّفات الإمام الهادئة تجاه السلطة، ما حصل مع مسلم بن عقبة عندما اجتاح المدينة واستباحها، فالإمام عليه السلام وإبّان الهرج والمرج، لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرّفٍ معادٍ، وهو الذي لم يتورّع عن فعل أيّ قبيح، بل تروي المصادر التاريخيّة أنّ مسلم (والذي سمّي بمسرف بن عقبة لكثير ما أسرف من دماء المسلمين في واقعة الحرّة)، لمّا قدم المدينة أرسل في طلب الإمام زين العابدين عليه السلام، وقال له: "أوصاني

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 276.

[2] سورة الحج، الآية 38.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 165.

 

160


137

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

أمير المؤمنين (يقصد يزيد) ببرّك وتمييزك من غيرك.."[1]، فمسرف تجنّب التعرّض للإمام، والإمام لم يبادر إلى أيّ تصرّف معادٍ يفقده حياته وحياة من بقي من آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فدفع بتدبيره الحكيم البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصليّ للشيعة.

 

2- مواجهة الإمام عليه السلام مع علماء البلاط:

كان للبلاط الحاكم علماء سوء وأبواق فساد لا تنطق إلّا بأمره، فتختلق الأحاديث التي تدعم ملك الحاكم، وتخترع أخرى تذمّ من يريد، وقد استفحلت هذه الممارسات في عهد الإمام السجّاد عليه السلام فكان لا بدّ من المواجهة.

 

ومن الأمثلة على تلك المواجهات، ما جرى بين الإمام السجّاد عليه السلام ومحمّد الزهريّ، الذي كان تلميذاً له في البداية ثمّ تحوّل إلى أداة بيد السلطة ومقرّب منها وعالم سوءٍ ووضّاع حديث لها، فبعد أن اكتسب الزهريّ قدسيّة كبيرة لقربه من النظام، وصار وجيهاً بين العلماء ولدى الناس، وكثر الوضع على لسانه، وجّه الإمام زين العابدين عليه السلام له رسالة قاسية اللَّهجة قرّعه فيها، فوجّه ضربة لتلك القداسة الشيطانيّة، وزلزل عرشها المزيّف، وكان ممّا جاء فيها: "واعلم، إنّ أدنى ما كتمت، وأخفّ ما احتملت، أن آنست وحشة الظّالم، وسهّلت له طريق الغيّ، بدنوِّك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دُعيت... أوليس بدعائه إيّاك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخلون بك الشكّ على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم؟"[2].

 

وفي هذه الرسالة الشّديدة اللَّهجة والبليغة، يفضح الإمام السجّاد هذا التيّار الفكريّ والعلميّ التابع للسلطة والحكم، والّذي يتحرّك بدعمٍ سياسيٍّ وحكوميٍّ واجتماعيّ، فلم يكتفِ على الصعيد العلميّ ببيان الإسلام، بل أسهم في فضح علماء البلاط بشكل جليّ.

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 89.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص 131 - 135.

 

161


138

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

3- تأسيس التشكيلات الشيعيّة وتنظيمها:

تولّى الإمام السجّاد عليه السلام مهمّة بناء الجماعة الواعية، أو كما تُسمّى القاعدة الجماهيريّة الشعبيّة، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف، الأمر الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثّر بالشعار ولا تغوص في أعماق الأمور. كما أنّ الإمام عليه السلام لا يستطيع العمل وحيداً، لذا كان لا بدّ من العمل على تأسيس وتنظيم التكتّلات الشيعيّة التي ستكون أساس أيّ حراك مستقبليّ مع أيّ إمام.

 

ويرى الإمام الخامنئيّ أنّ الإمام السجّاد عليه السلام قد عمل على ذلك من خلال خطبه ومواعظه التي كانت موجّهة لخواصّ الأتباع، فيبيّن أنّ الإمام السجّاد في خطاباته كان هناك خُطباً عامّة بلهجتها وطريقة كلامه عليه السلام، حيث لم يكن الإمام عليه السلام يتطرّق للكثير من الأمور، ولا سيّما السياسيّة منها ولو بالإشارة، أمّا فيما يخصّ خطابه مع الخواصّ، فكان الوضع مختلفاً، فيطرح القضايا الأساسيّة، ويعمل على بناء الكادر من خلال إرشاداته وتعاليمه[1].

 

شهادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام

تقلّد الوليد بن عبد الملك بن مروان أزمّة الحكم، وقد وُصف بأنّه كان جبّاراً عنيداً ظلوماً غشوماً[2]، وقد كان الوليد من أحقد الناس على الإمام زين العابدين عليه السلام، لأنّه كان يرى أنّه لا يتمّ له الملك والسلطان بوجوده. ومع مرور الوقت كان نفوذ الإمام زين العابدين عليه السلام قد توسّع، وقويت شوكة أتباعه أكثر، مضافاً إلى احتلال الإمام عليه السلام مكانة مرموقة محترمة لدى الناس، حيث كانوا يُكبرونه بعلمه وفقهه وعبادته، فأجمع رأيه على اغتياله، فبعث سمّاً قاتلاً إلى عامله في المدينة، وأمره أن يدسّه للإمامعليه السلام، ففعل[3]، وفاضت روحه إلى بارئها، ودفنه ابنه الإمام الباقر عليه السلام في البقيع إلى جوار عمّه الإمام الحسن عليه السلام.

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 267.

[2] المسعوديّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، منشورات دار الهجرة، قم، 1404هـ، ط2، ج3، ص 157.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 154.

 

162


139

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

علّمني إمامي

 

1- أنّ الارتباط بعالم المعنويّات والالتزام بمكارم الأخلاق هو من أهمّ طرق إصلاح النفس والمجتمع، ولا سيّما في حالات التدهور والانحطاط.

 

2- أن تكون العبادة الهادفة نهجاً لي في حياتي.

 

3- أنّ الارتباط الصادق بالإمام السجّاد عليه السلام يتجلّى بالارتباط بتراثه العظيم، ولا سيّما الصحيفة السجّاديّة.

 

4- أنْ أَسِم نفسي بحبّ الفقراء، وأعمل على قضاء حوائج الناس سرّاً.

 

5- أن أتمتّع بشخصيّة شجاعة حكيمة ليّنة قادرة على تسيير الظروف على الرغم من صعوبتها، لمصلحة أهدافها الإلهيّة.

 

163


140

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- ساد الانحطاط الفكريّ أرجاء العالم الإسلاميّ في عصر الإمام السجّادعليه السلام، فابتُلي النّاس بالخواء والفراغ الفكريّ.

 

- مُني العالم الإسلاميّ في عهد الإمام السجّادعليه السلام بفساد أخلاقيّ وانحطاط قيميّ غير مسبوق، فحوت مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عدداً كبيراً من الماجنين والمغنّين وجواري السوق.

 

- على الرغم من حالة القمع والعنف الشديدين، وما تعرّض له خطّ أتباع أهل البيت عليهم السلام، إلّا أنّه، وبفضل جهود الإمام السجّادعليه السلام، بُثّت الحياة في الجسد الشيعيّ مجدّداً، فانطلقت الثورات بعد ذلك وتعدّدت.

 

- انتقل عمل أهل البيتعليهم السلام مع الإمام السجّاد عليه السلام من مرحلة المعارضة الصريحة للسلطة إلى مرحلة المعارضة الصامتة غير المسلّحة، فكان لجهاده بُعدان، بُعدٌ علميٌّ، وبُعدٌ سياسيٌّ.

 

- تركّز جهاد الإمام السجّادعليه السلام العلميّ على حفظ الإسلام الأصيل وتدوينه من خلال خطبه وأدعيته ومواعظه، متعرّضاً فيها لمختلف المسائل الدينيّة والقيميّة، وتلك كانت الطريقة الأمثل إبّان ظروف القمع من قبل السلطة.

 

- ظهرت المواجهة السياسيّة للإمام زين العابدين عليه السلام بأشكال عدّة، ففي مرحلة الأسر اتّخذت طابعاً ثوريّاً ينسجم مع تلك المرحلة، ثمّ فيما بعد اتّخذت طابعاً هادئاً حيناً، وقاسياً حيناً آخر.

 

- كان للإمام السجّاد مواجهات حادّة مع علماء البلاط المأجورين الذين امتهنوا وضع الحديث لخدمة السلطان، كرسالة التقريع التي بعثها إلى الزهري على سبيل المثال. وقد سجّل التاريخ تصرّفات مسالمة من قبل الإمام عليه السلام تجاه السلطة، كعدم قيامه بأيّ ردّ فعل معادٍ مسلم بن عقبة إبّان واقعة الحرّة.

 

164


141

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

الدرس الحادي عشر

الإمام محمّد الباقر عليه السلام -1-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يعدّد بعضاً من الخصائـــص الشخـصيّة للإمــام الباقر عليه السلام.

 

- يبيّن مسار الإمامة إلى عهد الإمام الباقر عليه السلام.

 

- يستنتج الدروس التربويّة من مختلف مواقف الإمام الباقر عليه السلام.

 

165


142

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

الإمام الباقر عليه السلام

هو محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم السلام، وهو خامس الأئمّة الكرام المعصومين الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. ولد الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام يوم الجمعة غرّة رجب (أولى لياليه) ، سنة 57هـ بالمدينة المنوّرة[1].

 

أبوه هو الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، وأمّه الماجدة هي فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وقيل لها أمّ عبد اللَّه، وقد عرفت أمّه بالفضل والتقى والعبادة. وقد رُوي عن الإمام الصادقعليه السلام في حقّها أنّه قال: "كانت صدّيقة لم يُدرك في آل الحسن عليه السلام امرأة مثلها"[2].

 

وقد رُوي أنّ الإمام الباقر عليه السلام كان حاضراً في واقعة الطفّ مع جدّه الإمام الحسين عليه السلام وعمره نحو أربع سنوات[3]، فعايش الفاجعة، وشهد مصرع جدّه وأعمامه وآل بيته عليهم السلام، وكان مع ركب السبايا في رحلتهم من الكوفة إلى الشام، ثمّ في العودة إلى المدينة[4].

 

عاصر الإمام الباقر عليه السلام أباه الإمام السجّاد عليه السلام نحو خمس وثلاثين سنة، إلى أن استُشهد الإمام السجّادعليه السلام مسموماً، ثمّ تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه عليه السلام، وقد


 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 264.

[2] الشيخ البحراني، عوالم العلوم والمعارف والأحوال، مصدر سابق، ج19، ص 16.

[3] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ص 265.

[4] السيد منذر، أعلام الهداية (الإمام الباقرعليه السلام)، مصدر سابق، ج7، ص 47.

 

167


143

الدرس العاشر: الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام -2-

استمرّت 19 عاماً من سنة 95هـ وإلى عام 114هـ[1] إلى حين شهادته عليه السلام.

 

من ألقاب الإمام محمّد بن عليّ عليه السلام: الباقر، الشاكر، الهادي، الأمين، والشبيه، لأنّه كان يشبه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وأمّا كنيته: فأبو جعفر[2]. وكان لقب "الباقر" أكثر ألقابه شيوعاً وانتشاراً، ورُوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لقبّه بالباقر، لأنّه بقر العلم بقراً، أي شقّه وتوسّع فيه، وعرف أصله، وعلم خفيّه، ثمّ أظهره وبيّنه[3].

 

كان للإمام الباقر عليه السلام سبعة أبناء من الذكور والإناث[4]. وقبل شهادته عليه السلام المباركة، أوصى بالإمامة إلى ابنه الإمام جعفر الصادق[5] عليه السلام، وانتقل إلى الرفيق الأعلى شهيداً في السابع من شهر ذي الحجّة، سنة 114هـ وهو ابن سبع وخمسين سنة، ودُفن في المدينة المنوّرة، في البقيع إلى جوار أبيه الإمام السجّاد[6] عليه السلام.

 

بعضُ الخصائص الشخصيّة للإمام محمّد الباقر عليه السلام:

1- عبادته عليه السلام ودعاؤه:

رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه كان كثير الصلاة، فكان يصلّي في اليوم واللّيلة مائة وخمسين ركعة[7]، ولم تكن لتشغله شؤونه المختلفة من دروس ومراجعات علميّة وغيرها عن عبادته، وهو الذي عرف المحضر والحاضر بحقّ!

 

وكان عليه السلام شديد الاعتراف للَّه - سبحانه وتعالى - بالعبوديّة يظهر ذلك في أدعية سجوده على صغر حجمها، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان أبي في جوف اللّيل يقول: أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أزدجر، ها أنا ذا عبدك بين يديك

 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 264.

[2] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 216.

[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص 233.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 176.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 306.

[6] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 264.

[7] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1413هـ، ط9، ج4، ص 403.

 

168


144

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

ولا أعتذر"[1]. فكان عليه السلام يخشع بوجوده كلّه بين يدي ربّه - جلّ وعلا -، ويدعوه ساجداً، وقد أُثر عنه العديد من الأدعية في سجوده، حيث يُنقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنِّي كُنْتُ أَمْهَدُ لِأَبِي فِرَاشَهُ فَأَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَأْتِيَ، فَإِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَنَامَ قُمْتُ إِلَى فِرَاشِي، وَإِنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فِي طَلَبِهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا هَدَأَ النَّاسُ، ‏فَإِذَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ سَاجِدٌ وَلَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ، فَسَمِعْتُ حَنِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهمَّ، أَنْتَ رَبِّي حَقّاً حَقّاً، سَجَدْتُ لَكَ يَا رَبِّ تَعَبُّداً وَرِقّاً، اللَّهمَّ إِنَّ عَمَلِي ضَعِيفٌ فَضَاعِفْهُ لِي، اللَّهمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"[2].

 

وكان للإمامعليه السلام اهتمامٌ خاصٌّ بشيعته ومواليه، فكان لهم قسطٌ من دعائه، فقد كان من دعائه لهم: "يَا دَانٍ غَيْرَ مُتَوَانٍ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اجْعَلْ لِشِيعَتِي مِنَ النَّارِ وِقَاءً، وَلَهُمْ عِنْدَكَ رِضًى، وَاغْفِرْ ذُنُوبَهُمْ، وَيَسِّرْ أُمُورَهُمْ، وَاقْضِ دُيُونَهُمْ، وَاسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وَهَبْ لَهُمُ الْكَبَائِرَ الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ"[3]. فحريّ بكلّ شيعيّ أن يدعو لإمامه كما يدعو إمامه له، وأن يحوز إمامه محلّ الاهتمام الأعظم من حياته كما كان للشيعة ذلك الاهتمام الكبير من قبل الإمام المعصومعليه السلام، ولا سيّما أنّ التمسّك بالإمام الواقعيّ هو سبب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

 

2- صلته عليه السلام لإخوانه:

كان الإمام الباقر عليه السلام يصل إخوانه ويحثّ على ذلك، وقيل إنّه كان لا يملّ من صلتهم وصلة قاصديه وراجيه ومؤمّليه[4]، وقد عَهد إلى الإمام الصادق عليه السلام أن ينفق من بعده على أصحابه وتلاميذه ليتفرّغوا لنشر العلم وإذاعته بين الناس[5].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 46، ص 290.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 323.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 61.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 167.

[5] الشيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الباقرعليه السلام، دار البلاغة، بيروت، ط1، ج1، ص 124.

 

169


145

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

وكان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون حتّى يطعمهم الطعام الطيّب، ولبسهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدراهم، فاستُنكر عليه ذلك، فقال: "مَا يُؤَمَّلُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْمَعَارِفِ وَالْإِخْوَانِ...؟"[1]. وكان يقول: "مَا حَسَنَةُ الدُّنْيَا إِلَّا صِلَةُ الْإِخْوَانِ وَالْمَعَارِفِ‏"[2].

 

وفي هذه السلوكيّات درسٌ عظيم، فإنّ الإمام عليه السلام بصلاته تلك يجمع الإخوان والمحبّين حوله، ويوطّد علاقاتهم فيما بينهم، ولا سيّما أنّهم بالعموم كانوا أشخاصاً ملاحَقين ومحلّ رقابة من الجهاز الحاكم، فالتواصل الدائم والتراحم بين المؤمنين يُهوّنان مصاعب الدنيا، ويفرّجان عن صاحب الكرب، كما يؤسّسان لعلاقات مستدامة تعلو المصالح المادّيّة وسدّ الحاجة، وهو أمرٌ كان الإمام الباقرعليه السلام يعمل له بكلّ جدّ، عبر تأسيسه للتشكيلات الشيعيّة السرّيّة، كما سيأتي.

 

3- كرمه وجوده عليه السلام:

رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان أبي أقلّ بيته مالاً وأعظمهم مؤونة"[3]، أي أنّ الإمام الباقرعليه السلام لم يكن يملك سَعةً من المال، وكانت نفقاته وحاجاته كثيرة، ومع ذلك كان يجود بما عنده لينعش الفقراء والمحرومين. وقد جسّد الإمام الباقر عليه السلام في حياته أخلاق الإسلام، فقد كان كريماً يعطي الفقراء ما في يده، وكان ظاهر الجود في شيعته وعند أهل العامّة، مشهور الكرم، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله. فقد رُوي عن الحسن بن كثير أنّه قال: "شَكَوْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عليّ عليه السلام الْحَاجَةَ وَجَفَاءَ الْإِخْوَانِ، فَقَالَ: "بِئْسَ الْأَخُ‏، أَخٌ يَرْعَاكَ غَنِيّاً وَيَقْطَعُكَ فَقِيراً، ثُمَّ أَمَرَ غُلَامَهُ فَأَخْرَجَ كِيساً فِيهِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: اسْتَنْفِقْ هَذِهِ، فَإِذَا نَفِدَتْ فَأَعْلِمْنِي‏"[4].

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 121.

[2] المصدر نفسه، ص 118.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص 413.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 166.

 

170


146

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

وكان عليه السلام كثير البرّ والمعروف على فقراء يثرب، وكان يقول: "الصَّدَقَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تُضَاعَفُ لِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّام‏"[1]. فلم يكن توسّط الحال، وكثرة العيال، والحصار الدائم ليقف عائقاً، ويمنع الإمام عليه السلام من الكرم والجود والإنفاق في سبيل اللَّه - عزّ وجلّ -، فكان عليه السلام ملجأً للفقراء وذوي الحاجات لعلمهم بعدم ردّ الإمام عليه السلام لهم خائبين، حتّى إنّه كان يكرمهم أشدّ الإكرام، ويرفع من شأنهم ويبجّلهم، لئلّا يرى عليهم ذلّ الحاجة، وكَانَ لَا يُسْمَعُ مِنْ دَارِهِ يَا سَائِلُ بُورِكَ فِيكَ وَلَا يَا سَائِلُ خُذْ هَذَا، وَكَانَ يَقُولُ: "سَمُّوهُمْ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِم"[2]. فللَّه درّ إمامٍ كهذا وقدوةٍ كهذا لمن رام الأخلاق العالية، فإمامنا كان لا يرضيه أن يقال للسائل: يا سائل!

 

4- مكارم أخلاقه عليه السلام:

كانت معالي الأخلاق التي ورثها الأئمّة عليهم السلام هي رأس المال الذي يتداولونه مع الناس، حتّى أمام الإساءة التي كانوا يتعرّضون لها، لم يصدر عن أحد منهم عليهم السلام ردّ الإساءة بإساءة، وذلك لعلو أخلاقهم، وتأدّبهم بآداب اللَّه تعالى، حتى يمسي العدوّ أو مَن أساء إليهم حميماً موالياً لهم، كما جرى في حوادث مختلفة مع العديد من الأئمّة عليهم السلام. ومن المواقف التي تبرز عظيم أخلاق الإمام الباقر التي شابه فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، حادثة جرت مع رجل شاميّ كان موالياً للجهاز الحاكم، حيث رُوي أنّ رجلاً من أهل الشام كان يختلف إلى أبي جعفرعليه السلام بالمدينة، فقال له: "يَا مُحَمَّدُ، أَلَا تَرَى أَنِّي إِنَّمَا أَغْشِي مَجْلِسَكَ حَيَاءً مِنِّي لَكَ، وَلَا أَقُولُ إِنَّ فِي الْأَرْضِ أَحَداً أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ طَاعَةَ اللَّه وَطَاعَةَ رَسُولِهِ وَطَاعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي بُغْضِكُمْ، وَلَكِنْ أَرَاكَ رَجُلاً فَصِيحاً، لَكَ أَدَبٌ وَحُسْنُ لَفْظٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ إِلَيْكَ لِحُسْنِ أَدَبِكَ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍعليه السلام يَقُولُ لَهُ خَيْراً، وَيَقُولُ: لَنْ تَخْفَى عَلَى اللَّه خَافِيَةٌ.

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص 423.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج46، ص 291.

 

171


147

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

فَلَمْ يَلْبَثِ الشَّامِيُّ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّى مَرِضَ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ، فَلَمَّا ثَقُلَ دَعَا وَلِيَّهُ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا أَنْتَ مَدَدْتَ عَلَيَّ الثَّوْبَ فِي النَّعْشِ، فَأْتِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَأَعْلِمْهُ أَنِّي أَنَا الَّذِي أَمَرْتُكَ بِذَلِكَ. ويبدو أنّ حبّ الإمام الباقر عليه السلام قد وقع في قلبه وإن لم يرد ذلك. وعندما ظنّ أهل بيت الشاميّ أنّه قد فارق الحياة، ذهب غلامه لإعلام الإمام عليه السلام بالأمر وبوصيّة الشاميّ، فذهب الإمام الباقر عليه السلام إلى منزل الرجل، وداواه ودعا له، فما لبث أن عوفي.

 

ثمّ أَتَى الشاميّ أَبَا جَعْفَرٍعليه السلام فَقَالَ: أَخْلِنِي، فَأَخْلَاهُ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ اللَّه عَلَى خَلْقِهِ، وَبَابُهُ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، فَمَنْ أَتَى مِنْ غَيْرِكَ خَابَ وَخَسِرَ وَضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً... فَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام[1].

 

علم الإمام الباقر عليه السلام

رُوي عن جابر الأنصاريّ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال له: "يُوشِكُ أَنْ تَبْقَى حَتَّى تَلْقَى وَلَداً مِنَ الْحُسَيْنِ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ، يَبْقُرُ عِلْمَ الدِّينِ بَقْراً، فَإِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ"[2]. ويمثّل هذا الحديث وأحاديث أخرى شهادة من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وبشارة حول علم الإمام الباقر عليه السلام ودوره الأبرز في هذه الأمّة.

 

فما للمرء أن يقول حول علم إمامٍ شهد له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الفضيلة! ولو أردنا أن نتحدّث عن علم الإمام الباقر وما تركه عليه السلام من تراث على هذا الصعيد، لطال بنا المقام، واحتجنا إلى المجلّدات، لذا سنكتفي في مقامنا المختصر هذا ببيان بعض الجوانب العلميّة التي أشاعها وأذاعها وبيّنها إمامنا محمّد الباقر عليه السلام، فكانت سبب إنقاذ الأمّة من جهلها بدينها وفقهها.

 

فقد اعتنى الإمام الباقر عليه السلام بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وصيانةً له عن أيدي العابثين، فكانت محاضراته التفسيريّة تشكّل حقلاً خصباً لنشاطه المعرفيّ وجهاده العلميّ، وقد أخذ عنه علماء التفسير - على اختلاف آرائهم وانتماءاتهم - الشيء الكثير[3].

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 410 - 411.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 124.

[3] الشيخ القرشي، حياة الإمام الباقرعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 174.

 

172


148

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

وقد ذكر محمّد بن إسحاق النديم في كتابه "الفهرست" عند عرضه للكتب المؤلّفة في تفسير القرآن، أنّ الإمام الباقرعليه السلام قد كان له كتابٌ في التفسير[1].

 

كذلك، فقد حاز الحديث النبويّ وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اهتمام الإمام الباقر عليه السلام، فعمل على نشر سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّةعليهم السلام وأحاديثهم، حتّى روى عنه جابر بن يزيد الجعفيّ سبعين ألف حديث[2]. ولم يكتفِ الإمام الباقر عليه السلام بالنقل والرواية، بل دعا إلى الاهتمام بفهم الحديث والوقوف على مضمونه ومعطياته، حتّى جعل المقياس في فضل الراوي هو فهم الحديث ودرايته بمعانيه وأسراره، فكان عليه السلام يقول: "اعْرِفْ مَنَازِلَ الشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ، وَبِالدِّرَايَاتِ لِلرِّوَايَاتِ يَعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَان‏"[3].

 

كما بيّن الإمام أبو جعفرعليه السلام في كثير من كلماته المسائل الكلاميّة، وسُئل عن العديد من المسائل المعقّدة في هذا العلم، وأجاب عنها، ولا سيّما أنّ عصر الإمام الباقر عليه السلام كان عصر نشوء مختلف التيّارات الفكريّة المنحرفة بشكل جليّ، بالتوازي مع موجة الفتوحات الإسلاميّة وغزو الأفكار المنحرفة والثقافات المختلفة العالم الإسلاميّ.

 

هذا كلّه مضافاً إلى ما تركه الإمام الباقر عليه السلام من تراثٍ فقهيّ بيَّنَ فيه الكثير من الأحكام الفقهيّة، ففقه أهل البيت عليهم السلام، كما هو معلوم، قد أُخذ معظمه من الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، وقد حفلت موسوعات الفقه الإماميّ ككتابَي الحدائق والجواهر، وشروحات العروة الوثقى بالروايات التي أُثرت عنهما، وإلى تلك الأحاديث يرجع الفقهاء في استنباطهم للأحكام الشرعيّة، أمّا الموسوعات الحديثيّة كوسائل الشيعة، والتهذيب، ومَن لا يحضره الفقيه، والكافي، وغيرها، فأغلب ما فيها من الأحاديث قد أُخذ عنهما  عليهما السلام ، وهي من أروع وأثرى ما قُنّن في عالم التشريع.


 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص 124.

[2] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج30، ص 329.

[3] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، معاني الأخبار، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1403هـ، ط1، ص 1.

 

173


149

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

كما أسّس الإمام الباقر عليه السلام لعلم الأصول، وتابع الإمامُ الصادقعليه السلام في ذلك من بعده، فخطّا بذلك الطريق لأصحابهما وللفقهاء من بعدهما، وأسَّسا لكيفيّة الاستنباط. يقول السيّد حسن الصدر: "إنّ أوّل من فتح بابه - أي باب علم الأصول - وفتق مسائله هو باقر العلوم الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام وبعده ابنه أبو عبد اللَّه الصادق عليه السلام، وقد أمليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعدَه ومسائلَه..."[1].

 

أين وصل مسار الإمامة في عهد الإمام الباقر عليه السلام؟

منذ رحيل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين استشهاد الإمام العسكريّ عليه السلام وبَدء الغيبة الصغرى للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، مرّت الإمامة بمسار ذي مراحل مختلفة، كانت تتغيّر وَفق الظروف والمقتضيات والحوادث التي تحصل في عصر كلّ إمام، وكان لكلّ إمام دور معين وَفق مقتضيات عصره، يقوم به ويحقّق الإنجازات التي يبني عليها الإمام اللّاحق، ويتابع السير والعمل في مسارٍ محدّد الأهداف، كما مرّ معنا في الدرس الأول من هذا الكتاب.

 

ولكن، قبل الحديث عن المسار الذي سلكته الإمامة في الأمّة الإسلاميّة، والمرحلة التي وصلت إليها في عهد الإمام الباقر عليه السلام، من الجيد التوقّف قليلاً لتبيان تلك الإمامة التي نتحدّث عنها.

 

فماذا تعني الإمامة في الإسلام؟ يجيب الإمام الخامنئيّ دام ظله عن هذا السؤال، فيقول: "الإمامة هي تلك القمّة للمعنى المنشود من إدارة المجتمع، قبال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة من مكامن الضعف والشهوة والحميّة في الإنسان ومطامعه. والإسلام يطرح أمام البشريّة نهج الإمامة ووصفتها، أي ذلك الإنسان الطافح قلبه بفيض الهداية الإلهيّة، العارف بعلوم الدين، المتميّز بفهمه - أي الّذي يجيد تشخيص الطريق الصحيح - ذو القوّة في عمله ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾، ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشخصيّة،

 


[1] السيد حسن الصدر، الشيعة وفنون الإسلام، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص 225 - 227.

 

174


150

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

في حين أنّ أراوح الناس وحياتهم وسعادتهم تمثّل كلّ ما لديه"[1]. إذاً، الإمامة هي طريقة ومنهج في الحكم وإدارة أمور المجتمع من قِبل شخصٍ محدّد، لا أيٍّ كان، ولكن أيّ إدارة تلك المنوطة بالإمام؟ أهي السياسيّة فحسب؟ أم هي الاجتماعيّة أم أكثر من ذلك؟

 

اختلف المسلمون حول مفهوم الإمامة في القرن الأوّل الهجريّ، وقد اتّخذ ذاك الاختلاف منحًى فكريّاً في القرن الثاني الهجريّ، فالإمامة في العُرف العامّ للمسلمين لم تكن هي نفسها الإمامة في الفكر الشيعيّ الذي أنشأه أئمّتناعليهم السلام، وعملوا على تطويره وتنميته لدى الخواصّ. ويبين الإمام الخامنئيّ هذه المسألة، فيقول: "إنّ الإمامة في عرف مسلمي القرنَين الأوّل والثاني كانت تعني القيادة السياسيّة، وفي العرف الخاصّ بأتباع أهل البيت، تعني مضافاً إلى القيادة السياسيّة، القيادة الفكريّة والأخلاقيّة أيضاً، فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتّعاً بخصائص هي، مضافاً إلى مقدرته على إدارة الأمور الاجتماعيّة، مقدرته على التوجيه والإرشاد والتعليم في الحقل الفكريّ والدينيّ، والتزكية الأخلاقيّة... ومن هنا، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إماماً أيضاً، لأنّه كان القائد الفكريّ والسياسيّ للمجتمع الّذي أقام بنفسه دعائمه"[2]. وتنبغي الإشارة إلى أنّ هذه الوظائف الثلاث في الحقيقة هي متداخلة فيما بينها، بل لا يمكن التفكيك بينها وَفقاً للمشروع الإسلاميّ الحضاريّ القاضي ببناء الإنسان بأبعاده كلّها، وتحقيق تكاملها على الأصعدة كافةً تحت مظلّة الإمامة.

 

ويبيّن الإمام الرضا عليه السلام عظم الإمامة وخطورتها ومكانتها في الإسلام الحقيقيّ، فيقول: "إِنَّ الْإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْثُ الْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ اللَّه، وَخِلَافَةُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وَمَقَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، وَمِيرَاثُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عليهما السلام، إِنَّ الْإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلَاحُ الدُّنْيَا، وَعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْإِمَامَةَ أُسُّ الإسلام

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 77 - 78.

[2] المصدر نفسه، ص 78 - 79.

 

175


151

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

النَّامِي، وَفَرْعُهُ السَّامِي، وبِالْإِمَامِ تَمَامُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَتَوْفِيرُ الْفَيْ‏ءِ وَالصَّدَقَات‏"[1].

 

ثمّ إنّ تلك الإمامة قد مرّت بمراحل أربعة في حركتها وَفق رؤية الإمام الخامنئيّ دام ظله، نضجت خلالها فكريّاً وعمليّاً عند الشيعة خصوصاً، نلخّصها بما يأتي:

- المرحلة الأولى: هي مرحلة السكوت، أو مرحلة إرشاد الحكّام والسلطات.

ويبيّن الإمام الخامنئيّ خصائص هذه المرحلة، فيقول: "تميّزت هذه المرحلة بأنّ المجتمع الإسلاميّ الحديث الولادة والفتيّ كان محفوفاً بأعداءٍ مقتدرين تربّصوا بالإسلام من الخارج، وبوجود عناصر من جماعات حديثة العهد بالإسلام، لا تتحمّل أن ترى تشتّتاً في المجتمع الإسلاميّ. وكلّ ثغرة في جسد الأمّة كانت تشكّل تهديداً لأساس المجتمع الإسلاميّ ووجوده. ومن جانب آخر، لم يكن منحنى انحراف الواقع عن الحقيقة كبيراً بحيث لم يعد قابلاً للتحمّل بالنسبة إلى شخص مثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الّذي هو أحرص الناس على سلامة الرسالة وسلامة المجتمع الإسلاميّ وأكثرهم التزاماً بها... لقد استوعبت هذه المرحلة الّتي امتدت لـ 25 سنة حياة الإمام عليّ عليه السلام منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - عام 11 للَّهجرة - حتّى تولّيه الخلافة - سنة 35 للَّهجرة -"[2].

 

وهي تلك المرحلة التي شهدت إرشاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام السلطة الحاكمة، وتقديم الإرشادات لها، وإقالة عثراتها، بحيث كان تدخّله أساسيّاً في عدم وقوع السلطات المتعاقبة في المهالك.

 

- المرحلة الثانية: وهي مرحلة تسلّم الحكم ووصول الإمام إلى السلطة.

 

يتحدّث الإمام الخامنئيّ دام ظله - أيضاً - عن هذه المرحلة، فيقول: "وهذه استغرقت أربعة أعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وبضعة أشهر من خلافة ولده الحسن عليه السلام. وعلى الرغم من قصر هذه المرحلة، وما اكتنفته من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب لا تُحصى، ولا تنفكّ عادة عن كلّ حكومة ثوريّة، إلّا أنّها سجّلت

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 200.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 85 - 86.

 

176


152

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الإسلاميّة، بما قدّمته من طريقة إنسانيّة في التعامل، ومن عدل مطلق والتزام دقيق بأحكام الإسلام بأبعاده المختلفة في إدارة المجتمع الإسلاميّ... هذه المرحلة من تاريخ الإمامة كانت النموذج الّذي دعا أئمّة أهل البيت عليهم السلام، خلال القرنين التاليين، إلى تطبيقه في الحياة السياسيّة والاجتماعية، وسعَوا على طريقه. وكان الشيعة يذكرون مثل هذه الذكرى العظيمة، ويتحسّرون عليها، ويندّدون بالأنظمة الّتي تلتها عند مقارنتهم بها. في الوقت نفسه كانت درساً وتجربةً ملهمة يمكن أن تدلّ على وضع أيّ حكومة ثوريّة وإسلاميّة صرفة وأحوالها داخل مجتمعٍ وجماعةٍ لم تتربَّ أو انجرّت نحو الانحراف"[1].

 

- المرحلة الثالثة: هي الّتي استوعبت السنوات العشرين بين صلح الإمام الحسن عليه السلام سنة41 هـ، وشهادة الإمام الحسين عليه السلام سنة 61 هـ.

 

يضيف الإمام الخامنئيّ فيقول: "بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام بدأ نوع من العمل الشبه السرّيّ للشيعة، كان هدفه إعادة القيادة الإسلاميّة إلى عترة النبيّ في الفرصة المناسبة. وهذه الفرصة، ووفق الاستنتاج الطبيعيّ، لم تكن بعيدة المنال، وكان تحقّقها مأمولاً بعد انتهاء حياة معاوية الشرّيرة، لهذا، يمكن تسمية المرحلة الثالثة "مرحلة السعي البنّاء القصير المدى لإيجاد الحكومة والنظام الإسلاميَّين"[2].

 

- المرحلة الرابعة: وهي مرحلة متابعة ذلك النهج. العمل على إعادة القيادة إلى أهل البيت عليهم السلام بشكل سرّيّ - في برنامج بعيد المدى.

 

"ففي زمنٍ قارب القرنين، وشهد انتصاراتٍ وهزائم في مراحل مختلفة، وتلازم مع الانتصار القاطع في مجال العمل الأيديولوجيّ، وامتزج بمئات التكتيكات المتناسبة مع الزمان، والمزيّنة بآلاف مظاهر الإخلاص والتضحيّة وعظمة الإنسان الّذي يريده الإسلام"[3]. ومع كون مرحلة الإمام السجّاد عليه السلام هي مرحلة برزخيّة بين المرحلة الثالثة والرابعة،

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 87.

[2] المصدر نفسه، ص 88.

[3] المصدر نفسه.

 

177


153

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

إلّا أنّه مع الإمام الباقر عليه السلام وصلت الإمامة إلى استقرار المرحلة الرابعة في مسارها. وقد كان لهذه المرحلة خصائصها ومقتضياتها التي فرضت جهاداً مختلفاً عن طبيعة الجهاد الذي ساد في المراحل السابقة، فلم يعد بالإمكان التعاون مع السلطة، ومحاولة سدّ ثغراتها، كما كانت الحال مع أمير المؤمنين عليه السلام، ولا قتال وجهاد مسلّح، كما حصل فيما بعد، بل إنّ العمل السرّي، والبناء الفكريّ، وتربية الشيعة وتأهيلهم، والتحضير للمرحلة البعيدة المدى، هي معالم الجهاد المطلوب والمناسب في تلك المرحلة، لذا سنلاحظ، فيما يأتي من دروس، أنّ هذا النهج والذي يمكن التعبير عنه بالتقيّة، هو المنهج المتّبع عموماً من قبل الأئمّة عليهم السلام، ما خلا بعض الحوادث والمواقف من المواجهة مع السلطة، والتي كانت تخدم الأهداف الكبرى للأئمّة عليهم السلام.

 

178


154

الدرس الحادي عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- هو محمّد بن عليّ، خامس الأئمّة الكرام عليهم السلام. ولد عليه السلام في المدينة. أمّه هي فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام. روي أنّهعليه السلام كان حاضراً في كربلاء.

 

- كان الإمام الباقر عليه السلام كثير الصلاة، ولم تكن لتشغله شؤونه المختلفة عن عبادته، كما حاز الشيعة اهتماماً خاصّاً من الإمام الباقر عليه السلام، فكان عليه السلام يخصّصهم في قسم من دعائه.

 

- كان الإمام الباقر عليه السلام يصل إخوانَه ويحثّ على ذلك، وإذا دخلوا عليه لا يخرجون حتّى يطعمهم ويكسوهم ويهب لهم الدراهم، وكان ظاهر الجود والكرم مع توسّط حاله.

 

- اعتنى الإمام الباقر عليه السلام بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً وتفسيراً، واهتم كثيراً بنشر الأحاديث وسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، وكان يشجّع على دراية الحديث وفهمه، لا روايته فقط.

 

- ترك الإمام الباقر عليه السلام تراثاً فقهيّاً مهمّاً يشكّل مرجع العديد من الأحكام، كما أسّس لعلم الأصول الذي دوّنه العلماء، وبحثوا فيه فيما بعد.

 

- الإمامة في الفكر الشيعيّ هي طريقة ومنهج في الحكم وإدارة أمور المجتمع من قِبل شخصٍ إلهيّ محدّد المواصفات يتولّى القيادة السياسيّة والفكريّة والأخلاقيّة للمجتمع.

 

- مرّت الإمامة منذ رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأربع مراحل مختلفة اقتضت كلّ منها جهاداً خاصّاً من قبل الأئمّة عليهم السلام، فاختلفت أدوار الأئمّة عليهم السلام فيما بينهم، ويبقى الهدف واحداً:

1- هي مرحلة السكوت، أو مرحلة التعاون مع الحكّام والسلطات.

 

2- وهي مرحلة تسلّم الحكم ووصول الإمام إلى السلطة.

 

3- مرحلة السعي البنّاء القصير المدى لإيجاد الحكومة والنظام الإسلاميّ.

 

4- العمل على إعادة القيادة إلى أهل البيت عليهم السلام بشكل سرّيّ، وفي برنامج بعيد المدى.

 

179


155

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

الدرس الثاني عشر

الإمام محمّد الباقر عليه السلام -2-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتبيّن ملامح عصر الإمام الباقر عليه السلام.

 

- يتعــرّف إلى مختــلف محطّــات حيـــاة الإمام الباقر عليه السلام.

 

- يبيّن دور الإمام الباقرعليه السلام وأهمّ إنجازاته في المجتمع الإسلاميّ.

 

181


156

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

ملامح عصر الإمام الباقر عليه السلام

عاصر الإمام الباقرعليه السلام فترة حكم بني أميّة بمرحلتَي بني سفيان وبني مروان، وبعد استشهاد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام بالسمّ الّذي دسّه إليه الحاكم الأمويّ الوليد بن عبد الملك، حاول الوليد أن يمتصّ النقمة الشعبيّة التي خلّفتها السياسة الإرهابيّة التي انتهجها الأثيم الحجّاج بن يوسف وبعض الولاة الآخرين[1]. هذا، وقد تصدّعت الجبهة الداخليّة للبيت المروانيّ الأمويّ بسبب التنازع على السلطة[2]، ثمّ استولى سليمان على الحكم سنة 196هـ، فانشغل بمتابعة ولاة الوليد وعزلهم عن مناصبهم، كما حاول إصلاح بعض الأوضاع المتردّية تقرّباً إلى الناس[3]. وكانت الأخطار الخارجيّة والداخليّة تحيط بالدولة الإسلاميّة والحكم الأمويّ، فانشغلت السلطة عن ملاحقة الإمام الباقرعليه السلام، فتصدّى عليه السلام للإصلاح، بعيداً عن المواجهة السياسيّة العلنيّة للحكم القائم. ولم تظهر من قِبَل الحاكم وواليه على المدينة معارضة صريحة للإمام عليه السلام.

 

من مظاهر الانحراف في عصر الإمام الباقر عليه السلام[4]

1- الانحراف الفكريّ والعقائديّ:

في الفترة الواقعة بين سنة 95هـ وسنة 124هـ، تعدّدت التيّارات الفكريّة والعقائديّة

 


[1] ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلميّة، بيروت، تحقيق محمّد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، 1412ه، ط1، ج7، ص 3.

[2] المصدر نفسه، ج7، ص 12.

[3] المصدر نفسه، ص 20.

[4] السيد منذر، أعلام الهداية (الإمام الباقر)، مصدر سابق، ج6، ص 97 - 104.

 

183


157

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

المنحرفة، وأصبحت ذات أتباع وأنصار، وتحوّلت إلى كيانات ذات إفرازات سياسيّة خالف الكثير منها الأسس الواضحة في العقيدة الإسلاميّة، فانتشرت أفكار الجبر والتفويض والإرجاء والتجسيم وتشبيه اللَّه تعالى بخلقه، وتعدّدت تيّارات الغلوّ، وراجت الزندقة، وتزوير الحديث، وازداد الاهتمام بالصحابة كبديل عن أهل البيت عليهم السلام. ولم تلقَ هذه الانحرافات أيّ اهتمام من السلطة، بل إنّها كانت تصبّ في مصلحتها، وتلهي الناس عن أمور الحكم والثورة. وقد تأثّر المسلمون بالثقافات الوافدة إليهم جرّاء الفتوحات، كالثقافة اليونانيّة والسريانيّة والعبريّة، فراجت وكثرت الأفكار العقديّة المخالفة لأسس الإسلام، ما استدعى مواجهة فكريّة من قبل الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، كما سيأتي.

 

2- الانحراف السياسيّ:

حوّل الأمويّون الخلافة إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء، واستبدّوا بالأمر، فلا شورى ولا استشارة إلّا للمنحرفين والفسّاق. أمّا بالنسبة إلى حكّامهم والسياسة الّتي اتّبعوها، فكانت قائمةً على الظلم والقهر، ما خلا بعض الإصلاحات التي قام بها بعض حكّام بني مروان، فحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم اتّخذ سياسة جديدة تخالف من سبقه، فمنح الحرّيّة للمعارضين، وألغى سنّة سبّ أمير المؤمنين عليه السلام من على منابر المسلمين، وردّ فدكاً إلى أهل البيت عليهم السلام، وأمر بردّ المظالم[1]، ولكنّ حكمه لم يدم طويلاً، ثمّ عاد الوضع إلى ما كان عليه سابقاً. وكَثُرت في هذه المرحلة اختلافات البيت الأمويّ تنافساً على الحكم، كما كثرت الفتن الداخليّة، وكانت الأمّة الإسلاميّة محاطة بمخاطر شتّى.

 

وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الإرهاب والتنكيل بأهل البيت عليهم السلام وأتباعهم وسائر المعارضين، حتّى إنّ هشام أقدم على سجن الإمام الباقر عليه السلام، ثمّ أخرجه لتأثّر

 


[1] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم محمد الشيباني، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1386ه - 1966م، لا.ط، ج5، ص 62.

 

184


158

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

السجّانين به[1]، وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقرعليه السلام، إلّا أنّ الإمام عليه السلام استطاع أن ينقذهم من القتل، حيث استفادوا من أسلوب التقيّة الّذي أرشدهم إليه الإمام عليه السلام، كما سيأتي. وقد التجأ الكثيرون للعمل السرّيّ للإطاحة بالحكم الأمويّ، فكان العبّاسيّون يعدّون العدّة، ويبثّون دعاتهم في الأقاليم البعيدة عن مراكز السلطة، ولا سيّما في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام السجّاد يُعدّ العدّة للثورة على الأمويّين في وقتها المناسب.

 

3- الانحراف الاجتماعيّ والأخلاقيّ:

حوّل الأمويّون الأنظار إلى الغزوات وفتح البلاد طلباً للغنائم وإبعاداً للمعارضين. وأدّى التوسّع في غزو البلاد المجاورة إلى خلق أنواع من الاضطراب في المجتمع الإسلاميّ، كتشتيت الأُسَر بغياب المعيل أو فقدانه، وكثُر العبيد المأسورون (الجواري والغلمان)، ممّا أدّى إلى التشجيع على اقتناء الجواري والمغنّيات. وانتقل هذا الانحراف من البلاط إلى الأمّة، وانشغل الحكّام باللَّهو، وانساقوا وراء الشهوات دون حدود. ومن هنا تطوّرت ظاهرة الغزل والتشبيب بالنساء في العهد الأمويّ، كما يُفصح عن ذلك تأريخ الأدب العربيّ[2].

 

دور الإمام الباقر عليه السلام في مواجهة الانحرافات، وإنجازاته:

نتيجةً للعوامل التي تحدّثنا عنها فيما سبق وغيرها، ولا سيّما الآثار المرّة التي تركتها واقعة الطفّ، والتي كانت كفيلة بإفناء حكم بني سفيان، والنزاعات الداخليّة التي تفشّت في البيت المروانيّ، والأخطار المحدقة به، فإنّ عصرَي الإمامَين الباقر والصادق عليهما السلام عصرا الانفراج والنشاط الفكريّ لمدرسة أهل البيتعليهم السلام، وبالخصوص عصر الإمام الصادقعليه السلام، هذا، إذا ما قيس إلى العصور السابقة واللّاحقة.


 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 203.

[2] أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني، دار إحياء التراث العربي، لا.م، لا.ت، لا.ط ج6، ص 293.

 

185


159

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

وقد استفاد الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام من هذه الفرصة الثمينة. وفيما يخصّ الإمام الباقرعليه السلام فيمكن لنا الحديث عن جبهتَي عمل طالت تحرّكاته في تلك الفترة إلى حين شهادته عليه السلام، هما جبهة العمل العامّ متمثّلاً بمحور الأمّة الإسلاميّة عموماً، وجبهة العمل الخاصّ متمثّلاً بمحور أتباع أهل البيت عليهم السلام.

 

المحور الأوّل: النشاط العامّ‏

تركّز عمل الإمام الباقرعليه السلام منذ تسلّمه الإمامة سنة 95ه على المواجهة الفكريّة والثقافيّة، مستفيداً من نشاط أبيهعليه السلام الذي استمرّ نحو 35 سنة. فالأمّة في ذاك الزمن الذي صار فيه الباقر عليه السلام إماماً كان اعوجاجها الفكريّ قد بلغ مبلغاً كبيراً، وأمست الذهنيّة العامّة للناس وفهمهم للإسلام في خدمة الحاكم والسلطة، فلا يفقهون من الإسلام سوى ما يقوله لهم علماء البلاط. فما كانت وظيفة الإمام عليه السلام؟

 

"هاهنا يريد الأئمّة عليهم السلام أن يقيموا الحكومة الإسلاميّة الصحيحة، ويريدون أن يأتوا بالنظام العَلَويّ، فماذا يفعلون؟ إنّ أوّل خطوة هي تبديل الذهنيّة  العامّة، فعليهم أن يبدّلوا تلك الثقافة، الّتي يُصطلح عليها بأنّها إسلاميّة ضدّ الإسلام، والّتي كانت قد رسخت في أذهان الناس، إلى ثقافةٍ صحيحةٍ، وإلى القرآن الحقيقيّ والتوحيد الواقعيّ، وهذه هي المواجهة الثقافيّة... المواجهة الثقافيّة تعني السعي لتبديل الذهنيّة العامّة والثقافة الحاكمة على عقول الناس، لكي يتمّ تعبيد الطريق باتّجاه الحكومة الإلهيّة، وسدّ السبيل على حكومة الطاغوت والشيطان. وقد بدأ الإمام الباقرعليه السلام هذا العمل... كان يبيّن القرآن للناس، لهذا، كان كلّ من يحتكّ بالإمام الباقر نفسه (عليه الصلاة والسلام)، ولم يكن تابعاً ولا خاضعاً ولا مشاركاً لمعلفهم، يبدّل رأيه بالنسبة إلى وضع حاكميّة الزمان، لهذا، نجد أنّ الكثير من الناس... كانوا يُقبلون على مدرسة أهل البيت ومذهب الإمامة... كان هذا هو العمل الأوّل للإمام الباقر عليه السلام، الّذي يُعدّ عملاً مهمّاً جداً وأساسيّاً، وهو أهمّ ما قام به عليه السلام"[1].

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 315 - 316.

 

186


160

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

هذا، مضافاً إلى أنّ المجتمع الإسلاميّ صار غريباً عن الإسلام حتّى فقهيّاً، فقد أهملت الحكومات الشؤون الدينيّة إهمالاً تامّاً، وكان المجتمع غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسيّة، فلم تعد الناس تفقه من دينها سوى القليل! وقد روي أنّ ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة، فقال: "أخرجوا صدقة صومكم"، وكان الناس لم يعلموا بذلك، فقال: "من هاهنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلّموهم، فإنّهم لا يعلمون"[1]، وعليه، كانت الخدمات العلميّة والفقهيّة التي قدّمها الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام من أعظم الخدمات للعالم الإسلاميّ.

 

وفيما يلي سنسلّط الضوء على بعض الإصلاحات التي قام بها الإمام الباقر عليه السلام في مختلف المجالات:

1- الإصلاح الفكريّ والعقائديّ‏:

بعد انفتاح الأمّة الإسلاميّة على مختلف الحضارات، ودخول الكثير من الأفكار والفلسفات غير الصحيحة إليها، مضافاً إلى العامل السياسيّ الذي أسهم في ترويج الأفكار والتيّارات المنحرفة خدمةً لمصالحه في إلهاء الأمّة بالخلافات الفكريّة، شهد عصر الإمام الباقرعليه السلام نشوء التيّارات السياسيّة والفكريّة المنحرفة، الأمر الذي تطلّب إصلاحاً فكريّاً وعقائديّاً يتراوح بين ردّ الشبهات والأفكار المنحرفة من جهة، وبيان البديل الصالح والفكر السليم من جهةٍ أخرى.

 

فكان الإمام الباقر عليه السلام يواجه تلك الحركات مواجهة علنيّة كمواجهته لحركة الغلاة الّتي نشطت بقيادة المغيرة بن سعيد العجليّ، وحركة المرجئة[2] الذين قال عليه السلام فيهم: "اللَّهمَ الْعَنِ الْمُرْجِئَةَ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاؤُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة"[3]، وحركة المفوّضة[4] والمجبّرة[5]، وكان عليه السلام يحذّر منهما بقوله: "إِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ بِالتَّفْوِيضِ، فَإِنَّ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يُفَوِّضِ

 


[1] ابن حزم، علي بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، نشر زكريا علي يوسف، لا.ت، لا.ط، ج2، ص 242.

[2] المرجئة: وهم القائلون: "قدّموا الإيمان وأخّروا العمل"، وأشاروا إلى الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللّفظيّة والمعرفة القلبيّة، وأنّ عصاة المؤمنين لا يعذّبون، واقتحام الكبائر لا يضرّ.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 276.

[4] المفوّضة: هم القائلون بتفويض الأمور إلى العباد، وإنّه ليس للَّه سبحانه أيّ صُنع في أفعالهم.

[5] المجبّرة: وهم من يعتقدون أنّ اللَّه تعالى أجبر الإنسان على أفعاله، ولا خيار له في ذلك.

 

187


161

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

الْأَمْرَ إِلَى خَلْقِهِ وَهْناً مِنْهُ ‏وَضَعْفاً، وَلَا أَجْبَرَهُمْ عَلَى مَعَاصِيهِ ظُلْماً"[1]. وجرت بينه عليه السلام وبين علماء الأديان والمذاهب المختلفة مناظرات متعدّدة، فكان عليه السلام يعمل على تبيان انحراف تلك التيّارات، وفي الوقت عينه يقدّم البديل التوحيديّ الصحيح من خلال محاضراته ودروسه[2].

 

كذلك، كان الإمام الباقر عليه السلام يبيّن منهجه الفقهيّ، ويحاسب الفقهاء المخالفين من المذاهب الأخرى، ففي حادثة أنّ قتادة فقيه أهل البصرة قد حضر مجلس الإمام الباقرعليه السلام، فقال له الإمام عليه السلام: "أَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنَّ اللَّه - جَلَّ وَعَزَّ - خَلَقَ خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلَهُمْ حُجَجاً عَلَى خَلْقِهِ، فَهُمْ أَوْتَادٌ فِي أَرْضِهِ، قُوَّامٌ بِأَمْرِهِ... فَسَكَتَ قَتَادَةُ طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّه، وَاللَّه لَقَدْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْفُقَهَاءِ وَقُدَّامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا اضْطَرَبَ قَلْبِي قُدَّامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اضْطَرَبَ قُدَّامَكَ، قَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: وَيْحَكَ، أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؟ أَنْتَ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ"[3].

 

2- المرجعيّة العلميّة للإمام الباقر عليه السلام:

قال ابن حجر في ترجمة الإمام محمّد الباقر عليه السلام: "سُمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض، أي شقّها، وإثارة مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام، والحكم واللّطائف مالا يخفى إلّا على من طمس البصيرة أو فاسد الطويّة والسريرة، ومن ثمّ قيل هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه"[4].

 

ومن سَعة علومه وعمقه أنّه كان يتحسّر لعدم وجدانه حملة لذلك العلم الإلهيّ، فكان يقول: "لَوْ وَجَدْتُ لِعِلْمِيَ الَّذِي آتَانِيَ اللَّه - عزّ وجلّ - حَمَلَةً، لَنَشَرْتُ التَّوْحِيدَ وَالإسلام وَالْإِيمَانَ

 

 


[1] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 327 - 328.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 326.

[3] المصدر نفسه، ج6، ص 256.

[4] ابن حجر الهيثمي، أحمد بن محمّد، الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، تحقيق: عبد الرحمان التركي وكامل الخرّاط، دار الوطن، الرياض، ج1، ص 585 - 586.

 

188


162

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

وَالدِّينَ وَالشَّرَائِعَ مِنَ الصَّمَدِ، وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ جَدِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَعليه السلام حَمَلَةً لِعِلْمِهِ حَتَّى كَانَ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ وَيَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَإِنَّ بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِنِّي عِلْماً جَمّاً، هَاهْ هَاهْ أَلَا لَا أَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهُ، أَلَا وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه الْحُجَّةُ الْبَالِغَة"[1].

 

وكان عليه السلام مقصد العلماء من البلاد الإسلاميّة كلّها، وما زار أحدٌ المدينة إلّا عرّج على بيت محمّد الباقر عليه السلام يأخذ منه، وكان يقصده من أئمّة الفقه كثيرون، فقد حاز الإمام عليه السلام شهرةً علميّة في زمانه، وكان مجلسه يغصُّ دوماً بالوافدين من مختلف أرجاء وأصقاع البلاد الإسلاميّة، وكانت مكانته العلميّة تستهوي الكثيرين للاستعانة به لحلّ المعضلات العلميّة والفقهيّة التي تواجههم.

 

وقد فتن بشخصيّته في ذلك الوقت أهل العراق، وكان الوافدون عليه عليه السلام يبدون خضوعاً وأملاً كبيرين بشخصيّته العلميّة، بحيث كان عبد اللَّه بن عطاء المكّي يقول: "ما رأيت العلماء عند أحدٍّ قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر، ولقد رأيت الحكم بن عُيينة، مع جلالته في القوم، بين يديه كأنّه صبيٌّ بين يدي معلّمه"[2]. وأضحى الإمام الباقرعليه السلام يدخل مسجد النبيّ في المدينة فيلتفّ حوله جمعٌ غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلاميّ، يسألونه عن القضايا الفقهيّة، ويفد عليه أمثال طاووس اليمانيّ، وقتادة بن دعامة، وأبو حنيفة، وآخرون من المشهورين بالمعارف الدينيّة. وبالطبع، ممّن يُعتبرون خارج التوجّه الإماميّ والشيعيّ[3].

 

3- الإصلاح والمواجهة الاقتصاديّة والسياسيّة:‏

لم يكن الإمام الباقر عليه السلام على رأس سلطة لكي يستطيع إصلاح الأوضاع الاقتصاديّة إصلاحاً عمليّاً جذريّاً، لذا اقتصر عليه السلام على نشر المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة المرتبطة بالحياة الاقتصاديّة، والنظام الاقتصاديّ الإسلاميّ.

 

كان عليه السلام يؤكّد على حرمة بعض

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 3، ص 225.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 160.

[3] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 311 - 312.

 

189


163

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

التصرّفات الماليّة، كالتطفيف في المكيال، ويشجّع على استصلاح المال، فيقول عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من المروءة استصلاح المال"[1].

 

وقد نقل التاريخ لنا حادثة مهمّة جدّاً بين الإمام الباقرعليه السلام وعبد الملك بن مروان، عندما جرت حادثة بين الأخير وملك الروم، فبعث ملك الروم بكتاب إلى عبد الملك وكان فيه: ".. لآمرنّ بنقش الدنانير والدراهم، فإنّك تعلم أنّه لا يُنقش شيء منها إلّا ما ينقش في بلادي - ولم تكن الدراهم والدنانير نُقشت في الإسلام - فيُنقش عليها شتم نبيّك". فلمّا قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، حيث كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم. فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به. فقال له أحدهم: عليك بالباقر من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: صدقت، ولكنّه أرتج عليّ الرأي فيه. فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إليّ محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام مكرماً.. ثمّ أرشَدَهُ عليه السلام إلى طريقة صنع النقد، وأمسى للمسلمين نقدهم الخاصّ محرّراً، غير تابع لنقد الروم[2].

 

أمّا في الميدان السياسيّ، فقد عمل الإمام الباقرعليه السلام بقدر المستطاع على نشر الأفكار والمفاهيم الصحيحة، والتدليل على حقّ أهل البيتعليهم السلام دون الوصول إلى حالة صدام مع الحكم القائم، وعمل على توسعة قاعدته الشعبيّة في أجواء الانفراج المتقطّع، فكان عليه السلام يدعو إلى تطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّهما أساس عمار الأرض، وبهما تقام الفرائض[3]، ووجّه عليه السلام الأنظار إلى دور أهل البيت عليهم السلام في قيادة الأمّة نحو الرشاد بشكل واضح وصريح، فكان يقول: "نحن ولاة أمر اللَّه، وخزائن علم اللَّه، وورثة وحي اللَّه، وحملة كتاب اللَّه، وطاعتنا فريضة، وحبّنا

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج11، ص 436.

[2] المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص 85.

[3] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج6، ص18.

 

190


164

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

إيمان، وبغضنا كفر، محبّنا في الجنّة، ومبغضنا في النار"[1]. لكنّ الإمام الباقرعليه السلام لم يكن، وفي ظلّ تلك الظروف غير المؤاتية، ليدخل في مواجهة صريحة متأزّمة مع الجهاز الحاكم، فلم يكن يصدر عنه تأييد ولا معارضة واضحة للثورات التي انطلقت في عصره، لكنّه مثلاً يحذّر من خذلان أخيه زيد الذي سيقود ثورة في الآتي من الأيّام، فيقول: "إنّ أخي زيد بن عليّ خارج مقتول وهو على الحقّ، فالويل لمن خذله والويل لمن حاربه، والويل لمن قاتله"[2].

 

مضافاً إلى ما مرّ، ففي أواخر حياة الإمام الباقر عليه السلام جرى بينه وبين هشام بن عبد الملك مواجهة واضحة، فبعد أن تعاظم صيت الإمام الباقر عليه السلام وأمسى قطباً لا يمكن تجاوزه، ولم يعد في مقدور هشام تحمّل وجوده، أرسل إليه بكلّ طغيان وجبروت يستدعيه إلى الشام، فجمع حاشيته وعلماءه بغية التقليل من شأن الإمام عليه السلام، فلمّا صار ببابه قال هشام لأصحابه ومن كان بحضرته من بني أميّة: "إذا رأيتموني قد وبّخت محمّد بن عليّ ثمّ رأيتموني قد سكتّ فليُقبل عليه كلُّ رجل منكم فلْيوبّخه، ثمّ أمر أن يُؤذَن له، فسلّم الإمام عليه السلام وقال بيده: السلام عليكم فعمّهم جميعاً بالسلام - ولم يسلّم على هشام بإمرة المسلمين، ولم يخصّصه بالسلام - ثمّ جلس، فازداد هشام عليه حنقاً.. فأقبل يكلّمه بما لا يسرّه، ويقول فيما يقول له: يا محمّد بن عليّ لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنّه الإمام سفهاً وقلّة علم، فلمّا سكت أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يقول ما يرضي الخليفة حتّى انقضى آخرهم، فلمّا سكت القوم نهض عليه السلام قائماً، ثمّ قال:

"أيّها الناس، أين تذهبون وأين يراد بكم؟ بنا هدى اللَّه أوَّلَكم، وبنا يختم آخرَكم، فإن يكن لكم مُلْكٌ مُعَجَّل فإنَّ لنا مُلكاً مُؤجَّلاً، وليس بعد مُلكِنا مُلكٌ، لأنّا أهلُ العاقبة: يقول اللَّه - عزّ وجلّ -: "والعاقبة للمتّقين". وهنا صرّح الإمام عليه السلام بأنّ المُلك من حقّهم ومآله إليهم في نهاية المطاف لا محالة.

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 223.

[2] الخوارزمي، أبي المؤيد الموفق بن أحمد المكّي، مقتل الحسين عليه السلام تحقيق: الشيخ محمد سماوي، انوار الهدى، مطبعة: مهر، 1418هـ، ط1، ج2، ص 193.

 

191


165

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

فأمر هشام به عليه السلام إلى الحبس، فلمّا صار إلى الحبس تكلّم فلم يبقَ في الحبس رجل إلّا ترشّفه وحنّ إليه، فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال له: "يا أمير المؤمنين، إنّي خائف عليك من أهل الشام أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا، ثمّ أخبره بخبره، فأمر به فحُمل على البريد هو وأصحابه ليُردّوا إلى المدينة..."[1]. ودسّ إليه السمّ إثر رجوعه إلى المدينة، فاستُشهد جرّاء ذلك.

 

المحور الثاني: النشاط الخاص

1- الإعداد الفكريّ والتربويّ للخواص:

عمل الإمام الباقرعليه السلام على الإعداد الفكريّ والتربويّ لخاصّة أتباعه وشيعته، فكان يغدق عليهم من تعاليمه وإرشاداته، ويرفدهم بعلمه، ويحوطهم ببرّه ورأفته. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا الإطار: "إنّ مرحلة حياة الإمام الخامس، الإمام الباقر عليه السلام، هي استمرارٌ منطقيّ لحياة الإمام السجّاد عليه السلام. فها هم الشيعة مرّة أخرى يصبحون جماعةً، ويشعرون بوجودهم وشخصيّتهم. إنّ الدعوة الشيعيّة الّتي توقّفت لسنوات عدّة على أثر حادثة كربلاء والأحداث الدمويّة الّتي تلتها - كواقعة الحرّة وثورة التوّابين - وبسبب بطش الأمويّين، لم تكن تُظهر نفسها إلّا تحت الأستار السميكة، وها هي اليوم في العديد من الأقطار الإسلاميّة، وبخاصّة في العراق والحجاز وخراسان، تتجذّر وتستقطب شرائح كبيرة، وحتّى إنّها في الدوائر المحدودة أضحت رابطةً فكريّة وعمليّة يمكن التعبير عنها بالتشكيلات الحزبيّة"[2].

 

وقد قام الإمام الباقر عليه السلام بنشاط كبير وجهد عظيم لتربية أجيال صالحة وتوعيتهم على حقائق الرسالة، وتمثّلت حصيلة هذه التربية في كوكبة من أصحاب الإمام عليه السلام، وعلى رأسهم: زرارة بن أعين، وأبو بصير الأسديّ، والفضيل بن يسّار، ومحمّد بن مسلم الطائفيّ، وبريد بن معاوية العجليّ...[3].

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 471 - 472.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 311.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 211.

 

192


166

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

وتنوّعت توجّهات الجماعة الصالحة، فمنهم الفقهاء، ومنهم قادة الثورات، ومنهم المصلحون الّذين كانوا يجوبون الأمصار لتعميق منهج أهل البيت عليهم السلام في قلوب الناس. ويذكرهم الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "كان أصحاب أبي، واللَّه، خيراً منكم، كان أصحاب أبي ورقاً لا شوك فيه"[1]. وقد ذكرت كتب التراجم ترجمة أربعمائة واثنين وثمانين شخصاً من تلامذته وأصحابه، منهم العظماء، أمثال: أبان بن تغلب الّذي قال له الإمام عليه السلام: "اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك"[2].

 

وقد كانت هذه الجماعة الصالحة تتحلّى بالعديد من الخصائص المميّزة، والتي ربّاها فيهم الإمام الباقر عليه السلام، وكان يهدف من خلالهم إلى حفظ الشريعة الإسلاميّة من التحريف، والمحافظة على المجتمع الإسلاميّ ونشر الفكر الصحيح، فكانوا يتحلّون بالعقيدة الصحيحة والثقافة الإسلاميّة، وكان أهل البيت عليهم السلام هم مرجعهم في أمورهم، ومنهم يأخذون تكاليفهم، فيحفظون أحاديثهم ويتناقلونها وينشرونها ويدونونها.

 

كذلك، فقد كانوا يتّصفون بدرجةٍ عالية من الكمالات النفسيّة والعمليّة، وهي ميزة حرص الإمام الباقر عليه السلام على إيجادها في أصحابه، كما فعل أباؤه من قبل. وعندما أراد الإمام الباقر عليه السلام أن يبيّن كيفيّة تقييم الشيعيّ لنفسه، قال: "وما كانوا يُعرفون - يا جابر - إلّا بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، وكثرة ذكر اللَّه، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء"[3]. تلك هي الصفات التي ينبغي للشيعيّ أن يتحلّى بها وَفق كلام الإمام الباقر عليه السلام، فليس الشيعيّ من ادّعى المحبّة والولاية الفارغة، وكانت حياته بعيدةً كلّ

 


[1] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، تصحيح وتعليق مير داماد الأسترابادي، تحقيق السيد مهدي الرجائي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لا.م، قم، 1404هـ، لا.ط، ج2، ص 639.

[2] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 326.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 74.

 

193


167

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

البعد عمّا سعى الأئمّة عليهم السلام إلى تربيته وتنميته في أصحابهم على مرّ التاريخ.

 

2- بناء التشكيلات السرّيّة:

لم يقتصر أمر بناء الجماعة الصالحة على الإعداد الفكريّ والتربويّ والأخلاقيّ من قبل الإمام الباقر عليه السلام، فلا بدّ من حفظ هذه الجماعة وضمان استمراريّتها وحياتها، لذا عمل الإمام الباقر عليه السلام على بناء ما اصطلح الإمام الخامنئيّ دام ظله على تسميته بالتشكيلات السرّيّة، فقال: "الأمر الآخر في حياة هذا الإمام، كان عبارة عن التشكّل، فماذا يعني هذا؟ أي أنّ المرء يقوم بنشر تلك المعارف، وذلك التغيير الثقافيّ والمواجهة الثقافيّة داخل المجتمع كبذرٍ ينثرها لإنسان في الأرض هنا وهناك... فذلك المزارع الماهر الخبير والعاقل، مضافاً إلى أنّه يبذر الحبوب، فإنّه يحافظ عليها، فكيف يفعل ذلك؟ من خلال تجهيز أشخاصٍ وبثّهم في أرجاء العالم الإسلاميّ من أجل القضاء على الشبهات الّتي وقع فيها أولئك الّذين تأثّروا بذلك الإعلام والتعاليم.. فيكون ذلك ضمانة كافية لأجل أن ينمو ذلك الحبّ سالماً في أرضٍ مستعدّة وخصبة. وقد كان هذا الأمر من أعمال الإمام الباقر عليه السلام، حيث كان يربّي أشخاصاً ويعدّهم ويخصّهم بالعناية - التلامذة الخواصّ - ثمّ يربطهم ببعضهم، ويبثّهم في أرجاء العالم الإسلاميّ كأقطاب وأركان ووكلاء ونوّاب ليتابعوا ما قام به، ويتحمّلوا أعباء التبليغ والتعليم الّذي قام به. وهذا التنظيم السرّيّ للإمام الباقر عليه السلام، كان قد بدأ قبل عصر زمانه، لكنّه تفاقم وازداد في زمانه"[1].

 

كما كانت إرشاداته عليه السلام السياسيّة لهؤلاء الخواصّ تختلف عن غيرهم، فكان يأمرهم بعدم التعامل والتعاون بأيّ شكل مع الجهاز الحاكم، فيقول: "ولا مدّة قلم، إنّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله"[2]، كما كان يأمرهم بكتمان الأسرار والتقيّة، حتّى إنّه كان يوعز لبعض أصحابه المميّزين بأن يقوموا ببعض الممارسات

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 317 - 318.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 107.

 

194


168

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

لإبعاد الشبهة عنهم، كما حصل مع جابر الجعفيّ الذي أصبح أمام الناس مجنوناً[1]، فكان الإمام الباقر عليه السلام بمثابة العقل المفكّر والمدبّر والمدير لأعضاء الجسم والجوارح المتمثّلة بأصحابه وخواصّه.


 


[1] يقول النعمان بن بشير: "كنت ملازماً لجابر بن يزيد الجعفيّ. فلمّا أن كنّا بالمدينة، دخل عليّ أبو جعفر -الإمام الباقرعليه السلام- فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حيث وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصلّينا الزوال، فلمّا نهض بنا البعير إذا أنا برجل طويل آدم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه، وإذا هو من محمّد بن عليّ (الباقر) إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة. فقال: ففكّ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتّى أتى على آخره، ثمّ أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتّى وافى الكوفة.

يقول النعمان بن بشير: فلمّا وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلمّا أصبحت أتيت جابر الجعفيّ إعظاماً له، فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علّقها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد منصور بن جمهور.. أميراً غير مأمور، وأبياتاً من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتّى دخل الرّحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون: جُنّ جابر بن يزيد. فواللَّه ما مضت الأيّام حتّى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إليّ وإليه أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفيّ، فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفيّ؟ قالوا: أصلحك اللَّه، كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرّحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه، فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب. فقال: الحمد للَّه الّذي عافاني من قتله"؛ العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 46، ص 282 - 283.

 

195


169

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

علّمني إمامي:

1- أن أكون شيعيّاً، يعني أن أتحلّى بمكارم الأخلاق والمثل العليا.

 

2- أن أكون شيعيّاً، يعني أن أكون عالماً بمعالم ديني.

 

3- أن أكون شيعيّاً، يعني أن أحمل همّ هداية الناس وأعلّمهم معالم دينهم قدر المستطاع.

 

4- أن أصل إخواني، وأعمل على ربط الأواصر والتأكيد على اللّحمة بين المؤمنين المنتسبين إلى المدرسة الفكريّة نفسها.

 

5- أن أنفق من مالي على كلّ حال.

 

6- أن لا أكون مرهوناً للذهنيّة العامّة، وأن أبحث عن الحقّ دوماً أينما كان.

 

196


170

الدرس الثاني عشر: الإمام محمّد الباقرعليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- عاصر الإمام الباقر عليه السلام فترة حكم بني أميّة، حيث كانت قد تصدّعت الجبهة الداخليّة للبيت المروانيّ بسبب التنازع على السلطة، فانشغلت السلطة عن ملاحقة الإمام الباقر عليه السلام.

 

- ظلّ حكم الأمويّين قائماً على الظلم والقهر والعدوان، ما خلا بعض الإصلاحات في عصر عمر بن عبد العزيز، حيث ألغى سنّة سبّ أمير المؤمنين عليه السلام من على المنابر وردّ فدكَاً إلى أهل البيت عليهم السلام.

 

- تعدّدت التيّارات الفكريّة المنحرفة، وأصبحت ذات أتباع وأنصار، فتركّز عمل الإمام الباقر عليه السلام على المواجهة الفكريّة والثقافيّة، كما عمل على تبديل الذهنيّة العامّة لدى الناس إلى ثقافةٍ صحيحةٍ وإلى القرآن الحقيقيّ لإيجاد الأرضيّة الذهنيّة المناسبة أو لتأسيس الدولة الإسلاميّة الحقّة.

 

- كان للإمام الباقر عليه السلام مكانةٌ علميّة في العالم الإسلاميّ، لا ينافسه فيها أحد، فرضها على الجميع بعلومه الربّانيّة وفقهه، فكانت مجالسه تعجّ بالعلماء على اختلاف مذاهبهم، حتّى إنّه كان يؤنّب العلماء على توجّهاتهم الفقهيّة وغيرها، وهم أمامه خاضعون.

 

- بعد تعاظم صيت الإمام الباقر عليه السلام، لم تعد السلطة تقوى على تحمّله، فاستدعاه الخليفة إلى الشام لتوهينه، فانقلب المجلس لصالح الإمام عليه السلام، ثمّ أمر بسجنه، فمال مَن في السجن إليه، ممّا اضطرّه إلى إعادته إلى المدينة، ودسّ له السمّ فقتله.

 

- عمل الإمام الباقر عليه السلام على الإعداد الفكريّ والتربويّ لخاصّة أتباعه وشيعته، وقد كانت هذه الجماعة الصالحة تتحلّى بالعديد من الخصائص المميّزة علميّاً وسلوكيّاً.

 

- عمل الإمام الباقر عليه السلام على حفظ الجماعة الخاصّة وضمان استمراريّتها، فكان يربطهم ببعضهم، ويبثّهم في أرجاء العالم الإسلاميّ كأقطاب ووكلاء ليتابعوا ما قام به.

 

197


171

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

الدرس الثالث عشر

الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتـعرّف إلى أهـمّ محطّات حيـــاة الإمام الصادق عليه السلام.

 

- يُعـــدّد بعض الخصــائص الشخصــيّة للإمام الصادق عليه السلام.

 

- يتبيّن الظروف المرافقة لبداية إمامة الإمام الصادق عليه السلام.

 

199


172

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

هو جعفر بن محمّد بن عليّ عليه السلام، سادس الأئمّة الشرعيّين الإلهيّين للشيعة. ولد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يوم الإثنين أو الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأوّل[1] في المدينة المنوّرة سنة 83هـ[2]، وكانت ولادته المباركة في اليوم الذي ولد فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يوم عظيم البركة.

 

أبوه هو الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، وأمّه هي الجليلة المكرّمة فاطمة، المكنّاة بأمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر، التي رُوي في حقّها عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كَانَتْ أُمِّي مِمَّنْ آمَنَتْ وَاتَّقَتْ وَأحْسَنَتْ‏، وَاللَّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِين‏"[3]، وكان يُقال للإمام الصادق عليه السلام ابن المكرّمة[4].

 

لُقّب الإمام جعفر عليه السلام بألقاب عدّة، منها: الصابر، الفاضل، الطاهر، الصادق، وهذا الأخير هو أشهر ألقابه. أمّا كنيته فأبو عبد اللَّه، وأبو إسماعيل، وأبو موسى[5].

 

تسلّم الإمام جعفر الصادق عليه السلام الإمامة بعد شهادة الإمام الباقر عليه السلام بوصيّة منه عليه السلام، حيث رُوي عن الباقر عليه السلام أنّه قال لأصحابه يوماً: "إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا، فهو الامام والخليفة بعدي، وأشار إلى أبي عبد اللَّه"[6]. وروى الإمام الصادق عليه السلام


 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 271.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 472.

[3] المصدر نفسه.

[4] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج20، ص 262.

[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 281.

[6] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج47، ص 15.

 

201


173

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

أنّه عندما حضرت الإمام الباقر عليه السلام الوفاة قال: "ادْعُ لِي شُهُوداً، فَدَعَوْتُ لَهُ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: اكْتُبْ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ يَعْقُوبُ بَنِيهِ: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّه اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏[1]، وَأَوْصَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي بُرْدِهِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَأَنْ يُعَمِّمَهُ بِعِمَامَتِهِ، وَأَنْ يُرَبِّعَ قَبْرَهُ ويَرْفَعَهُ أَرْبَعَ أَصَابِعَ، وَأَنْ يَحُلَّ عَنْهُ أَطْمَارَهُ عِنْدَ دَفْنِهِ، ثُمَّ قَالَ لِلشُّهُودِ: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمُ اللَّه. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ بَعْدَمَا انْصَرَفُوا مَا كَانَ فِي هَذَا بِأَنْ تُشْهِدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، كَرِهْتُ أَنْ تُغْلَبَ وَأَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يُوصَ إِلَيْهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لَكَ الْحُجَّةُ"[2].

 

واستمرّت إمامته عليه السلام 43 سنة تقريباً، من سنة114هـ حتّى شهادته في سنة 148هـ. خلّف الإمام الصادقعليه السلام عشرة أولاد من الذكور والإناث[3]. وقبل شهادته المباركة أوصى لابنه الإمام موسى عليه السلام بالإمامة من بعده[4]. وكانت شهادته في شهر الخامس والعشرين من شهر شوّال سنة 148هـ مسموماً على يد المنصور، وهو ابن خمسٍ وستّين سنة، ودفن في جوار آبائه الطاهرين في البقيع في المدينة المنوّرة[5].

 

مِن الخصائص الشخصيّة للإمام الصادق عليه السلام

1- عبادته عليه السلام:

انتهج أئمّتنا عليهم السلام نهجاً عباديّاً ظاهراً، فأُثر عنهم جميعهم كثرة العبادة والابتهال إلى اللَّه - عزّ وجلّ - وشدّة التعلّق به، وحرصهم الشديد على التعبّد بكثرة، حتّى عُرفوا بأنّهم عبّاد زمانهم وزهّاده. وليس ذلك مستغرباً على مَن عرف اللَّه حقّ معرفته، وهام في حبّه وغرق في وَجده، حيث تُمسي العبادة الوقت الخاصّ لوصال المحبوب الأوحد.

 


[1] سورة البقرة، الآية 132.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 307.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 209.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص307.

[5] المصدر نفسه، ص 472.

 

202


174

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

أمّا إمامنا الصادق عليه السلام، فقد برزت عباداته منذ حداثة سنّه وصغر عمره الشريف، فكان يجتهد في العبادة وهو شابّ حَدَث[1].

 

ورُوي عن مالك بن أنس فقيه المدينة أنّه قال: "ولقد حججت معه - الإمام الصادق عليه السلام - سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد يخرّ من راحلته، فقلتُ: قل، يا ابن رسول اللَّه، فلا بدّ لك من أن تقول، فقال الصادق عليه السلام: "يا ابن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللَّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول - عزّ وجلّ - لي: لا لبّيك ولا سعديك"[2]. وهذا يدلّ على شدّة ورعه وخشيته من اللَّه -عزّ وجلّ- وحيائه منه - جلّ وعلا -.

 

كما كثرت عنه الأحاديث الحاثّة على الصلاة والحفاظ عليها، فقال: "الصلاة قربان كلّ تقي"[3]، وقال: "أحبّ الأعمال إلى اللَّه - عزّ وجلّ - الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء..."[4]. ولشدّة اهتمامه بالصلاة، يُروى أنّه عندما حضرته الوفاة، قال: "اجمعوا كلّ مَن بيني وبينه قرابة، وبعد أن اجتمعوا، قال لهم: "إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة"[5]. هذا، مضافاً إلى الأدعية الكثيرة المرويّة عنه عليه السلام، والتي حفلت بها كتب الأحاديث والأدعية، والتي تعدّدت مواردها.

 

2- مكارم أخلاقه وسموّها:

إنّ المرء ليحار حقّاً فيما يقول في شخصيّة كالإمام جعفر الصادق عليه السلام، ولو أنّه تمّ تأليف المجلّدات في رفعة أخلاقه ومواقفه التربويّة واستخلاص العبر، لما كفّت، فكيف بهذا المختصر؟! فكلّ موقف من المواقف التي نُقلت لنا عنه عليه السلام حريّ بالمؤمن أن يتّخذه منهجاً في حياته، لكنّنا، بغية الاستفادة العمليّة، سنضيء على بعض المواقف اللافتة للخروج بالفوائد التربويّة العمليّة.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 87.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 169.

[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص 416.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 264.

[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج3، ص 27.

 

203


175

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

وممّا ورد في عفوه عن الناس، ما رُوي من أنّ رجلاً أتاه عليه السلام فقال: إنّ فلاناً ابن عمّك ذكرك فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلّا قاله فيك، فقام أبو عبد اللَّه عليه السلام فتوضّأ ودخل يصلّي، فقلتُ في نفسي: يدعو عليه، فصلّى ركعتين، فقال: "يا ربّ، هو حقّي قد وهبته، وأنت أجود منّي وأكرم، فهبه لي، ولا تؤاخذه بي، ولا تُقايسه"، ثمّ رقّ فلم يزل يدعو فجعلتُ أتعجّب[1].

 

وكان عليه السلام يتحلّى بسعَة صدر لا مثيل لها، تشهد بذلك كثرة مناظراته وحواراته مع العلماء المخالفين، والزنادقة الملحدين، ومن شهد له برفعة أخلاقه وتأدبّه مع إحكامه لبراهينه. ففي رواية أنّ الفضل بن عمر كان في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فسمع من ابن أبي العوجاء بعض كفرياته، فلم يملك غضبه، فقال له ابن أبي العوجاء: "يَا هَذَا، إِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَلَّمْنَاكَ، فَإِنْ ثَبَتَتْ لَكَ حُجَّةٌ تَبِعْنَاكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ فَلَا كَلَامَ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَصْحَابِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فَمَا هَكَذَا تُخَاطِبُنَا، وَلَا بِمِثْلِ دَلِيلِكَ تُجَادِلُ فِينَا، ولَقَدْ سَمِعَ مِنْ كَلَامِنَا أَكْثَرَ مِمَّا سَمِعْتَ، فَمَا أَفْحَشَ فِي خِطَابِنَا، وَلَا تَعَدَّى فِي جَوَابِنَا، وَإِنَّهُ الْحَلِيمُ، الرَّزِينُ، الْعَاقِلُ، الرَّصِينُ، لَا يَعْتَرِيهِ خُرْقٌ‏[2] وَلَا طَيْشٌ وَلَا نَزَقٌ‏[3]، يَسْمَعُ كَلَامَنَا، وَيُصْغِي إِلَيْنَا، ويَتَعَرَّفُ حُجَّتَنَا، حَتَّى إِذَا اسْتَفْرَغْنَا مَا عِنْدَنَا، وَظَنَنَّا أَنَّا قَطَعْنَاهُ، دَحَضَ حُجَّتَنَا بِكَلَامٍ يَسِيرٍ، وَخِطَابٍ قَصِيرٍ، يُلْزِمُنَا بِهِ الْحُجَّةَ، وَيَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ لِجَوَابِهِ رَدّاً، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَخَاطِبْنَا بِمِثْلِ خِطَابِه‏"[4]. فإن كان الملحد الزنديق يقرّ بتلك الأخلاق الرفيعة لإمامنا الصادق عليه السلام، ويشهد له بحسن منطقه، فما يسع الموالي المحبّ يقول سوى أن يطرق رأسه إجلالاً لإمام الأخلاق، ويحذي حذوه في خطابه للمحبّ والمخالف، المرصّع بالأخلاق التي جعلت الملحد يشهد له بعلمه وأخلاقه.

 

 



[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج88، ص 385.

[2] الخرق: ضعف الرأي وسوء التصرّف والحمق.

[3] النزق: هو الطيش والخفّة عند الغضب.

[4] المفضّل بن عمر، توحيد المفضل، تحقيق كاظم المظفّر، الناشر: داوري، قم، ط3، ص 42.

 

204


176

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

3- شهادة العلماء بحقّه عليه السلام:

إنّ من أعظم ما قد يُشهَد به لأحد ما، هي شهادة المخالف، ولا سيّما إذا كان صاحب الشهادة عالماً مرموقاً ذا مكانة في وسطه، وما أكثر ما شهد به العلماء والمخالفون من فضائل للإمام الصادق عليه السلام! نذكر منها نموذجين، مراعاةً للاختصار. فقد روي عن مالك بن أنس - فقيه أهل السنّة وإمامهم في ذلك العصر - أنّه قال: "وكان جعفر بن محمّد لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون اللَّه - عزّ وجلّ -، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: "قال رسول اللَّه" اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى حتّى يُنكره من يعرفه"[1].

 

وعن أبي حنيفة مؤسّس المذهب الحنفيّ أنّه قال: "لولا السنتان لهلك النعمان"[2]، وكان قد تتلمذ أبو حنيفة سنتين تحت منبر الإمام الصادق عليه السلام في المدينة، وقال: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد"[3].

 

4- علمه عليه السلام:

رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي"[4]، وهو حديث لم يقل أحد بمثله سوى جدّه الأعظم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وفيه يُفصح عن سعَة علمه وعمقه، وعدم الاستغناء عنه بأيّ شكل من الأشكال. وفي الإطار عينه، رُوي عنه عليه السلام أنّه قال: "واللَّه، إنّي لأعلم كتاب اللَّه من أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبر ما كان، وخبر ما هو كائن. قال اللَّه - عزّ وجلّ -: (فيه تبيان كلّ شيء)"[5]. ومن مظاهر سعَة علمه عليه السلام أنّه قد ارتوى من معين معارفه أربعة آلاف طالب أشاعوا العلم والثقافة في جميع الحواضر

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 169.

[2] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الخلاف، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1407هـ، ج1، ص 33.

[3] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج20، ص 6.

[4] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 375.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 229.

 

205


177

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

الإسلاميّة، ونشروا معالم الدين وأحكامه[1].

 

ونقل الناس عنه - الصادق عليه السلام - من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من العلوم[2].

 

هذا، ولم يقتصر علم الإمام الصادق عليه السلام على حقل واحد - كالفقه أو الكلام مثلاً ليكون سبباً لمخاطبة وجذب فئة محدودة من الناس - وإنّما تناولت جامعته العلميّة مجموعة العلوم الدينيّة وغير الدينيّة، وتربّى فيها كبار العلماء في مختلف فروع المعرفة، كعلم الفلك والطبّ، والحيوان، والنبات، والكيمياء والفيزياء، فضلاً عن الفقه والأصول والكلام والفلسفة والأخلاق ومعرفة النفس وغيرها، فكان تلاميذه متخصّصين في مختلف المجالات العقليّة والنقليّة، وكان كلّ واحد من هؤلاء الطلّاب شخصيّة علميّة كبيرة متألّقة. ويظهر علمهم وتخصّصاتهم المختلفة في مناظرات ومحاورات جرت مع الإمام الصادق عليه السلام فأحالها عليهم، لعلمه بقدرتهم على ذلك، وكان يبدي إعجابه بما يقولون، كالمناظرة التي حصلت مع رجل شاميّ فصار شيعيّاً في النهاية[3].

 

وتوجد شواهد كثيرة على عظمة الإمام الصادق عليه السلام العلميّة، وهو أمر متّفق عليه من قِبَل علماء الشيعة والسنّة، فالفقهاء والعلماء الكبار يتواضعون أمام عظمته العلميّة، ويمدحون تفوقّه العلميّ، كذا فعل أبو حنيفة عندما أمره المنصور العبّاسيّ بتحضير مسائل شداد، لأنّ أهل العراق قد فُتنوا به - أي بالإمام - ففعل، فما كان منه إلّا أن أقرّ له بالغلبة، وقال: "أليس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟"[4].

 

مراحل حياة الإمام الصادق عليه السلام

ولد الإمام جعفر الصادق عليه السلام في مرحلة ازدهار الدولة الأمويّة، فعاصر جدّه السجّاد عليه السلام إثنتي عشرة سنة في المدينة، ثمّ كان تحت ظلّ أبيه نحو تسع عشرة

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 247.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 179.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج47، ص 407.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 255.

 

206


178

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

سنة. شارك عليه السلام كلّاً من جدّه وأبيه المحن والمصاعب التي قاسياها، وكان في تلك الفترة التابع المطيع والموالي الطيّع لإمامه، وكان أفضل العون لأبيه عليه السلام في نشاطاته المختلفة. كذلك عاصر الإمام الصادق عليه السلام مرحلة انحطاط الدولة الأمويّة وانهيارها وقيام الدولة العبّاسيّة، وقد استفاد من تلك المرحلة أشدّ الاستفادة في ترسيخ دعائم الفكر الإماميّ ونشره، وكان يمهّد لإقامة ثورة لم تكتب لها الولادة، فسرعان ما انقلبت الموازين، واعتلى العبّاسيّون ركب السلطة، وأنهوا حياة الإمام الصادق عليه السلام.

 

ومن هنا، يمكننا تقسيم حياة الإمام الصادق عليه السلام إلى عصرين متميّزين بمراحل مختلفة:

1- عصر ما قبل الإمامة: ويتضمّن مرحلتي حياته مع جدّه وأبيه، وحياته مع أبيه بخاصّة.

2- عصر التصدّي للإمامة: ويضمّ مرحلة تزعزع الدولة الأمويّة حتّى انهيارها عام 132هـ، ومرحلة قيام الدولة العبّاسيّة واستقرارها إلى حين شهادته عليه السلام على يد المنصور العبّاسيّ.

 

ولأنّنا قد استوفينا البحث في العصر الأوّل بحديثنا عن الإمامَين زين العابدين والباقر عليهما السلام، فإنّنا سنكتفي بذلك، وسنكمل البحث بالحديث عن عصر إمامة الصادق عليه السلام خصوصاً، مسلّطين الضوء على أهمّ الأحداث والأوضاع السائدة آنذاك ومتطلّبات عصره، لنفهم فيما بعد دور الإمام الصادق عليه السلام وتحرّكاته فهماً سليماً.

 

بداية عصر الإمام الصادق عليه السلام والظروف المحيطة: من ثورة زيد إلى انهيار الحكم الأمويّ

1- ثورة زيد الشهيد:

لم يكن الوضع السياسيّ في بداية عصر الإمام الصادق عليه السلام قد تبدّل عن عصر أبيه الإمام الباقر عليه السلام، فهشام بن عبد الملك الّذي أقدم على اغتيال الإمام الباقر عليه السلام كان هو الحاكم الطاغي، وسياسته مع الإمام الصادق عليه السلام وشيعته كانت كسابقها.

 

207


179

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

وقد تعرّض زيد بن عليّ، عمّ الإمام الصادق عليه السلام في زمن أخيه الإمام الباقر عليه السلام، للإذلال والتوهين من قبل هشام، باعتباره أحد رموز أهل البيت عليهم السلام، فازداد زيد قناعة بضرورة الثورة المسلّحة ضدّ الحكّام بسبب فسادهم وجلوسهم مكان الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم. وكان قد بيّن ذلك لجابر الجعفي عندما سأله عن سبب خروجه، فقال له: "يا جابر، لم يَسَعْنِي أن أسكت وقد خولف كتاب اللَّه، وتحوكم بالجبت والطاغوت، وذلك أنّي شاهدت هشاماً ورجل عنده يسبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت للسابّ: ويلك يا كافر، أما إنّي لو تمكّنت منك لاختطفتُ روحك وعجّلتك إلى النار. فقال لي هشام: مَه جليسنا يا زيد". ثمّ قال زيد لجابر: "فواللَّه، لو لم يكن إلّا أنا ويحيى ابني لخرجتُ عليه وجاهدته حتّى أفنى"[1].

 

أعلن زيد ثورته، والتحق به عدد غفير، وأيّده جمع من الفقهاء والعلماء على ذلك، لكنّ الاضطراب العقائديّ والأخلاقيّ الذي كان سائداً آنذاك، وعدم وضوح الرؤية لدى الناس على الرغم من سخطهم على بني أميّة، وتوقهم إلى أيّ ثورة ضدّهم، لم تشكّل عوامل كافية للانتصار. فسرعان ما فتكت الفتنة بجيش زيد، حيث تعمّدت بعض العناصر الدخيلة تفريق جيشه وأتباعه، لكنّه صمد وقاتل حتّى استشهد. وبعد قتله نبش الأمويّون قبره، وصلبوه في كناسة الكوفة، ثمّ أُنزل، فأُحرق جسده وذرّوه في الهواء،[2] عليه السلام.

 

ومع أنّ الإمام الصادق عليه السلام لم يؤيد ثورة عمّه زيد بشكل علنيّ، إلّا أنّنا نجده في مواقف متعدّدة يتبنّى الدفاع عن عمّه زيد، ويترحّم عليه، ويوضّح منطلقاته وأهدافه، ويرسّخ في النفوس مفهوماً إسلاميّاً عن ثورته، فالروح الثوريّة ينبغي أن تبقى متأجّجة في نفوس الناس في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة، وذلك كلّه يخدم هدف إضعاف النظام الحاكم، حيث روى بن يسّار أنّه ذهب إلى المدينة بعد قتل زيد ليلتقي بالإمام الصادق عليه السلام بعد انتهاء الثورة، فقال له: "يا فضيل، شهدت مع عمّي قتال أهل الشام؟"، قلت: نعم، قال: "فكم قتلتَ منهم؟" قلت: ستّة، قال: "فلعلّك شاكٌّ في دمائهم؟"، قال: فقلت: لو

 


[1] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج19، ص 356.

[2] أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص 90.

 

208


180

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

كنت شاكّاً ما قتلتهم، ثمّ قال: سمعته وهو يقول: "أشركني اللَّه في تلك الدماء، مضى واللَّه زيدٌ عمّي وأصحابه شهداء، مثل ما مضى عليه عليّ بن أبي طالب وأصحابه"[1].

 

2- إنهيار حكم بني أميّة:

مات هشام بن عبد الملك، ثم تولّى الوليد بن يزيد الخلافة عام 125ه. وفي عصره بدأت الاضطرابات والثورات في مناطق مختلفة في العالم الإسلاميّ، ولم يكن هذا الوضع وهذه الاحتجاجات والمطالبات بإزاحة حكم بني أميّة ليظهر ويتحقّق فجأة، بل إنّ العالم الإسلاميّ ظلّ يتفاعل مع الأحداث منذ ثورة الإمام الحسين عليه السلام إلى ثورة زيد الشهيد التي أطاحت بهيبة هشام بن عبد الملك، والتي لم يلبث بعدها بنو أميّة إلّا قليلاً.

 

وفي سنة 126هـ، قُتل الوليد من قبل الأمويّين أنفسهم، وتولّى من بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك. وفي هذه الفترة حدثت فوضى سياسيّة لم تُشهد من قبل، حيث تحرّك كلُّ مَن كان له أدنى طمع بالرئاسة، فالأمّة في حالة هيجان، وهي على استعداد للاستجابة لأيّ شعار ثوريّ يخلّصها من بني أميّة دون فحصٍ أو تدقيق، فظهرت دعوات ومذاهب سياسيّة شتّى، من أبرزها حركة العبّاسيّين. ولم يكن ذلك بالوضع الذي يمكن ضبطه أو لملمته وتوحيده على مسار واحد، لذا، وإزاء هذا الواقع، كان الإمام الصادق عليه السلام يحذّر أتباعه من الانجرار وراء تللك الصيحات المفتقرة إلى البصيرة والعقيدة الصحيحة، فكان يقول: "إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون"[2].

 

وكانت هذه الفترة هي فترة مخاض عسير انهار في نهايتها الحكم الأمويّ، واعتلى الحكم العبّاسيّ سدّة الحكم دون وجه حقّ. ولكن، وعلى الرّغم من كلّ مظاهر الانحراف الّتي تحدّثنا عنها فيما سبق على الصعيدين السياسيّ والفكريّ، والتي كانت قد تعاظمت عمّا كانت عليه في السابق، إلّا أنّه مع بداية ضعف الحكم الأمويّ حتّى السقوط (سنة 132هـ)، وبداية العهد العبّاسيّ، تلك النهاية وهذه البداية اجتمعتا لتشكّلا عصر

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 349.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 264.

 

209


181

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

ضعف الدولتين. ومن الطبيعيّ في هذا الظرف أن يشتغل الحكّام وأتباعهم بإحكام القبضة على الحكم لئلّا يفلت زمام الأمر من أيديهم، فشكّل ذلك الفرصة الأهمّ لتحرّك الإمام الصادق عليه السلام على أكثر من صعيد، وفي تلك الفترة راج فكر الإمامَين الباقر والصادق عليهما السلام خصوصاً، وتوسّعت نشاطاته الفكريّة والسياسيّة حتّى كان قد اقترب من استعادة خلافة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، كما سيأتي.

 

210


182

الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- الإمام جعفر بن محمّد، سادس الأئمّة عليهم السلام، ولد في 17 ربيع الأول سنة 83ه. أمّه هي الجليلة المكرّمة فاطمة المكنّاة بأمّ فروة.

 

- أوصى الإمام الباقر عليه السلام بالإمامة من بعده للإمام الصادق عليه السلام، وأشهد بعض الرجال على ذلك.

 

- انتهج أئمّتنا عليهم السلام نهجاً عباديّاً ظاهراً، فأُثر عنهم جميعهم كثرة العبادة والابتهال إلى اللَّه. عزّ وجلّ - وشدّة التعلّق به، وحرصهم الشديد على التعبّد بكثرة حتّى عُرفوا بأنّهم عبّاد زمانهم وزهّاده.

 

- تحلّى الإمام الصادق عليه السلام بأسمى درجات الأخلاق وأرفعها، وسعَة صدر لا مثيل لها، برزت في حواراته مع العلماء المخالفين والزنادقة وغيرهم، حتّى إنّ أولئك قد شهدوا برقيّ محاوراته وعلوّ أخلاقه.

 

- عُرف الإمام الصادق عليه السلام بسَعة علمه وغزارته في مختلف الميادين والحقول، وقد ارتوى من معين معارفه أربعة آلاف طالب، أشاعوا العلم والثقافة في جميع الحواضر الإسلاميّة، فكان تلاميذه متخصّصين في مختلف المجالات العقليّة والنقليّة الدينيّة وغيرها.

 

- لم يكن الوضع السياسيّ في بداية عصر الإمام الصادق عليه السلام قد تبدّل عن عصر أبيه الإمام الباقر عليه السلام، وقد قام زيد الشهيد بثورة على الحكم آنذاك انتهت بمقتله وصلبه.

 

- مات هشام بن عبد الملك، وبدأت الاضطرابات والثورات في مناطق مختلفة في العالم الإسلاميّ، فتحرّك كلّ مَن كان له أدنى طمع بالرئاسة إلى أن استولى العبّاسيّون على الحكم في النهاية، وقد كان الإمام الصادق عليه السلام يحذّر أتباعه من الانجرار وراء تللك الصيحات المفتقرة إلى البصيرة والعقيدة الصحيحة.

 

211


183

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

الدرس الرابع عشر

الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى النشاط السياسيّ الجهاديّ والعلميّ للإمام الصادق عليه السلام.

 

- يتبّن المـنهج الإصلاحيّ الذي اعتمـده الإمــام الصادق عليه السلام.

 

- يســتنتج الـدروس التربويّــة من حيـاة الإمــام الصادق عليه السلام.

 

213


184

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

تمهيد

عمد الإمام الصادقعليه السلام إلى العمل على جبهتين، كما سالف آبائه عليهم السلام، جبهة العمل العامّ المتمثّلة بالتصدّي لإصلاح الأمّة الإسلاميّة ومواكبتها على شتّى الصعد، وجبهة العمل الخاصّ المتمثّلة ببناء الجماعة الصالحة التي أخذت طابعاً مذهبيّاً أكثر فأكثر في عصر الإمام الصادق عليه السلام، وتبلورت عقائدها وتوجّهاتها وفقهها كذلك.

 

ولم يقتصر دور الإمام الصادق عليه السلام في عمله على كلا الجبهتين بالميدان الفكريّ والكلاميّ، بل إنّ نشاطه السياسيّ الجهاديّ هو من الأمور المحسومة، وإن بدا ظاهراً في بعض الأوقات دون غيرها بسبب الظروف والأحداث، فلا يخفى علينا أنّ أساس عمل الأئمّة عليهم السلام هو إقامة الحكومة العَلَويّة التي ليست شيئاً غير الإسلام الصحيح الحقّ، والتي يمثّل العلم أحد أهمّ أركانها يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في هذا المجال: "كان الإمام الصادق عليه السلام رجل الجهاد والمواجهة، ورجل العلم والمعرفة، ورجل التنظيم والتشكيلات، لكن سمعتم أكثر عن علمه ومعرفته، فمحافل دراسته وميادين تعليمه الّتي أوجدها لم يكن لها نظير في تاريخ حياة أئمّة الشيعة لا قبله ولا بعده...، لكنّكم قليلاً ما سمعتم عن جهاده. لقد كان الإمام الصادق عليه السلام مشغولاً بجهادٍ واسع النطاق، الجهاد من أجل الإمساك بالحكومة والسلطة، من أجل إيجاد حكومة إسلاميّة وعلويّة...، كان يهيّئ الأرضيّة للقضاء على بني أميّة، والمجيء بحكومة علويّة، أي حكومة العدل الإسلاميّ"[1].

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 349 - 350.

 

215


185

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

وعليه، فقد كان له عليه السلام نشاطٌ علميٌّ فكريٌّ يتوجّه به نحو الأمّة والمجتمع الإسلاميّ عموماً، ونشاطٌ آخر سياسيّ صوب الأمّة أيضاً، وكذا عمل على بناء شيعته وتربيتهم فكريّاً وعلميّاً، وكان أوج نشاطه السياسيّ والجهاديّ هو مع هؤلاء الثلّة الذين كانوا يشكّلون النواة التي يريد أن ينطلق الإمام الصادق عليه السلام منها.

 

جبهة العمل العامّ

1- النشاط والاصلاح الفكريّ والعقائديّ:

نشطت حركة الزندقة في عصر الإمام الصادق عليه السلام، فانبرى عليه السلام لمواجهتها ووأدها من خلال المحاورات والمناظرات مع زنادقتها. فجرى مثلاً بين الإمام الصادق عليه السلام وأبي شاكر الديصاني - أحد أقطاب الزندقة - مناظرات عدّة، كانت الغلبة فيها للإمام عليه السلام بمنطقه القويّ وبراهينة المحكمة[1].

 

لم يقتصر الأمر على الزنادقة والملحدين، ففي عصر الإمام الصادق عليه السلام قويت شوكة العديد من التيّارات العقائدية الباطلة أكثر فأكثر، كتيّار الغلوّ والجبر والتفويض وغيرها. ومع أنّنا نشاهد لِيناً معيّناً من قبل الإمام عليه السلام مع الزنادقة، وحواراً مبنيّاً على العقل في أكثر الأحيان، نراه حازماً شديداً صارماً في مواجهته للمغالين، فكان عليه السلام يقول: "سَمْعِي وبَصَرِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَلَحْمِي ودَمِي مِنْ هَؤُلَاءِ المغالين بِرَاءٌ، وَبَرِئَ اللَّه مِنْهُمْ وَرَسُولُهُ، مَا هَؤُلَاءِ عَلَى دِينِي وَلَا عَلَى دِينِ آبَائِي، وَاللَّه لَا يَجْمَعُنِي اللَّه وَإِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِم‏"[2]، وذلك لعظيم خطرهم وما ساقوه من تشويهات واتّهامات للشيعة والتشيّع.

 

لم تكن آلام إمامنا الصادق عليه السلام وانحرافات عصره الفكريّة لتقف عند هذا الحدّ، فقد طالت الانحرافات الفقه والشريعة ومناهج فهمها، فَراج القياس والاستحسان والرأي، وكانت هذه المناهج وأئمّتها محطّ مواجهة مع الإمام الصادق عليه السلام، فجرت محاورات

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج3، ص 50.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 269.

 

216


186

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

بين الإمام عليه السلام وأئمّة المذاهب الأخرى، كأبي حنيفة[1] الذي يتبنّى القياس منهجاً في استنباط الحكم الشرعيّ، وكان يقول له: "أوّل من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين""[2].

 

2- النشاط السياسيّ:

ركّز الإمام الصادق عليه السلام على تثقيف الناس على عدم شرعيّة الحكومات الجائرة، وقدّم الصيغة السياسيّة السليمة من خلال تبيان موقع الولاية المغتصب. وقد استخدم عليه السلام الخطاب القرآنيّ وتفسيره في هذا المجال[3]، كذلك نجده يتحدّث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويذكّر الناس بحديث الغدير، ذلك الحدث السياسيّ الأخطر في حياة الأمّة، فقال في حقّ الإمام عليّ عليه السلام: "المدعوّ له بالولاية، المثبّت إليه الإمامة يوم غدير خمّ بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن اللَّه -عزّ وجلّ-: ألست أولى بكم من أنفسكم..."[4].

 

وعندما التقى عليه السلام وفداً من المعتزلة ضمّ أعلامهم ورؤوسهم بعد قتل الوليد واختلاف أهل الشام، بيّن عليه السلام لهم فساد رأيهم في الحكم، حيث كانوا يقولون بالشورى ليثبت رأيه الحقّ[5]. ويبدو أنّ نشاطه عليه السلام السياسيّ العامّ والظاهر أمام الملأ قد توسّع في أواخر سنوات الحكم الأمويّ، ففي رواية أنّه يوم عرفة كان بالموقف، ثمّ أخذ ينادي بأعلى صوته: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ الْإِمَامَ، ثُمَّ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام، ثُمَّ هَهْ، فَيُنَادِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اثْنَيْ عَشَرَ صَوْتا،ً وَقَالَ عَمْرٌو- الراوي -: فَلَمَّا أَتَيْتُ مِنًى سَأَلْتُ أَصْحَابَ الْعَرَبِيَّةِ عَنْ تَفْسِيرِ هَهْ، فَقَالُوا: هَهْ لُغَةُ بَنِي فُلَانٍ -أَنَا فَاسْأَلُونِي-"[6]، أي أنّه عليه السلام كان يدعو إلى نفسه للإمامة في أكبر تجمّع

 


[1] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 359 - 367.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 58.

[3] المصدر نفسه، ص 215.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج36، ص 397.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 24.

[6] المصدر نفسه، ج4، ص 466.

 

217


187

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

للمسلمين بحيث يضمن وصول ندائه إلى جميع الأقطار الإسلاميّة وانتشار دعوته هناك، ليتولّى جنده المخبّؤون عمليّة التعبئة والتهيئة للخطوة اللّاحقة.

 

جبهة العمل الخاصّ

1- البناء الفكريّ والعقائديّ:

واصل الإمام الصادق عليه السلام تطويره للمدرسة الّتي أسّسها آباؤه الطاهرونعليهم السلاممن قبله، وانتقل بها إلى آفاق أرحب، فاستقطبت الجماهير من مختلف البلاد الإسلاميّة، لأنّها استطاعت أن تُلبّي رغباتهم، وحاولت مل‏ء الفراغ الّذي كانت تُعانيه الأمّة آنذاك.

 

ومع أنّ تلك المدرسة الجعفريّة لم تقتصر دروسها ومحاضراتها على العناصر الموالية للإمام عليه السلام، بل انفتحت على كلّ طالب علم ومعرفة بأيّ لونٍ كان، حتّى قال أحد من كان يحضر المجالس: "أدركت في هذا المسجد – الكوفة - تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد"[1]، لكنّهم كانوا - أي الموالين - أكثر الناس استفادةً ونهلاً منها.

 

كما لم يكن نشاط الإمام الصادق عليه السلام العلميّ معزولاً عن أنشطته الأخرى، بل إنّ جامعته وتدريسه كانا في صلب مشروعه التغييريّ، بحيث ساهما في خلق مناخ يمهّد لبناء الفرد الصالح، ومن ثمّ المجتمع الصالح. فقد حقّقت مدرسة الإمام عليه السلام إنجازاً في خصوص تدوين الحديث والحفاظ على مضمونه، بعد أن كان قد تعرّض في وقت سابق للضياع والتحريف والتوظيف السياسيّ، بسبب المنع من تدوينه، فكان عليه السلام يأمر طلّابه ويؤكّد لهم ضرورة التدوين والكتابة، كما نجد ذلك في قوله عليه السلام: "احتفظوا بكتبكم، فإنّكم سوف تحتاجون إليها"[2]. وكان عليه السلام يشير إلى نشاط زرارة في مجال الحديث، ويقول: "رحم اللَّه زرارة، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي"[3].

 


[1] المحدّث النوري، مستدرك الوسائل (الخاتمة)، مصدر سابق، ج2، ص 27.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 52.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج27، ص 144.

 

218


188

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

وفي السياق عينه، اعتنى الإمام عليه السلام بالتخصّص العلميّ في تلك المرحلة، لما له من دورٍ كبيرٍ في تنمية الفكر الإسلاميّ وتطويره، وكان يتصدّى للإشراف على التخصّصات كلّها، يظهر ذلك في المحاورات العلميّة التي كان يحيلها عليه السلام إلى أصحابه في محضره[1]. ففي الفلسفة وعلم الكلام ومباحث الإمامة تخصّص كلٌّ من: هشام بن الحكم، وهشام بن سالم، ومؤمن الطاق وغيرهم، وفي الفقه وأصوله وتفسير القرآن الكريم تخصَّص كلٌّ من: زرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم، وجميل بن درّاج، وبريد بن معاوية، وإسحاق بن عمّار، وأبي بصير، وأبان بن تغلب والفضيل بن يسّار. كما تخصَّص في الكيمياء جابر بن حيّان الكوفيّ، وفي حكمة الوجود المفضّل بن عمر الّذي أملى عليه الإمام الصادق عليه السلام كتابه المشهور، المعروف بـ (توحيد المفضّل).

 

أمّا الميدان الفقهيّ والاجتهاديّ، فقد نال نصيبه الأكبر من اهتمام الإمام الصادق عليه السلام، لما له من أثر مباشر على استقلال الشيعة واستقرارهم، وحفظ دينهم ودنياهم، لذا ومع معارضته الشديدة والدائمة للمناهج الفقهيّة المنحرفة، فيقول: "إنّ أصحاب المقائيس طلبوا العلم بالمقائيس، فلم تزدهم المقائيس من الحقّ إلّا بعداً، وإنّ دين اللَّه لا يصاب بالمقائيس"[2]. وكان عليه السلام يعمد إلى بيان الأحكام الشرعيّة الصحيحة والواقعيّة، ويؤسّس لمدرسة الاجتهاد الشيعيّ، ويتلمذ أصحابه ليكفي الواحد منهم مصره التي يكون فيها ويغنيهم، فلا يرجعون إلى غيره.

 

فحدّد عليه السلام أوّلاً المرجعيّة التي يجب استقاء واستنباط الأحكام منها والمتمثّلة بالنصّ، فكان يقول: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول اللَّه قول اللَّه - عزّ وجلّ -"[3].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج47، ص 407.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 56.

[3] المصدر نفسه، ص 69.

 

219


189

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

ثمّ عمل عليه السلام على تعليم طلّابه كيفيّة استنباط الأحكام من مصادر التشريع، كما علّمهم كيفيّة التعامل مع الأحاديث، فصرّح عليه السلام بوجوب رفض الأحاديث التي تعارض القرآن، فقال: "إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللَّه فخذوه، وما خالف كتاب اللَّه فدعوه"[1]. وقال في حالة تعارض الأحاديث: "إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وإلّا فالّذي جاءكم به أولى به"[2].

 

كما علّمهم عليه السلام التفريع عن الأصول، وحثّ على ذلك بغية تعويدهم على الاستنباط، فكان يقول: "إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا"[3]، فيحثّهم بذلك على الإفتاء ونشر العلم بين الناس.

 

2- البناء الروحي والتربويّ:

اهتمّ الإمام الصادق عليه السلام ببناء شيعته أخلاقيّاً وروحيّاً وتربويّاً، يظهر ذلك من خلال مواعظه وإرشاداته الدائمة لهم، وتدخّله حتّى في حلّ النزاعات بينهم، مركّزاً على جعلهم قدوة للناس ومناراً يستضاء به في المجالات كافّةً.

 

فكان عليه السلام يقول: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه - عزّ وجلّ -، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ للَّه، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ... فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، وَإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَقِيلَ: هَذَا أَدَبُ جَعْفَر"[4]. فالإمام عليه السلام ينصّب نفسه للشيعة على أنّه أبٌ حريص وأمٌ رؤوم، غاية ما يريد صلاح عياله، وأن يكونوا أنموذجاً مشرقاً يفتخر به. هكذا كانت علاقة الإمام عليه السلام بشيعته، وهكذا ينبغي أن تكون في كلّ زمن.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 69.

[2] المصدر نفسه.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج2، ص 245.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 636.

 

220


190

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

3- نشاط الإمام الصادق عليه السلام السياسيّ:

أ- التوجيهات السياسيّة:

طالت التوجيهات السياسيّة للإمام الصادق عليه السلام أكثر من صعيد، وكانت شيعته تأخذ تلك التوجيهات عبر شبكات سرّيّة متواصلة. ومن أبرز تلك التوجيهات، تحريم الإمام الصادق عليه السلام التحاكم للحاكم الظالم، فقد ورد عن عمر بن حنظلة قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وإِلَى الْقُضَاةِ، أَيَحِلُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ.. قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ: يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِهِ حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِماً‏..."[1].

 

ب- الإمام الصادق عليه السلام والتشكيلات الشيعيّة:

لكن، وعطفاً على ما مرّ معنا، ومع التسليم بأهمّيّته المطلقة، إلّا أنّه عليه السلام قلّما نجد كلاماً عنه في الكتب، وهو ما أكّده الإمام الخامنئيّ دام ظله في تناوله لحياة الإمام الصادق عليه السلام، ألا وهو التنظيم والتشكّلات الشيعيّة وسعي الإمام الصادق عليه السلام لاستعادة خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

فإذا طالعنا الأحاديث التي قالها الإمام الباقر عليه السلام خصوصاً في نهاية حياته، نجده يركّز على قيام ولده الصادق بالأمر، وقد سمّاه القائم، فعن جابر الجعفيّ أنّه سأل أبا جعفر عليه السلام عن القائم، فضرب بيده على أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام فقال: "هذا، واللَّه، قائم آل محمّد بعدي‏"[2]، أي أنّ الإمام الباقر عليه السلام يبيّن لبعض الأصحاب أنّ الإمام الصادق عليه السلام هو الذي سيقوم بالأمر، وبذلك يهيّئ هؤلاء الأصحاب لنصرته كما يجب.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 67.

[2] المسعوديّ، عليّ بن الحسين، إثبات الوصيّة للإمام عليّ بن أبي طالب، الناشر: أنصاريان، قم، 1426هـ، ط3، ص 183.

 

221


191

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

ويقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ الأوضاع والأحوال المساعِدة والأرضيّات الّتي أمّنها الإمام - الباقر عليه السلام - السابق في عمله، كانت تؤدّي إلى أن يظهر الإمام الصادق عليه السلام كتجلٍّ للأمل الصادق الّذي عاشه الشيعة سنواتٍ وهم بانتظار، وذلك بالالتفات إلى الطريق الطويل والمليء بالمشقّات لنهضة التشيّع، وهو نفس القائم (الإمام الصادق) الّذي سوف يوصل كلّ الجهاد المرير لأسلافه إلى ثمرته، وسوف يقيم الثورة الشيعيّة على مستوى العالم الإسلاميّ المترامي. فالإشارات، وأحياناً التصريحات المباشرة للإمام الباقر عليه السلام، كانت مؤثّرة أيضاً في ترعرع ونموّ غرسة الأمل هذه"[1].

 

وعلى هذا الأساس، بدأ الإمام الصادق عليه السلام عملاً دؤوباً لا هوادة فيه على الصعد كافّةً، العلميّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وبدأ يُعدّ العدّة لتحقيق الآمال، وكان عليه السلام رجل التنظيم والتشكيلات كما يسمّيه الإمام الخامنئيّ: "أمّا ذاك البعد الثالث الّذي لم يُسمع عنه من الأساس، فهو أنّه - الإمام الصادق عليه السلام - كان رجل التنظيم والتشكيلات. لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام تشكيلات عظيمة، من المؤمنين به، ومن أتباع تيّار الحكومة العلويّة في مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ، من أقصى خراسان وما وراء النهر إلى شمال أفريقيا. فماذا تعني التشكيلات؟ أي أنّه عندما يريد الإمام الصادق عليه السلام أن ينقل أيّ شيءٍ، فإنّ وكلاءه المتواجدين في مختلف آفاق العالم الإسلاميّ، سينقلون ذلك إلى النّاس لكي يعلموه، ويعني أيضاً أنّها ستجمع الحقوق الشرعيّة والميزانيّة كلّها المطلوبة لإدارة مواجهة سياسيّة عظيمة لآل عليّ، ويعني ذلك أنّ وكلاءه وممثّليه المتواجدين في جميع المدن سيرجع إليهم أتباع الإمام الصادق عليه السلام لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام... لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام مثل هذه التشكيلات العظيمة، وبهذه التشكيلات وبمساعدة مَن كان داخلاً فيها من الناس، كان يواجه جهاز بني أميّة"[2].

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 341 - 342.

[2] المصدر نفسه، ص 350 - 351.

 

222


192

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

ويقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ الأوضاع والأحوال المساعِدة والأرضيّات الّتي أمّنها الإمام - الباقر عليه السلام - السابق في عمله، كانت تؤدّي إلى أن يظهر الإمام الصادق عليه السلام كتجلٍّ للأمل الصادق الّذي عاشه الشيعة سنواتٍ وهم بانتظار، وذلك بالالتفات إلى الطريق الطويل والمليء بالمشقّات لنهضة التشيّع، وهو نفس القائم (الإمام الصادق) الّذي سوف يوصل كلّ الجهاد المرير لأسلافه إلى ثمرته، وسوف يقيم الثورة الشيعيّة على مستوى العالم الإسلاميّ المترامي. فالإشارات، وأحياناً التصريحات المباشرة للإمام الباقر عليه السلام، كانت مؤثّرة أيضاً في ترعرع ونموّ غرسة الأمل هذه"[1].

 

وعلى هذا الأساس، بدأ الإمام الصادق عليه السلام عملاً دؤوباً لا هوادة فيه على الصعد كافّةً، العلميّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وبدأ يُعدّ العدّة لتحقيق الآمال، وكان عليه السلام رجل التنظيم والتشكيلات كما يسمّيه الإمام الخامنئيّ: "أمّا ذاك البعد الثالث الّذي لم يُسمع عنه من الأساس، فهو أنّه - الإمام الصادق عليه السلام - كان رجل التنظيم والتشكيلات. لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام تشكيلات عظيمة، من المؤمنين به، ومن أتباع تيّار الحكومة العلويّة في مختلف أرجاء العالم الإسلاميّ، من أقصى خراسان وما وراء النهر إلى شمال أفريقيا. فماذا تعني التشكيلات؟ أي أنّه عندما يريد الإمام الصادق عليه السلام أن ينقل أيّ شيءٍ، فإنّ وكلاءه المتواجدين في مختلف آفاق العالم الإسلاميّ، سينقلون ذلك إلى النّاس لكي يعلموه، ويعني أيضاً أنّها ستجمع الحقوق الشرعيّة والميزانيّة كلّها المطلوبة لإدارة مواجهة سياسيّة عظيمة لآل عليّ، ويعني ذلك أنّ وكلاءه وممثّليه المتواجدين في جميع المدن سيرجع إليهم أتباع الإمام الصادق عليه السلام لمعرفة تكليفهم الدينيّ والسياسيّ من الإمام... لقد أوجد الإمام الصادق عليه السلام مثل هذه التشكيلات العظيمة، وبهذه التشكيلات وبمساعدة مَن كان داخلاً فيها من الناس، كان يواجه جهاز بني أميّة"[2].

 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 341 - 342.

[2] المصدر نفسه، ص 350 - 351.

 

222


193

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

ويظهر هذا الأمر من خلال تتبّعنا للقرائن والشواهد التاريخيّة الحاكية عن أسئلة ترد الإمام من مختلف البقاع الإسلاميّة، وعن أصحابٍ ورموز عشائر يقصدونه في المدينة ويستفتونه عن أحوال الناس وما ينبغي القيام به[1]. أمّا لماذا لا نرى تلك التحرّكات جليّة واضحة مفصوحاً عنها في كتب التاريخ، فيجيب الإمام الخامنئيّ عن هذا التساؤل قائلاً: "ولعلّه ينبغي البحث عن أسباب هذا الغموض والإبهام، وخصوصاً فيما يتعلّق بالأنشطة التنظيميّة للإمام مع أتباعه في ماهيّة هذه الأعمال. فالأعمال السرّيّة والتنظيميّة، في العادة، إذا تلازمت مع أصول الإخفاء الصحيح، فيجب أن تبقى دائماً مخفيّة. فقد كانت مخفيّة في ذلك الزمان، وكان ينبغي أن تبقى كذلك فيما بعد، والكتمان والإخفاء من قبل أصحابها لا يسمح لأيّ غريبٍ أن يصل إليها، حتّى إذا وصلت هذه الأعمال إلى نتيجتها، وتمكّن العاملون فيها من الإمساك بالسلطة، فإنّهم سوف يعلنون دقائق هذا العمل السرّيّ على الملإ. من أجل هذا، فإنّنا اليوم نعرف الكثير من دقائق وخصوصيّات قيادة واتّصالات بني العبّاس السرّيّة مع أتباعهم وعناصر منظّمتهم في مرحلة الدعوة العبّاسيّة بالتاريخ"[2].

 

فقد كانت: "خطّة الإمام الصادق عليه السلام هي أن يجمع بعد رحيل الإمام الباقرعليه السلام الأمور وينهض بثورة علنيّة ويسقط حكومة بني أميّة - والّتي كانت في كلّ يوم تتبدّل من حاكمٍ إلى آخر، ممّا يحكي عن منتهى ضعف هذا الجهاز - ويأتي بالجيوش من خراسان والريّ وأصفهان والعراق والحجاز ومصر والمغرب وكلّ المناطق الإسلاميّة، الّتي كان فيها أيضاً شبكات حزبيّة للإمام الصادق عليه السلام أي الشيعة، ويحضر كلّ القوّات إلى المدينة ليزحف نحو الشام ويسقط حكومتها ويرفع بيده راية الخلافة ويأتي إلى المدينة ويعيد حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"[3].

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 210.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 346.

[3] المصدر نفسه، ص 348.

 

223


194

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

لكنّ ذلك لم يحصل! فمع كلّ الجهود التي بُذلت في سبيل تحقيق هذا الهدف، نجد أنّ الحكومة العلويّة لم تتحقّق ولم يتفتّق اللّيل عن صبحٍ جديد. وإذا أردنا أن نحدد أسباب ذلك، فلنستعن بالروايات لنفهم ما جرى.

 

العوامل التي حالت دون تحقّق الدولة العلويّة

بعد ما تقدّم كلّه، وبعد الجهود المبذولة كلّها من قبل الأئمّةعليهم السلام عموماً، وجهود الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام على وجه التحديد، للمرء أن يتساءل عن سبب عدم نجاح خطّةٍ حكيمة كهذه، ولا سيّما أنّها التي تسعى نحو إقامة حكومة العدل الإلهيّ! وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن عوامل عدّة سنتحدّث عن أهمّها بشكل مختصر.

 

تبيّن بعض الروايات التي نقلت عن الإمام الصادق عليه السلام أهمّ العوامل التي حالت دون تحقّق مخطّط الإمام عليه السلام، متمثّلين بعاملين هما عدم استعداد الأصحاب لتلك الدولة، وعدم توافر العدد اللّازم والمواصفات اللّازمة في الأصحاب للقيام بهذه المهمّة، والسبب الآخر عدم اتّباع إرشادات الإمام الصادق عليه السلام التي كانت التقيّة وإخفاء الأسرار من أبرزها، فلمّا شاع السرّ فشلت الخطّة، وهي أمور نفهمها بإشارة من الإمام الصادق عليه السلام نبيّنها فيما يلي.

 

من الروايات التي تحمل إرشادات مهمّة جدّاً من قبل الإمام الصادق عليه السلام هي الروايات التي تتحدّث عن الأسرار وكتمانها، حيث وَرَدَ عن بعض أصحاب الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عليهما السلام وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ بَعْدَمَا قَضَيْنَا نُسُكَنَا، فَوَدَّعْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ: أَوْصِنَا، يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه، فَقَالَ: لِيُعِنْ قَوِيُّكُمْ ضَعِيفَكُمْ، وَلِيَعْطِفْ غَنِيُّكُمْ عَلَى فَقِيرِكُمْ، وَلِيَنْصَحِ الرَّجُلُ أَخَاهُ كَنَصِيحَتِهِ لِنَفْسِهِ، وَاكْتُمُوا أَسْرَارَنَا وَلَا تَحْمِلُوا النَّاسَ عَلَى أَعْنَاقِنَا"[1].

 

ويبدو أنّ هذا العامل قد فتك بخطّة الإمام الصادق عليه السلام، مضافاً إلى عوامل أخرى، فمع التكتّم كلّه الذي كان يوصي به عليه السلام إلّا أنّ الأسرار قد أفشيت، وهذا يدلّ على

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 232.

 

224


195

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

عدم استعداد الثلة المقرّبة لحكم جعفر الصادق عليه السلام، فكيف بالأمّة؟! إنّ الأمّة لم تصل بوعيها إلى الحدّ الذي يؤهّلها لاستقبال دولة العدل الإلهيّ.

 

لذا، نرى أنّ الإمام الصادق عليه السلام قد عزف عن ذلك شطراً، وكان يأتيه الموالون يطالبونه بالقيام فيردّهم ويجيبهم بحسبهم، وفي رواية أنّ خراسانيّاً موالياً جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال له: "يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه، لَكُمُ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَأَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتِ الْإِمَامَةِ، مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ حَقٌّ تَقْعُدُ عَنْهُ وَأَنْتَ تَجِدُ مِنْ شِيعَتِكَ مِائَةَ أَلْفٍ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالسَّيْفِ؟! فَقَالَ لَهُعليه السلام: اجْلِسْ يَا خُرَاسَانِيُّ، رَعَى اللَّه حَقَّكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا حَنَفِيَّةُ -جارية لديه- اسْجُرِي التَّنُّورَ، فَسَجَرَتْهُ حَتَّى صَارَ كَالْجَمْرَةِ وَابْيَضَّ عُلْوُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا خُرَاسَانِيٌّ، قُمْ فَاجْلِسْ فِي التَّنُّورِ، فَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّ: يَا سَيِّدِي، يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه، لَا تُعَذِّبْنِي بِالنَّارِ، أَقِلْنِي أَقَالَكَ اللَّه. قَالَ: قَدْ أَقَلْتُكَ.

 

يقول الراوي: فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ هَارُونُ الْمَكِّيُّ وَنَعْلُهُ فِي سَبَّابَتِهِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه، فَقَالَ لَهُ الإمام الصادق عليه السلام: أَلْقِ النَّعْلَ مِنْ يَدِكَ وَاجْلِسْ فِي التَّنُّورِ. قَالَ: فَأَلْقَى النَّعْلَ مِنْ سَبَّابَتِهِ ثُمَّ جَلَسَ فِي التَّنُّورِ، وَأَقْبَلَ الْإِمَامُ يُحَدِّثُ الْخُرَاسَانِيَّ حَدِيثَ خُرَاسَانَ حَتَّى كَأَنَّهُ شَاهِدٌ لَهَا، ثُمَّ قَالَ: قُمْ يَا خُرَاسَانِيُّ، وَانْظُرْ مَا فِي التَّنُّورِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَرَأَيْتُهُ مُتَرَبِّعاً، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَسَلَّمَ عَلَيْنَا.

 

فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ عليه السلام: كَمْ تَجِدُ بِخُرَاسَانَ مِثْلَ هَذَا، فَقُلْتُ: وَاللَّه وَلَا وَاحِداً، فَقَالَعليه السلام: لَا وَاللَّه وَلَا وَاحِداً، أَمَا إِنَّا لَا نَخْرُجُ فِي زَمَانٍ لَا نَجِدُ فِيهِ خَمْسَةً مُعَاضِدِينَ لَنَا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِالْوَقْتِ"[1]. وعليه، يبيّن الإمام الصادق عليه السلام أنّ عدد الأنصار الحقيقيّين الذين يُعتمد عليهم في معركة كهذه لم يتوافر بعدُ، ولا سيّما بعد المستجدّات السياسيّة التي حصلت ودخول بني العبّاس في المعركة بخسّة ودهاء، ما أدّى إلى تضييع فرصة لا تعوّض إلّا بعد حين!

 

مضافاً إلى ما مرّ، فإنّ الأوضاع السياسيّة قد تغيّرت، وانقلبت موازين القوى، ولم

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 237.

 

225


196

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

تعد الكفّة راجحة بالنسبة إلى الإمام الصادق عليه السلام، جرّاء استغلال الطامعين بالسلطة، وعلى رأسهم العبّاسيّون، لتردّي الأوضاع السياسيّة وركوبهم موجة "الرضا من آل محمّد". وما يدلّل على ضعف الوعي المطلوب عند الناس أنّهم كانوا يلبّون نداء أيّ رافع راية دون فحص أو تدقيق، بغية التخلّص من الأمويّين، الأمر الذي استغلّه العبّاسيّون بدهاء، ووصلوا من خلاله إلى السلطة.

 

الإمام الصادق عليه السلام والمنصور العبّاسيّ

كان أبو جعفر المنصور قلقاً جدّاً من نشاطات الإمام الصادق السياسية وتحرّكاته السياسيّة، وممّا جعله يزداد قلقاً محبوبيّة الإمام الصادق عليه السلام عند الناس ومنزلته العلميّة الكبيرة، لذلك، كان يُحضر الإمام إلى العراق بين الحين والآخر بذريعة وأُخرى، ويخطّط لقتله، وفي كلّ مرة كان الخطر يزول عن الإمام بنحو أو بآخر[1]. كان المنصور يراقب تحرّكات الشيعة في المدينة بدقّة، وكان له جواسيس ينظرون من اتّفق شيعة جعفر عليه السلام فيضربون عنقه[2]، مع أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان قد لزم الحياد لمّا انفلت الوضع الأمنيّ، وبدأ دعاة العبّاسيّين بقلب الأمور عسكريّاً وتقتيل الناس وملاحقة الأمويّين.

 

وكان الإمام الصادق عليه السلام يمنع أصحابه من التعاون والتعامل مع الجهاز الحاكم. وقد سأله أحد أصحابه يوماً: "أَصْلَحَكَ اللَّه، إِنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَ الرَّجُلَ مِنَّا الضَّيْقُ أَوِ الشِّدَّةُ فَيُدْعَى إِلَى الْبِنَاءِ يَبْنِيهِ أَوِ النَّهَرِ يَكْرِيهِ أَوِ الْمُسَنَّاةِ يُصْلِحُهَا، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام: مَا أُحِبُّ أَنِّي عَقَدْتُ لَهُمْ عُقْدَةً أَوْ وَكَيْتُ لَهُمْ وِكَاءً[3]، وَإِنَّ لِي مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا وَلَا مَدَّةً بِقَلَمٍ، إِنَّ أَعْوَانَ الظَّلَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّه بَيْنَ الْعِبَادِ"[4].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج47، ص162 - 212، وقد عقد المجلسيّ فصلاً خاصّاً للمواجهات التي كانت بين الإمام والمنصور.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 351.

[3] الوكاء - بالكسر -: الخيط الذي يشده الصرة والكيس وغيرهما. (النهاية)

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 107.

 

226


197

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

كما كان الإمام الصادق عليه السلام يحذّر شيعته من بني العبّاس، ويقول لهم بلزوم التقيّة معهم، فهي مرحلة جديدة أصبح فيها الجهاز الحاكم أكثر وعياً لخطر الأئمّة على وجوده واستقراره، فيقولعليه السلام: "اتَّقُوا اللَّه، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ لِأَئِمَّتِكُمْ‏، قُولُوا مَا يَقُولُونَ، وَاصْمُتُوا عَمَّا صَمَتُوا، فَإِنَّكُمْ فِي سُلْطَانِ مَنْ قَالَ اللَّه (تَعَالَى): ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[1] - يَعْنِي بِذَلِكَ وُلْدَ الْعَبَّاس - فَاتَّقُوا اللَّه، فَإِنَّكُمْ فِي هَذِهِ، صَلُّوا فِي‏عَشَائِرِهِمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَأَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ"[2].

 

هذا، وقد ضيّق المنصور العبّاسيّ على الإمام الصادق عليه السلام إلى أن وصل به المقام أن يصفّيه جسديّاً للتخلّص من خطره على حكمه، وكان يقول: "إنّ جعفر بن محمّد يُلحد في سلطاني، قتلني اللَّه إن لم أقتله"[3].

 

وقد صرّح بذلك مراراً وتكراراً مفصحاً عن نواياه الخبيثة لقتل الإمام الصادق عليه السلام، حتّى أقدم على الفتك به عليه السلام واغتياله سنة 148هـ[4] بدسّ السمّ إليه على يد عامله في المدينة.

 

ولمّا علم الإمام عليه السلام أنّ أجله قد حان، أوصى بجميع وصاياه إلى ولده الإمام الكاظم عليه السلام، وكان منها تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه، كما أنّه كان قد نصّبه إماماً من بعده، لكنّه عهد بأمره أمام الناس إلى خمسة أشخاص، حفاظاً على حياة الإمام موسى بن جعفرعليه السلام، وكان المنصور يراقب الحدث. يقول أحد عمّال المنصور: "بَعَثَ إِلَيَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَأَتَيْتُهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ... ثُمَّ قَالَ لِيَ: اكْتُبْ (إلى والي المدينة) إِنْ كَانَ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ فَقَدِّمْهُ وَاضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ أَوْصَى إِلَى خَمْسَةٍ وَاحِدُهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ"[5].

 


[1] سورة إبراهيم، ج14، ص 46.

[2] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 667 - 668.

[3] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج20، ص 408.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 472.

[5] المصدر نفسه، ص 310.

 

227


198

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

وهكذا انتهت حياة إمام صادق بارّ، لم يعرف الملل ولا الكلل مع كلّ ما قاساه وعاناه، وارتقى إلى ربّه شهيداً بعد أن دفع عجلة التشيّع خطوات لم يعد بالإمكان الرجوع فيها، تاركاً لشيعته إرثاً ضخماً حفظ لهم دينهم من خلاله.

 

 

228


199

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

علّمني إمامي:

- أن أكون أنموذجاً جعفريّاً حاوياً للأخلاق والعلم قلباً وعملاً، فيكون العلم سلطاني.

 

- أن أكون أميناً على الأسرار، بصيراً بعواقب الأمور.

 

- أن أتفقّه في ديني، فأستغني عن السؤال.

 

- أن أحمل بصيرةً وعشقاً لإمامي يجعلاني من الداخلين في تنّوره.

 

- أن أنضوي في التنظيم الخاصّ لإمامي، ولا أكتفي بالموالاة الصوريّة.

 

- أن أحمل همّ المشروع الحضاريّ لإمام زماني وأسير وَفقه.

 

- أن يكون البرهان والمنطق القويم والحوار المتّزن هي وسائلي للتكلّم مع الآخر، أيّ آخر.

 

229


200

الدرس الرابع عشر: الإمام جعفر الصادق عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

 

- عمد الإمام الصادق عليه السلام إلى العمل على جبهتين كآبائه عليهم السلام، جبهة العمل العامّ، وجبهة العمل الخاصّ المتمثّلة ببناء الجماعة الصالحة التي أخذت طابعاً مذهبيّاً أكثر فأكثر في عصره عليه السلام.

 

- انبرى الإمام الصادق عليه السلام لمواجهة التيّارات الفكريّة المنحرفة من خلال المحاورات والمناظرات، واللّعن والتبرّي من الغلاة خاصّة. كما تصدّى عليه السلام للانحرافات التي طالت الفقه والشريعة ومناهج فهمها، حيث راج القياس والاستحسان والرأي، فكان يناظرهم بفساد رأيهم ويبيّن رأيه الحقّ.

 

- ركّز الإمام الصادق عليه السلام على تثقيف الناس على عدم شرعيّة الحكومات الجائرة، واستفاد من فرصة ضعف السلطة الحاكمة فطرح مسألة ولاية أهل البيتعليهم السلام، ونادى بها بشكل علنيّ في بعض المواقف.

 

- توسّع النشاط العلميّ للإمام الصادق عليه السلام، فطال مختلف العلوم وطلّابها، وحثّ على تدوين الحديث والحفاظ على مضمونه، واعتنى بالتخصّص العلميّ لدى أصحابه، كما أولى اهتماماً كبيراً بالميدان الفقهيّ والاجتهاديّ، فعمل على تأهيل أصحابه للإفتاء، فأسّس لهم الأصول، وأمرهم بالتفريع.

 

- كان للإمام الصادق عليه السلام توجيهات سياسيّة لأصحابه مناوئة للسلطة، فكان يحرّم عليهم، مثلاً، التحاكم إلى حكّام الجَور وقضاتهم، ويأمرهم بأن يتّخذوا رواة الحديث حكّاماً.

 

- بدأ الإمام الصادق عليه السلام عملاً دؤوباً لا هوادة فيه على الصعد كافّةً، العلميّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وبدأ يُعدّ العدّة لتحقيق الآمال، حيث كان ينقل ما يريد لشيعته عبر وكلائه وأصحابه، وكانت تصله الحقوق الشرعيّة عبرهم كذلك.

 

 

 

230


201

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

الدرس الخامس عشر

الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى الظروف التي رافقت بداية إمامة موسى الكاظم عليه السلام وملامح عصره.

 

- يبيّــن بعض الخصــائـص الشخصــيّة للإمـام الكاظم عليه السلام.

 

- يتبيّــن الإجــراءات التـي اعتمــدها الإمــام الكاظم عليه السلام لتبيان إمامته.

 

231


202

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

الإمام الكاظم عليه السلام

هو موسى بن جعفر بن محمّد عليه السلام، سابع أئمّة أهل البيت عليهم السلام، العظيم الشأن، الجادّ في العبادة، العافي عن الناس. أمّه هي من الإماء اللّواتي أُحضرن إلى أسواق يثرب، وقد خصّها اللَّه - عزّ وجلّ - بالشرف، وحباها بالمنزلة العظيمة، أن صارت زوجةً لأعظم خلق اللَّه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ثمّ كانت وعاءً لأشرف خلق اللَّه الإمام موسى الكاظم عليه السلام. كانت من أعزّ نساء الإمام الصادق عليه السلام، وأحبّهنّ إليه، فكانت السيّدة حميدة تُعامل في بيتها معاملة كريمة، وكان الإمام الصادق عليه السلام يُثني عليها، فيقول: "حَمِيدَةُ مُصَفَّاةٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ كَسَبِيكَةِ الذَّهَبِ، مَا زَالَتِ الْأَمْلَاكُ تَحْرُسُهَا حَتَّى أُدِّيَتْ إِلَيَّ كَرَامَةً مِنَ اللَّه لِي، وَالْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي‏..."[1]، وقد رُوي عن الإمام الباقرعليه السلام أنّه قال في حقّها: "حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة"[2].

 

ولد الإمام موسى الكاظم عليه السلام يوم الأحد في السابع من شهر صفر سنة (128هـ)[3]، وقيل في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في مدينة الأبواء بين مكّة والمدينة، بعد عودة الإمام الصادق عليه السلام وأهله من الحجّ سائرين باتّجاه يثرب، وعلى الأثر بيّن الإمام الصادق عليه السلام أنّ وليده المبارك هذا هو الإمام المفروض الطاعة، فقال لأصحابه بعد كثيرٍ من الفرح والسرور: "فدونكم، فواللَّه هو صاحبكم"[4]، وكان ذلك في أيّام حكم عبد الملك بن مروان.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 477.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 6.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 2.

 

233


203

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

الإمام الكاظم عليه السلام

هو موسى بن جعفر بن محمّد عليه السلام، سابع أئمّة أهل البيت عليهم السلام، العظيم الشأن، الجادّ في العبادة، العافي عن الناس. أمّه هي من الإماء اللّواتي أُحضرن إلى أسواق يثرب، وقد خصّها اللَّه - عزّ وجلّ - بالشرف، وحباها بالمنزلة العظيمة، أن صارت زوجةً لأعظم خلق اللَّه الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ثمّ كانت وعاءً لأشرف خلق اللَّه الإمام موسى الكاظم عليه السلام. كانت من أعزّ نساء الإمام الصادق عليه السلام، وأحبّهنّ إليه، فكانت السيّدة حميدة تُعامل في بيتها معاملة كريمة، وكان الإمام الصادق عليه السلام يُثني عليها، فيقول: "حَمِيدَةُ مُصَفَّاةٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ كَسَبِيكَةِ الذَّهَبِ، مَا زَالَتِ الْأَمْلَاكُ تَحْرُسُهَا حَتَّى أُدِّيَتْ إِلَيَّ كَرَامَةً مِنَ اللَّه لِي، وَالْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي‏..."[1]، وقد رُوي عن الإمام الباقرعليه السلام أنّه قال في حقّها: "حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة"[2].

 

ولد الإمام موسى الكاظم عليه السلام يوم الأحد في السابع من شهر صفر سنة (128هـ)[3]، وقيل في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في مدينة الأبواء بين مكّة والمدينة، بعد عودة الإمام الصادق عليه السلام وأهله من الحجّ سائرين باتّجاه يثرب، وعلى الأثر بيّن الإمام الصادق عليه السلام أنّ وليده المبارك هذا هو الإمام المفروض الطاعة، فقال لأصحابه بعد كثيرٍ من الفرح والسرور: "فدونكم، فواللَّه هو صاحبكم"[4]، وكان ذلك في أيّام حكم عبد الملك بن مروان.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 477.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 6.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 2.

 

233


204

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

وكان من ألقابه عليه السلام: العبد الصالح، الصابر، الأمين، باب الحوائج، النفس الزكيّة، زين المجتهدين، الوفيّ، الزاهر، والكاظم، والأخير من أشهر ألقابه، وذلك لكثرة كظمه الغيظ وعدم دعائه على أعدائه مع ما لقي منهم من الأذى. وكان عليه السلام كثيراً ما يُحسن إلى من يُسيء إليه[1]، وقال فيه الإمام الشافعيّ: "قبر موسى الكاظم الترياق المجرّب"[2].

 

وأمّا كنيته فهي: أبو إبراهيم، أبو عليّ، أبو إسماعيل وأبو الحسن الأوّل، وهي أشهرها[3]. وقد تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الصادق عليه السلام في سنة 148هـ، إلى سنة 183هـ، واستمرّت إمامته 35 سنة.

 

وُلد له من الأبناء عليه السلام سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى[4]. وقد أوصى عليه السلام قبل شهادته بالإمامة إلى ابنه الإمام عليّ الرضا[5] عليه السلام، بعد أن رحل الإمام الكاظم عليه السلام إلى جوار ربّه شهيداً مسموماً مظلوماً ببغداد في سجن السنديّ بن شاهك في الخامس والعشرين من رجب سنة183هـ، وهو ابن خمس وخمسين سنة تقريباً، ودُفن ببغداد في مقابر قريش[6].

 

بعضٌ من الخصائص الشخصيّة للإمام الكاظم عليه السلام

1- عبادته عليه السلام وتقواه:

لُقّب الإمام الكاظم عليه السلام بالعبد الصالح وزين المجتهدين، لكثرة عبادته وتهجّده وتقواه، فكان عليه السلام يصلّي نوافل اللّيل ويصلها بصلاة الصبح، ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس، ويخرّ للَّه ساجداً داعياً[7]. وعندما أودعه هارون الطاغية ظلمات السجون، شكر

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 323.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 318.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 323.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص244، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد (المجموعة)، مكتب آية الله العظمى المرعشي النجفي، إيران - قم، 1406ه، لا.ط، ص47.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص311.

[6] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 6.

[7] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 231.

 

234


205

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

اللَّه - عزّ وجلّ -، وقال: "اللَّهمّ إنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللَّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد"[1]. وكان من دعائه عليه السلام أيضاً: "عظُم الذنب من عبدك فلْيحسن العفو من عندك"[2]، وكان عليه السلام يبكي من خوف اللَّه كثيراً حتّى تجري دموعه على لحيته[3]. وقد ورد في زيارته ما يشير إلى شدّة عبادته وتقرّبه للَّه - عزّ وجلّ -: "اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَصَلِّ عَلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَصِيِّ الْأَبْرَارِ، وَإمَامِ الْأَخْيَارِ، وَعَيْبَةِ الْأَنْوَارِ، وَوَارِثِ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَالْحِكَمِ وَالْآثَارِ، الَّذِي كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ بِالسَّهَرِ إِلَى السَّحَرِ بِمُوَاصَلَةِ الِاسْتِغْفَارِ، حَلِيفِ السَّجْدَةِ الطَّوِيلَةِ، وَالدُّمُوعِ الْغَزِيرَةِ، وَالْمُنَاجَاةِ الْكَثِيرَةِ، وَالضَّرَاعَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْجَمِيلَةِ، وَمَقَرِّ النُّهَى، وَالْعَدْلِ، وَالْخَيْرِ، وَالْفَضْلِ، وَالنَّدَى، وَالْبَذْلِ، وَمَأْلَفِ الْبَلْوَى وَالصَّبْرِ، وَالْمُضْطَهَدِ بِالظُّلْمِ، وَالْمَقْبُورِ بِالْجَوْرِ، وَالْمُعَذَّبِ فِي قَعْرِ السُّجُون‏..."[4].

 

وقد قيل في سجدته المعروفة: "كانت لأبي الحسن موسى عليه السلام في بضع عشرة سنة سجدة في كلّ يوم بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال"[5]. وقد وصل المقام بعدوّه اللّدود هارون أن يقرّ ويعترف بفضيلته تلك، وأنّه المثل الأعلى في الإنابة إلى اللَّه تعالى، فعندما أودعه في سجن الربيع كان يطلّ من أعلى القصر فيرى ثوباً مطروحاً في مكان خاصّ من البيت لم يتغيّر موضعه، فيتعجّب من ذلك ويقول للربيع: "مَا ذَاكَ الثَّوْبُ الَّذِي أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا ذَاكَ بِثَوْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍعليه السلام، لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَجْدَةٌ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَقَالَ لِي هَارُونُ: أَمَا إِنَّ هَذَا مِنْ رُهْبَانِ بَنِي هَاشِمٍ، قُلْتُ: فَمَا لَكَ قَدْ ضَيَّقْتَ عَلَيْهِ فِي الْحَبْسِ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ، لَا بُدَّ مِنْ ذَلِك‏"[6].

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 240.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 228.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 231.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج99، ص 17.

[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 318.

[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 95.

 

235


206

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

2- كظمه عليه السلام لغيظه:

كان الحلم وكظم الغيظ من أبرز صفات الإمام موسى عليه السلام، حتّى كان لقبه الأشهر عليه السلام هو الكاظم، فقد أُثر عنه الكثير من المواقف التي تبيّن عظيم حلمه وعفوه عمّن أساء إليه في حقوقه الشخصيّة.

 

ففي حادثة أنّ رجلاً من وُلد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يُؤْذِي أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام، وَيَسُبُّهُ إِذَا رَآهُ، وَيَشْتِمُ عَلِيّاً عليه السلام، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ يَوْماً: دَعْنَا نَقْتُلْ هَذَا الْفَاجِرَ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَزَجَرَهُمْ أَشَدَّ الزَّجْرِ! وَسَأَلَ عَنِ الْعُمَرِيِّ، فَذُكِرَ أَنَّهُ يَزْرَعُ بِنَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ فَوَجَدَهُ فِي مَزْرَعَةٍ، فَدَخَلَ الْمَزْرَعَةَ بِحِمَارِهِ، فَصَاحَ بِهِ الْعُمَرِيُّ: لَا تُوطِئْ زَرْعَنَا، فَتَوَطَّأَهُ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام بِالْحِمَارِ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ وَجَلَسَ عِنْدَهُ، وَباسَطَهُ وَضَاحَكَهُ، وَقَالَ لَهُ: كَمْ غَرِمْتَ فِي زَرْعِكَ هَذَا؟

 

فَقَالَ لَهُ: مِائَةُ دِينَارٍ، قَالَ: وَكَمْ تَرْجُو أَنْ تُصِيبَ فِيهِ، قَالَ: لَسْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ، قَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ كَمْ تَرْجُو أَنْ يَجِيئَكَ فِيهِ، قَالَ: أَرْجُو فِيهِ مِائَتَيْ دِينَارٍ، قَالَ: فَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام صُرَّةً فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ وقَالَ: هَذَا زَرْعُكَ عَلَى حَالِهِ‏، وَاللَّه يَرْزُقُكَ فِيهِ مَا تَرْجُو، قَالَ: فَقَامَ الْعُمَرِيُّ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَصْفَحَ عَنْ فَارِطِهِ، فَتَبَسَّمَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِعليه السلام وَانْصَرَف‏"[1].

 

ومن آيات حلمه عليه السلام أنّه اجتاز ذات مرّة على جماعة من حسّاده وأعدائه، وكان فيهم ابن هيّاج، وهو مبغضٌ للإمام عليه السلام، فأمر بعض أتباعه أن يتعلّق بلجام بغلة الإمام عليه السلام ويدّعيها لنفسه، فمضى الرجل إلى الإمام عليه السلام وتعلّق بزمام بغلته وادّعاها له، فعرف الإمام الكاظم عليه السلام غايته فما كان منه إلّا أن نزل عن بغلته وأعطاها للرجل![2].

 

وكان الإمام الكاظم عليه السلام يوصي أبناءه بالتَحَلّي بصفة الحلم الكريمة، فقد قال لهم: "يَا بَنِيَّ، إِنِّي مُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ، مَنْ حَفِظَهَا لَمْ يَضَعْ مَعَهَا: إِنْ أَتَاكُمْ آتٍ فَأَسْمَعَكُمْ

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 233.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 148.

 

236


207

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

فِي الْأُذُنِ الْيُمْنَى مَكْرُوهاً ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأُذُنِ الْيُسْرَى فَاعْتَذَرَ وَقَالَ: لَمْ أَقُلْ شَيْئاً، فَاقْبَلُوا عُذْرَه‏"[1].

 

3- إحسانه إلى الناس:

كان الإمام الكاظم عليه السلام من أندى الناس كَفّاً، ومن أكثرهم عطاءً للبائسين والمحرومين، فكان يخرج في غَلَسِ اللّيل البهيم، فيوصل البؤساء والضعفاء وهم لا يعلمون من أيّ جهة تَصِلهم هذه المَبَرّة. وكانت صِلاته لهم تتراوح ما بين المائتي دينار إلى الأربعمائة دينار، وكانت صرار الإمام موسى الكاظم عليه السلام مثلاً في العطاء[2].

 

ومن أبرز مآثر الإمام الكاظم عليه السلام إغاثته للملهوفين، وإنقاذهم ممّا أَلَمّ بهم من مِحَن الأيّام وخطوبها، وكانت هذه الظاهرة من أحبّ الأمور إليه .وقد أفتى عليه السلام شيعته بجواز الدخول في حكومة هارون بشرط الإحسان إلى الناس، وقد شاعت عنه هذه الفتوى: "كَفّارَةُ عَمَل السّلطان الإحسان إلى الإخوان"[3]. ويبدو أنّه في عصر الإمام الكاظم عليه السلام لم يعد بالإمكان اجتناب الدخول في فروع الجهاز الحاكم، كما كان الوضع عليه سابقاً.

 

ومن الناس الذين أغاثهم عليه السلام شخصاً من أهالي الريّ، كانت عليه أموال طائلة لحكومة الريّ، وقد عَجز عن تَسديدها، وخاف من الحكومة أن تصادر أمواله، وتُنزِل به العقوبة الصارمة، فسأل عن الحاكم فأخبروه أنّه من شيعة الإمام الكاظم عليه السلام، فسافر إلى المدينة .

 

فلمّا انتهى إليها تَشرّف بمقابلة الإمام عليه السلام وشكا إليه حالَه وَضِيقَ مجالِه، فاستجاب عليه السلام له، وكتب إلى حاكم الريّ رسالة جاء فيها بعد البسملة: "اِعلَم، أنّ للَّه تحت عرشه ظِلالاً لا يسكنها إلّا من أسدَى إلى أخيه معروفاً، أو نَفّس عنه كُربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام".

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 218.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 318.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص 321.

 

237


208

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

ثمّ توجّه الرجل إلى الحاكم ليلاً، فطرق باب بيته، فخرج غلامه، فقال له: من أنت؟ فقال رسولُ الصابر موسى بن جعفر عليه السلام، فَهَرع إلى مولاه فأخبره بذلك، فخرج حافي القدمين مستقبلاً له، فعانقه وَقبَّل ما بين عَينيه، وطفق يسأله بلهفة عن حال الإمام عليه السلام وهو يجيبه، ثمّ ناوله رسالة الإمام عليه السلام، فأخذها بإكبارٍ وقَبّلَها، فلمّا قرأها استدعى بأمواله وثيابه فقاسمه في جميعها، وأعطاه قيمة ما لا يَقبلُ القسمة، وهو يقول له: يا أخي، هل سَرَرتُك؟ وسارع الرجل قائلاً: إي واللَّه، وزدتَ على ذلك، ثمّ استدعى الحاكم السجِلّ، فَشَطب على جميع الديون التي على الرجل، وأعطاه براءة منها.

 

فخرج وقد غَمَرَتْهُ موجات من الفرح والسرور، ورأى أن يجازي إحسانه بإحسان، فيمضي إلى بيت اللَّه الحرام ويدعو له، ويخبر الإمام عليه السلام بما أسداه عليه من المعروف، ففعل، فَسُرَّ الإمام عليه السلام بذلك سروراً بالغاً، والتفت إليه الرجل قائلاً: يا مولاي، هل سَرَّكَ ذلك؟ فقال الإمام عليه السلام: "إي واللَّه، لقد سَرَّني، وسَرَّ أمير المؤمنين، واللَّه لقد سَرَّ جَدي رسول اللَّه، ولقد سرّ اللَّه تعالى"[1]. فما أعظمها تلك القيم التي عمل الإمام الكاظم عليه السلام على إرسائها في المجتمع وبين أصحابه وخاصّته تحديداً، من إغاثة الملهوف والإحسان إلى الإخوان وإعالتهم، وشدّ عضدهم ببعضهم! وهي أوصاف لو انتشرت وعمّت في المجتمع لأقالته ونعشته وسارت به نحو التكامل الجماعيّ لأبنائه.

 

4- علمه عليه السلام:

إنّ أعظم شهادة تلقّاها الإمام الكاظم عليه السلام بشأن وفور علمه عليه السلام وسَعته وكماله، هي شهادةٌ من الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: "إنّ ابني هذا لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم"[2].

 

وقال الشيخ المفيد: "وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى عليه السلام فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه"[3]. حتّى شهد له هارون العبّاسيّ بذلك، فقال لابنه المأمون بعد أن

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 174.

[2] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 330.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 335.

 

238


209

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

سأله عنه: "هذا وارث علم النبيّين، هذا موسى بن جعفر، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا"[1].

 

وفي خبر عن أبي حنيفة أنّه قال: "حججت في أيّام أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، فلمّا أتيت المدينة دخلت داره، فجلست في الدهليز أنتظر إذنه، إذ خرج صبيّ فقلت: يا غلام، ممّن المعصية؟ فقال: إنّ السيّئات لا تخلو من إحدى ثلاث: إمّا أن تكون من اللَّه وليست منه، فلا ينبغي للربّ أن يعذّب العبد على ما لا يرتكب، وإمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك، فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضعيف، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته. قال أبو حنيفة: فانصرفت ولم ألقَ أبا عبد اللَّه، واستغنيت بما سمعت"[2].

 

ظروف عصر الإمام الكاظم عليه السلام وملامحه

1- ادّعاء الإمامة:

إنّ أحد الأمور البالغة الأهمّيّة التي أضيفت وبشكل قويّ إلى مهامّ كلّ إمام، بدءاً من الإمام الكاظم عليه السلام، هي مهمّة تثبيت إمامة الإمام والاستدلال على ذلك عند الشيعة، فمنذ عهد الإمام الكاظم عليه السلام نلاحظ أنّ ظاهرة ادّعاء الإمامة قد كثرت، فكثرت الفرق الشيعيّة وتعدّدت، وقد كان للعديد من العوامل الدور المهمّ في ذلك. ومن تلك العوامل أنّ الإمام السابق كان يخفي في كثير من الأحيان شخصيّة خليفته، خوفاً من السلطات التي أولت عناية خاصّة لملاحقة شخص الإمام لتصفيته، ووضعت لذلك الجواسيس والعيون، حتّى خاف الشيعة في العصور اللّاحقة من لفظ اسم الإمام كما سيأتي، وكانوا يقولون: صاحبنا...

 

أضف إلى ذلك عاملاً آخر، وهو عامل حبّ الدنيا والرئاسة والطمع في الأموال التي كانت تصل إلى يد الإمام المعصوم عليه السلام، فبفضل جهود الأئمّة السابقين عليهم السلام انتشر

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 376.

[2] ابن شعبة الحراني، تحف العقول، مصدر سابق، ج2، ص 412.

 

239


210

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

التشيّع وعمّ، ولم يعد في مقدور أحد الوقوف في وجه تلك الموجة الحقّة، ومن نتائج ذلك أنّ أموال الحقوق الشرعيّة كانت تصل إلى الأئمّةعليهم السلام عبر وكلائهم السرّيّين، وكان إمام الشيعة يتربّع عرش القلوب، وتصبو إليه نفوس الناس لإقامة القسط، فكان على كلّ حال الأوفر حظّاً على الدوام في عودة الحكم إليه، فاجتمعت تلك العوامل وغيرها لتنشأ ظاهرة مؤلمة تسهم في تشتّت التشيّع وتقويض حركته الهادرة، فبرزت فرقٌ منحرفة تصدّى لها إمام كلّ عصر بحسبها، وهذا ما حصل في بداية تولّي إمامنا الصابر الكاظم عليه السلام لإمامته.

 

فقد عمد الإمام الصادق عليه السلام عند شهادته إلى التمويه على وصيّه وخليفته، فأوصى إلى خمسة أشخاص من بينهم الإمام الكاظم عليه السلام والمنصور العبّاسيّ، كما مرّ معنا، بغية الحفاظ على حياة وصيّه الشرعيّ، واستطاع بذلك أن يرشد شيعته إلى الحقيقة المستترة وراء تلك الوصيّة، مضافاً إلى العديد من النصوص التي بيّن فيها إمامة الكاظم عليه السلام منذ صغره، كما مرّ.

 

ومع ذلك، فقد ظهرت الفرق الشيعيّة الطفيليّة التي ادّعى زعماؤها الإمامة ودعوا إلى أنفسهم، مضافاً إلى فرق أخرى استغلّ دعاتها الوضع المضطرب، وادّعوا توقّف سلسلة الإمامة. ولبيان واقع الحال، وانقسام الأمّة بعد الإمام الصادق عليه السلام، وارتباكها في تشخيص الإمام إلى ستّ فرق بعد الإمام الصادق[1] عليه السلام، كانت الفرق كما يلي:

1- الناووسيّة: وهم القائلون بمهدويّة الإمام الصادق عليه السلام، وبالتالي عدم وجود إمام بعده.

 

2- الإسماعيليّة الخالصة: الّذين يصرّون على أنّ إسماعيل الابن الأكبر للإمام الصادق عليه السلام لم يمت، ولا زال حيّاً، وسيعود في آخر الزمان، وهو المهديّ الموعود.

 

3- المباركيّة: وهم الّذين يعتقدون بإمامة محمّد بن إسماعيل.

 

4- السمطيّة: وهم المعتقدون بإمامة محمّد بن جعفر المعروف بالديباجة.

 


[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد، الفصول المختارة، تحقيق عليّ مير شريفي، الناشر: مؤتمر الشيخ المفيد، 1413هـ ط1، ص 305.

 

340


211

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

5- الفطحيّة: وهم الّذين كانوا يعتقدون بإمامة عبد اللَّه الأفطح ابن الإمام الصادق عليه السلام.

 

6- وبقيت فرقة أخرى: اعتقدت بإمامة موسى بن جعفرعليه السلام، وهي الفرقة الحقّة.

 

2- مواجهة مدّعي الإمامة:

استخدم الإمام الكاظم عليه السلام أسلوب الإعجاز أو الكرامة في كشفه لمدّعي الإمامة، وكذا فعل مع ادّعاء أخيه عبد اللَّه الأفطح الإمامةَ. فهو لم يذهب في تصادم مباشر معه، ولا أعلن القطيعة والحراب، فالكلام سوف يُردّ عليه بالكلام، ولا بدّ لإمام العلم والأخلاق من أن يثبّت أسس تمييز الإمام الواقعيّ من غيره ليمتلك الشيعة ذلك المعيار، يجرونه متى بزغت قرون الشيطان متمثّلة بمدّعي الإمامة.

 

لذا، نرى الإمام الكاظم عليه السلام قد ترك للشيعة وعلمائها الحرّيّة في أن تكتشف بنفسها الإمام الواقعيّ وصفاته الواجب توافرها، ليربّي الشيعة على ذلك، ثمّ استخدم الأسلوب الإعجازيّ الغيبيّ لكشف زيف هؤلاء، ففي مواجهة هذا الإدّعاء من عبد اللَّه الأفطح، تقول الرواية إنّه "أمر الإمام الكاظم عليه السلام بجمع حطب كثير في وسط داره فأرسل إلى أخيه عبد اللَّه يسأله أن يصير إليه، فلمّا صار عنده ومع موسى جماعة من وجوه الإماميّة، وجلس إليه أخوه عبد اللَّه، أمر موسى عليه السلام أن يجعل النار في ذلك الحطب كلّه، فاحترق كلّه، ولا يعلم الناس السبب فيه، حتّى صار الحطب كلّه جمراً، ثمّ قام موسى عليه السلام وجلس بثيابه في وسط النار، وأقبل يحدّث الناس ساعة، ثمّ قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس، فقال لأخيه عبد اللَّه: إن كنت تزعم أنّك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس، فقالوا: فرأينا عبد اللَّه قد تغيّر لونه، فقام يجرّ رداءه حتّى خرج من دار موسى عليه السلام"[1]. ثمّ إنّ منهم- تابعي الأفطح- من رجع عن القول بإمامته لمّا امتحنه بمسائلَ من الحلال والحرام، ولم يكن عنده فيها جواب[2].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج47، ص 251.

[2] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، معجم رجال الحديث، لا.ن، لا.م، 1413ه - 1992م، ط5، ج11، ص 154.

 

241


212

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

كذلك، فقد أخبر الإمام الكاظم عليه السلام العديد من الأمور الغيبيّة، وكان يعقّبها باستدلاله على إمامته، منها ما جاء عن إسحاق بن عمّار أنّه قال: "كنت عند أبي الحسن عليه السلام ودخل عليه رجل، فقال له أبو الحسن عليه السلام: يا فلان، إنك تموت إلى شهر، قال: فأضمرت في نفسي كأنّه يعلم آجال شيعته، قال: فقالعليه السلام: يا إسحاق، وما تنكرون من ذلك؟ وقد كان رشيد الهجريّ مستضعفاً، وكان يعلم علم المنايا والبلايا، فالإمام أولى بذلك، ثمّ قال: يا إسحاق، تموت إلى سنتين، ويتشتّت أهلك وولدك وعيالك وأهل بيتك، ويفلسون إفلاساً شديداً"[1]. فبيّن عليه السلام أنّ الإمام يمكن له أن يعلم الغيب فيما لو كان هناك مصلحة في ذلك، وشاء اللَّه - عزّ وجلّ -، لكنّه أولى بكلّ كرامة، وهذا ما قاله الإمام، "فالإمام أولى بذلك".

 

3- الأوضاع السياسيّة والعلميّة:

قضى المنصور العبّاسيّ على الثورات العلويّة في زمانه، وتجرّأ على قتل الإمام الصادق عليه السلام كذلك، لكن طغيانه وغطرسته كلّها لم تكن لتنزع هاجس الخوف والقلق الذي ظلّ يلاحقه بسبب غصبه خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو عالم بأهلها، وعليه، لم يغيّر المنصور من سياسته تجاه العلويّين، واستمرّ في اضطهادهم وزجّهم في السجون المظلمة، وقام بممارسات يندى لها الجبين بحقّهم.

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله عن تلك الفترة: "... أيّ تهديدٍ جدّيّ، ما كان ليزلزل جهاز الحكومة، وما كان ليجعل الحاكم في هذا المقطع الزمنيّ غافلاً عن التيّار العميق والمستمرّ لدعوة أهل البيتعليهم السلام. في هذا العصر، الشيء الوحيد الّذي كان من الممكن أن يمنح جهاد أهل البيت عليهم السلام وحركتهم الفكريّة والسياسيّة، هم وأتباعهم المقرّبين، مجالاً للاستمرار والتكامل، هو السعي دون هوادة، والجهاد الخطير، واعتماد أسلوب التقيّة الإلهيّة. وبهذا اللّحاظ تتّضح العظمة المدهشة لجهاد موسى بن جعفر عليه السلام"[2].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 42، ص 123.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 388.

 

242


213

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

يبيّن الإمام الخامنئيّ بهذه الكلمات الموجزة مآل الأمور في تلك الفترة، والمسلك الذي تحتّم على الإمام الكاظم عليه السلام سلوكه، ألا وهو التقيّة، فقد طارد العبّاسيّون ذرّيّة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه السلام وأتباعهم، ولاحقوهم على امتداد العالم الإسلاميّ، وحاولوا استئصالهم خوفاً من ثوراتهم ومكانتهم في المجتمع، ومدى تأثيرهم في قلوب الناس. وقد أُحصي الكثير من الشهداء الذين قُتلوا بدءاً من تسلّم أبي العبّاس السفّاح السلطة حتّى شهادة الإمام موسى بن جعفرعليه السلام، والشهيد الحسين بن عليّ بن الحسن شهيد فخّ الّذي استشهد سنة 169هـ، مضافاً إلى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام نفسه على يد هارون سنة 183هـ بعد سنين قضاها يتنقّل في سجون هذا الطاغية، أكبر مثالٍ على ذلك.

 

وننقل حادثة مؤلمة في هذا الإطار، تبيّن الواقع الذي وصل إليه الشيعة والإمام الكاظم عليه السلام عشيّة شهادة الإمام الصادق عليه السلام، حيث رُوي عن هشام بن سالم، قال: "كُنَّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهعليه السلام أَنَا وَصَاحِبُ الطَّاقِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ صَاحِبُ الْأَمْرِ بَعْدَ أَبِيهِ... فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَسْأَلُهُ عَمَّا كُنَّا نَسْأَلُ عَنْهُ أَبَاهُ، فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الزَّكَاةِ... فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ ضُلَّالاً لَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَتَوَجَّهُ أَنَا وَأَبُو جَعْفَرٍ الْأَحْوَلُ. فَقَعَدْنَا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ بَاكِينَ حَيَارَى، لَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَتَوَجَّهُ، وَلَا مَنْ نَقْصِدُ وَنَقُولُ: إِلَى الْمُرْجِئَةِ إِلَى الْقَدَرِيَّةِ إِلَى الزَّيْدِيَّةِ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الْخَوَارِجِ. وبينما نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ رَجُلاً شَيْخاً لَا أَعْرِفُهُ يُومِئُ إِلَيَّ بِيَدِهِ فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ عَيْناً مِنْ عُيُونِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ جَوَاسِيسُ يَنْظُرُونَ إِلَى مَنِ اتَّفَقَتْ شِيعَةُ جَعْفَرٍ عليه السلام عَلَيْهِ فَيَضْرِبُونَ عُنُقَهُ، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ فَقُلْتُ لِلْأَحْوَلِ: تَنَحَّ فَإِنِّي خَائِفٌ عَلَى نَفْسِي وَعَلَيْكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُنِي لَا يُرِيدُكَ، فَتَنَحَّ عَنِّي لَا تَهْلِكْ وَتُعِينَ عَلَى نَفْسِكَ، فَتَنَحَّى غَيْرَ بَعِيدٍ وَتَبِعْتُ الشَّيْخَ، وَذَلِكَ أَنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ.

 

فَمَا زِلْتُ أَتْبَعُهُ وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْمَوْتِ حَتَّى وَرَدَ بِي عَلَى بَابِ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ثُمَّ خَلَّانِي وَمَضَى، فَإِذَا خَادِمٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ لِيَ: ادْخُلْ، رَحِمَكَ اللَّه، فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَبُو الْحَسَنِ

 

243


214

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

موسى عليه السلام فَقَالَ لِيَ ابْتِدَاءً مِنْهُ: لَا إِلَى الْمُرْجِئَةِ وَلَا إِلَى الْقَدَرِيَّةِ وَلَا إِلَى الزَّيْدِيَّةِ وَلَا إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا إِلَى الْخَوَارِجِ، إِلَيَّ إِلَيَّ.

 

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَضَى أَبُوكَ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: مَضَى مَوْتاً؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَنْ لَنَا مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه أَنْ يَهْدِيَكَ هَدَاكَ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ عَبْدَ اللَّه يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، قَالَ: يُرِيدُ عَبْدُ اللَّه أَنْ لَا يُعْبَدَ اللَّه... قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَنْ لَنَا مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّه أَنْ يَهْدِيَكَ هَدَاكَ، قَالَ: قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأَنْتَ هُوَ؟

 

قَالَ: لَا، مَا أَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَمْ أُصِبْ طَرِيقَ الْمَسْأَلَةِ (أي أعرف الطريقة الصحيحة للسؤال)، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، عَلَيْكَ إِمَامٌ؟ قَالَ: لَا، فَدَاخَلَنِي شَيْ‏ءٌ لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللَّه -عزّ وجلّ- إِعْظَاماً لَهُ وَهَيْبَةً أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحُلُّ بِي مِنْ أَبِيهِ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَسْأَلُكَ عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُ أَبَاكَ، فَقَالَ: سَلْ تُخْبَرْ، وَلَا تُذِعْ، فَإِنْ أَذَعْتَ فَهُوَ الذَّبْحُ‏. فَسَأَلْتُهُ فَإِذَا هُوَ بَحْرٌ لَا يُنْزَفُ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، شِيعَتُكَ وَشِيعَةُ أَبِيكَ ضُلَّالٌ فَأُلْقِي إِلَيْهِمْ وَأَدْعُوهُمْ إِلَيْكَ وَقَدْ أَخَذْتَ عَلَيَّ الْكِتْمَانَ؟ قَالَ: مَنْ آنَسْتَ مِنْهُ رُشْداً فَأَلْقِ إِلَيْهِ وَخُذْ عَلَيْهِ الْكِتْمَانَ، فَإِنْ أَذَاعُوا فَهُوَ الذَّبْحُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِه‏"[1].

 

وهذه الحادثة هي غاية في الأهمّيّة، حيث تنقل لنا كلّ ما نريد قوله، فالأجواء القمعيّة، والحذر، والتحسّب، وانتشار الرعب والجواسيس والعيون، ذلك كلّه بادٍ فيها، كما تُبيّن لنا هذه الحادثة أجواء التقيّة والتكتّم الشديد الذي فرضه الإمام الكاظم عليه السلام على نفسه وهيّأ شيعته له، فكان أمره خفيّ لا يُكشف إلّا عند من يكتمه.

 

وأمّا على المستوى العلميّ، فقد كثرت الشبهات على الناس، ونشأ الكثير من الفرق والمذاهب والتيّارات المنحرفة، حتّى وصل بعضها إلى الإلحاد، ويبدو ذلك واضحاً في الرواية السابقة، حيث عدّد هشام المعتزلة والمرجئة والخوارج.. مضافاً إلى عقائد الجبر والغلوّ ومذهب أهل الحديث، وكلّها فرق قويت شوكتها وصار لها أتباع وآراء تسأل

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج‏1، ص 352.

 

244


215

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

الناس عنها، وقد وجدت هذه الفرق جوّاً مساعداً للانتشار، وكلّها كانت تخدم الجهاز الحاكم بشكل أو بآخر، ومن هنا كان الحكّام يسمحون لها بالتحرّك والنشاط، وكان الإمام الكاظم عليه السلام يحذّر من تلك المذاهب ويواجهها بحسب الظروف ويبيّن فساد رأيها.

 

أضف إلى أنّه من الأساليب الّتي استخدمتها السلطات العبّاسيّة للتعتيم على مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام، وتضعيف دورهم العلميّ والفكريّ سياسةُ خلق البدائل العلميّة وتقويتها من خلال دعم السلطة لها، وهي سياسة وعّاظ السلاطين، ليغطّوا بذلك الفراغ الحاصل من عزل أهل البيت عليهم السلام ولتأييد السياسة الحاكمة، فتوحي للأمّة بأنّ الخليفة على الخطّ الإسلاميّ وعلى نهج النبوّة.

 

فالمنصور وجد (مالك بن أنس) ممّن تجاوب معسياسته، وهذا ما دفع بالمنصور إلى أن يفرض كتاب مالك (الموطّأ) على الناس بالسيف ثمّ جعل لمالكٍ السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة، فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام. وحينما وفد الشافعيّ إلى مالك وتشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه، قال له الوالي: "إن أمشِ من جوف المدينة إلى جوف مكّة حافياً راجلاً أهون عليّ من المشي إلى باب مالك، ولست أرى الذلّ حتّى أقف على بابه"[1].

 


[1] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، مصدر سابق، ج51، ص 286.

 

245


216

الدرس الخامس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- هو موسى بن جعفر بن محمّد عليه السلام، سابع أئمّة أهل البيت عليهم السلام. أمّه حميدة كانت أمَة أُحضرت إلى يثرب، وقد شاء اللَّه أن تكون وعاءً لأشرف خلق اللَّه.

 

- ولد الإمام موسى الكاظم عليه السلام في السابع من شهر صفر سنة 128ه، في مدينة الأبواء.

 

- عُرف الإمام الكاظم عليه السلام بكثرة عبادته وتقواه، فكان يصلّي نوافل اللّيل ويَصِلها بصلاة الصبح، ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس، ويخرّ للَّه ساجداً داعياً، كما سمّي "الكاظم"، لعظيم حلمه الذي ظهر منه، فكان يعفو عمّن أساء إليه ويحسن إليه ولا يبالي.

 

- كذلك عُرف الإمام الكاظم عليه السلام بكثرة عطائه وصُرَره التي كانت بين 200 و400 دينار. هذا، وقد شهد له الإمام الصادق عليه السلام بوفرة علمه منذ صغره، وكان يبيّن ذلك لأصحابه ليدلّل على إمامته.

 

- منذ عصر الإمام الكاظم عليه السلام ازدادت ظاهرة ادّعاء الامامة فكثرت الفرق الشيعيّة وتعدّدت.

 

- عمد الإمام الصادق عليه السلام عند شهادته إلى التمويه على وصيّه، حفاظاً على حياته، ثمّ استخدم الإمام الكاظم عليه السلام أسلوب الإعجاز أو الكرامة في كشفه لمدّعي الإمامة وتثبيت إمامته، فتناظر مع أخيه الأفطح، وطلب منه الجلوس بين حطب مشتعل، إن كان هو الإمام الحقّ، كما فعل هو، فبُهت وبان كذبه.

 

- لجأ العبّاسيّون إلى سياسة خلق البدائل من خلال وعّاظ السلاطين، ليغطّوا بذلك الفراغ الحاصل من عزل أهل البيت عليهم السلام واستبعادهم.

 

246


217

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

الدرس السادس عشر

الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتبيّن السياسات والإجراءات التي اتّبعها الإمام الكاظم عليه السلام خلال فترة إمامته على أكثر من صعيد.

 

- يتعرّف إلى أهمّ المحطات والمواجهات مع خلفاء عصر الإمام عليه السلام.

 

- يستنتج الــدروس التربويّـــة من حيـــاة الإمام الكاظم عليه السلام.

 

247


218

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

سياسات الإمام الكاظم عليه السلام وإجراءاته خلال فترة إمامته عليه السلام

بدايةً، وقبل الحديث عن السياسات التي انتهجها الإمام الكاظمعليه السلام، لا بدّ من لفت النظر إلى مشكلة تعترض الباحث في سيرة الإمام الكاظم عليه السلام، وهي تتمثّل بنقصٍ حقيقيّ في الروايات التي تؤرّخ ممارسات الإمام عليه السلام، وتُظهر العديد من الأحداث غير المترابطة للوهلة الأولى، والتي تحتاج إلى مزيد عناية وتحليل لفهم مبتغى الإمام عليه السلام.

 

لكنّنا سنصبغ الإجراءات والسياسات التي اتّبعها الإمام عليه السلام، والتي نقلها التاريخ لنا ووثّقها، بصبغة المنهج العامّ الذي تبنّيناه منذ بداية هذا الكتاب المبنيّ على أنّ جهود الأئمّةعليهم السلام كانت بهدف إقامة الحكومة العلويّة العادلة من خلال العمل على مقتضيات الزمان (حفظ الشريعة، نشر العلم، بناء جماعة صالحة..)، وسنحاول فهم الأحداث التي جرت مع الإمام عليه السلام وأفعاله بناءً على ذلك، في محاولة لربط الأحداث بعضها ببعض، والخلوص إلى نتائج منسجمة مع القيم التي نادى بها الأئمّة عليهم السلام طيلة 250 سنة.

 

وعليه، فإنّ تحركات الإمام الكاظم عليه السلام هي في حقيقتها وجوهرها باتّجاه استعادة السلطة، سواء أفي المدى المنظور أم المدى البعيد، حيث سنلاحظ أنّ العديد من المواجهات التي خاضها الإمام عليه السلام مع خلفاء عصره قد بيّنت حقّه المشروع المسلوب، مع أنّه عليه السلامكثيراً ما بقي في دائرة الظلّ، مستعيناً بالتقيّة للحفاظ على حياته لمصلحة الأمّة.

 

فلا يمكن لنا فهم تحرّكات الإمام إلّا إذا وضعناها في إطار كهذا، حيث كلّما كانت

 

249


219

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

تسنح له الفرصة ليعلن عداءه للجهاز الحاكم ويبيّن حقّه ويفنّد ادّعاءاته، كان يستفيد من تلك الفرصة. أضف إلى أنّ الإمام الكاظم عليه السلام قد عمد إلى الدخول والنفوذ إلى مراكز حسّاسة في السلطة عبر محبّيه وشيعته الذين بثّهم في الجهاز الحاكم بشكل واسع، وهو أمر لا نلحظ حضوره القويّ في حياة مَن سبقه من الأئمّة عليهم السلام.

 

فمنذ عصر الإمام الكاظم عليه السلام نعاين حالات كهذه يستفيد منها الإمام عليه السلام لصالح الشيعة في التخفيف عنهم وقضاء حوائجهم، والحصول على معلومات حول تحرّكات الجهاز الحاكم. ولو لم يكن الإمام الكاظم عليه السلام قد وضع هدف إقامة الحكومة الإلهيّة نصب عينيه، وعمل لها في عصره علّ الفرصة المؤاتية تحصل، ولو لم يعمل على ذلك الهدف على المدى البعيد – أيضاً - بإعداده الشيعة والتمهيد لمن يأتي بعده، فلماذا هذه الإجراءات التعسّفيّة كلّها قد مورست بحقّه، والتي يعلوها السجن الطويل مرّات عدّة والتنقّل بين الزنازين، والتي كان آخرها السجن تحت رحمة خبيث لم يَلِن قلبه للإمام عليه السلام حتّى سمّه. إنّ تلك المضايقات الظاهرة كلّها من قبل العبّاسيّين تدلّلنا على وجود نشاط للإمام الكاظم عليه السلام لا يمكن تحمّله، فكان كلّ خليفة منهم يرى أنّ موسى الكاظم عليه السلام خطرٌ حقيقيٌّ على سلطانه. أمّا ندرة الأحداث المترابطة التي تبيّن لنا هذه الحقائق فلعلّها ترجع إلى الأسلوب السرّيّ والتقيّة والكتمان الذي اعتمده الإمام الكاظم عليه السلام خلال فترة إمامته، فتلك ضريبة لا بدّ منها، مضافاً إلى حقيقة أنّ أغلب التاريخ قد دُوّن بأقلام السلطان والحاكم وأعوانه المعادين لأهل البيت عليهم السلام.

وفيما يلي، سنعرض بعض السياسات التي قام بها الإمام الكاظم عليه السلام عموماً، وأخرى مع شيعته ومواليه، وثالثة مع حكّام زمانه ليتبيّن معنا بشكل عمليّ ما بيّناه سابقاً:

1- المحافظة على المسيرة العلميّة:

أظهر الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام العلوم والمعارف الإسلاميّة الأصيلة، وحدّدا المناهج والأصول والمعالم العامّة في جامعة أهل البيت عليهم السلام، وأَوليا ذلك أولويّةً جمّة. وقد عمل الإمام الكاظم عليه السلام على المحافظة على تلك المسيرة العلميّة العظيمة،

 

250


220

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

فأكمل دور أبيه الصادق عليه السلام في تخريج العلماء والطلّاب الذين يحملون الإسلام الحقيقيّ، وكذا عمل على توسعة رقعة هذا العلم، وتوسعة رقعة الموالين.

 

وأكّد الإمام الكاظم عليه السلام على ضرورة تدوين العلم، ولذا، كان يحضر العلماء في مجلسه ومعهم في أكمامهم الألواح، فإذا نطق عليه السلام بكلمة، وأفتى في نازلة أثبتوا ما سمعوه منه[1].

 

ولقد روى العلماء والفقهاء من أحاديثه عليه السلام الكثير، ودوّنوها في كتبهم ومسانيدهم، وفي شتّى العلوم التي تلقَّوها منه، على اختلاف آرائهم وتباين نزعاتهم، من الحكمة والتفسير والفقه والحديث، حتّى عمَّت آراؤه الخافقين. وكان من تلامذته: صفوان بن يحيى البجلي، ومحمّد بن أبي عمير، حمّاد بن عيسى الكوفيّ، عليّ بن يقطين، المفضّل بن عمر، هشام بن الحكم، وغيرهم الكثير، وهؤلاء كانوا من كبار العلماء والمحدّثين[2].

 

2- النفوذ إلى السلطة والتأثير من داخلها:

لقد استطاع الإمام الكاظم عليه السلام أن ينفذ من خلال بعض شيعته إلى مركز القرار، واضعاً عيوناً له تنقل توجّهات السلطة وتحرّكاتها للاتّقاء منها من جهة، ولمحاولة التأثير في تلك القرارات من جهة أخرى، أو على الأقلّ لخدمة المؤمنين ورفع الظلم عنهم بالقدر الممكن. ومن تلك الشخصيّات، عليّ بن يقطين، الّذي كان وزيراً لهارون، وقد قال له الإمام الكاظم عليه السلام: "يا عليّ، إنّ للَّه تعالى أولياءَ مع أولياء الظَّلَمة ليدفع بهم عن أوليائه، وأنت منهم، يا عليّ"[3].

 

وكان الإمام عليه السلام حريصاً على أمن عليّ بن يقطين وعدم كشفه من قبل هارون وأعوانه، فذات مرّة أهدى هارون إلى ابن يقطين ثياباً فاخرة فيها درّاعة فاخرة، فقام من فوره وأهداها إلى الإمام عليه السلام، فردّها الإمام عليه السلام، وكتب إليه: "احتفظ بها، ولا

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة (المقدّمة)، مصدر سابق، ج1، ص 64.

[2] الشيخ الطوسيّ، محمّد بن الحسن، رجال الطوسيّ، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم، قم، 1415ه، ط3، ص 331، وللاطّلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.

[3] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 388.

 

251


221

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

تُخرجها عن يدك، فسيكون لك بها شأن تحتاج إليها معه".

 

وبعدها جاء ساعٍ إلى هارون يقول له إنّ عليّ بن يقطين يقول بإمامة موسى الكاظم، وإنّه قد حمل إليه في هذه السنة تلك الدرّاعة السوداء التي أكرمته بها، فاستدعى هارون عليّ بن يقطين وقال له: ما فعلت بالدرّاعة السوداء الّتي كسوتك بها وخصصتك بها من بين سائر خواصّي؟ فقال ابن يقطين: هي عندي، يا أمير المؤمنين، في سفط من طِيْبِ مختومٌ عليها، فاطلب إحضارها، فأرسل من يُحضرها من مكانها.

 

وعندما رآها هارون قال: ردّها إلى مكانها وخذها، وانصرف راشداً، فلن نصدّق بعدها عليك ساعياً"[1].

 

لكنّ الإمام عليه السلام لم يُجز التعامل مع السلطان لأيٍّ كان، بل كان النهج الأساسيّ عدم الدخول معهم ومعونتهم إلّا لمن أُذن له، تلك هي التربية العامّة التي انتهجها الإمام مع شيعته، فقام بخطوات تربويّة تحصينيّة لشيعته، أكّد من خلالها على الانتماء السياسيّ لخطّ أهل البيتعليهم السلام، وموقفه عليه السلام مع صفوان الجمّال، أحد أصحابه ومحبّيه، يكشف لنا دقّة المنهج التربويّ عنده مع شيعته.

 

ففي الحديث أنّ صفوان بن مهران الأسديّ دخل على الإمام الكاظم عليه السلام، فقال له: "يا صفوان، كلّ شي‏ء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً. قال: جعلتُ فداك أيّ شي‏ء هو؟ قال عليه السلام: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون - قال: واللَّه ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للَّهو، ولكن لهذا الطريق -يعني طريق مكّة- ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني، قال عليه السلام: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟ قال: نعم، جُعلت فداك، قال: أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟ قال: نعم، قال عليه السلام: من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً النار". فقام صفوان من وقته فباع جماله، وأعرض عن مهنته، فبلغ ذلك هارون، فأرسل خلفه، فلمّا مثل عنده قال له وهو يتميّز من الغيظ: قل، يا صفوان، بلغني أنّك بعت جمالك، قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال: أنا شيخ كبير، وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال، قال: هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك موسى بن جعفر، قال: مالي ولموسى

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 226.

 

252


222

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

بن جعفر؟ قال: دع عنك هذا، فو اللَّه لولا حُسن صحبتك لقتلتك"[1].

 

ومن موقع آخر، تصدّر العديد من أصحاب الإمام مواقع مهمّة في السلطة، كعليّ بن يقطين، كما مرّ معنا، الّذي تولّى المناصب المهمّة في الدولة، مثل ولاية الأهواز، وكان عوناً للمؤمنين، وكحفص بن غياث الكوفيّ، الذي ولي القضاء ببغداد[2]، وعبد اللَّه بن سنان بن طريف، وكان خازناً للمنصور والمهديّ والهادي والرشيد[3]، والفضل بن سليمان الكاتب البغداديّ، كان يكتب للمنصور والمهديّ[4]، وكان هؤلاء من أصحاب الإمام موسى الكاظم عليه السلام ورواة حديثه.

 

3- الموقف من الجهاد المسلّح:

لم تكن الأمّة جاهزة للدخول في الخيار المسلّح آنذاك، خصوصاً بعد أن استتبّ الأمر للعبّاسيّين، فكان عزوف الإمام الكاظم عليه السلام عن قرار كهذا، وعدم إبداء الدعم الظاهريّ لأيّ ثورة مسلّحة هو القرار المنطقيّ الأنسب، ولا سيّما أنّ هذه الثورات لم تكن بمجملها تحمل رؤًى إصلاحيّة، بل هي نتيجة ردّ فعل انفعاليّ على الوضع السائد.

 

وقد بيّن الإمام الكاظم عليه السلام موقفه عندما جاء إليه الحسين بن عليّ بن الحسن - شهيد فخّ - طالباً من الإمام عليه السلام دعمه في ثورته، فقد نهض الحسين بن عليٍّ بن الحسن بن الحسن بن عليٍّ بن أبي طالبعليه السلام، وأعلن الثورة على الحاكم العبّاسيّ بسبب الاضطهاد والإذلال اللذين مارسهما الخلفاء العبّاسيّون ضدّ العلويّين، واستبداد الخليفة الهادي على وجه الخصوص.

 

فقد عيّن الخليفة العبّاسيّ الهادي ولاة قساة على المدينة تمادوا في ظلم العلويين، وممّن استخلف على المدينة شخصاً يدعى عبد العزيز من وُلد عمر ابن الخطّاب، وكان

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص 182.

[2] النجاشي، الشيخ أحمد بن علي، فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1416، ط5، ص 134.

[3] المصدر نفسه، ص 214.

[4] المصدر نفسه، ص 306.

 

253


223

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

ظالماً للرعيّة. وقد بالغ هذا الأثيم في إذلال العلويّين وظلمهم، فألزمهم بالمثول عنده كلّ يوم، وفرض عليهم الرقابة الشخصيّة، فجعل كلّ واحد منهم يكفل صاحبه بالحضور، وقبضت شرطته على بعضهم، وزعمت أنّها وجدتهم على شراب، فأمر بضربهم وجعل في أعناقهم حبالاً، وأمر أن يُطاف بهم في الشوارع ليفضحهم[1]، فعزم الحسين بن عليّ (شهيد فخّ) على الخروج سنة 169هـ، وأخبر الإمام الكاظم عليه السلام بالأمر، وطلب منه المبايعة، فقال له الإمام عليه السلام: "يا ابن عمّ، لا تكلّفني ما كلّف ابنُ عمَّك أبا عبد اللَّه ، فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد اللَّه ما لم يكن يُريد، فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً، فإن أردته دخلت فيه، وإن كرهته لم أحملك عليه، واللَّه المستعان، ثمّ ودّعه"[2].

 

ثمّ جمع الحسين أصحابه من العلويّين - وُلد الإمام عليّ عليه السلام - واستولى على المدينة وبايعه الناس، فطفق متوجّهاً نحو مكّة. وبعد أن وصل إلى فخّ[3]، ما لبث أن دار القتال بينه وبين العبّاسيّين، واستشهد الحسين وأصحابه[4].

 

وقد عبّر الإمام الجواد عليه السلام عن فظاعة ما أحدثه العبّاسيّون في واقعة فخّ من تقتيل وتشريد وسفك دماء العلويّين، فقال: "لم يكن لنا بعد الطفّ مصرع أعظم من فخّ"[5].

 

لم يُرد الإمام الكاظم عليه السلام المواجهة المباشرة لنظام الحكم القائم، نظراً إلى تقييمه للظروف، وقد صرّح للحسين بن عليّ عندما طلب منه المبايعة بموقفه من الثورة، وذكّره بموقف الإمام الصادق عليه السلام من ثورة محمّد ذي النفس الزكيّة، وأنّه سوف يكون موقفه كموقف أبيه عليه السلام.

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 161.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 366.

[3] فخّ: هو وادٍ بمكّة، راجع: الحموي، ياقوت بن عبدالله، معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1399 - 1979م، لا.ط، ج24، ص 237.

[4] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج 21، ص 361.

[5] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 165.

 

254


224

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

وقد صدر عن الإمام عليه السلام تأييدٌ ومساندة لحركة الحسين وثورته عندما عزم عليها في قوله عليه السلام: "إنّك مقتول، فأجدّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق يُظهرون إيماناً ويُضمرون نفاقاً وشركاً..."[1]. ولمّا سمع الإمام الكاظم عليه السلام بمقتل الحسين بكاه وأبّنه، ورثاه بكلمات منها: "... مضى واللَّه مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر"[2].

 

الإمام الكاظم عليه السلام ما بين خلافة المنصور إلى الهادي‏

بدأت إمامة الكاظم عليه السلام بخلافة المنصور (المتوفّى سنة 158هـ)، وعاصرت حكم المهديّ (المتوفّى سنة 169هـ)، والهادي (المتوفّى سنة 170هـ)، واستمرّت إلى زمان هارون.

 

وقد تحدّثنا سابقاً عن بعض الأنشطة التي قام بها الإمام الكاظم عليه السلام في ظلّ حكومة المنصور لإثبات إمامته وغيرها على الصعيد العلميّ، لكن بتقيّة وحذر شديد. ولمّا مات المنصور، استولى على الخلافة ابنه محمّد المهديّ، وبويع له في تلك السنة.

 

حاول المهديّ في بداية أمره أن يسلك أسلوباً مرناً مع العلويّين، خلافاً لسياسة أبيه محاولاً بذلك تضليل الناس، فأصدر عفواً عامّاً عن جميع المسجونين، كما ردّ الأموال الّتي صادرها أبوه ظلماً وعدواناً، وردّ على الإمام الكاظم عليه السلام ما كان صادره أبوه من أموال الإمام الصادقعليه السلام. لكنّ الإمام الكاظم عليه السلام استغلّ هذه الفرصة الذهبيّة، وطالب بحقّه المغصوب، مبيّناً مسألة الإمامة، ليكشف عن حقيقة المهديّ العبّاسيّ وزيفه، فقال الإمام الكاظم عليه السلام مخاطباً المهديّ: "ما بال مظلمتنا لا تردّ؟ فقال له: وما ذاك، يا أبا الحسن؟ قال: إنّ اللَّه - تبارك وتعالى - لمّا فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فدكاً وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل اللَّه على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾...، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة، إنّ اللَّه أمرني أن أدفع إليك فدكاً...، فقال له المهديّ: يا

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 366.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 165.

 

255


225

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

أبا الحسن حدّها لي، فقال: حدٌّ منها جبل أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل، فقال له: كلّ هذا؟! قال: نعم، يا أمير المؤمنين، هذا كلّه ما لم يوجف على أهله رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بخيل ولا ركاب، فقال: كثير! وأنظر فيه"[1].

 

وبهذا أعلن الإمام عليه السلام أنّ جميع أقاليم العالم الإسلاميّ قد أُخذت منهم وأنّ فدكاً هي رمزٌ، لاستحقاق أهل البيتعليهم السلام لمنصب الخلافة، وبيّن أنّ سياسة المهديّ ما هي إلّا حالة طارئة، ولو أراد ردّ المظالم لردّ أعظمها وهي الخلافة المغصوبة، لذا تراجع وقال: أنظر فيه.

 

هذا، وقد كان المهديّ مسرفاً ماجناً فاستغلّ الإمام الكاظم عليه السلام فرصة انشغال الحاكم بأموره الخاصّة ليقوم بنشاط عامّ على مستوى الأمّة. وكان العقد الثاني من عصره عليه السلام - المنطبق على السنوات العشر الّتي حكم فيها المهديّ - هو قمّة النشاط المكثّف للإمام عليه السلام، وأصبح له حضور فاعل في الساحة السياسيّة أيضاً.

 

الإمام الكاظم عليه السلام وهارون العباسي

1- ملامح حكم هارون:

عاصر الإمام الكاظم عليه السلام هارون العباسي مدّة 14 سنة وأشهراً، وكانت تلك السنوات العجاف من أشدّ المراحل في حياته عليه السلام حيث حفلت بالآلام والمصاعب الكثيرة، فقد استعلى هارون واستكبر وصبّ كلّ حقده وغضبه على الإمام الكاظم عليه السلام خصوصاً، وسعى جاهداً إلى إقصائه عن شيعته، بل عن أيّ تواصل مع أيّ أحد، إلى أن قتله فيما بعد.

 

جاء هارون العباسي إلى الحكم وهو في سنّ الشباب، فاستوسقت له الأمور، ونال من دنياه كلّ ما اشتهى، فامتدّ نفوذه في ساحة كبيرة من المعمورة حتّى أثر عنه خطابه للسَّحاب: "اذهبي إلى حيث شئت يأتني خراجك"[2].

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 543.

[2] العامليّ، السيد جعفر مرتضى، نقش خواتيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليه السلام، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص 58.

 

256


226

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

كان هارون مولعاً بالغناء منذ حداثة سنّه، كذلك فقد ساس العلويّين بسياسة جدّه المنصور، سياسة العنف والجور والملاحقة والتقتيل[1]، وأقدم على هدم الدور المجاورة لقبر الحسين عليه السلام، وأمر بحرث أرض كربلاء، ليمحو كلّ أثر للقبر الشريف[2].

 

2- سياسة هارون العباسي وأساليبه مع الإمام الكاظم عليه السلام:

تقلّبت وتلوّنت السياسات التي اعتمدها هارون العبّاسيّ مع الإمام الكاظم عليه السلام، حيث نلحظ ليناً في وقت ما، وقسوة وشدّة وسجناً في أحيان أخرى.

 

أمّا المرحلة الأولى فكانت سياسة هارون فيها محاولة شلّ حركة الإمام عليه السلام ونشاطه والاتّهام السياسيّ حيناً، وأحياناً أخرى الإكرام والتعظيم نفاقاً وكذباً. فمن أساليب هارون الّتي كان يهدف منها إلى تخويف الإمام عليه السلام، اتّهامه بأعمال سياسيّة محظورة بنظر الخلافة، مثل جباية الخراج. وعن هذا الاتّهام يقول الإمام الكاظم عليه عليه السلام: "لمّا أُدخلت على الرشيد سلّمت عليه فردّ عليّ السلام، ثمّ قال: يا موسى بن جعفر! خليفتان يُجبى إليهما الخراج؟

 

فقلت: يا أمير المؤمنين، أعيذك أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنّه قد كُذب علينا منذ قُبض رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بما علم ذلك عندك..."[3]، وذلك بعد أن وشى بالإمام أحدُ المغرضين وقال ذلك لهارون.

 

ومن المشاهد الّتي تُعبّر عن حقيقة موقف الإمام عليه السلام من حكومة هارون العباسي، ما ذكره محمّد بن طلحة الأنصاريّ، حيث قال: كان ممّا قال هارون لأبي الحسن عليه السلام حين أُدخل عليه: ما هذه الدار؟ فقال عليه السلام: "هذه دار الفاسقين، قال اللَّه تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 110.

[2] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 325.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 81.

 

257


227

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[1], فقال له هارون: فدار من هي؟ قال: "هي لشيعتنا فَترة ولغيرهم فتنة"، فقال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال عليه السلام: "أُخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة".

 

قال: فأين شيعتك؟ فقرأ الإمام عليه السلام: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾[2]. قال: فقال له: فنحن كفّار؟ قال: لا، ولكن كما قال اللَّه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾[3]"[4].

 

وفي رواية أخرى أنّه لما دخل هارون المدينة توجّه لزيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس، فتقدّم الرشيد إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "السلام عليك يا رسول اللَّه يا ابن العمّ، مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم الإمام عليه السلام فقال: "السلام عليك يا رسول اللَّه، السلام عليك يا أبه"، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه"[5].

 

فأفشل له الإمام عليه السلام بهذا الموقف ما كان يصبو إليه من أنّ له الحقّ بالخلافة لقرابته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فبيّن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه صاحب الحقّ، لأنّه ابن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

كما ذكر التاريخ حادثةً بالغة الأهمّيّة جرت بين الإمام الكاظم عليه السلام وهارون، بيّن له عليه السلام فيها فساد حكمه وغصبه الخلافة، حيث طلب هارون إلى الإمام عليه السلام أن يصف له فدكاً فيردّها، فأبى الإمام، ثمّ ألحّ هارون، فقال الإمام: "لا آخذها إلّا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قالعليه السلام: إن حدّدتها لم تردّها، قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت؟ قال عليه السلام: أما الحدّ الأوّل فعدن، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيها، قال: والحدّ الثاني سمرقند، فأربد وجهه، قال: والحدّ الثالث إفريقيا، فاسودّ وجهه، وقال: هيه، قال: والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينيا. قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي، قال موسى عليه السلام: قد أعلمتك أنّني إن حدّدتها لم تردّها، فعند ذلك عزم على قتله"[6].

 


[1] سورة الأعراف، الآية 146.

[2] سورة البيّنة، الآية 1.

[3] سورة إبراهيم، الآية 28.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 156.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 234.

[6] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص320.

 

258


228

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

فأرض فدك كانت عنوان غصب الخلافة، لذا تمسّك آل البيت عليهم السلام بها، وها هي ورقة فدك يستخدمها الإمام الكاظم عليه السلام ليقول: لو اعترفت بفدك عليك أن تعترف بأكذوبة وفساد ما سبق كلّه، وتردّ الحقّ إلى أصحابه!

 

3- الإمام الكاظم عليه السلام في سجون هارون العباسي

وهي المرحلة الثانية من حياة الإمام الكاظم عليه السلام في عهد هارون. فبعد زيارة هارون لقبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أمر الطاغية باعتقال الإمام عليه السلام، فأُلقي القبض على الإمام عليه السلام وهو قائم يصلّي عند رأس جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحُمل عليه السلام على جملٍ إلى البصرة حيث حبسه عيسى بن أبي جعفر في بيت من بيوت المحبس. ولمّا شاع خبر اعتقال الإمام عليه السلام، وعلم الناس مكانه، أوعز هارون إلى عيسى يطلب منه فوراً القيام باغتيال الإمام، فثقل الأمر على عيسى وكتب إلى هارون رسالة يطلب فيها إعفاءه من ذلك، فأمر هارون بحمل الإمام عليه السلام إلى بغداد.

 

ثمّ أمر هارون الفضل بن الربيع باعتقاله، فأخذه الفضل وحبسه في بيته. ولمّا طالت مدّة الحبس دعا الإمام عليه السلام ربّه بتخليصه من السجن، فاستجاب اللَّه تعالى دعاءه، وأنقذه من سجن الطاغية، وأطلقه في غلس اللّيل، وكان هذا هو الاعتقال الأوّل.

 

ولمّا شاع ذكر الإمام الكاظم عليه السلام، وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد، ضاق هارون من ذلك، وخاف منه، فاعتقله ثانيةً وأودعه في بيت الفضل بن يحيى، الّذي امتنع أيضاً من اغتيال الإمام الكاظم عليه السلام، ورفض طلب هارون لمّا رأى الإمام عليه السلام وإقباله على اللَّه تعالى، فعندئذٍ أمر هارون بالفضل، فجُرّد ثمّ ضربه مائة سوط[1].

 

ونُقل الإمام الكاظم عليه السلام بعد ذلك، وبأمر من هارون، إلى سجن السنديّ بن شاهك، وأمره بالتضييق عليه، وأن يقيّد الإمام عليه السلام بثلاثين رطلاً من الحديد، ويقفل الباب في وجهه، ولا يدعه يخرج إلّا للوضوء. فاستجاب هذا الأثيم لذلك، وقابل الإمام عليه السلام بكلّ

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 239 - 242.

 

259


229

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

قسوة وجفاء، والإمام صابر محتسب إلى اللَّه سبحانه. ووكَّل السنديّ بالإمام عليه السلام بشّاراً مولاه، وكان من أشدّ الناس بغضاً لآل أبي طالب، ولكنّه لم يلبث أن تغيّرت حاله، وتاب إلى طريق الحقّ، لِمَا رأى من كرامات الإمام عليه السلام ومعاجزه[1].

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله حول تأثير الإمام الكاظم عليه السلام في تلك المرحلة: "بالتأكيد كانت شخصيّة موسى بن جعفرعليه السلام داخل السجن هي تلك الشخصيّة الّتي تشبه المنارة الهادية لكلّ من كان يحيط بها. فانظروا، الحقّ هو هذا، إنّ حركة الفكر الإسلاميّ والجهاد الّذي يقوم على أساس القرآن هي مثل هذه الحركة، فلا يمكن أن تتوقّف لحظةً واحدة حتّى في أصعب الظروف، وهذا هو العمل الّذي قام به موسى بن جعفر عليه السلام، حيث يوجد في هذا المجال قصصٌ كثيرة وروايات عديدة، وواحدة من أكثرها جمالاً ولفتاً للنظر، أنّ السنديّ بن شاهك المعروف، والّذي تعلمون كان سجّاناً عنيفاً جدّاً وشديداً، ومن عبيد العبّاسيّين، والأكثر وفاءً لهذه السلطنة والخلافة في تلك الأيّام، وقد كان هذا سجّان موسى بن جعفرعليه السلام، وسجنَ موسى بن جعفر عليه السلام في زنزانة شديدة الصعوبة تحت الأرض، في منزله. وكانت عائلة السنديّ بن شاهك في بعض الأوقات تنظر من طاقة إلى داخل السجن، وقد أثّر وضع حياة موسى بن جعفر عليه السلام فيهم، وغرس فيهم بذر محبّة أهل البيت. فأحد أبناء السنديّ بن شاهك، ويُدعى كشاجم، أصبح من كبراء الشيعة وأعلامهم. ولعلّه يأتي جيل أو جيلان من السنديّ بن شاهك، وهو من أبناء السندي بن شاهك كشاجم، الّذي كان من أكبر الأدباء والشعراء وأعلام التشيّع في زمانه"[2].

 

كما استطاعت جماعة من العلماء الاتصال بالإمام الكاظم عليه السلام بطريقٍ خفيّ، وانتهلوا من نمير علمه، وقد سمح السنديّ بذلك، لأنّ الإمام كان معلّم ابنه، فألّف موسى
 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص 241.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص273.

 

260


230

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

بن إبراهيم المروزي - وهو ممّن تواصل مع الإمام - كتاباً ممّا سمعه من الإمام[1] عليه السلام. كما كانت تجيئه رسائل استفتاءات من مختلف الأقاليم فيجيب عنها، ونصّب الوكلاء الذين أوعز إليهم تقسيم الأموال الشرعيّة على مستحقّيها[2].

 

وذهب أكثر المؤرّخين إلى أنّ هارون أوعز إلى السنديّ بن شاهك الأثيم بقتل الإمام عليه السلام، فعمد السنديّ إلى رُطب، فوضع فيه سمّاً قاتلاً، وقدّمه للإمام الكاظم عليه السلام، فأكل منه الإمام عليه السلام، وسرى السمّ في جسده، وأخذ يعاني آلاماً شديدة[3]، ثمّ فارق الحياة، وأظلمت الدنيا لفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه، وكانت شهادته عليه السلام سنة 183هـ في 25 رجب، وعمره الشريف يوم وفاته خمس وخمسون سنة[4].

 


[1] الشيخ النجاشي، رجال النجاشي، مصدر سابق، ص 407.

[2] السيد الحكيم، أعلام الهداية (الإمام الكاظم عليه السلام)، مصدر سابق، ج9، ص 168.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 242.

[4] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 6.

 

261


231

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

علّمني إمامي

- أن أكون حليماً، ورعاً، كاظماً لغيظي على الدوام، وفي علاقاتي مع الآخرين.

 

- أن أكون محسناً للناس، ساعياً في مودّتهم بالحسنى، أتجاوز عن حقوقي الشخصيّة.

 

- أن أثق بتدبير اللَّه لي، وأُحسن ظنّي به. عزّ وجلّ-، فأرى الخير فيما قُدّر.

 

- أن لا أتوقّف عن العمل والسعي تحت أيّ ظرف كان، بل أن أروّض ظروفي وأجعلها في خدمة المشروع الإصلاحيّ، فأحوّل التهديد إلى فرصة.

 

- أن لا أذيع أعمالي الحسنة، بل أسعى أن تبقى قيد الكتمان ابتغاء رضى اللَّه.

 

- أن تكون العبادة هي ملجأً مؤنساً لي، أسعى للتفرّغ لها، لتملأ وجودي وِصالاً مع معبودي.

 

262


232

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- سعى الإمام الكاظم عليه السلام، كما سالف آبائه عليهم السلام، إلى تحقيق الدولة العلويّة الإلهيّة في المدى المنظور أو البعيد، ولا يمكننا فهم تحرّكات الإمام إلّا إذا وضعناها في هذا الإطار.

 

- إنّ المضايقات الظاهرة كلّها من قبل العبّاسيّين للشيعة والإمام الكاظم عليه السلام خصوصاً، تدلّنا على وجود نشاط للإمام الكاظم عليه السلام لا يمكن تحمّله، فسُجن عليه السلام مرّات عدّة وفي النهاية تمّ اغتياله من قبل هارون.

 

- عمل الإمام الكاظم عليه السلام على المحافظة على المسيرة العلميّة العظيمة التي أرساها الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام ، وكذا عمل على توسعة رقعة هذا العلم، وتوسعة رقعة الموالين.

 

- استطاع الإمام الكاظم عليه السلام أن ينفذ، من خلال بعض شيعته، إلى مركز القرار، واضعاً عيوناً تنقل له توجّهات السلطة وتحرّكاتها، للاتّقاء منها ومحاولة التأثير فيها، والسعي لخدمة المؤمنين، ورفع الظلم عنهم بالقدر الممكن.

 

- لم تكن الأمّة جاهزة للدخول في الخيار المسلّح آنذاك، خصوصاً بعد أن استتبّ الأمر للعبّاسيّين، فلم يُرد الإمام الكاظم عليه السلام المواجهة المباشرة، وقد صرّح بذلك للحسين (شهيد فخّ)، ولكنّه عليه السلام مع ذلك ساند حركته، وترحّم عليه بعد شهادته.

 

- استغلّ الإمام الكاظم عليه السلام فترة حكم الخليفة المهديّ الذي انشغل بملذّاته، فكانت قمّة نشاطه وحركته في تلك الفترة.

 

- لم يستطع هارون تقييد حركة الإمام الكاظم عليه السلام مع إجراءاته كلّها، فقد استطاع عليه السلام وهو في سجن السنديّ أن يتواصل مع عدد من العلماء والفقهاء من أصحابه، وأن يعيّن الوكلاء، ويعطي التعليمات، إلى أن دسّ له السمّ في النهاية.

 

263


233

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

الدرس السابع عشر

الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يبيّن بعضاً من الخصائــــص الشخــصيّة للإمام الرضا عليه السلام.

 

- يتبيّن بعض الأحداث والظروف التي رافقت إمامة الإمام الرضا عليه السلام.

 

- يتعرّف إلى قضيّة ولاية العهد وأهداف المأمون منها.

 

265


234

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

الإمام عليّ الرضا عليه السلام

هو عليّ بن موسى بن جعفر عليهم السلام، المنحدر من سلالة الأشراف، المرتقي سلّم المجد والكمال والطهارة. أبوه هو الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وأمّه أمّ ولد واسمها تكتم، وعندما ولدت الإمام الرضا عليه السلام سمّاها الإمام الكاظم عليه السلام بالطاهرة[1].

 

ولد الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في الحادي عشر من شهر ذو القعدة سنة 148هـ في المدينة المنوّرة[2].

 

وكان جدّه الإمام الصادق عليه السلام يتمنّى رؤيته، كما رُوي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنّه قال: "سمعت أبي جعفر بن محمّد عليه السلام غير مرّة يقول لي: إنّ عالم آل محمّد لفي صلبك وليتني أدركته، فإنّه سميّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام"[3].

 

وكان من ألقابه: الرضا، الصابر، الفاضل، الرضيّ، الوفيّ، قرّة أعين المؤمنين، غيظ الملحدين[4]، وأمّا كنيته: فأبو الحسن الثاني. وولد للإمام عليّ بن موسى الرضاعليه السلام ابنه الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام فقط[5].

 

تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الكاظم عليه السلام في سنة183هـ، إلى سنة 203هـ،

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 14 - 15.

[2] المصدر نفسه، ص 18.

[3] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 65.

[4] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 250.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق،ج2، ص271، الشيخ الطبرسي، تاج المواليد، مصدر سابق، ص 51.

 

267


235

الدرس السادس عشر: الإمام موسى الكاظم عليه السلام -2-

واستمرّت إمامته 20 سنة تقريباً، وأوصى قبل شهادته لابنه الإمام محمّد الجواد[1] عليه السلام. استُشهد بالسمّ في آخر صفر[2] (اليوم التاسع والعشرين) سنة ثلاث ومائتين من يوم الجمعة، ودفن في مدينة طوس[3].

 

بعضُ الخصائص الشخصيّة للإمام الرضا عليه السلام

1- مكارم أخلاقه عليه السلام ورفعتها:

إنّ تواضع الإمام الرضا عليه السلام وكرم أخلاقه قد ملأ الدنيا، وأقرّ له بذلك جميع من رآه وعاصره. وقد وصف إبراهيم بن العبّاس الإمام الرضا عليه السلام وصفاً جميلاً، بيّن فيه رفعة أخلاقه وسموّ تعامله مع الآخرين، فقال: "مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِأَحَدٍ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام، مَا جَفَا أَحَداً، وَلَا قَطَعَ عَلَى أَحَدٍ كَلَامَهُ، ولَا رَدَّ أَحَداً عَنْ حَاجَةٍ، وَمَا مَدَّ رِجْلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ، وَلَا اتَّكَأَ قَبْلَهُ، وَلَا شَتَمَ مَوَالِيَهُ وَمَمَالِيكَهُ، وَلَا قَهْقَهَ فِي ضَحِكِهِ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةِ مَمَالِيكِهِ وَمَوَالِيهِ، قَلِيلَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ، يُحْيِي أَكْثَرَ لَيَالِيهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، كَثِيرَ الصَّوْمِ، كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ، وأَكْثَرُ ذَلِكَ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ"[4]. فحريّ بتلك الخصال أن تكون سمات يتميّز بها شيعة الإمام الرضا عليه السلام ومحبّوه.

 

وكان من تواضعه عليه السلام، وتشريفه للإنسان، ورفضه التمييز بين البشر، أنّه إذا خلا ونصبت مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتّى البوّاب والسائس. وكان عليه السلام كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيّام من الشهر، ويقول: "ذلك صوم الدهر"[5]. وقد روى المؤرّخون صوراً رائعة من مكارم أخلاقه، فقد رووا أنّه لمّا كان في خراسان وتقلّد ولاية العهد، التي هي أرقى منصب في الدولة الإسلاميّة بعد الخلافة، لم

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص320.

[2] المصدر نفسه، ص 486.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 19.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 360.

[5] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 184.

 

268


236

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

يأمر أحداً من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه، وإنّما كان يقوم هو عليه السلام في خدمة نفسه. وقد احتاج الحمّام ذات مرّة، فكره أن يأمر أحداً بتهيئته، ومضى إلى حمّام في البلد لم يكن صاحبه يعرفه، فلمّا دخل الحمّام كان فيه جنديّ، فأزال الإمام عن موضعه، وأمره أن يصبّ الماء على رأسه، ودخل الحمّام رجل كان يعرف الإمام عليه السلام، فصاح بالجنديّ: هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم؟، فذعر الجنديّ ووقع على الإمام يقبّل أقدامه، ويقول: "هلّا عصيتني إذ أمرتك"، فتبسّم الإمام عليه السلام في وجهه، وقال له برفق ولطف: "إنّها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه"[1].

 

2- علمه عليه السلام:

عُرف الإمام الرضا عليه السلام في زمانه بكثرة علومه وتنوّعها وسعتها، وهي من الأمور البارزة في شخصيّته وخلال حياته عليه السلام. وكان ممّن شهد له بذلك أبوه الإمام الكاظم عليه السلام، فكان يقول لأبنائه: "هذا أخوكم عليّ بن موسى الرضا عالم آل محمّد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم"[2].

 

كما شهد له أهل عصره بعلمه وفضله، حتّى قال عنه أبو الصلت الهرويّ: "ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، ولا رآه عالم إلّا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد (مرّات عدّة)، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم حتّى ما بقي أحد منهم إلّا أقرّ له بالفضل، وأقرّ على نفسه بالقصور"[3].

 

كما يَشهد للإمام عليه السلام بتنوّع علومه ووفرتها، ما أُثر عنه في الفلسفة والعقائد والأحكام والقرآن ومعرفتُه بجميع اللّغات، وغيرها[4]. وقد تحدّث الإمام الرضا عليه السلام عن

 


[1] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج 22، ص 204.

[2] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 64.

[3] المصدر نفسه.

[4] راجع: الشيخ عزيز الله عطاردي، مسند الإمام الرضا عليه السلام، تجميع وترتيب الشيخ عزيز الله عطاردي الخبوشاني، المؤتمر العالمي الإمام الرضا عليه السلام، 6041هـ، لا.ط؛ السيد الحكيم، أعلام الهداية، مصدر سابق، ج10، ص236.

 

269


237

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

توافر الناس إليه، وأخذهم العلم عنه، فقال: "كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسائل، فأجيب عنها"[1].

 

3- زهده عليه السلام:

زهد الإمام الرضاعليه السلام في جميع رغائب الحياة، ومباهج الدنيا، واتّجه صوب اللَّه تعالى، وحينما تقلّد ولاية العهد لم يحفل بأيّ مظهر من مظاهر السلطة، ولم يقم لها أيّ وزن، فلم يرغب في موكب رسميّ، وكان يكره أن يقابل بما يقابل به الملوك والخلفاء من مظاهر العظمة والأبّهة.

 

وقد تحدّث عن زهده عليه السلام محمّد بن عباد، فقال: "كان جلوس الرضاعليه السلام في الصيف على حصير، وفي الشتاء على مسح[2]، ولباسه الغليظ من الثياب، حتّى إذا برز للناس تزيّن لهم"[3]. ويقول الرواة إنّه التقى به عليه السلام سفيان الثوريّ، وكان الإمام عليه السلام قد لبس ثوباً من خزّ (فيه حرير)، فأنكر عليه الثوريّ ذلك، وقال له: "لو لبست ثوباً أدنى من هذا؟ فأخذ الإمام يده برفق وأدخلها كمّه، فإذا تحت ذلك الثوب مسح، وقال عليه السلام له: "يا سفيان، الخزّ للخلق، والمسح للحقّ"[4].

 

بدء مرحلة إمامة الإمام الرضا عليه السلام

1- الظروف التي رافقت تصدّي الإمام عليه السلام للإمامة:

في المراحل الأولى من تصدّي الإمام الكاظم عليه السلام للإمامة، كان قد أوصى بالإمامة من بعده لولده الرضاعليه السلام، وصرّح بذلك لخاصّة أصحابه والثقات الذين يحفظون الأسرار[5]. كما كان يجمع بين التلميح والتصريح عن إمامة الرضا عليه السلام في العديد من


 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 63.

[2] كساء من الشعر.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 179.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 360.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 313.

 

270


238

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

المناسبات، وكلّما سنحت له الفرصة بيان ذلك[1]، فيعلن ذلك لبعض الأفراد، وأمام تجمّع من أصحابه وأهل بيته حيناً، وأحياناً أخرى أمام الناس بحسب الظروف[2].

 

أمّا في مرحلة الاعتقال، ففي سجن البصرة أرسل كتباً إلى أصحابه يوصي بها إلى ابنه الإمام الرضا عليه السلام، فعن الحسين بن مختار قال: "خرجَتْ إلينا ألواح من أبي الحسن عليه السلام، وهو في الحبس، عهدي إلى أكبر ولدي"[3].

 

كانت إعلانات الإمام الكاظم عليه السلام عن إمامة الإمام الرضا عليه السلام تختلف بالشكل والمضمون حسب الظروف حفاظاً على حياة وصيّه، إذ إنّ فترة إمامة الإمام الكاظم عليه السلام كانت فترةَ تقيّة إجمالاً، والظروف التي عاشها الكاظم عليه السلام كانت تستدعي الكتمان، لكنّه كان قد عيّن زمناً خاصّاً للإمام الرضا عليه السلام لإعلان إمامته، فقال في وصيّته لأحد أصحابه: "... وليس له أن يتكلّم إلّا بعد هارون بأربع سنوات، فإذا مضت أربع سنين فاسأله عمّا شئت يجبْك إن شاء اللَّه"[4].

 

وبالفعل، في سنة 187هـ، أعلن الإمام الرضا عليه السلام إمامته، ولذلك قال له محمّد بن سنان خوفاً عليه: "لقد شهرت بهذا الأمر - الإمامة - وجلست في مكان أبيك بينما سيف هارون يقطر دماً". فقال الإمام عليه السلام: "إنّ الّذي جرّأني على هذا الفعل قول الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم: لو استطاع أبو جهل أن ينقص شعرة من رأسي، فاشهدوا بأنّي لست نبيّاً، وأنا أقول: لو استطاع هارون أن ينقص شعرة من رأسي، فاشهدوا بأنّي لست إماماً"[5].

 

وقد توفّي هارون سنة 193هـ، ودُفن في مدينة طوس، ولم يتمكّن من أذيّة الإمام الرضا عليه السلام وتوجيه الإساءة إليه بعدما خفّف من حدّة المواجهة خوفاً من نقمة شعبيّة عارمة تنفجر في وجهه، وهو يحاول التستّر على اغتيال الإمام الكاظم[6] عليه السلام.

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 27.

[2] المصدر نفسه، ص 28، الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 312.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 312.

[4] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 24 - 26.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 257.

[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 226.

 

271


239

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

2- الأوضاع السياسيّة بعد موت هارون:

كانت هذه المرحلة مرحلة الصراع على السلطة، فبعد أن انتهت حياة هارون، وانتقلت السلطة للأمين، واستقرّ به المُلك والسلطان، حتّى أقنعه بعض خواصّه بأن يخلع أخاه المأمون ويسحب منه ولاية العهد، ويجعل الخلافة من بعده لابنه موسى (ابن الأمين)، وراح يهيّىء لنقل الخلافة لولده موسى، ويدعو إليه على المنابر، وطلب من المأمون أن يؤيّد هذا القرار، فرفض ذلك، وتمرّد على خلافة الأمين، وأعلن خلعه والتحلّل من بيعته، وراح يُعدّ ويُهيّئ للحرب والصدام المسلّح مع أخيه الأمين. ودارت حرب بين الأخوين انتهت بهزيمة الأمين، واستيلاء المأمون على السلطة، وقتل الأمين، وحمل رأسه إلى خراسان[1]. وخضعت الدولة العبّاسيّة خلال هذه الفترة لهزّات واضطرابات وصراع دمويّ وسياسيّ وإنهاك اقتصاديّ عنيف، فاستغلّ العلويّون هذا الوضع السياسيّ المضطرب، وتلك الظروف المؤاتية، بعد أن ضاق عليهم الخناق طول الفترة العبّاسيّة المنصرمة، وقاموا بثورات وانتفاضات عدّة. وقد استفاد الإمام الرضا عليه السلام من هذه الأوضاع، وصبّ جهوده على بناء الجماعة الصالحة، ونشر المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة في المجتمع الّذي عانى الكثير من المجون والفساد والانحراف الفكريّ.

 

الإمام الرضا عليه السلام والمأمون العبّاسيّ

حسم المأمون معركته مع أخيه الأمين، وتحوّل إلى الخليفة الوحيد بلا منازع، ثمّ كانت أولى تدابيره التفرّغ لحلّ مشكلة العلويّين وجهاد التشيّع الذي أثقل كاهل العبّاسيّين منذ غصبهم الخلافة، فوضع تجربة سلفه أمام عينيه، مستفيداً من إجراءاتهم التي اتّخذوها سابقاً، ليحيك خطّته الشيطانيّة للنيل من أهمّ شخصيّة شيعيّة على الإطلاق، متمثّلة بالإمام الرضاعليه السلام، فيغتال المشروع بأكمله.

 

لم يكن المأمون بمستوى القدرة التي كان عليها أبوه هارون الرشيد، الذي مع سطوته وهيبته وتكبّره وإجراءاته المتجبّرة بحقّ الإمام الكاظمعليه السلام وسجنه المتكرّر، لم يستطع

 


[1] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مصدر سابق، ج6، ص 222 - 282.

 

272


240

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

منع الانتفاضات والمواجهات السياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة والفكريّة للشيعة، بل إنّ تلك التجربة الشيعيّة قد تعمّقت وتأصّلت عبر التاريخ، واتسعت رقعتها. هذا، مضافاً إلى الحروب الداخليّة بين العبّاسيّين، فقد كان المأمون يرى بأنّ السلطة العبّاسيّة مهدّدة بمشكلات كبيرة، ولهذا وجد من الضروريّ أن ينظر بجدّيّة تامّة إلى خطر نهضة العلويّين.

 

وقد كان المأمون يشعر بهذا الخطر بحدسه الذكيّ، ويفكّر في مواجهته، وهو تفكير واقعيّ وتقييم حقيقيّ لخطر الشيعة المحدق الذي طالما قضّ مضاجع الحكّام، ولهذا، وتبعاً لهذا التقييم والتشخيص، كانت قصّة دعوة الإمام الثامن من المدينة إلى خراسان، واقتراح ولاية العهد الإلزاميّة عليه، وهذه الحادثة الّتي جرت لم يحدث ما يشبهها من قبل، ولم يكن لها شبيه ولا نظير في جميع عهود الإمامة الطويلة.

 

فحاك المأمون خطّة ولاية العهد الخبيثة، والتي شكّلت تجربةً تاريخيّةً عظيمةً في معرض حربٍ سياسيّةٍ خفيّةٍ تحدّد نتيجتها انتصار مصير التشيّع أو هزيمته.

 

ففي هذه المعركة، نزل الخصم - وهو المأمون - إلى الميدان بعُدّته وعديده، متمتّعاً بالدهاء الواسع، والتدبير القويّ، والفهم والدراية غير المسبوقة، بحيث لو انتصر واستطاع أن يطبّق خطّته الّتي أعدّها لَوَصل يقيناً إلى الهدف الّذي لم يتمكّن أيّ واحدٍ من الخلفاء الأمويّين أو العبّاسيّين من تحقيقه منذ السنة الأربعين للَّهجرة (أي بعد شهادة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام)، وعلى الرغم من جهودهم كلّها، وهي محاولة عن اقتلاع شجرة التشيّع وتيّار المعارضة الّذي كان دوماً كشَوكةٍ في أعين زعماء الخلافات الطاغوتيّة. لكنّ الإمام الثامن عليه السلام، وبالتدبير الإلهيّ، تغلّب على المأمون وهزمه في ذلك الميدان السياسيّ الّذي أوجده بنفسه. فلم تكن النتيجة أنّ التشيّع لم يضعف فحسب، بل كانت سنة 201 هجريّة- هي سنة ولاية العهد للإمام عليه السلام- من أكثر سنوات تاريخ التشيّع بركةً وثمرةً، وقد بثّت نفَساً جديداً في جهاد العلويّين. ذلك كلّه ببركة التدبير الإلهيّ للإمام الرضا عليه السلام وأسلوبه الحكيم الّذي أظهره هذا الإمام المعصوم في هذا الامتحان الكبير والعظيم[1].


 


[1] راجع: الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 414 - 416.

 

273


241

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

1- عرض ولاية العهد على الإمام الرضا عليه السلام:

بعد سنتين من سيطرة المأمون على زمام الحكم، وفي سنة 200هـ، كتب إلى الإمام الرضا عليه السلام يدعوه للقدوم إلى خراسان، فاعتلّ عليه السلام بعلل كثيرة، واستمرّ المأمون يكاتبه ويسأله القدوم حتّى علم الإمام عليه السلام أنّه لا يكفّ عنه، فاستجاب له قسراً. وأمر المأمون الشخص الموكل بحمل الإمام عليه السلام إليه أن لا يسير به عن طريق الكوفة وقم، حيث شيعته ومحبّوه كثر، فسار به عن طريق الأهواز والبصرة وفارس حتّى وصل به إلى مَرو. وبعد أن وصل الإمام الرضا عليه السلام إلى مَرو عرض المأمون عليه أن يتقلّد الخلافة والإمرة، فأبى عليه السلام ذلك، وقد كثر الكلام في ذلك قرابة الشهرين.

 

وجاء في الخبر أنّ المأمون قال للإمام الرضا عليه السلام: "يا ابن رسول اللَّه، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي، فقال الرضا: بالعبوديّة للَّه - عزّ وجلّ - أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند اللَّه - عزّ وجلّ -.

 

فقال له المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا: "إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها اللَّه لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه اللَّه وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك. فقال له المأمون: يا ابن رسول اللَّه، لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: لست أفعل ذلك طائعاً أبداً، فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبَّ مبايعتي لك فكن وليَّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.

 

ثمّ جرى حديث بينهما، فقال له الإمام عليه السلام: "واللَّه، ما كذبت منذ خلقني ربّي -عزّ وجلّ- وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: الأمان على الصدق؟ قال: لك الأمان، قال تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة، فغضب المأمون ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، قد أمنت سطوتي، فباللَّه

 

274


242

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك.

 

فقال الرضا: قد نهاني اللَّه - عزّ وجلّ - أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً، فرضي منه بذلك، وجعله وليّ عهده كراهة منه عليه السلام لذلك"[1]. وهكذا قبل الإمام الرضا عليه السلام ولاية العهد مرغماً، وكانت شروطه التي فرضها على المأمون أوّل ضربةٍ وجّهها الإمام عليه السلام لخطّة المأمون الشيطانيّة.

 

2- أهداف المأمون من خطّة ولاية العهد[2]:

لقد كان المأمون بدعوته للإمام الرضاعليه السلام إلى خراسان وعرض ولاية العهد عليه- أو قهره عليها- يسعى وراء مقاصد أساسيّة عدّة:

أ- تبديل ساحة المواجهة الشيعيّة:

وتعني تبديل ساحة المواجهات الثوريّة الحادّة للشيعة إلى ساحةٍ للنشاط السياسيّ الهادئ البعيد عن الخطر، حيث كان الشيعة يمارسون، في ظلّ التقيّة، مواجهات ونضالاً لا تعرف التّعب والتوقّف، وهذه المواجهات النضاليّة، الّتي كانت متلازمة مع خاصّتي القداسة والمظلوميّة، كان لها تأثيرٌ لا يوصف في القضاء على بساط الخلافة. وكان الشيعة يستعينون بهذين العاملين لإيصال الفكر الشيعيّ حسب رؤية أهل البيت عليهم السلام وإنفاذه إلى النفوس والأرواح. وكانت تلك المظلوميّة والقداسة الّتي تنطلق من ركيزة الفكر الشيعيّ تنظّم هنا وهناك، وفي جميع العصور، تلك النهضات المسلّحة والحركات الثوريّة ضدّ أجهزة الخلافة، فأراد المأمون سلب هذا الجمع المناضل ذاك الخفاء والاستتار دفعةً واحدة، ويجرّ الإمام عليه السلام من ميدان المواجهة الثوريّة إلى ميدان السياسة، فالجماعة الّتي يكون قائدها شخصيّة مميّزة في جهاز الخلافة، ووليّ عهد الملك المطلق العنان

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 68 - 70.

[2] راجع: الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 416 - 419.

 

275


243

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

في زمانه، والمتصرّف في أمور البلاد، ليس مظلوماً وليس مقدّساً كما يُدّعى.

 

وكان لهذا التدبير القدرة على أن يجعل الفكر الشيعيّ مرادفاً لسائر العقائد والأفكار الّتي لها أتباعٌ في المجتمع، ويُخرجه من حيثيّة الفكر المخالف لجهاز السلطة، الّذي وإن كان بنظر الأجهزة ممنوعاً ومبغوضاً، لكنّه كان بنظر الناس، وخصوصاً الضعفاء، يمتلك جاذبيّة كبيرة ويثير التساؤلات.

 

ب- إضفاء الشرعيّة على الحكم العبّاسيّ:

حيث كان المأمون يروم بخطّته تلك تخطئة ادّعاء التشيّع كون خلافة الأمويّين والعبّاسيّين غاصبة، وإضفاء الشرعيّة على هذه الخلافات. وكان المأمون بهذا العمل يثبت لجميع الشيعة بالتزوير، أنّ ادّعاء غصب الخلافة المتسلّطة وعدم شرعيّتها الّذي كان يُعدّ دوماً من الأصول الاعتقاديّة للشيعة هو كلامٌ بلا أصل وناشئ من الضعف وعقدة الحقارة، فلو كانت الحكومات السابقة فاقدة للشرعيّة وظالمة فينبغي أن تكون خلافة المأمون وحكومته الّتي هي وريثة تلك الحكومات غير شرعيّة وغاصبة، لكنّ الإمام الرضا عليه السلام بدخوله في هذا الجهاز، وقبوله لولاية عهد المأمون، قد اعتبره قانونيّاً ومشروعاً، فيجب أن يكون باقي الخلفاء شرعيّين، وهذا في ذاته نقدٌ لجميع ادّعاءات الشيعة. وبهذا الفعل لم يكن المأمون ينتزع من الإمام عليه السلام شرعيّة حكومته ومن سلفه فحسب، بل كان يدمّر أحد أركان الاعتقاد الشيعيّ المبنيّ على ظلم الحكومات السابقة من أساسها.. وقد صرّح المأمون بذلك فقال: "فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا"[1].

 

ج- تشويه سمعة الإمام الرضا عليه السلام:

أراد المأمون أن ينال ما استطاع من مقام الإمام عليه السلام المعنويّ والذي فرضه الأئمّة عليهم السلام كلّهم على مرّ التاريخ بفعل زهدهم وورعهم وعبادتهم، فأراد المأمون أن ينقض الفكرة السائدة والمعروفة عن زهد الأئمّة وعدم اهتمامهم بزخارف الدنيا

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 170.

 

276


244

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

ومقاماتها، ويُظهر بأنّ الأئمّة يلجأون إلى الزهد فقط في الظروف الّتي لا تصل فيها أيديهم إلى الدنيا، أي عندما يُمنعون عنها، بينما عندما تُفتح أمامهم أبواب جنّة الدنيا يسرعون نحوها، حالهم في هذا حال الآخرين، فهم يتنعّمون بالدنيا إن أقبلت عليهم، ويذمّونها إن أدبرت.

 

د- دخول الإمام الرضا عليه السلام تحت سيطرة المأمون:

من الأهداف التي سعى المأمون إلى تحقيقها من خلال خطّته الشيطانيّة هو أن يجعل الإمام المعصوم، الّذي كان دوماً ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم، وكذلك بقيّة القادة العلويّين ومن معهم ممّن اجتمع حول الإمام عليه السلام من أهل الصلاح، يدخلون تحت سيطرة المأمون، وهذا نجاح لم يتمكّن أحد على الإطلاق أن يحقّقه لا من العبّاسيّين ولا من الأمويّين.

 

هـ- إضعاف الرابط العاطفيّ مع القاعدة الشعبيّة:

إنّ الإمام الرضاعليه السلام هو إمام القلوب على كلّ حال، وإن لم يمتلك السلطة الظاهريّة، فهو يمتلك العنصر الشعبيّ، ويُعدّ قبلة الآمال ومرجع الناس في أسئلتها وشكاواها كلّها، فأراد المأمون أن يجعله تحت محاصرة أجهزة الحكومة على الدوامّ، ويحدّ من حركته ومن تواصل الناس معه، وبذلك يفقد شيئاً فشيئاً الطابع الشعبيّ، ويبني حاجزاً بينه وبين الناس، حتّى يُضعف بالتالي الرابط العاطفيّ بينه وبين الطبقة الشعبيّة.

 

و- كسب المأمون للصيت الحسن:

أضف إلى ما مرّ، أراد المأمون تحسين صورته وتنقيتها في عيون الناس، وأن يكسب صيتاً حسناً وسمعة طيّبة تكون محلّ مدح من الرعيّة، بعد كلّ ما قاساه الناس من بطش آبائه وتجبّرهم. فمن الطبيعي أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الّذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وصاحب الشخصيّة المقدّسة والمعنويّة، وفي المقابل يحرم إخوته وأبناءه من هذا المنصب. ومعروف دائماً أنّ التقرّب من الصالحين  والمتديّنين من قبل طلّاب الدنيا يُذهب ماء وجه الصالحين، ويزيد في ماء وجه أهل الدنيا.

 

277


245

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

ز- تبرير أعمال الحكومة:

كان باعتقاد المأمون أنّ الإمام الرضاعليه السلام بتسلّمه لولاية العهد سيتحوّل إلى عاملٍ تبريريٍّ لجهاز الحكم، فمن البديهيّ أنّ شخصاً كالإمام، بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير له، وهو في أعين الجميع من أبناء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قام بشرح ما يقوم به جهاز الحكومة وتبريره، سوف يأمن النظام من أيّ صوت مخالف ولن يطعن به أحد، وبذلك أيضاً لا يستطيع أحد أن ينكر شرعيّة تصرّفات هذا النظام. فهذا الأمر كان عند المأمون قلعةً منيعةً يمكنه من خلالها أن يخفي عن الأعين أخطاء الخلافة وقبائحها.

 

278


246

الدرس السابع عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- هو عليّ بن موسى عليه السلام، أمّه أمّ ولد، واسمها تكتم.

 

- إنّ تواضع الإمام الرضا عليه السلام وكرم أخلاقه قد ملآ الدنيا، فكان لا يجافي أحداً، ولا يقطع على أحد كلامه، ويجالس مماليكه على الطعام، ولا يرضى بأن يُخدم، بل يتولّى أموره بنفسه.

 

- عُرف الإمام الرضا عليه السلام في زمانه بكثرة علومه وتنوّعها وسعَتها، وكان يجلس في الروضة والعلماء متوافرون، فإن أعيا الواحد منهم أشاروا إليه.

 

- عرّف الإمام الكاظم عليه السلام بإمامة ابنه الرضا عليه السلام بالتصريح والتلميح للخواصّ وحسب الظروف، ثمّ أعلن الإمام الرضا عليه السلام عن إمامته جهراً في أواخر حياة هارون.

 

- بعد سنتين من سيطرة المأمون على زمام الحكم كتب إلى الإمام الرضا عليه السلام بالقدوم إليه، وأصرّ على ذلك، ثمّ فرض عليه قبول ولاية العهد وإلّا ضرب عنقه، فقبل الإمام الرضا عليه السلام تحت التهديد، لكنّه فرض شروطه على المأمون بأن لا يتدخّل في شيء من أعمال الدولة وقراراتها، فقبل المأمون بذلك.

 

- لقد كان المأمون يهدف من فرض ولاية العهد تحقيق العديد من الأهداف، منها:

1- تبديل ساحة المواجهة الشيعيّة من الثورة إلى ساحة النشاط السياسيّ.

 

2- إضفاء الشرعيّة على الحكم العبّاسيّ.

 

3- تشويه سمعة الإمام الرضا عليه السلام ودخوله تحت سيطرته.

 

4- إضعاف الرابط العاطفيّ بين الإمام عليه السلام وقاعدته الشعبيّة.

 

5- كسب المأمون للصيت الحسن وتبرير أعمال الحكومة.

 

279


247

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

الدرس الثامن عشر

الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعــرّف إلى الســياسات التـي اتّبعهــا الإمــام الرضا عليه السلام في مواجهة المأمون.

- يبيّن الآثار والنتائج لولاية العهد.

- يستنتج الدروس التربويّة من حياة الإمام الرضا عليه السلام.

سياسة الإمام الرضا عليه السلام في مواجهة المأمون

 

281


248

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

لم يكن المأمون لينجح في مواجهة الإمام الرضا عليه السلام مع شيطنته ودهائه ومكره كلّه، لأنّ الإمام عليه السلام حاملٌ للقيم الإلهيّة بين أضلعه، مبيّناً إيّاها في حركاته وسكناته، لذا فإنّ أيّ إجراء يريد فيه مواجهة الخطّة الشيطانيّة للمأمون لا بدّ من أن يحكي عن تلك القيم والمبادئ التي تمثّل الإسلام الحقيقيّ، وفي مواجهة كهذه لا بدّ لصاحب الحقّ من أن ينتصر.

 

وبعد العرض السابق لسياسة المأمون وأهدافه ونواياه الخبيثة من مسألة ولاية العهد، نتعرّض فيما يلي إلى السياسة والإجراءات الّتي قام بها الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام لمواجهة خطّة المأمون وإحباط مفاعيلها[1]:

1- إظهار الإمام عليه السلام لإكراهه على ترك المدينة:

عندما دُعي الإمام الرضا عليه السلام من قبل المأمون، لينتقل من المدينة إلى خراسان، نشر في المدينة جوّاً يدلّ على انزعاجه وعدم رضاه عن هذه الخطوة، بحيث إنّ كلّ شخص كان حول الإمام عليه السلام تيقّن من أنّ المأمون يضمر سوءاً للإمام عليه السلام من خلال إبعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بالأساليب الممكنة كلّها، فقام بذلك عند توديع حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعند توديع عائلته، وأثناء خروجه من المدينة، وفي طوافه حول الكعبة من أجل الوداع، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحاً للجميع أنّ هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته عليه السلام.

 


[1] راجع: الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 421 - 428.

 

283


249

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

وتقول الرواية إنّه لَمَّا وَرَدَ الْبَرِيدُ بِإِشْخَاصِ الرِّضَا عليه السلام إِلَى خُرَاسَانَ دخل الْمَسْجِدَ لِيُوَدِّعَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فَوَدَّعَهُ مِرَاراً، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الْقَبْرِ وَيَعْلُو صَوْتُهُ بِالْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ، وقال: فَإِنِّي أَخْرُجُ مِنْ جِوَارِ جَدِّي صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَمُوتُ فِي غُرْبَةٍ، وَأُدْفَنُ فِي جَنْبِ هَارُونَ"[1]. وفي رواية عن الوشّاء قال: "قال لي الرضاعليه السلام: إنّي حيث أرادوا الخروج بي من المدينة جمعت عيالي فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتّى أسمع، ثمّ فرّقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثمّ قلت: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً"[2]. وبذلك وجّه الإمام الرضا عليه السلام ضربة قويّة لمؤامرة المأمون حتّى قبل بدايتها، وجيّش النفوس على أيّ إجراء يمكن للخبيث أن يقوم به تجاه الإمام عليه السلام مبدياً عليه السلام النيّة المبطّنة للمأمون، وهي تصفية الإمام الرضا عليه السلام. وبناءً على ما كان يتصوّره المأمون في أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام عليه السلام الّذي قبل بطلب المأمون نظرة سيّئة، نرى أنّ قلوب الجميع، ونتيجةً لردّ الفعل الّذي قام به الإمام عليه السلام في المدينة، ازدادت حقداً على المأمون منذ اللّحظة الأولى لسفر الإمام عليه السلام، بحيث أَبعدَ إمامهم العزيز عنهم بهذا الشكل الظالم، ووجّهه إلى مقتله.

 

2- رفض ولاية العهد:

عندما طُرحت ولاية العهد على الإمام في "مَرْو"، رفض الإمام الرضاعليه السلام هذا الطرح بشدّة، كما بيّنا سابقاً، ولم يقبل حتّى هدّده المأمون صراحةً بالقتل، وقد انتشر في كلّ مكان رفض الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد. كما أنّ العاملين في الحكومة، الّذين لم يكونوا على علم بدقائق سياسة المأمون وتدابيره، قاموا بنشر رفض الإمام عليه السلام في كلّ مكان، فأسهموا في نجاح ما أراد الإمام عليه السلام وإحباط خطة المأمون.

 

كما أنّ الإمام الرضا عليه السلام سعى في كلّ فرصة تُتاح له أن يبيّن أنّه مجبر على تسلّم هذا المنصب (ولاية العهد)، ودائماً كان يذكر أنّه هُدد بالقتل حتّى يقبل بولاية العهد،

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 217.

[2] المصدر نفسه، ص 218.

 

284


250

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

فأصبح هذا الحديث متناقلاً على الألسن، والعالم الإسلاميّ كلّه فيما بعد فَهِم أنّ شخصاً مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتّى قتَله، لأجل أن يبعده عن ولاية العهد، لا يُقدّمها لآخر بهذه الطريقة. وعند المقارنة بين الإمام عليّ الرضاعليه السلام والمأمون العبّاسيّ، نرى أنّ كلّ ما جهد المأمون لتحقيقه، ووفّر في سبيله كلّ ما لديه، كانت نتيجته عكسيّة بالكامل.

 

والذي أسهم في ارتكاز ما يريده الإمام الرضا عليه السلام في أذهان الناس هو شخص الإمام عليه السلام في حدّ ذاته، فزهده وتقواه وورعه وعبادته وعلمه وأخلاقه وتواضعه، والتي تجلّت لجميع الناس أكثر بعد ولاية العهد... ذلك كلّه أسهم في أن لا يقبل الناس بأنّ صاحب صفات كهذه ينكبّ على الدنيا، كما أراد المأمون أن يوهم الجميع.

 

3- عدم التدخّل في شؤون الدولة:

مع الضغوطات والتهديدات كلّها الّتي مورست على الإمام الرضا عليه السلام، لم يقبل بولاية العهد إلّا بشرط الموافقة على عدم تدخّله في أيّ شأن من شؤون الحكومة، من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور.

 

والمأمون الّذي كان لا يعتقد أنّ هذا الشرط ممكن قَبوله وتحمّله في بداية الأمر، حيث يستطيع فيما بعد أن يجرّ الإمام عليه السلام إلى ساحة أعمال الحكومة ونشاطاتها، وافق على قَبول شرط الإمام عليه السلام الّذي ينصّ على عدم التدخّل في أيّ شيء مهما كان.

 

ومن الواضح أنّ قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطّته كمن يكتب على وجه الماء، فأكثر أهدافه الّتي كان يرمي إلى تحقيقها من وراء هذه الخطوة لم تتحقّق من جراء موافقته على هذا الشرط. والإمام الرضاعليه السلام، الّذي كان يُطلَق عليه لقب وليّ العهد، ويستفيد بسبب موقعه من إمكانات جهاز الحكم، كان دائماً يقدّم نفسه على أنّه مخالف ومعترض عليه، ولا يقدّم أيّ تبرير لأعمال النظام. وقد أدرك المأمون جيّداً هذا الخلل والنقص، فحاول مرّات عدّة، وباستخدام لطائف الحيل، أن يحمل الإمام عليه السلام على العمل خلافاً لما تعهّد به سابقاً، فيجرّ بذلك الإمام عليه السلام إلى التدخّل في أعمال

 

285


251

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

الحكومة، ويقضي - أيضاً - على سياسة المواجهة لديه، لكنّ الإمام عليه السلام كان في كلّ مرّة يُحبط خطّته بفطنته وبراعته.

 

وكنموذج على هذا الأمر هو حادثة صلاة العيد، حيث إنّ المأمون وبحجّة أنّ الناس يعرفون قدر الإمام الرضاعليه السلام، وقلوبهم تهفو حبّاً له، طلب منه أن يؤمّ الناس في صلاة العيد، فرفض الإمام عليه السلام في البداية، لكن بعد إصرار المأمون على طلبه وافق بشرط أن يخرج إلى الصلاة ويصلّي كما كان يصلّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام.

 

جاء في الخبر أنه لَمَّا حَضَرَ الْعِيدُ بَعَثَ الْمَأْمُونُ إِلَى الرِّضَا عليه السلام يَسْأَلُهُ أَنْ يَرْكَبَ ويَحْضُرَ الْعِيدَ وَيُصَلِّيَ وَيَخْطُبَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرِّضَا عليه السلام: "قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ بَيْنِي وبَيْنَكَ مِنَ الشُّرُوطِ فِي دُخُولِ هَذَا الْأَمْرِ". فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ: إِنَّمَا أُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُ النَّاسِ وَيَعْرِفُوا فَضْلَكَ، فَلَمْ يَزَلْعليه السلام يُرَادُّهُ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فَأَلَحَّ عَلَيْهِ. فَقَالَعليه السلام: "إِنْ أَعْفَيْتَنِي مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَإِنْ لَمْ تُعْفِنِي خَرَجْتُ كَمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام".

 

فَقَالَ الْمَأْمُونُ: اخْرُجْ كَيْفَ شِئْتَ... فقَعَدَ النَّاسُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام فِي الطُّرُقَاتِ وَالسُّطُوحِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَاجْتَمَعَ الْقُوَّادُ وَالْجُنْدُ عَلَى بَابِ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ عليه السلام فَاغْتَسَلَ وَتَعَمَّمَ بِعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ مِنْ قُطْنٍ أَلْقَى طَرَفاً مِنْهَا عَلَى صَدْرِهِ وَطَرَفاً بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَتَشَمَّرَ، ثُمَّ قَالَ لِجَمِيعِ مَوَالِيهِ: "افْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلْتُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ عُكَّازاً ثُمَّ خَرَجَ ... وَهُوَ حَافٍ قَدْ شَمَّرَ سَرَاوِيلَهُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مُشَمَّرَةٌ".

 

يقول الراوي: فَلَمَّا مَشَى وَمَشَيْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، فَخُيِّلَ إِلَيْنَا أَنَّ السَّمَاءَ وَالْحِيطَانَ تُجَاوِبُهُ ... فَلَمَّا طَلَعْنَا عَلَيْهِمْ (على الناس) بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَطَلَعَ الرِّضَا عليه السلام وَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَقْفَةً، ثُمَّ قَالَ: "اللَّه أَكْبَرُ اللَّه أَكْبَرُ اللَّه أَكْبَرُ اللَّه أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا"... فَتَزَعْزَعَتْ مَرْوُ بِالْبُكَاءِ وَالضَّجِيجِ وَالصِّيَاحِ لَمَّا نَظَرُوا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام... وَكَانَ يَمْشِي وَيَقِفُ فِي كُلِّ عَشْرِ خُطُوَاتٍ وَيُكَبِّرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.. وَصَارَتْ

 

286


252

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

مَرْوُ ضَجَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْبُكَاءِ، وَبَلَغَ الْمَأْمُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ذُو الرِّئَاسَتَيْنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ بَلَغَ الرِّضَا الْمُصَلَّى عَلَى هَذَا السَّبِيلِ افْتَتَنَ بِهِ النَّاسُ، وَالرَّأْيُ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ فَسَأَلَهُ الرُّجُوعَ، فَدَعَا أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام بِخُفِّهِ فَلَبِسَهُ وَرَكِبَ ورَجَعَ[1].

 

فقد استفاد الإمام عليه السلام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيّدة لصالح مشروعه، فندم المأمون الّذي كان قد أصرّ على ذلك، وأرجع الإمام عليه السلام من منتصف الطريق قبل أن يصلّي، معرّضاً بفعله هذا سياسة نظامه المخادعة والمتملّقة لضربة أخرى في صراعه مع الإمام عليه السلام.

 

نتائج ولاية العهد

إنّ السنة التي تسلّم فيها الإمام الرضاعليه السلام ولاية العهد كانت واحدة من أعظم البركات التاريخيّة على التشيّع، حيث إنّها نفخت روحاً جديدة في نضال العلويّين وكفاحهم، وهذا كان من بركات التدبير الإلهيّ للإمام الثامنعليه السلام وأسلوبه الحكيم، ولذلك سنشير إلى بعضٍ من نتائج ولاية العهد[2]:

1- اعتراف المأمون بأحقيّة أهل البيت عليهم السلام بالخلافة:

عندما نطالع الكلمات التي دوّنها التاريخ للإمام الرضا عليه السلام بعد توّليه ولاية العهد، والكلمات التي أدلى بها المأمون في تلك الفترة، والتي صدرت في مراسم التعيين أيضاً، نجد اعتراف المأمون واضحاً صريحاً بأحقّيّة أهل البيت عليهم السلام بالخلافة، بل إنّ الحديث الذي نقلناه سابقاً عن الحوار الذي دار بين المأمون والإمام الرضا عليه السلام عند عرض المأمون ولاية العهد على الرضا عليه السلام يُظهر أحقّيّة الإمام بوضوح، وهو ما قاله المأمون. وعندما لم يدخل الإمام الرضا عليه السلام في السلطة الغاصبة، ولم يبرّر بطبيعة الحال أيّاً من أفعالها، بل أبدى اعتراضه في كلّ مناسبة، وبالتالي حافظ على خطّ أحقّيّته التي طالما

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 489 - 490.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 424 - 426.

 

287

 


253

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

طالب بها هو وأجداده عبر السنين، ثبّت من خلال ذلك كلّه أنّ أهل البيتعليهم السلام هم الأحقّ بالخلافة منذ البداية، وشكّل ذلك طعناً قويّاً في صميم الخلافات السابقة كلّها.

 

فعندما طلب المأمون منه أن يخطب أمام الناس، خطب موضّحاً حقّه: "أيّها الناس، إنّ لنا عليكم حقّاً برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكم علينا حقّاً به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب لكم علينا الحقّ لكم"[1]. ثمّ خطب المأمون فقال: "أيّها الناس، جاءتكم بيعة عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، واللَّه لو قرأت هذه الأسماء على الصمّ البكم لبرئوا بإذن اللَّه - عزّ وجلّ -"[2]. وفي ذلك دلالة واضحة على المطلوب.

 

2- انتشار التشيّع جهاراً وخرق التقيّة:

إنّ الإمام الرضا عليه السلام بقبوله بولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمّة (بعد انتهاء خلافة أهل البيت في سنة 40 هجرية حتّى آخر عهود الخلافة الإسلاميّة)، -من خلال مسألة ولاية العهد-، ولقد تمثّل ذلك بظهور دعوة الإمامة الشيعيّة على مستوى كبير في العالم الإسلاميّ وخرق ستار التقيّة الغليظ في ذاك الزمان، حيث تمّ إيصال نداء التشيّع إلى أسماع جميع المسلمين، فمنبر الخلافة جُعل تحت تصرّف الإمام عليه السلام، وقد قام الإمام عليه السلام من خلاله برفع ندائه وإعلان ما كان يُقال طيلة 150 سنة في الخفاء والتقيّة للخواصّ والأصحاب المقرّبين، وبالاستفادة من الإمكانات الرائجة في ذلك الزمان الّتي لم تكن إلّا تحت سيطرة الخلفاء والمقرّبين منهم في الرّتب العالية، أوصل ذلك النداء إلى أسماع الجميع[3].

 

3- توظيف الإعلام لصالح الإمام الرضا عليه السلام:

وظّف المأمون وسائل الإعلام لصالح الإمام عليه السلام، فأصبح صيته شائعاً بين الناس، وتحقّقت معرفة المسلمين وغير المسلمين به عليه السلام، فقد أصبح أئمّة الجمعة

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 262.

[2] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 147.

[3] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 345.

 

288


254

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

يدعون للإمام الرضاعليه السلام في كلّ جمعة وعند كلّ مناسبة، وضُربت النقود باسم الإمام الرضا عليه السلام في جميع الأمصار[1]، ووجد الشعراء والخطباء فرصةً مناسبة للترويج لشخصيّة الإمام عليه السلام وآبائه وأجداده.

 

4- حريّة الإمام الرضا عليه السلام في المناظرة:

بعد تولّي الإمام الرضا عليه السلام لولاية العهد وذياع صيته، أراد المأمون النيل منه عليه السلام بالوسائل المتاحة كلّها، فنظّم المناظرات وجاء بالعلماء من مختلف الأديان والثقافات والمذاهب، علّ أحدهم ينتصر على الإمام عليه السلام في مسألة فيحقّق المأمون ما يريد.

 

فجرت مناظرات كثيرة جدّاً مع المذاهب والأديان كلّها حتّى لُقّب عليه السلام بـ "غيظ الملحدين". فقد جمع المأمون للإمام عليه السلام الجاثليق، وهو رئيس الأساقفة، ورأس الجالوت عالم اليهود، ورؤساء الصابئين، وعظماء الهنود من أبناء المجوس، وأصحاب زرادشت، وعلماء الروم، والمتكلّمين، فناظرهم بأجمعهم في مناظرات مشهورة، وغلب عليهم بالحجّة البيّنة والبراهين التامّة، وأذعنوا لتمام فضله في العلم[2]، حتّى قال الجاثليق لمّا لم يبقَ شيء إلّا وفنّده له الإمام عليه السلام: ليسألك غيري، فلا - وحق المسيح - ما ظننت أنّ في علماء المسلمين مثلك، وقال عندما بيّن له الإمام الرضا عليه السلام بعض الأمور حول الإنجيل والنبيّ عيسى عليه السلام: أمّا هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وبان لي من فضل علمك بالإنجيل، وسمعت أشياء ممّا علمته، شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً من الفهم"[3].

 

وهناك أيضاً رسالة جوامع الشريعة الّتي كتبها الإمام للفضل بن سهل، حيث ذكر فيها أمّهات المطالب العقائديّة والفقهيّة للتشيّع[4]، وأيضاً حديث الإمامة المعروف الّذي قد ذكره الإمام عليه السلام في مروَ لعبد العزيز بن مسلم، ذلك كلّه أدّى إلى انقلاب خطّة

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 147.

[2] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج2، ص 300.

[3] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 163.

[4] ابن شعبة الحراني، تحف العقول، مصدر سابق، ص 415.

 

289


255

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

المأمون رأساً على عقب، فبدلاً من أن تضعف مكانة الإمام عليه السلام العلميّة أمسى عليه السلام مناراً ومقصداً لأهل العلم، وذاع صيته العلميّ أكثر فأكثر.

 

5- نشر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومقاماتهم:

في تلك السنة الأولى لولاية العهد نجد الخطب حافلة بذكر فضائل أهل البيت في المدينة، ولعلّه في الكثير من الأقطار الإسلاميّة، وذلك عندما وصل خبر ولاية عليّ بن موسى الرضاعليه السلام. فأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذين كانوا يُشتمون علناً على المنابر لسبعين سنة، وفي السنوات الّتي تلتها، لم يكن شخص ليجرؤ على ذكر فضائلهم، فعاد في زمان الإمام الرضاعليه السلام ذكر عظمة أهل البيت وفضائلهم في كلّ مكان، كما أنّ أصحابهم ازدادوا جرأة وإقداماً بعد هذه الحادثة، وتعرّف الأشخاص الّذين كانوا يجهلون مقام أهل البيتعليهم السلام عليهم وصاروا يحبّونهم، وأحسّ الأعداء الّذين أخذوا على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضعف والهزيمة، فالمحدّثون والمفكّرون الشيعة أصبحوا ينشرون معارفهم - الّتي لم يكونوا ليجرؤوا قبلاً على ذكرها إلّا في الخلوات - في حلقات دراسيّة كبيرة، وفي المجامع العامّة علناً. مضافاً إلى تلك القصائد الكثيرة الّتي نُظمت في مدح الإمام بمناسبة تسلّمه ولاية العهد، ومنها قصيدتا دِعبل[1] وأبو نوّاس[2] التي تُعدّ من أهمّ القصائد المخلّدة في الشعر العربيّ. وقد نشر الإمام الرضا عليه السلام فضائل الإمام عليّ عليه السلام وكراماته، ويكفي أن نعرف أنّ المأمون نفسه في سنة 211 قد أمر أن ينادى: "برئت الذمّة ممّن يذكر معاوية بخير، وإنّ أفضل الخلائق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب"[3].

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 141.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 324.

[3] السيوطيّ، عبد الرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء، تحقيق: لجنة من الأدباء، بيروت، مطابع معتوق إخوان، لا.ت، لا.ط، ص 334.

 

290


256

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

6- حقن دماء المسلمين:

من آثار هذه الولاية حقن الدماء، فقد أصدر المأمون العفو العامّ عن بعض قادة الثورات: كزيد، وإبراهيم أخي الإمام عليه السلام، ومحمّد بن جعفر.

 

والإمام الرضا عليه السلام على الرغم من أنّه لم يحضّ ثوار التشيّع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة، فإنّ القرائن الموجودة تدلّ على أنّ الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملاً محفّزاً ومشجعاً لأولئك، الّذين أصبحوا بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم، محلّ احترام وتقدير، ليس فقط عند عامّة الناس، بل حتّى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن بعد أن كانوا ولفترات طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الصعبة العبور والمناطق النائية البعيدة.

 

فشخص مثل دِعبل الخزاعيّ صاحب البيان الجريء لم يكن على الإطلاق يمدح أيّ خليفة أو وزير وأمير، ولم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، بل لم يسلم من هجائه ونقده أيّ شخص من حاشية الخلافة، وكان لأجل ذلك ملاحقاً دوماً من قبل الأجهزة الحكوميّة، وظلّ سنوات طوالاً مهاجراً ليس له موطن، يحمل داره على كتفه، ويسير من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة، فأصبح بإمكانه الآن، مع وجود الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحرّيّة، وأن يُوصل في فترة قصيرة شعره إلى أقطار العالم الإسلاميّ كلّه، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك الّتي تلاها للإمام عليه السلام حيث اشتُهر بها، والّتي تبيّن وثيقة الثورة العلويّة ضدّ الأنظمة الأمويّة الحاكمة، حتّى إنّه وفي طريق عودته من عند الإمام سمع تلك القصيدة نفسها يردّدها قطّاع الطرق، وهذا يدلّ على الانتشار السريع لشعره.

 

شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

جاء في الخبر أنّ أحدهم سأل أبا الصلت الهرويّ عن قتل الإمام الرضا عليه السلام، فقال: "سألت أبا الصلت الهرويّ، فقلت: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه السلام مع إكرامه ومحبّته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟ فقال: إنّ المأمون إنّما كان يكرمه

 

291


257

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

ويحبّه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليُري الناس أنّه راغب في الدنيا فيسقط محلّه من نفوسهم، فلمّا لم يظهر منه في ذلك للنّاس إلّا ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلّاً في نفوسهم، جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً من أن يقطعه واحد منهم فيسقط محلّه عند العلماء، وبسببهم يُشتهر نقصه عند العامّة.

 

فكان لا يكلّمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهريّة، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له إلّا قطعه وألزمه الحجّة، وكان الناس يقولون: واللَّه، إنّه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتدّ حسده، وكان الرضا عليه السلام لا يحابي المأمون من حقّ، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله فيغيظه ذلك، ويحقده عليه، ولا يُظهره له، فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسمّ"[1].

 

تكفي هذه الرواية لتبيّن لنا أنّه لمّا أعيت المأمون الحيلة، وانقلبت مخططاته كلّها، ولم يعد بين يديه ما يحارب به الإمام عليه السلام، بل إنّ الوضع تحوّل إلى الانقلاب عليه، وإزاحة بساط السلطة من تحت قدميه، فلم يجد بدّاً من باللّجوء إلى أساليب أجداده الفجرة المجرمين، فقرّر تسميم الإمام الرضاعليه السلام بنفسه دون أن يكلَ هذه المهمّة إلى أحد.

 

فسمّه المأمون في عنب قدّمه له، وقُبض عليه السلام في أواخر[2] من سنة ثلاث ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وتُوفّي بطوس في قرية يقال لها سناباد من نوقان على دعوة، ودُفن بها[3]. وقيل قُبض عليّ بن موسىعليه السلام وهو ابن تسع وأربعين سنة وأشهر، في عام اثنتين ومائتين[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج2، ص 239.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج49، ص 239.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 486.

[4] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج49، ص 292.

 

292


258

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

علّمني إمامي

- أن يكون الزهد والأخلاق السامية نهجاً اختياريّاً لا جبرياً لي، تفرضه عليّ الظروف.

 

- أن أكون لطيفاً، ليّناً، مهذّباً مع الآخرين، وبالخصوص مع من هم تحت سلطاني وولايتي.

 

- أن أظهر للناس بمظهر لا ينكره العرف، وأحتفظ لربّي ونفسي ما يحفظ لي زهدي وتزكيتي لنفسي.

 

- أن أكون يقظاً فطناً، أترصّد سياسات عدوّي وأتعرّف نواياه، وأتقدّم عليه خطوة حكيمة فأفشل مخطّطاته.

 

- أن لا أتخلى عن مبادئي وقيمي ولو صرت سلطاناً، بل أن يكون السلطان والملك في خدمة القيم.

 

- أن يكون علمي وحسن سيرتي هما منشأ صيتي الحسن ومحبّة الآخرين واحترامهم لي، لا السلطان والملك. وكذا أن تكون هذه المعايير منشأ احترامي للآخرين لا السلطان والملك، فأسير على سيرة سلطان القلوب الإمام الرضاعليه السلام.

 

293

 


259

الدرس الثامن عشر: الإمام عليّ الرضا عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- ليس الإمام الرضا عليه السلام أقلّ حنكةً من المأمون، لكنّه عليه السلامممثّل القيم الإلهيّة وصاحبها، لذا فإنّ أيّ إجراء يريد فيه مواجهة خطّة المأمون لا بدّ من أن يحكي عن تلك القيم والمبادئ التي تمثّل الإسلام الحقيقيّ.

 

- قام الإمام الرضا عليه السلام بخطوات أحبط فيها مؤامرة المأمون ضدّه، فقام بما يلي:

1- أظهر الإمام عليه السلام إكراهه على ترك المدينة المنوّرة، وأنّ المأمون يضمر له السوء.

 

2- رفض ولاية العهد، ثمّ قبلها تحت التهديد بالقتل، وقد شاع بين الناس زهده فيها.

 

3- فرض على المأمون شرطاً بعدم التدخل في شؤون الدولة ليقبل بولاية العهد. وقد أدّت هذه الإجراءات إلى انقلاب خطّة المأمون لصالح الإمام الرضاعليه السلام ومشروعه.

 

- من النتائج والثمار التي تحقّقت جرّاء قضيّة ولاية العهد:

1- اعتراف المأمون بأحقّيّة أهل البيت عليهم السلام بالخلافة ضمنيّاً وحتّى بالتصريح في بعض المواقف، الأمر الذي أدانه وأسلافه جميعاً بوصفهم مغتصبي الخلافة.

 

2- انتشار التشيّع جهاراً وخرق التقيّة.

 

3- توظيف الإعلام لصالح الإمام الرضا عليه السلام.

 

4- نشر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومقاماتهم.

 

5- حقن دماء المسلمين.

 

- لمّا أعيت المأمون الحيلة، وانقلبت مخطّطاته كلّها، ولم يعد بين يديه ما يحارب به الإمام عليه السلام، قرّر التخلّص منه باغتياله، فدسّ إليه السمّ في عنب قدّمه له فقُبض عليه السلام سنة 203هـ.

 

294


260

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

الدرس التاسع عشر

الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى بعض الخصائص الشخصيّة للإمام الجواد عليه السلام.

 

- يبيّن كيفيّة تعيين الإمام الجواد عليه السلام إماماً.

 

- يتبيّن معـــضلة الإمـــامة التي رافقــت تولّي الجواد عليه السلام للإمامة، وكيف انتهت.

 

295


261

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

الإمام الجواد عليه السلام

هو محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السلام، وهو الإمام التاسع من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، أبوه هو الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وأمّه أمّ ولد (كانت جارية عند الإمام الرضا عليه السلام فتزوّجها)، وهي من أهل بيت ماريا القبطيّة زوج النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأمّ إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي نوبيّة يقال لها سبيكة، وقيل إنّ اسمها كان خيزران[1]. وكانت من أفضل نساء زمانها، ولقد أشار إلى ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حيث رُوي عنه أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "بأبي ابن خيرة الإماء النوبيّة الطيّبة الفم"[2].

 

ولد الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام في العاشر من رجب[3] سنة 195ه. وقد غمرت الإمام الرضا عليه السلام موجات من الأفراح والسرور بوليده المبارك، وطفق يقول: "قد وُلِد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قُدّست أمّ ولدته..."[4]. والتفت عليه السلام إلى أصحابه فبشّرهم بمولوده قائلاً: "إنّ اللَّه قد وهب لي من يرثني، ويرث آل داود..."[5]، فبيّن الإمام الرضا عليه السلام منذ ولادته أنّ الإمام الجواد عليه السلام هو الوارث للإمامة بعده وصاحب الأمر.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 492.

[2] المصدر نفسه، ص 323.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 11.

[4] المصدر نفسه، ص 15.

[5] المصدر نفسه، ص 18.

 

297


262

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

وكان من ألقابه عليه السلام: المختار، المنتجب، المرتضى، القانع، الرضيّ، التقيّ، الجواد[1]، والأخيران من أشهرها، وكنيته: أبو جعفر الثاني تمييزاً له عن جدّه محمّد بن عليّ الباقر[2] عليه السلام.

 

تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الرضا عليه السلام في سنة 203هـ، واستمرّت إمامته 17 سنة إلى سنة 220هـ، وقبل شهادته المباركة أوصى بالإمامة إلى ابنه الإمام عليّ الهادي[3] عليه السلام.

 

كان للإمام الجواد عليه السلام أربعة أولاد[4]. استُشهد الإمام الجواد عليه السلام في التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة (220 هـ) بوساطة زوجته أمّ الفضل بنت المأمون التي سمّته بعد تحريض عمّها المعتصم، كما جاء في بعض المصادر[5]، ودُفن في بغداد في مقابر قريش في ظهر قبر جدّه الإمام موسى الكاظم[6] عليه السلام.

 

بعضُ الخصائص الشخصيّة للإمام الجواد عليه السلام

1- عبادته عليه السلام:

كان الإمام الجواد عليه السلام أعبد أهل زمانه، وأشدّهم خوفاً من اللَّه تعالى، وأخلصهم في طاعته وعبادته، شأنه شأن الأئمّة الطاهرين من آبائه. فكان عليه السلام كثير النوافل، حيث رُوي أنّه كان يصلّي ركعتين يقرأ في كلّ ركعة سورة الفاتحة، وسورة الإخلاص سبعين مرّة[7]. وكان عليه السلام كثير العبادة في شهر رجب، وقد أمر عليه السلامببعض الصلوات الخاصّة في رجب لجميع حشمه[8]، وكان يقول: "إنّ في رجب لليلة خير ممّا طلعت

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 4، ص 379.

[2] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج23، ص 27.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 323.

[4] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج23، ص 541.

[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 391؛ العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 17.

[6] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 492.

[7] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج8، ص 185.

[8] المصدر نفسه، ص 112.

 

298


263

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

عليه الشمس، وهي ليلة سبع وعشرين من رجب"، وذكر عليه السلام فيها صلاة خاصّة[1].

 

وقد رُوي عن الإمام الجواد عليه السلام أدعيّة كثيرة تمثّل مدى انقطاعه إلى اللَّه تعالى، منها: "يا من لا شبيه له، ولا مثال، أنت اللَّه لا إله إلّا أنت، ولا خالق إلّا أنت تفني المخلوقين، وتبقى أنت، حلمت عمّن عصاك، وفي المغفرة رضاك..."[2]. وكتب إليه محمّد بن الفضيل يسأله أن يعلّمه دعاءً، فكتب إليه هذا الدعاء الشريف تقول: إذا أصبحت وأمسيت: "اللَّه اللَّه ربّي، الرحمن الرحيم، لا أشرك به شيئاً، وإن زدت على ذلك فهو خير، ثمّ تدعو بذلك في حاجتك، فهو لكلّ شيء بإذن اللَّه تعالى، يفعل اللَّه ما يشاء"[3].

 

2- زهده عليه السلام:

زَهد أئمّة الهدى عليهم السلام في الدنيا، وساروا على خطى جدّهم أمير المؤمنينعليه السلام وعملوا بسيرته، - هذا، وإن أقبلت الدنيا عليهم، بل وإن ملكوها بأجمعها -، وفعلوا كلّ ما يقرّبهم إلى اللَّه زلفى. لقد كان الإمام الجواد عليه السلام شابّاً في مقتبل العمر، يعيش في بلاط السلطان قهراً حيث كان يعيش مع الإمام الرضا عليه السلام بداية ثمّ أُلزم البقاء في دار الخلافة من قبل الخليفة، وكانت تحيط به بهارج الدنيا وزينتها كلّها منذ صغره، ومنذ بداية إمامته الشريفة، لكنّ هذا كلّه لم يكن ليرقى إلى حدّ نظر الإمام الجواد عليه السلام واعتباره.

 

كما كانت الحقوق الشرعيّة ترد إليه من الشيعة، وغيرها من الأموال تحت تصرّفه، إلّا أنّه لم يكن ينفق شيئاً منها في أموره الخاصّة، وإنّما كان ينفقها في مواردها، ولم يكن أيّ شيء ممّا هو فيه عليه السلام ليغريه أو يستميل هواه أو يريحه حتّى وقد رآه الحسين المكاريّ في بغداد، وكان محاطاً بهالة من التعظيم والتكريم من قِبل الأوساط الرسميّة والشعبيّة فحدّثته نفسه (للمكاريّ) أنّه عليه السلام لا يرجع إلى وطنه

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 8، ص 111.

[2] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضاعليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 62.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 534.

 

299


264

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

يثرب، وسوف يقيم في بغداد راتعاً في النعم والترف، وقد عرف الإمام عليه السلام قصده، فقال المكاريّ: "دخلتُ على أبي جعفر عليه السلام ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلتُ في نفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً، وأنا أعرف مطعمه، قال: فأطرق رأسه ثمّ رفعه، وقد اصفرّ لونه، فقال: يا حسين، خبز شعير وملح جريش في حرم جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، أحبّ إليّ ممّا تراني فيه"[1].

 

لا سيّما وأنّ المأمون لم يكن ليفعل ما فعله حبّاً للإمام الجواد عليه السلام ورغبةً في وصاله، بل إنّ أحد أهمّ أهداف المأمون الخبيثة هو إظهار الإمام الجواد عليه السلام للناس بصورة المنعّم الغارق في أحضان الدنيا والسلطان، ويزيل عنه هالة التقديس والزهد التي تقضّ مضجعه، وتعلي شأن الإمام عليه السلام بين الناس.

 

وفي رواية عن محمّد بن الريّان قال: "احتال المأمون على أبي جعفر بكلّ حيلة، فلم يمكنه فيه شيء، فلمّا اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته (أي يزوّجه) دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون، إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر، يستقبلن أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الأخيار، فلم يلتفت إليهنّ، وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللّحية، فدعاه المأمون.. فقعد بين يدي أبي جعفرعليه السلام، فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده ويغنّي، فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع إليه رأسه وقال: اتّق اللَّه يا ذا العثنون[2]، قال الراوي: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات... فسأله المأمون عن حاله، فقال: لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً"[3].

 

إنّ هذه الرواية تبيّن لنا كيف كان المأمون يحيك المؤامرات على الدوامّ، ويحاول بكلّ وسيلة إسقاط هيبة إمام لم يتجاوز التاسعة من عمره على أبعد تقدير حين تولّيه

 


[1] قطب الدين الراوندي، سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق: مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام بإشراف السيد محمد باقر الموحد الأبطحي، مؤسسة الإمام المهدي، إيران - قم، 1409ه، ط1، ج1، ص383.

[2] العثنون: ما نبت من الشعر أسفل الذقن.

[3] الشيخ البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ج23، ص 527 ـ 528.

 

300


265

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

الإمامة! على الرغم من ذلك كان الإمام الجواد عليه السلام بارعاً كأبيه في إفشال مخطّطات المأمون، فمع أنّه فُرض عليه التواجد في ذلك المجلس، لكن لم يُعر أيّاً من الجواري نظرة منه، وزهد في كلّ ما حوله، وبيّن ما عنده حقيقةً من استحقارٍ لملذّات الدنيا، وأحبط خطوةً جديدةً للمأمون. ولا عجب من هذه الشيم والخصال أن تصدر عن أئمّة الحقّ عليهم السلام، وهم يعلّموننا من خلالها أن لا نغترّ بالدنيا ولا نطلبها، بل نرفضها وإن سعت في طلبنا ببهارجها كلّها، فذلك هو مقتضى الإخلاص تجاه اللَّه تعالى والأهداف الحقّة.

 

3- كرمه عليه السلام وإحسانه إلى الناس:

إنّ أشهر لقبٍ عُرف به الإمام أبو جعفر عليه السلام هو الجواد، وذاك لكثرة كرمه وجوده وإحسانه المستفيض للناس، فقد كان عليه السلام من أندى الناس كفّاً وأكثرهم سخاءً.

 

ومن تجلّيات ذلك الجود، ما أخبره به أحمدُ بن حديد، أنّه قد خرج مع جماعة من أصحابه إلى الحجّ، فهجم عليهم جماعة ونهبوا ما عندهم من أموال ومتاع، ولمّا انتهوا إلى يثرب انطلق أحمد إلى الإمام محمّد الجواد عليه السلام وأخبره بما جرى عليهم، فأمر عليه السلام له بكسوة وأعطاه دنانير ليفرّقها على جماعته، وكانت بقدر ما نهب منهم[1]، فردّ لهم ما سلب منهم، وأنقذهم من محنةٍ وقعوا فيها.

 

إنّ كرم الإمام الجواد عليه السلام وإحسانه ومعروفه قد شمل حتّى الحيوانات، وهذا شأن الإنسان الكامل، بل الإنسان، أيّ إنسان يتمتّع بإنسانيّته، لا بدّ من أن يكون رفيقاً بالمخلوقات كلّها، البشر والحيوان والجماد، ويُسهم في حلّ مشاكلها وتحصيل سعادتها، وهكذا في الحقيقة يحصل على سعادته، فالسعادة الحقيقيّة تتأتّى من البذل والعطاء لا من الأخذ والاحتواء.

 

ففي رواية عن الكرماني أنّه قال: "أكلت بين يدي أبي جعفر الثاني عليه السلام حتّى إذا فرغت ورفع الخوان ذهب الغلام ليرفع ما وقع من فتات الطعام، فقال عليه السلام له:

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 45.

 

301


266

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

ما كان في الصحراء فدعه ولو فخذ شاة، وما كان في البيت فتتبّعه والقطه"[1]. وهو بهذه الكلمات القصار يؤكّد على مسألة تربويّة ذات أبعاد، فهذا الفعل الذي أمر به الإمام عليه السلام يؤكّد فيه على الاهتمام بالمخلوقات الأخرى وحاجاتها، كما أنّه يؤكّد على مبدإ النظافة وعدم الإسراف، لذا أيّ طعام بقي وكنت في المنزل مهمّتك هي تتبّعه والتقاطه، لا تركه أو رميه، أمّا في أماكن الخلاء فيترك الطعام المتبقّي لتنتفع به الحيوانات والطيور.

 

كما أنّ الإمام الجواد عليه السلام كان كثير المواساة للناس، ولا سيّما في أتراحهم ومصائبهم، فيراسلهم ويعزّيهم بفقد أحبّائهم، ويعظهم في رسائله برقّة عالية فيهون مصابهم، ومن أمثلة ذلك أنّه عليه السلام بعث رسالة إلى رجل قد فجع بفقد ولده، وقد جاء فيها بعد البسملة: "ذكرت مصيبتك بعليّ ابنك، وذكرت أنّه كان أحبّ ولدك إليك، وكذلك اللَّه - عزّ وجلّ - إنّما يأخذ من الولد وغيره أزكى ما عند أهله، ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة، فأعظم اللَّه أجرك، وأحسن عزاك، وربط على قلبك، إنّه قدير، وعجّل اللَّه عليك بالخلف، وأرجو أن يكون اللَّه قد فعل إن شاء اللَّه..."[2]، فأعرب في هذه الرسالة الرقيقة عن صدق تعاطفه ومواساته لصاحب المصاب، وهو أمرٌ يزيد من تعلّق الناس به وحبّها له عليه السلام، ويرشدنا إلى أهمّيّة التعاطف الصادق مع أهل المصاب بما يلائم حالهم، وهو أمر يعضد أواصر الإخوان، ويزيد في القرب والمحبّة، ويخفّف المصاب، فحريّ بشيعة الجواد أن يجودوا على الناس بعواطفهم، فإنّها من أفضل البذل وأندره.

 

4- علمه عليه السلام:

تمتّع الإمام الجواد عليه السلام بمكانة علميّة مرموقة في المجتمع الإسلاميّ، وكان محطّ أنظار العلماء وعامّة الناس، ولا سيّما أنّه أثبت إمامته وفرضها على الجميع بعلمه اللّدنيّ.

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص 356.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 205.

 

302


267

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

وكانت الشيعة تأتي إليه وتسأله عن موارد الحلال والحرام على الرغم من صعوبة التواصل ومتاعب الطريق، فيفرّغ الإمام عليه السلام نفسه للإجابة عن مشاكل الناس وأسئلتهم، فكان يقضي وقتاً طويلاً في ذلك، ويُقيم له مجلساً خاصّاً، فقد روي أنّه أجاب في مجلس واحد عن مئات المسائل، حتّى أدهش الناس من كثرة علومه وفضائله[1].

 

وهذه المكانة هي من الأمور التي دفعت المأمون إلى أن يحسن إلى الإمام الجواد عليه السلام ويقرّبه إليه، خوفاً منه، ووصل به الأمر إلى أن يزوّجه ابنته أمّ الفضل. وقد أثبت الإمام عليه السلام هذه المكانة وهو لا يزال صغيراً في السنّ، حيث تسلّم الإمامة وعمره سبع أو ثماني سنوات[2]. وقد تتلمذ على يديه المباركتين العديد من الأصحاب والمحدّثين، منهم: إبراهيم بن مهزيار، وسهل بن زياد الآدميّ، وغيرهما الكثير من الفقهاء والمحدّثين والأصحاب[3].

 

هذا، مضافاً إلى القضايا الكلاميّة والفقهيّة وغيرها من العلوم التي أثيرت في عصره وكثرت حولها الأسئلة والشكوك والآراء، فكان عليه السلام يفنّدها، ويردّ عليها، ويبيّن الحقّ في المسألة. ومن الأمثلة على ذلك أنّه وفد على الإمام الجواد عليه السلام بعض المتضلّعين في علم الفلسفة والكلام فقُدّم له السؤال التالي: "أخبرني عن الربّ تبارك وتعالى، له أسماء وصفات في كتابه؟ فأسماؤه وصفاته هي هو؟ فحلّل الإمام عليه السلام سؤاله إلى وجهين، كما حلّل الوجه الثاني منهما إلى وجهين، وقد صحّح بعض تلك الوجوه، وأبطل بعضها الآخر منها، لأنّها تتنافى مع واقع التوحيد، فقال عليه السلام: "إنّ لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هو هي، أي أنّه ذو عدد وكثرة فتعالى اللَّه عن ذلك. وإن كنت تقول: لم تزل هذه الصفات والأسماء (فإن لم تزل) يحتمل معنيين: فإن قلت: لم تزل عنده في علمه، وهو مستحقّها فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها، وتقطيع حروفها، فمعاذ اللَّه أن يكون معه شيء غيره، بل كان اللَّه ولا خلق، ثمّ خلقها وسيلة

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 496.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 281.

[3] للاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.

 

303


268

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

بينه وبين خلقه يتضرّعون بها إليه، ويعبدونه..."[1]. وبهر السائل من إحاطة الإمام بهذه البحوث المعقّدة، وأكمل حديثه وأسئلته إليه.

 

إمامة الإمام الجواد عليه السلام

1- إشادة الإمام الرضا عليه السلام بالإمام الجواد عليه السلام:

كان الإمام الرضا عليه السلام يشيد دوماً بولده الإمام الجواد عليه السلام، ويدلّل على فضله ومواهبه، ولعلّ ذلك كان خطوةً استباقيّة منه عليه السلام للاعتراضات على إمامة الجواد عليه السلام فيما بعد. وقد بعث الفضل بن سهل إلى محمّد بن أبي عبّاد كاتب الإمام الرضا عليه السلام يسأله عن مدى علاقة الإمام الرضا عليه السلام بولده الجواد عليه السلام، فأجابه: "مَا كَانَ عليه السلام يَذْكُرُ مُحَمَّداً ابْنَهُ إِلَّا بِكُنْيَتِهِ يَقُولُ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام وَكُنْتُ أَكْتُبُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام وَهُوَ صَبِيٌّ بِالْمَدِينَةِ فَيُخَاطِبُهُ بِالتَّعْظِيمِ، وَتَرِدُ كُتُبُ أَبِي جَعْفَرٍعليه السلام فِي نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْحُسْنِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَبُو جَعْفَرٍ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِي أَهْلِي مِنْ بَعْدِي"[2].

 

وحدّث الرواة عن مدى تعظيم الإمام الرضا عليه السلام لولده الجواد عليه السلام، فقالوا: إنّ بعض أصحاب الرضاعليه السلام كانوا عنده بمنى إذ جيء بأبي جعفر فقالا له: هذا المولود المبارك..؟ فاستبشر الإمام، وقال: نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه..."[3]. ويوجد في الكتب طائفة كثيرة من الأخبار قد أثرت عن الإمام الرضا عليه السلام تبيّن فضائل الإمام الجواد عليه السلام، وتدلّل على عظيم مواهبه وملكاته.

 

2- نصّ الإمام الرضا عليه السلام على إمامة الجواد عليه السلام:

من الأمور التي لا بدّ منها في إثبات إمامة كلّ إمام، هو نصّ الإمام المعصوم السابق على إمامة الإمام اللّاحق، ونظراً إلى الظرف الخاصّ الذي حصل عند شهادة الإمام

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، التوحيد، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص 193.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 20.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 20.

 

304


269

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

الرضا عليه السلام المتمثّل بصغر سنّ ابنه الوحيد ووريث الإمامة الإمام الجواد عليه السلام، فقد تحرّز الإمام الرضاعليه السلام لذلك، وأثبت إمامة ابنه قبل شهادته، وقد كثرت وتعدّدت الأحاديث في ذلك. وتدرّجت النصوص الخاصّة الصادرة عن الإمام الرضا عليه السلام حول إمامة ابنه الجواد عليه السلام من قبل أن يولد، واستمرّ صدورها حتّى قبيل استشهاده، فظاهرة تولّي الإمامة في عمر لم يتجاوز السنين التسع تُعدُّ سابقة في نوعها تحدث للمرّة الأولى في تاريخ أهل البيت عليهم السلام.

 

وعليه، كثرت النصوص المصرّحة بإمامة الجواد عليه السلام من قبلِ الإمام الرضا عليه السلام، وقد روى تلك النصوص كثير من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام الأجلّاء، وفقاً لما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد[1]، ومن تلك النصوص ما جاء عن صفوان بن يحيى أنّه قال: "قلت للرضا: قد كنّا نسألك قبل أن يهب اللَّه لك أبا جعفر عن القائم بعدك؟ فتقول: يهب اللَّه لي غلاماً، فقد وهبه اللَّه لك فأقرّ عيوننا، فإن كان كون، فإلى من؟ فأشار الإمام إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه وعمره إذ ذاك ثلاث سنين، فقلت: هو ابن ثلاث سنين! قال عليه السلام: وما يضرّ من ذلك، فقد قام عيسى بالحجّة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين"[2]. فحفل جواب الإمام الرضا عليه السلام بالدليل الحاسم، فالإمامة ليست أمراً بشريّاً لنطبّق عليها قواعد العرف والناس، بل هي كالنبوّة شأنٌ إلهيّ لا دخل للعمر به، وهو ما سنشير إليه فيما يلي، وهو ما احتجّ به الإمام الجواد عليه السلام لإثبات إمامته.

 

3- الشيعة وأمر الإمامة:

استشهد الإمام الرضا عليه السلام مظلوماً مسموماً على يد المأمون العبّاسيّ، ووصل الخبر إلى المدينة حيث كان يمكث الإمام الجواد عليه السلام، وبدأت بذلك قضيّة جديدة في خطّ التشيع والإمامة، وهي التصدّي للإمامة مع صغر السنّ حيث لم يكن لها سابقة.

 

وجرّاء هذه الوقائع، تحيّرت الشيعة كأشدّ ما تكون الحيرة في شؤون الإمامة بعد

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 274.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 321.

 

305


270

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

شهادة الإمام الرضا عليه السلام، فقد كانت سنّ الإمام الجواد لا تتجاوز التسع سنوات[1] على اختلاف المصادر التاريخيّة، ممّا أدّى إلى اضطراب بعضهم ووقوع النزاع في صفوفهم، فقد رأى بعضهم أنّ من كان بهذه السنّ لا يكون إماماً.

 

واجتمع فريق من الشيعة، وخاضوا مسألة الإمامة، فجعل بعضهم يبكي، فقال أحدهم: "دعوا البكاء حتّى يكبر هذا الصبي - يعني الإمام الجواد - فردّ عليه الريّان بن الصلت قائلاً: إن كان أمرٌ من اللَّه جلّ وعلا، فابن يومين مثل ابن مائة سنة، وإن لم يكن من عند اللَّه فلو عمّر الواحد من الناس خمسة آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه، وهذا ممّا ينبغي أن ينظر فيه..."[2]. وهذا الجواب يعرب عن عمق فهم بعض الأصحاب للإمامة وضعف آخرين، كما تبيّن هذه الرواية المهمّةَ الجديدة التي أنيطت بالإمام الجواد عليه السلام، وهي تأكيد الرابطة الغيبيّة للإمامة وكونها شأناً إلهيّاً لا علاقة للعمر به، وهذا رهن كيفيّة إثبات الإمام الجواد عليه السلام لإمامته.

 

4- تثبيت إمامة الإمام الجواد عليه السلام:

وفدت إلى يثرب جمهرة من كبار العلماء والفقهاء، وقد انتُدبوا من قِبل الأوساط الشيعيّة في بغداد وغيرها من الأمصار، وذلك للوقوف على معرفة الإمام بعد وفاة الإمام الرضاعليه السلام، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون ثمانين رجلاً، ولمّا انتهوا إلى يثرب، قصدوا دار الإمام أبي عبد اللَّه الصادقعليه السلام، وخرج إليهم عبد اللَّه ابن الإمام موسى الكاظمعليه السلام فجلس في صدر المجلس، مُضفياً على نفسه المرجعيّة للأمّة، وأنّه الإمام بعد الإمام الرضاعليه السلام، فقام رجل فنادى بين العلماء: "هذا ابن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فمن أراد السؤال فليسأل، فقام إليه أحد العلماء فسأله: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فأجابه عبد اللَّه بجواب يخالف فقه أهل البيت عليهم السلام قائلاً: طُلِّقت ثلاثاً دون الجوزاء...

 


[1] الشيخ المفيد، الاختصاص، مصدر سابق، ص 102.

[2] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 389.

 

306


271

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

وذهل العلماء والفقهاء من هذا الجواب الذي شذّ عمّا قرّره الأئمّة الطاهرون من أنّ الطلاق يقع واحداً، ولا نعلم لِمَ استثنى عبد اللَّه الجوزاء عن بقيّة الكواكب؟ فانبرى إليه أحد الفقهاء فقال له: ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ فأجابه على خلاف ما شرّع اللَّه قائلاً: تقطع يده، ويجلد مائة جلدة.

 

وبهت الحاضرون، وضجّ بعضهم بالبكاء من هذه الفتاوى التي خالفت أحكام اللَّه، وحاروا في أمرهم، وبينما هم في حيرة وذهول إذ فُتِح باب من صدر المجلس، وخرج موفّق، ثمّ أطلّ عليهم الإمام أبو جعفر، وانبرى شخص فعرّفهم بأنّه الإمام بعد أبيه، والحجّة الكبرى على المسلمين، فقام إليه صاحب السؤال الأوّل فقال له: ما تقول فيمن قال: لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فأجابه الإمام عليه السلام: يا هذا، اقرأ كتاب اللَّه تبارك وتعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، وهي في الثالثة...

 

وبُهر الحاضرون من مواهب الإمام، وقد أيقنوا أنّهم وصلوا إلى الغاية التي ينشدونها، فأخبره السائل بفتيا عمّه في المسألة، فالتفت عليه السلام إليه قائلاً: يا عمّ، اتّق اللَّه، ولا تُفتِ وفي الأمّة مَن هو أعلم منك... ثمّ سألوه عن مسائلهم كلّها[1]، ورجعوا وقد أيقنوا بإمامته.

 

وسأله العلماء والفقهاء عن مسائل كثيرة في مختلف أبواب الفقه، وقد بلغت فيما يقول المؤرّخون ثلاثين ألف مسألة، وصرّح بعضهم أنّه سُئل في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عنها عليه السلام[2]. فقالوا بإمامته ورجعوا إلى أمصارهم وهم يذيعون إمامة الجواد عليه السلام، وينقلون إلى المسلمين سَعة علومه ومعارفه، وأنّه المعجزة الكبرى للإسلام، حيث إنّه بهذه السنّ، وقد بلغ من العلوم والمعارف ما لا يُحدّ ولا يوصف، فرجعت الشيعة إليه، وقالت بإمامته، ولم يشذّ أحد منهم.

 


[1] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 390.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 496.

 

307


272

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

5- بعدٌ جديد للإمامة:

إنّ الإمامة عند الشيعة، كما هو معلوم، هي منصب إلهيّ لا يصل إليه إلّا ذو حظٍّ عظيم، وهي شأن إلهيّ، حيث قال اللَّه - عزّ وجلّ -: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[1]. وقد اشترط الشيعة عصمة الإمام وكونه أعلم أهل زمانه على الإطلاق، وهذا يستلزم ارتباطه بعالم الغيب حاله حال النبيّ بفارق أنّه يبيّن رسالة النبيّ ولا يأتي بأخرى.

 

ومع أنّ ما ذكر كلّه وأكثر قد ظهر جليّاً في حياة الأئمّة عليهم السلام قبل الإمام الجواد عليه السلام، إلّا أنّ الإمامة قد اكتسبت عمليّاً معنًى جديداً مع الإمام الجواد عليه السلام، حيث استطاع الإمام الجواد عليه السلام أن يرسي ذاك البعد الغيبيّ للإمامة بشكل واقعيّ وعمليّ لا يقبل الارتياب، وقد كان للتدبير الإلهيّ بحصر أولاد الإمام الرضاعليه السلام بالجواد عليه السلام دورٌ مهمٌّ في ذلك، حتّى إنّه لم تظهر فرقٌ شيعيّة منشقّة عن خطّ الإمامة آنذاك.

 

مضافاً إلى ما تقدّم، فإنّ الإمام الجواد عليه السلام قد أُوكلت إليه مهمّة أخرى من خلال قضيّة الإمامة، ألا وهي التمهيد للقبول بإمامة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فمنذ مرحلة الإمام الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام على وجه التحديد، أمسى الأئمّة عليهم السلام يعدّون المجتمع الشيعيّ بالخصوص، ويتولّون تربيته لإمامة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وغيبتَيه الصغرى والكبرى، مضافاً إلى العمل ما أمكن لإقامة الحكومة العَلَويّة في زمانهم، لو ساعدت الظروف.

 

فإمامة الجواد عليه السلام بتلك السنّ الصغيرة أسهمت في إعداد المجتمع لقبول إمامة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في عمر الخامسة، كما حضرت قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في كثير من أحاديث الإمام الجواد عليه السلام في إطار تعبئة الشيعة وتهيئتهم لتلك المرحلة.

 


[1] سورة البقرة، الآية 124.

 

308

 


273

الدرس التاسع عشر: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- هو محمّد بن عليّ، الإمام التاسع من أئمّة أهل البيت، أمّه أمّ ولد من أهل بيت ماريا القبطيّة زوج النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- كان الإمام الجواد عليه السلام أعبد أهل زمانه، وأشدّهم خوفاً من اللَّه تعالى، كآبائه عليهم السلام، وقد أُثر عنه العديد من الصلوات والأدعية. هذا، وقد كان زاهداً بالدنيا مع كلّ ما أقبلت به عليه.

 

- كان الإمام الرضا عليه السلام يشيد دوماً بولده الجواد عليه السلام، ويدلّل على فضله ومواهبه، فكان لا يذكره إلّا بكنيته.

 

- نصَّ الإمام الرضا عليه السلام على إمامة ولده الجواد عليه السلام في مراحل مختلفة، بدءاً من ولادته إلى حين شهادته ليهيّئ الناس لتقبّل إمامته مع صغر سنّه. وقد حفلت كتب الأحاديث بتلك النصوص التي رواها كثير من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام.

 

- تحيّرت الشيعة بعد استشهاد الإمام الرضا عليه السلام في الإمامة، فالإمام الجواد عليه السلام لم يتجاوز السنوات التسع، ولم تكن قضيّة الإمامة واضحة لكلّ الشيعة بأنّها شأن إلهيّ لا علاقة للعمر به، فجرى الخلاف بينهم، فوفدت إلى يثرب جمهرة من كبار العلماء والفقهاء ليقفوا على أمر الإمامة، وخرج إليهم عبد اللَّه ابن الإمام موسى الكاظم عليه السلام متصدّيّاً لهذا الشأن، فضلّ في إفتاء الناس بالحقّ، فازدادت حيرتهم إلى أن أطلّ عليهم أبو جعفر عليه السلام، وأجابهم من علمه اللّدنيّ، فأقرّوا بإمامته، ولم يشذّ أحد منهم.

 

- استطاع الإمام الجواد عليه السلام من خلال إمامته في عمره الصغير أن يرسي البعد الغيبيّ للإمامة بشكل واقعيّ وعمليّ لا يقبل الارتياب، ويؤكّد أنّ الإمام مرتبط بعالم الغيب منذ صغره، كما أسهمت إمامته في إعداد المجتمع لتقبّل إمامة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في سنّ أصغر.

 

 

309


274

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

الدرس العشرون

الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يبيّن علاقة الإمام الجواد عليه السلام بحكّام عصره.

 

- يتعـــرّف إلى دور الإمــــام الجــواد عليه السلام على الصعيدين العامّ والخاصّ في المجتمع الإسلاميّ.

 

- يستنتج الـــدروس التربـــويّة من حيـــاة الإمام الجواد عليه السلام.

 

311


275

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

الإمام الجواد عليه السلام والمأمون

1- الإمام في قصر المأمون:

قضى الإمام الجواد عليه السلام خمسة عشر عاماً من عمره المبارك في حكومة المأمون في الفترة الواقعة بين استشهاد الإمام الرضا عليه السلام سنة 203هـ وموت المأمون سنة 218هـ، وهي معظم مدّة إمامته الّتي دامت سبعة عشر عاماً، إذ اغتيل بعد سنتين من حكومة المعتصم في سنة 220هـ. وإنّ الوقوف على أساليب تعامل الخليفتين المأمون والمعتصم مع الإمام الجواد عليه السلام يكشف لنا أهمّيّة شخصيّته عليه السلام القياديّة، والتي يبدو أنّها ظهرت بشكل سريع وواضح في الأمّة، من خلال موقعه الرفيع في النفوس، ممّا استدعى تدخّلاً عاجلاً من المأمون بدايةً لاحتواء الموقف، ولم يسعه ترك الإمام الجواد عليه السلام بعيداً عن ناظرَيه حتّى مع عمره الصغير آنذاك.

 

وكان أوّل لقاءٍ بين المأمون والإمام الجوادعليه السلام في بغداد، حينما كان المأمون خارجاً مع حاشيته في موكب إلى الصيد، فاجتاز في الطريق على صبية، فلمّا رأوه انهزموا خوفاً منه سوى الإمام الجواد عليه السلام، فبصر به المأمون، فوقف يسأله عن عدم فراره، فأجابه عليه السلام بحكمة وتدبّر: "لَمْ يَكُنْ بِالطَّرِيقِ ضِيقٌ لِأُوَسِّعَهُ عَلَيْكَ بِذَهَابِي، وَلَمْ تَكُنْ لِي جَرِيمَةٌ فَأَخْشَاهَا، وَظَنِّي بِكَ حَسَنٌ أَنَّكَ لَا تَضُرُّ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ فَوَقَفْت‏". وأُعجب المأمون بهذا المنطق الفيّاض، فراح يسأله: مَا اسْمُكَ، قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ ابْنُ مَنْ أَنْتَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا ابْنُ عَلِيٍّ الرِّضَا، فَتَرَحَّمَ عَلَى أَبِيهِ وَسَاقَ إِلَى وِجْهَتِهِ. ثمّ جرى بينهما حديث بَهَرَ المأمون، فما كان منه إلّا أن قال: أَنْتَ ابْنُ الرِّضَا حَقّاً، وَضَاعَفَ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ"[1]، وبقي عنده في بلاطه.

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 344.

 

313


276

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

فالمأمون كان يُدرك جيّداً أنّ الإمام الجواد عليه السلام هو الوارث الحقيقيّ لأبيه، وهو القائد الشرعيّ لأمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك تعامل في تخطيطه السياسيّ معه تعاملاً جادّاً بصفة أنّ الإمام عليه السلام كان قطباً مهمّاً من أقطاب الساحة السياسيّة الإسلاميّة وقتذاك، لذا ولشدّة دهائه، عزم المأمون على تزويج الإمام الجواد عليه السلام من ابنته أمّ الفضل.

 

2- قضيّة زواج الإمام الجواد عليه السلام من ابنة المأمون:

أعلن المأمون عن رغبته في تزويج الإمام الجواد عليه السلام من ابنته، ففزع العبّاسيّون من ذلك القرار وعارضوه، خوفاً من أن يعهد إليه بالخلافة، كما عهد إلى أبيه الإمام الرضا عليه السلام من قبل، فقالوا له: "أَفَتُزَوِّجُ قُرَّةَ عَيْنِكَ صَبِيّاً لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللَّه، وَلَا يَعْرِفُ فَرِيضَةً مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا يَمِيزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ - وَلِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام يَوْمَئِذٍ عَشْرُ سِنِينَ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً - فَلَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَأَدَّبَ، وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَيَعْرِفَ فَرْضاً مِنْ سُنَّةٍ. فَقَالَ لَهُمُ الْمَأْمُونُ: وَاللَّه، إِنَّهُ أَفْقَهُ مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ بِاللَّه وَبِرَسُولِهِ وَفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَأَقْرَأُ لِكِتَابِ اللَّه، وَأَعْلَمُ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ، ونَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ..."[1]. ولذلك نرى أنّ تعامل المأمون مع الإمام الجوادعليه السلام كان مخطّطاً له بعناية وحنكة، وكان يدرك حجم خصمه ومكانته، وتعامل مع ذلك بجدّ.

 

ولمّا احتج العبّاسيّون على قرار التزويج، وبالغوا في ذلك، اتّفقوا مع المأمون على امتحان الإمام الجوادعليه السلام، لعلّه يعجز عن الجواب فيفسد بذلك مصاهرته للمأمون، مضافاً إلى أنّهم سيتّخذون من ذلك وسيلة لبطلان ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره وأفضلهم، فقالوا: "قَدْ رَضِينَا لَكَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنْفُسِنَا بِامْتِحَانِهِ، فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ لِنَنْصِبَ مَنْ يَسْأَلُهُ بِحَضْرَتِكَ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا اعْتِرَاضٌ فِي أَمْرِهِ، وَظَهَرَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ سَدِيدُ رَأْيِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ كُفِينَا الْخَطْبَ فِي مَعْنَاه"‏[2].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج10، ص 381.

[2] المصدر نفسه، ص 282.

 

314


277

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

فالمأمون كان يُدرك جيّداً أنّ الإمام الجواد عليه السلام هو الوارث الحقيقيّ لأبيه، وهو القائد الشرعيّ لأمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك تعامل في تخطيطه السياسيّ معه تعاملاً جادّاً بصفة أنّ الإمام عليه السلام كان قطباً مهمّاً من أقطاب الساحة السياسيّة الإسلاميّة وقتذاك، لذا ولشدّة دهائه، عزم المأمون على تزويج الإمام الجواد عليه السلام من ابنته أمّ الفضل.

 

2- قضيّة زواج الإمام الجواد عليه السلام من ابنة المأمون:

أعلن المأمون عن رغبته في تزويج الإمام الجواد عليه السلام من ابنته، ففزع العبّاسيّون من ذلك القرار وعارضوه، خوفاً من أن يعهد إليه بالخلافة، كما عهد إلى أبيه الإمام الرضا عليه السلام من قبل، فقالوا له: "أَفَتُزَوِّجُ قُرَّةَ عَيْنِكَ صَبِيّاً لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللَّه، وَلَا يَعْرِفُ فَرِيضَةً مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا يَمِيزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ - وَلِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام يَوْمَئِذٍ عَشْرُ سِنِينَ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً - فَلَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَأَدَّبَ، وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَيَعْرِفَ فَرْضاً مِنْ سُنَّةٍ. فَقَالَ لَهُمُ الْمَأْمُونُ: وَاللَّه، إِنَّهُ أَفْقَهُ مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ بِاللَّه وَبِرَسُولِهِ وَفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَأَقْرَأُ لِكِتَابِ اللَّه، وَأَعْلَمُ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ، ونَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ..."[1]. ولذلك نرى أنّ تعامل المأمون مع الإمام الجوادعليه السلام كان مخطّطاً له بعناية وحنكة، وكان يدرك حجم خصمه ومكانته، وتعامل مع ذلك بجدّ.

 

ولمّا احتج العبّاسيّون على قرار التزويج، وبالغوا في ذلك، اتّفقوا مع المأمون على امتحان الإمام الجوادعليه السلام، لعلّه يعجز عن الجواب فيفسد بذلك مصاهرته للمأمون، مضافاً إلى أنّهم سيتّخذون من ذلك وسيلة لبطلان ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره وأفضلهم، فقالوا: "قَدْ رَضِينَا لَكَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنْفُسِنَا بِامْتِحَانِهِ، فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ لِنَنْصِبَ مَنْ يَسْأَلُهُ بِحَضْرَتِكَ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا اعْتِرَاضٌ فِي أَمْرِهِ، وَظَهَرَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ سَدِيدُ رَأْيِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ كُفِينَا الْخَطْبَ فِي مَعْنَاه"‏[2].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج10، ص 381.

[2] المصدر نفسه، ص 282.

 

315


278

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

3- يحيى بن أكثم يمتحن الإمام الجواد عليه السلام:

وأجمع رأي العبّاسيّين على اختيار يحيى بن أكثم، قاضي قضاة بغداد، وأحد أعلام الفقه في ذلك العصر، لامتحان الإمام أبي جعفرعليه السلام، ووعدوه بشيء كثير، إن قطع لهم وأخجله.

 

واجتمعوا في اليوم الذي تواعدوا فيه، والكلّ يترقّب الحادثة الكبيرة بين الإمام عليه السلام ويحيى، وانبرى يحيى إلى المأمون، فطلب منه أن يأذن له في امتحان الإمام، فإذِن له في ذلك، واتّجه يحيى صوب الإمام عليه السلام، وقال له: أتأذن لي، جعلت فداك، في مسألة؟ فقال الإمام عليه السلام: سل إن شئت، فقال يحيى: ما تقول، جعلني اللَّه فداك، في مُحرم قتل صيداً؟

 

ففنّد الإمام عليه السلام هذه المسألة إلى مسائل عدّة، وسأل يحيى أيّ فروع منها أراد، قائلاً: قتله في حلّ أو حرم، عالماً كان المحرم أم جاهلاً، قتله عمداً أو خطأً، حرّاً كان المُحرم أم عبداً، صغيراً كان أم كبيراً...؟ فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد للَّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ نظر إلى أهل بيته، فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ خطب الإمام الجواد عليه السلام خطبة زواجه من أمّ الفضل، وبذل لها صداق جدّته السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وتمّ الزواج"[1]. وقد استبان لبني العبّاس فضل الإمام، وأنّه من عمالقة الفكر والعلم في الإسلام، فلا منازع له.

 

4- خطّة المأمون وأهدافه[2]:

كثيراً ما تظاهر المأمون بحبّه لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى انطلت تلك الحيلة على العبّاسيّين أنفسهم، ولم يكن لشدّة دهائه ليترك فرصة إلّا وتلبّس بها بذاك الثوب، لكن، ولكي لا يطول بنا الكلام، فيكفي في بيان كذبه ومكره أنّه قاتِلُ الإمام الرضا عليه السلام،

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 284.

[2] راجع: القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الإمام الجواد عليه السلام دراسة وتحليل، تحقيق: مهدي القرشي، قسم الثقافة والإعلام في العتبة الكاظميّة، ص 280 - 283.

 

315


279

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

ناهيك عن سيرته الحافلة بالبذخ والمجون. فبعد أن فشلت مخطّطات المأمون كلّها مع الإمام الرضاعليه السلام وقتله، وجد نفسه أمام إنسان في عمرٍ صغير، فتجدّد أمله بتحقيق مخطّطه وعبر أسلوبه القديم، فإنّ الذي يواجهه الآن ليس الإمام الرضاعليه السلام، بل هو صبيّ لم يبلغ الحلم، ومن كان في عمره - عادةً - لن يستطيع أن يناظر كبار العلماء أو يصمد أمام مغريات السلطان ودار الخلافة بكلّ ما فيها، من هنا نراه يستدعي الإمام الجوادعليه السلام إلى بغداد ويبقيه في بلاطه. فلماذا قرّب المأمون الإمام الجوادعليه السلام، بل وصاهره فزوّجه ابنته؟ وما هي أهدافه الحقيقية؟

 

إنّ الإمعان قليلاً في سيرة المأمون وطريقة تعامله مع الأمور، وتتبّع بعض الأخبار، يسوقنا إلى تبيان أهداف خفيّة خبيثة للمأمون، منها:

أ- كسب الجماهير المسلمة المُحبّة لأهل البيت عليهم السلام، باعتباره من المحبّين والمكرِّمين لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبالخصوص الشيعة، استكمالاً لسياسته التي اعتمدها مع الإمام الرضا عليه السلام.

 

ب- التغطية على جريمة قتله للإمام الرضا عليه السلام، وذلك بإظهار الحبّ والشفقة والودّ والاحترام لولده الجوادعليه السلام، فيخدع الرأي العامّ بذلك.

 

ت- محاولة تحطيم عقيدة الشيعة بعصمة الإمام عليه السلام وزهده، فيكون بذلك قد ضرب التشيّع من أعماقه. فاستدعى الإمام الجوادعليه السلام إلى دار الخلافة ليعيش في بذخ القصور بشكل يُسقط مفهوم العصمة، وقد حاول ذلك مراراً حتّى جاء في الروايات: "احتال المأمون على أبي جعفر بكلّ حيلة، فلم يمكنه فيه شيء"[1]، والرواية التي ذكرناها من تقديم مائتي جارية بين يديه عليه السلام، وعدم التفاته إليهنّ، خير شاهد على ذلك. فأراد إظهار عدم صلاحيّة الإمام الجواد عليه السلام للإمامة والقيادة أمام الناس، وأنّه أولى منه بالخلافة والقيادة، لكنّه فشل في ذلك، ممّا اضطرّه إلى سلوك أسلوب آخر يحتوي به حركة الإمام عن طريق تزويجه عليه السلام ابنته.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 494.

 

316


280

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

ث- محاولة تحطيم عقيدة الشيعة بعلم الإمام عليه السلام من خلال تشكيل المناظرات مع أبرز العلماء الذين تصل يده إليهم بحضور رؤساء القوم وأشرافهم، علّه يحصل اشتباه أو توقّف أو إحراج فيحصل مراد المأمون، فجرت نقاشات ومحاورات عدّة مع قاضي القضاة لهذه الغاية[1]، لكنّها جميعها باءت بالفشل، فكان الإمام الجواد عليه السلام يخرج منها بنورٍ يشعّ ونجم يسطع أكثر فأكثر ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[2].

 

ج- إذا لم ينجح المأمون في تحطيم فكرة الإمامة، فهو على الأقلّ سيضمن الإمام إلى جانبه كشخص تابعٍ للسلطان، فيتحوّل الشيعة من معارضين إلى أتباع لسلطان بني العبّاس وحكمهم. فعمل الشيعة بالتقيّة والخفاء يشكّل مشكلة حقيقيّة بالنسبة إلى الدولة، وقرب الإمام من المأمون، ووقوعه تحت نظره في جميع الأوقات، يسمحان للمأمون برصد جميع تحرّكاته عليه السلام واتّصالاته، وبالتالي كشف وجهاء الشيعة وتحرّكاتهم.

 

5- قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف:

قلق العبّاسيّون بشكل عامّ، ومنذ خلافة المأمون بشكل خاصّ، من قضيّة الإمام المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف. فالخطر الذي قد أنذر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحكّام الطغاة، والأمل الذي بشّر به المؤمنين والمستضعفين، بدآ يقتربان منهم، وكانوا على علمٍ بنسبه، وأنّه التاسع من ولد الحسين عليه السلام، كما كانوا يعرفون مجموعة من صفاته وخصائصه، وهم موقنون بذلك، إذ كانوا مطّلعين على كثير من الأفكار الشيعيّة، ويعلمون صدقها، إلّا أنّهم يخالفونها استكباراً واستعلاءً وعتوّاً في الأرض.

 

ومع شعورهم بقرب ولادة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، مع جهلهم بزمان ولادته وظهوره، حاول العبّاسيّون صدّ أهل البيت عليهم السلام عن إنجابه عليه السلام قبل كلّ شيء، كما حدث لفرعون مع

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 2، ص 225.

[2] سورة الأنفال، الآية 30.

 

317


281

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

موسى النبيّ عليه السلام. ومن أجل تحقيق هذه المهمّة، والحيلولة دون ولادة من يقلقهم ذكره ووجوده، شدّدوا المراقبة على أهل البيت عليهم السلام، ودخلوا الى أعماق حياتهم الشخصيّة، وكانوا كالرقيب الخاصّ على تصرّفاتهم، كما يبدو من إصرار المأمون على تزويج ابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد عليه السلام، بل إنّهم ضيّقوا عليهم في مسألة الزواج والإنجاب، وهذه الإجراءات اتّخذت طابعاً أكثر حدّة في عصر الإمامَين الهادي والعسكريّ عليهما السلام، ويشهد لذلك قلّة عدد أبناء الأئمّة عليهم السلام بعد الإمام الرضا عليه السلام بشكل لافت للنظر، إذا ما قسناهم بالأئمّة السابقين.

 

كما حاولوا طرح البديل عن الإمام المهديّ المنتظر للأُمّة الإسلاميّة، بتسمية بعض أبنائهم بالمهديّ والمهتدي، تمويهاً وتغريراً لعامّة الناس بأنّهم هم المقصودون بهذه النصوص النبويّة. لكنّ هذا التمويه لم يستطيع أن يحقّق الغرض، وهو التغطية على حقيقة المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف. وتبقى الخطوة الأخيرة الممكنة لهم هي أنّهم إن لم يستطيعوا أن يحولوا بين أهل البيت عليهم السلام وبين إنجاب الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولا التمويه على جمهور المسلمين، فعليهم أن يكتشفوه، أي أنّ عليهم أن يترصّدوا ولادته ليقضوا عليه، ويريحوا أنفسهم من هذا الكابوس الذي يُخيّم عليهم.

 

لذا، كانت مهمّة الأئمّة عليهم السلام الذين لم تسمح لهم الظروف بالقيام بدور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف المرتقب، التمهيد لولادته، ومن ثمّ الحفاظ على حياته. فقضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بدأت تُطرح بشكل جدّيّ وكبير منذ عصر الإمام الجواد عليه السلام، وقد أولى الإمام الجواد عليه السلام عناية خاصّة بهذه القضيّة التي لا بدّ من تحضير المجتمع الشيعيّ لها ولتبعاتها.

 

6- مواجهة الإمام الجواد عليه السلام لخطّة المأمون ودورُهُ الرسالي[1]:

عمل الإمام الجواد عليه السلام على مواجهة مخطّطات المأمون وإفشالها، وقلب موازين القوى لصالحه، وتأتي مواجهته تلك ضمن سياق عمله الرساليّ الذي حدّد دوره في تلك

 


[1] راجع: السيد الحكيم، أعلام الهداية، الإمام الجواد عليه السلام، مصدر سابق، ج11، ص 144 - 145.

 

318

 


282

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

الفترة. ويمكن لنا الحديث عن إطارين لنشاط الإمام الجوادعليه السلام: الإطار العامّ للأمّة، والإطار الخاصّ المتمثّل بالشيعة وكوادرهم.

 

أمّا متطلّبات الساحة الإسلاميّة العامّة، فتتلخّص بالآتي:

أ- إثبات جدارة خطّ أهل البيت عليهم السلام للقيادة الرساليّة لجمهور المسلمين، وجدارة الإمام الجواد عليه السلام بشكل خاصّ لمنصب القيادة الربّانية، وقد برز ذلك بوضوح من خلال المناظرات التي أُدخل الإمام الجواد عليه السلام بها، كما مرّ معنا.

 

ب- الردّ على محاولات التسقيط والاستفزاز التي كان يقوم بها الخطّ الحاكم ضدّ أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، فلم يكن لكلّ ما قدّمه السلطان بين يدي الإمام الجواد عليه السلام أيّ قيمة، وكان زاهداً في كلّ شيء، وهو ما بيّناه في كلامنا عن زهده عليه السلام.

 

ت- التمهيد العامّ لدولة الحقّ المرتقبة، على الرغم من محاولات السلطة القضاء على قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بأشكال شتّى، كإشاعة الأمل بدولة الإمام المهديّ وقيامه الذي لا بدّ منه.

 

ث- مواجهة الانحرافات والبدع والتيّارات المنحرفة في الساحة الإسلاميّة، كحادثة تفنيد بعض الأحاديث الموضوعة وردّها[1].

 

ج- التوجّه الى هموم أبناء الأمّة الإسلاميّة، فكان عليه السلام يهتمّ بخدمة الناس وإعالتهم وإقالتهم بكلّ ما أمكن[2].

 

وأمّا متطلّبات الخطّ الرساليّ والجماعة الصالحة، فيمكن تلخيصها بالآتي:

أ- تجسيد ظاهرة الإمامة المبكّرة، من خلال تخطّي القوانين الطبيعيّة المتعارفة. فقد أثبت الإمام الجواد عليه السلام إمامته للجميع، وللشيعة خصوصاً، واحتجّ على الجميع بعلمه اللّدنيّ مع صغر سنّه، وغيرها من الاحتجاجات بالقرآن وسيرة الأنبياء، كعيسى، ويحيى الذي أوتي الحكم صبيّاً[3].

 


[1] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 446.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 46 - 47.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 321 - 384.

 

319


283

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

ب- تعميق البناء الثقافيّ والروحيّ والتربويّ للجماعة الصالحة.

 

ت- إحكام تنظيم الجماعة الصالحة، وإعدادها لدور الغيبة الطويلة، فنظّم الإمام عليه السلام الوكلاء، وازدادت سرّية العمل، حتّى إنّ الكتب والرسائل كانت تصل إليه دون أسماء، فيعرفها ويجيب عمّا فيها[1].

 

ث- التمهيد لإمامة الهادي عليه السلام المبكّرة، على الرغم من الظروف الحرجة.

 

ج- التمهيد للإمام الغائب المنتظر بما يتناسب مع حراجة الظرف، والإعداد الفكريّ والروحيّ لعصر الغيبة المرتقب إعداداً يتناسب مع صعوبات الظرف الخاصّ، فكان عليه السلام يبشّر به، ويعد الناس بيومه الحتميّ، فعن عبد العظيم الحسنيّ قال: "دخلت على سيّدي محمّد بن عليّ عليه السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم عليه السلام، أهو المهديّ أو غيره؟ فابتدأني فقال: يا أبا القاسم، إنّ القائم منّا هو المهديّ الذي يجب أن يُنتظر في غيبته ويُطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي. والذي بعث محمّداً بالنبوّة، وخصّنا بالإمامة، إنّه لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتّى يخرج فيه، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، وإنّ اللَّه تعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى عليه السلام، إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسول نبيّ.

 

ثمّ قال عليه السلام: أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج"[2].

 

7- الإمام الجواد عليه السلام في حكومة المعتصم:

كان المعتصم فاسد الأخلاق، وأبعد ما يكون من الاعتصام باللَّه - عزّ وجلّ -، وكان من صفاته الحماقة، حيث وصفه المؤرّخون بأنّه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل[3]، وهذا منتهى الحمق، وقد بقي أمّيّاً لم يتعلّم القراءة ولا الكتابة لبغضه العلم، وحينما ولي الخلافة كان له وزير عامّيّ، فقيل تهكّماً لهذا الوضع: "خليفة أمّيّ ووزير عامّيّ"[4].

 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 98.

[2] المصدر نفسه، ص 242.

[3] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج7، ص 316.

[4] ابن خلكان، أحمد بن محمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، لا.ت، لا.ط، ج4، ص 452.

 

320


284

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

لم تكن المدّة الّتي قضاها الإمام الجواد عليه السلام في خلافة المعتصم طويلة، فهي لم تتجاوز السنتين، كان ختامها استشهاده عليه السلام على يد هذا الحاكم العبّاسيّ المنحرف. وكان عصر المعتصم عصر بداية قوّة الأتراك، حيث استقدم منهم الآلاف، وقلّدهم المراكز في السلطة[1].

 

وقد أشخص المعتصم الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد سنة (220 هـ)[2]، وفرض عليه الإقامة تحت رقابته، ليكون على علم بجميع شؤونه وأحواله. ومن المؤسف حقّاً أن تصدر الوشاية بالإمام الجواد عليه السلام من أبي داود السجستانيّ الذي كان من أعلام ذلك العصر، أمّا السبب في ذلك فيعود إلى حسده للإمام عليه السلام.

 

8- شهادة الإمام الجواد عليه السلام:

يُروى أنّ الدافع المباشر الذي قتل المعتصمُ الإمامَ الجواد عليه السلام جرّاءه هو وشاية أبي داود السجستانيّ عن الإمام عليه السلام حسداً. فقد حقد أبو داود على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد حينما أخذ المعتصم برأيه في مسألة فقهيّة وترك بقيّة آراء الفقهاء، فتميّز أبو داود غيظاً وغضباً على الإمام عليه السلام، وسعى إلى الوشاية به، وتدبير الحيلة في قتله.

 

فتقول الرواية إنّ أبا داود رجع من عند المعتصم وهو مغتمّ، فقلت له (الراوي): في ذلك.. قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمّد بن عليّ عليه السلام فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟ فقلت: من الكرسوع[3]، لقول اللَّه في التيمّم: ﴿فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ واتّفق معي على ذلك قوم، وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق... فالتفت إلى محمّد بن عليّعليه السلام فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ قال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين.

 


[1] المسعودي، مروج الذهب، مصدر سابق، ج1، ص 465.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 492.

[3] الكرسوع: طرف الزند الذي يلي الخنصر.

 

321


285

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

قال: دعني ممّا تكلّموا به، أيّ شيء عندك؟... إنّي أقول: إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ، وبيّن حجته في ذلك، فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.

 

ثمّ قال أبو داود: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار قال: ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك. وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزراؤه، وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم، لقول رجل: يقول شطر هذه الأمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء. قال: فتغيّر لونه، وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك اللَّه عن نصيحتك خيراً"[1].

 

فاقترف المعتصم جريمته النكراء وقرر دسّ السمّ للإمام الجواد عليه السلام[2]، وقد اختلف المؤرّخون في الشخص الذي أوعز إليه المعتصم للقيام بسمّ الإمام عليه السلام. فقولٌ على أنّ المعتصم أوعز إلى بعض كتّاب وزرائه بأن يدعو الإمام إلى منزله، ويدسّ إليه السمّ، فدعاه إلّا أنّ الإمام عليه السلام اعتذر من الحضور في مجلسه، وأصرّ عليه الكتّاب بالحضور لأجل التبرّك بزيارة الإمام له، فلم يجد عليه السلام بدّاً من إجابته، فصار إليه، ولمّا تناول الطعام أحسّ بالسمّ فدعا بدابّته للخروج من المنزل فسأله صاحب المنزل أن يقيم عنده فقال عليه السلام: "خروجي من دارك خير لك"[3].

 

إلّا أنّ بعض الروايات صرّحت أنّ المعتصم أغرى ابنة أخيه، زوجة الإمام، أمّ الفضل بالأموال، فدسّت إليه السمّ، لبغضها له وغيرتها، لأنّه عليه السلام تزوّج بأمَة ولدت له[4].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 6.

[2] اليافعي، عبد الله بن أسعد، مرآة الجنان وعبرة اليقظان، وضع حواشيه: خليل المنصور، منشورات محمد علي بيضون / دار الكتب العلمية، 1417 - 1997م، ط1، ج2، ص 81.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50 ص 7.

[4] المصدر نفسه، ص 17.

 

322


286

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

وارتقى الإمام الجواد عليه السلام إلى ربّه شهيداً في التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة (220 هـ)، أمّا عمره الشريف فكان خمساً وعشرين عاماً وبضعة أشهر[1]، وهو أصغر الأئمّة الطاهرين عليهم السلام سنّاً، ودفن في الكاظميّة إلى جوار جدّه الإمام الكاظم عليه السلام في مقابر قريش.

 

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 492.

 

323


287

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

علّمني إمامي

- أنْ أزهد بالدنيا أشدّ الزهد، حتّى ولو كنت في ريعان شبابي، فأُعلِّم كلّ من يتأثّر بي أنّ الزهد لا عمر له، بل إنّ حداثة العمر والاقتدار ليسا مبرراً للتهافت على الدنيا وطلبها.

 

- أن أكون محسناً جواداً تجاه الناس.

 

- أن أكون رقيقاً لطيفاً، أتحسّس معاناة الناس، وأتعاطف معهم، وأواسيهم بحسب وسعي، ولو بالكلام.

 

- أنّ العلم هو السلاح الأكبر الذي لا يمكن هزيمته، وهو صاحب السلطان الواقعيّ.

 

- أن أفهم الإمامة وتجلّياتها وأبعادها بعمق، فيكون ذلك باباً لارتباطي بإمامي بشكل أوثق وأعمق.

 

324


288

الدرس العشرون: الإمام محمّد الجواد عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- عاصر الإمام الجواد عليه السلام المأمون 15 سنة، وقد كان اللّقاء الأوّل بينهما في بغداد حيث عزم على إبقائه في بلاطه بعد أن أدرك أنّه الوريث الشرعيّ لوالده، وأنّه سيكون القطب الشيعيّ الأهمّ، كما عزم على تزويجه ابنته.

 

- بعد أن أعلن المأمون رغبته في تزويج الإمام الجواد عليه السلام ابنته، فزع العبّاسيّون من أن يعهد إليه بالخلافة، فحاولوا ثنيه عن ذلك، لصغر سنّ الإمام عليه السلام، ثمّ اقترحوا عليه أن يمتحنه.

 

- اختار العبّاسيّون يحيى بن أكثم قاضي القضاة لامتحان الإمام أبي جعفر عليه السلام، وجرت مناظرة بينهما بدأها ابن الأكثم بسؤال عن قتل الصيد من محرم، فأفحمه الإمام عليه السلام في جوابه، فتلعثم وبان في وجهه العجز، فبهت العبّاسيّون، وتمّ الزواج.

 

- كثيراً ما تظاهر المأمون بحبّه لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يهدف من مصاهرته للإمام الجوادعليه السلام إلى:

1- كسب الجماهير المسلمة المُحبّة لأهل البيت عليهم السلام، وبالخصوص الشيعة منهم.

 

2- التغطية على جريمة قتله للإمام الرضا عليه السلام.

 

3- محاولة تحطيم عقيدة الشيعة بعصمة الإمام عليه السلام وزهده.

 

4- محاولة تحطيم عقيدة الشيعة بعلم الإمام عليه السلام من خلال تشكيل المناظرات مع أبرز العلماء.

 

5- ضمان الإمام إلى جانبه كشخص تابعٍ للسلطان، فيتحوّل الشيعة إلى أتباعٍ لبني العبّاس.

 

- عمل الإمام الجواد عليه السلام على تلبية حاجات الجماعة الصالحة وإعدادها من خلال: الاحتجاج بعلمه اللّدنيّ لتثبيت إمامته، تعميق البناء الثقافيّ والروحيّ والتربويّ للجماعة الصالحة، إحكام تنظيم الجماعة الصالحة وإعدادها لدور الغيبة الطويلة، والتمهيد لإمامة الهادي عليه السلام المبكّرة، والتمهيد للإمام الغائب المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

325


289

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

الدرس الواحد والعشرون

الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى بعضٍ من الخصائص الشخصيّة للإمام الهادي عليه السلام.

 

- يتبيّن كيفيّة نصّ الإمام الجوادعليه السلام على الإمام الهادي عليه السلام.

 

- يبيّن بعض ملامح عصر الإمام الهادي عليه السلام.

 

327


290

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

الإمام الهادي عليه السلام

هو عليّ بن محمّد بن عليّ عليه السلام، وهو العاشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام. أبوه الإمام محمّد الجواد عليه السلام، وأمّه هي أمّ ولد يقال لها سمانة المغربيّة، كما عُرفت بأمّ الفضل[1]. وقد روي عن الإمام الهادي عليه السلام في حقّها أنّه قال: "أمّي عارفة بحقّي، وهي من أهل الجنّة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبّار عنيد، وهي مكلوءة بعين اللَّه التي لا تنام، ولا تتخلّف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين"[2].

 

ولد الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام في الثاني من شهر رجب سنة 212هـ. وكان من ألقابه عليه السلام: النجيب، المرتضى، الهادي، النقيّ، العالم، الفقيه، الأمين، الطيّب، المتوكّل، وقد منع شيعته من أن ينادوه به، لأنّ الخليفة العبّاسيّ كان يُلقّب به[3]، وأشهر ألقابه: النقيّ، والهادي، وقد عُرف هو وابنه بالعسكريَّين[4] عليه السلام.

 

وأمّا كنيته فهي: أبو الحسن الثالث، تمييزاً له عن الإمامَين الكاظم والرضا عليهما السلام[5]. وكان له عليه السلام من الأولاد خمسة، وهم: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، والحسين،

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 401

[2] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 410.

[3] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 374؛ الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ص 355.

[4] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص 241.

[5] الشيخ الطبرسي، تاج المواليد، مصدر سابق، ص 103. المشهور بين المحدّثين في التعبير عنهم بأبي الحسن ثلاثة وهم: الإمام موسى الكاظم، والإمام عليّ الرضا، والإمام عليّ الهادي عليهم السلام، وإن شاركهم بعض باقي الأئمّة عليهم السلام في هذه الكنية، فإذا ورد حديث عن أبي الحسن وأطلق فهو الإمام موسى الكاظم عليه السلام، ويقال له (أبو الحسن الماضي)، وإذا قيّد بالثاني فهو الإمام عليّ الرضاعليه السلام، وإذا قيّد بالثالث فهو الإمام عليّ الهادي عليه السلام.

 

329


291

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

ومحمّد، وجعفر المعروف بجعفر الكذّاب المدّعي للإمامة، وبنت واحدة[1]. وكان الإمام الهادي عليه السلام قبل شهادته قد أوصى لابنه الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام بالإمامة[2]، واستشهد عليه السلام في الثالث من شهر رجب سنة (254هـ). وكان عمره حين شهادته 41 أو 42 سنة تقريباً، واستشهد بالسمّ في زمن المعتزّ، ودفن في سامرّاء.

 

بعضُ الخصائص الشخصيّة للإمام الهادي عليه السلام

1- عمله في مزرعته:

أُحضر الإمام الهادي عليه السلام إلى سامرّاء، وعاش فيها عشرين سنة، وكانت له مزرعة هناك يعمل فيها، حتّى ذكروا أنّه كان يعمل بيده في الأرض لإعاشة عياله، فقد روى عليّ بن حمزة خبراً، فقال: "رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في أرض، وقد استنقعت قدماه من العرق، فقلت له: جعلت فداك، أين الرجال؟ فقال الإمام: يا عليّ، قد عمل بالمسحاة مَن هو خير منّي ومن أبي في أرضه. قلت: من هو؟ قال: رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وآبائي كلّهم عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين"[3].

 

ولعلّ عمله ذاك كان للتخفّي، حيث وُضع تحت رقابة السلطة بشكل كبير، في مدينة سامرّاء، ليوصل رسالة للخليفة أنّه مشغول برزقه وعياله ومتابعة شؤون أرضه ومزرعته بنفسه. لكن جدير بالذكر أنّ الإمام الهادي عليه السلام، كما آباؤه الكرام، يقدّم بسلوكه هذا العديد من الدروس والعبر، فهو صاحب الغلمان والمماليك، ومع ذلك يعمل في أرضه بيديه، فلا يستعلي، ولا يستكثر ذلك على نفسه، وهذا يبيّن مدى تواضعه وبساطة عيشه، ويجيب السائلَ بأنّ ذلك من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام الذين عملوا بأيديهم خلال حياتهم، فهي سيرة يجب تكريسها وتثبيتها كذلك.

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 312.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص325.

[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص 162.

 

330


292

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

2- تكريمه عليه السلام للعلماء:

كان الإمام الهادي عليه السلام يكرّم رجال الفكر والعلم، ويحتفي بهم، ويقدّمهم على بقيّة الناس، مبيّناً بذلك قيمة العلم المصحوب بالتقوى، وقيمة العلماء الحقيقيّين عنده، وأنّ العلم هو مورد التفاضل لا أيّ شيء آخر. وكان من بين الذين نالوا تكريم الإمام الهادي عليه السلام أحدُ علماء الشيعة وفقهائهم، والذي كان قد بلغه عنه أنّه حاجج ناصبيّاً فأفحمه وتغلّب عليه، فسُرّ الإمام عليه السلام بذلك، ووفد العالم على الإمام، فقابله بحفاوة وتكريم، وكان مجلسه مكتظّاً بالعلويّين والعبّاسيّين، فأجلسه الإمام عليه السلام على دست، وأقبل عليه يحدّثه، ويسأل عن حاله سؤالاً حفيّاً.

 

فشقّ ذلك على الحاضرين في مجلسه من الهاشميّين فالتفتوا إلى الإمام، وقالوا له: كيف تقدّمه على سادات بني هاشم؟ فقال لهم الإمام عليه السلام: "إيّاكم أن تكونوا من الذين قال اللَّه تعالى فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾[1]، أترضَون بكتاب اللَّه - عزّ وجلّ - حَكَماً؟"، فقالوا جميعاً: بلى، يا ابن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وأخذ الإمام يقيم الدليل على ما ذهب إليه من رفع العالم على غيره، وإن كان ذاك "الغير" أشرف نسباً، إلى أن قال عليه السلام: "أَوَلَيس قال اللَّه: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[2]، فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه اللَّه؟ إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج اللَّه التي علّمه إيّاها لأشرف من كلّ شرف في النسب"[3].

 

أراد الإمام الهادي عليه السلام بفعله هذا أن يثبّت قيمة سامية في الإسلام، وهي قيمة العلم، وأنّ العلم الممزوج بالإيمان هو ما يرفعك في الدنيا والآخرة وهو ما يجعلك محلّ تكريمٍ من وليّ اللَّه لا نَسَبك وإلى من تعود أصولك، وهؤلاء العبّاسيّون أكبر مثال على

 

 


[1] سورة آل عمران، الآية 23.

[2] سورة الزمر، الآية 9.

[3] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 455.

 

331


293

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

أنّ النسب لا يُغني ولا يُسمن من جوع، وهم أكثر وأشدّ من نكّل بأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم خلال سنوات حكمهم.

 

3- هيبته ووقاره عليه السلام:

كان الإمام الهادي عليه السلام أطيب الناس بهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت عَلَتْهُ هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء[1]، وإذا دخل على الناس ترجّلوا له احتراماً وتقديراً.

 

وقد جاء في رواية عن محمّد بن الحسن بن الأشتر العلويّ: كنت مع أبي بباب المتوكّل، وأنا صبيّ في جمعٍ من الناس ما بين طالبيّ إلى عبّاسيّ إلى جنديّ إلى غير ذلك، وكان إذا جاء أبو الحسن عليه السلام ترجّل الناس كلّهم حتّى يدخل، فقال بعضهم لبعض: لمَ نترجّل لهذا الغلام؟ وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ فقالوا: واللَّه، لا نترجّل له، فقال لهم أبو هاشم: واللَّه، لترجلنّ له صَغاراً وذلّة إذا رأيتموه. فما هو إلّا أن أقبل وبصروا به، فترجّل له الناس كلّهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا: واللَّه ما ملكنا أنفسنا حتّى ترجّلنا"[2]. تبيّن هذه الرواية مدى الهيبة والوقار الذي كان يعلو الإمام الهادي عليه السلام على صغر سنّه وقبض يده، إذ إنّه كان مفروضاً عليه الإقامة الجبريّة في سامرّاء، لكنّ ذلك لم يكن ليؤثّر على تأثيره هو في النفوس، فحتّى من لا يبغي الاستجابة لهيبته كان يهابه لا محالة!

 

وكان الإمام عليه السلام إذا دخل على المتوكّل رفعوا له الستر واحترموه بكلّ وقار. تقول الرواية: "إنّ أحد الأشرار قال للمتوكّل العبّاسيّ يوماً: ما يعمل أحد بك أكثر ممّا تعمله بنفسك في عليّ بن محمّد، فلا يبقى في الدار إلّا من يخدمه ولا يتعبونه بشيل ستر ولا فتح باب ولا شيء، وهذا إذا علمه الناس قالوا: لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل


 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 401.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 137.

 

332


294

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

هذا..."[1]، ويظهر من هذا الحديث - أيضاً - أنّه عليه السلام كان مهيباً مبجّلاً حتّى في بلاط أشدّ الخلفاء العبّاسيّين إرهاباً في عصره، وهو المتوكّل العبّاسيّ.

 

4- كراماته عليه السلام واستجابة دعائه:

ذكرت كتب الحديث الكثير من الكرامات التي ظهرت للإمام الهادي عليه السلام، نذكر نموذجين منها في المقام. ففي رواية أنّ حاقداً من عمّال المتوكّل العبّاسيّ أراد الحطّ من قدر الإمام الهادي عليه السلام، فأقنع المتوكّل بأن يأمر خدمه بالإقلاع عن خدمة الإمام عليه السلام إذا دخل محضره، فلم يُخدم ولم يَشِل أحدٌ بين يديه الستر ليمرّ، فهبّ هواء فرفع الستر حتّى دخل وخرج، فقال المتوكّل عندها: "شيلوا له الستر بعد ذلك، فلا نريد أن يشيل له الهواء"[2]. فقد أراد المتوكّل وذاك الحقود أن يقلّلا من شأن الإمام الهادي عليه السلام بأن لا يُخدم، بل يُترك وشأنه عند دخوله بلاط الخليفة، فأبى اللَّه - عزّ وجلّ - إلّا العزّة لوليّه، فصارت الريح في خدمته، تُعلي له الستار إنْ دخل وإنْ خرج، فلم يجدوا بدّاً إلّا العودة لخدمته لكيلا تتكرّر تلك الكرامة!

 

ومن التدابير التي اتّخذها العبّاسيّون في حقّ الإمام الهادي عليه السلام لتوهين قدره - والعياذ باللَّه -، أنّهم وبعد إشخاصهم إيّاه إلى سامرّاء، وضعوه في مكان غير لائق به يسمّى خان الصعاليك، فعظم ذلك على موالٍ للإمام عليه السلام فقال له: "جُعِلْتُ فِدَاكَ، فِي كُلِّ الْأُمُورِ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِكَ وَالتَّقْصِيرَ بِكَ حَتَّى أَنْزَلُوكَ هَذَا الْخَانَ الْأَشْنَعَ خَانَ الصَّعَالِيكِ. فَقَالَ: هَاهُنَا أَنْتَ يَا ابْنَ سَعِيدٍ[3]، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: انْظُرْ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَوْضَاتٍ آنِقَاتٍ وَرَوْضَاتٍ بَاسِرَاتٍ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ عَطِرَاتٌ وَوِلْدَانٌ كَأَنَّهُنَّ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ وَأَطْيَارٌ وَظِبَاءٌ وَأَنْهَارٌ تَفُورُ فَحَارَ بَصَرِي وَحَسَرَتْ عَيْنِي، فَقَالَ: حَيْثُ كُنَّا، فَهَذَا لَنَا عَتِيدٌ لَسْنَا فِي خَانِ الصَّعَالِيكِ"[4].

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 287.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 407.

[3] يعني انت في هذا المقام من معرفتنا فتظنّ أن هذه الأمور تنقص من قدرنا.( آت)

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 498.

 

333


295

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

وفي الإطار عينه، ذكرت جولات كثيرة من استجابة دعاء الإمام الهادي عليه السلام تدليلاً على كرامته عند اللَّه - عزّ وجلّ -. ففي رواية أنّ أحد الموالين للإمام الهادي عليه السلام قال: "قصدت الإمام عليّاً الهادي، فقلت له: يا سيّدي، إنّ هذا الرجل - يعني المتوكّل - قد أطرحني، وقطع رزقي، وملّني، وما أُتَّهَمُ به في ذلك هو علمه بملازمتي لك، وطلب من الإمام التوسّط في شأنه عند المتوكّل، فقال عليه السلام: تُكفى، إن شاء اللَّه.

 

ولمّا صار اللّيل، طرقَته رسل المتوكّل، فخفّ معهم مسرعاً إليه، فلمّا انتهى إلى باب القصر، رأى الفتح واقفاً على الباب، فاستقبله، وجعل يوبّخه على تأخيره، ثمّ أدخله على المتوكّل فقابله ببسمات فيّاضة بالبشر، قائلاً: يا أبا موسى تنشغل عنّا، وتنسانا؟! أيّ شيء لك عندي؟ وعرض الرجل حوائجه وصِلاته التي قطعها عنه، فأمر المتوكّل بها وبضعفها له، وخرج الرجل مسروراً.

 

وانصرف الرجل، فتبعه الفتح، فأسرع إليه قائلاً: لست أشكّ في أنّك التمست منه - أي من الإمام - الدعاء، فالتمس لي منه الدعاء. ومضى ميمّماً وجهه نحو الإمام عليه السلام، فلمّا تشرّف بالمثول بين يديه، قالعليه السلام له: يا أبا موسى، هذا وجه الرضا، فقال الرجل بخضوع: ببركتك يا سيّدي، ولكن قالوا لي: إنّك ما مضيت إليه ولا سألته (يقصد المتوكّل).

 

فأجابه الإمام ببسمات قائلاً: إنّ اللَّه تعالى علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلّا إليه، ولا نتوكّل في الملمّات إلّا عليه، وعوّدَنا إذا سألناه الإجابة، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا. وفطن الرجل إلى أنّ الإمام قد دعا له بظهر الغيب، وتذكّر ما سأله الفتح، فقال: يا سيّدي، إنّ الفتح يلتمس منك الدعاء. فلم يستجب الإمام عليه السلام له، وقال: إنّ الفتح يوالينا بظاهره، ويجانبنا بباطنه، الدعاء انّما يُدعى له إذا أخلص في طاعة اللَّه، واعترف برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وبحقّنا أهل البيت..."[1].

 

إنّ هذه الرواية غايةٌ في الروعة ومليئة بالمفاهيم البالغة الأهمّيّة، فهي تبيّن لنا أنّ المعصوم عليه السلام، وإن كان يلجأ في جميع أموره إلى اللَّه، لكنّه ينقطع في لجوئه

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص 285.

 

334


296

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

ذاك إليه إذا تعذّرت الأسباب التي أمر اللَّه الأخذ بها. فالإمام لا يمكن له أن يطلب من المتوكّل أن يعفو عن ذاك الموالي، وإلّا افتُضح أمرُه، لذا لا ملجأ إلّا الدعاء بظهر الغيب، وهي تبيّن أثر الدعاء المخلص، من المخلص للمخلص، فقد امتنع الإمام عليه السلام عن الدعاء لذاك الرجل المسمّى الفتح، لما علم من عدم إخلاصه، وأنّ الدعاء لا يُستجاب في حقّه، وهو من شروط استجابة الدعاء، فالمعصوم لا يدعو بما لا يستجاب! ولو أدرنا أن نقف على مضامين الرواية أكثر مع أهمّيّتها لطال بنا المقال، فنكتفي بما أشرنا إليه.

 

نصّ الإمام الجواد عليه السلام على ابنه الإمام الهادي عليه السلام

إنّ من أهمّ المهامّ التي يشترك فيها الأئمّة عليهم السلام هي دعوتهم إلى الإمام اللاحق، وتثبيت تلك الإمامة عند الطليعة المؤمنة وكبار الشيعة في الحدّ الأدنى، بما يحفظ وجود الإمام المعصوم، ويحافظ على التشيّع، لذا فقد اختلفت أساليب دعوة الأئمّة عليهم السلام إلى بعضهم بحسب الظروف. ولمّا كانت إمامة الإمام الهادي عليه السلام المصداق الثاني للإمامة المبكّرة في مسيرة أهل البيت عليهم السلام، انبرى الإمام الجواد عليه السلام للدعوة إلى إمامة ولده، والتأكيد عليها قبل شهادته في مواطن عديدة[1]، فأمر بكتب الرقاع في ذلك، وأشهد بعض الأصحاب عليها[2]، فضلاً عن تبيانه لإمامة ولده الهادي عليه السلام في كلّ فرصةٍ سانحة.

 

وكمثال على ذلك، ما جاء عن الخيرانيّ، عن أبيه - وكان يلزم أبا جعفر للخدمة التي وُكّل بها - قال: "كان أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعريّ يجيء في السحر ليعرف خبر علّة أبي جعفر، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفرعليه السلام وبين أبي إذا حضر قام أحمد بن عيسى، وخلا به أبي.

 

فخرج ذات ليلة، وقام أحمد عن المجلس، وخلا أبي بالرسول، واستدار أحمد حتى وقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول لأبي: "إنّ مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول: إنّي ماضٍ، والأمر صار إلى ابني عليّ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي".

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 323.

[2] المصدر نفسه.

 

335


297

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

ثمّ مضى الرسول، فرجع أحمد بن محمّد بن عيسى إلى موضعه، وقال لأبي: ما الذي قال لك؟ قال: خيراً، قال: فإنّني قد سمعت ما قال لك، فأعاد إليه ما سمع، فقال له أبي: قد حرّم اللَّه عليك ذلك، لأنّ اللَّه تعالى يقول: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، فأمّا إذا سمعت، فاحفظ هذه الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوماً ما، وإيّاك أن تُظهرها لأحد إلى وقتها.

 

فلمّا أصبح أبي، كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع بلفظها وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة - أي الشيعة -، وقال لهم: إن حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

 

قال: فلمّا مضى أبو جعفر الجواد عليه السلام، لبث أبي في منزله، فلم يخرج حتّى اجتمع رؤساء الإماميّة عند محمّد بن الفرج الرخجيّ يتفاوضون في القائم بعد أبي جعفر، ويخوضون في ذلك، فكتب محمّد بن أبي الفرج إلى أبي يعلمه باجتماع القوم عنده... فركب أبي وصار إليه، فوجد القوم مجتمعين عنده، فقالوا لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟ فقال أبي لمن عنده الرقاع: أحضروها، فأحضروها وفضّها وقال: هذا ما أُمرت به، فقال بعض القوم: قد كنّا نحبّ أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر. فقال لهم أبي : قد أتاكم اللَّه ما تحبون، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة، وسأله أن يشهد فتوقف أبو جعفر، فدعاه أبي إلى المباهلة وخوّفه باللَّه، فلما حقق عليه القول قال: قد سمعت ذلك، ولكنّي توقفت لأنّي أحببت أن تكون هذه المكرمة لرجل من العرب!!

 

فلم يبرح القوم حتى اعترفوا بإمامة أبي الحسن عليه السلام وزال عنهم الريب في ذلك"[1].

 

هذه الرواية تدلّ على كيفيّة تعامل الإمام الجوادعليه السلام مع إمامة ولده الهادي عليه السلام، وإن كانت تلك المهمّة باتت أسهل بعد أن تصدّى الإمام الجوادعليه السلام بدواً للإمامة مع صغر سنّه وأثبت استحقاقه، فأمسى تقبّل إمامة الهادي عليه السلام أيسر من ذي قبل.

 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 112 - 113.

 

336


298

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

ملامح عصر الإمام الهادي عليه السلام[1]

1 - الحالة السياسيّة العامّة:

مارس الإمام الهادي عليه السلام مهامّه القياديّة في حكم المعتصم سنة 220هـ، واستُشهد في حكم المعتزّ سنة 254هـ. وخلال هذه السنوات الأربع والثلاثين، عاصر عليه السلام ستّةٌ من ملوك بني العبّاس، الذين كثرت الفتن والثورات في عصورهم، فتراوحت فترة خلافة كلّ منهم بين ستّة أشهر وخمسة إلى ثماني سنوات، سوى المتوكّل الذي دام حكمه خمسة عشر عاماً.

 

ويُعَدُّ عهد المتوكّل العبّاسيّ بدء العصر العبّاسيّ الثاني، وهو عصر نفوذ الأتراك (232 - 334 هـ)، وعدّه بعض المؤرّخين بدء عصر انحلال الدولة العبّاسيّة، الذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار سنة (656 هـ). وكان لسياسة المتوكّل وأسلافه الأثر البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزيّة بالتدريج، حيث نشأت دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها. وكما كان لهذه الدويلات تأثير في تقدّم الحضارة الإسلاميّة باعتبار انفتاح بعض الأمراء على العلم والعلماء، لكنّها أضعفت كيان الدولة العبّاسيّة سياسيّاً، لأنّها قد أسهمت في إيجاد شرخ في وحدة الدولة الإسلاميّة الكبرى.

 

وكان المعتصم أوّل الخلفاء العبّاسيّين الذين استعانوا بالأتراك، وأسندوا إليهم مناصب الدولة، وأقطعوهم الولايات الإسلاميّة[2]. أمّا المتوكّل العبّاسيّ فقد انتهج سياسة العنف والملاحقة تجاه العلويّين وشيعة أهل البيت عليهم السلام، فضلاً عن أهل البيت عليهم السلام أنفسهم، وتجلّى ذلك بوضوح في أمره بهدم قبر الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام، ومنع الناس من زيارته، ومعاقبة من يُتّهم بزيارته أشدّ العقاب حتّى القتل[3].

 


[1] راجع: القرشي، الشيخ باقر شريف، موسوعة سيرة أهل البيت عليهم السلام، الإمام علي الهادي عليه السلام، تحقيق: مهدي باقر القرشي، مؤسسة الإمام الحسن لإحياء تراث أهل البيت عليهم السلام- دار المعروف، النجف الأشرف، 1433هـ، ط2، ج33، ص341.

[2] المسعودي، مروج الذهب، مصدر سابق، ج1، ص 465.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 159.

 

337


299

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

وقد أثار المتوكّل بهذه السياسة حفيظة المسلمين بشكل عامّ، وأهل بغداد بشكل خاصّ. وقد ردّوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويّين فسبّوه في المساجد والطرقات. وفي زمن المتوكّل، أصابت مدن العراق مجاعة شديدة، وهلك كثير من الناس، وانتهز الروم فرصة ضعف الدولة، فاستأنفوا غاراتهم على أراضيها. وبعد المتوكّل، تولّى المنتصر العبّاسيّ السلطة، وكان يحسن للعلويّين مخالفاً بذلك سياسة أبيه، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم والسماح لهم بزيارة قبر الحسين عليه السلام، لكنّ حكم المنتصر لم يدم طويلاً، فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه[1]. وبعد مقتل المنتصر، تولّى الخلافة المستعين باللَّه سنة 248 هـ، وأرجع عاصمته إلى بغداد، غير أنّ الأتراك لم يأمنوا جانبه، فخلعوه ونصّبوا المعتزّ مكانه، ثمّ كان موته على أيديهم أيضاً.

 

إنّ الضعف البارز لشخصيّة الحكّام في مختصر الأحداث التي سردناها، هو أحد عوامل التفكّك والانهيار اللذين أصابا الدولة الإسلاميّة، وقد رافق ذلك نفوذ زوجاتهم وأمّهاتهم، إلى جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الإيرانيّين والعرب، كما كان لظلم الأمراء والوزراء دوره البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين.

 

2- الحالة الثقافيّة:

كان لترجمة الكتب اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة إلى العربيّة أثر كبير في ثقافة هذا العصر، وكانت ظاهرة الترجمة قد بدأت منذ أيّام المأمون، وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلاميّة من جهة، والانفتاح على الثقافات الأخرى التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلاميّة من اتّجاهات فكريّة وثقافيّة من جهة أخرى.

 

كما كان لارتحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أثر كبير في التبادل الثقافيّ بين شرق البلاد الإسلاميّة وغربها، وأنتج ذلك نشاطاً ثقافيّاً متميّزاً وحركةً فكريّةً، أعطت للعلماء والفقهاء دوراً كبيراً وموقعاً مرموقاً عند الخلفاء والحكّام حتّى عُدّ القرن الرابع

 


[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج7، ص 414 - 415.

 

338


300

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

الهجريّ فيما بعد، العصر الذهبيّ للحضارة الإسلاميّة. وقد حظي الشعراء والأدباء بمكانة رفيعة عند الأمراء، ما أدّى إلى ازدهار الأدب في هذا العصر.

 

3 - الحالة الاقتصاديّة:

إنّ الاضطرابات السياسيّة والصراع على السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العبّاسيّة واستقلالها، قد أثّرت في تدهور الوضع الاقتصاديّ. وكان لظهور الطبقيّة في المجتمع الإسلاميّ آثارٌ سلبيّةٌ أدّت الى سرعة الانهيار الاقتصاديّ، فضلاً عن المجاعة وارتفاع الأسعار، الأمر الذي أسهم في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قبل الدولة. وقد تجلّى ذلك في قِصَر فترة حكم الخلفاء، إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء، وهو دليل واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم[1].

 


[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج7، 247 ـ 254 هـ.

 

339


301

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

 

- هو عليّ بن محمّد عليه السلام، العاشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، أمّه أمّ ولد عُرفت بأمّ الفضل. ولدعليه السلام في الثاني من شهر رجب سنة 212هـ، وقد عُرف هو وابنه بالعسكريَّين عليه السلام.

 

- أُحضر الإمام الهادي عليه السلام إلى سامرّاء، وعاش فيها 20 سنة، وكانت له مزرعة يعمل فيها بيده لإعاشة عياله، وكان يقول إنّ عمل المرء بيده هو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين.

 

- كان الإمام الهادي عليه السلام يكرم رجال الفكر والعلم، ويحتفي بهم، ويقدّمهم على بقيّة الناس، وإن كانوا من السادة، فكان يؤكّد أنّ العلم الممتزج بالإيمان والحقّ هو مورد التفاضل لا النسب.

 

- كان الإمام الهادي عليه السلام صاحب هيبة ووقار مع صغر سنّه، وكان الناس يترجّلون له احتراماً ولو لم يريدوا ذلك.

 

- انبرى الإمام الجواد عليه السلام للدعوة إلى إمامة ولده والتأكيد عليها قبل شهادته في مواطن عديدة، نظراً إلى كون إمامة الهادي عليه السلام الإمامة الثانية مع صغر السنّ، فأمر الإمام الجوادعليه السلام بكتب الرقاع في ذلك، وأشهد بعض الأصحاب عليها، فضلاً عن تبيانه لإمامة ولده الهادي عليه السلام في كلّ فرصةٍ سانحة.

 

- عاصر الإمام الهادي عليه السلام ستّةً من خلفاء بني العبّاس، الذين كثرت الفتن والثورات في عصورهم، فبدأ نفوذ الأتراك يتّسع في عصر المتوكّل، وأمسوا هم من يضع الخليفة ومن يخلعه، وقد تآمروا على قتل خلفاء عدّة، كالمستعين والمعتزّ، وقتلوهم، الأمر الذي ساهم في ضعف الدولة الإسلاميّة وتفكّكها.

 

 

340

 


302

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

الدرس الثاني والعشرون

الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى علاقة الإمام الهادي عليه السلام بالخلفاء العبّاسيّين.

 

- يتبيّن دور الإمام الهادي عليه السلام خلال فترة إمامته.

 

- يستنتج الــــدروس التربويّـــة من حـيــاة الإمام الهادي عليه السلام.

 

341

 


303

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

الإمام الهادي عليه السلام والخلفاء العبّاسيّون

عاصر الإمام الهادي عليه السلام ستّةً من خلفاء بني العبّاس، بعضهم من حَكَم أشهراً، وبعضهم من حَكَم سنوات عدّة. ونحن سنركّز في هذا القسم على علاقة الإمام الهادي عليه السلام ببعض الخلفاء خلال فترة إمامته، والتي ستفيدنا في فهمنا لدور الإمام عليه السلام وحركته.

 

1- الإمام الهادي عليه السلام والمعتصم:

بعد اغتيال الإمام الجواد عليه السلام من قبل المعتصم، اهتمّ الأخير بمتابعة أمور الإمام الهادي عليه السلام بشكل مباشر وسريع، فقد تبيّن للمعتصم مآل أمر الإمام الهادي عليه السلام وحجم الدور الذي يمكن أن يؤدّيه في المجتمع الإسلاميّ. وعليه، عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أحد عمّاله أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي عليه السلام البالغ من العمر آنذاك ستّ سنين وأشهراً، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام ليغذّيه ببغضهم.

 

ولمّا انتهى عمر إلى يثرب، التقى بالوالي، وعرّفه بمهمّته، فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيديّ الذي كان شديد البغض للعلويّين، فأرسل خلفه، وعرّفه بالأمر، فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهريّاً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتّصال به. بادر الجنيديّ الى ما كان أُمر به من مهمّة تعليم الإمام عليه السلام إلّا أنّه قد ذهل لما كان يراه من حدَّة ذكائه.

 

والتقى محمّد بن جعفر بالجنيديّ، فقال له: "ما حال هذا الصبيّ الذي تؤدّبه؟ فأنكر الجنيديّ ذلك، وراح يقول: أتقول: هذا الصبيّ؟! ولا تقول: هذا الشيخ؟ أنشدك باللَّه، هل

 

343


304

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

تعرف بالمدينة من هو أعرف منّي بالأدب والعلم؟ قال: لا، فقال الجنيديّ:  إنّي - واللَّه - لأذكر الحرف في الأدب، وأظنّ أنّي قد بالغت، ثمّ إنّه يملي أبواباً أستفيدها منه، فيظنّ الناس أنّي أعلّمه، وأنا - واللَّه - أتعلّم منه...، ثمّ نزع عن نفسه النَّصب لأهل البيت عليهم السلام، ودان بالولاء لهم، واعتقد بالإمامة"[1].

 

لقد كان لأدب الإمام الهادي عليه السلام وعلمه اللّدنيّ وحسن تعامله مع معلّمه الناصبيّ أثر كبير في تحوّله الاعتقاديّ وإيمانه بزعامة أهل البيت عليهم السلام، فقد حاول المعتصم من خلال ما فعله، تطويق تحرّكه، وعزله عن شيعته ومريديه، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتّصال الشيعة به. يُضاف الى ذلك، أنّ المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر، ومنعاً لظهور تلك الكرامة كما حدث لأبيه الجواد عليه السلام، غير أنّ الإمام عليه السلام، بخُلُقه وهدوئه، استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه، ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها اللَّه له، بل استطاع أن يقلب المشهد لصالحه، فما كان من معلّمه إلّا أن دان له واعتقد بإمامته. تلك هي أخلاق الأولياء وصفات الصالحين، التي تتكفّل بأن تقلب وجود الآخر رأساً على عقب، وتحوّل من لم يطمس على قلبه إلى جادّة الصواب.

 

2- الخليفة الواثق ومحنة خلق القرآن:

وهو ابن المعتصم، استولى على الخلافة بعد موت أبيه سنة 227هـ. إنّ من أهمّ القضايا الّتي تعرّض لها العالم الإسلاميّ في بداية القرن الثالث الهجريّ، وأدّت به إلى التشتّت والفرقة هي قضيّة الصراع على مسألة خلق القرآن أو قدمه. وهذه المسألة أشاعها أحمد بن أبي داود، وتبعه على ذلك المأمون، الّذي عمّت الأمّة فتنة كبرى في زمانه، وتبعه المعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن. وسعى هؤلاء الحكّام إلى إكراه جميع العلماء والمحدّثين على الاعتقاد بخلق القرآن، وسمّيت هذه القضيّة تاريخيّاً

 


[1] المحلاّتي، الشيخ ذبيح الله، مآثر الكبراء في تاريخ سامرّاء، انتشارات المكتبة الحيدريّة، ج3، ص 125 - 126.

 

344


305

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

باسم محنة "خلق القرآن"، فكان الواثق يمتحن الناس في قضيّة خلق القرآن، ويسجن أو يقتل من يقول بغير ذلك[1].

 

لمّا كانت هذه القضيّة قضيّة فتنويّة، عمّت العالم الإسلاميّ، واستفادت منها السلطات الحاكمة، نهى الأئمّةعليهم السلام أصحابهم عن الخوض فيها، لكن في زمن الإمام الهادي عليه السلام بيّن الرأي السديد، وإن بقالب، أرشد فيه إلى عدم خوض مثل هذه النزاعات التي تذهب الأرواح ضحيّتها، ولا يستفيد منها إلّا الجهاز الحاكم في إلهاء الناس، فكتبعليه السلام إلى بعض شيعته ببغداد:

"بسم اللَّه الرحمن الرحيم، عصمنا اللَّه وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فأعظِم بها نعمة، وإلّا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلّا اللَّه وما سواه مخلوق، والقرآن كلام اللَّه، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا اللَّه وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون"[2].

 

3- الإمام الهادي عليه السلام والمتوكّل العبّاسيّ:

أ-  الأمر باستحضار الإمام عليه السلام إلى سامرّاء:

هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد، أظهر الميل إلى أهل الحديث، وحكم ما يقارب 14 عاماً، حيث استولى على الخلافة عام 232، ومات عام 247.

 

عُرف المتوكّل ببغضه لأمير المؤمنين عليه السلام ولآل البيت عليهم السلام ولشيعتهم، وأراد احتواء حركة الإمام الهادي عليه السلام، فأمر يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة، والشخوص بالإمام إلى سامرّاء، وكانت للإمام عليه السلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة، فلمّا همّ يحيى بإشخاصه، اضطربت المدينة، وضجّ أهلها، كما ينقل يحيى نفسه، حيث قال: "دخلت المدينة، فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله، خوفاً على عليّ - أي الإمام

 


[1] المازندرانيّ، الشيخ محمد صالح، شرح الكافي، المكتبة الإسلاميّة، طهران، 1424هـ، ط1، ج7، ص 306.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 546.

 

345


306

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

الهادي عليه السلام - وقامت الدنيا على ساق، لأنّه كان محسناً إليهم، ملازماً المسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكّتهم، وأحلف لهم أنّي لم أؤمر فيه بمكروه، وأنّه لا بأس عليه، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد إلّا مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني"[1].

 

وهذا يبيّن عظم شخصيّة الإمام الهادي عليه السلام وتأثيره في الناس، ممّا جعل السلطة العبّاسيّة في تخوّف وخشية منه عليه السلام، فأرادوا إبعاده عن محلّ قوّته كما ظنّوا، بوضعه تحت المراقبة الشديدة، فسامرّاء مكان لا نفوذ فيه للإمام الهادي عليه السلام، بل هي مدينة أسّسها المعتصم حديثاً، وملأها بأزلامه الأتراك. كذلك، فإنّ الرواية تبيّن أنّ الإمام عليه السلام كانت متكتّماً، سرّيّ الحركة والنشاط، حيث فتّش الجند بيته، فلم يجدوا فيه أيّ شيء يُنبئ بثورة أو تمرّد، وهذا تكتيك استراتيجيّ من الإمام، ويبيّن بعد نظره، إذ إنّه لم يُبقِ في بيته ما يُدينه البتّة.

 

ويبدو من بعض المصادر، أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العبّاسيّ للإمام الهادي عليه السلام إلى سامرّاء، هو وشاية إمام الحرمين آنذاك، الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيت عليهم السلام، ويشهد لذلك ما قالوه من أنّه كتب بُريحة العبّاسيّ صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكّل: "إن كان لك في الحرمين حاجة، فأخرج علي بن محمّد منهما، فإنّه قد دعا إلى نفسه، واتّبعه خلق كثير"[2].

 

فوجّه المتوكّل بيحيى بن هرثمة سنة 234هـ، وكتب معه إلى أبي الحسن عليه السلام كتاباً جميلاً يُعرّفه أنّه قد اشتاق إليه، ويسأله القدوم عليه لاشتياقه إليه ورغبته في رؤيته ووصاله، وأمر يحيى بالمسير معه كما يحبّ، وكتب إلى بُريحة يعرّفه ذلك[3]. ولا تخفى نوايا المتوكّل الباطنة والظاهرة، فهو في الحقيقة لم يرد وصال الإمام عليه السلام بأيّ شيء فيه مودّة، وهو المعروف ببغضه لعليّ عليه السلام وآل عليّ عليه السلام، وما رسالته تلك

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 202.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 209.

[3] المصدر نفسه، ص 501 .

 

346


307

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

إلّا بغية التضليل الإعلاميّ، وطمأنة أهله وشيعته أنّه لا يريد به أذًى، وهو خلاف الواقع وخلاف ما حدث. وعليه، فإنّ استقدام الإمامعليه السلام كان أمراً إلزاميّاً له، وإن كان بصيغة الاستدعاء، وإلّا فلِمَ هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظنّ بالإمامعليه السلام بعد تلك الوشايات؟!

 

ب-  الإمام الهادي عليه السلام في سامرّاء:

خرج الإمام الهادي عليه السلام بولده الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام وهو صبيّ صغير مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق، وحاول ابن هرثمة في الطريق معاشرة الإمام عليه السلام بالإحسان، وكان يرى منهعليه السلام الكرامات التي ترشده الى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره، حيث قال: "رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا...، قال يحيى: وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين، ولم تزل تستدلّ وتقول: معكم رجل علويّ دلّوني عليه حتّى يرقى عين ابني هذا. فدللناها عليه، ففتح عينَ الصبيّ حتّى رأيتها، ولم أشكّ في أنّها ذاهبة، فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه، ثمّ نحّاها، فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة"[1].

حجب المتوكّل الإمام الهادي عليه السلام لدى وروده سامرّاء، وأمر بإنزاله في خان الصعاليك، سعياً للنيل من مكانته وإذلاله، هذا، مع أنّ الإمام عليه السلام كان ملجأ المتوكّل الوحيد عندما يعجز فقهاؤه وعلماؤه عن حلّ المسائل[2]، وحاول المتوكّل غير مرّة إفحام الإمام عليه السلام، لكنّ السحر كان ينقلب على الساحر، حتّى قال ابن الأكثم القاضي يوماً للمتوكّل: "ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه، وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلّا دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة"[3].

 

ومع إجراءات المتوكّل التعسّفيّة كلّها، من تفتيش دار الإمام عليه السلام بشكل متكرّر،

 


[1] المسعودي، إثبات الوصية، مصدر سابق، ص 234.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص 238 و 463.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 405.

 

 

347


308

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

حتّى سجنه في نهاية المطاف[1]، إلّا أنّ نفوذ الإمام الهادي عليه السلام قد زاد في سامرّاء، واتّسعت رقعة نشاطه، مضافاً إلى سيرته الحسنة وعلمه الوسيع، فاستقطب القلوب، ممّا اضطرّ المتوكّل إلى إحراج الإمام عليه السلام بجلبه إلى مجالس شرابه ولهوه ليشوّه سمعته، وهو أمر سنشير إليه في ما يأتي. 

 

ج-  دعاء الإمام الهادي عليه السلام على المتوكّل وهلاكه:

دبّرت السلطة الحاكمة مؤامرة لقتل الإمام عليه السلام، لكنّها لم تنجح، فقد رُوي أنّ المتوكّل عزم على قتل الإمام الهادي عليه السلام فقال: "واللَّه لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق، وهو يدّعي الكذب، ويطعن في دولتي، ثمّ طلب أربعة من الخزر أجلافاً، ودفع إليهم أسيافاً، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل، وقال: واللَّه، لأحرقنّه بعد قتله...، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان، وهو غير مكترث ولا جازع، فلمّا رآه المتوكّل، رمى بنفسه عن السرير إليه، وانكبّ عليه يقبّل بين عينيه ويديه..."[2]، فاعتذر إليه إذا أحضره رسولُه، وأمر بتشييعه إلى الباب.

 

والتجأ الإمام أبو الحسن الهادي عليه السلام إلى اللَّه تعالى، وانقطع إليه، وقد دعاه بالدعاء الشريف الذي عرف (بدعاء المظلوم على الظالم)، وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت[3] عليهم السلام. واستجاب اللَّه دعاء وليّه الإمام الهادي عليه السلام، فلم يلبث المتوكّل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيّام حتّى هلك.

 

د-  الإمام الهادي عليه السلام والمعتزّ العبّاسيّ:

لم يدم حكم المنتصر سوى ستّة أشهر، ثمّ تولّى المستعين الحكم، وحكم نحو أربع سنوات. وقد حصلت خلافات بينه وبين الأتراك، فخلعوه وولّوا المعتزّ بن المتوكّل.

 

هذا، وقد ظلّ الإمام الهادي عليه السلام يعاني من ظلم الحكّام وجَورهم، حتّى دُسّ إليه

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ج2، ص 395.

[2] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج3، ص 396.

[3] السيد ابن طاووس، مهج الدعوات، مصدر سابق، ص 267.

 

348


309

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

السمّ، كما حدث لآبائه الطّاهرين، وقد استُشهد على يد المعتزّ[1]، وقيل إنّ المعتمد قد سمّه[2]. وقد أحضر عليه السلام أبا  محمّد العسكريّ ابنهعليه السلام، فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح[3]، وأوصى إليه بالإمامة.

 

وما إن انتشر خبر رحيله إلى الرفيق الأعلى، حتّى هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة إلى دار الإمام عليه السلام، وخيّم على سامرّاء جوّ من الحزن والحداد. وقد ظهر وقت الدفن حجم الوجود الشيعيّ، الذي استطاع الإمام الهادي عليه السلام أن يؤسّسه ويستقطبه في سامرّاء، حيث تقول الرواية: "وحدّثنا جماعة كلّ واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيّين والعبّاسيّين (والقوّاد وغيرهم)، واجتمع خلق من الشّيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمّدعليه السلام – العسكريّ - ولا عَرف خبره، إلّا الثّقاة، الذين نصّ أبو الحسن عليه السلام (عندهم) عليه... ثمّ فُتح من صدر الرّواق باب، وخرج خادم أسود، ثمّ خرج بعده أبو محمّد عليه السلام حاسراً، مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، وعليه مبطنة (ملحمة) بيضاء...، ثمّ خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد، فنهض عليه السلام وأُخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتّى أُخرج بها الى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا، وقد كان أبو محمّد عليه السلام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى النّاس..."[4]. ثمّ عادوا بالجنازة إلى الدار، ودُفن الإمام الهادي عليه السلام في داره، مع أنّه جرت العادة أن يدفن الناس في مقابر خاصّة، كما حصل مع الأئمّةعليهم السلام السابقين بأجمعهم، لكنّه، وإثر خروج الجنازة، ضجّت الناس وثارت ثائرتهم، هذا مع كون سامرّاء ليست من حواضر الشيعة الموالين لأهل البيتعليهم السلام في الأساس، لكنّ هذه الحادثة تبيّن عظيم إنجازات الإمام الهادي عليه السلام، الذي جعل من أهمّ مدينة للعبّاسيّين آنذاك تعجّ بشيعته، حتّى خاف الجهاز الحاكم الفتنة، فاضطُرَّ إلى ردّ الجنازة، ودفن الإمام عليه السلام في داره.

 


[1] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 409.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 401.

[3] المسعودي، إثبات الوصية، مصدر سابق، ص 242.

[4] المصدر نفسه، ص 243 - 244.

 

349


310

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

فأخرجت الجنازة في شارع كثر فيه الموالون لآل البيت عليهم السلام. ويقول اليعقوبي في تاريخه: وبعث المعتزّ بأخيه أحمد بن المتوكّل، فصلّى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد (بعد أن صلّى الإمام العسكريّ عليه قبل خروجه)، فلمّا كثر الناس واجتمعوا، كثر بكاؤهم وضجّتهم، فردّ النعش إلى داره، فدفن فيها[1]، فتمكّنوا بهذا الإجراء من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء على نقمة الجماهير الغاضبة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود التحرّك الشيعيّ على الرغم من الظروف القاسية التي كان يعاني منها أئمّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة.

 

دور الإمام الهادي عليه السلام على الساحتَين العامّة والخاصّة[2]

كان للإمام الهادي عليه السلام، كما آباؤه، دورٌ على مستوى الساحة الإسلاميّة العامّة، وآخر على مستوى الخواصّ، أي شيعته ومواليه.

 

1-  ويمكن الحديث حول متطلّبات الساحة الإسلاميّة في عصر الإمام الهادي عليه السلام بما يلي:

أ- ترك مقارعة الحاكمين وتجنّب إثارتهم: فاتّسم سلوك الإمام الهادي عليه السلام طوال فترة إمامته بالتجنّب عن أيّ إثارة للسلطة، بدءاً بما فرض عليه من مُعلّم يتولّى أمره، ثمّ الاستجابة لدعوة المتوكّل، واستقدامه إلى سامرّاء، والإفساح في المجال للتفتيش الذي تكرّر في المدينة وسامرّاء، وليس ذلك إلّا لوعيه وحنكته ومعرفته بالظروف والواقع، حيث كان أولئك المتجبّرون على أتمّ الاستعداد للتنكيل بالإمام عليه السلام وشيعته عند أصغر هفوة، فلم يترك لهم الإمام عليه السلام مجالاً لذلك، حتّى اضطُرّوا إلى اغتياله بالسمّ في النهاية.

 


[1] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، مصدر سابق، ج2، ص 503 .

[2] راجع: السيد الحكيم، أعلام الهداية (الإمام الهادي عليه السلام)، مصدر سابق، ج11، ص 114.

 

350


311

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

وقد لاحظنا كيف يتجنّب الإمام عليه السلام مثل هذه الإثارات، إلى جانب تقديمه للنصح والإرشاد والموعظة للمتوكّل، حتّى عندما كان يستدعيه ذلك اللّعين لمجالس شرابه ولهوه للحطّ من قدره وإشاعة أنّه نديمه وجليسه. فتقول الرواية إنّه تمّ استدعاء الإمام الهادي عليه السلام إلى بلاط المتوكّل الذي كان ثملاً على مائدة شرابه، حتّى إنّ المتوكّل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه ناوله الكأس، فقال له الإمامعليه السلام: يا  أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، ثمّ قال له المتوكّل: أنشدني شعراً...

 

فأنشده الإمام عليه السلام أبياتاً خالدة، وعظه فيها بالموت والرحيل عن الدنيا، وكان منها:

باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم        غلب الرجال فما أغنتهم القُلَلُ

واستُنزلوا من بعد عزّ من معاقلهم      فأُودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قُبروا          أين الأسرّة والتيجان والحللُ

 

... فبكى المتوكّل، ثمّ أمر برفع الشراب، وقال: يا  أبا الحسن، أعليك دَين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فدفعها إليه وردّه إلى منزله مكرّماً[1].

 

ب- الردّ على الإثارات الفكريّة والشبهات الدينيّة: كما حدث في محنة خلق القرآن التي أشرنا إليها سابقاً.

 

ج- التحدّي العلميّ للسلطة وعلمائها: فكان الإمام الهادي عليه السلام المرجع الذي يعودون إليه متى أعيتهم المسائل، ومع ذلك فقد قرّر المتوكّل امتحان الإمام عليه السلام، فقال لابن السكّيت: "اسأل ابن الرّضا مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله، فقال: لِمَ بعث اللَّه موسى بالعصا، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف؟ فأجاب الإمام عليه السلام عن ذلك... حتّى اغتاظ ابن الأكثم، وقال: ما لابن السّكّيت ومناظرته؟! وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفع قرطاساً فيه مسائل، فأملى عليّ بن محمّد عليهما السلام على ابن السّكّيت جوابها"[2].

 


[1] المسعودي، مروج الذهب، مصدر سابق، ج4، ص 10.

[2] المصدر نفسه، ص 403.

 

351


312

الدرس الواحد والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -1-

د- توسيع دائرة النفوذ في جهاز السلطة: إنّ أنصار الإمام عليه السلام وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط، وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة. وفيما يلي من خبر اعتقال الإمامعليه السلام. أيضاً - شواهد على هذه الحقيقة، فبعد رصد المتوكّل الدائم للإمام، وتفتيشه المستمرّ والمتكرّر لداره عليه السلام، أمر باعتقاله وزجّه في السجن، فبقي فيه أيّاماً، وجاء لزيارته أحد أصحابه صقر بن أبي دلف، فاستقبله الحاجب، وكانت له معرفة به، كما كان عالماً بتشيّعه، وبادر الحاجب قائلاً: "ما شأنك؟ وفيم جئت؟ قال صقر: بخير.

 

قال الحاجب: لعلّك جئت تسأل عن خبر مولاك؟ قال صقر: مولاي أمير المؤمنين - يعني المتوكّل -، فتبسّم الحاجب، وقال: اسكت، مولاك هو الحقّ (يعني الإمام الهادي عليه السلام، فلا تحتشمني، فإنّي على مذهبك.

 

قال صقر: الحمد للَّه. فقال الحاجب: تحبّ أن تراه؟ قال صقر: نعم. فقال الحاجب: اِجلس حتّى يخرج صاحب البريد. ولمّا خرج صاحب البريد، التفت الحاجب إلى غلامه فقال له: خذ بيد  الصقر حتّى تُدخله الحجرة التي فيها العلويّ المحبوس، وخلِّ بينه وبينه. فأخذه الغلام حتّى أدخله الحجرة وأومأ إلى بيت فيه الإمام، فدخل عليه الصقر، وكان الإمام جالساً على حصير وبازائه قبر محفور، والتفت عليه السلام قائلاً بحنان ولطف: يا  صقر ما أتى بك؟ قال صقر: جئت لأتعرّف على خبرك.

 

وأجهش الصقر بالبكاء رحمةً بالإمام، وخوفاً عليه: فقال عليه السلام:  يا صقر، لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء ... فهدّأ روعه، وحمد اللَّه على ذلك، ثمّ سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعيّة فأجاب عنها، وانصرف مودّعاً الإمام، ولم يلبث الإمام في السجن إلّا قليلاً ثمّ أطلق سراحه"[1]. وهذا يدلّ على مدى اختراق الإمام الهادي عليه السلام لجهاز السلطة، حتّى إنّ سجّانه كان من مواليه، وكان يسهّل دخول الشيعة إليه.

 


[1] راجع: العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج24، ص 239.

 

352


313

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

2-  أمّا على مستوى الساحة الشيعية الخاصّة، فيمكن الحديث عن المتطلّبات الآتية:

أ- قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: فالإمام الهادي عليه السلام مسؤول عن ترتيب التمهيدات اللّازمة لولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، والأعداء يراقبون بدقّة جميع تصرّفات الإمام الهادي ونشاط ابنه الحسن العسكريّ (عليهما السلام). وتشير النصوص إلى كيفية تدخّل الإمام الهادي عليه السلام لاختيار زوجة صالحة للإمام الحسن العسكريّعليه السلام، بحيث تقوم بالدور المطلوب منها في اخفاء ولادة ابنها المنتظر[1]. هذا، وقد تضافرت نصوص الإمام الهادي عليه السلام على أنّ المهديّ المنتظر هو حفيده وولد الإمام الحسن العسكريّعليه السلام، وأنّه الذي يُولد خفية، ويقول الناس عنه إنّه لم يولد بعد، وإنّه الذي لا يُرى شخصه، ولا يحلّ ذكره باسمه. وهكذا، تضمّنت هذه النصوص جملة من التعليمات الكفيلة بتحقيق غطاء ينسجم مع مهمّة الاختفاء والغيبة من قبل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف[2].

 

ب- تحصين الجماعة الصالحة وإعدادها لزمن الغيبة: إنّ هذا التحصين وإكمال البناء الذي عمل عليه الإمام الهادي عليه السلام طال جميع المجالات التي تهمّ الجماعة الصالحة التي سوف تفقد نعمة الارتباط بالإمام المعصومعليه السلام في وقت لاحق وقريب جدّاً. فلا بدّ من أن يتكامل بناؤها بحيث تكتفي بما لديها من نصوص، وتراث علميّ، وعلماء باللَّه تعالى يمارسون مهمّة الريادة الاجتماعيّة والفكريّة والدينيّة، ويسهرون على مصالح هذه الجماعة وشؤونها لتستمرّ في مسيرتها التكامليّة باتّجاه الأهداف الرساليّة المرسومة لها، فطال التحصين المجال العقائديّ، العلميّ، التربويّ، التحصين الأمنيّ والتحصين الاقتصاديّ أيضاً.

 


[1] راجع: الصدوق، الشيخ محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1405ه - 1363 ش، لا.ط، ص 417.

[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ص 379 .

 

353


314

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

علّمني إمامي:

- أنّ عمل المرء في رزقه بيده هو من سنّة الأنبياء والأوصياء.

 

- أنْ أكرم العلماء المؤمنين وأُقدِّمهم على مَن سواهم من الناس.

 

- أنْ أدعو اللَّه مخلصاً، ولا أدعو إلّا بما يحبّه اللَّه ويرضاه، فأتيقّن الإجابة.

 

- أنْ يكون الدعاء وسيلة ارتباطي الدائم باللَّه، وأن يكون انقطاعي إلى اللَّه عند انقطاع السبل.

 

- أنْ أترقّب مخطّطات أعدائي، فلا أترك أثراً يُدينني في ما تصل إليه أيديهم.

 

- أنْ يكون السؤدد والوقار عنواني، فلا أخضع ولا أذلّ مهما حاول الأعداء إذلالي وإهانتي.

 

354


315

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- بعد اغتيال الإمام الجواد عليه السلام، أراد المعتصم احتواء أمر الإمام الهادي عليه السلام، فمنع الشيعة من التواصل معه، وأوكل تعليمه إلى الجنيديّ الذي كان ناصبيّاً ثمّ تحوّل وقال بإمامة الإمام الهادي عليه السلام.

 

- استولى الواثق باللَّه على الخلافة بعد أبيه، وراجت في عصره فتنة خلق القرآن، فمنع الإمام الهادي عليه السلام شيعته من الخوض فيها، لاستلزامها إراقة الدماء دون طائل.

 

- بعد أن استولى المتوكّل على الخلافة، أرسل في استدعاء الإمام الهادي عليه السلام إلى سامرّاء، وذلك بعد أن وصلت إليه وشايات بمدى تأثير الإمام عليه السلام على الناس.

 

- حجب المتوكّل الإمام الهادي عليه السلام لدى وروده سامرّاء، وأمر بإنزاله في خان الصعاليك، سعياً للنيل من مكانته، مع أنّه كان ملجأ المتوكّل الوحيد عندما يعجز فقهاؤه وعلماؤه عن حلّ المسائل.

 

- عزم المتوكّل على قتل الإمام الهادي عليه السلام، لكنّه فشل حيث لجأ الإمام عليه السلام إلى دعاء عظيم تلاه، فنجّاه اللَّه من تلك المؤامرة، ثمّ هلك المتوكّل بعد ذلك بقليل.

 

- بعد أن استولى المعتزّ على السلطة، قرّر اغتيال الإمام الهادي عليه السلام، ففعل ودسّ له السمّ.

 

- عمل الإمام عليه السلام على مستوى الساحة الشيعيّة الخاصّة، على ما يلي:

1- قضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: حيث تولّى الإمام الهادي عليه السلام اختيار زوجة الإمام العسكريّ، وضخّ الأحاديث حول الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنّه حفيده، وتقديم التعليمات حول كيفيّة التعامل مع هذه القضيّة بسرّيّة تامّة، إلى حدّ المنع عن ذكر اسمه حرصاً على حياته.

 

2- تحصين الجماعة الصالحة.

 

355


316

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

الدرس الثالث والعشرون

الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى بعض الخصائص الشخصيّة للإمام العسكريّ عليه السلام.

 

- يتبيّن علاقة الإمام العسكريّ عليه السلام بحكّام عصره.

 

- يعرف مهامّ الإمام العسكريّ عليه السلام بالإجمال.

 

357


317

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

الإمام العسكريّ عليه السلام

هو الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ العسكريّ عليه السلام، الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين فرض اللَّه مودّتهم وطاعتهم على عباده. أبوه هو الإمام عليّ الهادي عليه السلام، وأمّه أمّ ولد يقال لها: حُديث، وقيل سوسن[1]، وكانت من العارفات الصالحات[2].

 

وُلد الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام في المدينة، في الثامن من شهر ربيع الثاني سنة 232ه. وكان للإمام العسكريّ عليه السلام ألقابٌ عديدة، منها: المرضيّ، الرفيق، الزكيّ، الصامت، الهادي، السراج، العسكريّ وابن الرضا كجدّه وأبيه عليهم السلام[3]، وأمّا كنيته: فأبو محمّد[4]. وكان للإمام الحسن العسكريّ عليه السلام ولدٌ واحد فقط هو الإمام محمّد المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف[5]. وقد تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام الهاديعليه السلام من سنة 254هـ إلى سنة 260هـ، فاستمرّت إمامته ستّ سنوات، وكان عليه السلام قبل شهادته قد أوصى إلى ابنه الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بالإمامة من بعده[6]. استُشهد يوم الجمعة في الثامن من ربيع الأوّل سنة 260هـ، وعمره 28 عاماً، ودُفن مع أبيه الإمام الهادي عليه السلام في سامرّاء[7]، وذلك بعد أن دسّ الخليفة المعتمد العبّاسيّ السمّ له عليه السلام، فارتقى إلى ربّه شهيداً مظلوماً.

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 503.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 238.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 4، ص 421.

[4] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 402.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص336، الشيخ الطبرسي، تاج المواليد، مصدر سابق، ص 59.

[6] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص328.

[7] المصدر نفسه، ص503.

 

359


318

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

بعض الخصائص الشخصيّة للإمام العسكريّ عليه السلام

1- عبادته عليه السلام وسموّ أخلاقه:

عُرف الإمام العسكريّ عليه السلام في عصره بكثرة عبادته وتبتّله وانقطاعه إلى اللَّه سبحانه، واشتُهر ذلك عنه، يقوم اللّيل ويصوم النهار. ومع أنّ الإمام عليه السلام موضوعٌ تحت المراقبة الشديدة، إلّا أنّ تأثيره في الناس كان كبيراً، حتّى إنّه حينما حُبس الإمام عليه السلام في سجن عليّ بن نارمش، والذي كان من أشدّ الناس نصباً لآل أبي طالب، ما كان من عليٍّ هذا إلّا أن وضع خدّيه له، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة به (للإمام العسكريّ) وأحسن الناس قولاً فيه[1].

 

ولمّا حبسه المعتمد، كان يسأل السجّان عن أحوال الإمام عليه السلام وأخباره في كلّ وقت، فيخبره أنّ الإمام عليه السلام يصوم النهار ويصلّي اللّيل[2]، لكنّ العبّاسيّين ما كانوا ليكتفوا بذلك، بل أرادوا التشديد الدائم على الإمام عليه السلام بأيّ طريقة.

 

ففي رواية أنّه عندما سُجن الإمام العسكريّ عليه السلام، دخل جماعة من العبّاسيّين على صالح بن وصيف - كان صاحب السجن - وطلبوا منه أن يضيّقوا على الإمام عليه السلام، فقال لهم صالح: "وما أصنع وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه! فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم! فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين"[3].

 

ويا له من أمر عظيم! فإنّ عبادة هذا الإمام العظيم وسمّو أخلاقه وانقطاعه نحو اللَّه - عزّ وجلّ - كانت كفيلة بانقلاب سجّانيه الذين كانوا مبغضين لعليٍّ عليه السلام وآله، وآخرين من أشرّ الناس، لكن ذلك الشرّ كلّه انقلب إلى خير كبير، جرّاء صدق عبادة هذا الإمام العظيم عليه السلام وإخلاصه للَّه. وقد كان الإمام العسكريّ عليه السلام كثير الوعظ والتذكير باللَّه

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 508، ح8.

[2] ابن طاووس، السيد علي بن موسى، مهج الدعوات ومنهج العبادات، لا.م، كتابخانه سنائى، لا.ت، لا.ط، ص 276.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 512.

 

360


319

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

سبحانه وتعالى، ومن مواعظه قوله: "أورع الناس من وقف عند الشبهة، أعبد الناس من أقام على الفرائض، أزهد الناس من ترك الحرام، أشدّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب"[1].

 

2- كراماته عليه السلام:

سجّلت كتب التاريخ والحديث العديد من كرامات الإمام العسكريّ عليه السلام، والتي كان يُظهرها في محلّها وبالطريقة المناسبة والوقت المناسب. فليس إن كان المرء صاحب كرامة أن يُظهر تلك الكرامة متى شاء هو، ليجلب قلوب الناس إليه، بل إنّ أئمّتناعليهم السلام كانوا يُظهرون كراماتهم بحسب المقتضى، وفي خدمة مشروعهم الإلهيّ، ولتحقيق إرادة اللَّه -عزّ وجلّ- ليس إلّا، وهذا ما يفسّر امتناع الأئمّةعليهم السلام عن القيام بكثير من الأمور المعجزة، وتصدّيهم للقيام بأخرى حتّى دون طلب، كإبراء أعمى مثلاً.

 

ففي خبر عن شخصٍ يدعى عليّ الكوفيّ أنّه كان أعمًى، فدخل على الإمام العسكريّ عليه السلام وجلس على بساط، فقال له الإمام عليه السلام: "يا ابن عاصم، اعلم أنّك على بسَاط جلس عليه كثير من النبيّين والمرسلين، فقال ابن عاصم: يا سيّدي، ليتني كنت لا أفارقك ما دمت في دار الدنيا، ثمّ قلت في نفسي: ليتني كنت أرى هذا البساط، فعلم الإمام عليه السلام ما في ضميري، فقال: ادنُ منّي، فدنوت منه، فمسح يده على وجهي فصرت بصيراً بإذن اللَّه"[2]. فكانت تلك المسحة من الإمام عليه السلام على وجه الأعمى كفيلة بردّ بصره عليه.

 

3- علاقته عليه السلام مع شيعته:

لربّما سمعنا عن تخاطر الأفكار بين أشخاصٍ مقرّبين من بعضهم، ومعرفة حال أحدهم للآخر دون أن ينطق بأيّ شيء، وقد يقال إنّ ذلك لشدّة المودّة والمحبّة الحاصلة بين هؤلاء المقرّبين، تماماً كحال الحبيب مع حبيبه، وحال الأمّ مع ولدها مثلاً، بل لا يفهم الحبيب إلّا حبيبهُ، ولا يعي مراده غيره، وكذا الطفل الذي لا يفهمه إلّا أمّه. وكلمّا

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص 373.

[2] المصدر نفسه، ج50، ص 316.

 

361


320

الدرس الثاني والعشرون: الإمام عليّ الهادي عليه السلام -2-

كانت العلاقة أعمق وأشدّ، كان ذلك الفهم والتفاهم أجلى وأوضح. فأن تفهم الأمّ مراد صغيرها دون أن يتكلّم فتلك مسألة مألوفة، بل مطلوبة، أمّا أنّ إماماً معصوماً قيّماً على الخلق بأجمعهم ووليّ أمرهم يعلم مراد مريديه وشيعته، ويلبّي حاجاتهم التي تخطر في نفوسهم دون أن يتكلّموا بها، وتسمو تلك العلاقة وترتقي لتبلغ حدّاً ينسى الشيعيّ ما يريد، ثمّ يأتي إمامه فيذكّره بسؤاله ثمّ يجيب عنه[1]! فتلك علاقة لا بدّ من التوقّف عندها!

 

إنّ فهم هذه المواقف التي ورد العديد منها عن الإمام العسكريّ عليه السلام من شأنه تعديل نظرتنا إلى الإمام عليه السلام وإلى علاقتنا مع وليّ أمرنا، فهي علاقةٌ فوق حدّ الحسّ، وفوق حدّ التخاطر، وأرقى من أيّ حبٍّ ألفناه، وأسمى حتّى من علاقة الأمّ بفلذة كبدها، إنّها العلاقة مع القائم بأمر اللَّه - عزّ وجلّ -، إنّها العلاقة مع اللَّه!

 

فقد جاء عن محمّد بن القاسم أنّه قال: "كنت أدخل على أبي محمّد عليه السلام فأعطش، وأنا عنده، فأجلّه أن أدعو بالماء، فيقول: "يا غلام، اسقه"، وربّما حدّثت نفسي بالنهوض فأفكر في ذلك، فيقول: "يا غلام دابّته"[2]. أيّ عطف ذاك، وأيّ حرص، وأيّ اهتمام! والملاحظ أنّ الراوي يقول إنّه امتنع من طلب الماء لا لشيء، بل لجلالة مجلس الإمام العسكريّ عليه السلام وكلامه، فيمتنع عن الشرب، فإذا بالإمام الرؤوف يطلب الماء له.

 

وفي حادثة أخرى، عن إسحاق بن محمّد النخعيّ، قال: "حدّثني أبو هاشم الجعفريّ قال: ... كنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه - أي من الإمام العسكريّ عليه السلام - معونة في الكتاب (رسالة) الذي كتبته إليه، فاستحييت، فلمّا صرت إلى منزلي، وجّه إليّ بمئة دينار، وكتب إليّ: إذا كانت لك حاجة، فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها، فإنّك على ما تحبّ إن شاء اللَّه"[3]. فالإمام عليه السلام يطلب من ذاك الموالي المحبّ أن يرتقي بعلاقته معه فلا يستحيي في طلب ما يريد، أيّ شيء يريد! لذا، أيّها الشيعي المحبّ، إن كانت

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 509.

[2] المصدر نفسه، ص 513.

[3] المصدر نفسه، ص 508، الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 330.

 

362


321

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

لك حاجة، فاعرف الباب الذي ينبغي طرقه، ولا تستحِ ولا تحتشم، بل قل فقط ما تريد وإمامك سيتولّى أمورك، وارتقِ بعلاقتك مع إمامك، وليكن أقرب البشر الذي تُسِرُّ له ما لا تُسِرّه إلى غيره، وتطلب منه ما لا تطلبه من غيره، فهو الوسيلة الحقيقيّة بيننا وبين الحقّ تعالى.

 

عصر الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام

أمضى الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام الجزء الأكبر من عمره الشريف في العاصمة العبّاسيّة آنذاك سامرّاء، وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف التي واجهت أباه الإمام عليّاً الهادي عليه السلام، ثمّ تسلّم الإمامة سنة 254هـ بعد شهادة أبيه عليه السلام، وعمره الشريف آنذاك 22 عاماً. وقد أكمل مسيرة آبائه، ولا سيّما الإمام الهادي عليه السلام، لتشابه ظروفهما نسبيّاً ومتطلّبات مرحلتيهما، إلّا أنّ المهمّة الكبرى التي كانت على عاتق الإمام العسكريّ، فضلاً عن التمهيد لغيبة ولده المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، هي ضمان ولادته عليه السلام آمناً، والتأكيد على إمامته.

 

وفي ذلك الوقت، كانت الدولة العبّاسيّة قد بدأت بالانحدار والضعف والتهاون، وكان هذا الوضع يشكّل الجوّ العامّ منذ حلّت سيطرة الأتراك على السلطة آنذاك، إلّا أنّ ذلك الضعف والتهاون ما كان ليضعف الإجراءات التعسّفيّة في مواجهة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام والجماعة الصالحة المنقادة لتعاليمه وإرشاداته، وهم قد باتوا على موعد قريب مع ولادة المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

وعليه، خضع الإمام الإمام العسكريّ للإقامة الجبريّة والرقابة الشديدة، ليُعلَم من يدخل إلى بيته ومن يخرج منه، كما أُبعد فترة عن سامرّاء، وزُجّ به في السجن. وبعد فشل جميع المحاولات في إضعاف نشاطاته السرّيّة، لجأ الخليفة إلى اغتياله بالسمّ.

 

عاصر الإمام العسكريّ عليه السلام ثلاثة من خلفاء الدولة العبّاسيّة، فقد عاشعليه السلام شطراً من خلافة المعتزّ، والذي هلك على أيدي الأتراك، ليخلفه المهتدي العبّاسيّ الذي حاول أن يتّخذ من سيرة عمر بن عبد العزيز الأمويّ مثلاً يحتذي به إغراءً للعامّة، ولينقل

 

363


322

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

أنظارهم المتوجّهة صوب الإمام العسكريّ عليه السلام إلى زهده وتقواه وورعه، وما كان يعيشه من همومهم وآلامهم التي كانوا يعانونها من السلطة وتجاوزاتها في الميادين المختلفة. وسرعان ما انقلب الأتراك على المهتدي، فقتلوه سنة 256ه بسبب ازدياد الاضطراب في دائرة البلاط العبّاسيّ، وقد اعتلى العرش من بعده المعتمد الذي استمرّ في الحكم حتّى عام 270 هـ[1].

 

1- الإمام عليه السلام والمعتزّ العبّاسيّ (252 - 255هـ):

كان المعتزّ يخاف الأتراك، ويخشى بأسهم، ولا يأمن جانبهم، وقد عاصر الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أواخر خلافة المعتزّ، الذي كان استشهاد الإمام الهاديعليه السلام على يده، فكانت سياسة المعتزّ امتداداً لسياسة المتوكّل في محاربة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام والشيعة.

 

وعندما رأى المعتزّ تأثير الإمام العسكريّ عليه السلام وكثرة أصحابه ونفوذه في سامرّاء، أمر بنقله إلى الكوفة وقتله في الطريق[2]، لكنّه سرعان ما اندحر ومات قبل تنفيذ مخطّطه الإجراميّ، وقد أفصح الإمام عليه السلام عن موت المعتزّ في مكاتبة لأحد أصحابه، حيث كتب له أبو الهيثم يستفسر عن أمر المعتزّ بإبعاده إلى الكوفة قائلاً: "جُعلت فداك، بلغنا خبرٌ أقلقنا وبلغ منّا"، فكتب الإمام عليه السلام: "بعد ثلاث يأتيكم الفرج"، فخُلع المعتزّ بعد ثلاثة أيّام وقُتل[3].

 

2- الإمام عليه السلام والمهتدي العبّاسيّ (255 - 256 هـ):

تولى المهتدي الخلافة بعد مقتل أخيه المعتزّ سنة 255هـ، وقد تصنّع الزهد والتقشّف، محتذياً سيرة عمر بن عبد العزيز إغراءً للعامّة، ومحاولةً لتغيير انطباعهم عن الخلفاء العبّاسيّين الذين عُرفوا بالمجون والترف والإسراف في الملذّات والخمر ومجالس

 


[1] راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج7، ص 582 (خلع المهتدي وتنصيب المعتمد).

[2] السيد ابن طاووس، مهج الدعوات، مصدر سابق، ص 273.

[3] قطب الدين الراوندي، سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق: مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام بإشراف السيد محمد باقر الموحد الأبطحي، مؤسسة الإمام المهدي، إيران - قم، 1409ه، ط1، ج1، ص 451.

 

364


323

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

اللَّهو، فقد نقل هاشم بن القاسم حينما سأل المهتدي عمّا هو عليه من التقشّف، وبما هو فيه من النعمة، فقال له: "إنّ الأمر كما وصفت، ولكنّي فكّرت في أنّه كان في بني أميّة عمر بن عبد العزيز، وكان من التقلّل والتقشّف ما بلغك ، فغرتُ على بني هاشم، فأخذت نفسي بما رأيت"[1].

 

فلم تكن الدوافع وراء هذه السيرة هو رضا اللَّه سبحانه، بل كانت هذه السيرة لإضفاء شيء من صبغة التديّن على نفسه من أجل أن تطيعه عامّة الناس، ومحاولة لإبعاد أنظارها عمّا تحلّى به بنو هاشم وفي مقدّمتهم الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام الذي عُرف بتقواه وورعه ومواساته للأمّة في ظروفها القاسية، لكنّه لم ينل مراده.

 

هذا، وقد قاسى الشيعة والإمام الحسن العسكريّ عليه السلام في عهد المهتدي الكثير من الظلم والتعسّف، ففي روايةٍ أنّ أحد أصحاب الإمام العسكريّ عليه السلام قال: "كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام - حين أخذ المهتدي في قتل المَوالي - يا سيّدي، الحمد للَّه الذي شغله عنك، فقد بلغني أنّه يتهدّدك ويقول: واللَّه، لأخلينّهم عن جديد الأرض، فوقّع أبو محمّدعليه السلام بخطّه: "ذاك أقصر لعمره، وعدّ من يومك هذا خمسة أيّام، ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف بموته"، فكان كما قال[2] عليه السلام.

 

وعندما رأى المهتدي أنّ وسائل النفي والإبعاد والمصادرة، لم تكن لتحدّ من نشاط الإمام عليه السلام وشيعته، واتّساع حركته، لما كان لتعليمات الإمام العسكريّ عليه السلام ورقابته لشيعته من أثر في إفشال محاولات السلطة العبّاسيّة، لم تجد السلطة بُدّاً من اعتقال الإمام عليه السلام والتضييق عليه في السجن حتّى، فما كان من سلوك الإمام عليه السلام إلّا أن قلب سجّانيه رأساً على عقب[3].

 

3- الإمام عليه السلام مع المعتمد العبّاسيّ (256 - 279 هـ):

عاصر الإمام العسكريّ عليه السلام المعتمد العبّاسيّ، الذي انهمك في اللَّهو واللّذّات،

 


[1] السيوطي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق، ص 390.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 510.

[3] المصدر نفسه، ص 512.

 

365


324

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

واشتغل عن الرعيّة، فكرهه الناس وأحبّوا أخاه طلحة[1]. وكان المعتمد ضعيفاً، يعمل تحت تأثير الأتراك الذين يديرون أمور الحكم.

 

عاش الإمام العسكريّ عليه السلام في عهد المعتمد مدّة تقرب من خمس سنين، وهي من بداية خلافة المعتمد سنة 256هـ حتّى استشهاد الإمام عليه السلام سنة 260هـ، وكان الوضع العامّ مضطرباً في الدولة بسبب الثورات والحركات المسلّحة، هذا فضلاً عن مطاردة السلطة للشيعة والمضايقة على الإمام عليه السلام وعليهم وتشديد المراقبة.

 

سعى المعتمد جاهداً للتخلّص من الإمام العسكريّ عليه السلام، فحاول تصفيته برميه مع السباع. فعندما سُلّم الإمام العسكريّ عليه السلام إلى السجّان يحيى بن قتيبة، كان يضيّق عليه إلى أن رمى به إلى مجموعة من السباع، ظنّاً منه أنّها سوف تقتل الإمام عليه السلام. وروي أنّ يحيى قد أتى الإمام عليه السلام بعد ثلاثة أيّام، وهو (الإمام العسكريّ) مع الأُسود، فوجده يصلّي، والأُسود حوله، فانصرف وأخبر المعتمد بذلك، فدخل المعتمد على العسكريّ عليه السلام، وتضرّع إليه، وسأله أن يدعو له، ففعل عليه السلام[2].

 

ومع هذه البيّنة وعظمتها، واستجابة الإمام العسكريّ عليه السلام للمعتمد بالدعاء له، واعترافه الضمنيّ بمكانته، إلّا أنّ المعتمد قد استمرّ في التضييق على الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام في ما بعد، حتّى ألقى به في سجن عليّ بن جرين مرّة أخرى، ولم يخرجه إلّا حين احتاج إليه لإزالة فتنة استسقاء النصارى بعد قحط أصاب سامرّاء، كما مرّ معنا، إلى أن اغتاله في نهاية المطاف.

 

4- مهامّ الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام:

باءت محاولات الأمويّين والعبّاسيّين كلّها لتسقيط الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام، وسدل الستار على شخصيّاتهم المتألّقة، بالفشل، فلم تنفع أيٌّ من سياسات الحكّام القمعيّة ولا الترهيبيّة ولا سياسة التقرّب والاحتفاء الظاهريّ، والتي يمكن التعبير عنها

 


[1] السيوطي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق، ص 392.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 430.

 

366


325

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

بسياسة النفاق، كما حدث مع الإمام الرضاعليه السلام والمأمون مثلاً، وغيره من الخلفاء، ويعبّر المتوكّل عن هذه الحقيقة فيقول: "وَيْحَكُم! قد أعياني أمر ابن الرضا"[1]، فما كان منهم إلّا أن لجأوا إلى قتل الإمام، ظانّين أنّهم قد تخلّصوا منه!

 

هذا، مع أنّه لم يُعهد في زمن هؤلاء الخلفاء أيّ محاولة مباشرة للثورة عليهم من قبل أهل البيت عليهم السلام منذ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. فلماذا هذا الرعب منهم؟ ولماذا هذا التسرّع في التصفية الجسديّة لهم؟

 

لقد أفصح الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام عن سرّ هذا الأمر ضمن حديث، جاء فيه: "قد وضع بنو أميّة وبنو العبّاس سيوفهم علينا لعلّتين، إحداهما: أنّهم كانوا يعلمون (أن) ليس لهم في الخلافة حقّ، فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها. وثانيهما: أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أنّ زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا، وكانوا لا يشكّون في أنّهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم عليه السلام أو قتله، فأبى اللَّه أن يكشف أمره لواحد منهم إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون"[2]. وببيان الإمام عليه السلام الموجز، يتّضح لنا بشكل سريع وملخّص، الأسباب الحقيقيّة لإعمال سيوف الخلفاء في أئمّة أهل البيت عليهم السلام على كلّ حال. هذا، ومع الأخذ بالاعتبار أنّ الأئمّة عليهم السلام قد اعتمدوا سياسة التعتيم على الإمام التالي عموماً، ولم يدعُ أحدهم الناس إلى إمامته بشكل علنيّ إجمالاً، ويبقى السبب الآخر الذي تحدّث عنه الإمام العسكريّ عليه السلام يقضّ مضاجع الظالمين، ألا وهو حقيقة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

إنّ أوّل من مهّد لقيام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فبات خروجه من الحتميّات المتواترات التي لا خلاف على أصلها. وهذا التمهيد النبويّ الواسع، قد بلغت نصوصه حدّ التواتر بمضمونها حول حتميّة ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 502.

[2] الحر العاملي، الشيخ محمد بن الحسن، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، الأعلمى، لبنان- بيروت، 1425هـ، ط1، ج5، ص 197.

 

367


326

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

وعدله وحكمه الإسلاميّ النموذجيّ. وقد سار على درب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام خلال قرنين، وعملوا على تأكيد هذا الأصل، وتأييده، وإقراره في النفوس، وجعله مَعلماً من معالم عقيدة المسلمين، فضلاً عن الموالين لأهل البيت عليهم السلام وأتباعهم. وقد زرع هذا المبدأ هاجساً لدى الظالمين، وإنذاراً دائماً بالفناء والقضاء عليهم، وعلى خطّهم المنحرف، فهو مصدر إشعاع لعامّة المسلمين، كما أنّه مصدر رعب للظالمين المتحكّمين في رقاب المسلمين.

 

من هنا، كان الظرف الذي يحيط بالإمام الهادي عليه السلام والإمام الحسن العسكريّ عليه السلام ظرفاً انتقاليّاً من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة التي يُراد لها أن تدبّر الأمر ومن وراء الستار، ويُراد للأمّة أن تنفتح على هذا الإمام المنتظر، وتعتقد به، وتتفاعل معه على الرغم من حراجة الظروف.

 

فهو الظرف الوحيد لإعداد الأمّة لاستقبال الظرف الجديد، وتلك كانت أهمّ مهامّ الإمام العسكريّ عليه السلام، بأن يؤمّن ولادة سليمة للإمام المخلّص، ويثبّت إمامته، ويؤهّل الشيعة للإمامة الجديدة الغائبة عن الأبصار إلى أجل مسمّى، فالإمام الهاديعليه السلام والإمام العسكريّ عليه السلام كانا لا بدّ من أن يوجدا همزة الوصل الحقيقيّة بين ما حقّقه الأئمّة الطاهرون من آبائهما الكرام وما ينبغي تحقيقه بواسطة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. وبناءً على هذا الهدف الأسمى، رسم الإمام العسكريّ عليه السلام تحرّكاته في فترة إمامته التي دامت نحو ستّ سنوات.

 

ويمكن لنا الحديث عن نوعين من المهامّ بالنسبة إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، مهامَّ عامّةٍ طالت العالم الإسلاميّ عموماً، ومهامَّ أخرى كانت تستهدف البيئة الخاصّة بشكل مركّز وكبير. وسنشير إلى المهامّ العامّة التي قام بها الإمام عليه السلام، ثمّ نتعرّض بشيء من التفصيل لمهامّ التمهيد الخاصّة.

 

368


327

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

المفاهيم الأساسيّة

- هو الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام، الإمام الحادي عشر، أمّه أمّ ولد، وكانت من العارفات الصالحات.

 

- عُرف الإمام العسكريّ عليه السلام في عصره بكثرة عبادته، وقد كانت عبادته سبباً في انقلاب سجّانيه النواصب وتحوّلهم إلى عبّاد، كما وقد ظهر على يديه المباركتين العديد من الكرامات.

 

- كان للإمام العسكريّ عليه السلام علاقة مميّزة جدّاً مع شيعته، فلا يحتاج الشيعيّ إلى أن يطلب حتّى يحصل على حاجته، مهما كانت، بل إنّ عطف الإمام عليه السلام ورأفته كانتا تدفعانه للمبادرة إلى إصلاح شؤون أصحابه على مختلف الصعد، العلميّة والمادّيّة والتربويّة دونما حاجة إلى الكلام والطلب.

 

- كانت الدولة العبّاسيّة قد بدأت بالانحدار والضعف والتهاون، لكنّ الإجراءات التعسّفيّة بقيت قائمة في حقّ الإمام العسكريّ عليه السلام، ففرضت عليه الإقامة الجبريّة في سامرّاء.

 

- قاسى الشيعة والإمام العسكريّ عليه السلام في عهد المهتدي الكثير من الظلم والتعسّف، فسجن الإمام عليه السلام وحاول قتله، لكنّه لم يفلح، ومات قبل ذلك. أمّا في عصر المعتمد فقد كان وضع الدولة مضطرباً كثيراً، لكنّه حاول قتل الإمام العسكريّ عليه السلام غير مرّة، فسمح برميه إلى السباع، فما كان منها إلّا أن كانت طيّعة بين يديه، ولمّا استنفد المعتمد حِيَلَه اغتاله بالسمّ.

 

- يبيّن الإمام العسكريّ عليه السلام أنّ سبب إعمال الأمويّين والعبّاسيّين السيف بآل البيت عليهم السلام حتّى مع عدم قيامهم بثورات مسلّحة، هو علمهم بأنّهم غاصبون لحقّهم في الخلافة وأنّهم يعلمون يقيناً بخروج القائم من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي سينهي ظلمهم.

 

- كانت أهمّ مهامّ الإمام العسكريّ عليه السلام، هي أن يؤمّن ولادةً سليمة للإمام المخلّص، ويُثبت إمامته، ويؤهّل الشيعة للإمامة الجديدة الغائبة عن الأبصار.

 

369


328

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

الدرس الرابع والعشرون

الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى قصّة زواج الإمام العسكريّ عليه السلام والسيّدة مليكة.

 

- يتبيّن مهامّ الإمام العسكريّ عليه السلام وكيفيّة تمهيده للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

- يستنتج الدروس التربــويّة من حيـــاة الإمــــام العسكريّ عليه السلام.

 

371


329

الدرس الثالث والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -1-

زواج الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام

قبل الغوص في الحديث عن دور الإمام العسكريّ عليه السلام وما قام به خلال فترة إمامته، لا بدّ لنا من الوقوف عند مسألة زواج الإمام عليه السلام، والتي تُعدّ من أهمّ القضايا التي تمّ التحضير لها منذ أيّام الإمام الهادي عليه السلام، لأنّ ذلك الزواج مقدّمة لولادة الإمام الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، لذا سنتحدّث عنه مفرداً.

 

فقد جاء في رواية عن بشر بن سليمان النخّاس - وهو من ولد أبي أيّوب الأنصاريّ - أحد موالي أبي الحسن الهادي وأبي محمّد العسكريّ عليهما السلام أنّه قال: "أتاني كافور الخادم - خادم الإمام الهادي عليه السلام - فقال: مولانا أبو الحسن عليّ الهادي عليه السلام يدعوك إليه، فأتيته، فلمّا جلست بين يديه قال لي: يا بشر، إنّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بها، بسرّ أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أَمَة.

 

فكتب كتاباً لطيفاً بخطّ روميّ ولغة روميّة، وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقيقة صفراء فيها مئتان وعشرون ديناراً... ثمّ بيّن الإمام عليه السلام صفات الجارية، وكيف تمتنع عن كلّ من يريد شراءها، فأوعز إلى رسوله أن يقترب إليها ليعطيها الكتاب الذي خطّه الإمام الهادي عليه السلام.

 

قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حدّه لي مولاي أبو الحسن عليه السلام في أمر الجارية (فلما نَظَرَتْ) في الكتاب، بكتْ بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد - مالكها - بِعني لصاحب هذا الكتاب... وتسلّمتُ الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفتُ بها إلى

 

 

373


330

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولانا عليه السلام من جيبها وهي تلثمه، وتطبقه على جفنها، وتضعه على خدّها، وتمسحه على بدنها.

 

وقد أخبرتْ بشراً قصّتَها، وأنّ جدّها قيصر كان يريد تزويجها من ابن اخيه، فانقلب مجلس العرس رأساً على عقب مرّتين، فتوقّف الزواج لتشاؤم الأساقفة ممّا حدث.

 

وقصّت عليه ما رأت في منامها في تلك اللّيلة من تقدّم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لخطبتها من النبيّ عيسىعليه السلام وإتمام الأمر، ثمّ روت كيف أنّها أسلمت على يد سيّدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام، فقالت: فأُريتُ بعد أربع عشرة ليلة كأنّ سيّدة نساء العالمين فاطمة  عليها السلام قد زارتني ومعها مريم ابنة عمران وألف من وصائف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيّدة نساء العالمين أمّ زوجك أبي محمّدعليه السلام، فأتعلّق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّدعليه السلام من زيارتي، فقالت سيّدة النساء عليها السلام إنّ ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة باللَّه على مذهب النّصارى، وهذه أُختي مريم بنت عمران تبرأ إلى اللَّه تعالى من دينك، فإن مِلْت إلى رضاء اللَّه ورضاء المسيح ومريم عليهما السلام وزيارة أبي محمّد إيّاك فقولي: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّ أبي محمّداً، رسول اللَّه، فلمّا تكلّمت بهذه الكلمة، ضمَّتني إلى صدرها سيّدة نساء العالمين، وطَيَّبَتْ نفسي، وقالت: الآن، توقَّعي زيارة أبي محمّد، فإنّي منفذته إليك، فانتبهت وأنا أقول وأتوقّع لقاء أبي محمّدعليه السلام. ثمّ رأت الإمام العسكريّ عليه السلام في اللّيلة التالية وقال لها: وأنا زائرك في كلّ ليلة إلى أن يجمع اللَّه تعالى شملنا في العيان، فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.

 

وكانت مليكة قد وقعت بالأسر بأمرٍ وإيعازٍ من الإمام العسكريّ عليه السلام، وذلك ليتمّ أمر اللَّه وإرادته، حيث جاءها وأعلمها بأنّ جدّها سيسيّر جيشاً لقتال المسلمين واتّباعهم، ثمّ أمرها بأن تتنكّر بزيّ الخدم ومعها وصائف عدّة، وأن تلحق بهم، ثمّ وقعت في قبضة المسلمين وأُخذت أسيرة.

 

وبعد أن وصلت سامرّاء، ودخلت على الإمام الهادي عليه السلام، قال: "يا كافور، ادعُ أختي حكيمة، فلمّا دخلتْ قال لها: هاهيه. فاعتنقتها طويلاً، وسرّت بها كثيراً، فقال لها

 

374


331

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

أبو الحسن عليه السلام: يا بنت رسول اللَّه خذيها إلى منزلك، وعلّميها الفرائض والسنن، فإنّها زوجة أبي محمّد وأمّ القائم"[1].

 

وفي رواية أخرى، يبرز دور السيّدة حكيمة عليها السلام في زواج الإمام العسكريّ عليه السلام، حيث قال لها الإمام الهاديعليه السلام: يا حكيمة، ابعثي نرجس إلى ابني أبي محمّد. قالت: فقلت: يا سيّدي، على هذا قصدتك، على أن أستأذنك في ذلك. فقال لي: يا مباركة، إنّ اللَّه - تبارك وتعالى - أحبّ أن يشركك في الأجر، ويجعل لك في الخير نصيباً. قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزيّنتها ووهبتها لأبي محمّد عليه السلام، وجمعت بينه وبينها في منزلي، فأقام عندي أيّاماً ثمّ مضى إلى والدهعليه السلام، ووجّهت بها معه[2]. كما كان لها دور مهمّ في ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما سيأتي.

 

مهامّ الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام على الصعيد العامّ

توسّلت السلطة أساليب مختلفة في تعاملها مع الإمام العسكريّ عليه السلام، لكنّ الطابع الأغلب هو القهر والجبر والتضييق والمحاصرة متمثّلة بالسجن والإقامة الجبريّة والمراقبة الشديدة، وذلك حتّى عندما كان يتظاهر بعض الحكّام بتكريم الإمام عليه السلام وتقريبه من البلاط.

 

لذا كان لا بدّ للإمام عليه السلام من أن يتعامل بحذر ودقّة مع السلطة إزاء هذه الإجراءات القاسية، كيلا تصل السلطة إلى مبتغاها الحقيقيّ وهو الكشف عن الإمام الموعود والفتك به وقطع صلة الإمام بشيعته، لذا نرى الإمام العسكريّ عليه السلام قد اعتمد مثلاً سياسة الاحتجاب، وصار كلامه يخرج على شكل مكاتيب كما تُظهر الروايات التي سردنا قسماً منها في هذين الدرسين، فكان ذلك يقلّل من تحرّكات الإمام عليه السلام بما يطمئن السلطة إلى تقويض نشاطه.


 


[1] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الغيبة، تحقيق الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران - قم، 1411هـ، ط1، ص 208 - 214.

[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 426.

 

375


332

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

كما أنّ شيئاً لم يمنع الإمام العسكريّ عليه السلام من نشاطه العلميّ حيث تقتضي الحاجة، فقد تصدّى عليه السلام بشكلٍ هادئٍ وحكيم لأكبر محاولة تشويه للدين في عصره، والذي كان الكنديّ - أحد فلاسفة المسلمين - قد أعدّ لها، حيث جمع الكنديّ جملة من الآيات المتشابهة التي يبدو للناظر فيها أنّها تنطوي على نوع من التناقض، وكان ينوي نشرها، وهذه المحاولة كانت تستهدف القرآن الكريم سند الرسالة والنبوّة، ورمز الكيان الإسلاميّ الأوّل. وحيث كان الإمام عليه السلام مواكباً للنشاط العلميّ في الأمّة، أجهض تلك المحاولة وهي في مهدها بإيعاز منه لأحد تلاميذ الكنديّ بتفنيد مدّعيات الأخير علميّاً، فاقتنع الكنديّ ثمّ دعا بالنار وأحرق ما كان قد ألّفه[1]. هذا، مضافاً إلى تصدّي الإمام العسكريّ عليه السلام وردّه على الأفكار المنحرفة التي شاعت، كأفكار الثنويّة[2] وغيرها، وتبيانه للحقّ، ونشر العلم لدى أهله.

 

مهامّ الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام على الصعيد الشيعيّ الخاصّ

الجماعة الصالحة هي المحور الأهمّ الذي كان يشغل بال أهل البيت عليهم السلام واهتمامهم، لأنّها الأداة الوحيدة الصالحة لتحقيق الأهداف الرساليّة الكبرى، وهي الوسط الحقيقيّ الذي يفهم ثقافة أهل البيت عليهم السلام ورسالتهم، ويستطيع التعاطي الإيجابيّ معهم، وينقاد إلى أوامرهم وتوجيهاتهم الرساليّة.

 

من هنا، نجد أنّ الإمام العسكريّ عليه السلام يكثّف جهوده لفترة الانتقال من عصر الحضور إلى عصر الغيبة، لخطورة المرحلة من شتّى النواحي، ولقصر الفترة الزمنية التي يعيشها الإمام عليه السلام، وسرعة التقلّبات السياسيّة على مستوى الحكّام والخلفاء، وذلك كلّه في ظلّ سوء معاملة الحكّام والتضييق، والرقابة على أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، سعياً منهم للحدّ من نشاطهم، والبحث عن مهديّهم الموعود للتخلّص منه عليه السلام.

 

وقد عمل الإمام العسكريّ عليه السلام على استدراك الأزمات التي سيقع الشيعة فيها - لا

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص 424.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 511.

 

376


333

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

محالة - بسبب الغيبة، على المستويات كافّة. من هنا، عمل الإمام العسكريّ عليه السلام على إعداد الشيعة ونُخَبهم قدر المستطاع للوقوف في خطّ التشيّع أمام العواصف كلّها التي ستعترضه.

 

وعليه، فإنّنا سنتعرّض في هذا المختصر إلى أهمّ الخطوات التي قام بها الإمام العسكريّ عليه السلام، والتي مهّد من خلالها لغيبة ولده المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأعدّ الشيعة لذلك، حيث قام بما يلي[1]:

1- التمهيد لقضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

2- إعداد الجماعة الصالحة لعصر الغيبة.

3- التحصين الأمنيّ.

 

أوّلاً: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام والتمهيد لقضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف:

انصبّت جهود الإمام العسكريّ عليه السلام على إخفاء ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال الذين زرعتهم السلطة في محيط الإمام العسكريّ عليه السلام، إلى جانب إتمام الحجّة به على شيعته ومحبّيه وأوليائه.

 

ففي مجال كتمان أمر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن عيون أعدائه، نلاحظ مدى تحفّظ الإمامين الهادي والعسكريّ وتكتّمهما حول قضيّة زواج الإمام العسكريّ عليه السلام وطريقة حمل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وولادته، وهو أمر سنتعرّض له في درس الإمام المهديّ، حيث تولّى الإمام الهادي عليه السلام تزويج ابنه سيّدة الإماء، فلم يكن لزواجه أيّ مراسم أو احتفالات، بل كلّ ما تحقّق قد تحقّق بعيداً عن أعين كثير من المقرّبين. وقد خفيت الولادة حتّى على أقرب المقرّبين من الإمام، حيث إنّ عمّة الإمام عليه السلام السيّدة حكيمة لم تتعرّف على حمل أُمّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف فضلاً عن غيرها، إلّا عندما أطلعها الإمام العسكريّ عليه السلام على ذلك وقت الولادة. هذا، مضافاً إلى عدم ظهور أيّ أثر للحمل على السيّدة نرجس إلّا حين الولادة.

 

ومن هنا، كانت الولادة في ظروف سرّيّة جدّاً وبعد منتصف اللّيل، وعند

 


[1] راجع: السيد الحكيم، أعلام الهداية (الإمام العسكري عليه السلام)، مصدر سابق، ج13، ص21.

 

377


334

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

طلوع الفجر. وقد خطّط الإمام العسكريّ عليه السلام ليبقى الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بعيداً عن الأنظار، كما وُلد خفية، ولم يطّلع عليه إلّا الخواصّ أو أخصّ الخواصّ من شيعته، حيث كان يعرّفهم عليه خفيةً.

 

وأمّا كيفيّة إتمام الحجّة في هذه الظروف الاستثنائيّة على شيعته، فقد تحقّقت ضمن خطوات ومراحل دقيقة:

- الخطوة الأولى: النصوص التي جاءت عن الإمام العسكريّ عليه السلام قبل ولادة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تبشيراً بولادته. فمنها ما ركّز على أنّه ابن العسكريّ عليه السلام، وأنّ الناس سوف لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه، وأنّه الذي يقول الناس عنه إنّه لم يولد بعد، ومنها ما بيّن أنّه الذي يغيب عن الناس وستختلف شيعته إلى أن يقوم، وأنّه الذي سيكون إماماً وهو ابن خمس سنين...[1]. ففي حديث أنّه سُئل الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام عن الإمام والحجّة من بعده فقال: "إنّ الإمام وحجّة اللَّه من بعدي ابني، سميُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وكنيّه، الذي هو خاتم حجج اللَّه وآخر خلفائه... إلّا أنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثمّ يظهر"[2].

 

- الخطوة الثانية: الإشهاد على الولادة: لقد قام الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام بالإشهاد على ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فشهدت السيّدة العلويّة الطاهرة حكيمة أخت الإمام الهاديعليه السلام وعمّة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام ذلك الحدث العظيم، فقد تولّت أمر نرجس في ساعة الولادة[3]، وصرّحت بمشاهدة الإمام المهديّ بعد مولده[4]، وساعدتها بعض النسوة، مثل جارية أبي عليّ الخيزرانيّ، التي أهداها إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، ومارية، ونسيم خادمة الإمام العسكريّ[5].

 


[1] الكوراني، الشيخ علي العاملي، معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران - قم، 1411ه، ط1، ج4، ص 219 (أحاديث الإمام العسكريّ عليه السلام).

[2] الحر العاملي، إثبات الهداة، مصدر سابق، ج2، ص 234.

 [3]الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 424.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 331.

[5] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 430 - 431.

 

378


335

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

- الخطوة الثالثة: الإخبار بالولادة ومداولة الخبر بين الشيعة بشكل خاصّ من دون رؤية الإمام عليه السلام: فقد نشر الإمام عليه السلام هذا الخبر بين شيعته بكلّ تحفّظ، فوردت الأحاديث بالصراحة حيناً، والتلميح حيناً آخر[1]، بحسب الحال. ومن الأحاديث التي صرّح فيها الإمام العسكريّ عليه السلام بولادة ابنه عليه السلام، ما أمر به بعض وكلائه بأن يعقّوا عن ولده المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويطعموا شيعته، فقال: "عقّ هذين الكبشين عن مولاك، وكل. هنّأك اللَّه - وأطعم إخوانك..."[2].

 

- الخطوة الرابعة: الإشهاد الخاصّ والعامّ بعد الولادة ورؤية شخص المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: فعن معاوية بن حكيم وغيره أنّهم قالوا: "عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام، ونحن في منزله، وكنّا أربعين رجلاً، فسُئل عن الحجّة من بعده، فخرج عليهم غلام أشبه الناس به، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا، قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلّا أيّام قلائل حتّى مضى أبو محمّد عليه السلام"[3].

 

- الخطوة الخامسة: وهي إجابات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن أسئلة شيعته في حياة أبيه، حيث تكشف عن قابليّاته الرّبانيّة التي يختصّ بها أولياء اللَّه، وهذا خير دليل على إمامته وأنّه حجّة اللَّه الموعود والمنتظر. منها ما نُقل من أنّ سعد بن عبد اللَّه القمّيّ العالم الإماميّ تحيّر في أجوبة مسائل عويصة قد ألقيت عليه حتّى لحق بأحمد بن إسحاق، وذهبا معاً إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، ودخلا عليه وابنه محمّد المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بين يديه، وأمره بإخبار أحمد بن إسحاق بهدايا شيعته التي جاء بها، ثمّ أُخبر سعد بن عبد اللَّه بما كان قد جاء له من المسائل العويصة التي أشكلت عليه[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 407.

[2] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج21، ص 448.

[3] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 26.

[4] المصدر نفسه، ص 461 - 462.

 

379


336

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

- الخطوة السادسة: وهي تخطيط الإمام العسكريّ عليه السلام لتسهيل الارتباط بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته الصغرى، من خلال اعتماده وكلاء قد وثّقهم لدى شيعته، فأصبحوا حلقة وصل مأمونة، حيث كان عثمان بن سعيد العمري وكيلاً للإمام العسكريّ عليه السلام وكانت منزلته معروفة لدى الشيعة، ومن ثمّ كان أوّل نائبٍ في غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وابنه محمّد هو النائب الثاني.

 

- الخطوة السابعة: البيانات والأحاديث التي أفصحت للشيعة عمّا سيجري عليهم وعلى إمامهم الغائب في المستقبل، وما ينبغي لهم أن يقوموا به من الصبر والانتظار للفرج، والثبات على الإيمان، والدعاء للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لتعجيل فرجه الشريف.

 

وتكفي هذه الخطوات السبعة للتمهيد اللّازم، لتصبح قضيّة الإمام المهديّ  عجل الله تعالى فرجه الشريف قضيّة واقعيّة تعيشها الجماعة الصالحة بوجودها كلّه على الرغم من الظروف الحرجة التي كانت تكتنف الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

ثانياً: إعداد الجماعة الصالحة لعصر الغيبة:

عمل الإمام العسكريّ عليه السلام على إعداد الشيعة لغيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وعدم قدرتهم على التواصل المباشر معه، وحاول استدراك التبعات النفسيّة والعاطفيّة لهذه المسألة. فهذه الغيبة تتضمّن انفصال تلك الجماعة عن الإمام بحسب الظاهر، وإحساسها بالضياع، والحرمان من أهمّ عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفرديّة والاجتماعيّة، فقد كان الإمام حصناً منيعاً يذود عن أصحابه، ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكريّة والروحيّة والماديّة في كثير من الأحيان. وهي تشكّل صدمة نفسيّة وإيمانيّة وبلاءً عظيماً، فمع كون الإيمان بالغيب يشكّل عنصراً من عناصر الإيمان المصطلح، إلّا أنّ المؤمنين قد اعتادوا وجود حجّة اللَّه بين ظهرانيهم، ويشعرون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقى هذا الإيمان بالإمام حيّاً وفاعلاً وقويّاً، بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم البتّة. وقد مارس الإمام العسكريّ عليه السلام تبعاً للإمام الهاديّ عليه السلام نوعين من الإعداد لتذليل هذه العقبة، ولكن بجهد مضاعف، وفي وقت قصير جدّاً، الأوّل،

 

380


337

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

الإعداد الفكريّ والذهنيّ والذي عمل عليه الأئمّة عليهم السلام تباعاً على مرّ السنين. وقد بيّنّا كيف تعامل الإمام العسكريّ عليه السلام بالخصوص مع هذه القضيّة. والثاني، الإعداد النفسيّ والروحيّ من خلال تطبيق الأئمّة عليهم السلام لسياسة الاحتجاب وإرجاع الشيعة إلى الوكلاء، بغية تقليل الارتباط المباشر مع المعصوم عليه السلام، ليألفوا قضيّة الغيبة.

 

فقد كان الأئمّة عليهم السلام يختارون من بين أصحابهم وثقاتهم من أَوكلوا إليه جملة من المهامّ التي لها علاقة بالإمام عليه السلام، مثل قبض الأموال وتلقي الأسئلة والاستفتاءات، وتوزيع الأموال على مستحقّيها بأمر الإمام عليه السلام. ومضافاً إلى مهمّة الإرشاد وبيان الأحكام، كان الوكيل يقوم بتخفيف العبء عن الإمام وشيعته في ظروف تشديد الرقابة على الإمام عليه السلام من قبل السلطة، كما كان يتولّى مهمّة بيان مواقف الإمام السياسيّة حين لا يكون من المصلحة أن يتولّى الإمام بنفسه بيان مواقفه بشكل صريح ومباشر، وكان الشيعة قد اعتادوا على ذلك على مرّ السنوات، وأثبت هذا النظام جدارته. وقد توسّعت رقعة الوكلاء بشكل كبير في عصر الإمام العسكريّ عليه السلام.

 

ثالثاً: الإمام العسكريّ عليه السلام والتحصين الأمنيّ:

انتهج الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام نهج آبائه للمحافظة على شيعته وأتباعه، وقد شدّد عليه السلام دعوته إلى الكتمان، وعدم الإذاعة، والحذر في التعامل مع الآخرين، والتشدّد في نقل الأخبار والوصايا، عنه ونقل أوامره إلى أصحابه، ونقل أخبارهم إليه، فكان عليه السلام يقول لبعض أصحابه: "إنّما هو الكتمان أو القتل، فاتّقِ اللَّه على نفسك"[1]، حتّى إنّه عليه السلام كان يوصي أصحابه بألّا يسلّموا عليه خوفاً منه عليهم، فخرج توقيعه: "لا يسلّمنّ عليَّ أحد، ولا يشير إليّ بيده، ولا يومئ، فإنّكم لا تأمنون على أنفسكم"[2]، فأيّ وضعٍ ذاك الذي يستدعي من حجّة اللَّه وخليفته في أرضه أن يتنكّر أصحابه له أمام عامّة الناس، فلا يسلّمون عليه للحفاظ على حياتهم!

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 423.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 269.

 

381


338

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

ومع ما مرّ كلّه، فقد اضطُرّ الإمام العسكريّ عليه السلام إلى اعتماد أساليب خفيّة في إيصال رسائله إلى وكلائه وأمنائه، ففي رواية عن داود بن الأسود قال: "دعاني سيّدي أبو محمّدعليه السلام، فدفع لي خشبة، كأنّها رجل باب مدوّرة.. وقال: "صر بهذه الخشبة إلى العَمْري"، فمضيت إلى بعض الطريق فعرض لي سقّاء معه بغل، فزاحمني البغل على الطريق... فضربت البغل فانشقّت – الخشبة -، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كُتب، فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمّي فجعل السقّاء يناديني ويشتمني، ويشتم صاحبي، فلمّا رجع جاءه كلام من الإمام العسكريّ عليه السلام: "إيّاك أن تجاوب من يشتمنا، أو تعرّفه من أنت، فإنّنا في بلد سوء، ومصر سوء وامضِ في طريقك، فإنّ أخبارك وأحوالك ترد إلينا، فاعلم ذلك"[1].

 

وتفيد هذه النصوص وغيرها أنّ الظروف الصعبة والقاهرة التي عاشها الإمام عليه السلام وأصحابه هي التي ألجأته إلى اتّخاذ السرّيّة والكتمان الشديد في تعامله مع قواعده الشعبيّة، وبالتالي، فهي الطريق الأصوب إلى تربية شيعته ومواليه وتهيئة قواعده لعصر الغيبة الصغرى، والتي سوف يتمّ اتّصال الشيعة خلالها بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن طريق وكيل له، حيث لا يتيسّر الاتّصال المباشر به، ولا يكون الالتقاء به ممكناً وعمليّاً، وذلك لما كانت السلطة العبّاسيّة قد فرضته من رقابة شديدة على الشيعة لمعرفة محلّ اختفاء الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

شهادة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام

أدّى الإمام العسكريّ عليه السلام رسالته ومسؤوليّاته تجاه ربّه ودينه، وكان سبب وفاته في ريعان الشباب في عمر الثامنة والعشرين، أنّ المعتمد العبّاسيّ قد دسّ له السمّ واغتاله بعد أن استنفد الطرق كلّها في تطويقه وتقويض حركته، والإمام عليه السلام لا يزداد إلّا إشعاعاً ونوراً وتأثيراً، فأجمع رأيه على الفتك به[2].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج50، ص 283.

[2] ابن حجر، الصواعق المحرقة، مصدر سابق، ص 314.

 

382


339

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

والتحق الإمام عليه السلام بالرفيق الأعلى بعد أن اعتلّ جراء السمّ، فاستُشهد في الثامن من ربيع الأول سنة 260ه، ولم يخلّف غير ولده أبي القاسم محمّد (الحجّة)، وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وقد آتاه اللَّه الحكمة وفصل الخطاب[1].

 

هذا، وقد كانت الحراسة والرقابة من قبل السلطة شديدة جدّاً مع اقتراب رحيل الإمام العسكريّ عليه السلام ترصّداً لأخبار خليفته الموعود، حيث روي عن ابن خاقان، والذي كان أبوه من أبرز رجالات الدولة، أنّه قال: "لمّا اعتلّ (ابن الرضا)، بعث (جعفر بن عليّ الهاديّ عليه السلام) إلى أبي: أنّ ابن الرضا عليه السلام قد اعتلّ فركب أبي من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم الخليفة كلّهم من ثقاته ورجال دولته وفيهم نحرير، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليّ وتعرّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبّبين، وأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده في الصباح والمساء، فلمّا كان بعدها بيومين، جاءه من أخبره أنّه قد ضعف، فركب حتّى بكّر إليه، ثمّ أمر المتطبّبين بلزومه، وبعث إلى قاضي القضاة، فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممّن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم وبعث بهم إلى دار الحسن عليه السلام، وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتّى تُوفّي"[2].

 

وقد استكملت السلطة إجراءاتها بمراقبة بيت الإمام العسكريّ عليه السلام لاقتفاء أثر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وقتله، وهذا ما سيتبيّن معنا في درس الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وكيفيّة غيبته الصغرى.

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 339.

[2] راجع: الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 505.

 

383


340

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

علّمني إمامي

- أن أرتقي بعلاقتي مع إمامي فيكون أقرب البشر إليّ.

 

- أن أعلم أنّ إمامي يعلم ما في ضميري وما في نفسي.

 

- أن تكون عبادتي للَّه خير داعٍ للناس إلى ربّي.

 

- أن أسعى لتكون علاقتي بإمامي في غيابه كما في حضوره، فيكون حاضراً في حياتي على الدوام.

 

- أنّ الإعداد لقضية ما، ينبغي أن يكون على الصعد والمستويات كافّة، وأن يكون عملي منظّماً ودقيقاً مدروس التّبعات.

 

384

 


341

الدرس الرابع والعشرون: الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام -2-

المفاهيم الأساسيّة

- اعتنى الإمام الهادي عليه السلام بزواج الإمام العسكريّ عليه السلام بشكل كبير، فأرسل في إثر حفيدة القيصر المسبيّة من يشتريها، ثمّ جمعها بابنه أبي محمّد العسكريّ عليه السلام، وقد خفي أمر الزواج والحمل حتّى على أقرب المقرّبين.

 

- انصبّت جهود الإمام العسكريّ عليه السلام على إخفاء ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن أعدائه وعملائهم إلى جانب إتمام الحجّة به  عجل الله تعالى فرجه الشريف على شيعته ومحبّيه وأوليائه.

 

- أتمّ الإمام العسكريّ عليه السلام مهمّته على أكمل وجه، وأتمّ الحجّة على الناس فقام بما يلي:

1- كثرت النصوص التي جاءت عنهعليه السلام قبل ولادة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، تبشيراً بولادته، وإخباراً عن أحواله.

 

2- الإشهاد على الولادة بعض الذين يأمن جانبهم، كعمّته حكيمة وبعض جواريه.

 

3- الإخبار بالولادة ومداولة الخبر بين الشيعة بشكل خاصّ من دون رؤية الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

4- الإشهاد الخاصّ والعامّ بعد الولادة ورؤية شخص المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لبعض الشيعة.

 

5- إجابات الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن أسئلة شيعته في حياة أبيه.

 

6- تخطيط الإمام العسكريّ عليه السلام لتسهيل الارتباط بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته الصغرى من خلال اعتماده وكلاء قد وثّقهم لدى شيعته.

 

7- البيانات والأحاديث التي تحثّ على الصبر وانتظار الفرج والثبات على الإيمان والدعاء للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

- شدّد الإمام العسكريّ دعوته إلى الكتمان، وعدم الإذاعة، والحذر في التعامل مع الآخرين، والتشدّد في نقل الأخبار والوصايا عنه.

 

385


342

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

الدرس الخامس والعشرون

الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى مسألة المهدويّة عموماً.

 

- يعرف قصّة ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

- يتبيّن ظروف بداية إمـــامة الإمـــام المهـــديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف والغيبة الصغرى.

 

387

 


343

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

الاعتقاد بالمهدويّة

المهديّ، المُخلّص، المُنقذ... أسماء مختلفة تعبّر عن حقيقةٍ آمنت بها البشريّة عموماً على مدى العصور، شاء من شاء، وأبى من أبى، وليس ذلك إلّا لكون فكرة مظهر العدل ومحقّقه في كلّ أصقاع الأرض هي أمنيّةً عُجنت عليها طينة البشر، وامتزجت في أصل فطرتهم.

 

ليس ما مرّ كلاماً مبالغاً فيه البتّة، فناهيك عمّا سنستعرضه عن إيمان أصحاب الأديان وحتّى المادّيّين ومختلف الفرق الإسلاميّة بهذه الحقيقة، الأمر الذي يؤكّد فطريّتها، فإنّنا لو دقّقنا النظر لوجدنا أنّ داخل كلّ إنسان فطرة عشق الكمال والتَوق نحوه، فرديّاً واجتماعيّاً على حدٍّ سواء. ودولة العدل العالميّة ليست سوى التجسيد الواقعيّ الفعليّ للكمال المنشود منذ بدء الخليقة، فمن آمن بوجود حكمةٍ في هذا الكون لزم عليه الإيمان بالمهديّ المخلّص، فهو  عجل الله تعالى فرجه الشريف يعبّر عن حاجة فطريّة عامّة يشترك فيها بنو الانسان عموماً، وظهور المنقذ العالميّ وإقامة دولته العادلة في اليوم الموعود يُعبّر عن وصول المجتمع البشريّ إلى كماله المنشود.

 

يقول العلّامة الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره: "ليس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع دينيّ فحسب، بل هو عنوانٌ لطموح اتّجهت إليه البشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطريّ أدرك الناس من خلاله - على تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أنّ للإنسانيّة يوماً موعوداً على الأرض، تحقّق فيه رسالات السماء مغزاها الكبير وهدفها النهائيّ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل.

 

 

389


344

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

بل لم يقتصر هذا الشعور الغيبيّ، والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيّاً بالغيب، بل امتدّ إلى غيرهم -أيضاً- وانعكس حتّى على أشدّ الأيدلوجيّات والاتّجاهات رفضاً للغيب، كالمادّيّة الجدليّة التي فسّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود، تُصفّى فيه تلك التناقضات كلّها ويسودُ فيه الوئامُ والسلامُ. وهكذا نجد أنّ التجربة النفسيّة لهذا الشعور، والتي مارستها الإنسانيّة على مرّ الزمن، من أوسع التجارب النفسيّة وأكثرها عموماً بين بني الإنسان"[1].

 

كما أنّ الإيمان بحتميّة ظهور المصلح الدينيّ العالميّ، وإقامة الدولة الإلهيّة العادلة في الأرض كلّها، من نقاط الاشتراك البارزة بين جميع الأديان، والاختلاف فيما بينها إنّما هو في تحديد هُويّة هذا المصلح الدينيّ العالميّ الذي يحقّق جميع أهداف الأنبياء عليهم السلام. وهذه الحقيقة من الواضحات التي أقرَّ بها كلّ مَن درس عقيدة المصلح العالميّ، حتّى الذين أنكروا صحّتها أو شكّكوا فيها كبعض المستشرقين[2]، إلّا أنّهم اعترفوا بأنّها عقيدة عريقة للغاية في التاريخ، فضلاً عن الديانات الكبرى الثلاث: اليهوديّة والنصرانيّة والإسلاميّة.

 

إنّ الاعتقاد بأنّ لهذه الأمّة مهديّاً ليس مورداً للاختلاف بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ويرجعون هذه المسألة إلى أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التي ثبت صحّة صدورها عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والكثير من العلماء يذهب إلى تواتر هذه الأحاديث، وقد دوّن علماء السنّة أحاديث المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في مختلف العصور.

 

روى ابن ماجة بسنده عن علقمة عن عبد اللَّه قال: "بينما نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلمّا رآهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أغرورقت عيناه، وتغيّر لونه، قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه، فقال: إنّا أهل بيت اختار اللَّه لنا الآخرة على الدنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريداً وتطريداً، حتّى يأتي قوم من قبل

 


[1] الصدر، السيد محمد باقر، بحث حول المهديّ، دار التعارف، 1977م، ص 7 ـ 8 .

[2] المستشرق اجناس جولدتسيهر، الناشر: دار الكتب الحديثة، مصر، ط2، العقيدة والشريعة في الإسلام، الناشر،

ص 220-218 حيث وصفها بأنّها من الأساطير ذات الجذور غير الإسلاميّة، لكنّه قال أيضاً باتّفاق كلمة الأديان عليها.

 

390


345

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

المشرق معهم رايات سود فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون، فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتّى يدفعوها لرجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملؤوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج"[1]. وورد أيضاً عن أمّ سلمة (رض) عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "المهديّ من عترتي من ولد فاطمة"[2].

 

إلّا أنّ كلمة المذاهب الإسلاميّة اختلفت في تعيين شخص المهديّ ومن يكون، واختلفوا في ولادته بين من يقول إنّه وُلد ومن يقول إنّه سيولد في آخر الزمان.

 

ويبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله ميزة اعتقادنا نحن الشيعة بالمهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن غيرنا من المذاهب فيقول: "إنّ خصوصيّة اعتقادنا نحن الشيعة هي أنّنا قد بدّلنا هذه الحقيقة في مذهب التشيّع من حالة الأُمنيّة والأمر الذهنيّ المحض، إلى حالة واقعيّة موجودة. الحقيقة هي أنّ الشيعة عندما ينتظرون المهديّ الموعود، فإنّهم ينتظرون اليد المنجية تلك، ولا يغرقون في عالم العقليّات، بل يبحثون عن الواقعيّة وهي موجودة. وحجّة اللَّه حيٌّ بين الناس، وموجودٌ، ويعيش فيما بينهم، ويرى الناس وهو معهم، ويشعر بآلامهم وأسقامهم. وأصحاب السعادة والاستعداد يزورونه في بعض الأحيان بصورة خفيّة. إنّه موجودٌ، هو إنسانٌ واقعيّ مشخّص باسمٍ معيّن، له أبٌ وأمّ محدّدان وهو بين الناس ويعيش معهم. هذه هي خصوصيّة عقيدتنا نحن الشيعة"[3].

 

الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

هو محمّد بن الحسن العسكريّ بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد عليهم السلام، وهو الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وخاتم الأوصياء، وهو الخلف الحجّة الذي تتحقّق دولة العدل الإلهيّ على يديه المباركتين.

 


[1] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 424.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج36، ص 368.

[3] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 253 - 254.

 

391


346

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

ولد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ليلة النصف من شعبان، وقد كان يوم جمعة، سنة 255ه في مدينة سامرّاء، في دار أبيه الحسن العسكريّ عليه السلام، وآتاه اللَّه الحكمة وفصل الخطاب، وجعله آية للعالمين، وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبيّاً، وجعله إماماً كما جعل عيسى بن مريم في المهد نبيّاً[1]. وليلة مولده  عجل الله تعالى فرجه الشريف هي من اللّيالي المباركة التي يُستحبّ إحياؤها بالعبادة وصوم نهارها، طبقاً لروايات شريفة مرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام[2].

 

أمّه أمّ ولد، وهي حفيدة قيصر الروم، وتسمّى مليكة، ويقال لها: نرجس، وكان له  عجل الله تعالى فرجه الشريف من العمر عند وفاة أبيه وتسلّمه الإمامة خمس سنين[3]. من ألقابه: بقية اللَّه، الحجّة، الخلف الصالح، القائم، المهديّ، المنتظر. أمّا كنيته فهي أبو القاسم[4].

 

ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

مرّ معنا أنّ الإمام العسكريّ عليه السلام قد أحاط ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بالكثير من السرّيّة والتكتّم، حتّى خفي الأمر على أقرب المقرّبين، وهو ما يُستفاد من الروايات الواردة في شأن كيفيّة ولادته  عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث تذكر الروايات أنّ الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام قد طلب من عمّته السيّدة حكيمة بنت الإمام الجوادعليه السلام أن تبقى في داره ليلة الخامس عشر من شهر شعبان، وأخبرها بأنّه سيُولد فيها ابنه وحجّة اللَّه في أرضه، فسألته عن أمّه، فأخبرها أنّها نرجس، فذهبت إليها وفحصتها، فلم تجد فيها أثراً للحمل، فعادت إلى الإمام واخبرته بذلك، فابتسم عليه السلام، وبيّن لها أنّ مثلها مثل أمّ موسىعليه السلام التي لم يظهر حملها، ولم يعلم به أحد إلى وقت ولادتها، لأنّ فرعون كان يتعقّب أولاد بني إسرائيل خشية من ظهور موسى المبشّر به، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وهذا الأمر جرى مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أيضاً، لأنّ السلطات العبّاسيّة كانت ترصد ولادته وتترقّبها بغية قتله.

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 339. الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 329.

[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، ثواب الأعمال، تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، 1368 ش، ط2، ص 77.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص 339.

[4] الشيخ الطبرسي، تاج المواليد، مصدر سابق، ص 109.

 

392


347

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

وقد كان وقت الولادة قبيل الفجر، وواضح أنّ لهذا التوقيت أهمّيّة خاصّة في إخفاء الولادة، فقد جاء في خبر ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن السيّدة حكيمة عمّة الإمام العسكريّ عليه السلام أنّها قالت: "بعث إليّ أبو محمّدعليه السلام، فقال: يا عمّة، اجعلي إفطارك اللّيلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى سيُظهر في هذه اللّيلة الحجّة، وهو حجّته في أرضه. فقلت له: ومن أمّه؟ قال لي: نرجس. قلت له: واللَّه -جعلني اللَّه فداك - ما بها أثر؟ فقال: هو ما أقول لك...

 

قالت: فجئت، فلمّا سلّمت، قلت لها - لنرجس -: يا بنيّة، إنّ اللَّه تبارك وتعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة... فلمّا أن كان جوف اللّيل قمت إلى الصلاة، ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث، ثمّ جلست معقّبة، ثمّ اضطجعت، ثمّ انتبهت فزعة وهي راقدة، ثمّ قامت فصلّت... فقرأتُ "ألم السجدة" و"يس"، فبينما أنا كذلك إذ انتبهَتْ فزعةً فوثبتُ إليها فقلت: اسم اللَّه عليك، ثمّ قلت لها: تحسّين شيئاً؟ قالت: نعم، يا عمّة، فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.

 

قالت حكيمة: ثمّ أخذتني فترة، فانتبهت بحسّ سيّديعليه السلام فكشفت الثوب عنه، فإذا أنا بهعليه السلام ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده، فضممته إليّ، فإذا أنا به نظيف منظّف، فصاح بي أبو محمّدعليه السلام: هلمّي إليّ ابني يا عمّة... فجئت به، ثمّ قال الإمام العسكريّ عليه السلام: تكلّم يا بنيّ، فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ صلّى على أمير المؤمنين عليه السلام وعلى الأئمّة عليهم السلام"[1].

 

وهكذا تمّت الولادة المباركة لمولاي المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على الرغم من محاولات السلطة كلّها لمنع ذلك، وقد جرت فيه عليه السلامسنّة النبيّ موسىعليه السلام، حيث أخفى اللَّه ولادة النبيّ موسىعليه السلام لتعقّب فرعون ولادات بني إسرائيل فيقتّلهم خوفاً على ملكه منه، وكذا حصل مع الإمام المهديّ، وقهرت إرادة اللَّه - عزّ وجلّ - إرادات الجبابرة كلّها، فأخفى

 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 224 - 225.

 

393


348

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

حمل والدته، ولم يظهر عليها أثر إلّا وقت ولادته عليه السلام. وقد سُئل الإمام الصادقعليه السلام عن سنّة موسىعليه السلام الجارية في الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف فقال: "خفاء مولده، وغيبته عن قومه"[1].

 

وفي ذلك درسٌ عظيم لنا، فلك أن تتخيّل مدى القمع الذي يمكن أن تمارسه سلطة مقتدرة تملك ما تريد إزاء شخص لا حول له ولا قوّة في ظاهره لتمنعه من ممارسة حياته الاجتماعيّة بشكل طبيعيّ فتمنع عنه الذرّيّة. فمع المحاولات الحثيثة كلّها للسلطة، والترصّد الدائم، والإقامات الجبريّة للأئمّة عليهم السلام، ولا سيّما الإمام العسكريّ عليه السلام، إلّا أنّ إرادة اللَّه - عزّ وجلّ - كانت هي النافذة والقاهرة، وتمّت الولادة المباركة بسلام، بفضل جهود الإمام العسكريّ عليه السلام. فإذا تحرّك الإنسان تحت مظلّة الإرادة الإلهيّة وتحت رعايته، لا بدّ من أن يكون النصر حليفه، وعندها تكون إرادته هي الإرادة النافذة والقاهرة، لأنّها في طول إرادة اللَّه - عزّ وجلّ -، فمشيئة اللَّه لا بدّ من تحقّقها ولو بعد حين.

 

بدء إمامة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

1- صلاة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على أبيه عليه السلام:

تسلّم الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف مهامّ الإمامة وهو ابن خمس أو ستّ سنين، فهو أصغر الأئمّة سنّاً عند تولّيه مهامّ الإمامة، وقد أخبرت عن ذلك الأحاديث الشريفة سابقاً[2]، وقد كان الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف قد وضّأ أباه لصلاته الأخيرة لمّا اعتلّ جرّاء السمّ[3].

 

وكانت من أُولى المهمّات التي قام بها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بُعَيْد تسلّمه مهامّ الإمامة، هي الصلاة على أبيه الحسن العسكريّ عليه السلام في داره وقبل إخراج جسده الطاهر إلى


 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج1، ص 152.

[2] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 481.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج52، ص 17.

 

394


349

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

الصلاة التي خطّطتها السلطات العبّاسيّة[1]، وكان قيامه بهذه الصلاة يُعدّ أمراً مهمّاً في إثبات إمامته، على الرغم من المخاطر التي كانت تُتوقَّع بعد نقل خبر هذه الصلاة، حيث روي عمّن حضر الصلاة أنّه قال: "حضرتُ دار أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام بسُرّ مَن رأى يوم تُوفي وأُخرجت جنازته ووضعت، ونحن تسعة وثلاثون رجلاً قعود ننتظر، حتّى خرج علينا غلام عشاريّ حاف، عليه رداء قد تقنّع به، فلمّا أن خرج قمنا هيبة له من غير أن نعرفه، فتقدّم وقام الناس فاصطفّوا خلفه، فصلّى عليه ومشى، فدخل بيتاً غير الذي خرج منه"[2].

 

وفي رواية تفصّل الحدث أكثر، أنّ جعفراً أخا الإمام العسكريّ، قد أوهم الناس أنّه الإمام، وخرج يريد الصلاة على الإمام العسكريّ عليه السلام، فتقول الرواية: "فتقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه، فلمّا همّ بالتكبير، خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجذب برداء جعفر بن عليّ، وقال: تأخّر يا عمّ، فأنا أحقّ بالصلاة على أبي. فتأخّر جعفر وقد أربد وجهه واصفرّ، وتقدّم الصبيّ، فصلّى عليه، ودُفن إلى جانب قبر أبيهعليه السلام. فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف ذلك، فوجّه المعتمد بخدمه، فقبضوا على صقيل الجارية، فطالبوها بالصبيّ فأنكرته..."[3].

 

وقد كان هذا الظهور للإمام المهدي  عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الظهور الأوّل والأخير أمام الناس، وكان لتلك الصلاة أمام الناس من الأهمّيّة الكثير، فقد ثبّت الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ولادته ونسبه، وأنّه ابن الإمام العسكريّ عليه السلام، وأنّه الإمام الحقّ بعد أبيه، فبيَّنَ بفعله ذاك كذب وادّعاء عمّه جعفر الكذّاب منعاً لإضلال الناس، فسارع جعفر للوشاية بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لدى السلطة، التي سارعت إلى اقتحام منزله والبحث عنه.

 


[1] يظهر أنّ الصلاة الأولى كانت بحضور وجوه أصحاب الإمام وأرحامه، والصلاة الرسميّة كانت بحضور ممثّلي السلطة العبّاسيّة ووجوه المدينة وعامّة الناس، راجع تفصيلات ذلك في كتاب بحار الأنوار، ج50، ص 328.

[2] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الغيبة، تحقيق الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران - قم، 1411هـ، ط1، ص 258.

[3] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 476 - 477.

 

395


350

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

2- فلسفة الغيبة:

كثرت الأحاديث الحاكية عن أسباب الغيبة وعللَّها ومقتضياتها، ومن أنّها الحلّ الوحيد أو المقدّمة التي لا بدّ منها لتحقيق دولة العدل الإلهيّ، وحلم الأنبياء على هذه البسيطة، لذا، ولكي يكتمل البحث، ولتتّضح الصورة حول الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أكثر، سنعرّج على بعض الأحاديث التي وردت حول فلسفة الغيبة. وهذه الأحاديث تتحدّث عن الغيبة بشكل عامّ، ولا تخصّص الصغرى منها أو الكبرى، لكن من الواضح أنّ الغيبة الصغرى كانت مقدّمة لازمة للغيبة الكبرى، إذ إنّ الانقطاع التامّ للإمام عن شيعته لو تمّ في بداية الغيبة الصغرى لترك آثاراً سلبيّة على المجتمع الشيعيّ بشكل كبير، فكان الإجراء الإلهيّ الحكيم يقتضي أن تمرّ الغيبة بمرحلتين، إحداهما تمهّد للأخرى، وتؤسّس لتلك الغيبة الكبرى، وترسي قواعد العمل الشيعيّ على مرّ السنين، وهو ما سنتعرّض له في كلامنا حول دور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أثناء الغيبة. ومن الأحاديث التي بيّنت أسباب الغيبة:

أ- الانعتاق من بيعة طواغيت الزمان: فقد ورد في التوقيع الصادر عن الناحية المقدّسة لإسحاق بن يعقوب، بوساطة محمّد بن عثمان العمريّ: "وأمّا علّة ما وقع من الغيبة ... إنّه لم يكن لأحد من آبائي إلّا وقد وضعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي"[1].

 

ب ـ امتحان الناس وإيمانهم: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "وليبعثنّ اللَّه رجلاً من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا، وليَغيبنّ عنهم تمييزاً لأهل الضلالة، حتّى يقول الجاهل: ما للَّه في آل محمّد من حاجة"[2]. وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "يا بنيّ، إنّه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنّما هي محنة من اللَّه. عزّ وجلّ - امتحن بها خلقه"[3].

 


[1] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 471.

[2] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج51، ص 112.

[3] الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، ص 204.

 

396


351

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

ت- ظلم الناس: ورد في بعض الروايات أنّ الغيبة كانت نتيجة ظلم الناس، فروي عن الإمام عليّ عليه السلام: "واعلموا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة للَّه. عزّ وجلّ -، ولكنّ اللَّه سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم"[1].

 

3- زمن الغيبة الصغرى:

كان زمن الغيبة الصغرى محدوداً، بخلاف الغيبة الكبرى الذي لا يعلمه أحد سوى اللَّه تعالى. وكان للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف نوّاب خاصّون معيّنون بالاسم، ولم يكن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف متوارياً عن الأنظار بصورة عامّة في عصر الغيبة الصغرى، حيث كان يتّصل بالشيعة عبر نوّابه ويتبادلون الرسائل.

 

عيّن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر الغيبة الصغرى أربعة نوّاب للشيعة، كانوا على جانب كبير من التقوى والورع، وهم:

أ- أبو عمرو، عثمان بن سعيد العمريّ (استمرّت نيابته إلى سنة 265هـ).

 

ب- أبو جعفر، محمّد بن عثمان بن سعيد العمريّ (توفّي سنة 305هـ، فاستمرّت نيابته قرابة 40 سنة).

 

ج- أبو القاسم، الحسين بن روح النوبختيّ (استمرّت نيابته إلى عام 326هـ، أي مدّة 21 سنة).

 

د- أبو الحسن، عليّ بن محمّد السمريّ (من عام 326هـ إلى عام 329هـ).

 

وقبل وفاة السمريّ بستّة أيّام صدر آخر توقيع عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أعلن فيه انقطاع السفارة بوفاة السمريّ، وانتهاء أمد الغيبة الصغرى، وبدء عصر الغيبة الكبرى.

 

هذا، وقد تحلّى هؤلاء النوّاب بمواصفات عالية على مختلف الصعد فرضتها حراجة الظروف، فهم مضافاً إلى الإيمان والتقوى والدراية، كانت لهم مميّزات أهلّتهم ليكونوا محلّ ثقة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأهلاً للنيابة، ومن تلك المواصفات:

أ- حذرٌ كبير وتقيّة شديدة: وذلك بسبب الظروف المحيطة بهم وتعقيداتها، فكان

 


[1] النعماني، محمد بن إبراهيم، الغيبة، النعماني، نشر الصدوق، طهران، ط1، 1397هـ، ص 141.

 

397


352

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ينتخب نوّابه من الأشخاص الّذين لا يشعر الجهاز العبّاسيّ تجاههم بخطر، وهم قادرون على التزام التقيّة بنسبة عالية. فمثلاً: كان أبو عمرو عثمان بن سعيد العمريّ. الملقّب بالزيّات أو السمّان - يدير أمور الوكالة تحت غطاء بيع السمن، وكان السفير الثاني "أبو جعفر محمّد بن عثمان" كأبيه بائعاً للسمن والزيت، وكان السفير الثالث من آل نوبخت الّذين يتمتّعون بنفوذ في البلاط، حتّى إنّ الحسين بن روح قد ظهر على نحو بدا فيه أنّ علماء المذاهب الأخرى كانوا ينسبونه إليهم. وقد بلغت به الحال في رعاية التقيّة أنّ بوّاباً له كان قد لعن معاوية وشتمه، فأمر بطرده وصرفه عن خدمته[1]، وفي بعض المجالس كان يُثني على الخلفاء الراشدين[2].

 

ب ـ الصبر والمقاومة: كان مطلوباً من سفير الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف أن يكون ذا صبر ومقاومة شديدين، نظراً إلى الضغوط التي يمكن أن يتعرّض لها للإفصاح عن مكان الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. وقيل لأبي سهل النوبختيّ: "كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجّة على مكانه، لعلّي كنت أدلّ على مكانه، وأبو القاسم فلو كان الحجّة تحت ذيله، وقُرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه"[3].

 

4- كيفيّة اتّصال النوّاب الأربعة بالشيعة:

كان ثمّة وكلاء آخرون للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى جانب النوّاب الأربعة في نقاط مختلفة من العالم الإسلاميّ، وكانت وظائفهم تشبه وظائف وكلاء الأئمّة عليهم السلام، إلّا أنّهم كانوا يرجعون إلى النوّاب الأربعة لتعيين حدودها، والسفير أو النائب يرجع إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف[4]. وإلى جانب ذلك، شهد جهاز الوكالة ظهور انحرافات لدوافع مختلفة، فظهرت انحرافات

 


[1] الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، ص 386.

[2] المصدر نفسه، ص 385.

[3] المصدر نفسه، ص 240.

[4] المصدر نفسه، ص 391.

 

398


353

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

من قبل بعض من كان وكيلاً منصوباً من قبل الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث سقط في الفساد والخيانة، وبعضٌ آخر ادّعى البابيّة والنيابة عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف كذباً وافتراءً، فالتفّ حوله رهط من الناس ثمّ بان أمره، وافتضح[1].

 

لذا كانت وظائف النوّاب تندرج تحتها النشاطات التالية:

1- رفع الشكّ والحَيرة عن الناس بشأن وجود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

2- ربط الناس بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وتأكيد حضوره مع الحفاظ عليه من خلال إخفاء اسمه ومكانه.

3- الإجابة عن المعضلات الفقهيّة والعقائديّة.

 

4- تسلّم أموال صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وتوزيعها حسب أوامره وإرشاداته.

 

5- مجابهة الغلاة ومدّعي الوكالة والنيابة كذباً، وفضح ادّعاءاتهم الباطلة، ومواجهة الوكلاء الخونة.

 

6- إعداد الناس لقبول الغيبة الكبرى.

 

وكان للشيعة أسلوبان للاتّصال بالنوّاب الأربعة، وهما:

أ- الاتّصال غير المباشر: وهو الأصل في عمل جهاز الوكالة الّذي لم يكن قادراً على إعلان نشاطه بسبب جَور العبّاسيّين، فكانوا حلقة الوصل بين الأئمّة عليهم السلام وبين الناس، فيستقبلون مسائلهم ومشاكلهم، ويقبضون منهم الحقوق الشرعيّة. وكان النوّاب ينقلون ذلك كلّه إلى الإمام عليه السلام، ويتسلّمون منه الأجوبة، فكان السفير بمنزلة رأس الهرم، والوكلاء والخواصّ جسم الهرم، والناس قاعدته.

 

ب- الاتّصال المباشر: كان هذا الاتّصال مفقوداً في بداية نشاط النوّاب الأربعة في عصر الغيبة الصغرى، لأنّ الهدف كان أن تبقى مسألة النيابة الخاصّة طيّ الكتمان والخفاء، وقد علم الشيعة باسم السفير عن طريق الوكلاء والخواصّ، الأمر الّذي مكّنهم من الاتّصال به مباشرة، وكانت الإجابات في هذا النوع من الاتّصال تصدر كتابة أحياناً، أو شفويّة أحياناً أخرى.

 


[1] الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، ص 397.

 

399


354

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

المفاهيم الأساسيّة

- تُجمع الديانات السماويّة كلّها على فكرة المهدويّة والإيمان بحتميّة ظهور مصلح عالميّ مع اختلاف في المصاديق. وما يميّز عقيدة المهدويّة عند الشيعة، أنّ تلك الأمنيّة هي حالة واقعيّة موجودة، فنعرف شخص المصلح ونسبه والعديد من الأمور حول دولته وخروجه، فهو محمّد بن الحسن عليه السلام ولد في 15شعبان سنة 255ه، ويعود في نسبه إلى السيّدة فاطمة عليها السلام والإمام عليّ عليه السلام.

 

- لمّا جاء موعد ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، طلب الإمام العسكريّ عليه السلام من عمّته أن تفطر عنده، وأعلمها بالأمر، ولم يكن بالسيّدة نرجس أثرٌ للحمل، ثمّ طال الأمر حتّى الفجر، فما انتبهت عمّته من غفوتها حتّى وجدته قد وُلد ساجداً نظيفاً، فنطق بالشهادتين، وصلّى على الأئمّة عليهم السلام.

 

- كان عمر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عند بدء إمامته خمس سنوات، وقد تولّى الصلاة على أبيه عليه السلام ليبيّن للناس كلّهم أنّه الوريث الشرعيّ، ويثبت وجوده وإمامته.

 

- كثرت الأحاديث الحاكية عن أسباب وعلل الغيبة ومقتضياتها، منها: انعتاق الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف من بيعة طواغيت الزمان، وامتحان الناس وإيمانهم، وأنّها كانت بسبب ظلم الناس.

 

- عيّن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر الغيبة الصغرى أربعة نوّاب للشيعة، كانوا على جانب كبير من التقوى والورع، وهم: عثمان بن سعيد العمريّ، محمّد بن عثمان بن سعيد العمريّ، الحسين بن رَوح النوبختيّ وعليّ بن محمّد السمريّ.

 

- اندرجت تحت وظائف النوّاب مهامّ عديدة، منها:

1- رفع الشكّ والحيرة عن الناس بشأن وجود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

2- ربط الناس بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وتأكيد حضوره.

 

3- الإجابة عن المعضلات الفقهيّة والعقائديّة.

 

4- تسلّم أموال صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وتوزيعها حسب أوامره وإرشاداته، وإعداد الناس للغيبة الكبرى.

 

 

400


355

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

الدرس السادس والعشرون

الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يتعرّف إلى بعض ما قام به الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال الغيبة الصغرى.

 

- يتبين الوظائف الملقاة على عاتق أشياع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف فرديّاً واجتماعيّاً.

 

- يستنتج الدروس التربويّة من حياة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

401

 


356

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال الغيبة الصغرى

أكمل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال الغيبة الصغرى رفد الأمّة بما تحتاج إليه خلال الغيبة الكبرى من المعارف، وما يعين المؤمنين على التحرّك والاستقامة على الصراط المستقيم، ويحفظ للأمّة استمرار مسيرتها التكامليّة، سائراً على خطى آبائه الكرام عليه السلام في ذلك.

 

ويتجلّى ذلك في العديد من الرسائل الصادرة عنه عليه السلام، فعلى سبيل المثال، قام الإمام عليه السلام بتثبيت نظام الوكالة والنيابة الخاصّة في الغيبة الصغرى كمقدّمة لإرجاع المؤمنين في عصر الغيبة الكبرى الى النائب العامّ الذي حدّدت النصوص الشرعيّة الصفات العامّة له، وأمر الإمام بالرجوع إليه في عصر الغيبة الكبرى، ومهّد له في الغيبة بتعيين أشخاص تتوافر فيهم هذه الصفات، لتتعرّف الأمّة على مصاديق من له الأهليّة للنيابة العامّة عن الإمام، وتستعين بها لمعرفة من تتوافر فيه نظائرها في الغيبة الكبرى.

 

فكانت تجربة السفراء الأربعة نموذجاً معيّناً من قبل الإمام المعصوم عليه السلام، يبيّن للأُمّة شرعيّة الرجوع الى نائب الإمام في غيبته من جهة، ومن جهة ثانية تقدّم لها نموذجاً تقوّم به من يدّعي النيابة عن الإمام في الغيبة الكبرى، استناداً إلى الصفات التي ذكرتها النصوص الشرعيّة كشروطٍ للنيابة عن الإمام. وقد عمد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى أسلوبين لتحقيق أهدافه خلال الغيبة الصغرى، هما التوقيعات والتقاؤه بالمؤمنين.

 

1- إصدار الرسائل والتوقيعات:

حفلت المصادر المؤرّخة لسيرة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بنصوص العديد من الرسائل والبيانات التي كان يصدرها عليه السلام في فترة الغيبة الصغرى، والتي عُرفت بالتوقيعات.

 

403


357

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

وهي تشكّل أحد الأدلّة الوجدانيّة المحسوسة الدالّة على وجوده وقيامه بمهامّ الإمامة في غيبته، وكانت تشتمل على ما يحتاج إليه المؤمنون من معارف الإسلام الحقّ وأحكامه في مختلف شؤونهم الحياتيّة، عقائديّاً وفقهيّاً وتربويّاً وأخلاقيّاً وغير ذلك، وما تحتاج إليه الأمّة في عصر الغيبة، كالإرجاع إلى الفقهاء العدول، والتأكيد على استمرار رعايته في غيبته، وتحديد علائم ظهوره وغير ذلك، وكانت في معظم الأحيان تأتي ردّاً على أسئلة يرسلها العلماء له عبر السفراء[1]. كما أنّ في بعضها نماذج تطبيقيّة لاستنباط الحكم الشرعيّ من الأحاديث المرويّة، تعويداً للأمّة على العمل الاجتهاديّ في عصر الغيبة الكبرى. وقد اعتمد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هذا الأسلوب في تعيين السفراء والوكلاء وفي تبيان فساد المدّعين للسفارة والوكالة، كما كان يرعى شيعته من إجراءات السلطة[2] بإصدار بعض التوقيعات التي تبيّن لهم ما ينبغي عمله لاتّقاء شرّهم.

 

ومن نماذج تلك التوقيعات، توقيع خرج من الناحية المقدّسة موجّه لشيعة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف كلّهم، جاء فيه: "نحن، وَإِنْ كُنَّا ثَاوِينَ بِمَكَانِنَا النَّائِي عَنْ مَسَاكِنِ الظَّالِمِينَ حَسَبَ الَّذِي أَرَانَاهُ اللَّه تَعَالَى لَنَا مِنَ الصَّلَاحِ، وَلِشِيعَتِنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مَا دَامَتْ دَوْلَةُ الدُّنْيَا لِلْفَاسِقِينَ، فَإِنَّا يحِيطُ عِلْمُنَا بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْ‏ءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالزَّلَلِ الَّذِي أَصَابَكُمْ مُذْ جَنَحَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً، وَنَبَذُوا الْعَهْدَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُون‏".

 

فالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يبين في هذه الرسالة أنّه محيط بأخبار الشيعة وأنبائهم على الدوامّ، كما أنّه يشير إلى سبب الذلّ الذي أصاب الناس، وهو نبذهم للعهد، وعدم وفائهم بمسؤوليّاتهم تجاه أئمّتهم كما ينبغي.

ثمّ يقول: "إنَّا غيرُ مُهمِلينَ لمُراعاتكُمْ، ولا ناسينَ لِذِكرِكُمْ، ولَولا ذلك لَنَزَلَ بكُمُ

 


[1] راجع: الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، ص 281 وما بعدها.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 525.

 

404


358

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

الَّلأوَاءُ، واصطَلَمَكُمُ الأعدَاءُ، فاتَّقوا اللَّه جلّ جلاله، وظاهرونا على انتياشكم[1] من فتنة قد أنافت[2] عليكم، يهلك فيها من حمَّ أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف[3] حركتنا ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[4]"[5].

 

ويُخبرنا إمامنا الرؤوف في هذا المقطع أنّه عليه السلام لم يُهمل مراعاة شيعته ولم ينسهم، وأنّه العين الساهرة على شؤونهم وقضاياهم، لكنّه يعمل في خفاء، ويدير الأمور من خلف الأستار، وإلّا لنزلت أنواع البلاء كلّها بالشيعة، ولما بقي لهم باقية، فعلينا أن نعرف ونعي أن تطوّر أوضاع الشيعة عموماً وتحسّن حالهم إلى الوضع الراهن كانا تحت ظلّ تدبير صاحب الأمر ورعايته، وهو من أعظم إنجازاته عليه السلام.

 

هذا، مضافاً إلى قضيّة بالغة الأهمّيّة صدرت عن ساحته المقدّسة عجل الله تعالى فرجه الشريف عبر توقيعه إلى إسحاق بن يعقوب، حيث أرسل إلى سعيد العمريّ كتاباً يسأل فيه عمّا أشكل عليه، فردّ عليه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبيّن في توقيعه وظيفة الأمّة خلال غيبته، وإلى من يرجع الأمر، فقال  عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه"[6].

 

فقد أسّس الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف لمرجعيّة شيعيّة جديدة لم يعد فيها تعيين وكيل أو سفير الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف قائماً على التسمية الشخصيّة وبيان الشخص، بل إنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وضع قواعد عامّة، وبيّن صفات يجب توافرها في من ترجع إليه الشيعة في عصر الغيبة. وعليه، فقد أراد الإمام صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف إرساء قيمة أساسيّة لا بدّ من وجودها وانتشارها لتحقّق الظهور المبارك، ألا وهي قيمة العلم وسلطانه وحاكميّة العلماء، فالولاية هي

 


[1] انتياشكم: انتشالكم.

[2] أناف على الشيء: طال وارتفع عليه.

[3] الأزوف: الاقتراب.

[4] سورة الصف، الآية 8.

[5] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج53، ص 175.

[6] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ج2، ص 484.

 

405


359

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

للعلم وصاحبه تمهيداً لقيام دولة العلم الإلهيّ التي يسود فيها العدل الإلهيّ على يدي الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف المباركتين.

 

2- لقاء الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بأتباعه المؤمنين:

ذكرت المصادر الروائيّة المعتبرة الكثير من الروايات التي تتحدّث عن التقاء بعض المؤمنين بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته الصغرى، ومعظمهم التقوه في الغيبة الصغرى، وبعضهم في حياة أبيه عليهما السلام، وهذه الروايات تخصّ الذين رأوه وعرفوه وليس الذين لم يعرفوه.

 

ويُستفاد من هذه الروايات أنّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف كان يبادر إلى الالتقاء بالمؤمنين في الكثير من الحالات، ويُظهر على يديه المعجزات والدلائل بحيث يجعلهم يؤمنون بأنّه هو الإمام، ويثبت لهم وجودهعليه السلام وإمامته، ويؤكّد على حضوره ورعايته أمورهم. وقد صرّح الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لعيسى الجوهريّ الذي التقاه سنة (268 هـ) في صابر قرب المدينة المنوّرة بهدفه من اللّقاء، فقال له في نهاية اللّقاء، وبعدما أراه من الدلائل ما جعله على يقين من هويّته عليه السلام: "يا عيسى، ما كان لك أن تراني لولا المكذِّبون القائلون بأين هو؟ ومتى كان؟ وأين ولد؟ ومن رآه؟ وما الذي خرج إليكم منه؟ وبأيِّ شيء نبّأكم؟ وأيَّ معجز أتاكم؟... يا عيسى، فخبّر أولياءنا ما رأيت، وإيّاك أن تخبر عدوَّنا فتسلبه. فقلت: يا مولاي، ادع لي بالثبات، فقال: لو لم يثبّتك اللَّه ما رأيتني، وامض بنجحك راشداً، فخرجت أكثر حمداً للَّه وشكراً"[1].

 

كما يُستفاد منها، أنّ الكثير من المؤمنين كانوا يجتهدون في طلب لقياه، ويسعون إليه، بخاصّة في موسم الحجّ، لما روي أنّه يحضره كلّ سنة[2]. وقد دلّت بعض الروايات على وقوع الالتقاء به بالفعل في الموسم، كما كان بعض المؤمنين يلجأون إلى السفراء الأربعة للفوز باللقاء، فكان يُسمح للمخلصين منهم بذلك[3].

 


[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ص 69 - 70.

[2] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج11، ص 135.

[3] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج52، ص 16.

 

406


360

الدرس الخامس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -1-

ويتّضح من روايات التشرّف بلقياه في الغيبة الصغرى، أنّه كان يقوم  عجل الله تعالى فرجه الشريف خلالها أيضاً بقضاء حوائج المؤمنين، اقتفاءً لسنّة آبائهِ الطاهرينعليهم السلام، كما كان يقوم خلالها بتوضيح بعض القضايا العقائديّة المرتبطة بغيبته الكبرى عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويقدّم لهم الإرشادات التربويّة، والأدعية المسنونة المرتبطة بغيبته وتوثيق الارتباط به عليه السلام فيها.

 

الغيبة الكبرى للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

1- إعلان انتهاء الغيبة الصغرى، وبدء الغيبة الكبرى:

كانت وفاة السفير الرابع عليّ بن محمّد السمريّ 329هـ إيذاناً بابتداء عصر الغيبة الكبرى. وكان التوقيع الصادر عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى عليّ السمّري قبل وفاته بستّة أيّام هو الإعلان الرسميّ عن انتهاء فترة الغيبة الصغرى. فبعد أن استوفت الغيبة الصغرى شروطها من تحضير الأمّة للغيبة الطويلة، جاء وقت الاحتجاب التامّ عن الأمّة وانتظار الفرج النهائيّ، لذا لم يكن احتجاب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف عن شيعته وقواعده أمراً مفاجئاً وغير متوقّع.

 

جاء في نصّ التوقيع المبارك عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى السفير الرابع بالتالي: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمريّ، أعظم اللَّه أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلّا بإذن اللَّه تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلب، وامتلاء الأرض جوراً.


وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كذّاب مفترٍ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم"[1].

 

نفذت إرادة الباري جلّ وعلا، وانقاد إمامنا المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف للمشيئة الإلهيّة، وصبر على قضائه، فارتقى بذلك أن كان المخلّص الذي تاقت له البشريّة كلّها.

 


[1] الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، ص 395.

 

407


361

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

اختار الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف سلوك الطريق الأصعب، لا لشيء، بل لأنّه العبد الحقيقيّ للَّه جلّ وعلا، فلا يتصوّرنّ أحد أنّ غياب إنسان مئات السنين متخفّياً عن أعين الناس، عاملاً بشكل دائم في الظلّ ومن وراء الحجب لإنفاذ إرادة اللَّه وتحقيق مراد البشر، وعيشه تلك الحياة الاستثنائيّة، هو بالأمر السهل أو البسيط الخالي من المشاقّ، فلا يحتاج إلى صبر! كلّا، ليس الأمر كذلك، فالمشاقّ والصعاب التي يتحمّلها ويقاسيها إمامنا الغائب الطريد الشريد، حسب تعبير الروايات، كان سبباً لبكاء أئمّتنا وتحسّرهم عليه عندما يذكرونه[1].

 

لذا، فإنّ أحد أهمّ الدروس والقيم التي تجلّت في أصل غيبة إمامنا المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هي قيمة الصبر على المحن وعلى قضاء اللَّه، والعبودية المطلقة للَّه - عزّ وجلّ -. فمن أراد أن يحذو حذو ذاك الإمام العظيم عليه السلام عليه أن يوطّن نفسه على كونه عبداً للَّه، فيصبر على قضائه وما يستلزمه تحقّق الوعد الإلهيّ، وكذا الأمر كما بيّن الإمام الحسين عليه السلام عندما أراد الخروج من المدينة، حيث قال: "من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء اللَّه نفسه، فليرحل معنا"[2]، وقال: "من لحق بي استشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح"[3].

 

2- تكليفنا في عصر الغيبة الكبرى:

غاب الإمام الموعود، محقّق حلم الأنبياء، وجاني ثمار عمر الأولياء، بلا توقيت ولا أمد، راجياً خروجه، منتظراً أمر اللَّه فيه. إنّ من أشدّ الغصّات التي ينبغي أن تعتصر قلب المؤمن هي غياب إمامه عنه، فلطالما عاش الشيعة في كنف إمامهم وتحت رعايته، مسلمين لتربيته لهم، مستأنسين بوجوده بينهم، على مرّ تاريخ الشيعة، وكان القائد الإلهيّ موجوداً بجسده، حاضراً لكلّ من يحتاج إليه، ملبّياً حاجات مواليه على مختلف الصعد، مبيّناً عياناً لهؤلاء الثلّة من الناس أنّه الرابطة الحقيقيّة بينهم وبين عالم الغيب،

 

 


[1] الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج2، ص 92.

[2] السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص 61.

[3] الطبري، دلائل الإمامة، مصدر سابق، ص 188.

 

408


362

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

فلا يُعجزهم أمر من دين أو دنيا، تلك المميّزات كلّها قد فقدها الشيعة بغيبة إمامهم عنهم، ولربّما غفل الكثير منهم أنّ الحياة ليست بحياة إن لم تكن في ظلّ ظلّ اللَّه على الأرض، بل هي محض انتظار لبداية الحياة الحقيقيّة.

 

بالطبع، إنّ هذا الكلام لا ينفي أيّاً من حضور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وفاعليّته في أثناء غيبته، لكنّنا ينبغي لنا أن نعيش حسرةً حقيقيّة لفراقه وبعدنا عنه وغيبته عنّا، وأن ندرك حجم الخسارة وحرمان البركة والبلاء الذي نحن فيه، علّ ذلك يكون محفّزاً لنا للتقرّب من حضرة إمامنا الغائب (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، ويدفعنا هذا الكلام إلى تحمّل المسؤوليّة والقيام بدورنا وتكليفنا تجاه أنفسنا وتجاه إمامنا للمساهمة في تعجيل ظهور الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

ويمكننا في هذا الإطار، الحديث عن تكليف عامّ حدّدته الروايات، وهو ذو أبعاد، نعبّر عنه بانتظار الفرج، حيث جاء في الروايات: "أفضل الأعمال انتظار الفرج"[1]، لكن ما هي ماهيّة ذاك الانتظار وما المقصود منه؟

 

يبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله المعنى المطلوب من الظهور فيقول: "انتظار الفرج مفهومٌ واسعٌ جدّاً، وأحد أنواعه هو انتظار الفرج النهائيّ، أي أنّ الناس عندما يرون طواغيت العالم مشغولين بالنّهب والسلب والإفساد والاعتداء على حقوق النّاس، لا ينبغي أن يتخيّلوا أنّ مصير العالم هو هذا، لا ينبغي أن يُتصوّر أنّه في نهاية المطاف لا بدّ ولا مناص من القبول والإذعان لهذا الوضع، بل ينبغي أن يُعلم أنّ هذا الوضع هو وضعٌ عابر - للباطل جولة، وأمّا ما هو مرتبطٌ بهذا العالم وطبيعته فهو عبارة عن استقرار حكومة العدل، وهو سوف يأتي...، فعندما يُقال لنا انتظار الفرج، يعني أنّ كلّ طريقٍ مسدود قابلٌ للفتح. الفرج يعني هذا.. فالمسلم يتعلّم من خلال درس انتظار الفرج أنّه لا يوجد طريق مسدود في حياة البشر ممّا لا يمكن أن يُفتح، وأنّه لا يجب عليه أن ييأس ويُحبط،

 


[1] الشيخ الإربلي، كشف الغمة، مصدر سابق، ج2، ص 207.

 

409


363

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

ويجلس ساكناً، ويقول لا يمكن أن نفعل شيئاً... هذا هو درس الأمل للبشريّة كلّها، وهذا هو درس الانتظار الواقعيّ لجميع النّاس"[1].

 

فالأمل الذي ينبغي أن يبعثه فينا انتظار الفرج هو الدافع والمحرّك لنا لخوض غمار هذه الحياة بكلّ ما فيها من صعاب وتذليل تلك الصعاب لصالح التسريع في فرج الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ودرس الأمل درس بالغ الأهمّيّة في حياتنا، إذ لولا ذاك الأمل الذي نحمله، بفضل عقيدتنا بدولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، لكان اليأس والإحباط هو خيارنا الوحيد.

 

ثمّ يبيّن القائد الخامنئيّ دام ظله ما الذي يعنيه الانتظار، فيقول: "... إنّ الانتظار هو عملٌ لا بطالةٌ، فلا ينبغي الاشتباه والتصوّر أنّ الانتظار يعني أن نضع يداً فوق يد ونبقى منتظرين حتّى يحدث أمرٌ ما. الانتظار عملٌ وتهيّؤٌ وباعثٌ على الاندفاع والحماس في القلب والباطن، وهو نشاطٌ وتحرّكٌ وتجدّدٌ في المجالات كلّها. وهذا هو في الواقع تفسير هذه الآيات القرآنيّة الكريمة ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ أو ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، أي أنّه لا ينبغي أن تيأس الشعوب والأُمم من الفرج في أيّ وقتٍ من الأوقات... وهو مشروطٌ في أن يكون انتظاركم انتظاراً واقعيّاً، وأن يكون فيه العمل والسعي والاندفاع والتحرّك"[2]، وهو ما يمكن أن يُصطلح عليه بالانتظار الإيجابي وليس السلبيّ الذي لا عمل فيه.

 

ويمكننا التفصيل في نوعين من التكاليف الملقاة على عاتقنا كأتباع لهذا الإمام العظيم في إطار الانتظار، تكاليف ومسؤوليّات تتعلّق بالجانب الفرديّ لكلّ إنسان، وأخرى تتعلّق بالجانب الاجتماعي الذي لا بدّ من التوجّه له لتحقيق الظهور المبارك في أسرع وقت، ونحن سنشير إلى هذين النوعين من التكاليف والمسؤوليّات في ما يلي:


 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 256 - 257.

[2] المصدر نفسه، ص 257 - 258.

 

410


364

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

1- التكليف الفرديّ:

إنّ من أهمّ التكاليف التي تقع على عاتق كلّ فردٍ منّا تجاه إمام زمانه، وتجاه نفسه بدايةً، هو بناء علاقة متينة بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على أساس التولّي الحقيقيّ والحبّ. فينبغي لكلّ إنسان أن يقرّب نفسه إلى إمامه عجل الله تعالى فرجه الشريف من خلال اتّباع آثاره وإرشاداته، وقيامه بما يحبّ، وتجنّبه لما يبغض، أي أن نكون مُعِينين لإمامنا في مشروعه الحضاريّ الكبير، وإن على المستوى الفرديّ وما يحوطه من أهل وأبناء وأحبّة وإخوة. ويشير الإمام الخامنئيّ إلى هذا المعنى من الاقتراب من إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وظهوره، فيقول: "إنّ الاقتراب من إمام الزمان ليس بمعنى الاقتراب المكانيّ ولا بمعنى الاقتراب الزمانيّ، فأنتم الّذين تريدون أن تقتربوا من ظهور إمام الزمان، فإنّ الاقتراب من إمام الزمان ليس له تاريخٌ محدّد... حتّى نقول إنّنا عبرنا سنةً أو سنتين أو ثلاث سنوات... فيبقى عندئذٍ هذا المقدار من السنوات. كلّا، وليس أيضاً بلحاظ المكان... لنرى أين هو وليّ العصر لنصل إليه. كلا، إنّ اقترابنا من إمام الزمان هو اقترابٌ معنويّ... لو استطعتم أن تحقّقوا في أنفسكم وفي غيركم، في داخل مجتمعكم... التقوى، والفضيلة، والأخلاق، والتديّن، والزهد، والقرب المعنويّ من اللَّه، وجعلتم قاعدة ظهور وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف أكثر رسوخاً وإحكاماً، وكلّما استطعتم أن تزيدوا باللّحاظ الكمّيّ والمقدار، عدد المسلمين المؤمنين والمخلصين، فإنّكم تكونون هنا أيضاً أقرب إلى إمام الزمان، وإلى زمن ظهور وليّ العصر. فنحن نستطيع أن نقرّب مجتمعنا وزماننا وتاريخنا خطوةً بخطوة نحو تاريخ ظهور وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف"[1].

 

وعليه، فالانتطار والترقّب الدائم لا يرفع التكاليف الإلهيّة بالنسبة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللَّه، والدفاع عن شعائر اللَّه، ودفع الفساد الاجتماعيّ والفرديّ، بل إنّه يدلّ على تأكّد الواجبات والتكاليف، ولزوم الاستعداد التامّ للوقوف إلى جنب الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته وظهوره.


 


[1] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 470.

 

411


365

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

2- التكليف الاجتماعيّ:

خرج من الناحية المقدّسة عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، توقيع جاء فيه: "ولو أنَّ أشياعنا، وفَّقهم اللَّه لطاعته، على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد، لَما تأخَّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقِّ المعرفة وصدقها منهم بنا"[1].

 

يختصر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، في هاتين الجملتين، المسؤوليّة الاجتماعيّة الملقاة على عاتق المنتظرين، وبشيءٍ من التأمّل يتبيّن لنا أنّه لا ظهور دون تحقّق ما أورد الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف من شروط. فالتوقيع واضحٌ في وجوب اجتماع قلوب أشياع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذاك نوعٌ راقٍ من الاجتماع بين الناس يسمو على الاجتماع الفكريّ والعمليّ ويستلزمهما، كما أنّه لا بدّ لهم من القيام بأمور الطاعة للَّه - عزّ وجلّ -، وهو اختصار لإقامة دين اللَّه تعالى وحدوده في غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف. ثمّ يقول إنّ ذلك ما سوف يعجّل ويسرّع في الظهور "لتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا".

 

ويبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله هذه المسألة بطريقة عمليّة، فيقول: "يجب أن تصبح كلّ قوانيننا ومقرّرات بلدنا وإداراتنا ومؤسّساتنا التنفيذيّة والكلّ إسلاميّاً، بلحاظ الظاهر والمحتوى، وأن نقترب نحو أسلمتها يوماً بعد يوم. هذه هي الجهة الّتي تمنحنا وتمنح حركتنا معنى انتظار وليّ العصر... علينا اليوم أن نتحرّك في مجتمعنا بهذا الاتّجاه ونتقدّم. هذا هو الشيء الّذي يقرّبنا إلى إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف من الناحية المعنويّة، ويقرّب مجتمعنا نحو مجتمع وليّ العصر  عجل الله تعالى فرجه الشريف، ذلك المجتمع المهدويّ العلويّ التوحيديّ ويزيده قرباً"[2].

 

وإن تحدّثنا بشكل عامّ أكثر، ولم يكن في وسعنا أن نسهم في تقريب المجتمع الحاوي للدولة الإسلاميّة - إيران - نحو المجتمع المهدويّ، فالتكليف الاجتماعيّ لا يسقط: "في كلّ زمانٍ إذا استطعتم أن تزيدوا من حجم المجتمع الإسلاميّ كمّاً ونوعاً إلى خمس سنوات أو عشر سنوات أخرى، أو حتّى مئة سنة أخرى، فإنّ إمام الزمان  عجل الله تعالى فرجه الشريف سيظهر".

 


[1] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق، ج2، ص 499.

[2] الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص 471 - 472.

 

412


366

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

كيف ذلك؟ بأن لا يهرب الفرد من الظلم، بل يواجهه ويسعى لإزالته، أيّ ظلم كان، وهكذا المجتمع ينبغي أن يعمل لرفع الظلم، وإن لم تتحقّق الدولة الإسلاميّة، وإن لم يكن ذلك تحت لوائها، فكلّ أمر عادل وقيمة جميلة نبثّها ونثبّتها في المجتمع تكون خطوة مقرِّبة نحو دولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

413


367

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

علّمني إمامي

- أنّ الإرادة الإلهيّة هي القاهرة فوق الإرادات كلّها، وينبغي أن أنسجم مع تلك الإرادة ليكون النصر حليفي دوماً.

 

- أن أختار مسار حياتي انطلاقاً من عبوديتي الحقّة للَّه. عزّ وجلّ.

 

- أن أتحلّى بالصبر على قضاء اللَّه. جلّ وعلا، وما يستلزمه الإصلاح، لأكون ثابت القدم على الدوام.

 

- أن أعيش الأمل بالمستقبل المشرق على الدوام، وأسير باتّجاهه.

 

- أن أكون من المنتظرين الحقيقيّين، فأعمل بشكل دؤوب لأتقرّب من إمامي وأكون جنديّاً له في المجتمع يُسهم في إقامة دولة العدل الإلهيّ بكلّ تفصيلٍ أقوى عليه.

 

 

414

 


368

الدرس السادس والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف -2-

المفاهيم الأساسيّة

- أكمل الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال الغيبة الصغرى رفد الأمّة بما تحتاج إليه خلال الغيبة الكبرى من المعارف، وما يُعين المؤمنين على التحرّك، ويحفظ للأمّة استمرار مسيرتها التكامليّة.

 

- قام الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بتثبيت نظام الوكالة والنيابة الخاصّة في الغيبة الصغرى كمقدّمة لإرجاع المؤمنين في عصر الغيبة الكبرى إلى النائب العامّ، وقد اعتمد عليه السلام أسلوبين لتحقيق أهدافه هما: التوقيعات، والتقاؤه بالمؤمنين.

 

- خرجت من الناحية المقدّسة العديد من التوقيعات التي كانت تشتمل على ما يحتاج إليه المؤمنون من معارف الإسلام الحقّة وأحكامه في مختلف شؤونهم الحياتيّة، عقائديّاً وفقهيّاً وتربويّاً وأخلاقيّاً وغير ذلك.

 

- كان الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يلتقي بالمؤمنين الموالين في غيبته الصغرى لبعض الغايات، فيُظهر على يديه المعجزات والدلائل، ويُثبت لهم وجوده عليه السلام وإمامته، ويقضي حوائجهم.

 

- بدأت الغيبة الكبرى بوفاة السفير الرابع، وبدأت معها مرحلة جديدة في مسار الشيعة، وبات تكليفهم تجاه إمامهم يختلف عمّا كان عليه في السابق، وبات انتظار الفرج الإيجابيّ المتمثّل بالسعي الحثيث لظهور الإمام عليه السلام هو تكليفهم العامّ.

 

- إنّ من أهمّ التكاليف التي تقع على عاتق كلّ فردٍ منّا تجاه إمام زمانه، وتجاه نفسه بدايةً، هو بناء علاقة متينة مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على أساس التولّي الحقيقيّ والحبّ، لنكون من أتباعه حقّاً.

 

- ويقع على عاتق المجتمع بأفراده مجتمعين تكليف آخر يتمثل باجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد، أي اجتماع القلوب والطاقات والقدرات للاقتراب من دولة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، دولة الولاية والعدل، فنعجّل بذلك من ظهور قائمنا عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

415


369
سيرة الأئمة عليهم السلام