تفسير سورة المجادلة

الإمام السيد علي الخامنئي


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-11

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق


مقدّمة الناشر

مقدّمة الناشر:

 

القرآن الكريم آخر كتب الوحي السماويّة، وهو يتضمّن كنوزًا معنوية للإنسانيّة، ويهديها إلى سبيل سعادتها وفلاحها.

 

على الرغم من وصايا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام وأوامرهم التي حثّوا فيها على تلاوة القرآن الكريم، وفهمه وإدراكه والعمل به لتحقيق المجتمع القرآني، إلا أنّ هذا الواجب الهامَّ قد أُهْمِل طوال التاريخ، فكانت نتيجة ذلك هيمنة حكومات الطّاغوت على المسلمين، وانحرافهم لقرونٍ متواليةٍ عن نهج السعادة.

 

مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة سماحة الإمام الخميني قدس سره - والذي تحقّق بالعودة إلى القرآن والإسلام وبإحياء التعاليم الدينية والقرآنية - تألّق في المجتمع الإسلامي الإيراني من جديد الاعتناء بالقرآن، وقراءته وفهمه وإدراكه والعمل به، وأُقيمت في ربوع الجمهورية الإسلامية طُرًّا دروس التلاوة والتفسير ومسابقات حفظ القرآن وتدبّر مفاهيمه.

 

سماحة آية الله العظمى الخامنئي، قائد الثورة الإسلامية المعظّم، الذي كان من أوائل الذين علّموا القرآن الكريم وتفسيره، وعقدوا الحلقات الدراسيّة لذلك قبل الثورة وإبّانها، طالما شجّع بشكلٍ واسعٍ ومتكرّرٍ على عقد جلسات القرآن الكريم وتفسيره، لا سيّما بعد تسلّمه مهام قيادة الثورة.

 

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة محاضراتٍ في تفسير سورة

 

9

 


1

مقدّمة الناشر

المجادلة لسماحته، تتضمّن مواضيع ونقاطًا مِفتاحيّة وتعليمية في شرح المفاهيم السامية للقرآن الكريم.

 

كما يتسنّى للقارئ التعرّف من خلالها الى أسلوب سماحته ومنهجه الخاصّ في تفسير آيات القرآن الكريم وشرحها، ويدرك اهتمام سماحته بالنقاط التبيينيّة لهذا الكتاب النوراني حول إقامة الحكومة الإسلامية وتحقُّقها، وحول الأبحاث الاجتماعية - السياسية، كما يمكن بوضوح ملاحظة هذا الاهتمام فيما يستند إليه سماحته في خطاباته المتعدّدة قبل انتصار الثورة الإسلامية وبعدها.

 

ووفقًا للمستوى العلمي للمخاطبين - الذين كانوا أحيانًا طلاب الحوزات العلمية وأخرى طلاب الجامعات أو غيرهم - فقد استعان سماحة آية الله العظمى الخامنئي في هذه المحاضرات التفسيرية بالأمثلة والنماذج المعاصرة للمجتمع، التي يحسن فهمها.

 

كما يمكن الاطّلاع على بعض خصائص هذا الأسلوب في كتاب "مرورى بر مبانى، روش، وقواعد تفسيرى حضرت آيت الله العظمى خامنه اى در تفسير سور "توبه"[1] الذي نُشر سابقًا. (بالفارسية)

 

لقد أُلقيت هذه المحاضرات أثناء اضطلاع سماحته بمهام رئاسة الجمهورية في جَمْعٍ من حرس الثورة، وأعضاء مكتب رئاسة الجمهورية، ضمن سبع جلساتٍ، من 17 أرديبهشت (07/05/1982) ولغاية 11 تير 1361 (02/07/1982)، وبُحث فيها جميع آيات هذه السورة الاثنتين والعشرين.

 

وعن سبب اختيار هذه السورة والسور التي تليها - التي سيُنشر نصّها قريبًا - يقول سماحته:

 


[1] نظرة إلى مباني وأسلوب وقواعد التفسير عند سماحة آية الله العظمى الخامنئي في تفسير سورة التوبة. والكتاب قيد الترجمة والإعداد وسيصدر عن دار المعارف الإسلاميّة الثقافية.

 

10


2

مقدّمة الناشر

"السبب في اختيارنا لهذه السورة هو أنّ سور الجزءين السابع والعشرين والثامن والعشرين ونحوهما هي سور مَدَنيّة غالبًا، وهي من السور التي نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، وتتعلّق بما بعد تأسيس الحكومة الإسلامية، أيّ مثل وضعنا الراهن.

 

نوع القضايا والمسائل التي يحتاجها مجتمعُ ما بعد تأسيس الحكومة يختلف عن نظيره الذي يتعلّق بمرحلة صراع الناس من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية، كما إنّكم تشاهدون هذا الأمر في مجتمعنا أيضًا. لديكم اليوم قضايا لم تكن مطروحةً لكم قبل بهمن 1357 (شباط 1979)، وكان لديكم يومذاك قضايا ليست مطروحةً لكم اليوم، مثلًا مسألة النفاق والمنافقين، مسألة العدالة الاجتماعية، مسألة الحكومة، مسألة الجهاد في جبهات القتال، وعشرات القضايا الأخرى من هذا القبيل، هي قضايا أساسية لِما بعد تأسيس الحكومة، وهذه المسائل هي نفسها التي يتعرّض لها أكثر الآيات الـمَدَنيّة. آيات هذا الجزء وما بعده حتى الجزء الثلاثين أكثرها مَدَنيّة، والجزء الثلاثون أكثره مَكِّيّ، ونحن نرى أنّ هذه السور قلّما فُسِّرتْ, أيّ إنّ الجزء الآخر من القرآن، والذي هو الجزء الثلاثون فُسّر بكثرة، وفُسّرت كثيرًا الأجزاء الأولى للقرآن، لكنّ هذه الأجزاء قلّما فُسّرتْ، في حين أنّ الجزء الثلاثين كما الأجزاء الأولى من القرآن قد فُسِّر بكثرة".

 

نأمل أن يتعرّف المجتمع الإسلامي في إيران، خاصّةً الشباب الذين يصنعون مستقبل البلاد، أكثر فأكثر، الى مفاهيم القرآن الكريم - مصباح هداية الإنسانية - ومعانيه السامية، وأن يقوم بواجبه في تحقيق المجتمع الإسلامي، إن شاء الله.

 

                                                     ومن الله التوفيق


3

المحاضرة الأولى

بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم

 

تعريفٌ إجماليٌّ بسورة المجادَلة

هذه السورة هي سورة المجادَلة، وهي بداية الجزء الثامن والعشرين. فلْنُلْقِ نظرةً إجمالية على مواضيع هذه السورة، مع أنّ مواضيعها تدور حول قضايا عدّة تبدو جزئية، لكن خلف كلّ واحدةٍ من هذه المسائل (كمسألة الظهار والنجوى ومناجاة الرسول) ثمّة مسألةٌ كلّيّة، وإذا ما تعمّقنا فسنرى أنّ هذه المسألة الكليّة قد بُحِثَت أيضًا في آيات السورة، وأنّ فيها دروسًا لنا. بالإضافة إلى آياتٍ أُخر تركّز على القضايا الكليّة للمجتمع الإسلامي، مثل ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[1]، التي تتعلّق بمسألة القيامة والمسائل العامة. إذًا، فضمن بيان هذه السورة لبعض القضايا الجزئية -التي يشكّل كلٌّ منها آيةً ورمزًا لمسألةٍ كليّةٍ- فإنّها تُلقي كذلك نظرةً على القضايا العامة للمجتمع الإسلامي. ونحن سنُبيّن كلّ هذا.

 

التعريف بمنهجية هذا التفسير

أسلوبنا في التفسير هو أننا سنقدّم بيانًا إجماليًّا عن الآيات التي سنبحثها، ثم سنحاول تبيين الآيات, أي نشرح معناها فقط. لا نرمي إلى التفصيل والأبحاث الفلسفية والفقهية وأمثالها، بل نهدف إلى أن

 


[1] سورة المجادلة, الآيتان 5 – 6.

 

14


4

المحاضرة الأولى

تتعرّفوا إلى معنى الآيات، وبتعبيرٍ أدقّ، إنّها ترجمةٌ[1] للآيات إلى جانب شيءٍ من التوضيح. هذه هي منهجيّتنا في هذا التفسير.

 

شأن نزول الآية الأولى

الآية بعد البسملة هي: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إلَى الله﴾ قصّة امرأة ٍجاءت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان لها معه حوارٌ وجدالٌ مُلحّان، وكانت مُضطربةً جدًّا، واشتكت كذلك إلى الله، وفي آخر المطاف وجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علاجًا لشكواها، وحلّ لها مشكلتها. هذا هو مضمون الآيات الأولى، والقصّة هي أنّه كان في الجاهلية - قبل مجيء الإسلام - عُرفٌ وتقليدٌ يقضي بأن يُحرِّم أحيانًا الرجالُ نساءَهم على أنفسهم إلى الأبد بقول جملةٍ واحدةٍ: "أَنتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي"، فكانوا بذلك يشبّهون نساءهم بأمّهاتهم، وما إن تخرج هذه الجملة من فم الزوج حتّى تَحرم المرأة عليه إلى الأبد! لاحظوا مدى الفرق بين هذا الظِّهار والطّلاق، وسيأتي لاحقًا شرح الفرق والاختلاف بينهما. طبعًا كان لديهم طلاق، وكان لديهم ضروبٌ وأنماطٌ مختلفةٌ منه، لكنّ الظهار كان أيضًا نحوًا من الطلاق، فكان الزوجان يتشاجران وينشب بينهما نزاع طفيفٌ، فإذا بالرجل يغضب ويُحرِّم بكلمةٍ واحدةٍ امرأته على نفسه إلى الأبد، وينفصلان من دون أن يستلزم الأمر مقدّماتٍ ضرورية.

 

أمّا شأن نزول هذه الآية فهو أنّ رجلًا من الأنصار تشاجر مع امرأته شجارًا جُزئيًّا حول قضيّةٍ صغيرةٍ، وقد ذُكِرَت هذه القضيّة

 


[1] ترجمة بالفارسية: أي شرح وبيان الآيات.

 

 

15


5

المحاضرة الأولى

في كتب التفسير غير أنّه لا ضرورة لذكر تفاصيلها[1]. وذانك الزوجان هما من الأنصار, أيّ من أهل المدينة الذين جاء إليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. لم يُشَرْ في التاريخ إلى أيّ عامٍ من الهجرة وقعت الحادثة، لكن عقب هذا الشجار البسيط ثار الزوج غضبًا، وجاء في الرواية عنه أنّه "وكان أهلَ السُّرعة واللَّمَم"[2]، ويُقصد بالسُّرعة التسرُّع في اتّخاذ القرارات, أيّ من دون ملاحظة حيثيات الأمور، و"اللَّمَم" هو القيام بالأعمال بصورةٍ فُجائية وإنجازها من دون سابقةٍ، وكلمة "اللَّمَم" التي جاءت في الآية ﴿الَّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِثْمِ وَالفَواحِشَ إلَّا اللَّمَم﴾[3]، هي أيضًا بهذا المعنى, أيّ الذنوب التي لا سابق لها، والتي لا يصرّ الإنسان عليها وليس من دأبه ارتكابها وصدرت عنه فجأةً.

 

وقد ذُكِر في أسباب النزول أنّ هذا الرجل الذي كان على هذه الصفة، ما إن امتنعت امرأته عن إطاعته في مسألةٍ بسيطةٍ، حتّى واجهها فجأةً بعُرْفِ الجاهلية قائلًا لها: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمّي"، وعندما عاد الرجل والمرأة إلى رشدهما قائلين: عجبًا! ما الذي حصل؟! ماذا نفعل الآن؟ قال الرجل: "أظنّ أنّكِ صرتِ حرامًا عليّ"، فقالت المرأة: "لا يا رجل! نحن في عهد الإسلام الآن، لقد كانت المرأة تحرم على الرجل بالظِّهار في الجاهلية، لكنّ الأوضاع اختلفت الآن"، فأجاب الرجل: "حسنًا، لكنّ الإسلام لم ينسخ هذه السُنّة بعد"، فقرّرا الذهاب لسؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ولـــمّا استحى الرجل من الذهاب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، جاءته المرأة بمفردها، وقالت له: "فعل بي زوجي هذا الأمر، وظاهَرَني هكذا".


 


[1] من ضمنها: تفسير القمي,ج2, ص 365, جامع البيان, ج14, ص28.

[2] مجمع البيان, ج9, ص 371 باختلاف بسيط.

[3] سورة النجم, الآية 32.

 

16


6

المحاضرة الأولى

النقطة المهمّة هنا هي كيفيّة تعاطي الرسولصلى الله عليه وآله وسلم مع العادات الجاهلية, إذ - كمّا تقدّم - تندرج تحت هذه القضايا الجزئيّة قضيّةٌ كليّةٌ: فهذه القصّة هي مسألةٌ جزئيةٌ، غير أنّنا نشاهد جيّدًا من خلالها طريقةَ تعامل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع السُّنن الجاهلية. فالمرأة جاءت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليقول لها: دعكِ من الأمر، ما هو بذي شأن. لكنْ بما أنّها كانت عادةً مُتجذّرةً، وقد تغلغلت في نفوس الناس وأنِسُوا بها لقرون، والقائد الحكيم والقائد الصّلب لا يتعامل مع العادات التي تغلغلت في أرواح الناس بهذا النحو, أيّ يتركها وشأنها من دون أن يأبه بها, لأنّه لا يريد إزالتها بصورةٍ سطحيةٍ، ولا أن يكون تصدّيه لها على عجلٍ، بل على نحوٍ سديد. وعليه قال لها صلّى الله عليه وآله: نعم! لقد ظاهَركِ زوجك وحَرُمتِ عليه! فطفِقَت المرأة تجادله وتُراجِعه وتحاوره، وكان فيما قالت: وكيف يصحُّ هذا يا رسول الله! إنّه زوجي وقد أنجبت له أولادًا كُثُرًا، وأحبُّه أكثر من أيّ أحدٍ على وجه الأرض، أَفَأُحْرَمُ عليه لقوله هذا؟! لم ينفِ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأمر، وقال: هذا ما حصل، لقد ظاهَرَكِ وصار كلٌّ منكما حرامٌ على الآخر. وعندما عجزت المرأة عن أن تَحْمِل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على جعل حلٍّ لها، لجأت إلى الله ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى الله﴾ واشتكت إليه قائلةً: إلهي! ماذا أصنع؟ لديّ أولادٌ صغار، إذا تركتهم لزوجي فسَيَتْعَسون ويضيعون، وإذا بقوا عندي فسيموتون جوعًا.

 

محاربة الإسلام للعادات الجاهلية الخاطئة

في تلك الأثناء، نزلت على رسول الله هذه الآيات:﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ

 

17

 


7

المحاضرة الأولى

أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾. في الآية استدلالٌ هام، يقطع من خلاله جذور هذه العادة من ذهن هذا الرجل، بتأمّلٍ وتدبّرٍ وبأسلوبٍ سليم. ووجه الاستدلال هو أنّ أُمّ كلّ شخصٍ هي تلك التي ولدته وجاءت به إلى الدنيا، أمّا تلك المرأة التي - والخطاب لمسلمي صدر الإسلام - تقولون لها "أَنتِ عليَّ كَظَهْر أُمّي" لا تصير أمَّ أحدكم ولا أثر لقولكم هذا, أيّ إنّه يُعْلَمُ في هذا القسم من القضيّة أنّ الظِّهار لا يستوجب حُرمةً أبديةً ولا يُفرّق بين المرأة وزوجها، كلُّ ما في الأمر أنّه عادةٌ جاهليّةٌ يجب أن تُقرَّ لها عقوبةٌ, لكي لا يَقْرَبها أحدٌ بعد ذلك، والعقوبة هي أنّ الرجل إذا ظاهر امرأته ثمّ أراد مُقارَبَتَها تجب عليه كفّارة تحرير رَقَبة. وهذه إحدى الذرائع التي جعلها الإسلام لعتق أولئك العبيد. إذًا، عليكم أن تعتقوا رقبة، فإن لم تجدوا ما تعتقون به ولم يكن باستطاعتكم ذلك، فعليكم صيام ﴿شَهْرَينِ مُتَتابِعَين﴾ فهذا الصوم نفسه  يُطهّر ويُنقّي من الخطأ الذي ارتكبتموه، ويُطهّر من رجس تلك الخطيئة، وإذا لم تتمكنوا من ذلك أيضًا فأطعموا ستين مسكينًا -لا ستين فقيرًا- أيّ أطعموهم وجبةَ طعام. والفرق بينهما هو أنّ الفقير هو من لا يملك مالًا، أمّا المسكين فهو العاجز الذي لا إمكانية لديه أساسًا لأن يمتلك قُوته. وهؤلاء المساكين الواجب إطعامهم لم تتمكّن الحكومة الإسلامية بعد من إدارة أمورهم، وليس بإمكانهم أن يُديروا شؤونهم بأنفسهم. فهذه أيضًا ذريعة لإطعام هؤلاء.

 

شرح الآيات

ثمّة نقاطٌ عدّةٌ هنا تسترعي الانتباه وتشكّل كلّ واحدةٍ منها مسألةً مهمّة.

 

18


8

المحاضرة الأولى

﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ ثمّة حقيقةٌ هنا، وهي أنّه عندما يُقال إنّ الإسلام دينٌ فطريٌّ فأحد نماذج ذلك هو أنّ أحكام الإسلام يمكن فهمها، والاستدلال الوارد في الآية يمكن قبوله. يقول تعالى: ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ وهذا استدلالٌ بمقدور كلّ أحدٍ فهمه.

 

﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ الــمُنكر يعني ما هو مجهولٌ وغير مقبولٍ في الدين، وهذا الكلام "أنتِ عليّ كظهر أمي" هو كلامٌ باطل، لكنْ مع أنّه باطلٌ إلّا أنّه يخرج من أفواه الرجال، وأنتَ أيّها الرجل الذي جاءت امرأتك الآن لتشتكي، لا تخضع للباطل الذي قُلْتَه, لأن ثمّة سبيلًا للرجوع ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ فصحيحٌ أنّك أخطأت وهناك خطيئةٌ قد ارتُكِبَت، لكنّ الله تعالى قادرٌ على تغيير الأمر.

 

أمّا فيما خصّ ما يجب على هذا الرجل الذي ظاهر امرأته من تكليف، فالآية تبيّنه ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ والرَّقبة تعني العبد, لأنّهم كانوا في العصور القديمة جدًّا، قبل عصر الإسلام وعصر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يُقيّدون رِقاب الموالي، وكانوا يحصون العبيد بـ"الرقبة"، كما نحصي اليوم الناس بـ"الفرد".

 

﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ طبعًا وفقًا لفتوى العلماء فالإنسان غير ملزمٍ بصيام ستّين يومًا متتاليًا، بل يكفي أن يصوم الشهر الأول ويتبعه بيومٍ واحدٍ من الشهر التالي. وفيما يتعلّق بـ ﴿مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ فهذا الصيام يجب أن يسبق أيّ علاقةٍ بين الرجل والمرأة. ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ﴾ - وهنا تظهر مرونة الأحكام في

 

19

 


9

المحاضرة الأولى

الإسلام - ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ والمسكين كما تقدّم، ليس الفقير ولا المتسوّل الذي يمدّ يده للناس، بل الإنسان العاجز أو الطاعن في السنّ أو المريض.

 

الأمر الظريف في هذا الشخص الذي ظاهَر زوجَه، هو أنّه قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنّه لا يقدر على شيءٍ من تلك الكفّارات، فحينما نزلت هذه الآيات، طلب الرسولصلى الله عليه وآله وسلم من المرأة أن تستدعي زوجها لحلّ المشكلة، فجاء وأمره الرسولصلى الله عليه وآله وسلم بتحرير رقبة، فقال الرجل: يا رسول الله! من أين لي تحرير رقبة! ليس بمقدوري ذلك. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذًا صُمْ شهرين مُتتابعين! فأجاب الرجل: عيناي ضعيفتان، إذا لم آكل شيئًا لثلاثة أيّامٍ فسأُبتلى بالعمى. فقال الرسولصلى الله عليه وآله وسلم: حسنًا إذًا، أطْعِمْ ستّين مسكينًا! فقال: حتّى هذا ليس باستطاعتي إلّا إذا ساعَدْتَني لأَتَمكّنَ من ذلك. ثمّ يبدو أنّ الرسولصلى الله عليه وآله وسلم وعد بمساعدته من بيت المال ليتمكّن من الاهتمام بأمر إطعام أولئك المساكين الستّين. القصّة هي أنّ الرواية تذكر أنّه كان شيخًا كبيرًا قام بالظِّهار، وكان عاجزًا كذلك عن أداء كفّارته.

 

﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ كان الزوجان مؤمِنَين، فمعنى قوله تعالى ﴿لِتُؤمِنُواْ﴾ هو أن تدخلوا حقيقةً في دائرة المسلمين, لأنّ للإيمان مرحلتين: إحداهما أن يُقيّد الإنسان اسمه في سِجِلّ حزب الله, أيّ إذا سُئِل ما دينك؟ فسيُجيب مثلًا: أنا مسلم. هذا ضربٌ من الإيمان، أمّا الضربُ الآخر، فهو أن يضع الإنسان قدمه حقيقةً على جادّة الإيمان, أيّ أن يعمل بجميع الأوامر الإلهية ويتجنّب المحرّمات الإلهية، ويُضحّي من أجل هذا الإيمان ويُؤْثِر على نفسه. هذا هو الإيمان الحقّ.

 

يقول تعالى إنّ الكفّارة التي جعلناها لكم هي بُغية أن تُخلّصوا أنفسكم حقًّا من تلك العادة الجاهلية، ولتطهّروا أذهانكم وأرواحكم

 

20

 


10

المحاضرة الأولى

من ذلك الرجس، فسواء أأعْتَقتُم رقبةً، أم صُمتم شهرين مُتتابعين، أم أطعمتُم ستّين مسكينًا، فستظلّ الذكرى خالدةً في أذهانكم أنّ هذه العادة هي عادةٌ جاهلية، وأنّكم من خلال الكفّارة تُخلّصون أنفسكم من تلك السُنّة، وتدخلون في نطاق المؤمنين بالله. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ فلا تنسوا هذه الحدود، سواء فرضنا أنّ هذه الكفّارات هي حدود الله - وقد بُيّن في بعض الموارد الأخرى كذلك واجباتٌ مالية ٌعلى الإنسان، حيث قال تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾، طبعًا ثمّة موارد أخرى أيضًا غير مالية[1] - أو فرضنا أنّ ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ هي الامتناع عن الظِّهار واعتباره عملًا خاطئًا فالأمر سيّان وكلاهما حدود الله. والفعل الذي يستوجب كفّارةً هو عملٌ خاطئ، فلو كان حسنًا لما جعل الله له كفّارة. وعدم القيام به هو حدّ الله, أيّ إذا أردتم أن تكونوا مؤمنين وتكونوا مسلمين وتدخلوا ضمن دائرة المؤمنين، فعليكم مراعاة هذه الحدود، وإن لم تُراعوها وخلطتم العادات الجاهلية بالعادات الإسلامية، فليس هذا من الإسلام في شيء، وإذا خلطتم بين محصول الفكر الإلحادي ومحصول الفكر الإسلامي ومزجتموهما معًا، فلم يعد هذا إسلامًا. للإسلام حدودٌ فلا تتعدوا حدودَ الله ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

 

وظيفة قائد المجتمع الحضور

في كافّة أحداث المجتمع والإشراف عليها

ثمّة نقاطٌ عدّةٌ هنا، سأطرحها عليكم بالترتيب. أولاها هي أنّ الله تعالى والقائد الإسلامي حاضران في كلّ قضيةٍ من قضايا الناس، ومشرفان عليها، وهذا هو معنى القيادة. وقيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالطبع


 


[1] سورة البقرة, الآيات 187, 229, 230- سورة النساء, الآية 13, سورة الطلاق, الآية 1.

 

21


11

المحاضرة الأولى

قائمةٌ بهدايةٍ إلهية. وهو لا ينسحب حتّى من قضيةٍ عائلية, فإذا كان من الـمُقرّر أن يكون لدينا مجتمعٌ وتكون لدينا أمّةٌ وعلى رأسها ثمّة إمام، فإنّه يجب على هذا الإمام أن يحلّ مشاكل الناس كافة حينما تُحال إليه، وأن يكون حاضرًا في كلّ مكان. ولقد كان الأمر على هذا النحو أيضًا في مرحلة النضال، فقد كان الإمام الخميني قدس سره حاضرًا في كلّ قضيّةٍ عارضة، ولم يكن هناك أيّ أمرٍ قد يُعرّض الإنسان للحيرة من دون أن يكون للإمام قدس سره موقفٌ فيه. فمثلًا حينما وقعت وقعت حادثة إحراق "سينما رِكس" في آبادان، كان الجميع آنذاك حائرين يتساءلون عن أصل القضية، وعن الموقف الذي ينبغي عليهم اتّخاذه، وعمّا يجب صنعه، وعمّا إذا كانت الحكومة هي التي قامت بإحراقها أو العراقيون أو المخرّبون، وإذ ببيان الإمام يصدر قبل أيّ بيانٍ آخر[1], حيث لم تكن الجهات الأخرى في إيران - حتّى المناضلون - قد أصدرت بياناتٍ بعد .وإنّني لا أنسى أننّا كنا في أثناء هذه الحادثة مَنْفِيّين في جيرفت أنا والمرحوم ربّاني شيرازي[2] (رحمة الله عليه) وآية الله ربّاني أملَشي[3]، مع عددٍ آخرٍ من الأصدقاء، حيث جلسنا معًا نتشاور،


 


[1] - في الثامن والعشرين من مُرداد عام 1357 (19/08/1978) لقي أكثر من 370 شخصًا من أهالي آبادان حتفهم في حادثة إحراق سينما رِكس. أصدر سماحة الإمام الخميني قدّس سرّه بيانًا حول هذه المأساة، جاء فيه: "... تشهد الأدلّة أيضًا على ضلوع أيادي مجرمي النظام الجائر...". يُراجَع: صحيفۀ امام، ج3، ص445؛ بيان إلى أهالي آبادان حول إحراق سينما رِكس (31/05/1357) [22/08/1978].

[2] المرحوم آية الله عبد الرحيم ربّاني شيرازي (1301-1360) (هجريًّا شمسيًّا): من أصحاب الإمام الخميني قدّس سرّه، لسنوات عديدة في سجون السافاك (منظمة المخابرات والأمن القومي في نظام الشاه). عكف إبّان انتصار الثورة الإسلامية أيضًا على الخدمة ضمن مهام متعددة كمجلس خبراء الدستور ومجلس صيانة الدستور. تدل رسالة الإمام الخميني قدّس سرّه بمناسبة ارتحاله على شخصيته الثورية والعلمية.

[3] آية الله محمّد مهدي ربّاني أمْلَشي (1313-1364) (هجريًّا شمسيًّا): من تلامذة آية الله بروجردي وسماحة الإمام الخميني قدّس سرّه ومن أصحابه في الثورة. زُجَّ في السجن سبع مرات لنضاله ضد نظام الطاغوت، ونُفِي عام 1356 إلى جيرفت ومدينة بابك. يدل حضوره في مناصب هامّة من قبيل مجلس خبراء الدستور ومجلس صيانة الدستور والنائب العام للبلاد ومجلس خبراء القيادة, على صلاحيّته والتزامه. كان شوكة في عيون الأعداء والمنافقين، وانتهى به المطاف إلى الشهادة على أيدي عصابة مهدي هاشمي.

 

22


12

المحاضرة الأولى

وقررنا إصدار بيانٍ سريٍّ لنرسله إلى قم بتوقيعٍ عام من أجل إطلاع الناس على مجريات الأمور، وقد استغرق الأمر يومين، وما إنْ هممنا بطباعته ونسخه، حتّى وصل بيان الإمام إلى أيدينا, أيّ إلى جيرفت، وهذا يعني أنّه لم يمضِ مثلًا أربعة إلى خمسة أيام على الحادثة حتّى كان الإمام حاضرًا، وفي جيرفت! طوال مرحلة الكفاح كان الإمام حاضرًا في كلّ مكان! وحضوره هذا يشكّل في الواقع حقيقة ً عجيبةً، وهكذا كان إبّان الثورة وبعدها حاضرًا في كل القضايا المصيرية، التي كانت مثار اهتمام الشعب وتستلزم قيادة الإمام وإشرافه عليها. وهذا كان حال المجتمع في عصر صدر الإسلام، حيث كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُراجَع حتّى في القضايا الأسريّة، وكلّ الذين كانوا يعيشون في المدينة لم يكن يتجاوز عددهم ربما العشرة آلاف أو الخمسة عشر ألف نسمة، وكان بإمكانهم التوصّل بسهولة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مُتاحًا للنبي من حيث الوقت أن يبتّ في أمورهم، وفي كلّ مسألةٍ كانوا يراجعون فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لديه جوابٌ وحلٌّ لمشاكلهم، وإن لم يكن لديه حلٌّ فإنّ الله يوحيه إليه. وعليه، فإنّ القائد الإسلامي في أيامنا، وكلّ القادة الذين سيكونون في المستقبل، يجب أن يكونوا كذلك: "أولًا" أن يكونوا حاضرين ومُشرفين على الأمور، "ثانيًا" أن يتّخذوا حلولهم وأجوبتهم من القرآن، وأن تكون معتمدةً على القرآن، فإمّا أن تعتمد على آيةٍ خاصّةٍ وموضعٍ خاصٍ منه، أو على روح القرآن وكُلّيّاته، وهذا هو الشرط الأساسي للقيادة. ولحسن الحظ فإنّ هذا مشهودٌ ومحسوسٌ

 

23


13

المحاضرة الأولى

بشكلٍ كاملٍ في قيادة إمام الأمة.

 

لذا فإنّه تعالى يقول في أوّل السورة: ﴿قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ ثمّ يؤكّد ثانية ً﴿وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾. يقول في البداية ﴿سَمِعَ﴾ ثمّ يقول ﴿وَٱللَّهُ يسْمَعُ﴾ ما يدلّ على الاستمرار، وفي آخر الآية أيضًا تأكيدٌ لهذه المسألة وهي ﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾. ما من مسألة قد تغيب عن أنظار القائد الإلهي للمجتمع الإسلامي وتنأى عنه، وهذا هو الفرق بين المجتمع الإلهي والمجتمع غير الإلهي. ليس بإمكان القيادات الأخرى - تلك التي لا تعتمد على الله - أن تُثبت حضور القائد في كلّ مكان، وهذا لا يعني أنّه ليس للقادة حضور، بلى! فقد كان هناك قياداتٌ كثيرةٌ قويّةٌ ومهمّةٌ كذلك، وقد كانت حاضرةً كذلك من أجل شعوبها أو مجتمعاتها التي كانت تقودها وتشرف عليها، لكنْ بما أنّ قياداتهم لم تكن إلهيّة، فقد ارتكبوا أخطاءً كثيرةً وتعرّضوا للكثير من الانحرافات. إنّ إرادة الإنسان ومشيئته دخيلتان  في كلّ أفعاله التي يقوم بها, لذلك فإنّ الحفاظ على المجتمع بحالته الثوريّة والإسلامية هو أمرٌ يتطلّب إرادة الناس، وبما أنّهم يرتكبون الأخطاء في بعض المواقف فإنّ المجتمع ينحرف. وهناك الكثير من المجتمعات والدول التي ثارت بالأمس، وبذلت الجهود وقدّمت الدماء وخاضت الملاحم، غير أنّها اليوم إمّا عالةٌ على بعض القوى العظمى، وإمّا أنّها سجينة طيفٍ واسعٍ من قوى العالم رغم ادّعائها الحريّة. إنّ عدم حضور هذه القيادات وإشرافها الدائم على شؤون بلادها، وعدم امتلاكها إطارًا إلهيًّا، بالإضافة إلى عدم اعتماد هذه المجتمعات الثورية والمجتمعات الحديثة الولادة على وحي الهداية الأبديّة، يُفضي بها إلى هذه النقائص. بينما الحال ليست كذلك في الإسلام, فكلّ شيءٍ عندنا يعتمد على الله الموجود.

 

24

 


14

المحاضرة الأولى

ثلاثة أنماط للتعامل مع عادات الأَسْبَقِين

 

أولًا: التعامل الحَذْفِي

 

النقطة الثانية هي حول العادات والتقاليد، ففي كلّ مجتمعٍ هناك عادات، منها الصائب ومنها غير الصائب، ومنها الخاطئ جدًّا وغير المقبول أبدًا. فماذا يفعل المجتمع الثوري حيالها؟ بالطبع لا يجب عليه أن يحمل منجلًا بيده ويجتثّ كلّ هذه العادات ويمضي قُدمًا لينقّي المجتمع منها، ولقد قامت المجتمعات الثورية بذلك أحيانًا وتعثّرت عثراتٍ جدّ كبيرة، فضيّعت عادات المجتمع الحسنة. إنّا الآن في مجتمعٍ ثوريٍّ تعرّض للزلل والانحراف لعدم إحيائه التقاليد القديمة، فقد كانت تقاليد حسنة، وكانت أساسًا تقاليد إسلامية. حدثت هذه الثورة في المجتمع ولم يُعَدْ فيها إحياء العادات القديمة، ولذلك فقد ضاع هذا المجتمع في وادي الهلاك والضلال، وقد لا يتّضح ضلاله اليوم تمامًا، إلّا أنّه سيتّضح بعد عشر سنواتٍ، أو خمس عشرة سنةٍ أخرى إذا استمرّ الأمر على هذا المنوال. بعض العادات ليست بعادات سيئة، وهي حصيلة عمر البشرية وثمرة قرونٍ من التجربة الإنسانية، فما المانع من العمل بها؟ وما العيب فيها؟ وعلى سبيل المثال أذكر "التشادور"(العباءة) وهو تقليدٌ إيراني, فشكل التشادور ليس إسلاميًّا، بل الحجاب هو الإسلامي وليس شكل التشادور, فقد يتحقّق الحجاب بالتشادور، وقد يتحقّق بالعباءة، وقد يتحقّق بالخِمار ﴿بِخُمُرِهِنَّ﴾[1] كما في بلاد الشام[2], حيث إنّ النساء يُلقين على رؤوسهنّ بخُمُرٍ تغطي حتّى أوسط أيديهنّ وتغطي صدورهنّ، ويمكن أحيانًا أن يتحقّق بضروبٍ أخرى. فالتشادور

 


[1] كما جاء في سورة النور، الآية 31.

[2] كانت بلاد الشام منطقة تشمل الدول الحالية: سوريا، لبنان، فلسطين والأردن.

 

25


15

المحاضرة الأولى

هو حجاب الإيرانيات، ويُقال إنّ التشادور نفسه بهذا الشكل يعود إلى عصر الساسانيين, أيّ إلى ما قبل الإسلام. وحينما جاء الإسلام وفرض الحجاب استخدمته الإيرانيّات لذلك أيضًا, فهو عادةٌ إيرانية، فهل من الصواب - وقد جاءت الثورة الإسلامية - أن نأتي وننزع هذا التشادور عن رؤوس النساء، ونقول: هذا التشادور خطأ، فتعالوا نصنع صنفًا آخر من الحجاب، فإمّا من صنف حجاب أهل الشام، أو الحجاز أو العراق؟ لا، هذا ليس صحيحًا! وما العيب في الحفاظ على التشادور الإيراني؟! أساسًا إذا أردتُ الحُكمَ فإنّ أفضل نوعٍ موجودٍ للحجاب هو التشادور، وعلى حدّ مشاهداتي فإنّ التشادور أفضل أنماط الحجاب. ولقد ارتبك البعض مباشرةً، ونادوا بالحجاب الإسلامي ودعوا إليه، وكان الأمر طريفًا جدًّا قُبيل انتصار الثورة, إذ وضع عددٌ من الشابّات والنساء العَصْرِيّات التشادور جانبًا وصنعن حجابًا إسلاميًا وهنّ في غفلةٍ عن أنّ الحجاب الإسلامي كان للّاتي لم يكن لهنّ حجاب، ولم يكنّ يضعن تشادورًا على رؤوسهنّ، فكانت النساء العصريات يتأثّرن بتبليغات الـمُـبلّغين ويضعن خُمُرًا ويَخِطْن أكمامًا طويلةً ليصير بذلك حجابًا إسلاميًّا، وأمّا تلك التي لديها الحجاب الإسلامي على أكمله، وهو التشادور، فليس عليها نزعه عن رأسها ووضع الخِمار لتصنع بذلك حجابًا إسلاميًّا. إنّ في هذا تفريطًا بالعادات وإضاعةً لها، وهو أمرٌ خاطئ. يجب أن نفصل التقاليد عن بعضها البعض ونحلّلها, لنرى أيّها حسنة فنحتفظ بها، وأيّها ذات مضمونٍ خاطئٍ فنغيّره إذا كان قابلًا لذلك، وإلّا نقضي عليه. وهذا هو منهج الإسلام الصحيح إزاء العادات.

 

ثانيًا: التعامل الانفعالي

وهو التوجّه الذي لا يتحسّس حيال العادات الجاهلية وتجاه

 

26

 


16

المحاضرة الأولى

العادات المعادية للثورة والرجعية، كما يُصطَلح عليها. ففي الهند مثلًا على الرغم من انسحاب البريطانيين منها منذ العام 1947 إلا أنّ عاداتهم لا تزال سائدةً هناك، ومنها ما هو خطير، كوجود تمثالٍ لأحد أمرائهم، لقد رأيت ذلك وقلت لهم: "الفرق بيننا وبينكم أنّ شعبنا أسقط تماثيل السلاطين وأشباههم ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾[1] وأنتم تحتفظون بهذا التمثال"، وكانوا في عطلةٍ فسألتهم عن السبب فقالوا إنّه أحد احتفالات البريطانيين! هذه هو معنى عدم الحساسية تجاه العادات الجاهلية.

 

ثالثًا: التعامل المنطقي

كلا  النحوين المتقدمين خاطئ: أن يُنظر إلى كافّة العادات السابقة بعين الـمُعارضة لها بالـمُطلق وحذفها جميعًا - وهذا رائجٌ في كثيٍر من الدول الشيوعية - وكذا أن يُحْتَفَظ على هذا النحو - كما في الهند -  بجميع العادات وانعدام الحساسية إزاء العادات الجاهلية، والذي هو بدوره أمرٌ سيّئ. ليس الإسلام كذلك, فإنّ نهجه وسطيٌّ, أي  إنّه يدعو لتقويم العادات والاحتفاظ بالحَسنة منها ونبذ سيّئها، وتلك التي ينبذها فإنّما يفعل ذلك بالاستدلال وبالمنطق ومع الالتفات إلى جوانب الأمر، وبنحوٍّ يترسّخ في قلوب الناس ويتعمّق.

 

نظرة الإسلام العقلانية للطلاق

النقطة الثانية هي الفرق بين الظِّهار والطلاق، وهو أمرٌ يستوجب حقيقةً الدقّة والاهتمام، ويُظهر لنا بنحو ٍكاملٍ منطقيّة الأحكام الإسلامية وعقلانيتها. في الجاهلية, أيّ في مجتمعٍ جاهليٍّ لا يُعمَل

 


[1] سورة طه، الاية 79.

 

27


17

المحاضرة الأولى

فيه بشيءٍ على أساس المنطق والعقل، وكلّ ما فيه تعوزه الحكمة، حتّى الطلاق غير معقول, فما إن يغضب الرجل - كما الحادثة التي هي شأن نزول هذه السورة - حتّى يقول لزوجته فجأةً: "أنتِ عليَّ كَظَهر أُمي" فينتهي الأمر وينتهي كلّ شيءٍ بينهما، ويحرم كلٌّ منهما على الآخر، لا أنّهما يتطلّقان ويمكن لأحدهما أن يرجع بعد ذلك إلى الآخر، بل إلى الأبد، فحتّى وإن كان لهما أطفالٌ وكان لهما حياةٌ مشتركةٌ وكان لهما أسرةٌ وعُشٌ للزوجية فإنّ كلّ هذا ينتهي. إنّ هذا الأسلوب أسلوبٌ غير معقولٍ وأسلوبٌ تعوزه الحكمة، والإسلام يُعارض بالـمُطلق هذه اللا عقلانية وانعدام الحكمة في طريقة حياة الإنسان. لقد شرّع الإسلام الطلاق، هذا أوّلًا، لا كالمسيحية التي لا طلاق فيها, ففي الديانة المسيحية الكاثوليكية لا طلاق، وعندما يتزوّج الرجل والمرأة فإنّ قِلادة الزواج تُوضع للأبد في عنق كليهما، فالمرأة لهذا الرجل، والرجل لهذه المرأة، ولا مناص لهما إلا أن ينسجما معًا، والموت وحده هو الذي سيُفرّق بينهما، فحتّى وإن أخطأ أحدهما في اختياره، أو لم يكن الشاب على معرفةٍ مُسبقةٍ بالفتاة، ولم تكن هي على معرفةٍ به، وحتّى وإن لم تتوافق أخلاقهما معًا، أو عرض عارضٌ مهمٌّ في حياتهما نفّر أحدهما من الآخر، أو ملّ أحدهما من الآخر، أو كان أحدهما عقيمًا وأراد الرجل الزواج بامرأةٍ أخرى ويُرزق بولد، أو أرادت هي الزواج برجلٍ آخر لتُرْزق منه بولد، كلّ هذا لا أهميّة له في الكاثوليكية, فما إن يذهب هذان الزوجان إلى الكنيسة ويعقد القسّ قرانهما حتّى يغدو هذا القِران أبديًّا حتّى الموت. هذا غير عقلاني، والإسلام يرفضه، ففي الإسلام صحيحٌ أنّ هذين الزوجين أجريا معًا عقدًا، بيد أنّه ليس عقدًا ماديًّا، بل عقدٌ قلبيٌّ وعقدٌ إنسانيٌّ، وهو في كلّ الأحوال عقدٌ ويجب السماح لهما حينما يعجزان عن الانسجام فيما بينهما

 

28

 


18

المحاضرة الأولى

وعن العيش معًا أن يفسخا هذا العقد، ويجب أن يُتاح لهما هذا الأمر.

 

ثمّ بعد أن يشرّع  أصل الطلاق فإنّه لا يتركهما بحيث يتمكّن الرجل والمرأة من الطلاق على هواهما، فكلّما شاء الرجل يرمي مباشرةً بامرأته بعيدًا، أو ترمي هي بزوجها بعيدًا وتتّخذ لها زوجًا غيره. فالإسلام لا يُجيز هذا أيضًا، بل يشرّع الطلاق بنحوٍ لا يصير أداةً لإعمال الهوى. فلولا التشديدات والشروط التي فرضها الإسلام في الطلاق، لكان الرجل ما إن يشبع من امرأته وقد عاش معها عامًا أو عامين أو ثلاثة ووجد، كما يبدو له ولِناظِرَيه، مثلًا امرأة أفضل، فإنّه سيُطلّق امرأته ويتزوّجها، أو أنّ المرأة ما إن ترى رجلًا أفضل حتّى تُطلّق - على فرض قدرتها على الطلاق - مباشرةً زوجها وتتّخذ لها زوجًا آخر. بل طريق الطلاق طريقٌ شاقّ، وطريقٌ له شروطٌ إن خلا منها غدا غير ممكن.

 

شروط الطلاق المتشدّدة في الإسلام

أوّلًا: وضع الطلاق بيد الرجل ولم يضعه بيد المرأة، وهذا بحدّ ذاته يحلّ كثيرًا من الـمُعضلات, فلو كان الطلاق بيد المرأة - وهي عاطفيةٌ أكثر من الرجل - فإنّها ما إن يتشاجرا حتّى تجهش بالبكاء ويتعكّر صفوها وتقول له "لن أعيش معك بعد الآن" ثم تنهض وتترك بيت زوجها. وهذا كثيرًا ما يحدث، إلّا أنّكم لا ترون الزوج - حين يتشاجر وزوجته - يترك بيته ويذهب مثلًا إلى بيت أحدهم. المرأة عاطفيّةٌ وانفعاليةٌ، وما إن يدخل الزوج البيت جائعًا مُنهكًا مُنزعجًا ويسأل مثلًا أين طعامي؟ وقد يكون صفوها معكّرًا فرضًا، حتّى تقول له: عن أيّ طعامٍ تتحدث! الطعام غير جاهز، وهل أنا مجبرةٌ على فعل شيء؟ وتعمل على إنهاء كلّ شيءٍ بينهما، وتطلّق زوجها، على فرض قدرتها

 

29

 


19

المحاضرة الأولى

على ذلك! فلو كان الطلاق بيد المرأة لشكّل الأمر كارثةً، ولارتفعت إحصائيات الطلاق بنحوٍ مضاعفٍ. لقد قامت بعض الدراسات على مقارنة حالات طلب الطلاق في أحد بلدان أوروبا عند الأديان والمذاهب التي تقرّ الطلاق، فتبيّن أن مطالبة النساء به أكثر من الرجال، لهذا جُعل الطلاق بيد الرجل، لكن من دون أن يعني ذلك أنّ للرجل أن يتجبّر، فما إن يرى أنّ زوجته لم تعدّ الطعام، أو لم تجهّز له ملابسه مثلًا، أو ربّما تأخرت قليلًا في العودة إلى المنزل، أو لم تكن أخلاقها تلائم أخلاقه - ولو بنحوٍ ما - حتّى يقول لها مباشرةً: أنت طالق، لقد طلّقتك ثلاثًا! فمسألة الطلاق ليست بهذه السهولة, فقد وضع الشرع جملةً من الشروط ليصحّ ذلك، أوّلها أنه يجب حين الطلاق أن يسمع صيغته شاهدان عادلان، أمّا معنى الشاهد العادل هنا، فلا يكفي حسن ظاهره ليكون عادلًا، بل المطلوب هو العادل الحقيقي، ففي صلاة الجماعة مثلًا إذا صلّيتم خلف شخصٍ ما، ثم تبيّن لكم فيما بعد أنّ هذا الشخص لا دين له من الأساس، وأنكم خُدعتم بظاهره الحسن، فإنّ صلاتكم صحيحة ولا يجب إعادة أي جزءٍ منها، حتّى لو تبيّن لكم أنّ من صلّيتم خلفه كان يهوديًّا!  وقد ورد ذلك في الروايات. كما جاء في الروايات أنّ مثل هذا الأمر حصل, فقد جاء أحدهم الإمام وقال: "رافَقَني من خراسان إلى الكوفة، أو مكان آخر، شخص, ولشدّ ما كان ظاهره حسنًا فقد كنت أصلي طوال الوقت مُقتديًا به، وبعد أن وصلنا إلى الكوفة - مثلًا الكوفة، أو بغداد أو مكان آخر - حتى تبيّن أنّ الرجل يهودي مُتظاهر بظاهر المسلمين، فهل عليّ إعادة الصلاة؟" فقال الإمام: "لا"[1]. ولكن إذا طلق أحدكم زوجته عند رجلٍ عادلٍ، ثم


 


[1] الكافي، ج3، 379. (نص الرواية: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال وكان يؤمهم رجل فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه يهودي؟ قال: لا يعيدون).

 

30


20

المحاضرة الأولى

تبيّن له أنّه يكذب أحيانًا، فطلاقه لها باطلٌ، بل يجب أن يكون عادلًا في الحقيقة. والسؤال هو أين يمكن إيجاد هذا العادل؟ ومن أين لأيّ أحدٍ العلم بعدالته؟ هذا الأمر يتطلّب جهدًا كبيرًا، هو ليس بالأمر المستحيل، لكنّه صعب. 

 

ثانيًا: ألّا يقع الطلاق في فترة الحيض، بل في حالة النقاء، فالمرأة تحيض مدّة عشرة أيامٍ كحدٍّ أقصى شهريًا، ولا يصحّ طلاقها خلال حيضها، بل يجب أن تكون في حالة نقاءٍ وطهر غير طهر المواقعة. وعادةً ما يمكن أن تغلب على الرجل شهوته عندما تفرغ امرأته من حيضها فيُواقعها، وما إن يُقاربها فإنّه لم يعد بإمكانه طلاقها في هذا الطُّهر، وتأجّل الأمر إلى حيضةٍ أخرى وطُهر غير مُواقعة، لكي يتمكّن من طلاقها حينها.

 

ثمّ على فرض تحقق هذين الشرطين ووقوع الطلاق، فإنّه يجب على المرأة أن تبقى في بيت زوجها وألا تغادره في فترة عدّة الطلاق، وهذا ما يؤمّن إمكانية الـمُقاربة، فالرجل عادةً يميل جنسيًّا إلى زوجته بعد أن يبتعد عنها لفترةٍ مثلًا، فما إن يميل إليها ويرغب بها جنسيًّا ويمسّها حتّى يبطل الطلاق، ويُعدّ هذا رجوعًا، وإذا كشف عنها حجابها -فيما لو احتجبت عنه- عُدّ هذا رجوعًا أيضًا. فمسألة الطلاق إذًا مسألةٌ مُتزلزلة، صحيحٌ أنّه موجودٌ ومشروعٌ في الإسلام، لكنّ الطريق إليه صعبٌ وشاقّ، وذلك  لكي يُحال دون إعمال الهوى فيه، ولتجري الأمور بمنطقيّةٍ وعلى أساسٍ متين، وعليه فإن لم ينسجم الرجل حقيقةً مع امرأته، أو كان قلبه أسير امرأة أخرى بحيث لم يعد بإمكانه أبدًا أن يعيش مع زوجته، ولا ثمرة في حياةٍ كهذه، أو أنّه عانى كثيرًا بحيث لم

 

31


21

المحاضرة الأولى

يعد بإمكانه تحمّل هذه المرأة, فإنّه سيحقق كلّ هذه الشروط للطلاق، وسيقع الطلاق، ولا مانع في ذلك أيضًا. أما إن كان الهوى هو الحاكم، فلن يحصل الطلاق. هذا هو الفرق بين الأسلوب الذي يتّبعه الإسلام والأساليب الجاهلية، سواءٌ جاهلية ذلك الزمان حيث يقع الطلاقَ بظِهارٍ واحدٍ، وتغدو المرأة مطلقة أبديًّا، أم جاهلية اليوم - كما يقول محمد قطب[1]: جاهلية القرن العشرين[2] - حيث الطلاق غير حقيقيّ في كثيرٍ من الأحيان، وهو أحيانًا سهل جدًّا, حيث يُطالب أحد الزوجين بالطلاق مباشرةً، وما إن تشعر المرأة مثلًا أنّ قلبها قد نفر من زوجها حتى تسعى إلى تغييره كما تغيّر ملابسها، وتذهب إلى المحكمة طالبةً الطلاق، وكذلك الزوج يستدعيها إلى المحكمة ويحصل الطلاق بينهما بسهولةٍ تامّة. هذه أيضًا جاهلية، والإسلام يرفض كلًا من هذين الأسلوبين اللا منطقيين.

 


[1] الشيخ محمد قطب (1919-2014 م): شخصية دينية وثقافية مصرية معروفة، وشقيق سيد قطب. يُعد من مفكري العالم الإسلامي الـمُهمّين وله آثار مهمة عديدة.

[2] إشارة إلى كتاب "جاهلية القرن العشرين".

 

32


22

المحاضرة الثانية

المحاضرة الثانية

الآيات 5-7

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ  *  يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

 

 

 

* (24/02/1361) (14/05/1982)

33


23

المحاضرة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

بعد شرح القسم الأول من السورة في المحاضرة الأولى ننتقل إلى القسم الثاني من الآية الخامسة وحتى السابعة من السورة المباركة.

 

شرح الآيات

سأعرض أوّلًا ترجمةً واضحةً وقصيرةً للآيات مع شرحٍ مختصرٍ للمفردات، ثمّ أقدّم بيانًا وتفسيرًا لهاتين الآيتين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أصل ﴿يُحَادُّونَ﴾ هو "يُحادِدون" ومصدرها "مُحادّة"، وكذا فجذرها اللغوي هو "حدّ" وسأشرحه لاحقًا. ﴿كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أيّ لا مجال للشكّ والشُبهة، وليس بإمكانهم القول إنّهم لم يكونوا يعلمون، وإنّ عصيانهم لله تعالى ناجمٌ عن جهل، فالآيات الإلهيّة جاءت سابقًا بنحوٍ بيّنٍ وجليّ، وهم يعلمون كلّ شيء، ومع ذلك فهم يُعادون الله ورسوله، وهؤلاء مصيرهم هو: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ "مُهين" من "الهَون" وهو من نفس جذر "الإهانة" وبمعنى "مُذِل". لقد قدّر الله تعالى للكافرين عذابًا بهذا النحو "مُهين"، فمَن هم الكافرون؟ هم أولئك الذين حادّوا الله ورسوله، لأنّه تعالى يقول في آخر هذه الآية: وللكافرين عذاب مُهين، وقد جاء في أول الآية الكلام عن أولئك الذين يُحادّون الله ورسوله، وهذه قرينة على أنّ المقصود من الكافرين هم أولئك الذين حادّوا الله ورسوله وليس الـمُراد كافرًا آخر. و"الكافر" بمعنى الساتر، و"مُحادِد" بمعنى الشخص الذي يُعادي الله ورسوله. ثمّة صلةٌ بين هذه العداوة وهذا السِّتْر.

 

34

 


24

المحاضرة الثانية

ولأيّ حينٍ هو هذا العذاب الـمُهين؟ من الممكن أن يكون الله قد قدّر عذابًا أليمًا -مُهينًا لأولئك الكفار- في الدنيا أيضًا، لكنْ ما هو المهم والمقصود من هذه الآية هو ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ أيّ إنّ العذاب الـمُهين هو في الآخرة. ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا﴾ "يُنَبِّئُهُم" أيّ يُخبِرهم بكلّ أعمالهم في الدنيا والتي نسوها هم أنفسهم: ماذا فعلوا، وأيّ سيّئاتٍ اقترفوا، أين وجّهوا ضربة، وأين كان لهم عداوة ولا يذكرونها، أيّ إنّه يضع نصب أعينهم يوم القيامة قائمة أعمالهم السوداء.

 

﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾

"الإحصاء" هو العدّ الكامل من دون زيادةٍ أو نقصان، أيّ إنّ الله تعالى عدّ أعمالهم بنحوٍ كاملٍ، ولم يسهُ القلم عن إحصاء شيءٍ من خطاياهم التي ارتكبوها في الدنيا. وهذا أمرٌ عجيب: أنْ ينسى الإنسان كلّ ما فعله طوال حياته والخطايا التي اقترفها ولا يذكرها هو نفسه حتّى ولا يذكرها في القيامة كذلك، ثم قد ينكرها عندما يُخبَر بها يومئذٍ. في الحديث أنّه عندما يُقال للإنسان: لقد قمت بهذا الفعل السيئ، يقول: "لا، أنا لم أفعل هذا"[1]، لأنّه لا يذكر، لا أنّه يريد أن يكذب، ثمّ يُنطِق الله تعالى يده ورجله ولسانه وعينيه وجوارحه وأعضاءه التي كانت آلة اقتراف تلك المعاصي ويقول لها: اُنطقي! فآنذاك تتكلم يد الإنسان – مثلًا - وتقول: بلى! لقد اقترفت تلك الخطيئة، فكيف تنكر أنّك صفعت المظلوم الفلاني؟! لقد كنتُ أنا نفسي اليد التي صفعته بها، وكيف تقول إنك لم تكتب حكم المعصية الفلانية، أو مثلًا إنّك لم تنظر بعينٍ تستشيط غضبًا إلى إنسانٍ سليمٍ وصالح؟! أو إنك لم تلْكُم الشخص الفلاني في صدره؟! إنّك  من خلالي أنا نفسي، يدك، قُمتَ بهذا العمل، ومن خلالي أنا نفسي، عينك، نظرتَ تلك النظرة،


 


[1] تفسير القمي، ج2، ص 264.

 

35


25

المحاضرة الثانية

ومن خلالي أنا نفسي، لسانك، نطقتَ بكلام السوء ذاك الذي أفضى إلى شقاء أُسرةٍ أو جَمْعٍ من الناس، فكيف لك أن تُنكر الآن؟! فيقول الإنسان للسانه ويده وجوارحه: عجيب! من أنْطَقكم ضدّي؟ فتجيبه: ﴿قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾[1] أيّ إنّ معاصي الإنسان في الدنيا هي من الكَثْرة بحيث إن الإنسان نفسه ينساها، ومن هنا فإنّه حين يُقال: إذا أويتم إلى فراشكم فتذكّروا أعمال يومكم ذاك ودوّنوها وانظروا أيّها سيِّئٌ وأيّها حَسَنٌ، فاستغفروا لسيِّئها واشكروا الله تعالى لحَسَنها لأنّه وفّقكم لعملها، فإنّ ذلك حتّى لا ننسى خطايانا. قد يكون الإنسان أحيانًا ساهيًا غافلًا، فيُسيء القول لشخصٍ ويقول باطلًا ويتّهم ويكذب، ثمّ ينسى ولا يعلم تبعات فعله. فقد يكذب أحدهم كذبةً من شأنها أن تضرّ بغيره، فينقلها شخصٌ عن لسانه ثمّ ينقلها آخر عنه، وكذا ينقل أربعة أشخاص عن قول ذينك الاثنين، فترون فجأةً أنّ شائعةً أُذيعت ضد ذاك المسكين مصدرها الكذبة الأولى، قد يكون ذلك ناشئًا عن غضبٍ مثلًا، لكنه لا يعلم إلى ما أفضت إليه كذبته. أو قد يُحدّق أحدهم بشخصٍ وهو يستشيط غضبًا، أو يُهين آخَرَ، أو يلكم ثالثًا. قد نُبتلى جميعًا بهذه الأمور - معاذ الله - ثم ننسى كم من عُشٍّ للزوجية خرّبناه، وكم من إنسانٍ دمّرناه، وكم من إنسانٍ أصابه الأذى من شائعاتنا، إنّا ننسى كلّ شيءٍ من الأساس، ويوم القيامة يضعون قائمة أعمالنا نصب أعيُننا، فينظر أحدنا ويقول: متى أنفقتُ كلّ هذا الإنفاق؟ متى كذبتُ كلّ هذا الكذب؟ متى ارتكبتُ كلّ هذه المعاصي؟ آنذاك تُلاحقنا أيدينا وأرجلنا وألسنتنا وأدمغتنا وأعْيُننا وما شابه، وتشهد علينا بأنّ هذه الأمور قد حصلت فعلًا، هذا ما تقوله الآية: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ "نسوه" من "النسيان"


 


[1] سورة فُصّلت، الآية 21.

 

36


26

المحاضرة الثانية

﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ العلم الإلهي والإحاطة الإلهية علم وإحاطة شهودية، وعلم ذاتي وليس علمًا أخذه الله تعالى من أحد، فربّ العالمين بذاته شاهدٌ على كلّ شيء، ويراه ويحيط به، ولهذا يقول تعالى في حادثة "الظِّهار" تلك: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ويعلم كل ما يخطر في ذهن الإنسان، وهو تعالى حاضرٌ وشاهد، وهذا ما سيبيّنه تعالى أكثر في الآية اللاحقة.

 

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾

 

 هذه الأمثلة في ذكر العدد سيقت من أجل فهم المقصود بشكلٍ جيّد، وفي الآية المباركة نكتةٌ جماليّةٌ مهمّةٌ جدًّا، فنحن إن أردنا أن نعبّر عن هذا المعنى فإنّا نقول عادةً: ما من ثلاثةٍ إلّا والله رابعهم، وما من أربعةٍ إلّا والله خامسهم، وما من خمسةٍ إلّا والله سادسهم، وقِسْ على ذلك، لكنّ الله لا يقول كذلك، بل يبدأ من ثلاثة ثمّ ينتقل فجأةً إلى خمسة: ما من ثلاثةٍ إلّا والله رابعهم، ما من خمسةٍ إلّا والله سادسهم، أيّ إنّه يذكر الأعداد ثلاثة وأربعة وخمسة وستة وراء بعضها البعض، وهذا جمال في التعبير. وثمّة، إلى ما شاء الله، كثيرٌ من هذه الجماليات واللّطائف في هذا الكلام الإلهي السامي التي قد نلتفت إلى بعضها وقد لا نلتفت إلى بعضها الآخر.

 

﴿وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ الله تعالى إذًا شاهدٌ على كلّ شيء، وبناءً على هذا الشهود وهذا العلم والإحاطة الإلهيّة لأعمالنا يقول: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. فإذا كان هذا المفهوم الإلهي والمفهوم القرآني في أذهاننا، وهو أنّ الله بكلّ شيءٍ خبير، فسيكون هذا بحدّ ذاته مانعًا

 

37

 


27

المحاضرة الثانية

لكثيرٍ من الذنوب. قد يستحي الإنسان من الله حينًا وقد يخافه حينًا آخر، وقد تحول محبته لله دون اقتراف المعاصي حينًا ثالثًا، لا فرق، ففي كلّ الأحوال الالتفات إلى أنّه تعالى ناظرٌ وحاضرٌ في خلواتنا يُفضي بنا إلى ألّا نقترف المعاصي حتّى فيها. هذا هو معنى الآية بنحوٍ سهلٍ وبسيط.

 

بحث حول معنى "يُحادُّونَ اللهَ"

 

"يُحادّون" - كما أسْلفنا - أصلها "يُحادِدون" وقد أُدغِمَت الدّالان فصارت "يُحادّون"، وجذرها اللغوي "حدَّ"، أيّ "مَنعَ". وقد فُسّرت "يُحادّون" بـ "يُعارِضون ويُعادون"، تذكّروا معنى "العداوة" ومعنى "الـمُعارضة" اللّذين ذكرناهما كمعنىً لكلمة "يُحادّون". ولكن أيّ نحوٍ من العداوة هو هذا؟ يتّضح الأمر من جذر الكلمة نفسها، وهو "الحدّ" أيّ "المنع"، فالحدّ هو الشيء الفاصل بين أمرين. فما معنى الحد الفاصل بين هذه الغرفة وذاك الدهليز مثلًا؟ إنّه الشيء الذي يمنع أن تكون هذه الغرفة جزءًا من ذاك الدّهليز، أو أن يكون هو جزءًا منها، لذلك يُقال للفاصل بين الدول "حدود". وعليه، فإنّ التدقيق والتحليل في العداوة - وهي من معاني المحادّة - بالعودة إلى جذرها اللغوي، يجعلنا نفهم أنّ هذه المعارضة هي الحؤول دون دخول الإنسان ضمن الحدود الإلهية، أو دون أن تُداخِل المعارف الإلهية وجودَ الإنسان. أمّا المقصود من الآية فليس خصوص من كان عدوًّا لله ورسوله، بل كلّ من عاداهما، فالعدوّ غير المعادي، ونحن قد تشملنا الآية لأننا مع حبّنا لله تعالى ولرسوله  صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنّنا نعاديهم أحيانًا. وهذا العداء يكون بمعنى منع الناس من الدخول ضمن الحدود الإلهية، أو منع المعارف والأحكام الإلهية من أن تنفذ في ذهن الإنسان أو عمله. يُقال لهذا النحو من

 

38

 


28

المحاضرة الثانية

العداء "مُحادّة"، وهذا هو معنى "يُحادّون". أمّا تحديد مصداق هذه المحاداة وأولئك الذين يحادّون الله، فنظرًا لوجود تيّارين متعارضين، هما التيّار الإلهيّ النبويّ والتيّار المضادّ لكلّ ما هو إلهيٌّ ونبويّ، يكون أولئك هم الذين يعملون على إزالة الحدّ الفاصل بين هذين التيّارين، أيّ يُجرون الأحكام المتعلّقة بالتيّار المعادي للتيّار الإلهيّ على هذا الأخير، فيعملون ضمن الحكومة الإلهيّة بَيدَ أنّهم لا يلتزمون بالأحكام الإلهيّة ولا يُراعون الحدود الإلهية. والله تعالى يقول في الآية السابقة ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ﴾ وقال في أخرى ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[1]. وعليه، فمراعاة الحدود الإلهية والانتباه لها وعدم تعدّيها هي من أعظم ما ينتظره الدّين من الـمُتديّنين، بمعنى أنْ تُصان الحدود الإلهية، سواءٌ حدود الفكر أم حدود الأحكام أم حدود القِيَم، يجب الحفاظ عليها جميعًا وعدم المساس بها، فلو مُسّت هذه الحدود فهذا هو التعدّي لحدود الله الذي جاء ذكره في الآية المباركة[2]. هذا بحثٌ حول كلمة "مُحادّة" حتّى ندخل إلى الاستنباط الكلّي لهذه الآيات.

 

الكَبْت مصير أعداء الأنبياء عليهم السلام

أمّا مصير هؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله فقد حدّدته الآية بأنّه الكبت وهو بمعنى القمع، أي جعلُهم مُنزَوين وأذلّاء ومنعُهم من التقدّم والحركة، والحكمُ عليهم بذلك. والآية تتحدّث عن مصير أولئك الذين لم يؤمنوا وجابهوا تيّار الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، من دون أن يعني ذلك أنّ الأمر هذا مختصٌّ بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل الآيات تذكر قانونًا عامًّا، لكنّ الله يبيّنه بلسان الحكاية عن ذلك العصر، فأولئك الذين

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 229.

[2] آية سورة البقرة.

 

39


29

المحاضرة الثانية

يُعارضون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقفون في وجه حركته الثوريّة وتيّاره الإلهيّ، مصيرهم القمع، لا القمع على أيدينا نحن على نحو الحكم التكليفي - طبعًا من الممكن أن يُحكم عليهم بالقمع على نحو التكليف أحيانًا - فالله تعالى يقول لرسوله ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾[1] لكن ليس هذا هدف الآية، بل إنّها تبيّن أنّهم بناءً على القوانين والنُظم الاجتماعية والتاريخية محكومٌ عليهم بـِ"الكَبْت" والقمع. فكأنّه تعالى يقول: يا أهل الدنيا! ويا أبناء كلّ عصور التاريخ! اعلموا أنّ الذين يتصدّون لتيّار الرسول ويُقاومونه لن يبقوا على وجه الأرض، بل هم إلى فناءٍ وإلى زوالٍ ومحكومٌ عليهم بالانقراض. ﴿كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ والأمر لا يقتصر عليهم، بل لقد حُكِم على أولئك الذين وقفوا قبلهم مقابل تيّار النُّبُوات بالزوال وانقرضوا جميعًا. فالله تعالى يتحدّث عن قانون ٍكليّ.

 

تغيير الأفكار والأفعال والقِيَم من أهداف ثورة الأنبياء عليهم السلام

عندما يُبعث الرسول يُحدِثُ ثورةً ويُوجِدُ حركةً ثوريّةً في المجتمع، وهذه الحركة الثورية هي بمعنى إيجاد تيّارٍ جديدٍ يشمل الفكر والعمل والقِيَم وسائر القضايا المطروحة في مجال حياة الإنسان. هذه هي حركة الرسول الثوريّة، وهذا هو معنى حركة الدين وثورة الدين، أيّ عندما يُبعث النبي فإنّه يُغيّر أذهان الناس التي كانت إلى ذاك الحين محدودة التفكير، فمن يرى الدنيا مجموعةً من الموجودات الإنسانية السجينة في هذا العالم المادي أو في القبيلة - مثلًا لو فرضنا أنّ عدد أعضاء القبيلة الفلانية 500 شخص أو ألف شخص  أو 10 ملايين شخص أو 50 مليون شخص أو مئة مليون شخص، وهو مثلًا عدد كلّ سكان الأرض آنذاك،

 


[1] سورة التوبة، الآية 73.

 

40


30

المحاضرة الثانية

لا فرق في ذلك قلّ العدد أو كثُرَ، المهم هو وجهة النظر المادية - فأُفق تفكيره محدود. واليوم أيضًا فعندما يحصر ماديّو العالم عالمَ الخلق - أيّ الوجود - بما تراه عين الإنسان أو بما يمكن رؤيته بالعين، فهُم في الحقيقة ضيّقو الأفق ومحدودو التفكير، ويرون كلّ شيءٍ ضمن حدودٍ ضيّقةٍ وتحت سقفٍ واحد. لكن ليس للموحّد هذه النظرة المحدودة، فهو يعتقد أنّ للوجود أفقًا آخر أوسع ممّا تراه العين أو ممّا يُمكن لها أن تراه، لا يُمكن إحصاؤه وعدُّه، وهو عالم الخلق الإلهيّ والوجود الإلهيّ. في الواقع، الاعتقاد بالله يُخرج الإنسان من دائرة ضيق الأفق ومحدوديّة التفكير، ويُدخله في بحرٍ لا نهاية له من الوجود والكينونة، وهذا يحصل في عالم الذهن وعالم الفكر. إذًا، فحينما تحدُث ثورة الرسول ويتحقّق ذاك التيّار النبويّ والتيّار الإلهيّ في عصر الرسول، فأوّل ما يفعله هو أنّه يُغيّر أذهان الناس. إنّ الناس الذين كانت تنحصر كافّة مبادئهم، وتمنياتهم، ومودّتهم، وآمالهم، ورؤاهم المستقبلية، وآلامهم وعلاجاتهم في أنفسهم وفي أصنامهم - أيّما كانت تلك الأصنام - يشعرون فجأةً "أنّ الأكوان والأفلاك مُلكٌ للعالم ذاكَ"[1]، وأنّ العالم أساسًا لا ينحصر بما هو هنا، ويتساءلون وعمّا وراء الدنيا، وحتّى الرسول نفسه كإنسانٍ لا يُتّخذُ حدًّا لنظرة الإنسان الموحد ولرؤيته، فالنبي يُمكن النظر إليه من جهة أنّه بوابةٌ نحو بحر الوجود العظيم ذاك ومُحيط الكينونة الأزلي، وإلّا فليس الأمر أنّ كلّ شيءٍ ينتهي عند وجود الرسول، وما إن ينتهي الحدّ الوجودي للرسول ينتهي معه كلّ شيء، وإنّ فكرة عدم محدودية الحقائق بالرسول هي أوّل ما يمنح الإنسانَ نظرةً إلهيةً ونظرةً توحيديةً


 


[1] الشطر الثاني من بيت الشعر هذا للشاعرة الإيرانية پروين اعتصامي: «اگر زين خاکدان پست روزي بر پرى بيني/ که گردونها وگيتي هاست ملک آن جهاني را» (إذا حلّقت يومًا وراء عالم التراب الدّاني هذا / ترى الأكوان والأفلاك ملكًا للعالم ذاكَ).

 

41


31

المحاضرة الثانية

ويُخرجه من محدوديّته، فيرى أنّ الحياة لا تنتهي بالموت. فكم هناك من الفارق بين من يرى أنّ الحياة هي هذه العشرون أو الخمسون أو الستون سنةً التي قد يعيشها الإنسان عادةً، ومن يرى أنّ هذه العشرين أو الخمسين أو الستين سنةً ليست إلّا جزءًا ضئيلًا جدًّا وقطرةً من بحره الوجودي. كم تختلف نظرة الإنسان! فتلك الأولى ضيّقة الأفق، وهذه الثانية هي رحابةٌ في الفكر واتّساعٌ في النظرة للعالم. صحيحٌ أنّ الذهنية التي تحدّثتُ عنها تُغيّرها الثورة، لكنّ هذا التغيير لا يقتصر على هذه المقولة، بل يشمل الكثير من القضايا في فكر الإنسان، ثمّ تأتي الثورة على أعمال النّاس وتغيّرها وتحوّلها. غالبًا ما يكون سلوك الإنسان وتعامله شخصيًّا وفرديًّا ومُقترنًا بالمعصية والأساليب الخاطئة في الحياة، ومترافقًا مع الأنظمة الفاسدة للحياة الجَماعِيّة، وهذه هي طبيعة أعمال الإنسان، وما إن يأتي التيّار الإلهيّ الثوريّ هذا فإنّه يُغيّرها جميعًا وينزع عن الإنسان أساليبه الخاطئة في الحياة مخاطبًا إيّاه: لا تكذب يا سيّد! لا تَغْتَبْ يا سيّد! لا تتّهم يا سيّد! لا تُسِئ الظنّ يا سيّد! لا تكن أنانيًّا يا سيّد! لا تعمل من أجل نفسك فقط! لا تسعَ من أجل نفسك وحسب! مجموع هذه الأوامر يشكّل ذاك التصرّف والتغيير في أنماط الحياة اللذَين تضطلع بهما الأحكام الإسلامية. يأتي الإسلام حاملًا أنماطًا جديدةً في شؤون الاقتصاد، وفي شؤون الحكومة، وفي الشؤون الاجتماعية والفردية، وفي شأن الأسرة، وتربية الأبناء وفي كلّ شيءٍ، معتبرًا أنّ تلك الأساليب كانت خاطئة، ويقدّم الأساليب الصائبة، ثم يُغيّر حينها النظام القِيَمي ومنظومة القِيَم كذلك. افترضوا أنّ الناس كانوا يتباهون آنذاك بكون الرجل مُتجبّرًا يبطش بأقرانه ويطرحهم أرضًا بضرباته، وأنّه كان مهمًّا لديهم أنْ يذكر الجميع اسمه بخشية، ويتملّقونه حينما يظهر في الحي، ثمّ بعد مجيء النظام الإلهيّ غدت

 

42

 


32

المحاضرة الثانية

القيمة بأن يقول شخصٌ: "لقد قدّمتْ أُسرتنا ثلاثة شهداء"، ويقول آخر: "مصادفة غريبة! فقد قدّمتُ أنا أيضًا - بصفته أبًا أو أُمًّا - أربعة شهداء". فالقيمة تصبح في هذه الأمور، وتصير الشهادة قِيمة، وجريح الثورة قيمة، وتقديم عينٍ في سبيل الله قيمة: في جبهات الحرب، في بازى دراز[1]، في هُويزه، في سوسنغرد (سوسنگرد)، افترضوا أنّ القتال في عمليّات الفتح المبين[2] وبيت المقدس[3] يغدو هو القيمة، وأساسًا، فإنّ القِيَم تتغيّر بالمطلق. في الماضي، سواء قبل الإسلام أم قبل الثورة، كانت القِيَم شيئًا ثمّ غدت شيئًا آخر. إذًا، حينما تأتي الثورة الإسلامية - وقد كانت في عصر الرسول ثورةٌ إسلاميةٌ أيضًا، وما جرى آنذاك هو عين ما جرى في زمانكم هذا - تُغيّر حياة الناس، أيّ تُوجد تيّارًا جديدًا للحياة. ومقابل هذا التيّار يقف التيّار السابق وهو تيّار الحياة الطاغوتية، سمّوه ما شئتم. مردُّ تسميتنا إيّاه بالطاغوتي أنّه تطغى فيه الأهواء والأنانيّات على الحياة وعلى القِيَم الحقّة، والإنسان الذي يقبع


 


[1] منطقة جبلية بمرتفعات شاهقة وهامة ومنحدرات حادّة غربي إيران وفي المناطق الحدودية لمحافظة كرمانشاه مع العراق.

[2] نُفّذت عمليات الفتح المبين في الثاني من فروردين 1361 (22 آذار 1982) بنداء "يا زهراء" بقيادة مشتركة للحرس الثوري والجيش في الجبهة الجنوبية ومحور شوش، نهر كرخه، طريق أهواز – انديمشك، وغرب دزفول. نجم عن هذه العمليات إنجازات هامة لإيران، من ضمنها: تحرير حوالي 2400 كيلومتر مربع من تراب جمهورية إيران الإسلامية، خروج مُدن دزفول وشوش وانديمشك عن نطاق مرمى العدو وأنظاره المؤثّرة، الحصول على غنائم مهمة من السلاح الخفيف والثقيل (مئات الدبابات والعربات وناقلات الجند، أسر ما يُقارب 15000 من جنود وضباط الجيش العراقي وتدمير قسم مؤثّر من القدرة العسكرية للعدو).

[3] جرت عمليات بيت المقدس في فجر العاشر من أُرديبهشت 1361 (30 نيسان 1982) بنداء "يا علي بن أبي طالب" بقيادة مشتركة للحرس الثورية والجيش في محور أهواز – خُرمشهر – دشت آزادگان. كان تحرير خرمشهر في الثالث من خرداد 1361 (24 أيار 1982) أهم إنجاز لهذه العمليات الـمُكلّلة بالنجاح.

 

43


33

المحاضرة الثانية

على رأسه هو الطاغوت. كما بإمكانكم تسميته بتيّار الحياة الجاهلية، لأنّه بُني على أساس الجهل بالقِيَم الإنسانية، ولا يوجد فيه أيّ اهتمامٍ بها، ويُصار فيه إلى الجهل بالقِيَم الحقيقية. كما يمكننا تسميته تيّار الكفر بالمعنى الأصلي للكلمة، وهو السَّتْر، لأنّ حقائق الخلق وحقائق الإسلام تُستَرُ فيه.

 

عاقبة معارضي ثورة الأنبياء عليهم السلام

 

هناك جماعات تقف في وجه هذا التيّار الإلهي، أيّ إنّهم لا يكترثون للأفكار والذهنيّات الصحيحة الموجودة في التيّار الإلهي والإسلامي ويُعارضونها ويُحادّونها، وكلّ من لديه فكرٌ التقاطيّ، وفكرٌ مُعارضٌ ومُضادٌ للفكر الإسلامي، أو كان لا يأبه بالأفكار الإسلامية الصحيحة ولا يعتني بها فهو على هذه الصفة وهذه الشاكلة. فكلّ من يُعارض نمط الحياة الذي جاء به التيّار الإسلامي والأحكام الإلهية والقوانين الإلهية هو من هذا القبيل، وهؤلاء هم الذين يحادّون الله. كلّ ما كان يُقال عن الأحكام الإسلامية من أنّ تطبيقها غير ممكنٍ في هذا العصر - وقد جاء هذا الكلام كثيرًا على لسان أحدهم أوائل الثورة أنّ الإسلام لا يمكن تطبيقه ولا فائدة فيه ولا يمكن العمل به - هو مُحادّةٌ لله ولرسوله، والقائلون بذلك "كُبِتُوا" حقًّا. لقد شاهدتم المصير القاتم الذي واجهه ذاك التيّار الـمُعارِض للتمسُّك بالعمل الإسلامي وبالفقه الإسلامي[1].

 


[1] من ضمن ذلك يُمكن الإشارة إلى مواقف الجبهة الوطنية الإيرانية في معارضتها لحاكمية قوانين الإسلام وإصدارها بيانًا في خرداد 1360 (أيار – حزيران 1981) دعت فيه أنصارها إلى مظاهرات ضد مشروع قانون القِصاص. وفي ردٍّ ثوري على موقف الجبهة الوطنية هذا، قال الإمام الخميني (قدس سره الشريف): "تقولون عن القصاص, قانون الإسلام الجليّ هذا؛ قانون الإسلام الضروري هذا؛ هذا القانون الذي صرّح به القرآن؛ هذا القانون الذي يضمن مصلحة البلاد وأمنها؛ إنّه قانون غير إنساني، (اعلموا أنكم) فاسدون من الأساس!... من يَقُلْ إنّ حكم الله غير إنساني وإنّ الإسلام غير إنساني فهو كافر... الجبهة الوطنية محكوم عليها مُنذ اليوم بالارتداد. (صحيفه امام، ج 14، ص 448).

 

44


34

المحاضرة الثانية

من يُعارض القِيم الإسلامية ويُعارض هذا التيّار فهو أيضًا كذلك يُحادّ الله ورسوله، أيّ إذا لم يُراعِ هذه الحدود الإلهية ولم يجعل نفسه ضمنها أو لم يسمح للآخرين بأن يكونوا ضمنها فإنّ حكم الـمُحادّة هذا يشمله. بعضهم يقول: "لقد جاؤوا لنا بالشهداء، وما قيمة الشهداء يا أخي!" أيّ إنّهم لا يدركون قيمة الشهادة ويطعنون فيها وليسوا على استعداد لفهم ما للشهادة في سبيل الله من قيمةٍ هامّةٍ وسامية. كثيرون هم من يتحسّرون اليوم لفقدانهم خِيرة أبنائهم، وأنا أسأل هؤلاء: من أين أتيتم بخيرة الشباب هؤلاء؟ أوليست الحركة الثورية لهذا الشعب هي من وهبكم هؤلاء الشباب الطيّبين؟ فلو لم يكن لدينا الثاني والعشرين من بهمن 1357 (11 شباط 1979 يوم انتصار الثورة)، ولو أنّنا لم نواجه المدافع والدبابات في الشوارع، أو أننا لم نقدّم الشهداء في السنوات الثلاث هذه[1] بعد الثورة لَما كان لدينا كذلك هذا الشباب الطيّب. لقد كان عجينًا لم يتقولب بعد، فما الذي أعطاه مثل هذا القالب الحسن؟ وما الذي جعله ثمينًا بهذا النحو حتّى تتحسّروا الآن على فقدانه؟ إلّا أنّ حركةً كحركة "الفتح المبين" هي التي صنعته وقولبته بهذا النحو حتّى صرتم تتحسّرون على فقدانه، غير أنها كانت (حركة فتح المبين) في شوارع طهران أو في كردستان أو قُبيل الثورة قليلًا. جيد جدًا، إذا علمنا أنّ توجّهات من ذاك القبيل (الثورة) ستُثمر أعزّاء من هذا النمط، فعلينا أن نعلم أنّ توجهات من هذا القبيل (الجهاد في الجبهات) ستُثمر أعزاء آخرين أيضًا. لقد كسبنا ببركة هذه الثورة وببركة هذه الحرب ملايين الناس القيّمين، فلم يكن أحدٌ منّا بالصفة التي هو عليها الآن،


 


[1] أعوام: 80-81-82, حيث بدأت الحرب المفروضة على الجمهورية الاسلامية في 21 ايلول 1980.

 

45


35

المحاضرة الثانية

فما الذي صنعناه؟ فإن كان أحدنا اليوم عاشقًا للشهادة ويرى فخره في ذلك، وإن كان يتوق للجراح في سبيل الله، فإنّ هذه قيمٌ ومناقبُ إسلاميّةٌ من النمط الأعلى، وقبل الثورة لم يكن شبابنا بهذه الخصال، والثورة والتضحيات التي رافقتها هي التي صنعتهم على هذا النحو. إنّا إذًا نُضحّي حتّى تصنع تضحياتنا جماعةً أخرى من هؤلاء الشباب، وحتّى نحن أنفسنا، فإنْ شرّفنا الله تعالى بالشهادة فإنّما نمضي للغرق في أحضان النعمة الإلهية. أليس كذلك؟ إنّ كلّ الذين لا يدركون القيم الإلهية ولا يهتمون بالحدود الإلهية ولا يراعونها، أو لا ينتبهون للأحكام الإلهية ولا يعبأون بها، هؤلاء جميعًا هم من أولئك الذين يُحادّون الله ورسوله مهما كان زيّهم، سواءٌ كان زيّ علماء الدين أم زيّ الحرس الثوري أم غيره، وإلى أيّ طبقةٍ اجتماعيةٍ انتموا، فهم يحادّون الله ورسوله سهوًا أو عمدًا أو أنانيةً. إذا تعاملتم مع الأحكام الألهية بأدنى حدٍّ من عدم الاهتمام ووضعتموها تحت أقدامكم ولم تكترثوا لها، فالأمر هو أيضًا محادّة لله ورسوله. وطبعًا هذا لا يشمل الشخص الذي يرتكب معصيةً عن جهلٍ وغفلة، بل أمامه سبلٌ للاستغفار والتوبة، إلّا إذا تكرّرت المعصية منه أو كانت معصيته كبيرةً لا يمكن قبولها. ولقد جاءت هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بعد آيات الظِّهار، فما وجه الصِلة بينهما؟ فالظِّهار حكمٌ عائليٌّ جزئيٌّ مفاده أنّه إذا ظاهَر رجلٌ امرأته فعليه الكفّارة، فإذا لم يقدّم الكفّارة ولم يعتنِ بالحكم الإلهي الذي فرضه تعالى، وقال عنه ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ﴾ فإنّ آية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ تشمله وتصدق عليه، وهذا يدلّ على أنّه لا فرق عند الله بين الأحكام الصغيرة والكبيرة، فما إن أنكرتم الحكم الصغير ووقفتم في وجهه فكأنّكم أنكرتم الحكم الكبير ووقفتم في وجهه.

 

46

 


36

المحاضرة الثانية

طاعة الرسول والإمام والولي الفقيه هي طاعة الله

قد يسأل سائلٌ عن سبب قوله تعالى في آية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ "وَرَسولَه"، أي يُعادون الرسول؟ والجواب أنّه من الطبيعي أنْ يكون كلّ من يُعادي الله فهو يُعادي الرسول، الله ورسوله ليسا تيّارين منفصلين، بل هما تيّار واحد. إلّا أنّ في الأمر نقطةً دقيقةً ولطيفة، وهي أنّ تجلّي الله تعالى غير واضحٍ في كثيرٍ من الأحيان وسبيله تعالى غير جليّة. فكفّار قريش في ذاك العصر لم يكونوا يُعادون الله، بل يظهر أنّهم كانوا يُبدون الإخلاص له والتبعيّة والمودّة حتّى إنّهم كانوا يقولون: إنّما نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله[1]، وعليه، فهم يعتقدون بالله. وإذا قيل لهم لا تُعادوا الله فإنّهم يجيبون: كلّا! إنّا لا نُعادي الله، بل نحن من أنصاره. ولقد كانت هذه مسألة المصداق الحقيقي لأنصار الله فضفاضة ًجدًّا وتحتمل الخطأ، لذا  فالله تعالى في هذه الآية يُحدّد سبيله، ويُفهِمُ النّاس أنّ سبيل الله هي التي يتحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يشتبه الأمر على أحد ويتخيّل أنّ لله سبيلًا غير سبيل الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، ومصداقه اليوم هو أنّ نهج الثورة الإسلامية ونهج الجمهورية الإسلامية ليس إلا نهج الإمام الخميني. كثيرون يدّعون أنّهم من أنصار الله ورسوله، لذا جاء في بعض المواضع في القرآن صيغة "أولي الأمر" ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ﴾[2] ليتبيّن من خلال إطاعة أولي الأمر من هم أنصار الله حقيقةً، فالأمر هو أنّ الله ورسوله وأولي الأمر ليسوا إلّا تيّارًا واحدًا. ومردُّ ذلك أنّه إذا لم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على قيد الحياة الظاهرية فلا

 


[1] كما في الآية 3 من سورة الزمر ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ والآية 18 من سورة يونس ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾.

[2] سورة النساء، الآية 59.

 

47


37

المحاضرة الثانية

ينبرِي الجميع للقول إنّهم أنصار الرسول، ثمّ يجرُّ كلٌّ منهم نار ثورة الرسول ومدرسته إلى قُرصه ويقول هي لي، ويردُّ الآخر: بل هي لي، وهذا يقول أنا أقول الحقيقة وذاك يقول أنا أقول الحقيقة... كلّا، بل ثمّة مِلاكٌ ومعيارٌ ومُحدِّد، وهو وجود "أولي الأمر"، فعندما يكون لدى أيّ توجّهٍ إطاعةٌ لأولي الأمر فهذا التوجّه صحيح. وبالطبع "أولو الأمر" بالشروط المعيّنة. وهنا أيضًا جاءت كلمة الرسول بهذا المعنى، أيّ بمعنى أولي الأمر الآنف الذكر. ففي كلّ الثورات هناك أشخاصٌ يتشبّثون بانتهازيةٍ بشعاراتٍ كليّةٍ ويدّعون اعتقادهم بهذا النهج أو ذاك ليُوقعوا الناس في الخطأ، بيد أنّه يجب عليهم أن يُحدّدوا مِعيارًا واضحًا، ولهذا فإنّ المعيار في ثورتنا هذه هو وجود الإمام وخطّ الإمام. جاءني قبل عامين إلى ثلاثة أعوام جمعٌ من هؤلاء المنافقين[1]، تفوّهوا بأمور كثيرة تافهة، قلت لهم: "اعلموا أنّ المعيار في تاريخنا هو الإمام، الإمام هو معيار وميزان (تشخيص) الحق من الباطل في تاريخنا هذا، وكل من يقف في وجه الإمام فهو باطل، وكل من كان مع الإمام فهو حق". والأمر كان كذلك أثناء فترة نضالات مرحلة الاختناق، فمن كان في جهة الإمام كان على حق ومقابله كان الباطل. بُعيد انتصار الثورة كان هناك أيضًا عدة ممن وقفوا في وجه الإمام فكانوا على باطل. قلت لهم يومذاك أيضًا: "أنتم الآن تقفون مقابل الإمام فستكونون على باطل، لا تتوهّموا أن التاريخ سيعترف بمعيار سوى الإمام"، وهذه هي حقيقة الأمر. قُصارى القول: هذا هو السر في ذكر "الرسول" هنا.

 

جملة ﴿وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ تشير إلى أنّه إذا خرج أحدٌ من نطاق الحدود الإلهية حينًا ما من دون أن تتمّ عليه الحجّة الإلهية، أو


 


[1] ["سازمان مجاهدين خلق ايران" (حركة مجاهدي خلق) أو ما صار يُعرف ب "گروهگ منافقين"(منظمة المنافقين).]

 

48


38

المحاضرة الثانية

يكون عنده دليلٌ إلهي على خلاف عمله فالمحادّة لا تشمله، بخلاف من كان لديه الحجّة والدليل الإلهيّان على خلاف ما يقوم به، فإنّه ممّن يُحادّون الله ورسوله، وقد جاءتهم البيّنات وتجلّى لهم الحق والباطل. فقد لا يتعرّف الشخص أحيانًا الى حقيقة تيّارٍ بعينه كما حصل في عهد بني صدر[1]، كثيرون في عهده لم يتعرّفوا الى تيّاره وكانوا ضمنه، آنذاك لم تكن الآيات البيّنات - أيّ الأدلّة على خيانته - قد جاءت بعد، لذا فلا يمكن اعتبار هؤلاء ممن حادّوا الله ورسوله، ومن المؤكّد أنّهم لم يكونوا كذلك. لكنْ بعدما جاءت الآيات البيّنات أُعْلِنت الحجّة الإلهية للجميع من قِبَل الإمام قدس سره وعَلِم الجميع الحقيقة، فلو أنّ أحدًا بعد ذلك ظلّ مُنتميًّا لذاك التيّار فهو - ولا جَرَم - من الـمُحادّين وتشمله هذه الآية ﴿يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾. بناءً عليه فما دامت الآيات البيّنات لم تأتِ بعد، فلا بأس على أحد.

                       


[1] أبو الحسن بني صدر أول رئيس لإيران بعد انتصار الثورة الإسلامية، من 4 شباط 1980 وحتّى 21 كانون الثاني 1981.

 

49


39

المحاضرة الثالثة

المحاضرة الثالثة

 

الآيات 8-10

 

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

 

* 31/02/1361 (21/05/1982)

 

51


40

المحاضرة الثالثة

العلاقة بين الآداب الفرديّة والآداب الاجتماعية في الإسلام

ينمُّ تسلسل آيات هذه السورة وترابط مواضيعها عن وجود نحوٍ من الترابط بين الآداب الفرديّة والآداب الاجتماعيّة في الإسلام والقرآن. فمن بداية هذه السورة، كان سياق الآيات ولحن كلامه تعالى سياقًا واحدًا ولحنًا واحدًا يُبيّن قضايا متنوّعةً في مجالاتٍ متعدّدةٍ انطلاقًا من الفرديّة والأُسريّة، وانتهاءً بأكثر القضايا الاجتماعيّة أهميّةً وشموليّةً، حيث تبدأ السورة بقضيّةٍ عائليّةٍ، وهي حكم الظِّهار، بلسانٍ فرديٍّ وشخصيٍّ أيضًا، عبر شكوى امرأةٍ من زوجها الذي ظاهَرها. ثمّ يُبيّن حكم الظِّهار، وفجأةً - ولكي يُراعي المؤمنون حكم الظِّهار - يوجّه تهديدًا لأولئك الذين لا يراعون حدود الله، ويذكُرهم بعبارةٍ تصفهم بالكافرين. ثمّ يُبيّن بعد ذلك مُباشرةً حكم الذين يُحادّون الله - وقد تقدّم أنّ المحادّة ليست أي عداوة، بل هي نحوٌ من العداوة التي تحظى بأهميّة خاصة بنظر الدين وأتباعه - ويذكر القانون والسُنّة الإلهية بأنّ المحادّين للّه لا محالة مكبوتون وزائلون. وهذا القانون ليس محصورًا بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل يمتدّ إلى الأبد، فلا تبديل لسُنن الله ولا تغيير لها[1]. بعد بيان ذلك يدخل إلى قضيّةٍ تتعلّق بالآداب الاجتماعيّة، وهي ذات بُعدٍ أخلاقيّ وسياسيّ، وقد تناولت السورة كليهما.

 

 


[1] إشارة إلى الآيات: الآية 62 من سورة الأحزاب، الآية 23 من سورة الفتح والآية 77 من سورة الإسراء.

 

52


41

المحاضرة الثالثة

شرح الآيات

نبدأ بالآية الثامنة، يقول تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ أيّ إنّ النجوى التي بينهم والتهامس ليس كلامًا بسيطًا عاديًا يتداولونه فيما بينهم، بل ما يقولونه هو إمّا إثمٌ وذنب، أيّ ما يُعدُّ ذنبًا ضمن علاقة الإنسان مع الله، أو أنّ ما يتناجون به هو عداوة، أيّ يتضمّن عداوةً للمؤمنين أو معصيةً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أيّ إعراضًا عن أمره، فإذا قال الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم: لنمضِ إلى الجهاد! يتناجون فيما بينهم: ألّا تمضوا للجهاد، وإذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أنفقوا في سبيل الله! تناجوا كذلك: ألّا تُنفقوا! فمُناجاتهم لها أحد هذه المعاني الثلاثة. ﴿وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ﴾ جاء في روايةٍ أنّ اليهود والمنافقين كانوا يدخلون على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون عوضًا عن "السلام عليك": "السّام عليك"[1]، وذكر البعض أنّ "السام" بمعنى الموت، أيّ "الموت لك"، لكنّ "السام" كما حقّقنا ليس بمعنى الموت، بل هو بمعنى الإعراض والنأي، وكانوا يُريدون بذلك القول للمسلمين: أعرضوا بأسرع وجهٍ عمّا أنتم عليه، وعن العقيدة التي تؤمنون بها والنهج الذي تنتهجونه. طبعًا إذا اعتبرنا "السّام" بمعنى الموت فينبغي أن يكون بمعنى الإعراض عن الحياة، لا مُطلق الإعراض. ويمكن أيضًا أن يكون مرادهم حقيقةً الإعراض عن الحياة، لأنّ اليهود كانوا قومًا خُبثاء ويُلحِقون الأذى. كانوا يدخلون مجلس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون بحدّة: "السّام عليك"، من دون أن يلفظوا لام "السلام". وكم كانوا سعداء بفعلتهم تلك، وكم كانوا يتضاحكون في الخفاء لأنّهم

 


[1] الكافي، ج 4، ص 5.

 

53


42

المحاضرة الثالثة

وجّهوا هذه الشتيمة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخدعوا المسلمين بأنّهم يلقون عليهم السلام، وهكذا كان المنافقون أيضًا. القرآن يفضح هذه الأفعال ويقول ﴿وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ وقد كانوا يقولون هذا بسخريةٍ وتحدٍّ أنْ: لنرَ! فليعذبنا الله! بما أنّ المسلمين يقولون إنّ الله يعلم كلّ شيء، وإنّ الرسول مطّلعٌ على كلّ الأمور، فها نحن نشتمه ونُسيء له في القول فـ ﴿لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾. يقول تعالى في الردّ عليهم ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فإن كانوا يظنون أنّ العذاب الذي قدّره الله لهم - وهو جهنّم - قليلٌ عليهم، إذ يقولون ﴿لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ فإنّ جهنّم التي أعدّها الله لهم هي حسبهم من العذاب. وجهنّم هي مجموعةُ كافّة أنواع العذاب الإلهيّ الجسديّ والروحيّ، وهي على درجاتٍ وأنواعٍ شتّى. ﴿يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أيّ إنّ ما يقومون به مصيره وعاقبته جهنّم. و"المصير" من الصيرورة، و"بِئْسَ المصير" يعني أنّ حركتهم هذه والعمل الذي يقومون به مصيره في النهاية إلى جهنّم، وجهنّم هي أمرٌ طبيعيٌّ وجَبْريٌّ لهذا الصنف من النفسيّات، وهذا النوع من الأشخاص وهذا النّوع من القلوب، فبئس القرار وبئس المصير. بعد أن يذمّ تعالى عداوة هؤلاء المنافقين وهؤلاء اليهود بهذه الأعمال، يتوجّه في خطابه إلى المؤمنين قائلًا: "إذا أردتم الـمُناجاة فيما بينكم فانتبهوا إلى ما تتناجون به، فيجب ألّا يكون إثمًا ومعصيةً ومعاداةً لهذا وذاك، ولا معصيةً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإعراضًا عن أوامره، إذا أردتم النجوى فليكن بأمورٍ شخصيّةٍ عاديّةٍ لا تريدون مثلًا أن يسمعها أحدٌ فتذكرونها خفيةً فيما بينكم، لكن لا تغتابوا هذا وذاك، ولا تُعادوا هذا وذاك، أو تتّهموا هذا وذاك، أو تبثُّوا شائعةً ضد هذا وذاك، أو لا يكوننّ (ما تتناجون به) معصية لأمر الرسول.

 

54

 


43

المحاضرة الثالثة

دور النيّة في تقويم الأعمال

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ ما يجعل كافّة أعمال الإنسان تتحلّى بالحُسن هو مضمون وجهة تلك الأعمال، حيث يمكن لعملٍ واحدٍ أن يكون في حالةٍ ما فعلًا سيّئًا جدًّا، وفي حالةٍ أخرى فعلًا حسنًا، فالمعيار الذي يجعله سيّئًا أو حسنًا هو مضمون ومغزى وجهة ذاك العمل، فمجرّد الهمس في أذن شخصٍ ما ليس بحدّ ذاته أمرًا سيئًا إلى درجة أنّه  يستوجب عداوة الله ودخول جهنّم! بل ما يجعله سيّئًا إلى هذا الحدّ هو مضمون هذا الكلام الذي يقوله الإنسان وذاك الشيء الذي يتفوّه به ويُجريه على لسانه. ولا يمكن إزالة هذا السوء إلّا بتغيير مضمون الكلام الذي يُقال. وفي حياتنا أعمالٌ كثيرةٌ لا تقتضي بحدّ ذاتها أيّ حكمٍ خاصّ، بل إنّ جهة العمل ونيّتنا له ومضمونه ومغزاه هو ما يحدّد حكمه. إذا كانت نيّة العمل ومضمونه وجهته حسنةً فإنّ هذا العمل يغدو حسنًا، وإذا كانت نيّة العمل ومضمونه وجهته سيّئةً فإنّه يغدو سيئًا. إذا كان زي الحرس الثوري ممدوحًا ومرضيًّا عند الله وعند عباده الصالحين، فليست القيمة في الزيّ نفسه، بل لأنّ ارتداء هذا الزي يعني الكفاح الذي لا يعرف الكلال ضد أولئك الذين عقدوا العزم على معاداة الثورة الإسلامية ويقومون بأعمالٍ عدائيّةٍ ضدّها. فإذا انتفى هذا الكفاح وهذه النيّة، انتفت هذه القيمة أيضًا، فبدل أن يحارب أعداء الثورة فإنّه سينقضّ على شخصٍ ثوريٍّ أو إنسانٍ عاديّ، وإذا ما نشب - مثلًا - بينه وبين واحدٍ من أحبّاء الله نزاعٌ وتشابكا معًا، فإنّهما سيغفلان عن حراسة الثورة بوصفها قيمةً وينسيان محاربة أعداء الله، فماذا سيحصل لهذا الزيّ أيضًا آنذاك؟ سيسقط كلّ اعتبارٍ

 

 

55


44

المحاضرة الثالثة

له، ولن يكون له أهمية تُذكر. لقد قام بعض أعداء الثورة بارتداء هذا الزي أحيانًا، واعترضوا السيارات وطالبوا سائقيها بإبراز هويّاتهم الشخصيّة، وكانوا إذا رأوا شخصًا معمّمًا فتحوا على سيارته النار، إذًا من هنا يظهر كيف أنّ لا قيمة للزيّ بحدّ ذاته، ولا للشخص الذي يحمل بطاقة الحرس الثوري بينما هو حقيقةً عدوّ للثورة، ولا لذاك الذي هو حقيقةً عنصر من عناصر الحرس الثوري غير أنّ نيّته من الانتساب إليه هي الدوافع الشخصية والأهواء النفسية لا الحفاظ على الثورة. والأمر نفسه بالنسبة للزيّ العلمائيّ، فاكتساب العلم وارتداء زيّ العلماء ليس قيمةً مطلقة، ويجب النظر إلى مضمون هذا العمل: النيّة، والجهة، والهدف والمغزى منه، فإذا كان حسنًا يغدو العمل قيّمًا وساميًا، وإلّا كان سيّئًا! لذا، فالنجوى والهمس في الأذن حكمهما هو هذا أيضًا، فقد يهمس أحدهم في أذن آخر، ويقول له مثلًا: "انهض يا أخي لنمضِ إلى صلاة الليل، لنمضِ وننفق في سبيل الله"، وهو عملٌ حسنٌ بالطبع. وقد يهمس حينًا آخر في أذن شخصٍ ويقول له: "دعكَ يا أخي من هذا! لقد مَلَلنا من كلّ هذا القرآن وهذه الصلاة وما شابه، دعنا نذهب ونقوم - مثلًا - ببعض الأعمال الرذيلة". إذًا، فهناك فرقٌ بين نجوًى وأخرى، وليس لهما حكمٌ واحد.

 

﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ هذا في الحقيقة أمرٌ ذُكر دليله معه، فقد يُسأل لماذا وجب علينا أن نتّقي الله؟ والجواب هو: لأنّ تعاملنا في كلّ شؤوننا هو مع الله، ولو كان مع غير الله فلنجذب انتباهه إلينا! هذا كلام الـمُتاجرة، وهو كلامٌ استدلاليّ، وكلامٌ إذا فكّر الإنسان فيه لأدرك ألّا حيلة له حقيقةً سوى تعامله مع الله. طبعًا مقام عشّاق الله والعارفين به وأولئك الذين لا يعبدونه خوفًا أو طمعًا إنّما حبًّا هو أسمى بمراتب من أن تصل إليه أيادينا. لكن عندما نتحدّث

 

56

 


45

المحاضرة الثالثة

فيما بيننا فإنّ هذه الآية تخاطبنا. نحن من لنا سوى الله تعالى؟ ونحن ليس لنا سوى الله تعالى، وهو ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. فإذا علم الإنسان أنّه سيواجَه يوم القيامة في مستقبله، وإذا أيقن ذلك فيجب عليه أن يتّقي الله ويُراعي أوامره ونواهيه، وهذا معنى التقوى، أيّ المراعاة الشديدة والدقيقة لأوامر الله ونواهيه. إذًا فعندما يقول تعالى ﴿الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فهو في الحقيقة استدلالٌ على قوله ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾. ثمّ يقول تعالى ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ أيّ إنّها من عمل الشيطان، وإنّ طبيعة هذا العمل هي طبيعةٌ شيطانيّةٌ، وهنا يتجلّى ويتّضح لنا أكثر - نوعًا ما - مفهوم الشيطان أيضًا. وعلى سبيل المثال: قد يجلس البعض في جمع، وبينما هم يتحادثون، يشرع اثنان منهم بالنجوى والهمس في الأذن، وهذا ما يُحزن الآخرين ويجعلهم يسيئون الظن فيما يقولانه، إلى درجة أنّهم يعتقدون بأنّهما يحيكان مؤامرةً ضدّ أحدهما أو بما يسوءه. ﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فالأمر لا يعني أنّهم إذا تناجوا وتهامسوا فإنّ جذور المؤمنين ستُجتثّ من الأساس، بل تناجوا أيّها المنافقون ما شئتم! إنّ الله تعالى ينهى عن النجوى حتّى لا يُرتكب عملٌ منافٍ للأخلاق، لا أنّ المؤمنين سيلحق بهم الأذى والضرر، بل مصيرهم (أصحاب النجوى) إلى جهنم هم ومناجاتهم! ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فكلّ ما في العالم وكلّ قوانينه وقواعده هي بإذن الله ولا يُمكن نقضها إلّا بإذنه، ولهذا يأتي الله تعالى أحيانًا على ذكر "بإذن الله"، وقد أتى على ذكره هنا أيضًا. ﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ويجب عليهم ألّا يخافوا من هذه الظواهر والأحداث التي تقع، والتي تُحزنُهم وتنمُّ عن مؤامرة الأعداء. فلنفترض أنّ اثنين من المنافقين جلسا ليتهامسا وقد دبّرا كذلك مؤامرة ضد المؤمنين، فهل سيلحق بالمؤمنين ضررٌ حتميّ من هذه الناحية؟ كلا.

 

57

 


46

المحاضرة الثالثة

خلاصة آيات النجوى

باختصار، هذه الآيات تتحدّث عن البعد الأخلاقي والبعد السياسي للنجوى. فقد كان هذا عملًا سيّئًا من الناحية الأخلاقية، وخطيرًا وغير صائبٍ من الناحية السياسيّة. سيّئ من الناحية الأخلاقية لأنّه عندما يتناجى شخصان فإنّ الآخر الذي يجالسهما يشعر بالغربة، فالأمر يبدو وكأن هذين الشخصين ينتمي أحدهما إلى الآخر بينما الآخرون غرباء، ويبدو الأمر وكأنّ هناك خبرًا سيّئًا أو مزعجًا حول المؤمنين يعلمانه هذان ويتهامسان حوله، وهذا ما يجعل المؤمنين يشعرون بالقلق حول إمكانية وجود خبر سيّئ أو حدوث أمر خطير، لذا تصدّى القرآن للمنافقين من خلال هذه الآية. وأمّا البُعد السياسيّ فهو أنّ المنافقين كانوا يقومون بها بنحوٍ مدروس، فقد كان في الأمر مؤامرةٌ أحيانًا وكانوا يتناجون بها. وبما أنّ المسلمين كانوا مكلّفين بعدم إساءة الظنّ بأحد، فكان من اليسير جدًّا أن تتغلغل بينهم العناصر الدّخيلة، وأن تتسرّب في محافلهم ومجالسهم القضايا السرّيّة على نحو النجوى. فقد كان المنافقون يتناقلون فيما بينهم قضاياهم الحزبيّة -  كما يُصطلح اليوم - فيقولون مثلًا: "تعال اليوم يا سيّد إلى مسجد ضرار[1]، نريد أن نقوم بالعمل الفلاني، كلّ أصحابنا مجتمعون هناك"، كانوا يقولون هذا لبعضهم البعض ويتهامسون حوله. وهكذا، فالنجوى كانت تُسهّل تواصل أعداء الإسلام حتّى في محافل المسلمين. كان المنافقون يجلسون مُتجاورين في المسجد وفي مجلس الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم ويتناجون فيما بينهم. وقد نهاهم الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم مرّاتٍ عديدةً عن القيام بذلك، إلّا أنّهم لم يكونوا يُنصتون لنهيه، ولم يكونوا يحملون الأمر


 


[1] إشارة إلى الآية 107، من سورة التوبة.

 

58


47

المحاضرة الثالثة

على محمل الجدّ إلى أن نزلت هذه الآية، لذا فإنّه تعالى يقول من الآية الأولى في هذه الآيات التي قرأناها: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ ولم يُذكر هذا النهي في القرآن إلّا في هذه الآيات، فمن الواضح أنّ النهي عن النجوى قد حصل خارج القرآن، أيّ من قبل الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد نهاهم أن "لا تقوموا بهذا العمل! لماذا تتهامسون؟". بلسان النصيحة، وبلسانٍ لطيف، ويمكن أنّه كان ينهاهم بلسانٍ حادّ، لكنّ آذانهم لم تكن صاغية، وكانوا يكرّرون مرةً أخرى عملهم ذاك. لذا نزلت هذه الآية القرآنية بهذا اللحن الحاد، وأفضت إلى إيجاد نحوٍ من الأمان للناس من الناحية الأخلاقية ومن الناحية السياسية كذلك. لكن على الرغم من أن هذا العمل كان عمل المنافقين والغرباء عن المسلمين، إلّا أنّه لم يكن محبّذًا بين المسلمين أنفسهم أيضًا، فقد كان يجعلهم هم أيضًا غرباء وأجانب فيما بينهم، فالامتناع عن النجوى أدبٌ اجتماعيّ. ولذا فقد جاء في الروايات أنْ إذا جلستم في محفلٍ وكنتم تتحادثون، فلا يتناجى اثنان منكم، فهذا يجعل الآخرين يسيئون الظنّ بهذه الأفعال وبما يحصل ويرتابون لها، ويشعرون بأنّهم غرباء. طبعًا ليس في الأمر حرمة، فقد يكون ثمّة أمرٌ فوريٌّ أحيانًا، ويكون الكلامُ ضروريًّا، ويريد الإنسان مثلًا إخبار شخصٍ بأمرٍ عاجلٍ إذا اطّلع عليه الآخرون فسيُسبب الأمر مشكلة، ولا ينبغي للجميع أن يطّلعوا عليه أو لا يلزم ذلك. طبعًا لا ضرر في الأمر إن كان بقدر الحاجة وعند الضرورة، لكنّ الإسلام طبعًا يُعارض هذا النحو من السلوك والنهج الذي يفصل الناس عن بعضهم البعض، ويُجزّئهم ويجعلهم مَثْنى وثُلاثَ ويُوهِن اتّحادهم. لذا فإنّ هذا الجانب (للنجوى) موجود من الناحية الأخلاقية، ونظائره موجودة كذلك ويجب الانتباه إليها.

 

59

 


48

المحاضرة الثالثة

ثم يدخل في أدب اجتماعي آخر في الآيات اللاحقة، ويبيّن ضربًا آخر من النجوى وهي نجوى الرسول، وهي مسألة تخصّ الانتهازيين الذين كانوا يذهبون لمناجاة الرسول ليُوحوا بأنهم قريبون جدًّا منه فيهمسون في أذنه (وهذا بحثه في شرح الآيات القادمة).

 

59

 


49

المحاضرة الرابعة

المحاضرة الرابعة

 

الآية 11

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الترابط بين

الأحكام الكلية والأحكام الجزئية في الإسلام

 

لقد تقدّم في شرح أوائل هذه السورة المباركة ما ملخّصه أنّ في هذه السورة وضمن التأكيد على أخلاق وآداب تعامل المسلمين فيما بينهم

 

 

 

* (07/03/1361) (28/05/1982)

 

61

 


50

المحاضرة الرابعة

 - بما يتناسب والأحكام الصغيرة والجزئية من هذا القبيل والتي ذُكرت حتى الآن وستُذكر ثانية كذلك - ذُكرت فيها أيضًا حقائق كليّة عن المفاهيم الإسلامية والثقافة الإسلامية، وهذا يشير إلى وجود ترابط بين الأحكام الجزئية والأحكام الكلية في الإسلام، وأنها تكمّل بعضها بعضًا وتستقي من روح واحدة، وأن حكمًا صغيرًا في الإسلام، حتى وإن كان يتعلق بأدبٍ سلوكي عادي، فمرجعه إلى أصل عام ومهم يمكن أن يكون له دور في جميع شؤون حياة الإنسان. ذكرنا سابقًا نماذج (عن ذلك) بما يتناسب والآيات، وثمة نموذج عنها في هذه الآية أيضًا وفي الآية التي تليها، بحيث إذا أُتيحت لنا الفرصة فسنعرضهما عليكم إن شاء الله.

 

شرح الآية

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إنّ معنى "الذين آمنوا" هنا ليس الإيمان الكامل بالطبع، بل هي بمعنى يا أيّها الذين دخلتم في دائرة الدين والأمة الإسلاميّة، وسجّلتم أسماءكم ضمن جمع المسلمين، وقلتم "أشهدُ أنْ لا إله إلا الله" ودخلتم في الإسلام. ففي القرآن معنى آخر للمؤمن - وقد ذُكر في هذه الآية أيضًا - وهو المؤمن بالإيمان الكامل. فلنفرض أنّه عند قيام الثورة الإسلامية يصير الناس على صنفين: صنفٌ ضدّ الثورة ومُعارضٌ لها، وصنفٌ يؤمن بها ويقبلها. وأولئك الذين قبلوا بها فإنّ جميعهم مؤمنون بها، هؤلاء جميعهم مؤمنون، أليس الأمر كذلك؟ (مخاطبًا سماحته الحاضرين) هل تقولون في مجالسكم إنهم غير مؤمنين؟ لا، فهؤلاء يؤمنون بالثورة، لكن بين هؤلاء المؤمنين بالثورة ثمّة من يقبلها بتمام وجوده، فهُم مؤمنون حقيقيون، وهم مؤمنون كاملون ومخلصون. وهناك من ليسوا كذلك، فهم يقبلونها لكن ليس

 

62


51

المحاضرة الرابعة

بمعنى أنّهم ثابتون عليها لدرجةِ بذل مُهجهم دونها، لذا يقول تعالى في إحدى الآيات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾[1]. "الذين آمنوا" الأولى هي بالمعنى الأول، أيّ أولئك الذين قَبِلوا هذا الإيمان وهذا الإسلام وهذه الثورة ولا يُعادونها، فيخاطبهم تعالى بقوله: "آمِنُوا"، أيّ اقبلوا هذا الدين في قلوبكم، وآمِنُوا حقيقة. و"آمِنُوا" الثانية هي بمعنى الإيمان الكامل. إذًا، "آمَنُوا" الأولى تشمل أولئك الذين يقبلون الإسلام ولا يُعارضونه ويُحيطون بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويحضرون مجالسه ويُقيمون في المدينة، ويحضرون الاجتماعات وهم أعضاءٌ في محافل كهذه - ومحافل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي نفس محافل الثورة الإسلامية - فيخاطبهم تعالى قائلًا ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا ... وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾.

 

شأن نزول الآية

طبعًا ذُكر لها شأنا نزول، أحدهما معروف، وهو أنّه كان في آخر مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زاويةٌ يُقال لها "الصُفّة"، وكانت مرتفعةً قليلًا، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجلس فيها، وكان المسلمون يلتفّون حوله ويشرعون بالحديث وبسؤاله، وبالاستماع إلى نصائحه وبتلاوة القرآن وبتعلّم تعاليم الإسلام منه، وكان بعضهم يلتحقون بهم أو يصلون متأخرين إلى مجلسه. وكان على أولئك المساكين الذين وصلوا متأخرين نوعًا ما والتحقوا بالمجلس لاحقًا أن يظلّوا واقفين. وهكذا فقد كان البعض من أصحاب بدر والرجال الذين شاركوا في الحروب وسجلّوا مفاخر عديدة وأنجزوا أعمالًا في سبيل الإسلام يظلّون واقفين، أمّا أولئك الذين كانوا يجلسون في مقدّمة المجلس فلم يكونوا ليتزحزحوا من

 


[1] سورة النساء، الآية 136.

 

63


52

المحاضرة الرابعة

أماكنهم، لم يكن حياءُ أحدٍ منهم ليدفعه ليتفسّح في المجلس لهؤلاء الواقفين، فيجلسوا مثلًا مُتلاصقين نوعًا ما ليتمكّن الواقفون من الجلوس. وقد كان هذا خُلُقًا سيّئًا جدًّا.

 

السبب الأساس لأمر القرآن بالتفسّح في المجالس للآخرين

إنّ مسألة التفسّح في المجالس مسألةٌ صغيرةٌ ليست بالأمر الهامّ، لكنّ أساسها أمرٌ هامّ. إذ إنّ مردّ عدم تفسّحهم للغير هو الأنانية، ذاك الخُلق الذي تحاربه تعاليم الدين قاطبة. وأساسًا فإنّ أنبياء الله وعباده الصالحين يحملون في أيديهم مطرقةً يضربون بها رأس ذاك الصنم الذي اسمه "الأنا"، وكافّة تعاليم الدين هي في سبيل محاربة الأنا. إنّ كلّ من خرج من ذاته وتجاوز "أناه" ولم يكن متكبّرًا ولا مغرورًا ولا أنانيًّا فطريقه إلى الله مفتوح، وإنّ كلّ من كان أسير "أناه" فطريقه إلى الله مسدود. وتظهر هذه "الأنا" في أشكالٍ شتّى: فتظهر حينًا بنحوٍ يقف فيه الإنسان بوجه دعوة الحقّ، كأولئك الذين وقفوا بوجه الحقّ في صدر الإسلام وبعد انتصار الثورة، وكان السبب في ذلك أنانيتهم لا غير، لأنّ الحق ّكان يقول لهم: هذه الامتيازات والإمكانات الباطلة التي اكتسبتموها وهذه الأموال التي استحوذتم عليها وهذه المناصب والمكانة ليست لكم، سلّموها لأصحابها! لكنّهم لم يكونوا مستعدين لتركها، ولأنّهم كانوا كذلك ولأنّهم كانوا يريدون امتيازاتهم، أيّ لأنّهم كانت لديهم تلك الأنانية، فقد كانوا يعارضون الإسلام والقرآن. وتظهر الأنانية حينًا آخر بحيث إني مثلًا أرى شخصًا يمرُّ بجانبي، فأُقطّب جبيني ولا ألقي عليه التحيّة، وهذه هي "الأنا" قطعًا، أو يأتي أخي المؤمن ويقف تحت أشعّة الشمس بينما أنا أستظلُّ تحت السقف وعندي مكانٌ آخرُ للجلوس فيه وبإمكاني دعوته للجلوس مكاني إلّا أنّي لا أنهض، هذه هي أيضًا أنانيّة.

 

64

 


53

المحاضرة الرابعة

الأثر الشامل للسجايا الأخلاقيّة

عندما توجد جذور السجايا الأخلاقيّة في روح الإنسان فإنّها تُعمِل أثرها في كلّ مكان. وأنتم يا رجال الحرس (الثوري) خاصةً تحتاجون لهذا الأمر، (أي) أن تفهموا هذا الكلام جيدًا. من كان فيه سجيّةٌ أخلاقيّةٌ طيبةٌ فإنّها تظهر في كلّ مكان، وكذا من كان فيه سجيّةٌ سيّئةٌ، بدْءًا بسلوكٍ بسيطٍ عاديٍّ واعتياديّ، وانتهاءً بسلوكٍ مصيريٍّ كبير. فإذا شعر شخصٌ بالضعف أثناء مواجهة عدوّ الله فإنّ هذا الضعف سيتجلّى كذلك عند الهجوم مثلًا على خرّمشهر لتحريرها، وكذا سيتجلّى عندما يكون قابعًا في الخندق وليس في الأمر أيُّ هجومٍ إلّا أنّ نيران قاذفات العدو ومدفعيّاته تتساقط كالأمطار، وسيتجلّى أيضًا حينما يكون خلف الجبهة ويُطلب منه الالتحاق بها، وكذلك عندما يأتي مثلًا وفدٌ سياسيٌّ أجنبيٌّ ويتباحث معه، ويجب عليه حين المباحثات الردّ على الوفد ردًّا حاسمًا فلا يفعل، هذا الإحساس بالضعف حيال العدوّ يتجلّى في كافّة مراحل الحياة. فلا يستهين الفرد منّا ببعض الكلمات التي تصدر عنه، فقد يقول أحدهم وهو في الخندق في الجبهة: ما هذا الذي نقوم به؟ ولِمَ لا نذهب إلى بيوتنا؟ هذه الكلمات قد لا تكون ذات شأنٍ بنفسها، لكنّها تنمّ عن الضعف لدى هذا الشخص. فالكلام كاشفٌ لما في داخل الإنسان من تهاونٍ أو غيره، ولقد أقدم بعض الناس أثناء الثورة - ولا يزالون - على تحرّكاتٍ معيّنةٍ كان يُمكن تبريرها بحدّ ذاتها، لكنّ هذه التحرّكات كانت تنمّ عن نفسيّة ٍغير ثوريّةٍ ومعاديةٍ للثورة، وقد عُدّت في نظر الشعب والإمام والمسؤولين تحرّكاتٍ قبيحة، وقد أفضت أحيانًا إلى زوال عددٍ من الناس نهائيًّا من الساحة السياسيّة.

 

كذلك بالنسبة لما ورد في الآية، فأن لا يتفسّح الإنسان في المجلس

 

 

65


54

المحاضرة الرابعة

للآخرين ليس هذا بحدّ ذاته أمرًا هامًّا جدًّا لتنزل بشأنه آيةٌ قرآنيّة، لكنّه أوّلًا من آداب المعاملة، وآداب المعاملة أمرٌ حسنٌ جدًّا، وثانيًا: عدم مراعاة هذا الأدب لا يقف عند حدّ أنّنا لم نفسح المجال لآخرين، بل إنّه ينمّ عن أننا أُناسٌ معجبون كثيرًا بأنفسنا ونُقيم لأنفسنا وزنًا، ولا نُقيم وزنًا لأخينا المؤمن ذاك الذي يقف هناك تحت الشمس مثلًا.

 

شأنُ نزولٍ آخرُ للآية

ثمّة روايةٌ أخرى لشأن نزول الآية لم أرها في أيّ ٍمن التفاسير إلّا في التفاسير الروائيّة كتفسير "نور الثقلين" الذي ينقل[1] عن عليّ بن إبراهيم[2]. يقول: إنّ سبب نزول هذه الآية هو أنّه عندما كان يدخل الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم المسجد كان يقف له الجالسون وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُعارض هذا العمل وينهاهم عنه، ويقول: "إذ أدخل من الباب وأريد الذهاب إلى المحراب، افسحوا الطريق لأعبر وأدخل المحراب، لا حاجة للوقوف لي!"، ولم يكن المسلمون ليُنصتوا إلى كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم احترامًا له، إذ إنّهم كانوا يرون الأمر غريبًا أن يأتي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا يقفوا له، لذا فقد كانوا يواصلون الوقوف. فنزلت الآية لتقول لهم على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: عندما أقول لكم تفسّحوا في المجالس لأعبر فافعلوا ذلك وحسب! لماذا تقفون لي عبثًا؟". هذه أيضًا روايةٌ نقلها عليّ بن إبراهيم، طبعًا الرواية السابقة التي ذكرتها أشهرُ وأمتن، وقد نقلها كافّة مفسّري الشيعة والسنّة، وثمة رواية أخرى هي هذه الثانية التي ذكرتها، ويمكن أن يكون الأمر كذلك (كما في الرواية الثانية)، طبعًا يبدو أن الرواية الأولى أمتنُ

 


[1] نور الثقلين، ج 5، ص 263.

[2] علي بن ابراهيم بن هاشم من محدّثي القرن الثالث الأجلاء ومن أساتذة الشيخ الكليني.

 

66


55

المحاضرة الرابعة

وتناسب مضمون الآية أكثر. مع أنّ هذه الثانية تبيّن هي الأخرى بُعدًا آخر من أخلاق الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم والحياة الإسلامية وكيفيّة الفكر الإسلامي. إلا أن الرواية الأولى وشأن النزول الأول ذاك أشهرُ ويتناسب أكثر كذلك مع مضمون الآية[1]. تقول الآية: عندما تكونون في مجالسكم مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويُقال لكم تفسّحوا ليجلس الآخرون ويُتاح لهم مكان، "فافسحوا"! لماذا لا تتفسّحون؟ فإن تفسّحتم "يفسح الله لكم"، أيّ في الجنّة أو في الدنيا بحيث يسهّل لكم أموركم.

 

إذًا فالجملة الأولى هي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي سيكون لكم في أموركم يُسر وسعة. وقد جاء في التفاسير أنّ الله يفسح "في الجنة" أي يوم القيامة، ويُمكن القول إنّ الأمر في هذه الدنيا هو أيضًا كذلك. وهذه حقيقة، وهي أنّكم إذا تفسّحتم لإخوانكم فسترون بوضوحٍ وجلاءٍ كيف أنّ الله تعالى يفسح لكم أيضًا. وأوّل مكانٍ يفسح الله لكم فيه هو في قلب أخيكم المؤمن ذاك الذي تفسّحتم له، فكم سيكون أخوكم المؤمن ذاك مُمتنًّا لكم! ولا تستخفّوا بمحبّته هذه وبامتنانه فهي أمورٌ مهمّةٌ جدًّا. فمحبّتنا لبعضنا البعض ستكون السرّ الأساسيّ لنجاحنا. إذا لم نُحِب أنا وحضرتك (خطاب لا على التعيين)، أنا وذاك الأخ الآخر، أنتَ (خطاب لا على التعيين) وذاك الأخ الآخر بعضنا بعضًا،


 


[1] سماحته: طبعًا عاصم – الذي هو أحد القرّاء والقراءة التي نتلوها هي قراءته – قرأ هذه (الآية) "في المَجالِس"، والقراء الستة الآخرون قرأوها "في المجْلِس": "إذا قِيل لَكُم تَفَسّحُوا في المَجلِس فَافسَحُوا"، "في المجالس" التي نقرأها نحن والموجودة في نسخ القرآن التي بين أيدينا هي قراءة قارئ واحد؛ قراءة عاصم، وهي القراءة المعروفة التي نقرأها. قراءة "في المجالس" صحيحة وكذا قراءة "في المَجلِس".

الناشر: أبو بكر عاصم بن أبي النّجود بن بهدلة مولى بني خزيمة (متوفى 721 ق) من قرّاء الطبقة الثالثة ومن أهل الكوفة، شيعي ومن القرّاء السبعة المعروفين. يروي عاصم قراءة أمير المؤمنين (عليه السلام) بواسطة واحدة.

 

67


56

المحاضرة الرابعة

ولم نحترم بصدق وعشق بعضنا بعضًا، وإلّا لن تتيسّر أمورنا. السرّ الأساسيّ لتطوّر جماعةٍ ما هو أن تكون قلوبها متماسكة، وعباد الله هم هكذا: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾[1]، وأولئك الذين يُعادي بعضهم بعضًا هم أعداء الله:

 

أرواح الذئاب والكلاب عن بعضها مُنفصلة      أرواح أسود الله ببعضها مُتّصلة[2]

 

فهذا الحنان وهذه المحبّة هما سرّ التوفيق الأساسيّ، لأنّه في حال وجود المحّبة، فحتّى إن كان هناك اختلافٌ في وجهات النظر فإنّه سيُحل، لأنّه ينشأ عن المحبة العفو عن الآخر ومحاولة فهم كلام بعضنا البعض، وينشأ كثيرٌ من المعارضة والشِّقاق من عدم فهم اثنين لكلام بعضهما البعض. وتُفضي المحبة إلى أن يفهم اثنان كلام بعضهما بعضًا جيدًا. إذًا فأساس الأمر هو المحبة. إذا استعطتم أن تفتحوا لأنفسكم بهذا العمل (التفسّح في المجلس) طريقًا إلى قلب أخيكم (الذي تفسّحتم له) فهذا أعظم نجاح. ثمّ بعبارةٍ أخرى يمكن القول إنّ ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أيّ في المجتمع، فالله تعالى يفسح مجالًا واسعًا في المجتمع لذاك الذي يُعامل إخوانه بأدب التعامل الحنون والـمُحبّ والمحترم هذا، ويفسح له نطاقًا واسعًا للعمل والحركة. وفي الجنّة مصداقٌ آخرٌ أيضًا لهذه الفُسحة.

 

﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾ "انشُزُوا" بمعنى قوموا وأعطوا مكانكم لشخصٍ آخر. عندما يدخل شخصٌ مجلسًا، وينهض أحد الجالسين طالبًا منه الجلوس في مكانه، فإنّ هذا العمل يُسمّى "نُشوز".

 

 


[1] سورة التوبة، الآية 71.

[2] مولانا جلال الدين الرومي، الأُرجوزة المعنوية باختلاف طفيف.

 

68


57

المحاضرة الرابعة

تقول الآية: إذا قيل لكم انهضوا وأعطوا مكانكم لأحدٍ آخر، فقوموا بهذا العمل برحابة صدر، ولا تستغربوا وتنفروا، نعم طبعًا، وما المشكلة في ذلك؟ عندما يقول لكم الرسول أو شخص أكبر سنًا (منكم) أو أحد أخوتكم المسلمين: انهض يا سيد وأعطِ مكانك لهذا الرجل ليجلس هنا! فانهضوا مباشرة وأعطوه مكانكم! فهذا (ما تأمر) به الآية القرآنية. وذلك لأنّ بعضًا ممّن كانوا يأتون ويقفون، كانوا أحقّ بالجلوس قُرب الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بعض الأشخاص يجلسون حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من باب الانتهازيّة. فعندما يكون هناك شخصٌ قويٌّ، أو ذو نفوذٍ أو مالٍ أو علم - مع الفرق بين هذه الأمور - يتقرّب منه من يحبّون ما يملكه حيثما ذهب. وهذه هي طبيعة الإنسان أنّه عندما يعشق شيئًا ويراه في شخصٍ ما فهو يُقرّب نفسه منه. بعضهم يحبّ القوّة البدنيّة والبطولة، وما إن يراها قد تجلّت في إنسانٍ حتّى يسعى وراءه ويغدو ذاك البطل ملهمه ومعبوده. وبعضهم الآخر يحبّ العلم، وما إن يروا عالِمًا حتّى يتحلّقوا حوله. وآخرون يحبّون المنصب جدًّا، ويخضعون كثيرًا لأصحابه ويتواضعون لهم. إنهم يعشقون المنصب، وما إن يروا أحدًا من الناس قد بدت عليه (آثاره) حتّى يلتفّوا حوله، هذه طبيعة الإنسان. لذلك، إنّ بعض المسلمين يرى أنّ الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس في الصُفّة، وهو حاكم المدينة المنوّرة، فكانوا لا يتركون مجلسه لمنصبه السياسي ولمعنويّته، ولا يتحرّكون من أماكنهم. وكلّما جلس هناك جلسوا حوله مُترقّبين مُتلاصقين، لم يكن لديهم ما يقومون به، ولم يكن لديهم ما يقولونه، كانوا يجلسون هكذا وحسب. وعندما كان يأتي رجلٌ مؤمنٌ صالحٌ يفهم الدين وطالبٌ له للاستفادة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُخاطب أحد الجالسين ويطلب منه القيام لذاك الرجل الواقف ليجلس مكانه، وكان الرسول يقول له (للجالس)، أو لا يقول، "إنّه (أي الواقف) أكثر منك

 

69

 


58

المحاضرة الرابعة

إيمانًا"، وقد كان يصعب عليه (على الجالس) هذا. هذا ما تقوله الآية: ﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا﴾ ليجلس شخص آخر مكانكم ﴿فَانشُزُوا﴾، ما المشكلة في الأمر؟

 

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ الفعل "يرفع" لم يأتِ مرفوعًا، ولو كان كذلك لكانت الجملة خبريّة، بمعنى أنّ الله تعالى يرفعُ الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، بل جاء مجزومًا محرّكًا بالكسر، بمعنى: انشزوا لكي يرفعَ الله الذين آمنوا.... فالجملة ليست خبرية، وهي في الحقيقة جواب الطلب. ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ - والإيمان هنا هو الإيمان الكامل- فعندما يُقال لهم: ﴿تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ﴾ ذلك لكي يجلس المؤمنون الحقيقيون، أولئك الذين يتوقون لرؤية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستفادة منه، أو ليجلس أهل العلم وأهل الإيمان الذين يفهمون كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشكلٍ أفضل، ويستفيدوا منه أكثر، فهم التّائقون للنَهْل من غدير الفضل الإلهيّ الجاري على لسان الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم وفي قلبه، وهم واقفون في الخارج. ثمّ يُقال لهم "انشزوا أنتم ليجلسوا مكانكم! لكي ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ﴾ - آمنوا إيمانًا حقيقيًّا - ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ من هنا يُفهم أنّ قيمة الإيمان هي قيمةٌ سامية، ويُفهم كذلك أنّ قيمة العلم المقترن بالإيمان أسمى[1]، أيّ إذا كان لدينا مؤمنان، أحدهما غير عالمٍ والثاني عالمٌ، فإنّ المؤمن العالم أعلى مقامًا بمراتب من المؤمن


 


[1] (تُعرف أفضلية العلم المقترن بالإيمان على الإيمان من دون عمل من خلال الآية نفسها؛ فهي تتضمن جملتين: الأولى "يرفعِ اللهُ الذين آمنوا منكم" من دون تمييز، والثانية "والذين أوتوا العلم درجات" وتمييزها هو "درجات" والذي يُعرف من خلاله تمييز الجملة الأولى الذي هو "درجةً"، فيكون معنى الآية: "يرفع الله الذين آمنوا منكم" درجةً، "والذين أوتوا العلم" يرفعهم "درجات").

 

70


59

المحاضرة الرابعة

غير العالم. وحتّى إنّه فُضِّل في روايةٍ المؤمنُ العالم على المؤمن الشهيد، والمؤمن الشهيد على المؤمن العابد[1]. إذًا، وبناءً عليه فإنّا نفهم مما مضى أنّه إذا لم نتمكّن من الوصول إلى الإيمان الكامل ركضًا فعلينا أن نزحف إليه زحفًا، وذلك بالإيمان مع العلم. وليس المراد بالعلم هنا علم الفيزياء والجبر والمثلّثات وما شابه، بل علم الدين وعلم المعرفة الإلهيّة، وعلم الفقه الإلهيّ، وفقه الشرائع الإلهيّة. نحن يجب علينا أن نجرّ أنفسنا نحو الاطّلاع على المعرفة الدينية، فهذه المعرفة إذا تحقّقت في الإنسان فإنّه لن يضلّ، وإذا كانت مُتوافرةً في مجتمعٍ بغزارةٍ فإنّ هذا المجتمع سيبقى دائمًا مسلمًا ولن يُخطئ. إنّ أغلب الأخطاء تنشأ إثر الابتعاد عن المعرفة الدينية.

 

?وَ?للَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِير? فسواءٌ عليكم أأطعتم الرسول أم لم تفعلوا فإنّ الله عليمٌ خبير.

 


 


[1] تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 264.

 

71


60

المحاضرة الخامسة

المحاضرة الخامسة

 

الآيتان 12 – 13

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾

 

 

* (21/03/1361) (11/06/1982)

73

 

 

 

 

 


61

المحاضرة الخامسة

شأن نزول الآية

القصّة هي أنّه عندما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجلس في المسجد أو في البيت، كان يأتيه بعض المؤمنين ويُناجونه أمام الجمع الحاضر، ولم يكن للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يُناجيهم به، إلّا أنّهم كانوا يأتونه ويشغلون أُذنه  دائمًا بمناجاتهم ويأخذون أوقات الآخرين. وقد كان لهذا العمل حالتان:

فأحيانًا يكون هذا العمل حسنًا، إذ قد يكون ثمّة خبرٌ لا ينبغي إشاعته وذكره علنًا، كأن تكون أخبار هجوم العدوّ قد وصلت، فلو أُذيعت هذه الأنباء علنًا وعلى الملأ العام فإنّ الخوف سيدبُّ في نفوس الناس، لذا يجب إخبار النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم بها همسًا. جاء في إحدى الآيات القرآنية: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ﴾، حول أولئك الذين كانوا يُذيعون جَهارًا الأنباء التي تصل إلى مسامعهم حول أمن المجتمع، أو حول قضايا تُثير الخوف والرعب فيقولون مثلًا: جاء العدوّ، ذهب العدوّ، وقع الحادث الفلانيّ... ولا ينبغي طبعًا إفشاء هذه الأخبار،، لأنّ الناس سيخافون، بل ينبغي إعلام القائد بها أوّلًا وإعلام القادة العسكريين والمعنيين بالأمور ليضعها هؤلاء بين أيدي الناس بنحوٍ مُناسب. أن ينقل الإنسان كلّ ما يسمعه ليس بالأمر الصائب، فقد يترتبّ على ذلك آثارٌ سيّئة، لأنّ العدوّ مُتغلغِلٌ بين الناس أيضًا. ثمّة من يتساءل أحيانًا عن سبب عدم إطلاع الناس على كلّ الأنباء المتعلّقة بالبلاد، والجواب هو أنّ الناس هم أهلنا وخاصّتنا والغريب عنّا هو العدوّ، لكنّه مُتغلغِلٌ بين الناس. أنتم ايتوني بشعب لم يتغلغل فيه العدو ولا يوجد ضمن صفوفه عناصر دخيلة للعدو، (واضمنوا لي) أيضًا ألّا يُشيع الناس هنا وهناك الأنباء (الهامة) التي سمعوها،

 

74

 


62

المحاضرة الخامسة

آنذاك يمكن مشاركة جميع الأخبار الصغيرة والكبيرة للدولة معهم: ما هي أوضاع الميزانية، ما هي أوضاع النقد الأجنبي، ما هي أوضاع السياسة الخارجية، كيف هي علاقاتنا مع الدولة الفلانية، كيف هي علاقتنا مع الشخصية الفلانية، ومثلًا في اللقاء السري الفلاني مع مسؤول الدولة الأجنبية الفلانية ماذا قلنا له وماذا سمعنا منه، كل هذا يمكن مشاركته مع الشعب (شريطة عدم نفوذ العدو بين صفوفه). الشعب حبيبنا والشعب هو أهلنا، لكنْ فإذا ذكر أحد المعنيين بأسرار الدولة شيئًا منها في اجتماع ٍكبير - فرضًا في صلاة الجمعة وفي إحدى الخطب - فمن أين يُعلم أنّه لا يوجد بين الحشود الحاضرة أعداءٌ دُخلاء؟ وأنّ العناصر الدخيلة لـل "كي جي بي"[1] وال "سي آي أي"[2] والموساد[3] وجهاز الاستخبارات البريطاني[4] غير موجودةٍ ضمن هذه الحشود؟ من أين لكم أن تعلموا هذا؟ حيث من الطبيعي أن تأتي أجهزة الاستخبارات المعادية وتتزوّد بالمعلومات. وحتّى لو لم يكن لعناصر أجهزة الاستخبارات هذه حضور، فمن أين يُعلم أنّ الشعب سيحتفظ بالمعلومات التي سمعها من دون إذاعتها؟ إذ ليست أفواه جميع الناس مغلقة (عن نقل الأنباء). يجب على كل إنسان أن يحتفظ (لنفسه) بما سمع، لكن، فالكثير من الناس لا يراعون هذا الأمر فيُذيعون كلّ ما سمعوا، وهذه خصلةٌ سيّئة. إذًا فثمة ما يجب الهمس به للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو لمسؤولٍ بعينه، ولا حرج في هذا. هذا نمطٌ من المناجاة.


 


[1] [KGB] لجنة أمن الدولة أو جهاز الاستخبارات في الاتحاد السوفييتي السابق.

[2] [CIA] وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

[3] [MOSSAD] وكالة استخبارات الكيان الصهيوني.

[4] أو إم آي 6 [MI6] جهاز المخابرات السرية البريطاني المسؤول عن التجسس ودراسة وتحليل المعلومات والنشاطات التجسسية (للمملكة المتحدة) خارج أراضيها عبر الدول المختلفة.

 

75


63

المحاضرة الخامسة

وهناك نمطٌ آخرٌ سيّئ من الهمس في أذن المسؤولين والمعنيين بالأمور والقادة العسكريين وما شابه. وهو عندما يكون للمرء كلامٌ شخصيّ، كلامٌ لا أهميّة له، قوله وعدمه سيّان ولا طائل منه، لكنّ صاحبه يريد أن يُظهر للناس قُربه من قائدٍ بعينه، أو من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيأتي ويهمس في أذن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في حضور الجميع. هذا أمر سيّئ طبعًا. قد تكون مناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحيانًا عملًا للقُربة، أي يمكن أن يقصد صاحبها منها القُربة ثم يقوم بها، وقد لا يكون كذلك، أي إنّ الإنسان لا يأتي الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم بقصد القُربةَ ولا ابتغاء وجه الله، بل لمأربٍ شخصيّ، ويريد أن يُقرّب نفسه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليوحي للناس أنّه قريب منه. وبهذا يكون للمناجاة ضربان: أحدهما للقُربة والآخر ليس كذلك.

 

هذا ما أفهمه أنا من هذه الآية - إذ أرى أن معناها وكذا تفسيرها الصحيح هو هذا - أنّ كلا الصنفين من الناس كانا يأتيان الرسول ويهمسان في أذنه، الصنف الذي كان لديه حقيقةً ما يقوله سرًّا للرسول ويجب عليه أن يهمسه في أذنه  صلى الله عليه وآله وسلم من جهة، والصنف الذي لم يكن لديه ما يجب قوله سرًّا للرسول، وإنما كان يأتي ليُظهر نفسه وكأنه من خاصّته  صلى الله عليه وآله وسلم من جهة أخرى. كِلا الصنفين كانا يأتيان ويُناجيان الرسول. وقد كان على الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع حدًّا لتصرّف هؤلاء، لذا نزلت هذه الآية الكريمة، وكان هذا أفضل تدبيرٍ إلهيّ، فقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ لا يُقال "صدقة" لكلّ بذل مال، وليس كلّ إنفاقٍ صدقةً، فالصدقة هي الإنفاق الذي لا يُبتغى منه إلّا مرضاة الله، لذا قال في هذه الآية ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ أيّ قدّموا قبل النجوى صدقة، ولم يقل: أنفقوا قبل النجوى أو ابذلوا مالًا، بل قال: قدّموا قبل مُناجاتكم للرسول صدقةً في سبيل الله، أيّ المال الذي يبذله الإنسان في سبيل الله  بقصد القُربة.

 

76

 


64

المحاضرة الخامسة

وهذا يحلّ المشكلة، لأنّ من لديه كلامٌ ضروريٌّ ليناجي به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقصد القُربة فإنّه يقصد القربة أوّلًا ثمّ يتصدّق، أما ذاك الذي يُناجي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهوىً في نفسه، فعندما يُريد بذل المال فإنّه لا يقصد القُربة، ولذا فلا يكون بذله صدقة. لذا، فأولئك الذين لا يقصدون القربة من مناجاتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وليس لديهم كلامٌ هامٌّ لقوله، فليس بوسعهم أن يُعطوا الصدقة، وحتّى لو أعطوا آلاف الدنانير فلن تكون صدقةً لخُلوّها من عنصر القُربة. لقد قرن تعالى جواز مناجاة الرسول بعمل يشترط فيه قصد القربة، وهو الصدقة. فمن لم يقصد القربة في مناجاته الرسول وأراد مناجاته لهوىً في نفسه، فلن يتمكن أساسًا من إعطاء الصدقة قبلها، يمكنه أن يبذل مالًا، لكنّ هذا المال لن يكون صدقة، لأنه لا يُقصد منه القُربة.

 

وضع الإسلام هذا الشرط الدقيق، فكانت النتيجة أنّه لم يُناجِ الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم سوى رجل واحد هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه)، وتبيّن من ذلك أنّ مناجاة الآخرين لم يكن لها أيّ أساسٍ قُربيّ. كان لأمير المؤمنين دينارٌ فجعله عشرة دراهم وناجى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرّاتٍ بذاك الدينار، فأعطى في كلّ مرّةٍ درهمًا في سبيل الله، فتبيّن أنّ عليّ بن أبي طالب كان يقصد القُربة لله تعالى في مناجاته الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن يقصد إظهار نفسه، لذا فبإمكانه التصدّق في سبيل الله قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ولقد كان الآخرون أثرياء، ولربّما كانوا لا يبخلون ببذل المال وبإعطاء درهمٍ لمناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنْ لم يكن بإمكانهم إعطاء هذا الدرهم في سبيل الله، ولم يكن بمقدورهم قصد القُربة، لأنّ نجواهم تلك لم تكن في سبيل الله. عندما لا يُقدِم الإنسان على عملٍ في سبيل الله فإنّه لن يتمكّن كذلك من القيام بمقدّمته لوجه الله، فمقدّمة

 

77

 


65

المحاضرة الخامسة

العمل - وهي الصدقة هنا - تكون لوجه الله عندما يكون العمل نفسه في سبيل الله ولوجهه تعالى، آنذاك يمكن (لفاعله) أن يعطي ماله هذا بقصد القربة ليكون صدقة، وإلا فلن يكون كذلك، وإنما سيكون بذلًا للمال، لذا فقد كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول لمنازعيه في أمر الخلافة في بعض كلامه معهم: "إنّ في كتاب الله آيةً ما عمل بها أحدٌ قبلي وهي آية النجوى والصدقة التي قبل النجوى"[1].

 

أيّ إنّه عندما نزلت هذه الآية جاء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وتصدّق وناجى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ تصدّق وناجى، ثمّ تصدّق وناجى... هكذا لعشر مرّات، ولم يفعل هذا بعده أحد. ثمّ نُسِخَتْ هذه الآية، والآية التالية التي سنصل إليها هي نَسْخُ هذه الآية حيث رُفِع الحكم. وطبعًا فقد رجع المسلمون إلى أنفسهم وانتبهوا إلى أنّ ما يقومون به ليس لوجه الله وإنمّا عن هوى نفس، وهذا ما أفضى بهم إلى أن يرجعوا إلى أنفسهم.

 

طبعًا ذكر بعض المفسرين معاني أخرى لا يجدها المرء سليمة. ذكروا مثلًا أنّه عندما كان يأتي بعض الأغنياء ويُناجون الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم كان الفقراء يجلسون في زاويةٍ من المجلس يشهدون نجواهم، لذا قال تعالى للأغنياء: "عندما تأتون وتناجون الرسول، تصدّقوا للفقراء الحاضرين في المجلس لكي لا تضيق صدورهم!" وكأنّ الفقراء كانوا يأخذون رشوة النجوى! وليس من الصائب أن نقول: فليأتِ بعض الأثرياء ويناجوا الرسول ويعطوا مقابل ذلك ضريبة - ضريبة النجوى - ثمّ يبقى هذا الامتياز للأثرياء. كلا، أنا لا أرى أن الحكم الإلهي هو هذا، وأن معنى الآية القرآنية هو هذا. ذكر بعض المفسرين هذا المعنى لكنّ المعنى الذي ذكرتُه هو معنى دقيق لا شُبهة فيه - أي

 

 


[1] تفسير القمي، ج2، ص357.

 

78


66

المحاضرة الخامسة

لا محل للإشكال فيه - ومفهوم الآية ضمن ذاك المعنى مقبول وواضح بشكل كامل.

 

شرح الآيتين

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ﴾ كان الفعل في الآيات السابقة (آية 9) "تَناجَيتُم" وهو حين يُناجي بعض الأشخاص بعضًا، وجاء الفعل هنا بصيغة "ناجَيتُم"[1]، أيّ عندما يُناجي أحدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفعل "تَناجى" على وزن "تفاعَل" وكذا "تناجيتُم" الذي هو على وزن "تفاعَل"، من جهة، و"المناجاة" على وزن "المفاعلة"، و"ناجيتُم" من اشتقاقاتها، وكلا الوزنين بمعنى العمل المتقابل. لكن يبدو أنّ مردّ ذكر الفعل "ناجيتُم" فيما يتعلّق بالرسول والفعل "تَناجيتُم" فيما يتعلّق بالمسلمين فيما بينهم، هو أنّه فيما يتعلّق بهؤلاء فقد كان كلّ اثنين منهما يتهامسان فيما بينهما، أيّ كانوا يجلسون مثنًى في مجالس المؤمنين ويستغرقون في مناجاة بعضهم بعضًا، ولم يكن الآخرون يعلمون ماذا يقول هؤلاء فيما بينهم. وقد كان هذا سلوكًا مذمومًا، وكذلك كان في الأساس سلوك المنافقين، وقد قال تعالى فيما بعد إنّه سيكشف أسرارهم. أما فيما يتعلّق بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان همسًا من طرف واحد، أيّ لم يكن لدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يقوله لمناجيه، فقد كان يجلس في بيته أو في المسجد، ثمّ يأتي هؤلاء ويستمرّون في إزعاج مسامعه ويهمسون في أذنه. لذا، فمع أنّ فعل المناجاة مُتقابلٌ من ناحية وزن الفعل، لكنّه فيما يتعلّق بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن كذلك، أي ّلم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتحدّث معهم، وكانوا هم فقط يتحدّثون معه، لذا جاء الفعل على وزن "المفاعلة". ولذا، فعندما نتحدّث مع الله


 


[1] سورة المجادلة، الآية 9.

 

79


67

المحاضرة الخامسة

ونناجيه، فنحن من يتحدّث معه لكنّه هو لا يتحدّث. فمناجاة ربّ العالمين هي أن يتحدّث الإنسان مع الله ويتحدّث في خلوته معه تعالى، لا أنّه تعالى يتكلّم مع الإنسان في تلك الحالة. أما "تناجى" الذي هو على وزن "تفاعل" فهو يبدو كما أتصوّر، وبناءً على ما مرّ من توضيح، وكأنه حين يتكلّم اثنان مع بعضهما بعضًا.

 

﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ لا يقول "لا تُناجوا" إذ قد يكون لأحدهم مسألةٌ ضروريّةٌ يجب أن يناجي بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لذا فلو نهى تعالى بنحوٍ مطلقٍ عن المناجاة فإنّ كثيرًا من الأمور ستبقى معلّقة، ولو قال "فليُناجِ الرسولَ كلُّ ذي شأنٍ ضروري"، فقد يظنّ كثيرون أنّ مسائلهم ضروريّة. ونحن لدينا هنا (في رئاسة الجمهورية) هذه المشكلة، (إذ يأتي) بعض الأشخاص ويقول: "عندي أمر ضروري أريد لمناقشته معكم عشرين دقيقة من وقتكم أنتم شخصيًّا" (أي سماحته)، ومهما قلنا له: "تحدّث يا سيد مع رئيس المكتب (الرئاسي)، مع المستشار (المَعْنِي)!" فإنه يقول: "لا يمكن، يجب أن أتحدّث مع شخصكم أنتم"، ثم يأتي ويتحدّث (معي شخصيًا) فيتّضح أن مسألته الضرورية ليست عندنا (كرئاسة للجمهورية) ولا حتى في الدرجة العاشرة من الأهمية. طبعًا كانت مسألته تبدو له وكأنها أمر ضروري، لكنْ مع ما لدي من انشغالات فإنّ مسألته ليست حتى في الدرجة العاشرة من الأهمية ولا ضرورة لها ولا فورية. أحيانًا قد لا يكون تقصير الأشخاص أنفسهم أيضًا، إذ تبدو قضاياهم لأنظارهم هامة وضرورية. لذا فلو قال تعالى في الآية: فليأتِ كل من لديه مسألة ضرورية وليُناجِ (الرسول)، فإنّ كثيرًا ممن تبدو لهم مسائلهم ضرورية سيأتون ويشرعون بمناجاته  صلى الله عليه وآله وسلم. ولن يكون هذا سبيلًا لحلّ المشكلة. فالله سبحانه وتعالى يجد سبيلًا آخر يدفع

 

80

 


68

المحاضرة الخامسة

الناس من خلاله للتفكُّر وللرجوع إلى ضمائرهم، قائلًا ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ أيّ يضع شرطًا اشتُرِط فيه قصد القربة وجُعِل قيدًا له. يعني إذا أراد أحدٌ (مثلًا) الذهاب لمناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان لديه شأنٌ عائليٌّ لا أهميّة له أساسًا، أو ودّ أن يشتكي إليه همومه - وشكوى الهموم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تتطلب قصد القربة - فما إن أراد التصدّق في سبيل الله لمناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما إن أراد قصد القربة والتصدّق حتى يقفز هذا السؤال إلى ذهنه: "أيُّ قصد قربةٍ هذا؟!" عندما أقولُ: "أتصدّقُ قربة إلى الله تعالى لأُناجي الرسول" فحينما لا تكون مناجاتي مع الرسول في سبيل الله، فكذلك لن يكون بذل المال الذي هو مقدّمتها في سبيل الله. إذًا فعندما يهمّ ببذل المال سيفكّر ويؤنّبه ضميره ويذكّره أنّ مسألته ليست هامّةً ولا ضروريّة، وسيعزف عن ذلك حينها. إذًا، دفعت هذه الآية المسلمين إلى التفكّر وإلى الرجوع إلى ضمائرهم وذلك من خلال الصدقة المقيّدة والمشروطة بقصد القربة، وإلّا فلن يكون اسمها صدقة، بل سيكون اسم العمل "بذل المال"، سيكون اسمه إنفاقًا. مع هذا التدبير، فإنّ الأشخاص الذين لديهم شأن ضروري مع الرسول وعملهم قُربيُّ بإمكانهم المجيء والحديث معه  صلى الله عليه وآله وسلم، أما أولئك الذين ليس لديهم أمر ضروري فلن يتمكّنوا من المجيء للحديث. لذا يقول تعالى ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ الصدقة هي أفضل لكم، ذلك لأنّكم لن ترتكبوا بها خطيئة، ولن تشغلوا الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، عبثًا ولن تسلبوا الآخرين حقّهم في مناجاته، ولن يتلوّث قلب أحدكم بتأنيب الضمير في صوابيّة مناجاته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُوا﴾ وهنا تبيّن الآية حكم من كان لديه شأنٌ ضروريٌّ أو خبرٌ هامٌّ ورسالةٌ خاصّةٌ ولا يمكنه إعلامه إلّا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحده، لكنّه

 

81


69

المحاضرة الخامسة

لا يمتلك ما يتصدّق به ليتقدّم ويناجي النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية تقول له أن يذهب ويخبر النبي  صلى الله عليه وآله وسلم بما لديه ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. أتصور أن معنى الآية بهذا النحو جامع مانع، أي لن يَرِد عليه أي إشكال. إذا فسّرنا الآية بنحو آخر على النحو الذي فعله بعض المفسرين، فسيعرض في ذهن الإنسان إشكالان إلى ثلاثة لا أريد التفصيل فيها.

 

بعد نزول هذه الآية، خلا مجلس الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ نُسخت بعد ذلك، وقد كانت فترة هذا الحكم الذي تضمنّته تنبيهًا للمسلمين. وقد حصلت صحوة الضمير وكسرت تلك الحلقة الخاطئة التي أحاطت الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم والتفت المسلمون إلى أخطائهم.

 

﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ يُخاطب الله تعالى المسلمين وكأنّه يقول لهم:كيف حصل أنكم لم تقدّموا صدقة؟ لقد كنتم تذهبون دائمًا إلى الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم وكنتم تودّون مناجاته باستمرار، فما لكم أعرضتم عنه جميعًا ما إن قيل لكم قدّموا صدقة؟" وهذا الإعراض هو إمّا لأنّ أنفسهم لا ترضى إنفاق المال، أو إن كانت ترضى بذلك فإنّهم يعتبرون أن لا ضرورة في الأمر، ويقولون لماذا نتصدّق؟ وما كانوا يقصدون القربة، لأنّهم لا يملكون كلامًا ضروريًّا.

 

﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾فجأةً نبذ الناس حالة الزهو المُتوهَّم التي كانوا يتخيّلونها لأنفسهم، فقد كانوا يتصوّرون أنّ عليهم الذهاب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومناجاته حتّى يصنعوا لأنفسهم الهيبة والشخصيّة الرفيعة. وهذه التوهمات الجاهلة هي تصرّفاتٌ طاغوتية، ولو أنّها لم تصدر من الطواغيت أنفسهم بل من قبل محكوميهم، فإظهار التعظيم لغير الله هو عملٌ طاغوتيّ، علّمهم إيّاه الطواغيت وعوّدوهم عليه. فقد يحصل أحيانًا أن تبقى الأخلاق والعادات الطاغوتيّة والجاهليّة في

 

82


70

المحاضرة الخامسة

المجتمع، ومن ضمنها هذا الخُلق، إذ يتوهّم أصحابه أنّه لكي يصنعوا لأنفسهم شخصيةً فما إن – مثلًا - تبرز في المجتمع شخصيةٌ ويذيع صيتها ويعلو ذكرها حتّى يعثروا عليها ويهمسوا في أذنها ويناجوها أمام أنظار الجميع ويتحدّثوا معها في المحافل بخصوصيّةٍ أكثر، لكي يمنحوا أنفسهم حيثيّةً واعتبارًا في أنظار الآخرين. وهذا طبعًا عملٌ جاهليّ، فاعتبار الإنسان ليس بقربه من ذوي المناصب أو بُعده عنهم، بل إنّ الاعتبار الحقيقي له هو بقربه من الله وبعده عنه ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[1].

 

عندما تحصل هذه الصحوة، فإنّ الإنسان يرجع حينها إلى تلك القيم الأصيلة، إلى الأمور التي يكون بها اعتبار المسلم الحقيقيّ وقيمته. وهي: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله. جاء في الرواية - انطلاقًا من وجود طبقةٍ من الأشراف في كلّ مجتمع - "ليس في أمتي أشراف"، فلا شيء من المال والأسرة والحسب والمقام والألقاب أساسٌ للشرف في أمّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "أشرافُ أُمّتي أصحابُ الليل وحَمَلَةُ القرآن"[2]، وأصحاب الليل هم العاكفون على عبادة الله في الليل، وعبادة الله قد تكون بقراءة القرآن، وقد تكون بالحراسة والمراقبة في الجبهات، وقد تكون بالهجوم على الأعداء مع نداء "يا زهراء" و"يا أمير المؤمنين"، وأيّ عملٍ يؤدّيه الإنسان في سبيل الله في الليل حيث يُسلب الإنسان النوم والراحة وتبقى عينه يقظةً ففي هذا العمل فضيلةٌ، وهو أساس شرف الإنسان. وحملة القرآن هم الذين يحملون نصّ القرآن وأحكامه ومعارفه معهم، وفي قلوبهم. وهذا ما علينا فعله، تعلّم القرآن وحفظه في الصدور والأذهان، وتعلّم أحكامه


 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص399، باختلاف طفيف.

 

83


71

المحاضرة الخامسة

والأوامر الإلهية التي تضمّنها من حلال ٍوحرام، بالإضافة إلى ثقافة القرآن، أيّ معارفه الإلهيّة، فمن يفعل ذلك كان من حملة القرآن، وحامل القرآن إنسانٌ شريف. فإذا كان في مجتمعٍ ما ثمّة من يملك ثرواتٍ ضخمةً، ويحظى بمقاماتٍ عاليةٍ، وعائلةٍ كريمةٍ وشريفةٍ، ويحوز ألقابًا وامتيازاتٍ جمّة، لكن ليس له من القرآن أيّ نصيب، فإنّه ليس من أشراف هذه الأمّة. والأمر هو كذلك في ثقافتنا، وفي نظامنا، وفي بلادنا، وفي جمهوريّتنا الإسلاميّة، وفي أمّتنا الإسلاميّة وفي هذه المنظومة التي أساسها الإسلام، فالمسألة هي أنّه لم يعد لدينا أشرافٌ وغير أشراف، إلّا بهذا المعيار الذي جاء في الحديث. وهذا هو معنى العودة إلى القيم الإسلاميّة والقرآنيّة الأصيلة "أشراف أمّتي أصحابُ الليلِ وحَمَلة القرآن"، لذا يقول تعالى: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فهو يعلم سرائركم وبواطنكم، وهو خبيرٌ بقلوبكم وبأحوالها. إنّ الله لا يخدعه جلوسكم في صدر المجلس، ولا حديثكم أكثر مع رسول الله، ولا مناجاتكم له أو ادّعائكم أنّكم أصبحتم من خاصّته، كلّ هذه الأمور لا تخدعه تعالى، ولو انخدع الآخرون بها، وتوهّموا أنّ لكم اعتبارًا.

 

لا جرم أنّ معيار الشرف والفضيلة هو العمل لا الألقاب والأنساب، لذا يقول الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام المعصومة من الذنب، والتي هي أعظم امرأةٍ في التاريخ وواحدةٌ من أعظم الناس على طول التاريخ: "يا فاطِمة! إِنَّنِي لَنْ أُغنِيَ عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا"[1]، بمعنى أن لا تحسبي أنّك لكَونك ابنتي فإنّ الله سيتلطّف بك وسيتفضّل عليك يوم القيامة أكثر، بل المهم هو ما عمِلتِه أنتِ. والأمر هو كذلك، لذا فإنّ فاطمة الزهراء عليها السلام - التي غادرت الحياة واستشهدت في


 


[1] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 18، ص 134.

 

84


72

المحاضرة الخامسة

الثامنة عشرة من عمرها - وقفت في محراب العبادة للحدّ الذي تورّمت فيه قدماها[1]. فأين شبابنا وشابّاتنا من هذه العبادة؟ إنّ السيدة الزهراء عليها السلام عكفت على العبادة في عمر الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة وفي كلّ مراحل حياتها، والتي هي كلها مرحلة الشباب والصِّبا، هذا كلّه بالإضافة إلى كلّ الأعمال الواجبة والضروريّة والقيّمة التي يُمكن للمرأة أن تقوم بها. لقد تزوّجت في التاسعة من عمرها وأدارت منزلها لتسعة أعوام، وطوال السنوات التسع هذه كان زوجها الشابّ والمحبوب، أيّ أمير المؤمنين، يحارب في ساحات القتال، ولم تعترض السيدة الزهراء خلال ذلك ولا لمرّةٍ واحدة، ولم تُبدِ كراهيّةً لوضع معيشتها. خلال هذه الأعوام القليلة في المدينة يُمكن القول إنّ أمير المؤمنين لم يبقَ لشهرين أو ثلاثة أشهرٍ متتاليةٍ في المدينة، فقد كان ينتقل دائمًا من حربٍ لأخرى، ومن هذا السفر إلى تلك المهمّة الخطيرة. وحتّى عندما يكون في المدينة فقد كانت حياتهما بذاك الوضع الذي نعرفه جميعًا: لحافهم، بساطهم، طعامهم، صومهم وإطعامهم، وقد ربّيا أبناءهما على هذه المبادئ، وعلى العمل الدائم في سبيل الله. وهذا يعني أن كلّ الأعمال التي يمكن للمرأة المسلمة أن تُؤدّيها قد قامت بها فاطمة الزهراء عليها السلام بأحسن وجهٍ وأفضله، لذا كانت أعظم امرأةٍ في التاريخ.


 


[1] مناقب آل أبي طالب (عليه السلام) ج3، ص 341.

 

85


73

المحاضرة السادسة

المحاضرة السادسة

 

الآيات 14 – 19

 

 

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *  أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *  اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

 

* (04/04/1361) (25/06/1982)

 

87

 

 


74

المحاضرة السادسة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

توضيح حول العلاقة بين الآيتين 13 و14

 

وفقًا لما تقدّم، ربما كان المؤمنون الذين يُناجون الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم يتصوّرون في أذهانهم أنّ ما يقولونه له هو كلامٌ هامٌّ لا ينبغي ذكره علنًا وجهارًا، ويجب إعلامه  صلى الله عليه وآله وسلم به على نحو النجوى وهمسًا في أذنه. إلّا أنّ الأمر لم يكن كذلك في كثيرٍ من الحالات، أيّ إنّ ذاك الكلام لم يكن ضروريًّا في الحقيقة، بل أنانيّتهم وانتهازيّتهم هي التي كانت توحي لهم بأنّ ذاك الكلام العاديّ ينبغي ألّا يُقال للرسول  صلى الله عليه وآله وسلم إلا همسًا ونجوًى. وعندما أمر الله تعالى بالتصدّق قبل المناجاة، وجد هؤلاء الفرصة ليثوبوا إلى رشدهم وليُدقّقوا فيما يريدون قوله، وليكتشفوا الحقيقة وراء حجاب تصوّراتهم الواهية. والحقيقة هي أنّ كلامهم ذاك لم يكن ذا شأنٍ ولا ضرورة فيه تستدعي ذكره للرسول  صلى الله عليه وآله وسلم. أتاح حُكم الصدقة المجالَ لهذا التأمّل في أفعالهم، ومنحهم فرصة الرجوع إلى الذات. وقد خُتمت الآية بـِ ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وهو خبيرٌ بما تفكّرون وبما تعزِمون عليه، أيّ إنّه في الواقع ثمّة أمرٌ في تلك الآية كان يُطرح في ذهن الإنسان، وهو ذاك الظاهر الذي لا يتطابق مع الحقيقة، فحتّى تلك الثنائيّة بين ظاهر الإنسان وباطنه لا يكتشفها الإنسان في وجوده إلّا بعد تأمّلٍ وبعد شيءٍ من الدّقة. وهذا الظاهر غير المطابق للحقيقة - إذا تأملناه من منظار علم النفس وباطن الإنسان - يبدو لنا شكلًا مخفّفًا من النفاق. فالنفاق هو ثنائية الظاهر والباطن، وثنائية الحقيقة والتظاهر. وهذه الثنائية تكون أحيانًا خفيّةً ومُستترةً ودقيقةً لدرجة أنّ الانسان نفسه لا يستطيع اكتشافها في داخله،

 

88

 


75

المحاضرة السادسة

كحال المؤمنين والمسلمين فيما يتعلّق بمناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأنانيتهم وأهواؤهم النفسية - التي دفعتهم لاستعراض أنفسهم والتقرب من الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم والالتصاق به - كانت دقيقةً وخفيّةً جدًّا بحيث إنّهم هم أنفسهم لم يكونوا مُنتبهين لها، ولم يكونوا مُلتفتين إلى أنّ الدافع الذي كان يحرّكهم لمناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويأمرهم بالهمس في أذنه هو الأنانيّة، وليس دافعًا عباديًّا. وعليه، يمكن القول إنه ليس بإمكان الإنسان أن يكتشف هذه الثنائية ما لم يرجع إلى نفسه بتوصيةٍ إلهيّةٍ وقرآنيةٍ، وبحكمٍ قرآنيّ وإسلاميّ حكيم. هذه المرحلة الضعيفة جدًّا من النفاق، إذا لم يكتشف الفرد الدوافع السقيمة الكامنة خلفها -التي تبدو له سليمةً- حتى يزيلها، وأُطلق العنان لها فستفضي به تدريجيًّا إلى النفاق، فالمنافقون لم يكونوا بهذه الصفة منذ البداية، بل شيئًا فشيئًا تأصّلت داخلهم روح النفاق.

 

وفي الروايات ما يؤكد ذلك، من قبيل: إنّ الرياء أخفى على الإنسان من دبيب النملة على الصخرة السوداء[1]، فكما يتعسّر- وبشدّة - اكتشاف حركة نملةٍ على صخرةٍ سوداء، لا حسّ لها ولا إدراك، كذلك أيضًا جذور الرياء والنفاق رقيقةٌ جدًّا وتتطلّب الدقّة العالية لاكتشافها. والرياء أمرٌ له حدٌّ مشتركٌ مع النفاق، والرياء هو بمعنى التظاهر، أيّ العمل الذي يُبتغى به غير الله، أمّا جهة اشتراكه مع النفاق، فالإنسان حين يرائي فإنه يتظاهر بأمرٍ لا تَحَقُّق له في الباطن وفي واقع الأمر، كالنفاق تمامًا.

 

وفي هذه الآية يتحدث الله تعالى عن مسألة النفاق، ويمكن افتراض العلاقة بين هاتين الآيتين[2] على النحو الآتي: أنه أُشير في الآية


 


[1] خصال الشيخ الصدوق، ج1، ص 136.

[2] [13 و 14].

 

89


76

المحاضرة السادسة

السابقة إلى حالةٍ ضعيفةٍ وبدائيةٍ من النفاق والرياء في الإنسان، وإلى خُلقٍ إنسانيٍّ خفيّ، وتعرّضت هذه الآية للحديث عن مسألة النفاق والمنافقين، وهذه أمورٌ تتّصل ببعضها البعض. ويمكن كذلك ملاحظة هذه العلاقة من خلال ذيل تلك الآية أيضًا، حيث يقول تعالى ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ففي مَعْرِض الحديث عن علم الله تعالى بما في الباطن وفي الخفاء، يتطرّق سبحانه وتعالى إلى مسألة المنافقين، وأنّ لهم أعمالًا يقومون بها في الخفاء ويسترونها في العلن، وحتّى إنّهم يحلفون بالله ويحاولون تنظيم ظاهرهم بما يتوافق مع ظاهر سائر الناس، إلّا أنّ الله تعالى خبيرٌ بهم وببواطنهم.

 

شرح الآيات

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ - أي المنافقين - ﴿تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ يُحتمل كثيرًا أن يكون هؤلاء هم اليهود. كان في المدينة بعض المنافقين، الذين يتظاهرون بالإيمان، ويقيمون علاقاتٍ خفيّةً مع أعداء الله ورسوله، أيّ اليهود. كما  يمكن أن نفترض أنّ ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ لا تشير إلى اليهود فحسب، بل تشمل مشركي مكّة أو سائر المشركين أيضًا. وأكثر ما جاء التعبير بــ ﴿ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ أو الغضب بشكلٍ عام ّكان بحق اليهود، كالآية الشريفة ﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾[1] وفي سورة الفاتحة حيث يقول تعالى ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾[2]، فقد فُسِّر ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ في بعض الروايات باليهود و ﴿الضَّالِّينَ﴾ بالنصارى. وبما أنّ ﴿غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ لها معنى عام، فيمكن أن يكون المراد كافة


 


[1] سورة المائدة، الآية 60.

[2] سورة الفاتحة، الآية 7.

 

90


77

المحاضرة السادسة

المشركين والمُعاندين ومحاربي الدين الذين أُشير إليهم في الآيات اللاحقة كما في قوله تعالى ﴿يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[1]، فأعداء الله ورسوله ليسوا اليهود فقط، لكنّ اليهود مصداق من مصاديقهم.

 

معنى الولاية

في التفاسير يُفسّرون الولاية أحيانًا بالمحبة، وهذا صحيح، فهي تأتي بهذا المعنى، لكن ليس في كل استعمالٍ لها. الولاية لغةً هي بمعنى العلاقة والصِّلة الوثيقة جدًّا بين أمرين بحيث لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض بسهولة، كأن تعقد حبلين معًا بإحكام فلا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض بسهولة. تُطلق الولاية وفق التعبير القرآني والروائي كما في أدبيات العرب على أنماطٍ وأشكالٍ من الصِلات الوثيقة والمتينة، ومن ضمنها صلة المودة، التي يطلق عليها مصطلح الولاية بهذا الاعتبار. كذلك الولاية هي بمعنى الحكومة باعتبار أنّ من يحكم المجتمع ويتولّى أموره، فالصلة بينه وبين هذا المجتمع هي صلةٌ وثيقةٌ ومتينةٌ ومتشابكة، وبذلك تكون الحكومة - واقعًا - أحد مصاديق الولاية بمعناها اللغوي. وعندما ندقق النظر في معاني الولاية المتعددة التي أوردها علماء اللغة في كتبهم نجدها كلّها مصاديق لمعناها الأصلي، وهو التلاحم والتشابك. وعليه فالآية تذمّ المنافقين لعلاقاتهم الوثيقة مع الكفار، فهي لم تكن علاقةً إنسانيةً عادية، بل كانت علاقةً ولائيةً وثيقةً تعبّر عن التلاحم والاتحاد والمسير والتوجّه المشترك، لذا يقول تعالى في سورة الممتحنة ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن


 


[1] سورة  المجادلة، الآية 22.

 

91


78

المحاضرة السادسة

تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾[1]، ثم يقول ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾[2] فإقامة علاقاتٍ وثيقةٍ ومتشابكةٍ لا يمكن فصلها، وعلاقات ذات مسلك وتوجّه واحد، هو ما تنهى عنه الآيات الكريمة.

 

علاقة المنافقين الوثيقة باليهود

إذًا، قد كان لتيّار المنافقين علاقاتٌ وثيقةٌ باليهود والكفار رغم تظاهرهم بالإسلام. وفي مجتمعنا الإسلامي يوجد مصاديق كثيرة لهذا التيار، فحكّام بعض الدول يدّعون الإسلام لكنهم يقيمون أوثق العلاقات مع الصهاينة كمصر، ومع الولايات المتحدة الأميركية كبعض الحكام في دول الخليج الفارسي والشرق الأوسط، وهؤلاء هم المصداق الكامل للآية القرآنية: ﴿الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ ثمّ يقول سبحانه وتعالى ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ أيّ إنّهم رغم كلّ أفعالهم وعلاقاتهم تلك مع أعداء الله إلّا أنّ الغلبة لن تكون لهم، وهذه إحدى السنن الإلهيّة بأنّ مساعيهم لن تفلح أبدًا، وأنّ النصر هو لتيّار النبوّات والتوحيد والإسلام على الكفر والكفار.

 

دائرة مصاديق النفاق

يتضمّن تيّار النفاق مستوياتٍ مختلفة، والآية الكريمة تشمل المجموعة المنافقة في صدر الإسلام والجماعات ذات التوجهات المخالفة، والدول المنافقة فضلًا عن الأفراد المنافقين أنفسهم.


 


[1] سورة الممتحنة، الآية 8.

[2] سورة الممتحنة، الآية 9.

 

92


79

المحاضرة السادسة

المنافقون لا هم من المؤمنين ولا من اليهود

﴿الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ﴾ تشير هذه الآية إلى حالة التذبذب التي تعتري المنافقين، فهم مُذبذَبون، كما جاء في آيةٍ أخرى ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء﴾[1] فلا هم من تيّار المؤمنين فيكون لهم نفس المصير، بل ويدافع عنهم المؤمنون كونهم ينتمون إليهم، ولا هم من تيّار اليهود أو الكفار ليدافع عنهم هؤلاء. وعليه فلا تشملهم الخيرات المعنويّة والظاهريّة والباطنيّة للمؤمنين والمسلمين، ولا الكفّار يحمونهم بنحوٍ دائمٍ واستراتيجيّ، بل إنّهم يستعملونهم كحجر الاستنجاء، فقديمًا عندما كان الإنسان يفقد الماء، كان يجب عليه الاستنجاء بالحجر ليُطهّر بدنه، فكان يبحث في الصحراء عن قطعة حجرٍ ويُنظِّفها جيدًا ولو حتّى بملابسه ويغسلها في النهر لأنّها ستنفعه، ويحتفظ بها في جيبه ليستخدمها في الاستنجاء[2]. لكنْ ما إن يستنجي بها حتى يرميها وراء ظهره من دون أن ينظر إليها. والمنافقون كذلك حيث إنّ علاقة الكفار معهم مبنيةٌ على أساس المصلحة، فما داموا بحاجة للمنافقين وللخدمات التي يسدونها إليهم تبقى هذه العلاقة محفوظةً، لكنّهم سيرمونهم حين تنتهي تلك المصلحة وتنتفي. فإذا افترضنا اليوم - وهو بعيد - أنّ الشركات العالمية الكبرى استغنت عن نفط المملكة العربية السعودية، فلن يبقى للسعودية أيّ مكانةٍ في المنطقة من وجهة نظر الأميركيين، لأنّها غير قادرة ٍعلى تأمين مصالحهم. كما حصل للشاه،


 


[1] سورة النساء، الآية 143.

[2] الشيخ البهائي, نان وحلوا: "دل كه فارغ شد ز مهر آن نگار /// سنگ استنجاي شيطانش شمار" [إذا القلبُ عِشْقَ ذاك المحبوب هجرَ /// فلاستنجاء الشيطان اعتبره حجرا].[إذا خلا القلب من عشق ذاك الحبيب// عدّه حجرًا لاستنجاء الشيطان].

 

93


80

المحاضرة السادسة

حيث تقاعصوا عن حمايته حينما قصّر عن تأمين مصالحهم، وغدا ضعيفًا في المجتمع واشتدت نقمة الشعب عليه، كلّ ما فعله الأميركيون له هو أنهم استضافوه لأيامٍ وجاملوه بعض الشيء من دون أن يقدّموا له أيّ دعمٍ بعد ذلك. وهذا التذبذب هو في الحقيقة يودي بالمنافقين إلى أقصى درجات التعاسة. ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ﴾ بقولهم إنهم من المؤمنين، ولقد فضح الله تعالى بنحوٍ كاملٍ هذه اليمين الكاذبة للمنافقين في مواضعَ عدّةٍ من القرآن، في سورة المنافقين[1] وغيرها[2]. ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أيّ هم أنفسهم يعلمون أنّ أيمانهم كاذبة.

 

العذاب الإلهي الشديد في انتظار المنافقين

إذًا، فماذا يفعل الله تعالى مع هؤلاء المنافقين الموجودين في المجتمع والذين هم حتمًا من أنجس وأخبث العناصر فيه كأنّه تعالى يقول للمؤمنين: لكي تعلموا أيّها المؤمنون حقيقة المنافقين فلا يُعجبكم كثيرًا ظاهرهم، اعلموا أنّه تعالى ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ هذا العذاب الشديد أشدُّه في الآخرة طبعًا، لكنْ تنتظرهم في هذه الدنيا أيضًا أنواعٌ من العذاب الشديد، والتي من أسوأها حالة التذبذب والتعاسة هذه، ثمّ إنّهم سيكونون وضيعين أذلّاء، والله تعالى قد كتب عليهم الذلّة في هذه الدنيا، وأنّهم سيضطرون دائمًا إلى أن يتلاءموا مع الظروف التي حولهم عساهم يعيشون حياةً ما، وعساهم يتنفّسون نفسًا ما، ويبقون في هذا العالم بضع سنوات. وذلك لأنّ أعمال هؤلاء كانت سيّئةً وعلى نحو ٍ مستمرّ، وليست ظاهرةً أو آنيّةً. ﴿إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ و"كانوا" هنا تُفيدُ الاستمرار، واستمرار عملهم السيّئ


 


[1] [الآية 2].

[2] من ضمنها سورة النساء، الآية 62.

 

94


81

المحاضرة السادسة

هذا في مراحل عمرهم وضمن المجتمع وضمن نطاق فعاليّات الناس يستَتْبِع أن يُعِدَّ الله تعالى لهم عذابًا شديدًا.

 

تناسب الرحمة والسخط الإلهيين مع أعمال العباد

كثيرًا ما نُنتقد - ومنذ أوائل الثورة - أننا نستهلّ كلامنا بـ"بسم الله قاصم الجبارين" و"بسم الله المنتقم" في حين أنّ الله عرّف نفسه للعباد بصفتي الرحمن والرحيم، ويقولون إننا ننسب له عبثًا صفتي الانتقام والقصم وما شاكلهما. والحقيقة هي أن لله تعالى - إزاء كلّ موقفٍ وظاهرةٍ ما يليق بألوهيته، كما جاء في الدعاء "أيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة"، فلا يمكن مقارنة أي رحمة أو عفوٍ أو صفحٍ إنساني - مهما بلغ - بالعفو والصفح الإلهيين، ذلك لأن الإنسان يصفح عن حقوقٍ عارضة عليه لا أنها ذاتيّةٌ فيه، ولكن في الوقت نفسه، العذاب والعقاب الإلهيان يقعان.

 

عذاب العاصين رحمةٌ للمؤمنين

لو لم يعذّب الله تعالى العاصين أو يعاقبهم أو يهددهم بالعذاب، فهذا في الحقيقة عدم اكتراثٍ بإيمان المؤمنين وتجاهلٌ لأعمال المخلصين والمتقّين والمُضحّين، وهذا خلاف الرحمة. الرحمة هي أنّه عندما يرفع الله تعالى مؤمنًا مُضحيًّا إلى أعلى عليّين فهو أيضًا يُردي قاتله أسفل سافلين وإلى الدّرك الأسفل من النار.

 

فالله تعالى يعاقب المنافقين بهذه الطريقة ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ وهم يستحقّون ذلك، فقد كان عليهم ألّا يكونوا منافقين، وألّا

 

95

 


82

المحاضرة السادسة

يُلوّثوا مجتمعات المسلمين وأجواء حياة المؤمنين على النحو الذي فعلوه لكي لا يُعذّبهم الله تعالى عذابًا شديدًا. وبالطبع هذا التهديد بالعذاب نفسه يؤدّي إلى أن يتزلزل المنافقون شيئًا ما، وهذا بحدّ ذاته رحمة. والإنسان يحتاج أحيانًا إلى هذا النوع من الهزّات. لذا، ينبغي علينا أن نخاف على أنفسنا من النفاق، كأن يعرِض فجأة ًخللٌ أو ثغرةٌ أو تآكلٌ في زاوية من زوايا روح الإنسان ثم يتّسع شيئًا فشيئًا. لكي لا تَعْرِض هذه الحالة ولا نُبتلى بعذاب الله، علينا أوّلًا أن نتأمّل في أنفسنا، وأن نقرأ ثانيًا وعيد العذاب الإلهي - آيات العذاب وأمثالها - ونخاف قليلًا. لذا فإنّ الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم هو البشير والنذير، أيّ إنّه يخوّفنا من عذاب الله.

 

تمترُس المنافقين خلف أَيمانِهم الكاذبة

ثمّ تتابع الآية القرآنيّة الحديث عن صفات هؤلاء المنافقين والأمور التي أعدّها الله تعالى لهم ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ أيّ إنّ الأَيمان التي يحلفونها - وهو قوله تعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ﴾[1] - يتّخذونها دروعًا لهم، فكما يحتمي الإنسان بالدرع لكي لا يتلقّى ضربة، فهم أيضًا يحتمون بالأَيمان ويُخفون كفرهم خلفها، لكي لا تسقط على رؤوسهم الضربات القاصمة التي يوجّهها الإسلام ضد الكفر. فهم في حال أعلنوا عن كفرهم واحتموا بالإسلام فستحلّ عليهم المصيبة الكبرى، وستثور الشعوب على حكّامها المدّعين للإسلام خلاف ما يستبطنون. وفي مجتمعنا هناك  أمثال هؤلاء، الذين ادّعوا الإسلام وعاشوا بين الناس بأمنٍ وطمأنينة ما دام أنّ  كفرهم وإلحادهم ونفاقهم  لم يكن منكشفًا تمامًا للناس، وبعد أن انكشف ذلك لا يجرؤون حتى على الظهور بين الناس. ونحن قلنا لأمثال هؤلاء الذين ادّعوا أن الشعب


 


[1] سورة النساء، الآية 62.

 

96


83

المحاضرة السادسة

معهم بأن يأتوا وليمشوا في شوارع مدننا ولن يكون لأجهزة الدولة أيّ دخلٍ بهم، وتحدّيناهم بأن يتمكنوا من الوصول إلى آخر الشارع، أم أنّ ضربات الرجال والنساء والصغار ستُبقي على شيء منهم سوى جسدٍ لا روح فيه؟ فالناس متى أدركوا باطنهم الخبيث لن يكون أولئك في مأمنٍ من ضرباتهم.

 

صدّ المنافقين الناس عن سبيل الله

خلف قناع النفاق وظاهر الإسلام يشرع المنافقون بصدّ الناس البسطاء الذين لا يعلمون حقيقتهم الخبيثة عن سبيل الله. وكم يتأثّر الإنسان ويتأسّف لحال أولئك السُذّج الذين لا ذنب لهم ولا إثم سوى أنّهم لم يكونوا حَذِرين ولا يَقِظين. هذا ذنبهم فقط، ولكنّه ذنبٌ عظيم، كما تقول الآية الشريفة ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ﴾[1] فالذنب الذي يتحدّث عنه الله سبحانه وتعالى هو ذنب عدم التعقّل وعدم الاستماع. ﴿فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[2] الذين يقعون أُلعوبةً ودُمًى بيد المنافقين والجماعات الفاسدة والمضلّة، والمنافقون يستغلون عدم تعقّلهم، ﴿فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾.

 

إن الناس يمضون في سبيل الله بنحوٍ طبيعيٍّ تلقائيّ، وفي ظلّ الحكومة الإسلامية يصبح هذا السير أكثر وأسرع وأسهل أيضًا. ووضع مجتمعنا الإسلامي كذلك حيث لم يتلقَّ أحدٌ ما تربيةً خاصة، بل إنّ السياق الطبيعي للمجتمع يدفع الناس نحو الإسلام، كقناة الماء التي تنحدر نحو المزرعة، فمهما صببت فيها الماء فإنّه سيجري تلقائيًا باتّجاه المزرعة، ولن يجري نحو البِرَك والمستنقعات وما شابه. هذه


 


[1] الآيتان 10 و11 من سورة الملك.

[2] سورة الملك، الآية 11.

 

97


84

المحاضرة السادسة

حال مجتمعنا، الجميع يسير نحو الله، بالطبع بعضهم أسرع وأكثر حماسةً، وبعضهم الآخر يمشي ويتعثّر في مشيه، والسبب في أننا كنّا نصرُّ أيّام الثورة، وفي الماضي على إرساء المجتمع الإسلامي والحكومة الإسلامية، هو هذا. فالحكومة الإسلامية لا تعني أن لا يُذنب فيها أحد وأن لا يضلّ فيها أحد، بل ميزة الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وثمرتهما هي أن يكون التوجّه العام للناس فيهما هو نحو الحقّ تعالى، ونحو عبادته الكاملة والحقيقيّة ونحو التكامل، وفي مثل هذا المجتمع يأتي المنافقون ويصدّون عن سبيل الله، ويُمسكون عَنوةً أيدي بعض الناس ويدفعونهم نحو الارتداد. وكما تقدّم فـالذنب الوحيد لهؤلاء هو عدم التعقّل وعدم التفكّر، فلو كانوا يتعقّلون لما وقع أحدٌ منهم أسير شِباك هذه العناكب، والعناكب تنسج خيوطها حول البعوض والذباب الضعيف، فالذبابة القوية الكبيرة لا قدرة للعنكبوت على اصطيادها بسهولة، فما بالك بالصرصار - وهكذا الأكبر فالأكبر - والفأر والقط والإنسان وما شابه، فيجب أن تكون الذبابة ضعيفةً لتتمكن العنكبوت من نسج حبالها حولها. لذلك إذا قوّى الناس في أنفسهم الجانب الفكري شيئًا فشيئًا فسيمتلكون القدرة مقابل المنافقين، ولن تتمكن هذه العناكب من النسج حولهم بعد ذلك. وحتّى لو نسجوا فلن يكون في ذلك فائدة، فهم يقومون في كلّ الأحوال بمهمّتهم وينسجون خيوطهم حول الجميع، إلا أنّ شباكهم ستتمزّق ببساطةٍ وسهولةٍ وتزول.

 

العذاب المهين

عقوبة المنافقين لصدّهم الناس عن سبيل الله

إنّ أولئك الذين يصدّون عن سبيل الله ﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ وهذا العذاب هو في الآخرة عذابات جهنّم التي لا نعلم كيفيّتها ولا شدّتها.

 

98


85

المحاضرة السادسة

أمّا عذاب المنافقين الأعظم في الدنيا فهو فضحهم وإماطة اللثام عن أسرارهم، والمنافق لا يكره شيئًا ككرهه لكشف حقيقته، وهو يُعادي كلّ من يفضح أسراره، ويَمتنُّ لكلّ من لا يعرف حقيقته، أو يعرفها لكنّه لا يكشف عنها، وحتّى إنّه مستعدٌّ لـمُماشاته. فالسبب الأعظم لمعارضة المنافقين في إيران لشخصيةٍ لامعةٍ كالشهيد بهشتي[1] أو معارضتهم لإخواننا الآخرين هو أنّ حقيقة هؤلاء المنافقين كانت واضحةً للشهيد بهشتي وأمثاله، وكانوا يعلنون ذلك ويواجهون المنافقين به إلّا في بعض الحالات التي لم يعلنوا ذلك صراحة مراعاة لمصالح البلاد، وحتى لا تثار القلاقل والفتن، إلا أنهم في نهاية الأمر كانوا يطلعون المسؤولين على حالات أولئك (المنافقين). أما مع الآخرين الذين لم يكونوا يعلمون حقيقة باطن هؤلاء المنافقين أو انّهم يعلمونها ولكن لا ينبسون ببنت شفة، فكانت علاقة المنافقين بهم جيدة، بل وكانوا ممتنين جدًّا لهم. وأنا أقصد بالمنافقين هنا منظمة المنافقين، وكثيرون يعرفون كم أن زعماءهم سيئون وخبثاء، بينما الشباب الذين يلتفون حولهم بسطاء لا علم لهم بحقيقتهم. وثمة من يعرف زعماءهم الكاذبين ذوي الوجوه المتعددة والأقنعة الكثيرة، لكنّهم لا ينطقون بكلمة، لأنهم يريدون - واهمين - الاحتفاظ بكلّ شيءٍ لأنفسهم من دون إطلاع أحدٍ عليه، وهؤلاء يحبهم المنافقون. والمنافق يسعى جاهداّ لإخفاء حقيقته لأجل أطماعه ورغباته وأهوائه، فهو إما


 


[1] آية الله الدكتور السيد محمد الحسيني البهشتي (1307-1360) [1928-1981] من أصحاب الإمام الخميني (قدس سره) ومن مناضلي الثورة الأساسيين ضد حكومة النظام البهلوي. كان مجتهدًا ومن مفكري الثورة الإسلامية البارزين والمؤثّرين. كان عضوًا في مجلس الثورة ومن مؤسسي رابطة علماء طهران المجاهدين ومن مؤسسي حزب الجمهورية الإسلامية وأمينه العام، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء ونائب رئيس مجلس خبراء الدستور. استُشهِد برفقة 72 من رفاق دربه على يد منظمة المنافقين الإرهابية وذلك في المكتب المركزي لحزب الجمهورية الإسلامية.(للتعرّف على شخصية الشهيد يُراجع كتاب: كان أمّة؛ الصادر عن دار المعارف الاسلامية؛ يتضمن باقة لافتة عن حياته وجهاده..)

 

99


86

المحاضرة السادسة

يريد منصبًا أو مالًا أو حياة أو لقبًا أو دنيا مريحة، أو أنه لا يريد دنيا مريحة لكنه يريد اسمًا مرموقًا، يقول الشاعر:

(در كيش ما تجرّد عنقا تمام نيست

                           در قيد نام ماند اگر از نشان گذشت)[1]

لا يتمّ في ديننا تجرّد العنقا

                          لمن قيّدَه الاسم وإن أثره اختفى

 

فبعضهم مستعدّ أن يعيش عيشةً ضنكةً بملابس قديمةٍ جدًّا وفي بيئةٍ فقيرةٍ ويتأقلم معها، لكي يُشار إليه بالبنان على أنّه طلّق حقًّا الدنيا ثلاثًا، أيّ إنّهم مستعدون للعيش بمشقة حتى يحظوا بالمناصب والألقاب، وعلى استعداد لتحمّل الصعاب حتّى يحظوا بمحبة الناس، وكل هذا أهواء نفسانية، فلا فرق بين عبادة البطن وعبادة المنصب وعبادة الشهوة وعبادة المحبوبية لدى الناس، فهذه كلّها عبادة الذات، ولا فرق بينها.

 

الأموال والأولاد لا تدفع العذاب الإلهي

 

﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ فهل يظنّ أهل النفاق والرياء أن ما جمعوه من مال وما حصلوا عليه من مقامات سينفعهم أو يصونهم من عذاب الله؟

 

خلود المنافقين في العذاب الأخروي

 

إنَّ لهم في الدنيا المهانة والتعاسة والفضيحة وانكشاف حقيقتهم،


 


[1] کليم کاشاني.

 

100


87

المحاضرة السادسة

وفي الآخرة ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

 

وفي معرِض الحديث عن أن هذا العذاب هو في القيامة يُشير تعالى إلى المنافقين ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ وإلى أنّ هذا العذاب هو في اليوم الذي يبعث الله تعالى فيه المنافقين، أو الناس كافّةً، والمنافقون جزءٌ منهم.

 

عاقبة أعمال الجميع هي في القيامة

لا نحسبنّ أننا سنفلت من يد الله تعالى، لا، فثمة مكان في نهاية المطاف حيث "مصير كل هذا الجلد إلى المدبغة"، فالناس كافة مآلهم في النهاية إلى القيامة، فالآية المباركة من سورة الفاتحة ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ تشير إلى أن انشغال الجميع يوم الجزاء ويوم القيامة هو مع الله تعالى. كل الناس يعملون من أجل عاقبة الأمور ويسعون بغية الوصول إلى نهاياتها، فإذا علموا أن عاقبة أمرهم هي مع الله تعالى فإنّ هذا المفهوم سيخلق في الإنسان دافعًا ومنحىً آخر.

 

أَيمانُ المنافقين الكاذبة يوم القيامة

في القيامة سيبعث الله تعالى الجميع في آخر المطاف، المنافق والكافر والمؤمن والجميع، وعندها سيأتي هؤلاء المنافقون التعساء ﴿وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾[1]، وقد جاء في موضعٍ آخرَ من القرآن قسَمُهم بالله تعالى بهذا التعبير "وَاللهِ"، في حين أنهم لا يؤمنون بالله أصلًا. وهم - كالجميع في القيامة - يرون الحقيقة


 


[1] سورة الأنعام، الآية 23.

 

101


88

المحاضرة السادسة

ويدركونها ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[1] فالجميع يومها - بمن فيهم الكافرون - سيدركون أنّ الله موجودٌ ولا يشكّون في الأمر، ولكنْ رغم ذلك، ورغم علمهم أنّه تعالى لا يُخدع، إلّا أنّ مَلَكة النفاق وسجية الكذب الراسخة والدائمة التي تجذّرت في قلوبهم تعمل عملها هنا أيضًا، ويواصلون حلف الأيمان.

 

يوم القيامة يوم ظهور المَلَكات

إنّ يوم القيامة هو يوم ظهور الـمَلَكات والسجايا! فكم من إنسانٍ هو من أهل الصوم والصلاة والعبادة إلّا أنّه لم يتمكّن من مجاهدة أخلاقه السيئة، ويوم القيامة فهو إمّا لن ينفعه صومه وصلاته، أو قليلًا ما سينفعانه، فهو حسودٌ وبخيلٌ، ويريد السوء للآخرين، وأنانيٌّ ومتكبّرٌ بَيْدَ أنّه من أهل الصوم والصلاة والعبادة والقرآن. ولقد كان لدينا أشخاص كهؤلاء، أهل صلاةٍ وعبادة، وأهل صلاة الليل، وأصحاب الجباه السود، لكنّ الواحد منهم هو عالمٌ من الأنانية والعُجُب وعالمٌ من تحقير الآخرين، وإنّ هذه الطباع ستظهر يوم القيامة، وحينها فإنّ صلاته وعبادته التي قد أنهك هذا المسكين نفسه لها، لن تنفعه إلّا قليلًا. وبالطبع إنّ أداء الصلاة بنحوٍ حسن هو بنفسه يؤدي إلى الحدّ من أنانيّة الإنسان، لكن البعض لا يؤديها على هذا النحو، لذا فعلينا تطهير أنفسنا من الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة مكانها، فإن امتلكنا هذه السجايا الحسنة فسنظهر كالملائكة يوم القيامة ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ حيث يحتمل كثيرًا أن تكون السرائر هي طبائع الإنسان وسجاياه النفسية التي كان عليها.


 


[1] سورة ق، الآية 22.

 

102


89

المحاضرة السادسة

أَيمان المنافقين العَبثية يوم القيامة

هؤلاء المنافقون التعساء الذين قضوا عمرهم بالكذب والنفاق والخداع والتَعمِية يكذبون على الله يوم القيامة أيضًا ولا يمكنهم التخلص من هذه الخصلة ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.

 

خسران "حزب الشيطان" في الدنيا والآخرة

الآية الأخرى ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ يعني "استولى" عليهم الشيطان، ﴿فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ وكأنّه - تعالى - يُعلن ويُعلم كلّ من في عالم الخلق أنّ حزب الشيطان "خَاسِرُون". ونحن نرى هؤلاء في مجتمعنا وفي عالمنا الإسلامي، وإنهم خاسرون ومعذّبون في القيامة، وفي الدنيا هم  خاسرون أيضًا إذا ما قام المؤمنون بواجباتهم بشكلٍ تامّ.

 

 

103

                                                        

 


90

المحاضرة السابعة

المحاضرة السابعة

 

الآيات 20 – 22

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

 

* (11/04/1361) (02/07/1982)

 

104


91

المحاضرة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موجز عن شرح الآية السابقة

 

كان الحديث في الآيات السابقة عن النفاق والمنافقين، وقيل إنّ المنافقين لديهم حالة من التذبذب بين المؤمنين والكافرين، وقال عنهم القرآن ?ما هُم مِنكُم وَلا مِنهُم? فكما إنّ المؤمنين لا يقبلونهم، الكفار لا يقبلونهم بينهم أيضًا. وهم مُذبذبون بين الفريقين ولا استقرار لقلوبهم. ونفس هذا الأمر يشي بعدم إيمانهم، ولذا جاء في بعض الآيات أنّ المنافقين من الكفار أيضًا[1].

 

حاجة الجميع إلى المراقبة لتجنّب الابتلاء بالنفاق

 

في هذه الآية نكتةٌ دقيقة، فقد ينمو النفاق شيئًا فشيئًا في قلوب المؤمنين، فالمؤمن إذا لم يراقب نفسه وقلبه بشكلٍ كافٍ، فإنّ دوافع النفاق ستظهر فيه بالتدريج، كدوافع الذنب والفسق، وحتّى كدافع الكفر، لذا، فإنّ الإنسان يحتاج دائمًا إلى المراقبة، وهي أحد أعمال المؤمنين الحقيقيين. والمراقبة تعني أن تجعل نفسك دائمًا عُرضةً للتدقيق والتمحيص، وأن تنتبه إليها دائمًا.

 


 


[1] ذُكر المنافقون إلى جانب الكفار والمشركين في آيات عديدة، وذُكر لهم نمط واحد من العذاب أو نمط واحد من كيفية التعامل معهم؛ من قبيل الآيتين 68 و73 من سورة التوبة، الآيتين 48 و73 من سورة الأحزاب، الآية 6 من سورة الفتح، الآية 140 من سورة النساء، الآية 9 من سورة التحريم، الآية 167 من سورة آل عمران والآية 11 من سورة الحشر. وقد صرّحت الآيات من 73 إلى 85 من سورة التوبة بكفرهم.

 

106


92

المحاضرة السابعة

التدبير الإلهي لتجفيف دواعي النفاق

ولأنّ الإنسان معرّضٌ للتدرّج في النفاق، فإنّ الله تعالى - كما في هذه الآية - يقضي على دوافع النفاق في الإنسان، لا أنّه يزيلها من صدور المؤمنين فحسب، بل يجففها لدى المنافقين أنفسهم أيضًا. فإنّ السبب الحقيقي وراء نفاق المنافقين هو انجذابهم ورغبتهم فيما يجدونه لدى جبهة الكفر من عزّةٍ وسطوةٍ ومالٍ وغيره، وهو بعد ذلك لا يمكنه الاستقرار في جبهة المؤمنين.

 

والحقّ، أنّ المؤمنين أيضًا يميلون - بفعل وساوس الشيطان - إلى تلك الجبهة، أيّ إنّ حالة النفاق والتذبذب هذه تظهر كذلك فيهم. لأنّهم يتصوّرن وجود أمرٍ ذي قيمة وذي شأن هناك أيضًا، إنّهم يرون رأسمالًاٍ معنويًّا وماديًّا هناك فينجذبون إليه وتميل قلوبهم نحوه. وفي عصرنا الراهن يوجد الكثير من المنافقين، ولا أعني بذلك منظمة المنافقين بل المنافقين[1] من الناس، الذين يؤمنون بقوّة الجمهورية


 


[1] منظمة مجاهدي الشعب الإيراني المعروفة ب "منظمة المنافقين". أُسست عام 1344 [1965] ضمن توجّه سياسي – عسكري، وتحولت بعد عقد من الزمن تقريبًا إلى منظمة ماركسية. بعد انتصار الثورة الإسلامية (1357) [1979] قامت بأعمال عديدة ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، وأقدمت منذ عام [1982] على أعمال مسلحة وقتال مُعلن ضد النظام الإسلامي، واغتالت خلال عامين ما يربو على عدة آلاف من المسؤولين وعلماء الدين ورجال الحرس الثوري والناس المدنيين، ثم التحقت بنظام صدام حسين في العراق وقاتلت (إلى جانبه) لعدة سنوات أثناء حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق ضدّ الشعب الإيراني وكذا ضد شيعة العراق وشعب كردستان العراق، وقامت في بعض الحالات بمجازر ضد الناس العُزّل. هاجمت هذه المنظمة الإرهابية إيرانَ عسكريًا في أواخر شهر تير من عام 1367 [النصف الأول من تموز 1988] بدعم من الجيش العراقي، وتلقّت في عمليات "مرصاد" ردًا قاصمًا. حاليًا تتلقّى بقايا هذه المنظمة الإرهابية دعمًا من أميركا والسعودية ومن بعض الدول الأوروبية. اغتالت هذه المنظمة الإرهابية في العقد السابع [من القرن الرابع عشر الإيراني، العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي] بعض مسؤولي النظام الإسلامي من بينهم: الفريق علي صيّاد شيرازي (القائد الأسبق للقوى البرية في جيش الجمهورية الإسلامية في إيران) والسيد أسد الله لاجوردي (المدّعي العام الأسبق لمحاكم الثورة والرئيس السابق لمؤسسة السجون). وكذا شارك أعضاء هذه المنظمة بنحو مؤثّر في قمع الشعب العراقي في انتفاضته عام 1991، وكانوا بمنزلة الحراس والأيدي الطيّعة لصدام ..

 

107


93

المحاضرة السابعة

الإسلامية، ولكن إذا جاءت أميركا وقصفت المدن الإيرانية، واغتالت أعضاء الحكومة الأساسيين، وتبدّلت كل الأوضاع، وحكم البلد فريقٌ آخر، فإنهم سرعان ما يميلون إلى الطرف المعادي، ولا إيمان لديهم ليردعهم عن ذلك ويثبّتهم على عقائدهم. فإيمانهم ضعيف، وغالبًا ما ينساق الإيمان الضعيف نحو النفاق، ويفكّر واحدهم بالقّوة والعزّة والسطوة التي يملكها الكفّار، ولهذا فإنّه ينقاد إليهم. وعليه، فهم يهتمّون بالمحافظة على العلاقات مع هؤلاء والتصالح معهم.

 

إلّا أنّ الله تعالى يبطل أوهام المنافقين في هذه الآية إذ يقول لهم: لا تنساقوا عبثًا إلى جبهة الكفر، لأنّ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾ وهم من بين أكثر خلق الله مهانة. فإذا أدرك الإنسان أنّ الكفّار هم في الأذلّين، فإنّه لن ينجذب إليهم.

 

الحركة الطبيعية للعالم

نحو عزّة المؤمنين وذلّة المنافقين

إذا نظرنا إلى الحركة الطبيعية للعالم وسيره، وإلى طبيعة حركة الإيمان والكفر فإننا سنرى ونصدّق أن هذا العالم يتجه نحو عزّة الإيمان وذلّة الكفر، وتيّارات الكفر كثيرة، وأحد هذه التيّارات اليوم هو الصهيونيّة، الذين يملكون عددًا كبيرًا من الـمُقاتلات من طراز f15 وf16، ودبّاباتهم مُعدّة جيدًا، وفي حوزتهم الكثير من أدوات

 

 

108


94

المحاضرة السابعة

وأسلحة الدمار لقتل وإبادة الأبرياء، لكنْ بعد انقضاء قرون من التِّيه والتشرّد والقمع - كما حصل لهم في روسيا[1] وألمانيا النازية، فهم سيِّئو السمعة ومعروفون بجشعهم وطمعهم - ما من ذلّةٍ أكبر من أن تتوقّف حياتهم رغم ذلك على الاعتداء على الآخرين، وإنّ العالم بأسره - بمن فيه حلفاؤهم - يعدّونهم معتدين، وهم أسوأ الجماعات سُمعةً، فقد استوطنوا بُقعةً من العالم والجميع يعلم أنّهم غاصبون، ولا مذلّة أعظم من هذه. وإنّ مستقبلهم أيضًا هو مستقبلٌ مُبهم، بالنسبة لهم هو مُبهم، أمّا بالنسبة لنا فهو واضح، فمن المعلوم أنّ مستقبلهم الزوال والفناء، فأن تتوقّف حياة الإنسان على الاعتداء - وإن لم يعتدِ - يعني أنه لن يكتب له الاستقرار والدوام. وبالطبع المقصود من اليهود هنا ليس المعتقِد بالدين اليهودي، بل اليهودي المنتمي للفكر والمنحى الصهيوني. وإنّ وجود الصهيونية يتوقّف على الاعتداء، فهي إن لم تجْتَحْ جنوب لبنان ولم تحتل الجولان، ولم تهجم على ضفاف نهر الأردن، ولم تغزُ صحراء سيناء[2] فإنّ الحياة لن تكون ممكنةً لها أساسًا، وستختنق حيثما هي. ولتتمكن الصهيونية من الحياة، ومن اجتذاب الطاقات واستجلاب بقيّة صهاينة العالم مرّةً أخرى إلى هذا الكيان، ومن الوقوف على قدميها، فإنّها مُجبرة على الهجوم على الأبرياء وقصفهم وقتلهم. وهذه الحياة هي الأكثر مذلةً. أمّا حياة ذاك الشعب الفلسطيني الذي يعيش في الخِيام، ويقاتل ويناضل لاسترداد


 


[1] بعد الحرب العالمية الثانية, اعتُقِل عدد كبير من الأفراد في الإتحاد السوفييتي السابق لمُشاركتهم في النشاطات الصهيونية. وكذلك أصدر ستالين عام 1953 أمرًا بالقبض على عدد من اليهود وإعدامهم.

[2] تعدّى الكيان الصهيوني مرات عديدة على هذه المناطق وعلى أراضي الدول الأخرى، ومن بينها حرب الأيام الستة عام 1967التي تمكّن فيها، من خلال الهجوم الجوّي الـمُباغت، من إخراج شريط غزة وصحراء سيناء من سيطرة مصر، والقدس الشرقية والضفة الغربية من سيطرة الأردن، والجولان من سيطرة سوريا.

 

109


95

المحاضرة السابعة

شرفه المسلوب وحقّه المغصوب، فليست بحياة ذليلةٍ، بل هي عزيزة، وهم أعزّاء شامخون لأنّهم يعتمدون على أنفسهم. بينما الإسرائيليون يعتمدون على كل العالم، ويعتمدون على الشرق والغرب وعلى الأسلحة الأميركية، وعلى صمت الاتحاد السوفييتي وعلى الاعتداء. يقول أحد المفسّرين[1]: إذا أردنا أن ندرك كم هم أعداء الله أذلّاء، فعلينا أن نرى كم أنّ الله تعالى عزيز. يُدرَك ذلّ كلّ طرف من خلال مقدار عزّة خصمه المقابل. وعندما تكون العزة لله جميعًا، وهؤلاء هم أعداء الله، فهم إذًا في الطرف المقابل له تعالى، فإذا كان الله تعالى هو الأعزّ، فيجب أن يكون هؤلاء هم الأذلّ. وهذا ما تشير إليه عاقبتهم كذلك.

 

وفي هذه الآية التي يبين الله تعالى أنّ الكفار هم الأذلّون، ويسحب من المنافق ذرائع النفاق متسائلًا ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ﴾[2] ويقول تعالى في آيةٍ أخرى ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾[3] فمن رام العزّة فليعلم أنها لله جميعًا، وأن من أتى باب الله كانت العزّة المعنوية والمادية والقلبية والسياسية والاجتماعية ملكًا له. وهذه حال شعبنا الذي يتحرّك في سبيل الله، رغم كلّ النقائص وأنواع الفقر ورغم كلّ الضغوطات التي مُورِست عليه على مدى سنين طوال، فيغدو عزيزًا. فإنّ العالم اليوم ينطق بما يعادي هذا الشعب، والأعداء يكتبون ضدّه ويبثّون الشائعات، إلّا أنّهم يعتقدون بمهابته في أعماق وجودهم. وكثيرًا ما نُقل لنا من الوزراء والمسؤولين الذين يسافرون في مهمّاتٍ خارجيّة، كيف أنه في المحافل الدولية يصغي إليهم الجميع ويتحرّى عنهم، ويريد التعرّف إلى هؤلاء الإيرانيين الذين شغلوا الدنيا وخلطوا المعادلات السياسية.


 


[1] فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب، ج29، ص498.

[2] سورة النساء، الآية 139.

[3] سورة فاطر، الآية 10.

 

110


96

المحاضرة السابعة

إنّها لعزّة ٌ أن يكون لنا هيبةٌ في أنظار الدنيا قاطبةً، وأن يصادق الجميع على حقيقة أّننا لا نعتمد على أيّ دولة.

 

صحيحٌ أنّ الأقلام المأجورة ذات النزعة الغربية تتّهم أحيانًا هذا الشعب بأنّ له علاقات مع إسرائيل، ويتّهمونه أحيانًا أخرى بأنّ له علاقات مع روسيا، إلا أنّهم هم أنفسهم، وكذا روسيا وإسرائيل وحلفاءهم يعلمون أنّ هذا كذب، وأنهم مُرغمون على أن ينسبوا الأكاذيب. الجميع يرى لإيران العزة والمهابة ويُبدي لها الاحترام، والسبب في ذلك هو أننا لا نملك سوى الله، والإيمان والعشق بأداء الواجب، وهو موجودٌ بغزارة بين شعبنا، وهذه هي العزّة المعنوية.

 

وكذا فإنّ العزّة الظاهرية، التي هي الغَلبة على جميع القِوى المعارضة، فإنّي أراها الآن ماثلةً أمام ناظري، وليس عندي أدنى شك من أنّه في المستقبل - غير البعيد إن شاء الله - سينتصر هذا الشعب، وهذه الإيديولوجيا، وهذا الفكر، وهذه الثورة على جميع الدوافع المعادية، وعلى جميع القِوى ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[1]. بناءً على ما تقدّم فكأنّ الله يخاطب المنافق: أيّها المنافق البائس! إلى أين تذهب؟ فإن كنت تروم العزّة فإنّ العزّة هنا، وإن كنت تروم الـمَنَعة فإنّها هنا، وإن كنت تريد العظمة فإنّ العظمة هنا، ويُحذّر ضمنيًّا المؤمن ذا الإيمان الضعيف أيضًا من الانسياق وراء ذاك الطرف على أمل سراب العزّة وتوهّمها، أيّ إنّه تعالى يُجفّف دواعي النفاق، من جهة في المؤمن الضعيف الإيمان، ومن جهة أخرى في المنافق. وهذا هو وجه العلاقة بين هاتين الآيتين والآيات التي سبقتهما، فالآيتان تدوران حول بحث تقابل المؤمن والمنافق. 


 


[1] سورة التوبة، الآية 33.

 

111


97

المحاضرة السابعة

شرح الآيات

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ﴾ يصحّ التعبير من غير ضمير "أولئك" إلّا أنّه تعالى جاء به هنا للتأكيد. و"إنّ" التي تصدّرت الآية هي للتأكيد أيضًا، فالله تعالى يُبيّن الآية على نحو خبرٍ قطعيّ مؤكد، وبذلك فهو تعالى يقول: لا يكن عندكم أيّ شك من أنّ أولئك الذين يُعادون الله ورسوله هم من أذلّ مخلوقات العالم وأنهم "فِي الأَذَلّين". وذلّتهم هي لابتعادهم عن الله ولعداوتهم له تعالى، ولأن قوانين العالم كافة والحركة الطبيعية للكون هي ضدّهم، ثمّ وبنحوٍ من الاستدلال على كون الكفار أذلّة، يقول تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ و"كَتَبَ اللهُ" بمعنى أنّه حكم حكمًا قطعيًّا، فالكتابة في القرآن بمعنى الحكم القطعي، فقوله تعالى مثلًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾[1] أو قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾[2]، هو بمعنى أنّ هذا حكم قطعيّ يجب أداؤه. هذا فيما يتعلّق بالأحكام الشرعية. أمّا في الأحكام التكوينية، "وَكُتِبَ" هي  أنّ الأمر قد كُتب في طبيعة العالم وضمن الحركة الطبيعية للعالم ولا إمكانية للعدول عنه. ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وهنا أيضًا ترون الفعل "لَأَغْلِبَنَّ" أتى مع تأكيدين: التأكيد الأول باللّام المفتوحة التي تأتي أول الفعل وهي للتأكيد، والتأكيد الثاني هو بنون التوكيد الثقيلة التي جاءت في آخر الفعل، والفعل نفسه يعني "أنا سأغلب" إلا أنّه تعالى جاء بضمير الرفع المنفصل "أنا" مرّة أخرى وذلك للتأكيد أيضًا. ففي الجملة ثلاثة أنماطٍ من التأكيد: بمعنى أنّه في هذا الصراع الدائر بين الكفّار والمؤمنين فإنّ الغلبة لا شكّ وحقًّا وقطعًا لي (أنا الله) "وَرُسُلي"، وأننا سنكون نحن الغالبين.


 


[1] سورة البقرة، الآية 183.

[2] سورة البقرة، الآية 216.

 

112


98

المحاضرة السابعة

معنيان لغلبة الله ورسله عليهم السلام

 

الأول: غلبة الفكر الإلهي النبوي

أمّا كيف ستكون هذه الغلبة فقد يُقال أَوَلم يُنشر النبي زكريا عليه السلام بالمنشار في جذع الشجرة إلى نصفين؟ فكيف كانت له الغلبة؟ أَوَلَم يُقطع رأس النبي يحيى عليه السلام من الوريد إلى الوريد؟ فأيّ غلبة هذه؟ هذا أمر يتطلّب شيئًا من الدّقة. ولكن عندما ننظر إلى النبي يحيى عليه السلام وحتى إلى النبي زكريا عليه السلام، وإلى النبي عيسى عليه السلام الذي رُفِع من بين الناس إلى السماوات، وإلى مثلًا النبي لوط عليه السلام الذي آذاه قومه بذاك النحو، وإلى سائر الأنبياء الآخرين، فإنّنا نرى أنّهم انتصروا جميعًا في المعنى، ونصرهم كان لأنهم قاتلوا من أجل أن يحكم فكر معين ومعرفة بعينها، فهل النبي زكريا عليه السلام يريد أن يصير هو الملك؟! لم يكن يجاهد من أجل مُلكيّتِه هو، ولم يكن يمضي دون توقف في سبيل نفسه، بل كان لديه فكر وكان لديه نمط من التفكّر كان يريد له أن يكون مقبولًا من الآخرين، وأن يكون حاكمًا على حياتهم، وهذا ما حصل، فعندما يأتي رسول الإسلام ويُؤسّس حكومةً ينضوي تحت لوائها شرق العالم وغربه وتكون مبنيّةً على أسس الفكر الإلهي، فهذا يعني أنّ زكريا قد انتصر، وأنّ يحيى قد انتصر، وأنّ جميع الأنبياء قد انتصروا. يقول تعالى ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾[1] وقد كان نبيّنا  صلى الله عليه وآله وسلم حاملًا لنفس الرسالة التي كان يحملها الأنبياء الآخرون.


 


[1] سورة البقرة، الآية 285.

 

113


99

المحاضرة السابعة

مثال لمزيد بيان

 

خذوا مثلًا المرحوم آية الله سعيدي[1]، وهذا مثالٌ حيّ.

 

كان سماحته سيدًا مؤمنًا مجاهدًا فاضلًا، وكان يعمل ضمن الخط السياسي الذي نسمّيه الآن خطّ الجمهورية الإسلامية. وكان يُناضل من أجل إرساء هذا الأمر ومن أجل زوال حكومة الشاه وإرساء الحكومة الإسلامية ولكي يعود الإمام قدس سره الذي كان حينها منفيًّا في النجف بعزّةٍ ومهابةٍ، ويُحقّق أهدافه في إيران. وفي عام 1349 (1970) اعتُقِل وأُلقي في السجن، ثم خلال أسبوع إلى عشرة أيام قتلوه شهيدًا هناك. فهل هُزم السيد سعيدي أم انتصر؟ وهل هو غالبٌ أم مغلوب؟ ما أراده تحقّق في النهاية، أَوَلم يتحقّق؟ في النهاية فإنّ الموت الذي جاءه ذاك اليوم لكان جاءه أيضًا في نهاية المطاف بنحو من الأنحاء لو بقي حيًّا، كما إنّه سيأتينا جميعًا، وكما استُشهد الشهيد بهشتي وكما استُشهد الشهيد باهنر[2] وكما استُشهد الشهيد رجائي. فالموت هو الموت ولا تفاوت فيه. فهل يمكن القول إنّ الشهيد بهشتي لم ينتصر؟ لقد انتصر الشهيد بهشتي واستطاع على قدر طاقته وبما له من إسهام،


 


[1] آية الله السيد محمد رضا سعيدي (1308-1349) [1929-1970]؛ من أصحاب الإمام الخميني (قدس سره) ومن مناضلي الثورة الإسلامية البارزين. سُجن وعُذّب من قبل نظام الشاه واستُشهِد في السجن.

[2] حجة الإسلام والمسلمين الدكتور محمد جواد باهنر (1312 – 1360) [1933 – 1981], من أصحاب الإمام الخميني (قدس سره) ومن المناضلين الثوريين والأساسيين ضد حكومة الشاه، ومن مفكري الثورة الإسلامية في ايران البارزين والمؤثّرين. كان عضو مجلس الثورة ومن مؤسسي حزب الجمهورية الإسلامية، وثاني أمين عام له، وعضو مجلس خبراء الدستور ونائبًا في مجلس الشورى الإسلامي ووزيرًا للتربية والتعليم وثالث رئيس وزراء في الجمهورية الإسلامية في إيران. استُشهد ورئيس الجمهورية في 8 شهريور 1360 [30 آب 1981] ضمن التفجيرات التي قامت بها منظمة المنافقين الإرهابية.

 

114


100

المحاضرة السابعة

وبمقدار سعة شعاع وجوده أن يُرسي هذه الحكومة وهذه الرغبة وهذا المقصد والهدف، وقد أرساها حقًّا ثمّ فارق الحياة ككلّ النّاس ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ﴾ كلٌّ على نحو: واحدٌ في العشرين من عمره، وآخرُ في الأربعين وثالثٌ في الثمانين.

 

لقد انتصر أنبياء العالم كافّةً من أوّلهم حتّى آخرهم، ذلك لأنّ الفكر والمعرفة اللّذين أرادوا لهما أن يحكما البشرية قد حكما، ولأنّ ما أرادوه للبشرية أن تفهمه فقد فهمته، وبقي شيءٌ منه ستفهمه البشرية في النهاية. فنهاية البشرية هي نهاية النبوة، وخاتمة التاريخ هي تلك الخاتمة التي أرادها الأنبياء أن تكون للتاريخ. وعليه، فإنّ جميع أنبياء العالم غالبون، وهذا هو النصر الحقيقي.

 

واليوم نلاحظ أنّ حتى أولئك الذين لا يتّبعون الأنبياء عليه السلام ويُنكرون وجودهم بقلوبهم وألسنتهم هم متأثّرون بحركتهم وبتربيتهم. فلولا الأنبياء عليه السلام من كان سيطرح مسألة العدالة في العالم؟ ومن كان سيطرح مسألة الأخوة والإخاء في العالم؟ أو من كان سيطرح العلم والبحث والمعرفة في العالم؟ لو لم يكن الأنبياء عليه السلام لبقي الإنسان على حال توحّشه الأوّلي. فإذا رأينا أنّه ثمّة من يرفع في العالم راية العدالة، وتحت كلّ عنوانٍ وباسم كلّ مدرسةٍ فكريّةٍ ثمّة من ينطق باسم الحرية والعدالة والإخاء والعلم والتطوّر والحضارة، فإنّ هؤلاء يحققون - من دون أن يعلموا ومن دون أن تكون هذه هي إرادتهم - أهداف الأنبياء عليه السلام، لكن ليس جميعها. فالعدالة من أهداف الأنبياء، وهؤلاء أيضًا يريدون تحقيق العدالة، إلا أنّهم يُخطئون في معناها، والسبب في ذلك هو أنهم قطعوا صِلَتهم بالأنبياء، فلو أنّ كفار العالم لم يقطعوا علاقتهم بالأنبياء عليه السلام إذًا لظلّوا متأثرين بهم، ولاستمروا أيضًا في الاستمداد من تعاليمهم، ولَما ارتكبوا الأخطاء التي يرتكبونها الآن.

 

115

 


101

المحاضرة السابعة

العالم متأثر بدعوة الأنبياء عليهم السلام

إذًا، فالعالم متأثّرٌ حقيقةً بدعوة الأنبياء، بالإضافة إلى ذلك فإنّ حكومة الأنبياء ستستقرّ في آخر الزمان، وكذلك فإنّ نموذجها موجود الآن، فهذه الحكومة، وهذه المنظومة، وهذه الثورة الإسلامية وهذه الجمهورية الإسلامية هي شيء من ذاك الذي يريده أنبياء العالم، ولقد انتصر الأنبياء بهذا المقدار. إذًا، أنبياء العالم هم الغالبون على المدى البعيد ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.

 

الثاني: انتصار المؤمنين المتمسكين بالله وبالنُبوّات

ثمّة شيءٌ آخر في معنى ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وهو أنّه تعالى يقول: حيثما أَكُنْ أنا وأنبيائي فإنّنا نحن الغالبون، فما معنى هذا والحال أنّه تعالى موجود في كل مكان؟ معناه أنّه حيثما يوجد من يتمسّك بالله ورسله والنبوّات فإنّهم سينتصرون، حالًا وليس على المدى البعيد. كان الشعب الإيراني مؤمنًا ومعتقدًا بالله ورسوله إلّا أنّه لم يكن متمسّكًا بهما، فقد كان خانعًا، حتّى جاءت هذه الثورة وجعلت الشعب الإيراني متمسّكًا بالله ورسوله، أي صار مستعدًّا للمُضي في سبيل الله ورسوله وللتضحية بحياته، ولذا انتصرنا. حيثما يَكُنْ هذا التمسك بالله ورسوله والعمل بأحكام الله وإرادة الأنبياء يَكُنِ النصر. لقد انتصر كلٌّ من أنبياء التاريخ الذين جاهد أصحابهم وأنصارهم الذين لم يتهرّبوا من تحمّل المسؤولية، ولم يُبدوا ضعفًا وخوفًا في أنفسهم وحبًّا للحياة وتعلّقًا بالحياة المادية، كداوود وسليمان عليه السلام، وإبراهيم وكثيرٍ من الأنبياء الآخرين. ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ﴾ يقول تعالى: "أنتم لا تعلمون قصصهم" نحن لا نعلمها فقد ضاعت في التاريخ، لكنّ القرآن يُخبر عنها: ﴿قَاتَلَ

 

116

 


102

المحاضرة السابعة

مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾[1] عندما يمضي بعض الناس في سبيل الله على هذا النحو فإنّهم سينتصرون لا محالة. وعصر رسولنا  صلى الله عليه وآله وسلم نموذج على ذلك، فقد قاتل المسلمون في سبيل الله حقًّا وانتصروا. وهؤلاء المسلمون أنفسهم تصرّفوا مرّةً بعدم مسؤولية، وأظهروا ضعفًا وخوفًا من أنفسهم، وأخلدوا إلى الأرض وتشبّثوا بكلتا يديهم بالحياة المادية بذريعة أنّها "كلّ ما لدينا، فحذارِ أن تفلت منّا"، فهُزموا. إنّ الشعب الإيراني الذي يقاتل من دون هوادة هو منتصر، وإنّا منتصرون ما دمنا كذلك. لكنْ عندما نخشى على أنفسنا أن نُسلب شيئًا ما، ويكون نمطُ التفكير الحاكم علينا هو "أمشي الحيط الحيط وأقول يا ربّ السترة"[2]، فإنّنا سنُهزم حتمًا، وسنكون أذلّاء، ولا مجاملة في الأمر.. لقد كان بنو اسرائيل أكثر أهل عصرهم فضيلة إلى ذاك الحين الذي قاتلوا فيه الكفار إلى جانب موسى عليه السلام وخلفائه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[3] لقد فضّل الله تعالى بني إسرائيل واليهود على الناس كافة في كل أنحاء العالم، ذلك لأنّهم آمنوا بسبيل الله وكانوا يقاتلون ويجاهدون في سبيل إيمانهم وثبتوا عليه بصلابة، ولم يتخلّوا عن دينهم تحت ضربات سياط الفراعنة لأربعة قرون، وهذا أمرٌ هامٌّ جدًّا.. ثمّ حدث أنْ دخلوا الأرض المقدسة بقدرةٍ تامّةٍ مع يوشع بن نون وكالب بن يوحنّا[4]، وكانت لهم السلطة على العالم، وكان الأنبياء

 


[1] سورة آل عمران، الآية 146.

[2] [پس آسه برو آسه بيا که گربه شاخت نزنه].

[3] سورة البقرة، الآية 122.

[4] جاء في تفسير الآية 23 من سورة المائدة {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذينَ يَخَافُونَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهما....}, أنّ اثنين من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر كان اسم أحدهما "يوشع بن نون" والثاني "كالب بن يوحنا"، وقد جاء اسماهما في التوراة في سِفر التثنية، وجاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: "كانا ابني عم موسى (عليه السلام)".

 

117


103

المحاضرة السابعة

منهم وحكام وملوك العالم منهم. وعندما تصدّى هؤلاء أنفسهم لدين الله وللقرآن والإسلام والإنجيل، ولدعوة المسيح ودعوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ الضعف والذلّة والشقاء والخيبة صارت شيئًا فشيئًا مصيرهم. وبناءً عليه، فكلّ أنبياء العالم الذين كان معهم أصحابهم وأنصارهم وثبتوا على إيمانهم وقاتلوا، وكلُّ الأمم وشعوب العالم التي تعتقد بأنّ الله - ورسوله - حاضرٌ وناظرٌ إليها ودافعت عن أحكام الله ورسوله، ستكون الغلبة لها أيضًا. ونحن إذ نرى اليوم أنّ الشعب السعودي لا ينتصر، فذلك لأنّ نصرهم ليس نصر الله ورسوله، أو أنّ شعوب مصر والسودان وتونس ليس لها الغلبة، فذلك لأنّ غلبتهم ليست غلبة الله ورسوله، ومتى ما كانت غلبة تلك الشعوب هي غلبة الله ورسوله، بمعنى أن يستقيموا ويثبتوا على معارف الإسلام والمعارف الإلهية ومعارف النبوات، فسيجعل الله الغلبة لهم. كما إنّ الشعب الإيراني لم يكن ثابتًا قبل عشرين عامًا من الآن على كلام الله ورسوله، أيّ إن أحدًا لم يكن ليناضل أو يكترث بالله ورسوله. لقد كان الشعب يصلي صلاة الجماعة لكنّ التمسّك بالله ورسوله ليس في صلاة الجماعة، بل في تحكيم الفكر الإلهي والفكر الرِّسالي، وحينما غدا الله - ورسوله - حاضرًا في هذا المجتمع، تحقّق قوله تعالى "لَأَغلِبنَّ"، وانتصروا.

 

قدرة الله واستحالة هزيمته هما سبب غلبة الله ورسله

إذًا ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ بمعنى: حتميّة غلبة الله والرسل، وذلك لأنّه تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ "إِنَّ اللهَ قَويٌّ" أيّ إنّ الله هو القوي المطلق، و"عَزيزٌ" أي إنّ له العزّة الحقّة، وهذا يعني أنّ

 

118

 


104

المحاضرة السابعة

"الغالب غير المغلوب"[1]، فذاك الذي لا يكون مغلوبًا أبدًا هو الله، فهو غالب أبدًا والغلبة دائمًا له. وعليه، فبما أنّ الله قويٌّ وعزيزٌ فكلُّ من كان معه تعالى فهو أيضًا قويٌّ وعزيز. إنّنا نستعير قدرتنا من قدرة الله، وإذا كنّا مع الله فإنّ قدرة الله ستمنحنا نحن أيضًا قدرة، وعزّة الله ستمنحنا نحن أيضًا عزّة.

 

الله يمدح المؤمنين لبراءتهم من الأعداء

بعد هاتين الآيتين، يرجع تعالى إلى ذكر صفات المؤمنين الذين تقع  أعمالهم في مقابل  أعمال المنافقين، فالمنافقون كانوا يُوالون الكفار ويُحالفونهم، والمؤمنون على عكس ذلك تمامًا،  فأيًّا كان الكافر فهم يُعرِضون عنه ويقطعون علاقتهم به ولا يُوالونه حتى وإن كان أبا أحد منهم أو ابنه أو أخاه أو قومه وعشيرته، مثل أُمّ "طريق الإسلام"[2]، مثل أُمّ ذاك الشابّ الشانديزي[3] من أبناء مدينتي التي ارتدّ ابنها وكفر فقامت هي نفسها بالإبلاغ عنه، وعندما قُبض عليه سُرَّتْ بذلك. هؤلاء حتّى وإن كفر أبناؤهم، فإنّهم يرمونهم بعيدًا كما يبصقون نواة التمر، وحتّى إن كفر أبو أحد منهم أو أمه أو أخوه فإنّهم يقطعون صلة الرحم التي تجمعهم به، لأنهم في جهة الله، خلافًا للمنافق.

 

لقد قتل أحد المسلمين أباه في غزوة بدر، وهو أمرٌ مثيرٌ جدًّا للاهتمام. جاء ابن عبد الله بن أبي سلول - الذي كان منافقًا معروفًا وابنه كان من المؤمنين - الرسولَ وقال: "يا رسول الله! إذا كان أبي الذي يعرف


 


[1] بحار الأنوار، ج 95، ص 25.

[2] "محمود طريق الإسلام": كان من المنافقين، وقد أبلغت عنه أمه للأجهزة الأمنية في الجمهورية الإسلامية.

[3] [نسبةً إلى "شانديز"؛ بلدة من توابع مشهد].

 

119


105

المحاضرة السابعة

الجميع أنّه منافق - أي كان من المنافقين وأُميط اللثام عن نفاقه وعلم به الجميع، وقد كانوا يتهامسون بالأمر فيما بينهم ويتواصون بعدم إذاعته، إلّا أنّ الجميع علم نفاقه وكذا ابنه هذا - سيُقتل، فأجز لي قتله!". ويبدو أنه جاء الرسول بعد هذه الآية الشريفة: "يا أَيُّها النَبِيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنافِقِين"[1]. هذا المؤمن قطع وشيجة الولاء مع جميع الكفار.

 

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لَقَد كُنَّا مَعَ رَسولِ الله نَقتُلُ آباءَنا وَأَبناءَنا وَإِخوانَنَا وَأَعمامَنا"، ولم يكن الأمر ليُزلزل أقدامهم بعد ذلك، بل يتابع أمير المؤمنين عليه السلام: "ما يَزيدُنا ذَلِكَ إِلّا إيمانًا وتَسليمًا ومُضيًّا عَلَى اللَّقَمِ وَصَبرًا عَلى مَضَضِ الأَلَم"[2]، وهذه علامة المؤمن، وهذا ما تقوله الآية.

 

استحالة اجتماع الإيمان وولاية أعداء الدين

 

﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أيّ  إنّ هذا الأمر غير ممكن، إذ لا يمكن أن تعثر على مؤمنٍ بالله ورسوله يوالي أعداء الله ورسوله. وأولئك الذين لهم في مجتمعنا علاقات وطيدة مع أعداء الله ورسوله ثم يدّعون الإيمان بالله ويتظاهرون بالعبودية والتعبّد، هم كاذبون. قد يُصادق الإنسان كافرًا من النوع الذي لا يُسبب ضررًا للإسلام وللجمهورية الإسلامية ولا مانع من صداقته معه،  ويجب التنبّه إلى الفرق بين الأمرين، ولقد جاء في سورة الممتحنة ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾[3] لكنْ لا معنى لمودّة الكافر الحربي

 

 


[1] سورة التوبة، الآية 73.

[2] نهج البلاغة، الخطبة 56.

[3] سورة الممتحنة، الآية 8.

 

120


106

المحاضرة السابعة

الذي يقاتل الإسلام ولا لإقامة علاقة صداقة معه. وبناءً عليه، فليُقسِم بعض حكام الدول العربية مئة مرة بالقرآن، وليطُوفوا حوله ويضعوا أيديهم عليه مقْسِمين على إيمانهم بالله واليوم الآخر! لا، إنّ هذه الآية  تكذِّب هؤلاء! لأنّهم يُوالون أعداء الله، أي الصهاينة. وإذا ادّعى فلان الملك وأمثاله - أولئك الذين يعقدون تحالفات وعلاقات صداقة مع أميركا ومع الاتحاد السوفييتي وأعداء الله ومظاهر الكفر المختلفة ضد المسلمين - أنهم مسلمون، فإنّ هذه الآية تكذّبهم وتقول إنّهم يكذبون، إذ لا معنى لأن يكون المرء مؤمنًا بالله وبيوم القيامة ثمّ يكون صديقًا حميمًا بهذا النحو لأعداء الله. والأمر هو نفسه أيضًا في مجتمعنا، فلا يمكن لأولئك الذين يوالون الكفار ويوادّونهم أن يدّعوا أنّهم مؤمنون.

 

ضرورة ترجيح الوشائج الإيمانية على الصلات الأسرية

﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ﴾ فليعلم المؤمنون الذين يكفر أبناؤهم أنّهم إذا كان بإمكانهم هدايتهم فليفعلوا ذلك، أمّا إذا لم يتمكّنوا من هدايتهم فليعلموا أنّهم ليسوا أبناءهم، كابن النبي نوح عليه السلام الذي: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾[1] فلماذا كان من الـمُغرقين؟ فأجابه الله تعالى بهذا القانون الذي لا يختص به وحده  عليه السلام، بل هو لجميع المؤمنين حتى نهاية التاريخ، فقال: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾[2] أيّ إنّ ذاك الذي يُخالفك في العقيدة ويعادي توجّهك "لَيسَ مِنْ أَهلِك"، وليس ابنك. هناك رواية:


 


[1] سورة هود، الآية 45.

[2] سورة هود، الآية 46.

 

121


107

المحاضرة السابعة

"الـمُؤمِنُ أَخُو الـمُؤمِنِ لأَبيهِ وَأُمِّه"[1]، أيّ ليس هو أخاه لأمه وحسب أو لأبيه وحسب، بل هو أخوه لأبيه وأمه. هذه هي طبيعة علاقة الأخوّة بين المؤمنين. لكن عندما يكون الإنسان غير مؤمن بإيمانك ولا بعقيدتك ولا بدينك، فإنه ليس أخاك من الأساس، وذاك ليس ابنك، وهذا ليس من قومك وعشيرتك أصلًا، وصلة الرحم بينكما مقطوعة. إنّكما تعيشان في هذا العالم لعدة سنوات، ويمكن أن يربط بينكما شيءٌ من المودّة - التي يجب أن تتجاهلها وأن لا تعتبرها - لكنْ إذ يحين يوم القيامة فإنّ الأنساب والوشائج والصلات ستنقطع كافة هناك: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*   وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾[2] يقول تعالى لنوح عليه السلام: إنّه ليس ابنك ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[3] أيّ نفس وجوده من الأساس "عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ"، هذه قاعدة للعمل. إذًا، فحتّى إن كان آباء الإنسان أو أبناؤه ﴿أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ من الكفار الذين يُحادّون الله ورسوله، فإنّ هذا لا يعني أن يُواليهم.

 

الوعد الإلهي للمتبرّئين من أقاربهم الكفار

يقول تعالى عن هؤلاء المؤمنين الذين يُبعدون عنهم الكفار بهذا النحو وإن كانوا إخوانهم أو آباءهم وأمثال ذلك: ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ أيّ إنّ الإيمان ترسّخ وتجذّر في أرواحهم. وهذا هو ثواب الإنسان الذي أقصى عنه الكافر الذي تجمعه به صلة رحم ووشائج قُربى. ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ ضمير الغائب في  "مِنهُ" يمكن أن يعود إليه تعالى - أي يعود إلى فاعل الفعلين "أَيَّدَهُم" و"كَتَبَ" - بمعنى أنّ روحًا من قِبَل الله ومن جهته تُؤيِّدهم، ويمكن كذلك أن يرجع هذا الضمير


 


[1] عدة الداعي، ص 187.

[2] سورة عبس، الآيات 34 – 36.

[3] سورة هود، الآية 46.

 

122


108

المحاضرة السابعة

إلى الإيمان، بحيث تصبح جملة "وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنه" بمعنى أنّه تعالى أيّدهم بروح من الإيمان وبروح إيمانية. وهي ليست تلك الروح التي يحيا بها الإنسان من حيث الظاهر، بل هي شيءٌ آخر، إنّها قوة في الإنسان. فالروح التي في الإنسان هي منشأ الحياة ومنشأ كونه حيًّا ومنشأ القدرة والسمع والبصر والنطق والتصرّف بالأشياء، فإذا أقدم الإنسان على هذه الحركة العظيمة والصلبة في سبيل الله، أيّ إقصاء القريب الكافر، فإنّ الله تعالى يهبه روحًا، أي منشأً لقدرةٍ جديدة ولسمعٍ وبصرٍ جديدين، ويعطيه منشأً لنحوٍ جديدٍ من القدرة والتصرّف في الأشياء.

 

في كتاب "كشف المحجوب في سيرة أرباب القلوب" 112 روايةٌ عظيمة هي أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يُخبر أصحابه عن الأقوام الذين سيأتون في المستقبل وعن نُعوتهم وأوصافهم، ومن ضمنها أنّهم "يتحابّون بروحِ الله"[1] وببركة روح الله.

 

﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ إنّ رضى الله تعالى بحدّ ذاته من أعظم الدرجات، يقول تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾[2] فرضى الله تعالى عن الإنسان هو أعظم مقام يمكن للعبد أن يناله. إنّ سعي المؤمن وأعماله وحركاته كلّها من أجل أن يرضى عنه الله، وإلّا فلو قيل لكم إنّ الله تعالى يعطيكم الجنّة - التي سمعتم عنها - لكنه يبغضكم، فهل ستحبّونها؟ ثمّة من يقول: إنّ عبادة أكثر الناس هي من أجل الجنة لا من أجل الله تعالى، وأنا أقول: صحيحٌ إنّها من أجل الجنّة، لكنّ هؤلاء الناس يرون ما وراء الجنة، يرون الله، ويريدونها من أجله تعالى. هذه هي حال المؤمن، فالشابّ الذي يمشي على الألغام في جبهات القتال أو


 


[1] كشف المحجوب، تصحيح محمود عابدي، انتشارات سروش، ص 319، باختلاف طفيف.

[2] سورة التوبة، الآية 72.

 

123


109

المحاضرة السابعة

يقول أريد أن أقف في وجه هذه الكثافة النارية التي تأتي من جهة العدو والتي سيُقتل فيها الإنسان ولا بدّ، فإنّه يقول: "أنا ماضٍ لأدخل الجنة"، فهل تلك الجنان وذاك الجانب المادي منها هما بُغيته؟ بل إنّ بُغيته الله، فهو يقول: لقد قال لي الله "افعل" وأنا أريد أن أفعل لأجله تعالى، وأريد أن أمضي وأضحّي بنفسي من أجل الله. إذًا، فرضى الله تعالى أسمى مقصود، وهو غاية الآمال التي يهتم لها المؤمن في حياته.

 

﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ أيّ إنّ الله تعالى يُنعِم عليهم ويرحمهم إلى الحدّ الذي يرضون فيه عنه تعالى، طبعًا حتّى وإن لم يكن هذا اللطف وهذه الرحمة ظاهريين فإنّ قلوبهم راضيةٌ عنه تعالى، أيّ إنّ ذاك الجهاد الذي يقوم به الإنسان عند إقصاء ابنه أو أبيه عنه، يمنح الإنسان درجةً عاليةً وعلوَّ مقامٍ قلبيًّا وروحيًّا، بحيث يغدو الإنسان راضيًا عن الله، ونفس هذا الأمر ينمّ عن رضاه تعالى.

 

﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ هؤلاء هم حزب الله الحقيقي. حزب الله يعني أنّه يجب على المرء امتلاك هذه الشروط وشروطٍ أخرى، ولا تكفي الادّعاءات والأسماء.. ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ المُفلح هو من تمكّن من الوصول إلى غايته، وغاية البشرية هي الفلاح.  

 

 

124


110
تفسير سورة المجادلة