معرفة الذات لبنائها الجديد

الأستاذ آية الله محمد تقي مصباح اليزدي


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-03

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدّمة المركز

مقدّمة المركز

 

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

النفس الإنسانيّة أمرٌ ملكوتيٌّ شريف وجوهرةٌ ثمينةٌ، وهي منشأ الفضائل والقِيم الإنسانيّة، يقول أمير المؤمنين  (عليه السلام): «إنّ النفسَ لَجوهرةٌ ثمينة؛ من صانها رفعها، ومن ابتذلها وضعها»[1].

لذا، فإنّ تزكيتها وتهذيبها من الغايات الأساسيّة في مسيرتنا الجهاديّة، فهي طريق الوصول إلى الله، إن صلُحَت كانت منشأً للحسنات والنجاة، وإن فسدت كانت منشأً للسيّئات والهلاك. ولا يمكن إدراك هذه الغاية من دون معرفتها ومعرفة أسرارها؛ فإنّ لمعرفتها ومعرفة دوافعها وشؤونها، وما يُهيّج شوقها ويشدّ من عزمها، تأثيرًا بالغًا في حسن تدبيرها وكمال تربيتها.

 

 


[1] الآمديّ، غرر الحكم، ص227.

 

7


1

مقدّمة المركز

لذلك، ارتأينا في مركز المعارف للتأليف والتحقيق نشر كتاب «معرفة الذات لبنائها الجديد» للأستاذ آية الله الشيخ محمّد تقي مصباح اليزديّ  (رحمه الله)، والذي يبحث فيه حول الإنسان من زاوية كونه موجودًا يقبل التكامل، فيبيّن أساليب الاستفادة من الطاقات الداخليّة والإمكانات الخارجيّة، للوصول إلى السعادة الحقيقيّة، مستدلًّا بالمعطيات الوجدانيّة والبراهين العقليّة البسيطة غير المعقّدة.

وإنّ آيةَ الله الشيخ اليزديّ، عالمٌ ربّانيٌّ وفيلسوفٌ متبحِّرٌ، مطّلعٌ على حقائق النفس وكوامنها، ومدركٌ لموانع السير في تهذيبها، وعارفٌ بأساليب تربيتها، نال المراتب العليا في الفقه والفلسفة، ووصل إلى الدرجات الرفيعة في السير إلى الله -تعالى-، يقول فيه الإمام الخامنئيّ (دام ظله) معزّيًا: «لقد كان سماحته مفكِّرًا بارزًا، ومديرًا يتمتّع بالكفاءة، وصاحبَ لسان بليغ في إظهار الحقّ، ويسير بثبات على الصراط المستقيم. كما أنّ خدمات سماحته في إنتاج الفكر الدينيّ وتأليف الكتب التوجيهيّة، وتربية تلامذة مميّزين ومؤثِّرين، والمشاركة الثوريّة في الساحات كافّة، التي تُلمَس فيها الحاجة إلى حضوره، كانت منقطعةَ النظير حقًّا وإنصافًا. لقد كانت التقوى خصلتَه الدائمة التي رافقته من أيّام الشباب حتّى آخر عمره، فكان توفيقه في سلوك طريق المعرفة التوحيديّة ثوابًا إلهيًّا عظيمًا لهذا المجاهد العتيق»[1].

 


[1] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ دام ظله، في بيان تعزيةٍ برحيل آية الله الشيخ محمّد تقي مصباح اليزديّ، بتاريخ 02/01/2021م.

 

8


2

مقدّمة المركز

إنّ كتاب «معرفة الذات لبنائها الجديد»، مجموعة دروس، ألقاها آية الله الشيخ اليزديّ، وكتب ملخّصها بالفارسيّة، ليكون عونًا في تربية النفس والوصول إلى الله، ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٖ﴾[1].

وقد نقلها آية الله الشيخ محمّد عليّ التسخيريّ (رحمه الله)إلى العربيّة، ليعمّ نفعها. ونحن نعيد نشر هذا الأثر القيّم لكبير فائدته، شاكرين لمؤسَّسة في طريق الحقّ حسن تعاونهم في ذلك، راجين من الله -تعالى- أن ينتفعَ به الإخوة المؤمنون في الوصول إلى الغاية المنشودة.

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 


[1] سورة فاطر، الآية 14.

 

9


3

مقدّمة المؤسّسة

مقدّمة المؤسّسة

 

﴿وَنَفسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا ٨ قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَد خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠﴾[1]

تزكية النفس هي البُغية التّي يبتغيها كلُّ من تنوّر قلبه بنور المعرفة والإيمان، ويسعى وراءها كلُّ من عرف وأيقن أنّ الفوز والفلاح لا يتيسّران إلّا عن طريقها، لكنّ هناك أمورًا تُسهي القلب عن الانتباه، وتمنع المنتبه عن الإرادة، وتصرف المُريد عن السلوك، وتصدُّ السّالك عن الإمعان في السّير والوصول إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى.

إنّ لمعرفة النفس ودوافعها، ومعرفة شؤونها وسوائقها، ومعرفة ما يُهيّج شوقها ويشدّ من عزمها، تأثيرًا بالغًا في حسن تدبيرها وكمال تربيتها، وإزالة الموانع عن طريقها، والنجاح في بنائها من جديد.

 

 


[1] سورة الشمس، الآيات 7 - 10.

 

11


4

مقدّمة المركز

ولقد ألقى الأستاذ محمّد تقيّ مصباح اليزديّ دروسًا في هذا الصدد، وكتب ملخّصها بالفارسيّة «خُودْ شِناسى بِراي خُودْ سازي»، وقد طُبِع مرّات عدّة ونال إعجابًا وافرًا من القرّاء الكرام الذين جرّبوا في أنفسهم نوره الساطع، ودوره الفعّال، وتأثيره الإيجابيّ البالغ.

وقد حثّنا ذلك على نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة؛ ليعمّ نفعها، وينتشر ضوؤها في سائر الأقطار الإسلاميّة، راجين من الله -تعالى- حسن القبول والتوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين أكثر فأكثر.

مؤسّسة في طريق الحقّ

 

12


5

مقدّمة المؤسّسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبّينا محمّد وآله المعصومين، ولا سيّما بقيّة الله في الأرض (عجل الله تعالى فرجه)، وجَعَلنا من أعوانه وأنصاره، ومَنَّ علينا برضاه، واللّعن على أعدائهم أجمعين.

 

13


6

ضرورة معرفة الذات

مقدّمة

يقع الإنسان -من جهات مختلفة- موضوعًا لعلوم مختلفة:

علم النّفس، علم الاجتماع، التّاريخ، الأخلاق، الطبّ، وحتى الفيزياء والأحياء؛ فإنّها علومٌ يتناول كلٌّ منها الإنسان من زاوية خاصّة.

وما نرمي إليه هنا هو البحث حول الإنسان من زاوية كونه موجودًا يقبل التّكامل، وسنتحدّث عن أساليب الاستفادة المثلى من الطاقات الدّاخليّة، والإمكانات الخارجيّة، للوصول إلى السّعادة الحقيقيّة، عبر التأمّل في وجودنا، ومعرفة العوامل التي أودعت في الفطرة لتسيرَ بنا إلى الهدف الأصليّ، وكذلك عبر معرفة عناصر الجذب نحو الأهداف الإنسانيّة السّامية، والروابط التي تربطنا بالآخرين، والّتي تمكّننا من خلال الاستفادة منها، والسعي في تقويتها وتحكيمها، من تقوية أنفسنا وتهيئتها للتّكامل والتّسامي.

ونسأله -تعالى- أن يعيننا لأن نخطوَ -في هذا- خطوةً على طريق تكاملنا وتكامل الآخرين.

 

15


7

مقدّمة

وعليه، فموضوع بحثنا عبارة عن «الإنسان من زاوية كونه موجودًا يقبل التكامل»، وهدفه عبارةٌ عن «معرفة الكمال الحقيقيّ وسبيل الوصول إليه»، وأسلوبه عبارة عن «دراسة تأمّلاتنا الدّاخلية للوصول إلى معرفة جديدة لمتطلّباتنا وعناصر الجذب الموجودة في أعماقنا، والتي تسير بنا نحو الكمال، والعوامل التي تساعدنا في ذلك، والظروف التي يمكن استغلالها للوصول إلى ذلك».

وسنسعى إلى الاكتفاء لإثبات ما نقول بالمعطيات الوجدانيّة والبراهين العقليّة البسيطة غير المعقّدة، مستفيدين من أوضح المعلومات وأكثرها قناعةً لكشف المجهولات، وقد نشير عند الضّرورة إلى الأدلّة العقليّة والنقليّة المعقّدة.

 

16


8

ضرورة معرفة الذات

ضرورة معرفة الذات

من الطبيعيّ جدًّا للموجود الّذي يحمل في فطرته حبّ الذات أن يعرف هذه الذات، ويدرك كمالاتها وسبل الوصول إليها، فلا نحتاج إلى الأدلّة العقليّة المعقّدة أو التعبّديّة الشرعيّة إلى أن ندرك ضرورة معرفة الذات.

ومن هنا، فإنّ أيّ تغافلٍ عن هذه الحقيقة، والانشغال بالأشياء التي لا تملك أيّ دخلٍ في الكمال والسّعادة الإنسانيّة أمرٌ غيرُ طبيعيّ وانحرافيّ بلا ريب، وهذا ما يتطلّب منّا البحث عن علّة هذا الانحراف، ومعرفة سبيل الخلاص من آثاره السلبيّة.

والحقيقة، أنّ أنماط السعي الإنسانيّ كلّها، سواء العلميّ منها أو العمليّ، إنّما يحصل لضمان اللذّات والمنافع والمصالح للإنسان. لذا، فإنّ معرفة الإنسان لنفسه وبدئه ومنتهاه، وكذلك كمالاته التي يمكن الوصول إليها، هذه المعرفة مقدّمة للمواضيع كلّها، بل من دون معرفة حقيقة الإنسان وقيمته الواقعيّة لا تبقى أيّ فائدة وقيمة للبحوث الأخرى.

 

 

19


9

ضرورة معرفة الذات

إنّ تأكيد الأديان السماويّة وقادة الدين وعلماء الأخلاق على معرفة النّفس وكشف حقيقتها هو إرشادٌ إلى هذه الحقيقة الفطريّة والعقليّة، فهذا القرآن الشريف يَعتبر نسيان النفس من لوازم نسيان الله، وأنّه بمنزلة جزاء لهذا الذنب العظيم، فيقول -تعالى-:

﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُم أَنفُسَهُم﴾[1]، وفي موضعٍ آخر: ﴿عَلَيكُم أَنفُسَكُم لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهتَدَيتُم﴾[2]. وقد وجّه الأنظار إلى آياته -تعالى- في الآفاق والأنفس، فقال: ﴿سَنُرِيهِم ءَايَٰتِنَا فِي ٱلأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِم حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ ٱلحَقُّ﴾[3]، وقد أَوْلى آيات الأنفس عنايةً خاصّةً، حين عبّر -تعالى- بقوله: ﴿وَفِيٓ أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُونَ﴾[4]، فألقى باللّوم على أولئك الذين لا يسعَون إلى معرفة الآيات الإلهيّة في أعماق وجودهم.

وقد أعطى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) معرفة النّفس أهمّيّةً فائقةً، وجعلها سبيل معرفة الله، إذ قال: «من عرف نفسه، فقد عرف ربّه»[5].

وقد نُقِلت رواياتٌ كثيرة عن أمير المؤمنين  (عليه السلام) بهذا الصدّد، نقل منها المرحوم «الآمدي» ما يقرب من 30 روايةً في كتابه «غُرَرُ الحِكم»، ومنها هذه الكلمات القصار:

«معرفة النفس أنفع المعارف».

 

 


[1] سورة الحشر، الآية 19.

[2] سورة المائدة، الآية 105.

[3] سورة فصلت، الآية 53.

[4] سورة الذاريات، الآية 21.

[5] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص588.

 

20


10

ضرورة معرفة الذات

«عجبت لمن ينشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها».

«عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه».

«غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه».

«الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس».

وقد رُوِيَ عنه  (عليه السلام) قوله: «كلّما زاد علم الرّجل، زاد عنايته بنفسه، وبذل في رياضتها وصلاحها جهدَه»[1].

توضيحاتٌ ضروريّة

لمّا كنّا نستعمل في حديثنا هذا بعض التّعبيرات التي تُستعمَل في مجالاتٍ أخرى بمعانٍ أخرى قد تختلف عن موارد استعمالنا، فإنّه يجب الالتفات إلى التّوضيحات الآتية لئلّا نقع في الاشتباه:

أ. إنّنا نقصد من «معرفة الذات» -كما أشرنا إليها- معرفة الإنسان من زاوية كونه متوافرًا على استعداداتٍ وطاقاتٍ تُمهّد له سبيلَ التكامل الإنسانيّ. ومن هنا، فإنَنا لا نستغني عن هذا البحث بمقدار ما يعلمه الواحد منَّا بنفسه علمًا حضوريًّا، كما أنّنا لا نقصد العلم الحضوريّ الكامل الّذي يحصل عليه الإنسان في أواسط سيره المعنويّ؛ فيشاهد الإنسان حقيقته من دون أيّ حجاب؛ لأنّ هذه الحالة من نتائج بناء الذات، لا من مقدّماتها. كما أنّها لا تبحث عن معرفة أجهزة البدن ومكوّناته وكيفيّة عملها -كما يبحث ذلك في علم الفسلجة-


 


[1] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج2، ص310.

 

21


11

ضرورة معرفة الذات

بل حتّى معرفة النفس وقواها الداخليّة بالنّحو الذي يبحثه علم النفس، فإنّها ليست غايتنا، وإن كنّا قد نستفيد من البحوث النفسيّة المقطوع بها؛ كمقدّمات ومبادئ لبحثنا هذا.

ب. إنّنا نقصد من «بناء الذات» عمومًا دراسة الذات والاهتمام بها منح النّشاطات الحياتيّة شكلها وجهتها، لا تحديدها وإيقافها. بعبارة أُخرى، إنّ الغرض من هذا البحث هو أن نعلم كيفيّة تنظيم مساعينا العلميّة والعمليّة، وما هي الوجهة الصّحيحة الّتي يجب توجيهها نحوها لِكَيْ يؤثّر ذلك في وصولنا إلى الكمال الحقيقيّ؟ على هذا، فإنّه لا يلزم من هذا البحث أن ننكرَ الحقائق الموضوعيّة خارج الذّهن، أو ننكر قيمة معرفتها، أو أيّ اتّجاهٍ مثاليّ غير إيجابيّ تمامًا، كما أنّ النّزعة البرجماتيّة (النفعيّة) القائمة على أصالة «مبدأ العمل المفيد للحياة المادّيّة الدنيويّة» والتي هي من مظاهر «الأومانيّة». هذه الاتّجاهات لا يمكنها أن تُبيّن حقيقة هذا البحث، بل سنرى أنّها تختلف عنها اختلافًا كلّيًّا، اللّهمّ إلّا أن يعطيَ بعض أنماط هذه الأفكار تفاسيرَ تتضمّن تصوّرًا متعاليًا ساميًا، وهو ما لم يقصده مؤسّسو هذه الاتّجاهات وأتباعها.

ج. إنّ المقصود من العودة إلى الذات والتأمّل في أعماقها والبحث عن أبعادها هنا هو أن يعرف الإنسان هدفه الأصليّ وكماله النهائيّ، وكذلك مسيرة سعادته ورقيّه الحقيقيّ، عبر التأمّل في وجوده واستعداداته الداخليّة، وميوله الباطنيّة،

 

22

 

 


12

ضرورة معرفة الذات

ولا نقصد قطع الرّوابط الوجوديّة للّذات بالآخرين وعدم أخذها بعين الحسبان وإنكار الإمكانات التي يهيّئها المجتمع والتّعاون الاجتماعيّ لتحقيق التّقدّم والتّكامل الذاتيّ.

فالمقصود إذًا من هذه التعبيرات ليس إلّا جوانبها الإيجابيّة، فيجب ألّا نخلط بينها وبين «الفرديّة» و«الباطنيّة السلبيّة» و«الأنانيّة» و«عبادة الذات»، وأمثال ذلك من التعبيرات التي نجدها في علم النفس أو الأخلاق، وغيرها التي تتضمّن معاني سلبيّة.

د. ثمّة ألفاظٌ أُخرى لها معانٍ اصطلاحيّة متعدّدة، ولها استعمالات متفاوتة في العلوم المختلفَة، بل قد يكون لبعضها معانٍ متغايرة، يَستعمِل معنى كلٍّ منها مذهبًا خاصًّا في إطار علم واحد مثل: العقل، النفس، الشهود، الحسّ، الإدراك، الخيال، القوّة، الطاقة، الغريزة...

والتقيّد باصطلاح خاصّ في مثل هذه الأمور يوقع السامع والمتكّلم في ضيق لا داعيَ له. ومن هنا، فإنّه لكي نعيّن المقصود من تعبير من هذه التعبيرات، ينبغي أن نعيّن المعنى من خلال سياق الكلام، وعلى أولئك الذين يأنسون اصطلاحًا عمليًّا وفلسفيًّا خاصًّا ألّا يحصروا أنسهم في إطار ذلك الاصطلاح، لئلّا يبتلوا بالخلط والاشتباه.

 

23


13

الكمال

الكمال

على الرغم من أنّ مفهوم الكمال واضحٌ لا يحتاج إلى تعريف، ولكنّنا لئلّا نقع في الخلط في بعض الموارد، سنقدّم توضيحًا حوله في ما يأتي:

إنّ الكمال -بلا شكٍّ- صفة وجوديّة يتّصف بها الموجود، ولكنّنا عندما نقيس أمرًا وجوديًّا ما إلى أشياء مختلفة، فإنّنا نجده كمالًا بالنّسبة إلى بعضها، في حين أنّه لا يُعدّ كمالًا بالنسبة إلى الأُخرى، بل قد يُعدّ نقصًا وتقليلًا في القيمة الوجوديّة لتلك الأخرى.

كما أنّ البعض الآخر لا يمتلك أساسًا أيّ استعداد لبعض الكمالات، فإنّ الحلاوة مثلًا تُعدّ كمالًا لبعض الفواكه؛ كالكمثرى والبطيخ، في حين يكمن كمال بعض الفواكه في حموضتها، أو في طمعها، أو نقول إنّ العلم للإنسان كمالٌ، في حين لا يمتلك الحجر والخش أيّ استعداد له.

سرّ الأمر هو أنّ أيّ موجود يمتلك حدًّا ماهويًّا خاصًّا به، بحيث يتبدّل إلى نوعٍ آخر من الوجود إذا تجاوز هذا الحدّ.

 

24

 

 


14

الكمال

إنّ التّغييرات الماهويّة قد تحصل بعد تغيير شكل الجزئيّات، أو زيادة الذرّات وقلّتها، أو بعد التغييرات الداخليّة في تركيب الذرّة، أو تبدّل المادّة إلى طاقة أو العكس، كما أنّها قد تحصل على الرغم من وحدة هذه التركيبات كلّها، فلو قسنا البذرة الصناعيّة إلى البذرة الطبيعيّة وجدنا وحدة في التركيب الداخليّ للبذرتين، ولكنّ الصّناعيّة منها تفتقد إلى القدرة على النّموّ، على الرغم من وحدة تركيباتهما.

على أيّ حال، فإنّ أيّ ماهيّة تنسجم -بمقتضى طبيعتها- مع بعض الأوصاف، وفيها استعداد قبول بعض الكمالات لا غير؛ لكنّ حدوث ماهيّة جديدة لا يستلزم دائمًا فناء الكمالات القبليّة، فإنّ الكثير من الموجودات تتقبّل حالات فعليّة متعدّدة؛ كلٌّ منها يأتي في طول الآخر (بعده)، مع الاحتفاظ بالكمالات والفعليّات السابقة، وذلك كما نجد أنّ النباتات تَحْوي الذرّات والموادّ المعدنيّة نفسها، بالإضافة إلى الفعليّة النباتيّة التي تأتي في طول توافر تلك الذرّات والموادّ، وهكذا الأمر في الحيوان والإنسان. وفي مثل هذه الموجودات، من الممكن أن تكون الكمالات السابقة مساعِدة إلى حدٍّ ما في حدوث الكمالات التالية الأسْمى منها، ولكنّها لا تقتضي بالضّرورة أن يكون ازديادها دائمًا موجبًا للكمالات الفعليّة الأَخيرة، أو أنّها على الأقلّ لا تُزاحمها، بل إنّنا نجد في كثيرٍ من الموارد أنّ الوصول إلى بعض الكمالات التي هي مقتضى الفعليّة الأخيرة يتوقّف على تحديد الكمالات السابقة، فإنّ كثرة الأوراق والأغصان

 

25

 


15

الكمال

تُزاحِم عمليّة الإثمار الجيّدة للأشجار المثمرة، وإنّ سمنة الحصان الأصيل الشديدة تمنعه من الوصول إلى كماله اللائق به، وهو سرعة الركض والوثب.

على هذا، فالكمال الحقيقيّ لأيّ موجود عبارةٌ عن الصفة أو الأوصاف التي تقتضيها فعليّته الأخيرة. أمّا الأمور الأخرى، فبمقدار تأثيرها في الوصول إلى الكمال الحقيقيّ، تكون من مقدّمات الكمال.

سلسلة الكمالات

عندما نقارن شجرةً مع قطعة حجر أو كثيبٍ من تراب، فإنّنا سنجد أنّ الشجرة تملك بالفعل قُوىً خاصّة لا توجد في الحجر والتراب. وعلى الرغم من التشابه بين ذرّاتها وجزئيّاتها، فإنّ الآثار التي تنتجها الشجرة لا تولد من الحجر والتراب.

نستطيع أن نعرضَ هذه الحقيقة بالنحو الآتي:

إنّ في الشجرة كمالًا بالفعل هو الصورة النباتيّة وهو منبع ظهور الأفعال والآثار الخاصّة بالنباتات. كما أنّ النباتات تملك كمالات -بالقوّة- لا تملكها الجمادات استعدادًا للوصول إليها، فإنّ قلم شجيرة مثمرة مستعدٌّ أن يُنتج سلال الفواكه الحلوة؛ الأمر الذي لا يوجِد استعداده في الحجر والخشب.

من البديهيّ، فإنّ النبات عندما يمتلك هذه الفعليّة والقوّة المذكورة، فإنه ليس فقط لا يفقد الصفات الجسمانيّة والقوى الطبيعيّة، بل إنّه بالاستعانة بها يؤدّي أعماله ويطوي مسير تكامله،

 

 

26

 


16

الكمال

فيمكن أن نستنتج من ذلك أنّ الموجود النباتيَّ يستخدم قواه الطبيعيّة للوصول إلى كمالاته. ومن الطبيعيّ أنه يحتاج إلى هذه القوى ولكن إلى الحدّ الذي يستفيد فيه من هذه القوى لصالح كماله.

كذلك الحيوان، فإنّه واجدٌ للقُوى النباتيّة، بالإضافة إلى الحسّ والحركة الإراديّة اللَّذَيْن هما من لوازم الصورة الحيوانيّة. وبالنحو نفسه نجده يستخدم القُوى النباتيّة لتكامله الحيوانيّ، ويحتاج إليها بالمقدار الذي تؤثّر فيه في وصوله إلى كماله الحيوانيّ. والإنسان أيضًا بدوره واجدٌ لِلْقُوى الطبيعيّة والحيوانيّة، بالإضافة إلى القوى الناتجة من صورته الإنسانيّة. فهو يستخدم القوى السابقة كلّها لصالح تكامله الإنسانيّ بالمقدار الذي تؤثّر في تحقيق هدفه، ولكن كما رأينا كثرة الأوراق والأغصان مانعة من تكامل شجرة التفّاح؛ فإنّه لا يمكن جعل الاستفادة اللّامحدودة من القوى النباتيّة والحيوانيّة مفيدة لتحقيق الهدف التكامليّ الإنسانيّ.

نستنتج من هذا البحث بعض النتائج:

أ. يمكن تقسيم الموجودات المادّيّة حسب الكمالات الوجوديّة إلى درجات، ومن بين الموجودات التي نألفها نجد الجمادات في الدرجة السفلى، ثم النباتات، ثم الحيوانات في الوسط، ويقع الإنسان في الدرجة العليا.

من البديهيّ في مثل هذا التدرّج أنّ الملحوظ هو نوع الكمال وقيمته، لا حجمه ومقداره. ولذا، فلا مجال للاعتراض علينا بأنّه لو كان الإنسان أكمل الحيوانات، فلماذا لا يمكنه

 

27


17

الكمال

أن يأكل بقدر أكْل البقرة، ويركض كالغزال، ويفترس كالأسد تمامًا، كما لا يُقال في سموّ النباتات على الجمادات، بأنّه لو كانت الشجرة أسمى من الحجر والتراب، فلماذا لا تمتلك الشجرة وزن الجبال الهملايا؟ ولماذا لا توجد في أعماقها معادن الذهب والنفط؟

ب. إن أيّ موجود مادّيّ في درجةٍ أعلى من الوجود يمتلك القُوى الأَدْون من درجته؛ ليستخدمها في سبيل تكامله.

ج. إنّ الاستفادة من القوى الأدون يجب أن تكون بالقدر المفيد للوصول إلى الكمالات الأعلى، وإلّا فإنّها تعود سببًا للركود وتوقّف السير التكامليّ، وقد تؤدّي إلى التراجع والهبوط أحيانًا.

د. بملاحظة البحث السابق، نستنتج أنّ الكمال الحقيقيّ لأيّ موجود عبارةٌ عمّا تقتضيه آخر فعليّة له، وإن كان هذا الكمال نفسه ذا مراتب ودرجاتٍ مختلفةٍ، فإنّ أعداد التفاح لشجر التفاح كمالٌ، ولكنّه ذو مراتب. أمّا سائر الكمالات التي تختلف عن هذا الكمال اختلافًا ماهويًّا، وهي بالطبع في درجات أدون منه، فهي لا تُعدُّ من كمالات هذا الموجود، بل هي مقدّمات ووسائل لكماله.

وعليه، يمكننا أن نقسّم الكمال إلى قسمين: أصيل وآليّ، أو حقيقيّ ونسبيّ، كما يمكننا أن نقول بوجود مراتب الكمالات الأصليّة.

 

28

 

 


18

الكمال

ه. لكي نعيّن مقياسًا للاستفادة من القوى الأدون، تلزم ملاحظة الكمال الحقيقيّ الأصيل. بعبارة أخرى، لا يمكن اعتبار الصفات الوجوديّة الأدون مقدّمات الكمال، أو كمالات نسبيّة، إلّا إذا كانت مقدمّات للوصول إلى الكمال العالي الحقيقيّ، ومن هنا يتأكّد لزوم معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان.

الحركة الاستكماليّة وعواملها وشرائطها

إنّ التكامل والحركة الاستكماليّة لموجود ما عبارةٌ عن التغييرات التدريجيّة التي تحصل فيه، والتي تُنتج أن يصل استعداده للوصول إلى صفة وجوديّة، هي «الكمال» إلى المرحلة الفعليّة. هذه التغييرات تحصل بواسطة القوى المودعة في خلقة الموجود القابل للكمال، مع الاستفادة من الشرائط والإمكانات الخارجيّة.

فبذرة الحنطة عندما تستقرّ تحت التراب، ويتوافر لها الماء والهواء والحرارة والنور والشرائط الأُخرى، تنفلق، ثمّ تبرز ساقًا وأوراقًا وسنابلَ، ممّا ينتج حصول 700 بذرة أخرى تقريبًا. هذه التغييرات التي تحدث منذ البدء في بذرة الحنطة، إلى حصول البذرات الـ700، تُسمَّى اصطلاحًا «الحركات الاستكماليّة»، كما تُسمّى القوى التي كانت كامنةً في البذرة، والتي استطاعت بواسطتها جذب الموادّ اللازمة، ونفي الموادّ المضرّة وتحوّل العناصر المجتذبة عبر تفاعلات خاصّة إلى بذرات مشابهة لها، تُسمّى «عوامل التكامل»، في حين يُسمّى الماء والهواء واللّوازم الخارجيّة الأخرى «شرائط التكامل».

 

29

 

 


19

الكمال

من البديهيّ، فإنّ معرفة ميزان التكامل، وعبارة أخرى سعة الدائرة الوجوديّة وحوزة كمالات موجود ما، وكذلك عوامل وشروط التكامل، يمكن أن يحصل عادة عبر التجربة، وإن لم يكن من الممكن نفي وجود سبيل آخر لمثل هذه المعرفة.

هنا، تُثار بعض الأسئلة في البين:

هل الموجودات كلّها تقبل التغيير والتطوّر، أو إنّه يمكن أن توجد بعض الموجودات التي نعرفها أو تلك التي يُحتمَل وجودها، ونحن لا نعرفها، وهي لا تقبل التطوّر والتحوّل مطلقًا، فلا يحدث فيها ذلك أبدًا؟ وهل إنّ أيّ تغيير سواء أكان في الذات أم في العوارض والصفات، أم في النسب والإضافات، هو تغيير حقيقيّ وواقعيّ، أو إنّه لا يمكن اعتبار التغيير في النسب والإضافات تغييرًا حقيقيًّا؟ وهل إنّ أيّ تغيير حقيقيّ يوجب الوصول إلى صفة كماليّة، أو يمكن أن تنتج حركة ما لفقدان بعض الصفات الوجوديّة؟

هذه الأسئلة كلّها تُطرَح في محلّها، ولكن لمّا كان بحثنا لا يتوقّف على الإجابة عنها، فإنّنا نتركها إلى مجالٍ آخر.

الحركة العلميّة وغير العلميّة

في مثال بذرة الحنطة، نجد أنّ التغييرات الموجِبة لتحوّل البذرة إلى بذرات مشابهة ليست مرهونةً بالإدراك والتشخيص العلميّ، وكذلك التغييرات التي تحدث في البيضة، إلى أن تنتهيَ لحصول

 

30

 


20

الكمال

الفرخ مع فرقٍ بين هذه الحركة والحركة الاستمكاليّة للفرخ، حتى أصبح دجاجة كاملة. فإنّ هذه الحركة الأخيرة تتبع الإدراكات التي لو فقدها الفرخ لم يستطع أن يصل إلى كماله اللّائق به. فلو لم يكن الفرخ يحسّ بالجوع والعطش والبرد والحرّ، ويميّز بين الحبّة والحجر والخشب، والماء والنار، فإنّه ليس فقط لا يمكنه أن يتطوّر وينمو، بل إنّه لا يستطيع أن يديم حياته. ومن هنا نستنتج أنّ الحركات الاستكماليّة يمكن تقسيمها إلى نوعين كلييّن: إدراكيّة وطبيعيّة، أو علميّة وغير علميّة.

الإدراك الغريزيّ وغير الغريزيّ

إنّ الإدراك الذي هو شرطٌ للحركة الاستكماليّة قد يكون أحيانًا فطريًّا طبيعيًّا، وإن كان الموجود نفسه لا يدرك وجوده بكلّ وضوح، وذلك مثل الإدراكات الغريزيّة الحيوانيّة، وقد يحصل تدريجيًّا وبالتعلّم، فيكون مورد الاطّلاع الكامل، كما في العلوم الاكتسابيّة لدى الإنسان.

هنا تُطرح بعض الأسئلة التي تجب الإجابة عنها في مجال آخر، من قبيل أنّه هل تفقد النباتات أنماط الإدراك كلّها، أو يمكن أن يوجد في بعضها نوع منها؟ وهل إنّ الإدراكات الحيوانيّة كلّها غريزيّة، أو بعضًا منها يمتلك نصيبًا من الإدراكات الكسبيّة؟ وعلى فرض وجود الإدراك الاكتسابيّ في الحيوان، فهل يوجد بينه وبين الإدراكات الإنسانيّة تفاوتٌ ذاتيّ أم لا؟

 

 

31


21

الكمال

الحركة الاختياريّة وغير الاختياريّة

قد تحصل الحركة التكامليّة بشكل طبيعيّ لاإراديّ عند اجتماع الشرائط اللازمة لدى الموجود الذي يمتلك قوةً كافيةً لتكامل خاصّ. وقد يتوقف حصولها على إعمال الإرادة والاختيار، وهذا ما نلاحظه بوضوح في نشاطاتنا الاختياريّة، ونميّز بينها وبين الأفعال الطبيعيّة واللاإراديّة الأخرى بكل وضوح أيضًا.

من البديهي أنّ مدى التكامل والتقدّم في الحركات الاختياريّة مرتبطٌ بإرادة الموجود المتحرّك واختياره. بعبارة أُخرى، إنّ عدم الوصول إلى الكمال المطلوب ليس معلولًا فقط لنقص الطاقات الذاتيّة أو عدم مساعدة الشرائط والإمكانات الخارجيّة، بل قد يستند إلى إرادة الشخص نفسه، ولأنّ الانتخاب لا يحصل بلا علم ووعي، فإنّ حسن الانتخاب مرتبطٌ بالعلم والتشخيص الصحيح، وكلّما كانت دائرة المعلومات أوسعَ وإمكانات كسب العلوم اليقينيّة أكبرَ، فإنّ إمكانات الاستفادة الصحيحة منها للتكاملات الاختياريّة ستكون أكثر وأوفر،كما أنّه كلما كان ميدان التحرّك أوسع والشرائط الخارجيّة أكثر تنوّعًا، فإنّ الأعمال الاختياريّة يمكن تأديتها بحرّية أكبر.

ومن هنا، يحصل لنا دليلٌ واضح على لزوم معرفة الهدف، ومعرفة السير الصحيح نحوه؛ لأنّه -كما أشرنا- يتوقّف الاختيار على العلم والوعي، والتكامل الإنسانيّ أو على الأقلّ قسطٌ من هذا التكامل هو اختياريّ بلا ريب.

من الطبيعيّ أنّنا سنتحدّث في ما يأتي -إن شاء الله تعالى- عن

 

32

 

 


22

الكمال

حدوث الإرادة والعوامل التي تؤثّر في هذا الحدوث.

هنا يُثار سؤالٌ عن وجود موجودات أُخرى غير الإنسان لها اختيار الحركة. وعلى فرض وجودها، فهل يوجد فيها ما هو أكمل من الإنسان؟

من الواضح أنّ الإجابة بالسلب أو الإيجاب عن مثل هذه الأسئلة ليس له أيّ تأثير في سير البحث.

معرفة الكمال قبل الحصول عليه

من البديهيّ أنّ معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان، بمعنى الإدراك الوجدانيّ والعلم الشهوديّ به، إنمّا يتهيّأ لأولئك الذين وصلوا إلى درجته.

لكن، لمّا كان الوصول إلى الكمالات الاختياريّة يتوقّف على العلم والوعي، فإنّه من اللازم معرفة مثل هذه الكلمات بشكل ما معرفة مسبقة، لكي تقع موقع الشوق والإرادة، فتحصل بالاختيار والانتخاب.

ولو كان سبيل معرفتها منحصرًا بالحصول عليها، لم يكن الحصول عليها ممكنًا. فالمعرفة التي نحتاجها مسبقًا ليست من قبيل المعرفة الشهوديّة الوجدانيّة، بل هي معرفة ذهنيّة أو علم حصولي -كما في الاصطلاح- يحصل عن طريق البرهان والاستنتاج، من المقدّمات العقليّة أو الاستنباط من الأصول النقليّة المسلّم بها. والواقع أنّ هذا البحث يحتاج إليه المحقِّقون الباحثون الذين يسعون إلى معرفة

 

33


23

الكمال

الكمال ومعرفة طريق للوصول إليه. أمّا الّذي نال الكمال الحقيقيّ، فإنّه لا يجد حاجةً لمثل هذه البحوث.

على هذا، فإنّ توقّع معرفة حقيقة الكمال الإنسانيّ قبل الوصول إليه -بحيث نعرفه كما نعرف مدركاتنا الوجدانيّة- توقّع لا محلّ له ولا سبيل إلّا سبيل الاستدلال للحصول على المعرفة الذهنيّة لا الشهوديّة، وتعيين مشخّصاتها بمعونة العقل والنقل.

ومن الطبيعيّ، فإنّنا سنسعى إلى أن نختار مقدّمات الاستدلال من أبسط المعلومات اليقينيّة والوجدانيّة، وأوضحها؛ لتكون النتيجة أوضح وأكثر اطمئنانًا، وتتوسّع الفائدة. وقد نشير إلى بعض الأدلّة النقليّة أو البراهين العقليّة المعقّدة.

هل يمكن معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان بالتجربة؟

يمكن أن يتصوّر أحد أنّه كما يمكن معرفة كمال شجرة أو حيوان عن طريق التجربة، فإنّ من الممكن حلّ هذه المسألة في مورد الإنسان بمعونة التجارب العلميّة، أي يمكن دراسة أفراد كثيرة في أزمنة وأمكنة مختلفة، وملاحظة الكمالات التي يحصلون عليها، وحدودها القصوى. ومن ثمّ معرفة شرائط الكمال وسبيل الوصول إلى الكمال النهائيّ.

ولكن، أدنى تأمّل يوضح أنّ الأمر ليس بهذه السهولة في مورد الإنسان؛ ذلك:

 

34

 

 


24

الكمال

أوّلًا: لأنّ النباتات والحيوانات من حيث الكمالات الوجوديّة هي في درجة أدون من الإنسان، ومن هنا، فإنّ كلّ إنسان يمكنه أن يعرف كمالاتها ويدرسها، ولكنّ الأفراد الذين لمّا ينالوا الكمال الحقيقيّ لا يستطيعون معرفة نسخ هذه الكمالات، ومَنْ هُمُ الواجدون لها، وهم في هذه الجهة كالأطفال الراغبين في معرفة الكمالات الخاصّة بالأفراد البالغين، ولا يمكن أن يُسهم في ذلك إلّا نُخبة وصلت على الأقلّ إلى المراتب الأوليّة للكمال الحقيقي للإنسان.

ثانيًا: إنّ كمال أيّ نوع من أنواع النباتات والحيوانات له حدٌّ معيّن يمكن تجربته ومعرفته بكل سهولة. ولمّا لم تكن هناك فروق بين أفراد نوع واحد منها خلال قرون، من حيث نوع الكمال والحدّ النهائيّ له، فإنّه بملاحظة ودراسة عدد منها يمكن الاطمئنان إلى أنّ كماله النوعيّ هو ما أُدرِك لا غير. فكمال شجرة التفّاح يكمن في إعطائها ثمرةً لها طعمٌ ولونٌ ورائحةٌ خاصّة، وفي حجم معيّن، وكمال النَّحْلة في أن تعيش بنظام وتهيِّئ سائلًا حلوًا معطّرًا يُسمّى «العسل».

ومن الطبيعيّ أنّه من الممكن أن تكون للتفّاح والعسل خصائصُ أخرى ومنافعُ لم يتوصّل البشر إليها تمامًا. لكنّ مثل هذه الفوائد، أيًّا كانت، هي من صفات التفّاح والعسل التي كانت تلك الشجرة أو النحلة تمتاز بها خلال قرون. لكن عندما نلاحظ الإنسان، هذا الموجود العجيب المليء بالأسرار، نجد أنّه على الرغم من صغره النسبيّ في الحجم، وشبهه في كثير من الأمور

 

 

35

 


25

الكمال

 

المادّيّة مع سائر الحيوانات، فإنّه مع ذلك يمتلك خصائص تميّزه عن غيره تمامًا.

إنّه الإنسان الذي ينكشف لنا يومًا بعد يوم جانبٌ من أسرار وجوده، وتُعرَض لنا صفحة جديدة من فنونه الرائعة، إنّه الإنسان الذي لم يتوقّف من بدء خليقته إلى الآن عن التحرّك والتغيّر؛ ليعرضَ كلّ يوم هذه المظاهر المختلفة، من العلوم والصنائع على مسرح العالم الواسع. على أنّ هذا التقدّم العجيب إنّما هو من الثمار المادّيّة لهذه الشجرة المحيّرة. أمّا معرفة الثّمار المعنويّة ميسّرة بمثل هذه السهولة، وقد تكون العجائب الرّوحيّة والمعنويّة أعظم من العجائب المادّيّة.

ونحن نجد سالكي سبيل العالم المعنويّ يبدون بعض الأمور التي لا يفهمها الآخرون، ويقومون بأعمالٍ لا يمكن أن نفسّرها بقوانيننا المادّيّة، كما لا يمكن إنكارها مطلقًا.

مع كلّ هذا، فهل يمكننا أن نقول إنّ معرفة الحدود الوجوديّة للإنسان -بالأسلوب نفسه الذي تُعرف به كمالات النباتات والحيوانات- شيء عمليّ؟

ثالثًا: إنّ ما يقبل التجربة مباشرةً هو الأشياء التي تقبل الإدراك الحسّي. أمّا الكمالات الرّوحيّة والفضائل المعنويّة، فلا يمكن تجربتها مباشرةً ومعرفة موازينها. ولو قلنا إنّ آثار الكثير منها ممّا يقبل التجربة إلى حدٍّ مّا، فإنّ معرفة منابعها النفسيّة التي انطلقت منها هذه الآثار وتقييم كمالها ممّا لا يقبل التجربة.

 

36

 


26

الكمال

بملاحظة ما سبق، لا عجب إذا رأينا الفلاسفة والعلماء يختلفون حول تشخيص الكمال الحقيقيّ للإنسان.

آراء الفلاسفة حول كمال الإنسان

بملاحظة الاختلافات الموجودة بين الفلاسفة والمفكّرين في النظرة الكونيّة، فإنّه من الطبيعي أن توجد مواقف وأنظار مختلفة حول الإنسان. لكن دراسة تلك المواقف والآراء كلّها وعلاقاتها بالمذاهب المختلفة ليست بذات فائدة مهمّة، ولهذا فإنّنا سنكتفي بذكر بعض الآراء الأساسيّة فيها:

1. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في أكبر تمتّع من اللذائذ المادّيّة. وللوصول إلى ذلك، تجب الاستفادة من العلم والتكنيك لاستثمار المنابع والثروات الطبيعيّة لتحقيق حياة أكثر رفاهًا ولذّةً، وهذا الرأي مبنيّ على أصالة المادّة واللذّة وأصالة الفرد.

2. إنّ الكمال الإنسانيّ هو في حصوله الاجتماعيّ على المواهب الطبيعيّة. وللوصول إليه يجب السعي إلى تحقيق رفاه الطبقات الاجتماعيّة كلّها. وفرق هذا عن سابقه يكمن في أنّه يُبنى على أصالة المجتمع.

3. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه المعنويّ والروحيّ الذي يحصل بالارتياض والنضال ضدّ اللذائذ المادّيّة. وهذا الرأي يقف في قبال الرأيين السابقين تمامًا.

 

37

 

 


27

الكمال

4. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه العقليّ الذي يحصل عن طريق العلم والفلسفة.

5. إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه العقليّ والأخلاقيّ الذي يحصل عن طريق تحصيل العلوم وكسب الملكات الفاضلة.

الرأيان الأخيران كالرأي الثالث يتنافيان مع أصالة المادّة، في حين يفترق الثالث بأنّه ينظر إلى البدن كعدوّ، وتجب مكافحته، وبالانتصار عليه يحصل الكمال الإنسانيّ. أمّا في الرأيين الأخيرين، فإنّه ينظر إلى البدن كوسيلة يستفاد منها للوصول إلى الكمال. والفرق بين الرأي الرابع والخامس واضحٌ، وإن كان الرأي الخامس قد يُطرح كتفسير للرابع.

من الواضح أنّ هذه الآراء والآراء الأخرى التي لم نذكرها كلّها مبنيّة على أصول فلسفيّة خاصّة، ينبغي أن تُدرَّس مسبقًا ومتابعتها، يحتاج إلى بحوث فلسفيّة عميقة لا تنسجم مع هذا البحث؛ لأنّنا أشرنا في المقدّمة إلى أنّ أسلوبنا هو الاستفادة من المقدّمات الواضحة الوجدانيّة، وترك الاستدلالات المعقّدة التي تحتاج إلى مقدّمات كثيرة؛ لتكون الفائدة أكبر؛ أي ليستفيد منه الأفراد الذين لا يملكون اطّلاعًا على المسائل الفلسفيّة والاستدلالات النقليّة، ولكي لا نواجه تعصّبات من المخالفين.

ومن هنا، لِكَيْ نعرف الكمال الحقيقيّ للإنسان، نسعى لئلّا نعتمد في أدلّتنا على الأسس الفلسفيّة المعيّنة التي تقبلها بعض المذاهب من دون غيرها، أو الآراء الكلاميّة المعيّنة التي يؤمن بها بعضهم

 

38


28

الكمال

الآخر من دون غيرهم، بل نشرع بالبحث من أوضح المعلومات وأبسطها حول الإنسان. ومن البديهيّ أنّ مثل الشروع لا يعني ألّا نعارض أيّ نظريّة فلسفيّة -خلاف سيرتنا الاستنتاجيّة- وأن تكون نتيجة البحث مقبولة عند المذاهب والآراء كلّها.

إنّ مثل هذا الانتصار ليس إلّا في حكم انتظار توافق النقيضين، وهو مُحال بالضّرورة.

 

39

 

 


29

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

إنّ للإنسان غرائز وأحاسيس وعواطف وميولًا ودوافع وكيفيّاتٍ نفسانيّة ونشاطات وانفعالات نفسيّة كثيرة، وهي كذلك تقع -بنحوٍ ما- موردًا لبحوث الفلاسفة وعلماء النفس والمحلّلين النفسانيّين، ممّا أنتج العديد من النّظريّات والآراء حول معرفة حقيقتها وتصنيفها، وتشخيص الأصيل من غير الأصيل منها، وكيفيّة حصولها ونموّها، والعلاقة بينها وبين أعضاء البدن، خصوصًا شبكة الأعصاب والمخّ والغدد المختلفة؛ لكنّ أسلوب بحثنا في هذه السلسلة لا ينسجم مع عرض تلك الآراء ونقدها.

لذا، فنحن هنا -من دون أيّي محاولة لتأييد أيّ مذهب فلسفيّ أو نفسيّ أو تحليليّ أو ردّه- نحاول التركيز والتأمّل في بعض أهمّ الميول الفطريّة أصالة -في نظرنا- والسعي لدراسة المظاهر المختلفة لها وسيرها التكامليّ، وأنماط النشاطات التي يقوم بها الإنسان لإشباعها في الظروف والمراحل المختلفة من حياته؛ لأنّنا ذلك -قد نستطيع اكتشاف سبيل لمعرفة الكمال الحقيقيّ والهدف النهائيّ للإنسان؛ ذلك أنّ الميول الفطريّة هي من أشدّ القوى الإنسانيّة- التي أودعتها

 

40

 

 


30

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

يد الخلقة في أعماق الإنسان أصالة وعمقًا -لكي ينطلق- بدافع منها في تحرّكه ونهضته وسعيه، مستعينًا بالقوى الطبيعيّة والاكتسابيّة والإمكانات الخارجيّة، وطاويًا طريق كماله وسعادته.

وعليه، فإنّ الوجهة أو الاتّجاهات التي تعيّنها هذه الميول يمكنها أن تهدينا -كالمؤشّر المغناطيسيّ تمامًا- إلى الهدف والمسير النهائيّ المطلوب.

لهذا، ينبغي أن نركّز على هذه الميول -بكل دقّة وصبر وتحمّل- فنتأمّلها تمامًا متجنّبين أيّ حكم مسبق ورأي مرتجل سريع لكي نصل بالتالي إلى نتيجةٍ صحيحةٍ قطعيّة، من خلال تأمّلاتنا الدقيقة، فنحصل من ثمَّ على مفتاح السعادة المنشودة.

الإدراك ومراتبه

للإنسان ميلٌ فطريّ للمعرفة والاطّلاع والإحاطة بحقائق الوجود. يبدو هذا الميل منذ أوان الصّبا، ولا يفارق الإنسان حتّى نهاية حياته.

إنّ تساؤلات الأطفال المتتابِعة تدلّ على وجود هذا الميل الفطريّ. وكلّما ارتفعت استعدادات الطفل وقدراته كلّما اتّسعت تساؤلاته وتعمّقت، وكلما أُضيفت إلى حصيلته الذهنيّة معلومات أكثر كلّما طُرحت أمامه مجهولات أكثر ومسائل أخرى.

فالاتّجاه العامّ للقُوى الإدراكيّة التي تشكّل وسائلَ لإشباع هذا الميل الفطري يسير نحو الإحاطة العلميّة الكاملة بعالم الوجود؛ إذ لا يخرج أيّ موجود عن الدائرة الواسعة التي يسعى إليها هذا الميل.

 

41


31

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

فلندرس إذًا السير العلمي للإنسان من نقطة شروعه، ونتابعه خطوة خطوة لنجد إلى أين ينتهي به المطاف.

تبدأ معرفة الإنسان عن العالم من حواسّه الظاهريّة وارتباط أجهزة البدن بالأشياء التي تقع قباله، ويقوم كلٌّ من هذه الأجهزة الحسّيّة من خلال التفاعل الخاصّ مع الأشياء بإيصال بعض الآثار من قبيل النور، والصوت والحرارة والرائحة والطعم، إلى الأعصاب، ومن ثَمّ إلى المخّ، وبهذا يُدرك الكيفيّات والحالات المتعلّقة بظواهر الأشياء المادّيّة الموجودة في مجال معيّن أمامه.

لكنّ الإدراك الحسّيّ ناقصٌ وغير كاف لإشباع الميل الفطريّ الغريزيّ للاطّلاع ومعرفة الحقيقة لدى الإنسان؛ لأنّه أوّلًا يتعلّق بكيفيّات معيّنة، من ظواهر الأشياء المحسوسة وأعراضها، من دون أن يستطيع شمول كلّ الكيفيّات، فضلًا عن شمول ذوات الأشياء وجواهرها، أو شمول الأشياء اللامحسوسة. ثانيًا، إنّ مجال عمل هذا الإدراك الحسّيّ محدودٌ بظروف خاصّة؛ فالعين لا تستطيع أن تُبصر إلّا الأنوار التي تتراوح أطوال أمواجها بين ما لا يقلّ عن 4 % ميكرون، ولا يزيد على 8 % ميكرون، فلا يمكننا لذلك أن نبصر النور فوق البنفسجي، أو ما دون الأحمر، وكذلك فإنّ الأُذُن يمكنها أن تسمع الأصوات التي تتراوح ذبذباتها بين 30 إلى 16000 ذبذبة في الثانية لا غير. وكذلك سائر الإدراكات الحسّيّة، فإنّ لها شرائط معيّنة. ثالثًا، إنّ بقاءها قصيرٌ جدًّا من الناحية الزمانيّة، فالعين والأذن مثلًا يمكنهما أن يحتفظا بأثر النور والصوت خلال عُشر ثانية واحدة لا

 

42

 

 


32

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

أكثر، ومجرد انقطاع ارتباط الجهاز الحسّيّ مع الخارج ينسدّ باب المعرفة والإدراك.

هذا، وإنّ للأخطاء الحسّيّة حديثها الذي يكشف عن عدم كفاية الإدراكات الحسّيّة بشكلٍ أوضح؛ لكنّ سبيل المعرفة والإدراك لا ينحصر بالأجهزة الحسّيّة، فتوجد في الإنسان مثلًا قوة أُخرى تستطيع بعد انقطاع ارتباط البدن بالعالم المادّيّ أن تحتفظ بالآثار التي استلمتها منه بأسلوب خاصّ، وتعكسها في مواقع الحاجة على صفحة الذهن المدرك. كما أنّ للذهن قوة أُخرى تدرك المفاهيم الكلّيّة، وتهيّئ الذهن لحصول التصديقات والقضايا، وتيسير التفكير والاستنتاجات الذهنيّة، الأعمّ من التجريبيّة وغير التجريبيّة.

يستطيع الإنسان بوسيلة هذه القوى الداخليّة أن يوسّع من دائرة إدراكاته ويستنتج بعض النتائج من تجريبيّاته وإدراكاته الفطريّة والبديهيّة، وأنّ تقدّم الفلسفة والعلوم والصناعات رهين هذه القوى الباطنيّة العقليّة، مع ملاحظة التفاوت بين الفلسفة والعلوم الأُخرى، فإنه في العلوم ينصبّ البحث عن خواصّ الموجودات وآثارها للاستفادة منها في تحسين المعيشة، في حين ينصبّ الهدف الأصليّ في الفلسفة على معرفة ماهيّات الأشياء والروابط العلّيّة والمعلوليّة لها.

من الواضح أنّ المعرفة الكاملة لموجود ما لا تحصل من دون معرفة علله الوجوديّة، أو كما عبّر الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه «برهان الشفاء»، وشرحه شرحًا وافيًا؛ إذ قال: «ذوات الأسباب لا تعُرف إلّا بأسبابها».

 

43

 

 


33

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

ولأنّ هذه المسيرة في إطار البحث عن العلل تنتهي إلى ذات البارئ -تعالى-، فإنّه يمكننا أن نستنتج أنّ السير العقليّ للإنسان ينتهي إلى معرفة الله -تعالى-.

وقد تصوّر الكثير من الفلاسفة أنّ التكامل العلميّ للإنسان ينتهي إلى هذا الحدّ. ومن هنا تصوّروا أنّ الكمال الإنسانيّ، أو بتعبير أدقّ، الكمال العلميّ للإنسان ينحصر في المعرفة الذهنيّة الكاملة لعالم الوجود؛ لكنّ التأمّل الأعمق في متطلّبات الفطرة يوضّح أنّ غريزة طلب الحقيقة في الإنسان لا تقنع تمامًا بهذا الحدّ من الإدراك، بل تتطلّب المعرفة العينيّة والإدراك الحضوريّ والشهوديّ لحقائق الوجود، ومثل هذا الإدراك لا يحصل بواسطة المفاهيم الذهنيّة والبحوث الفلسفيّة.

إنّ التصوّرات والمفاهيم الذهنيّة مهما اتّسعت وتوضّحت لا تستطيع أن تُريَنا الحقائق العينيّة، ويبقى الفرق بينها وبين الحقائق الخارجيّة نفسها كالفرق بين مفهوم الجوع والحقيقة الوجدانيّة له.

إنّ المفهوم الذي نملكه عن الجوع هو تلك الحالة التي نحسّ بها عند احتياج البدن للغذاء. أما إذا لم يحسّ الإنسان بمثل هذه الحالة، فإنّه لا يستطيع الإحساس بها عن طريق هذا المفهوم. كذلك الفلسفة، فإنّها تستطيع أن تعطيَنا مفاهيم حقائق الوجود من الله إلى المادّة؛ لكنّ معرفة الحقائق العينيّة وشهودها تختلف كثيرًا عن هذه المفاهيم، وإنّ الأمر الذي يُروِّي لهفة الغريزة لطلب الحقيقة بشكل كامل هو العلم الحضوريّ والإدراك الشهوديّ

 

44

 

 


34

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

للحقائق العينيّة اللازم لإدراك مقوّماتها وارتباطاتها الوجوديّة، ومتى ما شوهدت الموجودات الإمكانيّة كلّها بشكل تعلّقات وارتباطات بالله القيّوم المتعال، فإنّ كلّ المعلومات العينيّة في الحقيقة ترجع إلى العلم بحقيقة مستقلّة أصيلة، ويكون الكلّ ظلالًا أو مظاهر لها.

القدرة ومظاهرها

من الميول الفطريّة للإنسان الميل للقدرة والتسلّط على الموجودات الأُخرى، ويبرز هذا الميل أيضًا من أوان الطفولة، ويسير مع الإنسان حتى نهاية حياته، طبعًا مع ملاحظة الفروق التي ينتجها اختلاف السنين وفصول الحياة والظروف الخارجيّة في متعلّقات القدرة هذه؛ تحريكات الرضيع السليم الرتيبة ليديه ورجليه والتحرّك الذي لا يقبل التعب والكلل للطفل كلّها علامة على هذه الحاجة الفطريّة، ثم تتّسع دائرة ما يتطلّبه من سيطرة، وتمتدّ إلى ما لا نهاية له.

يحصل العمل والاستفادة من الطاقة وبسط القدرة في بادئ الأمر بوسيلة الأعصاب الحركيّة وعضلات البدن والاستناد إلى القوى الطبيعيّة لا غير، وهذه الحركات المتتابعة للطفل نفسها بمقتضى الغريزة تساعده على تقوية نفسه، وشيئًا فشيئًا تَقوى عضلاته وتستعدّ للقيام بأعمالٍ أكبر وأثقل إلى أن يصل إلى أوج قدرته البدنيّة وشبابه، ثم تبدأ مرحلة الركود والتوقّف في هذا المجال،

 

45


35

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

ثم مرحلة الضعف والشيخوخة؛ فتبدأ قواه البدنيّة بالتحلّل، إلّا أنّ الميل الشديد للتسلّط في أعماق الإنسان لا يخبو مطلقًا.

الإنسان في سبيله للاقتدار والتسلّط لا يكتفي بالقوى الطبيعيّة، بل يسعى بمعونة العلوم والصناعات إلى اختراع وسائل أفضل للتسلّط وتسخير الكائنات لصالحه، وواضحٌ جدًّا الدور الذي لعبته الاكتشافات والاختراعات العلميّة خصوصًا في العصور الأخيرة، وما ستلعبه في مجال إشباع هذه الميول الفطريّة.

إنّ الإنسان لم يمتنع حتى عن استخدام طاقات أبناء نوعه الإنساني في سبيل تحقيق تسلّطه؛ إذ عمل بمقتضى قدراته وإمكاناته على استخدام الآخرين واستثمارهم بشتّى السبل والوسائل.

على أنّ هذا السعي المحموم للحصول على المواقع والمقامات الاجتماعيّة والاعتباريّة، على صعيد الشعب الواحد، وعمل شعب ما على استعمار الآخرين واستعبادهم، وجعلهم تحت نفوذه، إنمّا يعبّر عن تطبيق هذا الميل؛ إذ إنّ تطبيقه قد يتّخذ شكلًا صحيحًا ومعقولًا، وقد يتّخذ شكل التجاوز على حقوق الآخرين بأشكاله المختلفة؛ كالاستعمار والاستثمار الظالم.

ثم إنّ هذا السعي المتزايد لتحقيق القدرة الأكبر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل يحاول شمول القوى اللامحسوسة والميتافيزيقيّة؛ الأمر الذي توضّحه هذه الفروع العديدة للعلوم الغريبة، وتسخير الجنّ والأرواح وأنواع الرياضات النفسيّة، ممّا يكشف عن السعي العجيب لتوسعة القدرة وبسط نفوذها على الحقول المختلفة.

 

46

 


36

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

لكن، وعلى فرض حصول القدرة لتسخير القوى المحسوسة وغير المحسوسة كلّها، هل يصل الإنسان إلى حدّ كماله وتشبع في أعماقه حاجته وجوعته إلى القدرة بشكل كامل؟

إذا كانت هذه القوى -مهما كانت متنوّعةً وعظيمةً- محكومة لقوى أعلى وسلطةٍ أوسع، فهل يمكننا أن نتصوّر أنّ الميل الإنسانيّ اللانهائيّ قد أشبع تمامًا؟

من الواضح أنّ هذا العطش الفطري لن يُروى تمامًا إلّا إذا اتّصل الإنسان بمنبع قدرة لانهائيّة، وإلّا فإنّ سعي الإنسان الطموح سيبقى مستمرًّا بلا نهاية.

الحبّ والعبادة

يوجد في الإنسان ميل فطريٌّ آخر ليس هو من سنخ المعرفة والقدرة، بل هو ميلٌ للتجاذب والاتّصال الوجوديّ والإدراكيّ. ولَمّا لم يكن هذا الميل معروفًا لدى علماء النفس والمحلّلين النفسانيّين، فإنّهم لم يبحثوا حوله بالمقدار الكافي، ولذا فإنّ توضيحه ليس بالأمر السهل.

إنّ أيًّا منّا يجد في نفسه ميلًا وتعلّقًا بشيء ما يجذبه إليه، كما يجذب المغناطيس الأشياء الصلبة إليه؛ ولهذا الجذب مراتب وآثار مختلفة، وقد يصل اختلاف المراتب إلى حدٍّ يوجب التشكيك في وجود جامع بين هذه المراتب وهل أنّها من ماهيّة واحدة أم لا؟

إنّ أوضح تجلٍّ للمحبّة الفطريّة يكمن في الأمّ؛ إذ تغرق في عالم

 

47

 

 


37

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

اللذّة عندما ترى طفلها وتتلقّفه بالأحضان وتلاعبه وتراقبه. إنّ حبّ الأمّ هو من أروع تجلّيات المحبّة الفطريّة التي ألهمت مظاهرها -على مدى التاريخ- الكُتّاب والشعراء، فأنتجوا في ذلك أروع النتاج، وهكذا محبّة الأب لولده.

وعلى غرار هذا الحبّ، توجد روابط الحبّ أيضًا بين الابن تجاه أبويه، وبين الإخوة والأخوات وسائر أفراد العائلة التي تترابط في ما بينها بوشائج طبيعيّة. وكمظهر آخر للحبّ والميل الفطريّ ما نجده بين أبناء النوع الواحد؛ كالترابط الإنسانيّ العام الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعضهم الآخر؛ فتشتدّ هذه الرابطة كلّما أُضيفت إليه عناصر أخرى كرابطة المدينة الواحدة، أو الجوار، أو وحدة السنّ، أو الزّواج، أو اتّحاد المعتقد والمسلك وغير ذلك.

كما أنّ هناك تجلّيًا آخر لهذه المحبّة يبدو في ميل الإنسان لبعض الأشياء التي يستفيد منها في حياته المادّيّة، والتي لها دخلٌ في تأمين حاجاته فيها، وتلك من مثل: المال والثروة واللباس والمسكن.

من تجلّياته شوق الإنسان وميله بالنسبة إلى الكمال والجمال والأشياء الجميلة، خصوصًا الأناسيّ ذوي الحظّ من الجمال، فالإنسان يميل إلى الأشياء التي تروي ظمأه للجمال وتألفها روحه ونفسه.

على هذا النسق، نلاحظ الميل الإنسانيّ لأنماط الجمال المعنويّ، مثل: جمال المفاهيم والتشبيهات، والاستعارات، والكنايات، وجمال الألفاظ والعبارات النثريّة والشعريّة التي يعشقها أرباب الذوق المُرهف.

 

48


38

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

كذلك من مثل الكمال والجمال الروحيّ والأخلاقيّ الذي يهيم فيه علماء النفس وعلماء الأخلاق، ويؤكدون على مجالاته، وهكذا الجمال العقلانيّ مثل روعة التنظيم في هذا الوجود الذي يسحر ألباب الحكماء والفلاسفة، أو الجمال الوجوديّ الذي يدرك عبر الشهود العرفانيّ؛ فيصل الأمر إلى درجة لا يعني الوجود فيها سوى الجمال. ﴿ٱلَّذِيٓ أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُۥ﴾[1].

كلّما قويت حصّة الموجود من الوجود وتأصّل الوجود فيه كلّما كانت مشاهدته وجماله أشدّ إعجابًا وأروع تأثيرًا.

وبعبارة أُخرى، فإنّ أيّ موجود يعبّر -مقدار سعته الوجوديّة وقابليّته- عن إشراق للنور الإلهيّ، وكلّما تكاملت حصته الوجوديّة كلّما أمكنه أن يعرض إشراقًا أشدّ وروعة أعظم.

بشكل عام، يمكننا أن نتصوّر الحبّ، من حيث الشدّة والضعف مراتب ثلاث هي:

الأولى: المرتبة الضعيفة التي تقتضي القرب إلى المحبوب في الظروف العاديّة، من دون أن يصحب ذلك أيّ نوع من أنواع التضحية والإيثار.

الثانية: المرتبة الوسطى التي تتضمّن -بالإضافة إلى إرادة القرب من المحبوب- نوعًا من التضحية في سبيله، ولكن إلى المستوى الذي لا يتنافى مع المصالح الكليّة الأساسيّة للشخص.

 


[1] سورة السجدة الآية 7.

 

49


39

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

الثالثة: مرتبة الإعجاب العميق التي لا تمنع الإنسان من تقديم أيّ نوع من أنواع التضحية في سبيل المحبوب، فلا لذّة له إلّا في اتّباعه وتحقيق رغباته في الحالات المختلفة، بل يعتبر كمال التذاذه في تعلّقه وارتباطه الوجوديّ، وكذلك في الفناء ونسيان النفس أمامه، ولذا فهو يعيش غاية اللذّة عندما يخضع لمعبوده ويقدّم له فروض الولاء، فتلك هي آية هذه المرتبة من المحبّة التي تؤدّي بالإنسان؛ لأن يقدّم إرادة المحبوب على أيّ شيء سواها بلا أيّ تحفّظ.

من الواضح أنّ المحبّة والشوق بالنسبة إلى شيء كلّما تأجّجت واشتدت، كلّما كانت اللذّة الحاصلة من تحقيق ذلك الشيء والوصول إليه أكبر وأشدّ. ومن جهة أخرى، نجد أنّ كمال اللذّة يرتبط بمستوى المطلوبيّة والقيمة الوجوديّة للمحبوب... إذًا، فلو أنّ شخصًا امتلك أشدّ أنواع الحبّ بالنسبة إلى أعظم الموجودات وأكبرها قيمة، وأدرك هذه القيمة الوجوديّة بدقّة، فإنّه بالوصول إلى محبوبه هذا يكون قد حاز أروع اللذّات. فإذا افترضنا أنّ هذا الوصول غير محدود بالظروف المكانيّة والزمانيّة، بل كان وصولًا دائمًا، وفي أيّ مكان فإنّ هذه الحاجة الفطريّة سوف تكون قد أشبعت بشكل تامّ، ولم يبقَ في إشباعها أيّ قصور.

على هذا، فإنّ هذا الميل الفطريّ اللانهائيّ يتّجه نحو حبّ متأجّج لمحبوب كامل جميل، كمالًا وجمالًا مطلقًا له أشدّ الروابط الوجوديّة بالإنسان؛ حيث يمكن للإنسان أن يرى وجوده هو قائمًا

 

50

 


40

الميول الفطريّة واتّجاهاتها

به وفانيًا فيه، ومتعلّقًا تمام التعلّق به، وبالتالي فهو يحقّق الوصول الحقيقيّ إلى محبوبه، فلا يستطيع أيّ شيء أن يفصل بين هذين الحبيبين.

أمّا محبّة أيّ موجود آخر لا يملك هذه الأمور، فإنّها لا يمكن أن تشبع هذا الميل الفطريّ إشباعًا نهائيًّا، وإنّما يقترن بها الهجران والهزيمة والفراق والعذاب.

 

51


41

اللذّة والكمال

اللذّة والكمال

يدرك كلّ إنسان -بأدنى تأمّل في وجوده وبكلّ وضوح- أنّه بفطرته يبتغي اللذّة والراحة والسعادة، ويهرب من الألم والعذاب والشقاء. وهكذا ينصبّ سعي الإنسان الذي لا يكلّ في حياته للحصول على لذائذ أكثر وأقوى وأكثر دوامًا، والفرار من الآلام وأنواع العذاب والأمراض، أو التقليل منها على الأقلّ. وعند التزاحم، فإنّ الإنسان يقارن بين الأمرين، فيتقبّل الألم القليل في سبيل الخلاص من العذاب والألم الشديد، ويضحّي باللذّة المحدودة في سبيل الأشدّ والأكثر دوامًا.

كما أنّ مقتضى العقل والفطرة الإنسانيّة أن يتحمّل الإنسان عذابًا قليلًا للوصول إلى لذّة كبرى ودائمة، وأن يَغضّ النظر عن لذّة قليلة للخلاص من العذاب الكثير. وإنّك لتجد التصرّفات العقلائيّة كلّها قائمة على أساس من هذا المعنى. أمّا ما يحدث من اختلاف في التصرّف بين الأفراد في ترجيح بعض اللذّات والآلام، فهو نابع من اختلافهم في التشخيص، أو خطئهم في الحساب، ومن عوامل أخرى سنتحدّث عنها في ما بعد.

 

52

 

 


42

اللذّة والكمال

فاللذّة إذًا -من جهة- دافعٌ للنشاط والسعي الحياتيّ، ومن جهة أُخرى هي نتيجة وثمرة لهذا النشاط، ومن جهة ثالثة يمكن أن نجعلها كمالًا للموجودات ذات الشعور والإدراك باعتبارها صفة وجوديّة يمتلك الأفراد استعداد الحصول عليها.

وإنّ العمل الذي يؤدّي إلى حصول لذّة والخلاص من ألم ما، يقع موقع الإرادة الإنسانيّة، فهو -أيّ الإنسان- يحبّ كل ما يلتذّ به، وهكذا يأتي تعبير الحبّ بالنسبة إلى العمل والصفات المرغوبة. ومن هنا تتوضّح العلاقة بين اللذّة والإرادة والحبّ.

ينبغي أن نلتفت إلى أنّه قد يركّز الإنسان على لذّة معيّنة، يحتاج الوصول إليها إلى مقدّمات كثيرة. ومن هنا، فهو يصمّم على القيام بأعمالٍ يمكن أن يكون كلٌّ منها بدوره مقدّمة للآخر، ولكنّ الواقع هو أنّ الإرادات المتعلّقة بهذه الأعمال أشعّة من تلك الإرادة الأصليّة التي تعلّقت بالعمل الأصليّ الذي ركّز عليه الإنسان من أوّل الأمر.

وهكذا، فالحبّ الأصيل يتعلّق بموجود يسعى إليه ويرغب فيه بالأصالة. وفي ظلّ ذلك، تحصل له رغبات جزئيّة وفرعيّة إلى مقدّماته ومتعلّقاته؛ فيحقّق الوصول إلى أيّ منها لذّة فرعيّة ونسبيّة بمقدار ارتباطه بذلك المطلوب الأصيل.

وقد رأينا في ما سبق أنّ الكمال الحقيقيّ للإنسان هو آخر المراتب الوجوديّة وأعلى الكمالات التي يمتلك القدرة على الوصول إليها. أمّا الكمالات الأُخرى، فهي تمتلك صفة مقدّميّة وهي كمالات آليّة

 

53

 

 


43

اللذّة والكمال

نسبيّة. ترتبط مقدّميّتها بمقدار تأثير أيٍّ منها في إيصال الإنسان إلى كماله الحقيقيّ، وإن كان الكمال الحقيقيّ نفسه له مراتب مختلفة.

على هذا، فإنّ المطلوب الأصيل للإنسان هو الكمال الحقيقيّ. أمّا مطلوبيّة الأشياء الأُخرى، فهي فرعيّة تتبع مقدار أثرها في حصول الكمال الحقيقيّ. وكذلك فإنّ اللذّة التي يطلبها الإنسان بالأصالة هي اللذّة التي يملكها الكمال الحقيقيّ، في حين تمتلك سائر المقدّمات لذّات فرعيّة نسبيّة، ذلك أنّنا قلنا آنفًا أنّ اللذّة الأصيلة هي تلك التي تحصل من الوصول للمطلوب الأصيل.

وعليه، فمعرفة الكمال الحقيقيّ تستلزم معرفة اللذيذ الأصيل، وكذلك العكس حيث تتطلّب معرفة اللذيذ الأصيل معرفة الكمال الحقيقيّ. ولأنّ اللذيذ الأصيل يملك أسمى لذّة ممكنة للإنسان، فإنّ معرفة اللذيذ الأصيل تُلازم معرفة الشيء الذي يمكنه أن يقدّم للإنسان أكثر اللذّات وأسماها وأكثرها دوامًا. ومن هنا فلو عرفنا أكثر الموجودات منحًا للذّة، عرفنا اللذيذ بالأصالة والكمال الحقيقيّ للإنسان.

فينبغي إذًا التأمّل في حقيقة اللذّة، وسبب اختلاف مراتبها، لكي نعرف أسمى اللذّات الإنسانيّة وأشدّها دوامًا.

ما هي اللذّة؟ وما هي أسمى اللذّات الإنسانيّة؟

إنّ ما نراه في وجودنا ونعبّر عنه باللذّة هو حالة إدراكيّة تحصل لدينا عند حصولنا على شيء نهواه ونرغب فيه، وذلك حين

 

54


44

اللذّة والكمال

نعلم أنّه هو المطلوب كما نعلم ونلتفت إلى حصوله. إذًا، فإنّنا لم نكن نعلم بأنّ ما حصلنا عليه هو المطلوب، فإنّ هذا الحصول لن يترك لذّة في وجودنا، وكذلك إذا لم نكن نعلم بحصوله لدينا، فإنّنا لن نلتذّ بشيء.

وعليه، فحصول اللذّة يتوقف -بالإضافة لوجود الشيء المطلوب والشخص الملتذّ- على امتلاك قوة إدراكيّة خاصّة يمكن أن يدرك به حصول الشيء المطلوب، وكذلك يتوقّف على معرفة المطلوب والالتفات لحصوله. أمّا المراتب المختلفة للذّة، فهي ترتبط إمّا بالقوّة المدركة، أو بنوع المطلوبيّة، أو بالتفات الإنسان إليها.

فمن الممكن أن يكون التذاذ شخص من أكلة معيّنة أكثر منه لدى شخص آخر؛ وذلك لأنّ الحاسّة الذائقة لديه أقوى وأكثر سلامة. كما يمكن أن يلتذّ إنسان بطعام ٍأكثر من غيره؛ لأنه كان مرغوبًا لديه أكثر. وقد يكون التذاذ شخص ما بطعام معيّن حال التفاته الكامل أكثر منه حال فقدان هذا الالتفات وتوجّهه للأشياء الأخرى. وقد يختلف التذاذ تلميذين بمعرفة معيّنة مختلفة، نتيجة اختلاف تصوّرهما عن هذه المعرفة المعيّنة وضرورتها ومدى تأثيرها في كمال الإنسان وصلاحه.

كما أنّه من الواضح أنّ دوام اللذّة مرتبطٌ بدوام ظروف تحقّقها، فإذا فنيت ذات الشيء المطلوب، أو تغيّر حالة المطلوبيّة أو تغيّر تصوّر الشخص، أو اختلفت حالة التوجّه إليها، فإنّ اللذّة المفروضة سوف تتغيّر بلا ريب.

 

 

55

 


45

اللذّة والكمال

وهذا التعدّد الذي نلاحظه بين الذات الملتذّة والشيء اللذيذ وشرائط حصول اللذّة نجده في عموم اللذّات المتعارفة؛ لكنّنا قد لا نجد هذا التعدّد في حقيقة اللذّة في موارد أخرى؛ فنستعين بنوع من التحليل المفهومي حتّى يمكننا استعمال كلمة «اللذّة» فيها، وهذا ما نجده في موردي «العلم» و«الحبّ».

فمثلًا، يلزم لكي يحصل العلم أن تكون هناك ذاتٌ عالمةٌ وشيء معلوم وصفة للعالم تُدعى «العلم»؛ لكنّ المعنى التحليليّ لذلك هو الذي يمكن أن يصدق في مورد «العلم الحضوريّ» للنفس بوجودها، أو علم الله - تعالى - بذاته، على الرغم من أنّه لا يوجد أيّ تعدد في البين بين العلم والعالم والمعلوم.

وكذلك المفهوم المتعارف للحبّ، فإنّه يستلزم فرض ذات محبّة وشيء محبوب وحالة حبّ؛ لكنّه في مورد حبّ الذات لا يوجد مثل هذا التعدّد الخارجيّ.

على هذا، يمكننا أن نجد مصاديق للذّة لا تحتاج إلى التعدّد المذكور، فمثلًا يمكننا أن نقول في المجال الإلهيّ إنّ الذات المقدّسة ملتذّة من ذاتها بذاتها وإن رجح بعض العلماء أن نعبّر في هذا المورد بالبهجة بدلًا من اللذّة. وكذلك الأمر في المجال الإنسانيّ، فإنه يمكن القول بأنّ الإنسان يلتذّ بوجوده، بل إنّ ذاته هي أحبّ الأشياء إليه، فإنّ اللذّة التي تحصل لديه من مشاهدة ذاته مع الالتفات لمطلوبيّتها هي أكبر من أيّ لذّة أُخرى، بل إنّ كلّ 

 

56


46

اللذّة والكمال

اللذّات الأخرى هي ظلالٌ من اللذّة التي تحصل لديه بوجوده؛ لأنّها تحصل على أساس الوصول إلى شأن من شؤونه، وكمال من كمالاته.

أمّا ما نراه من عدم الالتذاذ في الحالات المتعارفة، فهو على أساس عدم الالتفات. ومتى ما توجّه إلى ذاته بشكل كامل، وانصرف عن الأشياء الأُخرى على أثر العوامل الخارجيّة كالأخطار الكبرى، أو على أثر الرياضة النفسيّة وتمركز الإدراك، فإنّه ستحصل لديه لذّة غير عاديّة بلا ريب. فلو أنّه صدر حكمٌ بإعدام شخص، وبشكل قاطع لا يقبل النقض، ثمّ التفت إلى انتفاء الحكم، فإنه ستحصل لديه لذّة لا تقبل المقارنة إلى أيّ لذّة أخرى.

ومن الطبيعيّ أنّ اللذّة في هذا المثال، وإن كانت ترتبط بعودة الحياة الدنيويّة بعد اليأس منها، ولكنّها من زاوية توضيحها لشوق الإنسان إلى الحياة والالتذاذ بوجوده مفيدة لبحثنا هنا.

والحاصل، أنّ اللذّة التي تحصل لدى الإنسان إمّا أن تكون نابعة من وجوده، أو من كماله، أو من الموجودات التي يحتاج إليها ويرتبط بها بنحوٍ من أنحاء الارتباط الوجوديّ. فإذا استطاع أن ينظر إلى وجوده على أساس أنّه وجود تعلّقيّ يرتبط بموجود تنتهي إليه كل الارتباطات والتعلّقات؛ إذ يكون الارتباط به مغنيًا للإنسان عن أيّ شيء، فإنّه حينئذٍ سيحصل على أسمى اللذّات. وإذا نظر إلى وجوده على أنّه التعلّق نفسه به ولم يرَ له أيّ استقلاليّة عنه، فسوف تحصل لديه اللذّة الاستقلاليّة من ذلك الموجود. على هذا، فإنّ المطلوب

 

57


47

اللذّة والكمال

الحقيقيّ للإنسان، والّذي يلتذّ منه أسمى اللذّات، هو موجود يقوم به وجود الإنسان؛ فيكون وجود الإنسان عين الربط والتعلّق به، وإنّ اللذّة الأصيلة تحصل له من مشاهدة ارتباطه به، أو مشاهدة نفسه حال كونها متعلّقة وقائمة به، أو هي في الحقيقة تحصل من مشاهدة إشعاع من جماله وجلاله -تعالى-.

ذروة الميول وغاية الآمال

النتيجة التي تحصل عبر التأمّلات الماضية هي أنّ مدى الميول الفطريّة الإنسانيّة يمتدّ إلى اللّانهاية، فلا يعرف أيٌّ منها حدًّا، ولا يقتضي أيّ محدوديّة أو توقّف في مرتبة معيّنة، بل إنّها جميعًا تسوق الإنسان نحو اللّانهاية. هذا من خواصّ الإنسان الذي يملك ميولًا ورغبات غير محدودة، ولا يقتنع بسعادة مؤقّتة محدودة. والواقع أنّ هذه الخاصيّة اللانهائيّة في الميول الإنسانيّة أمرٌ يقبله حتى الفلاسفة غير الإلهيين، بل تُعدّ من أهمّ المميّزات الأساسيّة للإنسان عن الحيوان.

يقول راسل: «إن أهمّ أنماط التفاوت الرئيسيّة بين الإنسان والحيوان هي أنّ الميول البشريّة -خلافًا للرغبات الحيوانيّة- غير محدودة، ولا يتيسّر إرضاؤها بشكل كامل»[1].

على الرغم من أنّ هذه الميول تتعلّق بأمور مختلفة، لكنّها في النهاية ترتبط وتلتحم في ما بينها، ويتلخّص الإشباع النهائيّ في

 


[1] القدرة، ص19.

 

58


48

اللذّة والكمال

شيء واحد هو عبارة عن الارتباط بالمنبع المطلق للعلم والقدرة والجمال والكمال. وهذه هي خاصيّة مراتب الوجود، فإنّه مهما اشتدّ وقَوي وتكامل اتّجه نحو الوحدة والبساطة، وذلك كالقوى الإنسانيّة المتفرّقة في مقام تعلّقها بالبدن والمتّحدة في حقّ النفس؛ إذ تكون النفس في حال وحدتها وبساطتها واحدة لكمالات القوى الإنسانيّة كلّها.

ومن هنا يعبّر الفلاسفة عن ذلك بقولهم: «والنّفس في وحدتها كلّ القوى».

وهكذا، فإنّ ما يطلبه أيٌّ من الميول الفطريّة -الذي يمتدّ مداه من جهة باتّجاه اللانهاية؛ حيث يتّحد هناك مع سائر المطلوبات- هو في الحقيقة شيء واحدٌ يُنظر إليه من زوايا نظر مختلفة، ويبحث عنه من جهات شتّى، وهو عبارة عن الارتباط بالموجود المطلق اللانهائيّ الكامل؛ أيّ القرب من الله -تعالى-.

وفي مثل هذا المقام، يجد الإنسان ارتباطه الكامل بالخالق، ويجد نفسه متعلّقًا ومرتبطًا به، بل يجدها عين التعلّق والربط، ولا يجد أيّ نوع من الاستقلال والاستغناء. وفي هذه المرتبة بالذات، يجد الأشياء كلّها قائمة بالذات الإلهيّة المقدّسة، ويحصل له علم حضوريّ بحقائق الوجود، وينعم وفق استعداده الوجوديّ من أنوار الجمال والجلال الإلهيّ، ويشبع ميله الفطري بمعرفة حقائق الوجود.

 

59

 


49

اللذّة والكمال

كذلك، فإنّه في هذه المرتبة التي ينفذ من خلالها إلى منبع القدرة اللانهائيّة، وتبعًا لارتباطه به، يمكنه القيام بأيّ عمل يقع في دائرة إرادته، فيمكنه حينئذ إشباع ميله الفطري للقدرة.

كذلك يستطيع في هذه المرتبة أن يحصل على أسمى درجات الحبّ لأسمى المحبوبين، وينال نهاية القرب والوصول والارتباط الحقيقيّ به. بتعبير آخر، إنّه يشاهد قربه وارتباطه بأروع وضوح، وهو كذلك ينال أفضل اللذّات وأدومها.

﴿فِي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقتَدِرِ﴾[1].

طبقًا لهذا، فإنّ الميول الفطريّة الإنسانيّة التي تنبع من الخاصيّة الإنسانيّة، وهي مقتضى الفعليّة الأخيرة والصورة النوعيّة له؛ هذه الميول كلّها تسوقه نحو اللانهاية، ولا تُشبَع بالكامل إلّا بالوصول إلى مقام القرب الإلهيّ والارتباط بالعالم الأبديّ.

فالكمال الحقيقيّ للإنسان هو مقام القرب للباري -جلَّ وعلا- نفسه. أمّا سائر الكمالات البدنيّة والروحيّة، فكلّها مقدّمات ووسائل للوصول لمثل هذا المقام؛ إذ يستفاد منها بمقدار تأثيرها في الوصول إلى الكمال الحقيقيّ -طبقًا للمقياس الذي تحدّثنا عنه آنفًا- وليس أيٌّ منها حتى أسماها وألطفها يُعدّ من الكمالات الإنسانيّة الأصيلة، وإن كانت ممّا يميّز الإنسان، فلا نجدها عند الحيوان.

 


[1] سورة القمر، الآية 55.

 

60


50

اللذّة والكمال

بعبارة أُخرى، إنّ الإنسان إنّما يصبح -حقيقة وبالفعل- إنسانًا إذا استطاع أن يَعبُر المرتبة الحيوانيّة ليخطوَ في سبيل القرب الإلهي. أمّا قبل أن يخطوَ في هذا الطريق، فهو إمّا إنسان بالقوة إن كانت استعدادات الوصول إلى هذا المقام فيه محفوظة، أو هو ساقط بشكل كامل ومعدود من الحيوانات، أو أضلّ منها إن كانت هذه الاستعدادات قد انتفت من وجوده بسوء اختياره.

ومن هنا، نجد القرآن الكريم يعدّ الكافرين الذين فقدوا قابليّة الإيمان والعبوديّة شرّ الدّوابّ وأضلّ من الأنعام: ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُم لَا يُؤمِنُونَ﴾[1]، ويقول في آية أُخرى: ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلبُكمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعقِلُونَ﴾[2]، ويقول في سورة الأعراف: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلأَنعَٰمِ بَل هُم أَضَلُّ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلغَٰفِلُونَ﴾[3].

هل يمكن إشباع الميول الفطريّة بشكل كامل؟

هنا يمكن أن تثور شبهة في الذهن حاصلها: أنّه وإن كانت الميول الفطريّة تتّجه نحو اللانهاية، ولكن أنّى لنا أن نعرف أنّ الإشباع الكامل لها أمرٌ ممكن الحصول؟ خصوصًا مع الالتفات إلى أنّ الإنسان نفسه موجودٌ ضعيفٌ له قدرات طبيعيّة واكتسابيّة محدودة، وهي مهما قُدِّر له من توسّع لا بدّ أن تتناهى من حيث الزّمان، وتفنى بالتالي عند الموت.

 


[1] سورة الأنفال، الآية 55.

[2] سورة الأنفال، الآية 22.

[3] سورة الأعراف، الآية 179.

 

61


51

اللذّة والكمال

وحلّ هذه الشبهة -بالبيان الذي يناسب هذا البحث- هو أنّ دليل إمكان مثل هذا الإشباع هو الفطرة نفسها. ذلك أنّ الميول الفطريّة هي من الواقعيّات العينيّة، وهي جزءٌ من قوانين الوجود ونواميسه، فهي من قبيل الجاذبيّات التي تقوم بنفسها دليلًا على وجود القوّة الجاذبة، لا من قبيل الصّور الذهنيّة التي تحصل بواسطة الحواسّ أو القوى الذهنيّة، وتكون نسبتها إلى الحقائق العينيّة نسبة الكاشف إلى المنكشف؛ ليأتي فيها احتمال المخالفة للواقع.

أمّا مسألة محدوديّة القوى الإنسانيّة وانتهائها بالموت، فهي مبنيّة على أصالة المادّة وانحصار الحياة بالحياة الدنيويّة، وكلا هذين المبدأين يخالفان الفطرة، وإنّ الميل الفطريّ الإنسانيّ للكمالات فوق الطبيعيّة وللحياة الخالدة هو بنفسه ممّا يبطلهما ويشكّل دليلًا كافيًا لإثبات ما وراء الطبيعة وإثبات الحياة الأُخرويّة.

ومن الطبيعي أنّ دليل هذا الموضوع لا ينحصر بالفطرة، إذ يمكن إقامة براهين عقليّة ونقليّة متعدّدة عليه، وها نحن نكتفي بأحدها مشيرين إليه في ما يأتي:

إنّ التأمّل في نظام الخلقة يوضّح حقيقة مهمّة هي أنّ المخلوقات من أصغر ذرّة فيها إلى أكبر مجرّة تتّبع نظامًا بديعًا محيّرًا للعقول، وأنّ بقاء العالم وحصول الظواهر اللامحدودة رهينٌ بهذا النظام المُتقن المقدّر الدقيق. ومهما سمت العلوم، فإنّها تستطيع أن تحدّد بشكل أكبر مدى العظمة في هذا النظام والدقّة في أسراره وحكمه،

 

62


52

اللذّة والكمال

وأنّ الاختراعات المحيِّرة للإنسان إنّما نمت في ظلّ كشف هذه الأسرار والروابط بين الموجودات.

على هذا، فلا يمكننا أن ننسب حصول أيّ ظاهرة في العالم إلى الصدفة العمياء، ونتصوّره أمرًا لغوًا لا فائدة فيه؛ لأنّ حصولها معلولٌ لهذا النظام، وهي بدورها جزء منه وقطعة من جهاز الخلقة العظيم، ومؤثّرة في حركته نحو هدفه وغايته المنشودة. والواقع أنّ مجرّد وجود عنصر لاغٍ لا فائدة منه يؤدّي إلى الفوضى والفساد.

على هذا، فإنّ وجود الميول الفطريّة في الإنسان أيضًا ليس أمرًا لغوًا وباطلًا، بل هو على العكس عاملٌ مهمٌّ لرقيّه وتكامله ووصوله إلى السعادة. ولو كانت سعادة الإنسان وكماله منحصرة بالسعادة المادّيّة المحدودة، فإنّ وجود الميول اللامحدودة سوف يصبح أمرًا لغوًا بلا فائدة.

من هنا، إنّ إيجاد هذه الميول في أعماق الإنسان -عندما لا يكون إشباعها ممكنًا- يشبه هداية الإنسان إلى طريق معيّن، وإشعاره بأنّه طريق طويل بعيد؛ إذ إنّه يستجمع قواه كلّها لطيّ هذا الطريق، ويتحرّك نحو هذا الهدف الموهوم، ولكنّه أثناء حركته السريعة يصطدم فجأة بصخرة تُعلِمه أنّ الطريق مغلق لا منفذ له.

من الطبيعي أنّ مثل هذا الخداع لا يناسب شأن الخالق الحكيم، وإنّما هو من عمل الحمقى الذين يلتذّون -نتيجة عقدهم النفسيّة-

 

63


53

اللذّة والكمال

بخداع الناس وعذابهم وهزيمتهم. فإذا بدا لهؤلاء المخدوعين السراب راح أولئك الحمقى يضحكون بملء أفواههم من ذلك.

يقول القرآن الكريم: ﴿أَوَ لَم يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ وَمَا بَينَهُمَآ إِلَّا بِٱلحَقِّ﴾[1]، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبحَٰنَكَ﴾[2]، ﴿وَمَا خَلَقنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لَٰعِبِينَ﴾[3]، ﴿أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَٰكُم عَبَثٗا وَأَنَّكُم إِلَينَا لَا تُرجَعُونَ﴾[4].

 

 


[1] سورة الروم، الآية 8.

[2] سورة آل عمران، الآية 191.

[3] سورة الأنبياء، الآية 16.

[4] سورة المؤمنون، الآية 115.

 

64


54

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

كانت النتيجة التي خَلُصنا إليها من تأمّلاتنا السابقة هي أنّ الإشباع الكامل للاحتياجات الفطريّة الإنسانيّة لا يحصل إلّا في ظلّ الارتباط الكامل الواعي بمبدأ الوجود. يمكننا أن نثبت إمكان مثل هذا الارتباط بالبرهان الفلسفيّ العقليّ وملخّصه أنّ جميع الموجودات لها ارتباطٌ لا ينفصم بخالقها، وإنّ حقيقة وجودها هي الربط والتعلّق به. ولمّا كان الإنسان قادرًا على العلم الحضوريّ بحقيقته، وما حقيقته إلّا عين الربط بالخالق، فهو قادرٌ على تحقيق ارتباطٍ واعٍ كاملٍ به. وبعبارة أُخرى، نقول: هو قادر على المعرفة والمشاهدة الواضحة للارتباط الوجوديّ الكامل بالخالق.

أمّا العلم الحضوري بالنفس، فهو أمرٌ اتّفق عليه الفلاسفة الإلهيّون كلّهم، فمتى انصرف التوجّه الإنسانيّ عن الإدراكات الحسّيّة والخواطر النفسيّة، وتركّز على الذات، فإنّ الإنسان سيدركها إدراكًا حضوريًّا.

 

65

 

 

 


55

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

يوجد هذا العلم في سائر الحالات أيضًا، وإن لم يكن هناك التفاتٌ تفصيليٌّ له على أثر الانشغال بالمدركات الأُخرى. ومن هنا، يمكن تقويته وإيصاله إلى مرتبة من الوضوح والوعي، عبر تقليل الميول والتعلّقات المادّيّة والتعوّد على النظر إلى النفس، وتركيز الانتباه نحو الذات.

وأمّا الارتباط الوجوديّ وتعلّق الموجودات بالخالق، فيمكن إثباته من خلال مبادئ الحكمة المتعالية التي بيّنها المرحوم «صدر المتألّهين»؛ إذ أثبت أنّ للموجود مراتب طويلة، وأنّ المراتب الدّانية حسب ترتيبها هي شعاعٌ من المرتبة العالية ومعلولة له وقائمة به، وأنّ العلّيّة الحقيقيّة لا تعني سوى الربط الوجوديّ، لا بين شيئين يوجد كلُّ منهما بشكل مستقلّ، إذ والحال هذه لا يحتاج أيٌّ منهما في وجوده إلى الآخر، وإنّما الربط الوجوديّ بين شيء مستقلّ وشيء آخر غير مستقلّ يكون وجوده عين الربط والتعلّق بالعلّة. وعليه، فوجود المعلول بالنسبة إلى العلة الحقيقيّة التي هي المفيضة للوجود عليه ليس إلّا ارتباط المحض والإضافة الإشراقية، وإذا شاهد أحدٌ حقيقته وجدها قائمة بالعلّة وشعاعًا منها.

على هذا، فلو قام أحدٌ بمشاهدة حقيقته، فسوف يرى نفسه قائمة ومتعلّقة بالخالق، بل يراها عين الربط والتعلّق به. ومثل هذه الرؤية لا تنفكّ عن رؤية إشعاع من أنوار القيّوم المتعالي؛ لأنّ إدراك ارتباط الوجود غير المستقلّ لا يمكن من دون إدراك ذي الارتباط والموجود والمستقلّ القيّوم عليه.

 

66


56

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

«وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»[1].

فمشاهدة حقيقة النفس تُواكب المشاهدة الاستقلاليّة للإشعاع من نور الجمال والجلال الإلهيّ: «من عرف نفسه، فقد عرف ربّه»[2]. وكلّما كانت الدائرة الوجوديّة للنفس أكثر اتّساعًا، ومرتبتها أكمل، ورؤيتها أعمق، والانتباه والتركيز أشدّ، كلّما كان لإدراك الأنوار الإلهيّة أشدّ وأوضح.

«وألحقني بنور عزّك الأبهج، فأكون لك عارفًا وعن سواك منحرفًا»[3].

وبمقدار وضوح إدراك الإنسان لارتباطه وعدم استقلاليّته، يكون التفاته وتوجّهه إلى صاحب الربط والموجود الأصيل والمستقلّ أشدّ، ورشفه من أنوار عظمته أكثر، إلى أن يصل إلى مرتبة يكون فيها مرآةً جليّةً ومظهرًا كاملًا لذات الخالق -جلّت عظمته-.

«لا فرق بينك وبينها إلّا أنّهم عبادك وخلقك، رتقها وفتقها بيدك، بدؤها منك، وعودها إليك»[4].

ومع الحصول على مثل هذا الارتباط، فإنّ حاجة الإنسان لمعرفة الحقيقة والتوافر على القدرة، سوف تشبع إشباعًا تامًّا، وسوف

 

 


[1] المناجاة الشعبانيّة.

[2] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص588.

[3] المناجاة الشعبانيّة.

[4] دعاء أيّام شهر رجب.

 

67


57

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

يحصل على أسمى اللذّات عبر وصوله إلى مطلوبه الحقيقيّ واكتشاف ارتباطه الوجوديّ به، وتحصل أعلى مراتبه عندما تفرغ النفس من تدبير البدن، فلا ترى لها أيّ التفات إلّا للباري -تعالى-، ولا تشغلها الشواغل في هذا العالم عن رؤيتها والاستغراق في هذه الرؤية.

«واقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك»[1].

 

أبسط السبل

أبسط السبل للاعتقاد بإمكان الارتباط بعالم القدس والساحة الإلهيّة هو ذلك السبيل الذي هدى الله -تعالى- عباده إليه بوسيلة المرسلين، فامتنّ بذلك على عبادة غاية المنّة، وأتمّ الحجّة عليهم: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُ بَعدَ ٱلرُّسُلِ﴾[2]. فقد دعا الأنبياء جميعًا الناس إلى التقرّب من الخالق والارتباط بمنبع العلم والقدرة اللانهائيّيْن ووعدوهم بالوصول إلى النعم الخالدة، واللّذّات اللامنتهية، والحصول على ما تشتهيه أنفسهم: ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِم ذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلمُحسِنِينَ﴾[3]، ﴿وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ ٱلأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعيُنُ﴾[4]، ﴿فَلَا تَعلَمُ نَفسٞ مَّآ أُخفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُنٖ﴾[5]، ﴿لَهُم

 

 


[1] مناجاة الزاهدين.

[2] سورة النساء، الآية 165.

[3] سورة الزمر، الآية 34.

[4] سورة الزخرف، الآية 71.

[5] سورة السجدة، الآية 17.

 

68


58

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٞ﴾[1]، ﴿وَقَالُواْ ٱلحَمدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعدَهُۥ وَأَورَثَنَا ٱلأَرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلجَنَّةِ حَيثُ نَشَآءُ﴾[2].

الميزة الرئيسة لدعوتهم على دعوات سائر المصلحين تؤكّد هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الحياة المحدودة العابرة ليست آخر مرحلة من مراحل الحياة الإنسانيّة، بل هي مقدّمة للحصول على السعادة الأبديّة، وجسر للوصول إلى العالم الأبديّ ﴿بَل تُؤثِرُونَ ٱلحَيَوٰةَ ٱلدُّنيَا ١٦ وَٱلأٓخِرَةُ خَيرٞ وَأَبقَىٰٓ ١٧ إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ ١٨ صُحُفِ إِبرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ﴾[3].

كما أنّ السبب الرئيس لرفض الكافرين لدعوة الأنبياء هو استبعاد هذه الحقيقة:

﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَل نَدُلُّكُم عَلَىٰ رَجُلٖ يُنَبِّئُكُم إِذَا مُزِّقتُم كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُم لَفِي خَلقٖ جَدِيدٍ ٧ أَفتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢ بَلِ ٱلَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِٱلأٓخِرَةِ فِي ٱلعَذَابِ وَٱلضَّلَٰلِ ٱلبَعِيدِ﴾[4].

﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبعَثُواْ قُل بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلتُم وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧﴾[5] ﴿يَومَ يَجمَعُكُم لِيَومِ ٱلجَمعِ ذَٰلِكَ يَومُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤمِن بِٱللَّهِ وَيَعمَل صَٰلِحٗا يُكَفِّر عَنهُ سَيِّ‍َٔاتِهِۦ وَيُدخِلهُ جَنَّٰتٖ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗا ذَٰلِكَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِيمُ ٩


 


[1] سورة ق، الآية 35.

[2] سورة الزمر، الآية 74.

[3] سورة الأعلى، الآيات 16 - 19.

[4] سورة سبأ، الآيتان 7 و 8.

[5] سورة التغابن، الآية 7.

 

69


59

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئسَ ٱلمَصِيرُ ١٠﴾[1].

﴿وَنَحشُرُهُم يَومَ ٱلقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِم عُميٗا وَبُكمٗا وَصُمّٗا مَّأوَىٰهُم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَت زِدنَٰهُم سَعِيرٗا ٩٧ ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُم كَفَرُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَقَالُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَٰمٗا وَرُفَٰتًا أَءِنَّا لَمَبعُوثُونَ خَلقٗا جَدِيدًا ٩٨ ۞أَوَ لَم يَرَواْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يَخلُقَ مِثلَهُم وَجَعَلَ لَهُم أَجَلٗا لَّا رَيبَ فِيهِ فَأَبَى ٱلظَّٰلِمُونَ إِلَّا كُفُورٗا﴾[2].

لم يكتفِ رسل الله بالدعوة والوعد والوعيد، وإنّما عرضوا آثارًا من الارتباط بالعالم الربوبيّ والمنبع اللانهائيّ للعلم والقدرة بإذن الله؛ ليعلم الجميع أنّ السبيل لكسب العلم والقدرة لا ينحصر بالأسباب المادّيّة المحدودة، وأنّ الاستفادة من العلوم الإلهيّة والقدرات فوق الطبيعيّة أمرٌ ممكنٌ للإنسان.

وقد أثبت الأنبياء إمكان الارتباط بالعالم الربّانيّ، وتلقّي العلوم الغيبيّة واللَّدُنّيّة عبر أخبارهم بالمغيّبات، وكشفهم للأسرار الخفيّة، وبيانهم للعلوم والحكم دونما دراسة منهم وتعلّم.

﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسمَآءَ كُلَّهَا﴾[3].

﴿وَعَلَّمنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلمٗا﴾[4].

 

 


[1] سورة التغابن، الآيتان 9و10.

[2] سورة الإسراء، الآيات 97 - 99.

[3] سورة البقرة، الآية 31.

[4] سورة الكهف، الآية 65.

 

70


60

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

﴿وَءَاتَينَٰهُ ٱلحُكمَ صَبِيّٗا﴾[1].

﴿قَالُواْ كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلمَهدِ صَبِيّٗا ٢٩ قَالَ إِنِّي عَبدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا﴾[2].

﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم﴾[3].

﴿عُلِّمنَا مَنطِقَ ٱلطَّيرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيءٍ﴾[4].

﴿وَكُلًّا ءَاتَينَا حُكمٗا وَعِلمٗا﴾[5].

القرآن نفسه فوق كل ذلك؛ إذ هو معجزة خالدة لنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله)، نزل على فردٍ أُمّيّ عاش في مجتمعٍ متخلّف، ودعا الجنّ والإنس -منذ بدء نزوله- متحدّيًا إيّاهم أن يأتوا بسورة من مثله، ونحن نعلم أنّه مع كثرة الدواعي لمثل هذا العمل لم تتحقق أيّ معارضة للقرآن، ولن تتحقق مطلقًا طبقًا لتنَّبّؤ القرآن الكريم.

كما أنّ الأنبياء، بقيامهم بالأعمال الخارقة للعادة وانتصارهم على القوى الطبيعيّة، أثبتوا عملًا إمكان الخلاص من القيود المادّيّة، والحصول على قدرة لا تُقهَر.

فخروج الناقة الحيّة من قلب الجبل بواسطة النبيّ صالح  (عليه السلام)، وخلاص إبراهيم  (عليه السلام) من النار الكبرى التي أوقدها نمرود، وتحوّل عصا موسى إلى ثعبان وانفلاق البحر، وجريان اثنتي عشرة عينًا

 

 


[1] سورة مريم، الآية 12.

[2] سورة مريم، الآيتان 29 و 30.

[3] سورة آل عمران، الآية 49.

[4] سورة النمل، الآية 16.

[5] سورة الأنبياء، الآية 79.

 

71


61

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

من الحجارة بواسطة موسى  (عليه السلام)، وشفاء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بواسطة عيسى  (عليه السلام)، وتسخير القوى المحسوسة وغير المحسوسة لسليمان  (عليه السلام)؛ هي كلّها نماذج من الأعمال الخارقة للعادة التي حصلت على أيدي الأنبياء، وحتّى الكثير من أتباعهم الصادقين بمثل هذه العلوم والقدرات. وقد جاء في حديث قدسيّ: «عبدي أطعني حتّى أجعلك مثلي؛ أنَا أقول للشيء كن فيكون، أجعلك تقول للشيء كن فيكون»[1].

وإذا حاولنا أن نجمع الكرامات الثابتة بالنقل الصحيح والمتواتر، فإنّ ذلك سيتطلّب منّا مجلّدات ضخمة بلا ريب.

ومع هذا كلّه، فهل من الصحيح أن نجد أُناسًا ينكرون -بكلّ جرأة وإغماضٍ عن الحقّ- وجود عالم ما وراء الطبيعة، أو إمكان الارتباط به، ويمنعون الناس عن السير في هذا السبيل؟

الحقيقة، أنّه حتى لو عدمنا مثل هذا المعاجز والآيات البيّنة، كان الأحرى بالبشرية -ولو على سبيل التجربة- أن تُطبّق نظم الأنبياء، ثم تقوّم الآثار الكبرى لها في سعادتها المادّيّة والمعنويّة؛ ذلك لأنّ أهمّيّة الأمر هي بحيث ترخص كلّ تضحية في سبيل تحقّقه، خصوصًا إذا لاحظنا أنّ إجراء شريعة الأنبياء ليس ممّا يستلزم ترك النعم واللذائذ المادّيّة والدنيويّة، بل هي تضمن السعادة والراحة والطمأنينة في هذا العالم أيضًا. ولقد وُجِد من بين الأنبياء وأتباعهم


 


[1] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج102، ص169. وفيه: «عبدي أطعني حتّى أجعلك مثلي؛ أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون».

 

72


62

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

أُناسٌ تنعّموا بالنعم الدنيويّة أكثر ممّا تنعّم به أهل الدنيا وعبيد المادّة.

ألا يدفعنا إصرار جميع الأنبياء (عليهم السلام) بصدقٍ وتأكيدٍ على هذا الأمر والتضحيات التي لا نظيرَ لها التي قدّموها وأوصياؤهم وأتباعهم الصادقون في سبيل إعلائه، ألا يدفعنا لاحتمال صدق مدّعاهم؟ إنّ الإنصاف يؤكّد ذلك بوضوح.

وهل تقلّ قيمة مثل هذه الحقيقة عن قيمة كشف الأسرار الطبيعيّة وتسخير الفضاء؟ كيف يُعدّ تحمّل المصاعب والمشاقّ وبذل القوى الطبيعيّة والإنسانيّة التي لا تُعدّ في سبيل الاكتشافات العلميّة أمرًا وجيهًا يقبل الثناء، ولا يستحقّ الارتباط بالمنبع اللانهائيّ للقدرة والعلم والوصول إلى السعادة الخالدة، أن نصرف في سبيله شيئًا من ذلك؟

شواهد من الآيات والروايات

هذا الذي استفدناه من المقدّمات الوجدانيّة والعقليّة يؤيّده الكتاب والسنّة، وقد أشرنا في بعض الموارد إلى الشواهد النقليّة، وها نحن نذكر نماذج أُخرى من الآيات والأخبار.

إنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الإنسان يعرف الله بفطرتِه، وأنّ الناس كلّهم في نشأة من وجودهم رأوا خالقهم عيانًا واعترفوا بربوبيّته: ﴿أَلَستُ بِرَبِّكُم قَالُواْ بَلَىٰ﴾[1]، وأنّ الحياة في هذا العالم إنّما

 


[1] سورة الأعراف، الآية 172.

 

73


63

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

هي للعمل بمقتضى عهد العبوديّة. ويحصل تقويم مقدار وفاء الناس بعهدهم وميثاقهم الفطريّ، وبالتالي تكاملهم الاختياريّ بواسطة الطاعة والعبوديّة لله: ﴿وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ﴾[1].

وليحصل هذا التقويم، فإنّ ثمّة ظروفًا مختلفة ليختار كلٌّ سبيله بكلّ حرّيّة: ﴿لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلٗا﴾[2].

عبر السبل المعوجّة والمنحرفة، وفي خضمّ الحياة ومشكلاتها، فلن يصل إلى السبيل الأقوم الآمن إلّا أولئك الذين يحبّون ربّهم، ويلجؤون إليه، ويبتغون مرضاته ويريدون وجهه:

﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِ﴾[3]،

﴿قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ ٱللَّهُ﴾[4]،

﴿يَهدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذنِهِۦ وَيَهدِيهِم إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّستَقِيمٖ﴾[5]،

﴿وَمَن يُسلِم وَجهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحسِنٞ فَقَدِ ٱستَمسَكَ بِٱلعُروَةِ ٱلوُثقَىٰ﴾[6]،

﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدخِلُهُم فِي رَحمَةٖ مِّنهُ وَفَضلٖ وَيَهدِيهِم إِلَيهِ صِرَٰطٗا مُّستَقِيمٗا﴾[7].

 


[1] سورة الذاريات، الآية 56.

[2] سورة هود، الآية 7. سورة الملك، الآية 2.

[3] سورة البقرة، الآية 165.

[4] سورة آل عمران، الآية 31.

[5] سورة المائدة، الآية 16.

[6] سورة لقمان، الآية 22.

[7] سورة النساء، الآية 175.

 

74


64

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

هؤلاء سينالون كذلك جوار رحمة ربّهم، ومقام القرب الإلهيّ، عند لقاء الحبيب.

﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفسُ ٱلمُطمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدخُلِي جَنَّتِي﴾[1]،

﴿فِي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقتَدِرِ﴾[2]،

﴿وُجُوهٞ يَومَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ﴾[3].

أمّا أولئك الذين تعلّقت قلوبهم بزينة الدنيا، ورجّحت محبّة الآخرين لديهم على محبّة الله، فلا شوق لهم إلى رحمته، فسوف يُبتَلَون بعذاب أليم لا نهاية له، ويُحرمون من وصل محبوبهم الفطريّ.

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَٱطمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُم عَن ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧ أُوْلَٰٓئِكَ مَأوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكسِبُونَ﴾[4].

﴿قُل إِن كَانَ ءَابَآؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَٰنُكُم وَأَزوَٰجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَٰلٌ ٱقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرضَونَهَآ أَحَبَّ إِلَيكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأتِيَ ٱللَّهُ بِأَمرِهِۦ﴾[5].

﴿كَلَّآ إِنَّهُم عَن رَّبِّهِم يَومَئِذٖ لَّمَحجُوبُونَ﴾[6].

 

 


[1] سورة الفجر، الآيات 27 - 30.

[2] سورة القمر، الآية 55.

[3] سورة القيامة، الآيتان 22 و 23.

[4] سورة يونس، الآيتان 7 و 8.

[5] سورة التوبة، الآية 24.

[6] سورة المطفّفين، الآية 15.

 

75


65

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

توجد في الأحاديث النبويّة وأخبار أهل بيت الرسالة (سلام الله عليهم أجمعين) أيضًا شواهد كثيرة. نجد نماذج منها في بعض الأحاديث القدسيّة، وأخبار مناجاتهم وأدعيتهم  (عليهم السلام)، من مثل: ما جاء في حديث المعراج مخاطبًا النبيّ (صلى الله عليه وآله): «فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال: أعرّفه شكرًا لا يخالطه الجهل، وذكرًا لا يخالطه النسيان، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين. فإذا أحبّني أحببته، وحببّته إلى خلقي، وأفتح عين قلبه إلى جلالي وعظمتي، فلا أخفي عليه علم خاصّة خلقي، فأناجيه في ظلم اللّيل ونور النهار، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأُسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأُعرّفه سرّي الّذي سترته عن خلقي... ولأستغرقنّ عقله بمعرفتي، ولأقومنّ له مقام عقله... فتقول الرّوح: إلهي، عرّفتني نفسك فاستغنيتُ بها عن جميع خلقك. وعزّتك وجلالك، لو كان رضاك في أن أُقطّع إِرْبًا أو أقتل سبعين قتلة بأشدّ ما يقتل به الناس لكان رضاك أحبّ إليّ... وأفتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه مني وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي...

يا أحمد، لو صلّى العبد صلاة أهل السّماء والأرض، ويصوم صيام أهل السّماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري، ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سمعتها أو رياستها أو صيتها أو زينتها، لا يجاورني في داري، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي، ولأظلمنّ قلبه حتى ينساني، ولا أذيقه حلاوة معرفتي وعليك سلامي ورحمتي»[1].

 

 


[1] راجع: الفيض الكاشاني، الوافي، ج26، ص147.

 

76


66

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

وفي حديث آخر يقول: «إنّ الله -جلَّ جلاله- قال: ما يتقرّب إليّ عبدٌ من عبادي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه. وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أحببته، وإن سألني أعطيته»[1].

وفي حديث آخر يقول: «يابن آدم، أنا غنيّ لا أفتقر، أطعني في ما أمرتك أجعلك غنيًّا لا تفتقر. يابن آدم، أنا حيّ لا أموت، أطعني في ما أمرتك أجعلك حيًّا لا تموت. يابن آدم، أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني في ما أمرتك أجعلك تقول للشيء كُنْ فيكون»[2].

يقول أمير المؤمنين  (عليه السلام) في مناجاة شهر شعبان تضرّعًا إلى ربّه: «واجعل همّتي إلى روح نجاح أسمائك ومحلّ قدسك... إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك... وألحقني بنور عزّك الأبهج، فأكون لك عارفًا وعن سواك منحرفًا...».

وفي دعاء كميل، يقول الإمام عليّ  (عليه السلام) متضرّعًا إلى الله -تعالى-: «صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ؟ وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلى كَرامَتِكَ؟».

 


[1] الشيخ الكلينيّ، أصول الكافي، ج2، ص352، وكذلك في الوسائل ومحاسن البرقيّ.

[2] ابن فهد، عدّة الداعي، ص291.

 

77


67

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

وقد رُوِيَ عنه  (عليه السلام) قوله: «ما رأيتُ شيئًا إلّا ورأيت الله قبله»[1].

وفي جواب من سأله: هل رأيت ربّك؟ قال: «أفأعبد ما لا أرى»[2].

ويدعو الإمام الحسين سيّد الشهداء  (عليه السلام) ربّه في يوم عرفة، فيقول: «إِلهِي عَلِمْتُ بِاخْتِلافِ الآثارِ وَتَنَقُّلاتِ الأطْوارِ أَنَّ مُرادَكَ مِنِّي أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لا أَجْهَلَكَ فِي شَيْءٍ، إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟! أَيَكُونُ لِمِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟! مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟! وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيبًا! وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبًا!

إِلهِي أَمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إِلى الآثارِ؛ فَارْجِعْنِي إِلَيْكَ بِكِسْوَةِ الأنْوارِ وَهِدايَةِ الاِسْتِبْصارِ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ مِنْها كَما دَخَلْتُ إِلَيْكَ مِنْها، مَصُونَ السِّرِّ عَنْ النَّظَرِ إِلَيْها، وَمَرْفُوعَ الهِمَّةِ عَنِ الاِعْتِمادِ عَلَيْها... إِلهِي عَلِّمْنِي مِنْ عِلْمِكَ المَخْزُونِ، وَصُنِّي بِسِتْرِكَ المَصُونِ، إِلهِي حَقِّقْنِي بِحَقائِقِ أَهْلِ القُرْبِ وَاسْلُكَ بِي مَسْلَكَ أَهْلِ الجَذْبِ، إِلهِي أَغْنِنِي بِتَدْبِيرِكَ لِي عَنْ تَدْبِيرِي وَبِاخْتِيارِكَ عَنْ اخْتِيارِي... أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الأنْوارَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ، وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ الأغْيارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِواكَ وَلَمْ

 

 


[1] المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، ج3، ص98.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج69، ص281.

 

78


68

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

يَلْجَؤوا إِلى غَيْرِكَ، أَنْتَ المُوْنِسُ لَهُمْ حَيْثُ أَوْحَشَتْهُمُ العَوالِمُ، وَأَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَهُمْ حَيْثُ اسْتَبانَتْ لَهُمْ المَعالِمُ، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ؟! وَما الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟!

لَقَدْ خابَ مَنْ رَضِيَ دُونَكَ بَدَلًا وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغى عَنْكَ مُتَحَوَّلًا... إِلهِي اطْلُبْنِي بِرَحْمَتِكَ حَتَّى أَصِلَ إِلَيْكَ وَاجْذُبْنِي بِمَنِّكَ حَتَّى أُقْبِلَ عَلَيْكَ... تَعَرَّفْتَ لِكُلِّ شَيْءٍ فَما جَهِلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الَّذِي تَعَرَّفْتَ إِلَيَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَرَأَيْتُكَ ظاهِرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ».

ويقول الإمام زين العابدين  (عليه السلام) في مناجاة الخائفين متضرّعًا إلى ربّه:

«وَلا تَحْجُبْ مُشْتاقِيكَ عَنِ النَّظَرِ إِلى جَمِيلِ رُؤْيَتِكَ».

وفي مناجاة الراغبين: «أَسْأَلُكَ بِسُبُحاتِ وَجْهِكَ وَبِأَنْوارِ قُدْسِكَ وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ بِعَواطِفِ رَحْمَتِكَ وَلَطائِفِ بِرِّكَ أَنْ تُحَقَّقَ ظَنِّي بِما أُؤَمِّلُهُ مِنْ جَزِيلِ إكْرامِكَ وَجَمِيلِ إنْعامِكَ فِي القُرْبى مِنْكَ والزُّلْفى لَدَيْكَ وَالتَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إِلَيْكَ».

وفي مناجاة المريدين: «إِلهِي فَاسْلُكْ بِنا سُبُلَ الوُصُولِ إِلَيْكَ وَسَيِّرْنا فِي أقْرَبِ الطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ... فَأَنْتَ لا غَيْرُكَ مُرادِي وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْنِي وَوَصْلُكَ مُنىْ نَفْسِي وَإِلَيْكَ شَوْقِي وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإِلى هَواكَ صَبابَتِي وَرِضاكَ بُغْيَتِي وَرِؤْيَتُكَ حاجَتِي وَجِوارُكَ طَلَبِي وَقُرْبُكَ غايَةَ سُؤْلِي... يا نَعيمِي وَجَنَّتِي وَيا دُنْيايَ وَآخِرَتِي».

وفي مناجاة المحبّين: «إِلهِي فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطْفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ... وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ وَحَبَوْتَهُ بِرِضاكَ، وَأَعَذْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ

 

79

 

 


69

الإمكان العقليّ للارتباط الواعي بالخالق

وَقَلاكَ وَبَوَّأْتَهُ مَقْعَدَ الصِّدْقِ فِي جِوارِكَ... وَاجْتَبَيْتَهُ لمُشاهَدَتِكَ... وَامْنُنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْكَ عَلَيَّ».

وفي مناجاة المتوسّلين: «وأَقْرَرْتَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْكَ يَوْمَ لِقائِكَ وَأَوْرَثْتَهُمْ مَنازِلَ الصِّدْقِ فِي جِوارِكَ».

وفي مناجاة المفتقرين: «وَغُلَّتِي لا يُبَرِّدُها إِلّا وَصْلُكَ، وَلَوْعَتِي لا يُطْفِيها إِلّا لِقاؤُكَ، وَشَوْقِي إِلَيْكَ لا يَبُلُّهُ إِلّا النَّظَرُ إِلى وَجْهِكَ، وَقَرارِي لا يَقِرُّ دُونَ دُنُوّي مِنْكَ... وَغَمِّي لا يُزِيلُهُ إلّا قُرْبُكَ».

وفي مناجاة العارفين: «وَقَرَّتْ بِالنَّظَرِ إِلى محْبُوبِهْم أَعْيُنُهُمْ... وَما أَطْيَبَ طَعْمَ حُبِّكَ! وَما أَعْذَبَ شِرْبَ قُرْبِكَ! فَأعِذْنا مِنْ طَرْدِكَ وَابْعادِكَ».

وفي مناجاة الذاكرين: «إِلهِي بِكَ هامَتْ القُلُوبُ الوالِهَةُ، وَعَلى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ العُقُولُ المُتَبايِنَةُ، فَلا تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ إلّا بِذِكْرِكَ، وَلا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلّا عِنْدَ رُؤْياكَ... وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ راحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغْلٍ بِغَيْرِ طاعَتِكَ».

وفي مناجاة الزاهدين: «وَاغْرِسْ فِي أَفْئِدَتِنا أَشْجارَ مَحَبَّتِكَ، وَأَتْمِمْ لَنا أَنْوارَ مَعْرِفَتِكَ، وَأَقْرِرْ أَعْيُنَنا يَوْمَ لِقائِكَ بِرُؤْيَتِكَ».

 

80


70

الاستنتاج من البحوث الماضية

الاستنتاج من البحوث الماضية

من خلال التأمّلات التي مرّت في البحوث الماضية، نستنتج ما يأتي:

إنّ النشاطات الحياتيّة في الحقول العلميّة والعمليّة المختلفة، الفرديّة والاجتماعيّة، إنّما تُعدّ نشاطات إنسانيّة إذا كانت في إطار السير بالإنسان إلى كماله الحقيقيّ.

بعبارة أخرى، إنّ الحركات والنهضات التي يجب أن تتّخذ لها اتّجاهًا معيّنًا، إنّما تُعدّ من نشاطات الإنسان -من حيث كونه إنسانًا- إذا اتّجهت باتّجاه الكمال الإنسانّي. وإنّما يمكن إعطاؤها هذا الاتجاه الإنسانيّ إذا أمكن معرفة النقطة النهائيّة للسير التكامليّ للبشريّة؛ ذلك لأنّ حركته الكماليّة حركة علميّة وإراديّة، فهي بالتالي تحتاج إلى معرفة الهدف والسبيل نحو الهدف. ثم إنّ معرفة الهدف بمعنى وجدانه وإدراكه إدراكًا وجدانيًّا شهوديًّا لا يحصل قبل الوصول إليه. ولذا فلا مناصَ من كون معرفة الهدف بشكل صورة ذهنيّة. وكلّما كانت هذه المعرفة أوضح وأوعى، كان إمكان التكامل الإراديّ الاختياريّ أكثر.

 

81


71

الاستنتاج من البحوث الماضية

على أنّ السير التكامليّ للإنسان يحصل -بلا ريب- بمعونة القوى الداخليّة والدوافع النفسيّة الموجودة في أعماقه. وعليه، فإنّ اتّجاه الميول الفطريّة يُعدّ أفضل سبيل لمعرفة الهدف النهائيّ والكمال الحقيقيّ للإنسان. وعبر التأمّل في الوجهة التي يشير إليها أيٌّ من هذه الميول، نعرف أنّها جميعًا تسوق الإنسان نحو اللّانهاية، وأنّ إشباعها مؤقّتًا ومحدودًا لا يقنع الإنسان بشكل كامل، ولا يحصل إشباعها تمامًا إلّا بالاتّصال بمنبع العلم والقدرة والارتباط بمعدن الجمال والكمال اللانهائيّ. وعليه، فالتعلّق بنور العظمة الإلهيّة لوحده هو المجال الذي يشاهد الإنسان من خلاله حقيقته هو وكلّ عوالم الوجود قائمةً بالذات الإلهيّة المقدّسة.

«وأفتح عين قلبه إلى جلالي وعظمتي، فلا أُخفي عليه عِلْمَ خاصّة خلقي».

عندئذٍ يُشبِع ميله لاستطلاع الحقيقة، وكذلك يصل إلى حقيقة نفوذ القدرة الإلهيّة اللّانهائيّة من خلال إرادته، فهو يفعل ما يريد بإذن الله -تعالى-.

«أجعلك تقول للشيء كن، فيكون».

فيُشبِع ميله للقدرة التي لا تُقهر. وفي هذه المرتبة يصل إلى محبوبه ذي الجمال والكمال اللامتناهي، ويجد نفسه في أحضان اللّطف والعناية اللامحدودة، فيروي بذلك ظمأه وحاجاته كلّها، وما أروع هذا الإشباع بيد المعشوق يصحبه اللطف الغامر والحب العميم: «فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به».

 

82


72

الاستنتاج من البحوث الماضية

عندئذٍ لا ينشغل إلّا بوصاله ولا يفكّر إلّا برضاه: «فَأَنْتَ لا غَيْرُكَ مُرادِي وَوَصْلُكَ مُنىْ نَفْسِي... وَرِضاكَ بُغْيَتِي»، ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾[1].

فلا يحصل بينٌ بينه وبين محبوبه، ولا يُبتلى بفراقٍ أو هجرانٍ: «ثمّ أرفع الحجب بيني وبينه، فأنعمه بكلامي، وألذّذه بالنظر إليّ»، «وأعذته من هجرك وقلاك».

كذلك فإنّه سيجد نفسه في هذا المقام، وهو واجدٌ للكمال النهائيّ، وقائمٌ بمفيض الوجود، وحينئذ ينال أسمى اللذائذ. ولأنّه لا يجد لنفسه استقلالًا، فإنّ حبّ ذاته سيفقد استقلاليّته، وتتعلّق المحبّة الأصيلة بالخالق، وبدلًا من أن يريد الله لذاته فإنّه يريد ذاته لله، بل لا يلتفت لذاته، وإنّما يغيب في عالم من جمال المحبوب.

«وأستغرقنّ عقله بمعرفتي، ولأقومن له مقام عقله».

وعليه، فإنّ المطلوب الحقيقيّ والمحبوب الذاتيّ للإنسان هو الخالق -جلَّ وعلا-، ويكمن الكمال الحقيقيّ للإنسان في التقرّب إليه، ويجب أن تستثمر سائر الكمالات المادّيّة والمعنويّة في سبيل الوصول إلى هذا الكمال، وتتلاحم القوى كلّها لتحقيق هذا الهدف، وكلّ خطوة في غير هذا الصراط تبعده عن الهدف، وكلّ قوة تصرف في ما عدا سبيل الرضا الإلهي سوف تؤدّي إلى خسارته وضياعه.


 


[1] سورة التوبة، الآية 72.

 

83


73

الاستنتاج من البحوث الماضية

«وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ راحَةٍ بِغَيْرِ أُنْسِكَ وَمِنْ كُلِّ سُرُورٍ بِغَيْرِ قُرْبِكَ وَمِنْ كُلِّ شُغْلٍ بِغَيْرِ طاعَتِكَ».

الجواب عن بعض التساؤلات

التساؤل الأوّل: إن كان المطلوب الحقيقيّ للإنسان هو مقام القرب الإلهيّ، وأنّه عبر وصوله إليه ينال أسمى وأدم اللذائذ، فلماذا لا نجد أكثريّة الناس في هذا الصدد، على الرغم من أنّهم بالفطرة يسعون نحو اللّذّة والسعادة؟

عند الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إنّ سعي الإنسان للوصول إلى الكمال والسعادة الحقيقيّة، ونيله للذّتهما، منوط بمعرفة اللذّة وتصديقه بها. ولأنّ أكثريّة الأفراد لا يعرفون الهدف الأصلي للخلقة وكمالهم الحقيقيّ كما ينبغي، ولم يذوقوا لذّة الوصول إليه، فلن يكونوا بصدد البحث والوصول إليه، ولكنّهم يعرفون الكمالات المادّيّة والدنيويّة، ويدركون لذّة الوصول إليها، ولذا فهم يبذلون كلّ قواهم للوصول إليها، هذا وإن كان هناك فرقٌ بين الناس في اختيار الحاجات الدنيويّة وشؤونها، فنجد كلّ شخص يختار -وفقًا لميوله- مجموعة معيّنة منها، باعتبارها الأهمّ والأكثر قيمة، أو الأقلّ مؤونة والأسهل، ويبذل جُلّ اهتمامه في سبيل الوصول إليه.

إنّ معرفة الكمال الحقيقيّ، وإن كانت تمتلك جذورًا فطريّةً، ولكنّها لا تصل عند أكثر الناس -بشكل طبيعيّ- إلى حدّ الوعي الكافي، وإنّما تحتاج إلى إرشاد وتربية صحيحة.

 

84


74

الاستنتاج من البحوث الماضية

من هنا، كانت أحد أهمّ أهداف وظائف الأنبياء  (عليهم السلام)، توعية هذا الجانب اللاشعوريّ الفطريّ، والتذكير بالعهد الإلهيّ المنسيّ.

«ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسى نعمته»[1].

هذه المسؤوليّة العظمى ملقاةٌ في هذا الزمان على عهدة من عرفوا سبيل الأنبياء بشكل أتمّ، ولديهم قدرة تعريفه للآخرين؛ لكي يعيدوا الضالّين عن طريق السعادة إلى السبيل الأقوم، ويعرّفوهم بُغيتهم الفطريّة.

التساؤل الثاني: إذا كان الهدف الأصلي لخلق الإنسان هو الوصول لمثل هذا المقام، فلماذا نجد الغرائز الموجودة في أعماقه تقوده دائمًا نحو اللّذائذ المادّيّة والظواهر الدنيويّة الخلاّبة، وتمنعه من السير نحو هدفه الأصليّ؟ ألّا يُعدّ هذا نقضًا للغرض وخلافًا للحكمة؟ ألم يكن الأمر أكثر انسجامًا مع هذا الهدف لو لم يكن في أعماقه سوى الدوافع التي تسوقه نحو الله والعالم الأبديّ؟ ولكي يتوضّح الجواب عن هذا التساؤل، يجب الالتفات إلى نكتتين هما:

1. إنّ قيمة الكمال الإنسانيّ تكمن في كونه اختياريًّا، وهي الميزة التي تجعل الإنسان مخدومًا من قبل الملائكة وموردًا لسجودهم. لكي تتحقّق أرضيّة الاختيار كان لا بدّ من وجود سبل مختلفة وجواذب متنوّعة لكي لا يكون السير في سبيل السعادة إجباريًّا مفروضًا.

 

 


[1] نهج البلاغة، الخطبة الأولى.

 

85


75

الاستنتاج من البحوث الماضية

2. إنّ التكامل الإنسانيّ تدريجيٌّ وله مراحل طويلة؛ فإنّه من اللازم أن يدوم مجال الاختيار إلى مدة لا بأس بها لكي يستطيع الإنسان في كلّ مرحلة أن يختار سبيله بكلّ حرية ويغيّر اتّجاهه إذا شاء.

مع الالتفات إلى هاتين النقطتين يتوضّح سر الحياة الدنيويّة والتدريجيّة للإنسان. ومن البديهيّ أنّ بقاء الإنسان في عالم الحركة والتغيير والتكامل التدريجيّ بحاجة إلى أسباب ووسائل وشرائط وإمكانات خاصّة. تُشكّل الغرائز الطبيعيّة في الواقع دوافع لتهيئة هذه الأسباب والظروف، وهي في ضمن ذلك تلعب دورًا في تهيئة مجال الاختيار الإنسانيّ، وفي حالة اختيار السبيل الصحيح يمكنها أن تقدّم خدمات جيدة للتقدّم الإنسانيّ باتجاه الهدف الأصليّ والكمال النهائيّ. وعليه، فإنّ وجودها لا يناقض هدف الخلقة، بل إنّ عدمها يخالف الحكمة الإلهيّة المطلقة.

التساؤل الثالث: على فرض التسليم بأنّ الكمال النهائيّ للإنسان ممكن التحقق في الجملة عبر القرب الإلهيّ وتجاوز الرغبات والميول كلّها في سبيل نيله والوصول إلى مثل هذا المقام، فإنّه لا ريب في انحصار مثل هذه المهمّة والقدرة في أفراد نادرين، وبالتالي فإنّ الوصول إلى الكمال المطلوب سوف يكون مختصًّا بهم في حين تحرم الأكثرية العظمى للناس من هذه النعمة.

في مثل هذه الحالة، هل يمكننا أن نقول إنّ هؤلاء الأفراد النادرين هم وحدهم من يستحقّون لقب الإنسانيّة، في حين يكون الآخرون

 

86


76

الاستنتاج من البحوث الماضية

في الواقع حيوانات لا يمتلكون حظًّا من الإنسانيّة إلّا في الشكل الظاهريّ لا غير؟ وبالتالي، يُحكم عليهم جميعًا بالشقاء الأبديّ.

وفي مجال الجواب عن هذا التساؤل، نقول:

إنّ الكمال الحقيقي للإنسان -كما أكّدنا على ذلك مرارًا- له مراتب مختلفة، وإذا كان الوصول إلى أسمى المراتب غير ميسّر للجميع، فإنّ الوصول إلى أدنى المراتب ميسّر للجميع، وهو يحصل بالإيمان بالله، والسير على سبيل عبوديّته، في حين أنّ بذل القوى كلّها في سبيل الرضا الإلهيّ هو من خصائص المراتب السامية.

ومن الطبيعي أنّ الآثار المترتّبة على القرب الإلهيّ ليس على مستوى واحد في المراتب كلّها. فالعلم الكامل بالحقائق والقدرة على إيجاد أيّ شيء، أو اللذّة الكاملة من اللقاء الإلهيّ، لا تحصل لدى أيّ مؤمن في هذا العالم. لكن من يحفظ إيمانه إلى نهاية حياته من أيّ تلاعب ولا تسلبه كثرة الذنوب والعصيان إيمانه، هذا الإنسان سوف يصل من ثمّ إلى السعادة الأبديّة وإن كانت المدة الفاصلة إلى ذلك اليوم طويلة المدى. وفي هذا الأثناء، سوف يمرّ بمراحل صعبة أليمة نتيجة أعماله الانحرافيّة، ولا نرى حاجة لتوضيح أنّ السعادة الأبديّة والجنّة الخالدة أيضًا لها درجات مختلفة، وأنّ كلًّا يجازى في ذلك العالم بمقدار معرفته وإيمانه ووزن أعماله وأخلاقه، ويمكن ألّا يملك أيّ شخص في أيّ درجة سوى ظرفيّة إدراك لذائذ تلك الدرجة، وأنّ إرادته تتعلّق بالحصول عليها فقط.

على هذا، فليس كلّ من لم يصل إلى قمّة الكمال الإنسانيّ

 

87

 


77

الاستنتاج من البحوث الماضية

ونهاية القرب الإلهيّ لا يستحقّ اسم الإنسان، وكذلك هو محكومٌ بالشقاء والعذاب الأبديّ.

القرب الإلهيّ

ليس المقصود بالقرب من الله -وهو المطلوب النهائيّ للإنسان، والذي يناله الإنسان بحركته الاختياريّة- قصر الفواصل الزمانيّة والمكانيّة؛ ذلك لأنّ الله -تعالى- هو خالق الزمان والمكان والمحيط بكلّ الأزمنة والأمكنة، ولا نسبة زمانيّة أو مكانيّة له مع أيّ موجود.

﴿هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلبَاطِنُ﴾[1].

﴿وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم﴾[2].

﴿فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ ٱللَّهِ﴾[3].

هذا بالإضافة إلى أنّ قلّة الفواصل الزمانيّة والمكانيّة بنفسها لا تُعدّ كمالًا، فما المقصود من هذا القرب إذًا؟

من الطبيعيّ أن تكون لله -تعالى- إحاطة وجوديّة بالعباد والمخلوقات كلّها: ﴿أَلَآ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيءٖ مُّحِيطُ﴾[4].

وأن يكون الوجود والشؤون الوجوديّة للموجودات كلّها في قبضة قدرته ومتعلّقة بإرادته ومشيئته، بل إنّ الوجود وكلّ شيء هو عين الارتباط والتعلّق به، على هذا، فهو إلى كلّ شيء أقرب من أيّ شيء آخر.

 

 


[1] سورة الحديد، الآية 3.

[2] سورة الحديد، الآية 4.

[3] سورة البقرة، الآية 115.

[4] سورة فصّلت، الآية 54.

 

88


78

الاستنتاج من البحوث الماضية

﴿وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ ٱلوَرِيدِ﴾[1].

﴿وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَٰكِن لَّا تُبصِرُونَ﴾[2].

هذا القرب قربٌ وجوديٌّ حقيقيٌّ، ولكنّه ليس كسبيًّا. من هنا، لا يمكن أن يُعدّ غايةً وهدفًا للسير التكامليّ، ويمكن أن يتصوّر للقرب معنى اكتسابيّ يقبل الانطباق على الكمال النهائيّ للإنسان، وهو القرب الاعتباريّ والتشريفيّ؛ بمعنى أن يكون الإنسان موردًا للعناية الإلهيّة الخاصّة، فتُجاب له طلباته كلّها.

«إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».

والعبد الذّي يصل إلى هذا المقام يكون قد وصل إلى مطلوبه، وهذا الاستعمال شائعٌ لدى العرف أيضًا؛ إذ يُقال للشخص الذي يقع موردًا لمحبّة شخص عظيم بأنه «مقرّبٌ»، وقد أطلق القرآن الكريم عنوان «المقرّبين» على الذين هم في طليعة المسيرة التكامليّة الإنسانيّة.

﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلمُقَرَّبُونَ﴾[3].

لكنّ بحثنا هنا ليس بحثًا لفظيًّا، ولا نرمي لمعرفة المعنى المناسب للفظ «القرب»، إنّما نقصد الدقّة الأكثر في الهدف النهائيّ للإنسان؛ لنعرف من خلال ذلك الطريق الكليّ والمسير الأصليّ للتكامل؛ فيجب أن نركّز على الحقيقة الكامنة وراء التشريف والاعتبار:

 

 


[1] سورة ق، الآية 16.

[2] سورة الواقعة، الآية 85.

[3] سورة الواقعة، الآيتان 10 و11.

 

89


79

الاستنتاج من البحوث الماضية

إنّ الحقيقة التي تُعَدُّ هي الكمال النهائيّ ونسميها بـ«القرب الإلهيّ» هي مرتبة من الوجود، تصل فيها الإمكانات الذاتيّة للشخص بسبب سيره وحركته الاختياريّة إلى المرحلة الفعليّة، سواء أكانت حركة سريعة كسرعة البرق، مثل حركة بعض الأنبياء والأولياء الذين يبدؤون بالسير التكامليّ من اللحظات الأولى لحلول الروح في البدن، ويصلون خلال مدة قصيرة إلى الكمالات العظمى، مثل عيسى بن مريم  (عليه السلام) إذ يقول في المهد: ﴿إِنِّي عَبدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا﴾[1]. وقد جاء في روايات الشيعة أنّ القادة من أهل البيت  (عليهم السلام) كانوا يسبّحون الله في بطون أُمّهاتهم، وأنّهم يولدون ساجدين وهم «السابقون»، أم كانت حركة عادية أو بطيئة، مثل حركة سائر المؤمنين في قبال الحركة الهابطة والسير المتراجع للكافرين والمنافقين.

والكمال الّذي يحصل أثر هذا المسير الاختياريّ لا يتبع الموضع الزمانيّ والمكانيّ والأوضاع المادّيّة والجسمانيّة، بل يرتبط بالروح والقلب الإنسانييْن. أما الظروف المادّيّة، فلها دور تهيئة الأرضيّة المساعِدة للسير والسلوك المتكامل، وإلّا فإنّ الحركة الكميّة والكيفيّة للبدن، أو الانتقال من مكان إلى مكان آخر، لا تأثير لها في تكامل الإنسان، إلّا بمقدار المساعدة التي تقدمها للسير الروحيّ والمعنويّ، فتؤثّر بطريقة غير مباشرة في السير التكامليّ للإنسان.

 

 


[1] سورة مريم، الآية 30.

 

90


80

الاستنتاج من البحوث الماضية

التكامل الحقيقيّ الإنسانيّ عبارة عن السير العلميّ للروح في أعماق ذاتها إلى الله؛ لتصل إلى مقام تجد فيه نفسها عين التعلّق والارتباط، ولا تجد لها ولا لأيّ موجود استقلالًا في الذات والصفات والأفعال، ولا يمنعها أيّ عارض عن المشاهدة، وتقوم العلوم والمشاهدات في هذا المسير بتعميق المرتبة الوجوديّة للإنسان، وتجعل جوهر ذاته بالتدريج أكمل فأكمل.

على هذا، بالمقدار الذي يتصوّر الإنسان نفسه أقلّ احتياجًا للمدد الإلهيّ وأكثر استقلالًا في تدبير أموره وتهيئة الأسباب والوسائل الحياتيّة، والقيام بالأعمال البدنيّة والفكريّة، وكذلك بالمقدار الذي يرى فيه للأشياء الأخرى تأثيرًا استقلاليًّا أكبر، يكون أشدّ جهلًا ونقصًا، وأبعد عن الله. وفي قبال ذلك، فإنّه بالمقدار الذي يحسّ بحاجته الشديدة لله، ويرفع حجب الأسباب، ويجلي الحجب المظلمة والمنيرة عن عين قلبه، سوف يكون أعلم وأكمل وأقرب إلى الحدّ الذي لا يكون فيه موحّدًا في الأفعال والتأثيرات فحسب، بل لا يرى للصفات والذوات أيضًا أيّ استقلاليّة في البين، وهو مقام يناله العباد الصالحون والمنتجبون المخلصون، والعباد المختارون من الله -تعالى-، فلا يبقى حجابٌ بينهم وبين معبودهم، فالقرب الحقيقيّ إلى الله هو أن «يعيَ» الإنسان أنّه يملك بالله كلّ شيء وأنّه من دونه لا شيء.

 

91

 

 


81

الاستنتاج من البحوث الماضية

سبيل التقرّب

إنّ موجودات العالم كلّها مخلوقة لله -تعالى-، وهي محتاجة إليه في شؤونها الوجوديّة، ولا استقلاليّة لها مطلقًا.

﴿ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُم خَٰلِقُ كُلِّ شَيءٖ﴾[1].

﴿أَنتُمُ ٱلفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ﴾[2].

وحقيقة وجودها عين الربط والتعلّق ومحض المملوكيّة والعبوديّة.

﴿كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجهَهُۥ﴾[3].

﴿وَعَنَتِ ٱلوُجُوهُ لِلحَيِّ ٱلقَيُّومِ﴾[4].

﴿إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحمَٰنِ عَبدٗا﴾[5].

والأفعال التي تصدر منها هي آثار للوجود التعلّقيّ وعلامة للمملوكيّة والفقر، وعليه، فكلّ موجود هو عبدٌ الله تكوينًا.

﴿وَلَهُۥٓ أَسلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ﴾[6].

﴿وَلِلَّهِ يَسجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرضِ﴾[7].

﴿وَإِن مِّن شَيءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفقَهُونَ تَسبِيحَهُم﴾[8].

ليس الإنسان مستثنًى من هذه القاعدة الكليّة، ولكنّه لا يعي عادة عبوديّته التكوينيّة. بعبارة أخرى، إنّه خُلِق في هذا العالم؛

 

 


[1] سورة غافر، الآية 62.

[2] سورة فاطر، الآية 15.

[3] سورة القصص، الآية 88.

[4] سورة طه، الآية 111.

[5] سورة مريم، الآية 93.

[6] سورة آل عمران، الآية 83.

[7] سورة النحل، الآية 49.

[8] سورة الإسراء، الآية 44.

 

92


82

الاستنتاج من البحوث الماضية

فيتصوّر نفسه والأشياء الأخرى مستقلّة في الوجود: «بَناهُم بنية على الجهل»[1]؛ بمعنى أنّه لا يرى وجوده متعلّقًا بالله، ويرى أنّ كمالاته هي من صنع نفسه، ويرى نفسه مستقلًّا في أفعاله، ويرى للموجودات الأُخرى هذا الاستقلال في الوجود والآثار الوجوديّة.

هو يسعى دائمًا إلى توسعة دائرته الوجوديّة ونيل كمالات أكثر وقدرة أكبر على الأعمال وتحكيم أسس استقلاله، فلا يوجد بين إدراكاته وميوله الواعية شيء يتنافى مع تصوّر الاستقلال هذا. ومن الطبيعيّ أنّ له إدراكًا لاشعوريًّا فطريًّا باحتياجه الذاتيّ، وعدم استقلاله الوجوديّ، ولكنّ سيطرة الجانب المادّيّ والحيوانيّ تمنع من أن يصل إدراكه الفطريّ إلى حدّ الوعي، اللهم إلّا في الظروف الاستثنائيّة.

وعندما يصل الإنسان إلى رشده العقليّ، يستطيع بواسطة نشاطاته الذهنيّة واستدلالاته العقليّة أن يعيَ فقره الوجودي -إن قليلًا أو كثيرًا- ويهتدي بذلك إلى وجود خالق الكون. وعبر تكامله العقليّ وقدرته الاستدلاليّة بالتدريج، يحصل على وعي أكثر بحاجته الأساسيّة وعدم استقلاله الذاتيّ، ومن ثمّ يصل في نهاية السير العقلانيّ إلى حقيقة ربطه، ويعلم بها علمًا حصوليًّا. ولكنّ هذا السير الذهني بنفسه لا يؤدي إلى نتيجة شهوديّة حضوريّة؛ فلا يبقى تسلّط الغرائز والإحساسات وجاذبيّة الميول والعواطف -في

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج3، ص15، ح2.

 

93


83

الاستنتاج من البحوث الماضية

الغالب- مجالًا لظهور المعرفة الفطريّة وتجليها. اللهم إلّا أن يصمّم الإنسان على الوقوف بوجه طغيانها، ليعيَ ذاته إلى حدّ ما، ويفتح له سبيلًا إلى أعماق روحه، ويبدأ سيرًا معنويًّا إلى الحقّ؛ بمعنى أن يتوجّه بقلبه إلى الله، ويصقل معرفته الفطريّة بدوام التوجّه القلبيّ وتقويته وتركيزه، وبالتالي بتقريب نفسه إلى الله.

في مثل هذه الحالة، يبدأ السير التكامليّ الإنسانيّ باتّجاه المقصد الحقيقيّ والمقصود الفطريّ؛ بمعنى أنّه بالاختيار الحرّ يبدأ بسعيٍ واعٍ ليجد ارتباطه بالله، ويعترف بحاجته وعجزه وذلّه، ومن ثمّ فقره وفقدانه الذاتيّ، ويُرْجع مملوكات الله -التي كان ينسبها بالباطل إليه وإلى الآخرين- إلى مالكها الحقيقيّ ويعيد رداء الكبرياء الإلهيّ إلى صاحبه.

﴿إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا﴾[1].

تستمرّ هذه المرحلة حتى يكون عبدًا خالصًا. على هذا، يمكن القول إنّ الكمال النهائيّ للإنسان يكمن في صيرورته عبدًا خالصًا، أو مشاهدة الفقر الذاتي أو الكامل في نفسه، وأنّ سبيل الوصول إليه يكون بالعبادة وطلب رضا الله بمعنى جعل رضا الله بدلًا لرضا نفسه.

﴿إِلَّا ٱبتِغَآءَ وَجهِ رَبِّهِ ٱلأَعلَىٰ﴾[2].

 

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 72.

[2] سورة الليل، الآية 20.

 

94


84

الاستنتاج من البحوث الماضية

 

فالمسير الأصليّ التكامليّ الصراط المستقيم للإنسانيّة والسبيل الصحيح للقرب الإلهي هو قضاء حقّ العبوديّة والعبادة، وإلغاء تصورات الاستقلال والاعتراف بالعجز الكامل الشامل له.

﴿وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ﴾[1].

﴿وَأَنِ ٱعبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّستَقِيمٞ﴾[2].

يمكن أن يعتبر السّعي سعيًا في سبيل القرب الإلهيّ وفي مسير التكامل الحقيقيّ، وبتعبير آخر سعيًا إنسانيًّا إذا كان مصطبغًا بصبغة العبوديّة وعبادة الحقّ المعبود. ولا يمكن اعتبار أيّ عمل أو نشاط أمرًا موجبًا للكمال الحقيقيّ مطلقًا إلّا عبادة الله -تعالى-.

 

 


[1] سورة الذاريات، الآية 56.

[2] سورة يس، الآية 61.

 

95


85

حقيقة العبادة

حقيقة العبادة

للعبادة معانٍ أو تعبيرات مختلفة من حيث السعة والضيق:

1. العبادة عمل يؤدّى بعنوان تقديم العبوديّة في رحاب الخالق، وليس لها أيّ علاقة -في ذاتها- مع ما عدا الله، مثل الصّلاة والصوم والحجّ.

2. العبادة عمل يجب أن يؤدّى بقصد القربة، وإن كان عنوانه الأوليّ لا يدخل في مجال تقديم العبوديّة، ويتعلّق بالعبادة، مثل الخمس والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3. العبادة عمل يؤدّى بقصد القربة وإن كانت صحّته غير متوقّفة على هذا القصد، مثل كلّ الأعمال التي تقع موردًا للرضا الإلهيّ، فإذا أدّيت بقصد القربة فإنّها ستكون عبادة بهذا المعنى.

4. العبادة طاعة لمن يراه مستقلًّا واجب الطاعة، وإن كانت هذه الطاعة لا تنطلق من قصد العبادة والعبوديّة.

يمكننا عبر المقارنات اللغويّة والاستفادة من القواعد اللفظيّة

 

96

 

 


86

حقيقة العبادة

وأصول المحاورة أن نرجّح بعض هذه المعاني على بعضها الآخر، أو أن نراه مفهومًا مشكّكًا يقبل الانطباق على كلّ هذه الموارد، مع الاحتفاظ باختلاف الدرجات. لكن من الواضح أنّ قصدنا في هذا البحث ليس حلّ المسائل اللفظيّة، ونحن لا نستند في كون العبادة سبيلًا للتقرّب إلى الله إلى الأدلّة النقليّة، وإنّما نقول إنّنا توصّلنا عبر المقدّمات الوجدانيّة والعقليّة إلى نتائج رأينا أنّ اسم العبادة والقرب تناسبها، ورأينا أنّ ألفاظ الكتاب والسنّة تقبل الانطباق عليها، وعليه فمن المناسب أن يروم البحث طبق ذلك الأسلوب، فنعمد عبر الاستناد إلى الأمور التي صدّقناها بشكل واضح إلى توضيح هذا الموضوع.

والمواضيع التي تثبت لدينا لحدّ الآن، والتي يمكنها أن تعيننا في حلّ هذه المسألة هي:

1. إنّ الإنسان موجودٌ يجب أن يصل إلى كماله النهائيّ عبر حركته الاختياريّة، وأنّ وصوله إلى هدفه الأصيل رهين اختياره الحرّ الواعي.

2. إنّ القوى الطبيعيّة والفطريّة والإمكانات التي يتمتّع بها هي وسائل يجب أن يستفيد منها للوصول إلى كماله النهائيّ، وليس بينها ما لا أثر له على سيره التكامليّ.

3. إنّ الهدف الأصليّ للإنسان هو القرب إلى الله، وإنّ حقيقة القرب هي الحصول الشهوديّ للتعلّق والارتباط الوجوديّ له بالله.

 

97

 

 


87

حقيقة العبادة

4. إنّ السير والحركة التي تحصل باتّجاه مثل هذا الهدف سير باطنيّ يبدأ من أعماق الروح والقلب الإنسانيّ، ولا ربط له مباشرةً بالأمور المادّيّة، وبملاحظة هذه المقدّمات نستنتج:

أوّلًا: إنّ التكامل الإنسانيّ والوصول إلى القرب الإلهيّ منوطٌ بالنشاطات الإيجابيّة المتقدّمة، ولا يمكننا أن نعدّ الجهات السلبيّة خطوات باتّجاه الكمال. على هذا، فترك عبادة الأصنام وطاعة الطواغيت أو الاعتزال والانزواء وترك المعاشرة لا يمكنها جميعًا -لوحدها وبلحاظ جانبها السّلبيّ- أن تُعدّ سبيلًا للتقرّب الإلهيّ.

ثانيًا: إنّ أيّ نشاط لا يكون داخلًا في إطار المسيرة التكامليّة الإنسانيّة إلّا إذا كانت له علاقة إيجابيّة بالهدف والكمال النهائيّ للإنسان؛ أي القرب إلى الله والحصول على التعلّق والارتباط الوجوديّ له بالله.

ثالثًا: إنّ مثل هذه العلاقة لا يمكن البحث عنها مباشرة إلّا بين التوجّهات القلبيّة والحالات الروحيّة والمعنويّة. على هذا، فإنّ أشدّ العبادات أصالةً هي تلك الفعاليّة التي يقوم بها القلب بشكل واعٍ حرّ للحصول على المطلوب الفطريّ له.

رابعًا: يجب أن ترتبط سائر النشاطات الإنسانيّة بنحوٍ ما بهذا النشاط القلبيّ؛ ليتسنّى لها أن تكون في إطار المسيرة التكامليّة، وإلّا فإمّا يجب تركها تمامًا (ومثل هذا العمل -على فرض إمكانه- مخالف لحكمة وجود الجوانب الفطريّة ومستلزم لتحديد أرضيّة التكامل الاختياريّ)، أو اعتبارها من اللوازم

 

98


88

حقيقة العبادة

الاضطراريّة والأجنبيّة عن المسيرة التكامليّة الإنسانيّة الأصيلة. وفي مثل هذه الحال، يجب جعل قسم مهمّ من الفعّاليات الحياتيّة خارجة عن المسيرة التكامليّة واليأس من إيصالها إلى الهدف وهذا أمر غير صحيح.

وعليه، فالسّبيل الصحيح الوحيد هو أن تتحوّل الفعاليات الحياتيّة المختلفة كلّها في ظلّ القصد والنيّة إلى عبادة، وتمنح وجهة تكامليّة لكي لا يذهب أيّ من طاقات الإنسان هدرًا من جهة، وتتّسع دائرة الاختيار والانتخاب إلى المستوى الذي أراده الله للإنسان وهيّأ له وسائله من جهة أخرى.

لقد ظنّ بعضهم أنّه لمّا كان السير التكامليّ للإنسان يبدأ من القلب إلى الله، فإنّه يجب ترك النشاطات الحياتيّة كلّها -إلّا ما كان منها ضروريًّا- واختيار مكانٍ خليّ يحلو فيه إلى ذكره وتوجّهاته القلبيّة، دون أن تشغل باله أيّ رابطة بأيّ أحد. هؤلاء، وإن كانوا قد أصابوا في تشخيص الهدف والمسير الإجماليّ، لكنّهم أخطؤوا في تشخيص الطريق الصحيح والأسلوب الصحيح الذي ينتهي بهم إلى الكمال الإنسانيّ الخاصّ (ومن مميّزاته الشمول للجوانب المختلفة) فلم يلاحظوا الأبعاد المختلفة للروح الإنسانيّة.

هنا يجب الالتفات إلى أنّ الميزة الأساسيّة للإنسان تكمن في اختياره الحرّ لمسير سعادته ووصوله إلى كمال يسمو على كمال الملائكة، وهو لا يحصل إلّا في مجال الأخذ والردّ والتضادّ الخارجيّ والصراع، وإلّا في ظلّ أنماط الجهاد والسعي الشامل، أمّا قلع جذور

 

99


89

حقيقة العبادة

بعض الميول الفطريّة أو قطع العلائق الاجتماعيّة، فهو في الحقيقة تحديد لدائرة الاختيار وتضييق لميدان الصراع وسدّ لكثير من سبل الترقّي والتكامل.

من الطبيعيّ ألّا نغفل عن اختلاف القابليّات والاستعداد لدى الأفراد، فعلى كلّ فرد اختيار مجاله المناسب لظرفيّته واستعداده، فلا يمكن لأيّ طائر أن يحلّق كما يحلّق النسر، وليس لأيّ رياضيّ أن يصارع بطل العالم.

وعلى أيّ حال، فإنّ السبيل الصحيح للتكامل هو التنمية التدريجيّة المتوازنة لأبعاد الوجود كلّها.

دور العلم في تحقيق التكامل

عرفنا أنّ السيرة التكامليّة الإنسانيّة يسير فيها القلب -بشكل رئيسيّ- حيث يتّجه إلى الله في طريق العبوديّة، وتبعًا للأفعال القلبيّة تتّخذ سائر الفعاليّات صفة العبوديّة، فتؤثّر في تكامل الإنسان.

هذا السير والسلوك القلبيّ إنّما يبدأ إذا عرف الإنسان هدفه وسبيله إلى هذا الهدف، ثمّ راح يخطو في هذا السبيل بإرادته واختياره. فالشرط الأساسيّ هو العلم والمعرفة، والآن، فلنلاحظ محلّ العلم في السير التكامليّ، هل هو كمال أم لا؟ وإذا كان كمالًا، فهل هو من الكمالات الأصليّة أو من الكمالات النسبيّة أو المقدّميّة؟

توجد حول تقييم أهمّيّة العلم آراء مختلفة تتراوح بين الإفراط

 

100

 

 


90

حقيقة العبادة

والتفريط؛ فبعضهم من قبيل الفلاسفة المشّائين يرون أنّ العلم والفلسفة ليسا مؤثّرين في الكمال فحسب، بل إنّهما الأصل والغاية للكمالات الإنسانيّة كلّها. وكما قلنا من قبل، فإنهّ يرى أنّ الإنسان الكامل هو من يملك العلم البرهانيّ بعوالم الوجود كلّها، وفي قبال ذلك توجد مجموعة أخرى تعتقد أنّ العلم الحصوليّ لا ربط له بالكمال الإنسانيّ (إنّ العلم الرسمّي كلّه قيل وقال)، ولم يكتفوا بذلك القدر، وإنّما رأوه مانعًا من السير التكامليّ، بل وأسموه «الحجاب الأكبر».

لسنا الآن في صدد نقد هذه الآراء أو تبريرها وتوجيهها، والسعي وراء سبيل للجمع بينها، وإنّما نسعى -وفق أسلوب هذا البحث وتبعًا للمطالب التي أثبتناها إلى حدّ الآن- لنعرف الموقع الذي يمتلكه العلم في المسيرة التكامليّة.

بعد معرفة أنّ الكمال النهائيّ للإنسان هو القرب إلى الله -تعالى- والارتباط الشهوديّ بالخالق، لا مجال للبحث في أنّ آخر مرحلة للسير الإنسانيّ هي من سنخ العلم الحضوريّ، ومثل هذا العلم هو المطلوب الذاتيّ والكمال الأصيل، بل هو غاية الكمالات كلّها، وإنّما الكلام في العلم الحصوليّ الذهنيّ، وهنا يجب أن نقول: طبقًا للتفسير الذي ذكرناه للكمال، يمكن اعتبار العلم كمالًا للإنسان؛ لأنّ العلم صفة وجوديّة، يحصل عليها الإنسان، وبواسطته ينتفي العدم والنقص، ومن هنا فإنّ العلم مطلوبٌ للإنسان بالفطرة. لكنّنا أوضحنا أنّه ليست كلّ صفة وجوديّة هي كمال للموصوف مطلقًا،

 

101

 

 


91

حقيقة العبادة

وإنّما قد تكون الصفات الوجوديّة أحيانًا كمالًا أصيلًا، كما قد تكون كمالًا مقدّميًّا ونسبيًّا، وإنّما تكون الكمالات النسبيّة كمالًا للموجود واقعًا إذا كانت وسيلة للوصول إلى الكمال الأصيل، فإذا استُفيد منها في جهة تنافي الكمال النهائيّ فهي، وإن كانت بالنسبة إلى مراتبها الأدون كمالًا لكنّها مقدّمة للنقص والانحدار النهائيّ.

إنّ العلوم الحصوليّة إمّا هي نظريّة أو عمليّة. أمّا النظريّة منها، فهي وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بالمسيرة، لكنّ بعضها مثل العلوم الإلهيّة لها دورها في مساعدة الإنسان لمعرفة الهدف، ومتى ما استُعين بها للوصول إلى القرب الإلهيّ، فإنّها ستكون كمالًا مقدّميًّا قيّمًا.

أمّا سائر العلوم النظريّة، فهي وإن لم تكن مقدّمة لمعرفة الهدف أو سبيل الوصول إليه؛ لكنّها تستطيع أن تقدّم عونًا جيّدًا لتحقيق المعارف اللازمة، وذلك خصوصًا في مثل العلوم التي تكشف عن أسرار الخلقة وحكمها، كما أنّها تستطيع أن تسدّ الحاجيّات الحياتيّة التي لها بدورها قيمة مقدّميّة كماليّة، وإنّ التوافر على النعم يمكنه أن يشكّل دافعًا للشكر وعبادة الله، وبذلك ترتبط بالسعادة الحقيقيّة للإنسان. أمّا علاقة العلوم العمليّة بالسير التّكامليّ ومقدّماته، فإنّها لا تحتاج إلى التوضيح، فمن الجليّ أنّ التكامل الواعي للإنسان منوطٌ بها.

هناك نقطة يجب التأكيد عليها، هي أنّ دور العلوم الحصوليّة كلّها في التقدّم الحقيقيّ للإنسان لا يعدو دور تهيئة الأرضيّة

 

102

 

 


92

حقيقة العبادة

وتوسعة الإمكانات، وليس لها أيّ تأثير حتمّي وضروريّ في السعادة الإنسانيّة. على هذا، فالعلم -بمعنى القضايا الذهنيّة- لا يمكن اعتباره كمالًا بالفعل للإنسان من زاوية كونه إنسانًا، اللّهمّ إلّا أن يكون وسيلةً للقرب إلى الله، إمّا لمعرفة الله أو لمعرفة الطريق، أو للاستفادة من النعم الإلهيّة لتحقيق الشكر، أو لتحقيق مقدّمات السير له وللآخرين.

وبملاحظة ما قلناه، يتوضّح موقفنا تجاه المدرسة البرجماتيّة، وتوضيح ذلك أنّ أنصار هذه المدرسة (وهي بنفسها من مظاهر الأومانيّة) يعتقدون أنّ العلم والفنّ إنّما يمتلكان قيمة خاصّة إذا كانا وسيلة للحياة الأفضل، وأنّ ما له قيمة بالأصالة هو ما كان مفيدًا للحياة.

وفي قبال هؤلاء نقول:

ليست الحياة الدنيويّة ولا أنماط السعي إلى تحسين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة ممّا يملك قيمة أصيلة لكي تكون للعلم والفنّ في ظلّها قيمة معينّة، وإنّما الشيء الوحيد الذي يمتلك قيمة بالأصالة هو القرب الإلهيّ، وكلّ شيء يشكّل وسيلة للتقرّب إليه يمتلك قيمة بمقدار تأثيره في التقريب إليه -تعالى-، والإنسان المتكامل لا يضمّه أيّ عنوان غير العنوان الإلهيّ، ولا يقبل أي اتّجاه إلّا الاتّجاه الإلهيّ، ولا يرى الأصالة إلّا لله لا غير.

 

103

 

 


93

حقيقة العبادة

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلبَٰطِلُ﴾[1].

على هذا، فلا تحصيل العلم ولا الحصول على الخبرة الفنيّة، لا العمل الفرديّ ولا السعي الاجتماعيّ، ليس أيٌّ منها ممّا يمتلك قيمة مطلقة، وهي كلّها إذا أُدِّيت بعنوان العبوديّة لله تحصل على قيمتها في ظلّ الارتباط به.

وهنا يمكن أن يُقال: إنّ المدرسة البرجماتيّة لم تكن ممّا يقبل القبول؛ لأنّها جعلت معيار التقييم «المنفعة للحياة الدنيا»؛ إلّا أنّه يمكن قبول نوع من النزعات البرجماتية بشكل أصالة العمل للحياة الأخرويّة، وعليه فالعمل المفيد للآخرة يمتلك أصالة نسبيّة، وإنّ العلم والفنّ لا يتمتّعان حتّى بهذا المستوى من الأصالة النسبيّة.

ويجب الالتفات إلى أنّ جذور السعادة الحقيقيّة تنمو في القلب، لا في الأعضاء والجوارح ووسائل العمل، وأنّ الدور الأساسيّ للسير نحو الله يقوم به القلب. وعليه، فالأصالة النسبيّة هي للنشاطات القلبيّة، أمّا الأعمال الخارجيّة، فهي تكتسب قيمتها في ظلّها، لا العكس.

كما يمكن للعلم أن يكون مقدّمة للأعمال الحسنة، فيكتسب قيمة، فيمكنه أن يلعب دورًا أهمّ بعنوان كونه مقدّمة للإيمان، وهو بدوره مقدّمة العمل وأساس له.

 

 


[1] سورة الحجّ، الآية 62.

 

104


94

حقيقة العبادة

العلاقة بين العلم والإيمان والعمل

إن اعتبار الإيمان كتصديق ذهنيّ هو بعينه اعتبار العلم، وبذلك ليس أمرًا اختياريًّا؛ لأنّ بعض العلوم يدركها العقل بالبديهيّة، وليس للإنسان أيّ اختيار في تحصيلها والتصدّق بها، وبعض العلوم وإن كانت تحصل عادة عبر مقدّمات اختياريّة؛ لكنّ الاختيار ليس مقوّمًا لها، بمعنى أنّه من الممكن أن تحصل تلك المقدّمات في الذهن بسماع صوت أو رؤية خطّ، وعندئذ يدركها الإنسان من دون اختيار ويصدّق بها. نعم، إذا كانت مقدّمات العلم متحقّقة بالإرادة والاختيار، فلا بدّ أن تكون هناك دوافع لتحصيلها وتركيبها. وهذه الدوافع قد تكون غريزة الاستطلاع أو العمل على كسب مجد وفخر، أو الاستفادة المادّيّة أو رضا الله. وفي الحالة الأخيرة فقط يكون عبادة، ولكن مثل هذه العبادة يجب أن تسبقها حتمًا معرفة الله.

إنّ المقصود عن الإيمان الذي نركّز عليه في هذا البحث والاعتبار في القرآن والنصوص الدينيّة أساسًا للسعادة، فهو حقيقة تختلف عن المعنى المقابل للكفر والجحود، ويتفاوت عن المعرفة؛ إذ ما أكثر أن يعرف الإنسان شيئًا، ولكنّ قلبه يرفضه ولا يلتزم بلوازم تلك المعرفة. ومن هنا، فهو يخالفه عمدًا، وربما اقتضى الأمر أن ينكره بلسانه، ومثل هذا الإنكار مع العلم أشدّ سوءًا من الإنكار مع الجهل وأكثر ضررًا بالتكامل الإنسانيّ، وهذا القرآن الكريم يصفهم: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱستَيقَنَتهَآ أَنفُسُهُم ظُلمٗا وَعُلُوّٗا﴾[1].

 

 


[1] سورة النمل، الآية 14.

 

105


95

حقيقة العبادة

وعلى لسان موسى  (عليه السلام) وهو يخاطب فرعون يقول: ﴿لَقَد عَلِمتَ مَآ أَنزَلَ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ﴾[1].

في حين كان فرعون يقول: ﴿مَا عَلِمتُ لَكُم مِّن إِلَٰهٍ غَيرِي﴾[2].

هناك الكثير من أمثال فرعون ممّن أنكروا ما يعرفون، سواءً في حياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو بعدها، وما زالوا إلى يومنا هذا. والسّر النفسيّ لمثل هذا الإنكار هو أنّ الإنسان قد يرى أنّ قبول بعض الحقائق يعني تحديد حريّته وتحلّله ومنعه من إشباع متطلّباته الّتي لا يستطيع قطع تعلّقه القلبّي بها: ﴿بَل يُرِيدُ ٱلإِنسَٰنُ لِيَفجُرَ أَمَامَهُۥ﴾[3].

سنعطي بعض التوضيحات في هذا الصدد.

النتيجة هي أنّ الإيمان عبارة عن قبول القلب للأمر الذي صدّق به العقل والذهن، والتزامه باللوازم المترتّبة عليه كلّها، وعزمه الإجماليّ على تنفيذ لوازمه العمليّة. فالإيمان منوط ومشروط بالمعرفة؛ لكنّه ليس هو العلم نفسه ولا اللازم الدائم له.

من هنا، تتوضّح العلاقة بين الإيمان والعمل، ذلك أنّ الإيمان يقتفي العمل، ولكنّه ليس العمل الخارجيّ نفسه، وإنّما هو سرّه ومانحه وجهته، وأنّ الصلاح واللياقة والحسن الفاعليّ للفعل منوطٌ بالإيمان. فإذا لم يستمدّ العمل وجوده من الإيمان بالله، فإنّه لن

 

 


[1] سورة الإسراء، الآية 102.

[2] سورة القصص، الآية 38.

[3] سورة القيامة، الآية 5.

 

106


96

حقيقة العبادة

يؤثّر في السعادة الحقيقيّة للإنسان وإن كان عملًا صالحًا، وكانت له منافع كثيرة في الدنيا للإنسان أو للآخرين.

﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعمَٰلُهُم كَسَرَابِ بِقِيعَةٖ يَحسَبُهُ ٱلظَّم‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَم يَجِدهُ شَي‍ٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥ﴾[1].

﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم أَعمَٰلُهُم كَرَمَادٍ ٱشتَدَّت بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَومٍ عَاصِفٖ لَّا يَقدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيءٖ﴾[2].

فالخطوة الأولى التي يخطوها الإنسان في سيره التكامليّ نحو الكمال النهائيّ، أي القرب من الله -تعالى-، هو الإيمان. وهذه الخطوة أساس الخطوات التالية، وروح مراحل الاستكمال كلّها.

وأمّا الخطوة الثانية في السير التكامليّ الإنسانيّ، فهي النشاط الذي يقوم به القلب بعد الإيمان بالله، بغضّ النظر عن الأعضاء والجوارح؛ أي التوجّه لله، وهو ما يعبَّر عنه بذكر الله.

﴿وَٱذكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾[3].

وكلّما قوي هذا التوجّه وتمركز أكثر، كلّما كان أشدّ تأثيرًا في التقدّم الإنسانيّ. وقد تكون لحظة من التوجّه القلبيّ التامّ أكبر تأثيرًا من سنين من العبادة البدنيّة.

الخطوة الثالثة: هي الأعمال الباطنيّة الأخرى التي يؤدّيها الإنسان باسم الله، مثل التفكير في آيات الله وعلائم قدرته وعظمته وحكمته،

 

 


[1] سورة النور، الآية 39.

[2] سورة إبراهيم، الآية 18.

[3] سورة الجمعة، الآية 10.

 

107


97

حقيقة العبادة

وإنّ استدامة الذكر الفكر لها أثرها في هيام القلب وحبّه وتعلّقه.

﴿ٱلَّذِينَ يَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ﴾[1].

بعد هذا، تُقبل التوبة للأعمال البدنيّة المختلفة. بعبارة أخرى، إنّ العزم الإجماليّ، هو من لوازم الإيمان، يتجلّى في مظاهر مختلفة، وفي قالب الإرادات التفصيليّة والجزئيّة، وهذه الإرادات -وهي من زاوية معيّنة فرع الإرادة الأصليّة- توجب تقوية ذكر الله والإيمان به.

﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكرِيٓ﴾[2].

﴿وَٱلعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرفَعُهُۥ﴾[3].

كذلك فإنّه إذا كانت هناك إرادة على خلاف مقتضى الإيمان، فإنّها تؤدّي إلى ضعف الإيمان. إذًا العلاقة بين الإيمان والعمل هي تمامًا مثل العلاقة بين جذر النبات والأعمال النباتيّة. فكما أنّ جذب الموادّ الغذائيّة مفيدٌ ومؤثّرٌ في نموّ الجذر واستحكامه وقوّته، وأنّ جذب الموادّ السامّة المضرّة موجبٌ لضعفه ومن ثمّ ذبوله وموته، فإنّ الأعمال الصالحة عاملٌ مؤثّرٌ في دوام الإيمان واستحكامه، والأعمال السيّئة وارتكاب الذنوب موجبة للضعف، ومن ثمّ موت جذور الإيمان.

 

 


[1] سورة آل عمران، الآية 191.

[2] سورة طه، الآية 14.

[3] سورة فاطر، الآية 10.

 

108


98

حقيقة العبادة

﴿فَأَعقَبَهُم نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِم إِلَىٰ يَومِ يَلقَونَهُۥ بِمَآ أَخلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكذِبُونَ﴾[1].

﴿ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَستَهزِءُونَ﴾[2].

 


[1] سورة التوبة، الآية 77.

[2] سورة الروم، الآية 10.

 

108


99

تدبير الإرادة

تدبير الإرادة

عرفنا من البحوث الماضية حقيقة الكمال النهائيّ وهدف السير التكامليّ للإنسان، وكذلك عرفنا الخطّ العريض الأسلوب العامّ للسّير والسلوك. أمّا الخطوط التفصيليّة والدقيقة لذلك، فهي متروكة لعلم الأخلاق والفقه، وإنّما نريد الحديث عن المرحلة الأخيرة لهذا البحث، وهي الحديث حول تدبير النفس ليقطع سبيل التكامل.

نعني بذلك أنّنا نحاول معرفة الأمر الآتي:

كيف نستطيع تحقيق المقدّمات اللازمة لاتّخاذ الإجراء القاطع وامتلاك الإرادة الجديّة لقطع سبيل العبادة والقيام بواجبات العبوديّة. إنّنا نعلم أنّه توجد في كلّ موجود حيّ ميزتان أساسيّتان، هما: «الإدراك» و«الحركة الإراديّة»، ومجموعهما يعبّر - حسب المصطلح المنطقيّ -عن الفصل والميزة الجوهريّة للإنسان.

توجد هاتان الخاصّيتان أيضًا بشكل أوسع وأعمق وأعقد في الإنسان، باعتباره موجودًا حيًّا متميّزًا، وتشكلان جهازين مشتركين للروح والبدن؛ أحدهما جهاز الإدراك، والثاني جهاز الإرادة. ولمّا كان هذان الجهازان مرتبطيْن ملتحميْن تمام الالتحام، فقد اشتبه

 

110


100

تدبير الإرادة

أمرهما حتّى على بعض العلماء الدقيقين. ولكي نعي كيفيّة حصول الإرادة وارتباطها بجهاز الإدراك، من المستحسن مقدّمةً أن نلقيَ نظرة على أنواع الإدراكات والدوافع والجواذب التي تشكلّ منبعًا لحصول الإرادة.

لقد حققّ الفلاسفة والعلماء منذ القدم في الإدراكات والغرائز الإنسانيّة، وقسّموها إلى أقسام مختلفة. ونحن هنا، بغضّ النظر عن البحوث العلميّة المصطلحة والاستنتاجات، نكتفي بمطالعة سريعة حول تفاعلاتنا الروحيّة حول الإدراك، وكذلك متطلّبات الإرادة وكيفيّة بعثها وحصول الفعل الإراديّ، لكي نحصل على المعارف اللازمة لبناء النفس وتوجيه أعمالنا الوجهة الإلهيّة الصحيحة.

جهاز الإدراك

يتحقّق الإدراك في الإنسان بصورة مختلفة نشير إليها إجمالًا: هناك مجموعة من الإدراكات تحصل عبر تفاعلات فيزيوكيماويّة أو فيزيولوجيّة خاصّة بين الموادّ الخارجيّة والأجهزة الحسيّة، مثل الرؤية والسّمع والشّم والذوق واللّمس. وهناك مجموعة من الإدراكات الجزئيّة تحصل دون أن يكون هناك أيّ تماسّ للموادّ الخارجيّة بالبدن، مثل الإحساس بالجوع والعطش. وهناك مجموعة ثالثة من إدراكاتنا تحصل في الذّهن بواسطة القوى النفسّية الخاصّة. ولهذه الإدراكات أنواع مختلفة، والتحقيق حول هذه الأنواع والمشخّصات والقوى المتعلّقة بها، وكذلك ارتباطها أو عدم ارتباطها

 

111


101

تدبير الإرادة

بالجهاز العصبيّ أمرٌ لا يتّسع له صدد هذا البحث.

ونؤكّد على أنّنا نجد إجمالًا في أنفسنا مدركات تبقى بشكل ما في الذهن بعد أن تنقطع الصلة بين حواسّنا مع الخارج، وقد تعود بعد الغفلة أو النسيان مجدّدًا إلى الخاطر، وتنعكس في شاشة الذهن الواعية، وهكذا مدركات الحسّ الباطني والحالات الانفعاليّة وسائر الأمور الإدراكيّة.

النوع الآخر من نشاطات الذهن يرتبط بدرك المفاهيم الكليّة التي تتحقّق عبر تجريد الإدراكات الجزئيّة، أو بصورة أخرى يشبه هذا إيجاد المفاهيم الخاصّة التي يُعبَّر عنها بـ«المعقولات الثانية»، مثل مفهوم الوجود والعدم والوجوب والإمكان. وهناك نوع آخر من الفعاليّة الذهنيّة في مورد الإدراك، هو تركيب وبناء القضايا بإيجاد نوع من الوحدة بين المفاهيم المتعدّدة، وكذلك عبر تركيب قضّيتين نصل مع ظروف وشروط خاصّة إلى إدراك قضيّة أخرى، تُسمّى «نتيجة البرهان».

وهنا يحسن بنا أن نعطيَ توضيحًا منحصرًا حول القضايا:

تُقسَّم القضايا الذهنّية من زاوية معيّنة إلى بديهيّة واكتسابيّة، ومن زاوية أخرى إلى نظريّة وعمليّة، وتنسب الإدراكات النظريّة -عادة- إلى «العقل النظريّ»، والإدراكات العمليّة إلى «العقل العمليّ»، ويعتبرون العقل العمليّ قوّة تصدر الأوامر، وتحرّك الإرادة. وقد يُتصوّر أنّ الإرادة مرتبطة بالعقل العمليّ، وحتّى يُقال أنّها معلولة له. في حين أنّه ثبت في محلّه أنّ العقل النظريّ والعقل

 

112

 

 


102

تدبير الإرادة

العمليّ ليسا قوتّين منفصلتين عن بعضهما بعضًا، وأنّه ليس هناك أيّ تفاوت جوهريّ بين الإدراك العمليّ والإدراك النظريّ، وأنّ عمل العقل في مورد الإدراك العمليّ هو نفسه في مورد الإدراكات النظريّة؛ بمعنى أنّ العقل يدرك العلاقة بين الفعل ونتيجته تمامًا كما يدرك علاقة العلّيّة بين الأسباب والمسبّبات والحركة والغاية، وأنّ هذا الإدراك عندما يُصبّ في قالب المفاهيم الاعتباريّة بمعونة القوى التي تصوغ المفاهيم في الذهن يتّخذ لنفسه شكل الأوامر العقليّة، وإلّا فإنّ عمل العقل في الواقع لا يعدو الإدراك، وليس له أيّ علاقة مباشرة بالإرادة والبعث والتحريك، وما يُنسب للعقل في مجال أفعال الإنسان من «ينبغي - ولا ينبغي» هي في الواقع كمثل الأمور التي يتحدّث علماء العلوم الطبيعيّة والرياضيّة عن أنّها تنبغي أو لا تنبغي في مجال بيان قوانين هذه العلوم.

ثمّة نوع آخر من الإدراك يتوافر لدى الجميع، هو عبارة عن العلم الحضوريّ لنا بأنفسنا وقوانا وأفعالنا ووسائلنا البدنيّة وتأثيراتنا العصبيّة. ويوجد أيضًا نوع من الإدراك الحضوريّ بالنسبة إلى المبادئ العالية للمبدأ الأعلى، وهو يحصل في البدء لدى الأفراد العاديّين بشكل لاشعوريّ، لذا يجب السّعي الأكيد لإيصاله إلى مرحلة الشعور.

وتوجد، عدا هذه الإدراكات العامّة المعروفة، إدراكات أخرى مثل «التلـﭙـائي» والعلوم التي تؤخذ من الجنّ أو الأرواح أو تُعطى في حال الهيـﭙـوتيسم والمنياتيسم، والتي تؤدّي إلى معلومات

 

113


103

تدبير الإرادة

لدى المرتاضين، وكذلك الوساوس الشيطانيّة والإلهامات الملائكيّة والرحمانيّة.

وفوق هذه الإدراكات كلّها، هناك الوحي النازل على الأنبياء  (عليهم السلام) من قبل الباري -تعالى-، ويشبهه الإلهام والتحديث الذي يخصّ به سائر العباد الخلّص، وذلك من قبيل تبشير أمّ موسى  (عليه السلام) برجوع ولدها ووصوله إلى مقام الرسالة، وكذلك الأمور التي أُلقِيت إلى مريم (عليها السلام)، والعلوم التي أُلهم بها الأئمّة المعصومون من أهل البيت  (عليهم السلام) ولا تُعرف حقائقها إلّا لمن يتلقّونها. علاوة على هذا، يمكن أن نذكر كلّ الإدراكات والصور الحاصلة في الذهن دون أن يصحبها أيّ تفسير منطقيّ وفلسفيّ، مثل كلّ الوساوس الشيطانيّة التي قد تغزو أذهاننا ونعرف نتائجها عيانًا في أنفسنا، ولا نعرف ماهيّتها والسّبيل العام للتصديق بأصل هذه الإدراكات وكيفيّة حصولها -بغضّ النظر عن مشاهدة آثارها- عبارة عن التعبّد بقول المعصوم  (عليه السلام)، أو نقل أولئك الذين تلقّوها ونحن نعرف صدقهم في ما ينلقون.

جهاز الإرادة

توجد في الإنسان ميول وجواذب ودوافع تشكّل بمجموعها سرّ حصول الإرادة والحركة الإراديّة. وقد درس علماء النفس أنواعًا كثيرة من الميول الطبيعيّة والفطريّة، وقسّموها إلى أنواع عدّة، ولهم اختلافات في عددها وكيفيّة تصنيفها، ونحن هنا نتعرّض إلى ذكر الدّوافع والميول

 

114

 


104

تدبير الإرادة

التي نحسّها وجدانًا (دون التقيّد باصطلاح أو متابعة لمدرسة خاصّة).

بعض هذه الدوافع لها علاقة واضحة بالتفاعلات الكيماويّة والفيزيولوجيّة للبدن، مثل ميول الأكل والشرب، وهي تصاحب حياة الإنسان منذ الولادة إلى الموت، وتُثار عند احتياج البدن للموادّ الغذائيّة والمائيّة، وهكذا نجد الميل الجنسيّ الذي يظهر على أثر ترشّح الهرمونات الخاصّة، ويكون ذلك بعد سنيّ البلوغ.

وهناك مجموعة أخرى من الدوافع تعقبها حالات بدنيّة خاصّة؛ إذ يتصوّر ذوو النظر السطحيّ من الناس أنّ هذه الدوافع النفسيّة هي الحالات البدنيّة نفسها، مثل الميل إلى الدفاع والانتقام الذي يبدو بشكل غضب ظاهر تتغيّر فيه ملامح الوجه وتنتفخ فيه الأوداج، ومثله الميل إلى الفرار من الخطر، ويُعدّ نوعًا من الدفاع.

وهناك مجموعة أُخرى من الدوافع تشكّل «العواطف»، أهمّها العواطف العائليّة والاجتماعيّة.

ومن غرائز الإنسان غريزة حبّ الاطّلاع والبحث عن الحقيقة، وهي تدفع الإنسان إلى كشف المجهولات ومعرفة الواقع، وهناك غريزة طلب الاقتدار والتسلّط وتوسيع دائرة النشاط، كما أنّ هناك نوعًا آخر من الغرائز يرتبط بالحصول على العناوين الاعتبارية من قبيل الجاه والمقام والاستقلال في الشخصيّة.

وثمّة نوع آخر من الميول الفطريّة ترتبط به أنماط الجمال والكمال الظاهريّة والمعنويّة، وهي تحرّك الإنسان نحو الحصول على أنواع الكمالات وأنماط الجمال القابِلة للاكتساب، والارتباط،

 

115


105

تدبير الإرادة

والتعلّق بالأشياء الكاملة والجميلة، والخضوع أمام الكمال والجمال الأصيل.

يمكننا أن نعتبر «حبّ الذات» أُمّ الغرائز الإنسانيّة، وينقسم ابتداءً إلى قسمين رئيسيّين: «حفظ الوجود» و«الحصول على الكمالات الممكنة»، ويتشعّب «حفظ الوجود» بلحاظ تعلّقه بالفرد أو النوع، وبلحاظ إشباعه للاحتياجات ودفع الأخطار إلى الميل للأكل والشرب والشهوة الجنسيّة وحسّ الدفاع والفرار من الخطر والانتقام والعواطف العائليّة والاجتماعيّة.

كذلك يشمل «تحصيل الكمالات» غرائز الاستطلاع والاقتدار وطلب الجاه وحبّ الكمال والجمال.

ينبغي ألّا يظنّ أحدٌ أنّ ما ذكرناه يشمل الغرائز والميول الإنسانيّة كلّها، كما لا ينبغي أن يؤدّي بنا تصنيفها إلى توهّم أنّها أُمور منفصلة عن بعضها بعضًا في مقام التأثير؛ إذ إنّه من الممكن أن تتدخّل غرائز عدّة في تحقيق عمل واحد.

وثمّة نقطة أخرى ينبغي تذكّرها، وهي أنّ فصل الميول والدوافع عن العلوم والإدراكات لا يعني إنكار دخولها في مجال الشعور الإنسانيّ؛ لأنّ من البديهيّ أنّ هذه الجواذب والحالات النفسيّة ليست مثل القوّة المغناطيسيّة التي تعمل دون إدراك أو شعور، وإنّما المقصود من ذلك التفريق بين جهاز الإدراك المحض وجهاز الإرادة من زاوية وجود الدفع والجذب في الجهاز الثاني وعدمه في

 

116

 


106

تدبير الإرادة

الجهاز الأوّل، ومعرفة العلاقة بينهما لكي نحصل على معرفة أكبر بالنسبة إلى الظواهر النفسيّة للتدبير والسيطرة.

علاقة جهاز الإدراك بجهاز الإرادة

إنّ حصول أيّ ميل مسبوق بإحساس خاصّ له معه سنخيّة وتوافق، فالميل نحو الغذاء والماء مسبوقٌ بإحساس الجوع والعطش مثلًا، ولشدّة هذا الترابط يحسّ الإنسان بأنّها حالة واحدة.

كما أنّ إشباع هذه الميول والاحتياجات الغريزية متوقّفٌ على إدراكات متناسبة. أمّا تأثير جهاز الإدراك على جهاز التحريك في مثل هذه المرحلة، فهو واضح إلى حدّ كبير، ويمكن أن تتعاون في إشباع ميل خاصّ قوى إدراكيّة متعدّدة، وفي مجال واسع، فإنّ مجرّد التركيز على عمليّة طبخ وجبة غذائية بالوسائل العادية اليوم يوضح مدى الفعاليّات الإدراكيّة الواسعة «الحسيّة والخياليّة والفكريّة» التي تجري لتحقيق هذا الهدف، لكنّ رابطة هذين الجهازين لا تنحصر بهذين المجالين، وإنّما هناك نوع آخر من الترابط بينهما له أهمّيّة خاصّة بالنسبة إلى بحثنا هذا، وهو عبارة عن تأثير بعض الإدراكات في تحريك الميل والإرادة أو النفور والاشمئزاز ممّا لا يعرف بينهما رابطة طبيعيّة، فقد يؤدّي رؤية منظر خاصّ أو سماع صوت معيّن أو الإحساس برائحة إلى تحريك الميل نحو الغذاء أو الشهوة الجنسيّة، أو غير ذلك من الميول، في حين يؤدّي لون أو طعم أو رائحة خاصّة إلى نفور واشمئزاز خاصّ بالنسبة إلى غذاء أو شيء آخر.

 

117


107

تدبير الإرادة

إنّ تأثير بعض هذه الأمور قد يكون عاديًّا واضحًا إلى حدٍّ يظنّ معه الإنسان بوجود علاقة طبيعيّة مع تحريك هذا الميل، مثل الإحساس برائحة طعام وتحرّك اشتهاء الإنسان له، في حين نجد تأثير بعضها الآخر خفيًّا إلى حدٍّ يظنّ معه الإنسان أنّ بعض الميول تحصل اتّفاقًا ودون سبب، أو يتحيّر في تعليل حدوثها.

إنّ معرفة مثل هذه الروابط له أهمّيّته الخاصّة لتحقيق هدفنا المنشود؛ ذلك لأنّ التركيز عليها يؤدي إلى أن ندرك أنّه قد تكون نظرة واحدة أو سماع صوت ما ذات تأثير عجيب في مستقبل الإنسان، وكيف تحرّك ميلًا أو إرادة تؤدّي إلى سعادة الإنسان أو شقائه.

سرّ هذه العلاقة يكمن في تداعي المدركات والمعاني؛ بمعنى أنّ الذهن الإنسانيّ خُلِق فيؤدّي تقارن صورتين فيه بشكل متكرّر إلى أن يتذكّر إحداهما عند حصول الأُخرى. فلو كان يكرّر أكل طعام برائحة وطعم خاصّين، فإنّه بمجرّد الإحساس بتلك الرائحة يحسّ بالطعم أيضًا، وتتحرّك شهيّته نحو هذا الطعام.

ولو بحثنا عن علل حدوث إرادتنا عرفنا دورًا الإدراكات الحسّيّة المهمّ -خصوصًا المنظورات والمسموعات- في تخيّلاتنا وأفكارنا، وعرفنا آثارها في صدور الأفعال الإراديّة. ومن هنا نستنتج أنّ أفضل وسيلة لتدبير الميول والاحتياجات، وبالتالي التسلّط الأكثر على النفس والانتصار على أنماط الهوى النفسيّ والوساوس الشيطانيّة، هو السيطرة على الإدراكات، وقبل ذلك السيطرة على العين والسمع.

 

 

118

 

 


108

تدبير الإرادة

﴿إِنَّ ٱلسَّمعَ وَٱلبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنهُ مَس‍ُٔولٗا﴾[1].

كما أنّ أحد أفضل وسائل تحريك الإرادة الخيّرة هي رؤية الأشخاص الصالحين وسماع قصصهم، وقراءة القرآن، ومطالعة الكتب المفيدة، وزيارة المعابد والمشاهد والأمكنة التي تذكّر الإنسان بالله وبالعباد الخلّص والأهداف المقدّسة والسبل التي طووها في سبيل ذلك. ﴿فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبرَٰهِيمَ﴾[2].

ومن هنا تبدو الحكمة في كثير من الأحكام الواجبة والمستحبّة، أو المحرّمة والمكروهة، مثل الحجّ وزيارة المشاهد المقدّسة، أو غضّ النظر عن المناظر المثيرة للشهوة، وكراهة الجلوس في مكان فيه حرارة ناتجة من جلوس المرأة الأجنبيّة، وكذلك أهمّيّة الدور الذي يلعبه الصديق في السعادة والشقاء الإنسانيّ: ﴿يَٰوَيلَتَىٰ لَيتَنِي لَم أَتَّخِذ فُلَانًا خَلِيلٗا ٢٨ لَّقَد أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكرِ بَعدَ إِذ جَآءَنِي﴾[3].

«إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا رزقه خليلًا صالحًا، إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه»[4].

«قال الحواريّون لعيسى بن مريم  (عليه السلام): يا روح الله، من نجالس؟ قال: من يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه،

 


[1] سورة الإسراء، الآية 36.

[2] سورة آل عمران، الآية 97.

[3] سورة الفرقان، الآيتان 28 - 29.

[4] راجع: الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء، ج3، ص285. وفيه: «من أراد اللَّه به خيرًا رزقه خليلًا صالحًا، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه».

 

119


109

تدبير الإرادة

ويرغبكم في الآخرة عمله»[1].

وكذلك التأثير الذي تملكه أعمال الإنسان وأقواله في الآخرين، والدور الذي يلعبه سلوكنا كنموذج في السعادة أو الشقاء للعائلة أو المجتمع. ومن هنا، تترتّب علينا مسؤوليّة أخرى؛ «كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم»[2].

دور الميل والرّغبة في الإدراك

إنّنا نملك حريّة الاستفادة من القوى والوسائل الإدراكيّة إلى حدّ كبير، فمتى شئنا حدّقنا في منظر معيّن ورضا نتفرّج، ومتى شئنا غضضنا النظر عنه. وهنا يمكن أن نتصوّر أنه عند انفتاح العين ووجود النور، فليست هناك حالة منتظرة لرؤية الشيء الذي يتمثّل أمامنا، في حين أنّ الحقيقة تثبت خلاف هذا التصوّر؛ ذلك أنّه في كثير من الأحيان نجد أنفسنا لا نرى الشيء، على الرغم من انعكاس صورة المرئيّ في العين، و على الرغم من ارتعاش طبلة الأذن بواسطة أمواج الصوت، لكنّها لا تسمع شيئًا، وذلك عندما يتركّز انتباهنا على شيء آخر. ومن هنا، يتضّح أنّ الإدراك ليس ظاهرة فيزياويّة أو عملًا فيزيائيًّا فحسب، وإنّما هو في الواقع عمل النفس، فإذا توجّهت النفس حصل الإدراك وإلّا انتفى. أمّا الانفعالات المادّيّة، فهي تشكّل شرائط الإدراك ومقدّماته، ثمّ إنّ وجود التوجّه

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص39.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج67، ص311.

 

120


110

تدبير الإرادة

وعدمه في كثير من الأحيان يرتبط بالميل والشوق الباطنيّ للإنسان، بمعنى أنّه حين يميل الإنسان إلى إدراك خاصّ، فإنّ توجّه النفس يتّجه نحوه، ويحصل الإدراك مع وجود الشرائط اللازمة، في حين أنّه على العكس من ذلك عندما لا يوجد الميل لا تتوجّه النفس ولا تدركه بالتالي. فمثلًا قد يرتفع صوت طفل من زاوية، فلا يسمعه إلّا أمّ الطفل، حتى أنّها قد تنهض من نومها على صوت بكاء طفلها، ولكنّها لا تنهض على صوت أعلى من شخص آخر. ليس هناك أيّ تبرير سوى العامل النفسيّ وشوق الأمومة، ولا ينحصر تأثير الميل والشّوق في الإدراك بالإدراكات الحسّيّة، وإنّما يتوافر في التّخيّلات والأفكار، وحتى أنّه يتوافر في الاستتاجات العقلية بصورة مختلفة.

فمثلًا يجد الإنسان نفسه ذا ذاكرة قويّة بالنسبة إلى الأشياء التي يميل إليها بشكل أقوى، وتتقدّم النشاطات الفكريّة في مجال الموضوعات التي يألفها ويرتاح إليها الشخص المفكّر بشكل أحسن، والأعجب من ذلك أنّ الكثير من الأشخاص يصلون إلى النتائج الفكريّة التي كانوا يرغبون فيها قلبيًّا، فهم يلهمونها، ولكنّهم يظنّون أنّهم وصلوا إليها بشكل طبيعيّ، من استدلال عقلي، في حين كان للميل الباطني لهم الأثر الكبير في اختيار مقدّمات الدليل أو في كيفيّة تنظيمها، وربما أوجبت المغالطة: ﴿بَل يُرِيدُ ٱلإِنسَٰنُ لِيَفجُرَ أَمَامَهُۥ﴾[1].

 

 


[1] سورة القيامة، الآية 5.

 

121


111

تدبير الإرادة

توضيح ذلك أنّ عدم ميل الإنسان للوصول إلى نتيجة فكرية ما يراها تتنافى مع متطلّباته قد توجب غفلته وعدم تفكيره فيها، وقد توجب الغفلة عن المقدّمات اللازمة للاستدلال أو الشكل الصحيح لتنظيم المقدّمات. وفي حالة ما إذا وصل إلى هذه النتيجة التي لا يرغب فيها، وخلافًا لرغبته الشخصيّة، فإنهّ يبدأ بالتشكيك وإيجاد الشبه في ما توصّل إليه، فإذا كان الدليل واضحًا تمامًا لا يبقى أيّ مجالٍ للشبهة يصل الدور إلى خيانة الذاكرة، فما أسرع ما يسلّمها الإنسان للنسيان!! ولو حصل أنّ عاملًا ما ذكّره بها، فإنه سيمتنع عن التسليم القلبيّ والإيمان بها وينكرها بكلّ لجاجة، وذلك كما أشرنا من قبل إلى مثل هذا في مقام التفريق بين العلم والإيمان: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَد جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلهُدَىٰٓ﴾[1].

على هذا، فإنّ الإنسان متى ما صان نفسه عن الوقوع تحت تأثير الميول المخالِفة اطمأنّ إلى نتائجه الفكرية، وإلّا فما دام الهوى هو الذي يمسك بالزمام، فإنّ الميل للمادّيّات والشهوات والجاه والمقام وباقي المتطلّبات الجامحة سوف تجلب توجّه النفس إليها، ويقلّ الأمل في الوصول إلى استنتاجات صحيحة من النشاطات الذهنيّة والفكريّة في المجالات المتعلّقة بذلك.

وفي مجال العلم الحضوريّ والتوجّه إلى الوجدانيات، يوجد للميول والأشواق القلبيّة دورٌ مهمّ. فالحالات النفسيّة والانفعالات

 

 


[1] سورة النجم، الآية 23.

 

122


112

تدبير الإرادة

الروحيّة الحاضرة لدى النفس قد تدخل عالم اللاشعور على أثر انعطاف التوجّه النفسيّ عنها، فيغفل عنها الإنسان، فلا يكون لديه -كما يعبّر الفلاسفة- العلم بالعلم، وكذلك تلك المرتبة التي تملكها النفس من العلم الحضوريّ بالله -تعالى-، فقد تغفل عنها على أثر الانشداد للمادّيّات والتعلّق بها، اللّهمّ إلّا إذا انقطعت الوسائل المادّيّة المعيقة.

على هذا، فإنّ الاستثمار الصحيح للقوى الإدراكيّة إنّما يتيسّر إذا كان القلب طاهرًا من أنماط الدّرن المادّيّ والهوى النفسيّ، والذهن خاليًا من الأحكام المسبقة، متزيّنًا بالتقوى المناسِبة. فالتكامل في مدارج التقوى هو الذي يصوغ الإنسان مستعدًّا لتلقّي الأنوار المعنويّة والإلهامات الملائكيّة والربانية:

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلبٌ أَو أَلقَى ٱلسَّمعَ وَهُوَ شَهِيدٞ﴾[1].

﴿ذَٰلِكَ ٱلكِتَٰبُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدٗى لِّلمُتَّقِينَ﴾[2].

﴿قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَد خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[3].

﴿إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجعَل لَّكُم فُرقَانٗا﴾[4].

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَّحمَتِهِۦ وَيَجعَل لَّكُم نُورٗا تَمشُونَ بِهِۦ﴾[5].

 

 


[1] سورة ق، الآية 37.

[2] سورة البقرة، الآية 2.

[3] سورة الشمس، الآيتان 9 و 10.

[4] سورة الأنفال، الآية 29.

[5] سورة الحديد، الآية 28.

 

123


113

تدبير الإرادة

وفي قبال ذلك، يشكّل اتّباع الهوى النفسيّ والتعلّق بالدنيا سببًا للانخداع والضلال والحرمان من إدراك الصحيح، بل سببًا للتسلّط الشيطاني، ومزيدًا من الجهل والضلال، والجهل المركّب وعمى القلب.

﴿أَفَرَءَيتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمعِهِۦ وَقَلبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهدِيهِ مِنۢ بَعدِ ٱللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[1].

﴿كُتِبَ عَلَيهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ﴾[2].

﴿وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ ٱلرَّحمَٰنِ نُقَيِّض لَهُۥ شَيطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُم لَيَصُدُّونَهُم عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحسَبُونَ أَنَّهُم مُّهتَدُونَ﴾[3].

الإرادة والاختيار

عند التوجّه إلى القوى الإدراكيّة والتحريكيّة المختلفة، وكيفيّة تأثيرها وتأثّرها، يتّضح كيفيّة حصول مبادئ الإرادة في النفس، وكيف يحصل الفعل الإراديّ، بمعنى أنّ الإنسان بادئ ذي بدء يحسّ في نفسه نوعًا من الحاجة، فيتألّم لذلك أو يجد نفسه خالية من لذّة معروفة، فيسعى نحوها، والإحساس بالألم أو انتظار اللذّة يحرّكه للسعي ليشبع عبر القيام بعمل ما جوعته، وليرفع ألمه ويؤمّن لذّته المنشودة.

إذًا فأعمال الإنسان فطرة تتّجه نحو رفع النقص وتحصيل الكمال، والدافع نحوها هو رفع الألم أو الحصول على اللذّة المطلوبة، وذلك

 

 


[1] سورة الجاثية، الآية 23.

[2] سورة الحج، الآية 4.

[3] سورة الزخرف، الآيتان 36 و 37.

 

124


114

تدبير الإرادة

سواء أكان العمل فعالية نفسيّة أم ذهنية محضة، مثل توجّه القلب والفكر، أم كان متوقفًا على تحريك العضلات والأجهزة البدنيّة، عبر الاستفادة من الموادّ الخارجيّة أو من دون ذلك. وإذا لاحظنا الأعمال التي يؤدّيها الإنسان لصالح غيره، نجده فيها أيضًا يندفع للحصول على لذّته هو وإن كان ألمه أو التذاذه لتألّم الآخرين والتذاذهم.

ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحصل على كلّ ما يتمناه؛ لأنّ موفقيّته في ذلك بالإضافة إلى لزوم حصول الظروف الخارجيّة المطلوبة مرهونة بسلامة قواه الإدراكيّة وصحّة تشخيصه، وكذلك المعرفة الصحيحة لكيفيّة رفع نقائصه ومدى استفادته من القوى، وقدرته على التصرّف في الموادّ الخارجيّة، فإنّ التفات الإنسان قد يحصل تارة طبيعيًّا وعلى أثر التفاعلات البدنيّة، مثل الإحساس بالحاجة إلى الطعام والشراب، وأخرى على أثر التماسه مع الخارج، مثل مشاهدة وضع خطير يوجب فراره أو استعداده للدفاع، أو يؤدّي به رؤية منظر مُثير للعواطف إلى التأثّر الشديد لكي يتألّم من محروميّة الآخرين ويعمل على مساعدتهم.

في المورد الأول، ربّما أدّت العوامل الخارجية بنحو التداعي إلى ظهور الميل المكنون، وذلك كما أوضحنا من قبل. كما أنّ العوامل الخارجيّة يمكنها أن تلعب دورًا في إيقاظ الميول الفطريّة والجواذب النفسيّة المحضة، فإنّ دعوة الأنبياء توقظ الدافع الفطري للإيمان بالله بعد أن غطّتها عوامل الغفلة، وهكذا نجد رؤية آثار الله وسماعها تمتلك الأثر نفسه.

 

125


115

تدبير الإرادة

ولو أنّنا فرضنا أنّه كانت هناك غريزة واحدة قد استيقظت، ووُجد ميل واحد في النفس، فإنّ الإنسان سوف يتحرّك في سبيل إشباعه. وفي ما إذا توافرت الظروف وارتفعت المدافع الخارجيّة، فإنّه يقوم بالعمل المناسب لذلك، لكنّه في حالة وجود ميول متعدّدة ولم يتيسّر له إشباعها جميعًا، فإنّه يقع التزاحم لا محالة، وعندئذ تسيطر ذات الجاذبية الأكبر على النفس لتقوم بإشباعها أوّلًا. فهناك بعض الأطفال الذين يفضّلون لعبهم على أكلهم، أو الأمهات الجائعات يقدّمن غذاءهن لأطفالهنّ أو الشباب الذين يرجّحون المطالعة، أو الأتقياء الذين يفضّلون العبادة على النوم، وكذلك الجنديّ المضحيّ في سبيل الله براحته وراحة عياله. وفي مثل هذه المجالات تبدو القيمة الحقيقية للإنسان، وتظهر استعداداته الخفيّة، وتصل سعادته أو شقاؤه إلى حدّ الفعليّة والتحقّق. والواقع أنّ حكمة خلق الإنسان في عالم من التزاحمات الأمور المتضادّة تكمن في هذا المعنى -كما أشرنا إلى ذلك مكررًا- وهنا يُطرح هذا التساؤل:

هل للإنسان أن يكون مجرّد متفرّج في عالم تزاحم الميول، فمتى ما تغلب ميل بمقتضى العوامل الطبيعيّة والاجتماعيّة سار خلفه، أو أنّ عليه أن يمتلك زمام الأمر ويكون له عبر نشاطه الفكريّ والإراديّ دور المتوجّه المعين للمسيّر، حتى أنّه يقوم أحيانًا بالامتناع عن إشباع حاجيّاته الطبيعيّة؟

في الحالة الأولى، سوف يسلّم الأمر طائعًا أعمى أبكم للغرائز تمامًا،

 

126


116

تدبير الإرادة

كما يسلّم نفسه أحيانًا للعاصفة أو السيل، ويستقيل من إنسانيّته ويهمل القوى الإنسانية الخاصّة. إنّ هذه الحالة تُدعى بالتعبير القرآني بـ«الغفلة»؛ الغفلة التي تدع الإنسان يسفّ حتى يتنزّل عن مراتب الحيوان: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلأَنعَٰمِ بَل هُم أَضَلُّ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلغَٰفِلُونَ﴾[1].

أما في الحالة الثانية، فيُطرح تساؤل آخر عن المعيار الذي به يرجّح الإنسان بعض حوائجه ومتطلّباته على الأخرى، ولأنّ هذا التساؤل يشمل الدين أيضًا، وجب أن يجاب عنه بجواب بغضّ النظر عن المقاييس التعبّديّة.

يمكن الإجابة عن التساؤل الآنف بثلاثة أجوبة:

الأوّل: مقياس الأكثريّة في اللذّة، فمتى كان عمل ما أكثر لذّة انتخبناه عند التزاحم. ومن الطبيعيّ أنّه لا يمكن جعل الملاك هنا اللذّة الفعليّة، فقد تكون لعمل ما لذّة فعليّة لكنّها مشفوعة بعد ذلك بألم شديد. علاوة على أنّه من الممكن ألّا نكون قد ذقنا من قبل لذّة بعض الأعمال حتى نقارنها إلى غيرها، فالسبيل الصحيح لتشخيص الألذّ هو معرفة حقيقة اللذّة وملاكها، ثم نعمل على معرفة الأكثر لذّة من خلال المقارنة والحساب العقليّ. ونحن قد قمنا من قبل بمثل هذه المحاسبة، ووصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن لذّة القرب إلى الله لا تُعدّ لها لذّة ولا تبلغها رغبة: ﴿وَٱللَّهُ خَيرٞ وَأَبقَىٰٓ﴾[2].

 

 


[1] سورة الأعراف، الآية 179.

[2] سورة طه، الآية 73.

 

127


117

تدبير الإرادة

الثاني: أن نقارن بين الغرائز على أساس غاياتها، ثم نعمل على ترجيح الأفضل غاية. وقد قلنا من قبل أن للغرائز شعبتين: الأولى حفظ الوجود، والثانية تحصيل الكمال. وغاية الشعبة الأولى بقاء الإنسان في هذا العالم لكي يطويَ طريق تكامله. فمثلًا غاية الأكل والشرب تأمين الاحتياجات البدنيّة للإبقاء على الحياة الدنيويّة، وغاية غريزة الدفاع الصيانة من الأخطار لإدامة الحياة، وغاية الغريزة الحسيّة والعواطف العائليّة والاجتماعيّة هي بقاء النوع الإنساني، إلّا أنّ غاية الفرع الثاني غاية لامتناهية وخالدة، ومن الواضح أنّها الغاية الأسمى والأبقى: ﴿وَٱلأٓخِرَةُ خَيرٞ وَأَبقَىٰٓ﴾[1].

الثالث: أنّ غرائز الشعبة الأولى لها بالطبع جانب مقدّمي؛ لأنّ دورها تهيئة الأرضية المناسبة، وتحقيق إمكانات التكامل، في حين أنّ الشعبة الثانية تمتلك أصالةً بالنسبة إلى الأولى. ومن الواضح أنّ قيمة المقدّمة بقيمة ذي المقدّمة، ولا يمكن استبدال هذا بتلك. بعبارة أخرى، إنّ غرائز الشعبة الأولى ليست لها أيّ حاكميّة بالنسبة إلى غرائز الشعبة الثانية، وإنما لكلّ منها حركة خاصة بها، لكنّ غرائز طلب الكمال ناظرة وحاكمة على سائر الغرائز؛ ذلك لأنّ مقتضاها تعبئة الطاقات كلّها في سبيل التكامل عليه، فيجب أن نعدّها حاكمة -عملًا- ونجعلها معيارًا لتحديد وتوجيه سائر المتطلبات. ومن البحوث السابقة عرفنا أنّ الكمال النهائيّ للإنسان، والذي

 

 


[1] سورة الأعلى، الآية 17.

 

128


118

تدبير الإرادة

يجب أن تُعبَّأ الطاقات كلّها للوصول إليه هو القرب إلى الله -تعالى-: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلمُنتَهَىٰ﴾[1].

النتيجة النهائيّة

علمنا أنّ الإنسان يجب ألّا يكون مجرّد متفرّج في قبال العوامل الطبيعيّة والاجتماعيّة والتضاد بينها، وإنّما عليه أن يمتلك دور الموجّه المستفيد من القوى الإنسانية الخاصّة، وأن يقوم عبر نشاطاته الإراديّة الواعية بتحريك الطاقات كلّها في المسير الصحيح، وتوجيهها نحو الهدف الأصليّ والكمال النهائيّ.

لا شكّ في أنّ أحد هذه الطاقات الإنسانية التي يمكنها أن تعوّد الإنسان لتحقّق هذا السعي الموجَّه هو القوة العقلية، ولتقويتها الأثر المهمّ في السير التكامليّ للإنسان، وحتّى أنّ سقراط اعتبر أصل الفضيلة هو العقل والعلم والحكمة (طبق التعبيرات المختلفة - المنقولة عنه)، لكنّ أرسطو أشكل عليه بأنّ الإنسان الذي يمتلك علمًا وحكمة ولا يعمل بهما ليس واجدًا للفضائل الأخلاقيّة، ولذا لا يمكن اعتبارهما أصل كلّ الفضائل.

ونحن مع قبولنا لهذا الإشكال، نضيف بأنّ عمل القوى الإدراكيّة ليس البعث والتحريك، بل حتى الهدايات الإلهيّة السماويّة والأنوار فوق العقلية أيضًا لا تستطيع بنفسها أن تحرّك الإرادة، ولا يمكنها أن تضمن وصول الإنسان إلى الكمال المطلوب.

 


[1] سورة النجم، الآية 42.

 

129


119

تدبير الإرادة

﴿وَٱتلُ عَلَيهِم نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَينَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ ٱلشَّيطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلغَاوِينَ ١٧٥ وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخلَدَ إِلَى ٱلأَرضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ﴾[1].

الشرط الكافي للسعادة هو سيطرة المتطلبات السامية والعبودية لله، وتقهقر النزعات المنحطّة النفسيّة والشيطانيّة، ولكنّنا نؤكّد في الوقت نفسه أنّ القوة الإنسانيّة المفكِّرة لها دورها المهمّ جدًا في توجيه الإرادة. وإن هذه القوّة هي نفسها التي تساعدنا في تهيئة مقدّمات الاختيار والتنظيم والتوجيه لها، وهذه البحوث هي نماذج من آثارها. على هذا، يجب علينا دائمًا أن نشخّص سبيلنا في ظلّ هدايات العقل ونهيّئ أنفسنا لتقبّل الأنوار الإلهيّة.

إنّ قوة العقل لها أهمّيّة كبرى لتشخيص الهدف ومعرفة المسير الأصليّ؛ لكنّها لا تكفي لمعرفة جزئيّات الطريق والطروح الدقيقة، ومن هنا نحتاج إلى الوحي والاستعانة بنظمه الشاملة.

تقوية التصوّر الديني توسعة الوعي النابع من المنابع الدينيّة الأصيلة أمرٌ ضروريٌّ جدًّا، كما أنّ تقوية الإدراك الفطريّ بواسطة التوجّهات القلبية والتمرّس في مجال تركيزها عبر الأشكال المختلفة للعبادات، عامل مهمّ جدًّا، بل هو أشدّ العوامل تأثيرًا وأصالة لتحقيق التكامل الحقيقيّ. ومن الواضح أنّ معرفة هذه الحقائق كلّها إنّما كانت ببركة العقل والتفكير العقلانيّ.

 


[1] سورة الأعراف، الآيتان 175 و 176.

 

130


120

تدبير الإرادة

المهمّ في القسم الأخير من هذا البحث هو أن نعلم كيف نوفّر المقدّمات لإثارة المتطلّبات الإنسانيّة السامية والميل للوصول إلى مقام القرب الإلهيّ، وكيف نقوّي هذه المتطلّبات والميول ونغلبها على غيرها.

لقد سلف منّا القول أنّ توعية ميل ما وإثارته قد يكون أحيانًا أثر بعض التفاعلات الداخليّة للبدن، كما قد يكون على أثر التماس مع المواد الخارجية، كما قد يكون أيضًا ثالثًا نتيجة النشاطات النفسيّة التي تتحرّك هي بدورها بواسطة المحرّكات الخارجيّة. إنّنا نجد الغرائز من شعبة حفظ الوجود تُثار عادة بواسطة العاملين الأوّلين، أما حكمة كون إثارتهما غير منوطة بالفعاليّات الشعوريّة للإنسان، فتكمن في أنّ الحياة الفرديّة والاجتماعية للإنسان في هذا العالم منوطة مباشرة بفاعليّة هذه الغرائز، فإذا كان عملها منوطًا بإرادة الإنسان واختياره، فقد تتعطّل على أثر غفلته أو أفكاره المغلوطة، وحينئذ تنعدم الأرضيّة المساعِدة للسير التكامليّ، ولكنّه بعد توافر الأرضيّة التكامليّة المساعِدة يصل الدور إلى النشاط الإراديّ الإنسانيّ باتّجاه الكمال، ولأنّ التكامل الحقيقيّ للإنسان إراديّ، فكلّما كانت دائرة الاختيار الحرّ أوسع كلّما كان إمكان التكامل الإراديّ أشدّ وأكثر. ومن هنا، فإنّ الشعبة الثانية من الغرائز، وحتى إيقاظها وتعيين مسيرة إشباعها أوكلت إلى الإنسان إلى حدّ كبير لكي يوفّر المقدّمات اللازمة لتحقيق النتائج التكامليّة.

 

131

 

 


121

تدبير الإرادة

فعندما تصبح حاجة ما فعليّة في الإنسان، وتشبع هذه الحاجة، وتحصل لذّة أو يرتفع ألم، تحصل النفس على توجّه أكثر إليها. وفي المرحلة الثانية، تظهر تلك الحاجة بشكل أشدّ إلحاحًا. وهكذا وعلى أثر التكرار، تأنس لها النفس وتتعلّق بالموضوع الخارجي الذي يتعلّق به الفعل ويشكّل بنحوٍ ما وسيلةً لإشباع تلك الحاجة أو الشيء الفلانيّ أو الشخص الفلانيّ، ولازم حبّنا توجّه النفس المستمرّ للمحبوب والقيام بالأعمال المتناسبة معه، فإذا شئنا أن نمنح سيرنا الجهة الخاصّة ونعبِّئ كلّ قوانا في سبيل الوصول إلى هدف معيّن كان علينا أن نسعى إلى تحقيق استمراريّة توجّه النفس للهدف وجهته وأنسها به والتمركز في خطّ واحد مشروط بعدم التوجّه إلى الجهة المخالفة وعدم الالتفات إلى أيّ مطلب آخر استقلالًا، بل تُسخَّر الغرائز كلّها كخادمة لتحقيق الميل العالي والمتطلّب للكمال ويجعل إشباعها يتبع إشباع هذا الميل العالي، والتوفيق في هذا العمل رهين البرنامج العمليّ المشتمل على السعي الإيجابيّ والسلبيّ المعين في مجال تقوية الميل نحو الكمال وعبادة الله. وأهمّ الموادّ الإيجابيّة في هذا البرنامج هي كما يأتي:

1. العبادة، خصوصًا الصلوات الواجبة، وأداؤها في وقتها، مع حضور قلبيّ وإخلاص كامل.

﴿قَد أَفلَحَ ٱلمُؤمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَٰشِعُونَ﴾[1].

 

 


[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 و 2.

 

132


122

تدبير الإرادة

وعند الإمكان يجب أن نخصّص مقدارًا من أوقاتنا للتوجّه القلبيّ، وذلك في وقت ومكان مناسبيْن.

﴿وَٱذكُر رَّبَّكَ فِي نَفسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ﴾[1].

إدامة هذا العمل توجب أنس القلب بالله وذوق لذّة المناجاة معه، وعدم الاهتمام باللذائذ المادّيّة، ويجب ألّا ننسى الإنفاق والإيثار، وهما أفضل الوسائل للإعراض عن اللذائذ الدنيوية والزهد فيها وتطهير النفس من درن الدنيا.

﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ﴾[2].

﴿لَن تَنَالُواْ ٱلبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[3].

﴿خُذ مِن أَموَٰلِهِم صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[4].

إنّ الصلاة والإنفاق يكملان بعضهما بعضًا، وربما كان هذا هو سرّ تقارنهما الغالب في القرآن الكريم: ﴿وَأَوصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمتُ حَيّٗا﴾[5].

2. لنخصّص كلّ يوم مقدارًا من أوقاتنا للتفكير في صفات الله والآيات الإلهيّة، وهدف الخلقة والنعم المتوالية اللانهائيّة له -تعالى-، وكذلك في تشخيص السبيل الصحيح وطول المسير وقلّة الوقت والطاقة وكثرة الموانع وسخف الأهداف

 


[1] سورة الأعراف، الآية 205.

[2] سورة الحشر، الآية 9.

[3] سورة آل عمران، الآية 92.

[4] سورة التوبة، الآية 103.

[5] سورة مريم، الآية 31.

 

133


123

تدبير الإرادة

الدنيويّة المحدودة وكون لذائذها مشوبة ومسبوقة وملحوقة بالآلام والمصائب، وكذلك في الأشياء كلّها التي تشجّع الإنسان في طيّ طريق العبودية وتمنعه من عبادة الذات والدنيا.

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَومٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].

3. ليكن لنا برنامجٌ يوميّ لقراءة القرآن الكريم بتوجّه وتدبّر وإمعان، ومطالعة الروايات والمواعظ والكلمات الملأى بالحكمة والأحكام الفقهيّة والتعليمات الأخلاقيّة ليبقى الهدف وسبيله الصحيح ماثلًا في أعماقنا، ولتكون توعية حسن طلب الكمال وتذكيرها دائمًا.

﴿وَلَقَد يَسَّرنَا ٱلقُرءَانَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُّدَّكِرٖ﴾[2].

أمّا الموادّ السلبيّة في هذا البرنامج الحياتيّ، فأهمّها ما يأتي:

1. عدم الإسراف في إشباع اللذائذ المادّيّة التي توجب أنس النفس باللذّات الحيوانيّة، وإنّما نسعى لكي يكون الداعي إلى الاستفادة من النعم الدنيويّة هو تهيئة المقدّمات للسير؛ أيّ السلامة والقوة والنشاط البدنيّ للعبادة والشكر، ويشكّل الصوم وعدم الشبع في الأكل وقلّة الكلام وقلّة النوم مع رعاية الاعتدال وحفظ السلامة أجزاءً لهذه المادّة.

 

 


[1] سورة الرعد، الآية 3.

[2] سورة القمر، الآيات 17 - 22 - 32 - 40.

 

134


124

تدبير الإرادة

﴿وَٱلَّذِينَ هُم عَنِ ٱللَّغوِ مُعرِضُونَ﴾[1].

﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيرٞ لَّكُم﴾[2].

2. السيطرة على القوى الحسّيّة والخياليّة التي يمكنها أن تكون بالتداعي منشأً للميول الحيوانيّة، خصوصًا منع العين والأذن من رؤية المناظر الشهوانيّة وسماع الأصوات الباطلة الملهيّة، وبشكل عام صرف النظر عن كلّ ما لا يرضى به الله.

﴿إِنَّ ٱلسَّمعَ وَٱلبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنهُ مَس‍ُٔولٗا﴾[3].

3. الاحتفاظ بالتفكير عن مهاوي الانحراف الفكريّ، والامتناع عن المطالعة والبحث في الشبهات التي لا نَقدِر على الجواب عنها، وإذا ما طُرِحت لدينا مثل هذه الشبهات أو سمعناها وجب علينا السعي لتحصيل الجواب المقنع عنها.

﴿وَقَد نَزَّلَ عَلَيكُم فِي ٱلكِتَٰبِ أَن إِذَا سَمِعتُم ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكفَرُ بِهَا وَيُستَهزَأُ بِهَا فَلَا تَقعُدُواْ مَعَهُم حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيرِهِۦٓ إِنَّكُم إِذٗا مِّثلُهُم إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلمُنَٰفِقِينَ وَٱلكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾[4].

«من أصغى إلى ناطق فقد عبده؛ فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»[5].

 

 


[1] سورة المؤمنون، الآية 3.

[2] سورة البقرة، الآية 184.

[3] سورة الإسراء، الآية 36.

[4] سورة النساء، الآية 140.

[5] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، أبواب صفات القاضي، باب 10، ج9، ص13.

 

135


125

تدبير الإرادة

النقطة التي يجب ألّا نغفلها عند تنظيم هذا البرنامج وتنفيذه هي رعاية أصل التدرّج والاعتدال بمعنى عدم تحميل أنفسنا ما لا تتحمّله من ضغط، إذ إنّ ذلك بالإضافة إلى أنّه يؤدي إلى العصيان وعدم الطاعة من قبل النفس يمكن أن يورد علينا أضرارًا بدنيّة أو روحيّة لا تجبر. على هذا، فمن الحسن التشاور مع شخص واعٍ خبير قابل للاعتماد في وضع مثل هذا البرنامج.

وكذلك من طرف آخر، لا ينبغي التماهل والتساهل في إجراء البرنامج الدقيق والتماس الأعذار؛ ذلك لأنّ أثر هذا البرنامج يتوقّف على استدامة تنفيذه، وعلى أيّ حال يجب أن نتوكّل على الله ونلتمس منه العون والتوفيق، والحمد لله ربّ العالمين.

 

136


126
معرفة الذات لبنائها الجديد