النبي محمد قدوة العالمين

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-04

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 والحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

 

أعظم إنسانٍ عرفته البشريّة، النموذج الإنسانيّ الكامل، الشخصيّة الجامعة للصفات والخصائص والقِيم الإنسانيّة الكاملة، رجل العلم والفضل والعقل والكمال، إنّه الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

 

اصطفاه الله - عزّ وجلّ - هادياً ومبشِّراً ونذيراَ، ليخرج الناس من ظلمات الغيّ والضلالة إلى نور الحقّ والهداية، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[1].

 

أودعه الله مكارم الأخلاق، فكان شخصيّة جاذبة، يملك من العلوّ والرقيّ والصافات الإنسانيّة السامية ما حيّر أعداءه وشدَّ أحباءه. لقد كان معجزةً أخلاقيّة، كيف لا؟! وهو الذي دخل مكّة المكرّمة منتصراً عزيزاً بعد سلسلة طويلة من حلقات اللؤم والعداء والحقد والبغض والشحناء، فما كان منه إلّا أن عفا عنهم، وغضّ الطرف عن جرائمهم.

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ نبيّ الإسلام المكرَّم، إنسانٌ فوق المألوف (استثنائيّ)، بلحاظ الشخصيّة الإنسانيّة والبشريّة، وهو من الطراز الأوّل الذي لا نظير له، جَمَعَ الخصال الأخلاقيّة الرفيعة في شخصيّة إنسانيّة عزيزة، مظهرًا الكثير من الصبر والتحمّل، وتقبّل الآلام والمصاعب، لقد اجتمعت فيه كافّة الخصوصيّات الإيجابيّة للإنسان العظيم"[2].


 


[1] سور الأحزاب، الآيتان 45 - 46.

[2]  لجنة التأليف في مركز المعارف للمناهج والمتون التعليميّة، الشخصيّة القياديّة للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله، لبنان – بيروت، 2015م، ط1، ص42، عن خطبتي صلاة الجمعة في طهران (23/2/1379)/ (12/5/2000).

 

11

 

 

 


1

المقدّمة

من هنا، كان هذا النبيّ العظيم قدوة للعالمين، وأسوة للناس أجمعين، وقد أمر الله  - تعالى - بذلك في كتابه الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[1].

 

انطلاقاً من هذه الآية الكريمة، وسعياً في توجيه مجتمعنا نحو الشخصيّة القدوة - وأيّ شخصيّة أعظم من محمّد صلى الله عليه وآله وسلم تكون قدوتنا لنا في حياتنا- قمنا بإعداد هذا الكتاب "النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قدوة العالمين"، معتمدين على الآية الكريمة, بغية تجسيد هذه القدوة في حياتنا اليوميّة، في مختلف جوانبها، فعملنا في هذا الكتاب على إبراز الجوانب والخصائص والامتيازات الفكريّة والإنسانيّة والأخلاقيّة والسلوكيّة كافّة، التي كان يمتاز بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مقدّمين لمحة حول حياته الشخصيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، علّنا نسهم في تحفيز مجتمعنا على الاقتداء بهذه الشخصيّة الإنسانيّة العظيمة.

 

                                                                               والحمد لله رب العالمين

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 21.

 

12


2

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

الدرس الأوّل

البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى سنّة البشارة بالأنبياء.

2- يتبيّن بشارات الأنبياء عليهم السلام حول النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يلخّص رأي أهل الكتاب بمجيء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في جزيرة العرب.

 

13


3

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله في كلّ الأزمنة وفي مختلف بقاع الأرض، ووهبهم القدرة على فعل المعجزات ليبشّروا الناس بالوحي الإلهيّ، مضافاً إلى أن الأنبياء أنفسهم كانوا يبشّرون أتباعهم بالأنبياء اللاحقين، لكي لا تنحرف البشريّة عن المسار الصحيح.

 

سنّة البشارة الإلهيّة على مدى العصور

لقد صرّح القرآن الكريم بأنّ بعث الأنبياء وإرسال الرسل بدأ منذ بداية العهد التاريخيّ للبشريّة، حيث كان الأنبياء يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنسانيّ أكمل, لذا يمكن القول إنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشريّة يعتبر بداية العصر التاريخيّ للبشرية.

 

قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[1].

 

لقد قضت حكمة الله ورحمته بإرسال الأنبياء، حاملين إلى الإنسانيّة منهاج هدايتها، الذي يخرجها من أسر الغريزة إلى رحاب العقل، ومن منطق الصراع الذي مرجعه الغريزة والقوّة إلى منطق النظام ومرجعه القانون. وخرج المجتمع البشريّ بالنبوّات عن كونه


 


[1] سورة البقرة، الآية 213.

 

15


4

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

تكويناً حيوانيّاً ـ بيولوجيّاً ـ ليتحوّل إلى ظاهرة عقليّة روحيّة، وحقّقت النبوّات للإنسان مشروع وحدة أرقى من وحدته الدمويّة البيولوجيّة، وهي الوحدة القائمة على أساس المعتَقَد، فتطوّرت العلاقات الإنسانيّة بذلك مرتفعة من علاقات المادة إلى علاقات المعاني، أمّا الاختلافات التي نشأت في النوع الإنسانيّ بعد إشراق عهد النبوّات فقد كانت اختلافات في المعنى، واختلافات في الدين والمعتقد, حيث إنّ أسباب الصراع لم تُلغ بالدين الذي جاءت به النبوّات، بل استمرّت وتنوّعت، ولكنّ المرجع لم يعد الغريزة بل غدا القانون مرجعاً في هذا المضمار، والقانون الذي يتضمّنه الدين يكون قاعدة ثابتة لوحدة الإنسانيّة وتعاونها وتكاملها[1].

 

وأوضح الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الخطبة الأُولى من نهج البلاغة ـ بعد أن استعرض تاريخ خلق العالم وتاريخ خلق آدم عليه السلام وإسكانه في الأرض ـ أنّ إشراق النبوّة وتسلسلها على مدى العصور هو المحور في تاريخ الإنسان وحركته نحو الكمال، كما صرّح القرآن الكريم بذلك، موضحاً منهجه في التعامل مع التاريخ، حيث قال عليه السلام: "...، واصْطَفَى سُبْحَانَه مِنْ وَلَدِه أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ[2]، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ اللَّه إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه[3]، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه[4]، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه[5]، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا


 


[1] راجع: شمس الدين، الشيخ محمد مهدي، حركة التاريخ عند الإمام علي عليه السلام، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، لبنان - بيروت، 1418 هـ/ 1997م، ط4، ص71-74.

[2] أخذ عليهم الميثاق أن يبلّغوا ما أُوحي إليهم، أو أخذ عليهم أن لا يشرّعوا للناس إلاّ ما يوحى إليهم.

[3] الأنداد: المعبودين من دونه سبحانه وتعالى.

[4] اجتالتهم: صرفتهم عن قصدهم الذي وُجّهوا إليه بالهداية المغروزة في فطرهم.

[5] كأن الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى، قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أُوتي من ذلك في ما خلق له، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات، فبعث النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق.

 

16


5

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ[1]، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ[2]، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يُخْلِ اللَّه سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَه مَنْ بَعْدَه أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَه مَنْ قَبْلَه عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّه سُبْحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لإِنْجَازِ عِدَتِه وإِتْمَامِ نُبُوَّتِه، مَأْخُوذاً عَلَى النبيّينَ مِيثَاقُه، مَشْهُورَةً سِمَاتُه كَرِيماً مِيلَادُه، وأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّه لِلَّه بِخَلْقِه أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِه، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِه، فَهَدَاهُمْ بِه مِنَ الضَّلَالَةِ وأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِه مِنَ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَه لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لِقَاءَه، ورَضِيَ لَه مَا عِنْدَه وأَكْرَمَه عَنْ دَارِ الدُّنْيَا، ورَغِبَ بِه عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى، فَقَبَضَه إِلَيْه كَرِيماً صلى الله عليه وآله وسلم، وخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ ولَا عَلَمٍ قَائِمٍ..."[3].

 

ثم إنّ بشائر الأنبياء السابقين بنبوّة الأنبياء اللاحقين تنفع الأجيال المعاصرة لهم، وكذا الأجيال اللاحقة, إذ تفتح عيونهم وتجعلهم على أهبة الاستقبال للنبيّ المبشَّر بنبوّته، كما أنّها تزيل عنهم الريب وتمنحهم مزيداً من الثقة والاطمئنان.

 

على أنّ اليأس من الإصلاح إذا ملأ القلب يجعل الإنسان يفكّر بطَرْق أبواب الشّر والخيانة، فالبشائر بمجيء الأنبياء المصلحين تزيل اليأس من النفوس التي تنتظر الإصلاح، وتوجّهها إلى حبّ الحياة وقرع أبواب الخير.


 


[1] دفائن العقول: أنوار العرفان التي تكشف للإنسان أسرار الكائنات، وترتفع به إلى الإيقان بصانع الموجودات، وقد يحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام وحجب من الخيال، فيأتي النبيون لإثارة تلك المعارف الكامنة، وإبراز تلك الأسرار الباطنة.

[2] السقف المرفوع: السماء. والمهاد الموضوع: الأرض. والأوصاب: المتاعب.

[3] الرضيّ، الشريف محمد بن الحسن، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا. ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ج1، الخطبة 1، ص44.

 

17


6

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

وتزيد البشائر إيمان المؤمنين بنبوّة نبيّهم، وتجعل الكافرين في شكٍّ من كفرهم، فيضعف صمودهم أمام دعوة النبيّ إلى الحقّ ممّا يمهّد لقبولهم الدعوة.

 

وإذا أدّت البشارة إلى حصول الثقة فقد لا تُطلب المعجزة من النبيّ، كما تكون النبوّة المحفوفة بالبشارة أنفذ إلى القلوب وأقرب إلى الإذعان بها. على أنّها تبعّد الناس عن وطأة المفاجأة أمام واقع غير منتظر، وتخرج دعوة النبيّ عن الغرابة في نفوس الناس[1].

 

كما أنّ الأنبياء جميعاً يشكّلون خطاً واحداً، فالسابق يبشّر باللاحق، واللاحق يؤمن بالسابق. قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾[2]، فضلاً عن الشواهد والتطبيقات الأخرى.

 

بشارات الأنبياء برسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

كان طبيعياً أن يوجّه الأنبياء أصحاب الرسالات الكبرى كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، أتباعهم إلى انتظار هذا الدين العظيم لاعتناق دعوته والتصديق برسالته والإيمان بنبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أشارت الكتب الإلهيّة المقدّسة كالتوراة والإنجيل إلى مجيء هذا النبيّ العظيم، وأشار القرآن الكريم إلى أن هؤلاء الأنبياء قد مارسوا هذا الدور العظيم، ومنها:

1- لقد نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليل عليه السلام برسالة خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب الدعاء قائلاً - بعد الكلام عن بيت الله الحرام في مكّة المكرّمة، ورفع القواعد من البيت، والدعاء بقبول عمله وعمل إسماعيل عليه السلام، وطلب تحقيق أمّة مسلمة من ذريتهما: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾[3].

 


[1] محمد في القرآن، ص 36.

[2] سورة آل عمران، الآية 81.

[3] سورة البقرة، الآية 129.

 

18


7

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

2- وصرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الأميّ كانت موجودة في العهدين القديم (التوراة)، والجديد (الإنجيل). والعهدان كانا في عصر نزول القرآن الكريم، وظهور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولو لم تكن البشارة موجودة فيهما لجاهر بتكذيبها أصحابُ العهدين.

 

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾[1].

 

3- وصرّحت الآية السادسة من سورة الصفّ بأنّ عيسى عليه السلام صرّح بتصديقه للتوراة، وبشّر برسالة نبيّ من بعده اسمه أحمد. وقد خاطب عيسى عليه السلام بني إسرائيل جميعاً، لا الحواريين فحسب، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾[2].

 

أهل الكتاب ينتظرون خاتم النبيّيّن صلى الله عليه وآله وسلم

لم يكتف الأنبياء السابقون بذكر الأوصاف العامّة للنبيّ المبشَّر به، بل ذكروا - أيضاً - العلامات التي تمكّن المبَشَّرين من التعرّف عليه بشكل دقيق، مثل: محلّ ولادته، ومحلّ هجرته وخصائص زمن بعثته، وعلامات جسميّة خاصّة، وخصائص يتفردّ بها في سلوكه وشريعته, ولهذا يصرّح القرآن بأنّ بني إسرائيل كانوا يعرفون رسول الإسلام المبشَّر به في العهدين كما يعرفون أبناءَهم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[3].

 


[1] سورة الأعراف، الآية 157.

[2] سورة الصف، الآية 6.

[3] سورة الأنعام، الآية 20.

 

19


8

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

كما رتّبوا على ذلك آثاراً عملية، فاكتشفوا محلّ هجرته ودولته فاستقرّوا فيها[1]، وأخذوا يستفتحون برسالته على الذين كفروا، ويستنصرون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأوس والخزرج، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[2]، وتسرّبت هذه الأخبار إلى غيرهم عن طريق رهبانهم وعلمائهم, فانتشرت في المدينة وتسرّبت إلى مكّة[3].

 

وذهب وفد من قريش بعد إعلان الرسالة إلى اليهود في المدينة للتَثبّت من صحة دعوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للنبوّة، وحصلوا على معلومات اختبروا بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، واتّضح لهم من خلالها صدق دعواه[4].

 

وقد آمن جمع من أهل الكتاب وغيرهم بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم استناداً إلى هذه العلائم التي عرفوها دون أن يطلبوا منه معجزة خاصّة[5]. ولا زالت بعض هذه البشائر موجودة في بعض نسخ التوراة والإنجيل[6].

 

وهكذا تسلسلت البشائر بنبوّة خاتم النبيّين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل ولادته، وخلال فترة حياته قبل بعثته، وقد عُرف واشتُهر منها إخبار بحيرى الراهب وغيره إبّان البعثة المباركة[7].

 


[1] لجنة التأليف في مؤسسة البلاغ، سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، نشر مؤسسة الهدى الدولية، طهران - إيران، 2000م - 1420هـ.ق، ط2، ج1، ص38.

[2] سورة البقرة، الآية 89.

[3] أبو الفرج الأصفهانيّ، الأغاني، دار إحياء التراث العربيّ، لا. م، لا. ت، لا. ط، ج16، ص75، اليعقوبيّ، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبيّ، لبنان - بيروت، دار صادر، لا. ت، لا. ط، ج2، ص12، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، تحقيق وضبط وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده - بمصر، 1383 - 1963م، لا. ط، ج1، ص181.

[4] الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العامليّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1409هـ، ط1، ج7، ص5.

[5] سورة المائدة، الآية 85.

[6] لجنة التأليف في مؤسسة البلاغ، سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، مصدر سابق، ج1، ص39، إنجيل يوحنّا وأشعّة البيت النبويّ: 1 / 70، عن التوراة وراجع: بشارات عهدين، والبشارات والمقارنات.

[7] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج1، ص118، عبد الرزاق الصنعانيّ، عبد الرزاق بن همام، المصنّف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج 5، ص318.

 

20


9

الدرس الأوّل: البشارة بنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم

المفاهيم الرئيسة

 

1- لقد صرّح القرآن الكريم بأنّ العهد التاريخيّ للبشريّة قد بدأ بظاهرة وجود النبوّات وبعث الأنبياء وإرسال الرسل الذين مضوا يقودون مجتمعاتهم نحو حياة أفضل ووجود إنسانيّ أكمل, ويمكن القول إنّ إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشريّة يعتبر بداية العصر التاريخيّ للبشريّة.

 

2- تزيد البشائر إيمان المؤمنين بنبوّة نبيّهم، وتجعل الكافرين في شكٍّ من كفرهم، فيضعف صمودهم أمام دعوة النبيّ إلى الحقّ ممّا يمهّد لقبولهم الدعوة.

 

3- لقد نصّ القرآن الكريم على بشارة إبراهيم الخليل عليه السلام برسالة خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب الدعاء، بعد الكلام عن بيت الله الحرام في مكّة المكرّمة ورفع القواعد من البيت والدعاء بقبول عمله وعمل إسماعيل عليه السلام، وطلب تحقيق أمّة مسلمة من ذريتها.

 

4- صرّح القرآن الكريم بأنّ البشارة بنبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الأمّي كانت موجودة في العهدين القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل).

 

5- لم يكتفِ الأنبياء السابقون بذكر الأوصاف العامة للنبيّ المبشَّر به، بل ذكروا أيضاً العلائم التي يستطيع المبَشَّرون من خلالها معرفته بشكل دقيق، مثل: محلّ ولادته، ومحلّ هجرته وخصائص زمن بعثته، وعلائم جسمية خاصة وخصائص يتفرّد بها في سلوكه وشريعته.

 

22

 


10

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

الدرس الثاني

النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

(من الولادة حتى الزواج)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف تاريخ وظروف ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومراحل طفولته.

2- يشرح نشاط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودوره في فترة شبابه.

3- يتعرّف إلى زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من السيدة خديجة عليها السلام.

 

23

 

 


11

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

نشأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع كانت تتحكّم به أعراف الجاهليّة وأنماط عيشها، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت شخصيّته متميّزة وبارزة، وقد خالفت كلّ أنماط الحياة في ذاك المجتمع الجاهليّ، وعُرفت شخصيّته المباركة في مكّة المكرّمة برجاحة العقل، وحسن السيرة، وعلوّ الأخلاق الفاضلة، حتّى لُقِّبَ بـ "الصادق الأمين".

 

ظهور قبيلة قريش

كانت قبيلة جرهم قد جاءت إلى مكّة مع قبيلة قطورا من اليمن، بعد أن تدرّجت مكّة وأصبحت مدينة كبيرة، وتكاثر أولاد إسماعيل فيها. وكان الزوار الوافدون إلى مكّة بهدف الزيارة يقدّمون الأموال والهدايا إلى الكعبة، فقامت قبيلة جرهم بالسيطرة على مقاليد الحكم في مكّة، إلا أنّها لم تطرد أبناء إسماعيل، بل وثّقت العلاقة معهم، لكن أحوال ولد إسماعيل تدهورت بعد ذلك.

 

ولادته صلى الله عليه وآله وسلم

كانت مكّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد تعرّضت لأكبر هجوم في التاريخ، وذلك في محاولة لتدمير الكعبة، وقد كان قائد ذلك الهجوم هو أبرهة الذي كان يحكم جنوب شبه الجزيرة العربيّة، وسعى إلى توسعة حكمه، ونشر الديانة المسيحيّة، وهو الذي يعلم بأنّ للعرب مقرّاً مقدساً يحجّون وغيرهم إليه في كل عام، فقام ببناء كنيسة كبيرة سمّاها "القليس"، من أجل تحويل أنظار سكّان شبه الجزيرة العربيّة جميعاً إليها، وليجعل منها كعبة جديدة لهم.

 

25


12

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

فدعا الناس إلى الحجّ إلى هذه البناء، فعلمت العرب بذلك، وكبر عليها ما قام به أبرهة، فلم تصغِ العرب إليه، بل قام بعضهم بهتك حرمة ذلك البناء، فكبُر ذلك في نفس أبرهة، فجهز جيشاً كبيراً جداً، وخرج بنفسه إلى هدم الكعبة المشرّفة، وكانت الوسيلة الأهم في تلك المعركة هي الفيلة، وكان زعيم قريش في ذلك الزمن عبد المطلب بن هاشم جدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن بالله سبحانه وتعالى على دين جدّه إبراهيم، فقرّر ترك مكّة والخروج إلى أعالي الجبال، باعتبار أن للكعبة ربّاً يحميها، فوصل أبرهة إلى مكّة، وهاجمها، فأنزل الله عزّ وجلّ العقاب عليهم بطير من أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل، وهذا ما نزل على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الفيل، وسمّي ذلك العام بعام الفيل.

 

وبعد هجوم جيش أبرهة بخمسين ليلة وُلد خاتم النبيّين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول، وكان ذلك بعد 571 عاماً على ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام، في عام الفيل، وكانت ولادته في مكّة المكرّمة في منزل أبيه عبد الله بن عبد المطّلب[1].

 

رضاعه صلى الله عليه وآله وسلم

كان أشراف مكّة قد اعتادوا على تسليم أطفالهم إلى المراضع اللواتي كنّ يسكنّ البادية، وكانت أمّه قد أرضعته أياماً قبل أن تأتي حليمة السعديّة لأخذه، بعد أن اختارتها آمنة عليها السلام على غيرها[2].

 

فسرّت حليمة، وتسلّمته من أمّه، وانطلقت إلى ديارها[3].

 

وفي تلك السنة، كان القحط قد أصاب بني سعد، ومسّهم الضرّ والشقاء، ولكن ما إن وصل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك الديار حتّى بدأت البركة والخير يغمران منزل حليمة، فقد سمنت أغنامها بعد الهزال، وزاد لبنها بعد النضوب[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، إيران، 1405هـ، لا.ط، ص192.

[2] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص111، المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج15، ص331.

[3] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص111.

[4] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص10.

 

26


13

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

ثمّ أعادته إلى أمّه في مكّة، وبقي يتنعّم في حنان الأمّ إلى أن توفّيت وهو لم يتجاوز السادسة من عمره الشريف، ووقع ذلك عندما كان يصحبها في سفر إلى يثرب لزيارة أخواله بني عديّ بن النجار ليتعرّف إليهم، إلا أنّها مرضت وتوفّيت في طريق العودة إلى مكّة في قرية تدعى "الأبواء"، فبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتيماً لا أب له ولا أمّ، فاحتضنته أمّ أيمن، وسلّمته إلى جدّه عبد المطّلب[1].

 

كفالة أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

بقي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في كفالة عبد المطّلب إلى حين وفاته، وقد بعث قبل دنوّ أجله إلى أبي طالب، وأخبره بمقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومستقبله، وعلوّ شأنه بين العرب، فكفله أبو طالب، وكان أبو طالب يضمّه إلى نفسه، لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام إلى جانبه حتّى لا يأتمن عليه أحداً[2]، وكانت فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب (والدة الإمام عليّ) تفيض عليه من حبّها وحنانها[3].

 

فترة شبابه

1- رحلته إلى الشام:

رافق خاتم النبيّين عمَّه أبا طالب في رحلة تجاريّة إلى الشام، وكان قد بلغ آنذاك الثانية عشرة. ولدى وصول القافلة إلى مدينة بصرى، نزلوا قريباً منها، فدعاهم إلى الطعام راهبٌ يدعى "بحيرى"، فرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن دار حوار بين النبيّ وبحيرى، أخبر الراهب عمّه أنّه نبيّ هذه الأمة، وأصرّ عليه أن يرجعه إلى مكّة[4].


 


[1] القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، السيد محمد الحسينيّ الجلاليّ، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، 1414، ط2، ج1، ص181، الصدوق، الشيخ محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، محرم الحرام 1405 - 1363 ش، لا.ط، ص171 - 172.

[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص171.

[3] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، قمّ - إيران، 1417هـ، ط1، ص391.

[4] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص121.

 

27


14

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

2- النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلف الفضول:

لم يتردّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأبو طالب والهاشميّون في الاستجابة إلى تجديد حلف المطيّبين. فبعد منصرف قريش من حرب الفجّار، دعا الزبير بن عبد المطّلب إلى حلف الفضول، وتحالفوا وتعاقدوا على نصرة المظلوم، والتآسي في المعاش، والنهي عن المنكر، والمتحالفون على ذلك هم بطون هاشم، وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وزهرة، وتيم[1].

 

وقد كان من أهمّ الدوافع إلى التحالف هو العامل الفطريّ والإنسانيّ, ولذلك أثنى عليه خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم بعد نبوّته، وأمضاه، وقد رُوِي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد أن استقرّت دولته في المدينة، وأصبحت عزيزة الجانب: "ما أحبّ أنّ لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم، ولو دعيت به لأجبت"[2].

 

3- خاتم النبيّين ووضع الحجر الأسود:

بعد غزوة أبرهة جاء الكعبة سيلٌ جارفٌ تجاوز الردم، والذي كان قد وضع ليمنع وصول السيول إليها، فدخلها وصدّع جدرانها، فاتّفقت قريش على هدمها، وإعادة بنائها، وأعدّوا لذلك نفقة طيّبة[3].

وبدأت كلّ قبيلة تجمع الحجارة على حدة، وشارك النبيّ في جمع الحجارة.

 

ولمّا بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، وقع بينهم الخصام، فإذا كلّ بطن يريد أن ينال شرف رفعه إلى موضعه، وكاد أن يؤدّي الأمر بهم إلى السيف، حتّى تواعدوا بالقتال[4]، ثمّ اجتمعوا وتشاوروا واتّفقوا على أن يكون أوّل داخل على الاجتماع هو الحكم بينهم، وشاءت الإرادة الإلهيّة أن يكون النبيّ هو أوّل داخل، فلمّا رأوه قالوا: "هذا الأمين، رضينا،

 


[1] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، قم‏، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ‏، 1404هـ، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج14، ص129.

[2] الأصفهانيّ، الأغاني، مصدر سابق، ج16، ص66.

[3] راجع: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج1، ص206.

[4] راجع: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج14، ص129.

 

28


15

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

هذا محمّد". وقد كانوا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهليّة, لأنّه كان لا يداري، ولا يماري[1].

 

فلمّا أخبروه بالأمر طلب ثوباً، أو بسط إزاره، ثمّ أخذ الحجر، وضعه فيه بيده، ثمّ طلب منهم أن يأخذ كلّ منهم بناحية من الثوب، ثمّ رفعوه جميعاً، ففعلوا، فلمّا حاذوا موضعه أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، فوضعه مكانه[2].

 

4- تجارته مع السيّدة خديجة بنت خويلد عليها السلام:

نظراً للسيرة العطرة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أخذ اسمه يحتلّ مكاناً مرموقاً في أوساط قريش، فعُرف بصدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق. ولما بلغ عمره الشريف خمساً وعشرين سنة كانت قافلة قريش التجاريّة تتهيّأ للسفر إلى الشام، فاتّصلت خديجة بنت خويلد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرضت عليه أن يضاربها في تجارتها، فقبل، فاستدعت غلامها ميسرة، وأمرته أن يلازم محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، ويقوم على خدمته.

 

ثمَّ إنَّ هذه الرحلة كانت عميمة الخير والبركة، فهي قد درّت ربحاً وفيراً على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة، وأظهرت شخصيّته بصورة أجلى عند زملاء السفر من قريش[3].

 

زواج خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم

لقد كانت رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تجارته مع خديجة إحدى مقدّمات الزواج الميمون، ولكن لم يكن من السهل على السيدة خديجةعليها السلام أن تصارح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، في ظل ما تتميّز به من شخصيّة رفيعة، ومكانة محترمة بين نساء قريش، فبعثت صديقتها وصاحبة سرّها نفيسة بنت منية إليه, لتبحث معه حول موضوع الزواج، وتنظر رأيه في ذلك. فأجابها محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس عندي ما أتزوّج به". قالت عليها السلام: "فإن كُفيت ذلك...، ألا تجيب؟". فأشارت عليه بالسيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام التي أرسلت معها

 


[1] راجع: الحلبيّ، علي بن برهان، السيرة الحلبيّة، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1400هـ، لا. ط، ج1، ص145.

[2] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تحقيق لجنة من أساتذة النجف الأشرف، الناشر: المكتبة الحيدريّة، النجف الأشرف، العراق، 1956م، لا.ط، ج2، ص278.

[3] راجع: الحلبيّ، السيرة الحلبيّة، مصدر سابق، ج1، ص136.

 

29


16

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

أن تقول له: "إنّي قد رغبت فيك لقرابتك، وشرفك في قومك، وأمانتك، وحسن خلقك وصدق حديثك".

 

وكانت السيدة خديجةعليها السلام يومئذٍ أوسط قريش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، كلّ شخصٍ من قومها كان حريصاً على خطبتها لو قدر على ذلك.

 

وقد تقدّم رسول الله للزواج منها، فخرج معه عمّه أبو طالب عليه السلام من أهل بيته ونفر من قريش، إلى عمّها عمرو بن أسد, لأنّ أباها خويلد بن أسد كان قد قُتل في حرب الفجّار، وقيل إنّه كان حيّاً، وإنّ أبا طالب دخل عليه, فخطب ابنته لابن أخيه، فوافق الأب، وتمّ الزواج المبارك.

 

وقد خطب أبو طالب، فقال: "الحمد لله ربّ هذا البيت الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضِئْضِئ معدّ، وجعلنا حفظة بيته وسُوّاس حَرَمِه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّداً بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش إلّا رجَح به، ولا يقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عِدْلَ له في الخلق، وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال رفدٌ جارٍ، وظلٌّ زائل، وأمرٌ حائل، ومحمّد من عرفتم قرابته، قد خطب خديجة بنت خويلد، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وهو، والله، بعد هذا له نبأ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل، وخطر جليل جسيم"[1].

 

وقيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد أمهرها عشرين بكرة[2]، ولعلّ ذلك كان بواسطة أبي طالب.

 

وكانت السيّدة خديجةعليها السلام لا تزال بكراً، ولعلّها بقيت كذلك لسؤددها وشرفها, ولأنّها لم تجد كفؤاً لها في قريش حتّى عرفت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ولو قارنَّا هذا الموقف للسيّدة خديجة بنت خويلد بموقف أبناء جحش، لوجدنا زينب وحمنة وأخاها، يغضبون حين عرض عليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تزويج زينب بزيد بن حارثة، معتبرين أنَّ ذلك يحطّ من شأنهم،


 


[1] الشيخ الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم، قم، إيران، لا.ت، ط2، ص413.

[2] راجع: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج1، ص201.

 

30


17

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

وسُمِعت زينب بنت جحش، وهي تقول: "أنا سيّدة أبناء عبد شمس"[1].

 

فإذا لم تكن المرأة القرشيّة العاديّة من بطون قريش لتقبل بالزواج من أعرابيّ، بل كان أمراً مستهجناً، فإنّه من الأولى أن نستهجن ما يزعمونه من أنَّ السيّدة خديجة عليها السلام كانت متزوّجة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجلين من أعراب بني تميم، فإنَّها كانت أعظم قدراً وأشرف نسباً، وأجلّ موقعاً من زينب بنت جحش. فكيف رضيت هذه المرأة الشريفة العاقلة، والتي كان كلّ أشراف وأمراء قريش حريصين على الزواج منها[2]، بأن تتركهم جميعاً، ثمّ تختار أعرابياً مجهولاً من بني تميم، ليكون زوجاً لها، وأباً لأولادها؟!

 

ورُزِق رسول الله من هذا الزواج ثلاثة أولاد, ابنان هما: القاسم والطاهر، وقد توفّيا في مكّة قبل البعثة، وهما طفلان، وابنة واحدة هي فاطمةعليها السلام، وأمَّا زينب ورقيّة وأمّ كلثوم فلم يكنّ بناته صلى الله عليه وآله وسلم، بل كنَّ ربيباته[3]،[4].


 


[1] محب الدين الطبريّ، أحمد بن عبد الله، السمط الثمين، تحقيق محمد علي قطب، دار الحديث، القاهرة - مصر، 1408هـ، ط1، ص180.

[2] راجع: أبو القاسم الكوفيّ، علي بن أحمد بن موسى بن الإمام الجوادعليه السلام، الاستغاثة، لا. ن، لا. م، لا. ت، لا. ط، ج1، ص68، الصالحيّ الشاميّ، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد، تحقيق الشيخ عادل عبد الموجود، الشيخ علي معوض، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1993م، ط1، ج1، ص9.

[3] ربيبة الرجل: ابن امرأته من غيره، وهو بمعنى مربوب، والأنثى ربيبة. راجع: مركز المعجم الفقهيّ، المصطلحات، لا.ت، لا.ط، لا.د، ص1149.

[4] راجع: مرتضى العاملي، السيد جعفر، بنات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أم ربائبه، المركز الإسلامي للدراسات، بيروت - لبنان، 1433هـ/2000م، ط2، (كامل الكتاب)، مرتضى العاملي، السيد جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، إيران - قم، دار الحديث للطباعة والنشر، 1426هـ - 1385ش، ط1، ج2، ص129، ج6، ص24.

 

31


18

الدرس الثاني: النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

المفاهيم الرئيسة

 

1- كان بنو إسماعيل يسكنون مكّة، فجاءت قبيلة قطورا وسيطرت على مقاليد الحكم، ثم نازعتها خزاعة، فانقلبت لها الموازين، ثم سيطر قصيّ على مقاليد الحكم وقام بأعمال عدّةٍ وطّدت حكم قريش في مكّة.

 

2- يرجع نسب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى نبي الله إسماعيل عليه السلام، وقد كان آباؤه جميعاً طاهرين.

 

3- ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في 17 من شهر ربيع الأوّل في سنة 571م في عام الفيل، بعد هجوم أبرهة على مكّة بغرض تدميرها.

 

4- ارتضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمّه آمنة بنت وهب أيّاماً، ثم انتقل إلى البادية، فارتضع صلى الله عليه وآله وسلم من حليمة السعديّة، وبعد فترة ظهر في تلك القبيلة الخير الكثير والوفير بوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

5- كفل عبد المطلب حفيده محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم ثماني سنوات، ثم كفله أبو طالب.

 

6- شارك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فترة شبابه عمّه أبا طالب في رحلة تجارية إلى بلاد الشام، وشارك صلى الله عليه وآله وسلم في حلف الفضول الذي دعا له حلف المطيّبين، وهو الذي حكم بين قريش في قضية الحجر الأسود اعتماداً من قريش على شخصيته الفذّة في الصدق والأمانة والعدل.

 

7- عدما ذاع صيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في قريش، دعته السيّدة خديجة عليها السلام لمضاربتها في تجارتها إلى بلاد الشام، وقد ربحت تلك التجارة ربحاً وفيراً، ففرحت السيّدة خديجة عليها السلام بذلك، وكان ذلك من مقدّمات الزواج بينهما.

 

8- تزوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السيّدة خديجة عليها السلام، وأنجب منها ولدين والسيّدة الزهراء عليها السلام.

 

32

 


19

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

الدرس الثالث

الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد الخصائص المعنويّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يتبيّن الصفات المعنويّة في شخصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يوضح المعجزة النبويّة وأشكالها.

 

 

 

33

 


20

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

تكشف الشخصيّة الإنسانيّة التي تميّز بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد تربّى تربية إلهيّة روحية وأخلاقيّة، حتّى وصف بأنّه صاحب الخلق العظيم، الذي يستجمع الصفات والكمالات الأخلاقيّة العالية.

 

مضافاً إلى أنّ المعجزة الخالدة في إبلاغ الرسالة الإلهيّة التي جاءت على يديه كشفت عن الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى وصلت إليه الرسالة لتكون خاتمة الرسالات الإلهيّة إلى البشريّة، وهي الرسالة المستجمعة لكلّ الكمالات الإنسانيّة.

 

التربية الإلهيّة

لا شكّ أنّه من الضروريّ أن يبلغ النبيّ الاستعداد والتكامل الروحيّ الكافي الذي يهيّئه لتلقّي الفيض والمعرفة الإلهيّة ويرفعه إلى درجة التجرّد عن هذا العالم الماديّ والتعلّق بالله سبحانه. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منذ بدء أمره محدّثاً مسدَّداً، فعن عليّ عليه السلام في وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره"[1]. وروي أنّ بعض أصحاب الإمام محمد الباقر عليه السلام سأله عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا   *إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾[2]، فقال عليه السلام:


 


[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 192 (القاصعة)، ص292.

[2] سورة الجن، الآيات 26- 28.

 

35


21

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

"يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدّون إليه تبليغهم الرسالة، ووَكَّل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً عظيماً منذ فُصل عن الرضاع، يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصدّه عن الشرّ ومساوئ الأخلاق"، وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد، يا رسول الله، وهو شابّ لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظنّ أنّ ذلك من الحجر والأرض، فيتأمّل فلا يرى شيئاً"[1].

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ تعليم الأنبياء  عليهم السلام وتأديبهم - باعتبارهم تلامذة حضرة الأحديّة (الواحد الأحد) الخاصّين - أمرٌ موجود، إلّا أنّ البعثةَ، أمرٌ إضافيّ على التعليم، فالبعثة تتضمّن التعليم والتهذيب والتزكية أيضاً، وفيها الإتيان بالكتاب والحكمة، إلّا أنّ هذه الأمور ليست كلّ شيء، بل ثمّة شيء يُضاف على ذلك، وهو البعث"[2].

 

لقد ربّى الله تعالى الشخصيّة الروحيّة والأخلاقيّة لذاك العظيم في ظروفٍ خاصّة، وهيّأها لتتمكّن من حمل الأمانة العظيمة.

 

وعلى هذا الأساس، كانت تزداد القابليّة الروحيّة لهذا الإنسان الذي أُوكلت إليه مهمّة تربية عالَمٍ، بناءً على سعته الوجوديّة والأخلاقيّة. وتجذّرت في هذا الإنسان الخصال الأخلاقيّة المتعالية، فكان يتميّز بشخصيّة إنسانيّة عزيزة، والصبر والتحمّل الكبيرين، حيث ساعده ذلك على مواجهة مختلف الآلام والعذابات التي قد تواجه الإنسان أثناء حياته[3].

 

ولن يوكل الله تعالى أمر هذه المسؤوليّة الخطيرة والعظيمة إلى من لم يحظَ بأعلى مستويات مكارم الأخلاق, لذلك خاطب الله تعالى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[4].


 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج13، ص207.

[2] من كلام الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء مسؤولي النظام (19/9/1375)، (9/12/1996).

[3] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (23/2/1379).

[4] سورة القلم، الآية 4.

 

36


22

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

ثمّ إنّ بناء شخصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصقلها بحيث تصبح محلّاً مناسباً للوحي الإلهيّ، هو مسألة تعود إلى مرحلة ما قبل البعثة, لذلك ورد أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي اشتغل في شبابه بالتجارة، حيث كان يحصل على أموالٍ كثيرة من هذا الطريق، كان يتصدّق بجميع هذه الأموال على الفقراء. وفي هذه المرحلة التي هي المرحلة الأخيرة للتكامل النبويّ قبل نزول الوحي - المرحلة السابقة على النبوّة - كان الرسول يقصد جبل حراء وينظر إلى الآيات الإلهيّة، فكان يتأمّل في السماء، والنجوم، والأرض، والخلائق التي تحمل عواطف وأحاسيس متنوّعة طبق أساليب متعدّدة، فكان يرى آيات الله تعالى في كلّ ذلك، وكان يزداد خضوعه يوماً بعد يوم مقابل الحقّ، ويزداد خشوعُ قلبه مقابل الأمر والنهي الإلهيّين والإرادة الإلهيّة وتنمو فيه بذور الأخلاق الحسنة. وفي الرواية أنّه: "كان أعقل الناس وأكرمهم"[1]. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة يزداد غنى (كمالاً) يوماً بعد يوم حتّى وصل إلى الأربعين، "فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه، وجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها"[2]. في عمر الأربعين أصبح قلبه منوَّراً وخاشعاً وأكثر القلوب استعداداً لتلقّي النداء الإلهيّ.

 

"أَذِنَ لأبواب السماء، ففُتحت، ومحمّد ينظر إليها"[3]. عندما وصل إلى هذه المرحلة من المعنويّة والروحانيّة والنورانيّة وأوْج الكمال، فتح الله تعالى أمامه أبواب السماء وأبواب عوالم الغيب، وفتح عينيه على العوالم المعنويّة والغيبيّة. "وأَذِن للملائكة فنزلوا ومحمد ينظر إليهم"[4]. كان يرى الملائكة ويكلّمهم، ويسمع كلامهم حتّى نزل إليه جبرائيل الأمين وقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[5]، وكانت بداية البعثة[6].


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 17، ص307.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه.

[5] سورة العلق، الآية 1.

[6] من كلامه في لقاء مسؤولي النظام وضيوف مؤتمر الوحدة الإسلاميّة (31/5/1385).

 

37


23

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

استجماع الصفات العالية

يظهر من آيات القرآن الكريم أنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن يبعث نبياً ورسولاً - كان متفوّقاً على الآخرين وممتازاً عليهم من الجهات الإيمانيّة والأخلاقيّة والعقائديّة، وكان ذا استعداد خاصّ وكفاءة مميزة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[1].

 

هذه الآية تكشف عن الحالة النفسيّة والروحيّة التي امتاز بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتبين أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم وكفاءته واستعداده الروحيّ عموماً، وتوضح أن هذا الخُلُق العظيم نتيجة تلك المواهب والكفاءات التي كان يتحلى بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يُبعث نبياً، ويصطفيه الله لتبليغ رسالته، إذا أخذنا تاريخ نزول الآية بعين الاعتبار.

 

ولا ريب أنه لا يوجد بيان أو تعبير أوسع نطاقاً وأجمع معنىً من هذه الآية، ولا مدح ولا ثناء أعلى وأشمل مما جاء في مفهوم هذه الآية, لأن الخُلُق يشمل الأعمال الفاضلة والعادات الحسنة، وكاشف لجميع صفات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم النفسانيّة الشخصيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة والعائليّة والدينيّة، وقد أثنى الله عليه بتلك الصفة المثالية - الخُلُق - ووصفها بالعظمة، يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ نبيّ الإسلام المكرَّم، إنسانٌ فوق المألوف (استثنائيّ) بلحاظ الشخصيّة الإنسانيّة والبشريّة، وهو من الطراز الأوّل الذي لا نظير له، جَمَعَ الخصال الأخلاقيّة الرفيعة في شخصيّة إنسانيّة عزيزة، مظهراً كثيراً من الصبر والتحمّل، وقدرة عالية على تحمّل الآلام والمصاعب. لقد اجتمعت فيه كافّة الخصوصيّات الإيجابيّة للإنسان العظيم"[2].

 

الارتباط بعالم الغيب

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ ينبوع البعثة التي فاضت وجرت في قلب النبيّ الأكرم المقدّس صلى الله عليه وآله وسلم، كان له مسار مهمّ، فالمسألة لا تنتهي عند حدود أن يضيء الله حقيقةً ونوراً في قلب إنسان مميّز وبارز واستثنائيّ، هذه هي الخطوة الأولى وهي بداية


 


[1] سورة القلم، الآية 4.

[2] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (23/2/1379)، (12/5/2000).

 

38


24

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

العمل، ولا شكّ أنّ هذا هو الجزء الأهمّ في القضيّة، حيث إنّ إشعاع هذا النور في قلب الرسول المقدّس والمبارك وتحمّله مسؤوليّة الوحي، هو ذاك الجزء الذي يصل - وبشكلٍ صريح - عالم الخلق وعالم الوجود الإنسانيّ والمادّي بمعدن الغيب.

 

وعلى الرغم من أنّ البركات الإلهيّة كانت حاضرة دائماً، طيلة المسيرة التي سنشير إليها - فيما يتعلّق بالبشر وفيما يتعلّق بهذا الطريق - فإنّ حلقة الوصل قد تجلّت في لحظة البعثة التي انسابت وجرت من عالم الغيب، منبع الحقائق الإلهيّة ومنبع البعثة - وهذه الكلمة كافية - إلى روح الرسول المقدّسة وفاضت على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم. فالخطوة الأولى هي حصول هذه البعثة"[1].

 

العصمة

العصمة لطف يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية والخطأ وترك الطاعة، وذلك مع قدرته عليهما، والنبيّ معصوم من أوّل عمره إلى آخره, فلو عُهد منه في سالف عمره سهو أو نسيان, لارتفع الوثوق عن إخباراته، ولو عُهد منه خطيئة، لنفرَت العقول من متابعته، فتبطل فائدة البعثة[2].

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "العصمة تعني حالة الحفظ، والمعصوم هو الشخص المحفوظ الذي لا يهدّده خطر, وليس ذلك لأنّه وصل إلى نقطة لا وجود فيها للخطر أصلاً وذاتاً، بل معنى ذلك أنّه وصل إلى نقطة قد بلغت فيها المراقبة وقوّة الانتباه (اليقظة) والتقوى مستوىً بحيث لا شيء فيه يقبل الفساد. ولو لم يحصل للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تلك الحالة من التقوى في أعلى مراتبها المتصوّرة عند البشر، لكان معرّضاً للخطر.

 

إنّ طبيعة الإنسان وذاته قابلة للفساد (والنقص)، ولكن عندما يصل الإنسان إلى ذاك المستوى من الانتباه والتقوى الموجودَين في تلك الشخصيّات العظيمة، عند ذلك تحصل العصمة. ماذا يعني ذلك؟ يعني عدم وجود خطر يهدّده مع هذا المقدار من


 


[1] من كلامه في لقاء مسؤولي النظام (19/9/1375).

[2] المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، النكت الاعتقاديّة، رضا المختاري، لبنان - بيروت، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، 1414هـ - 1993م، ط2، ص37.

 

39


25

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

المراقبة. وكلّ من كانت مراقبته أدنى من ذلك، فهو في معرض الخطر دائماً[1].

 

كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمتلك قناعة وطهارة شخصيّة، ولم يكن في وجوده المبارك أيّ نقطة ضعف. كان معصوماً طاهراً وهذا بحدّ ذاته عامل مهمّ في التأثير[2].

 

الرسالة

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "أرى من المناسب - هنا - الإشارة إلى أهميّة دعاء الندبة، الذي هو في الحقيقة خطبةٌ غَرّاء توضّح الاعتقادات والآمال وتألُّق الفرقة الإماميّة والشيعة طوال التاريخ. لاحِظوا، إنّ هذا النّهج الواضح موجودٌ في بداية دعاء الندبة: "الحمد لله على ما جرى به قضاؤك في أوليائك"[3]. وقد استمرّ هذا النهج منذ بداية تاريخ الرسالات إلى عصر رسالة النبيّ الخاتم.

 

أمّا مضمون الرسالة التي هي عبارة عن دين الله، فهو في الحقيقة تأسيس وتوجيه وقولبة الجهود الإنسانيّة كافّة، فالدين يعني صراط الحياة، وإذا نظرتم إلى مجتمعٍ إنساني وإلى بلدٍ ما، فستشاهدون أنّ النّاس في هذا المجتمع يبذلون جهوداً متنوّعة في سبيل مسائلهم الشخصيّة والعاطفيّة والحياتيّة والعموميّة، ويأتي الدين ليوجّه هذه النشاطات كافّة، ويهديها ويساعد العقل الإنساني ليتمكّن - وبسرعة - من تنظيم هذه النشاطات، بما يؤدّي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة[4].

 

المعجزات

لقد أظهر رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من المعاجز التي قام بها في حياته من أجل إثبات دعوته ونبوّته من جهة، ومن أجل دحض مناوئين لهمن جهة ثانية، ونشير إلى أهم معجزتين، وهما:

 


[1] من كلامه في لقاء موظفي دائرة التدقيق والمحاسبة في مكتب الإمام القائد (20/7/1372).

[2] خطبتا صلاة الجمعة في طهران(28/2/1380).

[3] القمي، الشيخ عباس، مفاتيح الجنان، تعريب السيد محمد رضا النوري النجفي، مكتبة العزيزي، إيران - قم، 1385ش - 2006م، ط3، ص765 - 774.

[4] من كلام الإمام القائد في جمع زائري الحرم الرضويّ(1/12/1381).

 

40


26

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

1- القرآن: يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "القرآن، كتابٌ عظيم، ذو شأنٍ سامٍ واستثنائيّ، هو مجموعة محدودة، إلّا أنّ جميع المعارف الضروريّة للذهن في معرفة حقيقة العالم، قد وضعها الله فيه بشكل عميق، وهو ليس لمستوى معين، بل يمكن للإنسان مهما بلغ من شأنٍ فكريّ، أن يغوصَ ويخوضَ ويتعلّمَ من هذا المحيط العميق، وهذا بحدّ ذاته معجزة كبيرة. خُذوا كتاباً علميّاً عميقاً على سبيل المثال، فالإنسان العاميّ لا يفهمه، وإذا ما ارتقت معلومات الإنسان قليلاً، يفهم أشياء منه، وإذا ما ارتقت معلوماته أكثر، تمكّن من الاستفادة العليا منه، وإذا ارتقى أكثر من ذلك، فقد يكون الكتاب بالنسبة إليه مذكِّراً مفيداً عند الرجوع إليه، ولكن إذا ارتقى الإنسان أكثر من ذلك، يصل إلى مكان يصبح الكتاب بالنسبة إليه غير مهمّ، فالإنسان المتبحّر والعارف بعلمٍ ما والذي دَرَّس كتاباً ما مئة مرة، وتعلَّم ونقَدَ الكثيرَ من الأمور فيه، فلن يجد في هذا الكتاب أيّ جديد بالنسبة إليه. أمّا القرآن فليس كذلك. القرآن يحمل كلاماً جديداً حتّى للرسول الذي نزلت هذه المعارف على قلبه وسمعه، وذلك حتّى أواخر لحظات حياته. كلّما تعمّق الإنسان في القرآن، تمكّن من إدراك المزيد من الأمور والأشياء"[1].

 

2- المعراج: يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "في سورة "النجم" بحثٌ دقيق وظريف وجميل...، ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى*  مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾[2]. هذا له علاقة بمسألة المعراج، كما ورد في أكثر التفاسير، صحيح أنّ السورة تشير إلى التحوّل الداخليّ للرسول وحالة تلقّي الوحي، إلّا أنّ مناسبة سورة النجم هي ما كان يوضّحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول قصّة سفره المعراجيّ الليليّ، إذ كانوا لا يستمعون إليه، والآية في مقام بيان أنّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *

 


[1] من كلامه في لقاء الطلاب المشاركين في مسابقات القرآن(22/2/1378).

[2] سورة النجم، الآيتان 1 ـ 2.

 

41


27

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾[1]، ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *  مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾[2]. لم يخطئ الرسول في مشاهداته القلبية، لقد شاهد حقّاً ولم يخطئ، ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾[3],[4].

 

التصدّي للحكومة الإلهيّة والولاية المطلقة

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "لا شكّ أنّ ذلك اليوم الذي استنار فيه الكون المظلم في زمان ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خلال النّور الإلهيّ يجب أن يكون بداية تاريخ جديد للبشريّة، وقد أوضح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في أحاديثه أنّ نورَ السعادة قد فُقِد من المجتمعات البشريّة على أثر حاكميّة القوانين والسلطات الظالمة، "والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور"[5]. لقد أظهر نور وجود الرسول، ومنذ البداية، علامات حاكميّة الحقّ وأدلّة حضور البراهين الإلهيّة بين الناس[6].

 

خاتميّة النبوّة

أكّد القرآن الكريم على أنّ رسول الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء  عليهم السلام، فلا نبيّ بعده، قال تعالى: ﴿َّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[7].

 

وأشار إلى مقام الخاتمية أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، حيث يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النبيّينَ"[8].

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ يوم المبعث هو عيدٌ للجميع، وليس للمسلمين


 


[1] سورة النجم، الآيات 3 ـ 5.

[2] سورة النجم، الآيتان 10 ـ 11.

[3] سورة النجم، الآية 12.

[4] لجنة التأليف في مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية، الشخصيّة القيادية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فكر الإمام الخامنئي دام ظله، مصدر سابق، ص38-39. من كلام له في لقاء مسؤولي النظام (20/3/1380)، (10/6/2001).

[5] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 89، ص122.

[6] من كلام له في لقاء مسؤولي النظام (20/3/1380)، (10/6/2001).

[7] سورة الأحزاب، الآية 40.

[8] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 87، ص120.

 

42


28

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

فقط، حيث إنّ ولادة كلّ نبيّ وظهور كلّ بعثة، تمثّل عيداً لجميع البشريّة. وعندما كان يأتي أنبياء الله تعالى، كان كلّ واحدٍ منهم يسوق قوافل البشريّة نحو الكمال والعلم والأخلاق والعدل، وكانوا يقرّبونهم خطوة نحو مراحل الكمال الإنساني، بل يمكن القثول إنّ جميع أشكال التعقّل البشري طوال التاريخ تعود إلى تعاليم الأنبياء، كما أنّ الخُلق الإنسانيّ (الأخلاق الإنسانيّة) الذي يؤمّن القدرة على الاستمرار بالحياة للبشر، وجميع الفضائل الأخلاقيّة مستفادة من تعاليم الأنبياء. لقد هيّأ الأنبياء للبشر الحياة، وقادوهم نحو ساحة التطوّر والتكامل، ونبيّ الإسلام المكرّم، هو خاتم الأنبياء الذي جاء للبشريّة بالكلام النهائيّ الذي لا ينتهي"[1].

 


[1] من كلام له في لقاء مسؤولي النظام (11/6/1384)، (2/9/2005).

 

43


29

الدرس الثالث: الخصائص المعنويّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم

المفاهيم الرئيسة

1- إنّ الله تعالى ربّى الشخصيّة الروحيّة والأخلاقيّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في ظروفٍ خاصة، وهيّأها لتتمكّن من حمل الأمانة العظيمة.

 

2- كان الرسول يقصد جبل حراء وينظر إلى الآيات الإلهيّة وكان يزداد خضوعه يوماً بعد يوم مقابل الحقّ، ويزداد خشوع قلبه مقابل الأمر والنهي الإلهيّين والإرادة الإلهيّة وتنمو فيه بذور الأخلاق الحسنة.

 

3- إنّ للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم علاقة وارتباطاً دائماً بعالم الغيب, وذلك لكي يشعّ في قلبه وروحه النور الإلهيّ، ونور الرسالة الإسلاميّة.

 

4- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمتلك قناعة وطهارة شخصيّة، ولم يكن في وجوده المبارك أيّ نقطة ضعف. كان معصوماً طاهراً، وهذا بحدّ ذاته عامل مهمّ في التأثير.

 

5- لقد جاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم برسالة إلهيّة خاتمة لكل الرسالات السابقة، وهذه الرسالة تشمل كلّ جوانب الحياة الإنسانيّة، وتعمل على بناء المجتمع الإنسانيّ.

 

6- إن للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من المعاجز التي بيّنها في حياته، وقد كانت له معجزتان أساسيّتان، وهما: القرآن الكريم، والمعراج.

 

7- لقد جسّد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عالميّة حاكميّة الحقّ على الباطل.

 

8- إنّ نبيّ الإسلام المكرَّم إنسانٌ فوق المألوف (إستثنائيّ) بلحاظ الشخصيّة الإنسانيّة والبشريّة.

 

9- يعتبر الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالة الإلهيّة.

 

44

 


30

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

الدرس الرابع

شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يوضح معنى أميّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يبيّن صفة الجود والحياء والتواضع التي كان يتميّز بها صلى الله عليه وآله وسلم

3- يُظهر شمائل النبيّ العقائديّة التي كان يتميّز بها صلى الله عليه وآله وسلم.

 

45

 

 


31

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

مقدمة

اشتملت شخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على بعض الشمائل الذاتيّة والأخلاقيّة التي فاق غيره بها.

 

وثمّة كثير من الصور الرائعة برزت في سلوكه وسيرته الإداريّة والسياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والأسريّة التي تستحقّ الدراسة المعمّقة للتأسيّ بها والاستلهام منها, لذا يجب أن نتّخذ هذه الصفات والشمائل نبراساً منيراً لنا بشكل دائم في كل حياتنا، بحيث يقتدي به المسلم، ويبني شخصيّته الإسلاميّة طبقاً لشخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

الأمّيّ العالِم

لقد تميّز خاتم النبيّين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشريّ[1]، ولم ينشأ في بيئة علم، وإنّما نشأ في مجتمع جاهليّ، ولم يكذّب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن[2].

 

ترعرع ونما في قوم هم من أشدّ الأقوام جهلاً، وأبعدهم عن العلوم والمعارف، وقد أطلق القرآن عليه اسم عصر الجاهلي، ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلاّ من عالم خبير بالعلم والجهل والعقل والحمق.

 

مضافاً إلى أنه قد جاء بكتاب يدعو إلى العلم والفكر والتعقّل، واحتوى على صنوف المعارف والعلوم، وبدأ بتعليم الناس الكتاب والحكمة[3]، وذلك وفق منهج بديع، حتّى


 


[1] سورة النحل، الآية 103.

[2] سورة العنكبوت، الآية 48.

[3] سورة الجمعة، الآية 2.

 

47


32

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

أنشأ حضارة فريدة اخترقت الغرب والشرق بعلومها ومعارفها، ولا زالت تتلألأ بهاء ونوراً.

 

فهو أمّي، ولكنّه يكافح الجهل والجاهليّة وعبادة الأصنام، وبُعث بدين قيّم إلى البشريّة، وجاء بشريعة عالميّة تتحدّى البشريّة على مدى التاريخ. فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع كَلِمِه ورجاحة عقله ومناهج تربيته.

 

ومن هنا، قال تعالى: ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[1]، وقال مخاطباً الرسول أيضاً: ﴿وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾[2].

 

أجل، لقد أوحى الله إليه ما أوحى، وعلّمه الكتاب والحكمة، وجعله نوراً وسراجاً منيراً، وبرهاناً وشاهداً، ورسولاً مبيناً، وناصحاً أميناً، ومذكّراً، ومبشّراً ونذيراً[3].

 

ولقد شرح الله له صدره، وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه العصبية والأنانيّة الجاهليّة، فكان أسمى قائد عرفته البشريّة في مجال الدعوة والتربية والتعليم.

 

ولا شكّ أنّ تحويل المجتمع الجاهليّ - في بضع سنين - إلى حارس أمين عن الشريعة تعدّ نقلة نوعيّة، فقد كان هذا المجتمع مدافعاً قويّاً عن كتاب الهداية ومشعل العلم، ووقف أمام محاولات التشويه والتحريف، وهذا يعتبر من معجزات هذا الكتاب الخالد، وذلك الرسول الأميّ الرائد، الذي أبعد الناس - في ذلك المجتمع الجاهليّ - عن الخرافات والأساطير. إنّه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به من كلّ جوانب وجوده.

 

أوّل المسلمين

إنّ الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظيم قدرته، ونفاذ حكمته، والعبوديّة الاختياريّة الكاملة للإله الأحد الفرد الصمد هي القمة الأولى


 


[1] سورة الأعراف، الآية 158.

[2] سورة النساء، الآية 113.

[3] سور المائدة، الآية 15، الأحزاب، الآية 46، النساء، الآية 174.

 

48


33

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

التي لا بدّ لكلّ إنسان من أن يجتازها كي يتهيّأ للاصطفاء الإلهيّ، وقد شهد القرآن الكريم بذلك لهذا النبيّ العظيم حين قال عنه: ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[1].

 

وعن أبي أميّة يوسف بن ثابت بن أبي سعيد، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "أن تكونوا وحدانيّين فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدانيّاً يدعو الناس فلا يستجيبون له، وقد كان أوّل من استجاب له عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي"[2].

 

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أوّل الناس إسلاماً، فقد نزل عليه الوحي الإلهيّ، فكان أوّل من أسلم لله سبحانه وتعالى، وآمن برسالاته ودينه، ثم خرج يدعو الناس إلى الإسلام والإيمان بالله تعالى.

 

الثقة المطلقة بالله تعالى

إذا اسعرضنا آيات القرآن الكريم نجد أنّ الله يؤكّد لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تلك الرابطة الوثيقة بينهما، وهذا ما يمكن استفادته من قوله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾[3].

 

وقوله أيضاً: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[4].

 

وقد جاء عن جابر أنه قال: "كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله، فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلّق بالشجرة فاخترطه، وقال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: الله. فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله السيف، فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: كن


 


[1] سورة الأنعام، الآية 163.

[2] البرقيّ، أحمد بن محمد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق السيد جلال الدين الحسينيّ (المحدِّث)، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1370هـ - 1330 ش، لا.ط، ج1، ص159.

[3] سورة الزمر، الآية 36.

[4] سورة الشعراء، الآيات 217 ـ 220.

 

49


34

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس"[1].

 

الشجاعة

قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾[2]، وجاء عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: "كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْه"[3].

 

ووصف أحد الصحابة ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحُد بعد أن تفرّق الناس وتركوه صلى الله عليه وآله وسلم وحده مع الإمام علي عليه السلام، حيث قال: "لا، والذي بعثه بالحق ما زال شبراً واحداً، إنّه لفي وجه العدو تثوب إليه طائفة من أصحابه مرة، وتتفرّق عنه مرّة فربّما رأيته قائماً يرمي حتى تحاجزوا"[4].

 

الزهد

وصف الأئمة المعصومون عليهم السلام، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حالة الزهد التي كان عليها صلى الله عليه وآله وسلم في العديد من الروايات، منها ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عُرضت عليّ بطحاء مكّة ذهباً فقلت: يا رب لا ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك، وإذا جعت دعوتك وذكرتك"[5].

 

وعن أنس بن مالك: "أن فاطمة جاءت بكسرة خبز إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما هذه


 


[1] ابن شعبة الخراساني المكي، سعيد بن منصور، سنن سعيد بن منصور، حققه وعلق عليه حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، سفيان الثوري، الفرائض، أبو عبد الله عبد العزيز عبد الله الهليل، دار العاصمة - الرياض، 1410، ط1، ج2، ص199.

[2] سورة الأحزاب، الآية 39.

[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص520.

[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج15، ص19.

[5] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج8، ص131.

 

50


35

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبز، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: أما إنّه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام"[1].

 

الحلم

الحلم صفة الكرماء، حيث إنّ كريم النفس لديه القابلية للعفو والصفح، وهي صفة جليلة يتحلّى بها المؤمنون بعفو الله ورحمته، فيتخلّقون بأخلاقه. وقد تميّز بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، مما جعله ملاذاً للخائفين وملجأً للمحزونين.

 

لقد أفصح القرآن عن عظمة حلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾[2]، ووصف سعة رأفته ورحمته بقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[3].

 

وقد وردت روايات عدّة تشير إلى هذه السمة الجميلة في شخصيته صلى الله عليه وآله وسلم، نورد منها ما يأتي:

عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "مرّت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة بذيّة، وهو جالس يأكل، فقالت: يا محمد، إنّك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك! وأيّ عبد أعبد منّي، فقالت: أما لي، فناولني لقمة من طعامك، فناولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقمة من طعامه، فقالت: لا والله، إلا التي في فيك قال: فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقمة من فيه، فناولها فأكلتها. قال أبو عبد الله عليه السلام: فما أصابت بداء حتى فارقت الدنيا"[4].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُؤتى بالصبيّ الصغير ليدعو له بالبركة، أو يسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمةً لأهله، فربما بال الصبيّ عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول،


 


[1] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص400.

[2] سورة آل عمران، الآية 159.

[3] سورة التوبة، الآية 128.

[4] الطبرسي، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي، إيران، 1392هـ - 1972م، ط6، ص16.

 

51


36

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزرموا بالصبيّ"، فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه ولا يرون أنّه يتأذّى ببول صبيّهم، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده[1].

 

ودخل عليه صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ المسجدَ وهو جالس وحده، فتزحزح له صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الرجل: في المكان سعة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ حقّ المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له"[2].

 

حياؤه وتواضعه

ليس الحياء إلا سمة من السمات الجميلة التي يتحلّى بها عباد الله الصالحون, لأنها تدلّ على صفاء القلب وطيب الباطن الذي لم يتلّوث بالقساوة والجفاف. وقد عُرِفَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان حييّاً، إلا أنّ حياءه كان بلا ضعف ولا انزواء، فقد يحسب بعضهم أن الحياء دليل ضعف الإنسان، وهم غافلون عن الفرق الكبير بين الحياء وضعف الثقة بالنفس.

 

وكان تواضعه وحياؤه ربانيّاً، فقد روي عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يذكر أنّه: "أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ملك، فقال: إنّ اللَّه يخيّرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً، أو ملكاً رسولاً. قال: فنظر إلى جبرئي لعليه السلام، وأومأ بيده أن تواضع، فقال: عبداً رسولاً متواضعاً. فقال الرّسول: مع أنّه لا ينقصك ممّا عند ربّك شيئاً. قال: ومعه مفاتيح خزائن الأرض"[3].

 

وقد أكدت الروايات الكثيرة على هذه الصفة في شخصيّته صلى الله عليه وآله وسلم، فعن الإمام علي عليه السلام: "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا سُئل شيئاً فأراد أن يفعله، قال: نعم، وإذا أراد أن لا


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص25.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص122.

 

52


37

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

يفعل سكت، وكان لا يقول لشيء لا"[1].

 

وعن محمد بن حمران، وجميل بن دراج، كلاهما عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية بعث أميرها، فأجلسه إلى جنبه، وأجلس أصحابه بين يديه..."[2].

 

ومن مظاهر تواضعه أيضاً أنه كان يسلّم على النساء، فقد روي عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسلّم على النساء ويرددن عليه السلام..."[3].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل مجلساً كان دخوله وجلوسه عنوان التواضع، فقد رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل"[4].

 

وكان من شدة تواضعه أنه كان يتناول طعامه على الأرض، فعن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل بالأرض"[5].

 

ومن تواضعه أنه كان يتناول الطعام مع المسلمين، فقد روي عن أبي عبد الله، عن أبيه عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أكل مع قوم طعاماً كان أوّل من يضع يده، وآخر من يرفعها، ليأكل القوم"[6].

 

وكان يداعب أصحابه ولا يقول إلاّ حقّاً، عن يونس الشيبانيّ قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت: قليل، قال: فلا تفعلوا، فإنّ المداعبة من حسن الخُلق، وإنّك لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يداعب الرجل يريد أن يسرّه"[7].


 


[1] الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1988م، لا. ط، ج9، ص13.

[2] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج2، ص355.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص648.

[4] المصدر نفسه.

[5] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج2، ص441.

[6] المصدر نفسه.

[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص663.

 

53


38

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

وفي رواية أخرى تضمّنت تفاصيلَ أكثر، حيث تشتمل على عديد من الصفات الأخلاقيّة التي تظهر تواضع النبيّ وتودّده إلى الناس، وهي ما روي عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة، قال: ولم يبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجليه بين أصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل، فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده فنزعها من يده"[1].

 

ومن القصص اللطيفة التي تكشف عن تواضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للناس، واحترامه وتقديره لهم، ما كان يعلّمه للناس، فقد روي عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله، عن آبائه  عليهم السلام: "أن أمير المؤمنين عليه السلام صاحبَ رجلاً ذمّياً، فقال له الذمّي: أين تريد يا عبد الله؟ فقال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذميّ عدَل معه أمير المؤمنين عليه السلام فقال له الذمّي: ألست زعمت أنّك تريد الكوفة؟ فقال له: بلى، فقال له الذمّي: فقد تركت الطريق؟ فقال له: قد علمت، قال: فلمَ عَدَلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فقال له الذميّ: هكذا قال؟ قال: نعم، قال الذميّ: لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهد أنّي على دينك، ورجع الذميّ مع أمير المؤمنين عليه السلام فلما عرّفه أسلم"[2].

 

كرمه وسخاؤه

أما جود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسخاؤه, فهو من أبرز الصفات التي اتّصف بها صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مثالاً يحتذى به، ولم يكن كرمه وسخاؤه إلا في طاعة الله، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان إذا وصف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أجود الناس كفّاً، وأرحب الناس صدراً..."[3].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص671.

[2] المصدر نفسه، ص670.

[3] إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي، الغارات، السيد جلال الدين الحسيني الأرموي(المحدّث)، لا. ن، لا. م، لا. ت، لا. ط، ج1، ص167.

 

54


39

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

ومن كرمه وجوده أيضاً، أنّه كان يستجيب لدعوة من دعاه إلى الطعام، فقد رُوي عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب الدعوة"[1].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم قدوة للمؤمنين في التمسك بآداب الطعام، فقد كان يدعو الله عند الجلوس على المائدة والقيام عنها، فقد رُوي عن أبي جعفرعليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رُفعت المائدة قال: اللهم أكثرت وأطبت فباركه، وأشبعت وأرويت فهنّئه، الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم"[2].

 

ومن القصص التي تُنقل في كثرة كرمه وسخائه، ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى صاحب بزّ, فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار. فقال: يا رسول الله، اكسني قميصاً كساك الله من ثياب الجنة، فنزع القميّص فكساه إيّاه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت، فاشترى منه قميصاً بأربعة دراهم، وبقي معه درهمان، فإذا هو بجارية في الطريق تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله، دفع إليّ أهلي درهمين اشتري بهما دقيقاً فهلكا، فدفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليها الدرهمين، فقالت: أخاف أن يضربوني، فمشى معها إلى أهلها، فسلّم فعرفوا صوته، ثمّ عاد فسلّم، ثمّ عاد فثلّث، فردّوا، فقال: أسمعتم أوّل السلام؟ فقالوا: نعم، ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام. فما أشخصك بأبينا وأمِّنا؟ قال: أشفَقَتْ هذه الجارية أن تضربوها، قال صاحبها: هي حرّة لوجه الله لممشاك معها. فبشّرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخير وبالجنّة، وقال: لقد بارك الله في العشرة كسا الله نبيّه قميصاً، ورجلاً من الأنصار قميصاً، وأعتق منها رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته"[3].


 


[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج2، ص410.

[2] المصدر نفسه، ص436.

[3] ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1408ه - 1988م، ط1، ج6، ص45.

 

55


40

الدرس الرابع: شمائل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته

المفاهيم الرئيسة

1- اشتملت شخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على بعض الشمائل الذاتية والأخلاقيّة التي فاق بها غيره.

 

2- تميّز خاتم النبيّين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشريّ، ولم ينشأ في بيئة علم وإنما نشأ في مجتمع جاهليّ، ولم يكذّب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن.

 

3- كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء في كل عمل كبير أو صغير، حتى كان يستغفر الله كل يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين مرة من غير ذنب.

 

4- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى على ثقة مطلقة به سبحانه.

 

5- ليس الحياء إلا سمة من السمات الجميلة التي يتحلى بها عباد الله الصالحين, لأنّها تدل على صفاء القلب وطيب الباطن الذي لم يتلوّث بالقساوة، وقد عرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان كذلك.

 

6- إن جود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسخاءه, من أبرز الصفات التي اتصف بها صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مثالاً يحتذى به، ولم يكن كرمه وسخاؤه إلا في طاعة الله.

 

56

 


41

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

الدرس الخامس

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح صفة الرحمة في شخصيّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2. يبيّن المحبة في شخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

3. يتعرّف إلى كيفيّة تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع أعدائه.

 

57


42

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

تمهيد

لا شكّ أنّ الشخصيّة النبويّة المحمديّة قد نالت القدر الأوفى من كلّ الشمائل الحسنة والخلال النبيّلة والقيم الإنسانيّة العليا، وحرّرت الإنسان، ورفعت عنه إصر عبوديّات وأغلالٍ كثيرة كانت منتشرة في العالم, فرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم هو الإنسان المسلم المؤمن الذي دعا إلى الإيمان بالله الواحد، وإلى تحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، وإلى إلغاء العبودية والرقّ في المجتمع الإنسانيّ بأكمله، وإلى محبة الغير وإعانته ومساعدته، ورفع الفقر والاستضعاف من المجتمع الإنسانيّ، كما دعا إلى التعامل مع الآخرين برأفة ورحمة ومحبة، ومداراة، وإلى الصبر على الأذى.

 

إلّا أن بعض الحاقدين أن ينسبوا بعض الأمور المنافية للحقيقة والواقع إلى هذه الشخصيّة العظيمة، حيث يحاولون أن يثبتوا أنّه رجل حرب وقتل وسلب، وذلك على الرغم من سطوع النور المحمّديّ. وسوف يتّضح لنا عدم صحة هذه الاتهامات المجافية للحقيقة.

 

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الهدى والرحمة

تمثّل شخصيّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شخصيّة الرجل الّذي اكتملت فيه كلّ الأخلاق الحميدة، وتخلّى عن كلّ الأخلاق الذميمة، ويؤكّد ذلك قوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[1]. وقد مثّلت حياة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى للإنسانية في جميع أحوال الحياة وأوجهها, في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة


 


[1] سورة القلم، الآية 4.

 

59


43

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو المثل الكامل. قال الله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[1]، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[2].

 

فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفيض رحمة في خُلُقه وسلوكه وأدبه وشمائله، فلا يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلّا رسول رحيم ذو رحمة عامّة شاملة فيّاضة، طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه، وجُبلَت بها فطرته. قال - تعالى -: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[3].

 

فهو مثل أعلى للرحمة الإلهيّة, لذلك وصفه الله تعالى بأنّه رؤوف رحيم يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة الّتي كان يُمثّلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, لأنّه: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، ويستطيع الكافرون والمنافقون الاستفادة من هذه الرحمة أيضاً فضلاً عن المؤمنين، فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي لم أُبعث لعّاناً، وإنّما بُعثت رحمة"[4].

 

النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان العطوف والمحبّ

إنّ التأمّل في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخاصّة في بيته ومع أولاده وأهله، تكشف لنا أنّ الرحمة والشفقة من أبرز أخلاقه وخصاله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وصفه الله في القرآن الكريم بذلك، فقال - تعالى - : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[5]، وقال - تعالى -: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[6].


 


[1] سورة يس، الآيتان 2 ـ 3.

[2] سورة الأحزاب، الآية 21.

[3] سورة التوبة، الآية 128.

[4] مسلم النيسابوري، مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح (صحيح مسلم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج8، ص24.

[5] سورة الأنبياء، الآية 107.

[6] سورة آل عمران، الآية 159.

 

60


44

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّ الأطفال، ويُقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبّة بينهم، كما كان يحبّ أهله وزوجاته، وهو القائل: "حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعل قرّة عيني في الصلاة"[1]. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"[2].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم رحيماً بالجميع، بل إنّه كان إذا سمع بكاء الصبيّ أسرع في الصلاة، مخافة أن تُفتتن أمّه. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمرّ بالصبيان فيسلّم عليهم[3].

 

وعن أبي بريدة، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا، إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر، فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[4]، نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما"[5].

 

ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنساناً قطّ في حياته، فقد روي أنّه: "ما ضرب رسول الله شيئاً قطّ بيده ولا امرأة ولا خادماً إلّا أن يجاهد في سبيل الله"[6].

 

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُقَبِّلُ ابنه إبراهيم عند وفاته، وعيناه تذرفان الدموع، فتعجّب بعض الحاضرين، وقال: وأنت يا رسول الله! فيقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بن عوف، إنّها رحمة، إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلّا ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"[7].


 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403هـ - 1362ش، لا. ط، ص165.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص555.

[3] السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1401هـ - 1981م، ط1،ج2، ص395.

[4] سورة الأنفال، الآية 28.

[5] الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج5، ص324.

[6] ابن حنبل، أحمد، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج6، ص31.

[7] ابن حزم، المحلّى، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج5، ص146.

 

61


45

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

وأمّا في ما يرتبط بعلاقته بأصحابه، فشير إلى ذلك قوله - تعالى -: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[1].

 

رحيم في الحرب والسلم

وكان صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب يقاتل بشجاعة، ولكنّه كان صاحب شفقة عظيمة أيضاً، كان سياسيّاً، ولكنّه في الوقت نفسه كان صاحب مروءة وقلب كبيرين، فقد استشهد في غزوة أحد عمّه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً، وشُجّ رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف، ومع ذلك فقد كان يدعو لأهل مكّة مقابل أذاهم، حيث كان يقول: "اللهمّ اغفر لقومي إنّهم لا يعلمون"[2]. فهل يوجد أرحم من النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه المواقف؟!

 

ويؤكّد ذلك كلّه تسامحه مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه، وحسن تعامله مع من حاصروه في شعب أبي طالب، وتسبّبوا في وفاة أحبّ زوجاته إليه، خديجة الكبرى رضي الله عنها، كما كانوا سبباً في وفاة عمّه أبي طالب، فقد دخل مكّة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والسيف في يده، ولكنّه مع كلّ مظاهر النصر هذه كان أنموذجاً للرحمة، فسأل أهل مكّة: "ما ترون أنّي فاعل بكم؟" فأجابوه: "خيراً، أخٌ كريمٌ، وابن أخ كريم"، فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[3]، ثمّ قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء"[4].

 

رسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم دين المحبّة والرحمة

الدِّين الإسلاميّ هو دين الرحمة والمحبّة والسلام والدعوة إلى الخير، وما عالميّته وتشريعه للقتال والجهاد إلّا أحد مظاهر هذه الرحمة, إذ لا يمكن زرع الرحمة في


 


[1] سورة التوبة، الآية 128.

[2] سعيد بن منصور، سنن سعيد بن منصور، مصدر سابق، ج2، ص303.

[3] سورة يوسف، الآية 92.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص513، ج4، ص225.

 

62


46

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

الأفراد والمجتمعات إلّا بدفع الظالم، ورفع ظلمه عن المظلومين.

 

يقول الله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾[1]، ويقول الله تعالى: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[2]، ويفتتح المسلمون جميع أعمالهم بقوله - تعالى -: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾. ويقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا خلق الله الخلْق كتب عنده فوق عرشه: إنّ رحمتي سبقت غضبي"[3].

 

فرحمة الله سبحانه واسعة، ولا يعلم مداها إلّا هو، فهو القائل سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾[4].

 

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "جعل الله الرحمة مئة جزءٍ، فأمسك تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتّى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"[5].

 

وأكّد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ضرورة رحمة الناس ومداراتهم، حيث رُوي عنه أنّه قال: "ارحم من في الأرض، يرحَمْك من في السماء"[6]، كما رّوي أنه قال: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[7]، فالمسلم رحيم في كلّ أموره، يعين أخاه في ما عجز عنه، فيأخذ بيد الأعمى في الطرقات ليجنِّبه الخطر، ويرحم الخادم بأن يحسن إليه، ويعامله معاملة كريمة، ويرحم والديه، بطاعتهما وبرّهما وبالإحسان إليهما تخفيفاً عنهما.


 


[1] سورة الأنعام، الآية 54.

[2] سورة يوسف، الآية 64.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص375.

[4] سورة الأعراف، الآية 156.

[5] الدارميّ، عبد الله بن الرحمن، سنن الدارميّ، لا.م، لا.ن، 1349هـ، لا.ط، ج2، ص321.

[6] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص379.

[7] مسلم النيسابوريّ، صحيح مسلم، مصدر سابق، ج8، ص20.

 

63


47

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

وحذَّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الغلظة والقسوة، وعدَّ الّذي لا يرحم الآخرين شقيّاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُنْزَعُ الرحمةُ إلّا من شَقِيّ"[1]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناس"[2]. ولا مجال في هذه العجالة لعرض كلّ نماذج الرحمة في الدِّين الإسلاميّ، أو في سيرة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن يمكن القول إنّ هذه الرحمة شاملة لكلّ خلق الله تعالى من الإنسان والحيوان.

 

وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مقامي بين أظهركم خيرٌ لكم، فإنّ الله يقول: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾[3]، ومفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم. فقالوا: يا رسول الله، مقامك بين أظهرنا خيرٌ لنا، فكيف تكون مفارقتك خيراً لنا؟ قال: أما أنّ مفارقتي إيّاكم خيرٌ لكم، فإنّ أعمالكم تُعرض عليّ كلّ خميس واثنين، فما كان من حسنة حمدتُ الله عليها، وما كان من سيّئةٍ استغفرت الله لكم"[4].


 


[1] ابن أبي شيبة الكوفيّ، المصنف، تحقيق وتعليق سعيد اللحام، لبنان - بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، جمادى الآخرة 1409هـ - 1989م، ط1، ج6، ص93.

[2] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا. م، 1401هـ - 1981م، لا. ط، ج8، ص165.

[3] سورة الأنفال، الآية 33.

[4] عليّ بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، تصحيح وتعليق وتقديم السيد طيب الموسويّ الجزائريّ، إيران - قم، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، 1404هـ، ط3، ج1، ص276.

 

64


48

الدرس الخامس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ الرحمة

المفاهيم الرئيسة

 

1- الدِّين الإسلاميّ هو دين الرحمة والمحبّة والسلام والدعوة إلى الخير، وما عالميّته وتشريعه للقتال والجهاد إلّا أحد مظاهر هذه الرحمة, إذ لا يمكن إيجاد الرحمة كخُلق للأفراد والمجتمعات إلّا بدفع الظالم ورفع ظلمه عن المظلومين.

 

2- مثّلت شخصيّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شخصيّة ذلك الرجل الّذي اكتملت فيه كلّ الأخلاق الحميدة، وانتفت عنه كلّ الأخلاق الذميمة.

 

3- كان صلى الله عليه وآله وسلم يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله، ولا يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلّا رسول رحيم ذو رحمة عامّة شاملة فيّاضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته.

 

4- كان صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّ الأطفال، ويُقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبّة بينهم، كما كان يحبّ أهله وزوجاته.

 

5- كان صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب يقاتل بشجاعة، كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسيّاً، ولكنّه في الوقت نفسه كان صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير.

 

6- حذَّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الغلظة والقسوة، وعدَّ الّذي لا يرحم الآخرين شقيّاً.

 

65

 


49

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

الدرس السادس

محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح معنى حب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره.

2- يلخّص مفهوم زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآثارها.

3- يعدّد آثار اتّباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

67

 


50

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

تمهيد

الحبّ: هو الوداد والمحبّة[1] والميل الشديد، ويُقابله البغض والتنفّر. أمّا التحبّب فهو إظهار الودّ والحبّ. فالحبّ: هو الميل القلبيّ والباطنيّ نحو المحبوب، فلا يكون الشيء محبوباً إلاّ إذا مالت النفس إليه، ولهذا الميل درجات ومراتب، فإذا قوي هذا الميل واشتدّ سُمّي عشقاً[2]. فالحبّ هو انجذاب مخصوص وتعلّق شعوريّ بين الإنسان وبين كماله[3].

 

فمحبّة العبد لله تعالى ناشئة من كون الذّات الإلهيّة هي الكمال المطلق غير المتناهي، والإنسان مفطور على حبّ الكمال والميل نحو كماله المطلق, لذا نجد أنّه لا يرضى بكمال محدود حتّى يطلب كمالاً آخر أشدّ وجوداً وأكثر كمالاً.

 

درجات الحبّ

لمّا كان الحبّ عبارة عن تعلّق وجوديّ بين المحبّ والمحبوب، فهو يسري في جميع الموجودات، وهو من المفاهيم المشكّكة أي له مراتب متفاوتة من حيث الشدّة والضعف والدرجة والمرتبة, لذا نجد أنّ مراتب الحبّ عديدة، ويمكن ذكر بعضها:


 


[1] ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، إيران - قمّ، نشر أدب الحوزة، 1405هـ، لا.ط، ج1، ص289.

[2] الشيخ فخر الدين الطريحيّ، مجمع البحرين، مرتضوي، شهريور ماه 1362 ش، ط2، ج1، ص442.

[3] الطباطبائيّ، العلّامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قم، 1417هـ، ط5، ج1، ص410.

 

69


51

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

الدرجة الأولى: وهي ادعاء الحبّ على مستوى اللسان، وهذا ليس حبّاً حقيقيّاً، وليس درجة أو مرتبة حقيقيّة.

 

الدرجة الثانية: وهي الحبّ بمعنى التعلّق القلبيّ والميل النفسيّ، وقد يكون منشأ هذا الحبّ هو العصبيّة والشعور بالانتماء، وليس هذا هو الحبّ المطلوب.

 

الدرجة الثالثة: الحبّ القلبيّ الحقيقيّ، بحيث يسري الحبّ من القلب إلى سائر الجوارح، فتظهر آثار هذا الحبّ في عمل الإنسان وأخلاقه وسيرته، وهذا هو الحبّ المطلوب.

 

وقد يشتدّ هذا الحبّ عن طريق الالتزام بالتعاليم النبويّة بشكل دائم، حتّى يصير المحبوب مقدّماً على الأولاد والعشيرة والممتلكات والتجارات وغير ذلك، قال - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾[1]، وقال - تعالى -: ﴿قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾[2].

 

آثار الحبّ

ورد في سبب نزول الآية أنّه ادعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّهم يحبّون الله، مع أنّ العمل بتعاليم الله كان أقلّ ظهوراً في أعمالهم، فنزلت هاتان الآيتان بشأنهم[3].

 

ومفاد الآية, أنّ الحبّ لا يكون بالارتباط والميل القلبيّ فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان، فإذا كانت دعوى الحبّ لله صادقة، فينبغي أن تظهر وتتجلّى في سلوك المحبّ، فالمحبّ يتبع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ أعماله ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾[4].


 


[1]  سورة البقرة، الآية 165.

[2] سورة المجادلة، الآية 22.

[3] الشيرازيّ، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج2، ص468.

[4] سورة آل عمران، الآية 31.

 

70


52

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

فإنّ من آثار الحبّ واقعاً ميل المحبّ وانجذابه نحو المحبوب في أقواله وأفعاله وأعماله، بحيث يستجيب المحبّ للمحبوب في كلّ أوامره ونواهيه، أمّا إذا كان المحبّ للمحبوب عاصياً وعليه متمرّداً، فهذا يعني أنّ حبّه غير حقيقيّ، بل هو حبّ ادعائيّ لا يتجاوز لسانه.

 

وهذا ليس خاصّاً بمن نزلت فيهم الآيتان، بل يعمّ جميع العصور والشعوب، فإنّ الذّين يدّعون محبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة  عليهم السلام والمجاهدين والشهداء والصالحين والمتّقين، والحال أنّ أعمالهم أبعد ما تكون عن مشابهة أولئك، فهم هم كاذبون في ما يدّعون.

 

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما أحبّ الله عزّ وجلّ من عصاه"، ثمّ قرأ البيتين الآتيين:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه            هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته            إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع[1].

 

إذا كنّا نحبّ الله حقّاً، بحيث تظهر آثار ذلك الحبّ في أعمالنا وأخلاقنا عن طريق اتّباع من فرض الله طاعته، فإنّ الله تعالى سيحبّنا أيضاً: : ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[2]، وسوف تظهر آثار حبّه لنا في غفران الذنوب، وسيشملنا برحمته الّتي وسعت كلّ شيء: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[3]، وهذا معنى شفاعة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم.

 

حب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل بأخلاقه

لما كان النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب الله تعالى، فيلزم من ذلك أنّ كلّ من يدّعي المحبّة لله ينبغي أن يحبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأن يتّبعه كما سبق. ومحبّته إنّما تكون بمتابعته وسلوك


 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص578.

[2] سورة آل عمران، الآية 31.

[3] سورة آل عمران، الآية 31.

 

71


53

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

سبيله قولاً وعملاً، وخُلُقاً وسيرةً وعقيدةً، ولا تصدق دعوى المحبّة إلّا بهذا، فمن لم يكن له من أخلاقه وسيرته‏ صلى الله عليه وآله وسلم نصيب، لم يكن له من المحبّة نصيب، وإذا تابعه حقّ المتابعة ناسب باطنه وسرّه وقلبه ونفسه باطن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسرّه وقلبه ونفسه.

 

ولتجلّيات الحبّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علامات عدّة، منها:

1- طاعة الله والعمل الصالح الموصل لمحبّته تعالى:

يقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾[1]، أي ما دمتم تدّعون الحبّ لله، إذاً اتبعوا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم تفعلوا فلستم تحبّون الله، والله لا يحبّ هؤلاء: ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.

 

ويستفاد من الآية أنّ إطاعة الله وإطاعة رسوله لا تنفصلان، وأن إطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي إطاعة الله، وإطاعة الله هي إطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ولطاعة الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم آثار عديدة، منها:

أ- دخول الجنّة: قال - تعالى -: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[2].

 

ب- مرافقة النبيّين عليهم السلام والصدّيقين والشهداء: قال - تعالى -: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ﴾.

 

ج- الفوز: حيث قال - تعالى -: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾[3].

 

2- العمل بآداب الإسلام وتعاليمه:

فمن علامة المحبّ العمل بما يحبّه محبوبه ويقرّبه منه، روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال لي: "يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله، ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون، يا جابر، إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة، وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران


 


[1] سورة آل عمران، الآية 32.

[2] سورة النساء، الآية 13.

[3] سورة النور، الآية 52.

 

72


54

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء".

 

قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: "يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرٌ من عليّ عليه السلام، ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ (وأكرمهم عليه) أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله، ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة. من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً، فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"[1].

 

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ ادعاء المحبّة من دون دليل وبيّنة لا يكون مقبولاً, إذ لا يمكن أن أكون صديقك وأضمر لك الحبّ والإخلاص، ثمّ أقوم بكلّ ما هو مناقض لرغباتك وأهدافك. إنّ شجرة المحبّة تنتج وتثمر في الإنسان المحبّ، والعمل حسب درجة المحبّة ومستواها. فإذا لم تحمل تلك الشجرة هذه الثمرة، فلا بدّ من معرفة أنّها لم تكن محبّة حقيقيّة، وإنّما هي محبّة وهميّة.. فمحبّ أهل البيت  عليهم السلام هو الّذي يشاركهم في أهدافهم، ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم... وإنّ المؤمن إذا لم يعمل بمتطلّبات الإيمان وما تستدعيه محبّة الله وأوليائه، لما كان مؤمناً ومحبّاً، وإنّ هذا الإيمان الشكليّ والمحبّة الجوفاء من دون جوهر ومضمون"[2].

 

3- زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

لا يخفى على أحد ما للزيارة من ترسيخ علاقة أو ارتباط وتعلّق بمن نزوره، فكيف لو كان المَزُوْرُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه الوسيلة إلى الله، وهو الشعيرة الّتي أُمرنا بتعظيمها:


 


[1] الشيخ الكلينيّ, الكافي, مصدر سابق, ج2, ص75.

[2] الخمينيّ, الإمام روح الله الموسوي, الأربعون حديثاً, تعريب محمد الغروي, دار زين العابدين, لبنان – بيروت, 1431هـ/2010م, ط1, ص631.

 

73


55

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

قال - تعالى -: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[1].

 

وقد ورد في فضل وثواب زيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم روايات عدّة، منها ما عن الإمام الرضا عليه السلام: "يا أبا الصلت، إنّ الله فضّل نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم على جميع خلقه من النبيّين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، فقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾[2]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾[3].

 

وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة"[4].

 

وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "بينا الحسين بن عليّ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال: يا أبه، ما لمن زارك بعد موتك؟ فقال: يا بنيّ، من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة"[5].

 

4- دفع الأذى عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"[6].

 

فقد نال صلى الله عليه وآله وسلم من أمّته - أعمّ من كفّارهم ومؤمنيهم ومنافقيهم - من المصائب والمحن وأنواع الزجر والأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمّله إلّا نفسه الشريفة[7]. وقد استمرّ هذا الأذى حتّى بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم، كما في زماننا هذا، سواء أكان ذلك من قبل أعدائه، أم من قبل بعض من يدّعون اتّباعه ومحبّته، وكذلك ما نال عترته صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بعد

 


[1] سورة الحج، الآية 32.

[2] سورة النساء، الآية 80.

[3] سورة الفتح، الآية 10.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص548.

[5] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج6، ص40.

[6] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1376هـ - 1956م، لا.ط، ج3، ص42.

[7] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج6، ص53.

 

74


56

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

ارتحاله من قتل وظلم وجور.

 

فمن كان يدّعي الاتّباع والمحبّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ينبغي أن يظلم ويكفّر غيره من المسلمين باسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي قال الله عنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[1]، وعلى المسلمين منع إساءة المنكرين لنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم، فعلى المسلمين بطريق أولى الامتناع عن أذيّته.

 

آثار اتّباع ومحبّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

1- محبّة الله: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو مظهر المحبّة الإلهيّة، فيلزم أن يكون للمتابع والمطيع للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قسط من محبّة الله تعالى بقدر نصيبه من المتابعة والطاعة، فيلقي اللّه تعالى محبّته عليه بواسطة محبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيصير محبوباً لله، ومحبّاً له، ولو لم يتابع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل خالفه، ابتعد عن وصف المحبوبيّة وزالت المحبّة عن قلبه، إذ لو لم يحبّه اللّه تعالى لم يكن محبّاً له، فيقع في الكفر: ﴿فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾[2].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه، فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا، ألم يسمع قول الله عزّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[3]، والله، لا يطيع الله عبد أبداً إلّا أدخل الله عليه في طاعته اتّباعنا، ولا والله لا يتّبعنا عبد أبداً إلّا أحبّه الله، ولا والله، لا يدعي أحد اتّباعنا أبداً، إلّا أبغضنا، ولا والله، لا يبغضنا أحد أبداً إلّا عصى الله، ومن مات عاصياً لله ،أخزاه الله وأكبّه على وجهه في النار"[4].


 


[1] سورة الأنبياء، الآية 107.

[2] سورة آل عمران، الآية 32.

[3] سورة آل عمران، الآية 31.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص14.

 

75


57

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

وعنه عليه السلام: "فمن أحبّ الله أحبّه الله عزّ وجلّ، ومن أحبّه الله عزّ وجلّ كان من الآمنين"[1].

 

2- غفران الذنوب: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[2].

 

إذا أحبّ الله عبداً غفر له ذنوبه وشملته رحمته, لأنّ محبّة الله عبده رضاه عنه، وهو سبب لغفران ذنوبه وكمال فوزه بالسعادة العظمى وكمال نور إيمانه ووجوب الجنّة له، فإذاً من آثار محبّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غفران الذنوب.

عن الإمام أبي جعفر عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام - في خطبة له - قال: "وقال في محكم كتابه: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[3]، فقرن طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، فكان ذلك دليلاً على ما فوّض إليه، وشاهداً له على من اتّبعه وعصاه. وبيّن ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم، فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتّباعه، والترغيب في تصديقه والقبول لدعوته: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[4], فاتّباعه صلى الله عليه وآله وسلم محبّة الله، ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنّة، وفي التولي عنه والإعراض محادّة الله وغضبه وسخطه، والبعد منه سكن النار، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾[5], يعني الجحود به والعصيان له"[6].

 

3- الشفاعة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أُعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي: جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونُصرت بالرعب، وأُحلّ لي المغنم، وأُعطيت جوامع الكلم، وأُعطيت الشفاعة"[7].

 


[1] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص188.

[2] سورة البقرة، الآية 222.

[3] سورة النساء، الآية 80.

[4] سورة آل عمران، الآية 31.

[5] سورة هود، الآية 17.

[6] البحرانيّ، السيد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، قسم الدراسات الإسلاميّة / مؤسّسة البعثة - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج3، ص96.

[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص285.

 

76


58

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

وعن الإمام عليّ بن موسى الرضا، عن آبائه  عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة، المكرم لذريتي من بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عند اضطرارهم إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه"[1].


 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تصحيح وتعليق وتقديم الشيخ حسين الأعلميّ، لبنان - بيروت، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، 1404 - 1984م، لا.ط، ج1، ص230.

 

77


59

الدرس السادس: محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حبيب المؤمنين

المفاهيم الرئيسة

1- الحبّ: هو الميل القلبيّ والباطنيّ نحو المحبوب، فلا يكون الشيء محبوباً إلاّ إذا مالت النفس إليه، فمثلاً محبّة العبد لله تعالى لأنّ الذّات الإلهيّة هي الكمال المطلق غير المتناهي.

 

2- درجات الحبّ، للحب عدّة درجات، وهي: الدرجة الأولى: وهي ادعاء الحبّ على مستوى اللسان، الدرجة الثانية: وهي الحبّ بمعنى التعلّق القلبي والميل النفسيّ، والدرجة الثالثة: بحيث يسري الحبّ من القلب إلى سائر الجوارح، فتظهر آثار هذا الحبّ في عمل الإنسان وأخلاقه وسيرته، وهذا هو الحبّ المطلوب.

 

3- إن للحب آثاراً واقعية، فهو يؤدّي إلى انجذاب المحبّ نحو المحبوب في أقواله وأفعاله وأعماله، بحيث يستجيب المحبّ للمحبوب في كلّ أوامره ونواهيه.

 

4- إن حبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعني العمل بأخلاقه، ومتابعته بسلوكه، قولاً وعملاً وخُلُقاً وسيرةً وعقيدةً.

 

5- إنّ لحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجلّيات وعلامات عدّة، منها: طاعة الله والعمل الصالح الموصل لمحبّته تعالى، العمل بتعاليم الإسلام وآدابه، زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دفع الأذى عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

6- إن من آثار اتّباع ومحبّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: محبّة الله، غفران الذنوب، الشفاعة.

 

78

 


60

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

الدرس السابع

الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح أدب المحبّة والاتّباع للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يبيّن كيفيّة الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يلخّص أدب السير، وخفض الصوت، والمناداة مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

79

 

 


61

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

يدأب الناس في المجتمعات المختلفة على احترام قياداتهم والتأدّب معهم مزيد تأدُّب, وذلك لما أدّوه من خدمات وجهد في سبيل مجتمعاتهم.

 

وكلّما علا مقام الإنسان وارتفعت درجته عند الله تعالى، كلّما ازداد مستوى الاحترام تجاهه. وقد دعا الإسلام العظيم في كثير من تعاليمه إلى حسن الأدب والتعامل مع الأنبياء  عليهم السلام، ولا سيّما خاتمهم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، بل إلى مراعاة الأدب والاحترام مع الناس بشكل عام.

 

ولا شكّ أنّ مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم وجليل، وقد اعترف كثير من منصفي العالم بخدماته العظيمة للإنسانية، ولا ينكر عظمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا كلّ جاهل أو مريض قلب يعرف الحقّ وينكره. ونذكر في المقام بعض الآداب مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أدب المحبّة

أكّد الأئمة عليهم السلام على أن الحبّ هو أساس الدين وعنوانه، فقد رُوي عن أبي عبيدة زياد الحذاء، عن أبي جعفرعليه السلام في حديث له قال: "يا زياد، ويحك وهل الدين إلا الحبّ؟ ألا ترى إلى قول الله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[1] أوَلا ترى قول الله لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ


 


[1] سورة آل عمران، الآية31.

 

81


62

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[1]. وقال: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾[2]. فقال عليه السلام: الدين هو الحبّ، والحبّ هو الدين"[3].

 

ثم إنّ قلب الإنسان يتعلّق بالأمور التي يرى فيها الخير والبركة والمحبة والرأفة، ومن هنا يمكن القول إن محبّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تنشأ من كونه نبيّ الله ورسوله، وخاتم الأنبياء، وأنه يمثّل الإنسان الصالح في المجتمع الإنسانيّ، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم يجسّد الخير والبركة والمحبّة على الأرض، فيجب علينا محبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كلّ متعلّقاتنا، وحتّى أكثر من أنفسنا، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[4].

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن عبد حتّى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذاتي أحبّ إليه من ذاته"[5].

 

وهذا الحديث يشير، أيضاً، إلى ضرورة حبّ أهل البيت عليهم السلام، فمن يحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلزم عليه أن يحبّ أهل بيته عليهم السلام، وإلّا لا يكون محبّاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أدب الاتّباع

يتحقق أدب الاتّباع بتطبيق تعاليم رسول الله عمليّاً، فلا يكفي ادّعاء الحبّ القلبي, لأنّ حقيقة الحبّ تعني العمل بتعاليم من تحبّ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[6].

 

فقد أخبر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ

 


[1] سورة الحجرات، الآية 7.

[2] سورة الحشر، الآية 9.

[3] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص262.

[4] سورة التوبة، الآية 24.

[5] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص414.

[6] سورة آل عمران، الآية 31.

 

82


63

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[1], أي من تولى وأعرض عن طاعة الله أو عن طاعتك، فما أرسلناك عليهم حفيظاً، بحيث تحفظهم عن التولّي والإعراض جبراً، وإنّما عليك البلاغ، فكأنّ ذلك دليل على ما فوّضه الله إليه أي ردّ عليه أمر العباد وجعله الحاكم فيه، فوجب عليهم الطاعة له والتسليم لأمره ونهيه والانقياد له في جميع ما جاء به من أصول الدين وفروعه، ولا يجوز لهم التقوّل في شيء من ذلك برأيهم، وفيه زجر لهم عما ارتكبوا من أمر الخلافة ونحوه من الأمور الدينيّة المخالفة للقوانين الشرعيّة[2].

 

أدب الصلاة عليه

وذلك بالصلاة عليه عند ذكره، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[3].

 

ونلاحظ في الآية الكريمة أنّ الله تعالى ابتدأ بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أتبع ذلك بالصلاة على الملائكة، وبعد ذلك أمر المؤمنين أن يُصلّوا عليه، وفي هذا دلالة على أن في صلاة المؤمنين له اتباعاً لله سبحانه وملائكته، والتزاماً بالأوامر الإلهيّة التي تكشف آداب المعاملة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وأما بالنسبة إلى كيفية الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال تقولون: اللهمّ صلِّ على محمّد، وتمسكون، بل قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد"[4].

 

فبيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الصلاة الّتي افترض الله عزّ وجلّ عليهم أن يصلّوها عليه ملازمة للصلاة على أهل بيته عليهم السلام.


 


[1] سورة النساء، الآية 80.

[2] المازندرانيّ، محمد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيد علي عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421هـ - 2000م، ط1، ج11، ص271.

[3] سورة الأحزاب، الآية 56.

[4] المحقق البحرانيّ، الحدائق الناضرة، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، لا.ت، لا.ط، ج8، ص465.

 

83


64

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وقد نهى أهل البيت عليهم السلام عن الصلاة البتراء، فقد رُوي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "سمع أبي رجلاً متعلّقاً بالبيت، وهو يقول: اللهمّ صلِّ على محمّد، فقال له أبي: يا عبد الله، لا تبترها، لا تظلمنا حقّنا، قل: اللهمّ صلِّ على محمّد وأهل بيته"[1].

 

وقد دعا الإمام عليّ عليه السلام إلى الإكثار من الصلاة على النبيّ وآله: "... أكثروا من الصلاة على نبيّكم, ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[2],[3].

 

أدب الاحترام والتعظيم والدفاع

التعظيم منزلة فوق المحبة, لأنّه ليس كل محبّ معظّماً، فالوالد يحبّ ولده، ولكنّ حبّه إنما إياه يدعوه إلى تكريمه لا إلى تعظيمه. والسيد قد يحبّ مماليكه، ولكن لا يعظّمهم، والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم, فالتعظيم رتبة فوق المحبّة، ثم إنّ الداعي إلى المحبّة ما يفيض عن المُحِبّ على المحبوب من الخيرات، والداعي إلى التعظيم ما يجده الإنسان في من يعظّمه من الصفات العليّة، وما يتعلّق به من حاجات المعظِّم التي لا قضاء لها إلا عنده، وهذا كله عند عامة الناس.

 

ومن المعلوم أنّ حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجلّ وأعظم وأكرم وألزم وأوجب, لأنّ الله - تعالى - أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به أرواحنا وأبداننا، وأعراضنا وأموالنا، وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فأيّ نعمة توازي هذه النعم، ثمّ إنّه - جلّ ثناؤه - ألزمنا طاعته، وتوعّدنا على معصيته بالنار، ووعدنا باتّباعه الجنة، فأيّ رتبة تضاهي هذه الرتبة؟ وأيّ درجة تساوي في العمل هذه الدرجة؟ فحقّ علينا إذاً، أن نحبه ونجلّه ونعظّمه ونهابه أكثر من إجلال كلّ عبد لسيّده، وكلّ ولد لوالده. وقد ورد التصريح بذلك في كتاب الله - جلّ ثناؤه -، حيث يقول - تعالى -: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص495.

[2] سورة الأحزاب، الآية، 56.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص18.

 

84


65

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1], فالفلاح بمقتضى الآية إنّما يكون بنصرته وتعزيزه مضافاً إلى الإيمان به، ولا خلاف في أنّ التعزير هاهنا هو التعظيم، وقال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾[2]، والآية صريحة في أنّ حقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمّته أن يكون معزّزاً موقّراً مُهاباً، فينبغي أن لا يُتعامل معه كما يعامل الأكفاء بعضهم[3].

 

وقد رُوي عن جابر بن عبد الله، قال: "لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويعزروه، قال لنا: ما ذاكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: لينصروه، ويوقّروه، ويعظّموه، ويفخّموه"[4].

 

أدب عدم التقدّم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخفض الصوت

لقد نهى الله تعالى عن الأفعال التي تتنافى مع واجب الاحترام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال - سبحانه وتعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ  * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[5].

 

وقد أشارت الآيات إلى ثلاثة آداب:

1- عدم التقدُّم على الله ورسوله: والمراد من عدم التقدُّم بين يدي الله ورسوله, هو ترك العجلة والتسرع في الكلام أمام أمر الله ورسوله.


 


[1] سورة الأعراف، الآية 157.

[2] سورة الفتح، الآيتان، 8 ـ 9.

[3] البيهقي، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، تحقيق أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1410 - 1990م، ط1، ج2، ص193.

[4] العينيّ، عمدة القاري، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، لا.ت، لا.ط، ج19، ص175.

[5] سورة الحجرات، الآيات 1 ـ 5.

 

85


66

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ولا شكّ أنّ مسؤوليّة انضباط السائرين إزاء القادة، وخاصّة إزاء القادة الإلهيّين، تقتضي ألّا يتقدّموا عليهم في أيّ عمل أو قول.

 

2- عدم رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد جعل الله سبحانه رفع الصوت عنده سبباً من أسباب حبط العمل. وينبغي العلم أنّه يجب التأدُّب بهذا الأدب في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته، أمّا بعد مماته فيتمّ ذلك عن طريق الامتناع عن رفع المرء صوته عند زيارة قبره الشريف مثلاً.

 

3- عدم الجهر بالقول عند مخاطبته صلى الله عليه وآله وسلم: بل يخفض الصوت عند التّكلم معه احتراماً له.

 

أدب المناداة

وقال - تعالى - تأكيداً على احترام رسول الله: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[1], أي ادعوه بالخضوع والتعظيم، وقولوا له يا رسول الله، ويا نبي الله، ولا تقولوا يا محمد، كما ينبغي أن يترافق ذلك مع التوقير والتعظيم والتواضع وخفض الصوت[2].

 

فهذا يعني أنّه عندما تدعون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فينبغي أن تتم مراعاة الأدب والاحترام بما يليق بمنزلته.

 

وسبب نزول هذه الآية هو أنّه كان ثمّة جماعة من المسلمين والمنافقين الذين لم يتعلّموا الآداب الإسلاميّة في التعامل مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا ينادونه صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: يا محمّد! وهذا لا يليق بنداء قائد إلهيّ كبير[3].


 


[1] سورة النور، الآية 63.

[2] الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج7، ص466، الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1418هـ.ق، ط1، ج2، ص636.

[3] مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، أحمد فريد، دار الكتب العلميّة، 1424 - 2003م، ط1، ج2، ص428، ج3، ص258.

 

86

 


67

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وتستهدف الآية تعليم الناس أن ينادوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدّب، من قبيل دعوتهم له بألقاب خاصّة مثل: رسول الله، أو نبيّ الله، أو نبيّ الرحمة، أو خاتم النبيّين، أو سيّد المرسلين...، فالله - سبحانه - علّم الناس في هذه الآية تفخيم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المخاطبة، وأعلمَهم فضله فيه على سائر البرية[1].

 

فحريّ بالمؤمن إن سمع هذا أن يتأدّب بهذا الأدب، فلا يذكر اسم نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم إلّا مقروناً بكلمة رسول الله أو نبيّ الله وأمثال ذلك.


 


[1] الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415هـ.ق - 1995م، ط1، ج7، ص276.

 

87


68

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

المفاهيم الرئيسة

1- إن أدب المحبّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون بمحبّته صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كلّ متعلّقاتنا، بل أكثر من أنفسنا، وكذلك فإنّ محبّة أهل البيت  عليهم السلام هي محبّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- تحقيق أدب الاتّباع مع رسول الله يكون بالالتزام بتعاليمه عمليّاً، فلا يكفي ادّعاء الحبّ القلبي, لأنّ حقيقة الحبّ تعني العمل بتعاليم من تحبّ، فلا شكّ في استقامة رسول الله، ولكن ما كان يهمّه هو اتّباع أتباعه له واستقامتهم على طريقه، فلنكن حريصين على قلب رسول الله وعدم أذيّته، وذلك باتّباعه والاستقامة في طريق ذات الشوكة.

 

3- إنّ الصلاة على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم الّتي افترض الله عزّ وجلّ على المسلمين أن يصلّوها عليه هي الصلاة الكاملة الملازمة للصلاة على أهل بيته  عليهم السلام، ولا يصحّ أن يُصلى عليه الصلاة البتراء.

 

4- أكّد القرآن الكريم على أدب التوقير مع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى التوقير هنا التعظيم والتكريم والاحترام.

 

5- نهى الله تعالى عن أفعال فيها عدم احترام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أ- عدم التقدُّم على الله ورسوله.

ب- عدم رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ج- عدم الجهر بالقول عند مخاطبته صلى الله عليه وآله وسلم، بل يخفض الصوت عند التّكلم معه احتراماً له.

6- ينبغي دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأدب واحترام يليقان بمنزلته، وليس كما يدعو المسلمون بعضهم بعضاً.

 

 

88

 


69

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

الدرس الثامن

البعثة النبويّة المباركة

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى نزول الوحي والأحداث التي رافقته.

2- يتعرّف إلى مراحل الدعوة الإسلاميّة.

3- يشرح موقف قريش من الدعوة الإسلاميّة.

 

89


70

الدرس السابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

لا شكّ أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما يصطفي من عباده من يتمتّع بخصائص فذّة تجعله قادراً على أداء المهامّ الكبرى الموكلة إليه، بحيث يتمّ تحقيقها بالنحو الأكمل. والأنبياء العظام  عليهم السلام هم المصداق الأبرز لهذا الاصطفاء الإلهيّ الربانيّ، فلا بدّ أن يكون المرسَل من قبله تعالى مستوعباً للرسالة وأهدافها، وقادراً على أداء الدور المطلوب منه على مستوى تلقّي الوحي وتبليغه وتبيينه وتطبيقه وصيانته والدفاع عنه، وهذا يتطلّب العلم، والبصيرة، والمعرفة، وسلامة النفس، والصبر، والاستقامة، والشجاعة، بل والقدرة على إدارة شؤون الأمّة التي ينطلق منها لنشر دعوته في أصقاع الأرض.

 

وقد تجسّدت تلك الصفات الربّانيّة والقياديّة في شخصيّة خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت سيرته قبل النبوّة مليئة بالمواقف التي تكشف عن سرّ تلك الشخصيّة العظيمة، حتّى بُشِّر بالنبوّة والرسالة وابتدأ تأسيس دولته في شبه الجزيرة العربيّة.

 

إشارات الوحي والنبوّة

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على درجةٍ عالية من التربية وحُسن الخُلُق، ولم يتدنّس بعبادة الأصنام، فكان منذ صغره موضع عناية الله - تعالى -، ويبيّن لنا ذلك أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظمَ ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره..."[1]. فكان صلى الله عليه وآله وسلم يخلو بضعة أيّام


 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، الخطبة 192 (القاصعة)، ص300.

 

91


71

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

من السنة في جبل (غار) حراء، يقضيها بالعبادة والدعاء، وكان عبد المطّلب يتعبّد فيه قبل ذلك.

 

وحينما بلغ السابعة والثلاثين من عمره نزل عليه جبرائيل عليه السلام وعلّمه الوضوء والصلاة بسورة الفاتحة فقط، فكان في هذه المدة مبشّراً غير مبعوث إلى الأمّة[1]، ولم يدعُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً إلى دينه في هذه الفترة سوى أمير المؤمنين عليه السلام، فكان عليّ عليه السلام ثاني من صلّى، فسبق الناس كلّهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، وكان يصلي وهو ابن سبع سنين، وكان يسمع الصوت ويبصر الضوء سنين سبعاً[2].

 

ثم دعا السيّدة خديجة فآمنت به وصدّقته، فكان لا يصلّي قبل البعثة، إلّا رسول الله وعليّ وخديجة[3].

 

البعثة النبويّة

وحينما بلغ النبيّ الأربعين، بُعث بالنبوّة في السابع والعشرين من شهر رجب[4]. وتَنقُل لنا الروايات أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مطمئنّاً إلى المهمّة التي شرّفه الله بها، فلم يكن خائفاً أو مرتعباً مما جرى له، وعن الإمام الصادق عليه السلام في جواب أحد أصحابه (زرارة) عندما سأله: كيف لم يخف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ما يأتيه من قِبَل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقال عليه السلام: "إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قِبَل الله عزّ وجلّ مثل الذي يراه بعينه"[5].

 

وبعد تلقين ذلك البيان الإلهيّ، عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به من النبوّة والرسالة.


 


[1] قطب الدين الراونديّ، سعيد بن هبة الله، قصص الأنبياء، تحقيق الميرزا غلام رضا عرفانيان اليزديّ الخراسانيّ، مؤسّسة الهادي، قم، إيران، 1418هـ، ط1، ص318.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج1، ص15.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص279.

[4] المصدر نفسه، ج2، ص149، الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص90، الشيخ الطوسيّ، محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق مؤسّسة البعثة، الناشر دار الثقافة، قم، إيران، 1414هـ، ط1، ص28.

[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص262.

 

92


72

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

الدعوة السريَّة

أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة ثلاث سنين لا يدعو الناس بشكل مباشر إلى الإسلام[1], وذلك لأنّ أجواء مكّة لم تكن مناسبة في تلك الظروف للجهر بالدعوة، فكان في تلك السنوات يدعو سرّاً كلّ من يرى فيه استعداداً لقبول دعوته، وعلى الرغم من أنّ دعوته للناس بقيت سريّة، فقد أظهر حقيقة الأمر، وأعلن أنّه نبيٌّ مرسل من الله تعالى، ولم يخف ذلك، ولم تكن ردّة فعل المشركين على إعلان النبي لدعوته في مرحلة الدعوة السريّة ذات بال، فلم يهتمّ المشركون كثيراً، حتّى كثر المسلمون، واضطرّوا للخروج إلى الشعاب والجبال لأداء الصلاة, فارتفعت إمكانيّة الصدام مع قريش، وحصلت بعض المواجهات الطفيفة بين الطرفين.

 

وكانت أمام الرسولصلى الله عليه وآله وسلم نقطتان مهمّتان في هذه المرحلة، وهما:

1- بناء النواة الجهاديّة الأولى للدعوة.

2- حماية هذه النواة والمحافظة عليها.

 

وقد نجح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك نجاحاً باهراً، وكان قد اتّخذ من دار الأرقم مقراً للمسلمين، وكانوا يجتمعون فيها أثناء مدّة الاستخفاء، إلى أن جاء أمر الله بأنّ يَصْدَع بالدعوة[2].

 

البعثة النبويّة ونزول القرآن

لم تقترن البعثة النبويّة بنزول القرآن الكريم، فلم ينزل عليه القرآن الكريم إلاّ بعد فترة ثلاث سنين، أي بدأ نزول القرآن حينما بلغ رسول الله من العمر ثلاثاً وأربعين سنة، وذلك في شهر رمضان المبارك، أي بعد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنوات في شهر رجب، وتمثّل هذه الفترة نهاية الفترة السريّة للدعوة[3].


 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص344.

[2] الحلبيّ، عليّ بن برهان الدين، السيرة الحلبيّة، مصدر سابق، ج1، ص456 - 457.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص460، العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشيّ، الناشر المكتبة العلميّة ّالإسلاميّة، طهران، إيران، لا.ت، لا.ط، ج1، ص80.

 

93


73

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

وتؤكّد الروايات على نزول القرآن في فترة عشرين سنة، فحينما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ كيف كان؟ والحال أنّ القرآن أنزل في طول عشرين سنة؟ فقال: "إنّه نزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور إلى النبيّ في طول عشرين سنة"[1].

 

مضافاً إلى ذلك، فإنّ الأخبار التي وردت عن أئمّة أهل البيت في أوّل ما نزل من القرآن لا تقيّده ببداية البعثة، وكانت أول سورة نزلت هي العلق، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أوّل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[2]، وآخر ما نزل عليه: ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾[3]"[4].

 

الدعوة العلنيّة

بعد مدّة من شروع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة السرِّيَّة إلى الإسلام، وبعد بناء القاعدة الصّلبة للدعوة المتمثِّلة بأولئك الروّاد الأوائل من المسلمين الذين انتموا إلى الإسلام في أيّام غُرْبَته، تلقّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمراً من الله تعالى بالمجاهرة بالدعوة وعدم الخوف من المشركين: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾[5].

 

وابتدأت الدعوة العلنيّة من خلال ثلاثة بيانات لإعلان الدعوة الإسلاميّة، وكان البيان الأول بعد أمره بإعلان دعوته، حيث صعد على جبل الصفا ودعا الناس لتوحيد الله - تعالى - والإيمان برسالته[6]، فامتنعت قريش عن الاستجابة له.

 

ثم انتظر خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم شهرين تقريباً قبل موسم الحجّ، فقام بالأبطح وجعل صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب ويدعوها إلى الإسلام[7].

 

 


[1] علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج1، ص66.

[2] سورة العلق، الآية 1.

[3] سورة النصر، الآية 1.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص628.

[5] سورة الحجر، الآيتان 94 ـ 95.

[6] الخوارزميّ، الموفّق بن أحمد، المناقب، تحقيق الشيخ مالك المحموديّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، إيران، 1414هـ، ط2، ج1، ص46.

[7] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص344، العياشيّ، تفسير العياشيّ، مصدر سابق، ج2، ص272، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج1، ص304.

 

94


74

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

وكان البيان الثالث في موسم الحج، فقام النبيّ على حجر إسماعيل في مطاف المسجد الحرام، وهو أجمع مجامع الحجّ، وأشرف مواقفه، فخطب في الناس ودعاهم إلى الإسلام وأخبرهم بمستقبل دعوته، وكانت انطلاقة الدعوة العلنيّة أمام جميع قبائل العرب[1].

 

قريش والصدّ عن الدعوة الإسلاميّة

لم تقبل قريش بدعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاهر بها، حيث إنّهم أدبروا عنه وتنكّروا لدعوته، خصوصاً بعدما ذكر آلهتهم وعابها. وبما أنّ النظام القبليّ الذي كان سائداً في مكّة كان يمنعهم من التعرّض لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كانوا سيضطرون لمواجهة خطر انتقام بني هاشم منهم, لهذا لجؤوا إلى جملة من الإجراءات بأسلوب مُتدرِّج، ومنها:

1- الترغيب والترهيب: فقد تم اعتماد أسلوب التهديد مع أبي طالب أحياناً، كما تم اعتماد أسلوب الترغيب أحياناً أخرى، فعرضوا عليه المال والثروة والرئاسة. ثم عرضوا عليه أن يعطوه عمارة بن الوليد - وكان أجمل وأقوى وأشعر فتى في قريش - وأن يُسلِّمهم في مقابل ذلك محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه، فرفض أبو طالب ووبّخهم بقوله: "لبئس ما تسومونني عليه، أتُعطوني ابنكم أغذوه لكم وأُعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً". وجاؤوه مرّة، وهدّدوه بالقتل هو وابن أخيه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا أن قال: "والله يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتّى يُظهِرَه الله أو أهلك فيه، ما تَركتُه"[2].

 

2- مفاوضة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومساومته مباشرة: عن طريق إغرائه بالمال والجاه.

 

3- نهي الناس عن الالتقاء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: والاستماع إلى ما يتلوه من قرآن[3].


 


[1] عليّ بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج1، ص379، الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص106.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص185.

[3] سورة فصّلت، الآية 26.

 

95


75

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

4- التعرُّض لشخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإيذاء المباشر: فرجموا بيته بالحجارة، وألقوا التراب على رأسه، ووضعوا الأشواك في طريقه وأمام داره، حتّى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أُوذي نبيّ مثل ما أُوذيت"[1].

 

5- اتّباع سياسة الإرهاب والتعذيب: والتنكيل بالصفوة المؤمنة كآل ياسر.

 

6- مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بالتكذيب، والسخرية، والاستخفاف والاستهزاء، ورميه بأنواع التهم من قبيل اتهامهم له بالسحر والجنون، وأنّه يُفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجه وعشيرته[2].

 

الهجرة إلى الحبشة

لمّا رأت قريش دخول خَلقٍ عظيم في الإسلام بدأت المواجهة الفعليّة، وعمل صناديد قريش على إنزال أشدِّ أنواع العذاب بالمسلمين، فكان ممّن عُذِّبَ في الله عمّار بن ياسر، وياسر أبوه، وسُميَّة أمّه، حتّى قَتل أبو جهل سُمَيّة، فكانت أوّل شهيدة في الإسلام. عندها أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من البعثة، وقال لهم: "إنّ بها مَلِكاً لا يُظلم عنده أحد"[3]. وكان عددهم في أرض الحبشة ثلاثة وثمانين ما بين رجل وامرأة عدا الأطفال، وكان في مقدّمهم جعفر بن أبي طالب. فأرسلت قريش وفداً لاستردادهم، فواجههم النجاشيّ بالرفض بعدما استمع من المسلمين إلى حقيقة الإسلام وعظمته.

 

الحصار في شعب أبي طالب

بعد مواقف الصمود تجاه قريش من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، قرّرت قريش مقاطعة بني هاشم، وفرض حصار اجتماعيّ واقتصاديّ عليهم، وهو ما عُرِف بحصار الشعب، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة، وكتبوا وثيقة اتفقوا فيها على البنود الآتية: أن لا

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص65.

[2] سورة ص، الآية 4، سورة النحل، الآية 103.

[3] محمد بن جرير الطبريّ، تاريخ الطبري، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء الأجلاء، لبنان - بيروت، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، 1403 - 1983م، ط4، ج2، ص222.

 

95


76

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

يُزوِّجوا أحداً من نسائهم لبني هاشم، وأن لا يتزوّجوا منهم، وأن لا يبتاعوا منهم شيئاً، ولا يبيعوهم شيئاً مهما كان نوعه، وأن لا يجتمعوا معهم على أمرٍ من الأمور، وأن يكونوا يداً واحدة على محمّد وأتباعه[1].

 

 اعتقدت قريش أنّ هذا الحصار سيؤدّي إلى أحد أمور ثلاثة: إمّا قيام بني هاشم بتسليمهم النبيّ ليقتلوه، وإمّا أن يتراجع النبيّ عن الدعوة، وإما القضاء عليه وعلى جميع من معه جوعاً وعطشاً تحت وطأة الحصار.

 

 استمرّ الحصار ثلاث سنوات، من السنة السادسة حتّى التاسعة للبعثة، وكان المسلمون في ذلك الوقت يُنفقون من أموال خديجة وأبي طالب حتّى نفدت، فاضطروا إلى أن الأكل من ورق الشجر، ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب إلّا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحجّ في ذي الحجّة، فكانوا يشترون حينئذٍ ويبيعون ضمن ظروفٍ صعبة جدّاً[2].

 

 وكان الإمام عليّ عليه السلام أثناء هذه المحنة يأتيهم بالطعام سرّاً من مكّة من حيث يُمكِن، وكان أبو طالب يحرس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وذلك خوفاً من أن يتسلّل أحد من المشركين إليه ويغتاله على حين غفلة، بل كان إذا حلّ الظلام ينقل النبيّ من المكان الذي عَرف أهل الشعب أنّه بات فيه، إلى مكانٍ آخر، ويجعل ابنه عليّاً عليه السلام في مكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى إذا حصل أمرٌ أُصيب ولده دونه.

 

 وانتهى الحصار بعدما أكلت الأرضة ما في صحيفة المشركين التي تعاقدوا فيها على الحصار، وقيام جماعة منهم ممّن تربطهم ببني هاشم علاقات نسبيّة بنقض الصحيفة وإلغاء مفاعيلها، ومنهم من كان من الموقِّعين على الصحيفة، وبذلك عاد بنو هاشم إلى مساكنهم[3]. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بأمر الصحيفة بواسطة أبي طالب، وهي من

 


[1] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج1، ص375.

[2] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، 1386هـ - 1966م، لا.ط، ج2، ص87.

[3] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص31 - 32.

 

97


77

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

كراماته صلى الله عليه وآله وسلم، حيث نزل عليه جبرئيل بأمرٍ من الله تعالى يُخبره بما جرى على الصحيفة.

 

ثم بعد إنهاء الحصار توفي أبو طالب[1]، وبعد أشهر عدّة توفيت السيّدة خديجة عليها السلام، فسُمّي ذلك العام بعام الحزن[2].

 

وعندما كان النبيّ وبنو هاشم محاصرين في الشعب، وبما أنّ بني هاشم تأخّروا في الانضمام جميعاً إلى الإسلام، فقد أراد الله (عزّ وجلّ) توجيه الإنذار إليهم، كذلك أراد الله تعالى أن يحدّد الوصيّ والخليفة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[3].

 

فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام، فقال له: "يا عليّ، إنّ الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فادعهم ليأتوا، واصنع لنا - يا عليّ - صاعاً من طعام"، فدعاهم الإمام علي عليه السلام، وصنع لهم طعاماً، فحضروا كلّهم، فقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيهم خطيباً، فلم يقبلوا منه في هذه المرّة، ثم دعاهم مرّة ثانية، فقام فيهم خطيباً: "يا بني عبد المطلب، إنّي نذير لكم من الله (عزّ وجلّ)، إنّي أتيتكم بما لم يأتِ به أحد من العرب، فإن تطيعوني ترشدوا...، واعلموا، يا بني عبد المطّلب، أنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وإنّكم عشيرتي الأقربون[4]، إنّ الله لم يبعث رسولاً إلّا جعل له أخاً ووزيراً ووصيّاً ووارثاً من أهله...، فأيّكم يسبق إليها يقوم فيبايعني على أنّه أخي في الله، ووزيري ووارثي دون أهلي، ووصيّي وخليفتي في أهلي، ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي؟! فأمسك القوم. فأعادها ثلاث مرات ويسكتون...، ثمّ قام عليٌّ عليه السلام، وهم ينظرون إليه كلّهم، فقال: يا رسول الله، أنا لها، أنا أؤازرك على هذا الأمر[5].


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، مصدر سابق، ص52.

[2] المسعوديّ، علي بن الحسين، التنبيه والإشراف، دار صعب، بيروت، لبنان، لا.ت، لا.ط، ص200.

[3] سورة الشعراء، الآية 214.

[4] فرات بن إبراهيم الكوفيّ، تفسير فرات الكوفيّ، تحقيق محمد كاظم، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، طهران، إيران، 1990م، ط1، ص303.

[5] الشيخ الطبرسيّ، إعلام الورى بأعلام الهدى، مصدر سابق، ج1، ص323.

 

98


78

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

ثمّ قال: "يا بني عبد المطلب، هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم[1] بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا[2]. فقام القوم يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام"[3].

 

سفره إلى الطائف للدعوة

عزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على التوجُّه إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الإسلام، لعلّه يلتمس منهم النصر والمِنعة، وذلك بعد أن اشتدّ أذى قريش له إثر وفاة خديجة وأبي طالب، وكان ذلك في السنة العاشرة من البعثة، وأقام في الطائف عشرة أيّام يتجوّل فيها ويدعو أهلها إلى الإسلام، ومعه الإمام عليّ بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة[4].

 

وكلّ ذلك يرجع إلى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطو في دعوته بخطوات هادفة ومدروسة، ولكنّهم واجهوه ولم يسمعوا منه، بل جلسوا في الطريق يرمونه بالحجارة حتّى جُرِح في رأسه، فانصرف راجعاً إلى مكّة[5].

 

 وكان الهدف من هذا السفر الإعداد للمستقبل باعتبار أنّ الطائف هي البلد الثالث الذي له موقعه ونفوذه الخاصّ في المنطقة، نظراً لوجود قبيلة كبيرة فيها هي ثقيف.


 


[1] القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، مصدر سابق، ج1، ص106.

[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص583.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص152 - 179.

[4] الطبريّ، تاريخ الطبريّ، مصدر سابق، ج2، ص230.

[5] العياشيّ، تفسير العياشيّ، مصدر سابق، ج1، ص257، الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص172.

 

99


79

الدرس الثامن: البعثة النبويّة المباركة

المفاهيم الرئيسة

1- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مُسدَّداً مُؤيّداً، قبل البعثة المباركة، من قبل الله تعالى، وبُعث بالنبوّة وهو ابن أربعين سنة في شهر رجب، ولم يشكّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في نبوّته لحظة، ولم يتّكئ إلّا على التسديد الإلهيّ والوحي الربانيّ.

 

2- لم تقترن البعثة النبويّة بنزول القرآن الكريم، فلم ينزل عليه القرآن الكريم إلاّ بعد فترة ثلاث سنين، أي بدأ نزول القرآن حينما بلغ رسول الله من العمر ثلاثاً وأربعين سنة، في شهر رمضان المبارك.

 

3- وابتدأت الدعوة العلنيّة من خلال ثلاثة بيانات لإعلان الدعوة الإسلاميّة، فكان البيان الأوّل على جبل الصفا، ثم انتظر شهرين تقريباً قبل موسم الحج فأعلن البيان الثاني، وكان البيان الثالث في موسم الحج.

 

4- واجهت قريش الدعوة الإسلاميّة بكل الوسائل والأساليب الممكنة بين الترغيب والترهيب، والتعذيب.

 

5- بعدما ذاق المسلمون أشد أنواع التعذيب من قريش أمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى الحبشة, لأنّ الملك الذي يتولاّها عادل، ويسمح للآخرين بممارسة شعائرهم الدينيّة.

 

6- بعدما عجزت قريش عن رد النبيّ عن دعوته، قامت بمحاصرة بني هاشم في شعب أبي طالب، لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وكانت المقاطعة شاملة في شؤون الحياة كافّة. وفي الشعب أنذر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته الأقربين، وكان الإعلان الأوّل عن العلاقة بين النبوّة والإمامة، وعيّن أمير المؤمنين علي عليه السلام وصيّاً وخليفة له، وأمر الناس بطاعته واتّباعه.

 

7- خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف داعياً إلى الإسلام باعتبار أن هذه المدينة تشكل ثقلاً في المجتمع العربي، إلا أن أهل الطائف لم يستجيبوا له.

 

 

 

100

 


80

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

الدرس التاسع

الهجرة النبويّة إلى المدينة

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح كيفيّة انتشار الإسلام في يثرب.

2- يتعرّف إلى قصّة مبيت الإمام عليّ عليه السلام في فراش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يعدِّد أهمّ الأعمال النبويّة لبناء الدولة الإسلاميّة.

 

101

 


81

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

تمهيد

بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة وصل النبيّ مع قريش إلى طريق مسدود، فقد آمن من آمن منها، وبقي غيرهم على شركه وعناده، ولم يعد من المتوقّع أن يؤمن أحد آخ من أهلها، فلم يكن ثمّة جدوى من الصبر على الأذى والتحمّل، طالما أنّه لا يوجد أمل في إيمان آخرين من قريش.

 

فبدأت مرحلة فجر الدعوة المكّيّة بالأفول، وأشرقت مرحلة الحفاظ على المكاسب الإيمانيّة التي حصلت، وتمّ إنقاذها من التدمير من قِبل قريش، فلا بدّ من البحث عن مكان آمن تنتقل إليه الدعوة الإسلاميّة. وكانت مدينة يثرب من المدن التي يمكن أن يتطلّع إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وذلك لوجود بعض المؤهّلات التي يمكن الاعتماد عليها لاحتضان الإسلام والمسلمين فيها.

 

أسباب الهجرة إلى يثرب

يمكن تحديد بعض الأسباب التي دفعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح آفاق جديدة للدعوة الإسلاميّة خارج مكّة المكرّمة في الأمور الآتية:

1- قريش ترفض الإسلام: لقد سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاهداً إلى نشر الإسلام في مكّة المكرّمة، إلّا أنّ قريشاً رفضت الإسلام رفضاً قاطعاً، وواجهته بشتّى الوسائل المتاحة.

 

2- أذية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: تعرّض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للابتلاء الشديد، والمحن العصيبة، فقد آذاه قومه بكلّ أنواع الإيذاء، واستخدموا في مواجهته كلّ ما استطاعوا للقضاء على الإسلام.

 

 

103

 


82

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

3- أذيّة المسلمين: تعرّض المسلمون لأشدّ وأقسى أنواع العذاب من قبل قريش، فكان لا بدّ من تأمين مكان آمن لهم، يعيشون فيه، ويمارسون فيه شعائرهم الدينيّة.

 

انتشار الإسلام في يثرب[1]

في السنة الحادية عشرة للبعثة التقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بستّة من أشراف الخزرج في موسم الحجّ في منى، ودعاهم إلى الإسلام، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله، إنّه النبيّ الذي كان يوعدكم به اليهود، فلا يسبقنّكم إليه أحد. فأجابوه، وقالوا له: إنّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم العداوة والشرّ مثلما بينهم، فعسى أن يجمع الله بينهم بك، فتُقدِم عليهم وتدعوهم إلى أمرك. فلمّا قدِموا المدينة أخبروا قومهم بالخبر، فما دار حولٌ إلّا وفيها حديث رسول الله[2] صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 ونجح تخطيط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي استهدف من هذا الاجتماع حثّ هؤلاء الأشخاص على القيام بنشاط في بلادهم، لتهيئة الجوّ وخلق مناخ مؤيِّد ومتعاطف مع الدعوة ومبادئها في المدينة، وقد تمّ توطيد تلك العلاقة مع الأنصار في بيعتين:

الأولى: بيعة العقبة الأولى:

عندما حلّ موسم الحجّ في العام الثاني التقى صلى الله عليه وآله وسلم باثني عشر رجلاً من اليثربيّين، واجتمع بهم سرّاً في وادٍ ضيّق بالعقبة بين مكّة ومنى، وهي العقبة الأولى[3]، وقد أعلنوا فيها إيمانهم واستعدادهم للعمل على نشر الإسلام، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك.

 

 فلمّا أرادوا الانصراف إلى بلدهم، بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم مصعب بن عمير من

 


[1] تعتبر مدينة يثرب من المدن التاريخيّة القديمة، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد، وقد وجد في الآثار المكتشفة ورود اسم يثرب فيها، وكان يطلق عليها أثرب ويثرب، وتقع مدينة يثرب على بعد 400 كلم تقريباً إلى الشمال من مكّة، في بسيط من الأرض مكشوف من سائر الجهات، في صرّة سبخة من الأرض، كثيرة المياه والشجرات والدوحات، وأقرب الجبال إليها من الشمال جبل أحد، وإلى الشرق من يثرب يقع بقيع الغرقد، ويقع جبل عَير في جنوبها الغربيّ، وإلى الجنوب قرية قباء، وإلى الجنوب منها تقع قرية الفرع، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع، راجع: راجع: الحموي، ياقوت بن عبد الله، معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1399 - 1979م، لا. ط، ج7، ص227، علي، جواد، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ساعدت جامة بغداد على نشره، لا. م، 1413هـ/ 1993م، ط2، ج4، ص128.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص156.

[3] العقبة بمعنى الطريق الضيّق، ويُراد بها العقبة التي تقع عند نهاية منى إلى يمين مكّة.

 

104


83

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

أجل أن يُعلِّمهم الإسلام، ويُفقّههم في الدين، ويجعل منهم قوّة أكثر فاعليّة ودقّة في نشر الدين الجديد في صفوف أهل المدينة.

 

استطاع مصعب بن عمير بوعيه وخبرته بشتّى أساليب العمل والتبليغ أن يقوم بواجبه كما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...، وكان عدد المسلمين في المدينة يزداد يوماً بعد يوم، وأصبح جوّ المدينة العامّ مؤيِّداً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومهيَّأً لقدومه[1].

 

الثانية: بيعة العقبة الثانية:

وفي العام التالي، أي في السنة الثالثة عشرة من البعثة، وبعد مرور عام كامل على بيعة العقبة الأولى، عاد مصعب بن عمير إلى مكّة ومعه جمعٌ كبير من مسلمي المدينة، خرجوا مُستخفين مع حُجّاج قومهم المشركين. ويبدو أنّ مصعباً قَبْل حضوره إلى مكّة، كان قد رتّب اجتماعاً بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين مسلمي يثرب بعد انتهاء موسم الحجّ.

 

 فالتقى بعضهم بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وواعدهم أن يجتمع بهم في العقبة في اليوم الثاني من أيّام التشريق ليلاً، وأمرهم بالحفاظ على سرِّيَّة الاجتماع. وفي الليلة المعيّنة تمّ الاجتماع بحضور الإمام عليّ عليه السلام والحمزة في الدار الذي كان ينزل فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو دار عبد المطّلب، فبايعوه على حمايته، وعلى أن يمنعوه وأهله ممّا يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وعلى أن ينصروه ويقفوا إلى جانبه في الشدّة والرخاء، كما بايعوه على السمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن يَدعُوا إلى الله، ولا يخافوا في الله لومة لائم، وقد سُمِّيت هذه البيعة ببيعة العقبة الثانية[2].


 


[1] راجع: الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج10، ص432، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص299، السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج6، ص218، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص90، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، مصدر سابق، ص59.

[2] راجع: ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص220-222، ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج5، ص251، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص299، ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1396هـ - 1976م، لا. ط، ج2، ص19، ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج5، ص314، 316، النسائي، أحمد بن شعيب، السنن الكبرى، عبد الغفار سليمان البنداري، سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1411 - 1991م، ط1، ج7، ص138، 139، البخاريّ، صحيح البخاريّ، مصدر سابق، ج4، ص156.

 

105


84

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

فكانت بيعة العقبة هي الخطوة الرئيسة التي مهّد فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للهجرة إلى المدينة المنوّرة. وبعد الهجرة إلى المدينة بدأت المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة، وهي مرحلة بناء الدولة والدفاع عن الإسلام.

 

هجرة المسلمين إلى يثرب

شكا المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة أذى قريش، واستأذنوه في الخروج من مكّة فاستمهلهم أيّاماً، ثم قال: "لقد أُخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها"[1]. وشرع بعض المسلمين يخرجون من مكّة إلى يثرب سرّاً كي لا يثيروا هواجس قريش، وبدأت طرقات مكّة وبيوتها ونواديها تشهد غياباً مستمراً لأصحاب رسول الله يوماً بعد يوماً، وكانت قريش حريصة على أن يبقى الأمن سائداً في مكّة، مما جعلها تخشى عواقب قتل المهاجرين خشية وقوع الحرب بينها وبينهم، فاكتفت بالتعذيب وحبس المسلمين[2].

 

مبيت الإمام عليّ عليه السلام في فراش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

علمت قريش بأمر البيعة رغم كلِّ التكتُّم الذي اتّبعه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فعزمت على إلقاء القبض على المُبايعين، وشدّدت من إيذائها للمسلمين وتعذيبهم، وعلى إثر ذلك قال لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها"[3]، وكان هذا إيذاناً بالهجرة إلى المدينة.

 

 فأخذ المسلمون يتوجّهون إلى يثرب رغم كلّ المشاكل والعراقيل التي وضعتها قريش أمامهم. ورأت قريش في هذه الهجرة خطراً عليها, وذلك لِما يُشكِّله المهاجرون مع أهل المدينة من قوّة تستطيع أن تقف في وجه قريش ومصالحها، خاصّة أن تجارتها إلى الشام تمرّ عبر المدينة، فأخذت تمنع المسلمين من الهجرة وتلاحقهم.

 

 وعلى الرغم من كلّ المضايقات، فقد تمكَّن معظم المسلمين من الهجرة، ولم يبقَ


 


[1] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص226.

[2] راجع: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص321، السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، ج5، ص141، الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، تصحيح وتعليق مير داماد لأسترابادي، تحقيق السيد مهدي الرجائي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لا. م، 1404هـ، لا. ط، ص35.

[3] ابن هاشم، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص123.

 

106


85

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

في مكّة بعد بيعة العقبة بفترة وجيزة سوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام، وعدد قليل من المسلمين.

 

بقي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة ينتظر الإذن الإلهيّ بالهجرة. وشعرت قريش بحجم الخطر فيما لو التحق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه، خاصّة بعدما قَدَّرت أنّ المدنيّين سيحمونه وينصرونه بعدما بايعوه، فاتخذت قراراً حاسماً بالتخلُّص من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل فوات الأوان، واستطاعت أن تنتزع قراراً بمشاركة كلِّ قبائل قريش في عمليّة الاغتيال، من أجل أن يتفرّق دمه في القبائل كلّها، فلا يعود بإمكان بني هاشم أن يثأروا لدمه، ولكنّ الله تعالى أخبر رسوله بهذه المؤامرة[1]، وأمره بالخروج ليلاً من مكّة، وأن يجعل عليّاً عليه السلام مكانه ليبيت على فراشه من أجل التمويه والإيهام، وليردّ كيدهم عليهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غار ثور، وبات عليّ عليه السلام على فراشه تلك الليلة[2]. وعندما اقتحم المشركون دار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجدوا أنفسهم أمام عليّ عليه السلام، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج قبل ذلك من بينهم وتوجّه نحو غار ثور، وبقي فيه ثلاثة أيّام إلى أن تمكّن من الوصول إلى قرية (قباء) في طريق المدينة المنوّرة، برغم ملاحقة قريش له.

 

 ونظراً للتضحية الكبرى التي قدّمها الإمام عليّ عليه السلام، فقد نزلت في حقه الآية الآتية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[3],[4].


 


[1] ذكر الله تعالى لنبيّه الكريم هذه المؤامرة بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (سورة الأنفال، الآية 30).

[2] على الرغم من أنّ قريشاً جنّدت كلّ قواها للعثور على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّها بقدرة الله لم تعثر عليه لكونه منصوراً ومؤيّداً من الله تعالى حيث قال تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (سورة التوبة، الآية 40).

[3] سورة البقرة، الآية 207.

[4] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص366، القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، مصدر سابق، ص356، المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الاختصاص، تحقيق علي أكبر الغفاري، السيد محمود الزرندي، دار المفيد للطباعة والنشر التوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ص165، الخوارزميّ، المناقب، مصدر سابق، ص73، النيسابوري، الحاكم أبو عبد الله، المستدرك على الصحيحين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج3، ص133، ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج1، ص321، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص102، القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تصحيح أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1405هـ - 1985م، ط2، ج3، ص21 - 25، قطب الدين الراونديّ، قصص الأنبياء، مصدر سابق، ص334-337، الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ج2، ص83.

 

107


86

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة

غادر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الغار قاصداً يثرب في شهر ربيع الأوّل، وذلك بعدما كان قد أمضى ثلاث عشرة سنة في مكّة يدعو الناس إلى الإسلام، وبعد أن ترك عليّاً عليه السلام في مكّة ليؤدّي الودائع التي كانت عنده للناس، ولتهيئة مستلزمات هجرة ابنته فاطمة عليها السلام، مضافاً إلى عدد آخر من النساء والرجال من بني هاشم[1].

 

فَوَصَل صلى الله عليه وآله وسلم أوّلاً إلى قباء، وهي منطقة على مقربة من يثرب، وتوقّف فيها بضعة أيّام منتظراً قدوم عليّ عليه السلام والفواطم، وبنى في هذه المدّة مسجداً[2].

 

ثمّ توجّه بصحبة عليّ عليه السلام وجماعة من بني النجار (أخوال عبد المطّلب) تجاه يثرب. وعند وصوله إليها استقبله الناس بفرح وسرور بالغ. وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يمرّ بمكان إلّا وقام وجوه القبائل وأشرافها بأخذ زمام ناقته، طالبين منه النزول عليهم، وهو يقول: "خلّوا سبيلها, فإنّها مأمورة"[3]، حتّى وصل إلى أرضٍ قرب دار أبي أيوب الأنصاريّ، وبنى في تلك الأرض المسجد النبويّ. وبما أنّ الهجرة تُعتبر نقطة تحوُّل، ومُنعطَفاً مُهمَّاً في تاريخ الإسلام، فقد جُعلت بدايةً للتقويم الإسلاميّ المعروف بالتقويم الهجري، وذلك بتدبير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمر المسلمين أن يُؤرّخوا ابتداءً من شهر ربيع الأوّل[4].

 

بناء الدولة والمجتمع في المدينة

اتخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جملة من الإجراءات التأسيسية وذلك فور وصوله إلى المدينة، وهي إجراءات ترتبط ببناء المجتمع السياسيّ الإسلاميّ، وبمستقبل الدعوة الإسلاميّة، وأبرزها:

 


[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص468.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج 2، ص249.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص340.

[4] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص143، ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، تحقيق فهيم محمد شلتوت، دار الفكر، إيران - قم، 1410 - 1368 ش، لا. ط، ج1 ص68، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص185.

() عبد الرزاق الصنعانيّ، المصنف، مصدر سابق، ج8، ص418، ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج6، ص206، السجستاني، أبو داوود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داوود، تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1410هـ - 1990م، ط1، ج4، ص159.

 

108


87

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

أولاً: بناء المسجد: وهو أوّل مركز عُنيَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإنشائه، وقد كان مركزاً للعبادة، والتعليم، والحُكم، والإدارة، كما كان مقرّاً لحكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُمارس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مُهمّات حكوميّة وإداريّة في المدينة إلا في المسجد. وبعد إتمام بناء المسجد تمّ بناء حُجرتين إلى جانب المسجد، لتكونا مسكناً لرسول الله وزوجاته[1].

 

ثانياً: المؤاخاة: ومن الإجراءات المهمّة التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى للهجرة، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, وذلك من أجل توكيد وحدة المسلمين والتغلُّب على التناقضات الداخليّة القائمة بين الأوس والخزرج، مضافاً إلى رفع التناقضات المتوقَّعة بين المهاجرين والأنصار، وفي سبيل تحطيم الفروقات الطبقيّة، والاقتصاديّة، وعلاج مشكلة التفاوت في المستوى المعيشيّ، وفمثّلت المؤاخاة تطبيقاً عمليّاً لمبدأ المواساة والمساواة في الإسلام، فتآخى هو صلى الله عليه وآله وسلم مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وآخى بين المسلمين وكان يؤاخي بين كلٍّ ونظيره[2].

 

وقد أدّت هذه المؤاخاة في المدينة إلى مزيدٍ من التلاحم بين المهاجرين والأنصار، وإلى تحقيق الانتصارات الكبرى في بدر والخندق وغيرهما، على الرغم من قلّة العدد وبساطة العتاد.

 

ثالثاً: وثيقة المدينة: بعد أن استقرّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، رأى أنّ من اللازم تنظيم الوضع الاجتماعيّ لأهلها, لأنّ تحقيق أهدافه على المدى البعيد يتطلّب استقرار الأوضاع فيها.

 

ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ التركيبة السكانيّة فيها كانت غير متكافئة ولا متجانسة، فقد كان يقطن هذه المدينة يومذاك جماعات متنوّعة، وكانت كلّ الجماعات تنتمي إلى إحدى قبيلتين كبيرتين هما الأوس والخزرج، وكان يعيش داخل المدينة وحولها أقوام من اليهود، وأضيف إليهم المهاجرون القادمون من مكّة. وكان هذا الوضع يُنذر بجملة من المخاطر.

 


 


[1] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص143.

[2] المصدر نفسه، ص151، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص130.

 

109


88

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

وفي ضوء هذا الواقع ابتكر الرسول فكرة مبدعة، فكتب ميثاقاً وُصف بأنّه "أوّل دستور" أو "أعظم عقد وسند تاريخيّ في الإسلام". وقد بيّن هذا العقد حقوق مختلف المكوِّنات التي كانت تقيم في يثرب قبل الهجرة، وضَمِن لهم حياةً سليمة مع إقرار النظام والعدالة فيها، وهو بمثابة دستور عمل لتنظيم علاقات المسلمين في ما بينهم، مضافاً إلى تنظيم علاقتهم بالعرب المتهوّدين، وقد تضمّنت الوثيقة قواعد في الحقوق والعلاقات، أهمّها:

1- المسلمون أمّة واحدة من دون الناس، على الرغم ممن اختلاف قبائلهم وانتماءاتهم.

 

2- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو قائد الأمّة، وهو المرجع في حلّ المشكلات التي قد تحدُث بين المسلمين وبين غيرهم.

 

3- نصّت الوثيقة على أنّ مركز السلطة في المدينة هو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فهو صاحب القرار في السماح أو المنع من تنقّل الأشخاص إلى خارج المدينة، فلا يُسمح لأحد من اليهود ـ أي المتهوِّدين ـ بالخروج إلّا بإذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

4- تقع مسؤوليّة دفع الظلم على عاتق الجميع، ولا تختصّ بمن وقع عليه الظلم.

 

5- مَنَحَت الوثيقة المتهوِّدين من الأنصار حقوقهم العامّة، كحقّ الأمن والحريّة والمواطنة، شرط أن يلتزموا بقوانين الدولة، وأن لا يُفسدوا ولا يتآمروا على المسلمين والإسلام[1].

 

وكان لهذه الوثيقة أثرٌ في حفظ الاستقرار في المدينة, إذ لم تقع أيّة نزاعات بين أهل المدينة حتّى السنة الثانية للهجرة.

 

رابعاً: موادعة اليهود: اليهود المقصودون في وثيقة الصحيفة الآنفة الذكر هم: المتهوِّدون من قبائل الأنصار، وليس اليهود الذين هم من أصل إسرائيليّ (بنو قينقاع، والنضير، وقريظة)، فقد شعر هؤلاء بأنّهم قد عُزلوا عن أنصارهم من المتهوِّدين بعد توقيع الصحيفة، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا الهدنة، فكتب لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أن لا يُعينوا عليه أحداً، ولا يتعرّضوا لأحد من أصحابه بلسان ولا بيد، ولا بسلاح، لا في

 


[1] للإطلاع على مزيد من التفاصيل حول هذه الوثيقة وبنودها، راجع كتب السيرة، منها: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص147 ـ 150، الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص666، الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص47.

 

110


89

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

السرّ ولا في العلانية، فإن فعلوا فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حلّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم[1].

 

خامساً: إعداد القوّة العسكريّـَّة: فقد عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تقوية دعائم الدولة عن طريق تدريب القوى البشريّة، ودعمها بالسلاح والخيل، ونظَّم المدينة على أساس عسكريّ، وكوّن من شعبها مجتمع حرب، فقسّم المسلمين في المدينة إلى عرافات، وجعل على كلّ عشرة عريفاً، وجعل من جميع الذكور البالغين جنوداً، وكوّن منهم الجيوش والسرايا العسكريّة. ويُمكن رسم الملامح العامّة للإدارة العسكريّة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يأتي:

1- القرار العسكريّ: الذي كان بيد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحده، ولم يكن لأحدٍ من المسلمين سلطة اتخاذ قرار عسكريّ بشكلٍ منفرد بعيداً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- تشكيل الجيش: حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم يُشكِّل الجيش والوحدات العسكريّة من الذكور البالغين، ولم يكن يقبل في عداد الجيش غيرهم.

 

3- التدريب: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أمر بالتدريب على الفروسيّة والرمي، وجعل التدريب العسكريّ من مقدّمات الثقافة العامّة للمجتمع الإسلاميّ.


 


[1] الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص336، الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص303، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج19، ص110.

 

111


90

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

المفاهيم الرئيسة

1- قرّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة إلى المدينة المنورة, لأنّ مكّة لم تعد مكاناً صالحاً لانتشار الإسلام في ذلك الوقت, بسبب بطش قريش ضدّ المسلمين.

 

2- مهّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم طريق الهجرة إلى المدينة عن طريق اللقاءات المتعددة مع الأوس والخزرج، حيث بدأ الإسلام ينتشر في يثرب، وازداد عدد المسلمين، فعقد معهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيعتين, الأولى والثانية، مما زاد من قوة الارتباط والعلاقة بينه وبينهم، وزاد من فرص الهجرة إلى يثرب.

 

3- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مهدّداً من قبل قريش بالقتل، فأمره الله - سبحانه وتعالى - بالهجرة، وأن يبيت الإمام عليّ عليه السلام مكانه، فرضي أمير المؤمنين بذلك، تأميناً لسلامة الدين والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ونجا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مكر قريش، وهاجر إلى يثرب حتّى نزل قبا.

 

4- بقي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في قبا ينتظر قدوم أمير المؤمنين عليه السلام والفواطم، فلما وصل أمير المؤمنين بعده بأيام دخلا معاً إلى يثرب، واستقبله الناس بالفرح والسرور والبهجة.

 

5- باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فور وصوله إلى المدينة بأعمال تأسيسيّة، ترتبط ببناء المجتمع السياسيّ الإسلاميّ، وبمستقبل الدعوة الإسلاميّة كبناء المسجد، والمؤاخاة، وإنشاء القوّة العسكريّة، والمعاهدة بين أبناء المجتمع المدنيّ.

 

6- عمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على تقوية دعائم الدولة، وذلك من خلال الإعداد العسكريّ وتدريب المسلمين على السلاح والرمي.

 

112


91

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

الدرس العاشر

الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

المواجهات العسكريّة (1)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتبيّن معركة بدر الكبرى ومعركة أحد.

2- يوضح المواجهة التي حصلت بين الإسلام واليهود في المدينة.

3- يشرح معركة الخندق ونتائجها.

 

113


92

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

مقدّمة

استطاع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بحكمته العالية أن ينقل المسلمين من نصر إلى نصر، حيث سطّروا منظومة من الكفاح البشَريّ بلغ غاية في الرقيّ، وكتبوا ملحمة إنسانيّة لم يَعرف لها التاريخ مثيلاً، جمعوا فيها بين الدعوة إلى الحقّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال والإقناع العقليّ، والارتقاء النفسيّ والتأثير الوجدانيّ، مع العمل على تطهير الأرض من الجبابرة الظالمين، وإسقاط الأنظمة الجائرة الفاسدة بالجهاد والقوّة والسلاح.

 

معركة بدر الكبرى

رصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قافلة قريش التي فاتته في طريق ذهابها إلى الشام في غزوة ذات العشيرة، وخرج لملاقاة قافلة ضمّت أسهماً تجاريّة ضخمة لأغلب المكّيّين. فبلغ خبره إلى مكّة وإلى أبي سفيان الذي كان قائد القافلة، فتحوّل في مسيره إلى اتجاه آخر حيث لا يدركه المسلمون، وأرسل في الخبر إلى قريش، فخرجت قريش بعدد يناهز الألف، يدفعها تجبّرها والاغترار بمنزلتها بين العرب.

 

وعلى الرغم من أن المسلمين لم يتوقّعوا خروج قريش لملاقاتهم، ولكن بعد أن فاتتهم القافلة وتحوّل الهدف إلى القتال أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يختبر نوايا المهاجرين والأنصار، فوقف وقال: "أشيروا عليّ أيها الناس"، فقام بعض المهاجرين وتكلّم بكلام يدلّ على الخوف والجبن، ثم قام المقداد بن عمرو، وأكّد على الولاء التام للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، واستعداده للذود عنه، ثم كرَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: أشيروا عليّ أيها الناس، يريد بذلك أن يسمع رأي الأنصار، فقام سعد بن معاذ، فأكّد على أن الأنصار آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

115


93

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

وصدّقوه، وأنّهم سيقاتلون معه أيضاً، عندها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سيروا على بركة الله, فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله، لكأني أنظر إلى مصارع القوم"[1].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في كلّ موقف ويسأل الله النصر بعد أن تهيّأ المسلمون للحرب، وقاموا بالإعدادات اللازمة، وذلك بدءاً من اختيار الموقع المناسب، وانتهاءً بإحضار الماء واتّخاذ الاحتياطات لملاقاة العدو، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبعث في نفوس المسلمين وقلوبهم الصبر والجلد والاطمئنان كما كان يثير الحماس فيهم، ويعدهم بالمدد الإلهيّ[2].

 

ونزلت قريش وصفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر)، حيث سبقهم المسلمون في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وهيّأ الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين مقدّمات النصر وأسبابه، فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال، وألقى عليهم الأمن والاطمئنان، ووعدهم بالنصر على أعدائهم، وإظهار دين الحق[3].

 

وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصفّ المسلمين صفوفاً، وأعطى رايته الكبرى لعليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يبدأ المسلمون القتال، ووقف يدعو الله قائلاً: "اللهمّ إن ظهر على هذه العصابة ظهر الشرك، ولا يقول لك دين"[4].

 

وبعد أن برز من المشركين بعض مقاتليهم بدأ القتال، فقُتل من برز منهم، والتحم الجيشان ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الحماس في نفوس المسلمين، فقاتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام والمسلون قتالاً عظيماً، حتّى هُزمت قريش، وعادت إلى مكّة تجرّ أذيال الخيبة والخسران.

 

وخلّفت معركة بدر نتائج عظيمة، فقد فرّ المشركون نحو مكّة والخيبة والذل يحيطان بهم من كلّ جانب، تاركين خلفهم سبعين قتيلاً، وسبعين أسيراً، وغنائم كثيرة. وبدت بين


 


[1] الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، تحقيق الدكتور مارسدن جونس، نشر دانش اسلامي، لا. م، 1405هـ، لا. ط، ج1، ص48.

[2] سورة الأنفال، الآية65.

[3] انظر: سورة الأنفال، الآيات 7 ـ 16.

[4] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص81.

 

116


94

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

صفوف المسلمين المنتصرين بوادر اختلاف حول كيفيّة تقسيم الغنائم، فأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بجمعها حتّى يرى فيها رأيه، ونزل الأمر الإلهيّ في سورة الأنفال بتقسيم الغنائم، وتشريع أحكام الخمس، فأعطى رسول الله لكلّ فرد مقاتل حصّته على قدم المساواة مع غيره.

 

وألجأت هذه الهزيمة قريشاً إلى تحويل مسير تجارتها من الشام إلى العراق، بعد أن أصبح للمسلمين كيان قويّ له آثاره على تركيبة مجتمع الجزيرة، وظهرت هذه الآثار بالتدريج، فبدأت قريش تفقد هيبتها بين القبائل، في الوقت الذي أخذت فيه أواصر المسلمين تشتدّ فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

المواجهة مع بني قينقاع

لمس اليهود خطر تنامي قوة الإسلام والمسلمين في المدينة، وقبل بدر كانت معاهدة الصلح صمّام الأمان بين الطرفَين، لكنّ النصر المؤزّر للمسلمين فجّر روح العداء اليهوديّة، وجعلوا يتغامزون ويتآمرون، ويرسلون الأشعار، ويجهدون في التحريض على المسلمين الذين أصبح لهم سلطان جديد مضافاً إلى دينهم الجديد.

 

فأراد نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلص وإيّاهم إلى الاستقرار، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم إلى يهود بني قينقاع يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وينذرهم من مغبّة سياساتهم وتصرّفاتهم السيئة، فقال لهم بعد أن جمعهم في سوقهم: "يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنّكم قد عرفتم أنّي رسول الله تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم".

 

ولم يزدهم ذلك إلاّ علوّا واستكباراً، فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك مَن لقيت، إنّك قهرت أقواماً وإنّا والله أصحاب الحرب، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنّك لم تقاتل مثلنا"[1].

 

وتجلّت خسّة اليهود حين أساؤوا إلى امرأة من المسلمين، ونالوا من كرامتها، وانتهى الأمر إلى قتل يهوديّ ومسلم، فعندها سار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين، فحاصر يهود بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوماً متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد،


 


[1] علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج1، ص97، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص176.

 

117


95

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

فلم يبق لهم إلاّ الاستسلام والنزول على حكم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بجلائهم عن المدينة تاركين عدّتهم وأدواتهم[1].

 

معركة أُحد والدفاع عن يثرب[2]:

تظافرت الأسباب والدواعي عند مشركي مكّة لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تطفىء غليل الحقد الذي كان يصرّ أبو سفيان زعيم البيت الأُمويّ على تأجيجه، وخاصّة بعد فقدان الأمن التجاريّ.

 

فسارع العباس بن عبد المطلب وكتب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخبره عن اجتماع كلمة قريش على الحرب، وتهيئتهم للعدّة والعدد، ووصل الكتاب سرّاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكتم الخبر عن المسلمين حتّى يستوضح الأمر ويعدّ له العدّة اللازمة.

 

فبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحباب بن المنذر ليستطلع العدوّ سرّاً، وذلك بعدما أرسل أنساً ومؤنساً ابنَي فضالة، فجاء الخبر والوصف متوافقين مع كتاب العباس، وخبر ابني فضالة.

 

فاستشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للحرب، فاختلفت آراؤهم بين التحصّن في المدينة أو الخروج لملاقاة العدو خارجها، فكان الاتفاق على خروج المسلمين للقاء العدو، وقتاله خارج المدينة.

 

وخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ألف مقاتل من المسلمين، ولم يستطع المنافقون إخفاء حقدهم، فانخذل عبد الله بن أبي عن رسول الله بثلاثمئة، وبقي رسول الله بسبعمئة، وكان المشركون أكثر من ثلاثة آلاف.


 


[1] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص176، ابن هشام، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص51.

[2] وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة، راجع حول المعركة: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص106، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص183، ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج4، ص9، البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، أنساب الأشراف، تحقيق الدكتور محمد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، مصر، 1959م، لا. ط، ج1، ص311، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص186، علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج1، ص111، المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2، ج1، ص80.

 

118


96

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

وعند جبل أحد وضع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خطّة محكمة ليضمن النصر المؤزّر، ثمّ خطب فيهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحثّهم على طاعة الله، وعلى الجهاد والصبر[1].

 

ونشب القتال بين الطرفين، ولم يمض زمن طويل حتى ولّت قوى الشرك الأدبار، وبدا انتصار المسلمين واضحاً في ساحة المعركة، إلّا أنّ بعض الرماة الذين وضعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق الجبل تركوا مواقعهم سعياً وراء الغنائم، فالتفّ خالد بن الوليد من موقع الثغرة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تركها، فوقع المسلمون بين كماشة الأعداء، وبدأ الناس بالهروب إلى الجبل، واستشهد الحمزة بن عبد المطلب، ولم يبق في ساحة المعركة سوى رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله، هذه المواساة"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه منّي وأنا منه"، فقال جبرئيل: وأنا منكما، فسمعوا صوتاً يقول: (لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي)[2]. وعندما رأى المسلمون ثبات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام بدأ الناس بالعودة للقتال[3].

 

وانسحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والبقيّة الباقية معه من المسلمين إلى الجبل حماية لنفسه وللمسلمين الذين عادوا للقتال معه، فرجع المشركون إلى مكّة، وقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظيع، ولما أبصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادي، وقد أُخرج كبده، ومُثّل به بوحشيّة وحقد، حزن حزناً شديداً، وقال: "ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا"[4].

 


[1] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص221.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص197، الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص320، الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ج2، ص556، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج2، ص124، ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم محمد الشيباني، أسد الغابة، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج4، ص21، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج14، ص250.

[3] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص237، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، مصدر سابق، ج3، ص111، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص21.

[4] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص289.

 

119


97

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

مواجهة بني النضير[1]

خرج رسول الله إلى بني النضير للاتّفاق حول دفع دية قتيلين، فطلبوا منه الجلوس بانتظار تحقيق طلبه، فجلس مستنداً إلى جدار بيت من بيوتهم، فأسرعوا، مستغلّين الفرصة لإلقاء حجر عليه وقتله، فهبط الوحي عليه يخبره، فانسلّ من بينهم تاركاً الصحابة معهم، فاضطرب بنو النضير وأمسوا في حيرة من أمرهم، وباتوا قلقين بشدة من سوء فعلتهم، وأسرع الصحابة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد يستطلعون سرّ عودته، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "همّت اليهود بالغدر بي، فأخبرني الله بذلك فقمت"[2].

 

وبذلك استحلّ الله دماءهم, إذ نقضوا عهد الموادعة معه، وهمّوا بالغدر به، فلم يكن لهم إلاّ الجلاء عن المدينة. وتدخّل زعيم النفاق عبد الله بن أبي وغيره يمنّون بني النضير بعدم الامتثال لأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والثبات أمامه، ووعدهم بأنّه وجماعته سيمدّونهم مقابل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولن يخذلوهم، وتحصّن بنو النضير في حصونهم متمرّدين على أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

واستخلف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ابن أم مكتوم على المدينة حين علم بمساعي المنافقين، وخرج لمحاصرة بني النضير، واتّبع معهم أسلوباً اضطرّهم إلى التسليم والخروج بما تحمله إبلهم فقط أذلّةً خاسئين[3].

 

مواجهة بني المصطلق

وردت أخبار جديدة تفيد بأنّ الحارث بن أبي ضرار، زعيم بني المصطلق، يعدّ لغزو المدينة فاستوثق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كعادته قبل كلّ تحرّك ـ من صدق الخبر، وندب المسلمين، فخرجوا إليهم والتقوا عند ماء يدعى (المريسيع)، ونشبت الحرب ففرّ المشركون بعد


 


[1] وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة.

[2] علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج2، ص358، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص366.

[3] علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج2، ص359، الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج9، ص258، البخاريّ، صحيح البخاريّ، مصدر سابق، ج3، ص10، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص145، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص207، فخر الدين الرازي، تفسير الرازي (التفسير الكبير)، لا. م، لا. ن، لا. ت، ط3، ج29، ص280.

 

120


98

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

قتل عشرة أشخاص منهم، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وسُبيت أعداد كبيرة من عوائل بني المصطلق، كانت من بينهم جويرية بنت الحارث، فأعتقها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تزوجها، وأطلق المسلمون ما في أيديهم من الأسرى إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولها[1].

 

معركة الخندق وانكسار هيبة قريش

أفرزت الأحداث تنوعاً وتعدداً في الجهات والأطراف المعادية للدين وللدولة الإسلاميّة، فسعى اليهود لاستثمار هذا التنوّع بتجميعه وتمويله وإثارة النزعة العدائيّة فيه لاستئصال الوجود الإسلاميّ من الجزيرة، ومن ذلك أنهم أوهموا المشركين الذين تساءلوا عن مدى أفضليّة الدين الإسلاميّ على الشرك، بأن الوثنية خير من دين الإسلام[2]، وتمكّنوا من جمع قبائل المشركين وتعبئتهم وسوقهم صوب المدينة عاصمة الدولة الإسلاميّة. وسرعان ما وصل الخبر إلى مسامع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فاستشار أصحابه في معالجة الأمر، واقترح عليهم فكرة حفر خندق يحصّن الجانب المكشوف من المدينة، ووافقه سلمان على ذلك، وساروا بهذه الفكرة[3]. وخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين ليشاركهم في حفر ذلك الخندق بعد تقسيم العمل بينهم، وكان يحضّهم بقوله: "لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة"[4].

 

ولم يخل الأمر عن دور للمنافقين والمتقاعسين عن العمل، على الرغم من الهمة والحماس الذي أظهره المخلصون من المسلمين[5].


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص404، المسعودي، أبي الحسن علي بن الحسين بن علي، التنبيه والإشراف، دار صعب، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ص217، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج2، ص81، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص405، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص297، اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص53، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص197.

[2] كما ورد في قوله تعالى في سورة النساء، الآية 51.

[3] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص445، الإربلي، الشيخ علي بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة، دار الأضواء، لبنان - بيروت، 1405هـ - 1985م، ط2، ج1، ص202.

[4] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص453.

[5] نزلت آيات من القرآن الكريم تفضح السلوك التخاذليّ، وتدعم مركزيّة العمل بوجود الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم. راجع سورة الأحزاب، الآيات 12 ـ 20.

 

121


99

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

وأحاطت قوى الأحزاب المشركة البالغة نحو عشرة آلاف مقاتل بالمدينة يمنعها الخندق، وسيطرت عليهم الدهشة لهذا الأسلوب الدفاعيّ الذي لم تكن تألفه العرب من قبل. وخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل، ونزل في سفح جبل سلع، ووزّع المهام والأدوار لمواجهة الطوارئ.

 

وبقيت الأحزاب تحاصر المدينة ما يقرب من شهر عاجزين عن اقتحامها، وتخلل ذلك مواقف رائعة للمسلمين، وكان بطلها الأوحد عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقد توّج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موقف عليّ بن أبي طالب البطوليّ عندما خرج لمبارزة صنديد من صناديد العرب ـ هو عمرو بن عبد ود ـ بعد أن أحجم المسلمون عن الخروج إليه، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه"[1].

 

وحاول المشركون الاستعانة بيهود بني قريظة، على الرغم من أنّهم كانوا قد تعاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يدخلوا في حرب ضد المسلمين، وتيقّن الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم من عزيمة اليهود على المشاركة في القتال وفتح جبهة داخليّة ضدّ المسلمين، فأرسل إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فرجعا مؤكّدَين الخبر، فكبّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح"[2].

 

لقد كانت قوى الأحزاب ذات نوايا وأهداف متناقضة، فاليهود كانوا يحاولون استعادة نفوذهم على المدينة، بينما كانت قريش مندفعة بعدائها للرسول والرسالة، وكانت غطفان وفزارة وغيرهما طامعة في محاصيل خيبر التي وعدهم بها اليهود. كما أحدثت قسوة ظروف الحصار كللاً ومللاً في نفوس الأحزاب، إلى جانب ما واجهوه من التحصين، وقوّة المسلمين التي أبدوها، وأحدث (نُعيم بن مسعود) شرخاً في تحالف الأحزاب واليهود, إذ قدِمَ - بعد إسلامه - إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: مرني ما شئت، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم:


 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج13، ص261.

[2] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ص459.

 

122


100

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

"أنت فينا رجل واحد، فَخَذِّل عنا ما استطعت، فإنّ الحرب خدعة"[1].

 

وأرسل الله سبحانه وتعالى على الأحزاب ريحاً عاتية باردة أحدثت فيهم رعباً وقلقاً، فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، فنادى أبو سفيان بقريش للرحيل، فأخذوا معهم من المتاع ما استطاعوا حمله، وفرّوا هاربين وتبعتهم سائر القبائل حتى إذا أصبح الصباح لم يبق أحد منهم[2].

 

غزو بني قريظة وتصفية يهود المدينة

لقد كشف يهود قريظة عن الحقد والعداء الذي انطوت عليه نفوسهم يوم الخندق، ولولا أن الله أخزى الأحزاب، لتمكن يهود بني قريظة من الفتك بالمسلمين من خلف ظهورهم، فكان لا بدّ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من معالجة خيانتهم، ولهذا أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحرّك المسلمون لمحاصرة اليهود في حصونهم.

 

وأعطى صلى الله عليه وآله وسلم رايته لعلّي عليه السلام، وتبعه المسلمون مع ما بهم من ألم الجوع والسهر والجهد من أثر محاصرة الأحزاب...، واستولى الهلع والخوف على اليهود حين رأوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يحيطون بهم، وأيقنوا أن النبيّ غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم.

 

وطلب اليهود أبا لبابة ابن عبد المنذر الذي كان من حلفائهم الأوس، وا ستشاروه في أمرهم، ولكنه كشف لهم عمّا كان يعلمه من مصيرهم، حينها قاموا إليه صغاراً وكباراً يبكون. ولم يقبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عرض بني قريظة، وهو الارتحال عن المدينة دون عقوبة، بسبب موقفهم الخيانيّ السابق، وأبى إلاّ النزول على حكم الله ورسوله، وطلب اليهود من الأوس التوسّط لهم لدى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا ترضون أن أجعل بيني وبين


 


[1] القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، مصدر سابق، ج1، ص297، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص242.

[2] راجع حول المعركة: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص226، ابن سيد الناس، السيرة النبوية (عيون الأثر)، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1406 - 1986م، طبعة جديدة مصححة، ج2، ص55، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص234، علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج2، ص179.

 

123


101

الدرس التاسع: الهجرة النبويّة إلى المدينة

حلفائكم رجلاً منكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: فقولوا لهم: أن يختاروا من الأوس من شاؤوا". فاختار اليهود سعد بن معاذ حَكَماً، وكان هذا من سوء حظّ اليهود, لأن سعداً جاءهم يوم تجمّعت الأحزاب طالباً منهم الحياد في الموقف فأبوا ذلك. وكان سعد جريحاً، فحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستقبله، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله: قوموا إلى سيّدكم، فقاموا إليه. ثم حكم سعد بقتل المقاتلة من الرجال، وسبي النساء والذراري، وتقسيم الأموال على المسلمين، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة"[1]، وهكذا انتهى وجودهم داخل المدينة المنورة.


 


[1] راجع: الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص454، ابن اسحاق، محمد بن إسحاق المطلبي، سيرة ابن إسحاق (السير والمغازي)، تحقيق محمد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريف، لا. ت، لا. ط، ج3، ص232، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص208.

 

124


102

الدرس العاشر : الحياة الجهاديّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم -1-

المفاهيم الرئيسة

1- تعتبر معركة بدر من أهم المعارك التي خاضها الإسلام ضد الشرك. وخلّفت المعركة نتائج عظيمة، فقد فرّ المشركون نحو مكّة والخيبة والذل يحيطان بهم من كل جانب، تاركين خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً وغنائم كثيرة.

 

2- تشكّل معركة أحد مفصلاً حساساً في خوض المعارك في الإسلام، وذلك نظراً لعدم تمكّن المسلمين من تحقيق النصر الحاسم والكامل ضد قريش، بسبب عدم الالتزام بالأوامر العسكريّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

3- تظافرت الأسباب والدواعي عند مشركي مكّة ومن والاهم لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تزيح عن كاهلهم كابوس الهزيمة في بدر، وتطفئ غليل الحقد الذي كان يؤجّجه أبو سفيان زعيم البيت الأُموي والخاسر الأكبر في بدر, لذا قرروا خوض المواجهة الكبرى في معركة الخندق، عن طريق الهجوم القويّ الذي شاركت فيه كثير من القبائل، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، حيث قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بحفر خندق كبير جداً أمام المدينة، ما منع تقدم قوات قريش وحلفائها من العرب، ورغم طول الحصار إلا أن قريشاً مُنِيَت بهزيمة كبيرة.

 

4- لقد قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة كل خيانات اليهود المتكررة من العديد من قبائلهم كبني قينقاع والنضير وقريظة.

 

125

 


103

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

الدرس الحادي عشر

الحياة الجهاديّة - 2 -

المواجهات العسكريّة (2)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح مجريات صلح الحديبيّة ونتائجه.

2- يبيّن وقائع معركة خيبر ومؤتة وتبوك.

3- يوضّح أهمّ الأحداث التي جرت عند فتح مكّة، وما بعده في غزوة حنين.

 

127

 


104

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

تمهيد

كانت السنة السادسة للهجرة سنة جهاد مستمر ودفاع مستميت بالنسبة للمسلمين. واهتم المسلمون بنشر الرسالة الإسلاميّة وبناء الإنسان والمجتمع الإسلاميّ وتكوين الحضارة الإسلاميّة، وقد أدرك كلّ من كان في الجزيرة العربيّة عظمة هذا الدين، وعرفوا أنّه من المستحيل استئصال هذا الدين والقضاء عليه، فالصراع مع قريش التي تعدّ أكبر قوّة سياسيّة وعسكريّة آنذاك، فضلاً عن الصراع مع اليهود وباقي القوى المشركة لم يمنع من انتشار الإسلام وسطوع نوره، وبلوغ أهدافه، لذا، عمل رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم على زيادة الضغط على قريش، وتوسعة نطاق عمله إلى بقعة جغرافيّة أوسع، فقام بعقد الصلح، ثم فتح مكّة، ثم أنهى جبروت ثقيف، حتى وصل إلى تبوك داعياً للإسلام.

 

صلح الحديبيّة

قرّر رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم السفر إلى مكّة لأداء العمرة، وبهدف مواصلته للدعوة الإسلاميّة، والضغط على قريش سلميّاً، وخلال مسيره والمسلمون إلى مكّة، وصلوا إلى منطقة سهلة تدعى بـ(الحديبيّة)، فبركت ناقة رسول الله، عندها أمر صلى الله عليه عليه وآله وسلم المسلمين بالنزول فيها، ولمّا علمت قريش بالأمر، حصل مراسلات عدّة بواسطة الرسل بين قريش والرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم، وكان من جملة الرسل عثمان بن عفان الذي تأخّر في الرجوع إلى المسلمين، وبعد عودته من قريش بغير نتيجة، بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم مفاوضاً، وكان الشرط المسبق لأيّ تفاوض أو موادعة هو عودة رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم في ذلك العام[1].


 


[1] راجع: الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ص78، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ص331.

 

129


105

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

وبعد مداولات ومفاوضات اتفق الطرفان على عقد صلح عُرف باسم صلح الحديبيّة، وقد نصّ على الآتي:

1- مدة الهدنة عشر سنوات يأمن فيها الناس ويكفّوا بعضهم عن بعض.

 

2- أن يرجع محمّد وأصحابه في هذا العام، على أن يأتي مع أصحابه في السنة القادمة وتخرج قريش من مكّة، ويبقى هو وأصحابه فيها ثلاثة أيام يؤدّون خلالها العمرة، شرط أن لا يكون معهم سلاح إلا سلاح المسافر، وهو السيف[1].

 

3- إذا جاء أحد من قريش بغير إذن وليّه يردّه النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم إلى مكّة، ومن أتى قريشاً من أصحاب محمّد لا تردّه قريش إليه.

 

4- لكل قبيلة حريّة الدخول في عهد محمّد وعقده، أو الدخول في عهد قريش وعقدها. (وهنا وثبت خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمّد وعقده، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريش في عهدها وعقدها).

 

5- أن لا يكون هناك إسلال ولا إغلال، وأن تكون بين الجانبين عيبة مكفوفة[2].

 

6- أن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة ولا يُكره أحد على دينه، ولا يُؤذى ولا يُعيّر[3].

 

7- من قدم مكّة من أصحاب محمد حاجّاً أو معتمراً أو تاجراً، فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام للتجارة، فهو آمن على دمه وماله[4].


 


[1] وبناءً عليه أدّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون العمرة في السنة السابعة للهجرة، وسُمّيت عمرة القضاء.

[2] الإسلال بمعنى السرقة الخفيّة، والإعانة على الغير، والاسلال الغارة الظاهرة، راجع: ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، مصدر سابق، ج2، ص392. والظاهر بحسب السياق نفي إعانة أحد المتعاهدين على الآخر، راجع: الأحمديّ الميانجيّ، علي، مكاتيب الرسول، دار الحديث، لا. م، 1998م، ط1، ج1، ص277. وعيبة مكفوفة: بمعنى أمراً مطويّاً في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم"، راجع: الشوكانيّ، محمد بن علي، نيل الأوطار، دار الجيل، لبنان - بيروت، 1973، لا. ط، ج8، ص203.

[3] راجع: الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ص97، البلاذري، أنساب الأشراف، مصدر سابق، ص350 - 351، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ص332، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج20، ص352، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج2، ص97، 101، 102.

[4] راجع: الشيخ الطبرسيّ، إعلام الورى، مصدر سابق، ص97، الحلبيّ، السيرة الحلبيّة، مصدر سابق، ج2، ص77، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج20، ص350 - 352.

 

130


106

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

غزوة خيبر

كانت خيبر تمثّل حصناً قويّاً ومركزاً كبيراً لليهود. هذا مضافاً إلى أن يهود خيبر هم الذين جهّزوا جيوش الأحزاب ضدّ الرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم، واستمرّوا في حربه منذ وصوله إلى المدينة، لذا قرر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم أن يقضي على هذه القوة المتبقّية، فلم يلبث بعد عودته من الحديبيّة إلاّ أياماً قلائل حتى جهّز جيشاً بلغ تعداده ألفاً وستمئة من المسلمين، مؤكداً لهم أن لا يخرجوا في ابتغاء الغنيمة، وقال صلى الله عليه عليه وآله وسلم: "لا يخرجنّ معنا إلاّ راغب في الجهاد"[1].

 

باغتت قوّات المسلمين حصون اليهود يتقدّمها عليّ بن أبي طالب عليه السلام حاملاً راية رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم، وامتنعت اليهود في حصونهم المنيعة بخطّة محكمة كانوا قد اتّبعوها، ثم دارت مناوشات متعددة تمكّن المسلمون خلالها من احتلال مواقع مهمّة عدّة.

 

وأعطى رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم رايته إلى عدد من الصحابة ليتمّ الفتح على أيديهم، فلم ينالوا إلا الفشل. ولمّا بلغ الجهد بالمسلمين، قال النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"[2].

 

ودعا في اليوم التالي عليّاً وأعطاه الراية، فتمّ الفتح على يديه وسرّ المسلمون والنبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم جميعاً[3].


 


[1] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص634.

[2] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص798.

[3] راجع حول غزوة خيبر: المسعودي، التنبيه والإشراف، مصدر سابق، ص222، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص207، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص637، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج2، ص106، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص56، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص344، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص298، ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج4، ص226، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، مصدر سابق، ج3، ص37، ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج1، ص331، ابن طاووس، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد الحسني الحسيني، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، لا. ن، لا. م، 1399هـ، ط1، ص56، الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص4، الراوندي، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بإشراف السيد محمد باقر الموحد الأبطحي، مؤسسة الإمام المهدي، إيران - قم، 1409هـ، ط1، ج1، ص161.

 

131


107

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

استسلام أهالي فدك

ما أن تم نصر الله لرسوله صلى الله عليه عليه وآله وسلم والإسلام في خيبر حتى قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم يصالحونه على نصف محاصيل فدك، وأن يعيشوا تحت راية الحكم الإسلاميّ، مطيعين مسالمين، فوافق رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم على ذلك.

 

وبهذا أصبحت فدك ملكاً لرسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم خاصّة بحكم القرآن، لأنّها مما لم يُوجَف عليه بخيل ولا سلاح، إذ أعلنت استسلامها للنبي صلى الله عليه عليه وآله وسلم دون تهديد أو قتال. وقد وهب رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم فدكاً لابنته فاطمة الزهراء عليها السلام[1].

 

معركة مؤتة

عزم النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم على بسط الأمن في شمال الجزيرة العربيّة، كما عزم على دعوة أهلها إلى الإسلام والانطلاق نحو الشام. فبعث الحارث بن عمير الأزديّ إلى الحارث بن أبي شمر الغسانيّ، فاعترضه شرحبيل بن عمرو الغسّاني فقتله.

 

وفي الفترة نفسها بعث الرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم مجموعة من المسلمين يدعون إلى الإسلام، فعدا عليهم أهل منطقة "ذات أطلاح" من الشام وقتلوهم، وبلغ خبر مقتلهم الرسول فتألم لذلك كثيراً، وانتدب صلى الله عليه عليه وآله وسلم المسلمين للخروج، معدّاً جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، وأمّر عليه زيد بن حارثة، ثمّ جعفر بن أبي طالب، ثمّ عبد الله بن رواحة. وخطب فيهم قائلاً: "اُغزوا بسم الله...، ادعوهم إلى الدخول في الإسلام...، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم...، وإلاّ فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلنّ امرأة، ولا صغيراً مرضعاً، ولا كبيراً فانياً، لا تغرقنّ


 


[1] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج2، ص90، ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1415، لا. ط، ج30، ص300، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص700، الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، مصدر سابق، ج4، ص148، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص209، البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، فتوح البلدان، نشر وإلحاق وفهرسة الدكتور صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1956م، لا. ط، ج1، ص39.

 

132


108

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

نخلاً، ولا تقطعنّ شجراً، ولا تهدموا بيتاً"[1].

 

وخرج رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم معهم مودّعاً حتى بلغ ثنية الوداع، ولما بلغ جيش المسلمين منطقة "مشارق" فوجئ المسلمون بالعدّة والعدد الضخم لجيش الروم، إذ بلغ عددهم مئتي ألف مقاتل، فانحاز المسلمون إلى مؤتة وعزموا على مقاومة العدو، وبَانَ الانكسار في جيش المسلمين لأسباب عدّة، فقتل القادة الثلاثة جميعاً، وكان من عوامل الانكسار أنّهم كانوا يقاتلون في منطقة غريبة عنهم وبعيدة عن مركز الإمدادات[2].

 

فتح مكّة[3]:

أ ـ أسباب فتح مكّة:

لقد اختلفت ردود فعل القوى في المنطقة بعد معركة مؤتة، فقد فرح الروم بانسحاب المسلمين وعدم تمكّنهم من دخول الشام.

 

أما قريش فقد سادهم الفرح، وانبعثت فيهم الجرأة على المسلمين، وأخذوا يسعون لنقض صلح الحديبيّة عن طريق الإخلال بالأمن، فحرّضوا قبيلة بني بكر على بني خزاعة، وبعد أن اعتدت بكر على خزاعة أدركت قريش سوء فعلتها، وقد تملّكها الخوف والهلع من المسلمين، فاجتمع رأيهم على إيفاد أبي سفيان إلى المدينة ليجدّد الصلح، ويطلب تمديد المدّة من النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم.

 

ولكن النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم لم يصغِ لطلب أبي سفيان، وسأله قائلاً: هل كان من حدث؟ قال أبو

 

 


[1] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص758.

[2] البخاريّ، صحيح البخاريّ، مصدر سابق، ج7، ص583، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص318، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص755، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج15، ص61، ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، مصدر سابق، ج2، ص7، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص829، البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، دار الفكر، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج9، ص69، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج2، ص128، السهيلي، عبد الرحمن بن عبد الله، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، قدّم له وعلق عليه وضطبه طه عبد الرؤوف سعد، دار الفكر، لبنان - بيروت، 1409 - 1989م، لا. ط، ج4، ص132، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص213، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص458.

[3] تم فتح مكّة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.

 

133


109

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

سفيان: معاذ الله، فأجابه النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم: "نحن على مدّتنا وصلحنا"[1].

 

لكن أبا سفيان لم يهدأ له بال ولم يقنع، بل أراد أن يستوثق ويأخذ عهداً وأماناً من رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم، فسعى لتوسيط مَن يؤثّر على النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم، فقابله الجميع بالرفض واللامبالاة، فلم يجد إلاّ أن يقفل راجعاً بالخيبة إلى مكّة.

 

أعلن النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم النفير العام، وتوافدت عليه جموع المسلمين ملبية نداءه، فجهّز جيشاً قارب عدده عشرة آلاف رجل. واجتهد النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم أن يكتم قصده وهدفه إلاّ على الخاصة، وكان صلى الله عليه عليه وآله وسلم يدعو الله، قائلاً: "اللهمّ خذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها"[2].

 

ويبدو أنّ النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم كان يودّ أن يتحقّق النصر المؤزّر سريعاً دون إراقة قطرة دم. وتسرّب الخبر إلى رجل كان قد ضعف أمام عواطفه، فكتب إلى قريش كتاباً بذلك، وبعثه مع امرأة توصله، ونزل الوحي يخبر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم بذلك، فأمر عليّاً والزبير بأن يلحقا المرأة ويسترجعا الكتاب، فوصلا إلى المرأة، فأمرها أمير المؤمنين عليه السلام بتسليمه الكتاب، فامتنعت، فانتزعه منها بقوة إيمانه برسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم[3]. ولمّا تسلّمَ الرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم الكتاب جمع المسلمين في المسجد ليثير هممهم، ويحذر من مسألة الخيانة من جانب، وليبيّن أهمّيّة كبت العواطف مرضاةً لله. وقام المسلمون يدفعون حاطب بن أبي بلتعة صاحب الكتاب الذي حلف بالله أنّه لم يقصد الخيانة، وانفعل عمر بن الخطاب وطلب من النبيّ أن يقتله، فقال له: "وما يُدريك يا عمر، لعلَّ الله اطلع على أهل بدر، وقال لهم: اعملوا ما شئتم فلقد غفرت لكم"[4].

 

ب ـ تحرّك الجيش الإسلاميّ نحو مكّة:

تحرّك جيش المسلمين في العاشر من شهر رمضان باتجاه مكّة المكرّمة، ولما وصل النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم إلى مرّ الظهران أمر المسلمين أن ينتشروا في الصحراء، وأن يوقد كل منهم

 

 


[1] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص792.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص327.

[3] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص398.

[4] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص798.

 

134


110

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

ناراً، وهكذا أضاء الليل البهيم، وظهر المسلمون كجيش عظيم تضعف أمامه كلّ القوى، حتى سُمع صوت أبي سفيان يحادث بديل بن ورقاء مستغرباً وجود هذه القوة الكبيرة على مشارف مكّة. وارتعد أبو سفيان خوفاً حين أخبره العباس بزحف النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم بجيشه لفتح مكّة، ولم يجد بدّاً من اصطحاب العباس لأخذ الأمان من رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم.

 

ولم يكن بوسع صاحب الأخلاق السامية أن يبخل بإجازة جوار عمّه لأبي سفيان، فقال صلى الله عليه عليه وآله وسلم: "اذهب فقد أمّناه حتى تغدو به عليّ"، فلما غدا عليه أعطاه رسول الله الأمان[1].

 

ت ـ دخول مكّة:

أصدر رسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم أوامره الحكيمة بتوزيع مداخل القوات إلى مكّة، مؤكداً عدم اللجوء إلى القتال إلاّ رداً عليه.

 

دخلت قوّات المسلمين مكّة من جهاتها الأربع، ودخل الرسول الأكرم صلى الله عليه عليه وآله وسلم مكّة مطأطئاً رأسه تعظيماً لله وشكراً له على ما منحه من الفضل والنعمة، حيث دانت لرسالته ودولته أمّ القرى، وذلك بعد طول جهد وعناء، وبعد تحمّله صلى الله عليه عليه وآله وسلم الصعاب الجمّة في سبيل إعلاء كلمة الله.

 

ثم أمر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم عليّاً أن يجلس ليصعد صلى الله عليه عليه وآله وسلم على كتفه، ولكن لم يستطع الإمام عليّ عليه السلام أن يحمل النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم على كتفه لكسر الأصنام فوق الكعبة، فصعد عليّ على كتف ابن عمّه صلى الله عليه عليه وآله وسلم وكسر الأصنام. ثم طلب النبيّ مفاتيح الكعبة، وفتح بابها ودخلها، ومسح ما فيها من صور.

 

وبعد ذلك خطب بالناس، وقال للذين عادوه منهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"[2]. ثم ارتقى بلال سطح الكعبةمؤذّناً لصلاة الظهر، فصلّى المسلمون بإمامة النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم في المسجد الحرام أوّل صلاة بعد هذا الفتح.

 


[1] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، مصدر سابق، ج6، ص528، الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، مصدر سابق، ج10، ص471، العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج21، ص104.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص513.

 

135


111

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

ثم أقبل الناس يبايعون الرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم فبايعه الرجال، وتشفّع عدد من المسلمين لدى النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم ليعفو عمن أهدر دمه فعفا وصفح.

 

وجاءت النساء لتبايع، فكانت المرأة تُدخِل يدِها في قدح فيه ماء قد وضع الرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم يده فيه[1].

 

غزوة حنين وحصار الطائف[2]

وعزم النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم على الخروج لملاقاة قبيلتي هوازن وثقيف، بعدما علم بأنهم يريدون قتاله ويعدّون العدّة لذلك، ووطّد دعائم الإدارة في مكّة قبل خروجه كما هي سيرته عند كل فتح، فعيّن معاذ بن جبل ليعلّم الناس القرآن وأحكام الإسلام، كما عيّن عتاب بن أسيد للصلاة بالناس وإدارة الأمور.

 

وخرج النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم باثني عشر ألفاً من المقاتلين، وهي قوّة لم يشهد المسلمون مثلها ممّا أدّى بهم إلى الغرور والغفلة.

 

أما "هوازن" و"ثقيف"، فقد تحالفتا وخرجتا بكامل عدّتهما مع النساء والأطفال، وكمنوا لإرباك جيش المسلمين، وحين وصلت طلائع جيش المسلمين إلى أطراف الكمين أرغموها على الفرار، حتّى فرّت باقي قوّات المسلمين فزعاً من أسلحة العدو، ولم يثبت مع رسول الله إلا تسعة أشخاص من بني هاشم عاشِرُهُم أيمن ابن أم أيمن، فأمر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم عمه العباس أن يصعد على صخرة وينادي فلول المهاجرين والأنصار


 


[1] راجع حول فتح مكّة: الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص781، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص325، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص530، ابن سيد الناس، عيون الأثر، مصدر سابق، ج2، ص183، الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، مصدر سابق، ج10، ص555، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج4، ص855، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، مصدر سابق، ج1، ص218، ابن حبان، صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، لا.م، 1414هـ - 1993م، ط2، ج11، ص64، الصالحي الشامي، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد، تحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1414 - 1993م، ط1، ج2، ص134، ج5، ص227، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، مصدر سابق، ج3، ص244.

[2] وقعت معركة حنين في شوال من السنة الثامنة للهجرة.

 

136


112

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

المدبرة، فأعاد وعيهم بعد غفلتهم، وحماسهم بعد فتورهم، وعادوا يوفون بوعود النصرة والدفاع عن الإسلام والنبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم.

 

ولما رأى النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم حماسهم، قال: "الآن حمي الوطيس، أنا النبيّ لا كَذِب، أنا ابن عبد المطلب". فأنزل الله السكينة على المسلمين وأيّدهم بالنصر، وولّت جموع الكفر منهزمة تاركة وراءها ستة آلاف أسير وغنائم كثيرة جداً.

 

وكان من سموّ أخلاق النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم، وعظيم عفوه وسعة رحمته أن قال لأمّ سليم: "يا أم سليم، قد كفى الله، عافية الله أوسع"، وذلك عندما طلبت منه قتل الذين فرّوا عنه وخذلوه.

 

واصلت قوّات المسلمين ملاحقتها للعدو حتى الطائف، فحاصروهم بضعاً وعشرين يوماً يترامون بالنبل من خلف الجدران والبساتين، ثم عدل النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم عن الطائف لاعتبارات كثيرة.

 

وبعد ذلك ناشدت هوازن العفو من الرسول الأكرم صلى الله عليه عليه وآله وسلم فعفا عنهم لحكمة بالغة ودراية عميقة بنفوس الناس، وسعياً لهداية الجميع وإطفاءً لنار الحرب[1].

 

غزوة تبوك[2]

1. أسباب غزوة تبوك:

استنفر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم المسلمين من جميع نقاط الدولة الإسلاميّة استعداداً لحرب الروم، إذ وردت أخبار تؤكد استعدادهم لغزو الجزيرة ولإسقاط الدولة ومحق الدين الإسلاميّ.


 


[1] راجع حول المعركة: الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، مصدر سابق، ج2، ص471، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص344، علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج1، ص285، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج4، ص891، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص613، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج3، ص890، اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص62، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج2، ص137، أبو السعود، محمد بن محمد العمادي، تفسير أبي السعود، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ج4، ص55، ابن أبي شيبة الكوفي، المصنّف، مصدر سابق، ج6، ص181، الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيد محمد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1385هـ - 1966م، لا. ط، ج2، ص462، الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، مصدر سابق، ج6، ص180، مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مصدر سابق، ج5، ص167.

[2] كانت غزوة تبوك في رجب سنة (9) من الهجرة.

 

137


113

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

وتخلّف بعض عن الالتحاق بالجيش لشدّة تعلّقهم بالدنيا، واحتجّ بعض آخر بشدّة الحر، واحتجّ آخرون بشدّة ضعفهم، وقلّة إمكانات النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم لحملهم معه رغم بذل المؤمنين الصادقين أموالهم للجهاد في سبيل الله.

 

وبلغ النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم أنّ المنافقين يجتمعون في بيت أحد اليهود، يثبّطون الناس ويخوّفونهم من اللقاء، فتعامل معهم بحزم وشدّة، وأرسل إليهم من يحرق عليهم دارهم، ليكونوا عبرة لغيرهم.

 

بلغ عدد جيش المسلمين ثلاثين ألف مقاتل، واستخلف النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب في المدينة، لما يَعلم منه من حنكة وحسن تدبير وقوة يقين، إذ خشي الرسول صلى الله عليه عليه وآله وسلم من قيام المنافقين بعمل تخريبيّ في المدينة، وقال صلى الله عليه عليه وآله وسلم: "يا علي، إن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك"[1].

 

أسرع النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم السير حين مرّ على أطلال قوم صالح، وقال لأصحابه وهو يعظهم: "لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم"، ونهاهم عن استعمال الماء من هذه المنطقة، وحذّرهم من خطورة الظروف الجويّة فيها. ونظراً للصعوبات التي رافقت هذه الغزوة من حيث قلة الماء والغذاء والنفقة والظهر (الخيل والإبل)، فقد سمّي هذا الجيش بـ (جيش العسرة).

 

ولم يجد المسلمون جيش الروم، إذ قد تفرّق جمعهم، فاستشار الرسول القائد أصحابه في ملاحقة العدو أو العودة إلى المدينة، فقالوا: إن كنت اُمِرت بالسير فسِرْ. فقال صلى الله عليه عليه وآله وسلم: "لو اُمرت به ما استشرتكم فيه"[2]. وهنا، قرّر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم العودة إلى المدينة[3].


 


[1] المتقي الهندي، كنز العمال، تحقيق، ضبط وتفسير الشيخ بكري حيانيّ، تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، مؤسّسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1409، - 1989 م، لا. ط، ج11، ص607.

[2] الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج3، ص1019.

[3] راجع حول المعركة: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج4، ص944، الزيلعي، عبد الله بن عبد الرحمن السعد، تخريج الأحاديث والآثار، دار ابن خزيمة، لا. م، 1414هـ، ط1، ج2، ص102، الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، مصدر سابق، ج5، ص470، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج3، ص165، اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص167، السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، ج3، ص248، النسائي، السنن الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص266، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص367، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج4، ص6.

 

138


114

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

2- نتائج غزوة تبوك:

أ- لقد برز المسلمون كقوة كبيرة منظمة، تملك عقيدة قويّة فتهابهم الدول المجاورة والديانات الأخرى، وكان هذا إنذاراً حقيقيّاً لكل القوى في خارج البلاد الإسلاميّة وداخلها بعدم التعرّض للإسلام والمسلمين.

 

ب- ضمن المسلمون عن طريق المعاهدات مع زعماء المناطق الحدودية (من جهة الشمال) أمن هذه المنطقة.

 

ج- استفاد المسلمون من قدرتهم على تعبئة جيش كبير في العدة والعدد، وازدادت خبرتهم في التنظيم والإعداد، وكانت الرحلة إلى تبوك بمثابة استطلاع ميدانيّ استفادوا منه في المراحل اللاحقة.

 

139


115

الدرس الحادي عشر: الحياة الجهاديّة - 2 -

المفاهيم الرئيسة

1- شكّل صلح الحديبيّة انتصاراً سلميّاً للمسلمين على قبيلة قريش، بحيث رضخت قريش لشروط النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم، وتمكن من دخول مكّة مرة أخرى من دون سفك الدماء، ومنحت المسلمين الحرية في ممارسة شعائرهم الدينيّة في مكّة المكرّمة.

 

وكانت خيبر تمثّل حصناً قوياً ومركزاً كبيراً لليهود ولهذا قرر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم أن يقضي على هذه القوة المتبقّية، فلم يلبث بعد عودته من الحديبيّة إلاّ أيّاماً قلائل حتى جهّز جيشاً، استطاع من خلاله أن يجلي أهل خيبة عن بلادهم، واستسلم له أهالي فدك وغيرها من قرى اليهود.

 

2- أصبحت فدك ملكاً لرسول الله صلى الله عليه عليه وآله وسلم خاصّة بحكم القرآن، لأنّها مما لم يوجف عليه بخيل ولا سلاح، إذ أعلنت استسلامها للنبي صلى الله عليه عليه وآله وسلم دون تهديد أو قتال.

 

3- لقد اختلفت ردود فعل القوى في المنطقة بعد معركة مؤتة، فالروم فرحوا من انسحاب المسلمين وعدم تمكّنهم من دخول الشام. أما قريش فقد سادهم الفرح وانبعثت فيهم الجرأة على المسلمين.

 

4- دخلت قوّات المسلمين مكّة من جهاتها الأربع، ودخل الرسول الأكرم صلى الله عليه عليه وآله وسلم مكّة مطأطئاً رأسه تعظيماً لله وشكراً له على ما منحه من الفضل والنعمة حيث دانت لرسالته ودولته أم القرى.

 

5- استنفر النبيّ صلى الله عليه عليه وآله وسلم المسلمين من جميع مناطق الدولة الإسلاميّة استعداداً لحرب الروم، إذ وردت أخبار تؤكد استعدادهم لغزو البلاد الإسلاميّة، وإسقاط الدولة، ومحق الدين الإسلاميّ، حيث خرج إليها مقاتلاً مع جيش كبير من المسلمين، وكان من أهم نتائج هذه المعركة إبراز قوّة المسلمين، وعقد العديد من الاتفاقيّات مع القبائل في طول الطريق.

 

140

 


116

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

الدرس الثاني عشر

العهود والنظم العسكريّة

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يبيّن العهود العسكريّة التي أبرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2. يوضح كيفيّة رعاية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأحكام الإنسانيّة في الحرب.

3. يذكر شكل النظم العسكريّة التي اتبعها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

140


117

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

تمهيد

تكشف الحياة العسكريّة والسياسية للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن مستوى التزامه الكامل والتام بالعهود والمواثيق التي قطعها على نفسه، سواء أكانت هذه المواثيق متعلّقة بالجهاد أم كانت متعلّقة بالحياة السياسيّة ـ كما سيأتي ـ، وينطلق هذا الوفاء من أخلاق الإسلام ومبانيه التربويّة والسلوكيّة، وفي الواقع فإنّ هذه الأخلاقيات لا تنفك عن شخصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبداً.

 

العهود العسكريّة

أشار القرآن المجيد في سياق تعداده لخصال المؤمنين إلى صفة الوفاء بالعهد والميثاق، حيث قال تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾[1]، حيث إنّ الوفاء بالعهد والميثاق هو من أصول الأخلاق الاجتماعيّة المسلَّمة، والتي لا يُقبلُ المساسُ بها في الإسلام.

وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رعاية هذه العهود، فبعد انعقاد صلح الحديبيّة، فرّ أحد مسلمي مكّة منها، والتحق بجموع المسلمين في الحديبيّة، فقبلَ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم اعتراض ممثّل قريش في التفاوض، ووافق على إعادته إلى مكّة عملاً بأحد بنودِ الصلح، ثمّ خاطب صلى الله عليه وآله وسلم ذلك المسلم - والذي كان قد استاء من إرجاعه إلى قريش - ليخفّف عنه، فقال: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً، وأعطيناهم على ذلك


 


[1] سورة البقرة، الآية 177.

 

143


118

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم"[1].

فعلى الرغم من أنّ الوفاء بالعهد قد يجرّ على المسلمين ضرراً مرحليّاً، ولكنّ رعاية العهد والميثاق أكثر أهمّيّة من النفع أو الضرر المرحليّين. ولا شكّ أنّه لو علم المسلمون أنّ العدو ينوي أن ينقض عهده ويشنّ هجومه عليهم على ضوء القرائن الموجودة، فيمكنهم أن ينقضوا العهد من جهتهم، إلّا أنّه من اللازم قبل ذلك أن يُعلِمُوا العدوّ بعزمهم، ولا يحقّ لهم أن يبادروا إلى الهجوم عليه قبل إعلامه، لأنّ مثل هذا الهجوم يُعدُّ خيانة، والله لا يحبّ الخائنين[2].

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "من جملة أخلاقه الحكوميّة أنّه كان وفيّاً بالعهد. لم ينقض عهداً على الإطلاق. لم تفِ قريش بعهودها معه، إلّا أنّه لم يقابلها بالمِثل. كذلك لم يفِ اليهود بعهودهم مرّاتٍ عديدة، أمّا هو فلم يفعل ذلك"[3].

ويقول أيضاً: "لم ينقض الرسول العهد في أيّ من هذه القضايا. حتّى إنّ الأعداء يذعنون أنّ الرسول لم ينقض العهد في هذه القضايا، همُ الذين كانوا ينقضون العهد. لم يتخلّف عن عهوده ومعاهداته مع الناس ومع المجموعات التي كان يقيم معها عهداً، بل حتّى مع أعدائه وحتّى مع كفّار مكّة. لم ينقض الرسول عهده واتّفاقه معهم، بل هم الذين كانوا ينقضون، أمّا الرسول فكان يقدّم جواباً قاطعاً؛ لذلك كان الجميع يعلم أنّهم عندما يعقدون اتّفاقاً مع هذا الشخص، فهذا يعني أنّه يمكن الوثوق به"[4].

رعاية الأحكام الإنسانيّة في الحرب

على الرغم من جواز اللجوء إلى الخدعة لإخضاع العدوّ في الحرب، بل ولزوم ذلك أحياناً، إلاّ أنّ المسلمين ليسوا مجازين بالاستفادة من الأساليب الظالمة وغير الإنسانيّة لهزيمة العدوّ. فقطع الماء عن العدوّ، وحرق المزروعات، وتسميم المياه والمواد


 


[1] ابن هشام الحميريّ، السيرة النبوية، مصدر سابق، ج3، ص783.

[2] راجع: العلامة الطباطبائيّ، تفسير الميزان، مصدر سابق، ج9، ص113-114.

[3] من كلام له في لقاء مسؤولي النظام (29/9/1374)، (20/12/1995).

[4] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/2/1380)، (18/5/2001).

 

144


119

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

الغذائيّة، وقتل النساء والأطفال والعجّز الذين لا طاقة لهم على القتال، وتخريب البنى غير العسكريّة، كلّها أمور ممنوعة في الحرب.

وقد أشار القرآن الكريم إلى حكم كلّي بهذا الشأن، حيث قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[1].

وأكّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بشدّة على ضرورة رعاية الأحكام الشرعيّة والإنسانيّة في الحروب، وقد وردت روايات عدة تبيّن التعاليم والإرشادات على هذا الصعيد، من جملتها:

1. النهي عن قتل النساء والعجّز والأطفال:

فعن جعفر بن غياث، أنّه سأل أبا عبد الله  عليه السلام عن النساء كيف سقطت الجزية ورُفعت عنهنّ؟ قال: فقال  عليه السلام: "لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلوا..."[2].

2. النهي عن إلقاء السمّ في الماء والغذاء:

فعن أبي عبد الله  عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين  عليه السلام: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُلقى السُمُّ في بلاد المشركين"[3].

3. عدم إتلاف الزرع:

وعن أبي عبد الله  عليه السلام قال: "إن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى الله - عزّ وجلّ - في خاصّة نفسه ثم في أصحابه عامّة، ثم يقول: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلوا وتمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً, لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه إلّا ما لا بدّ لكم من أكله"[4].


 


[1] سورة البقرة، الآية 190.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص29.

[3] الراوندي، فضل الله، النوادر، تحقيق سعيد رضا علي عسكري، مؤسسة دار الحديث الثقافية، إيران - قم، لا. ت، ط1، ص169.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص29.

 

145


120

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

وينبغي الالتفات إلى أنّه من الممكن لغرضِ قطع جذور فتنة الحرب والحدّ من وقوع مضارّ أكبر أن لا تتمّ مراعاة هذه الأمور بمقدار حدّ الضرورة، وخاصّة في الوقت الذي يستغلّ العدوّ فيه رعاية المسلمين لهذه الأحكام لمصلحته، فيستقرّ مثلاً في مزرعة، أو أرضٍ ذات نخل، أو قلعة، ولا يكون هناك من طريق للوصول إليه، إلاّ إشعال النار في المزرعة أو قطع النخيل أو إغلاق الماء.

فعندما نقض "بنو النضير" عهدهم، وأرادوا قتال المسلمين، لجؤوا إلى حصونهم. وفي كل مرّة كان المسلمون يقتربون من إحدى هذه القلاع، وتتعرّض لخطر السقوط الحتميّ، كانوا يتراجعون إلى قلعة أخرى بعد تخريب كلّ شيء وراءهم؛ لذا أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأن تُقطع أشجار نخيلهم لإجبارهم على الاستسلام، فاعترض اليهود الذين كانوا شديدي الحرص على زراعتهم، قائلين إنّ هذا لا يتلاءم مع أخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية لتوضح حقيقة ما فعله المسلمون: ﴿  ﴾[1],?مَا قَطَع?تُم مِّن لِّينَةٍ أَو? تَرَك?تُمُوهَا قَا?ئِمَةً عَلَى?أُصُولِهَا فَبِإِذ?نِ ?للَّهِ وَلِيُخ?زِيَ ?ل?فَ?سِقِينَ?(311)، وعندما رأى اليهود ما كان يفعله المسلمون سارعوا إلى الاستسلام.

4. عدم التمثيل بجثث القتلى:

حيث نهى الإسلام عن التمثيل بجثث قتلى العدوّ على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"[2].

فلا يجوز للمسلم أن يمثّل بأجساد الكفّار أو الحيوانات، بمعنى أن يقطّعوها أكثر ممّا يحصل لها في القتال.

5. المعاملة بالمثل:

أكّد الإسلام على ضرورة رعاية الأحكام الإنسانيّة والشرعيّة في ساحة الحرب، لكن إذا تجاوز العدو هذه الأحكام، فإنّ الإسلام يسمح بمقابلته بالمثل، حيث يقول تعالى: ﴿وَإِنْ

 


[1] سورة الحشر، الآية 5.

[2] المازندرانيّ، شرح أصول الكافيّ، مصدر سابق، ج6، ص150.

 

146


121

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾[1].

وعلى الرغم من أنّ المقابلة بالمثل قد عُدَّت جائزة في هذه الآية، إلاّ أنّ المسلمين قد دُعوا من جديد في آخر الآية إلى التحمّل والإغضاء.

 

6. التعامل مع الأسرى

يختصُّ قسمٌ من أصول الحرب في الإسلام بكيفيّة التعامل مع الأسرى. والحكم الأوّليُّ على هذا الصعيد هو أنّ إمكان أخذ الأسرى منوط بالوقت الذي تكون فيه عقبات المعركة قد زالت، بحيث لا يؤدّي الأسرُ إلى انشغال المجاهدين بهم، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى هزيمة قوات الإسلام. وأمّا قبل هذا الوقت، فالأسرُ ممنوع. وقد أشير إلى هذا الحكم في قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾[2].

والأمر الملفت على هذا الصعيد هو كيفيّة التعامل مع الأسرى من وجهة نظر الإسلام، حيث أمر بحسن معاملتهم، والابتعاد عن أذيّتهم والإضرار بهم، كما أمر بإعطائهم الماء والطعام. وقد كان مسلمو صدر الإسلام - بفضل التربية التي تلقّوها على يد هذا الدين الخاتم ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - يؤثرون الأسرى بطعامهم، ويقدّمونهم على أنفسهم[3].

فمن المسائل المهمّة التي أكّد عليها الإسلام هي ضرورة التعامل بعطف مع الأسرى والحرص على هدايتهم بالشكل الذي يؤدّي إلى إحداث تحوّل روحيّ وباطنيّ لديهم، وإلى انجذابهم نحو الحقّ، وفي ما أرشد به القرآن المجيد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الصعيد، مرفقاً ببشارة الرحمة والعفو إلى الأسرى، نموذج جميل ودليل ساطع على عظمة


 


[1] سورة النحل، الآية 126.

[2] سورة محمد، الآية 4.

[3] راجع: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مصدر سابق، ج2، ص131.

 

147


122

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

الإسلام، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[1].

7. الإجارة واللجوء:

تُعدّ مسألة اللجوء إلى الأفراد أو الأمكنة الآمنة لأجل حفظ الروح، من العادات الموجودة بين أبناء البشر منذ زمن بعيد، وقد أدّى هذا الأمر إلى إفلات المجرمين أو الأشخاص غير المذنبين الذين كانوا ملاحقين من العقاب.

وقد كان هذا اللجوء أمراً رائجاً بين العرب قبل الإسلام، والجميع كانوا يمنحونه منزلة مهمّة، وجاء الإسلام بدوره وأقرّ أصل هذه الإجارة. وبصرف النظر عن أنواع اللجوء السياسيّ، فإنّ السؤال الذي يمكن أن يطرح في المقام يرتبط بمدى قبول الإسلام إجارة العدوّ طوال فترة الحرب، فهل يُجيز أن يعمد أفراد من العدوّ إلى الحفاظ على أرواحهم من خلال هذه الوسيلة في فترة محددة؟ ويمكن القول في مقام الجواب إنّ المُستفاد من المصادر الإسلاميّة هو أنّ مشروعيّة إجارة العدو تتمثّل في غرضين اثنين:

أ. لسماع كلام الله والاطّلاع على معارف الإسلام:

فليس للمسلمين من هدف سوى إيصال نداء الفطرة إلى مسامع الناس، وهم لا ينسون هذا الهدف في ميادين الجهاد، وقد ثبتوا عليه. فدعوة العدو إلى الإسلام قبل بدء القتال تصبُّ في هذا الطريق، بل حتى لو أنّ شخصاً ادّعى بعد القتال أيضاً أنّه لم يسمع كلام الله، ثمّ طلب مهلة وأماناً ليسمع دعوة الحقّ، فمن الواجب على المسلمين أن يجيروه ويعرضوا عليه أصول الدعوة الإسلاميّة، ومن ثمَّ أن يعيدوه إلى مكانه سالماً آمناً، حيث يقول - تعالى:- ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾[2].


 


[1] سورة الأنفال، الآية 70.

[2] سورة التوبة، الآية 6.

 

148


123

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

الإسلام، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[1].

7. الإجارة واللجوء:

تُعدّ مسألة اللجوء إلى الأفراد أو الأمكنة الآمنة لأجل حفظ الروح، من العادات الموجودة بين أبناء البشر منذ زمن بعيد، وقد أدّى هذا الأمر إلى إفلات المجرمين أو الأشخاص غير المذنبين الذين كانوا ملاحقين من العقاب.

وقد كان هذا اللجوء أمراً رائجاً بين العرب قبل الإسلام، والجميع كانوا يمنحونه منزلة مهمّة، وجاء الإسلام بدوره وأقرّ أصل هذه الإجارة. وبصرف النظر عن أنواع اللجوء السياسيّ، فإنّ السؤال الذي يمكن أن يطرح في المقام يرتبط بمدى قبول الإسلام إجارة العدوّ طوال فترة الحرب، فهل يُجيز أن يعمد أفراد من العدوّ إلى الحفاظ على أرواحهم من خلال هذه الوسيلة في فترة محددة؟ ويمكن القول في مقام الجواب إنّ المُستفاد من المصادر الإسلاميّة هو أنّ مشروعيّة إجارة العدو تتمثّل في غرضين اثنين:

أ. لسماع كلام الله والاطّلاع على معارف الإسلام:

فليس للمسلمين من هدف سوى إيصال نداء الفطرة إلى مسامع الناس، وهم لا ينسون هذا الهدف في ميادين الجهاد، وقد ثبتوا عليه. فدعوة العدو إلى الإسلام قبل بدء القتال تصبُّ في هذا الطريق، بل حتى لو أنّ شخصاً ادّعى بعد القتال أيضاً أنّه لم يسمع كلام الله، ثمّ طلب مهلة وأماناً ليسمع دعوة الحقّ، فمن الواجب على المسلمين أن يجيروه ويعرضوا عليه أصول الدعوة الإسلاميّة، ومن ثمَّ أن يعيدوه إلى مكانه سالماً آمناً، حيث يقول - تعالى:- ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾[2].


 


[1] سورة الأنفال، الآية 70.

[2] سورة التوبة، الآية 6.

 

148


123

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

ويُلاحظُ هنا، أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يبعث سريةً في مهمة قتاليّة دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول لهم: "سيروا باسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها، وأيّما رجلٍ من أدنى المسلمين أو أفضلِهم نظر إلى رجل من المشركين، فهو جارٌ - أي آمنٌ وفي مأمنٍ - حتى يسمعَ كلامَ الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله عليه"[1]. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما بيّت عدواً قط[2]، أي ما وقع على العدوّ ليلاً[3]، وكان إذا بعث سريّةً أو جيشاً بعثهم أولَ النهار[4].

وأُطلق على المعارك التي خاضها المسلمون في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تسميتان، وهما: الغزوة والسرية، ويقصدون بالغزوة: الجيش الذي يخرج فيه النبيُّ نفسُهُ وتولّى هو قيادتَه، أما السرية: فيقصدون بها الوحدةَ العسكريّة التي لا يكون رسولُ الله فيها، وإنما يكون فيها أحدُ القادة أو الأمراء من الصحابة.

وقد أحصى المؤرخون مجموعَ الغزواتِ والسرايا التي قام بها المسلمون في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فبلغ مجموعُ ذلك على رواية سبعاً وستّين غزوةً وسريّة، وعلى رواية أخرى خمساً وسبعين غزوةً وسريّة، وقد وقعت هذه الغزوات والسرايا في أقلَّ من عشرِ سنوات، وهي المدةُ التي عاش فيها النبيّ بعد الهجرة إلى المدينة[5].

وتدلّ النصوصُ المتفرقة على أنّ هذه الإنجازاتِ العسكريّة الضخمة، بالقياس إلى الفترة الزمنية القصيرة، والظروفِ الصعبة، كانت تستندُ إلى تنظيم دقيق واسعِ النطاق أهملَ المؤلفون في السيرة النبويّة العنايةَ به، وأمّا ما يمكنُ استفادتُهُ من الروايات


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص27.

[2] المصدر نفسه، ص28.

[3] التبييت الإيقاع بالعدو ليلاً، راجع: الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، مكتبة الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام العامة، إيران - أصفهان، 1406هـ، ط1، ج15، ص97.

[4] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج3، ص432.

[5] راجع حولها: الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج1، ج2(كامل الكتاب).

 

150


124

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

المتفرقة فيما يتعلق بتنظيم القوةِ العسكريّة وإدارةِ الوحدات العسكريّة والمعاركِ الدفاعية في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فهو الملامحُ الآتية:

 أولاً: إن القرار العسكريّ التكتيكيّ كان بيد النبيّ وحده، ولم يكن لأحد من المسلمين سلطةُ اتّخاذِ قرارٍ عسكريّ في غزوة أو سرية بشكل منفرد ومستقلّ بعيداً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. نعم، من الثابت أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يستشير أصحابه، وكان يستمع بعناية لاعتراضاتهم العسكريّة، ولكن القرارَ العسكريّ النهائيَ كان له وحده. وثمّة أمثلة عديدة يذكرها المؤرخون على ذلك.

ثانياً: كان النبيُّ يشكّلُ الجيشَ والوحداتِ العسكريّة من الذكور البالغين، وكان يختار للجنديّة الذين بلغوا خمسَ عشرَة سنةً من العمر، ولم يكن يقبلُ في عداد الجيش من لم يبلغ هذه السنّ. وورد في بعض الروايات أنّ النبيّ كان يستعرض شبّانَ الأنصار في كلّ عام، وسمحَ لمن تثبُتُ لياقتُهُ البدنيّة بالانخراط في الجيش والمشاركةِ في الجهاد، وكان شبّانُ المدينة المنوّرة يتدرّبون على استعمال السلاح وفنونِ القتال، وكان في المدينة مكانٌ مخصّصٌ لهذه الغاية أي معسكرٌ خاصٌ للتدريب. وقد ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أمر بالتدرّب على الرمي، وقال فيما رُوي عنه: "علّموا أولادكم السباحةَ والرمايةَ"[1]. وعلى أي حال فقد كان التدربُ على السلاح وفنونِ القتال من مقوّماتِ الثقافةِ العامة للمجتمع الإسلاميّ آنذاك، بحيث كان يُعتبرُ غيرُ الخبير بفنون القتال شاذاً عن النمط العام.

ثالثاً: لم يظهر من نصوص السيرة النبويّة أن النبيّ أسّسَ جيشاً متفرغاً على غرار ما يسمى الآن بالجيش المحترف، وهو تفرّغُ عددٍ من المقاتلين لحياة الجنديّة مدّةً من الزمن في حال السلم، وإنّما كان يتمُّ الانخراطُ الفعليّ في العمل العسكريّ حين تدعو الحاجة، أي حين يقرّر النبيُّ القيامَ بحملة عسكريّةٍ، أو حين يتهددُ المدينةَ خطرُ الغزو.


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص47.

 

151


125

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

يظهر من بعض الروايات أنّ بعضَ المسلمين كان متفرّغاً للقتال

والجهاد وهم أهلُ الصُفَّة، وأهلُ الصُفَّة هم مجموعة من الفقراء الذين كانوا قد هاجروا من مكّة إلى المدينة، ولم يكن لديهم بيوتٌ خاصّة في المدينة وإنّما كانوا يسكنون إلى جانب المسجد النبويّ في مكان يسمّى الصُفَّة. فقد كان هؤلاء شِبْهَ متفرّغين للجهاد بسبب عدم وجود أُسرٍ لهم وبيوت خاصة تؤويهم، وذلك بسبب عدمِ انخراطهم في سوق العمل والتجارة.

وثمّة كثير من الإجراءات العسكريّة في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غيرَ ما ذكرنا من قبيل إحصاء عدد المسلمين لأغراض عسكريّة، ومن قبيل التسليح العسكريّ، والصناعات العسكريّة، والتجسّس العسكريّ، وغير ذلك من الملامح التي تكشف عن دقة التنظيم العسكريّ في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ولا شكّ أن النظم العسكريّة التي أوجدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ساهمت إلى حدٍّ كبير في تحقيق إنجازات عسكريّة كبرى، وفي تحقيق انتصارات كبيرة في مدة زمنيّة قصيرة نسبيّاً.

 

152

 


126

الدرس الثاني عشر: العهود والنظم العسكريّة

المفاهيم الرئيسة

1. أشار القرآن المجيد إلى صفة الوفاء بالعهد والميثاق في سياق تعداده لخصال المؤمنين.

2. حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رعاية العهود.

3. وأكّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بشدّة على ضرورة رعاية الأحكام الشرعيّة، والإنسانيّة في الحروب، ووصَلَنا منهم العديد من التعاليم والإرشادات على هذا الصعيد.

4. يختصُّ قسمٌ من أصول الحرب في الإسلام بكيفيّة التعامل مع الأسرى. والحكم الأوليُّ على هذا الصعيد هو أنّ إمكان أخذ الأسرى منوط بالوقت.

5. لقد كان مسلمو صدر الإسلام من خلال التربية التي تلقّوها على يد هذا الدين الخاتم ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يؤثرون الأسرى بطعامهم، ويقدّمونهم على أنفسهم.

6. ليس للمسلمين من هدف سوى إيصال نداء الفطرة إلى مسامع الناس، وهم لا ينسون هذا الهدف في ميادين الجهاد، وقد ثبتوا عليه.

7. لم يظهر من نصوص السيرة النبويّة أنّ النبيّ أسسَ جيشاً متفرغاً على غرار ما يسمّى الآن الجيشَ المحترف، وهو تفرّغُ عددٍ من المقاتلين لحياة الجنديّة مدةً من الزمن في حال السلم.

8. ثمّة كثير من الإجراءات العسكريّة في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، من قبيل إحصاء عدد المسلمين لأغراض عسكريّة، ومن قبيل التسليح العسكريّ، والصناعات العسكريّة، والتجسّس العسكريّ، وغيرِ ذلك من الملامح التي تكشف عن دقّة التنظيم العسكريّ في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 

153


127

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

الدرس الثالث عشر

الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد المظاهر العباديّة في شخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يشرح كيفية صلاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصومه.

3- يبين حال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الذكر الدائم لله سبحانه وتعالى.

 

155


128

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

من نافل القول إنّ الشخصيّة النبويّة التي دعت الناس إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وترك عبادة غير الله - عزّ وجلّ -، هي التي دعت الناس أيضاً إلى أن تتوجّه إلى الله سبحانه بالعبادة والتضرّع والخشوع. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبّاقاً قبل الجميع في هذه العبادة، فهو المسلم المؤمن العابد، الذي كان يقضي ليله في عبادة الله، ويصوم نهاره رجاء القربى من ربه.

 

وقد جسّدت شخصيته الملامح العباديّة العامّة في الفكر الإسلاميّ، ورسم للعابدين المسار الصحيح الذي يجب أن يسير عليه الإنسان المسلم العابد. وسوف نذكر بعض المظاهر العباديّة التي تميّزت بها الشخصيّة النبويّة.

 

مخافة الله

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذاكراً لله في كافّة الحالات، وكان يطلب المدد منه في جميع الساحات. كان يطلب من الله ولم يخَف أحداً سواه. ويكمن السرّ الأساسيّ لعبوديّة الرسول أمام الله - تعالى - في أنّه لم يحسب أيّ حساب لأيّ قوّة في مقابل الله، ولم تكن علاقته به علاقة واهم، ولم يقطع سبيل الله بسبب أهواء الآخرين. يجب أن يتحوّل مجتمعنا إلى مجتمعٍ إسلاميّ من خلال الدرس الذي يتعلّمه من الأخلاق النبويّة"[1].


 


[1] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (5/7/1370)، (27/9/1991).

 

157


129

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

الاعتماد على الله

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "عندما كان رسولنا الكريم... يتضرّع إلى الله - تعالى - ويطلب العون منه في الأوقات الصعبة لم يكن يأخذ بعين الاعتبار أنّ ذلك قد يترك أثراً في أذهان المخاطَبين والناظرين (والحاضرين)، فيفهموا عجزه، بل كان يصرّح بأنّه عاجزٌ ولا يمكنه الإتيان بعملٍ دون مساعدة من الله تعالى. أثناء معركة الأحزاب، عندما حاصر الأعداء المدينة والرسول والمؤمنين، من جهات عدّة، حيث كانوا يريدون القضاء بالكامل على الإسلام والقرآن والرسالة الجديدة، كان الرسول في تلك الحالة ينظّم الجنود ويتّخذ تدابير دقيقة، ويحرّض الناس على المقاومة، وكان بالإضافة إلى ذلك يجثو على ركبتيه، وقد تكرّر هذا المشهد وذكرته كتب السيرة، حيث كان يرفع يديه يتضرّع ويبكي ويناجي الله ويطلب العون والنصر والتوفيق منه تعالى"[1].


 


[1] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (29/7/1384)، (21/10/2005).

 

158


130

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

الخشية من الله

عُرف رسول الله منذ طفولته بأنه دائم التفكر والتضرّع إلى الله تعالى، مما جعله في حالة خشوع مستمرّة، تجسّدت في صلاته ودعائه وتعامله مع كل ما يحيط به.

 

فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّه كان إذا قام إلى الصلاة سُمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي من شدّة البكاء"[1]، أي خنين من الجوف بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء.

 

وروي عن الحسين بن علي عليهما السلام - في خبر طويل يذكر فيه حالاته صلى الله عليه وآله وسلم - "وكان يبكي حتّى يبتلّ مصلَّاه خشية من اللَّه - عزّ وجلّ - من غير جرم"[2].

 


[1] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، تحقيق وتعليق وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان، النجف الأشرف، دار النعمان للطباعة والنشر، 1386 - 1966، ج1، ص326.

[2] المصدر نفسه، ص331.

 

159


131

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة، ألا أكون عبداً شكوراً"[1].

 

العبودية لله تعالى

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان الرسول وما تمتّع به من مقام وشأن وعظمة، غير غافل عن عبادته، كان يبكي منتصف الليل ويدعو ويستغفر. في إحدى الليالي تفقّدت أمّ سلمة الرسول فلم تجد، ذهبت تبحث عنه، فوجدته مشغولاً بالدعاء، حيث كانت الدموع تنهمر من عينيه وهو يستغفر ويقول: (اللهم ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)[2]. بكت أمّ سلمة فتوجّه الرسول إليها وسألها عن سبب وجودها، فتوجّهت إليه قائلة: يا رسول الله، أنت عزيزٌ عند الله وذنوبك مغفورة ـ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[3]، فلماذا تبكي؟ ولماذا تردّد: اللهم ولا تكلني إلى نفسي؟ قال: "وما يؤمنني"؟[4]، مَن الذي يحفظني إذا غفلت عن الله؟ هذا درسٌ لنا. إن ّالدرس الكبير الذي علّمنا إيّاه الرسول هو عدم نسيان الله، والاعتماد على الله، والطلب منه في يوم العزة، وفي يوم الذلّة، وفي اليوم الصعب، وفي يوم الراحة، وفي اليوم الذي يحاصر فيه العدوّ الإنسان، وفي اليوم الذي يُفْرَض فيه العدوّ - بكلّ عظمته - على الإنسان وعلى وجوده.

 

تتجلّى قيمة والد فاطمة عند الله في العبوديّة، مع الإشارة إلى أنّ فاطمة هي مبدأ فضائل المعصومين ومنبعها، حيث إنّها وأمير المؤمنين قطراتٌ من بحر وجود الرسول. "أشهد أنّ محمداً عبده ورسوله"، في البداية كانت عبوديّته ثمّ رسالته، وفي الأساس (إنّما) أُعطي مقام الرسالة له - وهو مقامٌ شامخ - بسبب العبوديّة"[5].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص95.

[2] عليّ بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج2، ص75.

[3] سورة الفتح، الآية 2.

[4] عليّ بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج2، ص75.

[5] كلمته في خطبتي صلاة الجمعة في طهران (5/7/1370)، (27/9/1991).

 

160


132

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

الصلاة الكاملة

إنّه وسام الكمال الذي حازه هذا العبد المسلم، حيث فاق غيره في عبوديّته، وتجلّت هذه العبوديّة المثلى في قوله وسلوكه حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: (جُعل قرّة عيني في الصلاة)[1]، فهو ينتظر وقت الصلاة، ويشتدّ شوقه للوقوف بين يدي الله، ويقول لمؤذّنه بلال: "أرحنا يا بلال"[2]. وقد كان يحدّث أهله ويحدّثونه، فإذا دخل وقت الصلاة، فكأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه. وكان إذا صلّى يُسمع لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل[3]. ويبكي حتى يبتلّ مصلاّه خشية من الله - عزّ وجلّ -، وكان يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً[4]؟.

 

ونزل عليه جبرئيل مخففاً لمّا أجهد نفسه بالعبادة بقوله - تعالى -: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[5].

 

الدعاء والمناجاة

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع تلك القوّة الملكوتيّة، دائم الذكر والتوجّه والتوسّل إلى الله تعالى"[6].

 

نُقِل عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، تدعون ربّكم بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"[7]. لذلك كان رسول الإسلام المكرَّم يقوم بالأعمال الضروريّة كافّة في ساحة الحرب، كان ينظِّم الجنود، ويضع كلّاً منهم في مكانه، ويقدّم لهم الإمكانيّات اللازمة، ويوصيهم بما يجب، ويشرف عليهم


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص321.

[2] الدارقطني، علي بن عمر، علل الدارقطني، تحقيق وتخريج محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة، السعودية - الرياض، 1405هـ، ط1، ج4، ص121.

[3] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج1، ص326.

[4] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص404.

[5] سورة طه، الآيتان1 ـ 2.

[6] من كلام له في لقاء أهالي قم (19/10/1371)، (9/1/1993).

[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص468.

 

161


133

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

إشراف القائد على جنوده، ولكنّه كان في الوقت عينه، يركع على الأرض، ويرفع يديه للدعاء والتضرّع، ومناجاة الله تعالى ليطلبَ منه ما يريد[1].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن الدعاء: "الدعاء مخّ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد"[2]، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض"[3].

 

وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالتضرّع والدعاء في كل عمل كبيراً كان أم صغيراً.

 

صومه

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "جاء حول الصلوات المقرّرة في المفاتيح: "الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدأب في صيامه وقيامه في لياليه وأيّامه بخوعاً لك في إكرامه وإعظامه إلى محلّ حِمامه"[4]. كان الرسول يعظّم شهر شعبان حتّى آخر حياته، ويخضع أمامه، وقد عوّد نفسه على الصيام والقيام في شهر شعبان. جاء في العبارات التي تلت المقدّمة: "اللهم فأعِنَّا على الاستنان بسنّته فيه"[5]،[6].

 

وعن الإمام الرضا عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل شهر شعبان يصومه في أوّله ثلاثاً، وفي وسطه ثلاثاً، وفي آخره ثلاثاً، وإذا دخل شهر رمضان يفطر قبله بيومين ثم يصوم"[7].

 

وكان يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر[8]، وإذا دخلت العشر الأواخر تشدّد في العبادة،

 

[1] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (23/2/1379)،(12/5/2000).

[2] الراوندي، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات (سلوة الحزين)، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، إيران - قم، 1407هـ، ط1، ص18.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص468.

[4] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411هـ - 1991م، ط1، ص829.

[5] المصدر نفسه.

[6] من كلام له في لقاء منشدي أهل البيت (5/5/1384)، (27/7/2005).

[7] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، مصدر سابق، ج2، ص76.

[8] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج2، ص90.

 

162


134

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيا الليل وتفرّغ للعبادة[1].

 

حمده

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمد الله في كلّ يوم ثلاثمئة وستين مرّة"، ويقول: "الحمد لله ربّ العالمين كثيراً على كلّ حال"[2].

 

وكان دائم الحمد لله تعالى، وكان إذا رأى ما يحبّ حمد الله، فقد رُوي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى ما يحبّ قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات"[3].

 

كثرة سجوده

تمثّل حالة السجود المقام الأسمى والأعلى في مقام العبوديّة بين العبد وربه، وهي الحالة الأقرب بين العبد وربّه, ولذا رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إنّ أبي عليه السلام كان يقول: إنّ أقرب ما يكون العبد من الربّ عزّ وجلّ وهو ساجد باكٍ"[4].

 

وبما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب المنزلة العباديّة العالية، فقد جسّد في السجود أرقى درجاته، فكان كثير السجود، وقد روي عن أبي جعفر عليه السلام قال: "ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نومٍ إلا خرّ لله ساجداً"[5].

 

لذا كان يؤكد كثيراً على أهمّيّة السجود لله تعالى في كل ما يريده الإنسان، فقد رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "مر بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رجل وهو يعالج بعض حجراته، فقال: يا رسول الله، ألا أكفيك؟ فقال: شأنك، فلما فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حاجتك؟ قال:


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص155.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص503.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص19.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص483.

[5] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص39.

 

163


135

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

الجنة، فأطرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: نعم، فلمّا ولّى قال له: يا عبد الله، أعنّا بطول السجود"[1].

 

كثرة استغفاره

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دائم الذكر لله - تعالى -، وكان الاستغفار شعاره في كل لحظاته وسكناته، حتّى كان يستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين مرة. عن الحرث بن المغيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن الله يحب المقرّ التوّاب، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب إلى الله في كلّ يوم سبعين مرّة من غير ذنب، قلت: يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟ قال: كان يقول: أتوب إلى الله"[2]، فكان استغفاره لذكر الله - تعالى -، ولكي لا ينقطع عن ذكر الله وحضوره في حياته الشريفة.

 

وكان الاستغفار خاتمة كلامه في مجالسه، فعن أبي عبد اللَّهعليه السلام: "أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقوم من مجلس وإن خفّ حتّى يستغفر اللَّه عزّ وجلّ خمساً وعشرين مرّة"[3].

 

قراءة القرآن الكريم

ولقد كان دؤوباً على قراءة القرآن وشغوفاً به، وانطلاقاً من ذلك أكّد صلى الله عليه وآله وسلم على قراءة القرآن الكريم، فقد رُوي عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ عشر آيات في ليلة لم يُكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كُتب من الذاكرين، ومن قرأ مئة آية كُتب من القانتين، ومن قرأ مئتي آية كُتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمئة آية كُتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمئة آية كُتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كُتب له قنطار من تبر القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً، أصغرها مثل جبل أحد، وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض"[4].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص266.

[2] حسين بن سعيد الكوفيّ، الزهد، تحقيق ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا. ن، لا. م، 1399هـ، لا. ط، ص73.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص504.

[4] المصدر نفسه، ص612.

 

164


136

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

وكان يوجّه الناس إلى الاستشفاء بالقرآن الكريم، فقد روي عن أبي عبد الله، عن آبائه  عليهم السلام قال: شكا رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجعاً في صدره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "استشف بالقرآن فإنّ الله عزّ وجلّ، يقول: ﴿وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾[1],[2].


 


[1] سورة يونس، الآية 57.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص600.

 

165


137

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

المفاهيم الرئيسة

1- امتازت الشخصيّة النبويّة بممارسة الأعمال العباديّة والسلوكية اتجاه الله سبحانه وتعالى، مما أعطى لشخصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بُعداً معنويّاً وروحيّاً كبيراً وعظيماً.

 

2- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشدّ الناس مخافة وقرباً وتعلّقاً بالله - سبحانه وتعالى -، وكانت صلاته تمثّل الصلاة الكاملة والحقيقيّة لله - سبحانه وتعالى -.

 

3- كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع تلك القوّة الملكوتيّة، دائم الذكر والتوجّه والتوسّل إلى الله تعالى، وكان يشدّد كثيراً على الدعاء وأهمّيّته لضرورة الاتّصال بالله تعالى.

 

4- إنّ الصوم لله تعالى كان لا يفارق حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يصوم أكثر أيامه.

 

5- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دائم الذكر لله - سبحانه وتعالى -، فكان حمده دائماً لله في كلّ سرّاء أو ضرّاء مسّته، وكان يكثر من السجود ويطيله، وشدّد كثيراً على أهمّيّة السجود في حياة الإنسان المؤمن.

 

6- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دائم الذكر لله تعالى، وكان الاستغفار شعاره في كل لحظاته وسكانته، حتى كان يستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين مرّة.

 

7- لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدأب على قراءة القرآن، وكان شغوفاً به، وانطلاقاً من ذلك أكّد صلى الله عليه وآله وسلم على قراءة القرآن الكريم، وكان يوجّه الناس إلى الاستشفاء به.

 

166


138

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

الدرس الرابع عشر

الحياة التربويّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم

(المنهج والموقف)

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يُبرز أهمية اتّباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يبين بعض المواقف التربويّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يوضح منهجيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حثّه على العلم.

 

167

 


139

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

تمهيد

تتميّز الحياة النبويّة بالمواقف التربويّة الكثيرة التي تنبع من شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم العظيمة، فهو صاحب الخُلق العظيم كما وصفه الله في القرآن الكريم، وهو المربّي الحقيقيّ للمسلمين, لذا يمكن القول إنّ كل تصرّفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعماله وأفعاله تتضمن حكماً تربويّة يمكن أن تقتدي بها الشخصيّة المسلمة في حياتها التربويّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والثقافيّة.

 

اتّباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

لا شكّ أنّ اتّباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعدّ من المسائل المهمّة والضروريّة لكلّ مسلم يريد السير على خطى هذا النبيّ الكريم قولاً وفعلاً، فقد كان في أقواله وأفعاله نموذجاً رائداً من نماذج الارتقاء إلى الكمال الإنسانيّ، وقد أرشدنا الله - تعالى - إلى أنّ اتّباع النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم يمكّن الإنسان من الوصول إلى محبّة الله - تعالى -، حيث يقول عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾[1].

 

ويتمّ الاتّباع من خلال التشبه به وبأفعاله، والإذعان لكل ما كان يصدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم, حيث إنّه لا ينطق عن الهوى ولا ينطق إلا صواباً، فدائرة الأمور التي كان يقوم بها سواء أكانت واجبة أم مستحبة هي محلّ لاتّباع الناس، حيث يتّبعه المسلمون وهم مطمئنون إلى أنّها تجلب لهم سعادتهم وراحتهم.

 

في وصيّته صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّعليه السلام: "... والسّادسة: الأخذ بسنّتي في صلاتي، وصيامي


 


[1] سورة آل عمران، الآية31.

 

 

169


140

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

وصدقتي"[1]. وقال الإمام علي عليه السلام: "ومن تأدّب بأدب اللَّه، أدّاه ذلك إلى الفلاح الدائم"[2].

 

وقال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّي لأكره للرّجل أن يموت وقد بقي خلَّة من خلال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ بها"[3].

 

وقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما زال أفضل قدوة للمربين، وذلك من خلال أسلوبه في تربية أصحابه، فكان مربّياً تهوى إليه الأفئدة، حيث استطاع إيجاد تغيير جوهريّ في سلوكيّات أصحابه في سنوات معدودة، وعلى المربين قراءة سيرته صلى الله عليه وآله وسلم والوقوف على مدرسته في تربية أصحابه على المنهج الإسلاميّ، آخذين منها العبر والدروس لتحويلها إلى واقع عمليّ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[4].

 

المواقف التربويّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

1- موقعية الدنيا: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجدي أسكّ[5] ملقًى على مزبلة ميتاً، فقال لأصحابه: كم يساوي هذا؟ فقالوا: لعلّه لو كان حيّاً لم يساوِ درهماً، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، للدّنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله"[6].

 

2- تشجيع المحسن والثناء عليه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشجّع المحسن ويثني عليه, كي يزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم والعمل، ومن أمثلة ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من أحسن فيما بقي من عمره لم يُؤاخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأوّل والآخر"[7].


 


[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص17.

[2] تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام، المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، مدرسة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف - قم المقدسة، ربيع الأول 1409هـ، ط1، ص16.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص39.

[4] سورة الأحزاب، الآية21.

[5] الجدي: ولد المعز في السنة الأولى. وأسكّ أي مصطلم الاذنين مقطوعهما.

[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص129.

[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص111.

 

170


141

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

3- الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه: كان صلى الله عليه وآله وسلم يقدّر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم كثيراً، ويتلطّف في تصحيح أخطائهم، ولا شكّ أن ذلك يملأ قلب الطرف الآخر حباًّ للرسالة وصاحبها، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التصرف والتوجيه الرقيق مهيأة لحفظ الواقعة بملابساتها كافّة، ومن ذلك ما رواه معاوية بن الحكم السلميّ، قال: "بينما أنا أصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بأبي هو وأمّي ـ ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضربني، ولا شتمني، قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إّنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن"[1].

 

منهج الرسول في التربية والتعليم

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "الآن، هنا - مكّة والمدينة - مركز الوحي ومحلّ نزول البركات الإلهيّة على جماعة مؤمنة ومقاومة تمكّنت، ببركة الإيمان والعمل بالآيات الإلهيّة، من النهوض من بين غبار الذلّ الذي رقد عليها، لتأخذ بعين الاعتبار الحريّة اللائقة للإنسان، وترفع لواء الحريّة للبشريّة ونجاة الإنسان من سلطة إمبراطوريّات القوّة والظلم في ذاك الزمان، ولتؤسّس من خلال النور المعرفيّ الذي ينبع من القرآن مركزاً عظيماً للمعرفة البشريّة، ولتتربّع لقرونٍ على منبر العلم والمعرفة البشريّة، ولتكون سخيّةً في تعليم البشريّة، فتقدّم أفضل الآثار العلميّة طيلة قرون متمادية، وترسم (تحدّد) مصير عالم البشريّة بعلمها وسياستها وثقافتها، كلّ ذلك من بركات تعاليم الإسلام والحكومة الإسلاميّة الخالصة في عهد الرسول وفترة من صدر الإسلام، حيث بقي المسلمون يتذوّقون ثمار ذلك على الرغم من نموّ الشجرة الخبيثة وتسلّط حكومات السلطنة والارتداد عن المرحلة التوحيديّة"[2].

 


[1] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج5، ص448.

[2] النداء إلى حجاج بيت الله الحرام (26/3/1370)، (16/6/1991).

 

171


142

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

ونذكر أحاديث للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول منهجه في التربية والتعليم، وهي:

1- الحث على طلب العلم:

كان للعلم لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهمية كبرى، ولذلك نجد العديد من الروايات الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحثّ على طلب العلم، وبيان عظمته في الدنيا والآخرة، وسوف نورد هنا بعض العناوين المرتبطة بهذا الشأن، وهي:

أ. طلب العلم: حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، ألا إنّ الله يحبّ بغاة العلم"[1]. وبإطلاق العلم هنا، يمكن أن نستخلص أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بالحثّ على تحصيل العلوم الشرعيّة فقط، بل نجده يشجع على تحصيل كلّ العلوم التي تعود على المسلمين بالخير، سواء أكانت العلوم دنيويّة، أم أخرويّة.

 

ب- تبليغ العلم: أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً على تبليغ العلم، فقد رُوي عن محمد بن الحماد الحارثيّ عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله "يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام، أو كالجبال الرواسي، فيقول يا رب أنّى لي هذا ولم أعملها، فيقول هذا علمك الذي علّمته الناس يُعمل به من بعدك"[2]. فلقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يطلب من كل الوافدين عليه تبليغ عِلمه ودعوته إلى من خلفهم، كما كان يعمل على توظيف كل وسائل الإعلام التي كانت متوافرة في زمانه لإيصال دعوته إلى الناس كافة.

 

ج- تبيين مرتبة العلماء ومنزلة المُعلّمين: فقد جعلها صلى الله عليه وآله وسلم في رتبة الأنبياء  عليهم السلام، وقد رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به، وإنه يستغفر لطالب العلم مَن في السماء ومَن في الأرض


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص30.

[2] الصفار، محمد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلميّ، إيران - طهران، 1404هـ - 1362ش، لا.ط، ص25.

 

172


143

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر"[1].

 

د- معرفة حقوق العلماء: أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حقّ العلماء، فقد رُوي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ارحموا عزيزاً ذلّ، وغنيّاً افتقر، وعالماً ضاع في زمان جهّال"[2].

 

وهكذا نجد أنّ النبيّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يمثّل القدوة الحسنة في الحثّ على طلب العلم والتعلّم، وقد أصبح المجتمع العربيّ في الجزيرة العربيّة وما حولها مجتمعَ علم وتعلّم، حيث بلغ التشجيع العلميّ أوجه مع البعثة الإسلاميّة، مما أسهم في ازدهار هذه المجتمعات وتقدمها.

 

2- منهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التعليميّ والتربويّ

لم يكن منهجه صلى الله عليه وآله وسلم يختلف عن منهج كتاب الله العزيز، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مبلّغاً لكتاب الله - تعالى - ومبيّناً لآياته الكريمة في الدرجة الأولى، كما كان مبلّغاً لأحكامه في المجتمع الإسلاميّ، ويمكن لنا بيان ذلك من خلال النقاط الآتية:

أ- المُربّى المثاليّ: لا شكّ أنّ رسالة النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي رسالة أخلاقيّة بالدرجة الأولى، فقد بعث الله نبيّذه ليتمّم مكارم الأخلاق، ومن ثم كان صلى الله عليه وآله وسلم ذا أخلاق حسنة عالية، حيث يقول - سبحانه - مادحاً إياه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[3]. وكان الأبَ الرحيم بأصحابه، والأخ المتواضع في القيام بواجباته نحوهم.

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم معلّماً وفيّاً ومخلصاً لأصحابه، فإذا أراد أن يُعلّم أصحابه اعتمد الليونة في خطابه معهم، يقول عليه وآله الصلاة والسلام: "إنّما أنا لكم مثل الوالد..."[4].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص34.

[2] الحميريّ القميّ، عبدالله بن جعفر، قرب الاسناد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، 1413هـ، ط1، ص66.

[3] سورة القلم، الآية 4.

[4] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج2، ص247.

 

173


144

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

ب. التجديد والتنويع: كان صلى الله عليه وآله وسلم ينوّع معارفه إلى أصحابه، فإذا أحسّ الملل في نفوسهم تجاوزه بالموعظة الحسنة، فكان بهذا السلوك يعمل على إبعاد الملل عنهم، وإعادة النشاط إليهم.

 

وقد اعتمدت كثير من المدارس والمؤسّسات التربويّة المعاصرة على هذا السلوك، وذلك في شتّى بلدان العالم, لتحبب إلى طلّابها مراكز التربية والتعليم، وليكون إقبالهم على العلم نابعاً من دوافع ذاتيّة دون إكراه، وهو ما يُعبّر عنه حديثاً بمصطلح: التكوين الذاتيّ.

 

ج- الفروق الفرديّة: كان صلى الله عليه وآله وسلم يراعي المستوى العلميّ للناس، وقدرة فهمهم وتفهّمهم للأمور، بحيث كان صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب حضوره بما يفهمون, لأنّه كان يراعى تفاوت مدارك الناس، وانتباه جلسائه، وقدرتهم على الاكتساب والمعرفة، فقد كان يُفَهِّم البدوي بما يلائم بيئته، والحضريّ بما يستجيب لمفاهيم مدنيّته، وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم"[1].

 

د- تعليم المرأة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعلِّم الرجال ويدعوهم إلى التعليم والتعلّم، ونجد أنّه كان يعقد لقاءات خاصّة للنساء، يحُضُّهن فيها على العلم والأخذ منه، حيث كنّ يسألنه صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور دينهنّ، وقد رُوي عن جابر قال: شهدت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، فلمّا قضى الصلاة قام متوكئا على بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس وذكّرهم وحثّهم على طاعته، ثمّ مال ومضى إلى النساء، ومعه بلال، فأمرهنّ بتقوى الله، ووعظهنّ وذكّرهن، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ حثّهن على طاعته..."[2].


 


[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص195.

[2] النسائيّ، أحمد بن شعيب، سنن النسائيّ، لبنان - بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1348 - 1930م، ط1، ج3، ص186.

 

174


145

الدرس الثالث عشر: الحياة العباديّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

هـ- تربية الأبناء: شدّد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديثه على أهمّيّة تربية الأولاد، وبيّن العديد من الضوابط التي تكفل التربية الصالحة والسليمة، ومما قاله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم يغفر لكم"[1].

 

عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لئن يؤدّب أحدكم ولده خير له من أن يتصدّق بنصف صاعٍ كلّ يوم"[2].

 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص222.

[2] المصدر نفسه.

 

175


146

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

الدرس الخامس عشر

الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

المبادئ والقواعد الاجتماعيّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح المبادئ الاجتماعيّة الأساسية التي وضعها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يبيّن أهمية العمل من خلال كلمات وأقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يلخّص أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع ممارسته العمليّة في العلاقات الاجتماعيّة.

 

 

177


147

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

مقدمة

أسّس النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم المبادئ الإسلاميّة العامة إزاء السياسات، وحقوق المجتمع، وسلّط الضوء على المسألة الاجتماعيّة من مختلف الجهات المرتبطة بها, وذلك لكي لا تبقى منها أيّ مساحة مظلمة، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن العمل والأجر والأرض والزراعة، وعن طبيعة العلاقات المتينة العميقة التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد، والتي تجعل المسلمين كالبنيان، لا يسمحون لأيّ منهم أن يُظلم. وسوف نعرض بإيجاز ما يرتبط بالمبادئ التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال أفعاله وأقواله:

 

العمل

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "يجب تذكّر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والحديث عنه في الأيّام المخصّصة لاستذكار التعليم والتربية والإنتاج والعمل, لأنّ ذاك العظيم هو معلّم البشر ورافع لواء التعليم والتربية واحترام العمل والسعي"[1].

 

ويظهر لنا اهتمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل من خلال عناوين عدّة، وهي:

 

1- أهمية العمل:

يتحدث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العمل باعتباره الأساس الذي يوليه الإسلام أهمية كبرى، والذي تتمخّض عنه ابتداء القيمة التي يتضمنها المال والمنفعة المترتبة عليه. وينبغي أن نشير إلى أنّ القرآن الكريم يورد العمل بأبعاده المختلفة والجزئيّة، سواء أكان من الناحية الماديّة أم المعنويّة، وذلك في عدد كبير من آياته المباركة. وسعى صلى الله عليه وآله وسلم إلى درأ


 


[1] من كلامه في لقاء المعلمين والعمال (10/2/1382)، (30/4/2003).

 

170


148

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

ظواهر الكسل والتواكل التي تتناقض أساساً مع متطلبات العدل الاجتماعيّ، ومع صورة المجتمع الذي يسوده التوازن الفعّال، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "على كلّ مسلم في كل يوم صدقة، قيل: فإن لم يجد؟ قال: يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدّق، قيل: فإن لم يستطع أو لم يجد؟ قال: يأمر بالمعروف أو بالخير، قيل: فإن لم يستطع، وربما قال: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة والملهوف، قيل: فإن لم يستطع؟ قال: يكفّ عن الشر, فإنّها صدقة"[1]، فعلى الإنسان أن يكون ذا عطاء ونتاج مهما كان شكل العطاء هذا، كما ينبغي أن يستغلّ جميع طاقاته وقدراته.

 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم تأكيداً على أهمية العطاء الاجتماعيّ: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"[2]، وقال: "من أمسى كالّاً من عمل يديه أمسى مغفوراً له"[3]، وقال: "إنّ الله يحب المؤمن المحترف"[4].

 

وهكذا، فقد أكّد النبيّصلى الله عليه وآله وسلم على إيجابية العمل في الحياة الإسلاميّة، وآثر ذلك على على "سكون" العبادة، حيث يقول: "المؤمنون إخوة، يقضي بعضهم حوائج بعض، فبقضاء بعضهم حوائج بعض، يقضي الله حوائجهم يوم القيامة"[5]. ولا شكّ أنّ تقويمه لأهميّة للعمل، وتقديره للعطاء، إنّما هو ناشئ من إدراكه العميق لدور العمل على المستوى الاجتماعيّ خاصّة والحضاريّ عامّة، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "خمسة في قبورهم وثوابهم يجري إلى ديوانهم: من غرس نخلاً، ومن حفر بئراً، ومن بنى لله مسجداً، ومن كتب مصحفاً، ومن خلف ابناً صالحاً"[6].


 


[1]  البيهقيّ، شعب الإيمان، مصدر سابق، ج6، ص105.

[2] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج3، ص243.

[3] الهيثمي، مجمع الزوائد، مصدر سابق، ج4، ص63.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص113.

[5] المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الأمالي، حسين الأستاد ولي، علي أكبر الغفاري، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414 - 1993م، ط2، ص150.

[6] السبزواريّ، الشيخ محمد بن محمد، معارج اليقين في أصول الدين، علاء آل جعفر، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قم، 1410 - 1993م، ط1، ص283.

 

180


149

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

2- احترام عمل العامل:

أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل واضح على ضرورة احترام العامل، وتقدير العمل الذي يقوم به، والجهد الذي يبذله في تأدية الأعمال المطلوبة منه، كما أكّد على أهميّة تطبيق الاتفاق الذي يُعقد بين العامل وصاحب العمل, لضمان حقوق الطرفين، ومنعاً من ظلم أحدهما للآخر، أو سلب حقوق الأجير، ولكي يُعطى الأجير حقه كاملاً.

 

كذلك حرص على إعطاء الأجير حقه في حال طُلب الزيادة منه في العمل سواء أكان من حيث الجهد المبذول أو من حيث الزمن المطلوب لتأدية الأعمال.

 

كما أنه لم يترك مسألة العلاقات الإنسانيّة التي يجب أن تسود بين الطرفين، أي بين العامل وصاحب العمل، في أي نشاط اجتماعيّ، ويتقدم بها صلى الله عليه وآله وسلم صعداً حتى يرتقي بها إلى مرحلة الأخوّة الكاملة، حيث كان يأمر أصحابه، عمالاً وأصحاب عمل، إلى أن يأكلوا سويّاً، وأن يُلبسَ صاحبُ العملِ العامل مما يلبس.

 

يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده, فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلّبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه"[1]. وليس ثمة نظام تُعرض فيه مسألة "العمل" وفق هذا المثلث: منح حق العامل كاملاً في وقته المناسب، وزيادة هذا الحق بما يتناسب واتساع الجهد الذي يبذله العامل، ورفع العلاقة بين العامل وصاحب العمل إلى مستوى الأخوّة والتعامل المشترك في الطعام واللباس.

 

3- حق الأجير:

أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حق العامل، فقد رّوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يوفّه أجره"[2].

 


[1] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج5، ص161.

[2] القزوينيّ، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة، تحقيق وترقيم وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص816.

 

181


150

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

العلاقات الاجتماعيّة

1- العمل الجماعيّ:

فقد بيّن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من القيم والتعاليم التي ترتبط بطبيعة العلاقات الاجتماعيّة،باعتبار أنّ هذه العلاقات تؤكّد متانة الترابط بين أفراد المجتمع المسلم الواحد، وتسوسهم نحو التكامل، وتجعلهم كالبنيان، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما من عمل أفضل من إشباع كبد جائع"[1].

 

ويصوّر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر المسؤولية الاجتماعيّة المشتركة الملقاة على عاتق المسلمين جميعاً، قائلاً: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"[2]، فإنّ أيّ خلل يصيب البناء الاجتماعيّ يعتبر بمثابة علامة خطر أكيدة في مسيرة البيئة الإسلاميّة كلّها، فإن تدارك المسلمون مكامن الخلل نجا مجتمعهم من التصدّع والانهيار.

 

2- العدالة الاجتماعيّة:

وتقودنا قضية الترابط الاجتماعيّ هذه إلى مسألة من أهم مسائل العدل الاجتماعيّ في الإسلام، وهي التكافل الاجتماعيّ الذي تأمر به الدولة. وثمّة أحاديث وقيم طرحها النبيّصلى الله عليه وآله وسلم تبيّن قضية التكافل الاجتماعيّ في الدولة الإسلاميّة. وقد أعلن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن تعهّد الدولة للفقراء والضعفاء والعاطلين والعاجزين، حيث يقول: "من ترك كلّاً - أي ذرية ضعيفة - فليأتني فأنا مولاه"، وقال: "من ترك ضياعاً فعليّ ضياعه"[3]،


 


[1] القضاعيّ، محمد بن سلامة، مسند الشهاب، حمدي عبد المجيد السلفيّ، مؤسّسة الرسالة - بيروت، 1405 - 1985م، ط1، ج2، ص250.

[2] البخاريّ، صحيح البخاريّ، مصدر سابق، ج3، ص111.

[3] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج6، ص211.

 

182


151

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

ونذكّر بحديثه الشهير: "ألا كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيّته"[1]، فالقائد راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، وبذلك يعلن صلى الله عليه وآله وسلم مسؤوليّة الحاكم أو الدولة الإسلاميّة عن رعاياها كافّة، وهي مسؤوليّة شاملة.

 

3. الوفاء بالوعد:

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعد رجلاً إلى الصخرة، فقال: أنا لك هنا حتّى تأتي، قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله، لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ، قال: وعدته ههنا وإن لم يجئ كان منه الحشر"[2].

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "من جملة أخلاقه الحكوميّة أنّه كان وفيّاً بالعهد، فلم يكن ينقض عهداً على الإطلاق. حيث لم تفِ قريش بعهودها معه إلّا أنّه لم يقابلها بالمِثل، كما لم يفِ اليهود بعهودهم مراتٍ عديدة، أمّا هو فلم يفعل ذلك[3].

 

لم ينقض الرسول العهد في أيّ من هذه القضايا. حتّى إنّ الأعداء يذعنون أنّ الرسول لم ينقض العهد في هذه القضايا، بل همُ الذين كانوا ينقضون العهد. ولم يتخلّف عن عهوده ومعاهداته مع الناس والمجموعات التي كان يقيم معها عهداً، حتّى مع أعدائه، بل حتّى مع كفّار مكّة، لم ينقض الرسول عهده واتّفاقه معهم، بل هم الذين كانوا ينقضون، أمّا الرسول فكان يقدّم جواباً قاطعاً, لذلك كان يعلم الجميع أنّهم عندما يعقدون اتفاقاً مع هذا الشخص، فإنّه يمكن الوثوق به"[4].

 

4 ـ نقض العبودية:

اعتمد النبيّ سياسات عديدة في معالجة التحدّيات الاجتماعيّة، وفي معالجة ما ترسّب في عقول الناس وعاداتهم من المجتمع الجاهليّ وغيره، ومنها المعالجة الاجتماعيّة لظاهرة العبوديّة، وقضية التبنّي التي كانت منتشرة بين الناس. ومن الشواهد على ذلك


 


[1] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربي، بيروت، لا. ت، لا. ط، ج4، ص115.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص24.

[3] من كلام له في لقاء مسؤولي النظام (29/9/1374)، (20/12/1995).

[4] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/2/1380)، (18/5/2001).

 

183

 

 


152

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لقريش: " يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني"[1].

 

وانتقل زيد من رقّ العبوديّة إلى بنوة أكرم خلق الله، وآمن زيد بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أوّل أيّام البعثة المباركة، ولمّا بلغ مبلغ الرجال زوّجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش (ابنة عمّته) مع ما لها من مكانة اجتماعيّة ونسب رفيع، وبذلك ضرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثالاً رائعاً للقضاء على الأعراف الجاهليّة، تطبيقاً لقيم الرسالة الخالدة. ولكن تفاوت الثقافة وتنافر الطباع حالا دون نجاح مثل هذا الزواج لاحقاً، ثم نزل الأمر الإلهيّ ليبطل ما تعارف عليه العرب من اعتبار الأدعياء (من ادُّعيت بنوّتهم) أبناءً فقال - تعالى -: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾[2]، وأبقى لهم حقّ الموالاة والأخوّة في الدين.

 

وأراد الله سبحانه أن ينسف هذا العُرف الباطل، فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج زينب بعد طلاقها من زيد، وبعد إكمال عدّتها، وذلك بعد نزول الآيات الكريمة التي تحثّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على إبطال هذا العرف الجاهليّ، وأن لا يخشى الناس، وأن يمضي في تطبيق أحكام الله - تعالى - بكل شجاعة.

 

5- الأخوّة:

تبرز تجربة المؤاخاة المعروفة في مقدمة الممارسات التي نفّذها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وقد أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلّ بهذا الإجراء الأزمة المعيشيّة التي اجتاحت المهاجرين بعد مغادرتهم مكّة، مخلّفين وراءهم أموالهم وممتلكاتهم، فنظّم علاقاتهم الاجتماعيّة بإخوانهم الأنصار عن طريق المؤاخاة.

 

وكان كثيراً ما يشدّد على أهمية الأخوّة وفضلها، ووضع مبادئها بين المسلمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمنون إخوة، يقضي بعضهم حوائج بعض، فبقضاء بعضهم حوائج بعض يقضي الله حوائجهم يوم القيامة"[3].

 

 


[1] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج3، ص42.

[2] سورة الأحزاب، الآية 4.

[3] الشيخ المفيد، الأمالي، مصدر سابق، ص150.

 

184


153

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

وكان يدعو إلى ترجمة هذه الأخوّة من خلال قضاء حوائج المؤمنين، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له"[1].

 

ويقول في موضع آخر: "أحبّ الأعمال إلى الله - عزّ وجلّ - سرور يدخله مؤمن على مؤمن، يطرد جوعه، أو يكشف عنه كربة"[2].

 

مشاركات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الاجتماعيّة

اقتضت حكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يجعل أنبياءه ورسله بشراً كسائر البشر، إلا بما اختصّهم به - سبحانه - من أمور تتطلّبها طبيعة رسالتهم السماويّة التي كُلّفوا بحملها.

 

وعلى الرغم من أنّ النبيّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان أفضل خلق الله وأكرمهم عليه، إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كغيره من الناس، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويعمل الأعمال التي يحتاج إليها الناس في حياتهم، ولا يستقيم أمرهم إلا بها.

 

كان صلى الله عليه وآله وسلم يشارك قومه في ندواتهم واجتماعاتهم التي يعقدونها لبحث القضايا المهمّة، فشارك صلى الله عليه وآله وسلم في ما سُمّي بـ ( حلف الفضول)، وقال: "شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حمر النعم، ولو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت"[3].

 

وقد تمّ التعاهد في هذا الاجتماع على حماية المظلومين ودفع الظلم عنهم، وقد مدح صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحلف - كما جاء في الحديث -, لأنّه لا يدعو إلى حميّة الجاهليّة الأولى، وإنما إلى نصرة المظلومين، ومن كان في معناهم.

 

وشارك صلى الله عليه وآله وسلم مع بني قريش في بناء الكعبة بعد أن جرفها السيل، كما قدّم حلاً مقنعاً لجميع الأطراف المختلفة حول من يضع الحجر الأسود في مكانه المقدّس، حيث أشار


 


[1] الحلّيّ، العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهّر، الرسالة السعديّة، إشراف السيد محمود المرعشيّ، إخراج وتعليق وتحقيق عبد الحسين محمد علي بقال، كتابخانه عمومى حضرت آية الله العظمى مرعشي نجفي، إيران - قمّ، 1410هـ، ط1، ص162.

[2] الصوريّ، الحسن بن طاهر، قضاء حقوق المؤمنين، تحقيق حامد الخفّاف، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لا. م، لا. ت، لا. ط، ص18.

[3] ابن هشام الحميري، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج1، ص87.

 

185


154

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

عليهم بإحضار رداء، بحيث يوضع عليه الحجر الأسود ثم ترفع كل بطن من بطون قريش طرفاً منه، فتشترك كل البطون في وضع الحجر الأسود في مكانه المقدّس.

 

ثمّ كان من أعماله صلى الله عليه وآله وسلم التي قام بها تجارته في بعض أموال قريش، حيث خرج إلى الشام متاجراً في مالٍ لخديجة عليها السلام.

 

ويمكن القول إنّ سيرتهصلى الله عليه وآله وسلم كانت غنيّة بأمثال هذه المشاركات والأعمال التي إن دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على مدى فاعليّته وإيجابيّته في مجتمعه، حيث إنّه شاركهم في أعمالهم كافّة، إلا ما كان من أعمالهم التي لا تقرها فطرته السليمة التي حفظها الله له.

 

وقد طرَح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قيم العدل الاجتماعيّ ومبادئه وخطوطه العريضة على مستويات ثلاثة:

المستوى الأول: قدّم لنا مبادئ ونظريات وقواعد يمكن أن يبني المشرع الإسلاميّ عليها - كما حدث فعلاً - كالقواعد والمرتكزات الفقهيّة الأصيلة التي يعتمد عليها في ميدان العدل الاجتماعيّ، مستمداً قدرته على العمل من روح هذه المبادئ والنظريّات والقواعد، مشيّداً اجتهاداته وفق مساراتها واتجاهاتها.

 

المستوى الثاني: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإجراء عدد كبير من التغييرات والممارسات على المستوى الجماعيّ، فجاء هذا الإجراء الواقعيّ امتداداً للمبادئ والنظريّات المطروحة على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم، وتأكيداً -في الوقت نفسه- على أن الإسلام لم يأتِ لكي يطرح أفكاراً خياليّة ومُثلاً مُعلّقة، وإنما جاء لكي يعمل على تغيير شكل الواقع في أحجامه المتوارثة، ويحوّل علاقاته لصالح الإنسان. وأنّه بواقعيّته هذه قادر على أن يتحرك – دوماً - في عهد النبيّ وأصحابه المنتجبين والأئمة الميامين  عليهم السلام والمنتمين إلى دعوته جيلاً بعد جيل, من أجل إحداث هذا التغيير والتبديل والتحويل.

 

المستوى الثالث: قام رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم بإرساء أخلاقيّة العدل الاجتماعيّ التي تنبعث من الأعماق، وتؤول إلى ممارسةٍ وسلوكٍ وعملٍ تظهر ملامحها في كلّ جزئيّة من جزئيّات

 

186

 


155

الدرس الخامس عشر: الحياة الاجتماعيّة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم-1-

الحياة اليوميّة، وكل منعطف من منعطفاتها، ابتداء بمسألة السكنى والملبس والطعام والشراب داخل بيته، وانتهاء بطبيعة علاقاته كنبيٍّ وقائد مع أبناء أمّته.

 

طرح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قيم العدل الاجتماعيّ ومبادئه وخطوطه العريضة على هذه المستويات الثلاثة المتداخلة، المترابطة كحلقة متماسكة، وهذا يعني أن افتقاد وتحطم أي رأس من رؤوس هذا المثلث ذي الزوايا المتناظرة سيعرّض التجربة الإسلاميّة إلى خطر الأعداء، وسيفكك أضلاع المثلث ويتيح للقوى المضادة أن تحارب التجربة الإسلاميّة وتقضي عليها، كما حدث ويحدث بالنسبة لكثير من التجارب الاجتماعيّة الصاعدة.

 

وإذا لم تكن تجربة العدل الاجتماعيّ في الإسلام قد نُفّذت وبرزت بأطرافها جميعاً، في فترات طويلة من تاريخنا، وإذا كانت الأحداث قد جرفت بعض المتسلطين إلى مواقع السلطة دون أن يفعلوا شيئاً في هذا الميدان، بل دون أن يوقفوا التيار المضاد عن تدفّقه وتضخّمه أكثر من هذا، فقد راحوا هم أنفسهم والمحيطون بهم يعملون في الاتجاه الآخر المعاكس، فيزدادون ترفاً وتخمة وطغياناً بينما تزداد -في الجهة المقابلة- أزمة الجوع والفقر بين جماهير أمّتهم.

 

 

187

 


156

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

المفاهيم الرئيسة

1- يتحدث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العمل باعتباره الأساس الذي يوليه الإسلام أهمية كبرى، والذي تتمخض عنه ابتداء القيمة التي يتضمّنها المال والمنفعة المترتبة عليه.

 

2- أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهمية العطاء الاجتماعيّ بكافة جوانبه.

 

3- من مظاهر عدالته صلى الله عليه وآله وسلم وبرحمته الفيّاضة وبطيب قلبه المفعم حبّاً للإنسانيّة ما قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اتجاه زيد.

 

4- كان صلى الله عليه وآله وسلم يشارك قومه في ندواتهم واجتماعاتهم التي يعقدونها لبحث القضايا المهمّة.

 

5- قدّم لنا مبادئ ونظريّات وقواعد يمكن أن يبني المشرِّع الإسلاميّ عليها -كما حدث فعلا- كالقواعد والمرتكزات الفقهيّة الأصيلة التي يُعتمد عليها في ميدان العدل الاجتماعيّ.

 

6- أسّس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخلاقيّة العدل الاجتماعيّ التي تنبعث من الأعماق وتؤول إلى ممارسة وسلوك وعمل تظهر ملامحها في كلّ جزئيّة من جزئيّات الحياة اليوميّة للمجتمع الإسلاميّ.

 

 

188


157

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

الدرس السادس عشر

الحياة الاجتماعيّة - 2 -

سيرته في التعامل مع الآخرين (1)

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في التعامل مع الآخرين.

2- يتحدّث عن صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع الآخرين.

3- يشرح كيفيّة تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه.

 

189


158

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

مقدّمة

تعدّ العلاقات الاجتماعيّة السليمة جزءاً من البناء الأخلاقيّ، فالمبادئ التي تأتي من خارج كيان الإنسان ووجوده وفطرته، لا يمكن أن يكون لها تأثير فاعل إذا لم تستند إلى العقيدة والأخلاق والضمير الثابت في أعماق الإنسان نفسه، وبالتالي لن تتمكّن من "تحويل" ذلك الإنسان إلى تعبير حيّ عن مبادئه، وإلى وجود عقائديّ متحرّك متوحّد بين الفكرة والتجربة، بين الذات والموضوع، بين الرسالة والهدف، يقول الإمام الخامئنيدام ظله: "إنّ نبيّ الإسلام المكرَّم، إنسانٌ فوق المألوف (استثنائيّ) بلحاظ الشخصيّة الإنسانيّة والبشريّة، وهو من الطراز الأوّل الذي لا نظير له، جَمَعَ الخصال الأخلاقيّة الرفيعة في شخصيّة إنسانيّة عزيزة، مظهراً كثيراً من الصبر والتحمّل وتقبّل الآلام والمصاعب، لقد اجتمعت فيه الخصوصيّات الإيجابيّة كافّة للإنسان العظيم"[1].

 

وسنبيّن جزءاً من مظاهر سلوكيّاته صلى الله عليه وآله وسلم في التعامل مع الآخرين، ونذكر بعض صفاته الأخلاقيّة ومنطلقاته النفسيّة التي كانت تحكم تعامله معهم.

 

صفاته في التعامل مع الآخرين

1- صدقه وأمانته:

شهد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك القاصي والداني، والعدوّ والصديق، حتى كفار قريش شهدوا له بذلك قبل بعثته وبعدها. فقبل بعثته اختلفت قريش بشأن بناء الكعبة بعد انهدام جزء منها، واتفقوا أن يحكموا أول داخل عليهم، فإذا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا بصوت


 


[1] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (23/2/1379)، (12/5/2000).

 

191


159

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

واحد: "هذا الأمين قد جاء فحكّموه"[1].

 

وبالرغم من المواجهة التي كانت قائمة بينه وبين مشركي مكّة بعد بعثته، فقد جرت ألسنتهم بالشهادة له بصدقه رغماً عنهم، فقد رُوي: "إنّ الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم، ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمد صادق هو أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمّدًا لصادق، وما كذب محمّد قط. وسأل هرقل أبا سفيان فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، وقال النضر بن الحارث لقريش: قد كان محمّد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر"[2]. ولذلك أخذوا يفتّشون عن ذرائع أخرى لإسقاط رسالته، حيث روي: "أنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾"[3].

 

لقد كانت الأمانة دائماً من أبرز أخلاق الرسل عليهم السلام، فالله بعث أنبياءَه نوحاً، وهوداً، وصالحاً، ولوطاً، وشعيباً إلى أقوامهم بصفة الأمانة. كما أخبرت سورة الشعراء أنّ كل رسول من هؤلاء قد قال لقومه: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾[4].

 

ورسولنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قد كان مشهوراً في قومه - قبل الرسالة وبعدها - بأنّه الأمين، وكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم، فيضعونها عنده. ولما هاجر صلى الله عليه وآله وسلم وَكَّل الإمام علي عليه السلام بردّ الودائع إلى أصحابها[5].


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص218.

[2] القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1988م، لا. ط، ج1، ص135.

[3] المصدر نفسه، ص134.

[4] سورة الشعراء، الآيات 107، 125، 143، 162، 178.

[5] انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مصدر سابق، ج2، ص103.

 

192


160

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

2- وفاؤه بالوعد:

امتدح الله عزّ وجلّ في القرآن نبيّه إسماعيل بن حزقيل بأنّه كان صادق الوعد[1]. وفي الروايات[2] أنّ سبب استحقاقه هذا المدح القرآنيّ، هو أنّه وعد رجلاً وعداً على أن يلقاه في مكان ما، لكن الرجل تأخّر، فجلس ينتظره سنة إلى أن عاد، باعتبار أنّه أطلق في الوعد له.

 

ومثل هذا الموقف العظيم نجده في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته، حيث ورد عن أبي الحميساء: "تابعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبعث فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد فأتيته اليوم الثالث، فقال عليه السلام: "يا فتى لقد شققتَ عليّ، أنا هاهنا منذ ثلاثة أيام"[3]. كما نجد هذا الموقف بعد بعثته، حيث ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعد رجلاً إلى صخرة، فقال إنّي لك هيهنا حتى تأتي، قال: فاشتدت الشمس، عليه فقال أصحابه: يا رسول، الله لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ، قال: قد وعدته إلى هيهنا وإنْ لم يجئ كان منه المحشر"[4]،[5].

 

يعلّق العلّامة الطباطبائيّ على هذه القصّة مبيّناً مراتب صفة الوفاء قائلاً: "وصفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحبّ والإرادة والعزم والإيمان والثقة والتسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم واليقين، فكما أنّ من الإيمان ما يجتمع مع أيّ خطيئة وإثم، وهو أنزل مراتبه ولا يزال ينمو ويصفو حتى يخلص من كل شرك خفيٍّ، فلا يتعلّق القلب بشيء غير الله، ولو بالتفات إلى من دونه، وهو أعلى مراتبه، كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب، فمن مراتبه في المقال مثلاً إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض حاجة أخرى توجب الانصراف إليها، وهو الذي يصدق عليه الوفاء عرفاً، وأعلى منه مرتبة

 


[1] انظر: سورة مريم، الآية 54.

[2] انظر: الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص105، الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج1، ص77.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص23.

[4] وفي مكارم الأخلاق نقلها (..كان منه الجشر)، أي الترك، والجشر المال الذي يرعى في مكانه ولا يرجع إلى أهله في الليل. انظر: الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص24.

[5] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص78.

 

193


161

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

الإقامة بالمكان حتى يوأس من رجوع الصديق إليه عادة بمجيء الليل ونحوه، فيقيد به إطلاق الوعد، وأعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول والإقامة حتى يرجع وإن طال الزمان، فالنفوس القويّة التي تراقب قولها وفعلها لا تلقي من القول إلّا ما في وسعها أن تصدقه بالفعل، ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة وإنفاذ العزيمة أيّ صارف"[1].

 

3- الانتصار للمستضعفين:

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبّ المستضعفين وينتصر لهم، ولا يسمح بضياع حقوقهم، ويساويهم بغيرهم في العطاء، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وزّع غنائم بدر، اعترض سعد بن أبي وقّاص قائلاً: "يا رسول الله، أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟" فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ثكلتك أمك وهل تُنصرون إلا بضعفائكم"[2].

 

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ للضعفاء مقاماً رفيعاً عند الله عزّ وجلّ، بفضل صبرهم على ما يبتلون به من مصائب ومتاعب في الدنيا ويصبرون عليها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة، كل ضعيف مستضعف ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه"[3].

 

حتى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يطلب حضورهم في مجالسه، وصحبتهم في غزواته، وكان يستنصر الله بهم، فيقول: "أبغوني[4] في الضعفاء، فإنّما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم"[5].

 

سيرته في التعامل مع الآخرين

1- تعامله مع كبار السنّ:

يذكر الله تعالى كبار السنّ في كتابه المحكم قائلاً: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾[6]، وانطلاقاً من هذه الصفة أولى رسول الله أهمّيّة خاصّة لكبار السنّ، وظهر


 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج14، ص65.

[2] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، مصدر سابق، ج1، ص255.

[3] البيهقي، شعب الإيمان، مصدر سابق، ج7، ص333.

[4] أي: اطلبوا لي.

[5] المتقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج3، ص173.

[6] سورة الروم، الآية 54.

 

194


162

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

ذلك في أقواله وأفعاله على حَدٍّ سواء، فقد ورد عن أنس بن مالك أنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمس خصال، فقال: فيه: "...، ووقّر الكبير تكن مع رفقائي يوم القيامة"[1]. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقّر كبيرنا ويعرف حقّنا"[2].

 

2- برّ الوالدين:

جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، مَن أحقّ الناس بحسن الصحبة؟ قال: "أمّك، ثمّ أمّك، ثمّ أمّك، ثمّ أبوك"[3]، فأحقّ الناس بالصحبة الحسنة ليس الصديق ولا الحاكم ولا صاحب العمل ولا غير هؤلاء، إّنما أحقّ الناس بالصحبة الأمّ ثمّ الأب، وقدَّم الأمَّ ثلاثاً لضعفها وشدّة احتياجها عند كبرها.

 

هذه هي رحمته بالأب والأم، ولْيُقارن أهل الأرض بين هذه الرحمة وبين ما يحدث في العالم أجمع!.

 

وروي أن رجلاً جاءه يقول: إني جئت أبايعك على الهجرة، ولقد تركت أبويَّ يبكيان، فقال رسول الله: "ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما"[4].

 

فهذا الرجل جاء ليبايع على الهجرة، ومع ذلك فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتفِ برضى والديه وراحتهما فقط، بل أمره بإضحاكهما وإدخال السرور إلى قلبيهما، وهذا كلّه ينسجم مع الغاية من بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[5].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزور قبر أمّه آمنة بنت وهب عليها السلام، ويبكي شوقاً إليها، فقد رُوي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لمّا مرّ في عمرة الحديبيّة بالأبواء، قال: "إن الله قد أذن لي في زيارة


 


[1] الطبرانيّ، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 - 1995م، لا. ط، ج5، ص328.

[2] الشيخ المفيد، الأمالي، مصدر سابق، ص18.

[3] الحميديّ، عبد الله بن الزبير، مسند الحميديّ، تحقيق وتعليق حبيب الرحمن الأعظميّ، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1409 - 1988م، ط1، ج2، ص476.

[4] سعيد بن منصور، سنن سعيد بن منصور، مصدر سابق، ج2، ص131.

[5] سورة الأنبياء، الآية 107.

 

195


163

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

قبر أمي، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له، فقال: أدركتني رحمة رحمتها فبكيت"[1].

 

3- تعامله مع الخدم:

أمّا بالنسبة إلى تعامله مع خدّامه، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعاملهم بمنتهى الرحمة والإنسانيّة، يساوي نفسه بهم في مأكله وملبسه، ويوصي المسلمين بحسن المعاملة مع خدمهم. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في الخدم: "ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون"[2]، وفي معناها ما رواه أبو ذر (رضي الله عنه): سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا يكلّفه ما يغلّبه، فإن كلّفه ما يغلّبه فليعنه"[3].

 

ونجد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد أوصى في ذيل الرواية الأخيرة بأن لا يكلّف السيّد خادمه عملاً شاقّاً، وإن كلّفه ذلك فليعاونه على إنجازه، فقد ورد أيضاً هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: "في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا استعملتم ما ملكت أيمانكم في شيء، فيشقّ عليهم، فاعملوا معهم فيه"[4].

 

وأوصى صلى الله عليه وآله وسلم بعدم تعذيبهم حتى لو كانوا مقصّرين وسيّئين، وجعل الحلّ في بيعهم أو عتقهم، لا في الغلظة عليهم حتى يؤوبوا، فعن الإمام الكاظم عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أربعة لا عذر لهم: ...، ورجل له مملوك سوء، فهو يعذّبه، لا عذر له إلا أن يبيع وإما أن يعتق"[5].


 


[1] العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج15، ص162.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص101.

[3] ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1368ش، ط2، ص65-66.

[4] الكوفيّ، حسين بن سعيد، الزهد، تحقيق ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399هـ، لا.ط، ص44.

[5] فضل الله الراوندي، فضل الله بن علي، النوادر، تحقيق سعيد رضا علي عسكري، مؤسسة دار الحديث الثقافية، إيران - قم، لا.ت، ط1، ص159.

 

196


164

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

وقد تجلّت هذه الوصايا في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يروي خادمُه أنس بن مالك أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يحصل أن عبس في وجهه طيلة عشر سنوات من الخدمة، فيقول: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين، فلم يضربني ضربة، ولم يسبّني، ولم يعبس في وجهي"[1]. فلا عجب بعد ذلك أن ينعته القرآن الكريم بصاحب الخلق العظيم، حيث إنّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يوصي الناس بخُلِقٍ إلّا كان متقدمّاً عليهم أشواطاً وأشواطاً في تطبيقه.

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلّم خدمه أحكام دينهم وما يحتاجون إليه من أمور دنياهم[2]، ما يعني أنه كان ينظر إليهم نظرة إنسانية كاملة، ويعتبرهم أهلاً للتعلّم والرُقيّ.

 

4- تعامله مع أصحابه:

لقد مثّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير نموذج يُحتذى به في التعامل مع الإخوان والأصحاب، من تواضع وأدب واحترام وحسن معاملة ولين، فجذبهم إليه واستقطب بكلامه وحركاته وسكناته قلوبهم وعقولهم، ولولا ذلك الخلق الرفيع الذي كان يعاملهم به لما اجتمعوا حوله ونصروه وعزّروه وفدوه بدمائهم وأموالهم بشهادة القرآن الكريم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[3].

 

فنجد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم يلتفت إلى دقائق الآداب في تعامله مع أصحابه، إذ روى جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة، قال: ولم يبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجليه بين أصحابه قط..."[4].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يميّز نفسه عن أصحابه، كما هي عادة القادة والملوك، حيث يجعلون لأنفسهم مجلساً خاصّاً، ويتخذون لاستقبالهم وكلامهم وقيامهم وجلوسهم طقوساً معيّنة، فعن أبي ذر الغفاريّ: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بين ظهرانيّ أصحابه، فيجيء الغريب،

 


[1] الطبرانيّ، المعجم الأوسط، قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 - 1995م، لا.ط، ج6، ص123.

[2] انظر: الطبرانيّ، المعجم الأوسط، مصدر سابق، ج6، ص124.

[3] سورة آل عمران، الآية 159.

[4] الشيخ الطبرسيّ، الكافيّ، مصدر سابق، ج2، ص671.

 

197


165

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إليه أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين، فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبه"[1].

 

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله، علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "وعلي جمع الحطب". فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك. فقال: "قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميّز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميّزاً بين أصحابه، وقام فجمع الحطب"[2].

 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما اصطحب اثنان قط إلا كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه"[3].

 

5- تعامله مع الأيتام:

لا شك أن من ذاق مرارة اليتم يدرك أكثر من غيره ماهيّة هذا البلاء، ويستشعر آلامه بمستوى يدفعه الى التعاطف بدرجة أعلى من غيره من الناس مع الأيتام، فكيف إذا كان ذلك الشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ولد يتيم الأب، وأصبح في مرحلة مبكرة من عمره الشريف يتيم الأمّ أيضاً، ثم لم يلبث أن فقد جدّه الذي كان يرعاه كولده, إن هذه الظروف التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت دافعاً ملحوظاً لعنايته الخاصّة بالأيتام، مضافاً الى الدافع الأساسي، وهو الأمر الإلهيّ برعايتهم وحفظهم في المجتمع الإسلاميّ.

 

وقد اشتهر بين المسلمين حديثه صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى"[4].

 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص16.

[2] الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث، لبنان - بيروت، 1420ه - 2000م، لا. ط، ج1، ص72.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص120.

[4] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ج10، ص385.

 

198


166

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

كما ورد في وصية الإمام علي عليه السلام: "الله الله في الأيتام! فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من عال يتيماً حتى يستغني، أوجب الله عزّ وجلّ له بذلك الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار"[1].

 

وحثّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إفراحهم وإدخال السرور عليهم، وإطعامهم، والمسح على رؤوسهم، فقد أوصى صلى الله عليه وآله وسلم رجلا شكا له قساوة قلبه: "أتحب أن يليّن قلبك؟ قال: نعم، قال: فأدن اليتيم إليك، وامسح برأسه، وأطعمه من طعامك، فإن ذلك يليّن قلبك، وتقدر على حاجتك"[2]. وفي رواية أخرى: "من مسح يده على رأس يتيم ترحّماً له، أعطاه الله بكل شعرة نوراً يوم القيامة"[3].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص كل الحرص على رعاية مشاعر الأيتام وإدخال السرور عليهم، ففي قصة اختصام أبي لبابة ويتيم في نخلة، قضى رسول الله ـصلى الله عليه وآله وسلم لأبي لبابة بالنخلة, لأن الحق كان معه، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى الغلام اليتيم يبكي قال لأبي لبابة أعطه نخلتك، فقال: لا، فقال أعطه إياها ولك عذق في الجنة، فقال: لا، فسمع بذلك ابن الدحداحة، فقال لأبي لبابة: أتبيع عذقك ذلك بحديقتي هذه؟ فقال نعم. ثم جاء رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: النخلة التي سألت لليتيم إن أعطيته ألِي بها عذق في الجنة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم. ثم قُتِل ابن الدحداحة شهيداً يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رُبّ عذق مذلّل لابن الدحداحة في الجنّة"[4].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص51.

[2] الصنعاني، المصنف، مصدر سابق، ج11، ص97.

[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص372.

[4] الواقدي، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص505.

 

199


167

الدرس السادس عشر: الحياة الاجتماعيّة - 2 -

المفاهيم الرئيسة

 

1- إنّ قضيّة العلاقات الاجتماعيّة السليمة هي في الأساس قضيّة "أخلاقيّة".

 

2- عُرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدقه وأمانته قبل البعثة وبعدها، وشهد له بذلك كفار قريش.

 

3- أولى رسول الله أهمّيّة خاصّة بكبار السن، وظهر ذلك في أقواله وأفعاله على حَدٍّ سواء.

 

4- أحقّ الناس بالصحبة طبقاً لإرشادات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هما الأب والأمّ.

 

5- كان الأصل في معاملته للناس هو الرحمة، وظهر ذلك في معاملته لأصحابه وخُدّامه والأيتام.

 

6- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتصر للمستضعفين، وكان صارماً في الوفاء بوعده.

 

200

 


168

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

الدرس السابع عشر

الحياة الاجتماعيّة - 3 -

سيرته في التعامل مع الآخرين (2)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن معنى مداراة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للناس.

2- يبيّن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في لقاء الناس والسلام عليهم.

3- يوضح كيف كان مزاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 

201


169

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

مقدّمة

لا شكّ أنّ الشخصيّة التي استهوت قلوب الملايين من البشر، جيلاً بعد جيل منذ ما يقرب من ألف وخمسمئة سنة وحتى يومنا هذا، كان فيها من الميّزات الأخلاقيّة والتربويّة الفريدة في تعاملها مع البشر، ما يكفي لضخّ كل هذا الحبّ والتّعلّق والانجذاب في أوردة الأجيال المتعاقبة.

 

ولقد حَوَت الشخصيّة النبويّة لرسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم رأفةً بخلق الله لا مثيل لها، وحسًّا إنسانيًّا مرهفاً، وقلباً يتّسع للعالمين جميعاً، وبذلك استطاعت رسالته أن تصل إلى العالميّة، وتطأ كلّ أرض، وتُوقرَ كلّ سمعٍ، فاتحة قلوب العباد قبل البلاد، باسم محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان هذا سلوك الرسول مع الناس، أي المعاملة الإنسانيّة الحسنة. كان يتصرّف كالناس، دون تكبّر أو تجبّر، وذلك على الرغم من أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا هيبة إلهيّة وطبيعيّة، بحيث كان الناس يشعرون بالارتباك في حضوره، إلّا أنّه كان لطيفاً، وحسن الأخلاق معهم"[1].

 

استكمالا للدرس السابق، نعرض بعض المظاهر الأخرى من سلوكيّات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته في التعامل مع الناس:

 


[1] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (5/7/1370)، (27/9/1991).

 

203


170

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

مداراته للناس

من القواعد العامّة التي كانت تحكم تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس، هي المداراة، حيث ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"[1]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش"[2].

 

وليس المقصود بالمداراة المداهنة المبغوضة، أو التملّق المذموم، بل هي المسايرة في المعاملة الضروريّة لبناء العلاقات السليمة، ودفع شرّ الأعداء والمنافقين المتربّصين، وحفظ المجتمع الإسلاميّ المتنوّع في أمزجته وقابليّاته، ومستوياته الفكريّة والاجتماعيّة والعلميّة. وحدّه الذي يُعرف به هو أن لا يؤدّي إلى ترك حقّ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حقّ"[3].

 

ومن الأمثلة التي تضرب هنا مداراة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول، الذي كان قبل دخول الإسلام إلى المدينة سيّداً مُطاعاً فيها، وبعد دخول الإسلام تراجعت مكانته، فكان رسول الله يداريه اتقاءَ شرّه، حيث رُوي أنّه: "إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ عَائِشَةَ، إِذ اسْتَأْذَنَ عَلَيْه رَجُلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، فَقَامَتْ عَائِشَةُ فَدَخَلَتِ الْبَيْتَ، وأَذِنَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لِلرَّجُلِ، فَلَمَّا دَخَلَ، أَقْبَلَ عَلَيْه بِوَجْهِه، وبِشْرُه إِلَيْه، يُحَدِّثُه، حَتَّى إِذَا فَرَغَ وخَرَجَ مِنْ عِنْدِه، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّه، بَيْنَا أَنْتَ تَذْكُرُ هَذَا الرَّجُلَ بِمَا ذَكَرْتَه بِه، إِذْ أَقْبَلْتَ عَلَيْه بِوَجْهِكَ وبِشْرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّه، مَنْ تُكْرَه مُجَالَسَتُه لِفُحْشِه"[4]. وفي مصدرٍ آخر: "إنّ شرّ الناس عند الله يوم القيامة، من يُكرم اتقاء شرّه"[5].


 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص117.

[2] المصدر نفسه.

[3] الحرّاني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1404ه - 1363ش، ط2، ص42.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص326.

[5] التفسير المنسوب للإمام العسكريّ عليه السلام، مصدر سابق، ص354.

 

204


171

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

ويدخل تحت عنوان المداراة مخاطبته صلى الله عليه وآله وسلم الناس على قدر عقولهم، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "ما كلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العباد بكنه عقله قطّ، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"[1].

 

رفقه بالناس

لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمّل الناس ما لا يطيقون، ولم يكن يلزمهم بكلّ ما يلزم به نفسه، فعن الإمام الهادي عليه السلام: "إنّ علي بن الحسين عليهما السلام كان يقرأ، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه، قلت: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحمّل الناس من خلفه ما يطيقون"[2].

 

وبلغ من شفقته على الناس أنّه كان يتعب نفسه ويجهدها في هداية الكفار، حتى تكاد تزهق روحه من حسرته على ضلالهم وعدم اهتدائهم بهداه، فأنزل الله عليه في القرآن يخفّف عنه: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾[3].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخاف أن يشقّ على أمته، أي أن يكلّفهم بأمر يكون فيه مشقّة عليهم، فيقول: "لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع كلّ صلاة"[4]، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: "لولا أن أشقّ على أمتي لأخّرت العشاء إلى ثلث الليل"[5].

 

ومن القصص التي تروى هنا أنّ يهوديّاً دخل عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة عنده، فقال: "السامّ عليكم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليكم، ثمّ دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه، ثمّ دخل آخر، فقال مثل ذلك فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ردّ على صاحبيه، فغضبت عائشة فقالت: عليكم السامّ والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا إخوة

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص23.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص615.

[3] سورة فاطر، الآية8.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص22.

[5] المصدر نفسه، ص281.

 

205


172

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

القردة والخنازير، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة، إنّ الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء، إنّ الرفق لم يوضع على شيء قطّ إلا زانه، ولم يرفع عنه قطّ إلا شانه، قالت: يا رسول الله، أما سمعت إلى قولهم: السامّ عليكم؟ فقال: بلى، أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت: عليكم، فإذا سلّم عليكم مسلم فقولوا: سلام عليكم، وإذا سلّم عليكم كافر، فقولوا: عليك"[1].

 

الصبر على الناس وتحمّل أذاهم

صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما لم يصبر أحد من الأنبياء  عليهم السلام، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت"[2]، لا سيما وأنّ بلاء الأنبياء على قدر منزلتهم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أعظمهم منزلة عند الله. وعلى حدّ تعبير صاحب الميزان: "نال صلى الله عليه وآله وسلم من أمّته - أعمّ من كفارهم ومؤمنيهم ومنافقيهم - من المصائب والمحن وأنواع الزجر والأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمّله إلا نفسه الشريفة"[3].

 

فالذي يريد أن ينجح في ثورته التغييريّة، لا بدّ له من الصبر على أذى الناس، وتحمّل الأعباء الثقيلة التي يلقونها على عاتقه، فكيف إذا كان التغيير المُراد بحجم الكون كلّه. ولذلك ورد عن إسماعيل بن عيّاش، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كان أصبر الناس على أوزار الناس"[4].

 

غضبه لله

عن الإمام علي عليه السلام في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "...، وما انتصر لنفسه من مظلمة حتى يُنتهك محارم الله، فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى..."[5].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 648.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص43.

[3] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج6، ص53.

[4] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج3، ص378.

[5] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص23.

 

206


173

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

ورُوي في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم: "... ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، إذا تعوطي الحقّ لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها..."[1].

 

سلامه على الناس ولقاؤه بهم

1- يبتدئ الناس بالسلام:

من المعروف أنّ ابتداء الناس بالسلام من علامات الخلق الرفيع والتواضع، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدُرُ من لقيَه بالسلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ابدؤوا بالسلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه"[2]، وقال عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام"[3].

 

2- لا ينزع يده في المصافحة حتى يكون الآخر هو الذي ينزع يده:

من علامات المودّة والترحيب المفعم بالمحبة والاهتمام بالآخر عدمُ نزع اليد مباشرة بعد السلام وقبل أن ينزع الآخر يده، وهو ما كان يلتزم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "وإن كان ليصافحه الرجل، فما يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك، كان الرجل إذا صافحه قال بيده فنزعها من يده"[4].

 

3- لا يقاطع الآخرين في حديثهم ولا ينصرف عنهم قبل أن ينصرفوا:

من الأدب الذي يقرّ به كلّ إنسان، عدم مقاطعة الآخرين في كلامهم، وكذلك عدم الانصراف والتمنّع منهم، لأنّ الالتزام بهذين الأدبين، يعبّر عن مدى اهتمام صاحبهما بكلام الآخر وحاجته، وهو ما يوجب المحبّة والاحترام من الآخر.

 

ولم يغب هذا الأمر عن أخلاقيّات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن الإمام علي عليه السلام: "... وما


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص13.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص644.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه، ص671.

 

207


174

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

فاوضه أحد قطّ في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه أحد الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رئي مقدّماً رجله بين يدي جليس له قطّ..."[1].

 

حتّى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستحي أن يصرف أصحابه الذين كانوا يطيلون المكوث عنده في بيته، فأنزل الله في ذلك قرآنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾[2].

 

4- التسليم على الصغير والكبير، والغني والفقير:

وهذا من أعظم آيات التواضع والتقدير لعباد الله، فعن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن الإمام علي عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس لا أدعهنّ حتى الممات, الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفاً، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان ليكون ذلك سنّة من بعدي"[3].

 

ورُوي في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم: "... ويصافح الغنيّ والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها، ويسلّم على من استقبله من كبير وصغير وغنيّ وفقير..."[4].

 

5- ينادي الناس بما يحبّون، ويردّ عليهم بأدب:

نُهي عن التنابز بالألقاب لما يوجبه من مهانة في نفس الملقَّب، وتكبّرٍ في نفس الملقِّب، ولغيره من المفاسد الاجتماعية التي لا تكاد تنالها عقولنا. وفي المقابل، علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال سيرته المباركة أدب مناداة الآخرين بما يحبّون من الأسماء،

 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص23.

[2] سورة الأحزاب، الآية 53.

[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص130.

[4] الديلمي، الشيخ أبو محمد الحسن بن محمد، إرشاد القلوب، انتشارات الشريف الرضي، إيران - قم، 1415ه - 1374ش، ط2، ج1، ص115.

 

208


175

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

وإطلاق الألقاب الشريفة عليهم، ولا يخفى ما في هذا الأدب من توريثٍ لتقدير الذات في نفس المنادى عليه، وتواضع واحترام في نفس المنادي. فقد ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم: "كان يدعو أصحابه بكناهم، إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم، ويكنّي من لم يكنْ له كنية، فكان يُدعى بما كنّاه به، ويكنّي أيضاً النساء اللاتي لهنّ الأولاد واللاتي لم يلدن، ويكنّي الصبيان فيستلين به قلوبهم...، وكان لا يناديه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال لبّيك.."[1].

 

مزاحه

من الشمائل التي اتصف بها صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان صاحب روح مرحة، غير عبوس ولا مقطّب الجبين. وهي من الأمور التي اشتملت عليها نفس الرسول الكريمة، وجعلته أكثر قرباً من قلوب الناس، فعن يونس الشيبانيّ، قال: قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام: "كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت: قليلاً، قال: فلا تفعلوا؟ فانّ المداعبة من حسن الخُلق، وإنّك لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يداعب الرّجل، يريد به أن يسرّه"[2].

 

وعن أبي القاسم الكوفيّ، عن الصادقعليه السلام، قال: "ما من مؤمن إلَّا وفيه دعابة. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يداعب ولا يقول إلَّا حقّا"[3].

 

وعن معمّر بن خلَّاد، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت: جعلت فداك الرّجل يكون مع القوم، فيمضي بينهم كلام يمزحون ويضحكون، فقال: "لا بأس ما لم يكن - فظننت أنّه عنى الفحش - ثمّ قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الأعرابيّ، فيهدي له الهديّة، ثمّ يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا، فيضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وكان إذا اغتمّ يقول: ما فعل الأعرابيّ ليته أتانا"[4].


 


[1] الغّزاليّ، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، ج7، ص145.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص663.

[3] النوري، الميرزا حسين الطبرسي، مستدرك الوسائل، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت - لبنان، 1408ه - 1988 م، ط2، ج8، ص408.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص663.

 

209


176

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

سعيه في حوائج الناس

من الأمور الموجبة لرضوان الله عزّ وجلّ، السعي في قضاء حوائج الناس، وبما أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسرع الناس سعياً إلى مرضاة الله، فقد كان أسرع الناس سعياً في حوائج الناس، فهو القائل: "الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً"[1], والقائلُ حينما سُئِل عن أحبّ الناس إلى الله عزّ وجلّ: "أنفع الناس للناس"[2].

 

فقد ورد في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم: "...، وما كان يأتيه أحد، حرّ أو عبد أو أمة، إلّا قام معه في حاجته،...، وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلّي إلّا خفّف صلاته وأقبل عليه، فقال ألك حاجة، فإذا فرغ من حاجته عاد إلى صلاته..."[3].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما سُئل شيئا قط فقال لا، وما رد سائل حاجة قط إلا أتى بها أو بميسور من القول"[4].

 

تفقّده للناس وسؤاله عنهم

من أهمّ السلوكيّات الموجبة لمحبّة الناس، تفقّد أحوالهم والسؤال عنهم، ولذلك فإنّ أوّل ما يقع من كلامٍ بعد السلام، السّؤال عن الأحوال. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النّاذر عمره في سبيل الله، وفي سبيل هداية الناس وتقريبهم من كمالهم، فلا بدّ أن يكون هو أكثر من يتفقّدهم ويسأل عن أحوالهم.

 

ولذلك رُوي عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كان يتفقّد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس..."[5].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص164.

[2] المصدر نفسه.

[3] الغّزاليّ، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، ج7، ص112- 113.

[4] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص313.

[5] الكوفي، محمد بن سليمان، مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، الشيخ محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، إيران - قم، 1412ه، ط1، ج1، ص23.

 

210


177

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

وفي المكارم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كان إذا فَقَدَ الرجل من أخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده"[1].

 

إيثاره

الإيثار فضيلة أخلاقيّة توجب على صاحبها التضحية من أجل الآخرين. وأيّ تضحية وإيثار أعظم من التضحية والإيثار بالدم والأهل والعصابة في ساحة الحرب، دفاعاً عن المبدأ والعقيدة، فقد روي عن الإمام علي عليه السلام: "رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً"[2].

 

وقال عليه السلام: "كنا إذا احمرّ البأس، ولقى القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى القوم منه"[3].

 

وورد في نهج البلاغة: "وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا احمرّ البأس وأحجم الناس قدم أهل بيته، فوقى بهم أصحابه حرّ السيوف والأسنّة. فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة"[4].

 

حسن ضيافته

من أهمّ المواقف التي تظهر فيها أدبيّات الفرد وحسن أخلاقه، مناسبة استقبال ضيف، لكونها تعبّر عمليًّا عن كرم وسخاء ورفعة نفس الإنسان ومحبّته للآخرين. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علاوة على المتعارف من أدب الضيافة، آداب خاصة تعبّر عن مدى ما كان يتمتّع به من خُلِقٍ رفيع.

 

فعن الإمام الكاظم عليه السلام: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أتاه الضيف أكل معه، ولم يرفع يده من الخوان حتى يرفع الضيف يده"[5].


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص13.

[2] المصدر نفسه.

[3] ابن أبي الدنيا، عبدالله بن محمد، مكارم الأخلاق، تحقيق مجدى السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، مصر - القاهرة، لا. ت، لا. ط، ص56.

[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الرسالة9، ص368-369.

[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص286.

 

 

211


178

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

وعن عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: أكلنا مع أبي عبد الله عليه السلام، فأوتينا بقصعة من أرزّ، فجعلنا نعذر، فقال عليه السلام: "ما صنعتم شيئاً، إن أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلاً عندنا، قال عبد الرحمن: فرفعت كسحة المائدة، فأكلت فقال: نعم الآن، وأنشأ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدي إليه قصعة أرزّ من ناحية الأنصار، فدعا سلمان والمقداد وأبا ذرّ رضي الله عنهم، فجعلوا يعذرون في الأكل، فقال: ما صنعتم شيئاً أشدّكم حبّاً لنا أحسنكم أكلاً عندنا. فجعلوا يأكلون أكلاً جيّداً..."[1].

 

عيادته للمرضى

تُعدُّ عيادة المريض وزيارته، من أهمّ علامات المجتمع المتكاتف والمتعاضد عند كلّ الناس وفي مختلف الثقافات والأديان, ويأتي الإسلام ليعزّز دور هذا السلوك الاجتماعي والأخلاقي، ويفعّله انطلاقا من روح الأخوّة الإيمانيّة، والتراحم بين المسلمين. وتتجلّى في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبهى صور هذا التراحم والتعاطف مع المريض، وكان يحثّ المسلمين على قضاء حوائج المريض، حيث ورد عن الإمام علي عليه السلام في حديث المناهي: "...، ومن سعى لمريض في حاجة قضاها أو لم يقضها، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال رجل من الأنصار: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فإن كان المريض من أهل بيته، أوليس ذلك أعظم أجرا إذا سعى في حاجة أهل بيته؟ قال: نعم"[2].

وكان رسول الله يصبّر المرضى الذين يعودهم بذكر ثواب الصبر على المرض، فعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "وُعك أبو ذر فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول الله، إنّ أبا ذر قد وعك، فقال: امض بنا إليه نعوده، فمضينا إليه جميعاً، فلما جلسنا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا أبا ذر؟ قال: أصبحت وعكا يا رسول الله، فقال: أصبحت في روضة من رياض الجنّة، قد انغمست في ماء الحيوان، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، فأبشر يا أبا ذر"[3].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص278.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص16.

[3] قطب الدين الراونديّ، مهج الدعوات، مصدر سابق، ص167- 168.

 

212


179

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

المفاهيم الرئيسة

1-كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يداري الناس بمعنى مسايرتهم مع مراعاة أمزجتهم المتنوّعة واختلاف أنماطهم الاجتماعية بالقدر الضروريّ الذي يتطلّبه حفظ النظام، واستمرار الرسالة، ولا يضيّع الحقوق.

 

2- الرفق بالناس ومراعاة قابليّاتهم واستعداداتهم، وعدم تحميلهم فوق طاقتهم، كان علامة مميزة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

3- عُرِف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بابتدائه الناس بالسلام، والسلام على الصغير والكبير والغني والفقير، وعدم مقاطعتهم في حديثهم.

 

4- فاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء جميعاً في الصبر على أذى الناس، ولم يغضب إلا لله، ولم يكن يمزح إلّا بالحقّ.

 

5- أولى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عناية خاصّة بحوائج الناس، وعيادة المرضى، وحسن الضيافة، وآثر غيره بنفسه وأهل بيته.

 

 

213

 

 

 


180

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

الدرس الثامن عشر

الحياة الشخصيّة - 1 -

بعض آدابه في نفسه (1)

 

 

أهداف الدرس 

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يُعْرض آداب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه.

2- يوضح كيفيّة جلوس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

3- يعدّد بعض آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في مأكله ومشربه.

 

 

215


181

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

مقدّمة

لقد ظهر بين الموحّدين سلسلة من الآداب والسنن من لدن آدم عليه السلام حتى اليوم تتفاوت مع سائر السنن البشريّة, وهذا النوع من السنن والآداب يفوق نطاق العقل ومحيط الفكر البشريّ، فإنّه ليس بإمكان الإنسان أن يدركها بعقله وشعوره، بل هي خارجة عن نطاق فهم البشر، وإنّما يتلقّاها عدد من صفوة الناس يسمّون "الأنبياء" إلهاماً ووحياً من مبدأ الخلق، ويبلغونها إلى الناس أجمعين. وإن نظام هذا النوع من الآداب والسنن إنّما هو نظام إلهيّ يضمن سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، في جسمه وروحه. وقد نسب الله تعالى في القرآن الكريم هداية الأنبياء إلى نفسه، وصدَّق كيفيّة عشرتهم مع الناس وآدابهم وسننهم[1]. حيث قال عزّ وجلّ بعد ذكره جملة من الأنبياء عليهم السلام، ومدحه اتّباعهم للأوامر الإلهيّة، واستقامتهم على الطريق الحقّ: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[2].

 

 وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الملل ملّة إبراهيم عليه السلام، وخير السنن سنّة محمّد..."[3]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أدّبني ربّي فأحسن تأديبي"[4].


 


[1] انظر: الطباطبائي، العلامة محمد حسين، سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تحقيق وإلحاق حجة الإسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمد هادي الفقهي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، رمضان/ 1416 ه‍.ق، لا. ط، ص8. (المقدمة).

[2] سورة الأنعام، الآية 90.

[3] الشيخ المفيد، الاختصاص، مصدر سابق، ص342.

[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج11، ص233.

 

217


182

الدرس السابع عشر: الحياة الاجتماعيّة - 3 -

فإذا كانت آداب رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم عصارة التجربة النبويّة على مر التاريخ، إضافة لكونها تصرّفات وسلوكيّات أكمل مخلوقات عالم الإمكان، فلا بدّ للإنسان المسلم أن يعتني أشد العناية بالتعرّف على آدابه صلى الله عليه وآله وسلم، تمهيداً للاقتداء بها.

 

انطلاقاً من هذه القاعدة ننطلق لنعرض بعض آداب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشخصيّة:

 

النبيّ إذا أصابه مرض أو حزن

تبرز قوّة العقيدة عند الإنسان في كثير من الأحيان في مواقف البلاءات والمصائب، حيث يلجأ إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو موقن بأنّ كلّ شيء بيد الله - سبحانه وتعالى -، وأنّه القادر على تفريج ما حلّ بهم، أكان حزناً أم كرباً وما شاكل ذلك، بينما قد يصبح بعض الناس أكثر تعنّتاً لفقدانه الصبر والتوكل واليقين بالله - سبحانه وتعالى -.

 

وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كلماته وأفعاله، كيف ينبغي أن يكون موقفنا فيما لو ابتلينا بالحزن والألم والمصيبة، وإليك بعض ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن:

عن أمير المؤمنين عليعليه السلام، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على مريض، قال: أذهب البأس ربّ الناس، واشف أنت الشافي، ولا شافي إلّا أنت"[1].

 

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا رمد هو، أو أحد من أهله، أو من أصحابه، دعا بهذه الدعوات: اللَّهمّ متّعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارثين منّي، وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري"[2].

 

عن ابن عبّاس قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلَّمنا من الأوجاع كلَّها، والحمّى، والصداع: "باسم اللَّه الكبير، أعوذ باللَّه العظيم من شرّ كلّ عرق نعّار، ومن شرّ حرّ النّار"[3].

 

وفي مجموعة ورّام: "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزنه أمر، استعان بالصوم والصّلاة"[4].


 


[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص638.

[2] ابنا بسطام النيسابوريّ، عبد الله وحسين بن سابور الزيّات، طب الأئمة عليهم السلام، انتشارات الشريف الرضيّ، إيران - قم، 1411ه - 1370 ش، ط2، ص83.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص401.

[4] ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، مصدر سابق، ج1، ص311.

 

218


183

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

جِلسته

كثيراً ما تبرزُ طريقةُ جلوس الإنسان ما يختزنه في نفسه من أفكارٍ ورؤىً، وأخلاقيّات واهتمامات, ولذلك نجد النّاس على مدى العصور تولي اهتماماً خاصًّا بالمجالس، وتنشئُ البروتوكولات والتنظيمات الخاصّة لذلك أحياناً، من أعلى المستويات الاجتماعية إلى أدناها، باعتبار أن طريقة الجلوس والمظاهر المرتبطة بها كثيراً ما تستبطن دلالات خاصّة على ثقافة الجالس وهواجسه، كما تشير في كثير من الأحيان إلى المستويات الاجتماعية المختلفة، فجلسة الملوك مثلاً غير جلسة الناس العاديّين، سواء أكان من حيث الشكل أو الموقع أو غيرها من الأمور.

 

وأمّا جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يعبّر عن الملكات الفاضلة التي يختزنها صلى الله عليه وآله وسلم، كالتواضع، والعبوديّة، واحترام الآخرين. فعن عبد العظيم بن عبد اللَّه بن الحسن العلويّ، قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجلس القرفصاء وهو أن يقيم ساقيه، ويستقلهما بيديه، فيشدّ يده في ذراعيه، وكان يجثو على ركبتيه، وكان يثني رجلاً واحداً ويبسط عليها الأخرى، ولم ير متربعاً قطّ، وكان يجثو على ركبتيه ولا يتّكي"[1].

 

وبما أنّ الإنسان الحائز على كمال درجة العبوديّة لله عزّ وجلّ، إنّما استحقّ ذلك بفضل كونه يعيش العبوديّة له تعالى في كل تفاصيله وحركاته وسكناته، فقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما يتوجّه في جلوسه إلى ناحية القبلة، تعبيراً عن أنّ جلوسه، كما قيامه، لله عزّ وجلّ، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما يجلس تجاه القبلة"[2].

 

كما أن طريقة الجلوس والقيام في محضر الناس تعبّر عن مدى احترام الجالس والقائم للآخرين، واهتمامه بهم، وتواضعه لهم، ولذلك ورد في المكارم قال: "وما قعد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم رجل قطُّ فقام حتّى يقوم"[3].

 

 وكان صلى الله عليه وآله وسلم يؤثر الدّاخل عليه بالوسادة


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص26.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص661.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص17.

 

219


184

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

الَّتي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتّى يفعل. وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل"[1].

 

ونقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه: "كان يكره أن يُقام له، فكانوا إذا قدم لا يقومون - لعلمهم كراهة ذلك- فإذا قام، قاموا معه حتّى يدخل منزله"[2].

 

مأكله ومشربه

كان زهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمأكله ومشربه إرشاداً لمفاهيم قيميّة عظيمة من ناحية الصحّة البدنيّة والروحيّة، فضلاً عن حياته الاجتماعيّة عامّة، فمن المعلوم أن الإفراط بتناول الطعام والشراب يؤدي إلى مشاكل عديدة في جسم الإنسان، وكذلك فإنّ البطنة والإكثار من الطعام والشراب تسبّب حالة روحيّة غير مستقرّة، وقد أكّدت ذلك الأبحاث العلميّة الحديثة، فنجد أنّ اختصاصيي التغذية والأطبّاء يرشدون إلى ضرورة التخفيف من تناول الطعام، وأن يكون ذلك ضمن نظام غذائيّ محدّد، وكذلك فإنّ علماء النفس يؤكّدون بدورهم على تأثير الطعام والشراب على نفس الإنسان وحالته النفسيّة.

 

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد نظاماً غذائيّاً رائعاً، وقد عُرف عنه أنّه كان ذا صحّة جسميّة سليمة وبنية صحيّة، إضافة إلى حالته الروحيّة التي لا تخفى على المتتبّع لسيرته صلى الله عليه وآله وسلم وعلاقته بالله، ونعرض بعضاً من آدابه صلى الله عليه وآله وسلم في مأكله ومشربه:

1- زهده في الطعام:

لطالما كان الزهد في الدنيا وزخارفها من أهمّ صفات أنبياء الله ورسله وأوليائه  عليهم السلام. وقد اشترط الله عزّ وجلّ عليهم الزهد، لينالوا بذلك درجة القرب الإلهيّ التي وصلوا لها، ويفوزوا بالنعيم المقيم، كما نقرأ في دعاء الندبة: "اللهم، لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك, إذ اخترت لهم جزيل ما عندك...


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص662.

[2] الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي، تقديم السيد شهاب الدين النجفيّ المرعشيّ، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقيّ، لا. م، لا. ن، 1403 - 1983م، ط1، ج1، ص435.

 

220


185

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقربتهم، وقدمت... وأهبطت عليهم ملائكتك، وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك..."[1].

 

ومن أبرز مصاديق الزهد في الدنيا، هو الزهد في الطعام، إذ إنّ من أعظم الملذّات الدنيوية لذّة البطن، والتي توشك أن تُردي بأصحابها، إن لم يبادروا إلى ضبط هذه الغريزة، والوقوف عند حدودها الضرورية، باعتبار أنّ الإنسان المسلم الذي أخذ على عاتقه مسؤوليّة الخلافة الإلهيّة في الأرض، إنّما يأكل ليعيش، لا أنّه يعيش ليأكل.

 

هذا الزهد في أعلى مراتبه يتجلّى في سيرة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيّد الرسل والأنبياء  عليهم السلام. وقد ورد في ذلك عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، عن آبائه  عليهم السلام، عن الحسين بن علي عليه السلام، في حديث طويل فيه أجوبة أمير المؤمنين عليه السلام عن أسئلة اليهوديّ الشاميّ: "قال له اليهوديّ: فإنّ عيسى يزعمون أنّه كان زاهداً، قال له عليّ عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم أزهد الأنبياء، كان له ثلاث عشرة نسوة سوى من يطيف به من الإماء، ما رُفعت له مائدة قطّ وعليها طعام، وما أكل خبز برّ قطّ، ولا شبع من خبز شعير ثلاث ليال متواليات قطّ"[2]. بل ورد أنّه لم يشبع من خبز الشعير قطّ، فعن العيص بن القاسم، قال: قلت للصادق عليه السلام: حديث يُروى عن أبيك أنّه قال: ما شبع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم من خبز برّ قط. أهو صحيح؟ فقال: لا، ما أكل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم خبز برّ قطُّ، ولا شبع من خبز شعير قطُّ"[3].

 

كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في تأييد كونه أزهد الناس في الطعام، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان: "أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً..."[4].


 


[1] المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، أوائل المقالات، تحقيق الشيخ إبراهيم الأنصاري، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414 هـ - 1993م، ط2، ص309.

[2] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، مصدر سابق، ج1، ص335.

[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص398.

[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة160، ص228.

 

221


186

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

حتى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ الجوع، ولعلّ ذلك لما فيه من تجلٍّ للفقر والاحتياج للباري تعالى، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما كان شيء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن يظلّ جائعاً خائفاً في الله"[1].

 

2- طريقة شربه:

روي عن الإمام عليّعليه السلام: "وإذا شرب، شرب ثلاثة أنفاس، وكان يمصّ الماء مصّاً، ولا يعبّه عبّاً. وكان يمينه لطعامه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه"[2].

 

3- جلوسه عند الطعام:

أما جِلسته حال تناوله الطعام، فقد رُوي أنّه ما أكل صلى الله عليه وآله وسلم متّكئاً إلَّا مرّة، ثمّ جلس فقال: "اللَّهمّ إنّي عبدك ورسولك"[3].

 

وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام: "أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس جِلسة العبد، ويضع يده على الأرض، ويأكل بثلاثة أصابع، وقال عليه السلام: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل هكذا، وليس كما يفعل الجبّارون كان يأكل بإصبعيه"[4].

 

ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ الاتّكاء الَّذي لم يفعله صلى الله عليه وآله وسلم غير الاتّكاء على الأرض باليد، بل هو على نحو الاتّكاء على الوسادة والمخدّة، كما كان هو المرسوم عند الملوك وغيرهم.

 

4- لعق أصابعه بعد الطعام:

ورد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يلعق أصابعه بعد أن ينهي تناوله للطعام، ففي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يلعق أصابعه إذا أكل"[5].

 

ممّا لا يخفى، تعظيم الأدب الإسلاميّ للطّعام لجهة حثّه على الاقتصاد فيه، والأخذ

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص129.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص23.

[3] قطب الدين الراوندي، الدعوات، مصدر سابق، ص138.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص279.

[5] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج2، ص443.

 

222


187

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

منه بمقدار الحاجة، وعدم الإسراف، وعدم الاستخفاف بقليله. ولو أنّ العالم اليوم يحيي هذه التعاليم، لما بقي جائع على وجه الأرض، ولما أُتلفت كمّيات هائلة من الطعام في ناحية من الأرض، مع وجود الملايين من الناس يموتون جوعاً في ناحية أخرى منها. ومن هذه التعاليم التي تربّي الإنسان تعظيم الطّعام، هو أدب لعق الأصابع. فهو إضافة لما فيه من تواضعٍ وشعورٍ بالحاجة والافتقار وعدم الاستغناء عن نعمه تعالى، يعلّم الإنسان أن لا يستخفّ ولو بمقدار ما يبقى على إصبعه من طعام.

 

وفي ذلك، رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام: "أنه كره أن يمسح الرجل يده بالمنديل، وفيها شيء من الطعام، تعظيماً للطعام، حتّى يمصّها، أو يكون على جنبه صبيّ يمصّها"[1].

 

5- من أدب تناول الطعام مع الآخرين:

إنّ من الآداب العظيمة التي تحلّى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان إذا دعا الناس إلى تناول الطعام كان أوّل من يبدأ وآخر من يرفع يده، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل مع القوم كان أوّل من يبدأ وآخر من يرفع يده، وكان إذا أكل، أكل ممّا يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده"[2].

 

وبيّنت رواية أخرى، أن سبب ابتدائه أوّلا بالطعام وانتهائه آخراً هو عدم إحراج الحاضرين، فلعلّ أحدهم كان جائعاً ومنتظراً للطعام على أحرّ من الجمر، فيكون تأخّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الابتداء بالطعام موجباً للتضييق على الجائع، ولعلّ أحدهم أراد أن يأكل المزيد، فيكون توقّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الطعام قبله مفسداً عليه غايته، وهذا من كمال أدب رسول الله، فعن أبي عبد اللَّهعليه السلام: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل مع القوم طعاماً: كان أوّل من يضع يده وآخر من يرفعها ليأكل القوم"[3].


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص291.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص23.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص285.

 

223


188

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

وذكر الشيخ الطبرسيّ قائلاً: "وكان يأكل ما احلّ اللَّه له مع أهله وخدمه إذا أكلوا، ومع من يدعوه من المسلمين على الأرض، وعلى ما أكلوا عليه، وممّا أكلوا، إلّا أن ينزل بهم ضيف، فيأكل مع ضيفه، وكان أحبّ الطعام إليه ما كان على ضفف"[1]،[2].

 

6- ابتداؤه بالتمر:

ويُستفاد من بعض الروايات أنّه كان محبّاً للتمر، ويدلّ اهتمامه الدائم به أنّ له فوائد صحيّة مهمّة، وقد ذكرها علماء التغذية في محالها، فعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "ما قُدّم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم طعام فيه تمر إلّا بدأ بالتمر"[3].

 

7- التخلّل بعد الطعام

كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخلّل بعد الطعام، ولعلّ ذلك من باب النظافة والسلامة الصحيّة، حيث ورد عن أحد أصحاب الإمام الصادق قائلاً: رأيت أبا عبد اللَّه عليه السلام يتخلَّل، فنظرت إليه، فقال: "إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخلَّل، وهو يطيّب الفم"[4].

 

وفي المكارم أيضاً أنّه "كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخلَّل بكلّ ما أصاب إلَّا الخوص والقصب"[5].

 

8- التيمّن بتناول الطعام:

عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "وكان يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وإعطاؤه، فكان لا يأخذ إلّا بيمينه، ولا يعطي إلّا بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه، وكان يحبّ التيمّن في كل أموره: في لبسه وتنعّله وترجّله..."[6].


 


[1] الضفف: التناول مع الناس، أو كثرة الأيدي، ومعناه: إنه لم يأكل خبزاً ولا لحماً وحده .

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص26.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص345.

[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص357.

[5] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص153.

[6] المصدر نفسه، ص23.

 

224


189

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

9- أهمّيّة تناول العشاء:

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يؤكّد على أهمّيّة تناول طعام العشاء، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: عشاء النبيّين بعد العتمة، فلا تدعوه، فإنّ ترك العشاء خراب البدن"[1].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص288.

 

225


190

الدرس الثامن عشر : الحياة الشخصيّة - 1 -

المفاهيم الرئيسة

 

1- آداب الأنبياء عليهم السلام وسننهم، إنّما هو نظام إلهيّ يضمن سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، في جسمه وروحه، وقد امتدح الله عزّ وجلّ آدابهم، وحثّ على الاقتداء بها. وورد في الأحاديث، خير السنن هي سنن محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بدّ للإنسان المسلم أن يعتني أشدّ العناية بالتعرّف على آدابه صلى الله عليه وآله وسلم، تمهيدا للاقتداء بها.

 

2- كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابه مرض توجّه إلى الله عزّ وجلّ بالدعاء، وإذا أصابه حزن استعان بالصبر والصلاة.

 

3- لم يتّخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه مجلساً خاصّاً كما هي عادة السلاطين، بل كان متواضعاً في جلوسه وقيامه، بنحو يعبّر عن عبوديته لله عزّ وجلّ، واحترامه وتقديره للآخرين.

 

4- عُرِف عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّ له آداباً خاصّة في تناول الطعام، مثل: عدم الاتكاء، لعق أصابعه، والتيمّن.

 

5- زهده صلى الله عليه وآله وسلم بمأكله ومشربه إرشاد لمفاهيم قيميّة عظيمة من ناحية الصحّة البدنيّة والروحيّة، وكذلك الاجتماعيّة عامة.

 

226

 


191

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

الدرس التاسع عشر

الحياة الشخصيّة - 2 -

بعض آدابه في نفسه (2)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يوضّح اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمظهره الخارجيّ.

2- يحفظ دعاءً له صلى الله عليه وآله وسلم قبل النوم.

3- يذكر كيف كانت حالته صلى الله عليه وآله وسلم عند السفر.

 

227

 


192

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

مقدّمة

ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "...، ولو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله ومحادّة عن أمر الله"[1].

 

جرت سيرة أولياء الله الصالحين على الاقتداء بأخلاق الأنبياء وآدابهم، وليس للإنسان المسلم من سبيل إلى العلى سوى اتّباع آداب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والاستنان بسننه، صغيرها وكبيرها، والتحرّي عنها بحذافيرها ودقائقها، ومحاولة تطبيقها على واقعه المُعاش.

 

ولا شكّ أنّ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في تفاصيل تصرّفاته الشخصيّة، وتنميط حياتنا اليوميّة وفق ما وردَ عنه، لهو من أعظم مظاهر المودّة له، وتعبيرٌ حيٌّ ومتواصل عن الاعتقاد بكماله. فكلّ إنسانٍ - وإن لم يكن مؤمناً - يندفع بمقتضى عقلائيّته إلى تقليد من يراه المثل الأعلى له في الحياة في جميع شؤونه وأحواله, لما تمليه عليه غريزة حبّ الكمال من انجذاب نحو من يراه إنساناً كاملاً، يستتبع اهتماماً وعنايةً خاصّة بكلّ ما يرتبط بهذا الشخص، ومحاولاتٍ دؤوبة للتماثل به، والتماهي معه في كلّ حركاته وسكناته. مع أنّ هذا المثل الأعلى، إنّما يتمتّع بجهة كمالٍ أو عدّة جهاتٍ منه على أبعد تقدير، لكنّنا نلاحظ كثيراً من العقلاء يجعلون من تلك الجهات المحدودة منطلقاً لهم لتسرية تلك النظرة الكاملة إلى مختلف شؤونه وأحواله، فيتماثلون به في ملبسه، ومأكله، وطريقة تسريحه لشعره، وأسلوب كلامه، إلى غيرها من ملامحه الشخصيّة. فكيف بالمسلم الذي يقتدي بأكمل خلق الله عزّ وجلّ، الذي حاز الكمال من كلّ جهاته


 


[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 160، ص228.

 

 

229


193

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

وأطرافه، لا شكّ أن داعويّة عقلائيّته إلى الاستنان بسننه صلى الله عليه وآله وسلم ستكون أشدّ وآكد.

 

استكمالاً للدرس السابق، نعرض بعض المظاهر الأخرى لآداب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشخصيّة:

آدابه في النظافة الشخصيّة

للنظافة في الثقافة الإسلاميّة أهمّيّة بارزة على الصعيد الدنيويّ والأخرويّ، أو بمعنى آخر على الصعيد المعنويّ والماديّ, ولذلك نجد في السنة النبويّة وأحاديث المعصومين عليهم السلام كمّاً كبيراً من الروايات المتواترة التي تدلّ على اهتمام الأنبياء والمعصومين بالنظافة، سواء أكان على مستوى القول أم الفعل، فعن الرضا عليه السلام: "من أخلاق الأنبياء التنظَّف"[1].

 

ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أنبياء الله عزّ وجلّ، فلا بدّ أن يتجلّى في أفعاله ذا الأدب بأعلى مستوياته وأكملها. في هذا الصدد، يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "كان الرسول نظيفاً منذ مرحلة الطفولة، وذلك خلافاً لما كان عليه أطفال مكّة وأطفال القبائل العربيّة، فقد كان نظيفاً ومرتباً. كان في مرحلة صباه يسرّح شعر رأسه، واستمر على ذلك عندما أصبح رجلاً[2] (صار يسرّح) شعر رأسه ولحيته، وفي سنّ الخمسين والستّين كان متقيّداً بالنظافة بشكلٍ كامل. كانت ذؤابتاه النظيفتان تصلان إلى أذنيه، وكذلك محاسنه الجميلة، كانت نظيفة ومعطّرة... وكان يعطّر نفسه بالعطر. وكان في رحلاته يصطحب معه المشط والعطر، على الرغم من حياة الزهد التي كان يعيشها، وكان يصطحب معه الكحل، يكحل به عينيه، حيث كان الرجال في ذاك العصر يكحّلون أعينهم. وكان يستعمل المسواك عدّة مرات في اليوم، وكان يأمر الآخرين بالنظافة والمسواك والظاهر المرتّب"[3].

ولم يكن تنظّفه وترتّبه لأهل بيته فقط وعند أزواجه، بل يُروى أنّه كان يتجمّل لأصحابه كما يتجمّل لأهل بيته[4].


 


[1] الحرانيّ، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص442.

[2] اي عندما بلغ مرحلة عزّ الشباب والرجولة.

[3] خطبتا صلاة الجمعة في طهران (23/2/1379)، (12/5/2000).

[4] انظر: الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص34.

 

230


194

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

ونشير هنا إلى بعض مظاهر النظافة الشخصيّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها:

1- اهتمامه بالشعر:

يعدّ الشعر - شعر الرأس أو الذقن - عنصراً أساسيّاً في عكس مدى اهتمام الإنسان بمظهره ونظافته. وتشتدّ الحاجة له في أيامنا بعد انتهاء عصر لبس العمائم. إلّا أنه وبالرغم من أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس العمامة، كما هو حال أهل زمانه، إلا أنّه كان يهتمّ بشعره اهتماماً بالغاً، حتى أنّ المشط لم يكن يفارقه، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان "يتمشّط ويرجل رأسه بالمدرى[1]،... ولربّما سرّح صلى الله عليه وآله وسلم لحيته في اليوم مرّتين. وكان يضع المشط تحت وسادته إذا تمشّط به..."[2].

 

وعن عمرو بن ثابت، عن أبي عبد اللَّهعليه السلام قال: قلت: إنهم يروون أنّ الفَرْق من السنّة؟ قال: "من السنّة؟ قلت: يزعمون أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فَرَقَ، قال: ما فَرَقَ[3] النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولا كان الأنبياء عليه السلام تمسك الشعر"[4].

 

وكان يخضّب لحيته، إذ إنّ هذا الأمر كان يعدّ في عصره من أبهى صور التجمّل للرجال، باعتبار أنّه يُخفي الشيب، ويُبرز الشباب. ورد عن حفص الأعور، قال: سألت أبا عبد اللَّهعليه السلام عن خضاب اللَّحية والرأس أمن السنّة؟ فقال: نعم"[5].

 

2- اهتمامه بالطّيب:

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدي اهتماماً كبيراً في وضع الطيب, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق في الطيب أكثر مما ينفق في الطعام"[6].

 

وورد في حديث عن رجل نصرانيّ: فسألت من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم: "أي شيء أحبّ إليه


 


[1] المدرى: نوع من المشط، يقال درى الرأس: حكه بالمدرى.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص33.

[3] والمفرق بفتح الميم، وكسر الراء وفتحها - هو وسط الرأس، لأنّه محلّ فرق الشعر، فرق الشعر: جعل بعضه إلى اليمين وبعضه إلى اليسار وبينهما خطّ.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص486.

[5] المصدر نفسه، ص481.

[6] المصدر نفسه، ص512.

 

231


195

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

من الهدايا؟ فقالوا: الطيب أحبّ إليه من كلّ شيء وإنّ له رغبة فيه"[1].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤكّد على التطيّب يوم الجمعة، إذ هو اليوم الذي يلتقي فيه جميع الناس في صلاة الجمعة، فيحسن أن يُبرز الإنسان المؤمن نظافته في هذا اليوم. ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّعليه السلام: "يا عليّ، عليك بالطيب في كل جمعة، فإنّه من سنّتي. وتكتب لك حسناته ما دام يوجد منك رائحته"[2]. وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليتطيب أحدكم يوم الجمعة ولو من قارورة امرأته"[3].

 

آدابه في اللباس

1- نوع لباسه وشكله:

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس الشملة[4] ويأتزر بها[5]، ويلبس النمرة ويأتزر بها أيضاً، فتحسن عليه النمرة لسوادها على بياض ما يبدو من ساقيه وقدميه[6].

 

وقيل: لقد قبضه الله- جل وعلا- وإنّ له لنمرة تُنسج في بني عبد الأشهل ليلبسها صلى الله عليه وآله وسلم. وربّما كان يصلّي بالناس وهو لابس الشملة[7].

 

وقال أنس: "ربّما رأيته صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بنا الظهر في شملة، عاقداً طرفيها بين كتفيه"[8].

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس القلانس تحت العمائم، ويلبس القلانس بغير العمائم، والعمائم بغير القلانس[9].


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص189.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص43.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص511.

[4] الاشتمال افتعال من الشملة وهو كساء يُتغطى به ويُتلفّف فيه.

[5] علي بن إبراهيم القميّ، تفسير القميّ، مصدر سابق، ج1، ص33؛ الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص35.

[6] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص35.

[7] المصدر نفسه.

[8] المصدر نفسه.

[9] المصدر نفسه.

 

232


196

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

وكان صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يتعمّم بعمائم الخزّ السود في أسفاره وغيرها، ويعتجر اعتجاراً[1]، وربّما لم تكن له العمامة فيشدّ العصابة على رأسه أو على جبهته.

 

وكان شدّ العصابة من فِعَاله كثيراً ما يرى عليه، وكانت له صلى الله عليه وآله وسلم عمامة يعتمّ بها يقال لها السحاب، فكساها علياً عليه السلام.

 

وكان ربما طلع عليّ فيها فيقول: أتاكم عليّ تحت السحاب يعني عمامته التي وهبها له[2].

 

وكانت له ملحفة يلبسها بين أهله، فقد رُوي عن ابن القداح، عن أبي عبدالله  عليه السلام "أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له ملحفة مورّسة يلبسها في أهله حتى يردع على جسده..."[3].

 

وكان يلبس القطن، فقد روي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: البسوا ثياب القطن، فإنّها لباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لباسنا"[4].

 

وقالت عائشة: ولقد لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبّة صوف وعمامة صوف، ثمّ خرج فخطب الناس على المنبر، فما رأيت شيئاً مما خلق الله تعالى أحسن منه فيها[5].

 

وكان يدعو الناس للبس البياض، فقد روي عن ابن القداح، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البسوا البياض، فإنّه أطيب وأطهر، وكفّنوا فيه موتاكم"[6]. ورد في بعض الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يحثّ على لبس الثياب القطنيّة، فعن أبي عبد اللَّهعليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: البسوا ثياب القطن، فإنّه لباس رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لباسنا"[7].


 


[1] اعتجر: لف عمامته. والاعتجار: لبس العمامة دون التلحّي، وهو أن يلفّها على رأسه ويردّ طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه.

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص36.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص448.

[4] المصدر نفسه، ص446.

[5] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص36.

[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص445.

[7] المصدر نفسه، ص446.

 

233


197

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

2- دعاؤه أثناء اللبس وبعده:

عن السكونيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبست ثوباً جديداً أن أقول: الحمد لله الذي كساني من اللباس ما أتجمّل به في الناس، اللهم اجعلها ثياب بركة أسعى فيها لمرضاتك، وأعمر فيها مساجدك" فقال: يا علي، من قال ذلك لم يتقمّصه حتى يغفر الله له"[1].

 

وكان من أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس الثوب الجديد حمد الله، ثمّ يدعو مسكيناً فيعطيه القديم، ثم يقول: ما من مسلم يكسو مسلماً من شمل ثيابه لا يكسوه إلا لله - عزّ وجلّ - إلا كان في ضمان الله عزّ وجلّ وحرزه وخيره وأمانه، حيّاً وميتاً. وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس ثيابه واستوى قائماً قبل أن يخرج، قال: "اللهمّ بك استترت، وإليك توجّهت، وبك اعتصمت وعليك توكّلت، اللهم أنت ثقتي، وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمّني وما لا أهمّني وما لا أهتمّ به، وما أنت أعلم به منّي. عزّ جارك، وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك، اللهم زوّدني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجّهني للخير حيثما توجّهت"، ثم يندفع لحاجته[2].

 

آدابه في نومه

لطالما كان تأديب الناس على تذكّر النعم صغيرها وكبيرها، وشكر الله عليها، وذكره عندها، من المقاصد العليا لرسل الله  عليهم السلام. ومن أعظم هذه النعم، نعمة النوم، الذي يريح الجسد، ويعيد تنظيم وظائفه، إضافة إلى ما فيه من لذّة وشهوة.

 

وقد ورد في الأحاديث الشريفة مجموعة من الآداب التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بها عند النوم، نذكر منها:

1- النوم على الحصير فقط:

وهو من أجلى مظاهر التواضع والزهد بزخارف الدنيا، فمن من الناس العاديين

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص459، وفي نسخة أخرى: "لم يصبه شيء يكرهه".

[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص36.

 

234


198

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

على هذه الفرصة الجديدة التي أعطاه الله إياها للتزوّد من دنياه لآخرته. ومن أفضل صور الشكر لله عزّ وجلّ، السجود, ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد بمجرّد أن يستيقظ، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من نوم إلا خرّ لله ساجداً"[1].

 

4- ذكر الله بعد المنام المزعج:

قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[2]. فخير ما يمكن أن يهدّىء من روع الإنسان هو ذكر الله، إذ يستحضر في وجدانه جبّار السماوات والأرض، والقهر فوق كلّ شيء، ويلجأ إليه، فيهوّن عليه كلّ فزع. فقد ورد في مكارم الأخلاق: "كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا راعه شيء في منامه قال: هو الله الذي لا شريك له"[3].

 

آدابه في السفر

كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتبع بعض الآداب والخطوات عندما يريد السفر من مكان إلى مكان، كأن يحدّد وقتاً معيّناً لذلك، وأن يردّد بعض الأذكار الخاصّة بالسفر، وقد وردت روايات عدّة تشير إلى ذلك منها:

1- السفر يوم الخميس:

عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، يسافر يوم الخميس"[4].

 

2- حمل عدّة التزيّن:

وعن ابن طاووس: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء: المرآة، والمكحلة، والمدرى[5]، والسواك، والمشط"[6].


 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص292.

[2] سورة الرعد، الآية 28.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص292.

[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص266.

[5]  المدراة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سنّ من أسنان المشط، وأطول منه يُسرحّ به الشعر.

[6]  ابن طاووس، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد الحسني الحسيني، الأمان من أخطار الأسفار والأزمان، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - قم المشرّفة، 1409ه، ط1، ص55.

 

236


199

الدرس التاسع عشر : الحياة الشخصيّة - 2 -

3- الذّكر أثناء المسير:

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، في سفره، إذا هبط، سبّح، وإذا صعد كبّر"[1].

 

4- توديع المؤمنين والدعاء لهم:

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "...، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، إذا ودّع المؤمنين، قال: زوّدكم اللَّه التقوى ووجّهكم إلى كلّ خير، وقضى لكم كلّ حاجة وسلَّم لكم دينكم ودنياكم، وردّكم إليّ سالمين"[2].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص287.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص276.

 

237


200

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

المفاهيم الرئيسة

1- سيرة أولياء الله الصالحين جرت على الاقتداء بأخلاق الأنبياء وآدابهم، وليس للإنسان المسلم من سبيل إلى العلى سوى اتّباع آداب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والاستنان بسننه صغيرها وكبيرها.

 

2- نجد في السنة النبويّة وأحاديث المعصومين  عليهم السلام كمّاً كبيراً من الروايات المتواترة التي تدلّ على اهتمام الأنبياء والمعصومين بالنظافة، سواء أكان على مستوى القول أم الفعل.

 

3- ورد في بعض الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يحثّ على لبس الثياب القطنيّة.

 

4- ثمّة عدد لا بأس به من الأحاديث الواردة عن لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي حقّه، تؤكّد لنا كيف كان يبدي اهتماماً كبيراً في وضع الطيب, لما له من الآثار الإيجابيّة على الإنسان وحياته الاجتماعيّة.

 

5- كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدعية خاصة عند نومه واستيقاظه، كما كان يسافر في أيّام معينة، ويدعو بأدعية خاصة أثناء سفره أو توديعه للمسافرين.

 

 

239


201

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

مقدمة

يمثل الاقتصاد أحد أهم الأركان التي يعتمد عليها المجتمع الإنسانيّ في استمراريّته وتطوّره على جميع المستويات، ولذلك فقد حرص الإسلام على إظهار العديد من المفردات والتوجيهات والإرشادات الاقتصاديّة من خلال آيات القرآن الكريم أو من خلال أحاديث المعصومين عليهم السلام، بالإضافة إلى ممارسة قادة المسلمين ورموزهم بشكل يدعو إلى الاهتمام بهذا الجانب، وعلى رأسهم النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وسوف نعرض في هذا المبحث شذراً مما ورد عنه قولاً وفعلاً.

 

البناء الاقتصاديّ في المدينة المنورة

ذُكر في التاريخ الإسلاميّ أنّ المهاجرين عندما وفَدوا إلى المدينة، استقبلهم الأنصار انطلاقاً من قاعدة المؤاخاة بحبٍّ وإيثار لم يَعرف تاريخ البشريّة مثلهما، وقد مدح الله - تعالى - الأنصار في محكم كتابه، فقال فيهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1].

 

وكان مما عرَضه الأنصار على المهاجرين أن يَقسموا بينهم أموالهم وأرضهم ودُورَهم، ولكن المهاجرين شكروا لهم كرَمهم، وعمِلوا في شتَّى ميادين الحياة مع إخوانهم الأنصار. وإليك نماذج من هذا الإحياء الاقتصاديّ:

 


[1] سورة الحشر، الآية 9.

 

241


202

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

1- إحياء الأرض:

بعد المؤاخاة بدأ المسلمون عمليّة مزارعة كبرى في المدينة، أعقَبتها حركة إحياء للأرض الزراعيّة المهملة، وَفقاً للقاعدة الشرعيّة التي وضعها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "مَن أحيا أرضاً مواتاً، فهي له"[1].

 

وقد أقطع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّ بن أبي طالب عيوناً بيَنبُع، اشتُهرت فيما بعد بوفرة مياهها، وعمِل فيها الإمام عليّ عليه السلام بنفسه.

 

كما أقطع الزبير بن العوام أرضاً بالمدينة، استثمرها في الزراعة في حياة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وقد اشتُهرت كثير من الأوْدِية التي انتشرت الزارعة بها في عصر الرسول، منها وادي "العقيق" الذي هو أهم أوْدِية المدينة، وفيه أموال أهل المدينة ومزارعهم.

 

كذلك من الأودية التي استُفِيد من أرضها بالزراعة "وادي القرى"، وعُرِفت في الطائف كثير من الأودية التي استُفِيد منها بالزراعة، أهمها وادي "وج"، ويقع غرب الطائف، وفيه كثير من المزارع والبساتين، كذلك وادي "ليه" ويقع شرق الطائف وبالقرب منها.

 

2- نهضة زراعيّة:

ولم يكن المهاجرون والأنصار وحْدهم الذين أقاموا النهضة الزراعيّة في المدينة المنورة، بل كان ضمنَ العاملين بالزراعة في المدنية المنورة (وغيرها من مدن الحجاز) أناس آخرون من القبائل العربيّة المنتشرة في مختلف مناطق الجزيرة، بل كان ثمّة أناس من خارج الجزيرة العربيّة أيضاً.

 

 ومما يدل على وجود العاملين من غير أهل المدينة كثرة الموالي، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما حاصر الطائف وأعلن عِتق مَن ينزل إليه من الموالي، نزَل إليه ثلاثة وعشرون عبداً من الطائف.

 

3- كفالة المهاجرين وتمكين الدولة الإسلاميّة:

وعندما دخل النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأقام في بيت أبي أيوب الأنصاريّ لمدة

 


[1] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج7، ص152.

 

242


203

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

سبعة أشهر، قام الأنصار بالتنازل له صلى الله عليه وآله وسلم عن كل فضلٍ كان في خططهم، حتى يتمكَّن من تنظيم المدينة تنظيماً يسمح بكفالة إخوانهم المهاجرين، بل إنّهم قالوا للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا نبيَّ الله، إن شِئت فخُذ منازلنا، فقال لهم خيراً"[1].

 

4- تنظيم الريّ:

اعتماداً على تفويض الأنصار للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تنظيم أرض المدينة واقتصادها، بحيث يتحقَّق نسيج متجانس للمجتمع الإسلاميّ الجديد، قام صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه التعامل مع "الماء والزرع" تعامُلاً يَكفُل أقصى الفعاليّة في الاستفادة من الماء، فعندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظريب - مقدمه من غزوة ذي قرد - قالت له بنو حارثة من الأنصار: يا رسول الله، ها هنا مسارح إبلنا، ومرعى غنمنا، ومخرج نسائنا ـ يعنون موضع الغابة ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قطع شجرة فليغرس مكانها ودية"[2]، فغرست الغابة[3].

 

وقضى صلى الله عليه وآله وسلم، "في سبيل وادي مهزور أن يحبس الأعلى على الذي هو أسفل منه للنخل إلى الكعب، وللزرع إلى الشراك، ثم يرسل الماء إلى من هو دونه، ثم كذلك يعمل من هو دونه مع من هو أدون منه. قال ابن أبي عمير: المهزور موضع الوادي"[4].

 

وفيما يتعلق بالأرض ومعادنها أو زراعتها، قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيع الأرض المتروكة في المدينة على الصحابة، فأقطَع - عليه السلام - بلال بن الحارث معادنَ بناحية الفروع، أي: أرضاً فيها معادنُ[5].

 

كان النظام الاجتماعيّ في أرض الحجاز - وخاصة في مكّة - يعاني كثيراً من المشاكل بين الأعراق والأديان، في ظلّ جو من عدم المساواة في النظام الاقتصاديّ وعدم التسامح وحرب القبائل والسلب، وكانت تفصل بين الفقير والغنيّ هوّة كبيرة. فقد حلّت محل العدالة


 


[1] البلاذريّ، فتوح البلدان، مصدر سابق، ج1، ص5.

[2] فَسِيلُ النخل وصِغاره.

[3] البلاذريّ، فتوح البلدان، مصدر سابق، ج1، ص9.

[4] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، انتشارات قدس محمدي، إيران - قم، لا.ت، لا. ط، ص417.

[5] البلاذريّ، فتوح البلدان، مصدر سابق، ج1، ص13.

 

243


204

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

ممارسات غير عادلة، فكان يتمّ سحق الضعيف من قبل الغنيّ والقوي. وكان الإنسان يُظْلَمُ بسبب عرقه ودينه، ويعمل في ظروف قاسية, وبسبب النظام الربويّ في الحياة التجاريّة لم يكن الفقراء يتمكّنون من التمتع بالحياة الاقتصاديّة العادلة. أما الغنيّ فكان يستهلك المنتجات كافّة بشكل مفرط، حتى أنّه عمّت مثل هذه المفاسد في المجتمع، فكان عرب الجاهليّة يسلبون أموال القوافل التجاريّة ويعرضونها في السوق بأبخس الأثمان، وكان ذلك ينعكس على الأسعار في السوق التجاريّة. وكانوا يشكلون السوق السوداء أحياناً بإخفائهم للأموال التي في أيديهم. وقد أعطى القرآن معلومات عن الأعراب قبل الإسلام في أرض الحجاز، وهم الذين كانوا يشكّلون الغالبيّة العظمى قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أعلن الله - تعالى - أن هذا المجتمع الجاهليّ لا يفهم حديثاً، حيث يقول - تعالى -: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[1].

 

5- تطبيق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للعدالة والتسامح:

ردّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في العهد الذي عاش فيه كل المفاهيم الجاهليّة التي تؤمن بفضل اللسان، والعرق، والمستوى الاجتماعيّ والقومية, لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم يتحلّى بتعاليم الإسلام التي تنهى بشدة عن مثل هذا التمايز بين الناس.

 

كما أعلن صلى الله عليه وآله وسلم لقومه الذين كانت العنصريّة (العصبيّة) منتشرة بينهم أنه لا أهمية للفروق القوميّة بين الناس البتة، وأن جميع الناس متساوون أمام الله، وأنّ المهمّ في الأمر هو صدق الإيمان قلبيّاً مع الله. وفي الوقت الذي كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فيه قومه إلى الإيمان بالله كان يأمرهم بعدم التفريق بين الناس بأيّ شكل من الأشكال ويقول: "أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[2]"[3].


 


[1] سورة التوبة، الآية 97.

[2] سورة الحجرات، الآية 13.

[3] الكراجكيّ، أبو الفتح محمد بن علي، معدن الجواهر، تحقيق السيد أحمد الحسينيّ، مطبعة مهر استوار، إيران- قم، 1394هـ.ش، ط2، ص21.

 

244


205

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

العهود مع أهل الكتاب والمشركين

عايش الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته من مكّة إلى المدينة مجتمعات بشريّة مختلفة، وكانت توجد تجمعات مؤثرة تعيش معاً من اليهود والمسيحيّين والمشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام بعد في المدينة. حيث توصَّل إلى عقد اتفاقيات مع أكثر من مئة من هذه التجمعات، وذلك إما عن طريق الرسائل أو عن طريق التواصل معهم شخصيّاً بهدف تحقيق السلام والوحدة الاجتماعيّة في مجتمع المدينة ذات البنية الاجتماعيّة المتعددة الاتجاهات، حيث أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم باحترام أصحاب الأديان الأخرى، واحترام عقائدهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[1].

 

توضح هذه الآية المباركة كيف يجب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم علاقاته مع أصحاب الأديان الأخرى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تعامل المسلمين معهم، وذلك تأسّياً بأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهم مسؤولون عن إظهار سلوكهم في التسامح والعدالة على السواء مع أصحاب الأديان الأخرى، حيث يمكن أن يكون هذا الإنسان يهوديّاً أو نصرانيّاً أو مشركاً أو بوذيّاً أو ملحداً. وهذا سيكون سبباً في خلق إيجابيّات تزرع الدفء في قلبه تجاه الإسلام، أيّاً كانت اعتقاداته بسبب الأمر الإلهيّ بهذه الأخلاقيّات العادلة والصادقة.

 

سلوكيّات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الاقتصاد في المعيشة

كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقتصداً في طعامه وشرابه وملبسه...، وفي جميع أمور حياته. وقد أبدى إرشاداته وتعليماته في هذا الشأن مبيّناً أهمية الاقتصاد والتدبير في حياة الإنسان، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما عال امرؤ اقتصد"[2].


 


[1] سورة الشورى، الآية 15.

[2] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص620.

 

245


206

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

وقد كان الاقتصاد من آداب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الطعام والشراب، ولم يكن أكولاً أو مسرفاً كما هو حال معظم الحكام والملوك سابقاً وحاضراً، وكان يقلّل من الأكل حتى يقوى على عبادة الله، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "البسوا وكلوا واشربوا في أنصاف البطون، فإنّه جزء من النبوّة"[1].

 

ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسراف بصفة عامّة في المأكل والمشرب والملبس وفي كافة نواحي الحياة، ويقصد به تجاوز الحدّ، حيث يعتبر من السلبيّات الاقتصاديّة.

 

ومن مواقفه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام أنّه قال: "إنّ من السرف أن تأكل كلّما اشتهيت"[2].

 

موقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من تخزين الطعام

رُوي أنّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شيء، ولكن اتبع علي، فإذا جاءنا شيء قضينا، قال عمر: فقلت: يا رسول الله ما كلّفك الله ما لا تقدر عليه، قال: "فكره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الرجل: أنفق، ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، قال: فتبسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعرف السرور في وجهه"[3].

هذه نماذج عملية تحث الناس على عدم تخزين الطعام دون ضرورة, حتى لا يؤدي ذلك إلى غلاء في الأسعار كما يحدث في مثل هذه الأيّام، فعندما يشعر الناس أنّ شيئاً ما سوف يرتفع سعره يهرعون لشرائه وتخزينه فيزداد سعره بشكل كبير، والضحيّة هي الفقير المسكين الذي ليس معه مال حتى يشتري الضروريّات اللازمة.

 

موقفه من التجارة

كان للنبيّ اهتمام كبير بالتجارة، سواء من حيث الفعل أم القول والإرشاد، فقد أكّد على أهمّيّة التجارة ودورها في تنمية الحياة الاقتصاديّة للمجتمع, ولذلك نجده أنّه ابتدأ حياته بالتجارة بعد أن ضارب السيّدة خديجة عليها السلام قبل زواجه بها، وقد ورد عدد من

 


[1] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص115.

[2] ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر(مجموعة ورّام)، مصدر سابق، ج2، ص548.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص18.

 

246


207

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

الأحاديث التي يحث فيها على التجارة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه[1].

 

وقد وضع بعض الشروط التي ينبغي للتاجر أن يتقيّد بها لضمان حقوق الناس وعدم أكل المال بالإثم والعدوان، ومن تلك الشروط الأساسية، أن يعمد التاجر إلى التعرّف إلى أحكام التجارة، حيث قال: "من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا[2].

 

وأن يلتزم التجار بالسماحة في البيع والشراء قائلاً: "غفر الله عزّ وجلّ لرجل كان من قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا قضى، سهلاً إذا اقتضى"[3].

 

ومن أبرز ما نهى صلى الله عليه وآله وسلم التجار عنه هو التطفيف في الميزان، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا طفّفت أمّتي مكيالها وميزانها واختانوا، فخفروا الذمّة، وطلبوا بعمل الآخرة الدنيا، فعند ذلك يزكّون أنفسهم ويُتورّع منهم"[4].


 


[1] ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج6، ص31.

[2] السيوريّ، الفاضل المقداد بن عبد الله‏، كنز العرفان في فقه القرآن، تعليق الشيخ محمد باقر (شريف زاده)، تصحيح واخراج الأحاديث محمد باقر البهبوديّ، المكتبة الرضوية، إيران - طهران، 1384ه - 1343ش، لا. ط، ج2، ص42.

[3] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص198.

[4] فضل الله الراونديّ، النوادر، مصدر سابق، ص127.

 

247


208

الدرس العشرون: الحياة الاقتصادية

المفاهيم الرئيسة

1- ذكر في التاريخ الإسلاميّ أن المهاجرين عندما وفَدوا إلى المدينة، استقبلهم الأنصار انطلاقاً من قاعدة المؤاخاة بحبٍّ وإيثار لم يَعرف تاريخ البشريّة مثلهما.

 

2- حرَص الرسول على أن يكون للمدينة كِيانها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ المستقلّ، اعتماداً على التشابك القائم بين مجموعة النُّظم في إقامة كِيان الدولة، وتحقيق هَيبتها الداخليّة والخارجيّة.

 

3- نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسراف بصفة عامّة في المأكل والمشرب والملبس وفي نواحي الحياة كافّة، ويقصد به تجاوز الحد، حيث يعتبر من السلبيّات الاقتصاديّة.

 

4- كان للنبيّ اهتمام كبير بالتجارة، سواء أكان ذلك من حيث الفعل أم القول، كما أرشد إلى أهمّيّة التجارة ودورها في تنمية الحياة الاقتصاديّة للمجتمع, ولذلك نجد أنّه ابتدأ حياته بالتجارة بعد أن ضارب السيّدة خديجة عليها السلام قبل زواجه بها.

 

248

 


209

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

الدرس الواحد والعشرون

السياسة النبويّة (1)

السياسة الداخليّة

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف الأعمال السياسية النبويّة وخصائصها.

2- يعدّد نماذج السياسات النبويّة الداخليّة.

3- يشرح أهمّيّة وثيقة المدينة ومضامينها.

 

249

 


210

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

تمهيد

يتميّز الإسلام بأنّه دين يحمل مشروعاً سياسيّاً، وقد تميّز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكونه رسولاً سياسيّاً, ذلك أن الشريعة التي أوحى الله تعالى بها إليه هي شريعة شاملة لجوانب حياة البشر كافة, لأنّها عالجت مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً، فهي تعالج الجانب الدينيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والجانب السياسيّ أيضاً.

 

وقد قام النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل على تطبيق مختلف الجوانب في الإسلام، وكان هذا التطبيق على النحو الداخليّ في المجتمع الإسلاميّ، وعلى النحو الخارجيّ في اتصاله بالدول والشعوب الأخرى.

 

تأسيس الحكومة الإسلاميّة

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "بادر الرسول عند قدومه المدينة، إلى تأسيس الحكومة. ماذا تعني الحكومة؟ لم يذهب ويجلس في زاوية، ثمّ يقول للناس: بما أنّ أذى كفّار قريش بات بعيداً، فلهم الخيار في المجيء والحضور إليه إذا ما واجهتهم مسألة ما، أو أن يقول لهم: إذا أردتم تعلّم الصلاة، اذهبوا إلى فلان أو تعالوا إليّ لأعلّمكم. في البداية أسّس حكومة ورئاسة، هذا هو العمل الأوّل في الإسلام، ثمّ مباشرةً، بدأت هذه الحكومة ممارسة أعمالها القادرة: الحرب، الجهاد، وبعد ذلك إرسال الرسائل إلى هذا الجانب وذاك، وحلّ الأمور الأخرى والفصل فيها. في مقابل هذه الحقيقة، فمن ذا الذي كان بإمكانه تقديم مفهوم مغاير لمفهوم اتحاد الدين والسياسة في الإسلام[1]؟".


 


[1] من كلام له في لقاء مسؤولي أمور الحج (13/12/1376)، (3/3/2001).

 

251


211

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

ويقول أيضاً: "لم يأتِ أنبياء الله، ﴿إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾[1]. لقد جاء النبيّ ليطيعه الناس. لم يأتِ النبيّ ليستمع إلى صاحب مسألة، وليتحدّث بعدد من المسائل التي يستمع إليها بعض الناس ولا يستمع آخرون. قد تصل الأمور إلى الحرب في سبيل تثبيت هذا الفكر الإلهيّ، ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾[2]. كم تعرفون من الأنبياء الذين ﴿قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ كان هناك أنبياء، إلا أنّنا لا نعرفهم ولا خبر لدينا عنهم. من أُول المطالب التي وضعها الرسول في برنامجه منذ دخوله المدينة وتأسيس الحكومة الإسلاميّة، هو مطلب إظهار قوّة الحكومة، وهذا يعني أنّ النبيّ عندما دخل، دخل حاكماً، مع أنّ الناس لم يكونوا قد دعوه للحاكميّة، بل دعوه لقبول دينه. إنّ الخلفيّة الحكوميّة التي أرادها الرسول عبارة عن المحبّة والعقيدة والإيمان. هكذا حكومة، هي أكثر الحكومات قوّةً ورفعةً. أوجد الرسول حصاراً (طوقاً) أمنيّاً حول المدينة بالاعتماد على هؤلاء الناس. أنتم تعلمون أنّ القتل والإغارة من جملة الأمور التي كانت بسيطة وسهلة عند القبائل العربيّة. بدأ الرسول منذ العام الأوّل، في البداية كانت السرايا، ثم الغزوات الفلانيّة، وكان يوجّه اللوم إلى الأشخاص اللامبالين اتجاه هذه الحركة، أو الذين كان الخوف يتسلّل إليهم، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ﴾[3].

 

في يوم من الأيام قيل لهم لا تخطئوا. أين؟ في مكّة. كان ذاك اليوم، يوم "كفّوا أيديكم"، ولكن عندما دخلتم المدينة اليوم، وأسّستم حكومة، هو يوم يجب فيه أن تعمل كلّ قواكم ومن جملتها قواكم الجسميّة (العضلات) وقوّة الحرب والتضحيات لإضفاء طابع القدرة على حاكميّة الإسلام. إنّ حاكميّة الإسلام هي من المعارف الإسلاميّة العالية"[4].


 


[1] سورة النساء، الآية 64.

[2] سورة آل عمران، الآية 146.

[3] سورة النساء، الآية 77.

[4] من كلام له في جمع من علماء الشيعة والسنّة في محافظة سيستان وبلوشستان (4/12/1381)، (23/2/2003).

 

252


212

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

الأعمال السياسية النبويّة وخصائصها

1- أعماله السياسيّة:

لقد كان لرسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم أعمال سياسية كثيرة، ويمكن تصنيفها كما يأتي:

أ- تنظيم العلاقات في المجتمع المدنيّ، مجتمع المدينة المنورة (الدولة الإسلاميّة).

ب- تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم من القبائل الأخرى المجاورة للمدينة المنورة من اليهود.

ج- بيانه صلى الله عليه وآله وسلم لقواعد نظام الحكم في الإسلام، وبيانه لأجهزة الدولة الجديدة.

د- رعاية شؤون المسلمين في الداخل بأحكام الإسلام.

هـ- العلاقات الدوليّة من معاهدات ومفاوضات، وجهاد لنشر دعوة الإسلام، ومناورات سياسيّة، والارتقاء بدولة الإسلام من دولة ناشئة فتيّة، إلى كيان سياسيّ تعترف به الجزيرة العربيّة، ويعترف به أكبر كيان سياسيّ في الجزيرة آنذاك، وهو كيان مكّة، ثم الارتقاء بهذا الكيان السياسيّ ليكون في مصاف الدول العظمى، فيزاحم الدولتين العظميين: الروم والفرس، ليأخذ منهما بعد ذلك مقعد الصدارة، ومكانة الدولة الأولى في العالم.

 

2- خصائص السياسة النبويّة:

أ- انبثاق سياسته صلى الله عليه وآله وسلم من العقيدة الإسلاميّة، حيث ظهر أن أعماله السياسيّة كافّة هي أحكام شرعيّة، يتقرّب بها إلى الله تعالى.

 

ب- تميّزت سياسته صلى الله عليه وآله وسلم بالوعي السياسيّ، أي الإحاطة بالواقع السياسيّ للكيانات السياسيّة الموجودة في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ج- رعاية شؤون كافة المسلمين، وهذه ميزة اتصفت بها سياسته صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إن أعماله السياسيّة عادت نتائجها على الأمة الإسلاميّة بالخير والازدهار في الداخل والخارج، ولم يتحيّز صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه أو لقرابته مثلاً، بل إن عائد أعماله كان يصب في مصلحة المسلمين كافّة.

 

253


213

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

د- البعد عن تحقيق المصالح النابعة عن الهوى والمزاجيّة، حيث إنّ المصلحة المتحقّقة من أعماله السياسيّة مصلحة شرعيّة يقرّها الشرع، حيث رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أنا عبد الله ورسوله، لا أخالف أمره، ولن يضيعني"[1].

 

هـ- تميّزت سياسته صلى الله عليه وآله وسلم بإظهار الأعمال السياسيّة، وإخفاء الأهداف من ورائها، فاستعان صلى الله عليه وآله وسلم بالكتمان في أكثر أعماله، وخاصّة حينما كان يلزم ذلك، كما فعل في فتح مكّة، واستعان بالإعلان حين لزومه كما فعل في صلح الحديبيّة.

 

السياسة الداخليّة في مكّة المكرّمة

تميّز العهد المكيّ بمراحل سياسيّة ثلاث مرّت بها دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

1- أوّلها مرحلة الدعوة السرّيّة، حيث أنشأ فيها صلى الله عليه وآله وسلم كتلة تألّفت من المسلمين الأوائل، رعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شؤونها على خير ما يرعى مسؤول شؤون رعيته، فقد ثقفهم بالعقيدة الجديدة، وكوّن شخصياتهم تكويناً خاصّاً، وأعدهم عن طريقته لخوض غمار المرحلة التالية.

 

2- المرحلة الثانية: كانت المرحلة الجهريّة التي تمثلت بالصراع الفكريّ والكفاح السياسيّ، حيث اصطدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مجتمع مكّة، فاصطدم بعقائدهم الفاسدة موجهّاً لها ضربات قاسمة، واصطدم بقادة الكفر في مكّة، وكل ذلك ليجعل عقيدة الإسلام تحلّ محلّ الكفر وتعاليمه.

 

3- ثم جاءت المرحلة المكّيّة الثالثة، وهي مرحلة الاتصال بالقبائل، أو مرحلة طلب النصرة، ليوجد للإسلام قوة تحميه وتحمله.

 

السياسة الداخليّة في المدينة المنورة

إن السياسة الداخليّة التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة قادت إلى إيجاد دولة


 


[1] الطبريّ، محمد بن جرير بن رستم، المسترشد في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، تحقيق الشيخ أحمد المحموديّ، مؤسّسة الثقافة الإسلاميّة لكوشانبور، مطبعة سلمان الفارسي، إيران - قم، 1415هـ، ط1، ص583.

 

254


214

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

واكبت التطوّر باستمرار حتى تفوّقت على جميع الدول التي عاصرتها في جميع الميادين، ومن نتائج هذه السياسة:

أوّلاً: المؤاخاة:

كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو تنظيم صفوف المهاجرين والأنصار عبر المؤاخاة.

 

وأبرز الدوافع التي تقف وراء طرح الرسول لمشروع التآخي هو أن المسلمين كانوا - وقتها - يواجهون كثيراً من المصاعب التي تتطلّب التعاون والتعاضد لتذليلها، وهكذا أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المشروع أن يسمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحيّ، وجعلها علاقة إلهيّة تصل إلى درجة الأخوة. وقد كرس الرسول من خلال هذا المفهوم الوحدة السياسيّة والمعنويّة بين المسلمين، كما قوّى أسسها ودعائمها.

 

ومن الطبيعيّ أن يهتمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالواقع الشعبيّ لأمّته آنذاك، فللدولة - كما هو معلوم - ثلاثة أركان، وأحد أهم أركان هذه الدولة هو الشعب، أما الركنان الآخران فهما الأرض والسلطة.

 

ولهذا بدأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالركن الأول، وهو إعداد المسلمين عقائديّاً ونفسيّاً وعسكريّاً، فأيّ دولة لا تقوم على قاعدة شعبية تجعل من المواطنين مجموعة من اللامبالين الذين يتراجعون بالدولة إلى الوراء.

 

وقد استمر مشروع التآخي الذي طرحه الرسولصلى الله عليه وآله وسلم في المدينة حتى عزّ الإسلام، واجتمع الشمل بعد أن ذهبت آثار الغربة المملوءة بالوحشة.

 

ثانياً: ميثاق تأسيس الدولة (صحيفة المدينة):

أ- ظروف الوثيقة:

يمكن القول إن صحيفة المدينة تعدّ من أكبر الانتصارات السياسيّة التي أحرزتها الحكومة الإسلاميّة الفتيّة بقيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي عبارة عن الصحيفة التي أعدّها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما وصل إلى يثرب. وتضمّنت هذه الوثيقة سبعة وأربعين بنداً من البنود

 

255

 


215

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

ذات الطابع الإسلاميّ السياسيّ القانونيّ[1]، في وقت لم تكن في الجزيرة حكومة مركزيّة أو قوّة معنويّة. تضمّنت هذه الوثيقة معاهدة للتعايش والدفاع المشترك بين الأنصار والمهاجرين، وقد وقّع عليها يهود المدينة من الأوس والخزرج، أما يهود بني النضير وبني قينقاع وقريظة، فقد عقد الرسول معهم معاهدة مستقلّة.

 

وهذه الشمولية التي احتوتها الصحيفة كانت تعبّر عن مدى بعد النظر الذي يتحلّى به الرسول، وهو يدوّن بنود الصحيفة التي تعتبر نظاماً داخليّاً متكاملاً لحكومته صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك، فقد رتّب أحوال المهاجرين والأنصار، مستعرضاً احتمالات الغزو على المدينة، وما يجب أن يحتمله المسلمون والقبائل الأخرى، وكذلك إنصافه ليهود المدينة في الحقوق والامتيازات والواجبات، إلى غيرها من الأمور العامة التي تضمّنتها الوثيقة.

 

وفضلاً عن هذا كله، فقد تضمّنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على تبنّيها، وفي طليعة هذه المبادئ تكوين الأمّة وتعريفها، وبيان الحقوق والواجبات المترتبة على الجميع، وكان هذا بالطبع - آنذاك - جديداً كل الجدة في تاريخ الحياة السياسيّة في جزيرة العرب, إذ نقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قومه من شعار القبيلة والتبعيّة إلى شعار الأمّة التي تضمّ كلّ من اعتنق الدين الجديد، فقد قالت الصحيفة: (إنهم أمّة واحدة).

 

وفي تلك الصحيفة أيضاً استكمل الرسولصلى الله عليه وآله وسلم أركان دولته، فقد أصبح لديه أناس مؤمنون برسالته، وأرض يقيم عليها أولئك الناس، وباتوا يخضعون لسلطة سياسيّة واحدة هو رئيسها والمرجع الأعلى فيها.

 

ب- الأحكام الدستوريّة في وثيقة المدينة:

1- تحديد مفهوم الأمّة:

إن الأمّة التي حدّدت الصحيفة مفهومها، هي الأمة الإسلاميّة التي تضمّ المسلمين


 


[1] راجع: ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص147، الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص666، الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص47.

 

256


216

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

جميعاً مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم ممن لحق بهم وآمن بالإسلام، فهم أمّة واحدة من دون الناس[1]. وتُعتبر هذا الأمور من الأمور الجديدة على التاريخ السياسيّ في الجزيرة العربيّة، فقد نقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قومه من شعار القبيلة إلى شعار الأمّة، وهذا ما جاء في الصحيفة، التي نصّت على أن المدينة تضمّ: "أمّة واحدة"، وقال الله - تعالى - في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[2].

 

وقد اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في جماعة واحدة، وكان الرابط فيما بينهم هو رابطة الإسلام.

 

2- المرجعيّة العليا (الله ورسوله):

نصّت الصحيفة على أنّ الفصل في كل الأمور بالمدينة المنورة يعود إلى الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث جاء في نصها: "وإنّكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم".

 

وهذا يؤكّد على ضرورة وجود سلطة دينيّة عليا تتولى شؤون المدينة، وتفصل في الخلافات، وذلك منعاً من قيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدّد السلطات، ويتضمّن ذلك في الوقت نفسه تأكيداً ضمنيّاً على رئاسة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الدولة الإسلاميّة.

 

ولهذه السلطة قوّة تنفيذيّة, لأنّ أوامر الله واجبة الطاعة، وملزمة التنفيذ، كما أنّ أوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي من الله، وطاعته واجبة[3]، وبذلك أصبح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رئيس الدولة، ورئيس كل السلطات فيها.

 

ثم إنّ هذه الحاكميّة والسلطة تجري على جميع سكان المدينة المنوّرة، سواء أكانوا من المسلمين، أو اليهود أو المشركين.


 


[1] معطي، علي، التاريخ السياسيّ والعسكريّ لدولة المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - إستراتيجيّة الرسول السياسيّة والعسكريّة، مؤسّسة المعارف، لبنان - بيروت، لا. ت، لا. ط، ص169.

[2] سورة الأنبياء، الآية 92.

[3] الدقس، كامل سلامة، دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التكوين إلى التمكين، دار عمار، عمان، 1994م، ط1، ص418.

 

257


217

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

3- إقليم الدولة:

أكدت الوثيقة على أن مدينة يثرب هي إقليم الدولة الإسلاميّة الصاعدة, لذا فقد أكد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب[1]، فأصبحت المدينة بداية إقليم الدولة الإسلاميّة ونقطة الانطلاق إلى توسعة دائرة هذا الإقليم، وتأمينه من كل الاضطرابات السياسيّة والأمنيّة.

 

4- الحريّات وحقوق الإنسان:

تدل الصحيفة بشكل واضح على العبقريّة السياسيّة للشخصيّة النبويّة في صياغة موادّها، وتحديد علاقات الأطراف في ما بينها، فقد كانت موادّها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يُحقق العدالة المطلقة بين أبناء المدينة.

 

وتميّزت بتمتع الناس على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم، وأديانهم بالحقوق والحريّات بأنواعها، كحرية العقيدة، والعبادة، وحق الأمن، وغيرها، فقد نصّت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس[2].

 

ج- نتائج وثيقة المدينة:

1- قامت التجربة التأسيسيّة للدولة في الإسلام على أساس أنّ التعاقد الاجتماعيّ هو أساس بناء المجتمع المدنيّ، وأنّ هذا العقد الاجتماعيّ تمثّل بالدستور الذي يحدّد الحقوق والواجبات للأفراد والسلطات.

 

2- ينبغي توزيع مسؤوليات البناء والدفاع على أعضاء المجتمع السياسيّ بصرف النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم.

 

3- أقرّت وثيقة المدينة العقائد والثقافات والعادات والتقاليد والأعراف، وجمعتها في

 


[1] الصالحيّ الشاميّ، سبل الهدى والرشاد، مصدر سابق، ج3، ص318.

[2] راجع: مجموعة مؤلفين، وثيقة المدينة (دراسات في التأصيل الدستوريّ في الإسلام)، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ (سلسلة الدراسات الحضاريّة)، لبنان - بيروت، 2014م، ط1، ص37.

 

258


218

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

وجهة بناء الدولة، أي اعتمدت على العناصر الإحيائيّة لمشروع الدولة.

 

4- اهتمّت الوثيقة بتأسيس جهاز مركزيّ مستقلّ للقضاء والفصل بين الخصومات كعامل ردعيّ، ومنظومة لحماية الحقوق العامة والخاصةّ، وعلاج المشاكل الجنائية الاجتماعيّة.

 

5- أسّست الوثيقة حدود إقليم الدولة لكي يكون هو النطاق القانونيّ لسيادة الدولة.

 

6- أسّست لشرعيّة السلطة والاعتراف المجتمعي بها اختياريّاً، مضافاً إلى تحديد وظيفتها وطريقة التداول فيها.

 

7- اتسمت الحقوق والواجبات في الوثيقة بمزايا العدل والمساواة وعدم التمييز.

 

8- جمعت هذه الوثيقة بين متطلبات الحياة المدنيّة، وبين استعدادات الدفاع عن المدينة (الدولة).

 

9- جمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كحالة استثنائيّة، السلطات الثلاث (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، وذلك لخصوصيّة النبوّة المعصومة التي توفرت عنده[1].

 

 


[1] راجع: مجموعة مؤلفين، وثيقة المدينة (دراسات في التأصيل الدستوريّ في الإسلام)، مصدر سابق، ص11.

 

259


219

الدرس الواحد والعشرون: السياسة النبويّة (1)

المفاهيم الرئيسة

1- لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعمال سياسيّة كثيرة جداً تنوّعت بين العمل السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ الداخليّ، وبين العمل السياسيّ الخارجيّ مع القبائل والشعوب والدول الأخرى. وكان من أهمّ تلك الأعمال أنّه قام بتأسيس الحكومة الإسلاميّة، التي نفّذ من خلالها سياسته الداخليّة والخارجيّة.

 

2- تميّزت السياسة النبويّة بعدة مميّزات، وهي: انبثاقها من العقيدة الإسلاميّة بالوعي السياسيّ، وعادت نتائجها على الأمة الإسلاميّة بالخير والازدهار في الداخل والخارج، وأنّ مصلحتها المتحقّقة من أعماله السياسيّة مصلحة شرعيّة يقرّها الشرع، وكذلك تميزت سياسته بإظهار الأعمال السياسيّة، وإخفاء الأهداف من ورائها.

 

3- السياسة الداخليّة في مكّة المكرّمة: تميّز العهد المكّيّ بمراحل سياسيّة ثلاث مرّت بها دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, الأولى: مرحلة الدعوة السرّيّة. والثانية: مرحلة الجهرّيّة التي تمثّلت بالصراع الفكريّ والكفاح السياسيّ ضد قريش. والثالثة مرحلة الاتصال بالقبائل.

 

4- السياسة الداخليّة في المدينة المنورة: قادت السياسة الداخليّة التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة إلى إيجاد دولة خضعت إلى التطور باستمرار حتى تفوّقت على جميع الدول التي عاصرتها في جميع الميادين، وهذه السياسة هي: المؤاخاة، وميثاق تأسيس الدولة.

 

260

 


220

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

الدرس الثاني والعشرون

السياسة النبويّة (2)

السياسة الخارجيّة

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى السياسة النبويّة.

2- يعدّد السياسات النبويّة الخارجية.

3- يشرح أهميّة صلح الحديبيّة ونتائجه.

 

261

 


221

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

تمهيد

لقد شاء خالق الأكوان أن يكون ذلك اليتيم القادم من وادٍ غير ذي زرع أعظم عظماء الدنيا بأسرها، وأن يتمكّن أتباعه من قلب موازين القوى والأحداث في الخارطة العالميّة. وصدق العقاد حينما قال إنّ التاريخ كله متّصل ومرهون بعمل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فالرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم لعب دوراً محوريّاً في التغيير العام للبشريّة من خلال الدعوة التي اختاره الله لها. فكان قائداً حكيماً يجيد فنّ التوقيت كما يجيد فنّ الصبر والاحتمال وسياسة النفس الطويل، وفوق ذلك كلّه فهو السياسيّ المحنّك، وهو القياديّ الفذّ الذي تدين له البشريّة جمعاء.

 

وسنحاول تسليط الضوء على نماذج من سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحكيمة في ما يتعلّق بسياسته الخارجيّة.

 

السياسة الخارجيّة

لا بدّ لأيّ دولة في العالم من التعامل مع الدول المجاورة استناداً إلى سياسة خارجيّة متبناة من قبل القيادة في تلك الدولة، وتتنوع طبيعة العلاقات الخارجيّة والتي ينبغي أن تقوم على التعاون وحسن الجوار وتبادل الزيارات وإبرام الاتفاقيّات وتقريب وجهات النظر. وقد تسود القطيعة بين دولة وأخرى أحياناً، وصولاً إلى الخصومة والحرب.

 

وكان لزاماً على الرسول، باعتباره صاحب الرسالة الإسلاميّة العالميّة، أن يحيط بما يجري حوله في الدول المجاورة، وأن يستطلع أخبارها قبل دعوتها إلى الإسلام، وفعلاً أثبت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قدرته وبراعته في التحرّك الخارجيّ عبر بُعد النظر وتشخيص المصلحة

 

263

 


222

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

العامّة للدولة الإسلاميّة، والتقدير المناسب للأمور، والقدرة الفائقة في عمليّة جذب الناس إلى الإسلام، وقد تمحور هذا النوع من السياسة في:

1- الرسائل داخل الجزيرة العربيّة:

سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يتعامل مع العرب تعاملاً مميّزاً من حيث الشكل والأسلوب، وكان يهدف بذلك إلى أن ينشر الإسلام بين الشعوب والقبائل العربيّة دون معارك واقتتال, لذا نرى أنّه كان يعتمد في دعوته للعرب على الأسلوب السلميّ دائماً، فلو نظرنا إلى حركته في بداية الدعوة كما في قريش والطائف إلى نهايتها سوف نرى أن هذه السياسة هي السياسة الحاكمة في كلّ تصرّفاته، إلّا في حالة قريش، نظراً لاختلاف الظروف السياسيّة مع قريش، حيث إنّ قريشاً هي التي كانت تواجهه وتعتدي عليه وعلى الإسلام والمسلمين.

 

ولذا، نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عقد صلح الحديبيّة أراد أن يستثمر هذا الصلح، فبعث صلى الله عليه وآله وسلم سراياه في مهمة الدعوة إلى الله - تعالى -، فانتشرت بين العرب تنقل إليهم رسالة الإسلام، ولم تبق كورة إلا وفيها رسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وكان ذلك أعظم الفتح في الإسلام، فقد دخل في الإسلام عدد كبير من الناس، وكان من جملة من آمن المنذر بن ساوى ملك البحرين، وجيفر وعبد ابنا جلندى، ملكي عُمان، وعمال كسرى بالبحرين واليمن، وأجابه ملوك حمير، ووفدوا عليه، وفروة عامل قيصر على عمّان، فلما بلغ قيصر ذلك أخذه واستتابه، فأبى، فقتله.

 

وكان الرصد الدقيق لتحركات قبائل الأعراب وحشودهم واستعداداتهم، يساعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على اتخاذ القرارات المناسبة، والمبادرة للتحرك، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحصد نتائج مميزة من مبادراته تلك، فأدت هذه السياسة الحكيمة التي اعتمدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ترسيخ فكرة الإسلام والدولة الإسلاميّة بين العرب.

2- الرسائل إلى خارج الجزيرة العربيّة:

يسعى الأنبياء العظام عليه السلام إلى توسيعة رقعة المؤمنين برسالتهم، وتأمين الأمن

 

264

 

 


223

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

الاقتصاديّ والسياسيّ لأمّتهم, وذلك من أجل تبليغ الرسالة إلى الناس، ولم تكن هذه العمليّة يسيرة أبداً, لضعف وسائل الاتصال ومحدوديّتها في ذلك الزمن، ونلاحظ في سياسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه بادر في بادئ الأمر إلى مخاطبة الملوك، عن طريق إرسال الموفدين والمندوبين من قبله، الذين كانوا يحملون رسائله الشفويّة والخطيّة التي تفوح كلماتها بعبق الإسلام.

 

وقد تضمّنت الكتب التي أرسلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك الدعوة إلى الإسلام دين التوحيد. ولم يكن فيها إشارة إلى حرب، ولا حديث عن جزية، وإلّا امتنعوا عن الإسلام، فقد كان حريصاً على هدفه الأول والأسمى، ألا وهو نشر الدين، وليس الاستيلاء على بلاد الناس، وقهرهم، أو إذلالهم، أو سلبهم ونهبهم.

 

ولذلك كانت نتائج رسائله إيجابيّة بالجملة، فقد قبل بعضهم بالإسلام، مثل النجاشيّ الثاني ملك الحبشة، وتردّد بعضٌ آخر من الملوك، وأجاب بجواب لين، فيه تروٍّ ومرونة، وأرسلوا إليه بكتب نضحت بالإكرام والإعظام، وبعثوا إليه بالتحف والهدايا، وقد قال قيصر لأخيه حين طلب منه أن يرمي الكتاب من يده: أترى أرمي كتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر؟ وقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبيّ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضالّ، ولا بالكاهن الكذّاب، ووجدت معه آلة النبوّة، بإخراج الخبأ، والإخبار بالنجوى، وسأنظر[1].

 

ولعلّ أولى تلك المراسلات الخارجيّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت مع النجاشيّ، حيث جاء فيها: (من محمّد رسول الله إلى النجاشيّ الأصحم ملك الحبشة، سلم أنت، فإنّي أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أنّ عيسى روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي أدعوك إلى الله، وقد بعثت إليك ابن عمى


 


[1]  ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج1، ص263، اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، مصدر سابق، ج2، ص77، ابن كثير، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص501، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص289، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج2، ص41، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج1، ص261.

 

265

 


224

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فدع التجبّر فإنّي أدعوك إلى الله، وقد بلّغت ونصحت، فاقبل نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى"[1].

 

وهذا الأسلوب الحكيم الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مهّد الأرضيّة المناسبة لاستقبال النجاشيّ للمسلمين بعد اشتداد الضغط عليهم من قبل قريش.

 

المصاهرة والحركة السياسيّة

كانت المصاهرة هي أحد الأساليب التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في طريقه إلى الاتصال بالأقوام والقبائل الأخرى، وقد استطاع صلى الله عليه وآله وسلم من خلال هذا الأسلوب أن يختصر كثيراً من الوقت، وهو يهم بنقل الدعوة الإسلاميّة من حيّز أمة العرب إلى بقيّة القوميّات والمذاهب الأخرى.

 

فزواجه من جويريّة بنت الحارث (سيدة بني المصطلق)، كان نعمة عظيمة على قومها، حيث كانت النتائج المباشرة لذلك الزواج إطلاق سراح مئات الأسرى من أبناء تلك القبيلة الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين، كما انشدّوا إلى المسلمين برباط من الصداقة، فدخلوا الإسلام فيما بعد.

 

أما اليهود فلم ينس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يكسبهم عن طريق زواجه بامرأة من نبيلاتهم، وذلك في أعقاب فتح خيبر سنة 7هـ، وهي صفيّة بنت حُييّ (عقيلة بني النضير) التي طالما افتخرت بزواجها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمام اليهود، فقد رُوي عن ابن عبّاس أنّ: "صفيّة بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إنّ النساء يعيّرنني، فيقلن: يا يهوديّة بنت يهوديّين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هلاّ قلت: إنّ أبي هارون، وابن عمّي موسى، وإنّ زوجي محمّد"[2].


 


[1] ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم التميمي البستي، الثقات، مؤسسة الكتب الثقافية، مطبعة دائرة المغارف العثمانية، حيدر آباد - الهند، 1393، ط1، ج2، ص9، الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، ج2، ص294، ابن الأثير، أسد الغابة، مصدر سابق، ج1، ص62.

[2] الثعلبيّ، الإمام أبو محمد ابن عاشور، الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبيّ)، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعديّ، دار إحياء التراث العربيّ، لبنان - بيروت، 1422 - 2002م، ط1، ج9، ص81.

 

266


225

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

فيما وهب الأقباط في مصر إحدى نسائهم ـ مارية بنت شمعون القبطيّة ـ إلى النبيّ[1] صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يردّها الرسول إليهم وتزوّجها، وهكذا بنى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جسراً ممتداً من العلاقات ما بين مصر والجزيرة العربيّة، حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بهم، حيث قال: "استوصوا بالقبط خيراً، فإنّ لهم ذمّة ورحماً"[2].

 

سياسة المفاوضات (صلح الحديبيّة)

1- ظروف الصلح:

عزّزت الأحداث والمعارك التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعداء الإسلام من المشركين واليهود موقف المسلمين، وغرست هيبتهم في النفوس، فقرّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير بأصحابه إلى مكّة ليزور البيت الحرام ويعتمر في ذي القعدة في السنة السادسة من الهجرة، فتحرك نحو مكّة، وتناهى الخبر إلى قريش, ففزعت وظنّت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد الهجوم عليها، فجهّزت نفسها لقتاله، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خبر قريش واستعدادها لقتاله، ولكنّه أراد أن يتجنّب المواجهة، فلم يكن هدفه الحرب، فبدّل مسيره وسلك طريقاً غير الطريق الذي سلكته قريش، حتّى استقرَّ في وادي الحديبيّة. وبعدما حطَّ جيش المسلمين في الحديبيّة بدأت رحلة التفاوض بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقريش. وبعد تعثّر المفاوضات أكثر من مرّة أرسلت قريش سهيل بن عمرو رسولاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وجرت مفاوضات تمخّض عنها عقد اتفاقيّة صلح وهدنة بين المسلمين وقريش تضمّنت شروطاً عديدة اتّفق عليها الطرفان[3].


 


[1] الحاكم النيسابوريّ، المستدرك على الصحيحين، مصدر سابق، ج4، ص38.

[2] ابن سعد، الطبقات الكبرى، مصدر سابق، ج8، ص214.

[3] القاضي النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، مصدر سابق، ص108، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص202، الحلبيّ، المناقب، مصدر سابق، ج1، ص202، الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص121، العسقلانيّ، ابن حجر، الإصابة، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1415ه، ط1، ج3، ص199، ابن هشام الحميريّ، السيرة النبويّة، مصدر سابق، ج3، ص324، الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ج9، ص178، الواقديّ، المغازي، مصدر سابق، ج2، ص587.

 

 

267

 


226

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

2- نتائج الصلح وثماره:

لقد كان هذا الصلح فتحاً مبيناً وحقيقيّاً، وشكّل هزيمة ساحقة لقريش، وكان نصراً للدبلوماسيّة النبويّة التي حصدت ثمار بدر وأحد والأحزاب, وذلك لأمور عدّة أهمها:

أوّلاً: أعطاه هذا الصلح كل ما يريده، (مَن أَحبَّ أن يدخل في عهد محمّد وعقده فعل)، وهذا البند عام يشمل العرب والعجم، ومعناه أنّ قريشاً تركت الحرية لأيٍّ كان ليدخل في عهد النبيّ وعقده، وجاء اعترافها بحقّه في استقطاب العرب حوله ليقلب كلّ المفاهيم، وليلغي - دفعة واحدة - كلّ ما فعلته من الدعاية ضدّه طوال تسعة عشر عاماً، ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعظّم البيت، ويفسد بين الناس، ويقطع الأرحام، وسجّلت قريش على نفسها عهداً يقضي بنقض كلّ قراراتها السابقة.

 

ثانياً: إنّ تحديد مدة الصلح بعشر سنين غير ملزم مطلقاً، فلو أن قريشاً أخلّت بالاتّفاق، فإنّ النبيّ سوف يكون بحلٍّ منه، وسوف يقدر بهذا الجيش على الدخول إلى مكّة عنوة، بينما قريش في غاية الضعف والوهن.

 

ثالثاً: لم يكن رجوعه هذا العام على أن يعود العام المقبل بنداً سلبيّاً، بل أصبح المسلمون في مأمن من جانب قريش، فتفرّغوا لنشر الإسلام في سائر أمة العرب، واتّسعت دائرة المجتمع الإسلاميّ، إضافة إلى الحصول على اعتراف ضمنيّ من قريش بأنّ له الحقّ في زيارة البيت وأداء المناسك.

 

خامساً: أتاح الصلح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرصة لتصفية الوجود اليهوديّ في الجزيرة، فقد أوقف الحرب مع قريش وحدها، فبقي حلفاؤها من اليهود بلا حليف, ولذلك سرعان ما قطف الثمرة الأولى لاتفاق الحديبيّة، فغزا يهود خيبر الذين كانوا يحاربون الإسلام، أو يتحالفون مع أعدائه، أو يثيرون المشاكل في وجهه هنا وهناك.

 

سادساً: كان صلح الحديبيّة المقدّمة والركن الأساس لفتح مكّة، وذلك نتيجة عوامل عدّة حصلت في الفترة الواقعة - السنتين - بين الصلح وفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، فقد آمن جمع كثير من المشركين، وانتصر المسلمون في معارك عسكريّة أهمّها

 

268


227

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

فتح خيبر في أوائل السنة السابعة للهجرة.

 

سابعاً: سمح صلح الحديبيّة للنبيّ بالدخول إلى مكّة في العام التالي، وفي السنوات القادمة، وتمكّن من أداء مناسك العمرة دون قتال، وهذا اعتراف بالنبيّ وبما يحمل من عقيدة وفكر ودين، وبأن للمسلمين الحق في ممارسة شعائر دينهم حتى في مكّة، وبهذا انتزع النبيّ من القرشيّين عنوة اعترافاً رسميّاً بالدين الإسلاميّ الحنيف، وقد انعكس ذلك على قوّة الإسلام ومكانته في المنطقة[1].

 

السياسة العامّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الوفود

خصّص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم داراً لنزول الوفود فيها، وهي دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء إلى أن يلتقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحين كان يلتقي بهم كان يسألهم عن أحوال بلادهم وشؤونهم، وكان غالباً ما يساعدهم بالدعاء لهم، وبالاستعانة بالقدرة الإلهيّة، وإظهار المعجزات التي كانت تقوّي إيمانهم وتدعمه ، فكانوا يعودون على المستوى الإيمانيّ أفضل ممّا جاؤوا.

 

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم عن مختلف تساؤلاتهم، ويبدّد شكوكهم وأوهامهم، وكان يغيّر أسماءهم الشخصيّة إذا كانت من مخلّفات الجاهليّة، ويضفي عليها طابع الإسلام. ثم كان في النهاية يجيز تلك الوفود بأوراقٍ من الفضة، هدية منه ترغيباً بالإسلام وتحبيباً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يظهر لهم الكرامات الإلهيّة، لكي يلمسوها بأنفسهم، ليسهل عليهم أمر الإيمان بالغيب وبالرعاية الإلهيّة.

 

وقد اتّبع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمهذه السياسة مع الناس ولا سيّما زعماء العشائر والقبائل منذ فجر تأسيس دولته الإسلاميّة الجديدة في المدينة، فكان يتواصل مع أفراد القبيلة عبر زعمائها، وكان يشركهم في قيادة السرايا ويضع رايات قبائلهم في أيديهم.

 

كما أنّ هؤلاء الأفراد والشباب كانوا لا يملكون من المستوى الدينيّ والعقائديّ ما يميّزهم عن الزعامات التي يراد إبعادها واستبدالها بهم، بل كانوا جميعاً ينتمون


 


[1] ياسين، الشيخ كاظم، تاريخ خاتم الأنبياء، دار المحجة البيضاء، لبنان ـ بيروت، 2013م، ط1، ج2، ص148.

 

269

 

 


228

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

إلى البيئة الجاهليّة نفسها، ويعيشون في محيط واحد، ويرفعون الشعارات نفسها، ويمارسون ما كان يمارسه أولئك من سنن وعادات، ويشاركونهم في انحرافاتهم، وفي جرائمهم، وتعدّياتهم..

 

على أنّ تقديم الشباب على الزعماء الكبار سوف يثير طموح الشباب للزعامة، على الرغم من أنّهم ليسوا في مستوى يجعل الناس ينقادون لهم، فقبائلهم لم تكن قد خرجت بعد من أجواء الجاهليّة، خصوصاً إذا استنفرت الزعامات القديمة التي وجدت نفسها متضرّرة من السياسة النبويّة، وأخذت تحرّض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الإسلام.

 

كما أنّه كان ثمّة محذور خطير من تجاوز الزعامات التقليديّة للقبائل العربيّة، فإذا ظهر لقبائل العرب أنّ السياسة النبويّة تهدف إلى إسقاط الزعامات واستبدالها بأخرى، فسيكون من الصعوبة بمكان اتّخاذ قرار بدخول القبائل في هذا الدين، خصوصاً إذا سعت تلك الزعامات إلى إبعاد أفراد قبائلها عن كلّ ما من شأنه أن يزعزع أركان زعامتهم، وسوف يلجؤون من أجل ذلك إلى إثارة العصبيّات، وشحن النفوس، مما سوف يؤدّي إلى أن يصبح دخول القبائل في الإسلام من أصعب الصعاب، وسوف يصبح السيف هو الوسيلة الوحيدة إلى ذلك، ولن يكون من السهل أن تُقبِل القلوب عليه، وهذا يتنافى مع المبدأ الإسلاميّ: لا إكراه في الدين.

 

وهكذا، كان تفضيل أهل الشأن من كلّ قبيلة بالجائزة، وعدم تعريض شأن أصحاب الشأن للإساءة بسبب ذلك، يطمئن هؤلاء الزعماء إلى أن الإسلام لم يأت لهدم عزّهم، وذلك إذا التزموا خطّ الإسلام، بل جاء ليمنحهم الكرامة، ويخرجهم من واقعهم الفاسد.

 

كذلك كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يكتب لهم إقطاعاً ومراعيَ لأنعامهم، ربما لأنّ أهلها تركوها، أو ليس لها من يهتمّ بها، أو ربما كان هؤلاء هم الأقرب أو الأقدر على إحيائها من غيرهم، فلم يعط أحداً حقاً لمسلم، كما أنّ هذا الإقطاع كان مشروطاً دائماً بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة، فمتى لم يقوموا بهذه الشروط سقطت ملكيّتهم.

 

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشترط على وفود قبائل العرب في الكتب التي كان يكتبها لهم

 

270

 


229

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

ضيافة جيوش المسلمين حتّى يخفّف عن تلك الجيوش، فلا تُكلّف بحمل زادِها، وحتى يضمن لها الدعم اللوجستيّ في كلّ مكان تصل إليه. كما كان ذلك يؤتي ثماره على مستوى تلك القبائل، فيصبح لها نحو مشاركة في الجهد الإسلاميّ العامّ، ويكون لها نصيب من التضحية في سبيل الله، وتترسّخ محبّتها للمجاهدين، مما يؤدي إلى ترسيخ الأخوّة الإسلاميّة في المجتمع الجديد، ويزيل روح العصبيّة الجاهليّة والشحناء والحقد من القلوب.

 

وفي النهاية كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤمّر عليهم واحداً منهم، يكون نقيباً ومسؤولاً من قبله صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوالهم وشؤونهم، وداعياً إلى الله - تعالى - في قبيلته، فعندما تأتي الدعوة من خارج القبيلة قد تحصل حالة من التراخي في مناصرتها، وقد لا تحظى بالحرص والاندفاع الذي تحظى به لو كان لها في داخل القبيلة مؤيّد ونصير محسوب عليها.

 

وكانت الوفود قد ابتدأت تَرِدُ على رسول الله بعد عام الخندق زرافات ووحداناً، كان بعضهم يمثّل نفسه، وكان بعضهم يمثّل قبيلته[1].


 


[1] الشيخ ياسين، تاريخ خاتم الأنبياء، مصدر سابق، ج2، ص536.

 

271


230

الدرس الثاني والعشرون: السياسة النبويّة (2)

المفاهيم الرئيسة

1- سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رسائله داخل الجزيرة العربيّة إلى التعامل مع العرب بشكل مميّز من حيث الشكل والأسلوب، وكان يهدف بذلك إلى أن ينشر الإسلام بين الشعوب والقبائل العربيّة دون معارك واقتتال.

 

2- بادر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رسائله إلى خارج الجزيرة العربيّة إلى مخاطبة الملوك، عن طريق إرسال الموفدين والمندوبين من قبله، وكانوا يحملون رسائله الشفويّة والخطيّة التي كان يفوح منها عبق الإسلام تفوح، وقد تضمّنت الكتب الدعوة إلى الإسلام دين التوحيد، ولم يكن فيها إشارة إلى حرب، ولا حديث عن جزية، وإلّا امتنعوا عن الإسلام.

 

3- كانت المصاهرة أحد الأساليب التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في طريقة الاتصال بالأقوام والقبائل الأخرى، وقد استطاع صلى الله عليه وآله وسلم من خلال تلك العمليّة أن يختصر كثيراً من الوقت وهو يهمّ بنقل الدعوة الإسلاميّة من حيّز أمة العرب إلى بقيّة القوميّات والمذاهب الأخرى.

 

4- يعتبر صلح الحديبيّة من أهم الأحداث السياسيّة الخارجيّة التي قام بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان لصلح الحديبيّة ظروفه السياسيّة والاجتماعيّة التي ساعدت على تحقّقه، ثم إن هذا الصلح أثمر العديد من النتائج المهمة، والتي عادت على الإسلام والمسلمين بالنتائج السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة الكثيرة.

 

5- خصّص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم داراً لنزول الوفود فيها، وحين كان يلتقي بهم كان يسألهم عن أحوال بلادهم وشؤونهم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم عن مختلف تساؤلاتهم ويبدّد شكوكهم وأوهامهم، وكان يغيّر أسماءهم الشخصيّة إذا كانت من مخلفات الجاهليّة، ويضفي عليها طابع الإسلام، وكان يهتمّ كثيراً برئيس القبيلة حفاظاً على مكانته وسمعته, لأنّه هو الطريق إلى كل أفراد القبيلة، وقد أدّت هذه السياسة إلى إسلام الكثير من القبائل العربيّة، والتزامها بالعهود والمواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

272


231
النبي محمد قدوة العالمين