أصول المعارف الإنسانية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-08

النسخة: 2001


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المحاضرات كان قد ألقاها سماحة اية اللّه الشيخ محمد تقي مصباح يزدي على جمع من الأخوة المثقفين والمهتمين لدى زيارته الأخيرة إلى لبنان، وقد قامت جمعية المعارف الإسلامية الثقافية بتنقيحها وتبيويبها على أساس موضوعي.
 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين حبيبِ إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين المعصومين لا سيما مولاتنا الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها وعلى بعلها وبنيها.

"اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى ابائه في هذه الساعة وفي كل ساعةٍ ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً".


نتقدم من ولي الله الأعظم الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه جعلنا الله من أنصاره وأعوانه ومن القائد الخامنئي دام ظله والأمة الإسلامية بأحرّ التهاني والتبريك في ذكرى ميلاد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام وحفيدها الامام الخميني العظيم رحمهم الله، نسأل الله تعالى أن يجمع بيننا وبينهم في الدنيا والاخرة وأن لا يفرّق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً.
وبعد..

فإن هذا الكتاب( أصول المعارف الإنسانية) عبارة عن مجموعة من المحاضرات الثقافية كان قد ألقاها المفكر الإسلامي اية اللّه الشيخ محمد تقي مصباح يزدي على جمع من الأخوة المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي لدى زيارته الأخيرة إلى لبنان عام 1421هـ والتي تزامنت مع ذكرى ميلاد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام وحفيدها الإمام الخميني رحمهم الله.
وقد تناول فيها مواضيع هامة تتعلق بالمعارف الإنسانية والدينية وغيرها من قضايا الفكر المعاصر المطروحة في الساحة الثقافية والتي شكلت في الاونة الأخيرة محوراً للحديث والنقاش والجدل في أوساط المثقفين.

وتعميماً للفائدة فقد قامت جمعية المعارف الإسلامية الثقافية بتحرير هذه المحاضرات وتنقيحها وتبويبها بعد أن اطلع عليها سماحته وساهم في تدقيقها والموافقة على نشرها.

ونحن إذ نقدم هذا الكتاب للقراء الأعزاء فإنه يحدونا الأمل في أن يأخذ مكانته اللائقة في المكتبة العربية لا سيما وأنه تضمن الكثير من أفكار هذا المفكر الإسلامي الكبير حول موضوعات حيوية تهم المثقف العربي.
واخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1

الثقافة والمعارف الانسانية

تمهيد

إن الثورة الإسلامية المباركة التي منَّ الله بها على عباده في هذا العصر لا سيما على المسلمين وبالأخص على الشيعة التابعين لمدرسة أهل البيت عليهم السلام ، هي في الأصل ثورة ثقافية قبل أن تكون ثورة سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية أوغيرها، وذلك كسائر الثورات التي قام بها الأنبياء العظام عليهم السلام فهم أخذوا في تعليم الناس وتربيتهم قبل أن يعرف الإنسان حقائق الدين والمعارف الأصلية التي هي مبنى لنشاطاته الإنسانية، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾1.

قبل ذلك يكون في ضلال مبين، وإنما يهتدي بنور الله في قلبه، وبما أوحى الله إلى من أرسل من رسله وأنزل في كتبه، فبذلك يخرج من الظلمات إلى النور كما قال عزّ من قائل في كتابه العزيز ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾2 وفي ظل هذه

9


1- الجمعة:2.
2- ابراهيم:1.


2

الثقافة والمعارف الانسانية

النورانية التي تحصل بفهم كتاب الله ومعارفه وبالعمل بتعاليم الأنبياءعليه السلام يحصل النجاح في سائر المجالات الحيوية. وأعداء الإسلام وأعداء الثورة على الأخص بعد ما يئسوا من القضاء على الثورة الإسلامية المباركة في إيران جمعوا كل إمكانياتهم للحد من الحركة الثقافية الإسلامية، فإن هذا اخر ما يرجون من نشاطاتهم للقضاء على هذه الثورة المباركة، وفي نفس الوقت هو أعظمها خطراً على الإسلام، هو الذي عبّر عنه القائد المعظّم بالهجوم الثقافي، وهذا أشد ضرراً أو أكبر خطراً على الإسلام وعلى الثورة الإسلامية. وإذا نجحوا في مؤامراتهم هذه لا سمح الله تمكّنوا من القضاء على الثورة بما أنها ثورة إسلامية. لكن الله تبارك وتعالى وعدنا وقد أنجز وعده مراراً بأننا إذا قمنا بواجبنا في هذا المجال كما قام المجاهدون والمناضلون في المجالات العسكرية ومنَّ الله عليهم بالنصر، إذا عملنا في هذا المجال أيضاً بواجبنا يمنحنا الله النصر والنجاح وهو الهدف الأعلى والأقصى لما جاء به الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين.

فإذا قبلنا أن الثورة الإسلامية في الحقيقة ثورة ثقافية، على الأقل نعترف بأن الأصل والأساس لهذه الثورة هو العقيدة والقيم الإسلامية، وهذان الأمران هما ركنان للثقافة، عرفنا مدى أهمية النشاطات الثقافية.

تعريف الثقافة:


يوجد معانٍ كثيرة للفظة "الثقافة" وربما تبلغ خمسمئة معنى على ما قيل لكن الأصل في معنى الثقافة حسبما نرى أو على الأقل

10


3

الثقافة والمعارف الانسانية

حسبما نريد من هذه اللفظة أمران أصيلان هما ركنان للثقافة أحدهما: العقيدة والرؤية الكونية والثاني: القيم والمثل العليا. وأحدهما يرجع إلى معرفة الواقعيات "الأمور الموجودة" والثاني يرجع إلى معرفة ما ينبغي أن يوجد، ما يجب على الإنسان أن يفعل، وما لا ينبغي. فيعبر عن الأول بالعقيدة أو الرؤية الكونية وعن الثاني بالقيم.


فأساس الثقافة هذان الأمران، بهما تتميز ثقافة عن ثقافة أخرى، وإن كان يتعلق بالثقافة أمور فرعية مثل الاداب العرفية والكتابة واللغة وما إلى ذلك، لكن تغيّر هذه الأمور لا يُغيّر جوهر الثقافة، فالإنسان يمكن أن يكون مثقفاً بثقافة أصيلة إسلامية ويتكلم بلغة عربية، ثم يأتي إلى قطر اخر فيتكلم بلغة فارسية أو إنكليزية، فتغير اللغة لا يغير ذات هذا الإنسان ولا جوهر ثقافته، وكذلك الكتابة تعتبر من فروع الثقافة، لأنّ تغير الكتابة لا يغير جوهر الثقافة ولا يغيّر إنسانيّة الإنسان، إنما الكتابة وسيلة للتفاهم بين شعب وشعب وبين أبناءِ الشعب، فإذا تغيرت الظروف الجغرافية أو القومية تتغير الكتابة لكن لا يتغير جوهر ثقافة الإنسان. أما إذا تغيرت عقائد الشخص وتغيّرت رؤيته الكونية من رؤية إلهية إلى رؤية مادية ملحدة، لا يمكن أن تعتبر هاتان الثقافتان ثقافة واحدة في جوهرها، بل هذا التغير في الثقافة يغير ذات الإنسان حسبما يراه الدين، من أن حقيقة الإنسان رهن لعقيدته وإيمانه قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ 3﴾.


ولم يقل إن "شر الناس" بل قال "إن شر الدواب عند الله" فالذين

11


3- الأنفال:55.


4

الثقافة والمعارف الانسانية

كفروا عناداً، لا جهلاً وقصوراً، هم أسوأ حالاً عند الله من كل الدواب والحيوانات. فحقيقة الكفر هي الجحود والعناد أما الكفر الناشى‏ء عن الجهل فربما يكون قصوراً فيعذر صاحبه أما الكفر الجحودي الناشى‏ء عن العناد فصاحبه يكون شر الدواب لا شر الناس فقط، أضف إليها اية أخرى يقول فيها تبارك وتعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ 4﴾.


فالغافلون عن هدف الخلقة وعن الطريق الذي يؤدي بالإنسان إلى غايته المنشودة، هذا الغافل الذي يرخي عنانه لكل مأكول ومشروب ليتمتع بكل ما يهواه ولا يفكر في مبدئه ومنتهاه، هذا هو كالأنعام في الحقيقة وليس إنساناً حقيقياً. يقول تعالى ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون﴾5، ويقول ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾6، فالذي يميز الإنسان عن الأنعام وعن سائر الدواب ويجعل الإنسان خيراً من سائر الدواب وخيراً من الأنعام ويجعله لائقاً للكرامة الإلهية "ولقد كرّمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيّبات" إلى قوله ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًً﴾7 فالذي يوجب استقرار هذه الكرامة للإنسان هو المعرفة والإيمان لقوله ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾8، وقال في نظيره ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ

12


4- الأعراف:179.
5- الحجر:3.
6- محمد:12.
7- الإسراء:70.
8- الأنفال:55.


5

الثقافة والمعارف الانسانية

الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾9 فبالمقارنة بين هاتين الايتين يعرف أن الرؤية المطلوبة للإنسان ليست الرؤية بهذه العين( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
فعلى الإنسان العاقل أن يعرف قبل كل شي‏ء محله من هذا الكون: أين هو، من أين جاء، وإلى أين يذهب، وأين يعيش "رحم الله امرءاً عرف نفسه.. وعلم من أين وفي أين وإلى أين"، هذا ما يخرج الإنسان عن الغفلة.


أهمية العقل والتفكر

فما دام الإنسان لم يفكر في أنه من أين جاء، ما هو مبدؤه، وإلى أين يذهب، وفيما يعيش لا يكون عاقلاً في الحقيقة بل هو من سنخ الأنعام، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، فتأكيد القران الكريم وتأكيد رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام على التفكر والتعقل هو لأجل هذا الأمر، لأن بالتعقل والتفكر يخرج الإنسان من حد الحيوان أو يدخل في حد الإنسان. نعم، كل إنسان يفكر فيما يأكل، كيف يأكل، وكيف يتمتع، لكن هذا ليس هو التفكر المطلوب في القران الكريم حيث يقول ﴿إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون﴾، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾10، ﴿لعلكم تتفكرون في الدنيا والاخرة﴾ 11، ويقارنون بينهما أيهما أفضل وأيهما أولى بأن يكون هدفاً للإنسان ﴿ بَلْ

13


9- الأنفال:22.
10- ال عمران:191.
11- البقرة:22.


6

الثقافة والمعارف الانسانية

تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾12، التفكر في مثل هذه الأمور هو الذي يخرج الإنسان من الحيوانية.
فإذا أردنا أن نكون في الحقيقة من أولي الألباب الذين مدحهم الله في كتابه ومن ذوي العقول وأولي الحجى والذين يتفكرون ويعقلون كما يريد الله تبارك وتعالى، يجب علينا أن نستعمل عقولنا وأفكارنا ونركز على هذه الأمور الثلاثة على الأقل: من أين جئنا، وإلى أين نذهب، وفيما نعيش.


نحمد الله تعالى على أن وفّقنا لمعرفة هذه الأمور، فقد عرفنا وامنا لكن المعرفة التي لم تبلغ حد النصاب ولم تبلغ كمالها المطلوب ليس مضموناً لها البقاء والدوام والثبات، فنحن نعرف في زمننا كما عرفنا في طيلة التاريخ أناساً كانوا امنوا يوماً ما وعملوا عملاً صالحاً، ثم سلب منهم الإيمان وختم لهم بالشر، فإذا شككنا في كل شي‏ء فلا نشك في قوله تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾13. إيتاء الايات أمر جليل جداً "ولو شئنا لرفعناه بها" جبراً، لكن الله لا يريد أن يجبر أحداً على شي‏ء ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر﴾14، فهو يهي‏ء له الأرضية للتكامل لكن لا يجبره، "اتيناه اياتنا فانسلخ منها"، فالإنسان يمكن أن ينسلخ من إيمانه ومعرفته وكماله الذي اكتسبه، ولذلك أمثلة كثيرة من صدر الإسلام وقبله وبعده إلى يومنا هذا.

14


12- الأعلى:17.
13- الأعراف:176.
14- الكهف:29.


7

الثقافة والمعارف الانسانية

وأنتم تعرفون مثالاً من مثل هؤلاء الذين انسلخوا من ايات الله وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم. مثل هذه الأخطار العظيمة ممكنة لنا أيضاً، فمن الإيمان ما هو ثابت ومنه ما هو مستودع، وإذا أردنا أن نثبّت إيماننا ونكون ممن قال تعالى في شأنه "يثبّت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة" فهناك ثلة من المؤمنين يثبّتهم الله لا جميعهم، قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾15.

الإيمان القلبي

بعد الإيمان الظاهر يصل الدور إلى الإيمان الحقيقي الواقع في القلب الذي يثبت ويرسخ في القلب، فيخاطب الله أمثالنا من الذين امنوا ويأمرنا بأن: ﴿آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ﴾16 فإذا امنتم حقيقة، يعني التزمتم بلوازم إيمانكم حتى يرسخ الإيمان والعمل الصالح "ولو شئنا لرفعناه بها" لكنه لم يشأ لأنه ليس من سنّته إجبار أحد على الإيمان والعمل الصالح، إنما شاء أن يختار الإنسان لنفسه ما يشاء. والحاصل أننا بفضل الله عرفنا منهج الإيمان، لكن بعد ذلك نحتاج إلى تقوية إيماننا بحيث لا يزعزعه أيّ أمر، ولا تزيله أي شبهة، ولا تضعفه أي وسوسة، فنحن معرّضون لوساوس الشياطين وللشبهات التي يلقيها شياطين الجن والإنس. يجب أن نكون على إيمان كامل حتى لا تؤثر

15



15- الحديد:28.
16- النساء:36.


8

الثقافة والمعارف الانسانية

فينا هذه الشبهات وهذه التشكيكات، وبعد ذلك نقوم بتعليم الاخرين وتقوية إيمانهم، فإذا قمنا بهذا الواجب يؤيدنا الله تبارك وتعالى بروح منه ويقذف نوراً في قلوبنا ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾17، والمثال الأكبر الذي جعل مثل هذا النور في قلبه هل تعرفون من هو؟


نحن عرفنا وكل الناس عرفوا أن الإمام رضوان الله عليه مؤيد بروح من الله، وقد سمّاه أبوه روح الله، وكان مؤيداً بنور من الله في قلبه: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". فقد ثبت أنه رضوان الله عليه ورفع درجاته كان يتمتع بنور خاص ما كان يتمتع به زملاؤه وتلامذته وأعوانه، فربما انفرد برأيه واستقام عليه حتى رزقه الله النجاح ولم يشاركه أحد في رأيه، فذلك نور من الله. وهذا النور ليس وقفاً على أحد وعلى إنسان خاص، إنما هو رحمة من الله يعطيها من يشاء من عباده، والذي لا يشاء هو الذي لا يكون لائقاً لتلقيه، واللياقة للتلقي لا تكون إلاّ بالإيمان والعمل الصالح "اتقوا الله وامنوا برسوله... يجعل لكم نوراً"18، فلا بد لنا أن نقوّي إيماننا بمعونة من النور الذي جعله في فطرتنا، وبمعونة من نور العقل والنور الذي نزل على نبينا صلى الله عليه وآله: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم"19. فمن النور ما جعله الله في صميم فطرتنا، نعرف به ربنا ونعرف به أصول الخير والشر: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾20، ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا21﴾، ومن النور ما خصّ الله به

16



17- الحديد:28.
18- الحديد:28.
19- المائدة:15.
20- البلد:10.
21- الشمس:8.


9

الثقافة والمعارف الانسانية

أنبياءه عليهم السلام وجعل العلماء وارثين لهم في ذلك النور، فالعلماء ورثة الأنبياء: "إن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً ولكنهم ورّثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر". فعلينا أن نستعمل عقلنا للحصول على المعارف العقلية المتينة المتقنة القويمة والتي تقاوم أنواع التشكيكات والشبهات الشيطانية، وعلينا أن نستفيد من الوحي الذي ألقاه الله على نبينا ومن العلوم التي ألهمها أولياءه أهل البيت عليهم السلام. هذا هو برنامج المؤمن الذي يريد أن يسير على سيرة الأنبياء وأن يمشي على هديهم وأن يقتدي بهداهم ويرجو أن يُرزق شفاعتهم.

المعارف الواجبة

فهناك معارف يجب علينا أن نعرفها ونتقنها أكثر مما نعرفها في يومنا هذا، منها الهدف من خلق الإنسان، الغاية من حركته، لأي شي‏ء خلقنا، ما هي الغاية التي ننشدها، ولأي شي‏ء يجب علينا أن نتحرك ونسير إلى هذه الغاية؟
وبعد معرفة هذا الهدف وهذه الغاية المنشودة لحياة الإنسان وحركته الإنسانية يجب أن نعرف الغايات المتوسطة، فهناك غاية قصوى نصل إليها بعونه تعالى عند لقائه، لكن هناك غايات متوسطة أخرى في هذه الدنيا يجب أن نعرفها ونسعى للوصول إليها، فما هي غاية حياتنا في شخصنا؟ وفي أسرتنا؟ وفي بلدنا؟ وفي مجتمعنا؟ وفي المجتمع الإنساني الكبير؟ ما هي الغاية التي نتوخاها في حياتنا الشخصية، ولزوجتنا وذريّتنا ولأهل بلدنا وديننا ولأبناء نوعنا؟ ثم بعد ذلك يصل الدور إلى البرامج التي تهدينا إلى هذه الغايات.

17


10

الثقافة والمعارف الانسانية

واخر غاية ننشدها في هذه الدنيا هي تصحيح العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الأمة والإمام تلك العلاقة الأصلية التي تجمع الأفراد في ظل نظام واحد منسجم متكامل متلائم، فيجعل المجتمع الإنساني كواحد متكامل ينحو نحو رضا الله تبارك وتعالى والكمال الذي خلق لأجله. ولا بد للأمة من نظام كخيط يجمع الخرزات المتفرقة، والقطب الذي ينحو جميع الأعضاء إليه، والنقطة التي تقع على رأس هرم المجتمع، فكل الناس يعيشون ويتحركون نحو هذه النقطة الواحدة التي على رؤوسهم، وإذا لم يوجد مثل هذا النظام الجامع للمتفرقات والمانع من التشتت والإختلاف لم تتحقق أمة سعيدة:( وجعل إمامتنا نظاماً للأمة) فالأمة التي لا تتمتع بمثل هذا النظام لا تعد أمة سعيدة منسجمة متكاملة، إنما هي أفراد متفرقون فليست بأمة لها نظام خاص، فالأمة لها نظام خاص، فالأمة المنتظمة لا بد لها من نظام، ونظام الأمة الإسلامية رهن لإمامتها وقد منَّ الله تبارك وتعالى بها علينا.

فلسفة الحقوق والقيم

قبل أن نصل إلى هذه الغاية ونعرف هذا النظام ومدى تأثيره في سعادة الأمة، لا بد أن نبيّن على ضوء العقل والكتاب والسنة حقيقة ما هو سائر على ألسنة الناس من حقوق الإنسان، فنوضح أنها من أين جاءت، ومن الذي يشرّع هذه الحقوق؟ فهذا يرجع إلى فلسفة الحقوق، وقبل كل ذلك يجب إيضاح مسألة أخرى تهي‏ء الأرضية لنشوء الحقوق وتكوّنها وهي مسألة القيم، فما هي القيم، ومن أين تنشأ؟ وهل

18


11

الثقافة والمعارف الانسانية

للإنسان قيم ثابتة خالدة فطرية عقلية، أو القيم تتغير حسب الظروف الزمانية والمكانية والقومية وغيرها؟
إن النظرية السائدة في العالم الغربي هي أن القيم ليست أموراً ثابتة وإنما تتغير بتغير الأقوام والأعصار، فيوماً ما يكون شي‏ء له قيمة ويصبح في يوم اخر فاقداً لتلك القيمة، ولهذه المسألة أمثلة كثيرة في الحياة المدنية في العالم الغربي، فهذه مسألة أساسية.


ويتفرع عليها مسائل أخرى منها أنه ما هي أصول القيم؟ من الذين يعيّن هذا الواجب أو ذلك الحرام؟ وما الذي يبرّر الإلتزام بالقيم أو يوجبه؟ وما الذي يجوّز مخالفتها أو تغييرها؟ المسألة جدية وغامضة ولها تأثير عميق في حركة الإنسان واتجاهه نحو أهداف الحياة، فلا بد من حل هذه المسائل. وإذا أردنا حلها بدءاً من مسألة القيم، إلى مسألة الحقوق، وانتهاءاً إلى مسألة السياسة والحكومة وإدارة الأمة يجب علينا أن نعرف موضع الإنسان في الكون. فكل هذه المسائل من شؤون حياة الإنسان العاقل، فالقيمة في أفعاله، وثبوت الحق له أو عليه، وكيفية إدارة مجتمعه، وتعيين حق الإمام على الأمة وبالعكس مسائل، إنما يمكن حلُّها على وجهها إذا عرفنا الإنسان وشؤونه وجوهر ذاته، وأنه كيف يتكامل هذا الجوهر الإنساني بمثل هذه الأمور. إنما يتكامل الإنسان بإنجاز برامج خاصة لحياته، وبفعل الواجبات وترك المحرمات، وبرعاية القيم وترك أضدادها، فيجب علينا معرفة ذات وجوهر الإنسان، كيف يزدهر هذا الجوهر وينمو ويتكامل أو ينحط ويسقط؟ وكيف يصعد أو ينحدر؟ وما هو عامل صعوده وسقوطه؟
يمكن أن يقال أننا قد عرفنا كل ذلك من الإسلام ومدرسة أهل

19


12

الثقافة والمعارف الانسانية

البيت عليهم السلام، فنقول الحمد لله تعالى على ذلك، لكن هذا الحد من المعرفة إنما يكفي إذ لم يكن هناك ثقافات معارضة مؤثرة فينا، أما إذا ابتلينا بهذه الثقافات وتأثير وساوس شياطين الإنس والجن على قلوبنا وقلوب شبابنا حينئذٍ لا بد أن نجهز أنفسنا بجهاز المعرفة المضاعفة حتى لا تزعزعها أي شبهة ووسوسة شيطانية، فيجب علينا أن نسعى لتقوية هذا الإيمان بهذه المعارف على ضوء العقل.


وإذا جئنا إلى الإنسان حتى نعرف موضعه من الكون فلا بد من معرفة الكون ونظامه، وإذا أردنا أن نعرف كل ذلك معرفة كاملة يجب علينا أن نعرف قيمة المعرفة، فإن المعارف في العالم كثيرة ومتضادة وكلها تسمى معارف وعلوماً وفلسفات، فبأي هذه الأمور نأخذ كمعرفة قويمة نتأكد منها ونطمئن إليها؟ ومن أين تحصل المعرفة اليقينية الكاملة؟ والجواب يرجع إلى فرع خاص من الفلسفة يسمى علم المعرفة، فالحاصل أننا نحتاج إلى مجموعة منضدة من المعارف تبدأ من علم المعرفة إلى معرفة الكون والإنسان والقيم والحقوق والسياسة، حتى نتمكن من تبيين نظرية الإسلام في الحكومة، فحاجتنا الماسة وإن كانت في الأصل هي إلى المعرفة الأخيرة التي بها قوام ثورتنا الإسلامية، والتي نريدها ونتمناها لسائر الأمم، لكن التأكد من هذه المعرفة يحتاج إلى أصول وأرضيات حسب الترتيب الذي ذكرته.
طبعاً الوصول إلى كل هذه المعارف لا يتيسّر في يوم أو شهر وحتى في سنة لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.

يجب أن نأخذ من المعارف أهمها وبقدر المتيسر منها، ثم نسعى وراء تكميلها لهداية شبابنا ونسلنا الاتي، هذا إذا أردنا أن نكون أمة

20


13

الثقافة والمعارف الانسانية

حية لا تضرها وساوس المشككين والملحدين، ولو قصرنا بذلك في العمل بواجبنا هذا لا سمح الله فسيأتي يوم يجب علينا فيه أن لا نلوم إلاّ أنفسنا. فهذا اليوم فاحت فيه النفحة الإلهية "ألا إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها" فأعظم نفحة عرفناها في تاريخ الإسلام هي نفحة الثورة الإسلامية، فهل أنتم تعرفون نفحة أعظم وأثرى وأفضل منها؟ هذه النفحة حصلت لنا نحن معاشر الأمة الإسلامية، فيجب علينا التمتع بها والسعي وراء تحقيق أهدافها.

أسئلة وردود

سؤال: ما هي نسبة الإسلام إلى النفاق؟
الجواب: الإسلام الظاهري لا يضاد النفاق بل يجتمع معه، لأن النفاق في القلب والإسلام على اللسان والظاهر، وبعبارة أخرى للإسلام اصطلاح مدني يتعلق بظاهر الشريعة وهو الإقرار بالله تبارك وتعالى وبرسول الله وحقية ما جاء به، وإن كان بحسب اللفظ فقط وليس في قلبه أي اعتقاد راسخ لهذا الأمر، والكفر يقابله في من لا يكون بدنه طاهراً حسب رأي الأكثرين ولا يرث مورثه المسلم، لكن للكفر اصطلاح اخر يقابل الإيمان بمعناه الخاص وهو لا يجامع النفاق، فالكافر هو الذي ليس في قلبه اعتقاد وإيمان بالله تعالى واليوم الاخر وبما جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وإن كان يظهر الإسلام فيصلي أحياناً ويعطي الزكاة أحياناً أخرى.
كان المنافقون في المدينة يذهبون إلى المساجد ويصلون فيها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً.

21


14

الثقافة والمعارف الانسانية

ويقابل هذا الإيمان الكفر الذي يكون ملاك الخلود في النار في مقابل الإيمان الذي يكون ملاكاً للنجاة منها، فهذا أمر قلبي وليس أمراً فقهياً، فالمؤمن وهو يقابل الكافر الذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأنبيائه لا سيما النبي الخاتم صلى الله عليه وآله والقران الكريم وكل ما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من عند الله تعالى.


فلو علم بحكم واحد من الاف أحكام الله تبارك وتعالى وعلم أن هذا هو حكم الله وأنكره بقلبه كأن قال: إن هذا الحكم ليس بصحيح وحتى لو لم يتلفظ به وأنكره بقلبه فقد خرج من الإيمان، لأن الإيمان لا بد أن يكون مطلقاً لا يتقيد بقيد، نعم يمكن للمؤمن أن يكون منكراً لحكم من الأحكام لجهله بأنه من الله، أما إذا علم أن هذا الحكم من الله تعالى، وأنكر ولو في حكم واحد وإن كان حكماً استحبابياً، كما لو علم أن نافلة الصبح ركعتان وأنكره بقلبه فبإنكار نفس هذا الحكم الإستحبابي يخرج من الإيمان لأنه أنكر ما نزل من عند الله، فلو كان مؤمناً بأن الله له حق الولاية والتشريع وأن رسول الله صلى الله عليه وآله مبلغ عن الله تبارك وتعالى فيجب عليه قبول هذا الحكم فلا فرق بين هذا الحكم وسائر الأحكام، فكلها من عند الله فيجب قبولها جميعاً "ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ء أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً"، فالكفر له اصطلاحان فقهي وهو من لا يؤدي الشهادتين، أما الكفر الكلامي فهو مقابل الإيمان القلبي مثل إنكار بعض ما أنزل الله إذا علم أنه من عند الله ولو كان شيئاً يسيراً جداً.

سؤال: هل يجب على كل إنسان الفحص عن الدين الصحيح الذي

22


15

الثقافة والمعارف الانسانية

هو الإسلام طبعاً خاصة مع تباعد المسافات والتجهيل الإعلامي والثقافي؟
الجواب: إذا كان الإنسان يحدث نفسه أن هناك حقاً لا يعرفه ويختلج في صدره إمكان أن يكون هناك دين ومذهب حق غير ما يعرفه، فإذا احتمل ذلك احتمالاً عقلائياً يعتد به يجب عليه أن يتحقق سواء كان مسلماً أو كافراً، إنما الفرق بين المسلم والكافر أن المسلم حيث إنه على دين الحق إذا قصّر في الفحص والتحقيق يكون متجرياً فقط، وإذا عمل بما يعرفه كان مثاباً ودخل الجنة بإذن الله تبارك وتعالى.


أما الكافر حيث أنه مخالف للحق، فإذا لم يصب الواقع وهو كذلك لا يلومنَّ إلاّ نفسه، مَثَله مثل الجاهل القاصر والمقصّر في الأمثلة الفقهية، فإذا قصر إنسان في معرفة حكم فقهي، كأن لم يسأل مرجع تقليده وعمل بعمل فإن وافق عمله فتوى المجتهد الذي يجب تقليده صح، أما إذا خالف ذلك كان مخطئاً ومعاقباً، وهناك حكم للعقل، بأنه إذا احتمل الإنسان أن هناك ديناً حقاً أو مذهباً حقاً غير ما يعرفه أي احتمل أن مذهبه غير حق احتمالاً يعتد به عند العقلاء لا خطوراً في الذهن يجب عليه بحكم العقل التحقيق. وقد عرفت الفرق بين المسلم المقصّر والكافر المقصر لكن بحكم العقل يجب عليهما التحقيق الكامل حتى يتأكد من الحق.
أما إذا كان في يقين من دينه، أي لا يشك ولا يحتمل احتمالاً مخالفاً ولو واحداً في المائة أو في الألف، فإن كان مسلماً كان على الحق ويؤجر، وإذا كان غير مسلم كان مستضعفاً قاصراً.

23


16

الثقافة والمعارف الانسانية

سؤال: إذا أمكن بيان التثبيت غير الجبري؟
الجواب: التثبيت ربما يقال على الأخذ بناصية الشخص وجرّه إلى طريق خاص بحيث لا يتمكن من المخالفة عملاً وواقعاً، فهو كمن يسجن في سجن لا يمكنه الخروج منه فهذا هو التثبيت الجبري، وليس له قيمة وليس من سنة الله أن يجبر الناس على مثل هذا الأمر أو أن يثيبهم على هذا الإيمان الجبري. أما التثبيت غير الجبري فهو تهيئة وسائل للإستفادة منها في طريق الخير.
أنتم تعرفون تعريف التوفيق وهو جمع الأسباب نحو المطلوب الخير. كيف يوفق الله تعالى المؤمنين؟ يجمع لهم أسباباً يمكنهم الإستفادة منها في طريق تكاملهم، فهذا هو التوفيق، وأما التثبيت فهو أحد مصاديق التوفيق. إذا جمع الله لشخص أو لجماعة وسائل ليستفيدوا منها لتكاملهم بحيث يحصل لهم من هذه الأعمال والنشاطات الثبات في إيمانهم سمي هذا التوفيق وجمع الأسباب تثبيتاً أي يجمع الأسباب ليصير الإيمان ثابتاً، وأما كلمة التثبيت فقد ذكرت في القران الكريم تثبيتاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وللمؤمنين ومنها إدخال السكينة في قلوبهم.


للتوضيح: إن لله تعالى سنناً في تدبير الإنسان من تلك السنن أنه يبدأ بهداية الإنسان بالعقل والوحي الذي ينزله على أنبيائه، فإذا استفاد الإنسان من نور عقله ومن الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله حسب ما يتيسر له ولم يخالف ولم يعاند الحق، يوفقه الله تعالى لهداية أكثر، هذا من سنة الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى22﴾، من الذين اهتدوا؟ أولاً هداهم الله فقبلوا الهداية واهتدوا ولم يردّوا

24



22- محمد:17.


17

الثقافة والمعارف الانسانية

هداية الله، فإذا اهتدوا زادهم هدى، ويقابلهم الذين يعاندون ويصرون على ضلالهم بعد معرفة الحق ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ23﴾، انحرفوا عن الحق بعلم منهم، فمن سنة الله تعالى بالنسبة إلى هؤلاء أن يزيغ قلوبهم أي يجعل قلوبهم بحيث لا يعرفون الحق، وإذا عرفوا الحق أنكروه، من سنة الله تعالى بالنسبة إلى هؤلاء أن يجعلهم غير عارفين للحق ﴿طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾24، ﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ 25﴾، جزاء لرد هداية الله تبارك وتعالى. وهذا في الحقيقة أحد مصاديق تلك، السنة العامة غير المخصصة بأي تخصيص ﴿وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم من الكفران( لا الكفر) في مقابل الشكر أي لم تشكروا إن عذابي لشديد﴾26، فالتثبيت هبة من الله تعالى لمن قبل هدايته فإذا قبل هداية الله وعمل والتزم بها زاده إيماناً، ويثبت الإيمان في قلبه فيصير ذلك تثبيتاً.

سؤال: كيف يمكن أن لا يعاقب الكافر؟
الجواب: إن من أصولنا العقلية والمأخوذة من الكتاب والسنة أن المستضعف الكامل هو المجنون الذي لا يفرق بين الحق والباطل والخير والشر، ومعنى العفو عنه ليس أنه يدخل الجنة، ففي بعض الروايات أن الأعراف محل بين الجنة والنار لا يتمتعون فيها بنعمة الجنة ولا يعاقبون بعذاب النار، وإن كان للأعراف اصطلاح اخر أُشير إليه في قوله تعالى ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾27، فإذا كان يوجد

25



23- الصف:5.
24- النمل:108.
25- البقرة:7.
26- إبراهيم:7.
27- الأعراف:36.


18

الثقافة والمعارف الانسانية

في الناس من لا يميز بين خير وشر وحق وباطل، أي من كان مثل المجنون، فلا يدخل الجنة ولا النار، فمثله كمثل الأنعام، أما المستضعف الذي له مرتبة من الإستضعاف، كالعاقل الذي يعرف بعض الأشياء بعقله يعرف مثلاً أن الظلم قبيح لا يرضاه الله، وإن كان لا يؤمن بشريعة خاصة بحيث يعرف جميع مصاديقها بل يعرف بعض مصاديقها بفطرته، كما يعرف أن ظلم اليتيم الذي لا ملجأ له ولا منجى هو من أقبح الظلم، فإذا ظلم مثل هذا الإنسان وإن كان لا يعرف الدين الحق لا يسمى مستضعفاً بجميع مراتب الإستضعاف فهو يعاقب على مخالفة عقله. فالعقل نبي في الباطن كما أن النبي عقل في الظاهر، فالمستضعف الكامل هو الذي لا يعرف أي خير وشر، وأي حق وباطل، ومثل هذا لا يوجد إلاّ في المجانين، أما سائر الناس فيعرفون حسب فطرتهم بعض الحق والخير، وإذا عمل بذلك الخير كان مثاباً. وأما دخول الجنة المختصة بعباد الله المكرمين فهو مختص بالمؤمنين، أما سائر الناس فهم محاسبون على إتيان الواجبات وترك المحرّمات حسب ما قامت عليهم الحجة العقلية أو النقلية، ومعذورون في ما وراء ذلك: "خلطوا عملاً صالحاً واخر سيئاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، وفي اية أخرى: "واخرون مُرجَون لأمر الله"، هذا ما ذكرته لكم باختصار ومن أراد التفصيل فليراجع كتب الكلام ولسنا في مقام التفصيل.

سؤال: إذا اعتبرنا أهمية ارتباط الفرد وطاعته للإمام على هذا القدر من الأهمية العملية والحياتية فما هو رأيكم في الخارج على ولاية الفقيه( الإمام) من الناحية العقائدية النظرية والناحية الإجرائية والعملية؟

26


19

الثقافة والمعارف الانسانية

الجواب: أهمية علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة الإمام بالرعية وبالعكس لا يوجب جعل هذه العقيدة من ضروريات الدين بحيث يكون منكرها كافراً وخارجاً عن الإسلام، فنحن نعتقد أن ولاية أمير المؤمنينعليه السلام من أفضل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله، فهو تمام النعمة وكمال للإسلام، لكن إذا لم يعتقد بذلك مسلم لقصوره فلا يكون كافراً جاحداً، فأهل السنة محكومون بالطهارة حسب رأي فقهائنا بل أكثرهم معذورون لأن الكلام في فرض القصور، والحال أن الاعتقاد بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام من أهم الأمور الإجتماعية، وهو كفيل لسعادة المجتمع ولبقاء الأمة الاسلامية، فضروريات الدين أمر، والأمور الهامة والنعم الكبرى التي منَّ الله بها علينا أمر اخر.


أهمية ولاية الفقيه للأمة الإسلامية امتداد لولاية أمير المؤمنين عليه السلام ولها أهمية كبرى، لكن إنكار هذا لا يوجب الكفر من الجهة الفقهية ولا يوجب الخروج من الإيمان، وأما الروايات التي وردت بشأن كفر المخالفين فهذه الروايات ناظرة إلى المنكرين الجاحدين لا الجاهلين القاصرين والكفر هو بحسب الباطن لا ظاهر الإسلام.

سؤال: هل الإيمان شرط وحيد للحصول على النور الذي تحدثتم عنه فإذا قلنا أن الإمام الخميني حصل على هذا النور فهو المؤمن الوحيد كما ينبغي، فهناك العديد من العلماء لم يصلوا إلى هذه الدرجة؟
الجواب: يوجد في الرياضيات اصطلاح مشهور وهو الفرق بين الشرط الكافي والشرط اللازم، فالإيمان هو الشرط اللازم وليس شرطاً كافياً لهذا النور: ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء﴾28، هناك

27



28- الجمعة:4


20

الثقافة والمعارف الانسانية

شروط لصلاحية الاستفادة من النور الالهي، فربما يعلم الله تبارك وتعالى أن العبد قد يغتر بهذه النعمة فلا يمنحها له. فمن منن الله تعالى على عباده أنه ربما لا يعطيهم فضيلة لكي لا يغتروا بها.

سؤال: هناك من يقول بأن البشر لا يمكن أن يتحمل نور الله لذا صار الأئمة عليهم السلام واسطة بين الله والإنسان في خلق الإنسان وهذا هو سر الولاية التكوينية؟
الجواب: نحن نعتقد حسب ما عرفنا من الكتاب والسنة أن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين وفاطمة الزهراء عليها السلام يتمتعون بمرتبة عالية من الكمال والفضيلة لا يصل إليها أحد من البشر.


هذا أمر عرفناه من الكتاب والسنة وليس للعقل إليه سبيل، فالعقل لا يحكم في الأشخاص ولا في الجزئيات، فالأحكام العقلية كلها كليات. فهذا الاعتقاد إنما هو يُعرف من الأدلة النقلية من الكتاب والسنة، وأيضاً عرفنا حسب ما استنبطنا من بعض الايات والروايات أنهم وسائط الفيض الالهي، ويتجلى ذلك في الزيارة الجامعة الكبيرة كما تعرفون:( من أراد الله بدأ بكم ومن وحّده قبل عنكم ومن قصده توجه بكم أو توجه إليكم بكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه وبكم ينفس الهم ويكشف الضر) إلى غير ذلك من الأوصاف التي ذكرت في هذه الزيارة الشريفة، ومثله كثير في الزيارات وفي الأدعية والروايات الواردة بشأنهم. ومعنى ذلك أن الإنسان العادي لا يمكنه الإستضاءة بنور الله إلاّ بواسطتهم، وأمّا التعبير بأن الإنسان لا يمكنه تحمّل نور الله فهو تعبير قاصر، فما هو معنى تحمل نور الله؟ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ...

28


21

الثقافة والمعارف الانسانية

يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء...29﴾، فنور الله تبارك وتعالى له مراتب ومن مراتبه القران الكريم "قد جاءكم من الله نور" ومنها ما يهبه لجميع المؤمنين "يهدي الله لنوره من يشاء" قال لنوره لا بنوره فالإنسان يمكنه أن يهتدى لنور الله فليس معنى ذلك أن يصل إلى المرتبة العليا من نوره أو إلى حقيقة نوره، النور له أضواء وتجليات فكل مؤمن يصل إلى مرتبة من هذه الأضواء حسب ما يليق له والأمر بعد ذلك يرجع إلى مقامات أولياء الله تعالى مما لا تصل إليه عقولنا، فلا يمكنني أن أتصور المرتبة التي وصلوا إليها، ولا يمكنني أن أتصور أنهم كيف وصلوا، ولو تصورت لما أمكنني تعريفه. فهناك مراحل عالية لكمالات الإنسان بعضها فوق بعض، وهناك حجب نورية، أنتم تعرفون أن الإمام الراحل كان يوصي بقراءة المناجاة الشعبانية، ويشير إلى الحجب النورية فالذي نعرفه هو مجرد أسماء أما حقيقتها فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لبعض مراتبها.

سؤال: لا أعلم إن كنتم ستتحدثون عن علم أهل البيت عليهم السلام وسعة علومهم؟
الجواب: لعل المراد أن أبحث عن علم أهل البيت وما هو العلم الذي استأثر الله تعالى لنفسه، قد أشرت إلى أن عقلي لا يصل إلى حقيقة هذه العلوم، وإنما يتيسر لنا الأخذ من بعض تعاليمهم ورواياتهم التي حدثونا بها، فإذا استفدنا بقدر وسعنا من مثل هذه المعارف الكريمة المذكورة في الكتاب والسنة يجب أن نحمد الله تعالى على أن وفقنا

29



29- النور:35


22

الثقافة والمعارف الانسانية

لذلك، ونحن لسنا بأنفسنا أهلاً لذلك، بل هو من فضل الله علينا تفضل به من خلال علوم أهل البيت الذين أرشدونا إلى بعضها ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لأكثر من ذلك.

سؤال: يقول البعض أنه لا وجود في الواقع لمصداق المرتد باعتبار أن المرتد كافر والكافر هو الذي يأتي بدليل على عدم وجود الله ولا يمكن الإتيان بالدليل على عدم وجود الله؟
الجواب: قال الله تبارك وتعالى في كتابه "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم" فهل يوجد لهذا الجحد مصداق في الخارج أم لا، وسورة الجحد التي يخاطب بها الكافرين "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون" هل هؤلاء الكافرون يوجد لهم مصداق؟ إذا كان الكافر لا مصداق له إلاّ من أقام دليلاً على عدم وجود الله وذلك من المستحيل فمن هم الكفار المخاطبون بهذه الاية؟! فإذا كان الكفر لا يمكن إلاّ لمن له برهان على نفي الله تبارك وتعالى فما المراد إذاً بقوله "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم". فالجحد غير استيقان النفس، فالكافر ربما يكون جازماً وينكر الحق لأجل الحصول على مشتهيات، وهذا هو جحد وكفر مثل الكفر الذي كان عند فرعون، قال الله تبارك وتعالى نقلاً عن موسى عليه السلام لفرعون: "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ رب السماوات والأرض" بتأكيدين باللام وبقد( لقد علمت) أي من المؤكد أنك تعلم أن منزل هذه الايات هو الله تبارك وتعالى، وكان ينكره ويقول "ما علمت لكم من إله غيري" "أنا ربكم الأعلى" فيمكن أن يعرف الإنسان شيئاً ويتيقن به لكن ينكره لأجل أهوائه، وهذا هو الجحود والكفر الموجب للإرتداد والخلود في النار.

30


23

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

تبيَّن مما سبق أن على المثقف المسلم دراسة المسائل المتعلقة بستة حقول من العلوم الإسلامية والإنسانية، وأن الهدف الأصلي من دراسة هذه الموضوعات هو الوصول إلى كيفية إدارة المجتمع الإسلامي والنظرية الإسلامية في الحكومة والسياسة، أعني ولاية الفقيه، لكن قبل ذلك يجب علينا معرفة المفاهيم المتعلقة بالحقوق والقانون وبفلسفة الأخلاق والقيم ومعرفة الإنسان والكون، وقبل كل شي‏ء تقييم المعرفة، فلنبدأ من هذه المسألة.

مسألة المعرفة

من المسائل القديمة المطروحة على صعيد البحث مسألة قيمة المعرفة الإنسانية، وأنه هل يتمكن الإنسان من كسب معارف مطابقة للواقع ونفس الأمر أو لا يمكنه ذلك. قبل خمسة وعشرين قرناً في اليونان كان كثير من الباحثين يزعمون أن الإنسان لا يمكنه معرفة الواقع وكانوا يسمونهم بالسفسطائيين، ثم جاء اخرون وكانوا يسمون( الشكاكين)، وإلى جانب هؤلاء كان من يقول بإمكان المعرفة المعرفة الحقيقية وهم بين من يقول أن المعرفة الواقعية هي التي تحصل من خلال التجربة الحسية، وبين من يقول أن المعرفة الحقيقية إنما تحصل من طريق العقل.

33


24

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

هذا الصراع بين الباحثين امتد إلى يومنا هذا وقد غلبت عليهم نزعة الشك، وإذا قلنا أن النزعة الغالبة على العالم الغربي حول هذه المسألة هي نزعة الشك لم نجازف في القول. وهناك من يقول بنسبية المعرفة ومن يقول بأن الواقع هو الذي يفيد في مقام العمل وهم أصحاب البراغماتية، وهناك ثلة قليلة يقولون بإمكان المعرفة الحقيقية للإنسان معرفة مطابقة للواقع العيني أو مطابقة لنفس الأمر.


أما من وجهة النظر الإسلامية فالكتاب القران الكريم والسنة النبوية واثار الأئمة الأطهار عليهم السلام تشهد بأنهم كانوا يرون أن المعرفة الواقعية ميسرة للإنسان، وأنهم رغّبوا في تحصيل المعرفة الواقعية والإيقان بها، وحتى أن المؤمن لا بد أن لا يكتفي بالظن بل المطلوب منه تحصيل اليقين "وبالاخرة هم يوقنون"، "وفي الأرض ايات للموقنين" فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يستحقر قوماً نسبهم إلى الشك والتردد والريب فيقول: "هم في ريبهم يترددون"، كأنها كلمة تحقير وإذلال للكافرين، "بل إدّارك علمهم في الاخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون" فمن وجهة نظر القران الكريم إن العلم واليقين ميسر للإنسان، وإنه مكلف بتحصيل العلم اليقيني بالنسبة إلى العقائد الأصلية، بالنسبة إلى التوحيد والرسالة وعالم الاخرة، فيجب تحصيل اليقين بالنسبة إلى هذه المسائل.


نعم، نعلم إجمالاً أن في وسع العقل تحصيل المعارف اليقينية في الجملة، لكن هذا الكلام ربما يصير معرضاً لسوء الفهم، فإذا قلنا أن العقل يمكنه معرفة الواقع، ربما يستفاد أن كل ما يسمى بالعقل الإنساني عند العرف فهو يصل ويكشف عن الواقع كما هو. فالدارج

34


25

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

بين ألسنة الناس أن عقلي يحكم بكذا، وأن هذا يحكم به العقل، فيجب علينا أن نؤكد أن العقل إنما يصل إلى الواقع ويعرف الواقع كما هو إذا استنبط حكماً من خلال البرهان الصحيح، ومن أمارات مثل هذا الحكم أنه يشترك فيه جميع العقلاء. فللعقل إصطلاحات متعددة، فالإصطلاح العام هو أن يراد من العقل القوة الموجودة في الإنسان التي يستطيع بفضلها أن يعرف الخير والشر والحق والباطل، هذا مصطلح عام يقابله المجنون الذي لا يعرف الخير والشرَّ والحقَّ والباطل، فالعاقل هو الذي ليس بمجنون. لكن العقلاء يختلفون في أحكامهم، فعقل أحد يحكم بحكم، وعقل الاخر يحكم بحكم اخر مضاد له. وهناك اصطلاح اخر للعقل يختص بالذي يدرك الواقع كما هو عليه، وأمارته أنه يشترك في هذه الأحكام كل عاقل ولا يمكن أن يحتمل خلاف هذا الحكم، كالأحكام المعروفة في الرياضيات والأحكام البديهية للعقل العملي كحسن العدل وقبح الظلم والأحكام النظرية في الحساب والهندسة وما إلى ذلك، فللعقل أحكام بديهية وكل من يكون واجداً للعقل يحكم بمثل هذه الأحكام ولا يحتمل خلافها.

من هنا يأتي دور علم خاص يميز بين المدركات البديهية وغيرها وكيفية الإستنتاج الصحيح لغير البديهيات يسمى بعلم المنطق، فالمنطق الة قانونية تصون الفكر عن الخطأ، ونفس الأحكام المنطقية التي يجب رعايتها في كل استدلال بديهية. طبعاً توجد مسائل خلافية في علم المنطق لكن ليست مؤثرة في جميع الإستنتاجات العقلية. فالأحكام المنطقية مشتركة بين جميع الأمم والنحل والأقوام وإن كانوا لا يطبقون تلك الأحكام بوعي كامل بل يستعملونها بنحو فطري، مثلاً إذا قلنا

35


26

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

نقيض الموجبة الكلية هي السالبة الجزئية فأكثر الناس لا يعرفون هذا الإصطلاح لكن إذا وصل الدور إلى إجراء هذه القاعدة فهمها كل الناس، كما إذا قلنا "ليس اللبنانيون بمسلمين" على نحو القضية السالبة الكلية معناه أنه لا يوجد في لبنان مسلم واحد، فإذا وجد مسلم واحد دل على أن القضية الكلية باطلة لأن السالبة الكلية عدم وجود مسلم في هذا البلد فإذا وجد مسلم واحد دل على بطلان القضية الكلية، فنقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية ونقيض السالبة الكلية موجبة جزئية. وإذا قلنا أن كل اللبنانيين مسلمون فهي موجبة كلية ينتقض ذلك بوجود شخص واحد غير مسلم، فنقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، هذه قاعدة منطقية لعل الكثير من الناس لا يعرفها بهذه الصيغة لكن يجرون هذه القاعدة في مواردها بمقتضى فطرتهم.

وكيف كان فإذا استخدم العقل القضايا البديهية على وجه صحيح أمكنه استنتاج قضايا غير بديهية منها، أي يمكن معرفة أشياء مجهولة من خلال معرفته للأشياء البديهية، لكن على نظم وترتيب خاص تقتضيه الأصول المنطقية. ومن هذا الطريق نثبت العقائد الأصلية كوجود الله تبارك وتعالى ووحدانيته وصفاته وما إلى ذلك وكذلك صحة نبوة أنبياء الله ورسله وكل ما يمكن للعقل الوصول إليه، لكن هناك مسائل لا يستطيع العقل استنتاجها من البديهيات، ذلك لأن الاستنتاج من البديهيات يحتاج إلى ضم قضية أخرى مثلاً نقول: "كل إنسان ناطق" فإذا ضممنا إليه أن زيداً إنسانٌ نستنتج أن زيداً ناطق. فهناك قضيتان قضية كلية تسمى بالكبرى( كل إنسان ناطق) وقضية

36


27

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

خاصة( زيد إنسان) وتسمى بالصغرى فإن ضممناها إلى القضية الكبرى استنتجنا منها أن زيداً ناطق، لكن قضية زيد إنسان يجب معرفتها من غير طريق العقل، فنحن نرى بأعيننا زيداً ونحكم بأنه إنسان فإذا سُئلنا: كيف عرفتم أنه إنسان؟ أجبنا بأن الإنسان له أمارات واثار نجدها في زيد فنقول زيد إنسان، فهذا الحكم يحتاج إلى مقدمات أخرى فإذا لم تنته تلك المقدمات إلى البديهيات لم تكتسب اعتباراً منطقياً.


لنذكر مثالاً عن مجتمعنا، كثير من الناس يقولون أن العقل يحكم بأن الرجل والمرأة متساويان في جميع الحقوق، والتفرقة بين أحكامهما مرفوض، وحرمان المرأة من بعض الحقوق ظلم وقبيح، فيسندون هذا الحكم بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة إلى العقل وبذلك يدينون الأحكام الشرعية المفرقة بين الرجل والمرأة فنسألهم ما هو الدليل على حكم العقل بالمساواة بين الرجل والمرأة في كل شي‏ء؟ يقولون كلاهما إنسان فالمرأة إنسان كما أن الرجل إنسان، وللإنسان حقوق متساوية سواء كان رجلاً أو امرأة فحقوق الإنسان مشتركة بينهما، فيجب أن لا نفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق. فإذا سألنا ما هذه الحقوق التي تنشأ من الإنسانية المشتركة بين الرجل والمرأة، وهل كل ما ننسبه إلى الإنسان يشترك فيه الرجل والمرأة، كاختيار الزوج، فللزوج أن يختار زوجات متعددة فهل للمرأة ذلك الحق استناداً إلى أن هذا إنسان تلك إنسان؟ وله المساواة في الحقوق تقضي بأن يكون للمرأة حق تعدد الأزواج في زمن واحد كما أن للرجال هذا الحق وإذا أعطينا هذا الحق للرجال فعلينا أن نعطي للمرأة هذا الحق؟ فهذه مغالطة،فإذا كان

37


28

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

الرجل والمرأة متساويين في كل شي‏ء كانا مشتركين في جميع الحقوق، لكن نعلم أن الرجل والمرأة ليسا متساويين في كل شي‏ء، فهناك اختلافات طبيعية ونفسية بينهما فمن أين لا توجب تلك الاختلافات الطبيعية والنفسية إختلافاً في حقوقهما؟ لعل الفوارق الطبيعية والنفسية والروحية توجب اختصاص الرجل بحق واختصاص المرأة بحق اخر، فالإنسانية المشتركة بين الرجل والمرأة ليست منشأ لجميع الحقوق. هناك حقوق تتعلق بالإنسانية المشتركة بين الرجل والمرأة كحق الدفاع عن النفس سواء في المحكمة أو مكان اخر في قبال من يعتدي على أحدهما فهذا الحق ثابت وكذلك حق الحياة والسكن والتغذية وما إلى ذلك، وأما إذا كان بينهما فوراق جسمية ونفسية فإنها ربما توجب اختلافاً في الحقوق، فالجهاز الذي تتمتع به المرأة الذي هو الرحم والذي يتولد وينمو فيه الطفل هذا يختص بالمرأة ليس للرجل فيه حظ ونصيب، ولعل هذا الاختلاف يوجب الاختلاف في الحق فالذي جهز المرأة بهذا الجهاز وكلفها تربية وإرضاع الولد جعل لها حقوقاً في مقابل هذا الأمر الطبيعي، ليس للرجل ذلك لعدم تمكُّنه مما تتمكَّن منه المرأة، فحيث أن الله الذي جهز المرأة بهذا الجهاز جعل لها حقوقاً غير حقوق التي ثبتت للرجال، وهذه الحقوق المختلفة تنشأ من الاختلافات الطبيعية التي جعلتها يد القدرة الإلهية بينهما.


من الواضح أن في هذه القضية مغالطات، أي يُستدل على تسوية الحقوق بين الرجل والمرأة بأنهما انسانان مشتركان في الإنسانية ويُستنتج أنه يجب أن تكون حقوقهما متساوية. وهذه مغالطة. كيف نعرف أن هذه مغالطة؟ يجب علينا أن نُدقق في مباني هذه الأحكام، ففي هذا

38


29

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

القياس توجد كبرى كلية وهي أن كل الحقوق ناشئة عن الإنسانية وهي غير صحيحة فبعض هذه الحقوق ناشئة من الرجولية وبعضها من الأنوثية، فحق المرأة في أن ترضع ولدها ليس ناشئاً عن انسانيتها بل هو ناشى‏ء عن أنوثيتها فليس هذا حقاً مشتركاً بين الرجل والمرأة.
هذه التأملات في القضايا والاستدلالات توجب التفحص في قواعدها المنطقية واتقانها حتى لا نُبتلى بالمغالطة والمشاغبة والقاء الاخرين في الغلط.

خطأ العقل أم خطأ العاقل؟

فكيف كان فالقضية القائلة أن للعقل أن ينال الواقع هي نفسها قضية موجبة جزئية معناها أن بعض الأحكام المنسوبة إلى العقل بمعناه العام صحيحة، أما الأحكام التي ينسبها كل انسان إلى عقله ويختلف فيها انسانان أحدهما يثبت والاخر ينفي إما أنه يقال هذا ليس من حكم العقل بل من حكم الوهم، وإما أن يقال أنها من المغالطات التي أخطأ فيها العقل فخطأ العقل هذا ليس بما أنه عقل بل بما أنه خطأ في الاستنباط. مثال ذلك المحاسب ربما يخطى‏ء في الحساب فالخطأ في أحكام العقلاء ليس بما أنهم واجدون للعقل بل بما أنهم مخطئون في استعمال العقل كما أن المحاسب المخطى‏ء إنما خطأه نشأ من استعمال علمه لا أن العلم فيه خطأ، فإذا قلنا أن العقل يخطى‏ء نريد بذلك أن العاقل ربما يخطى‏ء في استعمال عقله ويغالط في الاستنباط، فمسامحةً نقول إن العقل ربما يُخطى‏ء.
فإذا أردنا التركيز على الصيغة الصحيحة يجب علينا أن نقول إن العقلاء ربما يخطئون في استعمال عقلهم والاستفادة من هذه القوة

39


30

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

لأنهم لا يعرفون القواعد المنطقية ولا يحسنون تطبيقها. اضافة إلى أن العقل ربما لا يمكنه نيل بعض الواقعيات لخروجها عن طور العقل، فالأمور المحسوسة كإدراك الألوان والروائح وكل ما يتعلق بالحواس ليس للعقل إليه سبيل، فالعقل يحكم بالكليات فهذه الرائحة التي أجدها في نفسي ليس للعقل دور فيها إنما العقل يحكم في الكليات، وبعبارة أخرى الة العقل هي المفاهيم الكلية ولا يحكم إلاّ بها فلا يمكنه الخروج عنها فإذا خرج من نطاق المفاهيم كان خارجاً عن نطاق العقل. والحاصل أنّا إذا حصلنا على المفاهيم الصحيحة تمكّن العقل من تنظيمها وترتيبها والاستفادة منها إذا راعى القواعد المنطقية.

حدود ادراك العقل

ومما لا يمكن للعقل معرفة كنهه ما ليس للانسان تجربة فيه اطلاقاً، مثلاً نحن نريد أن نعرف حقيقة الوحي التي كانت تلقى إلى الانبياء ونود ذلك لكن لا يمكن للعقل الوصول إليها لأنه ليس له أي تجربة من الوحي، وإنما يشار إلى تلك الحقيقة بمفاهيم انتزاعية عامة فنقول: الوحي القاء علم سريع رمزي، نشير إلى الوحي الالهي بمثل هذه المفاهيم نعني أن النبي صلى الله عليه وآله يتلقّى علماً من الله تعالى بصورة سريعة رمزية أي لا يعرفها سائر الناس، وإلاّ فلا نعرف حقيقة الوحي ولا كنه هذا الأمر لأنه ليس لنا أيُّ تجربة بشأنه. للشاعر الايراني المعروف مولانا جلال الدين البلخي مثال جيد حيث يقول: الطفل لا يمكنه معرفة ما بين البالغين من الأمور المتعلقة بالأزواج فإذا أريد تعريف ذلك له نقول له هو أحلى من العسل، لكن أي صلة بين اللذة

40


31

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

الجنسية وحلاوة العسل؟ وحيث أن الطفل لا يمتلك أي تجربة بالنسبة لهذا الأمر لذا يشبه له بحلاوة العسل، السر في ذلك أن للانسان أن يعرف كنه شي‏ء إذا كان له تجربة بشأنه أما إذا لم تكن له أي تجربة بشأن أمر فلا يمكنه درك حقيقته وكنهه وإنما يشير إليه اشارة.


ثم إن للعقل أن ينتزع مفاهيم كلية مما جرب بعض أمثلته فربما كان في شي‏ء أمر يمكن اخضاعه للتجربة لكن عقل هذا الشخص لم يصل إليه ولم يجرب مثلاً: عندنا أحكام شرعية بشأن كثير من الأشياء كحرمة لحم الخنزير فالمفاسد الكامنة في أكل لحمه ليس مستحيلاً على الإنسان أن يصل إليها يوماً ما، لعله يأتي يوم يدرك جميع المفاسد التي توجد في أكل لحم الخنزير لعله ولكن فعلياً نحن لا نعرف كل المفاسد الكامنة في أكل لحم الخنزير، وكذا سائر المحرمات، فعقلنا لا يصل لأنه ليس لدينا أجهزة علمية بواسطتها نتمكن من معرفة مصالحها ومفاسدها. وكثير من الأمور التي نحتاج إليها في عيشنا وحياتنا الدنيوية وفي تعاملنا مع اخواننا أو بين الأمم هي من هذا القبيل، أي يمكن أن يكون فيها مصالح وربما يمكن أن يعرف الإنسان من خلال قرون كثيرة تلك المصالح لكن فعلياً لا يعرف جميعها، ففي مثل هذه الأحكام لا بد من الأخذ بأحكام الشرع والسر الأساسي في إرسال الأنبياء هو هداية الناس الى مثل هذه الأمور التي ليس للإنسان العادي الاحاطة بمصالحها ومفاسدها، فليس من المحال أن يعرف يوماً ما إذا كانت له أجهزة التجارب العلمية المصالح والمفاسد المترتبة على كثير من الواجبات والمحرمات لكن فعلياً لا نعرف جميع هذه المصالح، فلأجل ذلك نحتاج إلى حاكم فوق العقل: ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ

41


32

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

 تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾1، و﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾2، أي القوى العادية للانسان لا تسمح بمعرفة جميع المصالح والمفاسد. فالله تبارك وتعالى بفضله وكرمه ولطفه على الإنسان عرفه ذلك من خلال الوحي الالهي الذي يلقيه على أنبياء الله ورسله سلام الله عليهم أجمعين.
من هنا يوجد لنا مصدر اخر للمعرفة هو الوحي الالهي وما يلحق به من الهامات لأولياء الله نعني علم الامام فإنه وإن لم يكن وحياً نبوياً لكنه من العلوم المسماة باللدنية أي العلوم التي يلقيها عليهم ربهم تبارك وتعالى بطرق غير عادية، فلنا طريقان إلى معرفة الحقائق أحدهما العقل الذي يتمتع به كل انسان سواء المؤمن والكافر، والاخر طريق يتمتع به المؤمن فقط وهو الاستفادة من الوحي الالهي، وبعبارة أخرى إن أدلتنا على اثبات الحقائق تتوزع على قسمين الدلائل العقلية والدلائل النقلية، وإنما نسميها بالدلائل النقلية لأنا لا نستطيع مباشرة درك الوحي فالذي ننسبه إلى الوحي ليس وحياً إلينا إنما هو وحي ألقي إلى النبي ونقل إلينا فما نناله هوما نقله وحكاه لنا لا ما تلقيناه بأنفسنا مباشرةً فنحن لا نتلقى الوحي، فالمطالب المستفادة من الوحي بالنسبة إلينا هي مطالب منقولة وأدلتها تسمى بالأدلة النقلية.

هناك سؤال: إذا أدركنا بعقلنا الصحيح من طريق منطقي صحيح أمراً لا نشك فيه ولا يشك فيه أي عاقل مثل قبح الظلم فهل نحتاج في هذا الأمر إلى حكم شرعي؟
الجواب عن هذا السؤال لا يخلو عن شي‏ء من الغموض، إذا أردنا

42



1- البقرة:151.
2- النساء:113.


33

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

من كلمة "الاحتياج إلى الشرع"، أن حياتنا لا تسعد بالنسبة إلى هذا الأمر إلاّ بحكم شرعي فالجواب سلبي أي يمكن للانسان إذا لم يكن له وحي إلهي بالنسبة إلى قبح الظلم وحسن العدل أن يدرك ذلك ويسعد بحياة طيبة في هذا العالم، لكن بتركه الظلم لا يستحق الثواب الأخروي لأنه أطاع عقله لتكون له حياة سعيدة في هذه الدنيا وقد حصلت له فليس له طلب من الله تبارك وتعالى.


لكن الإنسان يحتاج إلى ثواب الهي في عالم الاخرة بل كل هذه الدنيا مقدمة للوصول إلى تلك النعم الأبدية، ولأجل الوصول إليها لا بد من طاعة الله تبارك وتعالى لأن الحياة الأخروية رهن لعبادة الله وإطاعته فالإنسان يحتاج إلى حكم شرعي بهذا الصدد ليستحق بإطاعته ذلك الأجر والثواب. وكيف كان فحكم العقل معتبر إذا كان من المستقلات العقلية حسب مصطلح علماء الأصول أي ليست من الأحكام المشوبة بالأوهام التي نراها تسند إلى عقل خاص فتخالفه عقول الاخرين، إذا ثبت بالعقل مثل هذه القضايا يمكن استنباط الحكم الشرعي من خلال هذا الحكم واسناده إلى الله تبارك وتعالى لأنه هو الذي أعطانا هذا العقل حتى نعرف ما أراده منا. وهناك يتصالح العقل والنقل فلا يخالف بعضها بعضاً فهذا مؤدى القاعدة المعروفة( كل ما حكم به العقل حَكَمَ به الشرع وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل). وبذلك يظهر الجواب عن سؤال شائع في هذه الأيام بأنه إذا تعارض حكم الشرع مع حكم العقل فبأيهما نأخذ؟
الجواب أن حكم الشرع وحكم العقل لا يتعارضان. نعم يمكن أن نتوهم التعارض بينهما ولكن إنما ذلك هو من قصورنا نحن. فإما أننا لم

43


34

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

نعرف حكم الشرع حقيقة فنسبنا إلى الشرع حكماً حسب ظننا وليس في الواقع هو حكم الشرع وإما لم نعرف حكم العقل بالدقة ونسبنا إلى العقل حسب ما يقول الناس عقلي يحكم كذا وعقلك يحكم كذا. إذا كان أمراً نازلاً من الله تبارك وتعالى في كتابه وعرفنا بالقطع واليقين أن مفاد هذه الاية هو هذا الأمر فلا نحتمل فيه أمراً اخر أي يكون قطعيَّ الدلالة زائداً على أنه قطعي السند، فالقران الكريم قطعي السند، فإذا كانت اية في كتاب الله دالة على شي‏ء دلالة قطعية وكان في قباله حكم للعلم أو للعقل نظن أنه مخالف للحكم القطعي الشرعي فلعل عقلنا أخطأ في الاستدلال، وربما خانتنا أجهزة التجارب.


فكم من أحكام تنسب إلى العلم والتجارب العملية ثم تنسخ بعد حين، يقال العلم أثبت كذا وغدا يقال العلم أبطل كذا! ففي الحقيقة الحكم السابق لم يكن علمياً بل كان حكماً وهمياً خاطئاً ليس من العلم بل من الجهل وقد سميناه علماً. فيجب علينا بما أننا متدينون وطالبو الثواب الالهي في كل حركة وسكون، لأن كل حياتنا بشؤونها حياة العبد فيجب أن نعبد الله تعالى في جميع شؤوننا وحركاتنا وسكناتنا، فمن أجل الوصول إلى النتائج الأخروية لأعمالنا يجب معرفة أنها هل هي مطلوبة لله تبارك وتعالى أم لا؟ فإذا عرفنا ذلك من العقل وعرفنا أنها مطلوبة لله تعالى وقمنا به بقصد أداء الواجب الالهي صرنا مستحقين للثواب لأننا علمنا أن هذا العمل مطلوب لله وقمنا به لأجل هذه المطلوبية أي بقصد التقرب إلى الله. فهناك حكم شرعي اكتشفناه من خلال حكم العقل أي اكتشفنا مطلوبية هذا الأمر لله تبارك وتعالى فهو حكم شرعي أي علمنا أن الله تبارك وتعالى يأمرنا بهذا الأمر. ومن

44


35

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

 باب المثال حتى لو لم نجد في كتاب الله قوله تبارك وتعالى "إن الله يأمر بالعدل والاحسان" لكنا نعرف أن الله يأمر بالعدل والاحسان من خلال حكم عقلنا. ومن هذه الجهة يصير حكم العقل من مصادر الأحكام الشرعية أي أن أحكام الشرع تستنبط تارة من الكتاب القران الكريم وتارة من السنة وتارة من العقل. فالعقل هو أحد الأدلة الفقهية بشرط أن يكون حكماً صادقاً للعقل وأمارته أن يشترك فيه جميع العقلاء. أما قول القائل عقلي يقول كذا وعقل الاخر يقول بأمر اخر، فهذا ليس حكم العقل. فإذا أثبتنا شيئاً بحكم العقل بهذه الخصوصيات يصير هذا الحكم العقلي أحد مصادر الأحكام الشرعية وأنتم تلاحظون أن العلماء والفقهاء الكبار إذا كانوا بصدد اثبات الأحكام الشرعية يقولون أن لها أدلة أربعة: العقل والكتاب والسنة والاجماع. لكن قد يوجد في مثل هذه الأحكام المنسوبة إلى العلم أو العقل أو التجربة وما إلى ذلك ما يعارض الأحكام القطعية من الكتاب والسنة لكن القصور إنما هو في علمنا كما أنه يمكن أن نكون مخطئين في الاستنباط من الكتاب والسنة فجعلنا المدلولات الظنية مكان المدلولات القطعية. فالقاعدة الكلية أنه إذا كان عندنا حكم قطعي من الكتاب والسنة فمثل هذا الحكم لا يعارض حكماً من أحكام العقل القطعي الواقعي لكن ربما يعارض الأحكام المظنونة العقلية.

أسئلة وردود

هناك سؤال من شقين:

الأول: أنكم قلتم أن ال البيت عليهم السلام هم واسطة الفيض الالهي وكما

45


36

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

تعلمون وأنتم أستاذ كبير في الفلسفة أن مسألة الفيض مسألة إشكالية، وقد رد أبو حامد الغزالي على الفلاسفة في مسألة الفيض بأنها لا توافق قدرة الله سبحانه وتعالى على أن يقول للشي‏ء كن فيكون، فكيف يمكن أن نوفق بين الارادة الالهية ومسألة الفيض، ربما تعلمون أيضاً أن مسألة الفيض تصبح لا إرادية إذا ذهبنا بها إلى اخر المنطق.

الثاني: لو قلنا أن الأئمة وأهل البيت عليهم السلام كانوا كما قال صدر الدين الشيرازي حيث قال بأن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام هو الإنسان الكامل.. وأنهم وسائط الفيض فكيف يُعقل ذلك؟
الجواب: المسألة التي أشار إليها السؤال قد بحثها المتكلمون والعرفاء والفلاسفة وأهل الحديث، والمشكلة في حل هذه المسألة هو اختلاف المصطلاحات، فنحن إذا لاحظنا الألفاظ الواردة في القران الكريم وفي الأحاديث النبوية الشريفة نجد بعضها يحتاج إلى تفسير زائد على ما يعرفه العرف ونسمي تلك الايات بالمتشابهات فنجد في القران الكريم "الرحمن على العرش استوى"، "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" ومثل هذه التعابير الموجودة في القران الكريم توجد في الأحاديث الشريفة فالمسلمون سنّة وشيعة يؤوِّلون تلك الايات على وجه ينطبق على سائر الايات وعلى الأدلة العقلية. فكما تعلمون ورد في بعض الروايات أن "استوى" بمعنى إستولى. وكيف كان فهذا أمر يجب قبوله بأن اللغة لا تكون وافية لانتقال المعتقدات والإدراكات القلبية بصورة تامة وربما يكون في اللغة نقص وقصور يجب تكميله بالقرائن والكلمات الأخرى. مثل ذلك يجري في مصطلحات العلوم والفلسفة.

46


37

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

تعلمون أن الفلاسفة الإلهيين منذ القديم ذكروا أن الخلق من فيض الله تبارك وتعالى أو قالوا أنها صدرت من الله تبارك وتعالى وقالوا أول صادر هو العقل فتعبير الصدور والفيض تعابير شاعت بين الفلاسفة فالذين لا يعرفون هذه الاصطلاحات يحملونها على المعنى اللغوي، فالفيض في معناه اللغوي يتداعى المعنى اللا إرادي كالماء الذي يغلي ويفيض من الوعاء، وكذا الصدور يدل على أن شيئاً يخرج من محل المصدر فيجري إلى الخارج كصدور الماء من النبع. لكنْ هاتان اللفظتان قاصرتان عن إرادة المعنى المراد في الفيض والصدور غير المادّي، فإذا كنّا لا نسي‏ء الظن بالنسبة إلى قائلهما أمكن تأويلهما إلى معنى صحيح. فالغزالي من المتكلمين كان في بدو أمره مسي‏ء الظن بالفلاسفة وكتب كتابه المعروف تهافت الفلاسفة ولكن في كتابه إحياء علوم الدين نجد تعابير نظير ما ورد من كلام الفلاسفة ويصححه، وربما يكون ذلك دليلاً على تغيير في نظره في اخر عمره، أي لعلّه انتبه إلى أن مقاصد الفلاسفة غير ما فهمه أولاً ونحن نحيل الأمر إلى قضيتين مرددتين فإما أن يريد هؤلاء القائلون بالفيض والصدور ما هو خاص بالماديات ولا يوجد فيه إرادة واختيار فهذا غلط، وإما أنهم أرادوا بذلك ما يقصر عنه اللفظ، فهم وجدوا أن هذه اللفظة أقرب شي‏ء يدل على المراد وله تأويل صحيح كما أننا نؤول( استوى)( وجاء ربك) وما إلى ذلك من الألفاظ نؤولها على وجهها الصحيح فإذا جوّزنا هذا التأويل يمكن أن نقول أن مراد الفلاسفة الالهيين هو معنى صحيح، ونحن إذا قبلنا هذه التعبيرات نؤولها على وجه صحيح لا يعارض العقل ولا النقل.

وأما بالنسبة إلى السؤال الثاني فنقول: لا شك أن النبي إنسانٌ

47


38

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

كامل، وحسب ما جاء في كلام صدر المتألهين تبعاً للعرفاء أنه أكمل البشر، وهو الأنموذج لكل إنسان. هذا صحيح تماماً لا شك فيه وهو مؤيد بالوحي الإلهي، فالقائل بأن الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وسائط في الفيض، إذا أراد أن الإنسان الذي هو بشر يولد في زمن خاص ويموت في زمن اخر هو واسطة للفيوض التي كانت قبله بقرون وأحقاب، هذا المعنى لا يمكن قبوله، حيث لم يكن موجوداً فكيف كان واسطة؟! فإذا أردنا بالإنسان هذا الشخص المادي المولود في زمن والذي مات في زمن اخر لا يمكن أن يكون واسطة في الفيض إلاّ في الفيوض التي جرت في زمنه وعلى يده. ذلك كالمسيح بن مريم حيث يقول القران الكريم بشأنه "إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بأذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرى‏ء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تُخرج الموتى بإذني" الخلق وإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ينسبها الله تعالى إلى عيسى بن مريم حيث يقول "إذ تخلق" فإذا نسب هذا إلى إنسان اخر مثله أو أفضل منه لم يكن له مانع عقلي. نعم إذا قيل للمسيح أنت خلقت السموات والأرض قبل أن توجد لم يكن معقولاً لأنه متناقض في نفسه فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله يمكن أن يكون واسطة في الفيض بهذا المعنى أي القيام بأفعال إلهية بإذن الله أو بتعبيرنا أن يكون مجرى للفيض الإلهي وهو كالماء الذي يصدر من منبعه ويجري في هذا المجرى أو ما يحلو لكم من التعبير وكله ناقص لا يفيد المعنى الواقعي. أما بالنسبة إلى ما قبل وجوده فهل يمكن أن يكون واسطة في الفيض؟ هناك روايات تثبت مقاماً للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام غير المقام البشري الذي نعرفه يعبر عنه بالنور فهناك روايات كثيرة من

48


39

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

طرق الشيعة والسنة ان الله تعالى خلق قبل كل شيئ نور نبينا محمد صلى الله عليه وآله ثم جعله على شقين حتى انه ورد ذلك في كتب اهل السنة.وروي عنه صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: وخلق من نوري الجنة وكذا وكذا، وخلق من نور علي اللوح والقلم وكذا، فأنا لا أذكر كل التفاصيل لكنها موجودة في الروايات اجمالاً وتثبت مقاماً لهم يسمى بالمقام النوراني ونحن لا نعرف حقيقة هذا المقام ولا هذا النور ولكن حسب ما يستفاد من التعابير الواردة في الروايات له شأن قدسي كريم أفضل من الشؤون المادية وكان قبل خلق الماديات حتى أنه كان قبل خلق الجنة والنار واللوح والقلم والملائكة حسب الروايات.


أنا لا أقول أن كل هذه الروايات صحيحة لكن أقول لا يمكنني ردها فأي مؤمن عاقل له الجرأة على رد تلك الروايات ويقول عنها أنها كاذبة؟ فأي دليل على ذلك؟ فكما أننا لا نستطيع أن نثبت صحة جميع هذه الروايات من حيث السند والدلالة فكذلك لا يمكننا ردها.


إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد قال ذلك فكيف نواجهه إذا قال لنا بأي دليل كذّبت كلامي هذا؟ فماذا أجيبه؟ هل أقول له: كان لا يدركه عقلي؟ فإنه سوف يجيبني أن كثيراً من الأشياء لا يدركها عقلك. فليس لي رد هذه الروايات. فعلى فرض صدور هذه الروايات فلا بد أن يكون له معنى معقول فإذا قلنا أن هذا النور واسطة للفيض الالهي أي لخلق العالم "منه خلقت الجنة ومنه خلقت النار ومنه خلق اللوح ومنه خلق القلم" فمنه: أي له شأن الوساطة بوجه طبعاً، هذا المعنى يمكن أن يكون لهم مقام نوراني قبل خلق أجسادهم، وهو واسطة في الفيض بهذا المعنى أو بمعنى اخر لا نعرفه، فنحن لا نعرف كل المعاني وكل

49


40

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

الحقائق، فإذا كان وارداً من الله تبارك وتعالى أو من الأئمة الأطهارعليهم السلام نقول "امنا به كل من عند ربنا" "والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا". أما كنهه فلا نعرفه وليس علينا معرفته لأننا لسنا مكلفين بمعرفة كنه هذه الأمور لأننا لا نستطيع، فعلينا الإيمان بكل ما جاء به من عند الله فإذا كان هذا من الذي جاء به من عند الله فهو حق فلنلتزم به وإذا لم يتبين كنهه فليس لأحد رده إنما له أن يقول "امنا به كل من عند ربنا".

سؤال: نحن نعلم أن العالم اليوم يبلغ أكثر من ستة مليارات من البشر فهل معناه أن هذه المليارات سوف تكون وقوداً للنار؟
الجواب: ذكرت سابقاً أن المستضعفين لا يكونون وقوداً للنار إنما الوقود للنار الكافر الجاحد المعاند. أما الذي لم يستطع أن يعرف الحق وكان قاصراً عن ذلك فهو مستضعف وهم المرجون لأمر الله.

سؤال: من المعلوم وجود تلازم بين العقل والوحي، مع أن العقل قد يُخطى‏ء في أحكامه، فكيف ذلك؟
الجواب: العقلاء قد يخطئون في استعمال عقولهم فإذا أخطأوا في هذا الاستخدام ربما كانت أحكامهم غير صحيحة وهذا لا يمس العقل بسوء كما أن خطأ المحاسب لا يمس علم الحساب بسوء، فالعقل إذا كان له حكم صحيح من حيث هو عقل كان له عصمة، وهو في البديهيات والنظريات المنتهية إلى البديهيات على وجه صحيح، كما أننا نعرف أن الاثنين مع الاثنين يصير أربعة هذا حكم لا يخطى‏ء فيه أحد فالعقل في الأحكام البديهية وفي الأحكام النظرية المستنبطة من البديهيات على وجه بديهي مصيب ولذا نعرف الله بالعقل ونعرف

50


41

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

صحة النبوة بالعقل ونعرف الامام بالعقل، ولو لم يكن العقل معصوماً فبأي شي‏ء نعرف وجود الله؟ هل يمكن اثبات وجود الله بقول رسول الله صلى الله عليه وآله كأن نقول الله موجود لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قال أنه موجود؟ فبأي دليل يصح قول رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فعلينا أن نثبت وجود الله حتى نثبت رسالة رسول الله، وليس له سبيل إلاّ العقل. فلو لم يكن العقل معصوماً في فهم البديهي وما ينتهي إليه لم يكن لنا سبيل إلى معرفة الحقائق وعاد أمرنا إلى السفسطة.


نعم، العقل لا يدرك جميع المصالح والمفاسد فليس للعقل أن يعلم أن صلاة الصبح يجب أن تقام أو يجب أن تترك، أو أن صلاة الصبح يجب أن تكون ركعتين أو أكثر أو أقل، فليس للعقل سبيل إلى ذلك لأنه لا يدرك مصالح الركعتين أو مفاسدهما لأننا لا نملك تجربة في تأثير الركعتين إيجاباً أو سلباً وليس هناك حكم بديهي للعقل بأن الصلاة لا بد أن تكون ركعتين أو أقل أو أكثر. فليس للعقل سبيل إلى ذلك فلا يعارضه شي‏ء إنما السبيل في ذلك هو الرجوع إلى الوحي الإلهي فقاعدة الملازمة تسري فيما يحكم به العقل، وما للعقل إليه سبيل.

سؤال: كيف يكون العقل المعرض للخطأ والصواب بمستوى الحكم الشرعي الذي مصدره الوحي؟
الجواب: ذكرت أنه في بعض المسائل لا يمكن التمسك بحكم الشرع مثل إثبات وجود الله تبارك وتعالى، فإما أن نكون قد أثبتناه بالعقل أو لا يمكن إثباته إطلاقاً. فإذا اعتقدنا بوجود الله تبارك وتعالى إنما هو بحكم العقل. وهناك مجال اخر لا سبيل إليه للعقل حيث لا يحيط على جميع المصالح والمفاسد فلا بد من الرجوع إلى الشرع. وهناك مورد

51


42

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

يشترك فيه العقل والشرع مثل المعاد فأصل وجود المعاد أمر يدل عليه العقل والنقل. وكذلك كثير من الأحكام العملية مثل قبح الظلم وحسن العدل حيث يحكم بهما العقل والشرع. فالنسبة بين موارد حكم العقل وموارد حكم الشرع عموم وخصوص من وجه، ففي مادة يشترك فيها العقل والنقل وهي بعض العقائد والأحكام ففي العقائد كوجود المعاد وضرورة الوحي والرسالة وفي الأحكام مثل حسن العدل وقبح الظلم، فهذه مادة الاشتراك أما مادة الافتراق من جانب العقل فإثبات وجود الله وتوحيده يحتاج إلى العقل ولا يمكن للشرع الانفراد بالحكم في هذا المجال لأن إثبات الشرع يتوقف على إثبات وجود الله تبارك وتعالى وبالعكس هناك مجال واسع لأحكام الشرع لا سبيل للعقل إليها وهي الأحكام التعبدية الشرعية.

سؤال: متى يحصل الإنسان على السعادة الحقيقية؟
الجواب: السعادة الحقيقية إنما تحصل بدخول الإنسان في الجنة الأبدية فقبل ذلك لا توجد له سعادة حقيقية هذا إذا اعتبرنا السعادة غاية للحياة الإنسانية وأما إذا أردنا بالسعادة المعنى الذي له مصاديق كثيرة نسبية، ولا بأس بالتعبير عنها بالسعادة النسبية، فهذه السعادة يمكن أن يكون لها شؤون كثيرة وتحصل من أمور كثيرة فمنها سعادة الأسرة فالإنسان يمكن أن يكون سعيداً في بيته وأسرته وعند عائلته ولا يكون سعيداً في المجتمع كأن يكون عنده زوجة صالحة وذرية صالحة يعيش معهم عيشة طيبة خالية من النزاع والصراع فهذه حياة عائلية سعيدة ويمكن نسبة السعادة إلى مثل هذه الحياة بمعناها النسبي والمحدود ويصح أن يقال أن للعقل أن يدرك بعض شروط

52


43

العقل وقيمة المعرفة الانسانية

السعادة أو العوامل التي توجب للإنسان سعادة خاصة محدودة ونسبية ففي أي مجتمع يراعون النَظمْ الداخلي ولا يعتدي بعضهم على بعض تحصل لهم سعادة نسبية هي سعادة الأمن وإن كانوا لا يتدينون بأي دين فيمكن للإنسان أن يدرك بعض عوامل السعادة وتحصل له سعادة نسبية حاصلة بسبب رعاية ذلك الحكم وهذا ما أردت ذكره وأما السعادة الكاملة الحقيقية فهي حاصلة في حياة طيبة يراعى فيها جميع المصالح المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية أي العمل بجميع أحكام الله تعالى فهو حاصل نتيجة لجميع هذه الأفعال ولا يتيسر إلاّ لمؤمن ملتزم بالأحكام الإلهية وله عقيدة صحيحة وأعمال صالحة. قال الله تعالى "أما الذين سعدوا ففي الجنّة..".

53


44

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

بعد التعرض الى بعض المسائل المتعلقة بعلم المعرفة يأتي الدور لكي نشير إلى مسألة أخرى تتعلق بالمعرفة وهي المعرفة الدينية. حيث شاعت مؤخراً نظرية معروفة بسيلان المعرفة الدينية وعدم ثباتها وأن الإنسان الواحد ربما يستفيد من بعض النصوص الدينية أمراً ثم بعد زمن وبعد اطلاعه على مسائل أخرى من العلوم يستنبط أمراً اخر، كذلك تختلف الأقوام والأعصار في فهم المتون الدينية. هذه المسألة تتعلق بفروع من الفلسفة منها الفلسفة اللغوية والتحليل اللغوي، وفرع اخر يسمى هرمنوتيك وغيرها. وعلى الاجمال يريد أشخاص وفئات لأجل نوايا خاصة أن يؤوِّلوا المتون الدينية على وجه يحلو لهم فيتمسكون بأمور يأخذونها من هذا العلم أو ذاك، أو من فرعٍ من الفلسفة أو اخر، ومن هذه النظرية أو تلك، من علم المجتمع وعلم النفس إلى غير ذلك وفي الحقيقة يريدون أن يفسروا الدين حسب رأيهم وحسب أهوائهم فيعمدون إلى خلق نظرية علمية أو فلسفية تبرر لهم تلك الاستنباطات إن صح التعبير. وقد وصل الأمر إلى حد قال بعضهم أن الفهم الديني تابع لمجموعة علوم أخرى طبيعية واجتماعية وغيرها وكلما حصل تغير في أي واحد من هذه العلوم يحصل ذلك في فهمنا للدين، وقد مثل لذلك بمثال قال فيه أن مجموع معارف الإنسان

57
 


45

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

هو كشكل هندسي ذي أضلاع كثيرة فإذا تغير بعض أضلاعه طبعاً تتغير زواياه ويؤثر في تغيير الجميع فلا يمكن أن يدخل ضلع في شكلٍ كثير الأضلاع ولا يغير من موقف سائر الأضلاع. فمجموعة المعارف الإنسانية كشكل متعدد الأضلاع فإذا دخل فيه شي‏ء أو خرج منه أثر ذلك الخروج والدخول في جميعها، وبذلك أحدث نظرية هي أن المعرفة الدينية تابعة لجميع المعارف الأخرى البشرية وتتغير بتغير بعض منها ثم أدى ذلك إلى أن كل إنسان بما أن له علوماً يأخذها من التجارب ومن أي منبع اخر فإنما هو معرض للخطأ والإشتباه لأن هذه العلوم التي تهي‏ء له الأرضية لفهم الدين قد تتغير أي يظهر خطأها، فإذا ظهر الخطأ إنقلبت المعرفة الدينية، وهذا مشترك بين جميع الناس لا يستثنى منه الأنبياء أيضاً، فهم بشر كسائر البشر ومعرفتهم بالنسبة إلى الدين تابعة لذهنياتهم الاتية من قبل العلوم الطبيعية والاجتماعية المحصِّلين لها. فحتى إذا قلنا أن الله تعالى يوحي إلى نبيه شيئاً فليس هناك ما يضمن مطابقة فهم ذلك النبي للواقع بالضرورة لأن فهمه للوحي تفسير بالعلم الحصولي للعلم الحضوري، فإن ما يتلقاه من الوحي هو علم حضوري، ليس له لسان وليس له تفسير إنما يحتاج إلى التفسير بمعونة العلوم الحصولية التي حصلت للنبي صلى الله عليه وآله قبل تلقيه الوحي. ونحن نعلم أن النبي بشر كسائر الناس له معرفة حاصلة من الفرضيات والنظريات الموجودة في ذلك العصر كانبساط الأرض وعدم كرويتها، وكونها مركزاً للعالم، وأن الشمس تطلع من أفق وتسقط في أفق اخر وما إلى ذلك، فكانت ذهنيات النبي صلى الله عليه وآله حاصلة من تلك المعلومات الرائجة في ذلك العصر. فحتى النبي نفسه يخطى‏ء

58


46

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

في فهمه للوحي وربما يكون العالم الذي يأتي بعد 14 قرناً يفهم ذلك الوحي أحسن من ذلك النبي لأن لديه أرضية مناسبة جاءت من الإكتشافات العلمية بعد 14 قرناً، فالذهنية الحاصلة له لتفسير الوحي أفضل من ذهنية النبي! وأنتم تلاحظون أن هذه النظرية تؤدي إلى أي نتيجة يعني لا يمكن لنا التمسك بنص خصوصاً نصوص السنة، ولا يمكن لنا التيقن بفهم اية من ايات الله لأنها كلها معرضة للخطأ والاشتباه والتغيُّر في الفهم. ومثل هذا القائل ربما يقول أنا لا أدعي أن الدين يتغير، فإن الدين موجود عند الله لا نحيط به علماً أما ما ألقاه إلى النبي ففهم النبي له يمكن أن يكون خطأ، وبطريق أولى فهم العلماء ليس له ضمان في صحته فماذا نفعل؟ ليس لنا إلاّ أن نقول: لكل شخص أن يفتي في الدين حسب رأيه وليس لأحد الردُّ عليه ولا مناقشته، هذا يفهم حسب ذهنية خاصة والاخر يفهم حسب ذهنية أخرى، وليس لأحدهما فضل على الاخر فليس للشيعة فضل على السنة ولا العكس، ولا للوثنيين فضل على الموحدين ولا للموحدين فضل عليهم. كلهم تابعون لذهنياتهم المتهيئة لهم من قِبل المعلومات العادية التي جاءت من العلوم والعرف والعادات وعلى الاسلام السلام!! فماذا نقول في قبال هؤلاء؟!

هل للدين قراءة متعددة؟


قد يعبرون بصيغة أخرى جاءت من فرع اخر من العلوم الفلسفية والاجتماعية يقولون: إن للمتون الدينية قراءات مختلفة فلكل أحد قراءته الخاصة فليس لأحد أن يدين قراءة الاخرين فلكل أحد رأيه

59


47

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

ونظره، لا يدان أي نظر ولا رأي ولا فهم ولا قراءة! ولعلّ هذه الصيغة تحظى بنجاح أكثر لأن ذهننا مسبوق بتعبير "القراءات السبع" وما إليها! وكيف كان نحن نواجه هذه الشبهة التي هي أخطر شبهة واجهها الدين من بدء تاريخ الإنسان إلى اليوم، ولم يواجه أي دين بشبهة أخطر من هذه الشبهة ولم يسبق لها نظير في أي عصر وفي أي قطر من أقطار العالم. فهي شبهة مستجدة ولها خطرها الأعظم على الدين كله وعلى المعرفة الإنسانية بصورة عامة. أما ما يتمسكون به لإثبات هذه النظرية فمنها شبهات فلسفية ترجع إلى السفسطة وإلى الشكاكية ومنها ما يتمسكون به من وقائع تاريخية. يقولون مثلاً أن الفقهاء في عصر كذا كانوا يقولون بفتوى، ثم تغيرت هذه الفتوى، مثلاً الفقهاء المتقدمون كانوا يقولون بتنجس البئر بوقوع بعض الحيوانات فيها ويستندون إلى رواية لتطهير الابار بنزح دلو أو دلاء لكن تغيرت هذه الفتوى إلى أن الابار حيث تكون لها منبع فلا تتنجّس بوقوع النجس فيها، إلى كلمات أخرى تمسكوا بها من بعض العلماء، إن فتوى الفقيه البلدي يخالف فتوى الفقيه القروي لأن ذهنياتهم تتفاوت، أخيراً إلى ما ذكره الامام الراحل رحمهم الله من الأحكام الثانوية ومن الأحكام الأخرى التي للوليّ الفقيه أن يحكم فيها حسبما يراه من المصالح الأساسية للاسلام والمسلمين فقالوا إن هذا تغير في الفقه قد حصل حسب الظروف التي تقتضيها. فكيف نجيب على هذه الشبهات؟

إشكالية اللغة

أما الشبهة التي تقول أن اللغات تتغير من حين إلى اخر في المعاني

60


48

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

المختلفة وربما يستعمل لفظة في عصر لمعنى خاص ثم يتغير معناها في عصر اخر إلى معنى اخر، فالجواب على هذه الشبهة أنه هل تقصدون بذلك أن كل لفظة يتغير معناها عن المعنى السابق طيلة قرن أو طيلة سنة مثلاً أو تقولون بذلك على سبيل الموجبة الجزئية لا الموجبة الكلية؟ إذا كنتم تقولون أن كل الألفاظ تتغير وكل المعاني تتفاوت عند الأشخاص فمعنى لفظة عند شخص غيره عند شخص اخر فهذا أمر واضح البطلان. وإذا كان ذلك كذلك فالقائل بهذا الكلام لا يفهم ما نريد ولا نحن نفهم ما أراده هو، لأن لدينا ذهنية خاصة بنا ولديه ذهنية خاصة به هندسة معلوماتنا الذهنية غير هندسة معلوماته بحسب تعبيره حيث قال المعلومات عندنا لها هندسة خاصة تتغير بدخول ضلع وخروج ضلع فهندسة المعلومات عندنا غير هندسة المعلومات عنده فلا نحن نفهم ما يقول ولا هو يفهم ما نقول! وإذا قيل أن اللغات تتغير في الأزمنة المتمادية فنحن نسأل مرة أخرى: هل يوجد لفظة واحدة لها معنى ثابت من السنة الماضية إلى هذه السنة؟ إذا قلتم يثبت المعنى في السنتين نقول هل يوجد لفظ يثبت معناه في قرنين؟ وإذا اعترف بإمكان ذلك نسأله مرة أخرى: فهل يمكن ذلك في أربعة عشرة قرناً أم لا؟ من الواضح أنه لا دليل على عدم إمكان الثبات في أربعة عشر قرناً، فإذا اعترف بأنه يمكن أن يوجد لفظة واحدة كان لها معنى خاص عند نزول القران الكريم والان كذلك لها نفس المعنى فنقول كيف تتميز هذه اللفظة من سائر الألفاظ؟ فلفظة الإله في قوله تعالى "إلهكم إله واحد" نفهم منه نفس المعنى الذي كان يفهمه المخاطب منذ أربعة عشر قرناً أو تغير معنى الإله؟

61


49

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

فإذا تغير فإلى أي معنى اخر تغير؟ فهل يمكن أن يتغير معنى الإله فيصبح بمعنى السماء أو الأرض أو غيرهما؟ لا بد أن يكون مناسبة بين المعنى السابق والمعنى اللاحق فكيف يحصل ذلك التناسب وكيف تثبت تلك المناسبة؟ والحاصل أنه إذا كان القائل يقول أن كل المعاني لكل الألفاظ تتغير في الأزمان المتمادية فلازم ذلك أن لا نعرف من معلومات الماضين واحداً من المعاني التي أرادوها فلا نعرف معنى الرياضة ولا الحساب ولا الحقوق ولا الجغرافيا والهندسة والقانون ولا أي شي‏ء فهل يوجد كلام أفضح من هذا الادعاء؟ وهل يتوافق معه عاقل أن كل العلوم الماضية قد تغيرت فلا نعرف منها حرفاً واحداً! فالقول بتغير الجميع أمر باطل لا يتفوه به عاقل، وأما تغير البعض فيبقى السؤال: كيف يتميز هذا البعض الذي تغير معناه عن سائر الألفاظ؟ أنتم تقولون أن الوحي قد تغير معناه، فما الدليل على تغير معنى الوحي دون تغير السماء أو الأرض؟ ما وجه الفرق بين تغير بعض الكلمات وعدم تغير البعض الاخر؟


نعم يمكن أن نفرق بين الألفاظ بوجود قرائن وشواهد على التغير حيث نرى لفظة في كلام استعمل في معنى فبمعونة قرائن حافة بذلك الكلام نعرف أن مراد المتكلم من هذه اللفظة في ذلك العصر هو هذا المعنى، واليوم نحن نعرف من هذه اللفظة معنى يتفاوت معه قليلاً أو كثيراً. هذا ممكن وموجود في كل الألسنة وفي كل اللغات وذلك قد يكون باستعمال اللفظ في معناه المجازي بمعونة القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، وقد يحصل له وضع ثانوي وكلها مذكورة في كتب أصول الفقه لكن هذا تابع لشروط وظروف خاصة، والأصل عدم

62


50

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

التغير، فالتغير إنما يثبت بمعونة قرائن على تغيره والأصل في المحاورات العرفية وفي محاورات العقلاء أن يكون للألفاظ معان مضبوطة فعلى سبيل الموجبة الجزئية نقبل أن بعض الألفاظ يتغير معناها وله قواعد أما الموجبة الكلية فالجواب سلبي فالتغير إنما يحصل في موارد نادرة قليلة بمعونة القرائن والأصل عدم تغير المعنى عند العقلاء.

اشكالية تغير الفتاوى

أما ما تمسكوا به من تغير الفتاوى فنحن نعلم أن في فقهنا وفي فقه إخواننا أهل السنة وفي فقه جميع الأمم توجد نظريات مختلفة، وهذا الاختلاف قد يكون في زمن واحد بين شخصين أو في زمنين حتى لشخص واحد، فنحن نعرف أنه ربما يحصل اختلاف في الفتوى لمجتهد واحد كأن يفتي بشي‏ء ثم تتغير فتواه.


هذا موجود كما أن اختلاف الفتوى بين أشخاص مختلفين في زمان واحد أو في أزمنة مختلفة أمر واقع نعرفه جميعاً، حتى أن البسطاء الأميين يعرفون أن فتاوى الفقهاء تختلف فلا يتعجبون من ذلك وليس هذا شيئاً جديداً أتى به علماء هرمنوتيك، بل هذا الاختلاف في الفتوى ينشأ من عوامل مختلفة فربما يحصل المجتهد على دليل جديد لم يكن حاصلاً له قبل ذلك فيجد كتاباً جديداً أو يحصل على نسخة صحيحة لم تكن موجودة عنده فيغير فتواه لذلك أو لأجل عوامل أخرى، مثلاً كان يزعم أن معنى هذه اللفظة في اللغة كذا ثم حصل على منابع أخرى في اللغة وفي الأدبيات فوجد لها معنى اخر فتيقن أن

63


51

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

المعنى المراد من هذه اللفظة في هذه الرواية هو ذلك المعنى وهناك دلائل أخرى على تغير الفتوى. فتغيُّر الفتوى أمر مسلم به لكن السبب في تغير المعنى ليس تغير الفهم الديني تبعاً لتغير الذهنيات الاتية من قبل العلوم الطبيعية فليس اختلاف الفتاوى بين المجتهدين تابعاً لاختلاف العلوم الطبيعية. ربما لا يطّلع المجتهد على نظرية جديدة في علم الفيزياء أو الكيمياء أو أي علم اخر ولا يعرف هذا الاختلاف لكن تختلف فتواه بالحصول على منبع اخر أو دليل اخر، فالتغير في الفتوى على نعت الموجبة الجزئية واقع لكن ليس معلولاً لتغير الذهنيات الاتية من العلوم الطبيعية، واختلاف النظريات في تلك العلوم لا صلة بينها وبين اختلاف الفتوى فالتمسك لتعليل اختلاف الفتاوى بأن الفهم الإنساني يختلف تبعاً لاختلاف العلوم الطبيعية والاجتماعية أمر غير واقعي وهي مغالطة واضحة.


والحاصل أنّا إذا شككنا في أن هذه اللفظة كان لها نفس المعنى الذي نفهمه اليوم أو صار لها معنى اخر تغير، فبناء العقلاء على أن المعنى ثابت ولا يعتبرونه متغيراً إلاّ إذا وجد لهذا التغير قرينة خاصة شاهدة على التغير، فالتغير خلاف الأصل لا أن الأصل هو التغير. هذا أولاً، وثانياً إن القرينة لهذا التغير ليس التغير في العلوم الطبيعية فإذا تغيرت نظرية نيوتن إلى نظرية أنشتين فهل تختلف فتاوى الفقهاء لأن هندسة علومهم قد تغيرت؟ واضح أنه لا صلة لتغير الفتاوى بهذه المسائل وهذه مغالطة واضحة يجب التنبه لها. والتفسيرات والتأويلات التي يعبّر عنها بتغييرات الهرمنوتيك فقد يتمسكون بتأويلات العرفاء وأنتم تعلمون أن كثيراً من العرفاء يقولون أن لظواهر القران الكريم

64


52

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

تأويلات ويذكرون بشأنها أموراً ونضيف هنا أنه في بعض رواياتنا قد توجد مثل هذه التأويلات وقد يعبر عنها بالبطون فالقائل بهذه الفرضية يقول أن تأويلات العرفاء شاهدة على أن للإنسان أن يؤوّل بما يحلو له من المعنى. والجواب: إن التأويلات إنما تكون مقبولة حيث لا تُعارض الظاهر من النص يعني إذا قال قائل بأن المراد من أقيموا الصلاة هو ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وليست الصلاة واجبة كما ربما نقل عن بعض الغلاة فهذا أمر مردود مرفوض بشدة ولا يقول به قائل يُعتنى بشأنه من المسلمين أعم من السنة والشيعة، أما ما يقال من أن لهذا الظاهر علاوة على المعنى المستفاد من ظاهر اللفظ معنى اخر هو بطن المعنى الظاهر وله مناسبة بهذا المعنى فهذا لا يمكن رده خاصة بالنظر إلى ما ورد من الروايات الكثيرة القائلة إن للقران ظهراً وبطناً وفي بعضها إلى سبعة بطون أو سبعين بطناً. ونؤكد على أننا لا نستطيع رد جميع تلك الروايات وليس الأمر دائراً بين أن نثبت جميعها وبين أن نرد جميعها، فهناك حد فاصل بين رد الجميع وقبول الجميع فيمكن أن يكون بعضها صحيحاً لكن ليس معناه أن نرد ظواهر الكتاب والسنة ونفسر الايات حسبما يحلو لنا وحسب رأينا وهذا هو التفسير بالرأي الممنوع والملعون من قِبل أهل البيت عليهم السلام، فالتفسير بالرأي للمتون الدينية يساوي رفض الدين كله لأنه إذا كان لأي انسان أن يفسر أي نص بما يحلو له فما يبقى للدين؟ فكيف ندافع عن الدين؟ عن أي شي‏ء من الدين؟


فإذا أردنا أن ندافع عن الاسلام فعن أي معنى ندافع إذا لم يمكن إثبات شي‏ء خاص للدين الإسلامي في عقائده وفي أحكامه؟ فبالنسبة

65


53

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

إلى التوحيد تقول قراءة مجموع الأشياء هو الله وقراءة أخرى تقول الله رمز للأخلاق الفاضلة كما قالوا، فهل الدين يدعو إلى الأخلاق الحسنة وجعل له رمزاً أسماه "الله"؟! وإذا لم تكن هناك قراءة معينة ومعنى ثابت للمتون الدينية فكيف ندافع عن الإسلام؟ والحال أن القائل يقول لا فضل للسنة على الشيعة، ولا للشيعة على السنة، ولكل واحد قراءته، بل لا فضل لملحد على موحد، ولا لموحد على ملحد، لأن له قراءته الخاصة. ذكر بعض إخواننا في كندا أنه ابتدع قسيس فرقة جديدة في المسيحية وهذا أمر شائع عند النصارى سئل هذا القسيس ما رأيكم بما أنكم مؤسسون لهذه الفرقة عن مسألة الجنس اللوطي "فأجاب بأني فعلاً لا أصرح بنظر لكن علينا أن نقرأ الإنجيل قراءة جديدة" وأنتم تعلمون أن في الانجيل وكالتوراة والقران يعد هذا العمل من أشنع الأعمال، أعمال قوم لوط، وهو يقول يجب علينا أن نقرأ الإنجيل قراءة أخرى يشير إلى أنه جائز وهذه قراءة جديدة للإنجيل! وقد أخذ مثقفونا هذا الإصطلاح من الغربيين وأدرجوه في الثقافة الإسلامية وقالوا أن للقران قراءات مختلفة لكل واحد قراءته ولا يمكن لنا رفض قراءة أو ترجيح قراءة على قراءة أخرى اللهم إلاّ بموافقتها للنظريات العلمية. إذا وجدنا أن قراءة خاصة تتوافق مع النظرية العلمية السائدة فمع الإعتراف بأن هذه النظرية ربما تكون خاطئة لكن نرجح هذه القراءة لموافقتها لها. التحصليون يقولون أن العقل إسم لا معنى له وليس في الإنسان شي‏ء خاص بإسم العقل إنما للإنسان حواس فقط فإذا وافقت قراءة لنظرية علمية كانت هي الأرجح وإلاّ فالجميع يتساوى بعضه ببعض! وفي ذلك القضاء على

66
 


54

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

الاسلام وعلى كل دين! إذا تساوى الإلحاد والتوحيد فأي شي‏ء يبقى للدين! وفي ضوء هذه النظريات العلمية ذكروا أن القراءة الجديدة للإسلام المعتبرة هي أن كل الأحكام الإسلامية كانت مؤقتة وكان لها تاريخ قد مضى أجله، فالحدود الإلهية إنما كانت لزمن خاص قبل أربعة عشر قرناً، فبعد عصر الحداثة لا يبقى مجال لهذه الأحكام والإنسان اليوم يطلب حقوقه ولا يفحص عن واجباته. قبل هذا العصر كانت الأديان توجه الإنسان إلى واجباته لكن بعد ذلك تحول الإنسان إلى إنسان اخر، هذا الإنسان لا يبحث عن واجباته إنما يبحث عن حقوقه حتى يأخذها من المجتمع ومن الله إذا كان هناك شي‏ء باسم الله فلا مجال للبحث عن التكاليف والواجبات هذا أمر قد انقضى أجله فالقراءة المعتبرة اليوم هي هذه القراءة وهي أن الأحكام الإسلامية كلها قد نسخت، لم تنسخ من قبل الله بل نسخت من قبل العقل ولا مجال لإجراء هذه الأحكام اللهم إلاّ بعض المناسك العبادية التي هي أمور اعتبارية، مثلاً لا بأس أن نصلي إلى القبلة أو بالإتيان ببعض المناسك لأن هذا أمر شخصي يدور حول اراء الأشخاص وسلائقهم وما يحلو لهم من الاداب والمناسك وليس لها شأن هام فليكونوا على ارائهم فيختاروا ما يحلو لهم من المناسك والاداب فهذا يسجد لموجود موهوم( العياذ بالله) اسمه الله. هذا من الأمور الاعتبارية الموجودة عند الناس حسبما يحلو لهم من الاداب وهذا هو مجال الدين، ونطاق الدين وليس للأمور الدينية واقع ولا يمكن تصديقها أو تكذيبها فإن هذه الأمور الاعتبارية لا واقع لها حتى يطابق الواقع فيصدق أو يخالف الواقع فيكذب إنما هي أمور اعتبارية

67


55

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

موهومة فليشتغل الإنسان بما يحلو له من هذه الإعتبارات كالشاعر مثلاً يجلس في بيته فيخاطب القمر ويخاطب الريح أو يخاطب مخاطباً موهوماً فليشتغل بما يحلو له، والمتدين مثله يخاطب موجوداً اسمه الله يسجد له ويناجيه.


أما الحقائق الاجتماعية الواقعية من القانون، من الحقوق، من السياسات فليس للدين فيها شأن. وهذا ما يعبَّر عنه بالعلمانية وهو ما ينادي به المثقفون الجُدُد حتى في البلاد الإسلامية. وهو كما ذكرت أكبر خطر على الإسلام وعلى الدين وعلى الأخلاق والإنسانية جمعاء نسأل الله أن يوفقنا للرد على هذه الشبهات الواهية الشيطانية فهو جهادٌ لا يقل عن الجهاد العسكري قيمة فإذا لا سمح الله قصرنا في هذا الجهاد فسوف تتعرض الأجيال القادمة للكفر والإلحاد، والعياذ بالله.
فمن أوجب ما يجب علينا في هذا العصر الجهاد الثقافي وبيان هذه الحقائق والرد على تلك الشبهات.

أسئلة وردود


سؤال: البعض يعتمد على العلم والعقل في ثبوت الهلال وحقوق المرأة وحرية الإنسان والكثير من الأحكام الشرعية فما رأيكم؟
الجواب: أنا ذكرت رأيي أنه إذا ثبت شي‏ء بالدليل العقلي القطعي كان حجة من الناحية الشرعية، أمّا في ثبوت الهلال فإذا اعتمد على دليل قطعي كان حجة بالنسبة إلى نفس الشخص يعني أيّ شخص قطع بثبوت الهلال وجب عليه الإفطار أو الصوم من أي طريق حصل

68


56

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

له ذلك القطع. لكن سائر المسائل ليس لها دليل عقلي أو هي معرضة لمغالطات كثيرة يجب التجنب عنها وتجنب القياس في الدين "والسنة إذا قيست محق الدين". ولعل من نقل عنه هذه الأمور أراد ما ثبت بالعلم القطعي والأحكام اليقينية للعقل فإذا أراد ذلك فهو ما ذكرت أنه مصداق لقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع.

سؤال: ذكروا تفسيراً للفيض بأن الله تعالى يعطي الوجود لمن له قابلية الوجود وليس له إرادة في ذلك؟
الجواب: هذا تفسير خاطى‏ء، القائلون بالفيض وبالصدور وبتعبيرات أخرى يصرحون بأن أعلى مراتب الإختيار ثابتة لله تعالى وأنه لا يمكن تصور مرتبة من الإختيار أعلى من الاختيار الموجود لله تعالى وكل الاختيارات في غيره تبارك وتعالى اختيارات محدودة قاصرة أما بالنسبة إليه فهو اختيار تام، أنا مختار في أن أتكلم ويعدّ هذا مصداقاً كاملاً للاختيار أما هل يمكنني أن أتكلم بعيني أو أتكلم بأُذني أو يجب عليّ أن أتكلم بلساني فقط لأن الله خلقني وجعل مجرى كلامي اللسان، أما الله تعالى فخلق حيث شاء وكما شاء، يحيي كما يشاء ويميت كما يشاء، ويفعل ما يريد ولا يسأل عما يفعل. فالاختيار الكامل بمعناه الدقيق مختص بالله تبارك وتعالى فمثل هذا القائل إذا عبّر بالفيض أو الصدور فهل يمكن أن يكون أراد سلب الاختيار عن الله تعالى؟

سؤال: هناك العديد من الأحكام الشرعية والفقهية غير متعرض فيها للإجماع وربما يختلف على حكم واحد أكثر من مجتهد فكيف تفسرون ذلك وما هو موقف المكلف؟

69


57

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

الجواب: ليُقارَن ذلك باختلاف الأطباء في معالجة مريض، فطبيب يقول أن هذا المريض يجب أن يعالج على هذا الوجه، واخر يقول يجب أن يعالج على وجه اخر فهما يختلفان على طرفي الخط يقول أحدهما إذا عملت بهذا الدواء يموت مريضك واخر يقول خلاف ذلك، فحينئذٍ ماذا يفعل المريض؟ لا بدّ أن يأخذ برأي الأعلم. هذه قاعدة عقلائية.

سؤال: أذكروا بعض الفتاوى والإختلافات في موارد اختلاف الأحكام الفقهية؟
الجواب: لا تنحصر في حكم أو في موضوع خاص فالاختلافات كثيرة. فمن الفقهاء الكبار من يقول بوجوب صلاة الجمعة عيناً وبعضهم يقول بحرمتها وأنا أتذكر في قم أن اية الله العظمى البروجردي كان يدرِّس في صحن حرم المعصومة عليها السلام وفي نفس الوقت كان اية الله العظمى السيد محمد تقي الخوانساري يدرِّس في المدرسة الفيضية. فالسيد البروجردي كان يصر على عدم وجوب صلاة الجمعة وكان يصر السيد الخوانساري بوجوبها عيناً، لكن هذه الاختلافات موجودة في الأمور الظنية لا في كل شي‏ء، ففي الأمور القطعية لامجال للاختلاف بل لا مجال للتقليد فلا يجب التقليد في أن صلاة الصبح ركعتان لأن هذا من ضروريات الإسلام، فالتقليد إنما يجب في المسائل التي لا علم للمكلف بالنسبة إليها فيرجع لأجل جهله إلى العالم الفقيه الأعلم ومثل هذا الاختلاف في الأمور الظنية لا يوجب توتراً في المجتمع.

سؤال: هل تثبت الحجة بشكل متساوٍ على من يولد في بيئة مسلمة

70


58

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

كمن يولد في قم أو لبنان وعلى من يولد في أميركا أو فرنسا وهل هذا فيه عدل مع أننا نؤمن بتأثير البيئة؟
الجواب: نعم نحن أيضاً نؤمن بتأثير البيئة وتأثير المجتمع لكن هناك أمران:

الأول: أن هذا التأثير لا يصل إلى حد الجبر بحيث لا يمكن للإنسان مخالفته وكلنا نعلم أن في الثورات الحاصلة في المجتمعات المختلفة قد وقع فعل مخالف لما يراه المجتمع وتقتضيه البيئة وربما غير شخص واحد القيم الاجتماعية السائدة في تلك المجتمعات فالفرد ليس مجبوراً في رأيه وهذا أمر يجب التنبه إليه.
الثاني: أنه هل يتساوى من يولد في دار الاسلام ومن يولد في دار الحرب؟ طبعاً لا يتساويان لكن ليس معنى عدم التساوي معذورية الكافر الذي ولد في دار الحرب إذا بقي له احتمال بشأن صحة الاسلام، احتمالاً معتداً به، بل يجب عليه الفحص، طبعاً مثل هذا الرجل في فحصه يتحمل متاعب ومصاعب لأجل ذلك يكون له أجر أكثر، أما إذا قصّر فيها وتكاسل عن الفحص والتحقيق فلا يكون معذوراً فعدم التساوي يكون في الأجر حيث أن الموجود في دار الحرب يفحص ويتحمل مصاعب أكثر ويكون له أجر أكثر. مثله كمثل المولود من الزنا هل يمكن له الايمان والعمل الصالح؟ نعم يمكن، وهل تؤثر فيه ولادته غير الطيبة؟ نعم تؤثر لكن هذا التأثير لا يوجب جبره على العصيان وإنما يوجب صعوبة الإطاعة، وبنفس تلك الصعوبة يتعاظم أجره. هذا المولود من الزنا تصعب عليه الإطاعة لكن إذا تحمّل هذه الصعوبة كان له أجر أكبر من الذي ولد ولادة طيبة وهذا مقتضى

71


59

المعرفة الدينية بين الثبات والتغير

العدل أما احتمال أن يكون هذا المولود معذوراً عن قبول الدين والعمل الصالح فليس ذلك بصحيح لأنه له الاختيار وإن كان صعباً عليه.

السؤال: ما هو رأيكم بالنسبة لخطبة البيان؟
الجواب: أنا لم يتيسر لي تحقيق ذلك.

72


60

العقل وأصالة القيم

ذكرنا سابقاً أن هناك جماعة من المفكرين الغربيين يزعمون أنه لا شي‏ء في الإنسان يسمى بإسم العقل أساساً ويعرفون عادة( بالتحصليين)، وجماعة أخرى يزعمون أن العقل له أحكام نظرية يصطادها من التجارب العينية وأما الأحكام التكليفية الدستورية كمثل ينبغي أو لا ينبغي، يجب أو لا يجب، يحسن هذا الفعل أو يقبح، فأمثال هذه القضايا المتصدرة عادة ب "يجب" أو "لا يجب" هي ناشئة عن أحاسيس شخصية وطموحات ربما يشترك فيها كثيرون وقد يسمون ذلك بالعقل العملي الحاكم في الأفعال، ب "يجب" أو "لا يجب" ونحو ذلك، وهناك فئات أخرى من المفكرين من مدارس غربية شتى في الفلسفة.

طبعاً إشباع البحث في هذه المسائل يحتاج إلى مجال أوسع ومجالنا يضيق عن ذلك، ولكن نطرح هذه المسائل بصورة مضغوطة فنشير إلى أهمها مما يرتبط بأهدافنا.

إثبات وجود العقل

1- العلّية أصل عقلي

أما القائلون بأن لا قوة للإنسان تسمى بالعقل فنحن نسألهم، هل

75


61

العقل وأصالة القيم

تدركون مثل هذه القضايا ولديكم أحكام عقلية بشأنها: الشي‏ء (ألف)علة للشي‏ء (ب)، هل تعرفون معنى هذه القضية أو لا تعرفون؟
لا نظن إنسانا عاقلا ينكر هذه القضية الحاكية عن علية وسببية شي‏ء لشي‏ء، فنسألهم بما أنكم عرفتم مفهوم العلية والسببية، فمن أي شي‏ء أخذتم هذا المفهوم؟ يقولون إذا استعملنا عاملا وسببا نجد خلفه وبعده أثراً خاصاً يستند إليه فيقال هذا علة وسبب لذلك، فإيقاد النار يوجب الحرارة ولذا نقول النار علة للحرارة.


فنسألهم ثانيا ماذا رأيتم في إيقاد النار؟ إنما رأيتم النار تشتعل والحرارة تحرق، فكيف فهمتم وعلمتم أن بين إيقاد النار وحدوث الحرارة ارتباطاً حقيقياً؟ فما تراه العين هو اشتعال النار وما تدركه اللامسة هو حدوث الحرارة، أما علية هذا لذاك فليس يدركه حس من الحواس. يجيبون أنه لا نريد من العلية إلا نفس ذاك، فالعلية لفظة تحكي عن حدوث الحرارة بعد إيقاد النار لا يعني شيئاً وراءه ويعبر عنه بأن العلية بين شيئين هي تعاقب أحدهما للاخر مثل تعاقب حدوث الحرارة لإيقاد النار، فالعلّية لا تعني غير ذلك.


فيقال لهم مرة أخرى: قد يحدث أمران متقارنان ونحن نحكم أن أحدهما سبب للاخر، مثلا نأخذ المفتاح ونحركه فينفتح الباب فهناك ثلاثة ظواهر: حركة اليد وحركة المفتاح وانفتاح الباب، وكلها تحصل في زمن واحد، فهل حركة اليد سبب لحركة المفتاح أو حركة المفتاح سبب لحركة اليد؟ أم أنه ليس هناك علّية لأن هناك أمرين متزامنين لا متعاقبين.
ربما يجيب بعضهم بأن العلية قسمان: قسم منه يعني التعاقب،

76


62

العقل وأصالة القيم

وقسم منه يعني التزامن، فنقول لهم: حركة اليد وحركة المفتاح متزامنان، فأيهما علة للاخر؟ فإذا كانت العلية تعني التزامن في هذا القسم فهل يمكن اعتبار حركة المفتاح علة لحركة اليد كما يمكن اعتبار حركة اليد علة لحركة المفتاح لأنهما متزامنان؟ فلا جواب لهم بعد ذلك ويعرف كل عاقل أن حركة اليد علة لحركة المفتاح مع أنهما يحدثان في زمن واحد، فالحاكم بهذا نسميه "العقل".

2- التناقض أصل عقلي
مثال اخر نحن نجد الدف‏ء والحرارة بالهواء ونتيقن أن البرودة غير موجودة في الهواء لوجود الحرارة فيه، وأن داخل الغرفة منور بالمصباح الكهربائي غير مظلم ولا يمكن أن تكون الغرفة مظلمة في نفس الوقت التي تكون مشرقة، ولا يمكن أن تكون دافئة في نفس الوقت الذي تكون فيه باردة، وهذا الحكم يعبر عنه بامتناع التناقض، فالتناقض محال ممتنع( الجمع بين النقيضين في زمن واحد من حيثية واحدة) فهذا الحكم بالإمتناع والاستحالة في الجمع بين النقيضين من أين يعرف؟ فالحس أكثر ما يمكنه أن يعرف أن شيئاً ما موجود، أما أنه يستحيل أن يكون نقيضه موجوداً أيضاً فلا يدرك الحس ذلك، وبالعكس من ذلك فإن الحس ربما لا يجد شيئاً فيحكم بأنه غير موجود( إذا كان مثل هذا الحكم صحيحاً)، فهل يمكن أن يحكم بأنه يستحيل أن يكون موجوداً في نفس الوقت الذي هو غير موجود؟ فالحكم بالاستحالة من أي قوة قد صدر؟ ونحن نجد أمثال هذه الاحكام في أنفسنا وأمثال ذلك كثيرة كالحكم. بالإمكان وبالضرورة وبالإمتناع فهذه أحكام عقلية،

77


63

العقل وأصالة القيم

فالإمكان لا يدركه الحس وكذا في قولنا "إذا كانت النار موجودة كانت الحرارة موجودة بالضرورة" فهذه الضرورة كيف تدرك وبأي قوة مدركة؟ وكذلك في قولنا "إذا كانت العلة التامة موجودة يستحيل عدم وجود معلولها "فالحكم بالإمكان وبالضرورة وبالإمتناع وما إلى ذلك من الأحكام التي هي كثيرة كل ذلك لا يدركها الحس مباشرة، فلنا قوة تدرك هذه المفاهيم والأحكام نسميها بالعقل. فالدليل على وجود العقل وجود هذه الأحكام التي لا يمكننا إنكارها، فبهذا البيان البسيط القريب من البديهي أو البديهي يمكننا إثبات قوة باسم العقل، لكن هذا العقل هو العقل النظري أي هو الذي يدرك وجود شي‏ء أو عدمه، فيدرك ما وقع وما سيقع.


أما القوة التي تحكم بالحسن والقبح، بالواجب وغيره، ب "ينبغي" أو "لا ينبغي" وأمثال هذه الأحكام، فهذه القوة التي تسمى بالعقل العملي أحياناً، ربما لا ينكره أولئك المفكرون رأساً إلا أنهم يقولون بأن تلك الأحكام الصادرة من العقل العملي إنما هي تعبيرات عن أحاسيس وطموحات وميول لأنفسنا. فنحن نود أن يكون القائل لنا صادقاً في قوله فنقول الصدق حسن، ونحن نود أن يُحسن الاخرون إلينا فنقول الإحسان حسن، ونحن نود أن لا يظلمنا أحد فنقول الظلم قبيح، فكل هذه الأحكام العملية تعبيرات عن أحاسيسنا وميولنا ولا نحكي عن حقائق ثابتة وراء ميولنا وأحاسيسنا فليس هناك شي‏ء في الواقع إسمه الحسن حتى يدركه العقل، فغاية ما يمكن أن يقال بشأن هذه الأحكام لا أن هناك حقائق ثابتة يدركها العقل العملي بل إنما هي أحاسيس ونزعات وميول وطموحات في نفوسنا فنعبر عنها بالأحكام العملية.

78


64

العقل وأصالة القيم

الغرب ومسألة القيم

ثم لم ينشأ من هذا مسألة الفرق بين الواقع والقيمة، فيقولون: الواقع هو الحقائق الثابتة الخارجة عن إدراكنا سواء أدركناها أم لم ندركها، سواء شعرنا بها أم لم نشعر بها، فليست تابعة لإدراكنا، إنما علينا إكتشاف تلك الحقائق الثابتة خارج أنفسنا وأذهاننا وظروف إدراكاتنا، هذا هو الواقع، والإدراك المطابق لهذا الواقع يسمى حقيقة فالحقيقة هي العلم المطابق للواقع، فهناك واقعيات، والحقائق هي علوم تتعلق بتلك الواقعيات مطابقة لها.


أما القيم فليس لها واقع وراء إدراكنا على ما يقول هؤلاء فلكل إنسان حكم قيمي هو الذي يدركه بالعقل العملي لكن هذه الأحكام إنما تحكي عن أحاسيس ومشاعر في أنفسنا، فليس في خارج نفوسنا وفي الواقع العيني المستقل عن إدراكاتنا شي‏ء يسمى بالحسن، أي الحسن الفعلي والخير الاخلاقي والفضيلة وإنما هي علاقة بين أحاسيسنا والأشياء الواقعية.
فإذا كان لنا ميل إلى هذا الواقع ونود تحقيقه نقول يجب وينبغي وأما إذا لم يكن لنا ميل إليه نقول لا يحسن ذلك وإذا كنا ننفر من فعل بعض الأمور نقول يقبح، فكلمة القبح تعبر عن نفرتنا وعن الإحساس الموجود في أنفسنا لا عن شي‏ء اخر نكتشفه. فالحسن والقبح والواجب وغيره وما إلى ذلك من الأحكام العملية العقلية ليس لها واقع عيني موضوعي إنما هي أحكام ذاتية.


هذه النظرية شائعة في المدارس الفلسفية الغربية شيوعا واسعاً. والمفاهيم الدينية من وجهة نظر الثقافة الغربية الحديثة هي من هذا

79


65

العقل وأصالة القيم

القبيل، ويعبرون عن هذه الأحكام الدينية بالأحكام الاعتبارية ويقولون أن الأحكام الاعتبارية لا واقع لها ولا حقيقة لها، فالحقيقة هي الإدراك المطابق للواقع، فإذا لم يكن هناك واقع وإنما هو علاقة بين أنفسنا وشي‏ء اخر فليس له حقيقة أي لا يصل إلينا علم مطابق له، فلا معنى للمطابقة وعدمها، لأن المطابقة هي توافق شي‏ء مع شي‏ء اخر فإذا لم يكن هناك شي‏ء اخر باسم الوجوب فإدراك الوجوب ليس إدراكاً مطابقاً لواقع الأمر، وحيث لا يكون مطابقاً فلا يسمى بالحقيقة، فلا مجال للإتصاف بالحقيقة أو لا حقيقة، نعم تتصف الأحكام النظرية بالحقيقة أو غير الحقيقة أما القيم فلا تتصف بالحقيقة وإنما تعبر عن إحساسنا. فهذه مسألة هامة جداً وهي مبنى لكثير من الأبحاث الفلسفية العميقة والتي لها دور أساسي في الفكر البشري في هذا العصر وخصوصاً بالنسبة إلى المفاهيم الدينية لأن أكثر القضايا المتصلة بالدين هي في الواقع أحكام قيمية سواء في حقل الأخلاق أو القوانين الاجتماعية أو الأحكام المتعلقة بالأسرة أو بالرب تبارك وتعالى. فالمسائل العبادية تدخل في حقل القيم كقولنا يجب، يستحب أو ما يقابلها ك يحرم، يكره، فإذا قبلنا بأن الأحكام العملية لا واقع ولا حقيقة لها إنما هي تعبيرات عن أحاسيس واداب وتوافقات بين أشخاص وأقوام ليس وراءها شي‏ء اخر فيسهل الأمر بالنسبة إلى الأحكام الدينية. ومن هنا تطرح مسألة شائعة اليوم بإسم التساهل والتسامح، والأصل فيها أن أحكام القيم حسب نظرهم هي إعتبارات لا ينبغي التشدد فيها، فلكل قوم ما يحلو لهم من فعل خاص واداب خاصة ومناسك خاصة فليفعلوا ما يشاؤون فلا مشاحة في هذه

80


66

العقل وأصالة القيم

الاداب التوافقية والإعتبارات، فليتساهل الناس في هذه الأمور، إنما محل التشدد هو في الواقعيات ومصب العلوم التجريبية.

هل القيم نسبية؟

بحسب هذه النظرية فإن الأحكام المتعلقة بالعلوم والتي تكون طرقها تجريبية يجب النقاش فيها حتى نصل إلى نظرية أتقن وأقرب إلى الواقع، أما المسائل المتعلقة بالقيم فهي تابعة للتوافق بين الناس فإذا كان هناك مشاحة فإنما هي بعد الإتفاق على قبول أمر مشترك يتعلق بالجميع فيجب عليهم مراعاته لئلا يحصل الإختلاف والنزاع بين الناس فينجر إلى الفوضى. أما ما يتعلق بأنفسهم واسرتهم فهذا لا مشاحة فيه، فأهل دين يقولون بحسن شي‏ء وأهل دين اخر يقولون بقبحه فليتساهل في ذلك! فعلينا أن نلقي الضوء على هذه المسألة.


هل القيم أمور إعتبارية تابعة لأذواق الناس وتوافقاتهم وادابهم الخاصة أو لها حقائق وراء هذه الإتفاقات؟ والنتيجة لهذا الإختلاف تظهر في أنه إذا قلنا إن للقيم أرصدة واقعية يمكننا المناقشة في حسن شي‏ء وقبحه ولنا أن نستدل على حسن أو قبح شي‏ء لأن له رصيداً واقعياً، فنقارن بين هذه القيمة والرصيد الواقعي الذي خلفها فإذا تطابقت القيم مع أرصدتها الواقعية فنقول أنها قيم أصيلة وحقيقية وإن لم يحصل بينهما ذلك التطابق قلنا قيم زائفة غير حقيقية. فالتصديق بقيم وإدانة قيم أخرى سلبية إنما يصح إذا قلنا بأن وراء القيم واقعيات هي أرصدة لتلك القيم، وأما إذا قلنا بأن القيم هي مجرد إعتبارات فردية أو جماعية ليس وراءها شي‏ء فلا يمكن

81


67

العقل وأصالة القيم

الاستدلال لكون هذه القيم حقة. فإذا قلنا أن الأحكام الإسلامية حقة وقانون الشرع قانون حق يكون معناه أن هذه القيم لها أرصدة واقعية تابعة لمصالح ومفاسد موجودة في الخارج أو ينتهي تنفيذ تلك القوانين إلى تلك المصالح فهذه الأحكام تستند إلى خلفيات وأرصدة واقعية، ومعناه أن القيم ليست اعتبارية محضة فليست تابعة لأذواق الأشخاص وأحساسيسهم ومشاعرهم وإنما هي تابعة لأمور واقعية وإن كانت تقارنها طموحات ونزعات وميول أو نفور واشمئزاز في بعضها لكن الملاك الواقعي للحكم بالحسن والقبح وبالوجوب واللاوجوب هي تلك المصالح والمفاسد الواقعية.

هذه المسألة من شأنها أن تطرح على صعيد المباحث الفلسفية فيستدل عليها بالبراهين لكن وراء طرح هذه المسائل أغراض فردية واجتماعية فطرح هذه المسألة على صعيد البحث إنما حدث في العالم الغربي بعد عهد( النهضة)وبعد القضاء على الحكم الديني وهزيمة رجال الدين المسيحي في مقابل العلماء والمكتشفين، فدار النقاش حول الأحكام الدينية وما يتذوقه الناس ويَهْوَونه بأيهما يأخذون أما الدين فقد إنهزم في هذه المعركة، وأسباب الهزيمة كما تعرفون هي الخرافات الموجودة في الدين المسيحي، وما أضاف إليها أرباب الكنائس فانهزم الدين في معركته مع العلم لكن الذين كان لهم تعلّق بالدين ما كان يمكنهم رفضه تماما، فاحتالوا للمصالحة بين العلم والدين فانتهجوا مناهج كثيرة منها هذه القضية وهي الفصل بين الواقع والقيم فقالوا إن أحكام الدين من القيم والإعتبارات ولهذا لا تعارض الأحكام الواقعية للعلوم. فالعلوم تكشف الأحكام الواقعية

82


68

العقل وأصالة القيم

وللدين أحكام اعتبارية فالمناسك والاداب والمسائل الأخلاقية كلها من القيم فالحقل الذي يتعلق به العلم يختلف عما تتعلق به القيم فلا تعارض بينهما، وبهذا يتصالح الدين والعلم حيث توزع حقول المعرفة بينهما، فالحقل المتعلق بالواقع يتعلق بالعلم والذي تحكم فيه الاعتباريات هو للدين والاخلاق وما إلى ذلك. ولهم معالجات أخرى لعلنا نشير إليها في أبحاثنا اللاحقة.

علينا أن نتأكد من نتيجة هذا البحث هل للقيم رصيد واقعي أم لا. فطريقة البحث إذا كانت فلسفية يجب علينا إقامة البراهين على ذلك أو إقامة أبحاث جدلية كما فعلنا في البحث السابق حيث سألنا عن رأي شخص وحاولنا أن ندين اراءه خلال تلك المساءلات لكن هذا النوع من البحث يطول بنا إذا أردنا التفصيل فالنظرية التي نقبلها هي أن الاعتبارات المسماة بالقيم مختلفة لكونها تشتمل على الاداب الاجتماعية. فمن تلك القضايا ما هو تابع للتوافقات بين الأشخاص أو الجماعات ومنها اداب الإحترام والإكرام، فقوم لأجل إكرام الضيف أو شخص كريم يقومون له وقوم يجعلون أيديهم على رأسهم وبعض اخر يرفعون قلنسوتهم واما نحن فتحيتنا سلام "وتحيتهم فيها سلام" "فهذه الاداب لا تستند إلى أرصدة واقعية وإنما هي رسوم، لا يصح أن يقال أن هذا حقيقة وذاك ليس بحقيقة فليس لها حقائق إنما هي أمور يتوافق عليها، فمثل هذه الاعتبارات إذا سميناها أموراً دينية فهي لا تستند إلى خلفيات وأرصدة واقعية ولا يمكن الاستدلال على أن هذا الأدب هو الصحيح وسائر الاداب خاطئة لكن ليس معنى ذلك أن كل ما يسمى بالقيم أو الاعتباريات كذلك.

83


69

العقل وأصالة القيم

أصالة القيم

فحيث نقول حفظ الأمانة حسن فليس ذلك أمراً يُتفق عليه بل هو أمر به قوام المجتمع وكذا الصدق في الكلام أو العدل والإحسان، كل هذه المفاهيم لها أرصدة واقعية فإنه إذا لم يعتبر حفظ الأمانة في مجتمع فسوف ينتهي أمر هذا المجتمع إلى البوار وكذا صدق الحديث وسائر القيم الاخلاقية، إذا كان الكذب شائعاً ولم تكن له قيمة سلبية فلا يمكن لأي إنسان أن يعتمد على كلام الاخرين فتلغو فائدة التفاهم والأخبار، لأن كل قائل إذا كان من عادته أن يكذب فلا يعتمد على قوله فتسقط فوائد التفاهمات فلا ينتفع إنسان بإخبار اخرين. فهذه القيمة لها رصيد واقعي، أي رصيد يؤثر أثراً إيجابياً في حياة الإنسان في هذه الدنيا وما بعدها، فهذا القسم من القيم هو الذي يؤثر في حياتنا إما في سعادة الحياة أو في شقائها، بعبارة أخرى تؤثر في وصولنا إلى الغاية المنشودة أو ابتعادنا عن تلك الغاية. فإذا أثر عمل في اقترابنا من الغاية المنشودة يسمى حسناً ونقول يجب، أما إذا أثر في ابتعادنا عن الغاية والكمال المطلوب وسعادتنا في الحياة سواء الدنيوية أو الأخروية يسمى قبيحاً ونقول يحرم. فهذا الوجوب والحرمة غير ما تتصف به الاداب الاجتماعية التابعة للرسوم والتوافقات، فهناك مغالطة حيث يستدلون بالاداب الاجتماعية وكونها من التوافقات على أن كل القيم اعتبارية لا حقائق وراءها، هي مغالطة من قبيل تعميم الخاص، نعم هناك اعتبارات لا رصيد ولا واقع لها لكن ليست كل الامور الاعتبارية كذلك، وهذه المغالطة من المغالطات الشائعة في المدارس الفلسفية السائدة في الغرب فيجب علينا الالتفات والتنبه إلى تلك المغالطات ونقدها ومناقشتها.

84


70

العقل وأصالة القيم

أسئلة وردود

سؤال: تحدثتم سابقاً أن المعارف الدينية لا تتأثر بتغيير المعارف الأخرى لأن المعرفة الدينية هي حقيقة راسخة مع العصور لا تتغير مع تبدل المنهجيات والأدوات المعرفية التي تنتجها المعارف الأخرى وحيث نرى تماماً أن الحقيقة هي ثابتة مع الزمن لا تتغير نرى أن هناك سؤالاً يطرح: ما هي علاقة منظومة المعارف الأخرى غير الدينية بالمعرفة الدينية؟ هل أن المعارف الأخرى هي تابعة تماما للمعرفة الدينية هذه؟ وما هي هذه العلاقة التي تربط تلك المعارف بالمعرفة الدينية الثابتة مع تغير العصور وتبدل الأمكنة؟ أم أننا نقول أن المعارف غير الدينية هي معارف مستقلة مفصولة تمام الفصل عن هذه المعرفة الدينية التي قلنا بثباتها، ونحن نرى أن أوروبا وصلت إلى تسوية بين المعارف الدينية والمعارف غير الدينية حينما قيل أن المعرفة الدينية مستقلة عن المعارف الأخرى. لتصل في مرحلة متقدمة للقول بأن الدين مفصول عن العلم والفلسفة ولتصل في نهاية المطاف إلى القول بفصل الدين عن الحياة وفصل الدين عن السياسة وكافة أوجه وفعاليات المجتمع.


الجواب: هناك مسألتان يثيرهما هذا السؤال: الأولى هل أن جميع حقائق الدين أمور ثابتة لا تتغير أو أن في الدين أموراً تتغير أحياناً؟ الجواب عن هذا السؤال صعب يحتاج إلى لطف قريحة: هذا السؤال تعبير اخر عن مسألة فلسفية تطرح في فلسفة الأخلاق: هل الأخلاق نسبية أو مطلقة؟ فالأحكام الدينية بما أن لها صلة وثيقة بالأخلاق والقيم إذا كانت ثابتة معناها أن الدين يعتبر الأخلاق مطلقة وإذا كانت تتغير معناها أن الدين يعتبر أن الأخلاق متغيرة ونسبية. فلهذا البحث

85


71

العقل وأصالة القيم

ذيل طويل، كثيراً ما يقال أن الأخلاق متغيرة ليست ثابتة لأننا نرى بالوجدان أن فعلا ما قد يكون مطلوباً أخلاقياً وقد لا يكون كذلك كالصدق قد يكون مطلوباً ولكن قد يكون الكذب أيضاً مطلوباً إذا كان فيه نجاة مؤمن فحسن الصدق ليس أمراً ثابتاً مطلقاً بل نسبي ومتغير، هذه شبهة في نسبية الأخلاق وفي تغير أحكام الدين وربما يحاولون ذلك ببعض كلمات الأعاظم حول كون الاجتهاد تابعاً للظروف الزمانية والمكانية، أما القائلون بأن الأخلاق مطلقة فربما يعبرون بتعبير "أن أصول الأخلاق ثابتة" فيُسألون ما الفرق بين الأصول وغيرهما والحد الفاصل بين الأصول الأخلاقية وغيرها حتى نقول أن الأصول ثابتة وغيرها غير ثابت؟ ويشكل الجواب عن هذا السؤال، لكن يوجد جواب اخر دقيق وهو أن القضايا الاخلاقية يمكن إرجاعها إلى قضية حملية منطقية لها موضوع ومحمول فمثلاً نقول الصدق حسن والكذب قبيح فهذه القضية إذا اعتبر موضوعها أمراً مطلقاً لا يصح الحكم عليه بالحسن مطلقاً فالصدق في أي مجال وأي ظرف من الظروف كان، لا يكون حسناً. والسر في ذلك أن موضوع هذه القضية في الحقيقة موضوع مقيد ليس موضوعاً مطلقاً مثلاً في القضايا النظرية نرى الإنسان حيواناً عاقلا فهل يمكننا القول بأن الحيوان ناطق؟ طبعاً لا يكون الحيوان ناطقاً على الاطلاق ففيه تسامح فيجب تقيد الحيوان بالحيوان الذي هو إنسان فإذا قيدنا الموضوع بالقيود الواقعية التي لها يكون الحكم عليها مطلقاً فإذا أخذنا الصدق غير الضار موضوعاً يقال حسن على الإطلاق وفي المقابل الكذب غير النافع قبيح على الإطلاق أما إذا ذكرنا القضية تسامحا بدون ذكر القيود نلاحظ أنه يتغير

86


72

العقل وأصالة القيم

حكمها تبعاً لتغير الظروف والشروط والقيود. فإطلاقية الأخلاق إنما هي في القضايا التي تعين قيود الموضوعات بالضبط فأحكامها ثابتة لا تتغير. نظيره قولنا "يجب على الانسان أن يصلي الظهر أربع ركعات" فإذا قلنا صلاة الظهر أربع ركعات لم يصح على الإطلاق أما إذا قلنا صلاة الظهر للحاضر أربع ركعات بأن ضممنا هذا القيد إلى الموضوع كان الحكم ثابتاً على الاطلاق، فتغير حكم الصلاة بالنسبة إلى الحاضر والمسافر إنما يثبت إذا نسبنا هذا الحكم للمسلم على الإطلاق وأما إذا أخذنا القيود المتعلقة بالموضوع رأينا أن الحكم ثابت لتلك الموضوعات على الدوام.


فأحكام القيم إذا لاحظنا موضوعاتها وضممنا إليها قيودها أي عرفنا موضوعها بالدقة والضبط كانت الأحكام ثابتة لها وهذا هو نفس الكلام أن الأحكام الفقهية تابعة للظروف الزمانية والمكانية. مثال اخر: أكل لحم الميتة هل هو جائز أم لا؟ فأكل الميتة حرام لكن له إستثناء "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" فإذا قلنا "أكل الميتة لغير المضطر حرام" فهذا حكم دائم ثابت مطلق، أما إذا نسبنا هذا الحكم للموضوع ولم نذكر قيده فليس ثابتاً فأكل الميتة ربما يكون جائزاً للذي اضطر إليه غير باغ ولا عاد. هذا جواب دقيق يحتاج إلى تأمل فصيغة الإجابة تكون على هذا الوجه: إذا اعتبرنا الموضوعات الأخلاقية بقيودها الواقعية كان الحكم ثابتاً لها على الإطلاق وأما إذا تسامحنا في أخذ الموضوع فاعتبرنا الموضوع المقيد موضوعاً مطلقاً نرى أحكامه تتغير في الظروف الإجتماعية المختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة...

87


73

العقل وأصالة القيم

هذه هي المسألة الأولى. وأما ما ذكرتم بأن الغرب وصل إلى التسوية والفصل بين الدين والعلم فقد أشرت إلى أزمة أدت بالغرب إلى اتخاذ هذه المواقف منها الفصل بين الواقع والقيم فاعتبروا الدين من مقولة القيم وقد ذكروا أن القيم اعتبارات تتغير ولا صلة لها مباشرة بواقع الحياة إلا من خلال الاداب الإجتماعية، فهي تابعة لأذواق الناس ويجب التساهل فيها.


فهذه إحدى الوسائل التي تشبثوا بها لنجاة الدين من الإنهيار المطلق وهذا سبيل متعرج غير صحيح، فالحقيقة أن الدين له أصول اعتقادية ثابتة لا تتغير بمرور الدهور والأزمان كالإعتقاد باللَّه تعالى وتوحيده وصفاته الجلالية والجمالية والنبوة والمعاد فهي أصول إعتقادية لا تتغير أبداً.


وأما القيم الأخلاقية فأصولها وكذا سائر قضاياها إذا روعيت قيود موضوعاتها بالدقة تكون ثابتة وكذلك الأحكام الفقهية نلاحظ أن الأحكام تتغير بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأزمان والمجتمعات لكن هذا التغير إنما نشأ من أخذ الموضوع مطلقاً فإذا أُخذ موضوع هذه القضايا مقيداً لاحظنا بأن الأحكام ثابتة لها غير متغيرة. وههنا نكتة أخرى يجب التنبه لها وهي أن قولنا أن الدين لا يتغير نعني بذلك الأحكام القطعية للدين الإسلامي لا الأحكام الظنية المختلف فيها. ومعنى عدم تغيرها أن محمولاتها ثابتة لموضوعاتها المقيدة بقيودها الواقعية فتكون ثابتة غير متغيرة، فالدين لا يتغير بهذا المعنى ولكنه يتغير جزئياً بمعنى اخر أي حسب تغير موضوعات القضايا لأن الموضوع ربما يتغير فأكل الميتة ربما يقيد بحالة الإختيار وربما يقيد بحالة

88


74

العقل وأصالة القيم

الإضطرار ففي أحدهما يكون حراما وفي الاخر يكون مباحاً فهو في الحقيقة ليس تغيراً في الدين إنما هو تغير في الموضوع.


وأما السؤال عن الصلة بين العلوم والدين فالإجابة عن هذا السؤال يتوقف أولاً على تعريف العلوم وما نريد بهذه اللفظة. للعلوم في هذه الأيام اصطلاح خاص اعتبره( التحصليون)أي أنهم يخصون اسم العلم بالأمور التجريبية فما هو خارج عن نطاق التجربة لا يسمونه علماً حتى أنهم يتضايقون عن تسمية المنطق والرياضيات بالعلوم، فهناك مسائل في الرياضيات غير محسوسة وكذلك الأحكام المتعلقة باللامتناهيات فهي أحكام رياضية خارجة عن نطاق التجربة لعدم وصول يد التجربة إلى اللامتناهيات، ففي الرياضيات توجد أحكام تتعلق باللامتناهيات وفي القضايا الكثيرة التي لا وجود لها في الخارج حتى أن كثيراً من القضايا الهندسية لا وجود لها في الواقع لكن لها أحكام يقينية ثابتة في علم الهندسة، فتلك القضايا لم تثبت بالمنهج التجريبي ولا يمكن إثباتها بهذا المنهج فيتضايقون من تسمية هذه العلوم بالعلوم وربما يقولون أنها فلسفات وكذا المنطق والميتافيزيقا وسائر ما هو خارج عن طور الحسّ.


فإذا أردنا بالعلوم هذا الإصطلاح فلهذا السؤال جواب خاص، أمّا إذا عممنا العلوم إلى كل المعارف اليقينية للبشر سواء المنطقيات والرياضيات وما وراء الطبيعة والعلوم الاجتماعية إذا كانت قطعية فالجواب عن هذا أن بعض العلوم مما يتوقف عليه الدين أي إذا لم نملك إستدلالاً منطقياً على وجود اللَّه تبارك وتعالى لم يثبت لنا دين. فقوام كل الأديان الإلهية هو الاعتقاد بتوحيد اللَّه تبارك وتعالى، وهذا

89


75

العقل وأصالة القيم

لا يحصل من التجربة بل باستدلال عقلي إسمه الإستدلال الفلسفي، سموه إستدلالاً كلامياً أو إلهياً أو ما شئتم لكن المنهج واحد هو القياس البرهاني، فإذا لم نملك مثل هذا العلم لم نتمكن من إثبات الحجر الأساسي للدين، فبعض تلك العلوم التي تنتهي إلى البراهين العقلية من التوحيد وأمثاله هو مما يحتاج إليه الدين، وهناك بعض اخر من القضايا العلمية( بمعناها الأعم) هي مما يؤيد المسائل الدينية أي عندنا أحكام دينية نتعبد بها من قبل الشارع تبارك وتعالى لكن ربما تُؤيَّد تلك الأحكام بالمكتشفات العلمية.


إننا نعتقد أن الأحكام الإسلامية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ففي بدء الأمر ربما لا ندرك مصلحة حكم ما لكن بتقدم العلوم تُكشف مصالح تلك الأحكام، فالعلم يؤيد الدين في إثبات هذه الأحكام وهذا هو الدور الاخر للعلم بالنسبة إلى الدين. وأما الدور الأساسي للعلوم فهو تعيين موضوعات للأحكام الدينية فالكثير من الأحكام الدينية موضوعاتها عامة ولها إبهام في مقام التطبيق وتتعين موضوعاتها بفضل العلوم، فأكل شي‏ء مضر يكون حراماً إذا كان له ضرر يعتد به لكن هناك كثير من الأشياء لا نعرف أن لها ضرراً معتداً به أم لا؟ وذلك يعرف بفضل العلم وتقدمه. وكذلك يوجد أحكام قد ينتهي العمل بها في ظروف اجتماعية خاصة إلى مضار إجتماعية ومفاسد أكثر من المصالح التي تتوخاها الأحكام، ويمكن للعلوم أن تثبت أن هناك مفاسد قد حدثت في الاونة الأخيرة وفي ظروف إجتماعية خاصة لم تكن موجودة من قبل وكذلك المسائل المتعلقة بعلاقات الدول فهي تابعة لانكشاف المصلحة من تلك العلاقات.

90


76

العقل وأصالة القيم

سؤال: هل لنا أن نوجد علاقة بين الدولة الإسلامية ودولة كافرة أخرى وهل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب: أنتم تعرفون أن الجمهورية الإسلامية في إيران تقيم علاقات مع دول دون أخرى، فتجويز ذلك أو تحريمه يتعلق بمصالح الإسلام والمسلمين. تلك المصالح هي أمور تحتاج إلى علوم إجتماعية وسياسية وإذا لم نعرف المصالح السياسية في فتح تلك العلاقات أو قطعها لا يمكننا اتخاذ القرار بشأنها، وكثير من المعاملات الإجتماعية يحتاج تشخيص موضوعها إلى العلوم المتعلقة بها كعلم الإقتصاد، فالعلوم الطبيعية والإجتماعية لها دور في تشخيص الموضوعات وربما تتغير الموضوعات والحال أن الأحكام ثابتة لموضوعاتها ولعناوينها المقيدة بقيودها، فقد تعرف القيود من قبل العلوم فالعلوم تعتبر ميزاناً لمعرفة الكثير من موضوعات الأحكام الشرعية ولها دور عام في تشخيص موضوعات الأحكام.

91


77

العقل والدين

جرى الكلام في حديثنا السابق حول علاقة العقل بالدين وهي مسألة يبحث عنها كثيراً في هذه الأيام وقبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف معاني المفردات. ماذا نعني بالعقل؟ وماذا نعني بالدين؟


الدين نعني به دين الإسلام ويشتمل على عقائد أصولية وعلى أخلاق وقيم تتعلق بالفرد والأسرة والمجتمع والدول. وإن كان للدين تعاريف أخرى عند علماء الإجتماع تتفاوت كثيراً حتى أن بعضهم لا يعد الاعتقاد بوجود اللَّه من صميم الدين وحسب تعبيرهم "ليس من ذاتيات الدين"، فيقولون أن الإعتقاد بوجود اللَّه هو من عرضيات الدين ويمكن أن يكون للإنسان دين ولا يعتقد بوجود خالق للكون ويمثلون بما ينقل عن البوذية فالبوذيون لهم طقوس ولا يعتقدون بالخالق. وبالاستناد إلى ذلك يقولون أن الدين لا يتقوم بالإعتقاد بوجود اللَّه تعالى فالمنكر للَّه يمكن أن يكون متديناً فلا شأن لنا بهذه التفوهات. مرادنا من الدين واضح هو دين الإسلام ويتقوم قبل كل شي‏ء بأساس هو الإعتقاد بالتوحيد ويتفرع منه أمور إعتقادية أخرى أهمها الإعتقاد بالنبوة والولاية والإعتقاد باليوم الاخر والمعاد والثواب والعقاب المترتب على الأعمال. هذه أصول الدين وجذوره، وهناك فروع

95


78

العقل والدين

معروفة عندنا فمعنى الدين عندنا واضح يجب أن لا نخضع لتلك التعاريف المزيفة من قبل بعض علماء الإجتماع.

ما هو العقل؟


أما العقل فما المراد به حتى نلاحظ العلاقة بينه وبين الدين؟ إن العقل له إصطلاحات كثيرة في العلوم المختلفة وفي العرف وفي المتون الدينية. واستيعاب هذه المعاني والبحث عنها يحتاج إلى مجال واسع ونشير ههنا إلى معنيين للعقل شائعين في هذا العصر، أحدهما ما يشتق منه كلمة العقلانية في ثقافة الغرب وهذا المعنى يشتمل على شحنة سلبية، فهم يريدون بالعقلانية أن الإنسان يجب عليه أن يقبل ما يعرفه بعقله ويدع ما وراء ذلك وأنه ليس في حياة الإنسان عامل مؤثر في تعيين مسيرته إلاّ عقله. وهذه الشحنة السلبية تشير إلى نفي الوحي والدين وإلى نفي الشهود العرفاني، فالعقلانية في الثقافة الغربية الحديثة تحتوي على هذه الشحنة السلبية وما يدعوننا إليه من العقلانية تشير إلى رفض الدين والوحي والأمور العرفانية والمعنوية. ومع الأسف فهذه الدعوة إلى العقلانية صارت شعاراً شائعاً حتى بين المثقفين المسلمين، ويؤيدون دعواهم هذه بالايات التي تحث الإنسان على التعقل والتدبير "إن في هذه لايات لقوم يعقلون... يتفكرون" وأمثالها وأن الإسلام حث على الخضوع للعقل ورفض ما وراء العقل، غافلين أو متغافلين عن أن هذا يؤدي إلى رفض الدين والوحي لأن كثيراً من الأمور الدينية لا تنالها يد العقل، الوحي نفسه أمر غير عقلاني فإذا رفضنا كل أمر غير عقلاني يؤدي ذلك إلى نفي الدين

96


79

العقل والدين

ورفض الدينيات لا سيما ما لا يناله العقل، فيتبجحون بهذا الشعار ويدعون كل الشعوب وأصحاب الثقافات المختلفة إلى هذه العقلانية وكذا يدعون المسلمين إليها استناداً إلى أن الإسلام يدعو إلى العقل والعقلانية وهو شعار مزيف ومضلل.


وهناك للعقل معنى اخر وهو لا يتعارض مع الدين بل هو من مقومات الدين ومن المنابع للأحكام الدينية والمراد بهذا العقل هو ما أشرنا إليه من القوة التي يتمتع بها الإنسان، يستكشف بها الحقائق من خلال العلوم البديهية وهي وإن كانت تنحصر في أمور قليلة إلا أنه يضم إليها القضايا اليقينية النظرية التي تثبت بفضل القضايا البديهية وبمعونتها فالعقل يستكشف بفضل هذه البديهيات التي يملكها، وربما يقال أنها فطرية( وهذا التعبير يحتاج إلى تأمل لكن نتسامح ونقول البديهيات فطرية) والبديهيات هي رأس مال العقل وبها يكتسب سائر المعلومات ومن ذلك كل القضايا القطعية من العلوم سواء الطبيعية والإنسانية والإجتماعية إذا كانت قطعية كلها تثبت بمعونة البديهيات الثابتة في العقل، فالعقل بهذا المعنى الذي يختص بالإنسان( ولعل لبعض الحيوانات مرتبة ضعيفة من العقل لكن هذه المرتبة التي يتمتع بها الإنسان ويستكشف بها علوماً كثيرة في الطبيعة وما وراء الطبيعة خاصة بالإنسان) هذه القوة هذه النعمة العظمى للإنسان قد ورد الحث على إستخدامها في الكتاب والسنة والايات التي تشير إلى فضل العقل إنما تشير إلى هذه القوة لا العقلانية التي تتمتع بالسلبية وترفض الوحي وما وراء العقل الإنساني.
 

97


80

العقل والدين

علاقة العقل بالدين

هذا العقل يجب معرفة علاقته بالدين فهل للدين نطاق خاص لا سبيل للعقل إليه وكذلك للعقل نطاق خاص لا سبيل للدين إليه أو يشتركان في كل الأمور أو هناك شق اخر؟ هل يتباينان أو يتوافقان أو يتوافقان في أمر ويتمايز كل منهما في أمر خاص؟
والمقبول هو الرأي الثالث، يعني أن النسبة بين مدركات العقل وبين محتويات الدين عموم وخصوص من وجه، فبعض الأمور موجودة في الدين وينالها العقل وبعض الأمور التي ينالها العقل ليس أمراً دينياً وبعض الأمور ديني لكن لا يناله العقل.

أ- المختصات العقلية

أما الذي يختص بالعقل فقد أشرنا إلى أن العقل هو الذي يثبت وجود اللَّه ووحدته وسائر صفاته، وقبل أن نعرف وجود الوحي والنبوة لا يمكننا الإستناد إلى محتويات الدين لأنه ما دام لم يثبت أن هذا الدين نازل من عند اللَّه يعني قبل أن نعتقد بوجود اللَّه وبوجود النبي الذي يتلقى الوحي من اللَّه لا مجال للإعتقاد بوجود الدين. فإلى هذا الحد يكون النطاق خاصاً بالعقل لا يشاركه فيه الدين. نعم يمكن أن يذكر في المتون الدينية أمور يثبتها العقل بنفسه إستقلالاً لكن الاعتقاد بهذه الأمور قبل الإستدلال بالدليل العقلي لا قيمة لها منطقياً فالذي لم يثبت له وجود اللَّه كيف يعتقد بدين؟ وقد ذكرنا أن الدين قوامه الإعتقاد بالألوهية خلافاً لما قالوا أن الاعتقاد بوجود اللَّه من عرضيات الدين فإنها من ذاتيات الدين بل الذاتي الأصلي للدين.
 

98


81

العقل والدين

هذا هو النطاق الخاص للنشاط العقلي ولا مجال للدين أن يثبت وجود اللَّه إلا بالدليل العقلي فإذا ذكر دليل عقلي في متن الوحي لإثبات اللَّه فإنما نأخذ به لأنه دليل عقلي لا لأنه دليل تعبدي، لأن التعبد لا مجال له قبل إثبات الموحي.

ب- المختصات الدينية

وهناك أمور ثابتة في الدين لا تنالها يد العقل العادي الذي نستخدمها فإذا عممنا العقل المدرك للحقائق العالية ولو لم نملك تلك القوة فهو أمر اخر، نريد بالعقل هنا الذي يوجد لدى الإنسان العادي ولغير المجانين فنقول: هناك أحكام تعبدية لا تنالها يد العقل وذلك لأن العقل العادي لا يحيط بجميع المصالح والمفاسد للأفعال لأن المصالح الخاصة للأحكام إنما تثبت بالتجربة، لكن تأثير أعمالنا في النتائج الأخروية غير معلوم لنا فليس لنا تجربة بالنسبة إلى عالم الاخرة حتى نرى كيف تؤثر الأعمال في سعادتنا الأخروية أو شقائنا، ولا سبيل لنا لهذه التجربة فلا يمكن للعقل أن يحكم بوجوب هذا العمل لأجل المصلحة الأخروية الناتجة منها، فالحاكم في مثل هذه الأحكام التابعة للمصالح والمفاسد الأبدية أو المصالح الخفية التي لا تنالها يد التجربة هو الدين فقط ونسمي تلك الأحكام بالأحكام التعبدية.


وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام التحذير من الاتكال على العقل العادي في الأمور الدينية وسمَّوه بالقياس وأن ذلك يؤدي إلى البدعة وأن السنة إذا قيست محق الدين، لأنا إذا اتكلنا على عقولنا وعلى تجاربنا فسوف لن نصل إلى حقيقة هذه الأحكام ومصالحها

99


82

العقل والدين

الواقعية والكاملة، والذي يتيسر لنا هو أن نثبت بعض هذه المصالح المادية الدنيوية أما المصالح الأخروية والمعنوية فقلما يمكننا أن نثبتها من خلال العقل.
فهناك أمور تختص بالدين وإثباتها عن طريق الأدلة النقلية يعني ما يحكي عن وحي اللَّه تعالى إلى الأنبياء أو العلوم اللدنية التي للأنبياء والأولياء وقد يعبر عن هذه العلوم بالإلهام أو بالتحديث وما إلى ذلك.

ففي الكافي الشريف باب في مقامات الأئمة عليهم السلام أنهم محدَّثون ومعنى المحدَّث هو الذي تحدثه الملائكة فسيدتنا مريم عليها السلام لم تكن نبيا ولكن كانت تسمع كلام الملائكة فهي محدثة وكذا أم موسى فإنها سمعت كلام اللَّه حيث أوحى إليها أن "اقذفيه في التابوت ولا تحزني ولا تخافي". فهذا الكلام الإلهي سمعته أم موسى ولم تكن نبيا. هذا هو التحديث وهو أمر مشترك بين الأنبياء والأولياء عليهم السلام من الرجال والنساء. وأفضلهن فاطمة عليها السلام ومصحف فاطمة هو الجامع لهذه الإلهامات والتحديثات وكان يحدثها بها جبرائيل عليه السلام فجمعتها وصارت مصحف فاطمة عليها السلام وهذا الأمر صار منشأ لاتهامنا معاشر الشيعة بأن لنا مصحفاً اخر غير القران.
هذه الأحكام تسمى أحكاماً تعبدية إذا أمكن للعقل أن يحيط بجميع مصالحها ومفاسدها حكم بذلك لكن حيث لا مجال للعقل أن يحيط بجميع هذه المصالح لاسيما ما يتعلق بالحياة الأبدية حيث لا مجال لتجربة الإنسان بالنسبة إليها، فهذا أمر لا سبيل للعقل إلى نيله ويختص ذلك بالوحي أو بسائر العلوم الإلهية التي هي أدنى من الوحي النبوي فهذا مجال اخر لا يشترك فيه العقل.

100


83

العقل والدين

ج- المشترك بين العقل والدين

أما الذي يشترك فيه العقل والشرع، فكثير من الاعتقادات يمكن للعقل إثباتها قبل التعبد بالدين وبعده، مثلا عندنا طريقان لإثبات عالم المعاد أحدهما مستند إلى برهان عقلي كبرهان الحكمة وبرهان العدل والثاني مستند إلى إخبار المخبر الصادق. أنتم تلاحظون أن كثيراً من الايات لحنها الإخبار "بلى وربك لتبعثن" فإذا اعتقدوا أن هذا المخبر صادق تمت عليهم الحجة.
إذا ثبت أن النبي صادق مصدق من قبل اللَّه وأن ما يقول هو حق من عند اللَّه فقال إنكم لمبعوثون ليوم عظيم يجب عليهم الأخذ بهذا القول لأنه أخبر به مخبر صادق، فيمكن إثبات المعاد بهذا البيان التعبدي وإن لم يكن لديه إستدلال عقلي فهذا الأمر يثبت بالدليل العقلي وبالدليل النقلي معا. أما في الأحكام فكثير، فإن الأصول القيمية في الدين كلها أمور عقلية تنالها يد العقل مثل حسن العدل والإحسان "إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان" اللَّه يأمر بالعدل لكن العقل نفسه يدرك حسن العدل وقبح الظلم. فهذا أمر يثبت من طريقين أحدهما من طريق العقل والثاني من طريق النقل وكلاهما دليلان صحيحان كافيان وافيان.

فما هي العلاقة بين العقل والدين؟

بعد التأكيد على معنى خاص للعقل مقبول عندنا وعلى معنى خاص للدين مقبول عندنا يكون الجواب: إن للعقل مجالا خاصاً به ليس للدين وهي الأمور إليه سبيل وهو الأدلة العقلية المثبتة لتوحيد اللَّه

101


84

العقل والدين

تعالى الذي هو الحجر الأساس للدين، وقبل ذلك لا يمكن للإنسان التعبد بأي دين يعني لا يمكن ذلك منطقياً وهذا مجال خاص للعقل، وهناك مجال خاص للدين وهو الأمور التي تكون مبادئها بعيدة عن مجال العقل ليس للعقل أن يحيط بمبادى‏ء تلك الإعتقادات كالإعتقاد بسؤال القبر. فإنه ليس للعقل مجال لإثباته وهو أمر اعتقادي إنما يثبت بالتعبد وبالنقل. وكذلك الأحكام الخاصة التعبدية كأحكام الصلاة وأحكام الحج والزكاة وكذلك الأحكام القانونية، كأحكام الديات وغيرها فهي خارجة عن نطاق حكم العقل. أما الأحكام المشتركة بين العقل والنقل فتوجد في الأمور الإعتقادية مثل الإعتقاد بالمعاد، أصل المعاد لا خصوصياته، فيثبت بالدليل العقلي والدليل النقلي. وكثير من الأحكام الشرعية لاسيما الكليات مثل حسن العدل والصدق والأمانة وما إلى ذلك فيثبت حسنها ووجوبها بالعقل والنقل كليهما.

أسئلة وردود

سؤال: حول لفظة الدين ومعنى الدين لغة. فمن يقول دان بشي‏ء أي اتبع طريقة معينة أو سلك مسلكاً معيناً وحينما نقول عن البوذيين أنهم اتبعوا طريقة معينة أو مسلكاً معيناً فينطبق عليهم حينئذ أنهم اتبعوا دينا معينا وما اصطلحنا نحن عليه بعد ذلك أن اصطلاح الدين هوالإيمان بالتوحيد والغيب و...
ولكن ألا نستطيع أن نقول أن البوذيين وغيرهم ممن لم يسلكوا مسلك التوحيد على الإطلاق أنهم أصحاب دين؟

وبالنسبة إلى العقل، إذا كان العقل غير المعنى الذي تفضلتم به

102


85

العقل والدين

يعني غير المعنى الذي هو في مقابل الجنون فإذا كان العقل الكامل التام الذي يعلم بالأحكام الواقعية وليس له سبيل بالنسبة للأحكام الظنية كما هو عقل النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، ألا نستطيع أن نقول عندها أن العقل هذا هو عين الدين ولا يمكن أن نقول أن بين الدين والعقل عموم وخصوص من وجه بل نقول أن الدين عين العقل والعكس صحيح؟

الجواب عن السؤال الأول: إن لكل إنسان أن يجعل اصطلاحاً خاصاً لنفسه أو لبيئته أو لأسرته ولا ضير فيه فإذا قال أحد أريد بالعقل العقل الكامل الذي كان للنبي كان هذا اصطلاحاً خاصاً، فلا مشاحة في جعل هذا الاصطلاح لكن لا يفيدنا وجود هذا الاصطلاح إنما نستفيد من المصطلاحات الرائجة في محاوراتنا وفي محادثاتنا، فإنه يجب أن يكون عند المتحاورين فهم مشترك فمن الأمر والمطروح للبحث حتى يتكلمون حول وجوده أو نفيه، فنحن حين نقول ما العلاقة بين الدين والعقل يجب أن نصطلح على العقل على معنى يتشارك بيننا وبين الذين نخاطبهم، بيننا وبين من يسمع كلامنا ويقرأ كتابنا، فإذا قلنا نحن نريد بالعقل معنى كذا ويقول المخاطب أنا أريد معنى اخر لا تحصل نتيجة لهذا البحث. فلنترك هذا الإصطلاح ولنأت للمعنى اللغوي والمعنى العرفي والعرفي الخاص فهذه هي الأمور المفيدة في المحاورات.

فالأصل في معنى كل كلمة هو المعنى اللغوي إلا أن المصطلحات تتطور وربما تكون لفظة في أصل اللغة بمعنى ثم يتطور معناها إلى معنى مجازي ثم إلى معنى حقيقي اخر ثم يشترك فيه المعنيان فيكونان

103


86

العقل والدين

من قبيل المشترك اللفظي. ثم قد يترك المعنى الأول ويكون المعنى الحقيقي هو الثاني وهذا شائع في تطور اللغات فالذي يكون فائدته أكثر هو العلم بالمعاني العرفية. أما العرفيات فهي على قسمين: العرفيات العامة التي يشترك فيها جميع أهل اللسان في عصر ما أو بيئة ما، والعرفيات التي تكون لقوم خاصين أو لباحثين في علم خاص كالموجود في علم الفلسفة أو الفقه وغيرها. أما في المجالات العلمية والفلسفية فيجب علينا معرفة المعنى حسب مصطلح القوم فإذا اشترك جميع الباحثين في هذا العلم على مصطلح خاص كالموجود في علم الأصول والفقه وغيرها كان أسهل للتفاهم كالمصطلحات المشتركة بين جميع علماء الأصول والفقه.
لكن المشكلة تنشأ عندما يكون لطائفة من العلماء اصطلاح خاص ولطائفة أخرى اصطلاح اخر أو يكون أصل الاصطلاح في لبنان ثم يترجم إلى لسان اخر ولم تكن الترجمة متكافئة وهناك يشتبه الأمر ويشكل التفاهم فقبل كل شي‏ء يجب تمييز هذا المصطلح. وقبل الشروع في البحث الذي نقوم به يجب أن نتصالح على مصطلح واحد فنتصالح مع المخاطب بأن المراد بالدين هكذا. أما الدين فله معان لغوية كثيرة إنما نعتني بالمعنى العرفي الخاص المشهور عند أهل البحث في المسائل الفلسفية. والمشكل هنا أن لكلمتي الدين والعقل معاني اصطلاحية متعددة فبعضهم قال أن الدين لا يتوقف على الإعتقاد بوجود الخالق وهذا الاصطلاح خاص لا ندينهم فليكن لهم اصطلاحهم الخاص ولتكن البوذية دينا فليقولوا ما يشاؤون لكن في بحثنا هذا لا نستعمل الدين بهذا المعنى بل نستعمله بما ينطبق على الدين الاسلامي القويم.

104


87

العقل والدين

فيجب أن نعرف معنى الدين حسب هذا المصطلح فلذا قلت أن الدين عندنا أمر واضح يشتمل على اعتقادات وأخلاقيات وأحكام فردية وإجتماعية هذا هو الدين حسب اصطلاحنا حتى نتفاهم حوله.


أمّا الجواب عن السؤال الثاني فهو: ان للعقل إصطلاحات كثيرة ربما تربو على عشرة اصطلاحات فالفلاسفة ومنهم المشّاؤون يقولون بعقول مجردة قائمة بذواتها فيقولون أن أول ما خلق اللَّه هو العقل الأول ثم الثاني والثالث إلى العاشر، فلا شأن لهذا العقل مع أبحاثنا فليس لنا أن نبحث في هذه الاصطلاحات. ويمكن أن يكون للعقل معانٍ أخرى لا تتعلق ببحثنا والذي له تعلُّق ببحثنا هذا اصطلاحان أحدهما شائع عند الغربيين اليوم حيث يقولون "راسيوناليسم = العقلانية" والثاني ما هو مصطلح عندنا في أبحاثنا ويجب أن نعرف علاقته بالدين وقد نَبّهت للتفريق بين المصطلحين حتى لا نقع في المغالطة فالمغالطون في هذه الأيام ينادون بالعقلانية ويستندون إلى القران الكريم ويريدون عقلانية الغرب وبينهما بون بعيد فالعقل الذي ينادي به القران غير العقلانية الغربية التي تنكر الوحي. نبّهت على الفرق بين المصطلحين حتى لا يختلطا.

105


88

الكمال النهائي للانسان

جرى الكلام فيما سبق حول بعض المسائل المبدئية في المعارف الدينية. وأكثر ما تحدثنا عنه كان متعلقاً بالمعرفة.
وهنا نريد أن نتحدث عن معرفة الإنسان وموقفه من الكون، وبالطبع، موقفه من خالقه ومعبوده.
نحن بحمد اللَّه، نعرف أن كمال الإنسان وغاية مناه يحصل بالتقرب إلى اللَّه تبارك وتعالى.
وهذا المطلب يمكن إثباته من طريق العقل أيضاً، لكن يتوقف على مقدمات كثيرة، لا يتيسر لنا بيانها كاملة في هذا المجال الضيق. بل نتطرق إلى البيان النقلي، لنستفيد من ايات اللَّه الكريمة والسنة الشريفة.

التقرب إلى الله

فبالنظر الإجمالي إلى الايات الكريمة في القران الكريم، نرى حتى عند الجاهلين بحقائق التوحيد أن هذه المعرفة ثابتة عندهم، وهي أنهم لا بد أن يتقربوا إلى اللَّه أو إلى الهتهم بحسب إعتقادهم. وحتى أنهم كانوا يصرحون أحياناً بأنهم يعبدون الالهة ليقربوهم إلى اللَّه زلفى "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى".

109


89

الكمال النهائي للانسان

فكانوا يعرفون أن الغاية المنشودة للإنسان كما هو مركوز في فطرته هي أن يتقرب إلى اللَّه زلفى، لكنهم لم يكونوا يعرفون الطريق الموصل إلى هذا القرب، فكانوا يزعمون أن في عبادة الأوثان وسيلة للحصول على هذا القرب المنشود.

طبعاً، بحسب اعتقادنا أن هذه المعرفة كانت ثابتة لديهم من قبل الأنبياء، وإلا فالإنسان البسيط لا يعرف هذه المعارف العالية من قبل نفسه. خصوصاً بالنظر إلى أن أول إنسان نعرفه وهو أبونا ادم كان نبياً من الأنبياء. وبالطبع، فإنه كان قد عرّف أبناءه بالحجر الأساس للدين والسعادة وهو توحيد اللَّه سبحانه وتعالى، فالوثنية والشرك جاءا بعد التوحيد. على خلاف ما يزعمه بعض علماء الإجتماع. وكيف كان فالفطرة الإنسانية تهدف إلى القرب من اللَّه تبارك وتعالى. وبذلك يحقق جميع اماله ومناه.

الإنسان طالب الكمال بالفطرة

لابأس بالإشارة هنا إلى دليل عقلي بسيط لهذا الأمر. وهو أننا نطلب بفطرتنا أموراً كالعلم والمعرفة، والقدرة والاستطاعة، والجمال واللذة. هذا ما نطلبه بفطرتنا. فالإنسان طالب للالتذاذ.. طالب للعلم والمعرفة.. وطالب للقدرة. طبعاً، ما يحصل لنا من خلال الأسباب العادية هو أمور قليلة جداً "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". وكذلك القدرة المادية والقدرة الاجتماعية كلها أمور محدودة. والإنسان بفطرته لا يقتنع بهذه الأمور المحدودة المتناهية. فهو كلما حصل على مرتبة من العلم يطلب مرتبة أعلى، وكلما حصل على قدرة يطلب قدرة فوق تلك القدرة.

110


90

الكمال النهائي للانسان

لقد أشار الإمام (رضوان اللَّه عليه) إلى هذا المطلب مرات عديدة، فلو حصل للإنسان القدرة على إدارة كل الأرض، لأراد الاقتدار على السماء.. على الكواكب.. على النجوم. وإذا خطر بباله أن هناك أمراً اخر... عالماً اخر، فهو يطلب الاقتدار عليه. ولا يتوقف طلبه للقدرة عند حدٍ، فهو يطلب القدرة غير المتناهية.


وكذلك العلم، وكذلك سائر الأمور المطلوبة بالفطرة. كلما حصل على أمر جميل يطلب أمراً أجمل منه. فهو يطلب الجميل ومن ثم يذهب إلى الأجمل وهكذا، إلى أن يطلب الجمال المطلق. ولا يوجد هذا الإطلاق وهذه المحدودية وهذا اللاتناهي في المخلوقات. فالمخلوقات كلها محدودة. وهذا يعني أن الفطرة تطلب القدرة غير المتناهية التي هي غير موجودة إلا في اللَّه تبارك وتعالى، والعلم اللامتناهي وهو غير موجود إلا فيه سبحانه وتعالى.


وكذلك الكمال والجمال غير المتناهيين فهما غير متوفرين إلا في ذات اللَّه تبارك وتعالى فكيف يحصل على هذه الأمنية المنشودة العظيمة اللامتناهية؟ لا بد أن يتقرب إليه لا بد أن يقيم علاقة بينه وبين هذا الموجود اللامتناهي... أن يتقرب منه. الألفاظ هناك تقصر عن الإيصال إلى المطلوب.. عن بيان الكنه. نعبر بألفاظ كالاقتراب منه والاتصال به، وإقامة العلاقة بيننا وبينه. وهذه الألفاظ كلها ناقصة وقاصرة. يجب تطهيرها من النقائص وأكثرها شيوعاً عندنا هوالقرب، لكن لا كقرب جسمٍ من جسم، فالإتصال به لا كاتصال السلك بمنبع الطاقة.

111


91

الكمال النهائي للانسان

معاني القرب

ونحن من أجل توضيح المطلب نقول: إننا في عالمنا المادي نعرف أنواعاً من القرب ومن الإتصال ومن التعلق أظهرها القرب الجسماني، القرب المكاني. ربما يكون بين جسمٍ وجسم اخر بون بعيد، فيقلل هذا الفصل والبون، فيقترب أحدهما من الاخر. ويصيران بحيث لا يبقى فصل بينهما. هذه هي غاية القرب. هل يمكن أن يكون القرب من اللَّه على هذه الصيغة وعلى هذا الوجه؟ قرب العبد من اللَّه ليس قرباً جسمانياً، وليس بين الإنسان وبين اللَّه تبارك وتعالى فصل مكاني. هو محيط بجميع الأمكنة والأزمنة "أينما تولوا فثمّ وجه اللَّه". لا يغيب عناحتى نقترب منه. فليس المقصود بالقرب من اللَّه هو تقليل الفصل الجسماني المكاني بيننا وبينه. فهو عندنا ومحيط بنا. لا فصل بيننا وبينه. وطبعاً، لا يتصور الفصل الزماني بين الإنسان وبين اللَّه تبارك وتعالى. فكما أنه محيط بكل مكان فهو محيط بكل زمان أيضاً. لا يخلو منه زمان وإن كان في تعبير الخلو وعدم الخلو، أيضاً، قصور. هو محيط، وإن كان في لفظ الإحاطة أيضاً قصور. لكن لا نستطيع أن نتكلم بغير هذه الألفاظ. فالتقرب من اللَّه والإتصال به ليس اتصالاً جسمانياً ولا مكانياً ولا زمانياً، وما إلى ذلك من أنواع العلاقات بين الموجودات المادية والجسمانية.

القرب الاعتباري

فللقرب هنا أحد معنيين:

الأول: معنى إعتباري نستعمله فيما بيينا نحن، كأن نقول فلان قريب

112


92

الكمال النهائي للانسان

من فلان أو مقرّب عنده. كالتقرب من الأمير. فالمقرّب عند الأمير يعني أنه يقبل مقترحاته. يعمل على وفق مراده. هذا قرب إعتباري. إذا كان شخص بالنسبة لشخص اخر بحيث كلما اقترح عليه أمراً قبله، نقول: إنه مقرب منه.. قريب إليه. هذا هو القرب الإعتباري. وهو أقرب إلى أفهامنا. جاء في الحديث القدسي الشريف: "لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، كلما دعاني أجبته". فالجملة الأخيرة تشير إلى ما عبرنا عنه بالقرب الإعتباري.

وفي القران الكريم: "يشهده المقربون". وفي تعبير أرقى من ذلك، وهو تعبير الجوار وتعبير عند: "في مقعد صدق عند مليك مقتدر". أو تعبير الجوار الدائر على ألستنا: في جوار الرب تبارك وتعالى. والجوار هو مجاورة الجار للجار.


أنتم تعرفون أن زوجة فرعون دعت ربها فقالت: "ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة" كان لها معرفة عالية بمقام القرب. وقد عبرت عن هذا القرب بقولها إني أريد بيتاً مجاوراً لك. طبعاً، التعبير كنائي، فليس للرب بيت في الجنة حتى يجاوره بيت اخر. وليس القرب بينها وبين اللَّه بقرب جسماني حتى يكون مكان أقرب إليه من مكان اخر. لكن اللفظ يقصر عن ذلك، ولا بد من التعبير بمثل هذه العبارات، فهي كانت تعني أنني أريد أن لا يكون بيني وبينك فصل وحجاب.


إذا أريد بالقرب المعنى الاعتباري، كان بالطبع بحسب الاثار المترتبة عليه. وربما أشير إلى هذا المعنى في ذيل الحديث القدسي الشريف: "كلما دعاني أجبته" هذا أثر القرب، القرب الحقيقي.
 

113


93

الكمال النهائي للانسان

حقيقة القرب من الله

لكن هناك إشارات ودقائق في الكتاب والسنة، يؤيدها الإعتبار العقلي، أن وراء هذا الاعتبار العقلائي أمراً اخر حقيقياً. فليس المراد من القرب كون الإنسان مستجاب الدعاء فقط، هذا قرب إعتباري لكن خلف هذا الإعتبار أمر حقيقي. وهذا ما أشير إليه في الروايات الشريفة الكثيرة، أن بين العبد وبين اللَّه تعالى حجباً. ويمكن للعبد بتوفيق من اللَّه تبارك وتعالى أن يرفع تلك الحجب حجاباً بعد اخر. وهذه الحجب حسب ما نستوحي من الروايات الشريفة، تنقسم إلى حجب ظلمانية وحجب نورية. لاسيما بالنظر إلى ما ورد في المناجاة الشعبانية: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور". ولدينا أيضاً حجب ظلمانية.. حجب مادية. وهي ما يحيط بنا من الأهواء المادية والحيوانية من الشهوات ومن الامال الدنيوية. هذه حجب مادية وظلمانية. بعد خرق هذه الحجب والتحرر من هذه القيودالمادية الجسمانية، وترك التعلق بهذه الأمور تصل النوبة إلى الحجب النورية، ونحن لا نعرف حقيقتها بالكنه. يمكن أن نقرب إلى أذهاننا، أن حب الوصول إلى مقام رفيع، هو نفسه حجاب. ومن هذا القبيل، هناك حجب كثيرة كلها نورية. وليست مما يتعلق بالأمور الجسمانية والمادية والدنيوية.

ويمكن للإنسان أن يخرق تلك الحجب أيضاً. حتى يصير عبداً محضاً لا يريد إلى ما أراد اللَّه. لا يطلب لنفسه أي شي‏ء، إنما يطلب ما يطلبه المولى. فليس لنفسه شيئية.. هوية.. إستقلال. وإنما ينظر

114


94

الكمال النهائي للانسان

بنور اللَّه. "حتى كنت سمعه الذي يسمع به" فكأن اللَّه تبارك وتعالى والعياذ باللَّه نستعيذ من التعبيرات القاصرة حتى كأنه يسمع بأذن اللَّه. "كنت سمعه الذي يسمع به". وكأنه ينظر بعين اللَّه ويريد بإرادة اللَّه.


في الروايات الشريفة الواردة بشأن أئمة أهل البيت الأطهار (سلام اللَّه عليهم أجمعين) إشارة إلى ذلك: "قلوبنا أوعية مَشِيئة اللَّه" يعني أن ما يظهر لنا من المشيئة هو مشيئة اللَّه، فمشيئة اللَّه هي التي ظهرت فينا.. ليس لنا في أنفسنا بحسب شخصنا مشيئة خاصة. إنما نحن ظروف فارغة تظهر فيها إرادة اللَّه ومشيئته.. تظهر فيها رؤية اللَّه. فاللَّه يرى بأعيننا أو نرى بعين اللَّه. والتعابير الواردة مثل "عين اللَّه" و"يد اللَّه" وأمثال ذلك وتطبيقها على أولياء اللَّه لاسيما الأئمة الأطهارعليهم السلام كعلي بن أبي طالب عليه السلام يُنزَّل على هذه المنزلة. فيد اللَّه هي التي يبطش بها. اللَّه تبارك وتعالى هو الذي يبطش. وهذا مظهر قدرته وبطشه. هذه التعابير، تعابير جميلة لكن في الحقيقة نحن لا نعرف كنه هذه الأمور، إنما علينا أن نؤمن بأن هذه حقائق موجودة لا تصل إليها يد فهمنا "امنا به كل من عند ربنا". فما نطق به القران الكريم أو رسوله الأمين أو أولياؤه هو حق وإن كنا لا نعرف كنهه.


فبناء على ذلك يكون وراء هذا القرب الإعتباري الذي معناه كون الإنسان مستجاب الدعوة حقيقة موضوعية وليست إعتبارية صرفة. ولعل أقرب تعبيرٍ عن هذا المقام، هو القرب الادراكي للقلب. وإن كنا لا نعرف حقيقة القلب ولا نعرف حقيقة الإدراك، ولا نعرف حقيقة شهود القلب، ولا بصر القلب، ولا النظر ببصر القلب. لكن كلها حقائق.

115


95

الكمال النهائي للانسان

"هب لي كمال الإنقطاع إليك.... حتى تصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك". هناك تعلق بنور اللَّه تبارك وتعالى. كيف هذا التعلق؟ لا نعرف كنهه. ندعو اللَّه تعالى أن يرزقنا إن شاء اللَّه، لكن نؤمن بأن هناك حقيقة يعبر عنها بالقرب وبالتعلق بنوره. "وألحقني بنور عزك الأبهج، فأكون لك عارفاً، وعن سواك منحرفاً، ومنك خائفاً مراقباً" هذه حقيقة الوصول إلى نور اللَّه سبحانه وتعالى.. اللحوق بنوره.. الإتصال بنوره. فما نعرفه من الإتصال هو اتصال مادي جسماني مكاني. لكن نعلم أن هناك إتصالات أخرى أرقى من تلك الإتصالات. فالإتصال ربما يكون بواسطة سلك، كالسلك الكهربائي، يحصل بواسطته الإتصال بمنبع الطاقة. لكن هناك إتصال اخر لا سلكي وهو إتصال أرقى من الإتصال السلكي.. إتصال لاسلكي. يحصل بالضغط على الزر. وفي الأمور المعنوية والقلبية أيضاً كذلك. بعض الإتصالات يحتاج إلى أفعال مادية، إلى أسفار.. منها سفر الحج والعمرة.. فهي وسيلة للتقرب والإتصال. لكن يصل الإنسان إلى مقام بضغط على زر قلبه فيحصل الإتصال. لا يحتاج إلى شي‏ء اخر. كلما أراد أن يحصل له الإتصال، يكون ذلك ميسراً.. بنفس هذا الضغط القلبي. الإشارة.. التوجه يكفي. فإذا شاء علم، وإذا شاء استطاع. "إذا شئنا علمنا".. معناها من هذا القلبي. يعني ليس لنا علم من أنفسنا، إنما العلم هو علم اللَّه، لكن نتصل بعلمه بالإشارة.. بالضغط.. بالتوجه. فإذا شئنا علمنا، وشئنا هو مشيئة اللَّه، قلوبنا أوعية مشيئة اللَّه، يعني إذا شاء اللَّه شئنا وعلمنا.


يصل الإنسان إلى هذه المرتبة، وهي مرتبة جليلة.. ليس هناك أجل

116


96

الكمال النهائي للانسان

منها. فالمراد حسبما نستعرض من خلال عقولنا الضعيفة، أن للإنسان مرتبة إسمها القرب من اللَّه تعالى.. الإقامة في جواره.. قريباً من بيته.. عند اللَّه.. عند مليك مقتدر. ومن اثاره أنه كلما دعا اللَّه أجابه. فاستجابة الدعوة هي أثر لذلك القرب لانفس القرب.

القرب إلى الله بالقلب

هذا القرب يحصل للقلب لا للبدن، فالبدن إنما يقترب من جسم اخر. فليس بين البدن وبين الموجود المجرد نسبة قريبة أو بعيدة.

فالذي يحصل لنا من القرب والبعد، إنما هو لقلوبنا. القلب يقترب إلى اللَّه أو يبتعد عنه. ما الدليل على ذلك؟ "هب لي كمال الانقطاع إليك... وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك". القلب ينظر إلى اللَّه. "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" فالقلب له بصر. إذا كان مضيئاً ينظر إلى اللَّه. "وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور". الحجاب إنما يكون بين القلب وبين اللَّه، وأبصار القلوب هي التي ترفع تلك الحجب وتخرق تلك الحجب.
فالقرب إذاً قرب إدراكي. القلب إما يدرك كونه قريباً من اللَّه، ولا فصل بينه وبين اللَّه أولا يرى. فإذا كنا بحيث لا نفهم ارتباطنا وتعلقنا باللَّه تبارك وتعالى. فإننا مجوبون "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون". فإذا كان القلب محجوباً عن ربه في هذا العالم، فسوف يكون محجوباً في العالم الاخر.


ما هو الحجاب؟ الحجاب هو التعلق بهذه الأمور الداثرة الفانية

117


97

الكمال النهائي للانسان

المادية الحيوانية. رأس تلك الحجب هو الاستكبار.. العجب.. الغرور. فأول الكافرين هو إبليس والذي حجبه عن ربه هو استكباره "أبى واستكبر وكان من الكافرين". فكلما نرى في أنفسنا كبراً ونرى أنفسنا خيراً من الاخرين، يكون هناك شائبة من الكفر، ومن الإستكبار، ومن الإبتعاد عن اللَّه تبارك وتعالى. ورفع هذا الحجاب بأن لا يرى الإنسان لنفسه أي مزية من العلم أو القدرة أو غيرها، فكلّها أمانة من ربه. فارتفاع تلك الحجب إنما هو بارتفاع أمور قلبية عن القلب، وتحرر القلب من تلك القيود.. ومن تلك السلاسل.. ومن تلك الحجب. إذا ارتفعت تلك الحجب يرى اللَّه حاضراً عنده، ويرى نفسه متعلقة به.. "معلقةً بعز قدسك".. لا فصل بينه وبين ربه.. لا حجاب بينه وبين ربه.

حقيقة العبادة

هذا كلام جميل لكن الوصول إلى أدنى مرتبة منه يقتضي مساعي كثيرة. ويحسن للإنسان أن يعرف أن هناك حقائق من هذا القبيل، حتى يسعى حسب همته وطاقته لكي يسلك هذا السبيل ويسير على هذا الطريق، ولو خطوات متواضعة وإن لم يصل إلى تلك المقامات العالية لكن يكون سالكا هذا السبيل. والسلوك نحو هذا المقصد اسمه العبادة. ما معنى العبادة؟ العبادة هي نفي الأنانية.. نفي الربوبية.


العبادة أن يكون الإنسان عبداً، أي فاقداً لأي شي‏ء.. لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فالعبادة عمل يقرّب الإنسان من هذه الحقيقة.

أول عبادة للإنسان هي أن يُخضع إرادته لإرادة اللَّه. فأنا أقوم وأصلي. هذا يعني أن إرادتي كانت في أن أستلقي وأستريح، وإرادة اللَّه

118


98

الكمال النهائي للانسان

كانت في أن أقوم. فأخضع إرادتي لإرادة اللَّه، تقرباً إلى اللَّه. فيصير ذلك عبادة.

فحقيقة العبادة إذاً هي إخضاع إرادة الإنسان وإمحاؤها في إرادة اللَّه، فلا يكون له إستقلال في الإرادة، فيكون بذلك عبداً.

العبادة إذاً هي إنجاز عمل العبد، والعبد هو الذي لا يملك لنفسه أي شي‏ء. فحقيقة العبادة تتقوم بإمحاء إرادة الإنسان في إرادة اللَّه.

هذه أول مرتبة من مراتب العبادة. ثم يصل إلى حد لا يطلب لنفسه شيئاً إستقلالاً، فإذا أراد اللَّه له العافية، قبلها وشكر اللَّه عليها. وإذا أراد له المرض، رضي بقضاء اللَّه.

طبعاً، ليس معنى هذا أن يسعى الإنسان لكي يمرض. هذا خطأ. بل هذا أيضاً نوع استقلال في الإرادة حيث يقول: أنا أريد أن أكون مريضاً.

لقد وردت رواية عن صحابي جليل أنه قال للمعصوم صلوات اللَّه عليه: أصبحت مؤثراً الفقر على الغنى والمرض على الصحة. فقال صلوات اللَّه عليه: نحن لسنا كذلك. قال: لماذا؟ أنا زعمت أني صرت شبيهاً بكم. فقال: إنا لا نريد إلا ما أراد اللَّه. إذا أراد لنا العافية أردناها، وإذا أراد لنا المرض قبلناه. فنصبر على البلاء، ونرضى بقضائه ونفوّض الأمر إليه، ونسلم له تسليماً.

الفناء كمال لا عدم

إذا سلك الإنسان هذه المسالك خطوة بعد أخرى، يصل إلى حدٍ لا يرى لنفسه أي إستقلالٍ. وهذا ما يعبر عنه العرفاء بالفناء. ليس الفناء

119


99

الكمال النهائي للانسان

هو أن يهلك الإنسان وينعدم. الانعدام ليس أمراً مطلوباً، وإلا لم يوجده اللَّه تبارك وتعالى.

الفناء حقيقته أن لا يرى الإنسان إستقلالا لنفسه، وهذا كمال الإدراك والعلم، لأن حقيقة وجوده هي التعلق وعدم الإستقلال. فإذا زعم لنفسه إستقلالاً كان جاهلاً.... الإستقلال أمر مزعوم متوهم... ليس لنا إلا العبودية. فالإنسان بوصوله إلى هذا المقام يعرف نفسه، فيرى أن نفسه متعلقة باللَّه وليس له أي شي‏ء إستقلالي. وهذا هو الفناء. لا أنه يفنى أي ينعدم أو يهلك.


"فتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك.. وألحقني بنور عزك الأبهج" هذا هو اللحوق بالنور الإلهي ونحن ليس لنا إلا الظلمة من أنفسنا، فالنور هو نور اللَّه، يظهر فينا إذا وصلنا إلى نوره.. يتجلى فينا.. بل أستعيذ باللَّه من قولي "يتجلى فينا". إنما يتجلى في أولياء اللَّه، فأنا عبد مذنب عاصٍ محجوب بالحجب الظلمانية فضلاً عن النورانية.


ولي اللَّه يصبح بحيث تفنى إرادته في إرادة اللَّه، بل هويّته في نوره. فكل شي‏ء يقربنا إلى اللَّه، يعني يوجب أن تصير قلوبنا بحيث ترى عبوديتها أكثر.

كلما كانت العبادة أكثر تأثيراً من هذه الناحية، أي توجب إمحاء إرادتنا في إرادة اللَّه، وكسر أنفسنا.. هضم أنفسنا.. كسر كبريائنا، تكون العبادة أنفع، ويكون ثوابها أكبر.

لقد ورد في الأحاديث الشريفة أن الإنسان نازع اللَّه في رداء كبريائه، ف"رداء الكبرياء" تختص باللَّه تبارك وتعالى. والإنسان غصب هذا الرداء من اللَّه، فوصل أحياناً إلى حد أنه قال: أنا ربكم الأعلى.
 

120


100

الكمال النهائي للانسان

الإبتعاد عن اللَّه تعالى هو سبيلٌ إلى هذه النار المستعرة.. دار البوار.. دار الهلاك. فالإنسان يسير إلى حيث يدّعي أنه اللَّه.. أنه الرب. أنه لا يحتاج إلى شي‏ء بل كل الناس يحتاجون إليه. فهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون. يرى أن الناس كلهم محتاجون إليه فهو إذاً ربهم. فيقول: أنا ربكم الأعلى. وهذه النزعة موجودة فينا إلا أنها خفية. فإذا رددنا هذا الكبرياء إلى مالكه، صرنا عبيداً. أما إذا ادّعينا هذا الكبرياء لأنفسنا، كنا منازعين للَّه تبارك وتعالى، كإبليس. نازع اللَّه في كبريائه، فقال: أنا خير منه.. أنت تأمرني لكن أمرك ليس في محله سبحان اللَّه قال: أنا خير منه.. خلقتني من نارٍ وخلقته من طين. فِلمَ تأمرني بالسجود له؟

التوحيد في الربوبية التشريعية

من هذه النقطة نصل إلى حقيقةٍ أخرى وهي أن الشرط الأول للدخول في هذا السبيل.. سبيل العبادة، هو أن يعترف الإنسان بأن للَّه تبارك وتعالى حق الأمر والنهي على الإطلاق. وهذا ما نعبّر عنه بالتوحيد في الربوبية التشريعية. فالتوحيد له مراتب وله حد نصاب.

توحيد اللَّه في الخالقية كان مشتركاً بين المسلمين والمشركين "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ اللَّه". لم يكن المشركون منكرين لخالقية اللَّه تبارك وتعالى. بل كانوا يعتقدون بالشرك في الربوبية. كانوا يقولون أن اللَّه تعالى خلقنا وجعل تدبير أمورنا إلى أرباب أو إلى أنفسنا. فكانوا ينكرون الربوبية التكوينية.
وبعد ذلك تصل النوبة إلى الربوبية التشريعية. وذلك بعد الاعتراف

121


101

الكمال النهائي للانسان

بوجود اللَّه ووحدته وكونه رباً لنا ومدبّراً لأمورنا التكوينية، تصل النوبة إلى أنه هل تجب إطاعته أم لا؟ هل له حق الأمر والنهي وجعل القوانين والأحكام أم لا؟ فإذا لم يصل الإنسان إلى هذا الحد( الإيمان بالربوبية التشريعية للَّه تعالى)، فهو يعدّ كافراً في عرف القران الكريم. ما الدليل على ذلك؟ نسألكم هل كان إبليس كافراً في عرف القران الكريم أم لا؟ "فأبى واستكبر وكان من الكافرين". فما الموجب لكفره؟ هل كان منكراً لوجود اللَّه؟ منكراً لخالقيته؟


قال:( خلقتني..) كان معترفاً بأنه هو خالقه وخالق ادم وغيره. "خلقتني من نارٍ وخلقته من طين" فلم ينكر خالقية اللَّه تبارك وتعالى. إذاً، فهل كان منكراً لربوبيته؟ لا، قال:( رب....) فهل كان منكراً للمعاد؟ كلا فإنه قال "أنظرني إلى يوم يبعثون" فما الدليل على كفره؟ الدليل هو إنكاره للربوبية التشريعية. يعني أنه كان منكراً لحق الأمر والنهي.. كان منكراً لأنه إذا أمره بالسجود لمخلوقٍ وجب عليه ذلك. ومن أجل ذلك صار من الكافرين.


فحد النصاب للتوحيد إذاً، هو التوحيد في الربوبية التشريعية، وذلك بعد التوحيد في الخالقية والربوبية التكوينية. فإذا كان الإنسان بحيث يقول في نفسه: في الإسلام هناك الحكم الفلاني، إلا أنني أعتقد أنه لو كان كذا لكان أفضل فهو في قلبه كافر وإن كان ظاهره ظاهر الإسلام ويُعامل معاملة المسلم. هذا أمر ظاهري يهدف إلى نظم الأمور في هذه الحياة الدنيا.
إذا علم أن اللَّه تبارك وتعالى أمر بشي‏ء يسير.. بصلاة نافلة مثلاً، ومع علمه بأن اللَّه تبارك وتعالى أمر بذلك كان في قلبه إنكار له..

122


102

الكمال النهائي للانسان

يقول: لا، لو كان غير ذلك لكان أفضل.. أنا لا أقبل.. عقلي لا يعترف بذلك، فهو كافر بقلبه.

أنت إذاً تعبد عقلك، لا تعبد ربك!!

عندما أمر اللَّه تعالى سيدنا إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، لم يخطر بباله أنه خلاف العقل.. قتل النفس المحترمة أمر مذموم أو قبيحٌ.. لم يخطر بباله ذلك، ولا خطر ببال ولده الشاب. فقال: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين".

لم يخطر بباله هل ذلك جائز؟!.. مالي ذنب حتى أقتل!!.. وذلك لأنه علم أن اللَّه أشار إلى ذلك في رؤيا راها إبراهيم عليه السلام، لكن هذه الرؤيا كانت رؤيا نبوّة. قال: "يا أبتِ افعل ما تؤمر" إنه أمر من اللَّه يجب قبوله، وهو لا يتوقف على قبول عقلي.

هذا هو التوحيد. فإذا كنا لا نعترف بأحكام اللَّه إلا إذا قبلتها عقولنا، كان في توحيدنا نقص. إذاً فالتوحيد في الربوبية التشريعية هو النصاب في التوحيد. وهو الذي كان يفقده إبليس مع أنه كان واجداً لكل الأمور والجوانب التوحيدية الأخرى. فكان موحداً في الخالقية وفي الربوبية التكوينية.. وفي العبادة!! قال إبليس: اعفني من هذا العمل وأنا أعبدك عبادة لم يعبدك بها أحدٌ. وكان قبل ذلك قد عبد اللَّه ستة الاف سنة. وبحسب تعبير أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "لا يُدرى أمِنْ سِنِي الدنيا أم من سني الاخرة؟".

إذاً كان قد عبد اللَّه ستة الاف سنةٍ لا يُدرى أنها من سني الدنيا التي كل سنة منها حوالي ثلاثماية وستين يوماً أم من سني الاخرة التي كل يوم منها عند ربك كألف سنة.

123


103

الكمال النهائي للانسان

مثل هذا الشخص قال: أعفني من سجدة ادم، أعبدك عبادة لم يعبدك بها أحد. قال: إذا كنت تريد طاعتي فافعل ما أريد منك. وإذا كنت لا تريد موافقة إرادتي. فلا أعتني بعبادتك، فإنك إذاً تعبد نفسك وإرادتك.

العبادة طريق الكمال

السبيل الوحيد لوصول الإنسان إلى كماله المنشود هو العبادة بمعناها العام، أي إمحاء إرادة النفس في إرادة اللَّه. وكل فعلٍ يقوم به الإنسان بهذه النية.. يفعله لأن اللَّه شاء.. لأن اللَّه يحب ذلك، يكون عبادة. سواء كان صوماً أو كان إفطاراً، فالذي صام صوماً استحبابياً إذا علم أن أخاه يحب أن يأكل من طعامه، فلم يظهر أنه صائم، وأكل من طعام أخيه كان له سبعون ضعفاً من ثوابه لو كان صائماً. لأي سبب؟ لأنه اثر إرادة أخيه المؤمن، وهو ما يحبه اللَّه. فاللَّه يريد منه أن يؤثر إرادة أخيه على إرادة نفسه، فكان فيه إمحاء لإرادته في إرادة اللَّه. ولذلك كان ما قام به عبادة.
الأكل إذاً يصير عبادة. والكثير من الأمور الحيوانية التي يقبح ذكرها تصير عبادة إذا أُتي بها إطاعة لأمر اللَّه تبارك وتعالى، فالعبادة غير منحصرة بالصلاة والصوم.

وكيف كان، فكل عمل يؤتى به بقصد إطاعة اللَّه يكون عبادة، ومثل هذا العمل يعدّ السبيل الوحيد إلى التقرب إلى اللَّه أي إلى كمال الإنسانية. لا سبيل إلى ذلك غير هذا "ألم أعهد إليكم يا بني ادم ألاّ تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم".

124


104

الكمال النهائي للانسان

فالصراط المستقيم هو صراط عبادة اللَّه وإطاعة أمره ونهيه.

والحاصل من بحثنا الثقيل والمندمج هذا، أن كمال الإنسان بحسب وجهة نظر القران الكريم هو في التقرب إلى اللَّه، وهذا التقرب لا ينحصر بالتقرب الإعتباري، بل هناك قرب حقيقي وهو عبارة عن ارتفاع الحجب بين قلب الإنسان وبين اللَّه تبارك وتعالى.

وإنما يحصل هذا الرفع، وهذا الخرق للحجب بالتخلي عن الأهواء النفسية وترك الأهواء وإمحاء الإرادة في إرادة اللَّه سبحانه وتعالى والتعلق به، فينتهي الأمر إلى رفع تلك الحجب الظلمانية والنورانية، وتعلق الروح بنور اللَّه الأبهج، فتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسه.

أسئلة وردود

سؤال: ذكرتم في حديثكم ما يؤكد على ضرورة سعي الإنسان نحو الكمال والإتصال باللَّه تعالى. فهل في رأيكم أن الإنسان له حدود في مسيرته التكاملية قبل أن يصل إلى المقام المعنوي الذي وصل إليه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، أم أنه ليس هناك حدودٌ لهذا الكمال الإنساني؟
الجواب: هذا مما لا أعرف كنهه. لكن يمكنني أن أقول كلاماً حول هذا المطلب. وهو أن الحدود والنهايات أمور نسبية. أبتدى‏ء بذكر مثال من الماديات. فنحن نقسّم الخط إلى متناه وغير متناه. الخط هو الامتداد من جهة واحدة، يمكن أن يفرض أنه غير متناه. فإذا فرضنا خطاً غير متناهٍ. فهل يجب أن يكون ذلك الجسم غير متناه في عرضه أيضاً؟
هذا الخط بالطبع موجودٌ في سطح، فالخط ليس موجوداً مجردا..

125


105

الكمال النهائي للانسان

الخط هو طرف السطح. فإذا فرضنا أن الخط غير متناه، فهل يجب أن يكون عرض هذا السطح أيضا غير متناه؟

يمكن أن يكون العرض متناهياً والطول غير متناه. هذا حسب المفروض. ثم إذا اعتبرنا أيضاً أن العرض غير متناه فهل يجب أن يكون السمك غير متناه؟ فيكون له عدم التناهي من وجهين، ويكون متناهياً من وجه اخر.
ثم هناك في الهندسة أشياء مفروضة، ربما يتصوَّر أبعادٌ غير متناهية لشي‏ء واحد..

ما نعرفه هو أن الابعاد ثلاثة هي الطول والعرض والسمك. لكن في الرياضيات العالية تفرض أبعادٌ غير متناهية لشي‏ء واحد.

فإذا قلنا بأن شيئاً غير متناه من جهة، هذا لا يعني أنه غير متناه في جميع الوجوه. هذه مقدمةٌ.

نحن نعرف أن عالم الاخرة هو عالم الخلود "خالدين فيها أبداً"، فالخلود معناه أنه لا يتناهى زمانه. فزمان البقاء في الجنة للمؤمنين غير متناه "خالدين فيها أبداً". وهذا البعد من الوجود الإنساني للمؤمن بُعدٌ غير متناه، لكن ليس معناه أنه غير متناه في جميع الأبعاد ومن جميع الوجوه. فالإنسان لا يمكن أن يصير غير متناه من جميع الوجوه. لكن يمكن أن يصير غير متناه في بعض الوجوه، كالزمان مثلاً. بأن يكون عمره غير متناه. وهذا لا يخرجه عن كونه مخلوقاً ممكناً، فهو مخلوقٌ وعمره غير متناه. وحتى إذا فرض أنه يوجد مخلوق عمره غير متناه من جهة البدء أيضاً. نحن نعرف أن المؤمنين في الجنة عمرهم غير متناه، لكن عمره في الدنيا متناه وله بدءٌ. إذا فرضنا أن

126


106

الكمال النهائي للانسان

هناك موجوداً هو أزلي كما هو أبدي. أي كان له عمرٌ غير متناهٍ من جهة البدء أيضاً، فهذا أيضاً لا يخرجه عن المخلوقية.

هذا اللاتناهي في خطٍ واحدٍ فقط، هو خط الزمان. لكن لا تناهي خطِّ الزمان لا يوجب اللاتناهي من جميع الأبعاد. فللإنسان أبعاد كثيرة. نحن نعرف بعضها.


إذا كان هناك مخلوق أو موجود متناه من حيث مرتبة الوجود، أي لم يكن غنياً بذاته. فهو حتى لو كان غير متناه في سائر أبعاد الوجود، لكنه لا يزال من حيث الغنى والفقر متناه غاية التناهي. فالإنسان كلما كان غنياً يدرك فقره أكثر. وهذا أمر عجيب.

كلما كان أقوى وأكمل يعرف عجزه ونقصه وانعدامه وهلاكه الذاتي أكثر.

الكمال الوجودي للإنسان ينتهي إلى معرفة نفسه، وإلى معرفة فقره.

فالتناهي من هذه الحيثية أمر ذاتي للإنسان لا يمكن أن يتجاوزه. أما من سائر الحيثيات، فربما أمكن للإنسان أن يكون غير متناه في بعضها.


هذا بحسب أصل القضية للإنسان. لكن نحن لدينا دليلٌ نقليٌ أن هذا الإمكان الذاتي للوصول إلى الكمال اللانهائي انحصر بحسب الوقوع الخارجي في أربعة عشر شخصاً، فالمصداق لهذا الممكن لا يوجد في الخارج إلا في هؤلاء الأربعة عشر. وسائر الناس حتى الأنبياء هم في مرتبة أدنى من ذلك. وإن كانوا كلهم متناهين من حيث الفقر الذاتي الانساني.

127


107

العرفان في الاسلام

بعدما تحدثنا عن المقام المنشود للإنسان الذي يعبر عنه بالقرب من اللَّه تعالى وسائر التعبيرات الشبيهة بهذا كالزلفى وما إليها، بقي أمر أظن أنه يجب التنبيه إليه وهو أن في الأوساط الإسلامية والدينية نزعات بهذا الصدد إلى ما يسمى بالسير والسلوك والعرفان وغيره، وبعض الناس يتجنبون هذه الألفاظ ويعدونها بدعة وخارجة عن الدين. في الواقع لا ينبغي الخوف من هذه الأسماء فالألفاظ ليس لها شأن إلا الإشارة إلى المعاني.

لا إفراط ولا تفريط

فإسم العرفان وحتى إسم التصوف وما إلى ذلك من الأسماء إذا أشارت إلى أمور صحيحة في الشَرع موافقة لما في الكتاب والسنة فلا ينبغي أن يخاف من هذه الأسماء، أما إذا أشارت إلى معان هي بدعة خارجة عن الدين مخالفة لمحتوى الكتاب والسنة فيتجنب عنها لما لها من المعاني والمحتويات. ففي هذا المجال كسائر المجالات يوجد إفراط وتفريط واليمين والشمال مضلّة عليكم بالنمرقة الوسطى.
فبعض الناس يضربون هذه الأمور بعرض الحائط وبعضهم يتمسكون بأي شي‏ء له صلة بهذه المعاني ويظنون أنها وحي منزل من

131


108

العرفان في الاسلام

عند اللَّه، كشعر تفوه به شاعر عارف أو كلام أدبي تكلم به أديب يتلقونه تلقي الوحي المنزل من عند اللَّه، هذا إفراط، فالعرفاء والمتصوفون أيضاً لهم أغلاط وإشتباهات فهم غير معصومين. مثال ذلك الشيخ محيي الدين إبن عربي وهو عارف كبير وقد أشار الإمام إليه في رسالته إلى غورباتشوف، لكن الإمام يعلّق على كلماته ويُخطّى‏ء بعض تعابيره في بعض الكتب العرفانية التي طبعت، فتجليل مثل هذا الرجل لا يعني أن كل كلماته تامة وصحيحة غير قابلة للنقد. ويقابله نزعة أخرى ترد كل ما ينسب إلى العرفان ويقول كلها أمور خارجة عن الدين. فيجب علينا أن نختار الطريقة الوسطى ونتجنب الإفراط والتفريط.

الاعتزال إفراط وتفريط


لا يتيسر لي أن أتعرض لكل هذه الانحرافات من ناحية الإفراط وناحية التفريط، لكن أؤكد على نقطة واحدة هي أن الغالب في النزعات العرفانية عند المتصوفة أنهم يركزون على الأمور الشخصية، فيحسبون أن العارف إذا أراد أن يتقرب إلى اللَّه تعالى يجب عليه أن يختار الرياضات الشرعية وطبعاً أهل البدعة لا يؤكدون على الشرعيات فقط أكثر العرفاء المتشرعون يركزون على الأمور الشخصية والقلبية والإحتراز من الأمور الاجتماعية فضلاً عن السياسية. فكأنهم يزعمون أن العبادة تنحصر فيما بين الإنسان وربه ويجب أن يخلّي قلبه عن كل شي‏ء سوى التوجه إلى اللَّه تعالى، فيرتاضون لذلك يسهرون لياليهم ويعتزلون عن الناس نهارهم لئلا

132


109

العرفان في الاسلام

يختلج في أذهانهم غير اللَّه وغير الأمور المتعلقة به، هذا نفسه تفريط من ناحية وإفراط من ناحية أخرى.
فكما ذكرت إن عبادة اللَّه لا تنحصر في مناسك خاصة بل حقيقتها إمحاء إرادة العبد في إرادة اللَّه وحيث أن العبودية يجب أن تشمل جميع أبعاد الإنسان وأن يكون الإنسان عبدا في قلبه وعقله وفي عواطفه ومشاعره وسلوكه الفردي والأسروي وسلوكه في المجتمع، يجب أن يكون عبدا في جميع الأمور ليكون عبداً خالصاً فيجب أن يكون مطيعاً للَّه في جميع ما يريده اللَّه، فقد أراد من الإنسان أن تتجلى العبودية في جميع شؤونه وليس في قلبه فقط وفي نسكه.


فالطريقة الحقة التي كان يسلكها أهل البيت عليهم السلام وعلّمونا إياها وأوصوا بها هي أن يكون الإنسان طالبا للعبودية في جميع شؤونه، في أكله وشربه وقيامه ونومه كل ذلك للَّه تبارك وتعالى "أسلمت وجهي للَّه رب العالمين"، "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه رب العالمين". كل شؤون الحياة والممات يجب أن تكون خالصة لوجه اللَّه حتى يصبح العبد عبدا حقيقياً عارفاً باللَّه منحرفاً عن سواه. فالذين يتوخون الإعتزال عن المجتمع خارجون عن طور هذه العبودية الكاملة، فهم عابدون في أمورهم الشخصية ليسوا عابدين في الأمور الإجتماعية مع أن الأمور الإجتماعية شؤون للإنسان فيجب أن تظهر عبودية الإنسان فيها.

السلوك القويم


فالطريق الصحيح لسلوك الإنسان في مسلك العبادة والعبودية أن

133


110

العرفان في الاسلام

يجعل جميع شؤونه خالصة للَّه، ففي الأمور الفردية سواء فيما يتعلق ببدنه أو ذهنه أو قلبه وإعتقاده وفي أسرته وفي عقله وفي زوجته وذريته وأولاده وفي المجتمع بحيث يشمل جميع واجباته الإجتماعية والعبادية كلها يجب أن تكون خاضعة لإرادة اللَّه تعالى.

كان هناك أشخاص إذا أمروا بالإشتراك في الجهاد قالوا إن لنا عبادة نريد أن نشتغل بالصلاة والصوم. ينقل أن الحسن البصري حين دعي للجهاد قال إن عندي شغلاً في العبادة لا أود أن أتركها! وهذا إنحراف، إذا كنت تريد أن تطيع اللَّه يجب أن تطيعه فيما يريده منك لا فيما تريده "إني أحب أن أطاع من حيث أريد لا من حيث تريد".
فإذا أردنا إطاعة اللَّه في الخلوة فقط فقد أطعناه فيما نريد فإذا وجب علينا الإشتراك في الجهاد، العبودية تقتضي الحضور والهجرة والجهاد وغيرها ولا يصلح أن نجيب أننا نعبد اللَّه في الخلوة ولا شأن لنا في المجتمع! هذا جواب غير صحيح من ناحية العرف الديني.

ضرورة التفقّه

فالمسألة الأصلية بشأن إختيار الطريقة العرفانية الصحيحة هو أن يكون المناط معرفة ما يريده اللَّه منا وأن نسعى وراء تحقيق هذه الإرادة التشريعية.
ومقدمة لذلك يجب علينا التفقه في الدين حتى نعرف ما هو مراده تعالى، فإذا كانت معرفتنا بأحكام اللَّه قاصرة ربما نخطى‏ء فنظن أن المتروك هو المأمور به وليس كذلك، وربما يشتبه علينا المعروف بالمنكر فنظن المعروف منكراً والمنكر معروفاً لقصور علمنا. فالأولى بالإنسان

134


111

العرفان في الاسلام

في الدرجة الأولى أن يصير فقيهاً بنفسه عارفاً بأحكام اللَّه، وإذا لم يمكنه ذلك فيجب معرفة من ينبغي تقليده ويكون أعرف بأحكام اللَّه بجميعها لا في شأن خاص واحد، فإذا عرفنا مَن علمه محيط بجميع أبواب الفقه، عباداتها ومعاملاتها ومسائلها الشخصية والإجتماعية والسياسية، فلنختر ذلك الرجل كالإمام الراحل رحمهم الله وإلا ففي كل باب فلنقلد الأعلم فيه.

إذا كان فقيه أعلم في المسائل السياسية فنقلده في تلك المسائل، وكذا المسائل العبادية وغيرها من الأبواب الأخرى كما نفعل بالنسبة للأطباء الأخصائيين نرجع إلى المتخصص في العين لمعالجة العين وإلى الجراح في الجراحة وإلى سائر الأخصائيين. هذه كلها معروفة وإنما أريد أن أنبّه على أنه على الإنسان أن يكون إذا أمكن فقيهاً بنفسه عالما بجميع أبواب الفقه، فإذا لم يتمكن من هو عارف بجميع أبواب الفقه ويكون أعلم وأفقه من غيره قلده في كل شي‏ء، أما إذا وجد عدة فقهاء كل واحد منهم متخصص في باب خاص في الفقه فليقلد من هو أعلم في نفس الباب، فالملاك هو معرفة أحكام اللَّه وطريقة عبادته ثم الإهتمام بالعمل بهذه العلوم والمعارف.
فمن عمل بما علم رزقه اللَّه علم ما لم يعلم، والمشكل فينا أننا لا نعمل بما نعلم ونريد أن نتعلم ما لا نعلم فيقال لنا ماذا فعلت بما تعلم حتى تتعلم ما لا تعلم؟ هل عملت بما علمت حتى تتعلم ما لا تعلم أو لك هوى في التعلم ولا تريد العمل؟ إذا أراد في الحقيقة أن يعمل فهو يعمل بما يعلم ثم يحاول أن يتعلم مالا يعلم لأجل عمل أكثر وأعمق وأفضل.

135


112

العرفان في الاسلام

أسئلة وردود

سؤال: ما رأيكم بقول بعض الفلاسفة أؤمن لأتعقل وأتعقل لأؤمن؟
الجواب: هناك نزعة في الفرقة البروتستانتية الذين يقولون أن الإيمان قبل المعرفة بخلاف اليسوعيين الذين يقولون أن معرفة وإثبات وجود اللَّه تعالى يكون بالبرهان والمنطق.


فتقول الفرقة الأولى امنوا بالتثليث ثم أفهموه لأن التثليث لا يمكن إثباته بالعقل. نؤمن ثم نتعقل. فإذا كان المراد بمثل هذا الكلام تلك النزعة البروتستانتية فهذا لا يوافق العلم إذ لا يمكن للإنسان إذا كان جاهلا بشي‏ء حتى بصورة ظنية أن يؤمن به. ما معنى الإيمان؟ كيف نعتقد بما هو غير موجود، أو أشك في وجوده أو عدمه فكيف نؤمن به؟
فمع الشك لا يمكن الإيمان، فهذا القول "امن ثم افهم" قول غير معقول لكن الإسلام يقول إعلم ثم امن "فاعلم أنه لا إله إلا هو" ويصف المشركين أنهم يقولون ما لا يعلمون ولا برهان لهم عند ربهم. إذن يجب على الإنسان كسب المعرفة حسب طاقته فللمعرفة مراتب كثيرة تبدأ من الظن ثم الإطمئنان ثم علم اليقين ثم عين اليقين إلى أن تصل إلى حق اليقين. فإذا أراد الكاتب بمثل هذا القول أن الإيمان قبل التعقل فهو أمر غير متعقل. أما الأخذ بقول المخبر الصادق إذا علم أن المخبر صادق فهو مقبول. لكن إذا كان يدعي أحد أني عرفت كذا وكذا بدون دليل فلا يمكن الأخد بقوله.

سؤال: هل لكم أن تحدثونا عن الإمام الخميني في عالم المقامات رضوان اللَّه عليه؟

136


113

العرفان في الاسلام

الجواب: الإمام الخميني وما أدراك ما الإمام الخميني كلما ذكرت إسمه الشريف عييت عن الكلام. كان مثالا أعلى ونموذجا كاملا للمسلم الشيعي، لولي من أولياء اللَّه. ولأجل توضيح هذا الأمر أذكر حديثاً عن الإمام الباقر عليه السلام قاله لجابر بن يزيد الجعفي قال واعلم يا جابر أنك لا تكون لنا وليا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك فقالوا إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، وإذا إجتمعوا عليك فقالوا إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن تعرض نفسك على كتاب اللَّه" اشهد بحق أن الإمام رحمهم الله كان كذلك لا يحزنه تكذيب الاخرين ولا يسرّه مدح الاخرين.

كان ملتزماً بالعمل بواجبه سواء رضي الناس أم سخطوا. فكان من فضل اللَّه عليه أنْ خصه بنور وفراسة خاصة ربما ينفرد بها في تشخيص واجبه لا يشترك معه فيه أحد، ولا يشعر بذلك أنه في غربة وكان لا يستوحش في طريق الهدى لقلة أهله. إذا عرف أن أمراً واجب عليه أقدم عليه بكل وجوده وكل طاقته وإذا طلب موافقة الاخرين فإنه من جهة تشخيصه أن هذا الطلب أيضاً واجب ومن ذلك أن الإمام كان يطلب موافقة الاخرين من حيث أنه تكليف لا من حيث أنه لجذب موافق لشخصه الشريف، ففرق بين أن يعمل الإنسان لكي لا يكون منفرداً وبين أن يفكر في أنه بأي وسيلة يكون الأمر أنجح وتكون الغاية أقرب ومن ذلك أمثلة كثيرة فقد كان مظهراً للخلوص في العبودية لا يرى لنفسه شأنا. وكثيراً ما كان التلاميذ يلقونه في الطريق فيسألونه عن بعض المسائل فكان يقف في الطريق يجيبهم على مسائلهم ثم يقول لهم "تفضلوا، اذهبوا" حتى يسير في الطريق وحده لا يشايعه أحد

137


114

العرفان في الاسلام

ولا يرافقه أحد. ما أراد في لحظة من عمره أن يكون له منصب أو رئاسة أو مقام وامتياز. وقد عرفتم كيف كان في عبادته وأحوال شؤونه الأخرى. فكذلك كان الإمام رضوان اللَّه عليه ورفع اللَّه درجته ساعة بعد ساعة.

138


115

فلسفة الحقوق والقانون

تحدثنا عن المفاهيم القيمية بأنها تتعلق بقضايا عملية، أي قضايا مفادها يجب أو لا يجب، يحسن أو لا يحسن... تتعلق بعمل الإنسان الإختياري. فهذه القضايا منها ما يرجع إلى اداب ورسوم محلية أو قومية وليس لها رصيد واقعي، أما القسم الأعظم من هذه المفاهيم فهو الذي يتعلق بشؤون الحياة الحقيقية وإن كانت هذه القضايا قد صيغت بصيغ إعتبارية بحسب الإصطلاح، لكن وراء هذه الصيغ رصيد حقيقي واقعي يمثل مصالح الحياة أو مفاسدها.

ومصالح الحياة سواء ما يتعلق بالحياة الدنيوية أو الأخروية أمور حقيقية واقعية توجد في الخارج، فإذا تحدثنا عن تلك في القضايا بقولنا ينبغي أو لا ينبغي، يجوز أو لا يجوز... فهذه الصيغ تشير إلى مصالح واقعية توجد من خلال الإتيان بهذه الأفعال أو تركها، فصيغة "يجب رد الأمانة إلى أهلها" تحكي عن أن ردّ الأمانة في المجتمع إلى صاحبها يوجب مصلحة للفرد والمجتمع، ننظِّم بها حياتنا، وتمتد مصالحها على ما نعتقد في الدين الإسلامي الشريف إلى ما بعد الحياة الدنيا فتتمثل في الأجر الأخروي والثواب الخالد. وهذه المصالح سواء ترتبت على الأعمال في هذه الحياة أو بعدها هي أمور حقيقية، فصيغة يجب أو لا يجب، تشير إلى العلاقة بين هذا الفعل

141


116

فلسفة الحقوق والقانون

وتلك النتيجة، تلك العلاقة التي تسمَّى حسب التعبير المنطقي بالضرورة بالقياس.

فالذين لهم معرفة بالإصطلاحات المنطقية والفلسفية يعلمون أن الوجوب أو الضرورة تنقسم إلى وجوب ذاتي ووجوب غيري ووجوب بالقياس إلى الغير، فالفعل الواجب أي ما يجب فعله بالقياس إلى تلك النتيجة وهذا أمر يرجع إلى التحليل المنطقي لا نهتم به كثيراً في هذا المقام. وكيف كان فالقضايا القيمية الحقيقية هي ما عدا الاداب والرسوم المحلية والإعتبارات المحضة التي ليس لها رصيد حقيقي في الخارج، أما هذه القيم فليست دائرة مدار أذواق الناس وأهوائهم بل تابعة لأمور حقيقية، وهذه المفاهيم القيمية تتعلق على الأقل بحقلين من حقول المعرفة الإنسانية حقل الحقوق والقانون وحقل الأخلاق. ويمكن مزج هذين الحقلين في ما يتعلق بالعبادات الدينية ويمكن إرجاع الواجبات الدينية أو القيم الدينية إلى ذينك القسمين، لعلنا نوفق بالإشارة إلى ذلك المطلب فيما بعد.

الأخلاق والقانون


في العرف العام القيم تتوزع إلى قيم أخلاقية وقيم قانونية ويدور الكلام حول الفرق بينهما. فما العلاقة بين هاتين القيمتين؟
لقد فرقوا بينهما بأمور كثيرة لا نطيل البحث في هذه الأمور، ولكن المعتبر عندنا والذي نرتضيه من بين الأقوال أن القيم الأخلاقية تفترق عن القيم القانونية على الأقل بأمرين:
الأول: أن القيم القانونية هي التي لها ضامن في الخارج وهو جهاز

142


117

فلسفة الحقوق والقانون

الحكومة، فالحكم القانوني يُضمن تنفيذه من قبل الحكومة، والحكم الذي ليس من شأنه أن يُدعم ويُضمن تنفيذه من قبل الدولة لا يعتبر حكما قانونياً. إنما تُعتبر قضية قيمية قانوناً إذا كانت بحيث لو تخلف متخلف لاحقته الدولة وجازته على ذلك. فهذه هي الميزة الأولى التي تتميز بها القيمة القانونية أو الحكم القانوني عن الحكم الأخلاقي، والحكم الأخلاقي بما أنه أخلاقي فليس له ضامن في الخارج بل له ضامن داخلي هو الضمير الأخلاقي... لكن ربما تكون القضية الواحدة لها جهتان فهي من حيث أن الدولة ضامنة لتنفيذها تسمى قانونا، ومن حيث الضمير الإنساني هو الباعث على العمل بها تسمى حكماً أخلاقياً. فهذه هي الميزة الأولى بين الحكم القانوني والأخلاقي.

أما الميزة الثانية حسب معتقدنا فلا تعترف كل المدارس الأخلاقية بها هي أن العمل الأخلاقي يتقوم بالنية، فلو عمل الإنسان عملاً أخلاقياً بقصد الرياء والسمعة لا يسمى هذا العمل عملاً أخلاقياً، وليس له قيمة أخلاقية في الواقع، فقيمته الأخلاقية رهن بالنية الصالحة.

أما الكلام في هذه النية، وبأي نية يصير الفعل أخلاقياً؟ فيرجع إلى الخلاف القائم بين المدارس الدينية وغيرها.
فأمثال( كانت) يقولون أن قيمة الفعل الأخلاقي رهن بنية إطاعة العقل، فالفعل الأخلاقي إنما يصير ذا قيمة أخلاقية إذا أتى به بقصد إطاعة العقل أو الوجدان والضمير وأما إذا أتي به بقصد أجرٍ أو إرضاء عاطفة إنسانية وما إلى ذلك فلا يصير ذا قيمة أخلاقية. وأما عندنا نحن المسلمين فالقيمة الأخلاقية رهن بقصد التقرب إلى اللَّه، فإذا أردنا أن يكون للفعل نصاب القيمة يجب أن نأتي به بقصد التقرب إلى اللَّه،

143


118

فلسفة الحقوق والقانون

أمّا الفعل الفاقد لهذه النية فيمكن أن تكون له قيمة أدنى من هذا وهو مما يعين على التقرب وإن لم يؤت به بقصد التقرب، فإطعام اليتيم مثلاً له قيمته الاخلاقية ولو كان من غير المؤمن، فلا يتمشّى من غير المؤمن قصد التقرب إلى اللَّه لكن له قيمة أخلاقية هي دون حد النصاب المطلوب في أخلاق الاسلام.

وهذا ممّا يحتاج إلى بحث واسع ومفصل لا نتمكن من الخوض فيه في المقام.

وكيف كان، فالفرق بين القيمة الأخلاقية والقيمة القانونية يرجع إلى أمرين أحدهما ضمان الحكومة لإجراء الحكم القانوني والثاني النية الحسنة في قلب الفاعل، أو بصيغة أخرى إنما يكون الفعل أخلاقياً إذا كان له حسن فاعلي إضافة إلى الحسن الفعلي، فالفعل يجب أن يكون حسناً وأن يكون له حسن فاعلي أي له نية صالحة.

من هنا تنقسم القيم إلى قيم أخلاقية وقيم قانونية، وقد ظهر من بحثنا المضغوط أمور عديدة، أهمها: أن الواجب وما يشابهه من الصيغ في الأحكام العملية والقيمية معناه الوجوب بالقياس إلى الغاية أي يجب الإتيان بهذا العمل لأجل الوصول إلى تلك الغاية، هذا حسب نظرنا، أما أمثال( كانت) فلا يقبلون ذلك لأنهم يقولون إذا أتى بفعل بقصد الوصول إلى الغاية فقد قيمته الذاتية. أماحسب نظرنا الذي تؤيده المصادر الإسلامية فهو ما ذكرت من أن الواجب يرجع إلى الوجوب بالقياس إلى الغير أي يجب هذا العمل لأجل الوصول إلى النتيجة المنشودة وهذه النتيجة عند المؤمن هي رضا اللَّه عز وجل.

144


119

فلسفة الحقوق والقانون

الوجوب والاستحباب

ويمكن توزيع القضايا القيمية بحسب ملاك اخر وهو أن القضية القيمية التي تنطوي على أمر أو نهي أو الحكم بالحسن أو القبح، مثل هذه القضايا إما أن تتعلق بالأمور الشخصية وتعود نتيجتها إلى نفس الفاعل، وإما أن تتعلق بالمجتمع وترجع فائدته إليه. فإذا كانت هذه الفائدة لازمة الاستيفاء بحيث يخسر المجتمع بفقد هذه الفائدة كان الفعل المؤدّي إليها واجباً وذلك كحفظ النظام في المجتمع لأنه إذا كان المجتمع فاقداً للنظام لم يبقٍ مجتمع مدني وكان رجوعاً إلى حكم الغاب، فحفظ النَّظم في المجتمع والنظام الاجتماعي أمر واجبٌ لأن فيه مصلحة لازمة الاستيفاء يخسر المجتمع بفقدها خسارة عظيمة، وتلك الخسارة تعود إلى أفراد المجتمع.
لكن لا ملازمة بين خسارة المجتمع وخسارة كل فرد، عقلا، فيمكن أن يخسر المجتمع بما هو مجتمع، والفرد يتمتع بفائدة خاصة كالسارق مثلا يتمتع بمنفعة خاصة لكن المجتمع يكون قد خسر النظام والأمن المالي، فهذه الغايات المطلوبة من الأعمال الإختيارية للإنسان تتوزع إلى غايات ترجع إلى الأفراد وغايات ترجع إلى المجتمع. والتي ترجع إلى المجتمع هي مصب القوانين والأحكام الاجتماعية وهي التي تضمن الدولة تحقيقها، أما الأحكام الأخلاقية فربما تتعلق بالأفراد من حيث هم أفراد متفرقون وليس لها مصلحة عامة لازمة الاستيفاء فتسمى أحكاماً أخلاقية أي يستحب استيفاء تلك المصالح للمجتمع وإن لم تبلغ حد الوجوب.
فالقانون ليس له صيغة الإستحباب بل القانون أمر وزجر، جائز

145


120

فلسفة الحقوق والقانون

وممنوع، فالقانون لا يقول الأفضل أن يكون كذا أو يستحب فعل كذا بل القانون إلزام بالفعل أو الترك.
أما الأحكام الاخلاقية فيمكن أن تكون على صيغة الإستحباب والفضيلة كقولنا الأفضل أن يكون كذا فيمكن أن يكون لمثل هذه الأحكام الأخلاقية منافع تعود على المجتمع لكن لا تبلغ حد الوجوب. هذا تقسيم اخر للقضايا القيمية تتوزع بحسبها إلى أحكام اخلاقية وإلى أحكام قانونية.

العلاقة بين الحق والحكم

ثم هناك مسألة أخرى وهي بيان العلاقة بين الحكم القانوني أي التكليف المستفاد من نفس القانون وبين ثبوت الحق للأشخاص، فقد يعبر عن هذا في الأبحاث الفقهية بالعلاقة بين الحكم والحق، لكن في الأبحاث الحقوقية وفي فلسفة الحقوق والقانون يسأل عن الفرق بين الصيغة التي تثبت حقاً لشخص أو أشخاص أو للمجتمع أو للإمام وبين الصيغة التي تثبت تكليفاً لهم، فهل القانون يجب أن ينطوي على تكليف أو يمكن أن يكون القانون فاقداً للأمر والنهي إطلاقاً، وإنما يثبت حقاً لفرد أو مجتمع أو جماعة.
البحث حول هذه المسألة طويل، المختار أن القانون يشتمل على أمر أو نهي إما بالتصريح أو بالتلميح، فإذا لم يتضمن القانون أمراً أو نهياً ولو بدلالة الالتزام فلا يسمى قانوناً. فالقانون يتقوم بالأمر والنهي وبالإلزام بالفعل أو الترك ولو تلويحاً. مثلاً إذا ذكر في صيغة قانونية أن كل فرد له الحق الكذائي أو أن المجتمع له الحق الكذائي أو لشخص

146


121

فلسفة الحقوق والقانون

خاص الحق الكذائي وليس في هذا النص غير إثبات هذا الحق، فربما يظن أن هذه صيغة قانونية ولا تشتمل على أمر أو نهي، لكن في الحقيقة هذه الصيغة تحوي في صميمها الأمر أو النهي. كيف ذلك؟ لأن معنى ثبوت الحق لهذا الشخص أنه لا يجوز للاخرين التعدي على هذا الحق فينهى الاخرين عن التعدي على ذلك الحق الثابت لهذا الشخص أو للجماعة أو للمجتمع. وهذا مغزى ما ذكرت من أن صيغة القضية الفاقدة لأي أمر أو نهي ولو إلتزاماً وتلويحاً فهذا لا يسمى قانوناً.

القانون والحرية

وبالنظر إلى هذه القضية وهذه الحقيقة فإن القانون يتضمن شيئاً من الأمر والنهي، ومن طبيعة القانون أن له سلطة على مخاطبيه تُقيَّد بصيغة القانون إرادة المخاطبين، أي أصحاب هذا القانون الذي يجب أن ينفَّذ هذا القانون بالنسبة إليهم.
فمعنى "يجب أن يفعل الناس كذا وكذا" أنهم ليسوا أحراراً في هذا العمل وتركه فيجب عليهم الفعل، فمقتضى القانون تحديد الإرادات الحرة للأشخاص... فالقانون يُلزم المكلفين بأن يحدوا من أهوائهم وإراداتهم وينظموا سلوكهم ضمن ضوابط خاصة. وبذلك يظهر أن النسبة بين حرية العمل والقانون نسبة التباين.
نعم للقانون أن يثبت حقا للفرد فالشخص له حرية العمل في الاستفادة والتمتع بهذا الحق أو تركه لكن نفس هذا القانون يشتمل على أمر أو نهي للاخرين عن التعدي على هذا الشخص، فبالنسبة

147


122

فلسفة الحقوق والقانون

إليهم يكون القانون محدّداً لإرادتهم ويوجب تقييد إرادتهم وتحديدها، فبما أن القانون يشتمل على أمر ونهي، يحدد ذلك القانون إرادة مخاطب هذا الأمر والمكلف به، وإن كان مفاد بعض القوانين ثبوت الحق لأشخاص يكونون أحراراً ولهم إطلاق العمل في التمتع بذلك الحق أو تركه.

أؤكد مرة أخرى على أن القانون الاجتماعي إنما يكون قانونا باشتماله على أمر ونهي إما بالتصريح كأن نقول: على أهل البلد الكذائي أن يفعلوا ذلك، وإما بالتلميح وهو إذا كان القانون يثبت حقاً لفرد أو جماعة ويدل إلتزاماً وتلميحاً على أمر ونهي للاخرين برعاية الحق وحرمة التعدي على صاحب الحق. ومن حيث اشتمال القانون على هذا الأمر والنهي تُحدَّد إرادات المكلفين فلا يمكن أن يوجد قانون وليس له دلالة على تحديد الإرادة وتقييد إطلاقها. وهذه مسألة هامة جداً في فلسفة القانون.

منشأ الحقوق

بعد معرفة هذه المقدمات التي بعضها مبادى‏ء تصورية وبعضها تصديقية لفلسفة القانون ولعلم الحقوق تظهر مسألة أساسية وهذه المسألة حسب اطلاعي لم تجد إلى يومنا هذا جواباً وافياً،وهي مسألة "منشأ الحقوق".
إذا قلنا أن للإنسان حقَّ الحياة وحق اختيار المسكن واختيار العمل أو له حقوق خاصة كحق الوالد على الولد وبالعكس، أو حق الزوج على الزوجة، فما هو منشأ هذا الحق ومن أين ينشأ؟

148


123

فلسفة الحقوق والقانون

منشأ الحقوق وتوافق الناس

هناك مدارس مختلفة جداً في الإجابة على هذا السؤال، فبعض المدارس التي تجمعها مدارس الإثبات أو( التحصليين) يقولون: أن الحق ليس له منشأ إلا ما توافق الناس عليه فيدور مدار إرادة المجتمع. فإما أن يكون التوافق توافقاً رسمياً يعلن في مجلس رسمي كمجلس النواب مثلا أو مجلس دولي أو في اتفاقيات دولية وإما بصيغة غير مكتوبة وغير رسمية يعرفها العرف، فالناس ربما يتوافقون على أمر لا يكتبونه في كتاب ولا يعلنونه رسمياً لكن يتوافقون عليه عملياً، فملاك ثبوت هذا الحق هو توافق الناس، وليس وراء هذا التوافق رصيد حقيقي. هذه هي النزعة الإثباتية أو التحصلية التي لها مدارس متعددة فالجامع بينها هي هذه النزعة.

منشأ الحقوق وطبيعة الانسان

وهناك مدارس أخرى بعضها تقول: إن طبيعة الإنسان تعطي حقوقا للإنسان، فمنشأ ثبوت الحق هو طبيعة الإنسان، وقد يعبرون عنه بالفطرة الإنسانية وهذا هو مبنى نظرية الحقوق الطبيعية وهي معروفة وكأنها وحي نازل من عند اللَّه لا يمكن أن يختلف أو يتخلف.


أما مبنى هذه النظرية فهو نظرية قديمة لبعض فلاسفة اليونان القدامى، وهي أن الطبيعة الإنسانية يمكن أن تعطي أفرادها حقوقاً خاصة، فبالرجوع إلى طبيعتنا ونزعاتنا وميولنا وطموحاتنا الطبيعية المشتركة بين جميع الناس نعرف أن الطبيعة قد أعطتنا هذا الحق. فكل الناس يريدون لأنفسهم أموالاً خاصة ولديهم الميل إلى التملك

149


124

فلسفة الحقوق والقانون

فهذا يكشف أن الطبيعة قد أعطتنا حق التملك، كلنا نريد الحياة فالطبيعة قد أعطتنا حق الحياة وما إلى ذلك. وهذا مبنى سخيف جداً ليس له منطق وبرهان على ذلك. فما معنى أن الطبيعة تعطي؟ ما هي الطبيعة؟ هل للإنسان طبيعة مستقلة عن الأفراد تعطي الأفراد شيئاً؟ أين توجد هذه الطبيعة؟

يمكن أن نعتبر هذا كتعبير أدبي يكون المراد منه أن الإنسان بطبيعته يريد ويتوخى هذه الأمور فيعبر عنه بحسب التعبير الأدبي بأن الطبيعة قد أعطته ذلك. هذا أقصى ما يمكن أن يقال في تبرير هذه النظرية، وليس هناك أمر مستقل في الخارج يسمى باسم طبيعة الإنسان حتى تعطي الحقوق للأفراد. من أين لها هذا السخاء والجود؟ والحاصل أن الإنسان بطبيعته يريد هذه الأمور، فهذا أمر مشترك بين جميع الناس. لكن هذا الكلام لا يدل على أنه يوجد هناك دليل عقلي ومنطقي على ثبوت هذا الحق للإنسان، وعلى أنه يستطيع قانونياً أن يحصل على هذه الأماني لنفسه. فما الدليل على أن ما يريده الإنسان هو حق له؟ فمعنى الحق غير معنى الإرادة والإقتضاء والطلب.
ويمكن تبرير هذه النظرية بمبرر اخر وهو أن أفراد الإنسان إذا أرادوا أن يستمروا في حياتهم في هذا العالم ويبلغوا كمالاتهم اللائقة بهم، فالإستمرار في الحياة وتحصيل الكمال اللائق للإنسان يتوقف على هذا الحق. فإذا لم يكن للإنسان حق الحياة وكان لكل أحد أن يقتل إنسانا اخر بغير حق فهذا الإنسان لا يمكنه الاستدامة في حياته وبلوغه إلى كماله المطلوب له، وحيث أنه يجب أن يبقى الإنسان على

150


125

فلسفة الحقوق والقانون

هذه الكرة الأرضية ويبلغ حياته وكمالاته اللائقة به فيجب أن يكون له حق في هذه الأمور.

لكن هذا البيان أيضاً لا يثبت برهانياً وجود حق له، لأنه يبقى هذا السؤال: بأيّ برهان عقليّ يجب للإنسان أن يبقى في هذا العالم؟ وما الدليل المنطقي على وجوب إدامة الحياة؟ ثم إنه هل يجب ذلك على الإطلاق في جميع الظروف والأحوال؟ أو قد يجوز الإقدام على الإماتة بل يمكن أن يجب الإقدام على الإستشهاد؟ فمن أين يجب إبقاء حياة كل فرد في كل الظروف؟ هذه أبحاث عميقة تتعلق بفلسفة الحقوق؟ وحسب اطلاعي لم تجد جواباً حاسماً ووافياً إلى يومنا هذا.

منشأ الحقوق في الاسلام

أما حسب النظرة الدينية الإلهية، فمنشأ الحقوق يمكن أن يكون على النحو التالي:
لمّا عرفنا أن لنا خالقاً هو الذي خلقنا لحكمة وهي الهدف من الخلقة، ولسنا نحن بصدد بيان الهدف في هذا الموضع، فكيف كان فإن إفاضة الفيض من اللَّه تبارك وتعالى مقتضى لصفاته الذاتية، فاللَّه تعالى بما أنه كريم في ذاته مفيض على الإطلاق يفيض بالوجود على المخلوقات حسب ما يتيسر لهم من القابليات، فخلق اللَّه تبارك وتعالى الإنسان لكي يتكامل بأفعاله الاختيارية ويصير بحيث يكون لائقاً لادراك الرحمة الخالدة الخاصة بأولياء اللَّه. فهذه رحمة خاصة لا ينالها إلا من زكّى نفسه وأخلص عمله وأصلح حاله.

فتحقق هذه الغاية الإلهية من خلق الإنسان متوقف على بقاء

151


126

فلسفة الحقوق والقانون

الإنسان على هذا الكوكب. ومقتضى ذلك أن يكون للإنسان حق الحياة، لكن هذا الحق ليس مطلقاً، فهذا الحق إنما يكون ثابتاً للإنسان إذا لم يتعارض مع الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، فالحكمة الإلهية تقتضي أن يعيش المجتمع على وجه عادل، فإذا قتل إنسان إنساناً اخر فلا مانع من قتل القاتل بالقصاص، فليس له حق الحياة بعد ذلك لأنه نقض الحكمة الإلهية فحقه بالحياة حق مقيد "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض"، فإذا أفسد أحد سقط عنه حق الحياة، فالمفسد في الأرض ليس له حق الحياة وقاتل النفس المحترمة ليس له حق الحياة. فملاك ثبوت الحق هو تحقق الحكمة الإلهية،فإذا عارض ثبوت حق لأحد هذا الغرض الإلهي سقط حقه.
ومقتضى هذا البيان أن أمثال هذه الحقوق المسماة بالحقوق الطبيعية ليست ثابتة على الإطلاق. بل ثبوتها رهن لملاءمتها للحكمة الإلهية وعدم معارضتها لها. فالقائلون بالحقوق الطبيعية المطلقة لا يمكنهم توجيه القصاص أو الإعدام لأن كل إنسان له حق الحياة فلا يسلب عنه هذاالحق. فهذا حق أعطته الطبيعة. ونحن نقول أعطاه اللَّه تبارك وتعالى على وجه محدد وليس مطلقاً لا يمكن تخصيصه. فالقائلون بالحقوق الطبيعية في المدرسة المشهورة لا يمكنهم تبرير هذه المجازاة والقوانين الجزائية في الإسلام أو في أيّ دستور، وذلك تلاحظون أن العالم الغربي يوما بعد يوم يقترب لنفي هذه القوانين الجزائية وينكر على الاخرين الإقدام على تنفيذ حكم الإعدام وما شابه ذلك. وقد ذكرت لكم أن هذه النظرية لا تتمتع برصيد عقلي، فمن أين يثبت أن الإنسان إذا كان له ميل للحياة ثبت بذلك حق له

152


127

فلسفة الحقوق والقانون

فيها؟ أين الملازمة بين وجود الميل في الإنسان وبين ثبوت الحق له قانونياً وعقلياً؟ ليس لهذه النظرية رصيد عقلي لكن نظرتنا الدينية لها رصيد عقلي متقن ولها أدلة لا يمكن نقضها، لكن مع الأسف لا يزال مجتمعنا ينقاد أمام هذه التشكيكات والثقافات الأجنبية.

يجب علينا الغوص في هذه المسائل الأساسية للحقوق والأخلاق واستنباط أصول متقنة قويمة وأجوبة حاسمة لهذه الأسئلة حتى نثبت بذلك أفضلية نظريتنا وأحقية ديننا، فلا نكون منفعلين أمام هذه الهجمات الثقافية علينا وعلى مجتمعنا وعلى ديننا. فيثبت بذلك مرة أخرى وجوب الغوص في هذه المسائل وتحصيل الأجوبة الحاسمة والمتقنة والواضحة وتبيينها وإيضاحها بحيث يفهمها الشباب ويقتنعون بها، لا بصيغة مبهمة لا يفهمها الناس ولا يقتنعون بها.

أسئلة وردود

سؤال: القائلون بأن الطبيعة هي التي أعطت هذا الحق. يلزم من قولهم أن ينتفي الجزاء برمته وبالتالي ينتفي حتى القانون. فهل هذا التلازم صحيح؟
سؤال اخر: هل أن اللَّه تعالى يجزي الكافر على أعماله التي فيها قيمة أخلاقية؟
الجواب: حاصل السؤال الأول أن الالتزام بالحقوق الطبيعية يوجب عدم بقاء أرضية للقانون، فالحق الطبيعي يقول: الإنسان له حق الحياة فلا يجوز قتله وإعدامه، وحق التملك يقتضي أن يكون الإنسان مالكا لجميع ما يكتسبه فليس للحاكم أن يأخذ منه شيئاً فقانون الضرائب

153


128

فلسفة الحقوق والقانون

مثلا مخالف للحق الطبيعي وأمثاله لاسيما قوانين الجزاء. القائلون بالحقوق الطبيعية تصدّوا لهذه المشكلة وأجابوا بأن الحقوق الطبيعية تثبت الحقوق لكل فرد، فإذا تعارضت حقوق الأفراد تتحدد تلك الحقوق حتى ينتفي التعارض. مثلا لي حق الاستفادة من هذا الهواء ولكم ذلك الحق، فإذا دخنت في هذا المكان عارضت حقوق الاخرين. فيجب عليّ تحديد إرادتي حتى ينتفي ا لتعارض، لأن الحقوق الطبيعية لا تعطي لفرد خاص جميع الحقوق، بل تعطي جميع الحقوق لجميع الافراد، فإذا تعارض الحقان تحدد كل واحد منهما بالاخر حتى ينتفي التعارض. ولهم صيغة معروفة بأن الحرية إنما تتحدد بحرية الاخرين( أي تقف عند حدود حرية الاخرين).

لكن هذا الجواب لا يحسم مادة الإشكال في جميع الموارد، فنظريتهم قاصرة. أضف إلى ذلك أنها لا تستند إلى برهان عقلي.

أما الجواب عن السؤال الثاني وهو أنه هل يجزى الكافر على فعل أخلاقي؟ فأنا أشرت في كلامي إلى أن للقيمة في العرف الإسلامي مراتب منها ما يبلغ حد النصاب ومنها ما لا يبلغ ذلك وإن لم يكن فاقداً لجميع مراتب القيمة. فالمراد بحد النصاب للقيمة في الأخلاق الاسلامية هو الحد الذي يوجب للإنسان ثوابا صالحاً أبدياً. فإن كان الفعل بحيث يوجب أجراً أبدياً ويؤدي إذاً إلى ثواب في الجنة أي نعمة أخروية كان بذلك قد بلغ حد النصاب، وأما ما دون ذلك وهو ما لا يؤدي إلى نعمة أخروية لكن يوجب تقليل العقاب أو يوجب نعمة دنيوية فقط فهذا له قيمة في مقابل الفعل الفاقد للقيمة على الإطلاق، لكن لا يبلغ حد النصاب المطلوب في الإسلام. فالكافر الذي لا يؤمن باللَّه

154


129

فلسفة الحقوق والقانون

تبارك وتعالى يُجزى بفعله الأخلاقي إما في الدنيا أو يقلل عنه العذاب الأخروي، أما الدخول في الجنة والتنعم بالنعم الأبدية فهو رهن للإيمان. قال اللَّه تبارك وتعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءاً منثوراً"، "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" أما بدون الإيمان فلا ضمان له، لكن يمكن أن يكون له أثر دنيوي "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" يتمتعون باثار أعمالهم في هذه الدنيا... يتنعمون بنعم هي جزاء لأعمالهم الحسنة في هذه الدنيا وإن بقي لهم أجر فيظهر بصورة تقليل العذاب، ولا يظلم اللَّه الناس شيئاً، أما الدخول في الجنة فشرطه الإيمان أي العلاقة موجودة بين الإيمان باللَّه والدخول في الجنة، وهذه علاقة تكوينية ثابتة وليست إعتبارية محضة، فالذي ينجي الإنسان هو الإيمان باللَّه. فالجنة هي دار كرامة اللَّه ومن ليس له علاقة مع اللَّه فلا يجذبه إلى تلك الدار. وإن كنا لا نفهم حقيقة تلك العلاقة لكن نعتقد بأنها علاقة تكوينية حقيقية ثابتة، ويمكن تبيين ذلك ببيان غامض لكن الكتاب الكريم يكفينا مؤنة هذا البيان الغامض. والحاصل أن الكافر أيضاً يجزى على أعماله القيمية إما بنعمة في الدنيا أو بتقليل عذاب في الاخرة.

سؤال: ما الفرق بين القول باقتضاءات الطبيعة وبين موضوع الفطرة التي تنادي بها الاراء الإسلامية؟
الجواب: إقتضاء الطبيعة كما قلت وأشرت، إما أن يكون بمعنى ميل طبيعي في الإنسان إلى شي‏ء، فنقول تقتضي طبيعتنا ذلك، فالإنسان يميل إلى الأكل فلنعبر عن ذلك بأن طبيعتنا تقتضي ذلك. وإما أن

155


130

فلسفة الحقوق والقانون

يكون معنى اقتضاء الطبيعة ثبوت الملازمة بين بقاء الطبيعة وعمل خاص كالأكل حيث أنه لازم لبقاء الإنسان في هذا العالم فإقتضاء الطبيعة أن يأكل أي بقاء طبيعة الإنسان يقتضي الأكل والفرق بين هذين المعنيين أن في أحدهما يكون المدار على أمر واقعي لا دخل للميل والإرادة فيه بخلافه في معنى اخر حيث يتعلق بالميل والمعرفة والإدراك. مثلاً إذا أدخل الطعام إلى بدن الإنسان بغير إرادة منه كالتزريق مثلا يبقى حياً وإن لم يكن يشتهي ذلك، فهذه العلاقة علاقة طبيعية بين وجود المواد الغذائية في بدنه وبين حياته. أما المعنى الاخر وهو الربط بين اشتهائه للطعام وبين بقائه، ومثل هذين المعنيين يجري في التعبير بالفطرة. قد نقول فطرة الإنسان تقتضي ذلك أي بصرف النظر عن ميله وإرادته ومعرفته وإدراكه، وقد نقول ذلك بلحاظ ميله وإرادته.


فالفطرة هي صيغة النوع أي نوع الخلقة، إذا قلنا فطرته تقتضي ذلك أي نوع خلقته، فيرجع إلى المعنى الأول وأما أن نريد من الفطرة الدرك الفعلي، أي الشعور الفطري، أي بفطرتنا نشعر أننا نحتاج إلى الطعام أو سائر الأشياء. فالحكم بفطرته هذه الأحكام الإسلامية يجب أن يبين على أحد هذين الوجهين، ولهذا البحث ذيل طويل، والحاصل أنه عندما نقول بأن هذه الأمور فطرية يمكن أن يكون المعنى أن فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها أي نحو الخلق الذي خلقه اللَّه بحكمته يقتضي أموراً خاصة، فإذا فسرت الفطرة بهذا الشكل ترجع إلى النظرية المختارة، وأما إذا فسرت على شكل اخر نظير ما يقال بالنسبة إلى الطبيعة فليست واجدة لرصيد عقلي ومنطقي.

156


131

فلسفة الحقوق والقانون

سؤال: إذا كان القانون قيداً وكان أصل الخلقة حركة الإرادة الحرة نحو الباري، فهل القانون يعيق هذا التوجه نحو اللَّه؟
الجواب: القيد يكون على قسمين: قيد يوجد في نفس الإنسان فتتقيد الإرادة بأمر داخلي من قبل نفسه وعقله وإيمانه أو ضميره، وهذا لا يتعارض وحرية الإنسان لأن هذا القيد ناشى‏ء من نفسه فهو الذي اختار بنفسه وحريته. أما القيد القانوني فهو وراء ذلك فالحكومة تقيد الإنسان بعمل خاص فإذا تخلف عن هذا النحو فهي تجازيه وتجبره على ذلك كأن تدخله في السجن أو تجبره على دفع غرامة مالية أو بضربه أو بقتله.


فهذا القيد جاء من خارج نفس الإنسان، وهو يعارض إلى حد ما الإرادة الحرة، وإن لم تبلغ حدّ الجبر والاضطرار. لو كان الإنسان يختار بنفسه العمل الصالح بصرف النظر عن هذا التقييد الاتي من قبل الحكومة لكان أشد تأثيراً في تكامله، كما أن الذي يتجنب المعاصي وإن لم يخف الدولة فهو أحسن وأفضل له، لكن إذا ترك العصيان خوفاً من الحكومة تبقى نفسه محفوظة عن الافات فيؤثر في تكامله شيئاً ما وإن لم يبلغ الحد المطلوب. فأحكام الدولة إنما هي لتنظيم الحياة الدنيا وتهيئة الأسباب لتكامل أكثر أفراد المجتمع. وإن فقد بعض الأفراد شيئاً من حرياتهم لأجل بعض هذه الأحكام، أو تضرروا ببعض تلك الأحكام، لكن المفروض من قوانين الدولة تهيئة الأسباب والاستعدادات لتكامل أكثرية الأفراد في أكثرية الظروف، وبفضل تلك الاحكام تتهيأ الأرضية للإرادات الحرة للاخرين حتى يتكاملوا بأفعالهم الإختيارية.

157


132

فلسفة الحقوق والقانون

فالحاصل أن القيود والأحكام القانونية الإجتماعية تقيد إلى حد ما الإرادات الحرة لصالح المجتمع حتى يتكامل أكثر أفراده بفضل تنفيذ هذه الأحكام.


سؤال: العقل هبة إلهية وهو أحد مصادر التشريع لقدرته على التمييز بين الخير والشر الطبيعيين. هل هناك من تقاطع والتقاء بين العقل الفطري وبين الوحي الإلهي؟
الجواب: ليس هناك تنافٍ حقيقي بين العقل والدين، أما التوافق فكثيراً ما يقع وقد يوجد حكم ديني وليس في قباله حكم عقلي، لا أنه يوجد حكم عقلي مضاد له، فليس للعقل هناك حكم. وقد يوجد حكم للعقل وليس للشرع حكم، فالعقل يحكم بأحكام نظرية كثيرة في مسائل فيزيائية وكيميائية وأمثال ذلك، وليس في هذه المسائل بيان للشرع، فالعقل يحكم في القضايا الرياضية وليس للشرع فيها حكم، فليس كل ما للعقل فيه حكم يجب أن يكون للدين فيه حكم. لكن لا يوجد حتى في مورد واحد حكم عقلي يقيني يعارض حكم الدين اليقيني، فلا تباين بينهما لكن قد يتوافقان في أمرٍ وقد يختص بعضهما بحكم ليس للاخر فيه حكم، لا أن له حكما مضاداً.

158


133

المبادىء العامة للثقافة الالهية

تكلمنا حول بعض المسائل التي تتعلق بفلسفة الحقوق وفلسفة الاخلاق، والان نريد أن نقارن بين نظرياتنا في هذه المسائل والنظريات الموجودة عند الغربيين. طبعاً إشباع البحث في هذه المسائل يتطلب مجالاً واسعاً، لكن نشير إلى بعض ما يتيسر لنا في هذا المجال.

هناك ثقافات كثيرة في التاريخ الماضي للبشر وفي العصر الحاضر، وسوف تحدث ثقافات أخرى لكنها جميعاً يمكن توزيعها على قسمين: ثقافات إلهية وأخرى غير إلهية وإلحادية. والثقافة الإسلامية على ما مضى عليها من التطورات هي من مقولة الثقافات الإلهية، والثقافة الغربية الموجودة المنسوبة إلى عصر التجدد أو النهضة وما سوف يتجدد عليها في عصر ما بعد التجدد أو ما بعد الحداثة تقع كلها في القسم الاخر.

النظرة إلى الكون

والفارق الأساس بين هاتين الثقافتين يتركز في نقاط خاصة. إحدى هذه النقاط أن الثقافة الإلهية تنظر إلى الكون كأمر تعلّقي، أمر غير مستقل، أمر قائم بالغير، أمر فقير في ذاته( ونحن في فلسفتنا التابعة لفلسفة صدر المتألهين نعبر عن ذلك بالوجود التعلقي، وفي

161


134

المبادىء العامة للثقافة الالهية

مقابله الوجود الإستقلالي). فنرى الكون الهائل أمراً فقيراً في ذاته لا يمكن أن يستقل بذاته ويقوم بنفسه "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اللَّه واللَّه هو الغني الحميد"1، فلا غنيَّ بالذات إلا وجود اللَّه تعالى. كل الأشياء وكل الناس مفتقرة بالذات. هذه إحدى النقاط الأساسية في هذه الثقافة.

النظرة إلى الإنسان

والأخرى أن للإنسان إضافة إلى ما يرى من جسمه أمراً اخر يسمى بالروح أو النفس وما إلى ذلك، أمر غير مرئي وغير محسوس لكنه موجود. موجود بأمر اللَّه تعالى. وهذا الأمر غيرالمحسوس يبقى بعد موت البدن وبه تتقوم إنسانية الإنسان، لأنه بعد الموت يبقى إنساناً له خير وشر، له لذة أو عذاب.
فالإنسان وإن كان يفقد جسمه المادي في عالم البرزخ لكن إنسانيته باقية. والروح تفارق جسمه ثم تعود إلى الجسم في عالم الاخرة مرة أخرى. فالملاك في شخصية الإنسان وهويته المحفوظة في الدنيا والبرزخ والاخرة هو هذا الروح، لأنه محفوظ بوحدته في تلك العوالم كلها. أما البدن فيتجدد شيئاً فشيئاً ويتحلل ثم يموت ويتلاشى لكن الإنسان يبقى. فالأمر المحفوظ في جميع هذه العوالم والتطورات هو روحه، أما البدن فيختلف ويتحلل ويخلف الأجزاء الفانية أجزاء متجددة.

162



1- الحج:64.


135

المبادىء العامة للثقافة الالهية

فالأصل في وجود الإنسان روحه وهي الباقية، لكن في الثقافات الإلحادية إما أن ينكر وجود الروح، ذلك الأمر غير المحسوس، أو يتصوره كأمر تابع للبدن فيموت بموت البدن فلا يبقى بعد البدن شي‏ء باسم الإنسان حتى تكون له لذة أو عذاب. ثم إن في هذه الحياة الدنيا المشروطة بوجود البدن المادي يكون الأصل عند هؤلاء الملحدين هو اللذات المادية الجسمانية وإن كانوا ربما يتفوهون بأمور معنوية، لكن لا سبيل لإثبات تلك الأمور المعنوية مستقلة عن الأمور البدنية المادية، لأنهم لا يقولون بشي‏ء وراء المادة، فالمعنويات عندهم أمور لا أصالة لها بالنسبة للمادة فإذا قالوا بالأمور المعنوية يفترضونها كأمور فرعية للبدن وللحياة المادية.
هذا كله بالنسبة إلى الأمور النظرية أو العقائدية أو رؤية الكون أو الفلسفة النظرية.

القيم في الثقافة الغربية

ثم يأتي دور المسائل العملية والقيم والأخلاق والقانون فمنهم من يرى أن تلك الأحكام المتعلقة بالأفعال والقيم، سواء الأخلاقية والقانونية والاداب الإجتماعية، كلها أمور اعتبارية لا أصالة ولا واقعية لها سوى توافق الناس على قبول هذه الأشياء والرضا بها. ويمكننا التعبير عن ذلك بأنها تابعة لأذواق الناس، ومنهم من يقول بوجود أحكام للعقل العملي لكنهم لا يستطيعون إثبات ذلك بالبرهان العقلي والمنطقي وغاية ما يمكنهم قوله أنها أحكام وجدانية إذا رجعنا إلى أنفسنا وباطننا نجد أن تلك الأحكام موجودة في باطننا. يعني إذا خلّي

163


136

المبادىء العامة للثقافة الالهية

الإنسان مع نفسه يرى أن في باطنه حكماً بوجوب العدل... حكماً بوجوب الصدق وحسنه لا يمكنه التخلي عن ذلك.

فتارة يعبرون عنها بالضمير الأخلاقي عند "جان جاك روسو" وغيره، أو العقل العملي في فلسفة "كانت". فلا يرون علاقة حقيقية بين الحياة الموضوعية الواقعية للإنسان وبين تلك الأفعال القيمية، كأن للإنسان ساحتين: ساحة للأمور الواقعية وساحة للقيم. كأن وجوده يتجّزأ إلى جزءين جزء منه يتعلق بالواقعيات... يعرفها ويتصرف بها، وجزء اخر يتعلق بالقيميات والإعتباريات والعقل العملي يحكم فيه. والثقافة السائدة اليوم في العالم الغربي تبتني على إنكار واقعية القيم فيحسبون القيم أموراً إعتبارية متغيرة بتغير الأذواق والهمم والإرادات وليس لها ميزان يعيّن الحسن من القبيح ويميز الواجب من الممنوع، فلا يمكن الإستدلال العقلي على أن الفعل الفلاني واجب أو ممنوع ولا شأن للعقل في ذلك إلا حسب مذهب "كانت" في بعض الأحكام الأخلاقية العامة التي لها شروط كثيرة.

فالثقافة الغربية السائدة اليوم تقول أن القيميات تابعة لأذواق الناس ليس وراءها شي‏ء للإستدلال عليها وبها.

الدين في الثقافة الغربية


ثم إن لهم نظريات في تبيين الدين وموقفه في حياة الإنسان لاسيما في عهد "النهضة والحداثة".
ففي هذاالعصر ذهبوا إلى التقليل من قيمة الدين وإخراجه من واقع الحياة الإنسانية إلى الهامش، فيتعاملون مع الدين معاملة الفنون

164


137

المبادىء العامة للثقافة الالهية

الجميلة، يقبلونه كأمر فني، فالمتدين نظير الشاعر، فكما أن الشاعر يختلي مع نفسه ويتخيل أشياء ويخاطب القمر والشمس وغيرهما كذلك المتدين يختلي في المعبد ويتصور أن له رباً ويخاطبه ويناجيه، فكما أنه لا ينبغي منع الشاعر عن تخيّلاته وعن خلق اثار جميلة وأدبية كذلك لا ينبغي منع العابد عن عبادته. لكن هذا الأمر ليس من صميم الحياة الجدية في شي‏ء، فالحياة الجدية عندهم هي حياة الأكل والشرب وغيرهما.


هذا هو الأصل الأساس في الثقافة الغربية. ربما يصرحون به تصريحاً أو يلمحون به تلميحاً فمؤدى كلامهم هو هذا. فالدين عند الغربيين حقيقته يرجع إلى أذواق الناس المتدينين، فليس هناك أمر يجب إثباته بالدليل العقلي والبرهان والمنطق.
أضف إلى ذلك أنهم لا يعترفون بوجود العقل ولا يعترفون بالأحكام القطعية للعقل ولا يعترفون باليقين مطلقاً، فالنزعة الغالبة عندهم هي نزعة الشك ويفتخرون بذلك، يقولون إن القائلين بوجود اليقين والجزم هم الجهلاء، فالإنسان العالم لا يقر باليقين والجزم وإنما حاصل علومه وتحقيقاته يرجع إلى ترجيح أحد الإحتمالين على الاخر، ويكفي له عزاً أن يصرح بالشك فأمارة وعلامة الحياة الحديثة هي الشك، وهذا غاية ما يصل إليه الإنسان بزعمهم. والمثقفون المنتحلون للدين والإسلام قد يسيئون الإستفادة من بعض العبارات الواردة في المتون الدينية، وقد رأيت بعض هؤلاء المثقفين يستند إلى كلام منقول عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال: "رب زدني فيك تحيراً" ويستدل بذلك أن غاية الإنسان أن يصبح متحيراً! وهذه من المغالطات التي تعرفونها وهي

165


138

المبادىء العامة للثقافة الالهية

أوهن من بيت العنكبوت، فالتحيُّر في ذات اللَّه غير التحيُّر في الإعتقاد باللَّه واليوم الاخر، فمن لا يعرف أن القران الكريم ينادي في أول وأول صفحة بالإيقان بالاخرة ويندد بالشك والريب "بل هم في شك منها بل هم منها عمون" أمّا الذي يدعي تبعيته لمثل هذا الكتاب، يقول بأن الإسلام يدعو للحيرة والشك؟


فأحد الفروق بين الثقافة الإلهية والثقافة السائدة في الغرب اليوم هو إمكان المعرفة اليقينية أو عدم إمكانها ورجوع كل التحقيقات العلمية إلى الشك، فأكثر ما يمكنه هو ترجيح أحد الإحتمالين فقط وأما الحق المطلق فهو أبعد ما يكون عمّا يناله الإنسان بعقله وفكره وعلمه، هذه فروق أساسية بين الثقافتين ويتبع هذه الأصول نتائج تظهر في شعارات خاصة مثل شعار "توليرانس" احترام أفكار الاخرين، ثمّ إدانة العنف مطلقاً. لأنه إذا لم يمكن للإنسان معرفة الواقع والتيقن منه فليذر المسألة في بوتقة الشك، فلا يتحمس لأحد الطرفين... لا يتعصب لنظرية خاصة، فلا تتفاوت هذه النظرية مع النظريات الأخرى. لا فرق بين الشيعة والسنة... بين الإسلام والكفر... بين التوحيد والشرك. فهذا صراط مستقيم وذاك صراط مستقيم اخر!!

القراءات الخاصة للدين


الشيعة لهم قراءة خاصة للدين، والسنة كذلك لهم قراءة خاصة أخرى، فلا فضل لأحد على الاخر. لعله تأتي قراءة أخرى تقول بنفي وجود اللَّه وهي قراءة أخرى للإسلام، لعله تأتي قراءة تقول بحرمة

166


139

المبادىء العامة للثقافة الالهية

الصلاة والزكاة، وهي قراءة أخرى عن الاسلام. لا فضل لإحدى هذه القراءات على الأخرى إلا بموافقتها للنظريات العلمية السائدة وتأييدها، وهذه النظريات العلمية ليست نظريات مطلقة إنما هي نسبية قابلة للتشكيك، لكن ما دامت هذه النظريات سائدة، يمكننا ترجيح قراءة دين على أخرى لموافقتها هذه النظرية السائدة اليوم، وإن كانت تلك النظرية تتغير بعد حين. لكن ما دامت هذه النظرية سائدة فالقراءة الموافقة مع هذه النظرية في هذا الحين تكون أرجح.


هذا غاية ما يمكن لنا أن نرجح ديناً على اخر، أو ديناً على لا دين، أو قراءة على قراءة أخرى، فليس هناك ميزان يوزن به الحق والباطل ويميز به الصواب عن الخطأ... يميز به الطريق القويم عن الطريق المنحرف. ويتفرع من هذه الأصول مصائب وافات وابتلاءات تتجدد يوماً بعد يوم على ديننا وعلى مجتمعنا وثقافتنا( لا سمح اللَّه) فتربصوا إنا معكم متربصون.
كيف يكون مصيرنا ونحن نتعامل مع هذه الثقافات ودائماً ننفعل قبالها ولا يكون لنا نشاط إيجابي وهجوم على تلك الأباطيل، نقبلها بشكل وباخر، نؤوّل ديننا بما يتوافق وهذه الاراء الزائفة التي تعارض أصول ديننا وفكرنا، نشاهد المعارضة الصريحة بين اليقين والشك ومع ذلك نتقبلها بقبول حسن!! فكيف نجيب إذا سئلنا: ماذا فعلتم بدينكم؟ وكيف حافظتم على ثقافتكم وعلى حضارتكم ودينكم وتراثكم؟ وكيف حافظتم على ما أنزلنا عليكم من الحقائق والمعارف؟ فلنعدّ لهذه الأسئلة جواباً ولا بد أننا مسؤولون "وقفوهم إنهم مسؤولون"، "فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين".

167


140

المبادىء العامة للثقافة الالهية

الواجب الديني

والجواب الحاسم على هذه المسألة يكمن في إحساسنا وشعورنا بواجبنا الديني في هذا العصر المظلم من جهة، وإن كان مشرقا من جهة أخرى. مظلم من جهة غلبة الأوهام والشكوك والوساوس الشيطانية، ومشرق من جهة وجود إمكانيات ووسائل يمكن ان نستفيد منها لتبليغ الدين والحال أنّنا لا نستفيد منها بينما يستفيد منها أعداؤنا. قد حان أن نجدد النظر في أعمالنا وفي برامجنا.
فأول ما يجب علينا نحن المثقفين المسلمين، نحن العلماء، أن نتقن معارفنا الدينية من الكتاب والسنة ومن العقل، وعلينا ثانياً الإطلاع على الثقافات الأجنبية وفهم ما عندهم من النظريات، وإن كانت خاطئة قطعاً، فإذا لم نصل إلى كنه هذه النظريات لا يمكننا الرد عليها ومجابهتها برد منطقي حاسم مقبول. فنحن إذن لا نستطيع الرد إلا إذا فهمنا تلك النظريات. ثالثاً: أن نخصص قسماً كبيراً من إمكانياتنا وطاقاتنا للأمور الثقافية، وما خسرناه خلال السنين الماضية بعد انتصار الثورة الإسلامية كان من جراء التقليل من حظ أمور الثقافة، وقلة الإهتمام بشأن هذه الأمور، فحسبنا أن الأمور العسكرية، والسياسية والإقتصادية تكفينا، وقد نسينا أن تلك الأمور هي وسائل لحفظ الثقافة.


فأي شي‏ء يفيد إذا خسرنا الثقافة؟! لا يفيدنا كل التقدم والتطور الإقتصادي والسياسي والعسكري وما إلى ذلك، إذا أصبحنا كولاية من الولايات المتحدة الأميركية فهل يكفينا ذلك التقدم التكنولوجي والعسكري؟ أين مكان الإسلام؟ وما هدفنا من الثورة الإسلامية؟!

168


141

المبادىء العامة للثقافة الالهية

يمكننا أن نقوم بثورة سياسية وعسكرية ونحصل على هذه الأماني، وذلك أسهل مما نبتغيه من خلال الثورة الإسلامية، وكل المشكل يكمن في الصيغة الإسلامية، فالإسلام رهن لثقافته لا لإقتصاده ولا لسياسته. إذا خسرنا الثقافة الإسلامية فلا يبقى لنا شي‏ء نعتز به ونهدف إليه. وهذا ما غفل عنه المجتمع الإسلامي سواء في بلادنا أو في البلاد الإسلامية الأخرى فيجب الإنتباه من هذا السبات... ومن هذا النوم.

أسئلة وردود

سؤال: ألا تعتقدون بأن الغرب قد تقدم في علوم النفس والإجتماع. والإدارة، والتربية والتعليم، والقانون؟
أرجو أن تتفضلوا بالتعريف بنشاطات علماء الإسلام اليوم في هذه المجالات، في الجمهورية الإسلامية.
الجواب: نعم إن الغرب تقدم في مجال التكنولوجيا والمجالات الإقتصادية بفضل تقدم العلوم والمهارات والفنون التي حصلوا عليها. هذا أمر واضح جداً لا ينكره أحد، ولا ننكر أنه يجب علينا الأخذ والإقتباس منهم لكن الكلام في الأمور الفكرية والثقافية.
فإن الثقافة لها ركنان أساسيان: الرؤية الكونية والقيم. وحيث نشير إلى الثقافة الإسلامية ونركز على إبقائها وتقويتها فنريد تقوية هذين الأساسين. أما باقي العلوم من فنون واداب وحضارات والعلوم المادية فهي تابعة لتلك الأصول والأركان، فإذا خسرنا هذين الركنين، أي الإيمان والقيم، فلا يمكن جبران تلك الخسارة الكبيرة وتداركها. أما لو

169


142

المبادىء العامة للثقافة الالهية

فقدنا بعض العلوم المادية وكان عندنا هذان الركنان لم نخسر كل الخسارة. ويمكن جبران ذلك بوسائل كثيرة. فنحن طيلة حربنا في الدفاع المقدس كنا فاقدين لكثير من الالات العسكرية المتطورة، لكن حصلنا عليها من أماكن مختلفة. أما إذا فقدنا إيماننا وقيمنا الإسلامية فلا يمكن تحصيلها وجبرانها ولو أعطينا في مقابلها جميع ثرواتنا، وهل يعطينا أحد تلك القيم والعقائد الأصيلة إن كانوا واجدين لها؟!.

سؤال: هل يمكن الحوار بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي والأفكار والعلوم المتنوعة؟ اليوم يتحدثون عن ارتباط المعارف وهذا ما قد عبر عنه الإمام الراحل في بعض حديثه. فهل توافقون على إمكانية إنشاء حوار إيجابي مع الفكر الغربي على أساس تحديث دور الفكر لا على أساس إثبات واقعيته؟ وهل يمكن الحديث عن وحدة ارتباط العلوم والمعارف فيما بين بعضها بحيث تصح مقولة حوار الحضارات، أم لا يمكن؟
الجواب: أما مسألة الإرتباط بين العلوم فأمر يحتاج إلى تأمل خاص. فحسب عقيدتنا، بعض العلوم مستقلة عن بعضها ولا ارتباط بينها أساساً، كالرياضيات البحتة والفيزياء. يمكن أن نستفيد من الرياضيات في الفيزياء، لكن القضايا الرياضية المحضة لا تتعلق بالفيزياء.
فليس كل فرع من العلم مرتبطاً بفرع اخر، ولا يوجد بينها ترابط بوجه كلي، فهذا خطأ كبير. ثم إن منهج التحقيق في العلوم الرياضية وفي الفلسفة والمنطق منهج تحليلي قياسي، والمنهج في العلوم

170


143

المبادىء العامة للثقافة الالهية

التجريبية هو التجربة العينية. وهي وإن كانت في ما بينها علاقات وتفاعلات لكن لا يعني أن بينها ترابطاً كلياً.

من هنا فإن إثبات الأصول الإعتقادية من التوحيد وغيرها لا تتوقف على العلوم التجريبية، ولا تَنَاسُبَ بينها بحيث يتقدم العلم الإلهي بتقدم العلوم الطبيعية أو بالعكس. نعم يمكن الإستفادة من بعض العلوم الطبيعية لبعض مصاديق الحكمة الإلهية وما إلى ذلك، لكن أصل وجود اللَّه وأصل الاستدلالات العقلية لا تتوقف على العلوم التجريبية بشي‏ء.

أما الحوار فأقرب مثال له هو الصراع. فإذا أراد بطلان أن يتصارعا يجب أن يكونا متقاربين ومتوازنين من حيث السن والوزن الجسماني، فإذا تصارع طفل صغير مع بطل فهل ينجح هذا الصراع؟ هل هذا صحيح؟ هل هو معقول؟ فإذا أردنا الحوار مع ثقافات الغرب، يجب أن نكون محيطين بثقافتنا كما هم محيطون بثقافتهم. فإذا كنا جاهلين بأصل ثقافتنا فكيف نجري هذا الحوار؟ كيف نحاور أناسا متضلعين في ثقافتهم بينما نحن لا نكون كذلك؟ إذا رجعنا إلى التاريخ نجد حوارات كان يجريها الرسول صلى الله عليه وآله في صدر الإسلام مع غيره، وكتبنا مملوءة بالمناظرات والإحتجاجات بين الأئمة الإطهار عليه السلام وعلماء سائر الأديان. ونحن أيضاً يجب أن نتبع اثارهم ونهتدي بهداهم ونحاور سائر الأقوام بالتي هي أحسن لكن مع مراعاة الشروط. لكن نحن مع الأسف في كثير من الأحايين فاقدون لهذه ولا نراعي التوازن بين طرفي الحوار فنخسر.

171


144

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

بعدما تقدم من مسائل وصل الكلام إلى المسألة الرئيسية التي أردنا توضيحها والتأسيس لها وهي الحكومة الإسلامية وموقعها في النظام الإسلامي.فمقدمةً لهذا البحث نقول: إن حاجة المجتمع إلى الحكومة هي في تنفيذ القوانين المعتبرة عند ذلك المجتمع، فيقع البحث حول تلك القوانين كيف تتعين وكيف توضع؟ فأي مصدر يصلح لوضع القوانين؟ وأي ملاك يلاحظ لاعتبارها؟

مناط الحاجة إلى الحكومة

تختلف المدارس الإسلامية وغيرها في الإجابة على مثل هذه الأسئلة، ويمكننا حصر هذه المدارس في قسمين حسبما أشرنا إليه من انقسام الثقافات إلى قسمين كبيرين:
منها ما يركز على المصالح المادية والدنيوية.
ومنها ما يعمّم تلك المصالح إلى أمور أخرى تتعلق بالمعنويات وبالروحيات وحياة الاخرة.

أ- نظرة الغرب

أما النزعة السائدة في العالم الغربي فهي النزعة الليبرالية التي تقوم على حفظ الحد الأكثر من الحريات لكل أفراد المجتمع، فتصير

175


145

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

دائرة القوانين ضيقة جداً لأنها تنحصر في حفظ المصالح المادية للمجتمع، وهم يجعلون الهدف من إقامة الحكم وتأسيس الحكومة هو استقرار النظم في المجتمع والمنع من الفوضى، فلا هدف وراء هذا الأمر حسب زعمهم ويحتفظون بكل الحريات الفردية ما لم تتعارض مع حريات الاخرين.

فالذي يركزون عليه زائداً على حفظ النظم هو أمر بسيط بالنسبة إلى المصالح الإنسانية الجامعة، فشأن القانون إضافة إلى حفظ النظام حفظ صحة الأفراد مثلاً، فللقانون أن يمنع ما يوجب الضرر على صحة الأفراد، أما زائداً على أمثال ذلك فليس من أهداف المجتمع ولا من واجبات الحكومة وضع القوانين له إلا إذا توافق الناس على شي‏ء.

وبعبارة أخرى الهدف الأقصى من تأسيس الحكومة هو حفظ النظم وتوفير الحريات لكي ينال الناس ما يريدون إلا إذا تعارض مع مشتهيات الاخرين. هذه هي النزعة السائدة والإتجاه العام الذي يسيطر على مدارس مختلفة في هذا المقام.

ب- نظرة الاسلام

في مقابل هذه المدارس، المدارس الإلهية التي تعتبر من واجبات الحكومة حفظ المصالح المعنوية، والأخلاقية والروحية للإنسان. فهذا إختلاف جوهري بين هاتين المدرستين فلا بد من إختيار أحد الأمرين: إما أن نختار أن من واجب الحكومة فقط حفظ النظام الإجتماعي ومنافع الأفراد، وإما أن نختار أن على الحكومة حفظ جميع مصالح الأمة أعم من المصالح الدنيوية والأخروية والمادية والمعنوية.

176
 


146

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

وهذا الذي يجعلنا في مقابل الغربيين وجهاً لوجه، فهم ربما يدينون القوانين والأحكام الإسلامية لأنها تزاحم حريات الناس ولا تتيح لهم التمتع بحرياتهم، وربما يعبرون عن ذلك بأنهم لا يحترمون حقوق الإنسان، فمن حقوق الإنسان الطبيعية حسب تعبيرهم أن يختار لنفسه ما يشاء وأن يعيش كما يهوى في المأكل والمشرب والمسكن واتخاذ الاداب والرسوم، فكل ذلك من حقوقه إلا إذا زاحم حقوق الاخرين ويؤدّي إلى الفوضى، فليس للحكومة أن تمنع من حركة فردية طبق المشتهيات، ونحن نعلم أن كثيراً من الأشياء ممنوع في المجتمع الاسلامي وإن كان ممّا يهواه الكثيرون، فإذا اجتمع كل الناس على تحليل حرام أو تحريم حلال فبإتفاقهم لا يتغير الحكم الإلهي وعلى الحاكم الإسلامي الإحتفاظ بالأحكام الإلهية وتنفيذها في المجتمع مهما أمكن.

هذا هو الاختلاف الأساسي بين المدرستين، طبعاً إذا أردنا أن نبقى مسلمين في الحقيقة يجب أن نأخذ بهذه النزعة الإلهية التي تؤكد على حفظ المصالح المعنوية زائداً على المصالح المادية بل مقدَّمة عليها، فإذا تعارضت المصالح المادية مع المصالح المعنوية ففي نظرنا تُقدَّم المصالح المعنوية على غيرها لأن الأصالة للروح وللحياة الأخروية بالنسبة إلى الحياة الدنيوية.

تعيين مصالح البشر

فبعد القبول بهذا المبدأ القائل بأن على الحكومة المحافظة على جميع المصالح وتأمين المصالح المعنوية زائداً على المصالح المادية يبقى الكلام في تعيين تلك المصالح وكيفية تقديم بعضها على بعض عند

177


147

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

التعارض. والسبيل الوحيد إلى معرفة مصالح الناس عند الغربيين هو رأي الناس، أي نفس الأفراد، في أن هذاالحكم فيه مصلحة أم لا؟ وهل هذا مفيد لحفظ النظام أو مضر؟ وحيث لا يتيسر لجميع الناس المشاركة المباشرة يرسلون من ينوب عنهم في مجلس النواب فيعيّنون مصالح الأمة نيابة عن كل الناس المنتخبين. فهذه هي الديمقراطية وهي حكومة الناس، وحيث لا يتيسر لكل أحد أن يشارك، في وضع القوانين وإجرائها فينوب عنهم خواص الأمة لأجل وضع القانون وإجرائه.

وأما حسب المبادى‏ء الإسلامية فأولاً: وضع القانون يختص باللَّه تبارك وتعالى أو من هو مأذون من قبله "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللَّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، فالقضاء والحكم للَّه تعالى ثم لرسوله حسب ما أذن له ثم لأولي الأمر المعصومين حسب معتقدنا نحن الشيعة، وكذلك عند أهل السنة بالنسبة إلى اللَّه وإلى الرسول.

هنا يرد سؤال: بعد رسول اللَّه عند أهل السنة وفي زمن الغيبة عندنا ما هو شأن الحاكم والقاضي في سن القانون، فمن يسن القوانين؟ طبعاً إذا كان هناك أحكام ثابتة في الشريعة، أحكام خالدة وكلية وعامة لجميع الناس في جميع الأجيال والعصور، فهي متعينة ولا سبيل إلى تغيير الأحكام الإلهية بوجه، أما إذا وجدت قوانين خاصة فيما يحتاجه الناس في ظروف خاصة وفي ما يتجدد للناس من حوائج جديدة في المسائل المستحدثة فمع تغير تلك الظروف يحتاج إلى قوانين غير موجودة في أصل الشريعة بشأن هذه المسائل المستحدثة المستجدة. كالقوانين التي تتعلق بالحمل والنقل على الأرض أو الفضاء

178


148

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

أو في البحر مما حدثت الحاجة إليها في هذا العصر ولم يكن إلى تلك القوانين حاجة في العصور الماضية.
فكيف كان فهذا أمر نحتاج إليه حتى يستقيم لنا الأمر ولا نخالف حكم اللَّه في القضايا.

الحاجة إلى التخصص

نحن نعتقد أن في الإسلام قواعد كلية يمكن استنباط الأحكام الجزئية والمقررات الخاصة من تلك القواعد، لكن استنباط الأحكام والقوانين الخاصة من تلك القواعد الكلية أمر نظري اجتهادي ربما يُختلف فيه، كما أن معرفة الموضوعات سواء كانت إجتماعية أو طبيعية يحتاج إلى نشاطات المتخصصين، فالموضوعات التي هي متعلقات الأحكام، إذا لم تعرف حق معرفتها لا يمكن وضع قوانين بشأن تلك الموضوعات فلا بد هناك من نشاطات لمعرفة ا لموضوعات حق المعرفة ولتطبيق تلك القواعد الكلية على هذه الموضوعات، وهذان الأمران كلاهما تخصصيان أي ليس من شأن عامة الناس.

ولذلك نحن نناقش أصحاب الديمقراطية والليبرالية في نظريتهم فنقول إذا قبلنا أنه يجب على الحكومة أن تراعي مصلحة الأمة فنحن نتنازل ونقتصر على المصالح المادية في هذا البحث ونقول: لا يتيسّر لعامة الناس معرفة هذه المصالح على وجهها فهذا أمر تخصصي فكيف تحيلونه إلى عامة الناس؟ فأنتم وإن كنتم تقولون أن النواب وكلاء الناس في تعيين هذه المصالح لكن الأصل حسب رأيكم هوالرجوع إلى الموكِّلين كما أنه في المسائل الهامة يُرجع إلى الإستفتاء الشعبي. فحسب

179


149

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

نظريتهم إذا تيسر الإستفتاء الشعبي في كل الأمور كان هو الأولى، لكن حيث لا يتيسر ذلك في جميع المسائل يُرجع إلى المنتخبين النواب.

فأول إشكال يرد عليهم أن الرجوع إلى عامة الناس لا يضمن حفظ المصالح الحقيقية، فهم لا يأبهون بتلك المصالح وإنما يركزون على حفظ مرادات الناس وأهوائهم.

ثم الإشكال الثاني: إن الإنتخابات التي تجري في العالم الغربي ليست بإنتخابات صحيحة وهذا أمر يعترف به المصلحون في العالم الغربي أيضاً فقد كتبوا كتباً كثيرة في مناقشة الديمقراطية الغربية.

الولاية والحكومة في الاسلام

ههنا يتقدم السؤال على أساس مبادئنا أي حسب مبادئنا الإسلامية ماذا يجب علينا أن نفعل؟ في الواقع بعد أن حُرمنا ولاية ولي الأمر المعصوم فلا بد لنا مواجهة الحرمان في وضع القوانين الصحيحة الضامنة لجميع المصالح وفي كيفية تنفيذها، وهذا أمر قد ابتلينا به بعد غيبة صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ولا مفر من هذا الحرمان، فعلينا أن نقلل من ذلك بأن نقترب إلى الحكومة المثالية بإقامة الحكومة التي هي أقرب إلى حكومة المعصوم.
أما لماذا وقعت الغيبة فهو بحث كلامي وقد أجاب عنه العلماء وأنتم تعرفون كلام العلامة الطوسي رضوان الله تعالى عليه وأن سبب غيبته هو منا، أي الأمة هي المسؤولة عن غيبته لأنهم لم يشكروا وجود الأئمة المعصومين في زمنهم ولم ينصروهم، لأجل ذلك حرموا من هذه الولاية الإلهية إلى أن يشاء اللَّه ظهور ولي الأمر عجل الله تعالى فرجه.

180


150

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

شي‏ء إلى حكم الإمام المعصوم وهو أمر عقلي، فعقول جميع الناس تحكم بأنه إذا لم نستطع أن نبلغ الدرجة العليا مما نبتغيه من المصالح فعلينا أن نقتنع بما هو أقرب منها، فإذا لم نبلغ المئة فعلينا بالتسعة والتسعين لا أنه إذا فقدنا المئة فعلينا أن نقتصر على الواحد فقط أو على الصفر. فإذا لم يتيسر لنا الوصول إلى المئة فعلينا السعي للحصول على التسعة والتسعين، فنظرية ولاية الفقيه تركز على هذا الأمر، أي بعد حرماننا من ولاية الإمام المعصوم فيجب علينا أن نقيم حكماً هو أقرب وأشبه شي‏ء بحكم الإمام المعصوم ولأجل ذلك يجب أن يكون على رأس هرم القدرة في ذلك النظام من يكون أشبه الناس بالإمام المعصوم من حيث التضلع بالأحكام وشؤون الحكومة، فإذا فكرنا في خواص الإمام المعصوم مما يتعلق بشأن الحكومة وتدبير أمور المجتمع نرى أن هذه الخصال تتوزع على ثلاثة أقسام كلية:

أ- فإحدى تلك الخصال أن الأمام المعصوم يعرف القوانين الإلهية والمصالح الكلية على وجه يقيني لا شك فيه ولا يُحتمل الخطأ فيه لأن علمه علم جامع لجميع الأحكام، بل يكون شاملا لجميع الموضوعات لكن ما نحتاج إليه في هذا البحث هو العلم بالأحكام، فعلمه بالأحكام الشرعية علم حقيقي لا شك فيه ولا خطأ، فهذه إحدى خصال المعصوم.
ب والخاصة الثانية للإمام المعصوم أنه معصوم في فعله، فالخاصة الأولى هي العصمة في علمه والثانية في عمله، فهو لا

181


151

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

يعصي اللَّه تعالى ولا يخون الأمة ولا يرجّح مصالحه الشخصية على مصالح الأمة فهذه هي العصمة في العمل.
ج الخاصة الثالثة للإمام المعصوم أنه محيط علماً بالموضوعات والمصالح الواقعية بصرف النظر عن الأحكام والقوانين أو نقول بأن الخاصة الثالثة حسن الإدارة والتدبير، ويمكن تحليل هذه الخاصة إلى خواص أخرى منها الفراسة والشجاعة والصلابة وما إلى ذلك من شروط حسن التدبير لكن الجامع بين هذه الأمور هو تعبير حسن التدبير.

شروط الحاكم في الإسلام

فإذا شئنا إقامة حكم وتعيين ولي لأمور المسلمين يكون أشبه الناس بالإمام المعصوم يجب توفر هذه الشروط فيه.


الأول: أن يكون أعلم الناس بالأحكام الإجتماعية السياسية فإذا كان أعلم بجميع الأحكام الشرعية كان أفضل لكن الذي نحتاج إليه هو العلم بالأمور السياسية والإجتماعية. هذه هي الخاصة الأولى وبذلك يصبح أشبه الناس بالإمام المعصوم من حيث العلم.
الثاني: أن يكون على مرتبة كاملة من التقوى فإذا لم يكن معصوماً فليكن تالي المعصوم بأن يكون أشبه بالمعصوم من جانب التقوى فهذا هو الشرط الثاني.
الثالث: وهو حسن التدبير، فليس كلُّ فقيهٍ وعالمٍ ومتّقٍ صالحاً لولاية أمر الأمة، فربما يكون الفقيه الأعلم الأتقى لا يمتلك حسن التدبير فلا يمكنه تدبير عائلته فضلاً عن تدبير المجتمع، فلا يضر

182


152

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

ذلك بعلمه ولا تقواه ولكنه يفقد حسن التدبير، فحسن التدبير هذا يحتاج إلى معرفة بالأمور السياسية والدولية وأمور أخرى فإذا توفرت في شخص هذه الأمور الثلاثة: التقوى، الفقاهة وحسن التدبير على وجه أكمل نسبيّاً فقد تعين لولاية أمور المسلمين لأنه أشبه الناس بالإمام المعصوم.

هذا أساس نظرية ولاية الفقيه، وطبعاً لكل مسألة فروع وموارد كثيرة وفروض فقهية وعلمية يجب أن يبحث عنها ويجاب عليها. والحاصل أن المبدأ الأساس في هذه النظرية هو التشبه بالإمام المعصوم، فيتبلور ذلك في الأمور الثلاثة المذكورة على الأقل.

وحدة الولاية والحاكمية

ومن المسائل التي تطرح على صعيد البحث حول هذه المسألة هل يجوز أن يكون في بلد واحد وليّان فقيهان أو لا يجوز؟ فربما يستدل بعض الفقهاء الذين يركّزون على الأدلة التعبدية في هذا المبحث أن لكلِّ فقيهٍ حقَّ التصدي لولاية الأمر إستناداً إلى إطلاق الروايات( فانظروا إلى رجل يعرف حلالنا وحرامنا)، فيقولون أن هذه العبارة مطلقة وأمثال ذلك من الأدلة التعبدية النقلية، لكن هذا الإستدلال غير تام.

أولاً: نحن ركزنا على الدليل العقلي للمسألة فقلنا إذا لم يتيسر لنا حكومة المعصوم يجب أن نتنازل إلى ما هو أقرب منه فلو لم يكن لدينا أي رواية كان العقل مستقلاً بوجوب الرجوع إلى ما هو أقرب إلى الإمام المعصوم.

ثانياً: الروايات واردة في ظروف خاصة في زمن الإمام المعصوم.

183


153

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

فمقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة أبي خديجة وأمثالهما صدرت في زمن كان الشيعة متفرقين في البلاد، لا يمكنهم الرجوع إلى الإمام المعصوم في كل قضية، وليس للإمام وكيل ولا نائب في كل بلد، فكان المؤمنون في حرج لا يدرون ماذا يصنعون في ما يحتاجون إلى الحكومة وجهاز القضاء، فإلى من يرجعون لأجل رفع تلك الضرورات، فأمروا بالرجوع إلى فقيه في بلدهم. وهذا لا يعني أن الأصل في ولاية أمر المسلمين أن تكون لكل فقيه ولاية، وإنما تشير إلى أصل كلي وهو أنه إن لم يتيسر لكم الرجوع إلى الإمام المعصوم فارجعوا إلى من نظره أقرب إلى نظر الإمام المعصوم، وليس في مقام تعيين حاكم للناس يتصدى أمر الحكومة بمعناه المعروف، فإذا تعمقنا في هذا الأمر وجدنا أنها ناظرة إلى هذا الأصل الكلي العقلي.


وعلى هذا فإذا تيسر للأمة أن تقيم حكماً مركزياً تُحفظ به وحدة الأمة الإسلامية لم يكن سبيل إلى القول بأن لكل فقيه أن يقيم حكماً خاصاً في بلدته ولو فاتت به مصالح الأمة الإسلامية. فهل هذه الروايات تشير إلى هذا المعنى؟ ونحن نعلم أن سر لزوم الحكومة أو أحد أسرارها حفظ وحدة الأمة الإسلامية والمنع من تفرقها وتشتتها، فإذا كان في كل بلد أولياء عديدون يختلف بعضهم عن بعض، وربما يتعارضون ويتخاصمون، فكيف تتحقق وحدة الأمة الإسلامية بما هو معرض الإختلافات والنزاعات، فهذا نفسه يوجب الإختلاف. فكيف يمكن للإسلام أن يشرع أمراً لرفع الإختلاف ونفسه يوجب الاختلاف؟! هذا غير معقول.
فبالنظر إلى مصبّ الدليل والسر الكامن في هذا التشريع نعلم

184


154

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

علماً يقيناً أنه بعد الإمام المعصوم إذا تيسر إقامة حكم مركزي لمن هو أقرب إلى المعصوم عليه السلام كان متعينا بالضبط، ويمكن الاستشعار لهذا المعنى من الأدلة الواردة بشأن الإمام المعصوم، أنه لا يكون في زمن واحد إمامان معصومان بحيث يكون كل واحد منهم متصدياً لأمر الإمامة. نعلم أن الحسنين كانا إمامين، لكن ما دام الإمام الحسن عليه السلام متصدياً للحكم لم يكن للإمام الحسين عليه السلام التصدي مع أنه كان معصوماً لا يخالف أخاه، فالحكومة كانت لأحد الإمامين ثم انتقلت إلى الإمام الحسين عليه السلام بعد وفاة أخيه، هذا مع أن النبيّ صلى الله عليه وآله يقول "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا" وما ذلك إلا لأن إمامتهما الفعلية كانت متناوبة، فكانت للإمام الحسن عليه السلام أولاً ثم للإمام الحسين عليه السلام ثانياً، مع أنهما صالحان للإمامة لكن فعلية تلك الإمامة كانت لأحدهما. لا أقول أن هذا دليل قطعي، لكنه ممّا يقوِّي الظن بل يوجب الإطمئنان.


فالأصل في الولاية وحدة الإمام بالرغم من وجود أشخاص صالحين للإمامة على الفرض، كما أن الإمام الحسين عليه السلام كان صالحاً ولكن لم تكن إمامته فعلية لأنها كانت للإمام الحسن عليه السلام ما دام هوحيّاً.


فحتى على فرض أن يكون هناك فقهاء كثيرون كلهم متساوون في صلاحيتهم للإمامة لكن إذا تعين أحدهم كان له فقط التصدي وعلى الاخرين الإطاعة، هذا أحد فروع هذه المسألة. نعم يمكن أن يفرض هنا إستثناء وهو أنه إذا قامت حكومة إسلامية في بلد وكان بلدٌ اخر نائياً عن ذلك البلد بحيث لا يتيسّر إقامة حكم واحد فيهما فيمكن

185


155

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

بهذا الفرض إضطراراً إقامة حكومة أخرى ولكن هذا أمر اضطراري وهو مخالف للأصل.

كيفية تعيين الولي

مسألة أخرى تتصل بمسألة ولاية الفقيه وهي أنه كيف يتعين هذا الولي الوحيد، لأننا قلنا أن الأصل وحدة الحاكم، فالسؤال عن كيفية تعيين هذا الحاكم.

فنحن نعلم أن المعصومين منحصرون في أربعة عشر بمعنى خاص، أي من ضمنت لهم العصمة، فلربما يكون الإنسان معصوماً بأن يكون غير مرتكب لمعصية، فربما كان السيد أبو الفضل العباس أو علي الأكبر غير مرتكبين للمعصية أصلا لكن لا نسميهم بمعصومين، لأن العصمة لم تضمن لهما فعصمتهم حسب التعبير التسامحي أمر اتفاقي غير مضمون. فالمعصومون الذين ضُمنت عصمتهم هم الأربعة عشر بعد سائر الأنبياء طبعاً، ففي هذه الأمة لا يوجد معصوم غير هؤلاء الأربعة عشر، فكيف يتعين من هو أشبه بهم وأقرب إليهم حتى يتصدى للحكم؟

والجواب أن السبيل إلى هذا الأمر هو السبيل العقلائي في أمثاله، فبصرف النظر عن مسألة الولاية والحكومة، كانت الشيعة في جميع عصورها تعين لها مرجعاً دينياً كي يقلدوه، فكيف كانت تعين مراجع الدين؟ كانوا يلتمسون البينات أي أهل الخبرة فإذا شهد عندهم أهل الخبرة بأعلمية وأصلحية أحدهم رجعوا إليه. لكن لما كان هذا الأمر غير رسمي كانت تكتفي الشيعة بما يتيسر لهم من الرجوع إلى أهل

186


156

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

الخبرة في محلهم وبلدهم، فلا تهتم أهل الخبرة في كل عالم الشيعة، بل يرجع كل واحد إلى عالم بلده وإلى من يعرف من أهل الخبرة فيكتفي بشهادة الموجودين عنده. أما إذا كانت المرجعية أمراً حيوياً لعالم الشيعة بحيث يتوقف على هذه المسألة حياة الشيعة في مقابل الكفار، فهل يمكن بهذه السهولة الإكتفاء بأهل الخبرة المحليين أو يجب التوسع بالتحقيق بشكل أكبر؟

أنتم تعلمون أن تعيين المراجع في الاونة الأخيرة صار يتطور شيئاً فشيئاً إلى أن توحدت المرجعية الدينية، ففي العصور الماضية كان هناك فقيه يكون هو المرجع الديني وشيخ الإسلام لذلك البلد، وكثيراً ما يكثر هؤلاء أي شيوخ الإسلام وأهل الإفتاء والمراجع الدينية، فالأمر كان كذلك فيما مضى. أما في عصرنا الحاضر فيرجع الأمر إلى مرجع واحد تقريباً، فصار الميل إلى وحدة المرجعية.

فإذا كانت مسألة ولاية الأمر والحكومة الإسلامية أمراً حيوياً فلا يمكن أن يقتنع بمثل هذه الرجوعات إلى الفقهاء غير الرسميين، إلى من تيسر له في بلدته ومحلته، بل يجب الإهتمام بهذه المسألة بشكل رسمي حفظاً لمصلحة الأمة، التي تتوقف على وحدة الولاية، فيجب أن يكون خبراء رسميون متعينون لأداء الشهادة.

تعيين الخبراء


فتنقدح هنا مسألة أخرى كيف يتم تعيين هؤلاء الخبراء؟ فالكلام هو الكلام إذا كان الواجب علينا أن نعين الخبراء فلا أقول أن نوكل الأمر إلى الخبراء أو نعطيهم حق الخبرة، فالخبراء خبراء من أنفسهم

187


157

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

لأجل خبرتهم لا لأجل ارائنا كما أن شأنهم تعيين ولي الأمر لا إعطاء الولاية له، فالخبراء لا يعطون الولي حق الولاية فإن الفاقد للشي‏ء لا يمكن أن يكون معطياً له، فالخبراء لم يكونوا بأنفسهم واجدين للولاية حتى يعطوها لغيرهم، فهم يعرفون من هو أصلح لولاية أمر المسلمين ولهم حق الشهادة فقط، فبأي شي‏ء ثبت لهم الحق؟ لكونهم خبراء. فنحن مرة أخرى يجب علينا معرفة هؤلاء الخبراء الذين تكون شهادتهم حجة لنا.

أضرب مثلا لذلك، كلنا نعرف أن في القضاء الإسلامي القاضي يحكم بمقتضى شهادة البينة، فإذا برز قاض في بلد وتصدى للقضاء فتخاصم عنده رجلان وكانت لأحدهما بينة على مدعاه، فهل للقاضي أن يحكم بمقتضى شهادة هذين الرجلين وهو لا يعرفهما لأنه جاء مدعٍ إلى القاضي مع شاهدين والقاضي لا يعرف الشاهدين؟ فكيف يمكن له الحكم بمقتضى شهادة هذه البينة؟ سؤال جاد، ففي الأمور الرائجة اليوم لا يهتمون بهذه الأمور، لكن حسب التكليف الإلهي ثبوت الحق أو سلبه عنه وإعطاؤه لاخر لا يتيسر بهذه التسامحات، فيجب أن تكون عنده حجّة، فعليه أن يتبين ويفحص عن العدول في تلك البلدة التي يريد أن يقضي فيها، فمن اداب القضاء أنه إذا دخل قاض في بلدة أن يتفحص عن عدول هذه البلدة، حتى إذا شهد عادلان عنده يعرفهما بعدالتهما فيقضي بمقتضى شهادتهما. فينقدح سؤال اخر كيف يفحص عن العدول؟ وكيف يعرف العدول؟ فلا بد من رجوعه إلى الناس حتى يعلم أن هذا رجل يعتمد عليه وهو ثقة عادل يمكن الإعتماد على شهادته، فليس له سبيل اخر.

188


158

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

إذاً ينتهي الأمر أخيراً بالرجوع إلى الناس بحيث يحصل له الإطمئنان. فتعيين الخبراء لا بد من انتهائه إلى تعريف الناس به، فالناس عليهم أن يشهدوا أن هؤلاء الخبراء أشخاص ثقاة. أما علمهم فربما يعرف بشهادة العلماء، لكن توثيقهم وعدالتهم وكونهم معتمدين لدى الناس والأمة فلا يعرف الخبراء إلا بواسطة عامة الناس، فتعيين الخبراء الرسميين ينتهي في اخر الأمر إلى شهادة الناس بعد كشف صلاحية الخبراء من ناحية العلم، لأنه لا سبيل للناس لتعريف مرتبة العلم والإجتهاد، فالناس لا يعرفون الفقيه من غيره، ومدى مرتبة فقاهته، فإحراز مرتبتهم العلمية يحتاج إلى أهل الإختصاص.

فلأجل كون الإجتهاد أمراً تخصصياً لا يعرفه عامة الناس يجب تأييد ذلك من قبل المجتهدين، فالمجتهدون الرسميون في الحكومة الإسلامية هم فقهاء مجلس المحافظة على الدستور. وأما معرفة وثوقهم وعدالتهم وكونهم معتمدين لدى الأمة فيعرفه جميع الناس، فلذلك يشتركون في الإنتخابات، فمن كان أعرف عند الناس بالوثوق والإعتماد والعدالة فهو يعين لمجلس الخبراء، فإذا تعيّن الخبراء فهم يُعرِّفون ويعينون من هو أولى بالولاية من غيره من بين الفقهاء. وطبعاً إذا فقد لا سمح اللَّه فقيه بعض الشروط يعلنون أنه منعزل عن الحكم فلا يحتاجون لعزله، كما أن الولاية كانت تابعة لتوفر الشروط لكونها أقرب للمعصوم والخبراء لا يعطون الولاية للوالي، فالعزل أيضاً من هذا القبيل فالخبراء لا يعزلون الفاقد للشروط بل هو ينعزل بنفسه إنما على الخبراء أن يعلنوا ذلك ويرشدوا الناس إلى هذا الفقدان.

189


159

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

اسئلة وردود

سؤال: تفضلتم أنه وعند إقامة الحكم الإسلامي يجب أن نضع على رأسه شخصاً يكون أكثر الناس شبها بالمعصوم بناء على ذلك بما تفسرون حكم الإمام رضوان اللَّه عليه عندما فصل بين مقام الولاية والمرجعية؟
الجواب: المرجعية وهي شأن من يكون قوله ورأيه حجّة في الأمور الدينية يمكن أن تتوزع على الأمور الفردية والأمور السياسية الإجتماعية، فالمرجع الذي يرجع إليه في الصلاة والصوم والخمس والأحكام العبادية للناس يمكن أن يكون غير من يرجع إليه في المسائل السياسية، فإذا كان أحد الفقهاء أعلم بالمسائل الفردية واخر أعلم بالمسائل السياسية الإجتماعية كان الأول متعيناً للمرجعية في هذه المسائل الفردية وكان الثاني متعيناً للإفتاء في المسائل السياسية الإجتماعية، هذا في أحد الفروض. ومسألة أخرى هي أني قد ذكرت أن الصلاحيات التي يجب أن تتوفر في ولي الأمر هي في ثلاثة أمور:

1- الفقاهة.
2- التقوى.
3- وحسن التدبير.


فإذا كان شخص واحد واجداً لأعلى مراتب هذه الصلاحيات الثلاثة، وكان أعلم في الفقه، وكان أتقى من جميع الناس، وكان أحسن تدبيراً من غيره تعيّن للولاية ولا كلام فيه، ويمكن أن نمثل بالإمام الراحل رحمهم الله عند من كان يرى أنه أعلم الناس. أما إذا تعارضت الصلاحيات بأنه كان شخص أفقه ولم يكن أتقى، أو كان أفقه وأتقى

190


160

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

ولم يكن أحسن تدبيراً، واخر كان أحسن تدبيراً ولم يكن أتقى، أوكان أتقى وأحسن تدبيراً ولم يكن أفقه، فأيهم يتعين للتصدي؟ فهذه مسائل فرعية وقد أشرت أن هناك أموراً مشتبهة وفروعاً قد تصدى لتبيين هذه الفروض الفقهاء الموجودون في مجلس الخبراء، وقد ذكروا لذلك فروضاً كثيرة وبينوها وبينوا الوجه الأرجح لكل منها.


والحاصل أن في مثل هذه الفروض التي لا يكون فيها شخص واجداً لجميع الخصوصيات على وجه أكمل، بل بعضهم واجد للأرجحية في بعض الخصال وبعضهم أفضل من جهة أخرى، يكون حاصل الجمع الجبري لجميع الخصوصيات هو الذي يعين من يتصدى لهذا الأمر. فالمعدل العام هو الذي يعين المتصدي للأمر، فيمكن أن يكون من له المعدل العام ويكون المعدل فيه أقوى يتصدى لهذا الأمر وهو غير أفقه، لأن سائر الخصوصيات قد جبرت هذا النقص فتقواه وحسن تدبيره جبرت عدم أعلميته، ففي مثل هذا الفرض يمكن أن يكون المرجع الديني في سائر الأمور شخصاً اخر لأجل إفتاء مسائل الصوم والصلاة وسائر الأحكام فيرجع إليه في هذه الأمور، أما الحكم والولاية فيجب أن لا يتصدى له غير من له الفضل في المعدل العام، ومثل هذا الفرض يكون مصداقاً لكلام الإمام الراحل رحمهم الله، حيث كان في زمن الإمام نفسه الكثير من الناس يقلدون السيد الخوئي والسيد الكلبايكاني وبعض الفقهاء الاخرين في حين كانوا يأتمون بالإمام الراحل، فتنفصل المرجعية عن الإمامة. وبعد رحيل الإمام كان الكثير من الناس يقلدون السيد الكلبايكاني رضوان الله تعالى عليه والسيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه ، وبذلك كانت تنفك المرجعية عن الإمامة ولا إشكال في ذلك، وهذا لا

191


161

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

يناقض ما ذكرت من أن الإمام لا بد أن يكون أشبه الناس بالإمام المعصوم حتى في الفقاهة، فإنه لو تعارضت الأشبهية في أمر بالأشبيهة في أمر اخر فالمعدل العام هو الذي يعين الأشبهية المطلقة.


سؤال: هل إن أي حكم من الأحكام الإسلامية الثابتة يمكن للولي الفقيه في ظرف معين أن يرفعه ولو مؤقتاً تحت عنوان المصلحة الحاكمة على ثبات الحكم أو أن لهذه الأمور مداخل أخرى؟
الجواب: هذه المسألة أي مسألة المصلحة هامة جداً وحسب إطلاعي لم تتبين للكثير من الناس. وربما يزعم البعض أن المصلحة أمر يعرفه الشخص بعقله وهو غير ما أنزل اللَّه من الحلال والحرام وهو حاكم على أحكام اللَّه تعالى، وبصيغة صريحة ناسخ لأحكام اللَّه! وليس الأمر كذلك، إنما معنى غلبة مصلحة على حكم أن هناك حكماً خفيّاً لا يعرفه الناس ولذلك مصادر ومبادى‏ء خاصة، فإذا أحاط الفقيه بتلك المبادى‏ء والأصول والمباني فلا بد أن يفتي بهذا الحكم، لا أن للشخص والولي الحكم على خلاف ما أنزل اللَّه، وهو شرك ليس للنبي نفسه أن يرفع حكم اللَّه في قضية من القضايا "ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين" وفي قضية يقول تبارك وتعالى في القران الكريم "ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا" أنظروا إلى لحن الكلام النازل من عند اللَّه إلى رسوله الأعز الأكرم "لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا...".


ليست المصلحة تابعة لارائنا وأهوائنا وتشخيص أنفسنا، فغلبة المصلحة على حكم هي غلبة حكم على حكم اخر، فمحله في الواقع هو

192


162

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

تزاحم المصالح أو تزاحم الحكمين في مصالحهما حيث يجب رعاية الأهم والمهم وتقديم الأهم على المهم، فهو أمر شائع لكن ربما يعرف الأهم ببساطة، مثاله: إذا وقفنا في طريق ورأينا إمرأة قد وقعت على الأرض وهي مجروحة وليس لها حجاب فالحكم الأولي يقول مس المرأة الأجنبية حرام والنظر إليها حرام، فهل تتركونها في الطريق وتذهبون أو تحملونها إلى المستشفى؟ فلا يشك أحد أنه حينئذ يجوز النظر إليها وحملها إلى المستشفى لأن حفظ النفس أقوى من حرمة النظر أو المس، فكل الناس يعرفون ذلك ولا تحتاج المسألة إلى إفتاء المفتي فضلاً عن حكم وليّ الأمر، ولكن تعارض المصالح ربما يكون أخفى من ذلك، فالمفتي يعين المصلحة الغامضة ويكتب في رسالته إذا تعارض الحكم الفلاني مع الحكم الفلاني فالحكم الفلاني هو الأقوى ويجب الأخذ به، هذا إذا كان تشخيص المصاديق متيسراً لكل الناس، أي إذا أفتى بهذا الحكم الإلهي يتيسر للناس تشخيص المصاديق كما يفتي المفتي بالأحكام الكلية بالنسبة إلى الصلاة والزكاة والصوم.


لكن للأمور الإجتماعية موارد قد تختفي مصالحها ولا يعرفها كل أحد، حتى لا يمكن تعريفها بوجه كلي وإيكال تشخيص المصاديق إلى الناس كلهم، فيجب أن يعيَّن المورد الخاص بخصوصيته من قبل مقام معتبر فيقول يجب أن تفعلوا هذا الفعل، فإن وكل الأمر إلى تشخيصهم اختلفوا فتفوت بذلك مصالح الأمة الإسلامية. في مثل هذه الموارد يكون وليّ الأمر هو الذي يشخص بنفسه مصاديق القضية الكلية ويعين ذلك المصداق ويصدر بشأنه حكماً ولائياً، فهذا هو مورد الحكم الولائي.
فإنه إذا أمكن أن يفتي في صورة قضية كلية فلا يحتاج إلى إعمال

193


163

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

الولاية، ولا يحتاج إلى حكم ولائي سلطاني حكومي، بل يفتي بقضية كلية والناس يعرفون المصاديق بأنفسهم، أما إذا كان المورد بحيث إن أوكل الأمر إلى تشخيص الناس اختلفت التشخيصات وفاتت بذلك مصالح الأمة، فحينئذ يجب على الولي تعيين المصداق والحكم على نفس القضية الشخصية.


ففي هذا الحكم ليست المصلحة أمراً خارجاً عن الدين وحاكماً عليه، فهذه المصلحة تجعل القضية مندرجة في حكم خاص كلي لا يعرفه الناس ولا يعرفون أن هناك حكما كلياً وهذا مصداقه.


والدليل على ذلك الحكم الكلِّي قد يكون دليلاً عقلياً وقد يكون دليلاً نقلياً، ولا فرق في ذلك كما في سائر الأحكام، حيث يكون الدليل أحياناً حكم العقل وقد يكون الكتاب وقد يكون السنة، وهنا أيضاً ففي مثل هذا قد يكون الدليل لهذا الحكم الكلي الذي يعين مصداقه ولي الأمر هو العقل، أي يثبت الحكم الشرعي بالدليل العقلي، فالحكم الشرعي نازل من عند اللَّه لا يعلمه الناس والدليل عليه هو حكم العقل. فحكم العقل دليل عقلي على قضية شرعية وحكم شرعي، وليس هناك أمر حاكم على الدين رافع لحكم اللَّه وناسخ للشريعة، فليس كذلك فهذا شرك باللَّه وكفر بأحكامه، فلا يجوز النسخ للنبي ولا للإمام المعصوم فضلاً عن نائبه، وإنما يحكم عليه حكماً ولائياً لئلا تفوت مصلحة هذا الحكم باختلاف الناس في تشخيص المصداق.


مثاله البسيط الحكم بثبوت الهلال إذا لم يثبت عند الناس، فاختلفوا في الثبوت وعدم الثبوت، فإذا فوض الأمر إلى الناس اختلفوا في شؤونهم حتى في المسائل التجارية، فمثلا لو كانت مدة الإيجار لفترة

194


164

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

معينة كاخر الشهر مثلا فإن ثبت الهلال انتهت مدة الإيجار وإن لم يثبت الهلال بقي المستأجر في بيته، وأمثال تلك الموارد كثير في تفويت المصالح على الأمة، فعلى الحاكم أن يعين أول الشهر حتى لا تفوت مصالح المسلمين فلا يكفي أن يفتي في رسالته بأنه إذا شهد الشاهدان العادلان ثبت الهلال، وهذا الحكم الكلي لا يضمن مصالح الأمة فيجب عليه تعيين شخص الموضوع فيحكم حكماً ولائياً بأن هذا اليوم أول الشهر، فعلى المسلمين الإمتثال لهذا الحكم حتى على سائر الفقهاء، فليس لفقيه نقض الحكم وذلك حفاظاً على مصالح الأمة ومنعاً من تفويت تلك المصالح، فليس أن المصلحة أمر حاكم على الحكم الشرعي. فهذا التعبير الرائج على الألسنة بالمصلحة أمر متشابه يجب تبيينه.


سؤال: ذكرت في شأن الإمامين الحسنين عليهما السلام الإستئناس، لماذا سميته إستئناسا مع أنه دليل قاطع؟
الجواب: أنا سميته استئناساً أو إستشعاراً حسب تدقيقنا في المنهجية الفقهية وتحرزاً من الوقوع في القياس غير الصحيح والمرفوض عندنا نحن الشيعة، فإذا اعتبرنا هذا الأمر دليلاً على وجود وحدة الإمام حتى في زمن الغيبة فيمكن القول بأن مورد هذا الأمر سواء القول أو العمل إنما هو بين الإمامين المعصومين فحاصل ما يستفاد من هذا الإستدلال سواء أكان بصيغة كلامية لفظية أو مستفاداً من الصيغة العملية أنه لا يجتمع إمامان معصومان متصديان لأمر الولاية في زمن واحد، أما في حال عدم وجود الإمام المعصوم فلا دليل على لزوم حفظ الوحدة استناداً إلى هذا الدليل...


نحن نعلم أن الإمام عجل الله تعالى فرجه في زمن غيبته الصغرى عيّن أشخاصاً

195


165

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

لنيابته، لماذا لم يعين شخصين؟ نحن لا ندري، إنها قضية في الواقع، لا دليل لحرمة ذلك فلو عين شخصين هل كان ذلك حراماً أو غير صحيح؟ نحن لا نعرف الملاك في هذا التعيين وهذا لا يكون حجة شرعية على نظرية فقهية خاصة. فهذا ليس حجة فقهية وليس دليلا على نفي ما عداه، فالفقه الجواهري عند الإمام لا يقتضي ذلك، فلا يصير دليلاً على أنه يجب في كل العصور والظروف أن يكون المتصدي للأمر شخصاً واحداً لكن يستفاد منها إستفادة رقيقة سميتها بالإستئناس كما يوجد عند الفقهاء أمثالها.
سؤال: لو تفضلتم بالمناقشة الكاملة للنزعة الليبرالية وتأييد النظرية الإسلامية بالأدلة، لحاجتنا إلى ذلك في لبنان؟
الجواب: نعم عندنا أيضاً حاجة إلى تبيين هذه المسائل في إيران وسائر البلاد الإسلامية وقد قمنا بذلك حسب استطاعتنا في الأبحاث التي ألقيناها في طهران، فقد طبع قسم منها وبقي قسم اخر ولعل الإخوان يعينوننا على ترجمتها إلى العربية ويستفاد منها إن شاء اللَّه.


سؤال: تفضلتم أن الناس هم الذين يعرفون الخبراء الذين ينتخبون الولي الفقيه ولكن يوجد إشكال هنا أن وسائل الإعلام تلعب دوراً مهما لصالح فئة ضد غيرها؟
الجواب: نعم هذا أمر واقع، وهناك وقائع كثيرة مُرَّة، وقد عين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله خليفة له قبل وفاته بسبعين يوماً لكن الناس تخلفوا حتى الأنصار والمهاجرين عما أمر به رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فليس هذا ناقضاً لعمله، فقد قام بما كان يمليه الواجب عليه وبلغ رسالته حق التبليغ، لكن الناس لم يريدوا ذلك ولم يرتضوه فماذا يفعل.

196


166

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

ففي هذا الموضوع لا بد للناس من تعيين الخبراء والمعتمدين لكن إذا خان الناس فماذا يمكن أن يصنع؟ لا سبيل للقاضي إلى معرفة العدول إلا من أقوال الناس وعادة يمكن معرفة العدول بنسبة 90% من هذا السبيل، فمورد الخلاف قليل جداً وهذه أيضاً سيرة العقلاء في كيفية معرفة الخبراء والعدول، لكن على فرض أن تلعب وسائل الإعلام أو العملاء دوراً في اراء الناس فهذا أمر ليس لنا سبيل لدفع ذلك.


سؤال: لماذا حصرتم كل الموضوع بالانتخاب فهناك طرق أخرى كالعلم الشخصي ممكن أن يحدد ولي الأمر؟ الإمام الخميني لم ينتخبه الخبراء.
الجواب: انتخاب الإمام ليس مورد خلاف... ومعناه أنه كان متعيناً بنفسه فإذا تعين بنفسه لم يكن فيه خلاف. أما الكلام هنا ففي تعيين المجهول وحيث لم يعرف من هو الأصلح، فيصير معرض اختلاف ونقاش وتختلف الأمة، فلا محيص عن الأخذ بطريق اخر هو طريق العقلاء.


سؤال: ما رأيكم حول شبهة الدور؟
الجواب: هذه الشبهة المعروفة ألقاها الديمقراطيون وقالوا إن هذا النظام قائم على الدور. فإمام الأمة يعين أعضاء مجلس المحافظة على الدستور وهؤلاء يؤيدين صلاحية الخبراء ثم يأتي الخبراء فيعينون ولي الأمر وهذا دور مضمر.
هذه شبهة ألقيت من قبل الديمقراطيين ودفعاً لهذه الشبهة أقول: أولا الدور يختص بالأمور الحقيقية وهذه من الأمور الإعتبارية، وبصرف النظر عن ذلك فتسمية هذا بالدور أمر مغالطي، لأن الإمام

197


167

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

عين أعضاء صيانة الدستور أمّا هؤلاء الأعضاء فإنّما يؤيّدون صلاحية الخبراء لا أنهم يعيِّنونهم. ثم إن الخبراء لم يعينوا الإمام الذي عيّن أعضاء صيانة الدستور، الخبراء يعينون الذي يخلف الإمام، فشأنهم تعيين خلف للإمام الراحل لا الذي عين أعضاء صيانة الدستور، والولي إذا عين ولياً يبقى كذلك ولا يحتاج إلى تأييد الخبراء للبقاء إماما، وأخيراً مثل هذا الدور يجري في الأمور الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، سواء في الأحكام الإسلامية أو في الأحكام الليبرالية الديمقراطية، فلا محيص لهم عن هذا الدور. ونضرب مثالا لذلك.


نحن أقمنا ثورة، وتلاشى الحكم الماضي وبقيت الأمة بدون حكومة، فعلى مبدأ الليبراليين ماذا تفعل الأمة؟ يجب الرجوع إلى اراء الناس وهو الإستفتاء العام، لكن يجب أن يكون لهذا الاستفتاء قوانين لمن يشترك في هذا الاستفتاء: من يكون رأيه حجة؟ كم يلزم أن يكون عمره؟ ممن تؤخذ الاراء من الرجال والنساء معاً أم الرجال فقط؟ فإذا لم يكن هناك حكم لما كانت هناك قوانين، لأن ببطلان الحكم السابق تبطل القوانين والدستور وكل ذلك.. وهذا القول حسب مبدأ الديمقراطية فماذا يفعلون؟ يمكن أن يقال: يسأل الناس جميعاً ماذا يفعلون، لكن كيف يسأل؟ هذا يحتاج إلى قانون... وطبعاً القائمون بالإستفتاء يختارون أمراً معلقاً يقولون نأخذ بهذا الأمر على هذا الشكل... نجري هذا الإستفتاء ثم إذا قامت الحكومة وقام مجلس التقنين "البرلمان" فالحكومة والبرلمان يؤيدون ما فعلنا سابقاً وهذا هو الدور.


فهذا الإستفتاء يعين البرلمان والبرلمان يؤيد هذا الاستفتاء،

198


168

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

فمشروعية هذا الإستفتاء يتوقف على وجود البرلمان ومشروعية البرلمان يتوقف على هذا الإستفتاء. ولا سبيل لغير ذلك! هذا دور صريح ولا مفر منه حسب مبدأ الديمقراطية، أما حسب مبدأنا فالمشروعية من اللَّه تعالى ليست من الناس فالولي الفقيه مشروعية حكومته من قبل اللَّه تعالى، ومشروعيته لا تأتي من الإستفتاء حتى يستلزم الدور، فإذا أمر بإجراء الإستفتاء بهذه الصيغة كان ذلك حجة.


أما القول أن مثل هذا الدور يلزم في الحكم الإسلامي، فأنتم تعرفون أن الإمام علياً عليه السلام عين "شريحاً" للقضاء ثم جاءه يتقاضى عنده فقضى ضده، فقضاء شريح هو مشروع لأنه منصوب من قبل الإمام علي عليه السلام. فالدور الحقيقي الذي يستحيل إعتبارا، يعني أن يكون إعتباره لغواً، إنما يلزم لو كان متعلق نفس القضاء نفس الجعل فإذا كان الإمام عليه السلام يجعل القاضي قاضياً ثم يجعل القاضي الإمام إماماً عندها يلزم الدور.


أما إذا جعله قاضياً وللقاضي أن يحكم بما يرى من حكم اللَّه تعالى، فالذي يعين هذا الحكم في الحقيقة هو اللَّه تعالى وإنما هو يبين ذلك الحكم وينفذه. فليس هذا من الدور المستحيل ولا من الدور اللغو، وهذا أمر يعتبره العقلاء ولا إشكال فيه، فالإشكال وارد على الديمقراطيين أكثر مما يرد على الإسلاميين، ولا اشكال في هذا الأمر أصالة حتى نقول بوروده عليهم أو لا وروده.


سؤال: لو فرضنا أنه تبين للخبراء أن هناك من هو واجد لشرائط ولي الأمر أفضل من ولي الأمر الموجود فما هو الحكم؟
الجواب: إذا كان مرتبة الأفضلية بحيث يلزم استيفاؤها، يعني إذا

199


169

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

تبين من له أفضلية مؤثرة في حفظ مصالح المسلمين بحيث إذا لم تراع تلك المصلحة كان تفويتا لمصالح الأمة، وجب عليهم إعلان عزل ذلك الولي لأن المبدأ هو الأقربية إلى الإمام المعصوم، وإذا وجد من هو أقرب كان أصلح لكن بشرط أن تكون هذه الأفضلية مؤثرة في تدبيره وتصديه للولاية، أما إذا لم تكن له أفضلية بحيث تؤثر أثراً بيّناً في تصديه للحكم فيبقى الولي على إمامته ولا يجب عزله.


سؤال: لماذا ينحصر مجلس الخبراء بأهل الخبرة من إيران فقط؟
الجواب: كانت سيرة المسلمين من صدر الإسلام مستقرة على هذا المنهج، وكان في مركز الإسلام يتعين ولي الأمر ثم يلحق به من هو خارج البلاد وفي بلاد أخرى إلى أن تتشكل حكومة مركزية واحدة. وغير هذا غير ميسور عادة، فإذا قلنا بأنه لا تشكل الحكومة إلا إذا اجتمع المسلمون من أقطار الدنيا كان التزاماً بأمر غير واقعي، فجميع البلاد غير مُؤهلة لتأسيس الحكومة الإسلامية، فإذا وجد بعد قرون بلد متهيى‏ء لإقامة حكومة إسلامية وكانت هذه الحكومة حكومة مشروعة كان على سائر الناس إطاعتها، لأن الحكومة الإسلامية لا تعرف حدوداً جغرافية فحدود الأمة الإسلامية حدود عقائدية، فإذا تحققت حكومة إسلامية على وجه صحيح تمّت الحجة على سائر الناس ويجب أن يلتحقوا بها. اللهم إلا إذا كان لا يمكن الإلتحاق والتوحد بهذه الحكومة فيضطر إلى إيجاد حكومة أخرى أما الأصل فهو أن تتوحد جميع البلاد في أمة واحدة، وتطيع ولياً واحداً، وقد تيسر في أيامنا هذه في إيران الإسلام ويجب على سائر المسلمين الإلتحاق بها بما أنها حكومة مشروعة. اللهم إلا إذا لم يكن من الممكن الإتصال بهذه الحكومة وتعيين

200


170

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

الخليفة من قبل الحاكم الإسلامي في ذلك البلد، فيجوز حينئذ إقامة حكومة إسلامية أخرى باقتضاء الضرورة.
سؤال: هل قصدتم بإقامة حكومة أخرى مع مستلزماتها بوجود ولي فقيه اخر؟
الجواب: طبعاً إذا اضطررنا إلى ذلك يجب إقامة حكم اخر على نفس المبادى‏ء في هذا الحكم، أي الحكم الإسلامي في البلد الأول. وهذا في حال عدم إمكان الإتصال بالحكم الموجود.


سؤال: هل يمكن للملتزمين بأوامر الولي في البلاد الأخرى أن يتساءلوا أنه لماذا ينتخب المسلمون في إيران فقط الولي الفقيه الذي نلتزم بأوامره وليس لنا دور في انتخابه؟
الجواب: مشروعية الحكومة ووجوب إطاعتها ليست رهناً بالمشاركة في الإنتخاب، وبعد القبول بأن الولاية منصوبة من قبل اللَّه تعالى وبعد أن ثبت مصداقها بشهادة الخبراء كان على سائر الناس القبول بها والإلتزام بأحكامها.


سؤال: إذا كان الولي الفقيه ممتلكاً لخصائص المرجعية فما هو الموقف من تعدد المتصدين للمرجعية؟
الجواب: إذا كان الولي الفقيه ممتلكاً لخصائص المرجعية على وجه أكمل، يعني كان أعلم من الجميع تعينت له المرجعية والولاية ولا يصح لغيره، لكن الكلام مرة في مقام الثبوت ومرة أخرى في مقام الإثبات، ففي مقام الثبوت لو فرضنا أن ولي الأمر هو أعلم الناس فيجب على الجميع إطاعته وتقليده ولا يجوز تقليد غيره، أما في مقام الإثبات فلا يتيسّر عادة إثبات أن الولي الفقيه أعلم من جميع المراجع ولا يصح

201


171

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

تقليد غيره. وقد كان في زمن الإمام رحمهم الله وكذا في زمن السيد البروجردي رضوان اللَّه عليه وقبله السيد الأصفهاني والسيد الحكيم والسيد الخوئي رحمهم اللَّه لا يتيسر الإتفاق على مرجع معيّن، فاتفاق الاراء على مرجعية من يصلح لولاية الأمر بعيد جداً، ولا محيص عن تعدّد المراجع في ا لأمور الفردية لاسيّما بالنظر إلى عدم وجود مجلس من الخبراء لتعيين مرجع التقليد.


سؤال: هل يحق للأشخاص غير الايرانيين والموجودين في إيران أن ينتخبوا؟
الجواب: هذا أمر يرجع إلى القانون الوضعي، فربما تكون مصلحة أمة خاصة رهن صيغة خاصة، فهذا يرجع إلى مصالح الأمة التي يعرفها إمام المسلمين، والحاجة إلى الحكم الولائي هي في مثل هذه الأمور، فلا يبعد أن يتعين شكل خاص وصيغة خاصة لانتخاب الخبراء وقيود خاصة أيضاً لأجل تحقيق مصالح في ظروف خاصة.


سؤال: هل يجب اشتراك كل المسلمين في الإنتخابات؟
الجواب: يمكن أن يكون واجباً إذا احتمل مسلم أن لرأيه تأثيراً في ضمان المصلحة للأمة الإسلامية، لأن الرجحان ربما يحصل برأي واحد وربما يكون رأيه هو المؤثر فعليه القيام بحفظ مصالح الأمة، أما إذا علم أنه لا تأثير لرأيه فليس من الواجب بل هو من الأفضل.


سؤال: كيف نفسر ما دعت إليه الجمهورية الإسلامية بلسان رئيس جمهوريتها السيد خاتمي بدعوة الغرب إلى حوار الحضارات؟
الجواب: وظيفتنا هو حسن الظن بالمسلمين أجمعين سواء القائمين بالحكم أو غيرهم والتحذير من وقوع أمر مخالف لمصلحتنا.

202


172

الحكومة الاسلامية وموقعها في الدين

السلام مع تصدي الإمام الحسن عليه السلام للإمامة لا يصدق على الأنبياء عليهم السلام حيث كان اللَّه تعالى يبعث الأنبياء كلا في منطقته وفي قومه. كيف تفسرون ذلك؟

203


173

مراجعة وتلخيص

في هذه الجولة القصيرة التي بحثنا فيها المسائل المبدئية في المعارف سواء في المعرفة العقلية أو في المعرفة الشرعية الدينية، بدأنا بمسألة تقييم المعرفة وكيفية الحصول على المعرفة الصحيحة، ووصلنا إلى هذه النتيجة أن المعرفة العقلية الصحيحة إنما تصطاد بالبراهين، وشرط الوصول إلى النتيجة الصحيحة أن تكون البراهين واجدة لشرائط الإنتاج.

وأما المعرفة الدينية فهي مبتنية على ما يستفاد من الكتاب والسنة. وإنما يمكننا أن نسندها إلى الدين بصورة قطعية إذا استفيدت بالدلالة اليقينية من نصوص الكتاب وكذلك من الروايات المتواترة. أما ما يستفاد من ظواهر الكتاب والسنة، فإما أن يفيد إفادة ظنية فقط فيكون معرضاً للإجتهادات، وطبعاً إذا كان صاحب النظر مجتهداً يتبع المنهجية الصحيحة كانت نظريته محترمة. مثاله ما عندالمجتهدين والفقهاء الكرام(كثّر اللَّه أمثالهم وشكر اللَّه سعيهم من الإختلاف في الكثير من الفتاوى الظنية المختلف فيها، وليس هناك إشكال في مثل هذه الإختلافات، ورأي كل مجتهد محترم لنفسه ولمقلديه. إنما الذي يحتاج إلى إهتمام أكثر وتدقيق أشدّ هي المسائل الراجعة إلى حياة المجتمع الإسلامي، أي ما يدخل في نطاق الولاية الإسلامية، فهذه

207


174

مراجعة وتلخيص

المسائل يجب أن ترجع إلى مرجع واحد هو حسب عرفنا الولي الفقيه، به نظام الأمة الإسلامية وبه تحفظ وحدتها وهويتها. أما في المسائل الفردية فلكل مجتهد رأيه ولكل مقلد الأخذ برأي مرجعه.

طبعاً على المكلف أن يتفحص عن المجتهد الأعلم، فلا يجوز الأخذ بفتوى مجتهد بمجرد أن فتواه أسهل، فليس هذا موجباً لرجحان فقيه على اخر، فيجب التفحص كثيراً بحيث تطمئن النفس بأن هذا الفقيه أعلم من غيره، سواء كانت فتاواه أصعب أم أسهل. فالصعوبة والسهولة ليست من مرجحات فتوى المجتهد، ومثل هذا الترجيح في الحقيقة خداع للنفس لأنه يعمل على خلاف واجبه، فالواجب هو الأخذ برأي الأعلم، وإذا لم يأخذ به فكأنه لم يقلد. وكيف كان فالنظريات المختلفة في المسائل الظنية الفقهية لا توجب إشكالاً، وليست أمراً منكراً، فقد كان ذلك معروفاً منذ قديم الأيام بين فقهائنا. فالإختلاف في المسائل النظرية لا يوجب إشكالاً أبدا، وما يقال عن التساهل والتسامح في اراء الاخرين يختص بالمسائل الظنية، أما المسائل القطعية والضرورية والمسلمة، سواء في الحقل العقائدي أو الحقل الفقهي، كلها يجب أن يتحمس لها ولا يجوز التشكيك في هذه المسائل. أما المسائل الظنية النظرية فهي محل النقاش ولكل مجتهد رأيه، ورأيه حجة له ولمقلديه ومحترم عند سائر الناس.

ثم نصل إلى معرفة الإنسان وموقفه من الكون وعلاقته باللَّه تبارك وتعالى. وأنها علاقة عبد بالمولى ومملوك بالمالك. خلافاً لما يفترض ويُرغب إليه في الثقافة العصرية، وهو أن علاقة الإنسان بربه إذا كان له رب هي علاقة المطالبة بحقوقه: فيقولون: إن الإنسان في العصر

208


175

مراجعة وتلخيص

الحديث إنما يطالب بحقوقه حتى من اللَّه(إذا كان موجودا)، وليس هناك علاقة واجب وتكليف بين العبد ومولاه.

فهذه المفاهيم كانت متعلقة بما قبل العصر الحديث، حيث كان هناك عبيد وموالي. والدين كان يتكلم بمثل هذه المفاهيم ويعتبر علاقة الانسان بربه علاقة العبد بمولاه، لأن الناس كانوا يعيشون مفاهيم العبد والمولى، فالدين جاء بهذه الصيغة، لكن لما تطورت الثقافة الإنسانية العامة فلم يعد هناك محل للبحث عن العبد والمولى، فالإنسان حر وليس بعبد، وليس عليه واجب. إنما له حقوق... عليه أن يطالب بحقوقه حتى من اللَّه. له حقوق على المجتمع فيطالب بتلك الحقوق ويسعى حتى يأخذ حقوقه منه. وهذه الثقافة قائمة على أساس الفرد، فلكل فرد حق على الفرد الاخر وعلى المجتمع وعلى اللَّه. فهذه الثقافة مبتنية على الحق ورفض الواجب والتكليف. بينما الثقافة الإسلامية مبتنية على علاقة العبد بالمولى لأن أفضل مقام يناله الانسان هو العبودية الخالصة للَّه تبارك وتعالى "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام..."، "يا عبادي فاتقون"، "إذا سألك عبادي عني..."، "فادخلي في عبادي..." ففي نهاية المطاف إذا وصلت النفس الإنسانية إلى غاية كمالها يقال لها "أدخلي في عبادي" هذه هي الثقافة الاسلامية. وفي مقابلها تماماً الثقافة الإلحادية الغربية، التي تقول أنه لا معنى لعلاقة العبد بالمولى، فهذه المفاهيم قد مضى تاريخها كالمعلبات التي مضى تاريخ استهلاكها! وكيف كان فالنظرة الإسلامية إلى علاقة الانسان بربه هي علاقة عبد مملوك لا يقدر بنفسه على شي‏ء إلا ما أعطاه اللَّه تعالى.

209


176

مراجعة وتلخيص

ثم وصلنا إلى مسائل القيم وعلاقتها بالواقع، وذكرنا أن هناك اختلافا فاحشاً بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية ونحن عندما نذكر الثقافة الغربية لا نقصدالغرب الجغرافي إنما نقصد النزعة الإلحادية السائدة في المجتمعات الغربية وبعض العوالم الغربية والشرقية أيضاً.

من الفروق الأساسية بين الثقافتين أن ثقافتنا الإسلامية تعتبر القيم الحقيقية الإنسانية وحسب ثقافتنا الإسلامية القيم الأخلاقية الإجتماعية الانسانية لها أرصدة واقعية تبتني على المصالح الواقعية للإنسان، فهذا أمر شائع على ألسنة الفقهاء(أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد) وهذا هو نفس المطلب المبحوث عنه لكن صيغ بصيغة فقهية أو كلامية. فالأحكام الشرعية تابعة لتلك المصالح ولها رصيد في واقع الحياة، سواء الحياة المادية الدنيوية أو الحياة المعنوية الأخروية الأبدية.
وعلى ضوء هذه الحقيقة نعرف أن القيم الإجتماعية ليست تابعة لاراء الناس، إنما شأن اراء الناس أنها إذا كانت متوافقة تماماً تكون كاشفة عن قيم ثابتة يعرفها عقل الإنسان، ونعبر عنها أحياناً بالمستقلات العقلية. فالحاكم بثبوت القيمة هو العقل إذا كان حكمه غير متأثر بالأحاسيس والعواطف والوهميات. فالقيم تابعة للواقع والحقائق، ولذلك لا تتغير القيم بتغير القرارات والإتفاقات أي الأمور التوافقية.

ثم وصلنا إلى بعض القيم العامة والشاملة لكل الأفعال الإختيارية للإنسان سواء المسائل الفردية والعائلية والإجتماعية والدولية وما إلى

210


177

مراجعة وتلخيص

ذلك، ثم وصلنا إلى قسم خاص من القيم يتعلق بالأمور الإجتماعية والسياسية، وهي تدخل في حقل الحقوق من جهة وفي حقل السياسة من جهة أخرى. فاستفدنا أن المجتمع حيث يحتاج إلى حكومة، يحتاج إلى شأنين للحكومة أحدهما وضع القوانين والمقررات الإجتماعية،والثاني تطبيق تلك القوانين، وربما يختص اسم الحكومة بالسلطة التنفيذية وربما تعم السلطة التشريعية والسلطة القضائية أيضاً. فالمجتمع الإسلامي علاوة على القوانين الثابتة في أصل الشرع في الكتاب والسنة يحتاج إلى قوانين جزائية خاصة مؤقتة بحسب اقتضاء الظروف، ولا بد من واضع رسمي معتبر لهذه المقررات. وحسب نظرية ولاية الفقيه، الرصيد الأساس لهذه المقررات هو رأي الولي الفقيه، فربما يرشح شخصاً لوضع القرارات ووضع بعض القوانين الخاصة، وربما يفوض الأمر إلى مجلس خاص أو شورى خاصة أو اشخاص معينين. وهذا هو النظام السائد في جمهوريتنا، فقد فوّض أمر بعض المقررات إلى مجلس الشورى الإسلامي. طبعاً بعد المصادقة عليها من(مجلس صيانة الدستور( ومن ثم إلى ) مجمع تشخيص مصلحة النظام)، إذا حصل خلاف بالرأي بين المجلسين، فالحكم النهائي هو للولي الفقيه.

وتعتبر هذه المجالس بالنسبة إليه هيئات مساعدة ومشاورة له، يهيئون الأمر للحكم النهائي. فإما أن يصرح بالحكم، وإما أن يوافق عليه، وإما أن يكون سكوته إمضاء إذا كان كاشفا عن الموافقة.
فاعتبار هذه المقررات يرجع في النهاية إلى أمر الولي الفقيه الذي هو منصوب من قبل الإمام المعصوم حسب نظر فقهاء الشيعة من

211


178

مراجعة وتلخيص

صدر زمن الغيبة إلى يومنا هذا، إلا بعض المعاصرين. فإجماع فقهائنا على أن الولي الفقيه منصوب من قبل اللَّه تبارك وتعالى ومن قبل رسوله والإمام المعصوم، واراء الناس ليس لها شأن في إعطاء المشروعية، إنما شأن الاراء والانتخابات هو التعيين، لأن هذا المقام لم ينصب له شخص بخصوصية فردية، بل لمن كان واجداً لشروط معينة، فتعيين هذا الشخص في هذا الزمان على عهدة مجلس الخبراء المعيّنين من قبل الناس. وقد ذكر حول هذا المحور مسائل خاصة لا أطيل الكلام بتكرارها، لكنني أردت إلقاء ضوء على ما وصلنا إليه في نهاية المطاف في جولتنا هذه، ونشكر اللَّه تعالى ونشكر السادة الأعزة وإخواننا المشاركين في البحث، والذين هيأوا هذه الفرصة لمزاحمة الإخوة الأعزاء. أسأل اللَّه تعالى أن يديم توفيقاتكم ويزيدكم معرفة وإيماناً وولاء وتحمساً لدينكم، وأن يُرضي صاحب الأمر عنكم، ويجعلنا جميعاً مشمولين لأدعيته الزاكية، ويحفظ سيدنا القائد، ويوفقنا لأداء شكر هذا النظام وهذه القيادة.

اسئلة وردود

سؤال: هل أن تعيين خبراء رسميين في مجلس الخبراء يسقط خبروية الخبراء الاخرين أو يسقط قولهم عن الاعتبار؟
الجواب: الإعتبار إما أن يكون بحسب الشأنية وإما أن يكون بحسب الفعلية، وأستعير هذا الإصطلاح من مصطلح علم الأصول في الأحكام، فإنهم يقولون هناك أحكام شأنية، ثم تبلغ حد الفعلية، فما دام لم يثبت الحكم للناس لم ينجز عليهم، وإن كانت مؤهلاته ثابتة في

212


179

مراجعة وتلخيص

الواقع، فنحن نعيش في الوضع الذي لا يكون الولي متعيناً بنفسه حتى يعرفه جميع الأشخاص، خلافاً لمعرفة الإمام المعصوم وإنما نصب الفقيه الواجد للشرائط بالنوع، ولأجل معرفة المصداق الأكمل للواجد لهذه الشروط يجب أن نسعى بشكل أو باخر حتى نحصل على هذه المعرفة، فتتم الحجة علينا بوجوب الأخذ بكلام هذا الشخص المحدد، فتمام الحجة إنما هو بطريقة تكون مؤثرة في قبول وتأييد المجتمع الذي به تتحد كلمتهم ويمنع عن تشتتهم، فهذا يدفعنا إلى تشكيل مجلس رسمي، وطبعاً لا يشترك في هذا المجلس كل الخبراء لأننا لا نحيط بهم. ولا ينحصر العدد بعدد خاص، فلا بد من انتخاب عدد من الخبراء حتى يشتركوا بهذا المجلس ويسدوا هذا الخلل. وليس معنى ذلك أن غيرهم ليس بخبير، إنما نحتاج إلى مجلس رسمي يتشكل من عدد خاص وأفراد محددين يمكن الحصول عليهم وجمعهم. فهذه أمور عادية ليست مجهولة من قبل الشرع بصيغة خاصة، فحسب ما نعتقد أن هذه الطريقة هي أقرب طريق يمكن عادة من خلاله الحصول على معرفة من هو أولى بهذا الأمر، فإن كان هناك طريق اخر أقرب فليطرح على طاولة البحث، ولعل ذلك يؤدي إلى تعديل الدستور فيما بعد كما عدّل في زمن الامام الراحل رحمهم الله. لكننا حتى الان لم نطلع على طريق أحسن وأقرب للحصول على هذه النتيجة.


سؤال: كيف نأخذ بالسيرة العقلائية لتعيين الأعلم؟
الجواب: قبل أن تُطرح مسألة ولاية الأمر على الصعيد الواقعي، كان كل الشيعة يعرفون أنه يجب عليهم الرجوع إلى المرجع الديني الفقيه للأخذ بارائه في مسائلهم الشخصية، فكيف كانوا يعرفون

213


180

مراجعة وتلخيص

المرجع الأعلم؟ فالسيرة جرت على شيئين أحدهما الشياع لكن لا يحصل بالنسبة إلى جميع المراجع، قلما أن يتفق الشياع بحيث يكون موجباً للعلم، والشياع في تحديد المرجع الديني للتقليد كالشياع بالنسبة إلى الامام الراحل في ولاية الفقيه وقد مضى، ثم يصل الدور إلى البينات، فماهي السيرة العقلائية للتعريف بالمرجع الأعلم من خلال البينات؟


البينة قد تقام في محضر القاضي في المحكمة الرسمية، فإذا تعارضت البينات تساقطت. أما في الأمور العرفية فالمدار على قوة البينة، فإذا كانت البينة في أحد شقين أقوى من حيث الكمية والكيفية كانت السيرة العقلائية على الأخذ بتلك البينة، هذه هي سيرة العقلاء. فالسيرة قائمة على الأخذ بالبينة الأقوى، فإذا كان في أحد الطرفين عشرة من الفقهاء يشهدون بأعلمية هذا، وفي طرف اخر يشهد فقيه واحد أو إثنان بأعلمية فقيه اخر فالعقلاء يأخذون برأي العشرة، وهذه هي الإنتخابات، وهذا هو الأخذ برأي الغالبية، لكن في المرجعية الدينية لا يحتاج إلى مجلس المنتخبين الرسميين لأنه واجب ديني، يتفحص كل واحد عن بينة يتم بها الحجة، لكن هناك واجب اجتماعي يجب أن يتفق الناس عليه لأنه ملاك الولاية، وهو حفظ الوحدة ودفع الإختلاف، فيجب أن يكون هناك مجلس رسمي، يجب أن تتم تلك الإنتخابات بصورة رسمية، وهذا ليس بدعة بل هو نفس بناء العقلاء الذين يؤخذ بأقوالهم في تحديد المرجع الديني، وفي هذا المجال يؤخذ بهذه السيرة في تحديد ولي الأمر. فالكلام في أنه لم يكن هناك دليل خاص، وكنا شاكين، وليس لدينا دليل قاطع على أحد الطرفين. فهل

214


181

مراجعة وتلخيص

للعقلاء رأي أو سيرة غير هذا؟ فلا يوجد في قطر من الأقطار سيرة غيرها. فليؤخذ بها كسائر الأعمال العقلائية، فسيرة العقلاء هي أحد الطرق المعتبرة. طبعاً هي تكشف كشفاً نوعياً لا شخصياً، فالسيرة العقلائية يجب الأخذ بها من حيث كشفها النوعي عن الواقع فإذا كنا محتاجين إلى معرفة طبيب حاذق ولا نحتاج إلى حكم شرعي بشأنه. فما هي السيرة العقلائية في الكشف عن هذا الواقع؟ نحتاج إلى معرفة أمر واقعي هو شخص واجد لهذه الشروط، وهذا ليس أمراً شرعياً وليس هناك تعبد بهذا الشخص، فالتعبد يقع على أصل وجوب الأخذ بمن هو واجد لهذه الشروط وقد ثبت ذلك قطعياً، أما تحديد هذاالشخص والكشف عن الواقع الخارجي، وهل هذا الشخص واجد لهذه الشروط أم لا؟ هذا لا يحتاج إلى تعبد بقول المعصوم، بل يجب علينا كشفه عبر الطرق التي يسلكها العقلاء في مثل هذه الأمور.


سؤال: ذكرتم سابقاً أن المناط في تعيين الولي هو نزع مادة الإختلاف. وايجاب الأمر من دون طريقة للتعيين موجب لعكس الفرض المطلوب؟
الجواب: هذا نفس الدليل العقلي الذي أشرت إليه، نعم لأجل أن نصوغ هذا الدليل في صيغة فنية وعلمية يلزم ترتيب مقدمات إحداها وجوب العمل بالأحكام الشرعية المتعلقة بالأمور السياسية والإجتماعية. الثاني: من يقوم بإنجاز هذه الأحكام في المجتمع ووجوب تعيين من له الحق في الحكومة، فإن بفقده تفقد هذه الأحكام واقعيتها الموضوعية المعينة ولا تؤثر في سعادة الإنسان لا في دنياه ولا في اخرته. ثم نصل إلى هذه النتيجة بإستنباط الأحكام من الأدلة

215


182

مراجعة وتلخيص

الشرعية والروايات وبالدليل العقلي. ثم إنه يجب أن يكون القائم بهذه الأمور هو الواجد للشروط الثلاثة التي أشرنا إليها سابقاً، الفقاهة والتقوى وحسن التدبير، فنكشف بالدليل العقلي المؤيد بالروايات على أن الواجد لهذه الشرائط منصوب من قبل الإمام المعصوم لعدم رضاهم بإهمال الأحكام الإجتماعية. والشاهد عليه أنهم في زمنهم قد عينوا الفقهاء ليرجع الناس إليهم في معرفة تكاليفهم الإجتماعية، وبهذا الدليل العقلي المؤيد بالنصوص نكشف عن هذا الحكم الشرعي وهو الرجوع إلى الولي الفقيه في الأمور السياسية والإجتماعية. بعد ذلك نأتي إلى تعيين هذا الولي والحاكم. وليس لإثبات مثل هذه الأمور الإجتماعية طريق عندا لعقلاء غير مثل هذا الإنتخاب.


سؤال: لماذا لا يكون هناك هيئة تضم المراجع العظام في العالم وهم بدورهم يختارون ولي الأمر لمدة محدودة؟
الجواب: هذا يشتمل على سؤالين الأول: سؤال عن أمر واقع يتصل بالمراجع العظام فهم يعلمون واجبهم وليس لنا أن نحدد لهم تكليفهم فهم مراجع لنا ولسنا مراجع لهم. والمسألة الأخرى هي مسألة نظرية وهي أنه لم لا تكون ولاية الفقيه لها زمن محدد، أي يعين ولي الأمر لسنتين أو أربع سنوات مثلاً كما هوالحال في رئاسة الجمهورية؟ هذه المسألة قابلة للتأمل، والجواب هو أننا إذا أخذنا بمبدأ نصب الولي الفقيه فالمستفاد من الأدلة نصب شخص دون تحديد مدة "من نظر في حلالنا وحرامنا..." مطلق، لم يقل ارجعوا إليه لمدة سنتين، فهو المرجع وما دام واجداً للشرائط يكون ولياً، فإذا فقد الشروط سقطت ولايته.

216


183

مراجعة وتلخيص

سؤال: ما دام أهل الخبرة في مجلس صيانة الدستور هم الذين يؤيدون أهلية أعضاء مجلس الخبراء، فلماذا لا يُكتفى بهم في تحديد مستوى الثقة بالخبراء؟ ثم إنه ما دام أن الناس في الإنتخابات معرضون للتجاذبات السياسية بشأن الاختيار، فلماذا لا يكتفي برأي(مجلس المحافظة على الدستور( في تعيين الخبراء دون الرجوع إلى العامة؟
الجواب: إذا اشترك الناس جميعهم في تحديد الخبراء كان أقرب إلى القبول. وكما تلاحظون فهذه الطريقة هي طرق عقلائية ليست متعينة من قبل الشرع، فإذا ثبت أن هناك طريقاً أقرب فيؤخذ به، لكن لم يثبت بعد أن هناك إمارة أقوى من التي يؤخذ بها حالياً.

سؤال: يعرف البعض أحياناً العقل الظني، فلا يقف عند حد فيدعون إلى تشغيل العقل في كل أمر وحكم ومورد فيصبح لدى العامة خلط بين العقل الظني والعقل القطعي والأمثلة كثيرة. كيف يمكن تصحيح هذا الإشكال؟
الجواب: تصحيح أخطاء العقل إنما هي مثل تصحيح أخطاء المحاسب. وذلك يتم من طريق من هو أعلم منه أو كحد أدنى في مستوى معين... يعني يقع ذلك محل محل نقاش بين العلماء حتى ينتبهوا إلى نقاط الضعف في الإستدلال فيحصلوا على إستدلال خال من نقاط الضعف والمغالطات.


سؤال: تحدثتم فيما سبق عن ابن عربي كعارف كبير وفي نفس الوقت ذكرتم أن عنده اراء انحرافات لم يوافق عليها العلماء، فكيف نجمع هذا مع كونه شيخ العرفان؟

217


184

مراجعة وتلخيص

الجواب: الخلط واضح، فإذا قلنا أن فلاناً طبيب حاذق لا يدل على أنه يعرف الفلسفة، فهو حاذق يعرف الطب. وهذا أيضاً لا يدل على أن كل ارائه في الطب نهائية، ومثله في كل العلوم النظرية.


فرأيه في نفس العرفان، يمكن أن يعتبر رأياً قابلاً للتأمل والنقاش. فإذا أريد أن كلامي واعتراضي بأن ابن عربي عارف كبير يناقض قولي أن له اراء منحرفة، فلا أرى فيه تناقضاً كأن تقول أن فلاناً طبيب حاذق إلا أنه قد أخطأ في بعض الأمور، أو يقال فلان فقيه متضلع لكن لا أوافق على رأيه في المسألة الفلانية. هذا لا يناقض تضلعه في الفقه.


سؤال: إذا كان في بلد ما أشخاص عدول يشخصون للولي الفقيه المواضيع والولي الفقيه يحكم على هذه المواضيع فهل يعتبر الولي متصدياً في هذا البلد وبالتالي لا يجوز لأي مجتهد معارضته؟
الجواب: إذا كان الأمر يرجع إلى الإفتاء فالولي ليس له شأن في ذلك بما أنه ولي، إنما للمجتهد الإفتاء بما يرى والعمل بقوله إلزامي لمقلديه، أما الولي إذا حكم بحكم ولائي فعلي جميع الأمة الأخذ بحكمه ويحرم على الفقيه نقض حكمه، وقد أفتى جميع الفقهاء أن القاضي إذا حكم بحكم حرم على جميع الفقهاء الاخرين نقض هذا الحكم وإن كانوا مجتهدين وأعلم من هذا القاضي.
فإذا حكم هذا القاضي على مجتهد بأن ما في يده من مال متعلق بالاخرين يجب الأخذ بذلك وحرم نقضه ومثاله الولي الحاكم إذا أصدر حكماً التزم به جميع الفقهاء وإن اعتقدوا بأنهم أعلم منه.


سؤال: كيف نشخص أن هذا الحكم حكم ولائي؟
الجواب: إذا شكوا في ذلك يسألونه هل هذا حكم أم فتوى؟

218


185

مراجعة وتلخيص

سؤال: أنتم ترفضون الكثير من مبادى‏ء الثقافة الغربية مع أن النظام السياسي وعلاقة السلطات في إيران مقتبسة من ثقافة الغرب ومنها مفهوم الحكم والدولة... بإستثناء مبدأ ولاية الفقيه الذي يعتبر ميزة إسلامية. فلماذا تم هذا الأمر؟
الجواب: لأن الولي الفقيه اعتبره أمراً لصالح المسلمين.


سؤال: تفضلتم أن الحوار يجب أن يكون متكافئاً وأن المسلمين ليسوا مهيئين لذلك؟
الجواب: أنا لم أقل أن المسلمين ليسوا مهيئين، أنا أكدت على أنه إذا كان حوار بين الحضارات فلنختر لهذا الحوار أشخاصاً يكونون متوازنين مع الطرف الاخر، وتأكيدي على مراعاة هذا التوازن لا يقصد منه أنه لا يوجد بين المسلمين كلهم من هو مهيأ لذلك... وإنما حذرت من اختيار من ليس هو أهلاً لهذا الحوار وهذا ليس بعيداً عن مسار الحكومات والسياسات.


سؤال: كثير من إخواننا لهم مسؤوليات أساسية لكن عندما يتكلمون عن مسائل التربية والتعليم والعلوم الإنسانية يتأثرون بالنظريات الغربية فماذا تنصحون؟
الجواب: يجب أن يرجعوا أولاً إلى المعارف الدينية والمنابع الإسلامية، وقبل ذلك ننصح أنفسنا بأن نتعمق في المنابع الإنسانية الإسلامية حتى نستنبط اراء بينة قابلة للطرح على طاولة البحث ونكتب كتباً حول هذه المباحث، حتى لا يرجع الناس في هذه المسائل إلى اثار الغربيين، فإذا كان لدينا كتب في علم النفس والإجتماع مبتنية على المبادى‏ء الإسلامية لا يحتاج الناس إلى الرجوع إلى الاثار الغربية.

219


186

مراجعة وتلخيص

لكن إذا افتقدنا مثل هذه الكتب ولم نهتم بمثل هذه الأمور الثقافية حقاً فسينجر الأمر إلى مثل هذه الإنحرافات.
سؤال: ما رأيكم بالنسبة إلى من يقلد على أساس الشهرة السياسية أو الفتاوى السهلة؟
الجواب: أشرت إلى أن التقليد، إذا كان على أساس الشهرة السياسية أو أن الفتوى سهلة ليس حجة شرعية، وإذا خالف رأيه رأي المجتهد الأعلم فعمله غير مجز. وبمعنى اخر هو كالعمل الفاقد للتقليد، وأنتم تعلمون أنه إذا عمل الشخص من غير تقليد مجتهد لا يكون معذوراً إذا خالف الواقع.
ومثله الأخذ بقول من ليس رأيه حجة عليه يعني لا يكون أعلم. وهذا رأي كل الفقهاء إلا من لا يوجب تقليد الأعلم فبعض الفقهاء يقول بجواز تقليد غير الأعلم وحسب رأيه يكون المقلد مختاراً في انتخاب المرجع.


سؤال: ما هو النظام الإقتصادي السائد حالياً في نظام الجمهورية الاسلامية؟ ما الذي يميزه عن الإقتصاد الليبرالي أو الإقتصاد الرأسمالي أو الإشتراكي؟
الجواب: الذي يميز النظام الإقتصادي في إيران حسب ما يدعيه أهله هو أنهم متقيدون بالأحكام الشرعية، أما في النظام الليبرالي فلا تقيد بهذه القيود، وإنما يعتبرون اراء الناس فيأخذون بها سواء كانت موافقة للدين أو مخالفة، فالميزة الأساسية هي هذه. أما في مقام التطبيق فيتوقف على تحقيق أكثر ولم يتيسّر لي ذلك، فأنا لست متخصصاً في الأمور الإقتصادية.

220


187

مراجعة وتلخيص

سؤال: على القول بالفصل بين المرجعية والإمامة. ما هو موقفكم من المرجع الذي يتصدى للشأن العام في مقابل الولي الفقيه؟
الجواب: عمله ليس بحجة.


سؤال: الشهود بمعنى الرؤية القلبية هل مطابق للواقع دائماً أم أنه يخالفه أحياناً؟
الجواب: هذه مسألة غامضة. الشهود بمعناه الحقيقي هو شهود الواقع فلا يمكن أن يخالف الواقع. فالمفروض أنه رأى الواقع كما هو. لكن الكلام في أن ما يُدَّعى أنه شهود هل هو في الحقيقة شهود أم تخيل؟
الكلام في تحديد المصداق فإذا فرض أن هناك شهوداً فالشهود لا يسأل عن أنه يوافق الواقع أو لا، لأن الشهود هو شهود نفس الواقع. والذي لنا حجة على ثبوته هو الذي تحقق للمعصومين عليهم السلام، أما غيرهم فلا حجة لنا أن لهم شهوداً واقعياً... ربما كان شهوداً واقعياً إذا وافق الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة. في مثل هذه الموارد تطمئن النفس إلى كون شهوده واقعياً، أما إذا خالف ألفاظ الكتاب والسنة أو لم يصدقه نص ولم يكذبه أيضاً فلنتركه في بوتقة الإمكان.


سؤال: نأمل منكم أن تحدثونا عن الولاية التكوينية والتشريعية وإلى أي حد يمكن للإمام عليه السلام التصرف بالولاية التكوينية... لأن هذا الأمر يُثار في الساحة اللبنانية؟
الجواب: إن إثارة هذه المسائل حسب ظني أكثر ما يكون من قبل الشيطان لأنه لا دخل لها في تحقيق مصالحنا الفردية والاجتماعية، ولا يثير إلا الخلاف، والإشتغال بغير الأهم والإشتغال بأمر يصدنا عن

221


188

مراجعة وتلخيص

واجبنا. إنما علينا أن نشتغل بما هو واجبنا ونحتاج إليه في صلاح أمورنا وأمتنا. أنى يفيد البحث في الولاية التكوينية ونطاقها ومواردها وهل هو مطلق أم مقيد؟ هل نسأل في القبر عن هذه المسائل؟


أنا أضمن لكم أن أياً منا لن يسأل عن هذا الموضوع، إنما يسأل ماذا فعلتم بواجباتكم الإجتماعية؟ كيف شكرتم نعمة هذا النظام والموهبة التي منحنا اللَّه؟


كيف شكرتم لهذه الهبة الإلهية وهي "ولاية الفقيه" وكيف كان تأييدكم لهذه الدولة الإسلامية الكريمة؟


فاشغالنا بمثل هذا الأمر إنحرافي. أما أصل الولاية التكوينية يعني التصرف في الكون على طريق غير عادي فهو مما نص به الكتاب الكريم ومما أجمع عليه علماؤنا وهو الإعجاز. الإعجاز هو التصرف التكويني. فإذا قال المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام: قم بإذن الله فقام، كان تصرفاً وإعمالاً لولاية تكوينية. ومن ذلك: "وإذ تخرج الموتى بإذني" المائدة/110، ومنه "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني" المائدة/110، هذه هي الولاية التكوينية... الخلق.. الإحياء.. الإبراء من العمى.


أما الكلام في دائرة هذه التصرفات فهو حسب ما أراد اللَّه تعالى واللَّه لا يضيق عليه شي‏ء ولا يغلب على أمره، فهو بالغ أمره واللَّه غالب على أمره... إذا أراد أن يعطي أحد عباده من نعمه فلا راد له. ولا يكون إعطاؤه إشراكاً في سلطانه، لأنه يكون بإذنه وتحت إرادته فإذا ثبت أن مثل هذا الإعطاء قد حصل نقْبله، وإن لم يثبت نذره في بوتقة الإمكان.

222


189

مراجعة وتلخيص

لكن ما الذي يوجب البحث في مثل هذه المسائل التي لا تفيدنا في المسائل الإجتماعية وغيرها؟

ختاماً أشكر اللَّه تعالى على أن وفقني للحضور في خدمتكم، وأشكركم على صبركم وتحملكم وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يرضيه وأن يرضي عنا صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه.
 

223


190

بركات الثورة الإسلامية

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين، لاسيما الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام اللَّه عليها وعلى بعلها وبنيه.


أقدم أفضل تحياتي وأطيب تبريكاتي إلى حضرة الإمام المنتظر المهدي عجل الله تعالى فرجه، وذلك بمناسبة ميلاد مولاتنا وسيدتنا سيدة نساء العالمين، وبمناسبة ميلاد حفيدها الإمام الراحل رضوان اللَّه عليه.

ثم أقدم تحياتي إلى حضرة القائد المعظم سماحة اية اللَّه الخامنئي، وإليكم أيها السادة الأعزاء.

أسأل اللَّه تعالى أن يمن علينا بزيادة حبنا ومعرفتنا وولائنا لأهل البيت سلام اللَّه عليهم أجمعين وأن لا يفرق بيننا وبينهم طرفة عين في الدنيا والاخرة إن شاء اللَّه.
أشكر اللَّه تعالى على أن وفقني لزيارة السادة الأعزة، العلماء والفضلاء الكرام، وسائر إخواننا في هذا البلد، بلد الشرف والعزة والمقاومة والجهاد.


أود أن أشير خلال حديثي في هذه الفرصة السعيدة إلى عظمة النعمة التي منّ اللَّه بها علينا بوجود الإمام الراحل وإنتصار ثورته. وما

227


191

بركات الثورة الإسلامية

يجب علينا من شكر ذلك. إضافة إلى الواجبات الثابتة على العلماء في جميع العصور والدهور.

أما الحديث عن شخصية الإمام فهو خارج عن حدّ عقلي وفكري وبياني، فأنتم بحمد اللَّه تعرفون هذه الشخصية الفذة إلى حدّ وتعرفون بركات وجوده علينا جميعاً. هذه البركات يمكن أن تتوزع على ثلاثة أقسام: قسم يختص بالشيعة، فنحن كلنا نعلم أن الشيعة قبل عشرين سنة أو أكثر، كانوا مضطهدين داخل الأمة الإسلامية وبين سائر الشعوب، وكثيراً ما كان الشيعي عندما يحل بين أوساط أهل السنة. يستحي أن يقول أنا شيعي وجعفري. وذلك بسبب الإتهامات الكثيرة التي نسبوها للشيعة عبر التاريخ. وكان لا يمكنهم الدفاع عن هذه الإتهامات. وأخيراً كان الشيعة يُتهمون بأنهم إخوة اليهود، لاسيما شيعة إيران في زمن الشاه. فأنا شخصياً في هذه البلاد، في سورية وفي لبنان، كنت إذا قلت: إني إيراني. قالوا: أنت أخو اليهود. وكنت أواجه نفس الكلام في مصر وفي كثير من البلدان الإسلامية. يقولون الشيعي والإيراني هو أخو اليهود.

فالبركة الأولى التي حصلت لنا بفضل ثورة الإمام هي العزة التي شعر بها المؤمنون الشيعة وأتباع أهل البيت بين سائر المسلمين.

والبركة الثانية هي للمسلمين جميعاً. فقد كان المسلم في البلاد الغربية وفي الأوساط المسيحية وغير المسلمة ربما يستحي أن يقول أنه مسلم، لاسيما إذا كان يلتزم بالأحكام الشرعية، بالصلاة.. بالصوم... بأداء الواجبات وترك المحرمات. كانوا يستهزئون به. ما هذه الرجعية؟

في بلادنا وفي جامعتنا.. كان الطالب الجامعي يستحي أن يصلي

228
 


192

بركات الثورة الإسلامية

على أعين الناس إذا كان يريد الصلاة كان يختار محلا خفيا يصلي فيه، لئلا يراه الاخرون، فيتهمونه بالرجعية.


بعد انتصار الثورة الإسلامية إعتز المسلمون بإسلامهم. وكانوا يفتخرون بأن يقولوا: نحن مسلمون. لا أنسى كلام الإمام اية اللَّه العظمى السيد الكلبايكاني في أوائل انتصار الثورة حيث تشرفت بخدمته، قال: إن المسلمين تعرفوا على الشيعة بعد انتصار هذه الثورة، وعرفوا أن الشيعة هي أمة متقدمة وأمة صالحة. وسائر المسلمين تعرفوا على الإسلام بفضل هذه الثورة. ما كانوا يعرفون ما هو الإسلام. وأنا أضيف إلى ذلك بأن غير المسلمين من أتباع الأديان افتخروا واعتزوا بدينهم بعد هذه الثورة. فقد نقل عن الرئيس الأسبق للنمسا أنه قال: "بعد انتصار الثورة الإسلامية على يد الإمام، تجرأت أن أقول لشعبي أنا مؤمن متدين... أنا معتقد بوجود اللَّه تعالى وبوجود الأنبياء. وما كنت أتجرأ أن أفصح عن ذلك عند شعبي". فالتدين كان عاراً على السياسيين وعلى الأمراء والرؤساء. أما بعد انتصار الثورة الإسلامية افتخر أصحاب الأديان، وحتى المسيحيون افتخروا بمسيحيتهم.


ويمكن إضافة بركة أخرى على هذه البركات الثلاث الشاملة للشيعة والمسلمين وسائر المتدينين بالأديان الإلهية، وهي بركة الإمام التي شملت الملحدين. فيا سبحان اللَّه، أنتم تعلمون أن الإمام في أواخر عمره الشريف كتب رسالة إلى غورباتشوف، ودعاه إلى الإسلام. فهم لم يكونوا يعرفون معنى هذه الرسالة، ومعنى هذا الكلام. ماذا يعني أن يكتب رئيس دولة إلى رئيس دولة أخرى يدعوه إلى الإسلام، ويقول: إن عظام

229


193

بركات الثورة الإسلامية

الماركسية سوف تتحطم وسيسمع صدى تحطمها. لم يدروا ماذا يجيبون على هذه الرسالة بعد أن وجدوا أنفسهم قد كتبوا جوابا دبلوماسياً. والان بعد أكثر من عشر سنين اعترف الرئيس غورباتشوف، وقال: لو أصغينا لما جاء في هذه الرسالة وأخذناها بعين الاعتبار لما كانت الأوضاع في روسيا تصل إلى هذا القدر من الذلة، وأظهر الحسرة والأسف لأنه لم يصغ لهذا الكلام الإلهي ولهذه الرسالة الإلهية.

فكان من تقدير اللَّه تبارك وتعالى أن لا يبقى الإمام بعد هذه الرسالة كثيراً. ولو شاء اللَّه لكان الأمر على غير ذلك، واللَّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ويجب علينا أن نرضى بقضاء اللَّه تعالى.

هذه لمحة من حياة الإمام الراحل رضوان اللَّه عليه ومن بركات وجوده علينا وعلى جميع الأمم وعلى الإنسانية جمعاء. وهنا ينقدح السؤال حول الموضوع التالي: أنه ماذا يجب علينا تجاه هذه النعمة العظيمة، أداءً لشكرها، وامتداداً لبركاتها، وحفظاً لاثارها، فأنتم تعرفون أن من سنن اللَّه تبارك وتعالى العامة غير المخصصة وغير القابلة للتخصيص، قوله تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد".

هذه سُنة لا تعرف استثناء واحداً لها. سواء في نطاق الأمور الفردية أو في الأمور الجماعية، فماذا هو الواجب علينا من شكر هذه النعم؟ نحن نعلم أن كل عالم يجب أن ينشر علمه في أوساط الناس ويهديهم إلى ما هو الحق، وإلى ما فيه سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والاخرة، "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".

230


194

بركات الثورة الإسلامية

لكن في مثل هذه الاونة، وبالنظر إلى هذه النعمة العظيمة، يتضاعف واجبنا. فمن جهة، نرى أن الشباب المسلم، في معرض الشبهات والشكوك والوساوس الشيطانية التي تهدد إيمانهم. ومن جهة أخرى، يجب علينا أداء شكر هذه النعمة وبذلك يصبح واجبنا مضاعفاً أضعافاً كثيرة. ففي مثل هذه الأيام لا يكفي أن نقتصر على ذكر الأحكام الفقهية الفردية، أو بيان بعض العقائد البسيطة، فإن أعداء الدين وأعداء الإسلام قد جمعوا كيدهم على أن يسلبوا الشباب المسلمين إيمانهم، وأن يزيلوا من قلوبهم إعتقادهم. وأن يدخلوهم في انهيار أخلاقي، وفساد فكري واجتماعي. فمثلنا كمثل الفلاح الذي يغرس أشجاراً ويجب عليه أن يربيها لتثمر ولتبلغ ينعَها. فلا يمكننا أن نشاهد هذه الافات التي تصب على شبابنا ونحن ساكتون. لا نحتال لذلك ولا نعالج هذه المشكلة بعلاج حاسم. فلا يكفي في هذا الزمان أن نقتصر على الأمور العادية التي كنّا قد اعتدناها قبل هذه الأيام كما كان في القرون الماضية. فنكتفي بذكر أحكام بسيطة وبإقامة المراثي والمجالس لأئمتنا سلام اللَّه عليهم أجمعين، وأمثال ذلك، مما لا رغبة للشبان فيه، ولا يؤثر في قلوبهم أثراً يعتد به. فيجب علينا أن نعيد النظر في منهجيتنا. في بيان الأحكام... في بيان العقائد.. وفي كيفية التعامل مع الشبان.

وأود أن أنبه على نقطة هامة جداً. هي أن بعض الناس يزعم أنه لأجل القيام بهذا الواجب، وهو جذب الشباب إلى المساجد وإلى المعاهد الدينية وإلى المجالس الدينية، ينبغي أن نتسامح شيئاً ما في الأمور الدينية. فلا نضيق في الأمور بل نغض النظر عن بعض المحرمات. وهو تفريط في مقابل الإفراط أو عكسه. يجب علينا أن نلتزم النمط

231


195

بركات الثورة الإسلامية

الأوسط فاليمن والشمال مضلّة. يجب الاعتدال في القول والعمل. يجب علينا أن لا نتشدد بالنسبة إلى الشبان. ولكن يجب علينا أيضاً أن لا نتنازل عن حقائق الدين ولا نجعلها شيئاً منسياً. لا نتساهل في المعاصي... في المحرمات. في الذنوب. فكلاهما خطأ. التشدد على الشبان يوجب تنفيرهم وإبعادهم عن المجالس الدينية وعن العلماء... وأما التساهل والتسامح غير المجاز بالنسبة إلى العقائد الحقة والتكاليف الشرعية فيوجب سقوطنا عن منزلتنا عند اللَّه وعند رسوله وعند الأئمة اطهار سلام اللَّه عليهم أجمعين، فشأننا بيان الأحكام وبيان الحقائق الدينية. إنما الكلام في كيفية البيان ومنهج الجذب. يجب علينا أن نتودد إلى الشبان. يجب أن نجلب اعتمادهم ونفوز بثقتهم، وأن يعرفونا كاباء رحماء عليهم. يجب أن يحصل لهم اليقين بأننا لا نريد لهم إلا خيراً فالشعار الذي ينقله القران الكريم عن الأنبياء حيث كانوا يقولون: "لا نسألكم عليه أجراً" هو شعار متين وشديد التأثير في قلوب الناس. إذا حسب الناس أن العلماء إنما يقومون بالوعظ والإرشاد لأجل منافع ومصالح دنيوية، فلا تؤثر تلك المواعظ في قلوبهم، بل يعتبرونها حرفةً أو شغلاً لهم. يعتبرونها صفقة: يعطون المواعظ ويأخذون الأجر. مثل هذه الصفقة لا تترك ذلك الأثر العميق.

لأجل ذلك كان الأنبياء عليهم السلام يقولون: لا نسألكم عليه أجراً، يؤكدون على ابتغائهم خيراً منهم خلال أداء واجبهم وهناك أمور أخرى مثل أخذ الأجر، أيضاً. إذا حسب الناس أننا نريد الانتفاع منهم بمال أو مقام أو موقف أو احترام أو تكريم، فلا تؤثر مواعظنا حق التأثير. اللهم إلا إذا اعتقدوا أننا لا نريد منهم إلا الخير لأنفسهم.

232


196

بركات الثورة الإسلامية

إن من الواجب علينا أن نذكّرهم بايات اللَّه تبارك وتعالى ونرشدهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم. هذا تكليفنا وواجبنا. فأداء لشكر هذه النعمة العظيمة، يجب علينا أن نسعى وراء كسب المزيد من المعارف اللازمة لهذا الجيل، ولهذه الأيام، ولهذا العصر، ومعرفة منهج يكون أشد تأثيراً وأكثر وقعاً في القلوب وأن نسعى وراء الإخلاص في النية وإثبات ذلك للمخاطبين، حتى يعرفوا أننا في الحقيقة نريد خيرهم وسعادتهم، في دنياهم وفي أُخراهم. فإذا قمنا بمثل هذه الأمور نكون قد أدينا شكر نعمة اللَّه تعالى، فنتوقع بذلك زيادة هذه النعمة، إستناداً إلى وعده تبارك وتعالى "لئن شكرتم لأزيدنكم"، واللَّه لا يخلف وعده. إن اللَّه لا يخلف الميعاد.

نسأل اللَّه تعالى أن يزيدنا معرفة وحباً وولاءً لأهل البيت ويوفقنا لأداء واجباتنا لاسيما تجاه أمتنا وتجاه شبابنا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى ويجنبنا اتباع الهوى والإغترار بالأباطيل والمنى، وأن يُرضي عنا قلب مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه، وأن يحفظ مولانا القائد في كنف لطفه وعنايته، ويرعاه ويختم لنا بالخير والعافية.

اسئلة وردود


سؤال: إلى أين وصلنا بعد نجاح الثورة ورحيل قائدها إلى الرفيق الأعلى؟ هل بقي وهج الثورة وإشعاعها الحضاري والثقافي والنوراني الذي بعثه سماحة الإمام الراحل في عقول الناشئة وفي عقول المحققين؟ أم أن هناك تراجع نسبي أو نصفي إن صح التعبير؟ ولماذا على ساحة طهران فقط، لا يجرؤ المعمم في هذه الأيام أن يمشي

233


197

بركات الثورة الإسلامية

بعمامته، بينما في بدء انتصار الثورة، كانت هناك إلفة بين العمامة وصاحب العمامة وعموم الناس جميعاً. والناس الان لا نرى لديهم الرغبة في رؤية رجل الدين، وخصوصاً في العاصمة؟
الجواب: مع الشكر للأخ الأعز، الحقيقة أن المعارف التي انتشرت بفضل هداية الإمام بين الناس واثارها التي حصلت في نفوسهم، حسب ما أرى هي أكثر من الاثار التي بقيت بعد رحيل الأنبياء عليهم السلام عن أممهم. ونحن نعلم بفضل تعليم اللَّه تعالى في كتابه الكريم، أنه بعد وفاة الأنبياء كانت الأمة تختلف وتنقلب وترتد على أدبارها. إلى أن يبعث اللَّه نبياً اخر فيحكم في اختلافهم، "كان الناس أمة واحدة فبعث اللَّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلفوا فيه إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم".

فإذا أخذنا هذه السنّة التاريخية بعين الإعتبار، وجدنا أن الأمة المسلمة الإيرانية بعد وفاة إمامها كانت أوفى لإمامها من سائر الأمم بالنسبة إلى أنبيائهم. ولعلكم سمعتم من خلال بعض وسائل الإعلام شيئاً من الأضاليل الإعلامية التي يلقيها بعض أعداء الإسلام وأعداء الثورة. ولعلكم تلاحظون بعض الاثار.
أما ما سمعتم من أن رجل الدين لا يمكنه أن يظهر بين الناس ولا يحبونه فليس بصحيح فيمكن أن يكون في مورد ما أو من جانب فئةٍ خاصة. أما ما رأيت وشاهدت ولاحظت في العاصمة طهران بالنسبة إلى العلماء ورجال الدين فلا يتوافق مع ما سمعتم، فأنتم تعلمون أنه في الأيام الماضية كان لدي مناظرة تلفزيونية. وقد ذكر مسؤولو

234


198

بركات الثورة الإسلامية

التلفزيون أن مشاهدي هذا البرنامج كانوا أكثر من مشاهدي مباراة كرة القدم بين إيران وأمريكا.
وحيث كانوا يرونني في الشوارع كانوا يسلّمون عليّ ويقبلون يدي، إذا كانوا قريبين، ويجلّلونني أكثر مما كنت أتصور. وكذلك بالنسبة إلى كثيرين من العلماء أمثال اية اللَّه جوادي املي حفظه اللَّه تعالى واية اللَّه حسن زاده املي. هؤلاء هم الناس المؤمنون.

طبعاً يوجد منافقون وغير مسلمين، وفئات قليلة من المعارضين لكن جمهور الناس وغالب المتدينين يتقربون إلى اللَّه بحب هؤلاء، ويستشفون بذكر إسمهم ولمس ملابسهم، فرجل الدين في إيران الإسلامية محبوب ومعزز بالنسبة إلى جمهور الناس. وأقول أن الإستثناء موجود في كل المجتمعات.

ولا يزال يزداد حب المؤمنين والمتدينين بالنسبة إلى علمائهم، وأدلّ شي‏ء على هذا المدعى هو التظاهرات التي قام بها الشعب الإيراني قبل شهرين تأييداً لقائدهم، حيث كان أمراً عجيباً ما كان يتصوره أحد على وجه الأرض. وما كان أحد يتوقع مثل هذه التظاهرات.

لعلكم رأيتم نموذجا من هذه التظاهرة في التلفزيون. لكن الواقع أقوى من كل ذلك ولا يمكن وصفه.

نعم... الانسان موجود مختار، لا يخضع للحق جبرا وقهراً. فله أن يختار الإنخلاع ويختار الإرتداد. وقد كان لذلك أمثلة كثيرة في الأمم الماضية. ويقع مثله في هذه الأمة أيضاً، "حذو النعل بالنعل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". فليس لنا أن نتوقع أن كل الناس قد صاروا أو يصيرون مؤمنين كاملين كسلمان وأبي ذر لا يمكن ذلك. فإن

235


199

بركات الثورة الإسلامية

اللَّه لم يشأ ذلك ولم يفعل ذلك، واللَّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. يقول تعالى: "فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا" فيجب الاعراض عن هذه الثلة القليلة.


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


236


200
أصول المعارف الإنسانية