إشارة
إشارة
يؤدّي عناصر الرصد والمعلومات دوراً أساسيّاً في العمليات الحربيّة؛ سواء عند التخطيط لها أو عند التنفيذ، فالراصد يعمل في أوقاتٍ حساسة وظروفٍ قاسيةٍ بغية توجيه مسار النار والإسناد المدفعي وغيره؛ ويمكن القول: هو في قلب النار، ويتوقف نجاح العمليات على أمور عديدة؛ أبرزها دقة التخطيط والمعلومات التي يوفرها رجال الرصد والاستطلاع؛ وكذلك الجهوزيّة والصبر والتحمل عند قيامهم بالمهام.
ليس الكتاب بحثاً فنّياً في تكتيكات الرصد؛ إنما ذكريات حقيقيّة روتها ثلّة من هؤلاء الرجال المغمورين في العادة وعلى رأسهم الكاتب القدير حجّت ايرفاني؛ ذكريات حكت عن أحوال ومعنويات وبطولات استمدّت قوتها من وضوح الرؤية والعقيدة وقوة الايمان بالغيب والامتثال للتكليف وعشق الولاية؛ وقد وصلت نسخة من الكتاب إلى يد السّيد القائد (حفظه الله)؛ قرأها وأثنى عليها: «..في مقالة حجت إيرفاني؛ تمّ بيان الجهود المريرة والمُتعِبة لقوات الرصد بشكل جيد.
إلهي أعطِ هؤلاء الشباب الطاهرين أفضل ما تعطي أولياءك الصالحين، وأنلنا نحن أيضاً نصيباً من ذلك العشق والإخلاص»(4/3/1992).
وقال سماحته في لقائه أعضاء مكتب أدب وفن المقاومة أثناء
7
1
إشارة
حديثه عن كتاب متعلق بالمسعفين الحربيين: «..فمن دون أن يكون الإنسان مسعفًا لن يتمكن من كتابة موضوع (عن المسعفين)، أو ذلك الشخص الذي ألّف كتاب «أمر النار بيدك»، كان واضحًا وبحسب القاعدة أنه عنصر رصد واستطلاع»(13/7/1992).
هذا الكتاب..
ضمن مجموعة أدب الجبهة يسرّنا أن نقدّم الترجمة العربية لكتاب «آتش به اختيار»؛ الإصدار الـ«25» في سلسلة «سادة القافلة»؛ ولا يسعنا إلا أن نتقدّم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إنجاز هذا العمل؛ المترجمة: إيمان صالح. فريق التحرير والمراجعة في مركز المعارف. المصمّم الفني: الأخّ علي عليق. ناشر النسخة العربية: دار المعارف الإسلامية الثقافية. والشكر الوفير لمؤسّسة (سوره مهر) ومعدّي النسخة الفارسية: الراوي وصاحب الذكريات؛ ومكتب «أدب وفن المقاومة».
ربيع الأول 1440هـ.
مركز المعارف للترجمة
8
2
إشارة
تمهيد
كان «حجت إيرفاني[1]» راصدًا ثاقب البصر أيام الحرب المفروضة، تمكّن بعينيه المحترفتين الشغوفتين من إصابة «غراب العدو الأسود بالعصا»، وقد ذُكر اثنان من هذه المذكرات في كتاب «آلفاتان» وكتاب «تلال الشقائق الأرجوانية». آمر النار هو عصارة ذاكرته عن أيام الحرب والرصد خلف المنظار الثنائي والمنظار الأفقي[2].
على أمل أن يحذو الرُصّاد الآخرون حذوه بتزويد مرابض مدفعيّة مكتب أدب وفن المقاومة بالإحداثيات.
مكتب أدب وفن المقاومة
2-12-1369هـ.ش. 21-2-1991م.
[1] - ervany. تُكتب: ايروانى بالفارسية.
[2] - المنظار الثاني: Binoculars - المنظار الأفقي: periscope المستخدم أيضًا في الغواصات.(المترجم)
9
3
مقدّمة الكتاب
مقدّمة الكتاب
المجموعة التي بين أيدينا، هي ذكريات إخوة عملوا في رصد الأعداء طوال فترة الحرب المفروضة التي عرفت الكثير من الإخفاقات والانتصارات، واضطلعوا بمهام حسّاسة وخطيرة بعيدًا عن الأضواء.
وبناءً على تنوع المهام التي توكل إلى الرصّاد، يمكن تقسيمهم إلى عدة مجموعات:
-1 راصد الاستطلاع، ومهمته تسجيل وإرسال المعلومات حول تحركات الأعداء.
-2 راصد السلاح المتوسط والهاون، ومهمّته التمركز في الخط الأمامي والتوجيه لضرب ودكّ مواقع وتحصينات الأعداء في خطّي جبهتهم -الأول والثاني- حين تقتضي الضرورة.
-3 راصد المدفعية، ويتمركز في الأماكن الوعرة المغطّاة بالثلوج والفاقدة للإمكانات، أو في المناطق السهليّة جنوب البلاد حيث يعمل في أبراج مراقبة يتراوح ارتفاعها ما بين 30 و60م، ومهمته إعطاء الإحداثيات لأهداف في عمق جبهة الأعداء، تدمير الأهداف، وجمع المعلومات عن تحركات مدفعيتهم وتمركز أو انتقال بطاريات الصواريخ. ومن مهامه أيضًا استطلاع أماكن تمركز المدفعية، والدبابات، والسلاح المتوسط والتغيرات الطارئة على خطوط
11
4
مقدّمة الكتاب
الأعداء الأمامية. تُعدّ الدبابة من أخطر أعداء الراصد، لأنّها توجّه قذائفها نحو أبراج المراقبة بشكل مباشر، ويكون درء خطرها عبر توجيه راصد المدفعية ضربات دقيقة وسريعة إليها فيجبرها على التراجع أو يدمّرها.
-4 الراصد المتحرّك أو السيّار، الذي أثبت فعاليته وجدارته في عمليات «كربلاء 5» على أحسن وجه. تبدأ مهمة الراصد المتحرك صباح العمليات. ويجب أن يكون ماهرًا في استخدام جهاز اللاسلكي، والبوصلة وقراءة الخرائط، وأن يكون جسورًا لا يعرف الخوف طريقًا إليه. ليس لهذا الراصد مكانًا محددًا وينبغي أن يكون على تنسيق تام مع بطاريات المدفعية[1] في المنطقة. مهمة هذا الراصد تدمير الأهداف التي عجز راصد السلاح المتوسط عن الوصول إليها، وعند هجوم الأعداء، عليه إعطاء الإحداثيات الدقيقة للمدفعية لتصبّ نيرانها على تجمعات دباباتهم ومشاتهم لتدمير قدراتهم وإضعاف معنوياتهم. وإذا تمكّن الأعداء من اقتحام الخط، عليه بكل شجاعة وإيثار أن يعطي إحداثيات النقطة المتواجد فيها للمدفعية. وستشهدون هذا النوع من التضحيات في هذه المذكرات. يبقى أنّ أكبر خطر يهدّد الراصد المتحرك في الخط الأمامي، قذائف الهاون عيار (60ملم) والقناصة، لأنّ الراصد -وبهدف استطلاع مكان سقوط القذائف وتصويب مسارها- يطل برأسه مرارًا وتكرارًا من خلف الساتر الترابي، فينكشف موقعه للعدو وتتعرض حياته للخطر. رغم المخاطر التي يتعرض لها، يؤدي الراصد المتحرّك أو السيّار مهامّه ببسالة وإيثار.
[1] - بطارية المدفعية: عدد عناصرها ما يقارب الكتيبة.
12
5
مقدّمة الكتاب
-5 الراصد المتسلل، هو من الناحية التقنية والعملية شبيه بالراصد المتحرك، وعليه أن يتمتع بمهارات كافية. مهمته اختراق خط الأعداء والتسلل عدة كيلومترات في عمق جبهتهم، ليصل إلى الهدف ويدمره بدقة متناهية. العدو الرئيس للراصد المتسلل هو الطيران المروحي الذي يبحث عن مكان تواجده، ويُعدُّ التخفي عن أنظار المروحيات من أصعب المشاكل التي يواجهها خلال تنفيذ المهمات.
تمحورت المذكرات في هذا الكتاب حول الراصد المتحرك والمتسلل، آملين أن نكون قد ساهمنا في الإضاءة على بعض وقائع هذه الحرب وكشفنا غبار المجهولية عن هؤلاء الرُصّاد الذين شكلوا طلائع الجند.
13
6
الشيخ محمود
الشيخ محمود
قبيل عمليات «كربلاء 5»، كانت خطوطنا الخلفية في ثكنة حصن خرمشهر في مكان عُرف بإسم «قصر صدام»، وهو بناء كبير تحت الأرض مؤلف من قاعة كبيرة وأربع غرف مساحة الواحدة منها 12م إضافة إلى غرفتين مساحة الواحدة 24م، وحمام، ومرحاض مع فناء كبير نسبيًّا. يعلو القصر سقف مبنيّ من ألواح حديديّة متراصفة ملتصقة بعضها ببعض، ولست أبالغ إن قلت لا يمكن للشعرة أن تمرّ خلالها. هذا ويرتفع التراب فوق السقف حوالي 6 أمتار.
في إحدى الليالي بعد صلاة المغرب، ذهبت مع الإخوة إلى غرفة الإعلام وتوافقنا على الاستماع إلى تسجيل «مقام الشهيد» للشيخ حسين أنصاريان. عند منتصف التسجيل، وكلٌّ منّا في حاله -وكنت قد أطفأت مصباح الغرفة- فُتح الباب ودخل أحدهم إلى الغرفة ثم أغلقه وجلس في إحدى الزوايا، وقد تعطّرت الأجواء بدندنة الإخوة الذين أضاءوا ظلمة الغرفة بنور قلوبهم. عندما انتهى التسجيل، أضأْتُ المصباح، ولا إراديًّا وقع نظري على الزاوية حيث جلس عالم دين يكفكف دموعه بالمنديل. هكذا كان لقائي الأول بالشيخ محمود. اسمه الكامل «محمود ملكي»، وكان الإخوة ينادونه «حاج ملكي» أو «الشيخ محمود».
ظننت في البداية أنه من رجال الدين الذين يهتمون بالأمور
15
7
الشيخ محمود
الفقهية وحسب، لكن ما إن انضمّ إلى جوقتنا وشاركنا مزاحنا وضحكاتنا، حتى أدركت أن لا ندّ له وأن لا أحد ينجو من لسانه اللاذع. وأكثر من ذلك، لا أحد يعرف ما هي مهمته أو عمله بالضبط.
بعد أيام، اصطحبني الحاج قاسم مع عنصرين آخرين إلى دشمة رابط المقرّ الواقع في «المخمس». لم يكن قد مضى على وصولنا إلى الدشمة بضع ساعات، حتى سمعنا صوت توقف دراجة نارية بالقرب منها. بعد لحظات رأيت الشيخ محمود واقفًا في الباب. قبل عدة أيام كنت قد ذهبت على الدراجة النارية إلى الخط حيث أفراد «الفرقة10»، ورأيت الشيخ محمود يساعد عددًا من الإخوة لملء أكياس الرمل. باختصار، كان الشيخ محمود في كل مكان. بعد مدة تعقّبت أخباره وعلمت أنّ عمله الأساسي في كتيبة السيدة زينب (عليها السلام)، فرقة «سيد الشهداء10»، لكن عندما يذهب عناصر الكتيبة في مأذونية إلى طهران أو ينتقلوا للخطوط الخلفية، كان الشيخ محمود يأتي إلى مجموعتنا وهو من العناصر المتطوّعة في المقرّ.
لقد كان لرجل الدين هذا مكانة في كلّ القلوب. فتراه في مراسم الدعاء والعزاء الأكثر توسّلًا وتضرّعًا، أما في مجلس المزاح والضحك فكانت له اليد العليا، ولم يكن يهمل فرضًا أو نافلة.
كانت إحدى قدميه مصابة بالشلل منذ الولادة، لكنه على الرغم من ذلك قاتل كتفًا بكتف مع عناصر الكتيبة لتحرير مناطق السواتر الهلاليّة في عمليات كربلاء 5. كان في المعركة كقائد الكتيبة صاحب حركة دؤوبة صعودًا ونزولًا، في الخط وفي المقرّ، في السيارة وعلى الدراجة النارية. باختصار، كان متعدّد الاستعمالات ويبرع في أي عمل يوكل إليه. حقًا لم أرَ إلى اليوم عالم دين بمهارته.
16
8
الشيخ محمود
في أحد الأيام، أجرى معه مراسل صحيفة «جمهوري إسلامي» مقابلة ومن الأسئلة التي طرحها عليه: «برأيك ما الفرق بين المدينة والجبهة؟».
أجاب الشيخ محمود على هذا السؤال بحنكة قائلًا: «يمكن مقارنة شيئين بعضهما مع بعض إذا كان بينهما قواسم مشتركة، لكن المدينة والجبهة عالمان مختلفان تمامًا ولا قواسم مشتركة بينهما، لذا لا يمكن مقارنتهما».
عندما حصلت على مأذونية وعزمت على الذهاب إلى طهران قلت له: «أعطني عنوانك يا حاج لأزورك عندما تكون في طهران». وكعادة معظم علماء الدين أعطاني عنوان حوزته العلمية. على أي حال، عندما كنت في طهران، سنحت لي الفرصة أواخر أيام مأذونيتي لزيارة الشيخ محمود. كانت مدرسته الحوزوية قريبة من مزار «حضرة عبد العظيم»، دخلت إلى المدرسة واستدلّيت على حجرته. طرقت الباب بهدوء وفتحته لدى سماعي كلمة «تفضل». وهناك رأيت الإخوة المقاتلين؛ من مسؤول الكتيبة إلى العناصر العادية؛ متحلّقين حول الشيخ كأنه جوهرة ثمينة.
كان الشيخ محمود الرقم واحد في جميع المسائل والأمور الدينيّة، والسياسيّة، والأخلاقيّة، والمرح، والقتال، والصمود، والإدارة، والاستقطاب وغيره.
مرّت الأيام منذ ذلك اللقاء، إلى أن حدّثني أحد الإخوة من كتيبة السيدة زينب (عليها السلام)، عن آخر يوم من حياة الشيخ محمود قائلًا:
- في أحد الأيام، كنا جالسين حول مائدة الغداء عندما دخل
17
9
الشيخ محمود
وباعد بيديه بين اثنين من الإخوة الجالسين مفسحًا في المجال ليجلس إلى المائدة، وقال مبتسمًا: «هل يمكنني تناول آخر غداء لي معكم؟». حقيقةً كان آخر غداء له!
ففي عمليات «بيت المقدس» انسلخ الشيخ محمود عن هذه الدنيا وحلّق نحو دار البقاء.
في أحد الأيام، ذهبت إلى «جنة الزهراء»، لأزور قبر الشيخ محمود والتقيت والده هناك. بعد أن تحدثنا قليلًا قلت له:
- حدّثني يا حاج عن الشيخ محمود.
تنهّد بحرقة وقال:
- أذكر أنني قلت له: «يا محمود! لقد أصبحت والحمد لله عالم دين، عندما أموت على الأقل اقرأ القرآن على قبري». ضحك محمود وقال: «ما بك يا حاج؟ أنت من عليه أن يحمل تابوتي».
وتابع الأب الثكل:
- من مميزات محمود أنه كلما أراد الذهاب إلى الجبهة كان يفتح القرآن ويقرأ، ثم يقول: «سأذهب وأعود»، لكن في المرة الأخيرة عندما فتح القرآن، لمعت عيناه ببريق خاص، وتمتم قائلًا: }إنا لله وإنا إليه راجعون{. لم أعِ شيئًا ذلك اليوم، لكن عندما حملوا لي نبأ عروجه أيقنت أنه كان على علم بوقت استشهاده.
18
10
روحي فداء المهدي
روحي فداء المهدي (جل الله تعالى فرجه)
كنت أجول في سوق خرمشهر، عندما وقعت عيناي على سعيد يقف خلف طاولة دكانه ويهتم بزبائنه. سعيد هذا من مدينة خرمشهر، بعد الهجوم البعثي الهمجي أرسل عائلته إلى مدينة شيراز، بينما بقي مع أخيه «صمد» وشاركا في الدفاع تحت راية الحرس الثوري.
كان أول لقاء لي به أواخر صيف عام 1984م. أي أول مرة عملتُ فيها راصد مدفعية، حينها كان هو مسؤول الرماية بالكاتيوشيا.
شارك سعيد مع أخيه في الحرب بكل شجاعة حتى آخر يوم فيها. وبعد انتهائها ترك الحرس الثوري من دون أن يطلب شيئًا لنفسه، وافتتح دكان بقالة في خرمشهر.
في إحدى المرات دلني سعيد على أطلال منزل والده الذي لم يبقَ منه سوى الركام ودعامة حديدية ملتوية. وها قد عادوا الآن ليبدأوا من نقطة الصفر.
كنت أنظر إلى ملامحه البسيطة من خلف الزجاج، عندما رفع رأسه فتلاقت نظراتنا، وبعد ثوانٍ كنّا نتعانق بحبور.
بعد أن تبادلنا الأحاديث والسؤال عن الحال والأحوال، اقترحت عليه أن نذهب في جولة بالسيارة إلى حيث كانت جبهات القتال ونستذكر الأيام الخوالي. وافق وسرعان ما انطلقنا إلى «مثلث
19
11
روحي فداء المهدي
الحسينيّة». عندما مررنا بأحد المواقع، طلب منّي سعيد التوقف، وقال:
- حجت! يا لها من أيام مرّت علينا في هذا الموقع! هنا شهدتُ التضحيات والاستشهاد. أذكر أنّ مدفعيتنا كانت مستقرّة هنا أواخر أيام عمليات «كربلاء 5». في تلك الأيام كان ضغط العمل كبيرًا وحرارة طقس خوزستان مهلكة. صار الشباب يتقيّأون دمًا لكثرة ما حملوا من صواريخ، وقد انتشر بينهم الإصابة بديسك العمود الفقري. كان التعبويّون شبّانًا وشيوخًا، السمينون والنحيلون، يرفعون صواريخ الكاتيوشيا التي تزن (60كلغ) حوالي مترين عن الأرض ويضعونها في السبطانة في ظلّ أوضاعٍ صعبة وقصف متواصل لمدفعية العدو وطائراته. حتى أنهم أثناء القصف الكيميائي كانوا يضعون الكمامات ويتابعون عملهم. منتصف تلك الليلة، كان الإخوة نائمين بعد يوم طويل من إطلاق الصواريخ استمر حتى الساعة 11:30 ليلًا. كنت مستلقيًا وحدي في دشمة الاتصالات أفكر بالمستقبل والماضي، عندما سمعتُ صوت جهاز اللاسلكي الذي لم يطُل صمته كثيرًا، فقد أعطاني قسم التنسيق الإحداثيات لإطلاق الصواريخ.
دوّنت الإحداثيات وقلت لهم: «ابقوا على السمع، سأُعلمكم متى جَهزنا». خرجتُ من الدشمة وكان الليل باردًا منعشًا ويضيء سماء «شلمشة»[1] المرصّعة بالنجوم، انفجار القنابل المضيئة لكلا الطرفين، وتُسمع أصوات انفجار القذائف بين الحين والآخر. ذهبتُ أوّلًا إلى دشمة الإخوة المسؤولين عن تلقيم الكاتيوشيا، فكانوا نيامًا وبعضهم قد دسّ رأسه تحت البطانية هربًا من
[1] - shalamcheh
20
12
روحي فداء المهدي
بعوض الجنوب المتوحّش. سرحت في تأمل وجوهم المتعبة المنهكة، وعدت إلى رشدي على صوت انفجار. لم يطاوعني قلبي لإيقاظهم فأغلقت باب الدشمة واتجهت نحو دشمة المسعفين الذين لم يكونوا أفضل حالًا من الإخوة المسؤولين عن تلقيم الكاتيوشيا. صحيح أنّ مهمتهم الإسعاف، لكنهم كانوا يساعدون في إفراغ حمولات الذخيرة والعتاد وفي تلقيم [تذخير] السلاح والصواريخ. عندها خطرت ببالي فكرة واتجهت نحو منصة الكاتيوشيا.. الحمد لله، كانت ملقّمة بالصواريخ، فأسرعت إلى دشمة مطلقي النار وحاولت إيقاظ الأقرب إلى الباب. ناديته فلم يستيقظ، انحنيت وهززته بيدي دون جدوى، ركلته بقدمي ركلات خفيفة على ظهره، لكن لا حياة لمن تنادي! عندها حملته من حزامه وجررته نحو الماء، فتحت حنفية (صنبور) الصهريج ورششت الماء على وجهه بقبضتي حتى استيقظ. ثم عدت إلى دشمة الاتصالات للعمل على مخطّط إطلاق النار وتصحيح الإحداثيات وتحديد الزوايا وإعطائها للأخ المسؤول عن الإطلاق. هناك طابقت الإحداثيات المطلوبة على طاولة التخطيط وحصلت على زاوية وجهة الهدف[1]. كانت وسيلة التواصل بيننا وبين الإخوة في منصة الإطلاق هاتف سلكي، لكن مهما اتصلت لم ألقَ جوابًا. اضطررت عندها للذهاب بنفسي إلى هناك لمعرفة ما يجري، لأتفاجأ بمسؤول الإطلاق، ولشدة التعب، نائمًا على الأرض قرب العجلة الخلفية للمنصة. أيقظته رغم شفقتي عليه وأعطيته الإحداثيات لتنظيم زاوية الإطلاق ثم قلت له: «لا
[1] - يُقال أيضًا: السمت والمرفاع؛ زاوية الاتجاه وزاوية الرمي.
21
13
روحي فداء المهدي
تعد للنوم ثانية يا «مشتي»[1]!» عدتُ بسرعة إلى الدشمة، اتصلت بقسم التنسيق وأخبرتهم أننا جاهزون للإطلاق، وبناءً على طلبهم اتصلت بمنصة الإطلاق وقلت له: «اثنان يا مهدي!» فجاء الجواب: «روحي فداء للمهدي|» وسُمع صفير صاروخَيْ كاتيوشيا يشقّان عنان السماء نحو أهداف عدوة. كنت أنتظر الأوامر التالية، عندما فُتح باب الدشمة ودخل عناصر الإشارة[2] وتوجيه المدفعية وقالوا لي: «عافاك الله يا سعيد، ها قد جئنا فاذهب أنت». ذهبت إلى المنصة ورأيت أن جميع الإخوة، بعد سماعهم صفير الصاروخين، قد استيقظوا وحضروا إلى مواقعهم، فطأطأت رأسي خجلًا من تضحيات وإيثار هؤلاء التعبويين المجهولين الذين حضروا إلى المنصة وعملوا بتواضع وصمت..».
بعد أن أنهى سعيد كلامه، تابعنا طريقنا نحو مثلث الحسينية.
[1] - مشتي مخفف مشهدي أي من زار مقام الإمام الرضا(ع) في مشهد المقدسة، تماما كما يقال حاج لمن حج بيت الله الحرام(المترجم)
[2] - أي: عاملو الاتصالات السلكية او اللاسلكية..
22
14
رمضان علي
رمضان علي
«رمضان علي»[1]، شاب نشيط سريع البديهة، شجاع لا يهاب شيئًا، وفي نفس الوقت متواضع، تمكن من جذب أنظار الجميع إليه منذ اليوم الأول لانضمامه إلى مجموعتنا. كان حسنًا في كل الأمور، حسن الخلق، حسن المعشر وحسن الإدراك وحسن الصوت أيضًا. باختصار، كان شخصية كاملة. أحيانًا، عندما يختلي بنفسه يطلق لحنجرته العنان فيطرب أسماع من حوله. لكن عندما ينتبه، ينهض من مكانه ويذهب ليجلس خلف الخيمة أو خلف الساتر الترابي ضامًّا ركبتيه إليه ويغرق بأفكاره وذاته مجدّدًا. في أحد الأيام، خرج الجميع من الخيمة ولم يبقَ فيها غيري أنا وعلي رمضان. كنّا نتبادل أطراف الحديث إلى أن قلت له:
- سمعت أنّ لديك ابنة صغيرة وجميلة.
أطرق برأسه ولم يجب، فتابعت بلجاجة:
- لا بد وأنك تحمل صورتها في محفظتك، دعني أراها.
هنا رفع رأسه بهدوء وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عذبة وقال:
- أجل لديّ ابنة وجميلة جدًّا أيضًا! لكنني لا أحمل صورتها معي
[1] - رمضان علي تقي زاده
23
15
رمضان علي
الفرصة من أيدينا.
- إذًا لا تضيّع الوقت واعطني الإحداثيات لندمره.
بعد الحصول على الإحداثيات وتقدير المسافة ومشخّصات المقرّ، اتصلنا بقسم التنسيق تمهيدًا لتنفيذ المهمّة.
نظرًا لأهميّة الهدف، طلبنا مدفعي هويترز (155ملم)، مدفعي (203ملم) وقاذفتي كاتيوشيا. بعد الاطّلاع على مشخّصات الهدف، أرسل قسم التنسيق الإحداثيات مباشرةً إلى 3 بطاريات إطلاق: ياسر، وحمزة وعمار لتنفيذ المهمة. في تلك الأثناء، كان «رمضان علي» يراقب المقرّ عبر المنظار ورأى دخول عدد آخر من سيارات الجيب إلى المكان. عندها ازددنا شوقًا وحماسةً لبدء إطلاق النار. كانت بطارية ياسر (مدفع 203) أوّل من أعلنت جهوزيّتها، فأعطى «رمضان علي» أمر إطلاق النار بنداء «الله أكبر». وانطلقت أول قذيفة 203 ملم. تصفر نحو المقرّ وسقطت على مسافة 700م منه. تشاورت مع رمضان علي وأعطينا تصحيح الإحداثيات لبطارية ياسر، فانطلقت القذيفة الثانية لتسقط على امتداده. عندها قلت لرمضان: «يجب أن تسقط القذائف وسط المقر لا في محيطه، ولو صحّحنا المسار وأضفنا 500 إلى الإحداثيات سيكون لنا ذلك، ولنعطِ الإحداثيات نفسها لبطاريتي حمزة وعمار لقصف المكان ذاته، وبعد إعطاء التصحيح النهائي نُطبق على قادة العدو ونقطع عليهم طريق الهرب».
وافق «رمضان علي» على الخطة، فأسرعت إلى جهاز اللاسلكي وقلت:
- سلمت يداك عزيزي ياسر، أضف 500 ونظم جهة وزاوية هذا الكشكول (أي المدفع) على ذلك الكشكول والله أكبر معنا، مفهوم؟
25
16
رمضان علي
- وجاء الجواب: «مفهوم، حاضر (على عيني)».
انتظرنا إعلان عمار وحمزة الجهوزية، وهذه المرة أعلن حمزة جهوزيته، فأطلق صاروخي كاتيوشيا مع كلمة «الله أكبر». وسقط أحد الصاروخين على بعد 300م والآخر على بعد 450م يمين المقر. أجرينا حساب المسافة بين الصاروخين وأعطينا إحداثيات 350 نحو اليسار. وفي الأمر التالي أنقصنا 300 من الإحداثيات لبطارية حمزة. بعد دقائق أعلن عمار جهوزيته، وبنداء «يا حسين» انطلقت القذيفة الثالثة والرابعة اللتان سقطتا خلف المقر. فأعطينا لبطارية حمزة الأمر ذاته الذي كنا قد أعطيناه لبطارية ياسر. قلت:
- عزيزي حمزة، رميتك جيدة، أحسنت، والآن سدّد على 350 لجهة اليسار ونظم الزاوية الجديدة على الاثنين، و«الله أكبر» معنا. مفهوم؟
- وجاء ردّ بطارية حمزة: «الأمر أمرك، حاضر».
وخزتني عيناي من شدة التعب فقلت لـ«رمضان علي»: «هيا أعطِ الإحداثيات لعمار». وكعادته قال بابتسامته المعهودة ووجهه البشوش: «حاضر».
حمل سمّاعة جهاز اللاسلكي بيده ووقف خلف المنظار وبعد أن أعطى التعليمات لبطارية عمار، قرأ الآية الشريفة: «وما رميت إذ رميت».. ثم أعطى الأمر بإطلاق النار. سقطت القذيفة على بعد 200م من ساتر المقر الترابي، فأعطاهم تصحيح المسار، إضافة 240 للأعلى. وطلب استخدام القذائف ذات الصمام الزمني. بعد لحظة وبنداء «الله أكبر» من «رمضان علي» انطلقت قذيفة بطارية عمار وسقطت على مسافة 30م في محيط المقرّ. قال «رمضان علي»: «حجت
26
17
رمضان علي
يا حجت! لقد خرجوا، إما أنّ اجتماعهم قد انتهى أو أنهم أدركوا أننا نقصفهم، أسرع واطلب من البطاريات مواصلة إطلاق النار».
رفعت سماعة جهاز اللاسلكي التي كانت بيد «رمضان علي» قبل قليل وأعطيت الأوامر لبطاريات ياسر وعمار وحمزة بإطلاق النار ما استطاعوا دون توقف حتى إشعار آخر. بعد أقل من 3 دقائق، انهمرت قذائف وصواريخ البطاريات الثلاث على المقرّ؛ قذائف بطارية ياسر (مدفع 203ملم) ذات الصمام التأخيري، قذائف بطارية عمار (مدفع 155ملم) ذات الصمّام الزماني، وبطارية حمزة (كاتيوشيا) بحجم إطلاق نار عادي.
في غمضة عين، انقلب الوضع في المقر رأسًا على عقب. وبإذن الله تمكنّا من إظهار جانب من قدرات مدفعية جيش الإسلام في مقابل العدو البعثي. عندها بدأت قذائف وقنابل الأعداء تنصب علينا. كنت أراقب مقرّ الأعداء بالمنظار، فسقطت قذيفة (203)، من قذائفنا، في موقف سياراتهم ما أدّى إلى احتراق عدد من السيارات وإعطاب عدد آخر. حينها يئس العناصر الذين كانوا يحاولون الوصول للسيارات والهرب وغيّروا وجهتهم. بعد لحظات، أصاب صاروخ كاتيوشيا المقرّ بالقرب من الساتر الترابي وتبع انفجاره المهيب تصاعد ألسنة اللهب في السماء. يبدو أنه أصاب صهريج البنزين.
أخبرنا البطاريات باحتراق السيارات وانفجار الصهريج، فارتفعت معنوياتهم وراحوا يعملون بجدٍّ أكبر.
مع مرور الوقت زادت دقّة قصف الأعداء علينا وقطعت أربعة من أسلاك البرج، كما انغرس عدد من الشظايا في ألواح حجرة
27
18
رمضان علي
البرج ولم تصل إلينا.
كانت القذائف ذات الصمام الزمني تنفجر في محيط المقرّ، ولم يبقَ أحد بمأمن عنها، ولم ترحم قذائف (203 ملم) ذات الصمام المضاد للإسمنت والتأخيريّة أي من دشم المقرّ فتهاوت أسقفها الواحدة تلو الأخرى. لقد زرعت صواريخ الكاتيوشيا الرعب في قلوب البعثيّين العراقيّين وباعتقادي زاد خفقانها إلى 100 في الدقيقة! عندما وجد العدو أنّ الهاون والمدفع لا يؤثر بنا، لجأ إلى الدبابة مستهدفًا حجرة برج المراقبة. لكننا أيضًا لم نوفّر أمرًا واستقدمنا بطارية مدفع (130ملم) فزدنا حجم نيراننا ورددنا على مصادر نيرانهم بقوة.
أدرك برج المراقبة المجاور لنا وضعنا الحرج وعمل على الردّ على مصادر نيران العدو ممّا خفّف من دقّة وحجم قصف «الإخوة البعثيّين الخونة» لنا!
حوالي الساعة 11 ظهرًا؛ وبعد تدمير الهدف وتضعضع قوات العدو، وبعد أن أُنهك الإخوة عند منصات الإطلاق وحلول أذان الظهر، أعطينا الأوامر بوقف إطلاق النار ونزلنا من على البرج. أثناء النزول، رأيت أنّ 6 من الأسلاك المثبّتة للبرج قد انقطعت وأصيبت أعمدته بالشظايا.
صباح اليوم التالي، عندما استطلعت مقرّ العدو، لم أرَ فيه أيّ أثر؛ لا لهوائي اللاسلكي ولا للسيارات، وانعدمت الحركة فيه تمامًا.
أذكر أنّ «رمضان علي» وُلد في أوّل أيام شهر رمضان من عام 1342هـ.ش. الموافق لعام 1964م؛ واستشهد في أول أيام شهر رمضان من عام 1365هـ.ش الموافق لعام 1984م.
28
19
أنا لست منافقًا
أنا لست منافقًا[1]
وصلنا إلى «باختران» حوالي الساعة 6 عصرًا. بعد التجوّل في المدينة، ذهبنا إلى بلدة «آناهيتا» محل تجمع فرقة «حضرة الرسول27(صلى الله عليه وآله)». هناك، وصلنا الليل بالصبح إلى جانب الإخوة في كتيبة كميل، وكانت محطّتنا التالية في بلدة الشهيد «مفتح» في مكتب مقرّ رمضان.
عند الساعة 8 من صباح 7-3-1988م، كنت أنتظر الأخ مقدّم قائد «لواء مظفر 75» في مكتب المقرّ. بعد وصوله بدقائق، ذهبت وإياه إلى غرفة التخطيط والعمليات، ورافقنا كل من «ريفندي، ايرفاني، وقرباني وكاشي زاده»، الذين جئت معهم إلى «باختران». تحلّقنا حول الخريطة وراح الحاج مقدم يشرح لنا محاور العمليات، ومحاور التسلّل ومهمتنا. تقرّر أن يتسلّل كل من «قرباني وايرفاني» عبر «مريفان دزلي» إلى منطقة العدو ويتجها نحو مدينة «خرمال» لضرب أهداف جنوب مدينة «حلبجه»، بينما أذهب أنا وكاظم كاشي
[1] - أنقل هاتين الذكريَين «أنا لست منافقًا» و«الدبّ» عن لسان اثنين من عناصر استطلاع ورصد العمليات في لواء «خاتم الأنبياء63» للمدفعية. وهما تعبويّان تزامنت أواخر أيام خدمتهما العسكرية -التي استمرّت لمدة عامين- مع عمليات «والفجر10». الذكرى الأولى أنقلها عن لسان «جواد محمدي» والذكرى الثانية عن لسان «كاظم كاشي زاده». اللذين تحدثا عن تسلل فريق الرصد إلى خلف خطوط العدو.
29
20
أنا لست منافقًا
زاده عبر «سيمان[1]-تشنار[2]» وجبل «بالامبو» نحو حلبجة لنضرب أهدافًا شمال المدينة. أما الفريق الثالث المؤلف من «شاملو والحاج ميثم» فعليهما الانطلاق برفقة الإخوة في مقر رمضان إلى منطقة العدو عبر سفح جبل «غزيلة[3]» ويتعاونا مع عناصر الأخ أفشار قائد كتيبة الإمام الصادق (عليه السلام) لمدفعية (130ملم)، في السيطرة على مرابض مدفعية العدو المتمركزة في قرية «دالامار»، ومن ثم توجيه فوّهاتها نحو خطوطهم الخلفية وقصفها.
حصل كل واحد منّا على زيّ كرديّ مع شال وقبّعته. انطلق قرباني وإيرفاني برفقة الأخ «ريفندي» نحو «مريفان»، بينما ذهبت أنا وكاظم إلى مسجد النبي الكائن في «طاق بستان» في باختران، حيث التقينا الحاج ميثم وشاملو. وهناك، تآخى كل اثنين مع بعضهما البعض. يوم الخميس 10-3-1988م انطلقنا بالحافلة برفقة الإخوة من وحدة المدفعيّة بعد إعادة تنظيمهم [توزيعهم] إلى بافة التي لم نصل إليها إلا بعد حلول الظلام، نزلنا في مسجد «أبا عبد الله (عليه السلام)» بعد الصلاة وتناول العشاء، شرح لنا قائد «لواء ظفر75» خطة عمل مقرّ رمضان، منطقة العمليات، الأهداف ومحاور التسلّل، ثم قال: «علينا الانتقام لكلّ أهلنا المظلومين الذين دمّرت صواريخ الأعداء مدنهم وبيوتهم، وأن نفرح قلب إمامنا».
وتطاير شرر الانتقام المتأجّج في صدورنا. بعد توزيع العتاد والمؤونة بين العناصر، انطلق شاملو والحاج ميثم عند الساعة
[1] - قرية في سفح جبل سرسروان.
[2] - Tchenar: قرية في سفح جبل بالامبو.
[3] - Gazeleh
30
21
أنا لست منافقًا
12 منتصف الليل برفقة وحدة المدفعية وعدد من الإخوة في مقر رمضان إلى منطقة العمليات.
في صباح يوم 12-3-1988، أيقظنا الأخ «بيات»، وهو من عناصر استطلاع العمليات في «لواء ظفر 75»، عند الساعة الرابعة فجرًا قائلًا: «هيا انهضوا لننطلق».
بعد حوالي الساعة، ركبنا سيارة استيشن إلى منطقة العمليات. وصلنا الساعة 7 صباحًا إلى قرية سيمان الواقعة على سفح جبل «سرسُرفان». ومن هناك سرنا نحو نهر «آفسيرفان» الذي يشكل جزءًا من الحدود الإيرانيّة العراقية. عبرنا جسر المشاة الذي ركّبه الإخوة في جهاد البناء نحو جبال بالامبو ودخلنا الأراضي العراقيّة حيث نزلنا في قرية «تشنار» المهجورة. بعد الصلاة وتناول الغداء، انطلق الأخ بيات مع عدد من العناصر، بينما تقرّر موعد حركتنا أنا وكاظم مع باقي العناصر عند الساعة 5 من بعد الظهر.
قبيل أذان المغرب وصلنا إلى قرية «مردين» المهجورة حيث تمركز بها عدد من الإخوة من مقر رمضان، لواء ظفر 75 ومجموعة من البشمركة الأكراد العراقيّين المتعاونين معنا، وكانوا بقيادة الأخ كمال. تابعنا سيرنا بعد الصلاة، فقطعنا جبال بالامبو وجبال «مَكر» ووصلنا إلى قرية «باموك» الواقعة على بعد عدة كيلومترات من مدينة «حلبجة». بعد استراحة قصيرة اتجهنا نزولًا نحو مدينة «حلبجة»، ووصلنا إليها الساعة 12 منتصف الليل.
كنّا قد سرنا حوالي 8 ساعات متواصلة دون استراحة، قاطعين الجبال والوديان، حاملين الجعب والأثقال إلى أن وصلنا المدينة، وذهبنا إلى المسجد الجامع لحلبجة الواقع بالقرب من أحد
31
22
أنا لست منافقًا
المصانع. توزع الإخوة إلى عدة مجموعات وتسلّلوا داخل المدينة كي يتمكنوا في آن واحد، عند بدء العمليات من تدمير الأهداف العسكرية ومواقع جيش الأعداء ومحطات المحروقات.
عند الساعة الواحدة ليلًا، بدأت المعركة في المدينة تزامنًا مع بدء العمليات. كان تبادل إطلاق النيران واضحًا فوق مرتفعات بالامبو. بعد نصف ساعة، عادت جميع الفرق إلى المسجد بعد أن تمكنت من تدمير أهدافها وقد أُصيب أحد الإخوة برصاصة في القدم لكنه نجا بمساعدة أهل المدينة. عند الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، تنفيذًا لأوامر كمال وقفنا في رتلٍ وغادرنا المدينة. في الطريق، قلت لكمال: «كان من المقرّر أن نبقى في محيط المدينة ونعمل على إعطاء الإحداثيات لمرابض مدفعيتنا». فقال: «لقد تغيّرت الخطة فالمكان غير مناسب للبقاء».
حوالي الساعة 6 صباح يوم 13-3-1988م، وصلنا إلى قرية «خَل همه» المهجورة الواقعة على مسافة 4 كلم من مدينة «خرمال».
فتحت الخريطة وحددت مكان تمركزنا عليها. أردت أن أتسلّق إحدى التلال وأعطي الإحداثيات لمدفعيتنا، لكن الأخ بيات قال لي: «المنطقة غير آمنة (ملوّثة)، انتظر حتى الساعة 11 فنذهب سويًّا في مهمة على إحدى تلك التلال».
في غضون ذلك، كانت مروحيّات وطائرات pc7 المعادية، التي تتمتّع بقدرة عالية على المناورة، تحلّق في سماء المنطقة، وأحيانًا كانت تطلق القنابل والصواريخ. لقد حلّقت فوق رؤوسنا أكثر من مرة، لكن الله شاء أن لا تكشف أمرنا.
عند الساعة 11، ذهب كاظم مع ثلاثة من الإخوة الأكراد وأحد
32
23
أنا لست منافقًا
عناصر الاستطلاع إلى إحدى التلال لإعطاء إحداثيات الأهداف المقرّرة لمرابض مدفعيتنا، لكنهم عادوا بعد مدة وجيزة. قال كاظم: «لا يمكن فعل شيء في الوقت الحاضر، سنذهب سويًّا بعد الظهر».
بعد الظهر، ذهبت أنا وكاظم مع ثلاثة عناصر من البيشمركة الأكراد إلى تلّ يسمّى تل «كوره» ويقع على بعد 2000م من قرية «خَل همه». كان تحليق المروحيات المعادية ما يزال كثيفًا في سماء المنطقة، ما أدّى إلى تقيّد حركتنا. لكننا تمكّنا من توجيه النيران ناحية ثكنة «زمقي خوارو»، والطريق المؤدية إلى حلبجة، وبحمد الله أنزلنا خسائر كبيرة في صفوف الأعداء.
قبيل الغروب، تركنا المكان واتجهنا نحو قرية «خل همه» التي وصلنا إليها بعد هبوط الظلام. كان الإخوة خلال فترة غيابنا قد ذهبوا في دوريّة وأسروا بعض الجنود العراقيّين. بعد صلاتي المغرب والعشاء أعطى الأخ كمال الأمر بالانطلاق نحو مدينة «خرمال».
سرنا دون توقف حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ومررنا خلال الطريق بنهرين غزيرَيْ المياه نسبيًّا. هناك أُعطي الأمر بالاستراحة. ولشدة ما نالني من التعب والبرد والعطش والجوع غططت بسباتٍ عميق لم أفق منه إلا بعد رحيل الرتل. كان التعب قد نال مني ومهما حاولت الاستيقاظ لم أُفلح. أثقل النوم جفني فاستسلمت له من جديد. آخر مرة استيقظت فيها كان عند انبلاج الفجر، فنهضت وصلّيت الصبح تحت شجرة قريبة منّي. ربما كان السير مسافة 40كلم مع كل هذا العتاد وجهاز اللاسلكي والجوع والتعب هو العذر لهذا النوم الثقيل. كان معي جهاز لاسلكي، قطعة سلاح وبوصلة. عندما طلع الصباح، حدّدت جهة الشرق
33
24
أنا لست منافقًا
بالبوصلة وانطلقت. بعد مدة من السير وصلت إلى حقل ألغام يليه متاريس بدت خالية. قرأت آية الكرسي وآية السدّ، ثم خطوت أول خطوة في حقل الألغام وعبرته بسلام.
مررت بالمتاريس الخاوية وتابعت سيري بهدوء، وإذ بإطلاق رصاص نحوي من الخلف. التفتّ لأرى 4 أشخاص يلحقون بي ويقولون أشياء باللغة العربيّة، فأطلقت العنان لقدمي وعدوت بأقصى ما عندي من قوة. لكنهم لم يتوقفوا عن إطلاق النار صوبي، وكي أخفّف من حمولتي رميت بجهاز اللاسلكي على الأرض وأطلقت عليه الرصاص لكي لا يقع بيد الأعداء سالمًا، ثم أطلقت النار نحو الجنود العراقيّين وتابعت الركض بأقصى سرعة إلى أن غبت عن أنظارهم.
أنهكني الجوع فأكلت بعض نباتات أرض العراق، ثم تابعت السير إلى أن وصلت إلى جبال مغطاة بالثلوج اعتقدت أنها جبال «أورامانات». بعد مسافة من المشي وصلت إلى بضع شجرات، عندها بدأ إطلاق الرصاص نحوي ثانيةً، لكن من أين؟ لم أستطع تمييز الجهة. اختبأت بين الأشجار وكان قد مرّ وقت صلاة الظهيرة، فتوسّلت بالصلاة والدعاء بالنجاة: «إلهي ساعدني!» بعد عدة دقائق أصبح الجو ضبابيًّا فحجب عنّي أبصار الأعداء. «شكرًا لك يا الله!»، واغتنمتها فرصة للهرب ناحية الجبل المغطّى بالثلوج الواقع لجهة الشرق.
كان الوقت قرابة الظهيرة عندما بدأت أتسلّق سفح الجبل. كانت قدماي تغرقان حتى الركبتين في الثلج ولا أدري ما العمل لأسدّ جوعي، رحت أتناول الثلج وأتابع سيري. حوالي الساعة الخامسة
34
25
أنا لست منافقًا
صار الثلج يغمرني حتى خاصرتي ممّا أعاق حركتي كثيرًا. بعد قليل، سمعت صوت غناء رجل قادم من جهة اليمين فظننت أنه من الأكراد المعارضين لنظام صدام. ناديته عدة مرات فانتبه لوجودي. طلبت منه المساعدة فردّ عليّ باللغة الكرديّة، لكن بعد دقائق نادوني عبر مكبّر الصوت وباللغة العربيّة: «تعال تعال». ما أن أدركت أنهم عراقيّون حتى اختبأت خلف صخرة. لم يكن بي رمق للفرار كما لم يكن الظرف مؤاتيًا لذلك. مزّقت دليل استخدام جهاز اللاسلكي وجميع وثائقي ودفنتها تحت الثلج، فالويل لي إن علموا أنّني راصد!
رويدًا رويدًا ضاقت المسافة بيني وبينهم. كانوا يقولون: «الإمام الخميني، الجمهوريّة الإسلاميّة، يا محمد يا علي يا حسين». ظننت لوهلة أنهم من المعارضين الأكراد. لكن عندما دنوا منّي ورأيت زيّهم العراقي أيقنت أنهم بعثيّون. ما إن وصلوا إليّ حتى أخذوا سلاحي وذخيرتي، ثم اقتادوني إلى قائد معسكرهم. ولأنه لم يكن معهم مترجم، لم يستطيعوا الحصول مني على أي معلومات.
بعد حوالي ساعة أرسلوني مع عدد من الحرّاس إلى مقرّ آخر، عرفت فيما بعد أنّه مقرّ اللواء. كان طعام العشاء يومها الدجاج؛ ولكي أثق بهم أعطوني عشاءً مناسبًا ليلتها. بعد تناول العشاء بدأ التحقيق. سألوني بدايةً عن اسمي ومحلّ عملي، فقلت لهم: «اسمي جواد محمدي، وأنا جندي في خدمة العلم من طهران، ثكنة ولي عصر وأعمل سائقًا».
- إذًا ماذا تفعل هنا باللباس الكردي؟
- يخدم أحد أصدقائي في دزلي- مريفان وجئت لزيارته. أخبروني أنه عليّ الذهاب إلى تلك المنطقة باللباس الكردي، لذا
35
26
أنا لست منافقًا
اشتريت هذا الزيّ من مدينة باختران وجئت ليلًا إلى هنا فأضعت الطريق، وبعد أن سرت مدة من الزمن وصلت إلى مقرّكم».
- ومن أين حصلت على السلاح؟
- من مسؤول التسليح الذي طلب منّي إرجاع السلاح بعد عودتي.
- متى جئت من طهران؟
- منذ 4 أيام.
- أين تسقط الصواريخ التي نرسلها إلى المدينة؟
- في الشارع، في المستشفى، في مشافي التوليد، في المدارس وغيرها.
- ألم تسقط في مراكز الحرس أو المراكز العسكريّة الأخرى؟
- لا لم يحدث ذلك.
- ألم تصادف في الطريق أي مقرّ أو مربض مدفعيّة أو موقع؟
- أنا أخدم في طهران ولا أعرف شيئًا من هذه الأمور وإلا لما وقعت بين أيديكم.
- كيف وصلت إلى هنا؟
- انتقلت بالحافلة من طهران إلى باختران، ومن ثم إلى بافه، ثم ركبت حافلة صغيرة «ميني باص» إلى مريفان. بعدها جئت بسيارة أجرة إلى هنا، وقالوا لي إن سألت أي شخص عن طريق دزلي فسيرشدني إليها، وكما ترون قد أضعت الطريق ووصلت إلى هنا.
كان في الغرفة صورة كبيرة لصدام، أشار المحقّق إليها ووجّه الإهانات للإمام الخميني. كنت أضع اسم صدام آخر كل جملة يقولها وأعيدها له. عندما أعطيتهم أجوبة حاسمة ورددت إليهم
36
27
أنا لست منافقًا
إهاناتهم للإمام، قالوا: «أنت لست جنديًّا، أنت إما من الحرس إما تعبوي. فالجندي لا يتفوّه بهذا الكلام». ثم قالوا فيما بينهم وباللغة العربية: هذا تعبوي يحمل معه سبحة وخاتمًا وسجدة للصلاة.
استمرّ التحقيق حتى الساعة العاشرة والنصف ليلاً. لم أكن قد صلّيت بعد، ولم يسمحوا لي بالصلاة إلا بعد إصرار ولجاجة مني. وقالوا لي: «أنهِ صلاتك بسرعة، يجب أن نذهب إلى مقرّ الفرقة».
بعد الصلاة، انطلقنا برفقة حارسين وقطعنا طريقًا جبليّة صعودًا ونزولًا إلى أن وصلنا إلى أحد المقرّات. ومن هناك ركبنا سيارة إيفا. ولم تكد تنطلق حتى استسلمت لنوم عميق أيقظوني منه عندما وصلنا إلى المقرّ. هناك، أخذوني مباشرةً إلى دشمة القيادة حيث بدأ التحقيق ثانيةً. ما اسمك؟ عضو أي مؤسسة؟ من أين أحضرت السلاح؟ ماذا تفعل هنا..
أعطيتهم إجابات الليلة الماضية نفسها. كان في مكتب قيادة الفرقة رجل كردي يجيد اللغة الفارسية بطلاقة، وممّا صعّب عليّ الأمر أكثر أنه قال لقائد الفرقة: «هذا الصبي يجيد اللغة العربية، لكنه لا يريد الإجابة».
تقدم مني القائد النحيل الجسم والقاسي القلب ثم صفعني صفعةً قوية على وجهي وقال: «لمَ لا تتحدث باللغة العربية؟».
ثم راح يمطرني بأسئلته باللغة العربية، وعندما لم يلقَ جوابًا أخذ يصفعني على وجهي حتى احمرّ، ثم لجأ إلى المترجم وسألني: إلى أين تريد الذهاب؟
- إلى دزلي عند صديقي.
- سنأخذك إلى كربلاء، أولست تعشق كربلاء؟
37
28
أنا لست منافقًا
ادّعيت السذاجة وأجبت:
- لا، نذهب أوّلًا إلى دزلي ومن ثم إلى كربلاء.
استمرّ التحقيق حتى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل دون أن يحصلوا على أي إجابة شافية. حينها قال القائد للمترجم: «هذا لن يجيب بهذه الطريقة. احبسوه واجلدوه إلى أن ينطق».
كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل عندما أوثقوا يديّ وقدميّ ووضعوني في غرفة باردة دون فراش أو بطانية.
صباح يوم 25 من شهر اسفند 15-3-1988 استيقظت على ركلات حذاء عسكري، وقد أخذتني غفوة حينها، إذ لا يمكن النوم في ذلك الجو البارد دون مدفأة أو بطانية ومع تلك القيود. فكّوا قيد يديّ وأخذوني إلى الفناء حيث أعطوني بعض الحلاوة الطحينيّة والخبز لطعام الفطور الذي تناولته تحت حراسة 4 جنود مسلّحين. بعد تناول طعام الفطور، قيّدوا يديّ مجدّدًا واقتادوني إلى الغرفة نفسها. بعد دقائق دخل أحدهم برفقة المترجم وبدأ الاستجواب مجدّدًا واستمرّ حتى الساعة 10 صباحًا. كانا يكرّران الأسئلة نفسها، وبدوري أكرّر الأجوبة ذاتها. ثم غادرا وبقيت وحدي حتى الساعة 12 ظهرًا. في تلك الأثناء حدثت حركة غريبة بين العراقيين، كانوا يركضون بهلع هنا وهناك. ظننت أنّ مقاتلينا قد توغلوا إلى هذه المنطقة لذا يحاولون الفرار ولا شكّ أنهم سيصوّبون إليّ رصاصة الخلاص.
كنت مستغرقًا بهذه الأفكار عندما فتح الباب ودخل إلى الغرفة آخر شخص استجوبني. فتّش جيوبي ولفت نظره الخاتم في إصبعي. حاول جاهدًا نزعه لكنه لم يفلح، إذ إنّ الخاتم قد التصق بإصبعي المتورم من شدة البرد. لم يهتم بألمي وصراخي ولما يأس من نزعه
38
29
أنا لست منافقًا
تركني وخرج من الغرفة.
عند الساعة الواحدة من بعد الظهر، فتح الباب ودخل مسلّحان، أنهضاني عن الأرض وأخرجاني من الغرفة ثم ركبنا سيارة آيفا مع عدد من العناصر وانطلقنا. في الطريق عصبوا عينيّ بمنديل وكانت سيارة الآيفا تتوقف كل هُنيّة ثم تتابع سيرها ببطء شديد.
عند المغيب، شدّ انتباهي أنين الجالس بقربي. استعنت بالقضبان الحديديّة لسيارة الآيفا وأزحت المنديل عن عيني، فرأيت شابًا إيرانيًّا أسيرًا قد أُصيب في يده، وكان يطلب الماء باستمرار لكن العراقيّين لا يعيرونه أي اهتمام.
حلّ الظلام فصلّيت صلاتي المغرب والعشاء وأنا مقيّد في السيارة. بعد فترة قصيرة وبسبب التعب والجوع والعطش غلبني النعاس واستسلمت للنوم. كان البرد قارسًا، لذا كنت أستيقظ كل حين وأعود للنوم. عند الفجر صلّيت صلاة الصبح في السيارة أيضًا، وما إن أشرق الصباح، رأيت صفًّا من سيارات الجيب والتويوتا وسيارات الآيفا تسير خلف سيارتنا. بقينا حتى الساعة 12 من منتصف ليل 16-3-1988 نسير في رتل السيارات إلى أن وصلنا إلى أحد المقرّات. ترجلنا من السيارات وتابع الرتل سيره مشيًا على الأقدام وكنت أنا حافي القدمين. كانت الأرض مليئة بالأشواك والحجارة والطين والأسلاك الشائكة، وكنتُ أمشي بصعوبة كبيرة.
عند الصباح وصلنا إلى خط القوات العراقية. عندما رآنا الجنود العراقيون بدأوا بإطلاق النار نحونا إلى أن انتبهوا إلى أنّ الرتل من جنودهم. تابع الرتل سيره وخلال الطريق كانت القذائف المدفعيّة تنفجر على مسافة 700 أو 800م من مكاننا. كان العراقيّون
39
30
أنا لست منافقًا
ينبطحون أرضًا مع كل انفجار ويتعجّبون لعدم اكتراثنا أنا والأسير الإيراني الثاني للأمر.
بعد أن قطعنا عددًا من التلال الصغيرة، وصلنا إلى سهل مستوٍ. كانت مدينة حلبجة عن يساري، ومدينة «دوجيله» وثكنة «زمقي خوارو» عن يميني. في الطريق صادفنا سيارة جيب عراقيّة قد قُتل جميع ركابها بالرصاص، وعلى بعد خطوات منها رأيت متاريس مدمّرة قد تساقطت جثث الجنود العراقيّين من حولها.
أشار الوضع إلى وقوع معارك في تلك المنطقة، وكان أمامنا تلّ علينا عبوره. لكن ما إن وصلنا إليه حتى فرّ جميع الجنود العراقيّين بمن فيهم حراسنا. عندما وصلت أعلى التل رأيت عناصر مسلّحة ترتدي معاطف المطر وتتجه نحونا.
كانت قواتنا قد حرّرت هذه المنطقة منذ وقت طويل، لكن هؤلاء الجنود البعثيون تعيسي الحظّ لم يكونوا يعلمون أنهم حوصروا من قبل قوات جيش الإسلام. تنفست الصعداء لولادتي الجديدة. لكنّ معاناتي بدأت من جديد مع وصول عناصرنا: لمَ أرتدي الزيّ الكردي؟ ولمَ لا أحمل أي وثائق تدلّ على أنني راصد متسلّل؟
حدّثتهم بما جرى معي، لكنهم لم يعيروا كلامي أيّ اهتمام. أوثقوا قيد يدي وقالوا لي: «أنت كاذب حتمًا. أنت من المنافقين لذلك تجيد اللغة الفارسيّة، وعلاوةً على ذلك ترتدي اللباس الكردي!»
يا لهذه الورطة! سرت مع الأسرى العراقيّين مقيّد اليدين فيما هم لم يكونوا كذلك. بعد مدة وصلنا إلى ساتر ترابي يقع خلفه مربض مدفعية (130ملم) تابعة لفرقة الإمام الحسين (عليه السلام)، وقائده يُدعى «مرتضى جمشيديان». توقفنا مدة قصيرة هناك،
40
31
أنا لست منافقًا
فاستغليت الفرصة وأخبرته بما جرى معي، فقال لي: «سيأخذونك مع الأسرى العراقيّين إلى مقرّ الفرقة وهناك يُحدّد مصيرك».
وصلنا إلى مقر الفرقة حيث أخذوني إلى الأخ زاهدي وبعد الاتصال بالمقر التكتيكي للواء 63، تأكّدوا أنني راصد تابع للواء «خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله)63»، ففكّوا وثاقي.
أعطوني ملابس جديدة، وسلاحًا وسيارة. وصلت ليلة 27 اسفند (17-3-1988) إلى الخطوط الخلفيّة لوحدتنا حيث انشغلت بقصّ ما جرى لي للأخوة .
41
32
الدب
الدب[1]
أكثر من 30 ساعة ونحن نزحف في الجبال والوديان، فقد كُلّف فريقنا بالتسلّل إلى الخطوط الخلفيّة للجيش العراقي، ومن ثم إعطاء إحداثيات عن مواقعه لمرابض مدفعيتنا في مقر «رمضان» تمهيدًا لدكّها. توقفنا قليلًا للاستراحة، لكن لشدة التعب والحرّ والجوع، غفوت ولم أستيقظ إلا عند الساعة الثانية والنصف لأجدني وحيدًا في ظلام تلك الجبال الدامس. بحثتُ هنا وهناك عن الرتل لكن دون جدوى وكأنّ الأرض قد انشقت وابتلعتهم. اخترت جهةً وسرت. بعد مدة، وصلت إلى مفترق طرق فاخترت جهة اليمين وتابعت سيري. عندما وصلت إلى أحد الجبال، اخترت الشق الأنسب وبدأت التسلّق. عند الساعة الرابعة صباحًا، لفت سمعي صوت خرير المياه الذي أضفى أجواء خاصة على تلك الطبيعة الجبليّة. ذهبت ناحية الصوت، فوصلت إلى ساقية ماء ضيّقة. كنت أشرب الماء عندما سمعت صوت خشخشة. رفعت رأسي لأرى شبحين أبيضين على مسافة 20م مني. تسمّرت في مكاني وقلت في نفسي: «من المؤكد أنني أتوهم بسبب التعب والجوع».
فركت عينيّ وحملقت، فرأيت الشبحين نفسهما. رششت الماء على وجهي. أجل، لست واهمًا، إنهما دبّان كبيران أبيضا اللون
[1]- رواية كاظم كاشى زاده.
43
33
الدب
يحملقان بي. لا أدري لمَ لم يهاجماني، إنها مشيئة الله حتمًا.
بهدوء ودون أي جلبة، سرت القهقرى. وما إن ابتعدتُ عنهما مسافة كافية حتى أدبرتُ مسرعًا ولذت بالفرار.
بسبب ملابسي المبلّلة بأمطار الليل، وهواء الجبال البارد، انخفضت درجة حرارة جسمي إلى حدّ التجمّد. عندما كنت أركض فرارًا من الدبّين، لمحت بطانية كبيرة بنّية اللون ملقاة على الأرض. سُررت لأني سأتمكن من تدفئة جسمي بها، لكن ما أن رفعتها عن الأرض حتى تجمدت في مكاني؛ كان تحتها أربع جثث مكوّمة! رميت البطانية وأدبرت مسرعًا مجدّدًا. لقد رأيت الكثير من جثث الموتى، ولم يكن بالأمر المستهجن، لكن رؤيتي لها تلك الليلة وفي تلك الجبال المغطّاة بالثلوج، وبعد لقائي بالدبّين، كان له وقعٌ آخر.
بعد أن ابتعدتُ عن الجثث، جلست تحت شجرة ألتقطُ أنفاسي، ثم صلّيت صلاة الصبح. قبيل الشروق، نمت حوالي الساعة لأستيقظ مع انبلاج الضوء. استطعت رؤية موقع على بعد 500 م عن يساري، وآخر على نفس المسافة عن يميني.
قلت في نفسي: «تمكّنت أخيرًا من الوصول إلى موقع قواتنا، ثم بدأت بالصراخ. لكن أحدًا لم يسمع ندائي. عجزت عن قطع هذه المسافة من شدة التعب. بعد نصف ساعة، رأيت أحد الإخوة من موقع جهة اليمين يتّجه نحوي، فتنفست الصعداء، لقد انتهت معاناتي في لحظة، فتملّكني شعور لطيف. كدت أرقص فرحًا، إلى أن وصل إلى مسافة 15م من مكاني. أمعنت النظر فصُعقت: كان جنديًّا عراقيًّا يرتدي زيّ المغاوير. كان يقترب منّي شيئًا فشيئًا، دون أن يلحظ وجودي. لا سلاح معي ولا قدرة لي على العراك معه
44
34
الدب
أو حتى الهروب منه، بقيت في مكاني أنتظر مصيري وقدري».
كنت أجيد اللغة العربية قليلًا. ما إن وصل الجندي إلى مسافة عدة أمتار حتى نهضت من مكاني وقلت له بالعربية: «سلام، لا تخف، تعال إلى هنا، لن أؤذيك».
ما أن رآني حتى شحب لونه. ربما بسبب اللباس الكردي! المسكين لم يدرِ كيف يدبر بالفرار. كان يركض بأقصى سرعة ويصرخ طالبًا المساعدة. صبرت قليلًا كي يبتعد عنّي مسافةً، فلا يمكنه عندها تحديد وجهتي، ثم بدأت الركض بأقصى سرعتي إلى أن وصلت إلى منحدر حادّ. نزلت المنحدر إلى أن وصلت إلى صخرة يمكن الاختباء تحتها. بعد 20 دقيقة، سمعت جلبة بالقرب مني وأصوات تدعو باللغة العربية: «أين أنت؟ استسلم!». كانوا يمشّطون المكان بالرصاص، في حين كنت أقرأ آية الكرسي وآية السدّ. فجأةً، سمعت صوت خشخشة وصوت أقدام تقترب منّي شيئًا فشيئًا. مرّ بالصخرة التي أختبئ تحتها جنديّان عراقيّان وتابعا طريقهما نزولًا. كان يكفي أن يلتفتا للخلف حتى يرياني. حبست أنفاسي في صدري، ورحت أنزع الأعشاب القريبة منّي وأغطّي بها ما بان من قدمي. وصل الجنديّان أسفل المنحدر فاتجه أحدهم لليسار والآخر لليمين. مرّت عليّ لحظات مهولة. بعد ساعة، ولشدّة التعب والجوع غفوت تحت تلك الصخرة لأستيقظ عند الساعة 12 ظهرًا. بعد أن تأكدت من خلوّ المكان، خرجت من تحت الصخرة وتابعت سيري. وصلت أسفل المنحدر ووجدت عددًا من معلبات الفاكهة والطعام الفارغة. كما وجدت علبة «طون» فيها قطعة لحم وقد امتلأت بمياه الأمطار، فحملتها وشربتها. وكأنما شربت الأسيد! فقد كانت العلبة
45
35
الدب
صدئة كريهة الطعم، لكن لم يكن باليد حيلة!
تابعتُ طريقي رغم التعب. لكن عند الساعة الثانية بعد الظهر، لم أعد أحتمل الجوع والعطش. وصلتُ إلى نبع ماء صغير مياهه موحلة. وضعت فمي تحت سطح الماء وشربت إلى أن رويت عطشي. لم يعد بي رمق لمتابعة الطريق. كان على يميني صخرة كبيرة، فارتميت خلفها واستسلمت لنوم عميق. استيقظت بعد ساعة ونصف وكنت ما أزال بين النوم واليقظة عندما لفت نظري روث بغل بالقرب من الصخرة. لمسته بيدي، فإذا به لا يزال طريًّا. ورأيت أثر أقدام البغل وإلى جانبه أثر ثلاث نجمات لحذاء عسكري عراقي، فتجمّد الدم في عروقي، لقد شملتني العناية الإلهية هذه المرة أيضًا. فقد مرّ أثناء نومي بغل وجنديّ عراقي كان يسير للجهة الأخرى من البغل، ولو كان يسير من هذه الجهة لرآني حتمًا. تحاملت على نفسي وتابعت الطريق. كانت الساعة السادسة بعد الظهر عندما وقع نظري على عدة أشخاص يرصدون المنطقة بالمنظار، راقبتهم بالمنظار الذي كان بحوزتي.
يوحي ظاهرهم أنهم إيرانيون، رغم ذلك اتخذت جانب الحيطة والحذر. اتجهت نحوهم من الخلف بهدوء، واختبأت خلف شجرة قريبًا منهم. وأنا كذلك، مرّ بالقرب من الشجرة اثنان منهم فأيقنت أنهم إيرانيّون. عندها خرجت من مخبئي، لكن غارت عيناي ولم أستطع سوى قول كلمة: «سلام» ثم فقدت وعي. بعدما أفقت وجدتُني أتأرجح على أكتاف ثلاثة عناصر يحملونني إلى دشمة الطوارئ.
46
36
أمر النار بيدك
أمر النار بيدك
20-8-1362 هـ.ش/11-10-1983
كأنما الشمس خجلت من أن تشرق على جبال «مرايفان» الشامخة، وقد تعطّرت الأجواء في الدشمة ومحيطها بنداء «يا أبا عبد الله».
هذا أسند وجهه إلى أديم الدشمة، وذاك واقف يتكئ إلى جدارها مطأطئ الرأس، وثالث جالس على سجادة الصلاة ورابع في زاوية الدشمة جلس ضامًّا إحدى ركبتيه إليه. وأنا أنظر منبهرًا مندهشًا لكل هذا العشق والروحانيّة. كان نداء «يا أبا عبد الله» ما زال يفوح في الأرجاء عندما خرجتُ لأمر وذهبت إلى الدشمة المجاورة. فجأةً، سمعت صفير قذيفة هاون تبعها انفجار مهيب جرّنا جميعًا نحو الدشمة المدمّرة. هنا، تحول النداء إلى استغاثات: «يا زهراء»، «يا حسين»، «يا صاحب الزمان» وتلاها صمتٌ كئيب.
عندما دخلت الدشمة، كان الدم والتراب الممزوج برائحة البارود قد ملأ المكان. هنا عزيزٌ قُطعت كفّاه كسيّده العباس(عليه السلام)، وهناك سيّد حُطّم صدره كأمّه الزهراء(عليها السلام)، وفي جهة عزيز خُضّب رأسه بالدماء كمولاه أمير المؤمنين(عليه السلام) وفي جهة أخرى عاشقٌ قد فُصل رأسه عن جسده كسيّده الحسين(عليه السلام).
47
37
أمر النار بيدك
أجل لقد استشهدوا جميعًا!
كان فجر ذلك اليوم شاحبًا وبدت الأرض الثكلى كأنها أهالت التراب فوق رأسها، كان كل شيء من حولي قد ارتدى لون الحزن، حتى سيارات «التويوتا»، ليس حزنًا على هؤلاء الشهداء، إنما لعدم فتح الطريق إلى كربلاء.
21-12-1363هـ.ش/ 12-3-1985
مع نشرة أخبار الساعة 23:00، جرى تبديل نوبة الحراسة. كان الجو منعشًا تلك الليلة ونجوم السماء بدت أكثر لمعانًا. ربما تسأل لمَ كنت مستيقظًا حتى تلك الساعة؟ حسنًا أيها الأخ العزيز! لاستيقاظي سبب وجيه. كانت تلك الليلة الكبرى، فبعد حوالي 7 أشهر من توقف العمليات، استُدعيت الليلة الماضية من أجل تحميل ذخائر الكاتيوشيا. كما تناقل بعض الإخوة الحديث عن بدء العمليات!
أشارت عقارب الساعة إلى العاشرة صباحًا عندما حضر عنصران من وحدتنا وحدّثانا عن عمليات الليلة الماضية. تضاربت مشاعري بين الفرح لبدء العمليات والحزن لعدم مشاركتي فيها.
عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، كانوا ينقلون القوات بواسطة الشاحنات إلى الخطوط الأماميّة دون توقف. بدا لي أنهم من فرقة «حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله) 27». كنت ألوّح لهم بيدي عندما أعلنوا عبر مكبّرات الصوت عن صلاة المغرب جماعةً في الحسينيّة، يليها دعاء التوسّل وطلب النصر لقواتنا. مرّ الوقت كيفما كان وحلّ الغروب، وما إن رُفع أذان المغرب حتى ذهبنا لصلاة الجماعة. بعد الصلاة قالوا إنّ دعاء التوسّل سيُقام عند الساعة الثامنة. عدت إلى خيمتنا
48
38
أمر النار بيدك
مجدّدًا والغم يُثقل كاهلي. مدّ الإخوة مائدة العشاء وكان الطعام أرزًّا مع البندورة. بعد تناول الطعام، ذهبت مع أحد الإخوة إلى الحسينيّة حيث أُخبرنا أنّ مراسم الدعاء قد أُلغيت وأنّ قواتنا ذاهبة لنقل العتاد إلى منطقة العمليات عبر مثلث «آبادان». فقلت في نفسي: «سأذهب بالحافلة الصغيرة إلى الخطوط الأماميّة». لكن تراءى لي وجه الحاج «ضعيري»، وهو أخ طيب وقائد وحدتنا، وهو يقول لي: «سلمت يداك يا إيرفاني! حتى أنت؟». فقلت في نفسي ثانيةً: «وما أدراك؟ لربما جاء الحاج غدًا بسيارته واصطحبك معه إلى الخط الأمامي». لذا انصرفت عن الفكرة الأولى وعدت إلى الخيمة. لكن ما إن دخلتها حتى انتابني الحزن ثانية، وقلت في نفسي: «لا يصحّ هذا».
حملت مسجّل الصوت مع بطانية كانت قرب الباب وخرجت إلى الفلاة. بسطت البطانية وشغّلت مسجل الصوت وكان فيها شريط تسجيل (كاسيت) لمحسن يرثي فيه السيدة فاطمة (عليه السلام). يا للصدفة! لقد كان رمز عمليات الليلة الماضية «يا زهراء». استمعت إلى التسجيل وشعرت ببعض الارتياح. كنت أطلب السكينة، لكن صور وجوه الرفاق الذين استشهدوا في العمليات مرت أمام ناظري، صوَر وجهي والدين عجوزين منهكين قدّما ابنهما الوحيد لحفظ الثورة، صورة صديقي العزيز الذي كنت أسير معه إلى المدرسة، والأكثر ألمًا من ذلك، عندما تمثّلت لي صور الرفاق في الفرقة وهم يتعرّضون لقصف الأعداء الضاري، لكنهم صامدون خلف الساتر الترابي لا يتزحزحون قيد أُنملة، وفي كل لحظة يحطّم أحدهم قفص الجسد ويحلّق عاليًا للقاء الحبيب. آه لو تدري كيف كانت حالي!
49
39
أمر النار بيدك
على أي حال، بعد فترة من تصفية الذهن، أطفأت مسجل الصوت وحملته مع البطانية إلى الخيمة التي افتقدتْ وجوه بعض الإخوة، ولا أدري أي زاوية من هذه الفلاة قد عطّروها ببوح مناجاتهم. أما من بقي في الخيمة منهم، فقد غطّى رأسه بالبطانية واستسلم للنوم، والعجب كيف استطاعوا النوم في مثل هذه الليلة!
من يدري؟ ربما كانوا يناجون ربهم تحت هذه البطانيات!
كانت الساعة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل، وقد ملأ الأرجاء صوت كاتيوشيا قواتنا. ترى ما الذي سيحصل صباح الغد؟ أرجو أن يأتي الحاج ليصحبني معه.
24-12-1363هـ.ش/14-3-1985م
كاد صبري أن ينفد، عندما دخل يوسف فجأة إلى الدشمة ضاحكًا مستبشرًا، وقال فرحًا: «لقد انتهى الأمر وحان الوقت! هيا انهض فقد جاء الحاج ليصطحبنا» لم أصدق ما سمعته أذناي، فجأة! ألفيت الحاج ضعيري واقفًا في الباب يقول: «سلام أخ إيرفاني، هيا استعد للذهاب إلى الخط الأمامي».
كانت قد مرّت بضعة أيام على بدء العمليات، لكنها مرت عليّ ثقيلة وكأنها عدة شهور.
حملتُ حقيبة الظهر بيد والحذاء العسكري باليد الأخرى، ثم قفزت خلف شاحنة التويوتا الصغيرة. تبعني يوسف مباشرة وانطلق الحاج بنا. كانت الساعة قرابة الحادية عشرة عندما وصلنا إلى مركز تنسيق[1] الجزيرة. ما إن أكملنا الإجراءات اللازمة
[1] - مركز التنسيق بين الراصد ومربض المدفعية، ويستقرّ في مقرّ المدفعيّة التكتيكي.
50
40
أمر النار بيدك
تمهيدًا لانتقالنا إلى الخط الأمامي، حتى ارتفع صوت أذان الظهر من مكبرات وحدة الإعلام. بعد صلاة الجماعة بإمامة الحاج رضا معاون اللواء، تناولنا طعام الغداء ومن ثم الشاي. خرجت من الدشمة للتنزه، فتفاجأت بالحاج رضا يغسل أطباق الطعام. في تلك الأثناء خرج السيد محمود من الدشمة، فأشرت بيدي ناحية الحاج وقلت: «انظر يا سيد!».
فتبسّم السيد محمود وقال: «اليوم دور الحاج ليكون عامل النظافة ولا يقبل أن يعطي دوره لأحد». قرابة الساعة الثانية من بعد الظهر، انطلقتُ مع يوسف والحاج إلى الخط الأمامي. بعد أن قطعنا كيلومترات عدة في طريق ترابيّة، وصلنا إلى «جسر الخندق» المؤدي إلى جادة الخندق التي حرّرناها في العمليات الأخيرة. وبعد حوالي 13 كلم وصلنا إلى الجادة وتوغّلنا فيها عدة كيلومترات إلى أن وصلنا إلى موقع عسكري مائي[1]، انتصب على جهته اليمنى تلّ للراصد. ترجّلت من السيارة وذهبت ناحية المرصد. أعطانا الراصدان السابقان جميع التقارير والإحداثيات حول المنطقة ثم رافقا الحاج إلى خطوطنا الخلفيّة. عند الساعة الرابعة عصرًا، شمل القصف المعادي كل جادة الخندق، ولشدته اعتقدت أنه قصف تمهيدي لهجوم ما. استطلعت الأمر في خطّنا وفي خط العدو بسرعة، لكن لم أجد ما يريب فأخبرني أحد الإخوة في لواء الغدير أنّ القصف هو وجبتنا اليوميّة.
رصدت المنطقة بحثًا عن مصادر نيران العدو، وبعد أن حدّدتها، أعطيتُ الإحداثيات لمركز التنسيق ومن ثم انصبّت نيران مدفعيتنا
[1] - موقع عسكري مقام فوق المسطحات المائية.
51
41
أمر النار بيدك
بأقصى قدرتها على المكان لكن من دون جدوى. فجأة وقع نظري على هوائي مقرّ الأعداء، فوجّهت نيران مدفعيّتنا نحوه. وبعد مدة من قصف مقرّ الأعداء، تمكّنا من إسكات مصادر نيرانهم. وقد أخبروني في نقطة التنصّت القريبة منّي، أنهم رصدوا اتصالات من مقرّ الأعداء الذي قصفناه يأمرون بوقف إطلاق النار. أدركنا حينها أنّ قصفنا للمقرّ كان مؤثّرًا. لكن لا أراكم الله سوءًا، فجأةً ظهرت 4 مروحيات عسكريّة فوق الموقع العراقي. بدايةً لم ندرك ما يجري. لكن بعد إطلاق صاروخين نحونا، أدركنا أنّ قصفنا للمقر كان مؤلمًا جدًّا. على أي حال، مرّ الصاروخان عن يمين ويسار نقطة الرصد، واهتزّت الأرض تحتنا. بدأت مضادّاتنا الأرضيّة من عيار (155ملم) التعامل معها مباشرةً، ورصدت مرور طلقات مضادّة تحت المروحيّة، لذا طلبت رفع زاوية الإطلاق واستخدام قذائف زمنيّة، وبدأت معركة بين المروحيات وبين مضاداتنا. في تلك الأثناء، سقط أكثر من صاروخ أرضي وجوّي بالقرب من تلّ الرصد دون وقوع أضرار، لم يكن يوجد في جادة الخندق غير نقطة الرصد هذه، والعدو يعلم بالطبع أنها هي من تعطي الإحداثيات لمرابض مدفعيتنا. استمرت المعركة بيننا وبين المروحيّات إلى أن انفجرت قذيفة زمنيّة قرب إحداها، فتأرجحت طويلًا في الجو قبل أن تُجبَر مع صاحباتها على الانسحاب إلى عمق الأراضي العراقيّة وغابت عن الأنظار. ومع انتهاء المعركة صدح صوت أذان المغرب في أرجاء خط جيش الإسلام.
20-12-1364هـ.ش/ 11-3-1986
تسلّلت أشعّة الشمس لتحلّ رويدًا رويدًا محل العتمة. وبعد انتهاء
52
42
أمر النار بيدك
صلاة الصبح عمّت الأرجاء أصوات زمزمات قراءة زيارة عاشوراء لبواسل هجروا الأحبّة والديار وركبوا الحِمام عشقًا لذلك الحرم. بعد هنيهة انضممتُ لصفوف هؤلاء الأخيار، لكنني وقفتُ عاجزًا عن وصف الأجواء التي سادت آنذاك. يجب أن تكون حاضرًا لتلمسها، فهي ليست من الأمور التي يمكن للقلم أن يخطّها.
بعد زيارة عاشوراء، جلسنا جميعنا إلى مائدة طعام الفطور، وقد جلس الأخ رضا بقربي وهو من استطلاع لواء الغدير. خلال تبادل الأحاديث قال الأخ رضا: «أخ حجت، هل لفت نظرك الجسر العائم الذي وضعه العراقيون شمال عوائق السيل؟». كنت قد جئت إلى الخط حديثًا فنفيت علمي بالأمر وتقرر أن نستطلع مكان الجسر؛ أنا والأخ رضا من خلال متاريس الكمائن المتقدمة لقواتنا.
حوالي الساعة الخامسة من بعد الظهر، لفت سمعي صوت الأخ رضا واقفًا بباب الدشمة يقول: «الرؤية جيدة الآن، أتودّ الذهاب ناحية متاريس الكمائن؟» تأملت قليلًا ثم انطلقت معه.
كانت المنطقة هادئة ولا يعكّر صفوها سوى انفجار بعض القذائف، وعلى بعد حوالي 500م، لفتني وجود متراس يفوح منه عطر الجنة. كان يجلس فيه رجل عجوز كحبيب بن مظاهر ومعه 3 تعبويين شبّان كالقاسم بن الحسن (عليه السلام)، وأمام كل واحد منهم قرآن على رحله وقد انشغلوا بتلاوته. غبطتهم على ما هم فيه للحظة وقلت في نفسي: «يا لسعادتهم!».
وصلنا إلى الخط، وبالتنسيق مع مسؤول المحور، دخلنا إلى منطقة الكمائن الكائنة لجهة الشمال وانشغلنا بالاستطلاع. فجأةً بدأ القصف الشديد على خطّنا. الحمد لله، كنتُ أحمل معي دفتر
53
43
أمر النار بيدك
رموز جهاز اللاسلكي، استعرتُ جهاز أحد الإخوة. نظّمته على موجتنا واتصلت بمركز التنسيق، ثم أعطيتهم الإحداثيات تمهيدًا لقصف خطوط الأعداء؛ وهكذا بدأنا بقصف الخط الأول والثاني. فجأةً تصاعد اللهب بين ساتري العدو الترابيين، تبعها انفجارات متفرقة.
يبدو أنّ مخزن الذخيرة قد انفجر جرّاء قصفنا المدفعي. استمرّت الانفجارات حوالي 45 دقيقة، وسكتَ قصفهم معها. عندها أعطينا الأوامر لمرابضنا بوقف إطلاق النار أيضًا. وأشارت سيارات الإسعاف التي هرعت إلى خط العدو الأول والثاني، إلى خسائرهم الفادحة.
كانت الشمس قد مالت للمغيب عندما قفلنا عائدين إلى خطوطنا الخلفيّة. في الطريق، التقيت بأخوة منتشرين هنا وهناك والوجوم بادٍ على محيّاهم. سرت عدة خطوات فرأيت جثث أربعة شهداء مغطّاة بقماش أبيض وعلى مسافة قصيرة منهم متراسٌ دمرته قذيفة هاون. أمعنت النظر فرأيت أكثر من حامل [رحل] قرآن مغطًّى بالدماء والتراب. تسمّرت مكاني ثم التفتّ ثانية نحو الشهداء الأربعة وقلت دون إرادة مني: «يا لسعادتهم».
18/11/1365-هـ.ش 7/2/1987
كيف يمكن أن أصدق ذلك! على أي حال، أخذت قراري وأنا بكامل قواي العقليّة. تمكنت بعد جهد جهيد من قرع الجرس الذي يشبه صوت تغريد البلبل. بعد دقيقة، فتحت سيدة كبيرة في السنّ الباب. كانت عيناها تشعّان نورًا. تنفست الصعداء عندما رأتني وقالت: «تفضل».
54
44
أمر النار بيدك
حقيقةً لا أدري من أين أبدأ. بصعوبة وبشكل مختصر سألتها عن أحوالها وقلت: «ما أخبار حيدر؟». فجأةً انقلب حالها وحملقت في عينيّ، فأُجبرت على طأطأة رأسي. قالت: «أنت من يجب أن تحمل لي أخبار حيدر لا أن تسألني عنه!». بعد لحظات من الصمت أضافت: «أعلم أنّ حيدر لم يعد موجودًا، فلمَ لا تخبرني الحقيقة؟ علمت ذلك منذ آخر مرة غادرنا فيها! لقد حضن أباه وبكى بصمت. ثم طلب منه ومني المسامحة وقال لي: «أدعي لي يا أماه ليغفر الله لي ذنوبي». فقلت له: «ما زلت صغيرًا يا بني، وأنت منذ العاشرة من عمرك مؤذّن المسجد. كما أنك بلغت سن التكليف منذ 3 سنوات فقط، وقد صُمت أضعاف هذه المدة، كما تواظب على صوم يومي الإثنين والخميس، فأي ذنب ارتكبته ليغفره الله لك؟». تلك المرة حضن أخته الصغرى وأثناء مغادرته التفت نحونا مرارًا وهو يتمتم كلامًا لم نفهمه».
كنت أقف مدهوشًا متحيّرًا لكلام هذه الأم، يبدو أنها لم تعد قادرة على الوقوف فاتكأت على الباب، ثم تابعت بصوت مرتجف: «عندما أخبروني أنّ حيدر مفقود الأثر، توسّلت بالأئمة R وفي الليل وجدت قميصه القديم فلففت به القرآن ووضعته على كوّة الجدار. كنت مذهولة أفكر بحيدر عندما غلبني النعاس، ورأيت في الحلم أنني أحمل وعاءً زجاجي فيه سمكة حمراء والمياه تغمره إلى نصفه فقط. فأمسكت السمكة بيدي وأخرجتها من الوعاء ورحت أحدّق إلى جمالها. فجأةً! سقطت السمكة من يدي على الأرض ومهما بحثت عنها لم أجدها. عندها فزعتُ من نومي وقلت دون إرادة مني: }إنا لله وإنا إليه راجعون{. وأيقنت حينها أنّ حيدر غادرنا».
55
45
أمر النار بيدك
بلّل العرق رأسي ووجهي وطأطأت رأسي مجبرًا. لربما لم أعد أقوى على النظر إلى تلك العينين الثاقبتين. عندما وجدتُ أنها لم تعد تطيق صبرًا قلت لها: «كانت رؤياك صادقة يا أماه. لقد كان حيدر ضمن كتيبة التخريب في «فرقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) 27». وليلة العمليات بسبب شجاعته وسرعة عمله وتضحياته في الكتيبة، عمل في خط الاقتحام. في الليلة الثالثة للعمليات، وبعد أن خاض معارك بطولية وعبر قناة الأسماك، استشهد إثر إصابته بشظية في رأسه. بقي جثمانه الطاهر هناك بسبب هجوم دبابات الأعداء وبقيت ذكراه الطيبة في قلوبنا». رمقتُ وجه الأم الثكلى بنظرة وقد خيم الصمت علينا مدة إلى أن قالت: «أعلم أن حيدر لن يعود، لكن أقسم عليكم أن تحضروا لي جثمانه»، ولأنها لم تلق جوابًا سوى الصمت قالت راجية: «سأرضى بيد أو قدم فحسب»، لكنها لم تلق أيضًا غير الصمت وطأطأة الرأس. فقالت يائسة: «حتى إصبع واحد منه يكفيني، ليكون له مزارًا ألجأ إليه وأبثه شجوني». وبما أنها لم تلق ما يؤملها تمتمت قائلة: «الشكر لك يا الله».
30/11/1365-هـ.ش 19/2/1987
كنت نائمًا واستيقظت على ربت خفيف من الحاج قاسم الذي قال لي: «هيا انهض، حان وقت العمل». على الرغم من تعب الليلة السابقة إلا أنني جهزت نفسي للقيام بالمهمة. بعد أن انتهينا من مائدة طعام الفطور، ذهبنا بناءً على طلب الحاج قاسم إلى مائدة الرصد[1]. قلت: «هل يمكنك أن تخبرني أين يجب أن ننقضّ على الإخوة العملاء؟».
[1] - مائدة الراصد: الخريطة والمخطّط.
56
46
أمر النار بيدك
بعد صمت قصير قال الحاج وهو يشير إلى نقطة على الخريطة: «هنا، خط الفرقة العاشرة، حيث استقدم العدو حديثًا عددًا من الدبابات وازداد الضغط على الإخوة في الخط الأمامي. وإذا قرّر العدو القيام بحركة ما فستكون من هذه النقطة، لذا عليك بالإضافة إلى إعطاء الإحداثيات أن تريحنا من شرّ هذه الدبابات».
عندما كان الحاج قاسم يشرح المهمة، كانت عيناي تحدّق بيديه وأذناي تستمع لكلامه بدقّة. بعد تلقّي التعليمات، جمعت بمساعدة أحد الإخوة ما نحتاج إليه من عتاد؛ البوصلة، المنظار، جهاز اللاسلكي، الشيفرة، ساعة عدّاد، المخطّط وغيرها. بعد التحقّق من الوقود وزيت محرّك الدراجة النارية، توكلنا على الله وانطلقنا نحو خط فرقة «سيد الشهداء 10». في الطريق مررنا بالإخوة المقاتلين من شيراز وتبريز. عندما رأى التعبويون المنظار وجهاز اللاسلكي، أدركوا أننا من وحدة الرصد. فكانوا يدعوننا بوجوه باسمة لشرب الماء المثلّج ومعلبات الفاكهة. وكنّا نمرّ بهم ونحيّيهم بإطلاق البوق وعلامة النصر.
حوالي الساعة 8:30 صباحًا، وصلنا إلى الخط. لا أراكم الله مكروهًا. لقد تشابكت قذائف الدبابات مع الهاون والرشاشات والقناصات، وانصبّت على المكان فأقعدت الجميع عن الحركة ولا ملجأ للأخوة التعبويين سوى بضعة أكياس من التراب وتوكّلهم على الله. كان جميع الإخوة في خط الفرقة العاشرة بانتظارنا، لذا لاحقتنا الأبصار منذ لحظة وصولنا. وجدت مكانًا آمنًا نوعًا ما، فركنت الدراجة على عجل ثم اخترت أفضل وأكثر المتاريس ارتفاعًا ليكون نقطة للرصد. زحفنا نحو المتراس، وعندما وصلنا إليه لم
57
47
أمر النار بيدك
يكن فيه غير تعبوي صغير السن على رأسه خوذة وبيده سلاح. كان يراقب بعينين حادّتين خط الأعداء، فلربما ضلّ أحد «الإخوة العملاء» طريقه وجاء نحونا فيمطره بوابل من نيران جهنم. عندما دخلنا المتراس صافحنا بيده الدافئة وقال: «تفضلوا». بعد أن أخبرناه بمهمتنا استأذنا منه للعمل في متراسه.
ألقيت نظرة سريعة على المنطقة ثم فتحت الخريطة، وبعد تحديد مكان وجودنا، حددت اتجاه وزاوية الهدف، وجهز رفيقي جهاز اللاسلكي.
بسرعة أعطيت الإحداثيات لمركز التنسيق وطلبنا صليات النار. كان جيراننا الذين نسوا ما كان بيننا من خبز وملح، ما زالوا يمطرون خطّنا بأنواع القذائف. بعد مدة، أعلن مركز التنسيق بدء إطلاق النار بنداء «الله أكبر»، ورحبنا نحن بوصول أول قذيفة بنداء «خميني رهبر[1]». وما هي إلا دقائق حتى سمعنا صفيرًا رهيبًا تبعه انفجار مهيب في خط الجبهة العراقيّة الذي لا يبعد عنا أكثر من 500م.
كان جميع المقاتلين يقفون على الساتر الترابي ويقولون بكل حماسة وشغف لا يوصفان: «نحن ننتظر الثانية»، لكنهم نزولًا عند توسلات رفيقي نزلوا إلى متاريسهم.
سقطت القذيفة الأولى على بعد 50م من تحصينات الأعداء وفي حقل الألغام ففجّرت عددًا من الألغام المضيئة. مع تصحيح الإحداثيات، انطلقت القذيفة الثانية لتستقرّ خلف التحصينات والثالثة بلطف الله سقطت على التحصينات مباشرةً. وبحسب
[1] - أي، خميني قائد.
58
48
أمر النار بيدك
قول الإخوة الرُصّاد، لقد وضعنا له التاج. بينما سقطت القذيفة الرابعة على سيارة «آيفا» تحمل عناصر خلف أسوار تحصيناتهم، فتصاعد منها دخان كثيف. في تلك الأثناء، طلب الإخوة عند مرابض المدفعية إطلاعهم على النتائج فقلت لهم: «انظروا إلى نتيجة عملكم في السماء، في ذلك الدخان الكثيف المنتشر». عندها، زلزلت المكان تكبيرات جنود الإسلام.
لم يمضِ وقت طويل على تدميرنا لشاحنة «آيفا» التابعة للأعداء، حتى بدأت قذائف دباباتهم تتساقط على خطنا. لم أضيّع الوقت وأعطيت إحداثيات مواقعهم لمرابض مدفعيتنا وبدأ الردّ عليهم من مربضي مدفعية (130ملم)، ومدفعية (203ملم) التابعة للأخوة في الجيش. تركز القصف عليهم وبعد دقائق سمعنا صوت انفجار بين الدبابات تبعه انفجارات متعددة لذخائر الدبابة المصابة إضافةً إلى صيحات الله أكبر للشباب في خطّنا. وجهت النيران بدقة أكبر هذه المرة وبفضل الله سبحانه وتعالى وهمّة الإخوة في مربضي مدفع (130ملم)، تمكّنا من إصابة الدبابة الثانية والثالثة، ومن ثم بنداء «وما رميت إذ رميت» أُصيبت الرابعة بقذيفة مدفع (203ملم) التابع لجيشنا. بعد تدمير الدبابات الأربع، ترك الجنود العراقيون آلياتهم المصفّحة ولاذوا بالفرار. هكذا، انتهت المعركة بين مدافعنا ودبابات العدو البعثي. بعد إعطاء إحصائية عن خسائر العدو لمركز التنسيق، انتهت مهمتي فتنفست الصعداء ورحت أتأمّل وجوه الإخوة البريئة والفرحة. في تلك الأثناء رأيت أحد الإخوة المصابين بيده يترجّل بإصرار من سيارة الإسعاف، ثم تقدم نحوي بملامح لا توصف قائلًا: «عافاك الله!».
59
49
أمر النار بيدك
/12/1366-هـ.ش 16/3/1988
بتاريخ 17/12/1366- 7/3/1988م، وبعد توديع شباب وحدتنا، توجهت مع الإخوة: «كاشي زاده، جواد محمدي وقرباني» إلى منطقة العمليات. وصلنا قرابة الظهر إلى مقرّ «غزيل» وبقينا هناك حتى الغروب. بعد اللقاء والتنسيق مع الأخ «مقدم» قائد اللواء «ظفر 75» تقرّر التوجه إلى باختران على أن نصلها عند الساعة 7:30 من صباح اليوم التالي.
بعد أن تناولنا طعام العشاء إلى جانب شباب كتيبة كميل في بلدة «أناهيتا»، انطلقنا نحو «باينكان» ومن هناك إلى مثلّث بافه، رفانسر فباختران.. عند الساعة السادسة صباحًا انطلقنا إلى الخطوط الخلفية للواء «ظفر 75» الكائن في مدينة باختران. انتظرنا الأخ مقدم في غرفة الارتباط في «مريفان» ساعة وأربعين دقيقة، ووصل إلينا في تمام الساعة الثامنة. تحدث الحاج مقدم إلى الأخ ريفندي قليلًا ثم دعانا نحن الأربعة إلى غرفة العمليات حيث أعطانا الشروحات والتعليمات اللازمة. بعدها، شُكّل فريقان، الأوّل يضم الأخوين جواد محمدي وكاشي زاده، وينطلقان عبر «سيمان، سيرفان وتشنار» ليصلا إلى جبال بالامبو. وأما الفريق الثاني المؤلف من الأخوين قرباني وإيرفاني فينطلقان عبر مريفان، دزلي، قرية زلم، كره تشال، و«أحمد آفا» ليصلا إلى منطقة العمليات.
كانت مهمة الفريق الأول تدمير أهداف جنوبي منطقة العمليات، بينما يتولّى الفريق الثاني تدمير الأهداف شمالها.
بدّلنا ثيابنا بعد أن أعطونا اللباس الكردي وانطلقنا عند الساعة الحادية عشرة، نحو مريفان. وصلنا عند الساعة 12:45
60
50
أمر النار بيدك
ظهرَ يوم 8-3-1988، إلى مسافة (10كلم) من سنندج. دخلنا إلى مقرّ «رمضان»، وبعد أن حصلنا على حذاء رياضي اتجهنا نحو الحسينية للصلاة، بعدها انتقلنا إلى قاعة الغداء ودلّلنا معدتنا قليلاً، وهناك التقينا الأخ كاظم بور الذي سيؤمن لنا إذن المرور. بعدها انطلقنا نحو سنندج ومن هناك إلى مريفان.
في الساعة الخامسة من يوم 9/3/1988، وصلنا إلى مريفان. بعد أن عرفني الأخ ريفندي إلى الأخ كريمي مسؤول المحور والأخ كوهي معاون العمليات والأخ جمال مسؤول الكتيبة، وبعد تأمين الأدوات الضرورية والخريطة انفصل عنا واتجه إلى بافه. بعد مغادرة الأخ ريفندي جهزت لائحة بالوسائل المطلوبة وتشمل: «كيس للنوم، قارورة مياه، حزام، حمّالة السلاح، سلاح، حقيبة الظهر، حربة، مصباح يدوي، معلبات، خبز، حصة تموينيّة حربيّة، تمر وغيرها»، أرسلت الأخ قرباني لتأمينها بينما جهزت أنا بالتعاون مع الإخوة من استطلاع «اللواء 75» الخريطة حيث رصفناها قرب بعضها البعض ومن ثم غلفناها بالنايلون. جهزنا جميع احتياجاتنا لتنفيذ مهمّة التسلّل وقررنا دخول المنطقة في اليوم التالي. لكن للأسف وبسبب عدم التنسيق تأجل دخولنا يومًا آخر. في اليوم الموعود، انطلقنا أنا والأخ قرباني مع عنصرين من استطلاع العمليات إلى المنطقة. أقلّتنا السيارة إلى قمة «ملخ خور» وكان علينا متابعة بقية الطريق سيرًا على الأقدام. كان الأخ «كوهي» قد أعطانا رسالة لكاكا[1] درويش مسؤول جماعة الأكراد المعارضة لصدام، ليزوّدنا بثمانية من عناصره للحماية.
[1] - أي "الأخ" باللغة الكردية.
61
51
أمر النار بيدك
بعد أكثر من ساعتين من المشي، وصلنا إلى مقرّ «كره تشال»، وبعد استراحة قصيرة تابعنا سيرنا نحو مقرّ جماعة الأكراد حيث وصلنا إليه بعد حوالي 20 دقيقة. بحثنا عن كاكا درويش، لكنه للأسف لم يكن هناك، عُدنا أدراجنا إلى مقرّ «كره تشال» وتحدثت بجهاز اللاسلكي إلى الأخ كوهي الذي طلب أن نبقى مكاننا بانتظار الأخ جمال. حوالي الساعة 10 ليلًا، وصل الأخ جمال إلى «كره تشال» مع كتيبة غير منظّمة للواء «ظفر 75» الذين يعملون تحت إمرة مقر رمضان بشكل حرب عصابات.
قرابة منتصف الليل، لاحظت انتقال قوات فرقتي «كربلاء 25» و«المهدي 23» من الخط إلى قرية زلم، يبدو أنها ليلة العمليات! كنت أتحدث إلى جمال فقال: «سنتحرك الليلة أو غدًا صباحًا».
قضينا الليل على أهبّة الاستعداد، وبعد صلاة الصبح وتناول طعام الفطور استعددنا وحُدّد قادة الفصائل.
جُهّز فصيل بالسلاح الفردي، رشاش وآر بي جي7. بينما ضمّ الفصيل الآخر رماة صواريخ «سهند وماليكوتا» إضافة إلى عناصر الاستطلاع ورُصّاد التسلّل. بعد توزيع القوات وتشكيل الرتل، التحق بنا حوالي 300 عنصر من الأكراد المعارضين وانطلقنا جميعًا حوالي الساعة العاشرة صباحًا.
بعد ساعة من المشي وصلنا إلى مشارف قرية زلم. كانت قواتنا النظامية قد بدأت العمليات في الليلة الماضية وسيطرت على الجبال المشرفة على سهول «حلبجة»، لكن الأخاديد والمواقع لم تكن قد مُشّطت بالكامل.
يقع أول موقع للأعداء في قرية زلم، وقد فرّ جميع عناصره
62
52
أمر النار بيدك
وخلّفوا وراءهم بعضًا من العتاد الحربي. عبرنا القرية، وبقي أمامنا حوالي كيلوامترًا واحدًا للوصول إلى قرية «أحمد آفا». وفي البداية علينا عبور جسر إسمنتي منصوب فوق نهر زلم.
ما إن همّ الفصيل الأوّل بالعبور، حتى انهالت صليات الدوشكا ورشاش «غرينوف» على المكان فشلّ حركتنا، وأجبرنا على التراجع والاحتماء.
كانت نيران الدوشكا تنهمر علينا من الجبال في الجهة اليمنى التي يسيطر عليها أبطال «فرقة كربلاء 25». وبما أننا كنا نرتدي الزي الكردي في هذه المهمة، ولم نكن على تنسيق مع وحدات الاقتحام، فقد ظنّوا أننا عراقيون. اتصل الأخ جمال لاسلكيًّا بالمقرّ ليعطوا إحداثيات مكان وجودنا للفرقة كي يوقفوا قصفهم ونتمكّن من استكمال مسيرنا. بعد مدة أخبرونا أنّ التنسيق اللازم قد تمّ وأنّه يمكننا متابعة الطريق. باسم الله انطلقنا، لكن ما إن وصلنا إلى الجسر حتى عادت النيران سيرتها الأولى، فتساقطت علينا رصاصات الدوشكا ورشاش غرينوف.
اتصلنا ثانيةً بالمقر وأخبرناهم أنّ إطلاق النار ما زال مستمرًّا. فقالوا: «لقد نسّقنا ثانيةً ويمكنكم استكمال الطريق». لكن للمرة الثالثة، ما إن وصلنا إلى الجسر حتى عاد إطلاق النار علينا. عند الساعة الرابعة عصرًا، قال لنا جمال: «علينا العبور بأي طريقة كان والوصول إلى «أحمد آفا» كي لا نتأخر في أداء مهمتنا».
وقفنا بالرتل ثانيةً وانطلقنا نحو الجسر. تقرّر عبور كل مجموعة من 10 عناصر على حدة. وهذه المرة عبرنا نهر «زلم» والنار تتساقط علينا، ويا له من عبور!
63
53
أمر النار بيدك
أحبطنا استمرار إطلاق النار الشديد علينا حتى بعد العبور. في الجهة الأخرى للجسر، وقف صفري معاون الأخ جمال بين الأشجار، وما إن رآني أنا والأخ قرباني حتى قال: «تابعا طريقكما بين الأشجار إلى أن تصلا إلى «أحمد آفا» وسأرسل باقي العناصر في إثركما». كان قد عبر حتى ذلك الوقت حوالي 40 عنصرًا، وكلّما اقتربنا من «أحمد آفا» اشتدت النيران وأصبحت أكثر دقّةً، فكانت القوات التي سبقتنا تبحث عن مأوًى لها تحت الصخور وقد شُلت حركتهم. وصلنا أنا والأخ قرباني بعد عناء إلى القرية وكان فيها إضافة إلينا، عددٌ من الأكراد المعارضين وبعض الإخوة البواسل الذين وصلوها قبلنا. قررنا التوغّل فيها وتمشيطها وتطهيرها. بعد أن اتخذنا التشكيلة المناسبة للمنطقة، دخلناها وفي الطريق، استوقفنا سماع أصوات عدد من العراقيين. عندما طلبنا منهم الاستسلام، خرج من المنزل عدد من الجرحى مع 6 آخرين. وما إن ابتعدوا قليلًا عن باب المنزل حتى أُطلقت النار عليهم من الجهة اليسرى وسقطوا جميعًا على الأرض. تمترسنا بسرعة وراقبنا المنزل الذي أُطلق منه الرصاص، فتكرّر إطلاق النار نحو الأسرى مجدّدًا. ولما تيقّنت أنهم عراقيون، ناديتهم أن يلقوا سلاحهم ويستسلموا. لكنهم ردّوا بإطلاق النار، وتبعها إطلاق قذيفة «آر بي جي»، دمرت سقف المنزل الذي كانوا فيه على رؤوسهم، بعدها مباشرةً لفت سمعنا صوت ضحكة لبطل يحمل الآر بي جي ويقول: «لقد استحقوا ذلك».
ذهبت إلى المنزل المدمّر مع اثنين من الأكراد، بينما قام الأخ قرباني وباقي العناصر بجمع الأسرى. عندما وصلنا إلى المنزل، سمعت صوت أنين قادم من ناحية النافذة، لضابط عراقي عالق
64
54
أمر النار بيدك
وسط الركام يطلب المساعدة. صوب أحد الأكراد المرافقين سلاحه إلى رأس الضابط، لكنني أملتها عنه وقلت له: «إنهم أسرانا ويجب الرفق بالأسير». في تلك الأثناء، وصل الأخ جمال مع باقي عناصر الكتيبة وبمساعدة الإخوة تمكنّا من سحب الضابط العراقي من بين الركام ثم أرسلناه مع باقي الأسرى برفقة عدد من الحرّاس إلى الخطوط الخلفيّة. ومع حلول الظلام، كنّا قد أنهينا تمشيط قرية «أحمد آفا».
عند الساعة 7 ليلًا، قالوا لنا أن نصلّي فتيمّمت وصليت، وبعد 5 دقائق انطلق الرتل مجدّدًا. قمنا بجولة قصيرة وعدنا إلى القرية مجددًا. بعد فترة قصيرة، وصل رتل آخر من الإخوة في لواء «ظفر75» بقيادة الأخ صادق. كان الأخ صادق والأخ جمال يتحدثان ويتبادلان الآراء عندما انضممتُ إليهما. كان رأيهما أن نتابع سيرنا ليلًا، لكنني قفزتُ وسط حديثهما وقلت: «إنها الليلة الأولى للعمليات وهناك احتمال كبير أن يشتدّ القصف المتبادل من الجهتين على المنطقة. لذا من الأفضل أن نبقى الليلة هنا». بعد مدة من التشاور تقرّر البقاء في قرية «أحمد آفا» حتى الصباح. بعد تناول العشاء، وجدنا مكانًا مناسبًا للمبيت وأغلقنا سحابات أكياس النوم على أجسامنا المتعبة.
في الصباح، بعد الصلاة وتناول طعام الفطور، بقيتُ حتى الساعة 10 أرصد وأستطلع المنطقة إلى أن جاء الأخ صفوي وقال: «هناك عدة أهداف في المنطقة، ليأتِ أحدكم للرصد وإعطاء الإحداثيات لمدفعيتنا». بعد التشاور مع الأخ قرباني، تقرر أن أذهب أنا في هذه المهمة.
65
55
أمر النار بيدك
انطلقت أنا واثنان من رماة الآر بي جي مع اثنين من حملة الرشاشات برفقة الأخ صفوي نحو منطقة خرمال.
وصلنا أسفل أحد المقارّ البعثيَّة التي سقطت بأيدينا، وهناك التقينا الأخ صادق الذي قال إنّ المهمة قد أُلغيت. وقفنا في الجهة الأدنى من المكان بانتظار باقي عناصر الكتيبة الذين وصلوا الساعة 12 ظهرًا تقريبًا، فأقمنا صلاة الظهر والعصر وبعد تناول طعام الغداء، انطلق الرتل بين الأخاديد والأشجار إلى أن حان وقت أذان المغرب، فتوقفنا خمس دقائق للصلاة وتناول العشاء ثم تابعنا طريقنا ثانية. في تلك الليلة، سرنا حوالي 8 ساعات قاطعين 3 أنهار غزيرة المياه ومررنا بالقرب من مدينتي خرمال وحلبجة الواقعتين تحت السيطرة العراقية.
عند الساعة الثالثة من بعد منتصف ليل 24 اسفند (14-3-1988)، كنّا قد وصلنا إلى مسافة 2 كلم من ثكنة «زمقي خوارو» في عمق الأراضي العراقية.
طلبوا منا أن نضع حقائب الظهر على الأرض، وأن نخفّف أثقالنا قدر المستطاع. بعد حوالي 10 دقائق تابع الرتل سيره. كنت أنا والأخ قرباني نرافق الرتل لكن تقرر بقاء أحدنا بينما يرافقه الآخر، فإذا ما أُصيب أحدنا يتابع الآخر المهمة. وهكذا بقي الأخ قرباني بينما تابعت أنا السير مع الرتل. بعد مسافة قصيرة، طلبوا منا الانبطاح أرضًا، وكان هذا دليلًا على اقترابنا من ثكنة «زمقي خوارو». لكن لم يمضِ بعض الوقت حتى تراجع الرتل إلى الخلف فالتقيت الأخ جمال وسألته عن الأمر. أجاب: «لقد حدّد المقرّ لنا مهمة أخرى، وبما أننا تمكنّا من التوغّل إلى هذه الدرجة في عمق
66
56
أمر النار بيدك
أراضي الأعداء، طُلب منّا أن لا نُظهر أنفسنا في المنطقة لأن لدينا مهمة أخطر».
وهكذا عدنا أدراجنا إلى حيث تركنا حقائب الظهر، ومن هناك تابعنا طريقنا إلى قرية «خل همه» المناسبة للبقاء والتخفّي حيث وصلنا إليها عند الساعة الخامسة صباحًا فحططنا رحالنا فيها. بعد صلاة الصبح، عُيّنت نوبة الحراسة واستسلم باقي العناصر للنوم طلبًا لاستراحة تزيل عنهم تعب سير مسافة 30 كلم خلف خطوط العدو وفي عمق مناطقه.
عند الساعة 8:30 من صباح(24 اسفند) 16-3-1988، أيقظنا الأخ جمال ثم غادر مع عدد من العناصر. قرابة الساعة 11 ظهرًا، أنزلت مروحيّتي «شنوك» عددًا من جنود العدو على بعد كيلومترًا واحدًا من مكان وجودنا. في البداية، ظننت أنهم كشفوا أمرنا، لذا أعطيت الإحداثيات لمرابض مدفعيتنا وطلبت تجهيز 3 منصات كاتيوشيا. لم يطل الوقت حتى اتصلوا من مركز التنسيق وأعلنوا الجهوزية لإطلاق النار، فطلبت منهم التريث ريثما تصلهم الأوامر. راقبت حركة الأعداء ورأيت أنهم قد انتظموا في رتل واتجهوا نحو حلبجة، فداخلني سرور لأنهم لم يكشفوا أمرنا بعد، وبالتالي ألغيت أمر إطلاق النار.
عند الساعة 12:40 ظهرًا، عاد عنصران من العناصر التي رافقت جمال في نقل الأسرى الأربعة عشر للخلف، وقالا إن اثنين من الإخوة استشهد وجُرح ثلاثة، وليذهب بعض العناصر لنقلهم، فأرسلت إلى هناك 12 عنصرًا برفقة أحد الإخوة الذين يعرفون مكان الجرحى.
67
57
أمر النار بيدك
عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، عاد جمال ورفاقه وأخبرونا أنّ عددًا من دبابات العدو تتجه نحو القرية، وأنه من الأفضل لنا الانتقال للقرية الواقعة أسفل منها.
انتقلنا تنفيذًا لأوامر جمال إلى القرية السفلى. هناك وبعد الاتصال بمركز التنسيق طُلب مني العودة بأسرع وقت إلى المقر وإعداد تقرير عن أوضاع المنطقة.
تقرّر عند الساعة 8 ليلًا نقل الجرحى والشهداء بمساعدة 10 عناصر إلى قرية «أحمد آفا». بعد التحدث إلى جمال، رافقت الرتل إلى «أحمد آفا» حيث وصلنا إليها الساعة 7 صباحًا. ومن هناك تابعنا طريقنا إلى قرية زلم، ملخ خوار، دزلي، مريفان، مثلث حزب الله، سنندج، بافه، رفانسر، باينكان وغزيل، حيث قدّمت تقريرًا مع مخطّط المنطقة.
في تلك الأيام سقطت مدينة حلبجة المظلومة التي تعرضت لأول قصف كيميائي عراقي.
فروردين 1367هـ.ش/ آذار 1988
بعد تناول طعام الغداء، كنت أنظف الأطباق قرب صهريج الماء، حين مرّت بي شاحنة تويوتا صغيرة وتوقفت قرب دشمتنا. مهما حدّقت بوجه السائق لم أستطع التعرّف إليه. لم يطل الوقت حتى جاء أحد الإخوة في المجموعة وقال لي: «انهض يا حجت فالحاج يريدك في أمر». كنت قد أنهيت غسل الأطباق فحملتها ودخلت إلى الدشمة.
فهمتُ من طريقة جلوس الإخوة وصمتهم أنّ الشخص القادم ذو مقام كبير. عندما جلستُ بدأ الحاج قاسم الحديث وقال: «هذا
68
58
أمر النار بيدك
الأخ حجت الذي حدّثتك عنه».
تلاقت نظراتي مع نظرات الضيف الذي بادر بالقول: «تشرفنا».
بعدها، دعانا الحاج قاسم إلى خارج الدشمة من أجل استكمال الحديث. جلسنا ثلاثتنا تحت شجرة وبدأ الحاج قاسم الحديث: «إذا أمكن يا سيد حجت أن تؤجّل الذهاب في مأذونية لمدة من الزمن، لأننا بحاجة إليك في مهمة؟!». فأجبت دون تفكير: «لا يا حاج، جُعلت فداك، لقد أبقيتني هنا ثلاثة أشهر متتالية. أنسيت أنّ لي أبًا وأمًّا؟ عندما كنّا في شلمشة قلت لي أن لا أغادر لأننا بصدد العمليات، فقلت لك على عيني. أحضرتني إلى هنا، وها إن العمليات قد انتهت بالنصر والحمد لله، وسيطرنا على حلبجة وخرمال وغيرهما، والآن تأتي لتقول لي ثانية أن أؤجّل مأذونيّتي؟!».
ابتسم الحاج وقال: «حسنًا، لا تتسرّع كثيرًا، وكأنّني قد جئت أنا البارحة من طهران؟! على أي حال اسمع ما المطلوب ثم قرّر إن كنت ستبقى أم تذهب. إنه الأخ مرادي من وحدة الاستطلاع في القوات الجوية للحرس وقد جاء لأجل أمر مهم، والآن فلنسمع التفاصيل منه شخصيًّا».
هنا تولّى الأخ مرادي الكلام وقال: «أخ إيرفاني، إنها مهمة استخباراتيّة، تقرّر أن نوكل مهمة إحدى المنصات الصاروخية العراقية التي تقصف مدننا للوائكم، فإذا وافقت لننطلق ونستكمل التفاصيل في الطريق؟».
عندما اطّلعت على خطورة المهمة، نظرت إلى وجه الحاج قاسم الذي ارتسمت عليه ابتسامة الظفر وقلت: «للدرك الأسفل، 3 أشهر ولم أذهب فيها إلى المنزل وإضافة شهر رابع إليها لن يُحدث فرقًا».
69
59
أمر النار بيدك
بعد ساعة، انطلقت بالسيارة مع الأخ مرادي إلى جهة ما. بعد أن قطعنا مسافة سألته: «حسنًا أيها الأخ أين تقع تلك المنصّة؟ وإن أمكن حدّثني عن المكان أكثر».
أجاب السيد مرادي: «تقع المنصّة خلف جبال «تشهار باغ»، وضمن أراضي مشاع «خانقين»، وهي منصّة متحرّكة. تقصف وتغادر المكان، يستغرق توضيبها تمهيدًا لنقلها حوالي نصف ساعة، لذا علينا استهدافها أثناء القصف. ما يعني أنّنا بحاجة إلى راصد ماهر ودقيق لاستطلاع مكانها وإعطاء الإحداثيات فنتمكّن من تدميرها. أرجو أن تنجح في المهمة إذ إنّ نجاحنا سيجعل مدننا في مأمن من صواريخ «سكود بي»[1] العراقيّة إلى حدّ ما، على أي حال، جميعنا ننتظر نتيجة عملك».
بعد الحصول على تلك المعلومات، فتحنا مواضيع جانبيّة وانشغلنا بالضحك وسرد الذكريات. ومن حسن الحظ، كان الأخ مرادي رادودًا أيضًا فأمضينا أوقات ممتعة في الطريق. عند الغروب، توقفنا في «سربل ذهاب» للصلاة وتناول العشاء، ثم تابعنا طريقنا إلى «كيلان غرب». عند الساعة العاشرة تقريبًا وصلنا إلى جبال «غمه كوه» المطلّة على مدينة «خانقين». فحططنا فيها الرحال وبتنا ليلتنا.
عند الصباح، وبعد الاستطلاع والحصول على التوجيهات اللازمة في المرصد، بدأت عملي باسم الله. كان عملًا متعبًا جدًّا، إذ كان علينا الجلوس في مكان واحد والتحديق إلى جهة واحدة بانتظار القصف الصاروخي للأعداء.
[1] - .scud B
70
60
أمر النار بيدك
بعد يومين من الترقب، عند الساعة الثانية من بعد الظهر، ولم ألبث أن استلمت نوبتي في الرصد، حتى شاهدت غبارًا غليظًا في نقطة بعيدة. أخذت جهاز «الكرونومتر» بسرعة، وحصلت على درجة الإطلاق. بعد سماع انطلاق الصاروخ الأول، أجريت بعض المحاسبات الخاصة بالرصد، وحصلت على إحداثيات مكان منصّة الإطلاق. كانت المنصّة على بعد 43300م، لكن للتأكد أكثر، انتظرت إطلاق الصاروخ الثاني. الذي انطلق بعد 6 ساعات، فأجريت الحسابات ثانيةً وتأكدت من صحتها. ولأنني تمكنت من تحديد منصّة صواريخ «سكود بي» بدقّة لم تسعنِ الفرحة.
مباشرةً أعطيت الإحداثيات الدقيقة لمرابض مدفعيتنا بعيدة المدى، وطلبت أن يجهزوا المدفعيّة على تلك الإحداثيات كي ندكّ المنصّة مع إطلاق الصاروخ التالي فنريح شعبنا المسلم والمقاوم من شرّها.
بانتظار إطلاق الصاروخ التالي، لم أقف مكتوف اليدين، بل حصلت على إحداثيات مواقع للعدو التي لا تطالها مدفعية الإخوة في الجيش الإيراني المستقرة في المنطقة. وتمكنّا بحمد الله من دكّها وإنزال خسائر فادحة بالعدو البعثي. منها تدمير مقرّين عسكريّين كبيرين في محيط مدينة خانقين، تدمير مركز لتجمع منافقي خلق في محيط جبال «تشهار باغ»، تدمير خمسين في المئة من مصنع الإسفلت الذي كان يؤمن احتياجات الجيش العراقي لإصلاح وتعبيد الطرق، تدمير مركز لتجمع الدبابات إضافةً إلى عدد من الأهداف العسكرية الأخرى.
في النهاية، وصل اليوم الموعود. في الصباح وعند الساعة
71
61
أمر النار بيدك
العاشرة وعشرين دقيقة، عندما كنت أتأكد من جهوزية الإخوة في مرابض مدفعيتنا، صرخ الأخ مرادي فجأةً: «حجت.. يا حجت.. إنها تضرب.. تضرب!» كانت المنصّة تطلق صاروخها، تمركزت خلف المنظار مباشرةً، وأعطيت الأمر بإطلاق النار. ما هي إلا لحظات، حتى أُمطرت المنصّة بقذائفنا، وسرعان ما جاء الردّ على مرابضنا من مدفعية العدو بشكل كثيف ومركّز، لكن أبطالنا المضحين والشجعان صمدوا في أماكنهم وتابعوا قصف المنصّة.
عندما انتهى القصف، كانت منصّة صواريخ «سكود بي» المرابطة خلف جبال «تشهارباغ» قد دمرت بشكل كامل.
72
62
حبيب الله
حبيب الله[1]
رافقت الحاج حبيب[2] إلى طهران من أجل متابعة شؤون الفرقة. وفي اليوم الأخير رافقته لزيارة عوائل الشهداء كابلي[3]، شيري[4]، صادقي[5] ودزفولي[6]، وهم شهداء قادة من فرقتنا انتقلوا إلى الرفيق الأعلى في عمليات كربلاء 5.
منذ ما قبل عمليات كربلاء 4 و5، لم يذهب الحاج حبيب في مأذونيّة، لذا لم يتمكّن حتى ذلك اليوم من لقاء عوائل الشهداء، ولأننا تأخرنا عن زيارتهم كل تلك المدة، كانوا عاتبين علينا نوعًا ما.
20 فروردين 1366ه.ش(9/4/1987)، وبعد إنهاء عملنا في طهران عدت مع الحاج حبيب في شاحنة التويوتا الصغيرة إلى الأهواز. ما إن اقتربنا من مدينة «خرم أباد»، حتى شعرنا بلسعات الهواء البارد. وبالرغم من حلول الربيع، إلا أنّ صقيع جبال خرم آباد ما زال ينخر العظام. شغل الحاج حبيب المذياع وكان صوت مارش
[1] - أسرد هذه الذكريات نقلًا عن غلام رضا نوشادي.
[2] -الحاج حبيب الله كريمي: قائد لواء خاتم الأنبياء المدفعي 63.
[3] - حاج حسين كابلي: قائد عمليات اللواء (أعلاه).
[4] - حسن شيري: قائد كتيبة الكاتيوشيا في اللواء (أعلاه).
[5] - محمد صادقي: قائد كتيبة المدفعيّة 122ملم.
[6] - سيروس دزفولي: شهيد في عمليات كربلاء 4.
73
63
حبيب الله
العمليات يبث خلالها، لكن بسبب عدم وجود هوائي لم يُسمع الصوت بوضوح. حاول الحاج تنظيم الموجة الإذاعيّة لكن دون جدوى. بناءً على طلبه توقفتُ إلى جانب الطريق، فترجّل في ذلك الطقس البارد وراح يبحث عن سلك وعندما وجده ابتكر هوائيًا فتمكنّا من سماع أخبار العمليات.
في الطريق، كان الحاج منزعجًا لأنّ جميع الرفاق ذهبوا بينما تخلّفنا نحن عن المشاركة في العمليات. ومع مارش العمليات الذي يُبثّ من المذياع، كانت صور وجوه الشهداء المبتسمة ابتسامة الظفر تتداعى إلى ذهني. الشهيد الحاج حسين كابلي، حسن شيري، دزفولي، محمد صادقي وغيرهم من الأعزاء الذين استشهدوا في عمليات كربلاء 5.
مع حلول الظلام وصلنا إلى مقرّنا في الأهواز، وفي الصباح أُنجزت التدابير اللازمة لانتقالنا إلى الخطوط الأماميّة. بدا الحاج حبيب الصبور عادةً، لجوجًا لا يقرّ له قرار ويصرّ عليّ للانطلاق بأسرع وقت مردّدًا: «هيا يا رضا، عجّل، هيا لقد تأخرنا!».
أنهيت التحضيرات عند الظهر، وبعد الصلاة جلسنا إلى مائدة الطعام. في طريق شلمشة، كانت الموسيقى العسكريّة ما زالت تُبثّ وقد أعلنت الأخبار عن مباغتة العدو وتقدم جيوش الإسلام. يومها، بدا الحاج في حالٍ عجيبة لم أعهدها من قبل رغم معرفتي الطويلة به.
قبل حلول الغروب، وصلنا إلى مقرّ خاتم الأنبياء المركزي، سألت عن الأخ شمخاني[1]، فقالوا لي إنّه والأخ رحيم صفوي، شفيع زاده[2]،
[1] - علي شمخاني: قائد المشاة في الحرس سابقًا وقائد القوات البحريّة في الجيش حاليًّا.
[2] - شفيع زاده: قائد المدفعية في مشاة الحرس.
74
64
حبيب الله
وقادة المنطقة في اجتماع. خرجت من الدشمة برفقة الحاج. كان وقت الغسق وعلا صوت الأذان في مكبّر الصوت ما أضفى روحانية أكبر على المكان. بعد تناول العشاء، تحدثت إلى الحاج حبيب إلى أن انتهى الاجتماع في الساعة 12 منتصف الليل. عندها ولشدة التعب تركت الحاج وذهبت إلى دشمة القيادة لأنام. لم أكد أطبق جفني حتى هزّني الحاج وقال لي: «انهض يا رضا لنذهب»، فقلت له: «الوقت متأخر يا حاج دعك حتى الصباح».
لكن الحاج أصرّ على الانطلاق ليلًا. من دشمة القيادة ذاتها، اتصل الحاج حبيب بالحاج رضا[1] المتمركز في دشمة رابط المقرّ في المخمّس وأعطاه التعليمات حول مهمة الفرقة. أثناء مغادرتنا المقرّ، التقى الحاج أحد أصدقائه وبعد تبادل التحايا والسلام وقعت عين الحاج على ساعة يد صديقه، فمازحه وأصرّ على أخذها منه. بعد توديعه انطلقنا بالسيارة نحو مركز التنسيق الكائن في قرية «مندفان».
ما إن ابتعدنا عدة كيلومترات عن المقرّ حتى قال الحاج: «لربما هو غير راضٍ لأخذي الساعة، هيا لنعيدها له». وهكذا رجعنا إلى المقرّ، لكن صديقه وهبه الساعة فانطلقنا ثانية نحو مقر التنسيق وكانت الساعة حينها حوالي الثانية بعد منتصف الليل.
قبل عدّة كيلومترات من جادة مندفان، أمطر العدو خرمشهر ومحيطها بقذائف المدفعية وصواريخ الكاتيوشيا وغيرها من أنواع القذائف.
بدايةً، اعتقدت أنّ العدو يمهّد للهجوم لذلك يقصف المنطقة
[1] - الحاج رضا صادقي: معاون لواء خاتم الأنبياء المدفعي 63.
75
65
حبيب الله
بهذه الهمجيّة. ما أن دخلنا جادة «مندفان» الموصلة إلى مقرّ التنسيق، وبينما كنت أتحدث إلى الحاج حبيب، اشتممت رائحة القنابل الكيميائيّة فقلت للحاج: «ارفع الزجاج بسرعة، العدو يقصف بالسلاح الكيميائيّ».
رفعنا الزجاج وسرت بأقصى سرعة إذ لم نحضر معنا الكمامات من الأهواز.
قطعنا جادة مندفان الترابية ووصلنا إلى موقع «نبوي اثنان»[1]، فقال الحاج: «هيا بنا، أخشى أن يكون الإخوة نائمين، علينا أن نوقظهم». دخلنا إلى هناك بالسيارة، ومهما أطلقت بوق السيارة لم يخرج أحد، أضأت نور مصابيح السيارة القوي والضعيف عدة مرات لكن دون جدوى. فجأة لمعت في ذهني فكرة. رفعت مكبح السيارة اليدوي وخرجت والحاج حبيب من السيارة دون أي قناع واقٍ. اتجهت أنا نحو دشم الجهة اليسرى واتّجه هو نحو دشم الجهة اليمنى لنوقظ الإخوة. بعد أن أيقظتهم اتصلت من دشمة الإسعاف بمقرّ التنسيق وطلبت سيارات إسعاف وفريق الدفاع الكيميائي. ثم خرجت بحثًا عن الحاج حبيب وكان قصف الكاتيوشيا والمدفعية إضافةً إلى القنابل الكيميائيّة ما زال مستمرًّا. ذهبت إلى حيث السيارة وناديت الحاج 7 أو 8 مرات ما أدّى إلى استنشاقي كمية أكبر من الغازات السامّة وفقدت الوعي على بعد أمتارٍ من السيارة.
عندما فتحت عينيّ كنت في مستشفى الإمام الحسين (عليه السلام)[2]. وبعد الاستحمام بالمياه الباردة، نُقلت إلى مستشفى في الأهواز.
[1] - موقع نبوي اثنان هو مقرّ التموين والتجهيزات للفرقة.
[2] - مستشفى الإمام الحسين (عليه السلام)، يقع عند جادة دارخوين.
76
66
حبيب الله
هناك علمت أنّ أحد الإخوة في الحرس الثوري بعد أن حقن نفسه بست حقن آتروبين[1]، وضع الكمامة على وجهه وأخرج الإخوة الذين أُصيبوا بالإغماء من المنطقة الملوّثة بالغازات السامة وكنت أنا من بينهم.
أما الحاج حبيب؛ فبعد أن أيقظ الإخوة؛ سقط شهيدًا، قرب الدشمة الأخيرة، بعد استنشاقه كمية كبيرة من الغازات السامّة.
كان ذلك ليلة 22/1/1366 (10/4/1987)، وبعد أن أنقذ حياة 80 شخصًا.
[1] - من الإسعافات الأولية للمصابين بالغازات السامة.
77
67
علامة الوصال
علامة الوصال
صباح يوم جمعة، ذهبت أنا ويوسف[1] وكاظم[2] بالسيارة إلى الحمام العمومي. كان من المقرّر في ذلك اليوم ومن أجل بناء برج للمراقبة، أن ننقل قطع جسر خيبري[3] بالقوارب إلى مكان بين «الموقع واحد» والموقع الغربي في جزر مجنون لتثبيته في مكان مناسب ومن ثم بناء البرج فوقه. لكن بما أنه يوم الجمعة، كان علينا أن نغتسل غسل الجمعة أوّلًا، إذ إن يوسف لا يتهاون في هذا الأمر أبدًا ولا يفوّت أي يوم جمعة دون أن يغتسل.
وصلنا إلى الحمام عند الساعة العاشرة صباحًا. ذهبت أنا وكاظم إلى قسم الحمامات الاختصاصيّة. أنهيت التدليك بالليفة وهممت بالخروج من تحت الدشّ، عندها سمعت صوت يوسف وهو يوصي الجميع بغسل الجمعة. كان هذا دأبه، كما كان سبّاقًا لفعل الخير. تولّى قيادة المجموعة بعد إصابة الحاج ضعيري. قبل أن يصبح يوسف قائد المجموعة المحبوب، كان الصديق الحنون والأخ العزيز على قلبي.
[1] - يوسف دايي ماسوله: معاون وحدة الرصد.
[2] - كاظم بانان متقي: أحد الرُصّاد النخب في الوحدة وقد استشهد في "عمليات كربلاء 1".
[3] - جسر خيبر: جسر عائم مصنوع من الألياف الزجاجية والفوم (الرغوة المضغوطة) [Fiber glass + Foam]، مناسب لسير السيارات فوقه واستُخدم أول مرة في عمليات خيبر.
79
68
علامة الوصال
بعد غسل الجمعة، وخروجنا من الحمام، التقينا الحاج حسين كابلي وعددًا من عناصر وحدة التنسيق. تبادلنا التحيّات والسلام ثم ودعناهم وتابعنا طريقنا نحو جزيرة مجنون، ووصلنا قبيل الظهر إلى مرصد الموقع 8 المائي[1]. كان يوسف في أغلب الأوقات يؤمّنا في الصلاة، وكنّا في الوحدة نأتمّ به ما أمكن. لكن ذلك اليوم، مهما أصررت لم يرضَ أن يؤمّنا في الصلاة. لذا صلّينا فرادى وصلّى يوسف في إحدى زوايا الدشمة، كأنما أراد الخلوة بخالقه للتوسل والعبادة.
بعد الصلاة وتناول الغداء انطلقنا بالسيارة. كانت ملامح يوسف ذلك اليوم مختلفة، كان باسم الوجه قليل الكلام.
عند الساعة 2:30 من بعد الظهر، وصلنا إلى «الموقع (5)» المائي. قال لي يوسف: «اذهب أنت وكاظم وأحضرا «جسر خيبر» بالقارب الكبير إلى «الموقع 1» المائي وسوف أنتظركما هناك».
لم أشأ ترك يوسف وحده بعدما رأيت من علامات وجهه، لذا قلت له: «سوف آتي معك يا سيد يوسف ويتبعنا كاظم بالقارب». لكنّه رفض ذلك وقال: «لا، بل اذهب مع كاظم وسوف أنتظركما هناك، هيا أسرعا».
غادر يوسف المرسى بالسيارة قاصدًا الموقع المائي رقم 1، بينما ذهبت أنا وكاظم إلى دشمة الإخوة في القوات البحرية. بعد التنسيق اللازم تمكنّا بمساعدة الرُبّان من ربط جسر خيبري بالقارب وانطلقنا. وصلنا إلى الموقع المائي رقم (4) دون أي عقبة تُذكر، لكن بعدها، أصبح مجرى المياه ضيّقًا وكان الجسر يعلق بالقصب
[1] - كان برج المراقبة في الموقع المائي 8، يرتفع 32 مترًا ويقع شمالي جزيرة مجنون.
80
69
علامة الوصال
على جانبي المجرى مرارًا وتكرارًا إلى أن انقطع الحبل. أعدنا ربطه بالقارب بمشقّة وعناء كبيرين، لكن بعد أن قطعنا مسافة قصيرة انقطع الحبل ثانيةً. هذه المرة اضطررنا لربط الجسر بزاوية من زوايا الموقع المائي(4) فترجلت أنا وكاظم من القارب بينما عاد به الربّان إلى المرسى. بسبب عدم توفّر سيارات، اضطررنا للسير على أقدامنا لنصل إلى الموقع المائي المركزي على أمل أن نجد هناك سيارة تقلّنا إلى الموقع المائي رقم (1)؛ لكن لم يسعفنا الحظ.
بعد أن قطعنا مسافة، وصلت سيارة استيشن وأقلّتنا إلى منتصف الطريق. كانت الساعة الرابعة من بعد الظهر عندما وصلنا إلى الموقع المائي رقم (1)، لكننا لم نجد يوسف هناك. ظننا أنّه ذهب إلى مكان ما فانتظرناه نصف ساعة دون جدوى. عند تقاطع الموقع (1) والموقع المركزي، يوجد منجم للرمل وقد بُنيت عدّة دشم في محيطه. قلت في نفسي، لا بدّ أنه ذهب إلى هناك ليحتمي من قصف العدو العشوائي. طلبت من كاظم أن ينتظرني قرب التقاطع لأذهب وألقي نظرة على المنجم المحاط بساتر ترابي مربع الشكل بطول 150م. يوجد في الجهة اليمنى من المنجم تلّ كبير من الرمال والحصى الصغيرة، وفي جهته اليسرى عدد من الدشم المدمّرة، كما لمحت جرّافة وحفّارة في نهايته. نظرت في أنحاء المنجم لكن لا أثر ليوسف. يبدو أن قذيفة انفجرت بالقرب من الحفّارة وحولتها إلى ما يشبه المصفاة. كنت أسير نحوها عندما ناداني كاظم وقال: «ما الأمر يا حجت؟ إذا لم تجد يوسف هناك فلنذهب من هنا قبل حلول الظلام».
يئست من البحث عن يوسف فعدت مع كاظم إلى مرصد الموقع المائي
81
70
علامة الوصال
رقم (8) الذي وصلنا إليه عند أذان المغرب وبعد أن أنهكنا التعب.
بعد الصلاة، جاء الأخ «حسين سنكرغير» ليصطحبنا إلى الخطوط الخلفيّة. هناك تناولنا العشاء ثم ذهبنا برفقة الأخ حسين إلى موقع قائم[1].
كان حسين من الإخوة المجدّين ومن الرُصّاد القدامى في الحرس، وكان أول لقاء لي معه في العام 1984م في ثكنة أبو ذر. في ذلك الوقت، كان حسين مدرّبنا في الرصد؛ شاب مؤمن متواضع. أذكر أنني في إحدى الليالي لم أستطع النوم فجلست أقرأ كتابًا، وبينما أنا كذلك سمعت صوتًا وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، نظرت من الباب مستوضحًا فرأيت حسين يصلّي صلاة الليل. كان حسين في البداية راصدًا في فرقة «الرسول (صلى الله عليه وآله) 27» ، لكن بسبب خلافاته مع وحدة المدفعية في الفرقة تركهم وانضمّ إلى مجموعتنا وعاون يوسف في إدارتها. حسين هو الابن الوحيد للأسرة واليد اليمنى لأبيه. اسمه في بطاقة الهوية «هدايت» لكن لشدّة عشقه لمولاه سيد الأحرار، اختار لنفسه اسم «حسين». كان الأخ الحنون لنا، وكان الإخوة يتحلّقون حوله تحلّق الفراشات حول الشمعة. لكنه حين العمل والجدّ، كان لا ينفكّ يردّد الآية المباركة: «واستقم كما أُمرت».
في الطريق، لم يكن حسين على ما يرام، ومهما سألته عن يوسف تهرّب من الإجابة إلى أن وصلنا إلى موقع «قائم». هناك قال: «لقد أطلقنا اسم الشهيد «يوسف دايي ماسوله» على الحسينيّة». فانتفضت وقلت: «ماذا تقصد؟». أجابني: «لقد استشهد يوسف».
[1] - موقع قائم: يشكّل الخطوط الخلفيّة ومكان تجهيز الفرقة.
82
71
علامة الوصال
تصبّب منّي عرق بارد، ترجّلت من السيارة مذهولًا ودخلت الدشمة. هناك، تسمّرت في مكاني. لقد علا صوت القرآن في المكان، وجلس كلّ واحد من الإخوة مغمومًا في زاوية قد ضمّ ركبتيه إليه، ورُفعت الراية السوداء على مدخل الدشمة. عندما نظرت إلى جسد يوسف، رأيت أنه قد قبض كفّه الأيمن. لقد سقط يوسف خلف تلك الحفّارة المدمّرة في منجم الرمل. ولشدّة الألم والعطش نهش الأرض بأظافره إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة واستشهد باسِمَ الثغر.
بعد استشهاد يوسف، تولّى حسين قيادة المجموعة.
بعد عدّة أيام ذهبت مع رمضان[1] إلى مرصد الموقع المائي (2) في جزيرة مجنون، وهناك أخبرني أنّ حسين قال ليوسف قبل عدة أيام من استشهاده: «يوسف! أراك أكثر روعة هذه الأيام! وكأنك تريد التحليق! لكن أعلم أنني لن ألبث أن ألحق بك».
في ذلك اليوم، حملوا لنا نبأ استشهاد حسين. لقد استشهد بالضبط بعد 17 يومًا من شهادة يوسف.
[1] - رمضان تقي زاده: راصد مخلص ونموذج فريد في الفرقة، استشهد بعد عمليات والفجر 8 في منطقة خسرو آباد.
83
72
نافذة على الشمس
نافذة على الشمس
ليلة (13/6/1988)، بدأت قواتنا هجومًا واسعًا في شلمشة، وبعون الله تمكّنوا من التقدم والوصول إلى محيط القناة المزدوجة، وقد أنزل التعبويون خسائر فادحة بالعدو البعثي.
بعد تناول طعام الفطور، انطلقتُ مع راصدين سيّارين على دراجات ناريّة من نوع «تربل كوبر 125» نحو منطقة «نوك مدادي».
كانت مهمتنا استطلاع أوضاع قواتنا وقوات العدو، إضافة إلى تمركز فريق الرصد هناك.
حملت معي: المخطّط، جهاز اللاسلكي، البوصلة، المنظار، القناع الواقي من الغازات السامة وغيرها من الأدوات اللازمة. كانت جادة «صفوي» مليئة بعتاد الإسناد من دبابات، ناقلات جند «بي أم بي» وغيرها من التجهيزات. كانت رائحة البارود ورائحة «الثوم» المنبعثة من القنابل الكيميائية تغطي المكان، والدخان الناتج عن انفجار القذائف الإيرانيّة والعراقيّة على السواء قد حجب الرؤية إلى حدٍّ ما.
بعد 15 دقيقة من سيرنا، قطعنا جادة صفوي وبابايي، ودخلنا إلى المخمّس. بدايةً ذهبت إلى المقرّ السابق في المخمّس للحصول على بعض الماء والطعام للفريق.
كان محيط المقرّ مليئًا بمدرّعات، دبابات وآليات العدو التي
85
73
نافذة على الشمس
علقت بنيران تعبويّينا الأبطال الغاضبون. وقد زُرع المكان بأجساد أعداء لبسوا ثياب الحرب توهّمًا منهم أنهم قادرون على انتهاك حرماتنا وحدودنا الجغرافية. كل ما تراه بالعين حكى بطولات تعبويين أشداء على الأعداء.
بعد الحصول على قدر من الخبز والمعلبات وعبوات المياه المعدنية، انطلقنا نحو منطقة «نوك مدادي». وصلنا إلى المكان وكان فصيلًا من مشاتنا قد تمترس خلف الساتر الترابي. رأيت في المكان حوالي 15 دبابة وأجساد سريّة من مشاة الأعداء حاولوا اختراق الخط لكن أشبالنا تصدّوا لهم ببطولة ودمّروا عددًا من دباباتهم. مجموعة شبّان حديثي السنّ صمدوا وقاوموا وانتصروا على سرية من مشاة العدو مدعّمة بالدبابات. إنهم مصداق «واستقم كما أُمرت».
وددت كثيرًا لو أبقى بينهم، لكن هناك مهمة بانتظاري. بعد استطلاع أوضاع قواتنا وقوات العدو، وتثبيت نقطة الرصد، قفلتُ عائدًا إلى مركز التنسيق. عند أول جادة بابائي لفتني شاب متوقف إلى جانب الطريق يحملق بي. أشار لي بيده كي أتوقف فتوقفت على بعد أمتار منه. لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من العمر ولم تكن محاسنه قد نبتت بعد. كان يرتدي الزيّ الكاكي ويضع شعار «يا فاطمة الزهراء» على صدره، كما تدلّت الكوفيّة من عنقه.
تقدّم نحوي بخطوات واسعة وقال على عجل: «سلام يا أخي. عافاك الله، عذرًا منك لكن هل تعرف أين خط الفرقة؟ أنا من الفرقة 27 وقد أضعت رفاقي في الكتيبة وأريد الالتحاق بهم في الخط الأمامي حيث ذهبوا».
تأملته وكانت الأوعية الدمويّة الشعيريّة بارزة في بياض عينيه،
86
74
نافذة على الشمس
كان يلهث وحاله مزرية جدًا. فقلت له:
- من أي كتيبة أنت؟
- حبيب.. من كتيبة حبيب.
- وكيف أضعت رفاقك؟
- للحقيقة، كنّا في الخط الأمامي الليلة الماضية وتوغّلنا في الجبهة، لكن العراقيين قصفونا بالقنابل الكيميائيّة وقد انفجرت إحداها بالقرب منّي فشعرت بدوار وسقطت أرضًا، بعدها وضعوني على حمّالة الجرحى ونقلوني إلى الخطوط الخلفيّة. ومهما أخبرتهم أنني بخير لم يستجيبوا لي، لذا فررت من قسم الطوارئ صباحًا، والآن أريد الذهاب إلى الخط للالتحاق برفاقي. هل تقلّني إلى هناك؟ هل تعرف أين هي كتيبة حبيب؟
كنت أفكر كيف يكون لصبيّ صغير هذه الروحيّة السماويّة وهذا العشق للخط وللجبهة. وكيف أصبح كطفل انفصل عن أمه عندما ابتعد عن رفاقه لم يعد يقرّ له قرار. قلت في نفسي: «كثيرون في مثل عمره ما زالوا يأخذون مصروفهم اليومي من والديهم حتى الآن، لكن هذا الطفل الرجل يأسف ويحزن لأنه ابتعد عن رفاقه في الكتيبة وتخلّف عنهم».
قرّرت أن أوصله إلى الخط فيحقّق أمنيته، لكن عندما حدقت في عينيه الحمراوين، قلت في نفسي: «إنه ليس على ما يرام وقد أُصيب بالغازات السامة وليس من الصلاح نقله إلى الخط الأمامي».
أخذت قراري وقلت له: «اركب».
بعد لحظات كنت أقود على الجادّة مع صبيّ من أتراك إيران.
87
75
نافذة على الشمس
- ما اسمك؟
- سيد شاه مرادي.
- من أي مدينة أنت؟
- من طهران، شارع آهنك.
بعد أن مرّت دقيقة صمت سأل:
- يا أخ، هل نحن ذاهبون للأمام؟
- أجل. (طبعًا كنت أكذب لكنه كذب لأجل مصلحة)
- يا أخ، أنا أعرف هذه الطريق، إنه يؤدي إلى الخطوط الخلفيّة.
- لم يبق الكثير لأذان الظهر، سأوصلك إلى خط الفرقة الخلفي ومن هناك تعود للخط الأمامي مع سيارة نقل الطعام.
لم أقطع مئة متر حتى قال ثانية:
- يا أخ ألا يمكنك أخذي للخط الأمامي الآن؟
- لا تحزن يا سيد، ستذهب إلى هناك بسيارة نقل الطعام، كن مطمئنًّا.
كنت أعلم أنني لم أستطع إقناعه، فعاد للإلحاح ثانية:
- بالله عليك يا أخي، لا تأخذني إلى الخطوط الخلفيّة، أنزلني هنا. لا أريدك أن تأخذني إلى أي مكان، سأذهب وحدي وأجد الخط بنفسي!
ظلّ يعيد ويكرّر توسلاته: «لا تأخذني للخط الخلفي، أنزلني هنا، دعني وشأني، خذني للأمام..». إلى أن وصلنا إلى الخط الخلفي لفرقة الرسول (صلى الله عليه وآله)، جادة الشهيد صفوي. هناك سألنا عن
88
76
علامة الوصال
دشمة كتيبة حبيب، وكان أحد القادة ما زال هناك لأجل تأمين الإسناد وغيره. ما إن رآني مع السيد حتى خرج من الدشمة وقال: «ماذا تفعل هنا يا أخ شاه مرادي؟ ألم يكن من المقرّر ذهابك إلى مركز الطوارئ؟».
لم يكد ينهي كلامه حتى بدأ السيد: «أقسم بالله إنني بخير ولا أشكو من شيء. دعني أذهب للأمام، لقد ذهب الإخوة بينما..».
مشهد توسل هذا السيد الفتي للسماح له بالذهاب إلى الخط الأمامي، ذكّرني بعاشوراء والقاسم الذي كان يصرّ على عمّه السماح له بالنزال ونيل الشهادة التي كانت بالنسبة إليه أحلى من العسل. قبل أن يلتفت السيّد إليّ ليعاتبني بعينيه البريئتين المليئتين بالدماء، خرجت من الدشمة بهدوء وانطلقت نحو مركز التنسيق. كنت أقود دراجتي وأفكر بهذه الدنيا الكبيرة التي سكنت قلب هذا الفتى الصغير وقد شرّع نوافذه نحو الشمس. كم أغبط هذا الفتى!
89
77
سقوط معمل البتروكيميائي
سقوط معمل البتروكيميائي
توقعنا هجوم العدو في الليلة الماضية وكنّا في حالة استنفار، ولأنني نمت في وقت متأخر، عدتُ وخلدت للنوم بعد صلاة الفجر. عند الساعة الثامنة صباحًا، أيقظني مجتبى وقال: «هيا انهض مائدة الطعام جاهزة».
وبعد تناول طعام الفطور، قال لي الحاج قاسم: «حسنًا يا حجت، اذهب أنت ومجتبى إلى مربض المدفعيّة وابدآ العمل».
منذ بضعة أيام، وضعت وحدة المدفعية أحد مدافعها الثقيلة في عنبر كبير قبالة مصنع البصرة للبتروكيميائيات تمهيدًا لدكّه. وبما أن المصنع أضخم وأعلى مبنى في الجنوب، فقد استخدمه العدو كنقطة استراتيجية مشرفة [على مواقعنا] حتى عمق 50 كلم من أرضنا. بعد عمليات «كربلاء 5» التي جرت بالقرب منه، استخدمه العدو للاستطلاع والرصد وجمع المعلومات لتزويد قادتهم بها. لذا وضع فريقنا هدف «تدمير المصنع» نصب عينيه وأخذ يخطّط لذلك منذ مدة.
أخذت معي الخريطة، البوصلة، الكرونومتر والمنظار، وذهبت مع الأخ مجتبى علي مرداني إلى مربض المدفع.
عبرنا المخمّس وساحة الإمام الرضا(عليه السلام)، ووصلنا إلى عنبر المدفع. كان الإخوة القيّمون عليه يعملون على تجهيزه. وقد أضافوا
91
78
سقوط معمل البتروكيميائي
إليه منظار التسديد.
بنداء الله أكبر أعطي الأمر لانطلاق القذيفة الأولى، ومع كلمة «جانم فداي رهبر»[1] انطلقت لتستقرّ بعد عدة ثوان في قلب المصنع. قلت لهم أن يُطلقوا القذيفة الثانية بنفس الإحداثيات. فانطلقت الثانية بنداء «الله أكبر» على وقع نداء «خميني رهبر»[2] خرجت من السبطانة لتنفجر أيضًا داخل المصنع. قذائفنا الثالثة والرابعة والخامسة أيضًا أصابت الهدف بشكل مباشر وأعملت في المبنى الثقوب والفجوات الكبيرة.
عندما شعر العدو أنه عاجز أمام قصفنا، راح يمطر خطّنا الأوّل والثاني بأنواع القذائف. كان مدفعنا في عنبر مقابل لمسطح مائي، لذا عجز العدو عن تحديد مكانه. وبما أن المصنع نقطة استراتيجية للعدو، فقد أرسل طائراته عدة مرات لاستطلاع مكان مدفعيتنا وتدميره، لكن بلطف الله باءت كل محاولاتهم بالفشل.
اتصلت عبر اللاسلكي بالراصد الشجاع الذي كان يرصد المنطقة من برج المراقبة خلفنا والبالغ ارتفاعه 60م وقلت له: «استطلع مكان مدفعية العدو الناشطة وأعطِنا الإحداثيات لقصفها وإسكاتها».
تابعت قصف المصنع، فاستقرت القذيفة السادسة والسابعة يمين المبنى فترنّح قليلًا. عندها صحّحت زاوية الإطلاق لليسار قليلًا كي نوجّه الضربات لممر سلالم المبنى. كنت أجلس بالقرب من مجتبى فقلت له: «رؤية هذا المبنى ساقطًا بحاجة إلى توفيق إلهي كبير».
[1] - روحي فداء للقائد.
[2] - خميني قائد.
92
79
سقوط معمل البتروكيميائي
ونحن كذلك، أعلن الإخوة الجهوزية للإطلاق. بنداء «وما رميت إذ رميت»، والجواب «ولكن الله رمى»، انطلقت القذيفة الثامنة لتصيب ممر السلالم. اهتزّ المبنى لليمين أولًا ثم لليسار وعاد ليستقر مكانه. لكن ما هي إلا لحظات حتى انهار في مكانه وتصاعدت الأتربة الناتجة عن سقوطه إلى عنان السماء على شكل نبتة فطر كبير جدًا. ذهلنا لهذا المشهد وساد الصمت، كأنما فقدنا القدرة على الكلام، لكن ما هي إلا دقائق حتى شقت صياحات الله أكبر أعنان السماء وراح الإخوة يقفزون فرحًا. كان جميع الإخوة العابرين والمارّين في المكان سواء بالسيارات أو الدراجات النارية، يصعدون أعلى الساتر الترابي ليشاهدوا المنظر.
كان ذلك بتاريخ 14/4/1987 الساعة 10:20 صباحًا.
93
80
تويوتا الإمداد الغيبي
تويوتا الإمداد الغيبي
خلال العمليات التي جرت منذ بضعة أيام، تحررت جادة أهواز - خرمشهر، وتمركزت قواتنا عند الساتر الترابي المُقام على تلك الطريق.
عند الساعة الثالثة من بعد ظهر (24/7/1988)، كنت أنتقل برفقة الأخوين رضا بهرامي نسب، وتوكلي وعنصرين آخرين من مرصد خرمشهر إلى مثلث الحسينية. ما أن اقتربنا من جادة شفيع زاده حتى خطر ببالي أن نذهب ونستطلع المدى الذي انسحب العدو منه.
انعطفنا نحو جادة شفيع زاده وعبرنا خط السكة الحديدية، كان هناك عدد من الإخوة، ما إن رأونا حتى أخذوا يلوحون لنا بأيديهم، فأجبت على تلويحهم بإطلاق بوق السيارة. عبرنا بالقرب منهم وتابعنا طريقنا. بعد أن قطعنا حوالي كيلومترًا واحدًا رأيت 4 عناصر جالسين خلف الساتر الترابي قد تحلقوا حول خريطة، وعلى بُعد أمتار منهم دراجتان ناريتان. أطلقت بوق السيارة تحية لهم وردّوا التحية بالتلويح باليد.
كانت الطريق رمليّة مليئة بالحفر والتعرجات إثر انفجار القذائف فيها، لذا أُجبرت على تخفيف السرعة.
كنت أسير بسرعة 50 كلم في الساعة، عندما رأيت في المرآة
95
81
تويوتا الإمداد الغيبي
درّاج يتبعنا، وكان يضيء ويُطفئ مصباح دراجته باستمرار، فقلت في نفسي: «لا بد وأنه يريد السؤال عن أمر ما». توقفت إلى جانب الطريق وانتظرته. بدا سائق الدراجة مضطربًا وقلقًا، سألني:
- إلى أين بهذه السرعة يا أخ؟
- إلى أول الخط لأرى إلى أي مدى تقدم الإخوة!
ضحك الدرّاج بمرارة وقال: «يقع خطّنا الأول إلى مسافة 4 كلم للخلف، وهو حاليًّا عند جادة أهواز - خرمشهر. هيا عد أدراجك قبل أن تقع فريسة الدبابات العراقية».
عندها انعطفت وعدت أدراجي. وقفت حيث الدراجتان الناريتان وكانتا للأخوة من كتيبة أبو ذر في فرقة «حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله) 27» وقد جاؤوا لاستطلاع المنطقة. بعد تبادل التحية والسلام عرّفتهم نفسي ثم استعرت إحدى الدراجتين لأذهب وأستطلع مكان وجود العراقيين. أخذت السلاح من خلف مقعد شاحنة التويوتا مع مخزني رصاص. وضعت السلاح على صدري والمخزنين في حزامي ثم جلست على الدراجة. عندما أردت الانطلاق شعرت أنّ الدراجة قد ثقُلت، التفتّ فألفيت رضا بهرامي جالسًا خلفي وقال لي:
- دعني أرافقك، إذ كيف ستتصرف وحدك وتطلق النار إذا ما التقيت الأعداء؟
الحق معه! أعطيته السلاح ومخزني الرصاص، بينما حملت المنظار والبوصلة والخريطة ثم انطلقنا. كنّا كل 500م ننزل عن الدراجة ونستطلع المكان بالمنظار، ثم نعود للحركة من جديد. قطعنا حوالي 3 كلم بهذه الطريقة إلى أن وصلنا إلى ساتر ترابي طويل يمتد بموازاة جادة أهواز-خرمشهر. نزلنا عن الدراجة،
96
82
تويوتا الإمداد الغيبي
ورحت أستطلع المكان من خلف الساتر. رأيت على بعد 500م من مكاننا، مربضًا لمدفعيتنا لكنه كان خاليًا من المدافع عدا مضادًا للطائرات عيار 22ملم. كان هناك أيضًا دبابة عراقية على بُعد 800م لكنها لا تتحرك. بدت الدبابة بحالة جيدة، لكن الله وحده يعلم إن كان بداخلها جنود عراقيون أم لا!
توكّلنا على الله وانطلقنا نحو مربض المدفعية. بدايةً قمنا بتمشيط المكان مستخدمين السلاح والقنابل اليدوية وعندما تأكدنا من خلو الدشم من الأعداء، ذهبنا بالدراجة إلى حيث مضاد الطائرات. بعد أن جهز الأخ رضا المضاد لنقله، قفلنا عائدين للخلف من أجل إحضار شاحنة التويوتا وجرّ المضاد إلى خطوطنا.
بعد أن أخذت السلاح من خلف مقاعد السيارة، وزّعتها على الإخوة وانطلقنا نحو مربض المدفعيّة. لكن لم نكد نسير عدة أمتار حتى انطفأ محرّك الشاحنة، ليدور بعد عدة دقائق ونعاود حركتنا. تكرر الأمر ثانية فانطفأ المحرّك ودار بعد دقائق. بعد أن تكرّر الأمر 3 مرات، ترجّلت وتفحّصت كربراتير المحرّك. كان كل شيء على ما يرام. أدرت المحرك مرة أخرى، لكن لم نسر مسافة قصيرة حتى انطفأ. حينها قال رضا: «أخشى أن نذهب لنحضر المضاد، فنضطرّ لترك السيارة هناك إذا استمر الحال على هذا المنوال».
عندها استدرت وعدت أدراجي نحو جادة أهواز - خرمشهر. بعد أن قطعنا حوالي كيلو مترًا واحداً، شعرت أن السيارة بحالة ممتازة وأنّ المشكلة قد حُلّت. عندها استدرت نحو المربض ثانية، لكنها عادت سيرتها الأولى. وهكذا استدرت مجددًا نحو جادة أهواز - خرمشهر. وللعجب كانت تسير كالحصان! أثار فضولي أمر هذه
97
83
تويوتا الإمداد الغيبي
السيارة، فعدتُ نحو المربض، لكن كلّما اتجهنا نحو المربض انطفأ محركها وكلما سرنا بالاتجاه المعاكس عادت إلى رشدها! ولأنّ الأمر تكرّر عدة مرات شعرت أنّ لا خير في العودة إلى المربض فرجعنا إلى الخط الخلفي قرب مثلث الحسينيّة.
فيما بعد، علمت أنّ الدبابة التي كانت تقف هناك دون حراك، قد أطلقت النار ناحية عناصرنا، ولو أننا ذهبنا بشاحنة التويوتا إلى مكان المربض لكان من المحال عودتنا أحياء. كانت تلك الدبابة تراقب كل تحركاتنا.
ربما كان تصديق هذه القصة صعبًا للبعض، لكن من واجبي سرد الوقائع كما هي.
98
84
تويوتا الإمداد الغيبي
مرصد الشهيد ملكي
ليلة (20/5/1988)، حدّثت نفسي قبل النوم: «من الأفضل أن أتفقّد دشمة الإخوة الرُصّاد». وهكذا خرجت من الدشمة. كانت تلك الليلة باردة والسماء متلألئة بالنجوم.
وجدت مصباح الدشمة مضاءً والإخوة يتبادلون الأحاديث. قلت «يا الله» ودخلت. ألقيت السلام وكان أحد الإخوة يتحدث عن مهمة الرصد التي قام بها وعن تحركات الأعداء، عن العمليات الهندسية والمهمات التي قام بها من أجل تدمير أو إيجاد اختلال في صفوف العدو.
بعد أن أنهى الأخ رضا كلامه، سألت الإخوة الذين عادوا حديثًا من مراكز الرصد عن أوضاع المنطقة وأوضاع قواتنا وقوات الأعداء. بعد الحصول على المعلومات، ذهبت إلى مقرّ التنسيق وتحدّثت عبر اللاسلكي الأول مع مرصد الشهيد مؤمني وقلت: «ليكن الأخ مهدوي جاهزًا في الصباح فسوف آتي لاصطحابه والذهاب إلى الخط الأمامي».
كان «مرصد مؤمني» عبارة عن برج بارتفاع 60م على عمود التوتّر العالي للكهرباء يمين منطقة العمليات. انضمّ الأخ مهدوي لوحدتنا قبل سنتين وقد شارف على إنهاء خدمته العسكرية. كان عندما يعتلي البرج يعمل بكل إخلاص واندفاع، وعندما يعود إلى
99
85
مرصد الشهيد ملكي
الخطوط الخلفيّة يشارك في جميع الأعمال من الحفر إلى اللِحام أو أي عمل آخر. كان طيب القلب والمعشر والجميع راضون عنه.
بعد ذلك، اتصلت بمرصد الشهيد كابلي وقلت: «ليكن الأخ كبابيان مستعدًّا فسوف أصطحبه قبل ظهر غدٍ إلى الخط الأمامي».
يقع مرصد كابلي خلف مخمّس الأضلاع، وهو برج مصنوع من نوع من الأحجار ويرتفع 28م. كان الأخ كبابيان جنديًا في قاعدة مدينة ري، وقد جاء في مهمة إلى وحدتنا. لم أكن أعرفه جيدًا، لكنه كان إنسانًا متواضعًا صادقًا ومن المحبّين الراسخين لآل البيتR.
عند الساعة العاشرة ليلًا أنهيت اتصالاتي وقلت للسيد حسيني الذي كان موجودًا في مقرّ التنسيق: «سأكون في عنبر الاستطلاع إذا احتاجني أحدهم لأمر ما». بعدها، عدت إلى عنبرنا وقرأت تقرير المقرّ الذي يشير إلى الوضع العام في المنطقة. وضبت كل ما يلزم للصباح ثم ذهبت للنوم وكان الفراش عبارة عن بطانية تحت الرأس وأخرى تحت الجسم، هذا كل شيء.
في الصباح، حملت المنظار والخريطة والبوصلة والكمامة وخرجت. أخبرت السيد أنني ذاهب إلى «مرصد مؤمني» ثم ذهبت وتفقدت الدراجة النارية وكانت من نوع هوندا تريل 125.
بعد التأكّد من الوقود وزيت المحرّك انطلقت نحو المرصد وكانت الطريق إليه مليئة بالحفر التي سبّبتها الانفجارات. ذلك الصباح، كانت الشمس تنسج أولى خيوط أشعتها على سهوب الجنوب، وقد لفحني هواء الربيع المنعش. حددت في ذهني الدروب التي يجب أن أقطعها لأصل إلى الخط ووصلت بعد ربع ساعة إلى مرصد مؤمني. عندما سمع الإخوة صوت دراجة مألوفة لديهم خرجوا من
100
86
مرصد الشهيد ملكي
الدشمة. تبادلنا السلام ودعوني إلى مائدة طعام الفطور. ولأنني أعلم أنني لن أجد مكانًا آخر لتناول الطعام، ركنت الدراجة جانبًا ولبيت الدعوة. اجتمع الإخوة حول المائدة لكنني لم أرَ مهدوي بينهم، وعندما سألت عنه أجاب أحدهم: «أخ حجت! كانت نوبتي الليلة الماضية لكنني لم أكن على ما يرام، لذا ذهب الأخ مهدوي بدلًا منّي للرصد أعلى البرج». ما إن أنهى كلامه حتى رأينا الأخ مهدوي بوجهه المبتسم واقفًا في الباب. جلس إلى المائدة بالقرب منّي وكانت عيناه محمرّتين من طول السهر وعدم النوم، كما إنّه نفذ عدة مهام في استطلاع الأعداء وإعطاء الإحداثيات لمرابضنا.
بعد تناول طعام الفطور، ولأنّ الأخ مهدوي مرهق جدًّا بسبب السهر حتى الصباح، قلت له:
- لقد كنت طوال الليل أعلى البرج وبالتأكيد أنت متعب جدًّا، فابقَ هنا وسأصطحب شخصًا آخر بدلًا منك».
- لكنّه أجاب بسرعة وعزم: «لا يا سيد حجت، لست متعبًا على الإطلاق، بل إنني نشيط وبكامل قواي. حتى إنّني أرغب كثيرًا في الذهاب إلى الأمام، حيث إنني لم أستطع تمييز بعض نشاطات الأعداء بسبب بعد المسافة».
تلاقت نظراتنا وانتظر هو الجواب! بعد دقائق، كنا أنا وهو على الدراجة متجهين إلى «كله كافي»[1]. كانت الطريق الترابية مليئة بالحفر، ولأنّه كان ضخم الجثّة نوعًا ما، كانت العجلة الخلفيّة للدراجة تصطكّ بالحاجب عند كل سقوط في حفرة. فقلت له ممازحًا: «يبدو أنه لم يعد بالإمكان نقلك على دراجة 125، ذكرني
[1] - Kaleh gahvey: رأس البقر، اسم منطقة على يمين منطقة عمليات «كربلاء 5».
101
87
مرصد الشهيد ملكي
في المرة القادمة أن أحضر دراجة 250». وشرعنا بالضحك. أشرقت الشمس وأصبحت الرؤية جيدة، وكالعادة انشغل الرُصّاد في كلا الجانبين أي العراق وإيران في جمع المعلومات وإعطاء الإحداثيات لمرابض مدفعياتهما.
وصلنا إلى مكان قريب من «كله كافي» عندما بدأ تساقط قذائف الهاون ورصاص القناص فوق رأسينا، وشاء الله أن ننجو منها ونصل سالمين إلى المرصد. كان وضع المرصد جيدًا إلى حدٍّ ما، وقد تولى الإخوة في فرقة «ثار الله 41» بناءه.
كان الدافع من إحضار الإخوة الرُصّاد العاملين في أبراج الرصد المرتفعة المشرفة على مجمل المنطقة إلى الأبراج الموجودة في الخط الأمامي والقليلة الارتفاع نسبيًا، أن يحصلوا على تفاصيل أكثر عمّا رأوه وعاينوه من أبراجهم البعيدة، كمدرعات الأعداء وتحصيناتهم، عوائقهم وطرقاتهم. كما يستطيعون من خلال الرصد في هذه الأبراج القريبة من خط العدو أن يحددوا الأهداف بشكل أدقّ تمهيدًا لإعطاء الإحداثيات لمرابضنا، وبالتالي إنزال خسائر أكبر في صفوف العدو. يستطيع الراصد الموجود في الأبراج الأمامية أن يزوّدنا بالمعلومات بنحوٍ أسرع، عن تحركات الأعداء المشبوهة أو أي حادثة وهجوم وشيك، كما يُبقينا على اطلاع مباشر ودقيق على آخر وأهم مستجدات الجبهة.
بعد أن نزل مهدوي عن الدراجة، وضعتها على الأرض في مكان ملاصق للساتر الترابي لحفظها قدر الإمكان من شظايا القصف. دخلنا إلى دشمة الاستراحة ومن ثم ذهبت مع الأخ مهدوي والأخ «براتي» والراصد المتمركز في الخط لاستطلاع المنطقة والحصول
102
88
مرصد الشهيد ملكي
على تفاصيل أدق. ذهبنا إلى المرصد الكائن على بعد عشرة أمتار من دشمة الاستراحة وبعد مراقبة المكان، لفتني وجود شق جديد في جدار قناة الأسماك. أشرت بيدي جهة الشق وقلت لمهدوي: «سجل عندك إحداثيات المكان وأعطها لمرابض الهاون ليكونوا على استعداد فيما لو بدرت عن العدو أي حركة مشبوهة».
بعد تنظيم لائحة باحتياجات المرصد وإعطاء التوصيات اللازمة للراصد، تركت المرصد وذهبت برفقة الأخ ترابي إلى دشمة الاستراحة، ومن هناك اتجهت نحو مرصد «كابلي» الذي تمرّ طريقه خلف جدار قناة الأسماك. بعد عدة منعطفات إلى اليسار، وصلت إلى المخمس ومن هناك ذهبت مباشرة إلى دشمة استراحة مرصد الشهيد كابلي. وضعت الدراجة في المتراس الذي صنعه الإخوة من صناديق الذخيرة ثم دخلت إلى الدشمة. كان في الداخل الإخوة: راضي، كبابيان، وشخص آخر. بعد السلام والاستفسار عن أوضاع المنطقة، قلت للأخ كبابيان:
- حسنًا يا نصر الله هل أنت مستعدّ للذهاب إلى الأمام؟
فأجاب نصر الله بكل حماسة: «كما إنّني جهزت حقيبتي».
- إذًا هيا بنا قبل أن يحلّ الظهر.
كنت أجهّز الدراجة عندما رأيت نصرالله قد جاء بالزي العسكري يحمل حقيبته. فقلت له: «ما هذا يا نصرالله؟ وكأنك ذاهب إلى العرض العسكري! اذهب وبدّل ملابسك وارتدِ اللباس الكاكي ولا تُحضر معك أي أوراق ثبوتيّة أو أي وسائل إضافيّة. فقط أحضر معك لباسًا كاكيًّا آخر وكمامة».
دخل نصر الله إلى الدشمة وعاد بعد عدة دقائق. بعد تلاوة
103
89
مرصد الشهيد ملكي
آية الكرسي انطلقنا بدايةً نحو ساحة الإمام الرضا ومن هناك إلى جادة شلمشة - البصرة ووصلنا إلى بلدة «دوئيجي»، البلدة الشاهدة على ذلّ البعثيّين. أينما نظرت تجد جثث الجنود العراقيّين والآليات المدمّرة؛ من الدبابات إلى شاحنات الآيفا وسيارات الجيب وبي أم بي. لم نكن قد غادرنا البلدة بعد حتى سمعنا صوت أذان الظهر، فقلت لنصر الله: «تثبت جيداً».
كان العراقيون يعلمون أنّ الإيرانيّين يخرجون من دشمهم عند كل أذان للوضوء، لذا كان قصفهم يشتدّ علينا في هذا الوقت. كلما اقتربنا من الخط الأمامي كلما زادت حدّة القصف. عندما وصلنا إلى مثلّث طرق «وحدت»، سمعت صوت صفير قذيفة تبعه انفجار مهيب أفقدني السيطرة على دراجتي للحظات، وقد حجب دخان الانفجار الكثيف الرؤية عنّي. بعد أن خرجنا من وسط الدخان والغبار، ناديت نصر الله وكان سالمًا لم يُصَب بأذًى، لا هو ولا دراجتي. بعد دقائق وصلنا إلى «مرصد المهدي33» وكانت المنطقة المحيطة به تُعرف باسم «انكشتي» (أي الإصبع) بسبب قرب المسافة بين المرصد ومتاريس كمائن الأعداء.
كانوا في هذا المرصد يستخدمون أنواعًا خاصة من المناظير؛ وفي قبال المرصد تقع حدائق رضوان بنخيلها المحترق والمقطّع الرأس، وإلى الشمال منه يقع مرصد «أرفند» الصغير، ومن ثم جزيرة «بوارين». كانت المسافة التي تفصلنا عن العدو في كل من جزيرة بوارين وجزيرة الصالحية، أقل من 50م. وتُعدّ المنطقة أفضلَ مكانٍ للعدو إذا ما أراد القيام بعملية أو هجوم ما. لذا كنا نحن والعراقيون حسّاسين جدًّا بالنسبة إليها.
104
90
مرصد الشهيد ملكي
مع سماع صوت الدراجة، خرج الأخ شاملو من الدشمة. وبسبب اشتداد حدّة القصف أسرعنا للدخول ولم ننتظر دعوة من أحد. بعد السلام والاستراحة لفترة قصيرة، اتجهنا برفقة شاملو إلى المرصد.
كان الراصد يراقب المكان بالمنظار، وقد ابتعد عنه عندما رآنا. بعد المراقبة وإعطائنا التوجيهات اللازمة حول المنطقة، ودعت نصر الله واتجهت مع شاملو إلى مرصد الشهيد كابلي.
وصلنا إلى هناك بعد الظهر، وحللنا ضيوفًا على مائدة الغداء في استراحة المرصد. بعد الغداء، نمت في الدشمة ساعةً من الزمن، إلى جانب راضي وشاملو وبراتي.
عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، انطلقت أنا وشاملو وبراتي إلى مركز التنسيق، وبعد 30 دقيقة كنت في عنبر الاستطلاع أقرأ التقارير الواردة من المراصد وأحدّد على المخطط المواقع الجديدة التي نقل العدو دباباته إليها. كنت منهمكًا بالعمل إلى درجة أنني لم ألتفت للوقت إلا مع صوت أذان المغرب. وضبت أوراق التقارير وخرجت من العنبر للوضوء ثم التحقت بصفوف المصلّين لأداء صلاة الجماعة. بعد الصلاة، تحلّقنا جميعنا حول مائدة العشاء، الذي تحول إلى لقاءٍ لسرد مجريات وأحداث الأسبوع! تركت المائدة وخرجت من الدشمة إلى الساتر الترابي. كانت ليلة باردة هادئة لا يخرق هدوءها سوى بضع قنابل مضيئة في سماء شلمشة ما تلبث أن تتراقص وهي تسقط إلى الأرض.
عند الساعة العاشرة ليلًا، كنت في دشمة التنسيق أتحدث إلى الأخ ريفندي وقرّرنا أن نخرج بالسيارة ونجوّل في المنطقة. ما هي
105
91
مرصد الشهيد ملكي
إلا دقائق حتى عبرنا جادة صفوي واتجهنا نحو جادة زيد. كانت ليلة هادئة جدًّا، وبالقرب من تقاطع الشهادة قلت لعلي: «لا يعجبني السكوت في هذا المكان».
بادلني الشعور نفسه. وبعد تفقّد المراصد، عدنا إلى مركز التنسيق عند منتصف الليل. تلك الليلة ذهب ريفندي إلى الأهواز لأمر ما، بينما بقيت وحدي أرقب عقارب الساعة حتى الثالثة فجرًا. بعدها استسلمت للنوم، واستيقظت عند الخامسة صباحًا على أصوات انفجارات متتالية. أسرعت إلى سقف الدشمة لاستطلاع المنطقة ففوجئت بلمعان فوّهات مدافع الأعداء. أسرعت نحو جهاز اللاسلكي وطلبت تقريرًا حول أـوضاع المنطقة من مراصد: مؤمني، كابلي دزفولي وقلندري. يقع مرصد دزفولي مقابل مصنع البتروكيميائيات في البصرة ويشرف على جزيرة الأسماك وأم الرصاص. بينما يرتفع مرصد قلندري 60م على أحد أعمدة التوتر العالي خلف مرصد كابلي ويشرف على كامل منطقة الجنوب.
أعلنت المراصد الأربعة أن لا حركة مشبوهة للعدو وأنهم يقصفون فحسب. خرج الحاج روح الله محمدي على الدراجة وذهب إلى مرصد مؤمني ليستطلع الأمر، بينما فشلتُ في التواصل مع مراصد الشهيد ملكي، كله كافي، الشهيد حاتمي وخط "المهدي 33". لم يكن ريفندي موجودًا ولم أستطع ترك المكان لأنه لم يوجد أحد غيري لتلقّي الاتصالات. أقنعت نفسي بالبقاء في مركز التنسيق حتى السادسة والنصف حيث نفد صبري فتوكلت على الله وذهبت بالدراجة إلى مرصد الشهيد دزفولي.
توقعت في حال حدوث هجوم أن يكون من جهة جزيرة الصالحية
106
92
مرصد الشهيد ملكي
وأم الرصاص. كانت جادة صفوي وجادة أهواز-خرمشهر تتعرض لوابل من النيران مما أعاق أي تحرك لقواتنا. تمكنت بمشقّة من الوصول إلى طريق فرعية تتجه من جادة الإمام الرضا(عليه السلام) نحو مرصد دزفول.
كان المرصد والطريق الفرعية يتعرضان لقصف عنيف، يبدو أن 5 دبابات مع عدد من مدافع الهاون قد تولّت إطلاق النار على المرصد.
وقفت للحظة أفكر، ثم ضغط على دوّاسة البنزين وسرت بأقصى سرعة سمحت فيها تلك الطريق الوعرة الترابية المليئة بالحفر. وكانت قذائف الدبابات والهاون تتساقط وتحرث الأرض عن يمينها وشمالها. تمكنت بلطف الله من قطع المسافة ولم يبقَ سوى أمتار لأصل إلى الدشمة، حين سقطت 4 قذائف على بعد 5 أو 6 أمتار من الدشمة، رميت بنفسي من على الدراجة وأسرعت إلى الدشمة بينما ارتطمت الدراجة بالساتر الترابي وانطفأت.
أسرعت إلى الهاتف، لكن لم أفلح بالاتصال وانتبهت إلى أنّ سلك الهاتف كان مقطوعًا. عندها اضطررت للاتصال باللاسلكي، ناديت الإخوة في المرصد وانتقلنا للتحدث على موجة فرعية.
- ماذا ترى؟ ما الأمر؟
- قال الراصد وهو ينظر بالمنظار: «القصف شديد، لكنه غير متمركز، كما إنّ الانفجارات المتعدّدة حجبت الرؤية عنا بالكامل».
كنت أهمّ بالصعود إلى البرج عندما ناداني أحد الإخوة وقال: «أخ حجت، ريفندي ينتظرك على اللاسلكي».
107
93
مرصد الشهيد ملكي
ذهبت إلى جهاز اللاسلكي وناديت مركز التنسيق، وبعد تبادل التحية، سألني عن الوضع في المنطقة، فقلت له: «أسرع إلى هنا فنحن بحاجة إليك».
كنت أقف عند باب الدشمة أنتظر اللحظة المؤاتية لإدارة محرّك الدراجة، عندما سقطت 4 قذائف في محيط المرصد، هرعت بعد انفجار القذائف نحو الدراجة وأدرت محرّكها وغادرت مسرعًا نحو مركز التنسيق حيث وصلت إليه بعد 15 دقيقة واستقررت قرب طاولة التخطيط. أثناء غيابي كان الحاج روح الله قد ذهب إلى «مرصد مؤمني» ليطلع على أوضاع المنطقة يمين «كله كافي» والحصول على معلومات من الراصد هناك. وكان الإخوة في مركز التطبيق في حركة دؤوبة. ذهبت إلى عامل الإشارة وطلبت منه التواصل مع مرصدي ملكي وحاتمي والاطلاع على أوضاع المنطقة هناك.
لكن بسبب طول المسافة بيننا وبين المرصدين لم يكن التواصل المباشر ممكنًا، لذا كانت تقارير كلّ من مرصد حاتمي، ملكي وقلندري تصلنا عبر مرصد مؤمني.
كان عامل الإشارة يحملق بي مذهولًا وكنت منهكًا وغاضبًا في آن، لذا صحت به: «هيا نادِ مرصدي حاتم وملكي واعرف وضعيّتهما!».
وضع أحد الإخوة في التنسيق يده على عنقي وجرّني إلى زاوية وقال: «عند الساعة التاسعة صباحًا أعطانا الأخ مهدوي الإحداثيات لإطلاق النار من مرصد ملكي وأخبرنا أنّ العراقيّين اقتحموا خطّنا، لذا طلب إطلاق النار بكل ما لدينا من قوة. كانت هذه آخر أخبار مرصد ملكي!».
حبست أنفاسي في صدري، ولم أعد أطيق صبرًا ليكمل، فتابع:
108
94
مرصد الشهيد ملكي
«فيما بعد طلب مرصد حاتمي إطلاق النار على إحداثيات أعطانا إياها مسبقًا لنقاط على الخطوط العراقية. بعد ذلك، طلب منّا قصف مكان وجوده فلم نفعل، لكن نصر الله أصرّ علينا قائلًا: «لقد اقتحموا الخط هيا أطلقوا النار!». لذا أُجبرنا على ذلك، وكانت آخر رسائل مرصد حاتمي أن نطلق النار على مكان تواجده بأقصى ما لدينا وأنه سيدمّر جهاز اللاسلكي خاصّته».
تصبّب منّي عرق بارد، ودون أن أتمكّن من التفوّه بأي كلمة، خرجت من الدشمة. بعد عدة أيام، التقيت بأحد الإخوة من مرصد فرقة المهدي 33، حيث قال لي: «آخر مرة رأيت فيها نصر الله كبابيان، كان يحمل الكلاشنكوف ويقاتل الأعداء وجهًا لوجه[1]».
[1] - في ذلك اليوم وقع كل من نصرالله كبابيان ومحمد رضا مهدوي في الأسر. بعد سنتين و3 أشهر، عاد كبابيان إلى أحضان الوطن، لكن حتى الآن لا أخبار عن مهدوي، على أمل عودة ذلك البطل أيضًا إلى أهله ووطنه.
109
95
مرصد الشهيد ملكي
المهمّة الأخيرة
أشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشرة صباحًا عندما كنتُ أنتقل من الخطوط الخلفية للرصد إلى مركز التنسيق للاطلاع على أوضاع المنطقة. كان الإخوة: السيد محمود، الحاج رضا، الأخ اشتري وآخرون، منشغلين في التخطيط لقصف العدو.
بعد أن تحدثنا قليلًا، أخبروني أنّ العمليات ستبدأ الليلة من محور زيد-الحسينيّة، بهدف دحر العدو إلى ما بعد الحدود.
عند الساعة الثانية من بعد الظهر، انطلقتُ مع السيد داوود وثلاثة آخرين من وحدتنا في سيارة نحو جادة شفيع زاده.
كانت جادة شفيع زاده مفروشة بالحصى وكانت مرتفعة عن الأراضي المحيطة بها اتّقاءً من مياه أمطار الجنوب، لكن لعدم توافر ساتر ترابي محافظ، كان عبورها خطرًا جدًّا.
بعد أن قطعنا مسافة كبيرة من هذه الطريق المليئة بالمطبات، وصلنا إلى دشمة قيادة محور فرقة «سيد الشهداء10» الكائنة خلف قناة عدن. بعد أن ركنّا السيارة في مكان مناسب، دخلنا إلى الدشمة، وقد انفصل عنا أحد الإخوة وذهب إلى الخطوط الأماميّة ليحضر القوات المتمركزة هناك إلى الخطوط الخلفيّة.
إنها ليلة العمليات، وقد سرت حركة غريبة بين قوات المشاة وقادتهم، كما كان قادة السرايا والفصائل منشغلين بإعطاء
111
96
المهمّة الأخيرة
التعليمات اللازمة على الخريطة لعناصرهم. بعد دقائق، جاء الإخوة الرُصّاد الذين كانوا متمركزين في الخط الأمامي، وقدموا التقارير عن أوضاع المنطقة وعن حماسة قواتنا، عن شجاعتهم وتضحياتهم وعن استشهادهم.
استقرّ الفريق في الخط فسلّمناهم التجهيزات اللازمة وعدت مع السيد داوود وباقي الإخوة إلى الخطوط الخلفية. وصلنا إلى مركز التنسيق حوالي الساعة الثامنة ليلًا. بعد تقديم التقارير صلينا صلاتي المغرب والعشاء. في الساعة العاشرة ليلًا سرت مشيًا على الأقدام نحو موقع «القاسم بن الحسن» مركز الإخوة الرصاد. كان الطقس باردًا وكعادتها كانت سماء الجنوب متلألئة بالنجوم. كنت أفكر بهذه الليلة، ليلة العمليات، بالإخوة الذين ينتظرون إشارة البدء لينقضوا على الأعداء، ترى ما هو شعورهم الآن؟ وكما قال أحد الأصدقاء، لقد فُتح باب الشهادة قليلًا وسيستقبل المتطوّعين. إنها ليلة الوصال حيث يضحي العشاق بأرواحهم في سبيل لقاء معشوقهم الأبدي.
وصلت إلى دشمة الإخوة الرُصّاد والأفكار ما زالت تراودني. وجدتهم نيامًا على سطحها بسبب شدة الحرّ وتكاثر البعوض في الدشمة. مررت بالقرب منهم إلى أن وصلت إلى رضا. كانت البطانيات داخل الدشمة، لكنني لم أكن أقوى على إحضارها، لذا نمت إلى جانبه.
صباح يوم (27/7/1988)، استيقظت على صوت زيارة عاشوراء. بعد صلاة الصبح انطلقت مع الحاج ميثم لاستطلاع المنطقة والاطلاع على نتائج عمليات الليلة الماضية. سرنا بالسيارة
112
97
المهمّة الأخيرة
نحو منطقة العمليات وفي الطريق عرجنا على مركز التنسيق. بعد أن حصلنا على دفتر شيفرات جهاز اللاسلكي والمعلومات عن آخر تطورات الوضع، تابعنا طريقنا نحو جاده شفيع زاده.
وبعد أن قطعنا مسافة 500م من جادة شفيع زاده، وصلنا إلى نقطة تغذية الأمواج الصوتيّة [تقوية البثّ اللاسلكي] الذي يديره اثنان من الإخوة الرُصّاد، وكان بحوزتهم دراجة نارية من نوع 250 نستخدمها للذهاب إلى الخطوط الأماميّة. فالدراجة لا تلفت أنظار الأعداء إليها كثيرًا، كما إنها ذات قدرة عالية على المناورة ومفيدة لكل أنواع الطرقات.
كانت الشمس قد أشرقت عندما وصلنا إلى نقطة التغذية. ركنّا الدراجة في مكان مناسب وذهبنا إلى الإخوة. كنت البارحة قد أوصيتهما بتفقّد زيت المحرّك وملء خزان الوقود إلى ثلاثة أرباعه فقط، حتى إذا ما أصابته شظيّة يكون الوقود أقل من الحدّ اللازم ممّا يقلّل خطر احتراق الدراجة.
بعد تفقّد زيت المحرّك والوقود، وجدت أنّ المخزن ممتلئ حتى آخره. أردت إفراغ كميّة من البنزين منه، لكن بسبب ضيق الوقت انصرفت عن ذلك.
انطلقنا على الدراجة مع الحاج ميثم نحو دشمة قيادة المحور وكان قصف الأعداء شديدًا على الطريق وأطرافها، لكننا والحمد لله وصلنا سالمين إلى محور فرقة سيد الشهداء. عندما سألنا عن وضع المعارك أخبرونا أنّ الإخوة اقتحموا الخط وما زالوا يتقدمون، وكان القادة راضين أيضًا عن عمل الإخوة الرُصّاد.
جاء الإخوة الرُصّاد إلى دشمة المحور، وكانوا يُخبرون مركز
113
98
المهمّة الأخيرة
التنسيق بالنقاط التي كان تقدّم الإخوة المقاتلين فيها سريعًا كي يجنّبونا الرماية والقذائف ويوجّهوا رمايات المدافع أكثر نحو عمق خطوط الأعداء. وكانوا في كل نقطة يظهر العدو فيها مقاومةً، يوجّهون نيراننا إليها بشكل مركّز.
بقي الحاج ميثم في دشمة المحور، بينما ذهبت أنا مع فريق الرصد على الدراجات نحو الخط الأمامي. بعد أن عبرنا القناة، توغّلنا مسافة 2700م إلى أن وصلنا إلى طريق «زيد» المعبّدة والتي كانت منذ حوالي الساعة بيد المحتلّ البعثي.
كان الحاج خادم قائد محور فرقة «سيد الشهداء10»، واقفًا بقامته الشامخة على الطريق ويعمل على هداية القوات وتوجيهها. ذهبت إليه مباشرةً، وبعد السلام عرّفته بنفسي وبرفاقي، وبعد التشاور معه اخترنا أفضل دشمة مشرفة على المنطقة من أجل استقرار فريق الرصد. استطلعت منطقة العمليات قليلًا ثم قفلتُ عائدًا إلى دشمة محور الفرقة لأذهب برفقة الحاج ميثم إلى جادة زيد فتقاطع طرق الشهادة.
حوالي الساعة الثامنة صباحًا، انطلقنا من أمام دشمة محور الفرقة نحو الخط، عبرنا القناة وقبل حوالي 500م من جادة زيد المعبّدة، سمعت صوت صفير قذيفة هاون تبعها انفجار مهيب جعلني معلّقًا بين السماء والأرض، لوهلةٍ ظننت أنني استطعت أن أمرّ خلال شق باب الشهادة، لكنني ارتطمت بالأرض بعد قليل، فأدركت أنني ما زلت ترابيًّا وعلى قيد الحياة. ناديت الحاج ميثم: «أين أنت يا حاج؟ هل أنت بخير؟».
تمكّن الحاج ميثم من الزحف إلى جانب الطريق وقال لي: «هيا
114
99
المهمّة الأخيرة
يا حجت، أسرع قبل أن تسقط القذيفة التالية».
أردت النهوض، لكن قدمي اليسرى لم تسعفني وكانت غارقة بالدماء. عندما كنت أزحف على صدري نحو حافة الطريق، رأيت سيارة إسعاف تتجه نحوي. فقد شاهد سائق السيارة انفجار القذيفة بالقرب منا وأسرع لنجدتنا. توقفت السيارة ووضعوني على الحمالة.
عندما سارت بنا سيارة الإسعاف نظرت إلى الدراجة، فرأيت العجلة الأماميّة، المحرّك والمقود في جهة؛ والعجلة الخلفيّة والمقعد وجزءًا من سيلندر المحرك في الجهة الأخرى من الطريق.
لقد أدّى انفجار القذيفة إلى انشطار الدراجة إلى نصفين، ولم يكن من أثر لمخزن الوقود الذي يمكن أن ينفجر لإصابته بأصغر شظيّة.
الحمد لك يا رب، تلك هي مشيئتك..
وانطلقت سيارة الإسعاف مسرعة على جادة «شفيع زاده» المليئة بالمطبّات، لتنقلني إلى مستشفى الإمام الحسين (عليه السلام).
115
100