لقاء في فكة

سيرة الشهيد حسن باقري(غلامحسين أفشردي)


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2019-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدّمة الترجمة

مقدّمة الترجمة

«.. ترون شابًّا يدخل ساحة المعركة، ولا خبرة له في المسائل العسكرية.. وبعد سنتين يصبح خبيرًا استراتيجيًا في الحرب. هذا أمر غاية في الأهمية. حسنًا.. لاحظوا الشهيد حسن باقري كمثال .. فأصحاب المعرفة ومن لديهم اطلاع يرون أنّ هذا الشابّ قد أصبح في العشرين ونيّف من عمره مهندسًا عسكريًا، متى؟!. في سنة 1982م. ومتى دخل ساحة الحرب؟! في سنة 1980م...لقد طوى هذا الشابّ حركة عشرين سنة في حركة سنتين!»[1].

لا تنحصر العبقرية بالمسار الجهاديّ وحسب؛ فكل ميادين الحياة فرصٌ للسبق إلى الخيرات؛.. وإن كانت ميادين الحروب في الغالب محلًا لظهور النخب والعباقرة؛ مثلما تكون أيضًا مركزًا لانبعاث الآلام والمرارات؛ ولكن دأب العباقرة في ساحات النزال التخفيف من خسائرها وأثقالها؛ واصطياد فرصها؛ ليتحول طعم الهزيمة نصرا. وهنا سر عبقريتهم الحقيقية.

ليست العبقرية وليدة المعاهد والكليات الحربية فقط؛ إنما هي- بالدرجة الأولى - صنيعة الفرد نفسه؛ بما أوتي من قوة في الفكر وفي الهمّة وفي اليدّ .. لكن مقدماتها تبدأ من مرحلة الطفولة مرورًا بالشباب؛ من قاعدة الأسرة حيث الأساس والمهد الطبيعي؛ مرورًا بالصبا حيث تضافرعوامل التربية والتعليم؛ وصولًا إلى وجود قيادة حكيمة تجذب أصحاب القلوب وتشحنها بإكسير المحبة والقيام ..

في ريعان شبابه كان غلام حسين افشردي قارئًا جيدًا ونهمًا؛ دأب على

 


[1] - الإمام الخامنئي(دام ظله) في حفل تكريم عشرة آلاف شهيد في محافظة مازندران 16-12-2013 م

 

7


1

مقدّمة الترجمة

جمع الكتب والاستطلاع والبحث؛ درس وبنى عقيدته ومعارفه من خلال هذا الاتجاه ..؛ مع أنه لم يكن متفوقا في المدرسة!

 

مارس العمل الصحفي وكتب فيه؛ كتب تقارير عديدة أثناء زيارته إلى لبنان والجزائر؛ وكان أول صحفي يصل إلى صحراء طبس ليوثّق هزيمة الجبروت الأمريكي النكراء..وفي الحرب كان أول المبادرين لابتكار الخطط والاستفادة من المعلومات والخرائط؛  وله جولات في الاستطلاع..

 

حسن باقري؛ قياديٌ فتيّ جادت به ثورة الإمام الخميني؛ نهض من قلب المجتمع المستضعف ثم صنع من الضعف قوة ومن الحرب انتصارا.

 

شكر وتقدير

يسرُّنا أن نقدّم للقراء وخاصة الشباب؛ الإصدار الـ (28) في سلسلة «سادة القافلة» ومجموعة أدب الجبهة؛ ولا يسعنا إلّا أن نشكر كل من ساهم في إعداده وترجمته ليبصر النور بهذه الحلّة:

- الكاتب: الأستاذ سعيد علاميان، وناشر النسخة الأصلية (سوره مهر) و مكتب (أدب وفن المقاومة)؛ 

- فريق الترجمة والصياغة: مريم صفي الدين، حنان الساحلي، هداية صفوان وأميمة عليق؛ حيث تضافرت الجهود لتقديم نصوص عربية متماسكة بلغة جميلة.

- فريق المراجعة والتحرير؛ ونخصّ بالذكر رضوان راغبي في تدقيق الترجمة، ونجوى الموسوي في التحرير.

- المخرج الفني: علي عليق.

والشكر موصول لدار المعارف الإسلامية الثقافية في بيروت؛ ناشر النسخة العربية.

 

مركز المعارف للترجمة

شهر رمضان-2019

 

8


2

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب

صباح الأحد في 29/1/1983م بينما كان جمعٌ من قادة الحرب في زيارة للإمام الخميني، وصل خبر هام إلى جماران: استشهد حسن باقري!

كان ذلك اليوم مريرًا وعصيبًا على القادة. قال محسن رضائي: «كأنّ انفجارًا حصل في دماغي». وأبدى قلقه تجاه مستقبل الحرب قائلًا: «أشعر أنّي فقدتُ أحد ذراعيّ، إذ كيف سنتمكن من الاستمرار في الحرب؟»، وقال الشهيد مهدي زين الدين: «كان وقع الخبر كانهيار جبل على رؤوسنا».

لقد كان الاستمرار في الحرب على المحكّ، فكيف سنكمل المعركة وقد فقدنا حسن؟ فقدنا قائد مقر كربلاء! قال الحاج قاسم سليماني: «لم نشهد يومًا ناء بثقله على الشباب في الجبهة كيوم شهادة حسن باقري، كانت شهادته خسارة للجبهات لم تعوّض».

دخل غلامحسين أفشردي، المعروف بحسن باقري، إلى خوزستان مع بدايات الحرب، أي في الثالث والعشرين من أيلول عام 1980، وأمضى 28 شهرًا من عمره في ميادين الحرب. وفي هذه الفترة القصيرة نسبيًا، أصبح ركنًا أساسيًا يُعتمد عليه في الجانب الاستخباري والمعلومات والتّخطيط، وتنفيذ مختلف العمليات الصغيرة والكبيرة. قال قائد الحرس الثوري محسن رضائي:

 

9

 

 


3

مقدمة الكتاب

«كنت أستند على كلام حسن كتأييد لرأيي وأحيانًا آخذ برأيه كرأي سديد يطرحه هو». وأضاف: «يوجد في كل عملية ثلاثة أو أربعة قرارات مصيرية، كان لحسن باقري دور فيها. على سبيل المثال، كان يكفي أن نمتنع عن مهاجمة الرادار حتى تفشل عملية «الفتح المبين» بتمامها».

القائد علي صياد شيرازي، شهيد الجيش، يمدح ذكاء حسن المتوقّد، ونباهته، وقدراته، وكذلك نشاطه وقوته في التحليل إلى جانب التزامه وروحه الثوريّة. وقد عدّه في مقام لا يصله إلا الألمعيّ في الجبهة وذلك بعد سنوات من الجهاد.

استشهد حسن باقري في السابعة والعشرين من عمره، وكان نائبًا لقائد القوات البريّة في الحرس وفي عداد قادة الصف الأول في الحرب. ذاع صيته بعد مضي شهرين من حضوره في الجبهة، بحيث أن ممثل الامام في الهيئة العليا للدفاع وأعضاء تلك الهيئة والقادة العسكريين نظروا إليه كشخصٍ عالمٍ بأدق المعلومات والقادر على تقديم الحلول.

في 16/11/1980م، عُقد اجتماع في غُرفة عمليات الجيش ضمّ آية الله الخامنئي ممثل الإمام الخميني، أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية ونائب القائد العام للقوات العسكرية آنذاك، واللواء فلاحي قائد القوة البرية، واللواء «ظهير نجاد» رئيس الأركان في الجيش، والدكتور شمران، وسائر المسؤولين في سوسنكرد. اصطحب قائد غرفة العمليات في الجنوب، داوود كريمي، حسن باقري معه بصفته مسؤول (فرع) استطلاع العمليات في الحرس. وعندما حان دور الحرس في تلك الجلسة، طلب الحاج داوود من

 

10

 

 


4

مقدمة الكتاب

حسن باقري أن يقدّم الشروحات على الخريطة. فقدّم في البداية شرحًا حول كيفية تموضع القوات على جميع محاور خوزستان، ثم أدلى بمعلومات تفصيلية عن قدرات الوحدات العراقية، وقادتها، ما أثار إعجاب الحاضرين، منهم بني صدر الذي أثنى على ذكاء حسن ونباهته  بالرغم من أن بني صدر لم يكن يرى الحرس ذا كفاءة وخبرة في قضية الحرب. حضر في تلك الجلسة جمعٌ من كبار الجيش الذين يملكون تجارب عسكرية تفوق سنوات عمر حسن. وقد واجهوا شابًا خبيرًا بأوضاع جميع مناطق الجبهة في الجنوب، وضليعًا بجميع وحدات العدو وقدراتها، وكيفية تحركاتها من الجنوب حتى الشمال وتكتيكاتها الحربية. ولم تتوافر لدى بني صدر والمسؤولين العسكريين آنذاك معلومات تذكر في هذا المجال. كانت جلسة سوسنكرد نقطة تألّق حسن باقري. ولم يدم الأمر طويلًا حتى اعتبره قادة الجيش والحرس نابغة، إذ شهدوا قدراته في الحصول على المعلومات، وفي التخطيط وفي قيادة الأعمال العسكرية الكبيرة.

لطالما كانت الحرب ساحة ظهور النوابغ والنخب. وقد عُرف عددٌ من النوابغ العسكريين الذين شاركوا في شبابهم في الحرب العالمية الأولى، واكتسبوا خبرة منها، ثم اشتهرت أسماؤهم في الحرب العالمية الثانية، وتداولتها الألسن ومنهم: «مارشال غيورغي جوكوف» في الاتحاد السوفياتي، والجنرال «إرفين روميل» في ألمانيا، وكذلك الجنرال «ديغول» في فرنسا، والجنرال «برنارد مونتغمري» في انكلترا، والجنرال «جورج باتون» في أمريكا. وكان متوسط أعمارهم في الحرب العالمية الثانية 50 سنة؛ حيث بلغ جوكوف من العمر 45

 

11

 

 


5

مقدمة الكتاب

سنة حينها ومونتغمري 54 سنة، وقاربت أعمار الباقين الخمسين سنة أيضًا. ومن الجدير ذكره أن متوسط أعمارهم عند الوفاة كان 75 سنة، وكل واحد منهم فارق الحياة بعيدًا عن ميادين الحرب.

وإن كان هناك أوجه تشابه بين أساليب حسن باقري وتدابيره الحربية ومونتغمري في خطّته في الالتفاف حول العدو، ومارشال جوكوف في ابتكاره في التخطيط العسكري، بين حسن باقري والجنرال باتون في تأكيده على الاستطلاع الدقيق والشامل لساحة الحرب، ومارشال روميل في سعة صدره وحسن أخلاقه مع من هم أدنى منه رتبة أو مع أسرى الحرب، إلا أن الاختلاف الكبير بين حسن باقري وسائر الجنرالات هو صغر سنّه، الأمر الذي دعانا لتدوين هذا الكتاب.

في صيف العام 2007، وجّهت «مؤسسة الشهيد حسن باقري» دعوةً لي ككاتبٍ حتى أتولى مهمّة التحقيق في حياة الشهيد وتدوين مجموعة ذكرياته. استمرّ هذا العمل حتى مطلع العام 2015. في بادئ الأمر، سلّمني القائد فتح الله جعفري، رئيس المؤسسة، التسجيلات الصوتية التي تخصّ عائلة الشّهيد وأصدقاءه وزملاءه الصحفيين وكذلك المقابلات مع القادة والضّباط، والتي أُجريت في أعوام 1983 و1996 و2004. خلال سنوات التّحقيق، قابلتُ 45 راويًا؛ غالبيتهم من القيادات العليا في الحرس الثوري والجيش. وقامت السيدة مريم نوري، التي عاونتنا في المشروع، بتدوين ذكريات ما يقارب هذا العدد من المقابلات. كما طالعتُ العديد من الوثائق التي كان الشهيد قد كتبها بنفسه، وتشمل المذكرات، الرسائل، وتقارير الحرب اليومية. وفي نهاية المطاف كانت حصيلة الذكريات الشفويّة لمئة وسبعين راويًا

 

12


6

مقدمة الكتاب

والوثائق ذات الصلة: تأليف وإعداد مجموعة ذكريات حسن باقري في كتاب من ثلاثة أجزاء تضمّنت ألفي صفحة.

في هذه السنوات، كلّما تعمّقت معرفتي بحسن باقري أكثر، تحسّرتُ على خمول ذكره؛ خاصة بين جيل الشباب. كنت أقول في قرارة نفسي حبذا لو تعرّفت الأجيال إليه (وعرفت قيمته) كما عرفه القادة والمجاهدون في أيام الجبهة. لأني كنت أشعر أنه ليس ابن الفترة الزمنية التي عاش فيها وحسب، ويمكن أن يصبح نمط حياته وكذلك قدراته مصدر إلهامٍ للشباب الباحثين عن آفاق النجاح والتقدّم. ورويدًا رويدًا ازدادت رغبتي في تحقيق هذه الأمنية التي كانت راقدة في إحدى زوايا ذهني، حتى صارت قرارًا واقعًا. كنتُ أرغبُ بكتابة سيرة حسن باقري بأسلوب شائق جذاب؛ مستفيدًا من كل ما جمعته في هذه السنوات؛ لتكون جديرةً بالوصول إلى شريحة الشباب. وأفصحتُ عن شوقي لصديقي القديم مرتضى سرهنكي. فرحّب بهذه الفكرة؛ قصة حياة موثقة، مختصرة، وبأسلوب سهل مبسّط للشباب.

في هذا الكتاب استفدنا من ذكريات شفاهية لـ (65) راويًا، من بينها ذكريات: الشهيد محمد ابراهيم همت، والشهيد مهدي زين الدين، ومهدي باكري، والشهيد حميد معينيان وداوود كريمي والشهيد علي صياد شيرازي. حيث أجرى قسم الإعلام في «مقرّ كربلاء» في العام 1983م المقابلات الشفاهية مع الشهيد محمد إبراهيم همت، والشهيد مهدي زين الدين، والشهيد مهدي باكري، والشهيد حميد معينيان. أما المقابلة مع الشهيد صياد شيرازي فكانت في العام 1996م، ومع الشهيد داوود كريمي في العام 2004م

 

13

 

 


7

مقدمة الكتاب

أي قبل شهرين من شهادته، وذلك في مؤسسة الشهيد باقري من قبل القائد فتح الله جعفري. فرّغت هذه المقابلات وكذلك الحوارات المسجّلة التي كانت قد أُجريت مع الشهيد باقري نفسه، واستكمل إعدادها وجمعها بتمامها في كتاب من ثلاثة أجزاء حمل اسم «مجموعة ذكريات الشهيد حسن باقري»؛ وقد أدرجنا أقسامًا منها في هذا الكتاب.

كان غلامحسين افشردي المعروف بحسن باقري، صحافيًّا أمضى 18 شهرًا من عمره في مهنة الصحافة. وعند مراجعة أرشيف صحيفة «جمهورى اسلامى» حصلتُ على بعضٍ من أعماله التي تدلّ على أنه توجّه في الأيام الحساسة والعصيبة لبداية الثورة إلى المواضيع الهامّة والمصيرية. فكانت المقابلة التي أجراها مع أحمد مفتي زاده -من القيادات الدينية لأهلنا السنّة في كردستان في تلك الآونة- على قدرٍ عالٍ من الأهميّة، وقد طُبعت في التاسع من أيلول عام 1979.  كما كان الشهيد باقري أول صحافي يُرسَل في بعثةٍ خارج البلاد عقب انتصار الثورة. ففي نهاية شهر تشرين الأول من العام 1979 أُرسلت بعثةٌ من قبل الحكومة الإيرانية للمشاركة في احتفال ذكرى استقلال الجزائر بدعوة من رئيس جمهورية الجزائر، وضمّت البعثة: المهندس مهدي بازركان، الدكتور ابراهيم يزدي، والدكتور مصطفى شمران، رافقَ الوفد غلامحسين افشردي صحافيًّا، كانت محصّلة سفره تقريرًا طبع في صحيفة «جمهوري اسلامي» في الثاني من تشرين الثاني من العام  نفسه.

في يوم الجمعة الموافق للخامس والعشرين من نيسان عام 1980 وبُعيد ساعات قليلة من الإنزال الأمريكي العسكري في صحراء

 

14

 

 


8

مقدمة الكتاب

طبس، انطلق افشردي وكان أول صحافي يصل إلى المنطقة. كتب ونشر أربعة تقارير عن تلك الحادثة، وكان في كل يوم يُعلِن عن تفاصيل جديدة عنها بالإضافة إلى شرحها وتحليلها.

ومن أعمال غلامحسين افشردي، يوميات رحلته إلى لبنان في حزيران عام 1980م، لمدة أسبوعين، وكانت حصيلة الزيارة خمسة تقارير عن كافة المسائل والمواضيع السياسية والاجتماعية والثقافية في ذلك البلد. قدّم غلامحسين في رحلته هذه، معلومات جديدة عن لبنان ولا تزال مفيدة إلى يومنا هذا. وستجدون بعضًا من هذه الأعمال في صفحات من هذا الكتاب، وذلك حسب مناسبتها للموضوع والنّص.

في لقاءٍ باللواء محمد باقري (أفشردي) علمتُ أن غلامحسين كان قد كتب في أوج أيام الثورة، مقالًا حول مشروع قانون الصحافة، وقد نشرتْ جريدة كيهان هذا المقال. عثرتُ عليه بعد البحث في أرشيف الجريدة المذكورة، وكان قد نشر بتاريخ 13/7/1357 (1978م). ففي تلك الآونة، أجرى الحكم البهلوي استطلاعًا حول مشروع قانون الصّحافة ليظهر انفتاحه السياسيّ المزعوم، وأبدى عددٌ من الصحافيين المعروفين آراءهم حول هذا المشروع ومنهم غلامحسين؛ حيث كتب  رأيه مفصّلًا ونشره. وقد فنّدَ في هذه الرسالة مسوّدة هذا القانون مبيّنًا نقاط الخلل والضعف فيه من خلال تقديمه نقدًا حقوقيًا مفصّلًا يتناول الموضوع من الجانب الاختصاصي. في ذلك اليوم، لم يصدّق الذين قرأوا هذا المقال بأن كاتبه شابٌ يبلغ من العمر22 سنة، حديث العهد في مجال الصحافة لجهة الخبرة. وقد أرفقتُ قسمًا من هذا المقال في الكتاب ليطّلع القرّاء الأعزّاء أكثر على متانة قلم الشهيد وقوّة تحليله واستدلاله.

 

 

15

 

 


9

مقدمة الكتاب

سيتعرّف القارئ  في هذا الكتاب على 28 شهرًا من تاريخ الحرب في حياة حسن باقري، وتتضمن الأيّام الأولى للحرب، مرورًا بعمليات كبيرة وهامة. كان جلّ سعيي سرد وقائع العمليات ورواية الحوادث العسكرية بعيدًا عن التّعقيد والنّظرة العسكرية المتخصصة؛ ليطّلع القارئ بيسرٍ على أحداث الحرب بكل تقلّباتها. وفي ختام هذه المقدمة يجدر بي أن أحيّي أرواح الشهداء الذين رووا (أحداث) هذا الكتاب وأسلّم عليهم: الشهيد ابراهيم همت، الشهيد مهدي باكري، الشهيد حميد معينيان، والشهيد مهدي زين الدين، والشهيد داوود كريمي والشهيد علي صياد الشيرازي. وكذلك أذكر الشهيد الحاج حميد تقوى والشهيد الحاج حسين همداني والجريح العزيز الحاج أحمد سياف زاده، حيث كان لي معهم يومًا شرف الحديث، وها نحن اليوم نفتقدهم بيننا، لكن كلامهم سيبقى مخلدًا في هذا الكتاب ذكرى لهم. فلتخلّد ذكراهم.

 

سعيد علاميان

25/10/2015

 

 

 


10

طفل مشاغب

طفل مشاغب

 

في 16/3/1956 م، وفي مستشفى «مادران» في طهران، ولد طفل كان الولد الثاني لعائلة أفشردي. عائلةٌ قدّر لها الدّهر كرهًا ترك موطنها تبريز والهجرة إلى مدينة طهران. أما الأم، فهي ابنة السيد محمد علي، النّجار الإفرنجي[1]. أرسلها والدها في عمر الخامسة إلى الكتّاب[2]، فتعلمت قراءة القرآن حتى الجزء الثلاثين. كان صفّ الكتّاب آنذاك مختلطًا، يدرُس فيه الصبيان والبنات معًا. بعد مضيّ عام لم يعد يسمح لها والدها بالذهاب إلى هناك، وعلّمها قراءة القرآن في البيت بنفسه. أمّها تُدعى «خير النساء»، وكانت امرأةً مؤمنة. فعندما كانت تمرّ في السوق بالقرب من الحوانيت التي تبثّ الموسيقى عبر الراديو تسدّ أذنيها بيديها. وكانت تنحدر من عائلة ثريّة تساعد جيرانها الفقراء. ففي فصول الصّيف، كانت تجفّ آبار غالبية المنازل، ولكن بئرهم كان عميقًا وماؤه لا يغيض، ويبقى عذبًا صافيًا. ولهذا ظلّ باب دارهم مُشرّعًا في وجه الجميع من فترة ما بعد الظهر وحتى الغروب، ليأتي الناس يسحبون الماء من البئر ويأخذون حاجتهم.

 


[1]- في تلك الحقبة كانوا يطلقون على النّجار الممتاز والماهر لقب النّجار الإفرنجي.

[2]- صفوف تعليم القراءة والكتابة آنذاك دُعيت بـ"الكتّاب" أو دور الكتاتيب(المحرر).

 

17


11

طفل مشاغب

وعندما تقدّم السيد محمد علي في العمر، لجأ إلى صناعة الأقلام. لكن عمله كسد عندما دخلت السّوق أقلام الحبر الجاف والسائل، فقصد طهران أملًا منه بتسويقٍ أفضل لبضاعته. وحينها كان عمر الأم سبعة عشر عامًا:

«في بادئ الأمر، سكنّا في شارع «السيد نصرالدين». كانت طهران مدينة غريبة بالنسبة لنا، ولم نُجِد التكلّم بالفارسية. لم تكن تلك الأيام كحال أيامنا هذه، فاليوم يجيد غالبية أهالي طهران التّركية[1]. بينما في تلك الأيام لم يكن يوجد في طهران أتراك أساسًا، وإن وُجدوا فبندرة وفي بعض الأحياء الخاصّة. ومن جهة أخرى، كانت أمي فردًا اجتماعيًا، ففي تبريز، لم يخلُ دارنا من الضّيوف والزوّار، لذلك بقيت الحياة في طهران لسنوات صعبةً وثقيلةً. بعد سنة، أي في العام 1950، تزوّجتُ من مجيد أفشردي، وكان قد تعلّم في المدرسة حتى الصف السادس. حملتُ بعد مضيّ عام ونصف من زواجنا، لكنني وبعد ولادة طفلتي ابتُليت بمرض وصداعٍ في الرأس استمرّ لعشرين عامًا. كان صاحب المنزل شخصًا بخيلًا، وعشنا بصعوبةٍ ومشقّة في إحدى غرف سرداب منزلهم. ثم حصل زوجي على وظيفة في وزارة الطّرق، وصار مسؤول أرشيف المؤسسة. لذلك، وبفضل مديري تلك الدائرة، انتقلنا للسّكن في أحد منازل الوزارة، في شارع «ارگ». ما إن انتظمت حياتنا بعض الشيء حتى مرض زوجي وأصيب بداء السّل في العظم.[2] أجرى

 


[1] - أهالي منطقة تبريز ومحافظات شمال غرب إيران عمومًا يتكلمون التركية، وتعدّ لغتهم الأساسية إلى يومنا هذا. (المترجم)

[2] - داء السلّ العظمي وهو تآكل وتشوّه في العظام نتيجة انتشار الدّرن في المفاصل. (المترجم)

 

18


12

طفل مشاغب

له الأطبّاء عملية زراعة عظم في الظهر، ثمّ لازم الفراش مدّة ستة أشهر. كان زوجي يعمل مياومًا[1]، ومع ذلك كان عليه الاستمرار في العمل، حتى لا يفقد وظيفته وبالتالي نفقد المنزل. لم يكن باليد من حيلة، كنت قد تعلّمتُ القراءة في هذه المدّة الوجيزة. كان ملفوفًا بالجبيرة من رقبته حتى فخذه. ولأنه فَطِنٌ وسريع البديهة فقد حفظ مسبقًا أرقام خمسة عشر ألف ملف. فصاروا يأتونه بالأعمال لينجزها في المنزل. فيذكر لي رقم الملف لأبحث عنه، حتى تمكنّا من إنجاز العمل بأي وسيلة ممكنة.

وبعد مضي ستّة أشهر، تحسّنت حاله واستمرّ في عمله. في تلك المدة قاسيتُ شدائد وصعوباتٍ كثيرة وهزل جسمي. فوصف لي الأطباء بعض الأدوية وطلبوا مني الاستراحة الكاملة، لكنّي ما عرفتُ الراحة وإن أردتُ ذلك لم أستطع.

كنت حاملًا في الشهر السّابع عندما بدأت أوجاعي. نقلوني إلى مستشفى «مادران»، وولد طفلي في السادس عشر من شهر آذار من عام 1956 الموافق للثالث من شهر شعبان، أي في ذكرى ولادة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهكذا أسميناه غلامحسين نذرًا للإمام الحسين (عليه السلام)»[2].

ولعل معاناة الأم كانت سبب استعجال غلامحسين في مجيئه إلى الدنيا، فأتى قبل شهرين من موعده حيث لم يكن أحد يترقب قدومه ليحمل الأعباء ويخفّف عن كاهلها. ورغم فرحها الشديد، كان عليها تحمّل معاناة جديدة؛ فغلامحسين كان مولودًا خدّيجًا

 

 


[1] - أي يتقاضى راتبه يومًا بيوم.

[2]- السيدة كبرى أفشردي والدة غلامحسين افشردي.

 

19


13

طفل مشاغب

لم يتعدَّ وزنه الكيلو وثمانمئة غرام. في تلك المستشفى لم تكن الحاضنات الخاصة لحفظ الأطفال الخدّج متوفرة، وإن توفرت في مستشفى ما فلطبقة خاصّة دون غيرهم من عوام النّاس. فقدَ الأطباء الأمل ببقائه على قيد الحياة. فسلمّوه إلى أمّه بعد مضيّ ثلاثة أيام على ولادته:

«كان في بيتنا طاولة تدفئة[1]، فكنتُ ألفّه بقماش وأضعه تحتها. كان هزيلًا جدًا كفرخٍ شقَّ لتوّه من البيضة. بدا جسمه كعظمة تكسوها طبقة من جلدٍ وردي. وأصابعه أشبه بأعواد كبريت متراصفة قرب بعضها البعض. بقيتُ أطعمه الحليب في فمه بالملعقةِ شهرًا كاملًا؛ فكبر ونما بعون الله ولطفه. لمّا بلغ من العمر سنة وبضعة أشهر، أُصيب بمرض «السّعال الدّيكي»، فكنتُ ألفّه جيدًا، وأصعد به إلى السطح ليستنشق هواءً نظيفًا»[2].

عندما ولد غلامحسين، كان عمر أخته أربعة أعوام. وكان المولود عاجزًا إلى حدٍ أن صوته لا يرتفع عند البكاء وكان يعبس فقط. لذلك كانت مهمّة الأخت الصّغيرة تفقّده كلّ بضع دقائق لترى هل تغيّرت ملامحه أم لا.

وفي الجهة المقابلة لمسجد «ارگ» كان يوجد فسحة خضراء، وقد اعتاد والده السيد مجيد أخذ الأطفال ليلًا إلى هناك:

«خلال فترة طفولة غلامحسين كان والدي يحمله كل ليلة على صدره، ونذهب إلى الحديقة سويًا، ونعود إلى المنزل بعد أن يغفو.

كان لي عمة متزوجة من خال أمي، يسكنان في كربلاء، وعندما

 


[1]- طاولة خشبية قصيرة تغطّى بملاءات ويوجد تحتها مدفأة، وتعد من أثاث المنزل في التراث الإيراني، يجلس أفراد الأسرة حولها واضعين أرجلهم تحتها للتدفئة.

[2]- والدة الشهيد.

 

20


14

طفل مشاغب

بلغ غلام حسين السنتين سافرنا إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ومكثنا تلك المدة في منزلهم وقد أحبّا غلامحسين حبًا جمًا. في أحد الأيام التي قضيناها هناك، ذهبنا إلى الحرم للزيارة، يومها ضاع من فرط مشاغبته، وعثرت عليه أمي وعمتي في إحدى النواحي بعد بحثٍ طويلٍ وتوسلٍ كثيرٍ بالإمام الحسين (عليه السلام)»[1].

في الخامسة من عمره أصيب غلامحسين بالخناق (الدفتيريا)، وكان الوقت شتاءً، فحضنَتْه أمُّهُ وخرجتْ به من البيت رغم تساقط الثلوج والبرد القارس:

«لم أجد طبيبًا آخذه إليه، فذهبتُ إلى الصّيدلية والاضطراب ينهشني. قلت لهم: «أكاد أفقد إبني». فاتَّصلُوا من هناك بطبيبٍ يُدعى «الدكتور حسن زماني»، وعجّلتُ بالذّهاب إليه، حيث عاينه ووصف له الدّواء المناسب. ثم ركبتُ سيارة أجرة وعدتُ مسرعة إلى الصيدلية حيث حقنوه بالدّواء، ونجا بفضل الله تعالى، كنت أشعر أني سأموت لو فقدته».[2]

خلال طفولة غلامحسين تنقلتْ عائلة أفشردي من منزل لآخر، فسكنتْ بدايةً في منزل الوزارة في شارع «ارك» إلى أن بلغ الثالثة من عمره، ثم أخلته وانتقلت إلى منزلٍ يقع في شارع «قنات آباد مولوي». وبعد مضيّ ثلاث سنوات، أي عندما حان موعد ذهاب غلامحسين إلى المدرسة، اشترت العائلة منزلًا متواضعًا في منطقة «دوار خراسان»، يقع آخر زقاق مسجد «صدرية». ثم انتقلت بعد أربع سنوات للسكن في منزلٍ آخر في زقاق «قائمية» في الحي نفسه،

 

 


[1] - السيدة بتول افشردي، أخت الشهيد غلام حسين افشردي.

[2] - والدة الشهيد.

 

21

 

 

 


15

طفل مشاغب

وبقيت فيه، وقد ترعرع غلامحسين في هذا البيت طفلًا ويافعًا وشابًا. لم يهدأ للأم بال، ففي طفولة غلامحسين، كان الخوف من فقدانه يؤرقها، وسنة بعد سنة عاشت هاجس مشاغبته وحركته المفرطة والتي كانت تعرِّض حياته للخطر.

في البيوت القديمة، يوجد حوض ماء (بركة) وسط باحة المنزل، عادةً ما يجلسون حوله، ويقومون بأعمال الغسيل فيه، من غسل أوان أو ثياب أو غيرها. وفي ذلك اليوم، كان غلامحسين وبعض أصدقائه يركضون ويتسابقون حول الحوض، وقد سبقهم غلامحسين، وبينما هو يركض حانت منه التفاتة للخلف، ليرى المسافة التي تفصل بينه وبين أصدقائه، ففقد السيطرة على حركاته، وارتطم بالحائط فشقّ جبينه، وسال الدم على وجهه. وتزامن ذلك مع ارتفاع صوت الأم صارخة: يا حسين!

ترك سباق ذلك اليوم أثره على جبين غلامحسين. لطالما وقعت حوادث من هذا النوع حتى اعتاد عليها، خاصّة عندما اشتروا له دراجة بثلاث عجلات فزادت نسبة الأضرار. فلطالما عاد إلى البيت مصابًا بجراح في يديه أو رجليه أو وجهه بسبب سرعته في قيادتها.

رويدًا رويدًا بلغ غلامحسين العمر المناسب لدخوله المدرسة. فسجّله والده في ابتدائية «مترجم الدولة»[1]. لكن الدرس والمدرسة والفروض اليومية لم تقلّل من مشاغبته الطفولية شيئًا:

«بالنسبة لأمي، ما إن يبدأ العام الدراسي حتى تواجه نوعًا جديدًا من المشاكل، وما إن ينتهي حتى ترفع يديها لاهجة بالشكر لله. لطالما رجته قائلة: غلامحسين أكتب فروضك! غلامحسين

 

 


[1]-  تغير اسم هذه المدرسة فأصبح: مدرسة الشهيد رحيم.

 

22


16

طفل مشاغب

تابع دروسك! أما هو فكان في عالم آخر، لا يعرف حتى أين وضع كتبه ودفاتره. وفي بعض الأحيان كان يأخذنا النوم فيقوم هو ويرتدي ملابسه على عجل ويخرج من المنزل، وكنت أسير خلفه، فأجد أنه في الزقاق وقد أعطى كتابه لتلميذ أكبر منه سنًّا ليملي عليه فروضه، بينما يسرع هو في الكتابة مستندًا إلى الحائط».[1]

ومع هذا، فقد تحمّلت الأم مشاغباته وصبرت، فما أكثر ما وجدت زجاجًا مكسورًا، فيقوم غلامحسين بجمع بقاياه داخل المنزل متظاهرًا أن حجرًا أصاب الزجاج من الخارج وكسره! فتتظاهر الأم بأن الحيلة قد انطلت عليها. وأحيانًا أثناء لعبه في الباحة  كان يكسر أحواض الورد المفضّلة عندها. ويسعى أيضًا لتدبير الموقف ببراءته الطفولية، حتى لا تعلم أمّه بالحادثة. فيكنس الباحة من بقايا الأحواض والتراب، ويزرع بتلات الورد في الحديقة، فيداهمها الذّبول بعد يومين، أما أمّه فتتظاهر بأن شيئًا لم يحدث وترميها بعيدًا.

في تلك الأيام، كانت الحافلات المؤلفة من طبقتين متوفرة لنقل الركاب بين شوارع طهران، وكان غلامحسين يحب هذا النوع من الحافلات:

«ركبنا حافلة مؤلفة من طبقتين، وصار غلامحسين يجول فيها من دون توقف، فلم يقرّ له قرار ولم يطق الجلوس على مقعده وصار يذرعها من أولها لآخرها، يصعد الطابق العلوي ثم ينزل إلى السفلي، وعندما يصعد يجلس بالقرب من النافذة ويتظاهر بأنه يقود الحافلة. في أحد الأيام، أرادت أمي الذهاب إلى السوق، فأخذته معها، وقالت عند عودتها: لقد أراق غلامحسين ماء وجهي،

 


[1] - أخت الشهيد.

 

23


17

طفل مشاغب

فلم يهدأ، ولم يتوقف عن المشاغبة رغم همهمات الناس ونظراتهم المنزعجة. أحيانًا، كان أبي يقول له، سأعطيك «قرانًا»[1] واحدًا لكن التزم الصمت لخمس دقائق. ويجيبه غلامحسين، لا أريد «القران» ولا أريد أن أسكت»[2].

وكثيرًا ما شكاه أولاد الحي لأمِّه:

«كان يتعارك مع أولاد الحي لم يكن يقبل أن يوجّه له أحدٌ كلامًا مؤذيًا. فيأتي الأولاد إليّ ويشكونه، وأجيبهم: اذهبوا وحلّوا مشاكلكم فيما بينكم، فإذا ضربكم اضربوه!»[3].

ولمّا أصبح فتىً يافعَا استبدل الدّراجة ذات العجلات الثلاث بدراجة ذات عجلتين ومن ثمّ بالدراجة النارية لاحقًا. وكان يهوى ركوب الدّراجة النّارية بالرغم من صغر سنه، ويقودها بشيء من المغامرة والتّهوّر، فحصلت له بعض الحوادث. وبقي معتادًا على القيادة بسرعة حتى في أيام الجبهة، وكانت هذه عادته حتى عند ركوب الحمار!:

«منذ طفولته وحتى في حداثته كان غلامحسين كثير الحركة، كنا نعيش في تبريز عندما قَدِمت عائلته إليها، كان حيّنا محاطًا ببساتين الفاكهة؛ وكنّا نقصد بستان عمتي للتّنزه. وفي أحد الأيام، ذهبنا مع أسرته إلى هناك، رأيته وقد ذهب! وجد حمارًا هناك فركبه وصار يعدو ناحيتنا مسرعًا».[4]

مضافًا إلى المشاغبة وحب السّرعة، عرف غلامحسين بين

 

 


[1] - العملة الايرانية: شاهي، قران ، تومان.

[2] - أخت الشهيد.

[3] - والدة الشهيد.

[4] - هادي افشردي ابن عم الشهيد.

 

24


18

طفل مشاغب

الجيران بمساعدته للآخرين وبصراحته:

«قدِمت عائلة أفشردي في العام  1960 إلى منطقتنا وجاورتنا. حينها كان غلامحسين صغيرًا ولم يكن يذهب إلى المدرسة بعد. عرفنا منذ البداية أنهم عائلة متدينة ومحترمة. وكان غلامحسين عطوفًا ودودًا، فعندما أصبتُ بمرضٍ أقعدني مدةً من الزّمن، كان يأتي في الصّباح الباكر ويسألني: ألا تريدون خبزًا؟ هل هناك عمل ما أنجزه لكم؟ فأطلب منه: شراء الخبز من الدكان، والدواء من الصّيدليّة، أو أطلب منه أن ينادي أمه لتأتي إليّ، ويقوم بما أطلبه دون مماطلة أو تأخير. أحيانًا كانت والدته توكله إليّ عندما تذهب إلى تبريز لزيارة أقربائها. وفي إحدى المرات، رأيته يقلّب الطعام ولا يتناوله، فسألته: غلامحسين لم لا تتناول طعامك؟ وكان صريحًا فأجاب: إذا أردتِ أن أتناول الطعام في بيتكم فلتطهي لي مرق «سبزي» فأنا لا أحب مرق الباذنجان، فقلت: حاضر».[1]

عندما أتمّ غلامحسين المرحلة الابتدائية، انتقل إلى ثانوية «مروي». لم تذهب أمه في طفولتها إلى المدرسة لاعتقاد والدها (بسبب التقليد السائد) بعدم ضرورة تحصيل الفتاة العلوم. ولم تكن تعرف القراءة والكتابة قبل الزواج. لكنّها تابعت دراستها حتى السادس الابتدائي بعد زواجها، وذلك في مدرسة محو الأميّة التي سميت آنذاك بمدرسة  «الأكابر»، وحصلت على علامات جيّدة بالرغم من وجود الأطفال واهتمامها بالمنزل، ولم توفّق لإكمال دراستها أكثر من ذلك. ولكنها كانت تتمنى أن يكمل أولادها تحصيل العلوم وأن يصلوا إلى مراتب علمية عالية. فأحبّت أن يكون

 


[1]- السيدة زهراء رضايي مقدم، إحدى الجارات.

 

25


19

طفل مشاغب

أولادها متعلمين لأنها ذاقت طعم الحرمان من الدّراسة:

 

«كان أحد هواجسي أن أهالي الحي لم يكونوا متعلّمين، وكانت ابنتي أول فتاة في الحيّ تحصل على شهادة البكالوريا، وأول فتاة تدخل الجامعة. فحتى أنّ الشّباب هناك كانوا يدرسون حتى مرحلة الثانوية كحد أقصى، وبعضهم يكتفي بدراسة المرحلة الابتدائية، فيذهبون بعدها إلى سوق العمل، ويزاولون أعمالًا عادية. في بداية الأمر ظننتُ أن هذا الولد ولفرط شغبه وحركته، لن يكمل دراسته وكانت نتائجه في المدرسة عادية جدًا. فحسبتُ أن الأمر سيستمر على هذا النّحو، ساورني قلق بشأن دراسته. دأب على مطالعة الكتب، وكان يهوى قراءة القرآن والأحكام والأحاديث والروايات، لكنّه لم يبدِ رغبةً في دروس المدرسة. في إحدى المرات، دخلتُ غرفته، وقلت له: بما أنّك لا تتابع دروسك بنحو جيّد، فسأحرق كتبك. لم يبالِ بكلامي ونهض من مكانه غير مكترثٍ بما قلته، فتركته وشأنه وانصرفت».[1]

 

وقد شهدت أخته مثل هذه الوقائع:

«كان غلامحسين في الصف الأول الثانوي، وفي أحد الأيام ألحّت أمي عليه أن يدرس دروسه ويكتب فروضه لكنه لم يستجب لها، غضبتْ منه كثيرًا، فحملت كتبه ورمتها في الباحة، وأتت بقليل من المازوت، وأشعلت كبريتًا، وقالت له: لا داعي لأن تذهب إلى المدرسة بعد اليوم.

كانت تنتظر منه ردة فعل، إلا أنه أطرق برأسه أرضًا ولم ينبس بحرف، واكتفى بالنظر إليها. في نهاية المطاف أحجمت عن ذلك

 

 


[1]- والدة الشّهيد.

 

26


20

طفل مشاغب

قائلة: لن أحرقها هذه المرة، اذهب واكتب فروضك»[1].

أحيانًا كانت والدته تيأس منه فتتغاضى عنه وتصبر:

«أحيانًا كنت أقول، يارب إني سأصبر إذا ما علمتُ أنه سيرعوي عندما يكبر ويكمل دروسه، وكنت أتحلّى بالصّبر فعلًا، بالطّبع كنتُ أتألّم، لكن الأمرَ لم يدم طويلًا عندما كفّ عن الشّيطنة والمشاغبة وتحوّل إلى إنسان ناضج من حيث الالتزام والإيمان، ومن حيث جدّيته في متابعة عمله ودروسه وفيما يتعلّق بأسرته أيضًا».[2]

وقد لاحظ أفراد أسرته أيضًا هذا التّحوّل في شخصيّته:

«عندما أُعلنت نتائج مباراة دخول الجامعة التي كنتُ شاركتُ فيها، ذهب غلامحسين إلى الجامعة ليعرف النّتيجة. ففي تلك الأيام، كانوا يعلقون نتائج الامتحانات مقابل مدخلها الرئيسي. اتّصل بي من الهاتف العمومي وأخبرني بأنّي نجحت. عندما عاد إلى البيت ليلًا، لاحظت أنه غارق في التفكير. وأظنّ أن الأمر قد دفعه للاهتمام أكثر بالدرس، فصار يتابع دروسه يوميًا فكان يجلس مع بعض أصدقائه في الطابق العلوي لمنزلنا، وكانت أمي تعدّ لهم طعام الغداء والعشاء»[3].

ولد محمد الولد الثالث لعائلة أفشردي في تشرين الثاني من العام 1960، في مدينة طهران، وكان منذ صغره متفوّقًا في دراسته وقد تميّز عن أخيه في هذا المجال:

«يكبرني غلامحسين بأربع سنوات، فعندما كنتُ في الصف

 


[1]- أخت الشّهيد.

[2]- والدة الشّهيد.

[3]- أخت الشّهيد.

 

27


21

طفل مشاغب

الأول الابتدائي، كان هو في الصف السادس. درست المرحلة الابتدائية في مدرسة مترجم الدولة (الشهيد مشهدي رحيم) وتابعت دراستي في المرحلة المتوسطة في مدرسة (الشهيد آية الله سعيدي). تفوّقت في مدرستي وفي المنطقة؛ بخلاف أخي حيث كانت نتائجه عادية. وعندما أنهيت الصف الثاني الابتدائي، قال لي أستاذي: ادرس الصف الثالث في الصيف، وقدّم امتحانًا فيه لتدخل الصف الرابع في بداية العام الدراسي المقبل.

وبتشجيع منه، درست الصف الثالث في العطلة الصيفية، وأجريتُ اختبارًا وحصلت على معدل جيّد (19\20). لكن غلامحسين لم يكن متفوقًا من النّاحية الدراسية، وفاقت علاماتي علاماته في دروس العربية والانكليزية وغيرها. وكنت أحصل على الرتبة الأولى في صفي حتى نهاية المرحلة المتوسطة، بالرغم من أن المدرسة عُدّت من المدارس الكبيرة نسبيًا، ففيها ما يقارب ألفي تلميذ، وكنت معروفًا في المدرسة وكذلك في الحي. ولم أكن ممن يخصّص وقتًا كثيرًا للدراسة. ما أريد أن أقوله (أن التفوّق الدراسي أو التفوّق في مرحلة ما ليس هو المعيار)  فانظر كيف تميّز وتألّق إنسانٌ عادي، ولم أستطع الوصول إلى ما وصل إليه بالرّغم من أني كنت أكثر منه تميّزًا (في صغري)»[1].  

 

 

 


[1] - مقابلة الكاتب مع أخي الشهيد اللواء محمد باقري (أفشردي).

 

28


22

نهاية مرحلة الصبا

نهاية مرحلة الصبا

 

في أواسط المرحلة الثانوية، خرج غلامحسين فجأةً وبشكل عجيب من شرنقة الطفولة والصبا إلى البلوغ الفكري والديني. رغم أنّه لم يكن يولي اهتمامًا بالدراسة ولم تكن علاماته عالية، لكنه كان مولعًا بمطالعة الكتب الدينيّة وتفاسير القرآن والبحث حول موضوعات الإمامة والنبوّة والمهدويّة. كان اجتماعيًّا ويحب أن يشرك الآخرين بمعلوماته:

«كنا نشارك معًا في برامج المسجد والهيئة. كنّا نقرأ القرآن ونتعلّم الحديث والأحكام في تلك الجلسات. كان يجمع الأطفال الأصغر منه سنًّا ويقرأ معهم الآية التي تعلّمها. كان يشتري من ماله الخاص أقلام تلوين ويمنح الأطفال الجوائز[1]».

الجيران أيضًا لاحظوا قفزة نضوجه:

«كان طفلًا ذكيًّا وموهوبًا، يمتلك روحًا كبيرة أكبر ممّا أعتقد وأتصوّر. كان جسمه الصغير في هيجان دائم مع روحه الكبيرة تلك. وقد شبّ هذا الطفل في أسرة كانت ملتزمة بالمسائل الشرعيّة. كان يجمع أترابه ويعلّمهم القرآن والحديث والمسائل الشرعيّة»[2].

 

 


[1]- اللواء محمد باقري.

[2]- جارته: زهراء رضائي مقدم.

 

29


23

نهاية مرحلة الصبا

إشتهر غلامحسين بالتزامه بالواجبات الدينيّة بين شباب العائلة؛ حتى الكبار منهم:

«في ذلك العمر كان معروفًا بين الجميع بالتزامه بأحكام الشرع. كان لديه إيمان ونقاء خاصًّا. في تلك الفترة كانت ظروف البلاد تقتضي أن لا يهتمّ الكثير من الشباب بالمسائل الدينيّة لكنّه كان يجمع شباب عائلته في المناسبات والحفلات ويشرح لهم تفسيرًا من القرآن أو يقرأ لهم حديثًا. كان لديه تأثير على شباب العائلة»[1].

قسمٌ مهم من القفزة الفكريّة والدينيّة لغلامحسين مدينٌ للأثر التّربوي الذي امتازت به والدته:

«خلال تربيتي لغلام حسين، أوليت اهتمامًا بشيئين مهمّين: مسائل الحلال والحرام، الصدق والإيمان، بمعنى النقاء. كنت أقول له ولدي! إنّ الدين هو هكذا، بين هذين الشيئين، أي بين الإيمان والفسق، ولا شيء آخر»[2].

في تلك الفترة، كانت أغلب سبل التواصل الاجتماعي غير سليمة، لم يكن للوالدين حيلة سوى مجالس أيام محرم والمسجد ودروس الموعظة في شهر رمضان المبارك وصلاة الجماعة لحفظ أولادهم من أذى الفساد والرعونة:

«لم يترك صلاته منذ المرحلة الابتدائية. شكّل هيئة[3] مع أقرانه فصاروا يأتون مرة كل أسبوع يقرأون القرآن ويحفظون الأحاديث ويلطمون.

 

 


[1]- ابن عمّه؛ هادي أفشردي.

[2]- والدة الشهيد.

[3]- الهيئات الدّينيّة؛ التي تولي اهتمامها بالتوعية؛ ومن مهامها الإرشاد وتعليم الأحكام والقرآن.

 

30


24

نهاية مرحلة الصبا

إنتقل غلامحسين إلى الثانوية بعد الانتهاء من الصف السادس، واستمرّ بأنشطته في المسجد. كذلك كان والده يعتني بالأولاد، إذ كان يرى بأنه ينبغي أن يتم توجيه الأولاد خارج محيط المنزل، فكان يمسك بأيدي الأطفال ويأخذهم إلى المسجد وصلاة الجماعة»[1].

اعتمدت الأم في تربية أبنائها أسلوب الصداقة والصحبة ومن ضمن هذه الأساليب الذهاب إلى السينما:

«كنتُ أختار أفلامًا محددة لا فساد أخلاقي فيها، وعلى الأغلب كانت أفلامًا كوميديّة. عندما كبُر صِرنا نذهب إلى مشاهدة الأفلام الجدّيّة. في الفيلم الأخير الذي ذهبنا لمشاهدته مع أبيه وأقربائه، لم يأتِ. وحسنًا فعل؛ إذ إنّ الفيلم لم يكن على ذاك القدر من الجودة. وبعدها، لم نعد نذهب إلى السينما. كان لدينا جهاز راديو ولم يكن في بيتنا تلفاز، حتى ما بعد الثورة»[2].

كانت مستديرة خراسان تُعرف بحيّ المؤمنين. وكان الأشخاص الذين يرافقهم غلامحسين شبانًا مؤمنين وجيّدين. ومع ذلك، تمّ حساب كل شيء:

«في ذاك الوقت، لم يكن للمدارس الرسميّة أنشطة إضافيّة. في أحد الأيام وعلى خلاف العادة وضعت لهم المدرسة نشاطًا رياضيًا إضافيًّا. شعرتُ أنه تأخر وقلقت عليه، كلما اتصلت بالمدرسة لم يجب أحد. ذهبت إلى المدرسة. كان بابها مقفلًا، عدت إلى البيت


 


[1]- والدة الشهيد.

[2]- والدة الشهيد.

 

31


25

نهاية مرحلة الصبا

فوجدته قد عاد. قلت: «قلقتُ عليك، أين كنت؟».

أجاب:» لقد وضعوا لنا حصّة رياضة فبقيت ساعة إضافية في المدرسة».

كان يغادر ويعود على الوقت دائمًا»[1].

كان للأب -السيد مجيد- منصبٌ جيّدٌ، لكنه لم يكن شخصًا يجلب إلى بيته لقمة فيها شبهة حرام.

عندما كبر الأطفال، لم يعد دخل الأب يلبّي حاجات العائلة. شعرت الأم بضرورة المساعدة في اقتصاد العائلة، فدخلت ميدان العمل وانشغلت بالخياطة. وصارت بقدر استطاعتها توفر مصاريف التّنقل للأطفال والتنزّه إلى جانب مصاريف طلب العلم، وشراء الثياب والغذاء الجيدين.

كانت تعطيهم الحرية فتجيز لهم اختيار الأصدقاء. كذلك كان لغلامحسين أصدقاء كثر، وأحد هؤلاء الأصدقاء محمود كلزاري:

«كان غلامحسين يقطن في شارع خراسان خلف مسجد صدريه. كنا نذهب إلى منزلهم. كان لديهم غرفتان سفليّتان وغرفة علوية. وقد بنوا الطابق العلوي بشقّ الأنفس. عاشوا في حدّ الكفاف؛ كان لوالدته السهم الأكبر في بناء شخصيته. إلى جانب دخل الوالد المتوسط، كانت حياتهم تُدار بأعمال الخياطة وتعب الأم. كنا عشرة أشخاص نأتي إلى منزلهم مرة كل شهر على الأقل، نتناول العشاء وننام. لم نكن نعلم أنّ حالتهم الماديّة ليست جيدة، وهم لم يظهروا ذلك.

 


[1]- والدة الشهيد.

 

32


26

نهاية مرحلة الصبا

كنت قرويّا وألفتُ التردّد إلى منزلهم حتى صار جزءًا من حياتي. لقد كانت هذه الأم حساسة [حذرة] تجاه أصدقاء ولدها، فإن كانوا جيّدين استقبلتهم بحفاوة ورحابة صدر، فكانت تعزز شخصية ابنها باهتمامها بأصدقائه»[1].

كان غلامحسين عضوًا في هيئة تُدعى «براعم مهدويّة». كانت هذه الهيئة تقام بواسطة حجة الإسلام بهشتي إمام جماعة «مسجد مهدوية» الواقع عند تقاطع مولوي بعد ظهر كل يوم جمعة. كان الشبّان في هذه الجلسات يقرأون الحديث والقرآن ويتعلمون الأحكام.

كذلك كانت تُقام الجلسات بانتظام في مسجد صدريه تحت إشراف آية الله السيد محمد مهدي موسوي خلخالي، إمام جماعة ذلك المسجد.

كان غلامحسين أحد أعضاء تلك الجلسات الناشطين المنظمين المتابعين لها والملتزمين فيها، وقد تأتّى لغلامحسين أن يتعرّف على المفاهيم الدينيّة وينمو رشده المعنوي في هكذا أجواء:

«منذ الصبا كان ناشطًا في مسجد صدريه. كنا في المسجد نهتم بالأعمال الثقافية، ومن جملة الأنشطة التي كان لغلامحسين دورٌ مميّز فيها إحياء ذكرى ولادة حضرة بقية الله الأعظم(عجل الله فرجه). لم يكن احتفال النصف من شعبان هناك فقط ليلة واحدة وحسب، إنما كان يمتدّ أسبوعًا، ولإقامة هذا الاحتفال في ذلك الحي سابقة وأقدميّة

 

 


[1]- محمود كلزاري: تعرّف إلى غلامحسين أفشردي في العام 1971م، في مسجد صدريه، وكان حينها طالب جامعي في قسم هندسة الكيمياء. 

 

33


27

نهاية مرحلة الصبا

طويلة؛ فأهل طهران كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر»[1].

 

لقد صنع غلامحسين نفسه تحت مظلّة أحكام الدين وعُرف كشاب متديّن وملتزم بتعاليم الشرع؛ ومن بين ذلك غضّ النظر عن غير المحارم:

«عندما كان يريد التحدث مع ابنة خالتي كان ينظر في وجه خالتي. لقد تعلمنا هذا الأسلوب من غلامحسين؛ أن نحاول إلى حدّ الإمكان أن لا ننظر بشكل مباشر إلى وجه غير المحرم»[2].

 

كان لديه أسلوبًا خاصًّا للأمر بالمعروف:

«لم يكن ينصح الشخص بشكل مباشر، فلا يقول أنا قد صليت صلاتي في أول الوقت فانهض أنت أيضًا وصلِّ صلاتك في أول وقتها. عندما كنّا نخرج بالسيارة ويرتفع صوت الأذان من أي مسجد يتوقف ويذهب للصلاة في ذاك المسجد. عندما كان ينزل من السيارة لم يكن يقول للآخرين مطلقًا تعالوا إلى الصلاة. إنّ هذا الأسلوب بالنسبة لنا هو أفضل أساليب الأمر بالمعروف. يعني أنه كان يفهمنا من خلال سلوكه وليس أقواله»[3].

 

وحيثما لزم الأمر، كان يوجّه ملاحظات صريحة وينهى عن المنكر:

«إن تكلّمنا في هذه الحفلات والجلسات كلامًا تافهًا أو طائشًا أو قمنا بحركة ما، كان ينبّهنا من دون مجاملة: أيها السيد! أين انت من هذا العمل! إنه غير لائق بك!

 


[1]- خليل سبحاني، من سكان المحلّة.

[2]- أخت الشهيد.

[3]- أخت الشهيد..

 

34


28

نهاية مرحلة الصبا

في الهيئات والاحتفالات كانوا يعطون علبًا خاصّة، فإذا أردنا أخذ علبة إضافية كان ينهانا بالإشارة»[1].

كان سلوكه وتصرفاته بنحو يجعل شبّان المسجد والعائلة يحسبون لكلامه حسابًا:

«في الصيف، كنا نذهب برفقة العائلة إلى المصايف، ونستأجر بستانًا في المناطق التي تعلو المدينة (دماوند). كنّا نذهب سويًّا للّعب معه في الجبل ومنحدره، فيقولون لنا بما أنكم ذاهبون اشتروا الخبز وأحضروه لنا.

كنّا نسلك أزقّة البساتين لنصل المدينة ونشتري الخبز. كان المال لدى غلامحسين فأقول له: ما رأيك أن نشتري المثلجات؟ فيجيب: «الآن لا»، وعندما أسأله لماذا؟ يجيب: لقد قالوا لنا اشتروا خبزًا فقط. وإذا صادف أن حلّ أذان الظهر كان يقول: لنذهب إلى الصلاة، فأقول له: «سنفقد دورنا في صف شراء الخبز». فكنّا نُودع دورنا عند أحدهم ونذهب. عند العودة كنا نجد أنّ هذا الشخص قد اشترى الخبز ورحل فنعود ثانية ونقف في آخر الصف»[2].

نشأ حبّ المطالعة والكتاب لدى غلامحسين منذ أيام الصبا وحداثة السّن. عندما تقرّر إنشاء مكتبة في مسجد صدريّة، عمل على خدمة هذه المكتبة بسرور وحماس:

«جهّزنا غرفة صغيرة للمكتبة. كان أفشردي مولعًا بها بحيث أنّنا لو تركناه من الصباح حتى الثانية ليلًا لبقي يقرأ ويطالع. كان يقوم

 

 


[1]- السيد أحمد تقدمي، من أقرباء غلامحسين. بعبارة أخرى: يومئ إلينا بترك ذلك.

[2]-  المصدر السابق.

 

35


29

نهاية مرحلة الصبا

بأعمال المكتبة من قبيل التسجيل وتوضيب الكتب وحفظها»[1].

 

كان أصدقاء غلام حسين بسبب معاشرتهم له مولعين بالمطالعة مثله:

«كان عاشقًا للكتاب. في يوم من الأيام ذهبنا إلى أحد الأمكنة وعلى طريقنا كان هناك محلٌّ لبيع الكتب فقال: لنذهب ونلقي نظرة. اشترى بضعة كتب، وصار يريني بعضها ويقول: مصطفى! هذا الكتاب ينفعك أيضًا، اشترِه.

في ذلك اليوم، اشتريت كتبًا بكل نقودي، فقال: كل من يخرج معي هكذا، عليه أن يصرف أمواله في شراء الكتب»[2].

كان عاشقا للمطالعة وقارئًا نهمًا، ويطالع كل أنواع الكتب، مثل كتب الدكتور علي شريعتي، المهندس مهدي بازركان، آية الله دستغيب، آية الله بهشتي، آية الله مطهري، وتفاسير متنوّعة. كذلك كان يطالع القواميس وكتب الأديان المختلفة، كالمسيحيّة. حتى أنه جهّز كتبًا تخصّ المجموعات الشيوعيّة وتيار مجاهدي خلق:

«كان لديه كتب من كل الأنواع، وعندما كان يريد أن يكتب موضوعًا ما، يحضر 5 كتب يطالعها ويأخذ منها ملاحظاته ومصادره. كان لديه ثلاث مكتبات مليئة بالكتب. أتيت في أحد الأيام فوجدته قد أحضر مثقابًا ويريد إضافة رفّ إلى خزانته ليزيد من سعتها. لم يهدر وقته، وما إن يصل كان يعلم أي كتب عليه أن يقرأ وأي موضوعات عليه أن يكتب. كان يخطّط مسبقًا ويكتب برامجه، ومنذ أن كان في سنّ الثالثة عشر كان لديه دفتر

 

 


[1]- خليل سبحاني من سكان الحي.

[2]- مصطفى رحيمي، زميل دراسة ومن سكان الحي.

 

36


30

نهاية مرحلة الصبا

مذكرات يومية. كان دائمًا إما في حالة مطالعة أو كتابة»[1].

كانت تنعقد جلسات مباحثة في مسجد صدرية تُتَناول فيها المعارف والمسائل الإسلاميّة. وكان هو الركيزة الثابتة لهذه الجلسات. كان يطرح المواضيع التي تهم شباب ذاك العصر، من بينها موضوع الموسيقى، وقد أجرى بحثًا وتحقيقًا واسعًا حوله:

«كان أفشردي يصغرني بعشر سنوات، لكنه كان يقوم بأعمال تفوق توقعاتنا، ويستقطب أقرانه إلى هذه الجلسات. كان لدى بعضهم روحية القيادة وأفشردي كان واحدًا منهم. ومنذ تلك الأعوام، كانت لديه شميلة القيادة وتربية الكوادر في الحي»[2].

كانت محاضراته تضفي على جلسات المباحثة والمناقشة رونقًا وكان له من العمر 15 عامًا لا أكثر:

«أخذ على عاتقه مسؤولية المحاضرة وكان يفيدنا بمسائل هامة. في أحد الأيام جرى الحديث عن التقوى، فألقى حول هذا الموضوع محاضرة غنية جدًّا. كان من أبرز وأقوى الأفراد من بين شباب الجلسة فيما يرتبط بالأبحاث الإسلاميّة والمحاضرات. ربما كان تفكيره يفوق عمره بعشرين سنة، اذ كان يمتلك المقدرة على نقد مواضيع أفراد متعلّمين يكبرونه بعشرين سنة. وكذلك مناقشتهم بالحجة والدليل»[3].

ومن الأنشطة الأخرى التي نظّمها غلامحسين في مسجد صدرية الدعوة لكتابة المقالات. وعدّ هذا العمل من الموضوعات الإبداعية

 

 


[1]- والدة الشهيد.

[2]- خليل سبحاني.

[3]- السيد مجتبى الموسوي، صديق الشهيد ومن شباب المسجد.

 

37


31

نهاية مرحلة الصبا

في ذلك الوقت:

«كان يطلب من جميع الأصدقاء أن يعدّوا موضوعًا بخصوص مسألة ما. في كل عام، وقبيل النصف من شعبان، كان يأخذ أيضًا مقالات من بعض العلماء فيجمعها ويطبعها على هيئة كتاب. بعد عدة سنوات، صارت هذه المقالات 5 مجلدات مميزة حول مسائل مختلفة تتعلق بالمهدوية. كان العنصر الأساس في هذا العمل غلامحسين أفشردي»[1].

 

كان أصدقاؤه يعتبرونه نابغة وعبقريًا:

«كنت أقول للأصدقاء أنّ رأس غلامحسين كلّه عقل، ويشعر المرء أن لا شيء داخل هذه الجمجمة سوى العقل»[2].

إنّ إحدى خصائص غلامحسين التي كان لها دور كبير ربما في بلوغه الفكري وتطوّره العلمي، سعيه للتعلم من أصحاب الخبرة والماهرين:

«كان يسبق الجميع في الترقّب وانتهاز الفرص. على سبيل المثال، كنا ندعو محاضرًا [متخصصا] إلى إحدى جلساتنا فكان يأتي الشخص ويلقي محاضرته؛ ثم يودّعنا وينصرف. بعد أسبوعين أو ثلاثة نلتفت إلى أنّ غلامحسين قد تواصل مع هذا الشخص ولم يتركه ليفلت من يده. فالشخص الذي رآه شخصًا مميّزًا سعى وراءه ووجده»[3].

 

لم تبعده أنشطته الدينيّة والعلميّة عن صميم المجتمع. كان

 

 


[1]- ناصر سبحاني، صديق من سكان الحي.

[2]- محسن إسماعيل، صديق من سكان الحي.

[3]- محمود كلزاري.

 

38


32

نهاية مرحلة الصبا

اجتماعيًّا كثيرًا ولم يكن غير مبالٍ تجاه الناس من حوله خاصة الضعفاء منهم:

«كان قد أحضر نجّارًا عجوزًا لترميم أثاث المنزل. اتفقنا معه على مبلغ محدّد، أنهى عمله ثم أخذ أجرته وغادر. بعد أيام، عَلِمنا أنّ غلامحسين قد ذهب إلى مكان عمل ذاك الشخص وأعطاه مبلغًا من المال. عندما سألناه عن ذلك قال: هذا المسكين يستحقّ أكثر من هذا، فقد أخذ أجرة أقل خجلًا ومراعاة لنا. علينا أن نساعد هؤلاء أكثر لأنهم ضعفاء.

في أحد الأيام أحضروا عاملًا ليُشذّب لهم شجيرات حديقة فناء المنزل، عندما أنهى عمله وذهب، لحق به غلامحسين. وقال حينها: شعرتُ أنّ المبلغ الذي خصّصتموه له زهيد، لقد تعب هذا المسكين كثيرًا، فذهبتُ في إثره لأعطيه شيئًا إضافيًّا ويكون راضيًا»[1].

في أحد الأيام جاء إلى المنزل برفقة رجل، لم يكن أهل بيته قد رأوا هذا الرجل من قبل. كان يرتدي ثيابًا رثّة فوجدوا أنّ غلامحسين قد جهّز له فراشًا ليستريح.

تولّد الفضول لدى الجميع  لمعرفة سرّ الرجل:

«ما إن خرج من الغرفة وغادر حتى سألته: من هذا السيد؟ أجاب: كنت مارًّا من ميدان خراسان فرأيته جالسًا على درج ينتظر الشارع ليخلو من المارّة حتّى ينام على جانب الرصيف. عندما تحدثتُ إليه علمتُ أنه غريب قادم من القرية، ولا يملك النقود ليحلّ في نزل.

 

 


[1]- محمود كلزاري.

 

39


33

نهاية مرحلة الصبا

في الصباح، استيقظ وأعطى ذاك الرجل الفطور ثم شيّعه وذهب»[1].

كانت في حيّهم امرأة تعاني من مرض الصرع. فأصابتها في أحد الأيام نوبة عصبيّة فوقعت على المصباح. انقلب المصباح واحترق المنزل، وامتلأ منزلها بالدخان ولم يجرؤ أحد على الدخول إليه:

«تجمّع حشد كبير من الناس، كذلك وقف بضعة أفراد من «قبضايات» المحلّة والمتظاهرين بالفتوّات مثل البقية متفرّجين. كان الجميع ينتظر قدوم الإطفائية. فجأةً، رأوا أنّ غلامحسين يدخل المنزل وسط النيران والدخان. دُهش الجميع لذلك، وبعد لحظات، خرج من المنزل «مسودًا» من رأسه حتى أخمص قدميه، وقال: فليأتِ أحد لمساعدتي!

كنت صغيرًا حينها، عندما رأى أنّ أحدًا لم يتقدّم، أمسك بيد أحدهم وأدخله إلى المنزل بالقوة، وأخرجا معًا تلك المرأة المصابة الفاقدة وعيها، ونقلاها إلى المستشفى»[2].

 

 

 

 

 


[1]- اللواء محمد باقري.

[2]- المصدر السابق.

 

40


34

الدراسة غير المكتملة

الدراسة غير المكتملة

 

في تموز من العام 1975م؛ بعد حصوله على البكالوريا فرع العلوم العامة (الرياضيات)، شارك في مباراة الدخول إلى الجامعة وقُبِل في ثماني جامعات، فاختار جامعة رضائية (أرومية) فرع الزراعة الحيوانية: تربية المواشي. كان يحب العلوم القضائية وقُبل أيضًا في هذا الاختصاص، ورغم ذلك صرف نظره عنه قائلًا: «افرضوا أني أصبحت قاضيًا كيف سأمارس القضاء في هذه الدولة؟» ولذلك دخل بعد انتصار الثّورة فرع الحقوق مباشرة:

«بدأ غلامحسين أفشردي بدراسة تربية المواشي في جامعة أرومية وكان فرعه الدّراسي التّخصص في مجال المجترّات الكبيرة[1]. كنا نناديه بغلام. فقلت له: غلام! ماذا تعني الحيوانات المجترة الكبيرة؟

كان مزوحًا ولديه روح الدعابة فقال: البقرة هي حيوان مجترّ كبير والأرنب مجترّ صغير، وأنا اختصاصي البقر! فسخرنا منه وضحكنا»[2].

بقدر ما كان غلامحسين يتوق إلى المطالعة كان من أهل الكتابة

 

 


[1] - الحيوانات المجترة.

[2] - محمود كلزاري.

 

41


35

الدراسة غير المكتملة

أيضًا. عندما ذهب إلى أرومية وصار بعيدًا عن دياره دأب على كتابة الرسائل بذرائع مختلفة وفي أي فرصة. كانت تربطه علاقة قوية بأخته بتول. كذلك هي، لطالما شعرت بالرّاحة والسّرور معه أكثر من أي فرد آخر من أفراد العائلة، كانت تكتب إليه تخبره عن أي مشكلة تواجهها، وهو أيضًا كان يرد عليها سريعًا.

«كان يحاول تهدئتي بعباراتٍ جميلة سلسة، كنا نراسل بعضنا بشكل منتظم، وكان أيضًا يراسل الكثير من أصدقائه».

 

كانت رسائله تبدأ دائمًا ببسم الله وذكر الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وقد كتب لأخته في السابع والعشرين من كانون الأول لعام 1975م التالي:

«بسم الله وذكرى المهدي (عجل الله فرجه) 

أختي العزيزة الطيّبة المحترمة، بعد السّلام أرسل إليك تحياتي الحارّة، وأتمنّى لك التّوفيق والنّصر في أعمالك بعون الله تعالى، لكن ليس في أي عمل؛ إنما في الأعمال التي يوافق عليها العقل السليم فقط، أي الأعمال التي تكون فوائدها دنيوية وأخروية، وإن شاء الله تكونين في الطليعة في خدمة المولى صاحب الزمان (عجل الله فرجه) وأن يساعدك المولى (عجل الله فرجه) بنفسه. وعلى أي حال دمتِ سالمة سعيدة، وأبعد الله عنك الغمّ والحزن.

عزيزتي بتول: الحديث معك بالنسبة لي سهل يسيرٌ وأستطيع مراسلتك براحة أكثر من الجميع لأنني في الحقيقة أفهمك جيدًا وأنت تعرفين ما أقول وما أصبو إليه من حديثي.

 

حفظك الله لنا وأتمنى لك التوفيق في دروسك الجامعيّة بتمامها»[1].

 


[1] - أخت الشهيد.

 

42


36

الدراسة غير المكتملة

الدكتور محمود كلزاري أحد الأصدقاء الذين كان غلامحسين يكتب لهم رسائل، وقد كتب في إحدى رسائله: في أرومية أذهب إلى آية الله قريشي صاحب كتاب قاموس القرآن (معجم القرآن) وأحيانًا كنت أطرح عليه بعض الأسئلة.

كان الشهيد في هذه الفترة القصيرة قد بحث عن عظماء تلك المدينة ليستفيد منهم وحتى لا تضيع أوقاته»[1].

كلما عاد غلامحسين من أرومية إلى طهران ذهب إلى السيد تقدّمي. في هذه اللقاءات حيث سمع منه السيد تقدّمي كلامًا ضد النظام كان يحلّل ويدرس أوضاع البلاد ويقول: «كل شخص في هذا البلد ينبغي عليه أن لا يتوانى في القيام بأي عمل ما أمكنه ذلك:

«نصحتُه أن يكفّ عن ذلك ويتابع درسه، لم يبال بكلامي؛ إلى أن عرفت أنهم طردوه من الجامعة»[2].

درس في الجامعة ثلاثة فصول؛ أي عامًا ونصف العام. وفّرت نشاطاته الدّينية والسّياسية ومناقشاته مع بعض الأساتذة حول مجموعة من الأحكام في الإسلام الأرضية والمقدمات الكافية لطرده من الجامعة. لكن حقيقة الأمر أن غلامحسين لم يكن يحب هذا الاختصاص ولم تنسجم روحه مع مناقشة المجترّين الكبار! فكان يتوق إلى الخلاص[3] من هذا الاختصاص فكان له ذلك، وترك جامعة أرومية.

في بداية شهر أيار 1978م التحق غلامحسين بدورة تدريبية

 

 


[1] - محمود كلزاري.

[2] - السيد أحمد تقدمي.

[3] - لم يكد يصدّق أن الحلّ جاء من تدبير ربّه بلا سعي منه.

 

43


37

الدراسة غير المكتملة

لخدمة العلم في معسكر (جلديان) الواقع في مدينة نقده ومن ثم أُرسل إلى محافظة إيلام:

«يوم الأربعاء في السادس من أيلول عام  1978 م بعد العرض الصباحي والفطور، كان الأمر: فليجتمع الثانويون[1] ليتمّ توزيعهم. (مقر) قصر شيرين بحاجة إلى أربعة عشر شخصًا، فذهب عدد إلى هناك. ومقرّ إيلام بحاجة إلى ستة أشخاص، ومقرّ كرمانشاه ينقصه ستّة أشخاص أيضًا، وكان اثنان منهم مرسلين وفق توصيات سابقة. كما ذهب شخص للقيادة، فبقي ثلاثة أشخاص، وقد تذاكى الشخصان والتقيا بأمين السر قبل ذلك (ليرسلهما إلى المكان الذي يريدانه)، بقي شخص هو المسؤول، وبقيتُ أنا مُرغمًا ضمن مجموعة إيلام. إنطلقنا في الساعة الواحدة والنصف ووصلنا إلى إيلام عند الخامسة والتحقنا في فوجها»[2].

في مذكراته اليوميّة ورسائله في هذه الدورة يظهر جليًا اهتمام غلامحسين بالواجبات الدينية وخاصة الصلاة؛ كان يشعر أن أجواء «خدمة العلم» تضعّف من نور المعنويّة في نفسه. فقد جاء في إحدى مذكراته:

توضأت عند غروب أحد الأيام واستلقيت على السرير منتظرًا الصلاة، فما هي إلا دقيقة ليحل الوقت؛ ويا للويل فقد غلبني النعاس وغططتُ في نوم عميق. حقًا ابتعدت عن ألطاف صاحب العصر والزمان ورعايته فهذا بسبب ماذا؟ الله يعلم!

 

 


[1] - حاملو الشّهادات الثّانويّة.

[2] - المذكرات اليومية للشهيد حسن باقري، كتابة أحمد دهقان؛ إصدار مؤسسة "الشهيد حسن باقري".

 

44


38

الدراسة غير المكتملة

هنا في الجندية يصعب الحفاظ على النقاء والطهر، وتكثر المطبّات وتختلط الأمور. عندما تخبو روحيّة الإنسان يبعد أيضًا عن رعاية ولي العصر! نعم هذا صحيح! عندما استيقظت من النوم لم يبقَ لطلوع الفجر الذي يحل الساعة الخامسة سوى ربع ساعة. صلّيت المغرب عما في الذّمة وأدّيت صلاة العشاء، وانتظرت قليلًا ليحين وقت صلاة الصبح. حيث كان وقتها عند الخامسة. اليوم كنت مستاءً جدًا ومنزعجًا. كنت مسرورًا هنا إني أؤدي صلواتي ولم تفتني صلاة واحدة. صحيح أي صلاة! حفنة ألفاظ لا أكثر! صلاتي فاقدة للرّوح، وهمّي الوحيد أنّها لا تفوت فقط، فأداؤها إمّا جريًا على العادة أو امتثالًا لوجوبها. قمتُ بتوبيخ نفسي بالامتناع عن شرب الماء من الصّباح حتى الظّهيرة، كنت مستاءً من نفسي كثيرًا لكن ما الفائدة؟! فمع كل هذا الاعتزاز والتّظاهر فاتتني صلاتي المغرب والعشاء. لكم تمنيت أن لا آتي إلى الخدمة الإلزامية ولا يحصل ذلك، كلّ أملي أن يعفو الحي المتعال».[1]

روى له أحد أصدقائه الذي كان يؤدي «خدمة العلم» في زاهدان أنه جاء في مأذونية وركب الحافلة من زاهدان إلى طهران، وقبيل طلوع الشمس طلب من السائق التوقف قليلًا لأداء الصلاة، سخر منه السّائق وتذمّر. وقد انزعج كثيرًا حيث أن الركاب في الحافلة لم يدعموا موقفه. ولكي يواسيه روى له غلامحسين حادثة جرت له فقال:

«جئت في مأذونية من إيلام إلى طهران وأثناء الطريق في كرج كادت الشمس تشرق طلبت من السائق أن يوقف الحافلة لأصلي الصّبح، أجاب أنه لن يتوقف حتى يصل إلى طهران. لكنه أوقف

 


[1] - المصدر السابق.

 

45


39

الدراسة غير المكتملة

الحافلة بعد إصراري وإلحاحي وكان الطقس باردًا، صلّيت على عَجَل في دقيقتين أو ثلاث، وعندما عدت وجدت أنه تركني ورحل وبقيت حقيبتي معه».[1]

في العشرين من أيلول لعام 1978 أرسل غلامحسين لأخته رسالة مرفقة بصورة فوتوغرافية وهي أول صورة له باللباس العسكري وكما قال «الصورة الغلاميّة المباركة»[2]. كانت بدلة واسعة أكبر من مقاسه بعدة درجات، وبرأيه فقد كان شكله في الصّورة مضحكًا لدرجة أنه أرسلها لأخته حتى يدخل السرور على قلبها ووصف نفسه في الرّسالة بشكل كوميدي قائلًا:

يوم الاثنين الموافق لـ 18\9\ 1978 م، على تلّة الأرانب وهي فسحة للتّنزّه واقعة في شمال غرب أحد أطراف إيلام. من هنا تظهر المدينة بالكامل، أجل ففي الحقيقة المدينة صغيرة. المكان هنا يشبه حديقة شاهكلي تبريز لكنه من حيث الحجم أصغر منها بكثير، وهو تلّة صغيرة إستُحدث عليها شارع مقفل فمن يأتي ويدخل إليها عليه أن يعود من الطريق نفسه فهي لا تشبه حديقة مدينة تبريز التي يدخلونها من جانب ويغادرونها من جانبٍ آخر.

على أيّ حال، جاء مصوّر فوتوغرافي فوري ولم يكن في نيتي أن أطلب منه التقاط صورة لي باللباس العسكري «المحترم». جاء الشباب والتقطوا لي صورة ودفعت إزائها مئة ريال غرامةً لي. وحصلت في المقابل على صورة. ففي الوهلة الأولى دهشتُ من مظهري الذي وصفه المصوّر بالمسمار لفرط جمودي في الصّورة

 

 


[1] - مقابلة الكاتب مع السيد أحمد عسكري، من أصدقاء الشهيد.

[2] - يمكن أن يقال أيضًا: تمثال الخدمة المباركة؛ عبارة ممزوجة بلحن فكاهي.

 

46


40

الدراسة غير المكتملة

ولم أتمالك نفسي من الضّحك، فكيف بالآخرين لكنني قلت في نفسي فليكن الأمر؛ مهما صار أُرسلها إليكِ حتى إذا جاءكم ضيوف تضعينها على حافة بركة الماء فتخيف الأطفال ويبتعدون عن الحوض ولا يقعوا فيه، بشرط أن لا تقعي أنت في الماء أيضًا. [1]

لأشرح لك حول «الصورة الغلامية المباركة» التي هي أول صورة التقطت في خدمة العلم، على النحو التالي:

أ. الحذاء المختبئ خلف ورود فم السّمكة المباركة وأعشاب المليسة (رعي الحمام)، كانت أربطته مفتوحة وأينما ذهبتُ جرت خلفي حتى لا تتخلّف عن الرّكب.

ب. البنطال الذي ثبتّه بحزام الذي عقدته حول خصري بعد جهد لأنه مصمّم لمن هو ضعف مقاسي.

بالطّبع فقد اختفى الحزام الأول تحت الحزام الثاني الذي نطلق عليه (الحزام العسكري)[2] وعلى هذا الحزام تعلّق جعبة تحتوي مُشطَي (مخزني) رصاص؛ 8 رصاصات في كل مخزن، فتضفي على روعة المنظر هيبة. كما أن الحزام العسكري طبقتان لا مجال لتقصيره فتارة يتدلى مثل حزام سلاح التكساسيين[3] الفردي (سلاح الخصر)، فمن هذه الناحية أُشبه الغربيين، وأحيانًا يضيق لكثرة الأكل والأطعمة الدسمة فالحياة فيها صعود وهبوط.

ج. أما القميص فهو قمّة إبداع هذا اللباس وهيبته، واسعٌ

 

 


[1] -  مغزى كلامه أن لا تقعي في الماء من شدة الضحك.

[2] - Military belt.

[3] - نسبة لولاية تكساس الأمريكيّة حيث اشتهر الأبطال الذين يتدلّى سلاحهم الفردي على خصرهم.

 

47


41

الدراسة غير المكتملة

فضفاضٌ منفوخٌ، وأظنّ أنّه لو فتّشوا في كل مراكز الشرطة في إيلام لما وجدوا له مثيلًا وسيعودون إليّ[لرؤية هذه البدلة]. فالجميع قد أعطوا بدلاتهم إما قصّروها وفق مقاساتهم أو إنهم اشتروا بدلات جديدة؛ كلّ على مقاسه؛ إلا أنا بشجاعة ورأس مرفوع بقيتُ هكذا.

بالطبع فإن هذه الياقة المفتوحة كقرص الشمس يجب أن تكون ضيقة ومغطاة، لكن بالنسبة لي فقد تجاوزت هذه الأمور ولا أهتم، وبالمناسبة عندما قلت لقائد السّريّة أن لديّ رخصة قيادة، يعود تاريخها إلى قبل أربع سنوات، قال: جيد، سنُبقيه هنا (لنستفيد من خبراته)، لكن ليهتمّ بمظهره قليلًا! فحرّكت رأسي تأييدًا لكلامه.

بالطبع، فإن من الميّزات الأخرى لهذا القميص، هو أنه لم يغسل منذ خياطته وحتى اليوم، وأما في المستقبل، فلا يمكن لأحد التنبؤ بذلك! ولأقل في جملة معترضة: بأنّ لديّ بدلة أخرى من هذا الزّي الجذّاب (الجميل)، لكن أجبرتني الظروف على إعطائها لخيّاط المعسكر لتضييقها، وأخذ 10 ريالات بالتمام والكمال أجرة ذلك. ولأن مقاسه كمقاسي، لم يأخذ مقاسي لتضييق البدلة، فقال لي اذهب أنت وسأضيّقها وفق مقاسي، ولأني لم يكن لي مزاج لقياس البدلة، سررت ووافقت على ذلك.

د. وأما بالنسبة للقبّعة العسكريّة واللحية، فقد طالت لحيتي فلم أقصرها منذ حوالي ثلاثة أشهر، حتى صار بإمكاني ارتداء (العمامة) ووعظ وإرشاد الجنود والضّباط. فلا يُعرف إن كنت شيخًا أو جنديًا، وأما القبعة المهترئة هذه فهي ذاتها التي أعطونا

 

48

 

 


42

الدراسة غير المكتملة

إياها في الجندية. بالطبع فإن الجميع اشتروا قبعاتهم الخاصة، لكني وحتى اليوم اكتفيت بهذه، فأمضي في حياتي كالدّراويش. وقد أجبرتني الظروف لدفع ما يعادل مئة وخمسين ريالا من بيت المال لشراء(برك - قبعة خاصة) فهذه التي ترين أنها مصابة بالاعوجاج بالرغم من أني غسلتها وجففتها وكويتها تحت أشعة الشمس! لكن تعرجاتها ما زالت ظاهرة في الصورة.

هـ. ولا تسأليني عن السلاح، فكل من يراه سيقول إنّه مصنوع من البلاستيك وينقصه السّبطانة وبعض الأجزاء الأخرى، فلا يعلم أن هذا السلاح هام للغاية وسالم وحتى أنه أمريكي الصنع، أخفينا بعض قطعه حتى لا يخاف أحد وارتأينا إظهار هذا المقدار منه فقط. 

و. ومن المؤكد أنّه يجب على كل عسكري أن يضع بطاقة تظهر إسمه وشهرته، وبحمد الله وفضله فقد أرفقوا اسم عائلتي (شهرتي) بشكل صحيح إذ يتطابق مع اسم عائلتك. لكن لا تسأليني عن الاسم! فقد قالوا إن هذا الاسم الجميل غلامحسين كبير، فاكتفوا باسم حضرته ولم يدعوا لـ(غلام) أن يُرفق معه، ثم ارتأوا أنه إذا كان هناك أخ أكبر لا يرفقوا اسم الأخ الأصغر، (ولهذه الأسباب) كتبوا اسمي «حسن أفشردي». فأطرقت رأسي ولم أعترض حياءً.

دعكِ من هذا، فقد ساعدت هذه الرّسالة لأن يمضي اليوم، أي الأربعاء الموافق للعشرين من أيلول عام 1978 بسرعة، وهذه غنيمة بحدّ ذاتها. لا يهمّ إن ضقتِ ذرعًا، ومللتٍ ولم تكملي قراءتها أو إن لم تقرئيها أصلًا. المهم أنني خصصت وقتي وتحدّثت معك. ولا يهمّ إن أرسلتِ لي جوابًا أو لم تفعلي، فقد حصلتُ على الجواب مسبقًا.

 

 

49

 


43

الدراسة غير المكتملة

أوصلي سلامي لأمي الحبيبة، وقولي لها أن الهدف من إرسال هذه الصورة هو الضحك لا غير. فلستم مسامحين شرعًا أن تحصلوا منها على نتيجة غير الضحك.

وأوصلي سلامي للوالد و«محمد خان الدولة» و«أحمد أفندي» مع كل الآداب والاحترام. حاليًا تقرر أن أصبح سائقًا في إيلام. إن شاء الله يكون الأمر أسهل من الحراسة، وهو داخل المدينة وهذا أفضل. فعلى الأقل يستطيع الإنسان الذهاب إلى المسجد قبل الظهر وفي الليل لأداء صلاة وما شابه من أعمال. لكن من مساوئها أنه لا يمكن التّهرب منه. حسنًا، ماذا يمكنني أن أفعل!                                 

أوصلي سلامي للعائلة والأصدقاء. أنا لا أوصي بشيء، فإن لم تريدي شيئًا، أنا لا يخطر ببالي شيء لأطلبه. إن شاء الله في حفظ ورعاية الحجة. غلامحسين».[1]

في أوج أيام الثورة أي في العام 1978 م، أراد الحكم البهلوي أن يظهر بمظهر المنفتح السياسي، لذا استطلع الآراء حول مشروع قانون الصّحافة، وأبدى عددٌ من الصحافيين المعروفين آراءهم حول هذا المشروع ونشروها في الصحف. ومنهم غلامحسين الذي قام بدوره بكتابة مقالٍ في هذا الموضوع وأرسله لجريدة كيهان. حيث نُشر في تاريخ 5/10/1978م، وقد فنّد في مقاله مسودّة هذا القانون وبيّن نقاط الخلل والضّعف فيه من خلال تقديمه نقدًا مفصلًا من الجهة الحقوقية والاختصاصيّة. في ذلك اليوم، لم يصدق قرّاء المقال بأن كاتبه شاب يبلغ من العمر22 سنة، حديث العهد في مجال الصّحافة قليل الخبرة فيه، لكن عوامل عدّة منها

 

 


[1]   -  مجموعة مذكرات حسن باقري، ج1.

 

50


44

الدراسة غير المكتملة

كثرة قراءاته وتعوّده على المطالعة وحبّة لها والكتابة ساهمت في متانة قلمه وقوّة تحليله واستدلاله. وقد لعبت هذه الخصلة دورًا هامًا في حياته ومستقبله. وقد كتب غلامحسين أفشردي في مقاله هذا، الذي أرفقه بإمضاء حسن أفشار، التالي:

«مع نشر نص مشروع قانون الصّحافة الجديد، تتبادر في البداية بضع نقاط إلى ذهن القارئ. من الجدير بالذكر أن وزير الإعلام والسياحة اكتفى بتبديل كلمات وعبارات القانون القديم ومن ثم أطلق عليها عنوان مشروع الصحافة الجديد، في حين أن القرارات لم تختلف اختلافًا جوهريًا عن سابقاتها، وقد نظمت لتكون كالمتاهة، كي لا تجد مفرًّا من الرّجوع إلى معالي الوزير أو من يدور في فلك الوزارة عند حدوث أي مشكلة. فمن ضمن الاشكالات الواردة، أن الجهة التي تعالج كافة الأمور والشكاوى في هذا المشروع هي لجنة الإعلام أو الصحافة وقد أُحيلت كافة الصلاحيات إليها. والآن لنرى من هم أعضاء هذه اللجنة وكيف يتم انتخابهم؟ فبحسب المادة 9 من المشروع فقد ذُكر أولًا إن رئيس اللجنة أي العضو الأساسيّ فيها ليس إلا أحد معاوني وزير الإعلام والسّياحة ويعيّنه الوزير. والثّاني هو أحد أساتذة جامعة طهران، يختاره رئيس الجامعة، وكان من الأفضل أن يستعمل كلمة ينصّبه، أو أن يترك هذا العضو على الأقل ليختاره مديرو الصحافة والإعلام. الثّالث هو المدّعي العام، والرابع رئيس البلدية في المدينة. فهل تلاحظون أن جميع هؤلاء الأشخاص الأربعة بعيدون عن معضلات الصحافيين ومشاكل العاملين في الجرائد والصحف. ولكي لا تكون هذه اللائحة خالية بالكامل يتم

 

51

 

 


45

الدراسة غير المكتملة

اختيار شخص من مديري الصحف ومسؤوليها من قبلهم هم، ولن يكون لمعارضته أي أثر في قرارات اللجنة.

فيظهر أن مأثرة ومفخرة هذه اللائحة التي عرضها سعادة وزير الإعلام والسّياحة في المادة رقم28 هي إعطاء الحرية لنقد المنهج السياسي والإداري والاجتماعي، لكنّه في الوقت عينه ترك لنفسه المجال كي يراقب الطرف الآخر (الصحافيين) ويضيّق الخناق عليهم. فكما جاء في المادة 41 الفقرة الرابعة، يتحدث عن أحد موارد الادعاء التي تؤدي لمنع الجريدة أو المجلّة من الصّدور وهي التالي: في حال قامت بالتحريض على العصيان المدني ضد قوى البلاد الشرعيّة مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وإخلال في الأمن العام. هنا، ما هي الضابطة المذكورة في هذا المشروع التي يثبت بها المدير المسؤول (للجريدة) بأن ما قصده من المقالة الفلانية ليس الاخلال بالأمن وزعزعة استقرار البلاد؟ فما هو المستمسك الذي تمسكت به حكومته في مجزرة يوم 17 شهريور (الجمعة السوداء) من العام الحالي؟ وهل أثّرت صيحات النّواب في الحكومة وأثنتها عن القيام بما فعلته في يوم الجمعة، عندما قالوا أن هذا الحشد ليس سوى عدد من المسلمين الوطنيين؟ كلا! وإنّما أصّرتِ الحكومة على رأيها وزعمت بأنّ الشيوعيّين كانوا في التظاهرات فلا مجال لإثبات أي شيء آخر غير هذا. وهنا يمكن القول بأن وزير الإعلام والسّياحة قد جلس في مكان لا يريد أن يتزعزع استقراره فيه أبدًا.

أما الأمر المهم الآخر الذي لربما يكون موضع أمل للمتظلمين والمشتكين من النتائج الصادرة من لجنة الإعلام بسبب جرائم

 

52

 

 


46

الدراسة غير المكتملة

الصحافة أو غيرها، المرجع القضائي لهذه اللجنة. استنادًا إلى المادة 30 في هذه اللائحة، المرجع هو المحكمة الجنائية على أساس المادة 79 من ملحق الدستور وذلك بحضور الهيئة المنصفة. ولا شكّ أن المراد من الهيئة المنصفة هم المطّلعون على مشاكل الصحافيين، بحيث يتم تعديل القرار الصادر من المحكمة بحقهم حسب مشاكلهم. لكن المادة 31 تعلن بوضوح أن هذه الهيئة المنصفة ما هي إلا مراقب آخر على الجرائد، يقوم بهذا الدور أعوان وأنصار وزير الإعلام والسّياحة. لأن انتخاب هؤلاء الأشخاص (وكان من الأفضل استعمال لفظة تعيين، بدل «انتخاب» في أغلب اللائحة إذ أنها أقرب للواقع) يتم مرة كل سنتين بدعوة من وزير الإعلام والسّياحة، وبحضور رئيس محاكم الأقضية، ورئيس المجلس البلدي. ويمكن لهؤلاء الثلاثة اختيار من أرادوا طبعًا مع حيازته على ثلاثة شروط: من حيث العمر لا يقلّ عن الثلاثين سنة، وخلو سجله العدلي، والاشتهار بالصدق والأمانة وحسن الشهرة، وأيضًا من يمضي على الشرط الثالث؟ بالطبع الأشخاص الثلاثة المذكورون أعلاه الذين اختاروه. ولا يوجد أي شرط آخر ينصّ على ضرورة حيازة هؤلاء على قدر من التخصص والاحتراف في مجال الصحافة والإعلام فهذه اللجنة يتم اختيارها لحل ومعالجة شكاوى فرع مختصّ، لكن ومع الأسف لم تتم الإشارة إلى ذلك أبدًا. الأمر الآخر هو أن وزارة الإعلام والسياحة قامت بوضع كل هذه القوانين لتوبيخ وملاحقة المديرين المسؤولين ولم تكلّف نفسها إيجاد أي نوعٍ من التسهيلات في عملهم.

يفضّل أن تقوم وزارة الإعلام والسّياحة بتهيئة الأرضية

 

53

 

 


47

الدراسة غير المكتملة

اللازمة للشعور بالمسؤولية الذّاتيّة لدى المديرين المسؤولين بدل إقرار قوانين تعيق عمل الصحافيين، حتى ينتج عن ذلك الحرية الكاملة في الصحف والجرائد، وأن تطبق سياسة حرية الكتابة في الحكومة بشكل أفضل. فمن الواضح أن أحد الأسباب التي أوصلت (بلدنا) إيران العزيزة لما هي عليه ليس إلا تقييد الصحف والمجلات في نشر الأخبار الصحيحة ونأمل أن لا يكون الوضع كذلك في المستقبل.

 

إيلام - حسن أفشار

وجّه الإمام الخميني في الثاني من شهر كانون الأول عام 1978م، الموافق للأول من شهر محرّم، رسالة للجنود أمرهم فيها بترك المقرّات العسكريّة. وكان غلامحسين من السّبّاقين لذلك. فهو حتّى تاريخ بيان الإمام كان كارهًا البقاء في الجندية، لكنّه من الجهة الأخرى كان يبتغي من وراء بقائه إقناع الجنود بعدم التّصدّي للناس وعدم إطلاق النّار عليهم. وفي كل فرصة سنحت له كان يتحدّث مع زملائه في الجندية عن الثورة، فيثير حفيظة المسؤولين. بعد هروبه من المقر، توجه إلى طهران وانضمّ إلى الشباب مشاركا ًفي نشاطات الثّورة حتى انتصارها. ومن ثم دخل في لجنة استقبال سماحة الإمام لما لديه من خبرة عسكرية بسبب مشاركته في الخدمة ولو لبضعة أشهر.

 

 

54

 

 


48

رواية الانتصار

رواية الانتصار

 

في يوم 21 بهمن من عام 1357 (10\2\1979م) كان غلامحسين كغيره من آلاف الشّباب الطّهرانيين، حاضرًا في الشّوارع؛ مع فارق أنه استخدم موهبته الأدبيّة لتسجيل هذه الأحداث التّاريخيّة. وفي كتاباته التي بقيت تذكارًا منه، كتب بإسهاب عمّا شهده من أحداث في تلك السّاعات المصيريّة، كما نقل أيضًا بعض ما رواه الآخرون. كتب في قسمٍ من هذه المذكّرات:

«كانوا قد أعلنوا عصر يوم الجمعة في 21\ بهمن\ 1357، بأنهم سيعرضون مساءً فيلمًا عن قدوم الإمام مدّته ساعة تقريبًا، أثناء عرض الفيلم، تهاجم «فرقة الحرس الملكي» قاعدة فرح آباد[1] للقوّات الجويّة. منذ السّاعة التّاسعة ليلًا، وحتّى السّاعة الثانية عشر ومابعدها لم تهدأ المظاهرات ولم تخمد أصوات النّاس وبقيت هتافاتهم تصدح في الأرجاء. المكالمات الهاتفية التي تلقيناها من منطقة فرح آباد وبالقرب من قاعدة القوّة الجويّة وشارع وثوق، تفيد حصول إطلاق نار واسع، وكان هناك حديث عن إعدام عدد من جنود القوّة الجويّة تزامنًا مع عرض الفيلم. بالتأكيد؛ فقد انطلقت شرارة المواجهة في هذه الليلة من قاعة تلفاز طلّاب القوة الجوية،

 

 


[1]- شارع بيروزي الحالي.

 

55


49

رواية الانتصار

فعندما كان يُذكر اسم الإمام الخميني في الفيلم ترتفع أصوات الطّلاب بالصلاة على محمد وآل محمد، كان هذا سبب بداية المواجهات. يتولّى عناصر من القوّة الجويّة مهمّة الحراسة حتى الصّباح. وقرابة السّاعة السّابعة والنّصف صباحًا، يأتي سائر أفراد القوّة الجويّة إلى المقرّ، ويشاهدون مظاهرات الطّلاب وسائر الجنود، فينضمّون إليهم.

كان الصّباح ينبّئ بأحداثٍ غامضة. ولم نكن ندري ما الذي سيحصل. يطلب قائد مقر الشرطة المساعدة من الحرس، فيمدّه الحرس بقرابة 700 شخص. تحصل أولى المواجهات قرابة السّاعة الثّامنة والنّصف صباحًا، فيلقى عدد من العناصر في الصفّ الأول حتفهم ويُجرح آخرون، حتى تلك اللحظة كانوا مجرّدين من السّلاح باستثناء عناصر فرقة الحرس الملكي. ثم بعد ذلك، يدفعون قلب المظاهرة إلى داخل القاعدة، فتذهب العناصر المشاركة إلى داخل مبنى الاستراحة، حيث مخزن الأسلحة. وهناك يقوم ضابط مسلّح بخطوة شجاعة يستحق التّنويه عليها، يفتح باب المخزن ويوزع الأسلحة على عناصر القوة الجوية، كانت هذه أولى بشارة للنصر. ثم صارت أبواب مخازن السلاح تفتح الواحد تلو الآخر وفرّغت من محتوياتها، وتبدأ المواجهات المباشرة مع الحرس الملكي.

عند السّاعة التّاسعة صباحًا، توجهتُ إلى شارع فرح آباد برفقة أخي وصديقه الذي كان يملك دراجةً نارية. في ذلك الوقت أُرسلت أكياس (بلاستیكية) ومن الخيش، من جميع أنحاء شرق طهران إلى قاعدة القوّة الجويّة لبناء متاريس في الشّوارع. كانت

 

56

 

 


50

رواية الانتصار

الأجواء مضطربة للغاية، ووصلنا بصعوبة إلى شارع فرح آباد ومدخل المقرّ. هناك التقيت بوالدي الذي كان قد جاء برفقة أحد جيراننا بسيارة بيجو بيضاء. كان صوت إطلاق النار من داخل المقر يسمع بوضوح. كان الناس يرسلون القطن والثّلج وسائر المعدّات الطّبيّة من مستشفى القوّة الجويّة إلى داخل المقرّ. لم تتوقف سيارات الإسعاف عن العمل طيلة الوقت، وظلّت تقطع الطّريق ذهابًا وإيابًا باستمرار. وتمت الاستعانة بالجنود الذين أنهوا خدمة العلم في القوة الجوية، للحراسة أو غيرها من أمور.

قرّرنا العودة لتأمين كمية من القطن والثّلج وسائر المعدّات، ولكي نكون قد أنجزنا عملًا ما على الأقل. قفلنا راجعين عند السّاعة العاشرة والنّصف صباحًا تقريبًا. اشتريتُ مصلًا وبعضًا من الثلج والقطن وغيرها من أمور. وفي الطريق، أعطونا بعض الأغراض التي كانوا يريدون إرسالها. كان غالبيّة المصابين يرقدون في مستشفى أبو علي ومستشفى جرجاني. مع أن الظّهر لم يكن قد حلّ بعد، لكن لم يكونوا بحاجة إلى شيء، فالمساعدات قد وصلت من كل حدب وصوب. تعرّضنا خلال الطّريق لثلاثة حوادث سير بسبب السرعة والاضطراب. لكن لم يترجّل أحد، فالوقت ليس مناسبًا لهكذا أمور. أخيرًا، وبعد أن عرّجنا على جميع المستشفيات، عدنا إلى مستديرة فوزية وسلّمنا الأغراض إلى مسجد «إمام حسين(عليه السلام)»، ثم ركنّا السّيارة في زقاق فرعي، واتّجهنا جميعًا نحو شارع (طهران نو). كانت المتاريس موزّعة على طول الشّارع، يبعد أحدها عن الآخر 200 مترًا. كذلك السّطوح المطلّة على المستديرة وشارع «طهران نو» عجّت بالمتاريس،

 

57


51

رواية الانتصار

وكان الجنود والضباط في جهوزية تامة لأي مواجهة. في هذه الأثناء، وصَلَنا من الناس الحليب، والتمر، والمعلبات، والفواكه والبسكويت، لكن لم يكن لدى أحد رغبة في تناول الطّعام.

كان الدّخان يتصاعد من بقايا أطر السّيارات المشتعلة. أُصبتُ بإعياء وبدوار خفيف. وعند السّاعة الواحدة بدأ الرّاديو يبثّ إعلانًا: أن القوانين العسكرية ستنفذ من قبل اللواء مهدي رحيمي، وفي السّاعة الثّالثة والنّصف وصل أمر الإمام بخروج جميع النّاس من منازلهم لإخماد أولى شرارات المؤامرة المخيفة في مهدها. كانت غالبية التّقاطعات بين شمال وجنوب شارع «شاهرضا» شارع الثورة حاليًا حتى «پل چوبی» مغلقة. عبرنا من «پل چوبی» وصولًا إلى «دروازه شميران» و«فخرآباد» و«مستديرة الشّهداء» والتي كانت تعج ّبالناس. بالطبع كان عدد مسلحي عناصر القوة الجوّية المتمركزة هناك أقلّ من عدد ها في مستديرة فوزية.

توجّهنا بالدّراجة النّارية إلى شارع «وثوق». كانت السّاعة بين الرّابعة والنّصف والخامسة. بات الجميع بانتظار حدثٍ ما لينشغلوا به. وشوهد التّرقّب والغموض في أعين الجميع. على مقربة من باب المقر، أجيز لحاملي البطاقات بالدّخول. في آخر الشّارع قالوا أن قوات الحرس الملكي قادمون من شارع وثوق، لكن النّاس لم يكترثوا لذلك. بالطّبع كانوا يخلون وسط الشّارع ويحاولون إبقاءه كذلك للتخفيف من الأضرار والحوادث. كما نشروا المتاريس على الأسطح، وفي الشّوارع طولًا وعرضًا، وتركوا حيّزًا متعرج الشّكل يسمح لعبور سيارة وسط الشّارع.

 

58

 

 


52

رواية الانتصار

أمام الباب الشّمالي للقاعدة في شارع مجاهدين، تظهر دبابة مفتوح بابها، تمت السّيطرة عليها، وقد وقف البعض فوقها، وأحاط بها آخرون، برغم عدم صلاحيّتها للاستعمال. كما ظهر في آخر الشّارع سيارة أو سيارتان محترقتان تابعتان للحرس الملكي، كذلك دبابة صغيرة (سكوربين).

منذ الظّهيرة صارت المروحيّات تحلّق في السّماء على علوٍ مرتفع، وكلمّا انخفضت احتمى النّاس بالجدران. كانت آثار الرصاص التي ترى على الجدران والزجاج تشير إلى وقوع اشتباكات شديدة هناك. طبعًا وصل عدد المتجمهرين في الشارع أمام مدخل قاعدة القوة الجوية إلى ذروته. في تلك الأثناء أقلعت مروحيّة من القوّة الجويّة، وحلّقت عاليًا، عندها بدأت المضادات الجوية بإطلاق النار عليها، دون جدوى. بعد ذلك توقفت نيران المضادات بسبب سرعة تحليق المروحية وبُعدها، وبسبب صعوبة إطلاق النار في حالة الوقوف. بحسب ما تردد على ألسنة الناس فإن هذه المروحية كانت معروفة وقد أحضرت الذخائر، فأثار إطلاقُ النّار عليها عبثًا حفيظة الناس واعتراضهم على ذلك ولماذا تطلق كل هذه النيران مع أن كمية الذّخائر قليلة. عرّف أحد الأشخاص عن نفسه بأنّه من الجيش وأرانا بطاقته، وأخبرنا: «إن هدف هؤلاء هو نفادُ ذخيرتكم!» على كل حال، كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة عصرًا.

قدمنا باتّجاه (فوزيّة)، كان البعض منشغلًا ببرش الصّابون لإعداد قنابل المولوتوف. ويَجدُر القول أن هذه المستديرة غدَتْ الشّريان الرّئيسي لشرق طهران لهزيمة أبطال القوة الجويّة. هنا

 

59

 


53

رواية الانتصار

رأينا بيان الإمام الذي يأمر فيه بالخروج والتّعاون مع المقاومين. كانوا قد وضعوا المتاريس أيضًا على جسر المشاة، وكانوا على أهبّة الاستعداد والانتظار. أطفأنا محرّك الدّراجة النّارية لوجود كميات كبيرة من الوقود في منتصف الشّارع لإعداد قنابل المالاتوف. فمنذ عشرة أيام والوقود صار متوفرًا بكثرة، بعد أزمة الوقود تلك التي مرت، أي تمامًا في يوم قدوم نائب الإمام (عجل الله فرجه)؛ الخميني المبارك؛ إلى إيران، انتهت مسألة الصفوف الممتدة لتعبئة الوقود.

في إحدى المرات، نزلتُ ناحية مستديرة خراسان، كان النّاس على تأهب وقد وضعوا المتاريس على رأس كل زقاق. وصلنا قرابة السّادسة إلى المنزل، صلّينا حتى لا تبقى الصّلاة في ذمّتنا إذا استشهدنا، إذ تكفينا الإجابة عن بقية الأعمال. لم يوافق الأخوة الشّباب على إصراري للخروج من البيت، لكني خرجت عند حوالي الساعة السابعة والنصف. توجهت إلى شارع جهان بناه وغياثي، ومن ثم وصلت إلى شارع مينا مرورًا من خلف مدرسة مترجم الدولة. لم يتوقف إطلاق الرّصاص حتى للحظة واحدة. وصلنا إلى شارع شهناز. وقد أخذ التّعب مني مأخذه. كان النّاس مجتمعين متأهبين. وسمعت أصوات إطلاق رصاص كلاشنكوف وG3».

في تلك الليلة لم يذق غلامحسين طعم النوم بالرّغم من إرهاقه الشّديد وكان في حالة سعي وجدٍ  مستمرّين:

«جاء غلامحسين ليلة 22 بهمن إلى منزلنا وقال: أعطونا صابونًا وعبوات زجاجية. أراد أن يصنع قنابل المولوتوف. فجمع حوله أولاد الحي، وطرق أبواب المنازل قائلًا: أتركوا أبواب منازلكم

 

60


54

رواية الانتصار

مفتّحة، فالليلة ليلة عظيمة. كان نشطًا وحيويًا».[1]

حتى عصر يوم 22 بهمن (11\2)، راحت المقرّات العسكريّة تسقط بيد النّاس واحدة تلو الأخرى. كان الجميع يبحث في المقرّات عن غنائم وأسلحة، أما غلامحسين فلم يكن يبحث عن هذه الأمور:

«عندما دخلنا مقرّ باغشاه (حر) وجدنا باب مخزن الأسلحة مفتوحًا؛ فكانوا يأخذون الأسلحة ويذهبون، كان عدد من صناديق قذائف الهاون والصواعق مرميًا على الأرض وبين الأرجل. ناداني غلامحسين مع بعض الشّباب وبدأنا بتنظيم وترتيب صناديق الذّخائر والمتفجرات حتى لا تشكّل خطرًا على النّاس».[2] 

كان يراقب أوضاع المقرّات بقلق، وقلّما تجد من يلتفت إلى هكذا أمور في تلك الأوضاع المضطربة:

«في يوم انتصار الثّورة، عاد إلى البيت في وقت متأخر من الليل، والقلق باد على وجهه. قال: إن الجماعات اليساريّة استولت على الأسلحة والعتاد، وتريد يومًا ما استعمالها ضدّنا. لاحقًا أدركنا كم أنه كان محقًا».[3]

ما إن انتصرت الثّورة حتى صار غلامحسين يتابع نشاطه في لجنة الثورة الإسلامية[4] التي أسسها مع مجموعة من رفاقه في مسجد صدريّة ولمدّة قصيرة. كان أخوه محمد يعمل فيها أيضًا. لم يدم الأمر طويلًا، فما إن فتحت المدارس أبوابها، حتى أجبر

 

 


[1] - زهراء رضائي مقدم.

[2] - اللواء محمد باقري.

[3] - زهراء رضائي مقدم.

[4] - كميته انقلاب اسلامي.

 

61


55

رواية الانتصار

غلامحسين أخاه على تسليم السلاح والالتحاق بصفوف الدّراسة:

«سعى أخي لفتح آفاق أوسع في طريقي. مع ما له من تأثير في نفسي، ولكن كان يصعب عليّ ترك ذلك! فأقول له: لمَ عليّ الذهاب إلى المدرسة؟ دعك من هذا، فالثورة في خطر!! فيجيبني قائلًا: الجميع موجودون هنا وسيحضرون للمساعدة إن لزم الأمر.

بعدها أرسلني إلى المدرسة لأتابع الدراسة وقال: في يومي الخميس والجمعة يمكنك الذهاب للحراسة. في 4 نيسان 1979م، أجبرني على المشاركة في صفوف «الكونكور[1]» وملأ وقتي بالبرامج الدراسيّة لثلاثة أو أربعة أشهر ولم يسمح لي بالقيام بأي عمل آخر».[2]

والتزم هو أيضًا بهذا البرنامج، فتابع دراسته وانتقل من فرع العلوم العامة (الرياضيات) إلى الآداب، وحصل في شهر حزيران على شهادة الثانوية العامّة في الآداب. بعدها شارك في مباريات الدخول إلى الجامعة وحصل على المرتبة 104 في فرع الحقوق والقضاء في جامعة طهران. وأما أخوه محمد فقد شارك في مباريات تلك السّنة في فرع الميكانيك في جامعة (بلي تكنيك) أمير كبير، ومع بداية العام الدراسي انخرط كلاهما في الدّراسة الجامعية.

في شهر أيلول من عام 1979 م، بدأ أول عام دراسي بعد انتصار الثورة الإسلامية، حيث نشطت التيّارات اليسارية في الجامعات بشكل واسع. حتى أن بعض هذه التّيارات أحدثت في المدن الحدودية في غرب البلاد وجنوبها وحتى في شمالها وشرقها اضطرابات مطالبة بالانفصال عن الثورة. في هكذا ظروف دخل غلامحسين

 

 


[1] - مباريات الدخول إلى الجامعة.

[2] - اللواء محمد باقري.

 

62


56

رواية الانتصار

الجامعة. لكنه لم يكن ممن يهدأ ويستكين. فالأوضاع المتشنجة في الجامعة جعلت الطلاب الثوريين والملتزمين يشعرون بمسؤولية أكبر. وكان غلامحسين واحدًا منهم وربما أكثرهم نشاطًا:

«كان كثير المطالعة للكتب والمصادر السياسيّة والإسلاميّة. ويستطيع معرفة التيّارات المنحرفة جيدًا. كان حاذقًا، دقيقًا، فطنًا، سريع البديهة وإجاباته حاضرة، وفي بعض الأحيان كانت إجاباته ذات طابع فكاهي».[1]

كان الطلاب الملتزمون يسعون لتحويل الأجواء السّيئة وغير الملائمة إلى أجواء تنسجم مع الثورة الإسلامية. وعُقدت جلسات عديدة لذلك، كان غلامحسين من الأعضاء الأساسيين فيها. شيئًا فشيئًا، أفضى مسار هذه النّشاطات إلى أن يُصدر الإمام الخميني في بداية ربيع العام 1980م رسالة النوروز[2] يدعو فيها إلى إخراج الجامعات من الوضع الإستعماري وإدخالها في أجواء إسلاميّة مناسبة. كانت هذه الرّسالة أساس الثّورة الثّقافيّة ومرتكزها في الجامعات. بعد التعطيل المؤقت للجامعات اقترح الدّكتور بهشتي في حزيران من العام نفسه، أن يخضع عددٌ من طلاب كليّة الحقوق الثّورين في جامعة طهران إلى دورة تأهيليّة (في القانون والحقوق الاسلامية) وأن يشكلوا هيكل المحكمة، كان غلامحسين ضمن لائحة الطّلاب الثّوريين المقترحين:

«دأب على المشاركة في الصّفوف التّدريبيّة باستمرار، وكان آية الله جوادي آملي، وآية الله موسوي أردبيلي، والسيد المحقق

 

 


[1] - بيروز سعيد أصلاني، صديق الدراسة في الجامعة.

[2] - النوروز: اليوم الأول من رأس السنة الإيرانية وبداية الربيع (21 آذار).

 

63


57

رواية الانتصار

داماد والدكتور بهشتي وشخصان آخران من القضاة هم أساتذة الدّورة. لكن غلامحسين لم يهتمّ بهذه الجلسات كثيرًا».[1]

ترك غلامحسين هذه الجلسات لأنه لم يرغب بوظائف كهذه، أو أنه لم يكن بصدد البحث عن وظيفة أصلًا، فهو قد أدرك أن الثورة في تلك الآونة الحسّاسة في أمسّ الحاجة إلى فكره وقلمه. 

 

 


[1]  - المصدر السابق.

 

64


58

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

 

شارك غلامحسين أفشردي في مباراة دخول الجامعة، وفي الوقت عينه؛ وقبل أن يدخل إلى الجامعة؛ انضم إلى هيئة تحرير صحيفة «جمهورى اسلامى» حديثة التأسيس؛ أولى صحف جيل الثورة في عصره؛ وعُرفت في العالم باسم صحيفة الإمام الخميني:

«بدأت صحيفة «جمهورى إسلامى» عملها في حزيران من العام 1979م. بعد مضي مدّة قصيرة من عملنا فيها وجدتُ أن شابًّا نحيفًا قد انضمّ إلى هيئة التّحرير؛ وأول ما لاحظته ولفت انتباهي هو نشاطه وسرعته في العمل؛ وشيئًا فشيئًا بدأت علاقتي به، فعرفت أن اسمه غلامحسين أفشردي. كنا أنا وإيّاه وبضعة شباب آخرين من أصغر العاملين في الصّحيفة سنًا. ثمّ قويت أواصر الصّداقة بيننا أكثر فأكثر.

في بعض الأحيان كنت أشاهد من بعيد وجهه البريء والطّاهر وأرى جدّيته وحماسه وقد انكبّ على عمله ينظّم الأخبار بدقة وعناية. أحيانًا لم يكن يُرى.. بيد أن صوته المفعم بحماسة الرّجولة كان يُسمع في أرجاء قسم هيئة التّحرير؛ إمّا متكلّمًا على الهاتف، أو متحدّثًا إلى بعض الأصدقاء في ما يرتبط بنشر خبرٍ أو عدمه.

كنت أشعر من خلال الأخبار التي يأتي بها أن لديه جرأةً

 

65

 


59

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

خاصة، جرأة ينبغي أن تكون لدى كلّ صحفيّ.

صحيفة «جمهورى اسلامى» وليدةُ الثورة والناطقة باسمها، وفي الواقع كانت هذه الصّحيفة تتعارك مع كلّ الأحداث السياسيّة. كان غلامحسين خادم الثورة، كنت على يقينٍ أنّه يعمل في الصحيفة بقصد القربة إلى الله. بالتأكيد؛ آخرون كثرٌ أتوا إلى الصحيفة للخدمة، لم يأتِ إليها أحدٌ بعنوان الوظيفة، أساسًا كانت محلًا؛ لا مكان فيه للوظيفة[1]».

لم تضع الصّحيفة شروطًا رسميّة للاستخدام والتّوظيف إنّما كان يتم اختيار الأشخاص من خلال تعريف الثّقاة الثوريين بهم؛ وقدّم السيد حسن بخشايش[2] غلامحسين وعرّف عنه.

كما أنه جرى حديث في المنزل حول عمل غلامحسين المستقبلي؛ وكانت والدته ترغب أن يصبح إمّا معلّمًا أو أستاذًا ثانويًّا. وعندما رأت أنّه مشغول بالعمل في الصّحيفة أفصحت عن رغبتها: «فردّ غلامحسين: إذا ما صرتُ معلّمًا فسوف أوجّه وأرشد مئتي شخصٍ، لكنّني إن تمكّنت من كتابة مقال فسوف أُرشد مئتي ألف»[3].

في البداية، بدأ غلامحسين عمله كصحفيّ عادي. ومنذ اليوم الأول، أدرك أصدقاؤه في الصّحيفة أنّه من أهل المطالعة. فكثيرٌ من

 

 


[1] - مرتضى سرهتكى زميل في الصحيفة. كتب العديد من ذكريات الشهداء في الحرب المفروضة؛ ويعدّ احد أعمدة كتابة التاريخ الشفاهي وأدب الدفاع المقدس..

[2] - حسن بخشايش، ولد في العام 1957 في اردستان, من المناضلين الذين التحقوا بحزب "جمهوري إسلامي" مع انتصار الثورة. استشهد في 18 حزيران عام 1981 في انفجار مقرّ الحزب الجمهوري.

[3] - والدة الشهيد.

 

66


60

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

الكتب التي كانوا يذكرونها يجدون أن غلامحسين قد قرأها وأنه يعرف كتّابها ومضامينها. بعد مدّة قصيرة، أدرك رئيس التحّرير مستوى ذكاء غلامحسين واستعداداته، فعهد إليه بإدارة قسم أخبار طهران:

بات معروفًا منذ البداية أن أفشردي شخصٌ نشيط ولديه قابليات مميزة. لهذا السبب، أوكلوا إليه مهمة قسم أخبار طهران والذي يعتبر من أهم أبواب الصحيفة. بغية تنظيم شبكة الأخبار أقام أفشردي علاقات جيّدة وواسعة مع عدد من الأفراد. أحيانًا كانت تحصل بعض الأحداث وترد أخبار إلى الصحيفة تفيد أن تيّارًا أو مجموعةً ما تعمل ضدّ الثورة في المنطقة الفلانيّة. كان ينزعج كثيرًا عندما يسمع هذه الأخبار من خلف الهاتف، يتأوّه ويقول لقد قامت مجددًا جماعة «حزب توده» بهذا العمل في المكان الفلاني، أو لقد قام المنافقون بالعمل الفلاني. ففي ذروة غضبه كانت ردّة فعله أنه يضغط بكفّه على جبهته، ولم أسمع منه يومًا شتيمةً أو ما لا يليق؛ حتى المنافقون أو أعداء الإسلام لم يشتمهم يومًا.

لم يعتد أن يجلس خلف مكتبه وحسب، فكنت أراه يخرج من الصّحيفة فجأة ويعاين الأحداث ثم يعود، وأحيانًا أخرى يركب درّاجة أحد الأصدقاء ويغادر، أو يطلب من أحدهم إيصاله إلى المكان الفلاني. كان شخصًا نشيطًا وسريع الحركة[1]».

كان غلامحسين يبحث عن موضوعات أساسيّة في الصحيفة، وتعتبر الآثار والأعمال التي خلّفها في أرشيف صحيفة «جمهورى اسلامى» مبعث التحول والحركة على المستوى الوطني وعموم

 

 


[1] - اسماعيل علوي يكانه، زميل في الصحيفة.

 

67


61

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

الثورة. كانت أجواء تلك الأيام مشحونة ومليئةً بالأحداث، وكانت الثورة الحديثة الانتصار تواجه كلّ يومٍ أزمةً جديدة.

إن تمرّد وعصيان المجموعات المناهضة للثورة ومناصري النّظام الشّاهنشاهي، وكذلك التنظيمات اليسارية في المحافظات الحدوديّة؛ وخاصة في محافظة كردستان كانت تنذر بخطر حقيقيّ وهذا الخطر كان إلى حدّ الانفصال.

كان غلامحسين حديث العهد في الصحيفة عندما ذهب إلى كردستان، وكان هدفه من ذلك السفر إجراء مقابلة مع أحمد مفتي زادة وهو أحد قادة المذهب السّني في كردستان خلال مرحلة الثورة. ورافقه في هذه المهمة مصور الصحيفة بهرام محمدى فرد:

«ذهبنا مع أفشردي إلى سنندج. كان يريد إجراء مقابلة مع مفتي زادة. ركبنا طائرة (C-130)  ورافقنا أيضًا مجيد حداد عادل[1]. لم تتمكن الطائرة من الهبوط إذ كانت جماعة الحزب الديمقراطي والكوملة الأكراد يمطرون المطار بقذائف الهاون. حلّقت الطائرة عدّة مرّاتٍ فوق المنطقة وأرادت العودة من حيث أتت؛ لكنها في المرة الأخيرة تمكنت من الهبوط. كان أفشردي قد نسّق مع أحد الاشخاص ليأخذنا إلى منزل مفتي زادة عندما تحطّ الطائرة. أجرى مقابلته مع مفتي زادة. ذهبنا ليلًا إلى تلفزيون سنندج، لم يتواجد فيه أكثر من 4 أشخاص.

كان التلفزيون يعيد بثّ برامج الشبكة العامة (الرئيسيّة)

 

 


[1]   - كان في ذاك الوقت مدير الإذاعة، ومن ثمّ عُيّن محافظًا لكرمانشاه. استشهد مجيد حداد عادل في 29\11\1981م، بعد عمليات ثامن الأئمة في دارخوين.

 

68


62

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

وحسب. كان هناك مصوّر مع مساعد ومحرّر صوت؛ وشخص آخر بصفة مقدّم برامج حيث كان يقطع البرامج من وسطها ليقرأ خبرًا أو نصًّا ما. كان من المقرر تشييع عدد من الشّهداء غداة ذاك اليوم. عند الصّباح، ركبتُ وأفشردي ومجيد في الصّندوق الخلفي لشاحنة كانت تسير وسط الجموع المشيّعة. أعدّ المصوّر فيلمًا عن التّشييع والتقطتُّ صورًا فوتوغرافيّة وعند انتهاء مراسم التّشييع ذهبنا إلى التّلفزيون. لم يمتلك مقدّم البرامج المقدرة لكتابة الخبر وتحريره. فقام أفشردي بكتابته وسلّمه إيّاه فقرأ نص تقرير أفشردي مع عرض الفيلم والصور.

كانت السّاعة الثّالثة بعد منتصف اللّيل عندما هجم منتمون إلى الحزب الدّيمقراطي واليساريون الأكراد على مبنى التّلفزيون؛ فقال المصّور: ابقوا هاهنا، فالمكان أكثر أمنًا.

مضت نصف ساعة؛ اشتدّ حينها اطلاق النّار. أجروا اتصالات فجاء عدد من مسلحي البيشمركا وهرب المهاجمون. ورجعنا في الصباح[1]».

في 9 أيلول عام 1979م، طُبعت المقابلة الخاصّة التي أجراها غلامحسين أفشردي مع أحمد مفتي زادة. كانت آراء العلاّمة مفتي زادة وأفكاره رائجة ومسموعة في الأوساط الكرديّة، وكان لنشر حديثه علنًا أهمّية في ذلك الوقت.

 


[1]   - من مقابلة الكاتب مع مصوّر الصحيفة بهرام محمدي فرد.

 

69


63

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

جاء في قسم من المقابلة:

س- حبّذا لو تحدثوننا عما يجري حاليًّا في كردستان؟ وفي أي خانة تضعونها وكيف؟ وما هي الجهات الأساسيّة التي تقف وراءها؟

ج- إن ما يحدث في كردستان هو نتيجة اتحاد القوى المعادية للإسلام في جميع أنحاء إيران ولا يمت بصلة لأهلنا الأكراد بل يتجاوز الأمر الحدود الإيرانية ويعود للامكانيات التي تسخّرها القوى الاستعماريّة في المنطقة. صحيحٌ أن هؤلاء أفراد بلباس كرديّ؛ لكنهم في الواقع فرس وعرب وترك وبلوتش وغير ذلك، وحتى عراقيون ومصريون. حتى أنه اعتُقل هناك أربعة جواسيس صهاينة. ومن المثير جدًا والمؤسف أن يتم ربط هذه القضيّة المهينة بالشّعب الكرديّ. في الوقت الذي قاسى هذا الشّعب فيما مضى الظلم وتعرّض للاضطّهاد. وقد حوّلت القوّات المعادية للثّورة هذه البلاد مركزًا لهجماتها وغاراتها. كثرٌ هم الأفراد الذين خُدعوا وضُلِلُوا ليقفوا في وجه الثّورة، ظانّين أنهم يقفون في وجه العدو. وما أكثر الذين لقوا حتفهم بتواطؤ ومكيدة هذه القوى (الخارجيّة) العميلة.

مع كلّ هذه المتاعب والمشقّات التي تحمّلها هذا الشّعب المحروم؛ ليس من الإنصاف أن تقول أن الشّعب الكردي كان سببًا في إيجاد هذه الأوضاع، إنما هي تلك التّيارات والجماعات التي اجتمعت لمواجهة الثورة الإسلاميّة. فلو تأمّلنا للاحظنا أن اسم الحزب الدّيمقراطيّ الكردستانيّ متداول أكثر، ولذلك فهم يتلطّون خلف حزب توده، ومنظّمات خلق الفدائيّة، وجمعية الدّفاع عن الحريّة، وسائر الجماعات التي هي مجرّد أسماء دون مسمّياتها.

إن الهدف من أعمال القوى المتحدة ضد الثّورة هو أن يُظهروا

 

70

 

 


64

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

للعالم وللرّأي العام أنّ هذه الحرب هي بين الشّعب الكردي وبين الحكومة، ولأهداف سياسيّة خاصة بالشعب الكرديّ، وللأسف فإن بعض المسؤولين ليسوا ملتفتين إلى هذه الخديعة ولا يذكرون على ألسنتهم سوى اسم الحزب الدّيمقراطي»[1].

كان غلامحسين ذلك الشخص الذي يتمنى كلّ رئيس تحرير صحيفة أن يكون لديه مثله. فقد أظهر كفاءة واستعدادًا في الشّهر الأول والثّاني، بحيث أن رئيس التّحرير اختاره ليكون موفدًا إلى الجزائر. كان أول صحفي يُرسل من قبل الصحيفة إلى الخارج بعد انتصار الثّورة.

ففي تشرين الثاني من العام 1979م شارك وفد مرسل من قبل الحكومة الإيرانيّة في احتفال ذكرى استقلال الجزائر بدعوة من رئيس جمهوريّتها وقد ضمّ الوفد: المهندس مهدي بازركان، د. إبراهيم يزدي، د. مصطفى شمران؛ وقد حضر غلامحسين أفشردي كصحفيّ في عداد الوفد. كانت نتيجة هذه الزيارة تقريرًا نُشر في صحيفة «جمهورى اسلامي» بتاريخ 3\11\1979م.

كتب أفشردي في تقريره حول سفره إلى الجزائر:

«إذا كان اجتماع النقيضين محالًا في رأي الفلاسفة؛ لكن مثل هذا الأمر قد حصل في الجزائر؛ فمن جهة حضر جورج مارشه والجنرال جياب وشقيق فيديل كاسترو (راؤول كاسترو)؛ ومن جهةٍ أخرى حضر برجينسكي ومجموعة من ممثلي البلدان الرأسماليّة! برأي بعض المحللين السّياسيين؛ إنّ حضور وفد سياسي عسكريّ إيرانيّ رفيع المستوى في الجزائر في مراسم الذكرى الخامسة والعشرين

 


[1]   - جريدة جمهورى اسلامى،9\9\1979م، ص 10.

 

71


65

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

لانتصار الشّعب الجزائريّ المسلم على الاستعمار الفرنسي، قد زاد من أهميّة وحساسيّة هذا الاحتفال. ذلك أن هذا الوفد يُعدّ ممثلًا لثورة حطّمت - بدون أي مساعدة من الخارج وبأقل الخسائر الماديّة والبشرية- أنياب الإمبرياليّة الأمريكيّة السّامّة وقَلَعتها من بلدها ورمتها بعيدًا؛ بالرغم من أن مواضع نهش هذه الأنياب مازالت مؤلمة ومازالت البلاد إلى حدٍّ ما ملتهبة»[1].

لم يكن غلامحسين أفشردي صحفيًا يجلس في الفندق ويكتفي باللقاءات الرسمية مع المسؤولين وحسب. لقد عمل خلال الأيام الثلاثة هذه على الاستفادة من كل ساعات سفره ولحظاته لاستطلاع الأخبار، ومن جملتها الوضع الاقتصادي للناس في أسواق الجزائر وأزقتها:

«إن القول بأن الجبهة الوطنية الاشتراكية استطاعت بعد مضي 25 سنة أن تحل المشكلات الاقتصادية في هذا البلد الاسلامي مسألة تحتاج إلى بحث مفصل، ولكن ما رأيناه هنا باختصار هو أن مشكلة الزراعة والصناعة لم تحل بعد. فقيمة كيلو اللحم تبلغ 60 إلى 90 تومانًا، البندورة لا يمكن الحصول عليها بسهولة، والأسوأ من هذين الأمرين وضع المساكن، والأسوأ من هذه المشكلات الثلاث وضع البطالة. هذا ما يقوله الناس وأهل البلاد هنا»[2].

كما أجرى مقابلة مع راؤول كاسترو شقيق فيدل كاسترو:

«لقد حضر الاحتفال أيضًا شقيق فيدل كاسترو (وزير دفاع كوبا)، راؤول كاسترو مع زوجته. وقد حدثني بشكل ملخص عن العلاقات الإيرانية-الكوبية الطيبة والوثيقة وتمنى أن

 

 


[1]   - صحيفة جمهوري اسلامي 3\11\1979، ص12.

[2]   - المصدر السابق.

 

72


66

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

تتوسع هذه العلاقات أكثر. ثم تحدث كاسترو عن الثورة وأمِل أن يستطيع الشعب الإيراني المستضعف في نهاية المطاف التغلب على مشكلاته وتمنى للإمام الخميني السلامة والتوفيق[1]».

وفي قسم آخر من تقريره أشار غلامحسين أفشردي إلى اللقاء الذي جمع بازركان مع برجنسكي، مستشار الأمن القومي لرئيس الجمهورية الأميركية في تلك المرحلة:

«عقد (المهندس مهدي) بازركان ليل الخميس لقاءً مهمًا مع رئيس جمهورية (الجزائر) ويوم الخميس التقى برجنسكي. بدأ اللقاء في الساعة 5:30 بعد الظهر بتوقيت الجزائر واستمرّ لغاية الساعة 7:00 في مقر إقامة البعثة الإيرانية[2]».

كان لهذا الخبر صدىً واسع في البلاد. غداة ذاك اليوم سيطر الطلاب الجامعيون السائرون على نهج الإمام على السفارة الأميركية التي سمّيت وكرًا للتجسس (على الثورة والايرانيين). ورافق هذا التحرك تأييد الإمام الخميني ودعمه لهذا العمل. وقامت صحيفة «جمهوري اسلامي» بأكبر تغطية إعلامية لهذه الحادثة وكان غلامحسين أفشردي العامل الاساس في التوجيه والكتابة حول هذه التغطية.

في يوم الجمعة 25\4\1980م، مُنِيت خطة الولايات المتّحدة الأمريكية لتنفيذ عملية عسكرية سرية في ايران بفشلٍ ذريعٍ بسبب عاصفة الرمال في صحراء طبس. بعد ساعات من انكشاف الحادثة، اتّجه غلامحسين أفشردي إلى طبس، وكان المراسل الأول

 

 


[1]   - المصدر السابق.

[2]   - المصدر السابق.

 

73


67

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

الذي يصل مكان الحادثة:

«بعد ظهر ذلك اليوم، ما إن وصلتُ إلى الصحيفة حتى ناداني رئيس التحرير وقال:«خذ آلة تصويرك على الفور واذهب برفقة أفشردي!» سألته:«ماذا حدث؟» فقال:«نفّذ الأميركيون إنزالًا في طبس».

لم يكن أحد يعلم تفاصيل ماحدث؛ عندئذ جاء أفشردي مسرعًا وقال فلننطلق. أدركت أنه علم بما حدث قبلنا؛ كان بحوزة الصّحيفة سيارة جيب. حمل أفشردي ثلاث قطع سلاح (G3) وركب السّيارة. قلت مستهزئًا: أتريد مواجهة الكوماندو الأمريكي بهذه الأسلحة؟! أجاب: أفضل من لا شيء.

ركبنا السيارة وانطلقنا. وصلنا عند الفجر إلى مخفر شرطة «رباط خان»؛ [المخفر تابع للدرك]؛ ووجدنا عريفًا يوقف مجموعة من العناصر في صفّ واحد.

سألناهم: أين الأمريكيون؟

- نحن أيضًا لا نعلم مكانهم بالتّحديد!

- في أي اتّجاه هم؟

دلّنا على الاتّجاه قائلا: إننا بصدد إرسال قوّة إلى هناك.

أَرْكَبوا الجنود شاحنةً وتحركوا على مهل. تبعناهم وبعد مضي دقائق؛ وجدنا أنهم يسيرون ببطء شديد. قال أفشردي للسائق: دعهم وشانهم؛ تجاوزهم وتقدّم لنصل بسرعة.

كانت الطّريق غير مستوية وتعيق الحركة السّريعة؛ صحراء رمليّة؛ وقد استطاع الجيب التّقدم باستخدام مبدل السّرعة المساعد.

 

74


68

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

وصلنا إلى مكان علق فيه الجيب وسط الرمال؛ وبعناء وجهد جهيد استطعنا إخراجه منها. أكملنا مسيرنا ونحن ننظر في الصّحراء المترامية يمنة ويسرة علّنا نجد مجموعة الكومندو الأمريكية. 

بعد ساعة تقريبًا وقع نظرنا على أشلاء معدنية يتصاعد منها الدّخان. عندما اقتربنا أكثر شاهدنا حطام طائرة (C-130)، وكذلك ثلاث مروحيات سالمة، فيما احترقت مروحيتان أو ثلاث. وبجانب الطائرات شاهدنا جثتين قد تفحمتا على الحديد، أما خوذتاهما فلا زالتا على حالهما، كذلك ساعتا يديهما اللتين يظهر أنهما من النوع المضاد للاحتراق وما زالت عقاربهما تعمل. قلت لأفشردي: ما القضية؟ كان أفشردي ذكيًّا فقال: أستبعد أن تكون هذه الطائرات قد أنزلت قواتًا هنا. سألته: إذا لم ينزلوا قوّات فلماذا الطّائرات والجثث كلها تقبع هنا؟!

تواجد في المحيط وعلى مقربة منا بعض الأفراد من أبناء المنطقة. ذهب أفشردي إليهم ليسألهم. علمنا أن قائد الحرس في منطقة يزد «محمد منتظر قائم» كان قد سبقنا إلى المكان قبل ساعات، وقد استشهد على أثر القصف الأمريكي وقد أخذوا جثّته.

وجدت حقيبة منتظر وبطاقته والتقطتُ صورًا  لهما. قال أفشردي: يظهر أنه كانت هناك عدة طائرات هليكوبتر سليمة وقد قصفتها طائرات الفانتوم الحربية. أردتُ الدّخول إلى إحدى الطّائرات فنهاني عن ذلك قائلًا: إلى أين أنت ذاهب!؟ قلت له: أدخل لأرى ما القصة؟ قال: لا تدخل لا تدخل. سألته: لمَ؟ فقال: أنظر إنها ألغام.

كانت تحيط بالمروحيات أوتاد بارزة من الأرض وقد شُبِكت

 

75


69

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

ببعضها بشريط واحد. سألت: أين وما هي الألغام؟ جيد فلأقفز من فوقها. قال: قلت لك لا تذهب فهي خطرة؛ وربما يكون فيها مواد مفخخة للإنفجار.

كما إن أفشردي لم يدخل إلى أي طائرة بقي ثلاث ساعات يستطلع الأمر.

قال: يا سيّد بهرام! حاليًا لا يوجد أي أمريكي داخل الطائرات. لكنهم أتوا في الأساس ليبقوا مدة من الزمن. لكن لا ندري ما السبب الذي دعاهم للمغادرة!. قلت: وما أدراك بهذا الأمر؟

كان هناك جهازٌ كبير يشبه موّلد الكهرباء. قال أفشردي هذه الآلة هي لتنقية المياه. وُضعت فيها الشوكولاته والبسكويت والطّعام المعلّب والألبسة، ثم قال: بهرام! لقد جاؤوا بهذه الأشياء ليبقوا هنا مدّة. وهذا يشير إلى أن لديهم خطة. قلتُ ضاحكًا: يا لهذه التخيلات! أجاب: الآن سيظهر لك ذلك.

على بعد أمتار كانت هناك بضع جيبات عسكريّة تشبه سيّارات مدينة الملاهي الكهربائيّة؛ وقد صُمّمت باللّون الترابي ( للتّخفي والاستتار) ولا يظهر منها سوى دائرتين للمصابيح الأماميّة. لم أكن قد رأيت مثل هذه السيّارات من قبل، وكذلك وجدنا حوالي سبع درّاجات ناريّة قد صمّمت باللّون الترابي نفسه[1]. التقطتُ مجموعةً من الصّور. قلت لأفشردي: لنعد سريعًا. أجاب: يجب أن أتحدّث إلى قائد المخفر. ذهب وتحدّث إلى قائد المخفر والأفراد الموجودين هناك»[2].

 

 


[1]   - بالفيبركلاس.

[2]   - بهرام محمدي فرد.

 

76


70

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

كان أول تقرير لغلامحسين أفشردي عن حادثة طبس في يوم 27\4\1980م تحت عنوان «تفاصيل الهجوم العسكري الأمريكي» وأصبح العنوان الأول لصحيفة «جمهورى اسلامى» في ذلك التّاريخ. وطبع في الصفحة الثانية بعنوان: «تقرير خاص عن طبس».

 جاء في قسم من التقرير: «تبعد النقطة التي هبطت فيها الطائرات حوالى (270 كلم) عن يزد و(160 كلم) عن طبس؛ ضمن منطقة فوج درك بيرجند في نقطة تبعد (40 كلم) عن مخفر «رباط خان». أوضحت قيادة حرس المنطقة أن هذه النقطة (مكان الانزال) هي ضمن المخطط الذي رُسم في عهد الشّاه البائد لإنشاء مطار فيه. ولأن هذه الخطط قد وُضعت وبُرمجت في الأساس من قبل الأمريكيين فهم يعرفون خصائص المنطقة جيّدًا، كما أنه استفيد سابقًا من هذا المكان لشحن وتصدير اليورانيوم المستخرج من المنطقة إلى أمريكا. وتجدر الإشارة إلى أن النقطة التي هبطت فيها المروحيات هي جزءٌ من صحراء على شكل سهل مفتوح وواسع تبلغ مساحته أكثر من (10 كلم) مربع مع مجال رؤية واسع ومساعد كثيرًا لهبوط الطائرات. ثم أكمل الرائد قائد حرس المنطقة قائلا: يبدو أن الأمريكيين درسوا كل تفاصيل المنطقة وأخذوها بالحسبان، ولكن عندما يكون الله سبحانه وتعالى هو سندُ هذا الشعب حينها تُفشِل الرّمال كل مخطّطاتهم؛ فالمروحيات التّابعة للقوات البحريّة الأمريكيّة لم تتحطم أو تتلاشى إنما تعطّلت بعض أضلاع مراوحها بسبب الرمال؛ وهاتان المروحيّتان استقرّت الأولى منهما على الجهة اليمنى للطريق والأخرى على الجهة اليسرى؛ إضافة إلى المروحيّتين السالمتين، وُجدت مروحيّة أخرى محترقة

 

77


71

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

ومحطّمة إلى الجهة اليسرى للجادة؛ ويبدو أنها اصطدمت بطائرة شحن (C-130) ذات المحركات الأربع وسقطتا معًا واحترقتا»[1].

«لم يبق من طائرة (C-130) سوى كومة حطام رماديّة اللون وأجزاء الألومينيوم المنصهر المتناثرة في المكان. شوهدت 5 جثث محترقة لجنود بين ثنايا حطام الطائرة؛ الطيار وطاقم الخدمة.

ومن المؤكد أن أفراد طاقم المروحيّة التي اصطدمت بهذه الطائرة واحترقت قد لقوا حتفهم واحترقوا أيضًا. واللافت للانتباه أن الصندوق الأسود للطائرة (C-130) الذي يسجّل معلومات الرحلة (الاصوات والانطلاق وخطّ المسير..) موجود أيضًا بين حطامها وأجزائها المتناثرة. ومن خلال هذا الصندوق يمكن معرفة القاعدة التي انطلقت منها تلك الطّائرة والدّولة التي تأوي هذه القاعدة وتحميها. شاهدتُ أعدادًا كثيرة من طلقات رصاص لسلاح فردي (M16) متناثرة في المكان؛ كذلك العديد من الجعب الخاصة بذخيرة هذا السلاح حيث تحتوي كل جعبة جيبين لحفظ مخازن السلاح؛ ويتّسع كلّ جيب منها لثلاثة مخازن سعة الواحد منها 20 طلقة  (M16)، لم يكن لدى الأمريكيين متّسع من الوقت لجمع هذه الجعب وأخذها معهم، فتركوها ولاذوا بالفرار. بعد أن وضعوا بجانب كل واحدة من هذه الأدوات والتّجهيزات مقدارًا من المواد المتفجرة. وُجدت مناظير ثقيلة لقياس الزوايا وضعوا بجانبها جعبة من المتفجرّات معدّة للتفجير، وكانت خطيرة للغاية»[2].

كما أن غلامحسين أفشردي أعدّ في الأيام اللاحقة أخبارًا

 

 


[1]   - المصدر السابق؛ صحيفة جمهورى اسلامى؛27\4\1980م.

[2]   - صحيفة جمهورى اسلامى؛ 27\4\1980م.

 

78


72

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

وتقارير إضافيّة حول حادثة طبس. وفي مقابلته مع قائد مخفر «رباط خان طبس»، وقائد حرس المنطقة، وشهود من المحلّة نفسها ومصادر مطّلعة قد حلّ عقدة الغموض في الحادثة، وشرح أبعادًا جديدة حول تفاصيل الهجوم العسكري الأمريكي وكيفيّة حصول العاصفة الرملية، واصطدام طائرة (C-130) بالمروحيّة وفشل عمليّة المهاجمين الأمريكيين، كما انه كشف في عدة محادثات هاتفية مكنونات وخفايا هذه الحادثة .

 تصادف هبوط وإنزال الكومندو الأمريكي في صحراء طبس مع مرور حافلة ركاب متجهة من يزد إلى طبس، وجرت أحداث بين ركّاب الحافلة والكومندو ومشادّات كلاميّة. وقد روى غلامحسين ذلك من خلال مقابلة خاصة أجراها مع سائق الحافلة (التابعة لشركة اتوسير يزد)، ونُشرت هذه المقابلة في 10 أرديبهشت [30\4\1980] وبعد ذلك شكّلت مادة لإنتاج أفلام وثائقيّة وسينمائية:

«إنطلقنا في السّاعة الثّالثة من بعد ظهر الخميس في 24 \4\1980م من يزد قاصدين مشهد. وصلنا في الساعة 8:30 إلى محطة «رباط»؛ تناولنا عشاءنا ثم تحرّكنا مجدّدًا حوالي الساعة التاسعة. كان مساعدي يقود الحافلة وأنا جالسٌ بجانبه على المقعد الأمامي ما إن ابتعدنا عن رباط مسافة (50 كلم) تقريبًا ؛ وإذ بنا نرى طائرة للجيش ذات محركات أربعة تربض على بعد حوالي 50 مترًا إلى يسار الطريق؛ فجأة دُعينا من قبل مجموعة جنود للتوقف في مكاننا، ترافق ذلك مع إطلاق رشقات ناريّة في الهواء. تقدّم نحونا عنصرٌ يرتدي لباسًا عسكريًّا إيرانيًّا ولا تظهر عليه أي شارة تدل على رتبته العسكريّة؛ أمرني بالفارسيّة أن أنزل

 

 

79

 


73

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

وأن أطلب من  الرّكاب النّزول. بعد أن ترجّلنا من الحافلة شاهدنا مجموعة عسكريين من ذوي البشرة السوداء ومجموعة أخرى، لون عيون أفرادها أزرق وشعرهم أشقر ووجوههم مطليّة باللون الأسود. صعد بعض الجنود إلى الحافلة وراحوا يُنزلون من بقي منها بالضّرب والقوّة، ثم طلبوا منا أن نضع أيدينا خلف رؤوسنا. وبدأوا بتفتيشنا وأجلسونا على حافّة الطريق وظهورنا إلى الطائرة. بعد ربع ساعة حطّت طائرة أخرى من نفس النّوع على الأرض وتبعتها 6 طائرات و7 مروحيّات حطّت أيضًا في المكان. خرج من كل واحدة قرابة 60 جنديًّا مسلحين ومجهّزين بوسائل القتال، وقد أخفوا وجوههم بالأقنعة وكل واحد منهم يحمل منظارًا. استمرّ إنزال الجنود قرابة الساعة والنصف. كان بحوزتهم سيارة جيب أمريكية بلا مصابيح وفيها بعض الجنود وبحوزتهم بضع دراجات نارية. وضعوا لمراقبتنا قرابة 30 جنديا من ذوي الوجوه المموّهة ومجهزين بكامل أسلحتهم وأخضعونا لمراقبة مشددة. ثمّ نقلوا حافلتنا إلى خارج الطريق وبعثروا محتوياتها ووسائل المسافرين ورموها أرضًا.

بعد مضي قرابة السّاعة ناداني الشّخص الإيراني نفسه وسألني: من أين أتيتم وإلى أين أنتم ذاهبون؟ في أي ساعة انطلقتم؟ أجبته: قدمنا من يزد في الساعة الثالثة بعد الظهر. ثمّ سأل: إلى أين؟ أجبته: إلى طبس! ثم قال هيا فليحمل كل واحد منكم حقيبته وليجلس إلى الجانب الأيمن من الطريق. نفّذنا ذلك، وأيّما شخص كان يصدر منه صوت أو سعال انهالوا عليه بالضّرب والرّكل. بعد ذلك جاؤوا بالحافلة وقالوا اصعدوا الواحد تلو الآخر.

 

 

80

 


74

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

وقف في داخلها ستة جنود حرصوا على أن لا نتكلّم مع بعضنا ولا نتفوّه بكلمة. كان الوقت حينها قرابة الثانية عشرة ليلًا. لاحظت أن شكل أحدهم وهيئته يوحيان بأنه طالب جامعي إيراني. سألنا: هل تجيدون اللغات الأخرى الفرنسية والإنجليزية؟ قلنا جميعًا بصوت واحد: لا! ثم قال إذا رفعتم أصواتكم مرّة أخرى سأطلق عليكم الرّصاص. هيا انزلوا واحدًا تلو الآخر من الحافلة لتصعدوا إلى الطائرة. ولا تنبسوا بكلمة. ذُعر ركاب الحافلة وارتعبوا من هذا المشهد؛  وكان أغلبهم مسنّين. في نهاية الأمر أخذونا إلى جانب طائرة بداخلها مصباح  أحمر ضوؤه خافت. لاحظنا مئات الجنود يحرسون الجانب الآخر. وقد وضعوا كشاف ضوء على قاعدة مثلثة الأضلاع طويلة وقد أحاطوا المنطقة بمجال رؤية واسعة بمساحة (6 كلم) تقريبا. في تلك الأثناء ولأسباب خاصّة بهم أعادونا مرة أخرى إلى حافلتنا وطلبوا منا الصعود إليها.

بعد ذلك أخذونا إلى الجهة اليسرى للطريق. ثم أنزلونا مرة أخرى من الحافلة وأجلسونا جانبًا منها وأجبرونا على وضع أيدينا على رؤوسنا ومدّ أرجلنا على الأرض. كنت في أوّل الصف؛ في تلك اللحظة أقسمت بإمام الزمان (عليه السلام) ودعوت إليه قائلًا: أريد الليلة وفي هذه الصحراء أن تثبت لنا أحقيّة نهج الإمام الخميني.

فجأة شعّ ضوء أخضر من جهة اليمين (مشهد) وامتدّ إلى الأمام لناحية يزد ثم اختفى. بالطبع رأى الجميع ذلك. ما إن رأى الجنود ذلك النّور وكيف بثّ فينا الرّوح والنشاط حتى راحوا يضحكون ثمّ مزقوا صورة الإمام الخميني.

بعد نصف ساعة أمرونا بالصّعود إلى الحافلة واحدا تلو

 

81


75

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

الآخر؛ وكالمرّات السّابقة أبقوا في الحافلة 5 جنود لمراقبتنا. في هذا الوقت جلس أحدهم خلف المقود وسار بنا إلى مكان قريب من الطائرة حتى نصعد إليها.

مضى ربع ساعة حيث كانت المسافة قليلة بين الحافلة وبين الطائرة وكان محركها لا زال يعمل وينبغي أن نصعد إليها. فجأة انفجرت قبل أن تتحرك. من شدة الخوف والهلع قلنا لهم نكاد نحترق. أجاب أحدهم: لا تقلقوا. في هذه الأثناء أعطبوا إطار الحافلة الأمامي لجهة السائق. ذهبوا وركبوا سبعة طائرات ومروحيتان. قالوا لنا إن تحرّكتم من هنا قبل طلوع الشمس سنقضي عليكم بالقصف والرصاص. من شدة الخوف بقينا هناك حتى الصباح. في الصباح بصعوبة بالغة تحركنا بإطار معطل فارغ من الهواء وقطعنا حوالى ستة كلم. ثم بدّلنا الإطار بآخر وأكملنا مسيرنا.

وصلنا بداية إلى مخفر رباط خان وأخبرناهم بما جرى معنا. قال أحدهم هؤلاء مهرّبون. قلنا لهم: أيّ مهربين ولديهم 8 طائرات (نقل) و7 مروحيات! قالوا: هيا اذهبوا وأخبروا سريّة طبس بسرعة. وصلنا في الساعة 3 بعد الظهر إلى طبس، أتى المقدم قبادي من مشهد وبدأ باستجوابنا»[1]

في تلك المرحلة كان قد طرح النّظام الثّوريّ منهجًا جديدًا أمام العالم على مستوى السّياسة الخارجيّة. أحدثت قضيّة الدّفاع عن مظلومي العالم في وجه أقطاب القوة وأصحاب السّلطة موجةً وصلت تردداتها إلى كل المجتمعات والبلدان. فالأراضي الفلسطينية

 

 


[1]   - صحيفة جمهوري اسلامي، 30\4\1980م. ص2.

 

82


76

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

المحتلة ولبنان كانا من النّقاط الأكثر بروزًا والتي تأثرت بالثّورة الإسلاميّة بالنّحو الذي أصبح تحرير فلسطين والدّفاع عن الشعب اللبناني في مواجهة اعتداءات إسرائيل هاجسًا جديًا وحقيقيًا لدى جيل شباب الثورة.

في شهر تير من العام 1359 [حزيران 1980م] سافر غلامحسين إلى لبنان لمدّة أسبوعين كانت حصيلة سفره إعداد خمسة تقارير؛ طبعت ونشرت في صحيفة «جمهوري اسلامي». كتب غلامحسين في تقاريره عن مختلف المسائل والقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية في لبنان؛ والأمر اللافت أيضًا أنه -إلى جانب هذه الأبعاد والقضايا الأساسية- لم تكن المسائل الفرعية لتغيب عن نظره ودقّة ملاحظته. وقد امتازت هذه التقارير من النّاحية الحِرَفية والفنية بأن توافرت على بنية تقرير صحفي مكتمل وسليم، وتميّزت بالدّقة في التّفاصيل وبمتانة السبك وسلاسته؛ وهو عمل يستحق التّقدير والإهتمام مقارنة بكتابات ذلك الوقت. تزامن سفره إلى لبنان مع بداية إحدى المعارك خلال الحرب الأهليّة[1].

في تقريره الأول كتب غلامحسين:

«ما إن تخرج من مطار بيروت الدّولي حتى تشاهد الجدران وقد ملأتها الثّقوب والحفر بفعل طلقات الرصاص، وعندما تسأل عن الحرب والمعارك التي تسببت بذلك؛ يجيبونك أنها أصبحت شيئا عاديًا، في كل وقت نتوقع حصول مثل هذه الأمور. حقًا لقد أصبح لبنان بلدًا عجيبًا؛ بلد مقسم بسبب نفوذ الأحزاب والجماعات وسلطة المنظمات المختلفة. بلد رزح سنين طويلة

 

 


[1] -  بدأت الحرب الاهلية اللبنانية في العام 1974 بعد حادثة بوسطة عين الرمانة.

 

83


77

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

تحت نير استعمار حكومات عديدة. يوجد في لبنان أكثر من 100 حزب وتنظيم وجماعة مسلحة، ويولد في كل يوم جماعة وحزب جديدين؛ جماعات من اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار.

عندما تتجول في أي منطقة من لبنان ترى الجميع مسلحًا؛ فتجد الشخص يحمل مسدسًا فرديًّا على خصره، وفي سيارته يحمل رشاشًا. في لبنان تجد كل نقطة ومستديرة وحي تحت سيطرة حزب وجماعة. هذه القوى المسلحة نفسها هي أحد أسباب عدم استقرار لبنان واضطراب أحواله. وطالما أن هذا السبب موجود فلن ينعم هذا البلد بالاستقرار والأمن»[1]

يكمل غلامحسين تقريره واصفًا ومحلّلًا مسألة رواج الأسلحة في لبنان:

«لو سألت عن أي شخص في لبنان ستجد أنه يحمل مسدسًا على خصره. يكفي أن يعرفه بضعة أشخاص أو أن يكون منتسبًا لمجموعة (أو تيار) سياسي؛ عندها يصبح من اللّازم أن يكون لديه قطعة سلاح كلاشنكوف يحمله في سيارته إنّما حلّ. يمكن القول أنه لا يوجد مكان في العالم مستهلك للأسلحة مثل لبنان هذا البلد الصغير جغرافيا. نشاهد كثيرًا بأن الأسلحة أصبحت أدوات للتسلية واللعب؛ فعندما تمر في أحد الشوارع أو في محلة ما تسمع أصوات رشقات الرّصاص وقد ملأ صداها الأجواء فيلتفت الجميع إلى ناحية معينة عندها تعرف أن في تلك الناحية يقام حفل زفاف (عرس) في أحد البيوت، وقد أفرغ الجار مشط مسدسه في الهواء احتفاء بزواج جاره.

 

 


[1]   - صحيفه جمهوري اسلامي 26\7\1980.

 

84


78

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

لقد حصدت الأسلحة أرواح أعداد كبيرة من الناس خلال المعارك بين المجموعات السياسية المتناحرة. فخلال تلك الأيام المعدودة التي قضيتها في بيروت قتل في معركة واحدة استمرت ساعات عدة بين الفلانجة (الكتائب) والأحرار؛ وهما حزبان مسيحيان 340 قتيلا، وجرح حوالي 700 شخص. ومثل هذه الحصيلة قد تكون نتيجة مواجهة بين دولتين وليس حزبين..

إن ما يؤكد ويدل على المقاصد الفتنوية للمستعمرين والمحتلين أنهم يزوّدون جميع المجموعات والأحزاب بالأسلحة الخفيفة دون الثقيل منها. وكمثال على ذلك هناك العديد من المنظمات الفلسطينية اليسارية في جنوب لبنان تتلقى الدّعم المالي والسلاح من بلدان عديدة؛ منها روسيا ورومانيا وكوبا وليبيا. كان جنوب لبنان في كل يوم يتعرّض للاعتداءات الإسرائيلية. وكل هذه المنظمات؛ بما فيها أهم تنظيم فلسطيني أي منظمة فتح؛ لا تمتلك أسلحة ثقيلة لتواجه الطائرات الحربية الإسرائيلية. ولغاية اليوم لم تستطع أي من هذه المنظّمات الفلسطينيّة في جنوب لبنان أن تسقط ولو طائرة واحدة، وإن امتلكوا المضادات الجوية فهي قديمة جدًا وقد مضت عليها سنون مديدة. فما إن يسرعوا، عند هجوم الطائرات، لتشغيلها وإعدادها للإطلاق حتى تكون الأخيرة قد قصفتها ودمرتها وغادرت. الاتّحاد السّوفياتي نفسه الذي أضحى المساند لكل التّنظيمات المناهضة للإمبريالية في لبنان لم يزود أي تنظيم بصاروخ واحد (سام7) ضد مقاتلات الفانتوم؛ حتى منظمة فتح لم تحصل على مثل هذا السلاح. لا يمكن الذهاب إلى قتال الدبابة والطائرات بالمسدس والرشاش والآر بي جي؛ وإنما

 

85

 

 


79

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

أصبح غرض هذه الأسلحة الإقتتال الداخلي وحسب؛ لذلك لا يكاد يمر يوم ولا يحصل فيه اقتتال في لبنان حتى بين مجموعتين فلسطينيتين يساريتين من دون سقوط قتلى بفعل هذه المعارك..

إنّ تسليح المنظّمات أجبر النّاس هنا على الاحتفاظ -على الأقل- بالأسلحة في بيوتهم حفاظًا على أمنهم وحياتهم في مواجهة الحوادث المحتملة. إن أكثر النّفقات في لبنان تتعلق بشراء الأسلحة. أحيانا يوفّر السماسرة والوسطاء سوقًا سوداء للسلاح. في إحدى القرى في شمال لبنان إلتقينا أحد الشباب اليافعين في المرحلة الدراسية المتوسطة ولا يتجاوز عمره 14 عامًا ويحمل السلاح أيضًا. دققت في السّلاح الذي يحمله كأنه يشبه قطعة الرولور «ستة طلقات».. بشكل عام تنمو شيئًا فشيئًا فكرة ومفهوم امتلاك السّلاح الشخصيّ في ذهن الأفراد هنا منذ مرحلة الطفولة .. وإذا استمرّ سباق التّسلّح هذا بين الناس سنتوقع في المستقبل القريب أن يحتفظ كل شخص في بيته بأنواع جديدة من الأسلحة كالآر بي جي والمضاد الجوّي واللغم والقنابل اليدويّة وغيرها»[1].

كان يعيش في كتاباته في صلب حياة الناس. في لبنان أيضًا، لم يغفل عن حياة النّاس اليوميّة، وعكف على الاستفسار عن ذلك في الأحياء والأسواق:

«المجتمع اللبناني، مجتمع إستهلاكي بالكامل. حتى الآن في حالة الحرب؛ لا يُشاهد شُحٌّ في البضائع. لكنْ، أكثر المواد الاستهلاكية المهمة هي مواد مستوردة من الدول الأجنبية، تحوّل لبنان إلى متجرٍ كبير لبيع منتجات مختلف الدول. البضائع غالية

 

 


[1]   -  المصدر السابق.

 

86


80

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

جدًا. على سبيل المثال؛ كيلو اللحم ب 800 ريالٍ، والخبز 30 ريالًا، والبندورة 120 ريالًا، والسكّر 90 ريالًا. والحال أن أكثر هذه المواد من إنتاج لبنان نفسه، والبضائع الأجنبية أغلى بكثير».[1]

في القسم الثاني من تقريره عن لبنان، تطرّق غلامحسين إلى تعريف حركة أمل. تأسّست حركة أمل (أفواج المقاومة اللبنانية) عام 1974م، على يد الإمام موسى الصدر، بالتعاون مع الشهيد الدكتور مصطفى شمران. لفت غلامحسين الانتباه في تقريره إلى قضايا  في مستقبل الحركة، تشير إلى معرفته وإدراكه العميق:

«ينبغي أن تكون حركة المقاومة اللبنانية على مستوى من الذّكاء والتّطلّع للمستقبل، كي لا تقع في شِراك السياسات الإستعمارية للغرب والشّرق. إذا كانت أفلام الغرب التِكساسي مع مُشهري المُسدسات، هي المشهورة حتى السنوات القليلة الأخيرة؛ وكأنّ لبنان قد أصبح خلفًا مهمًا لهؤلاء. بمعنى أنّ الإستعمار الغربي يُسلّح جماعاتٍ من خلال إسرائيل، بشكل مباشر وغير مباشر. من ناحية أخرى، جهّز الإستعمار الشرقي، أيضًا، الجماعات اليسارية تحت مسمّى الدفاع عن النّفس، ومُقارعة الإمبريالية. إن شرارة واحدة، معلومة المصدر، تلهب الصراع وتنشب الحرب، وحتى لو وُجد ضمن هذه الألاعيب التصنّعية، تيار عقائدي مستقلّ، فإنّ قدمه ستنزلق إلى اللعبة شاء أم أبى. فمثلًا، تشتري (الجماعات) أسلحة للحفاظ على أمنِها، وتقضي وقتًا في التدرُّب عليه، وتتخلّف، تلقائيًا، عن بعض قضاياها الحياتية... .

لا ينبغي دفع الناس نحو أخلاق العسكرة. ما توصّلنا إليه من

 

 


[1] - صحيفة جمهوري إسلامي، 29\7\1980م.

 

87


81

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

خلال لقاءاتنا مع مسلمين وغير المسلمين في لبنان؛ فالجميع يبحث عن الأمان، وإذا ما دعموا جماعة ما، فإنّما للحماية التي كانت تؤمّنها لهم تلك الجماعة. إذًا، كان تعلُّق المسلمين بأمل، يرجع إلى جانبَي: الحماية العسكرية و إسلامية أمل، فالأولى توطيد العلاقة بالنّاس على أساس الإسلام، أكثر من غيره. ولأجل ذلك يمكنها اتّباع أسلوب الثّورة الإسلامية نفسه،أي التعبئة الجماهرية والحشد الشعبي. أي؛ كما أنّ الناس في إيران يتدرّبون الآن على الأسلحة، ولا تقتصر القضايا العسكرية على جماعة بمفردها؛ ينبغي أن يدرّب عامّة المسلمين، من شِيبٍ وشُبّانٍ، على الأعمال العسكرية... ينبغي لحركة المقاومة أن تفكِّر ضمن إطار الإسلام أكثر من أي إطار آخر. هذه المسألة هامّة جدًّا، ويجب إيلاؤها عناية أكثر، بحيث لا تُعدّ أي قوميّة بحدّ ذاتها إمتيازًا».[1]

لطالما ذكر غلامحسين في مذكرات سفره هذه، تحالف الشعب اللبناني وتضامنه القلبي مع الإمام وثورة إيران الإسلامية الفتية. كتب عن حيّ برج البراجنة في بيروت، الذي يقطنه المسلمون:

«أوّل سِمة تثير الإنتباه حال الدّخول إلى هذه المنطقة، الشّعارات والصّور والكتابات على الجدران. كان أمرًا لافتًا جدًا إذ لم يكن قد مضى على إقرار شعار الجمهورية الإسلامية في إيران سوى عدّة أشهر، ولم تكن مديريّات الجمهورية الإسلاميّة قد استعملت هذا الشّعار بعد، وكانت جوازات سفرنا التي حملناها معنا إلى لبنان لا تزال تحمل شعار النّظام الملكي، لكن شاهدنا على


 


[1] - صحيفة جمهوري إسلامي، 29\7\1980م.

 

88


82

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

جدران إحدى المناطق التي يقطنها المسلمون في بيروت، نقشًا (رسمًا) لشعار الجمهورية الإسلامية في إيران. السّمة الأخرى، هي التّضامن القلبي للناس مع قائد الثورة الإسلامية في إيران، أعني الإمام الخميني. كانت صورة الإمام الخميني ترافق صورة الإمام موسى الصدر في كل مكان».[1]

كذلك كتب عن زيارته لقرية كفر تبنيت، قضاء صور:

«سألت إمرأةً قُرويةً مسنّةً: هل تعرفين الإمام الخميني وإيران؟ قالت: وهل يُمكن ألّا يعرف مسلمٌ الإمام الخميني! وعندما سألتها: ماذا تُريدين من الإمام الخميني، قالت: لا أريد شيئًا منه، لِيَكُن هو بخيرٍ وحسب، هذا يكفيني. مع كل هذه المشاكل، ولا يُراد إلا سلامة الإمام! ينبغي أن نعتبر من هذه المواقف».[2]

يستنتج غلامحسين في هذا الشأن، كاتبًا:

«كان شعوري في هذه اللّقاءات، أنّ عُرىً وثيقة جدًا، تربط بين مسلمي لبنان وشعب إيران المسلم المقاوم. خاصة عشق مسلمي لبنان للإمام الخميني، إلّا أنه لا يوجد ذكر خاص من قِبل إيران للبنان. وليس الأمر أننا لا نقدم المساعدات المادية وحسب؛ إذ تقدّم كافة الدول العربية مساعدات لمختلف الطوائف. تقدّم السعودية مساعدات مادية لكافة أطراف النزاع، سواء كانوا من الشيعة أو السّنة، أو المسيحيين، ولكنّ مسؤولي سياستنا الخارجية، لم يعتنوا بالأمر بقدرٍ كافٍ، حتى الآن، بل إن بعض التصريحات، غير

 

 


[1] - صحيفة جمهوري إسلامي، 6\8\1980م.

[2] - صحيفة جمهوري إسلامي 27\8\1980م.

 

89


83

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

المسؤولة، جعلت الوضع أسوأ مما هو عليه. ما هو مهم، هو التعريف بفكر الثّورة الإسلامية وعقيدتها في العالم؛ إذ قال الإمام الخميني: أينما صُدِّرت (عُرّفت) هذه الثورة، فالمسألة محلولة».[1]

في تقرير سفره، لم يُشِحْ غلامحسين أفشردي النظر عن ملاحظة الآثار التاريخية، إلا أن النظرة الناقدة لشابٍ ثوروي من تلك الأيام، تجاه السّلاطين ومشيّدي هذه الآثار رافقت جولاته:

«تضمّ مدينة بعلبك آثارًا تاريخية هامّة جدًا، ضاربة في القدم لأكثر من ألفي عام. آثارٌ عظيمةٌ جدًا بمظهر جميل. جاء في تاريخ لبنان، أنّ الرّوم إحتلّوا لبنان قبل 64 عامًا من الميلاد، و باشروا، بعد 57 عامًا منه، تشيّيد المعابد، التي هي الآن آثار تاريخية. يوجد في هذا الموقع ستة معابد: بإسم جوبيتر، إله الشمس، ومعبد باخوس، إله الخمر والنبيذ، ومعبد فينوس، آلهة الجمال، شُيِّدت إلى جانب بعضها البعض. طول معبد جوبيتر 300 مترًا، واستغرق بناء هذه المعابد الثلاثة أكثر من 250 عامًا. إنّ المرء ليتذكر حقيقة المعلم الشهيد الدكتور شريعتي، وما كتب في كتابه: «آري اين چنین بود برادر» [بلى! هكذا كان يا أخي!]. طلبنا من المترجم أن يقول للدليل، بأنه لا يهمنا أيّ ملك شيّد هذا المكان؛ إنما المهم بالنسبة لنا أن نعرف كم من آلاف المُستضعفين قدّموا أرواحهم قُربانًا على مذبح هذه الأهداف الشيطانية؟ أجاب الدليل: بناءً على ما وصلنا، أنّ حوالي 100 ألف إنسان قدّموا أرواحهم من أجل بناء هذه المعابد. يتصدّع رأس الإنسان لسماع هذا الرقم، تبدو تلك العظمة، في نظر الإنسان، أثرًا

 

 


[1]   - صحيفة جمهوري إسلامي 30\8\1980م.

 

90


84

صحفي جريء؛ يضجّ بالنشاط

مشؤومًا وقبيحًا. ما العمل، والوقائع هي هذه، ولاتزال الأمور تجري على هذا النحو في العالم. يُقال، أنّ 90% من هذه المعابد بُني من الحجر الجيري، ويُشكّل الحجر الغرانيتي المصري، عشرة بالمائة من أعمدة هذه المعابد. لقد جيء بهذه الأعمدة الحجرية الغرانيتية بالسفن من مدينة أسوان، على ضفاف نهر النيل، إلى الإسكندرية، عبر هذا النهر نفسه، وحُملت، أيضًا، من الإسكندرية حتى مرفأ طرابلس، بسفن أكبر. نَقْلُ هذه الأعمدة، التي كان يبلغ قُطر بعضها مترًا واحدًا، من مرفأ طرابلس إلى بعلبك، هو أمر عجيب! لأنّ هذه المسافة، جبلية. كانوا قد شقّوا طريقًا، بطول ثلاثمائة كيلومتر، في سفوح هذه الجبال، و كانوا يدفعون، هذه الأعمدة إلى الأمام فوق هذه السفوح، حتى تصل إلى بعلبك باستخدام العبيد. يُقال: إنّه، أحيانًا، كانت الأعمدة الثقيلة جدًا ترجع إلى الخلف في الطريق الصاعد، ويَعْلَق تحتها كل العبيد الذين كانوا يدفعونها، ويهلكون. وإنّ تصوّرُ كلّ هذا الظلم، لهو أمرٌ صعبُ جدًا»[1].   

 

 

 

 

 

 


[1]   - صحيفة جمهوري إسلامي. 27\8\1980م.

 

91


85

ولادة حسن باقرى

ولادة حسن باقرى

 

لم تخلُ صفحات الجريدة يومًا من التقارير والأخبار التي يعدّها «غلامحسين». فحجم عمله الكبير كان يتطلّب كاملَ وقت مراسل صحفي فعالٍ ومثابر. لم يعلم زملاؤه في الجريدة أنه يقوم بنشاط آخر إلى جانب الصحافة، كان «غلامحسين» يشعر أنّ باستطاعته خدمة الثورة أكثر. في تلك الفترة عمّت الاضطرابات الأمنية البلاد، كذلك عمليّات الاغتيال اليوميّة، حيث راحت المجموعات المسلّحة  تتشكّل واحدة  تلو أخرى. كانت تصل إلى الصّحيفة معلومات وأخبار يتعذّر نشر الكثير منها. ورأى غلامحسين أن هذه المعلومات قد تحلّ بعض العقد، لعلمه أن وحدة الاستخبارات المعلومات في الحرس الثوري الإسلامي قد أُنشئت لهذا الغرض، وبما أنه يعمل في جريدة تابعة لحزب «جمهوري إسلامي» المتشكّل من رجالات الثورة المعروفين، فقد قصد «غلامحسين» إحدى شخصيّات الحزب الأساسية، حتى يعرّفه للحرس. كان «محسن رضايى» مسؤول وحدة المعلومات المؤلفة من ثلاث غرف في مقر القيادة المركزي للحرس، وقد أسّسها مع ثلاثة أشخاص آخرين. بعد قضائها على مجموعة «الفرقان»[1] الإرهابية، أكّد قادة الثورة على تعزيز هذه الوحدة:

 

 


[1] - مجموعة الفرقان الإرهابيّة، بقيادة شخص يسمّى «أكبر كودرزي»، اتّجهت بعد انتصار الثورة إلى اغتيال الشخصيّات المؤثّرة. تمّ اعتقال أفراد هذه المجموعة في كانون الثاني من عام 1980، وأُعدموا لاحقًا. من جرائمهم: اغتيال الشهداء: آية الله مرتضى مطهّري، آية الله محمّد مفتح، آية الله القاضي الطباطبائي، سبهبد قرني، ومهدي العراقي وابنه.

 

93


86

ولادة حسن باقرى

«في إطار بحثنا عن أصحاب القدرات والمواهب، كان قائد الثورة الإمام الخميني المعظّم بنفسه، والشيخ هاشمي رفسنجاني، والشهيد آية الله بهشتي وسائر المسؤولين في البلاد، يعرّفونهم إليّ. وهكذا تدفّق العديد من الشّبان إلى المقرّ المركزي للتّطوع في وحدة المعلومات. في أوائل العام 1980م اتّصل القائد بي، وطلب مني اللقاء بشابٍ ماهرٍ كفوءٍ يعمل صحافيًّا في جريدة «جمهوري اسلامي»، ويرغب بالعمل في مجال المعلومات. عندما التقينا به قال لي: «أنا غلامحسين أفشردي، مراسل صحفي في جريدة «جمهوري اسلامي»، أتيت بقصد المساعدة، فلقد تمادت القوات المعادية للثورة في الاغتيالات والعبث بأمن البلاد، وأريد أن أفعل شيئًا حيال ذلك».

أدركت خلال حديثنا أنه ممّن نبحث عنهم، ويبدو أنه يمتلك الأهليّة، كما أنّه ضليع وماهر في تحليل الأوضاع السياسية للبلاد. وبما أننا نسمّي رفاقنا أسماء مستعارة «حركيّة»، انتقينا له اسم «حسن باقرى»، ثم كلّفته بالعمل المطلوب ضد المجموعات المعارضة للثورة، الجبهة الوطنية و فلول النّظام الشّاهنشاهي. أدركت من شخصيّته أنّه كفؤٌ لهذه المسؤوليّة، كما علمت في ذلك اليوم أنّه شخص منظّم للغاية. كنا قد عيّنا مسبقًا أفرادًا للقيام بمهمّات البحث وجمع المعلومات عن الماركسيين والمنافقين وغيرهم من المجموعات التي نحتمل استهدافها للنّظام، وظلّت لدينا ثغرة في هذا القسم.

في ذلك الوقت، كنا نثق بأفراد قوّاتنا ثقة عمياء، دون أي اعتبار للأمور التّنظيميّة الرائجة اليوم، ونعاملهم كمن يحملون جميعًا شيكات على بياض. إذ أن ثقافتنا الاستخباراتية مختلفة عن

 

94

 

 


87

ولادة حسن باقرى

المنظّمات الأخرى، والسّافاك. اعتقدنا بأن العمل الاستخباراتي والقبض على المعارضين وتسليمهم لنا هي مهمّة الشّعب. لذا، شكّلنا منذ البداية مركزًا لجمع المعلومات، وكان النّاس على اتصال دائم بنا، وأحيانًا يأتي الأب لتسليم ولده إلينا، لأن الشّعب يرى الثّورة جزءًا منه وأصبح انتماء النّاس للثورة أقوى من تعلّقهم بأموالهم وأولادهم وعائلاتهم. كذلك دعا الإمام لتشكيل جيش مؤلفٍ من عشرين مليون شخص! وهذه أيضًا قناعتي، فبالإضافة إلى العمل الفنيّ كجمع المعلومات، والتنصّت، والتعقب والمراقبة، لا بدّ أن نستعين بالنّاس بشكل أوسع وكان حسن باقري قد تميّز بالرّوحيّة الشعبيّة».[1]

 لم يعد غلامحسين أفشردي يعرف ليله من نهاره، فانكبّ مضافًا إلى إعداد الأخبار والتّقارير في الجريدة، على جمع المعلومات للحرس الثوري:

«كان منكبًا على العمل دائمًا، يأتي ويذهب بنشاط وجدّ واستعجال، لم أره يومًا مرتاحًا بلا عمل».[2]

أصبح لغلامحسين الآن توأم اسمه «حسن باقري»، لا يعلم بأمره أحد باستثناء زملائه في الحرس، حتى عائلته. لكن سرعان ما حصلت حادثة كبيرة ليذيع صيته على الألسن.

 ظُهر  22 أيلول 1980م[3]، دوّت أصوات انفجارات في طهران. لم يستغرب النّاس تلك الأصوات كأنهم لم يأخذوها على محمل

 

 


[1] - حوار الكاتب مع القائد اللّواء محسن رضائي

[2] - اسماعيل علوي يكانه، زميله في الجريدة.

[3] - كانت بداية الحرب المفروضة على إيران في 22/9/1980م، (31/6/1359).

 

95


88

ولادة حسن باقرى

الجدّ. لكن غلامحسين وزملاءه في الجريدة علموا قبل انتشار الخبر، أن حربًا فعليّة قد بدأت. اتّصل غلامحسين بجهتين أو ثلاث، وهمّ بالخروج، من مبنى الجريدة  فصادف «سعيد صادقى» مصوّر الجريدة. سبق أن حضرا معًا في كثير من الاشتباكات في مواجهة المجموعات المختلفة. دأب غلامحسين على منع «سعيد» من الدّخول في العراك، والاحتكاكات الجسديّة طالبًا منه الالتزام بعمله في التصوير، ونقل الأخبار فحسب. الآن وقد أصبحت البلاد في مواجهة مع قوّات خارجيّة معتدية، تواعد الاثنان لليوم التالي، وقصدا مدينة «الأهواز» في صباح 23/9/1980م:

«اتّصل بي وأخبرني أن القوّات العراقية قصفت المطار وعدّة نقاط أخرى. عند عودته إلى المنزل عصرًا، بدا مستاءً وقال: أريد الذهاب إلى «الأهواز»، عندما سألته عن السبب أجاب: إنّها الحرب، علينا الذهاب لنرى ما بوسعنا تقديمه من المساعدة. شقّ الأمر علي، إذ ليس لي أخ وهو إبني البكر، وأنا شديدة التعلّق به. في كلّ مرّة كان يطلّ عليّ من باب المنزل، أشعر أنّي قد ملكتُ الدنيا وما فيها، فأتأمّل قامته، وأشكر الله، لكنّه ذهب على أيّ حال».[1]

كانت مدينتا «خرّمشهر» و«آبادان» مركزًا للمواجهات، بيد أنّهما عندما وصلا مدينة «الأهواز»، قرّر «غلامحسين» المكوث فيها، وقال أن لديه عملًا سينجزه مع الحرس الثوري هناك:     

«بقي غلامحسين في «الأهواز»، بينما تابعتُ جولتي إلى «خرّمشهر» وقمتُ بالتقاط الصور، ومساعدة المقاتلين. عُدت إليه بعد قرابة عشرة أيام إلى مبنى الحرس في الأهواز. كان هناك ازدحام

 

 


[1] - والدة الشّهيد.

 

96


89

ولادة حسن باقرى

عند الباب، ولا يُسمح للمدنيّين بالدّخول. طلبتُ من أحد الحرّاس مقابلة السيد «أفشردي»، لكنّه نفى وجوده هناك، إلى أن علمت بعد سؤالي أشخاص آخرين أنّهم لا يعرفون شخصًا بهذا الإسم. وبعد انتظاري مدّة، رأيته يترجّل من بيك أب «تويوتا»، يرافقه شخص يهروِل. رآني فتقدّم منّي، وبعد السلام قلت له: سألت عنك ولم يعرفك أحد. فأجابني إنّهم يعرفوني هنا باسم: «حسن باقرى». سألته: «حسن باقري! وماذا يعني ذلك؟» ابتسم وأردف: «ارجع إلى الجريدة، وأنا باقٍ هنا. أعطاني كاميرا الجريدة قائلًا: «أرجو أن تحضر آلة التصوير خاصّتي من المنزل في المرّة القادمة».[1]

سبق أن سافر غلامحسين في مهمّات مراسلة، فلم يفتقده رفاقه في إدارة التحرير أوّل فترة غيابه، ظنًّا منهم أنه سيعود بعد أسبوع أو اثنين، وهو ما لم يحصل:

«أدّى اندلاع الحرب إلى انقطاع متكرّر وطويل في التيّار الكهربائي، فكنّا نلجأ لإنارة الشموع داخل مكتب إدارة التحرير الذي كان يشهد حركة دخول وخروج مستمرة. في تلك العتمة تنبّهت إلى غياب «أفشردي» الذي لم أعد أراه منذ مدّة طويلة. ظننتُ أنّه ترك الجريدة، واستفسرت عن حاله من زملائنا في العمل، فقالو لي: لقد ذهب إلى الجبهة».[2]

ظنّ الجميع -انطلاقًا من ظاهر غلامحسين ومعرفتهم به- أنّ دوره في الحرب ينضوي ضمن مجال الثقافة، أو العلاقات العامّة، إلى أن أتى «سعيد صادقى» بعد فترة من الجبهة، وأخبرنا أنه أصبح

 

 


[1] - حوار الكاتب مع سعيد صادقي.

[2] - مرتضى سرهنكي؛ الكاتب في مجموعة أدب الجبهة والدّفاع المقدّس.

 

97


90

ولادة حسن باقرى

من القادة الميدانيّين في الحرب، ويُعرف باسم «حسن باقري». منذ ذلك الحين، ترك اسم «غلامحسين»، والجريدة، وأمضى باقي عمره باسم «حسن باقري»، اسم ارتبط بالحرب، وتناقلته سريعًا ألسنة المقاتلين والقادة والمسؤولين الحربيين.

عصر22/9/1980م، رنّ هاتف «علي شمخاني» قائد الحرس في «الأهواز». كان المتّصل «محسن رضايى». أخبره في اتصاله عن «حسن باقرى» الذي ينوي الذهاب إلى هناك من أجل المساعدة. في اليوم التّالي، تعرّف «حسن باقرى» إلى «علي شمخاني» في مقرّ الحرس في «الأهواز»:

«كان علينا توسيع المجال؛ إذ لم يكن بوسع الحرس الثوريّ في الجنوب القتال منفردًا، فوزّعنا القادمين على مهام وأماكن محددّة. وبما أن الجهة التي عرّفت «حسن باقري» هي «المعلومات»، أرسلناه إلى الفرع نفسه وحوّلنا إليه أمثال «حميد معينيان» وغيره».[1]

 كان كلٌّ من «حميد معينيان» و«رضا رضوي» على رأس قوّات فرع «معلومات الحرس» في «خوزستان». قبل اندلاع الحرب، عمل «رضوي» على تتبّع أفراد «الطابور الخامس». بينما تفرّغ «معينيان»، بعد أن خفّت الانفجارات وارتفعت وتيرة التحرّكات العراقيّة المباشرة عند الحدود، لكتابة تقارير المعلومات القتاليّة. وها هو اليوم يلتقي بشخص يحمل رؤىً وأفكارًا حديثة:

«كانت الحرب في بداياتها عندما تعرّفتُ إلى «حسن باقري» وبدأتُ العمل في قسم سُمِّي «وحدة معلومات العمليّات»، لم تكن طبيعة ذلك العمل قد اتّضحت لي بعد. سمعت لاحقًا أنّها شبيهة

 


[1] - حوار الكاتب مع علي شمخاني، قائد الحرس الثوري في خوزستان حينها.

 

98


91

ولادة حسن باقرى

بعمل الركن الثاني للجيش[1]، وتكليفها جمع معلومات وأخبار العدو. حتّى ذلك الحين لم أكن أدري ما هو الركن الثاني؟ على عكس تخمين البعض، بأن العراق ينفّذ هجومًا حدوديًّا لن يلبث أن ينتهي قريبا، لمسنا منذ البداية أن «حسن باقري» يُعدّ لأفكار وخطط  طويلة الأمد ليخفّف من تَبِعات الحرب. لم يتصوّر أن الحرب سوف تنتهي قريبًا، لتنتفي الحاجة لتنظيم وتشكيل القوّات. حصل هذا في وقت لم يتسنَّ بعد للحرس الثوري الإسلامي -الحديث النشأة- التعرّف على التشكيلات العسكريّة»[2].

بدأت قوّات الحرس في «الأهواز»، ومن بينهم «مهدي صابوني»، بالتّعرف سريعًا إلى الوافد الجديد:

«نحن الخوزستانيّون ذوو بشرةٍ داكنة عمومًا. كنّا بداية الحرب في المنطقة، أتى شابٌ أبيض البشرة يرتدي لباسًا عربيّا برفقته عدة أشخاص. سألت عنه من يكون؟ فأجابني أحد الرّفاق: إنّه «حسن باقري»، وهؤلاء من شباب وحدة الاستطلاع والمعلومات. كان المصطلح جديدًا بالنسبة لي. قصدني في اليوم التالي، وبعد أن تأكّد من اسمي سألني: هل أنت مستعدّ للعمل معنا؟ فأجبته: في خدمتكم. كان «حسن باقرى» يجذب كلَّ من يراه من أول لقاء».[3]

 

 

 


[1] - إدارة الاستخبارات في عهد الشاه المقبور رضا بهلوي.

[2] - الشهيد حميد معينيان، ولد سنة 1956م. في مدينة "الأهواز"، واستشهد في 26/12/1986م. خلال مشاركته في علميّات كربلاء 4. خَلَفَ حسن باقري بعد فترة من تأسيس وحدة معلومات العمليّات.

[3] - القائد مهدى صابوني، مسؤول تنظيم تقارير الاستطلاعات، وأرشفة وثائق حسن باقري.

 

99


92

مقدّمة الترجمة

أنشأ غلامحسين على وجه السرعة غرفة في مقرِّ الحرس في «الأهواز»، فيها وُلدت وحدة «معلومات واستطلاع العمليّات». كان يبحث عن ذوي المهارات والكفاءة ويوسّع عمله يومًا بعد يوم:

«في أحد البيوت قرب مقر الحرس الواقع في ساحة «تشهارشير»(الأسود الأربعة)، كنا نقوم بالأعمال المتعلّقة بجمع المعلومات والاستطلاع. جاء «حسن باقري» إلى هناك في بداية الحرب وصار يبحث عمن لديه معلومات حول الحدود وقرى المنطقة. علم مسبقًا أنني ملمٌّ بها، كانوا ينادونني «بالسيد فارس». عندما بيّنت له وضع النقاط الحدوديّة، قال لمسؤولنا «رضا رضوي»: نحن ننوي تأسيس وحدة معلومات العمليّات، ونحتاج إلى السيد «فارس» معنا. إلّا أنه رفض ذلك وقال: إن غياب السيد «فارس» سيؤخر عملنا، لكن بإمكانه التّعاون معكم.

وصلت القوّات العراقيّة إلى مشارف مدينة «الهويزة». ذهبت برفقة «حسن باقري»، الشهيد «جواد داغري» و «محمد بلالي» إلى «كرخه كور» لنراقب الخط الأمامي، ومواقع القوّات العراقيّة عن قرب. مررنا بسيّارة «بيكان» خاصّتنا في منعطف «كرخه»، وأدخلناها في حفرة موجودة إلى جانب طريق ترابيّة مغطّاة بأغصان شجر العلّيق. تسلّق السّيدان «جواد» و «بلالي» الشجرة، ولمحا الدبّابات العراقيّة تتقدم باتجاهنا. ثم راحت تطلق نيران رشّاشاتها نحونا بغزارة. انبطحتُ وحسن على سطح الحفرة، كانت الطلقات تنهمر بكثافة فتقطّع أغصان العلّيق، وتقع على رؤوسنا حتى أن بعض الطّلقات أصاب شعرنا. عندما استقرّت الدبابات، وهدأت الأصوات، ركبنا السيّارة، وتابعنا المسير. كان

 

100

 

 


93

ولادة حسن باقرى

الطريق كثير المنعطفات، وعند آخر منعطف واجهنا نهرًا يسبح فيه مجموعة من الجنود العراقيّين. كنا قد ابتعدنا قرابة كيلومتر عندما أنهوا السباحة، وصعدوا من الماء ليرتدوا ملابسهم، وإذ بزخّات الرصاص الكثيفة تتساقط علينا. منذ بداية معرفتي بـ«حسن باقري» أدركت أنه إنسان صبور وشجاع».[1]

لفتت همّته ونشاطه أنظار الجميع في الحرس الثوري في «الأهواز»:

«رأينا سلوكه العجيب من أول يوم، فعلى الرغم من أن شكله ينبئ بصغر سنّه، بدت عليه ملامح الذّكاء الحادّ والهمّة والحيويّة. مع أنه أتى حديثا، وليس لديه أي تجربة بالحرب، لكنّه دأب على الذّهاب مع العناصر لاستطلاع المحاور. كان «حسن باقرى» صاحب خبرة خاصّة بتنظيم الأعمال. فقد أعاد تشكيل وتصنيّف مجموعة من القوّات. أحسست حينها أن المعلومات، الخبرات والقابليّات الكامنة فيه تفوق ما أراه في الظاهر».[2]

كان «حسين دقيقي» من القادة الذين قصدوا «خوزستان» قبل بداية الحرب، بهدف مكافحة مجموعة تسمى ب «خلق عرب»، وكان أيضًا ممّن اعتبروا أنّ الهجوم العراقي لا يعدو كونه نزاعًا حدوديًّا مؤقّتا، غير أنه في ثالث أيام الحرب، سمع من شخص قد انضمّ لقادة الحرس في «خوزسان» تحليلاّ مختلفًا:

«في اليوم الثالث للحرب، توجّهت بقوّاتي إلى «الأهواز». وتعرّفت في اجتماع القادة إلى «حسن باقرى». لم نتصوّر أن حربًا

 

 


[1] - السيد سعد حسيني المشهور بالسيد فارس، من قوّات حسن باقري أوائل الحرب.

[2] - القائد أحمد غلام بور، من مؤسّسي الحرس الثوري في خوزستان، وقد تولّى من عام 1983م. وحتى نهاية الحرب  قيادة مقر كربلاء.

 

101


94

ولادة حسن باقرى

بتلك الضخامة ستقع، بل تصوّرنا أن العراق يقوم بتحركات عند الحدود سعيًا لدعم جماعة «خلق عرب» وتثبيت مواقعها. كان «حسن باقري» يكتب كلَّ ما يُقال في الاجتماع، ثم شرع بالتحليل قائلًا: إن مسألة العراق تفوق هذا الحد، وترمي على الأقل لاحتلال مدننا الحدوديّة. فاقتنع الجميع عندها بأن تهديد العراق أكبر من دعم منافقي «خلق عرب». قلت ﻠ«حسن باقري»: ماذا نفعل لنحول دون تقدّم العدو؟ فأجابني: علينا إيقاف تحرّكهم عبر العمليّات التدميريّة، وتشكيل الخطوط الدفاعيّة».[1]

مع بداية الحرب، توجّه بعض القادة من المدن إلى «الأهواز»، ومن بينهم «محمد حجازي» عضو مجلس قيادة الحرس في «اصفهان». في ثاني أيّام الحرب، جمع عشرين عنصرًا مدرَّبًا من الحرس في «أصفهان» واصطحبهم إلى «الأهواز». وبعد يومين من البحث والسؤال عن كيفية تقديمه المساعدة، لم يحصل على جوابٍ شافٍ. إلى أن تعرّف على «حسن باقري»:

«في غرفة العمليّات، أثار انتباهنا شابّ بدا في مقتبل العمر. ولكن عندما بدأ الكلام، أصابنا الذّهول والدهشة. فنبرته قويّة جذّابة لا تتناسب مع هيئته. كان لافتًا بالنسبة لنا أن نحظى بمن يستطيع توصيف وشرح أوضاع المنطقة! رأيت أّنّه أجدر شخص يمكنه أن يوجّهنا لما يجب فعله. أخبرته أن لدينا مجموعةً تلقّت تدريباتٍ على حرب العصابات، وأنّنا ننوي شنّ عمليّات. فارتأى أن نقوم بالاستطلاع أوّلا ثم العمليّات. حين سألته أين يجب أن نستطلع، قال لي: سنذهب معًا.


 


[1] - القائد حسن دقيقي، قائد الحرس الثوري في «غشساران» حينها.

 

102


95

ولادة حسن باقرى

في اليوم التالي ذهبت برفقة «حسن باقري» وآخرَين للاستطلاع. أتى بسيّارة «بليزر» بيضاء اللون، رُسم عليها خط أحمر، كان مرتديًا دشداشةً عربيّة. أخذَنا أولا إلى «الحميديّة» حيث تعرّفنا إلى «علي هاشمي» قائد الحرس هناك. كانت ملامحه، طباعه، كلامه كلّها محبّبة ومؤثّرة. توجّهنا إلى مدينة «سوسنكرد»، بعد قطع مسافة خمسة كيلومترات تقريبًا، وصلنا إلى طريق فرعيّة تنتهي إلى نهر، عبرنا الجسر فوقه إلى الضفّة الثانيّة. ما من أحد هناك، فالعراقيّون لم يستقرّوا بالكامل بعد، وكانوا مشتّتين في أنحاء السهل. ما إن تقدّمنا قليلا حتّى رأوا سيّارتنا وبدأوا باستهدافنا بقذائف الهاون. خرجنا من السيّارة مسرعين واستترنا في حفرة قرب النّهر، لكنّهم ما كانوا ليكفّوا عن رمايتنا بالقذائف التي سقط بعضها قربنا، فاختبرنا صوتها ونارها للمرّة الأولى. كان التراب هناك خفيفًا كالرماد، كلما ارتطمت به قذيفة تطاير مثيرًا غبارًا ملأ المكان، وغطّى رؤوسنا ووجوهنا، مضفيًا علينا أشكالًا مضحكة. بعد قليل، هدأت النيران قليلًا، فعزم «حسن باقري» على سحب السيّارة والفرار، فنهيته عن ذلك خشية أن يروه ويستأنفوا الرمي. قال لي: لا عليك، سأذهب وأنتم انسحبوا بموازاة الطّريق قرب النّهر حتّى نلتقي هناك. وفي لحظة، تقدّم بجانب النّهر وتوارى خلف مقود السيّارة، ثمّ انطلق كالضوء، فانهمرت مجدّدا رشقات الرصاص والقذائف، لكنّه تمكن من الهرب بسرعة، فوصلنا إليه بعد ساعة من المسير، لنجد السيّارة مليئة بالثقوب والفجوات، ولم يسلم منها إلا خزّان الوقود والمحرّك».[1]

 

 


[1] - حوار الكاتب مع القائد السيد محمد حجازي، المسؤول الأول عن بعثة القوات  في أركان العمليّات في الجنوب(مقر الغولف). ولد سنة 1956م في أصفهان.

 

103


96

ولادة حسن باقرى

كانت أولى المهام التي تولّاها «حسن باقري» بانتظام في الحرس الثوري في «الأهواز»، كتابة التقارير اليوميّة عن المناطق الحربية. حيث انضوى ضمن مجموعة الحرس الثوري في محافظة «خوزستان»، وفي كلٍّ من المناطق التالية: آبادان، خرّمشهر، ماهشهر، الحميديّة، سوسنكرد، شوش، دزفول، انديمشك ودهلران. إضافةً إلى ذلك انشغل في إرسال المعلومات  والمعطيات التي ترد من الشرطة والدرك في مدن المحافظة إلى حرس الأهواز. وقد انهمك، منذ ثاني أيام الحرب بالتدريب على توزيعهم وتشكيلهم. في 29 أيلول (أي بعد أقل من أسبوع من بداية الحرب) أعدّ أول نشرة سريّة بوقائع الـ24 ساعة الماضية، وأرسلها لمسؤولي وقادة الحرس الثوري والجيش. وهكذا أصبح يضعهم باستمرار في آخر المستجدّات والمجريات في المحاور كافّة، تمكّن بعمله هذا أن يخلق تنسيقًا معلوماتيًّا في الجبهات. وعدّ النّشرة الأولى ناقصة لافتقارها للأخبار المتعلّقة بمقاومة القوّات، فأورد في مقدّمتها:

«حيث أنّنا قَصُرنا في إعداد هذه النشرة عن إدراج ما تقوم به وحدة العمليّات بشكل مرتّب ومنظم، هذا النقص الذي يُلحَظ فيها نأمل إزالته في نشرات الأيّام المقبلة، بالجهود المبذولة من الإخوة في وحدة «العمليّات»[1]. بعدها جرى إزالة النّقص، وهذان نموذجان من أولى تقارير «حسن باقرى»:

«قرية «حردان» - وفقًا للمعلومات الواردة، دخلت القوّات العراقيّة صباح اليوم قرية «حردان» الواقعة على مسافة 20 كلم جنوب غرب مدينة «الأهواز»، واستقرّت دبّاباتهم ومدافعهم فيها،

 

 


[1] - مذكرات حسن باقري ج1، جمع وكتابة سعيد علاميان، منشورات الشهيد باقري.

 

104


97

ولادة حسن باقرى

حيث أصبح القسم الجنوبي الغربي لـ«الأهواز» تحت مرمى نيران مدافعهم، ما عرّضنا لخسائر فادحة حتى الآن. وقُدِّر عدد الدبّابات ما بين خمسين إلى ثمانين دبّابة.

«دزفول» - أبلغ الحرس الثوري عند الساعة الرابعة بعد الظهر عن تواجد القوّات العراقيّة على مسافة 10 كيلومترات من «انديمشك». وأصبحت «دزفول» تحت مرمى المدافع العراقيّة. عند الساعة الخامسة، أعلن الحرس أنّهم استهدفوا المدينة والموقع بمدافع الهاون وقد أصيب الموقع. والحرس بحاجة لسلاح «آر بي جي 7»[1].

لم تمض أيّام حتى ارتفع عدد عناصر الحرس الثوري والقوّات المتطوّعة لدرجة لم يعد معها مقرّ الحرس في «الأهواز» يتّسع لنشاط بذاك الحجم. فانتقلت على الفور أركان الحرب[2] في 30 أيلول إلى خارج المدينة لمكان يسمّى «الغولف»[3]، وهو مكان بناه الأمريكيّون لممارسة لعبة الغولف. أوكلت قيادة الأركان إلى «داوود كريمي» الذي ذهب إلى «الأهواز» كحسن باقري منذ أول يوم للحرب. كان الأخيران إلى جانب «محمد حجازي» بمثابة مؤسّسي أركان العمليّات في الجنوب. فتوّلى «حجازي» مهمّة إرسال القوّات وتوزيعها وتشكيلها، بينما انهمك » حسن باقري» بمهام استطلاع العمليّات. رغم أن أغلب العاملين في مقر «الغولف» من العاملين غير المحليّين[4]، لكنّه كان يختار معظم قواته من الحرس في الأهواز

 

 


[1] - المصدر السابق.

[2] - مقر الحرب أو العمليّات.

[3] - كان مقر الغولف حتى انتهاء الحرب من المراكز المهمّة في التوجيه والتنظيم وقيادة المعارك.

[4] - من غير سكّان المنطقة.

 

105


98

ولادة حسن باقرى

ومن أبناء محافظة «خوزستان». يومها، ضمّ «حميد تقوي» -عنصر المعلومات في حرس الأهواز- إلى مجموعة مساعديه:

«كنت أذهب مع «حسن باقري» لاستطلاع المحاور المختلفة، وبالأخص محوري: «سوسنكرد» و«طراح». مرّةً أتى بسيارة «ستيشن واغن» واصطحبني إلى «طرّاح». لم نجد أحدًا في المنطقة، فاقتربنا جدًا من العراقيّين حتّى استشعروا الخطر ورموا نحونا قذيفة هاون أصابت شظاياها زجاج السيّارة، كذلك شُكِّلت فرق أخرى في ذاك المحور. لم تكن الجهات العليا تُرسل أحدًا إلى تشكيلاتنا، وكلٌّ يستقطب القوّات بشكل مستقل وفقًا لحاجة تشكيلاته».[1]

عمد «حسن باقري» إلى تخصيص ثلاث أو أربع مجموعات رصد لكل محور:

«توزّعت مهام استطلاع الجبهات المختلفة في كلِّ من «دارخوين»، «الأهواز» و«دزفول» على فرق متعدّدة. كانت تُسلَّم يوميًّا تقارير تلك الاستطلاعات إلى وحدة «معلومات العمليّات في أركان الجنوب».[2]

بدأت الحرب في ظروف باغتت القوّات الدفاعيّة، مقابل الجيش

 


[1] - مقابلة أجراها الكاتب مع حميد تقوي. ولد القائد تقوي سنة 1959م في الأهواز، وهو من مؤسّسي الحرس الثوري في خوزستان، كان له تعاون ومشاركة بالعمل مع حسن باقري في الأشهر الستّة الأولى للحرب. تولّى ابتداءً من العام 1959م إلى العام 1982م مسؤوليّة قسم المعلومات في سوسنكرد والأهواز، قيادة الحرس في كل من "الحميديّة" و"شادكان"، بعد تلك السنة ذهب إلى مقر رمضان، ثم انتقل نشاطه إلى قوة القدس، استشهد 27/12/2015م في منطقة سامرّاء على يد تنظيم داعش الإرهابي المجرم. 

[2] - الشهيد حميد معينيان.

 

106


99

ولادة حسن باقرى

المعتدي المستعد، المهيّأ والمنظّم. فمنذ أمد طويل، وصدّام يخطّط لتعزيز وتطوير قدراته العسكريّة، ويعدّ ويحشد كلَّ إمكاناته لشنّ هجوم شامل واسع على إيران. في البداية، خصّص العراقيّون من بين فرقهم الإثنتي عشرة، خمس فرقٍ بالتمام والكمال مدرّعة ومؤلّلة بثلاثة ألوية من القوّات الخاصّة، ولواء مدرّعات، كانت مهمّتها احتلال محافظة «خوزستان». بيد أنهم جوبهوا بمقاومة غير متوقّعة من «خرّمشهر»، «آبادان» والمدن الحدودية، ما أجبرهم على استقدام فرقتين أخريين إلى جانب قوّاتهم. الخلاصة، أن الجيش البعثي، بدأ بواسطة أكثر من مئة ألف جندي، وما يزيد عن ثلاثة آلاف دبّابة وناقلة جند، ومن خمسة محاور، بتنفيذ خطّته الرّامية لعزل محافظة «خوزستان». وصل عدم توازن القوى في مواجهات «خوزستان» إلى السُّبُع، فمجموع الحرس فيها أقل من أربعة آلاف جندي. اختار العراقيّون في هجومهم عمق مئة كيلومتر، فوصلوا إلى «كرخه» و«كارون» وتوقفّوا هناك. كان سبب توقّفهم صمود ومقاومة قسم من الأهالي والشبّان الخوزستانيّين إلى جانب المقاتلين؛ كما خسروا بالطبع بعض المناطق. في 30 أيلول، عبر العراقيّون «بستان»، «سوسنكرد»، وبلغوا «الحميديّة»، فتأزّمت الأوضاع بشدّة؛ لأن بوّابة «الأهواز» أمست في خطر. في تلك اللّيلة، جمع «علي غيور أصلي» عددًا من مقاتلي الحرس الثوري وقام بتحرّك دفع المعتدين للتراجع إلى مدينة «بستان». قبل الثورة، كان «علي غيور اصلي» مع «يوسف كلاهدوز» من قوّات الحرس الملكي في الجيش، وبعد الثورة انشغل بالتدريب العسكري لقوات الحرس في مدينة «الأهواز»، كما يُعرف تحرّكه في مدينة «حميديّة» بملحمة «غيور اصلي». يومها وثّق «حسن باقري» تلك الموقعة كالتّالي:

 

107

 

 


100

ولادة حسن باقرى

«من: حرس الأهواز

  إلى: مقر القيادة

  بحسب الأخبار الواردة من «الأهواز»، ووفقًا لتصريحات الأخ «سيّاف زاده» مسؤول العمليّات هناك، عند الساعة الثانية بعد منتصف ليل 1/10/1980م، هيّأ ثلاثون أخًا من الحرس الثوري الأهوازي أنفسهم بالكامل للشهادة في سبيل تحرير مخافر ضواحي «الحميديّة» التي احتلّها العراق. تغلغلوا ليلًا في قلب منطقة العدو، وبعد صلاة الصبح، أغاروا عليه بالأسلحة الفرديّة و«الآر بي جي 7» ووجّهوا إليه ضربة قاسية. غَنِم جنودنا من العدو خلال الهجوم 22 دبّابة وشاحنتين محمّلتين بذخائر الـ «آر بي جي 7»، كما أسروا 12 جنديًّا. لكن أربعة من الحرس الأسرى لدى العراقيّين، أُعدِمواَ رميًا بالرصاص، وهم مكبّلو الأيدي والأرجل؛ ولأن العدو يمتلك إحداثيّات المكان، بدأ بإطلاق قذائف الهاون لدى فراره فانفجرت إحدى شاحنات ذخائر الـ«آر بي جي»، ودُمّرت دبّابتان. وارتقى الأخ «محمود مراد اسكندرى» شهيدًا. للأسف، مع أنّنا قدّمنا كافّة التقارير للسيّد محافظ «خوزستان»، لكن لم يذكر هذا الحادث في الراديو والتلفزيون، وبرغم أنّ العمليّات بُحِثت مع ثكنة «الحميديّة»، لم يشارك فيها سوى ثلاثين عنصرًا أهوازيًّا من الحرس الثوري. وحرصًا على معنويّات هؤلاء الجرحى، يُرجى ذكر أسمائهم في الراديو والتلفزيون. حسن باقري 1/10/1980م. الساعة 21:00».[1]

ينقل «أحمد سيّاف زاده»، قائد العمليّات في حرس «الأهواز»


 


[1]   - مجموعة مذكّرات حسن باقري، ج1.

 

108

 


101

ولادة حسن باقرى

حينها، كلامًا يوضِح أنّه عقِب عمليّات «غيور أصلي»، عزم «حسن باقري» على تنفيذ عمليّات جديدة، معتمدًا على ما جمَعه خلال تلك الفترة من معلومات محدودة حول المنطقة:

«في تلك الأيّام حضر «حسن باقري» إلى مقر عمليّات «الأهواز»، كنت قد سمعت عنه، لكنّها المرّة الأولى التي أراه فيها. بدا نحيل الجسم، يرتدي قميص الحرس الثوري، وبنطالًا عاديًّا. كان يعلم أنّني قائد العمليّات. سألني: كم لديك من القوّات؟ أجبته: لديّ حافلة من قوات الحرس. كان «محمد حجازي» قد استقدم من اصفهان حافلتين تقلّان شبابًا من الحرس. «حسين علم الهدى» لديه عدد من القوّات أيضًا، كذلك لدى «علي هاشمي» مجموعة أخرى من حرس «الحميديّة». توصّل «حسن باقري» بعد استطلاعه المنطقة الواقعة بين «دب حردان» و «الحميديّة»، إلى قطع طريق عام الأهواز- خرّمشهر من الخلف عبر هذا المنفذ. حتّى أن الدّكتور «شمران»[1] كان ينوي قطعها.

كان غالبيّة الحرس العرب في الأهواز، يعملون مع «حسن»، وقد وجدوا في ضواحي «دب حردان»، في مكان اسمه «سيّد يوسف»، موضعًا يمكنهم فيه إيقاع العدوّ في الفخ. تحرّكوا بحافلتين ونحن بحافلة واحدة، وكان ذهابنا بالحافلات ووقوفنا هناك منتهى جهلنا في الحرب! ولو أننا لم نتحرك في الصّباح الباكر، ونرجع بسرعة

 

 


[1] - كان الدكتور شمران يريد قطع طريق خرّمشهر من جهة "كمبوعة" ليصل إلى ثكنة "حميد"، وقد نقل السيد سيّاف زاده للكاتب: "ذهبت مرّة بخمسين من عناصر الحرس إلى "كمبوعة". كان السيّد علي الخامنئي حاضرًا وهو بلباس عسكري. قال لي السيد شمران: لقد ذهب عناصر الاستطلاع واذا عادوا بنتيجة، سنهجم بقوّاتكم. بقينا حتى الصباح، قال السيد شمران: لم يتمكن الشباب من ايجاد أماكن للعبور، فعدنا ولم تتم العمليّات."

 

109


102

ولادة حسن باقرى

لرأى العدو حافلاتنا. لم نفكّر مطلقًا بنتيجة العمل، كل ما أردناه توجيه ضربة للعدو، على غرار عمل «غيور أصلي» الذي لم يحسب أي حسابٍ لعاقبة الأمور. تجمّعنا مئة وخمسون شخصًا: خمسون من الحرس في الأهواز، ستّون من الأصفهانيّين وعناصر «على هاشمي» و«علم الهدى». قال «حسن باقري» الذي سبق واستطلع بعض المحاور: إستقرّ العراقيّون على نحو متفرّق ومشتت، وأماكن اختراقهم كثيرة. وأردف قائلًا: لا نعلم ما النتيجة، لكن يكفي أن لا يرونا، ونستقر بين دبّاباتهم، عندها نحمل عليهم بالقنابل ونأسر منهم.  

سرتُ مع «حسن باقري» و«حسين علم الهدى» في آليّة مستقلّة، وتبعتنا الحافلات. بعد أن دخلنا بها طريق «سيّد يوسف»، تولّى «حسن» إرشادنا. يتّصل طريق «سيد يوسف» بنهر «كرخه نور» حيث يتمركز أحد الألوية العراقيّة. عزمنا على تنفيذ العمليّات تحت جنح الظلام، لأن هجوم «غيور أصلي» المضاد تمّ ليلا، وهكذا أصبح الهجوم الليلي رائجًا. قال «حسن» وقد أحصى عدد الدبّابات: يتموضع في هذا المكان لواءٌ كامل، إذا ما نَفَذْنا خلاله واخترقناه، سنقضي على لواء واحد ويعجز العراق عن تعويض خسارته، لأن تدمير لواء واحد من الفرقة سيترك فجوة في أحد جوانبها. طلع الصباح ولم نجد جسورًا لنعبر فوقها. يمتدّ فوق نهر «كرخه» جسران، لم نشأ المرور بالحافلات فوق الجسرين، وتوجّب علينا أن نعبر الجسر بأرتال القوّات. في النّهاية، نظرًا لخطورة العمليّات، عدنا دون تنفيذها.

 كان هناك مجموعة من الحرس الثوري في الأهواز، عادت للتوّ من «كردستان» مع بداية الحرب. فاصطحبهم «حسن باقري»

 

 

110

 

 


103

ولادة حسن باقرى

هذه المرّة معنا إلى المكان السّابق نفسه. فوجدنا العراقيّين قد دمّروا الجسرين. لكن كان لدينا هناك جسورنا المحليّة التي تمكنّنا من الوصول إلى جهة العراقيّين. كما تتميّز فروع نهر «كرخة»- «العبّارات» كما يقول العرب- بكبرها واتّساع عرضها، الّذي يوازي تقريبا سبعة أمتار، وتؤّمن ماءً وافرًا للزراعة. وبما أن عبورها مشيًا غير ممكن، جهّزنا لوحا خشبيا بطول اثني عشر مترًا. وعبرنا طريق «سيّد يوسف» مساءً، لكننا لم ننفذ العمليّات لصعوبة العمل ليلًا، فالوقت ضيّق، ومهلتنا تنقضي أول الليل، ولو كان لدينا خط أمامي لاختلف الأمر كثيرًا. ذهبنا إلى «الأهواز» لنهجم من هناك، فانطلقنا عصرًا من «تشهارشير»، وأهدرنا وقتًا كثيرًا حتى قطعنا هذه الطرقات، فضلًا عن عدم وجود نقطة للانسحاب. لو كان هناك ساترٌ ترابيُّ لبقينا خلفه حتى مساء اليوم التالي. عندها، أدرك «حسن» أنه لا يمكن نقل القوّات بهذه السهولة، وقال: لا يصحّ هذا، علينا التنظيم والإعداد بشكل أفضل، وأن نذهب عند توفّر ظروف أكثر ملاءمة. بعدها، كنا نتردّد إلى طريق «سيّد يوسف» إلى حين تنفيذ العمليّات التي قدّمنا فيها شهيدين حتّى تمكنّا من إلحاق ضربةٍ بالعدو، دون السّيطرة على أي أرض. ولمّا رأينا أنّنا لا نجني من عمليّاتنا غير سقوط الشّهداء، اتّضح لنا أنّ هذا الأسلوب غير مجدٍ في دفع العدو أو تدمير ألوية وفرق له. حيث كنّا نهجم عليهم بأعداد غير كافية، منهكين من بُعد المسافة، ونسدّد لهم ضربات لم تكن مؤلمة فعليًّا. في المحصّلة، استخلصنا أنّ إجراء أيّ عمليّة، حتّى وإن كان

 

111

 

 


104

ولادة حسن باقرى

استهداف كتيبة أو أقل، يتطلّب تنسيقًا وتخطيطًا مسبقين»[1].

في إحدى المرّات، جرّب «داود كريمي» و «حسن باقري» تنفيذ عمليّة، لكنّ لم يفلحا.

«كنت أذهب مع «حسن باقري» في جولات استطلاع، باحثين عن أماكن يمكن العمل فيها. قصدنا في إحدى الليالي محور «دب حردان»، ورافقنا أيضًا الشّهيد «علي هاشمي» قائد منطقة «الحميديّة»، مع غالبيّة عناصره. كان المقرّر تنفيذ العمليّات، لذا تزوّدنا بسلاح الـ«آر بي جي». ما إن وصلنا إحدى القرى، حتّى لحق بنا أكثر من ثلاثين كلبًا. ولبثنا ساعة أو ساعتين نحاول إبعادها أو الإفلات منها، كلّما حاولنا التقدّم باتّجاه العراقيّين تبعتنا، بقينا عالقين، لم ننجُ منها ولم نصل إلى العراقيّين إلا قُبيل طلوع الفجر. غلب النّعاس على الجميع، فطلبتُ من الرفاق أن يناموا داخل أحد المنازل المهجورة، وتولّيت أنا حراستهم، فصلّوا صلاة الصبح وناموا. كنا نرتجف من شدّة البرد. لم ننفّذ العمليّات ليلتها. ظلّ السيّد «شمخاني» ينتظر حلا للّغز. رفعنا تقريرًا في اجتماع صباح اليوم التالي: لقد طاردتنا الكلاب وأسرتنا حتّى الفجر كأنها نسَّقَت ذلك مع العراقيّين!»[2]

 

 


[1] - مقابلة أجراها الكاتب مع القائد  أحمد سياف زاده، أحد مؤسّسي الحرس الثوري في "خوزستان"، ومسؤول العمليّات في حرس "الأهواز" قبل الحرب. في ليلة 21/1/2012 المصادفة ليلة رحيل الرسول الأكرمP وشهادة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، استشهد القائد الجريح أحمد سيّاف متأثّرا بالأمراض الناجمة عن جراحه. طوبى لروحه.

[2] - الشهيد داوود كريمي، عضو المجلس المركزي للحرس الثوري في طهران، وأول قائد لمقر أركان العمليات في الجنوب، والمعروف باسم «غولف» أو موقع «منتظري الشهادة».

 

112


105

ولادة حسن باقرى

استخلص «حسن باقري» أن القتال لا يصح على هذا النحو، وأن جمع المعلومات الدقيقة الكافية سيؤدي إلى تُكلّل العمليّات بالنجاح والفوز. وعمد بعدها إلى تسريع عمليّات الاستطلاع.

احتلّ العراقيّون سلسلة من المدن والقرى دون مقاومة، وحاصروا قرى محيط «الهور»، «هور العظيم»، «هور الهويزة» و غرب مدينة «بستان»، غرب مدينة «سوسنكرد» و تلال «ميشداغ»، وكان لا يزال فيها قسم من سكّانها العرب. فالشّبان والشابّات خرجوا منها، وبقي فيها كبار السنّ من الرجال والنساء ومعهم الفتيان. وبسبب حبّهم وتعلّقهم بالجمهوريّة الإسلاميّة، أخذ رؤساء الطوائف والعشائر في المنطقة يرسلون الرسائل إلى الحرس عبر بعض الأفراد، مطالبين بتسليحهم، وتدريبهم، وإرشادهم إلى كيفيّة دحر المعتدين. فاستعان بهم «حسن باقري» في الاستطلاع وجمع المعلومات عن العدو، أمثال «عبد الحسن حيدر آريان نجاد»، معلّم مدرسة في قرية «خليفة حيدر» الواقعة في ضواحي «الأهواز»، الذي عمل لمصلحة الحرس خلال قضيّة «خلق عرب»[1]. التحق بعدها بقوّات «حسن باقري» بعد تأسيس «وحدة معلومات العمليّات». في أول استطلاع له، تغلغل «آريان نجاد» إلى عمق ستة عشر كيلومترًا داخل «كرخه كور»، وتسلّل خلف ثكنة «حميد» لكي يُطلِع «حسن» على بنية وتشكيلات العدو:

«لقد نصب العدو كمينًا، وسيّر دوريّة أمامه. كان أهالي المنطقة يساعدوننا على الاستتار. رأيت امرأة عجوزًا قرب الطريق الموصلة لمكان استقرار العدو، فسألتها: هل يمكنك أن تعُدّي

 


[1] - يراجع كتاب "دا" من سلسلة سادة القافلة حول هذه الحادثة، ملحق الكتاب بعنوان فتنة "خلق عرب"(المحرر).

 

113


106

ولادة حسن باقرى

السيّارات التي تتردّد ليلًا إلى هنا؟ قالت: أجل. ولمّا عدت تذكّرت أني لم أطلب منها تحديد وجهة السيّارات. فقلت في نفسي: وكم بوسع هذه العجوز أن تعد!! ولمّا قصدتها في الصباح، رأيتها قد وضعت أمامها كومتين من الحجار، وأخبرتني أن كلّا منها تدل على عدد ووجهة السيّارات التي مرّت، فأحصت بهذه الطريقة العدد في كلتا الجهتين، وقالت لي: جلست أعدّها حتى الصباح. بتُّ أعتمد عليها دائمًا في تحصيل المعلومات. هذه العجوز الضعيفة، كانت بمفردها توازي فرقة. في أحد الأيام، أثناء عودتي، رأيتها تمسح الأرض خلفي بغصن شجرة كينا، فأثارت تساؤلي، قلت لها: ماذا تفعلين؟ أجابتني: قبل عدّة أيام، أتى العراقيّون وانتبهوا لآثار درّاجتك الناريّة، واستفسروا عنها، فأخبرتهم أنّ شخصًا مرّ من هنا. منذ ذلك اليوم وأنا أمحو آثار درّاجتك الناريّة بهذا الغصن كلّما أتيت. فدعوت لوالديها بالرحمة، أخذت الغصن من يدها وربطته خلف الدراجة لئلّا يترك آثارا»[1].

 لم يمضِ وقت طويل، حتى انخرط عدد كبير من أهالي المنطقة في مجموعة مصادره المعلوماتيّة، أمرٌ ظهرت نتائجه في المستقبل القريب.

 


[1] - حوار الكاتب مع عبد الحسين آريان نجاد، من قوّات حسن باقري في وحدة معلومات العمليّات. 

 

114


107

حرب المياه

حرب المياه

 

شغلت المسؤولين المعنيين في تلك الأيّام قضيّة أساس هي توغّل النظام البعثي. وكانوا يبحثون عن طرق لإيقاف تقدّمه. فدبابّات الجيش العراقيّ كانت قد وصلت خلال ثلاثة أيام إلى مقربة من الأهواز عبر سهل خوزستان. في شباط من العام 1980م، ضرب سيل قوي خوزستان، وبقيت آثاره في بعض المناطق إلى بدايات الحرب، فعلقت بعض الدبابات العراقية في المستنقعات في أولى أيامها. كذلك نشرت وكالة فارس (جمهوري اسلامي) في الرّابع والعشرين من أيلول، تقريرًا أن رتلًا كبيرًا من الدّبابات العراقيّة علقَ في الوحول في منطقتي شلمشه وحسينية، أي على مسافة ثمانين كيلومترًا من الأهواز، وأسر المجاهدون الإيرانيون عددًا من أفراد طاقم الدّبابات.

في تلك الأيام، عُقدت جلسة في غرفة أركان الحرب غير المنظمة[1] بحضور الدكتور شمران، الدكتور عباسبور، اللواء فكوري، واللواء فلاحي. مع بدء الحرب ترك المدير التنفيذي لدائرة المياه والكهرباء في خوزستان آنذاك وظيفته وغادر الأهواز كليًا، فرشّح الدكتور عباسبور المهندس «جمشيد سرداري»، المدير التنفيذي لشركة مهاب

 


[1] - أو مقر الحرب غير النظامية وما يصطلع عليه منهج "حرب العصابات".

 

115


108

حرب المياه

التابعة لوزارة الطاقة في ذلك الوقت، ليقترحه مديرًا تنفيذيًا لدائرة مياه وكهرباء خوزستان. كان جميع أعضاء تلك الجلسة، يطالبون بإعاقة تقدّم الجيش العراقي من خلال استخدام المياه.

«أراد الجميع مدّ يد العون في هذه القضيّة. وتكبّد موظفو مؤسسة مياه وكهرباء خوزستان متاعب جمّة، خاصّة العاملين منهم على المضخّات. فالشّهيد فكوري قدّم  مرة واحدة، ثلاثين مليون تومان لإعداد المضخّات. وفي بعض الحالات، كان الشّهيد فلاحي يساعدنا في تأمين الأدوات والمعدّات. لكن الموضوع الأهمّ كان حيازة المعلومات عن أماكن تواجد وحدات الجيش العراقي، ومعرفة جيوب المناطق ومنحدراتها كافة. فالحرب بالمياه لم تكن سهلة. فاتّجاه هجوم العدوّ من الجنوب كان نحو الشّمال، وهجومه من الغرب إلى ناحية الشرق، بينما المنحدرات في خوزستان فهي من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب؛ أي العكس تمامًا. فمجرى نهر كارون من الشمال إلى الجنوب ومجرى نهر كرخه من الشرق باتجاه الغرب، وهذا كان عكس تحركات العراقيين بالكامل. فإذا ضخخنا الماء في قنوات محددة أمكننا جعل الماء يطّرد تحت أقدام البعثيين ويغمر أماكن تواجدهم.[1]»

في يوم 6/10/1980م، وصل تقرير من حسن باقري إلى المهندس سرداري، كان هذا التقرير كفيلًا بفكّ لغز هذا الأمر:

 

 


[1] - حوار الكاتب مع جمشيد سرداري، المدير التنفيذي لدائرتي مياه وكهرباء خوزستان آنذاك. ولد المهندس سرداري عام 1940م في مدينة أهواز، وتم تعيينه في هذا المنصب عام 1980م. 

 

116


109

حرب المياه

«حسب معلومات إحدى دوريّات الاستطلاع، يوجد على ضفاف نهر كرخة في الحميدية، عدد من القنوات المهجورة، وهي مسلّطة باتجاه قوّات جيش العدوّ المستقرّة في القرى الواقعة أسفل نهر كرخة، بإمكان قواتنا فتح هذه القنوات على الأعداء، والهجوم عليهم من جهة طريق هويزة. القرى التي تقع أسفل نهر كرخه والتي تموضعت فيها قوّات العدوّ هي: دب حردان- صحن- بيت شلمي- عبوده- محمد خشير- شلبيه- سيد حميد. 6/10/1980م، مقر أركان عمليات الجنوب- حسن باقري». [1]

دفع هذا التّقرير المهندس سرداري للذهاب إلى مقرّ الغولف، ليتعرّف على حسن باقري، ويرى إن كان بالإمكان الاعتماد عليه في القيام بعمليّة استطلاعيّة لسائر القنوات المهجورة، منذ اللقاء الأول بينهما، أعجب المهندس سرداري ببشاشة حسن ولطفه. ثمّ، عندما جرى الحديث عن القنوات الصّالحة للعمل والقنوات المهجورة في نهري كرخه وكارون، ذكر معلومات ومعطيات استخباراتية دقيقة لم يكن يتصوّر الحصول عليها أبدًا:

«كان حسن باقري مطّلعًا على مجرى المياه في خوزستان كمتخصص خبير. أثار هذا الأمر تعجّبي. تقع قرية دب حردان في منخفض، ولجأ العراقيون إلى النقاط المرتفعة فيها لتفادي المياه، وعندما فتحنا مجرى مياه «كرخه كور» باتجاههم، غرقت مجموعة من دباباتهم، وتراجعوا إلى مسافة خمسة كيلومترات خوفًا من المياه. في قرية سيد طاهر، قاموا بقطع الطريق لتحويل

 

 


[1] - مجموعة ذكريات حسن باقري، ج 1.

 

117


110

حرب المياه

مجرى المياه إلى الجنوب لتصبّ بعدها في نهر كارون. والظّريف هنا أن قواتنا في «ده تبه»  عمدت أيضًا إلى تحويل مجرى المياه إلى كارون كي تنقذ أهالي القرية، لكن حسن الذي كان يعلم جيدًا خطورة هذا الأمر، أمر الشّباب على الفور أن يحولوا دون ذلك، وأن يسدّوا مجرى المياه ويحولوها إلى المنطقة الأدنى لتصبّ في مارد. قال حينها أن هدف العراقيين هو وصول المياه إلى كارون وهذا يمكّنهم من العبور من الجهة السّفلى للنّهر، بدا هذا من فطنة ونباهة حسن باقري». [1]

ما انفكّ حسن باقري يرسل قواته في مهمة استطلاع القنوات:

«كذلك أصيب أفراد قوّاته بجراح أثناء الاستطلاع. إن أحد الأمور الهامة والأساسية في هندسة المياه في المجال الدفاعي هو استمرارية عمل المضخّات، كان يتوجّب علينا إحضار المازوت من الأهواز باستمرار لمدّ المضخات كي لا تتوقف، كان لحسن باقري دور في هذا الموضوع أيضًا.[2]»

كان علي إسحاقي من العناصر التي انضمّت لمساعدة حسن باقري منذ الأسبوع الثاني للحرب. وبما أنه أمضى طفولته وحداثته في العراق في منطقة الكاظمين، ويجيد اللغة العربية، فقد طلب من حسن باقري أن يوكل إليه مهامًا خارجية، لكن حسن طلب منه أن يقترب من وحدات العدو ويجمع المعلومات عن أماكن تواجدهم. كما طلب منه أن يجمع المعلومات عن القنوات الجافّة المشرفة على مواقع

 

 


[1] - جمشيد سرداري.

[2] - المصدر السابق.

 

118


111

حرب المياه

العدو، كان الهدف من ذلك مساعدة غرفة أركان الهندسة المائية:[1]

«بالاستفادة من الهندسة المائية، غطّت المياه منطقة هويزة، شمال سوسنكرد، وجنوب الحميديّة وغرب كارون، ماحال دون وصول أي من وحدات العدو العسكرية إلى المنطقة، هناك أدركنا نباهة حسن باقري وفطنته. كان القسم الجنوبي من سوسنكرد وصولًا إلى أطراف الحميدية وغربها تحت سيطرة العراقيين. كان العدو يشكّل خطرًا على أمن طريق الأهواز - خرمشهر من منطقة الحميدية وأطراف محطة حميد. أمرني حسن باقري بالتنسيق مع أفراد المعلومات في سونسكرد باستطلاع آخر الوضعيات والمستجدات في المنطقة. عندما سلّمته تقرير الاستطلاع وبعد مطالعته كافة التقارير، عرض خطةً على المهندس سرداري مسؤول دائرة المياه والصّرف الصّحي في خوزستان، ووضّح له على الخريطة مواضع استقرار القوّات العراقيّة المدرّعة وسأله: هل يمكننا تغيير مجرى المياه التي تخرج من سد «دز» لتدخل منطقة نيسان وهويزة وتصبّ في نهر كارون، باتّجاه يسار وحدات العدوّ لمنعهم من التّقدم؟

على الفور، قامت مجموعة من معلومات العمليات بالعمل على هذا الموضوع مع مؤسسة مياه المنطقة، والمهندس سرداري. تمّ التّخطيط بسرعة لتغيير مجرى مياه كارون باتجاه شمال منطقة هويزة والحميدية، وتنفيذ ذلك مباشرة، فحال دون تقدم العدو

 

 


[1] - تشكّل هذا الرّكن المقر في 21\10\1980 م، بحضور ممثلين عن المحافظة وحرس خوزستان، والفرقة 92 المدرّعة ومؤسسة المياه ومجموعة حرب العصابات.

 

119


112

حرب المياه

في بعض المناطق.[1]»

وبعد فترة من بداية الحرب، قدّم محسن رضائي إلى حسن باقري عضوًا (جديدًا) في فريق الاستطلاع واستلم لاحقًا قيادة الفرقة؛ كان مهدي زين الدين. يذكر زين الدين الجُمَل الأولى التي وجهها إليه حسن باقري في غرفة معلومات العمليات الصغيرة، حينما قال له: عندما تنشط هذه الوحدة، يمكن أن يكون لك دور هام ومصيري في الحرب:

«أدرك قيمة وأهميّة معلومات العمليات منذ البداية، وتحمّل عناء ذلك كثيرًا. كان يطلب من أعضاء فريق الاستطلاع شرح المجريات والأحداث، وإذا شعر أنهم لم يصلوا إلى المسير المطلوب تابع ذلك بنفسه، وأحيانًا كان يصرخ في وجوههم بأن عليكم الحصول على الأهداف المحددة. في بداية الحرب، عندما كنّا نعاني من نقص العديد وقلّة القوّات للمواجهة المباشرة مع العدو، كان حسن يتباحث  مع المهندس سرداري حول الاستعانة بالمياه، فيحتسبون المساحات حتى على مستوى المرتفعات التي تبلغ مترًا أو مترا ونصف كي يتمكّنوا من إعاقة تقدّم العدو بإطلاق المياه».[2]

 

 

 

 


[1] - علي إسحاقي، كان من أفراد المجموعة المكونة من عشرين شخصًا, جاء من أصفهان والتحق بالجبهة مع بداية الحرب. تعرف إسحاقي على حسن باقري في مقر الغولف، وعمل معه ابتداءً من 7/10/1980م.

[2] - الشهيد مهدي زين الدين، استشهد هو وأخوه مجيد عام 1984في شهر تشرين الثاني، أثناء عبورهما من طريق سردشت - بانة حيث وقعا في كمين  نصبه أعداء الثورة لهم، وكان عمره 25 سنة. 

 

120


113

غرفة الخريطة

غرفة الخريطة

 

أعدّ حسن باقري غرفةً في (مقرّ) الغولف؛ يزورها في يومنا هذا العديد من الزائرين والسّواح، وهي غرفة الخريطة، وسميّت لاحقًا بغرفة الحرب. قام حسن باقري بتغطية جدرانها بخرائط جبهات خوزستان، وفرّغ عليها معلومات تقارير استطلاع المحاور، موضّحًا مواقع تموضع العدو وخطوط ومحاور قوّاتنا:

«في بداية الحرب، برز حسن بوصفه الشخص الوحيد المهتمّ بمراجعة خريطة الرؤية الشّاملة لأراضي المنطقة بأكملها، لكنّه لم يكن يكتفِ بالخريطة، بل يذهب أيضًا إلى المواقع شخصيًا. في بداية الحرب، لم يحسب أحد للخريطة حسابًا، حتى أنّه تعرّض للسّخرية جرّاء ذلك، لكنّه لم يكن يتبرّم؛ بل يبادر إلى شرحها لهم بكل هدوء وبِشر، فيخجلون من ذلك».

لم تكن القوات التي حضرت إلى المنطقة للمساندة (للدعم)، على علم بتموضعها وبتموضع الوحدات المجاورة لها. عندما بدأت الحرب، توجّهت قواتٌ من محافظة فارس إلى خوزستان بقيادة جعفر أسدي، حيث شكّل في جبهة «فارسيّات الأهواز» خطًا دفاعيًا. في إحدى المرّات التي ذهب فيها إلى الغولف، وقع نظره على شاب نحيف، يقفُ على كرسيٍ ويلصق الخرائط على الحائط. فحدّث

 

121

 


114

غرفة الخريطة

نفسه قائلًا: يا لسعد هذا الفتى! يظن أن كل ما في الأمر هو المجيء إلى الحرب، أُنظر إليه كيف يلصق الخرائط بدل حمل السلاح. كانت هذه المرّة الأولى التي يلتقي فيها حسن باقري:

«عندما تحدث عن الحرب وعن جبهة فارسيات ودور معلومات العمليات، أدركت من كلامه وتحليله للأمور أنه إنسان واعٍ ومدركٍ للغاية، وقال: أعطوني تقريرًا كل يوم حتى نكون على علم بدقائق مجريات جبهة فارسيات.

أخذ حسن يفرّغ على الخريطة يوميًا معلومات تقارير جبهة فارسيات التي نسلمّه إياها، لاحقًا قام بتعريفنا إلى شباب خراسان، كانوا هم في مقابل «نورد أهواز» ونحن في فارسيات على مقربة من بعضنا البعض من دون أن نعلم بذلك، حتى أننا كنا نتراشق بالرصاص ونظن أننا نطلقه على العدو. حينها أدركنا أن حسن باقري يرى كل شيء في تلك الغرفة، بينما لا نرى نحن ذلك في ساحة الحرب. منذ ذلك الحين صرنا نرسل إليه تقارير العمل يوميًا».[1]

كان بهروز إحميراري قائد قوات خراسان التي راحت تطلق الرصاص جهلًا على قوات جعفر أسدي. فرّغ حسن باقري معلومات مكان تموضع إحميراري ومحوره الدّفاعي على الخريطة، عندها أدرك  في غرفة الخريطة أنها اشتبهت بقوات جعفر أسدي فصارت تطلق الرصاص عليها ظنًا منها أنها قوات العدو:

«كانت قوات السيد أسدي ترشقنا بالرّصاص من الضّفة المقابلة لنهر مليحان، ظنّنا بداية أنهم قوات العدو فتبادلنا معهم

 

 


[1] - القائد جعفر أسدي. استلم لاحقًا قيادة فرقة "33 المهدي" واستمرّ في ذلك حتى انتهاء الحرب المفروضة.

 

122


115

غرفة الخريطة

إطلاق الرصاص من الليل حتى الصباح. في غرفة الخريطة في مقرّ الغولف عرفنا ماذا يحصل، قال جعفر أسدي: رحم الله والدك، لقد أزهقت أرواحنا، لم ننم حتى الصّباح طيلة أسبوع.

لم يكن لدينا معلومات نميّز بها قوات العدو عن قواتنا، وعندما أتى حسن باقري عرفنا ما هو ورق الكلك[1] والخريطة».[2]

محمد بلالي أحد القادة الخوزستانيين كان في كردستان قبل بداية الحرب، عندما سمع بالهجوم العراقي، توجّه إلى الأهواز مع مجموعته لمحاربة العدو الغاشم. بحث بلالي كسائر القادة، عمن يمدّه بالمعلومات عن مواقع وأماكن تواجد العدو، إلى أن تعرّف على حسن باقري في الغولف:

«كان حسن باقري أول من مدّنا بالمعلومات عن مواقع تموضع قواتنا وقوات العدو، كانت معلوماته عن خوزستان والعدو الغاشم أوسع من معلومات أبناء المنطقة. اتّصفت المواجهات في كردستان بحرب العصابات. كان جمع المعلومات عن عدوٍ منظّم أصعب منه عن عدوٍ غير منظم، ويحتاج  ذلك إلى دائرة واسعة ومعقدة لجمع معلومات عن عدو منظّم في جبهة كبيرة. استطاع حسن باقري مع فئة قليلة منظمة ومتّحدة، أن يجمع هذه المعلومات ويحضّرها لكل من يأتي إلى خوزستان».[3]

 كان عباس صمدي في بداية الحرب، مسؤول التّعبئة في محافظة

 

 


[1] - ورق الكلك ورق مستخدم لرسم الخرائط وطباعتها بنحو متكرر.

[2] - مقابلة للكاتب مع بهروز احميراري قائد محاور دب حردان وآب تيمور في أطراف أهواز في الشهر الأول من الحرب.

[3] - القائد محمد بلالي.

 

123


116

غرفة الخريطة

خوزستان. تحدّث عن لقائه بحسن باقري في اجتماعات أركان عمليات الجنوب قائلًا:

«في هذه الجلسات كنت أرى شخصًا يحضر في بداية كل جلسة، يستلم تقارير المحاور، ويدوّنها، وعلى معرفة بأدق تفاصيل تحرّكات العدوّ ثمّ يعرض الخلاصات والنتائج، كان شكله الظاهري يختلف عن الآخرين، طويل القامة، نحيف الجسم، جهوري الصوت وصاحب لهجة طهرانية محببة.[1]».

كُلّفت الفرقة المدرعة الثالثة التّابعة للقوات العراقية مهمّة احتلال خرمشهر وآبادان وقطع طرق التواصل مع ماهشهر. أما المحور الثاني فكان طلائية. وتعيّن على فرقة المشاة الخامسة (المؤللة) العبور من جفير وصولًا إلى الأهواز. في معبر آخر، كانت مهمة الفرقة المدرّعة التّاسعة العراقية الهجوم على حدود تشزابه، والالتحاق بالفرقة الخامسة في طريق حميدية - أهواز مرورًا بشمال بستان وسوسنكرد. أما المحور الرابع فكان من مهمّة الفرقة العراقية الأولى، أي عبور فكّة والوصول إلى شوش ومنها إلى طريق دزفول-دهلران. المحور الخامس والأخير كان من مهمّة الفرقة العاشرة المدرّعة في الجيش البعثي، أي الوصول إلى جسر نادري بعد عبور مقر شرهاني ومضيق «عين خوش» ومرورًا بسهل عباس ومن ثم الالتحاق بالفرقة الأولى وعبور نهر كرخة للوصول إلى خلف نهر«دز» وإنجاز مخطط عزل خوزستان. لم يعلم أحد آنذاك بهذه الخريطة وكيفية تموضع قوات وحدات العدو الغاشم، جهل الجميع ذلك حتى أبو الحسن بني صدر

 

 


[1] - مقابلة للكاتب مع القائد عبّاس صمدي من مؤسسي فرقة حرس خوزستان، المولود عام 1958 في مدينة آبادان.

 

 

124


117

غرفة الخريطة

أي «القائد العام للقوات العسكرية» ومسؤولون آخرون لم يكن أحد يعلم عدد وحدات العدو التي انطلقت من الجنوب إلى شمال أراضي خوزستان الواسعة، أو شيئًا عن تجهيزاتهم وتشكيلاتهم أو حتى مخططاتهم التي يريدون تنفيذها.

أدرك حسن باقري أن أكثر مكامن ضعف الجبهات هو غياب المعلومات عن ماهية العدو وأهدافه، وأن لا أحد من الجيش أو الحرس يملك معلومات دقيقة يمكنه من خلالها تحليل تحركات العراقيين. بإدراكه الصائب، وفهمه الصحيح، بدأ بعمليات الاستطلاع الدقيقة حول العدو وأرسل فرق الاستطلاع المكوّنة من أفراد محليين (من أبناء المنطقة) إلى جميع المحاور، كذلك عيّن أفرادًا كالشهيد محمد حسين نامدار محمدي، أحمد فروزنده، أحمد أميري وحميد تقوى وغيرهم مسؤولي معلومات عمليات المحاور. كان يطلب منهم إعداد تقارير يومية، حتى أنه قصد الأساتذة في القرى واستفاد من الطّاقات المحلية شيبًا وشبّانًا في هذا المجال. كما ذهب قبل الجميع إلى استطلاع جميع المحاور وراقب المقرّات الخلفية للوحدات العراقية، فاستطاع في فترة لا تتعدى الشهرين أن يكشف[1] العدو:

«قام حسن باقري في البداية، بإعداد غرفة. واستفاد من خبرته ومهارته الصحفية ليشكّل طاولة معلومات واستخبارات. أرسل مجموعة لجمع المعلومات، ورتّب التقارير بالقرب من بعضها البعض كقطع بازل[2]، في البداية رصد خطًّا أماميًا ورسم مكان العدو من نهر كارون حتى النقطة المقابلة لمليحان ونورد أهواز

 

 


[1] - كشف وانكشاف مصطلح عسكري بمعنى معرفة أعمال وإمكانات العدو و... .

[2] -  puzzle

 

 

125


118

غرفة الخريطة

وجميع الأماكن التي حصلت فيها مقاومة كسوسنكرد، هويزة، بستان، شوش ودزفول. بعد ذلك، سعى لمعرفة قدرات العدو وأماكن تموضعه فأدرك أن الفرق العراقية هي الفرق 3، 5، 6، 9، 10، 11، فأسر عددًا من عناصرها في عمليّات التّقدم والانسحاب، وحصل من خلالهم على معلومات ثمّ ركّز على أماكن تموضعهم وتشكيلاتهم»1[1].

لم يصل إلى هذه الأهداف بسهولة. ومن أجل إنجاح عمله سعى حسن مضافًا إلى الحصول على قوات كفؤة ومستعدة، للحصول على المعدات المطلوبة: درّاجة كروس أو تريل، المنظار العادي وآخر ليلي، البوصلة، كذلك المعدّات المطلوبة لجمع المعلومات. كان هذا النّوع من الدّراجات مفيدًا جدًا في الحرب. أمّن محسن رفيق دوست مسؤول الدّعم العسكري[2] في الحرس عددًا كبيرًا من دراجات تريل (250) و (125) النّارية ووضع أغلبها تحت تصرّف قوّات المعلومات:

«عرفت حسن باقري قبل بدء الحرب، منذ أن عمل صحفيًا في جريدة «جمهوري اسلامي». بعد اندلاع الحرب بوقت قصير اتصل حسن بي وطلب دراجات «تريل»، قال حينها أن الدّراجة النارية الآن من أوجب الواجبات لشبابنا.

على الفور، أرسلت إلى مشهد ليشتروا لهم عددًا من دراجات «كروس»، لا أعلم كم كان عددها بالتحديد، لكن لم يمضِ يومان حتى أوصلتها إليه، بعد أن طلبت إرسالها من مشهد إلى طهران بالطائرة، وبالطريقة نفسها من طهران إلى الجبهة. ثمّ عاد وطلب مني في عمليات ثامن الأئمة ربما 200 دراجة  «كروس»، وأخبرته

 

 


[1] - أحمد سياف زادة.

[2] - أو الامداد العسكري.

 

126


119

غرفة الخريطة

أني سأرسلها إليه.

كنتُ قد أسستُ شركة خاصة في اليابان باسم آكبانو، لا علاقة لها بالحرس، فطلبت من المسؤول هناك إرسال 200 دراجة كروس على الفور، وأرسلت طائرة «جمبو جت» إلى طوكيو لإحضارها مباشرة إلى أميدية في الأهواز، أرسلنا 200 دراجة نارية يابانية الصّنع إلى الشباب في وقت قياسي أقل من 48 ساعة ليتمكّنوا من إنجاز مهامهم»1[1].

 في إحدى المرات، أرسل حسن باقري أحد شباب فرقة معلومات العمليات حاملًا رسالة إلى الحاج محسن رفيق دوست. طلب منه في الرّسالة تأمين منظار ليلي، بوصلة وسائر المعدّات من خارج إيران لشباب فرقته:

«سلمته على الفور مبلغًا من المال وقلت له اذهب خارج البلاد واشتر هذه الأغراض وأوصلها إلى حسن فورًا.

بعد انتهاء الحرب، تسلّمت رئاسة «بنياد مستضعفان»[2] سافرتُ إلى أوكرانيا. كان السيد مظاهري سفيرنا هناك، وعندما رآني سألني: هل عرفتني يا حاج؟ قلت: كلا، قال: في بداية الحرب كنتُ من أفراد مجموعة حسن باقري، وكنتَ أنت في الأهواز، يومها كتب لك حسن رسالة وأرسلها معي، وسلمتني مبلغًا من المال، سافرتُ خارج البلاد واشتريت المعدات المطلوبة وعدت. قلت: أجل تذكرتك الآن. قال: لم أحتمل حتى واحدًا في المليون أن تسلمني مالًا فور قراءتك رسالة حسن باقري، فأنت لم تطلب مني إيصالًا حتى! فقط قلت لي

 

 


[1]- مقابلة الكاتب مع الحاج محسن رفيق دوست أحد مؤسسي حرس الثورة الاسلامية.

[2] - مؤسسة المستضعفين من المؤسسات التي أنشئت بعد قيام الثّورة.

 

127


120

غرفة الخريطة

اذهب على الفور واشتر المعدات وأوصلها إلى حسن باقري!»[1]

حدد حسن باقري لكل محورٍ مسؤولًا لمعلومات العمليات، وطلب منهم إعداد تقارير. كذلك درّب قواته ليقوموا بالاستطلاع بهدف وبطريقة محددين. وبالإضافة إلى جمع المعلومات عن المعدّات والمسافة الفاصلة بين قوات العدو، وقدراته، أراد منهم تحديد إذا ما كان العدو ينوي البقاء أو يريد التّقدم، فإن ظلّ يبني التّحصينات والمتاريس فهذا يشير إلى أنه ينوي البقاء:

«كنت أظن أن مهمتي هي معرفة مكان تموضع العدو وقدراته وحسب. لكن حسن باقري كان يقول: عليكم أن تتعرفوا على قدراته أولًا ومن ثم تشخّصوا خطواته التّالية إن كان ينوي البقاء في المكان، أم أن هدفه الهجوم؟ وإذا لم ينصب معدّاته في المكان فهل يريد الالتحاق بمكان آخر؟ وهل يعمّق في حفر خنادقه ومتاريسه؟ لا تكتف بالنظر فقط، بل حلّل وأبدِ وجهة نظرك، هل عدوّك خائف أم مطمئن؟ هل ينوي البقاء أم أنه يتجهّز لتغيير مكانه؟»[2]

بعد الهجوم الشامل لم يكن لدى قوات العدو خطًا ثابتًا ولم تستخدم السواتر الترابية، كانت قد تقدمت مسافة كبيرة داخل الحدود ولكنها عجزت عن تغطيتها. وكانت قوات حسن باقري تنفذ من بعض الثغرات في الأراضي المحتلة وتجمع المعلومات. اعتاد حسن في أكثر الأوقات أن يرافق القوات المحلية في عمليات الاستطلاع لمعرفتهم بالأنهار والتلال والوديان، كما ابتكر طريقة لتبادل وتوحيد المعلومات. وكان في جلسات يوم الاثنين الأسبوعية

 


[1]   - المصدر السّابق (محسن رفيق دوست).

[2]   - عبد الحسن آريان نجاد.

 

128


121

غرفة الخريطة

في مقر الغولف يقوّم أداء قواته:

«في الجلسات، كنا نطلع على أوضاع كافّة جبهات الجنوب، وعند انتهاء المناقشات يبدأ حسن باقري بالأسئلة التكتيكية: لم لا تذهبون لاستطلاع المكان الفلاني، ما المشكلة هناك؟ راقبوا إذا ما كان العدو قد شقّ القنوات هناك أو لا؛ أو زرع الألغام، كان يوجّهنا بإرشادات معلوماتية ويفصح عن إجراءاته ثم يُطلعنا على المعلوماتية ونحن بدورنا ندوّن ذلك. في إحدى الفترات، ساد الهدوء الجبهة ولم يقم العدو بأي تحرك، جاء حسن باقري في أحد الأيام وقال لي: سيد ناصري، لم لا ترسل التقارير؟ قلت: لا يوجد أي خبر، الأوضاع طبيعيّة. فأجاب: يا سيد ناصري، قد يكون الخبر بالنسبة إليكم أمرًا عاديًا لكنه بالنسبة إليّ هامٌ جدًا. أكتب هذا الأمر وأرسله لي عبر البريد[1].قلت: وهل يستحق هذا التقرير أن يرسل من حميدية إلى أهواز؟ قال: نعم، عندما تكون الأوضاع مستقرة عندكم أقارنها بأوضاع جبهة شوش ودزفول وأحلّل ما ينوي العدو القيام به في المستقبل، فليس من الضروري أن يُحضِر العدو دبابتين ويبدّل قواته حتى تكتب التقرير. حتى لو كانت الأوضاع عادية وهادئة، عليك أن تكتب التقرير، ولهذا الأمر سببان: الأول أني أطمئن أنك تستطلع، والثاني أعرف أوضاع العدو وأحواله».[2]

دأبت القوّات المحلّية في فرق معلومات العمليات على إرسال

 

 


[1] - عنصر البريد أو المرسال؛ مهمته نقل الرسائل ما بين القائد والمجموعات والوحدات.

[2] - مقابلة للكاتب مع علي ناصري. جرح القائد علي ناصري وأسر في مواجهات "طريق شيب" العراقية في غرب بستان في تشرين الثاني من عام 1985، وعاد إلى ربوع  الوطن في 23 تموز عام 1990 م.

 

129


122

غرفة الخريطة

الأخبار والتقارير عن حركة العراقيين وأوضاعهم وتجهيزاتهم. لم يكتفِ حسن باقري بهذه التقارير، بل كان يستخلص تفاصيل خطط مقرّات العدو، كانت تقارير بعض الأفراد شفهية ويتواصلون مع حسن مباشرة، لم يكن يذكر أسماؤهم في تقاريره. فمثلًا في قرية عياشي وفي أطراف قرية بستان، كان هناك شخص يظن الجميع أنه من الطابور الخامس، لكن في الحقيقة كان على تواصل مع حسن ويمدّه بالتقارير. كذلك كان بعض الأفراد من القوات المحلية في سوسنكرد وحميدية وسائر المدن الحدودية يذهبون إلى العراق ويعدّون التقارير له. كانوا يستطلعون في محاور عديدة، ويستعينون بقنوات الماء المهجورة للوصول إلى عمق العدو، يعبرون الكيلومترات في الليل، داخل الأنهار المليئة بالأعشاب والحشائش والأفاعي والبعوض والماء يعلو ركابهم. لم يخطر ببال العدو أن أحدًا سيتسلّل عبر القنوات إلى مواقعه الخلفيّة، كان الاستطلاع عملًا شاقًا، إذ ينبغي على قوات الاستطلاع الذهاب في المهام ليلًا، بينما سائر الأفراد يستريحون في هذا الوقت. لتقارير الاستطلاع قيمة كبيرة، وربما تكون حياة المستطلع ثمنًا لها. لم يكتفِ حسن باقري بمطالعة التقارير وتقييمها،  بل كان يذهب للاستطلاع أكثر من الجميع فيراقب جميع المحاور والمقرات الخلفية للوحدات العراقية، ويُشكّل أيضًا فِرق مراقبة ثابتة. لم ينم ليلًا في أول شهرين من الحرب، فخصّص كل وقته في الحصول على معلومات حول تنظيم قوات العدو المعتدي، وتحرّكاته وتكتيكاته:

«كان حسن باقري ينظر إلى الحرب بنظرة شموليّة وواسعة. عندما كنا نرى العدو، نقول مثلًا يوجد عشر دبابات في المكان الفلاني، لكن حسن باقري كان يعرف اسم الفرقة والوحدة التابعة

 

130


123

غرفة الخريطة

لها، وعدد كتائب الفرقة الفلانية هناك ومكان تموضع بقيّة وحداتها. ويعمد إلى تفريغ معلومات أماكن تموضع قواتنا وتموضع قوات العدو، لم يكن لأحدٍ منا أي تجربة ولم نكن نزاول أي عمل عسكري من قبل. إلا أن  حسن باقري وبسبب نبوغه استطاع تحليل أوضاع الحرب بسرعة. كنا ننظر إلى الجبهات منفصلة عن بعضها البعض، أما هو فكان يراها جبهةً واحدة. كان يحلّل ويستنتج أهداف العدو ومقاصده من خلال طريقة تموضعه وانتشاره وكان هذا الأمر مهمًا جدًا. في تلك الأيام لم نكن نملك الرؤية الاستراتيجية كما يسمونها اليوم. أمّا حسن فكان ينظر إلى الأمور ويحللها بتلك النظرة. ويعرف من خلال تحركات العدو وتنظيمه ما ينوي القيام به».[1]

وصل حسن إلى موقعية؛ أصبح ذهاب محسن رضائي إلى المجلس الأعلى للدّفاع  مستندًا إلى المعلومات التي كان يجمعها حسن باقري نفسه؛ فمحسن رضائي لم يكن عضوا في مجلس الدّفاع لكنه كان يحضر فيه لمسؤوليته عن «استطلاع ومعلومات الحرس» ولما لديه من معلومات عن الجبهات:

«كنت أرسل إليه أخبار ومعلومات الأماكن (الجبهات) الأخرى باستمرار. وكان هو يمدّني يوميًا بالتّقارير، فاعتمد عليها في شرح أوضاع الحرب خلال حضوري في مجلس الدفاع. فأقول مثلًا: كونوا متيقظين فالعدو يريد القيام بتحرك ما في دزفول أو يريد الهجوم ثانيةً على آبادان. في تلك المدة، كان القسم الأعظم من التقارير التي أعرضها في شورى الدفاع يستند على تقارير حسن، كان مسؤولو

 

 


[1]   -  السيد محمد حجازي.

 

131


124

غرفة الخريطة

الشورى يلحظون دائمًا أني آتي إليهم محمّلًا بالمعلومات».[1]

في الشهر الثاني للحرب، التحق صديق جديد بقوات حسن باقري. في بداية الحرب مكثَ فتح الله جعفري مع مجموعته في كردستان، ومع انتهاء مهمّته هناك قصد الأهواز وبالتّحديد مقر الغولف، والتقى لأول مرة بحسن باقري وسمع منه ما شدّ انتباهه:

«سمعت صوته أول مرة في مقر الغولف، حيث اجتمع مئة شخص في الحسينيّة، كان حسن يتحدّث فيهم، وفي صوته رنين جاذب، وهو يرشد القوات إلى كيفية إعداد الدشم أثناء العمليات، قائلًا: احفروا في قعر متاريسكم حفرة، فإن رموا قنبلة دخلت فيها ولا يلحق بكم أذى، كذلك احفروا فيها مجرى صغيرًا حتى لا تطوف داخلها المياه عند هطول المطر. كان يقول أيضًا: إننا لا نملك عددًا كبيرًا من القوات، عليكم حفظ أنفسكم، ومحاربة العدو، نظّفوا أسلحتكم باستمرار، إنّكم في خوزستان، وهنا تسري الرّطوبة داخل السلاح فيصدأ، أخرجوا الرصاصات ونظفوها.

كذلك قال جملةً أعجبتني كثيرًا: علينا معرفة العدو، فما لم نعرفه لا نستطيع محاربته. عندما ختم كلامه توجّه نحو الممر، سألت: من هذا؟ فقال لي أحدهم: إنه حسن باقري، قائد الحرب!

تعجّبت كثيرًا، كانوا يعتبرونه قائد الحرب، ظنّ المجاهدون في الخطوط الدفاعية أن حسن قائد الحرب نظرًا لكثرة تواصله مع القادة وكان في الغالب يذهب إلى الخطوط لتفقدها». [2] 

كان جعفري قد ذهب إلى المنطقة بصفة مسؤول قوات محافظة

 

 


[1]   - اللواء محسن رضائي.

[2] - القائد فتح الله جعفري.

 

132


125

غرفة الخريطة

«مركزي» لإجراء التّرتيبات اللازمة لإرسال القوات من تلك المحافظة إلى الجبهات. بعد عدّة أيام، التقى حسن باقري للمرّة الثّانية في طريق «جوئبده» في آبادان، وسمع منه مصطلحات مثل السواتر الترابية والقناة لأول مرة:

«جاء بسيارة «بليزر» بيضاء ترجّل منها شخصان أو ثلاثة، جلس على الأرض وأخرج خريطة، جلس حوله جميع قادة المنطقة، من بينهم حسن بنادري، مرتضى قرباني، علي فضلي، يدالله كلهمر وحسين دقيقي. قلت في نفسي متعجّبًا: هؤلاء موجودون في المنطقة وهو من يرشدهم! وهناك ولأول مرة سمعت كلمة السواتر الترابية منه حين قال مرتضى قرباني: نقوم بتجميع (ركم)[1] التّراب، فأجاب حسن: تجميع (ركم) ليست كلمة مناسبة، لنستبدلها بالسواتر الترابية.

لقد تصدّوا للعدو في «كوي ذوالفقاريه آبادان» وأسروا 42 شخصًا، كانوا يقولون أن العدو يقصف المدن والطرق من فوق التلال، فقال حسن: أنشروا الإطارات المطّاطيّة القديمة لشركة النفط في المنطقة فهي تقلل من الشظايا، ويمكنكم العمل بين الإطارات إن احترقت، ثم تابع: عليكم بحفر القنوات. سمعت كلمة قناة لأول مرة عندما قال: الأرض هنا فلاة (مفتوحة) لا تضاريس فيها فإما أن تبنوا فيها السواتر الترابية أو تحفروا القنوات وتمروا من داخلها.

يحتمل أن يكون حسن قد رأى القناة في لبنان أو قرأ عنها في الكتب التي تحكي عن الحرب العالمية فقد كان  كثير المطالعة. عبرنا

 

 


[1] - استخدم كلمة دپو والتي تعني إيداع أو استيداع.

 

133


126

غرفة الخريطة

بالقرب من أنابيب شركة النفط، كان ذلك يشكل خطرًا علينا لذا،  أوصانا بالعبور من داخل القنوات، وعندما تصفر القذائف فوق رؤوسنا، ينبطح الشباب داخل القنوات فلا يصاب أحد بأذى».[1]

تسلّم فتح الله جعفري منذ أيلول عام 1979م مهمة حماية بيت الإمام الخميني، وفي أيار من عام 1980 أخذ 64 شخصًا من قوات الحرس في محافظة «مركزي» إلى كردستان1[2] وخاضوا العديد من المعارك حتى بداية الحرب المفروضة. أما الآن وفي أجواء حرب أوسع، فقد بدا معجبًا بطريقة حسن وسلوكه وأقواله إلى حد تجاهل فيه كل خبراته وانضمّ إلى قوات حسن:

«عملت في السّابق مع كثيرين أمثال محمد بروجردي، السيد رحيم، وكذلك مع رسول ياحي قائد حرس كردستان وخادمي قائد حرس بانه، وبابا محمد رستمي قائد حرس سقز. وعملت أيضًا مع الأخوة في كردستان؛ أي أبو الفضل رفيعي والحاج علي أكبري، لكنني وجدت أن هذا الإنسان مختلف بالكامل عن كل الذين عرفتهم حتى ذلك الوقت. كنا قد خضنا في كردستان مواجهات قاسية عديدة، فالقذائف والرصاص ليست بالأمر الجديد بالنسبة لي، كما أمضيت فترة  من الزمن في بيت الإمام، وكان الأفراد الأدنى رتبةً من شخصية الإمام عاديين في نظري؛ أي لم أكن ممن يرون قادةً لأول مرة في حياتهم، لكن صفات حسن الأخلاقية كانت لافتة وجذابة. من خلال أقواله وطريقة معالجته للمسائل تدرك

 

 


[1] - المصدر السابق.

[2] - لمواجهة الحركات الانفصالية المعادية التي دعمها الغرب عقب انتصار الثورة الاسلامية.

 

134


127

غرفة الخريطة

على الفور أنه إنسان واعٍ ومثقف. فمن خلال حديثي معه تعلقت به وأحببته كثيرًا، لكن علاقتي به لم تكن علاقة مسؤولية ومهام مشتركة، فقررت منذ ذلك اليوم العمل معه». [1]

مرتضى قرباني هو أحد القادة الذين حضروا جميع العمليات منذ بداية الحرب حتى نهايتها. وقد تعرف إلى حسن باقري في آبادان:

«عندما سقطت خرمشهر بيد العراقيين تموضعنا في آبادان. كان حسن باقري يأتي إلى آبادان، ليجتمع بنا. لاحظنا أن معلوماته عن منطقتنا تفوق معلوماتنا عنها، انحصرت معلومات الأخوة بما يرونه وما هو تحت أنظارهم فقط، لكن حسن باقري كان يملك معلومات عن الخط الأول وحتى عن مقر جيش العدو ويحللها أيضًا. ولشدة إحاطته بمسرح الحرب بتنا نظن أن لديه قوات في كل مكان حتى في الجيش العراقي. كان يولي التعليم أهمية ويحب أن نكون واعين ونملك المعلومات لأننا قادة في محور آبادان. في أول جلسة عُقدت باقتراح من أخينا العزيز حسن باقري، وضع الحجر الأساس لـ«معلومات العمليات» في منطقة آبادان، أدركنا شيئًا فشيئًا أهميّة وحدة «معلومات العمليات» وحجم تأثيرها الكبير في الحرب والجبهة. منذ ذلك الحين، لم تعد عملياتنا وأعمالنا العسكريّة عمياء (عن أوضاع العدو) وصرنا نرسل إليه تقارير أوضاع  منطقة آبادان».[2]

 

 


[1] - المصدر السابق.

[2] - مقابلة أجراها قسم الاعلام في مقر كربلاء مع مرتضى قرباني في آذار من عام 1983م بمناسبة ذكرى مرور أربعين يومًا على شهادة حسن باقري. كان اللواء قرباني هو مؤسس «لواء كربلاء 25».

 

135


128

غرفة الخريطة

بعد مضي خمسين يومًا على بداية الحرب، أي في 11\11\1980م، كتب حسن باقري تقريرًا مفصلًا في سبع صفحات مخاطبًا فيه المسؤولين، معددًا أسباب إخفاق الجيش في مواجهة العدو البعثي كما قدّم تحليلًا عن اضطرابات الأيام الخمسين الأولى للحرب، وذكّر بأن الجيش العراقي بدأ قبل بداية الحرب بثمانية أشهر بحركة انتقال وتبديل عسكرية واسعة النّطاق على الشريط الحدودي بين إيران والعراق، ورغم ذلك، لم يحرك المسؤولون الإيرانيون ساكنًا هناك:

«لا يوجد أي أثر لأبسط الموانع العسكرية؛ كزرع الألغام، ودعم المراكز والمقرات والمخافر الحدودية وإيجاد خنادق مضادة للدبابات أو أي معدات وقوات عسكرية أخرى، ما أتاح للعدو الغاشم إدخال جيش من دباباته في سهول خوزستان الواسعة».[1]

انتقد حسن باقري في هذا التقرير عدم وجود أي خطة شاملة لمواجهة العدو، وأشار إلى جلسة الأركان المشتركة للقوات والتي عقدت في 20\10\1980 م في محافظة خوزستان:

«في الجلسة، طلبوا خطة من قائد الفرقة «92» فأعلن أنه لا خطّة لديه، وعندما يعدّها سيعرضها على آية الله الخامنئي. ثمّ قال الدكتور شمران أن طياري القوات الجوية في دزفول سألوه عن مخطط الحرب، ولكنه لم يملك إجابة حيال ذلك، في تلك الجلسة، سأل آية الله الخامنئي السيد (قاسمعلي) ظهيرنجاد عن سبب عدم تمويه وإخفاء دباباتنا كما يفعل العراقيون، فأجاب السيد ظهير نجاد بأننا لا نملك آلات تحميل (لودر). إلاّ أن آية الله الخامنئي

 

 


[1] - مجموعة ذكريات حسن باقري، ج1.

 

136


129

غرفة الخريطة

كان يعرف أن هناك سبعين آلة تحميل جديدة في طهران»[1]

 وأشار في تقريره إلى أن عدم وجود مخطط للحرب يؤدي إلى الوقوع في عمليات دفاعية عمياء وهدر غالبيّة الإسناد المدفعي، وأكّد على ضرورة وجود قيادة مشتركة بين الجيش، الحرس والمجموعات المتفرّقة في الجبهة:

«بعض المسؤولين كالسيد صادق خلخالي وهادي غفاري يأتون بمجموعات إلى الجبهة دون معايير محددة ومن دون تنسيق مسبق؛ وهذا يفسد الأعمال في ساحة المعركة. عمليًا لا يوجد في الجبهة قيادة مشتركة ويفتقر الشباب في المجموعات إلى إطاعة الأوامر والتنظيم العسكري، ولذلك فإن عدد الخسائر كبير وعشوائي، بينما في الحرب العالمية الثانية كان هناك قيادة مشتركة لأربعة جيوش ونحن نفتقر إلى ذلك في الغرب والجنوب ولا تتم قراءة استراتيجيات العدو وتكتيكاته».[2]

 

 


[1] - المصد السابق.

[2] - المصدر السابق.

 

137


130

غرفة الخريطة

الركن 2 و 20 دقيقة!

 

في يوم 15/11/1980م وعند الساعة السادسة مساءً، تلقّى المسؤولون خبرًا من الغولف. برقية «فاكس» بتوقيع حسن باقري وتحمل بين طياتها خبرًا مريرًا ومقلقًا: القوات العراقية احتلت جادة سوسنكرد - هويزه وحاصرت سوسنكرد بشكل كامل:

«تقدّمت القوّات العراقية نحو مشارف المدينة، ويحتمل أن تكون قد دخلتها مع وصول الخبر إليكم. عدد الشهداء والجرحى كبير جدًا. الإخوة الجرحى لا يمكنهم تلقّي العلاج في المدينة ولا يمكنهم الخروج منها. كذلك حوصر الإخوة في الحرس وقوات الدرك في الهويزه. ولغاية الآن، لم تتدخل القوات المدرعة المتواجدة في المنطقة لمساندة المدافعين عن المدينة»[1].

في تلك الليلة، اتّصل اسماعيل دقايقي بداوود كريمي من سوسنكرد للمرّة الأخيرة، وأبلغه عن تفجير مبنى الحرس، وأنهم وضعوا الجرحى داخل المسجد، وما زالوا في حالة مقاومة في المنازل المجاورة للمسجد. أنهى مكالمته بكلمة «سامحونا!». كانت تلك الرّسالة كافية لإجبار الحاج داوود على الجلوس قرب الهاتف حتى الصّباح لإيصال خبر الفاجعة إلى أئمة صلاة الجمعة في إيران.

 

 


[1]- مجموعة ذكريات حسن باقري, ج1.

 

139


131

الركن 2 و 20 دقيقة!

عند الساعة السادسة صباحًا، قصد آية الله مدني إمام جمعة تبريز طهران، وتمكن عند الساعة الثامنة من إيصال «فاكس» حسن باقري إلى الإمام. عندما قرأ الإمام الخبر استدعى الجنرال فلاحي وظهير نجاد مباشرة وقال: أريد استرجاع سوسنكرد، وإلا سآتي بنفسي إلى هناك. عند الثامنة صباحًا، وصل مبعوث من قبل الجيش إلى داوود كريمي:

«في الصباح استدعونا للذهاب إلى غرفة الحرب. يا إلهي! مضت مدّة ولم يفتحوا لنا الطريق، والآن يتم استدعاؤنا! ذهبنا برفقة حسن باقري إلى تلك الغرفة. كنت مستندًا إلى معلوماته ومحفوظاته الذهنية لدرجة أني لم أصطحب معي سبعة أو ثمانية أشخاص، أو حتى مسؤولي العمليات الأساسيين. رأيت الجميع جالسين، كذلك حضر آية الله خامنئي، وجلست إلى جواره. اجتمع هناك كلٌ من الدكتور شمران، السيد غرضي، الجنرالان فلاحي وظهير نجاد، والعميد قاسمي، وسائر قادة الجيش. كان السيد ظهير نجاد يذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا غارقًا في التّفكير. مضت عدة دقائق وهو على هذه الحال. كنّا بانتظار قراره جميعًا. فجأة نادى بصوت مرتفع: «الركن 2»، دخل رائد وقدّم التحية العسكرية، قائلًا: نعم سيدي. قال له: اذهب نحو الخريطة، ووضح لنا وضعية العدو.

أخذ يدلي بمعلوماته حول قواتنا. وكلّما طلب منه السيد ظهير نجاد -رحمه الله- ذكر المعلومات حول نقاط تموضع العدو على الخريطة، لم يفعل. غضب السيد ظهير نجاد لدرجة أنه قال له: اذهب واجلس. في هذه اللحظة، ناديتُ: «الركن2 و20 دقيقة!» أجاب حسن باقري: نعم يا حاج. قلت: تقدم نحو الخريطة.

 

140


132

الركن 2 و 20 دقيقة!

ولأن حسن كان دائم التردد إلى المنطقة، كان يرتدي بنطال الحرس مسدلًا القميص فوقه. يتقدم ابن الخامسة والعشرين نحو الخريطة بتلك الهيئة. كان لا بد لفتى بهذا العمر من التحلي بقدرٍ عالٍ من الثّقة بالنفس والمعنوية العالية وسعة الاطلاع؛ ليتمكن من الحديث في محضر ممثل الإمام وجميع القادة العسكريين. بدأ حسن بشرح وضعية المحاور الواحد تلو الآخر. انتقل سريعًا من الحديث عن قواتنا مستعرضًا المعلومات عن وضعية العراقيين، موضحًا ما ينبغي علينا القيام به وما ينبغي علينا اجتنابه. شرح كل شيء بالتّفصيل. ليتكم كنتم هناك ورأيتم كيف تبدّل جوّ الاجتماع! ملأ السرور قلوب المسؤولين وجميع الحضور. واتخذ القرار ببدء العمليات. قال آية الله الخامنئي: ما أروع القوات التي يمتلكها الحرس! ثم سأل: ماذا تعني ركن «2 و20 دقيقة»؟ أجبت بصوت عالٍ: تستغرق المسافة سيرًا على الأقدام من هذا الخندق إلى ذاك الخندق 20 دقيقة.

من المزايا الهامة التي كان يتمتّع بها حسن باقري قوة الذاكرة، والشجاعة، وقوة القلب. استجمع محفوظات ذاكرته سريعًا وبدون أن تأخذه رهبة حضور أصحاب الرّتب العالية وكبار الضّباط والمسؤولين، قام بتوضيح وضعيات الحرب والحلول وتنظيم القوات بكل ثقة وحزم»[1].

ولمدة من الزمن، بقي قادة الغولف يمازحون حسن باقري وينادونه باسم «آغا 2و20 دقيقة». كان في هذه الجلسة أيضًا شاهدان آخران، أحدهما محسن رفيق دوست:

 

 


[1]-الشهيد داود كريمي.

 

141


133

الركن 2 و 20 دقيقة!

«كان آية الله خامنئي حاضرًا في الاجتماع، كذلك قادة الجيش والحرس. إتّجه حسن باقري نحو الخريطة. كنت جالسًا تحتها وإلى جواري عدد من الإخوة في الجيش الذين ما زلنا نحتفظ بصداقتنا معهم إلى الآن. كان يبلغ عمر بعضهم ضعف عمر حسن. إضافة إلى أن حسن كان يبدو أصغر من سنّه. شرع حسن ببسم الله، وأخذ يشرح وضعية جبهتنا وجبهة العدو. بعدها، عرض الحلول العسكرية بشكل دقيق. منذ الدقائق الأولى راجع الجميع حساباتهم. من حينها، أصبح الإخوة في الجيش يعتبرون حسن صاحب استراتيجية عسكرية ويكنّون له التّقدير والاحترام»[1].

شكّل ذلك الاجتماع أحد منعطفات حياة حسن باقري ولمع فيه نجمه. كذلك وُضعت خطة تحرير سوسنكرد بناءً على معلوماته. في المكان نفسه، تمت الموافقة على أن يقوم اللواء 2 التابع للفرقة 92 المدّرعة برفقة 120 عنصرًا من قوات الحرس المجهزة بالأسلحة المضادة للدبابات بفكّ الحصار عن سوسنكرد وتطهير ضواحيها. تولّت قوات حرب العصابات التابعة للدكتور مصطفى شمران وكذلك قوّات التّعبئة مسؤولية تأمين طريق الإمدادات وحماية الخطوط الخلفية والجانبية. وقُرّرَ موعد العمليات يوم 17/11/1980م عند الساعة الخامسة صباحًا. لكن عند الساعة 12 ليلًا أي ليلة العمليات، حمل المهندس غرضي (محافظ خوزستان)، خبرًا لداوود كريمي مفاده: منع «اللواء 2» من المشاركة في العمليات وفقًا لأوامر رئيس الجمهورية بني صدر. أبلغ الحاج داوود ممثلَ الإمام الخميني آية الله خامنئي الأمر هاتفيًا. فأصدر رسالة

 

 


[1]-الحاج محسن رفيق دوست.

 

142


134

الركن 2 و 20 دقيقة!

تحذيرية على الفور إلى قائد «الفرقة 92»:

«مساء الإثنين الموافق 17/11/1980م الساعة 01:10

سيادة العميد قاسمي، قائد الفرقة 92 المدرعة – الأهواز،

بعد السلام

سمعت أن الجنرال ظهير نجاد اتّصل بكم وأبلغكم عدم مشاركة «اللواء الثاني» غدًا في العمليات بناء على الأوامر. هو يقصد أوامر رئيس الجمهورية (بني صدر). إنني لا أرى مبررًا للعدول عن قرار عصر اليوم. فالعدول عنه يعني تعطيل العمليات أو إفشالها. إمكانيات العدو تفوق قدرة سريتي المشاة [لدينا] وليس بإمكانهما المواجهة منفردتين، وإذا لم يتدخل اللواء، لن يُنجَز الهجوم في واقع الأمر. وإذا بقينا ننتظر حتى الصّباح قدوم الجنرال ظهير نجاد لاتخاذ القرار النهائي، سيفوت الوقت. بإمكان شبابنا في سوسنكرد أن يصمدوا حتى الصباح ليس أكثر، وإذا لم نخفّف من ضربة العدو بعض الشيء في الصباح الباكر، سيهلك الجميع وتسقط المدينة بالكامل. خلاصة القول إنّ رأينا وتشخيصنا يقتضي التّقيّد بالمخطط الذي أعددناه عصرًا، وأن يستعدّ اللواء للتدخل في الصباح. وفي غير هذه الحالة سيتحمّل مسؤولية سقوط سوسنكرد كل شخص يعدل عن هذا القرار.

السيد علي الخامنئي»[1].

لقد فرضت جديّة الرسالة وحزمها التأثير المطلوب. لم يمضِ وقت حتى اتصل الجنرال ظهير نجاد بالعميد قاسمي وأخبره أنه

 

 


[1]- مجموعة مذكرات حسن باقري، ج1.

 

143


135

الركن 2 و 20 دقيقة!

تحدث إلى رئيس الجمهورية وقال إذا لزم الأمر استفيدوا من اللواء 2. ورد ملخّص عمليات تحرير سوسنكرد مكتوبًا في تقرير حسن باقري على النحو التالي:

«في يوم 18/11/1980م هجم العراقيون ثانيًة ودخلوا المدينة. عند السّاعة العاشرة صباحًا دمّر مدافعو الإسلام في المدينة دبابتين عراقيتين على بعد مئة متر من المسجد الجامع (المقر العسكري)، وتواصلت الاشتباكات بالسلاح الأبيض في الجانب الغربي منها. استنفذ الحرس آخر ما لديه من أسلحة وذخائر. وُضع الجرحى في المسجد، وراح الشباب يوصون بعضهم بعضًا. كما أصابت قذيفة هاون المسجد، وتضّرر أحد أركان سقفه وأصب عنصر الدرك الذي كان مستندًا إلى أحد جدرانه. إلى أن حلّت الساعة 01:30 ظهرًا، ومع تقدم القوات الشعبية المسلّحة (الحرس وغيره) ومساندة «اللواء 2»، فُتِحت المدينة وتعانق الإخوة»[1].

في هذا التقرير قدّم حسن باقري تحريرًا مفصلًا عن أوضاع بستان وسوسنكرد منذ بداية الحرب وحتى نتائج عمليات 17 تشرين الثاني. تبعد مدينة سوسنكرد (60 كلم) عن شمال غرب الأهواز. تليها مدينة بستان وتبعد (12 كلم) عن مخفر سوبله الحدودي. كان صدام قد أطلق اسمًا عربيًا على سوسنكرد وسماها خفاجيه. قدّم حسن في بعض تقاريره تحليلًا لأهمية مدينتي سوسنكرد وبستان وذلك وفق رؤيته العلمية والخبيرة بجغرافيا المنطقة، فكتب:

«بناءً لطبيعة محافظة خوزستان وكونها سهلًا مفتوحًا، فإن كمية قليلة من الأمطار تتسبب بالفيضان وتعرقل العبور في

 

 


[1]- المصدر نفسه.

 

144


136

الركن 2 و 20 دقيقة!

هذه الأرض. لذا، فإن القوات العميلة تسعى دائمًا من الناحية الاستراتيجية لتحقيق هدفين:

أ) إغلاق طرق مواصلاتنا والسيطرة عليها.

ب) السيطرة على المناطق المرتفعة قبل حلول فصل الأمطار.

اللافت للإنتباه أن محور (حميدية-سوسنكرد-بستان) يتميز بكلا الخاصيتين؛ أوّلًا، في حال محاصرة الأهواز من قبل القوات العراقية فإن هذه الجادة يمكن أن تكون أفضل مسير لإيصال الإمدادات. ثانيًا، تبيّن المعلومات (الموثّقة) المرصودة خلال الأعوام السّتين الماضية أن هذا المحور لم تغمره المياه خلال هذه العقود الستة مهما بلغت شدة الفيضانات. لذا، فإن العراقيين مهتمون جدًا بإحكام السّيطرة على سوسنكرد ليحتلوا بعدها الحميدية ويحققوا الأهداف المذكورة، إلى جانب إحراز تفوق آخر وهو السيطرة على ثكنة سهل «آزادكان» الواقع على بعد (10 كلم) شمال الحميدية. وإذا تمكنوا من تحقيق هذه الأهداف، سيكون إخراج العدو صعبًا جدًا. احتلّ الجيش العراقي بستان وسوسنكرد مرة في الثاني من تشرين الأول من هذا العام، كما عيّن رئيسَ بلدية ومحافظًا لهما من الطابور الخامس[1]، وتقدم كذلك لمسافة (2 كلم) نحو الحميدية. لكن وبفعل الهجوم الليلي الذي نفذه الإخوة في الحرس دُمّر العديد من دباباتهم وآلياتهم. وبعون الله تعالى تحرّرت سوسنكرد وتراجع العدو حتى الحدود

 

 


[1]- مصطلح متداول في أدبيات العلوم السياسيّة والاجتماعيّة ؛أول استخدام له كان في اسبانيا عام 1936. ويقصد به الجماعات أو الأفراد الذين يعملون لصالح جهة العدو بطريقة سريّة؛ ويستخدم في مفاهيم عديدة في الحروب.

 

146


137

الركن 2 و 20 دقيقة!

وطُهَّرت «بستان» أيضًا من دنس هؤلاء الأعداء. مع تراجع القوات العراقية استعادت هويزه (الواقعة على بعد 10 كلم من جنوب غرب سوسنكرد) وضعها الطبيعي. طيلة 25 يومًا وهي المدّة الفاصلة بين الاحتلال الأول والحصار الثاني تم تذكير الجيش والمسؤولين مرات عدّة أن جادّة سوسنكرد مهمة جدًا ولا بد من اتّخاذ تدبيرٍ صارمٍ للحفاظ عليها»[1].

بعد انتهاء عمليات سوسنكرد أوجد حسن مكانًا لنفسه في غرفة الحرب. كان المجلس الأعلى للدفاع قد تولّى مسؤولية غرفة الحرب، بينما اكتفى الحرس حتى ذلك اليوم بإرسال التقارير إلى هناك. أمّا حسن فقد تمكّن من إظهار ريادته وقوته في مجال المعلومات. من كان يصدّق أن طالبًا جامعيًا وصحفيًا شابًا لم يكن يمتلك سوى خبرة بضعة أشهر في الجندية، يصل بعد حضوره لمدة ثلاثة أشهر في ساحات الحرب إلى مرتبة عالية جدًا وصار المسؤولون العسكريون الكبار في غرفة الحرب وممثل الإمام في المجلس الأعلى للدفاع وكافّة أعضائه من ذوي الرّتب العالية ينظرون إليه كمن ينظر إلى خبيرٍ بأدق المعلومات ومتمكّن من عرض الحلول. أما في طهران، فلا خبر عند أهله عن عمله في الجبهة ولم يروه لثلاثة أشهر:

«كان حميد معينيان قد ذهب إلى طهران وتوجّه إلى منزل حسن باقري. يقول: سألني والد حسن: عفوًا، أنت تعمل مع حسن؟ أجبت: نعم، أنا معاونه. قال: معاون؟ وماذا يفعل حسن ليكون له معاون؟ قلت: لمَ تسأل؟ قال: كلما سألت حسن ماذا تفعل في الحرس؟ أجاب إنني أكنس الأرض. بعدها سألني: وأنت

 

 


[1]- مجموعة مذكرات حسن باقري ج1.

 

146


138

الركن 2 و 20 دقيقة!

ماذا تفعل؟ أجبته إنّه صادق، هو يكنس الأرض وأنا أمسحها. وضحكنا كثيرًا»[1].

كان قادة المحاور يتوجهون إلى مقرّ الغولف للمشاركة في اجتماعات أيام الاثنين، كانوا ينتظرون بشوق سماع كلام حسن وتحليله، و يدلون بآرائهم حول مجريات عملياتهم. كان حسن يمتلك قدرة على استنباط معلومات شاملة وعمليّة من الأخبار. كان الحاضرون في هذه الاجتماعات يشهدون على نشاطه وحيويته الدائمين:

«كان سلوكه بنّاءً ومفعمًا بالطاقة الإيجابية. فمن المحال أن يلتقي به أحد ولا ينهل من طاقته الإيجابية، في الاجتماع، أثناء السير، داخل السيارة، لم يكن يُرَ هادئًا. أذكر أننا كنا برفقة حسن داخل سيارة لاندكروزر، كان نائمًا إلى جواري. كان رأسه يتحرّك من هذه الجهة إلى تلك الجهة طوال طريقنا المتعرّج على التلال. حتى نومه لم يكن هادئًا. كان رأسه يترنّح إلى هنا وهناك، إلى الأعلى وإلى الأسفل. بقيت [متحيرًا] كيف ينام بهذه الوضعية!»[2].

 

 

 


[1]- علي ناصري.

[2]- حوار أجراه الكاتب مع علي رضا عندليب، قائد الحرس في منطقة سوسنكرد ومن ثم دزفول خلال الأشهر الأولى من الحرب. عين المقاتل عندليب في العام 1982م معاونًا لحسن باقري في مقر "نصر".

 

147


139

العمليات الفاشلة

العمليات الفاشلة
 

في يوم 5/1/1981م نفّذت قوات الجيش عمليات «نصر». تقرّر في خطة العمليات أن تبدأ الهجوم ثلاثة ألوية تابعة لفرقة «16 قزوين» من ثلاثة محاور؛ جنوب جادة حميديه - سوسنكرد، شمال كرخه كور وجنوب الهويزه، وأن تصل إلى حدود طلائية مرورًا بجفير بعد سقوط العدو في شمال وجنوب كرخه كور، من ناحية أخرى كان هناك تقدير أن يتزامن ذلك مع تقدّم اللواء التّابع «لفرقة 92 أهواز» المدّرعة في منطقة فارسيات إلى عمق 3 كيلومتر من جادة أهواز-خرمشهر بعد عبور كارون ويهدّد الجادة تهديدًا مباشرًا. إضافة إلى ذلك، كان قد تمّ التّخطيط لعمليات أخرى باسم «توكل» تنطلق في اليوم العاشر من كانون الثاني؛ في حال نجاح عمليات «نصر» فتصل القوات إلى خرمشهر من جهة ماهشهر وآبادان، وفي النّهاية يُجبر العدو على الانسحاب إلى الحدود الدّولية. لكن، فجأةً تبددّت كلُّ الآمال والبانوراما الجميلة وفشلت كلتا العمليتين في مراحلهما الأولى.

بدأت العمليات عند الساعة 10 صباحًا يوم الاثنين (5/1/1981م) بقصف تمهيدي لمدفعية الجيش. ثم أخذت الدبابات بالتقدم. فوجئ العدو وتلقى هزيمة نكراء بخسارته لواءً مدرعًا وكتيبتي مشاة، أُسر

 

149

 

 


140

العمليات الفاشلة

800 شخصٍ منهم ومن بينهم عددٌ لا يستهان به من الضباط. في اليوم التالي، شنّ العدو هجومًا مضادًا نتج عنه تراجع قواتنا وهزيمتها. أعدّ حسن باقري بعد يوم من فشل عمليات «نصر» أي في السّابع من كانون الثاني، تقريرًا مسهبًا إلى مجلس الدفاع الأعلى بناءً على ملاحظات ومعلومات دقيقة موثّقة، وعدّد فيه أسباب فشل العمليات. ومن جملتها أنه في الوقت الذي كان العدوّ يخطط مساءً ويعدّ للهجوم المضاد، لم تُقدِم قواتنا على أي خطوة، حتى أنّه لم يتم إخلاء الدبابات والمدافع السليمة من المنطقة. فكتب:

«لو كان خطّ الدفاع خطًا قويًا، لما نجح العدو في التّقدم. إن السبب الرئيسي للارتباك هو غياب قائد مؤثر في الخطّ الأمامي وفي ميدان المعركة الأساسي ليشخّص ضرورة تراجع القوات في هذه اللحظة أو عدمها»[1].

كتب في قسم من هذا التقرير بخصوص نقص التخطيط في العمليات:

«لم تُكتب الخطة بتفاصيلها الكاملة، ففي الليلة الأولى لمباغتة القوات العراقية، لم يكن أحد يدري ماهي مهمة اليوم التالي! في حين أن جميع هذه المسائل ينبغي توقعها وأخذها بالحسبان مسبقًا بشكل كامل»[2].

 كذلك ذكّر بالضعف الهندسي:

«في الخطة الشاملة غاب دور الهندسة ولم تقم بدورها كما غاب عن الأذهان التفكير بحفر المتاريس وتمركز القوات. لو أن

 

 


[1]- مجموعة مذكرات حسن باقري، ج1.

[2]- المصدر نفسه.

 

150


141

العمليات الفاشلة

القوات حفرت المتاريس في الليلة الأولى، لتمكّنت من الدفاع في اليوم التالي ولأصبح تحقيق النصر ميسّرًا»[1].

غادر حسن باقري إلى سوسنكرد في السادس من كانون الثاني 1981. التفّ العدو حول الهويزه، وأخذ يتقدم بإتجاه سوسنكرد. كان يرافقه مهدي زين الدين مسؤول معلومات عمليات سوسنكرد:

«كنا نفكر في الدّفاع عن سوسنكرد. جاء الأخ حسن وذهبنا سويًا. كانت قرابة مئة دبابة للعدو تتقدم. وقف دون أن يخشى كل تلك الدبابات وقال لي لا بدّ من اتخاذ خطوة ما. رغبت حينها في أن نحمل أسلحتنا ونتقدم. لكنه نهانا عن ذلك وقال: لا بدّ أن نقوم بعمل مدروس وأن نجد حلًا ونحمي سوسنكرد. كان بُعد النظر من خصائص ومميزات حسن. كان يتحلّى بضبط النّفس حتى في أسوأ الظروف»[2].

 في تلك الأيام العصيبة، ذهب حسن إلى العميد سيروس لطفي، قائد «فرقة 16 قزوين» لعلّه يقدّم المساعدة. أدخل العميد لطفي الهندسة الدفاعية أو حرب المياه بعد فشل عمليات «نصر» وتراجع القوات. إذ يمكن للمياه في بعض المناطق أن تُعرقل تقدّم العدو. لكن هذه الحرب كما الحرب العسكرية تتطلب أيضًا فنونًا خاصّة:

«سحبنا جميع القوّات إلى الخلف ما أمكننا ذلك، استولى العراقيون على «رأس جسر»[3] وباتوا مشرفين على المكان. رأيت

 

 


[1]   - المصدر نفسه.

[2]   - الشهيد مهدي زين الدين.

[3]- مصطلح في التّكتيكات العسكرية. والمقصود منه قضم مواطئ قدم والاستقرار فيها للانطلاق لمهام تالية..

 

151


142

العمليات الفاشلة

أن دباباتنا وناقلات الجند خاصّتنا قليلة، قررنا القيام بعمل يحدّ من تقدم العدو بشكل أكثر. حوّلنا مجرى مياه نهر كرخه باتجاه العدو عبر المضخات الإنجليزية الكبيرة. جاء حسن باقري وقال: لقد أتعبتم أنفسكم كثيرًا، كلما أطلقتم المياه، تدفقت إلى مكان آخر.

بعد ذلك، تم ضخّ مياه كارون داخل القناة. توصّلنا إلى مخطط يمكن من خلاله ضخّ المياه من كارون وتدفّقها أسفل مواقع تمركز قوات العدو، وبالتّالي نتمكن من إدّخار عدد أكبر من القوات وهذا يعدّ أحد أصول الحرب. كان حسن باقري يقول: حيثما تتجمع الطيور المائية، فهناك خبرٌ ما.

تم تنفيذ المخطّط وفق معلومات حسن باقري. في الصباح، رأينا أن دبابات العدو جميعها عالقة بالمياه ولاذ الجنود بالفرار. قمنا بتكبيل العدو وبعدها أحرزنا تفوقًا»[1].

حتى ذلك اليوم، لم يكن هناك أيّ ارتباط ميداني بين «الفرقة 9» المدرعة التابعة للقوات العراقية المتواجدة في محور تشزابة-بستان-سوسنكرد وبين «الفرقة 5» المؤلّلة والمتمركزة في محور طلائية-جفير-كرخه كور. بعد عمليات «نصر» قرأ حسن باقري أفكار العدو وقدّر بكل ثقة وسط جمع من قادة الجيش والحرس بأنّ الجيش العراقي سيصل في المدى المنظور بين جفير وبستان من خلال نصب جسور على أنهار كرخه كور نيسان وسابلة. وذلك لحماية جناحي قواته من خطر هجوم مجاهدي الإسلام، كذلك لتحقيق الدّعم

 

 


[1]- اللواء سيروس لطفي، كان قائد الفرقة "16 قزوين" المدرعة وذلك في بداية الحرب. وهو من مواليد العام 1935م في محلّة صوفيان تبريز، والتحق بكلية الضباط في العام 1955م.

 

152


143

العمليات الفاشلة

اللّازم من داخل أراضينا. هذا التقدير تحقّق في أقلّ من أسبوع ما أذهل الجميع على حد قول غلام علي رشيد:

«كان هذا التقدير مفاجئًا حتى بالنسبة إلينا، فهو لم يخبرنا عنه من قبل. لم يمض أسبوع حتى نفّذ العدو عملية الدمج ونصب جسورًا عسكرية متعددة على أنهار كرجه كور، نيسان ونهر سابلة. تحقّقت كل تقديرات الأخ باقري وأثنى الجميع على نبوغه العسكري»[1].

كان غلام علي رشيد حديث الالتحاق بجمع قادة الغولف. شهدت تلك الفترة تغيرات في أركان العمليات الجنوبية؛ غادر داود كريمي إلى الغرب، انتقل رحيم صفوي من دارخوين وجاء إلى الغولف وتولى قيادة العمليات الجنوبية، كذلك انتقل غلام علي رشيد من دزفول إلى الغولف وأصبح نائب رحيم صفوي. استمر حسن باقري في إعداد معلومات العمليات. كان يتشاور في أركان العمليات مع رحيم صفوي أكثر من أي شخص آخر:

«كان حسن باقري يرافقني قبل الجميع في جولات المحاور المختلفة. حسن إنسان مؤمن، شجاع، حكيم، ملتزم بالأحكام والمسائل الشرعية. أمّا فيما يخصّ حدة الذكاء، فكان يتمتع بنبوغ لا مثيل له. كان نشطًا كثيرًا وآخر من يطفئ مصباح غرفته في الغولف. في الصباح، كنت أوقظه عادة، لأني كنت أنام باكرًا.

 

 


[1]- اللواء غلام علي رشيد، نائب قائد أركان العمليات الجنوبية في بداية الحرب، ومؤسس قوات المشاة التابعة للحرس في نهاية العام 1982.

 

153


144

العمليات الفاشلة

بينما يبقى هو مستيقظًا لوقت متأخر من الليل يطالع ويدوّن»[1].

كذلك يلحظ السيد رشيد قدراته الذهنية النشطة في أول تعارف:

«عندما كان حسن باقري يحضر في جمع ما، لعلّ رؤيته للوهلة الأولى؛ ما لم ينطق بكلمة، ويشرح المسائل ببيان واضح وبجاذبية لافتة؛ لا تجعلنا نصدّق أنه يمتلك هذا القدر من الفهم. عندما تدخل غرفته تراه هو وقواته منشغلين بشدّة في عملهم. يتوقّع المرء أن يجد أمامه تنظيمًا إداريًا واسعًا، لكن الأمر ليس كذلك. كان الأخ حسن يعود من محاور العمليات في أكثر الأحيان معفرًا بالتراب وفي جعبته معلومات مهمّة»[2].

بعد مدّة من الزّمن، اجتمع كلٌّ من السيد رحيم، السيد رشيد وحسن باقري معًا فغدوا صانعي التحولات الهامة للحرب.

 

 

 


[1]- مقابلة أجراها الكاتب مع اللواء رحيم صفوي. بعد توليه قيادات ومسؤوليات مختلفة خلال فترة الحرب، عُيّنَ منذ العام 1997 قائدًا عامًا للحرس الثوري ولمدة عشرة أعوام. ثم عُيّن في منصب "المستشار العسكري الأعلى" أو الأول للقائد العام للقوات أي لقائد الثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي.

[2]- اللواء غلام علي رشيد.

 

154


145

الخروج من المأزق

الخروج من المأزق

 

بدأ العام 1981م وقد أرخت راية اليأس بظلالها على جبهتنا بفعل الهزائم والإخفاقات. وتمثّل الجيش العراقي في ذهن بني صدر القائد العام للقوات حينها، وقادة الجيش، كشبحٍ لا يهزم. فالحرب كانت قد وصلت ميدانيًا إلى مأزق وطريق مسدود. حينها طرح حسن باقري ضرورة تغيير أسلوب القتال. في أوائل العام 1981، تداول حسن باقري هذا الموضوع بدايةً مع القادة في أحد الاجتماعات. وتلخّص جملته القصيرة المدوّنة في دفتر مذكراته تلك الجلسة:

«يجب أن نمتلك الجرأة ونعترف بأن هذا النوع من القتال غير مجدٍ، لا بد وأن تتغير استراتيجية الحرب»[1].

في عيد النوروز لذلك العام توجّه أغلب مسؤولي البلد إلى الجبهة الجنوبية. رأى حسن أن الفرصة مواتية؛ طرح أمام كل مسؤول التقاه ضرورة تغيير أسلوب القتال والحرب، وفي حالة عدم مشاركة القوات الشعبية بالحرب فلن يُحَلّ هذا المأزق. ظهر الشّكّ والتّردد لدى المسؤولين، فحينها لم تكن الأجواء مهيأة بعد لهذا العمل حتى

 


[1]- المفكرة اليومية- المذكرات اليومية للشهيد حسن باقري، تدوين أحمد دهقان، انتشارات "الشهيد حسن باقري".

 

155


146

الخروج من المأزق

لدى القوى الثوريّة وأتباع نهج الإمام:

«نستطيع القول بقوة أن أحدًا لم يجرؤ على طرح هكذا استراتيجية في تلك الآونة. فالعدو كان قد احتل أكثر من 15000 كلم2 من مساحة المنطقة. وصارت المدن الحدودية تحت مرمى نيران مدفعيته: شنّ هجومًا على مدينة الأهواز، وقصف دزفول بالصّواريخ كذلك، والمدن الرئيسية قصفها بالطائرات، أضف إلى ذلك وجود أزمات داخلية. إذًا تتطلب هكذا ظروف جرأة بالغة ليأتي شخص ما ويخلط الأمور ببعضها. كان حسن يتحدّث بثقة حول تغيير الاستراتيجية؛ كان الأمر يتطلّب حامل راية ينهض بشجاعة ويقول ذاك الكلام ولا يقدر على ذلك سوى حسن باقري»[1].

في تلك الأثناء، رحّب آية الله الخامنئي بأصل [فكرة] تغيير استراتيجية الحرب وطلب برنامجًا قصير الأمد وآخر طويل الأمد. طرح آية الله الخامنئي الموضوع في المجلس الأعلى للدفاع بصفة ممثل الإمام فيه وطرحه كذلك مع الإمام، قال الإمام: «نفذوا العمليات، لكن في نطاق محدود». كانت الخطوة الأولى لتنفيذ العمليات المحدودة. أضحت الحركة الثوريًة في تغيير استراتيجية الحرب سببًا في نجاح سلسلة عمليات محدودة وصدّق الجميع أنه يمكن محاربة العدو:

«كانت العمليات المحدودة تنفّذ وفق معلومات قوات استطلاع العمليات وجميع من في الميدان، لكنّها بقيادة رجل مطّلع وشفّاف يعي ما ينبغي فعله، وعلى حدّ قوله لا يرتبك أو تختلط عليه الأمور، ويدرك أن التّخبط يرهق القوات لا  كثرة الأعباء. تشكّلت العمليات المحدودة

 

 


[1]- فتح الله جعفري.

 

156


147

الخروج من المأزق

بواسطة قادة المحاور؛ كانت مهمّة عبد المحمد رئوفي التّخطيط لها في غرب دزفول وشاوريه، مجيد بقايي ومرتضى صفاري لتنفيذ العمليات في شوش، علي هاشمي لإنجاز خطة العمليات في الجبهة، عزيز جعفري، اسحاق عزيزي، اسماعيل دقايقي، مسعود صفايي مقدم وآخرون لتنفيذ العمليات في سوسنكرد. كانت كل أفكار وخطط وبرامج العمليات تصدر من الغولف أيّ من قيادة حسن باقري، السيد رشيد، والسيد رحيم. فحيثما تطلّب الأمر تنفيذ عمليات محدودة كان هؤلاء الثلاثة حاضرين في الميدان»[1].

في ربيع وصيف العام 1981م، أخرجت العمليات المحدودة الحربَ من المأزق. يقال أن الأشخاص النّاجحين لا يعرفون المآزق والطرق المسدودة، فهم إمّا يكتشفون الحلول، أو يصنعونها. حسن باقري يمكن اعتباره من زمرة هؤلاء الأشخاص:

«على حد وصف السيد محسن رضايي: حسن باقري رصاصة ملتهبة لا تستطيع أن تمسكها بيدك؛ كان مفعمًا بالطاقة والحيوية. ربما لذلك السبب كان السيد محسن يقول إن حسن باقري مفتّت المآزق. يقول سقراط: كانت أمي تعمل قابلة، وأنا كذلك، كان ثمرة عملها توليد الأطفال، وأنا أوّلد الأفكار. أعتقد أن حسن كان سقراطيًا بنحوٍ ما»[2].

في غرب شوش، نفّذت أولى العمليات المحدودة في يوم 14\4\1981م، وقد حملت اسم «الإمام المهدي». في هذه العمليات نجحت قوات الحرس والتعبئة المستقرة في جبهة شوش في السيطرة

 

 


[1]- المصدر السابق.

[2]- علي رضا عندليب.

 

157


148

الخروج من المأزق

على المناطق المحددة وذلك بمشاركة فصيلين من وحدات «فرقة 21» حمزة. كانت المحصّلة: مقتل 100 من عناصر الأعداء وأسر 24 شخصًا. بالإضافة إلى احتراق 31 دبابة وحاملة جند وطائرة مروحيّة، وغنيمة أسلحة وذخائر كثيرة. كان حسن باقري متواجدًا في جبهة شوش حين [انطلاق] العمليات:

«أحضر مرتضى صفاري مخططًا للعمليات من جبهة شوش ليتمّ تنفيذها بمنطقة أنكوش. قرأ حسن باقري المخطط بدقة وأجرى عليه بعض التّعديلات. أثناء العمليات ذهبنا إلى جبهة شوش برفقة حسن باقري. بينما كنا نتوجه إلى ناحية نهر كرخه، انفجرت قذيفة هاون بالقرب منا. وتصاعد الغبار والتراب والدّخان، انتابني شعور بالقلق على حياة حسن. عندما هدأ الغبار، رأيته سالمًا بحمد الله»[1].

دفعت التجربة الأولى للعمليات المحدودة قادة الجيش للتصديق أن الحرس بإمكانه أيضًا التخطيط للعمليات وتنفيذها. وشعروا أنه بمساعدة القوات الشعبية يمكن تنفيذ العمليات وتحقيق النصر، وأن بإمكان الحرس والقوات الشعبية أن يكونا سندًا للجيش. والأهم من كل ذلك، أن هذا النّوع من العمليات يوفر أرضيّة مناسبة للعمليات المشتركة بين الحرس والجيش. انطلقت العمليات التالية في 15\5\1981م بهدف السيطرة على تلال «مدن» الواقعة في شمال آبادان. فالعدو كان يرصد مجاهدينا ويتربص بهم من أعلى هذه التلال. من خلال التخطيط والتعاون المسبق، نجحت قوات الجيش والتعبئة والحرس، في الساعات الأولى للعمليات في

 

 


[1]- اللواء غلام علي رشيد.

 

158


149

الخروج من المأزق

تحرير التلال، كثّف العدو هجماته وأعاد احتلالها مجددًا، لكن قواتنا أعادت الكرّة ودحرت العدو وبسطت سيطرتها على التلال. في هذه العمليات تم تدمير عشرة دبابات وناقلات جند، واغتنام ثلاث ناقلات جند وعدد كبير من الأسلحة الخفيفة ونصف الثقيلة (المتوسطة)، كما أسرت قواتنا 70 جنديًا. في 15 أيار عام 1981، توجّه القائد مسعود حجازي بإحدى المجموعات المؤلفة من 56 شخصًا من الحرس الثوري إلى جبهة «مدن»:

«كان حسن باقري يصدر أوامر العمليات من مقرّ العمليات الجنوبي (الغولف). بعد عمليات «مدن»، اندحر البعثيون من «ذو الفقارية»؛ حيث كانوا قد حققوا هناك انتشارًا واسعًا، كان هذا الانتشار هلاليّ الشّكل يلتف من جادة آبادان - ماهشهر ويعود ثانية ويتّصل بالجادة. بعد هذه العمليات، أخلى العراقيون مناطق واسعة واحتفظوا فقط بمنطقة تقع جنوب شرق جادة ماهشهر بمساحة 5 كيلومترات. ربما كان هدف مقرّ الغولف من هذه الحملة اختبار عمليات ثامن الأئمة الكبرى. كان الهدف الأول الواضح للجميع منذ بداية الحرب هو وجوب استعادة أراضينا من قبضة العدو. لكن هذا الهدف كان بحاجة لاستراتيجية وقبل أي شيء كان بحاجة إلى ذهن وقّاد. أستطيع القول بجرأة أن أمثال حسن لم يكونوا كثيرين»[1].

في أحد التقارير قدّم حسن باقري دراسة حول عمليات «مدن»، كتب في مقدّمتها:

 

 


[1]- حوار أجراه الكاتب مع السيد مسعود حجازي، وهو من مواليد العام 1962 مدينة آبادان.

 

159


150

الخروج من المأزق

«تخلّلت العمليات مشاكل في مراحل مختلفة في التخطيط والتنفيذ، ومن خلال دراستها بشكل دقيق يمكن اكتساب تجارب جديدة فتقلّ نقاط ضعفها وتزداد نقاط قوتها»[1].

بعدها عدّد حسن باقري نقاط الضعف بالتفصيل، وخصص قسمًا من التقرير لعرض نقاط قوّة المخطّط. في التكملة، طرح تسعة مقترحات للتحركات المستقبلية؛ وهذا يشير إلى دقة نظره وإشرافه على الميدان. هذا التّمكن والتّحكم نشأ من مجموع نشاط وعمل «معلومات العمليات» التي كان قد شكّلها واستخدمها في رصد العدو في كلّ الجبهات. كان مسؤولو معلومات العمليات يرسلون إلى الغولف تقارير المناطق الموكلة إليهم بشكل مستمر. ويجتمع بهم حسن باقري أسبوعيًا في غرفة الحرب ويقدم الحلول. كان على تواصل مباشر بهم جميعًا، ويتلقى المعلومات من المسؤولين، كذلك يتابع قواتهم عن قرب:

«كان لدى حسن باقري منظار ليلي (20×80) يسلّمه لكلّ الجبهات بالتناوب. كنا في محور قرية «مرعى» الواقعة في شمال كرخه كور ننتظر دورنا، ناداني عزيز انصاري أحد أفراد مجموعتنا: علي! متى يسلمنا الأخ العزيز باقري المنظار؟ أجبت: لم يحن دورنا بعد. قال: قل له على لساني يا سيد باقري سلّمني هذا المنظار وأنا أخبرك عن عدد العراقيين ذوي الشوارب وحليقيها.

أوصلت رسالة الأخ عزيز أنصاري إلى حسن باقري فقال: ما جدوى المعلومات حول عدد العراقيين ذوي الشوارب والحلقى وبماذا تنفعنا! بعدها سلّمني المنظار وقال: قل له أن يحصي لنا

 

 


[1] -مجموعة مذكرات حسن باقري، ج2.

 

160


151

الخروج من المأزق

عدد ذوي الشوارب أيضًا»[1].

كان يدير خطوط الاستطلاع والمحاور ويقدّم لقواته خارطة ومخطّطًا يمتازان بدقة عالية؛ فتجد القوات تطابقًا ما بين المخطط والجبهة. وظلّ يعلّم القوات في نطاق عمله؛ فيوجههم إلى كيفية الاستطلاع وأماكنه وماذا يرصدون. كان يدقّق في التّفاصيل الصّغيرة للتّقارير:

«في إحدى المرات قدّمتُ لحسن تقريرًا يفيد بأن قواتنا قد دمّرت مستودع الذخيرة في محور العدو وبقي يحترق لساعات. سألني: ما الذي كتبتَه؟ وهل يضع العدو مستودع الذخيرة في الخطوط الأمامية!!

احترت بماذا أجيب؟ قلت: أنت محق. قال: أنت تعد التقرير رفعًا للعتب وحسب! لم أمتلك جوابًا. فمع حسن باقري علينا أن نتحدّث بدقّة وبشكل مدروس وينبغي أن ندعم أقوالنا بالأدلة. فهو لم يكن يقبل الأمور ببساطة»[2].

في العمليات الأولية؛ كان حسن باقري يولي اهتمامًا لافتًا بالوثائق دون غيرها من الغنائم التي كانت تقع بأيدينا:

«في الوقت الذي لم يكن أحد يهتمّ بالمستندات والوثائق العراقية، وكانت تُلقى على الأرض كأوراق مهملة، طرح حسن باقري أهميتها للمرة الأولى. طلب من الجميع أنّه إذا وقعت في أيدينا وثائق أو مستندات ينبغي إرسالها مباشرة إلى مقرّ أركان

 

 


[1]- علي ناصري.

[2]- فتح الله جعفري.

 

161


152

الخروج من المأزق

العمليات الجنوبي. سرعان ما جنّد حسن بضعة أشخاص لترجمة الوثائق، وشكّل قسمًا للتّرجمة في قلب استخبارات العمليات، كذلك اهتم كثيرًا بالتّنصت. منذ البداية قال للإخوة: إذا استطعتم شغّلوا جهاز لاسلكي صغير واسمعوا ماذا يقول العراقيون»[1].

كذلك صار يدخل في حوارات مع الأسرى العراقيين من خلال أسلوبه الخاص الذي ربما كان حصيلة خبرته الصحفية، ونجح في تحصيل معلومات ساعدت كثيرًا في معرفة طبيعة الجيش العراقي:

«كان يسأل الضباط عن طريقة تعاطيهم مع الرتباء، ويسأل عن التّفاوت بين أصحاب الدرجتين (الضابط والرّتيب) في حصّة الغذاء. كذلك يسأل الجنود عن حصص الغذاء، الفاكهة، الحلوى، السجائر و...عن طريقة معاملة الضباط لهم. وتطرّق في أسئلة عن الإجازات: كم عدد أيام إجازات القادة وعدد أيام إجازات الرتباء؟ متى يذهبون لقضاء الإجازات؟ من أول الشهر، في منتصف الشهر أم في آخره؟ هل هناك نظام معين للإجازات أم لا؟. كان يسأل ذوي الرتب عن طبيعة تفاوتهم عن الجنود؟ كيف يتم مكافأتهم؟ من خلال الإجازات؟ أم من خلال الأموال؟ أو من خلال الرّتبة والوسام؟ كان يسأل عن تفاصيل كل ما ذكرنا»[2].

بالإضافة إلى المعلومات العامة حول العدو، فتح حسن باقري ملفًا للاستخبارات باسم قادة العراق، بدءًا من صدام إلى وزير دفاعه عدنان خير الله، رئيس أركان الجيش عبد الجبار خليل شنشل، رئيس الاستخبارات عبد الجواد ذنون، وانتهاءً بقادة الفيالق،

 

 


[1] -أحمد غلام بور.

[2] -فتح الله جعفري.

 

162


153

الخروج من المأزق

والفرق، والألوية، والكتائب، والسرايا، والفصائل التابعة للجيش العراقي. كان يستمع بدقة إلى خطابات صدام وقادة الرتب العليا في الجيش البعثي ويتتبّع المعلومات والأهداف الهامة للعدو من بين طيات الكلمات والخطابات ويستفيد من جميع الإمكانات المتاحة. كان يحصل على معلومات عبر الصور الجوية، التنصت، الوثائق، محاورة الأسرى والعناصر المتغلغلة في عمق الوحدات البعثيّة:

«لم يخفَ شيءٌ من أمر الجيش العراقي عن عينه الثاقبة. كان مطّلعًا على كيفية نظام انتشاره في المنطقة وأماكن انتشار الفيالق، أين تتمركز كل فرقة، المسافات الفاصلة بين محاورهم، أين تستقر الألوية. لم يكن أحدٌ يمتلك معرفته بمدّرعات الجيش العراقي. كان ملمًّا بأنواع الدبابات، أعداد وأنواع المدافع، مضادات الطائرات، الأسلحة الخفيفة ومقدار الذخائر الخاص بالكتيبة. وهكذا، حصّل معرفة شاملة معلوماتيًّا بالجيش العراقي من الناحية العسكرية والسياسية»[1].

ومن أجل إحكام السيطرة على العدو، تعلّم حسن باقري اللغة العربية سريعًا. في أواخر العام 1980 عرّف حميد معينيان مؤيد رضواني إلى حسن باقري. بدأ عمله في الغولف في ترجمة الوثائق واستفاد منه في تعلّم اللغة العربية:

«كان يقول: أرغب كثيرًا في تعلّم اللغة العربية، فأنا كالسمك في الماء! سألت: ماذا تعني؟ أجاب: ماذا يقول السمك في الماء؟ قلت: وهل يقول السمك شيئًا في الماء!؟ قال: إذا نظرت إلى فم

 

 


[1]- المصدر نفسه.

 

 

163


154

الخروج من المأزق

السمك في الماء ستجده يقول (آب) (آب) (آب)[1]، قول (آب) هذا دليل على احتياجه الدائم إليه، وأنا أيضًا أحتاج إلى تعلّم اللغة العربية بمقدار حاجة السمك للماء.

 

اجتهد كثيرًا حتّى تعلّم اللغة العربية وصار يحاور الأسرى بسهولة»[2].

مع بداية العمليات المحدودة، توجّهت إلى الجبهة سرايا من القوات الشعبية والحرس من مختلف المدن، للمشاركة في العمليات التي كانت تخطّط وتنفذ بواسطة مقر العمليات الجنوبي. في البداية، لم تتمكن هذه العمليات من دفع جميع عناصر الجيش وبني صدر -بصفته القائد العام للقوات- إلى الميدان، لكن القوات الثورية في الجيش شاركت تطوّعًا في هذه الأعمال وأحرزت نجاحات طيبة. وشيئًا فشيئًا أصبح الجيش وحتى بني صدر (القائد العام للقوات) يعوّل على معلومات حسن باقري. فأي منطقة رغب في معرفة مستجداتها، كان حسن باقري يقدّم له تقريرًا دقيقًا عنها. كان موضع ثقة الجميع لأن قوله كان صحيحًا ودقيقًا، ويُشهد صحته في الميدان. فإذا ذكر في تقريره أن مدفعية العدو تقصف من القرية الأهوازية الفلانية، أثبت مصداقية قوله الأسرى العراقيون عندما يقعون في الأسر. لقد أوجدت «العمليات المحدودة» الأمل لدى الجيش.

في 21 أيار 1981م، انطلقت ثلاث عمليات على ثلاثة محاور بنحو متزامن تحت اسم «عمليات الإمام علي (عليه السلام)» و«الإمام المهدي(عجل الله فرجه)»،

 

 


[1]- آب باللغة الفارسية تعني الماء؛ أي أن صوت قرقرة السمك يشبه التلفظ بكلمة آب الفارسية.

[2]- مؤيد رضواني، أحد أفراد قوات حسن باقري، كان يعمل في ترجمة الوثائق العراقية. من مواليد العام 1963م  الكاظمية العراق.

 

165


155

الخروج من المأزق

وفقًا لأفكارها البناءة، الأمر الذي لن يدع العدو يصمد بسهولة أمام هذه القوات»[1].

في الواقع، كان الجيش العراقي والقوى الغربية والشرقية المدافعة عن صدام مطّلعين بشكل كامل على البنية التحتية والقواعد العسكرية لجيشنا، أما ما فاجأ العدو فهو ابتكار الأساليب الحديثة في الحرب، وهو ما شخّص ضرورته حسن باقري منذ بداية الحرب وأتبعها في التخطيط الأوّلي للعمليات المحدودة:

«ربما غاب عن الكثيرين ممن كانوا يعملون في ذلك المحيط، وممن وجّههم حسن باقري نحو العمليات المحدودة. ولكن بأيدينا وثيقة ذات أهمية بالغة خُطّت بقلمه. عمله في استخراج المعلومات، وتخطيط العمليات، وأيضًا كتابة التقارير. وهي اليوم إحدى الذّخائر الوطنية الخالدة في تاريخ البلد»[2].

 

 

 

 

 

 

 


[1]- المصدر نفسه.

[2]- فتح الله جعفري.

 

166


156

الوفود إلى ساحة القيادة

الوفود إلى ساحة القيادة

 

نتجت عن مجاراة أبي الحسن بني صدر للمنافقين حالةٌ من الاضطراب والفوضى في البلد، وصلت ذُروتها في حزيران 1981. ومع تفاقم الأوضاع، استلم الإمام الخميني { زمام الأمور وعزل بني صدر من القيادة العامّة للقوّات المسلّحة في خطوة أولى، وذلك منتصف ليل الحادي عشر من حزيران من العام نفسه. في وقتها، كان رحيم صفوي، وحسن باقري ورشيد يمهدّون لعمليات باسم الإمام الحسين(عليه السلام) التي تقرّر تنفيذها عند الثّانية والنصف من فجر ذلك اليوم. بعد صدور قرار عزل بني صدر غيّروا اسم العمليات فصارت «الخميني روح الله، القائد العام للقوات». وكان هدفها التّقدم (3كلم) في الحدّ الفاصل بين نهر كارون وطريق أهواز-آبادان في منطقة دارخوين؛ فبعد سقوط خرمشهر بيد العدو، أكمل جيش صدام غزوه باتجاه شمال آبادان، عَبَرَ نهر كارون واستولى على طّريق آبادان -أهواز ومن ثمّ طريق آبادان- ماهشهر، وحاصر مدينة آبادان.

كان يحتمل أن تهيّئ هذه العمليات الأرضيّة لكسر حصار آبادان. وقد شارك فيها 350 عنصرًا من قوّات الحرس، سريّة دبابات وست عشرة بطارية مدفعية من «الفرقة 77» خراسان، وكان رحيم صفوي

 

167


157

الوفود إلى ساحة القيادة

قائد هذه العمليات:

«بدأت العمليات. تقدّمنا قرابة (3 كلم)، انهارت الكتيبة العراقية الثّالثة بالكامل; وهي تّابعة للّواء الثامن المؤلّل من الفرقة الثالثة، أسرنا عددًا كبيرًا وغنمنا دبابات وحاملات جند. كان عدد العراقيين كبيرًا وشنّوا هجمات مضادّة بشكل متوالي؛ فوصلوا إلى سواترنا التّرابيّة، ظلوا يتقدّمون إلى درجةٍ أننا كنا نرمي القنابل خلف المتاريس مباشرة. أُصبتُ بشظية في بداية العمليات فربطت الكوفيّة على رأسي لأوقف النزيف لكنها لم تجدِ نفعًا، فأغشي عليَّ، عندما استعدت وعيي وجدت نفسي في قسم الطوارئ في دارخوين، واستلم حسن باقري قيادة الجبهة من بعدي[1]».

يقول رسول كمال، وهو الشّخص الذي أخذ رحيم صفوي إلى خطوط المواجهات، وقد عاتبه حسن باقري على فِعله:

«عندما أصيب السيد صفوي بجروح، ربطتُ رأسه بكوفية ونقلته إلى مقرّ القيادة، ما إن رآه حسن باقري حتى سأل: من قال لكم أن تأخذوه إلى الخط الأمامي؟ أجبت: هو من طلب ذلك.

أنّبني حسن باقري حينها بشدة وقال: لقد ارتكبت خطأً فادحًا، فبماذا كنّا سنجيب النّظام لو استشهد لأجل التّقدّم بضعة كيلومترات؟»[2]

تزامنت إصابة رحيم صفوي وحملات العدو المضادّة والعنيفة. كان الضّغط كبيرًا إلى حدّ طلب بعض القادة التّراجع والانسحاب إلى الخلف، فقالوا: «إذا صمدنا سيلتف الأعداء من حولنا

 

 


[1] - اللواء رحيم صفوي.

[2] - رسول كمال، من قوّات الخط الدفاعي في دارخوين منذ بداية الحرب.

 

168


158

الوفود إلى ساحة القيادة

وستستشهد قواتنا أو تؤسر، علينا الانسحاب تكتيكيًا لأجل الحدِّ من الخسائر». وصل هذا الجدال إلى المستوصف الطّبي، لم تكن حال السيد رحيم على ما يرام بسبب النّزيف:

«عندما جُرح السيد رحيم أخذته إلى مستوصف دار خوين، كان ضغط الحملات المضادة من قِبَل العدو كبيرًا. لم يكن القادة الشباب من الجيش والتعبويين من ذوي الخبرة في أمور الحرب، فذهب عدد منهم إلى المستوصف حيث السّيد رحيم ليجدوا حلًا لهذه المسألة، فكتب رسالة وطلب منّي إيصالها إلى حسن باقري، وفي هذه الرّسالة أمره بالتّراجع بأقل مقدار وأن يكون التّراجع على مراحل. ذهبتُ إلى الخطّ الأمامي وسلّمت الرّسالة إلى حسن باقري، قرأها، كان دائمًا يناديني باسمي، فقال: حسين، هل قرأت الرّسالة؟ قلت: نعم. قال: لا تحدّث بها أحدًا! لا أحد سواي وأنت والسيد رحيم يعلم فحواها. فقلت: حاضر.

لم ينسحب، وهذا أدى إلى انتصارنا في عملياتنا الأولى انتصارًا مميزًا». [1]

فتحت هذه الحادثة آفاقًا أخرى لحسن باقري، وأظهرت قدراته في ساحة القيادة أيضًا:

«إن ذكاء حسن باقري وقدرته على تحليل الأمور جعلا منه قائد حرب عظيم، إضافةً إلى سرعته في اتّخاذ القرارات في اللحظات المصيريّة،. كانت قيادته في مواجهة دارخوين حاصل تجاربه التي تبلورت في الأشهر التسعة وتألّقت بسبب معرفته العميقة

 

 


[1] - حسين إسحاقي من قوات الخط الدفاعي في دارخوين في بداية الحرب.

 

170


159

الخروج من المأزق

بقوّات العدو وبقواتنا وبالمنطقة».[1]

وبفضل قيادته أخفق العدو في هجماته الخمسة المضادّة، واضطرّ إلى قبول الهزيمة، وثُبّتت المواقع التي سيطر عليها المجاهدون:

«أطلق العدو علينا 200 قذيقة كاتيوشا دفعة واحدة، ولم تتوقف مدفعيّاته عن العمل لحظة واحدة. كانوا متموضعين خلف قواتنا في الجناح الأيمن أي غرب كارون، كما شنّوا خمس هجمات مضادّة. وعلى الرّغم من ذلك، تمكّن الأخ حسن باقري من توجيه القوات والسّيطرة على المكان».[2]

بعد أن أوكلت قيادة العمليات إلى حسن باقري، جاء بالسيد محمد علي شيخ الإسلام من الغولف ليساعده في مسألة الإمدادات:

«قال لي عليك إحضار الثّلج بأي وسيلة ممكنة، استطعتُ الحصول على كمية منه بطريقة ما، ثمّ قال سنحتاج بعد التقدم إلى الدّعائم لإعداد الدّشم، ذهبنا ليلًا إلى مبنى الطاقة الذريّة في دارخوين وأحضرنا عددًا منها، كنت إلى جانبه دائمًا، تكبّد الكثير من المتاعب، كان دائمًا يحمل جهاز اللاسلكي ويضع مخطط الخريطة بالقرب منه. وبهذه الوضعية ذاتها، وحتى عند تبادل إطلاق النار يحمل قلمًا باليد الأخرى ويعيّن الإحداثيات والدّرجات على الخريطة بمسطرة ومنقلة، ويعطي الأمر بعدها بإطلاق النار. كان أيضًا يكتب لي المهام التي ينبغي لي القيام بها. في الأثناء، وخلال العمل يتناول قليلًا من الخبز اليابس الموجود بقربه! إذ لا يجد متّسعًا من الوقت لتناول الطّعام، كان بمفرده

 

 


[1]-  فتح الله جعفري.

[2]-  الشهيد حميد معينيان.

 

170


160

الوفود إلى ساحة القيادة

يقوم بعمل فريق كامل، إبداعه وكفاءته جعلاه يترقّى من مسؤول معلومات العمليات إلى قائد بكل ما للكلمة من معنى». [1]

كان محمد علي صبور أحد القادة في تلك العمليات:

«كان حسن باقري قد طلب إرسال صبور، مع وجود ثلاثة عشر قائدًا آخرين. كانت معلومات حسن دقيقة للغاية حيث شعرنا أنه يخترق ليلًا صفوف العراقيين ويعود إلينا صباحًا. كان يشرح عن إمكانيات العدو ومعدّاته وتسليحه. كانت معلوماتي عن الأمور العسكرية لا بأس بها، كوني من قوّات الاحتياط، حتّى أبدى الشّباب تعجبهم لاستعمالي بعض المصطلحات، ولكيفيّة تمكّني من تعلّمها أيام الشاه! لكن حسن باقري كان ينفّذ هذه المصطلحات عمليًا في الميدان. فيشرح لنا مواقع العدو، وإمكانياته وقدراته وأن لديه لواء احتياط. كما كان يتتبع أماكنه ويفرّغ ذلك على الخريطة، لقد تمتّع بقدرات ذهنيّة خارقة!» [2]

انتهت عمليات «الخميني روح الله، القائد العام للقوات» بعد ثلاثة أيامٍ من المواجهات الضّارية. كانت القوات العراقية تنوي شنّ هجوم مضاد للمرّة السّادسة في 14\6\1981م، لكن المجاهدين سبقوها في ذلك. تقبّل العدو الهزيمة واستقرّ خلف الساتر التّرابي الثالث متّخذًا وضعية دفاعيّة. في هذه العمليّات غنمنا 15 دبابة وحاملة جند، وعددًا كبيرًا من الأسلحة الخفيفة والثقيلة، كما أسرنا 239 عراقيًا من بينهم العقيد «عادل عباس أحمد» قائد

 

 


[1] - مقابلة للكاتب مع السيد محمد علي شيخ الاسلام مسؤول الامدادات في حرس سوسنكرد في بداية الحرب. استلم مهمة ارسال قوات مقرّ الغولف عام 1981.

[2] - مقابلة الكاتب مع اللواء محمد علي صبور من قادة فرقة ولي العصر (عج) في دزفول.

 

171


161

الوفود إلى ساحة القيادة

الكتيبة الثّالثة من اللواء الثّامن المؤلل. كانت هذه العمليّات الأولى التي تمكّن فيها المجاهدون من التّقدم والسيّطرة على الأراضي وإحداث السّواتر التّرابية. كتب حسن باقري في مقدّمة تقريره عن هذه العمليّات:

«يمكن لشابٍ مؤمن «حزب اللّهيّ» أن يقدّم خطة عمليّات بسهولة، وإن لم يكن في بداية الحرب ضليعًا بفنونها وعلومها، فحرقته وهمّه على الثّورة الإسلاميّة وإيمانه بالإسلام ودوافعه الإلهية وانتماؤه للبلاد وللإمام ... كل هذا كفيلٌ بأن يتّقد فيه الوعي العسكري. العديد من قوّاتنا الحزب اللهية لديهم رؤية عسكرية حاذقة ويفكّرون كقائد عسكري ضليع». [1]

إنّ هذه الجمل في الحقيقة هي توصيف لحاله، فغلامحسين أفشردي ترقّى ليصبح حسن باقري قائد العمليّات النّاجح، من دون أن يمتلك خبرات عمل عسكري أو أن يكون متعلمًا للعلوم والفنون الحربية:

« جسّد حسن باقري في العمليّات شخصًا نخبويًا مميّزًا بالمعنى التّام للكلمة. كانت لديه قدراته الخاصّة في كل مجال وغدت مفيدة للجميع. أرغم تفكيره وتصرّفاته وآراؤه الجميع على قبول كلامه. كنت أعمل مع السّيد رحيم صفوي منذ بداية الثّورة في «الحرس الثوري- أصفهان» وحضرتُ معه في كردستان وفي مناطق مختلفة، ومع ذلك كنت أقتنع بوجهة نظر حسن وتمرّسه أكثر من السّيد رحيم. طبعًا لقد كان السّيد رحيم مميّزًا في تلك الآونة واكتسب العديد من الخبرات في كردستان، لكني كنت

 

 


[1] - مجموعة خواطر حسن باقري، ج 2.

 

172


162

الوفود إلى ساحة القيادة

أشعر بأن تميّز حسن ونضوجه هما من نوع آخر».[1]

أُجريت التغييرات الاستراتيجية التي أرادها حسن باقري في عمليات «الإمام علي (عليه السلام)» ولاحقًا في عمليّات «القائد العام للقوات»، وتباهى الإيمان مع الثقافة العاشورائية بقوّته في مقابل جميع دساتير الحروب غربيّة كانت أو شّرقيّة. يكتب حسن في هذا الصدد:

«كانت هذه العملية أنموذجًا  للآية الكريمة: }كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله{2[2]. وقد نقضت هذه العمليّات ما يدرّسه المستشارون الأمريكيون في الكليّات الحربية بعنوان دساتير الحرب والقواعد الإجرائية لها، واستُبدِلَ كلّ ذلك بروحيّة الإيمان والتّوكل على الله، إذ أن المجاهدين المؤمنين عندما يحملون على العدو يتوكلون على الله ويتأهبّون للموت ويرحبّون به عشقًا للشهادة: فإذا عزمتَ فتوكل، ويقدمون على ذلك وملؤهم اليقين بأن «إحدى الحسنين» ستكون من نصيبهم».[3]

 

في آخر التّقرير، يبدي حسن شوقه لنقل تاريخ الحرب إلى الأجيال القادمة كالتّالي:

«نأمل أن نتمكّن من نقل هذه التّجارب القيّمة التي دفعنا دماء أطهر شباب الإسلام ثمنًا لها، إلى الأجيال القادمة، بعناية واهتمام خاص، بعد تحليلها الدقيق، وأن نستعين بها في تأليف الكتب والكرّاسات التّعليميّة لتدريسها في الكليّة الحربيّة، فنكون بذلك قد أدّينا بعضًا من الدين الملقى على عاتقنا».

 


[1] - السيد محمد حجازي.

[2] - سورة البقرة (249).

[3]- مجموعة ذكريات حسن باقري، ج2.

 

173


163

عقد قران في الحرب!

عقد قران في الحرب!

 

الزّواج أهمُّ حدث في حياة كل شاب، كذلك كان الأمر بالنسبة لحسن باقري. بعد عمليات (القائد العام للقوات)[1] وعقيب هروب بني صدر، خيّمت أوضاع خاصة على البلد، ونتج عن تلك الظروف جمود في الجبهات. في تلك الأيام طرح حسن باقري موضوع الزواج مع أمه وأخته:

«سألنا عن عدة فتيات من بيئتنا نفسها ویحملن معتقداتنا نفسها، لكن قبول الأمر كان صعبًا علیهن، خاصّة بسبب ظروف غلامحسين في الحرب، وتوقّع تعرّضه لأي حادثة. في النّهاية ذهبنا إلى عائلة ثورية محترمة، واصطحبنا غلامحسين معنا، كان قد كتب ما يريد على ورقة صغيرة، ثم تحدّث مع الفتاة مدّة عشرين دقيقة بحضوري وحضور أمها. كان أسلوبه عند الحديث مع بنات عمه أو خالته أو خاله، بأن ينظر إلى وجهي أو وجه أخته أثناء الحديث بدل من التحديق في وجه الفتاة، كذلك كان أسلوبه في لقاء تلك الفتاة. أُعجبت العائلة به كثيرًا، ورحّبت بالموضوع؛ إلاّ أن أمّها اتصلت بي مساء ذلك اليوم، وقالت: كنّا نودّ أن يتمّ هذا الأمر لكن ابنتي تقول إنّ ولدَكم سألها عدّة أسئلة كلّما تعمّقت

 

 


[1]- العمليات التي جرت باسم عمليات "الخمينى روح الله - فرمانده كل قوا ".

 

175


164

عقد قران في الحرب!

لكن بإمكاننا إدارة مستودع الأسلحة أو الدّعم القتالي أو القيام بالاسعافات الأوليّة. وقبل أن أنهي كلامي اعترضوا بحدّة أكثر».[1] 

انطلقت الفتيات بعد زيارة مقرّ الحرس، وتوجّهن إلى الاتّحاد الإسلاميّ للطّلاب الجامعيين، لكن النتيجة هناك لم تكن أفضل. لذا، بعد اليأس من الحرس والاتّحاد، تجمّعن في سكن طلاب الجامعة حتى يَجِدن حلًّا آخر:

«قلت: يظنّ الأخوة أنهم في غنىً عنّا. لذا، علينا تشكيل لجنة خاصّة بنا. أسميناها «لجنة مقاومة الأخوات في الحرس الثّوري». لم أكن أسعى وراء رئاسة اللجنة كما لم أعيّن من قبل السّلطات العليا كمسؤولة، كلُّ ما في الأمر أننا اتّفقنا فيما بيننا على ذلك؛ كنتُ الأكثر جدية في العمل بين سائر الأخوات، كما كان كلامي مسموعًا بينهن، لذا عند تقسيم الأعمال والمهام، صرتُ مسؤولة اللجنة».[2]

كان حسين علم الهدى أول من دعم هذه اللجنة، وأُعلِنَت رسميًا عبر الرّاديو بتوصية منه. بدايةً، عملت «لجنة مقاومة الأخوات» في النّشاطات الإعلاميّة. بعد الهجوم العراقي واحتلال بعض مناطق «دشت آزادكان»، هُجِّرت فئة كبيرة من النّاس الذين اضطروا لترك منازلهم وقدموا إلى الأهواز، فاستلمت اللّجنة مهمّة تأمين المؤن لهم واحتياجاتهم السكنيّة. كان عملًا شاقًا ومجهدًا للغاية. في تلك الآونة، امتلأت المستشفيات وحتى بعض الفنادق بالجرحى، ما أدى إلى توجّه بعض قوّات السّيدة داعي بور إلى مجال الإسعافات والتّمريض أيضًا. في تلك الأوضاع، ربما كان الزواج هو الموضوع

 

 


[1] - مقابلة أجراها الكاتب مع السيدة بروين داعي بور زوجة الشهيد حسن باقري.

[2] - المصدر السابق.

 

177


165

عقد قران في الحرب!

الوحيد الذي لم يجرؤ أحد طرحه على السّيدة داعي بور، لكن على هامش إحدى جلسات الغولف، دار حديث امتدَّ نطاقه إلى لجنة مقاومة الأخوات والسّيدة داعي بور بالتّحديد:

«ساد بين المقاومين جوّ أنه إذا أردتم نيل الشهادة وإتمام الدين عليكم بالزّواج[1]. لذا، إنخفض سن الزواج عند الفتيات في المدينة (الأهواز) فتزوّج بعضهن في عمر الخامسة عشر أو السادسة عشر من خيرة الشباب المقاومين، وكنّ من حيث المعنويات نساءً ناضجًات ومن حيث العمر صغيرات.

أُقفلت المدارس في الأهواز، فكانت غالبية الفتيات اللواتي يعملن معنا من التّلميذات اللواتي أقفلت مدارسهن. كنت أحرص على أن لا يشيع موضوع الزّواج وأن لا تسود مثل هذه الأجواء في اللجنة، فلم أسمح بأن يحصل أحدهم على زوجة عن طريق اللجنة. تزوجت «كبرى سام آرام» في بدايات الحرب وانتقلت للعيش مع زوجها، كما تزوجت «بروين شريعتي» وهي من نخبة الأخوات في اللجنة من شخص يدعى عباس أستادان دون إحداث أي جلبة، حتى أنني قلت لها حذارِ أن تشيعي جو العرس والزواج في اللجنة! كان السّيد أستادان من مدينة يزد، طالبًا في جامعة الأهواز، كان يشارك في جلسات الغولف من قِبَل مركز المحافظة. كان حسن باقري يلتقيه في الجلسات، عندما علم أنه تزوج من إحدى فتيات هذه المدينة، سأله عن فتاة مناسبة للزواج. أخبره السيد أستادان بأن زوجته تعمل في تنظيم لجمعٍ من الأخوات

 

 


[1]-  عملًا بالحديث النبوي: من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي.

 

178


166

عقد قران في الحرب!

المميزات. وطرح السيد استادان الموضوع مع السيدة شريعتي، عندما سمعت عن مواصفات حسن وسماته الشّخصيّة، اقترحتني أنا لهذا الموضوع».[1]

بعد أيّام، وبعد إصرار السّيد أستادان وإلحاحه، فاتحت السيّدة شريعتي السيدة داعي بور بالموضوع:

«عصر ذلك اليوم، بعد أن خفّ ضغط العمل، ذهبتُ إلى المطبخ لأشرب الماء، فلحقتني السيدة شريعتي، وحظيت بي لوحدي، فالفتيات كنّ يحطن بي على الدوام، قالت: بروين، هناك موضوع ما ..

لم أدعها تكمل كلامها. فقلتُ لها: لا تتحدثي عن الأمر بتاتًا، فأنا لا أنوي الزواج. أكملتْ: إسمعيني أولًا ماذا أريد أن أقول ثم قرري بعد ذلك، أجبت: تكلمي إذًا، قالت: هناك في مقر الغولف من يريد الزواج، فقلت: هناك العديد من الفتيات، فلم يحن وقت زواجي، قالت: فكّري بالموضوع، فأجبتها: لا أريد حتى التّفكير بالأمر، أحذفيني من خياراتك.

انتهى هذا الحوار الذي لم يتعدّ الدّقيقتين أو الثّلاث، حتى أنني لم أسأل عن اسمه، خرجتُ من المطبخ، وطلبت مني عدة مرات: فكري قليلًا بالموضوع. في النهاية، قلت لها بجدية وحزم: أنت تعلمين لكثرة انشغالي بالعمل فلا مكان لحياتي الخاصة الآن ».[2]

كان الجواب حازمًا إلى حدّ لم تفتح السيدة شريعتي الموضوع ثانية. إلى أن وقعت حادثة حركت هذا الموضوع مرة أخرى.

 

 


[1]- مقابلة السيدة بروين داعي بور.

[2]- المصدر السابق.

 

179


167

عقد قران في الحرب!

في أحد الأيام، عندما كانت السيدة داعي بور والسيدة شريعتي ذاهبتان إلى مقرّ اللجنة سيرًا على الأقدام، ظهرت طائرة عراقية، وتبعها دويّ انفجار، كان المكان المستهدف على مقربة منهما لذلك وصلتا إليه بعد دقائق عدة:

«اقتُلعت بعض أبواب المحلّات وتكوّمت على بعضها من شدّة الإنفجار. شاهدنا سيارة جيب تحترق، وجثّة هامدة على الأرض لشخص غُطِّي وجهه بقماش بالٍ، كما وبانت قدماه من أسفل القماش. أذكر جيّدًا أنه يرتدي سروالًا كرديًا وأحد نعليه قد سقط من قدمه. بدا مواطنًا عاديًا، قلت في قرارة نفسي، لا بدّ أنه جاء ليشتري خبزًا أو شيئًا ما، والشيء الوحيد الذي لم يفكر به هو أن تنتهي حياته في لحظة واحدة. كم أن هذه الحياة عديمة الأهمية! وبرؤية هذا المشهد تداعى في ذهني أن ذلك الشخص الذي يريد أن يؤدي تكليفه ويتزوج، قد يحصل له مكروه في أي لحظة. أثناء العودة من محل الانفجار إلى اللجنة، كانت هذه الأفكار تتجاذبني. قبل الوصول إلى المقرّ سألت «بري[1] شريعتي» دون أي مقدمات: ما اسم ذلك الشاب؟ فقالت: أي شاب؟ قلت: ذلك الذي حدثتِني عنه! تفاجأتْ بري، وأجابتني بتعجب: حسن باقري. سألتها: وما رأي السيد أستادان به؟ قالت: يقول أنه شاب جيد وهو أحد المسؤولين.

كنت حتى ذلك اليوم قد رأيت العديد من المسؤولين فلم يكن هذا الموضوع يعني لي شيئًا. فقلت: حسنًا سأتعرّف إليه».[2]

 

 


[1]- اختصار لاسم بروين.

[2] - مقابلة السيدة بروين داعي بور.

 

180


168

عقد قران في الحرب!

تمّ تعيين موعدٍ للقاء عصر السابع عشر من شهر رمضان المبارك في منزل السّيدة شريعتي. كان شهر رمضان قد تزامن آنذاك مع شهر آب وأيّامه الحارّة الطويلة. اقترب موعد اللقاء، في تلك الليلة، بعد يوم عملٍ شاق، خرجت السيدة داعي بور إلى الحديقة المقامة في إحدى زوايا باحة المقرّ لتفكّر للحظات في لقاء يوم الغد. كان عليها أن تحضّر كلامًا، أرادت أن تعظّم العمل الذي تقوم به أكثر مما هو، وقررت عدم النّظر في وجه الشّاب طيلة فترة اللقاء، لأنها لم تكن تهتمّ بالشّكل والظّاهر، ولم ترد أن يؤثّر مظهره على قرارها. انطلقت إلى منزل السّيدة شريعتي قبل الوقت المقرّر، وقد أعدّت غرفة صغيرة لهذا الأمر:

« قلت لبري شريعتي سأجلس داخل الغرفة، وليتفضّل السّيد. حان الموعد ودخل الغرفة، أحكمت الإمساك بعباءتي على وجهي فلم يبن منه شيء تقريبًا، وأغمضت عيناي فلم أر شيئًا، جلسنا وبدأ بالكلام، كنت أسمع صوته فقط، كانت نبرة صوته تدلّ على نضجه، قال:  أنا أُدعى غلامحسين أفشردي وأُعرف بحسن باقري لأني من قوات المعلومات في الحرب.

بعدها أخرج ورقةً وكتب عليها شيئًا، ثمّ قال: إذا أردتم السّؤال عنّي فهذا هو عنوان منزلي، ثم حدّثني عن خبراته السّابقة، شعرت أنني أجلس مقابل شخص صادق وصريح. كان الصدق والشّفافية يموجان في كلامه، وأثّر هذا الأمر فيّ كثيرًا، ولكي أجد ذريعةً للرّفض، تحدّثت عن مسؤوليتي وأن الأخوات في أمسّ الحاجة إليّ وأنني نذرت حياتي للحرب. أردتُ أن أصل معه إلى نتيجة أنني لست من ذلك النوع الذي يبحث عنه أي «ربة

 

181

 

 


169

عقد قران في الحرب!

بيت». كلما حدّثته عن برامجي وانشغالاتي كان يحدثني عن مستوى أعلى من ذلك ويقول: ما تتفضلّون به هيّن وبسيط، إن نظرتكم محدودة وعليكم التّفكير بمجال أوسع. كان يواجه كلامي بالتشجيع أو بفتح آفاق أكبر أمامي. تبادلنا الأحاديث مايقارب السّاعتين وجلّه حول العمل، عندما حان وقت الإفطار، كانت بري قد أعدّت إفطارًا متواضعًا، أفطر هو مع السّيد أستادان وأفطرت أنا وبري معًا. عندما غادر سألتني بري: هل نظرت إليه؟ قلت لا، قالت: ألم تلقي عليه حتى نظرة واحدة؟! قلت: لقد أغمضت عينيّ كي لا أراه، قالت: ليتكِ نظرت إليه لو نظرة واحدة.

حسنًا، فبري كانت قد رأته. بالرّغم من أني لم أكن أتجاوز العشرين سنة حينها، إلا أني كنت أبدو أكبر سنًا، خلافًا لما هو عليه تمامًا فكان يبدو أصغر من سنّه، أصرّت بري أنّه كان عليّ النّظر في وجهه. قلت، لا شأن لي بشكله الظّاهري. وأعتقد أنني لو كنت قد رأيته تلك الليلة لرفضته على الفور. مرّت تلك الليلة. الأمر الجميل بالنسبة لي أنني عندما كنت أفكر فيه، لم يكن في بالي أيّ فكرة عن شكله كنت فقط أسترجع صوته وكلماته في ذهني. أحببت ذلك لأن همّي كان باطن هذا الإنسان. كذلك هو لم يرَ شيئًا من شكلي الظاهري، لقد سمع صوتًا وكلامًا فحسب».[1]

بعد أسبوع، حُدِّدَ موعد اللقاء الثّاني، أرادت السيدة داعي بور هذه المرة الحديث عن نفسها أكثر؛ وبالرّغم من إصرار السّيدة شريعتي كانت لا تزال مصرّة على عدم النّظر في وجه الشّاب:

«بدأنا بالحديث مرّة ثانية، تحدّثت عن ماضيّي وعن انتمائي

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

182


170

عقد قران في الحرب!

لعائلة منفتحة، لم أكن في السابق على هذا النحو من التّديّن كما أنا اليوم. أجابني بأنّ الثّورة هي من صنعتنا جميعًا ونحن مدينون لها وأن الماضي ليس هو المعيار. كما حدّثني عن ماضيه، فقال: لم أكن ثوريًّا، عائلتنا متوسّطة الحجم، ولديّ أخت وأخوين. كما علمت أيضًا أنّه كان طالبًا في كلّية الحقوق أثناء عمله كصحفي في جريدة «جمهوري إسلامي» فقلت: يمكنكم السّؤال عني، فردّ عليّ قائلًا: أنتم أيضًا اسألوا عني.

وجدتُ أن السؤال عنه في محيط عمله غير متاح. لذا، أخبرت أمي، ولأنّي كنت أعلم أنها تهتمّ بالعلم والتعلم بدأت كلامي أن طالبًا في كليّة الحقوق في جامعة طهران يدعى غلامحسين أفشردي، قد أتى إلى الجبهة في مأمورية، وتكلّمنا سويًا عبر صديقتي بري شريعتي التي تزوّجت حديثًا. فأرسلت أمي أخي محمد ليسأل عنه في حيّهم وفي مسجد صدرية. يكبرني أخي محمد بثمانية عشر شهرًا. كان ظاهره يختلف عن ظاهر الشّباب المؤمن الثّوريّ آنذاك، كما أن عمليات اغتيال المجاهدين كانت قد وصلت إلى ذروتها. لهذا السبب; عندما رأى السيد رحيم (بائع القماش في حي غلامحسين) أخي محمد وشكله المختلف لم يعطه إجابات واضحة وصحيحة عن أسئلته وكذلك فعل آخرون. وأخبروا والدة غلامحسين أن شابًا غير متديّن يطلب معلومات عن ابنك».[1]

عندما عاد محمد داعي بور بخفّي حنين، لم يبقَ لدى السيدة داعي بور وسيلة للاستفسار عنه. شاءت الأقدار أن علمت من السّيدة «باك نجاد» زوجة حميد معينيان أن زوجها حميد يعمل

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

183


171

عقد قران في الحرب!

مع حسن باقري، كانت السيدة باك نجاد تعمل في لجنة الأخوات، فَفاتَحَتْها بالموضوع:

«أخبرت السّيدة باك نجاد السيد حميد معينيان أن حسن باقري والسيدة داعي بور يتحرّيان عن بعضهما البعض من أجل موضوع الزواج، فأجاب معينيان أن حسن شاب مميز ونخبوي، وستكون السّيدة داعي بور محظوظة إن تمت هذه الزيجة! فردّت السيدة باك نجاد: إنّ الحظّ سيكون حليف حسن باقري إن قبلت السّيدة داعي بور به زوجًا. كان الزوجان قد تجادلا قليلًا حول الموضوع؛ فوجدتُ أنه لم يعد بالإمكان طرحه مع شخص آخر. ظلّ غلامحسين يتابع الموضوع وأن والدته تريد القدوم إلى بيتنا، إلى أن اتّصل ذات مرّة وأخبرني أن الموضوع قد تمّ من جهته وأنه في انتظار ردّي. اتّصلتُ بمكتب إمام الجمعة وطلبت منه استخارة، كان جواب الاستخارة: «جيدة». ثمّ، اتصلتُ به وأبلغته بموافقتي بعد التوكل على الله».[1]

بعد موافقة السّيدة داعي بور، اقترح غلامحسين الذهاب إلى طهران للتّنسيق مع العائلة، واتفقا على هذا الأمر، فبالرّغم من توافقهما وانسجامهما إلا أن احترام العائلة كان أمرًا هامًا بالنسبة إليهما، ورغبا في إظهار ذلك. فتقرر أن يلتقيا مجددًا من أجل التّنسيق للسفر إلى طهران. في ذلك اليوم، ولأول مرة نظرت السّيدة داعي بور إلى وجه غلامحسين:

«سمحت لنفسي في هذه المرة أن أنظر إلى وجهه، في الحقيقة صدمني ذلك، تذكّرت إصرار «بري» على هذا الموضوع. كان

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

184


172

عقد قران في الحرب!

يكبرني بخمس سنوات فهو يبلغ من العمر 25 عامًا، لكنه بدا فتىً بعمر 17 أو 18 عامًا. كانت ملامحه بريئة وكان صاحب وجه طفولي، ويرتدي قميصًا أبيضَ اللون قد أسدله على بنطالٍ بيجي اللون. لم يستغرق ذهولي أكثر من دقيقتين أو ثلاث فعدت إلى نفسي سريعًا وقلت لقد شاهدتِ في باطن هذا الإنسان ما يمكّنك من الاعتماد عليه».[1]

حلّت ذكرى أربعين الشهيد بهشتي[2]، فتقرر أن تذهب الأخوات في اللجنة إلى طهران للمشاركة في الأربعين ولقاء زوجة الشهيد. كان الوقت مناسبًا برأي كليهما، خاصة السّيدة داعي بور، حيث لم ترغب أن تعرف الأخوات في اللجنة شيئًا عن الموضوع قبل الوقت المناسب:

«بعد انتهاء مراسم الأربعين، حينما كنا في الحافلة نوصل الأخوات إلى مبنى الإستراحة، قلت لآمنة براتي: سأنفصل عنكم لأني أريد الذهاب إلى المنزل. ظنّت آمنة أني أريد لقاء أمي. فقلت: يا آمنة، سأذهب لعقد قراني وسأعود. تعجّبت وأبدت فرحها. قلت لها: تعرّفت إلى شاب واتّفقنا على الأمور، سأبقى في طهران يومين أو ثلاثة، وسأعود فور الانتهاء من مراسم العقد، حذارِ أن يشيع الخبر بين الأخوات قبل عودتي.

ذهبت إلى المنزل، اتّصل غلامحسين وأبلغني بأنّه وصل إلى طهران، وسيصطحبني لرؤية أمّه. كان الأمر صعبًا عليّ، فقد عدت لتوّي من منطقة الحرب، وابتعدت قليلًا عن أجواء الحياة العادية. عندما أتى ذهبنا إلى مستديرة خراسان، ووصلنا إلى

 

 


[1]- السيدة داعي بور.

[2]- حادثة (7 تير) شهادة الشهيد بهشتي (رضوان الله تعالى عليه).

 

185


173

عقد قران في الحرب!

هناك عند الغروب. كانت والدته في المنزل لوحدها، جلست بشكل رسمي وبدت جدية كثيرًا، تفحصتني بنظراتها، حاول غلامحسين أن يلطّف الأجواء بالمزاح. لم يكن لدي ما أقوله، كما لم يكن لدى الحاجّة كلام أيضًا. خيّم جو ثقيل على المكان، بقيتُ هناك قرابة الساعتين، سألتني والدته بضعة أسئلة وتبادلنا القليل من الأحاديث. كان لقاءً ثقیلًا وأعطيها الحق في ذلك، فأنا أعتقد أنّ أيّ أم ستبدي انفعالها إذا ما جاء ابنها مصطحبًا فتاةً ما قائلًا إنّه يريد الزواج منها، على الخصوص والدة غلامحسين التي بدت بوضوح شديدة التّعلّق به وتميّزه عن سائر إخوته. فهو ابنها المدلل وكذلك تقبّل إخوته الأمر لأنّهم كانوا هم أيضًا يحبونه كثيرًا. في تلك الليلة، كانت تصرّفات الأم تجاه القدوم المفاجئ لفتاة غريبة مع ابنها تصرفًا ناضجًا، حتى أنا تصرّفت كإنسان ناضج وكبير لأني وُضِعت في موقف صعب ومرّت اللحظات ببطء شديد، كانت الحاجة قد أعدّت للعشاء طعامًا بسيطًا كتلت والبطاطا المقليّة، لكنّه كان لذيذًا للغاية».[1]

تقرر في اليوم التالي إجراء مراسم الطُّلبة بشكل رّسمي، أخبرت السّيدة داعي بور أمها، فحدّثتها الأم بحديث أثار قلقها، وحذّرتها من جدّية الأمر وعدم بساطته وأخبرتها عن عدة شروط ما لم تحقق لن توافق على هذا الزواج. حان موعد الطّلبة:

«جاؤوا إلى بيتنا: والدته وهو وأخته بتول، حاملين باقةَ ورد وعلبة حلوى، كان والده حينها في تبريز، وحضر من عائلتي أمي وخالتي وأختي. لم تتكلم بتول بشيء طيلة اللقاء، أمّا أمه فتحدّثت

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

186


174

عقد قران في الحرب!

بالمعتاد في مثل هذه المراسم. استلم غلامحسين دفّة الكلام، وركّز فيه على أمّه وأمّي، وقال لهما إننا نحترم أيّ قرار يتخذانه وإن الأمر بيديهما. لم تقل أمي شيئًا، كنت أنتظرها لتبدي رأيها لكنها لم تفعل بالرغم من إشارات عينيّ وحاجبيّ. كذلك لم يتطرّقوا إلى المهر، قالت والدته لنذهب إلى السّوق لشراء حاجيات العرس. ودّعونا وانصرفوا. عندما خرجوا سألت أمي: ماذا حصل لك؟ لم لم تقولي شيئًا؟! قالت: لا أدري كان الأمر عجيبًا، ما إن دخل هذا الشاب حتى أحببته وانعقد لساني».[1]

ذهبت السّيدة داعي بور مع غلامحسين برفقة والدتيهما إلى السّوق، لكن حتى هذه الزّيارة إلى السّوق لم تكن تشبه تسوّق حاجيات العرس في شيء:

«بحثنا عن حذاء في عدّة متاجر، وانتهى الأمر بحذاء مخملي أسود اللون. انطلقنا لشراء باقي الحاجيات، أحببتُ أن ينتهي الأمر بسرعة، مللنا أنا وغلامحسين بعض الشيء، ولاحظت أن مزاجه ليس على ما يرام فقال: أردنا أن نقوم بشيء يشعرنا بالراحة فتورطنا أكثر، قلت: أنا لا أريد هذه الأشياء، ظننت أنك أنت من أصرّ على الموضوع، فقال: أمي أمرت بذلك وأنا نفّذت أمرها.

توجّهنا لشراء المرآة والشّمعدان، فقلت لأمّه يا حاجّة لا نريد أن نضع سفرة عقد، فانْصَرَفوا عنها وذَهَبوا لشراء العباءة، فقلت لها يكفيني هذه العباءة التي أرتديها فما حاجتي في هذه الأوضاع إلى عباءة جديدة! كذلك كان الأمر بالنسبة إلى الثياب. قالوا لنشترِ

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

187


175

عقد قران في الحرب!

خاتم الزواج على الأقل، فاخترت خاتمًا بسيطًا».[1]

كان رأي غلامحسين أن يعقد الإمام قرانهما، لكن لم يكن هناك متّسعًا من الوقت. فنسّق ليعقد القران الشيخ هاشمي رفسنجاني (رئيس مجلس الشّورى آنذاك). في الثاني عشر من شهر آب عام 1981م توجّهت السيدة داعي بور برفقة أخيها محمد وغلامحسين إلى المجلس:

«انتظرنا حوالي ثلاث ساعات في مكتب هيئة رئاسة المجلس، كان هناك جلسة هامة، كاد الليل يداهمنا، وصار الشيخ يأتي بين الفينة والأخرى من المكتب ويعتذر إلينا، وعندما رأى الشيخ رفسنجاني أن الجلسة قد طالت، طلب من السيد «موسوي خوئيني ها» والسيد «بيات» أن يتوليا أمر العقد. وكّلتُ أنا السّيد موسوي، ووكّل غلامحسين السيد بيات وأُجرِيَ العقد. إنتهت مراسم عقد القران بهذه البساطة، ثمّ فتحنا علبة الحلوى التي كانت بحوزتنا ووزعناها».[2]

إنطلقا بعد الإنتهاء من مراسم عقد القران إلى منزل والد غلامحسين، خلال الطريق جرت حادثة لم تنسها السيدة داعي بور:

«كنا في الطّريق باتّجاه مستديرة خراسان، كانت الشّوارع مكتظّة قليلًا، فجأة أوقف غلامحسين السّيارة وترجّل منها دون أن يتكلّم بشيء. رأيت أنّ سيارة قد دهست شخصًا يجرّ عربة، ذهب غلامحسين إليه وسأله عن حاله، وإذا كان بإمكانه النّهوض. عكست لي تلك الحادثة مدى رأفته تجاه النّاس، فهو لم يغفل عن

 

 


[1]- المصدر السابق.

[2]- المصدر السابق.

 

188


176

عقد قران في الحرب!

هذه الأمور حتى في ظروف الزّواج الخاصّة».[1]

كانت مراسم العرس عبارة عن مأدبة بسيطة أُجريت في منزل والد غلامحسين:

«كان منزلنا صغيرًا، لذلك استمرّ العرس ليلتين. دعونا الأصدقاء والعائلة كلّ على حدة. دعونا جميع النّساء على الغداء، وتولّت أمي مهمّة تقديم العروس إلى الجميع بعد وضع الطعام على المائدة. في اليوم التالي، قال لي غلامحسين: أختي سنذهب إلى الشّمال ليوم واحد، علّقتُ ممازحة: شهر العسل؟ ضحك، فقلت: فلتذهبوا رافقتكم السلامة، قال لي: أقسم بالله إن لم ترافقينا سأغيّر المسير باتجاه الأهواز. قلت: ياعزيزي، تريد أن تذهب برفقة عروستك إلى الشّمال مدة 24 ساعة، فإلى أين أذهب؟ قال: عليكِ المجيء.

خلاصة الأمر، اصطحبنا معه عنوة أنا وزوجي وابني علي، وأخذنا إلى مقر أركان حرس منطقة «تشالوس». بالرغم من أنه كان قائدًا، لكن عشاءنا نحن الأربعة احتوى أربع حبات بطاطا وأربع بيضات مسلوقات ورغيف خبز. لم يرغب باستغلال مركزه. عندما خرجنا صباحًا من مقر الأركان، قال: أنت تحبين المقادم وبروين تحب «السوداء» المشويّة، فاشترى لنا فطورًا مميزًا وعوّض عن الليلة الفائتة، بقينا حتى العصر، ثم عدنا إلى طهران فأوصلنا إلى المنزل، لم ينفع إصرارنا عليهما للبقاء في منزلنا كي يرتاحا قليلًا، قال علينا أن نسرع في العودة إلى الأهواز».[2] 

 

 


[1] - المصدر السابق.

[2] - أخته.

 

189


177

عقد قران في الحرب!

ذهبا إلى الأهواز ولم يكن لديهما منزل لبدء حياتهما المشتركة:
«عرض علينا عدّة أشخاص من اللجنة بيوتهم أو بيوت أقاربهم، ومنهم السّيدة (ركني) التي كانت تعمل في اللجنة مع ابنتيها، كان لدى السّيدة ركني شقة عليا منفصلة عن الطابق السّفلي في بازار «كاوه» يُصعد إليها بدرج ليصل إلى باب منفصل، مؤلفة من غرفتين ومطبخ صغير ومرحاض. أعجبني هذا البيت لأنه يبعد عن مقر اللجنة مسافة دقيقتين سيرًا على الأقدام».[1]

فرشوا الأرض بالموكيت، واشتروا فرن غاز، وثلاجةً صغيرةً، كانت السيدة أفشردي قد هيأت لهما بعض الأغراض الضّرورية وأرسلتها إلى الأهواز، وهكذا تأسست حياتهما:

«كانت علاقة ابني بزوجته ممتازة، وهي بدورها كانت زوجةً صالحة وهي كفؤٌ له؛ فمن يرغب بتعلّم فنون التّعامل مع الزّوج عليه أن يذهب إليها ويتعلّم ذلك منها. كان ابني يأتي إلى البيت مرّة كل بضعة أيام وكانت زوجته تعيش وحدها. في إحدى الليالي، عادت من مقرّ التّعبئة وشاهدت أن المنزل مضاءٌ فعلمت أن زوجها عاد قبلها، انزعجت وحزنت كثيرًا من هذا الأمر حتى أنها روت لي ذلك كحادثة مؤسفة جدًا حصلت لها. قالت: لقد قصّرت كثيرًا إذ أتيت إلى المنزل بعد عودته إليه».[2]

كان مهر العروس سلسلة كاملة من كتاب وسائل الشيعة، اشتراها غلامحسين على الفور وسلّمها للعروس:

«كان غلامحسين مولعًا بالنّصوص الإسلامية، وأذكر أنه كان

 

 


[1] - السيدة داعي بور.

[2] - والدة الشهيد.

 

190


178

عقد قران في الحرب!

قد طالع مدّة من الزّمن كتاب وسائل الشيعة «باب النكاح»، وقد دوّن بعض الملاحظات، منها حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) مفاده أن إذا قال زوج لزوجته أحبك لن يخرج حبّه من قلبها أبدًا».[1]

استغرق التّحضير لموضوع الزّواج أسبوعًا من لحظة وصولهما إلى طهران وحتى عودتهما إلى الأهواز. كانت هذه المرة الوحيدة التي يأخذ غلامحسين فيها إجازة لموضوع شخصي، وبعدها ذهب إلى ساحة الحرب ولم يفارق تلك السّاحة حتى آخر لحظة من حياته.

 

 

 


[1] - السيدة داعي بور.

 

191

 


179

التحول الكبير في الحرب

التحول الكبير في الحرب

 

أدى رحيل بني صدر إلى تقارب أكثر بين الحرس والجيش. بعد التّجربة النّاجحة لعمليتي «الله أكبر» و«القائد العام للقوات» المشتركة صار بالإمكان توسيع نطاق العمليات المشتركة. أُعطيَ قادة الحرب الأولوية لكسر حصار مدينة آبادان كبرى العمليات. بعد سقوط خرمشهر، واصل جيش صدام تقدمه حتى مشارف آبادان، لكنهم أُجبروا على الانسحاب بفعل مقاومة الشعب والحرس والجيش. واستقرت قواتهم حول الطرقات التي تصل آبادان بأهواز وآبادان بماهشهر، فحاصروا آبادان بدائرة 270 درجة، ليصبح البحر ومضيق ماهشهر المنفذ الوحيد لتقديم الدعم للقوات المتواجدة فيها.

كانت آبادان الهدف الأهم بعد خرمشهر على امتداد 12000 كلم من الحدود مع العراق. من ناحية أخرى، اعتُبِر أمر الإمام الخميني لفكّ الحصار عن آبادان في 5\11\1980م، تكليفًا شرعيًا على القادة ونظرًا لتأخر تنفيذه حتى ذلك اليوم; فقد بات ضروريًا في أول فرصة. إذًا، شدّت آبادان اهتمام الجميع بانتظار حصول تحول على المستوى العسكري بعد التحول السياسي الذي حصل في البلد. كانت عمليات كسر حصار آبادان أو ما يعرف باسم عمليات ثامن الأئمة (عليه السلام)، ساحة جديدة لعب فيها حسن باقري دورًا بارزًا:

 

 

193

 

 


180

التحول الكبير في الحرب

«أدى حسن باقري في عمليات ثامن الأئمة ثلاثة أدوار فعالة: الأول، أنه درس بدقة منطقة العمليات وعرف أماكن انتشار العدو ونقاط ضعفه. الدور الثاني، في التخطيط لهذه العمليات؛ هل يكون المحور من جسر «مارد» أو من ناحية دارخوين؟ أو نتّجه نحو ماهشهر ليكون عملنا الأساسي هناك؟ هنا لاحظنا مجدّدًا أن وجهة نظر حسن باقري غيرت مسار المعركة. اعتقد حسن أنه إذا تقدمنا من محور هذين الجسرين قرب نهر كارون ثم وحّدنا هجومنا، سينهزم العدو بسرعة. لم يوافقه بعض القادة الرأي، لكن ثبت بعد العمليات أنه كان رأيًا صائبًا. الدور الثالث أنه نزل من موقعه في القيادة المركزية ليتولّى شخصيًّا مسؤولية واحدة من الجبهات الثلاثة. أي أنه كان له دورٌ فعّال في قيادة هذه العمليات وفي تنفيذها أيضًا. هذه الأدوار مجتمعةً، جعلت من حسن عاملًا بارزًا في العمليات».[1]

جمع حسن باقري بأسلوبه الخاص، معلومات كاملة حول محاور آبادن المختلفة، والوحدات العراقية المستقرة في منطقة العمليات. كان يرافق مجموعات الاستطلاع إلى خط الأعداء الأمامي؛ وتحت إمرته ووفق تعليماته يرصد عناصره تحركات العدو، ويسجلون أدق التفاصيل، من قبيل عدد المتاريس والأسلحة الثقيلة المتموضعة في عمق خطوط العدو.

أُقيمت جلسات التخطيط، والتنسيق والمناورات الخاصة بعمليات ثامن الأئمة بمشاركة مسؤولين رفيعي المستوى من الصف الأول في مقر قيادة «الفرقة 77 خراسان». كان حسن باقري يشارك في هذه

 

 


[1]- اللواء محسن رضائي.

 

194


181

التحول الكبير في الحرب

الجلسات بوصفه مسؤول استطلاع العمليات وقائد أحد محاورها، وقد جلس إلى جانب أفراد شارك بعضهم في دورات عالية المستوى ويعادل تاريخهم العسكري عدد سنين عمره. كان اللواء «عظيم أزكمي» في فترة عمليات ثامن الأئمة قائد الفرقة 77، وانتقلت فرقته إلى جنوب البلاد ومنطقة آبادان تحديدًا، في شباط 1981م. ولد اللواء أزكمي عام 1932م في قرية أزكم من ضواحي «صومعه سرا» والتحق بالكلية الحربية عام 1955م، أي العام الذي ولد فيه حسن باقري. تعرّف أزكمي إلى حسن باقري في هذه العمليات:

«بدأ التخطيط لعمليات ثامن الأئمة. كنا نعقد جلسات مقر القيادة بمشاركة الشهيد نامجو، الشهيد فلاحي، والمرحوم ظهير نجاد، وعدد من قادة الحرس. التقيت حسن باقري لأول مرة في الجلسة التوجيهية لخطة العمليات. بدا كعسكري مثالي يقدم التقارير في الجلسة بشكل ممتاز، ويُشَخِّص قدرات العدو بدقّة. منذ تلك الجلسة أصبحت من المعجبين به لأنّه استطاع أن يقدّم  للوحدات العاملة كافة التعليمات اللازمة، وأدّى دورًا بارزًا في تحقيق النصر في العمليّة. عرفته دائمًا بشوش الوجه، لا يحدّث أحدًا منّا إلا مبتسمًا، فجذب قلوب قوّات الجيش إليه».[1]

حان وقت العمليات. توجّه القادة نحو مقرّ القيادة للمشاركة في الجلسة التنسيقية النهائية لعملية ثامن الأئمة -نقطة البداية لسلسلة عمليات واسعة-، وهي العملية التي تمتعت بأهمية كبيرة في ظل الظروف السياسية المتأزمة للبلاد آنذاك. كان كبار قادة الحرس والجيش ينتظرون سماع رأي حسن باقري حول العمليات

 

 


[1]- اللواء عظيم أزكمي.

 

195


182

التحول الكبير في الحرب

بعد أن كانوا قد آمنوا بقدراته الذهنية والعملية:

«قدّم حسن باقري في تلك الجلسة تقريرًا مفصلًا عن: وضع العدو، الأرض، المعابر، المنافذ، كما أذهل الحضور حين أملى عليهم الاستراتيجيات الخاصة بالعملية. لقد غير مسار العمليات من ناحية التخطيط والاستراتيجيات، وقلب أجواء الجلسة رأسًا على عقب. وقد اعتُمِدَتْ استراتيجيات حسن باقري أساسًا لعمليات ثامن الأئمة».[1]

كان حسن باقري على معرفة تامة بقادة العدو، وقد أُجّلت العملية إلى حين بناءً على اقتراحه. أي حتى انصراف أحد القادة العراقيين المعروف بالشدة من محور دارخوين في إجازة:

«معرفته بقادة الألوية والكتائب، والتجهيزات والتشكيلات العسكرية لجيش البعث؛ ساعدته في التخطيط للعمليات. أقام العدو ثمانية خطوط دفاعية في دارخوين أخضعها لمراقبة دقيقة. علم حسن باقري الوقت الذي سيكون فيه قائد اللواء السادس المدرع في إجازة، واتخذه فرصة مناسبة لتنفيذ العمليات».[2]

بدأت عمليات ثامن الأئمة (كسر حصار آبادان) في 27 ايلول 1981م بمشاركة 11 سريّة مؤلفة من تسعين عنصرًا للحرس وكتيبتين من الجيش تضمّان 300 عنصر. شملت منطقة العمليات ثلاثة محاور: جبهة دارخوين بقيادة حسن باقري، جبهة الفياضية بقيادة رحيم صفوي، وجبهة «ايستكاه 7 آبان» بقيادة غلامعلي

 

 


[1]- أمير حيات مقدم، ممثل قيادة عمليات الجنوب في مقر أروند. ولد عام 1342 في مقاطعة هنديجان في خوزستان.

[2]   - فتح الله جعفرى.

 

196


183

التحول الكبير في الحرب

رشيد. بعد تحقيقه الأهداف في محوره، توجه حسن باقري للمساعدة في محوريّ رحيم صفوي ورشيد:

«كان المحور الشمالي للهجوم في دارخوين هو الأهم والأكثر حساسية، وقد تولّى الأخ باقري مسؤولية العملية فيه. ذهب إلى هناك قبل بدء العمليات، ودَرَسَ كافة التفاصيل. اعتُمِدَت في ذلك المحور أفضل الاستراتيجيات بفضل توجيهات الأخ حسن. لم يقتصر الأمر على حصار وتدمير اللواء الثامن المؤلّل التابع للفرقة الثالثة المدرعة وحسب، بل قاد قواته لمساعدة المحورين الجنوبيّين (محور ايستكاه 7 ومحور الفياضية) بعد النجاح الذي حققته في محور دارخوين. كان التوفيق في دارخوين والاستفادة السريعة من هذا النجاح من ثمرة جهود الأخ حسن باقري».[1]

في شهر أيلول/تشرين الأول 1981م، حلّل حسن باقري عمليات ثامن الأئمة في حوار مع راوي[2] مقر الغولف. يمكن من خلال هذا الحوار ملاحظة عمق معرفته بوضع العدو وإحاطته بتفاصيل ساحة العمليات:

«كان العدو مطّلعًا على الإجراءات التي نقوم بها ويعلم أن دارخوين هي المحور الأساس في الهجوم. لذا، نشر قوّاته في عدّة صفوف دفاعية. في الصف الأول استقرّت الكتيبة المؤلّلة الأولى بعد أن ضمّ إليها عددًا من دبابات اللواء المؤلّل الثّامن، وزرع أمامه

 

 


[1]- اللواء غلامعلي رشيد.

[2]   - أحد العناصر الموكل إليه تدوين وتثبيت مجريات العمليات والأحداث العسكرية وحالات الشباب وسائر تفاصيل حياة الجبهة العسكرية, وكانت هذه المهمّة موجودة ويقوم بها أحد العناصر في أغلب مراكز ومقرّات ومحاور الجبهات, وكان هذا العنصر يقوم بمهمّته حتّى أثناء المعارك واشتدادها...

 

197


184

التحول الكبير في الحرب

ألغامًا مضادةً للدّبابات والأفراد والأسلاك الشّائكة. في الصف الثاني، استقرّت كتيبة ثانية مؤللة، أمّا في الصف الثالث فاستقرّت كتيبة محمولة مدرّعة. خلال التّخطيط توصّلنا إلى فكرة مهاجمة العدو من الخلف، لأنّ التقدم من الجبهة المقابلة على طول 6 كلم كان يعدّ أمرًا معقّدًا. بدأت عملية الاستطلاع من نهر شادكان الذي يعتبر أحد أفضل المعابر في هذه الصحراء. عندما استشعر العدو الخطر،  أعاد تنظيم ما تبقى من الكتيبة الثالثة المؤللة -التي تضعضعت في الهجوم السابق- قبل الهجوم بثمانية عشر يومًا وثبّتها في السّاتر التّرابي الثّالث لاحتياطه الثالث الذي يعدّ أقوى احتياط. كما أنشأ ساترين ترابيين جديدين قبل ثلاثة أيام من الهجوم وثبّت سريّة دبابات من اللواء الثّامن المؤلل في صفّين. رغم هذه التطورات لم نغيّر شيئًا في الخطّة، ونفّذنا هجومًا متزامنًا على محاور العدو الثلاثة. اكتسب الهجوم من دارخوين أهميته لأن طرفي جبهة الاحتلال كانا مفتوحين في هذه المنطقة ما يفسح المجال لقواتنا بالتحرّك والمناورة. حسب تقديراتنا كان المحور العراقي الثالث أكثر قوة. تقرّر أن تهاجم قواتنا العدو عند الواحدة فجرًا، وتمكّن الأخوة بلطف الله من التقدم نحو السّاتر الترابي للعدوّالذي لم يتمكّن من رصدهم حتى وصلوا إلى نحو200 م أو 300م من الساتر (صلاح الدين). كما تمكن الأخوة في مجموعة الهندسة التّابعة للحرس بجهودهم العظيمة من فتح سبعة معابر داخل الحقول المفخخة والوصول إلى ساتر العدو...

قامت وحدات مشاة العدو بالإضافة إلى الوحدات المدرعة بالعديد من الهجمات المضادة في منطقة «الحفار» وقُوبلت جميعها بمقاومةٍ

 

198


185

التحول الكبير في الحرب

شديدةٍ حتى أجبرته على التراجع. كان العدو يعاود الهجوم بعد إعادة تنظيم قواته. اشتدّت هذه الهجمات لدرجة أن مقاتلينا كانوا يضطرون أحيانًا إلى التراجع ويتكبدّون خسائر جمّة.

تقدّم الأخوة قرابة (7 كلم) وعبروا تسعة سواتر ترابية. وبسبب انتشار عناصر العدو في المنطقة وصعوبة السيطرة من قبلهم، فقد ضغطت دباباته لفتح معبر(منفذ) وحاصرت قواتنا مرات عدة بين جسري الحفار والقصبة. وراح عددٌ من الدبابات يهاجم قوّاتنا من حينٍ لآخر لكن صمود ومقاومة قواتنا كانت تُجبر العدو على الانسحاب ومن ثمّ يأتي عدد آخر من الدّبابات لمعاودة الهجوم، إلى أن استسلم قائد الكتيبة في المنطقة، واستسلم معه عدد كبير من العناصر الذين كانوا في عداد طاقم مؤلفٍ من 30 دبابة. أخيرًا هُزم العدو بعد سقوط خطوطه الواحد تلو الآخر وتقطّعت أوصال جبهاته».[1]

في هذه العمليات، قدّم حسن باقري فكرةً إبداعية. كان قد اتفق مع عمّال شركة النفط قبل البدء بتنفيذ العمليات على أن يصبوا كمية كبيرة من النفط الأسود في نهر كارون. غطى هذا النفط سطح النهر وجرى من شماله حتى جنوبه بسماكة (2سم)، وعندما اشتعلت النيران فيه، حجب الدخان الكثيف المتصاعد منه الرؤية أمام العدو:

«لقد غطّى دخانٌ كثيفٌ سماءَ المنطقة كلّها. بثّ هذا الأمر الرعب في قلوب الأعداء، وساعد على إنجاح عنصر المباغتة في تنفيذ العملية. كان ذلك تدبيرًا فعالًّا. في ذلك اليوم استرقتُ السمع،

 

 


[1]- مجموعة مذكرات حسن باقري، ج2.

 

199


186

عقد قران في الحرب!

فسمعت قائد وحدة مدرعة عراقية يقول لمسؤوله: «الجوّ مظلمٌ جدًا هنا لدرجة أنّني أضعتُ الطريق». الأخ باقري هو الذي أبدع هذه الفكرة. كان العقل المدبّر في العمليات».[1]

كان أصغر كاظمي مسؤول إحدى الكتائب المشاركة في العمليات، وهو من المنتسبين إلى مؤسسة الحرس منذ إعلان تشكيلها. ولأنه كان قد خضع لدورة عند الشهيد صياد شيرازي في أوائل عام 1981م فقد تولّى مسؤولية الارتباط والتنسيق بين الحرس والجيش في عمليّة ثامن الأئمة. وهو يذكر حسن باقري كشخص يبتكر الحلول للمشاكل:

«كنا في الحرس من أوائل الأشخاص الذين تعرّفوا على مصطلحات خاصة بالجيش من قبيل قراءة الخرائط والصورة الجوية. امتلك حسن باقري القدرة على حلّ المشاكل. على الأقل لم يحصل معي أنا شخصيًّا أن رجعت إليه في مسألة إدارية أو عملياتيّة إلّا ووجد حلًّا لها. على سبيل المثال؛ أردت أن أكبّر خارطة صغيرة الحجم، في هذه المسألة أيضًا التي تبدو بسيطة، كان حسن هو من أرشدنا إلى الوسيلة المناسبة. قال: عليكم أن تستخدموا البنتوغراف[2] لتكبير الخرائط.

لم نكن قد سمعنا بشيء من هذا القبيل حتى ذلك الوقت. درسنا المسألة، فوجدنا أنها أداة لها مسطرتين تلتصق بعضها ببعض، ووُضِع في طرفها إبرة خاصّة، تثبت طرفها على الخريطة وتسحب الطرف الآخر على ورق رسم الخرائط، لتعيد رسم تلك

 

 


[1]-عبد الحسن بنادري، مسؤول مقر العمليات حينها.

[2] - المنساخ.

 

200


187

التحول الكبير في الحرب

الخارطة بالحجم الذي تريد. تمتّع حسن باقري بذهن نشيط في كل المجالات حتى في المجالات الإدارية البسيطة».[1]

في عمليات ثامن الأئمة غنمنا عددًا من الدبابات وناقلات الجند. نقل الإخوة في الحرس هذه الغنائم وغيرها من التجهيزات المدرعة إلى الخط الخلفي مباشرة وجمعوها في دارخوين، تولى فتح الله جعفري هذا الأمر، ذهب إلى حسن باقري ليستشيره في المسألة فكان رأيه أن لا تُخزّن هذه التجهيزات، بل أن تستخدم وفق خطة مدروسة بدقة. توجّه جعفري نحو غرفة الغولف وهو يحمل معه أفكارًا وخطّة حول الموضوع:

«ذهبت إلى غرفة الحرب للقاء حسن. منذ دخولي شغفتُ بتفاصيل الغرفة وبالخرائط الموجودة فيها. أدرك حسن أنّني في عالم آخر، فوجد ذريعةً لمغادرة الغرفة تاركًا لي فرصة التّأمل فيها جيدًّا. عاد بعد عشر دقائق وقال: حسنًا، ماذا تريد أن تفعل؟

أراد أن يعلم إن كانت لديّ خطة أم لا, فلم ينطق بشيءٍ وترك لي الكلام، شرحت له أنه ينبغي أن نقوم بتنظيم كتيبة مدرعة لكي يكون للحرس أيضًا كتيبة مدرّعة خاصّةً بهِ ولا نستند بعدها على الجيش. فيما بعد عرفتُ أن مثل هذا الكلام يزعجه. ويرحّب بالأشخاص الذين يعملون لوجه الله بإخلاص. لذلك قال: إذهب، فكّر أكثر في الموضوع، وسنناقش الأمر في جلسة أخرى.

سألني في الجلسة التالية: حسنًا، ماذا حضّرت؟ أين خطتك؟

 

 


[1]- في حوار للكاتب مع أصغر كاظمي، مسؤول عمليات مقرات فتح، كربلاء، خاتم الأنبياء(عليهم السلام)، رمضان ونوح(عليه السلام) خلال سنوات الحرب. ولد عام 1338 (1959) في طهران.

 

201


188

التحول الكبير في الحرب

أجبته: فكرت في خطة. قال: يجب أن تكتبها. إن لم تكتب خطتك لا يمكن أن نتحدث.

ثم قال: أخبرني ماذا تريد أن تفعل؟ قلت: سوف نستخدم ناقلات الجند والدبابات في العمليات القادمة.

أراحه سماع هذا الكلام. قال: إذهب إلى منطقة العمليات برفقة السيد علي حسيني، لا تتحدث مع أحد حول العملية، إذهب واستطلع المنطقة بشكل جيد، وانظر أين يمكن أن نستفيد من هذه التجهيزات. كنت أعرف السيد علي حسيني، وهو شاب خلوق وحسن التربية والمعشر، يعرف المنطقة جيدًا، ويمتلك المعلومات اللازمة والدافع القوي. كان معه ثلاثة أشخاص من خراسان. ذهبنا معًا إلى المنطقة الرملية سيرًا على الأقدام. خلعنا أحذيتنا بعد أن امتلأت بالرمال. مشينا مسافات كبيرة حتى كادت الرمال تبري بواطن أقدامنا. استطلعنا أبراج المراقبة خلال يومين. كانت تجربة قيمة بالنسبة إليّ. اعتقدت باستحالة تنفيذ عمليات في تلك المنطقة، فعلّق حسن: العدو أيضًا يعتقد بالفكرة ذاتها ولذا فقد غفل عن هذه المنطقة».[1]

كانت التلال الرملية في شمال مدينة بستان هي التي قصدها فتح الله جعفري، وظهرت أهميتها بعد شهرين حين نُفّذت عمليات بيت المقدس.

 

 

 


[1] - فتح الله جعفري.

 

202


189

مفتاح قلعة طريق القدس

مفتاح قلعة طريق القدس

 

في تشرين الأول من العام 1981م، أحدث الإمام الخميني تغييرًا هامًّا على مستوى قيادة الحرب. عيّن محسن رضائي قائدًا عامًّا للحرس، وعلي صياد شيرازي قائدًا للقوات البرّية. كان محسن رضائي يبلغ من العمر آنذاك 27 عامًا، وصياد شيرازي 36 عامًا، وهكذا كان أكثر شبابًا من كبار قادة القوات البرية في الجيش وأصغرهم سنًا. ثقة الإمام بالجيل الشاب واعتماده عليه، توجّهٌ ظهرت آثاره المشرقة بعد شهرين من تلك التعيينات، وذلك في عمليات أكبر وأوسع من عمليات ثامن الأئمة.

في الأيام الأولى لتولّيه القيادة، قدّم محسن رضائي اقتراحًا للقوات البرية لاقى ترحيبًا من صياد شيرازي. تضمن الاقتراح تشكيل لجنتين؛ واحدة من الحرس وأخرى من الجيش؛ مهمتهما التخطيط العام للعمليات، ثم تُناقَشْ دراسات هاتين اللجنتين بحضور القائد العام للحرس وقائد القوات البرية في الجيش، ويتم اتّخاذ القرارات المناسبة. تشكّلت اللجنة الخاصة بالحرس من حسن باقري، رحيم صفوي وغلامعلي رشيد، أما على مستوى الجيش، فقد ضمّت اللجنة العقيد موسوي قويدل والعقيد مفيد ومعه ثلاثة من أساتذة كلية القيادة وأركان الجيش.

أحد المسارات التي سلكها الجيش العراقي عند بداية هجومه

 

203

 

 


190

مفتاح قلعة طريق القدس

واسع النطاق على خوزستان هو المسار الممتد من مخفر الشيب الحدودي حتى تشزابه. بعد عبوره تشزابه، تابع الجيش العراقي تقدّمه حتى مدينة بستان وتمكّن من احتلالها. إذًا؛ هدف المخططين للعمليات حاليًا، هو إنهاء احتلال استمرّ عامًا كاملًا لبستان وتشزابه والقرى المحيطة والوصول إلى الحدود. وبتحقق هذا الأمر، تتقطع أوصال خطوط العدو، وينتفي بالكامل تهديد الأهواز. في البداية، أُطلق على هذه العمليات اسم «ولي الله»:

«كان اسم الخطة «ولي الله». في اللقاء التشاوري المشترك بين الحرس والجيش، قال حسن باقري أنه من الأفضل تسمية الخطة «كربلاء». أيّد قائد القوات البرية في الجيش (صياد شيرازي) هذا الاقتراح مباشرة، وأضاف: لأننا نخطّط لعمليّات عدّة في الجبهات المختلفة في الجنوب والغرب، سنطلق هذا الاسم على كلّ العمليات ونعطي رقمًا خاصًّا لكل منها بحسب ترتيبها».[1]

بعد تلك الجلسة، عُرفت العمليات التالية بين القادة والمخططين باسم «كربلاء واحد»، لكن هذا الاسم تغير أيضًا. لأنها العمليات الأولى التي سيتمكن المقاتلون -في حال نجاحها- من الوصول إلى الحدود ويحتمل أن يقوم العدو بحرب دعائية ونفسية ضد الجمهورية الإسلامية إذا تمكّنت قواتنا من ملاحقته داخل الأراضي العراقية، لذلك أطلق عليها اسم «طريق القدس» بناء على اقتراح علي شمخاني وغلامعلي رشيد.

قبل تنفيذ العمليات بستة أشهر، بدأ حسن باقري عملية استطلاع مكثّفة في منطقة بستان وغرب سوسنكرد. ذهب مرات

 

 


[1]- العميد سيروس لطفي.

 

204


191

مفتاح قلعة طريق القدس

عدة إلى التلال الرملية في شمال بستان والمعروفة باسم «النبعة». تلال النبعة هي ثلاث تلال أساسية ترتفع قرابة 60م وتمتد حتى شمال تشزابه. كان حسن يبحث عن طريق يمكن من خلاله إغلاق خطوط العدو الخلفية في تشزابه تزامنًا مع تنفيذ العمليات، وخلص إلى نتيجة مفادها: أنّ هذه التلال تشكل مسارًا جيدًا لتنفيذ هذا التكتيك. فأوكل إلى السيد علي حسيني وعناصره مهمة القيام بعملية استطلاع دقيقة لها. واظب السيد علي حسيني وعناصره ليلًا ونهارًا على تنفيذ مهمتهم في تلك التلال؛ وذلك تحت إشراف حسن باقري. يقول مجيد توكلي وهو أحد عناصر الاستطلاع:

«كنت أعمل مع الشهيد السيد علي حسيني. في عمليات طريق القدس، أمضينا ثلاثة أشهر في شمال منطقة بستان بين رمال بستان وميشداغ، ننفذ عمليات الاستطلاع تحت إشراف حسن باقري، داخل منطقة العدو بمسافة 25 كلم. لم نتراجع خلال هذه الفترة ولو مرة واحدة. شيئا فشيئا بدأنا نحيط بظروف العمليات بتمامها. كانت معلوماتنا كاملة بحيث قال حسن باقري إنها دقيقة لدرجة أنها تتطابق مع الصور الجوية».[1]

لقد تمكّنوا بفضل توجيهات حسن باقري من إيجاد مراصد مخفية[2] في المنطقة الرملية الممتدة على مسافة (25كلم)، ومراقبة عمق منطقة العدو. تشرف المراصد هذه على تحركات العدو من تشزابه حتى بستان. طرح حسن باقري هذه الخطة مع رحيم صفوي وغلامعلي رشيد. حان موعد تقديم الخطط النهائية في مقر

 

 


[1] - مجيد توكلي، معاون مسؤول معلومات العمليات في مقر قيادة خراسان في عمليات طريق المقدس. اللواء توكلي ولد عام 1961 في مشهد.

[2] - نقاط مراقبة سريّة.

 

205


192

مفتاح قلعة طريق القدس

القيادة المشترك بين الحرس والجيش. طرح الحرس خطة الالتفاف على العدو بالاستفادة من المنطقة الرملية. بدا هذا الطرح غريبًا ولم يرُق لبعض أعضاء لجنة التخطيط في الجيش ورفضه آخرون. أصرّ حسن باقري على طرحه، لكن عارضه أغلب أعضاء اللجنة. عند ذلك, اقترح حسن أن يصطحب العقيد مسعود منفرد نياكي قائد «الفرقة 92» المدرعة في الجيش لاستطلاع المنطقة الرملية والمراصد المخفيّة التي تشرف على تحركات العدو. فإذا اطمأن هو، أقرت خطة العمليات. أيّد العقيد صياد شيرازي هذا الاقتراح مباشرة، وكلّف العقيد نياكي بالمباشرة بتنفيذ المهمة، رافقهما في ذلك غلامعلي رشيد أيضًا:

«تحركنا معًا في سيارة جيب. كان السّائق حسن باقري. أحيانًا كان الجيب يتوقف عن الحركة في الرمال فنضطر لدفعه. أخيرًا وصلنا إلى نقاط المراقبة المقصودة. كان السيد علي حسيني يشرح على الأرض وحسن باقري على الأرض والخريطة، والعقيد نياكي في المرصد يراقب بالمنظار قوات العدو وتجهيزاته وأنواع تشكيلاته. عندما وصلنا إلى المرصد الثالث الموجود في عمق منطقة العدو والمشرف على المنطقة المحيطة بمضيق تشزابه، ألقى العقيد نياكي نظرة على المنطقة ثم تدحرج على الأرض والتفّ نحونا وهو نصف جالس يدير ظهره للرمال: أخ رشيد، قبلت!

عند المساء، ذهبنا إلى مقرّ القيادة وقدّمنا تقريرنا حول نتيجة الاستطلاع. توجّه العقيد نياكي إلى العقيد صياد شيرازي قائلًا

 

206

 

 


193

مفتاح قلعة طريق القدس

له: سيدي! ستنجح العمليات بالشكل الذي يقترحه الحرس».[1]

بعد أن سمع الجميع تقرير عملية الاستطلاع هذه، اطمأنوا وأقرّوا خطة العمليات. يقول العميد لطفي وهو أحد المشاركين في الجلسة:

«غيّر حسن باقري خطة العملية من الخرق إلى الالتفاف. عندما حضر نياكي لتقديم التقرير كانت الحيرة بادية على وجهه لدرجة أن اتّسعت حدقتا عينيه، راح يكرّر «أنا واثق اننا سننجح». سألته: حسنًا، ماذا حصل؟ ما القضية؟ ماذا رأيت؟ قال: «لقد اصطحبني الأخوة إلى نقطة تقع خلف العدو تمامًا. حتى لو نفذنا الهجوم بالقليل من العناصر سنتمكن من القضاء عليه». متّن هذا الاستطلاع علاقة الحرس بالجيش وجعلها أكثر تماسكًا».[2]

كانت المسألة الهامة في هذه الخطة هي نجاح الدبابات وناقلات الجند في عبور التلال الرملية. بعد عمليات ثامن الأئمة، نقل فتح الله جعفري عددًا من ناقلات الجند إلى المنطقة الرملية ليختبرها. تحرّكت ناقلات الجند بين التلال بنجاح، لكن عندما كانت تتنقل في داخلها كانت إطاراتها تصاب بالعطب، فقام مسؤولو الهندسة الجهادية: السيد تقي رضوي، السيد محمد لاله زار وأبو الفضل حسن بيكي، بإنشاء طريق ترابية ما بين المساحات الرملية بطول 20 كلم.

أحد متطلبات العملية الهامة كان إنشاء تشكيلات قتالية وآلية مناسبة لتنظيم المتطوعين والقوات الشعبية للمشاركة في الحرب. أوكل محسن رضائي هذه المهمة إلى حسن باقري أيضًا. في البداية

 

 


[1] - مسؤول الفرقة غلامعلي رشيد.

[2] - العميد سيروس لطفي

 

207


194

مفتاح قلعة طريق القدس

خطّط حسن لإنشاء خمسة ألوية، لكن تشكل منها عمليًّا ثلاثة. فكر في إنشاء ألوية أخرى وبدأ بتقييم بعض الأفراد لتسليمهم قيادتها. ارتجل حسن أيضًا اسم ألوية الحرس الأولى، لقد سمع عليرضا رزم حسيني-مسؤول الإشارة حينذاك في الفياضية- ذلك من حسن باقري:

«ناداني حسن قبل تنفيذ العمليات بفترة وقال: عليرضا، نريد تشكيل لواء وكتيبة للحرس، أريد منك التخطيط لسلاح الإشارة في هذا المشروع.

بدأت وصديقاي محمدعلي ايران منش وعليرضا قدسي مآبي بالتخطيط لاتصالات الكتائب التي وضع حسن تشكيلاتها. ذات يوم كنّا في طريق إلى سوسنكرد. وإذ بحسن يخبرنا: طُرح في الجلسة في مقر القيادة موضوع الدمج. قال الأخوة في الجيش نحن لدينا لواء، أنتم ماذا لديكم؟ وما الذي تريدون دمجه؟ في تلك اللحظة تبادر إلى ذهني أنه ينبغي  تشكيل لواء أيضًا، ولأنها كانت أيام عاشوراء أجبت مباشرة: نحن أيضًأ لدينا ثلاثة ألوية: كربلاء، عاشوراء و الإمام الحسين (عليه السلام)».[1]

قبل تنفيذ العملية بيوم واحد، توجه حسن باقري إلى السيد سعدون موسوي وذهبا إلى تلال النبعة معًا. كان السيد سعدون فتىً لا يتجاوز السادسة عشرة ويعمل راعيًا. عندما بدأت الحرب، كان يصطحب جماعات المقاتلين مساءً إلى أماكن تموضع العراقيين، فيوجهون بعض الضربات إليهم ثم يعودون أدراجهم. تعرف حسن باقري إلى السيد سعدون منذ تلك الأيام. كان يعيش مع جدته في

 


[1]- عليرضا رزم حسيني، مسؤول الإشارة في عمليات ثامن الأئمة وطريق القدس. ولد عام 1961 في مدينة كرمان.

 

208


195

مفتاح قلعة طريق القدس

مدينة بستان ويراقب العدو فيها وفي سوسنكرد ويقدم لحسن باقري المعلومات التي يجمعها. لم يشكّ العراقيون به نظرًا لصغر سنه.

قبيل تنفيذ العمليات، اصطحب حسن باقري السيد سعدون لحسم مسارها:

«كان الطقس باردًا وحبيبات المطر تتساقط بهدوء. ركبنا الدراجة النارية التي كنتُ أقودها، بمهارة على التلال. وصلنا إلى نقطة ركنتُ الدراجة أسفل تلة «دار الشياع»، وأكملنا طريقنا سيرًا على الأقدام. كنت أحمل سلاح كلاشنكوف وثلاثة مخازن رصاص، أما حسن باقري فلم يكن بيده سوى الخارطة. تمدّد أرضًا في أعلى التلة؛ تناول المنظار وراح يراقب العراقيين. لم آبه به، كنت أراقب المحيط. فجأة، التفت إليه؛ رأيت الدموع تنهمر من عينيه. تعجبت. لم أرَ شيئًا يستدعي البكاء. قلت: أخ باقري، لمَ تبكي؟

أعطاني المنظار وقال: أنظر.

لم تكن المسافة بيننا وبين العراقيين كبيرة. شاهدت عراقيًّا ذا شاربين كثييفين يأمر عناصره بأن يمدوا فوق الدشمة قطعة بلاستيكية. ضحكتُ وقلت: أخ باقري، لا شيء يدعو للبكاء. قال: دعك من هذا، لا شيء مهم. قلت: أخ باقري، أريد أن أعرف لماذا بكيت؟ قال: دعك من هذا الآن.

كنت حينها صبيًّا لا أعرف أي قائد كبير هو حسن باقري. قلت: يجب أن تخبرني حتمًا. أنا مسلح أما أنت فلا. قال: هذا موضوع آخر. أنت على حق، أنا أستسلم!

راح يمازحني. قلت: أخبرني سبب بكائك؟ قال: يا سيد، لقد

 

209

 

 


196

مفتاح قلعة طريق القدس

بكيت لأجل العراقيين الذين رأيتَهم بالمنظار. الليلة سيقتلون جميعهم حتمًا، إذ ستعبر قواتنا من هنا في بداية الهجوم، والآن هم يسعون لحماية أنفسهم من المطر.

 

تفطّر قلبي فعلًا. قمت من مكاني. قبّلت حسن وقلت له: إن كنت أنت قائد العمليات ستنتصر حتمًا، وستتحرّر بستان هذه. قال: إن شاء الله ستتحرر يا سيد، على الله الاتكال.

 

عندما عدنا، اصطحبني حسن إلى مقر القيادة. كانت ليلة العمليات, والجلسة خاصة وسرّية. كل القادة كانوا هناك. قالوا إنّ الجلسة خاصة ولا ينبغي لهذا الفتى الدخول. قال حسن: هذا السيد يعرف المنطقة، اسمحوا أن نستفيد من أفكاره. سألني: سيد، ماذا نفعل كي لا يتيه العناصر في الطريق؟ هل نضع إشارات؟ قال: الإشارة لا تنفع، سوف تقع. الحبل أيضًا غير ممكن. قال: إذًا ما العمل؟ قلت: نحن نستخدم الفانوس، استخدموا الفانوس أنتم أيضًا. قال: صلوات![1]

كنا نستخدم الفانوس لتتبع آثار قطيع الأغنام. واستخدمنا الفانوس أيضًأ في العمليات. لقد وضعنا عند كل 500م فانوسًا في الشجيرات المزروعة على طول مسافة الطّريق الممتدة من جنوب جبل ميشداغ حتى بستان».[2]

عند منتصف ليل 29/11/1981، ارتفع صوت القادة بنداء «يا حسين» عبر اللاسلكي إيذانًا ببدء عمليات طريق القدس. بدأ المقاتلون هجومهم في ثلاثة محاور هي الله أكبر، السيد جاسم


 


[1] - أي البتّ في الموضوع واتّخاذ القرار النهائي وإعلان خاتمة الجلسة.

[2] - حوار أجراه الكاتب مع السيد سعدون الموسوي. ولد السيد سعدون عام 1969 في منطقة بستان.

 

210


197

مفتاح قلعة طريق القدس

ومضيق تشزابه. أما المكان الذي تمت مباغتة العدو فيه بالكامل فهو المحور الشمالي، أي مضيق تشزابه. حيث تمكن شباب الوحدة المدرعة في الحرس مع عدد من المشاة من تجاوز مضيق تشزابه في الدقائق الأولى والالتفاف على العدو. قبل أسبوعين من تنفيذ العمليات، كان حسن باقري قد اجتمع مع فتح الله جعفري، مسؤول الوحدة المدرّعة التي تشكّلت حديثًا، وأعطاه التعليمات اللازمة وفقًا لآخر خارطة أعدّها:

«في 13/11/1981، قال لي حسن باقري: بمجرد البدء بتنفيذ العمليات، عليك إيصال ناقلات جندك من التلال الرملية في النبعة إلى مضيق تشزابه، وأغلق المضيق بنيران القذائف والرشاشات. ومن ثمّ سيطر على كتيبة الدبابات العراقية (كتيبة الإمام علي) في جسر (أبوجلاش) وضمّها إلى قوّاتك المدرّعة.

شرح له قدرات تلك الكتيبة عبر تتبّع الخارطة وقال: قائد «اللواء 26 المدرع» هو طارق فيزي الهزاع. طارق فيزي ليس من أولئك الذين يصمدون في وجهك ويقاومون، وبإمكانك التوجه إلى مقر قيادته. لكن، بما أن المعبر الوحيد للعدو هو تشزابه، سيواجهك هناك. يجب أن تقوم بالتخطيط لنتمكن من مواجهته».[1]

كانت التلال الرملية في النبعة أرضًا بكرًا لم تمسّها يد الإنسان بعد. اعتقد العدو باستحالة المرور فيها. لذا، كان يتصوّر أن نبدأ الهجوم من طريق سوسنكرد- سابله للوصول إلى بستان، ثم نعبر من تلال «الله أكبر»، «السيد خلف» أو «تبه سبز» للوصول إلى تشزابه. كانت هذه الخطة هي الأكثر احتمالًا من النّاحية العسكرية

 

 


[1] - فتح الله جعفري.

 

211


198

مفتاح قلعة طريق القدس

أيضًا. لم يتوقع العدو دخول المقاتلين الإيرانيين إلى تشزابه عبر المنطقة الرملية والالتفاف حوله:

«دخلنا المضيق بعشرين عنصرًا، أي سريتين، والهدوء يخيم على المنطقة. كنت في إحدى ناقلات الجند. قلت للسائق الأخ كرباسي: تقدّم لنشتبك معهم.

تبعتنا ناقلات الجند المتبقيّة أيضًا. كانت النّاقلات عراقية، فلم يتصور العراقيون أنّها تُقلّ إيرانيين. لذا، عندما وصلنا إليهم اعتقدوا أننا من عناصرهم فهبّوا لاستقبالنا. بيد أنّ قوّات مشاتنا هاجمتهم بنداء الله أكبر فلاذوا بالفرار.

كنا قد تموْضَعْنَا في المضيق عند أول الصبح، وإذا بسيارة جيب نظيفة تقترب منا. ظنّ سائق الجيب أن ناقلات الجند هذه تابعة لهم. عندما اقترب منا أكثر ووقع نظره على شارة الحرس قال متعجّبًا: إيرانيون! حاول الهرب لكن الشّباب أمسكوا به. لقد كان المسؤول المالي للّواء 26 المدرّع ويحمل محفظة مليئة بالنقود. اقتربت آليتان أيضًا لا علم لطاقمهما بما يحدث فتمّ أسرهم جميعًا».[1]

حقّقت العمليات أهدافها التمهيدية بنجاح وفق الخطّة المرسومة. دخل المقاتلون بستان بعد ساعات قليلة على بدء العمليات وبدأوا بالإعداد للمراحل التالية من العملية وهي تحرير المزيد من المناطق. كان غلامعلي رشيد قائد العمليات وحسن باقري نائبه الذي تولّى عمليًا مهمّة توجيه الوحدات:

«كنت قائد عمليات طريق القدس وحسن نائبي. لكن مع هذا، كان الّلاسلكي بيده هو، لأنني كنت أراه أكثر قدرة على الإقناع أما

 

 


[1] - المصدر السابق.

 

212


199

مفتاح قلعة طريق القدس

أنا فكنت جديًّا وصارمًا».[1]

محسن رضائي الذي كان يتابع العمليات خطوة بخطوة من دشمة القيادة; ها هو الآن، يشهد سلوكيات حسن باقري عن قرب، وقد أثلجت كفاءته قلبه:

«شعرت حينها أنّ حسن هو ليس حسن الذي كان يقدّم لي المعلومات قبل سنة ويرسل لي التقارير بشكل دوري. حسن هذا، إضافة إلى مسألة الاستطلاع، يتمتع باستعداد عملياتي كبير جدًّا. عندما يتحدث عبر اللّاسلكي لا يتحدث كمعاون. أساسًا هو يتكلم كقائد. أحد الأمور التي أسعدتني كثيرًا في تلك العمليات هي رؤية تطور حسن. بحسب ما يقول العوام، جعلني أشعر بالنشوة حقًا! إذا لدينا رجال أقوياء والحمد لله. كنت قد استلمت القيادة قبل شهرين أو ثلاثة وأبحث عن مثل هؤلاء الأشخاص».[2]

في الليلة الثالثة للعمليات، أخبرنا «التنصت» أن العراقيين يقولون في تقاريرهم أنهم يكادون يسيطرون على جسر سابله. يقع هذا الجسر في المحور الجنوبي غرب بستان على بعد (7 كلم) من مقر القيادة ويعتبر خطًّا أماميًا. نظرًا للأهمية التي يوليها حسن لجسر سابله، تحرك مباشرة إلى تلك الجبهة في سيارة جيب. كانت الآليات تتحرك في الخط الأمامي مطفأة الأضواء. بعد تفقده المنطقة وإعطائه التوصيات اللازمة، وأثناء عودته من سابله، اصطدمت سيارته بشاحنة تحمل صهريج ماء وأصيب بجروح. عندما وصل الخبر إلى المقر، توجه أخوه محمد لزيارته في

 

 


[1] - اللواء غلامعلي رشيد.

[2] - اللواء محسن رضائي.

 

214


200

مفتاح قلعة طريق القدس

مستشفى الأهواز:

«كان جرحه بليغًا، وأرادوا نقله إلى طهران. في حين لم يكن معلومًا إن كان سيبقى حيًّا أم لا، استعاد وعيه للحظات؛ فحاول بصعوبة أن يقول شيئًا ما. اقتربت منه أكثر. أول كلام نطق به: ماذا حصل لجسر سابله؟ كيف انتهت الأمور هناك؟ قلت: استرح أنت الآن، حالك ليست جيدة.

كان المصل في يده، يغيب عن الوعي حينًا، ويعود إليه حينًا آخر، فيردّد: يجب أن يُحكم الشباب سيطرتهم على ذلك المثلث. إذا سيطر العراقيون على تلك المنطقة سيتمكنون من استعادة الجسر. وأكد ثلاث مرات: إذهب إلى الأخ رشيد وقل له أن ينتبه جيدًا لتلك المنطقة».[1]

قبل يوم على إصابته، اتصل حسن باقري بزوجته، ومن جملة ما حدّثها به أن المقاتلين بحاجة للدعاء أكثر من أي وقت مضى. جمعت السيدة داعي بور السيدات في لجنة الأخوات وقَرَأْنَ دعاء التوسل. في تلك الأثناء، ضاق صدرها بشكل غريب، كانت تشعر أنّ أمرًا سيئًا سيحصل:

«ذهبتُ إلى المنزل. شعرتُ باضطراب فشرعتُ بالصّلاة. وبينما أنا أتضرع إلى ربي في خلوتي تلك، طلبت منه أمرًا غريبًا. إلهي! لن أكون حائلًا بينه وبين الشّهادة، لكن إن قُدّر ذلك، أريد منه ولدًا، وأن يرَ ولده، ومن ثم يستشهد.

بعد هذا الدعاء، خلدتُ إلى النوم بعد منتصف الليل».[2]

 

 


[1] - اللواء محمد باقري.

[2] - السيدة داعي بور.

 

214


201

مفتاح قلعة طريق القدس

تبيّن فيما بعد أنّ تلك اللحظة قد تزامنت مع لحظة إصابة حسن. كانت السيدة داعي بور قد أوصت الأخوات بعد الضّيق الذي شعرت به أنّه إذا أحضروا حسن فليعلموها بذلك على الفور. لم يمضِ وقت طويل حتى وصل خبر الحادث:

«بعد صلاة الصبح، اتصلت السيدة زهرة شهابي من المستشفى، وهي عضو في لجنة الأخوات. قالت: تعالي، لقد أحضروه. قلت: هل حاله جيدة؟ قالت: إصابة في الدماغ، لا يعلمون إن كان دماغه سليمًا أم لا.

لم أكن أملك سيارة. ذهبت إلى المستشفى سيرًا على الأقدام. كان الأخ محمد هناك. عندما رآني، أفسح لي المجال لأتقدم إليه. وقفت ناحية رأسه، سلمت عليه. ناداني باسمي وردّ عليّ السّلام، فتيقّنت أن دماغه سليمًا وارتاح قلبي».[1]

لقد أصيب جبين حسن بجرح عميق، ونقل إلى أصفهان ثم إلى مستشفى شريعتي في طهران بناء على توصية الأطباء. أما في الجبهة، وبالتزامن مع هذا الحادث، فقد قام العراقيون بهجوم عنيف في جنوب بستان، حيث عبروا من نهر سابله، وقطعوا الطريق الممتد من ناحية النهر حتى مضيق تشزابه الأمر الذي أقلق محسن رضائي:

«سعى العدو للسيطرة على المنطقة الممتدة من الجنوب إلى الشمال, التي تقع تحت إشراف حسن. هنا، وفي هذه الحالة كان حسن باقري الشّخص الوحيد الذي يستطيع أن يجد مخرجًا. قلت للأصدقاء: أنظروا كيف حاله؟! هل يمكنه الخروج من المستشفى؟! أحضِروه إلى المقرّ حتى لو لزم الأمر أن يرافقه الطبيب؛ فهو

 

 


[1] - المصدر نفسه.

 

215


202

مفتاح قلعة طريق القدس

من خلال متابعته الوضع عن قرب وتقديمه التّوجيهات اللازمة سيتمكن من المساعدة في حلّ هذه المشكلة».[1]

أما هناك، في المستشفى، فلم يهدأ بال حسن ولم يقرّ له قرار. عندما سمع رسالة محسن رضائي، قام فورًا. أوصى الأطباء بأن يستريح شهرًا على الأقل لتلحم جمجمته، وإلا فسيبقى يعاني من أوجاع دائمة في الرأس. لكنه أقنعهم أنه سيستريح في المقر ويتابع علاجه هناك:

«كان يتابع القضايا المختلفة في المقر. بذلك الجسم النحيل والمجروح، قدّم حسن من الجهد ما لا يمكن لعقل الإنسان أن يتصوّره. كان مستوى السكر في الدم ينخفض عنده ولا يقوى على الوقوف بسبب السّهر الطويل والعمل الكثير، كانوا يوصلون له المصل في يده لتنعش روحه بعد دقائق، وبينما هو كذلك كان يوجّه ويقول افعلوا هذا ولا تفعلوا ذاك».[2]

تراجع العدو من أمام سابله وانتهت عمليات بيت المقدس بنصر مؤزّر في النصف الأول من شهر كانون الثاني 1981. إضافة لكل الإنجازات الأخرى، أثبتت هذه العمليات أنه يمكن بالإبداع تجاوز الجدران الحديدية:

«كانت منطقة طريق القدس هي أول نقطة حدودية دولية نصلها. لقد بذل العدو غاية جهده في تحصين تلك المنطقة بجدار ألغام حديدي، وخندق، وأسلاك شائكة وآليات مدرعة ما جعل الوصول إليها أمرًا معقّدًا. هنا، كان لا بد من فتح هذه القلعة

 


[1] - مسؤول الفرقة محسن رضائي.

[2] - مسؤول الفرقة محمد باقري.

 

216


203

مفتاح قلعة طريق القدس

بابتكار ما. أطلقنا على هذا الابتكار اسم ابتكار علي بن أبي طالب في فتح خيبر. في تلك الحادثة -حادثة خيبر- فشل كل القادة الذين أرسلهم النبي (صلى الله عليه وآله) في فتح قلعة خيبر، عندما وصل الدور إلى الإمام علي (عليه السلام) سألوه ما الذي ستفعله ولم يتمكن الآخرون من فعله؟ قال: سأذهب من طريق. بدأ أغلبهم بالضحك من كلامه، وقال أحدهم إنه يريد القضاء على بقية جيش الإسلام، إذ لا يمكن لأحد من جنود المسلمين الوصول إلى قلعة خيبر من خلال هذه الطريق، ففيها أودية عميقة يستلزم عبورها ساعات عديدة. ومزح أحدهم أنّ العقارب الموجودة هناك تكفي للقضاء على جيش عليّ. لكن، أمير المؤمنين (عليه السلام) كان حاسمًا، وتمكن بحسن تدبيره من فتح قلعة خيبر من مكان ما دون أن يعلم العدو ما الذي حصل أصلًا. وبوغت الموجودون في القلعة بالكامل حين رأوا جيش الإسلام داخل القلعة. نُفّذَت عمليات طريق القدس بالمبدأ نفسه أيضًا. لو أراد جنودنا الهجوم من بستان في الجبهة الجنوبية، أو من ناحية سوسنكرد، لما تمكنوا من فتح حتى معبر واحد، وقد تبين لنا هذا الأمر بعد العمليات. لقد اختار حسن باقري منطقة رملية تغرق الأقدام عند السير فيها حتى الركب. اخترع الأخوة في جهاد البناء سجادة من الرمال، إذ أحضروا طينًا وخلطوه بالرمال وأنشأوا طريقًا مموّهة لا ترى بالتّصوير الجوي. كان من الضروري أن يهندس هذا الطريق على نحو يصل إلى الهدف مباشرة. لقد وقع الثقل الأكبر في هذه المهام على عاتق حسن باقري».[1]

بعد عمليات طريق المقدس، أدرك الجميع أنّ الخطوات التالية

 

 


[1] - مسؤول الفرقة محسن رضائي.

 

217


204

مفتاح قلعة طريق القدس

ستكون أكبر بكثير. فمؤسسة الحرس تتوسع والعمل جار لاختيار قادة للوحدات الجديدة. وفي هذه النّقطة بدأوا بمواجهة المشاكل، فلم يقبل هؤلاء الأفراد التّصدّي للقيادة وكانوا يقولون: «سيستشهد أولاد الناس تحت إمرتنا، لذا لا نستطيع تحمّل المسؤولية. إختاروا شخصًا آخر للقيادة ونحن نساعده في أمر القيادة». طرح حسن باقري هذه القضية مع محسن رضائي، في النهاية قرّروا عقد لقاء للقادة مع الإمام الخميني. توجه حسن باقري وعدد من القادة إلى طهران في 16/1/1982 ووصلوا في الصباح الباكر إلى مقر القيادة المركزية للحرس:

«أراد الحرس إجراء بعض الترتيبات. قلنا لهم إنّ حسن باقري ورشيد هما من قادة الحرس. قال الحارس: قائد أم غير قائد، لا فرق بينهما عندنا!

في تلك اللحظات، دخلت قطة من تحت الباب إلى المركز. قال حسن: ها قد دخلت القطة إلى المركز بدون إجراءات!

ضحكنا جميعًا. أخيرًا انتهت إجراءات الدخول ، مكثنا ساعة للاستراحة في مكتب العمليات. عندما حضر حسين كنعاني مقدم، نائب مسؤول عمليات المركز، الأخ رحيم والأخ محسن، ذهبنا إلى جماران. عند وصولنا، وجدت هناك أيضًا ناصر كاظمي من كردستان، كما حضر أعضاء المجلس الأعلى لشورى الحرس».[1]

كنّا 20 فردًا في غرفة الإمام، كانت لدية معلومات كافية حول عمليات طريق المقدس، لذا تقرر أن يقدم أحدنا تقريرًا عن هذه العملية. تم إيكال هذه المهمة لحسن باقري. رسم للإمام سريعًا


 


[1]   - اللواء فتح الله جعفري.

 

218


205

مفتاح قلعة طريق القدس

خارطة العمليات على ورقة بيضاء، وقدم له الشرح اللازم. سأل الإمام أسئلة عدة أجاب عليها حسن. ثم بدأ محسن رضائي بالكلام:

«قال الأخ محسن للإمام إنّ وضع العمليات تطور بحيث صار بإمكاننا تنفيذ عمليات أوسع. أفراد الشعب يرحّبون بذلك والمؤسسة تنتج أكثر فأكثر، لكن القادة قلقون من أن يستشهد أبناء الناس تحت إمرتهم، ويطلبون أن يكونوا عناصر عاديين بدل أن يكونوا قادة أو أن يتابعوا دراستهم. أجاب الإمام بما مضمونه أنه يجب أن تشكروا الله بأنّ هذا العمل يتم على أيديكم، لقد اختاركم الله أنتم، والشهداء أسماؤهم في اللوح المحفوظ. ليس من شأنكم من يُقتل ومن لا يُقتل. غاية الأمر أن تعملوا بتعقّل ورويّة. لا تقتلوا أنفسكم عبثًا. هناك فرق بين الشجاعة والتهوّر.[1]


 


[1]   - النص الحرفي لكلام الإمام في جمع من قادة الحرس: يجب أن تشكروا الله لأن هذه العمليات الإسلامية تتم على أيديكم. لا يوفّق أي شخص لهذا العمل. بعد لقاء مع عدد من أفراد الحرس صباح هذا اليوم، فكرت في مسألة وهي ليتني كنت واحدا من الحرس؛ ماذا يفعلون هم، وماذا أفعل أنا. هم يذهبون ويقاتلون أعداء الإسلام، وأنا هنا لا أستطيع. إعرفوا قدر أنفسكم. لقد شملكم الله بعنايته إذ جعلكم أهلًا لتحموا القرآن الكريم والإسلام العزيز وأرض الإسلام. لقد ثبُت في النظام الإلهي اختياركم أنتم لخدمة الإسلام وهذا محفوظ عند الله، والله وملائكته معكم، ويجب أن يكون قلبكم قويًّا. كل خطوة تقومون بها لأجل الإسلام هي خطوة إلهية مكّنكم الله منها. إعملوا أنتم بتدبير وتفكر، ولا تخافوا من أن تَقتلوا أو تُقتلوا. الأصل هو أن تُخلصوا النية، والأمر كذلك بحمد الله. الروحية القوية التي يتمتع بها شباب العشرينيات هؤلاء هي من الأمور التي تثير الدّهشة. هدفنا اليوم هو أن نعيد هذا البلد المبتلى بالفساد والملكية والتبعية للغرب إلى الإسلام، ولا هدف آخر لنا. من المسائل التي أريد التذكير بها هي أن تراعوا النظم بالكامل. الشجاعة هي غير التهور. الشجاعة في الحرب هي عمل بطولي قائم على التخطيط والنظام والتدبر، والتهور هو الهجوم على العدو دون تدبر وتنظيم. يجب أن يتم العمل وفق النظام والقانون. أكرر، عندما يقوم العمل على النظام والقانون ويكون خالصا لله فلن يكون هناك خوف من يُقتل ومن يَقتل...(صحيفة الامام، المجلد 15، ص 497).

 

219


206

مفتاح قلعة طريق القدس

وقفت أمام الإمام كما كنت أفعل عندما كنت أعمل في فريق الحماية، قبّل الشباب يده الواحد تلو الآخر. قال له حسن، ادعُ لي بالشهادة. أجاب الإمام: أدعو أن تنتصروا.

كنت آخر من قبّل يد الإمام. قال الأخ محسن: إنه قائد لوائنا المدرع.

تبسم الإمام. عندما خرجت، قال لي حسن باقري: أنت قائد اللواء الوحيد الذي عرّفناه إلى الإمام، إعرف قدر ذلك.

هذا اللقاء وما تفضّل به الإمام، رفع من معنويات القادة، وأزال الريبة من قلوبهم».[1]

في هذا اللقاء قال الإمام ليتني كنت حارسًا ثوريًا. في نهاية اللقاء، التقط حسن باقري صورة للذكرى:

«آلة التّصوير ترافق حسن باقري دائمًا. قال للإمام: هل تسمحون بالتقاط صورة معكم؟ أجاب الإمام: لا مشكلة.

اندفع الشباب ناحية الإمام للوقوف بجانبة. قال الأخ محسن: لماذا هذا الشغب! لا تثيروا الفوضى. قال الإمام: لا مشكلة في ذلك».[2]

 

 


[1] - فتح الله جعفري.

[2] - حسين كنعاني مقدم، قائد أحد المحاور في عمليات طريق القدس.

 

220


207

معركة «تشزابة»

معركة «تشزابة»

 

بعد لقاء الإمام، عاد القادة إلى المنطقة بُغية الاستعداد والتحضير للعمليّات التالية والأضخم. لكنّ أخبارًا سيِّئةً وصلت وقتذاك من «تشزابة». فالعدو الواثق من أن المجاهدين سينفذّون سريعًا عمليات واسعة أخرى، سارع إلى شنّ هجومٍ كبيرٍ في «تشزّابة»، عازمًا على استعادة مدينة «بستان»، وعلى ردِّ اعتباره، بعبارة أخرى. ولتحقيق هدفهم، اختار العراقيّون الطريق التي سبق وتلقَّــوا عبرها الضربة الأساسيّة. لذا، صارت تلال «نبعة» في شمال «تشزّابة» هدفًا لهجومهم، بعد أن كانت لا تحظى بأي أهميّة. 

«طارق فيزي الهزاع قائد «اللواء 26» العراقي المدرّع كان قد فرّ خلال عمليّات «طريق القدس». ولمّا أرادوا إعدامه، وعد باستعادة «بستان» قائلًا: أنا أعلم كيف أستعيدها. وكان هدفه أولًا السيطرة على «تشزّابة» و»نبعة»، ليصل إلى «بستان»[1].

  في 6/2/1982م، شَرَع البعثيّون هجومهم على «تشزابه»، واحتلّوا أجزاءً من تلال «نبعة»، فتصدّى لهم المجاهدون الخراسانيّون بقيادة «مهدي خادم الشريعة». في اليوم التالي، وبُغية السيطرة الكاملة على المرتفعات والتقدم نحو «بستان»، أغرق العراقيّون

 

 


[1] -  فتح الله جعفري.

 

221


208

معركة «تشزابة»

منطقة «نبعة» بوابل من قذائف المدفعية والصواريخ: 

«لم يسمح حجم القصف والنيران لأحدٍ بالتردّد والتنقّل، وبصعوبة كانت القوّات المقاتلة تتحرك من دشمة إلى أخرى. استشهد مسؤول المحور «حسن علي مرداني» بعد ظهر اليوم الأول، وزاد العدوّ من ضغطه وضيّق علينا العمل. لم تعد الكتيبة تصمد لأكثر من يوم واحد، فحجم نيران العدو وقصفه لا سابق له منذ بداية الحرب, فاستحالت، رمال «نبعة» المشعّة تلّةً رماديّة وسوداء بسبب البارود والانفجارات، وأمست الأشجار الخضراء الغنّاء التي نمت عليها يابسة محروقة. التلّة التي كنّا نمشي عليها حفاة الأقدام، امتلأت بالشظايا الحارقة الحادّة. لم يكن لنا في السفح من دشمةٍ، فدشمنا فوق التلال التي سيطر العدو عليها كلّها. في 7 شباط، استشهد وجرح في «نبعة» قرابة الثلاثمئة مجاهد».[1]

لم يكن بالمقدور إيصال الإمدادات وإخلاء الشهداء والجرحى بسيّارات الإسعاف وناقلات الجند، لأن العدو كان مشرفًا من المرتفعات على المعابر ومسيطرًا بنيرانه عليها. ولحسن الحظ، لم يسمح الطقس الغائم للقوّات العراقيّة أن تقصفنا بسلاحها الجوي. كان الجميع ينتظرون حلول الليل ليستتروا تحت جناحه ويحضروا ناقلات الجند والغذاء والذخائر، ولينقلوا الشهداء والمجروحين. لكن العدو ما كان ليكفَّ ويرضى بأقل من استرجاع «بستان».

توافدت الأخبار السيِّئة إلى مقر القيادة، إلى أن سقطت «نبعة» بِيَد العدو. فازدادت الأوضاع تعقيدًا. صمّم » حسن باقري » على الحضور في موقع الاشتباك، وتقييم الوضع عن كَثَب:

 


[1]-المصدر السابق نفسه.

 

222


209

معركة «تشزابة»

«لم يكن الكسر في جمجمة أخي قد جُبر ولا التأمت جراحهُ بعد. منعه الأطباء من الحضور المباشر والعمل في الجبهة، كما حاول القادة ثنيه عن ذلك، لكنّه لم يحتمل، وذهب غير آبهٍ بالعواقب. ثم عاد بعد ساعات ليحلّل الوضع في المنطقة، قال: إن بقاء هذا المرتفع بيد العراقيّين، يعني انسحابنا من هذه الجبهة متكبِّدين خسائر فادحة، وستذهب جهود عمليّات طريق القدس سدىً».[1]

كان «حسن باقري» يعلم بأن النظام البعثي أعدّ العُدَّة لهجوم أكثر فظاعة وترويعًا، وأنّ العدو يومها استخدم 18 مربضًا مدفعيًّا لكلّ منها 6 مدافع، أي أنّ مئة وثمانية مدافع كانت تصوّب قذائفها معًا نحو قوّاتنا. لهذا، ذكّر «حسن باقري» بضرورة بناء مَلاذٍ تحتمي به القوّات، فأمر بإرسال أكياس الخيش إلى الخط، كي تبني القوّات البديلة بأكياس الرمل دُشمًا تحتمي بها. كما طلب من مهندسي جهاد البناء، إنشاء ساترٍ ترابيٍّ قرب الطريق. وفجر8 شباط، تقدمت قوّات الحرس البديلة إلى الخط، وغادرته القوّات السابقة إلى الخلف مشيًا لتستريح.

لم يهدأ العدو في الليلة الماضية، وحصَّن مواقعه وعزّز قواّته ومرابض مدفعيّته. وما إن انقشع الظلام، حتى بدأت أمطار رصاصه تهطل بغزارة شديدة لتشلَّ قدرة الجميع على الحركة. كانت الشظايا ترتطم بأكياس الرمل وتخرقها، فتنهار الرمال وتُدمَّر الدشم, ما دفع المجاهدين للتقهقر حوالي 200 متر:       

«تحت النّيران والقصف الشديدين، أطلّت فجأةً سيارة جيب، وتقدّمت باتجاه الخط. تعجّبنا لذلك، فحتى نيران مدافع العدو

 


[1] - اللواء محمد باقري.

 

223


210

معركة «تشزابة»

انقطعت للحظة! كما أنّ هذا المشهد كان عجيبًا بالنسبة لهم. عندما اقترب، رأينا «حسن باقري» يقود السيارة. ترجّل مسرعًا، وانطلق مباشرة من غير أن يحني قامته أو يقفز نحو الساتر الترابي. كان «مسعود بيش بهار» و «علي رضا رزم حسيني» برفقته، وقد بقيا في الساتر الترابي الثاني من أجل تأمين ما يلزم لغرفة القيادة. قصد «حسن باقري» الشهداء، ومكث عند شهيدٍ كان في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، اغرورقت عيناه بالدموع وتمتم بعض الذكر. حضوره في خط المواجهة أثار قلقنا، كما اعترض قادة الكتائب على مجيئه إلى هناك، لكنّه جلس في الدشمة ببرودة أعصاب، ليوجّه القادة  هناك للتصدّي للعدو. قال له أحد قادة السرايا: أخي «باقري»، بأي قوّات سأواجه؟ فلم يبق لي أحد. أجابه متبسِّمًا: لقد أضيف ثلاثة أشخاص إلى سريّتكم! تمركز «حسن» في مكان يكشِف جيدًا منطقة «نبعه»، وجّه نيران الدعم على دشم العدو التي كان يتوقَّع أنها للمراقبة والمدفعيّة. بالفعل، كان للنيران تأثيرها، حيث أدَّت إلى انخفاض وتيرة القصف. فبعث حضوره في خط المواجهة الحماسة والمعنويّات بين القوّات. 

استدعى «حسن باقري» السيّد «برويز شريف»، قائد الكتيبة، وقال له: إنّ العدو يهدّد جانِبَنَا الشّمالي عبر التلّة التي احتلّها، وإن أفضل الدفاع الهجوم. علينا استعادة هذه التلّة حتى يصبح بإمكاننا على الأقل التردد من شمال «نبعة» وسحب جرحانا.

وضع خطة مناورة. واستعان بالرمل لتجسيد تلّة «نبعة» والتلال الأصغر على الأرض، ثم رسم عليه منخفضًا، وقال لقائد

 

224


211

معركة «تشزابة»

الكتيبة: كلّف فصيلين بتطويق التلّة عبر هذا المنخفض، والتمركز داخله بهدوء. وبمجرد أن تباشروا بضرب العدو من الأمام، وتتنبه قواته لبدء الاشتباك، يهجم الفصيلان عليه من الخلف.

كانت خطّةً رائعة تحمّس لها قائد الكتيبة، فأمسك «حسن باقري» بكتفه قائلًا له: إحرص على اختيار أشجع العناصر ليعبروا هذا المنخفض إلى شمال التلّة وينفّذوا الهجوم. وليعمل الفصيل الثاني على إشغال قوّات العدو. فإن لم تقوموا بهذا العمل، واستمررتم على هذه الحال خلف الساتر الترابي، لن يحلَّ المساء إلا وقد خسرتم كلَّ قوّاتكم. ضبط موجة تردُّدٍ على جهازه اللاسلكي وأجهزة الكتيبة والفصائل، وقال: ستتحركون بنداء: يا عليّ بن الحسين(عليه السلام)، توكّلوا على الله واطلبوا المدد منه. ربّما اختار «حسن باقري» نداء: يا علي بن الحسين(عليه السلام) لبدء العمليّات، لكون جميع القوّات المشاركة فيها من فئة الشباب.

أثّرت معنويّات «حسن باقري» في القوّات، فقد وجد لهم مخرجًا مناسبًا من شمال التلّة، بينما ركّز الجانب العراقي تأهُّبه واستعداداته الدفاعيّة نحو الجهة الشرقيّة، وبذلك تمكنوا من مباغتة العدو. من بين 22 عنصرًا لكل فصيل، تمّ اختيار عددٍ محدد. وتولّى فصيلٌ مهمّة الدفاع والمواجهة من الجهة الشرقيّة، وفصيلٌ آخر الهجوم من الجهة الشماليّة. قال «حسن»: اختاروا ثلاثة عناصر من رماة ال«آر بي جي» الأقوياء، حتى يستهدفوا - بالتزامن مع تقدم قوّات الفصيل من أسفل تلّة «نبعة»- دشم العدو الأقرب التي تصل قذائفهم إليها.

استمر الالتحام ساعةً، وعلمنا من اللاسلكي ومن حديث «حسن

 

225


212

معركة «تشزابة»

باقري» أن قوّاتنا أحكمت سيطرتها على التلّة التي كانت قد احتُلّت صباحًا. ملأ التكبير أجواء المنطقة. وقد خفّفت خسارة العدو هناك من ضغطه علينا. كان «حسن باقري» يُراقب بدقّة, ويُحسن إدارة النار. لقد فعلت صليات نيران رماة الهاون التي وجهّها فعلها».[1]

مضت ثلاثة أيام، استقدم العراق قوّات جديدة إلى المنطقة. كانت الكتيبة تأتي في الصباح إلى المحور، وتُبدَّل ليلًا بكتيبة أخرى. لم يكن العراقيّون بصدد إيقاف العمليّات. قرّر «حسن باقري» الذهاب بنفسه للاستطلاع بحثًا عن منفذٍ لهذه الأزمة. فرافقه في هذا الاستطلاع  المهمّ «فتح الله جعفري»، الذي تحمّل مسؤولية محور «نبعة» بعد استشهاد حسن علي مرداني:

«صباح يوم 12شباط، حضر «حسن» إلى المنطقة بسيّارة الجيب التي لا سقف ولا زجاج ولا باب لها. وكان قد ثبَّت في مؤخِّرتها جهازًا لاسلكيًّا، وأغلق إصبع هوائيَّه القصير وثبت مكانه شريط الهوائي الطويل [الانتين]. فتح الكرسي، وكان عليه سلاح كلاشينكوف قصير المقبض. بعد أن جرّبه، وضع عددًا من المخازن بقربه، إضافةً لوعاء ماء بحجم أربع ليترات وعلبتين من معلبات الفاصولياء ومقدارًا من الخبز اليابس. كما أخذ معه صورةً جويَّةً للمنطقة و مخطّطًا. تحيّرت بأمره وبما ينوي فعله. ولأنني أعلم أن هذه هي عدّة الاستطلاع، ركبت السيّارة قبل أن ينطق بحرف أو يدعوَني لذلك. لم يعلّق بشيء وانطلق. كنت أظنّه سيذهب إلى ممر(وادي) «سعدة» و«العقبة»، لكنّه اتّجه نحو ممر ومضيق «تشزابه». غاص في الرمال وسلك الطريق الذي فتحناه سابقًا، وهو يمرّ في حقل ألغام مضادة للدبّابات وحقل ألغام نطّاطة وأسلاك شائكة. ويقع


 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

226


213

معركة «تشزابة»

على بعد ستّة كيلومترات من تلال «نبعة». سرنا في شرق «نبعة» بالتوازي مع تلالها. قطعنا «نبعة» ووصلنا إلى سهل. ثم انعطف «حسن باقري» نحو شمال «نبعة»، وكان الجيب متعاونًا معه، فسار به في الطريق الوعرة والتلال الرمليّة، وأدخله في المنخفض ثم استدار. كلّما سرنا شمال تلال «نبعه»، ابتعدنا عنها أكثر. لم نعد نرى أي مكان، بسبب التلال المحيطة بنا عن الطرفين. لكنّه كان يعرف الطريق جيّدًا، لا أدري من أين عرفه حتى يقود باطمئنان وهدوء ويردّد الأذكار.

وصلنا إلى شجرة، وإلى حينها لم يكلِّمني أبدًا، ولم أنطق بكلمة. لكنّني كنت مسرورًا برفقته. وهو بدوره لم يستأ لمجيئي معه. كان لإطارات سيّارة الجيب فوق الرمال المتحرّكة صوتٌ خاص. بلغنا مكانًا يُسمع فيه من بعيد صوت إطلاق الرصاص في «نبعة». ركن السيّارة فيه، وحمل الصورة الجويّة، المخطّط، المنظار السلاح والبوصلة، وحملتُ سلاحي ومضينا. مشينا كيلومترًا واحدًا تقريبًا. لم أكن أعرف المنطقة، وكلُّ شيءٍ غامضٌ بالنسبة لي. كان يمشي بخطواتٍ طويلة وسريعة. جلس فوق تلّةٍ رملية، لم يجد شيئًا في الأفق البعيد، أعطاني المنظار وقال: انظر، هل ترى شيئًا؟ ثمّ فتح الصورة الجويّة والخريطة، وبدأ بوضع العلامات عليها. فرسَّم المنخفضات والطريق الذي سلكناه. وبدا واضحًا أنه زار المكان سابقًا وعمل فيه. نظرت في المنظار، فرأيت المدفعيّة العراقيَّة تقصف باتجاه «نبعة»، والسيّارات تتردد و ساتر العدوّ الترابي واضحٌ تمامًا. فسألني: ماذا ترى؟ فقلت: العراقيّين، فأجاب ممازحًا: عجبًا!

وضع العلامات والإشارات، شمَّر أكمامه ومدّ يديه إلى الرمل

 

227

 

 


214

معركة «تشزابة»

والتقط المنظار، وراح يُمعن النظر عبره نحو ساعة، ولم تتعب يده. كان يجول ببصره بين مخفر «سوبله» و«نبعة» بمنتهى الهدوء والدِّقة. وبعد (عودتنا) من هذا المنخفض، توغّلنا قرابة 800 متر في طريقٍ آخر يقع مقابل العراقيّين. كان «حسن باقري» يسير بحذرٍ. وصلنا بعدها إلى تلّة رمليَّة أخرى، وهناك أيضًا، تفحّص المكان بالمنظار ووضع العلامات. ثمَّ أكملنا مسيرنا إلى الخلف ودخلنا منخفضًا جديدًا. حلَّ الظهر، وقد مضت ساعتان ونصف على تواجدنا في المنطقة. أقام «حسن» الصلاة وصلّيت مؤتمًّا به. سجدنا على تلك الرمال، وصلّينا صلاتنا قصرًا، وطال فيها الركوع والسجود والقنوت. سمعته يدعو في قنوته بمقاطع من دعاء كميل. ثم تناولنا بعدها الخبز والمعلَّبات قرب السيّارة. رآني أسكب كأس ماء، فقال لي: لا تشربه على الطعام، فأجبته: لشدّة عطشي نسيت المكروهات.

استأنفنا السير في طريقٍ جديد. هناك أيضًا، وضع بعض العلامات ودوّن بعض الأمور على الصورة الجويَّة، كان وجهه-رغم جرح جبهته الذي لم يبرأ بعد- مفعمًا بالقوّة والنشاط.

سلكنا بعدها طريقين آخرين، ينتهي أحدهما إلى «نبعة». كلّما مررنا بطريق، سجّل علاماته وملاحظاته على الصورة الجويّة. استمر تجوُّلنا بعد الصلاة نحو ثلاث ساعات. ومن هناك اتجهنا شرقًا، تقدّمنا كيلومترًا تقريبًا، وتوقّفنا ساعة. جمع العِدّة قبيل الغروب وقال: لنذهب. فقلت: إلى منخفض آخر؟ قال: كلّا. عدنا عبر الطريق نفسه وصولًا إلى مقر «المهدي». شكرته لاصطحابي معه، فأجابني: أنت من تطوّع بالذهاب».[1]


 


[1]-المصدر السابق.

 

228


215

معركة «تشزابة»

في 16 شباط، ذهب الشيخ هاشمي رفسنجاني إلى مدينة «بستان». وكان سفره بمثابة حملة إعلاميةٍ هدفها دحض بعض ادعاءات صدّام حول احتلال «بستان». وكان لحضوره هناك سهمًا طيّبًا في رفع معنويّات المجاهدين. لكنّ هجمات العراقيّين العنيفة والمباغتة ما زالت مستمرة. عقد قادة الحرس والجيش اجتماعًا معه، وتوافق الجميع على أن حملات العدو ما هي إلا استباقٌ للأمور للحؤول دون استمرار عمليّاتنا ولمنع إدخال جميع قوّاتنا التي حشدناها بمشقّة بالغة من أجل عمليّات «الفتح المبين»، واستنزافها هناك. اقترح «حسن باقري» أن يتولّى تحرير «تشزابة» بنفسه، ويعمل باقي القادة في منطقة غرب «دزفول».

ليل 18/2/1982م، جمع «حسن باقري» القادة في مقر «المهدي (عجل الله فرجه)» وعقد اجتماعًا. قدّمت له قوّات استطلاع العمليّات أحدث تقاريرها. في صباح 19شباط، قصد «حسن باقري» «نبعة» ليُقيِّم مسرح العمليّات للمرّة الأخيرة. كان «فتح الله جعفري» شاهدًا على هذه الرِّحلة المحفوفة بالمخاطر:

«توجهنا إلى الخط الأمامي. ووصلنا مكانًا أصبحنا فيه مكشوفين للعدو. بدأت رشاشاته تمطر سيّارتنا برصاصها من على تلّة «نبعة». فكَّرت أن «حسن» سيتراجع بسبب حجم القصف، فما كان منه إلا أن قال لي: أخرج رأسك من الجيب، وراقِب الطريق عن طرفينا كي لا أصطدم بالتلال. وكذلك، أخرَج هو رأسه من السيّارة واستمرَّ بالقيادة. والجيب، لا سقف ولا زجاج ولا باب له. قاد السيّارة نحو 200 متر تحت وابل الرّصاص المتساقط حولنا وهو مطل برأسه من جهة الباب ليرى الطريق. ما إن وصلنا أسفل

 

229


216

معركة «تشزابة»

«نبعة»، حتّى رَكَن الجيب خلف الخط الثاني، وتابعنا إلى الخط الأول سيرًا على الأقدام، حيث يوجد السيّد «برويز شريف» و«نور علي شوشتري»  وقوّات «خراسان». تحدّث معهم قائلًا: أعدّوا كتيبةً دفاعيّة، واسحبوا كتيبةً للخلف كي تستريح استعدادًا لعمليّة الليلة».[1]

عاد «حسن باقري» إلى مقر «المهدي(عجل الله فرجه)». جلس في زاويةٍ وانهمك في إعداد الخطّة مستعينًا بالخارطة والصورة الجويّة، وأصبحت الخطّة جاهزة. عصر ذاك اليوم، عُقد الاجتماع، وقد نظَّم أربع كتائب لتنفيذ العمليّات. واحدةٌ مهمَّتها العمليّات المباشرة في «نبعة»، وواحدة في سفح «نبعة»، وكتيبةٌ في «تشزّابة». وتولّى بنفسه قيادة الكتيبة الرابعة:

«حينها، كان توصيف «حسن باقري» لا يقلّ عن «قائد فرقة العمليّات»، وتعمل بأمرته أكثر من خمس عشرة كتيبةً أو ما يزيد. لكنّ أخي كان يحمل روحيّة أداء الواجب، ويعتبره أعظم المسؤوليّات، ولا يعنيه المنصب والرتبة. شكّل ثلاث كتائب، وقال إنّه سيقود إحداها. استغرب الجميع وقالوا: أيّ قرارٍ هذا!  فأنت لا قدرة لك على المسير!؟ بيد أنّه أصر، وتولّى بنفسه قيادة الكتيبة المُسنَد إليها فتح أصعب منطقة في «نبعة»، وجد حذاءً رياضيًّا، فانتعله ومضى»[2].

تقرّر إجراء العمليّات بثلاث كتائب، تضمُّ كلٌّ منها 282 عنصرًا. لكن عَرَضت هنا مشكلة جديدة. ففي تلك الليلة، كلّ من عَلِم بقيادة

 

 


[1]- المصدر السابق.

[2]- اللواء محمد باقري.

 

230


217

معركة «تشزابة»

«حسن باقري» لإحدى الكتائب، سارع بالذهاب إليه. وإذ بعددٍ من قادة ومقاتلي لواء «الإمام الرضا(عليه السلام)» الذين غادروا الخط الأمامي للاستراحة، يعودون إليه بُغية المشاركة في العمليّات. فجأةً، ارتفع عدد العناصر في الكتيبة إلى 400! فذكّرهم «حسن باقري» أن عدد عناصر الكتيبة محدّد ولا ينبغي أن يزيد عن ذلك، غير أنّهم كانوا متلهِّفين لخوض الحرب معه. كان عليه أن يقول ما يُثنيهم عن ذلك، فلم يجد غير كربلاء شاهدًا، فذكَّرهم بأبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، الذي كان أشجع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ومع ذلك، لم يعط الإمام الحسين سيفًا لهذا القائد، بل أعطاه قربة الماء ليملأها. فاقتنع الجميع بكلامه و تراجعوا عن قرارهم.

تحدّث «حسن باقري» إلى القوّات العازِمة على خوض العمليّات: إنّ صدّام يريد الحصول على «بستان»، وقد أخبرنا الشيخ رفسنجاني خلال حديثه عن «بستان» أنّ ماء وجه النظام على المحك. ثمّ ذكر واقعة عاشوراء، مؤكّدًا على ضرورة العمل بروحيّاتٍ عاشورائيّة، فيوم عاشوراء الذي لطالما تمنّيتم الحضور فيه، سيتجسَّد الليلة. وهكذا، أُطلق اسم «مولى المتّقين(عليه السلام)» على هذه العمليّات:

«كان لقادة الكتائب عامل إشارة، يحمل الجهاز اللاسلكي على ظهره، ويتحدّثون هم عبر السمّاعة. لكنّ «حسن» حمل الجهاز على ظهره بنفسه، وأعطى موجة التردّد لقادة الكتائب. ثم ضبط تردّد جهازه. كان يخاطب العناصر في العمليات برمز44.

مرّت دقائق على بداية يوم 20 شباط، علا صوت «حسن باقري» من الأجهزة اللاسلكية مناديًا قادة الكتائب والفصائل ومعلنًا نداء العمليّة: يا علي(عليه السلام) أدركني. كان السكون يعمّ المنطقة، ويمرّ بها

 

231


218

معركة «تشزابة»

نسيم غربيٌّ هادئ. فجأةً، تصاعدت نيرانٌ من سفوح تلال «نبعة». وبينما كان توجّه العدو ينصبُّ نحو «بستان»، أغارت عليه قوّات «حسن باقري» من الخلف، وهو أمرٌ لم يكن في حسبانهم. فكلّ تجهيزاتهم وقوّاتهم ركّزت نحو الشرق و «بستان». في الوقت الذي باغتتهم قوّاتنا من الغرب، وسدّت طريق العدو الخلفي، وتُحكم بسرعة خلال نصف ساعة أو 45 دقيقة قبضتها على تلّة «نبعة»، حيث كانت توجد كتيبةٌ من قوّات الكوماندو من لواء 31 العراقي. لم تقضِ خطّة «حسن باقري» بأن تهجم بقيّة الكتائب الثلاث على خط «نبعة»، بل إنّه أوجد خرقًا من الزاوية الجنوبيّة للتلّة وأرسلهم خلف ساتر العدو الترابي، وبدلًا من أن يهاجموا من الشرق، انقضوا عليه من الشمال. أي أنّه لم يهجم وجهًا لوجه، بل التفَّ عليهم. استمرّ الالتحام حتى حلول وقت صلاة الصبح، وفتحت قوّاتنا التلّة قبل انبلاج الصبح».[1]

تكلّلت العمليّات بالنصر. «حسن باقري» الذي لم ينه بعد فترة استراحته من الجراح، تنفّس الصعداء فوق تلّة «نبعة»، فكّ عناصر استطلاع العمليّات جهاز اللاسلكي عن ظهره، وأخذوا بيده وأنزلوه من سفوح التلال الرمليّة:

«أحضروه في الصباح الباكر منهك القوى يلتقط أنفاسه، لا طاقة له على الوقوف. لقد أنجز هذه المهمّة، لتُحلّ عقدة «شزّابة» بالألطاف الإلهية، ونتهيّأ بعدها لخوض عمليّات «الفتح المبين».[2]

 

لم تكن عمليّات «مولى المتّقين» أقل شأنًا من «طريق القدس»،


[1]- فتح الله جعفري

[2]- اللواء محمد باقري

 

232


219

معركة «تشزابة»

التي نال فيها العميد هشام صباح فخري قائد الفيلق الرابع العراقي وسام «عُقاب الفخر ووسام الرافدين» من صدام، مكافأةً  لهجومه على «تشزابة» وتمكُّنه من كسر الخط الإيراني واستعادة «نبعة». كما أن طارق فيزي، آمر اللواء 26 المدرّع، المحكوم بالإعدام بسبب فراره من ساحة الحرب في عمليّات «طريق القدس», والواعد باستعادة «بستان » فرارًا من الموت، أُصيب في عمليّات «مولى المتّقين» (عليه السلام). كما حضر اللّواء 33 من القوّات الخاصّة العراقيّة بقوّة في هذه العمليّات، وتم تدمير إحدى كتائبه.

 

233

 


220

الفتح الكبير

الفتح الكبير

 

انقضت عمليّات «مولى المتّقين (عليه السلام)» في «نبعة» و«مضيق تشزّابة» التي نُفّذت لصدِّ هجوم العراقيّين المضاد، تقرّر بعدها المضيّ قدمًا في عمليّات «طريق القدس» خلال اجتماعات القادة. وتوصَّلوا إلى أنّ أنسب منطقة للعمليّات هي غرب «دزفول» و«شوش».

تتَّسع المنطقة المستهدفة لتصل إلى 3400 كلم2، أي ما يوازي ضِعفي منطقة «طريق القدس» تقريبًا. لم يغفل «حسن باقري» أثناء تنفيذ عمليّات «طريق القدس» و«تشزّابة» عن العمليّات التالية. فأتمّ خلال فترة أقل من شهر، جمع معلوماته عن منطقة عمليّات «الفتح المبين». وقدَّم خطّة العمليّات النهائيّة للقادة وصُنّاع قرار الحرب استنادًا إلى جمع تقارير الاستطلاعات الدقيقة و آراء قادة الجيش والحرس. قال «حسن باقري» في هذا الصّدد: 

 «إنّ الحجّة الأساسيّة في العمليّات هي أنّ الفرقتين العراقيّتين الأولى والثانية المتمركزتين في المحور، لا عمق لهما. أي أنّهما حَصَرتا جميع ألويتهما في منطقة «شوش» وغرب «دزفول»، وإذا ما دمّرنا خطّهما الأمامي، نكون قد قضينا على العدو. كان التخطيط يتقدم شيئًا فشيئًا. أعدَّ الحرس الثوري خطّةً تمّ بحثها ودراستها مع الإخوة في الجيش، ويمكن القول إنّها وُضعت

 

235


221

الفتح الكبير

بالتشاور فيما بين الحرس والجيش، لكن الأفكار الأوليّة قُدّمت في الغالب من قبل الإخوة في الحرس.

بشكل عام، خصّص الحرس لغرب «دزفول» -منطقة تواجد الفرقة العراقيّة العاشرة- خمسة ألوية تقريبًا: لواء «الإمام الحسين(عليه السلام)» في منطقة «عين خوش»، لواء «ثار الله» في المنطقة المحيطة بـ«امام زاده عباس»، لواء «الرسول (صلى الله عليه وآله)» في منطقة «كره زد» ولواء «دزفول7 ولي العصر» وبتشكيلاتٍ تصل إلى حجم لواءين في محيط البقع التالية: «شهدا»، «جسر نادري»، ومحور «كرخة». وفي المنطقة السفلى، رُصِدت ثلاثة ألوية ﻠ«رادار» ولواءين لمنطقة «رقابيّة» و«دوسلك»، إضافةً للواء احتياط. ما يعني أن الحرس دخل هذه العمليّات بتشكيل يضمّ 11 لواءً».[1]

إنّ دخول الحرس بأحد عشر لواءً في عمليّات «الفتح المبين» يعني أنه، في فترة شهرٍ واحد، زاد بنيته وتشكيلاته القتاليّة ثلاثة أضعاف. وقد أدّى «حسن باقري» بطلب من قائد الحرس دورًا محوريًّا في تشكيل وتنظيم هذه الألوية:

«إضافةً إلى تطوّره في مجال «معلومات العمليّات»، أصبح بارعًا أيضًا في العمليّات وتشكيل القوات. وقد طَلَبت منه في عمليّات «الفتح المبين» أن يعدّ لي توزيع وتشكيلات الكتائب والسرايا، ففعل. وقد عملت كل الألوية والفرق وفقًا لذاك المخطط. كنّا نستفيد من آرائه في العمليّات، مهمّته الأساسيّة التي وكلناها إليه مسؤولية المعلومات وتنظيم الألوية».[2]

 

 


[1]- مذكّرات حسن باقري، ج2.

[2]- اللواء محسن رضايي.

 

236


222

الفتح الكبير

 

لواء «27 محمّد رسول الله»، أحد الألويّة التي شُكِّلت على أبواب عمليّات «الفتح المبين"؛ بقيادة قائدين ذوي بأس واقتدار، وقد لَمَع من بداية تأسيسه ومن أوّل عمليّاتٍ خاضها. قبل تشكيلهما هذا اللواء، كان الحاج «أحمد متوسّليان» والحاج «محمد إبراهيم همّت» موجودَين في «كردستان». وقد وصلت إليهما من بعيد أصداء بطولات وإنجازات «حسن باقري»، وشاء القدر أن يضعا يديهما بيده:

 

«كان مقرّرًا أن نُشكِّل لواء «الرسول(صلى الله عليه وآله)» في7 شباط. كنّا نجلس في ذاك الاجتماع، وإذ بخريطةٍ تُعلّق على الحائط، وقف الأخ «حسن باقري» قربها وشرع بالحديث. لفتني الحاج «أحمد متوسليان» بإشارةٍ من يده قائلًا: حاج، أيحارب هؤلاء على الخريطة أم على الأرض؟ لعلّهم يحاربون هنا في الجنوب على الخريطة؟!

بسبب قلّة استعمالنا الخرائط في الخط القتالي، لم يكن مألوفًا عندنا الجلوس قبل العمليّات والعمل عليها. قبل عمليّات «الفتح المبين»، شهدنا مرّاتٍ كيف كان يأتي ويتفقّد الأمور ويدوّن التقارير، ثمّ يقول: هكذا يصح أو كذلك يصح. كان واضحًا من صلابته وفكره أنّ بوسعه خلق خطٍّ جيّدٍ في تحرّكات الحرب.

من خصائص القائد، التدبُّر والتفكُّر. القائد الذي يكون إلى جانب الأمور الاعتقادية والإنسانيّة، إنسانًا متمرّسًا، مخطِّطًا، ويركِّز قدراته الذهنيّة وتفكيره في الحرب، ويضع نفسه مكان كلِّ عنصرٍ، سواء كان حارسًا ثوريًّا أو جنديًّا في الجيش، يريد أن يقاتل الأعداء على الأرض، وتتوافق خطّته مع الواقع، ويتخطّى النظريّات والبيروقراطيَّة، ويحكّم التدبُّر والتعقُّل في عمله.

 

237


223

الفتح الكبير

ويشهد الله، أن تعقُّل الأخ الشهيد «باقري» وتدبّره وتخطيطه لم يكن لها مثيل بين قادتنا».[1]   

 «اللواء 30» المدرّع التابع للحرس، هو وحدةٌ أخرى شُكِّلت من الدبّابات وناقلات الجند المُغتنمة من الجيش العراقي. وكلّف حسن باقري «فتح الله جعفري» بتشكيله. كان ينبغي تجهيز 150 دبّابة وناقلة جند في غضون شهرين كحد أقصى، للمشاركة في عمليّات «الفتح المبين». غالبيّة الدبّابات وناقلات الجند، كانت روسيّة وفرنسيّة الصنع، ولم تكن القوّات الفنيّة[2] في الجيش الإيراني تعرف عنها شيئًا، ولم يكن التدريب الفنيّ المطلوب ممكنًا في هذه المدّة القصيرة. إلّا أن «حسن باقري» وجد حلًّا لهذه المشكلة. فبحوزته أرشيف أعدّه في مقر «الغولف»، احتفظ فيه ببيانات اللاجئين والأسرى العراقيّين، حيث كان من خلال التحدّث معهم، يكوّن معرفةً بهم، فيُبقي على المفيدين منهم في الأهواز، ولا يرسلهم إلى معتقل الأسرى العام. وقد عرّف «حسن»  ﻠ«فتح الله جعفري» 80 شخصًا من الأسرى العراقيّين الذين كانوا في الوحدات المدرّعة العراقيّة. الأسير الذي كان بالأمس القريب يجلس خلف الدبّابة العراقيّة، ها هو ينضمُّ إلى القوّات المجاهدة المسلمة الإيرانيّة:

«أعطاني لائحة بأسماء لاجئين وأسرى عراقيّين من أصحاب الاختصاصات في: تصليح الدبّابات، نظام البصريّات، الكهرباء، الإلكترونيك والاتصالات، المحرِّكات، المعدّات العسكريّة والتسلُّح. أخذ الأسرى يرحّبون بالعمل معنا متطوّعين. ويلبسون ثياب

 


[1]- الشهيد محمد إبراهيم همّت

[2]- قوات الصيانة.

 

238


224

الفتح الكبير

الحرس ويتعلّمون الفارسيّة شيئًا فشيئًا، وجُلُّهم من الشّيعة، وبعضهم من السنّة. كان معظم الأسرى من البصرة، العمارة، الكوفة، النجف، الناصريّة، بعقوبة والكاظمين. تزوّج العديد منهم خلال الحرب في إيران، وساعدناهم على ذلك. وكان لبعضهم أجداد إيرانيّون وعائلاتٌ في إيران. مشى بعضهم 30 كيلومترًا قاصدًا اللّجوء إلى إيران، ومنهم أيضًا من رمى آخر طلقاته ثمّ وقع أسيرًا. قال أحدهم: «عندما أُسرت ظننت أنكم قاتليَّ لا محالة». فقد كانوا يخوّفونهم من الحرس. ولكن عندما رأوا تعاملنا، أحبّونا كثيرًا. وزّعناهم على أقسام مختلفة، واطّلعنا من خلالهم على كل ما يخصّ الدبّابات العراقيّة واستخداماتها في ساحة القتال. حتّى أنني اقترحت على «حسن باقري» أن نعيِّن عددًا منهم قادةً للفصائل أو السرايا، لكنّه عارض الأمر».[1] 

على أعتاب عمليّات «الفتح المبين»، تم تجهيز أكثر من 35 كتيبة جديدة في إطار 12 لواء. واتجه إلى الجبهة أكثر من 40 ألف تعبويٍّ من أنحاء البلاد. وبهدف بناء تنظيمٍ جديدٍ للحرس، كان «حسن باقري» يعقد الاجتماعات مع القادة الجدد، ويشكِّل الألوية المُستحدثة. مثل لواء «عاشوراء» المؤلّف من أبناء «آذربيجان»، ولواء «الإمام السجّاد(عليه السلام)» من أبناء «شيراز»، ولواء «ثار الله» من أبناء «كرمان»، لواء «الإمام الرضا(عليه السلام)» من أبناء «خراسان»، ولواء «ولي العصر (عجل الله فرجه)» المؤلّف من أبناء «دزفول» و«أنديمشك» و«شوشتر» وجزء من أبناء محافظة «لرستان». كان «حسن» يؤكّد على تشكيل الكتائب، ويرى أن قائد الكتيبة هو المحور الأساس، فقد أراد أن

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

239


225

الفتح الكبير

يوجد ساحةً لحضور أبناء الشعب، لكي يلتحقوا بوحداتهم عند موعد البعثة الجديدة إلى الجبهات:

«قال «حسن باقري» في إحدى الجلسات: إن المقاتلين يحملون حبًّا كبيرًا للإمام الحسين(عليه السلام)، لأبي الفضل، لعليّ الأكبر، وعلي الأصغر. وعندما نُسمّي اللواء باسم «الإمام الحسين (عليه السلام)»، علينا أن نُطلق على كتائبه أسماء أصحاب الحسين (عليه السلام). وكذلك الحال إذا سُمِّي اللواء «خاتم الأنبياء» أو «النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)»، فلتكن كتائبه بأسماء أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله). عندها، سيتعرف أهالي المنطقة على الكتيبة من إسمها. فمثلًا كتيبة «فجر بهبات» يعرفها جميع أهالي مدينة «بهبات». كذلك كتيبة «موسى ابن جعفر(عليه السلام)»، يعرفونها في «أصفهان»، وكتيبة عاشوراء يعرفونها في «كاشان». وستُشتهر هذه الأسماء شيئًا فشيئًا، فيعلم الجميع أن لمدينتهم كتيبةً محدّدة. ويتعرف إمام الجمعة على عناصر الكتيبة، وبهذا، يصل الدعم الشعبي إلى الكتيبة».[1]

شَملت منطقة عمليّات «الفتح المبين» مناطقَ في غرب «كرخة»، بين مدن «دزفول» و«أنديمشك» و«شوش». وتنتهي إلى سهل «آزادكان». في البداية، تألّف مقرّ «كربلاء» المركزي من أجل إدارة عمليّات «الفتح المبين» من ثلاثة مقرّات هي: «فجر»، «فتح» و«نصر». كانت الجبهة الجنوبيّة تابعةً لمقر «الفتح»، وجبهة «شوش» تابعةً لمقر «الفجر»، والجبهة الشماليّة تابعة لمقرّ «نصر». تولّى «حسن باقري» قيادة مقر «نصر»، والسيّد «رشيد» قيادة مقر «فجر»، والسيّد «رحيم» قيادة مقرّ «فتح». شكّل هؤلاء القادة الثلاثة فريق تخطيط

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

240


226

الفتح الكبير

العمليّات. ونظرًا لاتساع رقعة المنطقة الشماليّة، تم استحداث مقرّ جديد بإيعازٍ من «حسن باقري» سُمّي مقر «قدس»، وتولّى قيادته «عزيز جعفري»، وكان مضيق «عين خوش» تابعًا له. قال «حسن باقري» فيما يخصّ بُنية وتشكيلات قوات مقر «نصر»:

« شُكِّلت القوّات في كتائب من 282 عنصرًا. ضمّت الألوية عدّة كتائب. إضافةً إلى التشكيلات المركزيّة للألوية، وهي: إدارة النار، المدرّع، استطلاع العمليّات، العمليّات وغيرها. كانت قوّاتنا في مقرّ النصر في هذه الحملة عبارة عن: لواء7 من «حرس دزفول»، ويتألّف من 8 كتائب، ولواء «محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله)» مؤلف من 9 كتائب من الحرس الثوري ، إضافةً إلى لواء1 التابع للفرقة 21 بأربع كتائب، ولواء2 التابع للفرقة 21 بثلاث كتائب، ولواء3  التابع للفرقة 21 بثلاث كتائب، ولواء «ذو الفقار» بأربع كتائب، لم تكن بالكفاءة المطلوبة، إضافة للواء 4 المدرّع التابع للفرقة 21 ولواء 37 المدرّع الذي أتى ليقود الهجوم في «دشت عباس»، وكان يضم كتيبتي دبّابات، وواحدة مؤلّلة».[1]

حدّد مقرُّ كربلاء ليل 20/3/1982م[2]، موعدًا لتنفيذ العمليّات. غير أنّ الجيش العراقي يومها نفّذ هجومًا في مناطق مقرّي «فتح» و«فجر» واستولى على عدّة سواتر ترابيّة. وبالطبع تكبّد خسائر كبيرة، لكنّه تمكّن من تخريب الممرّات، ما دفع بمقرّ «كربلاء» إلى التردُّد في تنفيذ العمليّات. في 22/3/1982م، توجّه «محسن رضايي» إلى طهران بطائرةٍ عسكريّةٍ بقيادة الطيّار العميد «محمد

 


[1]- مجموعة مذكّرات حسن باقري،ج2

[2]- آخر ليلة في السنة الهجرية الشمسية 1360.

 

241


227

الفتح الكبير

حق شناس» مسؤول القوّات الجويّة في مقر «كربلاء». وقصد برفقة آية الله هاشمي رفسنجاني الإمامَ الخميني{، ليقُصّا عليه ما حصل. كما طلبا من الإمام استخارة، فكان جوابه لهما: إن جزءًا من الاستخارة يعني أنّكم تطلبون الخير من الله، وأنا سأدعو لكم كذلك. عاد «محسن رضايي» مباشرة إلى مقرّ «كربلاء» وأعاد قراءة تقرير اللّقاء على مسامع قادة المقر. فاتُّخذ القرار الحتميّ بتنفيذ العمليّات في مقر «كربلاء»، فبعد نصف ساعة من منتصف ليل 22/3/1982م، بدأت العمليّات باسم «الفتح» -المقتبس من الآية الكريمة: }إنّا فتحنا لك فتحًا مبينا{ - بنداء: «يا زهراء O».

«عند الوقت المقرر، صَدَح «حسن باقري» من مقرّ «النصر» بنداء «يا زهراء» معلنًا انطلاق العمليات، ثم ذهب ونام نصف ساعة، ما أثار حيرة وتعجُّب الجميع! قال عنه قائد أركان فرقة «21 حمزة» الذي كان عسكريًّا متمرّسًا: عجبًا لسكينة هذا الإنسان! 

 استيقظ وجلس عند الجهاز اللاسلكي لإدارة وإرشاد العمليّات؛ لأنّه كان قد أنجز مسبقًا كل أعماله بإتقان، ولم يبق عليه عمل آخر. قبل العمليّات، كان قادة الكتائب والسرايا قد عرضوا على «حسن باقري» خطّة مناوراتهم في «دوكوهة»، أشرف عليها جميعها وصولًا إلى مستوى الفصائل، كنتُ مشاركًا في تلك الاجتماعات. شكّل إشرافه ذاك ضمانًا للنّجاح. كان يعلّق الصورة الجويّة ويطلب من قادة الفصائل أن يوصّفوا مناوراتهم. وسرعان ما ترقّى قادة الفصائل هؤلاء إلى قادة كتائب. كانت حجّته في عمله هذا، أن قائد الفصيل يقود 22 عنصرًا، بينما قائد

 

242

 


228

الفتح الكبير

السّرية يقود 3 عناصر1[1]. لذا ينبغي توجيه وإرشاد قائد الفصيل جيدًا، وتقوية الهيكل التنظيمي تبدأ من هنا. كان أسلوب «حسن باقري» في العمل يُشعر قادة الكتائب أنّهم قادة المقر بأكمله. أي أنّه كان يرفع مستواهم إلى مستوى القيادة ويقدِّرهم. قبل ذلك، لم نسمع بوجود أسلوبٍ كهذا في الجيش العراقي ولا في جيشنا. ولم يكن أحدٌ ليوجّه قادة السّرايا والفصائل فيما يخص العمليّات إلى هذا الحد والقدر. كان «حسن باقري» يقول: حتى لو أنّ أمر العمليّات سينكشف، علينا أن نوجّه قائد السّرية.

 كانت نظريّةً جديدة، تتيح لقادة الكتائب والسرايا وحتى الفصائل إبداء آراءهم بكل شجاعة، فيخالفونه أحيانًا، فيُعجَب بمن خالفه بالرأي، ويسأله: كم مضى على وجودك في الحرب؟ ومنذ متى أصبحت قائد فصيل؟    

وبناءً لما تقدّم، يحقّ لـ«حسن باقري» بعد إطلاق نداء العمليّات أن يستريح وينام مطمئنّ البال. لأنه كان قد أعدَّ ووجّه أركانه كلّها، من قادة الألوية إلى قادة الكتائب والسرايا والفصائل، وكلٌّ يُتقن مهمّته ».[2]

تمكّن «حسن باقري» بعد ظهر اليوم الأول للعمليّات، من تحرير كافّة أهداف مقر «النصر». ويعود هذا لدرايته التامّة بمنطقة العمليّات، واطّلاعه على قدرات العدو وجهوزيته وتكتيكه القتالي. ويمكن ملاحظة مستوى درايته من نص حواره مع راوي مقر «كربلاء»،

 

 


[1]- المقصود أن السرية تضم 3 فصائل وأكثر أحيانًا، وعلاقة مسؤول السرية تكون مباشرة مع مسؤولي الفصائل الثلاثة.

[2]- القائد فتح الله جعفري.

 

243


229

الفتح الكبير

عندما تحدّث «حسن باقري» عن المرحلة الأولى من العمليّات:

«كانت بُنية العدو وتشكيلاته وقدرته في الجبهة تشمل الفرقتين المتماسكتين (العاشرة والأولى)، إضافةً إلى الألوية التي وضعت تحت تصرفهما. في منطقة الفرقة 10 العراقيّة، كان يتبعها اللواء42 المدرّع، اللواء 60، اللواء 505 واللواء423 مشاة؛ إضافة إلى لواء 93 من الحرس الجمهوري. وقد نُفّذت العمليات فقط ضمن نطاق مقرَّي «قدس» و»نصر». وبلطف الله، وإصرارنا على مواجهة العدو من الخاصرة، بالرغم من أن تشكيلنا القتالي كان جبهويًّا، لكن «الفرقة العاشرة» العراقية قدّمت لنا جناحًا طويلًا  باستقرارها على امتداد أكثر من (60 كلم) ولم يكن لقوّاتها أي عمق. ولهذا السبب نجحت قوّاتنا في المرحلة الأولى لعمليّات «الفتح المبين» بلطف من الله، وقضت على الوجود الأساسي لهذه الفرقة في الجبهة والمنطقة. 

أُنجزت العمليّات في محور لواء «الرسول(صلى الله عليه وآله)» في منطقة «شاورية» و«بلتا» و«جفينة» المنتهية إلى تلال «كره زد» وفي محور لواء «7 دزفول»، في منطقة «تبه تششمه» والساتر الترابي «هندلى» و«كوت كابون» وقرى «سرخه فليح» و«سرخه داوود».

في المرحلة الأولى، لأن العراق بادر بالهجوم في المنطقة، أُجبرنا على بدء هجومنا. وبسبب انشغاله بجبهة «شوش» ورقابيّة»، وقع في ضعف اتخاذ قرار في المنطقة العامّة «دهلران»، أي أنّه حفر قبره بيده. وربّما لو أنّنا أردنا العمل في نطاق مقر «الفتح»، لكان العراق تمكّن من الدفاع بشكل جيد. لكنّه ورّط نفسه في منطقة «الفرقة 1». عندما هجمنا على منطقة الفرقة 10، لم  يستطع أن يبدي مقاومة

 

244

 

 


230

الفتح الكبير

كبيرة. حتّى أنه لم ينفِّذ هجومًا مضادًّا قويًّا.

وفيما يتعلّق بمقر «النصر»، هناك أمران في المنطقة كان لهما أهمّية كبيرة. أحدهما «كره زد» والآخر «مفرق قهوه خانه». وبرأيي أن «دوسلك» و«كره زد» هما مفتاحا المنطقة بالنسبة  للعراقيّين، بينما شكّلت مفترق طرق «قهوه خانه» مفتاح المنطقة بالنسبة لنا. فعندما سيطرنا على قلب المنطقة أي «كره زد»، لم يتمكّن العدو أن يمضي بسهولة إلى «عين خوش».[1]

تقع منطقة «عين خوش» في نطاق مقر «القدس». وتولّى «عزيز جعفري» أمر هذا المقر الذي احتلّ «عين خوش» في أول يومٍ للعمليّات. لكنّ العدو نفّذ على الفور هجومًا في تلك المنطقة، واحتلّ مجددًا تلال 202  ثم «دشت عباس». ممّا عقد الوضع في مقر «القدس». فأعلن المقرّ المركزي «كربلاء» الموجود في «شوش» عن عقد اجتماعٍ طارئ. وقد حضر جميع القادة إلى المقر للبحث عن سبيل للحل:

«اقترح أحد القادة التراجع إلى شمال الطريق العامة المعبّدة. قال «حسن باقري»: علينا مساعدة مقر «القدس»، حتى نحفظ ممر «عين خوش» ومحور مقر «القدس». لا ينبغي أن نؤمّن للعدو المهزوم ساحةً للهجوم المضاد والإغارة علينا. بل يجب أن نضغط عليه من «دشت عباس» و «كمر سرخ» والمحاور الأخرى.

دار النقاش والبحث، واقترح «حسن» أن ندعم مقر «القدس» بكتيبتين، لتقاوما حتى المساء. فيأتي «رؤوفي» إلى «علي كره زد» و يذهب «أحمد متوسليان» إلى «دشت عباس» لرفع الضغط عن مقر «القدس». وتمّ التوافق على هذا الاقتراح وتنفيذه، لتكون

 


[1]-  مجموعة مذكّرات حسن باقري،ج2.

 

245


231

الفتح الكبير

نتيجته فشل العدو في احتلال «عين خوش».[1]

«دشت عباس» هو سهل واسع يقع بين مرتفعات «تينة» و«شاوريّة». أُجرِيت المرحلة الثانية من عمليّات الفتح المبين بتاريخ 24/3/1982م في هذا السهل. كان الهدف منها منع سقوط «عين خوش». وشارك في الهجوم لواء «الرسول(صلى الله عليه وآله)» ولواء «58 ذو الفقار». قال «حسن باقري» حول المرحلة الثانية للعمليّات لمراسل مقر «كربلاء»:

«نُفِّذ الهجوم قُبيل الصبح بعد أن تأخّر البدء به، فتزامن مع هجوم العدو تماما. أي أنّه أثناء تقدّمنا عبر طريق «دهلران» باتجاه «عين خوش»، كانت وحدات العدو المدرّعة تتقدّم بموازاة مرتفعات «تينة»، لتقوم بآخر أعمالها عند نهاية هذه المرتفعات والطريق المؤدية إليها. لو  لم ننفذ الهجوم لكان مصير «عين خوش» السقوط حتمًا. في الواقع، كان لطفًا من الله أنّه نبّهنا لإجراء الهجوم مهما كان الثّمن. بعد ظهر ذاك اليوم، كُلِّف لواء «27 رسول الله(صلى الله عليه وآله)» و لواء «58 ذو الفقار» بإخراج «عين خوش» في الليلة نفسها من تحت الحصار. ورُصدت لتنفيذ هذه العمليّة كتيبتان من لواء «ذو الفقار» وثلاث كتائب من لواء «الرسول(صلى الله عليه وآله)». كما رُصِدَت كتيبتان من حرس دزفول للاحتياط. ولأن البلاغ (بالعمليّات) كان متأخرًّا، فلا وقت للاستطلاع، وغدت حركتنا في جانب منها خبط عشواء. التهديد بسقوط «عين خوش» جدِّي، ولا مجال للتراجع. إمّا أن ننسحب من «عين خوش»، أو أن ننفّذ هذا الهجوم حتّى نحتفظ بها، وهذا ما حصل. عندما ذهبنا صباحًا إلى المحور، رأينا الدبّابات والوحدات العراقيّة المدرّعة تزحف تمامًا

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

246


232

الفتح الكبير

في مقابل قوّاتنا التي تتقدّم باتجاه «عين خوش»، وهذا ما خلق مشكلة في هذا المكان. القوّة التي تُقدّر بثلاث كتائب على الأقل، كانت تسير برويّة نحو «عين خوش»، وانجرَّت إلى اصطدامٍ مع القوة الموجودة في «إمام زاده عباس»، حتى إن إحدى كتائبها تراجعت. أي أن القوّة التي أرادت أن تذهب لكسر حصار «عين خوش»، اشتبكت عمليّا مع القوّة الآتية من «علي كره زد». وكان لهذه العمليّات دور رئيسي في الحفاظ على «عين خوش»».[1]

بعد تنفيذ المرحلة الثانية من العمليّات في «سهل عباس» و«عين خوش»، دعا «محسن رضائي» و«علي صيّاد شيرازي» القادة إلى مقر «كربلاء» للتشاور والبحث حول الاستمرار في العمليّات. ومن جملة الحاضرين يومها في اجتماع القادة «فتح الله جعفري»، قائد «لواء30» المدرّع المتشكّل حديثا في الحرس. وكان شاهدًا على مناقشاتٍ أفضت إلى قرار مهم:

«كان البحث يدور حول مسائل: ما هو مقصدنا في الخطوة التالية للعمليّات؟ وماذا علينا أن نفعل؟ أدلى الجميع بآرائهم وأُقفل الموضوع. اتُّخذ القرار بالهجوم على مرحلتين: المرحلة الأولى على مرتفعات «الواوي» و«تينة»، والمرحلة الثّانية على «الموقع والرادار»[2]. وبينما كانوا يقدّرون القوّات وعدد الكتائب التي يحتاجونها، فجأة التفت السيّد «محسن» إلى «حسن» وقال له: حسن، لمَ لم تقُل رأيك؟ قال «حسن باقري»: ما تقومون به جيّد، سوف نقوم بالعمل إن شاء الله. لكن من الأفضل أن نجتنب الذهاب إلى «واوي» و«تينة»، وأن

 

 


[1]- مجموعة مذكّرات حسن باقري، ج2.

[2]- ورد تعبير (الموقع والرادار) في النص وهو موقع مرتفع ومشرف، وأحيانًا يمر  عبّر بـ(الرادار). 

 

247

 

 


233

الفتح الكبير

نركّز جهودنا على «الموقع والرادار» ونكمل تقدّمنا حتى الطريق العام المُعبّد.

كان «محسن» و«صيّاد شيرازي» قلقين حيال منطقتي «واوي» و«تينة». قال «حسن باقري»: إذا سيطرنا على الرادار، ستسقط تلقائيًّا «واوي» و«تينة».

مع أن النقاش استمر ساعة والقرار اتُّخذ، كان «حسن باقري» يتكلّم بثقة وقوّة بدّد معهما الشكوك. فوافقه «صيّاد شيرازي» الرأي مباشرة».[1] 

مرتفع الرادار هو أعلى نقطة في منطقة غرب «دزفول» و«شوش». ترتفع قمّته تقريبًا أكثر من مئة متر عن مستوى المنطقة ككل. كان الجيش العراقي يرصد من على قمّة موقع الـ«رادار» تحرّكاتنا في السفح السهلي إلى عمق (15 كلم) وعرض (20 كلم). كان يتمركز عند سفح هذا الموقع، لواءٌ مدرّع و لواء مؤلّل ولواءا مشاة من القوّات العراقيّة، وهؤلاء لم يتوقعوا سقوط المكان. أوكلت مهمّة السيطرة على «الموقع والرادار» إلى مقر «الفتح». لكن، وبسبب العمق الكبير ولأسباب أخرى، لم ينجحوا في تحقيق الهدف مهما حاولوا. طلب «محسن رضائي» و«علي صياد شيرازي» من «حسن باقري» أن يتولّى مقر «نصر» هذا العمل. قبل شهر على الأقل من بدء العمليّات، كان حسن باقري قد استطلع المحاور التابعة لمقر «نصر». لكن طُلب منه في وسط العمليّات، السيطرة على هدفٍ خلال وقت قياسي وهو يملك مهلة كافية لاستطلاع المعابر الآمنة فيه. في اليوم الثامن للعمليّات، قصد «محسن رضايى» و«صيّاد شيرازي» مقر «نصر»

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري

 

248


234

الفتح الكبير

ليتابعوا موضوع «الموقع والرادار»:

«في خِضَمّ العمليات، أُضيفت مهمّة جديدة. العمليّة الجديدة تتطلّب مهلة، تتطلب استطلاعًا وعددًا كافيًا من القوّات. كان يبدو أنه من شبه المستحيل أن تهجم فرقتان معًا على العدو، ثم تُخفِق إحداهما، فيقع على عاتق الفرقة الأخرى -إضافة إلى تحقيق أهدافها- تحقيق أهداف الفرقة المُخفِقة أيضًا. توجّهت أنا و«صيّاد شيراي» والسيد «رشيد» من مقر «كربلاء» إلى مقر «نصر»، واطَّلعنا على تقاريرهم. كان لدى الأخ «صيّاد» بعض الغموض. قلت: علينا أن ننفّذ هجومنا الليلة حتمًا.

اعترض «حسن» على الأمر وقال: معلوماتنا غير كافية. أجبته: هذه المعلومات التي جمعها الإخوة في الاستطلاع جيّدة. فأجابني: يجب أن يذهب قادة الكتائب ويستطلعوا بأنفسهم، ولا يصحّ أن نقول لقائد الكتيبة أن شخصًا ما ذهب وحُلّت المشكلة.

احتدم النقاش بيننا إلى أن شعرت بالاستياء. قال الشهيد «صيّاد»: والنتيجة ماذا؟ فقلت: النتيجة هي أن عليهم القيام بالهجوم هذه الليلة، فقال «حسن» مباشرة: سوف نهجم الليلة حتمًا ونحلّ المشكلات».[1]

أدخل مقر «نصر» 9 كتائب من الحرس، و7 كتائب من الجيش إلى الحملة الثالثة المصيريّة من عمليّات «الفتح المبين». عند غروب ذاك اليوم، تحرّكت الكتائِب باتجاه «الموقع والرّادار». كان على القوّات المقاتلة أن تسير (10 كلم) تقريبًا لكي تصل إلى الهدف. تحدّث «حسن باقري» مع قادة الكتائب والسرايا والفصائل ووجههم

 


[1]- اللواء محسن رضائي.

 

249


235

الفتح الكبير

فردًا فردًا. وكانوا مطّلعين على أهميّة دورهم ومدركين أن «الموقع والرادار» هو مفتاح النصر. كانت كتيبة «بلال» التابعة للفرقة «7 ولي العصر(عجل الله فرجه)» من بين الكتائب المشاركة في هذا الهجوم. وقائد هذه الكتيبة كان «غلام حسين كلولي»:

«أخرج «حسن» خريطةً، وأرشدنا إلى مكان تموضع العدو، ولماذا علينا احتلال الموقع والرادار. شكّل مرتفع «الرادار» مركز ثقل الجبهات العراقيّة. كان دوره كعمود البناء، فإذا ما دُمّر انهارت معه الجبهة. بعد كلام «حسن باقري»، أدركت أهميّة الموقع والرادار وأي عمل صعب ينتظرنا. كان يوجد في محورنا ثلاث كتائب: كتيبتي، وكتيبة السيّد «محمد علي صبور» وكتيبة السيّد «خضريان». مضافًا إلى ثلاث كتائب أخرى تعمل عن يسارنا على بعد عدّة كيلومترات؛ كتيبة الشهيد «حاج عظيم كاظمي»، كتيبة السيّد «فضيلت بور» وكتيبة الشهيد «دستغيب» بقيادة السيّد «ميرزا بور»، ويقود هذه الكتائب الثلاث السيد «محمد حسن كوسهتشي» قائد المحور. كنا نتحرك رويدًا رويدًا، وقد تخطّت الساعة منتصف الليل، كان «حسن باقري» يتصل بين اللحظة والأخرى ليسأل: ماذا عن «كلولي»؟ أين أنتم؟    

أخذنا نعبر في ظلام الليل وبرودة الطقس والأمطار من منخفض إلى منخفض، ولا أثر للموقع والرادار. فتملّكنا يأس عجيب. فجأةً، عند الساعة الرابعة صباحًا، لَمَع على بعد (500 متر) منّا شيء ما، نظرت بالمنظار، وإذ به خط العراقيّين الأمامي. اتصلت بحسن وقلت: أخي «حسن»، لقد وصلنا. بدا وكأنّنا ملّكناه العالم!.

 اتصلت أيضًا بالسيّد «خضريان» والسيّد «صبور». كنّا ثلاث

 

 

250

 


236

الفتح الكبير

كتائب جنبًا إلى جنب، نقضي لحظاتٍ حسّاسة، فكل الآمال معقودة علينا. اتصل «حسن باقري» وقال: «كلولى»  باشر العمليّات باسم «يا زهراء عليها السلام» المقدّس.

تواجدت كتيبتان أيضًا على بعد (300 متر) عن يميني ويساري. انقضّينا على العدو بنداء «يا زهراء عليها السلام». فبدأ الحراس البعثيّون يطلقون النيران من المرتفع. وكان أكثرهم يغُطّون في النوم وفوجئوا بالهجوم. لم تكن المواجهة قاسية، وفي النهاية سيطرنا على الدشم. لدى حديثنا مع الأسرى العراقيّين، قالوا أنّهم كانوا على أتم الاستعداد، لكن عندما تخطّت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، تأكّدوا أنّنا لن نهجم عليهم، وخلدوا للنوم.

مع طلوع الصبح، حَضَر السيّد «محسن» و«حسن باقري» و السيد «رشيد» و«رؤوفي» إلى «الموقع». احتضنني «حسن» وقبّلني. لا أنسى أبدًا ذلك اليوم».[1]

مع بدء الاشتباكات على «الموقع»، قطع المجاهدون من اللحظة الأولى أسلاك الهاتف الممدودة بين مقر قيادة «الفرقة الأولى» المؤلّلة ومقرّات الألوية التابعة لها. لذا لم تعد وحدات العدو قادرة على الاتصال بمن فوقها وعَلِقت في المعركة، فراحت مجموعاتها تستسلم الواحدة تلو الأخرى:

«ما يقال أنّه من أجل السيطرة على شخص علينا أن ندخل عليه من سطح منزله، لأنه المنفذ الوحيد الذي باستطاعته الفرار من خلاله إلى المنزل المجاور. وعندما أغلق الإخوة سطح منزل (قوّات) صدّام في «الموقع والرادار»، وقعت بذلك كلّ الوحدات

 


[1]- مقابلة الكاتب مع القائد «غلام حسين كلولي»، من مؤسّسي «لواء 7 ولي العصر عج». ولد سنة 1962م في مدينة دزفول.

 

251


237

الفتح الكبير

الأماميّة أسيرة، حيث بدأت بالاستسلام كتيبة تلو كتيبة».[1]

وقد بيّن «حسن باقري» أهميّة عمليّة الـ«رادار» في هذه العبارة القصيرة:

«وصلنا بكل سهولة إلى أعلى وأبعد خاصرة وخط خلفيٍّ للعدو. لو حُكي هذا الأمر لعسكريّي العالم، لبُهتوا واحتاروا به. فكيف لقوّة قطعت 10 كيلومترات سيرًا على الأقدام في جوف الليل، أن تجد هدفًا على التلال المتعرّجة، ثم تهجم عليه مباشرة، وتتقدم بعدها 10 كيلومترات. قد يفهم العالم بعد وقت طويل ماذا تعني هذه العمليّات! فبعد عمليّات «الموقع والرادار» فقد العدو القدرة على المقاومة، وبدأ بالتقهقر».[2]

في الحقيقة، إن الذي حيَّر عسكريّي العالم، مضافًا إلى الطريقة العسكريّة، هو فكر وعبقريّة القائد الشاب، الذي طبّقَ إبداعًا وابتكارًا كهذا في ميدان الحرب من دون أن يخضع لبرامج ودورات عسكرية. حسن باقري نفسه فقد عدّ ضرب خاصرة العدو ومقرّاته إبداعًا وابتكارًا، حيث قال:

«يمكن تسمية هذا ابتكارًا. أي إنّ لضرب جناح العدو ومقرّاته الأثر البالغ والمباشر في هزيمته. فإذا أحدثنا خللًا في نظام قيادة العدو، تضعف قدرته على المقاومة بلا نظام قيادته، وهناك احتمالان لردّة الفعل: أحدهما أن يُلصِق مقرّه بخطّه القتالي، وهذا ما يجعله عُرضةً للضّربات سواء من ناحية نيران المدافع والقذائف أو من جهة الهجوم على الخط. والثاني أن يُبعِد مقرّاته كثيرًا، فتصبح

 

 


[1]- حوار “حسن باقري” في مقر “كربلاء”- مذكّرات حسن باقري، ج2.

[2]- المصدر السابق.

 

252


238

الفتح الكبير

إدارته لقّواته ضعيفة. ونحن عندما وضعنا مقرّات الألوية التابعة للفرقة الأولى في دائرة الخطر، تمكنّا -بأقل الخسائر- من محاصرة «الفرقة الأولى». وأول مكان وصل إليه الإخوة في «كمر سرخ»، كان مقرّ العدو. عند التاسعة صباحًا رأينا أنّهم قد أسروا معاون لواء. كان يقول إن كلّ المقرّات موجودة في شرق موقع الـ«رادار». يعني أن المسافة بين اللواء والفرقة التابع لها قد أُغلِقت بكل سهولة و عُطِّلت بذلك مقرّات الألوية. عندما عُزِلت خاصرة مقر اللواء، كان أول ما يفكّر فيه على الأكثر -كما يقول الإخوة- أن يحمل حقيبته ويضعها تحت إبطه ويلوذ بالفرار. في ذلك الصباح أعلنّا متيقّنين أنّه تمّت محاصرة مقرّات الألوية العراقيّة: 1، و27، و51. بينما كان للواء 34 قضيّة أخرى، ولكن من بين قادة هذه الألوية الثلاثة، كان آمر اللواء 51 هو الوحيد الذي استطاع الهرب. بالتأكيد، تمّ أسر قادة ومسؤولي اللواء 96 واللواء 93 المتمركزين في ضواحي «روفايية»، وكذلك كادر اللواء1 واللواء27. ومن الابتكارات الأخرى، استثمار النصر. استطعنا في هذه العمليّات أن نستغل النصر. أي أنه وبعد عمليّات موقع الـ«رادار» حيث بدأت قوّات العدو التراجع، أخذ الإخوة في لواء «الرسول(صلى الله عليه وآله)» يتعقّبونها واستطاعوا الوصول إلى منطقة «برقازة»».[1]

 

انتهت عمليّات «الفتح المبين» في 28/3/1982م. تمكّن خلالها مجاهدو المقرّات الأربعة نصر، فتح، قدس وفجر -في غضون أسبوع- من تسطير عمليّات مظفرة، وأسرِ 16 ألف جندي من

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

253


239

الفتح الكبير

القوات العراقية. واعتبر «حسن باقري» في الحوار نفسه، أن تدمير قوّات العدو هو على رأس أهداف العمليّات. لكنّه أكّد مباشرة: 

«أكثر ما نهدف إليه أن نأسرهم لا أن نقتلهم، لا نوافق أبدًا على قتل العراقيين؛ يفضّل بالنسبة إلينا أن يؤسروا حتى يُستفاد منهم فيما بعد».[1]

ثمّ عدّد الإنجازات الأخرى لعمليّات «الفتح المبين». ومنها إعادة السيطرة على المواقع الاستراتيجية: مرتفعات «الموقع والرادار»، ومضيق «برقازة»، وممر «الرقابيّة»، ومضيق «عين خوش», التي احتلّها نظام البعث المعتدي أوّل الحرب. وإن الانتصار في هذه العمليّات أدى إلى إخراج «دزفول» والمدن والقرى المحيطة بها من مرمى مدفعيّة العدو. قال «حسن باقري» حول هذا:

«قبل هذه العمليّات، ما انفكّ نظام البعث يقصف مدينة «دزفول» باستمرار،-بكل جُبنٍ وخسّة ومن دون اكتراث لأي قيمٍ إنسانيّة- مستخدمًا مدافع 182 التي اشتراها من فرنسا. واستشهد أكثر من ألفي شخص من أهالي «دزفول». في الحقيقة، شكّلت السيطرة على المواقع المحتلّة وإخراج «دزفول» من مرمى مدافع العدو، جوابًا من قبل القوّات المسلحة لمقاومة وصمود أهالي «دزفول». وإن خروج المدن والقرى من مرمى نيران المدافع وعودة الأهالي إلى تلك المناطق، من شأنه أن يقلّل من أجواء الحرب، ويمكن أن يساعد الحكومة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي وهو على درجة عالية من الأهميّة. وفي هذا الصدد، تم تحرير أكثر من 150 قرية في المنطقة. والموضوع الآخر، هو تحرير طريق عام

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

254


240

الفتح الكبير

«أنديمشك»-«أهواز» المعبّد، الذي كان تحت مرمى ومرأى العدو، ولا تعبره إلا الآليات العسكرية. وبلطف الله، فُتح هذا الطريق خلال هذه الحملة أيضًا، وستصبح سالكة أمام الناس».[1]

أسفرت عمليّات «الفتح المبين»، عن غنيمة نحو 400 دبّابة وناقلة جند. خلال محاصرة الفرقتين العراقيتين العاشرة المدرّعة والأولى المؤلّلة، وقعت أكثر هذه الآليّات، وهي حديثة ولم تُستخدم بعد، بيد مجاهدي الإسلام. ارتفعت جهوزية وقدرات الـ«لواء30» التابع للحرس وفاقت قدراته قدرات فرقة كاملة، أي أنَّها تضاعفت ثلاث مرّات. انبرى «حسن باقري» يتفقّد الغنائم الجديدة بعدما جعل بُنية هذا اللواء من الأسلحة المتوسّطة وقصيرة المدى المغنومة. ورافقه في هذه الجولة، قائد اللواء «فتح الله جعفري»، الذي بات واجبًا أن يُقال له قائد فرقة:

«كان ﻠ«حسن باقري» هدفٌ من هذه الجولة. أراد أن يعرف من هي البلدان التي تدعم العراق؟ ومدى فائدة هذه الآليّات بالنسبة إلينا؟ وَجَد أن إحدى ناقلات الجند المغنومة فرنسيّة الصنع. تحقّق منها بدقّة، نظر إلى جهازه اللّاسلكي، وكان من ماركة «تامسون». فسأل عن أنواع الأسلحة التي ينتجها هذا البلد؟ هل لديه مدافع؟ هل لديه قاذفات صواريخ؟ لاحظت أنّه يعرف موديلات مختلفة. حتى أنّه قال: افتح باب المحرّك لأراه. تعجّبت من عمله، وأذكر عندما سألني عن مميِّزات السبطانة، فقلت أولًا 100، ثم قلت 90، فقال لي: لا تتكلم هكذا، فعندما تقول 100 أولًا، تُحفظ في ذهني، تكلّم بدقّة!

في عمليّات «الفتح المبين»، إضافة إلى دبّابات «T55» ودبّابة

 

 


[1]-  المصدر السابق.

 

255


241

الفتح الكبير

«T62»، غنمنا للمرّة الأولى دبّابة «T72». سأل حسن عن مميِّزاتها. قال: أنظر من أين تلقَّت صواريخ الـ(آر بي جي) ولم يُخرَق درعها؟ وراح يسأل عن أنحائها التي تتأثر بصواريخ الـ(آر بي جي)، وكم هي قوّة محرِّكها؟ وما نوع مدفعها؟ وكم نوع قذيفة تحمل؟ ما هو نوع رشاشها المتوسط؟ ومن أي جيل؟ كم يقاوم درعها؟ ما هو مدى مقاومته أمام الصاروخ؟ كلّها أسئلة طرحها عليّ «حسن باقري» بدقّة. ولم يكن يأخذ وقتًا طويلًا، فيمكث ساعة، يحصّل خلالها المعلومات الكاملة. كان يصوّر العتاد المغتَنم حتى المدمّر منه، ولمّا سألته قال: أريد أن أتعرّف إلى موضع إصابتها؟ وكيف احترقت؟ وكم كانت قابلة للاحتراق؟ كان كل هذا مهمًّا بالنسبة إليه.

جلسنا مساءً في مقر «الغولف» نستمع لخطاب صدّام. كان صوته يرتجف، فقال «حسن»: أنظروا كيف يرتجف صوته، لم يعد يتكلّم عن الأمّة العربيّة، بل يتطرّق إلى عاشوراء وكربلاء الإمام الحسين (عليه السلام)».[1]

في 30آذار، دُعي القادة لاجتماع في مقر «كربلاء» . لم تسعهم الأرض من شدة فرحهم. لكنّ «حسن باقري» تطرَّق بكل هدوءٍ وبرودة أعصاب لنقاط الضعف في عمليّات «الفتح المبين». كان يملك روحيّة النقد، انتقد فيها بكل جرأة عمله وأداء مقرِّه. حيث كان يقول: إن معرفة نقاط ضعفنا تجنِّبنا آفاتٍ لاحقة. بدأ «حسن باقري» بهذا العمل (التقييم والنقد) في العمليّات المحدودة. كان يقول: لأن أرواح  أبناء الناس والقوّات الفدائيّة بأيدينا، علينا أن نحوّل نقاط ضعفنا إلى نقاط قوّة، كي لا يلحقَ الأذى بالقوّات. لم يكن يوجّه الخطاب لأحد

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

256


242

الفتح الكبير

منفردًا، بل كان يتكلم بصيغة الجمع، ويقول: «نحن في هذه العمليّات لم نستطلع جيّدًا». كان ينتقد بعلم ودراسة. ولم يكن يقول لأي شخص: أنت لم تستطع معالجة المُعضلة، بل يقول: في الأمر مُعضِلة، وعلينا أن نخصِّص وقتًا أكثر لحلّها. وقد دفعت هذه الرؤية وبعد النظر لديه، بالقائد العام للحرس «محسن رضائي» للاعتماد عليه:

«كان لحسن -مقارنة بالإخوة الآخرين- ميزتان جعلتاه محلّ اعتمادي. إحداهما في مجال المعلومات والاستطلاع، فعندما كان يقول في التقرير بأن العدو في هذا المكان أو ذاك، كانت ثقتي بتلك المعلومات تقارب اليقين، بينما لم أكن أتقبّل تقارير الإخوة الآخرين بسهولة ومن دون سؤال. حتّى أن الإخوة كانوا ينزعجون من ذلك، ويقولون: لماذا لا يثق بنا؟ والسبب هو أن الإخوة كانوا يضعون أمنياتهم في التقارير أيضًا، ثم نتَّخذ نحن القرارات بناءً على هذه التقارير ونصطدم بالمشاكل خلال عملنا. كان «حسن»  دائمًا يرى الجوانب الإيجابيّة أكثر (من غيرها). أحيانًا إذا أستشعرت في الاجتماعات جوانب سلبيّة، كنت أسأله عن رأيه، فيؤدي هذا الرّأي إلى تحويل الخطّة إلى واقع. وبناءً عليه أحصّل ثقةً أكبر في أن نتخذ القرار الآن أو لا. لقد وثقتُ بكلامه، وصرتُ أحيانًا أتلقّفه كرأي جديد. وفي كل عمليّة يوجد ثلاثة أو أربعة قرارات أساسيّة يكون له دور فيها. فمثلًا، كان يكفي أن لا نهجم على «الموقع والرادار»، فتفشل كل عمليّات «الفتح المبين».[1]

 

 

 


[1]- اللواء محسن رضائي.

 

257


243

يوم عظيم

يوم عظيم

 

بعد عمليات «الفتح المبين» جاء دور تحرير خرمشهر؛ فالعدو الذي ظنّ أنه سيبقى في أرضنا أبدًا، أدرك اليوم أن الهجوم الإيراني الآتي سيكون باتجاه خرمشهر. في جلسة تقويم نتائج عمليات «الفتح المبين» نفسها، طلب محسن رضائي من حسن باقري أن يباشر عمليات الاستطلاع والإعداد لعمليات خرمشهر دونما تأخير. كان الوقت الفاصل بين عمليات «ثامن الأئمة (عليه السلام)» وعمليات «طريق القدس» شهرين، والمدة الفاصلة بينها وبين عمليات «الفتح المبين» ثلاثة أشهر تقريبًا. لكن فيما يتعلق بهذه العمليات فلا وقت للبرمجة والتخطيط. في منتصف شهر نيسان، رفع حسن باقري صوته في مقر كربلاء محذرًا: العدو ينشط في المنطقة، وبعض وحداتنا لم تضع حتى الآن خططها.

أحد المحاور المهمة في خرمشهر كان «غرب نهر كارون»، أي المنطقة الممتدة على ساحل النهر مسافة (40 كلم) طولًا في عرض (25 كلم) وصولًا إلى طريق «الأهواز - خرمشهر» المعبّدة، أي أن مساحة (800 كلم2) تقع ضمن نطاق عمل قوات الاستطلاع.

قسّم حسن باقري؛ بمساعدة مهدي زين الدين ومحمد باقري؛ مجموعات الاستطلاع في الألوية، وكان يذهب إلى الاستطلاع

 

259


244

يوم عظيم

بنفسه أيضًا ويعطي التعليمات للمجموعات، ويلتقي الشباب الذين تعترضهم مشاكل ويساعدهم في حلّها. كان محيط طريق الأهواز- خرمشهر من النقاط المهمّة بالنسبة إليه في الاستطلاع؛ فبعد انتهاء عمليات «الفتح المبين» أطْلع حسين همداني[1] مباشرة على مجريات العمليات اللاحقة، وطلب منه استطلاع نهر كارون حتى جادة أهواز - خرمشهر:

«أتى حسن باقري بنا إلى هناك وشرح جانبًا من المهام والأعمال قائلًا: سآتي كل يوم صباحًا وأريد تقريرًا. ثمّ قال: «أخ همداني! يجب أن تهتم بطريق خرمشهر المعبدة فلا تأتِ وتقول لي لقد تقدّمنا 1كلم و2كلم. ففي اللحظة التي تضع يدك على الطريق -وتستطلعها- يمكن القول إنك أنجزت هذا القسم من المهمة».

كنا نعود صباح كل يوم من الضفة الأخرى لنهر كارون فنراه بانتظارنا، فما إن نصل حتى يسألنا: «ماذا فعلتم؟»، ثم يأخذ التقارير.

كان العمل شاقًا؛ حيث كنّا ننطلق من ضفة كارون الأخرى ونسير داخل منطقة العدو بعمق (14 كلم) ونمر بالقرب من مواقعه. كلما رجعنا ليلا من الاستطلاع نقول له لقد تقدمنا مسافة (500 م) واقتربنا أكثر ورأينا السيارات التي تتحرك على طريق خرمشهر بوضوح. ثم صرنا نقترب أكثر وأكثر ونعدّ السيارات المترددة، فنقول: «في كل دقيقة يمر هذا العدد من السيارات».

 

 


[1]- حسين همداني، ولد الشهيد القائد حسين همداني في العام 1950م في مدينة همدان. شارك مع الشهيد همت والحاج أحمد متوسليان في تشكيل لواء «27 محمد رسول الله(ص)». كان الشهيد همداني لفترة قائد لواء «أنصار الحسين(عليه السلام)»؛ ثم بعد ذلك اصبح قائد لواء «محمد رسول الله(ص)» وتولى أيضًا مسؤولية نائب قائد قوات البسيج (التعبئة). استشهد في العام 2015م في مدينة حلب في مواجهات مع التنظيمات الإرهابية (داعش).

 

260


245

يوم عظيم

أذكر في إحدى المرات؛ عدنا من الاستطلاع. كعادته قال: يجب أن تكملوا عملكم غدًا وتتقدموا أكثر، فقلت له: أخ حسن! لقد تشققت أرجل الشباب من المشي وتقيحت دما. عند ذلك جمع المصابين وراح يثقب الثآليل التي انتفخت في بواطن أقدامهم مفرّغًا ما تجمّع فيها من تقرحات ودماء. ثم قال: داووا أرجلكم واذهبوا في الليل إلى الاستطلاع.

قال كلامه هذا بقوة وحزم؛ فلم يكن بمقدورنا أن ننطق بكلمة. خلال الحرب كنا في بعض الأوقات نطرح مشاكلنا على المسؤولين والقادة ونُحضِر أعذارًا وأسبابًا لذلك، فيقبلونها لأنهم كانوا يتحلّون بالرأفة؛ إلا أنّ الأمر لم يكن ليمرّ عند حسن على هذا النحو. فقد استحوذت أهداف عمليات «بيت المقدس» على أهمية كبيرة جدًا بالنسبة إليه؛ إلى حدّ لم يعطِ أهمية لجراح أقدامنا. ومن لا يعرف حسن ولا يعرف مميزاته وسجاياه لعلّه سيأخذ عنه صورةً مغايرة وسيحكم عليه بطريقة سلبية. بقينا نذهب مستطلعين الطريق حتى حصّلنا معرفةً كاملة بأوضاعها. أذكر أن عدد السيارات المارة على الطريق كان لا بأس به؛ وأيّما شخص مرّ فيها انعكست أضواؤها عليه. ولذلك وضعنا على بعد أمتار منها عنصر تأمين، فعندما ذهب ووصل إليها قبّلها. وعندما رجعنا من الاستطلاع قلنا له إن فلان ذهب ووصل إلى الجادة وقبلها أيضًا. رأينا البسمة على وجهه وقد انفرجت أساريره، قبّل الشباب واحدًا تلو الآخر وقال: «بإذن الله ستكون السيطرة على طريق خرمشهر الاسفلتية مؤكدة وحتميّة[1]».

لم ينحصر هذا العمل بحسين همداني، فقد استطلع طريق «الأهواز - خرمشهر» أيضًا [قادة أمثال] مهدي زين الدين، والحاج

 

 

261

 


246

يوم عظيم

محمود شهبازي، وأحمد أميري، وحمود ربيعي، والسيد مسعود حجازي، ومرتضى إصلاحي، ومجيد تخم أفشان وأحمد فروزنده، كانوا يذهبون من محاور عدّة؛ يعبرون نهر كارون؛ ويستطلعون وضعية العدو في محيطها.

كان حسن باقري عند صلاة الصبح يحمل إبريق شاي (فلاكس) ويعبر النهر بالقارب وينتظر عند الطرف الآخر منه عودة الشباب بعد أن يكملوا أعمالهم. ما انفكّ يتابع الاستطلاعات ميدانيًّا، وقد طال الأمر 20 يومًا حتى وَجَدَتْ مجموعة الاستطلاع معبرًا بين مواقع الأعداء يمكّنها من الوصول إلى الطريق المعبدة؛ فصار الشباب يذهبون مع حلول الظلام ويعبرون النهر ويصلون إليها عند منتصف الليل في الساعة 2:30 تقريبًا، ومن ثم يعودون أدراجهم قبل طلوع الصباح.

لدينا شهادة تثبت أن حسن باقري كان يفكّر بعمليات «بيت المقدس» وبإيجاد خطة لعبور نهر كارون, أثناء عمليات «الفتح المبين» حيث تولّى العميد «بهروز سليمان جاه» قيادة أحد ألوية الجيش في منطقة «دشت عباس». وبعد نجاح هذه العمليات ذهب مع حسن باقري لتهيئة مقدمات عمليات بيت المقدس:

«بعد زيارتنا للخط الأمامي؛ طلبنا أن يجتمع الأخوة القادة في أحد بيوت «داروخين» الصغيرة. حضر الجميع وبدأت الجلسة. قررنا حينها إنشاء مقر باسم «مقر الحر» وتعيين العميد مهدي بور مسؤولًا له. ما إن خرجنا من الاجتماع حتى رأينا عنصرين تعبويين سلّما على حسن باقري وقالا له: القارب جاهز. شكرهما على ذلك وقال لي: بالإذن منكم اسمح لي بالذهاب إلى الاستطلاع.

 

262


247

يوم عظيم

قلت له: في هذا الوقت! وهذا الظلام؟ أجاب: هذا الوقت أفضل الأوقات لعبور نهر كارون، فمجال الرؤية لدى العدو ليس كبيرًا نسبيًّا. أحببت مرافقته في هذا الاستطلاع. قلت له: هل يمكن ان أذهب معكم أيضًا. أجاب: حسنٌ جدًا.

انطلقنا معًا. وصلنا إلى خط الدفاع، أبقينا السيارة خلف الساتر، وذهبنا من هناك إلى حافة النهر؛ ركبنا زورقًا واقتحمنا عباب مياه النهر. يوجد في التكتيك مبدأ؛ أن أي مانع - سواء كان طبيعيًا أم غير طبيعي – قيمته تكمن في إتاحته النظر والمساعدة على إطلاق النار. كنت أتخيّل أن للعدو في المقلب الآخر خط دفاع عبارة عن درع بشري كما هو حاصل خلف خطنا الدفاعي. لكن عندما وصلنا إلى هناك وتقدمنا قليلًا وجدنا أن لا شيء من هذا القبيل. قال: أترى!!

أدركت من كلامه هذا أنها ليست المرة الأولى التي يذهب فيها إلى هناك. في تلك اللحظة رأيت الدوريات العراقية وهي على بعد أقدام منا. اختبأنا بين القصب. انتظرنا حتى ابتعدوا، وأكملنا تقدّمنا مستطلعين المنطقة. لاحظته يتمتم: لا شيء تَغَيّر، الأمور كما هي.

قلت له: ليست المرة الأولى التي تأتي فيها إلى هنا؟!

- نعم، لقد جئت أثناء عمليات «الفتح المبين» إلى هذه الأماكن واستطلعتها.

- والآن لمَ أتيت؟

- جئت لأرى إذا كان العدو قد استشعر تحركاتنا في المنطقة وغيّر تموضعه وتشكيلاته أم لا. أما وقد عرفت أنه لم يغيّر تموضعه فهذا جيد وقد ارتاح بالي.

 

263


248

يوم عظيم

هذا يعني أن حسن باقري كان أثناء عمليات «الفتح المبين» يفكّر بعمليات «بيت المقدس»، الأمر الذي ينبئ عن بعد نظره وعمق تفكيره، فكان لا يعتمد على ما يسمعه؛ ولا يأخذه بالحسبان حتى يراه ويتيقن به. يذهب مسؤولو المحاور إلى الاستطلاع ويقدموا تقاريرهم؛ حيث من المؤكد أنه قد ذهب قبلهم واستطلع الأماكن وشاهدها، ومع ذلك يبقى مصرًّا أن يطابق ما قد رآه وشاهده مع ما يرد في تقاريرهم. وإذا ما لاحظ وجود خطأ فهو لا يلوم أحدًا ولا يقول أنا ذهبت واستطلعت، في الأساس لا وجود لكلمة «أنا» في حديثه وثقافته وسيرته[1]».

بقدر ما كان حسن باقري محبًّا لقواته، ودودًا وعطوفًا، كان في العمل دقيقًا وحازمًا ولا يقبل في مهام الاستطلاع أي تقصير أو إهمال. قبل أن يصبح فتح الله جعفري قائد لواء مدرّع؛ كان أحد أفراد قوات حسن باقري. يتذّكر أنه في إحدى الليالي اتصلت قوات الاستطلاع المتواجدة في غرب نهر كارون بحسن باقري عبر اللاسلكي وأخبرته أن الدوريات العراقية دخلت المنطقة:  

«كنا نغطّ في نومٍ عندما أيقظنا صوت حسن باقري. رأيته واقفًا فوق رأسي. سألني:

- ذهبتَ واستطلعتَ؟

 

 


[1] - مقابلة الكاتب مع اللواء «بهروز سليمان جاه» نائب قائد الفرقة «21 حمزة» في عمليات الفتح المبين. في سجل مهامه وخدمته العسكرية تولى سليمان جاه مسؤوليات عديدة منها: نائب القوات البرية في الجيش، ومسؤول استطلاع عمليات الأركان العامة للقوات المسلحة. في عمليات خيبر نال سليمان جاه شرف الجرح على أثر القصف الكيمياوي الذي نفذه العدو البعثي، والتحق في عشية يوم 20 أيّار 2016 بالملكوت الأعلى. طابت ذكراه.

 

264


249

يوم عظيم

- نعم.

- ألم تلحظوا شيئًا؟

- لا، لم يكن هناك شيء.

- هيا قم لنذهب معًا.

ركبنا الدراجة النارية وانطلقنا؛ كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل عندما وصلنا إلى المرسى. وضعنا الدراجة داخل القارب، وقاده بنفسه. عندما وصلنا إلى الضفة الأخرى أنزلنا الدراجة منه، أدار محركها؛ ركبنا وانطلقنا. كان يعرف المنطقة جيدًا. ذهب مباشرةً إلى نقطة الشباب في غرب كارون. كان مسؤول الخط الأخ زينلي. وقد سُرّ الجميع لرؤيته. جاء بعض الشباب من الخلف؛ وكانوا حينها نائمين، عندما علموا أن حسن قدم إليهم نهضوا وجاؤوا. سلم عليهم وسألهم عن أحوالهم وقال: من أين أنتم؟ وماذا تفعلون؟ منذ متى وأنتم هنا؟ ماذا تأكلون وماذا جلبوا لكم؟ ثم أخذ يراقب المنطقة بالمنظار الليلي الذي كان يحمله. بقي وقتًا وهو يراقب. ثم قال: «كيف تقولون لا تغيرات حصلت في المنطقة؟ لقد استحدث العراقيون دشمة». سألته: كيف لم أرها؟ أجاب: اذهب في الغد واستطلعها بدقة وأرسلْ لي تقريرًا».

يومها لم أكن بحال جيدة، ولا طاقة لي على الاستطلاع. في اليوم التالي، دوّنت تقارير بضعة أيام سابقة وأرسلتها إليه على أنها «تقرير اليوم». استدعاني في ذلك اليوم وقال: إذا لم تكن لديك القدرة على الاستطلاع فلا تذهب! لماذا كتبت لي هذا التقرير الفارغ عديم الفائدة؟

 

265


250

يوم عظيم

فهم مباشرة أنه تقريرٌ مكرّر. أمسَكَ بمعصم يدي[1]. ليس من السهل خداعه، كان شديد الفطنة. لم يغفل عن شيء في الوقت الذي كان تحت إمرته أكثر من 500 عنصر استطلاع يتابعهم في محاور المنطقة المختلفة. عندما يكون لهؤلاء عمل معه، ويعرفون أنه سيأتي إلى المنطقة (الخط) تغمرهم السعادة ويحدثون بعضهم بشوق وسرور: سيأتي حسن، سيصل عند الظهر، سيكون هنا عند الغداء...

أذكر أن أحد الشباب تعمّد أن يكتب شيئًا ليدفعه للمجيء إلى المنطقة . لكنه لم يأتِ؛ لأنه كان يعرف أن هذه الأخبار غير صحيحة. جاء يومًا وحذره قائلًا: إذا ما طلبتني في عمل آتي بنفسي؛ وأمّا أن تكتب هذه التقارير الباطلة فهذه ستسجّل في التاريخ.

من مميزات حسن صدقه، فهو لا يكذب وفي الأساس لا وجود للكذب في قاموسه. كان يحدث أن يكذب بعض الشباب لمصلحةٍ ليحصلوا على بعض التجهيزات الإضافية فيمتعض بشدة؛ لم يكن يقبل أن ينطق بأي كلام مخالف للواقع مهما كانت الظروف»[2].

أقبل شهر أرديبهشت عام 1361(21نيسان 1982)؛ أعلن حسن باقري في مقر كربلاء أن العدو قد استحدث ساترًا ترابيا في منطقة غرب كارون على بعد(7 كلم) من ضفة النهر؛ وإذا ما وصل إلى النهر والتصق به فستتعقد الأمور.

كان حسن باقري مطمئنا وواثقا من الخطة التي طرحها بعد 20 يومًا من الجهد في التخطيط لعبور نهر كارون. وقد حان الوقت

 

 


[1]-  بالعامية: كمشني بيدي.

[2]- القائد فتح الله جعفري.

 

266


251

يوم عظيم

لتبحث الخطة وتصوّب.

بعد عمليات «طريق القدس» تقرّر أن يكتب كلا الفريقين خطته على حدة؛ فريق التخطيط في الحرس المؤلف من: حسن باقري، وغلام علي رشيد، ورحيم صفوي، وفريق التخطيط التابع للجيش المؤلف من العميد موسوي قوي دل والعقيد مفيد والعقيد جمالي، ومن ثم تُقدّم الخطتان إلى محسن رضائي والعقيد صياد شيرازي حتى يتخذا القرار النهائي بعد استشارة القادة؛ وكانت غالبيّة الخطط النهائية من إعداد وكتابة حسن:

«ما إن انفضّت النقاشات حتى عرض حسن قراراته في قالب خطة عملانية جاهزة ليبلّغ بها القادة. تميّز بذهنه المتوقّد وعقله الراجح؛ فكان شديد النظم والتدبير ومحيطًا بالخطة ومستوعبًا تفاصيلها. كما أنّه امتلك قلمًا سيّالًا ومهاراته واضحة في الكتابة. كان يؤكد على مسألة «عبور نهر كارون» أكثر من بقية الإخوة. بعض الإخوة كان لديهم غموض وعدم وضوح؛ لكن حسن واكبنا في هذه الفكرة وتوافق معنا أكثر من الجميع؛ في حقيقة الأمر كانت مواكبته مؤثرة جدا في إنضاج هذه الفكرة وجعلها واقعية»[1].

لم يكن محسن رضائي الوحيد الذي يثق بكلام حسن باقري؛ بل شاركه سائر القادة؛ لأن له اليد العليا في معرفة العدو وكان يوجّه العمليات بناءً لمعلومات دقيقة:

«عندما كان يشرح ويوجه خطة العمليات يذعن الجميع لرأيه دون تردد، ويصبح الطرح ناضجًا بالنسبة إليهم. يشعر الإنسان أن ما يقوله حسن باقري محيط بمختلف الزوايا والجوانب. ليس

 

 


[1] - اللواء محسن رضائي.

 

267


252

يوم عظيم

كلامًا فارغًا أو يفتقد إلى المعرفة والتجربة والتخصص. حتى خلال الجلسات التي كانت تعقد لبحث خطة الإخوة في الجيش؛ كان كلامه دائمًا مدعمًا بالمصداق والدليل. لا أحد يتقدمه في الكلام وهذه علامة على تدبيره وإدارته»[1].

أثنى كبار قادة الجيش أيضًا على النبوغ العسكري لهذا الشاب الذي لم يتخرّج من الكليّات الحربية. ففي عمليات الفتح المبين وبيت المقدس تولّى العميد حسين حسني سعدي مع حسن باقري القيادة المشتركة لمقر نصر:

«قلت لحسن: شبابنا يتعلمون في الصفوف (الدورات) ويطوون المراحل التدريبية المختلفة ويكتبون أنظمة ومشاريع؛ أنتم ماذا تفعلون؟

تناول حقيبته وأخرج الخطة التي نُفذت قبل سنة في عمليات القيادة العامة للقوات المسلحة. وقال: هذه أول خطة كتبتها في الحرس.

كان قد كتب خطة قريبة ومشابهة لما تكون عليه الخطة الكلاسيكية؛ من دون أن يقتبس من الخطط المعدة في الجيش؛ بتلك النموذجية، ولكن على أسس معرفته هو واستنتاجاته واستنباطاته، مع ذكر المهام التي ينبغي القيام بها خلال العمليات. عندما قرأتها قلت له في ذلك المكان نفسه: «ينبغي الاعتراف أن واحدة من البركات الإلهية علينا نحن البشر أن يأتي شاب مؤمن ويضع خططًا؛ يحتاج طالب الصفوف الأكاديمية إلى وقت طويل ليعدّ مثلها». بالنسبة إلينا كان هذا أمرًا يصعب تصديقه. ففي هذه

 

 


[1] - الشهيد محمد ابراهيم همت.

 

268


253

يوم عظيم

المجالات كان حسن ذكيًا وذا حصافة وألمعيّة»[1].

في تخطيط المرحلة الأولى للعمليات؛ انتاب قادة مقر كربلاء الشك في ما يتعلق بالوصول إلى جادة أهواز - خرمشهر الإسفلتية. لكن حسن باقري أكد لهم أن جنود الإسلام سيصلون إلى الجادة بعد عبور نهر كارون. وقد نطق بكلامه هذا معتمدًا على سهر الليل واستطلاعاته الدقيقة فيه.

يوجد تكتيك والتدريبات العسكرية لدى الجيوش في كل العالم وهو مبدأ «العبور من جسر» وقضم «رأس جسر». العدو أيضًا لم يكن لديه تصور آخر غير هذا، حتى قادة جيشنا كذلك قالوا : فلنسيطر في البداية على رأس جسر في غرب كارون، ثم تُستكمل العمليات في المرحلة التالية باتجاه جادة أهواز - خرمشهر المعبدة. بيد أن رأي حسن باقري كان مغايرًا للدروس العسكرية المتعارفة، كما أن استطلاعات مجموعات «معلومات العمليات» أيدت هذا الرأي أيضًا. فهؤلاء شخصوا ساترًا قرب الجادة؛ كان جيش العدو يستحدثه على وجه السرعة. استطاع حسن من خلال هذه الشواهد والمعطيات وأدلته الخاصة إقناع قادة الحرس والجيش. قال حسن باقري في هذا المجال:

«كان النقاش حول مسألة قضم رأس جسر محدود أم رأس جسر بحجم جادة إسفلتية؟ كيف ستكون العمليات وفي أيّ مرحلة؟ وأي وحدات عسكرية ستقوم بها؟».

في خلاصة الأمر، وصل النقاش في هذا الموضوع إلى أن يسيطر

 


[1] - اللواء حسين حسني سعدي، مواليد كرمان 1941م.

 

269


254

يوم عظيم

مقر فتح ونصر على رأس جسر وسيع يستوعب جادة الأهواز – خرمشهر. أراد نظام صدام الاحتفاظ بخط محكم وثابت على امتداد الجادة الإسفلتية. بالطبع لم نستنتج أن يقوم العدو بالتموضع بجانب النهر والالتصاق به بهدف قطع الطريق على عمليات التسلل والنفوذ، لأن ذلك [حسب ظننا] سيدفعه إلى استقدام أعداد كبيرة من قوات المشاة ونشرها هناك. وفي هذه الحالة (الالتصاق بالنهر) سيضطر إلى نشر لواء في كل ثلاثة أو أربعة كيلومترات في القسم الغربي لكارون. ولم يكن هذا الأمر بالنسبة إلى العراق ممكنًا أبدًا، أي أن ينشر 10 ألوية على امتداد( 40 كلم). على وجه الخصوص من جهة التغطية النارية الخلفية وتأمين الحماية بالدبابات لإيصال التموين والذخائر، وإذا ما قام بذلك يكون من المحتم وقوعه في ضيق شديد. فكان من الطبيعي أن يتموضع جيشه على بعد 4-5 كلم من ضفة النهر حتى يصبح كاشفًا ومسيطرًا بالنار (على امتداد الساحل) المقابل له، ويعقّد محاولات التسلل في هذا المحور ويمنعها. [مع العلم أن] خط الدفاع العراقي على جادة الأهواز – خرمشهر الإسفلتية كان لا يزال قائمًا»[1].

أفادت الاستطلاعات اللاحقة أن العدو أقام ساترًا كاملًا. فانتفى الشك باليقين. كان القرار البدء بعمليات «17 أرديبهشت» [7/أيار/1982] في ذكرى ميلاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، عندما أحضروا الصور الجويّة في الأيام التي تلت، توصل حسن إلى نتيجة مفادها أن العدو يريد الاستيلاء على غرب كارون، وهذا ما يحتّم علينا العمل سريعًا. وفي المقر أوضح أن «الـفرقة الثالثة» العراقية

 

 


[1] - مقابلة مع حسن باقري في مقر كربلاء، مجموعة مذكرات حسن باقري، ج3.

 

270


255

يوم عظيم

المدرعة تنوي التقدم من فكة باتجاه الأهواز وخرمشهر، و«اللواء العاشر» المدرع أيضًا في طريقه إلى هذه المنطقة؛ وإذا ما حصل تأخير من جانبنا فسيتموضع العدو في هذه المنطقة وتتعقد الأمور. كان حسن يقول: «إذا ما وصلنا إلى الجادة فسنجبر العدو على التراجع، وإن المبادرة ستكون بيدنا، وإذا استطاع العدو أن يموضع أحد تشكيلاته هناك فإن المبادرة ستكون بيده، ولن يحالفنا النجاح». أراد حسن باقري في مقر كربلاء أن تبدأ العمليات في اليوم العاشر من أرديبهشت [30نيسان]. بناءً على الأدلة التي عرضها، اتخذ محسن رضائي، والعقيد علي صياد شيرازي وسائر القادة قرارًا بالإجماع يقضي بتقديم موعد العمليات إلى اليوم العاشر:

«تقديم توقيت العمليات أسبوعًا أمرٌ سهل على اللسان، إلا أنه في ميدان العمل يختلط كل شيء ببعضه ويحصل اضطراب. فأعمال الهندسة مثل بناء الجسور وشق الطرقات و... كانت قيد الإنجاز. والكتائب قيد التشكيل. كان حسن يرى أن إنجاز الأعمال بنسبة 80% أفضل من الانتظار لإتمامها ولكن من دون تحقيق الهدف. قال لي: عند بدء العمليات تضيء مصابيح دباباتك وتطلق لها العنان لتصل إلى الجادة. أن تصل 50 دبابة من آلياتنا إلى الجادة أفضل من أن تبقى خلف الساتر ويتم قصفها وإعطابها. كان حسن باقري سبّاقًا ومتقدمًا خطوة على العدو. قدّم زمن العمليات أسبوعًا واحدًا من 17 إلى 10 ارديبهشت؛ بحيث لو لم تقدّم ونفّذت في التوقيت المحدد مسبقًا قد لا يكتب لها النجاح»[1].

على هذا المنوال؛ كان الواجب على قوات الحرس والجيش أن

 

 


[1] - اللواء فتح الله جعفري.

 

271


256

يوم عظيم

تستعد بعد شهر من عمليات الفتح المبين لعمليات أكبر وأوسع. كان من المتوقع أن ينظمّ للعمليات المقبلة 60 ألف عنصر من متطوعي القوات الشعبية في إطار التعبئة، وهذا العدد يكون ضعفي  الذين شاركوا في عمليات الفتح المبين. بمعنىً آخر يجب أن تتوسّع تشكيلات الحرس القتالية خلال هذه الفترة المحدودة لتلبية الزيادة المطلوبة. فخلال الفترة الممتدة من شهر أيلول 1981 إلى نيسان 1982 -أي خلال 8 أشهر- توسّعت تشكيلات الحرس القتالية وازدادت من 12 كتيبة في عمليات ثامن الائمة(عليه السلام) إلى قرابة 20 لواءً في عمليات بيت المقدس؛ أي أن تشكيل الحرس تضاعف 10 مرات. وضع محسن رضائي هذه المهمة الثقيلة على عاتق حسن باقري.

إحدى الوحدات التي تشكلت على أعتاب عمليات بيت المقدس كانت وحدة المدفعية في الحرس بقيادة حسن طهراني مقدم:

«بعد شهادة الدكتور شمران سلّمني حسن باقري رسالة؛ بمقتضاها ذهبت إلى المحافظ واستلمت مدافع وذخائر الهاون العائدة إلى  مقر (حرب العصابات). في خريف العام 1981 بحثت مع حسن مسألة «الإسناد الناري» (المدفعية)؛ وقلت إننا نواجه مشاكل فيه، فلا ينبغي أن نبقى مشتتين وبلا هدف؛ يجب أن نطبق قواعد ومنظومة النيران[1]. وقلت أيضًا: لدينا إسناد ناري ولكن بدون توجيه وقيادة. فنظامنا يحتاج إلى إدارة وتوجيه. ولفرط ذكائه وبلا أي تأخير أكمل حسن ما طرحته. بعث برسالة إلى الأخ محسن رضائي مفادها: اسمحوا للأخ مقدم بأن ينظم «إسناد

 


[1] - منظومة النيران، وإدارة النار، والتوجيه.. مصطلحات لمهام عسكرية مستخدمة في تكتيكات الإسناد الناري (وظيفة المدفعية). المترجم.

 

272


257

يوم عظيم

الحرس الناري» في الجنوب. استحصل قرارًا من الحاج محسن وقال: «اذهب ونظم العمل». قدّمني وعرّفني إلى أربعة مقار وأنا بدوري قمت بتوجيه قواتها من خلال المقر والألوية. لم يكن في الحرس نمط وأسلوب لتثبيت النيران .. تعرفنا على الأساليب والطرق وعلمناها وقمنا بتدريبات عليها.

في بداية الحرب تلقيتُ تدريبًا على الأسلحة الثقيلة وخضعت في إحدى المرات لدورة تخصصية في ثكنة «سعد اباد». «لم تكن القيادات تهتم بوحدة المدفعية» . أما حسن باقري فهو الوحيد الذي ساعدنا. كلما واجهتنا مشكلة ذهبنا إليه. في بداية الأمر كانت مدفعية الحرس مضعضعة[1]، على سبيل المثال، وجدت في إحدى الوحدات أربع منصات مختلفة (الأعيرة)، قلت لهم ينبغي أن تكون المدافع من العيار نفسه [شرقي أو غربي] وكل قائد ينبغي أن يسلّم عيارًا من المدفعية ليستلم عيارًا آخر، مثال: يعطي مدفعية عيار 130 ويأخذ 155. أعددنا رسالة في ذلك، وأبلغها الأخ محسن لمختلف الوحدات. قصدتُ الأخ أحمد كاظمي فقال لا يمكن ذلك، أحمد متوسليان لا يقبل. تابعت المسألة وذهبت وجئت كثيرًا إلى حد قلت للأخ رحيم: لا أحد يهتم برسائلك، أجاب: ماذا نفعل إن لم يصغوا إلينا! في النهاية واجههم الأخ حسن باقري وحلّ المشكلة. الجميع يعرف أن المدفعية ليست قطعة وحسب؛ هي عيار.

في عمليات الفتح المبين، غنم فتح الله جعفري 157 قطعة مدفعية. جئنا بها إلى وحيد، حيث كان يشتري مدافع 120 ملم من الخارج ويزودوننا بالعتاد والذخائر بالطائرات. صارت هذه المدافع ركنًا

 

 


[1] - يقال بالعامية: «مفشكلة».

 

273


258

يوم عظيم

الحرس الناري» في الجنوب. استحصل قرارًا من الحاج محسن وقال: «اذهب ونظم العمل». قدّمني وعرّفني إلى أربعة مقار وأنا بدوري قمت بتوجيه قواتها من خلال المقر والألوية. لم يكن في الحرس نمط وأسلوب لتثبيت النيران .. تعرفنا على الأساليب والطرق وعلمناها وقمنا بتدريبات عليها.

في بداية الحرب تلقيتُ تدريبًا على الأسلحة الثقيلة وخضعت في إحدى المرات لدورة تخصصية في ثكنة «سعد اباد». «لم تكن القيادات تهتم بوحدة المدفعية» . أما حسن باقري فهو الوحيد الذي ساعدنا. كلما واجهتنا مشكلة ذهبنا إليه. في بداية الأمر كانت مدفعية الحرس مضعضعة[1]، على سبيل المثال، وجدت في إحدى الوحدات أربع منصات مختلفة (الأعيرة)، قلت لهم ينبغي أن تكون المدافع من العيار نفسه [شرقي أو غربي] وكل قائد ينبغي أن يسلّم عيارًا من المدفعية ليستلم عيارًا آخر، مثال: يعطي مدفعية عيار 130 ويأخذ 155. أعددنا رسالة في ذلك، وأبلغها الأخ محسن لمختلف الوحدات. قصدتُ الأخ أحمد كاظمي فقال لا يمكن ذلك، أحمد متوسليان لا يقبل. تابعت المسألة وذهبت وجئت كثيرًا إلى حد قلت للأخ رحيم: لا أحد يهتم برسائلك، أجاب: ماذا نفعل إن لم يصغوا إلينا! في النهاية واجههم الأخ حسن باقري وحلّ المشكلة. الجميع يعرف أن المدفعية ليست قطعة وحسب؛ هي عيار.

في عمليات الفتح المبين، غنم فتح الله جعفري 157 قطعة مدفعية. جئنا بها إلى وحيد، حيث كان يشتري مدافع 120 ملم من الخارج ويزودوننا بالعتاد والذخائر بالطائرات. صارت هذه المدافع ركنًا

 

 


[1] - يقال بالعامية: «مفشكلة».

 

273


259

يوم عظيم

أساسيًا في مدفعية الحرس. شرعنا بتشكيل وحدة المدفعية ابتداء من عمليات بيت المقدس. كان لدينا في الحرب مجموعة من الشباب الأذكياء المتواضعين. أدار قادة الحرب المعركة بذكاء وحنكة. صحيح أن إمكاناتنا كانت محدودة جدا ولكن عقولاً مفكّرة كحسن باقري حضرت في الجبهة. كان حسن إنسانًا استطاع أن يخلق تحولًا واندفاعًا وفعالية»[1].

 برغم حضوره في الجلسات الليلية الطويلة والمتخمة بالقضايا العسكرية؛ قبل عمليات بيت المقدس؛ إلا أنه لم يغفل عن بيته:

«أحيانًا كانت الجلسات تطول إلى الساعة 2:30 بعد منتصف الليل. كنتُ قد تزوجت بعد عمليات الفتح المبين، ولأن المأذونيات لم تكن متاحة حينها، فقد أسكنت عائلتي في أقرب نقطة  من الجبهة. في إحدى الليالي حيث طالت الجلسة كثيرًا، قال لي حسن: بِشردوست، هيا لنذهب إلى الأهواز! قلت له: نحن الآن قرب خرمشهر، وإذا ما ذهبنا إلى هناك فسنصل في الصباح! لماذا نذهب؟ أجاب: ما دمنا لا نستطيع الذهاب في النهار إذ لا وقت لدينا، فالآن هذا المقدار يكفينا كي نذهب ونزور أسرتينا، وهذا أحد واجباتنا.

 

 


[1] - مقابلة أجراها الكاتب مع «حسن طهراني» مقدّم في آذار من العام 2009م. ولد القائد الشهيد مقدّم في العام 1959 في طهران. هو من مؤسسي منظومة المدفعية في الحرس، في العام 1983م أوكلت إليه مهمة (مقر) «القوة الصاروخية أرض أرض» في الحرس. في العام 1985 عُيِّن في قيادة القوة الصاروخية للقوة الجوية للحرس، واختير في العام 2006 مستشار القائد العام للحرس الثوري في أمور الصواريخ ورئيس مؤسسة الاكتفاء الذاتي في الحرس. استشهد في العام 2011 في ثكنة أمير المؤمنين في محافظة ملارد عندما كان يجهز لإعداد تجربة صاروخية إثر انفجار مخزن الذخائر برفقة عدد من مساعديه.

 

274


260

يوم عظيم

انطلقنا إلى الأهواز. أوصلني إلى منزلي وهو أيضًا ذهب إلى بيته. ما إن طلع الفجر وبعيد الصلاة حتى وجدته قد جاء في إثري لنعود إلى الخط. عندما وصلنا إلى المقر، وجدنا الأخوة الذين كنا معهم في الجلسة الليلية الفائتة؛ بعضهم نائم أو قد استيقظ لتوّه»[1].

قبل طلوع فجر العاشر من أردبيهشت 1361(30 نيسان82)، وبنداء يا علي أمير المؤمنين، بدأت عمليات بيت المقدس. أكملت قوات مقرّي فتح ونصر تقدمها باتجاه جادة الأهواز - خرمشهر بعد أن عبرت نهر كارون وكسرت خط الدفاع العراقي. كانت القضية المهمة في الخطوة الأولى هي كيفية عبور النهر. كان القرار ليلة العمليات أن يتم نصب وتجهيز خمسة جسور على نهر كارون لعبور القوات؛ لكن هذا الأمر لم يتم بسبب الهجمات الجوية التي نفذتها الطائرات العراقية على المنطقة في الوقت المحدد لنصب الجسور.

قال حسن باقرى حول هذا الأمر:

«تعدّ مهمة عبور النهر من أصعب العمليات وأعقدها؛ فكثير من الجيوش في العالم يقومون بالاستعداد لها وإجراء تدريبات ومناورات مسبقة خلال فترات زمنية ليست قصيرة».

في بداية العمليات كان لوحدة الهندسة في الجيش هناك جسران[2] (pmp). بالطبع فقد أُحضر الجسران قبل 24 ساعة ووضعا بقرب النهر حتى لا تُظهرهما الصور الجوية بنحو واضح. شعر العدو بذلك, وشيئًا فشيئًا عرف أن هناك جسورًا قد نصبت أو ستنصب.

 

 


[1]- غلامحسين بشردوست، مسؤول عمليات مقر القدس في عمليات الفتح المبين.

[2] - من نوع الجسور الثابتة.

 

275


261

يوم عظيم

قال الطيار العراقي الأسير الذي أُسقطت طائرته في منطقة الإسماعيلية على بعد (3 كلم) من السلمانية: «التقطنا صورًا جوية لامتداد نهر كارون بكامله وثبت لنا أنكم بصدد نصب جسر في منطقة السلمانية؛ ولذلك تلقينا الأوامر بقصف هذه المنطقة؛ ومن ثم تصويرها». عبرت غالبية قوات المشاة النهر بواسطة الزوارق والجسور العائمة (J(صلى الله عليه وآله)S). فكانت مجموعات الـ(J(صلى الله عليه وآله)S) تضع الجسور العائمة على سطح الماء وتصلها ببعضها حتى تصل إلى حافة النهر الأخرى ثم تعود في مدة زمنية لا تتجاوز عشر دقائق. قرابة الساعة الخامسة بعد الظهر تم نصب الجسور بنحو كامل، وصارت الآليات جاهزة شيئا فشيئا لعبور النهر إلى منطقة غرب كارون. حصل ازدحام شديد شرقي النهر بسبب تأهب الآليات للعبور فوق الجسور. رُتبت أولويات العبور من خلال وسائل وأدوات الهندسة لنقل الآليات الخفيفة ثم سيارات الإسعاف والمدرعات. فيجب أن تعبر كل هذه الآليات من فوق الماء»[1].

مع إعلان نداء العمليات عبرت كتائب مشاة لواء «محمد(صلى الله عليه وآله)» ولواء «ولي العصر» نهر كارون مباشرة. عند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل كسروا خط العدو ووصلوا إلى الجادة.  كذلك نجح لواء النجف ولواء الإمام الحسين (عليه السلام) التابعان لمقر فتح؛ في السيطرة على الأهداف التي حُددت لهما.

كانت محطة كرمدشت نقطة الاشتباك الأساسية. لم ينكفىء الجيش العراقي بسهولة إذ قاوم بشدة. كانت توجد هناك مسافات فاصلة بين الألوية استغلها العدو ونفَذ منها وسيطر على قسم من

 

 


[1] - مقابلة مع حسن باقري في مقر كربلاء- مجموعة مذكرات حسن باقري ج3.

 

 

276


262

يوم عظيم

جادة الأهواز - خرمشهر، وأحدث شرخًا بين مقري نصر وفتح، وقطع التواصل بين المقرين. وأُجبِر لواء ولي عصر على التراجع مسافة (3 كلم) إلى خلف الجادة. وواجهت وحدات لواء محمد رسول الله أعنف الهجمات المضادة. استحدث قائد اللواء أحمد متوسليان محورين؛ الأول باسم «محرم» بقيادة محسن وزوايي ومعاونه حسين تقوي منش؛ والثاني باسم «سلمان» بقيادة الحاج محمود شهبازي ومعاونه حسين همداني.

استشهد محسن وزوايي ومساعده وعامل الإشارة لديه في محطة كرمدشت بقذيفة هاون.

تقرر أن تنفذ المرحلة الثانية من العمليات في 13 أرديبهشت [3أيار]. كان محور محسن وزوايي على قدر كبير من الأهمية ما اضطر حسن باقري لإيقاف العمليات وترميم التفكك والتصدع الحاصل بين الألوية:

«يقع محور لواء «محمد رسول الله» ومساحته 3كلم تقريبًا؛ أسفل نقطة كرمدشت. وقائده الأخ الشهيد وزوايي. كانوا عرضة للخطر من جانبي الطريق الإسفلتية. ونظرًا للحساسية الشديدة التي كان العدو يبديها ازاء خرمشهر ولكي يمنع تقدمنا باتجاهها؛ شدّد حملاته وضغط على هذه المنطقة. وأدت شهادة الأخ وزوايي والخسائر التي منيت بها القوات هناك إلى توقف العمليات في المحور. في اليوم الثاني للعمليات اتسع الشرخ الفاصل بين وحدات «مقر نصر» وصار خطرًا للغاية؛ إلى الحد الذي استطاعت سرية مؤللة من قوات العدو النفوذ إلى شرق الجادة الإسفلتية؛ حيث استطاعت تضحيات الشباب وحدها أن تردّها على أعقابها

 

277

 

 


263

يوم عظيم

فانكفأت وقُضِي عليها. في الليالي الثلاث التي تلت بدء المرحلة الأولى انصب الهاجس القويّ والهمّ الكبير على تنفيذ القرار وخطة إعادة وصل الوحدات ببعضها. فملأنا الفواصل والشروخات واحدة بعد الأخرى؛ كما رُمّم في إحدى العمليات الشرخ  الواقع بين لواء النجف ولواء دزفول[ولي عصر]. وحصل الأمر نفسه في الشّرخ التالي الذي وقع بين لواء دزفول ولواء «محمد رسول الله»؛ فعملت قوات من اللواءين على رتقه. في المجموع استغرقت عملية الوصل لتثبيت الخط من «الكيلومتر 68» إلى «الكيلومتر 103» خمسة أيام»[1].

شهدت ساحات القتال خلال الأيام الخمسة التي تحدّث عنها حسن باقري ملاحم ووقائع ضخمة ربما احتاجت إلى كتاب مستقل لروايتها وتفصيلها. بشكل عام؛ قدّم حسن «مقرَّ نصر» من السلمانية مسافة 25 كلم إلى الأمام، ونقله إلى كرمدشت خلف ساتر جادة الأهواز - خرمشهر الإسفلتية. .

ليست المرة الأولى التي ينقلون فيها عناصر ومكونات المقر إلى الخطّ الأمامي.  ففي عمليّات ثامن الأئمة وطريق القدس والفتح المبين تم تنفيذ إجراء كهذا؛ حيث أنشأوا مقرًا سيّارًا؛ ووضعوا أجهزته اللاسلكية داخل آلية، ثم أعلنوا عن مكانه الجديد، فأتى مسؤولو الأقسام الأخرى؛ قسم الأمانات والتعاون ، العديد والاستقطاب والإمداد والهندسة وغيرهم للتموضع بالقرب من الخط الأول:

«كان حسن باقري يأتي إلى المحور مع طلوع الصبح، يدعو مسؤولي الوحدات للحضور ويعقد جلسة معهم؛ إما بجانب

 

 


[1]-  المصدر السابق.

 

278


264

يوم عظيم

السيارة أو داخل الخندق أو في الدشمة ويتابع شؤون العمليات. وسلوكه هذا ناشىء من شجاعته وشهامته. كان من خلال تحديه للمخاطر في الظروف القاسية والصعبة يبث الشجاعة والروح المعنوية في قلوب سائر القادة في تشكيلات الكتيبة واللواء. وعندما يشعر بخطر أو يستشعر القلق حول أي موضوع، يبادر للعمل ويكون أول شخص يحضر ويدفع الباقين للّحاق به»[1].

حازت جادة الأهواز - خرمشهر الإسفلتية على أهمية استثنائية بالنسبة للجيش العراقي، ولكي يدافع العدو عنها أقام إلى جانبها ساترًا ترابيًا بارتفاع مترين ونشر قواته خلفها. كان حسن باقري في أيام الاستطلاع قد تابع وضع الساتر بدقة متناهية. لقد أدرك أنّه بعد اقتحام التعبويين الخط سيصبح هذا الساتر نفسه واقيًا يحمي أرواحهم أيضًا. عندما فهم العدو هذا الموضوع أمر قواته أن يستميتوا في الدفاع وأن لا يسمحوا تحت أي ظرف بسقوط الجادة الاسفلتية. كان جيش العراق متفوقًا في خطط صد الهجمات، وقد وُضعت في تصرفه وسائل وإمكانات ضخمة. من أهم المسائل التي كان حسن باقري يدرسها ويحلّلها قبل العمليات مسألة «هجمات العراقيين المضادّة». كان يجمع الضباط العراقيين الأسرى، ويتحدث معهم ويناقشهم، ومن دون أن يطرح عليهم خطة العمليات كان يستفيد من معطياتهم في المسائل التكتيكية:

«كان حسن باقري يبحث المسائل من زاوية نظر العراقيين. فإذا كنّا بصدد القيام بهجوم، كان يسرّب إلى الضابط العراقي معلومة أن الجيش العراقي يريد القيام بهجوم ونحن سنقوم بالدفاع وحسب.

 


[1] - القائد محمد علي (عزيز جعفري ) – مجموعة مذكرات حسن باقري، ج3.

 

279


265

يوم عظيم

كان الضابط العراقي الأسير بعيدًا عن أخبار الجبهات في ذلك اليوم، شخصية عسكرية رفيعة يحمل ذهنية أن وضع الجانب العراقي أصبح أفضل مما مضى. فكان يرمي إلى تضليل حسن حسب ظنه ويخفي عنه أشياء، وهذه الأمور التي كان يخفيها هي نفسها التي أردنا معرفتها، لأننا نهدف إلى الإتيان بالشيء المخالف لها؛ والقيام بالعمليات؛ أو أن الضابط العراقي كان يتظاهر ويبالغ فيستكشف حسن نقطة ضعف العدو من خلال المبالغة. كما أن الموارد التي يقلل الحديث عنها تنبئ عن نقاط قوتهم»[1].

في يوم 11 أرديبهشت (1 أيار) أي اليوم الثاني للعمليات كان العدو لا يزال يقوم بالهجمات المضادة مستفيدًا من الشرخ الفاصل بين محاور قواتنا. في يوم 2 أيار قاد حسن باقري هجومًا ليليًا مستفيدًا من قوات لواء «ولي العصر» وسيطر على الجادة وأبعد العراقيين عنها.

 غروب يوم 3 أيار جمع حسن مسؤولي معلومات العمليات وقادة الألوية وأخبرهم أن العدو سينفذ صباح غد هجومًا مضادًا عنيفًا؛ حيث كان قد عرف أن الألوية العراقية المدرعة(6 و10 و12) تعدّ وتتحضّر لهذا الهجوم المضاد.

في الساعة العاشرة من صباح يوم 4 أيار تحقق توقع حسن باقري؛ إذ توجهت أرتال من الدبابات العراقية بمختلف أنواعها باتجاه القوات المدافعة عن الجادة. كان يرتفع الساتر المحاذي لجادة الأهواز - خرمشهر عن مستوى الجادة نفسها قرابة متر ونصف المتر؛ ويرتفع 3 أمتار من جهة الخلف.

 

 


[1] - القائد أصغر كاظمي.

 

280


266

يوم عظيم

صارت الدبابات العراقية والقناصة تمطر الساتر بالرصاص والقذائف لتخريبها. وقد تصدّت لها قوات التعبئة في كتيبتي حبيب بن مظاهر وحمزة سيد الشهداء من لواء محمد رسول الله وأصابوا عددًا منها بقذائف الـ(آر بي جي)؛ مع ذلك لم يتراجعوا بل كانوا يتركون الدبابات المحترقة جانبًا ويتقدمون. قرابة الظهر؛ عنفت المعارك وبلغت أوجها. كانت دبابات لواء الحرس المدرع مستقرة خلف الساتر. وكانت قد استحدثت منصات لها مؤلفة من طبقتين؛ تقصف الدبابة من على الطبقة الأولى ثم ترجع وتستقر على الطبقة الثانية:

«كان هوائي إرسال اللاسلكي لدبابتنا ظاهرًا من فوق الساتر وخلفه. هدّفت  دبابة العدو(T72 ) عليه وأطلقت باتجاهه قذيفة مضادة للدبابات. مرت القذيفة من تحت الساتر وخرجت وأصابت دبابتنا. أصيب الجميع بالدهشة كيف لهذه الدبابة أن تُصاب وتحترق!. واستشهد أيضًا طاقمها. كما قصفوا الدبابة الثانية التي تقع بجانبها. قذيفة تخرج من تحت الساتر وتدمر دبابة. تقدّر القدرة التدميرية لقذيفة دبابة T72 -والتي يطلق عليها سابو- ما يعادل ضعفي القذيفة العادية. قذيفة مصنوعة من أثقل أنواع الحديد (التانكستن). فقذيفة الآر بي جي عندما تصطدم بمانع تنفجر؛ لكن هذا النوع من القذائف لا ينفجر عندما يرتطم بمانع مثل التراب والباطون والدروع بل يخرقه؛ فهو يخرق الدبابة ويفجرها من الداخل. كانت قواتنا تتصدى لدبابات الـ(T72) بقذائف ال(آر بي جي) فتنحرف القذيفة عن الدبابة وتذهب بعيدا. ومن ناحية التدريع كانت دباباتهم أكثر تدريعًا ومتانة.

 

 

281

 

 


267

يوم عظيم

وضع العدو 35 دبابة من «كتيبة الوحدة» و35 من «كتيبة المنصور»؛ أي 70 دبابة مقابل 14 دبابة كانت بحوزة قواتنا. خرقت رشاشات الدوشكا أعلى الساتر الترابي وأحدثت فيه خللا على طول خطه فما استطاع أحد من قواتنا أن يرفع رأسه؛ وما فتئوا يقتربون شيئا فشيئا؛ وحسن باقري يرى هذا المشهد للهجوم المعاكس. كانت الساعة تقترب من الـ12 ظهرا؛ قلت له: الأوضاع خطرة ونحن مقبلون على أزمة! كلما تقدمت دبابتنا من فوق الساتر قصفوها. نحن عاجزون عن فعل أي شيء. من الأفضل أن يتراجع الإخوة عن سطح الجادة إلى الخلف حتى لا تصيبهم القذائف ويلاقوا حتفهم. أجاب: دعهم يتقدموا للأمام.

أمر حسن جميع قادة الكتائب وكل المجموعة  للجهوزيّة التامة.

سمعتُ صوته على موجه اللاسلكي يقول لأحمد متوسليان: كن على السمع. بدأت دبابات العدو تتوغّل محدثة صخبًا وهدرًا قويًّا، فكل سريّة من سرايا العدو دفعت مجموعةً من دباباتها إلى الإمام للتقدّم على امتداد خط بطول 2 كلم، باتجاه جادة الأهواز خرمشهر. وصل بعضها إلى الجادة ثمّ إلى الساتر الترابي الذي تمركزنا خلفه. في هذه اللحظة نادى حسن باقري عبر جهاز اللاسلكي: أطلبوا من جميع الإخوة أن يرفعوا أصواتهم بالتكبير عاليا! ارتفعت صيحات التكبير في وقت واحد ودوّت في أرجاء ساحة المعركة. تقدمت إحدى دبابات الـ(T72) وقطعت الجادة الإسفلتية ووصلت إلى ساترنا الترابي؛ وتوقفت دبابة أخرى على الجادة، ظن طاقمها-مع نداءات التكبير- أنهم قد انهزموا فنزلوا منها ولاذوا بالفرار، وأولئك الذين كانوا خلف الجادة علقوا في

 

283

 

 


268

يوم عظيم

كنت جالسا بقربه؛ ونداءات قادة سراياه عبر جهازه اللاسلكي تخبر أن دبابات العدو تقترب من الجادة؛ وأن قذائف ال(آر بي جي) لا تعمل مع دبابة ال(T72). قال حسن باقري لا سلاح لدينا أقوى من سلاح «الله أكبر». نادى أحمد متوسليان وقادة الكتائب عبر جهاز اللاسلكي، وأصبح الجميع «على السمع» ينتظرون أمره. فجأة نادى عبر اللاسلكي طالبًا من الجميع رفع أصواتهم بالتكبير في وقتٍ واحد. وهو نفسه صدح بالتكبير (الله أكبر الله أكبر). ارتفعت أصوات التكبير على طول الخط دفعة واحدة. وبدأت عاصفة الغبار والرمال أيضًا. اختلّت شبكة الاتصال اللاسلكي بين دبابات لواء الحرس الجمهوري العراقي العاشر، والذين كانوا في المقدمة نزلوا من دباباتهم ولاذوا بالفرار وما استطاع من بقي منهم التقدم فتراجعوا وانسحبوا، وتبدّلت الهزيمة المحتمة نصرًا مؤزرا»[1].

في اليوم الخامس من أيار وصلت كتيبة من لواء محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقيادة حسين قمي إلى جنوب كرمدشت، وتموضعت في الزاوية التي كان العدو  يريد النفوذ من خلالها وإحداث شرخ بين قواتنا في جادة الأهواز خرمشهر. وفي هذا المكان ارتفع حسين قمي شهيدًا ومنع العدو من السيطرة على الجادة.

بعد ستة أيام عصيبة وقاسية من عمليات بيت المقدس حان الوقت ليتخذ القادة في مقر كربلاء قرارًا حول استمرار العمليات. كان رأي حسن باقري أن نذهب في المرحلة الثانية نحو حدود شلمشة ونقطع إتصال جبهة العدو الخلفية بخرمشهر. كان رأي بعض القادة أن نتّجه إلى خرمشهر. خلال حديثه عن الأسباب والدواعي التي

 

 


[1] - اللواء رحيم صفوي.

 

284


269

يوم عظيم

جعلته يرجّح الذهاب إلى ناحية شلمشة بدل التوجه إلى خرمشهر؛ قال إنه إذا ما ذهبنا إلى شلمشة؛ فإننا لن نعلق في ثلاثة مستويات دفاعية قوية لجيش العدو موجودة في شمال خرمشهر: التحصينات، والأسلاك الشائكة، وحقول الألغام أولا. وثانيًا إن العدو يساوره الشك بنوايانا ولا يعرف هدفنا هل هو البصرة أم خرمشهر؟ لأن شلمشة تقع وسط جادة البصرة خرمشهر؛ وتبعد عن كلا المدينتين قرابة (12كلم). في يوم 6 أيار عقد اجتماع في مقر كربلاء ضم محسن رضائي والعقيد صياد شيرازي وسائر القادة واستمعوا إلى خطة حسن باقري وناقشوها وتمّت الموافقة عليها.

في الساعة (10:30)  ليلة 6 أيار 1982؛ بدأت وحدات مقري نصر وفتح المرحلة الثانية لعمليات بيت المقدس. ومع إعلان نداء العمليات بدأ هطول المطر الربيعي. لم يكن في فكر العراقيين الذين احتموا منه داخل دباباتهم ودشمهم أن الجنود الايرانيين سيهجمون تحت الأمطار. كانت فرصة مؤاتية لقوات المشاة للتسلل من بين صفوف الدبابات والمواقع العراقية والتحرك باتجاه خط الحدود. وصلت القوات المقاتلة في سحر يوم 7 أيار؛ إلى نقطة الموقع الحدودي بعد مسير ليلي وعبور مسافة (15كلم)[1].

واكب حسن باقري هذا التحرك فائق الأهمية لحظة بلحظة من خلال اتصاله الدائم بقادة الألوية والكتائب، وسعى لكي يصل جنودنا إلى نقطة التحصين الحدودي ويستقروا فيها قبل انبلاج الفجر.

وكما كان متوقعا؛ مع طلوع الصباح أطلت هياكل الدبابات العراقية؛ وقد استمر هجومهم المضاد قرابة الساعتين، وتصدت

 

 


[1]- عادة ما يكون على شكل برج مراقبة محصَّن.

 

285


270

يوم عظيم

لها قوات التعبئة وأجبرتها على التراجع. الهجوم الثاني المضاد بدأ عند الساعة 11 صباحًا أيضًا؛ واستمر حتى الساعة الواحدة بعد الظهر. وكان الهجوم الثاني أعنف وأقسى من الأول. عصر ذلك اليوم عاود الجيش العراقي الهجوم للمرة الثالثة؛ فقد أراد استرجاع تلك النقطة من شلمشة كيفما كان وبأي شكل من الأشكال. جُرح أحمد متوسليان في الهجوم الثالث وتولى الحاج همت مسؤولية قيادة لواء «محمد رسول الله» مكانه.

كان حسن باقري خلال الهجمات الثلاث حاضرًا إلى جانب قوات التعبئة في الخط الدفاعي ويقود الوحدات القتالية ويواكبها. كانت جميع قوات مقره؛ من الاستطلاع والمعلومات إلى العمليات والهندسة والإسعاف الطبي؛ حاضرة في الجبهة والخط الأمامي أيضًا. في تلك الليلة قال حسن لقادة الوحدات في مقر نصر أن ضغوط العدو وهجماته ستزداد نهار الغد، وقد ندخل في منعطف خطر. يصف حسن باقري يوم 8 أيار بأنه يوم عصيب:

«صباح يوم 8 أيار حيث كنا قد وصلنا إلى نقطة الحدود، شرع العراق بحملات مضادة قاسية وعنيفة. [في الوقت الذي لم] يكتمل بعدُ تثبيت الخط واستقرار القوات. مع أن نقطة التحصين الحدودية قد أصبحت تحت سيطرتنا لكن الجيش البعثي لم يقم بهجومه المضاد في العمق؛ وكان جل سعيه السيطرة على خط حدوده. من خلال حجم الضغط الذي مارسه العدو الذي استمر حتى الساعة الخامسة بعد الظهر؛ لعله يمكن القول إن ذلك اليوم كان أحد أقسى أيام الحرب وأصعبها بين العراق وإيران؛ كان أشبه ما يكون بمعركة تشزابة. استطاع العراق استعادة (6كلم)

 

286

 

 


271

يوم عظيم

تقريبًا من خط حدوده التي سيطرنا عليها»[1]. 

صباح يوم 8 أيار بدأ جيش العدو هجومه المضاد. شرعت دبابات لا تعدّ ولا تحصى - وقد ملأت السهل المقابل لجنودنا- بإطلاق قصفٍ متواصل؛ لم تتوقف قذائف مدفعيتها ورشاشاتها لحظة واحدة. ووصلت غزارة نيرانها وشدتها إلى حدّ منعت أي جندي من أن يطل برأسه ويحمل سلاح (الآر بي جي) ويطلق قذيفته. وقد هاجم شبابنا بصيحات الله أكبر. أما العدو فقد استخدم كل إمكاناته وقدراته وتمكن من استعادة التحصين. في ذلك الوضع أيضًا هجم اللواء العراقي المعروف بالحرس الجمهوري من خلف التحصين. ولكثرة ما صب هؤلاء حمم قذائفهم على الساتر الجنوبي الذي شيّده شباب جهاد البناء فقد تحطم قسم منه وزال. نفذَ العدو من هذا المكان نفسه واقترب من قواتنا. تراجع الشباب مقدارًا ما. غدا الخط متأزّما وتعقدّت أوضاعه:

«لا مثيل لحجم النيران التي صُبّت. ففي «نبعة» واجهتنا ظروف سيئة؛ أما هنا فالأوضاع كانت أصعب وأشدّ سوءًا؛ كانت الدبابات العراقية(T62 وT55 وT72) تصبّ صليات قذائفها واحدة تتلو الأخرى، ثم تأتي الدبابات التالية وتأخذ مكانها بسرعة. تعرضت دباباتنا الـ(14) للقصف من قبل الدبابات العراقية في معركة غير متكافئة واستشهد طاقمها. وملأ الدخان ورائحة البارود فضاء المنطقة التي ضجّت بأصوات القذائف والرصاص وصراخ المقاتلين. كنا نسمع صراخ البعثيين وأصوات القذائف عبر جهاز اللاسلكي خلال حديث حسن باقري مع الحاج همت. راح

 

 


[1] - مقابلة مع حسن باقري في مقر كربلاء- مجموعة مذكرات حسن باقري؛ ج3.

 

287


272

يوم عظيم

العراقيون يتقدّمون وصرنا نخسر الدشمة تلو الأخرى. تحوّلت المعركة في الخط الأول إلى مواجهات وجهًا لوجه[1]، تمضي أكثر من 3 ساعات على المواجهات وينجح الجيش العراقي في كسر خطنا الدفاعيّ في القسم الجنوبي. لم يتناول شبابنا طعام الغداء وأدوا صلاتهم وهم في قتال؛ واقفين أو في حال كرّ وفر. في وسط المواجهة القاسية جاء حسن من مقر نصر على دراجته النارية ووصل إلى الخط الأول. وطلب من الحاج همت أن تقوم سريةٌ بالهجوم على خاصرة العدو اليمنى. كان عملاً صعبًا؛ ومع ذلك نفّذ الحاج همت ما طلب منه. وطلب مني أيضًا أن نقوم بما تبقى لدينا من دبابات مستقرة خلف التحصين بقصف مؤخرة العدو وجبهته الخلفية؛ حتى لو كان قصفًا عشوائيًا غير دقيق. وطلب أن نشغل دخان التمويه في الدبابات وناقلات الجند. امتلأ فضاء المنطقة بالدخان. وقام أيضًا بنشر رماة الآر بي جي على الحافة الأمامية للتحصين. وقد فعل الهجوم الذي نُفّذ على الجناح الأيمن للعدو فعله، وظهرت نتيجته. ففي الساعة الرابعة من بعد الظهر وإلى جانب الساتر نفسه وفي غمرة الكر والفر وقعت ناقلة جند للعدو بيد قواتنا. كان أمرًا مدهشا. لم نصدق ذلك! مجنزرة القيادة فيها العقيد محمد رشيد صديق قائد «اللواء 24» العراقي المؤلل. اقتاده الأخ مهدي زين الدين إلى حسن باقري. كان برفقة العقيد شخص آخر. طلب حسن من مهدي أن يأخذهما إلى مكان آمن ويستجوبهما ويسألهما عن هدف الهجوم المضاد وعن الوقت الذي سيستغرقه.

خفّت حدة المواجهات خلال فترة ما بعد الظهر؛ وفي الساعة

 

 


[1] - يقال لها بالأدبيات العسكرية: مواجهة بالسلاح الأبيض (أو جندي لجندي).

 

288


273

يوم عظيم

الخامسة شنّ الإخوة بنداءات الله أكبر هجومًا على العراقيين وأجبروهم على الانكفاء قليلا. توقفت هجمات يوم 8 أيار المضادة التي شنها العدو ابتداء من الساعة الثامنة صباحا واستمرّت حتى الساعة الخامسة عصرا. ولكثرة التراب والدخان الذي علق بهما؛ لم يظهر من وجهي حسن باقري ومحمد إبراهيم همّت سوى حدقتا عينيهما. 

توقفت الحملات المضادة لكن النيران لم تهدأ. وعلى الرّغم من أن حسن باقري أمضى يومًا قاسيا؛ فقد ظلّ يوجّه العمليات بهدوء وطمأنينة. وما إن أسدل الظلام ستاره حتى جمع القادة لجلسة. كان يتحدّث بقلب عامر بالأمل والثقة. مع أننا خسرنا مساحة (5 كلم) من الخط؛ لم يقل أن العدو انتزع منا 5كلم؛ بل قال نشكر الله أننا استطعنا الحفاظ على (15كلم) من الخط»[1].

دفعت المقاومة الشجاعة لقواتنا في شلمشة -خلال  يومي 7 و8 أيار- قادة العدو أمثال ماهر عبدالرشيد قائد «الفرقة 5» العراقية المؤللة ومحمود شاكر شاهين قائد «الفرقة6» إلى التفكير في المحافظة على مدينة البصرة، والهرب من بوابات الأهواز حتى حدود طلائية.

في الساعة 12 ليلا من يوم 8 أيار؛ بدأت القوات العراقية الانسحاب من بوابة الأهواز، وفي السادسة صباحًا وصلت إلى طلائية. وتقدّر هذه المسافة الفاصلة بـحوالي (80كلم). فقد استغرق الأمر أسبوعًا حتى سيطروا على المنطقة من طلائية حتى دب حردان. بينما انسحابهم منها تمّ خلال ست ساعات فقط. في

 

 


[1] - القائد فتح الله جعفري.

 

289


274

يوم عظيم

هذا الانسحاب تحررت مناطق: هويزة، سهل جفير، مخفر حميد، ضفاف كرخة كور حتى رفيع؛ أي ما يقارب(4000 كلم2) من أصل (6000 كلم2) إجمالي مساحة المنطقة التي غطتها عمليات بيت المقدس. قال حسن باقري حول هذا الموضوع:   

«انتاب قادة البعث العسكريين الخوف والقلق الشديدان. فالجناح الجنوبي للفرقتين العراقيتين ( 5و6) المستقرتين أسفل «كرخة كور» بات مهددًا في معرض الخطر. إضافة إلى الجناح الشمالي لخرمشهر؛ المهدّد بشكلٍ أكثر وأوسع. ما فتئ الجيش البعثي يضغط بنحو متزايد وقوي حتى فترة ما بعد الظهر. خلال النهار بدا واضحًا أن العدو يقوّم  النتائج ويستخلصها لاتخاذ قرار بشأن بقاء الفرقتين (5 و6) في مكانهما أو نقلهما إلى مكان آخر. وتوصل إلى نتيجة مفادها أن مع تنفيذ المرحلة الثانية للعمليات لا فائدة من البقاء في مواجهة مقر نصر. فضلا عن أن تصبح مسألة الخطر على الفرقتين أكثر جدية وأن تتم محاصرتهما بنحو كامل. وهكذا كان، فقد بدأ العدو على وجه السرعة بسحب الفرقتين المذكورتين من الخط المقابل لمقر القدس خلال الليل من الساعة 12 لينهي العملية عند الساعة 6 صباح يوم 9 أيار. كما سحب ألوية المشاة التي كانت مستقرة إلى جانب هاتين الفرقتين المؤللتين والمدرعتين. وأُسر ثلاثون وأكثر من الجنود العراقيين بينما كانوا يغطّون في النوم. فهؤلاء لم يجدوا الوقت الكافي ليجمعوا كل عناصرهم وينسحبوا معا. وهذا يُظهر بشكل واضح أن المرحلة الثانية للعمليات قد حققت أهدافها على أفضل ما يكون؛

 

290

 

 


275

يوم عظيم

ومنشغلون معه. دمعت عين الجريح. كان مشهدًا عجيبا»[1].

اسْتُنزِفت وحدات مقري نصر وفتح خلال المواجهات والهجمات المضادة في مرحلتين من العمليات التي استغرقت 11 يومًا؛ واستشهد بعض القادة منهم حسين قجه اي، محسن وزوائي، محمود شهبازي، حسين تقوى منش، وجرح أحمد متوسليان ورضا تشراغي؛ وبذلك فقد الحرس جانبًا من قدرته وجهوزية تشكيله العسكري حديث التأسيس. استغل العدو فرصة اليومين التي أتيحت له، وأعاد بسرعة تحصين المنطقة وزرعها بالألغام وأقام موانع وتحصينات، ووضع دبابات على السواتر، وكذلك نصب على جادة شلمشة، على مسافات متقاربة، قناصة ومضادات جوية رباعية الفوّهات لإبعاد أي تهديد للجادة، وقد هدف العدو إلى حماية خطه الخلفي الممتد (15 كلم) حتى خرمشهر.

في يوم 11أيار1982 (21 ارديبهشت 1361) عقد مقر كربلاء جلسة لاتخاذ قرار في ما يتعلق بالمرحلة الثالثة للعمليات. كان رأي أغلبية قادة المقر أنه لكي نعدّ المرحلة الأخيرة لتحرير خرمشهر يجب القيام بعمليات جديدة وفي وقت جديد، وبمشاركة قوات جديدة، وإعادة تشكيل الوحدات التي جرى ترميمها:

«كان رأي الجميع في المقر أنه ينبغي إيقاف العمليات وإعادة بناء الوحدات العسكرية؛ وهذا رأي صائب. عُقد اجتماع للتقويم واتخاذ القرار اللازم. وقد حضره عددٌ من العلماء المبلغين في المحاور. في هذه الأثناء وقف حسن باقري وقال: خرمشهر محاصرة وأنتم تريدون الانكفاء؟!

 

 


[1] - اللواء فتح الله جعفري.

 

292


276

يوم عظيم

بكلامه هذا تبدلت مواقف جميع القادة. من المؤكد أنه لو توقفنا في تلك المرحلة عن استكمال العمليات لاستولى العدو على ما تبقى من المناطق؛ وحتى لو لم يحتل المناطق الأخرى لكان صمد أمامنا ومنعنا من القيام بشي. ولربما أمكننا بعد سنة أو سنتين أن نحرر خرمشهر. [موقفه] هذا جعل الجميع يذعنون لوجهة نظره. لو لم يكن حسن باقري لما تحررت خرمشهر في 24أيار1982 (3 خرداد1361) »[1] .

طلب حسن من قادة ألوية «مقر نصر» أن يعيدوا بناء ألويتهم خلال عشرة أيام للقيام بالهجوم النهائي. في يومي 12 و13 أيار عقدت اجتماعات متعددة في مقري نصر وكربلاء. وأكد حسن خلالها أنه يجب عدم تأخير العمليات:

«قرأ حسن على مسامع قادة مقر كربلاء الكبار وقادة الكتائب رسالة من طفلة. كتبت هذه التلميذة في رسالتها: نحن ندعو لكم وننتظر تحرير خرمشهر. كان لهذه الرسالة وقعها المؤثر. قال حسن: إن خرمشهر تمثّل لنا ولشعبنا ولإمامنا رمزًا. مهما استعدنا من أرض [غيرها]؛ ستكرر الناس سؤالها: متى ستُحرّر خرمشهر؟

كان حسن يقول: العدو الموجود في خرمشهر عدوٌ يائس لا يستطيع الدفاع؛ يده لا تعمل على الزناد - ويفتقد المبادرة والعزيمة القتالية. فلا ينبغي أن نمهلهم ونمنحهم فرصة. وهم يصمدون بصعوبة.

 

 


[1] - اللواء قاسم سليماني؛ مواليد 1956م في رابر من توابع كرمان. من مؤسسي لواء «41 ثار الله» الذي أصبح فيما بعد فرقة. شارك في جميع العمليات التي حصلت خلال سنوات الحرب الثمانية المفروضة على الجمهورية الاسلامية.

 

293


277

يوم عظيم

كان حسن يعرف العدو جيدًا وكان هذا امتيازًا كبيرًا للجمهورية الاسلامية. لطالما ردد كثير من القادة وقالوا إن حسن عندما يقاتل فكأنه يرى العدو ويقاتله ويلتحم معه. قلما وجد في التاريخ شخص شاهد العدو من خلف جهاز اللاسلكي وقاتله. كان يستمع بدقة إلى خطابات صدام، يستمع إلى موجات الضباط العراقيين ويدرك ما إذا كانت لدى هؤلاء روحية القتال أم لا ؟»[1] 

كان محسن رضائي وصياد شيرازي صاحبي القرار الأساسيين في مقر كربلاء؛ وكان محسن يتشاور مع رحيم صفوي وحسن باقري وغلامعلي رشيد؛ وصياد يتشاور مع العقيد موسوي قويدل وبعض قادة الجيش الكبار. في ختام المطاف قرر «مقر كربلاء» وضع المخطط النهائي لتحرير خرمشهر على سكة التنفيذ. بناء على المعلومات ومعطيات الاستطلاع وصل حسن باقري إلى نتيجة مفادها أن أفضل مسار للنجاح في العمليات هو بالوصول إلى نهري خين وعرايض وقطع اتصال العدو بخطه الخلفي في شلمشة؛ وفي هذه الحال لن يجد المحتل منفذا للخروج من خرمشهر. أجمع القادة على هذه الخطة. لكن المهم كان كيفية عبور السد الفولاذي المحكم الذي صنعه العدو. فقد شكّلت خرمشهر بالنسبة له حيثية وقضية؛ ما دفعه ليستقدم إلى البصرة ومنطقة شلمشة فرقةً وأربعة ألوية حديثة التأسيس من مختلف مناطق العراق. أما قوات الاستطلاع فكانت كلما ذهبت في طريق باتجاه نهر خين اصطدمت بالعدو.

بالإضافة إلى أربعة ألوية من الجيش، جعل «مقر كربلاء» تحت إمرة «مقر نصر» ستة ألوية من الحرس تضم : لواء محمد رسول

 


[1] - اللواء فتح الله جعفري.

 

294


278

يوم عظيم

الله، لواء ولي عصر، ألوية عاشوراء وكربلاء وفجر وبدر. في يوم 15 أيار توجه «علي صياد شيرازي» إلى مقر نصر وأبلغ القادة خطة مقر كربلاء التي تقضي بسدّ مؤخرة العدو في شلمشة واستكمال محاصرة خرمشهر. اعترض بعض القادة في مقر نصر وبدوا مترددين بشأن الخطّة بسبب نقص عديد القوات وقلة عتادها:

«بثّ حسن الأمل في قلوب القادة وقال لهم لا تقلقوا، إن الله سيعيننا لإيجاد طريق ومنفذ. بعد ذلك أُطفئت الأنوار وقُرِئ دعاء التوسل ومجلس عزاء الإمام الحسين (عليه السلام). ثم وقف وبدأ كلامه، صادحًا بأعلى صوته: إلهي إن إمامنا وشعبنا ينتظروننا. ماذا سنجيب الشهداء؟ لقد قمنا بكل عمل أمكننا القيام به، واستنفدنا كل ما في جعبتنا، وأي سبيل عرض لنا بحثناه؛ فلا حيلة لنا. فنحن لا شيء ولا ندعي شيئًا وإن النصر بيدك. ثم قال: إلهي! سنبدأ استطلاعاتنا من الغد. فهي كانت بيدك وما زالت بيدك وبإرادتك. لعله خطر في أذهاننا «أن النصر هو بيدنا ولنا»؛ وها نحن من هذه الليلة نلقي ذلك بعيدا. إلهي! بحق ماء وجه كل تعبوي استشهد هنا! هب لنا العون وساعدنا يا ربنا.

بدّل البكاء والتوسل فضاءَ المقر. فبمثل هذا البكاء والتضرّع يحبّ الله أن يتوسل إليه. كانت الجلسة -حتى ذلك اليوم- من أغرب الجلسات التي حضرناها خلال عمليات تحرير خرمشهر. ففي تلك الليلة ألقى كلام حسن باقري بظلاله وترك آثاره على جمع الحاضرين ومن بينهم قادة الجيش. راح الجميع يبكى. ثم رُفع أذان الصبح، صلينا وانصرفنا إلى أعمالنا. شعرنا براحة وانشراح. كان حسن معجزة الثورة بقوته ونمط عمله وحركته.

 

295

 

 


279

يوم عظيم

في غد ذلك اليوم وُضعت الخطط وفُتحت الطرق»[1]

من بين أكثر من 70 ألف تعبويّ متطوع جاؤوا للمشاركة في عمليات خرمشهر؛ جرح عدد كبير منهم واستشهد كثيرون أيضًا. كان الاعتماد الأساس على قوات التعبئة التي كانت المحركة للحرب ويقع على كاهلها القيام بالعمليات، وقد ارتبطت الحرب بهؤلاء. ولهذا السبب، طرح بعض القادة القيام بعمليات جديدة لتحرير خرمشهر. ورأى أصحاب هذا الطرح أن عدد القوات التعبوية المقاتلة ليس كافيًا للقيام بعمليات بهذه السعة والشمول. كان حسن باقري يقول: « لقد أضحت قدرات الجيش العراقي في الحضيض، ويجب أن لا ندعه يجدد قواه؛ أما وقد حوصرت خرمشهر، فلندعُ قوات إضافية للالتحاق؛ ولنطلب من الجرحى أن يرجعوا بسرعة ويتشكلوا في وحداتهم» . كانت الدوائر الصحية قد أجازت للجرحى المغادرة بعد أن عالجتهم، وقد عاد كثيرون منهم إلى مناطقهم ومدنهم. وطُلب من الهيئات الصحية أن توجّه كل أصحاب الجراح الخفيفة الذين تعالجهم ميدانيًا إلى اللّحاق بوحداتهم.

انتظر الناس في القرى والمدن سماع خبر تحرير خرمشهر. في مقر كربلاء قال محسن رفيق دوست إن الرّئيس السوريّ سألهم في لقاءٍ معه: «في كل مرة تقولون حررنا منطقة بستان وحررنا 800 كلم؛  وحررنا 2000 كلم؛ لكن متى ستحررون خرمشهر؟!». كذلك الشخصيات والمسؤولون الذين أتوا إلى الجبهة وزاروا مقر كربلاء  كانوا يقولون: «لقد استعدتم كل شيء وحررتم أماكن كثيرة؛ وبقيت

 

 


[1] - المصدر نفسه.

 

296


280

يوم عظيم

خرمشهر لماذا لا تُحرر خرمشهر؟».  كان العدو قويًا ولديه إمكانات ضخمة، ولم يُرد أن يخسر خرمشهر.

كانت النقاشات محتدمة في مقري كربلاء ونصر. وعرف مسؤولا مقرّ كربلاء العقيد صياد شيرازي ومحسن رضائي قيمة المواقف التي طرحها حسن باقري وغلامعلي رشيد؛ قائدا مقري نصر وفتح؛ وكذلك رأي رحيم صفوي مسؤول عمليات «مقر كربلاء». في النهاية كان سرّ النجاح يكمن في شلمشة ونهر خين. فقد أخذ الحاج همت على عاتقه قطع اتصال الجبهة اليمنى للعدو أي الخط الأخير لمحورٍ يصل شلمشة بنهر خين:

«كذلك في المرحلة الثالثة من عمليات بيت المقدس ألقيت على ظهورنا أحمال ثقيلة وكان علينا القيام بمهمات صعبة. ولم يكن اختراق ساتر المناورة والوصول إلى جادة شلمشة، والذهاب إلى نهر خين، وإلى الجسر الجديد، واستحداث محور في ناحية شمال خرمشهر الغربي والشرقي عملاً بسيطا. كان توكل حسن باقري وتسليمه للباري في أوج حالاته. فعندما يتوكل المؤمن ويسلم كل أموره للباري فمن المسلّم به أنه سينتصر. فالتسليم والتوكل صارا سببًا لدحر الشّعور بالضعف في أي موقع تواجهنا فيه مشكلة. عقد العديد من الجلسات ووقع الإخوة في الحرس والجيش في اليأس؛ أما هو فكانت لديه الشجاعة والقوة. خاصة في المرحلة الأخيرة من عمليات بيت المقدس حيث شدّد على تنفيذها ودفع باتجاه ذلك. بالرغم من الآلام الكبيرة التي حملها قلبه؛ لأننا فقدنا الكثير من الكوادر. كان متألمًا (بينه وبين نفسه)

 

 

297

 

 


281

يوم عظيم

ومنزعجًا في داخله. كان يحمل همومًا فيذهب بمفرده إلى زاوية يدعو ويناجي: يا ربنا نحن نعمل في ظل توكلنا عليك. إرادته كانت نابعة من توكله على الله من دون أن تخالجه ذرة هوى نفس لا سمح الله».[1]

في الدقائق الأولى من يوم 23 أيار 1982 [2 خرداد61] بدأت المرحلة الأخيرة من العمليات. اقتحمت القوات المقاتلة بناءً للتقديرات التي سبقت البدء بالعمليات خط العدو وحطمت دفاعاته. وكذلك كان عليهم تخطي الموانع  ومواجهة الهجمات المضادة. بعد ثلاث ساعات من المواجهات القاسية استطاع مجاهدو الإسلام الانتقال عبر مسير شلمشة إلى خين ومحاصرة خرمشهر بشكل محكم:

«كنا داخل ناقلة الجند عندما أُعلن عبر جهاز اللاسلكي أن قواتنا وصلت إلى أروند. وعند السحر وصلنا نحن إلى خين وضفة أروند. كانت هناك مواجهة في حي «ولي عصر». فُتحت الطريق. كنا بجانب نهر أروند. بعد دقائق جاء حسن باقري وتأكد من وصولنا. فقد كان حضوره على ضفة نهر أروند يعني أن مسالة خرمشهر قد انتهت. ففي الصباح الباكر وقبل انبلاج الفجر؛ كان أول جندي عراقي يرفع رايته البيضاء مسلمًا نفسه. لم نكن نتصور أن يقع في خرمشهر هذا الكم من الأسرى. غنمنا حوالي 600 آلية؛ بين دبابة وناقلة جند ومدفع وقطعة صاروخية؛ كانت دبابات T55  وT62  وT72 لا تزال مليئة بالذخائر وكثير منها لم يطلق قذيفة واحدة. إذ لولا فكر قائدٍ مخلصٍ مثل حسن باقري

 

 


[1] - الشهيد محمد إبراهيم همت.

 

298


282

يوم عظيم

وتدبيره واستقامته وصبره وتحمله؛ في كل المراحل؛ ابتداءً من الاستطلاع والتخطيط والتنظيم؛ إلى تنفيذ هذه العمليات الكبيرة؛ لما احتفل الشعب الايراني في 24أيار1982 [3خرداد 1361] بتحرير خرمشهر على أنها «واقعةً» في قمة العز والفخر»[1].

 


[1] - اللواء فتح الله جعفري.

 

299


283

طعم الهزيمة

طعم الهزيمة

 

أُنجزت عمليّات «رمضان» بعد إنهاء عمليّات «بيت المقدس» بشهرين ونصف الشهر تقريبًا. اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى تخوم العاصمة بيروت عقِب تحرير «خرّمشهر». ارتأت إيران أن ترسل قوّة مسلّحة إلى سوريا لتقديم المساعدة. التقى «محسن رضائي»، «علي صيّاد شيرازي» وقادة آخرون رئيس الجمهوريّة السوريّة الرّاحل حافظ الأسد، واتفقوا على إنشاء مركزٍ هناك. توجّهت إلى سوريا بعض القوّات المقاتلة ضمن كتيبتين من لواء «محمد رسول الله» وكتيبتين من لواء «58 ذو الفقار». كان المسؤولون العسكريّون الإيرانيّون قد باشروا في ثكنة الزبداني السوريّة بالتحضيرات اللازمة، حين أصدر الإمام الخميني الأمر بعودة القوّات قائلًا إنّ طريق القدس يمرّ بكربلاء. بقي الحاج «أحمد متوسليان» برفقة عدد من عناصر لواء «الرسول (صلى الله عليه وآله)» للتدريب، وعاد البقيّة أدراجهم إلى الجبهة في إيران، ومن بينهم «مرتضى صفاري»:

«أستقرّ رأي الجميع على أن تنقسم القوات إلى مجموعتين تذهب إحداهما إلى لبنان. كنت ممّن أصرّوا على الذهاب إلى لبنان والعمل على تحرير القدس سريعًا. لكنّ «حسن» أبدى تحفّظه على تجزئة القوّات، قائلًا: لقد سخَّرنا كل قوّتنا إلى الآن في الحرب مع صدّام،

 

301

 


284

يوم عظيم

وركّزنا أفكارنا في مكان واحد وتقدّمنا بالتوكل على الله. والآن ذَهَب تفكير كثير من القادة إلى مسألة جنوب لبنان. لبنان مهم، لكنّ ينبغي ألاّ ننسى نظام العراق. على الرغم من أنّنا حقّقنا النصر وحرّرنا «خرّمشهر»، لكن علينا أن لا نعتبر العدوّ ضعيفًا ومنتهيًا. فلننتهِ من هنا بشكل كامل، ثم ننصرف للتفكير بلبنان وسوريا.

أزعجه تحوّل جميع الأنظار باتجاه لبنان. كان يقول: وهل بوسعنا واقعًا أن نحارب في جبهتين؟ وإذا ذهب الجميع إلى هناك ماذا سيحلّ بهذه الجبهة؟

نبّه «حسن باقري» للأمر عدة مرّات، وعندما قال الإمام الخميني إن طريق القدس يمرّ بكربلاء، تذكّرنا كلامه».[1]

كان الحاج «أحمد متوسّليان» ولواء «محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله)» مهمين كثيرًا بالنسبة ﻠ«حسن باقري»، لذلك لم يرضَ بذهابهما إلى سوريا. وقال في هذا الصدد:

«بعد عمليّات «بيت المقدس» وقبل عمليّات «رمضان»، حصل الإجتياح الاسرائيلي للبنان. وتمثّلت سطحيّة وجهة نظر إيران بإرسالها للقوّات الإيرانيّة، سيّما مع الخصائص الموجودة في لواء «الرسول(صلى الله عليه وآله)» وقائده. وبالمُجمل، خلق ذلك جوًّا أثار التردُّد والتذبذب لفترةٍ في الاستمرار بالعمليّات على المستوى العام. وبالطبع لم يوجِد الحالة نفسها على المستوى الجزئي، أي بيننا. ولم يُساورنا أيّ شكٍّ بأنّ سبيلنا الوحيد هو المُضِيّ بالعمليات. حتى عندما ذهب الأخ «محسن رضائي» و العميد «صيّاد شيرازي» بالطائرة، بقينا نترقّب هل هبطت طائرتهما أم لا؟ متسائلين كيف

 

 


[1]- القائد مرتضى صفاري.

 

302


285

طعم الهزيمة

تسمح إسرائيل أن تستخدم إيران المجال الجوّيَّ لبلدٍ عضوٍ في حلف الناتو، وتذهب لخوض حربٍ مع بلدٍ داعمٍ ومؤيّدٍ لهذا الحلف؟ كيف تسمح تركيا بأن نستخدم مجالها الجويّ لنذهب إلى لبنان وسوريا لنقاتل إسرائيل ويبقى خط الإمداد والدعم اللوجستي موجودًا؟»[1]

في 12/6/1982م أعلن صدّام وقف إطلاق النار من جانبٍ واحد، وتوقّف فعلًا للمرّة الأولى قصف المدافع العراقيّة. وأُعلن رسميًّا عن تراجع الجيش العراقي إلى الحدود. وقد اعتبر «حسن باقري» هذا الأمر السبب الثاني في تأجيل وقوع عمليّات «رمضان»:

«الأمر الثاني هو التراجع الذي نفّذه العراق بسبب عَقد مؤتمر دول عدم الانحياز في بغداد، وترَك الأراضي التي اعتبر البقاء فيها غير مفيدٍ. وأطلق حملاتٍ إعلاميّةَ واسعةً في العالم مروّجًا لعودة قوّاته إلى الحدود الدوليّة لاتفاقية العام 1975، وغيرها من الادّعاءات، وأنّ إيران هي التي لا تكفّ عن الحرب. ودعمته وشجّعته في ذلك بلدانٌ كفرنسا والقوى الكبرى، كما أطلقت منظّمة الأمم المتحدة أبواقها ومزاميرها. وهذا ما أرجأ عمليّات «رمضان» 25 يومًا أو شهرًا أكثر من المدّة المتعارف عليها بين عمليّات «الفتح المبين» و«بيت المقدس».[2]

حَصَر «حسن باقري» تركيزه في المواجهة مع الجيش البعثي العراقي، غير آبهٍ بوقف إطلاق النار الكاذب الذي أعلنه صدّام وبما يحصل في سوريا. شَهد أصدقاؤه المقرّبون منه مواظبته المستمِرّة على

 

 


[1] - حوار مع حسن باقري في مقر كربلاء-  مجموعة مذكّرات حسن باقري، ج3.

[2]- المصدر السابق نفسه.

 

303


286

طعم الهزيمة

الاجتماع بالقادة واستطلاع المخافر الحدوديّة ومحور العدو الجديد. ومع أن رصاصةً لم تكن تُطلق من الاتجاهين، لكن لكثرة انهماكه باستطلاع العدو، كان يُخيَّل لكلّ من يراه أن الغدَ هو موعد العمليّات. فقد تعّرف خلال هذه الفترة -عبر مطالعة وثائق العدو والحديث مع الأسرى- على التركيبة الجديدة لوحدات الجيش العراقي، من بينها المعلومات الوفيرة حول وحدة العدو المدرّعة في عمليّات «بيت المقدس». في أحد أيّام حزيران الحارّة، توجّه قائد لواء الحرس المدرّع إلى مقر اﻠ«غولف» ليتحدث مع «حسن باقري» بخصوص تجهيز قوّات اللواء الذي تحوّل إلى فرقة، بعد أن أُضيف إليه ما يقارب خمسمئة دبّابةٍ مغتنمةٍ في عمليّات «بيت المقدس». فقد أُسر نحو ألفين من القوّات المدرّعة العراقيّة من شتّى الاختصاصات. وكان «حسن باقري» يُشخِّص الأسرى من ذوي الاختصاصات مُعِدًّا لكل منهم ملفًّا، ولا يُرسلهم إلى مخيّم الأسرى، بل يُبقيهم في «الأهواز»:

«قال «حسن باقري»: أكتبْ كلّ ما تحتاج إليه. فطلبت اختصاصيًّا كهربائيًّا، وميكانيكيًّا وطاقم صواريخ. فأعطى الورقة ﻠمسؤول الأسرى «علي أفشار» كي يؤمِّن الطلبات. كنّا قد أسرنا عددًا كبيرًا من قادة الوحدة العراقيّة المدرّعة، ممّن اكتسبوا خبرةً في العمليّات السابقة. كنت أعرفهم من خلال التقارير الواردة بانتظام. وأسأل «حسن باقري» عنهم، فيدلُّني على من ينفعُني منهم. سألته مثلًا: أي كتيبة عراقيّة لديها دبّابة (T 62)؟ قال: كتائب اليرموك المدرّعة، غزّة وعكا. سألت: هل قادتُها أو قادة سراياها من الأسرى؟ فقال: سجّلنا كل شيء، إذهب وأحضر قائمة الأسرى من «حميد معينيان»، وتعال لأدلّك على من تستعين بهم. 

 

304

 

 


287

طعم الهزيمة

كنّا نحتاج لمجموعتين، إحداهما قادة المدرعات لنحصل منهم على المعلومات، والأخرى قوّات فنيّة. وبعد عدّة أيام، دلّني «حسن باقري» على مئة شخصٍ تقريبًا من أسرى الوحدة المدرّعة. فأخذتهم إلى الفرقة ووكلت إليهم أعمالًا. كانوا يعملون برغبة ورضى. كما أخبرتنا قوّات الدعم في حرس طهران إنهم سيرسلون إليّ أحد الأفغانيّين، عمِل سابقًا في أفغانستان على دبّابة (T72). لم يقُم بأعمال مهمّة نافعة. كان أفراد الجيش العراقي أقرب إلينا وأكثر انسجامًا معنا؛ لعنة الله على صدّام الذي صنع هذه الحرب. عندما شاهدوا سلوك قوّاتنا، اكتشفوا كذِب دعايات صدّام، وتأثّروا كثيرًا».[1]

يومها أثار «فتح الله جعفري» مجدّدًا مع «حسن» موضوع قوّات التعبئة المتقلِّبة الأعداد. وعرض «حسن باقري» حلًّا لهذه المشكلة أيضًا. تمثّل الحلّ بالتحاق قوّات التعبئة بالخدمة مدّة سنتين لدى وحدة المدرّعات، وخضوعهم لتدريب متخصّص، ويكون حضورهم في الجبهة في صف قيادة وطواقم الدبّابات. كان ملتفتًا للجوّ الذي عمّ البلاد بعد تحرير «خرّمشهر»، وكان يعلم أن هذا النصر الكبير زاد الناس حافزيّةً وشوقًا-لا سيّما الشباب- للحضور في الجبهة. وصف مرارًا الجبهة بالجامعة الكبيرة، حيث كان يقول أن كل من يأتي إلى الجبهة، ستُفتح أمامه آفاق العمل؛ إن في الهندسة، أو التنظيم القتالي، أوفي صناعة المعدّات العسكريّة، أو حتى في القيادة يمكنه أن يتطوّر:

«كان «حسن» يرى أوضاع الحرب عقِب تحرير «خرّمشهر»

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

 

305


288

طعم الهزيمة

أكثر تعقيدًا. ويقول إنّ الجيش العراقي اكتسب خلال هذه الفترة الكثير من الخبرات، وتعلّم من هذه الهزيمة وحصّل خبرةً يغطّي بها مكامن ضعفه. علينا أن نعمل على تحسين أسلوب القتال والتنظيم العام للحرب والتدريب، وأن نرفع من قدراتنا.

في هذه المرحلة، أعددتُ هيكلًا، وقدّرت الكفاءات للمستقبل. عرضتها على «حسن» فقال: إنّها جيّدة، اذهبوا الآن وأجروا مناورات، لتروا ما هي المسافة التي تقدِر الدبّابات قطعها في نيران المناورة؟ سألته: أنّى لنا أن نحظى بهكذا منطقة؟ قال: «جفير».

إنّها لمنطقة رائعة! توجّهنا إلى «جفير» للبحث عن ساحةٍ للمناورة. وهناك وجدنا مخزنًا كبيرًا من الذخائر. فقد بنى العراقيّون دشمةً كبيرةً له. أنستنا كمّيّة الذخائر الكبيرة أنّنا هناك من أجل المناورة. وربّما بلغ عدد شاحنات الذخائر التي نقلناها من هناك إلى مخزننا في طريق ماهشهر قرابة 100 شاحنة. ولحسن الحظ كانت كلّها ذخائر دبّابات. أخبرت «حسن» باكتشافنا مخزن الذّخائر الكبير فطلب أن يرى بنفسه. أتى والتقط الصور، ثمّ سأل: حسنًا، ماذا فعلتم بالمناورة؟  فأجبته: كنّا قد وصلنا إلى جنوب طريق ضريح «إمام زاده خَلَف» من أجل إجراء المناورة حين وجدنا هذا المخزن. فقال: أجروا المناورات هناك، وليتعلّم طاقم الدبّابات قيادتها في خطة مناورة، وضمن شبكة ربط وتنسيق ورمي. سألته: هل سنجري عمليّات؟ فقال: جهِّز وحدةً مدرعات، وحالَ تجهيزها، تكون العمليّات. أجاب على سؤالي بهذه الجملة المقتضبة»[1].

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

306


289

طعم الهزيمة

وقع ما تنبّأ به «حسن باقري» تمامًا، حصّل الجيش العراقي الخبرة من تجربة خسارته، وعمد إلى تقويم مكامن ضعفه. فمن بين الوثائق التي تمّ الحصول عليها خلال عمليّات «خرّمشهر»، رأى «حسن» وثيقةً أرسلتها أركان قيادة الجيش العراقي، تُبلِغ جميع وحداتها أن يمتنعوا عن إقامة السواتر الترابيّة بعد الآن؛ لأن القوّات المقاتلة (الإيرانيّة) تحتمي بتلك السواتر بعد اقتحام الخط، وتتصدّى للهجمات المضادّة. قامت وحدة الهندسة في الجيش العراقي-بمساعدة داعمي صدّام في العالم- بوضع وتنفيذ تصميم لحواجز دفاعيّة جديدة للحفاظ على البصرة. فاستبدلوا السواتر الترابية الأفقيّة المستقيمة بسواتر مثلّثة الشكل، بحيث يكون رأس المثلث من جهة إيران وقاعدته من جهة العراق. وبهذا يؤًمَّن دفاع العراقيّين فقط، وفي حال سقوطه بيد قوّاتنا لن يفيدها في شيء. أصبح لاستطلاع المثلّثات أهميّةٌ بالغةٌ في إيجاد الحلّ والخطة. كما  عدد الألغام الذي لا يُحصى كان يزيد اختراق المثلّثات صعوبة. كلّ هذه الأمور، دفعت ﺒ«حسن باقري» لإظهار حساسيّة أكثر فيما يخصّ الاستطلاعات:

«بعد عمليّات «بيت المقدس»، تغيّرت بنية الجبهة، وأضيفت أراضٍ جديدة لم نكن نعرفها أساسًا. وانتقلت حدود خطنا مسافة 60 كيلومترٍ إلى الأمام. أحيانًا كانت تصلنا من القوّات الجوّيّة صورٌ جوّية، تبيِّن غالبيّتها أن العراقيّين قد ابتكروا عوائق دفاعيّةً جديدة. وحين دقّقنا رأينا كأنّهم رسموا قلاعًا مثلثيّة الشكل بالمسطرة. قبيل العمليّات، ذهبت برفقة أخي حسن إلى مقرّ إحدى الوحدات. طلب من مسؤولي الوحدات تقديم تقريرٍ

 

307

 

 


290

طعم الهزيمة

باستطلاعاتهم. سأل: من أي المحاور تريدون أن تأخذوا كتائبكم؟ 

فوضّحوا له أنّهم ذهبوا واصطدموا بحقل الألغام ولم يُفلحوا. فقال: هل تمزحون؟ غدًا مساءً موعد العمليّات. أتريدون أن ترسلوا خمس كتائب وترموا بها إلى التهلكة؟ ما لم تذهبوا أنتم وتستطلعوا وتفتحوا حقل الألغام وتتمكّنوا من الذهاب خلف دشم العدو، كيف يمكن أن تأخذوا الكتيبة إلى هناك؟

أقسموا مجدّدًا أنّهم ذهبوا للاستطلاع عدّة مرّات، وأخذوا يُسمّون الفِرق التي ذهبت وأخفقت. وكان مسؤولو اللواء الخمسة حاضرين: قائد اللواء، ونائبه، ومسؤول الاستطلاع والمعلومات، ومسؤول العمليّات ومسؤول مقر اللواء. قال: الليلة سيأخذ كل واحد منكم فريقًا من معلومات العمليّات للاستطلاع وتشرفون عليها بأنفسكم. فإما أن تستشهدوا خلال هذا الاستطلاع، أو تجدوا معبرًا لتأخذوا الكتائب مساء الغد وفقًا له. أو أن لا نجد، ونعرف حينها أن لا سبيل للعمليّات فنلغيها من هذا المحور. لا يمكننا الإقدام من دون معبر.

ثم قال: اجمعوا شباب التعبئة عند السابعة من صباح الغد، أودّ أن آتي وأخطُب فيهم. قالوا: سمعًا وطاعة. قال: سوف أتحدّث بإحدى طريقتين. إن كنتم قد ذهبتم للاستطلاع وبذلتم جهدكم، سأمدحكم وأُضيء  على نقاط قوّتكم. وإن لم تكونوا قد أنجزتم استطلاعًا كاملًا، سأخبر التعبويّين: أن قادتكم ينوون رميكم إلى التهلُكة الليلة!

في اليوم التالي، أقمنا صلاة الصبح باكرًا وقصدنا مقرّ ذاك اللواء. وجدنا الفرق الخمسة قد عادت من الاستطلاع. وُفِّق أربعة

 

308


291

طعم الهزيمة

منها بإيجاد خطة عملياتية، بينما عاد الفريق الخامس بجريحٍ ومن دون معبر. فحذفوا ذاك الأخير الناقص وتركوا تلك الكتيبة كاحتياط. ثمّ سلكت الكتائب الأربع الأخرى معابرها إلى العمليّات».[1]

لم يطل الوقت حتى حان موعد العمليّات في 13/7/1982م في شهر رمضان، فسمّيت العمليّات بهذا الاسم. كانت عمليّات «رمضان» على خمس مراحل، وانتهت في 18 آب . وقد تولّى «حسن باقري» خلالها قيادة مقر «نصر»، ووقعت على عاتقه غالبيّة المسؤوليّات، خاصّةً في المراحل الثانية والثالثة والرابعة. الجیش العراقي الذي كان في بداية الحرب قد تعلّم من الإيرانيّين هندسة المياه، وشاهد دورها في منع التقدّمات، استعمل هذه الخدعة في عمليّات «رمضان»، وتمكّن بعمله هذا من إحباطها. قال «حسن باقري» حول المرحلة الأولى من العمليّات:

«نجح العراق في دفاعه واستحداثه لعوائق جديدة أمام قوّات الإسلام. ومن بينها توجيه الماء إلى قناة السمك، الذي تدّفق من منطقة مخفر «كوت سواري» إلى مخفر «بوبيان», ما سدَّ طريق  مقر «نصر». المناورة التي كنّا قد نظّمناها هي أحد المحاور والمعابر الأساسية للاستيلاء على البصرة، وهي جيّدة نسبيًّا. والآن، وبعد الدراسة نرى أن تلك الخطّة كان يمكن تحقيقها إلى حدٍّ ما. لكنّ هذه المناورة جُمِّدت... والموضوع الثالث هو مسألة المثلّثات، التي أنشأها العدو آخذًا بحساب الاحتمالات. من ناحية، لأن قوّاته كانت متواجدة سابقًا في منطقة «بيت المقدس»، وبالتالي لا يحتاج إلى تبديل قوّاته. أساسًا كان العدو قد هرّب اللوائين 5 و6

 

 


[1]- اللواء محمد باقري.

 

309


292

طعم الهزيمة

في عمليّات «بيت المقدس» ليتمكّن من حماية حدوده. لأن العراق كان علم مسبقًا أنّنا ننوي التحرك نحو البصرة، ولم نركّز قوّاتنا في باقي المناطق, لذلك عزّز تمركُز قواته في منطقة شمال البصرة. إضافة إلى هذا، زرع حقول ألغام، وأوجد عوائق وخنادق جديدة. أما الامتياز الآخر الذي تمتّع به العراق فهو أنّه في حال اشتبكنا في أي نقطة، فبإمكانه أن يعاجلنا بهجومٍ مضادّ بمسافة وزمان محدّدين، من دون أن نستطيع الوصول إلى خطِّه الخلفي.

 في المرحلة الأولى، ونظرًا لوضعيّة السهم التي عملنا بها، من حيث النجاح، حقّقنا نجاحنا الأعلى. لكن لم نتمكّن من حماية جناحنا الأيمن. ولم نتمكّن من الصمود في المرحلة الأولى بسبب الهجوم العراقيّ المضاد، فأُجبرنا على العودة إلى موقعنا الأول. وبالمجمل، أردنا إدخال لواءين من معبرٍ واحد. وقام العراق في غضون عدّة أيام بزرع الألغام المتفرقة، وقاوم بشدة في معبر مخفر زيد وصولًا إلى رأس قناة تربية السمك. ولأنّنا استخدمنا هذا المكان مرّةً واحدة في المرحلة الأولى، كان العراق يقاوم في هذه المنطقة بقوّة بعد أن نشر وحدةً هناك. فلم تتمكّن قوّاتنا من التقدم جيّدًا في المرحلة الأولى أي في بداية العمليّات. حتّى بعض الوحدات التي تمكّنت من التقدم في العمق، واجهتها مشاكلٌ أثناء انكفائها. في الصباح، توصّلنا إلى أن تحرُّكنا هذا لم ينجح في الظاهر وأنه علينا العودة إلى مواقعنا الأولى». [1]

كانت قوّات «مهدي باكري»  تقاتل في مخفر زيد، وكان مِن المفترض بعد إنجاز المرحلة الأولى للعمليّات في شمال قناة السمك،

 

 


[1]- حوار حسن باقري- مجموعة مذكّرات، حسن باقري، ج3.

 

310


293

طعم الهزيمة

أن يقوم عناصر فرقة«31 عاشوراء» بالمُضيِّ في المرحلة الثانية للعمليّات في مخفر «بوبيان» و«شلمشه». غير أنّ العدوّ أجرى ماء قناة السمك أمام مخفر «بوبيان» و«شلمشه». وبقي خيار واحد وهو المعبر القريب من مخفر «زيد».

لم تغطّ الفرقة الأخرى الجناح الأيمن لفرقة «عاشوراء». هناك قيل ﻠ«باكري» أن يذهب إلى مخفر «زيد»، إلّا أن ارتفاع الحرارة التي قاربت الخمسين درجةً، أضافت مشكلة المشي على الرمل وضربات الشمس إلى المشاكل الأخرى. توجّب عليهم في المرحلة الثانية العمل في مقابل السواتر المثلّثة، لكنّ التنسيق لم يحصل بين الوحدات المتجاورة. في المحصِّلة، لم يتمكّنوا من التقدُّم. في صباح العمليّات، شنَّ عناصر فرقة «عاشوراء» في اللحظات الأولى الهجومَ واقتحموا المحور، لكن العدوّ اكتشف المعبر سريعًا،  فوجّه كلّ نيرانه نحوهم. وبعد أن تقدّمت مجموعةٌ من القوّات ثلاثة كيلومترات وأنشأت ساترًا، أُعطي الأمر بالتراجع. ذهب «حسن باقري» خلال احتدام الهجوم المضادّ إلى محور «باكري»:

«كان «حسن» مقدامًا، يحضر في غمرة العمليّات إلى الخط القتالي، يُعاين ويدرس الوضع عن كثب، ليرى ماذا يجب أن يكون أو لا يكون. كان يحضر بنفسه ليطّلع على الأمور بدقّةٍ، ويعمل بإتقان. لا تفارقني أبدًا ذكرى هجوم العدو المضاد العنيف على مخفر «زيد» فهي حاضرةٌ في ذهني دائمًا، حتى وصل بي الأمر إلى منع القادة من الذهاب إلى الخط الأماميّ. لكنّه جال ليلًا -بدون عِلمٍ منّي وتحت كثافة نيران دبابات ومدافع العدو- بالدرّاجة الناريّة على طول الخط والسواتر الترابيّة. مرّةً، رأيت «حسن»

 

 

311

 

 


294

طعم الهزيمة

آتيًا بمفرده على الدرّاجة الناريّة، ملطّخًا بالتراب والكوفيّة حول رقبته. قلت باستياء: أين كنت يا «حسن»؟ أيّ حالٍ هذه؟ قال: لم أدخل المحور.

وبعد خوضنا في الحديث، قال: رأيت تمامًا تحت المخفر -حيث تُصبّ النيران باستمرار- مجموعةً من الشّبان يحتمون في دشمةٍ مفتوحةٍ ويقرؤون دعاء التوسل، فتعجّبت واستغربت كثيرًا.

لكنّ الأغرب من ذلك عندي، هي شجاعة وعزم «حسن باقري»، حيث كان يحضر بنفسه ليتّخِّذ القرار المناسب بناءً على مشكلات العناصر. لم يكن «حسن» قائدًا يجلسُ في المقر ويُشرف من خلف الجهاز اللاسلكي. بل كان قائدًا ومسؤولًا للعمليّات بالفعل».[1]

لم تنسِّق بعض الوحدات بشكل طبيعي عمقَ تقدُّمها مع الوحدات الأخرى. وكان القادة يجهدون في تنسيق حركة الكتائب فيما بينها. في المرحلة الثانية للعمليّات، قامت القوّات المقاتلة، عابرةً  العوائق وحقول الألغام، بالتقدّم نحو قناة السمك. وفي أحد الألوية، بالغت إحدى الكتائب في تقدّمها حتى وصلت إلى عمق العدو، وحوصرت. كان «حسن باقري» يستمع في الوقت نفسه مع قائد اللّواء إلى موجة لاسلكي الكتائب. فاطّلع على مجريات الحادثة من خلال حديث قائد اللواء مع قائد تلك الكتيبة، فرفع الجهاز وتحدّث مع قائد ذاك اللواء. كان «محمد باقري» في مقر «نصر» في تلك اللحظات شاهدًا على هذه المكالمة:

«سأل عبر الرموز والشيفرة عن وضعية قائد الكتيبة. فأجابه قائد اللواء: لقد واجه مشكلةً وحوصر. سأله: كم يبعد عنك؟ قال:

 

 


[1]- الشهيد مهدي باكري.

 

312


295

طعم الهزيمة

ثلاثة كيلومترات تقريبًا. فسأله: وماذا فعلت أنت؟ قال: أنا أعمل على مساعدته، وأرمي النار حوله لأفتح له طريقًا بين الأعداء، وأقوم بأعمالٍ لكي أفكّ الحصار عن كتيبته. سأله: أين أنت الآن؟ فقال: أنا في مقرّ اللواء.

فقال له الشهيد «باقري» بانفعال: وما معنى هذا؟ أنت جالسٌ في الدشمة وتدير الأمر عبر اللاسلكي؟  إنّ هؤلاء الشباب مُحاصرون، انهض تحرّك وفكّ حصارهم. 

أجابه قائد اللواء: حسنًا، أذهب لأفعل ماذا؟ ليس بيدي حيلة. وقدّم أدلّة. بالطبع لم يكن عدم ذهاب ذاك القائد لأنه لا يريد، بل لم يوافق لأن لديه أسبابه. كان الأمر غريبًا جدًا، رأينا الشهيد «باقري» يتحدث عبر اللاسلكي بعصبيّة مع شخصٍ عايشه لسنتين على الأقل ليلًا نهارًا، وتربطه به علاقة ومحبّة، فيقول له: أنا آتٍ إليكم الآن، ولا ينبغي أن تكون في دشمتك. إن لم تتحرك الآن وتخلّص هذه الكتيبة من الحصار، سأعرف كيف أتصرّف معك. فإمّا أن يعود جثمانك، أو أن تعود مع الشباب، أو أن تؤسر أنت أيضًا.

كان ردّه قاطعًا وقويًّا جدًا. بُهتَ العناصر الخمسة عشر أو العشرون من الجيش والحرس الموجودون في المقر. ولم يتفوّه أحدهم بحرف. وقد ذهب ذاك القائد لمساعدة الكتيبة، وتمّ إنجاز الأمر جيّدًا بحمد الله»[1].

في المرحلة الثالثة لعمليّات «رمضان»، برغم تمكّن مجاهدي الحرس والجيش من كسر الخطّ بشجاعة واندفاعٍ عاليين، وتقدّموا ليصلوا مجدّدا إلى رأس قناة السمك، إلّا أن الحواجز والألغام


 


[1]- اللواء محمد باقري.

 

313


296

طعم الهزيمة

المنتشرة وزيادة الوحدات المدرّعة العراقيّة بشكل لافت أرغمتهم على العودة مرَّة أخرى.

قام الجيش العراقي عبر دَفق المياه إلى قناة السمك التي كان حجمها آخذًا بالازدياد لتحيط بالسهل المواجه للبصرة، وحصرت المعابر بمعبرٍ واحد، وسُحب زمام المبادرة من يد أصحاب القرار في مقرّ «كربلاء». لكنّ الحافز لاحتلال البصرة كان لا يزال موجودًا. في المرحلة الرابعة، دخل العمليّات لواءان من الحرس وآخران من الجيش. وتقدّموا كيلومترين لكنّهم لم يتمكنوا من الوصول إلى نقطة النهاية. كان «حسن باقري» قبل تنفيذ هذه المرحلة متمركزًا عند مفترق طرق مخفر «زيد». بدأت العمليّات عند الواحدة بعد منتصف الليل. أطلق الجيش العراقي نيرانًا كثيفة. ولم تُفلح القوّات المقاتلة مهما حاولت الضغط أن تتخطّى الحواجز المعروفة بالمسدّسة الأضلاع، وأن تمضي قُدُمًا. عند الخامسة صباحًا، كان الضوء يتسلّل في الأرجاء عندما قصد «حسن باقري» المقاتلين برفقة أحد أبناء منطقته:

«قال: اركب الدرّاجة النارية ولنذهب. قلت: القصف شديد، ابق أنت هنا، وأذهب أنا. قال: كلّا لنذهب.

وما إن جلسنا على الدرّاجة حتى أصابت شظيّةٌ ظهري، فقال: إن كنت بحال غير جيّدة فارجع. قلت: لا سأذهب.

تقدّمنا ووجدنا العناصر داخل الدشمة قد أعياهُم التعب الشّديد. قال: اركن الدراجة الناريّة جانبًا. سنّدنا المقاتلين معًا، وأخرجناهم من الدشمة. كانوا بالكاد يقوون على فتح أعينهم لشدّة تعبهم. أيقظناهم بالقوّة وأرسلناهم إلى الخلف. كان

 

314

 

 


297

طعم الهزيمة

العراقيّون على مقربة منّا، قلت: غلام حسين! العراقيّون قادمون!

انهمرت دموعه وخُطِف لونه وهو يقول: إلهي، بماذا سأجيب أمّهات هؤلاء الشبان؟

 أعدنا آخر شخص ممّن كانوا في الدشَم. أذهلني كيف يذهب قائد لواء بكل إخلاصٍ إلى الخط الأمامي ويرمي بنفسه في الخطر حفاظًا على أرواح قوّاته»[1].

أُجريت المرحلة الخامسة والأخيرة من عمليّات «رمضان» في 18/8/1982م في منطقة المراحل السابقة نفسها. وبدت هذه المرحلة أيضًا ناجحةً للوهلة الأولى، لكن مجدّدًا حالت مشكلاتٌ مماثلةٌ دون تثبيت المواقع المُسيطر عليها. بالإضافة إلى ابتكار العوائق واتِّباع أساليب دفاعيّة جديدة من قبل الجيش البعثي، اعتبر «حسن باقري» أن قضيّة نقص أعداد القوّات هي السبب الأساس في إخفاق عمليّات «رمضان»، حيث قال:

«النقطة البالغة الأهميّة التي قد تكون السبب الأساس للإخفاق الظاهري لعمليّات «رمضان»، هي عدد القوّات المقاتلة في مواجهة جيش العراق. فقد كان لمقرات «فتح»، «فجر» و«قدس» في المرحلة الأولى ما بين خمسين إلى ستين كتيبة من القوّات. بينما استقدم العراق إلى هذه المنطقة الفِرَق السبعة: 11، 8، 3، 9، 10، 5 و6. بالإضافة للألوية ثلاثيّة الأرقام التي كان قد شكّلها وغطّى المنطقة بها. هذا يعني وفي تقديرٍ أوليٍّ أن العراق كان لديه في  هذه المنطقة -بمعزلٍ عن الدبابات- قرابة مئة ألف مقاتل، أي ضعف قوّاتنا. هذا بحساب بسيط على أصابع اليد، ولو دقّقنا بإحصائيات العراقيّين

 

 


[1]- محمد خرمدل، من أبناء منطقته.

 

315


298

طعم الهزيمة

لوجدناهم أكثر من هذا بكثير. ثانيًا، نحن هاجمنا «الفرقة 9» العراقيّة، وبقيت الفرق الأخرى آمنة. فقوّات احتياطهم ظلّت سالمةً، وكذلك خطّ العدو الخلفي بقي كما هو، ومقرّ قيادته بقي أيضًا، ولم تتأثّر تشكيلاته ونظمه، كذلك خطّ إمداداته بقي آمنًا. فشن هجومه المضادّ بالتحديد من النقطة نفسها التي اكتسب فيها الخبرة وتدرّب وتمرّس. ونظرًا لعدم وجود خطٍّ دفاعيّ وقوّات تصدّ الهجوم المضاد، ولمباغتة القوّات الموجودة على رأس القناة، نجحت هذه الحملة المضادة، وأُسر عددٌ منّا، كما تمّت السيطرة على دبّاباتٍ لنا. إذًا فالسبب الأساس لإخفاق العمليات هو النقص في عدد قوّاتنا بنسبة كبيرة. لو كان عدد قوّاتنا بحجم عمليّات «الفتح المبين» و«بيت المقدس»، لتمكنّا من العمل أكثر ممّا عملنا»[1].

انتقد «حسن» تحوّل بعض قادة الكتائب إلى مسؤولي مقرّات، واعتقدَ أنّ هذا التحوّل أثّر في فشل عمليّات «رمضان»:

«كان استياء «حسن» ناجِمًا من تفرُّغ قادة الكتائب لمقّرات قيادتهم بدل أن يُلازموا قوّاتهم في التحرك. كان يقول لي دائمًا إنّ جزءًا من إخفاقنا في عمليّات «رمضان» [هو هذا]  أي يجب دفع قادة الكتائب  -كما كان الحال في أشهر الحرب الأولى  وعمليّات «الفتح المبين»- للحضور في ساحة العمل».[2]

 كانت فرقة الحرس المدرّعة من بين الوحدات التي تضرّرت خلال عمليّات «رمضان». حيث طُلب من القوّات المدرّعة في الاجتماعات التوجيهيّة أن تُسيِّر الدبّابات وتوصلها إلى نهر دجلة بمجرّد سماعها

 

 


[1]- حوار لحسن باقري، مجموعة مذكّرات حسن باقري، ج3.

[2]- اللواء محسن رضائي.

 

316


299

طعم الهزيمة

نداء العمليّات. ومع انطلاق العمليات فعلًا، تحرّكت القوّات المدرّعة وتقدّمت في عمق العدو، إلى أن وصلت إلى مقر القيادة العراقي. لكن بسبب عدم إنجاز بقيّة مراحل العمليّات، وقَع كثير من القوّات المدرّعة في الأسر هناك. وعادوا بعد سنوات من الاعتقال وقصّوا حادثة أسرهم. في تلك الليلة، مع بدء العمليّات عَمَدت القوّات المدرّعة إلى تحريك الدبّابات، فلم يقُم العدو بردّ فعل، ظنًّا منه أنّها دبّاباته. وأكملت القوّات مسيرها معتقدةً أن البقيّة تتبعُها، وصولًا إلى مقر القيادة العراقي. حتّى أن عددًا من العناصر خرجوا من الدبّابات وبدأوا يرسمون شعار الحرس على دبّاباتهم فرآهم العراقيّون وأسروهم. في هذه العمليّات، تمّ تدمير قرابة مئة آليّة دبّابة وناقلة جند للعدو. في المقابل، خسرت وحدة الحرس المدرّعة مئة وخمسين دبّابة وناقلة جند من دون أن تغنَم أيّ دبّابة للعدو. لم يكن هذا العدد قليلًا بالنسبة إلى وحدة حديثة التشكّل:

«تنفيذ مراحل عمليّات «رمضان» الأربع تجربة مَريرة عشناها. والوحدة الجديدة المحتاجة للدعم والتقوية، خسرت عددًا لا يُستهان به من عدّتها وعتادها. لدرجة أنّ العراقيّين قد تعلّموا منّا في تكتيكهم، فأخذ العناصر يختَبِئون تحت دبّاباتهم، وعندما يعبر مقاتلونا، كانوا يدخلون إلى الدبّابات ويُعاجلوننا بالهجوم المضاد. أي أنّهم تعلموا منّا أسلوب القتال معنا.

اتّخذ قتال الجيش العراقي حالةً دفاعيّة وأحسن استخدامها. كما رفع وعزّز قوّته الجويّة. ففي البداية كان قصفه الجويّ عشوائيًّا، لكنّه بعد ذلك اعتمد هجمات جويّة دقيقة. كانت الفترة الفاصلة بين عمليّات «بيت المقدس» و«رمضان» ذهبيّة بالنسبة إلى العراقيّين.

 

317


300

طعم الهزيمة

بينما لم نستغِلّ نحن جيّدًا هذه الفترة. عندما بدأنا عمليّات «رمضان» مغترّين بالنصر السابق، استَخففنا بالعراق، واعتقدنا أن زمام المبادرة بأيدينافقط. لم نأخذ بالحسبان أن يردّ العراقيّون علينا بالهجمات المضادة، أو أن يكونوا قد خطّطوا مسبقًا»[1].

رأى بعض القادة أيضًا، من بينهم «محسن رضائي» قائد الحرس، أنّ الغرور كان سبب الفشل في عمليّات «رمضان»:

«عندما يصاب الإنسان بالغرور، سيمرّ على الأمور كلِّها ببساطة واستِهتار. إذ أن عمليّات «الفتح المبين» و«بيت المقدس» العظيمة, والإعجازيّة, والعاصفة الكبيرة التي فتحتها قوّاتنا في وجه العراقيّين لثمانية أشهر، وتحريرها لمعظم المناطق المحتلّة، بعثت فينا جميعًا غرورًا أرخى بظلاله على تخطيطنا وعمليّاتنا»[2].

خلال عمليّات «رمضان»، ثبت مدى أهميّة المهارة في الانكفاء لحفظ أرواح القوّات. كان «حسن باقري» يعتبر الانكفاء الصحيح أحد فنون القتال، ويضرب المثال بطريقة انسحاب الجيش العراقي خلال عمليّات «طريق القدس» في شمال «سوسنكرد». حيث تجنّب العراق في ذاك الانسحاب خسائر فادحة في قوّاته عبر اعتماده لطريقة النار والحركة. بعدها بثمانية أشهر، كانت القوّات الإيرانيّة هذه المرّة، تعرض أسلوبًا مدروسًا في انكفائها، خلال عمليّات «رمضان»:

«في العادة، يسعى الجميع خلال الانكفاء، للتّراجع بطريقة ما، فيتركون السلاح والذخيرة وكل شيء حتّى رفاقهم، وينجون بأنفسهم. كان «حسن» في عمليّات «رمضان» آخر شخصٍ ينسحب


 


[1]-  القائد فتح الله جعفري.

[2]- اللواء محسن رضائي.

 

318


301

النّصر مجدّدًا

النّصر مجدّدًا

 

بعد إنهاء المرحلة الأخيرة من عمليات رمضان في 18 آب من العام 1982م. جلس أصحاب القرار الكبار، ومنهم حسن باقري، وهم يناقشون لساعات وضع المناطق المختلفة لاختيار المكان المناسب للعملية التالية. اتفق الجميع على أن العمل على منطقة صغيرة والنجاح فيها أفضل من العمل على منطقة واسعة والفشل فيها. كانوا يختارون نقاطاّ ذات أهمية سياسية وعسكرية، مثل الفاو، البصرة، العمارة، علي الغربي، وطريقي سومار ومندلي إلى بغداد. وكانت منطقة مهران من المناطق المهمة ولكن من الدرجة الثانية.

عيّن محسن رضائي، حسن باقري قائدًا لمقر كربلاء، وذلك بعد عمليات رمضان. في تلك الأيام كانت المنطقة الحدوديّة بين إيران والعراق مقسمة بين مقرّي النجف وكربلاء؛ استلم مقر النجف البقعة الممتدّة من أول الحدود في بيرانشهر إلى مهران، واستلم مقر كربلاء البقعة الممتدة من مهران إلى الفاو. كان القرار الآخر لقيادات الحرب هو استطلاع كل المحاور من أجل اختيار المنطقة المناسبة للعملية. وقد وُكّل حسن باقري بهذه المهمة، فبدأ الاستطلاع على كل المحاور، وكانت إحدى المناطق محور الطلائية. توصلت وحدة معلومات العمليات في  فِرَق «محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) 

 

321


302

النّصر مجدّدًا

27» و«عاشوراء 31» و«الفرقة 30 المدرّعة»، إلى اكتشاف طرق جيدة خلال استطلاع منطقة الطلائية. أعطى الحاج همت هذه التقارير إلى حسن باقري، فتوجه إلى الطلائية  للاستطلاع على الرغم من معارضة الحاج همت. قبل عمليات رمضان  أعلنت مجموعات الاستطلاع أن تلك المنطقة غير قابلة للعبور بسبب طغيان المياه ووجود الخنادق، إلا أن حسن لم يرَ أي أثر لخندق هناك. وقد أظهر حسن تأسفه مرارًا وتكرارًا لأن القوات لم تمر من تلك المنطقة في عملية رمضان. أمر حسن قادة مقر كربلاء بالحضور شخصيًا مع عناصرهم لاستطلاع الهور وجزيرة أم الرصاص ومحور الفاو إلى أم القصر. كان من بين القادة فتح الله جعفري:

«شاركت في بعض تلك الاستطلاعات; شاركت مع أصغر كاظمي، وحسن دانايي فر، ومحمد باقري، وحبيب آغاجري في استطلاع منطقة الفاو وأروند؛ كانت تجارب قيّمة. عندما رجعنا إلى الغولف وسلمنا التقارير، خلال الحديث قلت لحسن باقري: «من المستحيل أن نعبر أروند، لا نملك أي إمكانات».

قال: عندما احتل الإنكليز بوشهر، قاموا بحفر صخور وجبال زاغروس [بالرفوش] وأكياس الخيش وأنشأوا طريقًا واحتلوا شيراز، فكيف لا يمكننا نحن أن نعبر أروند؟

عندها طلب مني العثور على ناقلة جند كي نعبر بها المستنقعات والماء. سأل عن ناقلة جند من نوع «خشايار». قلت: «لا نستطيع استعمال هذه الناقلات».

- لماذا؟ ما العيب فيها؟ هل الهيكل سيء؟ أم ناقل الحركة؟ ما مشكلتها؟

 

322


303

النّصر مجدّدًا

- إن محركها روسي ولا يعمل جيدًا في طقس مثل طقس منطقتنا.

- إذن تكمن المشكلة في المحرك وعلينا أن نغيره.

كنا نسمي ناقلة الجند الروسيةBT(عليهم السلام) 50 «خشايار»: وقد اشتراها الجيش أيام الشاه من الروس مقابل تصدير الغاز»[1].

بعد أن واجهت العمليات في الجنوب المشاكل انتقل عددٌ من الفرق إلى الغرب علّهم يجدون منفذًا للعمليات هناك. جرت عدة تغييرات مؤقتة في تشكيلات العسكر. تم إنشاء مقر ظفر بقيادة الحاج همت في منطقة سومار. كانت مهمته السيطرة على مرتفعات مدينة مندلي، حتى يستطيع تحرير منطقة غرب سومار, ولذلك كانت ألوية فرق «محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله) 27» و«عاشوراء 31» و«سيد الشهداء(عليه السلام) 10» و«الامام الرضا(عليه السلام) 21» تحت إمرته. ذهب حسن باقري إلى سومار واستطلع تلك المنطقة مع عزيز جعفري ومحمد إبراهيم همت وتوقع نجاح العملية. سميت هذه العملية «مسلم بن عقيل» وأُنجزت بنجاح في تشرين الأول 1982م.

في هذه الفترة وبينما انشغل القادة بجبهة الغرب وظنوا أنّ العمليات في الجنوب غير ممكنة، وجّه حسن باقري استطلاعاته إلى مرتفعات حمرين الحدودية ومناطق جنوب وغرب دهلران. بعد اكتمال الاستطلاعات وجمع المعلومات، وظهور بوادر الحلول، استقر باقري في عين خوش، وبدأ بمناقشة الخطط  التي كان قد أعدّها وجهزها للعمليات مع القادة. بعد عمليات رمضان، أُجريت بعض التعديلات على تشكيلات الحرس أيضًا، فأُنشئت مقرات جديدة، انتقل محسن رضائي إلى مقر خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)المركزي، واصطحب

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

323


304

النّصر مجدّدًا

معه رحيم صفوي وغلامعلي رشيد. أوكلت قيادة الحرس إدارة الحرب في الجنوب إلى حسن باقري.

في تشرين الثاني من العام 1982م. أجريت الاتصالات والتنسيقات النهائية للعملية، وكانت متزامنة مع شهر محرّم فسميت بهذا الاسم تيمّنًا. جرى تشكيل مقر مشترك للحرس والجيش في عين خوش، أحضر علي صياد شيرازي بصفته قائد القوات البرية أركان الجيش إلى المقر، وكذلك أحضر حسن باقري مقرّ كربلاء. تمتد عملية محرم على مساحة 1500 كلم2، بينها 600 كلم2 في الأراضي الإيرانية المحتلة، و900 كلم2 في الأراضي العراقية. يسهّل عبور مرتفعات حمرين الحدودية السيطرة على مدن العمارة وعلي الغربي العراقية، ونهر دجلة. تعتبر هذه النقاط  أهدافًا عسكرية مهمة. تبعد «علي الغربي» ودجلة 30كلم عن الحدود، بينما تبعد العمارة 60كلم.

قبل انطلاق عملية محرّم أوكلت قيادة فيلق صاحب الزمان(عجل الله فرجه) الثالث إلى حسين خرازي. كانت ألوية ذلك الفيلق هي الإمام الحسين(عليه السلام)، قمر بني هاشم(عليه السلام) 44، كربلاء 25، النجف 8، وإضافة إلى ذلك استقرّ لواء علي بن أبي طالب(عليه السلام) 17 ولواء الإمام السجاد(عليه السلام) 35 في المنطقة. جهّز مقر كربلاء للعملية 60 كتيبة من المشاة منها 52 من الحرس وثمانية من الجيش، وكتيبتين من الشرطة. وقد استعدّت للعمليّات وحداتٌ من تشكيلات الحرس المدرّعة ضمّت: 160 دبابة وناقلة جند، ومن هندسة وحدة البناء 60 لودر وبلدوزر ومن هندسة الحرس 70 لودر وبلدوزر. وأوكلت إلى القوات الجوية الخاصة (المظلّيين) والقوات الجوية بعض المهام في العملية. وحتى العشرين

 

324


305

النّصر مجدّدًا

من تشرين الأول كانت كل الوحدات مشغولة في التحضير للعملية. قبل يوم من العملية اجتمع قادة الحرس والجيش في مقرّ كربلاء:

«لقد قمنا بآخر التدقيقات والتنسيقات. قام حسن باقري بعد الجلسة بالحديث عن أيام محرم، وأخذ الأجواء إلى ليالي أبي عبدالله(عليه السلام). لم يكن هناك قارئ لمجلس العزاء، لم يكن صوت حسن باقري مناسبًا لذكر المصيبة لكنه صار يقرأ في  كتاب العزاء (المقتل). كان يقرأ ويذرف الدموع. وكأن كل خلايا جسده بدأت بذكر مصيبة الإمام الحسين(عليه السلام). عندها تبدّل جو الجلسة وانقلبت رأسًا على عقب. قرأ وقرأ حتى غاب عن الوعي. لطمنا الصدور وشعرنا بسكينة عالية. قرأ حسن باقري المجلس وما زلت أذكر حلاوة ومعنويات ذلك المجلس ومواعظه، على الرغم من سماعي الكثير من المجالس والمواعظ في حياتي. ما رأيته ذلك اليوم كان شيئًا مختلفًا»[1].

انطلقت عمليات محرم في 10 آبان 1361 (1 تشرين الثاني 1982)، وقد صادف الوقت يوم 14 من محرم، كان قائدها حسن باقري، ونداؤها لا حول ولا قوة إلّا بالله يا زينب الكبرى(عليه السلام). أعلن حسن باقري بدء العملية عند الساعة العاشرة وعشر دقائق ليلًا، وتقدمت الألوية إلى الخط. فما إن انطلقت العمليّة حتّى بدأت الأمطار تهطل. كان على القوات عبور نهر دويرج الذي ينبع من مرتفعات شمال خوزستان، ويصب في نهر دجلة في الأراضي العراقية. جعل هطول المطر برنامج العمليّة في مواجهة مشاكل غير متوقعة:

«في أيام الاستطلاع، حين كنا نعبر النهر، فتغمر المياه أرجلنا

 

 


[1]. قائد لواء قمر بني هاشم (عليه السلام) في عمليات محرم، علي زاهدي.

 

325


306

النّصر مجدّدًا

حتى الرُّكب في أعلى مستوى لها. ولم يكن جريان الماء سريعًا،  كنا نخلع الجزمات العسكرية ونضعها على الأكتاف ونرفع البنطال ونمر حفاة. وكانت الخطة تقضي القيام بالشيء نفسه أثناء العملية. لكنّ السماء أمطرت بشدة في ليلة العملية. اجتمع الشباب في خيامهم، وقد غطّوها بالبلاستيك، ولم يحدث شيء خلاف التوقعات. صلوا، وتناولوا الطعام، ثم انطلقوا بإتجاه النهر فيعبرونه ويشتبكوا مع الأعداء. عبرت بعض الكتائب، وبعضها الآخر كان يحاول العبور. كانت قوات الوحدات المختلفة في أربعة محاور تحاول عبور النهر. كان عرض النهر خمسين مترًا وكان الماء يجري بهدوء، وعلى امتداد مئتي متر توجد أرض صخريّة على حافّتيّ طرفي النهر.

كانت القوات تمرّ, وإذ بسيلٍ قويٍّ وكأنه جبل يتقدم نحونا. فأوجد بحرًا بعرض 150 مترًا وعمق خمسة أمتار وفصل الضفتين عن بعضهما البعض. ارتفعت أصوات الكتائب, فبعضها عبر النهر ووصل إلى العدو وبدأ بالاشتباك معه، وعددٌ آخر منها بقى في الخلف، وبينهما  بحر من الماء يجري بسرعة. كان الماء يجرف الحجارة الكبيرة وحتى السيارات! بدأ وضع العملية يسوء شيئًا فشيئًا. لقد سحبت المياه بعض الشباب معها. ما إن بدأت العمليّات حتّى تحرك الشهيد باقري من المقر باتجاه المنطقة. لقد كان لهذه الحادثة الوقع الكبير عليه. عندما وصلتُ إليه كان قد جمع وحدات الهندسة التابعة للحرس والجيش وراح يقول لهم  ضعوا الجسر فورًا، إذ يجب نقل الجرحى إلى المقر وإرسال الإمدادات والماء والطعام. كانت وحدة الهندسة في الجيش قد أحضرت معها'

 

326


307

النّصر مجدّدًا

جسرًا عسكريًا وكان الشباب يحاولون تركيبه.  كان أمرًا شاقًا والعمل يسير ببطء. ونيران العدو لا ترحم. كانت الكتائب التي عبرت النهر تتصل وتسأل لماذا لم يصل المزيد من الشباب؟ وكانت الكتائب هنا تنتظر عبور النهر. هذه واحدةٌ من المرّات القليلة التي رأيت فيها غضب الشهيد باقري الشديد إذ كان يضغط على وحدات الهندسة ويسأل أفرادها: «ماذا تفعلون؟ أسرعوا». عندما انتهوا من وضع الجسر كانت الساعة العاشرة صباحًا. بدأت الكتائب بالعبور. بعد مدة قصيرة خفّ طغيان الماء قليلًا».[1]

كان فتح الله جعفري حاضرًا في تلك الواقعة:

«بعد حوالى الساعة من بدء العملية اتصل حسن باقري عبر جهاز اللاسلكي وطلب مني الإسراع في المجيء إلى جانب جسر «جم سري». ذهبت بسرعة. كان المطر ينهمر. على القوات عبور النهر مشاةً. رصفوا الحجارة فيه على مسافة قصيرة. وصارت قواتنا تعبر النهر مستعينةً بها. لم يكن الصباح قد طلع عندما عبرت الدبابات وناقلات الجند بقيادة أصغر لاوي. أمر حسن ببقاء سريّة من ناقلات الجند عند طرف النهر. طلع الصباح. بدأت القذائف تتساقط حولنا. كنا قلقين على حسن. قال: اذهب إلى الطرف الآخر وأخبرني إلى أين تقدمت قواتنا.

تقدمت إلى خط النار على الدراجة النارية. كان مستوى ماء دويرج يصل إلى ما دون الركبة، فعبرته بسرعة. ثم تقدمت قليلًا وخبأت الدراجة النارية وراء إحدى التلال، وأصبحت داخل ساحة المعركة. كانت قواتنا تحارب على تلة «ماهورها». ركبت الدراجة

 

 


[1]- اللواء محمد باقري.

 

328


308

النّصر مجدّدًا

وعدت أدراجي إلى حسن وأخبرته: الاشتباكات في التلال. سأل: كم كيلومتر تبعد من هنا؟

 - ستة كيلومترات.

- الطريق لوحده 12 كلم!

لم يسمح لي بإكمال التقرير، وجمع الخريطة. عرف من المسافة التي قلتها له بأن تقريري خاطئ. كنت أريد الذهاب مرة أخرى. قال لا داعي لأن تذهب.

وفجأة ارتفع مستوى النهر. وقف بجانب النهر كي يحل مسألة عبور النهر. وضعنا دبابة دون برج على أرضية النهر ليعبر المجاهدون عليها. لم تمر ساعة حتى ارتفع ماء النهر مجددًا وغمر الدبابة أيضًا. كنا ننقل القوات بناقلة الجند، وننقل الجرحى بسرعة إلى شرق دويرج بناقلة الجند أيضًا. صار منسوب ماء النهر يزداد لحظة بلحظة. أدى الماء إلى فصل عناصر القوات عن بعضهم البعض وإيجاد مسافة كبيرة بينهم. لم يكن العراقيون يعرفون بأمر فيضان النهر وما يحصل لنا. تفرّقت قواتهم بهجوم مفاجئ منا، وإلا لآذونا بشدة باستدعائهم سلاح الجو. كان القادة في مقر كربلاء يصرون على حسن ويطلبون منه الرجوع إلى المقر ولكنه وقف بجانب النهر ومعه اللاسلكي، يرشد القوات من جهة ويخطط لوضع الجسر من جهة أخرى».[1]

 لم يكف حسن باقري عن التفكير بالشباب وما جرى بالسيل، وكان يعتبر نفسه مسؤولًا مباشرًا عن أرواحهم:

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري. 

 

328


309

النّصر مجدّدًا

«صباح يوم العمليات كنت جالسًا بالقرب منه, في سيارة ستيشن وكان يعطي تعليماته للقوّات عبر اللاّسلكي. كانت السماء قد أمطرت بشدة في الليلة السابقة وفاض النهر. في اليوم التالي كنا نبدّل القوات التي شاركت في العملية بقوات جديدة. كانوا يمسكون أكتاف بعضهم البعض حتى لا تسحبهم المياه. أفلت أحد التعبويين يده بالخطأ وسحبه الماء. لم نعرف ماذا نفعل؟ كان سيلًا ولم تكن السباحة بالأمر السهل. أفلت حسن اللاسلكي وركض ليقفز في النهر، ولكن بعض الشباب أوقفوه. بادر أحد الشباب[1] -وهو سباحٌ ماهر- وقفز مباشرةً وحاول كل جهده إنقاذ الشاب التعبوي. اقترب حسن باقري منه ومسح على رأسه وشكره لإنقاذه الشاب. ثم عاد بسرعة إلى اللاسلكي. كان ما فعله حسن في خضمّ تلك الاشتباكات أمر مهم بالنسبة إلينا»[2].

على الرغم من مشكلة النهر التي ظهرت في بداية العملية، والتي أدّت إلى تأخر المجاهدين في الهجوم، وعلى الرغم من أنّ العراقيّين قد لغّموا مرتفعات حمرين حتى سفوحها، وزرعوا الكمائن في المعابر، فقد تمكّنت القوات المقاتلة من خرق صفوف العدو وتحطيمها. استطعنا في المرحلة الأولى من العملية تحرير550 كلم2 من الأراضي الإيرانية، من ضمنها مدينة موسيان، مرتفعات حمرين، جسر جمسري، مخافر «واوي» الحدودية، جم هند، نهر عنبر, وخرجت إثر ذلك جادة دهلران من مرمى ونيران العدو. من النتائج المهمة للمرحلة الأولى هي محاصرة لواء للعدو، وأسر

 


[1]-  الشهيد أصغر لاوي قائد «لواء المدرعات 20». في عمليات رمضان.

[2]- قاسم حاج محمد حسن، من مسؤولي مقر كربلاء في عمليات محرم.

 

329


310

النّصر مجدّدًا

مساعد قائد اللّواء عبد الرضا عبدالهادي و500 عراقي آخر.

بدأت المرحلة الثانية من عمليات محرم عند الساعة 2:30 فجر الثاني من تشرين الثاني 1982 واستطاعت القوات الإيرانية بهجومها السريع جدًا إحكام الحصار أكثر على العدو ومباغتته بشدة:

«ذهبتُ في المرحلة الثانية من العملية  مع أصغر كاظمي، مسؤول مقر كربلاء، إلى منطقة العمليات. عندما وصلنا إلى مقر قيادة اللواء العراقي، وجدنا فيه موقد غاز صغير وقد وُضعت عليه مقلاة وفيها بيض. يبدو إن القائد العراقي لم يكمل فطوره. جلسنا أنا وأصغر كاظمي وأكلنا البيض مع الخبز الطازج الذي كان هناك على السفرة. وقد احتوت دشمة القائد على براد مليء باللحوم والمعلبات والفواكه، وجهاز تلفزيون ألماني ملون»[1].

في المرحلة الثانية حُرّر150 كلم2 من الأراضي الإيرانية المحتلة، وأُسر 200 جندي من العراقيين. أما الهدف من المرحلة الثالثة من عملية محرم فكان السيطرة على مرتفعات حمرين الغربية والطرق والمراكز المهمة للعدو. ومرة أخرى هاجم مجاهدو الإسلام خط العدو الساعة العاشرة ليلًا يوم السادس من تشرين الثاني 1982م. وسيطروا على 300 كلم2 من الأراضي العراقية. شملت هذه الأراضي مقرات شرهاني وأبوغريب، مدينة زبيدات، وكذلك منشآت وبرك المنطقة النفطية في زبيدات، بالإضافة إلى 35 بئر نفط. كانت هذه المرحلة، المرحلة الأخيرة من عمليات محرم، وقد انتهت في الساعة 8 صباحًا يوم السابع من تشرين الثاني 1982م.

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

330


311

النّصر مجدّدًا

من أهم الألوية التي شاركت في المرحلة الثالثة «لواء علي بن أبي طالب 17(عليه السلام)» بقيادة مهدي زين الدين:

«في المرحلة الثالثة من عمليات محرم، في منطقة عمليات لواء «علي بن أبي طالب 17(عليه السلام)» كانت قواتنا قد حاصرت مقر أبو غريب ولكنه لم يكن قد سقط بعد، وكانت الأمور معقدة. ذهبت إلى هناك مباشرةً وأمرت الشباب بالانتشار على التلال. عندما رأى العراقيون أنّهم محاصرون تركوا الموقع وهربوا. لاحقت العراقيين على الطريق. كانت أول سيارة أتت من جهة الشباب الذين حاصروا العراقيين سيارة أخينا حسن باقري ومجيد بقائي. كانت المنطقة تابعة للواء علي بن أبي طالب 17(عليه السلام)، وأنا مسؤوله، وكان الأخ حسن خرازي مسؤول الوحدات التابعة له، لم يكن للأخ حسن باقري أي مسؤولية مباشرة هنا أصلًا، لكن حين تتعقّد الأمور، كان يحضر فورًا  للمساعدة»[1].

كان محمد باقري أحد جرحى هذه العملية. عندما رأى حسن بأن الشهادة قريبة منه، كان يتحيّن الفرصة ليعدّ أعزاءه وأصدقاءه لمواجهة حادثة كهذه:

«أصابتني شظية في هذه العملية، وجُرحت. ما إن عرف حسن باقري بإصابتي حتّى اتصل بأسرتي وأخبرهم وقال إن فلانًا (أنا) قد أصيب. ذهبت إلى الدائرة الصحيّة، ضمدوا الجراح، أرادوا إرسالي إلى البيت فقلت لهم بأني على ما يرام، وعدتُ إلى المقر بأي طريقة ممكنة. عندما رآني قال: لقد أخبرت العائلة بأنك استشهدت! قلت: لم يحدث شيء يا رجل! إنه جرح وسيشفى، لماذا قلت لهم بأني

 

 


[1]- الشهيد مهدي زين الدين.

 

331


312

النّصر مجدّدًا

استشهدت؟ قال: يجب أن يتجهزوا، فمن الممكن أن نستشهد في أي لحظة، ويجب أن يقضوا على خوفهم من هذا الموضوع»[1].

كانت عملية محرم الناجحة، البلسم الذي هدّأ قلوب الناس بعد عملية رمضان الفاشلة. تعدّ العملية الناجحة في أذهان الناس تلك العملية التي يحرّر فيها المجاهدون الأرض ويتموضعون فيها وهذا ما حدث في عمليّة محرّم، حيث عاد النصر إلى معسكر القوات الايرانية:

«نُفّذت عملية محرم تحت إشراف مقر كربلاء بقيادة حسن باقري ومساعده مجيد بقايي. أُسر كثيرٌ من العراقيين واستطعنا ضرب أهداف مهمة. أدت عملية محرم إلى تغَيُر كامل لاستراتيجيتنا في الحرب. كنا قد اتخذنا قرارًا بالقتال في الجبهة الغربيّة نظرًا لصعوبة القتال في شرق البصرة لنقوّي بذلك نقاط ضعفنا ثم نهجم إلى شرق البصرة مرة أخرى. ولكن النجاح الكبير في عملية محرم والانتصار المؤزر هناك أدّى إلى تغيُر استراتيجيتنا، وتوجيه قوّاتنا برمّتها لأخذ العمارة. والأمر اللافت للنظر عندما انشغل الشباب بأهدافهم التي سيطروا عليها, كان حسن باقري يتقدّم نحو الخطّ الأمامي بالجيب (jeep) ويعمل على تنظيم القوّات.

كانت هذه من الصفات التي لم تتوفّر لدى كل قائد رفيع المستوى، خاصة إذا كان هذا القائد يدير بضع فرق ومسؤولًا عن منطقة شاسعةٍ جدًا.[2]»

 

 


[1]- اللّواء محمد باقري.

[2] - القائد احمد غلامبور.

 

332


313

قلق على مستقبل الحرب

قلق على مستقبل الحرب

 

على الرغم من نجاح عملية محرم وإدخالها الفرح إلى قلوب الناس؛ وتركها الأثر الإيجابي على معنويات القادة، إلّا أنها حملت معها بالنسبة إلى حسن إشارات إلى أن إدارة الحرب غدت أكثر صعوبة. فهو إذ شارك في المراحل الثلاث من العملية وأدار الوحدات عن قرب؛ فقد لاحظ الفرق بين جيش العدو الذي قاتله في هذه العملية وذاك الذي قاتله في عمليات الفتح المبين وبيت المقدس ورمضان. ففي الغنائم لاحظ وجود معدات حديثة، كدبابات (T55) و(T76)، ناقلات جند صينية، صواريخ فرنسية ومعدات متطورة أخرى. من المسائل المهمة التي تم كشفها هو خندق للجيش العراقي  ممتد من تشزابه إلى حمرين؛ بإمكانه إعاقة تقدّم قواتنا من المشاة والدروع ومنعهم من العبور. والأهم من ذلك هو إنشاء ألوية ثلاثية الأرقام مثل: 606، 605، 611 و... شكلت خط الدفاع الجديد للنظام البعثي. بعد انتهاء العمليات؛ ذهب حسن باقري إلى طهران ليطلع القادة على المعلومات الجديدة. رافقه في هذا السفر فتح الله جعفري:

«ذهبتُ مع حسن باقري إلى طهران في طائرة فالكون، يوم 8 تشرين الثاني 1982م. وشاركنا في جلسة مقر القيادة المركزية للحرس. قال حسن باقري في جمعَي  القادة والمجلس الأعلى

 

 

333

 


314

قلق على مستقبل الحرب

و(ميغ25). وكذلك زوّدوه بأسلحة لم يقدموها له في بداية الحرب. والآن أصبحنا نرى ذخائر سعودية وأردنية ويمنية. يعني إنهم حثّوا الدول لتدعم العراق حتى لو تبرّعت كل دولة منها بـ 100 طلقة.

يدل هذا الأمر على أن توازن القوى قد رجح لمصلحة إيران، ولهذا وصلوا لهذه النتيجة: «يجب تقوية العراق». بعد هذا الدعم الذي حصل عليه نظام العراق، خاصة بعد عملية بيت المقدس، يمكن القول أن قوّته غدت كما لو إنها في أول الحرب! فمع كل المعارك التي حصلت؛ وأعداد الجنود الذين أسرناهم حيث تجاوز عددهم الـ 40 ألف أسير؛ والدبابات التي غنمناها والتي تجاوز عددها الـ 1000 دبابة (أي ما يعادل تجهيز ثلاث فرق)، دعموا العراق مجددًا وأعادوا إمداده بما خسره»[1].

أكمل حسن باقري كلامه حول الغنائم من الأسلحة والذخائر:

«إحدى المشاكل التي نواجهها هي أنه مع امتلاكنا: (ب7) وبازوكا، وتاو ومالوتكا؛ أي اننا نمتلك ترسانة من الأسلحة. ولدينا كاتيوشا وميني كاتيوشا، مدافع (203ملم) و(122 ملم). لدينا أسلحة من الشرق والغرب والصين وروسيا وبريطانيا؛ إذا قال أحدهم بأن هناك قذائف عيار (135ملم)، مع أنه لا يتناسب مع أعيرة أسلحتنا، مع ذلك علينا أن نذهب ونحضره، حتى نجهّز الوحدات التي قمنا بتوسعتها بالعتاد والذخيرة. الآن لدينا نقص في قذائف عيار (122 ملم)، وهي تشكل القسم الأكبر من مدافع الحرس، لماذا؟ لأن المدافع والقذائف كانت بمعظمها غنيمة من

 


[1] - خطاب حسن باقري أمام قادة مراكز المنطقة الأولى في الحرس بتاريخ 19 آبان 1361هـ.ش.\ 10 تشرين الثاني 1982م.

 

335


315

قلق على مستقبل الحرب

العراقيين. عندما نأخذ مدفع غنيمة، كم قذيفة يكون معها؟ فلنقل أن هناك 500 قذيفة مع كل مدفع. منذ عمليات «الفتح المبين» حين غنمنا هذه القذائف، فإننا نطلق يوميًا 4 إلى 40 قذيفة بذلك المدفع. أخذنا ذخائر من الجيش وأماكن أخرى؛ وحتى لو كانت غنيمتنا مع كل مدفع (122ملم) كبيرة فنكون قد حصلنا في أفضل حال على 200 قذيفة. أنظروا إلى أهمية هذه المسألة، وكيف بإمكانها أن تؤدي إلى اضطراب وتوتر في التدريب. عندما نضع طاقمًا لمدفع فإننا نفكر باستمرار بأن لهذا المدفع 200 قذيفةً فقط، فعندما تنفد الـ200 قذيفة، يجب على الطاقم الجلوس والنظر إلى المدفع. ثم نعيد القول اليوم ندرب هذا الفرد؛ أما بانتظار الغد فـ«الله كبير». وها هو العراق يصبح قضية، لديه صواريخ ماليوتكا وتاو، والأمريكيون يساعدونه أيضًا، والأسلحة الشرقية تصله من دول الأعضاء في حلف وارسو.».[1].

ثم دخل إلى صلب الموضوع وأكّد على أهمية إرسال القوات من ذوي الخبرة، وتدريب وإرسال التعبويين والقوات الجديدة. وبمقارنة بسيطة بين قوات العدو وقواتنا، شرح حسن باقري واقع الأمر لهم بكل صراحة:

«مع أن عدد سكان العراق هو نصف عدد سكاننا إلا أنهم سدّوا النقص البشري في قوّاتهم. مع أن خدمة العلم الإلزامية مؤمّنة عندهم إلا أنهم لجأوا إلى الجيش الشعبي أو التحشيد الشعبي. الجيش الشعبي هو أكثر انسجامًا من التعبئة عندنا. شكل العراق طيلة فترة الحرب 90 لواءً ثلاثي الكتائب، ولنفترض أن عدد قوات

 

 


[1]- المصدر السابق: مذكرات حسن باقري، ج3.

 

336


316

قلق على مستقبل الحرب

كل كتيبة فيه يتراوح بين 300-340 عنصرًا، فيصبح العدد مئة ألف. هؤلاء هم فقط الألوية الذين تشكّلوا في الجيوش الشعبية بعنوان قوات احتياط. وقد عيّن لكل سرية في الكتيبة ضابطًا مع اثنين من ذوي الرتب، أحضرهم من وزارة الدفاع، ومن معسكرات التدريب، ومن وزارة الحرب والأركان المشتركة. وهو بسبب الانسجام في قواته، جمع كل ضباط المقرات أو الأركان الإضافيين من جميع الأماكن وأرسلهم إلى الخطوط الأمامية. في الكثير من الأماكن، خاصة في عمليات بيت المقدس، راح يرمي هذه القوات إلى الأمام وصارت قواتنا تشتبك مع هذه الألوية الضعيفة[1] وتقضي عليها وتأسر 20 ألفًا منها، وعندما يحلّ التعب في قواتنا يرسل العدو وحداته الأساسية التي دربها وعمل عليها طيلة 20 سنة (لتمسك زمام الأمور).

كان خطأ العراقيين في بداية الحرب أنهم وضعوا الفرقة الثالثة وهي من أفضل الفرق لديهم، في الجهة الايرانية لنهر كارون. نُفِّذت إحدى العمليات فهاجمهم التعبويون في غضون 24 ساعة، أسروا 1500 عنصر من قوات تلك الفرقة من ذوي الخبرة (العسكرية). أو في عملية شوش حيث تلقّت نخبة قواته ضربات كبيرة. التفت العراق إلى أنه لا يمكن الاستمرار بهذا الشكل. فألويته التي أنشأها ضعيفة جدًا وقد افتعل مسألة تشزابه. في عمليات تشزابه جهّز العراق عشرة ألوية من الجيش الشعبي، يرسل صباحًا اللواء الأول ثم يرسل عند الظهيرة اللواء الثاني. قدّمنا شهداء في عملية تشزّابة بقدر ما قدّمناه في عمليات بستان.

 


[1] - عبر: مع هذه القمامة.

 

337


317

قلق على مستقبل الحرب

كانت إرادة الله أنهم أعرضوا عن فعل هذا الأمر، ولم يذهبوا باتجاه هذا النمط من التشكيلات. لأن هذا الأمر؛ مضافًا إلى أنه سيكلّفهم تقديم أعداد كبيرة؛ سيعقدّ الأمور عندنا أيضًا، فنُجبرُ على القتال في مناطق لسنا مضطرين للقتال فيها. لم تكن تشزّابة المنطقة التي يفيدنا القتال فيها، نحن كنا نريد الوصول إلى «مضيق تشزابه» كي ننقل المعركة إلى منطقة يكون لها منفذ، وعندها نقفله بلواء واحد، ثم نترك ذلك المكان ونعود إلى حياتنا وأعمالنا. كان هدف «عملية بستان» هو إيقاف عمليات جيش العراق في الشمال والجنوب عند خوزستان، والمحافظة على قواتنا وعدم الاضطرار إلى الدفاع دومًا؛ لأن جناحنا الأيسر كان الماء والهور العظيم؛ وجناحنا الأيمن الرمل الذي يعيق العبور ويمكن بالتالي الدفاع عنه بعدد قليل من القوات. ولكن العراقيين فرضوا علينا الحرب في جبهة تشزابه.

في عملية رمضان واجهنا بعض القضايا بسبب هذه العوامل. صحيح أن لواء الإمام الحسين كان في المنطقة المتقدّمة أعلى القناة؛ ولكن كان على يمينه جحفل من الأعداء: الفرقة 5، الفرقة 6، وحدات الاحتياط، اللواء 10، ولواء الحرس الجمهوري، جميعهم كانوا على ميمنتنا ونحن ملتصقين في الناحية المتقدمة أعلى القناة. (حتى لو) أنشأنا السواتر على الميمنة، لما كانت الأمور لتحل. والسبب هو أنه لم يكن لدينا سوى لواءي النجف الأشرف والإمام الحسين(عليه السلام). وكان في الخط الخلفي فرقة الفجر. وكم من الهجمات يستطيع لواءان صدها؟ وقدراتهما محدودة ومالم ندعمهما لا يمكنهما الاستمرار، وإذا أردنا ذلك سنرجع إلى مسألة

 

338


318

قلق على مستقبل الحرب

القوات والتي هي مشكلتنا اليوم في الاستمرار بالحرب. يمتلك العراق حاليًا 17 فرقة منظمة، وجيشه الشعبي 90 لواءً أي 30 فرقة. أي أن لدى العراق جيشا من 50 فرقة. وكنا نقول في بداية الحرب أن للعراق 12 فرقة وقد أصبح يمتلك جيشًا من 50 فرقة. وكيف أصبحنا؟ فلنجري مقارنةً معهم.

هدفي من كل هذا الحديث والمقارنة هو معرفة ما هو واجب الحرس وما هو وضعه؟ نستطيع القول أن لدينا حاليًا في الحرس 15 فرقة. ولكن؛ ما هو وضعها أمام 50 فرقة للعراقيين؟ ينقصنا 35 فرقة، ولو قلنا أنه توجد 10 فرق لدى الجيش؛ فما زال ينقصنا 25 فرقة. وها نرى مجددًا أن لا توازن بين القوات».[1]

أشار حسن باقري في ذلك الاجتماع السّري مع قادة المقرات إلى نقاط الضعف في تشكيلات الحرس الثوري. كان هدفه من هذه الانتقادات رفع مستوى قدرة وأداء الحرس:

«ينبغي على الكتيبة التي تأتي من المدينة الفلانية أن تكون منسجمة، نعين لها قائد كتيبة وقائد سرية فقط. يجب أن نُعدّ التعبويين في المدن بحيث لو استدعيت كتيبة من مدينة ما إلى المنطقة استطاعت الوصول خلال 24 ساعة. تملك إسرائيل تنظيمًا عسكريًا تستطيع فيه تعبئة 240 الف جندي في غضون 48 ساعة. ذلك البلد الباطل، الذي لا يتعدى عدد سكانه المليوني نسمة وينتشر الفلسطينيون في داخله؛ يعاني من آلاف المشاكل، استطاع أن ينظم نفسه بطريقة تكون فيه ألويته معروفة، كتائبه وفرقه محددة أيضًا. إذا كنتم ترون أن هناك ركودًا في قضية

 


[1]- المصدر السابق.

 

339


319

قلق على مستقبل الحرب

الحرب وفي اتخاذ القرارات، إذا كنتم ترون أننا نفتقد في الحرب اليوم السياسة الواضحة؛ أحيانًا نقوم بعمليات في الغرب ثم ننتقل للجنوب، فالأمر يعود للقضية التي ذكرناها. لكن منذ عمليات رمضان وخلالها صار لدينا استراتيجية عسكرية محددة ومتابَعة. وبعد عمليات رمضان سعينا لتحقيق الأهداف المتوسطة كأن نقوم بعمليات محدودة في مناطق مختلفة كـ«مندلي» كي نستطيع تأسيس وتنظيم ألوية جديدة لإنجاز عمليات البصرة. بالطبع لا بد من الالتفات أن صدام لا يتواجد فقط في البصرة! بالنظر إلى امتداد العراق واتساعه حيث تنتشر قواته، فلا تشكل البصرة سوى 35 بالمئة من حيّز الحرب. أي أنه في ما يتعلق بالحرب ما زال لدينا مسير طويل.

حتى الآن، لم يتعدّ عديد قوات التعبئة في كل البلاد المئة ألف فرد. مع أننا نحتاج في العمليات الواسعة إلى أكثر من ضعفي هذا العدد. عندما تحتاج الألوية إلى دعم بشري، من يجب أن يغذيها بهذا الدعم؟ فأنتم مسؤولو العمليات في مختلف المدن؛ إذا لم تؤمنوا الدعم البشري للألوية فمن سيؤمنه لها؟ إذا لم تمدوا الحرب بالقوات باستمرار فمن سيكمل الحرب؟ على قدر عملكم في المدن، نتقدّم في الجبهات. يشهد الله، إنني أؤمن أن دورنا في الجبهة هو أقل أهمية من دوركم في المدن. إن الدور الأساس في المدن هو على عاتقكم. إذا أرسلتم لنا القوات، وحققتم هذا الانسجام يمكننا نحن أن نؤدي دورنا هناك في الجبهة ونقاتل. يعود فضل هذا العمل إليكم»[1].

هذه قضايا كان يجب الالتفات إليها والحديث عنها على مستوى

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

340


320

قلق على مستقبل الحرب

القيادة ككلّ خلال الحرب. رجع حسن باقري إلى مقر كربلاء للاستطلاع واختيار المنطقة الأنسب للعمليات الواسعة القادمة ليقترح على القيادة العليا للحرب أفضل خطة ممكنة. كان الهدف من عمليات مسلم بن عقيل ومحرم تشتيت تمركز العدو في منطقة البصرة. كان هذا الهدف يتحقّق من خلال هاتين العمليتين. لكن حسن باقري كان يتطلّع إلى ما بعد البصرة أي بغداد. كان للحاج همت هذا الرأي أيضًا[1]. أي يجب الوصول بطريقة ما إلى مركز الدولة العراقية أي بغداد:

«كانت عمليات مسلم قد انتهت. توجهت برفقة أخينا عزيز (جعفري) بالطائرة من باختران في كرمانشاه إلى الأهواز. هناك ركب حسن الطائرة كي نتوجه إلى طهران ليعرض خطته المستقبلية. قال يومها بفرح والرضا عن هذه العمليات يملأ قلبه: يا حاج اذهب وقوِّ هذا اللواء، بعون الله يمكننا الاستمرار  في الحرب.

كان يتكلّم بحسم وقاطعيّة، وبدا من كلامه أنه يرى المستقبل بوضوح وكله أمل وتفاؤل. أحيانًا كان يواجه اعتراضات عندما يطرح هذا الموضوع، فقد سبق أن تناقشنا فيه مع الأخوة في الجيش وفي مقر خاتم الانبياء(صلى الله عليه وآله). أكّدنا على أهمية بغداد؛ فهي مركز الفساد، إذا استطعنا أن نأخذ بغداد من صدام، لن يتوجه إلى البصرة لتأسيس عاصمة جديدة بل سيخرج من العراق بأكمله، تمامًا كما حصل مع الشاه حين ترك طهران. لذلك علينا إكمال عمليات «مندلي» [مسلم بن عقيل] والتوجه نحو بغداد. كان

 

 


[1]- عزيز الله جعفري ( شقيق فتح الله جعفري).

 

341


321

قلق على مستقبل الحرب

هذا رأي حسن باقري وقد أكّد مرارًا على هذا الموضوع».[1].

كان داوود كريمي على متن تلك الطائرة أيضًا متوجهًا إلى طهران لأخذ القرارات حول العمليات هناك. كان آنذاك قائدًا للحرس في غرب البلاد. يعتقد داوود كريمي أنه يجب القيام بعمليات مباغتة مؤذية في شمال غرب البلاد، وعمليات وهميّة في الجنوب على أن تكون العمليات الأساسية في الغرب:

«في المطار، رأيت حسن باقري وإبراهيم همت في الطائرة أيضًا. كانا قادمين من الجنوب. في الطائرة وضعتُ الخريطة أمامنا، وتحدثنا حول العمليات إلى أن وصلنا إلى طهران. كان البعض منا يتبنّى أن تكون العمليات الأساسيّة في الغرب.  كانا أيضًا موافقين على هذا الأمر. وقالا أنهما سيدافعان عن هذا الأمر في الجلسة، وقد استدلّا على دفاعهما هذا: أننا نبعد عن بغداد في الغرب حوالي مئة كيلومتر جوًّا، وإذا تقدمنا قليلًا تستطيع مدافعنا أن تهدد ضواحيها. في طهران، كان صياد شيرازي قد جمع قادة الجيش، وهناك بيَّنتُ وجهات نظري. للأسف في تلك الجلسة، جرت الأحداث بطريقة، لم يستطع خلالها الشهيد همت والشهيد باقري عرض أفكارهما. لم ترتكز آراء باقري وهمت العسكرية الاستراتيجية حول ضرورة سقوط صدام، على كلامي وحسب. فهما شخصان من ذوي الخبرة وقد نضجا في الحرب».[2].

لقد كانا يخطّطان فعلًا لفتح بغداد. لكن العديد البشري والمعدّات والقدرات لم تكن كافية للتوجّه نحو بغداد. لقد أوضح كلام حسن

 

 


[1]- الشهيد ابراهيم همت.

[2]-  الشهيد داوود كريمي.

 

342


322

قلق على مستقبل الحرب

في جلسة 8 تشرين الثاني لماذا اتّجهت استراتيجيّة إيران العسكريّة نحو الوصول إلى أهداف وسطية متدرجة وعدم التوجه نحو حسم المعركة نهائيًا. لذلك سعى أصحاب القرار إلى السيطرة على نقاط جديدة. من هنا كانت أهداف استطلاعات حسن باقري مدن العمارة والفاو وعلي الغربي في العراق. كان أحمد أميري مسؤول معلومات العمليات والاستطلاع في محيط منطقة الفاو. طلب منه حسن باقري دراسة حال أرض الفاو وامكانية عبور  نهر أروند:

«لتنفيذ طلب حسن باقري والحصول على المعلومات اللازمة كان علينا الوصول إلى الفاو. كي نستطلع المنطقة، قطعنا نهر «أروند» بقوارب محلية الصنع يطلق عليها اسم «تشينكو». خلال الفترة التي كنا نستطلع فيها منطقة الفاو، كان حسن باقري برفقة رحيم صفوي والسيد رشيد يأتيان إلى مقر معلومات العمليات» في «أروند كنار» للإشراف وتلقّي المعلومات من الفاو، وفي الوقت عينه لتبادل المعلومات عن مستجدات استطلاع منطقة تشزابه، صفرية ورملي مقابل العمارة.

يقع مقر قيادة القوة البحرية العراقية في جنوب منطقة الفاو، وكانت تشملها عملياتنا الاستطلاعية. كنا نبادر بإطلاق النار عند الغروب، ثم يبادلنا العراقيون النار، واستطعنا تحديد المسافة الفاصلة بين نقطتي إطلاق النار من خلال الضوء الذي تتركه النيران. كنا نترك القارب في نقطة معينة، ومن خلال حساب قوة المد والجزر ووقتهما، تحملنا هذه القوارب إلى النقطة المحددة على الساحل العراقي؛ ثم نخبئ القوارب، ونستقر في أماكننا لنبدأ الاستطلاع ليلًا. كان من المفترض أن تنطلق عمليات والفجر

 

343


323

قلق على مستقبل الحرب

في منطقتي الفاو والعمارة معًا. لكن للأسف، مع فشل العمليات في غرب محافظة خوزستان، سميت العمليات بـ«والفجر التمهيدية» وتأجلت عمليات الفاو إلى «والفجر 8»[1].

كانت الأيام بين 10 و22 كانون الثاني من العام 1983م أيامًا مليئة بالنشاط لكل من يعمل في الاستطلاع. من بينهم محمد باقري الذي كان يومها مسؤول المعلومات في مقر كربلاء:

«بعد عمليات محرم جرى الحديث عما يمكن القيام به في الجبهة؟ أظهرت عمليات رمضان صعوبة نجاحنا في الحقول الواسعة. فقد كان التفوق التقني والجوي للعراقيين يمنعنا من العمل ويربك حركتنا ابتداءً من صباح أي عملية نقوم بها.

درسنا إمكانية عبور أروند. ذهبنا إلى تلك المنطقة مع حسن باقري ومجيد بقايي. لم يخطر على بالنا يومها أن نقوم بما قمنا به في عمليات «والفجر 8». بعد التدقيق التفتنا إلى أن أطول جسر من جسورنا لا يتعدى ال250 مترًا. استنتجنا أنه لا يمكننا نصب الجسور. توجهنا من منطقة عمليات رمضان إلى مهران. مرّ أسبوعان ونحن نتنقل من منطقة إلى منطقة برفقة قادة هذه المناطق لدراستها واستطلاعها. توجهت أذهان الجميع إلى غرب منطقة الفتح المبين، فكة والزبيدات أي تتمّة منطقة عمليات محرم»[2].

أسس حسن باقري وحدة «خارج الحدود». كان أعضاء هذه الوحدة من المجاهدين والجنود العراقيين الذين شكلوا فيما بعد «فيلق بدر». وُضع التخطيط لإيجاد حلّ مناسب للعمليات كي يستطيع

 


[1]- أحمد أميري، مسؤول أمن العمليات على جبهة آبادان في ذلك الوقت.

[2]- اللواء محمد باقري.

 

344


324

قلق على مستقبل الحرب

المجاهدون الوصول إلى دجلة من خلال التقدّم نحو خمسين كيلومترًا. كانت قواتنا تكسر خطوط الأعداء وتتقدم لكن ما إن يحل الصباح حتى يعيق العراقيون بقواتهم الجوية والبرية إكمال العمليات. كان حسن باقري يسعى لأن يتزامن الهجوم الأمامي على خطوط العدو مع عمليات خارج الحدود بالتسلّل إلى مقرّات العدو الخلفيّة وضرب قيادة الفيلق الرابع. يمكن لهذا العمل أن يمنع الهجمات الارتدادية للأعداء. بدأت قوات حسن باقري ببعض الأعمال الأمنية. كان محمد باقري قائد هذه العمليات الصعبة والمعقّدة:

«كنا نرسل مجموعة من المجاهدين العراقيين من الهور إلى خلف منطقة تشزابة للاستطلاع. استحدثنا عدة معابر كي نستطيع إرسال كتائبنا إلى خلف منطقة تشزابة ليكسروا هذا الخط من الخلف. أسسنا تشكيلات لضرب الفيلق الرابع. كان رضا حبيب اللهي مسؤول هذا العمل؛ طالب علوم دينية ذكي وشجاع. تعاونا معًا في الملف الخاص بالأسرى الذين كانوا في الفيلق الرابع. كان البعض منهم جنديًا أو حارسًا أو ضابطًا في الفيلق. استطعنا الحصول على عدد من آليات الجيب والتويوتا الشبيهة بالتي يملكها العراقيون. كما جُهّزت السيارات التي غنمناها من العراقيين. بدأ الشهيد حبيب اللهي بتدريب خمسمئة مقاتل. أعطيناهم ثيابًا، أجهزة لاسلكي وبطاقات عراقية. كنا قد خططنا لكل هذا. تقرّر أن يستعد حبيب اللهي وشبابه في الخط الأمامي للتسلل إلى الداخل بمجرد أن يُخرق خط العدو ولو بمقدار عبور سيارة واحدة. كان عليهم أن يظهروا كوحدة عراقية بعثية تتراجع للخلف على جسر «الغزيلة» وتهاجم في مقر قيادة الفيلق الرابع. تم تخطيط

 

345

 

 


325

قلق على مستقبل الحرب

كل شيء مع التفاصيل الدقيقة تحت إشراف الشهيد باقري؛ حُدّدت غرفة القيادة، الاتصالات، المقر، المولّد، السرية، الحراسة، الذخائر، ومخزن المحروقات. تم استطلاع الطرق المختلفة والمعابر. يقع مقر قيادة الفيلق الرابع على بعد 60 كلم جنوب غرب العمارة. كان من المقرّر أن نتخطى العمارة، وأن نعبر الطريق الجانبية التي تلتف حولها وأن نتوجه نحو الجنوب قبل الوصول إلى العمارة نفسها حتى نصل إلى مقر الفيلق الرابع».[1]

لكن هذه العمليات لم تنجز قط؛ فقد استشهد رضا حبيب اللهي ليلة عمليات «والفجر التمهيدية» على الخط الأمامي ولم يُخرق هذا الخط أبدًا.

 

 

 


[1]- اللواء محمد باقري.

 

346


326

لقاء في فكة

لقاء في فكة

 

حدّد قادة الحرس والجيش بأغلبية الأصوات منطقة «عمليّات محرّم» للقيام بعمليات «والفجر التمهيدية». لكن حسن باقري، استنادًا إلى التقارير، لم يعتبر نتائج الاستطلاع كافية لاختيار تلك المنطقة للقيام بالعمليات. أشارت تلك التقارير إلى أنه بعد عبور الرمال -مع كل مشكلاتها- تصل القوات إلى سهل، حفر العراقيون فيه قناتين، وضعوا قبل القناة الأولى وبين القناتين وبعد القناة الثانية أسلاكًا شائكة وألغامًا. كما أنهم زرعوا الكمائن في الرمال أيضًا. لكي يطمئن حسن باقري، ذهب بنفسه لاستطلاع المنطقة:

«تخطّينا جادة فكة وعبرنا خط الجيش. يفصل بين نقاط جيشنا ونقاط البعثيين (16 كلم) فقط. تقدمنا مع حسن حوالى (4 كلم). أوقفنا السيّارات. كنا خمسة عشر شخصًا. كان معنا حسين خرازي وقوات من لواءي حمزة والإمام الحسين (عليه السلام). لم يكن الشهيد باقري يصدق أنه لا يمكننا العبور. كان العدو قد حرث الأرض وزرعها بالألغام. تقدّمنا ما يقارب مسافة (5 كلم). أراد أن يذهب بنفسه. بقيت مجموعة في الخلف وتقدمت مجموعة من 10 أشخاص. وجاءت مجموعةٌ أُخرى من 5 أشخاص. تقدّم ليتأكد إن كان بالفعل يصعب العبور؟ رأى الكمائن وتأكد من صعوبة تخطيها.

 

 

347

 


327

لقاء في فكة

لقد فكر العراقيون كثيرًا كي يجعلوا هذا المكان غير قابلِ للعبور.

كان هناك منطقة أخرى مناسبة للعمليات؛ «شمال فكة» باتجاه منطقة محرم والزبيدات ومرتفعات حمرين وفوقي؛ لأنه بإمكاننا السيطرة على سهل فكّة من هذه المرتفعات. ولكي نصل إلى حمرين ثم إلى فوقي، هناك خياران؛ إما بالنزول من جبل حمرين ثم الصعود إلى جبل فوقي. أو التوجه نحو فكة والعبور بين هاذين الجبلين والالتفاف من خلفهما. كان الوضع مبهمًا حول اتصال الجبلين، والصور الجويّة لهذا الموقع لم تكن واضحة. كنا نريد أن نرى من زوايا مختلفة إن كان هذان المرتفعان يتصلان ببعضهما أم لا؟»[1].

كان حسن يعتبر نفسه ملزمًا بالحصول على إجابات لهذه التساؤلات؛ كان يثبت دائمًا أنه مستعد لتقديم روحه للحفاظ على أرواح التعبويين:

«كان رأي الإخوة هو إكمال محور محرم؛ وقد طال النقاش حول هذا الأمر. أدرك حسن باقري أنه لن يستطيع أداء حقّ الموضوع من خلال النقاش والخرائط، فاستلزم الأمر استطلاعًا دقيقًا مباشرًا للمنطقة. توجهنا معًا إلى منطقة «عمليات محرم». راقبنا المرتفعات بدقة. في بعض الأماكن، زحفنا حتى اقتربنا من مناطق العدو، وكانت حساسة، ما استوجب عدم تواجد حسن فيها. لكنّه بالطبع، اعتاد على الأمر، فهو لم يكن يرسل التعبويين للقيام بالعمليات إلى مواقعٍ لم يسبق له أن استطلعها بنفسه. قمنا

 

 


[1]- المصدر السابق.

 

348


328

لقاء في فكة

بالاستطلاع في ذلك اليوم على أن نعود في الغد»[1].

في اليوم التالي، أُنهيَ الاستطلاع، لكن من دون مهدي زين الدين لأنه كان قد ذهب للقاء الامام. فقد كان قادة الحرس قد حدّدوا موعدًا للقاء الإمام، وحسن باقري لم يكن معهم:

«أصر رضائي على أخي ومجيد بقائي وبقية الأصدقاء، كي يرافقوه إلى زيارة الإمام. لكن حسن قال له: نذهب إلى الإمام؟ ماذا سنقول له؟ نقول إن التعبويين جاهزون، كل الفرق مستعدة، لكننا لا نجد مكانًا للقيام بالعمليات؟ خططنا ناقصة؟ أنا لن أذهب! أخجل من هذا, دعونا نقوم بعملنا.

اقتنع السيد رضائي بالأمر[2]».

بالإضافة إلى حسن باقري، بقي أيضًا مجيد بقائي وعدد آخر من الشباب. في صباح 29/1/1983 تحرك حسن باقري، برفقة مجيد بقائي، محمد باقري، مرتضى صفاري، مجتبى مؤمنيان، توكل قلاوند، بالاش ورضواني باتجاه فكة. قبل الوصول إلى فكة بحوالى (12 كلم) يوجد مرتفعات، فيها مراصد (مطلات) تشرف على تلال حمرين وفوقي. انطلقوا إلى تلك المطلات ليرصدوا المنحدرات والمعابر ويقارنوها بالصور الجوية التي يحملونها معهم. ذهبوا كي يحسموا موضوع العمليات نهائيًا. كانوا في دشمة بلا سقف. التفت العراقيّون للأمر. راحوا يطلقون القذائف باتجاههم فتسقط بين الحين والآخر بالقرب منهم على بعد مئة متر أو أقل. لكنهم كانوا غارقين في الخرائط والنقاش فلم يبالوا بما يحصل حولهم من انفجارات:

 

 


[1]- الشهيد مهدي زين الدين.

[2]- القائد محمد باقري.

 

349


329

لقاء في فكة

«كنا نبحث حول العمليات. اختلفنا في الرأي حول بعض المواقع على الخريطة. يقول أحدهم إن هذه النقطة هي تلك التلة بينما يعارض الآخر رافضًا. حتى بالنسبة للدشمة التي كنا فيها، كان الاختلاف حول الفارق لموقعها على الخريطة مسافة الـ500 متر يمينًا أو يسارًا. على بعد 100 م خلف الدشمة التي جلسنا فيها، كان هناك موقع فيه مدفع هاون للجيش، وفي داخله ثلاثة أو أربعة جنود وعدد من الرّتباء. طلب الشهيد باقري مني الذهاب إليهم قائلًا: استفسر عن إحداثيات هذه الدشمة التي نحن فيها وموقعها وضعْ علامات على الخريطة. قلت في نفسي، إذا كنا نحن لا نعرف مكاننا على الخريطة، فكيف بهؤلاء؟ أردت أن أقول لا حاجة للأمر. لكنني فكّرت: لأستجيب لأمره, فمن غير اللائق أن أخالفه أمام الجميع. خرجت من الدشمة. لم أكن قد ابتعدت خمسة عشر مترًا، حتّى صفرت قذيفة فوق رأسي فجلست على الأرض فورًا. بعد انفجارها شعرت أنها قريبة جدًا. انجلى الغبار، وقفتُ فرأيت الدخان يتصاعد من الدشمة. عدت بسرعة. أول شخص رأيته كان مرتضى صفاري، يضع يده على قلبه، وهو خارج من الخندق يكرر الله أكبر ويا حسين (عليه السلام)؛ فقد أصيب بشظيتين صغيرتين في صدره. أسرعت إلى الخندق. قلاوند، رضواني، ومؤمنيان استشهدوا مباشرة. قطعت قدم مجيد بقائي وقدمه الثانية معلقة بجلد رقيق. كما قطعت قدم بالاش. بينما أصيب أخي حسن ببضع شظايا وقد أغمي عليه، لكنه كان يردد يا صاحب الزمان (عليه السلام) ويا حسين (عليه السلام). ناديتُ الجنود والرتباء مباشرة. أسرعوا راكضين إلى

 

350


330

لقاء في فكة

الدشمة. وضعنا مجيد بقائي وأخي في سيارة جيب. وقلت لهم أن يضعوا الشابين المصابين في جيب آخر وينقلوهم مباشرة إلى نقطة الطوارئ. لم تكن قد مرت خمس دقائق حين استشهد بقائي؛ لقد نزف كثيرًا من الدماء. كان أخي حيًا. لكنه لم يكن واعيًا. يبدو أنه قد أصيب بموجة الانفجار لكنه لم يتوقف عن تكرار الأذكار. لم ينتبه لي على الرغم من كلامي المستمر معه. كان يكرر الشهادتين و«يا حسين» و«يا صاحب الزمان». وصلنا إلى أحد المقرات الفرعية للواء الامام الرضا (عليه السلام). كانت هناك سيارة إسعاف. قلت للشباب هناك: «إنه حسن باقري، لقد جرح، أخبروا المقر بسرعة كي يرسلوا مروحيّة. وبانتظارها ضعوه في الاسعاف واعطُوه المصل.

 وصل المسعفون، مدّدوه في داخل السيارة، وحاولوا العثور على شريان لوصل المصل. لم يستطيعوا إيجاد شريان. لكنه ما زال على قيد الحياة. قلت لهم: أسرعوا نحو الطوارئ الطبية، سأعود لأطمئن على صفاري وبالاش.

حين وصلت إلى المقر، أبلغوني من المستشفى أن أخي قد استشهد. لم أكن أتوقع هذا الخبر. كان لدي احساس أنّه ذُهل عن نفسه وفقد الوعي بسبب عصف الانفجار وسوف يستعيد وعيه مرة أخرى؛ لأنه كان يقرأ الشهادتين ويكرر الأذكار بدقة ووضوح. حتى أنه وقف مرة ومسح على وجهه، فمدّدناه ثانيةً. كنت أطمئن نفسي بأنه سيبقى على قيد الحياة. للحظة شعرت بالضياع وتساءلت عما حدث؟ شرح الأطباء أن الانفجار كان قويًا لدرجة مُزقت العروق داخل دماغه وفي أماكن متعددة من

 

351


331

لقاء في فكة

جسده. على الرغم من أنه قد أصيب في شتّى أنحاء جسده لكنها كانت جراحات بسيطة لا تؤدي إلى الشهادة. لكن تمزق الشرايين والنزيف الداخلي أدى إلى شهادته»[1].

أثناء الحادثة، كان مرتضى صفاري جالسًا بين حسن باقري ومجيد بقائي وقد جرح إثر انفجار القذيفة. في ذلك اليوم، وقبل الحادثة جاء مرتضى مع مجيد بقائي من شوش والتحقا بحسن بالقرب من فكة:

«كان مجيد بقائي يحمل معه دائمًا نسخة من القرآن الكريم. يقرأ آياته كلما سنحت له الفرصة. يومها كنا نجلس معًا في المقعد الخلفي للجيب. تستغرق المسافة بين شوش وفكة حوالى ساعة ونصف الساعة. أراد مجيد أن يحفظ سورة الفجر. أعطاني القرآن بيدي وقال: «أنظر هل أقرأ جيدًا؟»

كنت أدقق في كل كلمة يقولها كي ألفت نظره لأي خطأ أو كلمة ينساها. وصلنا إلى فكّة وكان حينها قد وصل إلى الآيات الأخيرة من سورة الفجر. التحقنا هناك بباقري وأكملنا المسير باتجاه الخطّ. قال بقائي لباقري: لا أعرف لماذا لا أستطيع أن أحفظ الآية الأخيرة من سورة الفجر. مهما كررتها لم أستطع حفظها. لا أدري ما مشكلتها؟ قال حسن باقري مبتسمًا: هل تعرف ما مشكلتها؟ مشكلتها أنها شظيّة! مشكلتها أنها لقمة شهادة يا أخي! يا أيتها النفس المطمئنة هي في شأن الإمام الحسين (عليه السلام). ليست بهذه البساطة. كان حسين يعشق الامام الحسين (عليه السلام) عشقًا خاصًا. أثناء مجالس العزاء، ما

 


[1]- المصدر السابق.

 

352


332

لقاء في فكة

إن يُذكر اسم الإمام، حتى يرتفع صوته بالبكاء.»..[1].

كان العقيد حسين حسني سعدي من أصحاب حسن باقري المقرّبين ذوي الدور الأساس في غرفة المقر المشترك «نصر» وفي الانتصارات التي حصلت في عمليات الفتح المبين الكبيرة وتحرير خرمشهر. بعد عمليات محرم توجّه إلى مقر خاتم الأنبياء المشترك كي يتعاون مع حسن باقري استعدادًا لعمليات «والفجر»:

«في عمليّة والفجر التمهيدية، لم تكن مهمّات الاستطلاع بمستوى مثيلاتها في «الفتح المبين» و«بيت المقدس». أراد حسن باقري أن يكون الاستطلاع بمستوى عالٍ جدا؛ ولكن للأسف لم يكن بالإمكان تنفيذ هذه الرغبة. فوضع المنطقة كان حسّاسًا ومعقدًا. قبل يوم من شهادته، تحدثنا أنا وباقري في كانكس[2] لمدة ساعة تقريبًا. قررنا النزول إلى الميدان للاستطلاع. حين وصلنا إلى المكان المحدد قال حسن: اذهب إلى عين ­خوش واستطلع المنطقة. ثم نناقش بما حصّلناه كي نصل إلى نتيجة.

كان من المقرر أن يتوجه حسن باقري ومرافقوه للاستطلاع في صباح اليوم التالي. عند الساعة السابعة صباحا، بينما كنت متوجّهًا إلى عين ­خوش، رأيت سيارة التويوتا قادمة من جهة دزفول. نظرت كي أرى من القادم؟ إنه حسن وقد مرّ أمامي. كان وجهه منيرًا. ما زالت نورانية وجه هذا الإنسان ماثلة أمامي إلى الآن. لقد اتجهوا نحو المقر كي يستطلعوا المكان. نحن أيضًا قصدنا «عين­ خوش» للاستطلاع. قرابة الظهيرة قالوا إنّ السيد

 

 


[1]- المصدر السابق. 

[2]- غرفة متنقلة مصنوعة من الخشب والحديد.

 

353


333

لقاء في فكة

باقري قد تعرض لحادثة ما. بعدها بقليل أخبرونا أنه أصيب بشظية. ثم قالوا أن باقري استشهد. كانت شهادته أقسى ضربة نتعرض لها حتّى تلك اللّحظة»[1].

فتح الله جعفري من أولئك الذين لم يذهبوا للقاء الإمام؛ وقد بقي في المنطقة كي يرافق حسن باقري في عملية الاستطلاع، لكن شاء الله ألا يكون معه في يوم الحادثة:

«هو يوم 28 كانون الثاني، كان الظلام مخيمًا، حين تركنا خندقنا وتوجهنا نحو خط العدو في جبل «فوقي». توقفنا وراء تلّة بالقرب من خطّ الأعداء، كان حسن باقري يمسك بيديه ورقة «كالك» وصورة جوية قديمة وخريطة ويحدد المواقع عليها. وقد حضر الجميع؛ محمد باقري، أصغر كاظمي، مرتضى صفاري وبقية مسؤولي «معلومات العمليات». كان يشرح ما يجب استطلاعه من طرقاتٍ وحتّى مواقع العدوّ، عند أذان الظهر عدنا إلى مقر خاتم الأنبياء. كان من المفترض التوجه في الغد إلى الضلع الشرقي لهذه المنطقة. بقي حسن مستيقظًا حتى الساعة الثانية عشرة ليلًا. في تلك الليلة نمت في ذلك المقر. قبل أذان الصبح قصدت حمام «جهاد طهران» في تشنّانه. لم يكن الصباح قد طلع حين عدت إلى المقر، فالتفت إلى أن حسن باقري قد ذهب للاستطلاع. عند الظهر، دخلت سيارة جيب إلى المقر. ترجل السائق وهو حافي القدمين وقال لقد أصيب قادة الحرس في دشمة الاستطلاع. أسرعنا إلى المكان. وجدنا أنّ محمد باقري قد أجلاهم من هناك. توجهنا إلى المركز الطبي لـ «فرقة نصر»، وكانوا قد نُقلوا من هناك

 

 


[1]- اللواء حسن سعدي .

 

354


334

لقاء في فكة

إلى المستشفى. وصل الخبر اليقين بشهادة حسن باقري إلى علي شمخاني في مقر خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله). لم نشأ التصديق بأن حسن باقري قد استشهد. صُدم الجميع بالخبر وساد الصّمت في المقرّ. لم نُرد أن نصدّق أنّ أكثر قادة الحرب ذكاء وتأثيرًا قد تركنا»[1].

غدير علي قاسمي، سائق حسن باقري، كان آخر من ودّعه حين أراد التوجه إلى موقع الاستطلاع وأول من نقل خبر شهادة حسن إلى علي شمخاني:

«في تلك الليلة، بقي حسن باقري حتى منتصف الليل في الاجتماع الذي أقيم في المقر. بعد الاجتماع نقلته بسيارة تويوتا ستايشن إلى دزفول؛ وكان قد أتخذ بيتًا لعائلته هناك. طلب مني المجيء في اليوم التالي لاصطحابه قبل أذان الصبح. وصلتُ في الموعد وقبل الأذان، ركب السيارة. صلينا في أحد المساجد، وانطلقنا باتجاه المقر. عادةً كان ينام في الصباح أثناء الطريق، لكن هذه المرة لم يغمض له جفن. كان يكلّمني طيلة الطريق إلى أن وصلنا إلى المقر؛ كلما مررنا بمكان، أخبرني ذكرى عنه؛ مثلًا حين وصلنا إلى جسر كرخة حدثني عن عمليات الفتح المبين. حين وصلنا إلى المقر، قال لي: لدي عمل حتى الظهيرة، إذهب وتابع أمور السيّارة وجهّزها.

عند الظهيرة، نقل أحدهم أن قذيفة قد أصابت الدشمة التي كانوا فيها. قال لي السيد شمخاني: أسرع لترى ما الذي حصل؟

توجهت مباشرة إلى نقطة الطوارئ. قالوا إنّ السيد بقائي وعددًا آخر قد استشهدوا. لكن حسن باقري قد جُرح وتمّ نقله

 

 


[1]- القائد فتح الله جعفري.

 

355


335

لقاء في فكة

إلى مستشفى مخفر انديمشك. حين وصلت إلى المستشفى، قالوا لي إنّه استشهد. ركضت كي أرى ما الذي حصل. أرشدوني إلى حمالة. أزحت القماش عن وجهه، إنه هو. عدت إلى السيد شمخاني ونقلت له خبر الشهادة»[1].

في الواقع، خسر «غدير علي» صديقًا عزيزًا؛ لأن علاقته بحسن كانت علاقة أخوين وكأنهما أفراد عائلة واحدة:

«كان يجلسني بالقرب منه دومًا. أثناء اجتماعات القادة كنت أنتظر في الخارج، لكنه كان يناديني وقت الغداء، يترك لي مكانًا إلى جانبه ولا يمدّ يده إلى الطعام إلا حين أبدأ بتناوله. في معظم الأحيان كان يعمل ليل نهار. أحيانًا كنا نبقى مستيقظين حتى الصباح، نتفقد المنطقة. إذا صادفنا في طريقنا مسجدًا كان يترجّل من السيّارة قبل خمس دقائق من حلول الأذان ليصلّي صلاته في وقتها وإذا لم يكن هناك مسجد صلى في زاوية بجانب الطريق. كان دائم الوضوء. إذا بقيت في الجبهة شهرًا كاملًا أرسلني في مأذونية. وإذا ما أصررت على عدم الذهاب، قال: عليك أن تزور عائلتك. حتى أنه كان يوصلني بنفسه إلى محطة النقل في الأهواز.».[2].

كان حسن باقري قد اصطحب إلى الجبهة عددًا من أبناء حيّه ومن بينهم «ماشاء الله إسماعيلي» . كان بالنسبة إليهم غلامحسين افشردي الذي رافقوه منذ طفولتهم وكبروا معه. ماشاء الله إسماعيلي من اولئك الذين رافقوا غلامحسين في ساعاته الأخيرة:

 

 


[1]- غدير علي قاسمي.

[2]- المصدر السابق.

 

356


336

لقاء في فكة

«يوم29 كانون الثاني، كنت في المقر. كان غلامحسين أفشردي مع الحاج محمد بيش بهار، في إحدى الغرف يدققان في خريطة جويّة ويحددان المواقع. نظر إليّ وقال: يا حاج هل لدينا شيء نأكله؟ فتّشت كثيرًا فما وجدت أي طعام. أجبته: لم يبق شيء في المقر سأقصد مطبخ الشهيد شمران وأحضر بعض الخبز والمربى.

ما إن هممت بركوب السيارة، حتى أشار إلي أن لا حاجة لذلك. وجد بعض الخبز المتعفن في المقر. تناول بعض الفتات، نظّف العفن بطرف سكين وأكلها؛ ودّعنا وذهب مع عدد من الشباب. لم تمض ساعتان حتى رأيت «علي خرمدل» قد وصل راكبًا دراجة نارية. ترجل وصار يضرب رأسه بالحائط. سألته: ما الذي حصل؟ قال: لقد استشهد غلامحسين افشردي»[1].

في ذلك اليوم كان قادة الحرس قد توجهوا إلى طهران للقاء الإمام حين وقعت هذه الحادثة:

«في ذلك اليوم، كنا قد توجهنا للقاء الإمام وشاء الله أن لا يذهب حسن برفقتنا. عند الظهر تقريبًا، بدأ الشباب يتناقلون خبرًا عن حادثة ما. في البداية، قالوا إنّ الأخ بقائي قد استشهد، وكانوا يردّدون أحيانًا أن الأخ حسن كان برفقته، بعد التأكد من الخبر قالوا إنّ حسن ومجيد قد استشهدا. وقع هذا الخبر علينا كانهيار جبل على رؤوسنا. كنا مجتمعين أنا والأخوة: محسن، رشيد، ورحيم ..أوشك اليأس أن يسيطر علينا ونقع في الذنب الكبير، لكن مع مجلس عزاء وذرف الدموع استطعنا النجاة بأنفسنا.

 


[1]- ماشاء الله اسماعيلي، من أبناء الحي.

 

357


337

لقاء في فكة

كان الاستمرار في الحرب على المحكّ فكيف سنستمرّ فيها من دون حسن؟ من دون قائد مقرّ كربلاء؟[1]

عزيز جعفري من القادة الذين تلقوا هذا الخبر المرير بعد لقاء الإمام:

«كان حسن باقري يسعى لإيجاد حل -مع الأخذ بعين الاعتبار هجوم القوات البرية في الليل-  للهجوم على الأعداء من ناحيتين بطريقة تلحق المزيد من الخسائر بالعدو؛ كانت هذه الخطة آخر ما أكد عليه حسن باقري. ما زلت أذكر، بدأنا بالاستطلاع معًا في المحور الشمالي مقابل عين خوش. لم يكن يهدأ أبدًا. حتى أنه لم يكن يتركنا لنرتاح أو نأخذ نفسًا. ونحن نتناول الفطور كان يقف ويقول لنا أسرعوا لإكمال الاستطلاع، سنتأخر. كان يريد أن يقدم خطته إلى قادة الحرس بأسرع وقت ممكن كي تنطلق العمليات دونما تأخير.

في اليوم الثاني من بدء عملية الاستطلاع وصلنا إلى أطراف فكّة. كنا نريد إكمال الاستطلاع حين تم تنسيق لقاء مع الإمام. كان ينبغي على بعض القادة التوجه للقائه. طلب مني حسن باقري أن أشارك في اللقاء، على أن يكمل هو عملية الاستطلاع. فذهبنا نحن للقاء الإمام وكان هو على موعد مع إله الامام».

لم يعرف القادة كيف ينقلون خبر شهادة حسن باقري إلى محسن رضائي؛ فالكلّ يعرف مدى الحب الذي يكنّه له ومدى تعلقه به:

«في البداية لم يقولوا لي أنه قد استشهد. حين قالوا لي أنه قد

 

 


[1]- الشهيد مهدي زين الدين.

 

358


338

لقاء في فكة

جرح، شعرت وكأن انفجارًا قد حصل في دماغي. للحظات لم أكن بحالة طبيعية، كنتُ كشخص ضائع، مثل شخص قد تلقى للتو صدمة نفسية كبيرة. كنت قلقًا. هل استشهد حسن ولا يريدون إخباري بالأمر. حتى فهمت من حركات الشباب أنه استشهد. فجأة شعرت بفراغ في داخلي وكنت أفكر أنّ الحرب قد وصلت إلى نقطة مصيريّة وها أنا أفقد أحد ذراعيّ؛ كيف سنكمل الحرب الآن؟»[1].

منذ بداية الحرب كان غلامعلي رشيد يخدم في ثكنة «الغولف» مع حسن باقري وكان الأخير من أكثر القادة الذين يستأنس بهم رشيد وينسجم معهم:

«يوم السبت 29 كانون الثاني 1983م. توجهنا إلى لقاء الإمام وتوجه أخي حسن باقري إلى لقاء الله! سبق كل رفاق السلاح في سباق الجهاد. بعد شهادته ذهبتُ إلى دزفول إلى غرفة سكنه وهي غرفة صغيرة في البيت الذي استأجره الأخ رؤوفي قائد فرقة «ولي عصر7».  كانت أشياؤه في تلك الغرفة عبارة عن «بساط»، وملاءتين، وبعض الألبسة الولّادية لطفلته البالغة من العمر خمسة أشهر. عندها تذكرت عظمة ورفعة هذا القائد العزيز في جيش الإسلام؛ وقد عاش في هذه الحياة بقناعة وزهد ورحل عنها ليلاقي ربّه بيدين مليئتين».

في مذكرات القادة يُذكر اسم رحيم صفوي دائمًا مع اسم حسن باقري وغلامعلي رشيد. يوم الحادثة بعد لقاء الإمام، كان رحيم صفوي وغلامعلي رشيد مدعوين إلى الغداء على مائدة العقيد السيد علي ­أكبر الموسوي قويدل في نادي ضباط القوة البرية:

 

 


[1]- اللواء محسن رضائي.

 

359


339

لقاء في فكة

«لم نكن قد تناولنا ملعقتين، عندما جاء رئيس النادي وقال: أيها العقيد، يتصلون بك من الجبهة.

أمسكتُ السماعة. كان شابًّا من الحرس، عرفته لكنّني لا أتذكر اسمه الآن. قال: أيها العقيد هل يمكنك التواصل مع السيد رحيم صفوي؟ قلت له: من محاسن الصدف أنه معي الآن ونحن نتناول الغداء معًا. هل من الضروري أن تحدثه الآن؟ نستطيع الاتصال بك بعد الغداء؟ قال: الأمر ضروري جدًا.

ناديت رحيم صفوي، أخذ السماعة من يدي وبدأ يتكلم. كنت أنتظر إنهاء المكالمة للعودة إلى المائدة. لكنني رأيت الدمع قد تجمع في عينيه. دُهشت وسألته: سيد رحيم، ماذا حدث؟

لاحظت أن لا قدرة لهذا الرجل على الوقوف أو على الإمساك بالسماعة. شددت عضده وسألته مرة ثانية: ما الذي حصل؟ قال: لقد استشهد حسن».[1].

في مقر الجنوب، تداول القادة الحديث حول أهميّة إخبار والديّ حسن بشهادته قبل أن يسمعا الخبر عبر المذياع أو التلفاز في صباح الغد. في النهاية اتُفق على أن يتصل أخوه محمد بالبيت ويخبرهما:

«اتصلت بالبيت. سألتني أمي: ما الخبر؟ كيف حالكم؟ قلت: الحمد لله. سألتني مرة ثانية: هل حصل شيء؟ قلت لها: لا، لا شيء.

تحدس الأمهات بما يحصل. لا يمكن إخفاء خطبٍ عنهنّ. قالت: لقد حصل شيء بالتأكيد. قلت لها: لقد جرح أخي. سألتني: هل استشهد؟ أجبتها مباشرة: نعم.

 

 


[1]- العقيد الأول الموسوي قويدل.

 

360


340

لقاء في فكة

لم تنُح، فقد قالت أنها كانت تتوقّع هذا الخبر، لكن الأمر كان صعبًا عليها. كما كان صعبًا جدًا على أبي».

كانت الأم تتوقع هذا الخبر، لأنها كانت ترى شوق ابنها للشهادة، كما أن إلهامها الأمومي وحدسها قد أخبراها بهذه الواقعة:

«كان يقول: أمي ادعي لي كي أرزق الشهادة. فأقول له: سأكرر ما يدعوه إمامي لكم، أدعو أن يوفقكم الله وأن ينصركم. فيقول: إذا بقيتُ، بمَ سأجيب آباء وأمهات التعبويين الذين سيقفون أمامي ويسألونني: من أجاز لك أن ترسل أبناءنا إلى الخطوط الأمامية ليستشهدوا وتبقى أنت؟!

قبل عشرين يومًا من شهادته كانت زوجته وطفلته عندنا. حملتُ طفلته يومها. طفلة مُحبّبة كنت أحبها كثيرًا؛ ولا زلت؛ بينما كنت ألاعبها، ركزت نظري على وجهها البريء. فجأة، شعرت أن وجودي كله قد انقلب رأسًا على عقب. ضبطت مشاعري للحظة. تعجبت لحالي كثيرًا. توكلت على الله. وقلت في نفسي: خيرًا ان شاء الله. لكن ما حصل كان نداء الشهادة بالنسبة لي. على الرغم من أنني كنت أتوقع الشهادة، لكن الانسان لا يتقبّل بسهولة أن يفقدَ هذا الطفلُ المولود حديثًا والذي لا يتعدى عمره الأربعة أو الخمسة أشهر والده؛ حتى لو كان في سبيل الله، والاسلام وفي سبيل عزة بلاده. الأمر صعب، لأن الانسان يتبع مشاعره».

شكّل الأسلوب القويّ لوالدة محمد العامل الأساس في تشجيعه لنقل خبر شهادة أخيه لها:

«كانت الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا حين اتصل ولدي محمد. رفع والده السماعة. ثم أخذتها منه. بعد السلام والاطمئنان

 

361

 

 


341

لقاء في فكة

على الأحوال قال: لقد جرح أخي.

حين نطق هذه العبارة، شعرت أن قوّةً قد تغلغلت في أعماقي. أعتقد أن من لطف الله أنني استطعت التحلّي بالصبر. هنيئًا له الشهادة. أثناء الثورة وبعد انتصارها كنت أزور مقبرة «بهشت زهراء». ولأنني لم أقدم أيّ شهيد كنت أشعر بالخجل حين أزور بقعة قبور الشهداء. حين كنت ألتقي بأمهات الشهداء، لم أكن أعرف ماذا أقول لهن؛ لكن حين استشهد ولدي، بدا لي أن هذا الشعور بالخجل قد خفّ قليلًا. استطعت تخطي بعض الخجل الذي كنت أشعر به حين التقي بوالدة شهيد قدمت اثنين أو ثلاثة من أبنائها. إنني شاكرة لله؛ الذي أعطاني صبرًا حيّر الأهل والأصدقاء. حين انتشر خبر شهادته طلبت من الجميع عدم ارتداء السواد ولم أسمح لأحد أن يعزيني. لم أتجلّل بالسواد لا أنا ولا عائلتي. لأن القرآن يقول إن الشهداء أحياء، ونحن نؤمن بالقرآن. فالشهيد في غنى عن الثياب السوداء وعن تقديم العزاء، فلا جزع ولا حزن. لقد أراد الشهادة بنفسه. كنت أقول في نفسي: لماذا طلب الشهادة ونالها؟ ألم يعلم أن لديه والدين عجوزين؟ ألم يعلم أن لديه طفلًا صغيرًا؟ زوجة شابة؟ لقد كنتُ أشعر بالضياع والحيرة. ثمّ كمن استفاق من سبات، كنت أعي نفسي وأراجعها وأقول لماذا أغفل أحيانًا؟ بعد مئة عام لن يكون هناك أثر لنا ولا لابنته؟ الكل ذاهب، فلماذا عليه أن يبيع الحياة الأبدية السعيدة بحياة قصيرة لا تتعدى الأيام؟ لقد أدرك تلك السعادة والحياة السعيدة التي رزقه الله إياها»[1].

 

قد تكون زوجته وشريكة حياته أكثر من رأى استعداده للشهادة.

 

 


[1]- والدة الشهيد.

 

362


342

لقاء في فكة

اتفقنا منذ البداية أن نجعل القرآن حكمًا بيننا حينما نواجه أي اختلاف، فلمّا لم نصل إلى قرار واضحٍ قلت له: لنلجأ إلى كتاب الله..

طلب غلامحسين من السيد الموسوي الجزائري أن يستخير لنا. اتصل بنا وقال إن الاستخارة جيدة. فرحت كثيرًا. فقال لي: هل عرفتِ ما هي الآية التي كانت من نصيبنا؟ آية إعطاء موسى لوالدته.

ثم أخبرني اسم السورة والآية. أسرعتُ وأحضرت القرآن. شعرت بسرور كبير حين قرأت الآية التي تتحدث عن إعادة موسى لوالدته كي يزول عنها الغم وتقرّ عينها وهذا جزاء المصلحين؛ وهذا ما حصل. لقد رحل حين كان عمر نرجس أربعة أشهر. كنا قد اتفقنا على اسم المولود قبل ولادته. إذا كان ذكرًا نسمّه موسى. وإن كان فتاة اقترح غلامحسين - لشدة حبه لإمام الزمان (عليه السلام)- أن تسمّى سوسن. لكنني رفضتُ ذلك الاسم لأن سوسن اسم إحدى المغنيات قبل الثورة. فاتفقنا على اسم نرجس[1]».

على الرغم من أن حسن وزوجته كانا غارقين في أمور الحرب بشدّة، فهي كانت مسؤولة الأخوات في التعبئة وهو مسؤول في مقرّات الغولف ونصر وكربلاء وخاتم الأنبياء؛ ومع هذا كانت الفرص القليلة لهما معًا مليئة بالحياة:

«كان يهتم كثيرًا بواجباته. كان رجلًا حنونًا جدًا. في بعض الأحيان كان يغيب وعندما يأتي يكون وزنه قد خفّ حوالى 5 كلغ، ويكون التعب قد أخذ منه مأخذه؛ إلاّ أنه كان يظهر بكامل نشاطه؛ يمزح، يسأل عن الحال والأحوال، كفتاة يجلس ويسألني: هيا

 

 


[1]- في الرّوابات يقال أن اسم والدة الإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه) سوسن, ويقال لها ريحانة وصقيل.

 

364


343

لقاء في فكة

أخبريني ماذا فعلتِ؟ كان يحب كتبه كثيرًا. فيأخذ معه كتابًا كلّما ذهب إلى الجبهة. آخر كتاب كان يقرأه قبل شهادته هو إرشاد الشيخ المفيد، الذي يدور حول الأحداث المتعلّقة بالأئمة(عليهم السلام). بعد استشهاده، سلّموني هذا الكتاب مع أغراضه الخاصة. كان يتصرف بطريقة تنسيني أنه كان غائبًا عشرة أيام، وأكون مستعدة لغيابه عشرة أيام أخرى بطيب خاطر».

قبل استشهاده بأيام ذهب إلى مشهد في سفرٍ ليومٍ واحد. طلب خلالها الشهادة من الإمام الرضا(عليه السلام). وكان مطمئنًا إلى أن طلبه سيستجاب وهذه الطمأنينة رأتها زوجته في بريق عينيه:

«كل ما أملكه منه كان خاتم الزواج، فأحببته كثيرًا. ذات سفر له إلى مشهد. كنت أنظّف الطفلة وأبدّل ملابسها، أردت أن أغسل يدي فوقع الخاتم في المغسلة. ولم يعد بالإمكان العثور عليه. انزعجت كثيرًا. قلت في نفسي لا بد أن شيئًا ما قد حصل. في المساء كنت أضع نرجس على قدمي. جلس بالقرب مني. قلت له: اليوم انتابني خوف، ماذا فعلت؟ سألني: ماذا تعنين؟ قلت: لا أعرف، لقد قمت بعملٍ ما؟ هل حصل شيء؟

حكى لي قصة مشهد. كان قد تكلّم عدة مرّات مسبقًا عن شهادته. انقلبت حالي رأسًا على عقب. بدأت بالبكاء. لم يحاول تهدئتي. رأيت في عينيه لمعانًا لا انساه أبدًا. بالفعل كانت عيناه تلمعان. حين قال: لقد دعوت واستجيب لي، رأيت كل الشوق في حدقتيه؛ شعرت أن كل شيء انتهى. كأنّه أنجز مهمّته وانتهى الأمر. عرفت أن انزلاق الخاتم قد حصل في الوقت الذي كان متمسكًا فيه بالضريح تمامًا. وكأن ضياعه حمل الرّسالة نفسها لي وقد استلمتها بوضوح. بعد 

 

365


344

لقاء في فكة

عمليات «الفتح المبين»، صارت مهام العمليات أكثر صعوبة، وصار الشباب يستشهدون. كان شخصًا لطيفًا وكنت أَعْجبُ في بعض الأحيان كيف يستطيع ضبط هذا اللطف، ويقف مثلًا في عمليات «بيت المقدس» بثبات وهو يعرف أن بعضهم سيستشهد، لأنهم إذا تراجعوا سيستشهد عدد أكبر؛ كان يصعب عليه كثيرًا أن يموت على الفراش أو في حادث سير. لقد كان الحادث الذي تعرض له في عمليّات «طريق القدس» صعبًا جدًا».

 تستطيع زوجته فقط ان تشهد آلامه التي طالما شعر بها بسبب شهادة التعبويين ورفاق دربه، إلى حدّ العجز عن إخفاء دموعه عنها، فيبدأ بالبكاء عاليًا ويطلب من الله أن يلحقه برفاقه الشهداء:

«بعد أن رزق بطفل وصار والدًا، قال لي مرتين: ماذا لو اعترضني يوم القيامة أبناء الشهداء وسألوني ماذا فعلت عندما استشهد آباؤنا؟ بماذا أجيبهم؟ كنت أواسيه قائلة: أنت تقوم بواجبك. كان يحب الشهادة وكان يصعب عليه تحمل أن يكون قائدًا ويرى أفراد قواته يرحلون واحدًا تلو الآخر فلا يستطيع فعل شيء حيال ذلك سوى المعاينة وتحمّل آلام مسؤولية شهادتهم على الصعيد الدنيوي. كان يرى هذا اليوم. كان يرى اليوم الذي ستنتهي فيه الحرب ويأتي أحد أبناء الشهداء إليه ليقول له: لقد كان والدي أحد رفقائك في الجبهة. لقد صعب عليه هذا الأمر حتّى أبكاه.

وفي منتصف فترة إحدى العمليات، جاء إلى المنزل ومكث بضع ساعات. كانت حاله سيئة جدًا. يبدو أنه كان قد رأى صورتين أو مشهدين قاسيين. وصف لي ما شاهده قائلًا: رأيت اليوم مشهدًا لأحد السهول؛ تساقط فيها شبابنا على الأرض كالورود. ثم

 

366

 


345

لقاء في فكة

أضاف: أنا من يخطط للعمليات، ويعطي الأوامر (ببدئها)، من يستطيع أن يضمن لي أن مسؤولية مصرع هؤلاء الشباب، جنود إمام الزمان (عليه السلام) ليست على عاتقي؟

ثم بكى بشدة وقال: ماذا لو اعترضني يوم القيامة أحد أبناء هؤلاء الشهداء وسألني عما كنت أفعله حين استشهد والده؟ بمَ أجيبه؟

كانت المرة الوحيدة التي بكى فيها أمامي، وقال لي بصراحة: أطلبي من الله ألا أبقى أنا أيضًا.

في تلك الليلة، شعرتُ أنه من القادة الذين لا يستطيعون البقاء وقد فقد عناصره ورفاقه. وإذا انتهت الحرب في يوم من الأيام سيؤذيه موت كل واحدٍ منهم. مع أن تلك العمليات كانت محدودة فكيف الحال في عمليات واسعة كعمليات بيت المقدس، كان يشعر بالمسؤولية تجاه كل شهيد من الشهداء وتجاه أي خطأ في قرار قياديّ. كنت أشعر بالألم الذي يعانيه ومنذ ذلك الحين صارت رغبته بالشهادة أكثر جدية».

لاحظ أصدقاء حسن أيضًا في أيامه الأخيرة شوقه للشهادة واستعداده لها:

«قبل أيام من شهادته، جاء مع زوجته إلى مركز الحرس في سوسنكرد. كان حسن باقري يحتضن ابنته الصغيرة يناغيها ويقول لها حبيبتي. أخذها منه صديقه علي هاشمي، احتضنها وقرصها على خديها وهو يناغيها. فبدأت بالبكاء. فقال حسن: علي ماذا فعلت بابنتي حتى بكت؟ قال علي: «يا سيد باقري وكأن ابنتك لا تحب الخوزستانيين، فهي تبكي كلما ناغيتها. فأخذها

 

367


346

لقاء في فكة

حسن منه وقال له: «كلا، لا بدّ أنك قرصتها». في بداية الأمر أنكر علي أن يكون قد «قرصها» لكنه لم يستطع تمالك نفسه من الضحك. أخذ حسن ابنته من يد علي وقال لها ضاحكًا: ها يا ابنتي هل أخافك شكل علي هاشمي؟[1]

ضحكنا جميعًا. عند الظهيرة، ذهبنا لنتوضأ. قال لنا حسن وهو يرفع أكمامه وينظر إلى السماء: يا سيد ناصري، ما دامت الحرب مستمرة علينا أن نذهب نحو الله بأيدٍ ملأى. فنحن لا نعلم ماذا ستكون عاقبتنا بعدها؛ وخير العاقبة الشهادة.

كان عندما يلتقي بأصدقائه، يسألهم الدعاء له. قد يكرر البعض هذا الكلام جريًا على العادة، لكن عبارة «نسألكم الدعاء» التي ينطقها حسن، تختلف عن غيرها. كان يقول: يا سيد علي، أسألك الدعاء، وإذا استشهدتَ قبلي فاشفع لي.

نظرتُ إلى وجهه؛ لم يبد ُكطلعته سابقًا. كان هذا لقائي الأخير مع حسن باقري. عندما غادر قلت لعلي هاشمي: أنا قلق عليه. سألني: لماذا؟ قلت: لأن حسن، ليس كالسابق. يبدو من وجهه أنه راحل عمّا قريب!.

لم يكن علي هاشمي يعطي أهمية لمثل هذا الكلام، فقال: الله المستعان. في ذلك اليوم كنت مع علي في مقر حرس سوسنكرد، فتحنا المذياع، كان وقت نشرة الساعة الثانية. حينها أعلنوا خبر شهادة أحبائنا حسن باقري ومجيد بقائي و..»[2].

 

 


[1]- استشهد علي هاشمي في جزر مجنون وهو من مفقودي الأثر؛ ورد حديث عنه في كتاب «فرقة الاخيار» سادة القافلة 11.

[2]- القائد علي ناصري.

 

368


347

لقاء في فكة

كان شقيقه محمد يتوقع هذا الأمر دومًا. في السنتين ونصف السنة الأخيرة من عمر غلامحسين، كان يشتاق إليه أيضًا. لأنه لم يكن يُظهر مشاعره أو قرابته العائلية به أثناء العمل:

«ما انفكت هذه الأحداث تحصل حولنا، لكنني لم أشعر أنها ستحصل لأخي أبدًا. لم أصدّق الأمر في البداية. لقد صُدمت وذُهلت. في الحقيقة كنت في هذه المدة أشتاق إليه كثيرًا. كنت أذهب إليه مع أربعة أو خمسة أشخاص. كان يقبّل الجميع ويصافحهم بحرارة، وعندما يحين دوري يكتفي بمصافحتي، لم يكن يُظهر اهتمامًا بالغًا بي. فيشق ذلك عليّ. وفي بعض الأوقات كنتُ أعرّف عن نفسي كي أحرجه قليلًا فأقول أنا فلان... هل تعرفني؟ كان حريصًا على عزل العواطف ومشاعر الأخوة الرحمية والصداقة أو الجيرة عن العمل. لذلك لم يكن يسمح لي بالبقاء قربه أو العمل معه. لقد صادف وقبّلته مرة أو مرتين، كان الأمر رائعا بالنسبة إليّ».

حين سمع القادة الخبر، توجهوا بالطائرة إلى مطار دزفول لتشييع الشهيد باقري هناك قبل نقله إلى طهران؛ أقاموا له في مطار دزفول مجلس عزاء كبير. كما أقيمت له في طهران مراسم تشييع مهيبة. بعد ذلك، عاد محسن رضائي وبقية القادة إلى المقر:

 «كان محسن رضائي منزعجًا وحزينًا جدًا حتى أنه امتنع عن تناول الطعام ثلاثة أيام. كانت أعصابه متعبة جدًا. حاول القادة الكلام معه لكنهم لم يفلحوا في التخفيف من حزنه. في اليوم السابع، أقاموا له مجلس فاتحة في المقر. وقف السيد صياد شيرازي خلف المنبر وقال: أيها السادة، وكأنها المرة الأولى التي

 

 

369


348

لقاء في فكة

نقدّم فيها شهداء. لقد قدمنا كل هؤلاء الشهداء، لقد أثرت شهادة الأخ باقري علينا وكأن الدنيا قد انتهت.

بعده، تحدث السيد رضائي في الجمع وقال: نعم لقد اثرت شهادة الأخ باقري على معنوياتي كثيرًا، قلقي على مستقبل العمليات».[1]

جميع قادة الحرب، يذكرون التاسع من بهمن (29 كانون الثاني) على أنه من أكثر الأيام مرارة في حياتهم؛ وما قاله قاسم سليماني حول شهادة حسن باقري، هو الكلام المشترك للقادة كافة:

«لم نشهد يومًا ناء بثقله على الشباب في الجبهة كيوم شهادة حسن باقري، كانت شهادته خسارة للجبهات لم تعوّض. كان قادة الحرب شديدي الحزن على فراق حسن. برأيي كان حسن «بهشتي الحرب»؛ كان دوره في الجبهة كدور الشهيد بهشتي في الثورة ومع الإمام{. كان تقدير قادة الجبهة أنه لو بقي حسن على قيد الحياة لكان له الأثر البالغ على مستقبل الحرب. بعد شهادة حسن، نسينا عمليّات رمضان والفجر التمهيدية وقضايا أخرى. كان الحزن على حسن شديدًا لا يضاهيه شيء. كانت شهادة حسن باقري خسارة كبيرة للحرب لا تعوّض»[2].

 

 


[1]- غدير علي قاسمي؛ سائق الشهيد.

[2]- اللواء قاسم سليماني.

 

370


349
لقاء في فكة