مختصر تاريخ النهضة الحسينيّة

مختصر تاريخ النهضة الحسينيّة


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا"[1].

 

التاريخ مرآة الأمم، يصوّر ماضيَها، ويترجم حاضرَها، وتستلهم من خلاله مستقبلَها, لذا فإنّ دراسته على جانب كبير من الأهمّيّة، بحيث يكون نبراسًا للأجيال في حاضرها ومستقبلها.

 

وحركة الإمام الحسين عليه السلام نهضة فارقة في تاريخ الإنسانيّة، ومحطّة من محطّات الصراع بين الحقّ والباطل، هي حركة متّصلة اتّصالًا وثيقًا بأشرف الرسالات السماويّة على الإطلاق، رسالة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بما تمثّله من معارف وشرائع وأحكام ومفاهيم... وعليه، فإنّه ليس في وسع أيّ كاتب أو باحث أن يغضّ الطرف عنها أو أن يتجاوزها, لذلك انكبّ الباحثون على سيرته عليه السلام دراسة وتحليلًا وبحثًا وتحقيقًا وعرضًا وتأليفًا، منذ يوم شهادته وحتّى يومنا هذا...

 

وقد قام مركز المعارف للتأليف والتحقيق بإعداد هذا المتن العلميّ كملخّص لكتاب "تاريخ النهضة الحسينيّة" الصادر عن معهد سيّد الشهداء عليه السلام، ليكون سبيلًا سهلًا وملخّصًا للقرّاء والباحثين في تاريخ نهضة سيّد الشهداء عليه السلام لينهلوا منها الدروس والعبر والمواقف.


 


[1] جعفر بن قولويه، كامل الزيارات، ص116.

 

9


1

المقدّمة

ولا يحصي هذا الملخّص كلّ ما جرى في عاشوراء بيانًا وتحليلًا, فإنّ كربلاء وسيرتها أعلى شأنًا وأرفع مقامًا من أن يشرحَها قلم كاتب، أو يخطَّ حروفها بنان رسّام، ولكنّها إطلالة عامّة ورشحات من ذاك المعين الذي لا ينضب. فقد عرضنا سيرة الإمام الحسين عليه السلام بالقدر الذي تسمح به الغاية من تأليفه، بدءًا بإرهاصات النهضة الحسينيّة، وأسبابها التي سبقتها وصولاً إلى أحداث عاشوراء وما جرى فيها. سائلين المولى أن يجعله كتابًا نافعًا لكلّ طالب علم في تحصيل صورة عن تاريخ تلك النهضة المقدّسة، إنّه نعم المولى ونعم النصير.

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

10

 


2

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

معاوية يؤسّس الدولة الأمويّة

 

بعد استشهاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، نُودِيَ بمعاوية خليفةً في بيت المقدس، سنة 40 هجريّة - 661 ميلاديّة[1]. وبسيطرته على الخلافة، أصبحَت دمشق عاصمة الدولة الإسلاميّة، التي لم تكن، آنذاك، تضمّ من العالَم الإسلاميّ كلّه، غيرَ بلاد الشام سوى مصر، التي كان عمرو بن العاص قد انتزعها بعد التحكيم, فإنّ أهل العراق بايعوا الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام خليفةً شرعيًا، ولم يكن ولاء مكّة والمدينة لآل أبي سفيان قويًّا، فقد دخل هؤلاء الإسلام مقهورين بالفتح، بعد سقوط مكّة، فكان إسلامهم عن مصلحة، لا عن إيمان.

 

وكانت ولاية الإمام الحسن عليه السلام سبعة أشهر وسبعة أيّام، فقد صالح معاوية في ربيع الآخر أو جمادي الأول سنة إحدى وأربعين[2]، فاستولى معاوية على الحكم في ظلّ ظروف غير طبيعيّة, إذ لم يتمّ ذلك عبر الانتخاب أو الجماعة، ولم تستند حكومة معاوية إلى رضى الأمّة أو مشورتها، وإنّما فُرِضَت عليها بقوّة السلاح، وفي أعقاب حرب دامية. وقد اعترف معاوية بذلك: والله، ما وليتها بمحبّةٍ علمتُها منكم، ولا مسرَّة بولايتي، ولكن جالدتُكم بسيفي هذا مجالدة[3].

 

وألقى في النخيلة، بعد الصلح، بمجرّد وصوله إلى العراق، خطابًا أعلن فيه عن جبروته وطغيانه على الأمّة واستهانته بحقوقها، وأنَّه إنّما قاتل المسلمين وسفك دماءهم ليتأمَّر عليهم، وأنّ جميع ما أعطاه للإمام الحسن عليه السلام مِن شروطٍ فهي تحت قدمَيه، لا يفي بشيء منها، فقال: والله، إنّي ما قاتلتُكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص4.

[2] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص406.

[3] السيوطيّ، تاريخ الخلفاء، ص71.

 

13


3

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

لتحجّوا، ولا لتزكّوا, إنّكم لتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتُكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون[1].

 

وهكذا، فقدَت الدولة، مع معاوية، الكثير من ملامحها الدينيّة السابقة.

 

وبعد أن أصبحَت دمشق عاصمة الدولة، تراجع الدور الرسميّ للكوفة، آخر عاصمة لدولة الخلافة قبل الدولة الأمويّة، إلى الوراء، مع بقاء دور سياسيّ واستقطابيّ لها في مواجهة النظام الأمويّ.

 

أمّا المدينة، عاصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأُولى، وعاصمة الخلفاء من بعده، فقد أصبحَت من الماضي، وأخذَت تنطفئ وتصبح مثل مكّة، مدينة دينيّة، حيث قبر النبيّ والصحابة. وأمّا أولادهم، ممّن لم يَعُد له حظٌّ في قيادة الدولة الإسلاميّة، فقد عاشوا حصارًا وعزلة سياسيّة, إمّا لأنّ معاوية اشترى سكوت بعضهم بالمال، كعبد الله بن عمر، وإمّا لأنّ سياسة معاوية ونظامه الأمنيّ فرضَا طوقًا أمنيًّا إرهابيًّا على بعضٍ آخر، كالإمامَين الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن الزبير، فاحتوى معارضتَهم بالقوّة والتخويف.

 

لقد نجح معاوية في تأسيس الدولة الأمويّة، معتمدًا على مجموعة سياسات، كاستقطاب الأنصار والحلفاء، وإضعاف الخصوم، والإيقاع فيما بينهم. وكان يستخدم من أجل ذلك مختلفَ الوسائل غير المشروعة, ما أسهم في ولادة أسلوب جديد لم يكن الإنسان العربيّ يألفه في العهود السابقة.

 

لقد قام معاوية بانقلاب تنظيميٍّ سياسيٍّ على دولة الخلافة، وحوَّلها إلى مُلك[2]. ولم يقف هذا الانقلاب عند المضمون العائليّ الوراثيّ الشخصانيّ للدولة، فقد تقصَّى معاوية أخبار ملوك البيزنطيّين[3] وأحوالهم، واقتبس الكثير من مظاهر نظامهم، متأثّرًا إلى حدٍّ بعيد بالتاريخ الحضاريّ البيزنطيّ لبلاد الشام[4]، فقد وجد معاوية في


 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص16.

[2] السيوطيّ، تاريخ الخلفاء، ص199.

[3] الحصنيّ، منتخبات التواريخ لدمشق، ص81.

[4] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج2، ص147.

 

14


4

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

الشام، حين دخلها مع الجيوش العربيّة الفاتحة، حضارةً بيزنطيّة متمرّسة في الحكم والإدارة، لم تألفها روح البداوة قبل ذلك، كما وجد جهازًا إداريًّا من الموظّفين، الذين كانوا يعملون في ظلّ الإدارة البيزنطيّة، في الميدانَين الإداريّ والماليّ، ممّا ساعده على حكم بلاد الشام، وذلّل أمامه الكثير من المشاكل.

 

بل كان لنصارى الشام دورٌ مميّز وصل إلى قمّة السلطة، فكانت زوجة معاوية نصرانيّةً على مذهب اليَعاقِبة، وهي عربيّة سوريّة من بني بجدل من قبيلة كلب، القبيلة نفسها التي تنتمي إليها نائلة زوجة عثمان. وقد لعب أخوال يزيد بن معاوية دورًا كبيرًا في تكوين شخصيّته الدينيّة والسياسيّة. كذلك كان منصور بن سرجون، الذي ساهم في تسليم دمشق للعرب، نصرانيًّا من أسرة سوريّة، كان يتولّى بعض رجالها شؤون بيت المال أيّام البيزنطيّين[1]. وكان طبيب معاوية أيضًا نصرانيًّا، وهو ابن أثال، الذي ولَّاه معاوية على جباية خراج حمص[2]، وهي وظيفة عليا لم يسبق لنصرانيّ قبله أن وصل إليها في تاريخ الإسلام[3].

 

تحويل مظاهر الخلافة إلى مظاهر كسرويّة وقيصريّة

كان معاوية ميّالًا بطبعه إلى انتحال الملك، وهو بعدُ ما يزال واليًا على الشام، حين وصفَه الخليفة عمر بن الخطّاب، بأنّه كِسرى العرب[4]، ثمّ جعل الخلافة ملكًا[5]، فكان أوّل ملك في الإسلام، فقد كرّس الانفصال، ولأوّل مرّة في حياة الدولة الإسلاميّة، بين المسجد والحاكم، ولم يعد للمسجد هذا الدور الفعّال في الحياة السياسيّة العامّة، فقد أقام حاجزًا في المسجد بينه وبين عامّة الناس، وأحدَثَ المقصورةَ[6] في الجامع، وجعلها مقامًا للصلاة خاصًّا به، تفصله عن بقيّة المصلّين،


 


[1] لقد أصبحَت ولاية المال في الإسلام أهمَّ الوظائف بعد قيادة الجيش.

[2] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج5، ص80.

[3] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص265.

[4] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج1، ص147.

[5] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص257.

[6] المصدر نفسه، ص265.

 

15


5

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

وهو أوّل من خطب قاعدًا[1]، وأوّل من اتّخذ سرير الملك[2].

 

وكانت إقامته كلّها في قصره الخضراء[3]، الذي تميَّز بكلّ مظاهر الملوك[4]، من العرش، إلى الحرس، إلى الحجّاب، وغير ذلك من المظاهر التي انفرد بها معاوية، دون أسلافه من خلفاء الدولة الإسلاميّة[5].

 

الجيش الأمويّ

كانت نقطة الضعف الرئيسة في دولة معاوية في أنّها قامَت على القهر والغلبة وسفك الدماء، والدولة التي تقوم على القهر والغلبة وسفك الدماء، تحتاج إلى ذلك من أجل أن تستمرّ، وإلّا فسوف تكون عرضة للانهيار السريع, ولذلك كان الحاكم الأمويّ دائمًا نزّاعًا إلى سفك الدماء والقتل والإرهاب، معتقدًا أنّه لو تراخى في ذلك، فسوف يسقط، ويقوم أعداؤه بتصفية حسابهم معه بالطريقة نفسها. فإذا بالدولة الأمويّة دولة عسكريّة أمنيّة، منذ ولادتها التي تمَّت بالقوّة، مرورًا بنهجها القمعيّ الدمويّ في التعامل مع خصومها، وانتهاءً بسقوطها الذي تمَّ على أيدي العبّاسيّين، وبالقوّة أيضًا، وبأسلوب أكثر قسوة ودمويّة من الأساليب الأمويّة نفسها.

 

وقد تحمّلَت قبائل الشام وسوادها الأعظم، يومئذٍ، نصارى من العرب السوريّين، وأكثرها يمنيّة، وعلى الرغم من تناقضاتها القبليّة، وزر هذا الدور الدمويّ والإرهابيّ، وأصبحَت هي المادّة الحربيّة التي درّبها معاوية، وألّف منها القوّات الضاربة، التي سُمِّيَت الجيش الأمويّ، الذي أصبح عصب الحياة السياسيّة والعسكريّة في الدولة الأمويّة، وأقوى جيش منظّم عرفه العرب، وكان الأداة الفاعلة التي اعتمد عليها معاوية وكبار الخلفاء الأمويّين في السيطرة، وضبط الأمن، وتثبيت نظامهم، وتوطيد عروشهم، وتوسيع حركة الفتوحات، وضرب الحركات المعارضة المعادية


 


[1] ابن العبريّ، تاريخ المختصر الدول، ص188.

[2] ابن خلدون، المقدّمة، ص217.

[3] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج1، ص147.

[4] ابن حمدون الأندلسيّ، التذكرة الحمدونيّة، ص139- 198.

[5] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج8، ص223.

 

16


6

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

بمنتهى القسوة والدمويّة، كما فعل عبيد الله بن زياد في العراق، ومسلم بن عقبة في المدينة، والحجّاج بن يوسف في مكّة.

 

وكان لا بدّ للحاكم الأمويّ أن يفلّت هذا الجيش، الذي كان أداة طيّعة في قبضة الدولة، ولعب دورًا كبيرًا في الدفاع عن الحكم الأمويّ، ويعطيه امتيازات خاصّة[1]، فتحوَّلَت عمليّاته وحروبه إلى وسيلة للنهب والسلب، وإرواء رغبات القادة والجنود المتعطِّشين للمال وللسيطرة. وقد ساعد ذلك، من جهة أخرى، على امتصاص نقمة القبائل والقادة والجنود الذين يشتمّ منهم رائحة معارضة للنظام، فيتمّ إرسالهم في البعوث والغزوات، ومن ثمّ إبعادهم عن التدخُّل في شؤون الحكم[2].

 

السياسة الداخليّة للدولة الأمويّة

كان المبدأ السياسيّ الذي قام عليه النظام الأمويّ، وهو حكم العائلة، مادّةَ السياسة الداخليّة للدولة، فأصبحت الأسرة الأمويّة صاحبة النفوذ الأكبر مطلقًا, ماليًّا، وسياسيًّا، وإداريًّا، واجتماعيًّا، بل ودينيًّا، فكان أحد أمراء بني أميّة، على الرغم من فسقه وفجوره، يتولّى كلَّ عامٍ إمارة الحجّ!

 

كذلك، كان لقبائل الشام امتيازات أخرى، وإنْ كانت أقلّ مرتبة، لكنّ معاوية كان حريصًا على المحافظة على قاعدة التوازن معها، واستيعاب تناقضاتها المتوارثة، فنجده يتحالف مع القبائل اليمنيّة، ويصاهر أقوى قبائلهم، كلب، ويعيّن في الوقت نفسه الضحّاك بن قيس الفهريّ - وهو من قريش الظواهر، وهي من القبائل القيسيّة - في منصب مهمّ وخطير، وهو ولاية دمشق[3]، كذلك نجده يتجنّب، إلى حدٍّ بعيد، الاستعانة بأهل الحجاز في مشروعه العسكريّ.

 

وهكذا، كانت قبائل الشام تعمل كلّها في خدمة العائلة الأمويّة، بل وتتسابق في السعي إلى احتلال الوظائف في خدمة الأمويّين.

 

 


[1] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص86.

[2] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص149.

[3] ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص35.

 

17


7

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

أوّلًا: السياسة الماليّة

لم يكن لسياسة معاوية الماليّة، أيّة علاقة بالسنَّة النبويّة، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعًا لرغباته وأهوائه، فهو يهب الثراء العريض للقوى المؤيّدة له، ويحرم العطاء للمعارِضين، ويستولي على الأموال ويفرض الضرائب بغير وجه حقٍّ من كتاب أو سنَّة أو عرف.

 

وفوق ذلك، قام معاوية بإشاعة الحرمان في الأقطار التي كانت تضمّ القوى المعارضة له، فقد أجبر أهل يثرب على بيع أملاكهم، واشتراها بأبخس الأثمان، وعندما أرسل القيّم على أملاكه لتحصيل وارداتها، منعوه عنها، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد، وقالوا له: إنّ هذه الأموال كلّها لنا، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا درهمًا فما فوقه، حتّى مضّنا الزمان، ونالتنا المجاعة، فاشتراها بجزء من مئة من ثمنه، فردّ عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمرِّه.

 

ووفد على معاوية الصحابيُّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاريّ، فلم يأذن له، تحقيرًا وتوهينًا به، فانصرف عنه، فوجَّهَ له معاوية بستّمئة درهم، فردَّها جابر، وقال لرسول معاوية: قل له: والله، يابن آكلة الأكباد، لا تجد في صحيفتك حسنةً أنا سببها أبدًا.

 

وانتشر الفقر في بيوت الأنصار، وخيَّم عليهم البؤس، حتّى لم يتمكّن الرجل منهم من شراء راحلة يستعين بها على شؤونه. ولمّا حجَّ معاوية واجتاز على يثرب، استقبله الناس، ومنهم الأنصار، وكان أكثرهم مشاةً، فقال لهم: ما منعكم من تلقِّيَّ كما يتلقّاني الناس؟، فقال له سعيد بن عبادة: منعَنا من ذلك قلّة الظهر، وخفّة ذات اليد، وإلحاح الزمان علينا، وإيثارك بمعروفك غيرنا، فقال معاوية: أين أنتم عن نواضح المدينة؟ فأجابه سعيد قائلًا: نحرناها يوم بدر، يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان.

 

وأمّا في العراق، وهو المركز الرئيس للمعارضة، فكان ولاته، كالمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وسمرة بن جندب، يحبسون العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة، وعن

 

18

 


8

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

كلّ من له هوى في أهل البيت عليهم السلام، وقد سنَّ معاوية بذلك سُنَّةً سار عليها الحكّام الأمويّون من بعده، في اضطهاد العراق وحرمان أهله[1]، وحتّى عمر بن عبد العزيز، الذي يعدّونه أعدَلَهم، فإنّه لم يساوِ بين العراقيّين والشاميّين في العطاء، بل زاد في عطاء الشاميّين عشرة دنانير، ولم يزد في عطاء أهل العراق.

 

1. تمييز أهل الشام

وبينما كانت البلاد الإسلاميّة تعاني الجهد والحرمان، كانت الشام في رخاء شام، بل حمل أهلها على رقاب الناس، فكان الشاميّ هو الأَوْلى دائمًا، وهو المخدوم، وهو السيِّد، وله الامتيازات الماليّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وقد ألمح إلى ذلك مالك بن هبيرة في حديثه مع الحصين بن نمير، إذ قال له: هلمّ، فلنبايع لهذا الغلام, أي خالد بن يزيد، الذي نحن ولدنا أباه، وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا من أبيه، فإنّه كان يحملنا على رقاب العرب.

 

2. توزيع المال بناءً على التحزُّب السياسيّ

واستخدم معاوية الخزينة المركزيّة لتدعيم ملكه وسلطانه، فمنح الأموال الهائلة لأسرته، ووهبهم الثراء العريض، وأغدق الأموال على المؤيِّدين له والمنحرِفين عن أمير المؤمنين عليه السلام، فوهب خراج مصر لابن العاص، وجعله طعمةً له ما دام حيًّا. ومن ذلك، أنّه قدم عليه يزيد بن منبه من البصرة، يشكو له دَينًا قد لزمه، فقال معاوية لخازن بيت المال: أعطِه ثلاثين ألفًا، ولمّا ولَّى، قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفًا أخرى.

 

3. شراء الذمم والدين [2]

وقد وفد عليه جماعة من أشراف العرب، فأعطى كلَّ واحد منهم مئة ألف، وأعطى الحتَات عمّ الفرزدق سبعين ألفًا، فلمّا علم الحتَات بذلك، رجع مغضبًا إلى معاوية، فقال له: فضحتني في بني تميم! أَمَّا حَسَبي فصحيح، أولستُ ذا سنّ؟ ألستُ مطاعًا في عشيرتي؟ فقال معاوية: بلى، فقال: فما بالك خستَ بي دون القوم،


 


[1] ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، ج4، ص259.

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص293.

 

 

19


9

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

وأعطيتَ مَن كان عليك أكثر ممّن كان لك؟ فقال معاوية، بلا حياء ولا خجل: إنّي اشتريتُ من القوم دينَهم، ووكلتُك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفّان، فقال الحتَات: وأنا اشترِ منّي ديني، فأمر له بإتمام الجائزة[1].

 

واضطرّ معاوية، بعد إسرافه وتبذيره، إلى مصادرة الأموال, ليسدّ العجز الماليّ الذي مُنِيَت به خزينة الدولة، ففرض على المسلمين ضريبةَ النيروز، ليسدّ بها نفقاته، وأصبحت الولاية في عهده مصدرًا من مصادر النهب والسرقة، وللثراء وجمع الأموال.

 

4. السياسة الضرائبيّة العشوائيّة

أمّا جباية الخَراج، فكانت خاضعةً لرغبات الجباة وأهوائهم، وقد سأل صاحب إخنا عمرو بن العاص عن مقدار ما عليه من الجزية، فنهرَه ابن العاص، وقال له: لو أعطيتَني من الأرض إلى السقف، ما أخبرتُك ما عليك، إنّما أنتم خزانة لنا, إنْ كُثِّرَ علينا، كَثَّرْنا عليكم، وإنْ خُفِّف عنّا، خفَّفْنا عنكم.

 

وأوعز معاوية إلى زياد بن أبيه أن يصطفّي له الذهب والفضة، فقام زياد، مع عمّاله، بإجبار الناس على مصادرة ما عندهم من ذلك، وإرساله إلى دمشق.

 

ثانيًا: إثارة عناصر التفرقة والعصبيّات القبليّة

عمل معاوية على تمزيق أواصر الأمّة الإسلاميّة، بإثارة الروح القوميّة والقبليّة والإقليميّة، إمعانًا في إلهاء الأمّة في تناقضات جانبيّة، على حساب تناقضها الأساسيّ مع الحكم الأمويّ الجائر، وذلك في ممارسة إثارة الضغائن بين القبائل العربيّة، وإشغالها بالصراعات الجانبيّة فيما بينها، كالصراع الذي نشب بين قيس ومضر، وأهل اليمن والمدينة، وبين قبائل العراق فيما بينها، وإثارة العنصريّة عند العرب ضدّ المسلمين من غير العرب، الذين يُعرَفون تاريخيًّا باسم الموالي، الذين أراد أن يقتل شطرًا منهم، لو لم ينهَهُ الأحنف بن قيس[2]، كما عمد معاوية إلى إثارة الأحقاد القديمة ما بين الأوس والخزرج، محاولًا بذلك التقليل من أهمّيّتهم وإسقاط

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص242.

[2] ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، ج2، ص260.

 

20


10

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

مكانتهم. وبمقدور المرء أن يجد آثار تلك السياسة الجاهليّة جليًّا في أشعار مسكين الدارميّ والفرزدق وجرير والأخطل وسواهم.

 

ثالثًا: الخداع والمخاتلة

وأقام معاوية دولته على المخاتلة والخداع، فلما دسّ السمّ إلى مالك الأشتر، أقبل على أهل الشام، فقال لهم: إنّ عليًّا وجَّهَ الأشتر إلى مصر، فادعوا اللهَ أنْ يكفيكُموه.

 

فكان أهلُ الشام يدعون عليه في كلّ صلاة، ولَمّا أُخبِرَ بموته، أنبأ أهلَ الشام بأنّ موتَه نتج عن دعائهم, لأنّهم حزب الله، ثمّ همس في أذن ابن العاص، قائلًا له: إِنَّ للهِ جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ.

 

رابعًا: الاستخفاف بالقيم والأحكام الإسلاميّة

عُرِفَ معاوية بالخلاعة والمجون. يقول ابن أبي الحديد: كان معاوية، أيّام عثمان، شديدَ التهتُّك، موسومًا بكلّ قبيح. وكان، في أيّام عُمَر، يستُرُ نفسَه قليلًا، خوفًا منه.

 

ونقل الناس عنه في كتب السيرة، أنّه كان يشرب الخمر[1]. واستخفّ بكافّة القيم الدينيّة، ولم يُعْنَ بجميع ما جاء به الإسلام من الأحكام، فاستعمل أواني الذهب والفضّة، وأباح الربا[2]، وتطيَّب في الإحرام، وعطَّل الحدود، واستلحق زياد بن أبيه، وقد خالف بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ".

 

خامسًا: تأسيس مدرسة الكذب في الحديث

أوعز معاوية إلى بعض الوضّاعين من الصحابة، أن يفتعلوا الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في إلزام الأمّة بالخضوع للظلم، والخنوع للجور، والتسليم لِما يقترفه سلطانُها من الجور والاستبداد. وهذه بعض الأحاديث:

1. روى البخاريّ بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال لأصحابه: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا". قالوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَاسْأَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ".


 


[1] ابن حنبل، مسند، ج5، ص347.

[2] النسائيّ، سنن النسائيّ، ج7، ص279.

 

21


11

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

2. روى البخاريّ بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً".

 

سادسًا: الحطّ من قيمة أهل البيت عليهم السلام

وقد استخدم الكتاتيب لتغذية الأطفال ببُغضهم، ثمّ استخدم لذلك الوعّاظ الذين سخَّرَهم واستأجرهم لكي يحوّلوا القلوب عن أهل البيت عليهم السلام، ويذيعوا الأضاليل في انتقاصهم، تدعيمًا للحكم الأمويّ، فقام هؤلاء بافتعالِ الأخبار ووضعِ الأحاديث على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، للحطّ من قيمة أهل البيت عليهم السلام. وأبرز هؤلاء: أبو هريرة الدوسيّ، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقد افتعلوا آلاف الأحاديث على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت عدّةَ طوائف مختلفة، حسب التخطيط السياسيّ للدولة، وهي:

الطائفة الأولى: وضع الأخبار في فضل الصحابة, لجعلهم قبال أهل البيت.

الطائفة الثانية: وضع الأخبار في ذَمّ العترة الطاهرة، والحطّ من شأنها.

الطائفة الثالثة: افتعال الأخبار في فضل معاوية.

 

سابعًا: سَبّ الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام

وتمادى معاوية في التطاول على الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فأعلن سبَّه في نواديه العامّة والخاصّة، وأوعز إلى جميع عمّاله وولاته أن يذيعوا سبَّه بين الناس. وسرى سَبُّ الإمام في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، وقد خطب معاوية في أهل الشام، فقال لهم: أيّها الناسُ، إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ لي: إنَّكَ سَتَلِي الخلافةَ مِن بَعدي، فاختَر الأرضَ المقدَّسَةَ - يعني الشام - فإنَّ فيها الأبدال، وقد اخترتُكُم، فَالْعَنُوا أبا ترابٍ[1]، فعجّ أهل الشام بسَبِّ الإمام.

 

ويقول المؤرِّخون: إنّه كان إذا خطب، ختم خطابَه بقوله: اللهمّ، إنَّ أبا ترابٍ ألحَدَ في دِينِك، وصَدَّ عن سبيلِك، فالْعَنْهُ لَعْنًا وَبِيلًا، وَعَذِّبْهُ عَذابًا أليمًا.

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج3، ص361.

 

22


12

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

ثامنًا: القتل والإرهاب وتصفية المعارِضين

استعمل معاوية دولتَه المركزيّة وجيشَه القويّ في التنكيل والقتل وزرع الرعب في قلوب الناس، فكانت هذه المرحلة مرحلة انقلابٍ أساسيٍّ في حياة الناس وحرّيّتهم، فقد كانوا في زمن الخلفاء أحرارًا يستطيعون المعارضة وإسقاط الخليفة، بل قتله، أمّا الآن، فلم يكن أمام الناس إلّا الخضوع، مذهولين، للدولة الإرهابيّة الجديدة.

 

فممّا أوصى به معاوية أحد قادة جيوشه: ... فاقتُل مَن لقيتَه ممّن ليس هو على مثل رأيك، واخرب كلَّ ما مرَرتَ به من القرى، واخرب الأموال، فإنّ خربَ الأموال شبيهٌ بالقتل، وهو أوجعُ للقلب[1].

 

وقد قتل بسر بن أبي أرطأة ثلاثين ألفًا، عدا مَن أحرقَهم بالنار، وقتل سمرة بن جندب ثمانيةَ آلاف من أهل البصرة.

 

وأسرف معاوية، إلى حدٍّ كبير، في سفك دماء الشيعة، فقد عهد إلى الجلّادين من قادة جيشه بتَتَبُّع الشيعة وقتلهم حيثما كانوا، وكتب إلى ولاته في جميع الأمصار: انظروا مَن قامَت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليًّا وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقِطوا عطاءه ورزقه[2]، وكتب كتابًا آخر جاء فيه: مَن اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكِّلوا به واهدموا دارَه[3]، فارتكب زياد بن أبيه أفظع المجازر، فقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وأنزل بالشيعة من صنوف العذاب ما لا يُوصَف, لمرارته وقسوته.

 

وعمد معاوية نفسه إلى إبادة رموز الشيعة، كحِجر بن عدي، ورشيد الهجريّ، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ، وأوفى بن حصن، وعبد الله الحضرميّ، وجويرية العبديّ، وصيفي بن فسيل.

 

كذلك أوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشيعة، فقاموا بنقضها، وتركوا شيعة آل البيت عليهم السلام بلا مأوى يأوون إليه، وبادر عمّاله في الفحص في سجلّاتهم،


 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص86.

[2] المصدر نفسه، ج11، ص45.

[3] المصدر نفسه.

 

23


13

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

فمَن وجدوه محبًّا لآل البيت عليهم السلام، محوا اسمه وأسقطوا عطاءه. وعمد معاوية إلى إسقاط الشيعة اجتماعيًّا، فعهد إلى جميع عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره.

 

وأراد زياد بن أبيه تصفية الشيعة من الكوفة، وكسر شوكتهم، فأجلى خمسين ألفًا منهم إلى خراسان، وهي المقاطعة الشرقيّة في فارس، وقد دقَّ زياد بذلك أوّل مسمار في نعش الحكم الأمويّ، فقد أخذ أولئك، الذين أُبعِدوا إلى فارس، يعملون على نشر التشيُّع في تلك البلاد، حتّى تحوَّلَت إلى مركز للمعارضة ضدّ الحكم الأمويّ، وهي التي أطاحت به تحت قيادة أبي مسلم الخراسانيّ.

 

تاسعًا: تعيين يزيد خليفة على المسلمين

ابتدأت قصّة يزيد مع الخلافة قبل شهادة الإمام الحسن عليه السلام، ولكنّ معاوية لم يستطع الاستمرار فيها بسبب بعض المعارضة، فآثر تأجيلها. وبعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام[1]، ختم معاوية حياته بأكبر إثم في الإسلام، فقد أقدم، غير متحرِّج، على فرض يزيد خليفةً على المسلمين.

 

فقد بلغ المغيرة بن شعبة أنّ معاوية يريد عزلَه عن ولاية الكوفة، وتعيين سعيد بن العاص مكانه، فتقرّب إليه باقتراح خلافة يزيد، وتعهَّد له بأن يذلّل له الصعاب في الكوفة، فأرجعه إلى عمله. وكانت هذه الحادثة فتح عهد يزيد بالخلافة، فقد أوفد إليه المغيرة وفدًا من الكوفة لمبايعة يزيد، فابتدأت بذلك هذه المحنة[2].

 

وقوي عزم معاوية على الاستمرار، فطلب من زياد بن أبيه المشورة، ولكنّه نصحه بالتريُّث، فانتظر حتّى مات زياد[3]، فكتب ببيعته إلى الآفاق[4]، ثمّ حاول أن يفرض هذه البيعة على الإمام الحسين عليه السلام بالقوّة والعنف تارةً[5]، وبالحيلة


 


[1] ابن عبد البرّ، الاستيعاب، ج1، ص391.

[2] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص503-504.

[3] المصدر نفسه، ص506.

[4] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص176-177.

[5] المصدر نفسه، ص182-183.

 

24


14

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

والخداع تارةً أخرى[1]. وقد كان الإمام عليه السلام يتصدّى لكلّ هذه المحاولات لمعاوية، ويكشف زيفَها وحقيقةَ يزيد وعدمَ أهليّته[2].

 

شخصيّة الخليفة الجديد: يزيد بن معاوية

وُلِد سنة 25 أو 26 هجريّة ولادة ملتبسة[3]، ونشأ في البادية، متربّيًا في أحضان أخواله من بني كلب ممّن كان نصرانيًّا قبل فتح بلاد الشام، فتأثّر بهم في سلوكه وأفكاره، فإذا به ماجن يشرب الخمر، ويدمن عليه حتّى يترك الصلاة[4]، ولع بالصيد[5]، شغف بالقرود[6]، ملحد في دين الله[7]، يستقري الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السُّبَّق لأترابهنَّ، والقينات ذات المعازف وضروب الملاهي[8]، أو كما نقل ابن كثير: اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغناء والصيد واتّخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلّا ويصبح فيه مخمورًا[9]. وما عن أنساب الأشراف، كان يزيد بن معاوية أوّل من أظهر الشراب، والاستهتار بالغناء، والصيد، واتّخاذ القيان والغلمان، والمتفكِّه بما يضحك منه المترفون من القرود، والمعاقرة بالكلاب والديكة.

 

ومع ذلك، فقد كان هوى معاوية في يزيد إلى الدرجة التي عرَّضَ فيها مستقبل حكم بني أميّة للخطر, فللحفاظ على هذا الملك، كان ينبغي أن يرشّح داهية آخر يتصنّع الإيمان والحكمة والحلم، غير يزيد، ولا يرتكب من الحماقات ما يفضحه ويكشفه على حقيقته، ولكنّ حبّه ليزيد، وانقياده لهواه فيه، أعمياه عن هذا


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج4، ص343.

[2] المصدر نفسه، ص339.

[3] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص309.

[4] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج7، ص372.

[5] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص236-239.

[6] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج2، ص2.

[7] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص192.

[8] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص187.

[9] ابن كثير، البداية والنهاية، ج2، ص258.

 

25


15

الفصل الأوّل: من أسباب النهضة الحسينيّة

القصد، فقال: ولولا هواي في يزيد، لأبصرتُ رشدي، وعرفتُ قصدي[1]. لذلك، حاول أن يستدرك شيئًا من الضعف في شخصيّة يزيد، فأوصاه بوصايا يعلّمه فيها كيف يتعامل مع رؤوس معارِضيه المحتمَلين من أولاد الصحابة: فأمّا عبد الله بن عمر، فهو معك، فالزمه ولا تدعه[2]. وأمّا الحسين، فهو رجل خفيف[3]، فقد عرفت حظّه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من لحم رسول الله ودمه، وقد علمت لا محالة أنّ أهل العراق سيخرجونه إليهم، ثمّ يخذلونه ويضيّعونه، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه، فإنْ ظفرتَ به، فاعرف حقَّه ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تؤاخذه بفعله، ومع ذلك، فإنّ لنا به خلطةً ورحمًا، وإيّاك أن تناله بسوء، ويرى منك مكروهًا[4]! وأمّا ابن الزبير، فخبٌّ ضبٌّ، فإذا شخَصَ لك، فالبد له، إلّا أن يلتمس منك صلحًا, فإنْ فعل، فاقبَل واحقن دماء قومك ما استطعت[5].

 

كان معاوية حريصًا جدًّا، في هذه الوصيّة، على عناصر المرونة والدهاء التي تضمن استمرار الحكم الأمويّ، وتبعده عن مهاوي الحماقة والنزق والعجلة. ولكن، هل كان معاوية يعتقد بأنّ يزيد سيطبّق هذه الوصيّة؟ ألم يخالف حين طلب منه عدم إظهار التهتُّك والتستُّر على شخصيّته؟[6] ألم يكن يعلم أنّ يزيد سوف يقتل الحسين عليه السلام، وهو المتتبّع للأخبار التي كانت تتناقل منذ عصر النبوّة، وتقول:

إنّ يزيد هو قاتله بيد جيشٍ يقوده عمر بن سعد، بل تصل إلى تحديد المكان والزمان، بل وحتّى اسم حامل الرأس الشريف؟ ولكنّه مع ذلك، كان مصرًّا على تعيين يزيد ملكًا، وهو يعلم أنّ الإمام الحسين عليه السلام سيُبتَلى بعد معاوية بمن لا ينظره فواق ناقة، يعني يزيد[7].


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج4، ص344.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص129.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص238-239.

[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص129.

[5] المصدر نفسه.

[6] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص220.

[7] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج18، ص327.

 

26


16

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الإمام الحسين عليه السلام في نظر الأمّة

كان الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام، في نظر الأمّة والمجتمع، أعظم الخلف ممّن مضى[1]، والبقيّة الباقية من أهل بيت النبوة، وبقيّة آية التطهير وآية المودّة وآية المباهلة، حتّى عند أعدائه من بني أميّة[2] والمنحرفين عنه[3]، وكان الصحابة والتابعون يطلقون عليه لقب سيّد أهل الحجاز[4]، وسيّد العرب[5]، والسيّد الكبير الذي ليس على وجه الأرض، يومئذٍ، أحدٌ يساميه ولا يساويه[6]، وكان المخلصون وكلّ مَن أهمّه أمر الإسلام ينتظر منه التحرّك[7].

 

وقد كان الصحابة والتابعون وكلُّ مَن تناقل واهتمّ بالحديث النبويّ، يعرف بأنّه سيّد الشهداء، وأنّه يُقتَل مظلومًا في كربلاء، وأنّ شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لن تنال قَتَلَتَه. إنّهم كانوا يعرفون الطاغية الذي يأمر بقتله، ومَن يقود الجيش الذي يقتله، ومَن يحمل الرأس الشريف[8]، ويتداولون الأخبار التي استفاضَت في التحذير من خذلانه، والنهي عن عدم نصرته، ومع ذلك، فقد تجاوب القليل مع الأوامر النبويّة، وتخاذل الأكثر[9].


 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص151.

[2] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص38.

[3] الهيثميّ، مجمع الزوائد، ج9، ص186-187.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص288.

[5] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص23.

[6] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص151.

[7] أبو مخنف، مقتل الحسين عليه السلام، ص16.

[8] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص367-368.

[9] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص192 و 246.

 

29


17

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

منهج الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام

لقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام، بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه السلام، عشر سنوات من حكم معاوية، الذي كشف واقع أهدافه، بكلّ صراحة، بعد إبرام وثيقة الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام، ولخَّصَها في أنّ هدفه هو الاستيلاء على السلطة والسيطرة على الحكم[1].

 

وكان معاوية يتدرّج في تنفيذ المخطّط الأمويّ، الذي أفصح عنه أبو سفيان حين تولّى عثمان منصب الحكم، إذ اعتبر خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كرةً يتلاعب بها صبيان بني أميّة[2].

 

ولم يسكت الإمام الحسين عليه السلام بعد إبرام الصلح مع معاوية، بل كان يتحرَّك وفق مسؤوليّته تجاه شريعةِ ربّه وأمّةِ جدِّه صلى الله عليه وآله وسلم، بصفته وريث النبوّة بعد أخيه الإمام الحسن عليه السلام، مراعيًا ظروف الأمّة، ومراقبًا لمدى تدهورها، وساعيًا للمحافظة على ثمرة جهود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فحاول اختراق حصار التضليل الأمويّ، عبر أنشطة مختلفة، من الوعظ والإرشاد، إلى حلقات التدريس، إلى الخطب في التجمّعات العامّة في موسم الحجّ، بل حتّى في مجلس معاوية نفسه، فعرّف مكانة أهل البيت عليهم السلام وفضلهم[3], وأنّهم حجج الله على خلقه، أحياءً وأمواتًا[4].

 

وقد عمل الإمام، في فترة حكم معاوية، على تحصين الأمّة ضدّ الانهيار التامّ. ويمكن أن نلخّص مجمل نشاطه في هذه الفترة، فيما يأتي:

1. رفض بيعة يزيد

أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد، بعدما قرّر معاوية أن يسافر إلى المدينة ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، وقد اتّسم موقف الإمام عليه السلام مع معاوية بالشدّة والصرامة[5].


 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص16.

[2] المسعوديّ، مروج الذهب، ج2، ص351-352.

[3] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج2، ص22-23.

[4] قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج2، ص811.

[5] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص182-190.

 

 

30


18

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

2. التنديد بسياسة معاوية، واستقبال المعارضة

أعلن الإمام الحسين عليه السلام، وفي مناسبات مختلفة، اعتراضه على سياسة معاوية، وعلى نقضه لشروط الصلح، واحتجّ على ممارسات وُلاتِه وظلمهم وانحرافاتهم. وأخذ يحذّر المسلمين، علنًا، من سياسة معاوية الهدّامة.

 

ولمّا استشهد الإمام الحسن عليه السلام، تحرّكت الشيعة في العراق، وكتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية والبيعة له، وأخذَت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلاميّة، وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به, نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهدًا وعقدًا، لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة, فإذا مات معاوية، نظر في ذلك[1].

 

3. الاحتكاك بسلطة معاوية، واختبار ردّة فعله

وكان أوّل احتكاك بين الإمام الحسين عليه السلام وبني أميّة، في اليوم الأوّل من إمامته. فبعد شهادة أخيه الحسن[2] عليه السلام، أراد الإمام عليه السلام دفنَه قرب جدِّه صلى الله عليه وآله وسلم، فاستنفر مروانُ بن الحكم بني أميّة وأمَّ المؤمنين عائشة، وكاد يقع القتال بينهم وبين بني هاشم، إذ خرجت أمُّ المؤمنين على بغلةٍ أحضرها لها مروان، ومنعَت الإمام عليه السلام من دفن أخيه قرب جدِّه. وقد حال الإمام عليه السلام دون نشوب قتال وسفك دماء، وصيّةً من الإمام الحسن[3] عليه السلام. لقد كانت هذه الحادثة إيذانًا بصورةِ ما سوف يكون عليه الوضع بين الإمام الحسين عليه السلام والأمويّين.

 

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة على تدعيم ملكه، كما كان يهب الأموال الطائلة لبني أميّة, لتقوية مركزهم السياسيّ والاجتماعيّ، وكان الإمام الحسين عليه السلام يشجب هذه السياسة، ويرى ضرورة إنقاذ الأموال من معاوية، الذي يفتقد حكمُه لأيِّ أساسٍ شرعيّ، ولا يقوم إلّا على القمع والإرهاب. وقد اجتازَت على المدينة أموالٌ من

 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.

[2] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص134.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص303-302.

 

31


19

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

اليمن إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام عليه السلام إلى مصادرتها وتوزيعها على المحتاجين، وكتب إلى معاوية: من الحسين بن عليّ، إلى معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد، فإنَّ عِيرًا مرَّت بنا من اليمن، تحمل مالًا وحُلَلًا وعنبرًا وطيبًا إليك، لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد النهل بني أبيك، وإنّي احتجتُها فأخذتُها، والسلام. وقد أجابه معاوية برسالةٍ يهدّده فيها بمَن يأتي بعده, يعني يزيد[1].

 

4. إعلان المعارضة في موسم الحجّ

حجَّ الإمام الحسين عليه السلام وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر معه، قبل موت معاوية بسنة. فجمع الحسين عليه السلام بني هاشم، رجالهم، ونساءهم، ومواليهم، وشيعتهم من حجَّ منهم، ومن الأنصار ممّن يعرفه الحسين عليه السلام وأهل بيته. فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل، وهم في سرادقه، عامّتُهم من التابعين، ونحو من مئتَي رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم. فقام فيهم الحسين عليه السلام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ قَدْ فَعَلَ بِنَا وَبِشِيعَتِنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَعَلِمْتُمْ وَشَهِدْتُمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ، فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونِي، وَإِنْ كَذَبْتُ فَكَذِّبُونِي. أَسْأَلُكُمْ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَحَقِّ قَرَابَتِي مِنْ نَبِيِّكُمْ، لَمَّا سيرتم (سَتَرْتُمْ‏) مَقَامِي هَذَا، وَوَصَفْتُمْ مَقَالَتِي، وَدَعَوْتُمْ أَجْمَعِينَ فِي أَنْصَارِكُمْ مِنْ قَبَائِلِكُمْ، مَنْ أَمِنْتُمْ مِنَ النَّاسِ وَوَثِقْتُمْ بِهِ، فَادْعُوهُمْ إِلَى مَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَقِّنَا، فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ أَنْ يَدْرُسَ هَذَا الْأَمْرُ، وَيَذْهَبَ الْحَقُّ وَيُغْلَبَ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُون‏"[2].

 

الموقف الأمويّ من الإمام الحسين عليه السلام

لم تكن أيّة مواجهة علنيّة بين الإمام الحسين عليه السلام ومعاوية في مصلحة الأمويّين، وقد اعتمد معاوية هذا الموقف، طالما بقي الإمام عليه السلام ضمن حدود المعارضة الكلاميّة السلميّة، وملتزمًا بالصلح[3]. وقد حاول معاوية أن يبرز هذا الموقف بعناوين


 


[1] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص284.

[2] سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس، ص320.

[3] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص156.

 

32


20

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

أخرى، تظهر وكأنّه يحتفظ بكرامةٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام الحسين عليه السلام، أو كأنّه حريصٌ على أن لا يسفك هذا الدم الغالي من بني عبد مناف[1].

 

إذًا، فعدم التعرُّض للإمام عليه السلام بالأذى في عصر معاوية، كان بشرط عدم تحرُّكِه ضدّه، وإلّا فالسيف[2]. ومع ذلك، فقد بقي الإمام عليه السلام تحت رقابة أمنيّة مشدّدة من عملاء معاوية في المدينة، حتّى في خصوصيّات الإمام البيتيّة[3].

 

لماذا لم تحصل النهضة الحسينيّة في حياة معاوية؟

رفض الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام أن يكون معاوية حاكمًا، ولم يساوم على ذلك، ولم يداهن، وخاض حربًا طاحنةً لمنعه وطرده من الشام، وكان هذا موقف الإمام الحسن عليه السلام، لولا تخاذل أهل العراق. إذًا، فأسباب القيام على معاوية ومحاربته ودوافع ذلك كانت، وما زالت، إلى عصر الإمام الحسين عليه السلام، وهو ما صرّح به الإمام نفسه حين قال: "وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْرِفُ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِكَ"[4].

 

لكن، هل كان بإمكان الإمام الحسين عليه السلام أن يحقِّق أحد أهدافه لو تحرّك ضدّ معاوية؟ طلب الإصلاح في أمّة جدِّه؟ أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أو إزالة حكومة معاوية؟ وإلّا فتعريض الأمّة لصدمة مروّعة، بقتله وأهل بيته، بحيث تستيقظ الأمّة من غفلتها، وتتحرّر، وتعرف الحقّ وأهله؟

 

بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام واغتياله من قِبل معاوية، ونقض معاوية لبنود الصلح، تحرّك أهلُ العراق، وطالبوا الإمام الحسين عليه السلام بالتحرُّك والثورة ضدّ معاوية، حيث إنّ الحسين عليه السلام كان يملك الدليل المقبول لثورته، ولكنّه لم يستجب لطلباتهم، وآثر السكون ما دام معاوية حيًّا. وذلك للأسباب الآتية:


 


[1] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين، ص200.

[2] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص152.

[3] الحصريّ القيروانيّ، زهر الآداب وثمرة الآداب، ج1، ص101.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.

 

33


21

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الأوّل: الوفاء بالعهد خُلُقٌ إسلاميّ رفيع، يمثّله الإمامُ المعصوم أحسن تمثيل، ولا يسوّغ الإمامُ لنفسه أن يهبط إلى مستوى معاوية في نقضه للعهد.

 

الثاني: كان بإمكان معاوية أن يستغلّ هذا النقض، كورقةٍ رابحة يستعملها ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، ويضلّل به الرأي العامّ[1].

 

الثالث: إنّ السبب الرئيس الذي دفع الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح مع معاوية، وهو تخاذل المسلمين عن نصرة ابن بنت نبيّهم، ما زال مستمرًّا في عصر الإمام الحسين عليه السلام، فقد ذاق هؤلاء مرارةَ الصراع بين معاوية، الذي لم يكن مكشوفًا بعد، والإمام عليّ عليه السلام، وبين أمّ المؤمنين عائشة وطلحة والزبير، زوج النبيّ وأصحابه وعليّ عليه السلام، وبين الخوارج، الذين كانوا يدّعون الزهد والعبادة، وعليّ عليه السلام، فأنزلوا عليًّا عليه السلام إلى مستوى معاوية، الذي كان يرمي الوصول إلى الحكم بكلّ سبب، ولم يكن لهذا التصدّي منه والحرص على استلام السلطة أيَّ مسوّغ رساليّ، وإلى مستوى عائشة أو طلحة أو الزبير، وإلى مستوى الخوارج، ولم يستطع المسلمون تحمُّل الأعباء التامّة لقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وأتعبَتْهم التضحيات الجمّة في الجمل وصفّين والنهروان، فأخذ جمهورُهم يتهرّب من أعباء تحمُّل المسؤوليّة الشرعيّة، نحو محاولة التشكيك في أصل الأهداف الكبرى التي من أجلها يجاهد الإمام عليّ عليه السلام وأولاده من بعده، هذا التشكيك الذي تحوّل إلى نكول وتخاذل وفرار.

 

وحينما يستفحل هذا الشكّ، ويتحوّل إلى حالة مَرَضيّة، كما حدث ذلك في عصر الإمام الحسن عليه السلام، لم يكن بالإمكان علاجها حتّى بالتضحية، بل لا بدّ من الصبر والتأنّي, ليتّضح لعامّة المسلمين مدى دَجَل معاوية، ومدى تظاهره بالإسلام، ومدى التزام أهل البيت عليهم السلام بمبادئهم الرساليّة.

 

وقد فضح معاوية نفسَه وكشف عن واقعه، بعد نقضِه لكلّ بنود الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام، وكان لا بدّ للشاكّين في سلامة خطّ أهل البيت عليهم السلام من


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.

 

34


22

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الاكتواء بلظى النار التي سعّرها لهم معاوية، وأخذ يؤجّجها بكلّ ضراوة. وكان ترشيح يزيد وفرض البيعة له بالخلافة هو آخر الخطّ لمعاوية، ومهَّدَ معاوية لذلك باغتيال الإمام الحسن عليه السلام, ليخلو له الجوّ، وقد ذكر له التأريخ أكثر من

محاولة ومراوغة لتحقيق مأربه هذا، وتحكيم الجاهليّة بثوبٍ جديد في ربوع الدولة الإسلاميّة.

 

فلو استشهد الإمام الحسين عليه السلام والحالة هذه، فسوف لا يكون لقتله أيّة فائدة تعود على الدين والأمّة، بل ربّما يكون ضرر ذلك أكثر من نفعه، وذلك عندما يُلحِق ذلك معاوية الداهية بحملة دعائيّة مغرضة، يقضي فيها على الأمل الوحيد للأمّة، ويفصل المجتمع المسلم، نفسيًّا وفكريًّا، عن أهل البيت عليهم السلام بشكل عامّ، وعن أئمّتهم بصورة خاصة.

 

وخلاصة الأمر: إنّ قتل الإمام الحسين عليه السلام في زمن معاوية ليس فقط لا يجدي ولا ينفع، وإنّما يكون فيه قضاءٌ تامٌّ على الأمل الوحيد للدين والأمّة وللحقّ. وبمقدار ما يكون هذا خيانة حقيقيّة ظاهرة لذلك كلّه، كان استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بعد ذلك، في كربلاء، وفاءً للدين وللأمّة وللحقّ، عندما لم يَعُدْ انحرافُ الحُكم وعداؤه للدين خافيًا على أحد، ولم يكن بعد للدهاء والمكر، وللسياسات المنحرفة، أن تتستّر عليه، ولا أن تقلِّل من وضوحه.

 

وأصبح السكوت عليه في تلك الظروف هو الخيانة للدين، وللأمّة، وللحقّ. وإلّا فإنّ الإمام الحسين عليه السلام قد عاش في حكم معاوية بعد استشهاد أخيه الإمام الحسن عليه السلام عشر سنوات، ولم يقم بالثورة ضدّه، مع أنّ الإمام الحسين عليه السلام، الذي سكت في زمن معاوية، هو نفسه الذي ثار في زمان يزيد، كما أنّ الانحراف والظلم الذي كان في زمانه عليه السلام، قد كان في زمان أخيه عليه السلام. وما ذكرناه هو المبرِّر لسكوته هناك، وثورته هنا.

 

35


23

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وصحيحٌ أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان كارهًا للصلح[1]، ولكنّ الإمام الحسن عليه السلام أيضًا كان له كارهًا. غير أنّ هذا الصلح، على الكراهية التي كانت فيه، كان خيرًا للأمّة[2]، وإن لم يكن الأفضل, لأنّها لم تكن مستعدّة، ولم تكن تملك إمكانيّة القيام بالأفضل منه، وهو الجهاد والتضحية من أجل الانتصار على الطغيان الأمويّ وإسقاطه[3]. وأمّا أخبار اعتراض الإمام الحسين عليه السلام على أخيه، فهي من وضع الأمويّين وأتباعهم، فإنّ فيها من سوء التخاطب بين الحسن والحسين عليه السلام ما يؤكّد أنّها مفتعَلة[4].

 

هذا، وقد تمدَّح الإمام الحسين عليه السلام أخاه الإمام الحسن عليه السلام على صلحه مع معاوية، واعتبره إيثارًا لله عند مداحض الباطل[5].

 

وكتب أهل الكوفة أكثر من مرّة إلى الإمام الحسين عليه السلام، يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، وفي كلّ ذلك يأبى عليهم[6]، وقد أمرَهم بلزوم بيوتهم، وبالصبر، والترقُّب، والتخفِّي عن أعين السلطة، والانتظار، والتكتّم على ميولهم وأفكارهم، ما دام معاوية حيًّا[7]. فالقول بأنّ سبب عدم ثورته على معاوية إنّما هو عدم بيعة الناس له في زمنه، لا يصحّ. هذا وإنّ الناس كانوا قد بايعوا الإمام الحسن عليه السلام، فلماذا سكت؟ ولماذا لم يطالبه الإمام الحسين عليه السلام بالقيام؟ ولماذا يمدحه على صلحه لمعاوية[8]؟

 

موت معاوية وطلب يزيد البيعة من الإمام الحسين عليه السلام

مات معاوية منتصف رجب من سنة ستّين من الهجرة، عن عمر تجاوز سبعين سنة، وخلّف بعده ولده يزيد. فكتب يزيد إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة، والي

 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص150.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص330.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص220.

[4] ابن أعثم، الفتوح، ج4، ص289.

[5] ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج2 ص314.

[6] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص151.

[7] المصدر نفسه، ص150.

[8] الشيخ الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، ج1، ص325.

 

36


24

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

المدينة، يأمره بأخذ البيعة من الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام قبل أن يعلم أهلُ المدينة بالأمر، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك، ويقول: إنْ أبى عليك، فاضربْ عنقَهُ، وابعَثْ إليَّ بِرأسِهِ[1]. ولعلّ الاستعجال بأخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام قبل أن يعلم أهل المدينة بالأمر، كان نصيحةً من مروان بن الحكم للوالي[2] الذي أحضره الوليد واستشاره في أمر الإمام الحسين عليه السلام، فقال: إنّه لا يقبَل، ولو كنتُ مكانَك لضربتُ عنقَه، فقال الوليد: ليتني لم أكُ شيئًا مذكورًا.

 

ثمّ بعث الوليد إلى الإمام الحسين عليه السلام في الليل، فاستدعاه قبل أن يفشو الخبر، وكان عليه السلام في المسجد النبويّ، جالسًا مع عبد الله بين الزبير[3]، فعرف الإمام الحسينُ عليه السلام الذي أراد، فدعا بجماعةٍ من أهل بيته ومواليه، وكانوا ثلاثين رجلًا، وأمرَهم بحمل السلاح، وقال لهم: "إِنَّ الْوَلِيدَ قَدِ اسْتَدْعَانِي فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يُكَلِّفَنِي أَمْرًا لَا أُجِيبُهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَكُونُوا مَعِي. فَإِذَا دَخَلْتُ، فَاجْلِسُوا عَلَى الْبَابِ، فَإِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتِي قَدْ عَلَا، فَادْخُلُوا عَلَيْهِ لِتَمْنَعُوهُ مِنِّي‏"[4].

 

ثمّ صار الإمام الحسين عليه السلام إلى الوليد، فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليد معاوية، فاسترجع الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد. فلم يُرِد الإمام الحسينُ عليه السلام أن يصارحه بالامتناع من البيعة، وأراد التخلّص منه بوجهٍ سلميٍّ، فقال له: "إنّي أراكَ لا تقنَع أو تجتزئ ببيعتي سرًّا حتّى أبايعه جهرًا، فيعرف ذلك الناس"، أو "دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية"، أو قال له: "لا خيرَ في بيعةِ سِرٍّ، وَالظاهرةُ خيرٌ، فإذا حضرَ الناسُ كانَ أمرًا واحدًا".

 

فقال له الوليد: أجل.

 

فقال الإمام الحسين عليه السلام: "تصبحُ وترى رأيَك في ذلك".


 


[1] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص241.

[2] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص206.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص250-251.

[4] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص13.

 

37


25

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

فقال له الوليد: انصرِف على اسمِ اللهِ، حتّى تأتينا معَ جماعةِ الناسِ.

 

فقال له مروان: واللهِ، لئنْ فارقَكَ الحسينُ الساعةَ ولم يبايِعْ، لا قدرْتَ منهُ على مثلِها أبدًا، حتّى تكثَّر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبِس الرجلَ، فلا يخرج من عندك حتّى يبايع، أو تضرب عنقَه.

 

فلمّا سمع الحسين عليه السلام مروان، صارحهما، حينئذٍ، بالامتناع من البيعة، وأنه لا يمكن أن يبايع ليزيد أبدًا، فقال لمروان: "ويلي عليك يابن الزرقاء! أنتَ تأمر بضرب عنقي؟! كذبتَ والله، ولؤمتَ.

والله، لو رام ذلك أحدٌ من الناس، لسقيتُ الأرضَ من دمِه قبل ذلك، وإنْ شئتَ ذلك، فرم ضربَ عنقي، إن كنتَ صادقًا!".

 

ثمّ أقبل على الوليد، فقال: "أيّها الأمير، إنَّا أهلُ بيتِ النبوّة، ومعدنُ الرسالة، ومختلفُ الملائكة، ومحلُّ الرحمة، بنا فتحَ الله، وبنا ختمَ. ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمرِ، قاتلُ النفسِ المحترَمَة، معلنٌ بالفسقِ، ومثلي لا يبايعُ مثلَهُ، ولكن نصبحُ وتصبحون، وننظُرُ وتنظرون، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة"[1].

 

وسمعَ مَن بالباب من الهاشميّين الإمام الحسينَ عليه السلام، فهمّوا بفتح الباب وإشهار السيوف، فخرج إليهم الإمام الحسين عليه السلام سريعًا، فأمرَهم بالانصراف إلى منازلهم، وتوجَّهَ إلى قبر جدِّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[2]، ثمّ عاد إلى منزله مع الصبح[3].

 

وكانت تلك الليلة هي ليلة السبت، لثلاثٍ بقين من رجب سنة ستّين. فلمّا أصبح، خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان، فقال له: يا أبا عبد الله، إنّي لكَ ناصحٌ، فأطِعني ترشدْ، فقال الإمام الحسين عليه السلام: وما ذاك؟ قل حتّى أسمع.

 

فقال مروان: إنّي آمرُك ببيعةِ يزيدَ بنِ معاويةَ، فإنّهُ خيرٌ لكَ في دينِكَ ودُنياكَ.

 

فقال الإمام الحسين عليه السلام: "إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَعَلَى الإِسْلَامِ السَّلَامُ إِذْ قَدْ بُلِيَت الأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيد".

 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص14.

[2] المصدر نفسه، ص13-14.

[3] المصدر نفسه، ص18.

 

38


26

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وطال الحديث بينه وبين مروان، حتّى انصرف عليه السلام وهو غضبان. فلمّا كان آخر نهار السبت، بعث الوليد إلى الإمام الحسين عليه السلام ليحضر فيبايع، فقال لهم الإمام الحسين عليه السلام: "أصبِحوا، ثمَّ ترون ونرى"، فكفّوا عنه تلك الليلة، ولم يلحّوا عليه، واشتغلوا بابن الزبير[1]، فعزم عليه السلام على الخروج من المدينة...

 

الوضع السياسيّ في المدينة عند وصول خبر موت معاوية

إنّ حوادث الليلة التي وصل فيها خبر موت معاوية إلى المدينة، تكشف عدّة أمور مهمّة:

أوّلًا: إنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يخشى من عمليّةِ إطفاءٍ لثورتِه قبل أن تضطرم، عبر اغتياله سرًا، أو في عمليّةِ مواجَهةٍ محدودةٍ مفتعَلة، تتبعها مسرحيّة مكذوبة يقوم الأمويّون بإخراجها، ومن ثمّ تُجهض الثورة الحسينيّة من أوّلها. ولذلك، كان احتياط الإمام عليه السلام شديدًا، فقد طلب من ثلاثين مقاتلًا من بني هاشم وأنصارهم مرافقته وحمايته، حتّى لو وصل الأمر إلى حدِّ اقتحام قصر الإمارة بدون استئذان، إذا سمعوا صوته عليه السلام قد علا.

 

ثانيًا: طلب الإمام عليه السلام أن تكون البيعة علنيّة، ولكنّ الإمام عليه السلام لم يكن ليبايع يزيد، لا سرًّا ولا جهرًا، كما أنّه بسبب القوّة العسكريّة التي رافقته، والتي تدلّ على أنّه كان مستعدًّا للاشتباك، يظهر أنّه احتاط لكي لا يتمّ إحراجه بالبيعة.

 

إذًا، هو لم يكن يريد البيعة أصلًا، فلا بدّ من أنّ طلبَه أن تكون البيعة علنيّة, لكي يستثمر الاجتماع العامّ لأهل المدينة غدًا، مع ما في هذا الاجتماع من رموز الصحابة والتابعين, فإذا رفض البيعة علنًا، وفضح حقيقة يزيد، وذكّرَهم بموقعه عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفي القرآن، ودعاهم إلى مبايعته ونصرته، فقد ينقلب الوضع لمصلحته. ولكنّ مروان انتبه إلى مراد الإمام الحسين عليه السلام، فضيّق عليه الفرصة التي أتاحها له الوالي حينما قبل بالتأجيل، وذلك عبر التلفُّظ بتهديد الإمام بالقتل هنا، وفي


 


[1] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص214.

 

 

39


27

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

هذه الغرفة، إذ سوف يصبح الإمام عليه السلام، حينئذٍ، بين محذورَين: إمّا الاستسلام للابتزاز والسكوت والخضوع، وإمّا الرفض للابتزاز وكشف ورقته التي يخبّئها هنا، وقد اختار الإمام عليه السلام الخيار الثاني، فأعلن عن موقفه، وتخلّى عمّا كان يتأمّله من ذلك الاجتماع العامّ إن حصل.

 

ثالثًا: يظهر أنّ مروان بن الحكم كان منافسًا قويًّا للوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ويريد منه إمّا أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام، فيتخلص الأمويّون من ألدّ أعدائهم على يد الوليد، وإمّا أن لا يفعل، فيسهّل عمليّة عزله واحتلال مكانه واليًا على المدينة.

 

رابعًا: يظهر من كثير من النصوص، أنّ الوليد بن عتبة كان خائفًا على آخرته من التورُّط في قتل الإمام الحسين عليه السلام[1]، إلّا أنّه مع ذلك، كان بنظر الإمام الحسين عليه السلام غير مأمون[2]، إذ قد يُقدِم على ارتكاب جريمة كبيرة إذا ما أُحرِجَ حرجًا شديدًا, ولذلك لم يرغب الإمام السير طويلًا في استفزازه. ومع أنّ الإمام بقي يومَين وليلتَين بعد تلك الليلة، ومع أنّه تجوَّل في المدينة نهارًا، واستعدّ مع أهله وأنصاره، وبشكل علنيّ، للخروج إلى مكّة، وخرج على الطريق العامّ، فإنّ الوليد لم يبادر إلى عملٍ ضدّ الإمام، وهذا كان من دوافع يزيد إلى عزله بعد ذلك.

 

ويظهر أيضًا أنّ الوليد كان واليًا مناسبًا لسياسة معاوية، المبنيّة على المرونة والدهاء مع أعدائه، وعدم الحمق والنزق في الإدارة، ولكنّه لم يكن مناسبًا لتمثيل يزيد، فأراد معالجة مشكلة الإمام عليه السلام على طريقة معاوية، كما أنّه لم يعلن موت معاوية، ولم يَدعُ إلى اجتماع عامّ إلّا بعد خروج الإمام عليه السلام من المدينة، وهذا من دهائه، فقد أراد تفويتَ الفرصة على الإمام عليه السلام، ولكنّ مرونة الوليد ودهاءه، على كلّ حال، ساعد الإمام عليه السلام على الخروج مبكرًا من المدينة، دون أيّ ممانعة أو مضايقة، ما سهّل حركة الإمام بعد ذلك، بينما كان من المفروض - حسب


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص18.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص221.

 

40


28

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

سياسة يزيد ومروان - التضييق على الإمام وفرض الإقامة الجبريّة عليه, من أجل إجباره على البيعة، أو قتله في المدينة، حتّى تخنق الثورة في مهدها.

 

الخيارات المطروحة أمام الإمام الحسين عليه السلام

لقد كان أمام الحسين عليه السلام عدّة حلول ممكنة، بعد أن طلب يزيد منه البيعة، وهدّده بالقتل إن لم يبايع:

الأوّل: أن يبايع يزيد.

الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو المدينة.

الثالث: أن يلجأ إلى بلد من بلاد العالم الإسلاميّ، حتّى يلتفّ حوله العدد الكافي لمواجهة هذه الدولة.

الرابع: أن يتحرّك ويغادر المدينة إلى مكّة، منتظرًا تحرُّك أهل الكوفة وبيعتهم له، فإذا ما حصل ذلك، فإنّه يتوجّه نحو العراق، ويخوض المعركة الفاصلة مع الدولة الأمويّة، التي كان يعلم أنّه سوف يستشهد فيها، وبالطريقة التي وقعَت.

 

وكان اختياره للموقف الأخير قائمًا على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الذي تعيشه الأمّة الإسلاميّة، فإنّ جزءًا كبيرًا من الأمّة الإسلاميّة قد فقد - مع قيام الدولة الأمويّة، وخصوصًا خلال عهد معاوية - إرادته وقدرته على مواجهة النظام الأمويّ، وهو يشعر بالذلّ والاستكانة والشلل وعدم القدرة على التحرُّك. فقد كان حجم الإرهاب الأمنيّ الأمويّ مفاجئًا للإنسان العربيّ، الذي لم يدرِ كيف يتعامل معه، وهو الذي اعتاد على الفرديّة في كلّ تفاصيل حياته، بينما كانت إزالة النظام الأمويّ وهزيمته تحتاج إلى تكتُّل وتظافر وتعاون واتّحاد وإطاعة لقائدٍ أو لحزبٍ يكون في مستوى القدرة على تحدّي النظام الأمويّ وإزالته، ولم يكن سوى الإمام الحسين عليه السلام مؤهّلًا لذلك.

 

هذا وإنّ جزءًا كبيرًا آخر من الأمّة الإسلاميّة قد هان عليه أمر الإسلام، فلم يعد يهتمّ إلاّ بمصالحه الشخصيّة، وتضاءلَت أمامه الرسالة الإسلاميّة، فهو انضمّ إليها سلاّبًا نهّابًا، يقاتل من أجل الغنيمة، ويطمع بالعيش الرغيد.

 

 

41

 


29

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ولكنّ جزءًا كبيرًا من الأمّة الإسلاميّة كان يعلم تمامًا أنّ خسارةً كبيرةً تحيق بالأمّة الإسلاميّة من خلال تبديل الخلافة إلى قيصريّة وكسرويّة، وأنّه في عهد معاوية، طرأ تغيُّر أساسيّ على مفهوم الخلافة نفسه، فلم تعد الخلافة حكمًا للأمّة، بل حوّلها معاوية إلى حكم كسرى وقيصر، وهو تحويلٌ خطيرٌ في المفهوم، أراد معاوية أن يُلبسَه ثوب الشرعيّة، ولكنّ هذا التحويل لم يُواجَه بالمعارضة والرفض من قِبل الصحابة، بل سكتوا واستكانوا، فأمكن أن تنطلي حيلة معاوية على الكثير من السذّج والبسطاء من العوامّ، إذ يرون في سكوت الصحابة إمضاءً له، وكان في ذلك إحراجٌ شديد للإمام الحسين عليه السلام، وهو الصحابيّ والممثِّل للدين والقرآن والإسلام، فكيف يسكت؟ ألا يُفهَم من سكوته الإمضاء لهذا التحوُّل؟

 

ثمّ إنّ حقيقة موقف الإمام الحسن عليه السلام في مسألة الصلح لم تكن معروفةً لجمهور المسلمين وعمومهم، إلّا داخل دائرةٍ خاصّة ومحدودة جدًّا، كانت تعيش هذه المسألة عن قُرب، بل حتّى الأقربين كانوا غير قادرين على فهمها، كبعض أصحاب الإمام الحسن عليه السلام، الذي خاطبَه يومًا بكلامٍ لا يخلو من عدم الاحترام، قائلًا: السلامُ عليكَ يا مُذِلَّ المؤمنين!.

 

فكيف بأهل العراق بشكل عامّ؟ وكيف بمن كان يعيش في أطراف العالم الإسلاميّ، كأقاصي خراسان، حيث لم يعش المحنة يومًا بعد يوم، ولم يكتوِ بالنار التي اكتوى بها الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة، من قواعده وأعدائه، وإنّما كانت تصلُه الأخبار عبر المسافات الشاسعة بين الكوفة وأطراف خراسان مثلًا؟

 

فهؤلاء كلّهم لم يفهموا أنّ صُلحَ الحسن مع معاوية وتنازُلَه عن الخلافة مؤقّتًا، ليس اعترافًا بشرعيّة معاوية والأطروحة الأمويّة، بل هو تصرُّف اقتضته الضرورة والظروف الموضوعيّة التي كان يعيشها الإمام الحسن عليه السلام.

 

فكان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام من أن يختار موقفًا يعالج فيه مشكلة هذه الانهيارات كلّها في موقف الجمهور الإسلاميّ، بأن يعيد إلى الأمّة إرادتها التي فقدتها بالتميّع الأمويّ، وإيمانها بالرسالة، وشعورها بأهميّة الإسلام، وأن يكشف

 

42


30

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

معاوية ويرفع عنه التستُّر بأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّهم سكتوا على تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة، وذلك عن طريق رفضه شخصيًّا لذلك التحويل، مهما كان الثمن، على أساس أنّه من الصحابة ويمثّلهم، وأنّه رمز لهم، والبقيّة الباقية من الصحابة.

 

ولا بدّ أيضًا من أن يختار الإمام الحسين عليه السلام الموقف الذي يشرح فيه، حتّى لمن كان بعيدًا عن الأحداث، أنّ تنازل الإمام الحسن عليه السلام لم يكن إقرارًا بحقٍّ ما لمعاوية، ولا لبني أميّة، وأنّ أهل البيت يرفضون تحويل خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرويّة وقيصريّة.

 

فما هو الموقف الذي يحقّق هذه الأهداف كلّها معًا؟

 

أمّا مبايعة يزيد بن معاوية، فسوف تكرّس كلّ المخاطر والمحاذير، وليسَت خلافة يزيد كخلافة أبي بكر وعمر وعثمان, لأنّ خلافة هؤلاء جاءت من بيعة محدودة، أو من شورى، أو بتعيينٍ لا يستبطن التوريث العائليّ والتمليك الشخصيّ، وأمّا هنا، في حالة يزيد بن معاوية، فقد أصبحَت تركةً يحصل عليها الورثة بالتوريث العائليّ الخاصّ.

 

إذًا، فالتحويل هنا على مستوى المفهوم، وسوف يعني، على مستوى التطبيق، خسارة احتمال عودة الإمامة إلى أهل البيت إلى الأبد! وتنازُل الإمام الحسن عليه السلام كان مؤقّتًا، فلم يكن بالإمكان أن تمضي عمليّة التحويل هذه دون أن يقف أهل البيت، الذين هم القادة الحقيقيّون للأمّة، الموقف الدينيّ الواضح المحدّد منها.

 

وأمّا الموقف الثاني، فهو لا يحقّق ذلك المكسب الذي يريده الإمام الحسين عليه السلام أيضًا, وذلك لأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يؤكد أنّه لو بقي في المدينة أو في مكّة، رافضًا للبيعة، لقُتِلَ من قِبَل بني أميّة، حتّى ولو كان متعلّقًا بأستار الكعبة... وهذا القتل ليس كالقتل الذي استطاع أن يحرّك البقيّة الباقية من عواطف المسلمين تجاه رسالتهم ودينهم، حتّى ولو كان هذا القتل من خلال مواجهة عسكريّة في المدينة، كان يحتمل احتمالًا كبيرًا وقوعها بعد تعرُّض الإمام عليه السلام لعمليّة اغتيال

 

43


31

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

مدبَّرة من قِبَل الوالي[1]. وحتّى لو فرضنا رفضَ الوالي لتطبيق تلك الفكرة، إلّا أنّ يزيد لن يعدم واليًا أمويًّا آخر يقوم بالمهمّة، بل لعلّ في بعض الأخبار ما يصرّح بأنّ الأمويّين دسّوا على الإمام الحسين عليه السلام مَن يقوم باغتياله[2]. فإرجاع الناس إلى عقيدتهم، من خلال إثارة المتبقّي من عواطفهم ومشاعرهم، لن يتحقّق من خلال قتلٍ عابرٍ سهلٍ من هذا القبيل، بل لا بدّ من أن تُحشَد له كلّ المثيرات والمحرّكات.

 

ولذلك، كان السبب الرئيس لخروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة، ليس مجرَّد الخشية من الاغتيال، بل كان الخوف من أن تُخنَق ثورتُه باغتياله، وتُكتَم أنفاسُها سرًّا، قبل أن تشتعل، وفي ظروفٍ يقوم الأمويّون بإعدادها وإخراجها، وتذهب فيها نفسُ الإمام الحسين عليه السلام رخيصةً في ظروفٍ ملتبسةٍ، ثمّ يقوم الأمويّون بالاستفادة من الحادثة كعادتهم، وتحويل آثارها لمصلحتهم.

 

وأمّا الموقف الثالث، فهو وإن كان أسلم من الأوّل والثاني على الخطّ القصير, لأنّه يمكنه أن يعتصم بشيعته في اليمن مثلًا إلى برهةٍ معيّنة، لكنّه سوف ينعزل ويحيط نفسَه بإطارٍ منغلق عن مسرح الأحداث، بينما لابدّ أن يباشر عمله التغييريّ على مسرح الأحداث، الذي كان، وقتئذٍ، هو الشام والعراق ومكّة والمدينة, كي يمكن لهذا العمل أن يؤثّر تربويًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا في العالم الإسلاميّ كلّه.

 

وعليه، كان لا بدّ أن يختار الموقف الرابع، الذي استطاع أن يهزّ به ضمير الأمّة من ناحية، ويشعرها بأهميّة الإسلام وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية. وأن يدحض عمليّة تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة من ناحية ثالثة، وأن يوضّح للمسلمين كلّهم مفهومَ التنازل عند الإمام الحسن عليه السلام، وأنّه لم يكن موقفًا إمضائيًّا، وإنّما كان أسلوبًا تمهيديًّا لموقف الإمام الحسين عليه السلام.

 

وإذا كانت الهزيمة النفسيّة للأمّة هي الحالة المرَضيّة العامّة التي قد تعرّضَت لها الأمّة المسلمة في عصر الإمام الحسين عليه السلام، فالحسين حين يريد معالجة هذا


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص18.

[2] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص248-249.

 

44


32

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

المرض المستشري في جسمها، لا بدّ له أن يقدّم الموقف النظريّ والعمليّ معًا تجاه الوضع القائم، ويضع النقاط على الحروف، بنحوٍ ينتهي إلى اجتثاث جذور هذا المرض الخبيث.

 

ومن هنا، كانت الثورة المسلَّحة بالشكل المثير جدًّا، والذي يستنهض النفوس الميّتة، ويحييها من سباتها، ويبدِّل جُبنَها إلى الشجاعة، ووهنَها إلى الإقدام، هو الحلّ الوحيد للأزمة التي حلَّت بالأمّة المسلمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

لقد رفض الإمام الحسين عليه السلام، رفضًا قاطعًا، بيعةَ يزيد، ولم يكن هذا الرفض سلبيًّا، بل كان رفضًا إيجابيًّا متحرِّكًا باتّجاه نقض البنيان الأمويّ، طلبًا للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يكن الإمام الحسين عليه السلام ليسكت، حتّى لو سكت عنه النظام الأمويّ، بل كان خروجه فعلًا ابتدائيًّا، درءًا للخطر الذي أخذ يتهدَّد الإسلام بخلافة يزيد.

 

والأمر الآخر أنّ الإمام عليه السلام كان أمامه التهديد الأمويّ، إنْ هو لم يبايع، ولو بايع، فإنّه سيعطي في مثل هذه الحالة الوثيقةَ الشرعيّة للحكّام الأمويّين الظلمة، وسيطفئ بذلك بصيص الأمل الذي ترصده الأمّة في تلك الشخصيّة المعارِضة, أعني شخصيّة الإمام عليه السلام.

 

وفي حالة رفضه، فإنّه أمام خيارَين: إمّا الموت الذي قرّره الأمويّون له، ولو كان متعلّقًا بأستار الكعبة، وإمّا الرحيل إلى إحدى المناطق التي يمتلك فيها شعبيّة وشيعة، ولا تتعدّى هذه المناطق اليمن والكوفة والبصرة، ومن المعلوم أنّ الطلب الأمويّ سوف يلاحقه في هذه المناطق، بلا فرق. وما دامت الكوفة تحتوي أكثر القواعد الشعبيّة المؤيّدة له، بالإضافة إلى الطلب الشديد من قِبَل أهلها، فإنّ الخيار الصحيح لا بدّ أن يكون بالرحيل إلى الكوفة، عاصمة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. ولهذا، رفض الإمام عليه السلام إلحاح أخيه محمّد بن الحنفيّة وممانعته من الذهاب إلى الكوفة، كما رفض طلب ابن عبّاس، الذي أشار على الإمام عليه السلام بالذهاب إلى اليمن.

 

45

 


33

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الخروج من المدينة

لم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام سرِّيًّا، ولا خوفًا من السلطة الأمويّة، فقد كان موكبه من الضخامة، بحيث لا يخفى على الأعين المراقبة، كما أنّه اطمأنّ إلى أنّ الوليد لن يُقدِم على عملٍ أرعنٍ ضدّه، بل كان يتمنّى خروجَه, لكي لا يُبتَلى بدمه. ولعلّ اختيار الليل كان للتستُّر على حركة الحرم النبويّ، ولكي لا تتصفَّح أعين الناس النساء، إذا ما كان الخروج نهارًا[1].

 

وخرج معه بنو أخيه، وإخوته، وجلّ أهل بيته، إلّا محمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر. وكان معه من أنصاره، عبد الله بن يقطر الحميريّ، الذي اشتهر بأنّه أخو الإمام الحسين عليه السلام من الرضاعة, لأنّ أمّه كانت حاضنةَ الإمام الحسين عليه السلام، وسليمان بن رزين، وأسلم بن عمر، وقارب بن عبد الله الدئليّ، ومنجح بن سهم، وكلّهم من مواليه، واستشهدوا معه في كربلاء، وسعد بن الحرث الخزاعيّ، ونصر بن أبي النيزر، وهما موليان لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، والحرث بن نبهان مولى حمزة بن عبد المطلب، وجون بن حوى مولى أبي ذرّ الغفاريّ[2]، وعقبة بن سمعان، الذي أُسِر في كربلاء بعد نهاية المعركة، فادّعى أنّه مملوك، فأُطلِق سراحُه[3]، وهو الذي روى بعض أحداث الطفّ في روايات أبي مخنف، وذهب بعض علماء الإماميّة إلى أنّه استشهد في كربلاء[4].

 

ولمّا عزم الإمام الحسين عليه السلام على الخروج من المدينة، مضى في جوف الليل إلى قبر أمّه، فودّعها، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام، ففعل كذلك. ثمّ خرج الإمام عليه السلام من المدينة في جوف الليل، وسار إلى مكّة، وهو يقرأ: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[5].


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص228.

[2] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج1، ص125-248، وج2، ص81.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص347.

[4] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج101، ص336-341.

[5] سورة القصص، الآية 21.

 

46


34

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكّبْتَ الطريقَ الأعظمَ، كما فعل ابن الزبير, كي لا يلحقك الطلب، فقال: "لا، والله، لا أفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ"[1].

 

لماذا لم يتوجّه الإمام الحسين عليه السلام مباشرة إلى العراق؟

لقد كان اختيار العراق مركزًا للثورة في ثقافة الثورة الحسينيّة منذ بدايتها، بل منذ الإخبار عنها في ملاحم الأخبار النبويّة. وبغضّ النظر عن ذلك، فقد كانت الكوفة هي الأقرب إلى الاستجابة من بين بقيّة المدن، فمكّة والمدينة لم يكن فيهما عشرون رجلًا يحبّون أهل البيت عليهم السلام، والبصرة كانت بأغلبها محسوبةً على بني أميّة، والشام كانت مغلقةً لصالح الأمويّين، والثائرون المحبّون لأهل البيت كانوا من أهل الكوفة، وقد تمَّت اتّصالاتٌ بهم بعد الصلح، وبعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، ونصحهم فيها الإمام الحسين عليه السلام بالانتظار والتربُّص. وقد تحدَّث الإمام الحسين عليه السلام مع أمّ سلمة عن مصرعه في العراق[2]، كذلك مع أخيه عمر الأطرف، الأخ التوأم لرقيّة، ابن الصهباء التغلبيّة[3].

 

ولم يتوجّه الإمام الحسين عليه السلام مباشرة إلى العراق, لأنّه كان يحتاج إلى هامشٍ من الزمن، يُظهِر فيه العراقيّون إرادتَهم ورغبتَهم وبيعتَهم. وبما أنّ بقاءه في المدينة، انتظارًا لذلك، كان سوف يشكّل خطرًا على الثورة، ويحتمل خنقها في مهدها باغتياله، كما تقدّم، فقد فضّل الإمام جعل هذا الهامش الزمنيّ في حركةٍ له إلى مكّة أوّلًا، حيث يلوذ بالبيت، ويؤخّر عمليّة اغتياله، وتظهر بيعة أهل العراق له خلال ذلك الزمان، وتنضج ظروف ثورته، شعبيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، بعد أن استكملت أسبابها ودوافعها الرساليّة والعقائديّة في المدينة، وحتّى قبل وفاة معاوية.

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص34.

[2] قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج1، ص253-254.

[3] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص11-12.

 

47


35

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

لقد كان القرار بالثورة جاهزًا في المدينة ولم يكن ينتظر بيعة أهل العراق ولكن بيعة أهل العراق كانت سوف تقرر مكان وزمان الثورة، وقد صرّح الإمام بذلك في لقائه مع أخيه عمر الأطرف وأخيه محمّد بن الحنفيّة[1].

 

الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرمة

دخل الإمام الحسين عليه السلام مكّة في ليلة الجمعة 3 شعبان[2]، وهو يقرأ: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾[3]،[4] وخرج منها إلى العراق في 8 ذي الحجّة، فكان مكثُه فيها مئة وخمسة وعشرين يومًا، وتُعتَبر من أطول مراحل الثورة الحسينيّة، ومع ذلك، فهي من أقلّ مراحلها نصوصًا، ومعظم الحوادث التي سُجِّلَت اقتصرَت على وقائع الأيّام الأخيرة منها.

 

سبب اختيار مكّة

لعلّ موسم الحجّ كان من أهم أسباب اختيار الإمام لها، فهو مناسبة جيّدة للدعاية السياسيّة ضدّ النظام الأمويّ، وللتحضير لثورته، كذلك مكّة أيّام الموسم هي المكان المناسب للقاء بوفود العراق، لمعرفة تطوُّر الوضع هناك، ومدى استعداده لقدوم الإمام إليه.

 

من هنا، نشير إلى أنّ الإمام عليه السلام لم يقصد مكّة إلّا بما هي مكان لموسم الحجّ، ولم يقصدها لذاتها، فقد كانت مكّة، منذ الأيّام الأولى للبعثة النبويّة، إلى مرحلة الهجرة النبويّة إلى المدينة، إلى ما جرى بعد ذلك من صراعات وحروب في الجمل وصفّين، مركزًا لأعداء أهل البيت عليهم السلام ولذريّة عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فبعد سنتَين من شهادة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، يقول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "مَا بِمَكَّة وَالمدِينَةِ عشْرُونَ رَجُلًا يُحِبُّنَا"[5].


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص20-21.

[2] الشيخ الطبرسيّ، إعلام الورى، ج2، ص223.

[3] سورة القص، الآية 22.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص34.

[5] الثقفيّ، الغارات، ص393.

 

48


36

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

نزل الإمام الحسين عليه السلام في منزل عمّه العبّاس بن عبد المطّلب[1]، في شُعَبِ عليّ[2]، فلم يكن الإمام عليه السلام راغبًا في توريط أحدٍ من الناس في مشاكل مع الأمويّين فيما لو نزل عنده، وكانت منازل بني هاشم قد باعها عقيل في خلال الهجرة النبويّة في المدينة, لأنّ قريش كانت تصادر أموالهم ودُورهم، ففضَّل بيعَها، والظاهر أنّ ذلك كان برضاهم[3].

 

مراسلة أهل البصرة

كتب الإمام الحسين عليه السلام إلى رؤساء الأخماس بالبصرة، وإلى أشرافها، فكتب يزيد بن مسعود النهشليّ إلى الحسين عليه السلام جوابه، مبديًا فيه استعداده للنصرة، وقرأ الحسين كتابه، ودعا له بالأمن يوم الخوف، والإرواء يوم العطش الأكبر. ولكن لمّا تجهّز للخروج لنصرة سيّده الحسين عليه السلام، بلغَهُ قَتْلَه، فجزع من انقطاعه عنه[4]. وأما الأحنف بن قيس، فقد كتب للحسين عليه السلام: أمّا بعد، فاصبر، إنّ وعدَ اللهِ حقٌّ، ولا يستخفَّنَّك الذين لا يوقِنون[5].

 

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيد الله بن زياد، في عشيّة الليلة التي يريد ابن زياد أن يذهب في صبيحتها إلى الكوفة. فأخذ عبيد الله الرسولَ، فصلبه، ثمّ خطب الناس، وتوعّدهم على الخلاف، وخرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان عليها[6].

 

كان العراق هو المكان الأنسب للثورة، إذ لم يكن مغلقًا، كالشام، للأمويّين، وكان الإمام الحسين عليه السلام ينتظر موقفًا جيّدًا من أهل الكوفة، ولم يكن ينتظر اتّصالًا إيجابيًّا من أهل البصرة، يبادر إلى دعوته وبيعته, لوجود ثقلٍ للأمويّين في البصرة، ولقلّة المحبّين لعليّ بن أبي طالب عليه السلام فيها، خصوصًا بعد معركة الجمل، ولوجود


 


[1] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج14، ص182.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، 229.

[3] الواقديّ، المغازي، ج2، ص829.

[4] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص110.

[5] الشيخ المفيد، الجمل، ص158.

[6] الثقفيّ، الغارات، ص358.

 

49


37

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

والٍ أمويّ قويٍّ وإرهابيٍّ مستبدٍّ فيها، وهو عبيد الله بن زياد، ولأنّ توزيعها إلى خمسة أقسام أمنيّة تحت قيادة زعيم عشيرة من عشائرها، سهَّلَ مراقبتَها وضبطَها أمنيًّا، خصوصًا إذا علمنا أنّ من بين هولاء الخمسة كان واحدٌ فقط يميل إلى آل عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وهو الأحنف بن قيس[1]، رغم ما في سجلِّه أيضًا من مواقف تشير إلى ضعف اعتقاده وتهاونه وتقاعسه عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام. وأمّا الآخرون، فقد كان مالك بن مسمع أمويًّا في ميوله[2]، وكان مسعود بن عمرو بن عدي الأزديّ في جيش أمّ المؤمنين وصديقًا حميمًا لعبيد الله بن زياد، وهو الذي هرّبَه إلى الشام بعد موت يزيد وحماه[3]، وكان قيس بن الهيثم السلميّ واليًا للأمويّين في خراسان، وعلى شرطتهم في البصرة، وموظّفًا عند عبيد الله بن زياد، ثمّ كان من الذين قاتلوا المختار تحت راية ابن الزبير[4]، وأمّا المنذر بن الجارود العبديّ، فبعد أن خان عليًّا عليه السلام الذي ولاّه، فوبّخه أمير المؤمنين عليه السلام[5]، خان الإنسانيّة والإسلام والشرف، حينما سلّم عبيد الله بن زياد سليمان بن رزين، رسول الإمام الحسين، فقتله، فكان أوّل شهداء الثورة الحسينيّة[6].

 

الاتّصال بالبصرة

كما ذكرنا، بادر الإمام للاتّصال بأهل البصرة، عبر هؤلاء الذين ذكرناهم, لأنّهم الواسطة الوحيدة إلى أهل البصرة، الذين كانوا لا يتحرّكون إلا بإرادة هؤلاء الزعماء. ولذلك، لم يجد الإمام طريقًا إلى الناس هناك، وإلى إلقاء الحجّة عليهم، إلّا إرسال الرسائل مباشرةً إليهم، ولعلّ خيرًا يظهر منهم. وبالجملة، لم تخلُ البصرة من محبّين وموالين وقفوا إلى جانب الحسين واستشهد بعضُهم معه


 


[1] الشيخ المفيد، الجمل، ص158.

[2] الثقفيّ، الغارات، ص266.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص535-522-519-505.

[4] المصدر نفسه، ص369-219-209-172.

[5] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص262 و461.

[6] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص280.

 

50


38

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

في كربلاء[1]، وكان يزيد بن مسعود النهشليّ، أحد رؤوس الأخماس في البصرة، الوحيدَ الذي كان موقفه إيجابيًّا من دعوة الإمام الحسين عليه السلام[2].

 

الموقف الأمويّ في المدينة بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام منها

وصلت أخبار الموقف المتهاون للوالي الأمويّ على المدينة، الوليد بن عتبة، من الإمام الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية، الذي أغضبه موقف الوليد، فبادر إلى مجموعة إجراءات أمنيّة وسياسيّة، فعزل الوليد بن عتبة عن ولاية المدينة، وأضاف ولايتها إلى عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، والي مكّة آنذاك[3]، في محاولةٍ لتوحيد السيطرة على العمل الأمنيّ في الحجاز، وجَعْلِهِ في يدٍ واحدة، احتياطًا لخروج الإمام الحسين عليه السلام. وقد قدم عمرو بن سعيد الأشدق المدينة في شهر رمضان، بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام منها، فهدّد أهل المدينة وأنذرهم، وامتدح يزيد بن معاوية، وهدّد ابن الزبير، ولكنّه تجنّب التعرُّض للإمام الحسين عليه السلام[4]. ثمّ قام يزيد باتّصالات سياسيّة لمحاولة تطويق الثورة الحسينيّة قبل انطلاقها، فأرسل رسالة لعبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب[5]، فيها ترغيب وترهيب، وتحذير من شقّ عصا الطاعة (وكأنّ الطاعة مفروضة!)، وهي نمطٌ من خطاب المصادرة الذي اعتمده معاوية، والإيحاء بأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان طالبَ مُلكٍ ودنيا[6].

 

وأرسل رسالة أخرى إلى أهل المدينة، يهدّدهم ويحذّرهم من الثورة عليه، فأرسل أهل المدينة هذه الرسالة إلى الإمام الحسين في مكّة، فأجاب عليها مزدريًا به، في جوابٍ مختصر يشير فيه إلى القطيعة التامّة بين الإسلام والكفر،


 


[1] السماويّ، إبصار العين، ص189-192.

[2] ابن نما، مثير الأحزان، ص27-29.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص272.

[4] المصدر نفسه.

[5] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواص، ص215.

[6] كحالة، معجم المؤلفين، ج7، ص69.

 

51


39

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ضارِبًا المثل بآية قرآنيّة كانت هي كلّ الجواب ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾[1]، والسلام[2].

 

الموقف الأمويّ في مكّة بعد وصول الإمام الحسين عليه السلام إليها

كان عمرو بن سعيد الأشدق أمويًّا متعصّبًا ومبغضًا لأهل البيت عليهم السلام، فظًا غليظًا، جبّارًا متكبرًّا، معتزًا بجاهليّته وأمويّته، لا يبالي ولا يستحي من ادّعاء ما ليس له أهلًا، ومحبًّا ليزيد ومعاوية[3].

 

وحينما وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة، وتوافد الناس إليه، توجَّهَ إليه عمرو بن سعيد الأشدق، وسأله: ما إقدامُك؟ فقال الإمام عليه السلام: "عائذًا بالله، وبهذا البيتِ"[4]، ولم يُفصِح الإمام عليه السلام عن شيء من حقيقة موقفه، إلّا أنّه أراد أن يُحرِجَ هذا الطاغية الأمويّ بالقاعدة الأساسيّة التي ينبغي أن لا يزول عنها أيّ طاغية، لا في جاهليّة ولا في إسلام، وهي أنّ هذا حرمُ الله تعالى، ومن دخله كان آمنًا.

 

وفي خلال المدّة التي قضاها الإمام في مكّة، لم يظهر من الأمويّين أيّ إجراء عسكريّ عنيف ضدّ الإمام عليه السلام, ولعلّ ذلك بسبب ازدحام مكّة بالحجيج، ولأنّ الإمام عليه السلام كان يتحرّك محاطًا بحمايةٍ من أنصاره وأهل بيته، أو لأنّ الوالي الأمويّ لم يكن يملك قوّة عسكريّة كافية للاصطدام بالإمام عليه السلام.

 

ومع ذلك، فإنّ هناك من الدلائل التاريخيّة ما يكفي لإثبات أنّ الأمويّين كانوا عازمين على اغتيال الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، حتّى ولو أخّروا ذلك إلى ما بعد انقضاء موسم الحجّ، وبعد أن تفرغ مكّة من الوافدين، ممّا سرّع خطوات خروج الإمام عليه السلام من مكّة[5].


 


[1] سورة يونس، الآية 41.

[2] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص77.

[3] ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، ج4، ص132-134.

[4] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص214.

[5] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص248-249.

 

52


40

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

تطوُّر الأحداث في الكوفة بعد موت معاوية

يظهر أنّ نبأ موت معاوية وصل إلى أهل الكوفة بعد وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة[1]. فلم تصل إليه رسائل من الكوفة خلال وجوده في المدينة, لأنّ الوقت لا يتّسع لوصول الخبر من دمشق إلى العراق، ثمّ للاجتماع وكتابة الرسائل، ثمّ وصول الرسائل من العراق إلى المدينة قبل خروج الإمام الحسين منها، وكما علمنا، فإنّ الإمام عليه السلام مكث يومَين فقط في المدينة بعد ورود النعي بمعاوية.

 

وأمّا الرسائل التي كانت تصل من العراق، والتي تحضّ الإمام الحسين عليه السلام على الثورة على معاوية[2] بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يمتنع عليهم، ويذكر لهم أنّ بينه وبين معاوية عهدًا لا ينقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية، نظر في ذلك.

 

وكان الاجتماع الأوّل لرؤوس أهل الكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعيّ، وبحضور المسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر، وخرجَت أوّل رسالة وأخطرها من الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام، فوصلَت في العاشر من شهر رمضان[3]، وبعد يومَين على هذه الرسالة، خرج قيس بن مسهّر الصيداويّ، ومعه نحو من مئة وخمسين رسالة من الرجل والاثنين والأربعة[4].

ثمّ رسائل أخرى بعد يومَين[5]، ثمّ أخذَت الرسائل تترى على الإمام عليه السلام، يسألونه القدوم عليهم، وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستّمئة كتاب، وتواترَت الكتب، حتّى اجتمع عنده منها، في نُوَبٍ متفرّقة، اثنا عشر ألف كتاب[6].


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص277.

[2] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص151-152.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص277.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص203.

[5] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص241.

[6] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص105.

 

53


41

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الإمام الحسين عليه السلام والصحابة والتابعون في مكّة

عكف الناس على الإمام الحسين عليه السلام، يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حوله، ويستمعون كلامه، وتركوا عبد الله بن الزبير، الذي ساءه ذلك، ولكنّه لزم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردّد إلى الحسين عليه السلام في جملة الناس، وقد تراجع وزنُه وذكره، وتضاءل أمام ابن بنت رسول الله، سيّد الحجاز، بل سيّد أهل الأرض، ولكنّه بقي يختلف إلى الإمام الحسين عليه السلام صباحًا ومساءً[1].

 

ينقسم موقف الصحابة والتابعين، الذين التقوا الإمام الحسين عليه السلام وحاوروه وطرحوا عليه اقتراحات ومواقف، إلى عدّة اتّجاهات وميول، تتراوح بين الاستسلام للأمويّين، والفرار من وجههم في الأرض، والتربّص بانتظار حصول تبدُّل في موازين القوى بين الإمام الحسين عليه السلام والأمويّين من أجل إحراز نصرٍ مضمون...

 

إلّا أنّ أحدًا من هؤلاء جميعًا، حتّى أقرب المقرَّبين منهم، كابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر، لم يكن يتصوّر سقفًا أعلى من طموحات تحقيق نصر على الحكم الأمويّ، يتمكّن من استرداد الدولة من قبضته، وهو سقف تحقيق شهادةٍ تضرب في أعماق التاريخ والوجدان، وتهزّ كلّ عروش الظالمين إلى يوم القيامة، وتحفظ أصل دين الإسلام، وليس فقط استرداد قيادة الدولة الإسلاميّة.

 

عبد الله بن العبّاس

أمّا عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب، فقد حاول جهده ثنيَ الإمام الحسين عليه السلام عن التوجُّه إلى العراق، وقد رأى أنّه لا بدّ من أن يتحرّك أهلُ الكوفة ويخلعوا أميرهم الأمويّ، ثمّ إذا استقرّ الوضع هناك، يستطيع الإمام أن يذهب إلى العراق، وإلّا فإنّ الذهاب، وهم يطيعون أميرهم ويعطون الإمام الكلام فقط، خطيرٌ جدًّا[2].

 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص229.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص294.

 

54


42

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

لم يرفض، إذًا، عبد الله بن عبّاس نظرية الثورة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا أنّه رأى لها سياقًا عرفيًّا، وحسبما يتصرّف القادة الثائرون عادةً، إذا ما أرادوا الاعتماد على الشعب وعلى الطاقة الجماهيريّة، فإنّ على الجماهير أن تثور، وأن تقدّم السلطة للقائد، وأمّا أن يغامر القائد ويعتمد على إمكانيّة التحرك معه من الجماهير أو احتمال ذلك، فهذا يأباه طبعُ من يخطِّط تخطيطًا حكيمًا للاستيلاء على السلطة. ولكنّ أمرًا جوهريًّا فات عبد الله بن عبّاس، وهو أنّ أفق الثورة الحسينيّة كان أعلى وأعمق من استرداد الدولة وإنجاز إصلاحات اجتماعيّة وسياسيّة، وأنّ ما كان يخطّط له الإمام عليه السلام هو بُعدٌ رساليٌّ تأسيسيٌّ، سوف يكون من ثماره الآنيّة استرداد الدولة وإنجاز تلك الإصلاحات.

 

ولم يكن اقتراح ابن عبّاس جامدًا، بل كان يستند إلى إمكانيّة الالتجاء إلى أمكنة بعيدة، يستطيع أن ينظِّم فيها الإمام الحسين عليه السلام قواه العسكريّة والشعبيّة، ويستقطب الأنصار، ومن ثمّ يخوض حربًا منتصرة على الأمويّين[1].

 

كيف واجه الإمام عليه السلام طرح عبد الله بن العبّاس؟

لقد أخبره، أوّلًا، بأنّ هناك خطّة أمويّة لاغتياله في الحرم، حتّى ولو لم يبايع ووقف موقفًا سلبيًّا من قضيّة الثورة، ثمّ أخبره ثانيًا، في محاولةٍ لإفهام ابن عبّاس، بأنّ المجال ما زال متّسعًا لأخذ القرار النهائيّ بالتوجُّه إلى العراق، وأنّه باقٍ في الحرم "فإنّي مستوطنُ هذا الحرمِ، ومُقيمٌ فيه أبدًا ما رأيْتُ أهلَهُ يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني، استبدلتُ بهم غيرَهم"[2]. والإمام عليه السلام يعلم أنّه لا يوجد من أهل مكّة من يحبّه ويحبّ أهل بيته، فترك الحسم والجواب النهائيّ حتّى تستبين الأمور، وابن عبّاس يعلم بموقف أهل مكّة من أهل البيت عليهم السلام، فاستقرّ بذلك في نفس ابن عبّاس أنّ الإمام عليه السلام، إذًا، خارجٌ، لا محالة[3].


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص294.

[2] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص26-27.

[3] المصدر نفسه.

 

55


43

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وفي محاولة، لعلّها كانت الأخيرة بينهما، وقبل خروجه عليه السلام من مكّة بيوم أو يومَين، حسم الإمام عليه السلام أَمْرَهُ مع ابن عبّاس، وصرّح له بأنّه لا بدّ من العراق، وأنّه إن يُقتَل بالعراق أحبّ إليه من أن يُقتَل بمكّة، فإنّه إذا كان مقتولًا لا محالة، وأنّ ما قضى الله فهو كائن، فالهجوم والتقدُّم إلى الأمام أفضل من النكوص والتراجع[1].

 

محمّد بن الحنفيّة

التقى به الإمام الحسين عليه السلام في المدينة، قبل خروجه إلى مكّة، فاقترح عليه خطَّةَ حشدِ عناصر القوّة العسكريّة والشعبيّة, من أجل التأثير في ميزان القوى مع الدولة الأمويّة، بدعوة الناس إليه، ولو بالتنقُّل من بلد إلى بلد، ومن جبل إلى جبل، انطلاقًا من المدينة، إلى مكّة، إلى اليمن، وإلّا فإلى الوديان والجبال والبوادي... وهكذا[2].

 

رسالة الإمام عليه السلام إلى محمّد بن الحنفيّة ومن قِبله من بني هاشم[3]

وخلال وجوده في مكّة، أو بعد خروجه منها[4]، بعث الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، ومَن قِبَلَهُ من بني هاشم في المدينة، رسالة نصّها:

 

"بسم الله الرحمن الرحيم

 

مِن الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَمَنْ قِبَلَهُ مِنْ بَنِي هَاشِم:

أمّا بعدُ، فإنَّ مَنْ لَحِقَ بِي اسْتُشْهِدَ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِي لَمْ يُدْرِك الفَتْحَ، وَالسَّلَام"[5].

 

وقد لحق محمّد بن الحنفيّة بالإمام في مكّة[6]، بعد هذه الرسالة، ولكنّه لم يلحق به إلى العراق. حيث اقترح على الإمام، في الليلة الأخيرة التي خرج في صبيحتها إلى العراق، المكوث في الحرم، فصرّح

له الإمام بخشيته من أن يغتاله الأمويّون في الحرم، فيكون بذلك هو الذي تتحدَّث عنه الروايات النبويّة، والذي تستباح به

 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص72.

[2] المصدر نفسه، ص21-20.

[3] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص298.

[4] الصفّار، بصائر الدرجات، ص481.

[5] المصدر نفسه.

[6] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص167.

 

56


44

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

حرمة المسجد الحرام، وأنّ ذنوبه لو وُزِنَت بذنوب الثقلين لوزنتها، وأنّ عليه نصف عذاب العالم[1]، ولو نجح الأمويّون في قتل الإمام الحسين عليه السلام في الحرم، فسوف يروّجون، عبر قصّاصيهم وكذّابيهم، أنّه هو المقصود بتلك الروايات النبويّة.

 

ثمّ التقى محمّد بن الحنفيّة بالإمام للمرّة الأخيرة، متعجّبًا من إصرار الإمام على التوجّه إلى العراق، فصرّح له الإمام عليه السلام بطرفٍ من المشروع الإلهيّ الذي يسعى إليه، عبر إخباره بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أتاه وأمره بالخروج مع أهل بيته "فإنَّ اللهَ قد شاءَ أن يراكَ قتيلًا... وَشاءَ أن يراهُنَّ سبايا"[2].

 

لماذا لم يلتحق محمّد بن الحنفيّة بالإمام عليه السلام في العراق؟

 

الظاهر من بعض الأخبار أنّ محمّد بن الحنفيّة كان مريضًا مرضًا شديدًا أيّام خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة، ثمّ إلى العراق، بحيث إنّه لم يكن يقوى على حمل السيف أو الرمح[3].

 

وفي بعض آخر، فإنَّ الإمام الحسين عليه السلام قال له: "وأمّا أنتَ، يا أخي، فلا عليك أن تقيم في المدينة، فتكون لي عينًا، ولا تُخْفِ عَلَيَّ شيئًا من أمورهم"[4]. إلّا أنّ هذه الروايات لم تكفِ في تحصيل الباحث القطع واليقين في السبب الذي منع محمّد بن الحنفيّة من الالتحاق بالإمام الحسين عليه السلام.

 

وعلى كلّ حال، سواء كان محمّد بن الحنفيّة معذورًا في عدم التحاقه بالإمام عليه السلام، أم لم يكن معذورًا، فقد فاته فتحٌ جليل, لأنّ الإمام الحسين عليه السلام جعلَه قرين الشهادة، هذا الفتح الذي ما زال، إلى يومنا هذا، أمنيّةً لكلّ مَن يحيي أمر الإمام الشهيد عليه السلام وأصحابه وأهل بيته.

 

عبد الله بن جعفر

وأمّا عبد الله بن جعفر، الذي كان صحابيًّا[5] نشأ في حجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان على


 


[1] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص377.

[2] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص127.

[3] المصدر نفسه، (كتاب حكابة المختار في أخذ الثأر برواية أبي مخنف)، ص33.

[4] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص21.

[5] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص456.

 

57


45

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ميمنة أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين، إماميًّا [1] جريئًا في قول الحقّ [2]، فقد اتّصل بالإمام الحسين عليه السلام عبر رسالةٍ حاول فيها ثنيه عن المسير إلى العراق [3]، تبعًا لابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة، بناءً على رؤيتهم لموازين القوى، ولاعتقادهم أنّ أفق الثورة الحسينيّة هو إحرازُ نصرٍ سياسيّ عسكريّ على الدولة الأمويّة، واسترداد قيادة الدولة.

 

لكنّ عبد الله بن جعفر لم يلتحق بالثورة الحسينيّة، بل عاد من الطريق[4]، على الرغم من أنّ زوجته زينب بنت الإمام عليّ بن أبي طالب عليهما السلام قد رافقت الإمام الحسين عليه السلام في ثورته حتّى النهاية، وعلى الرغم من أنّ ولدَيه[5]، أو أولاده[6] قد رافقوا الإمام أيضًا، واستشهدوا معه في كربلاء.

 

عبد الله بن عمر

وأمّا عبد الله بن عمر، فنأتي معه إلى مستوى آخر منخفض في التعامل مع الثورة الحسينيّة، فقد رفض أصلَ الثورة، ودعا الإمام عليه السلام إلى الدخول في ما دخل فيه الناس، وإلى مبايعة يزيد، والصبر عليه، كما صبر لمعاوية من قبل [7]، مع أنّه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمرَ بنصرة الحسين عليه السلام، وسمع ابن عبّاس يروي حديثًا مشابهًا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وسمع من الإمام الحسين عليه السلام يطلب منه أن ينصره [8].

 

ومع ذلك، قعد ابن عمر، وتخلّف عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام بلا عذر، بل دعاه إلى متاركة بني أميّة، والقعود عن الثورة، ولزوم منزله، وأنّ بني أميّة لن يقتلوه حتّى ولو لم يبايع.


 


[1] الشيخ الصدوق، الخصال، ج2، ص477. 

[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص295-297.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص74.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص297.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص247-219.

[6] أبو الفرج الأصفهانيّ، أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص61.

[7] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام الحسين، ص200-193-192.

[8] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص27-26.

 

58


46

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ولكن، من قال لابن عمر ذلك؟ هل كان على اتّصال ببني أميّة، ويريد إغراء الإمام بالمكوث في مكّة لإجهاض الثورة في مهدها؟

 

قد يكون الجواب إيجابيًّا، إذا علمنا أنّ ابن عمر قد عاش في نعيم المال الأمويّ, من أجل أن يبايع ليزيد[1]، وأنّه بايع يزيد، واعتبر نَكْثَ بيعتِه من أعظم الغدر[2]، بل كان مع معاوية ويزيد من أوّل الطريق[3]، وعرضٌ سريع لهويّته التاريخيّة يكشف الكثير من شخصيّته، فقد وصفه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بأنّه سيّء الخُلُق، صغيرًا وكبيرًا[4].

 

عبد الله بن الزبير

هو عبد الله بن الزبير بن العوّام، وأمّه أسماء بنت أبي بكر، وخالته أم المؤمنين عائشة، وقد عُدَّ من صغار الصحابة[5], لأنّه وُلِدَ في السنة الأولى أو السنة الثانية من الهجرة، وقد وصفه أمير المؤمنين عليه السلام في واحدٍ من أخباره بالمغيّبات، قائلًا: "خَبٌّ ضَبٌّ، يَرُومُ أَمْرًا وَلَا يُدْرِكُهُ، يَنْصبُ حبَالَةَ الدِّينِ لِاصْطِيَادِ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعْدُ مَصْلُوبُ قُرَيْش"[6].

 

وهو الذي رغّب عثمان بن عفّان، أثناء الحصار، بالتحوّل إلى مكّة، لكنّ عثمان أبى ذلك، قائلًا: إنّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يُلحِد بمكّة كبشٌ من قريش، اسمه عبد الله، عليه مثل نصف أوزار الناس". وقد سمع هذا الإنذار مرّة ثانية، حينما حذّره عبدُ الله بن عمر بن الخطّاب، بقوله: إيّاك والإلحاد في حرم الله، فأَشهَدُ لَسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يُحلّها، (أو تُحَلُّ به) رجل من قريش، لو وُزِنَت ذنوبه بذنوب الثقلين، لوزنتها"، فانظر يابن الزبير لا تكونه![7].


 


[1] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص83.

[2] الترمذيّ، سنن الترمذيّ، ج4، ص144.

[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص215.

[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص9-10.

[5] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص364.

[6] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج7، ص24.

[7] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص378.

 

59


47

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وكان عبد الله بن الزبير من أهمّ العوامل التي أثّرت في تغيير مسار أبيه، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "مَا زَالَ الزُّبَيْرُ مِنَّا حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ"[1].

 

وهو الذي حرّض عائشة على مواصلة المسير إلى البصرة، حين قصدَت الرجوع بعد نباح كلاب الحوأب عليها.

 

وهو الذي بقي أربعين يومًا لا يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته، حتّى الْتَاتَ عليه الناس، فقال: إنّ له أهل بيت سوء، إذا ذكرتُه اشرأبَّت نفوسُهم إليه وفرحوا بذلك، فلا أحبُّ أن أقرَّ أعينَهم بذلك[2].

 

وهو الذي دعا ابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة وجماعة من بني هاشم إلى بيعته، فلمّا أبوا عليه، جعل يشتمهم ويتناولهم على المنبر، ثمّ قال: لتبايعنّ أو لأحرقنّكم بالنار! فأبوا عليه، فحبس محمّد بن الحنفيّة في خمسة عشر من بني هاشم في السجن[3].

 

وقد كان يُبغِض بني هاشم، ويلعن عليًّا عليه السلام ويسبّه، وكان حريصًا جدًّا على الإمارة والسلطة، وكان يدعو الناس إلى طلب الثأر قبل موت يزيد، فلمّا مات، طلب المُلك لنفسه، لا للثأر[4]، وكان، مع ذلك، متّصفًا بصفاتٍ وخلالٍ تنافي أخلاقيّات الرئاسة، ولا يصلح معها للخلافة، إذ كان بخيلًا، سيّء الخُلُق، حسودًا، كثير الخلاف, ولذا تراه أخرج ابن الحنفيّة، ونفى ابن عبّاس إلى الطائف[5].

 

وقد عانى الناس أيّام سلطته القصيرة أنواع البؤس والجوع والحرمان، وخصوصًا الموالي، فقد لاقوا منه أنواع الضيق.

 

وعندما وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة، اشتدّ ذلك على ابن الزبير, لأنّه كان قد طمع أن يبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين عليه السلام شقّ ذلك عليه، غير أنّه


 


[1] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج34، ص289.

[2] ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، ج4، ص413.

[3] المصدر نفسه.

[4] النمازيّ، مستدركات علم الرجال، ج5، ص18.

[5] الكتبيّ، فوات الوفيّات، ج1، ص448.

 

60


48

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

لا يُبدي ما في قلبه إلى الحسين، لكنّه يختلف إليه، ويصلّي بصلاته، ويقعد عنده، ويسمع حديثه، وهو يعلم أنّه لا يبايعه أحدٌ من أهل مكّة والحسين بن عليّ عليه السلام بها, لأنّ الحسين عليه السلام عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير[1]، الذي لزم مصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غضون ذلك إلى الحسين عليه السلام في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرّك بشيء ممّا في نفسه مع وجود الحسين عليه السلام، لِما يعلم من تعظيم الناس له، وتقديمهم إيّاه عليه، وميلهم إليه عليه السلام, لأنّه السيّد الكبير، وابن بنت رسول الله، ليس على وجه الأرض، يومئذٍ، أحدٌ يساميه ولا يساويه[2].

 

من هنا، كان كلُّ هَمِّ عبد الله بن الزبير وأقصى أمنيّته أن يخرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة, لتخلو له، وكان يظنّ أنّ ما يضمره خافٍ على الإمام عليه السلام، غير أنّ أمره كان أظهر من أن يخفى.

 

كانت شخصيّة عبد الله بن الزبير قلقة مضطربة، انعكست على آرائه ومواقفه، فقد كان طامحًا للرئاسة، إلى الدرجة التي ساوى فيها بينه وبين الإمام عليه السلام في مسألة الحقّ بالخلافة، فيقول له: ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم، بل وصل به التعلُّق الأعمى بالرئاسة حدًّا، توهّم أن يكون هو الخليفة، مع وجود الإمام، فيقول له: فأَقُمْ إنْ شِئتَ، وَتُولّيني أنا الأَمْرَ.

 

ومع ذلك، فقد كان الإمام عليه السلام يسايره ويحاوره، دون أن يُظهِر له أنّه يعرف حقيقة مشروعه، الذي كان فيه استحلالٌ للبيت وانتهاكٌ لحرمته، وقد قال له الإمام ذلك صراحةً: "إنَّ أبي حدَّثَني أنَّ بها كبشًا يَستَحِلُّ حُرْمَتَها، فما أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أنا ذلك الكبش"[3].

 

وكان الإمام عليه السلام حريصًا على أن لا يتوهّم أحدٌ أنّه يخفي شيئًا بخصوص هذه المحاورات، فكان يصرّح لمن يراهما يتحادثان بحقيقة موقف ابن الزبير.


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص26.

[2] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص153.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص288. 

 

61


49

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

إضافة إلى ذلك كلِّه، كان الإمام عليه السلام يلقي الحجّة على عبد الله بن الزبير في وجوب الخروج والثورة معه على بني أميّة... ولكنّ هذه الحجّة لم تؤثّر في نفس ابن الزبير, لأنّه كان يتمنّى خروج الحسين عليه السلام, لكي يدعو إلى نفسه، ويخلو له الجوّ.

 

دعوة أهل الكوفة والإعلان عن الاستعداد للبيعة

لمّا بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين عليه السلام من البيعة، أرجفوا بيزيد، وعُقِدَ اجتماعٌ في منزل سليمان بن صرد الخزاعيّ، فأرسلوا وفدًا من قِبَلِهم، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، وكتبوا إليه معهم.

 

ثمّ لبثوا يومَين، وأنفذوا قيس بن مسهّر الصيداويّ وعبد الرحمن بن عبد الله بن شدّاد الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ إلى الحسين عليه السلام، ومعهم نحو مئة وخمسين صفحة من الرجل والاثنين والأربعة، وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحد مئة كتاب، وتواترَت الكتب، حتّى اجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب، ثمّ لبثوا يومَين آخرَين، وسرحوا إليه هاني بن هاني السبعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكانا آخر الرسل، وكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن عليّ، من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام[1].

 

رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة

... ثمّ كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله، وكانا آخر الرسل:

 

"بسم الله الرحمن الرحيم

 

مِنَ الحسينِ بنِ عليٍّ، إلى الملأ مِن المؤمنينَ وَالمسلمينَ، أمّا بعدُ، فإنَّ هانِيًا وسعيدًا قدِما عَلَيَّ بكتبِكم، وكانا آخرَ مَن قدِمَ عَلَيَّ مِن رُسُلِكُم، وقد فهمتُ كلَّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلِّكم: إنّه ليس علينا إمامٌ، فأقبِل، لعلَّ اللهَ أنْ يجمعَنا بِك على الحقِّ والهدى.


 


[1] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص241.

 

 

62


50

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مُسْلِم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرتُه أن يكتبَ لي بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجِّهٌ إليكم، إن شاء الله، ولاقوّة إلّا بالله، فإنْ كنتُم على ما قَدِمَتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبِكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه، ولا تخذلوه، فإنّي أقدم إليكم وشيكًا، إن شاء الله. فلَعُمري، ما الإمامُ العاملُ (الحاكمُ) بالكتابِ، القائمُ بالقسطِ، الداينُ بدين الحقِّ، الحابسُ نفسه على ذات الله، كالذي يحكم بغير الحقِّ، ولا يهتدي سبيلًا، والسلام"[1].

 

ثمّ طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل، فدفع إليه الكتاب، وقال:

"إنّي موجِّهُك إلى أهلِ الكوفةِ، وسيقضي اللهُ مِن أمرِكَ ما يحبُّ ويرضى، وأنا أرجو أنْ أكونَ أنا وأنتَ في درجةِ الشهداءِ، فامْضِ بِبركةِ اللهِ وعونِهِ، حتّى تدخُلَ الكوفةَ، فإذا دخلْتَها، فانزِلْ عندَ أوثقِ أهلِها، وادْعُ الناسَ إلى طاعَتي، فإنْ رأيْتَهم مجتمِعِينَ على بيعَتي، فعجِّلْ عَلَيَّ بِالخبرِ، حتّى أعملَ على حسابِ ذلك، إنْ شاءَ اللهُ تعالى".

 

ثمّ عانقه الحسين عليه السلام، وودّعه، وبكيَا جميعًا[2].

 

مسلم بن عقيل رسول الحسين عليه السلام إلى الكوفة

خرج مسلم بن عقيل عليه السلام من مكّة، في منتصف شهر رمضان سنة ستّين للهجرة - وقد كان من أشجع بني عقيل وأرجلهم[3]، فقد كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في صفّين - ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من السنة نفسها[4].

 

وأوصاه الإمام الحسين عليه السلام أن ينزل عند أوثق أهل الكوفة[5]، وقد رُوِيَ أنّه


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص35.

[2] المصدر نفسه، ص36.

[3] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج2، ص836.

[4] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص55.

[5] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص36.

 

63


51

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

نزل عند مسلم بن عوسجة[1]، كما رُوِيَ أنّه نزل عند هاني بن عروة ابتداءً[2]، لكنّ الأشهر هو أنّ مسلمًا عليه السلام نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفيّ ابتداءً، ثمّ تحوّل منها بعد ذلك إلى دار هاني[3].

 

الأسلوب السرّيّ في تعبئة أهل الكوفة

كان لا بدّ لمسلم من اعتماد السرّ والرفق في تعبئة أهل الكوفة، حتّى يستكمل العدد والعدّة الكافيَين لتأهيل الكوفة للقيام معه، أو مع الإمام عليه السلام بعد أن يصل إليها[4]، وقد كانت الأجواء المعنويّة والسياسيّة مؤاتية للتحرُّك, ولذلك، فقد اتّخذ له مركزًا في أحد البيوت، وابتدأ يجتمع بالناس الذين أخذوا يتوافدون عليه، أفرادًا وجماعات، ويبايعون الإمام الحسين عليه السلام، وأقبلَت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعَت إليه جماعةٌ منهم، قرأ عليهم كتابَ الحسين، فأخذوا يبكون...[5]. وأخذ عددُ الذين يبايعون مسلمًا من أهل الكوفة يتزايد يومًا بعد يوم، حتّى بايعه ثمانية عشر ألف رجل في سترٍ ورفق![6].

حينئذٍ، كتب مسلم إلى الإمام عليه السلام بذلك، وأرسله مع عابس بن أبي شبيب الشاكريّ:

أمّا بعدُ، فإنّ الرائدَ لا يكذبُ أهلَه، وقد بايعني من أهلِ الكوفةِ ثمانية عشر ألفًا، فعجِّل الإقبالَ حين يأتيك كتابي هذا، فإنَّ الناسَ كلَّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولا هوى، والسلام[7].

 

إنّ هذه البيعة كانت، من جهة أهل الكوفة، تعبيرًا عن الحبّ والولاء من جانبهم للإمام عليه السلام، ليس أكثر، ولم يكن معناها أنّ كلّ الذين يبايعون قد تحوّلوا إلى تشكيلات منظَّمة من سرايا وكتائب وقطعات مسلَّحة جاهزة للقتال، فكانت


 


[1] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص55.

[2] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص299.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص279.

[4] القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ج3، ص143.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص279.

[6] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص235.

[7] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص290.

 

64


52

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

هذه مَهمَّة أخرى لمسلم، ومرحلة أدقّ وأصعب من مرحلة تحصيل البيعة وإعلان الولاء. فكان على مسلم، الذي يمثّل قوّة سياسيّة، كانت بعيدةً عن الكوفة طوال عشرين عامًا، أن يختصر عشرين عامًا، كانت السلطة الأمويّة خلالها تبني أقوى تشكيلاتها الأمنيّة، وأخطبوطها الإرهابيّ، وامتداداتها القبليّة والعشائريّة, ولذلك، كانت المواجهة غير متكافئة تمامًا، فمجرّد البيعة لا يعني وجود القوّة، حتّى لو كان عدد المبايعين ثمانية عشر ألفًا.

 

ففي أحد الاجتماعات التي عُقِدَت مع مسلم، وبايعه فيها الناس، على كثرة من حضر هذا الاجتماع ممّن هو محسوبٌ على التشيُّع، لم يقم إلّا ثلاثةٌ، استشهدوا بعد ذلك في كربلاء، أظهروا لمسلم استعدادهم التامّ لامتثال أمره، والتضحية في هذا السبيل[1]، بينما كان هناك كثرة أظهرت أنّها تحبّ الحقّ، ولكنّها تكره أن تموت من أجله[2].

 

ولمّا تزايد عدد المبايعين لمسلم، انتشر أمرُه وفشا بين الناس، وكان لا بدّ للسلطة الأمويّة من أن تعلم، والظاهر أنّ النعمان بن بشير بن سعد الخزرجيّ، والي الكوفة، لم يكن مستعدًّا لتنفيذ استعمال القوّة ضدّ مسلم، والمبادرة إلى الهجوم عليه, إمّا لأنّ مسلمًا كان في بيت صهره المختار، وإمّا لأنّه كان يتبنّى سياسة معاوية، وهي تحاشي المواجهة العلنيّة مع الإمام الحسين عليه السلام، بحيث إنّ معاوية لو اضطرّ إلى مواجهة علنيّة وقتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، وظفر به، لعفا عنه، وليس ذلك حبًّا للإمام عليه السلام، وإنّما لأنّ معاوية يعلم أنّ إراقة دم الإمام علنًا، وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة، كفيلٌ بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامّة، والحزب الأمويّ خاصّة، أدراج الرياح، خصوصًا تلك الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأمويّة بالإسلام في عقل الأمّة وعاطفتها، بحيث إنّه لم يعد أكثرُ هذه الأمّة يعرفُ إلّا الإسلام الأمويّ، حتّى


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص279.

[2] المصدر نفسه.

 

65


53

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأمويّة، إلّا إذا أُرِيقَ ذلك الدم المقدَّس، دم الإمام عليه السلام، ضدّ الحكم الأمويّ.

 

فكان النعمان بن بشير يعتقد أنّ يزيد سوف يطبِّق سياسة معاوية في تجنُّب الاصطدام الدمويّ مع رمز الإسلام المحمّديّ الأصيل آنذاك، الحسين بن عليّ، خوفًا من وقوع الفرز بينه وبين الإسلام الأمويّ، ومن ثمّ انكشاف اللعبة النفاقيّة التي كان يحتاج إليها معاوية في بناء ملك بني أميّة واستمراريّته!

 

وإمّا لأنّ القوّة المعنويّة لنهضة مسلم كانت قد انتشرت، بحيث إنّها تحتاج، لمواجهتها، إلى استعمالٍ شرسٍ وعنيفٍ للسلطةِ الأمنيّة، ولم تكن شخصيّة النعمان، لذاتها، قادرة على ذلك.

 

هذه هي الاحتمالات الممكنة، فلم يكن النعمان بن بشير محبًّا لأهل البيت عليهم السلام، ولا ذا مَيلٍ إليهم[1]، بل كان له ولأبيه تاريخٌ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد موت النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عثمانيّ الهوى، يجاهر ببُغضِ عليٍّ عليه السلام، ويُسيءُ القولَ فيه، وقد حاربَه يومَ الجمل وصفّين، كذلك فلم يكن النعمان حليمًا ناسكًا، يحبّ العافية، ويغتنم السلامة[2]، بل تلميذًا نبيهًا في مدرسةِ معاوية السياسيّة، فكان يتضعّف مكرًا وحيلةً، ويعوّل على الأسلوب السرّيّ والخدعة الخفية, للقضاء على الثورة والتخلُّص من مسلم بن عقيل، بل التخلُّص حتّى من الإمام عليه السلام نفسه.

 

وعلى كلّ حال، لم يَرُقْ موقفَه لحلفاء بني أميّة في الكوفة[3]، فأخذَت تتوالى رسائلُهم إلى يزيد في الشام[4]، تخبره بمستجدّات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعَت على أنّه إنْ كان لك بالكوفة حاجة، فابعث إليها رجلًا قويًّا، يُنفِّذ أمرك، ويعمل مثلَ عملِك في عدوِّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ، أو هو يتضعّف[5].


 


[1] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص4.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص231.

[3] المصدر نفسه.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص289.

[5] المصدر نفسه، ص280.

 

66


54

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

عبيد الله بن زياد والي الكوفة الجديد

استدعى يزيد مستشارَه ومستشارَ أبيه من قبل، سرجون بن منصور النصرانيّ، وسأله عن رأيه في مَن يكون الوالي على الكوفة بدلًا من النعمان، فأشار عليه سرجون باستعمال عبيد الله بن زياد، قائلًا: بأنّ هذا هو رأي معاوية أيضًا، وأخرج له كتابًا كان معاوية قد كتبه بذلك قبل موته[1]، فأخذ يزيد بهذا الرأي، وضمّ الكوفة والبصرة إلى عبيد الله بن زياد، وبعث إليه بعهده الجديد، وأمره باعتقال مسلم أو قتله.

 

وما إن تسلَّم عبيد الله بن زياد رسالةَ يزيد، حتّى أمر بالجهاز من وقته، والمسير والتهيّؤ إلى الكوفة من الغد[2]. فلمّا أشرف عليها، نزل حتّى أمسى ليلًا، ولمّا صار في داخل المدينة في جنح الظلام, وكان معتَمًّا بعمامةٍ سوداء وهو متلثّم، والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام، فقالت امرأةٌ: الله أكبر! ابن رسول الله، وربّ الكعبة! فتصايح الناس، وظنّوا أنّه الإمام الحسين عليه السلام، وقالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفًا. وازدحموا عليه، حتّى أخذوا بذنب دابّته، فأخذ لا يمرّ على جماعةٍ من الناس، إلّا سلَّموا عليه، وقالوا: مرحبًا بك يابن بنت رسول الله، قدمت خير مقدم! فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه[3].

 

وسار حتّى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به، لا يشكّون أنّه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصّته، فناداه بعضُ مَن كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان، وهو يظنّه الحسين عليه السلام، فقال: يابن رسول الله، مالي ولك؟ وما حملَك على قصد بلدي من بين البلدان؟ أنشدك الله إلّا ما تنحَّيتَ. والله، ما أنا بمسلِّمٍ إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب.

 

فجعل لا يكلّمه، ثمّ إنّه دنا وتدلّى النعمان من شُرف القصر، فقال له ابن زياد: افتح، لا فتحت! فقد طال ليلُك! وحسر اللثام عن فيه.


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص280.

[2] المصدر نفسه، ص281.

[3] المصدر نفسه.

 

67


55

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وسمعها إنسانٌ خلفَه، فنكص إلى القوم الذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسين عليه السلام، فقال: يا قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فعرفه النعمان، ففتح له، وتنادى الناس: ابن مرجانة! وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر[1]، وضربوا الباب في وجوه الناس[2].

 

أظهرَت كيفيّة دخول ابن زياد الكوفة مدى الشلل في الجهاز الأمنيّ الأمويّ، ومدى الحالة العامّة المعنويّة المؤيِّدة للإمام الحسين عليه السلام.

 

تفعيل التشكيلات الأمنيّة الأمويّة في الكوفة

هو المَهمَّة الأولى التي عمل ابن زياد عليها. فبعد أن دخل القصر، واطّلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، مهَّدَ لقراراته وإجراءاته، بخطابٍ إرهابيٍّ، توعّد أهلَ الكوفةِ فيه بالسوط والسيف، ورغّبَهم بالانقياد[3].

 

ثمّ أتبعَ خطابَه بإجراءات أمنيّة، تمثّلَت في إعادة ضبط التشكيلات الأمنيّة وتفعيلها، وأهمّ فئة فيه هم العرفاء, أي المسؤولين الأمنيّين المباشرين في الأحياء ووسط القبائل، فاستدعاهم وأخذهم أخذًا شديدًا، وطلب منهم تزويده بالتقارير: اكتبوا إليَّ الغرباء، ومَن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومَن فيكم من الحروريّة، وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق. فمَن كتبهم لنا فبرِئ، ومَن لم يكتب لنا أحدًا، يضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمَن لم يفعل، برئتُ منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه. وأيّما عريفٍ وُجِدَ في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا، صُلبِ على باب داره، وأُلغِيَت تلك العرافة من العطاء، وسُيِّر إلى موضعٍ بعمان الزارة[4].

 

لقد كان لمبادرة ابن زياد هذه أهمّيّة كبيرة في تحويل الأحداث في ساحة الكوفة إلى غير المجرى الذي كانت تجري فيه بهدوء تحت إشراف ابن عقيل، إذ كان العرفاء


 


[1] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص66-67.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص281.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه.

 

68


56

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الواسطة بين السلطة والناس آنذاك، فهم المسؤولون عن أمور القبائل، يوزّعون عليهم العطاء، ويقومون بتنظيم السجلّات العامّة، التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ويُسَجَّل فيها من يُولَد ليُفرَض له العطاء، ويُحذَف منها الميّت ليحذف عطاؤه، وكانوا أيضًا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا أيّام الحرب يقومون بأمور تعبئة الناس لها، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلّفين عنها، وتُعاقب السلطةُ العرفاءَ أشدّ العقوبة، إذا أهملوا واجباتهم أو قصّروا فيها. ولقد كان للعرفاء، بعد هذا القرار، دورٌ كبيرٌ في تخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الخوف والرهبة بينهم، كما كان لهم بعد ذلك دورٌ كبير في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام.

 

ولمّا سمع مسلم بن عقيل بمجيء ابن زياد إلى الكوفة، ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، لم يعد بقاؤه في دار صهر الوالي نافعًا، إذ لم يعد هذا في السلطة، وكان عليه أن يبادر إلى الاستعانة بعناصر قوّة سريعة، لا تعتمد فقط على البيعة والولاء لأهل البيت، بل على عنصر الولاء القبليّ، لمواجهة التطوّر الأمنيّ الجديد، الذي تمثّل باستنهاض القوّة الأمنيّة الأمويّة وتفعيلها، خصوصًا وأنّ المختار ليس له من القوّة القبليّة في الكوفة ما يجعله في منعة، بعكس ما عليه هانئ بن عروة المراديّ مِن العزّة والقوّة القبليّة في الكوفة[1].

 

فخرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المراديّ، شيخ مذحج، من أقوى قبائل الكوفة، وزعيمها، فدخلها، فأخذَت الشيعةُ تختلف إليه في دار هانئ، على تَسَتُّرٍ واستخفاءٍ من عبيد الله، وتواصوا بالكتمان...[2].

 

تصفية وجوه الشيعة وحبسهم

اتّخذ ابن زياد وضعية الهجوم، للسيطرة على زمام الأمور، والقضاء على حركة مسلم، فبادر إلى تقصّي رجال الشيعة في الكوفة وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، فحبس ميثم التمّار وقتله، وصُلِبَ معه تسعة آخرون في دُفعة واحدة، وقتل رشيد


 


[1] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص69.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص188.

 

69


57

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

 الهجريّ[1]، وحبس المختار وعبد الله بن الحارث[2]، وسليمان بن صرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر[3].

 

محاولة اكتشاف مركز مسلم بن عقيل

كان الهَمُّ الأكبر لعبيد الله بن زياد، منذ بدء تفعيله لجهازه الأمنيّ، هو معرفة مكان مسلم بن عقيل، وقد تَمَّ له ذلك بسهولة، من خلال عميلٍ تظاهر بأنّه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص[4]، وأنّه مولى لذي الكلاع الحميريّ في الشام، وأنّه محبٌّ لأهل البيت، وأنّه يحمل مالًا لهم، حتّى لا يكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة. ولعلّ أهل حمص، آنذاك، قد عُرِفَ أنّ فيهم من يحبّ أهل البيت عليهم السلام، فيكون ذلك مدعاةً لاطمئنان مَن يتّخذه معقل منفذًا لاختراق حركة مسلم، ومن المعروف عن جلّ الموالي حبّهم لأهل البيت عليهم السلام.

 

فاخترق هذا العميل الموانع الأمنيّة المحيطة بمسلم، ووصل إلى مركزه، عبر إيقاع مسلم بن عوسجة في الفخّ.

 

ولا يحتاج تعرُّفُه على ابن عوسجة إلى كثير جهد ومشقة، إذ كان وجيهًا شيعيًّا معروفًا في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه، حين قال له: سمعتُ نفرًا يقولون: هذا رجلٌ له علمٌ بأهل هذا البيت، فأتيتُك لتقبض هذا المال، وتدلّني على صاحبك فأبايعه، وإن شئتَ أخذتُ البيعةَ له قبل لقائه[5]. ولقد عبّر له ابنُ عوسجة عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه، وقوله: ... ولقد ساءتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر مِن قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته...[6].


 


[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص165-166.

[2] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج5، ص215.

[3] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج2، ص63.

[4] ابن نما، مثير الأحزان، ص32.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص282.

[6] المصدر نفسه.

 

70


58

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

إنّ عبارة مسلم بن عوسجة - ولقد ساءتني معرفتُك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته - تدلّ على مدى سيطرة عبيد الله بن زياد على الشارع، وعلى مدى سريّة حركات مسلم بن عقيل وتكتّمها وخفائها، وتدلّ أيضًا على أنّ تشكيلات مسلم لم تنضج بعد وتنمو بشكل يصحّ الاعتماد عليها والانطلاق بها[1].

 

كشف موقع مسلم بن عقيل

ثمّ إنّ ابن عوسجة أخّر معقلًا أيّامًا، قبل أن يطلب الإذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الأيّام، اختلف إليّ أيّامًا في منزلي، فإنّي طالبٌ لك الإذن على صاحبك...[2]، ثمّ لم يدخله على مسلم بن عقيل حتّى طلب له الإذن، فأذن له.

 

وهكذا، استطاع عبيد الله بن زياد اختراق جماعة مسلم عبر هذا العميل، الذي أوصله مسلم بن عوسجة إلى مقرّ مسلم في دار هانئ، حيث كان يمكث النهار بطوله يراقب الغادين والرائحين، وفي الليل كان يضع عبيد الله بن زياد في حصيلة معلوماته.

 

فكرة اغتيال عبيد الله بن زياد في دار هانئ بن عروة

وسواء كان المريض في الروايات هو هانئ بن عروة، أو هو شريك بن الأعور الهمدانيّ، وسواء كان الذي وضع خطّة الاغتيال وحرّض عليها هو هانئ بن عروة، أم هو شريك، إلّا أنّ الثابت أنّ مسلمًا رفض تنفيذ هذه الخطة, لأنّ هانئ أَبَى وكره أن يتمّ الاغتيال في داره، أو لأنّ امرأةً في داره هي التي أبَتْ ذلك، ولا غرابة في ذلك، فليس من أخلاق أهل البيت خيانة الأمانة، ولا الفتك ولا الغدر بمن استضافهم وأدخلهم دارَه، فقد كانت خطّة الاغتيال، وإنْ حقَّقَت نصرًا عاجلًا، تُعتَبَر نقيصةً في الأخلاق السياسيّة لأهل البيت، لِما فيها من الإساءة وعدم الوفاء لهانئ، خصوصًا وأنّ عمليّة الاغتيال هذه سوف تكون في عُرف العربِ سببًا في السبّة والمعابة على


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص235-236.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص189.

 

71


59

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

هانئ، فقد جاء عبيد الله ليزوره أو ليعوده، والعرب لا تسيء إلى ضيفها، حتّى ولو كان عدوًّا[1].

 

اعتقال هانئ بن عروة

بعد أن علم عبيد الله بن زياد بموقع مسلم، قرّر المبادرة إلى الهجوم، وكانت أوّل خطوة اعتقال هانئ، فاستدرجَه عبر رؤوس أهل الكوفة، فاستأمن، ودخل القصر متخلّيًا عن الحذر، حيث واجهَهُ عبيد الله بن زياد بالجاسوس، فأوقع في يده واعترف، لكنّه بادر إلى الهجوم، معتمدًا على قوّة عشيرته، ولكنّ عبيد الله بن زياد اعتقله، وساعده قريبُه عمرو بن الحجّاج في تفريق عشيرته حينما جاءت لنجدته، كما لعب شُرَيْحٌ القاضي دورًا سيّئًا في التعمية على العشيرة، فبقي هانئ معتقلًا في القصر، واستطاع عبيد الله بن زياد إخراج قبيلة مذحج من ساحة المعركة، وجُرِّدَ مسلم بن عقيل من قوّةِ قبيلةٍ كانت ستكون تحت تصرّفه لو أنّ هانئًا طليق[2].

 

انتفاضة مسلم بن عقيل

هل كان ينبغي لأهل الكوفة المعارِضين للحكم الأمويّ أن يعدّوا العدّة ويستبقوا الأمور، والمبادرة إلى السيطرة على الوضع في الكوفة قبل مجيء الإمام عليه السلام إليها، وذلك بالقيام بإجراءات وقائيّة احترازية، كاعتقال الوالي الأمويّ ومعاونيه، ومنع الخروج من الكوفة لحجب أخبارها عن مسامع السلطة الأمويّة أطول مدّة ممكنة، حتّى يصل الإمام عليه السلام، فيمسك بزمام الأمور، ويقود الثورة؟

 

لم يكن من الممكن أن تصدر هذه المبادرة من أهل الكوفة، حتّى مع وجود ذوي الخبرات العسكريّة فيهم. وإذا كان من المظنون جدًّا أن تكون فكرة هذه المبادرة قد خطرَت في ذهن بعضهم، إلّا أنّها لم يكن من الممكن لها أن تتحوّل إلى مبادرة جماعيّة تنفيذيّة على الأرض.

 


[1] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص65.

[2] مسكويه، تجارب الأمم، ج2، ص45-47.

 

72


60

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

فقد كان أهل الكوفة من قبائل شتّى، لكلّ قبيلة وجهاؤها وأشرافها المتعدّدون، ولكلٍّ منهم تأثيرٌ في قبيلته، لا يتعدّاه إلى القبائل الأخرى، ولم يكن من السهل أن يكون لهذا العدد الكبير من القبائل عميدٌ واحد يرجعون إليه في أمورهم، ويصدرون عن رأيه وقراره وأمره. كذلك، لم يكن من السهل أبدًا أن تصدر مواقفهم إزاء الأحداث عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف. لقد كان ذلك شبيهًا بالمستحيل في ذلك الزمان.

 

ولقد ترسّخَت هذه الحالة في أهل الكوفة خاصّة، والعراق عامّة, نتيجة السياسات التي مارسها معاوية، وبتركيز خاصّ على الكوفة، وكان عمادها الإرهاب والقمع والمراقبة الشديدة والاضطهاد والقتل، الذي تعرّض له كثير من أهل الكوفة، ومِن زعمائهم خاصّة، وبثّ عناصر الفرقة والتناحر بين القبائل, الأمر الذي زرع بين الناس، على مدى عشرين سنة، الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة النظام الأمنيّ الأمويّ، وضعف الثقة بالنفس، وعدم الاطمئنان بعضهم لبعض، والفرديّة في اتّخاذ الموقف والقرار.

 

ولم تكن جميع قبائل الكوفة معادية للنظام الأمويّ. وإذا ما كانت قبيلة معادية له، فلم تكن كذلك بجميع أفرادها، بل كثيرًا ما نجد انقسامًا للولاء في أفراد القبيلة الواحدة، ففي كلّ قبيلة إذا كان هناك من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليهم السلام، فقد كان هناك أيضًا من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، بل قد يكون في بعض هذه القبائل من الموالين للحكم الأمويّ أكثر من المعارضين له عامّة، والموالين لأهل البيت عليهم السلام خاصّة.

 

ولذلك ،كان من الصعب جدًّا أن يستطيع رؤساء القبائل التأثير النفسيّ والمعنويّ على قبائلهم، ودفعهم للثورة ضدّ الحكم الأمويّ علانيّة, ذلك لأنّ عناصر أخرى، قد تكون أساسية أيضًا، في القبيلة نفسها، ممّن يخدمون في أجهزة الأمويّين الأمنيّة أو يوالونهم، سوف يحبطون ذلك، بالتخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم، أو من خارجها بالاستعانة بالسلطة الأمويّة نفسها، وذلك إمّا بإخبار السلطة

 

73


61

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الأمويّة بما عزم عليه زعيم قبيلتهم، وإمّا بالمبادرة إلى إجهاض تحرُّك زعيم قبيلتهم، ومحاصرته ومنعه من استنهاض القبيلة ضدّ النظام الأمويّ، وذلك بإحداث حالة من التنازع الداخليّ بين أفراد القبيلة، ودفعها نحو عدم أخذ قرار إجماعيّ ضدّ أحد طرفَي النزاع، فتميل القبيلة إلى الحياد بين الأطراف المتنازعة، وبهذا ينجو النظام الأمويّ، وتخرج هذه القبيلة من عداد أعدائه، فيُقضى بذلك على العمل قبل البدء به، هذا إذا لم يقضِ على الزعيم وعلى أنصاره أيضًا.

 

ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كان زعيم القبيلة معاديًا للنظام الأمويّ، وهو هانئ بن عروة، ولكن كان بإزاءه زعيمٌ آخر موالٍ للنظام الأمويّ، وإنْ كان أقلَّ منه مرتبةً في القبيلة، هو عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، الذي قدّم خدمةً كبيرةً للأمويّين، حينما ركب موجة قبيلة مذحج التي استنفرَت لإطلاق سراح هانئ، فصرَفَهم عن اقتحام القصر، وفرّق جموعَهم بمكيدةٍ شارك في حبكها عبيد الله بن زياد وشُرَيح القاضي.

 

المهمّة الصعبة لمسلم بن عقيل

من هنا، كانت مَهمَّة مسلم، التي أرسله من أجلها الإمام عليه السلام إلى الكوفة، هي تعبئة الموالين للإمام الحسين عليه السلام والمعارضين للحكم الأمويّ في الكوفة، وإعدادهم، وتنظيمهم في تشكيلات أمنيّة وعسكريّة مؤاتية لمواجهة المهامّ المقبلة، التي أوّلُها السيطرة على الوضع داخل الكوفة، وقد لا يكون آخرها الدخول في مواجهة عسكريّة شاملة مع الجيش الأمويّ الشامي.

 

لقد كان ذلك يحتاج إلى وقتٍ، بحيث تُسَدُّ كلّ الثغرات والنواقص المعنويّة والتنظيميّة، على الأقلّ من أجل إنجاز المرحلة الأولى، وهي إعادة الكوفة إلى حظيرة الطاعة والانقياد لقيادة الإمام الحسين المقبلة من الحجاز، حتّى إذا وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة، فإنّه سوف يكون هو القائد المباشر، ويواصل من موقعه المقدَّس في القلوب، وعلى طريقته، قيادة الثورة واستكمال المشروع الإصلاحيّ والتغييريّ العامّ.

 

74

 


62

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

من هنا، تحاشى مسلم الدخول في أيّ مواجهة ميدانيّة فاصلة، قبل أوانها، مع السلطة الأمويّة المحليّة في الكوفة، حتّى يستكمل الإعداد والتحضير، كذلك كانت هذه السلطة لا تريد تلك المواجهة الميدانيّة الفاصلة مع حركة مسلم بن عقيل, إمّا لاعتبارات شخصيّة تربك حركة الوالي، كوجود قيادة هذه الحركة في دار صهره المختار، أو لطمع في نفس هذا الوالي بإمكانيّة السيطرة على هذه الحركة واستيعابها بالسياسة، على طريقة معاوية، أو لعدم وجود مقدرة شخصيّة سلطويّة عند الوالي على تفعيل الإمكانيّات الأمنيّة المحلّيّة في الكوفة، ومراهنته على وصول نجدة من الشام تتولّى هي الموقف.

 

بينما نجد أنّ الأمر انقلب تمامًا مع قدوم عبيد الله بن زياد، الشخصيّة السلطويّة الأمنيّة الأقوى، إلى الكوفة، فقد كان إلى جانب خبثه ودهائه، عارِفًا بالوضع السياسيّ والاجتماعيّ والنفسيّ في الكوفة، وبرجالها وقبائلها، وقادرًا على الإمساك بالجهاز الأمنيّ، وتفعيله وتشغيله بأقصى طاقاته، وأبوه زياد بن أبيه هو الذي أسَّسه وبناه، وكان قوامه أربعة آلاف رجل، فإذا ما كان هذا الوالي الجديد قادرًا على الإمساك بالوضع الأمنيّ، وكان طامحًا إلى إنجاز المهمّة التي أوكلها إليه يزيد، طمعًا في تقوية موقعه الإداريّ ومركزه القياديّ عنده، فسوف يبادر إلى استعمال أقصى ما يملك من الدهاء والبطش والقسوة، بدون الاستعانة بالجيش الأمويّ. فبادر إلى اختراق حركة مسلم من داخلها، بواسطة أحد جواسيسه الأمنيّين المحترفين، ثمّ تواطأ مع بعض زعماء الكوفة للإيقاع بهانىء بن عروة واعتقاله، ثمّ شغّل شُرَيح القاضي في تضليل قبيلة هانىء، ثمّ استعمل عمرو بن الحجّاج في امتطاء موجة غضب مذحج الزاحفة نحو القصر، ثمّ لصرفها عنه وتفريق جموعها. وبعد أن فصل بين مسلم وأقوى قيادة قبليّة كانت معه في الكوفة، أراد الانتقال إلى الخطوة الأخيرة: اعتقال رأس الحركة، مسلم بن عقيل.

 

الاضطرار والقرار الاستثنائيّ

مثّل اعتقالُ هانئ منعطفًا حرجًا وخطيرًا في تقديرات مسلم بن عقيل، اضطرّه

 

75

 


63

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

إلى الخروج عن الخطّة الأصليّة التي كان قد اعتمدها، واتّخاذ قرار استثنائيّ لمواجهة الوضع الطارئ الذي فرضه ابن زياد على الحركة باعتقاله هانئًا، فلم يعد طبيعيًّا الاستمرار في مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير وكأنّ شيئًا لم يكن، فإنّ هذه المواصلة، من جهة، لم تعد ممكنة بعد اعتقال هانىء، الذي يُعَدُّ من أقوى زعماء القبائل وأمنعها في الكوفة، ومن جهة ثانية، إذا تمكّن ابن زياد من اعتقاله، ولم يُواجَه بتحرُّك صارم من قبيلته ومن بقيّة عناصر حركة مسلم بن عقيل لإنقاذه، فسوف يبادر عبيد الله بن زياد إلى اعتقال المزيد والمزيد من أشراف الكوفة وزعماءها، بلا أدنى محذور، بدون أن يتحرّك أحدٌ لإنقاذ أيّ رجل من قبضة ابن زياد، أو إنّه من جهة ثالثة، سوف يعتقل مسلمًا نفسه، الذي لم يعد آمنًا في الكوفة، ولا شكّ أنّه الرجل الثاني الذي سيُعتَقَل مباشرةً بعد هانىء، الذي كان أقوى حصن يمكن أن يحميه، وأَمْنَعَهُ.

 

فأيّ فائدة تبقى بعد اعتقال هانىء في مواصلة التعبئة والتحضير؟

 

إذًا، لا بدّ من الانعطاف في طريقة العمل، والتخلّي عن مواصلة الإعداد والتحضير، والمبادرة إلى التحرُّك فورًا، تحت وطأة الضرورة والاضطرار، والدخول في مواجهة حاسمة سريعة مع السلطة الأمويّة المحلّيّة في الكوفة.

 

الانتفاضة

يقول عبد الله بن حازم: أنا، والله، رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هانئ، لأنظر ما صار إليه أمره، فلمّا ضُرِبَ وحُبِسَ، ركبتُ فرسي، وكنتُ أوّل أهل الدار دَخَلَ على مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عثرتاه! يا ثكلاه! فأخبرتُه الخبر، فأمرني أن أنادي في أصحابي، وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: نادِ: يَا مَنْصُورُ، أَمِتْ!

 

فخرجتُ فناديتُ، وتنادى أهل الكوفة، فاجتمعوا إليه، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكنديّ على ربع كندة وربيعة، وقال: سِر أمامي في الخيل،

 

76

 


64

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

وقدّمَه في الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: انزل، فأنت على الرجّالة. وعقد لأبي تمامة الصائديّ على تميم وهمدان، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدليّ على أهل المدينة، ثمّ أقبل نحو القصر[1].

 

وكان عبيد الله بن زياد، خشية أن يثب الناس به[2]، قد بادر إلى المسجد، بعد أن حبس هانىء بن عروة، وبعد أن صرف قبيلته مذحج، مستعينًا بشُرَيح وعمرو بن الحجّاج، فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، اعتصِموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم، ولا تفرّقوا فتختلفوا وتهلكوا وتذلّوا وتخافوا وتخرجوا، فإنّ أخاك من صدقَك، وقد أُعْذِرَ مَن أُنْذِر.

 

وما إن أتمّ خطبتَه وذهب لينزل، حتّى سمع الصيحة، فقال ما هذا؟ فقيل له: أيّها الأمير، الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع مَن بايعه! فما نزل حتّى دخلَت النظارة المسجد من قبل التمارين، يشتدّون ويقولون: قد جاء ابن عقيل، فدخل عبيد الله القصر، وتحرّز فيه، وأغلق بابه[3].

 

وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد، وبين يدَيه الأعلام، وشاكّوا السلاح وهم في ذلك يشتمون عبيد الله بن زياد، ويلعنون أباه[4]، حتّى أحاط بالقصر، وكانوا حينما خرجوا مع مسلم أربعة آلاف، فما بلغوا القصر إلّا وهم ثلاثمئة[5]! ثمّ إنّ الناس تداعوا إليهم واجتمعوا، وما لبثوا إلّا قليلًا، حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوقة، ما زالوا يتوثّبون حتّى المساء، وأمرهم شديد[6]، فضاق بعبيد الله أمره[7]، وكان كبر أمره أن يتمسّك بباب القصر وليس معه إلّا ثلاثون رجلًا من الشرط، وعشرون رجلًا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه[8].


 


[1] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص66.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275-276.

[3] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص70.

[4] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص86.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275-276.

[6] المصدر نفسه، ج4، ص275-276 و287.

[7] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص71.

[8] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275.

 

77


65

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

انضمام الأشراف إلى ابن زياد

ولمّا سمع أشراف الكوفة بما يجري لابن زياد، أقبلوا يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميّين، وجعلوا يشرفون على أنصار مسلم، فينظرون إليهم، فيتّقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم، وهم لا يفترون على عبيد الله وعلى أبيه[1]، وكان أنصار عبيد الله بن زياد من الأشراف، حتّى تلك الساعة، قد أصبحوا مئتين، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشاب، ويمنعونهم من الدنوّ من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا[2].

 

الحرب النفسيّة

ودعا عبيد الله بن زياد أعوانه: كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوّفهم الحرب، ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال: مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهليّ، وشبث بن ربعي التميميّ، وحجار بن أبجر العجليّ، وشمر بن ذي الجوشن العامريّ، وحَبَسَ سائر وجوه الناس عنده، استيحاشًا إليهم، لقلّة عدد من معه من الناس[3].

 

محاولة محاصرة مسلم

وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل، وينصب الحواجز, لكي يمنع الناس من الالتحاق بمسلم، فألفى عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في (حيّ) بني فتيان، فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره، فقال لابن زياد: إنّما أردتُك، قال: وكنتَ وعدتَني ذلك من نفسك، فأمَرَ به، فحُبِس. وخرج محمّد بن الأشعث حتّى وقف عند دور بني عمارة وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه[4].


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص238.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص275.

[4] المصدر نفسه.

 

78


66

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

مسلم يحاول فكَّ الحصار

بعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث، من المسجد، عبد الرحمن بن شريح الشباميّ، فلمّا رأى محمّد بن الأشعث كثرة مَن أتاه، أخذ يتنحّى ويتأخّر، وأرسل القعقاع بن شور الذهليّ إلى محمّد بن الأشعث: قد حلَّت على ابن عقيل من العرار, فتأخّر (أي محمّد بن الأشعث) عن موقفه، فأقبل حتّى دخل على ابن زياد من قبل دار الروميّين[1].

 

تجمُّع قوّة ابن زياد في القصر، وانتقالها إلى الهجوم

فلمّا اجتمع عند عبيد الله كثير بن شهاب ومحمّد والقعقاع، فيمن أطاعهم من قومهم، وقد ظهر أنّه تجمَّع لدى ابن زياد القوّة الكافية للقيام بالهجوم المعاكس على قوّة مسلم، ومنعها، ومن ثمّ من الهجوم على القصر، وعلى الأقلّ تأخير الهجوم حتّى المساء، فقال كثير لابن زياد، وكانوا مناصحين له: أصلحَ اللهُ الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس، ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرُجْ بنا إليهم! فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعيّ لواء، فأخرجه[2].

 

قتال شوارع حول القصر

وركب أصحاب ابن زياد، بقيادة شبث بن ربعيّ، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديدًا، وعبيد الله بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر، ينظرون إلى محاربة الناس[3].

 

الانهيار المعنويّ لأنصار مسلم

ثمّ قال عبيد الله للأشراف: ليشرف كلّ رجل منكم في ناحية من السور، فخوِّفوا القوم[4]، فمُنّوا أهلَ الطاعةِ الزيادةَ والكرامةَ، وخوِّفوا أهلَ المعصيةِ الحرمانَ


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص277.

[2] المصدر نفسه.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص86-87.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.

 

79


67

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

والعقوبةَ، وأعلِموهم فصولَ الجنود من الشام إليهم. فأشرفَ كثيرُ بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقمقاع بن شور، وشبث ابن ربعي، وحجّار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن[1]، على قوّات مسلم، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس، حتّى كادت الشمس أن تجبّ، فقال: أيّها الناس، يا أهل الكوفة، اتّقوا الله، ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقّوا عصا هذه الأمّة، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم وجرّبتم شوكتهم، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلَت! وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهدًا، لَئِنْ أتممتُم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيّتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها! وتكلّم الأشرافُ بنحوٍ من كلام هذا.

 

الانهيار العامّ

فلمّا سمع الناس مقالتهم، فتروا بعض الفتور، وأخذوا يتفرّقون وينصرفون. وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه وأخاه وابنَ عمّه، فيقول: انصرف، فإنّ الناس يكفونك، غدًا يأتيك أهلُ الشام، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرِف! فيذهب به. وتجيء المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها، فتقول: انصرف! الناس يكفونك، فتتعلّق به حتّى يرجع.

 

فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون، حتّى أمسى ابن عقيل وما معه إلاّ ثلاثون نفسًا في المسجد حتّى صلاة المغرب، فلمّا رأى أنّه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك النفر، خرج منصرفًا ماشيًا، ومشوا معه، متوجِّهًا نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة[2].

 

والظاهر، الذي لا بدّ من القول به هنا، هو أنّ قادة الألوية الأربعة: مسلم


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.

[2] المصدر نفسه.

 

80


68

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

بن عوسجة، وأبا ثمامة الصائديّ، وعبد الله بن عزيز الكنديّ، وعبّاس بن جعدة الجدليّ، وغيرهم من أمثال عبد الله بن حازم البكريّ، كانوا من القلةّ التي بقيَت مع مسلم بن عقيل إلى آخر الأمر، ولم يتخلّوا عنه في تلك الساعة، ولم يتركوه، بل الأرجح أنّه اتّفق معهم على التفرُّق والاختفاء، بعد أن أصبحوا لا ناصر لهم ولا معين، على أن يلتحقوا بالإمام الحسين عليه السلام.

 

وقد التحق فعلًا مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائديّ بالركب الحسينيّ، واستشهدوا مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. وأمّا عبد الله بن عزيز الكنديّ، وعبّاس بن جعدة الجدليّ، فقد اعتقلهم عبيد الله بن زياد، ثمّ قتلهم. وأمّا عبد الله بن حازم البكريّ، فقد استشهد في ثورة التوّابين.

 

مسلم بن عقيل وحيدًا

ثمّ خرج مسلم من الباب، وليس معه أحدٌ يدلّه على الطريق، ولا يدلّه على منزلٍ، ولا يواسيه بنفسه إنْ عرض له عدوّ[1]، فمضى على وجهه يتلدّد في أزقّة الكوفة، وقد أثخن بالجراحات[2]، لا يدري أين يذهب، حتّى خرج إلى دور بني جبلّة من كندة، فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأةٍ يُقال لها: طوعة، أُمّ ولدٍ كانت للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوّجها أسيد الحضرميّ، فولدَت له بلالًا، وكان بلالٌ قد خرج مع الناس، وأمُّه قائمة تنتظره، وكانت ممّن خفَّ مع مسلم[3]، فسلّم عليها ابن عقيل، فردَّت عليه، فقال لها: يا أَمَةَ اللهِ، اسقيني ماء.

 

فدخلَت، فسقَتْهُ، فجلس، وأدخلَت الإناء، ثمّ خرجَت.

فقالت: يا عبد الله، ألم تشرب؟

قال: بلى.

قالت: فاذهب إلى أهلك.


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص277-278.

[2] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص87-88.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.

 

81


69

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

فسكت، ثمّ عادت فقالت: مثل ذلك، فسكت!

ثمّ قالت له: فئ لله! سبحان الله! يا عبد الله! فمرَّ إلى أهلك، عافاك الله! فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أحلّه لك!

فقام، فقال: يا أَمَةَ الله، مالي في هذا المصر منزلٌ ولا عشيرةٌ. فهل لك إلى أجرٍ ومعروفٍ، ولَعَلِّي مكافئك به بعد اليوم؟

فقالت: يا عبد الله، وما ذاك؟

قال: أنا مسلم بن عقيل، كذَّبَني هؤلاء القوم وغرّوني.

قالت: أنتَ مسلم؟!

قال: نعم.

قالت: ادخل.

 

فأدخلَته بيتًا في دارها، غير البيت الذى تكون فيه، وفرشَت له، وعرضَت عليه العشاء، فلم يتعشَّ. ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فرآها تُكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال: والله، إنّه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة، وخروجك منه، إنّ لك لشأنًا.

 

قالت: يا بنيّ، اُلْهُ عن هذا!

 

قال لها: والله، لَتُخْبِرِنّي.

 

قالت: أقبِل على شأنك، ولا تسألني عن شيء.

 

فألحَّ عليها، فقالت: يا بنيّ، لا تحدِّثَنَّ أحدًا من الناس بما أخبرك به، وأخذت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت. وزعموا أنّه قد كان شريدًا من الناس، وقال بعضهم: كان يشرب مع أصحاب له[1].


 


[1] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص71.

 

82


70

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ابن زياد يستنفر كامل جهازه الأمنيّ لاعتقال مسلم

وأمر ابن زياد عمرو بن نافع، فنادى: ألّا بُرِئَت الذمّة من رجلٍ من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة والحرس، صلّى العتمة إلّا في المسجد! فلم يكن له إلّا ساعة، حتّى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديَه، فأقام الصلاة، فقال الحصين بن نمير: إنْ شئتَ صلَّيتَ بالناس، أو يصلّي بهم غيرك ودخلتَ أنت فصلَّيتَ في القصر، فإنّي لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فقال: مُرْ حرسي، فليقوموا ورائي، كما كانوا يقفون، ودُر فيهم، فإنّي لستُ بداخلٍ إذًا.

 

فصلّى بالناس العشاء، ثمّ قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبَرِئَت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره، ومَن جاء به، فله ديّته. اتّقوا الله، عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلًا.

 

ثمّ قال للحصين بن نمير السكونيّ: يا حصين بن نمير، ثكلتك أمّك، إن ضاع باب سكّة من سكك الكوفة لم تطبق على أهلها، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به. فوالله، لئن خرج من الكوفة سالمًا، لنريقَنَّ أنفسَنا في طلبه، وقد سلّطتُك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك، وأصبح غدًا واستبر الدُور، دارًا دارًا، وجسّ خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل. وكان الحصين على شرطه، وهو من بني تميم، ثمّ نزل ابن زياد، فدخل القصر، وقد عقد لعمرو بن حريث راية، وأمَّرَهُ على الناس[1].

 

انكشاف مكان مسلم

لمّا أصبح ابن تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد الذى آوت أمُّه ابنَ عقيل، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمّه، فقال له عبد الرحمن: اُسكُت الآن، ولا تُعلِم بهذا أحدًا من الناس. ثمّ أقبل عبد الرحمن، حتّى أتى أباه، وهو عند ابن زياد، فسارّه في أذنه، وقال: إنّ مسلمًا في دار طوعة،


 


[1] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص71.

 

83


71

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

فقال له ابن زياد: ما قال لك عبد الرحمن؟

 

فقال: أصلح الله الأمير، البشارة العظمى!

 

فقال عبيد الله بن زياد: وما ذاك؟ ومثلك من بشّر بخير!

 

فقال محمّد بن الأشعث: إنّ ابني هذا أخبرني أنّ ابن عقيل في دارٍ من دورنا، في دار طوعة، مولاة لنا.

 

فسُرّ بذلك عبيد الله بن زياد، ونخس بالقضيب في جنبه، ثمّ قال: قُم، فَأْتِني به الساعة، ولك ما بذلتُ من الجائزة والحظّ الأوفى.

 

وحين قام ابن الأشعث ليأتيه بابن عقيل، بعث ابن زياد إلى عمرو بن حريث، وهو في المسجد خليفته على الناس، أن ابعَثْ مع ابن الأشعث ستّين أو سبعين رجلًا، كلّهم من قيس أو قريش[1], لأنّ قيس وقريش من عرب الشمال الذين يبغضون عليّ بن أبي طالب عليه السلام, لأنّه قتل رجالهم في بدر وأُحُد والأحزاب والجمل وصفّين، فهم مستعدّون لقتل ابن أخيه مسلم بن عقيل، بخلاف أهل الجنوب، اليمنيّين الذين يحبّون عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

 

وإنّما كره أن يبعث معه قومه, لأنّه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل، فبعث معه عمرو بن عبيدالله بن عبّاس السلمى في ستّين أو سبعين من قيس، حتّى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل[2].

 

المعركة الأخيرة وشهادة مسلم بن عقيل

لمّا سمع مسلم بن عقيل وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال، عرف أنّه قد أُتِيَ في طلبه، فبادر إلى فرسه، فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، واعتجر بعمامة، وتقلّد سيفه، والقوم يرمون الدار بالحجارة، فتبسّم مسلم، وقال للمرأة: رحمَكِ الله، وجزاكِ عنّي خيرًا! اعلمي أنّي أُوتِيتُ مِن قِبَلِ ابنِك، ولكن افتحي الباب.


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص239.

[2] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص69.

 

84


72

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

ففتحَت الباب، فاقتحموا عليه الدار، فشدّ عليهم يضربهم بسيفه، حتّى أخرجهم من الدار، ثمّ عادوا إليه، فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمريّ ضربتَين، فضرب بكير فم مسلم، فقطع شفته العليا، وأشرع السيف في السفلى، ونصلَت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة، وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه، فلمّا رأوا ذلك، أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، وظهروا فوقه، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطناب القصب، ثمّ يقلبونها عليه من فوق البيت.

 

فلمّا رأى ذلك، قال: أكلّما أرى من الإجلاب لقتل ابن عقيل؟ يا نفسُ اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص، ولا عنه محيد. فخرج مصلّتًا سيفه إلى السكّة، وجعل يضاربهم بسيفه، حتّى قتل منهم جماعة، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إلى محمّد بن الأشعث أنْ أعطِه الأمان، فإنّك لن تقدر عليه إلّا بالأمان[1].

 

وأخذوا يرمون مسلمًا بالحجارة، فقال: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة، كما تُرمى الكفّار، وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار؟! ويلكم! أمَا ترعون حقّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وذرّيّته؟

 

ثمّ حمل عليهم، على ضعفه، فكسرهم وفرّقهم في الدروب، ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دارٍ هناك، فرجع القوم إليه، فصاح بهم محمّد بن الأشعث: ذروه، حتّى أكلّمه بما يُريد. ثمّ دنا منه ابن الأشعث، حتّى وقف قبالته، وقال: ويلك يابن عقيل! لا تقتل نفسَك، أنتَ آمنٌ، ودمُك في عنقي.

 

فقال له مسلم: أتظنّ، يابن الأشعث، أنّي أعطي بيدي أبدًا، وأنا أقدر على القتال؟ لا، والله، لا كان ذلك أبدًا!

 

ثمّ حمل عليه، حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع إلى موضعه، فوقف وقال: اللهمّ، إنّ العطش قد بلغ منّي! فلم يجسر أحدٌ أن يسقيَه الماء، ولا قَرُبَ منه.


 


[1] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص354.

 

85


73

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

فأقبل ابن الأشعث على أصحابه، وقال: ويلكم! إنّ هذا لهو العار والفشل، أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! احمِلوا عليه بأجمعكم حملةً واحدة![1].

 

فطُعِن من ورائه طعنةً، فسقط إلى الأرض، فأقبل عليه محمّد بن الأشعث، فقال: يا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك. فقال مسلم: لا حاجة لي إلى أمانِ الغدرة، ثمّ أقبل يقاتلهم...

 

فقال له محمّد بن الأشعث: ويحك يابن عقيل! إنّك لا تُكَذَّب ولا تُخدَع ولا تُغَرّ، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، فلا تقتل نفسك!

 

ولكنّ مسلم بن عقيل لم يلتفت إلى كلامه، وجعل يقاتل حتّى أُثخِنَ بالجراح، وتكاثروا عليه، وجعلوا يرمونه بالحجارة، فعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار. فدنا محمّد بن الأشعث، فقال: لك الأمان!

 

فقال له مسلم: آمَنُ أنا؟

 

قال: نعم، وقال القوم جميعًا: أنت آمن! غير عمرو بن عبيد الله بن العبّاس السلميّ، فإنّه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحّى.

 

وقال ابن عقيل: أَمَا لو لم تؤمنوني، ما وضعتُ يدي في أيديكم. فأُخِذ أسيرًا، وأُتِيَ ببغلةٍ، فحُمِلَ عليها، واجتمعوا حولَه، وسلَبَه ابنُ الأشعث حين أعطاه الأمانَ سيفَه، وانتزعه من عنقه[2]، وتقدّم رجلٌ من بني سليمان يُقال له: عبيد الله بن العبّاس، فأخذ عمامته[3].

 

فكأنّه عند ذلك آيَس من نفسه، فدمعَت عيناه، وعلم أنّ القوم قاتلوه، فقال: هذا أوّل الغدر! فقال محمّد بن الأشعث: أرجو ألّا يكون عليك بأس!

 

قال مسلم: ما هو إلا الرجاء، أين أمانُكم؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى.

 

فقال له عمرو بن عبيد الله بن عبّاس السلمي: إنّ من يطلب مثل الذى تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك، لم يبكِ!


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص241.

[2] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص68.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص92-96.

 

86


74

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

قال مسلم: إنّي والله، ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإنْ كنتُ لم أحبّ لها طرفةَ عينٍ تلفًا، ولكنْ أبكي لأهلي المقبِلِين إليّ، أبكي لحسينٍ وآلِ حسين. ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث، فقال له: يا عبد الله! إنّي أراك، والله، ستعجز عن أمانيّ، فهل عندك خيرٌ تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا على لساني، يُبلِغُ حسينًا، فإنّي لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلًا، أو هو خرج غدًا هو وأهل بيته، وإنّ ما ترى من جزعي لذلك، فيقول: إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير، لا يرى أن تمشي حتّى تُقتَل، وهو يقول: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أَبِيكَ الذى كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل. إنّ أهلَ الكوفة قد كذّبوكَ وكذّبوني، وليس لمكذوبٍ رأيٌ. فقال ابن الأشعث: والله، لأفعلنّ، ولأُعلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أنّي قد أمَّنْتُك.

 

وأقبل محمّد بن الأشعث بمسلم بن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن، فأُذِنَ له، فأخبر عبيد الله خبرَ ابن عقيل، وضرب بكير إيّاه، فقال: بُعدًا له! فأخبرَه محمّدُ بن الأشعث بما كان منه، وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيد الله: ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه! إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكَتَ...

 

ثمّ أُدخِل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد، فقال له الحرسيّ: سلِّم على الأمير.

 

فقال له مسلم: اُسكُت، لا أُمّ لك! ما لك وللكلام! والله، ليس هو لي بأميرٍ فأسلّم عليه! فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك! سَلَّمْتَ أم لم تُسَلِّم، فإنّك مقتول!

 

فقال مسلم بن عقيل: إنْ قتلتني، فقد قتل شرٌّ منك مَن كان خيرًا منّي.

 

فقال ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجت على إمامك، وشققتَ عصا المسلمين، وألحقت الفتنة.

 

فقال مسلم: كذبتَ يابن زياد! والله، ما كان معاوية خليفةً بإجماع الأمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة الغصب، وكذلك ابنه يزيد. وأمّا

 

87

 


75

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

الفتنة، فإنّك ألحقتَها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف. وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته، فوالله، ما خالفتُ، ولا كفرتُ، ولا بدّلتُ. وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن عليّ، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.

 

فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال اللهُ دونه، ولم يرَكَ أهله.

قال: فمن أهلُه يابن مرجانة؟

قال: معاوية وأمير المؤمنين يزيد.

فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حالٍ، رضينا بالله حَكَمًا بيننا وبينكم.

قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئًا؟

قال: لا، والله، ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين!

قال: قتلني الله، إنْ لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام!

قال: أمَا إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه. أمَا إنّك لا تدَع سوءَ القتلة وقبحَ المثلة وخبثَ السيرة ولؤمَ الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك. والله، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم، وقدرتُ على شربةٍ من ماء، لطال عليك أن تراني في هذا القصر!

 

... ثمّ جعل ابن زياد يشتم عليًّا والحسن والحسين عليهم السلام.

 

فقال له مسلم: أنتَ وأبوك أحقّ بالشتيمة منهم. فاقضِ ما أنت قاض! فنحن أهل بيتٍ موكول بنا البلاء.

 

فقال عبيد الله بن زياد: الحقوا به إلى أعلى القصر، فاضربوا عنقه، وألحقوا رأسه جسده.

 

ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدُعِي، فقال: اصعد، فكن أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وملائكة الله ورسله، وهو يقول: اللهمَّ، احكم بيننا وبين قومٍ

 

 

88


76

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

غرّونا وكذّبونا وأذلّونا، وأشرف به على الناس، وهم على باب القصر ممّا يلي الرحبة، على موضع الجزّارين اليوم، حتّى إذا رأوه ضُرِبَت عنقَه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثمّ أُتبِعَ الرأسُ بالجسد.

 

مقتل هانئ وأنصار مسلم المعتقلين

وكان محمّد بن الأشعث قد كلّم عبيد الله بن زياد في هانئ بن عروة، وقال له: إنّك قد عرفتَ منزلة هانئ بن عروة في المصر، وبيته في العشيرة، وقد علم قومُه أنّي وصاحبي سقناه إليك، فأُنشِدُك الله لَمَّا وهبتَه لي، فإنّي أكره عداوة قومه، وهم أعزّ أهل المصر وعدد أهل اليمن، فوعده أن يفعل.

 

فلمّا كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان بدا لعبيد الله بن زياد فيه، وأبى أن يفي لمحمّد بن الأشعث بما قال، فأمر بهانئ بن عروة، حين قتل مسلم بن عقيل، فقال: أَخرِجُوه إلى السوق، فاضربوا عنقه. فأُخرِجَ بهانئ، حتّى انتهى إلى مكانٍ من السوق، كان يُباعُ فيه الغنم وهو مكتوف، فجعل يقول: وامذحجاه! ولا مذحج لي اليوم. وامذحجاه! وأين منّي مذحج! فلمّا رأى أنّ أحدًا لا ينصره، جذب يدَه، فنزعها من الكتاف، ثمّ قال: أمَا من عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يجاحِش به رجلٌ عن نفسه؟، ووثبوا إليه، فشدّوه وثاقًا، ثمّ قيل له: امدد عنقك، فقال: ما أنا بها مجد سخيّ، وما أنا بمعينكم على نفسي، فضربه مولى لعبيد الله بن زياد - تركيٌّ يُقال له: رشيد - بالسيف، فلم يصنع سيفه شيئًا، فقال هانئ: إلى الله المعاد. اللهمّ، إلى رحمتك ورضوانك! ثمّ ضربةً أخرى فقتله[1].

 

ثمّ قام أعوان عبيد الله بن زياد بسحل جثّتَي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في سوق الكوفة[2]، وبعد ذلك، أمر بهما، فصُلِبَا منكّسَّين[3].


 


[1] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص67-68.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص296.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص105.

 

89


77

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

اعتقال المعارضين المشتبه بهم

وكان المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل قد خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبد الله براية حمراء، وعليه ثياب حمر. وجاء المختار برايته، فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنّما خرجتُ لأمنع عمرًا، وإنّ الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعيّ قاتلوا مُسْلِمًا وأصحابَه، عشيّة سارَ مُسلِم إلى قصر ابن زياد، قتالًا شديدًا، وإنّ شبثًا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرّقوا. فقال له القعقاع: إنّك قد سددتَ على الناس وجهَ مصيرهم، فافرج لهم ينسربوا، وإنّ عبيد الله أمر أن يطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلًا، فأتى بهما، فحُبِسا.

 

إرسال البشارة والرؤوس إلى يزيد بن معاوية

ثمّ إنّ عبيد الله ابن زياد، لمّا قتل مسلمًا وهانئًا، بعث برأسيهما، مع هانئ بن أبي حيّة الوادعيّ والزبير بن الأروح التميميّ، إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فالحمد لله الذى أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤنة عدوّه. أخبر أمير المؤمنينعليه السلام أنَّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المراديّ، وإنّي جعلتُ عليهما العيون، ودسستُ إليهما الرجال، وكدتهما حتّى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدّمتُهما، فضرب أعناقهما. وقد بعثتُ إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الهمدانيّ والزبير بن الأروح التميميّ، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبَّ من أمر، فإنّ عندهما علمًا وصدقًا وفهمًا وورعًا، والسلام[1].

 

فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أنْ كنتَ كما أحبّ، عملتَ عملَ الحازم، وصلتَ صولةَ الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنَيْتَ وكفَيْتَ وصدَقْتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك، فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيرًا. وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ قد فصل من مكّة،


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص296.

 

90


78

الفصل الثاني: النهضة الحسينيّة‏

متوجِّهًا نحو العراق، فضعْ المناظر والمسالح، وأَدرِك العيون عليه، وضع الأرصاد على الطرق، واحترس على الظنّ، وخذ على التهمة، وقم أفضل القيام، غير ألّا تقتل إلّا من قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر في كلّ يوم[1]، والسلام عليك ورحمة الله.

 

ثمّ أمر يزيد بن معاوية بنصب الرأسَين في دربٍ من دمشق[2].

 

ولمّا بلغ عبيد الله بن زياد أنّ الإمام الحسين عليه السلام توجَّهَ من مكّة إلى العراق، بعث الحصين بن النمير السكونيّ، صاحب شرطه، حتّى نزل القادسيّة في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، وأمره أن يقيم بالقادسيّة إلى خفّان، إلى القطقطانة، وما بين واقصة إلى طريق الشام، إلى طريق البصرة، إلى لعلع، فيمنع من أراد الدخول ومن أراد النفوذ من ناحية الكوفة إلى الحجاز، إلّا من كان حاجًّا أو معتمِرًا، ومن لا يُتَّهَم بممالاة الحسين[3].

 

ثمّ جمّد عبيد الله بن زياد البعوث العسكريّة التي كانت متوجّهةً إلى الثغور، وحوّلها إلى قتال الإمام الحسين عليه السلام[4].

 

وكانت انتفاضة مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مَضَين من ذي الحجّة سنة 60 للهجرة النبويّة، وكان خروج الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة يوم الأحد لليلتَين بقيتا من رجب سنة 60 للهجرة، ودخل مكّة ليلة الجمعة لثلاثٍ مَضَين من شعبان، فأقام بمكّة شعبان وشهر رمضان وشوّال وذا القعدة، ثمّ خرج منها لثمانٍ مَضَين من ذى الحجّة يوم الثلاثاء يوم التروية، في اليوم الذي انتفض فيه مسلم بن عقيل في الكوفة[5].


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال ص 242.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص93.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص243.

[4] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج14، ص215.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص284-286.

 

91


79

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

علّة زمان الثورة ومكانها

بصرف النظر عن الرسائل التي وصلت إلى الإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة، لم يكن بدٌّ من التوجُّه إلى العراق[1], لأنّ بذرة الشيعة في العراق، فهناك شيعته[2]، ومواطن العلويّين الذين ظهر منهم الإخلاص لأهل البيت، وخاضوا إلى جانبهم حروب الجمل وصفّين والنهروان[3]، وأثنى عليهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام[4].

 

ولأنّ العراق لم يستسلم لبني أميّة، كبقية الأقطار، فقد كانت الكوفة هي الحاضرة الوحيدة في العالم الإسلاميّ، التي اخترقَت الولاء للأمويّين، وكانت مقرَّ المعارضة والثورة ضدّهم طيلة عشرين سنة، وبقيَت تتمنّى زوالَهم، بعد أن ذاقَت مُرَّ حكمهم واضطهادهم وظلمهم، فقد حرموها وجوّعوها وبطشوا برجالها ورؤوسها، وبقيَت على اتصالٍ بالإمام الحسين عليه السلام، تدعوه إلى الثورة ضدّ الأمويّين[5]، وتزوره دائما في المدينة[6]. كلّ ذلك أدّى إلى أن تكون احتمالات انعكاس الاستشهاد الحسينيّ في التربة العراقيّة أكبر بكثير من غيرها، والحوادث التي وقعَت بعد كربلاء، وعلى مدى سنين متطاولة، تثبت ذلك.

 

بينما لم يكن في مكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّون أهل البيت عليهم السلام[7]، وحينما خرج الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، لم يخرج معه من مكّة والمدينة رجلٌ واحدٌ في ثورته.


 


[1] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج1، ص310.

[2] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين، ص294.

[3] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص231.

[4] المصدر نفسه، ج1، ص230.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص182.

[6] البلاذريّ، أنساب الأشراف ج3، ص156-157.

[7] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص104.

 

95


80

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

هذا، مع أنّه كان يعلم عليه السلام بأنّ أهلَ الكوفة قاتِلوه[1]. ومع ذلك، فلا بدّ من العراق, لأنّ الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختارا مصرعَه وبدءَ مسيره وحملتَه لإنقاذ الإسلام هناك في كربلاء، في العراق[2].

 

في الطريق إلى كربلاء

حينما وصل الإمام عليه السلام إلى الحاجر من بطن الرُمَّة، وهو وادٍ بعالية نجد، ومنزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، وفيه يجتمع أهل الكوفة والبصرة، ويقع شمال نجد، بعث قيس بن المسهّر الصيداويّ، ويُقال: بل بعث أخاه من الرضاعة، عبد الله بن يقطر[3]، إلى أهل الكوفة، ولم يكن عليه السلام عَلِمَ بخبر مسلم بن عقيل، وكتب معه إليهم:

"بسم الله الرحمن الرحيم

مِن الحسين بنِ عليٍّ، إلى إخوانِه مِن المؤمِنين والمسلِمين، سلامٌ عليكم، فإنّي أحمدُ إليكم اللهَ الذي لا إلهَ إلّا هوَ.

 

أمّا بعدُ، فإنَّ كتابَ مُسلِم بنِ عقيلٍ جاءني يخبرُ فيه بِحُسنِ رأيِكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلبِ بحقِّنا، فسألتُ اللهَ أنْ يُحسِنَ لنا الصنيع، وأنْ يُثيبَكُم على ذلكَ أعظمَ الأجرِ، وقد شخصَتْ إليكُم مِنْ مكّة، يومَ الثلاثاءِ لثمانٍ مضَينَ مِن ذي الحجّة يومَ الترويةِ، فإذا قَدِمَ عليكم رسولي، فانكمِشُوا[4] في أمرِكُم، وجِدُّوا، فإنّي قادِمٌ عليكم في أيّامي هذه، والسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ"[5].

 

وكان عبيد الله بن زياد قد علم بخروج الحسين عليه السلام من مكّة، فكلّف الحصين بن النمير السكونيّ بمراقبة مداخل العراق من الحجاز، فاتّخذ الحصينُ القادسيّةَ مركزًا له، ووزَّع خيلَه شرقًا وغربًا، فأقبل قيس بن المسهّر الصيداويّ، حتّى انتهى إلى


 


[1] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص211.

[2] قطب الدين الراونديّ، الخرائج والجرائح، ج1، ص253.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج5، ص398.

[4] أي أسرعوا.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص70.

 

96


81

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

القادسيّة، فأخذه الحصين بن نمير، وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فأخرج الكتاب ومزَّقَه، فلمّا حضر بين يدَي عبيد الله، قال له: مَن أنتَ؟

قال: رجلٌ مِن شيعةِ أميرِ المؤمنين عليه السلام.

قال: فلماذا مزَّقتَ الكتاب؟

قال: لئلّا تعلم ما فيه.

قال: ممّن الكتاب؟ وإلى مَن؟

قال: مِن الحسين عليه السلام إلى قومٍ مِن أهل الكوفة، لا أعرف أسماءهم.

فغضب ابن زياد، وقال له: اصعد، فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

 

فصعد قيسٌ القصر، فحمد اللهَ وأثنى عليه، وقال:

أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ، خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا رسولُه، وقد فارقتُه في الحاجِر، فأجيبوه!.

 

ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفرَ لعليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأمر عبيد الله فأُلقِيَ مِن فوقِ القصر، فتقطَّع، فمات[1].

 

فبينما الحسين عليه السلام في الطريق، إذ طلع عليه ركبٌ أقبلوا من الكوفة، فإذا فيهم هلال بن نافع الجمليّ وعمرو بن خالد، فسألَهم عن خبر الناس، فقالوا: أمّا والله، الأشراف، فقد استمالهم ابنُ زياد بالأموال، فهم عليك، وأمّا سائر الناس، فأفئدتهم لك، وسيوفهم مشهورةٌ عليك!

 

قال: فلكم علمٌ برسولي قيس بن المسهّر؟

قالوا: نعم، قتله ابن زياد.

 

فاسترجع، واستعبر باكيًا، وقال: جعل الله له الجنّة ثوابًا، اللهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلًا كريمًا، إنّك على كلّ شيءٍ قدير[2].

 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص378.

[2] المصدر نفسه.

 

97


82

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

ووصل الإمام عليه السلام إلى الثعلبيّة، وتقع على ثلثَي الطريق من مكّة إلى العراق[1]، حيث علم هناك بشهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة[2].

 

فسار حتّى انتهى إلى زبالة[3]، وهناك وافاه بها رسول محمّد بن الأشعث بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره، وخذلان أهل الكوفة إيّاه، بعد أن بايعوه، وقد كان مُسلِمٌ سأل محمّد بن الأشعث ذلك. فلمّا قرأ الكتاب، استيقن بصحّة الخبر، وأفظعَه قتلُ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة. ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن المسهّر، رسوله الذي وجَّهَهُ من بطن الرُمَّة[4].

 

والمشهور هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام سرّح عبد الله بن يقطر إلى مُسلِم بن عقيل، بعد خروجه من مكّة، في جواب كتاب مسلم إلى الإمام، الذي أخبره فيه باجتماع الناس، وسأله فيه القدوم إلى الكوفة، فقبض عليه الحصين بن نمير[5].

 

ولكن هناك رواية تقول: إنّ الذي أرسله الحسين عليه السلام هو قيس بن المسهّر... وإنّ عبد الله بن يقطر بعثَه الحسين مع مسلم، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان، قبل أن يتمّ عليه ما تَمَّ، بعث عبد الله إلى الحسين يخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين، وصار ما صار عليه من الأمر الذي ذكرناه[6].

 

فأخرج إلى الناس كتابًا، فقرأه عليهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلَنا شيعتُنا، فمَن أحبَّ منكم الانصراف، فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام".

 

وأقبل الحسين عليه السلام حتّى نزل شراف، فلمّا كان في السحر، أمر فتيانَه، فاستقوا من الماء فأكثروا، ثمّ ساروا منها حتّى انتصف النهار تقريبًا، فظهرَت في الأفق رايات


 


[1] الحمويّ، معجم البلدان، ج2، ص78.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص302-303.

[3] زبالة: منزل بطريق مكّة من الكوفة. الحمويّ، معجم البلدان، ج3، ص129.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص247-248.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص303.

[6] السماويّ، إبصار العين، ص94.

 

98


83

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

الجيش الأمويّ بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحيّ، فتياسر الإمام عليه السلام إلى جبلٍ اسمه ذو حُسَم، كي يضعه خلفه، ويواجه القوم. فنزل الحسين، فأمر بأبنيته، فضربت.

 

وسرعان ما تواجه الجيشان في حرِّ الظهيرة، ألف فارس من أهل العراق، وقلّة قليلة مع الإمام عليه السلام، معتمّون متقلِّدو أسيافهم، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: "اسْقُوا الْقَوْمَ، وَأَرْوُوهُمْ مِنَ الْمَاءِ، وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا". فقام فتيانه، وسقوا القوم من الماء، حتّى أرووهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطساس من الماء، ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، عُزِلَت عنه، وسقوا آخر، حتّى سقوا الخيل كلّها.

 

وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسيّة، حيث الجيش الأمويّ بقيادة الحصين بن نمير التميميّ، الذي كان على شرطة عبيد الله بن زياد، وأمره أن ينزل القادسيّة، وأن يضع المسالح، فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان، ولم يصرّح الحرّ للإمام عليه السلام بمهمَّته، حتّى انقضى حيّزٌ من النهار، صلّى فيه الإمام عليه السلام الظهر والعصر.

 

وحينما حضرَت صلاة الظهر، خرج الحسين عليه السلام في إزار ورداء ونعلَين، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَمْ آتِكُمْ حَتَّى أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ أَنْ أَقْدِمْ عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ, لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الْهُدَى. فَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جِئْتُكُمْ، فَإِنْ تُعْطُونِي مَا أَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ عُهُودِكُمْ وَمَوَاثِيقِكُمْ، أقْدم مصْرَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كَارِهِينَ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْبَلْتُ مِنْهُ إِلَيْكُمْ".

 

فسكتوا عنه، فقال الحسين عليه السلام للحرّ: "أَتُرِيدُ أَنْ تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ؟".

 

قال: لا، بل تصلّي أنتَ، ونصلّي بصلاتك.

 

فصلّى بهم الحسين عليه السلام، ثمّ دخل خيمته واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به. فلمّا كان وقت العصر، أمر الحسين عليه السلام أن يتهيّؤا للرحيل، ثمّ خرج، فأمر مناديَه، فنادى بالعصر، فصلّى بالقوم، ثمّ سلَّمَ وانصرف

 

 

99


84

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

إلى القوم بوجهه، مخاطِبًا الجموع التي كانت مع الحرّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أَمّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، يَكُنْ أَرْضَى لِلَّهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ البَيْتِ أَوْلَى بِوَلَايَةِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَيْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَالسَّائِرِينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوَان‏، وَإِنْ أَنْتُمْ كَرِهْتُمُونَا وَجَهِلْتُمْ حَقَّنَا، وَكَانَ رَأْيُكُمُ غَيْرَ مَا أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَيَّ رُسُلُكُمْ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ".

 

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا، والله، ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.

 

فقال الحسين عليه السلام: "يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجَين اللذَين فيهما كتبهم إليّ". فأخرج خرجَين مملوءَين صحفًا، فنشرها بين أيديهم.

 

ولكنّ الظاهر أنّ هذا الخطاب كان بلا جدوى، فقد صرّح الحرّ للإمام بأنّه يريد أن يُقْدِمَه على ابن زياد، وقال: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقَك حتّى نُقدِمَك على عبيد الله بن زياد.

 

رفض الإمام عليه السلام، وقال للحرّ: "المَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ".

 

ثمّ قام عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

"إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ تَرَوْنَ، وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ، وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا، وَاسْتَمَرَّتْ جدًّا، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ. أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَب الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ رَبِّهِ محقًا، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، وَلَا الْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَمًا"[1].

 

فقام زهير بن القين البجليّ، فقال لأصحابه: أَتتكلَّمونَ أَمْ أتكَلَّمُ؟

 

قالوا: لا، بل تكلَّم.

 

فحمد الله، فأثنى عليه، ثمّ قال للإمام عليه السلام: "قدْ سَمِعْنا، هَداكَ اللهُ، يابْنَ


 


[1] السيّد ابن طاووس، اللهوف ص34.

 

100


85

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

رسولِ اللهِ، مقالتَكَ. وَاللهِ، لَوْ كانَت الدنيا لنا باقيةً، وكنّا فيها مخلَّدِينَ، إلّا أنَّ فراقَها في نَصْرِكَ وَمُواساتِكَ، لآثَرْنَا الخروجَ معكَ على الإقامةِ فيها"!

 

فدعا له الحسين، ثمّ قال له خيرًا[1]، ثمّ أمر قافلته بالانصراف، فاعترضها جيش الحرّ، فوقع تلاسنٌ بينه وبين الإمام عليه السلام... ولمّا كثر الكلام بينهما، قال له الحرّ: إنّي لم أُؤمَر بقتالِك، وَإنَّما أُمِرْتُ أنْ لا أفارقَكَ حتّى أقدمَك الكوفةَ، فإذا أَبَيْتَ، فخذْ طريقًا لا تُدْخِلُكَ الكوفةَ، ولا تردُّك إلى المدينة, لتكونَ بيني وبينك نصفًا، حتّى أكتبَ إلى ابن زياد، وتكتبَ أنت إلى يزيد بن معاوية، إنْ أردتَ أن تكتبَ إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إنْ شئت. فلعلَّ اللهَ إلى ذاك أنْ يأتيَ بأمرٍ يرزقُني فيه العافيةَ مِن أنْ أبتليَ بشيءٍ مِن أمرِك.

 

قال الإمام الحسين عليه السلام: "فَخُذْ هَهُنَا"[2].

 

كان الإمام عليه السلام يريد أن يدخل الكوفة حُرًّا، وبالطريقة التي يختارها هو، وكان الحُرّ يريد أن يأخذه إليها أسيرًا، بأمرٍ من ابن زياد. وكان هذا أصل الأخذ والردّ بينهما، فقد ظلّ الإمام عليه السلام مصرًّا على التوجُّه نحو الكوفة، حتّى بعد أن خيّرَهُ الحرُّ بن يزيد في أن يتّخذَ طريقًا لا تُدخِلُه الكوفة، ولا تردُّهُ إلى المدينة، فيذهب حيث يشاء بين ذلك، بل على رواية ابن أعثم، كان الاختيار أوسع، حيث شمل حتّى الرجوع إلى المدينة، إذا شاء، حين قال له الحرّ: يا أبا عبد الله، إنّي لم أؤمر بقتال، وإنّما أُمَرْتُ أن لا أفارقَك أو أقدمَ بك على ابن زياد. وأنا، والله، كارهٌ أن يبتليَني الله بشيء من أمرك، غير أنّي قد أخذتُ ببيعة القوم، وخرجتُ إليك، وأنا أعلم أنّه لا يوافي القيامةَ أحدٌ من هذه الأمّة، إلّا وهو يرجو شفاعةَ جدّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا خائفٌ إنْ قاتلتُك، أن أخسر الدنيا والآخرة! ولكن خُذْ عنّي هذا الطريق، وامضِ حيث شئت، حتّى أكتبَ على ابن زياد أنَّ هذا خالفني في الطريق، فلم أقدر عليه...[3].


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص304.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص249 و251.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص139.

 

101


86

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

وعلى ذلك، فقد كان الإمام قادرًا على العودة إلى المدينة، ولكنّه أصرّ على التوجُّه إلى الكوفة[1]. ولَمَّا منعَهُ الحرُّ أن يدخلها إلّا أسيرًا، لم يبقَ أمامه عليه السلام إلّا التياسر، فلا يستسلم للحرّ، ولا يريد العودة إلى المدينة، وهذا الطريق هو الذي قاده إلى كربلاء[2].

 

وهكذا، أخذ الحسين عليه السلام يتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلًا، وسار في أصحابه، والحرّ يسايره.

 

إصرار الإمام على المسير بعد علمه بانقلاب الوضع في الكوفة

بعد انقلاب أهل الكوفة على مسلم بن عقيل، وخذلانهم إيّاه، انتفَت، عمليًّا، وانتهت تمامًا حجّتهم التي ألزَموا الإمام عليه السلام بها، بما أرسلوا من رسائل، وبالبيعة التي بايعوها لمسلم. ومع ذلك، لم يُعرِض الإمام عليه السلام عن التوجُّه إلى العراق، بعد وصول خبر مقتل مسلم وهانئ وعبد الله بن يقطر، بل أصرّ على التوجُّه إليهم، وواصل الاحتجاج عليهم برسائلهم وبيعتهم. فها هو يقول لمن يقابله في الطريق: "هَذِهِ كُتُبُ أَهْلِ الكُوفَةِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا قَاتِلِيَّ..."[3]، ويقول للطرماح، وقد سأله أن يلجأ إلى جبل أجأ: "إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ القَوْمِ مَوْعِدًا أَكْرَهُ أَنْ أخْلِفَهُمْ. فَإنْ يَدْفَع اللهُ عَنَّا، فَقديمًا ما أنعمَ علينا، وكفى، وَإنْ يَكُنْ مَا لَا بُدَّ منه، فَفَوْزٌ وَشهادَةٌ، إنْ شَاءَ اللهُ..."[4]، وفي نصّ آخر: "إِنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَؤلاءِ القَوْمِ قَوْلٌ لَسْنَا نَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الاِنْصِرَافِ..."[5].

 

فهل كان الإمام عليه السلام يراهن على قدرته الشخصيّة على التأثير على أهل الكوفة، لو دخلها هو شخصيًّا وخاطب أهلها مباشرةً، بحيث إنّهم سيلتفّون حوله ويسارعون إلى نصرته, بناءً على أنّ مسلم بن عقيل لا يملك قدرة الإمام عليه السلام في هذا المجال؟


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص134-139.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص206.

[3] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص211.

[4] ابن نما، مثير الأحزان، ص39.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص308.

 

102


87

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

ولعلّ هذه الفكرة طرأَت على ذهن أحد أصحاب الإمام عليه السلام، حين قال له: إِنَّكَ، والله، ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدِمْتَ الكوفةَ، لكانَ الناسُ إليكَ أسرع...[1], ولذا، واصل الإمام الإصرار على التوجُّه إلى الكوفة؟

 

أم إنّ الإمام عليه السلام كان يعلم، منذ البدء، أنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، لعلمه بما سيؤول إليه موقف أهل الكوفة من قبل ذلك، فهو يعلم بما كان وبما سيكون إلى قيام الساعة؟ أو لأنّ أنباء أهل الكوفة، بعد مقتل مسلم، قد تواترَت إليه بسرعة، مؤكّدةً على أنّ ابن زياد قد عبّأهم لقتاله، وأنّهم أصبحوا إلبًا عليه، وفي عذيب الهجانات، لم يعد ثمّة شكّ في أنّ الكوفة قد انقلبَت على عهدها مع الإمام عليه السلام، رأسًا على عقب، بل وقد عبّأها ابن زياد عن بكرة أبيها، واستعرض عساكرها ليُسرّح بهم إلى الحسين عليه السلام؟

 

فيكون الإمام عليه السلام قد واصل طريقه، وأصرّ على التوجُّه إلى الكوفة، لا لأنّ لأهل الكوفة حجّة باقية عليه، بل وفاءً منه بوعده والقول الذي أعطاه، وحتّى لا يقول واحدٌ من الناس أنّه لم يفِ تمامًا بالعهد، لو أنّه انصرف عن التوجُّه إلى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها, ذلك لأنّ الإمام عليه السلام أراد أن يتمّ حجّته على أهل الكوفة، ولم يشأ أن يدع لهم أيّة مؤاخذة عليه يمكن أن يتذرّعوا بها لو أنّه كان قد انصرف عن التوجُّه إليهم أثناء الطريق, لأنّهم يمكن أن يدّعوا أنّ الأخبار التي بلغَت الإمام عليه السلام عن حال الكوفة لم تكن صحيحة أو دقيقة، وأنّ أنصارًا له كثيرين فيها كانوا ينتظرونه في خفاءٍ عن رصد السلطة.

 

إنّ إصرار الإمام على التوجُّه إلى العراق، على الرغم من علمه بالانقلاب الحادّ في موازين القوى لمصلحة الأمويّين، يدلّ على أنّ رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام ودعوتهم إليه لم تكن هي السبب الرئيس في توجُّهِه نحو العراق، بل كان السبب الرئيس وراء إصراره على التوجُّه نحو العراق هو علمه المسبق

 

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ص204.

 

103


88

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

بأنّه ما لم يبايع، مقتولٌ لا محالة، حتّى لو كان في جحر هامة من هوام الأرض، بل كان عليه السلام يعلم أنّ أهل الكوفة قاتِلوه، "هَذِهِ رَسَائِلُ أَهْلِ الكُوفَةِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا قَاتِلِيَّ!". ولذلك، كان عليه أن يختار بنفسه أرضَ مصرعِه، ولم يكن أفضل من أرض العراق للمصرع المحتوم الذي لا بدّ منه، لِما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثُّر بواقعة المصرع، والتغيّر، حيث ستهُبّ من هناك، بعد مقتله، عواصف التغيير والتحوُّلات الكبرى، التي لا تهدأ حتّى تُسقِط دولة الأمويّين، والتي سوف يتحقّق فيها الفتح الحسينيّ.

 

الوصول إلى كربلاء

فلمّا أصبح، نزل، فصلّى الغداة، ثمّ عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم، فيأتيه الحرّ فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردًّا شديدًا، امتنعوا عليه وارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتّى انتهوا إلى نينوى[1].

 

فإذا راكبٌ على نجيبٍ له، وعليه السلاح، متنكّبٌ قوسًا، مقبلٌ من الكوفة، فوقفوا جميعًا ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم، سلَّم على الحرّ بن يزيد وأصحابه، ولم يسلِّم على الحسين عليه السلام وأصحابه، فدفع إلى الحرّ كتابًا من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه:

أمّا بعدُ، فجَعجِع[2] بالحسين بن عليّ وأصحابه بالمكان الذي يوافيك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنُزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرتُ رسولي أن يلزمك ولا يفارقك، حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.

 

فلمّا قرأ الكتاب، قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، يأمرني فيه أن أُجَعجِعَ بكم في المكان الذى يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره أن لا يفارقني حتّى أنفّذ رأيه وأمره[3]، ولا بدّ من الانتهاء إلى أمره، فانزل بهذا المكان، ولا تجعل للأمير عليَّ علّة.


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص83.

[2] الجوهري، الصحاح، ج3، ص1196، جعجع: كتب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد: أن جعجع بحسين. قال الأصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الأغرابي: يعني ضيق عليه.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص308.

 

104


89

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

وأخذ الحرُّ بن يزيد الإمامَ الحسين عليه السلام وأصحابَه وأهلَ بيته بالنزول في ذلك المكان، على غير ماءٍ، ولا في قرية.

 

فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية (يعنون نينوى)، أو هذه القرية (يعنون الغاضريّة)، أو هذه الأخرى (يعنون شفية).

 

فقال: لا، والله، ما أستطيع ذلك. هذا رجلٌ قد بُعِثَ إليَّ عينًا.

 

فقال زهير بن القين للإمام الحسين عليه السلام: إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَراهُ يكونُ بعدَ هذا الذي ترونَ إلّا أشدَّ ممّا ترونَ. بِأبي وأمّي، يابنَ رسولِ اللهِ، واللهِ، لَو لم يأتِنا غيرُ هؤلاءِ، لكانَ لنا فيهم كفايةٌ، فكيفَ بِمَنْ سيأتينا مِن غيرِهم؟ فَهلُمَّ بنا نُناجِز هؤلاءُ، إنَّ قِتالَ هؤلاءِ أهوَنُ مِن قِتالِ مَن يأتينا مِن بَعدِهم, فَلَعُمْرِي، لَيَأتِينا مِن بَعدِ ما تَرى مَا لا قِبَلَ لنا بِه[1]!

 

فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "فَإِنّي أَكرَهُ أنْ أَبدَأَهُم بِقِتالٍ، مَا كُنْتُ لِأَبْدَأهُم بِالقِتالِ حَتَّى يَبْدَؤُوا".

 

فقال له زهير بن القين: فهاهنا قريةٌ بالقربِ منَّا، على شطِّ الفرات، وهي في عاقول[2] حصينة، الفرات يحدق بها إلّا مِن وجهٍ واحدٍ. فإنْ منعونا، قاتلناهم, فقِتالُهم أهونُ علينا مِن قِتالِ مَن يجيءُ مِن بعدِهم. فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "وأيَّةُ قريةٍ هي؟".

 

قال: هي العقر.

 

فقال الإمام الحسين عليه السلام: "اللهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العُقْرِ".

 

فقال الحسين للحرّ: "سِرْ بنا قليلًا، ثمَّ ننزلُ".

 

فسار معه، حتّى أتوا كربلاء، فوقف الحرّ وأصحابه أمام الحسين، ومنعوهم من المسير، وقال: انزِلْ بهذا المكانِ، فالفُراتُ مِنْكَ قريبٌ.


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص84.

[2] عاقول الوادي ما اعوجمنه، والأرض العاقول التي لا يُهتَدى إليها.

 

105


90

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

قال الحسين عليه السلام: "وَمَا اسمُ هذا المكانِ؟".

 

قالوا له: كربلاء.

 

قال عليه السلام: "ذَاتُ كَرْبٍ وَبَلَاءٍ! وَلَقَدْ مَرَّ أَبِي بِهَذا المكانِ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى صِفِّين، وَأَنَا مَعَهُ، فَوَقَفَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِاسْمِهِ، فَقَالَ: هَاهُنَا مَحَطُّ رِكَابِهِمْ، وَهَاهُنَا مُهَرَاقُ دِمَائِهِمْ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ثِقْلٌ لِآلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُونَ هَاهُنَا".

 

ثمّ أمر الحسينُ بأثقاله، فحطَّت بذلك المكان[1]، وكان ذلك يوم الخميس، وهو اليوم الثاني من المحرَّم، سنة إحدى وستّين[2].

 

وقد عبّر الإمام الحسين عليه السلام عن معرفته العميقة بالأرض وبالتاريخ، حيث قال: "اِنْزِلُوا، هَاهُنَا مُنَاخُ رِكَابِنَا. هَاهُنَا تُسْفَكُ دِمَاؤنا. هَاهُنَا، والله، تُهْتَكُ حَرِيمُنَا. هَاهُنَا، وَاللهِ، تُقْتَلُ رِجالُنَا. هَاهُنَا، وَاللهِ، تُذْبَحُ أَطْفالُنَا. هَاهُنَا، وَاللهِ، تُزارُ قُبُورُنَا. وَبِهَذِهِ التُّرْبَةِ وَعَدَنِي جَدِّي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَلَا خُلْفَ لِقَوْلِهِ"، ثمّ نزل عن فرسه[3]، وضُرِبَت خيمةٌ لأهله وبَنِيهِ، وضرب عشيرتُه خيامَهم من حول خيمته[4]، ثمّ بقيّة الأنصار.

 

وأقبل الحرُّ بن يزيد، حتّى نزل حذاء الحسين عليه السلام في ألف فارس، ثمّ كتب إلى عبيد الله بن زياد، يخبره أنّ الحسين نزل بأرض كربلاء[5].

 

فلمّا كان من الغد، قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص من الكوفة، في أربعة آلاف فارس، فنزل بنينوى[6]، وهناك انضمّ إليه الحرّ بن يزيد الرياحيّ في ألف فارس، فصار في خمسة آلاف فارس، وما زال ابن زياد يرسل إليه بالعساكر، حتّى وصل عدد الجيش الذي استُنفِرَ لقتال الحسين عليه السلام إلى ثلاثين ألفًا، ما بين فارسٍ وراجلٍ.


 


[1] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص249-251.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص84.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص149.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه، ج5، ص150.

[6] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص310-309.

 

106


91

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

معنى كربلاء

ذكر ياقوت أنّها لفظة عربيّة مشتقّة مِن الكربلة، وهي رخاوةٌ في القدمَين, أي الرخوة، أو مِن التهذيب والنقاوة, أي الأرض المنقّاة من الحصى والدغل، أو لأنّ فيها الكثير من نبات الكربل، وهو اسم نباتِ الحمّاض[1].

 

وذكر الشهرستانيّ أنّ كربلاء معرَّبة من كور بابل, أي (قرى بابليّة)، وقال الكرمليّ: إنّها مؤلَّفة من كلمتَين: كرب وإل, أي حرم الله.

 

وكانت معروفة قبل الفتح العربيّ لبلاد ما بين النهرَين، وقد ذُكِرَت في كتب التاريخ قبل الفتح[2]. فهي قطعًا ليست لفظة عربيّة.

 

فكربلا، إذًا، من القرى القديمة، كبابل وأربيل ونينوى، فلعلّ الاسم بابليٌّ أو آراميٌّ، ثمّ ورثها أمراء المناذرة وسكّان الحيرة بحماية الفرس. وكانت منطقةً زراعيّةً تُجبَى عنها الثمار، وتنيخ عنها القوافل. يحدُّها شرقًا نهر الفرات ومدينة بابل، فهي على مشارف البادية، ومن الشمال الغربيّ الأنبار، ومن الجنوب الغربيّ الحيرة عاصمة المناذرة.

 

وهي عبارة عن وهدةٍ فسيحة، محدودة بسلسلةِ تلالٍ ممدودةٍ، وربوات متّصلة من ثلاث جهات، مدخلها الجهة الشرقيّة.

ولها أسماء أخرى ذكرتها المصادر التاريخيّة: مثل الطفّ أو الطفوف، وطفّ الفرات, أي الشاطئ[3]، ونينوى[4]، والنواويس، وهي مقابر النصارى[5]، والغاضريّة.

 

نزل الركب الحسينيّ أرض كربلاء في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين للهجرة، وكان ذلك في يوم الخميس، على ما هو المشهور القويّ[6].


 


[1] البغدادي، مراصد الاطلاع، ج3، ص1154.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص574.

[3] الحمويّ، معجم البلدان، ج4، ص35-36.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص308.

[5] ابن منظور، لسان العرب، ج6، ص245.

[6] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص385.

 

107


92

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

عمر بن سعد يتولّى قيادة الجيش الأمويّ

وافق عمر بن سعد بن أبي وقّاص على تولّي قيادة الجيش الأمويّ في كربلاء، مقابل الوعد بولاية الريّ، ولم يستمع إلى نصائح الناصحين[1]، وفضَّل النار في الآخرة مع ولاية الريّ في الدنيا، على الجنّة.

 

وكان عبيد الله بن زياد قد بعث عمر بن سعد على رأس أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، إلى دستبى[2]، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، وكتب إليه عهده على الريّ، وأمره بالخروج، فخرج معسكِرًا بالناس بحمّام أعين. فلمّا كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان، وإقباله إلى الكوفة، دعا ابنُ زياد عمرَ بن سعد، فقال له: سِرْ إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه، سِرْتَ إلى عملك.

 

فقال له عمر بن سعد: إنْ رأيتَ - رحمك الله - أن تعفيَني، فافعل!

 

فقال عبيد الله بن زياد: نعم، على أن تردّ إلينا عهدنا.

 

فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدًا إلّا نهاه. فأقبل إلى ابن زياد، فقال له: أصلحَك الله، إنّك ولَّيتَني هذا العمل، وكتبتَ لي العهد، وسمع به الناس، فإنْ رأيتَ أن تُنفِّذ لي ذلك، فافعل، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة، مَن لستُ بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه. فسمّى له أناسًا.

 

فقال له ابن زياد: لا تُعلمني بأشراف الكوفة، ولستُ أستأمِرُك فيمن أريد أن أبعث! إنْ سِرْتَ بجندنا، وإلّا فابعث إلينا بعهدنا.

 

فلمّا رآه قد لجّ، قال: إنّي سائر...[3].

 

وهكذا، وافق عمر بن سعد على قيادة الحرب ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، على الرغم من كلّ النواهي والتحذيرات التي سبق أن بلَغَتْ مسامعه الصمّاء، فقد رُوِيَ

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص309-310.

[2] الحمويّ، معجم البلدان، ج2، ص454. وهي كورة كبيرة، كانت مشتركة بين الريّ وهمذان، فقسمت كورتَين، وتشتمل على قريب تسعين قرية.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص254.

 

108


93

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال له: كيفَ أنتَ إذْ قُمْتَ مَقامًا تُخيَّر فيه بين الجنّةِ والنارِ، فتختار النار؟"[1].

 

ورُوِيَ أنّ عمر بن سعد قال يومًا للإمام الحسين عليه السلام: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ قِبَلَنَا نَاسًا سُفَهَاءَ يَزْعُمُونَ أَنِّي أَقْتُلُكَ! فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ عليه السلام: "إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ حُلَمَاءُ. أَمَا إِنَّهُ تُقِرُّ عَيْنِي أَلَّا تَأْكُلَ مِنْ بُرِّ الْعِرَاقِ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا!".

 

وروى عبد الله بن شريك العامريّ، قال: كنتُ أسمعُ أصحابَ عليٍّ عليه السلام، إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد، يقولون: هذا قاتلُ الحسينِ بن عليٍّ عليه السلام، وذلك قبلَ أنْ يُقتَلَ بزمانٍ!.

 

ولم يكن عمر بن سعد عبدَ الدنيا فحسب، بل كان ذا مَيلٍ وهوى أمويّ، فقد كان ممّن يتقرّب إلى سلطانهم، وكان من جملة الذين كتبوا إلى يزيد بن معاوية في ضعف والي الكوفة النعمان بن بشير، أو تضعّفه في مواجهة مسلم بن عقيل.

 

وكان قد نفّذ تعاليم ابن زياد تمامًا في قتل الإمام الحسين عليه السلام، وفي أن يوطئ الخيل صدره وظهره[2].

 

ولمّا لم ينل، بَعد عاشوراء، من ابن زياد، ما كان يأمله من ولاية الريّ، والزلفى من السلطان، خرج من مجلس ابن زياد يريد منزله إلى أهله، وهو يقول في طريقه:

ما رجعَ أحدٌ مثلَ ما رجعتُ! أطعتُ الفاسقَ ابنَ زياد، الظالمَ ابنَ الفاجرِ، وعصيتُ الحاكمَ العدلَ، وقطعتُ القرابةَ الشريفةَ!

 

وهجره الناس، وكلّما مرّ على ملأ من الناس، أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد، خرج الناس منه، وكلّ مَن رآه قد سبّه، فلزم بيتَه إلى أن قُتِل[3].

 

رُسُل عمر بن سعد إلى الإمام عليه السلام

بعد أن استلم عمر بن سعد قيادة العمليّات ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، ووصل

 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص151-153.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص255.

[3] سبط ابن الجوزيّ، تذكرة الخواصّ، ص233.

 

109


94

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

إلى كربلاء، بعث إليه عزرة بن قيس الأحمسيّ، وقال له: اِئْتِهِ، فسَلْهُ: ما الذي جاء به؟ وماذا يريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض عمر بن سعد ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلُّهم أبى وكرهه.

 

وقام إليه كثير به عبد الله الشعبيّ، فقال: أنا أذهب إليه. والله، لَئِنْ شئت لأفتكنّ به! فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يُفتَك به، ولكن اِئْتِهِ، فَسَلْهُ ما الذي جاء به؟

 

فأقبل كثير إلى الإمام عليه السلام، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائديّ، قال للحسين عليه السلام: أصلحَك اللهُ أبا عبد الله، قد جاءك شرُّ أهلِ الأرضِ، وأجرؤُه على دم، وأفتكُه!

 

فقام أبو ثمامة إليه، فقال له: ضع سيفَك!

 

قال: لا، والله، ولا كرامة، إنّما أنا رسولٌ، فإنْ سمعتُم منّي، أبلغتُكم ما أُرسِلْتُ به إليكم، وإنْ أبَيتُم، انصرفتُ عنكم.

فقال له: فإنّي آخذٌ بقائم سيفك، ثمّ تكلَّم بحاجتِك.

 

قال: لا، والله، لا تمسّه!

 

فقال له: أخبِرني ما جئتُ به، وأنا أُبلغُه عنك، ولا أدعك تدنو منه، فإنّك فاجرٌ!

 

فَاسْتَبَّا[1]. ثمّ انصرف كثير إلى عمر بن سعد، فأخبره الخبر، فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظليّ، فقال له: ويحكَ يا قرّة! اِلْقَ حُسَيْنًا، فسَلْهُ: ما جاء به؟ وماذا يريد؟

 

فأتاه قرّة بن قيس، فلمّا رآه الحسينُ مُقبِلًا، قال: أَتَعْرِفُونَ هَذَا؟

 

فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجلٌ مِن حنظلة، تميميٌّ، وهو ابنُ أختِنا، ولقد كنتُ أعرفُه بِحُسنِ الرأي، وما كنتُ أراهُ يشهدُ هذا المشهدَ!

 

فجاء، حتّى سلَّم على الحسين عليه السلام، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه، فقال الحسين عليه السلام: "كتب إليَّ أهلُ مصرِكُم هَذا، أَنْ أَقْدِمْ. فَأَمَّا إِذْ كَرِهُونِي، فَأَنَا أَنْصَرِفُ عَنْهُمْ".


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص87.

 

110


95

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

ثمّ قال حبيب بن مظاهر لقرّة بن قيس: ويحكَ، يا قرّة بن قيس! أنَّى ترجِع إلى القومِ الظالِمين! انصُرْ هذا الرجلَ الذي بآبائِهِ أيَّدَك اللهُ بالكرامةِ، وإيَّانا معَك!

 

فقال له قرّة: أرجعُ إلى صاحَبي بجوابَ رسالتِه، وأرى رأيي. فانصرَفَ إلى عمر بن سعد، فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إنّي لأرجو أن يعافيني اللهُ من حربه وقتاله.

 

وكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد:

أمّا بعد، فإنّي حيث نزلتُ بالحسين، بعثتُ إليه رسولي، فسألتُه عمّا أقدَمَه، وماذا يطلب ويسأل، فقال:كتبَ إليَّ أهلُ هذه البلاد، وأتتني رسلُهم، فسألوني القدومَ، ففعلتُ، فأمّا إذ كرِهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلُهم، فأنا منصرفٌ عنهم.

 

فلمّا قُرِئَ الكتابُ على ابن زياد، قال:

الآن إذ علقَتْ مخالبُنا بـه       يرجو النجاةَ ولاتَ حين مناص

 

وكتب إلى عمر بن سعد: أمّا بعد، فقد بلَغَني كتابُك وفهمتُ ما ذكرتَ، فاعرضْ على الحسينِ أن يبايعَ ليزيد بن معاوية، هو وجميع أصحابه, فإذا فعل ذلك، رأَيْنَا رَأْيَنَا، والسلام.

 

فلمّا أتى عمر بن سعد الكتاب، قال: قد حسِبْتُ ألّا يَقبلَ ابنُ زيادٍ العافيةَ[1].

 

فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين عليه السلام، فقال الحسين عليه السلام للرسول: "لَا أُجيبُ ابنَ زيادٍ إلى ذلك أبدًا، فهل هو إلَّا الموتُ؟ فمرحبًا به!".

 

فكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع أصحابه إلى النخيلة[2].

 

ابن زياد يعبّئ الكوفة لقتال الحسين عليه السلام

كان الحرّ بن يزيد الرياحيّ قد كتب إلى ابن زياد، بعد نزول الإمام الحسين عليه السلام


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص311.

[2] موضع قرب الكوفة على سمت الشام. الحمويّ، معجم البلدان، ج5، ص278.

 

111


96

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

في كربلاء، يخبره بذلك، فكتب ابن زياد، عندئذٍ، إلى الإمام الحسين عليه السلام: أمَّا بعدُ، يا حسين، فقد بلغَني نزولُك بكربلاء، وقد كتبَ إليَّ أميرُ المؤمنين يزيدُ بن معاوية أنْ لَا أتوسَّدَ الوثيرَ، ولا أشبعَ من الخمير، أو ألحقك اللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية!

 

فلمّا ورد الكتاب، قرأه الحسين، ثمّ رمى به، ثمّ قال: "لَا أَفلَحَ قَوْمٌ آثَرُوا مَرضاةَ أَنفُسِهِم على مَرضاةِ الخالِق!"، فقال له الرسول: أبا عبد الله، جواب الكتاب؟

 

قال: "مَا لَهُ عِندِي جَوابٌ, لِأَنَّهُ قَد حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ".

 

فقال الرسول لابن زياد ذلك، فغضب من ذلك أشدّ الغضب...[1]، ثمّ جمع الناس في مسجد الكوفة، ثمّ خرج فصعد المنبر، فقال: أيّها الناس، إنّكم قد بلوتُم آل سفيان، فوجدتموهم على ما تحبّون، وهذا يزيد قد عرفتموه أنّه حَسَنُ السيرة، محمودُ الطريقة، مُحسِنٌ إلى الرعيّة، مُتَعاهد الثغور، يعطي العطاء في حقّه، حتّى إنّه كان أبوه كذلك. وقد زاد أمير المؤمنين في إكرامكم، وكتب إليّ يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ومئتَي ألف درهم[2] أفرّقها عليكم، وأُخرجُكم إلى حربِ عدوِّه الحسينِ بن عليّ. فاسمعوا وأطيعوا، والسلام.

 

ثمّ إنّ ابن زياد أمر عمر بن سعد بتولّي قيادة الجيوش لقتال الإمام عليه السلام، فخرج، بعد تردُّدٍ، في أربعة آلاف، حتّى نزل كربلاء في الثالث من المحرّم، وانضمّ إليه الحُرُّ مع ألف فارس هناك، فصار في خمسة آلاف فارس.

 

اكتمال تعبئة الكوفة لقتال الإمام عليه السلام في السادس من المحرّم

كان الشمر بن ذي الجوشن السلوليّ أوّلَ من خرج إلى عمر بن سعد في أربعة آلاف فارس، فصار في تسعة آلاف، ثمّ أتبعه زيد (يزيد) بن ركاب الكلبيّ في ألفَين، والحصين بن نمير السكونيّ في أربعة آلاف، والمصاب الماريّ في ثلاثة آلاف، ونصر بن


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص150-151.

[2] "وقد زادكم مئة مئة، وأمرني أن أوفّرها عليكم، وأخرجكم إلى حرب عدوِّه الحسين، فاسمعوا وأطيعوا". العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص385.

 

112


97

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

حربة في ألفَين، فتمَّ له عشرون ألفًا، ثمّ بعث ابن زياد إلى شبث بن ربعيّ الرياحيّ، فاعتلَّ بمرضٍ، فقال له ابن زياد: أتتمارض؟ إنْ كنتَ في طاعتِنا، فاخرج إلى قتال عدوّنا، فخرج إلى عمر بن سعد في ألف فارس، بعد أن أكرمَه ابن زياد، وأعطاه وحباه، وأتبعه بحجّار بن أبجر في ألف فارس، ووجّهَ أيضًا يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم في ألفٍ أو أقلّ، فصار عمر بن سعد في اثنين وعشرين ألفًا، من بين فارسٍ وراجلٍ[1]. وكان الرجل يُبعَث في ألفٍ، فلا يصل إلّا في ثلاثمئة أو أربعمئة وأقلّ من ذلك، كراهةً منهم لهذا الوجه[2].

 

ثمّ جعل ابن زياد يُرسل العشرين والثلاثين والخمسين، إلى المئة، غدوةً وضحوةً ونصف النهار وعشيّةً، من النخيلة، يمدُّ بهم عمر بن سعد، حتّى تكامل عنده، لستٍّ مضين من المحرّم، ثلاثون ألفًا، ما بين فارس وراجل[3].

 

ووضع ابن زياد المناظرَ على الكوفة, لئلّا يجوزَ أحدٌ من العسكر، مخافة لأن يلحق الحسين مغيثًا له، ورتّب المسالح حولها، ورتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلًا مضمرةً مقدحةً، فكان خبر ما قِبَله يأتيه في كلّ وقت[4].

 

وهمّ عمّار بن أبي سلامة الدالانيّ أن يفتك بعبيد الله بن زياد في عسكره بالنخيلة، فلم يمكنه ذلك، فلطف حتّى لحق بالحسين، فقُتل معه[5]، وكان قد شهد المشاهد مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام[6].

 

وكان عبد الله بن عمير الكلبيّ قد نزل الكوفة، واتّخذ عند بئر الجعد من همدان دارًا، وكانت معه امرأة له، يُقالُ لها: أمّ وهب بنت عبد. فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، فسأل عنهم، فقيل له: يسرحون إلى حسين


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص157-158.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص254.

[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص373-374.

[4] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص386-388.

[5] المصدر نفسه، ج3، ص388.

[6] الهمدانيّ، كتاب الإكليل، ج10، ص87-101.

 

113


98

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله، لو قد كنتُ على جهاد أهل الشرك حريصًا، وإنّي لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابًا عند الله من ثوابه إيّاي في جهاد المشركين. فدخل إلى امرأته، فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد، فقالت: أصبتَ، أصابَ اللهُ بك أرشدَ أمورِك. افعل، وأخرجني معك. فخرج بها ليلًا، حتّى أتى حُسَيْنًا عليه السلام، فأقام معه[1].

 

في اليوم السابع من المحرّم

أمر ابن سعد عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمئة راكب، فينيخ على الشريعة، ويَحُولُوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وذلك قبل مقتله عليه السلام بثلاثة أيّام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى[2].

 

ونادى أحدُ أوباش أهل الكوفة: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء، كأنّه كبد السماء. والله، لا تذوقون منه قطرة واحدة، حتّى تموتوا عطشًا. فقال الحسين عليه السلام: "اللهُمَّ، اقتلهُ عطشًا، ولا تغفرْ له أبدًا".

 

وروى مَن رآه بعد معركة كربلاء، فقال: إنّه رآه يشرب الماء حتّى يبغر[3]، ثمّ يقيئه، ويصيح: العطش العطش، ثمّ يعود فيشرب الماء حتّى يبغر، ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشًا، فما زال ذلك دأبه، حتّى لفظ نفسَه[4].

 

ولمّا اشتدّ على الحسينِ عليه السلام وأصحابِه العطشُ، دعا العبّاس[5] بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أخاه، فبعثَه في ثلاثين فارسًا وعشرين راجلًا، وبعثَ معهم بعشرين قربة، فجاؤوا حتّى دنوا من الماء ليلًا، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجمليّ، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيديّ: من الرجل؟ فجِيء! ما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص327.

[2] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص255.

[3] بغر: كثر شربه للماء، انظر: الخليل، العين، ج4، ص415.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص87.

[5] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ج4، ص56.

 

114


99

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

قال: فاشرب هنيئًا.

 

قال: لا، والله، لا أشرب منه قطرةً وحسينٌ عطشانٌ ومَن ترى من أصحابه. فطلعوا عليه.

 

فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وُضِعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء.

 

فلمّا دنا منه أصحابه، قال لرجاله: اِملَؤوا قربَكم. فدهم العبّاس على الشريعة بمن معه، حتّى أزالوهم عنها، واقتحم رجالةُ الحسين الماء، فملؤوا قربَهم، ووقف العبّاس في أصحابه يذبّون عنهم، فثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ ونافع بن هلال، فاقتتلوا على الماء قتالًا عظيمًا، فكان قومٌ يقتتلون، وقوم يملؤون القرب حتّى ملؤوها، فقُتِل من أصحاب عمرو جماعة، ولم يُقتَل من أصحاب الحسين أحد، ثمّ رجع القوم إلى معسكرهم، وشرب الحسين من القُرَبِ، ومَن كان معه[1].

 

المحاورة بين الإمام عليه السلام وبين عمر بن سعد

ثمّ أرسل الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد: إنّي أريدُ أنْ أكلِّمَك، فالقَني الليلةَ بينَ عسكري وعسكرَك. فخرج إليه عمر بن سعد في عشرين فارسًا، وأقبل الحسين في مثل ذلك. فلمّا التقيا، أمر الحسينُ أصحابَه، فتنحّوا عنه، وبقي معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر، وأمر عمر بن سعد أصحابَه، فتنحّوا، وبقي معه حفص ابنه وغلامٌ له يُقال له: لاحِق[2].

 

فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "ويحكَ يابن سعد! أمَا تتّقي اللهَ الذي إليه معادُك، أن تقاتلَني، وأنا ابنُ مَن عَلِمتَ، يا هذا، مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فاترُك هؤلاء، وكنْ معي، فإنّي أقرّبُك إلى الله عزَّ وجلَّ".

 

فقال له عمر بن سعد: أخاف أن تُهدم داري.


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص164.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص312.

 

115


100

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

فقال له الحسين عليه السلام: "أنا أبنيها لك".

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

فقال الحسين: "أنا أخلف عليك خيرًا منها من مالي بالحجاز".

فقال: لي عيال أخاف عليهم.

فقال: "أنا أضمن سلامتهم".

 

قال: فلم يُجِبْ عمر إلى شيء من ذلك. فانصرف عنه الحسين عليه السلام، وهو يقول: "ما لك؟ ذبحكَ اللهُ على فراشك سريعًا عاجلًا، ولا غفر اللهُ لك يوم حشرك ونشرك. فوالله، إنّي لأرجو أنْ لا تأكلَ مِن برِّ العراقِ إلّا يسيرًا"[1].

 

فقال له عمر: يا أبا عبد الله، في الشعير عوضٌ عن البرّ. ثمّ رجع عمر إلى معسكره[2].

 

عمر بن سعد يفتري على الإمام عليه السلام لينجو

لا شكّ أنّ عمر بن سعد، كغيره من مجرمي جيش ابن زياد، كان يعلم بأحقّيّة الإمام عليه السلام بهذا الأمر، كما كان يعلم بما لا يرتاب فيه بالعار والسقوط اللذَين سيلحقانه مدى الدهر، إذا ما قتل الإمام عليه السلام في هذه المواجهة، التي صار هو فيها على رأس الجيش الأمويّ. ولكنّه كان، في باطنه أيضًا، أسيرَ رغبته الجامحة في ولاية الريّ. من هنا، فقد سعى إلى أن يجد المخرج من هذه الورطة، فيُعافى من ارتكاب جريمة قتل الإمام عليه السلام، ولا يخسر أمنيّته في ولاية الريّ. فكتب، بعد لقائه مع الإمام عليه السلام، إلى ابن زياد، كتابًا نصّه: أمّا بعد، فإنّ اللهَ قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة. هذا حسينٌ قد أعطاني أن يرجعَ إلى المكانِ الذي أتى منه، أو أنْ يسيرَ (نسيّرَه) إلى (أيّ) ثغرٍ من الثغور (شئنا)، فيكون رجلًا من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتيَ يزيد أمير المؤمنين، فيضع يدَه في يدِه، فيرى فيما


 


[1] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص164-166.

[2] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج1، ص347.

 

116


101

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

بينه وبينه رأيَه، وفي هذا لكم رضى، وللأمّةِ صلاحٌ[1].

 

فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتابُ رجلٍ ناصحٍ لأميرِه، مشفقٍ على قومِه! نعم، قبلتُ.

 

ولكنّ الشمر بن ذي الجوشن، تقرُّبًا منه إلى ابن زياد بدم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإبطاءً لخطّة عمر بن سعد، وطمعًا بأن يكون هو أمير الجيش في كربلاء، قال لابن زياد: أتَقبَلُ هذا منه، وقد نزل بأرضِك إلى جنبِك؟ والله، لَئِنْ رحَلَ مِن بلدِك، ولم يضَعْ يدَهُ في يدِك، ليَكونَنَّ أَوْلى بالقوّةِ والعزِّ، ولتَكونَنَّ أَوْلى بالضعفِ والعجزِ، فلا تُعطِهِ هذه المنزلةَ، فإنَّها مِن الوهنِ. ولكن، لينزل على حكمِك، هو وأصحابه، فإنْ عاقبتَ، فأنتَ وليُّ العقوبةِ (أَوْلى بالعقوبةِ)، وإنْ غفرتَ، كان ذلك لك. والله، لقد بلَغَني أنَّ حُسَينًا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرَين، فيتحدّثان عامّةَ الليل.

 

فقال له ابن زياد: نِعْمَ ما رأيتَ! الرأيُ رأيُك.

 

ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، فقال له: اُخرُج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليَعرِضْ على الحسين وأصحابه النزولَ على حكمي، فإنْ فعلوا، فليبعثْ بهم إليّ سلمًا، وإنْ هم أبوا، فليقاتِلْهم. فإنْ فعل، فاسمع له وأطِع، وإنْ هو أبَى، فقاتِلهم، فأنت أمير الناس، وَثِبْ عليه فاضرب عنقَه، وابعث إليَّ برأسِه[2].

 

وكان كتاب ابن زياد لعمر بن سعد: أمّا بَعْدُ، فَإنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ إِلَى الْحُسَيْنِ لِتَكُفَّ عَنْهُ، وَلَا لِتُطَاوِلَهُ، وَلَا لِتُمَنِّيهِ السَّلَامَةَ وَالْبَقَاءَ، وَلَا لِتَعْتَذِرَ لَهُ، وَلَا لِتَكُونَ لَهُ عِنْدِي شَافِعًا. انْظُرْ، فَإِنْ نَزَلَ حُسَيْنٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى حُكْمِي وَاسْتَسْلَمُوا، فَابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ سِلْمًا، وَإِنْ أَبَوْا، فَازْحَفْ إِلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ وَتُمَثِّلَ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَحِقُّونَ. وَإِنْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، فَأَوْطِئِ الْخَيْلَ صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ، فَإِنَّهُ عَاتٍ ظَلُومٌ، وَلَيْسَ أَرَى أَنَّ هَذَا يَضُرُّ بَعْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا، وَلَكِنْ عَلَيَّ قَوْلٌ قَدْ قُلْتُهُ: لَوْ قَتَلْتُهُ، لَفَعَلْتُ هَذَا بِهِ. فَإِنْ أَنْتَ


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص87.

[2] البلاذريّ, أنساب الأشراف, ج3, ص 390 – 391.

 

117


102

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

مَضَيْتَ لِأَمْرِنَا فِيهِ، جَزَيْنَاكَ جَزَاءَ السَّامِعِ الْمُطِيعِ، وَإِنْ أَبَيْتَ، فَاعْتَزِلْ عَمَلَنَا وَجُنْدَنَا، وَخَلِّ بَيْنَ شِمْرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ وَبَيْنَ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّا قَدْ أَمَرْنَاهُ بِأَمْرِنَا، وَالسَّلَامُ[1].

 

فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فلمّا قَدِمَ به عليه فقرأه، قال له عمر: يَا أبرَص! ما لَكَ؟ وَيْلَكَ! لا قرّب الله دارَك، ولا سهّل محلّتَك، وقبّحك، وقبّح ما قدمتَ به عليّ! والله، إنّي لأظنُّك أنتَ ثَنَيْتَه أنْ يَقبلَ ما كتبتُ به إليه. أفسدتَ علينا أمرًا كنّا رجَوْنا أنْ يَصلُحَ، لا يستسلم، واللهِ، حسينٌ, إنّ نَفْسًا أَبِيَّةً لَبَيْنَ جَنْبَيْهِ.

 

فقال له شمر: أخبِرْني ما أنتَ صانِعٌ؟ أتمضي لأمرِ أميرِك، وتقتل عدوَّه؟ وإلّا فخَلِّ بيني وبين الجندِ والعسكرِ.

 

قال: لا، ولا كرامةَ لك، وأنا أتولّى ذلك، فدونك، فكُنْ أنتَ على الرجّالة[2].

 

ثمّ كانت ليلة عاشوراء

يقول الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: جَمَعَ الحسينُ أصحابَه، بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنَوْتُ منه لأسمع، وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: "أُثْنِي عَلَى اللَّهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ، وَأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. اللَّهُمَّ، إِنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ أَكْرَمْتَنَا بِالنُّبُوَّةِ، وَعَلَّمْتَنَا الْقُرْآنَ، وَفَقَّهْتَنَا فِي الدِّينِ، وَجَعَلْتَ لَنَا أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً، فَاجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ.

 

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَابًا أَوْفَى وَلَا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِي، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا[3]. أَلَا وَإِنِّي أَظُنُّ يَوْمَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الأَعْدَاءِ غَدًا، أَلَا وَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، فَانْطَلِقُوا جَمِيعًا فِي حِلٍّ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ. وَهَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ، فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا[4]، ثُمَّ لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ


 


[1] الشيخ المفيد, الإرشاد, ج2, ص88.

[2] الطبري, تاريخ الأمم والملوك, ج3, ص 315.

[3] الشيخ المفيد, الإرشاد, ج2, ص 91.

[4] الطبريّ, تاريخ الأمم والملوك, ج4, ص 317.

 

118


103

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فِي سَوَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ، حَتَّى يفرجَ اللهُ، فَإِنَّ القَوْمَ إِنَّمَا يَطْلِبُونِي، وَلَوْ قَدْ أَصَابُونِي، لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي".

 

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟ لِنَبقى بَعْدَكَ؟ لَا أَرانا اللهُ ذلكَ أَبَدًا. بَدَأَهُم بهذا القول العبّاسُ بن عليّ عليه السلام، ثمّ إنّهم تكلّموا بهذا ونحوه، فقال الحسين عليه السلام: "يا بني عقيل، حسبُكم مِن القَتلِ بمسلم! اِذْهَبُوا، قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ".

 

قالوا: فما يقولُ الناسُ؟ يقولون: إنّا تَرَكْنا شيخَنا وسيِّدَنا وبني عمومتِنا خير الأعمام، ولم نَرْمِ معهم بسهمٍ، ولم نطعنْ معهم برمحٍ، ولم نَضربْ معهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا؟ لَا، والله، لَا نفعل. ولكن تفديكَ أنفسُنا وأموالُنا وأهلونا، ونقاتلُ معكَ حتّى نَرِدَ مَورِدَكَ، فقبّح اللهُ العيشَ بعدَكَ!

 

فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسديّ، فقال: أنحنُ نخلّي عنكَ، ولَمّا نُعذَر إلى اللهِ في أداءِ حقِّك؟ أَمَا والله، حتّى أكسرَ في صدورِهم رِمحي، وأضربَهم بسيفي، ما ثبتَ قائمُه في يدي، ولا أفارقُك، ولو لم يكن معي سلاحٌ أقاتلُهم به، لَقذفتُهم بالحجارةِ دونَك، حتّى أموتَ معَك.

 

وقال سعيد بن عبد الله الحنفيّ: واللهِ، لَا نُخَلِّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنّا قد حَفِظْنا غَيبَةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فيكَ. واللهِ، لَو عَلِمْتُ أَنّي أُقتَل، ثمّ أُحْيَا، ثمّ أُحرَق حيًّا، ثمّ أُذَرّ، يُفعَلُ ذلكَ بي سبعينَ مرَّةً، ما فارقتُكَ حتّى ألقى حمامي دونَك، فَكَيفَ لا أفعُل ذلك، وإنّما هي قَتلَةٌ واحدةٌ، ثمّ هِيَ الكرامةُ التي لا انقضاءَ لها أبدًا.

 

وقال زهير بن القين: واللهِ، لَوَدَدْتُ أَنّي قُتِلْتُ، ثمّ نُشِرتُ، ثمّ قُتِلتُ، حتّى أُقْتَل كذا ألف قَتلةٍ، وأنّ اللهَ يدفعُ بذلكَ القتلِ عَن نفسِك، وعن أَنْفُسِ هؤلاء الفتية من أهل بيتك[1].

 

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرميّ، وهو مع الحسين عليه السلام في كربلاء: قد أُسِرَ


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص91-93.

 

119


104

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

ابنُك بثغرِ الريّ. قال: عِنْدَ اللهِ أحتسبُه، ونَفسي، ما كنتُ أحبُّ أنْ يُؤسَرَ، ولا أنْ أبقى بَعدَهُ. فسمع قولَه الحسينُ عليه السلام فقال له: "رحَمِكَ اللهُ! أنتَ في حِلٍّ مِن بَيعَتي، فاعمَلْ في فَكَاكِ ابْنِكَ". قال: أكلَتْنِي السباعُ حَيًّا إنْ فارقْتُك! قال: "فأَعْطِ ابنَكَ هذِهِ الأثْوابَ البرودَ، تَستَعِينُ بها في فِدَاءِ أَخِيهِ". فأعطاهُ خمسةَ أثوابٍ، قيمتُها ألفُ دينارٍ[1].

 

وتَكَلَّمَ جماعةُ أصحابِه بكلامٍ يشبه بعضَه بعضًا في وجهٍ واحد، فقالوا: واللهِ، لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتِلنا، كنّا وفَيْنا وقضَيْنا ما علينا[2].

 

فقال الحسين عليه السلام، حينئذٍ، لأصحابه: "إِنَّكُم تُقْتَلُونَ غَدًا كُلُّكُمْ، وَلَا يفْلتْ مِنْكُمْ رَجُلٌ".

 

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمَنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك. أَوَلَا نرضى أنْ نكونَ معكَ في درجتِك يابنَ رسولِ الله؟

 

فقال: "جزاكم الله خيرًا"، ودعا لهم بخير.

 

ثمّ قام الحسين عليه السلام وأصحابه الليلَ كلَّه، يصلّون ويستغفرون ويدعون، وباتوا ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد. ومَرَّ بهم خيلٌ لابنِ سَعْدِ يحرسُهم، وإنّ حُسَينًا عليه السلام ليقرأ: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[3]، فسمعها من تلك الخيلِ رجلٌ، فقال: نَحْنُ، وربِّ الكَعْبَةِ، الطيِّبون، ميّزنا منكم. فقال له بُرَير بن خضير: يا فاسِق! أنتَ يجعلُكَ اللهُ من الطيِّبين؟ فقال له: مَن أنتَ، ويلك؟ قال: أنا بُرَير بن خضير، فتسابّا[4].


 


[1] ابن عساكر, ترجمة الإمام الحسين عليه السلام, ص221.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص91-93.

[3] سورة آل عمران، الآية 178 - 179.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص320.

 

120


105

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

وعَبَر إليهم في تلك الليلة، من عسكر ابن سعد، اثنان وثلاثون رجلًا، وكان أبو الشعثاء الكِنْديّ - وهو يزيد بن زيادٍ - مع ابن سعدٍ، فلما ردّوا الشروطَ على الحسين عليه السلام، صار معه[1]. ومن هؤلاء: جوين بن مالك التميميّ، وزهير بن سليم الأزديّ، والنعمان بن عمرو الأزديّ الراسبيّ، وأخوه الحلاّس[2].

 

أنصار الإمام الحسين عليه السلام والجيش الأمويّ

اختلفت الروايات في عدد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يوم الطفّ، بين سبعين[3]، واثنين وسبعين[4]، واثنين وثمانين[5]، وسبعة وثمانين[6]، ومئة وخمسة وأربعين[7]، خمسمئة فارس ومئة راجل[8]، وورد في بعض المصادر أنّ عددهم كان ستّين[9]، أو واحد وستّين[10]، غير أنّ أشهر عددٍ لأنصار الإمام عليه السلام يوم الطفّ هو اثنان وسبعون.

 

وأمّا عدد أفراد الجيش الأمويّ، فقد تفاوتَت الروايات والمتون التاريخيّة في عدد الجيش الأمويّ الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، وهذه الأعداد على الترتيب، من الأقلّ إلى الأكثر، هي: ألف مقاتل[11]، أربعة آلاف[12]، ستّة آلاف[13]، ثمانية آلاف[14]، اثنا عشر ألفًا، ستّة عشر ألفًا[15]، عشرون ألفًا[16]، اثنان


 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص137.

[2] السماويّ، إبصار العين، ص186-187 و 194.

[3] الديار بكري، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، ج2، ص227.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.

[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص98.

[6] ابن العنبريّ، تارخ مختصر الدول، ص110.

[7] ابن نما، مثير الأحزان، ص54.

[8] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص703.

[9] الدميريّ، حياة الحيوان، ج1، ص73.

[10] المسعوديّ، إثبات الوصية، ص141.

[11] الشبلنجيّ، نور الإبصار، ص143.

[12] المصدر نفسه.

[13] الشيخاني القادري، الصراط السويّ في مناقب آل النبيّ، ص87.

[14] سبط بن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ص92.

[15] الشامي، الدرّ النظيم، ص551.

[16] السيّد شرف الدين، الفصول المهمّة، ص175.

 

121


106

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

وعشرون ألفًا[1]، ثلاثون ألفًا[2]، خمسة وثلاثون ألفًا[3]، أربعون ألفًا[4]، خمسون ألفًا[5]. وكان هؤلاء، كما وصفتهم الروايات التاريخيّة، مِن المزدلِفين إلى الإمام عليه السلام لقتله[6]، ومِن أهل الأهواء والأطماع، ومِن الانتهازيّين[7] والمرتزقة[8] والفسقة والبطّالين[9] والخوارج[10].

 

والأقرب الأقوى أنَّ عددَ الجيش الأمويّ، الذي واجه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، هو ثلاثون ألفًا, لأنّ هناك رواية عن الإمام الحسن عليه السلام، أنّه خاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلًا: "وَلَكِنْ لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! يَزْدَلِفُ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ جَدِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وَيَنْتَحِلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِكَ، وَسَفْكِ دَمِكَ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّكَ وَنِسَائِكَ، وَانْتِهَابِ ثَقَلِكَ..."[11].

 

ورواية أخرى عن الإمام زين العابدين عليه السلام، أنّه قال: "وَلَا يَوْمَ كَيَوْمِ الْحُسَيْنِ عليه السلام! ازْدَلَفَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كُلٌّ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِدَمِهِ، وَهُوَ بِاللَّهِ يُذَكِّرُهُمْ فَلَا يَتَّعِظُونَ، حَتَّى قَتَلُوهُ بَغْيًا وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا..."[12].

 

ولكنّ الثابت والمشهور أنّ أهل الشام لم يشتركوا في واقعة الطفّ، وأنّ جميع مَن حضر مقتل الحسين من العساكر، وحاربه وتولىّ قَتْلَه، كانوا من أهل الكوفة


 

[1] ابن العماد الحنبليّ، شذرات الذهب، ج1، ص67.

[2] ابن عنبة، عمدة الطالب، ص192.

[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص98.

[4] الإسفرايني، نور العين في مشهد الحسين عليه السلام، ص32.

[5] الحاج الحسيني، أبو جعفر محمد بن أمير، شرح شافية أبي فراس، ج1، ص93.

[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص100.

[7] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.

[8] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص56.

[9] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص317.

[10] السماويّ، إبصار العين، ص159.

[11] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص101.

[12] المصدر نفسه، ص373-374.

 

122


107

الفصل الثالث: تحرّك الإمام الحسين عليه السلام نحو العراق

خاصّة، لم يحضرهم شاميّ[1]، ولكن قد يُستفاد أنّ أفرادًا متفرّقين من أهل الشام قد حضروا كربلاء يوم عاشوراء[2] في جيش ابن زياد، بل لعلّ من غير الممكن أن لا يتحقّق هذا, لأنّه لا بدّ للسلطة المركزيّة في الشام من مراسِلِين وجواسيس شاميّين يعتمدهم يزيد بن معاوية، يواصِلونه بكلِّ جديدٍ عن حركة الأحداث في العراق عامّة، والكوفة خاصّة.

 

لكنّنا نقطع بأنّ يزيد بن معاوية لم يبعث إلى ابن زياد بأيّة قطعات عسكريّة شاميّة، للمساعدة في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام.


 


[1] المسعوديّ، مروج الذهب، ج3، ص71.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص138.

 

123


108

الفصل الرابع: عاشـــوراء

الاستعداد للقتال

لَمّا أصبح الحسين عليه السلام يوم عاشوارء، وكان يوم الجمعة، صلّى بأصحابه صلاة الصبح، وقام خطيبًا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "إنَّ اللهَ تعالى قَد أَذِنَ في قَتْلِكُم وَقَتْلِي في هذا اليومِ، فَعَلَيْكُم بِالصَّبْرِ وَالقِتالِ"[1].

وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم، فعبّأ أصحابه، وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين عليه السلام، وكان على ميمنته عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسيّ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعيّ، وأعطى الراية ذويدًا (دريدًا) مولاه[2].

 

ولَمّا صبَّحَت الخيلُ الحسينَ عليه السلام، رفع يدَيه، وقال: "اللَّهُمَّ، أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ، وَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَى كُلِّ رَغْبَةٍ"[3]. ثمّ صفّ أصحابَه للحرب، وكانوا اثنين وسبعين فارِسًا وراجلًا (اثنين وثلاثين فارسًا، وأربعين راجلًا)[4]، فجعل زُهير بن القين في الميمنة، وحبيب بن مظاهر في الميسرة[5]، وثَبَتَ هو وأهل بيته


 


[1] ابن قولويه، كامل الزيارات، ص73.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص320-321

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص96.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص95.

 

127


109

الفصل الرابع: عاشـــوراء

في القلب[1]، وأعطى رايتَه أخاه العبّاس[2]، ثمّ وقف ووقفوا معه أمام البيوت[3]، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمرَ بحطبٍ وقصبٍ، كان من وراء البيوت، أن يُترَك في خندقٍ كان قد حُفِرَ هناك، وأن يُحرَق بالنار، مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم[4].

 

وزحف عمر بن سعد نحو الإمام الحسين عليه السلام في ثلاثين ألفًا. ثمّ أقبل أصحابُه يجولون حول البيوت، فإذا بالنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان أنصار الإمام الحسين عليه السلام قد ألهبوا فيه النار من ورائهم, لئلّا يأتوهم من خلفهم. وتقدّمَ منهم رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد، يركض على فرسٍ كامل الأداة، فلم يكلّمهم، حتّى مَرَّ على أبياتهم، فنظر إليها، فإذا هو لا يرى إلا حطبًا تلتهب النار فيه، فرجع فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلتَ النار في الدنيا قبل يوم القيامة!

 

فقال الحسين عليه السلام: "مَنْ هَذا؟ كَأَنَّهُ شِمْرُ بْنُ ذِي الجَوْشَنِ".

 

فقالوا: نعم، أصلحَك الله، هو هو. فقال عليه السلام: "يَابْنَ رَاعِيةِ المعزى، أنتَ أَوْلى بِها صَلْيًا!"، فقال له مسلم بن عوسجة: يابنَ رسولِ الله، جُعِلْتُ فِداك، ألا أرميه بسهمٍ، فإنَّه قد أمكنني، وليس يسقطُ سهمٌ، فالفاسقُ مِن أعظمِ الجبَّارين!

 

فقال له الحسين عليه السلام: "لا ترمِهِ، فإنّي أَكْرَهُ أنْ أبدأَهُم"[5].

 

خطبة الإمام الحسين عليه السلام الأولى في أهل العراق

ثمّ دعا الإمام الحسين عليه السلام براحلته، فركبها وتقدَّمَ حتّى وقف بإزاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم، كأنّهم السيل، ونظر إلى ابن سعد واقفًا في صناديد الكوفة، ثمّ نادى بأعلى صوته، وجلُّهم يسمعون: "يَا أَهْلَ العِرَاقِ!"، ثمّ قال: "أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، وَلَا تَعْجَلُوا حَتَّى أَعِظَكُمْ بِمَا يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ، وَحَتَّى أُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ أَعْطَيْتُمُونِي النَّصَفَ، كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَإِنْ لَمْ تُعْطُونِي النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ،


 


[1] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص4.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص320.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص256.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص96.

[5] المصدر نفسه.

 

128


110

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فَأَجْمِعُوا رَأْيَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ‏"، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يُسمَع متكلِّمٌ في قبله ولا بعده، أبلغ منطقًا منه، فقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا، فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَزَوَالٍ، مُتَصَرِّفَةً بِأَهْلِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَالْمَغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ، وَالشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا! وَبِئْسَ الْعِبَادُ أَنْتُمْ! أَقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ، وَآمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ أَنْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَعِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ! لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ، فَأَنْسَاكُمْ ذِكْرَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، فَتَبًّا لَكُمْ وَلِمَا تُرِيدُونَ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين‏!

 

أَمَّا بَعْدُ، فَانْسُبُونِي، فَانْظُرُوا مَنْ أَنَا، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَاتِبُوهَا، فَانْظُرُوا هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قَتْلِي وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِي؟ أَلَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ، وَابْنَ وَصِيِّهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَأَوَّلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِ لِرَسُولِ اللَّهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ؟ أَوَلَيْسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِّي؟ أَوَلَيْسَ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ بِجِنَاحَيْنِ عَمِّي؟ أوَلَمْ يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِي وَلِأَخِي: "هَذَانِ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ"؟ فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِمَا أَقُولُ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهِ، مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبًا مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ. وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، فَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ لَوْ سَأَلْتُمُوهُ عَنْ ذَلِكَ، أَخْبَرَكُمْ, سَلُوا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُخْبِرُوكُمْ أَنَّهُمْ سَمِعُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِي‏ وَلِأَخِي. أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي‏؟!".

 

فقال عمر: ويلَكُم! كَلِّموه، فإنّه ابنُ أبيه. والله، لو وقف فيكم هكذا يومًا جديدًا، لَمَا انقطع، ولَمَا حصر، فكَلِّموه!

 

فتقدّمَ شمر (لعنه الله)، فقال: يا حُسين، ما هذا الذي تقول؟ أَفْهِمْنا حتّى نفهم!

 

129


111

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فقال: "أَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَلَا تَقْتُلُونِي, فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ قَتْلِي، وَلَا انْتِهَاكُ حُرْمَتِي, فَإِنِّي ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ، وَجَدَّتِي خَدِيجَةُ زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ، وَلَعَلَّهُ قَدْ بَلَغَكُمْ قَوْلُ نَبِيِّكُمْ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّة..."[1].

 

فقال له شمر بن ذي الجوشن: أَنَا أَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي مَا تَقُولُ[2].

 

فقال له حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لَأراكَ تَعبُدُ اللهَ على سبعين حرفًا، وأنا أشهدُ أنَّكَ صادقٌ، ما تدري ما يقول، قد طبعَ اللهُ على قلبِك.

 

فقال له الإمام الحسين عليه السلام: "حَسْبُكَ يَا أَخا بَنِي أَسَدٍ! فقدْ قُضِيَ القضاءُ، وجَفَّ القلمُ، واللهُ بالغُ أمرِهِ. والله، إنّي لَأَشوَقُ إلى جدِّي وأبي وأمّي وأخي وأسلافي مِنْ يَعقوبَ إلى يُوسُفَ وأخيه! ولي مصرعٌ أنا لاقِيه!".

 

ثمّ قال لهم الحسين عليه السلام: "فإنْ كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِن هَذا، أَفَتَشُكُّونَ أَنّي ابنُ بِنْتِ نَبِيِّكُم؟! فواللهِ، مَا بينَ المشرقِ وَالمغربِ ابنُ بنتِ نَبِيٍّ غيري فيكُم، ولا في غيرِكُم. وَيْحَكُمْ! أتطلبوني بِقَتِيلٍ مِنْكُمْ قَتَلْتُهُ، أو مالٍ لكُم استهلَكْتُهُ، أو بِقصاصِ جراحةٍ؟!".

 

فأخذوا لا يكلِّمونَه، فنادى: "يَا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، يَا حَجَّارَ بْنَ أَبْجَرَ، يَا قَيْسَ بْنَ الْأَشْعَثِ، يَا يَزِيدَ بْنَ الْحَارِثِ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ أَنْ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمَارُ، وَاخْضَرَّ الْجَنَابُ، وَإِنَّمَا تَقْدَمُ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّد؟!".

 

فقال له قيس بن الأشعث: مَا نَدْرِي مَا تقولُ، وَلَكِن انزِلْ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ، فّإنَّهُم لن يُرُوكَ إلّا مَا تُحِبُّ.

 

فقال له الحسين عليه السلام: "لَا، وَاللَّهِ، لَا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أَفِرُّ فِرَارَ (أُقِرُّ إِقْرَارَ) الْعَبِيدِ".


 


[1] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص5-6.

[2] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج1، ص358.

 

130


112

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ثمّ نادى: "يَا عِبادَ اللهِ، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِساب‏".

 

ثمّ إنّه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان، فعقلها[1].

 

ثمّ خطب الإمام الحسين عليه السلام خطبةً ثانية، وقال: "تَبًّا لَكُمْ أَيَّتُهَا الْجَمَاعَةُ وَتَرَحًا! وَبُؤْسًا لَكُمْ حِينَ اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَالِهِينَ، فَأَصْرَخْنَاكُمْ مُوجِفِينَ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنَا سَيْفًا لَنَا فِي أَيْمَانِكُمْ، وَحَشَشْتُمْ عَلَيْنَا نَارًا اقْتَدَحْنَاهَا عَلَى عَدُوِّنَا وَعَدُوِّكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ إِلْبًا لِأَعْدَائِكُمْ عَلَى أَوْلِيَائِكُمْ، بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمْ، وَلَا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ! فَهَلَّا لَكُمُ الْوَيْلَاتُ! تَرَكْتُمُونَا وَالسَّيْفُ مَشِيمٌ، وَالْجَأْشُ طَامِنٌ، وَالرَّأْيُ لِمَا يُسْتَحْصَفُ! وَلَكِنْ أَسْرَعْتُمْ إِلَيْهَا كَطَيْرَةِ الدَّبَى، وَتَدَاعَيْتُّمْ إِلَيْهَا كَتَهَافُتِ الْفِرَاشِ، فَسُحْقًا يَا عَبِيدَ الأُمَّة، وَشُذَاذَ الْأَحْزَابِ، وَنَبَذَةِ الْكِتَابِ، وَمُحَرِّفِي الكَلِمِ، وَعُصْبَةَ الآثَامِ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطَانِ، وَمُطْفِئِي السُّنَنِ! أَهَؤُلَاءِ تَعْضدُونَ، وَعَنَّا تَتَخَاذَلُونَ؟

 

أَجَلْ، وَاللهِ، الغَدْرُ فِيكُمْ قَدِيمٌ، وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ، وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ ثَمَر شَجَى لِلنَّاظِرِ، وأَكلة للغاصب!

 

أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، بَيْنَ السَّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ! يَأْبَى اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ، وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَحُجُورٌ طَابَتْ وَطَهُرَتْ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ، مِن أَنْ نُؤْثِرَ طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَامِ! أَلَا وَإِنِّي زَاحِفٌ بِهَذِهِ الْأُسْرَةِ، مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ، وَخَذْلَةِ النَّاصِرِ!

 

فَإِنْ نَهْزِمْ فَهَزَّامُونَ قـِدمـًا      وإنْ نُغْلَـبْ فَغَـْيرُ مُغَلَّبِيـَنا

وَ مَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ        مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا

إِذَا مَـا الـمَوْتُ رُفِّعَ عَنْ أُنَاسٍ كَـلَاكِـلَهُ أَنَـاخَ بِآخَـرِيـنَا

فَـأَفْنَى ذَلِـكُمْ سَروَاتِ قَوْمِـي   كَمَـا أَفْنَـى القُرُونَ الأَوَّلِينَا


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص97-98.

 

131


113

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إِذًا خَلَدْنَا        وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إِذاً بَقِينَا

فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا         سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

 

ثُمَّ أَيم الله، لَا تَلْبَثُونَ بَعْدَهَا إِلَّا كَرَيْثِ مَا يُرْكَبُ الْفَرَسُ، حَتَّى تَدُورَ بِكُمُ الرَّحَى، وَتقْلقَ بِكُمْ قَلَقَ المِحْوَرِ، عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي عَنْ جَدِّي، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم".

 

ثمّ رفع يدَيه نحو السماء، وقال:

"اللَّهُمَّ، احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّمَاءِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ يَسْقِيهِمْ كَأْسًا مُصَبَّرَةً، وَلَا يَدَعُ فِيهِمْ أَحَدًا إِلَّا انْتَقَمَ لِي مِنْهُ، قَتْلَةً بِقَتْلَةٍ، وَضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَإِنَّهُ لَيَنْتَصِر لِي وَلِأَهْلِ بَيْتِي وَأَشْيَاعِي، فَإِنَّهُمْ كَذَبُونَا وَخَذَلُونَا، وَأَنْتَ رَبُّنَا، عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِير".

 

واستدعى الحسينُ عليه السلام عمر بن سعد، فدُعِيَ له، وكان كارهًا لا يحبُّ أن يأتيه، فقال: "أَيْ عُمَر! أَتَزعَمُ أنّكَ تقتلُني، ويولّيكَ الدَّعِيَّ بلادَ الرَّيِّ[1] وجُرجانَ[2]؟ واللهِ، لَا تهنأ بذلك، عهدٌ معهودٌ. فاصنَعْ ما أنتَ صانِعٌ، فإنَّك لا تفرحُ بَعدِي بدنيا وَلا آخِرة، وَكأنّي بِرَأسِكَ على قصبةٍ يتراماه الصبيانُ بالكوفةِ، ويتّخذونَه غَرَضًا بَيْنَهُم"... فصرف بوجهه عنه مغضبًا[3].

 

نشوب القتال

تقدَّمَ عمر بن سعد نحو جيش الحسين عليه السلام، ثمّ نادى غلامَه: يا ذويد (دريد)،


 


[1] الرَّيّ: بفتح الراء وتشديد الياء، مدينة إيرانيّة بالقرب من طهران، دُفِنَ فيها عبد العظيم بن عبدالله الحسنيّ، وذكر ياقوتُ أنّ طهران كانت تُعَدّ من قرى "الرَّيّ"، بينهما نحو فرسخ، راجع: الحمويّ، معجم البلدان، ج4، ص51.

[2] جُرْجان: بضمّ الجيم وسكون الراء، مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان، راجع: الحمويّ، معجم البلدان، ج3، ص119.

[3] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص8.

 

132


114

الفصل الرابع: عاشـــوراء

أَدْنِ رايتَك. فأدناها، ثمّ وضع عمر سهمَه في كبد قوسِه، ثمّ رمى بسهمٍ، فقال: اشْهَدُوا ( لي عِنْدَ الأَمِيرِ)، أَنّي أَوَّلُ مَن رمى[1]! فرمى أصحابُه[2] كلّهم بأجمعهم في أثره، رشقةً واحدةً، كأنَّها القطر[3]، فما بقي من أصحاب الحسين عليه السلام أحدٌ إلاّ أصابَه مِن رميتِهم سهمٌ[4]. فقال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه: "قُومُوا، يَرْحَمكُم اللهُ، إلى الموتِ الذي لا بدَّ منه، فإنَّ هذهِ السِّهامَ رُسُلُ القَومِ إليكُم!".

 

توبة الحرّ

فلمّا رأى الحرُّ بن يزيد الرياحيّ أنَّ القومَ قد صمَّموا على قتال الحسين عليه السلام، وكان قد شاع في صفوف جيش ابن سعدٍ أنّ الإمام الحسين عليه السلام عَرَضَ خصالًا على عمر بن سعد، أحدُها أنْ يتركوه يضع يده في يد يزيد، وقد تقدَّم أنّ ذلك ليس إلّا كذبةً ابتكرها عمر بن سعد نفسه, لكي ينجو من التورُّط في قتلِ الحسين عليه السلام، وقد انتهت هذه الكذبة حين رفض عبيد الله بن زياد اقتراحَ عمر، فقد تقدَّم الحرُّ من ابن سعد، وقال له: أَيْ عُمَر، أَصلَحَكَ اللهُ! أَمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرجل؟!

 

قال: إِي والله، قتالًا أيسرُه أن تسقطَ الرؤوسُ وتطيحَ الأيدي.

قال: أفما لكم في واحدةٍ من الخصال التي عرض عليكم رضى؟

قال عمر بن سعد: أمَا والله، لو كان الأمرُ إليَّ، لفعلتُ، ولكنَّ أميرَك قد أبى ذلك.

فأقبلَ الحرُّ، حتّى وقف من الناس موقِفًا، ومعه رجلٌ من قومه، يُقال له: قرّة بن قيس، فقال: يا قرّة، هل سَقَيْتَ فرسَك اليوم؟

قال: لا.

قال الحرّ: فما تريد أن تسقيَه؟

قال قرّة: فظننْتُن والله، أنّه يريد أن يتنحّى، فلا يشهد القتالَ، وكَرِهَ أنْ أراهُ


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص325-326.

[2] المقريزيّ، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والاثار، ج2، ص287.

[3] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص158.

[4] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص11.

 

133


115

الفصل الرابع: عاشـــوراء

حين يَصنَعُ ذلك، فيَخافُ أنْ أرفعَه عَليْهِ، فقلتُ له: لم أَسْقِهِ، وأنا مُنطَلِقٌ فساقِيهِ. فاعتزلتُ ذلكَ المكانَ الذي كان فيه.

 

فأخذ الحرُّ يدنو من حسينٍ، قليلًا قليلًا، فقال له رجلٌ من قومِه، يُقالُ له: المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تَحمِلَ؟

 

فسَكَتَ الحرّ، وأخذَهُ مثل العرواء (الأفكل)، وهي الرعدة.

 

فقال له: يا ابن يزيد، والله، إنّ أَمْرَكَ لمريب! والله، ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطّ مثلَ شيءٍ أراهُ الآن! ولو قيل لي: مَن أشجعُ أهلِ الكوفةِ رجلًا؟ ما عَدَوْتُكَ. فما هذا الذي أرى منك؟

 

قال الحرُّ: إنّي، والله، أخيّرُ نفسي بين الجنّة والنار. ووالله، لا أختار على الجنّة شيئًا، ولو قُطِّعتُ وحُرِّقتُ!

 

ثمّ ضرب فرسَه، فلحق بالإمام الحسين عليه السلام، وهو يقول: اللهمَّ، إليكَ أنيبُ، فتُبْ عَلَيَّ، فقد أرعبْتُ قلوبَ أوليائِكَ وأولادِ نبيِّكَ[1].

 

ثمّ قال له: جعلَني اللهُ فداكَ يابن رسول الله! أنا صاحبُك الذي حبستُك عن الرجوع، وسايرتُك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان. واللهِ، الذي لا إله إلّا هو، ما ظننتُ أنّ القومَ يردّون عليك ما عرضتَ عليهم أبدًا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة! (فقلتُ في نفسي: لا أبالي أنْ أطيعَ القومَ في بعض أمرهم، ولا يرون أنَّي خرجتُ من طاعتهم. وأمّا هم، فسيقبلون من حسينٍ هذه الخصال التي يعرض عليهم).

 

والله، لو ظننتُ أنّهم لا يقبلونها منك، ما ركبتها منك. وإنّي قد جئتك تائبًا ممّا كان منّي إلى ربّي، ومواسيًا لك بنفسي، حتّى أموتَ بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟

 

قال: "نعم، يتوبُ اللهُ عليكَ[2]، أنتَ الحرُّ، كما سمَّتكَ أمُّك، أنتَ الحرُّ، إنْ شاءَ اللهُ، في الدنيا والآخِرةِ...".

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص223.

[2] المصدر نفسه.

 

134


116

الفصل الرابع: عاشـــوراء

المبارزة الأولى

ثمّ برز يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضُكم. فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن خضير، فقال لهما الحسين عليه السلام: اجلِسا. فقام عبد الله بن عمير الكلبيّ، فقال: أبا عبد الله، رحمَك الله! اِئْذَنْ لَي، فلأخرج إليهما. فرأى الحسين عليه السلام رجلًا آدم طويلًا شديد الساعدَين، بعيد ما بين المنكبَين، فقال الحسين عليه السلام: إنّي لَأَحسبُه للأقران قتّالًا! اخرُج إنْ شِئتَ. فخرج إليهما.

 

فقالا له: مَن أنتَ؟ فانتسبَ لهما.

 

فقالا: لا نعرفك. ليخرج إلينا زهير بن القين، أو حبيب بن مظاهر، أو برير بن خضير. ويسار مستنتلٌ[1] أمام سالم.

 

فقال له الكلبيّ: يابن الزانية! وبك رغبةٌ عن مبارزة أحدٍ من الناس؟ وما يخرج إليك أحدٌ من الناس، إلّا وهو خيرٌ منك!

ثمّ شدَّ عليه، فضربه بسيفه حتّى برد، فإنّه لمشتغلٌ بضربه، إذ شدَّ عليه سالم مولى عبيدالله بن زياد، فصاح به أصحابُه: قد رهقَكَ العبدُ! فلم يأبَهْ له، حتّى غشيه، فبدرَه ضربةً اتَّقاها ابن عمير بكفِّه اليسرى، فأطارَت أصابعَ كفِّه، ثمَّ شدَّ عليه، فضربه حتّى قتله، وأقبل وقد قتلهما جميعًا.

 

فأخذَت أمُّ وهبٍ امرأتُه عمودًا، ثمّ أقبلَت نحو زوجها، تقول له: فداك أبي وأمّي، قاتِل دون الطيّبين ذرّية محمّد.

 

فأقبلَ إليها يردّها نحو النساء، فأخذَت تجاذبُ ثوبَه، ثمّ قالت: إنّي لنْ أدعَك دون أنْ أموتَ معك. فناداها الحسين عليه السلام، فقال: "جُزِيتُم من أهل بيت خيرًا، ارجِعي، رحمك الله، إلى النساء، فاجلسي معهنَّ، فإنّه ليس على النساء قتال"، فانصرفت إليهنّ[2].


 


[1] استنتل، تقدّم أمامه في الصفّ في الحرب، ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص644.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص327.

 

135


117

الفصل الرابع: عاشـــوراء

الحملة الأولى

وحمل شمر بن ذي الجوشن في ميسرة أهل الكوفة على ميمنة الإمام الحسين عليه السلام، فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه. وحمل عمرو بن الحجّاج، وهو في ميمنة أهل الكوفة، من نحو الفرات، على ميسرة الإمام الحسين عليه السلام، وهو يقول: يا أهل الكوفة، الزَموا طاعتَكم وجماعتَكم، ولا ترتابوا في قَتْلِ مَن مَرقَ عن الدين وخالف الإمام!

 

فقال له الحسين عليه السلام: "يا عمرو بن الحجّاج، أَعَلَيَّ تحرّضُ الناس؟ أنحن مَرَقْنَا، وأنتُمْ ثَبَتُّم عَلَيهِ؟ أَمَا واللهِ، لَتَعلَمُنَّ لَو قد قبضتُ أرواحَكم ومتُّم على أعمالِكم، أيُّنَا مَرَقَ مِن الدِّينِ، ومَن هو أَوْلَى بِصَلْيِ النَّارِ!".

 

فلمّا أنْ دنَت خيلُ أهل الكوفة من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ثبتوا، وجثوا لهم على الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تُقْدِم الخيلُ على الرماح، فلمّا ذهبَت الخيلُ لترجع، رشقَهُم أصحابُ الحسين عليه السلام بالنبل، فصرعوا رجالًا، وجرحوا آخرين[1].

 

ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على الحسين عليه السلام من نحو الفرات، فاقتتلوا ساعة، ثمّ انصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم بمسلم بن عوسجة الأسديّ صريعًا، فمشى إليه الحسين عليه السلام، فإذا به رمق، فقال: "رحمَكَ ربُّك يا مسلم بن عوسجة، ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾"[2].

 

ودنا منه حبيب بن مظاهر، فقال: عزَّ عَلَيَّ مصرعُك يا مسلم! أبشِر بالجنَّة!

 

فقال له مسلم قولًا ضعيفًا: بشَّرك الله بخير!

 

فقال له حبيب: لولا أنّي أعلمُ أنّي في أثرِك لاحقٌ بِكَ مِن ساعتي هذه، لأحبَبْتُ أنْ توصِيَني بكلِّ ما أهمَّك، حتّى أحفظَكَ في كلِّ ذلك بما أنتَ أهلٌ له في القرابةِ والدينِ.

 

 


[1] ابن كثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص182.

[2] سورة الأحزاب، الآية 23.

 

136


118

الفصل الرابع: عاشـــوراء

قال: بل أنا أوصيكَ بهذا، رحمك الله - وأَهوَى بيدِهِ إلى الحسين - أنْ تموتَ دونَه!

 

قال حبيب: أفعل، وربِّ الكعبة.

 

فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم[1]، وكان أوّل[2] شهيدٍ من أصحاب الحسين عليه السلام. وصاحت جاريةٌ له، فقالت: يابن عوسجتاه! يا سيّداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجّاج: قتَلْنا مسلمَ بن عوسجة الأسديّ.

 

فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه: ثكلَتْكُم أمّهاتُكم! إنّما تقتلون أنفسَكم بأيديكم، وتذلِّلون أنفسَكم لغيركم! تفرحون أن يُقتَلَ مثلُ مسلم بن عوسجة؟ أَمَا والذي أسلمتُ له، لَرُبَّ موقفٍ له قد رأيتُه في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتَلَ ستّة من المشركين قبل تَتَامّ خيول المسلمين! أفيُقتَل منكم مثلُه، وتفرحون؟!

 

وكان الذي قتل مسلمَ بنَ عوسجة، مسلمُ بن عبد الله الضبابيّ وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجليّ[3].

 

وحمل شمر بن ذي الجوشن، في ميسرة عمر بن سعد، على ميمنة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه. وقاتل عبد الله بن عمير الكلبيّ قتالًا شديدًا، فقتل رجلَين آخرَين من أصحاب شمر، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرميّ وبكير بن حيّ التيميّ، فقتلاه، وكان الشهيد الثاني من أصحاب الحسين عليه السلام. وخرجَت امرأةُ الكلبيّ تمشي إلى زوجها، حتّى جلسَت عند رأسه، تمسح عنه التراب، وتقول: هنيئًا لكَ الجنَّة! فقال شمر بن ذي الجوشن لغلامٍ يُسَمَّى رُستُم: اضربْ رأسَها بالعمود. فضَرَبَ رأسَها، فشدخه، فماتت مكانها[4].

 

استشهاد مجموعة الصيداويّ بكاملها

وفي أوّل الحملة الأولى، وما إن نشب القتال، حتّى شدَّ الصيداويّ عمرو بن خالد،

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص104.

[2] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص69-70.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص327.

[4] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص401.

 

137


119

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وجنادة بن الحارث السلمانيّ[1]، ومجمع بن عبد الله العائذيّ، وابنه عائذ، وسعد مولى عمر بن خالد، وواضح مولى الحرث، مُقْدِمين بأسيافهم على أهل الكوفة. فلمّا وغلوا، عطف عليهم أصحاب عمر بن سعد، فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ عليه السلام، فاستنقذَهم فجاؤوا قد جُرِّحُوا، فلمّا دنا منهم عدوُّهم، شدّوا بأسيافهم، فقاتلوا حتّى قُتِلوا في مكان واحد[2].

 

مقدّمة جيش ابن سعد تطلب النجدة

ثمّ حمل أصحابُ الحسين عليه السلام حملةً واحدة[3]، وقاتلوهم قتالًا شديدًا، وأخذَت خيلُهم تحمل، وإنّما هم اثنان وثلاثون فارسًا، وأخذَت لا تحمل على جانبٍ من خيل أهل الكوفة، إلّا كشفَتْهُ.

 

فلمّا رأى عزرة بن قيس، وهو على خيل أهل الكوفة، أنّ خيلَه تنكشف من كلّ جانب، ورأى الوهنَ في أصحابه، والفشل كلّما يحملون، بعث إلى عمر بن سعد عبدَ الرحمن بنَ حصن، فقال: أَمَا ترى ما تلقى خَيْلِي منذ اليوم مِن هذه العدّة اليسيرة؟ ابعَثْ إليهم الرجالَ والرماةَ. فقال عمر بن سعد لشبث بن ربعيّ: ألَا تُقْدِم إليهم؟

 

فقال: سبحان الله! أتعمَدُ إلى شيخِ مصر وأهلِ مصر عامَّةً، تبعثه في الرماة؟ لم تجد مَن تندب لهذا، ويجزي عنك غيري[4]؟

 

وكان الحصين بن نمير السكونيّ على شرطة عبيد الله بن زياد، فبعثه إلى الحسين عليه السلام، وكان مع عمر بن سعد، فاستدعاه، فبعث معه المجفّفة[5] وخمسمئةٍ من المرأميّة. فأقبلوا، حتّى إذا دنوا من الحسين عليه السلام وأصحابه رشقوهم بالنبل،


 


[1] الشيخ الطوسيّ، الأبواب (رجال الطوسيّ)، ص99.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص340.

[3] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص101.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص333.

[5] فرقة عسكريّة من الرماة، كان أفرادها يحملون دروعًا كبيرة تقيهم وتقي الرماة منهم، نبالَ الأعداء ورماحهم، والظاهر أنّ مهمَّتها كانت كمهمَّة القصف التمهيديّ في الجيوش الحديثة.

 

138


120

الفصل الرابع: عاشـــوراء

واشتدَّ القتال، وأكثر أصحاب الحسين فيهم الجراح، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، فصاروا رجّالة كلّهم[1].

 

وصول أوباش الكوفة إلى قلب معسكر الإمام الحسين عليه السلام

ثمّ حمل الشمر في جماعةٍ من أصحابه، على ميسرة الحسين عليه السلام، حتّى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: عَلَيَّ بالنارِ، حتّى أحرقَ هذا البيتَ على أهلِه! فصاح النساءُ، وخرجْنَ من الفسطاط، وصاح به الحسين عليه السلام: "يابنَ ذي الجوشن، أنتَ تدعو بالنارِ لِتحرقَ بيتي على أهلي، حرَقَكَ اللهُ بالنار!".

 

فحمل عليه زهير بن القين، في عشرة رجال من أصحابه، فشدَّ على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه، فكشفهم عن البيوت[2] حتّى ارتفعوا عنها، وصرعوا أبا عزّة الضبابيّ، فقتلوه، وكان من أصحاب شمر[3].

 

وقاتَلوهم، حتّى انتصف النهار، أشدَّ قِتالٍ خلَقَهُ الله، فلم يقدروا أن يأتوهم من وجهٍ واحدٍ, لتَقارُبِ أبنيتِهم، فأرسل ابن سعدٍ الرجالَ ليقوِّضوها عن أَيمانهم وعن شمائلهم، ليحيطوا بهم، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون البيوت، فيشدّون على الرجل وهو ينهب، فيقتلونه، ويرمونه من قريبٍ، فيعقرونه. فقال ابن سعدٍ: أحرِقُوها بالنار! فأضرَموا فيها النار، فصاحت النساء، ودُهِشَت الأطفال، فقال الحسين عليه السلام: "دَعُوهُم، فَلْيحرِقُوها. فإنَّهُم لَو قد حَرَقوها، لم يستطيعوا أن يَجُوزُوا إليكم منها!".

 

وكان ذلك كذلك[4]، وأخذوا لا يقاتلونهم إلّا من وجهٍ واحدٍ.

 

وأحاط جيش عمر بن سعد بأصحاب الإمام الحسين عليه السلام وبمعسكره، من كلّ جانب، وتعطَّفوا عليهم من كلِّ جهة، وبجميع الأسلحة، واستعَرَ القَتالُ،


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص332-331.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد،ج2، ص105.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص334-336.

[4] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص69.

 

 

139


121

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وتفوَّقَت الكثرةُ عددًا وعدّةً وكثافةً في الرماية، على القلّة، وأخذ أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يستشهدون، واحدًا تِلْوَ الآخر، فكان إذا قُتِلَ الرجلُ أو الرجلان من أصحاب الإمام عليه السلام، يَبِينُ ذلك فيهم, لِقِلَّتِهِم، ولا يَبِينُ القتلُ في جيشِ عمر بن سعد, لِكثرتهم.

 

وانجلَت غبرةُ الحملة الأولى عن تسعة وخمسين صريعًا[1] من أصحاب الحسين عليه السلام. فعندها، ضرب الحسينُ عليه السلام بيده على لحيته، وجعل يقول: "اشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على اليهودِ والنصارى، إذْ جَعَلُوا لهُ وَلَدًا. واشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على النصارى إذْ جَعَلُوهُ ثالثَ ثلاثةٍ. واشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على المجوسِ، إذْ عَبَدُوا الشمسَ والقمرَ دونَهُ.

 

واشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على قَوْمٍ اتَّفَقَتْ آراؤهُم (كَلِمَتُهُم) على قَتْلِ ابنِ بنتِ نبيِّهِم! (أَمَا) وَاللهِ، لَا أُجِيبُهُم إلى شيءٍ ممّا يُريدونَهُ أبدًا، حتّى أَلْقى اللهَ، وَأنا مُخَضَّبٌ بِدَمي"[2].

 

الصلاة الأخيرة يوم عاشوراء

فلَمَّا رأى ذلك أبو ثمامة، عمرو بن عبد الله الصائديّ، قال للحسين عليه السلام: يا أبا عبد الله، نَفْسِي لكَ الفداءُ! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منكَ، ولا، والله، لا تُقتَلُ حتّى أُقتَلَ دونَك، إنْ شاء الله، وأحبُّ أنْ ألقى ربّى وقد صَلَّيْتُ هذه الصلاةَ التي قد دنا وقتهُا.

 

فرفع الحسينُ عليه السلام رأسَه، ثمّ قال: "ذَكَرْتَ الصَّلَاةَ، جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ. نَعَمْ، هَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا، سَلُوهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنَّا حَتَّى نُصَلِّي".

 

شهادة حبيب بن مظاهر

فقال لهم الحصين بن النمير السكونيّ: إنَّها لا تُقبَلُ!

 

فقال له حبيب بن مظاهر: لا تُقبَلُ! زعمْتَ الصلاةَ مِن آلِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لا تُقبَلُ، وتُقبَلُ مِنْكَ؟!

 


[1] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص12.

[2] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص158.

 

140


122

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فحَمَلَ عليهم الحصين بن النمير السكونيّ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر، فضرب وَجْهَ فرسِه بالسيف، فشبَّ ووقع عنه، وحمله أصحابُه، فاستنقَذوه.

 

وأخذ حبيب يقاتل قتالًا شديدًا، فحمل عليه رجلٌ من بني تميم، فضربه حبيب بالسيف على رأسه، فقتَلَه[1]. وحملَ عليه آخَرُ من بني تميم، فطعنه، فوقع حبيب، فذهب ليقوم، فضربَهُ الحصينُ بن النمير السكونيّ على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميميّ، فاحتزّ رأسَه. فقال له الحصين: إنّي لَشَريكُكَ في قَتْلِهِ!

 

فقال التميميّ: والله، ما قَتَلَهُ غيري!

 

ولَمَّا قُتِلَ حبيب بن مظاهر، هَدَّ ذلك حسينًا عليه السلام، وقال: "عِندَ اللهِ أَحتَسِبُ نَفْسِي وَحُمَاةَ أَصْحَابِي"[2].

 

الصلاة الأخيرة، وشهادة سعيد بن عبد الله الحنفيّ

وقام الإمام الحسين عليه السلام إلى الصلاة، فصلّى بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف[3]، ويُقال: بل صلّى وأصحابُه فرادى بالإيماء[4]. وتقدّم أمامه زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفيّ في نصفٍ من أصحابه[5]، ووُصِلَ إلى الحسين، فاستقدَم الحنفيّ أمامه، فاستُهدِفَ لهم يرمونه بالنبل يمينًا وشمالًا، قائمًا بين يديه. فما زال يُرمَى، حتّى سقط[6] إلى الأرض، وهو يقول: اللهمَّ، العنهم لَعْنَ عادٍ وثمود. اللهمَّ، أبلِغ نبيَّك عنّي السلام، وأبلِغه ما لقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردتُ بذلك نصرةَ نبيِّك[7].

 

ثمّ التفتَ إلى الإمام الحسين عليه السلام فقال: أوفيت يابن رسول الله؟

 

فقال عليه السلام: "نعم، أنتَ أمامي في الجنَّةِ". ثمّ فاضَت نفسه.


 


[1] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص219.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص334-336.

[3] المصدر نفسه، ج4، ص336-337.

[4] ابن نما، مثير الأحزان، ص65.

[5] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص17.

[6] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص336-337.

[7] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص70.

 

141


123

الفصل الرابع: عاشـــوراء

استئذان ما بقي من الأصحاب

ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين عليه السلام إلى كثرةِ مَن قُتِلَ منهم، أخذ الرجلان والثلاثة والأربعة يستأذنون الحسين عليه السلام في الذبّ عنه. ثمّ أخذوا، بعد أنْ قَلَّ عددُهم وبان النقصُ فيهم، يبرز الرجلُ بعدَ الرجلِ، فأكثَروا القَتْلَ في أهل الكوفة، وكان كلُّ مَن أراد الخروجَ، وَدَّعَ الحسينَ عليه السلام بقوله: السلامُ عليكَ يابنَ رسولِ اللهِ. فيُجيبُه الحسين عليه السلام: "وَعليكَ السلامُ، وَنحنُ خلفَكَ"، ثمّ يقرأ: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾[1].

 

وكان الحرُّ بن يزيد الرياحيُّ أوَّلَ مَن برز من أصحاب الحسين عليه السلام، فقال له: يابنَ رسولِ الله، كنتُ أوَّلَ خارجٍ عليكَ، فَأْذَنْ لي أنْ أكونَ أوَّلَ قتيلٍ بينَ يدَيكَ، فلَعَلِّي أنْ أكونَ أوّلَ مَن يصافحُ جدَّك محمّدًا غدًا في القيامة.

 

فقاتَلَ هو وزهير بن القين قتالًا شديدًا، فكان إذا شدَّ أحدُهما، فإن استلحَمَ، شَدَّ الآخَر حتّى يخلِّصَه، ففعلا ذلك ساعة.

 

وقد روى الشيخ الصدوق أنّه قَتَلَ منهم ثمانيةَ عشر رجلًا[2]. ثمّ إنّ رجّالةً شدَّت على الحُرّ بن يزيد، فقُتِل[3]، فاحتمله أصحاب الحسين عليه السلام، حتّى وضعوه بين يدَيه وبه رمق، فجعل الحسين عليه السلام يمسح وجهَهُ ويقول: "أنتَ الحرُّ كما سَمَّتْكَ أمُّكَ، وَأنتَ الحرُّ في الدنيا، وَأنتَ الحرُّ في الآخرةِ"[4].

 

ثمّ برز يزيد بن زياد بن مهاصر الكنديّ[5]، وهو أبو الشعثاء الكنديّ، فجثى على ركبتَيه بين يدَي الحسين عليه السلام، فرمى بمئةِ سهمٍ، ما سقط منها إلّا خمسةُ أسهم، وكان راميًا. والإمام الحسين عليه السلام يقول: "اللهمَّ، سدِّدْ رميَتَهُ، وَاجْعَلْ ثوابَهُ الجَنّةَ".

 


[1] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص25، سورة الأحزاب، الآية 23.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص136.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص336-337.

[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص131.

[5] المصدر نفسه، ص137.

 

142


124

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فلمّا رمى بها، قام فقال: ما سقطَ منها إلّا خمسةُ أسهمٍ، ولقد تبيّنَ لي أنّي قدْ قتلتُ خمسةَ نفرٍ. فلم يزل يقاتل، حتّى قُتل (رضوان الله عليه)[1]، وكان في أوّلِ مَن قُتِل[2].

 

واستأذن الصحابيُّ الجليلُ أَنَس بن الحارث الكاهليّ[3] الإمامَ الحسينَ عليه السلام لمبارزة الأعداء، فأَذِنَ له، وبرز شادًّا وسطَه بالعمامة، رافِعًا حاجبَيه بالعصابة، ولمّا نَظَر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة، بكى وقال: "شَكَرَ اللهُ لكَ يا شيخُ"، فقاتَلَ حتّى قُتِلَ[4].

 

وبرز وهب بن وهب، وكان نصرانيًّا أسلَمَ على يد الحسين عليه السلام هو وأمّه، فأتبعوه إلى كربلاء، فركب فرسًا، وتناول بيدِه عمودَ الفسطاط، فقاتَل، ثمّ استُؤسِرَ، فأُتِيَ به عمر بن سعد (لعنه الله)، فأمر بضرب عنقِه، ورُمِيَ به إلى عسكر الحسين عليه السلام، وأخذَت أمُّه سيفَه وبرزَت، فقال لها الحسين عليه السلام: "يا أمَّ وهبٍ، اجلِسِي، فقدْ وضعَ اللهُ الجهادَ عن النساءِ، إنَّكِ وَابنَكِ معَ جدِّي محمّدٍ  صلى الله عليه وآله وسلم في الجنَّةِ"[5].

 

ثمّ برز الحجّاج بن مسروق المذحجيّ الجعفيّ، فقاتَل حتّى قُتِل[6]، وكان مُؤَذِّنَ الإمام الحسين عليه السلام في أوقات الصلاة، وخرج من الكوفة إلى الإمام عليه السلام، والتحق به في مكّة المكرمة.

 

وتقدَّمَ زهير بن القين، وأخذ يقاتل قتالًا شديدًا، فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبيّ، ومهاجر بن أوس، فقتلاه[7].

 

فقال الحسين عليه السلام حين صُرع زهير: "لَا يُبْعِدَنَّكَ اللهُ يَا زُهَيْر! وَلَعَنَ اللهُ قَاتِلَكَ لَعْنَ الذينَ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنازِير"[8].

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص172.

[2] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص340.

[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص137.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص102.

[5] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص137.

[6] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص23.

[7] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص403.

[8] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص136.

 

143


125

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وكان سلمان بن مضارب البجليّ مع ابن عمِّه زهير في سفر الحجّ سنة ستّين للهجرة، ولمّا مالَ زهير في الطريق إلى الإمام عليه السلام، وانضمّ إليه، مالَ معه ابنُ عمّه سلمان هذا، وانضمّ إلى الإمام عليه السلام أيضًا، واستشهد في كربلاء، ولعلّه قُتِلَ مع زهير[1].

 

ثمّ إنّ أبا ثمامة قال للحسين عليه السلام، وقد صلّى: يَا أبا عبدِ اللهِ، إنّي قد هممْتُ أنْ ألحقَ بأصحابي، وكرهتُ أنْ أتخلَّفَ وأراكَ وحيدًا مِن أهلِكَ قتيلًا. فقال له الحسين عليه السلام: "تَقَدَّمْ، فَإِنَّا لَاحِقُونَ بِكَ عَنْ سَاعَةٍ".

 

فتقدَّمَ، فقاتّل حتّى أُثخِن بالجراحات، فقتَلَهُ قيسُ بن عبد الله الصائديّ، ابنُ عمٍّ له، وكان له عدوًّا[2]. ولكنّ الطبريّ يذكر أنّ أبا ثمامة الصائديّ هو الذي قَتَل ابنَ عَمٍّ له، وكان عدوًّا له[3].

 

وخرج يزيد بن معقل، وبرز له بُرَير، فاختلفا ضربتَين، فضربَ يزيد بن معقل بُرَير بن خضير ضربةً خفيفةً لم تضرُّه شيئًا، وضربَه بُرير بن خضير ضربةً قَدَّت المغفر وبلغَت الدماغ، فخرَّ كأنمَّا هوى من حالِق، وإنّ سيفَ ابنِ خضير لثابتٌ في رأسِه وهو يُنَضْنِضُهُ مِن رأسِه.

 

وحمل عليه رضيّ بن منقذ العبديّ، فاعتنق بريرًا، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بريرًا قعد على صدره، فقال رضيّ: أينَ أهلُ المصاعِ[4] والدفاعِ؟

 

فذهب كعب بن جابر الأزديّ ليحمل عليه، فقيل له: إنّ هذا برير بن خضير، القارئ الذى كان يُقرِئُنا القرآنَ في المسجد. فحَمَلَ عليه بالرمح، حتّى وضعه في ظهرِه، فلمّا وجدَ مسّ الرمح، بَرَكَ عليه، فعضَّ بوجهِهِ، وقطعَ طرفَ أنفِه، فطعَنَه كعب بن جابر، حتّى ألقاه عنه، وقد غيَّب السنان في ظهرِه، ثمّ أقبَلَ عليه يضربُه بسيفِه، حتّى قتلَه.


 


[1] المحلّي، الحدائق الورديّة، ص122.

[2] السماويّ، إبصار العين، ص121.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص336-337.

[4] المصع: الضرب بالسيف، والمماصعة: المقاتلة والمجالدة بالسيوف، ابن منظور، لسان اللسان تهذيب لسان العرب، ج2، ص559.

 

144


126

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاريّ يقاتل دون الحسين عليه السلام، وكان عليّ بن قرظة، أخوه، مع عمر بن سعد، فنادى: يا حسين، أضلَلْتَ أخي وَغرَّرْتَهُ حتّى قتلتَه؟ قال: "إنَّ اللهَ لم يُضِلَّ أخاكَ، ولكنَّهُ هدَى أخاكَ وَأَضلَّكَ".

 

قال: قتلني الله إنْ لم أقتلْكَ أو أموت دونك! فحمل عليه، فاعترضه نافع بن هلال الجمليّ المراديّ، فطعنه، فصرعه، فحمله أصحابُه فاستنقذوه، فدُووِيَ بعدُ، فبَرِئ[1].

 

وكان نافع بن هلال الجمليّ قد كتب اسمَه على أفواقِ نبله، فجعل يرمي بها مسمومةً، فقَتَلَ اثنَي عشر رجلًا من أصحاب عمر بن سعد، سوى مَن جُرِح، حتّى إذا فَنِيَتْ نِبالُه، جَرَّد فيهم سيفَه، فحمل عليهم، فبرز إليه مزاحم بن حريث، فقال له: أنا على دينِ عثمان، فقال له نافع: أنتَ على دينِ شيطانٍ! وحمل عليه، فقتلَه.

 

فصاح عمرو بن الحجّاج بأصحابه: يا حمقى! أتدرونَ مَن تُقاتِلونَ؟ تُقاتِلونَ فرسانَ المِصرِ وأهل البصائرِ، وقومًا مُستَمِيتِينَ، لا يبرزُ إليهم أحدٌ منكُم، إلَا قَتَلوهُ، على قِلَّتِهِم. واللهِ، لو لم تَرْمُوهُم إلّا بالحجارةِ، لقتَلتُمُوهُم.

 

فقال عمر بن سعد: صَدَقْتَ، الرأيُ ما رأيْتَ. أَرسِلْ في الناس مَن يعزمُ عليهم أنْ لا يُبارِزَهُم رجلٌ منهم، ولو خرجْتُم إليهم وحدانًا، لأَتَوا عليكُم[2].

 

فتواثبوا عليه، وأطافوا به يضاربونه بالحجارة والنصال، حتّى كسروا عضدَيه، فأخذوه أسيرًا، فأمسكَه شمر بن ذي الجوشن، ومعه أصحاب له يسوقون نافعًا، حتّى أُتِيَ به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحكَ يا نافِع! ما حملَكَ على ما صنعْتَ بِنفسِكَ؟

 

قال، والدماء تسيل على لحيته: إنَّ ربّي يعلمُ ما أردْتُ. والله، لقدْ قتلتُ منكم اثنَي عشرَ، سِوى مَن جرحتُ، وما ألومُ نفسي على الجهدِ، ولو بقيَت لي عضدٌ وساعِدٌ ما أسرتُمُوني!

 

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص328-329.

[2] المصدر نفسه، ج4، ص331.

 

145


127

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فقال شمر لعمر بن سعد: اُقْتُلْهُ، أصلحك الله!

 

قال: أنتَ جئتَ به، فإنْ شئتَ فاقتُلْهُ.

 

فانتضى شمر سيفَه، فقال له نافع: أمَا والله، أنْ لو كنتَ مِن المسلمينَ، لَعَظُمَ عليكَ أنْ تَلقَى اللهَ بِدِمائِنَا، فالحمدُ للهِ الذي جعلَ منايانا على يدَي شرارِ خلقِه. فقتلَهُ شمر (لعنه الله)[1].

 

واستأذَنَ يزيدُ بن مغفل الجعفيّ الحسينَ عليه السلام في البراز، فأَذِنَ له، فتقدّم وقاتل حتّى قُتِل[2].

 

وكان الموقَّع[3] بن ثمامة الأسديّ الصيداويّ ممّن جاء إلى الحسين عليه السلام في الطفّ، وخلص إليه ليلًا مع من خلص، فنثر نبلَه وجثا على ركبتَيه، فقاتل، فصُرِع، فجاءه نفرٌ من قومِه، فاستنقذوه وقالوا له: أنتَ آمِنٌ! اخرُجْ إلينا. فخرج إليهم، وأتوا به إلى الكوفة، فأَخْفُوهُ، فلمّا قدم عمر بن سعد على ابن زياد، وأخبره خبرَه، أرسلَ إليهِ ليقتلَه، فشفعَ فيه جماعةٌ من بني أسد، فلم يقتله، ولكن كبَّلَه بالحديد، ونفاه إلى الزارة[4]، وكان مريضًا من الجراحات التي به، فبقي في الزارة مريضًا مكبّلًا، حتّى مات بعد سنة[5].

 

وكان جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاريّ الخزرجيّ ممّن قُتِلَ في الحملة الأولى من أصحاب الحسين عليه السلام[6]، وكان قد صحب الإمام عليه السلام من مكّة، وجاء معه أهلُه وابنُه عمرو، وهو ابن إحدى عشر سنة[7]، فقالت له أمُّه: يا بنيّ، اخرجْ فقاتِلْ بينَ يدَي ابنِ رسولِ اللهِ، حتّى تُقتَل. فخرج، فقال الحسين عليه السلام: هذا شابٌّ قُتِلَ أبوه، ولعلَّ أمُّه تكرَهُ خُروجَهُ، فقال الشابُّ: أمّي أَمَرَتْنِي يَابنَ رَسولِ اللهِ. فخرج،


 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص404.

[2] السماويّ، إبصار العين، ص153-154.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص347.

[4] الزارة: موضع بعُمان، كان ينفي إليه زياد وابنه مَن شاء من أهل البصرة والكوفة.

[5] السماويّ، إبصار العين، ص117.

[6] راجع: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص104.

[7] السماويّ، إبصار العين، ص159.

 

146


128

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ثمّ قاتَل، فقُتِل وحُزَّ رأسُه ورُمِيَ به إلى عسكر الحسين، فأخذَت أمُّه رأسَه، وقالت له: أحسنتَ يا بنيّ! يا قُرّةَ عيني، وسرور قلبي! ثمّ أخذَت عمودَ خيمةٍ، وحملَت على القوم, فأمر الحسين عليه السلام بصرفها، ودعا لها[1].

 

فلمّا رأى أصحاب الحسين أنّهم قد كُثروا، وأنّهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينًا ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يُقتَلوا بين يدَيه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن اِبنا عزرة (أو عروة)[2] الغفاريّان، فقالا: يا أبا عبد الله، عليك السلام، حازَنا العدوُّ إليكَ، فأحبَبْنَا أنْ نُقتَلَ بينَ يدَيكَ، نمنعُكَ ونَدفَعُ عنكَ.

 

قال: "مَرْحبًا بِكُما! اُدْنُوَا مِنِّي".

 

فدَنَوَا منه، فجعلا يقاتِلان قريبًا منه.

 

وجاء الفتَيَان الجابريّان، سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع، وهما اِبنا عمٍّ وأَخَوَان لأُمٍّ، فأتَيَا حسينًا عليه السلام، فدَنَوَا منه وهما يبكيان، فقال: "أَيْ اِبْنَيْ أَخِي، مَا يُبْكِيكُمَا؟ فَوَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَا عَنْ سَاعَةٍ قَريرَي عَيْنٍ؟".

 

قالا: جعلَنا اللهُ فِداك! لا، والله، ما على أنفسِنا نبكي، ولكنّا نبكي عليكَ، نراكَ قَد أُحِيطَ بِك، ولا نقدرُ على أنْ نمنَعَكَ!

 

فقال: "جزاكُمَا اللهُ يَابْنَي أخي، بوجدِكُمَا مِن ذلك، وَمُوَاساتِكُما إيَّايَ بِأنفسِكُما أحسَنَ جزاءِ المتَّقِينَ"[3].

 

ثمّ استقدَما يلتفتان إلى الحسين عليه السلام، ويقولان: السلامُ عليكَ يابنَ رسول الله. فقال: "وعليكما السلام ورحمة الله". فقاتَلَا حتّى قُتِلَا[4].

 

وجاء حنظلة بن أسعد الشباميّ، فقام بين يدَي الإمام الحسين عليه السلام، وقاتَل حتّى قُتِلَ.

 

 


[1] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص25-26.

[2] السماويّ، إبصار العين، ص175.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص338.

[4] المصدر نفسه.

 

147


129

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، ومعه شوذب[1] بن عبد الله مولى شاكر، فقال: يَا شَوْذَبُ، مَا في نفسِكَ أنْ تَصنَعَ؟

 

قال: مَا أصنعُ؟ أُقَاتلُ مَعَكَ دونَ ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى أُقْتَل.

 

قال: ذلك الظنُّ بك! أمّا الآن، فتقدَّمْ بينَ يَدَي أبي عبد الله، حتّى يحتسبَكَ، كما احتسَبَ غيرَك مِن أصحابَه، وحتّى أَحتسِبَكَ أنا، فإنَّهُ لو كانَ معي الساعة أحدٌ، أنا أَوْلَى به منّي بِك، لسَرَّني أنْ يَتَقدَّمَ بينَ يدَيَّ حتّى أحتسبَهُ، فإنَّ هذا يومٌ ينبغي لنا أنْ نطلبَ الأجرَ فيه، بكلِّ مَا قَدِرْنا عَلَيْهِ، فإنَّهُ لا عَمَلَ بعدَ اليومِ، وَإنَّما هُوَ الحِسَابُ!

 

فتقدَّمَ شوذب، فسلَّم على الحسين عليه السلام فقال: السلامُ عليكَ يا أبا عبدِ اللهِ، ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، أَسْتَودِعُكَ اللهَ وأَستَرْعِيكَ. ثمّ مضى، فقاتَل حتّى قُتِل[2].

 

ثمّ تقدَّمَ عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، فقال: يا أبا عبدِ اللهِ، أَمَا والله، مَا أَمْسَى على ظَهْرِ الأرضِ قريبٌ ولا بعيدٌ، أعزّ عَلَيَّ، ولا أَحَبّ إليّ منكَ! ولو قدرتُ على أنْ أدفعَ عنك الضَّيْمَ والقَتْلَ بشيءٍ أعزّ عَلَيَّ مِن نَفْسِي ودَمِي، لفعلتُه. السلامُ عليكُ يا أبا عبدِ اللهِ، أُشْهِدُ اللهَ أَنّي على هَدْيِكَ وَهَدْيِ أَبِيكَ.

 

ثمّ مشى بالسيف، مصلِّتًا نحوهم، وبه ضربة على جبينه، فقال أحدُ رجالِ عمر بن سعد، لَمّا رآه مُقبِلًا، وقد عرفَه، وقد شاهدَهُ في المغازي: أيُّها الناس، هذا أَسَدُ الأُسُود! هذا ابنُ أبي شبيب! لا يَخْرُجَنَّ إليه أحدٌ منكم! فأخذ شبيب ينادي: ألَا رجلٌ لرجلٍ؟ فقال عمر بن سعد: ارضخوهُ بالحجارةِ!

 

فرُمِيَ بالحجارةِ مِن كُلِّ جانبٍ. فلَمَّا رأى ذلك، ألقى درعَه ومغفرَه، ثمّ شدَّ على الناس، فكان يطردُ أكثرَ من مئتَين من الناس، ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلِّ جانبٍ، فقُتِل. فكان رأسُه في أيدي رجالٍ ذَوِي عدَّةٍ، هذا يقول: أنا قتلتُه! وهذا يقول: أنا قتلتُه!


 


[1] السماويّ، إبصار العين، ص29.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص105.

 

148


130

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فأتوا عمر بن سعد، فقال: لا تختصِموا! هذا لم يقتُلْهُ سنانٌ واحدٌ. ففرَّقَ بينهم بهذا القول[1].

 

وكان سعدٌ وأخوه أبو الحتوف، الأنصاريّان، من أهل الكوفة، ومن المحكِّمة[2]، فخرجا مع عمر بن سعد إلى قتال الحسين عليه السلام، فلمّا كان اليوم العاشِر، وقُتِلَ أصحابُ الحسين، فجعل الحسين عليه السلام يُنادي: "ألَا ناصر فينصرنا!".

 

فسمعَتْهُ النساءُ والأطفالُ، فتصارَخْنَ، وسمعَ سعدٌ وأخوه أبو الحتوف النداءَ من الحسين عليه السلام، والصراخَ مِن عياله، فمالا بسيفهما مع الحسين عليه السلام على أعدائه، فجعلا يُقاتِلان، حتّى قُتِلا معًا"[3].

 

وكان مجمع بن زياد بن عمرو الجهنيّ[4] وعبّاد بن المهاجر بن أبي المهاجر الجهنيّ[5] قد التحقوا بالإمام عليه السلام من منازل جهينة، وهو في طريقِهِ من المدينة إلى مكّة، وثبتوا معه ولازموه، فلم ينفضّوا عنه حين انفضَّ كثيرٌ من الأغراب عنه في زُبالة. فلمّا كان يوم العاشر من المحرَّم، قاتَلوا بين يدَيه، حتّى قُتِلُوا (رضوان الله عليهم).

 

وكان وَلَدا يزيد بن ثبيط العبديّ البصريّ، عبد الله وعبيد الله، قد قُتِلَا في الحملة الأولى[6]، فبرز وقاتل حتّى قُتِل[7].

 

وكان رافع بن عبد الله قد خرج إلى الإمام الحسين عليه السلام مع مولاه مسلم بن كثير الأعرج الأزديّ من الكوفة، وانضمّا إلى الإمام عليه السلام في كربلاء. ولمّا كان اليوم العاشر، ونشب القتال، قُتِلَ مسلم بن كثير في الحملة الأولى، وبعد صلاة الظهر، تقدَّمَ مولاه رافع بن عبد الله، مبارِزًا للأعداء بين يدَي الإمام الحسين عليه السلام، فقاتَل ثمّ نال شرفَ الشهادة[8].


 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص404.

[2] من المحكِّمة: أي من الخوارج، راجع: التستريّ، قاموس الرجال، ج5، ص28.

[3] المحلّي، الحدائق الوردية، ص122.

[4] السماويّ، إبصار العين، ص201.

[5] المصدر نفسه.

[6] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص113.

[7] السماويّ، إبصار العين، ص190.

[8] المصدر نفسه، ص185.

 

149


131

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ثمّ قُتِلَ حبشيّ بن قيس النهميّ[1]، وزياد بن عريب الهمدانيّ الصائديّ[2]، وكنيته أبو عمرة، وهو ممّن أدرك زمان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد روى الشيخ ابن نما عن مهران الكاهليّ، وهو مولى لبني كاهل، قال: شهدتُ كربلاءَ مع الحسين عليه السلام، فرأيتُ رجلًا يقاتِل قتالًا شديدًا، لا يحمل على قومٍ إلّا كشفَهم، ثمّ يرجع إلى الحسين عليه السلام...

 

فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو عمرة النهشليّ، فاعترضَه عامر بن نهشل، أحدُ بني تيم الله بن ثعلبة، فقتَلَه واحتزّ رأسَه. وكان أبو عمرة هذا متهجِّدًا كثيرَ الصلاة[3].

 

ومِن أنصاره عليه السلام، الذين استشهدوا بين يدَيه في كربلاء، قعنب بن عمر النمريّ البصريّ، وكان قد جاء إلى الإمام عليه السلام مع الحجّاج بن بدر السعديّ من البصرة، والتحقا به في مكّة، ولم يزل ملازِمًا له، حتّى نشَبَ القِتالُ يوم عاشوراء، فقاتَل في الطفِّ بين يدَي الإمام عليه السلام، حتّى قُتِلَ في الحملة الأولى[4]، ورُوِيَ أنّه قُتِلَ مبارزةً[5].

 

وكان بكر بن حيّ التيميّ ممّن خرج مع عمر بن سعد إلى حرب الحسين عليه السلام، حتّى إذا قامَت الحرب على ساق، مالَ مع الحسين عليه السلام على ابن سعد، فقُتِلَ بين يدَي الحسين عليه السلام، بعد الحملة الأولى[6].

 

وكان من موالي الحسين، غلامٌ تركيٌّ قارئٌ للقرآن، عارفٌ بالعربيّة، فخرج إلى القتال، فجعلَ يقاتِل، فتحاوَشوه فصرَعوه، فجاءه الحسين عليه السلام وبكى ووضعَ خدَّهُ على خدِّهِ، ففتح عينَيه، ورآه فتبسَّم، وقال: مَنْ مِثْلِي وَابْنُ رَسولِ اللهِ واضعٌ خَدَّهُ على خَدِّي! ثمَّ صارَ إلى ربِّهِ[7].

وقاتَلَ بشير بن عمرو بن الأُحدوث الحضرميّ، حتّى قُتِل[8].

 


[1] العسقلاني، الإصابة، ج2، ص100-104.

[2] السيّد الزنجاني، وسيلة الدارَين، ص145.

[3] ابن نما، مثير الأحزان، ص57.

[4] السماويّ، إبصار العين، ص215-216.

[5] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص72-101-273.

[6] المحليّ، الحدائق الورديّة، ص122.

[7] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص72.

[8] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص404.

 

150


132

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وكان سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعميّ آخرَ مَن استشهد بين يدَي الحسين عليه السلام مِن أصحابه[1]، وكان شيخًا شريفًا عابدًا كثير الصلاة، وشجاعًا مجرَّبًا في الحروب[2]. فقاتَل قِتَالَ الأسد الباسل، وبالَغ في الصبر على البلاء النازل، حتّى سقط بين القتلى، وقد أُثخِنَ بالجراح. ولم يزل كذلك، وليس به حراك، حتّى سمعَهم يقولون: قُتِلَ الحُسَينُ! فتحامل، وأخرجَ مِن خفِّهِ سكّينًا، وجعل يقاتلُهم بها، حتّى قُتِلَ (رضوان الله عليه)[3].

 

وأمّا آخِر من بقي مع الحسين عليه السلام، ولم يستشهد في كربلاء، فهو الضحَّاك بن عبد الله المشرقيّ، وكان قد قَدِمَ هو ومالك بن النضر الأرحبيّ على الحسين عليه السلام، وهو في الطريق إلى كربلاء، فسلَّما عليه، ثمّ جلسا إليه، فردَّ عليهما ورحَّب بهما، وسألهما عمّا جاءا له، فقالا: جِئْنا لِنُسَلِّمَ عليكَ، وندعوَ اللهَ لكَ بالعافيةِ، ونُحدثَ بك عهدًا، ونخبرَكَ خبرَ الناسِ، وإنّا نحدِّثُكَ أنَّهم قد جمعوا على حربِك! فرِ رأيَك.

 

فقال الحسين عليه السلام: "حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ".

 

فتذمَّمَا وسَلَّما عليه، ودَعَوَا اللهَ له. فقال لهما: "مَا يَمْنَعُكُمَا مِنْ نُصْرَتِي؟".

 

فقال مالك بن النضر: عَلَيَّ دَيْنٌ، وَلِي عِيَال.

 

فقال الضحَّاك بن عبد الله المشرقيّ: إنَّ عَلَيَّ دَيْنًا، وإنَّ لي لَعِيَالًا، ولكنَّكَ إنْ جعلتَنِي في حِلٍّ مِن الانصرافِ، إذا لم أجِدْ مُقاتِلًا، قَاتَلْتُ عَنْكَ مَا كانَ لكَ نَافِعًا، وعَنْكَ دَافِعًا.

قال الإمام الحسين عليه السلام: "فَأَنْتَ فِي حِلٍّ".

 

فأقام معه[4]، وحين استشهد آخرُ واحدٍ من أصحاب الحسين عليه السلام، استأذَنَ الإمامَ عليه السلام بالتخلّي عنه آخرَ الأمر، وفَرَّ من الميدان، ونجا من القتل.


 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص409.

[2] السماويّ، إبصار العين، ص169.

[3] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص165.

[4] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص339.

 

151


133

الفصل الرابع: عاشـــوراء

 

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ: لمّا رأيتُ أصحابَ الحسين قد أُصِيبُوا، وقد خلص إليه وإلى أهلِ بيته، ولم يبقَ معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعميّ وبشير بن عمرو الحضرميّ[1]، قلتُ له: يَابْنَ رسولِ اللهِ، قدْ علِمْتَ ما كان بيني وبينك، قلتُ لك: أقاتلُ عنكَ ما رأيتُ مقاتلًا، فإذا لم أرَ مقاتِلًا، فأنا في حِلٍّ من الانصراف، فقلتَ لي: نعم. قال: فقال: "صدقتَ، وكيفَ لكَ بالنجاءِ؟ إنْ قدرْتَ على ذلكَ، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ". قال: فأقبلتُ إلى فَرَسي، وقد كنتُ حيثُ رأيتُ خيلَ أصحابِنا تعقر، أقبلتُ بها حتّى أدخلتُها فسطاطًا لأصحابنا بين البيوت، وأقبلتُ أقاتلُ معهم راجِلًا، فقَتَلْتُ، يومئذٍ، بينَ يدَي الحسينِ عليه السلام، رجلَين، وقطعتُ يدَ آخر، وقال لي الحسين عليه السلام، يومئذٍ، مرارًا: "لا تُشلَل! لا يقطع اللهُ يدَك! جزاكَ اللهُ خيرًا عن أهلِ بيتِ نبيِّك صلى الله عليه وآله وسلم!"، فلمّا أذن لي، استخرجتُ الفَرَسَ من الفسطاط، ثمّ استويتُ على متنها، ثمّ ضربتُها، حتّى إذا قامَت على السنابك، رميتُ بها عرض القوم، فأفرجوا لي، وأتبعَني منهم خمسة عشر رجلًا، حتّى انتهيتُ إلى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات. فلمّا لحقوني، عطفتُ عليهم، فعرفوني، فقالوا: هذا الضحَّاك بن عبد الله المشرقيّ، هذا ابن عمِّنا، ننشدكُم اللهَ لَمّا كفَفْتُمْ عنه. فقال ثلاثة نفرٍ من بني تميم كانوا معهم: بلى، والله، لَنُجِيبَنَّ إخوانَنا وأهلَ دعوتِنا إلى ما أحبّوا من الكفّ عن صاحبِهم. قال: فلمّا تابعَ التميميّون أصحابي، كفَّ الآخرون، قال: فنجّاني اللهُ!

 

مقاتِل ومصارع بني هاشم عليه السلام في كربلاء

وبعدما استشهدَتْ الصفوة العظيمة من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، هبّ أبناء الأسرة النبويّة، شبابًا وأطفالًا، للتضحية والفداء، وهم بالرغم من صغر سنِّهم، كانوا كالليوث، لم يرهبهم الموت، ولم تفزعهم الأهوال، وتسابقوا بشوقٍ إلى ميادين الجهاد، وقد ضنّ الإمام عليه السلام على بعضهم بالموت، فلم يسمح لهم بالجهاد، إلّا أنّهم أخذوا يتضرَّعون إليه، ويُقَبِّلون يدَيه ورجلَيه، ليأذن لهم في الدفاع عنه.


 


[1] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص70.

 

152


134

الفصل الرابع: عاشـــوراء

والمنظر الرهيب الذي يذيب القلوب، ويذهل كلَّ كائنٍ حيٍّ، هو أنّ أولئك الفتية جعل يودّع بعضُهم بعضًا الوداع الأخير، فكان كلُّ واحدٍ منهم يوسِّع أخاه وابنَ عمِّه تقبيلًا، وهم غارِقون بالدموع، حزنًا وأسىً على ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يرونه وحيدًا غريبًا، قد أحاطَت به جيوش الأعداء، ويرون عقائل النبوّة قد تعالَت أصواتُهنّ بالبكاء والعويل... وساعد اللهُ الإمامَ عليه السلام على تحمُّلِ هذه الكوارث التي تقصم الأصلاب، وتذهل الألباب، ولا يطيقها أيُّ إنسانٍ، إلّا مَن امتحنَ اللهُ قلبَه للإيمان، بل لا يُطيقُها إلّا مَن عصمَه الله بعصمةِ الإمامة.

 

وقد وردَت عدّة أقوال في عدد شهداء الطفّ من الهاشميّين، ما بين تسعة أشخاص[1]، إلى أحد عشر[2]، إلى سبعة عشر[3]، إلى سبعة وعشرين شهيدًا[4]. وكان عَلِيٌّ الأكبر عليه السلام[5]، ابن الإمام الحسين عليه السلام، أوّلَ الهاشميّين[6] الذين تقدّموا إلى الشهادة بين يدَيه. وأمُّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّ، وهو، يومئذٍ، ابن ثمانية وعشرين سنة، فلمّا رآه الحسين، رفع شيبَتَه نحو السماء، وقال: "اللَّهُمَّ، اشْهَدْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ النَّاسِ، خَلْقًا وَخُلُقًا وَمَنْطِقًا، بِرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.كُنَّا إِذَا اشْتَقْنَا إِلَى وَجْهِ رَسُولِكَ، نَظَرْنَا إِلَى وَجْهِهِ. اللَّهُمَّ، فَامْنَعْهُمْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَفَرِّقْهُمْ تَفْرِيقًا، وَمَزِّقْهُمْ تَمْزِيقًا، وَاجْعَلْهُمْ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَلَا تُرْضِ الْوُلَاةَ عَنْهُمْ أَبَدًا، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، ثُمَّ عَدَوْا عَلَيْنَا يُقَاتِلُونَا وَيَقْتُلُنَا".

 

ثمّ صاح الحسين عليه السلام بعمر بن سعد: "مَا لَكَ! قَطَعَ اللَّهُ رَحِمَكَ، وَلَا بَارَكَ اللَّهُ فِي أَمْرِكَ، وَسَلَّطَ عَلَيْكَ مَنْ يَذْبَحُكَ عَلَى فِرَاشِكَ، كَمَا قَطَعْتَ رَحِمِي، وَلَمْ تَحْفَظْ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم". ثُمَّ رَفَعَ الْحُسَيْنُ عليه السلام صَوْتَهُ، وَتَلَا: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى


 


[1] ابن هشام، السيرة النبويّة، ص558.

[2] الذهبيّ، تاريخ الإسلام، ج5، ص15-21.

[3] الطبراني، المعجم الكبير، ج3، ص104.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص112.

[5] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص86.

[6] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.

 

153


135

الفصل الرابع: عاشـــوراء

آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1].

 

ثمّ حمل عليُّ بن الحسين عليه السلام، فلم يزل يقاتل، حتّى ضجَّ أهلُ الكوفة, لِكثرةِ مَن قتل منهم، إلى أنْ ضربَه منقذ بن مُرَّة العبد على مفرق رأسه، ضربةً صرعه فيها، وضربه الناسُ بأسيافهم، فاعتنقَ الفرس، فحمله الفرسُ إلى عسكر عدوّه، فقطّعوه بأسيافهم، إربًا إربًا...

 

فصاح الحسين عليه السلام: "قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا بُنَيَّ. مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الرَّحْمَنِ وَعَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الرَّسُول‏ صلى الله عليه وآله وسلم! عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ العَفَا".

 

ثمّ أخذ بكفِّه مِن دمِهِ الطاهر، ورمى به نحو السماء، فلم يسقط منه قطرة[2].

 

واندفعَت الفتية الطيّبة من أنصار الإمام الحسين عليه السلام من آل عقيل عليه السلام إلى الجهاد، وهي مستهينةٌ بالموت. وقد نظر الإمام عليه السلام إلى بسالتهم واندفاعهم إلى نصرته، فكان يقول: "اللهُمَّ اقتُلْ قَاتِلَ آلَ عَقِيلٍ... صَبْرًا آلَ عَقِيلٍ، إِنَّ مَوْعِدكُم الجَنَّة". وكان عليُّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام يميل أشدَّ الميل لآل عقيل، ويقدّمهم على غيرهم من آل جعفر، فقيل له في ذلك، فقال: "إِنِّي لَأَذْكُرُ يَوْمَهُمْ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَأَرِقُّ لَهُمْ".

 

وقد استشهد منهم تسعةٌ في المعركة.

 

والذين اشتهر، عند المؤرِّخين وأهل التراجم، أنّهم استشهدوا مع الإمام عليه السلام يوم عاشوراء، هم: عبد الله بن مسلم بن عقيل، وقد رُوِيَ أنّه أوَّل من خرج من الطالبيّين إلى قتال الأعداء، فحمل حتّى قَتَلَ منهم جماعة، وقُتِل[3]، فقد رماه عمرو بن صبيح الصيداويّ[4] بسهمٍ، فوضع كفّه على جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرِّك


 


[1] سورة آل عمران، الآيتان 34-33.

[2] ابن قولويه، كامل الزيارات، ص253.

[3] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص202-203.

[4] ابن نما الحلّيّ، ذوب النظّار، ص122.

 

154


136

الفصل الرابع: عاشـــوراء

كفَّيه، ثمّ انتهى له بسهمٍ آخر، ففلق قلبَه، فاعتوَرَه الناس من كلِّ جانب[1]. ويُقال: قتلَهُ أسد بن مالك الحضرميّ[2].

 

وحمل بنو أبي طالب بعد قَتْلِ عبد الله حملةً واحدة، فصاح بهم الحسين عليه السلام: "صَبْرًا عَلَى المَوْتِ يَا بَنِي عُمُومَتِي!"، فوقع محمّد بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام - وأمّه أمُّ ولد - فشَدَّ عليه أبو مرهم الأزديّ ولقيط بن إياس الجهنيّ[3]، فقتلاه. وبرز إلى ميدان الحرب جعفر بن عقيل بن أبي طالب، فقتله عروة بن عبد الله الخثعميّ[4].

 

وبرز عبد الرحمن بن عقيل عليه السلام - وأمُّه أمُّ ولد[5] - فشدّ عليه اثنان من رجال عمر بن سعد[6]، فقتلوه.

 

وبرز إلى ساحة الحرب محمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام - وأمُّه أمُّ ولد - فقتله لقيط بن ياسر الجهنيّ، وذُكِرَ أنّه اشترك معه آخرون في قتله[7].

 

وقال هشام الكلبيّ: حدّثَ هاني بن ثبيت الحضرميّ، قال: كنتُ ممّن شهد قَتْلَ الحسين عليه السلام. فوالله، إنّي لَواقف عاشر عشرةٍ، ليس منّا إلّا رجلٌ على فرس، وقد جالَت الخيل وتضعضعَت، إذ خرج غلامٌ من آل الحسين، وهو ممسكٌ بعودٍ من تلك الأبنية، عليه إزارٌ وقميص، وهو مذعورٌ يتلفَّت يمينًا وشمالًا، فكأنّي أنظر إلى درّتَين في أذنَيه، يتذبذبان كلّما التفَتَ، إذ أقبلَ رجل يركض، حتّى إذا دنا منه، مال عن فرسِه، ثمّ اقتصد الغلام، فقطعه بالسيف.

 

قال هشام الكلبيّ: هاني بن ثبيت الحضرميّ هو صاحب - أي قاتل - الغلام، وكَنَّى عن نفسه استحياءً، أو خوفًا[8].


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص107.

[2] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.

[4] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص97.

[5] المصدر نفسه، ص96.

[6] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك،ج4، ص341.

[7] الطبرسيّ، تاج المواليد، ص108.

[8] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج3، ص332.

 

155


137

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وانبرى إلى ساحة القتال عبدُ الله بن عقيل الأكبر[1]، وقاتَل قتال الأبطال، فقُتِل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة[2].

 

ثمّ برز بقيّة أولاد عقيل، عبيد الله - وأمُّه الخوصاء بنت حفصة - ومحمّد[3] - وهو صهر أمير المؤمنين عليه السلام - وعون وعليّ وموسى[4]. ثمّ برز أحمد بن محمّد بن عقيل[5]، فاستشهدوا جميعًا، واحدًا تلو الآخر.

 

ثمّ ابتدأ آل جعفر بن أبي طالب عليه السلام بالتقدُّم إلى حومة الحرب, لنصرة سيّد شباب أهل الجنّة، فبرز عون بن عبد الله بن جعفر عليه السلام[6]، وأمّه العقيلة[7] زينب بنت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

 

ثمّ برز إلى ميدان المعركة محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - وأمّه الخوصاء بنت حفصة[8] - فقاتَل وقُتِل[9].

 

وكان القاسم بن محمّد بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام - وأمُّه أمُّ ولد - ملازِمًا لابن عمِّه الحسين عليه السلام، ولم يفارقه أبدًا، وقد زوّجه عليه السلام بنتَ عمِّه عبد الله بن جعفر، التي خطبها معاوية لابنه يزيد، وأمُّها زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام، واسمها أمّ كلثوم الصغرى، وقد انتقل القاسم مع زوجته مع الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وقاتَل وأُثخِنَ بالجراح، فتعطَّفوا عليه من كلِّ جانب، فقتلوه[10].

 

وبعده، استشهد عبيد الله بن عبد الله بن جعفر عليه السلام[11] وأمُّه الخوصاء بنت


 


[1] ابن قتيبة، المعارف، ص204.

[2] ابن سعد، الطبقات، ص76.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.

[4] ابن قتيبة، المعارف، ص204.

[5] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج1، ص103.

[6] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.

[7] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، 95.

[8] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.

[9] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص96.

[10] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج2، ص24.

[11] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص96.

 

156


138

الفصل الرابع: عاشـــوراء

حفصة - ثمّ عبد الله بن عبد الله بن جعفر عليه السلام[1]. ثمّ جاء دور أبناء الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام، وكان أوّل واحد فيهم القاسم بن الحسن عليه السلام، وكان يقول: لا يُقتَل عمّي وأنا أحمل السيف![2]. ولمّا رأى وَحدةَ عمِّه، استأذنَه في القتال، فلم يأذنْ له, لِصِغَرِه، فما زال به حتّى أَذِنَ له[3].

 

روى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) قائلًا: قال حميد بن مسلم: فإنّا كذلك إذ خرجَ علينا غلامٌ، كأنّ وجهَهُ شقّةُ قمرٍ، في يدِه سيف، وعليه قميص وإزار، ونعلان قد انقطع شسعُ إحداهما، فقال لي عمر بن سعيد بن نفيل الأزديّ: والله، لَأَشُدَّنَّ عليه. فقلتُ: سبحان الله! وما تريد بذلك؟ دَعْهُ، يكفيكه هؤلاء القوم الذين ما يُبقُون على أحد منهم! فقال: والله، لَأَشُدَّنَّ عليه. فشَدَّ عليه، فما ولّى، حتّى ضرب رأسَه بالسيف، ففلقه، ووقع الغلام لوجهه، فقال: يا عمّاه! فجلى الحسين عليه السلام كما يُجلي الصقر، ثمّ شدّ شدَّةَ ليث أغضب، فضرب عمر بن سعيد بن نفيل بالسيف، فاتّقاها بالساعد، فأطنُّها مِن لدُنِ المرفق، فصاح صيحةً سمعها أهل العسكر، ثمّ تنحّى عنه الحسين عليه السلام، وحملَت خيلُ الكوفة لتستنقذه، فتوطّأته بأرجلها حتّى مات.

 

وانجلَت الغبرةُ، فرأيتُ الحسين عليه السلام قائمًا على رأس الغلام، وهو يفحص برجله، والحسين عليه السلام يقول: "بُعدًا لِقَوْمٍ قَتَلُوكَ، وَمَنْ خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيكَ جَدُّك‏!".

 

ثمّ حمله على صدره، فكأنّي أنظر إلى رِجْلَي الغلام تخطّان الأرض. فجاء به، حتّى ألقاهُ مع ابنه عليّ بن الحسين عليه السلام والقتلى من أهل بيته، فسألتُ عنه، فقيل لي: القاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام[4].

 

وكان أحمد بن الحسن عليه السلام قد خرج مع عمّه الحسين عليه السلام، هو وأمّه


 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص111.

[2] عماد الدين الأصفهانيّ، البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان، ص25.

[3] ابن فندق، لباب الأنساب، ج1، ص397.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص108.

 

157


139

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وأخوه القاسم وأختاه أمّ الحسن وأمّ الخير، إلى مكّة، ثمّ إلى كربلاء، وله من العمر ستّ عشرة سنة. وعند اشتداد القتال، بعد صلاة الظهر، حمل على القوم، وهو يرتجز، وأُثخِنَ بالجراح، فتعطّفوا عليه جماعةٌ كثيرة، فقتلوه[1]. ثمّ استشهد بعده أبو بكر بن الحسن عليه السلام[2].

 

وقاتَل الحسن بن الحسن المثنّى، فأصابته ثماني عشرة جراحة، وقُطِعت يدُه اليمنى، ولم يستشهد[3]، فقد وقع، فأخذه خاله أسماء بن خارجة، فحمله إلى الكوفة، وداواه حتّى برئ، وحمله إلى المدينة[4].

 

وأمّا عمر بن الحسن عليه السلام، فقد قيل: إنّه من شهداء الطفّ[5]، ولكن ابن الجوزي قال: واستصغَروا أيضًا عمر بن الحسن بن عليّ عليه السلام، فلم يقتلوه، وتركوه[6].

 

وبعد استشهاد أولاد عمومته وأولاد أخيه، أخذ إخوان الإمام الحسين عليه السلام بالتصدّي والقتال في يوم عاشوراء.

 

وهناك اختلاف بين المؤرِّخين حول عدد أولاد الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذين قتلوا في واقعة الطف، فعن المفيد والطبريّ أنّهم كانوا خمسة، وعن آخرين أنّهم كانوا تسعة أشخاص، ونحن نذكر هنا المشهورين منهم.

 

وكان عبد الله وجعفر وعثمان[7] إخوة العبّاس بن عليّ عليه السلام من أمِّه، أمّ البنين فاطمة بنت حزام الكلابيّة العامريّة[8]، فلمّا رأى العبّاس كثرة القتلى في أهله، قال لهم: "يا بَنِي أُمِّي، تَقَدَّمُوا، بِنَفْسي أنتُم، فحاموا عن سيِّدِكم حتّى تموتوا دونه، حتّى


 


[1] المامقانيّ، تنقيح المقال، ج1، ص103.

[2] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.

[3] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.

[4] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص191.

[5] الخوارزميّ، مقتل الإمام الحسين عليه السلام، ج2، ص53.

[6] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.

[7] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص87.

[8] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.

 

158


140

الفصل الرابع: عاشـــوراء

أراكُم قد نَصَحْتُم للهِ ولرسولهِ"[1]. فتقدَّموا جميعًا، فصاروا أمام الحسين عليه السلام، يقونه بوجوههم ونحورهم.

 

فتقدَّم عبد الله، فقاتَلَ قتالًا شديدًا، فاختلف هو وهاني بن ثبيت الحضرميّ ضربتَين، فقتلَه هاني (لعنه الله)[2]. ثمّ تقدم جعفر[3]، فقتله أيضًا هانئ[4]، وجاء برأسه[5]. ورُوِيَ أنّ خَولِيّ بن يزيد الأصبحيّ هو الذي قتله[6].

 

وعندما برز عثمان بن عليّ عليه السلام، رماه خَوليُّ بن يزيد الأصبحيّ بسهمٍ، فصرعه[7]، وشدّ عليه رجلٌ من بني دارم، فاحتزّ رأسَه. وبقي العبّاس بن عليّ قائمًا أمام الحسين عليه السلام، يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال.

 

شهادة أبي الفضل العبّاس عليه السلام

ذكرَت المصادر التاريخيّة، في كيفيّة شهادة أبي الفضل العبّاس، صورتَين, إجماليّة وتفصيليّة.

 

أمّا الإجماليّة، فقد قال الشيخ المفيد: وحملَت الجماعةُ على الحسين عليه السلام، فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المسنّاة يريد الفرات، وبين يدَيه العبّاس أخوه، فاعترضَتْه خيلُ ابن سعد، وفيهم رجلٌ من بني دارم، فقال لهم: وَيْلَكُم! حُولُوا بينه وبين الفرات، ولا تمكِّنوه من الماء! فقال الحسين عليه السلام: "اللهُمَّ أَظْمِئْهُ".

 

فغضب الدارميّ، ورماه بسهمٍ، فأثبتَه في حنَكِه، فانتزع الحسين عليه السلام السهمَ، وبَسَطَ يدَه تحت حنكه، فامتلأَت راحتاه بالدم، فرمى به، ثمّ قال: "اللهُمَّ، إنّي أَشكُو إِلَيْكَ مَا يُفعَلُ بِابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ". ثمّ رجع إلى مكانه، وقد اشتدّ به العطش،


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص109.

[2] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص88.

[3] الأمين، أعيان الشيعة، ج4، ص129.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص109.

[5] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص257.

[6] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص88.

[7] المصدر نفسه، ص89.

 

159


141

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وأحاط القومُ بالعبّاس، فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتِل عليه السلام - وكان المتولّي لقتله زيدُ بن ورقاء الحنفيّ[1]، وحكيمُ بن الطفَيْل السنبسيّ[2]- بعد أن أُثخِنَ بالجراح، فلم يستطع حراكًا![3].

 

وأمّا التفصيليّة، فقد اشتركَت في إيرادها مجموعةٌ من المصادر، وتقول: إنَّ العبّاس بن عليّ عليه السلام خرج من بعد أخيه عبد الله، فلم يزل يقاتل، حتّى قَتَلَ جماعةٌ من القوم، ثمّ قُتِل، فقال الحسين عليه السلام: "الآنَ اِنْكَسَرَ ظَهْرِي، وَقَلَّتْ حِيلَتِي!"[4].

 

وفي مصادر أخرى، المزيد من التفاصيل، يقول ابن شهر آشوب السرويّ في كتابه المناقب: وكان عبّاس السقّاء قمر بني هاشم، صاحب لواء الحسين، وهو أكبر الإخوان، مضى يطلب الماء، فحملوا عليه، وحمل هو عليهم، ففرّقَهم، فكَمنَ له زيدُ بن ورقاء الجهنيّ من وراء نخلة، وعاونه حكيمُ بن طفيل السنبسيّ، فضربَه على يمينه، فأخذ السيفَ بشماله، وحمل عليهم، فقاتَل حتّى ضعف، فكَمنَ له الحكيم بن الطفيل الطائيّ من وراء نخلة، فضربَهُ على شماله، فقتَلَهُ الملعون بعمودٍ من حديد[5].

 

قَتْلُ أطفال الحسين عليه السلام

ويظهر من الأخبار والروايات الواردة في هذا الفصل من ملحمة عاشوراء، أنّ الإمام عليه السلام كان له ولدان صغيران قُتِلا في الطفّ، أحدُهما اسمه عبد الله بن الحسين عليه السلام - وأمُّه الرباب بنت امرئ القيس - والآخر اسمه عليّ الأصغر.

 

أمّا الأوَّل، فوُلِدَ في الحرب، فأُتِيَ الإمام الحسين عليه السلام به، وهو قاعدٌ[6] أمام الفسطاط، أو هو واقفٌ على فرسه[7]، فأخذَه في حجره، ولبّاه بريقه، وأذَّنَ في أذنه، وجعل يحنّكه، وسمّاه عبد الله. فرماه حرملة بن الكاهل الأسديّ بسهمٍ، فوقع في حلق الصبيّ، فذبحه،

 


[1] أبو الفرج الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيّين، ص90.

[2] ابن نما الحلّيّ، ذو النضار، ص119.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص109-110.

[4] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص207.

[5] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص406.

[6] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.

[7] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص177.

 

160


142

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فنزع الحسينُ السهمَ من حلقه، وجعل يلطّخه بدمه، ويقول: "وَاللهِ، لَأَنْتَ أَكرَمُ عَلَى اللهِ مِن النَّاقَةِ، وَلَمُحَمَّدٌ أَكرَمُ عَلَى اللهِ مِن صَالِح"[1]. ثمّ نزل عن فرسه، وحفر له بطرف السيف، ورَمَّلَه بدمه، وصلّى عليه، ودفنه[2].

 

وفي رواية أخرى، أنّ الإمام عليه السلام هو الذي تقدَّم إلى باب الخيمة، وقال لزينب عليها السلام: "نَاوِلِينِي وَلَدِي الصغِيرَ حَتَّى أُوَدِّعَهُ"، فأخذه وأمال إليه ليقبِّلَه، فرماه حرملةُ بن الكاهل الأسديّ بسهم، فوقع في نحره، فذبحه، فقال لزينب عليها السلام: "خُذِيهِ". ثمّ تلقى الدمَ بكفَّيهِ حتّى امتلأتا، ورمى به نحو السماء، وقال: "هَوَّن عَلَيَّ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ". قال الإمام الباقر عليه السلام: "فَلَمْ تَسْقُطْ مِنْ ذَلِكَ الدَّمَ قَطْرَةٌ إِلَى الأَرْضِ"[3]. وفي رواية الشيخ المفيد: فتلَقّى الحسين عليه السلام دمَه، فلمّا ملأ كفَّه، صبَّهُ في الأرض، ثمّ قال: "رَبِّ، إنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عَنّا النَّصْرَ مِن السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقِمْ لَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ الظَّالِمِينَ". ثمّ حملَه حتّى وضعه مع قتلى أهله مِن وُلدِه وبَنِي أَخِيهِ[4].

 

وأمّا ولده الثاني، فقد كان معه حينما خرج من المدينة. واسمه عليّ الأصغر، له من العمر ثلاث سنين[5]. وكان الإمام عليه السلام يُقَبِّلُه وهو واقف إلى باب الخيمة، ويقول له: "يَا بُنَيَّ، وَيْلٌ لِهَؤُلَاءِ القَوْمِ إِذَا كَانَ غَدًا خَصْمَهُمْ جَدُّكَ مُحَمَّد‍!"، فأصابه سهمٌ، فقتَلَه[6].

 

الوصيّة الأخيرة

ثمّ أحضر عليّ بن الحسين عليه السلام، وكان عليلًا، فأوصى إليه الإمام الحسين عليه السلام بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السلام، وعرّفَه أنّه قد دفع العلوم والصحف


 


[1] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص177.

[2] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص131.

[3] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص169.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص108.

[5] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص302.

[6] الأصيلي، أنساب الطالبيّين، ص143.

 

161


143

الفصل الرابع: عاشـــوراء

والمصاحف والسلاح إلى أمّ سلمة (رضي الله عنها)، وأَمَرَها أن تدفعَ جميعَ ذلك إليه[1].

 

ورُوِيَ أنّ الحسين عليه السلام دعا ابنته الكبرى فاطمة[2]، فدفعَ إليها كتابًا ملفوفًا ووصيّةً ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين عليه السلام مبطونًا معهم، لا يرون إلّا أنّه لِما به، فدفعَت فاطمة الكتابَ إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، ثمّ صار ذلك إلى بقيّة أئمّة أهل البيت عليهم السلام[3].

 

الاستعداد للشهادة

ولَمّا بقي الحسين عليه السلام في ثلاثة رهط أو أربعة، قال: "ائْتُونِي بِثَوْبٍ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ، أَلْبَسُهُ، غَيْرِ ثِيَابِي، لَا أُجَرَّدُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ مَسْلُوبٌ". فقال له بعضُ أصحابِه: لو لبستَ تحتَه تُبّانًا[4]، قال: "ذَلِكَ ثَوْبُ مَذَلَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَلْبَسَهُ". ثُمَّ أَتوهُ بِشَيْءٍ أَوْسَع مِنْهُ، دُونَ السَّرَاوِيلِ وَفَوْقَ التُّبَّانِ، ففزَرَه[5] ونكثه, لكيلا يُسْلَبَهُ، ولَبِسَهُ[6].

 

الملحمة الحسينيّة

ثمّ وقف عليه السلام قِبلةَ القوم، وسيفُه مُصَلَت في يدِه، آيِسًا من الحياة، عازِمًا على الموت، ودعا الناس إلى البراز، فلم يزل يَقتُل كلَّ مَن دنا منه مِن عيون الرجال، ثمّ حمل على الميمنة، ثمّ على الميسرة...

 

وجعل يقاتِل[7] بثباتٍ ورباطة جأشه. وقد وصفه أحدُ الذين شهدوا وقعة الطفّ من أعدائه في معسكر ابن سعد، فقال: فوالله، ما رأيتُ مكثورًا قطّ، قد قُتِلَ ولدُه وأهلُ بيته وجميعُ أصحابه حوله، وأحاطَت به الكتائب، أربطَ جأشًا،


 


[1] المسعوديّ، إثبات الوصيّة، ص177و 206.

[2] المِزّيّ، تهذيب الكمال، ج35، ص255.

[3] الصفّار، بصائر الدرجات، ص164.

[4] التبّان: شبه السراويل الصغيرة. راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص18.

[5] فزره: أي نقض نسجه، مزّقه.

[6] الطبرانيّ، المعجم الكبير، ج3، ص125.

[7] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص110.

 

162


144

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ولا أمضى جنانًا منه، ولا أجرأَ مقدمًا! والله، ما رأيتُ قبلَه، ولا بعده، مثلَه! فوالله، لكان يشدُّ عليهم، فكانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله، انكشافَ المعزى إذا شدّ فيها الذئب![1].

 

فمكث مليًّا، والناس يدافعونه ويكرهون الإقدام عليه[2]. وكان يحمل فيهم، ولقد كمّلوا ثلاثين ألفًا، فيُهزَمون بين يدَيه، كأنّهم الجراد المنتشر! ثمّ يرجع إلى مركزه، وهو يقول: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ!"[3].

 

فقال عمر بن سعد لقومه: وَيْلَكُم! أتدرونَ مَن تبارزون؟ هذا ابنُ الأنزعِ البطين، هذا ابنُ قَتَّالِ العرب! فاحمِلُوا عليه مِن كلِّ جانب[4]! فحمل عليه مئات الرجال من حملة الرماح والسيوف ورماة السهام...

 

ثمّ حمل الحسين عليه السلام على الأعور السلميّ وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحمَ الفرسَ على الفرات، ولكنّ صارخًا من جيش عمر بن سعد هَتَفَ به: تتلذَّذُ بِشربِ الماءِ، وقدْ هُتِكَتْ حَرِيمُكَ؟!

فنفضَ الماءَ من يده، وحملَ على القوم، فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة![5].

 

ثمّ ودّع، ثانيًا، أهلَ بيتِه، وأمَرَهُم بالصبر، ووعدَهم بالثواب والأجر، وأَمَرَهم بلبس أُزرِهِم...

 

فقال عمر بن سعد: وَيْحَكُم! اهجموا عليه، ما دام مشغولًا بنفسه وحرمه! والله، إنْ فرغَ لكم، لا تمتاز ميمنتُكم عن ميسرتِكم!

 

فحملوا عليه يرمونه بالسهام، حتّى تخالفَت السهام بين أطناب المخيَّم، وشكَّ سهمٌ بعضَ أُزَرِ النساء، فدُهِشْنَ وأُرعِبْنَ وصِحْنَ ودَخَلْنَ الخيمةَ يَنْظُرْنَ إلى الحسين عليه السلام كيف يصنع.


 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص344.

[2] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص408.

[3] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص105.

[4] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص111.

[5] المصدر نفسه، ج4، ص58.

 

163


145

الفصل الرابع: عاشـــوراء

فحمل عليهم حملةً منكرة، قَتَل فيها كثيرًا من الرجال والأبطال، فكان كالليث الغضبان، لا يلحق أحدًا إلّا بَعَجَهُ بسيفه، فقتله، والسهام تأخذه من كلِّ ناحية، وهو يَتَّقِيها بصدره ونحره.

 

ويَصِفُهُ، في هذه الساعة الإلهيّة من حياته المقدَّسة، أحدُ الذين شهدوا معركة كربلاء من جيش عمر بن سعد، فيقول: كانت عليه جُبَّةٌ من خزّ، وكان مُعْتَمًّا، وكان مخضوبًا بالوسمة، وسمعتُه يقول قبل أن يُقتَل، وهو يقاتِل على رِجلَيه قِتالَ الفارس الشجاع، يَتَّقي الرميةَ، ويفترص العورة، ويشدّ على الخيل، وهو يقول: "يَا أُمَّةَ السُّوءِ! بِئسَمَا خَلفْتُمْ محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم فِي عِتْرَتِهِ! أَعَلَى قَتْلِي تحاثّون؟ أَمَا إِنَّكُم، وَاللهِ، لَا تَقْتُلُونَ بَعْدِي عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، اللهُ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ لِقَتْلِهِ مِنِّي، فَتَهَابُوا قَتْلَهُ، بَلْ يَهُونُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ قَتْلِكُم إِيَّايَ. وَأَيمُ اللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُكْرِمَنِي اللهُ بِهَوَانِكُم، ثُمَّ يَنْتَقِمَ لِي مِنْكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُونَ. أَمَا وَاللهِ، أَنْ لَوْ قَتَلْتُمُونِي، لَقَدْ أَلْقَى اللهُ بَأْسَكُمْ بَيْنَكُمْ، وَسفكَ دِمَاءَكُم، ثُمَّ لَا يَرْضَى لَكُمْ حَتَّى يُضَاعِفَ لَكُم العَذَابَ الأَلِيمَ!".

 

فصاح الحصين بن النمير السكونيّ: يَابْنَ فاطمة، بماذا ينتقمُ لكَ مِنّا؟

 

فقال عليه السلام: "يُلْقِي بَأْسَكُم بَيْنَكُم، وَيَسْفِكُ دِمَاءَكُم، ثُمَّ يَصُبَّ عَلَيْكُم العَذَابَ الأَلِيمَ".

 

ورجع سالِمًا إلى موقفه عند الحريم، ثمّ حمل حملةً أخرى، وأراد الكرَّ راجعًا إلى موقفه، فأقبل شمر بن ذي الجوشن في نفرٍ من عشرةٍ مِن رجّالة أهل الكوفة، قِبَل منزل الحسين، الذي فيه ثقله وعياله، فحالوا بينه وبين رَحْلِه، وأحدقوا به. ثمّ إنّ جماعةً منهم تبادروا إلى الحريم والأطفال يريدون سَلْبَهم، فصاح الحسين عليه السلام: "وَيْحَكُم يَا شِيعَةَ الشَّيْطَانِ! يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَان! وَيْلَكُمْ! إنْ لم يَكْنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُم لَا تَخَافُونَ يَوْمَ المَعَادِ، وَكُنْتُم عَرَبًا، كَمَا تَزْعُمُونَ، فَكُونُوا في أَمْرِ دُنْيَاكُم أَحْرَارًا ذَوِي أَحْسَابٍ، امْنَعُوا رَحْلِي وَأَهْلِي مِن طغَامِكُم[1] وَجُهَّالِكم، وَكُفُّوا سُفَهَاءَكُم عَن

 

 


[1] فُسِّرَ الطغام بمعنى أرذال الناس، راجع: ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص94.

 

164


146

الفصل الرابع: عاشـــوراء

 

التَّعَرُّضِ لِلنِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا. فَرَحْلِي لَكُمْ عَنْ سَاعَةٍ مُبَاحٌ!"[1].

 

فقال شمر بن ذي الجوشن: ذلك لكَ يابن فاطمة[2]، ثمّ قال لأوباش أهل الكوفة: كُفّوا عنهم، واقصدوا الرجلَ بنفسه[3].

 

فقصده القومُ بالحرب من كلِّ جانِب، فجعلَ يحمل عليهم ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلب الماء ليشرب منه شربة، فكلَّما حمل بفرسِه على الفرات، حملوا عليه، حتّى أجَّلوه عنه[4]، ثمّ رماه رجلٌ، يُقال له: أبو الحتوف الجعفيّ، بسهمٍ فوقع السهمِ في جبهته، فنزع الحسين السهم ورمى به، فسال الدم على وجهه ولحيته[5]، فقال: "اللهُمَّ، قد ترى ما أنا فيه مِن عِبادِك هَؤلاءِ العُصاةِ العُتاةِ! اللهُمَّ، فأَحْصِهِم عَدَدًا، وَاقْتُلْهُم بَدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى وَجْهِ الأرضِ مِنْهُم أَحَدًا، وَلَا تَغْفِرْ لَهُمْ أَبَدًا".

 

ثمّ جعل يُقاتل، حتّى أصابَتْه مئاتُ الجراحات، بين طعنة بالرمح، وضربة بالسيف، ورمية بالسهام، وكانت كلّها في مقدمه, لأنّه كان لا يولّي[6]. فوقف يستريح، وقد ضعف عن القتال، فبينا هو واقفٌ، إذ أتاه حجرٌ، فوقعَ على جبهته، فسالَت الدماءُ من جبهته، فأخذَ الثوبَ ليمسح عن جبهته، فأتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ، له ثلاثُ شُعَبٍ، فوقع في قلبه، فقال الحسين عليه السلام: "بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ".

 

ورفع رأسه إلى السماء، وقال: "إِلَهِي، إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ رَجُلًا لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ نَبِيٍّ غَيْرُه‏".

 

ثمّ أخذ السهم، وأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح، فلمّا امتلأت دمًا، رمى بها إلى السماء، فما رجع من ذلك قطرة، وما عُرِفَت


 


[1] البلاذريّ، أنساب الأشراف، ج3، ص407.

[2] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص171.

[3] السيّد شرف الدين، الفصول المهمّة، ص19.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.

[5] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، ص2345.

[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص139.

 

165


147

الفصل الرابع: عاشـــوراء

الحمرةُ في السماء حتّى رمى الحسين عليه السلام بدمِه إلى السماء، ثمّ وَضَعَ يدَه على الجرح ثانيًا، فلمّا امتلأَت، لطّخَ بها رأسَه ولحيتَه، وقال: "هَكَذَا أَكُونُ، حَتَّى أَلْقَى جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَنَا مَخْضُوبٌ بِدَمِي، وَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَتَلَنِي فُلَانٌ وَفُلَان‏".

 

ثمّ ضَعُفَ عن القتال، فوقف مكانه، ومكث طويلًا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتُلوه لفعلوا، ولكنّهم كان يَتَّقي بعضُهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفيَهم هؤلاء‍، فكلّما أتاه رجلٌ من الناس وانتهى إليه، انصرف عنه، وكَرِهَ أنْ يَلقَى اللهَ بدمِه، حتّى جاءه رجلٌ من كندة، يُقال له: مالك بن نسر، فضربه بالسيف على رأسه، وكان عليه برنس، فقطع البرنس، وامتلأ دمًا، فقال له الحسين عليه السلام: "لَا أَكَلْتَ بِيَمِينِكَ، وَلَا شَرِبْتَ بِهَا، وَحَشَرَكَ اللهُ مَعَ الظَّالِمِينَ".

 

وكان عبد الله بن الحسن عليه السلام غلامًا لم يراهق، ولَمَّا رأى وَحْدَةَ عمِّه عليه السلام بين أعدائه الذين قد أحاطوا به بعد مقتل أنصاره، وكان نزف رأسه قد اشتدّ به من ضربة مالك بن النسر الكنديّ[1] (لعنه الله)، خرج إليه من عند النساء، حتّى وقف إلى جنبه، فلَحِقَتْهُ زينبُ بنت عليّ عليها السلام لتحبسه، فقال لها الحسين عليه السلام: "اِحْبِسِيهِ يَا أُخْتِي"، فأَبَى وامتنع عليها امتناعًا شديدًا، وقال: واللهِ، لَا أُفارِقُ عَمِّي! وأهوى أبجر بن كعب[2] إلى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلامُ: وَيْلَكَ يَابْنَ الخَبِيثَةِ! أتقتُلُ عَمِّي؟! فضربه أبجر بالسيف، فاتَّقاها الغلام بِيَدِه، فأطَنَّها إلى الجلدة، فإذا يدُه معلَّقَة، ونادى الغلام: يَا أُمَّتَاه! فأخذه الحسين عليه السلام، فضمَّهُ إليه وقال: "يَابْنَ أَخِي، اصْبِرْ عَلَى مَا نَزَلَ بِكَ، وَاحْتَسِبْ فِي ذَلِكَ الْخَيْرَ, فَإِنَّ اللَّهَ يُلْحِقُكَ بِآبَائِكَ الصَّالِحِين".

 

ثمّ رفع الإمام الحسين عليه السلام يدَه وقال: "اللَّهُمَّ، إِنْ مَتَّعْتَهُمْ إِلَى حِينٍ، فَفَرِّقْهُمْ فِرَقًا، وَاجْعَلْهُمْ طَرَائِقَ قِدَدًا، وَلَا تُرْضِ الْوُلَاةَ عَنْهُمْ أَبَدًا, فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، ثُمَّ عَدَوْا عَلَيْنَا فَقَتَلُونَا"[3].

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص343.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص110-111.

 

166


148

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ثمّ ألقى الإمام الحسين البرنس، ولبس قلنسوةً واعتمَّ عليها، وقد أعيى وتبلّد.

 

ثمّ نادى شمر: ما تنتظرون بالرجل؟ فقد أثخَنَتْهُ السهامُ, اقتُلُوهُ، ثَكَلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُم!

 

فحُمِل عليه من كلّ جانب، وأخذَت به الرماح والسيوف، ورماه سنان بن أنس بسهم في نحره، وطعنه صالح بن وهب المرّيّ على خاصرته طعنةً منكرةً، وضُرِبَ على عاتقه، ثمّ انصرفوا، وهو ينوء ويكبو[1]. فسقط الحسين عن فرسه[2] إلى الأرض، على خدّه الأيمن، ثمّ استوى جالسًا، ونزع السهمَ من نحره.

 

فصاح شمر: وَيْحَكُم! ما تنتظرون؟ اقتُلُوهُ، ثَكَلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُم![3]، فضربه زرعة بن شريك، فأَبَانَ كفَّه اليسرى، ثمّ ضربه على عاتقه، فجعل عليه السلام يكبو مرّةً ويقوم أخرى، فحمل عليه سنان ابن أنس في تلك الحال، فطعنه بالرمح، فصرعه[4]، وقال لخَوليّ بن يزيد: احتزَّ رأسَه. فضَعُفَ وارتعدَت يداه، فقال له سنان: فَتَّ اللهُ عضدَك، وأبانَ يدَكَ[5]! فنزل إليه نصر بن خرشة الضبابيّ، وقيل: ابن ذي الجوشن[6]، وكان أبرص، وألقاه على قفاه، ثمّ أخذ بلحيته، فقال له الحسين عليه السلام: "أَنْتَ الكَلْبُ الأَبْقَعُ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي!".

 

فقال له شمر: أَتُشَبِّهُني بالكلاب يابن فاطمة؟ ثمّ جعل يضرب بسيفه مذبحَ الحسين عليه السلام، ويقول:

أقتلُكَ اليومَ ونفسي تعلمُ         عِلمًا يقينًا ليسَ فيه مَزْعَم

وَلَا مَجَـالٌ لَا وَلَا تَـكتُّم          أَنَّ أَباكَ خَيْرُ مَنْ يُكَلـّم

 

ورُوِيَ أنّه جاء إليه شمر بن ذي الجوشن، وسنان بن أنس، والحسين عليه السلام

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص345.

[2] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص42-43.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص111.

[4] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص176.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص345.

[6] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص258.

 

167


149

الفصل الرابع: عاشـــوراء

بآخر رمق يلوك لسانه من العطش، فقال شمر: يابن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبَّه؟ فاصبِر حتّى تأخذ الماءَ مِن يَدِه. ثمّ قال لسنان بن أنس: احتزَّ رأسَه مِن قفاه. فقال: لا، والله، لا أفعل ذلك، فيكون جدُّه محمّد خصمي! فغضب شمر منه، وجلس على صدر الحسين عليه السلام، وقبض على لحيته، وهَمَّ بقَتْلِه، فضحك الحسين، وقال له: "أَتَقْتلُنِي؟ أَوَلَا تَعْلَمُ مَنْ أَنَا؟".

 

قال شمر (لعنه الله): أعرفُكَ حقَّ المعرفة, أمُّكَ فاطمة الزهراء، وأبوك عليٌّ المرتضى، وجدُّك محمّدٌ المصطفى، وخصيمُك اللهُ العليُّ الأعلى، وأقتلُك ولا أبالي! وضربَهُ بسيفه اثنتَي عشرةَ ضربة، ثمّ حزّ رأسَه[1].

 

سلب الإمام عليه السلام ورضّ جسده الشريف بحوافر الخيل

ثمّ أقبلوا على سلب الحسين قميصَه وسراويلَه وعمامتَه وسيفَه[2]. فالذي أخذ قميصَه، صار أبرص، وامتعط شعرُه... والذي أخذ سراويلَه، صار زمنًا مُقعَدًا مِن رِجلَيه. والذي أخذ عمامتَه فاعتَمَّ بها، صار معتوهًا. وأخذ نعلَيه الأسودُ بن خالد (لعنه الله)، وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبيّ، بعد أن قطع إصبعه عليه السلام مع الخاتم، وهذا أخذه المختار بن أبي عبيد الثقفيّ، فقطع يدَيْه ورِجلَيه، وتركه يتشحّط في دمه حتّى هلك. وأخذ قيس بن الأشعث قطيفةً له عليه السلام كانت من خزّ، كان يجلس عليها، فسُمِّيَ لذلك قيس قطيفة[3]، وأخذ درعَه البتراء عمر بن سعد, فلمّا قُتِلَ عمر، وهبها المختارُ لأبي عمرة قاتلِه، وأخذ عمر بن سعد سيفَه، ولكنّه ليس ذا الفقار، فإنّ ذلك كان مذخورًا ومصونًا مع أمثاله من ذخائر النبوّة والإمامة[4].

 

ثمّ انتهبوا رَحلَهُ وإبلَه وأثقالَه[5]، ثمّ أغاروا على خيم النساء، فأحرقوها وهم


 


[1] الشبراويّ، الاتحاف بحبّ الأشراف، ص16.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص112.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص345.

[4] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص114-115.

[5] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص112.

 

168


150

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ينادون: أحرِقوا بيوتَ الظالمين! بينما النساء تَفِرُّ مذعوراتٍ من خيمة إلى أخرى، ثمّ عمد أوباشُ أهل الكوفة إلى سلب النساء، ونَهْبِ ما عليهِنَّ مِن حليّ وحلل، ونهبوا ما في الخيام من متاع.

 

ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين، فيواطئ الخيل ظهرَه وصدرَه؟ فانتدب منهم عشرة، وهم: إسحاق بن حويّة، الذي سلب الحسين عليه السلام قميصَه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسيّ، وعمر بن صبيح الصيداويّ، ورجاء بن منقذ العبديّ، وسالم بن خثيمة الجعفيّ، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفيّ، وهاني بن ثبيت الحضرميّ، وأُسيد بن مالك (لعنهم الله تعالى)، فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم، حتّى رضّوا صدرَه وظهرَه[1].

 

وبعد سبعٍ وخمسين سنة[2] من عمره الشريف، وفي اللحظة التي استشهد فيها مذبوحًا ظمآنًا، ارتفعَت في السماء، في ذلك الوقت، غبرةٌ شديدة مظلمة، فيها ريحٌ حمراء، لا يُرَى فيها عينٌ ولا أثرٌ، حتّى ظنَّ القومُ أنَّ العذابَ قد جاءهم، فلبِثَت بذلك ساعة، ثمّ انجلَت عنهم[3].

 

عن الإمام الصادق عليه السلام: "لَمَّا ضُرِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام بِالسَّيْفِ، ثُمَّ ابْتُدِرَ لِيُقْطَعَ رَأْسُهُ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْعِزَّةِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ، فَقَالَ: أَلَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ الْمُتَحَيِّرَةُ الظَّالِمَةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا، لَا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ لِأَضْحًى وَلَا فِطْرٍ! قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا جَرَمَ، وَاللَّهِ، مَا وُفِّقُوا، وَلَا يُوَفَّقُونَ أَبَدًا، حَتَّى يَقُومَ ثَائِرُ الْحُسَيْنِ عليه السلام"[4].

 

ولم يَنْجُ، من أصحاب الحسين عليه السلام ووُلدِ أخيه وأولادِه، إلّا عليٌّ زينُ العابدين عليه السلام، وعمرُ بن الحسين عليه السلام، وقد كان بلغ أربع سنين[5]. وذهب


 


[1] السيّد ابن طاووس، اللهوف، ص115.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص135.

[3] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص42.

[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص142.

[5] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.

 

169


151

الفصل الرابع: عاشـــوراء

بعض المؤرِّخين إلى أنَّ محمّد بن الحسين عليه السلام كان في قافلة الأسرى[1].

 

وأمّا أولاد أخيه، فقد قيل: إنّ عمر بن الحسن عليه السلام من شهداء الطفّ[2]، ولكنّ ابن الجوزي قال: واستصغروا أيضًا عمر بن الحسن بن عليّ عليه السلام، فلم يقتلوه، وتركوه[3].

 

وأمّا الحسن بن الحسن المثنّى، فقد قاتَل، كما تقدَّم، فأصابته ثماني عشرة جراحةٌ، وقُطِعَت يدُه اليمنى، ولم يستشهد[4].

 

ولم يسلم من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام إلّا رجلان، أحدهما المرقع بن ثمامة الأسديّ، بعث به عمر بن سعد إلى ابن زياد، فسَيَّرَه إلى الربذة، فلم يزل بها حتّى هلك يزيد، وحينما هرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، انصرف المرقع إلى الكوفة. والآخر عقبة بن سمعان، مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبيّة - وهي أمّ سكينة بنت الحسين - أخذوه بعد قتل الحسين عليه السلام، فأرادوا ضرب عنقه، فقال لهم: إنّي عبدٌ مملوكٌ، فخلُّوا سبيلَه[5].

 

نهب مخيّم أهل البيت عليهم السلام

بعد أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام، وحُزَّ رأسُه، ورُضَّ جسدُه الشريف بحوافر الخيل، أمر عمر بن سعد أوباش أهل الكوفة بنهب الخيام، فمالوا على الورس الذي كان أخذه الإمام الحسين من العير، فانتهبوه، ثمّ مالوا على النساء، فكانوا ينتزعون ملحفةَ المرأة عن ظهرها، وهي تنازعهم حتّى تغلب عليه، وجعلوا يسلبون حتّى لباس الأطفال، وخرموا أُذُنَ أمِّ كلثوم, من أجل قرطٍ في أذنيها، ثمّ قطعوا الخيام بالسيوف، وأضرموا فيها النيران.


 


[1] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص6.

[2] الخوارزميّ، مقتل الحسين عليه السلام، ج2، ص53.

[3] الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج3، ص303.

[4] المصدر نفسه.

[5] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.

 

170


152

الفصل الرابع: عاشـــوراء

قالت فاطم بنت الحسين: دخلَت الغاغةُ علينا الفسطاطَ، وأنا جاريةٌ صغيرة، وفي رِجْلَيَّ خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضُّ الخلخالَين من رِجلي، وهو يبكي! فقلتُ: ما يُبكِيكَ يا عدُوَّ الله؟! فقال: كيف لا أبكي، وأنا أسلبُ ابنةَ رسولِ الله؟!

فقلتُ: لا تَسلبْنِي.

قال: أخافُ أن يجيءَ غيري، فيأخذَه!

قالت: وانتهَبُوا ما في الأبنية، حتّى كانوا ينزِعُونَ الملاحفَ عن ظهورنا![1].

 

وروى ابن شهر آشوب عن الإمام الرضا عليه السلام، أنّه قال: "إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرٌ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهِ، فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَتْ فِيهِ حُرْمَتُنَا، وَسُبِيَتْ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤٌنَا، وَأُضْرِمَتِ النِّيرَانُ فِي مَضَارِبِنَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثِقَلِنَا"[2].

 

وكان على رأس النهّابين السلّابين، شمرُ بن ذي الجوشن[3]، الذي ما إن وصل إلى خيمة الإمام زين العابدين عليه السلام ورآه، حتّى أمر بقتله[4]، ولكنّ عمَّتَه زينب عليها السلام تعلَّقَت به، وقالت للشمر: "حسبُكَ مِن دمائِنا! والله، لا أُفارِقُه، فإنْ قَتَلْتَهُ، فَاقْتُلْنِي مَعَه!". وقد ساعدَت حالتُه الصحّيّة في تشجيع هؤلاء الأوباش على رفض تنفيذ أوامر الشمر، حيث بدا الإمامُ نحيلًا ضعيفًا من شدّة المرض، غير قادر على النهوض، وكأنّهم اعتقدوا أنَّ مرضَه كافٍ في التسبُّب بموته، بدون أن يقتلوه هم. وقد ظهر كأنّه صبيٌّ لشدّة هزاله[5]، وكان الشمر مصمِّمًا على قتله, لأنّ عبيد الله بن زياد أمرَه بقتل جميع أولاد الإمام الحسين عليه السلام.


 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص139-140.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص206.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص258.

[4] المصدر نفسه، ص113.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك ج4، ص347.

 

171


153

الفصل الرابع: عاشـــوراء

وهكذا، أفلح موقفُ السيّدة زينب عليها السلام، ومرضُ الإمام وهزالُه، وتردُّدُ عمر بن سعد وبقيّة القَتَلة، في ثَنْيِ الشمر عن قتله. وكأنّ اللهَ عزّ وجلّ قد جمع كلّ هذه الأسباب ليبقيه حيًّا, لأنّه بقيّة الله، وفيه سوف تكون الذرّيّة الطاهرة[1].

 

ولا يُلتَفَت في هذا المقام، إلى ما حاول الراوي حميد بن مسلم أن يروّجَه لنفسه، بأنّه لعب دورًا إيجابيًّا في الذود عن حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، وفي صرف شمر بن ذي الجوشن عن قتله، وهذا ضمن سياقٍ عامٍّ من الأدوار الإيجابيّة الأخرى التي حاول رَسْمَها لنفسه في روايات الطبريّ، الذي تبعه آخرون، وأخذوا عنه بدون تأمُّل.

 

ولكنّ هذا الموقف لا ينطلي على متأمِّل، فإنّ حميد بن مسلم الأزديّ هذا، كان في جيش عمر بن سعد يوم عاشوراء‍، بل كان وجيهًا من وجهاء هذا الجيش، معروفًا عند قادته، وقريبًا منهم. ويدلُّ على ذلك أنّه وخَوليّ بن يزيد الأصبحيّ حَمَلا رأس الإمام عليه السلام إلى ابن زياد[2]، بتكليفٍ من عمر بن سعد. كما كان الرسول الخاصّ لعمر بن سعد إلى أهله, لكي يبشِّرَهم بالنصر المؤزَّر على الإمام الحسين في كربلاء[3]. ‍‍

 

وعلى كلّ حال، فقد أُضْرِمَت النار في مضارب أهل البيت، بعد إخراجهم منها، فخرجَت النساء هارباتٍ مسلَّباتٍ حافياتٍ باكياتٍ[4]!

 

فلمّا نظر النسوة إلى القتلى، صِحْنَ وضَرَبْنَ وجوهَهُنَّ. قال الراوي: فوالله، لا أنسى زينبَ، ابنةَ عليٍّ، وهي تندب الحسين عليه السلام، وتنادي بصوتٍ حزينٍ وقلبٍ كئيبٍ: "يَا مُحَمَّدَاهْ! يَا مُحَمَّدَاهْ! صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ. هَذَا الحُسَيْنُ بِالعَرَاءِ، مُرَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مَقَطَّعُ الْأَعْضَاءِ! يَا مُحَمَّدَاهْ! وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ، تَسْفِي عَلَيْهَا الصَّبَا!" قال الراوي: فأبكَتْ، والله، كلَّ عدوٍّ وصديق[5].


 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص112-113 و 116.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص113.

[3] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص349.

[4] ابن أعثم، الفتوح، ج5، ص138.

[5] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص349.

 

 

172


154

الفصل الرابع: عاشـــوراء

ثمّ إنّ سكينةَ اعتنقَتْ جسدَ الحسين عليه السلام، فاجتمعَ عدّةٌ مِن الأغراب، حتّى جرّوها عنه[1].

 

ولَمَّا نظرَت أمُّ كلثوم أخاها الحسين، تسفي عليه الرياح، وهو مكبوب، وقعَت من أعلى البعير إلى الأرض، وحضنَت أخاها، وهي تقول ببكاءٍ وعويل:

"يا رسولَ اللهِ! انظُرْ إلى جَسَدِ وَلَدِكَ مُلْقى على الأرضِ بِغَيرِ دَفْنٍ! كَفَنُهُ الرملُ السافي عليه، وغُسْلُهُ الدمُ الجاري من وريدَيه! وهؤلاء أهلُ بيتِه يُساقون أُسارى في أسر الذلِّ، ليس لهم مَن يمانع عنهم! ورؤوسُ أولادِه معَ رأسِه الشريفِ، على الرماح، كالأقمار! يا محمّد المصطفى! هذه بناتُك سبايا، وذرّيّتُك مُقَتَّلَة!"[2].

 

وكان يوم العاشر من المحرّم طويلًا عليهم، وما انقضى اليوم حتّى كان حرم الحسين عليه السلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، يلوذون ببعضهم، مشغولين بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم آخر ذلك النهار، وهم فيما لا يحيط به قلب من الحزن والانكسار، وباتوا تلك الليلة فاقِدين لِحُمَاتِهم ورِجَالِهم[3].

 

وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك، وهو يوم عاشوراء، برأس الحسين عليه السلام، مع خَوليّ بن يزيد الأصبحيّ وحميد بن مسلم الأزدي، إلى عبيد الله بن زياد[4].

 

فأقبل خَوليّ بالرأس، فأراد القصرَ، فوجد بابَ القصر مغلقًا، فأتى منزله[5]، فوضعه تحت أجانةٍ في منزله، وله امرأتان, امرأةٌ من بني أسد، والأخرى من الحضرميّين، يُقال لها: النوَّار بنت مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلةُ ليلةَ الحضرميّة.

قال هشام: فحدّثَني أبي عن النوّار بنت مالك، قالت: أَقبَلَ خَوليّ برأسِ الحسين عليه السلام، فوضعَه تحتَ أجانةٍ في الدارِ، ثمّ دخلَ البيتَ، فأوى إلى فراشِه، فقلتُ له: مَا الخبرُ عندَك؟ قالَ: جِئتُكِ بِغِنى الدهر! هَذا رأسُ الحسينِ معَكِ في


 


[1] الشيخ ابن نما، مثير الأحزان، ص77.

[2] المازندرانيّ، معالي السبطين، ج2، ص55.

[3] السيّد ابن طاووس، الإقبال، ص583.

[4] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص113.

[5] القزوينيّ، رياض الأحزان، ص16.

 

173


155

الفصل الرابع: عاشـــوراء

الدارِ! قالَتْ: فَقُلتُ: وَيْلَكَ! جَاءَ الناسُ بالذهبِ والفضّةِ، وجِئتَ برأسِ ابنِ بنتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم! لَا، والله، لا يجمعُ رأسي وَرأسَك بيتٌ أبَدًا!

 

قالَت: فقُمتُ مِن فراشي، فَخرَجْتُ إلى الدار، فدَعَا الأَسَدِيَّة، فأدخَلَها إليه، وجَلَستُ أنظُر. قالَتْ: فوَالله، ما زِلْتُ أَنْظُرُ على نورٍ يَسطعُ مثلَ العمودِ مِن السماءِ إلى الأجانة! ورأيتُ طَيْرًا بِيضًا ترفرفُ حولَها!

 

قال هشام: فلمَّا أصبحَ، غَدَا بالرأسِ إلى عبيد الله بن زياد[1]، وأقام عمرُ بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين عليه السلام يومَين, بقيّة يومه، واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ودَفَنَ القتلى من جيشِه، وصلّى عليهم[2]. ثمّ أَذَّنَ في الناس بالرحيل، وأمرَ برؤوس أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، فنُظِّفَت، وكانت اثنين وسبعين رأسًا، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس. وحُمِلَت الرؤوس على أطراف الرماح[3]، فأقبلوا حتّى قَدِموا بها على ابن زياد[4].

 

وتنافسَت القبائل في تقاسم الرؤوس، حتّى تنال الحظية عند ابن زياد، فجاءَت هوازن منها باثنين وعشرين رأسًا، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسًا مع الحصين بن نمير، وجاءت كندة بثلاثة عشر رأسًا مع قيس بن الأشعث، وجاءت بنو أسد بستّة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمسة رؤوس مع عهيمة بن زهير، وجاءت ثقيف باثني عشر رأسًا مع الوليد بن عمرو[5].

 

وبقي جسد الإمام الحسين عليه السلام مع أجساد الشهداء الآخَرين من أهل بيته وأصحابه عليه السلام، في العراء، لا تُوارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفُّ عليها الرياح السوافي. وكانت بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قتل الحسين عليه السلام، خمسون عامًا[6].

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص348.

[2] المصدر نفسه.

[3] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.

[4] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص113.

[5] الدينوريّ، الأخبار الطوال، ص259.

[6] المصدر نفسه.

 

174


156
مختصر تاريخ النهضة الحسينيّة