(6) زاد وجهاد في شهر الله


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-08

النسخة: 0


الكاتب

المركز الإسلامي للتبليغ

مؤسسة إسلامية، تعنى بالتبليغ المسجدي والعام، ورعاية شؤون أئمة المساجد والمبلغين.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيّد المرسلين محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.

يحرص المركز الإسلاميّ للتبليغ، وجرياً على عادته في كلّ عام، سيّما مع اقتراب حلول شهر رمضان المبارك، على نشر إصداره السنويّ الذي يندرج ضمن سلسلة "زاد المبلِّغ في شهر الله" والذي يسعى المركز من خلاله إلى توفير بعض الموضوعات التي يناسب تناولها وتعميمها والحديث عنها خلال أيّام هذا الشهر الكريم ولياليه.

وفي كلّ عام يتمّ اختيار الموضوعات الثقافيّة التي نضعها بين أيدي الأخوة المبلّغين من خلال استقصاء مجموعة من الآراء والإحصاءات التي حاولت مقاربة القيم التي يُستحسن التركيز عليها كونها محلّ حاجة لمجتمعنا اليوم في هذه المرحلة، سيّما وأنّ المنطقة تمرّ بمجموعة من التحدّيات
 
 
5
 

1

المقدمة

 السياسيّة والدينيّة والصراعات التي تتمظهر بأشكال مختلفة وتحت تسميات متعدّدة، بالإضافة إلى بعض القيم التي تتناسب مع أجواء شهر رمضان, كلُّ ذلك جعل من بعض الموضوعات محلّ أولويّة في الطرح والتي نأمل من الأخوة المبلّغين الأعزّاء أن يُولوها اهتماماً خاصّاً من خلال التعرّض لهذه الموضوعات، خلال الشهر المبارك.
 
ومن هنا، فقد جاءت هذه الموضوعات مقسّمةً على ستة أبواب وفق الآتي:
الباب الأوّل: بعض الموضوعات الأخلاقيّة والتربويّة التي تتناسب مع أيّام شهر رمضان المبارك ولياليه.
 
الباب الثاني: الفتنة وبعض التفاصيل المتعلّقة بأسبابها وظهورها ونتائجها، والصفات الخاصّة لأربابها، وما شابه.
 
الباب الثالث: موضوعات أخلاقيّة عامّة ترتبط بالإنفاق.

الباب الرابع: اكرام اليتيم وبركاته.

الباب الخامس: الجهاد والشهادة، وبعض الموضوعات المرتبطة كفضل الجهاد والمجاهدين وحقوقهم ومقام 
 
 
 
 
 
6
 
 

2

المقدمة

الشهادة، وبعض الفروع المتعلقة بهذين الموضوعين.
 
الباب السادس: الموت وأحواله وضرورة الاستعداد له والتزوّد للآخرة.

وختاماً، فإن المركز الإسلاميّ للتبليغ إذ يسأل الله تعالى أن يتقبّل أعمال الجميع بأحسن القبول، وأن يحظى هذا الإصدار بموضع قبول بقيّة الله الأعظم "أرواحنا له الفداء" ورضا الإخوة المبلّغين وأئمّة المساجد وقبولهم كما نؤكّد على حرصنا لقبول أيّ نقدٍ أو ملاحظة، إن على مستوى الشكل، أو اختيار الموضوع، أو طريقة المعالجة، أو كلّ ما يساهم في تطوير هذا الإصدار، شاكرين للجميع تعاونهم وتجاوبهم.

المركز الإسلامي للتبليغ
 
 
7

3

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا1.
 
الهدف:
بيان أنّ المعركة الحقيقيّة للإنسان هي مع نفسه التي بين جنبيه، والتعريف بخصائص هذه المعركة وسبل مواجهتها.
 

1- الشمس 9.
 
 
11
 

4

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

 المقدَّمة
أَقَسَم الله تعالى في القرآن الكريم بأحد عشر قَسَماً ليؤكّد بعدها أنّ الفلاح مصير من زكّى نفسه، وأنّ الخيبة والخسران مصير من تركها فريسة الهوى والشهوات، وأنّ أكبر وأصعب امتحان كتبه الله تعالى على الإنسان في هذه الحياة هو ابتلاء الإنسان بنفسه، وعلى أساس نجاح الإنسان وتفوّقه في هذا الامتحان يكون موقعه عند الله، ومستقبله الدنيويّ والأخرويّ.. من هنا كانت المعركة مع النفس أشقّ وأخطر معركة يخوضها الإنسان في حياته.

محاور الموضوع

خصائص جهاد النفس
1- أنّها معركة حتميّة: ولم يتمّ التأكيد في القرآن الكريم على جديّة أمر والقَسَم عليه كما كان ذلك في معركة جهاد النفس في وجه إبليس وجنوده، قال تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
 
 
12

5

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

1، فهذه المعركة هي الساحة الأساسيّة التي يجب الإنتصار فيها، وما انتصارات الإنسان خارج هذه الساحة إلّا صدًى ومرآة لانتصاراته في ساحة الجهاد الأكبر.
 
2- أنّها معركة دائمة ومستمرّة: على طول عمر الإنسان، من بداية التكليف إلى ساعة الموت والرحيل، وعليه فهي معركة تستوجب الجهوزيّة الدائمة والإستعداد المتواصل لكلّ التفاصيل التي يحاول الشيطان إسقاط الإنسان فيها.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام في بيان استمراريّة هذه المعركة: "كفاك في مجاهدة نفسك أن لا تزال أبداً لها مغالباً وعلى أهويتها محارباً"2.

وفي حديث المعراج في صفة أهل الخير وأهل الآخرة: "يموت الناس مرّةً، ويموت أحدهم في كلّ يوم سبعين مرّة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم والشيطان الذي يجري في عروقهم"3.
 

1- ص 82 ـ 85.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 454.
3- المصدر نفسه، ج1، ص 454.
 
 
13
 

6

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

وعليه فالإمساك بلجام النفس ولجمها عن الجموح نحو الهوى ملازم لدوام جهادها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "املكوا أنفسكم بدوام جهادها"1.
 
3- أنّها معركة شاملة: أي أنّها تطال كافّة جوانب حياة الإنسان، ومختلف شؤونه، وتدخل في كافّة التفاصيل والجزئيّات فضلاً عن الأمور الكبيرة والخطيرة، وتمتدّ إلى فكره وثقافته ووعيه، ومشاعره وأحاسيسه وأفراحه، وما يحبّ ويكره، وما يفعل وما لا يفعل، وما يقوله وما يصمت عنه، وما يرغب فيه وما ينفر منه، ولعلّ هذا ما عناه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "أفضل الجهاد جهاد النفس عن الهوى، وفطامها عن لذّات الدنيا"2.
 
فالهوى بأيّ شكلٍ من أشكاله التي لا تنتهي، ولذائذ الدنيا التي لا ينفكّ الشيطان يزيّنها لابن آدم بما يجمّلها في عينه، وشهوات الحياة التي تحيط بالإنسان على مدار الساعة والوقت، والأفكار الباطلة إن على مستوى العقيدة أو الأخلاق 
 

1- م.ن، ج1، ص 454.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 453.
 
 
 
14
 

7

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

أو سواهما، التي لا تهدأ ماكينة إبليس عن تصنيعها وإلقائها للإنسان, كلّ ذلك يجعل من هذا التحدّي هو التحدّي الأكبر وجهاده أفضل الجهاد.

 
ولمّا كانت معركة الجهاد الأكبر معركة مفتوحة، كان توقّع الهزيمة في بعض محاورها أمراً حتميّاً إلّا من عَصَمَه الله وعَصَمَ نفسه، لذلك كان لا بدّ من التوسل بالله تعالى أن يعينه على إكمال المواجهة وعدم اليأس منها أو الركون إلى أهوائها، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ المؤمن معنيٌّ بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبّة الله، ومرّة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله فينتعش ويقيل الله عثرته فيتذكّر"1.
 
4- أنّها معركة داخليّة: والخوف كلّ الخوف من كونها داخليّة أنّ الإنسان قد لا يشعر بعدوانيّة نفسه فلا يتعامل معها كعدوّ، بل قد يشعر أحياناً بضرورة مسايرتها والتخفيف عنها وما شابه، فيسقط في حبائلها وشراكها، مع أنّها هي العدوّ 
 

1- المصدر نفسه، ج1، ص 453
 
 
15


8

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

وقد أوضح أمير المؤمنين عليه السلام ذلك بأنّ الإنسان يستنكر هذا الأمر بقوله: عليه السلام: "أوّل ما تنكرون من الجهاد جهاد أنفسكم، آخر ما تفقدون مجاهدة أهوائكم وطاعة أُولي الأمر منكم"1.
 
وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"2.
 
ويلحق بكونها داخليّة أنّ العدوّ يمكن أن تختبىء عنه وتستتر منه، فلا تراه ولا يراك، أمّا في جهادك الأكبر فإنّك كلّما نأيت بنفسك وحاولت الإختباء كان العدوّ أقرب إليك، وكانت ضرباته أكثر إحكاماً وإصابةً لأنّك - كما هو بديهيّ - لا تستطيع أن تفارق نفسك طرفة عين.

5- معركة مفتوحة على الجميع: فهي مواجهة لا يُستثنى منها أحد على الإطلاق حتّى الأنبياء والأوصياء والأولياء، بل على العكس تماماً، فكلّما ازداد إيمان المرء وتقواه كلّما كانت المعركة عليه أشدّ وأقسى، وكلّما كانت التحدّيات 
 

1- م.ن، ج1، ص 452.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 280.
 
 
16
 

9

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

والابتلاءات أكبر، وفي الواقع فإنّ هذه المعركة هي التي قدّم لنا الأنبياء والأولياء أجمل الملاحم والبطولات فيها، فكانوا أشجع الناس وفقاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أشجع الناس من غلب هواه"1.
 
وكما لا يُستثنى منها أحد، فكذلك لا يُستثنى منها زمان أو مكان، فلا يأتي على البشريّة زمان ينجو أهله من هذا الجهاد وهذه المواجهة، كما لا يوجد مكان يمكن للمرء أن يهرب إليه وينأى بنفسه عن هذه المعركة، وليس هناك من تلوذ به فيكفيك أمر هذه المواجهة إلّا أن تلوذ بالله تعالى وتستعين به، لأنّها واقعاً أكبر الجهاد كما عبّرت الرواية المشهورة عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس"2.
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 3483.
2- م.ن، ج1، ص 452.
 
 
 
17
 

10

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

والابتلاءات أكبر، وفي الواقع فإنّ هذه المعركة هي التي قدّم لنا الأنبياء والأولياء أجمل الملاحم والبطولات فيها، فكانوا أشجع الناس وفقاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أشجع الناس من غلب هواه"1.
 
وكما لا يُستثنى منها أحد، فكذلك لا يُستثنى منها زمان أو مكان، فلا يأتي على البشريّة زمان ينجو أهله من هذا الجهاد وهذه المواجهة، كما لا يوجد مكان يمكن للمرء أن يهرب إليه وينأى بنفسه عن هذه المعركة، وليس هناك من تلوذ به فيكفيك أمر هذه المواجهة إلّا أن تلوذ بالله تعالى وتستعين به، لأنّها واقعاً أكبر الجهاد كما عبّرت الرواية المشهورة عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس"2.
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 3483.
2- م.ن، ج1، ص 452.
 
 
17
 

11

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

سبل جهاد النفس
الاجتهاد في طاعة الله: فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإنّ الله لا يُدرَك شيء من الخير عنده إلّا بطاعته واجتناب محارمه"1.

وعنه عليه السلام: "إعلموا أنّه ليس بين الله وبين أحد من خلقه مَلَك مقرّب ولا نبيّ مُرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلّهم إلّا طاعتهم له، فاجتهدوا في طاعة الله"2.
 
عدم الظلم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد"3.
 
ردّها عن الشهوات والشبهات: عن عليّ عليه السلام: "ردّ عن نفسك عند الشهوات، وأقمها على كتاب الله عند الشبهات"4.
 
العلم والمعرفة: الإمام عليّ عليه السلام: "جهاد النفس بالعلم عنوان العقل"5.
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 458.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 458.
3- م.ن، ج1، ص 452.
4- م.ن، ج1، ص 452.
5- م.ن، ج1، ص 452.
 
 
18

 

12

المحاضرة الأولى: جهاد النفس

 وعنه عليه السلام: "ينبغي للعاقل أن لا يخلو في كلّ حال من طاعة ربّه ومجاهدة نفسه"1.
 
التقوى: ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنه يوم الخوف الأكبر"2.
 
عفّة البطن والفرج: عن الإمام الباقر عليه السلام لمّا قال له رجل: "إنّي ضعيف العمل، قليل الصلاة، قليل الصوم، ولكن أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً، ولا أنكح إلّا حلالاً"، فقال عليه السلام: "وأيّ جهاد أفضل من عفة بطن وفرج"3.
 
الكفّ عن المعاصي: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجتهدوا في العمل، فإن قَصّر بكم الضعف فكفّوا عن المعاصي"4.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه"5.
 

1- م.ن، ج1، ص 453.
2- نهج البلاغة، ج3، ص 72.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 459.
4- المصدر نفسه، ج1، ص 458.
5- الكافي، ج2، ص 76.
 
 
19

 

13

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى1.
 
الهدف:
بيان بعض أساليب جهاد النفس وأهمّ أسلحة هذه المواجهة والآثار والبركات المترتّبة عليها.
 
 

1- النازعات 40 ـ 41.
 
 
 
21
 

14

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

المقدَّمة
إنّ الجهاد الأكبر تماماً كالجهاد الأصغر له ثغوره التي ينبغي المرابطة عليها والحضور فيها بشكلٍ دائم، كما له تكتيكاته الخاصّة وأساليبه المختلفة التي تتنوّع بحسب الزمان والمكان والشخص والظروف المحيطة وغير ذلك، وكذلك له مواقعه المهمّة والاستراتيجيّة التي بفقدانها تشكل خطراً حقيقيّاً على كثير من الفرائض والواجبات ومكارم الأخلاق، وله تلاله المنخفضة التي لا ينبغي التهاون في المحافظة عليها، كما لهذه المواجهة أسلحتها الخاصّة وذخائرها المناسبة لها، وقبل ذلك كلّه فهي المعركة الواجبة التي تجب المواجهة فيها ويجب الإنتصار في نهايتها، كما قال الإمام الكاظم عليه السلام: "جاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوك"1.
 
محاور الموضوع
كيفيّة مجاهدة النفس
تبيّن النصوص بعض أساليب جهاد النفس وتزكيتها من
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 452.
 
 
 
22
 

15

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

خلال النقاط الآتية:
1- الثبات وعدم الانقياد لها: يقول الإمام عليّ عليه السلام: "إذا صعبت عليك نفسك فأصعب لها تَذِلّ لك، وخادع نفسك عن نفسك تنقد لك"1.

فعلى الإنسان أن لا ينهزم بسرعة أمام صعوبة المعركة كما لو صعبت عليها بعض المستحبّات أو الفرائض فعلى الإنسان أن يقوم بهذه المستحبّات حتّى يرضخ نفسه، لا أن يستجيب لميولها، وبصموده تنهزم أهواء النفس وتنهار ذليلة خانعة، وبوعيه يفوّت الفرصة على الإغراءات ويخدعها.
 
2- الإدبار عنها: يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أقبِلْ على نفسك بالإدبار عنها"2. وذلك أنّ الإقبال على النفس بالاستجابة لرغباتها مهلك للإنسان ونفسه، بينما التعامل مع النفس بالتنكّر لأهوائها هو لمصلحة النفس..

3- الحمية عن لذّات الدنيا: عن عليّ عليه السلام: "دواء النفس
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3333.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 3333.
 
 
 
23
 

 


16

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

الصوم عن الهوى والحمية عن لذّات الدنيا"1. وبكلمةٍ أوضح، فكلَّما خفّف المرء من مؤونة جسده، كلّما سهل عليه تزكية نفسه، ولذلك يقول الإمام عليّ عليه السلام: "خدمة الجسد إعطاؤه ما يطلبه من الملاذّ والشهوات والمقتنيات، وفي ذلك هلاك النفس"2.

4- قمعها ومنعها عن رغباتها: ففي وصيّة قدمها إلى شريح بن هاني يقول الإمام عليّ عليه السلام: "اتَّق الله في كلّ صباحٍ ومساء، وخَفْ على نفسك الدنيا الغَرور، ولا تأمنها على حال، واعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير ممّا تحبّ، مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعاً رادعاً، ولنزوتك عند الحفيظة واقماً 3قامعا"ً.

5- إكراهها على فعل الخير: ذلك أنّ النفس قد تضعف عن فعل الخيرات، والحال أنّ تعويدها هذه المنقبة من أهمّ الأمور التي تزيد في تزكيتها، يقول الإمام عليّ عليه السلام:


1- م.ن، ج4، ص 3334.
2- م.ن، ج4، ص 3335.
3- نهج البلاغة، ج3، ص 113.
 
 
 
24
 
 

17

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

"أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه، لأنّ مخالفتها أهمّ من ذات العمل، لأنّها تكسب المرء ملكة تحدّي النفس وإرغامها على صالح الأعمال"1، ويؤكّد الإمام عليّ عليه السلام الدور الحاسم لذات الإنسان في مقاومة نفسه فيقول عليه السلام: "واعلموا أنّه من لم يُعِنْ على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها لا زاجر ولا واعظ"2.
 
6- معاملتها على أنّها عدوّ: إذ قد يغيب عن ذهن الإنسان أنّها عدوّ، بل أنّها أعظم الأعداء، فيحاول أن يسوِّغ لها بدل أن يحاسبها ويسائلها بل ويعاقبها على أيّ سوءٍ أقدمت عليه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "اجعل نفسك عدوّاً تجاهده وعارية تردّها، فإنّك قد جعلت طبيب نفسك وعرفت آية الصحة وبُيِّنَ لك الداء ودُلِلْتَ على الدواء، فانظر قيامك على نفسك"3.
 
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص 55.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 3360.
3- المصدر نفسه، ج1، ص 454.
 
 
 
25

 

18

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدوِّ عدوَّه، وغالبها مغالبة الضدِّ ضدَّه، فإنّ أقوى الناس من قوي على نفسه"1.
 
7- المحاسبة: أي أن يقف المرء على أفعاله ليقيمّها ويَزِنَها بميزان العدل والشرع ولا يتهاون في حسابها قبل يوم الحساب، عن الإمام الصادق عليه السلام: "جاهد نفسَك وحاسبها محاسبة الشريك شريكه، وطالبها بحقوق الله مطالبة الخصم خصمه"2.

وفي الحديث: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا".

آثار جهاد النفس وبركاتُه
1- الفوز بالجنّة: يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾. والخوف من الله يعني إظهار تمام العبوديّة له، ونهي النفس عن الهوى يعني عدم سلوك أيّ سبيل لا يقع في طاعة الله ورضاه.
 
2- أجر الشهداء: لأنّ فرعون النفس ونمرودها أشدّ من فراعنة 
 
 
 

1- م.ن، ج1، ص 454.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 454.
 
 
26

 

19

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

الزمان، فمن استطاع أن يتغلّب على فرعون نفسه هان عليه فرعون زمانه، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ المجاهد نفسه على طاعة الله وعن معاصيه عند الله سبحانه بمنزلة برّ شهيد"1.
 
3- كمال التقوى: أي الوصول إلى أعلى مراتب التقوى والإيمان، عن عليّ عليه السلام: "من جاهد نفسه أكمل التقى"2.

4- الشعور بحلاوة الإيمان: وهذا الشعور من أهم ما يوجد الحافزيّة عند الإنسان في الاستمرار بهذا الطريق، إذ يجد جمال ما يصنع ويتذوّق حلاوة ما يقوم به، فعن عليّ عليه السلام: "صابروا أنفسكم على فعل الطاعات، وصونوها عن دنس السيّئات، تجدوا حلاوة الإيمان"3.
 
5- الحكمة: فالإنسان الذي يطرد إبليس من نفسه من الطبيعيّ أن تخترق قلبه أنوار الهداية والحكمة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جاهدوا أنفسكم على شهواتكم تحلّ قلوبكم الحكمة"4.
 
 

1- المصدر نفسه، ج1، ص 452.
2- م.ن، ج1، ص 455.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 458.
4- المصدر نفسه، ج1، ص 455.
 
 
 
27

 

20

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

6- فرار الشيطان وحلول الملائكة: والتعبير بالفرار والحلول يوضح أنّ الإنسان إنّما يخوض معركةً حقيقية بجهاده نفسه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جاهدوا أنفسكم بقلّة الطعام والشراب، تظلّكم الملائكة ويفرّ عنكم الشيطان"1.
 
7- الأمن يوم القيامة: وأيّ فوز بعد هذا الأمان يوم تذهل كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت؟ يقول الإمام عليّ عليه السلام: "وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنه يوم الخوف الأكبر"2.
 
8- علوّ الدرجات ومضاعفة الحسنات: فجهاد النفس لا يعني مجرّد الفلاح يوم القيامة، بل يستلزم رفيع الدرجات وعلوّ المقامات جزاءً لهذا الإنتصار الكبير الذي سطّره الإنسان على نفسه، فعن عليّ عليه السلام: "ردع النفس وجهادها عن أهويتها يرفع الدرجات ويضاعف الحسنات"3.
 
9- التغلّب على العادات السيّئة: وما أكثرها في مجتمعاتنا اليوم! حتّى عند بعض أهل الإيمان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
 

1- م.ن، ج1، ص 455.
2- نهج البلاغة، ج3، ص 71.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 454.
 
 
 
 
28

 

21

المحاضرة الثانية: أساليب جهاد النفس وأسلحته

"بالمجاهدة يغلب سوء العادة"1.

وعنه عليه السلام: "جاهد شهوتك وغالب غضبك وخالف سوء عادتك، تزكِّ نفسَك ويكمل عقلك وتستكمل ثواب ربّك"2.

10- إدراك الأهداف السامية: فمعالي الأمور وعظائمها لا تُدركها النفوس الضعيفة التي ليس لا حظّ من التزكية والترويض، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "ذروة الغايات لا ينالها إلّا ذوو التهذيب والمجاهدات"3.

11- التحرّر: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من ترك الشهوات كان حرّاً"4


1- ميزان الحكمة، ج1، ص 454.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 455.
3- م.ن، ج1، ص 455.
4- موسوعة أحاديث أهل البيت ، ج1 ، ص331.
 
 
29

22

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾1.
 
الهدف:
توضيح مفهوم الاستعانة بالله وبيان موارد الاستعانة والفهم الخاطىء لهذا المفهوم.
 
 

1- الفاتحة / 5.
 
 
31
 

23

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

المقدَّمة
من خلال الآية المتقدّمة نرى أنّ الله كما أمرنا بعبادته وحده لا شريك له، فقد أمرنا كذلك بالاستعانة به دون سواه، وأراد منّا الرجوع إليه في كافّة ما يعترض حياة الإنسان من حوادث وتحدّيات، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ العلاقة بالله ليست علاقة طقسيّة تقتصر على بعض العبادات والفرائض، بل هي علاقة مستمرّة وفاعلة، وعلى الإنسان أن يفعّلها ويقويها ويلجأ إليها في ساعات الشدّة والرخاء، بل لعل كمال العبادة في الاستعانة به دون سواه، وأنّ عدم الاستعانة بالله نقصٌ في العبادة، بل نقصٌ في فهمنا للمعبود كذلك.

محاور الموضوع
مفهوم الاستعانة بالله
يمكن أن تتحقّق الاستعانة بالله أو بغير الله بصورتين:
1- أن نستعين بعامل - سواء أكان طبيعيّاً أم غير طبيعي - مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى الله، بمعنى أنّه قادر على
 
 
 
 
 
32
 

24

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من الله وإذنه.
 
وهذا النوع من الاستعانة - في الحقيقة - لا ينفكّ عن الاستعانة بالله ذاته، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الأثر، وأذن لها، وإن شاء سلبها وجردها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعيّة كالشمس والماء وحرث الأرض، فقد استعان بالله - في الحقيقة - لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثَمَّ إنباته والوصول به إلى حدّ الكمال.
 
2 - أن يستعين بإنسان حيّ أو ميت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده، أو في فعله عن الله، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك والاستعانة به عبادة.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادّتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.
 
 
 
 
33

 

25

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

ولإيقاف القارئ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الأفعال الكونيّة في الله تارة، مع أنّها تنسب نفس الأفعال في آيات أخرى إلى غير الله أيضاً، وما هذا إلّا لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما، فهي محصورة في الله سبحانه مع قيد الاستقلال، وتنسب إلى غير الله مع قيد التبعيّة والعرضيّة. الآيات التي تنسب الظواهر الكونيّة إلى الله وإلى غيره:

1- يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾1. بينما يقول سبحانه في العسل: ﴿شِفَاء لِلنَّاسِ2.


2 - يقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾3 بينما يقول تعالى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا4.


3- يقول سبحانه: ﴿أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ5 بينما يقول سبحانه: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾6.


1- الشعراء / 80.
2- النحل / 69.
3- الذاريات / 58.
4- النساء / 5.
5- الواقعة / 64.
6- الفتح / 29.
 
 
 
34
  


26

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

4- يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ1 بينما يقول سبحانه: ﴿بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾2.

5- يقول تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾3 بينما يقول سبحانه: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾4.

6- يقول سبحانه: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾5. بينما يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾6.

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونيّة تارة إلى الله تعالى، وأخرى إلى غيره7.
 
مفردات الاستعانة بالله
الصبر والصلاة: قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾8. فإنّ الاستعانة بالله ليس لها مصداق إلّا الصبر والاشتغال بمناجاة الله وعبادته ثانياً.
 

1- النساء / 81.
2- الزخرف / 80.
3- يونس / 3.
4- النازعات / 5.
5- الزمر / 42.
6- النحل / 32.
7- الأسماء الثلاثة - الشيخ جعفر السبحاني - ص 86 - 88.
8- البقرة 45.
 
 
35

 

 


27

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

وقال تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ1.
 
هذه الآية تشير إلى مبادئ وشروط ثلاثة: أحدها في العقيدة وهو (الاستعانة بالله)، والثاني: في الأخلاق وهو (الصبر والثبات) والأخير: في العمل، وهو (التقوى)، وهي ليست شرائط انتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدوّ، بل كلّ شعب أراد الغلبة على أعدائه لا بدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة، فالأشخاص غير المؤمنين والجبناء وضعفاء الإرادة، والشعوب الفاسقة الغارقة في الفساد، إذا ما انتصرت فإنّ انتصارها يكون لا محالة مؤقّتاً غير باق2.
 
كما أنّ فرعون لا يملك الأرض حتّى يمنحها من يشاء، ويمنع من التمتّع بها من يشاء، بل هي لله يورثها من يشاء، وقد جرت السنّة الإلهيّة أن يخصّ بحسن العاقبة من يتّقيه من
 

1- الأعراف: 128 ـ 129.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 5 - ص 167.
 
 
36

 

 


28

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

عباده، فإن استعنتم بالله وصبرتم في ذات الله على ما يهدّدكم من الشدائد - وهو التقوى - أورثكم الأرض التي ترونها في أيدي آل فرعون1.
 
مكارم الأخلاق: فعن عليّ عليه السلام في بيان ما يجب على الأمّة أن تستعين بالله به نصرةً لإمامها: "أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّةٍ وسداد"2.
 
الدعاء: قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾3.
 
القرآن: فإن آيات الله وكلماته خير ما يستعين به المرء في حياته وقد تضافرت الروايات التي حثّتنا على الاستعانة بكتاب الله.
 
التوسّل بالأنبياء والأئمّة عليه السلام: وذلك لرفعة مقامهم عند الله تعالى، وأنّه أوجب علينا التوسّل بهم لاستنزال إعانة السماء، فهم باب الله الذي منه يُؤتى، والتوسّل بهم ليس كما يتوهّم البعض من اعتبارهم سلطة مستقلّة وتأثير مستغنٍ عن
 

1- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 8 - ص 224.
2- نهج البلاغة، ج3، ص 70.
3- غافر 60.
 
 
37
 

29

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

الله، بل بما أعطاهم الله من السلطة ومنّ عليهم من التأثير.
 
الصمت: قال تعالى عن لسان مريم عليه السلام: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾1. فقد أعان الله مريم لينجّيها من القوم الذين أرادوا بها سوءاً وذلك من خلال الصمت وعدم الدخول معهم في الجدل والقيل والقال.

بركات الاستعانة بالله
عن عليّ عليه السلام: "وأكثر الاستعانة بالله يكفك ما أهمك ويُعنِك على ما نزل بك إن شاء الله"2.
 
ولأنّ من استعان بغيره، فقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، أفلا يستعان به وهو الغني الكبير؟! أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟! وإنّي لأرى أنّ طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلّة من عقله، فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزّة من غيره فذلّوا، وراموا الثروة من سواه فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فلا يستعان إلّا به تعالى وتقدّس، ولا عون إلّا منه تبارك وتعالى.
 

1- مريم 26.
2- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 3 - ص 59
 
 
 
38

30

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله: "آمنن علينا بالنشاط، وأعذنا من الفشل والكسل والعجز والعلل والضرر والضجر والملل"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهمَّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل"2.
 
وأوضح من هذا ما ورد من آيات في (التوكّل) باعتباره يمثل شعبة من شعب الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿...وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾3.

﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾4.

﴿...وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾5.
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2706.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 2200.
3- هود: 88.
4- التوبة: 129.
5- آل عمران: 160.
 
 
39


 

31

المحاضرة الثالثة: الإستعانة بالله

 ﴿...وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾1.

﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ...﴾2.
 

1- المجادلة: 10.
2- هود: 123.
 
 
40
 

32

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ1.
 
الهدف:
تقوية حسّ الاعتبار في النفس وأن يكون الإنسان معلّم نفسه في الحياة.
 

1- الحشر: 2
 
 
 
41
 

33

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

المقدَّمة
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "مسكين ابن آدم! له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهنّ، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا: فأمّا المصيبة الأولى: فاليوم الذي ينقص من عمره، قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتمّ به، والدرهم يخلف عنه والعمر لا يردّه. والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإن كان حلالاً حوسب عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه. قال: والثالثة أعظم من ذلك، قيل: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلّا وقد دنا من الآخرة رحله، لا يدري على الجنّة أم على النار"1.
 
محاور الموضوع
الحثّ على الاعتبار
يحث ّالإسلام بقوّة على مبدأ الاعتبار معتبراً ذلك من دلائل الوعي والبصيرة عند المرء، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع، واعتبروا بالآي السواطع،
 
 

1- الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 342.
 
 
42

 

34

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

وازدجروا بالنذر البوالغ"1.
 
فالعبر واضحة وضوح الشمس، فالماضي والحاضر وأحوال الماضين والحاليّين تصرخ في عقول الناس بعدم الغفلة عن الاعتبار، فعن عليّ عليه السلام: "لقد جاهرتكم العبر، وزجرتم بما فيه مزدجر، وما يبلّغ عن الله بعد رسل السماء إلّا البشر"2.
 
وعنه عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله... وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا بمن أضاعها، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها"3.

فالمؤمن ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار، ويعتبر بتصاريف الأيّام ويرى في الاعتبار الناصح الصادق فيكون غيره عبرةً له قبل أن يخسر فيكون عبرةً لغيره، وقد وصفه عليّ عليه السلام بذلك إذ قال: "الاعتبار منذر ناصح، من تفكّر اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم"4.
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص 148.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 58.
3- م.ن، ج2، ص 158.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص 188.
 
 
43
 

35

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

ما ينبغي الاعتبار به
1- العذاب الإلهيّ: قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى1، والعذاب الإلهيّ يجري وفق سنن أودعها الله في الوجود، والمؤمن المعتبر إذا وعاها وفهمها درأ العذاب عن نفسه.
 
2- قصص الماضين: قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ2.
 
ويعظ أمير المؤمنين عليه السلام بقصص الماضين فيقول: "وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة؟! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبّارين"3.
 
وعنه عليه السلام: "واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم، قد تزايلت أوصالهم، وزالت أبصارهم وأسماعهم،
 

1- النازعات 25 ـ 26.
2- يوسف 111.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص 1809.
 
 
44
 

36

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

وذهب شرفهم وعزّهم، وانقطع سرورهم ونعيمهم"1.

وقال عليه السلام: "فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم، من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته"2.
 
3- آيات الخلق: قال تعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾3.
 
فهذا التعاقب لليل الذي جعله الله للناس سكناً وللنهار الذي جعله الله معاشاً عبرةٌ لأهل البصائر، وقد قال عليّ عليه السلام: "في تعاقب الأيّام معتبر للأنام"4.
 
4- القبور: هذه الشواهد الصامتة الجامدة التي تعظ بما لا يعظه الأحياء فعن عليّ عليه السلام لمّا تلا: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾: "أفبمصارع آبائهم يفخرون؟... ولأنّ يكونوا عبراً أحقّ من أن يكونوا مفتخراً... ولئن عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان العقول، وتكلّموا من غير جهات النطق"5.
 
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص 1810.
2- م.ن، ج3، ص 1810.
3- النور 44.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
5- ميزان الحكمة، ج3، ص 1809.
 
 
45


 

37

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

 وعنه عليه السلام: "فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم"1.
 
5- الموتى: عن عليّ عليه السلام قبل شهادته على سبيل الوصيّة: "أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم. فما عبرة أبلغ من عبرة الموت، بل كفى بالموت عبرةً تغنيك عن العبر والمواعظ"2.

6- تشابه أحوال الدنيا: فالدنيا حالها مع الماضين كحالها مع المقيمين الحاضرين كحالها مع من سيأتي إليها مستقبلاً، تجري سُننها على الجميع مجرًى واحداً فعن عليّ عليه السلام: "كفى مخبراً عمّا بقي من الدنيا ما مضى منها"3.
 
وعنه عليه السلام: "إنّ الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها بأوّلها"4.

عنه عليه السلام - من كتابه إلى الحارث الهمدانيّ -: "وصدّق بما سلف من الحقّ، واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها، فإنّ بعضها يشبه بعضاً، وآخرها لاحق بأوّلها، وكلّها حائل مفارق"5.
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص 1810.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 24.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
4- المصدر نفسه، ج3، ص 1809.
5- م.ن، ج3، ص 1810.
 
 
 
46

 

38

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

7- أحداث الزمان: عن عليّ عليه السلام: "ثمّ إنّ الدنيا دار فناء وعناء، وغِيَر وعبر... ومن غِيَرِها أنّك ترى المرحوم مغبوطاً، والمغبوط مرحوماً، ليس ذلك إلّا نعيماً زال وبؤساً نزل، ومن عبرها أنّ المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله"1.
 
وما أبلغ تعبيره عن غفلة المرء بأمله عن أجله فإذا بحضور الأجل يبدد آمال الحالمين ويقطعها، إلّا أنّ العبرة تبقى نافعة لأولي العقول والعقول كما قال عليه السلام: "في تصاريف القضاء عبرة لأولي الألباب والنهى"2.
 
8- اعتبار المرء بعمره: عن عليّ عليه السلام - من كتابه إلى معاوية: "لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي"3.

فالمرء لو نظر في سيرة نفسه وتحدّيات أيامه ووقف منها موقف المعتبر المتأمل لكان ذلك نافعاً له في سلامة ما بقي من عمره.
 
9- البلايا والنذر: فقد يغفل المرء عن بعض التفاصيل في
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 1809.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 1810.
3- م.ن، ج3، ص 1810.
 
 
47
 

39

المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

 حياته فلا يعتبر بها، أمّا وأن يغفل عن الأمراض والفقر والزلازل والعقوبات الإلهيّة وتفشي الفساد وتسلّط الطغاة فهذا من أعظم العمى، وهذا عليّ عليه السلام يقول: "واعتبروا بالغِيَر، وانتفعوا بالنُّذُر"1.
 
10- الإعتبار بإبليس: وفي قصّة إبليس عبرة من أضاع عبادته لله بلحظة عصبيّة، وأعمته الأنا عن الله، وهي عبرةٌ قد تصيب - وهي تصيب - الكثيرين، ويشير إليها عليّ عليه السلام بقوله: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد"2.
 
وفي الختام لا يسعنا إلّا أن نذكر مقالة الإمام عليّ عليه السلام التي يبيّن فيها أنّ المشكلة ليست في قلّة العبر، فالعبر كثيرة، وإنّما كلّ المشكلة في قلّة المعتبرين، فيقول عليه السلام: "ما أكثر العِبَر، وأقلّ الاعتبار"3.
 
 

1- م.ن، ج3، ص 1810.
2- نهج البلاغة، ج2، ص129.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 72.
 
 
 
 
48

 

40

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾1.
 
الهدف:
بيان السبيل الصحيح للاعتبار والفوائد الكثيرة التي ينالها المعتبر في حياته.
 

1- ال عمران 13.
 
 
49
 

41

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

المقدّمة
إنّ المتأمّل في أحداث زمانه وما يحيط به من سُنن يرى بعين البصيرة ما تزخر به صروف الحياة من دروسٍ وعِبَر، وهو بذلك يزيد إلى عمره أعمار الآخرين وإلى ثقافته ثقافتهم وإلى تجاربه تجاربهم، فيكون كمن عاش برصيدٍ من الوعي والغنى والقناعة يمكّنه من مواجهة التحديات مهما قست والإبتلاءات مهما اشتدّت وقست، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من تبيّنت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنّما كان في الأوّلين"1.
 
محاور الموضوع
سبل الاعتبار
1- التأمّل: فلا يكون مغمض العينين فيما يجري حوله كمن يسير في جنازةٍ ولا يستحضر أهوال الموت أو يستمع إلى موعظةٍ فلا يجريها على نفسه فيحاسبها على أعمالها، فقد قال عليّ عليه السلام: "من تأمّل اعتبر، من اعتبر حذر"2.
 

1- نهج البلاغة، ج4، ص 8.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 1811.
 
 
50
 

 


42

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

2- التفكّر: أي إعمال العقل في صروف الحياة وربط الأسباب بمسبَّباتها والنتائج بمقدِّماتها بطريقة علميّة دينيّة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "رحم الله امرءاً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر"1.
 
وعنه عليه السلام: "أفضل العقل الاعتبار، وأفضل الحزم الاستظهار، وأكبر الحمق الاغترار"2.
 
وعلى العكس من ذلك فمن لم يُعمل عقله ورضي بجهله حُرم بركات الاعتبار، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من جهل قلّ اعتباره"3.
 
3- الاستبصار: أي التبصّر لعواقب الأمور وتبعاتها ومختلف الآثار والنتائج المترتّبة عليها، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "بالاستبصار يحصل الاعتبار"4.
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص 1811.
2- م.ن، ج3، ص 1808.
3- م.ن، ج3، ص 1808.
4- م.ن، ج3، ص 1808.
 
 
 
51
 

43

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

4- الخوف من الله: قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى1، فالخوف من الله يُصوّب طبيعة العلاقة بين العبد وربّه، وبالتالي فإنّ هذه العلاقة تصحّح مسار الإنسان وتجعله دائماً على النهج القويم.
 
5- العلم: فالعلم سبيل أهل النهى للاعتبار، لأنّ العلم ما لم يقترن بالتعقّل والتدبّر يصبح حجاباً على قلب صاحبه، فعن عليّ عليه السلام: "كفى معتبراً لأولي النهى ما عرفوا"2.
 
6- الإسلام: عن عليّ عليه السلام في صفة الإسلام: "فجعله... آية لمن توسّم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ"3.

الاعتبار بالقرآن الكريم
عن الإمام عليّ عليه السلام إنّه مرّ على المدائن فلما رأى آثار كسرى وقرب خرابها، قال رجل ممّن معه:

جرَتِ الرياح على رسوم ديارهم        فكأنّهم كانوا على ميعادِ
 

1- النازعات 26.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
3- نهج البلاغة، ج1، ص 203.
 
 
 
 
 
52


 

44

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

فقال عليه السلام أفلا قلت: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾1.
 
عن الإمام علي عليه السلام: "لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل... يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ"2.
 
ثمرة الاعتبار
1- عدم الوقوع في المعصية: ويُشبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعتبر بتشبيه غاية في الروعة إذ يقول: "المعتبر في الدنيا عيشه فيها كعيش النائم يراها ولا يمسها، وهو يزيل عن قلبه ونفسه - باستقباحه معاملة المغرورين بها - ما يورثه الحساب والعقاب"3. فيبتعد باعتباره عن كلّ ما يُصعّب وقوفه بين يدي الله حتّى تحسبه لا يعصي كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "الاعتبار يثمر العصمة"4. وعنه عليه السلام: "اعتبر تزدجر"5.
 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 1808.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص 1811.
4- المصدر نفسه، ج3، ص 1811.
5- م.ن، ج3، ص 1811.
 
 
53
 

45

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

بل كأنّما الذي لا يزدجر لم يعتبر أصلاً، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لا فكر لمن لا اعتبار له، لا اعتبار لمن لا ازدجار له"1.
 
2- قلّة الخطأ: فيعتبر من أخطاء الآخرين وزلاتهم ما يحجزه عن تقحّم الأخطاء كما يقول عليّ عليه السلام: "من كثر اعتباره قلّ عثاره"2.
 
3- العلم اليقين: لأنّ المعتبر يرى حقائق الأمور ونتائج المواقف المختلفة التي تصدر عن أنواع البشر فتورثه علماً ومعرفةً، فعن عليّ عليه السلام: "من اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم"3.
 
4- الوعي والبصيرة: وهما من أغنى ما يعطيه الاعتبار للإنسان، وأيّ فائدةٍ أرقى من أن يمتلك المرء بصيرةً ووعياً يواجه بهما تحدّيات الأيّام؟ فعن عليّ عليه السلام: "دوام الاعتبار يؤدّي إلى الاستبصار، ويثمر الازدجار"4. وعنه عليه السلام: "في كلّ اعتبار استبصار"5.
 

1- م.ن، ج3، ص 1812.
2- م.ن، ج3، ص 1811.
3- نهج البلاغة، ج4، ص 47.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص 1811.
5- المصدر نفسه، ج3، ص 1811.
 
 
 
54

 

46

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

5- استبانة الرأي السليم: فالمعتبر بحوادث الأيّام يقف على الموقف السليم الذي ينبغي له اتباعه فقد ورد عن عليّ عليه السلام: "من اعتبر بعقله استبان"1. وعنه عليه السلام: "من اعتبر الأمور وقف على مصادقها"2. وبنفس المعنى ما ورد عنه عليه السلام: "الاعتبار يقود إلى الرشاد"3.
 
6- القناعة: لأنّ الاعتبار يُظهر العواقب الوخيمة التي يقدم عليها من لا يعتبر في الحياة، ولذا يقول عليّ عليه السلام: "اعتبر تقتنع"4.
 
7- الحذر والتنبُّه: فلا ينجرف المعتبر مع الرأي السائد وما يفعله الآخرون ولا يخوض مع الخائضين، بل يبقى يقظاً لما يدور حوله، كما عبّر أمير المؤمنين عليه السلام: "من اعتبر بالغير لم يثق بمسالمة الزمن"5.
 
8- عدم الطمع: فيرى المعتبر هلاك من لم يعتبر وقاده طمعه
 

1- م.ن، ج3، ص 1811.
2- م.ن، ج3، ص 1812.
3- م.ن، ج3، ص 1809.
4- م.ن، ج3، ص 1811.
5- م.ن، ج3، ص 1812.
 
 
 
55
 

47

المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

إلى الخسران، فعن عليّ عليه السلام: "من اعتبر بغِيَر الدنيا قلت منه الأطماع"1.

9- التقوى: وهي خلاصة الاعتبار، فما أروع قول عليّ عليه السلام: "ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم: إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات"2.
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 1812.
2- عيون الحكم والمواعظ، ص 154.
 
 
 
56
 

48

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾1.
 
الهدف:
الحثّ على المواظبة على النوافل والإكثار منها وبيان أسرارها وبركاتها وآثارها الروحيّة.

المقدّمة
إنّ من الأخطار الجسيمة على مستوى تربية النفس وتزكيتها أن لا يعي الإنسان أهميّة النوافل والمستحبّات في حياته فيتغافل عنها بحجة أنّها غير واجبة وأنّ الاقتصار على الواجبات أهمّ من النوافل، وأنّ الأمور المستحبّة تحتاج لوقت وفراغ وأنّ هناك أموراً أهمّ من الانشغال بالنوافل، وهذا منطقٌ درج عليه بعض أهل الإيمان متناسين البركات العظيمة والآثار التي لا تعدّ ولا تحصى للنوافل التي فتحها الله بكثرةٍ على الإنسان، وفتح له من خلالها أسباب قوّة الإيمان ومنعته وانعكاسات التجلّيات الإلهيّة الحقّة في قلبه، وصولاً إلى إدراك الحقائق والمعاني السامية من خلال هذه النوافل.
 
محاور الموضوع
تقديم الفرائض على النوافل
من الواضح ضرورة تقديم الفرائض على النوافل في معراج الكمال والسير نحو الله تعالى، بل في الرواية رفض النوافل 
 
 

1- الإسراء 79.
 
 
58

 

 


49

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

إذا أضرّت بالفرائض كما روي عن عليّ عليه السلام: "إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها"1.
 
وعلى المرء أن يترصّد قلبه دائماً ولا يضيّع فرصة إقباله، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة"2.
 
والنوافل دليل صدق العبودية لله تعالى، فلعلّ دافع الخوف من العذاب والفوز بالجنّة يدفعان المرء للقيام بفرائضه، لكن أيّ دافع يدفع المرء للقيام بالمستحبّات والنوافل الكثيرة سوى نيّة القرب وجمال المعبود؟ وأيّ حافزٍ يجعل المرء يترك فراشه ونومه وراحته ليقضي قسطاً من وقته مع خير الجالسين وأشدّهم أنساً سوى التقرب والتحبب وصدق العبودية واليقين بما في خلوة النافلة من بركات وأنوار لا يعرف حقيقتها وطعمها إلّا من تذوقها حقّاً؟
 
فالمتنفّل راغبٌ إلى الله عائذٌ به يعرف حقيقة المعبود ويدرك سر الوقوف بين يديه ويأنس بعذوبة المناجاة ويبغي
 

1- مستدرك سفينة البحار، ج8، ص 393.
2- الكافي، ج3، ص 454.
 
 
 
59
 

50

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

الزلفى والرضا والرضوان، ولا شيء سوى ذلك يفتر جهده ويمنعه عنه.
 
أسرار النوافل وبركاتها
1- النوافل سياج الفرائض: عن الفضيل: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، قال عليه السلام: "هي الفريضة، قلت": ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ قال: "هي النافلة"1.
 
وفي التفسير إشارة لطيفة وهي أنّ الاستمرار والدوام على النافلة من شأنه أن يجعل الإنسان يحافظ على الفريضة، وأنّ التفريط بالنافلة لا يمكّن الإنسان من المحافظة على الفريضة، وبالتالي فمن حافظ على النوافل كان على الفرائض أكثر محافظة، ومن تهاون بها كانت الخطوة التالية إذا تمكّن الكسل من المرء أن يفرّط بالفرائض، والعياذ بالله.
 
فالنوافل سياج يحمي الفرائض من تسلّل الشيطان، فلو حاول الشيطان اقتحام فرائض المرء علق في سياج النوافل،
 
 

1- ميزان الحكمة، ج2، ص 1643.
 
 
60
 

51

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

ولذلك يعمد دائماً إلى إبعاد المرء عن نوافله لتصبح واجباته في متناول إملاءاته ومرمى وسوساته. وهنا إشارة مهمّة وهي أنّ حرص المرء على نوافله كاشف عن شدّة حرصه على فرائضه، وأنّ استهتاره بنوافله دليل عدم حرصه على أداء الفرائض.

2- النوافل جوابر الفرائض: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته"، فيقول الله عزَّ وجلَّ لملائكته: "انظروا إلى صلاة عبدي أتمّها أم نقصها"؟ فإن أتمّها كتبت له تامّة، وإن كان قد انتقصها قيل: "انظروا هل لعبدي من تطوّع فتكمل صلاته من تطوّعه"؟ "ثمّ تؤخذ الأعمال بعد ذلك"1. فما أحوج المرء إلى هذه النوافل كي يجبر بها يوم القيامة ما يتمّ فريضته، فهي باب رحمة ولطف من الله تعالى على الإنسان، وأيّ إنسان منّا لا يخلو من نقصٍ؟ وأيّ منّا لم يطل التقصير بعض فرائضه ما قد يكون في الفرائض؟وفي قوله "وتُؤخذ أعماله بعدها" يوجب على الإنسان أن 


1- كنز العمال، ج 7، ص 278.
 
 
 
61
 

52

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

 يأخذ حذره من التغافل عن النوافل التي ما لم يتمّ فريضته بها فإنّ العبور على بقية الفرائض بعد الصلاة لن يكون ممكناً.

 

 3- باب للأجر والثواب: فالنوافل باب واسع وعريض لكسب الأجر والثواب، وهذه المستحبّات تدخل في كافّة أبواب الفقه والأخلاق والشريعة، فهي لا تعدّ ولا تحصى، فلو أراد المرء أن يعمل بالنوافل التي تضمّنتها كتب الأعمال والأدعية كمفاتيح الجنان ومصباح الكفعميّ ومفتاح الجنّات والصحيفة السجاديّة وغيرها لاحتاج إلى أزيد من عمره، إلّا أنّ الغريب أنّك ترى بعض الناس يعملون ليل نهار لربح الدنيا، وقلّما يلتفتون لربح الآخرة.
 
4- المحبّة والتسديد من الله: قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾1، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي 
 
 
 

1- المائدة 54.
 
 
62
  

 


53

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

بها"1. فالنافلة وسيلة اتصال دائم بالله تعالى يعيش معها العبد المؤمن أجمل لحظات القرب من الله فيفيض عليه تعالى من فضله وكرمه ما يعجز المرء عن وصفه حين يصبح كما - عبّر الحديث - مرآةً تنعكس عليها أفعال الله تعالى، وكأنّ النوافل وحدها سرّ مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين.
 
5- محو السيئات: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾2.
 
فالحسنات يذهبنَ السيّئات بصريح القرآن، وعلى المرء أن يذكر ذلك دائماً، فهذه المعادلة كما يُعبّر الله ذكرى للذاكرين، ولعلّ في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾3 إشارة لطيفة تُستفاد من كلمة "لك" وهي أنّ النوافل زيادةٌ في مقام رسول الله ورفعةٌ في مقامه كما أشارت الآية إلى المقام المحمود والذي فُسّر بمقام الشفاعة، وهذا خاصٌّ بالأنبياء والأولياء، وأمّا بالنسبة إلى باقي الناس فهي مكفّرات للذنوب.
 
 

1- كنز العمال، ج 7، ص 770.
2- هود 117.
3- الإسراء 82.
 
 
63

54

المحاضرة السادسة: أهمية النوافل

فالزيادات على الفرائض لا تعدّ في حقيقتها نوافل إلّا في حقّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ سلوكه وعباداته وأخلاقه قد بلغت الكمال البشريّ الذي يعصمه من الوقوع في المعاصي.
 
 
 
 
 
 
64
 

 

55

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾1.
 
الهدف:
الحثّ على ثقافة العمل التطوّعيّ الذي لا يبتغي فيه المسلم إلّا وجه الله ومرضاته.
 
 

1- الكهف 46.
 
 
 
65
 

56

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

المقدّمة
إنّ من الأخلاق القاتلة في مسيرة الإنسان الإيمانيّة أن يتسلّل إلى نيّة المؤمن بعض الدوافع والحوافز الدنيويّة ويتحوّل الباعث والمحرّك الذي يدفعه نحو العمل القربويّ مصالح خاصّة ومنافع شخصيّة ترتبط بالأنا والمال والموقع والاسم والشهرة وسوى ذلك من أمورٍ تفقد العمل بعده القربويّ، وبالتالي تفقده جماليّته وجاذبيّته وأخرويّته، فيصبح الدافع نحو العمل لا مقدار ما يترك هذا العمل من أثر في مصلحة الرسالة، بل مقدار ما تتركه الرسالة من منفعةٍ في حياة المؤمن، وتصبح الرسالة خادمةً للإنسان بدل أن يكون خادماً لها ومضحّياً من أجلها.
 
محاور الموضوع
بواعث العمل لدى الإنسان المؤمن
تختلف الدوافع التي تبثّ الحماسة وروحيّة العمل لدى الإنسان المؤمن والتي تدفعه إلى تحمّل مسؤوليّاته والاندفاع
 
 
 
66
 

 


57

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

إلى التحرّك عن غيره من أفراد المجتمع، فهو لا يرى نفسه يؤدّي وظيفةً أو يتخلّص من عبءٍ أثقل كاهله أو يحاول التملّص والهروب من واجبه الشرعيّ، بل يرى في عمله عبادةً يتقرّب بها إلى الله ويشعر بالحبّ والرغبة والعشق لهذا العمل الذي يرقى به في معارج الكمال إلى الله تعالى. ولعلّ أهم البواعث والدوافع التي تحدّث عنها القرآن الكريم يمكن تلخيصها بالأمور الآتية:
 
1- أداء التكليف: فامتثال أمر الله تعالى، وكون العمل عملاً عباديّاً من أرقى الدوافع الذاتيّة لدى الإنسان المؤمن، بل كونه مورد طاعة وقربة إلى الله، يجعل أيّ جهد أو تعب أو بذل يبذله الإنسان هيّناً وسهلاً، بل جميلاً ومؤنساً.
 
2- عدم النظر إلى المكاسب الدنيويّة: قال تعالى: ﴿لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا1، بينما ترى الأمر مختلفاً في جبهة الباطل فيطلب سحرة فرعون أن يكونوا من المقرّبين من فرعون إن تمّ لهم الفوز على موسى عليه السلام كما عبّر القرآن
 
 

1- القصص 83.
 
 
 
67

 

58

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

الكريم بقوله: ﴿وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾1.
 
3- طلب الأجر من الله تعالى: قال تعالى: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾3، وكأنّ مدلول الآية يُشعر بضرورة أن تكون هذه المعادلة واضحة عند الآخرين، وأنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يتحرّك إنطلاقاً من أيّ نفعٍ سوى الأجر والثواب والقرب من الله تعالى.
 
4- عدم طلب البدل الماديّ والمعنويّ من الناس: قال تعالى: ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾3، ولا يخفى أنّ عدم إرادة أيّ جزاء ماديّ أو معنويّ مقابل فعل الإنسان يجب أن يكون متضمّناً لنية القرب التي تدفع المرء نحو الفعل، وإلّا وقع في الشرك، وعدم الإرادة يعني الإعراض حتّى لو انقادت الدنيا للإنسان، كما ورد في خطبة المتّقين: "أرادتهم الدنيا فلم يريدوها"4.
 

1- الأعراف 113 ـ 114.
2- الشعراء 109.
3- الإنسان 9.
4- نهج البلاغة ، ج2، ص 162.
 
 
 
68
 

59

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

5- الخوف والخشية من الله: قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ1، وفي التفسير أنّ هذا اليوم هو يوم القيامة الذي تظهر فيه الأمور والنوايا التي كانت تضمرها القلوب على حقيقتها، والأرض يومها مشرقةٌ بنور ربّها ولا خفاء على الله تعالى، وبالتالي فأهل الإيمان يتوسّلون النوايا الصادقة إلى الله لأنّهم يخافون ذلك اليوم الذي تتكشّف فيه كافّة الأمور ويظهر عياناً ما كان مخفيّاً في هذه الدار الدنيا.
 
6- المسارعة إلى الفوز بالآخرة: قال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾2. والمسارعة إلى المغفرة تعني أنّها همّه الأول وهدفه الكبير الذي ينشده، وأنّ قوّة الحركة وسرعتها نحو مغفرة الله ورضوانه لا تهدأ ولا يوازيها شيء آخر على الإطلاق.
 
7- استباق فعل الخير: قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ
 

1- النور 39.
2- آل عمران 133.
 
 
 
 
69

 

 


60

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1، فالمؤمن لا يرضى بأيّ درجة، بل ينشد القرب من الله لأنّ السبق يستلزم القرب من الله في الآخرة لقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ2.
 
والاستباق فعل يستلزم مسابقة شيء آخر وذلك لأنّ المؤمن يسابق الزمان والموت والعجز والمرض والفقر إلى فعل الخيرات والأعمال الصالحة قبل فوات الأوان.
 
8- روحيّة التعاون: قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾3، فالمؤمن يرى نفسه جزءاً من جماعةٍ يتحرّك معها ويرتبط بها على عناوين البرّ والتقوى فهو يعضدها ويساندها إيماناً منه أنّ العمل القربويّ عملٌ يحتاج إلى حركة الجماعة، هذه الحركة التي تستبطن ذوبان الأنا في الجماعة لا تسخير الجماعة لمصلحة الأنا.
 
9- روحيّة المبادرة: قال تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى4، وهذه الآية تكشف أنّه لا يوجد مساحة
 
 

1- البقرة 148.
2- الواقعة 10 ـ 11.
3- المائدة 2.
4- طه 84.
 
 
 
70

 

61

المحاضرة السابعة: بواعث العمل عند المسلم

للتريّث والتفكير بين الأمر الإلهيّ وفعل الإنسان المؤمن، فالأمر الذي يُحرز به المؤمن رضا الله تراه يعجل إليه دون تلكّؤ أو تذمّر أو استخفاف أو تثاقل، كما عبّر الله تعالى ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾1، بينما ترى القرآن الكريم ذمّ فعل إبليس إذ لم يبادر إلى امتثال أمر الله بالسجود، فقال له: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾2.
 

1- التوبة 38.
2- الأعراف 16.
 
 
71
 

62

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ1.
 
الهدف:
التعريف بمبدأ الاستقامة الذي حثّت عليه الشريعة وبيان آثار وبركات التمسّك بهذا المبدأ.
 

1- هود 112.
 
 
73
 

63

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

المقدّمة
يعتبر مبدأ الاستقامة من أهمّ المبادىء المحوريّة في الشخصيّة الإيمانيّة التي يتمحور حولها الكثير من الصفات والفضائل ومكارم الأخلاق، وبفقدانها يفقد المؤمن أهمّ ركائز الإيمان وأركانه، ويكفي في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شيبّتني آية في سورة هود"، حين أمره الله بالاستقامة واستقامة من معه فقال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ1، وقال: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾2، بل قد أمر الله تعالى بها أيضاً أنبياءه، فقال في حقّ موسى وأخيه عليهما السلام: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا﴾3 وعدّ الجنوح في سلوكهم عن هذا المبدأ ظلماً وطغياناً.
 
محاور الموضوع
فضيلة الاستقامة
عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا مسلك أسلم من الاستقامة، لا 
 

1- المصدر نفسه.
2- الشورى 15.
3- يونس 89.
 
 
 
 
74
 

64

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

سبيل أشرف من الاستقامة"1.
 
وعنه عليه السلام: "اعلموا أنّ الله تبارك وتعالى يبغض من عباده المتلوّن، فلا تزولوا عن الحقّ، وولاية أهل الحقّ، فإنّ من استبدل بنا هلك"2.
 
والمتلوّن هو العبد الذي لا يتّخذ موقفاً مبدئيّاً من الأحداث والوقائع، بل يتلوّن وفق المصلحة والطمع ومنفعته الخاصّة، ويساير على حساب الرسالة والقيم والمبادىء.

عن عليّ عليه السلام في شرح قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ...﴾ وقد قلتم: "ربّنا الله فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته، ثمّ لا تمرقوا منها، ولا تبتدعوا فيها، ولا تخالفوا عنها"3.
 
وكأنّ الاستقامة تستلزم ثلاثة أمور وهي: عدم الانحراف عنها، وعدم
 
 

1- عيون الحكم والمواعظ، ص537.
2- بحار الأنوار، ج10، ص 105.
3- نهج البلاغة، ج2، ص 93.
 
 
 
75
 

65

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

إلصاق أمور بالشريعة وهي ليست منها، وعدم المخالفة فيما أمر الله تعالى ونهى عنه.
 
وعنه عليه السلام: "كيف يستقيم من لم يستقم دينه"؟!1
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو صلّيتم حتّى تكونوا كالحنايا وصمتم حتّى تكونوا كالأوتار ثمّ كان الاثنان أحبّ إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة"2.
 
ثمرة الاستقامة:
والحديث عن الاستقامة حديثٌ عن ملكة تلازم أفعال أهل الإيمان، وعن مقامٍ روحيّ لا ينحدر عنه مهما قست العروض والتحدّيات، فهي ليست فعلاً عابراً أو موقفاً في حادثة أو لحظة تجلٍّ وتجرّد مع الله، بل هي استقامة دائمة بدوام الحياة واستمرار العمل والمواجهة مع أئمّة الكفر والضلال، ومن هنا فإنّ قيمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى تكمن في ثباتهم على هذا المبدأ وعدم تزلزلهم أو ضعفهم أو صدور ما ينافي الاستقامة في كافّة أعمالهم ومواقفهم وسلوكيّاتهم، رغم أنواع الإبتلاءات والمحن والعذابات التي تعرّضوا لها، وما زال 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2642.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 2642.
 
 
 
76

 

66

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

أتباعهم يتعرّضون لها اليوم على مساحة العالم كلّه.
 
1- وفرة الخيرات: بمعنى توفّر النعم الماديّة لعموم الخلق، قال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾1.

2- الأمان يوم القيامة: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾2. والتعبير بعدم الخوف والحزن من أهم بركات يوم الفزع الأكبر.
 
3- البشرى بالجنّة: وهذا منتهى الفوز بالوعد الإلهي للذين آمنوا واستقاموا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾3.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من استقام فإلى الجنة، ومن زلَّ فإلى النار"4.
 

1- الجن 16.
2- الأحقاف 13.
3- فصلت 30.
4- ميزان الحكمة، ج3، ص 2642.
 
 
 
 
 
77


 

67

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

4- الفلاح: وهو نفس معنى البشرى بالجنّة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن تستقيموا تفلحوا"1.

5- السلامة: أي أنّ الاستقامة ملاذ المؤمن من التعثّر والوقوع في الأخطاء، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "من لزم الاستقامة لزمته السلامة"2.
 
6- الكرامة في الدنيا والآخرة: عن الإمام عليّ عليه السلام: "عليك بمنهج الاستقامة فإنّه يكسبك الكرامة ويكفيك الملامة"3.

7- السعادة:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "أفضل السعادة استقامة الدين"4.
 
عاقبة عدم الاستقامة
قال تعالى: ﴿إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾5.
 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2642.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 2642.
3- م.ن، ج3، ص 2642.
4- م.ن، ج3، ص 2642.
5- الإسراء75.
 
 
78

 

68

المحاضرة الثامنة: الإستقامة في الإسلام

والضعف هو العذاب كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾1
 
وقال تعالى: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾2، وعليه في هذه الآية يتوعد الله تعالى رسوله بثلاثة أمور فيما لو سلك سبيلاً غير سبيل الاستقامة، وهي:
1- مضاعفة العذاب في الدنيا.
2- مضاعفة العذاب في الآخرة.
3- أن يكله إلى نفسه فلا ينصره ولا يعينه.
 
والسبب في تضعيف هذا العذاب أنّ أقسام نعم الله تعالى في حقّ الأنبياء عليهم السلام أكثر فكان انحرافهم عند الاستقامة أعظم، وكانت العقوبة المستحقّة عليها أكثر، ونظيره قوله تعالى في حقّ نساء النبيّ اللّاتي اعتبرهنَّ الله أنّهنّ لَسْنَ كبقيّة النساء: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾3.
 
 

1- ص61.
2- الأعراف 38.
3- الاحزاب 30.
 
 
79
 

69

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

تصدير الموضوع:

قال تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾1

 

الهدف:

بيان أهم الجوانب التي ينبغي أن تتجلّى فيها الاستقامة والتحدّيات التي تعترض مسيرة حياة الإنسان المؤمن.

 


 

1- الإسراء 73.

 

 

81

 

 





70

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

المقدّمة
تبيّن الآية إحدى أهمّ معادلات العلاقة بالكفار الذين لا يتخذون خليلاً وحليفاً وصديقاً في حياتهم إلّا بعد أن يميلوا به عن جادّة الهدى ويحرفوه عن منهج الإيمان، بل أكثر من ذلك، فهم لا يرضون بأقلّ من أن يستبدلوا آيات الله بكلامهم ثمّ يطلبوا أن ننسب هذا الكلام إلى الله ظلماً وافتراءً، فيصبح وحي السماء ألعوبة يسخّرونها لمصالحهم ومآربهم وأطماعهم، وهم في سبيل ذلك لا يألون جهداً ولا يوفّرون سعياً، وهذه كانت سياستهم اليوميّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أئمّة الهدى من بعده، وما زلنا نواجه هذه السياسة حتّى يومنا هذا.
 
محاور الموضوع
وتتجلّى الاستقامة في الشخصيّة الإيمانيّة في ميادين مختلفة ومتعدّدة أهمّها:
1- الاستقامة الفكريّة: وهي الاستقامة في مجال التشريعات الإلهيّة والقيم والمبادئ التي دعت إليها الشريعة ومختلف
 
 
 
82

 

71

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

الأبعاد العقائديّة والأخلاقيّة لرسالة الإسلام، والاستقامة في هذا الجانب أرقى أنواع الإستقامة، ولقد دأبت قريش على الطلب من رسول الله أن لا يسفّه آلهتهم ولا يسبّها ولا يشتمها ولا ينالها بسوء، أو محاولتهم تقسيم العبادة بين آلهتهم وإله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرّمه الله.
 
ومن الميل عن هذه الاستقامة ما نشهده اليوم من وعّاظ السلاطين وعلماء البلاط من إطلاق الأحكام الشرعيّة والفتاوى الفقهيّة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي يبيحون فيها الدماء والأعراض والممتلكات ويحرمون فيها التعامل والتودّد إلى إخوانهم المسلمين، وكلّ ذلك من أجل أطماع دنيويّة زائلة وتقوية نفوذ أسيادهم وأرباب نعمتهم.

2- الاستقامة في الميدان الاجتماعيّ: وهي الاعتدال في مقام التعامل مع الناس وتربيتهم وتعليمهم واستقطابهم والمساواة بينهم، والحكم بينهم بالعدل، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وعدّ الاستقواء عليهم بل الإحسان إليهم 
 
 
 
 
83
 
 

72

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

 ومعاملتهم بالحسنى والكلمة الطيّبة، وحثّهم على العمل الصالح وفضائل الأعمال وتحذيرهم من عواقب السيّئات والأعمال الخاطئة ومفاسد الأمور.
 
ومن الميل عن الاستقامة في هذا الجانب كقبول الرشاوى بعنوان الهديّة والتقرّب من أصحاب المال والثروات طمعاً وجشعاً وتقديمهم في المجالس على حساب الفقراء والعبيد والطبقة الفقيرة من الناس وأن يجعل لهم مجلساً خاصّاً، وتقييم الناس وفق الهوى بعيداً عن الضوابط الشرعيّة كتقريب من له هوًى بهم وإبعاد من هم على غير هواه، وغير ذلك من الأمور التي تجنح بالمؤمن عن جادّة الاستقامة.
 
3- الاستقامة في الميدان السياسيّ: وتعني عدم التفريط في حقوق المسلمين وشؤونهم العامّة، وفي إدارة السلطةّ وضرورة المحافظة على مقدّرات المسلمين وثرواتهم، ومقدّرات بلادهم، وعدم إباحتها لأعداء الدين وبلاد المشركين لنهبها وتحسين أوضاعهم الحياتيّة والمعيشيّة على حساب المسلمين.
 
 
 
 
84
 
 

73

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

ومن الميل عن الاستقامة في الميدان السياسيّ استغلال المنصب لمصالح خاصّة ومداهنة أهل النفاق والضلالة والتودّد إليهم وإبرام الصفقات معهم فضلاً عن إدخال المسلمين في نزاعات وحروب وفتن وخلافات داخليّة لحساب فئةٍ أو جماعة ممّن هم على هواه.
 
وفي وصايا الإمام الصادق عليه السلام لابن جندب يبيّن مختلف النعم التي تتنزّل على الناس الذين يتحلّون بالاستقامة فيقول: "لو أنّ شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة ولأظلّهم الغمام ولأشرقوا نهاراً ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولما سألوا الله شيئاً إلّا أعطاهم"1.
 
أسباب الإنحراف عن الإستقامة
ولا شكّ أنّ هناك أسباباً كثيرة لا يمكن إحصاؤها تدفع المؤمن للإنحراف عن جادّة الهدى ومبدأ الاستقامة في حياته الإيمانيّة، إلّا إنّنا هنا نقف على أهم وأبرز هذه الأسباب، وهي:

1- التعجّل بتحقيق تقدّم في الرسالة: وذلك بتوهّم أنّ دخول
 

1- تحف العقول، ص 302.
 
 
 
 
85
 

74

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

بعض الأشخاص المناوئين سيّما إن كانوا من ذوي السلطة والتأثير في أتباعهم والنفوذ في محيطهم، أو من ذوي الكفاءة والخبرة في بعض ميادين العمل، سيؤدّي إلى تقدّمٍ سريع ومزيدٍ من الظهور، فينحرف عن الإستقامة ويقدّم بعض التنازلات المبدئيّة طمعاً في ذلك.
 
وهذا ما نشهده اليوم من تقديم بعض الدول العربيّة والإسلاميّة التنازلات في القيم والمبادىء الإسلاميّة لبلاد الغرب طمعاً في مساعدتهم على نشر نفوذهم والتأثير في البلاد الأخرى حتّى ولو كانت إسلاميّة.
 
2- التأثّر بثقافة الآخرين: وهو من أخطر الأسباب التي نرى تأثيراتها اليوم في مجال ميل الناس عن مبدأ الاستقامة سيّما أمام التقدّم العلميّ الذي شهده الغرب في الآونة الأخيرة فانبهر به الكثيرون من ضعاف الإيمان فعطّلوا عقولهم وبرمجوها بما يخدم أعداء الدين، وانساقوا في متاهات الغرب فوقعوا في مستنقعات الفساد والرذيلة وراحوا يتخبّطون في ثقافات غريبة عنهم وعن قيمهم الدينيّة السامية.
 
 
 
86

 

75

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

وهذا التأثر لم يقتصر على ميدانٍ من الميادين أو على شريحةٍ من شرائح المجتمع دون سواها، بل غزا كافّة ميادين الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والسلوكيّة وغيرها، وطال مختلف الشرائح العمريّة والطبقات الاجتماعيّة سيّما عنصر الشباب الذي يحاول الغرب جاهداً إمّا الاستفادة منه في بلاده أو تركه في وطنه فريسة البرامج اللّأخلاقيّة ومراكز الفساد، وهذا الأمر من الأمور التي تحتاج إلى بحثٍ خاصّ والتي يتمّ البحث فيها اليوم تحت عنوان الحرب الناعمة.
 
3- سوء التقدير في الموقف: كأن يتوهّم أهل الإيمان أنّ الإنحراف عن مبدأ الإستقامة شيئاً قليلاً كالتنازل عن الأمور البسيطة أو مجاراتهم في بعض ما يقولون أو تقديم ما لا يستحقّون من تكريم وتقدير قد يؤدّي إلى توعيتهم واستيعابهم شيئاً فشيئاً، فإن مبدأ الاستقامة مبدأ رساليّ وليس سلوكاً شخصيّاً فقد يفيد ذلك في المسائل الشخصيّة والأمور الخاصّة أو المرونة في بعض أساليب العمل وأدواته دون التنازل عن شيءٍ من مبادىء الرسالة 

 
 
87
 

76

المحاضرة التاسعة: أوجه الاستقامة وتحدّياتها

والتغيير في آيات الوحي ممّا يؤثّر في ثبات المرء ويزعزع إيمانه.
 
4- ضعف الروحية الإيمانيّة: كأن يصيب المؤمن خوف من الأعداء فيحاول أن يدرأ مكائدهم ومؤامراتهم بشيء من المسايرة والمداهنة، وهو يوهم نفسه أنّه بذلك يحقن الدماء ويخفّف من المعارك والحروب، أو يحاول أن يساير من معه ممّن لا يرغبون بالحرب وأخلدوا إلى الدنيا ونعيمها، فيتّخذ بعض المواقف التي تنافي الاستقامة الروحيّة والإيمانيّة لأهل الإيمان، وقد لفت الله تعالى إلى ذلك بقوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾1.
 
 

1- القلم 9.
 
 
88
 

77

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾1.
 
الهدف:
التعرّف على أهمّ الأمور التي تساهم في نبات الفتنة وتوصيف شكل حركتها في الأمّة.
 

1- الأنفال ، 25.
 
 
 
91
 

78

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

المقدّمة
إنّ تعرّض أيّ مجتمع سيّما المجتمع الرساليّ لفتنة تحاول حرفه عن مساره الإلهيّ، وبالتالي مصادرة الرسالة الإلهيّة بكافّة إنجازاتها وانتصاراتها أمرٌ ينبغي توقعه دائماً، ولعلّ ذلك مردّه إلى أنّ الثبات على الرسالة في مراحل القوّة والسلطة والنعمة أعظم وأشدّ من الثبات عليها في مراحل الثورة والتغيير الذي يكون مطلب الجميع ورغبتهم، وإنّ امتلاك الإنسان لمقدّرات كبيرة وواسعة بدون الانغماس في لذائذ شهواتها أعظم بلاءً من ابتلائه بالمواجهة واستعداده للبذل في سبيل إقامة حكم الله في الأرض، ولذلك يسقط البعض من أهل الطمع والجشع وضعاف النفوس.
 
محاور الموضوع
أسباب وقوع الفتن
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ الله وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ
 
 
 
92
 

79

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الله فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ (الطالبين) وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ (مخالطة) الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ (القبضة من الحشيش أو أيّ شيء آخر) وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ الله الْحُسْنى"1.

ويظهر من هذا النصّ مجموعة أسباب أساسيّة تُنشب الفتنة بين المسلمين وهي:
1- اتباع الهوى: أي سيطرة الأهواء الشخصيّة والمصالح النفعيّة وانحسار المبادىء والقيم الإلهية، لتصبح المعادلة الجديدة مقدار انتفاع الأشخاص وحيازتهم على المناصب والأموال بدل انتفاع الرسالة، فيعمل أرباب الفتنة سعياً لمراكز دنيويّة لا مقامات أخرويّة.

2- ابتداع أحكام في عرض الأحكام الإلهيّة: وهذه الأحكام المبتدعة ليست مجرّد نظريّات أو أفهام خاصّة لنصّ النبيّ 


1- نهج البلاغة - الخطبة رقم: 50.
 
 
93
 

80

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

صلى الله عليه وآله وسلم بل هي أحكام في عرض خطّ النبيّ ووصاياه وتعاليمه، وهي ليست في جانبٍ دون آخر كما يظهر من إطلاق القول بل هي أحكامٌ على امتداد الحاجة فتشمل السياسة والعلاقات العامّة، بل قد تطال التشريع والعقيدة وكلّ ما من شأنه إذكاء أسباب الفتنة واستعارها.
 
3- اتباع الأحكام المبتدعة: أي تطبيقهم لهذه الأحكام واعتمادها بديلاً من سُنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فهم لا يكتفون بالتنظير لها بل ينزلونها منزلة الفعل والعمل، ويدافعون عنها مُلصقين إيّاها بدين الله، فهم بذلك أتباع دينٍ جديد، وسُنّةٍ جديدة ما ألجأهم إليها إلّا ضعف إيمانهم عن اتباع سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
4- نصرة البعض للأحكام الجديدة: وهو ما يظهر من قوله عليه السلام: "وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الله"1، أي أنّهم يفرضون أحكامهم بالقوّة ويدافعون عنها بالسيف، ويواليهم على هذا الأمر أتباع كثيرون من الجهلة والسذّج وأهل الدنيا.
 

1- المصدر نفسه، ج1، ص 100.
 
 
94
 

81

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

5- التخاذل عن نصرة الحق: عن عليّ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ ولم يقوَ مَن قويَ عليكُم. لكِنَّكُم تهتُم متاه بني إسرائيلَ، ولعمري ليُضعَّفنَّ لكُمُ التِّيهُ مِن بعدي أضعافاً، بِما خلَّفتُمُ الحقَّ وراء ظُهُورِكُم، وقطعتُمُ الأدنى ووصلتُمُ الأبعدَ..."1.
 
ويدلّ قوله عليه السلام على أنّ نصرة الحقّ عملٌ دائمٌ لأهل الإيمان وأن أرباب الفتن يتربّصون بالأمّة لحظة التخاذل كي يسعّروا نار الفتنة.
 
وصف بدايات الفتنة
ويصف الإمام عليه السلام كيف تبدأ الفتنة، ويصوّر آليّة حركتها وانتشارها في المجتمع، بقوله: "... ثُمَّ إنَّكُم معشَرَ العربِ أغراضُ بلايا قدِ اقتربَت، فاتَّقُوا سكراتِ النِّعمَةِ واحذرُوا بوائقَ النقمة (المصائب الكبرى)، وتثبَّتُوا في قتامِ العِشوةِ (غبار الظلمة) واعوِجاجِ الفِتنةِ عندَ
 

1- نهج البلاغة، ج2، ص 79.
 
 
95
 

 


82

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

طُلُوع جنِينها، وظُهُورِ كمينها، وانتِصابِ قُطبِها ومدارِ رَحاها. تبدأُ في مدارجَ خِفيَّةٍ، وتؤُولُ إلى فظاعةٍ جليَّةٍ. شِبابُها كشِبابِ الغُلام (إشارة إلى قوّتها وعنفوانها)، وآثارُها كآثارِ السِّلامِ (أي الحجارة الصمّاء أي أنّها تجرح وتكسر) يتوارثُها الظَّلمَةُ بِالعُهُودِ، أوَّلُهُم قائد لآخِرِهِم، وآخِرُهُم مُقتدٍ بِأوَّلهِم. يتنافَسُون في دُنيا دنِيَّةٍ، ويتكالبُون على جِيفةٍ مُريحَة (نتنة). وعن قلِيلٍ يتبرَّأُ التَّابعُ مِن المتبُوع، والقائدُ من المقُودِ، فيتزايلُونَ ( يتفارقون) بِالبَغضاءِ ويتلاعنُونَ عِندَ اللِّقاءِ"1..
 
وهذا النصّ يشير إلى عدّة ملامح يجب التنبه لها وترصّدها في المجتمع قبل استفحالها، وأهمّها:
1- إنّ الفتنة إنّما تلازم شيوع روح التّرف في المجتمع كما حذّر الإمام من هذا بقوله: (فاتقوا سكرات النّعمة...)2، والحرص على التنعّم بملذّات الحياة وتوفير أسباب الراحة والحياة الناعمة ممّا يصيب المجتمع بالترهّل والانكماش وعدم التأثير في الآخرين، ويفقده الروح الثوريّة وأهدافه
 

1- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 151.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 27.
 
 
 
 
96

 

83

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

الكبرى القائمة على تحرير الإنسان من براثن الجهل والضلالة.
 
2- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "تبدأ في مدارجَ خفيّة، وتؤول إلى فظاعة جليّة"، فهي تتسلّل إلى الأذهان بطرقٍ خفيّة ولعلّ ذلك إشارة إلى إيحاءات الشيطان، ويكون المرء في سكرةٍ عنها، ثمّ ما تلبث أن تتعاظم شيئاً فشيئاً حتّى تصبح كبيرةً وفظيعة، ولا يلتفت لها الإنسان إلّا بعد هدأتها وانجلاء غبارها كما عبّر عليه السلام في الخطبة 93 من نهج البلاغة، قال: "إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً"1.
 
فالفتن إذا أقبلت تشابه الأمر على الناس وضاعوا في غياهبها، فإذا أدبرت أدركوا كنهها وحقيقتها وأهدافها وعظيم جريمتها، فمثلها مثل الإعصار يضرب مدينةً فلا تعرف حجم خسائره إلّا بعد زواله ولا تعرف ما ينبغي لك فعله ما لم تلتزم بالإرشادات المطلوبة لهذه اللحظة.
 
 

1- المصدر نفسه، الخطبة 93.
 
 
97
 

84

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

3- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "شِبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السِّلام"1، فهي في فورتها كعنفوان الشاب قويةٌ طموحةٌ لا تهدأ عند هدف، بل تسعى للمزيد من التسلّط والتملّك، وأمّا آثارها فهي كآثار الحجارة الصلبة التي إذا أصابت تركت جراحاً وكدمات بل وكسوراً في جسم الإنسان، فهي كذلك لا تترك جسد الأمّة دون أن تصيبه بالجراح والكسور.

4- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "تتوارثها الظلمة بالعهود، أوّلهم قائد لآخرهم، وآخرهم مقتد بأوّلهم..."2، وهذه الفتنة ليست مرحلة عابرة وغيمة صيف في تاريخ الأمّة، بل سيعمد أربابها إلى توارثها بالعهود والمواثيق بينهم، وعلى الأمّة أن تبقى على جهوزيّة لهذا الأمر.
 
5- ما عبّر عنه الإمام بقوله: "... وعن قليل يتبرّأ التّابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء، ويتلاعنون 
 
 

1- م.ن، ج2، ص 27.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 38.
 
 
 
98
 

85

المحاضرة الأولى: أسباب وقوع الفتن

عند اللّقاء"1. فالفتنة بعد انتشارها، واستحكامها في المجتمع سوف تبرز التناقضات بين القادة وتظهر الخلافات بينهم على اقتسام الغنائم ويحاول كلٌّ منهم أن يستأثر بأكثر من الآخر، وحينئذٍ تنقسم قيادة الفتنة إلى فئات متخاصمة متناحرة، وتجرّ المجتمع وراءها إلى التّخاصم والتّناحر والحروب فتتحوّل من فتنة إلى فتن ومن جماعةٍ إلى جماعات يسبّح كلٌّ منها بحمد قائده، وهم في الحقيقة يأكلون منها وتأكلهم ليخسر الجميع بعد ذلك دنياهم والآخرة.
 
 

1- المصدر نفسه، ج2، ص 38.
 
 
99

 

86

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

تصدير الموضوع:
عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: من "دخل في هذا الدِّين بالرجال أخرجه منه الرجال كما دخلوه فيه، ومن دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول"1.

الهدف:
التعريف ببعض صفات أرباب الفتن والأقنعة المزيفة التي تتمظهر الفتنة بها.


1- ميزان الحكمة، ج2، ص 594.
 
 
101
 

87

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

المقدّمة
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "في الظروف الّتي تُهيمن على الفتنة، يكون العمل أشدّ صعوبة، ويكون تشخيص الأمور أصعب طبعاً، الله تعالى أتمّ الحجّة دوماً، ولم يترك للناس أن يقولوا لم نعرف ولا علم لنا ولم يُتمّ الحجّة علينا، ولم يُرسل من يُخبرنا، فلذلك ضللنا، وقد ورد هذا المعنى مراراً وتكرارا.ً إنّ يد الله تُشير في كلّ ناحية. والخلاصة نحن بحاجة لأن نفتح عيوننا".

وخلاصة قول الإمام القائد أنّه لا يستطيع أن يدّعي أحد أنّ ظروف الفتنة أقوى منه وأنّ الطريق لم تكن واضحة ويوجِد لنفسه التسويفات والأعذار، فإنّ ذلك ممّا لا يعذره يوم القيامة بين يدي الله تعالى.

محاور الموضوع
خصائص وصفات أرباب الفتنة
1- محاربة خطّ الولاية: وبأيّ مستوًى كان تضعيفاً أو إسقاطاً أو مواجهةً أو قتالاً أو رداً أو بأيّ شكل من أشكال الوقوف
 
 
 
 
102
 

88

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

 في وجه هذا الخطّ الإلهيّ الذي يعتبر الوقوف بوجهه وقوفاً في مواجهة خطّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد تنوّع الخارجون على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بين ناكثين بالبيعة وعدم المبايعين والمنشقّين عنه لكن في الخلاصة كان يجمع هؤلاء قاسمٌ مشتركٌ واحدٌ وهو الوقوف في قبال خطّ الولاية والإمامة الإلهيّة، وبالتالي فإنّ هؤلاء يقودون الفتنة.

واليوم يتنوع المواجهون لهذا الخطّ الإلهيّ تحت عناوين مختلفة، منها ما هو سياسيّ، ومنها ما هو اقتصاديّ أو اجتماعيّ أو مطلبيّ وسوى ذلك من عناوين لا تستهدف إلّا إسقاط هذا المشروع الإلهيّ، ولقد عبّرت زينب عليها السلام بوضوح عن حقيقة المشروع الآخر وأهدافه بقولها في وجه الطاغية: "فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا"1.

2- رمزيّة قيادات الفتنة: والفتنة لا تستخدم أشخاصاً غير معروفين أو ممّن ليس لهم وزنهم في المجتمع بل يتقدّم الفتنة رجالٌ لهم رمزيّتهم في أذهان الناس سواء كانوا من
 
 
 
103
 




1- مثير الأحزان، ص 81.
 

89

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

أهل العلم أو من المحاربين والمجاهدين سابقاً مع خطّ الولاية كطلحة والزبير، أو من أهل النفوذ في عشائرهم وقبائلهم، أو من أهل السياسة والمناصب العالية كالرؤساء والوزراء ورؤساء المجالس النيابيّة والوزاريّة وممّن لهم باع طويل في خدمة الناس، وهذا كلّه ممّا يساعد في خداع الناس وانطلاء المؤامرة عليهم وانخداعهم بها.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فإنّهم قواعد أساس العصبيّة، ودعائم أركان الفتنة"1.
 
لكنّ أمير المؤمنين يلفت النظر إلى بعض صفات هذه الفئة المتصدّية كما جاء في الخطبة الشقشقيّة:
أ- حب الدنيا: يقول عليه السلام: "فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الله سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ بَلَى وَالله لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا
 

1- نهج البلاغة، ج2، ص 142.
 
 
 
104
 

90

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا"؟1.
 
والنصّ يتضمّن إشارة لطيفة وهي أنّ الفئات الثلاث التي واجهت عليّاً عليه السلام عندما نهض بالأمر وبويع بالخلافة على الاختلاف القائم فيما بينها حول عنوان المشكلة مع أمير المؤمنين عليه السلام، إلّا هذه الفئات يجمعها أمرٌ واحد وهو أنّ أربابها من الذين أعرضوا عن آخرتهم وباعوها بثمنٍ بخس من دنياهم، والأهم من ذلك أنّ أرباب الفتنة وإن تمكّنوا من خداع الناس إلّا أنّهم يعلمون حقيقة أمرهم ويعون ما يفعلون، فلقد سمعوا ووعوا وفهموا، لكنّها الدنيا زينها الشيطان في عيونهم فأضلّهم عن السبيل.
 
ب- تظاهرهم بالصلاح: فقد أرسل الإمام عليه السلام إلى معاوية: "قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ، فَعَدَوْتَ عَلَى الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ"2.

ويعمد هؤلاء، بالإضافة إلى الشعارات الخادعة، إلى إلقاء الشبهات كما فعل الخوارج حين ألقوا شبهة: "لا حكم إلّا لله": 
 

1- المصدر نفسه، ج1، ص 36.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2532.
 
 
 
 
105



 

91

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

فلمّا سمع ذلك عليّ عليه السلام قال "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ"1.

3- التوسّل بالأساليب الملتوية: وقال عليه السلام في حوار مع الخوارج: "أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَغِيلَةً وَمَكْراً وَخَدِيعَةً: إِخْوَانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ الله سُبْحَانَهُ فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ؟ فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ"2.

وهؤلاء القادة المزعومون يحاولون أن يتوسّلوا بالخديعة والمكر والحيلة ويستخدموا نفوذهم في المساحات التي يؤثّرون فيها، فزعيم القبيلة في قبيلته والسياسي في أنصاره والتابعين وأصحاب القدرة في تهديدهم ووعيدهم والمتعلم في فبركة صحة ما يفعلون والفقيه في حلية ما يقومون به، والمتموّل في الدعم الماليّ لهذه الفتنة وكلٌّ من موقعه وقدرته، وممّا لا شكّ فيه أنّ حركة مجموع هؤلاء مع وجود الكثيرين من أهل الطمع والجشع ومحبيّ السلطة وأهل الهوى
 
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص 91.
2- المصدر نفسه ، ج1، ص 236.
 
 
106
 
 

92

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

وأصحاب المصالح وتجّار الأديان يوجد جوّاً من الصعوبة بمكان مواجهته والقضاء عليه ما لم يعتصم الإنسان بالعروة الوثقى وحبل الله المتين وصراطه الأهدى المتمثّل بأهل بيت العصمة عليه السلام.
 
ولقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الضجيج المفتعل والغبار المصطنع بقوله عليه السلام: "وَقَدْ أَرْعَدُوا وَأَبْرَقُوا وَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْفَشَلُ وَلَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ وَلَا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ1.

وهنا يقول عليه السلام إنّ أهل الفتنة يوهمون أتباعهم بأمور لا وجود لها، وينافقون في أفعالهم وأقوالهم، فهم يرعدون ويبرقون دون أن يمطروا، فتعيش الناس أحلام السيل الجارف الذي سيصنعه المطر الموعود، إلّا أنّهم سرعان ما تتكشّف لهم الحقائق ويحصدون فشل أعمالهم.

4- الشعارات والمطالب المقنعة: ومن الطبيعيّ أن يكون يرفع أرباب الفتنة شعارات يخدعون بها عامّة الناس، ولقد كانت الفتن السابقة في بدايات عصر الرسالة ترفع شعارات


1- نهج البلاغة، ج1، ص 42.
 
 
107
 

93

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

 "لا حكم إلّا لله"، ويرفعون المصاحف على رؤوس الرماح، ويطالبون بدم الخليفة، ويسعون لتصحيح مسار الخلافة ويحقنون دماء المسلمين وغيرها من الشعارات البرّاقة.
 
وأمّا اليوم فباتت الشعارات من نوع آخر فتخرج الفتنة لتطالب بالإصلاح والتغيير والحريّات العامّة والسيادة في القرار وحقّ تقرير المصير والاستقلال السياسيّ وعدم التبعيّة للغرب أو المطالبة بتعديل نصوص الدستور، وغير ذلك من الشعارات التي تستهوي الناس وتنخدع بها فيلج الناس في فتنة صمّاء بكماء لا يعون ما يصنعون سوى أنّهم وقود حركة إصلاحيّة تستهدف التنوير في الدنيا وعالي الدرجات في الآخرة.

5- الدعوة إلى معرفة الحقّ بالأشخاص: عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: كنّا في مجلس أبان فجاءه شابّ فقال: يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: فقال له أبان: "كأنّك تريد أن تعرف فضل عليّ عليه السلام بمن تبعه من أصحاب رسول
 
 
 
 
108
 
 

94

المحاضرة الثانية: الفتنة وأربابها: الصفات والخصائص

الله" صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فقال الرجل: هو ذاك، فقال (أبان): "والله ما عرفنا فضلهم إلّا باتّباعهم إيّاه"1.
 
وأهل الفتنة وأربابها لا يملكون قوةً في مبادئهم وطروحاتهم فيستعيضون عنها بقوة قادتهم ورجالاتهم، فهم لا يدعون إلى مبدأ بل يدعون إلى أشخاص ويربطون الناس بهم على طبق ما كان سائداً في المنطق الجاهلي والقبلي سابقاً، بينما المنطق الذي يتبنّاه أهل بيت العصمة عليه السلام يعبّر عنه أمير المؤمنين بقوله: "إنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، إعرف الحقّ تعرف أهله"2.


1- نهج السعادة، الشيخ المحمودي، ج7، ص 193.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 658.
 
 
 
 
109
 

95

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾1.
 
الهدف:
توضيح أهمّ الأمور التي ينبغي أن يتسلّح بها أهل الإيمان والتي تقيهم السقوط في حبائل الفتنة.
 

1- الأنفال 33.
 
 
111
 

96

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

المقدّمة
في الحديث عن الأمور المنجية عند الفتن نتحدّث عن أهمّ الفضائل التي ينبغي أن تلازم إيمان المرء ويحرص على تقويتها في نفسه إذ لطالما يحدّثنا التاريخ والحاضر عن شخصيّات معروفة كان لها موقعها الريادي في حركة الرسالة، إلّا أنّ الوهن وضعف الإيمان تسلّل إلى بعض جوانب أنفسهم فجعلهم قادة الفتن وأربابها فانتقلوا من مواقع الكرام في الأمّة إلى ألد أعدائها، وما ذلك إلّا لغفلتهم عن ضرورة أن تبقى أعينهم على أنفسهم يراقبونها ويحاسبونها، ويبقى دأبهم تزكية نفوسهم وتهذيبها وتشذيبها من كلّ ما يعكّر صفوها ويُظلم نورها.

محاور الموضوع
سبل النجاة في الفتنة
من خلال التتبع لكلمات أمير المؤمنين عليه السلام وأهل بيت العصمة عليهم السلام يمكن الوقوف على أهم الأمور التي تعصم المرء من أن تزلّ قدمه عند الفتن، وهي:
 
 
 
112
 
 

97

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

1- البصيرة: عن عليّ عليه السلام: "وَلَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَالصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ"1
 
وقال عليه السلام متحدّثاً عن سلاحه الذي يمنعه من الهلاك في أمواج الفتنة: "وَإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي وَلَا لُبِّسَ عَلَيَّ"2.

ومن كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولّاه إمارتها: "وَإِنِّي مِنْ ضَلَالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَيَقِينٍ مِنْ رَبِّي"3، ويتّضح من كلامه عليه السلام أنّ البصيرة لها ركنان أساسيّان، وهما أن يكون على يقين من إثبات الحقّ له، وأن يكون على يقين من إثبات الضلالة لأعدائه.

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إذا لم تتوفّر البصيرة لديكم، فلا تعرفون الصديق، ولا تعرفون العدوّ فسترون أنّ العدوّ فجأة سيصوّب مدفع إعلامكم وكلامكم وتصرّفاتكم وأعمالكم نحو 
 
 

1- نهج البلاغة، ج2، ص 87.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 42.
3- المصدر نفسه ، ج3، ص 120.
 
 
 
113
 

98

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

 مكان يجتمع فيه أصدقاء لكم، لا أعداء. فإذا أردنا أن نعرف العدوّ ولا نُخطئ في تشخيص العدوّ فلا بُدّ من البصيرة، ولا بُدّ من البيان".
 
بعض الأخطاء الّتي يقوم بها بعض الناس - تلاحظون أنّ البعض في مجتمعنا سواء من العوامّ أم الخواصّ يخطئون، والمتوقّع أن تكون أخطار النخبة أقلّ بينما نرى أنّ أخطاءهم، وإن كانت قليلة، إلّا أنّها من ناحية الكيفيّة كثيرة وكبيرة بل أكبر من أخطاء عامّة الناس - ولا نقول كلّ تلك الأخطاء - ولكن جلّها - ناتجة من قلّة البصيرة أو عدمها، فاعملوا على رفع مستوى البصيرة لديكم، ومستوى المعرفة كذلك.

قد يكون السكوت أحياناً وعدم التدخّل في الأمور عاملاً مساعداً على الفتنة، ففي الفتنة يجب على الجميع أن يكونوا يقظين، وعلى الجميع أن تكون لديهم البصيرة.

وتفسيرها في ضوء كلامه عليه السلام: "وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لقد كانوا يُصلّون ويصومون، وهذا
 
 
 
114

99

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

معنى الفتنة، بل هذا مصداق بارزٌ من مصاديقها"1.
 
وهو الّذي يقول حول مواجهته لأصحاب الجمل والناكثين: "أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَرَجِلَهُ"2.

2- الصبر: فقد يتمثّل في الصبر على الحرب والآلام والسجن والتعذيب والنفي، وقد يتمثّل في تحمُّل الشتائم والسباب والاتهامات والاحتقار والافتراء. وجميع ذلك يكون لأجل إخراج الصالحين من ساحة المواجهة مع الكفر والنفاق والفساد.

3- العلم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، إلّا من أحياه الله تعالى بالعلم"3.

وهنا نستمع لقول عمّار بن ياسر لأحدهم يسأله عن قوّة الخصم يوم صفين وأنّ ذلك لعلّه دليل تأييد الله لهم، فقال له: "أما إنّهم سيضربونكم بأسيافهم حتّى يرتاب المبطلون منكم، فيقولوا: لو لم يكونوا على حقّ ما أظهروا علينا، والله


1- نهج البلاغة، ج2، ص 87.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 601.
3- المصدر نفسه ، ج2، ص 1452.
 
 
115
 

100

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

ما هم من الحقّ على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم، حتّى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على حقّ، وأنّهم على باطل"1.

4- التقوى: عن عليّ عليه السلام: "وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ وَنُوراً مِنَ الظُّلَم"2.

والتقوى عنوان عريض يتّسع لكافّة ميادين حياة الإنسان، وهي الرادع له عن اقتحام أبواب المصالح والمنافع متخطّياً حدود الله وآياته وأحكامه، فلقد كان عليّ عليه السلام عالماً بأساليب معاوية وسياساته وألاعيبه لكنّ تقواه وورعه يحولان دون إقدامه على الخطأ، وهو القائل: "وَالله مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ وَلَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ"3.

5- ملازمة وليّ الأمر: جاء في حديث أبي أيّوب الأنصاريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمّار: "سيكون بعدي هنات حتّى
 
 
116
 
 
 




1- شرح نهج البلاغة، ج5، ص 258.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 112.
3- نهج البلاغة، ج2، ص 180.

101

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

يختلف السيف فيما بينهم، وحتّى يقتل بعضهم بعضاً وحتّى يتبرّأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني، عليّ بن أبي طالب عليه السلام فإن سلك الناس كلّهم وادياً وسلك عليّ وادياً فاسلك وادي عليّ"1.
 
وعن عليّ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ"، يُشبِّه عليه السلام الفِتن بأمواج عاتية حيث لا يمكن للمرء أن ينجو منها بنفسه وقدراته بل يحتاج لركوب هذه السفينة الناجية والمنجية والتي هي عبارة عن أهل البيت صلوات الله عليهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق"2.
 
واليوم تتمثل سفينة النجاة بوجود بقيّة الله الأعظم أرواحنا فداه، والتي يقودها في زمن الغيبة نائبه العامّ جانب الوليّ الفقيه.
 

1- المناقب، ج3، ص 203.
2- الاحتجاج، ج1، ص 407.
 
 
 
117
 
 
 

102

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

ويؤكد عليّ عليه السلام على هذه الوسيلة المنجية من الفتن بقوله عند الفتنة التي ألمّت بالأمّة عند مقتل الخليفة الثالث بقوله: "إنَّ النَّاس من هذا الأمرِ إذا حُرِّك على أُمُورٍ: فِرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترونَ، وفِرقة لا ترى هذا ولا ذاك. فاصبِرُوا حتَّى يهدأ النَّاسُ، وتقع القُلُوبُ مواقِعها (أي تهدأ وتستقر بعد اضطرابها) وتُؤخذَ الحُقُوقُ مسمحَةً (أي ميسّرة)"1.
 
"فاهدأُوا عنّي، وانظُرُوا ماذا يأتيكُم بِهِ أمري، ولا تفعلُوا فعلَةً تُضعضِعُ قُوةً، وتُسقِطُ منّةً(أي قدرة)، وتُورِثُ وهناً وذِلّةً. وسأُمسِكُ الأمر ما استمسك، وإذا لم أجِد بُدَّا فآخِرُ الدَّواءِ الكيُّ"2.
 
وهنا نرى الإمام يطلب التزام الهدوء والتّروّي، وأن يتركوا له اتّخاذ القرار المناسب - سواء إمساك الأمر بالمعالجة الإيجابيّة أو المعالجة السلبيّة - سيّما أنّ هذه التجربة كانت جديدة على الأمّة وأنّ أيّ موقف خاطىء قد يزيد الأمور تعقيداً والمفاهيم تشوّشاً.
 

1- نهج البلاغة، ج2، ص 81.
2- المصدر نفسه ، ج2، ص 81.
 
 
118
 

103

المحاضرة الثالثة: سبل النجاة من الفتنة

6- الإخلاص: فإخلاص المرء لقضيّته ورسالته وثباته على النهج القويم يوفّق المرء إلى عدم الإنجرار في غياهب الفتنة التي إنّما يغرق فيها طالبو الدنيا وزخارفها دون طالبي الآخرة ودرجاتها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء"1
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص 198.
 
 
119
 

 


104

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

تصدير الموضوع:
قال عليه السلام: "وسأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكيّ"1.

الهدف:
الحرص على الدخول في مواجهة الفتنة وفق الضوابط الشرعية دون ردات أو غوغائية.


1- نهج البلاغة، ج2، ص 81.
 
 
121
 

 


105

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

المقدّمة
تختلف ظروف الفتنة عن غيرها من الظروف التي تمرّ على الأمّة، فهي تحتاج إلى الحد الأعلى من التنبّه واليقظة وعدم الغفلة عن صغائر مجريات الأمور فضلاً عن كبائرها، سيّما وأنّ أحداثها لا تجري في جبهةٍ خارجيّة ومواجهةٍ على الحدود، وإنّما في مواجهة الوعي وتحدّي البصيرة ومعركة الرأي العامّ قبل أن تكون أيّ شيء آخر ولذلك كان لها سياساتها الخاصّة وكان لا بدّ فيها من أعلى درجات الانتباه واليقظة ولذلك قال عليه السلام: "وَالله لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا وَلَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ وَبِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي"1.
 
محاور الموضوع
سياسات المواجهة
في مواجهة الفتن الداخليّة سنّ أمير المؤمنين عليه السلام قاعدةً 
 

1- المصدر نفسه ، ج1، ص 42.
 
 
122
 

106

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

 شرعيّةً في إدارة هذا الموضوع، وهي تتمثّل بعدّة سياسات تأتي تباعاً بعد بعضها البعض، ولا يجوز الانتقال إلى المرحلة التالية إلّا بعد اليأس من إمكانيّة العلاج في المرحلة الأولى، وقد عبّر عنها على الشكل التالي:

أوّلاً: سياسة الإحتواء: قال عليه السلام: "وسأمسك الأمر ما استمسك"1.
ومن الواضح أنّ عليّاً عليه السلام كان يحرص على احتواء الجميع وعدم الانجرار إلى ما يمزّق الأمّة ويضعفها وأنّه سيبقى ممسكاً بعدم المواجهة ما دام ذلك ممكناً أي ما دام ذلك لا يشكّل خطراً على الرسالة، وأمّا وإن خرج الأمر عن هذا الحدّ فإنّ العلاج الاضطراريّ سيكون في كيّ الخطأ.
 
وهذه السياسة هي التي كان عليه السلام يأمر أتباعه بها بعيداً عن الاحتقان وإثارة الضغائن والنعرات كما نشاهد اليوم من صرف المليارات وتجنيد الملايين وتسخير الآلاف من المؤسّسات من أجل نشر الكراهية والضغينة بين المسلمين فيما كان 
 

1- نهج البلاغة، ج2، ص 81.
 
 
123
 

107

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

أمير المؤمنين عليه السلام يوصي بالوحدة والتماسك وعدم الردّ بالمثل وامتصاص الفتنة وعدم التصرّف بردات الفعل، فقال عليه السلام: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللهمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"1.
 
ويمكن قراءة هذه السياسة مع الفئات الثلاث التي واجهها أمير المؤمنين عليه السلام:
مع ناكثي البيعة: قال عليه السلام لطلحة والزبير: "فَارْجِعَا أَيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا فَإِنَّ الْآنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا الْعَارُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَجَمَّعَ الْعَارُ وَ النَّارُ"2.

وبيّن عليه السلام موقفه منهما بقوله: "وَلَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَاسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَرَدَّا الْعَافِيَة"3.
 
 

1- المصدر نفسه ، ج2، ص 185.
2- م.ن، ج3، ص 112.
3- م.ن، ج2، ص 21.
 
 
124

108

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

مع معاوية: فقد كتب إليه: "فَاتَّقِ الله فِي نَفْسِكَ وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَاصْرِفْ إِلَى الْآخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ الله مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الْأَصْلَ وَتَقْطَعُ الدَّابِرَ"1.
 
مع الخوارج: فقد حذّرهم عليه السلام وأنذرهم وحاول استيعابهم قبل القتال، بل لطالما حاججهم وأرسل لهم من يحاججهم علّهم يرتدعون عن ضلالتهم، فقال عليه السلام لهم: "فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ وَبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ".2
 
ثانياً: سياسة الكيّ: قال عليه السلام: "فإذا لم أجد بُدّاً فآخر الدواء الكيّ"، وفي تعبيره عليه السلام بالكيّ إشارة لافتة إلى أنّ المعالجة ستكون بمقدار الجرح تماماً كما يكون الكيّ بمقدار الجرح.
 
ففي هذه المرحلة يحاول أمير المؤمنين عليه السلام التأديب بالسوط بعد فشل التأديب بالكلمة، كما يُقام الحدّ على
 

1- عيون الحكم والمواعظ، ص 81.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 87.
 
 
125
 

 


109

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

المتجاوزين بالقصاص لما فيه من بثّ روح الحياة فيهم وفي المجتمع من جديد، وهو بذلك لا يريد خسارتهم أو طردهم من سلطته وولايته، بل يريد لهم أن يكونوا أفراداً صالحين لهم ما لأفراد الأمّة وعليهم ما عليهم، لأنّ الظاهر من كلامه عليه السلام أنّ سياسة الكيّ إنّما تأتي كآخر الإجراءات فيما يرتبط بسياسة الكيّ، وليست تدبيراً يأتي وفق سياسة القتال والمواجهة.
 
وعلى كلّ حال فمن الواضح أنّ المواجهة صعبة والتحدّي على مستوى الالتزام صعب والمغريات كبيرة جدّاً إلى الحدّ الذي يتقلّب الكثيرون بين ليلةٍ وضحاها، وهذا ما عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "ليغشينّ أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل"1.
 
وقد ورد عنه عليه السلام إشارة إلى سياسة الاحتواء والكيّ بمقدار الضرورة حيث يقول: "‏أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ
 

1- المصدر نفسه، ج1، ص 196.
 
 
126
 

110

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا وَحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا"1.
 
ثالثاً: سياسة المواجهة والقتال: وهذه المرحلة الأخيرة تأتي بعد اليأس من المرحلتين السابقتين وإصرار أرباب الفتنة على تهديد الرسالة والدين، أي في هذه المرحلة لا يكون الخطر متوجّهاً إلى شخص أو إلى منافع أو تجاوز في السياسات المالية والإدارية أو غيرها من الأمور التي تشكّل خطراً على بعض التشريعات والقواعد التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما يكون الخطر موجّهاً نحو هدّ البنيان من أساسه وإزاحة الدين عن ممارسة السلطة السياسيّة كلّها، وهذا ما عبّر عنه بقوله عليه السلام: "قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِي إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم"2.
 
وفي مكانٍ آخر يقول عليه السلام: "وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ
 
 

1- شرح نهج البلاغة، ج10، ص 99.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 94.
 
 
 
 
127


 

111

المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ1.
 
وهذه المواجهة هي التي عبّر عنها بقوله عليه السلام: "فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي"2، ومن الواضح صعوبة تلك المرحلة وحساسيتها حيث مال الكثيرون من الناس إلى أرباب الفتنة وخاف البعض من المواجهة وبقي البعض أحلاس بيوتهم فيما لم يجرؤ على المواجهة وفضح المشروع الجديد للأمّة إلّا أمير المؤمنين عليه السلام.
 

1- المصدر نفسه ، ج1، ص 103.
2- شرح نهج البلاغة، ج7، ص 44. 
 
 
 
128
 

112

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

تصدير الموضوع:
عن علي عليه السلام: "ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة......فتزيغ قلوب بعد استقامة وتضلّ رجال بعد سلامة"1.

الهدف:
عرض بعض النتائج والآثار التي تنجم عن انتصار الفتنة للتحذير من الوقوع فيها.


1- نهج البلاغة، ج2، ص 38.
 
 
 
 
129
 

113

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

المقدّمة
إنّ النتائج المترتّبة على أيّ فتنة والتي تنتصر وتستولي على السلطة بقوة السلاح والقهر، ليست سوى الأهداف التي يحملها أرباب هذه الفتنة والدعاة لها، والتي هي انعكاس لأخلاقهم وأطماعهم وعقولهم المريضة وطريقة تفكيرهم في الحياة، فإذا قرأنا أنّ من نتائج الفتنة الخروج عن مبادئ الدين والتنكّر لكلّ ما جاءت به الرسالة السماويّة فذلك ليس سوى انعكاس لنفوسهم التي لم يدخل إليها نور الهداية مطلقاً، وكذا الأمر في سلوكهم وقواعد سياستهم وأخلاقهم، فالفتنة دينٌ جديد يُلبسونها ثوباً برّاقاً يحسبه الناظر إليه أنّه دين الإسلام.

محاور الموضوع
نتائج الفتنة وآثارها
يبيّن أمير المومنين عليه السلام الآثار القاتلة والمدمّرة للفتنة التي تستطيع أن تحقّق إنتصاراً سياسيّاً وتصل إلى سدّة الحكم معتبراً أنّها أسوأ ما يمكن أن يعترض مسيرة الأمّة في 
 
 
130
 

114

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

مسار تحقيق أهدافها الإلهيّة التي جاء بها الدين الحنيف، والتي يمكن تلخيصها بعدّة أمور أهمّها:
 1- حاكمية الإجرام والإذلال
 يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَسَيْفاً قَاطِعاً وَأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً"1.
 
فالفتنة لا تستطيع أن تنتهج سياسات منطقيّة ودينيّة، ولو كانت كذلك لما وصل أربابها إلى السلطة أساساً، وإنّما ينتهجون سياسة القتل والإجرام ويُعملون في الناس أسيافهم القاطعة، ومع ذلك كلّه فإنّ السلطة تصبح عهداً يتوارثه الظلمة، وهذه خلاصة طبيعيّة لأنّ ابتعادهم عن السلطة وتخلّيهم عنها يعني الاقتصاص منهم لما أفسدوا وقتلوا ودمّروا.
  
 2- توارث هذه السلطة والحكم
 يقول عليّ عليه السلام: "يتوارثُها الظَّلمَةُ بِالعُهُودِ، أوَّلُهُم قائد لآخِرِهِم، وآخِرُهُم مُقتدٍ بِأوَّلهِم. يتنافَسُون في دُنيا دنِيَّةٍ، ويتكالبُون على جِيفةٍ مُريحَة (نتنة)"2.
 

 1- نهج البلاغة، ج1، ص 106.
 2- المصدر نفسه، الخطبة رقم: 151
 
 
131
  

115

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

وهنا إشارة إلى نهجٍ له سياساته وثقافته ورموزه التي تأخذ مكانها في المجتمع بديلاً من سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهناك القادة الذين يرسمون معالم الطريق، وهناك الأتباع الذين يتبعون أثرهم ويقتدون بهم.

3- تعطيل أحكام الإسلام والانحراف عن مبادئه
يقول عليّ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ بِمَا فِيهِ"1.
 
فالمعركة مع الإسلام والرسالة، والهدف إسقاط المشروع الإلهيّ حتّى ولو صوّروا المواجهة بصورٍ غير ذلك، كتصويرها بأنّها حرب أشخاص أو قبائل أو طبقات أو جغرافيا، بل قد تصل ألاعيبهم لتصويرها على أنّها حرب لتصحيح مسار الرسالة ومواجهة الانحراف وإحياء الأحكام الدينيّة، لكنّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام يوضّح هدفهم الأكبر بإلقاء الإناء بما فيه، أي التنكّر والارتداد عن أصل الرسالة وعن كلّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
 
 
132



1- م.ن، ج1، ص 158.
 

116

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

4- تبدّل القيم وشيوع الفساد
يقول عليّ عليه السلام: "فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ... وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ"1.

ومن نتائج الفتنة المدمّرة للمجتمع استحكام الباطل وانتشار الجهل، ولا يخفى أنّ تبدّل القيم في المجتمع يودي بإنسانيّة الإنسان، وإذا فقد الإنسان إنسانيّته يصبح المجتمع مجتمعاً فاسداً قاسياً تحكمه شريعة الغاب وتتلاعب به أهواء الظلمة وتتحكّم بسلطته أطماع الفاسدين.
 
ولا غرو في ذلك فإنّ الفتنة إذا استحكمت في مجتمع انتقلت أخلاق أربابها إلى سائر الناس كانتقال الفضائل والقيم السامية في المجتمع الذي يحكمه الأنبياء والأولياء.
 
5- محاربة أهل الإيمان ومطاردتهم
يقول عليّ عليه السلام: "فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ"2.
 
وما أبلغه من قول يصوّر فيه أمير المؤمنين أهل الإيمان في
 
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص 209.
2- المصدر نفسه ، ج2، ص 31.
 
 
133


 

117

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

ذلك المجتمع الذي تحكمه الفتنة، حيث لا مكان لهم بل هم الأعداء الحقيقيّون للأمّة الذين يجب طردهم وملاحقتهم ونفيهم خارج الدولة التي يسيطرون عليها.
 
أهل الإيمان الذين ضحّوا وعانوا وبذلوا الغالي والنفيس من أجل إقامة حكم الله واستقرار المجتمع العادل وانتشار الإسلام وتقوية سلطانه ودولته، يصبحون ألدّ أعداء الأمّة الذين يجب محاكمتهم والاقتصاص منهم ومن أتباعهم.

6- التلاعب بالمال العامّ
يقول عليّ عليه السلام: "وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ الله دُوَلًا، وَعِبَادَهُ خَوَلًا... وَيَكُونَ نَصِيبُكُمُ الْأَخَسَّ"1.

فالمال العامّ في عصر انتصار الفتنة يغدو مالاً خاصّاً بسفهاء الأمّة وفجّارها، وبالتالي فإنّ الناس تصبح عبيداً لأئمّة المال، فلا مبادىء ولا قوانين ولا مشروع يحمله أرباب الفتنة إلى الناس سوى استخدامهم وقوداً في حروبٍ ومعارك لا
 
 

1- نهج البلاغة، ج3، ص 120.
 
 
 
 
134

118

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

تستهدف سوى المزيد من التسلّط وبسط النفوذ، ولا يكون لعامّة الناس نصيبٌ من ثروات الدولة ومقدّراتها إلّا الأخسّ الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.

7- ظهور التفاوت الطبقيّ
وتستحكم الطبقيّة ويظهر التفاوت الاجتماعيّ جليّاً في عصر الفتنة وحكمها، ويغلب على كلّ طبقة سمة خاصّة يصفها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً وَسَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالًا وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً"1. وكأنّ الرحمة تُنزع من قلوب أهل الفتنة وأهل ذلك الزمان فلا مكان للفقير ولا من ثقافة تحثّ الغنيّ على الإنفاق بل الثقافة السائدة هي التكالب على الدنيا والفوز بالقدر الأكبر منها بدون تمييز بين حلال وحرام.

7- الفتنة تودي بأصحابها في نهاية المطاف
يقول عليّ عليه السلام: "وعن قلِيلٍ يتبرَّأُ التَّابعُ مِن المتبُوع، والقائدُ من المقُودِ، فيتزايلُونَ (يتفارقون) بِالبَغضاءِ ويتلاعنُونَ
 
 
 
 
 
135




1- المصدر نفسه ، ج1، ص 209.
 

119

المحاضرة الخامسة: نتائج الفتنة

عِندَ اللِّقاءِ"1. فالفتنة التي أضرموا نارها سيحترقون بها، والتي شحذوا سيوفهم لاستحكامها ستقطع رقابهم عمّا قريب، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من شبّ نار الفتنة كان وقوداً لها"2.
 
 
ومن الطبيعيّ أنّه مع فقدان القيم والمبادئ لا يبقى حصانة لأحد، وتستحكم الأهواء والأحقاد الشخصيّة وأحلام الثراء والسلطة، وينفخ الشيطان في عقولهم ونفوسهم، فتقع النزاعات وتنشب الحروب بين من كانوا حلفاء في الماضي القريب فيتبّرأ بعضهم من بعض ويكفر كلٌّ منهم بما عند الآخر.

يقول عليّ عليه السلام: "وَسَيَنْتَقِمُ الله مِمَّنْ ظَلَمَ مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَمَشْرَباً بِمَشْرَبٍ"3
 
 

1- م.ن، الخطبة رقم: 151.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2367.
3- نهج البلاغة، ج2، ص 55.
 
 
 
 
136
 
 
 

120

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ﴾1.
 
الهدف:
بيان نظر الشرع إلى الإنفاق وتقوية حسّ التعامل مع المال وفق المعايير التي أقرتّها الشريعة الإسلاميّة.
 

1- البقرة 272.
 
 
 
 
139

 
 

121

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

المقدّمة
حثّت الشريعة الإسلامية الإنسان على أن يمهّد لنفسه بالإنفاق في سبيل الله معتبرةً أنّ ذلك من أفضل الذخائر التي يقدّمها بين يدي الله لآخرته، بل لعلّ المال الوحيد الذي ينتفع المرء به هو المال الذي أرسله أمامه وأنفقه ابتغاء المغفرة والرضوان من الله، وأن الإنسان أحوج إلى المال الذي يقدّمه منه إلى المال الذي يجمعه، بل هو أحوج إلى المال الذي يقدّمه منه إلى السائل الذي يطلبه، فالسائل بابك إلى رضوان الله ومغفرته وبه يمتحن الله عباده بصدق إيمانهم وسلامة يقينهم وقوّة دينهم.
 
محاور الموضوع
أمثال الإنفاق في القرآن
قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء﴾1.
 

1- البقرة 261.
 
 
 
140
 

122

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

وقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1.
 
الحاجة إلى أجر الإنفاق
قال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾2.
 
لا شكّ أنّ المال بذاته بغضّ النظر عن كيفيّة إنفاقه وسبل استخدامه لا يمكن وصفه بالنعمة أو النقمة، وإنما ذلك فرع استعمال الإنسان له والجهة التي يبذله فيها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ إنفاق هذا المال في طاعة الله أعظم نعمة، وإنّ إنفاقه في معاصيه أعظم محنة"3.
 
بل ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أكثر من ذلك، فقال: "ملعون ملعون من وهب الله له مالاً فلم يتصدّق منه بشيء"4.
 
والمال الذي تنفقه لا لحاجةٍ عند السائل تقضيها له
 

1- البقرة 265.
2- الحديد 7.
3- عيون الحكم والمواعظ، ص 143.
4- ميزان الحكمة، ج4، ص 3350.
 
 
141
 

123

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

بل لحاجةٍ في نفس المعطي يبتغي التزكية والقرب، فعن عليّ عليه السلام: "إنّكم إلى إنفاق ما اكتسبتم أحوج منكم إلى اكتساب ما تجمعون"1.
 
وعنه عليه السلام: "إنّكم إلى إجراء ما أعطيتم أشدّ حاجة من السائل إلى ما أخذ منكم"2.
 
يقول العرفاء في شرح هذا الحديث الشريف أنّ الصورة الظاهريّة للإنفاق والصدقة أنّ المتصدّق يعطي الفقير مالاً إلّا أنّ الصورة البرزخيّة للعطاء أنّ الفقير هو الذي يعطي المتصدّق، لأنّه يعطيه الأجر والثواب، ولذلك كان الإمام الباقر عليه السلام يمنع السائل أن يمد إليه يده، بل كان الإمام هو الذي يضع المال في يده ويقدّمه للفقير كالسائل فيلتقطه من يده.
 
عنه عليه السلام - في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: "إنّما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك، فأنفق في حقّ ولا تكن خازناً لغيرك3. (أي للأولاد والورثة)".
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3350.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 3350.
3- تحف العقول، ص 83.
 
 
 
 
142



 

124

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

ويشبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مال الإنفاق نسبةً للمال الذي إدخره ولم ينفقه كنسبة ماله إلى المال الذي ورثه فيقول لأصحابه: "أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله"؟ قالوا: يا رسول الله! ما منّا أحد إلّا ماله أحبّ إليه من مال وارثه. قال: "فإنّ ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر"1.
 
وعد الله بالخلف في الإنفاق
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾2.

فالله يؤكّد للإنسان أن ينفق ممّا بسطه الله له، فهو الرازق، بل هو خير الرازقين، وما على الإنسان إلّا أن يتيقّن هذه المعادلة ويبقى حاضر الذهن أنّ ما بيده من مال فالله هو الذي أجراه بين يديه ليرى صدق يقينه بما أمره به، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أنفق وأيقن بالخلف"3.
 
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3353.
2- سبأ 39.
3- الكافي، ج4، ص 43.
 
 
143
 

 


125

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

وإذا كان الله من وعد بالخلف فمن أوفى من الله بوعده؟ فعن الإمام عليّ عليه السلام: "من أيقن بالخلف جاد بالعطية"1.

وإذا كان الله يخلفه فالإنفاق لا ينقص مالاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما نقص مال من صدقة قطّ، فأعطوا ولا تجبنوا"2.
 
وعن عليّ عليه السلام - لرجل ادعى في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم...﴾ أنه ينفق ولا يرى خلفاً: "أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فممّ؟ قال: لا أدري، قال: لو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه وأنفقه في حقّه لم ينفق درهماً إلّا أخلف الله عليه"3.
 
بقاء ما أنفق وفناء ما لم ينفق
قال تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾4.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير هذه الآية: "كلّ ما أبصرته بعينك واستخلاه قلبك فاجعله لله فذلك تجارة الآخرة"، لأنّ
 

1- نهج البلاغة، ج4، ص 34.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 3354.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 3354.
4- النحل 96.
 
144
 

126

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

الله يقول: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾1.
 
فإذا كان ما عند الله باقياً فحريٌّ بالإنسان أن يقدّم إلى آخرته أفضل ما يرجو أن يرد عليه، بل ما نفع مالٍ لا يرى منه الإنسان شيئاً في آخرته، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "لم يرزق المال من لم ينفقه"2. وعنه عليه السلام: "جودوا بما يفنى تعتاضوا عنه بما يبقى"3.

من لم ينفق في طاعة الله ينفق في معصيته
وكأنّ الإنفاق سنّة لا يمكن الحياد عنها، وعلى المرء أن يختار بين أن ينفق في طاعة الله فينعم بثواب ما أنفق أو ينفق في معصية الله فيأثم على فعلته ويُعاقب عليها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من منع ماله من الأخيار اختياراً صرف الله ماله إلى الأشرار اضطراراً"4.

ومثله عن الإمام الصادق عليه السلام: "اعلم أنّه من لم ينفق في طاعة الله ابتلي بأن ينفق في معصية الله عزَّ وجلَّ، ومن لم


1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3354.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 3355.
3- م.ن، ج4، ص 3355.
4- م.ن، ج4، ص 3355.
 
 
145
 

127

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

يمش في حاجة وليّ الله ابتلي بأن يمشي في حاجة عدو الله عزَّ وجلَّ"1.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي الله إلّا ابتلي بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله"2.

وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "إيّاك أن تمنع في طاعة الله، فتنفق مثليه في معصية الله"3.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من عبد يمنع درهماً في حقّه إلّا أنفق اثنين في غير حقّه"4


1- م.ن، ج4، ص 3355.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 3355.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 3355.
4- م.ن، ج4، ص 3355. 
 
 
146
 

128

المحاضرة الأولى: الإنفاق في سبيل الله(1)

يمش في حاجة وليّ الله ابتلي بأن يمشي في حاجة عدو الله عزَّ وجلَّ"1.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي الله إلّا ابتلي بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله"2.

وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "إيّاك أن تمنع في طاعة الله، فتنفق مثليه في معصية الله"3.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من عبد يمنع درهماً في حقّه إلّا أنفق اثنين في غير حقّه"4


1- م.ن، ج4، ص 3355.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 3355.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 3355.
4- م.ن، ج4، ص 3355. 
 
 
146
 

129

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

 تصدير الموضوع:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار"1.

الهدف:
بيان بركات الإنفاق وآثاره والأمور التي ينبغي الاحتراز عنها عند الإنفاق.
 

 
1- الكافي، ج2، ص 241.
 
 
 
147
 

130

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

المقدّمة
لا شكّ أنّ الإنفاق في سبيل الله من أكبر التحدّيات التي يعيشها الإنسان في حياته لما لها من آثار دنيويّة ظاهرة على مستوى تودّد الناس للمنفق وتحبّبهم إليهم وإظهار الاحترام والتقدير وغيرها من الأمور التي يمكن للإنسان أن يستثمرها في كسب مصالح دنيوية ومناصب خاصّة، لظاهر أنّ المنفق إنسانٌ يشارك الناس في ماله، ولذا يعمد الشيطان إلى إبرازها له وتزيينها في عقله وقلبه حتّى يحجب عنه الدوافع الإلهيّة والمحفّزات الشرعيّة التي عليها تترتّب بركات الأجر والثواب ورفيع الدرجات في الآخرة وجمال الاسم والسمعة في الدنيا.
 
محاور الموضوع
فيما يبطل الإنفاق
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ 
 
 
 
148

 

131

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾1.
 
فالمنّة على السائل وأذيته لا ينسجمان مع مفهوم الإنفاق أساساً الذي اعتبر الله تعالى أنّ السائل هبة الله للإنسان وبابه إلى الثواب وسبيله لاكتساب الدرجات وشموله بالمغفرة الإلهيّة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾2.
 
قال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾3.
 
فضل إنفاق المقتر
والإنفاق ليس حكراً على أهل اليسر والأغنياء، بل فتح الله باب ثوابه للموسرين والمقترين على حدّ سواء، بل حثّ المقتر على الإنفاق واعداً إيّاه بعظيم الأجر، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ثلاث من أتى الله بواحدة منهنّ أوجب الله
 

1- البقرة 264.
2- البقرة 262.
3- البقرة 263.
 
 
149
 

 


132

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

له الجنّة: الإنفاق من إقتار، والبشر لجميع العالم، والإنصاف من نفسه"1.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة من حقائق الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصافك الناس من نفسك، وبذل العلم للمتعلّم"2
 
التحذير من كنز المال
فكنز المال بنظر الشرع معصيةٌ يعاقب الله عليها يوم القيامة لأنه تصرّفٌ في المال في غير الوجهة التي أرادها الله، بل في الوجهة المعاكسة لإرادة الله، ولذلك استحقّ كانز المال العقاب الأليم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أوكى على ذهب أو فضة، ولم ينفقه في سبيل الله، كان جمراً يوم القيامة يكوى به"4.
 

1- الكافي، ج2، ص 103.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 3356.
3- التوبة 34 ـ 35.
4- ميزان الحكمة، ج4، ص 3356.
 
 
 
 
150

 

133

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من كنز المال خشية الفقر ففي روايةٍ أنّه قال لبلال وعنده صبر من تمر: "ما هذا يا بلال؟ قال: أعدّ ذلك لأضيافك، قال: أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم؟! أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً"1.
 
وفي سيرته الذاتيّة كان ينهى عياله عن إبقاء الطعام من يومٍ لآخر، فعن أنس بن مالك: أهديت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث طوائر (طيور)، فأطعم خادمه طائراً، فلمّا كان من الغد أتته بها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألم أنهك أن ترفعي شيئاً لغد! فإن الله يأتي برزق غد"2.
 
من لا تقبل نفقته
والإنفاق فريضةٌ ينبغي أن تتلازم مع الإيمان بالله ورسوله وأداء الفرائض وسلامة النيّة عند المنفقين لأموالهم فقد قال تعالى: ﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ 
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 3356.
2- م.ن، ج4، ص 3356.
 
 
151
 

134

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾1.
 
ولا يكون مال الإنفاق إلّا من خير المال وأصفاه حلالاً فلا يقبل الله مالاً جُمع من حرام أو شبهات، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم الله به فأنفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم، ولو أخذوا ما نهاهم الله عنه فأنفقوه فيما أمرهم الله به ما قبله منهم، حتّى يأخذوه من حقّ وينفقوه في حقّ"2. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾3.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾: "كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهليّة، فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها، فأبى الله تبارك وتعالى إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا"4.
 
 

1- التوبة 53 ـ 54.
2- الكافي ، ج4، ص 22.
3- البقرة 267.
4- ميزان الحكمة، ج4، ص 3357.
 
 
 
152



 

135

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

ونفس المعنى نقرأه عن الإمام الباقر عليه السلام لمّا سئل عن قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾، قال: "كان الناس حين أسلموا عندهم مكاسب من الربا ومن أموال خبيثة، فكان الرجل يتعمّدها من بين ماله فتصدّق بها، فنهاهم الله عن ذلك، وإنّ الصدقة لا تصلح إلّا من كسب طيّب"1.
 
آثار الإنفاق
1- ذخيرة يوم القيامة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾2.

2- ظلٌّ يوم القيامة: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أرض القيامة نار ما خلا ظلّ المؤمن، فإنّ صدقته تظلّه"3.

3- مرتبة البِرّ: قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾4.
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3357.
2- البقرة 255.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 3350.
4- ال عمران 92.
 
 
153
 

136

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

وعن الإمام الصادق عليه السلام - وقد قيل له، وكان يتصدّق بالسكّر، أتتصدق بالسكّر؟ فقال: "نعم، إنّه ليس شيء أحبّ إليّ منه، فأنا أحبّ أن أتصدّق بأحبّ الأشياء إليّ"1.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام "أنه اشترى ثوباً فأعجبه فتصدق به"2.
 
4- الأجر الكبير: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾3.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أعطى درهماً في سبيل الله كتب الله له سبعمائة حسنة"4.

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "الصدقة تنمى عند الله"5.
 
5- البركة وقضاء الدين: فعن عليّ عليه السلام: "إنّ الصدقة تقضي الدين وتخلف بالبركة"6.
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3355.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 3355.
3- البقرة 274.
4- ميزان الحكمة، ج4، ص 3350.
5- المصدر نفسه، ج4، ص 3350.
6- الكافي، ج4، ص 9.
 
 
 
154

 

137

المحاضرة الثانية: الإنفاق في سبيل الله (2)

6- حسن الخلف على الولد: عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أحسن عبد الصدقة إلّا أحسن الله الخلافة على ولده من بعده"1. وعن عليّ عليه السلام: "إذا قدّمت مالك لآخرتك واستخلفت الله سبحانه على من خلّفته من بعدك، سعدت بما قدمّت، وأحسن الله لك الخلافة على من خلّفت"2
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3355.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 3354.
 
 
155
 

138

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

تصدير الموضوع
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قوام العيش حسن التقدير, وملاكه حُسْنُ التدبير"1.
 
الهدف:
إيضاح بعض المفاهيم التي تساعد على حسن التدبير وحسن التقدير في الحياة.
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2217.
 
 
 
157
 

139

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

المقدّمة
حسن التدبير في الحياة ليس مسألة مزاجيّة أو خاضعة لأفهام الناس وأذواقهم المختلفة، بل هي علم ودراية له قواعده وأحكامه التي تساعد المرء على اتخاذ القرارات الصائبة وتحديد الأولويّات بشكلٍ علميّ والعمل على تطبيقها بشكل دقيق، وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً بقوله: "يا ابن مسعود، إذا عملتَ عمَلاً فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ تعملَ عملاً بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ، فإنّه جلَّ جلالهُ يقولُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثَاً"1.
 
فالتدبير يحتاج إلى أمرين لا يُستغنى عنهما، وهما العلم والتعقّل، وبهما يدرك المرء حقيقة الأشياء ويضع الأمور في مواضعها، وهذا معنى قوله تعالى في حديثه عن الأمثال في القرآن: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾2 يعني هو ضرب للناس أمثالاً وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلّا العلماء.
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 2130.
2- العنكبوت 43.
 
 
 
158
 

140

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

محاور الموضوع
أهميّة التدبير
علامة التدين: روي أنّ رجلاً قال للإمام الصادق عليه السلام: بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب! فقال عليه السلام: "لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ"1.
 
وإذا كان التدبير من الدين فإنّ عدمه مؤشر على عدم سلامة التديّن والالتزام.
 
كلّ الكمال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "الكَمالُ كُلُّ الكَمالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبرُ عَلَى النّائبَةِ، وَتَقديرُ المعيشةِ".2

فكما أنّ الحياة بلا علم تتضاعف مشاكلها والنائبة ما لم يتحلّ صاحبها بالصبر يتضاعف ثقلها وهمّها فكذلك فإنّ عدم التقدير في المعيشة يُقعد الإنسان ملوماً يقلّب كفّيه أسفاً على ما فرّط وضيّع.
 

1- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 670.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2747.
 
 
159
 

 


141

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

صلاح المؤمن: وقد أكّد الإمام الصادق عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلّا على ثَلاثِ خِصالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ"1.

طرق حسن التدبير
1- التنظيم والضبط: ونعني بذلك أن يعتمد المرء التخطيط الواضح للدخل والمصروف بما يتناسب إنفاقه مع دخله، والواقع أنّ ذلك حياة أكثر شعوب الأرض الذين يعملون في وظائف محدّدة ويتقاضون رواتب ثابتة وعليهم أن يحسنوا تدبير أمورهم بما يتناسب مع مدخولهم.

ولقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ: "حسن التقدير مع الكفاف خير من السعي في الإسراف"2.
 
فحسن التقدير يجعل من القليل كثيراً كما أنّ سوء التقدير يجعل من الكثير هباءً ضائعاً.


1- المصدر نفسه، ج4، ص 2879.
2- عيون الحكم والمواعظ، ص228.
 
 
160
 

142

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

ومن التنظيم أن يحسن المرء تنظيم وقته في الكسب والعمل والبيت والأسرة وعلاقته بالله تعالى فلا يغرق في جانب دون آخر، كما أنّ التخطيط وحسن الإدارة يوجبان عليه النظر في عواقب الأمور والتمتّع برؤية مستقبليّة غير ضيّقة فإنّ ذلك من علامات أهل الإيمان كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "المؤمِنُونَ هُم الَّذينَ عَرَفُوا ما أمامَهُمْ"1.

2- مراقبة الأمور المستهلكَة: وهذا الأمر يحتاج إلى ثقافة وتعليم لأنّ اليوم تجتاح الأسواق آلاف السلع غير الضروريّة بل وغير المفيدة، وفي بعض الأحيان قد تكون مضرّة وتقدّم للمستهلك بطرق دعائيّة على أنّها سلع مفيدة، وهذا الأمر يحتاج إلى مراقبة السلع أوّلاً ونوعيّة هذه السلع والكميّات التي تستهلك من هذه السلع، فعلى سبيل المثال قد تجد اليوم في مجتمعاتنا من يشتري هواتف لكافّة أفراد العائلة وكلّها مرتبطة بشبكة الأنترنت وتُدفع المبالغ الطائلة على ذلك، والكلّ يعتبر أنّ هذا مهمّ وضروريّ ولا يمكن العيش
 

1- بحار الأنوار، ج75، ص25.
 
 
 
161
 

143

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

دون مواكبة هذا التطوّر، فيقع في عسر وحرج اقتصاديّين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما عال امرؤ في اقتصاد"1.
 
3- أولويّات الإنفاق: لا يمكن للمرء لا سيّما أصحاب الدخل المحدود أن يحصلوا على كافّة مشتهياتهم دفعةً واحدة، بل لا بدّ من وضع جدول يرتّب أولويّات الأسرة وحاجاتهم وفق الأهمّ فالأهمّ، مع الأسف نجد اليوم من يراكم كافّة الحاجات فوق رأسه ويقسّطها على راتبه بما يستهلك أكثر من نصفه ثم يقعد حيرانَ يحاول أن يتلمّس المساعدة والعون من هنا وهناك.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسن التدبير ينمّي قليل المال وسوء التدبير يفني كثيره"2.
 
ومن الأخلاق المهلكة في هذا الجانب أن ينظر المرء في الأمور الماليّة إلى من فوقه ويحاول أن يقلّدهم ويتشبّه بهم فيما علّمنا أئمّة أهل البيت أن ينظر المرء في الأمور الماليّة إلى من هم تحته، وفي الأمور العلميّة والمعنوية إلى من هم فوقه.
 
4- الاعتدال: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2557.
2- ميزان الحكمة، ج2، ص 1385.
 
 
162
 

144

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾1.
 
فالاعتدال سياسة الإنفاق، وبكلمةٍ أصحّ فإنّ الإنفاق ليس مرتبطاً بوجود المال وعدمه، بل يرتبط بالسلوك الأخلاقيّ والمستقيم للإنسان، فإنّ الشرع حرّم على المرء الإسراف والتبذير حتّى ولو كان موسراً، لأنّ ذلك يتحوّل عنده إلى خُلُق فيفقده السيطرة في غير موارد الإنفاق.
 
وفي الصحيفة السجادية: "اللهمَّ صلِّ على محمّد وآله واحجبني عن السرف والازدياد وقوّمني بالبذل والاقتصاد، وعلّمني حسن التقدير، واقبضني بلطفك عن التبذير"2.
 
5- الشفافيّة داخل الأسرة: والمراد هنا أن تكون موارد الصرف واضحة للجميع وسياسات الصرف مسوَّغة عندهم كذلك فلا يجد أحد أفراد العائلة أنّ الأهل يغدقون على أنفسهم فيما يبخلون عليه أو تُدفع المبالغ لأحدهم دون الآخر، وينفق أحياناً وفق سياسات وأحياناً تخرق القواعد، كما من المفيد في هذا الجانب اعتماد سياسة المشورة 
 
 

1- الفرقان 67.
2- الصحيفة السجادية، ص 151.
 
 
 
163


 

145

المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

حتّى يشعر الجميع بمشاركتهم في القرار وإنجاحه، كما من المفيد داخل الثقافة الأسريّة أن تبقى القيم الأسريّة والعامّة هي الحاكمة على الأداء فلا تتحوّل القيم إلى جمعٍ للمال كيفما كان حتّى ولو على حساب القيم الرساليّة، ففي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يجتمع المال إلّا بخصال خمس: ببخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة الرحم، وإيثار الدنيا على الآخرة"1.

آثار سوء التّدبير
ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ حسن التدبير وسوء التدبير لا يقتصر نفع الأوّل وضرر الثاني على حياة الإنسان بشكل فرديّ بل يتعدّى ذلك إلى المجتمع والدولة والأمّة.

ومن أهمّ الآثار السيّئة التي يتركها سوء التدبير في حياة الإنسان: الندم على أفعاله وما ضيّعه وابتلائه بالفقر والعوز وضعف الإيمان والارتباط بالله تعالى والشعور بالنقص والتبعية للآخرين واستجداء المال بالطرق الملتوية، إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى. 


1- الخصال، الشيخ الصدوق، ص282. 
 
 
164

 


146

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

تصدير الموضوع:
وقال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾1.
 
الهدف:
بيان بعض المفاهيم المتعلّقة بتكريم اليتيم وكفالته وخطورة التعرّض لماله.
 
 

1- البقرة، 177.
 
 
 
 
167
 

147

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

حثّت الشريعة على ضرورة رعاية الأيتام والتحنّن عليهم كمؤشّر على سلامة المجتمع وتكاتفه وتعاضده، فالمجتمع الذي لا يكرّم أيتامه مجتمع مفكّك، وهذا أمير المؤمنين يوصي بالأيتام حتّى لحظة وفاته، فعنه عليه السلام - في وصيته قبل الموت -: الله الله في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله عزَّ وجلَّ له بذلك الجنّة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار"1.
 
محاور الموضوع
الأنبياء والأولياء متكفِّلو الأيتام
قال تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾. ولا يخفى أنّ كفالة نبيّ الله زكريا عليه السلام لمريم لم تكن كفالة ماديّة بل معنويّة وسياسيّة.
 
قال تعالى في مدحه للبيت العلويّ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى 
 

1- الكافي ، ج7 ، ص 51.
 
 
 
 
168
 

148

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾1.
 
التكفّل ثقافة عامّة
قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾2.

وقوله (ويطعمون) يفيد أنّ هذه الآية تعلّمنا أنّ إطعام اليتيم ليس فعلاً فرديّاً وإنّما عمل عامّ ينبغي أن يتحوّل إلى ثقافة الأسر والعائلات، فالقرآن الكريم لم يمتدح فرداً معيّناً في الآية وإنّما مدح كافّة أفراد هذا البيت الذين كانوا يحملون هذه الثقافة.
 
ولذلك أشارت الأحاديث المرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى التركيز على كونها ثقافة بيوت وليست ثقافة أفراد فقط، أي تربية عوائلنا على هذه الثقافة الإلهيّة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء 
 

1- الإنسان 8 ـ 9.
2- الإنسان 8 ـ 9.
 
 
169

149

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "خير بيوتكم بيت فيه يتيم مُكرّم"2.
 
ضوابط التكفّل ومعاييرُه
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾3.

هذه الآية التي وردت في قصّة موسى والخضر إشارة واضحة إلى بناء الخضر لجدار اليتيمين دون أن يتّخذ عليه أجراً كما أشار عليه موسى عليه السلام.
 
والآية تعلّمنا عدّة أمور:
1- أنّ الله هو الذي أمرنا برعاية الأيتام وتكفّلهم لقوله تعالى ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾4. وبالتالي فإنّ رعايتهم قبل كلّ شيء واجبٌ إلهيٌّ وتكليفٌ شرعيٌّ لا يجوز تجاهله أو تناسيه.
 

1- مشكاة الأنوار، ص 292.
2- كنز العمال، ج3، ص 168.
3- الكهف 82.
4- الكهف 82.
 
 
 
170
 

150

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

2- أنّ هذه الرعاية ينبغي أن تستمرّ حتّى يبلغ اليتيم أشدّه أي يصبح بالغاً راشداً، أي حتّى يستغني ويصبح قادراً على إعالة نفسه. وهذا المعنى أوردته الآية كذلك على أنّه إرادة إلهيّة لقوله تعالى: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾2.
 
3- أنّ الرعاية ينبغي أن تشمل المحافظة على أموال اليتامى، فقد سوَّغ الخضر عليه السلام فعله بقول الله تعالى ﴿وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا﴾3، فإنّ الإستهتار بمال اليتيم والتفريط به لا يقلّ سوءاً عن أكل مال اليتيم.
 
4- أنّ هذه الرعاية ينبغي أن تكون مجانيّة فقد أبى الخضر أن يتخذ أجراً على عمله حتّى بعد أن أشار عليه موسى عليه السلام بذلك. وقد سوَّغ نبيّ الله الخضر عليه السلام هذا الأمر بقوله ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ4 وفي ذلك إشارة إلى أنّ معاملة الأيتام 
 

1- الكهف 82.
2- الأنعام 152.
3- الكهف 82.
4- الكهف 82.
 
 
 
171
 

151

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

 ينبغي أن تكون قائمة على الرحمة لا بدل ولا عوض فيها يطلبه الإنسان وإنّما يتوسّم الأجر والثواب وعلوّ الدرجات يوم القيامة.
 
وهذا المعنى نراه كذلك في آية ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ...لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾1 والمعنى أنّ كافل اليتيم لا ينتظر جزاءً أو بدلاً على عمله، بل إنّه لا ينتظر ولا يريد حتّى كلمة شكر على ذلك.
 
5- أنّ رعاية الأيتام ضروريّة حتّى ولو كانوا يملكون كفايتهم الماديّة، فالآية تشير إلى أنّ هذين اليتيمين كانا يملكان كنزاً لقوله ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا﴾2، ومع ذلك لم يتّخذ نبيّ الله الخضر منهما أجراً على عمله مع أن الفعل الذي قام به نبي الله الخضر فعلٌ ماديٌّ وهو إقامة الجدار، وذلك لأنّ الرعاية التي يستحقّها اليتيم ليست دائماً رعاية ماديّة، بل هناك رعاية معنويّة ونفسيّة واجتماعيّة وسوى ذلك، ومن الواجب ألّا نقصّر فيها.
 
 

1- الإنسان 8 ـ 9.
2- الكهف 82.
 
 
172

 

152

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

6- ولعلّ هذه الآية أكثر دلالةً على اليتيم الذي كان أبوه صالحاً والذي يأتي بلا شكّ الشهيد على رأس هذه القائمة كونه مثال الصلاح ورمز الإصلاح، وبالتالي فإنّ هذه الآية أكثر مطابقةً لأبناء الشهداء.
 
أكل مال اليتيم
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ1.

ولا يخفى أنّ أكل مال اليتيم لا يعني انتزاع حقّه من يده وسلبه إيّاه كما قد يتوهّم البعض، بل يصدق كذلك على عدم إعطائه حقّه الذي افترضه الله له ومنعه منه، فكلاهما أكلٌ لمال اليتيم.
 
1- من الكبائر: أي من الذنوب التي توعّد الله صاحبها بالخلود في النار. فعن الإمام الصادق عليه السلام- لمّا سئل عن الكبائر - قال: "منها أكل مال اليتيم ظلماً"2.
 
2- النار في الدنيا: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى 
 

1- الضحى 9.
2- ميزان الحكمة ، ج4 ، ص 3709.
 
 
 
173


 

153

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾1.
 
والآية واضحة أنّهم يأكلون في بطونهم ناراً في الدنيا قبل أن يصلوا السعير في الآخرة.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شرّ المآكل أكل مال اليتيم ظلماً"2.
 
3- شدّة العذاب في الآخرة: والآخرة هنا تشمل عذاب البرزخ وعذاب الجحيم كما في تفسير الآية.
 
وأمّا عذاب يوم القيامة فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يبعث ناس عن قبورهم يوم القيامة تأجّج أفواههم ناراً"، فقيل له: يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال: "الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً"3.
 
وأمّا عذاب البرزخ فعنه صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث المعراج -: "نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم ثمّ يجعل في أفواههم صخراً من نار، فتُقذف في أحدهم حتّى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ، فقلت: يا 


1- النساء ، 10.
2- من لا يحضره الفقيه ، ج4 ، ص377.
3- مستدرك الوسائل ، ج13 ، ص 191.
 
 
174




 

 


154

المحاضرة الأولى: كفالة اليتيم

جبرئيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً"1.
 
وفي الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقف يوم القيامة في مواجهة آكلي مال اليتيم في إشارة إلى أنّ التعدّي على اليتيم إنّما هو تعدٍّ عليه، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا خصيم يوم القيامة عن اليتيم والمعاهد، ومن أخاصمه أخصمه"2.
 
 
 

1- ميزان الحكمة ، ج4 ، ص 3709.
2- كنز العمال، ج3، ص 177.
 
 
175
 
 

155

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾1.
 
الهدف:
الإلفات إلى مختلف أشكال رعاية الأيتام وأخطار أكل مال اليتيم.
 
 

1- البقرة، 83.
 
 
 
 
177
 

156

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

المقدّمة
ورعاية اليتيم لا تقتصر على إيوائه أو إطعامه وسوى ذلك من التقديمات الماديّة، بل تتعدّى ذلك إلى رعايته رعاية أبويّة لها بُعدها المعنويّ والروحيّ وتعوِّضه من فقدان أبيه.

وشدّد الإسلام على تكريم اليتيم حتّى إنّه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي أحرج عليكم حقّ الضعيفين من اليتيم والمرأة"1. ومعنى ذلك أنّه ينبغي الحرص على تكريمه حتّى ولو سبب ذلك حرجاً وضيقاً على المتكفّل، واعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ ذلك حقّ له، ولا يخفى أنّ كونه حقّاً له معنى ذلك أنه واجب علينا.
 
محاور الموضوع
بيّنت النصوص الشريفة بعض أشكال رعاية اليتيم، وهي إذ سلّطت الضوء على هذه الجوانب فإنّ ذلك لا يعني إغفال الجوانب الأخرى، وفي هذا المجال يمكن الوقوف على أشكالٍ عدّة منها:
 
 

1- كنز العمال، ج3، ص 179.
 
 
178

157

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

1- الرعاية السكنيّة: قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من آوى يتيماً أو يتيمين ثمّ صبر واحتسب كنت أنا وهو في الجنة كهاتين"1.
 
2- الرعاية الاجتماعيّة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو في الجنّة كهاتين"2. ولا يخفى أنّ الإحسان ناظر إلى الأمور الكماليّة في الحياة أكثر منه إلى الأمور الأساسيّة والضروريّة.
 
3- الرعاية الماديّة: وقال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾.
أي سدّ مختلف حاجاته الماديّة، إلّا أنّ هذه الرعاية لا تتمحور حول رفع الفقر والعوز، وإنّما تتمحور حول عنوان الغنى.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ضمَّ يتيماً له أو لغيره حتّى يغنيه الله عنه وجبت له الجنّة"3.
 

1- كنز العمال، ج3، ص 168.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 168.
3- م.ن، ج3، ص 169.
 
 
 
179
 

158

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

4- الرعاية المعنويّة: عن لقمان الحكيم عليه السلام في وصيته لولده: "يا بنيّ كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنّك تزرع كذلك تحصد"1.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا يلي مسلم يتيماً فيحسن ولايته ويضع يده على رأسه إلّا رفعه الله عزَّ وجلَّ بكلّ شعرة درجة، وكتب له بكل شعرة حسنة، ومحا عنه بكلّ شعرة سيّئة"2.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أدن اليتيم منك، وألطفه، وامسح برأسه، وأطعمه من طعامك فإنّ ذلك ليليّن قلبك، وتدرك حاجتك"3.
 
5- رعاية المأكل والمشرب: قال تعالى: "ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أكل يتيم مع قوم في صحفتهم أو قصعة فيقرب صحفتهم الشيطان"4.
 

1- الإختصاص ، ص337.
2- كنز العمال، ج3، ص 176.
3- المصدر نفسه، ج3، ص 169.
4- م.ن، ج3، ص 177.
 
 
180
 

159

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مائدة أعظم بركة من مائدة جلس عليها يتيم"1.

ومن هنا وبالنظر إلى هذه الأشكال المختلفة لرعاية الأيتام والتي يعجز عنها الجهد الفرديّ كان لا بدّ من النظر بجديّة كبيرة إلى ضرورة إنشاء ودعم دور رعاية الأيتام تنهض بواجبٍ من أهمّ الواجبات الإلهيّة، والتي تجعل مجتمعنا مجتمعاً قويّاً متماسكاً أمام التحدّيات والصعوبات التي يكيدها له أعداء الله.

بركات إكرام اليتيم
إنزال الرزق واستجابة الدعاء: ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ *هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾2.

وفي الآية دلالة على أن التكفّل موجب لدرّ الرزق على الإنسان الذي نتكفّله، وأكثر من ذلك فإنّ التكفّل موجب
 
 

1- م.ن، ج3، ص 177.
2- آل عمران 37 ـ 38.
 
 
 
181
 

160

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

لاستجابة الدعاء، فإن الله استجاب دعاء زكريا حال كونه متكفّلاً لمريم، فإنّما طلب زكريّا حين رأى مريم على حالها أن يرزقه الله تعالى مثل مريم لما رأى من منزلتها عند الله، فرغب إلى الله في مثلها، وطلب إلى الله عزَّ وجلَّ أن يهب له ذريّة طيّبة مثل مريم، فأعطاه الله تعالى أفضل ممّا سأل.
 
1- عظيم الحسنات: عن الإمام عليّ عليه السلام: "مامن مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحمّاً له إلّا كتب الله له بكلّ شعرة مرت يده عليها حسنة"1.

ومن الواضح أنّ الحديث لاحظ أبسط حالات التكريم أي مسح رأس اليتيم، ولعلّ الحديث ناظر إلى الناحية المعنويّة في التعامل مع اليتيم في حال عدم استطاعة تكريمه بالأمور الماديّة، فكيف بحالات التكريم الأعلى فالأعلى؟
 
2- جوار رسول الله في الجنّة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عزَّ وجلَّ - وأشار بالسبابة والوسطى"2

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله، وصام نهاره، وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنّة أخوين كما أنّ هاتين أختان - وألصق إصبعيه السبابة والوسطى"3.
 
 

1- جواهر الكلام، ج4 ، ص330.
2- ميزان الحكمة ، ج4 ، ص3708.
3- المصدر نفسه، ج4 ، ص3708.
 
 
182
 

 


161

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنّة، والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله"1.

فجزاء إعالة اليتيم ليس دخول الجنة فحسب بل جزاؤه علوّ المقام ورفيع الدرجات وأجر المجاهدين وجوار الأنبياء في دار الخلود، وهنا إشارة مهمّة وهي أنّ هناك الكثير من الروايات التي وعدت أصحاب الأعمال الصالحة ببعض الحسنات أو الدرجات أو سوى ذلك، وأمّا أن تَعِدَ النصوص المقدّسة على فعلٍ ما بالجنّة دون تردّد فإنّ ذلك كاشف عمّا لهذا الفعل من أثر كبير في مسح السيّئات وتكفيرها والعفو عنها.
 
ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قبض يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنّة البتّة، إلّا أن يعمل ذنباً لا 
 

1- كنز العمال، ج3، ص 168.
 
 
 
183




 

 


162

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

يغفر". وكأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ هناك الكثير من الذنوب التي يغفرها تكفّل اليتيم ورعايته.

3- تخصيصهم بدار لهم: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ في الجنّة داراً يقال لها: دار الفرح لا يدخلها إلّا من فرّح يتامى المؤمنين"1.

ولعلّ تسمية الدار بدار الفرح تبشِّر من فرّح الأيتام بما أعدّ الله لهم من أمورٍ تدخل الفرح والسرور إلى أنفسهم جزاء لهم.

4- لين القلب: أي بقاؤه خاشعاً خاضعاً لله تعالى. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- لرجل يشكو قسوة قلبه -: "أتحبّ أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ إرحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك"2.

وهنا إشارة غاية في الأهميّة وهي أنّ الشريعة الإسلاميّة لم تقدّم كفالة اليتيم على أنّها رفع لحاجة اليتيم بل رفع لحاجة المتكفّل كذلك، وتحفيز له لإصلاح نفسه والعروج في مسيرة الصلاح من خلال تكريم اليتيم والتعامل معه برحمة.


1- ميزان الحكمة ، ج4 ، ص3708.
2- كنز العمال، ج3، ص 169.
 
 
 
184
 


163

المحاضرة الثانية: أشكال رعاية الأيتام

5- حقيقة البِرّ: قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾1.
 
ولا يخفى أنّ الآية أرادت أن تبيّن أنّ حقيقة البّر ليست في الجانب الشكليّ للعبادة، بل بما تتركه هذه الآية من أثر سامٍ على الجانب الإعتقاديّ والسلوكيّ في حياة الإنسان.
 
6- تجاوزعقبات يوم القيامة: قال تعالى: "فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة".
 
ومن المفيد في ثقافتنا الدينيّة أن نربط بين إطعام اليتيم في الدنيا وتجاوز عقبات يوم القيامة وأهواله ومخاطره التي ليس فينا من لا يحتاج إلى عناية خاصّة لتخطيها وتجاوزها.
 
 

1- البقرة 178.
 
 
 
 
185
 

164

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

تصدير الموضوع:
عن الإمام علي عليه السلام: "إن الله فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلّا به"1.
 
الهدف:
الإضاءة على مكانة فريضة الجهاد في الإسلام من خلال النصوص والروايات المأثورة.
 
 

1- الكافي، ج5، ص 8.
 
 
189
 

165

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

المقدّمة
أعزّ الله دينه بباب من أبواب الجنة ليبقى هذا الدين عزيزاً في وجه أعدائه له منعته وقوّته وقدرته التي يرهب بها أعداء الله ويمنعهم من تحقيق مآربهم، أو أن يصلوا للنيل من أيّ ساحةٍ من ساحاته، فالجهاد ليس مشروعاً للقتل والعنف في الإسلام، كما أنّه ليس هدفاً يُتوخّى منه التشفّي أو الإنتقام من الخصوم بل هو مشروع لبسط لواء الدين ونشر راية العدل وإقامة حكم الله الذي ارتضاه الله لعباده والوقوف في وجه المشاريع الأخرى التي لا تخدم عموم الناس، وإنّما تخدم أشخاصاً أو فئات أو جماعات على حساب الدين والرسالة.
 
محاور الموضوع
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾1.

وقال تعالى: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾2.
 

1- التوبة 73.
2- التوبة 12.
 
 
 
 
190
 

166

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

 لا يخفى ما لفريضة الجهاد من دورٍ بارزٍ في إقامة صرح الإسلام، ولذلك جاءت آيات القرآن الكريم بالدعوة إليه والتأكيد عليه والغلظة على الكفّار والمنافقين في الدنيا فضلاً عن عقاب الآخرة لهم، وهذا الإمام عليّ عليه السلام يكتب إلى عامله مخنف- : "فإنّ جهاد من صدف عن الحقّ رغبة عنه، وعبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضة على العارفين"1.

وعنه عليه السلام: "إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدين، والأجر فيه عظيم مع العزّة والمنعة، وهو الكرّة، فيه الحسنات والبشرى بالجنّة بعد الشهادة"2.
 
حبّ الجهاد
والعلاقة بالجهاد كالعلاقة بأيّ عبادة ينبغي أن ترتقي من مرتبة أداء التكليف إلى مرتبة الحبّ والعشق، فعن عليّ عليه السلام: "من رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء؟! الجنّة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار، والله لأنا أشوق إلى لقائهم
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 444.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 444.
 
 
 
 
191
 

167

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

منهم إلى ديارهم"1. فإنّ الذي يقاتل على غير هدى فيكون أكبر شوقه في المعركة هو الرجوع إلى بيته، أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: إنّه أشوق إلى جهادهم والقتال في سبيل الله منهم إلى ديارهم.
 
كيف لا وقد أفادت الروايات أنّ الجهاد زكاة البدن وزكاة الشجاعة وسياحة الأمّة، وأنّ خطواته أحبّ الخطوات إلى الله، كما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من خطوة أحبّ إلى الله من خطوتين: خطوة يسدّ بها مؤمن صفًّا في سبيل الله، وخطوة يخطوها مؤمن إلى ذي رحم قاطع يصلها"2.
 
التحريض على الجهاد
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ3.
 
وقال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا 
 

1- م.ن ج1 ، ص567.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 444.
3- الأنفال 65.
 
 
192
 

168

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾1.
 
ولأنّ القتال يستلزم القتل والجراح والدمار والكثير من المعاناة فقد يتسلّل الوهن والضعف إلى نفوس البعض، فجاءت الآيات والروايات لتحثّهم وتؤكّد أنّ هذا الخيار هو خيار الحياة، وأنّ الحياة من دونه هي الموت بعينه، فهذا الإمام عليّ عليه السلام يقول: وهو يحرّض على القتال في صفين: "لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون... والله إنّ امرأ يمكّن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت، فأمّا أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء"2.
 
وعنه عليه السلام - "في مقاتلة صفين لما غلب أصحاب معاوية على الفرات -: قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلّة
 
 

1- النساء 75.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 83.
 
 
193

 

169

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

وتأخير محلّة، أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين"1.

وعنه عليه السلام - بعد مقتل محمّد بن أبي بكر - يحرّض أصحابه على القتال لأمر الولاية وأن ما هم عليه من الطاعة والعبادة لله لا يُسقط عنهم الأمر بالجهاد فيقول: "فيكم العلماء والفقهاء والنجباء والحكماء وحملة الكتاب والمتهجّدون بالأسحار وعمّار المساجد بتلاوة القرآن، أفلا تسخطون وتهتمّون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم والأشرار الأراذل منكم"؟2.

ترك الجهاد
وكما أشارت النصوص إلى فضل الجهاد أشارت إلى رذيلة تركه كي لا يتوهمنّ أحد أنّ فضل وجوبه لا يستلزم السوء في تركه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاًّ في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إنّ الله تبارك وتعالى 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 448.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 448.
 
 
194

 

170

المحاضرة الأولى: فضل الجهاد

أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"1.

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "فمن تركه - يعني الجهاد - رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمله البلاء، ودُيِّث بالصَّغار والقماءة، وضُرب على قلبه بالإسهاب (بالأسداد)، وأُديل الحقّ منه بتضييع الجهاد شعب الجهاد"2.
 
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة 3". أي نقص في دينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبة من نفاق4, لأنّ عدم جهاده يستبطن شيئاً من الرضا أو الموافقة لأعداء الدين".
 

1- الكافي، ج5، ص 2.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 68.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 444.
4- المصدر نفسه، ج1، ص 444.
 
 
 
195
 

171

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

تصدير الموضوع:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الناس رجل حَبَسَ نفسَه في سبيل الله يجاهد أعداءه يلتمس الموت أو القتل في مصافّه"1.

الهدف:
بيان المقام الروحيّ والمعنويّ الذي خصّ به الإسلام أهل الجهاد في سبيله وضرورة إعانتهم وذمّ إيذائهم.


1- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
 
 
 
197
 

172

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

المقدّمة
الحديث عن أهل الجهاد وصفاتهم ومقامهم هو كالحديث عن أولياء الله، بل عن خاصّة أوليائه، كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام، هؤلاء الذين عزفوا عن كلّ لذائذ الدنيا ومشتهياتها وخلّفوا وراء ظهورهم ما يلهث خلفه الكثيرون ويحيا من أجله، ووجدوا أنسهم وسعادتهم في ساحات المواجهة لأنّها الساحات الأقرب إلى الله وإلى رضوانه، فرشفوا من كأس كربلاء ما جعلهم لا يرون لأنفسهم وجوداً إلّا بمقدار تضحياتها وبذلها وإزهاقها في الحبّ الإلهيّ والعشق الأبديّ حيث لا يجرؤ العقل على الولوج إلى هذا العالم ليصف ما يشعرون به، فلا يمكن لأحد أن يصف شعورهم إلّا من يشاركهم هذه اللذّة وهذه الكرامة الإلهيّة.

محاور الموضوع
فضل أعمال المجاهدين
وعمل المجاهد لا يساويه أي عمل آخر لأنّ المجاهد وحده
 
 
 
 
198
 
 

173

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

الذي يوقّر للأمة ظروف العبادة وعمل الخير ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر"1.

فمثل عمل المجاهد كمثل نور الشمس التي يغفل الكثيرون عن أنّهم لا يستطيعون القيام بأيّ عمل من دونه، وعمل المجاهد هو الذي يوفّر لكافّة شرائح الأمّة الظروف الكريمة التي يحيون بها ويتنعمّون بظلالها.

وحتّى إنّ الله يفتخر به ويباهي به الملائكة كما عبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنّ الله عزَّ وجلَّ يباهي بالمتقلّد سيفه في سبيل الله ملائكته، وهم يصلّون عليه ما دام متقلّده"2.

وصلاة الملائكة هي صلاة الرحمة والاستغفار ولذلك كانت عبادته وصلاته لها أجرها المضاعف، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الرجل متقلداً بسيفه تفضل على صلاته غير متقلّد بسبعمائة ضعف"3.


1- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 448.
3- م.ن، ج1، ص 448.
 
 
 
199
 
 

174

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

وكلّ الأعمال تنقطع عن صاحبها إلّا الجهاد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ عمل منقطع عن صاحبه إذا مات إلّا المرابط في سبيل الله، فإنّه ينمى له عمله ويجرى عليه رزقه إلى يوم القيامة"1.

في حديثٍ لأمير المؤمنين عليه السلام يصف فيه المجاهدين الذين شاركوا في حرب الجمل ويبين المقام الشامخ الذي يحظون به فيقول عليه السلام: "أنتم الأنصار على الحقّ، والإخوان على الدين والجُنن يوم البأس، والبطانة دون الناس، بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل، فأعينوني بمناصحةٍ خليّةٍ من الغشّ، سليمةٍ من الريب، فوالله إنّي لأولى الناس بالناس"2.

وفي هذا النصّ يرفع أمير المؤمنين عليه السلاممن مقام المجاهدين من خلال وصفهم بسبع خصال هي:
1- أنتم الأنصار على الحقّ: فهم يحملون الحقّ قضيةً في حياتهم ينصرونه ويعزِّزونه، فحياتهم رسالة بحدّ ذاتها في الدعوة إلى الحقّ والذود عنه، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى
 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 449.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 234.
 
 
 
200
 

175

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

على لسان نبيّ الله عيسى ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ1.
 
2- والإخوان على الدين: فما يربطهم بأمير المؤمنين أخوّة الإيمان والعقيدة، لا علاقة المصالح والمنافع المشتركة التي تربط أعداء الأمّة بعضهم ببعض، ووحدها هذه العلاقة التي تستمرّ يوم القيامة فيما تتبدّد سائر أنواع العلاقات التي كان الناس يتمسّكون بها في الحياة الدنيا.
 
3- الجُنن يوم البأس: فالمجاهدون هم الذين يقون الأمّة بأس الأعداء ويدرأون عنها شرّهم، فهم أشبه بالصخرة التي تتحطّم عليها أحلام المجرمين الذين يريدون النيل من الأمّة، فكأنّهم يفدون الأمّة بما أُريد لها من شرٍّ فيحملونه بأنفسهم ويدرأونه عنها.
 
4- البطانة دون الناس: أي خواصّه الذين يأنس بهم ويستشيرهم ويُسرّ إليهم، وبابه إلى الأمور لما أكرمهم الله تعالى بخاصيّة الجهاد فرفعهم دون غيرهم من الناس، فالجهاد هو الذي 
 

1- آل عمران ، 52.
 
 
 
 
201
 

176

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

صفّى نفوسهم وطهّر سرائرهم وأبدع أفكارهم فجعلهم أرقى من غيرهم شأناً ومنزلةً، عن أمير المؤمنين عليه السلام.

5- بكم أضرب المدبر: أي كأنّهم ساعده ويمينه التي يقاتل بها أعداء الدين والمنحرفين عن جادّة الإيمان فيجتثّ بهم رؤوس الفساد ويقتلعها بسواعدهم، وأيّ كرامةٍ بعد أن يكون المؤمن يد الإمام المعصوم التي يحارب بها أعداء الشريعة؟

6- أرجو طاعة المقبل: لأنّهم بجهادهم أضحوا قدوةً للآخرين يتأسّون بهم ويقتدون بأعمالهم، فباتوا ممّن يُرجى طاعة الآخرين وانضمامهم إلى طائفة الحقّ، فكما أن العلم والتقوى والعمل الصالح أبواب إلى الله فإنّ المجاهد بجهاده وتضحياته يصبح دليلاً للناس يقبلون به إلى رحاب الإسلام.

7- فأعينوني بمناصحةٍ خليّةٍ من الغشّ، سليمةٍ من الريب: وأخيراً يعطيهم أمير المؤمنين عليه السلام لياقة ومكانة وأهليّة من يقدّم له النصيحة والعون، فهم أهل للنصيحة الخالية من 
 
 
 
202
 

177

المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

الغشّ والريب، وهُم ليسوا كسواهم ممّن يقدّمون النصيحة ويستبطنون المنفعة لهم، أو يساهمون برأي ويضمرون السوء من ورائه.
 
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1.
 

1- المائدة 54.
 
 
 
203
 

 


178

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾1.
 
الهدف:
بيان الحقوق التي ينبغي للأمّة تأديتها للمجاهدين وبيان ثوابها وذمّ الشريعة لمن يبادلهم الأذى.
 

1- آل عمران ، 173.
 
 
 
205

 

179

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

المقدّمة
ولعلّ المجاهد من أكثر الناس حقاً على الأمة بل لعلّ النصوص تشير إلى أنّ المجاهد لا يتقدّم عليه في الحقّ أحدٌ إلّا وليّ الأمر، وحقوقه من أكثر الحقوق تقديساً في الشريعة وأكثرها ثواباً وأجراً، فالجهاد بالنفس قد لا يتسنى للجميع لكن يمكن للجميع أن يشارك المجاهدين بإعانتهم بكلّ ما يفيدهم في قتالهم، فمن المهمّ أن يشعر المجاهد بأنه ينتمي إلى مجتمعٍ مقاوم يقف خلفه في مواجهته للأعداء، ولهذه الإعانة الفضل الكبير والجزاء الحسن.
 
محاور الموضوع
حقوق المجاهدين
ويمكن الوقوف من خلال النصوص على جملة من الأمور التي يمكن إعانة المجاهدين بها، والتي تعتبر حقّاً من حقوقهم:
 
1- التجهيز: وذلك بمدّ المجاهدين بكلّ ما يساعدهم في
 
 
 
206

 

180

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

تحقيق أهدافهم وانتصاراتهم، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جهّز غازياً بسلك أو إبرة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"1.
 
ولم يستثنِ أمير المؤمنين حتّى أصحاب القلوب الضعيفة من الجهاد فقال عليه السلام: "الجبان لا يحلّ له أن يغزو، لأنّ الجبان ينهزم سريعاً، ولكن ينظر ما كان يريد أن يغزو به فليجهّز به غيره، فإنّ له مثل أجره في كلّ شيء ولا ينقص من أجره شيئاً"2.
 
2- الإعانة بالمال: ويفصّل الإمام عليّ عليه السلام هذا الأجر بقوله لمّا سئل عن النفقة في الجهاد إذا لزم أو استحبّ: "أمّا إذا لزم الجهاد بأن لا يكون بإزاء الكافرين من ينوب عن سائر المسلمين فالنفقة هناك الدرهم بسبعمائة ألف، فأمّا المستحبّ الذي هو قصد الرجل وقد ناب عليه من سبعة واستغنى عنه فالدرهم بسبعمائة حسنة، كلّ حسنة 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 446.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 446.
 
 
 
207
 

181

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

خير من الدنيا وما فيها مائة ألف مرة"1.
 
3- عدم إذاعة أسرار المجاهدين: قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾2.

فإنّ نشر الإشاعات وإذاعة الخوف بين الناس يجعل من مجتمع المقاومة مجتمعاً أقلّ تماسكاً وبالتالي أقلّ حمايةً لأهل الجهاد الذين يرابطون على الثغور حفظاً لرسالة الإسلام وصوناً لكرامة الأمّة.
 
ويُستفاد من الآية ضرورة التنظيم والرجوع إلى أُولي الأمر وعدم الإجتهاد في الأمور الجهاديّة، بل ضرورة التقيّد بما يصدر عن وليّ الأمر وإرجاع الناس إليه كونه حجة الله في أرضه، كما عبّر الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾3.
 
 

1- م.ن، ج1، ص 446.
2- النساء 83.
3- الصف ، 4.
 
 
 
208

 

182

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

4- إشاعة الروح المعنويّة العالية: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾1.

وذلك لأنّ تثبيط عزائم المجاهدين تضعف روحيّة المجاهد كالحديث عن قدرة العدوّ وعدّته وتفوّقه وانتصاراته المتكرّرة وعدم إمكانيّة النصر عليه والموت بلا طائل وغيرها من الأحاديث التي راجت في مجتمعاتنا مع بدايات الجهاد ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، والتي أثبتت التجربة أنّها مجرّد أوهام وأنّ من يتوكّل على الله فإن الله حسبه وهو يدافع عنه وأنّ الله ينصر من ينصره.
 
5- إيصال رسائله: والرسالة هنا قد تكون شخصيّة وقد تكون رسالة الجهاد التي يحملها المجاهد ويقاتل من أجلها، وبالتالي فالمطلوب أن يحمل مجتمع المقاومة رسالة الجهاد التي من أجلها يقدّم المجاهد دمه وروحه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من بلّغ رسالة غاز كمن أعتق رقبة، وهو شريكه في باب غزوته"2.
 

1- آل عمران ، 173.
2- الكافي، ج5، ص 8.
 
 
 
 
209
 

183

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

6- الدعاء لهم: ونذكر هنا مقطعاً من الدعاء المعروف بدعاء أهل الثغور والمرويّ عن الإمام السجّاد عليه السلام الذي يقول فيه: "اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وكثّر عددهم،واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم ودبّر أمرهم، وواتر بين ميرهم، وتوحّد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر) إلى أن يقول - بعد أن يدعو على الكافرين -: (اللهمّ وقوِّ - بذلك محالّ أهل الإسلام، وحصّن به ديارهم، وثمرّ به أموالهم، وفرّغهم عن محاربتهم لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك، حتى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تُعفّر لأحد منهم جبهة دونك"1.
 
7- مواساة عوائل الشهداء والعناية بهم: وهذا أقلّ ما يمكن تقديمه للمجاهدين الذين يرابطون على الثغور تاركين عوائلهم وفلذات أكبادهم، فمن الضروريّ أن يحمي مجتمع المقاومة هذه العوائل ويقدّم لها كلّ ما تحتاج إليه من الأمور المعيشيّة والعلميّة والتربويّة وغير ذلك.
 

1- عقائد الإمامية، ص117.
 
 
 
210
 

184

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

8- تحمّل أعباء الجهاد: فالجهاد من الفرائض التي تترك آثاراً كثيرة على المجتمع كالقتل والجرحى والأسرى وإعاقة بعض المجاهدين فضلاً عن التشريد وبعض الأعباء المادية كالخراب والدمار وتلف المحاصيل والمزروعات، وسوى ذلك من الأمور التي ينبغي للأمّة الاستعداد لتحمّل أعبائها وعدم الإنكسار أو الرضوخ مهما بلغت التقديمات، ولعلّه إلى ذلك أشار القرآن بعد تعداده لأنواع الإبتلاءات التي تمرّ على الأمّة بقوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾1.
 
9- إعداد القوّة: قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ﴾2.
 
والأمر الإلهيّ بالإعداد والجهوزيّة الكاملة والإستعداد التامّ لمواجهة الكفار وعلى كلّ المستويات هو تكليف الأمّة جمعاء الذين لا يغفلون عنّا حتى لو غفلنا عنهم، بل هم يترصّدون لحظة غفلة الأمّة للإنقضاض عليها والنيل منها، ولذا كان 

 

1- البقرة، 155.
2- الأنفال 60.
 
 
 
211
 

185

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

من الضروريّ أن لا نستصغر أيّ عملٍ جهاديّ، فإنّ له موقعه وفضله وإيجابياته على كلّ حال.
 
وقد بيّن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "الجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله عزَّ وجلَّ غضب الله له"1.

ذم إيذاء المجاهدين
وإيذاء المجاهدين من أقبح الأعمال التي جعلها الله في مقام الإعتداء على ساحة قدسه، وذلك بتشويه رسالتهم أو اتهامهم بالعمالة لغيرهم أو تجريم أعمالهم علناً أو تصويرهم بأنّهم على غير الهدى وأنّ أعمالهم لا تخدم الشريعة، بل والأصعب من ذلك ما قرأناه في الماضي ونشاهده في الحاضر من إطلاق الفتاوى الشرعيّة ضدّهم وإباحة دمائهم وأعراضهم
 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 448.
 
 
 
212
 

186

المحاضرة الثالثة: حقوق المجاهدين

 وأموالهم وبذل المال وتقديم السلاح لحربهم، وغير ذلك مما يفعله أئمّة الكفر عبر التاريخ، وما زال تاريخ هؤلاء حتّى الساعة شاهداً على قذارة أفعالهم ومواقفهم، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من اغتاب غازياً أو آذاه أو خلّفه في أهله بخلافة سوء نصب له يوم القيامة علم، فليستفرغ لحسابه ويركس في النار"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "اتقوا أذى المجاهدين في سبيل الله، فإنّ الله يغضب لهم كما يغضب للرسل، ويستجيب لهم كما يستجيب لهم"2


1- الكافي، ج5، ص 8.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 446.
 
 
 
213
 

187

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾1.
 
الهدف:
بيان بعض ما أعدّ الله من الأجر والثواب ورفيع المقام في الآخرة للمجاهدين في سبيله.
 
 

1- النساء 95.
 
 
 
215
 

188

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

المقدّمة
إذا كان الجهاد عزّ الأمة وقوتها فأجر المجاهد هو أجر من أعزّ هذه الأمّة وأعطاها القوّة والمنعة، وبكلمةٍ أوضح فإنّ أجر المجاهد ليس أجراً على سلوكٍ فرديّ وذكرٍ خاصّ وإحياء ليلةٍ بالطاعة والعبادة، بل أجره أجر من حبس نفسه للمصالح الكبيرة للأمّة وتحمّل المشقّات والالآم عن سواه من المسلمين توفيراً لحياةٍ كريمةٍ لهم، ولذلك ورد عن بعض العرفاء أنّ ساعة من ساعات الجهاد في سبيل الله تفوق عبادة سنين طويلة يقضيها الإنسان في الدعاء والتضرّع والصلاة والذكر، وهذا المعنى أشار إليه رسول الله في حديثٍ مرويّ أنّ رجلاً أتى جبلاً ليعبد الله فيه، فجاء به أهله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فنهاه عن ذلك، وقال: "إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوماً واحداً خير له من عبادة أربعين سنة"1.
 
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 444.
 
 
 
216
 

189

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

محاور الموضوع
ثواب المجاهدين
من الواضح في كتاب الله تفضيل أهل الجهاد على غيرهم بقوله تعالى: ﴿فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾1 ثمّ يوضّح هذه الدرجة بقوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾2، وقد أشارت الآيات والروايات إلى بعض ما أعدّه الله أجراً للمجاهدين، ونقف هنا على بعضها، فمنها:

1- تخصيصهم بباب لهم: وهذا التخصيص يعني إبرازهم وتعريفهم لعموم الخلق يوم القيامة والدلالة إلى إنجازاتهم وتضحياتهم، بل وفضلهم على الآخرين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يقال له: باب (المجاهدون) يمضون إليه فإذا هو مفتوح، وهم متقلّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة ترحّب بهم"3.
 

1- النساء 95.
2- النساء 97.
3- الكافي ، ج5، ص 3.
 
 
217
 

190

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

2- الخير على كلّ حال: فالمجاهد في عين الله ورعايته لا يقدم إلّا على خير ولا ينال إلّا الخير كيفما وقع الحال عليه، فعن مولانا الإمام الباقر عليه السلام: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل الله، فإنّك إن تُقتل كنت حيًّا عند الله تُرزق، وإن متَّ فقد وقع أجرك على الله وإن رجعت خرجت من الذنوب إلى الله"1.

3- النجاة من النار: وهذا ممّا لا ريب فيه، إلّا أنّ تعبير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان في جهنّم"، إشارة إلى أبعد من ذلك فعبّر بالغبار ليقول إنّ غبار ثيابهم ونعالهم ووجوههم وأسلحتهم وعرقهم وسوى ذلك إنّما هو مبارك ويستحبّ التبرّك به2.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"3.


1- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 445.
3- ميزان الحكمة، ج1، ص 449.
 
 
218
 

191

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

4- الفوز بالجنّة: قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ1، وفي قوله "أم حسبتم" إشارة واضحة إلى أن الفوز بالجنان يلازم شرطاً أكيداً وهو الجهاد في سبيل الله. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "السيوف مفاتيح الجنّة"2.
 
5- تخصيصهم بسبل الهداية الإلهيّة: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾3، وهذه الآية تتحدث عن معادلة وسنّة إلهية لازمة تقضي بإفاضة الله أنوار هدايته وسبل التقرب إليه بخاصة المجاهدين في الله. ولعله إلى ذلك أشار الإمام علي عليه السلام بقوله: "المجاهد تُفتح له أبواب السماء"4.
 
6- الخيرات في الآخرة: قال تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ 


1- آل عمران 142
2- الكافي ، ج5، ص 2.
3- الروم 2.
4- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
 
 
219
 

192

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1. وأطلق الله كلمة الخيرات لتعمّ كلّ ما تشتهي الأنفس وما يخطر وما لا يخطر على قلب بشر.
 
والإنسان على كلّ حال سينتقل من هذه الدار إمّا قتلاً وإمّا بالموت، إلّا أنّ الخير سيكون جزاء المجاهدين في سبيل الله، فعن عليّ عليه السلام: "إنّ الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين، وكلٌّ آتيه منيّته كما كتب الله له، فطوبى للمجاهدين في سبيله، والمقتولين في طاعته"2.
 
ثمّ إنّ الجهاد إذا اجتمع مع الهجرة كان المجاهد ممّن يرجو رحمة الله، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ﴾3
 
وفي آيةٍ أخرى اعتبرهم الله أعظم درجة إذ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ﴾4.
 

1- التوبة 88
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
3- البقرة، 218
4- التوبة،20
 
 
 
220
 

193

المحاضرة الرابعة: ثواب المجاهدين

7- مضاعفة الأجر والثواب: لأنّ أيّ طاعة يقوم بها المجاهد من صلاةٍ أو صومٍ أو دعاء أو سوى ذلك فهي مقترنة بجهاده وثباته على محاور القتال، فمن الطبيعيّ أن يتضاعف أجرها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها"1. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "رباط يوم خير من صيام شهر وقيامه"2.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة"3.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "حرس ليلة في سبيل الله عزَّ وجلَّ أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها"4.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لأن أحرس ثلاث ليال مرابطاً من وراء بيضة المسلمين أحبّ إليّ من أن تصيبني ليلة القدر في أحد المسجدين: المدينة أو بيت المقدس"5.
 

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 449.
2- المصدر نفسه، ج1، ص 449.
3- م.ن، ج1، ص 449.
4- ميزان الحكمة، ج1، ص 449.
5- المصدر نفسه، ج1، ص 449. 
 
 
221



 

194

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

تصدير الموضوع:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما من قطرة أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلّا الله عزَّ وجلَّ"1.

الهدف:
بيان علوّ المقام الذي يتمتّع به الشهيد في الآخرة وفضله وعظمته على سائر الخلق في الدنيا.


1- ميزان الحكمة، ج1، ص 284.
 
 
223
 
 

195

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

المقدّمة
لا يمكن لبيان أدبٍ أو شعرٍ أو كلامٍ أو سوى ذلك أن يتحدّث عن الشهادة ومقاماتها وعشق المجاهدين والشهداء وصفاء نفوسهم ونقاء سريرتهم وهم الذين باعوا أنفسهم لله وحده، كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ1، واشترى الله هذه الأنفس بنعيم الأبد، فكانت نعم التجارة مع الله وأربح التجارة وأوفاها، وهل بعد التجارة مع الله مقام أو مرتبة أو درجة يمكن للعبد أن يبلغها؟
 
محاور الموضوع
ثواب طلب الشهادة
وطلب الشهادة معناه أن يجاهد المرء في سبيل الله طامعاً في الشهادة، وأن يدعو الله أن يرزقه إيّاها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من طلب الشهادة صادقاً أعطيها، ولو لم تصبه"2.
 

1- التوبة ، 111.
2- روضة الطالبين، ج1 ، ص87.
 
 
224
 

196

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"1. فالمؤمن ينبغي أن يوطن نفسه على الشهادة دائماً، أي أن يملك هذه الروحية.
 
الشوق للشهادة
وحبّ الشهادة يجعل المرء يرغب بها ويميل إليها، فإذا أصبح عاشقاً لها تراه يفتقدها دائماً وينتظر وقوعها بفارغ الصبر، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "....... والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"2.
 
وعنه عليه السلام - عندما يوبّخ أصحابه على التواني عن الجهاد -: "إنّ أحبّ ما أنا لاق إليّ الموت"3.

وعنه عليه السلام: "فوالله إنّي لعلى الحقّ، وإنّي للشهادة لمحبّ"4.
 
وعنه عليه السلام: "فوالله لولا طمعي عند لقاء عدوّي في الشهادة
 

1- ميزان الحكمة، ج2 ، ص1516.
2- نهج البلاغة، خطب الإمام علي ، ج1 ، ص40.
3- المصدر نفسه، خطب الإمام علي ، ج2 ، ص101.
4- مصباح البلاغة ، ج1 ، ص284.
 
 
225

 

 


197

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

وتوطيني نفسي عند ذلك، لأحببت ألّا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً"1.
 
وعنه عليه السلام - بعدما ضربه ابن ملجم-: "والله ما فجأني من الموت وارد كرهته ولا طالع أنكرته، وما كنت إلّا كقارب ورد وطالب وجد"2.
 
حياة الشهيد
يؤكّد القرآن الكريم أنّ الشهداء ينعمون بحياةٍ هانئة سعيدة، وأنّ الشهادة ليست إلّا معبراً نحو هذه الحياة التي لا يشعر بها بقيّة الناس.

قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾3.

وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ4.
 
فضل الشهادة
وكرامة الشهادة والقتل في سبيل الله من أعظم الكرامات 
 

1- نهج البلاغة ، إبن أبي الحديد ، ج6 ، ص93.
2- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ، ج3 ، ص21.
3- آل عمران ، 169.
4- البقرة ، 154.
 
 
 
 
226

 

198

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

التي لا يدانيها فضل، فعن عليّ عليه السلام: "إنّ أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"1.
 
وأمّا فضائل هذه الشهادة فهي أعظم من أن تُحصى بركاتها، وأكبر من أن ندرك بعقولنا كرامة الشهيد عند ربّه وما يلاقيه من الأجر وعظيم المقام، والتي منها:
1- إقتران الشهادة بالفوز: وهذا مبدأ لا يقبل الشكّ أو الترديد فيه. فعن عليّ عليه السلام - لمّا ضربه ابن ملجم -: "فزت وربّ الكعبة"2.
 
2- أعلى مقامات البِرّ: لأنّه لا يوجد في الحياة أغلى على الإنسان من نفسه، وبالتالي فإنّه عندما يجود بها فيكون قد وصل إلى أعلى مراتب القرب من الله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كلّ ذي بِرٍّ بَرٌّ حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه بَرّ"3.
 

1- نهج البلاغة ج2، ص 2.
2- شرح أصول الكافي ، ج11 ، ص255.
3- الكافي ، ج2 ، ص348.
 
 
227
 

199

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

3- أشرف الموت: أسباب الموت كثيرة متنوّعة إلّا أنّ قتل الشهادة يعني فناء الشهيد في الدفاع عن مقدّسات الأمة, فعن عليّ عليه السلام: "أشرف الموت قتل الشهادة"1.
 
الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله"2.
 
وعن عليّ عليه السلام: "إنّ أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"3.

4- أفضل ما تُختم به الحياة: فاختتام الحياة بالشهادة يعني ثبات الإنسان على الصراط طيلة حياته. فعن عليّ عليه السلام - في ختام كتابه للأشتر لمّا ولّاه مصر -: "وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة،... أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة"4.

5- السعادة الكبرى: باعتبارها مفتاح الحياة الأبديّة، عن
 
 

1- الدعوات ، ص242.
2- الكافي ، ج5 ، ص53.
3- الكافي، ج5 ص53.
4- نهج البلاغة، خطب الإمام علي ، ج3 ، ص111.
 
 
228
 
 

200

المحاضرة الخامسة: مقام الشهادة

الإمام الحسين عليه السلام: "إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً"1.

6- رفع عذاب القبر: عن الشهيد والمجاهد على حدٍّ سواء، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لَقِيَ العدوّ فصبر حتّى يُقتل أو يغلب لم يفتن في قبره"2.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا سئل عن عدم افتتان الشهيد في القبر -: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة"3.
 
7- الشهادة وتكفير الذنوب: وهذه إحدى النعم والبركات الإلهيّة التي يمنّها الله على الشهيد، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "كلّ ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلّا الدَّيْن، فإنّه لا كفّارة له إلّا أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحق"4.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيّئاته"5.
 

1- ميزان الحكمة، ج2 ، ص1515.
2- المصدر نفسه، ج2 ص1515.
3- م.ن، ج2 ، ص1515.
4- الكافي ، ج5 ، ص94.
5- المصدر نفسه، ج5 ، ص54.
 
 
229

201

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الفارّ لغير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه"1
 
الهدف:
بيان تقدير الموت والشهادة في حياة الإنسان ومن لهم حكم الشهداء في الإسلام.
 

1- نهج البلاغة, خطب الإمام علي, ج2, ص4.
 
 
 
231


 

202

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

 المقدّمة
أبى الله للمؤمن إلّا أن تكون له الحياة الكريمة، ورفض له أيّ لون من ألوان القهر والذلّ، بل اعتبر أنّ الرضا بهذه الحياة خروج عن الإيمان والطاعة لله تعالى، لما هو واضح أنّ من عبد الله حقّاً كان أعزّ الناس وأكرمهم، وأبى على نفسه كلّ ما لا يتناسب مع هذه العزّة الإلهيّة حتّى ولو كلّفه ذلك حياته، بل إنّ جمال الحياة وسعادتها في العيش بكرامة الإيمان، وذلّ الحياة وشقاوتها في العيش تحت رحمة البغاة الظالمين، وهذا ما صرّح به الإمام الحسين عليه السلام - في مسيره إلى كربلاء -: "إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً"1.
 
محاور الموضوع
تقدير الشهادة والموت
يردّ القرآن الكريم على الذين يتوهمّون أنّ الجهاد يضع حدّاً لآجال الناس، وأنّ ترك الجهاد يزيد في أعمارهم فيقول
 

1- تحف العقول، ص 245.
 
 
 
232
 

203

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾2.
 
من لهم حكم الشهداء
الموت على الولاية: فالثبات على الولاية بمعناها السياسيّ وعدم التبرّؤ من أهل بيت العصمة على مستوى الفعل والسلوك يرفع الإنسان عند وفاته إلى منزلة الشهداء، فعن الإمام الحسين عليه السلام: "ما من شيعتنا إلّا صدّيق شهيد"، - قال زيد بن أرقم: - قلت: "أنّى يكون ذلك وهم يموتون على فرشهم"؟ فقال: أما تتلو كتاب الله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾ ثمّ قال عليه السلام: "لو لم تكن الشهادة إلّا لمن قتل بالسيف لأقلّ الله الشهداء"3.
 

1- آل عمران ، 154.
2- آل عمران ، 156.
3- ميزان الحكمة، ج2، ص 1517.
 
 
233

 


204

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

ونفس المعنى نقرأه عن الإمام الصادق عليه السلام - "لأبي بصير -: يا أبا محمّد! إنّ الميت على هذا الأمر (أي ولاية أهل البيت) شهيد، قلت: جعلت فداك وإن مات على فراشه؟ قال: وإن مات على فراشه، فإنّه حيٌّ يرزق"1.
 
ويعبّر عن ذلك الإمام عليّ عليه السلام بمعرفة الحقّ بقوله: "من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه"2.

وهذه الولاية استخدم لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفظ الحبّ تماماً بنفس المعنى الذي استخدمه الله تعالى في كتابه حين أمرنا بالمودّة لأهل بيت العصمة عليه السلام، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً"3. الإمام عليّ عليه السلام: "المؤمن على أيّ حال مات، وفي أي ساعة قبض، فهو شهيد"4.

الموت دون ماله: وهذا لا يعني أهميّة المال على النفس، بل يعني مواجهة الظالم الذي يريد مصادرة المال، كما يعني كرامة النفس عن الخنوع لغير ذات الله، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أريد ماله بغير حقّ فقاتل فقُتل فهو شهيد"5.


1- ميزان الحكمة، ج2، ص 1517.
2- المصدر نفسه، ج2، ص 1517.
3- م.ن، ج2، ص 1517.
4- م.ن، ج2، ص 1517.
5- م.ن، ج2، ص 1516.
 
 
234
 
 

 


205

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

الموت دون أهله وماله وجاره: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قُتل دون أهله ظلماً فهو شهيد، ومن قُتل دون ماله ظلماً فهو شهيد، ومن قُتل دون جاره ظلماً فهو شهيد، ومن قتل في ذات الله عزَّ وجلَّ فهو شهيد"1. وكأنّ الحديث ناظر إلى عدوٍّ ظالم يدخل بيتك أو قريتك أو مدينتك فإنّه والحال هذه يجب الدفاع عن كلّ ذلك، وأنّ المقتول دون ذلك له مرتبة الشهداء.

الموت دفاعاً عن النفس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قاتل دون نفسه حتى يُقتل فهو شهيد"2. وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي للإنسان مشروعيّة الدفاع عن نفسه فيما لو حاول أحد النيل منه، وبكلمةٍ أخرى فإنّ الدفاع عن النفس ممّا
 
 

1- ميزان الحكمة، ج2، ص 1516.
2- المصدر نفسه، ج2، ص 1516.
 
 
235
 

206

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

أجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكلٍ مطلق.
 
الموت دون حقّه: كأن يموت المرء دون أرضه وممتلكاته التي يريد الظالم غصبها، أو يموت دفاعاً عن قضيّةٍ عادلة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قُتل دون مظلمته فهو شهيد"1. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم الميتة أن يموت الرجل دون حقّه"2.
 
الشهادة في عصر الغيبة
ولها أجرٌ مضاعف كما أنّ الجهد والعمل الذي يبذله المرء في عصر الغيبة تمهيداً لظهور القائم له أجرٌ مضاعف، عن الإمام الصادق عليه السلام: "من مات منكم على هذا الأمر شهيد بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله"3.
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "من مات على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأحد"4.
 
 

1- م.ن، ج2، ص 1516.
2- م.ن، ج2، ص 1516.
3- فضائل الشيعة ، ص37.
4- كمال الدين وتمام النعمة ، ص323.
 
 
 
236

 

207

المحاضرة السادسة: مقام الشهادة (2)

فالقتال بين يدي النبيّ أو الإمام قتال مع ظهور الشمس وبيانها للعيان، وأمّا القتال في عصر الغيبة فهو قتال على نور الشمس التي ظلّلها السحاب، فهو بحاجةٍ لوعي وبصيرة وثبات قد لا يحتاج إليها الجهاد بين يدي المعصوم. نعم استثنى علماؤنا من هذ القاعدة شهداء كربلاء الذين وصفهم الإمام الصادق بقوله: "مصارع عشّاق لم يسبقهم أحد ولم يلحق بهم أحد".
 
وفي الختام نستحضر ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام - من دعائه لمّا عزم على لقاء القوم بصفين -: "اللهمّ ربّ السقف المرفوع... إن أظهرتنا على عدوّنا فجنبنا البغي وسددنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة"1


1- نهج البلاغة، ج2، ص 84.
 
 
237
 

208

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

تصدير الموضوع:
عن الإمام علي عليه السلام: "إن في الموت لراحة لمن كان عبد شهوته وأسير أهويته، لأنه كلما طالت حياته كثرت سيئاته وعظمت على نفسه جناياته"1.

الهدف:
بيان حقيقة الموت لا سيّما عند المؤمن والكافر من خلال كلمات المعصومين.


1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2962.
 
 
 
 
241
 

209

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

المقدّمة
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين عليه السلام وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدي جوارحهم وتسكن نفوسهم". فقال بعضهم لبعض: "انظروا لا يبالي بالموت"! فقال لهم الحسين عليه السلام: "صبراً بني الكرام ! فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر"؟1.

محاور الموضوع
الموت في كلمات المعصومين عليه السلام
عن الإمام عليّ عليه السلام: وقد سئل عن تفسير الموت: "على الخبير سقطتم، هو أحد ثلاثة أمور يرد عليه: إمّا بشارة


1- المصدر نفسه، ج4، ص 2959.
 
 
242
 
 

210

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

بنعيم الأبد، وإمّا بشارة بعذاب الأبد، وإمّا تحزين وتهويل وأمر مبهم، لا يدري من أيّ الفرق هو..."1

عن الإمام الحسن عليه السلام: - لمّا سئل عن الموت -: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطأ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب".2

وعنه عليه السلام: "أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد"3.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب وأشدّ!". قيل: فإنّ قوماً يقولون: "إنّه


1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2959.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 2959.
3- م.ن، ج4، ص 2959.
 
 
243
 

 


211

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

أشدّ من نشر بالمناشير! وقرض بالمقاريض! ورضخ بالأحجار! وتدوير قطب الأرحية على الأحداق! قال: كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين..."1

وعن الإمام الكاظم عليه السلام- لمّا دخل على رجل قد غرق في سكرات الموت: "الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم، ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم، وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم..."2.

وعن الإمام الرضا عليه السلام- في عيادة رجل من أصحابه -: كيف تجدك؟ قال: "لقيت الموت بعدك"! - يريد ما لقيه من شدّة مرضه - فقال: "كيف لقيته"؟ فقال: "أليماً شديداً"، فقال: "ما لقيته، إنّما لقيت ما ينذرك به ويعرّفك بعض حاله..."3

وعن الإمام الجواد عليه السلام- لمّا سئل عن الموت -: "هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا 
 
 

1- م.ن، ج4، ص 2959.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2960.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2960.
 
 
244
 
 

212

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

يوم القيامة، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره، ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه؟ هذا هو الموت فاستعدّوا له"1.

وعن الإمام العسكري عليه السلام: دخل عليّ بن محمّد عليهما السلام على مريض من أصحابه وهو يبكي ويجزع من الموت، فقال له: "يا عبد الله تخاف من الموت لأنّك لا تعرفه، أرأيتك إذا اتسخت وتقذرت وتأذيت من كثرة القذر والوسخ عليك وأصابك قروح وجرب وعلمت أن الغسل في حمّام يزيل ذلك كلّه أما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك أو ما تكره أن لا تدخله فيبقى ذلك عليك"؟ قال: "بلى يا ابن رسول الله"، قال: "فذاك الموت هو ذلك الحمّام، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيّئاتك، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته فقد نجوت من كلّ غمّ وهمّ وأذًى، ووصلت إلى كلّ سرور وفرح، فسكن الرجل واستسلم ونشط وغمض عين نفسه ومضى لسبيله"2.
 
 

1- م.ن، ج4، ص 2959.
2- م.ن، ج4، ص 2960. 
 
 
245
 

213

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

موت المؤمن
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1.
 
وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾2.
 
فالموت ريحانة المؤمن كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه انعتاقٌ له من سجنه الدنيويّ إلى الحريّة الأبديّة في النعيم الإلهيّ، وقد شبّهه رسول الله عليه السلام بخروج الجنين من بطن أمّه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما شبّهت خروج المؤمن من الدنيا إلّا مثل خروج الصبيّ من بطن أمّه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا"3.
 
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى، فيقوم وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأه بالتسليم ويبشره بالجنة"4.

وعن الإمام الصادق عليه السلام- في قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى 
 

1- النحل 32.
2- الفجر 27 ـ 30.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 2961.
4- المصدر نفسه، ج4، ص 2961.
 
 
246
 

214

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا﴾: "هو أن يبشّراه بالجنّة عند الموت، يعني محمداً وعلياً عليه السلام"1.
 
وعنه عليه السلام: "أمّا المؤمن فما يحسّ بخروجها"، وذلك قول الله سبحانه وتعالى:، (يا أيتها النفس...)، "ذلك لمن كان ورعاً مواسياً لإخوانه وصولاً لهم"2.

في حديث المعراج عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإذا كان العبد في حالة الموت يقوم على رأسه ملائكة، بيد كل ملك كأس من ماء الكوثر وكأس من الخمر يسقون روحه حتّى تذهب سكرته ومرارته، ويبشّرونه بالبشارة العظمى" ويقولون له: "طبت وطاب مثواك، إنّك تقدم على العزيز الحكيم الحبيب القريب"3.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أوّل ما يبشّر به المؤمن روح وريحان وجنّة نعيم، وأوّل ما يبشّر به المؤمن" أن يُقال له: "أبشر وليّ الله برضاه والجنّة! قدمت خير مقدم، قد غفر الله لمن شيّعك، واستجاب لمن استغفر لك، وقبل من شهد لك"4.
 

1- م.ن، ج4، ص 2961.
2- م.ن، ج4، ص 2961.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 2961.
4- المصدر نفسه، ج4، ص 2961.
 
 
 
247
 

215

المحاضرة الأولى: تفسير الموت في كلمات المعصومين عليهم السلام

موت الكافر
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1.
 
قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾2.
 
ونكتفي بحديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصف فيه موت الكافر وخروج روحه: "... وإن كان لأوليائنا معادياً، ولأعدائنا موالياً، ولأضدادنا بألقابنا ملقّبا، فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه مثّل الله عزَّ وجلَّ لذلك الفاجر سادته الذين اتخذهم أرباباً من دون الله، عليهم من أنواع العذاب ما يكاد نظره إليهم يهلكه، ولا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به. فيقول له ملك الموت: يا أيّها الفاجر الكافر تركت أولياء الله إلى أعدائه، فاليوم لا يغنون عنك شيئاً، ولا تجد إلى مناص سبيلاً، فيرد عليه من العذاب ما لو قسم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم"3
 
 

1- النحل 28.
2- محمد 27.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 2961.
 
 
 
248

 

216

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

تصدير الموضوع:
عن عليّ عليه السلام: "بادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكّركم"1.
 
الهدف:
بيان مفهوم الاستعداد للموت والمراد منه وكيفيّة القيام به وعلّة الاستخفاف به.
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2967.
 
 
 
 
249
 

217

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

المقدّمة
عن الإمام عليّ عليه السلام: "استعدّوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا قوماً صِيح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا... وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النار إلّا الموت أن ينزل به...1 نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة".

فإنّ من أهمّ ما يوجب على المرء الاستعداد للموت أنّه لحظة الفصل بين السعادة أو الشقاء الأبديّين، وبالتالي فإنّ الاستعداد له ينبغي أن يكون بمستوى أهميّته وخطورته، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحقّ لأفضل العدّة"2.

محاور الموضوع
التأكيد على الاستعداد للموت
أكّدت الروايات على ضرورة الاستعداد للموت وأنّه أمرٌ فطريّ يتناسب مع فطرة الإنسان الذي يستعدّ لأيّ أمر يتوقّع


1- المصدر نفسه، ج4، ص 2966.
2- م.ن، ج4، ص 2967.
 
 
 
250
 

218

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

نزوله به، فضلاً عن الأمر الذي يتيقّن حدوثه، ولذلك كان الاستعداد للموت واحداً من هذه الأمور التي لا ينبغي أن يغفل عنها، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إن أمراً لا تعلم متى يفجأك ينبغي أن تستعدّ له قبل أن يغشاك.."1. وعنه عليه السلام: "أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يُدعى بكم"2.

ويؤكّد أمير المؤمنين أنّ الاستعداد للموت من صفات العاقل فيقول عليه السلام: "إنّ العاقل ينبغي أن يحذر الموت في هذه الدار، ويحسن له التأهّب قبل أن يصل إلى دار يتمنّى فيها الموت فلا يجده"3.

تفسير الاستعداد للموت
ولا يعني الاستعداد للموت أن لا ينشغل المرء بأمور حياته ويلبّي حاجاته اليوميّة، بل معناه كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام- لمّا سئل عن الاستعداد للموت -: "أداء الفرائض،
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2966.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 2966.
3- م.ن، ج4، ص 2966.
 
 
251
 

219

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثمّ لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، والله ما يبالي ابن أبي طالب أوقع على الموت أم وقع الموت عليه"1.

ومن الصور الجميلة ما يعبّر عنه الإمام زين العابدين عليه السلام - لمّا سئل عن خير الموت -: "أن يكون قد فرغ من أبنيته ودوره وقصوره، قيل: وكيف ذلك؟ قال: أن يكون من ذنوبه تائباً، وعلى الخيرات مقيماً، يرد على الله حبيباً كريماً"2. ولعل المراد بهذا الحديث أن الإنسان إنما يكون خير من استعد للموت إذا انتهى من بناء آخرته.

وعن عليّ عليه السلام يؤكّد على أنّ ترك المعاصي وفعل الخيرات هو خير الاستعداد للموت فيقول عليه السلام: "إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى والخير"3.

وعنه عليه السلام: "اعلم أنّ أمامك عقبة كؤوداً المخفّ (أي قليل الذنوب) فيها أحسن حالاً من المثقل (أي كثير الذنوب)،
 
 

1- م.ن، ج4، ص 2969.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2969.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2969.
 
 
252

220

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

والمبطئ عليها أقبح حالا من المسرع... فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطِّئ المنزل قبل حلولك"1.
 
وإنّ ممّا يساعد في الاستعداد للموت أن يعيش الإنسان فكرة اقتراب الرحيل، فيرى الموت بعين اليقين لا بعين الشاكّ ويتوقّعه في كلّ لحظة، فعن عليّ عليه السلام: "من رأى الموت بعين يقينه رآه قريباً"2.
 
وعنه عليه السلام: "إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى"3! وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أصلحوا الدنيا واعملوا لآخرتكم كأنّكم تموتون غداً"4.
 
بركات الاستعداد للموت
1- الموت الهنيء: عن عليّ عليه السلام: "من استعدّ لسفره قرّ عيناً بحضره"5.
 
 

1- م.ن، ج4، ص 2966.
2- م.ن، ج4، ص 2958.
3- م.ن، ج4، ص 2958.
4- م.ن، ج4، ص 2967.
5- ميزان الحكمة، ج4، ص 2967.
 
 
253
 

221

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

2- المسارعة إلى فعل الخيرات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ارتقب الموت سارع في الخيرات"1.

3- العزوف عن الدنيا: عنه عليه السلام: "ازهد في الدنيا واعزف عنها، وإيّاك أن ينزل بك الموت وأنت آبق من ربّك في طلبها فتشقى"2.

4- المبادرة إلى العمل: فعن عليّ عليه السلام: "لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل... يخشى الموت، ولا يبادر الفوت"3. أي لا يبادر بالعمل قبل فوات الأوان.

5- عدم الفجأة: والاستعداد للموت ينفي أهوال موت الفجأة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "موت الفجأة راحة للمؤمن وحسرة للكافر"4.

وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "والله ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلّا كقارب ورد، وطالب وجد، وما عند الله خير للأبرار"5.
 
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 2967.
2- م.ن، ج4، ص 2967.
3- م.ن، ج4، ص 2967.
4- م.ن، ج4، ص 2975.
5- م.ن، ج4، ص 2975.
 
 
254
 

222

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

تمنّي الموت
قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ﴾1.

والاستعداد للموت لا يعني تمني الموت وطلبه لضائقةٍ أو بلاءٍ أو ما شابه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يتمنّى أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان ولا بدّ فاعلاً فليقل: اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي"2.

وتمني الموت لازمه يقين المرء بحسن ما قدّم وأنه يثق بعمله الذي قدّمه بين يديه وأنه مقبل على مغفرة الله ورحمته، فمن رأى ذلك في نفسه وأمن عذاب الله كان صادقاً فيما يتمنى وراجحاً ما يصبو إليه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يتمنى أحدكم الموت إلا أن يثق بعمله"3.

وهذا ما أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام للحارث الهمذانيّ: 
 
 

1- البقرة: 94 ـ 95.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2970.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2970.
 
 
 
255
    






 

223

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

"وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت، ولا تتمنّ الموت إلّا بشرط وثيق"1.
 
وما لم يكن واثقاً بعمله فإنّه والحال هذه يتمنّى الهلاك، فعن الإمام الكاظم عليه السلام يبيّن لأحدهم أنّ تمنّي الموت يعني تمنّي الهلاك الأبديّ فيقول له: "هل بينك وبين الله قرابة يحابيك لها ؟ قال: لا، قال: فهل لك حسنات قدّمتها تزيد على سيّئاتك ؟ قال: لا، قال: فأنت إذاً تتمنّى هلاك الأبد"2.
 
بل ورد في بعض الروايات تأكيدها على أنّ تمنّي الحياة خيرٌ من تمنّي الموت، فعن الإمام الصادق عليه السلام- لرجل يتمنّى الموت - : "تمنّ الحياة لتطيع لا لتعصي، فلأن تعيش فتطيع خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع"3.
 
عدم التأهّب للموت
ويستغرب الإمام عليّ عليه السلام ممّن لا يتأهّب للموت قائلاً: 
 

1- نهج البلاغة، ج3، ص 129.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2971.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 2971.
 
 
256

 

224

المحاضرة الثانية: الإستعداد للموت

"عجبت لمن يرى أنّه ينقص كلّ يوم في نفسه وعمره وهو لا يتأهّب للموت"1.
 
ويرجع ذلك إلى جملة أسباب، أهمّها:
العجز: أي عجز المرء عن هذا الاستعداد وانجرافه في حبائل الدنيا، فعن عليّ عليه السلام: "إذا كان هجوم الموت لا يؤمن، فمن العجز ترك التأهّب له"2.

ويحذّر من ذلك بقوله عليه السلام: "إيّاك أن ينزل بك الموت وأنت آبق عن ربّك في طلب الدنيا"3.
 
الغفلة: عنه عليه السلام: "إنّ وراءك طالباً حثيثاً من الموت، فلا تغفل"4.

عنه عليه السلام: "تارك التأهّب للموت واغتنام المهل غافل عن هجوم الأجل"5
 
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 2979.
2- م.ن، ج4، ص 2966.
3- نهج البلاغة، ج3، ص 131.
4- ميزان الحكمة، ج4، ص 2966.
5- المصدر نفسه، ج4، ص 2966.
 
 
 
257
 

225

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

تصدير الموضوع:
الإمام عليّ عليه السلام: "اذكروا هادم اللّذّات، ومنغّص الشهوات، وداعي الشتات، اذكروا مفرّق الجماعات، ومباعد الأمنيّات، ومدنّي المنيّات، والمؤذن بالبين والشتات"1.
 
الهدف:
التأكيد على ذكر الموت وعدم الغفلة عنه في مجالسنا وسهراتنا ولقاءاتنا.
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2964.
 
 
259
 

226

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

المقدّمة
ورد في الدعاء عن الإمام السجّاد عليه السلام: "اللهمّ إنّ ذكر الموت وأهوال المطلع والوقوف بين يديك نغصّني مطعمي ومشربي وأغصّني بريقي وأقلقني عن وسادي ومنعني رقادي، كيف ينام من يخاف ملك الموت في طوارق الليل وطوارق النهار؟! بل كيف ينام العاقل وملك الموت لا ينام لا بالليل ولا بالنهار ويطلب روحه بالبيات وفي آناء الساعات"1؟!
 
وكان عليه السلام يسجد بعد هذا الدعاء ويلصق خده بالتراب ويقول: "أسألك الروح والراحة عند الموت والعفو عنّي حين ألقاك"2.
 
محاور الموضوع
ضرورة ذكر الموت
عن الإمام عليّ عليه السلام - لابنه الحسن عليه السلام-: "يا بنيّ أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت
 

1- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص 133.
2- المصدر نفسه، الشيخ الطوسي، ص 133.
 
 
 
260
 

227

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك"1.

فكثرة ذكر الموت تجعل من الإنسان دائم الإستعداد للموت، مجانباً للغفلة والسهو واللعب والضحك واللّامبالاة، وقد جاء في الرواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بمجلس وهم يضحكون فقال -: "أكثروا ذكر هادم اللذّات، أحسبه قال: فإنّه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلّا وسّعه، ولا في سعة إلّا ضيّقه عليه"2.

وعن الإمام علي عليه السلام: "أوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه، وكيف غفلتكم عما ليس يغفلكم، وطمعكم فيمن ليس يمهلكم! فكفى واعظا بموتى عاينتموهم"3.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا من ذكر هادم اللذات، فقيل: يا رسول الله فما هادم اللذات ؟ قال: الموت، فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأشدُّهم له استعداداً"4.
 
 

 
1- نهج البلاغة، ج3، ص 49.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2965.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2965.
4- م.ن، ج4، ص 2965.
 
 
261
 
 

228

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل أصحابه عن ذكرهم للموت كما كان يوصيهم بأيّ منقبةٍ أخرى، ومن كان قليل الذكر للموت كان الرسول يُسقطه من عينه كما في بعض الروايات.
 
بركات ذكر الموت
1- محور الفضائل: فلذكر الموت فضائل جمّة لا تُعَدّ ولا تحصى، فعن أبي عبد الله عليه السلام: "ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ويقلع منابت الغفلة ويقوي القلب بمواعد الله ويرقّ الطبع ويكسر أعلام الهوى ويطفئ نار الحرص ويحقر الدنيا"1.
 
2- محبّة الله: لأنّ ذكر الموت يجعلك قريباً من الله مدركاً لحضورك بين يديه، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: أنّه قال: "أفطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيّة خميس في مسجد قبا فقال: هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولي الأنصاري بعسلٍ مخيض بعسل، فلمّا وضعه على فيه نحّاه، ثمّ قال: شرابان يُكتفى بأحدهما عن صاحبه، لا أشربه ولا 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2964.
 
 
 
262

 

229

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

أحرّمه، ولكن أتواضع لله، فإنه من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر حفظه الله، ومن اقتصد في معيشته رزقه الله، ومن بذّر حرمه الله، ومن أكثر ذكر الموت أحبّه الله"1.

3- المسارعة إلى الخيرات: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أديموا ذكر هادم اللذّات قالوا يا رسول الله وما هادم اللذات، قال الموت فإنه من أكثر ذكر الموت سلى عن الشهوات ومن سلى عن الشهوات هانت عليه المصيبات ومن هانت عليه المصيبات سارع في الخيرات"2.
 
4- حائلٌ دون الشهوات: عن الإمام عليّ عليه السلام: "أكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات وكفى بالموت واعظاً"3، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: "أكثروا ذكر الموت، فإنّه هادم اللذّات حائل بينكم وبين الشهوات"4.
 
5- الرضا والقناعة: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال "أكثروا ذكر


1- المصدر نفسه، ج4، ص 3558.
2- مسند زيد بن علي، ص 386.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 2965.
4- المصدر نفسه، ج4، ص 2965.
 
 
 
 
263
    

  


230

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

هادم اللذّات، فما ذكر في كثير إلّا قلّله، ولا في قليل إلّا كثّره"1، ومعنى ذلك أنه متى ذكر الموت في قليل من الرزق استكثره الإنسان لاستقلال ما بقي من عمره، ومتى ذكره في كثير قلّله لأنّ كثير الدنيا إذا علم انقطاعه بالموت قلّ عنده.
 
وعن عليّ عليه السلام: "من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا بالكفاف"2.
 
6- الزهد في الدنيا: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أكثروا ذكر الموت، فإنّه ما أكثر ذكر الموت إنسان إلّا زهد في الدنيا"3.

والزهد في الدنيا يستلزم الإعراض وعدم الرغبة بها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "من أكثر من ذكر الموت قلّت في الدنيا رغبته"4. وعنه عليه السلام: "من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير"5
 
وعنه عليه السلام: "أكثروا من ذكر الموت فإنّه يمحق
 

1- تذكرة الفقهاء، ج1، ص 336.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2966.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2965.
4- م.ن، ج4، ص 2965.
5- م.ن، ج4، ص 2965.
 
 
 
264
 

231

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

الذنوب ويزهّد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم"1.
 
7- عدم اللّهو واللّعب: عن عليّ عليه السلام في حديثٍ له عن عمرو بن العاص: "أما والله إنّي ليمنعني من اللّعب ذكر الموت. وإنه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة"2.

فذكر الموت يجعل من الإنسان إنساناً مسؤولاً، كما أنّ نسيانه ونسيان الآخرة من بعده يحرف الإنسان عن جادّة الحقّ إلى جادّة الضلالة والعمى.
 
8- أفضل الطاعات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التفكّر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنّة"3.
 
9- الحشر مع الشهداء: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سئل هل يحشر مع الشهداء أحد: "نعم من يذكر الموت في اليوم 
 

1- م.ن، ج4، ص 2965.
2- نهج البلاغة، ج1، ص 147.
3- ميزان الحكمة، ج4، ص 2964.
 
 
 
265
 

 


232

المحاضرة الثالثة: ذكر الموت

والليلة عشرين مرة"1.
 
فذاكر الموت يُشارك الشهداء في الإرتباط الدائم بالساحة القدسيّة لله تبارك وتعالى، ولذلك كان معهم وفي درجتهم يوم القيامة.
 
10- حياة القلوب: عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا ذكر الموت، فما من عبد أكثر ذكره إلّا أحيى الله قلبه وهوّن عليه الموت"2.
 
11- هوان المصائب: عن الإمام عليّ عليه السلام: "أكثروا ذكر الموت، ويوم خروجكم من القبور، وقيامكم بين يدي الله عزَّ وجلَّ، تهون عليكم المصائب"3.

ولذلك نرى أنّ قراءة عزاء أبي عبد الله عليه السلام من أكثر الأمور التي تساعد المرء على التخفيف من مصابه وتسلّيه عن مأساته. عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر ذكر الموت يسلك عمّا سواه"4.
 
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 2965.
2- م.ن، ج4، ص 2965.
3- م.ن، ج4، ص 2965.
4- م.ن، ج4، ص 2965.
 
 
 
266
 

 


233

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾1.
 
الهدف:
إلقاء الضوء على بعض أهوال سكرات الموت وبعض ما يخفّف ذلك عن الإنسان.
 

1- ق 19.
 
 
267
 

234

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

 المقدّمة
عن الإمام عليّ عليه السلام - لمحمّد بن أبي بكر لما ولّاه مصر -: "احذروا يا عباد الله الموت وسكرته، وأعدّوا له عدّته، فإنّه يفجأكم بأمر عظيم، بخير لا يكون معه شرّ أبداً، أو بشرٍّ لا يكون معه خير أبداً... إنه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتّى يعلم أيّ المنزلتين يصل، إلى الجنّة أم إلى النار، أعدوّ هو لله أم وليّ له، فإن كان وليّاً لله فتحت له أبواب الجنّة وشرّعت له طرقها ورأى ما أعدّ الله له فيها، ففرغ من كلّ شغل ووضع عنه كلّ ثقل، وإن كان عدوًّا لله فتحت له أبواب النار وشرّعت له طرقها ونظر إلى ما أعدّ الله له فيها، فاستقبل كلّ مكروه وترك كلّ سرور....."1
 
محاور الموضوع
أحوال سكرات الموت
وعن الإمام عليّ عليه السلام - في وصفه لسكرات الموت -: "اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت، ففترت لها
 
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2973.
 
 
268
 

235

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

 أطرافهم، وتغيّرت لها ألوانهم. ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه، يفكّر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره، ويتذكّر أموالاً جمعها، أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتّعون بها، فيكون المهنأ لغيره والعب ء على ظهره، والمرء قد علقت رهونه بها، فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، ويتمنى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ! فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يردّد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، ولا يسمع رجع كلامهم. ثمّ زاد الموت التياطا به، فقبض بصره كما قبض سمعه، وخرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله"1..
 
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص 212.
 
 
 
 
269
 

236

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

أهوال سكرة الموت
قال تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾1.

1- شدّة الألم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أدنى جبذات الموت بمنزلة مائة ضربة بالسيف"2.

وعن عليّ عليه السلام: "والذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشدّ من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألّم كلّ عرق منه على حياله"3.
 
2- فوق الوصف والتعقّل: عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا"4.

فأيّ وصفٍ لغمرات الموت إنّما هو تشبيه وتصوير لمقاربة الواقع وحقيقته، لكن لا يمكن لأيّ وصفٍ أن يعطي الحقيقة كما هي في الواقع لأنّها أكبر من أن توصف بالكلمات والصفات.
 

1- القيامة 26 ـ 30.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2972.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2971.
4- م.ن، ج4، ص 2971.
 
 
 
270
 

237

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

3- الجزع والخوف: فإنّ شدّة الموت وحدها لو يعاينها الإنسان لكانت كافيةً لاستقامته والتزامه وعدم الإبتعاد عن الطاعات، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يُطرح الحجاب"1.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أنّ البهائم يعلمن من الموت ما تعلمون أنتم، ما أكلتم منها سميناً"2.
 
4- قرب الشيطان منه: فهي اللّحظة التي يأمل الشيطان حرف المؤمن عن ولاية أهل بيت العصمة عليهم السلام ، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "احضروا موتاكم ولقّنوهم لا إله إلا الله وبشّروهم بالجنّة، فإنّ الحليم من الرجال والنساء يتحيّر عند ذلك المصرع، وإنّ الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع"3.
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2972.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 2972.
3- م.ن، ج4، ص 2971.
 
 
271
 

238

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

5- ملك الموت: قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾1.

ولعلّ من أكبر سكرات الموت مواجهة ملك الموت الذي أوكله الله قبض الأرواح، هذا الملك الذي يتجلّى لكلّ إنسان بما يتناسب مع حقيقته وجوهره، ثمّ إنّ الله أعطاه من القدرة ما قدّره على قبض الأرواح في أيّ مكان من الأرض، فعن عليّ عليه السلام: "قيل لملك الموت عليه السلام: كيف تقبض الأرواح وبعضها في المغرب وبعضها في المشرق في ساعة واحدة؟. فقال: أدعوها فتجيبني. قال: وقال ملك الموت عليه السلام: إن الدنيا بين يديّ كالقصعة بين يدي أحدكم، يتناول منها ما يشاء، والدنيا عندي كالدرهم في كف أحدكم يقلبه كيف شاء"2.
 
وفي حوارٍ لافت لأمير المؤمنين عليه السلام مع الزنديق الذي ادعى التناقض في القرآن: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ وقوله: ﴿يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ و ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ و ﴿تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾ و﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾" فهو تبارك وتعالى
 
 

1- السجدة 11.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2963.
 
 
272
 

239

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

أجلّ وأعظم من أن يتولّى ذلك بنفسه، وفعل رسله وملائكته فعله، لأنّهم بأمره يعملون... فمن كان من أهل الطاعة تولّت قبض روحه ملائكة الرحمة، ومن كان من أهل المعصية تولّى قبض روحه ملائكة النقمة، ولملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة والنقمة يصدرون عن أمره، وفعلهم فعله، وكلّ ما يأتونه منسوب إليه، وإذا كان فعلهم فعل ملك الموت، وفعل ملك الموت فعل الله لأنّه يتوفّى الأنفس على يد من يشاء"1.
 
ما يهوّن الموت وسكراته
إنفاق المال: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قدّم مالك أمامك يسرّك اللّحاق به"2.
 
فمساعدة الفقراء والتحنّن عليهم وكسوتهم في الشتاء والصيف ممّا يخفف سكرات الموت، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من كسا أخاه كسوة شتاءٍ أو صيف كان حقاً على الله أن يكسوه من ثياب الجنّة، وأن يهوّن عليه سكرات
 
 

1- المصدر نفسه، ج4، ص 2963.
2- م.ن، ج4، ص 2972.
 
 
 
273



 

240

المحاضرة الرابعة: سكرة الموت

الموت وأن يوسع عليه في قبره"1.
 
الإبتعاد عن المعاصي: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- لرجل وهو يوصيه -: "أقلل من الشهوات يسهل عليك الفقر، وأقلل من الذنوب يسهل عليك الموت"2.

صلة الرحم وبرّ الوالدين: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أحبّ أن يخفّف الله عزَّ وجلَّ عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً وبوالديه بارًّا، فإذا كان كذلك هوّن الله عزَّ وجلَّ عليه سكرات الموت ولم يصبه في حياته فقر أبداً"3.

وفي الروايات أمورٌ كثيرة تهوّن سكرات الموت منها قراءة سورة الزلزلة والمواظبة على الفرائض اليوميّة والإكثار من قراءة آية ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا..﴾، والمواظبة على تسبيح الزهراء عليها السلام وقراءة سورة المؤمنون كلّ يوم جمعة وغير ذلك ممّا يُشوّق المرء للقاء ربّه، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "شوّقوا أنفسكم إلى نعيم الجنّة تحبّوا الموت وتمقتوا الحياة".


1- الكافي ، ص 204.
2- ميزان الحكمة، ج4، ص 2972.
3- المصدر نفسه، ج4، ص 2972.
 
 
274

241

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾1.
 
الهدف:
التنبيه على أنّ الهدف من الدار الدنيا تزوّد الإنسان لآخرته قبل حلول الموت.
 

1- البقرة 197.
 
 
275
 

242

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

المقدّمة
عن الإمام عليّ عليه السلام - لمّا أشرف على القبور وهو يرجع من صفّين -: "يا أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق. أمّا الدور فقد سُكنت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت، وأمّا الأموال فقد قُسمت. هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم ؟ ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى"1.
 
محاور الموضوع
الحثّ على التزوّد للآخرة
لعلّ أهمّ ما في حياة الإنسان أن يعي دوره جيّداً في هذه الحياة الدنيا وأنّها الدار التي ينبغي أن يكسب بها نفسه للآخرة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "تزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً"2.
 

1- نهج البلاغة, ج4, ص 2968.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2968.
 
 
276
 

243

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

 فالدنيا إن كانت كذلك كانت نعم الدنيا، وإن لم تكن كذلك كانت دار فقر ولو ملكت أطرافها وكلّ مالها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها"1.
 
فهي الفرصة القصيرة للتزوّد للأبد، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "تزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء، قد دُللتم على الزاد، وأُمرتم بالظعن، وحُثثتم على المسير"2.

وعنه عليه السلام: "ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً، وأبقى آثاراً؟.. تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، وآثروها أيّ إيثار، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ولا ظهر قاطع"3.

وعنه عليه السلام: "إنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر ممّا وراءها شيئاً، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزوّد، والأعمى لها متزوّد"4.
 
 

1- المصدر نفسه، ج3، ص 2968.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2968.
3- المصدر نفسه، ج3، ص 2968.
4- م.ن، ج3، ص 2968.
 
 
277

 

244

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

وعنه عليه السلام: "إنّ الدنيا لم تُخلق لكم دار مقام، بل خُلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار"1.
 
خير الزاد
ولطالما كان أمير المؤمنين يحثّ أصحابه على التزوّد من هذه الدار الدنيا وأن يستقلّ المرء زاده، فما أروع قوله عليه السلام إلى أربعة أمور أساسيّة: "آه! من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد"2.
 
نعم لأنّ قلّة الزاد وكثرته ترتبطان بطول الطريق وقصره وبعد السفر أو قربه وعظيم ما ترد عليه أو ضعفه، فإذا كان الورود على الحساب فجديرٌ بالمرء أن يستصغر عمله ويستقلّ زاده.
 
التقوى: عن عليّ عليه السلام: "لا خير في شيء من أزوادها إلّا التقوى"3.

عنه عليه السلام - إذا صلّى العشاء الآخرة ينادي الناس ثلاث مرّات حتّى يسمع أهل المسجد: "أيّها الناس تجهّزوا رحمكم
 
 

1- م.ن، ج3، ص 2968.
2- نهج البلاغة، ج4، ص 17.
3- نهج البلاغة، ج1، ص 21.
 
 
278
 

245

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

الله، فقد نودي فيكم بالرحيل، فما التعرّج على الدنيا بعد نداء فيها بالرحيل؟! تجهّزوا رحمكم الله، وانتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد وهو التقوى"1.
 
صالح الأعمال: عن عليّ عليه السلام: "إنّك لن يغني عنك بعد الموت إلّا صالح عمل قدّمته، فتزوّد من صالح العمل"2.
 
وعنه عليه السلام - وكان كثيراً ما ينادي به أصحابه -: "تجهّزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلّوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لا بدّ من الورود عليها، والوقوف عندها... فقطّعوا علائق الدنيا واستظهروا بزاد التقوى"3.
 
وعنه عليه السلام: "فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله... وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته"4.
 
ويشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى ثلاثة أمور أساسيّة تشكّل خير الزاد، فلا ينبغي الغفلة عنها في دار الدنيا، الاجتهاد في
 
 

1- ميزان الحكمة، ج3، ص 2968.
2- المصدر نفسه، ج3، ص 2968.
3- م.ن، ج3، ص 2968.
4- م.ن، ج3، ص 2969.
 
 
 
279


 

246

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

طاعة الله، والاستعداد للقاء الله والتزوّد لمجاورة الله فيقول عليه السلام: "عليكم بالجدّ والاجتهاد، والتأهّب والاستعداد، والتزوّد في منزل الزاد"1.
  
علّة كراهة الموت
 ولكراهة الموت ارتباط وثيق بعدم التزوّد من الدنيا، بل لعلّ ذلك يصلح أن يكون مؤشّراً يقيس به المرء تزوّده، فكلما كره الموت كان ذلك دليلاً على قلّة الزاد، وكلّما أحبّ الموت كان ذلك مؤشّراً على وفرة الزاد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- لرجل سأله عن علّة كراهة الموت: "ألك مال؟ قال: نعم، قال: فقدّمته ؟ قال: لا، قال: فمن ثَمَّ لا تحبّ الموت"2.
  
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضا يشير إلى نفس المعنى لكن بقرينة أنّ المرء يحبّ أن يبقى مع ما يحبّ فيقول لأحدهم: "هل لك مال؟ فقدِّم مالك بين يديك، فإنّ المرء مع ماله، إن قدّمه أحبَّ أن يلحقه، وإن خلّفه أحبّ أن يتخلّف معه"3.
 

1- م.ن، ج3، ص 2968.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2973.
3- المصدر نفسه، ج3، ص 2972.
 
 
 
280
 
  

247

المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

وعن الإمام الحسن عليه السلام في علّة كراهة الموت: "لأنّكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، وأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب"1.
 
فمن تزوّد وأحسن التزوّد أحبّ الإنتقال وانتظره وتمنّاه، ومن لم يتزوّد كره ذلك وفرّ منه، لكنّه فرار قصير وسرعان ما سيدركه الأجل.
 
وعن الإمام الجواد عليه السلام - لمّا سئل عن علّة كراهة الموت -: "لأنهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزَّ وجلَّ لأحبّوه، ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا، ثمّ قال عليه السلام: يا أبا عبد الله ما بال الصبيّ والمجنون يمتنع من الدواء المنقّي لبدنه والنافي للألم عنه ؟ قال: لجهلهم بنفع الدواء، قال: والذي بعث محمّداَ بالحقّ نبيّاً إنّ من استعدّ للموت حقّ الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات"2.
 

1- م.ن، ج3، ص 2972.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص 2960.
 
 
281
 

248
(6) زاد وجهاد في شهر الله