قدوة الشباب (3) - المعرفة العقلية والقلبية

قدوة الشباب (3)


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ليس هناك أدنى شكّ في كون الإسلام يؤكّد على العلم ويوصي به، حيث إنَّنا قد لا نجد موضوعاً أوصى به الإسلام وأكَّده أكثر من طلب العلم، فعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «طلب العلم فريضة على كُلِّ مسلم»[1].

إنَّ كلَّ علمٍ يؤيّد منظوراً فرديّاً أو اجتماعيّاً إسلاميّاً، ويكون عدم الأخذ به مسبّباً لانكسار ذلك المنظور، فذلك علمٌ يوصي به الإسلام، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الحِكمةُ ضالَّة المؤمن، فاطلُبوها ولو عندَ المُشرك تكونوا أحقّ بها وأهلَهَا»[2].

إنّ في روح الإنسان بؤرتين أو مركزين، وكلٌّ منهما منشأٌ لنوعٍ معيّنٍ من الفاعليّات والتجلّيات الروحيّة، وإحدى هاتين البؤرتين تسمّى (العقل) أو (الحكمة)، وتسمّى الأخرى (القلب). من البعد القلبيّ تنبعث الحرارة والحركة، ومن البعد العقليّ تبرز الهداية والاستنارة.

والقرآن الكريم كتاب هداية ليس للمسلمين فحسب، بل للإنسانيّة جمعاء، يهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلنَٰهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ

 

 


[1]  الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص30.

[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص625.

 

12


1

المقدّمة

إِلَى ٱلنُّورِ﴾[1]. وأحد أساليب القرآن في دفع الناس نحو الهداية، هو أسلوب مخاطبة العقل والفكر، والدعوة إلى التدبّر: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلنَٰهُ إِلَيكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ﴾[2]. ولكنّ القرآن يتّجه -بعد مخاطبة العقل- إلى أسلوب آخر في الخطاب، هو أسلوب مخاطبة القلب؛ إذ يقول -تعالى-: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلبٌ﴾[3]، ويقول: ﴿إِلَّا مَن أَتَى ٱللَّهَ بِقَلبٖ سَلِيمٖ﴾[4]. فالقلب له تلك الموقعيّة المهمّة في عمليّة الاستجابة للدعوة الإلهيّة، فإذا ما تحرّك القلب وأصابته رجفة العشق، اهتزّ كيان الإنسان، وطوى طريق الغيب والشهادة نحو الله -تعالى-.

وللشهيد مطهّريّ محاضرات قيّمة يتناول فيها هذا الجانب، وهو خطاب القرآن للعقل والقلب، يبيّن فيها موقعيّة كلٍّ من العقل والقلب في الفكر الإسلاميّ من الناحية النظريّة والعلاقة الناشئة بينهما، وكذلك يتعرّض للطرائق العمليّة التي يعتمدها الإنسان في الوصول إلى الله -تعالى-، وكذلك يعرض الشهيد مطهّريّ مفاهيم تتعلّق بالمعرفة التي يقدِّمها القرآن الكريم، ونظرة القرآن إلى كلٍّ من العقل والقلب، في قالبٍ فكريٍّ قائمٍ على دعامة التّوحيد بأبعاده النظريّة والعمليّة.

إنَّ مجموع هذه المحاضرات المختارة من فكر الشهيد مطهّريّ، تهدف إلى الإضاءة على فكرة التكامل بين أسلوبي القرآن في مخاطبة العقل والقلب؛ وذلك من أجل إنجاح مهمّة شاقّة هدفها تحرير الإنسان من عبوديّة الدّنيا، والتعلّق بالله -تعالى-. والوعي الفكريّ والبناء العقليّ، لا يمكن أن يحصلا على أكمل وجه، إلّا إذا أضيف إليهما معرفة قلبيّة دافقة طاهرة وسليمة، ليتاح للإنسان أن يبدأ بتغيير نفسه من أجل الوصول إلى إصلاح المجتمع والإنسانيّة.


 


[1] سورة إبراهيم، الآية 1.

[2] سورة ص، الآية 29.

[3] سورة ق، الآية 37.

[4] سورة الشعراء، الآية 89.

 

13


2

المقدّمة

إنّ هذا الكتاب يحوي بين دفّتيه مجموعة محاضرات ومقالات جرى اختيارها ومراجعتها لكي تساهم في تقديم رؤية صحيحة عن النفس والوجود، بشكلٍ نظريّ وعمليّ، وهي موجّهة لطلبة المرحلة الثانويّة الشباب المؤمن الواعي؛ بهدف تعريفهم أكثر على هاتين القوّتين الأساسيّتين في وجودهما؛ أي العقل والقلب، وعلى كيفيّة الاستفادة الصحيحة منهما في هذه الحياة الدنيا. وهي فرصة مهمّة -أيضاً- لتعريف الطلّاب الشباب أكثر بالفكر النيّر لهذا العالم الربّانيّ، والعمل أكثر فأكثر على بناء ذاتٍ واعيةٍ تتحمَّل مسؤوليّة النّهضة بالأمّة الإسلاميّة بكلّ قوّة وثقة، كما كانت حال هذا الشهيد العظيم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

14


3

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم


مقدّمة

موضوعنا هو الإسلام والعلم. وبعبارة أُخرى، هو البحث في نظرة الإسلام إلى العلم. كما كان بحثنا السابق يدور حول نظرة الإسلام إلى الدُّنيا والحياة والنزعات الطبيعيّة. فهل الدِّين والعلم يتّفقان أم يختلفان؟ كيف ينظر الدِّين إلى العلم؟ وكيف ينظر العلم إلى الدِّين؟ إنَّه لبحث طويل كُتبت فيه كتب قيّمة عديدة.

هناك طبقتان من الناس تسعيان إلى إظهار أنَّ الدِّين والعلم متخالفان:

- الأولى: هي الطبقة المتظاهرة بالتديُّن، ولكنَّها تتميَّز بالجهل، تعيشُ على الجهل المتفشِّي في النَّاس وتستفيد منه. إنَّ هذه الطبقة، لكي تُبقي الناس في الجهالة، وتسدل باسم الدِّين ستاراً على مثالبها هي، وتحارب بسلاح الدِّين العلماء لتخرجهم من ميدان المنافسة، كانت تخيف الناس من العلم بحجّة أنَّه يتنافى مع الدّين.

- والثانية: هي الطبقة المثقّفة المتعلّمة، ولكنّها ضربت بالمبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة عرض الحائط. وهذه الطبقة، لكي تبرّر لا مبالاتها وأعمالها المنكرة، تتذَّرع وتدَّعي أنَّه لا يأتلف مع الدّين.

 

18


4

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

- الطبقة الثالثة: وهي دائماً موجودة، لها حظّ من كلّ من العلم والديّن، ولم يخالجها قطّ إحساس بأيّ تناقض أو تنافٍ بينهما، ولقد سعت هذه الطبقة إلى إزالة الظلام والغبار اللذين أثارتها الطبقتان المذكورتان لدقّ إسفين بين هذين الناموسين المقدّسين.

إنّ بحثنا في الإسلام والدّين يمكن أن يجري من جانبين اثنين: الجانب الاجتماعيّ، والجانب الدّينيّ. فمن حيث الجانب الاجتماعيّ علينا أن نبحث فيما إذا كان العلم والدّين ينسجمان معاً أو لا ينسجمان. هل يستطيع الناس أن يكونوا مسلمين بالمعنى الحقيقيّ؛ أي أن يؤمنوا بأُصول الإسلام ومبادئه ويعملوا وَفق تعاليمه، وأن يكونوا علماء في الوقت نفسه؟ أم عليهم أن يختاروا واحداً منهما؟ فإذا بحث الأمر على هذا النحو، عندها نسأل: ما رأي الإسلام في العلم؟ وما رأي العلم في الإسلام؟ كيف هو الإسلام كدين؟ هل من الناحية الاجتماعيّة يمكن احتواء الاثنين معاً؟ أم يجب أن يُتغاضى عن أحدهما؟

الجانب الآخر: هو أن نتعرّف إلى نظرة الإسلام إلى العلم، وإلى نظرة العلم إلى الإسلام. وهذا، بالبداهة، ينقسم إلى قسمين: الأوّل هو معرفة وصايا الإسلام وتعاليمه بشأن العلم. هل يقول إنَّ علينا أن نتجنّب العلم جهد طاقتنا؟ وهل يرى في العلم خطراً ومنافساً له في وجوده؟ أم على العكس من ذلك، يرحّب بالعلم بكلّ اطمئنان وشجاعة، ويوصي به، ويحثّ عليه؟ ثمّ علينا أن نعرف رأي العلم في الإسلام. لقد مضى على ظهور الإسلام ونزول القرآن أربعة عشر قرناً، وخلال هذه القرون الأربعة عشر كان تقدُّم العلم بصورة قفزات واسعة.

والآن، فلنرَ هذا العلم بعد كلِّ تطوّره ونجاحه واطّراد تكامله، ما رأيه في العقائد والمعارف الإسلاميّة، وفي تعاليم الإسلام الاجتماعيّة والأخلاقيّة العمليّة؟ ترى هل يعترف بها أم لا يعترف؟ وهل رفع من شأنها أم أنزله؟

إنَّ كلّ قسم من هذه الأقسام الثلاثة سيكون موضوع بحث، إلّا أنَّ بحثنا هذا سيتناول قسماً واحداً منها، وهو ما يتعلّق بنظرة الإسلام إلى العلم.

 

19

 


5

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

الإسلام يوصي بالعلم

ليس هناك أدنى شكّ في كون الإسلام يؤكّد على العلم ويوصي به، حيث إنَّنا قد لا نجد موضوعاً أوصى به الإسلام وأكَّده أكثر من طلب العلم.

في أقدم الكتب الإسلاميّة المدوّنة، نجد أنَّ الحثّ على طلب العلم يأتي كفريضة، مثل الفرائض الأُخرى كالصّلاة، والصوم، والحجّ والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثمّ، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة، نجد أنَّ أهمّ وصية يوصي بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) هو الخبر الثابتة صحّته لدى جميع المسلمين، وهو قوله: «طلب العلم فريضة على كُلِّ مسلم»[1]. فطلب العلم -إذاً- واجبٌ على جميع المسلمين، ولا يختصُّ بطبقة دون أُخرى، ولا بجنس دون آخر. فكلّ من كان مسلماً عليه أن يواصل طلب العلم.

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «اطلُبوا العِلم ولَو بالصّين»[2]؛ أي إنَّ العلم لا يختصّ بمكان معيّن، فحيثما يوجد علم عليكم بالسّفر في طلبه.

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «كَلِمة الحِكْمة ضالةُ المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقُّ بها»[3]؛ أي إنَّ المؤمن لا يهتمّ بمن يتلقّى عنه العلم، أهو مسلم أم كافر، كمثل الذي يجد ماله المفقود عند أحدهم، فلا يسأل عمَّن يكون، بل يأخذ منه ماله دون تردًّد. كذلك المؤمن، فهو يعتبر العلم ملكه، فيأخذه حيثما وجده. والإمام عليّ (عليه السلام) يوضح هذا الأمر بقوله: «الحِكمةُ ضالَّة المؤمن، فاطلُبوها ولو عندَ المُشرك تكونوا أحقّ بها وأهلَهَا»[4].

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص30.

[2] النيسابوريّ، الشيخ محمّد بن الفتّال، روضة الواعظين، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص11.

[3] الترمذي، أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذيّ)، تحقيق وتصحيح عبد الوهّاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج4، ص155.

[4] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، 625.

 

20


6

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

فطلب العلم فريضة لا يقف في وجهه متعلّم ولا معلّم ولا زمان ولا مكان أبداً. وهذه أرفع توصية يمكن أن يُوصى بها، وأسماها.

 

ما هو العلم في المنظور الإسلاميّ؟

إلّا أنّ هنالك كلمة لا بدّ أن تُقال وهي: ما العلم الذي يقصده الإسلام؟ فقد يقول قائل: إنَّ المقصود من هذا الكلام كلّه عن العلم هو علم الدِّين نفسه؛ أي إنَّ الناس مطلوب منهم أن يتعرّفوا إلى دينهم. فإذا كان العلم عند الإسلام هو علم الدِّين، فإنَّه قد أوصى به، ولم يقلّ شيئاً عن العلم الذي هو الاطّلاع على حقائق الكائنات ومعرفة أمور العالم، وبذلك تبقى المشكلة كما هي؛ وذلك لأنَّ أيّ مذهب من المذاهب، مهما يكن عداؤه للعلم والمعرفة، ويقف معارضاً كلّ اطّلاع وتقدّم فكريّ، فإنَّه لا يمكن أن يخالف الاطّلاع على ذاته، بل يقول: تعرّفوا إليَّ ولا تتعرّفوا إلى غيري. وعليه، إذا كان قصد الإسلام بالعلم «العلم بالدِّين» فحسب، عندئذٍ يكون توجّه الإسلام نحو العلم صفراً، وتكون نظرته إلى العلم سلبيَّة.

إنَّ العارف بالإسلام ومنطقه لا يمكن أن يقول إنَّ نظرة الإسلام إلى العلم تنحصر بالعلوم الدينيّة فحسب. إنّ هذا الاحتمال قد ينسجم مع أسلوب عمل المسلمين في القرون المتأخِّرة، حيث ضيَّقوا من دائرة العلم والمعرفة وحدَّدوها، وإلَّا فإنَّ قوله (صلى الله عليه وآله): «الحِكمةُ ضالَّة المؤمن، فاطلُبوها ولو عندَ المُشرك تكونوا أحقّ بها وأهلَهَا»، يصبح لا معنى له إذا كان المقصود بالعلم هو الدِّين، فأيّ دين هذا الذي يأخذه المؤمن من المشرك؟ وكذلك الحديث «اطلبوا العلم ولو بالصين»[1]، فقد جيء بالصين على اعتبار أنَّها أبعد مكان معروف في العالم يومئذٍ، أو على اعتبار أنَّها كانت معروفة بأنَّها مركز من مراكز العلم والصناعة في العالم، ولكنّ الصين لم تكن قديماً ولا حديثاً مركزاً من مراكز العلوم الدينيّة.

بصرف النظر عن هذا كلّه، فإنَّ أحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) تحدّد المقصود بالعلم وتفسّره، ولكن لا بالتّخصيص والنصّ على العلم الفلانيّ والفلانيّ، وإنَّما بعنوان العلم النافع،

 

 


[1] النيسابوريّ، روضة الواعظين، مصدر سابق، ص11.

 

21


7

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

العلم الذي معرفته تنفع، وعدم المعرفة به تضرّ. فكلّ علم يتضمّن فائدةً وأثراً يقبل بهما الإسلام، ويعتبرهما مفيدين ونافعين، يكون ذلك العلم مقبولاً عند الإسلام، ويكون طلبه فريضة، إذاً، ليس من الصّعب أن نتحقَّق من الأمر، وعلينا أن نرى ما الذي يراه الإسلام نفعاً، وما الذي يراه ضرراً.

إنَّ كلَّ علمٍ يؤيّد منظوراً فرديّاً أو اجتماعيّاً إسلاميّاً، ويكون عدم الأخذ به مسبّباً لانكسار ذلك المنظور، فذلك علمٌ يوصي به الإسلام. وكلّ علمٍ لا يؤثّر في المنظورات الإسلاميّة، لا يكون للإسلام نظر خاصّ فيه. وكلّ علم يؤثّر تأثيراً سيِّئاً، فإنّ الإسلام يخالفه.

سيرة أئمَّة الدِّين (عليهم السلام)

إنَّنا من الشيعة، ونعترف بأنَّ الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام)أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنَّ سيرهم وأقوالهم سنَّة لنا.

ومن المعلوم أنَّ المسلمين في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني الهجريّ قد تعرّفوا إلى علوم الدُّنيا عن طريق ترجمتها عن اليونانيّة، والهنديّة، والفارسيّة، ونعلم من ناحية أُخرى، أنَّ الأئمَّة لم يتوانَوا في توجيه النقد؛ إذ إنَّ كتبنا مليئة بهذه الانتقادات. فلو كانت نظرة الإسلام إلى العلوم نظرة سلبيّة معارضة، ولو كان الإسلام يرى في العلوم وسائل لتخريب الدِّين وهدمه، لما توانى الأئمَّة الأطهار في انتقاد عمل الذين أوصوا بترجمة تلك العلوم: وأنشؤوا لذلك الدواوين، وعيّنوا المترجمين والناقلين والناسخين، لترجمة أنواع الكتب في الفلك والمنطق والفلسفة والطبّ والحيوان والأدب والتاريخ. لقد سبق لهم أن انتقدوا كثيراً من الأعمال، فلو لم يرتضوا هذا العمل لكان أجدر بالانتقاد؛ لأنَّه أعظم تأثيراً وأبعد أثراً، ولقالوا: (حسبنا كتاب الله)، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث.

 

منطق القرآن

ثمّ إنَّ منطق القرآن بشأن العلم منطقٌ عامّ لا تخصيص فيه، فالقرآن يصفُ العلمَ بأنَّه نورٌ، والجهلَ بأنَّه ظلام، وهو يرى النُّورَ خيراً من الظَّلام.

 

 

22

 


8

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

ولكنّ القرآن يطرحُ عدداً من المواضيع، ويطلبُ صراحةً من النَّاس التأمُّل فيها. وما هذه المواضيع سوى تلك العلوم التي نطلق عليها اليوم أسماء العلوم الطبيعيّة والرياضيّة والحياتيّة والتاريخيّة وغيرها. فالآية تقول: ﴿إِنَّ فِي خَلقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَٰفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلفُلكِ ٱلَّتِي تَجرِي فِي ٱلبَحرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحيَا بِهِ ٱلأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلمُسَخَّرِ بَينَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَومٖ يَعقِلُونَ﴾[1]؛ أي إنَّ لكلِّ هذه الظواهر قوانين وأنظمة تقرّبكم معرفتها إلى وحدانيّة الله.

فالقرآنُ يوصي النَّاس صراحةً بدراسة هذه الأمور؛ لأنَّ دراسة هذه الأُمور تؤدِّي إلى دراسة الفلك والنُّجوم، الأرض والبحار، والكائنات الجويّة، والحيوان وغيرها. وهذا واضح في الآية الثانية من سورة الجاثية، والآية 25 من سورة فاطر، وآيات أخرى.

إنَّ القرآن كتابٌ بدأَ أوَّل نزوله بالكلام على (القراءة) و(العلم) و(الكتابة)، فكان أوّل وحيه موجّهاً إلى هذه الأُمور: ﴿ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلإِنسَٰنَ مِن عَلَقٍ ٢ ٱقرَأ وَرَبُّكَ ٱلأَكرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلقَلَمِ﴾[2].

التوحيد والعلم

الإسلام دينٌ يبدأ بالتَّوحيد، والتَّوحيد قضيّة عقلانيّة لا يجوزُ فيها التَّقليد والتّسليم التعبُّديّ، بل لا بدَّ فيه من التعقُّل، والاستدلال، والتّفلسف.

ولو كان الإسلام قد ابتدأ بالثنائيّة أو التثليث لما استطاع إطلاق الحريّة في هذا البحث، وما كان له إلَّا أن يعلن عنه كمنطقة محرّمة ممنوعة، ولكنَّه إذ بدأ بالتوحيد، فقد أعلنه منطقة مفتوحة، بل إنّ واجهة الارتياد والمدخل في نظر القرآن، هو الكائنات برمّتها،


 


[1] سورة البقرة، الآية 164.

[2] سورة العلق، الآيات 1 – 4.

 

23


9

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

وبطاقة الدخول هي العلم والتعلّم، ووسيلة التنقل في هذه المنطقة هي قوَّة الفكر والاستدلال المنطقيّ.

 

هذه هي المواضيع التي يوصي القرآن بدراستها. أمّا كون المسلمين لم يولوها اهتماماً بقدر اهتمامهم بمواضيع أُخرى لم يوصِ القرآن بها، فذلك أمرٌ آخر، وله أسبابه التي لا مجال هنا لبحثها.

 

كلُّ هذه قرائن تدلُّ جميعها على أنَّ نظرة الإسلام لا تنحصر بالعلوم الدينيّة. وقد دار نقاش طويل قديماً حول ما يقصده الإسلام بالعلم الذي يرى التزوّد به واجباً وفريضة، وغدت كلّ مجموعة تحاول التطبيق على ذلك الفرع من العلوم الذي تمثّله هي. فكان علماء الكلام يقولون: إنَّ المقصود هو علم الكلام، وقال المفسّرون: إنَّه يقصد علم التفسير، والمحدّثون قالوا: إنَّه علم الحديث، وقال الفقهاء: إنَّه الفقه وإنَّ على كلّ امرئ إمَّا أن يكون فقيهاً وإمّا مقلّداً لفقيه، وقال الأخلاقيّون: إنَّه علم الأخلاق والاطّلاع على المنجيات والمهلكات، وقال الصوفيّون: المقصود هو علم السَّيِر والسلوك والتوحيد العمليّ. وينقل الغزالي بهذا الشأن عشرين قولاً غير أنَّ المحقّقين يقولون: إنَّ المقصود ليس أيّاً من هذه العلوم على وجه التّخصيص، إذ لو كان المقصود علماً معيّناً لذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعيَّنه بالاسم، وإنَّما المقصود هو كلّ علم نافع يفيد الناس.

 

هل العلم وسيلة أم غاية؟

لا شكّ في أنَّ بعض العلوم هو هدف في حدّ ذاته، كالمعارف الربوبيّة، ومعرفة الله وما يتعلّق بذلك، كمعرفة النفس والمعاد. فإذا تجاوزنا هذا، تكون العلوم الأخرى وسائل لا أهدافاً؛ أي إنَّ ضرورة علم ما وفائدته لا تتحدّدان بمقدار أهمّيّته كوسيلة لتحقيق عمل أو وظيفة. فكلّ العلوم الدينيّة، باستثناء المعارف الإلهيّة، كعلم الأخلاق، والفقه والحديث، تدخل في ذلك المعنى، فكلّها وسائل، وليست أهدافاً، ناهيك عن علوم الأدب والمنطق التي تدرّس في المدارس الدينيّة كمقدّمات.

 

24


10

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

ولهذا، يرى الفقهاء في اصطلاحهم أنَّ وجوب العلم وجوب مقدّمي؛ أي إنَّ وجوبه متأتٍّ من كونه يعدّ المرء ويهيّئه للقيام بعمل ما متّفق مع منظور الإسلام، حتّى إنَّ تعلُّم المسائل العلميّة في الأحكام من مسائل الصَّلاة والصّوم، والخمس والزكاة، والحجّ والطَّهارة، ممَّا هو مذكورٌ في الرَّسائل العمليّة، ليس إلَّا لكي يكون الإنسان متهيّئاً لأداء وظيفةٍ أُخرى أداءً صحيحاً. فالمستطيع الذي ينوي الحجّ يجب أن يتعلّم ما يتعلَّق بأحكامه لكي يكون مستعدّاً لأداء مناسك الحجّ على وجهها الصحيح.

وبعد أن ندرك هذا، علينا أن ندرك أمراً آخر، وهو: أيّ دين هو الإسلام؟ ما أهدافه؟ ما المجتمع الذي يريده؟ ما مدى اتِّساع المنظورات الإسلاميّة؟ هل اكتفى الإسلام بهذا العدد من المسائل العباديّة والأخلاقيّة؟ أم تعاليم هذا الدِّين قد اتَّسعت لتشمل شؤون حياة البشر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة كلّها، وإنَّ له في ذلك أهدافاً يبغي تحقيقها؟ هل الإسلام يريدُ المجتمع مستقلّاً، أم لا يعنيه إن كان مستَعْمَراً ومحكوماً؟ ما من شكٍّ في أنَّ الإسلام يريدُ مجتمعاً مستقلّاً، حرّاً، عزيزاً شامخ الرأس، مستغنياً عن الآخرين، وثمَّة أمرٌ ثالث لا بدَّ من معرفته والاطّلاع عليه، وهو أنَّ العالم اليوم يدور على العلم، وأنَّ مفتاح كلّ شيءٍ هو العلم والمعرفة، وإنّنا بغير العلم لا نستطيعُ خلْقَ مجتمعٍ غنيٍّ، ومستقلٍّ، وقويٍّ، وحرٍّ، وعزيزٍ. وهذا يؤدِّي بنا إلى الاستنتاج أنَّ من الواجب والمفروض على المسلمين في كلِّ زمان، وخصوصاً في زماننا هذا، أن يتعلّموا ويُتقنوا كلَّ علمٍ من العلوم التي تكون وسيلة للوصول إلى الأهداف السّاميّة المذكورة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع اعتبار جميع العلوم النَّافعة علوماً دينيَّة، كما نستطيع أنْ نعرفَ أيّ علمٍ هو من الواجبات الكفائيّة، وأيّ علمٍ هو من الواجبات العينيّة. وكذلك نستطيع أن نعرف إن كان علمٌ من العلوم يمكن أن يكون في وقت ما من أوجب الواجبات، ولا يكون كذلك في وقت آخر. وهذا بالطَّبع يتعلّق بميزان ذكاء الأشخاص الذين يكونون من المجتهدين في كلّ زمان، ويستنبطون الأحكام لذلك الزمان.

 

25


11

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة


مراحل العلم وعلاقته بالإنسان

من المقولات المعروفة: إنَّ للعلم ثلاث مراحل؛ عندما يبلغ الإنسان المرحلة الأولى يركبه الغرور والتكبّر؛ إذ ينظر إلى ما أدركه من بعض مسائل العلم، فيعتبر نفسه أعلم مَن عليها، ويراها أفضل وأرفع من غيرها من الأفراد، وهذه هي مرحلة رؤية العلم والذات. وعند وصوله إلى المرحلة الثانية، تكون معلوماته قد ازدادت، فتتجلّى له عظمة الخلق، فيستصغر نفسه وعلمه أمام عظمة ما يتجلّى له، فيأخذه التواضع، وهذه مرحلة الرؤية الواقعيّة والمنظور الواقعيّ للعالم، فينتقل من رؤية العلم إلى رؤية العالَم. فبدلاً من أن يتطلّع إلى ما عنده من علمٍ يطلق بصره في العالَم ويتفهّم العالم بما لديه من معلومات، حتَّى يضع قدمه على أعتاب المرحلة الثالثة، وفي هذه المرحلة يعلم أنَّه لا يعلم شيئاً، وهذه مرحلة الحِيرة والاندهاش. في هذه المرحلة يدركُ أنَّ المقاييس والموازين الفكريّة التي اختزنها في صندوق فكره أتفهَ وأحقرَ من أن تستطيع من خلالها قياس هذا العالم العظيم، عندئذٍ يعلم أنَّ مقاييسه العلميّة والفكريّة لا تصلح إلَّا لمحيطِ حياته الخاصّة فحسب.

 

26


12

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

غرور العلم الناقص

كما أنّ الإنسانَ يغترُّ أحياناً بماله فيكون صريعَ جنون الثروة، فيحسب أنَّ ما يكتنزه من مالٍ وثروةٍ يشبع كلَّ حاجةٍ، وأنَّه يخلّده في الدّنيا: ﴿يَحسَبُ أَنَّ مَالَهُۥ أَخلَدَهُۥ﴾[1]، أو قد يركبه الغرور بسبب ما عنده من مقامٍ وجاه، ويستولي جنون العظمة على تفكيره، فينطلق ليفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، وقد يصل به الجهل والغرور حدّاً يقول معه، كما قال فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ ٱلأَعلَىٰ﴾[2]

كذلك يمكن أن يستوليَ على الإنسان أحياناً غرور العلم، وهو نوعٌ من أنواع جنون العظمة، مع اختلافٍ في أنَّ جنون الثروة والجاه يحدُث من كثرة الثروة والقوّة بينما جنون العلم يحدُث من نقص العلم وضعفه. يُقال: إنّ الوجود الناقص خيرٌ من العدم المحض، إلّا العلم، فإنّ عدمه خيرٌ من وجوده الناقص؛ لأنّ العلم الناقص يؤدّي إلى أن يغترّ المرء بعلمه الناقص فيعربد! صحيح أنَّ جنون الثروة والعظمة يورث العربدة أيضاً، إلّا أنَّ هذا الجنون ناشئٌ من الكثرة والوفرة، بخلاف عربدة جنون العلم الذي ينشأ من النقص والقِلّة، وهذا يؤدّي إلى تكذيب الحقائق وإنكارها.

وهنا، أنقل إليكم حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام)[3] ، مفاده: إنّ الله في آيتين من القرآن الكريم منع الناس من التصديق والتكذيب اللذين لا يكونان في محلّهما، تقول الآية الأولى: ﴿أَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم مِّيثَٰقُ ٱلكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلحَقَّ﴾[4]؛ أي أنْ لا يقولوا من عندهم ما ليس لهم به علم، فيحلّلون هذا ويحرّمون ذاك متقوِّلين على الله، قال كذا وكذا هنا، وقال كذا وكذا هناك. لقد أخذ عليهم عهداً أن لا يقولوا شيئاً حيث


 


[1] سورة الهمزة، الآية 3.

[2] سورة النازعات، الآية 24.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص43.

[4] سورة الأعراف، الآية 169.

 

27


13

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

سكت الله، ولم يعيّن لهم واجباً، لا أن يبتدعوا من أنفسهم بدعاً، ويضعوا لها التعاليم، زاعمين أنَّها من عند الله.

يصاب الإنسان أحياناً بمرض التصديق. ففي الموضوعات التي لم يُنزِل الله تعاليم معيّنة، واقتضت المصلحة أن يُترك الناس أحراراً، يحاول الإنسان أن يضع تعاليمه وينسبها إلى الله، أو قد تسوِّل له أهواؤه وشهواته أن يرتكب أفعالاً قبيحة، فيضع من عنده ما يشاء من التشريعات، ويقول إنَّها من عند الله: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدنَا عَلَيهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُل إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأمُرُ بِٱلفَحشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعلَمُونَ﴾[1].

هذا عهدٌ أخذه الله على عباده ألَّا يقولوا ما ليس لهم به علمٌ، وألّا ينسبوا إلى الله ما لم ينسبه إلى نفسه.

والآية الثانية هي قوله: ﴿بَل كَذَّبُواْ بِمَا لَم يُحِيطُواْ بِعِلمِهِۦ وَلَمَّا يَأتِهِم تَأوِيلُهُۥ﴾[2]، فإن كانت ثمّة مسائل لا يدركونها جيّداً، ولا يعرفون بواطنها وخوافيها، فبدلاً من أن يقولوا: لا نعرف، لا ندري، عقولنا قاصرة عن فهمها مثلاً، يركبهم الغرور وجنون العظمة، فيكذِّبون ما لا يشهدون، ويقولون لا وجود لشيءٍ كهذا، وينكرون قبل الإحاطة والفهم.

للشيخ الرئيس (ابن سينا) كلمتان يقترب مضمونهما من هذا الكلام، فيقول بخصوص التصديق بغير دليل: «من تعوّد أن يصدّق بغير دليل فقد انخلع من الفطرة الإنسانيّة»؛ أي إنَّ إنساناً هذا شأنه ليس إنساناً. وفي الكلمة الثانية يتناول إنكار شيءٍ بغير دليل، فيقول: «كلّ ما قرع سمعك من الغرائب، فَذَرْه في بقعة الإمكان، ما لم يَذُدْك عنه قائم البرهان»[3].


 


[1] سورة الأعراف، الآية 28.

[2] سورة يونس، الآية 39.

[3] أبو عليّ سينا، الإشارات والتنبيهات، الشرح نصير الدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ، شرح الشرح للعلّامة قطب الدين محمّد بن محمّد أبي جعفر الرازيّ، نشر البلاغة، إيران - قم، 1383ش، ط1، ج3، ص418.

 

28


14

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

معرفة الحدود

إنَّ لكلِّ امرئٍ من حيث جسمه وهيكله حدوداً، وكذلك هو من حيث الروح والعقل والعلم، فلكلٍّ منها حدودها وسَعتها، فعلى الإنسان أنْ يدرك حدوده ويعرفها ولا يتعدَّاها، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «العالِمُ من عَرَفَ قَدْرَهُ، وكفى بالمرء جهلاً ألّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ»[1]. إذ يعرف المرء في دنياه كثيراً من الأمور، ويحيط بعلومٍ عديدة كالرياضيات والطبيعيّات والاجتماعيّات، ويعرف أخبار العالم وتاريخ الأمم وماضيها، يقدّر حدود الأشياء وموازينها، ولكنّه يكون جاهلاً بقضيّة واحدة، وهي الجهل بحدوده وموازينه هو، فلا يكون قد قاس روحه وفكره وعقله! فتكون تلك الأمور كلّها التي يحيط بها لا شيء بإزاء ما يجهل؛ لأنَّ جهله هنا ينشأ عنه الجهل بآلاف الأشياء، ويتسبّب في تكذيب كثير من حقائق الخليقة المسلَّم بها، فيكون داعيةً إلى الغرور.

في موضوعٍ سابقٍ ذكرت أموراً بخصوص محدوديَّة جهاز الفكر عند الإنسان، وقلنا: إنَّه قد صيغ بحيث إنّه لا يستطيع إدراك أيّ حقيقةٍ مهما كانت واضحةً وظاهرة، ما لم تكن لها نقطةٌ مقابلةٌ يقارنها بها. إنَّ هذا النَّقص وحده يكفي أن يزيل من رأس الإنسان كلّ غرور وزهو، وأن لا يكذِّب حقيقةً بغير علم.

وذكرتُ في موضوع آخر، أنَّ القرآنَ يتناول أحياناً قضيّة إحياء الأرض في الربيع كدليلٍ على التوحيد تارة، وكنموذجٍ مصغّر للانبعاث وتبديل نشأة بنشأة مرَّة أخرى. إنَّ الله -سبحانه وتعالى- ينبّه الإنسان إلى أنَّه كما في نظام أرضكم الصغيرة حياةٌ وموت، كذلك الأمر في كلّ بذرةٍ موجودةٍ في هذا النظام، فهي تنمو في فصلٍ وتحيا وتثمر، وفي فصلٍ آخر تكون البذرة جامدةً خاملةً ولا روح فيها، ثمّ تنبعث فيها الحياة مرّةً أخرى في فصلٍ آخر، وهكذا هو الأمر في النظام الأعلى الكليّ من حيث تبديل نشأةٍ كليّة بأخرى، قال -تعالى-: 

 


[1] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص149.

 

29


15

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

﴿وَيَومَ نَحشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَهُم يُوزَعُونَ ٨٣ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبتُم بِ‍َٔايَٰتِي وَلَم تُحِيطُواْ بِهَا عِلمًا﴾[1].

 

كلّ شيءٍ إن كثُر وأصبح مألوفاً، قلّت أهميّته، ومن هذا القبيل موت الأرض وحياتها. إنّنا في فترة أعمارنا نشاهد تلك السُنّة الجارية تتكرّر عشرات المرّات، ولذلك فهي لا تلفت انتباهنا.

 

إنّنا نعيش في خضمّ أنظمةٍ صغيرةٍ وأنظمةٍ كبيرة، ولا يُعْرف إلى أين يمكن أن نصل، ففي كلّ جهة يوجد أمور نجهلها. فمن جهة النظام الأصغر وصلنا إلى نظام الخليّة والذرّة والنواة، ولا ندري إلى أين سنستمرّ في المسير، ومن جهة النظام الأكبر وصلنا إلى المنظومة الشمسيّة التي هي جزءٌ من نظامٍ كونيٍّ أكبر وتابعةٌ له، ولا ندري إن كان هذا النظام تابعاً لنظامٍ أكبر، وهل هذا تابعٌ لغيره أيضاً، ثمّ ما الذي سنصل إليه أيضاً!

 

مَثَلنا مع العالم مَثَل الدودة في تفّاحة أو في جذع شجرة، فدنياها وأرضها وسماؤها هي التفّاحة أو الجذع، وهي لا تعلم أنّ تلك التفّاحة والجذع جزءان من أجزاء نظامٍ اسمه الشجرة، وأنّ تلك الشجرة جزءٌ من نظامٍ أكبر اسمه البستان، وأنَّ لذلك البستان مشرِفاً وفلّاحاً، وأنَّهما جزءٌ من نظامٍ أكبر هو المزرعة أو الريف، وهما جزءٌ من بلدةٍ أو مملكةٍ، وأنّ هذه جزءٌ من الأرض، وأنّ الأرض كرةٌ صغيرةٌ في هذا الفضاء اللامتناهي. كذلك هي حال عنكبوتٍ ملتصقٍ بسقف الغرفة، يولد هناك ويموت هناك، دون أن يعرف أنّ تلك الغرفة جزءٌ من بيت، والبيت جزءٌ من مدينة، والمدينة جزءٌ من بلد، وهكذا.

 

لا شكّ في أنّ مدركات هذه الحيوانات بالنسبة إلى مدركات الإنسان صغيرةٌ ومحدودة، وإنّ ما يُعتبر عند الإنسان من البديهيّات ومن القضايا المسلَّم بها يُعتبر في نظرها ممّا لا


 


[1] سورة النمل، الآيتان 83-84.

 

30


16

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

يمكن تصديقه، هكذا هي حال الإنسان بالنسبة إلى العوالم الأكبر من عالمه الذي يعيش فيه.

 

هذا من حيث حجم العالَم وسَعته، أمّا من حيث العوالم التي تحيط بنا، والتي يرتبط بها تقدير حياتنا وتدبيرها، فإنّ ما يجهله الإنسان عنها لا يُعدّ ولا يُحصى. من يدري فلعلَّ هناك عوالم يكون عالَمنا بالنسبة إليها كنسبة عالَم النوم إلى عالَم اليقظة؟

 

في التحوّل الروحيّ الذي طرأ على الغزّاليّ، أثار موضوع النوم، وقال: إنّنا نرى في النوم عالَماً، ولا ندرك حينها أنّنا في عالَم النوم، وأنّ النوم جزءٌ من نظام حياتنا الواقعيّة، وأنّ الأصل هو اليقظة، ولكن ما إن نستيقظ حتى ندرك تابعيّة النوم لليقظة، فكيف نعلم أنّ حالة حياتنا هذه في الدّنيا بالنسبة إلى حياةٍ أخرى ليست حالة نوم؟ إنّ يقيننا بأصالة الحياة الدنيويّة لا يزيد على يقين النائم بأنّه ليس نائماً.

 

إنّ قولنا: عندما نستيقظ ندرك أنّنا كنّا نائمين، وأنّ العالم الذي رأيناه كان خيالاً لا حقيقة له، بمعنى أنَّه بالنِّسبة إلى حياةٍ أكمل يكون النوم هو الجزء الأصغر منها، والجزء الأكبر منها هو اليقظة، وإلّا فإنَّه يكون بالنّسبة إلى نفسه حقيقةً لا خيالاً. فالحياة الدُّنيا بلحاظ ذاتها حقيقةٌ، ولكنّها بالنسبة إلى مدارٍ أكبر نومٌ وخيال: «الناسُ نيامٌ فإذا ماتُوا انتَبَهوا»[1].

 

فقد تقع من يد الإنسان أحياناً حبّة قمحٍ من غير أن يدري بها، فتتوارى في التراب وتضيع، ولا يحسّ بوجودها أحد، حتّى يأتي الربيع، وإذا بالحياة تدبُّ في الحبَّة، وتخرج رأسها من تحت التراب معلنةً عن وجودها المليء بالحياة، وتقول: ها أنا ذا موجودة، أحسبتني قد ضعت؟ لا ضياع في الأمر وإنّما ﴿وَيَقُولُونَ يَٰوَيلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلكِتَٰبِ لَا


 


[1] السيّد الرضيّ، خصائص الأئمّة، تحقيق محمّد هادي الأمينيّ، مجمع البحوث الإسلاميّة - الآستانة الرضويّة المقدّسة، إيران - مشهد، 1406، لا.ط، ص112.

 

31


17

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحصَىٰهَا﴾[1].

 

إنّ على الإنسان قبل كلّ شيء، أن يعرف حدّه الفكريّ من حيث النوع، وكذلك من حيث الفرد، أي ميزان معلوماته الشخصيّة؛ لكي يمتحن مقدار قدرته وحدودها، حتّى لا يخرج عن تلك الحدود فيما يصدّق وفيما يكذّب، فيما يُثبت وفيما يُنكر، عندئذٍ يكون مصوناً من الخطأ والزلل.

 

جهاز الإدراك عند البشر

1. معرفة الأشياء بأضّدادها

(تُعرف الأشياء بأضدادها)، هذه العبارة شائعةٌ على لسان العلماء، وهي تعني أنّ الشيء يعرف من نقطةٍ مخالفةٍ له، أو من نقطة مقابلةٍ له، وعندئذ يمكن إدراك وجوده.

 

من البديهيّ أنَّ المعرفة هنا ليست التعريف الاصطلاحيّ المنطقيّ؛ لأنَّ المنطق يثبت أنّه لا يمكن تعريف الأشياء عن طريق أضّدادها، كما أنَّ القصد من الضدّ هنا ليس ذلك الضدّ الاصطلاحيّ الذي يرِد في الفلسفة باعتباره يختلف عن النقيض، وإنَّما المقصود بالضدّ هنا هي النقطة المقابلة، والمقصود بالمعرفة هو مطلق إدراك الشيء. ومع أنّ أدوات الحصر (لا) و(إنّما) لم تُستعمل في هذا التعبير، ولكنّ المقصود هنا نوعٌ من الحصر. إذا لم تكن لشيءٍ ما نقطةٌ مقابلة، فلا يكون بمقدور الإنسان أن يدرك ذلك الشيء، حتّى وإنْ لم يكن ذلك الشيء مَخْفيّاً، بل جليٌّ تمام الجلاء. في الواقع، إنَّ المقصود هو بيان نوعٍ من الضعف والنقص في جهاز الإدراك عند البشر، الذي صُنع بحيث إنّه لا يستطيع أن يدرك الأشياء إلَّا إذا كان لها نقطة مقابلة.


 


[1] سورة الكهف، الآية 49.

 

32


18

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

فالنور والظلام، مثلاً يدركهما البشر بالمقارنة بينهما، فإذا كان كلّ جزءٍ في هذا العالم يسبح في النور دائماً، بغير ظلام، بحيث إنَّ النور ينتشر بدرجةٍ متساويةٍ في الأرجاء والزوايا كلّها، وينعدم الظلام كلّياً، لما كان بإمكان الإنسان أن يعرف النور نفسه؛ أي لا يكون بمقدوره أن يتصوَّر وجود النور في العالم مطلقاً، وما كان ليدرك أنَّ رؤيته للأشياء إنَّما تحصل بوجود النُّور؛ لأنَّ النور أظهر وأوضح من كلّ شيء، إنَّه الظهور نفسه، ولكن ليس بالقدر الكافي، وهذا النقص يرجع إلينا لا إلى النّور؛ لأنّ إدراكنا للنور ناتجٌ من أفوله وظهور الظلام.

 

إذاً، فقد عُرف النور بمعونة ضدّه وهو الظلام، ولو كانت الظلمة تعمّ كلّ شيءٍ دون وجود نور، لما عرفنا الظلام أيضاً.

 

كذلك الأمر، إن كان الإنسان يسمع طَوال عمره نغمةً واحدةً رتيبة، كأن يترعرع طفلٌ بالقرب من محطّة قطار، ويسمع دائماً صوت صافرة القطار برتابة واحدة، فإنَّه بعد فترة لا يسمع ذلك الصوت الذي لا ينقطع، ويرنّ في أذنه، بحيث إنّه يفقد إحساسه به. يقول أحد العلماء القدامى -ولعلّه فيثاغورس-: إنَّ هناك موسيقى رتيبة تنبعث دائماً من حركة الأفلاك، ولكن بما أنّ الناس يسمعونها دائماً، فإنّهم لا يسمعونها أبداً، وهكذا إن عاش الإنسان في محيطٍ طيّب الرائحة أو خبيثها، فإنَّه لا يشمُّ تلك الرائحة.

 

2. تطبيقات على المعرفة بالأضداد

ولهذا السبب نفسه يفقد الأغنياء إحساسهم باللذائذ والمتع، كما يفقد الفقراء إحساسهم بالمصائب والصعاب؛ أي إنَّ الذين يكثر وصولهم إلى ما يوجب اللذّة قلّما يحسّون بها، والعكس صحيح، كذلك الذين يواجهون المصائب أكثر يكونون أقلَّ إحساساً بصعوبتها، والذين تقلّ مواجهتهم للمصائب يشتدّ إحساسهم بها.

 

كذلك القدرة والعجز، فإذا فرضنا أنّ الإنسان كان قادراً على كلّ شيء، ولم يعجز أمام 

 

33


19

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

أيّ شيء، ولم يرَ في نفسه ولا في غيره عجزاً، فهو لا يستطيع أن يفهم أنَّ القدرة شيءٌ موجودٌ في هذا العالم، مع أنّه كان يحقّق كلّ شيءٍ بقدرته، إلَّا إنّه لم يكن يراها. ولو وُجِد العجز وانعدمت القدرة، لما أمكن معرفة العجز أيضاً.

وهكذا -أيضاً- بالنسبة إلى العلم والجهل، فلو افترضنا عدم وجود الجهل في العالم، لكان معنى ذلك أنّ الإنسان يعرف كلّ شيء، ولما أحسّ بأنّه لا يعرف شيئاً مطلقاً، ولكان نور العلم يسطع على كلّ شيءٍ فينيره له، ومع ذلك كلّه فإنّه يكون غافلاً عن وجود العلم نفسه؛ لأنّه يرى كلّ شيء، ويعلم كلّ شيء، ويلتفت إلى كلّ شيء، عدا العلم نفسه، ولكن عندما ظهر الجهل أمام العلم واستقبله الجهاز الفكريّ عند البشر، أمكن التنبّه للعلم والالتفات إليه، وإدراك وجوده أيضاً، لذلك فإنّ الحيوان لا يدري بعلمه؛ لأنّه لا يدري بجهله.

هكذا هي حال الشخص وظلّه أيضاً، فلو كان الإنسان يرى دائماً ظلَّ بعض الأشخاص دون أن يراها ذاتها، ولو ظلّت تلك الظلال أمام عينيه دائماً، لحسب تلك الظِلال أشخاصاً حقيقيّين، ولكن بما أنّه يرى الشخص وظلّه، فإنّه يدرك أنّ هذا شخصٌ وذاك ظلّه.

(لأفلاطون) نظريّةٌ فلسفيّةٌ معروفةٌ باسمه يُطلِق عليها (نظريّة المِثل)، يقول فيها: إنَّ كلّ ما هو موجودٌ في العالم هو الظلّ لأصلٍ حقيقيٍّ موجودٍ في عالم آخر، فذاك هو الحقيقة وهذه انعكاساته، ذاك هو الشخص، وهذا هو الظل، ولكن يحسبون الظلّ حقيقة، ويضرِب مثلاً:

يقول: فلنفرض أنّ عدداً من الأشخاص قد حُبِسوا في كهفٍ منذ أوّل أعمارهم، على أن تكون وجوههم دائماً إلى داخل الكهف وظهورهم إلى مدخله، ونور الشمس يدخل الكهف، فتقع ظِلال الأشخاص المتحرّكين خارج الكهف على الجدار المقابل، فبما أنَّ هؤلاء يجهلون كلّ شيءٍ عن العالم خارج الكهف، بل لا يعلمون أنَّ هناك خارجاً خارج الكهف، فهم بلا شكّ يعتبرون تلك الظِلال أشخاصاً حقيقيّين، ولا يدركون أنَّها لا شيء، وأنّها مجرّد

 

34

 


20

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

مظاهرٍ لأشخاصٍ حقيقيّين في الخارج.

 

إنَّ الإنسان، وهو حبيس كهف الطبيعة، يحسب أشخاص هذا العالم حقائق، ولا يعلم أنَّها ظِلال الحقائق، لا الحقائق نفسها، ولا يمكن أن يدرك ذلك إلَّا إذا رأى الأشخاص الحقيقيّين.

 

لم يكن قصدنا شرح نظريّة أفلاطون، بل كان القصد تبيان أنّ بنية الإنسان الطبيعيّة والعاديّة قد صيغت بحيث إنّه يدرك الأشياء بعد مقارنتها بالنقاط المقابلة لها، فإن لم توجد تلك النقطة المقابلة، لم يستطع إدراكها حتّى ولو كانت من أظهر الظاهرات، كالنور والظلام، والعلم والجهل، والقدرة والعجز، والشخص وظلّه، كما ذكرنا، وكمثل الخير والشرّ، والحركة والسكون، والحدوث والقِدم، والفناء والخلود.

 

بناءً عليه، فإنّ تصوَّرنا أنَّ هذا النّور المحسوس لا يغيب أبداً، ولا يحجبه ستارٌ ولا حائل، وينتشر في الداخل بمثل ما ينتشر في الخارج، وبدرجةٍ متساويةٍ في كلّ مكان، وبشكلٍ مطلق، ثمّ جاءنا شخصٌ يقول: إنَّ النور يغمر العالم، وإنَّ كلّ شيءٍ ترونه إنّما هو بسبب هذا النور، ولولاه لما رأيتم شيئاً، لكان من الصعب علينا أن نصدّقه.

هناك حكايةٌ معروفةٌ تقول: إنَّ السمكة التي لم تخرج يوماً من الماء ولم ترَ شيئاً غير الماء، أخذت تتساءل: ترى ما هو؟ وأين يوجد هذا الماء الذي يتحدثون عنه كثيراً، ويقولون عنه: إنَّه سبب الحياة؟ لماذا لا أراه؟ وراحت تبحث عمن يدلّها على الماء، إلى أن صُودِفَ يوماً أنّها وقعت خارج الماء، وأخذت تعاني ضيق التنفُّس لانعدام الماء، عندئذٍ عرفت ما هو الماء، وما فائدته لها، وكيف ستتوقّف حياتُها عليه.

 

الله نور مطلق وظاهر مطلق

إنَّ الله -سبحانه وتعالى- نورٌ مطلقٌ، نورٌ لا يقابله ظلام، وهو نور العالم كلّه، نور

 

35

 


21

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

السماوات والأرض: ﴿ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ﴾[1]. وهو أظهر من كلّ ظاهرٍ، وأقرب إلينا من كلّ قريب، وظهور كلّ شيءٍ بذاته، وهو الظاهر المطلق بالذات: «وبِنُورِ وَجهِك الَّذي أضاء لَهُ كلّ شيء»[2]. إنَّه نورٌ أزليٌّ ثابتٌ لا غروبَ له ولا أفول، نورٌ يملأ الأرجاء كلّها بغير مانعٍ ولا حجاب، يحيط بكلّ شيء، ليست له نقطةٌ مقابلة، وليس له ضدٌّ ولا ندّ.

 

وبما أنّه لا أفول له ولا غروب، فلا زوال له ولا فناء ولا ظلام أمامه. إنَّ الإنسان الضعيف الذي يُحِبّ أن يدرك الأشياء بنقائضها، والنقاط المخالفة لها مقارنةً بها، والذي صُنع جهاز إدراكه بحيث إنّه لا يدرك الشيء إلّا بوجود نقطة مخالفة له، فإنّه غافلٌ عن التوجّه إلى ذات الله.

 

إنّها لقضيةٌ غريبة! إنّ ذات الله الظاهرة التي لا تخفى، خافيةٌ عن الأبصار، ولو أنّه كان ظاهراً تارةً وخافياً أخرى، لما كان خافياً عن الأبصار، ولكن بما أنّه لا أفول له ولا زوال، ولا تغيُّر ولا حركة، فإنّه خَفِي عن أبصار البشر، وهذا معنى قول الحكماء: إنّ شدّة ظهوره -جلّ وعلا- ظهورٌ في خفاء.

 

وما ألطف قول الإمام عليّ (عليه السلام): «وكلُ ظاهِرٍ غَيرَهُ [غيرُ] بَاطِنٍ، وكلّ باطنٍ غيرَه غيرُ ظاهِر»[3]! إنّ الله في وحدته وبساطته، باطنٌ وظاهرٌ في آن؛ أي إنَّه ليس قسماً ظاهراً وقسماً باطناً، وإنّما هو ظاهر من حيث كونه باطناً.

 

وأصل هذه الحقيقة ومنبعها هو القرآن الكريم: ﴿هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلبَاطِنُ﴾[4]، ويقول: ﴿فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ﴾[5]. وجاء في الأحاديث أنّ الجاثليق (من علماء النصارى) قال للإمام عليّ (عليه السلام): «أخبرني عن وجه الرّبّ»، حيث يقول



 


[1]  سورة النور، الآية 35.

[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص572.

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص96.

[4]  سورة الحديد، الآية 3.

[5] سورة البقرة، الآية 115.

 

36


22

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

القرآن: ﴿فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ ٱللَّهِ﴾[1]، فدعا عليٌّ بنارٍ وحطبٍ فأضرمه، فلمّا اشتعلت النار، قال (عليه السلام): «أين وجه هذه النار؟»، قال النّصرانيّ: هي وَجْهٌ من جميع حُدُودِهَا، قال عليٌّ (عليه السلام): «هذه النّار مُدَبَّرَةٌ مَصنوعَةٌ لا تعرف وجهها، وخَالِقُهَا لا يُشْبِهُهَا ﴿وَلِلَّهِ ٱلمَشرِقُ وَٱلمَغرِبُ فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ ٱللَّهِ﴾، لا يَخْفَى على رَبِّنَا خَافِية»[2].

 

معرفة النفس

يقولون: معرفة النفس مقدّمَة على معرفة الله. فالإنسان لا يستطيع أن يعرف الله ما لم يعرف نفسه أولاً. هذا كلامٌ صحيحٌ من جوانب متعدّدة، لا من جانبٍ واحد، فجانبٌ منها هو أنَّ على الإنسان أن يعرف جهازه الفكريّ المستقلّ، وعليه أن يعرف ما فيه من نقصٍ وضعفٍ وقصور، لكي يعرف الله بالكمال المطلق والقدرة المطلقة، وعليه أن يعرف قصور فهمه وإدراكه، إذ ما لم يكن هناك كائنٌ محدودٌ وناقص، وما لم يكن له ضدٌّ ونقطةٌ مقابلة، فلا يستطيع معرفته، فليس له أن يطمع في أن يقدر على معرفة الله بإحدى حواسّه، عليه أن يعرف أنّه لو كانت مدركاته الحسيّة على رتابةٍ واحدة، لو إنَّه رأى دائماً لوناً واحداً لما عرفه، لو أنّه سمع دائماً صوتاً واحداً بنغمةٍ واحدةٍ لما أدركه ولا أدرك وجوده، لو كان دائماً يشمّ رائحةٌ معيّنةً وبمقدارٍ واحدٍ لما تنبّه إلى وجودها. على الإنسان ألّا يتصور أنّ الله خافٍ عليهم، بل عليه أن يدرك أنّ ظهور حقيقةٍ واحدةٍ لا تكفي لحصول الإدراك عند البشر، فلا بدّ من وجود النقطة المقابلة، إنّ نور ذات الله محيطٌ وأزليٌّ وأبديّ، لا غروب له ولا أفول، ولذلك فإنّ مدارك البشر الضعيفة قاصرةٌ عن إدراك كنهه، والإحاطة به.


 


[1] سورة البقرة، الآية 115.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسينيّ الطهرانيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، 182.

 

37


23

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

سَعة معرفة الإنسان ومعرفة الله

إنّ جهاز الاستقبال الفكريّ عندنا يعرف الله بصورةٍ ناقصةٍ ومحدودةٍ كنقصنا ومحدوديّتنا، إنّه يرى الله في نورٍ موجودٍ في نقطةٍ وغير موجودٍ في أخرى، مثل حياة الحيوان والنبات والإحساس الحاصل في نقطةٍ من المادّة، إنّه يعرف الله بأمورٍ موجودةٍ في وقتٍ وغير موجودةٍ في آخر؛ أي تلك الأمور التي لها شروق وغروب. إنّ لله أفعالاً ومخلوقاتٍ وأنواراً هي من خلقه، تلك الأنوار تشرق وتغرب، إنّ الله يعرّف نفسه إلينا عن طريق أنواره الحقيقيّة. الحياة نورٌ إلهيّ، نور يبعثه في ظلمات المادّة، ثمّ يقبضه: ﴿وَإِنَّا لَنَحنُ نُحيِۦ وَنُمِيتُ وَنَحنُ ٱلوَٰرِثُونَ﴾[1]، و﴿تُولِجُ ٱلَّيلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيلِ وَتُخرِجُ ٱلحَيَّ مِنَ ٱلمَيِّتِ وَتُخرِجُ ٱلمَيِّتَ مِنَ ٱلحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيرِ حِسَابٖ﴾[2].

إنَّ الحياة التي تظهر على الأرض محدودةٌ من حيث المكان والزمان، فهي تظهر في لحظةٍ واحدةٍ وفي نقطةٍ واحدة، فينتفع بها النبات والحيوان. والحياة، بكلّ ما لها من تجليّات، كالنموّ، والجمال، والشباب، وحسن التركيب والنظام، والإحساس والإدراك، والعقل والذكاء، والحبّ والعاطفة، والغرائز المادّيّة، تكشف لنا عن ذات الله، هذه كلّها آياتٌ تعكس لنا الواحد الأحد.

كثيراً ما يستشهد القرآن بالحياة وآثارها، بجمالها وطراوتها، بحسن تركيبها ونظامها، بما فيها من إلهامٍ وغرائز، ومن حبٍّ وعواطف، ومن حبٍّ أبويّ وبنويٍّ وزوجيّ.

لقد جاء على لسان إبراهيم (عليه السلام) قوله لنمرود: ﴿رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحيِۦ وَيُمِيتُ﴾[3]، وجاء على لسان موسى (عليه السلام) قوله لفرعون: ﴿قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾[4]. إنّه هو الذي أوجد نظاماً متقَناً يرشد الكائنات إلى الكمال اللائق بها، إنّه

 

 


[1]  سورة الحجر، الآية 23.

[2] سورة آل عمران، الآية 27.

[3] سورة البقرة، الآية 258.

[4] سورة طه، الآية 50.

 

38


24

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

هو الذي منح كلّ نبتةٍ القدرة على أن تخطّ لوجودها خطّة، كالمهندس الماهر، فتزيّن نفسها وتزهو، إنّه هو الذي وهب الغريزة الملهمة لأصغر الحيوانات والحشرات وأكبرها، بحيث إنّ العقل ليعجز عن وصفها، إنّه هو الذي ألهم النحل أن تبني لأنفسها البيوت في الجبال بهندسةٍ خاصّةٍ، مستخدمةً الأشجار وأغصانها: ﴿وَأَوحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعرِشُونَ ٦٨ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗا يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّختَلِفٌ أَلوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَومٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].

 

حياة النمل في كلام الإمام عليٍّ (عليه السلام)

يقول الإمام عليٌّ (عليه السلام) في نهج البلاغة: «انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا»[2].

يقول علماء الحيوان، الذين لهم دراساتهم بهذا الشأن: إنَّ بعض النمل في بعض الصحارى لا يرضى في البحث عن رزقه بالحبوب بين بقايا الحقول، بل يجتمع ويستصلح أرضاً يزرعها بالفطريّات، ويتغذّى عليها. والأعجب من ذلك قولهم: إنَّ جماعةً أخرى من النمل تروّض بعض الحشرات وتستعبدها، كما يروّض الإنسان الخيل والماشية والأغنام ليستفيد من لبنها، فتشرب من عصير ٍحلوٍ تحلبه من هذه الحشرات.

ويستطرد الإمام قائلاً: «تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا»[3].


 


[1] سورة النحل، الآيتان 68-69.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، خطبة 185.

[3] المصدر نفسه، ص270.

 

39


25

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

ويعود علماء الحيوان ليقولوا: إنَّ طائفةً أخرى من النمل تعيش في حياةٍ اجتماعيّة منظّمة، لكلّ طبقةٍ منها واجباتها، فجماعة العمّال تجلب الحبّ إلى الجحور، وتخزّنها لغذاء مجتمع النمل في الشتاء، وتضعها في حجرات خاصّة بالطحن، حيث تقوم جماعةٌ أخرى من النمل تمتاز بالفكوك القويّة، فتطحن الحبوب وتعدّها لطعام الآخرين.

ونعود إلى (نهج البلاغة)، وإلى قول الإمام (عليه السلام): «وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً»[1].

لقد قضى مئات العلماء حتّى اليوم أعمارهم في الدرس والبحث في هذا المضمار، فكتبوا المجلّدات بعد تعبٍ ونَصَب، وأتونا بأعجب الأخبار، وخصوصاً فيما يتعلّق بالتفاهم بين أفراد النمل، وطرائق إدراكها وإحساسها.

وفي القرآن قصّةٌ عجيبةٌ عن تفاهم النمل، كما جاءت في حكاية سليمان (عليه السلام) في سورة النمل: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَواْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّملِ قَالَت نَملَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّملُ ٱدخُلُواْ مَسَٰكِنَكُم لَا يَحطِمَنَّكُم سُلَيمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُم لَا يَشعُرُونَ ١٨ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَولِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوزِعنِيٓ أَن أَشكُرَ نِعمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَن أَعمَلَ صَٰلِحٗا تَرضَىٰهُ وَأَدخِلنِي بِرَحمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾[2].

في قول الإمام عليٍّ (عليه السلام): «وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا»، إشارةٌ إلى أنّ أجهزة بصر هذا الحيوان وسمعه كائنةٌ في رأسه. وقد أيَّد –اليوم- علماء الحيوان أنّ النمل تستقبل الأخبار وترسلها عن طريق مجسَّات في رؤوسه.

وفي ختام كلامه، يقول الإمام عليٌّ (عليه السلام): «وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كلّ شَيْءٍ،


 


[1] المصدر نفسه.

[2] سورة النمل، الآيتان 18-19.

 

40


26

الفصل الثاني: الإنسان والمعرفة

وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كلّ حَيٍّ. وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ، وَالثَّقِيلُ والخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ»[1].

 

على كلّ حال، في الوقت الذي يقول فيه القرآن: إنَّ الله أظهرُ من كلّ ظاهر، بل هو الظاهر الحقيقيّ «كلّ العالم بنوره يبين». فإنّ طراز الفكر البشريّ وبناءه جاءا بحيث إنّ الإنسان يستعين على درك الأشياء بنقاطها المقابلة لها، فيُعرف الله عن طريق تجلّياته ومظاهره التي تشرق وتغرب، الموجودة مرّة، وغير الموجودة أخرى، وبالأنوار التي تحتضن الظلمة، وبالحياة المقترنة بالموت؛ ولهذا السبب يُكثِر القرآن من ذكر الحياة وآثارها وتجلّياتها وشؤونها.


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص271.

 

41


27

الفصل الأوّل: العقل والقلب

الفصل الأوّل: العقل والقلب


الإنسان ذو بعدين

إنّ في روح الإنسان بؤرتين أو مركزين، وكلٌّ منهما منشأٌ لنوعٍ معيّنٍ من الفاعليّات والتجلّيات الروحيّة، وإحدى هاتين البؤرتين تسمّى (العقل) أو (الحكمة)، وتسمّى الأخرى (القلب). إنَّ الفكر والتفكير والتبصّر، والمنطق والاستدلال، والعلم والفلسفة، هي جميعاً من تجلّيات العقل. وهناك تجلّيات روحيّة أو نفسيّة، كالرغبة والحبّ والتمنّي والانفعال، وكلّ هذه تُعْزَى إلى القلب.

من البعد القلبيّ تنبعث الحرارة والحركة، ومن البعد العقليّ تبرز الهداية والاستنارة. وإنَّ من يملك قلباً كئيباً لا رغبة فيه ولا أمل ولا أمنيّة، لَكائنٌ باردٌ ساكنٌ جامد، ولا تبدو منه أيّ فاعليّة، وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. وأمَّا الذي يفتقر إلى قوّة العقل والفهم والتدبّر، فهو أشبه ما يكون بالسيّارة التي تسير في الليل دون مصابيح، ودون أيّ وسيلةٍ للاهتداء إلى معالم الطريق.

في بعض الأحيان يحصل انسجامٌ وتوافقٌ بين هاتين البؤرتين، فقد يُعْجَب القلب بشيءٍ فيؤيّده العقل في ذلك، في أمثال هذه الحالات لا يواجه الإنسان شيئاً من المشكلات، ولكنّ

 

44

 


28

الفصل الأوّل: العقل والقلب

كثيراً ما لا يحصل هذا الاتّفاق، فقد يحبُّ القلب شيئاً لا يرى العقل، بتبصّره وحساباته، أنَّه يستحقّ الحبّ، أو قد يؤكّد العقل جودة شيء ما وصلاحه، ولكن يصعب على القلب قَبوله والاقتناع به. هنا يحدث الصراع والنزاع بين العقل والقلب، وهنا يبرز اختلاف بعض الناس عن بعض، فمنهم من يخضع لحكم العقل، ومنهم من يخضع لحكم القلب.

ولنضرب لذلك مثلاً بسيطاً: لا شكَّ في أنّ كلّ شخصٍ يحبّ أبناءه بحكم الغريزة؛ ولذلك فهو يسعى لتوفير أسباب الراحة والرفاهيّة لهم، بحيث إنَّه قد يستعذب العناء والتعب في سبيل ذلك. وتأتي قضيّة تربيتهم لتزيد من شقاء الأبّ؛ وذلك لأنَّ التربية مهما تكن ملائمةً ومهيَّأة، فإنَّها لا تخلو من المنغِّصات، في بادئ الأمر على الأقلّ، وقد يضطرّ الوالدان إلى تحمّل عذاب فراق أبنائهما لغرض الدراسة؛ إنَّ هذا الفراق لشديدٌ على قلبيّ الوالدين. فلو أراد الإنسان أن يسير على هدى ما يريده قلبه، فعليه أن يتخلّى عن تربية ابنه، وهي الطريق الوحيد لضمان مستقبله، وإن ارتضى أوامر العقل، فلا مندوحة له عن تجاهل رغبات قلبه.

وأرفع من هذا هو تربية النفس وتهذيبها، إنَّ تهذيب النَّفس وتزيينها بالأخلاق الإنسانيّة من أصعب الأمور وأشقِّها؛ وذلك لأنَّ العقل والقلب يقفان في هذه الحالة على قُطبي نقيض. إنَّ الصّراع مع النفس الأمَّارة بالسّوء يتطلَّب درجة قويّةً من العقل والإيمان.

رُوِيَ: «أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مَرَّ بقومٍ يَرْبَعُونَ حَجَراً، فقال (صلى الله عليه وآله): ما هذا؟ قالوا: نَعرِفُ بذلك أَشَدَّنَا وأَقوَانَا، فقال (صلى الله عليه وآله): ألا أخبِركُمْ بأشدِّكُم وأَقوَاكُم، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): أشَدُّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يُدْخِلْهُ رِضَاهُ في إثمٍ ولا باطلٍ، وإذا سَخِطَ لم يُخْرِجْهُ سَخَطُهُ من قول الحَقِّ، وإذا قَدَرَ لم يَتَعَاطَ ما ليس له بحقّ»[1].


 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قم، 1379ه - 1338 ش، لا.ط، ص366.

 

45


29

الفصل الأوّل: العقل والقلب

إنَّ الصراع بين العقل والقلب في ميدان تهذيب النفس وتثقيفها دائمٌ وقائمٌ لا يهدأ، إلَّا إنّ الهدف من تهذيب النفس هو إيجاد الانسجام بين هذين القطبين المتناحرين، وتشمل أيضاً السيطرة على رغبات القلب؛ فإنَّ الضبط والتنظيم منبعهما العقل، واللامبالاة والتقلُّب في الأهواء منشؤهما القلب.

 

الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر

لقد أشار النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) في حديثٍ معروفٍ إلى هذه الحرب بأسلوبٍ لطيفٍ، وقد كان وأصحابه عائدين مرَّة من الجهاد، فالتفت إليهم وقال: «مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر»، قيل يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: «جِهاد النّفس»[1].

وفي هذا الصراع يتغلَّب العقل أحياناً، ويُخضِع رغبات القلب لإرادته، وأحياناً أخرى يحصل العكس فيتغلَّب القلب ويجبر العقل على الانصياع لأوامره. والحالة الأولى واضحة الدلالة والمعنى، ولا تحتاج إلى تفسيرٍ، أمَّا عندما يسيطر القلب على العقل، فأمره يتطلَّبُ بعض الشرح والتوضيح.

 

تأثير القلب في أحكام العقل

إن كان عقل الإنسان حرّاً، فإنَّه يقضي ويحكم في الأمور كما ينبغي، وكما هي في الواقع، فيرى الخير خيراً، والشرّ شرّاً. أمّا إن وقع تحت سيطرة القلب ونفوذه، فسوف يحكم بما يهوى القلب ويحبّ، لا بما يقتضيه الحقّ، إنَّ العقل في ذاته قاضٍ عادلٌ، ولكن ينبغي الحفاظ على استغلال قوّته القضائيّة لكيلا تتسلَّط عليه السلطة التنفيذيّة بميولها ورغباتها وأهوائها، فإن تسلَّطت عليه فلا ينبغي أن ينتظر منه أن يكون عادلاً في أحكامه.


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 12.

 

46


30

الفصل الأوّل: العقل والقلب

من كلمات إمام المتّقين عليٍّ (عليه السلام): «ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ»[1]. والمقصود هو أنَّه في ظلمات الحوادث التي يحتاج فيها المرء إلى النور الذي يلقيه العقل لهدايته، يعمي حبُّ الشيء بصرَه فلا يرى. إنّ الحبّ والبغض، والصداقة والعداوة، تؤثّر في القضاء.

ولذلك، فإنَّ المرء ينظر إلى كلِّ ما يتعلَّق به نظرةَ إعجابٍ واستحسانٍ ورضى. إنَّ في الإنسان غريزةَ حبِّ الذّات، إنّه متعلّق بنفسه أكثر ممّا هو متعلّق بأيّ شيءٍ آخر، فهو ينظر إلى نفسه وإلى ما يخصّه بمنظارِ حسنِ الظنّ دائماً؛ أي إنَّه يقضي فيما يتعلَّق بذاته وبخاصّته بما يُرضي قلبه، لا بما يُرضي الحقّ والحقيقة. إنّه يرى أخلاقه الرديئة جيّدة، ويحسب أعماله السيّئة حسنة: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗا﴾[2]، ﴿تَٱلـلَّهِ لَقَد أَرسَلنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيطَٰنُ أَعمَٰلَهُم﴾[3]، ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخسَرِينَ أَعمَٰلًا ١٠٣ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا﴾[4].

أمّا المؤمن، فيقول عنه أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام): «المؤمن لا يُصبح ولا يُمسي إلَّا ونفسه ظنونٌ عنده»[5]؛ أي إنَّه لا يحسن الظنّ بنفسه أبداً؛ إذ يحتمل أن يصدر عنها عمل سيّئ في كلِّ لحظة. وإن وصل المرء حقّاً إلى هذه المرحلة، مرحلة إساءة الظنّ بنفسه الأمَّارة، واحتمال ارتكابها إثماً، أو إتيانها عملاً قبيحاً، فإنَّه سوف يراقب نفسه، ويمنعها من القيام بما لا يليق. والويل لمن لا ينزع عن عينه أبداً منظار حُسن الظنّ بنفسه والإعجاب بها.

وعليه، يتَّضح أنَّ الإنسان قد يقع تحت مؤثّرات تجعلُ أحكامه سقيمةً بحيث يُخطئ


 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، خطبة 109.

[2] سورة فاطر، الآية 8.

[3] سورة النحل، الآية 63.

[4] سورة الكهف، الآيتان 103 - 104.

[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص251.

 

47


31

الفصل الأوّل: العقل والقلب

في قضائه، فيجانب العدالة، ويفقد حريّة عقله إن سيطر القلب وأهواء القلب عليه، فلا يرى الإنسان نفسه طاهراً ظاهريّاً فحسب، بل إنَّه يعتقد في قرارة نفسه أنّه نقيٌّ فعلاً، ولا عيبَ فيه مطلقاً. ولا يمكن غير ذلك؛ لأنَّ شخصاً هذا مبلغه من عدم تحرُّر عقله ومنطقه لا يكون قادراً على إدراك الحقيقة، ورؤية ما هو في الواقع. فكما إنَّ أعضاء الإنسان وأطرافه لا تستطيع الحركة إلَّا إن كانت طليقةً حرَّة، كذلك العقل والفكر. إنَّ تقييد حركة الأعضاء والأطراف يكون بربطها بالسلاسل والقيود، وتقييد العقل يكون بربطه بأهواء القلب، وبسلاسل رغبات النَّفس، من حبٍّ وكرهٍ وتعصُّبٍ وما إلى ذلك.

 

يصف القرآن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيقول: ﴿يَأمُرُهُم بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَىٰهُم عَنِ ٱلمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ ٱلخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَٱلأَغلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَت عَلَيهِم﴾[1].

 

وما هذا الإصر وهذه الأغلال سوى تلك القيود التي تكبّل عقول الناس وأرواحهم، فرفعها الرسول (صلى الله عليه وآله) عنهم بما زوّده ربَّه من أحكامٍ وعقائد وأخلاقٍ ونُظمٍ تربويّة.

 

حسن الظنّ بالذات وسوء الظنّ بالآخرين

إنَّ واحدةً من العلل التي تسبِّب عدم نجاحنا في إصلاح المجتمع، هو أنّ كلِّ فردٍ عندما ينظر إلى نفسه وإلى أفعاله يضعُ منظار حسنِ الظنّ على عينيه، ولكنّه عندما ينظر إلى الآخرين وأفعالهم، يكون قد لبسَ منظار سوء الظنّ، وتكون النتيجة أنَّ أحداً لا يرى نفسه مقصّراً، بل يرى التقصير في الآخرين. الجميعُ يتطلّعون إلى العدالة الاجتماعيّة دون أن يفكّروا في أنَّ العدالة الاجتماعيّة لا تتحقَّق إلَّا إذا كان الأفراد عادلين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلقِسطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَىٰٓ أَنفُسِكُم أَوِ ٱلوَٰلِدَينِ وَٱلأَقرَبِينَ إِن


 


[1] سورة الأعراف، الآية 157.

 

48


32

الفصل الأوّل: العقل والقلب

يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَولَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلهَوَىٰٓ أَن تَعدِلُواْ﴾[1]، فهذه دعوةٌ للناس حتّى يجاهدوا في إقامة العدل، وأن يَشْهَدوا في سبيل الله، وإن يكن على أنفسهم، أو على أبوَيهم أو أقربائهم، بصرف النظر عمَّا إذا كان غنيّاً أو فقيراً، فالله أولى بهما منكم، واحذروا أنْ تحرفكم أهواؤكم عن اتّباع الحقّ.

إنّ من فوائد تربية الناس تربيةً دينيّةً هي أنّها تربّي في أعماق نفوسهم ملكة الإنصاف والعدل؛ إذ لا شكّ في أنّ ثمّة فرقاً بين أن يكون المرء مؤمناً يعتقد أنّ الله شاهدٌ على أفعاله وسكناته كلّها، وبين أن يكون المرء مجرّد داعيةٍ للمصلحة العامّة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيكُم أَنفُسَكُم لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهتَدَيتُم﴾[2].

إنّنا نعلم أنَّ رعاية أعمال الآخرين تُعدّ في الإسلام جزءاً من الواجبات، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته»[3]. ولكن ينبغي من جهةٍ أخرى، أن يطردَ المرء من ذهنه تلك الفكرة الشيطانيّة القائلة: إنَّ المجتمع فاسدٌ، وإنَّ الآخرين فاسدون. إنَّ فساد المجتمع أو فساد الآخرين ليس عذراً لنا أمام الله في ارتكاب المفاسد. إنَّ واحدةً من تسويلات النفس هي أن نُلقي بذنوبنا على عواتق الآخرين.

 

الحلّ بتقوية سلطان العقل

لكي ينجو الإنسان من مخالب سطوة الشهوات التي تدمِّر الجسم والعقل، والإيمان والدنيا والآخرة، لا سبيل أمامه إلَّا تقوية سلطة العقل. ومن وسائل تقوية العقل، أن يجعلَ تعقُّل الأمور والتفكُّر فيها عادةً من عاداته، بحيث يستطيع تجنُّب الاستعجال في اتّخاذ قراراته.


 


[1] سورة النساء، الآية 135.

[2]  سورة المائدة، الآية 105.

[3]  أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص54.

 

49


33

الفصل الأوّل: العقل والقلب

جاء رجل إلى النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله)، وقال له: عظني يا سول الله، فقال: هل تتّعظ إذا وعظتك؟ فقال الرجل: نعم، فكرّر الرسول (صلى الله عليه وآله) سؤاله ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّةٍ يردّ عليه الرجل بالإيجاب، وأخيراً قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إذا هممت بأمرٍ فتدبَّر عاقبته»[1].

يظهر من تكرار النبيّ (صلى الله عليه وآله) سؤاله على الرجل أنّه يولي أهمّيّةً كبيرةً لنصيحته تلك، ويريد بها أن يؤكِّد ضرورة التعوُّد على التفكُّر والتدبُّر، وألّا نُقدِم على عملٍ قبل أن نقلّب جميع وجوهه، وندرس نتائجه وعواقبه.

إنَّ على الإنسان أن يتّبع المنطق، لا المشاعر والأحاسيس، فالعمل الذي يقوم به الإنسان بموجب المنطق، يكون قد حسب لكلّ شيءٍ حسابه، وألقى عليه ضوء عقله وتفكيره، واستوعب ما يحيط بالأمر من جميع جوانبه، ولكنّ العمل الذي يقوم به المرء وَفق مزاجه ومشاعره، دون أن تكون هناك خطّةٌ ولا حسابٌ أو تبصُّر، وإنَّما اُسْتُثير الإنسان وهاجَ لأمرٍ ما، فأقدم على ذلك العمل لتسكين هيجانه وانفعاله. وبلحاظ ما يثيره الغضب من ظِلالٍ وعتمة، لا يكون المرء قادراً على رؤية العواقب والنتائج بوضوح.

إنّ عامّة البشر محكومون، كثيراً أو قليلاً، لكلٍّ من العقل والقلب. إنَّ الجملة التي يقولها الإنسان أمام جمعٍ من الناس، أو العمل الذي يقوم به في المجتمع، يرتبطُ من جهةٍ بعددٍ من المشاعر والعواطف والانفعالات النفسيَّة، ويرتبط من جهةٍ أخرى، بما اعتوره من تدبُّرٍ وتفكيرٍ للعقل والمنطق.

إلّا أنَّ بعض النَّاس يكون ألصق بالعقل والمنطق، وبعضٌ آخر ألصق بالعواطف، يقول علماء الاجتماع: إنَّ هذا الضرب من الاختلاف ملحوظٌ حتّى بين الأمم والشعوب، فبعضها أقربُ إلى المنطق، وبعضها أقرب إلى المشاعر.


 


[1] أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدّين الحسينيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1370 - 1330 ش، لا.ط، ج1، ص16.

 

50


34

الفصل الأوّل: العقل والقلب

إنَّ نصيحة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) تقول: إنَّ عليك أن تجعل المنطق دائماً سبيلك إلى الوقوف بوجه طغيان العواطف وتسلّطها، كن رجل منطقٍ لا رجل عواطف، كلَّما تقدّم فردٌ أو شعبٌ نحو الكمال والرقيّ، يكون قد تقدّم بالتدرّج نحو المنطق والتعقّل، مبتعداً بالمسافة نفسها عن المزاج. إنّ الاقتراب من حكومة المنطق، والخروج على حكومة المشاعر، دليلٌ على نُضْج الروح وتكاملها.

الطفولة ليست سوى مجموعةٍ من العواطف والميول التي لا منطق فيها؛ ولهذا فإنّ الطفل يكون عاجزاً عن تدبير أمره والمحافظة على مصالحه، لذلك ما أسرع ما يمكن استغلال عواطف الطفل واستخدامها وتوجيهها! ولكن كلّما تقدّمت بالطفل السنون، وازدادت تجاربه، قويت فيه قوّة العقل.

من البديهيّ، أنّ مجرّد مرور الزمان وتقدّم العمر لا يكفيان لجعل المرء رجل عقلٍ ومنطق؛ إذ إنّ هذه الفضيلة الأخلاقيّة، مثل سائر الفضائل الأخلاقيّة الأخرى، تحتاج إلى الممارسة والتمرين والمجاهدة، فثمّة حاجةٌ أوَّلاً إلى المخزون العلميّ والرأسمال الفكريّ، وثمّة حاجةٌ ثانياً إلى أن يُلزِم المرء نفسه مدّةً طويلةً بالتمرّن على التعمّق في التفكير، ودراسة النتائج والعواقب، وضبط مشاعره الداخليّة، قبل اتّخاذه قراراً حاسماً فيما ينوي القيام به من عمل.

إنّ من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله: «ما أخافُ على أمَّتي الفقر، ولكن أخاف عليهم سوء التدبير»[1].

وثمّة حديثٌ آخر منقول عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) ضمن قصّةٍ تبيّن الفرق بين اتّباع المنطق واتّباع العواطف:


 


[1] الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، لا.ن، إيران - قم، 1985م، ط1، ج4، ص39.

 

51


35

الفصل الثاني: الدُّعاء

الفصل الثاني: الدُّعاء


الرّوح المعنويّة في الدّعاء

بِصَرْفِ النظر عن الثواب الناشئ عن الدعاء، وبصرف النظر عن آثار استجابة الدعاء، فإنَّ الدّعاء إذا لم يكن مجرَّد لقلقة لسان، وانضمّ القلبُ إلى اللسان في انسجام، واهتزَّت روح الإنسان، فستكون في الدّعاء معنويّاتٌ وروحيّةٌ عالية، كما لو ألقى الإنسان نفسَه تحتَ نورٍ ساطع، فيحسُّ عندئذ بغلاء جوهر الإنسانيّة، وعندئذٍ يُدرك جيّداً أنَّ الأشياءَ الصَّغيرة التي كانت في سائر الأوقات تشغَله وتستأثر باهتمامه، كم هي تافهةٌ وحقيرةٌ وزهيدة.

عندما يمدّ الإنسان يد السؤال لغير الله، يحسّ بالمذلّة والهوان، ولكنّه إذا طلب من الله أحسّ بالعزّة؛ لذلك ففي الدّعاء طالبٌ ومطلوبٌ، وسيلةٌ وغايةٌ، مقدّمة ونتيجة! لم يحبّ أولياء الله شيئاً أكثر من حبّهم الدعاء؛ إذ كانوا يعرضون طلباتهم وأمانيّهم كلّها على محبوبهم الحقيقيّ، وهم يولون طلباتهم من الأهميّة بالقدر الذي يولونه لنجواهم مع الله، دون أن يشعروا بتعبٍ ولا نصَبٍ. وقد عبَّر عن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطابه لكميل النَّخعيّ: «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، استلانوا ما

 

54


36

الفصل الثاني: الدُّعاء

استوعره المترفون، وأَنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدُّنيا بأبدانٍ أرواحها معلَّقةٌ بالمحلّ الأعلى»[1]، هذا بخلاف القلوب الصدئة المسوَّدة المغلقة المطرودة من أعتاب الله.

 

طريق القلب إلى الله

إنَّ لكلِّ امرئٍ طريقاً من قلبه إلى الله، فثمّة بابٌ في القلوب كلّها يفتح على الله سبحانه. فحتّى أشقى الأشقياء عند الابتلاء، وعندما تتقطّع به الأسباب، تنتابه هزَّةٌ ويلجأ إلى الله، وهذا الأمر أصيلٌ في فطرة الإنسان، وطبيعيّ في وجوده، إلَّا إنّ ستارة الإثم والشّقاء قد تغطيه أحياناً، ثمّ تأتي المصائب فتُحرّك هذه الفطرة وتبرزها للعيان.

 

ولقد سأل شخصٌ الإمام الصادق (عليه السلام): يابن رسول الله، دلّني على الله: ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني، فقال له: «يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطّ»، قال: نعم، قال: «فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك»، قال: نعم، قال: «فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك»، قال: نعم، قال الصّادق (عليه السلام): «فذلك الشّيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث»[2].

 

لقد جعل الإمام الصادق (عليه السلام) الرّجلَ يعرفُ الله عن طريق قلبه ﴿وَفِيٓ أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُونَ﴾[3]. إنّ هذا الاتّجاه الفطريّ، الذي يتجلّى عند تقطُّع الأسباب، ويتوجّه إلى القدرة القاهرة الغالبة على الأسباب والعلل الظاهرة، هو الدَّليل على وجود تلك القدرة. ولولا وجودها لما وجدت تلك الفطرة في الإنسان.

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص497.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن علي بن بابويه، التوحيد، تصحيح وتعليق السيد هاشم الحسينيّ الطهرانيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص231.

[3] سورة الذاريات، الآية 21.

 

55


37

الفصل الثاني: الدُّعاء

ثمّة -بالطبع- فرقٌ بين أن توجد في الإنسان غريزة من الغرائز، وبين أن تكون هناك غريزة يعرفها الإنسان حقّ المعرفة ويعرف هدفها.

إنَّ غريزة مصّ الّلبن عند الطفل موجودة فيه منذ ولادته، فإذا جاع تحرّكت فيه هذه الغريزة وهدَته إلى البحث عن الثدي الذي لم يره، ولم يعرفه، ولم يعتد عليه! إنّ هذه الغريزة هي التي ترشده، وهي هاديةٌ بذاتها، وهي التي تحمل الطفل على فتح فمه بحثاً عن الثدي، وعلى البكاء إن لم يعثر عليه!

إنَّ البكاء نفسه دعوةٌ للأم إلى تقديم عونها، تلك الأمّ التي لا يزال الطّفل لا يعرفها ولا يعلم بوجودها. والطّفل نفسه، لا يعلم شيئاً عن هدف هذه الغريزة، ولا عن القصد من بكائه، ولا لماذا أوجدت فيه هذه الغريزة. إنّه لا يدري أنّ له جهازاً هاضماً، وأنَّ ذلك الجهازَ يحتاجُ إلى غذاء، والجسمَ يحتاج إلى إبدال ما يتلَفُ من أنسجته. إنّه لا يدري لماذا يريد، ولا يدري أنَّ فلسفة بكائه هي عبارة عن جلب انتباه الأمّ التي لا يعرفها، ولكنّه سيعرفها بالتدرّج.

أمَّا بالنِّسبة إلى غرائزنا البشريّة العليا، كغريزة الحاجة إلى الله والبحث عنه، وغريزة الدُّعاء والالتجاء إلى الله غير المرئيّ، فإنَّنا في ذلك أشبه بذاك الطفل الوليد بالنسبة إلى ثدي أمّه الذي لم يره ولا يعرفه: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيهِ رَٰجِعُونَ﴾[1]، ﴿   ﴾[2].

لا شكّ في أنّه لولا وجود ثدي ولبنٍ يناسب معدة الطفل، لما أرشدته الغريزةُ إليهما، فهناك ارتباطٌ بين تلك الغريزة وذلك الغذاء الموجود. كذلك هي الغرائز الأخرى في الإنسان؛ إذ ما من غريزة وُجدت عبثاً في الإنسان، فالغرائز كلّها موجودةٌ لوجود الحاجة إليها، ولرفع حاجة من الحاجات.

 


[1] سورة البقرة، الآية 156.

[2] سورة الشورى، الآية 53.

 

56


38

الفصل الثاني: الدُّعاء

الانقطاع الاضطراريّ والانقطاع الاختياريّ

توجد حالتان يدعو الإنسانُ الله فيهما:

- الأولى: عندما يُبتلى بالمصائب والمحن، وتوصد في وجهه الأبواب، وتنقطع به العلل والأسباب؛ نراه يتوجّه تلقائيّاً وغريزيّاً إلى الله، ويتوسّل به ليرفع عنه محنه ومصائبه. وهذا النّوع من التوجّه نحو الله ليس كمالاً إنسانيّاً.

 

- والثانية: عندما يكون في حالة رخاء حالٍ واطمئنان بالٍ، ولكنَّه يعلم أنَّ ما هو فيه من نعمةٍ مزجاة فمن الله، والله هو القادر على أن يسلبه إيّاها، كما هو القادر على أن يزيده منها؛ وذلك لعلمه بأنَّه خالق الكون والإنسان، والحياة، وأنَّه اللطيف بعباده الرؤوف بهم، وأنَّه صاحب الأسماء الحسنى؛ ولذا نجد هذا المخلوق الواعي حتّى وهو في رخائه وبحبوحة عيشه يتوجّه إلى ربّه بنفس متسامية مشرقة، داعياً إيّاه، متوسّلاً به، ليديم عليه نعمته، ويزيده من فضله، ويبعده عن معصيته، وليبعد غضبه –سبحانه- عنه، ويقرّبه من طاعته ليؤدي حقّ شكره.

 

ولا إشكال في أنّ هذا النَّوع من التَّسامي النَّفسيّ والانفتاح الروحيّ، يُعدّ كمالاً إنسانيّاً، والله –سبحانه- يستجيب لمثل هذا المخلوق، وينظر إليه بعين رحمته في حالة رخائه، كما يسرع إلى نجدته ورفع البلاء عنه في حالة محنته وابتلائه، كما يسرع هو إلى استدعاء رحمة ربّه.

 

شروط الدعاء

1. الطلب الحقيقيّ والصادق

إنَّ للدعاء شروطاً، وأوَّل تلك الشّروط هو: أن يحصل في الإنسان طلبٌ حقيقيٌّ، بحيث تتحوّل جميع ذرّات الوجود الإنسانيّ إلى مظهر من مظاهر إرادة الطلب، وأن يبدو ما يريده الإنسان بصورة حقّة من صور الاحتياج والدعاء؛ مثل أن يحتاج جزء من الجسم

 

57

 


39

الفصل الثاني: الدُّعاء

إلى شيء، فتأخذ جميع أجزاء الجسم الأخرى بالتصرّف بفاعليّة، بل إنّ بعض الأعضاء قد ينخفض نشاطه لكي ترتفع الحاجة عن نقطة من نقاط الجسم. فلو غلب العطش، مثلاً على أحد الأشخاص، فإنّ أثر العطش يظهر على وجنتيه، ويصرخ الحلق والكبد والمعدة والشفتان واللّسان: ماء. وإذا نام فإنّه سيرى الماء في منامه؛ لأنّ جسمه بحاجة إلى الماء حقاً.

إنَّ حاجة الإنسان الروحيّة، وهو جزء من عالم الخليقة، لا تختلف بالنسبة إلى كلّ العالم عن ذاك. إنّ روح الإنسان جزءٌ من عالم الوجود، فإذا حصلَ لها في الواقع طلبٌ أو احتياج، فإنَّ جهاز الخليقة العظيم لا يهمِلُ طلبها.

ثمّة اختلاف كبير بين مجرّد (قراءة) الدعاء، والدعاء الحقيقيّ، وما لم يتّحد قلبُ الإنسان مع لسانه في انسجامٍ تامٍّ، فلن يكون الدّعاء دعاءً حقيقيّاً؛ إذ لا بدَّ من حصول الطّلب والحاجة حقّاً في قلب الإنسان ووجوده: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾[1].

2. الإيمان والاعتماد على الاستجابة

الشرط الآخر من شروط الدّعاء هو الإيمان واليقين. الإيمان برحمة الله اللامتناهية، والإيمان بأنَّه سبحانه لا يمنع أحداً من فيض نعمته، وبأنَّ باب رحمة الله لا يغلق أبداً، وما التقصير والقصور إلّا من العبد نفسه، وقد جاء في الحديث: «إذا دعوت فظنَّ حاجتك بالباب»[2]. وكان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) يدعو ربّه، كما في دعاء أبي حمزة الذي يعجّ بالأمل والاطمئنان في أسحار شهر رمضان المبارك، بهذا الدّعاء: «اللهمّ إنّي أجد سُبل المطالب إليك مُشرعةٌ، ومَناهِل الرَّجاء لدَيك مُترعةٌ، والاستعانة بفضلك

 

 


[1] سورة النمل، الآية 62.

[2] قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات (سلوة الحزين)، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهديّ (عليه السلام)، إيران - قم، 1407ه، ط1، ص18.

 

58


40

الفصل الثاني: الدُّعاء

لمن أمَّلك مباحةٌ، وأبوابَ الدّعاء إليك للصَّارخين مفتوحةٌ، وأعلمُ أنَّك للرَّاجينَ بموضع إجابةٍ، وللملهوفين بمرصدَ إغاثةٍ، وأنَّ في اللهفِ إلى جُودَك والرضا بقضائك عوضاً عن منع الباخلين ومندُوحةً عمَّا في أيدي المستأثرين وأنَّ الرَّاحلَ إليك قريبُ المسافة، وأنَّك لا تحتجبُ عن خلقك إلَّا أن تحجبَهُم الآمالُ دُونك»[1].

 

3. عدم مخالفة سنن التكوين والتشريع

والشرط الآخر من شروط الدّعاء هو: ألَّا يكون مخالفاً لنظام التّكوين أو التّشريع. إنّ الدّعاء طلب العون للوصول إلى أهداف أقرّتها للإنسان الخليقة والتكوين أو الشرائع الإلهيّة، وإذا كان الدّعاء على هذه الصورة، كان حاجة طبيعيّة، فلا يبخل جهاز الخليقة -بحكم العدالة والتوازن الذي يسوده- على الداعي بالعون حيثما وجدت حاجة إلى ذلك. أمّا طلب شيء يخالف أهداف التكوين أو التشريع، كأن تطلب الخلود في الدّنيا، أو العقم، فليس من الدّعوات المستجابة؛ أي إنَّ أمثال هذه الدّعوات لا تكون مصداقاً حقّاً للدّعاء.

 

4. الانسجام في سائر شؤون الداعي

ومن الشُّروط الأخرى، أن تكون سائر أعمال الداعي في الحياة منسجمةً مع الدّعاء؛ أي أنْ تكون تلك الأعمال منسجمةً مع أهداف التكوين والتشريع، وأن يكون القلب نقيّاً نظيفاً، وأن يكون ارتزاقه من الحلال، وألَّا يكون ظالماً لأحد.

 

وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن أرادَ أحدُكُم أن يُستجابَ لَهُ فَليطُب كَسبُهُ، وليخرُج من مَظالِم الناس، فإنّ الله لا يرفعُ إليه دُعاء عبد وفي بطنه حرامٌ أو عِندهُ مظلمةٌ لأحدٍ من خلقه»[2].

 

 


[1] ابن طاووس، السيّد رضي الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسيني، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيومي الأصفهانيّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1414ه، ط1، ج1، ص157.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج90، ص321.

 

59


41

الفصل الثاني: الدُّعاء

5. الدعاء للتنصُّل من ذنب

وشرطٌ آخر هو أن لا تكون حالته التي يريد تغييرها إلى خير حالٍ ناتجةً من ارتكابه إثماً أو تقصيراً في واجباته؛ أو بعبارة أخرى، لا تكون تلك الحالة التي يريد تغييرها عقوبةً ونتيجةً منطقيّةً لآثامه ومخلّفاته؛ إذ في هذه الحالة لا يمكن أن تتغيَّر حالته ما لم يتب عمّا ارتكب، وما لم يزل أسباب حصول تلك الحالة وعللها.

 

من ذلك -مثلاً- أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان. فصلاح المجتمع وفساده منوطان بالقيام بهذين الفرضين أو بعدم القيام بهما، فالنتيجة المنطقيّة لترك هذين الفرضين هي أنْ تُتاحَ الفرصة للأشرار ليتسلّطوا على مقدّرات الناس.

 

فإذا قصَّر الناس في تنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاق بهم نتيجةَ ذلك ما يستحقّونه من بلاء، ثم جاؤوا يدعون الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء، فلا يتحقّق لهم شيءٌ بالطّبع، وطريق نجاتهم الوحيد هو التّوبة عمّا مضى، والعودة بقدر الإمكان إلى القيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفي هذه الحالة يمكن أن تعود إليهم حالتهم الطبيعيّة بالتدريج.

 

يقول الله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾[1]، وفي الحديث: «لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهُنَّ عن المنكر، أو ليُسلّطنّ اللّه عليكم شراركم، فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم»[2].

 

والحقيقة هي أنّ هذه الدعوات خلاف سنن التكوين والتشريع. كذلك أمر من لا يعمل، ولكنّه لا يفتأ يرفع يديه بالدعاء، فهذا أيضاً مخالف لسنن التكوين والتشريع، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «الداعي بلا عَمَلٍ كالرامي بلا وَتَرٍ»[3]؛ أي إنَّ العمل والدّعاء يكمّل بعضه بعضاً، فالدّعاء بلا عمل لا تأثير له ولا أثر.

 


[1] سورة الرعد، الآية 11.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص56.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص534.

 

60


42

الفصل الثاني: الدُّعاء

6. الدعاء لا يقوم مقام العمل

من الشّروط الأخرى للدّعاء، أن يكون مظهراً من مظاهر الحاجة حقّاً، وأن يدعو الطّالب عندما لا يكون المطلوب ميسوراً له أو في متناول يده، أو يكون عاجزاً وضعيفاً.

أمّا إذا أعطى الله مفتاح الحاجة بيد الإنسانِ نفسه فيكفر بالنعمة، ويستصعب عليه استعمال المفتاح، ثمّ يدعو الله أن يفتح له الباب الذي يحتفظ هو بمفتاحه لكيلا يتحمَّل هو عناءَ استخدام المفتاح، لا شكَّ في أنَّ دعاءَ إنسانٍ كهذا لا يُستجاب.

وهذا النّوع من الدعوات ينبغي عدّه من تلك التي تخالف سنن التكوين. فالدّعاء عادة يكون من أجل الحصول على القدرة، أما الدّعاء طلباً للقدرة الموجودة فعلاً عند الداعي فيكون من قبيل تحصيل الحاصل؛ لذلك يقول أئمتنا (عليهم السلام): «أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟ ورجلٌ له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجلٌ كان له مالٌ فأفسده، فيقول: اللهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجلٌ كان له مالٌ فأدانه بغير بيِّنة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟»[1]. وفي بعض الروايات ورد زيادة على ذلك: «ورجل يدعو على جاره وقد جعل الله -عزّ وجلّ- له السّبيل إلى أن يتحوّل عن جواره ويبيع داره»[2].

من البديهيّ، أنَّ الأمر ليس مقتصراً على هذه الأمثلة الخمسة التي سبق ذكرها، وإنّما هي أمثلة للحالات التي يكون الإنسان نفسه قادراً على حلّ مشكلته بالعمل والتدبير، ولكنّه يقصّر عن ذلك، ويحاول أن يقيم الدّعاء مقام العمل. كلّا، ليس الأمر هكذا، إن الدّعاء في نظام الخليقة لا يقوم مقام العمل، بل إنّه مكمّل للعمل ومتمّم له.

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص511.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص510.

 

61


43

الفصل الثاني: الدُّعاء

الدّعاء والقضاء والقدر

كُتِبَت بحوثٌ كثيرةٌ، قديماً وحديثاً، حول الدّعاء، وتوجد تساؤلات عدّة أيضاً، منها أنَّ الدّعاء يتنافى مع الاعتقاد بالقضاء والقدر، فإذا قبلنا بأنَّ كلَّ شيءٍ مُعيَّن بالقضاء الإلهيّ، فما هو أثر الدّعاء؟

 

إمّا أن يكون الدّعاء منافياً للقول بحكمة البارئ، وأنّه يفعل ما يفعل بموجب المصلحة، بمعنى أنّ ما نريد تغييره بالدّعاء موافق للحكمة والمصلحة أو مخالف لهما، فإذا كان الموجود موافقاً للحكمة، فلا ينبغي لنا أن نطلب من الله ما يخالف الحكمة، ولا الله يستجيب لمثل هذا الدّعاء؛ وإذا كان مخالفاً للحكمة فكيف يمكن قبول القول إنّ نظام العالم يجري وَفق مشيئة الله الحكيمة، ثمّ نطلب من الله وقوع أمرٍ مخالفٍ للمصلحة والحكمة؟

 

أو يقال إنّ الدّعاء يتنافى مع الرضا بقضاء الله والتسليم لمشيئته، والإنسان ينبغي له أن يرضى له ويقنع بما يصل من الله. هذه أسئلة واعتراضات قديمة، حتّى إنّها تؤلّف جزءاً من أدبنا، وليس هنا مجال بحثها.

 

إنَّ جميع هذه التساؤلات ناشئةٌ عن حسبانهم أنَّ الدّعاء أمرٌ خارج عن نطاق قضاء الله وقدره، وبعيدٌ عن حكمته، مع أنَّ الدّعاء والاستجابة له من أجزاء القضاء والقدر، وقد يقفُ الدّعاء في طريق بعض القضاء والقدر؛ ولهذا فإنَّه ليس منافياً للرّضا بالقضاء، ولا للحكمة الإلهيّة، وليس ثمّة مجال أوسع الآن لبحث ذلك.

 

ليالي القدر

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُواْ لِي وَليُؤمِنُواْ بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ﴾[1]. هذه الآية ترِدُ في سياق آيات خاصّة بشهر رمضان


 


[1] سورة البقرة، الآية 186.

 

62


44

الفصل الثاني: الدُّعاء

المبارك؛ أي الآيات الخاصّة بالصوم. ولعلّ سبب ورودها بين تلك الآيات هو أنّ هذا الشهر يتميّز بكونه شهر العبادة والدعاء والاستغفار بشكل يزيد على بقيّة شهور السّنة، حيث وردت في قيام لياليه بين يدي الله -سبحانه وتعالى- روايات كثيرة تحثّ على ذلك، وخصوصاً ليالي القدر، التي اختصّ سبحانه هذا الشهر بها؛ ولذا يهتمّ الأئمة (عليهم السلام)بالقيام فيها، وإحيائها بالعبادة والاستغفار.

عند حلول شهر رمضان كان النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) يأمر بألَّا يُفرش له فراش نومه حتّى آخر الشهر؛ إذ كان يعتكف في المسجد، وينشغل بالدعاء ومناجاة الخالق. وعليّ بن الحسين (عليه السلام) لم يكن ينام في ليالي شهر رمضان، بل كان يقضيها إمّا بالصلاة والدّعاء، وإمّا بإيصال المعونة إلى الفقراء والمستضعفين، وكان يقرأ عند السحر الدّعاء المعروف باسم دعاء أبي حمزة الثماليّ.

لذَّة الدّعاء والانقطاع إلى الله

إنّ الذين ذاقوا الدّعاء، والانقطاع عن الناس إلى الله لا يرون لذّة تعدل تلك اللذة. فالدّعاء قد يبلغ أوجَهُ في التوجّه، فيشعر الداعي بنوع من الارتقاء الروحيّ والتسامي الوجدانيّ، ما يمنحه لذّة ما بعدها لذّة، وتخالجه سعادة ليس فوقها سعادة، عندما يشعر أنّه موضع لطف الله الخاصّ، ويشاهد آثار استجابته لدعائه: «وأنِلْني حُسْن النَّظَرِ في ما شَكوتُ، وأذِقني حَلاوَة الصنع في ما سَألْتُ»[1].

يقول العارفون: إنَّ ثمّة اختلافاً بين (علم اليقين) و(عين اليقين) و(حقّ اليقين) ويضربون لذلك مثلاً، فيقولون: افترض أنَّ ناراً تشتعل في مكان ما، فمرّة أنت ترى أثر تلك النار، دخانها المتصاعد مثلاً، فتعلم أنّ هناك ناراً في مكان تصاعد الدخان، فهذا (علم اليقين).


 


[1] ابن طاووس، السيد رضي الدين عليّ بن موسى الحسني الحسيني، مهج الدعوات ومنهج العبادات، كتابخانه سنائى، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص272.

 

63


45

الفصل الثاني: الدُّعاء

وقد ترى النار نفسها عن قرب، فهذا (عين اليقين)، وهو أعلى مكانة من العلم به؛ لأنَّه مرئيّ. وقد تقرب أكثر من النار، بحيث إنّ حرارتها تلفح جسمك وأنت تدخل فيها، فهذا (حقّ اليقين).

من الممكن أن يعرف الإنسان الله معرفة كاملة، ويؤمن بوجوده القدسيّ، ولكنّه في حياته الخاصّة قد لا يرى أثراً لألطاف الله وعناياته الخاصّة التي يفيض بها أحياناً على بعض عباده، فهذه هي مرحلة علم اليقين. وأحياناً يشاهد أثر التوحيد، يدعو فيجد لدعائه استجابة، يتوكّل على الله في أعماله ولا يعتمد على غير الله، فيجدّ أثر هذا التوكّل والاعتماد في حياته الخاصّة، فهذه مرحلة عين اليقين. أمّا عباد الله الذين يحسّون بالّلذة، فهم أهل القلب النيّر السليم، وأهل التوكّل والاعتماد على الله، والذين يرون آثار دعائهم وتوكّلهم واعتمادهم، يمتلئون فرحاً وابتهاجاً إلى الحدّ الذي لا يسعنا تصوّره تصوّراً كاملاً. أمّا المرحلة العليا فهي التي يرى الداعي فيها نفسه في ارتباط مباشر بالله -تعالى-، بل لا يرى نفسه، إنّما يرى الفعل فعله وحدَهُ، والصّفة صفته، وفي كلّ شيء يراه هو وحده سبحانه.

عندما يتعلّم الإنسان فنّاً من الفنون أو علماً من العلوم، يكون ذلك بالدرس، فيصبح طبيباً أو مهندساً، وبعد سنين من التّعب، وبذل الجهد، عندما يشاهد لأوّل مرّة أثر فنّه أو علمه، كأن يرى مريضه قد شفي أو يرى عمارة وقد ارتفعت برسومه الهندسيّة مهيبة شامخة، يشعر بالابتهاج والسرور، ويرى في نفسه العزّة والكرامة. إنّ من أعظم اللذائذ أن يرى الإنسان آثار فنّه وعلمه. فما حال الإنسان إن رأى أثر فنّ إيمانه؛ أعني لطف الله الذي يختصّه به.

إنّ العزّة التي تصيب الإنسان عن طريق التوحيد، والبهجة والسرور اللذين يحسّ بهما في تلك الحال أكثر من ذلك آلاف المرّات، وألذَّ آلاف المرّات، وأحلى آلاف المرّات. أسأل الله أن يوفّقنا إلى أن ندعوه ونناجيه لننعم بتلك الحالة الرّوحيّة المقدّسة.

 

64

 


46

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

 


مقدّمة

موضوع البحث هو الدّنيا في نظر الدّين. وبالطبع، إنّنا نبحث الموضوع من حيث وجهة النظر الإسلاميّة، وخصوصاً من حيث المنطلق المنطقيّ الذي ينطلق منه القرآن، وهو منطق ينبغي توضيحه؛ لأنّ أوّل موضوع في الموعظة والنصيحة يجري على لسان الدّين هو ذاك الذي يتناول الدّنيا بالذّمّ وبالابتعاد عنها، وتركها وعدم التمسّك بها.

إنَّ من يرد أنْ يصبح واعظاً يعظُ النَّاس، فأوّل موضوع يتبادر إلى ذهنه هو أن يحفظ شيئاً من الشِّعر أو النَّثر في ذمِّ الدُّنيا والزُّهد فيها.

إنَّ هذا الموضوع يرتبط بتربية الناس وأخلاقهم ونوع توجُّهاتهم نحو القضايا الحياتيَّة، ولذلك فهو موضوع على جانب كبير من الأهميّة. فإذا أمكن تفسيره تفسيراً معقولاً وجيّداً، لكان له تأثيرٌ في تهذيب الأخلاق، وعزَّة النفس، وبُعد النَّظر، والسَّعادة الفرديّة، وحسن الروابط الاجتماعيّة. أمّا إذا كان تفسيره سيّئاً، فإنَّه سيكون مدعاةً إلى تخدير الأعصاب، واللامبالاة، ومنشأً لكلّ تعاسة فرديّة وشقاء اجتماعيّ.

 

66


47

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

أسباب الخطأ في تفسير الزهد

 

لدينا سببان:

- الأوَّل: هو نفوذ بعض الأفكار والفلسفات التي كانت موجودةً قبل الإسلام، والمبنيّة على سوء الظّنّ بالوجود وبالدّنيا والأيّام، وأنّ كلَّ شيء في هذا العالم مبنيّ على الشرّ. وهي أفكارٌ انتشرت بين المسلمين بعد اختلاطهم بالأقوام الأخرى.

- الثّاني: هو الحوادث التاريخيّة المُرَّة، والحوادث الاجتماعيّة الخاصّة التي وقعت خلال القرون الأربعة عشر في المحيط الإسلاميّ، فكانت سبباً في خلق سوء الظنّ، وانفصام الوشائج، وشيوع فلسفاتٍ مبنيّةٍ على الشكّ وسوء الظّنّ.

علينا -الآن- أن نرى ما هو منطق القرآن بهذا الشأن؟ هل يمكن استخراج هذه الفلسفة السيّئة الظّنّ من القرآن؟ أم القرآن يخلو من هذه الأفكار؟

الزهد في القرآن

في الوقت الذي يتحدَّث فيه القرآن عن الدّنيا على أنّها حياةٌ فانيةٌ لا تستحقُّ أن يعدّها الإنسان هدفاً نهائيّاً له، يقول أيضاً: ﴿ٱلمَالُ وَٱلبَنُونَ زِينَةُ ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَٱلبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيرٌ أَمَلٗا﴾[1].

وفي الوقت الذي لا يرى القرآن الدُّنيا جديرةً بأن تكون غاية آمال البشر، كذلك لا يرى المخلوقات والموجودات من سماءٍ وأرضٍ وجبالٍ ومحيطاتٍ وصحاري ونبات وحيوان وإنسان، وما هنالك من أنظمة وحركة ودوران، كلّها باطلةً وقبيحةً وخطأً!

بل على العكس من ذلك، يرى في هذا كلّه نظاماً حقّاً، ويقول: ﴿وَمَا خَلَقنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لَٰعِبِينَ﴾[2]. إنّ القرآن يقسم بالموجودات وبالمخلوقات ﴿وَٱلشَّمسِ

 


[1] سورة الكهف، الآية 46.

[2] سورة الدخان، الآية 38.

 

67


48

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

وَضُحَىٰهَا ١ وَٱلقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا﴾[1]، و﴿وَٱلتِّيـنِ وَٱلزَّيتُونِ ١ وَطُورِ سِينِيـنَ ٢ وَهَٰذَا ٱلبَلَدِ ٱلأَمِينِ﴾[2]، و﴿وَٱلعَٰدِيَٰتِ ضَبحٗا ١ فَٱلمُورِيَٰتِ قَدحٗا﴾[3]، و﴿وَنَفسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا﴾[4]، و﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلقِ ٱلرَّحمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَٱرجِعِ ٱلبَصَرَ هَل تَرَىٰ مِن فُطُورٖ﴾[5].

في الواقع، إنَّ سوء الظّنّ بالخلق وبدوران العالم وبنظامه لا يتّفق مع الفلسفة الإسلاميّة؛ أي النواة المركزيّة للفلسفة الإسلاميّة، وهي التوحيد. فتلك النظريّات إمّا أن تكون مبنيّة على أساس مادّيّ ينكر وجود إلهٍ حقٍّ حكيمٍ وعادل، وإمّا أن تكون قائمة على الثنائيّة أو الازدواجيّة في الوجود، كما هي الحال في بعض الفلسفات التي تقول: إنّ هناك أصلين أو مبدأين للوجود؛ أحدهما للخير، والآخر للشرّ.

إلّا أنّ ديناً بني على التَّوحيد، وعلى الاعتقاد بإله رحمان، رحيم، عليم، حكيم، لا مكان فيه لأمثال هذه الأفكار، كما ورد في الكثير من آيات القرآن.

إن ما قيل عن فناء الدّنيا وزوالها، تشبيهاً بالنَّبات الذي يخرج من الأرض إثر المطر، فينمو ويخضرّ، ثمّ يصفرّ ويجفّ ويتلاشى بالتدرّج، إنّما قد قيل لرفع قيمة الإنسان الذي ينبغي ألّا يجعل غايته وهمّه ومنتهى آماله أموراً ماديّة، فما من أمرٍ دنيويٍّ جديرٍ بأن يكون هدفاً أعلى. وليس في هذا ما يحملنا على القول: إنّ الدّنيا -في حدّ ذاتها- شرّ وقبح؛ ولذلك ما سمعنا أنّ أحداً من علماء الإسلام قد حمل تلك المجموعة من الآيات على محمل سوء الظّنّ بالكون ودوران الزمان والأيّام.


 


[1] سورة الشمس، الآيتان 1ـ 2.

[2] سورة التين، الآيات 1ـ 3.

[3] سورة العاديات، الآيتان 1ـ 2.

[4] سورة الشمس، الآيتان 7ـ 8.

[5] سورة الملك، الآية 3.

 

68


49

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

هل التعلّق بالدّنيا مذموم؟

جاء في بعض التَّفاسير التي فسّرت بها تلك الآيات، أنّ مضمون هذه الآيات ليس ذمّاً للدنيا نفسها؛ لأنّ الدّنيا ما هي إلّا هذه الأشياء العينيّة التي نراها في الأرض والسماء، وليس في أيٍّ من هذه شيءٌ سيِّئ، بل إنّها جميعاً دلائل على قدرة الله وحكمته، فلا يمكن أن تكونَ سيِّئة، ولكنّ السيِّئ والمذموم في الموضوع هو التعلُّق بهذه الأمور في الدُّنيا، لا الدُّنيا ذاتها. لقد قيل الكثير من الشعر والنثر في ذمّ حبّ الدّنيا بحيث يخرج عن العدّ والإحصاء.

هذا تفسير شائع جدّاً، إذ لو سألت شخصاً عن معنى كون الدّنيا مذمومة، لقال لك: إنّ معنى ذلك هو: أنّ حبّ الدّنيا هو المذموم، لا الدّنيا ذاتها؛ إذ لو كانت هي المذمومة لما خلقها الله.

لو أنّنا أمعنّا النظر في هذا التفسير -على الرغم من شهرته وأخذه مأخذ الأمور المسلم بها- لرأينا أنّه لا يخلو من بعض التحفُّظ، بل قد يكون على شيءٍ من التَّباين مع القرآن نفسه.

من ذلك مثلاً، علينا أن نعرف إن كانت علاقة الإنسان بالدنيا علاقة فطريّة وطبيعيّة؛ أي هل هذه العلاقة كامنة في غريزة البشر وجبلّته؟ أم هي مكتسبة فيه بسبب عوامل وظروف خاصّة، كالعادة، أو التلقين، أو أيّ عامل آخر؟ فالوالدان متعلِّقان بأبنائهما، والأبناء بوالديهم، والذَّكر والأنثى يتعلَّق بعضهما ببعض، وكلُّ الناس يحبّون المال والثروة، والجاه والاحترام، وكثيراً من الأمور الأخرى. فهل هذه العلاقات طبيعيّة وفطريّة، أم هي مكتسبة من أثر سوء التربية؟

لا شكّ في أنّها تعلّقات طبيعيّة فطريّة، فكيف يمكن أن تكون مذمومة، وأنّ على الإنسان أن يتجنّبها ويزيلها من نفسه؟ فكما أنّنا لا يمكن أن نقول: إنّ المخلوقات والموجودات، الخارجة عن وجود الإنسان، شرٌّ ولا حكمة فيها، وكما أنّ أيّ عضو من أعضاء الإنسان

 

69

 


50

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

وجوارحه لا يكون خلواً من الحكمة، حتّى الشُعَيرة الدَمَويّة والعضو الصغير، حتّى الشعرة الواحدة لا يمكن أن نقول: إنّها زائدةٌ وعبث، كذلك الأمر في القوى والغرائز وأجهزة الإنسان الروحيّة، في الميول والرغبات. فما من رغبة أو ميل فطريّ في الإنسان إلّا ولوجوده حكمةٌ وهدف أو قصد.

إنّ لكلّ هذه الأمور حكمتها: العلاقة بالأولاد، بالأبوين، بالزوج، بالمال، بالثروة، بالجاه والرفعة، بالتقدّم على الآخرين. إنّ لكلّ من هذه حكمته الكبيرة؛ إذ لولاها لانهار أساس حياة البشر.

ثمّ إنّ القرآن نفسه يذكر هذه الألوان من العلاقة والحبّ على أنّها من دلائل حكمة الله -تعالى-، من ذلك مثلاً في سورة (الروم)، حيث يشير إلى خلق البشر، والنوم، وأمور أخرى، ثمّ يُردفها بقوله: ﴿وَمِن ءَايَٰتِهِۦ أَن خَلَقَ لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَٰجٗا لِّتَسكُنُوٓاْ إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَومٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1]. فلو كان حبُّ الزَّوج سيّئاً، لما ورد ذكره في هذه الآية على أنّه من آيات الله ومن تدابيره الحكيمة.

فلا شكّ –إذاً- في أنّ هذه العلاقةَ كامنةٌ في طبيعة النّاس. ومن الواضح أنّ هذه العلاقة مقدّمة ووسيلة ليبقى سير الدُّنيا ونظام دورانها محفوظاً؛ إذ لولا هذه العلاقة، لما استدامَ تواتر الأجيال، ولما تقدَّمت حياة البشر وحضارتهم، ولما نشطت حركة العمل والتكسُّب، بل لما بقي إنسانٌ على وجه الأرض.

 

طرق الحلّ

هذان تفسيران للنظر إلى الدّنيا؛ أحدهما نظرة الذين يرون الدّنيا بلذّاتها عالَم شرٍّ وفسادٍ وخراب، والآخر نظرة الذين لا يرون الدّنيا مذمومة، بل إنّ حبّها هو المذموم.


 


[1] سورة الروم، الآية 21.

 

70


51

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

أمّا الذين ينظرون إلى الدّنيا والوجود كلّه نظرة سوء ظنّ، ويرون الحياة والوجود شرّاً كلّه وفساداً، دون أن يكون عندهم طريق لنجاة البشر من التعاسة غير البوهيميّة والانتحار، فإنّ حديثهم لأسخف حديث، وإنّ حظّهم لأتعس حظّ، إنّ مثلهم، كما يقول (ويليام جيمس)، مثل الجرذ في المصيدة، عليه أنْ يئنّ ويتوجَّع.

وأمّا الذين قالوا: إنَّ الدُّنيا ليست مذمومةً بذاتها، وإنّما التعلّق بها هو المذموم، وهم يقولون أيضاً: ليست الحال أن نشقى ونتعذّب أبداً، وإنّما الطريق إلى سعادة الإنسان وخلاصة من التعاسة هو مكافحة هذه العلائق واقتلاعها من جذورها، وعندئذٍ يتحرَّر الإنسان من مخالب الشرّ، ويحتضن السَّعادةَ بين ذراعيه.

وفي الردّ على هذه الجماعة، ينبغي أن نقول: إنّه، فضلاً عن أنّ هذه الغرائز والطبائع الفطريّة الكامنة في النفس غير قابلة للاقتلاع والقمع -وهذا ما يؤيّده علماء النفس والفلاسفة-، وأنّ أكثر ما يستطاع هو ترويضها وكبتها ودفعها بعيداً إلى أغوار العقل الباطنيّ، غير أنَّها سوف تظهر مرَّةً أخرى بصورةٍ أخطر عن طريق مجرىً آخر، مسبّبةً أمراضاً نفسيّةً وعصبيّةً.

أقول، بصرف النظر عن هذا كلّه، فإنّ لاقتلاع جذور هذه الغرائز من الضَّرر أضعافاً مضاعفة، إنّه كما لو قطعت يداً أو رجلاً أو جدعت أنفاً أو أيّ عضو من أعضاء الجسم!

إنّ لكلّ غريزة أو اتّجاه فطريّ قوّةً في كيان الإنسان، غُرزت فيه للقيام بعمل أو بحركة، ليس في خلقة الإنسان عبث. فما ذريعتنا للقضاء على مركز هذه القوّة وتدميره؟

 

منطق القرآن

يستفاد من القرآن الكريم، أنّ أيّ تعلّق أو حبّ بالكائنات أمر مذموم، إلّا أنّه لا يقول: إنّ طريق علاج ذلك هو كبح ذلك وقمعه، فهذا أمر آخر، وله طريق آخر للعلاج.

 

71

 


52

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

إنّ ما يذّمه القرآن هو التعلّق أو الارتباط، أو الولع، أو الرضا بالأمور المادّيّة الدنيويّة، فيقول: ﴿ٱلمَالُ وَٱلبَنُونَ زِينَةُ ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَٱلبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيرٌ أَمَلٗا﴾[1]؛ أي صحيح أنّ الثروة والأولاد من مباهج الحياة، إلّا أنّ الأعمال الصالحة الباقية أفضل عند الله ثواباً؛ لأنّها هي هدف الإنسان والمثل الذي يصبو إليه، فالكلام –إذاً- عن الغاية، والنموذج المثاليّ المطلوب.

ويصف القرآن أهل الدّنيا بقوله –تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا وَٱطمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُم عَن ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ﴾[2]. الكلام في هذه الآية يتناول مذموميّة الرضا بالمادّيّات والاكتفاء بها والركون إليها، هذا هو الوصف المذموم لأهل الدنيا.

أو يقول: ﴿فَأَعرِض عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكرِنَا وَلَم يُرِد إِلَّا ٱلحَيَوٰةَ ٱلدُّنيَا ٢٩ ذَٰلِكَ مَبلَغُهُم مِّنَ ٱلعِلمِ﴾[3]؛ أي لا تلتفت إلى الذين لا يلتفتون إلى القرآن، ولا يريدون شيئاً غير الدّنيا؛ لأنَّ إدراكهم سطحيٌّ وقشريّ. ومرّة أخرى يكون الحديث هنا عن الذين لا يبغون غير الدّنيا، ولا هدف لهم سواها، فلا يتجاوز تفكيرهم مستوى المادّيّات.

أو يقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلبَنِينَ وَٱلقَنَٰطِيرِ ٱلمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلفِضَّةِ وَٱلخَيلِ ٱلمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنعَٰمِ وَٱلحَرثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا﴾[4]. هنا الكلام –أيضاً- لا يتناول الرغبات الطبيعيّة الصرف، بل يتناول جانباً أدقّ من حيث إضفاء الناس أهميّة أكبر وجمالاً أحلى على بعض الشهوات بما لا تستحقّه، فانشغل بها الفرد وافتتن حتّى حسبها هي المطلوب الأسمى.

 

 


[1] سورة الكهف، الآية 46.

[2] سورة يونس، الآية 7.

[3] سورة النجم، الآيتان 29ـ 30.

[4] سورة آل عمران، الآية 14.

 

72


53

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

أو يقول: ﴿أَرَضِيتُم بِٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا مِنَ ٱلأٓخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ ٱلحَيَوٰةِ ٱلدُّنيَا فِي ٱلأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[1]، فهذه الآيات تنقد القناعة والرضا والاكتفاء بالعلائق الدنيويّة. وهنالك فرق بين أن يحبَّ المرءُ المال والأولاد وسائر شؤون الدُّنيا، وأن يكتفي بها ويرتضيها ويجعلها غاية آماله وأقصى ما يستهدفه.

عندما تكون نقطة الهدف هي الحيلولة دون حصر البشر، وتحديدهم بالعلائق والروابط المادّيّة، فإنّ طريق الوصول إلى ذلك لا يكون عبر كبح العلائق الطبيعيّة في الإنسان، وقمعها وإخفات ضوئها وطاقتها، بل الطريق الأمثل هو تحرير مجموعة أخرى من العلائق، ومنحها الحريّة، وهي تلك المجموعة التي تأتي بعد العلائق الجسديَّة المادّيَّة، وهي تستوجب التَّحريك والإحياء.

وعليه، فإنّ حقيقة الأمر هي أنَّ التعاليم الدينيّة تعمل على إيجاد مشاعر أسمى في الإنسان، وهي مشاعرُ موجودةٌ في فطرة الإنسان وغرائزه. ولمَّا كانت هذه أسمى وأرفع مقاماً، وتستقي من مكانة الإنسان الرفيعة، فإنّها أحوج إلى الإيقاظ والتَّحريك والإحياء، إنَّها مشاعرُ تتعلَّقُ بالمعنويَّات.

كلُّ علاقة من العلائق هي نبع تنبع من روح الإنسان، وتنبجس ويجري ماؤها. ليس هدف الدّين أن يطمر العيون المادّية، بل هدفه فتح عيون أخرى، عيون المعنويّات؛ أو بعبارة أخرى، ليس الهدف تحديد مجرى العيون المادّيّة وتضييقها إلى أدنى من الحدّ الذي قدّره لها الخالق في بدء الخليقة بحسب حكمته وتقديره، وإنَّما الهدف هو إطلاقُ الحريّة لمجموعةٍ من القوى المعنويَّة التي تتطلَّبُ التحرُّر؛ وإليك مثلاً توضيحاً للأمر.

هذا رجل له ولد يبعث به إلى المدرسة، فإذا رأى أنّ ابنه لا همّ له سوى اللعب والأكل والنوم، حزن وقلق، ووبّخه ووسمه باللعوب الأكول، وبصفات مذمومة أخرى؛ لأنّه يودّ


 


[1] سورة التوبة، الآية 38.

 

73


54

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

لو أنّ ابنه أظهر تعلّقاً أكبر بالدرس والاجتهاد والسعي. لا شكّ في أنّ هذا التعلّق المطلوب بالدرس والاجتهاد أبطأ ظهوراً في الصبيّ من علاقته باللعب والأكل، ثمّ إنّها تستوجب حبّ الإثارة والتحريك والتشويق. إنّ غريزة حبّ التعلُّم موجودة في البشر كلّهم، إنّما هي في سبات وينبغي إيقاظها.

ولا يعني هذا أنّ الأبَ يريد حقّاً اقتلاع حبّ اللعب والأكل من طبيعة ابنه اقتلاعاً نهائيّاً، بل إنَّه ليشتدّ قلقه على ابنه إن رآه فقد رغبته في اللعب أو الطعام، ويحسب ذلك عارضاً من أعراض المرض، فيعرضه على الطبيب لمعالجته؛ لأنّه يعلم أنّ الطفل السليم، الذي يحبّ الدرس والمدرسة، ينبغي ألّا يصرفه ذلك عن الرغبة في اللعب والطعام، وعليه أن يكون نشيطاً، فيلعب وقت اللعب، ويأكل وقت الأكل؛ وعليه، عندما يصف الأب ابنه بأنّه لعوب وأكول، لا يريد أن يقول: إنّه يشكو من هذا في ابنه، بل من أنّ ذلك ربّما يكون قد تجاوز حدوده.

 

أصل هذا المنطق في نظرة الإسلام إلى الدنيا

إنّ اهتمام القرآن بموضوع الدّنيا، ومنع حصر العلائق بالدّنيا وبالمادّيّات، ناشئان عن نظرة القرآن الخاصّة إلى العالم وإلى الإنسان.

فنظرة القرآن إلى نشأة العالم لا تقتصر على جانبها المادّيّ الدّنيويّ، فهو مع القول بعظمة الدُّنيا بأيِّ درجةٍ كانت، يقول أيضاً بنشأةٍ أخرى أعظم وأوسع، وأرحب، بحيثُ لا تكون نشأةُ الدُّنيا بإزائها شيئاً يُذكر. ومن حيث نظرته إلى الإنسان يقول: إنَّ الحياة ليست منحصرةً بالحياة الدّنيا، ففي الآخرة حياةٌ أخرى.

وعلى الرغم من أنَّ القرآن يرى أنّ الإنسان ثمرةُ شجرة هذه الدُّنيا، فإنَّ حياتَه ووجودَه يمتدَّان إلى ما وراء الحياة الدُّنيا؛ وعليه، فإنَّ هذا الإنسان الذي يحظى بهذا القدر من العناية والأهميّة، ينبغي ألّا يجعل الدّنيا وما فيها من الأمور المادّية هدفه النهائيّ، وألّا

 

74

 


55

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

يبيعَ نفسه للدُّنيا، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «ولَبِئْسَ المَتْجَرُ أنْ تَرى الدُّنيا لِنَفسِكَ ثَمناً»[1]

 

وعلى ذلك، فإنَّ فصلاً من فصول النَّظرة إلى العالم والفلسفة القرآنيّة؛ أعني فصل التوحيد، كما قلنا منذ البدء، لا يسمح لنا بأن ننظر إلى الدّنيا والعالم المحسوس نظرةً سيِّئة. وثمّة فصل آخر من فصول الفلسفة القرآنيّة ونظرتها إلى الدّنيا، يوجب أن يكون هدف الإنسان وغايته القصوى أرفع من مستوى الدّنيا ومادّيّاتها، ذلك هو فصل المعاد والإنسان.

 

الأخلاق والحبّ

وفضلاً عن أنّ هناك فصلاً آخر من الإسلام يوجب كذلك الإقلال من الاهتمام بالمادّيّات، وهو فصل التربية والأخلاق، فإنّ سائر المدارس التربويّة تقول أيضاً: إنّ التربية الاجتماعيّة، ولغرض إعداد البشر لحياة اجتماعيّة، ينبغي أن تعمل على أن تكون للأفراد أهدافٌ معنويّة يتوجّهون إليها بأكثر ممّا يتوجّهون نحو المادّيّات؛ إذ إنّ نارَ الحرص والطمع إذا اشتدّ لهيبها، فهي فضلاً عن كونها لا تستطيع أن تكون سبباً في العمران الاجتماعيّ، فإنّها، على العكس من ذلك، تسبِّبُ الفساد الاجتماعيّ وخرابه.

 

ومن حيث بلوغ السعادة، على الفرد ألّا يكون مفرطاً، كما هي حال بعض الفلاسفة فيقول: إنّ السعادة والهناء في الزهد في كلّ شيء وتركه، على الرغم من أنّ طبيعة الاستغناء وعدم الاهتمام واحدة من الشروط الأولى للسعادة.

 

هنا ترانا بحاجة إلى توضيح آخر. لعلّ الذي ذكرناه عن الحيلولة دون حصر العلائق البشريّة بالمادّيّات، يحمل بعض الناس على الظّنّ الواهم بأنّ علينا أن نحبّ الله وأن نحبّ الدّنيا، أن نجعل المادّة والروح هما المطلوب الأكمل، وهذا ضربٌ من الشّرك!

 

ليس هذا هو المقصود، المقصود هو أنّ الإنسان يملك عدداً من الميول والنزعات


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص75.

 

75


56

الفصل الثالث: نظرة الدّين إلى الدنيا

الطبيعيّة نحو بعضِ الأشياء، وهي ما أوجده الله بحكمته في الإنسان قاطبةً بمن فيهم الأنبياء والأولياء الذين كانوا يشكرون الله ويحمدونه عليها، وهي ما لا يمكن إزالتها، حتَّى لو أمكن أنْ تُزال، فليس ذلك من صلاح البشر.

إنّ للإنسان تطلُّعاً آخر وراء هذه الميول والعواطف، إنّه يتطلّع إلى الكمال وإلى المثال، غير أنّ الدّنيا والمادّيّات ينبغي ألّا تظهر بصورة المثال والكمال المطلوب. فالحبّ المذموم هو هذا الحبّ، إنّ الميول والعواطف إنْ هي إلّا لون من ألوان الاستعداد في البشر، وهي له بمنزلة وسائل للعيش. أمّا الاستعداد لبلوغ الكمال المطلوب فهو استعدادٌ خاصٌّ ينبع من العمق الإنسانيّ وجوهره ويختصّ بالإنسان. إنّ الرسل لم يأتوا لإزالة الميول والعواطف ولردم منابعها، بل جاؤوا ليزيلوا عن الدّنيا والمادّيّات صورة الكمال المطلوب، وليظهروا الله والآخرة في صورة الكمال المطلوب.

يريدُ الأنبياء أن يحولوا دون التعلّق بالدّنيا والمادّيّات، وخروج هذه العلاقة من مكانها الطبيعيّ؛ أي منع هذه الميول والعواطف وهي رابط طبيعيّ بين الإنسان والأشياء من أن تغيّر مكانها لتنتقل إلى ذلك المكان المقدّس، القلب، مركز وجود الإنسان وكيانه، وموضع انجذابه نحو اللامتناهي، بحيث تمنعه من التحليق نحو الكمال اللامتناهي.

إنّ قول القرآن الكريم: ﴿مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلبَينِ فِي جَوفِهِۦ﴾[1]، ليوحي إلى أنّ المرء إمّا أن يتعلّق قلبه بالله، أو بغير الله، من زوج وبنين ومال وغير ذلك. إنّ على الناس أن يكون لهم هدف أعلى واحد. إنّ الهدفين اللذين لا يمكن الجمع بينهما هما الله والمادّيّات الدنيويّة، وإلّا فإنّ التعلّق الصَّرف بعددٍ من الأمور في وقتٍ واحدٍ أمرٌ متيسَّرٌ وواقع.


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 4.

 

76


57

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

 


مقدّمة

تكلّمنا في الفصل السابق -باختصارٍ- عن لغة القرآن، وذكرنا أنّ القرآن يستعين بلغتين في إبلاغ رسالته، وهما لغة الاستدلال المنطقيّ ولغة الإحساس، ولكلٍّ من هاتين اللغتين مخاطَبوها المختصّون، فالأولى تخاطب العقل، والثانية تخاطب القلب. في هذا الفصل سوف نتناول بالبحث نظرة القرآن إلى العقل.

علينا أن نعرف إن كان القرآن يعتبر العقل سنداً، أو كما يقول علماء الفقه والأصول: هل العقل حجّة؟ أي إن كان المكتشَف حقّاً من مكتشَفات العقل الصحيحة، فهل ينبغي للبشر أن يحترموه، وأن يعملوا بموجبه أم لا؟ فإن عمل الإنسان به، وارتكب في ذلك -أحياناً- خطأً ما، فهل سيعذره الله على ذلك أم سيعاقبه؟ وإن لم يعمل به، فهل سيعاقبه الله على عدم العمل به مع أنّ عقله قد حكم بذلك أم لا؟

إنّ كون العقل حجّةً وسنداً في نظر الإسلام أمرٌ ثابت، كما أنّ علماء الإسلام جميعاً، ومنذ البداية حتّى الآن -عدا مجموعة صغيرة-، لم يشكّوا في سنديّة العقل، واعتبروه أحد مصادر الفقه الأربعة.

 

78


58

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

الدعوة إلى التعقّل في القرآن

بما إنّنا نبحث في القرآن، فلا بدّ لنا من الرجوع إلى القرآن نفسه للحصول على الدليل الذي يثبت كون العقل حجّة. إنّ القرآن يضع توقيعه على مستند سنديّة العقل بطرق مختلفة، فمن الآيات يمكن أن نعدّ ستّين أو سبعين آيةً وردت في القرآن تشير إلى موضوع التّدبر والتّفكّر العقليّ. ولنضرب مثلاً إحدى الآيات العجيبة في القرآن: ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلبُكمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعقِلُونَ﴾[1].

 

من الواضح طبعاً، أنّ المقصود بالصمّ البكم ليس العضويّ منهما، بل المقصود هو الجماعة من الناس الذين لا يريدون أن يسمعوا الحقيقة، وإذا سمعوها لا يعترفون بها بألسنتهم، فالأُذن التي تعجز عن سماع الحقائق، ولا تعجز عن سماع لغو الكلام الفارغ، هي في القرآن أذنٌ صمّاء، واللّسان الذي يقتصر على الهَرَاء، هو في القرآن لسانٌ أبكم.

 

أمّا ﴿ٱلَّذِينَ لَا يَعقِلُونَ﴾ فهم الذين لا ينفعهم تفكيرهم، وهؤلاء لا يراهم القرآن جديرين بصفة الإنسان؛ فأدرجهم في سلك الحيوانات والدوابّ، فيخاطبهم بهذا المنظور.

 

وفي آيةٍ أخرى، يطرح مسألة التوحيد بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفسٍ أَن تُؤمِنَ إِلَّا بِإِذنِ ٱللَّهِ﴾[2].

 

وعلى إثر طرح هذه المسألة الغامضة التي لا يتّسع الوقت لدركها، تستأنف الآية قولها: ﴿وَيَجعَلُ ٱلرِّجسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعقِلُونَ﴾[3].

 

في هاتين الآيتين اللتين أوردتهما مثالين، يدعو القرآن إلى إعمال العقل بدلالة التطابق، حسب تعبير أهل المنطق، وتوجد آياتٌ كثيرةٌ أخرى يؤكّد فيها القرآن سنديّة العقل بدلالة الالتزام؛ أي إنّه يتكلّم بأمور يستحيل قبولها دون القبول بسنديّة العقل وحجيّته، فهو


 


[1] سورة الأنفال، الآية 22.

[2] سورة يونس، الآية 100.

[3] سورة يونس، الآية 100.

 

79


59

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

-مثلاً- يطلب من الخصم استدلالاً عقليّاً، حيث يقول: ﴿قُل هَاتُواْ بُرهَٰنَكُم﴾[1]؛ أي إنّه يريد أن يبيّن، بدلالة الالتزام، أنّ العقل حجّةٌ وسند، أو إنّه لكي يُثبت وحدة الوجود صراحةً يعتمد المقياس المنطقيّ: ﴿لَو كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾[2].

 

وهنا، يقيم القرآن قضيةً شرطيّة، فقد استثنى المتقدّم وأهمل المتأخّر. فالقرآن بتأكيده العقل يريد إبطال أقوال بعض الأديان التي تقول إنَّ الإيمان غريبٌ على العقل، وإنّه لكي يؤمن المرء عليه أن يعطّل عمل العقل، وأن يكتفي بعمل القلب، لكي يدخله نور الله.

 

الاستفادة من قانون العلّيّة

من الأدلَّة الأخرى على قول القرآن بأصالة العقل، بيانه لبعض المسائل باستخدام قانون العلّيّة والمعلوليّة. فالعلّة والمعلول، وأصل العليّة، قواعد للفكر العقليّ، وهذا ما يحترمه القرآن ويعمل به. فمع أنَّ القرآن الكريم كلام الله، وأنّ الله هو خالق العلّة والمعلول، فإنَّه مع ذلك لا يغفل عن ذكر السببيّة والمسبّبيّة لهذا العالم، ويضع الوقائع والظواهر تحت سيطرة هذا النظام؛ ومن ذلك الآية التي تقول: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾[3].

 

ومع أنّ المصائر كلّها بيد الله، فإنّ الله يحمّل البشر مصائرهم بسبب اختيارهم وتصميمهم وعملهم، ولا يقوم بعملٍ جزافاً، حتّى المصائر لها نظام، ولن يغيّر الله مصير مجتمعٍ بغير بديل، إلّا إذا غيّر المجتمع ما به، كأن يغيّر نظامه الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ.

 

والقرآن، من ناحيةٍ أخرى، يحثّ المسلمين على النظر في أحوال الأقوام السالفة ومصائرها، ليستخلصوا منها الدروس والعِبَر. ومن البديهيّ أنَّه لو كانت مصائر الأقوام


 


[1] سورة البقرة، الآية 111.

[2] سورة الأنبياء، الآية 22.

[3] سورة الرعد، الآية 11.

 

80


60

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

والملل وأنظمتها قد سارت خبط عشواء ومصادفة، أو لو كانت تلك المصائر مفروضةً من فوق، لما كان ثمَّة داعٍ إلى درسٍ أو عِبرة، فبهذا التأكيد يريد القرآن أن يشير إلى أنّ مصائر الأقوام تتحكّم بها أنظمةٌ واحدة، فلو تشابهت ظروفُ مجتمعٍ ما مع مجتمعٍ آخر لتشابه مصيرهما.

وقد جاء في آيةٍ أخرى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَريَةٍ أَهلَكنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصرٖ مَّشِيدٍ ٤٥ أَفَلَم يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٞ يَعقِلُونَ بِهَآ أَو ءَاذَانٞ يَسمَعُونَ بِهَا﴾[1].

نجد في الخلاصة أنّ التدبّر في تطبيقات نظام العلّة والمعلول -بحسب ما ورد في القرآن الكريم- يوصلنا إلى القبول بحجّيّة العقل.

فلسفة الأحكام

من الدلائل الأخرى على القبول بحجّيّة العقل في نظر القرآن، القول بوجود فلسفةٍ للدساتير والأحكام؛ أي إنّ العلّة في وضع الدستور هي المصلحة، كما يقول علماء الأصول إنّ المصالح والمفاسد تتدرّج في سلسلة علل الأحكام، فمثلاً يقول القرآن: أقيموا الصلاة، ثمّ يذكر في مكانٍ آخر فلسفة هذا الأمر: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنهَىٰ عَنِ ٱلفَحشَآءِ وَٱلمُنكَرِ﴾[2]؛ ليشرح الأثر الروحيّ للصلاة، وكيف ترتفع بالإنسان عن الفحشاء، فيبتعد عن المفاسد والموبقات.

أو إنّه يذكر الصوم، ويأمر الناس به، ثمّ يقول: ﴿كُتِبَ عَلَيكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾[3].


 


[1] سورة الحـج، الآيتان 45-46.

[2] سورة العنكبوت، الآية 45.

[3] سورة البقرة، الآية 183.

 

81


61

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

وهكذا الأمر فيما يتعلّق بأحكام أخرى، كالزكاة والجهاد، فقد بيّن القرآن في جميع الموارد نتائجها الفرديّة والاجتماعيّة.

 

وعليه، فالقرآن يمنح هذه الأحكام جانبها الدنيويّ، مع كونها سماويّة ومن الأعلى، ويطلب من الإنسان أن يتأملّها، ويتفكّر فيها، لكي يستبين له كُنْهُ الأمور، ولئِلاّ يحسبها مجرّد سلسلةٍ من الرموز أسمى من فكر البشر.

 

مكافحة شطحات العقل

ثمّة دليلٌ آخر، أقوى مما سبق، على أصالة العقل في نظر القرآن، وهو مكافحة القرآن لشطحات العقل. ولكي نوضّح هذا الأمر لا بدّ لنا من إيراد مقدّمةٍ قصيرة.

 

لا شكّ في أنّ فكر الإنسان يقع في الخطأ في كثير من الأحيان، وهذا أمرٌ معروفٌ وشائع، ولكنّه ليس مقصوراً على العقل، فالحواسّ والمشاعر تخطئ أيضاً، وقد أحصوا لحاسّة البصر عشرات الأنواع من الأخطاء. وفيما يتعلّق بالعقل، كثيراً ما يتّفق أن يستدلّ الإنسان على أمرٍ ويتوصّل إلى نتيجةٍ ما، ثمّ يتّضح أنّ استدلاله كان خاطئاً من أساسه، وهنا يُطرَح هذا السؤال: أيجب علينا أن نلغي عمل العقل بسبب خطئه هذا؟ أم ينبغي أن نوجد وسائل وأسباباً تحول دون ارتكاب العقل للخطأ؟

 

في الردّ على هذا السؤال يقول السفسطائيّون: إنّ الاعتماد على العقل غير جائز، بل إنّ عمليّة الاستدلال لغوٌ لا طائل منها. ويردّ الفلاسفة عليهم ردوداً مفحمة، قائلين مثلاً: إنّ الحواسّ تقع –أيضاً- في الخطأ كالعقل، بيد أنّ أحداً لم يحكم بتعطيل الحواسّ وبعدم استعمالها، ولمّا لم يكن بالإمكان الاستغناء عن العقل، اضطُرّ المفكّرون إلى الحيلولة دون وقوعه في الخطأ.

 

وفي غضون بحثهم في هذا الموضوع، لاحظوا أنّ كلّ استدلالٍ يتكوّن من قسمين: المادّة، والصورة؛ كما هي الحال عند تشييد عمارة؛ إذ نكون بحاجة إلى الأسمنت والحديد والجصّ

 

82

 


62

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

وغيره... (المادّة)، وإلى هيكل البناء وشكله (الصورة)، ولكي نبني العمارة على خير ما يكون، علينا أن نهيّئ أفضل الموادّ، وأجمل خريطةٍ مكتملةٍ وصحيحة. وللتوصّل إلى صورةٍ سليمةٍ للاستدلال ظهر منطق أرسطو، أو المنطق الصوريّ. وكانت وظيفة المنطق الصوريّ هذا أن يبيّن صحّة صورة الاستدلال أو عدم صحّتها؛ ليعِين العقل كي لا يخطئ في صورة الاستدلال.

إنّ القضيّة الرئيسة في ضمان صحّة الاستدلال هي أنّ المنطق الصوريّ وحده لا يكفي لإثبات صحّة الاستدلال، فهذا المنطق إنّما يضمن جانباً واحداً (الصورة)، ولكي نطمئنّ إلى صحّة مادّة الاستدلال لا بدّ من اللجوء إلى منطق المادّة أيضاً؛ أي إنّنا نحتاج إلى معيار نقيس به المادّة الفكريّة كذلك.

لقد سعى علماءُ مثل بيكن وديكارت لوضع منطقٍ لمادّة الاستدلال، كما وضع أرسطو منطقه لصورة الاستدلال، ولقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ ما، ولكنّهم لم يبلغوا به الكمال الذي اتّصف به منطق أرسطو، وإن استطاع الإنسان أن يستعين به لدرء أخطاء الاستدلال، ولكنّ الذي قد يثير عجبكم هو أنّ القرآن قد عرض أموراً لمنع الخطأ في الاستدلال لها الفضل في التقدّم، وهي متقدّمة على تحقيقات أمثال ديكارت وغيره.

منشأ الخطأ في نظر القرآن

من جملة مناشئ الخطأ التي ذكرها القرآن، هي أنّ الإنسان يأخذ الشكّ مأخذ اليقين، فإن تقيّد الإنسان دائماً باليقين ولم يقبل بالظنّ، فإنّه لن يقع في الخطأ. وهذا ما يؤكّده القرآن كثيراً، حتّى إنّه يصرّح بأنّ أكبر مزالق الفكر البشريّ هو اتّباعه الظنّ.

وفي مكانٍ آخر يخاطب النبيّ (صلى الله عليه وآله) قائلاً: ﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي ٱلأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِن هُم إِلَّا يَخرُصُونَ﴾[1].


 


[1]  سورة الأنعام، الآية 116.

 

83


63

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَلَا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِۦ عِلمٌ﴾[1]. وهذه التذكرة تصدر عن القرآن لأوّل مرّةٍ في تاريخ البشر، وتنهى الإنسان عن ارتكاب مثل هذا الخطأ.

وأمّا المنشأ الثاني لحصول الخطأ في مادّة الاستدلال، وبخاصّة في الأمور الاجتماعيّة، هو التقليد. فبعض الناس يثقون بصحّة الأمر ما دام المجتمع يثق بصحّته؛ أي إنّ الأمر المقبول عند المجتمع، أو الذي ارتضاه الأسلاف الأقدمون، يكون مقبولاً عند الجيل الحاضر أيضاً.

أمّا القرآن فيقول: عليكم أن تزِنوا كلّ أمرٍ بميزان العقل، لا أن تثقوا بكلّ ما كان يفعله أجدادكم، أو أن تنبذوه كليّاً لهذا السبب. فثمّة مسائل كثيرةٌ طُرِحت في الماضي وكانت خطأً في الوقت نفسه، ولكنّ الناس تقبّلوها. وثمّة مسائل أخرى كانت صحيحةً في زمانها، ولكنّ الناس رفضوها من باب الجهل؛ فلا بدّ من أخذ رأي العقل في قبول الأمور أو رفضها، لا أن نقلّد الآخرين فيها تقليداً أعمى.

والقرآن يضع اتّباع الآباء والأجداد، في معظم الأحوال، في تعارضٍ مع العقل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَل نَتَّبِعُ مَآ أَلفَينَا عَلَيهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَو كَانَ ءَابَآؤُهُم لَا يَعقِلُونَ شَي‍ٔٗا وَلَا يَهتَدُونَ﴾[2].

يؤكّد القرآن على أنّ قِدم الفكرة لا يكون دليلاً على صحّتها أو خطئها. صحيحٌ أنّ لتقادم الزمن أثراً في الأمور المادّيّة، ولكنّ حقائق الوجود لا يمكن أن يصيبها البلى مهما تقادم عليها الزمان، فحقيقة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾[3]، تظلّ صادقةً ما دامت الدّنيا قائمة.

والقرآن الكريم يشدّد على وجوب مواجهة الأمور بسلاح العقل والفكر، فلا ينبغي نبذ عقيدةٍ صحيحةٍ لمجرّد كون بعضهم يلصقها بالناس، ولا أن نتقبّلَ أخرى لمجرّد كونها


 


[1]  سورة الإسراء، الآية 36.

[2] سورة البقرة، الآية 170.

[3] سورة الرعد، الآية 11.

 

84


64

الفصل الرابع: العقل في المنظور القرآنيّ

تقترن باسم هذا أو ذاك من الشخصيّات المعروفة، بل يلزم القيام بالدرس والتحقيق في المسائل كلّها.

 

ومن العوامل المؤثّرة في حصول الخطأ، والمذكورة في القرآن، هو اتّباع هوى النفس وميولها وأغراضها المريضة، وفي ذلك يقول مولويّ ما مضمونه: إذا ما بُرزت الأغراض حُجب الفنّ، ومُدّ مئةُ ستارٍ بين القلب والعين. فما من إنسانٍ استطاع أن يكون سليم التفكير إلّا إنِ ابتعد عن شرّ الهوى والتحيّز؛ لأنّ العقل لا يستطيع أن يعمل إلّا في محيطٍ يخلو من أهواء النفس.

 

هناك حكايةٌ تُروى عن العلّامة الحلّيّ جديرةٌ بضرب المثل بها، فقد سُئِل العلّامة الحلّيّ مرةً عن مسألةٍ فقهيّة، وهي أنّه إن مات حيوانٌ في بئر وبقيت الميتة النجسة في البئر، فكيف يمكن الاستفادة من ماء البئر؟ وقد حدث من باب المصادفة والاتّفاق أن وقع حيوانٌ ومات في بئر دار العلّامة الحلّيّ نفسه، الأمر الذي اضطرّه إلى أن يستنبط لنفسه حكماً شرعيّاً بهذا الشأن، ولم يكن أمامه غير طريقين: فإمّا أن يردم البئر نهائيّاً، ويستفيد من بئرٍ أخرى، أو أن يستخرج مقداراً معيّناً من ماء البئر، ثمّ يستعمل البئر دون وازع، ولكنّه رأى أنّه لا يستطيع أن يحكم في هذه المسألة دون أن يلتفت إلى مصلحته الشخصيّة، فكان أن أمر بردم البئر أوّلاً، ثمّ راح يفكّر براحة بالٍ ودون وسوسة النفس في استنباط الحكم، وفي القرآن إشاراتٌ كثيرةٌ إلى إتّباع هوى النفس، منها: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهوَى ٱلأَنفُسُ﴾[1].

 

 


[1] سورة النجم، الآية 23.

 

85


65

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

 


مقدّمة

إنّ المقصود بالقلب في المصطلح الأدبيّ والدينيّ ليس ذاك العضو العضليّ الذي يقع في الطرف الأيسر من الجسم، ويضخّ الدم في العروق؛ ففي قول القرآن: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلبٌ﴾[1].

فإنّ المقصود من القلب شيءٌ سامٍ ورفيع، يختلف عن عضو الجسم هذا كلّ الاختلاف، وإن أصابه المرض أيضاً: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗا﴾[2].

إلّا أنّ معالجة هذه الأمراض ليست من اختصاص أطبّاء القلب، وإن كان ثمّة طبيبٌ يعالجها، فهو الطبيب المختصّ بالأمراض الروحيّة.

تعريف القلب

ما المقصود بالقلب؟ علينا أن نبحث عن جواب هذا السؤال في حقيقة وجود


 


[1] سورة ق، الآية 37.

[2]  سورة البقرة، الآية 10.

 

86


66

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

الإنسان. فمع أنّ الإنسان كائنٌ فردٌ واحد، فإنّ له مئات الأبعاد، بل آلافها. فالـ «أنا» إنسانٌ يتألّفُ من العديد من الأفكار والآمال، ومن الخوف والرجاء والحبّ... إلخ. وهذه الأفكار كلّها أشبه ما تكون بالأنهار والسواقي التي تلتقي في مركزٍ واحد، وهذا المركز نفسه بحرٌ عميق، لم يدّعِ أحدٌ من البشر بعد أنّه قد سبر أعماقه وعرف كنهه. ومع أنّ الفلاسفة والروحانيّين وعلماء النفس، قد وصل كلٌّ منهم إلى كشف بعض أسراره، ولكنّ الظاهر أنّ الروحانيّين كانوا أكثر توفيقاً من غيرهم. فالذي يسمّيه القرآن بالقلب هو في الحقيقة ذلك البحر، وإنّ ما نسمّيه نحن بالروح إن هو إلّا الأنهار والروافد التي تتّصل بهذا البحر.

وبما أنّ القرآن يتحدّث عن الوحي، فإنّه لا يذكر العقل، بل يقتصر على التوجّه إلى قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا يعني أنّ القرآن لم يحصل للرسول (صلى الله عليه وآله) عن طريق قوّة العقل، ولا بالاستدلال العقليّ، وإنّما هو قلب الرسول الذي بلغ حالةً لا نستطيع نحن تصوّرها، فأصبح فيها قادراً على إدراك تلك الحقائق السّاميّة وشهودها، وإن كيفيّة هذا الارتباط مبيّنة إلى حدٍّ ما في آياتٍ من سورتي النجم والتكوير.

فعندما يتحدّث القرآن عن الوحي، ويخاطب القلب، فإنّ بيانه يكون أوسع من العقل، ولكنّه ليس ضدّه؛ ذلك لأنّ ما يعرضه القرآن أوسع في منظوره من منظور العقل والشعور، بحيث لا يقدر العقل على إدراكه ويعجز عن نيله.

مميّزات القلب في القرآن الكريم

القلب في نظر القرآن أداةٌ من أدوات المعرفة، إذ إنّ القرآن في معظم رسالته يخاطب القلب، تلك الرسالة التي تستطيع أُذن القلب وحدها سماعها، وما من أذُنٍ أخرى قادرةٍ على سماعها؛ لذلك فالقرآن كثيراً ما يُعنى بالحفاظ على هذه الأداة وتعهدّها وتربيتها.

توجد الكثير من الآيات في القرآن نقرأ فيها عن تزكية النفس، ونور القلب، وصفائه:

 

87


67

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

﴿قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾[1]؛ ﴿إِن تَتَّقُواْ  يَجعَل لَّكُم فُرقَانٗا﴾[2]، ﴿كَـلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكسِبُونَ﴾[3]؛ ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا﴾[4].

وبالنظر إلى أنّ السيّئات تلقي الظلام على روح الإنسان، وتكدّر صفاءه، وتبعد عنّه حبّه للخير وسعيه إليه، فقد تكرّر القول في القرآن بهذا الشأن، وقد جاء على لسان المؤمنين: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا﴾[5] أو في وصف المسيئين: ﴿كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكسِبُونَ﴾[6]، ﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم﴾[7]، أو عند حديث القرآن عن إغلاق القلوب وختمها وقساوتها: ﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِم وَعَلَىٰ سَمعِهِم وَعَلَىٰٓ أَبصَٰرِهِم غِشَٰوَةٞ ﴾[8]، ﴿وَجَعَلنَا  قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهُوهُ﴾[9]، ﴿كَذَٰلِكَ يَطبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلكَٰفِرِينَ﴾[10]؛ ﴿فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٞ مِّنهُم فَٰسِقُونَ﴾[11].

هذه الآيات كلّها تؤكّد أنّ القرآن يرى الإنسان في جوٍّ روحيٍّ ومعنويٍّ عالٍ، ويرى –أيضاً- أنّ على الإنسان أن يحافظ على هذا الجوّ نظيفاً نقيّاً. ولمّا كان كلّ سعيٍ يقوم به الفرد في الحفاظ على طهارته، في مجتمع غير سليم، يعود في الأغلب عقيماً غير موفّق، فإنّ القرآن يحثّ الناس على بذل الجهد لتصفية مجتمعهم، وتزكية محيطهم. ويشير القرآن -صراحةً- إلى أنّ ما تستثيره آياته من العشق والإيمان والرؤى والتطلّعات السامية،

 

 


[1] سورة الشمس، الآية 9.

[2] سورة الأنفال، الآية 29.

[3] سورة المطففين، الآية 14.

[4]  سورة العنكبوت، الآية 69.

[5] سورة آل عمران، الآية 8.

[6] سورة المطففين، الآية 14.

[7]  سورة الصف، الآية 5.

[8] سورة البقرة، الآية 7.

[9]  سورة الإسراء، الآية 46.

[10] سورة الأعراف، الآية 101.

[11]  سورة الحديد، الآية 16.

 

88


68

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

وتقبّل النصح، وغير ذلك، يتوقّف كلّه على تجنّب المجتمع الإنسانيّ والإنسان نفسه الرذائل والدناءات وحبّ الذات والشهوات.

 

قوى الباطل واستهدافها للقلب

يدلّنا استعراض تاريخ البشر أنّه كلّما أرادت القوى الحاكمة أن تبسط سيطرتها على مجتمعٍ ما لاستغلاله، سعت إلى ذلك المجتمع فنشرت فيه الفساد، فتُيسِّر لأفراده مجالات إشباع الشهوات، وتحثّهم على اتّباع الملذّات.

لقد ظهرت أمثولة هذا الاتّجاه الشائن، الفاجع، ذي العِبرة، في أندلس الإسلام، الأندلس الذي كان يُعتبر من منابع عصر النهضة، وكان من أكثر دول أوروبّا تقدّماً، فلكي ينتزع المسيحيّون الأندلس من المسلمين، أخذوا يفسدون روحيّة الشباب المسلم وأخلاقه، فلم يألوا جهداً في توفير أسباب اللهو واللعب والانغماس في الملذّات للمسلمين. ولقد نجحوا في هذا إلى درجة أنّ القادة وكبار رجالات الدولة وقعوا في حبائلهم، فلوّثوا نفوسهم، وبذلك تمكّنوا من أن ينتزعوا ما كان في المسلم من عزمٍ وإرادةٍ وقوّةٍ وشجاعةٍ وإيمانٍ وطهارة روح، محوّلوهم إلى أفراد جبناء، ضعفاء، شهوانيّين، يشربون الخمر، ويرتكبون الموبقات. وممّا لا ريب فيه أنّ قهر شعب هذا شأنه ليس بالأمر العسير.

لقد انتقم المسيحيّون من حكومة المسلمين ذات القرون العديدة انتقاماً يخجل التاريخ أن يذكره، ويشمئزّ من ترديد تلك الجنايات الشائنة. لقد كانوا هم أولئك المسيحيّين الذين كان المسيح (عليه السلام) قد علّمهم أن يديروا خدّهم الأيسر لمن يصفعهم على خدّهم الأيمن، فأجرَوا في الأندلس بحاراً من دماء المسلمين، وبيّضوا بذلك وجه جنكيز (المُغوليّ)! وبالطبع، كان السبب في هزيمة المسلمين ضعف همّتهم، وفساد روحهم، جرّاء إهمالهم تعاليم القرآن ودستوره.

وفي زماننا هذا، حينما وضع المستعمرون أقدامهم في بلادنا، اعتمدوا الحالة نفسها التي

 

89

 


69

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

حذّر منها القرآن؛ أي إنّهم سعوا إلى إفساد روح الطالب وقلبه. إنّهم يدركون حقّ الإدراك أنّ القلب المريض لن يكون قادراً على المقاومة، بل يستكين إلى كلّ انحطاطٍ واستغلال.

 

لذلك يولي القرآن طهارة روح المجتمع أهميّة كبرى، إذ يقول –تعالى-: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلبِرِّ وَٱلتَّقوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثمِ وَٱلعُدوَٰنِ﴾[1]، فيطلب من الناس أن يتوجّهوا أولاً إلى عمل الخير وتجنّب الإثم، ثمّ أن يكون توجّههم هذا جماعيّاً.

 

فيما يتعلّق بالقلب، سنورد لكم بعض أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)لتكون حسن الختام لهذا الموضوع. جاء في كتب السِيَر، أنّ رجلاً قدِم على الرسول (صلى الله عليه وآله) وقال إنّ لديه ما يسأل عنه، فقال: له الرسول (صلى الله عليه وآله): أتريد أن تسمع الجواب أم تريد أن تسأل؟ فقال: أريد الجواب، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله): لقد جئت تسأل عن البِرّ والخير، وعن الإثم والشرّ، فقال الرجل: هو ذاك، فضمّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ثلاثة أصابع، وضرب بها صدر الرجل بلطف، وقال: استفتِ قلبك، ثمّ قال: لقد صُنع قلب المرء بحيث يكون متّصلاً بالخير، فهو يهدأ بالخير، ويضطرب بالشرّ. مَثَل ذلك مَثَل الجسم، إن دخل ما لا يتجانس معه اختلّ نظامه وتوازن أعضائه، كذلك روح الإنسان، تختلّ بالأعمال القبيحة. إنّ ما يسمّى عندنا بعذاب الضمير، ينشأ من عدم انسجام الروح مع الآثام والأعمال الشائنة.

 

هنا يضع الرسول (صلى الله عليه وآله) إصبعه على أمرٍ مهمّ، وهو أنّه إن كان الإنسان باحثاً عن الحقيقة بتجرّد، وخلوص نيّة، فإنّ قلبه لن يخونه أبداً، وإنّما يهديه إلى الطريق الصحيح. في الحقيقة، إنّ الإنسان ما دام باحثاً عن الحقّ والحقيقة، ويتقدّم في طريق الحقّ، فإنّ كلّ ما يصادفه هو الحقّ والحقيقة، إلّا أنّ ثمّة نقطةً ظريفةً تبعث على سوء الفهم، وهي أنّه إن ضلّ الإنسان طريقه، فالسبب هو أنّه كان منذ البداية متوجّهاً وجهةً خاصّة، بعيدةً عن البحث عن الحقيقة بخلوص نيّة.


 


[1]  سورة المائدة، الآية 2.

 

90


70

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

لقد أجاب الرسول (صلى الله عليه وآله) ذاك الشخص الذي سأله عن البرّ قائلاً له: إنّك إن كنت حقّاً تبحث عنه، فاعلم أنّك إن وجدت ضميرك قد استراح إلى أمر، فذاك هو البرّ، ولكنّك إن رغبت في شيءٍ لم يرتح له قلبك، فاعلم أنّ ذاك هو الإثم.

ويُسأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن معنى الإيمان، فيقول: إنّ من إذا ارتكب القبيح قلق وندم، وإذا عمل صالحاً سرّ وفرح، فهذا له نصيبه من الإيمان.

ينقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: إذا تحرّر المرء من تعلّقه بالدنيا أحسّ بحلاوة حبّ الله في قلبه، فيرى الأرض قد ضاقت به، ويسعى بوجوده كلّه للتحرّر من عالم المادّة والخروج منه. وهذا ما أكّد أولياء الله والمنقطعون إليه صحّته بطريقة معيشتهم[1].

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى بالنّاس الصّبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف أصبحت، يا فلان؟ قال: أصبحت، يا رسول الله، موقناً، فعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله، وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني، يا رسول الله، هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدّنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة، ويتعارفون، وعلى الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النّار وهم فيها مُعَذّبون مصطرخون، وكأَنّي الآن أسمع زفير النّار يدور في مسامعي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: هذا عبد نَوّر الله قلبه بالإيمان، ثمّ قال له: اِلزَم ما أنت عليه، فقال الشّابّ: ادعُ الله لي، يا رسول الله، أن أرزق الشّهادة معك، فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّ (صلى الله عليه وآله) فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر»[2].

 


[1] عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتّى يسمو». الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص130. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الرواية والتي سبقتها، نقلهما الشهيد مطهّريّ بالمعنى لا باللفظ.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص53.

 

 

91


71

الفصل الخامس: القلب في القرآن الكريم

والقرآن الكريم –أيضاً- يشير إلى أن صقل القلب يوصل الإنسان إلى مقام بحيث إنه إذا رفعت دونه الحجب لما زادته يقيناً، كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً»[1].

 

إنّ ما يرمي إليه القرآن بتعليماته هو تربية الإنسان، مستفيداً من سلاح العلم والعقل، ومن سلاح القلب أيضاً. وهو يستعمله بأفضل أسلوب، وأرفع طريقة في سبيل الحقّ، ذلك الإنسان الذي يجسّده في أمثلة حيّة أئمتُنا (عليهم السلام) وتلامذتهم الصالحون حقّاً.

 


[1] الليثي الواسطي، الشيخ كافي الدين أبو الحسن علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، إيران - قم، 1418ه، ط1، ص415.

 

92


72

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة


الربيع والانبعاث

إنّ موضوع الحياة والموت من المواضيع التي ما برحت تدفع الناس إلى التفكير والتأمّل. والقرآن يتناول هذا الموضوع على أنّه آية من آيات الله العظيمة، وتَرِدُ هذه السُّنَّة الجارية في بعض الآيات على أنّها آية من الذات المقدّسة، كما في الآية 164 من سورة البقرة[1]، وترد في آيات أخرى على أنّها مثال لاستبدال نشء جديد بنشء، أو على أنها انبعاث صغير يمكن أن يمثّل البعث الأكبر، يوم القيامة، كما جاء في سورة فاطر، حيث يقول -تعالى-: ﴿وَٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَرسَلَ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَسُقنَٰهُ إِلَىٰ بَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَحيَينَا بِهِ ٱلأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا كَذَٰلِكَ ٱلنُّشُورُ﴾[2].

أو كما جاء في سورة «ق»، حيث يقول –تعالى-: ﴿وَنَزَّلنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ مُّبَٰرَكٗا فَأَنبَتنَا بِهِۦ جَنَّٰتٖ وَحَبَّ ٱلحَصِيدِ ٩ وَٱلنَّخلَ بَاسِقَٰتٖ لَّهَا طَلعٞ نَّضِيدٞ ١٠ رِّزقٗا لِّلعِبَادِ


 


[1] ﴿إِنَّ فِي خَلقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَٰفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلفُلكِ ٱلَّتِي تَجرِي فِي ٱلبَحرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ   مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحيَا بِهِ ٱلأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلمُسَخَّرِ بَينَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَومٖ يَعقِلُونَ﴾.

[2] سورة فاطر، الآية 9.

 

94


73

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

وَأَحيَينَا بِهِۦ بَلدَةٗ مَّيتٗا كَذَٰلِكَ ٱلخُرُوجُ﴾[1]. وفي بعض الآيات إشارة إلى حالتَي الموت والحياة، كما في سورة الحجّ: ﴿وَتَرَى ٱلأَرضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلنَا عَلَيهَا ٱلمَآءَ ٱهتَزَّت وَرَبَت وَأَنبَتَت مِن كُلِّ زَوجِ بَهِيجٖ ٥ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحيِ ٱلمَوتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٖ قَدِيرٞ﴾[2]، وفي عدد من آيات أخرى.

يُعنى القرآن كثيراً بأنْ يصِف الله بالمحيي والمميت، وبأنْ يجعل الإحياء صفةً يختصُّ بها الله –تعالى-، مضافاً إلى الكثير من الآيات القرآنيّة في هذا الشَّأن لا موجبَ لذكرها، وإنما قصْدنا هو التعرُّف إلى المنطق القرآنيّ.

فالذي يلفت النَّظر هو في ما نزل من آيات عن التوحيد، وعن القدرة الإلهيّة الأزليّة هو حديثها عن سنَّة الإحياء والإماتة التي نراها. فما يراه الناس من هذه السّنة فإنّما يعبّر عن مظهر من مظاهر ملكوت الله.

وعلى الرَّغم من أنّ كثيراً من المسائل التي تتعلَّق بالحياة والموت ما زال مجهولاً، وسرّاً من الأسرار عند البشر الذين نفذوا إلى قلب الذرّة، وجابوا الفضاء، ولعلّهم يسخِّرون قريباً النجوم والكواكب والشمس (إذ قد يأتي وقت يسخّرها الإنسان عن قرب كما يسخّر الأرض الآن)، هؤلاء البشر أنفسهم يقفون حائرين أمام الأسرار المعقّدة الغامضة في ذرّة واحدة!

يقول أحد العلماء: أتعلمون ما هو أهمّ وأعلى من خلق الأرض والسيّارات، حتّى من الكون برمّته؟ إنّه هذه الذرَّة الصغيرة التي هي مادّة الحياة، هي (البروتوبلازم) أو جرثومة الحياة، ثمّ يأخذ بشرح عجائب أعمال هذه الذرّة المجهريّة وفاعليّاتها، ففي الوقت الذي لا يزال كثير من المسائل المرتبطة بالحياة أسراراً لم تُحلَّ، فإنَّ هذه الذرّة تشكّل درساً بسيطاً ومفيداً لنا لنعتبر به.

 

 


[1] سورة ق، الآيتان 9 - 11.

[2] سورة الحج، الآيتان 5 - 6.

 

95


74

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

الحياةُ حقيقةٌ أرفع من المادّة

إنَّ المقدار الذي نستطيع أن نفهمه هو أنَّ الحياة نور يسطع من أفقٍ أعلى وأرفع على المادّة المظلمة. فالمادّة بذاتها ميّتة لا حياة فيها، ولكنّها في ظروف معيّنة تكون على استعداد لتقبُّل ضوء أفقٍ أعلى وأرفع من أفُق المادّة وخواصّها، وأن تكون تحت تصرُّف قوانينه الخاصّة وتأثيراته، لتصبح أمامه مغلوبة على أمرها.

وأمّا الذين يحصرون أفكارهم بالمادّة، ويحدّدونها بالجسم، فإنَّهم سوف يجدون في هذا دليلاً واضحاً على وجودِ أفقٍ أعلى وأرفع تتجلَّى مظاهره على هذه المادَّة التي لا روح فيها، ثم تُسترجع هذه المظاهر منها، فهذا الأفق الأعلى يبسط ويقبض، يحيي ويميت!

ولكن من زاوية التوحيد ومعرفة الله، فالمادّة والحياة لا يختلفان من حيث كونهما كلاهما من مخلوقات الله، ومن صُنع يده، ودلائلَ على ذاته، ولكن من زاوية الذين اقتصروا وحدَّدوا أنفسهم بحيث لا يتعدَّى شُعاع نظرهم ما وراء جدار المادَّة وخصائصها، عليهم أنْ يدركوا أنَّ الوجود لا ينحصرُ بالجسم وخواصّه، وأنَّ ثمّة أفقاً أعلى من الأجسام وأرفع، وأنَّ تأثيره يبلغ الأجسام نفسها.

إنَّ عالم الوجود لا ينحصر بقشر هذا الجسم، بل ثمّة عوالم في بطن هذا العالم، وتحيط به، وما ظهورُ الحياة إلَّا مظهرٌ من مظاهر تلك العوالم، حتَّى إنَّ المادّة، إذا واتتها ظروفٌ تصقلها، فإنَّها تعكس نورَ تلك العوالم، وهي تلكَ الموادّ التي لها قابليَّة الحياة.

إنَّكم لَتشاهدون في جسم المادّة الميّت ضوءَ الحياة، وترون في جوهر المادّة السيَّال والمتحرّك الذي يموت ويعود إلى الحياة خيطاً ثابتاً من الحياة.

هناك -إذاً- شيءٌ ميِّتٌ في ذاته، وشيءٌ حيٌّ في ذاته، وشيءٌ متغيِّرٌ وغير ثابت في ذاته، وشيءٌ باقٍ وثابتٌ في ذاته، وشيء لا هيئة ولا صورة له في ذاته، وشيء هو ذاته هيئة وصورة فعلاً.

 

96

 


75

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

هل الحياة من خصائص المادّة؟

قد يتصوّر بعضهم أنَّ الحياة جزءٌ من خصائص المادّة، وأنَّها ليست إضافةً مكملةً للمادَّة.

إنَّ الجواب عن هذا الموضوع يتطلَّبُ بحثاً علميّاً عميقاً، إلَّا أنَّه من الممكن القول بإيجاز: إنّ المقدار الذي نستطيع أن ندركه هو أنَّ أيَّ عنصرٍ ماديّ لا حياة له بمفرده، وليست له صفة الحياة، وأنَّه إذا ما أضيف عنصرٌ إلى عنصرٍ أو أكثر، فأكثر ما يحصل هو أنَّ كلّ عنصرٍ يعطي بعض ما عنده إلى العنصر الآخر، ولكنّه لا يستطيع أن يعطي ما ليس عنده للآخر. وعليه، فإنّ أكثر ما ينتجه الفاعل بين العناصر هو أنَّ المجموع يتّسم بخصائص عامّةٍ مشتركةٍ لا تخرج عن خصائص كلّ عنصر، وتتولَّدُ حالة وسطيّة.

ولذلك وجد العلماء، وخصوصاً العلماء المحْدثين، في أبحاثهم أنَّ الحياة بخصائصها العجيبة لا تحمل أيَّ وجه شبه بخصائص المادّة مطلقاً.

يقول أحد العلماء المحدثين: «إنَّ المادّة لا تؤدّي عملاً إلَّا وفق ما ركِّب فيها من قانون ونظام، وليس لها قوّة ابتكار، ولكنّ الحياة لها قوّة ابتكار، إذ إنَّها في كلّ لحظةٍ تكشفُ عن أشياءَ جديدةٍ وموجودات بديعة». فالحياة هي الحاكمة على المادّة وقاهرة لها، وليست محكومة أو تابعة لخصائص المادّة.

يقول العالم نفسُه أيضاً: «إنَّ الحياة في صورها العديدة، وفي الخليّة الواحدة، حتّى في الحشرات، والأسماك، والثدِييّات، والطيور، والإنسان، وبأيِّ صورة أخرى، فإنَّها تهيمن على عناصر الطبيعة، وتخرجها من تركيبها الأصليّ لتحوّلها إلى تراكيب جديدة».

يؤكّد علماء اليوم، عموماً، أنَّه إذا كان جوهر الحياة من حيث القالب تابعاً لظروف المادّة، إلّا أنّه من جهات عديدة أخرى يسيطر على المادّة ويحكمها، فهو ليس تابعاً كلّياً للمادّة، ولا أيّ خاصّية من خواصّها. إنّ للحياة تجلّياتها الخاصّة التي تفتقر إليها المادّة

 

97


76

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

مطلقاً. فما إن تبدأ الحياة بالظهور حتَّى تظهر تحرّكات وتطوّرات لم تكن موجودةً من قبل، فتظهر الخطط، ويظهر التنظيم الهندسيّ، وتظهر مظاهر الجمال، ويظهر الشعور والإدراك، ويظهر الشوق والرغبة والعشق والتدبير والتخطيط، وتظهر أشياء ما كانت موجودة في المادّة الميتة. إنَّ العالم كلّه مرآة جمال الباري وكماله، حتّى تلك المادّة التي لا روح فيها، مجرّد وجودها مرآة تعكس قدرة الحقّ الأبديّة.

 

العوالـم مرآة لنا تطالـعنـا، فشـاهدوا وجهه -تعالى- فـي كـلّ مرآة وبقدر ما تكون الحياة أكمل من المادّة، فإنّ شهادتها وحكايتها عن الخالق العليم الحكيم، تكون أظهر وأبلغ.

 

نظام الوجود وسنّته

إنَّ النقطة التي أريد تكرارها ذكرها، هي أنّ القرآن -أيضاً- يستدلّ بهذا النظام الثابت الجاري على الحياة والممات، ويستشهد به. وهو لا يترك هذه السنّة الثابتة الجارية جانباً ليستشهد بحوادث غريبة نادرة الوقوع، بل إنَّ هذا النظام الثابت؛ الموعد السنويّ لبعث الحياة في الأرض، النظام الثابت لظهور الجنين في النطفة وتكامله، هذا المشهد كلّه خلقٌ جديد يحدث في كلّ لحظة، وهذه كلّها إفاضات تصل من الغيب آناً فآناً، فما حاجتنا إلى الذهاب بعيداً! بل علينا أن نتفكّر في كنه هذا الخلق، ونتعمَّق فيه حتّى نرى الله في مظاهره الخلّاقة الدائمة، وإيجاده للاكتمال الدائم.

 

يقول -تعالى- في سورة المؤمنون: ﴿وَلَقَد خَلَقنَا ٱلإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ ١٢ ثُمَّ جَعَلنَٰهُ نُطفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ ١٣ ثُمَّ خَلَقنَا ٱلنُّطفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقنَا ٱلعَلَقَةَ مُضغَةٗ فَخَلَقنَا ٱلمُضغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَونَا ٱلعِظَٰمَ لَحمٗا ثُمَّ أَنشَأنَٰهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحسَنُ ٱلخَٰلِقِينَ﴾[1].


 


[1] سورة المؤمنون، الآيتان 12-14.

 

98


77

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

وعليه، فالقرآن نفسه يستشهد بهذا النظام الثابت السائر، هذا النّظام المألوف الطبيعيّ، إنّه نظام الخلق والإيجاد والتكوين، نظامٌ لو تعمَّقنا فيه لأوصلنا إلى أفقٍ من المعرفة أرفع من أفق المادّة. فالقرآن يتّخذ من معارف الإنسان الثابتة واسطة لتعريفه بالله، وهي معلومات إيجابيّة، لا سلبيّة. وهذا ما ينبغي توضيحه حتّى تتبين أهميّة تعليمات القرآن بهذا الشأن بشكلٍ كامل.

 

البحث عن الله في المعلومات

اعتاد بعض الناس البحث عن الله في مجهولاته الشَّخصيّة؛ أي إنَّه كلّما صادف لغزاً لم يستطع حلّه أرجعه إلى ما وراء الطبيعة. إذا سألت أحدهم: كيف حصل هذا الخبز الذي تأكله؟ لقال:

- كان دقيقاً عجنه الخبّاز في التنور.

- كيف أصبح دقيقاً؟ كان حنطة فطحنوها في الطاحونة.

- وكيف وجدت الحنطة؟ زرعها الفلّاح، فنبتت، فنمت، فحصدها فدرسها.

- وكيف نبتت؟ نزل المطر، وأشرقت الشمس، فاخضرّت.

- كيف نزل المطر؟ هذا ما جاء به الله.

فكأنَّ الله لم يكن له حضور قبل هذه المرحلة، وأنَّه تدخّل في هذه المرحلة فقط.

إنّ هذا الضرب من تصوّر الله خطأ ومضلٌّ، بل كفرٌ وإلحاد. فالمرء في تصوُّر كهذا يضع الله في مستوى أحد مخلوقاته، ويعتبره ندّاً له، فيراه علّةً من بين العلل والأسباب في هذه الدّنيا، وهو الذي فوق كلّ علّة وسبب، وهو منبع العلل والأسباب كلّها.

في مثل هذا التصوّر يبدو الأمر وكأنّ العمل قد قُسِّم بين الله والأسباب المادّية، قسمٌ يقوم به الله وقسمٌ يقوم به غير الله، كأنّه لا يوجد لله يدٌ في الأعمال الأخرى، وأنَّه لم

 

 

99


78

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

يتدخَّل في سائر الأمور الأخرى، كما تدخّل في الإتيان بالسحاب وإنزال المطر، ولم يكن سوى سببٍ من الأسباب.

أمّا إذا قال إنّ لتحرّك السّحاب ونزول المطر سبباً مثل الأسباب الأخرى، فإنّه لا يكون قد أبقى لله مكاناً!

فما دام يرى أسباباً ظاهريّة طبيعيّة لطحنِ الحنطة وخبزها، وبذر الحبّ، وحرث الأرض، ونزول المطر، فإنّه لن يرى لله دخلاً في الموضوع! وعندما لا يعود يلحظ سبباً ظاهراً، طبيعيّاً يعرفه، يدخل الله في القضيّة! أي إنَّه يأخذ بالبحث عن الله ضمن مجهولاته، كما لو كان ما وراء الطبيعة مخزناً تُصَفُّ فيه المجهولات كلّها.

إنّ الله الذي يوضع في مصافّ العلل المادّية الطبيعيّة ليس إلّا حقيقة، والله الذي يصفه القرآن ليس على هذا النّحو!

إنّ هذا الطراز من التّفكير، في عرف توحيد القرآن، شركٌ وكفرٌ وإلحاد. إنّ الله الذي يصفه القرآن موجودٌ في كلّ مكان، حاضرٌ مع كلّ شيء، لا يخلو منه مكان، ونسبته إلى الموجودات والعلل والأسباب كلّها متساوية، فجميع سلسلة العلل والأسباب قائمةٌ بذات الله.

إنّ هذا الطّراز من التّفكير يتّبعه الذين لا حظَّ لهم من عمق التفكير، حيث يفتّشون عن الله بين المجهولات والأمور التي لا يعرفون لها علةً ظاهرة، ولكنّ القرآن يأخذ بيدنا ويسير بنا في طريقٍ وسط بين الحياة والموت ونظام الوجود المتقن، الطريق الذي فيه أفق الحياة أرفع من أفق المادّة، النور الذي يشعّ على جسد المادّة الميّتة، والكمال الذي يفيض عليها، والحقيقة التي تتقبُّلها المادّة تقبلاً دون فاعليّةٍ وعطاءٍ، هنالك يقترب بنا القرآن إلى أفق الملكوت وباطن العالم.

وبموجب هذا البيان، تكون الحياة حيثما وجدت، وفي أيّ مادّة حلّت، ووَفق أيّ قانون أو ظرف ظهرت، سواء أظهرت منذ الخلق الأوّل، أم في ظروف التدرُّج التكامليّ، وسواء

 

 

100


79

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

أكان ظهورها في حيّ عن حيّ، أم ظهرت تحت ظروف أخرى، وسواء أكان الإنسان هو الذي هيّأ الظروف لها -فيما إذا استطاع البشر في يوم ما أن يحقّق ذلك- أم لم يكن، ففي هذه الحالات كلّها وغيرها تكون الحياة فيضاً من نوره وعطائه. فالحياة نورٌ يفيض على المادّة ضمن توافر الظروف والاستعداد.

 

قضيّة بدء الحياة

يحاول بعض النَّاس دائماً العثور على الله في مجهولاته، لا في معلوماته، وليس شيء أخطر من هذا المنحى في التفكير قد يتعامل به أحدٌ مع قضيّة التّوحيد. وبعضهم الآخر من غير المتثبّتين، الذين لا علم لهم، يحاولون -فيما يتعلّق بالحياة ومعرفة الله- البحث في مسألة بدء الحياة، ويتساءلون عن كيفيّة ظهور الحياة على الأرض بادئ ذي بدء. فمن جهة يقول العلم: إنّ منشأ كلّ شيءٍ حيٍّ، حيٌّ آخر؛ إذ لم يتّفق حتّى الآن أن نشأ حيّ، وإن يكن خلية واحدة، من مادّةٍ لا حياة فيها.

 

ومن جهة أخرى، يقول العلم أيضاً: إنَّه مضى على أرضنا هذه زمانٌ لم يكن فيها أيُّ شيءٍ حيّ، وما كان يمكن أن يكون كذلك؛ لأنَّ درجة الحرارة قبل ملايين السنين لم تكن تسمح، كما يقولون، بأن يبقى كائنٌ حيٌّ حيّاً، حتّى بعد ذلك عندما برد سطح الأرض خلال ملايين السنين لم يكن هناك سوى الموادّ غير العضوية، فكيف ظهرت الحياة إذاً؟

 

وهذا الأمر مجهولٌ آخر يضاف إلى مجهولات الإنسان.

 

وأمّا الذين يبحثون عن الله في مجهولاتهم، فيقولون: بما أنّ ذلك غير ممكن بالطرق العادية المألوفة، فإنّ يدَ قدرة الله قد ظهرت من كمّها فأوجدت الحياة للمرّة الأولى!

 

101

 


80

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

داروين والنفخة الإلهيّة

على الرَّغم من أنَّ داروين، العالم الأحيائيّ المعروف، وصاحب فلسفة «النشوء والارتقاء»، كان شخصاً متديّناً يدّعي المسيحيّة، فقد أساء النّاس تفسير فلسفته، وأظهروه أنّه ينكر وجود الخالق!

عندما يسرد داروين تسلسل نشوء الأحياء يصل إلى مكان يقول فيه، إنَّه لم يكن على الأرض سوى عددٍ قليل من الأحياء، أو على الأقلّ نوعٌ واحدٌ من الأحياء لم يخرج من حيٍّ آخر، وهنا يقول: أمَّا هذا النّوع البدائيّ فقد خلقه الله بنفخةٍ من عنده.

ما من شكّ في أنّ الحياة الأولى قد ظهرت بنفخةٍ إلهيّةٍ، مثل جميع سلاسل الأحياء، إلّا أنَّ الأمر ليس كما ظنَّ هذا الرَّجل في مقولته بأنَّ النّفخة الإلهيّة قد أوجدت الحيَّ الأوَّل فحسب، وأنَّ البدء كان من الله؛ أي إنَّ وظيفة الله كانت الشروع بالأمر، ومن ثمّ أصبحت المادّة قادرةً بذاتها على نقل الحياة إلى الأجيال القادمة، في حين أنّ بدء العمل ووسطه ونهايته لا يختلف، فالحياة دائماً وفي الأحوال كلّها -سواء في البدء أم خلال التكامل- نفخة إلهيّة.

وهناك آيةٌ في سورة السجدة تفيدُ أنَّه مثلما خُلق آدم أبو البشر بنفخة إلهيّة، فإنّ جميع أفراد البشر يخلقون بالإفاضة الإلهيّة ذاتها التي اسمها النفخة في تفسير القرآن: ﴿ٱلَّذِيٓ أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُۥ وَبَدَأَ خَلقَ ٱلإِنسَٰنِ مِن طِينٖ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٨ ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمعَ وَٱلأَبصَٰرَ وَٱلأَف‍ِٔدَةَ قَلِيلٗا مَّا تَشكُرُونَ﴾[1].

وفي آية أخرى من سورة الأعراف، يقول –تعالى-: ﴿وَلَقَد خَلَقنَٰكُم ثُمَّ صَوَّرنَٰكُم ثُمَّ قُلنَا لِلمَلَٰٓئِكَةِ ٱسجُدُواْ لِأٓدَمَ﴾[2]. وهنالك أيضاً آيات أخرى في القرآن يستدلّ منها على أنّ آدم ليس هو أوّل من خُلق بالنفخة الإلهيّة.


 


[1] سورة السجدة، الآيات 7 – 9.

[2] سورة الأعراف، الآية 11.

 

102


81

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

قصَّة آدم في القرآن

من العجيب أنَّ قصّة آدم (عليه السلام) أبي البشر قد وردت في القرآن على أنها درسٌ آخر، لا على أنَّها دليلٌ على التوحيد، ولا لكون حياة البشريّة الأولى قد بدأت هكذا، فتعالوا واعترفوا بربوبيّة الله!

إنّ القرآن الكريم يورد قصّة خلق آدم (عليه السلام) بصورة خاصّة نعرفها جميعاً بشكلٍ من الأشكال. وإذا اعتبرنا علوم الحياة قد بلغت مرحلة متقدّمة، وأنّ قوانين تسلسل الأنواع صحيحة، فليس ثمّة دليل يؤكّد استحالة حدوث طفرةٍ عظيمةٍ بحيث تخلَّقت حفنةٌ من التراب في مدّة وجيزة وأصبحت إنساناً؛ أي إنَّ المراحل التي كان ينبغي أن تُطوى في قرون طويلة، وأن تتوالد الأجيال وتدخل ضمن ظروف مساعدة، فإنّه يمكن أن تتهيّأ ظروفٌ أخرى تعجِّل بالتطوُّر. وليس في هذا ما يخالف السُّنن الطبيعيَّة السَّائدة في الكون. فالسرعة تتغيَّر في الكون باختلاف الظُّروف والأحوال، كما أنَّه لا يوجد ما يمنع من تقليل تلك السُّرعة، فقد يمكن في ظروفٍ خاصَّةٍ أن نزيدَ طول فترة الطُّفولة والشَّباب والكهولة فتراتٍ طويلةٍ.

على كلّ حال، كان القصد توضيح أسلوب القرآن حول مسألة التوحيد، وأنّه أثناء الحديث عن التوحيد ينبغي أن لا يُتمسَّك بموضوع بدء الحياة، ولا يقال: بما أنّ للحياة بدءاً، سواء بدأت في خليّةٍ واحدةٍ أو من كائنٍ عمرُه ملايين السّنين، فينبغي لذلك معرفة الله.

إنَّ قصّة آدم أبي البشر قد وردت بقصدٍ آخر، وقلّما نجد قصّة مثل قصّة آدم فيها هذا المغزى الكبير. فقد وردت هذه القصَّة لإعلاء شأنِ الإنسان. والإنسان إذا تعلَّم الأسماءَ الإلهيّة يكون أعلى مرتبةً من الملائكة، بل تخضع الملائكة له وتسجد. وكذلك تحذّر هذه القصّة من عداوة الشَّيطان، وتوعّي البشر إلى ما توسوسه لهم أهواؤهم الداخليّة لكيلا تنحرف بهم عن طريق الصواب.

 

103


82

الفصل السادس: استدلال القرآن على التوحيد بالحياة

والقصّة تكشف عن عاقبة التكّبر الذي هوى بالشيطان وأخرجه من قرب الله، وتكشف عن أخطار الطمع والسقوط التي تحيق بالإنسان فتنزله درجات بسبب تهاونه في إطاعة أوامر الله، وعن المقام الرفيع الذي يتسنَّمه الإنسان، مقام خلافة الله.

إنّ القصّة مجموعة من الدروس الأخلاقيّة والتعليمات العرفانيّة: ﴿وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلأَرضِ خَلِيفَةٗ قَالُوٓاْ أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيٓ أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ ٣٠ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى ٱلمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنبِ‍ُٔونِي بِأَسمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُم صَٰدِقِينَ ٣١ قَالُواْ سُبحَٰنَكَ لَا عِلمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَلِيمُ ٱلحَكِيمُ ٣٢ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَآئِهِم فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسمَآئِهِم قَالَ أَلَم أَقُل لَّكُم إِنِّيٓ أَعلَمُ غَيبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ وَأَعلَمُ مَا تُبدُونَ وَمَا كُنتُم تَكتُمُونَ﴾[1].

في هذه القصّة مغازٍ أخرى كثيرة، لا مجال لشرحها هنا، خصوصاً الأمر المهمّ الذي لا يجري الالتفات إليه، وهو اعتبار خلق آدم (عليه السلام) دليلاً على التَّوحيد.

 


[1] سورة البقرة، الآيات 30 - 33.

 

104


83
قدوة الشباب (3) - المعرفة العقلية والقلبية