الإمام المهديّ وبناء المجتمع الإلهيّ

الإمام المهديّ وبناء المجتمع الإلهيّ


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2019-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله الطاهرين...

ليس المهديُّ تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع دينيّ فحسب، بل هو عنوان لطموح اتّجهت إليه البشريّة، بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطريّ، أدرك الناس من خلاله، على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب، أنّ للإنسانيّة يوماً موعوداً على الأرض، تتحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير، وهدفها النهائيّ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها، وبعد عناءٍ طويل.

إنّ أصل المهدويّة، هو محلّ اتّفاق المسلمين جميعاً. وفي عقائد الأديان الأخرى، يوجد أيضًا انتظار للمُنْجي في نهاية الزمان. فقد فهموا هذا المطلب بنحوٍ صحيح في بُعدٍ من أبعاد القضيّة. ولكن في البُعد الأساس، المتعلِّق بتحديد الشخص المُنْجي ومعرفته، ابتُلوا بنقص المعرفة. أمّا الشيعة فيعرفون المُنجي

 

7

 


1

المقدّمة

بالاسم والعلامة والخصائص وتاريخ الولادة، من خلال الأخبار المسلّمة والقطعيّة.

 

ومن الذين تناولوا هذه القضيّة بالبحث والتحليل، المفكّر الإسلاميّ الكبير السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر {، ووليّ أمر المسلمين الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله).

 

فقد كتب السيّد الشهيد (رحمه الله) بحثاّ مختصراً حول الموضوع، سمّاه «بحث حول المهديّ»، كتبه ليكون مقدّمة لكتاب «موسوعة الإمام المهديّ»، لتلميذه الشهيد السيّد محمّد صادق الصدر، وهي عبارة عن أبحاث موسَّعة حول الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه). لذلك، كان بحثاً عقليّاً تنظيريّاً لعقيدة المهديّ، ولم يورد فيه السيّد الشهيد الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)حول الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).

 

فقد تناول السيّد الشهيد قضيّة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) من منشأ التساؤلات المعاصرة للناس، وخصوصاً المشكِّكين منهم، وتصدّى للإجابة عن أسئلتهم واستنكاراتهم بمنهج عقليّ ولغة علميّة موضوعيّة رصينة. وقد بحث فيه عمرَ الإمام الطويل، وإعداده كقائد منتظر، والإيمان بوجوده، بين الخرافة المبتدعة والحقيقة المؤرّخة، وتغييره للعالم في اليوم الموعود، باختصار وعمق يتناسبان مع هدف الكتاب كمقدّمة علميّة، ومع الشريحة المستهدفة، وهي عموم الناس والقرّاء، بمستوياتهم العلميّة والذهنيّة المتفاوتة.

 

 

8


2

المقدّمة

أمّا الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، فقد بحث الموضوع في خاتمة كتابه «إنسان بعمر 250 سنة»، والكتاب عبارة عن مجموعة من الدراسات والمحاضرات في سيرة الأئمّة (عليهم السلام) التي دوّنها الإمام الخامنئيّ وألقاها على مختلف شرائح المجتمع، من طلّاب الحوزات والجامعات وأفراد مؤسّسات الدولة المختلفة وعموم الناس.

وكتابه لم يكن تاريخيّاً سرديّاً صرفاً، بل كان بحثاّ تحليليّاً للتاريخ، طرح فيه رؤية كلّيّة كاملة لحياة الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام)كوحدة متكاملة مترابطة، بحيث غدت سيرتهم الجهاديّة والتأسيسيّة حركة واحدة منسجمة ومترابطة تسير نحو غرض مشخَّص ومقصد واحد.

وقد خصّص الفصل الأخير من الكتاب للحديث عن الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه)، باعتباره الزبدة لهذه الرؤية المتكاملة والمتّصلة بحياة الأئمّة (عليهم السلام)، والمحقِّق للمجتمع الإنسانيّ الكامل الذي تسوده العدالة الإلهيّة، فقد بيّن فيه الإمام الغاية لحركة إنسان بعمر 250 سنة، وخصائص المجتمع المهدويّ، ومسؤوليّتنا كجنود ومنتظرين في عصر غيبته(عجل الله تعالى فرجه).

وقد جمعنا في هذا الكتاب بين هذين البحثين المهمّين؛ لتعمّ الفائدةُ طلّابَنا الأعزّاء في مرحلة الدراسة الثانويّة، وليكونوا على

 

9

 


3

المقدّمة

بيّنة ووضوح في قضيّة المهديّ الموعود(عجل الله تعالى فرجه) على مستوى الاعتقاد والإيمان به، والإجابة عن التشكيكات التي وُجِّهت لوجوده، وكذلك الاطّلاع على فلسفة حركته وخصائص مجتمعه، ومعرفة دور كلّ واحد منّا في التمهيد لظهوره والسير معه في حركة تحقيق المجتمع الإنسانيّ الكامل.

 

«اللهمّ، إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتُذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة»[1].

 

والحمد لله ربِّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص581.

 

 

10


4

بحث حول المهديّ

فكرة المهديّ، وجذورها في التاريخ

ليس المهديّ تجسيدًا لعقيدةٍ إسلاميّةٍ ذات طابعٍ دينيٍّ فحسب، بل هو عنوانٌ لطموحٍ اتّجهَتْ إليه البشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغةٌ لإلهامٍ فطريٍّ، أدرك الناس من خلاله، على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب، أنّ للإنسانيّة يومًا موعودًا على الأرض، تُحَقَّق فيه رسالات السماء، بمغزاها الكبير وهدفها النهائيّ، وتجد فيه المسيرةُ المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ، استقرارَها وطمأنينتَها، وبعد عناءٍ طويلٍ. بل، لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبيّ والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيًّا بالغيب، بل امتدَّ على غيرهم أيضًا، وانعكس حتّى على أشدِّ الأيديولوجيّات والاتّجاهات العقائديّة رفضًا للغيب والغيبيّات، كالمادّيّة الجدليّة التي فسَّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيومٍ موعودٍ، تُصَفَّى فيه التناقضات كلّها، ويسود فيه الوئام والسلام.

 

15


5

بحث حول المهديّ

وهكذا، نجد أنّ التجربة النفسيّة لهذا الشعور، التي مارستها الإنسانيّة على مرّ الزمن، من أوسع التجارب النفسيّة وأكثرها عمومًا بين أفراد الإنسان.

وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسيّ العامّ، ويؤكِّد أنّ الأرض، في نهاية المطاف، ستمتلئ قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا، يُعطِي لذلك الشعور قيمَتَه الموضوعيّة، ويحوّله إلى إيمانٍ حاسمٍ بمستقبلِ المسيرة الإنسانيّة. وهذا الإيمان ليس مجرّد مصدرٍ للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاءٍ وقوّةٍ، فهو مصدر عطاءٍ؛ لأنّ الإيمان بالمهديّ إيمانٌ برفض الظلم والجور، حتّى وهو يَسُود الدنيا كلّها، وهو مصدر قوّةٍ ودفعٍ لا تنضب؛ لأنّه بصيص نورٍ يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره، مهما ادلهمَّت الخطوب وتعملق الظلم؛ لأنّ اليومَ الموعودَ يثبتُ أنّ بإمكان العدل أن يواجه عالَمًا مليئًا بالظلم والجور، فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديدٍ، وأنّ الظلم، مهما تجبَّر وامتدَّ في أرجاء العالَم وسيطر على مقدّراته، فهو حالةٌ طبيعيّةٌ، ولا بدّ أن ينهزم، وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم، وهو في قمّة مجده، تضع الأمل كبيرًا أمام كلّ فردٍ مظلومٍ، وكلّ أمّةٍ مظلومةٍ، في القدرة على تغيّر الميزان وإعادة البناء.

 

16

 


6

بحث حول المهديّ

المهديّ، من الفكرة إلى الواقع

وإذا كانت فكرة المهديّ أقدم من الإسلام وأوسع منه، فإنّ معالمها التفصيليّة، التي حدّدها الإسلام، جاءت أكثر إشباعًا للطموحات كلّها التي انشدَّت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الدينيّ، وأغنى عطاءً وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذَّبين على مرِّ التاريخ؛ وذلك لأنّ الإسلام حوَّل الفكرة من غيبٍ إلى واقعٍ، ومن مستقبلٍ إلى حاضرٍ، ومِن التطلّع إلى مُنقِذٍ تتمخّض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول، إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلًا، وتطلّعه مع المتطلّعين إلى اليوم الموعود، واكتمال الظروف كلّها التي تسمح له بممارسة دوره العظيم، فلم يعد المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) فكرةً ننتظر ولادتها، ونبوءةً نتطلّع إلى مصداقها، بل واقعًا قائمًا ننتظر فاعليّته، وإنسانًا معيّنًا يعيش بيننا بلحمه ودمه، نراه ويرانا، ويعيش مع آمالنا وآلامنا، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد كلّ ما تزخر به الساحة على وجه الأرض، من عذاب المعذَّبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، ويكتوي بذلك كلّه من قريبٍ أو بعيدٍ، وينتظر بلهفةٍ اللحظة التي يُتاح له فيها أن يمدَّ يده إلى كلّ مظلومٍ وكلّ محرومٍ وكلّ بائسٍ، ويقطع دابر الظالمين.

 

17

 


7

بحث حول المهديّ

وقد قُدِّر لهذا القائد المُنتظر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يكشف للآخرين حياته، على الرغم من أنّه يعيش معهم انتظارًا للحظةِ الموعودة.

ومن الواضح أنّ الفكرةَ، بهذه المعالِم الإسلاميّة، تقرّب الهوّةَ الغيبيّة بين المظلومين، كلّ المظلومين، والمنقذِ المنتظرِ، وتجعل الجسر بينهم وبينه، في شعورهم النفسيّ، قصيرًا، مهما طال الانتظار.

ونحن، حينما يُراد منّا أن نؤمن بفكرة المهديّ، بوصفها تعبيرًا عن إنسانٍ حيٍّ محدّدٍ، يعيش فعلًا كما نعيش، ويترقّب كما نترقّب، يُراد الإيحاء إلينا بأنّ فكرة الرفض المطلق لكلّ ظلمٍ وجورٍ، التي يمثّلها المهديّ، تجسَّدت فعلًا في القائد الرافض المنتظر، الذي سيظهر، وليس في عنقه بيعةٌ لظالمٍ، كما في الحديث، وأنّ الإيمان به إيمانٌ بهذا الرفض الحيّ القائم فعلًا ومواكبةً له.

وقد ورد في الأحاديث، الحثُّ المتواصل على انتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهديّ أن يكونوا بانتظاره، وفي ذلك تحقيقٌ لتلك الرابطة الروحيّة والصلة الوجدانيّة بينهم وبين القائد الرافض، وكلّ ما يرمز إليه من قيمٍ. وهي رابطةٌ وصِلةٌ ليس بالإمكان إيجادها، ما لم يكن المهديّ قد تجسَّد فعلًا في إنسانٍ حيٍّ معاصرٍ.

وهكذا، نلاحظ أنّ هذا التجسيد أعطى الفكرة زخمًا جديدًا، وجعل منها مصدر عطاءٍ وقوّةٍ بدرجةٍ أكبر، إضافةً إلى ما يجده

 

18

 


8

بحث حول المهديّ

أيُّ إنسانٍ رافضٍ من سلوةٍ وعزاءٍ وتخفيفٍ لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان، حين يحسّ أنّ إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام، ويتحسَّس بها فعلًا، بحكم كونه إنسانًا معاصرًا، يعيش معه، وليس مجرّد فكرةٍ مستقبليّةٍ.

 

تساؤلاتٌ حول المهديّ

ولكنّ التجسيد المذكور، أدّى، في الوقت نفسه، إلى مواقف سلبيّةٍ تجاه فكرة المهديّ نفسها، لدى عددٍ من الناس الذين صعُبَ عليهم أن يتصوّروا ذلك ويفترضوه.

فهم يتساءلون، إذا كان المهديّ يعبّر عن إنسانٍ حيٍّ، عاصر هذه الأجيال المتعاقبة كلّها، منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظلّ يعاصر إمداداتها إلى أن يظهر على الساحة، فكيف تأتّى لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كلّ إنسانٍ أن يمرّ بمرحلة الشيخوخة والهرم في وقتٍ سابقٍ على ذلك جدًّا، وتؤدّي به تلك المرحلة، طبيعيًّا، إلى الموت؟ أوَليس ذلك مستحيلًا من الناحية الواقعيّة؟

ويتساءلون أيضًا، لماذا هذا الحرص كلّه من الله -سبحانه وتعالى- على هذا الإنسان بالذات؟ فتُعطَّل من أجله القوانين الطبيعيّة، ويُفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود، فهل

 

19

 


9

بحث حول المهديّ

عقمت البشريّة عن إنتاج القادة الأكفّاء؟! ولماذا لا يُترك اليوم الموعود لقائدٍ يولَد مع فجر ذلك اليوم، وينمو كما ينمو الناس، ويمارس دوره بالتدريج، حتّى يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا؟

ويتساءلون أيضًا، إذا كان المهديّ اسمًا لشخصٍ محدَّدٍ، هو ابن الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، الذي وُلد سنة 256 هـ، وتوفّي أبوه سنة 260 هـ، فهذا يعني أنّه كان طفلًا صغيرًا عند موت أبيه، لا يتجاوز خمس سنواتٍ، وهي سنٌّ لا تكفي للمرور بمرحلة إعدادٍ فكريٍّ ودينيٍّ كاملٍ على يد أبيه؛ فكيف، وبأيّ طريقةٍ يكتمل إعداد هذا الشخص، لممارسة دوره الكبير، دينيًّا وفكريًّا وعلميًّا؟

ويتساءلون أيضًا، إذا كان القائد جاهزًا، فلماذا هذا الانتظار الطويل كلّه مئات السنين؟ أوَليس في ما شهده العالَمُ من المِحن والكوارث الاجتماعيّة، ما يبرِّر بروزَه على الساحة وإقامة العدل على الأرض؟

ويتساءلون أيضًا، كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهديّ، حتّى لو افترضنا أنّ هذا ممكنٌ؟ وهل يُسَوَّغُ لإنسانٍ أن يعتقد بصحّة فرضيّةٍ من هذا القبيل، دون أن يقوم عليها دليلٌ علميٌّ أو شرعيٌّ قاطعٌّ؟ وهل تكفي بضع رواياتٍ تُنقَل عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، لا نعلم مدى

 

20

 


10

بحث حول المهديّ

صحّتها، للتسليم بالفرضيّة المذكورة؟

ويتساءلون أيضًا، بالنسبة إلى ما أُعِدَّ له هذا الفرد من دورٍ في اليوم الموعود، كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسم في حياة العالَم، مع أنّ الفرد، مهما كان عظيمًا، لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ، ويدخل به مرحلةً جديدةً، وإنّما تختمر بذور الحركة التاريخيّة وجذوتها في الظروف الموضوعيّة وتناقضاتها، وعظمةُ الفرد هي التي ترشّحه لكي يشكّل الواجهة لتلك الظروف الموضوعيّة، والتغيير العمليّ عمّا تتطلّبه من حلولٍ؟

ويتساءلون أيضًا، ما هي الطريقة التي يمكن أن يُتَصَوّر من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد، من تحوّلٍ هائلٍ وانتصارٍ حاسمٍ للعدل ورسالة العدل، على كيانات الظلم والجور والطغيان كلّها، على الرغم ممّا تملك من سلطانٍ ونفوذٍ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلميّة والقدرة السياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة.

هذه أسئلةٌ قد تتردّد في هذا المجال، وتُقال بشكلٍ وآخر. وليست البواعثُ الحقيقيّةُ لهذه الأسئلة فكريّةً فحسب، بل هناك مصدرٌ نفسيٌّ لها أيضًا، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطِر عالَميًّا، وضآلة أيّ فرصةٍ لتغييره من الجذور. وبقدر ما يبعثه الواقع، الذي يَسُود العالَم، على مرِّ الزمن، من هذا الشعور، تتعمّق الشكوك، وتترادف

 

 

21


11

بحث حول المهديّ

التساؤلات. وهكذا، تؤدّي بالهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان، إلى أن يحسَّ، نفسيًّا، بإرهاقٍ شديدٍ، لمجرّد تصوّر عمليّة التغيير الكبرى للعالَم، التي تفرغه من تناقضاته ومظالمه التاريخيّة كلّها، وتعطيه محتوىً جديدًا قائمًا على أساس الحقّ والعدل. وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكّك في هذه الصورة، ومحاولة رفضها لسببٍ وآخر.

ونحن الآن، نأخذ التساؤلات السابقة تباعًا، لنقف عند كلّ واحدٍ منها وقفةً قصيرةً، بالقدر الذي تتّسع له هذه الوُرَيقات.

 

22


12

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

إمكانيّة العمر الطويل للإنسان

وبكلمةٍ أخرى، هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قرونًا كثيرةً، كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلًا، أكثر من ألفٍ ومئةٍ وأربعين سنةً؛ أي حوالي ١٤ مرّة من عمر الإنسان الاعتياديّ، الذي يمرُّ بالمراحل الاعتياديّة كلّها، من الطفولة إلى الشيخوخة؟

وكلمة الإمكان، هنا، تعني أحد ثلاثة معانٍ، الإمكان العمليّ، والإمكان العلميّ، والإمكان المنطقيّ أو الفلسفيّ. وأقصد بالإمكان العمليّ، أن يكون الشيء ممكنًا على نحوٍ يُتاح لي أو لك أو لإنسان آخر فعلًا أن يحقّقه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلى قاع البحر، والصعود إلى القمر، أشياء أصبح لها إمكانٌ عمليٌّ فعلًا، فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلًا بشكلٍ وآخر.

وأقصد بالإمكان العلميّ، أنّ هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان، عمليًّا، لي أو لك، أن نمارسها فعلًا بوسائل المدنيّة المعاصرة، ولكن

 

25


13

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

لا يوجد لدى العلم، ولا تشير اتّجاهاته المتحرّكة إلى ما يبرّر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقًا لظروفٍ ووسائل خاصّةٍ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العِلم ما يرفض وقوعَه، بل إنّ اتّجاهاته القائمة فعلًا، تشير إلى إمكان ذلك، وإن لم يكن الصعود فعلًا ميسورًا لي أو لك. إنّ الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلّا فراق درجةٍ، ولا يمثّل الصعودُ إلى الزهرة إلّا مرحلةَ تذليلِ الصعاب الإضافيّة التي تنشأ من كون المسافة أبعد، فالصعود إلى الزهرة ممكنٌ علميًّا، وإن لم يكن ممكنًا عمليًّا فعلًا. وعلى العكس من ذلك، الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء، فإنّه غير ممكنٍ علميًّا، بمعنى أنّ العلم لا أمل له في وقوع ذلك، إذ لا يُتَصوَّر علميًّا وتجريبيًّا إمكانيّة صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثّل آتوانًا[1] هائلًا مستعرًا بأعلى درجةٍ تخطر على بالِ إنسانٍ.

وأقصد بالإمكان المنطقيّ أو الفلسفيّ، أن لا يوجد لدى العقل، وفق ما يدركه من قوانين قبليّة -أي سابقةٍ على التجربة- ما يبرّر رفض الشيء والحكم باستحالته.

فوجود ثلاث برتقالاتٍ تنقسم بالتساوي وبدون كسرٍ إلى نصفين، ليس له إمكانٌ منطقيٌّ؛ لأنّ العقل يدرك، قبل أن يمارس أيّ تجربةٍ،


 


[1] الأتون: الموقد الكبير، الأخدود.

 

26


14

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

أنّ الثلاثة عددٌ فرديٌّ وليس زوجًا، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي؛ لأنّ انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجًا، فتكون فردًا وزوجًا في وقتٍ واحدٍ، وهذا تناقضٌ، والتناقض مستحيلٌ منطقيًّا. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق، وصعوده إلى الشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها، ليس مستحيلًا من الناحية المنطقيّة، إذ لا تناقض في افتراض أنّ الحرارة لا تتسرّب من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقلّ حرارةً، وإنّما هو مخالِفٌ للتجربة التي أثبتت تسرّب الحرارة من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقلّ حرارةً، إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.

وهكذا، نعرف أنّ الإمكان المنطقيّ أوسع دائرةً من الإمكان العلميّ، وهذا أوسع دائرةً من الإمكان العمليّ، وهذا أوسع دائرةً من الإمكان العمليّ.

ولا شكّ في أنّ امتداد عمر الإنسان آلافًا بالسنين، ممكنٌ منطقيًّا؛ لأنّ ذلك ليس مستحيلًا من وجهة نظرٍ عقليّةٍ تجريديّةٍ، ولا يوجد، في افتراضٍ من هذا القبيل، أيّ تناقضٍ؛ لأنّ الحياة، كمفهوم،ٍ لا تستبطن الموت السريع، ولا نقاش في ذلك.

كما لا شكّ أيضًا، ولا نقاش في أنّ هذا العمر الطويل ليس ممكنًا إمكانًا عمليًّا، على نحو الإمكانات العمليّة للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر؛ ذلك لأن العلم، بوسائله وأدواته الحاضرة فعلًا،

 

27

 


15

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

والمتاحة من خلال التجربة البشريّة المعاصرة، لا يستطيع أن يمدّد عمر الإنسان مئات السنين؛ ولهذا نجد أنّ أكثر الناس حرصًا على الحياة، وقدرةً على تسخير إمكانات العلم، لا يُتاح لها من العمر إلّا بقدرِ ما هو مألوفٌ.

وأمّا الإمكان العلميّ، فلا يوجد -علميًّا- اليوم، ما يبرّر رفض ذلك من الناحية النظريّة. وهذا بحثٌ يتّصل -في الحقيقة- بنوعيّة التفسير الفسيولوجيّ لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان، فهل تعبِّر هذه الظاهرة عن قانونٍ طبيعيٍّ يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه، بعد أن تبلغ قمّة نموّها، أن تتصلّب بالتدريج، وتصبح أقلّ كفاءةً للاستمرار في العمل، إلى أن تتعطّل في لحظةٍ معيّنةٍ، حتّى لو عزلناها عن تأثير أيّ عاملٍ خارجيٍّ؟ أو إنّ هذا التصلّب، وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسميّة للقيام بأدوارها الفسيولوجيّة، نتيجةُ صراعٍ مع عوامل خارجيّةٍ، كالميكروبات أو التسمّم الذي يتسرّب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاءٍ مكثّفٍ، أو ما يقوم به من عملٍ مكثّفٍ، أو أيّ عاملٍ آخر؟

وهذا سؤالٌ يطرحه العلم اليوم على نفسه، وهو جادٌّ في الإجابة عنه، ولا يزال للسؤال أكثر من جوابٍ على الصعيد العلميّ. فإذا أخذنا بوجهة النظر العلميّة، التي تتّجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرميّ، بوصفه نتيجة صراعٍ واحتكاكٍ مع مؤثّراتٍ خارجيّةٍ

 

28

 

 


16

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

معيّنةٍ، فهذا يعني أنّه بالإمكان، نظريًّا، إذا عُزِلَت الأنسجة التي يتكوّن منها جسم الإنسان عن تلك المؤثّرات المعيّنة، أن تمتدّ بها الحياة، وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة، وتتغلّب عليها نهائيًّا.

وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانونًا طبيعيًّا للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها؛ بمعنى أنّها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم، مرورًا بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.

أقول: إذا أخذنا بوجهة النظر هذه، فليس معنى هذا عدم افتراض أيّ مرونةٍ في هذا القانون الطبيعيّ، بل هو، على افتراض وجوده، قانونٌ مَرِنٌ؛ لأنّنا نجد في حياتنا الاعتياديّة، ولأنّ العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلميّة، أنّ الشيخوخة -كظاهرةٍ فسيولوجيّةٍ، لا زمنيّةٍ- قد تأتي مبكرةً، وقد تتأخّر ولا تظهر إلّا في فترٍة متأخّرةٍ، حتّى إنّ الرجل قد يكون طاعنًا في السنّ، ولكنّه يملك أعضاءً ليّنةً ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة، كما نصّ على ذلك الأطبّاء. بل إنّ العلماء استطاعوا -عمليًّا- أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعيّ المفترض، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرّات، بالنسبة إلى أعمارها الطبيعيّة، وذلك بخلق ظروفٍ وعوامل تؤجّل فاعليّة قانون الشيخوخة.

وبهذا، يثبت علميًّا، أنّ تأجيل هذا القانون، بخلق ظروفٍ وعوامل

 

 

29

 

 


17

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

معيّنةٍ، أمرٌ ممكنٌ علميًّا، ولئن لم يُتَح للعلم أن يمارس -فعلًا- هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقّدٍ معيّنٍ، كالإنسان، فليس ذلك إلا لفارق درجةٍ بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان، وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم -من الناحية النظريّة، وبقدر ما تشير إليه اتّجاهاته المتحرّكة- لا يوجد فيه أبدًا ما يرفض إمكانيّة إطالة عمر الإنسان، سواءٌ أفسّرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراعٍ واحتكاكٍ مع مؤثّراتٍ خارجيّةٍ، أو نتاج قانونٍ طبيعيٍّ للخليّة الحيّة نفسها، يسير بها نحو الفناء.

ويتلخّص من ذلك، أنّ طولَ عمر الإنسان، وبقاءَه قرونًا متعدّدةً، أمرٌ ممكنٌ منطقيًّا، وممكنٌ علميًّا، ولكنّه ما يزال غير ممكنٍ عمليًّا، إلّا إنّ اتّجاه العلم سائرٌ في طريق تحقيق هذا الإمكان، عبر طريقٍ طويلٍ.

وعلى هذا الضوء، نتناول عمر المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وما أُحِيط به من استفهامٍ أو استغرابٍ.

ونلاحظ أنّه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل، منطقيًّا وعلميًّا، وثبت أنّ العلم سائرٌ في طريق تحويل الإمكان النظريّ إلى إمكانٍ عمليٍّ تدريجًا، لا يبقى للاستغراب محتوىً، إلّا استبعاد أن يسبق المهديّ العلمَ نفسَه، فيتحوّل الإمكانُ النظريُّ إلى إمكانٍ عمليٍّ في شخصه، قبل أن يصل العلم في تطوّره إلى مستوى القدرة

 

 

30


18

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

الفعليّة على هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.

وإذا كانت المسألة هي أنّه كيف سبق الإسلامُ -الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر- حركةَ العلم في مجال هذا التحويل؟

فالجواب أنّه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم. أَوَليست الشريعة الإسلاميّة، ككلٍّ، قد سبقت حركة العلم والتطوّر الطبيعيّ للفكر الإنسانيّ قرونًا عديدةً؟ أوَلَمْ تنادي بشعاراتٍ طرحَت خططًا للتطبيق، لم ينضج الإنسان للتوصّل إليها في حركته المستقلّة، إلا بعد مئات السنين؟ أوَلَمْ تأتي بتشريعاتٍ في غاية الحكمة، لم يستطع الإنسان أن يدركَ أسرارَها ووَجْهَ الحكمة فيها، إلّا قبل برهةٍ وجيزةٍ من الزمن؟ أوَلَمْ تكشف رسالةُ السماء أسرارًا من الكون، لم تكن تخطر على بال إنسانٍ، ثمّ جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟ فإذا كنا نؤمن بهذا كلّه، فلماذا نستكثر على مرسِلِ هذه الرسالة -سبحانه وتعالى- أن يسبق العلم في تصميم عمر المهديّ؟ وأنا هنا، لم أتكلّم إلّا عن مظاهر السبق، التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورةٍ مباشرةٍ، ويمكن أن نُضيفَ إلى ذلك، مظاهرَ السبق التي تُحدِّثُنا بها رسالةُ السماء نفسها. ومثال ذلك، أنّها تخبرنا بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قد أُسري به ليلًا، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا الإسراء، إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين

 

31


19

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

الطبيعيّة، فهو يعبّر عن الاستفادة من القوانين الطبيعيّة بشكلٍ لم يُتَحْ للعلم أن يحقّقه، إلّا بعد مئات السنين، فالخبرة الربّانيّة نفسها، التي أتاحت للرسول (صلى الله عليه وآله) التحرّك السريع، قبل أن يُتاحَ للعلم تحقيقُ ذلك، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين، العمرَ المديد، قبل أن يُتاحَ للعلم تحقيق ذلك.

نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله -تعالى- للمنقذ المنتظر، يبدو غريبًا في حدود المألوف، حتّى اليوم، في حياة الناس، وفي ما أُنجِزَ فعلًا من تجارب العلماء. ولكن، أوَلَيْسَ الدور التغييريّ الحاسم، الذي أُعِدَّ له هذا المنقذ، غريبًا في حدود المألوف في حياة الناس وما مرّت بهم تطوّرات التاريخ؟ أوَليس قد أُنيط به تغيير العالَم، وإعادة بنائه الحضاريّ من جديدٍ، على أساس الحقّ والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير، ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف، كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإنّ غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف -مهما كان شديدًا- لا يفوق بحالٍ غرابة الدور العظيم نفسه، الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه.

فإذا كنّا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخيًّا، على الرغم من أنّه لا يوجد دورٌ مناظرٌ له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمرًا مناظرًا له في حياتنا المألوفة؟

ولا أدري، هل هي صدفةٌ أن يقوم شخصان -فقط- بتفريغ

 

32

 


20

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

الحضارة الإنسانيّة من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكلٍّ منهما عمرٌ مديدٌ يزيد على أعمارنا الاعتياديّة أضعافًا مضاعفةً؟! أحدُهما مارس دورَه في ماضي البشريّة، وهو نوحٌ الذي نصّ القرآن الكريم على أنّه مكث في قومه ألف عامٍ إلّا خمسين سنةً، وقُدِّرَ له، من خلال الطوفان، أن يبني العالَم من جديدٍ. والآخر يمارس دورَه في مستقبل البشريّة، وهو المهديّ، الذي مكث في قومه -حتى الآن- أكثر من ألف عامٍ، وسيُقَدَّر له في اليوم الموعود أن يبني العالَم من جديد.

 

فلماذا نقبل نوحًا الذي ناهز ألف عامٍ على أقلّ تقديرٍ، ولا نقبل المهديّ؟!

 

المعجزة والعمر الطويل

وقد عرفنا -حتّى الآن- أنّ العمر الطويل ممكنٌ علميًّا. ولكن، لنفترض أنّه غيرُ ممكنٍ علميًّا، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانونٌ صارمٌ، لا يمكن للبشريّة اليوم، ولا على خطّها الطويل، أن تتغلّب عليه وتُغيّر من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان (كنوحٍ أو كالمهديّ) قرونًا متعدّدةً، هي على خلاف القوانين الطبيعيّة التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة، وبذلك تصبح هذه الحالةُ معجزةً عطّلَت قانونًا طبيعيًّا في

 

33

 


21

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

حالةٍ معيّنةٍ، للحفاظ على حياة الشخص الذي أُنيطَ به الحفاظُ على رسالة السماء. وليست هذه المعجزة فريدةً من نوعها، أو غريبةً على عقيدة المسلم المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامةً من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارةً إلى الجسم الأقلّ حرارةً حتّى يتساويان، وقد عُطِّلَ هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (عليه السلام)، حين كان الأسلوبُ الوحيدُ للحفاظ عليه، تعطيلَ ذلك القانون، فقيل للنار حين أُلقيَ فيها إبراهيم: ﴿قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ﴾[1].

فخرج منها، كما دخل، سليمًا لم يُصِبه أذًى، إلى كثيرٍ من القوانين الطبيعيّة التي عُطِّلَت لحماية أشخاصٍ من الأنبياء وحجج الله على الأرض، ففُلِقَ البحرُ لموسى، وشُبِّهَ للرومان أنّهم قبضوا على عيسى، ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبيّ محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) من داره، وهي محفوفةٌ بحشود قريشٍ، التي ظلّت ساعاتٍ تتربّص به لتهجم عليه، فستره الله –تعالى- عن عيونهم، وهو يمشي بينهم.

هذه الحالات كلّها تمثّل قوانين طبيعيّة عُطِّلَت لحماية شخصٍ، كانت الحكمة الربّانيّة تقتضي الحفاظ على حياته، فليكُنْ قانونُ الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.

وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهومٍ عامٍّ، وهو أنّه كلّما توقّف


 


[1] سورة الأنبياء، الآية 69.

 

34


22

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

الحفاظ على حياة حجّةٍ للهِ في الأرض على تعطيل قانونٍ طبيعيٍّ، وكانت إدامةُ حياة ذلك الشخص ضروريّةً لإنجاز مهمّته التي أُعِدَّ لها، تدخّلت العناية الربّانيّة في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك، وعلى العكس، إذا كان الشخص قد انتهت مهمّته التي أُعِدَّ لها ربّانيًّا، فإنّه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد، وفقًا لما تقرّره القوانين الطبيعيّة.

 

ونواجه عادةً، بمناسبة هذا المفهوم العامّ، السؤال الآتي:

كيف يمكن أن يتعطّل القانون؟ وكيف تنفصم العلاقة الضروريّة التي تقوم بين الظواهر الطبيعيّة؟ وهل هذه إلّا مناقَضةٌ للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعيّ، وحدّد هذه العلاقة الضروريّة على أسسٍ تجريبيّةٍ واستقرائيّةٍ؟

والجواب، إنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال، بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعيّ. وتوضيح ذلك، إنّ القوانين الطبيعيّة يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطّرد وقوع ظاهرةٍ طبيعيّةٍ عقيب ظاهرةٍ أخرى، يُستَدَلّ بهذا الاطّراد على قانونٍ طبيعيٍّ، وهو أنّه كلّما وُجِدَت الظاهرة الأولى، وُجِدَت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعيّ علاقةً ضروريّةً تبيّن الظاهرتين، نابعةً من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها؛ لأنّ الضرورة حالةٌ غيبيّةٌ، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائيّ والعلميّ إثباتها. ولهذا،

 

35

 


23

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

فإنّ منطق العلم الحديث، يؤكّد أنّ القانون الطبيعيّ -كما يعرّفه العلم- لا يتحدّث عن علاقةٍ ضروريّةٍ، بل عن اقترانٍ مستمرٍّ بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانونٍ طبيعيٍّ، لم يكن ذلك فصمًا لعلاقةٍ ضروريّةٍ بين الظاهرتين.

والحقيقة أنّ المعجزة -بمفهومها الدينيّ- قد أصبحت، في ضوء المنطق العلميّ الحديث، مفهومةً بدرجةٍ أكبر ممّا كانت عليه في ظلّ وجهة النظر الكلاسيكيّة إلى علاقات السببيّة؛ فقد كانت وجهة النظر القديمة، تفترض أنّ كلَّ ظاهرتين، اطّراد اقتران أحدهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقةٌ ضرورةٌ -والضرورة تعني أنّه من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى- ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران، أو التتابع المطّرد بين الظاهرتين، دون افتراض تلك الضرورة الغيبيّة.

وبهذا، تصبح المعجزة حالةً استثنائيّةً لهذا الاطّراد في الاقتران، أو التتابع، دون أن تصطدم بضرورةٍ، أو تؤدّي إلى استحالةٍ.

وأمّا على ضوء الأسس المنطقيّة للاستقراء، فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلميّة الحديثة، في أنّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنّا نرى أنّه يدلّ على وجود تفسيرٍ مشتركٍ لاطّراد التقارن، أو التعاقب، بين الظاهرتين باستمرارٍ. وهذا

 

36

 


24

المبحث الأوّل: كيف تأتّى للمهديّ هذا العمر الطويل؟

التفسير المشترك، كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتيّة، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمةٍ دعت منظِّم الكون إلى ربط ظواهر معيّنةٍ بظواهر أخرى باستمرارٍ، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحيانًا إلى الاستثناء، فتحدث المعجزة.

 

 

37


25

المبحث الثاني: لماذا هذا الحرص كلّه على إطالة عمره؟

ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول: لماذا هذا الحرص كلّه من الله -سبحانه وتعالى- على هذا الإنسان بالذات، فتُعَطَّل من أجله القوانين الطبيعيّة لإطالة عمره؟ ولماذا لا تُترَك قيادة اليوم الموعود لشخصٍ يتمخّض عنه المستقبل، وتُنضِجُه إرهاصات اليوم الموعود، فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر؟

وبكلمةٍ أخرى، ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة؟ وما المبرّر لها؟

وكثيرٌ من الناس يسألون هذا السؤال، وهم لا يريدون أن يسمعوا جوابًا غيبيًّا، فنحن نؤمن بأنّ الأئمّة الاثني عشر مجموعةٌ فريدةٌ لا يمكن التعويض عن أيّ واحدٍ منهم، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسيرٍ اجتماعيٍّ للموقف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعمليّة التغيير الكبرى نفسها، والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود.

وعلى هذا الأساس، نقتطع النظر -مؤقّتًا- عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين، ونطرح السؤال الآتي:

 

41


26

المبحث الثاني: لماذا هذا الحرص كلّه على إطالة عمره؟

إنّنا، بالنسبة إلى عمليّة التغيير المرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومةً على ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر، عاملًا من عواملِ إنجاحِها وتمكّنِه من ممارستِها وقيادتِها بدرجةٍ أكبر؟

 

ونجيب عن ذلك بالإيجاب؛ وذلك لأسبابٍ عدّةٍ، منها ما يأتي:

العمر الطويل، ودوره في إنجاح القائد

إنّ عمليّة التغيير الكبرى تتطلّب وضعًا نفسيًّا فريدًا في القائد الممارِس لها، مشحونًا بالشعور بالتفوّق، والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة، التي أُعِدَّ للقضاء عليها، ولتحويلها -حضاريًّا- إلى عالَمٍ جديدٍ. فبقدر ما يَعمُر قلب القائد المغيِّر من شعورٍ بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساسٍ واضحٍ بأنّها مجرّد نقطةٍ على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرةً من الناحية النفسيّة، على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدّها، حتّى النصر.

ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب، من هذا الشعور النفسيّ، يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يُراد القضاء عليه من حضارةٍ وكيانٍ؛ فكلّما كانت المواجهة لكيانٍ أكبر ولحضارةٍ أرسخ وأشمخ، تطلّبت زخمًا أكبر من هذا الشعور النفسيّ المفعم.

ولمّا كانت رسالة اليوم الموعود تغييرَ عالمٍ مليءٍ بالظلم والجور

 

 

42

 


27

المبحث الثاني: لماذا هذا الحرص كلّه على إطالة عمره؟

تغييرًا شاملًا، بقيمه الحضاريّة وكياناته المتنوّعة كلّها، فمن الطبيعيّ أن تفتّش هذه الرسالة عن شخصٍ أكبر في شعوره النفسيّ من ذلك العالَم كلّه، عن شخصٍ ليس من مواليد ذلك العالَم، الذين نشؤوا في ظلّ تلك الحضارة، التي يُراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحقّ؛ لأنّ من ينشأ في ظلّ حضارةٍ راسخةٍ، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها؛ لأنّه وُلِدَ وهي قائمةٌ، ونشأ صغيرًا وهي جبّارةٌ، وفتح عينيه على الدنيا، فلم يجد سوى أوجهها المختلفة. وخلافًا لذلك، شخصٌ يتوغّل في التاريخ، عاش الدنيا قبل أن تَرى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالَم، الواحدة تلو الأخرى، ثمّ تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه، ولم يقرأه في كتاب تاريخٍ، ثمّ رأى الحضارة التي يُقدّر لها أن تكوِّن الفصل الأخير من قصّة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذورٌ صغيرةٌ لا تكاد تتبيّن، ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشريّ، تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر، ثم عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتُصاب بالنكسة تارةً، ويحالفها التوفيق تارةً أخرى، ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر، بالتدريج، على مقدَّرات عالَمٍ بكامله، فإنّ شخصًا من هذا القبيل، عاش هذه المراحل كلّها بفطنةٍ وانتباهٍ كاملَين، ينظر إلى هذا العملاق -الذي يريد أن يصارعه- من زاوية ذلك الامتداد

 

43


28

المبحث الثاني: لماذا هذا الحرص كلّه على إطالة عمره؟

التاريخيّ الطويل، الذي عاشه بحسّه، لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه، لا بوصفه قدرًا محتومًا، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسّو) إلى الملكيّة في فرنسا؛ فقد جاء عنه أنّه كان يُرعبه مجرّد أن يتصوّر فرنسا بدون ملكٍ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار -فكريًّا وفلسفيًّا- إلى تطويرٍ بالوضع السياسيّ القائم وقتئذٍ؛ لأنّ (روسّو) هذا نشأ في ظلّ الملَكَيّة، وتنفّس هواءها طيلة حياته، وأمّا هذا الشخص المتوغّل في التاريخ، فلهب هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيانٍ وحضارةٍ، وليد يومٍ من أيّام التاريخ، تهيّأت له الأسباب، فوُجِد، وستتهيّأ الأسباب، فيزول، فلا يبقى منه شيءٌ، كما لم يكن يوجد منه شيءٌ بالأمس القريب أو البعيد، وإنّ الأعمار التاريخيّة للحضارات والكيانات -مهما طالت- فهي ليست إلا أيّامًا قصيرةً في عمر التاريخ الطويل.

هل قرأت سورة الكهف؟ وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدىً، وواجهوا كيانًا وثنيًّا حاكمًا، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أيّ بذرةٍ من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسُهم، ودبّ إليها اليأس، وسُدَّت منافذ الأمل أمام أعينهم، ولجؤوا إلى الكهف يطلبون من الله حلًّا لمشكلتهم، بعد أن أعيتهم الحلول، وكبر في نفوسهم أن يظلّ الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحقّ، ويصفّي كلّ من يخفق قلبه للحقّ؟ هل تعلم ماذا

 

 

44

 


29

المبحث الثاني: لماذا هذا الحرص كلّه على إطالة عمره؟

صنع الله -تعالى- بهم؟ إنّه أنامهم ثلاثمئة سنةٍ وتسع سنين في ذلك الكهف، ثمّ بعثهم من نومهم، ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان، الذي بهرهم بقوّته وظلمه، قد تداعى وسقط وأصبح تاريخًا لا يُرعِب أحدًا ولا يحرّك ساكنًا! ذلك كلّه؛ لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم، ويتصاغر الباطل في نفوسهم. ولئن تحقّقت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخمٍ وشموخٍ نفسيّين، من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمئة سنةٍ، فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظَر، من خلال عمره المديد، الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزمٌ، والشجرة الباسقة وهي بذرةٌ، والإعصار وهو مجرّد نسمةٍ.

 

الإعداد الفكريّ والقياديّ لليوم الموعود

أضف إلى ذلك، أنّ التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوّراتها، لها أثرٌ كبيرٌ في الإعداد الفكريّ وتعميق الخبرة القياديّة لليوم الموعود؛ لأنّها تضع الشخص المدّخر أمام ممارساتٍ كثيرةٍ للآخرين، بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوّة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرةً أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعيّة، بالوعي الكامل

 

45


30

المبحث الثاني: لماذا هذا الحرص كلّه على إطالة عمره؟

على أسبابها، وملابساتها التاريخيّة كلّها.

ثمّ إنّ عمليّة التغيير المدّخرة للقائد المنتظر، تقوم على أساس رسالةٍ معيّنةٍ، هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعيّ أن تتطلّب العمليّة، في هذه الحالة، قائدًا قريبًا من مصادر الإسلام الأولى، قد بُنِيَت شخصيّته بناءً كاملًا بصورةٍ مستقلّةٍ ومنفصلةٍ عن مؤثّرات الحضارة، التي يُقَدَّر لليوم الموعود أن يحاربها، وخلافًا لذلك الشخص الذي يُولَد وينشأ في كنف هذه الحضارة، وتتفتّح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنّه لا يتخلّص -غالبًا- من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغييرٍ ضدّها، فلكي يُضمَن عدم تأثّر القائد المدّخر بالحضارة التي أُعِدَّ لاستبدالها؛ لا بدّ أن تكون شخصيّته قد بُنِيَت بناءً كاملًا في مرحلةٍ حضاريّةٍ سابقةٍ، هي أقرب ما تكون في الروح العامّة، ومن ناحية المبدأ، إلى الحالة الحضاريّة التي يتّجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.

 

46


31

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

ونأتي الآن إلى السؤال الثالث القائل: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر، مع أنّه لم يعاصِر أباه الإمام العسكريّ إلّا خمس سنواتٍ تقريبًا؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصيّة القائد، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها؟

 

ظاهرة الإمامة المبكرة في حياة أهل البيت (عجل الله تعالى فرجه)

والجواب، إنّ المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) خلف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنّه كان إمامًا بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكريٍّ وروحيٍّ، في وقتٍ مبكرٍ جدًّا من حياته الشريفة.

والإمامة المبكرة ظاهرة سبقه إليها عددٌ من آبائه (عليهم السلام)؛ فالإمام محمّد بن عليٍّ الجواد (عليه السلام) تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره، والإمام عليّ بن محمّدٍ الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره، والإمام أبو محمّدٍ الحسن العسكريّ -والد القائد المنتظر- تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره! ويلاحَظ أنّ

 

 

49


32

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، والإمام الجواد (عليه السلام)، ونحن نسمّيها ظاهرةً؛ لأنّها كانت، بالنسبة إلى عددٍ من آباء المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، تشكّل مدلولًا حسّيًّا عمليًّا، عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام، بشكلٍ وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثباتٍ لظاهرةٍ من الظواهر، أوضح وأقوى من تجربة أمّةٍ.

 

ونوضح ذلك ضمن النقاط الآتية:

أ ـ لم تكن إمامة الإمام، من أهل البيت، مركزًا من مراكز السلطان والنفوذ، التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن، ويدعمها النظام الحاكم، كإمامة الخلفاء الفاطميّين، وخلافة الخلفاء العبّاسيّين، وإنّما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبيّة والواسعة عن طريق التغلغل الروحيّ والإقناع الفكريّ لتلك القواعد بجدارةِ هذه الإمامةِ لزعامةِ الإسلام وقيادته على أُسُسٍ روحيّةٍ وفكريّةٍ.

ب ـ إنّ هذه القواعد الشعبيّة بُنِيَت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامَين الباقر والصادق L، وأصبحت المدرسة، التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد، تشكّل تيّارًا فكريًّا واسعًا، في العالَم الإسلاميّ، يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والعلماء، في مختلف ضروب المعرفة الإسلاميّة والبشريّة المعروفة وقتئذٍ، حتّى قال الحسن بن عليٍّ الوشا: «إنّي دخلت مسجد

 

50


33

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

ظاهرة الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، والإمام الجواد (عليه السلام)، ونحن نسمّيها ظاهرةً؛ لأنّها كانت، بالنسبة إلى عددٍ من آباء المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، تشكّل مدلولًا حسّيًّا عمليًّا، عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام، بشكلٍ وآخر، ولا يمكن أن نطالب بإثباتٍ لظاهرةٍ من الظواهر، أوضح وأقوى من تجربة أمّةٍ.

 

ونوضح ذلك ضمن النقاط الآتية:

أ ـ لم تكن إمامة الإمام، من أهل البيت، مركزًا من مراكز السلطان والنفوذ، التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن، ويدعمها النظام الحاكم، كإمامة الخلفاء الفاطميّين، وخلافة الخلفاء العبّاسيّين، وإنّما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبيّة والواسعة عن طريق التغلغل الروحيّ والإقناع الفكريّ لتلك القواعد بجدارةِ هذه الإمامةِ لزعامةِ الإسلام وقيادته على أُسُسٍ روحيّةٍ وفكريّةٍ.

ب ـ إنّ هذه القواعد الشعبيّة بُنِيَت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامَين الباقر والصادق L، وأصبحت المدرسة، التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد، تشكّل تيّارًا فكريًّا واسعًا، في العالَم الإسلاميّ، يضمّ المئات من الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والعلماء، في مختلف ضروب المعرفة الإسلاميّة والبشريّة المعروفة وقتئذٍ، حتّى قال الحسن بن عليٍّ الوشا: «إنّي دخلت مسجد

 

50


34

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

الكوفة، فرأيت فيه تسعمئة شيخٍ، كلُّهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمّدٍ!».

ج ـ إنّ الشروط، التي كانت هذه المدرسة، وما تمثّله من قواعد شعبيّةٍ في المجتمع الإسلاميّ، تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة، شروطٌ شديدةٌ؛ لأنّها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إمامًا، إلّا إذا كان أعلم علماء عصره.

د ـ إنّ المدرسة وقواعدها الشعبيّة كانت تُقدِّم تضحياتٍ كبيرةً في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة؛ لأنّها كانت، في نظر الخلافة المعاصرة لها، تشكّل خطًّا عدائيًّا، ولو من الناحية الفكريّة على الأقلّ، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذٍ، وباستمرارٍ تقريبًا، بحملاتٍ من التصفية والتعذيب، فقُتِل مَن قُتِل، وسُجِن مَن سُجِن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات؛ وهذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غاليًا، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقِد أو يفترضه من التقرّب إلى الله -تعالى- والزلفى عنده.

هـ ـ إنّ الأئمّة (عليهم السلام)، الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة، لم يكونوا معزولين عنها، ولا متقوقعين في بروجٍ عاليةٍ -شأن السلاطين مع شعوبهم- ولم يكونوا يحتَجِبون عنهم، إلّا أن

 

51

 


35

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

تحجبهم السلطة الحاكمة بسجنٍ أو نفيٍ. وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدِّثين عن كلّ واحدٍ من الأئمّة الأحد عشر، ومن خلال ما نُقِلَ من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصِريه، وما كان الإمام يقوم به من أسفارٍ من ناحيةٍ، وما كان يبثّه من وكلاء في أنحاء العالَم الإسلاميّ المختلفة من ناحيةٍ أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمّتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة، عندما يَؤُمّون الديار المقدّسة من كلّ مكانٍ لأداء فريضة الحجّ. ذلك كلّه يفرض تفاعلًا مستمرًّا، بدرجةٍ واضحةٍ، بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالَم الإسلاميّ، بمختلف طبقاتها، من العلماء وغيرهم.

و ـ إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة (عليهم السلام) كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحيّة والإماميّة بوصفها مصدر خطرٍ كبيرٍ على كيانها ومقدّراتها. وعلى هذا الأساس، بذلت جهودها كلّها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيرًا من السلبيات، وظهرت -أحيانًا- بمظاهر القسوة والطغيان، حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّةً للأئمّة أنفسهم، على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعورٍ بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين، وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.

 

52

 


36

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

إذا أخذنا هذه النقاط الستّ بعين الاعتبار -وهي حقائق تاريخيّةٌ لا تقبل الشكّ- أمكن أن نخرج بنتيجةٍ، وهي: إنّ ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرةً واقعيّةً، ولم تكن وهمًا من الأوهام؛ لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغيرٌ، فيعلن عن نفسه إمامًا روحيًّا وفكريًّا للمسلمين، ويَدين له بالولاء والإمامة ذلك التيّارُ الواسعُ كلّه، لا بدّ أن يكون على قدرٍ واضحٍ وملحوظٍ، بل وكبيرٍ، من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد؛ لأنّه لو لم يكن كذلك، لَمَا أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبيّة بإمامته، مع ما تقدّم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تُسلَّط على حياتهم وموازين شخصيّتهم.

فهل ترى أنّ صبيًّا يدعو إلى إمامة نفسه وينصِّب منها عَلَمًا للإسلام، وهو على مرأىً ومسمعٍ من جماهير قواعده الشعبيّة، فتؤمن به، وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها، بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقييم هذا الصبيّ الإمام؟! وَهَبْ أنّ الناس لم يتحرّكوا لاستطلاع الموقف، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّامًا وشهورًا، بل أعوامًا، دون أن تتكشف الحقيقة، على الرغم من التفاعل الطبيعيّ

 

 

53


37

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبيًّا في فكره وعلمه حقًّا، ثم لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟!

وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبيّة لإمامة أهل البيت لم يُتَح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة، إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة، لو كان الإمام الصبيّ صبيًّا في فكره وثقافته، كما هو المعهود في الصبيان! وما كان أنجحه من أسلوبٍ أن تقدّم هذا الصبيّ إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحيّة والفكريّة! فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخصٍ في الأربعين أو الخمسين، قد أحاط بقدرٍ كبيرٍ من ثقافة عصره، لِتَسلّم الإمامة، فليس هناك صعوبةٌ في الإقناع بعدم كفاءة صبيٍّ اعتياديٍّ -مهما كان ذكيًّا وفطنًا- للإمامة، بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميّون، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.

إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة، هو أنّها أدركت أنّ الإمامة المبكرة ظاهرةٌ حقيقيّةٌ، وليست شيئًا مصطنعًا.

والحقيقة أنّها أدركت ذلك بالفعل، بعد أن حاولت أن تلعب

 

54

 


38

المبحث الرابع: كيف نؤمن بأنّ المهديّ قد وُجِد؟

بتلك الورقة، فلم تستطع، والتأريخ يحدّثنا عن محاولاتٍ من هذا القبيل وفشلها، بينما لم يحدّثنا إطلاقًا عن موقفٍ تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة، أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجًا يفوق قدرته، أو يزعزع ثقة الناس فيه.

 

وهذا معنى ما قلناه من أنّ الإمامة المبكرة ظاهرةٌ واقعيّةٌ في حياة أهل البيت، وليست مجرّد افتراضٍ.

 

الإمامة المبكِرة في رسالات السماء

كما إنّ هذه الظاهرة الواقعيّة لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء، الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانيّة، ويكفي مثالًا لظاهرة الإمامة المبكرة في التراث الربّانيّ لأهل البيت (عليهم السلام)، يحيى (عليه السلام)، إذ قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّة وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيّا﴾[1].

ومتى ثبت أنّ الإمامة المبكرة ظاهرةٌ واقعيّةٌ ومتواجدةٌ فعلًا في حياة أهل البيت (عليهم السلام)، لم يعد هناك اعتراضٌ فيما يخصّ إمامة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وخلافته لأبيه وهو صغيرٌ.


 


[1] سورة مريم، الآية 12.

 

55


39

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

ونصل الآن إلى السؤال الرابع، وهو يقول: هَبْ أنّ فرضيّة القائد المنتظر ممكنةٌ بكلّ ما تستبطنه من عمرٍ طويلٍ وإمامةٍ مبكرةٍ وغيبةٍ صامتةٍ، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلًا، فكيف نؤمن فعلًا بوجود المهديّ؟

 

وهل تكفي بضع رواياتٍ تُنقَل في بطون الكتب، عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر، على الرغم ممّا في هذا الافتراض من غرابةٍ وخروجٍ عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن نثبت أن للمهديّ وجودًا تاريخيًّا حقًّا، وليس مجرّد افتراضٍ توفّرت ظروفٌ نفسيّةٌ لتثبيته في نفوس عددٍ كبيرٍ من الناس؟

 

تضافر الروايات على فكرة المهديّ

والجواب، إنّ فكرة المهديّ -بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالَم إلى الأفضل- قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عمومًا، وفي

 

59


40

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

روايات أئمّة أهل البيت خصوصًا، وأُكِّدت في نصوصٍ كثيرةٍ بدرجةٍ لا يمكن أن يرقى إليها الشكّ، وقد أُحصِيَ أربعمئة حديثٍ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، من طرق إخواننا أهل السنّة، كما أُحصِيَ مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهديّ من طرق الشيعة والسنّة، فكان أكثر من ستّة آلاف روايةٍ، وهذا رقمٌ إحصائيٌّ كبيرٌ لا يتوفّر نظيره في كثيرٍ من قضايا الإسلام البديهيّة، التي لا يشكّ فيها مسلمٌ عادةً.

 

الدليل على تجسيد الفكرة في الإمام الثاني عشر

وأمّا تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر (عجل الله تعالى فرجه)، فهذا ما توجد مبرّراتٌ كافيةٌ وواضحةٌ للاقتناع به.

ويمكن تلخيص هذه المبرّرات في دليلين؛ أحدهما إسلاميٌّ، والآخر علميٌّ.

فبالدليل الإسلاميّ، نثبت وجود القائد المنتظر، وبالدليل العلميّ، نبرهن على أنّ المهديّ ليس مجرّد أسطورةٍ وافتراضٍ، بل هو حقيقةٌ ثبت وجودها بالتجربة التاريخيّة.

أمّا الدليل الإسلاميّ، فيتمثّل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تدلّ على تعيين المهديّ، وكونه من أهل البيت، ومن وُلدِ فاطمة، ومن ذرّيّة الحسين، وأنّه التاسع من وُلدِ الحسين، وأنّ الخلفاء اثنا عشر. فإنّ

 

60

 


41

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

هذه الروايات تحدّد تلك الفكرة العامّة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت، وهي رواياتٌ بلغت درجةً كبيرةً من الكثرة والانتشار، على الرغم من تحفّظ الأئمّة (عليهم السلام) واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العامّ، وقايةً للخلَف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته.

وليست الكثرة العدديّة للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها، بل هناك -إضافةً إلى ذلك- مزايا وقرائن تبرهن على صحّتها؛ فالحديث النبويّ الشريف عن الأئمّة أو الخلفاء أو الأمراء بعده، وأنّهم اثني عشر إمامًا أو خليفةً أو أميرًا -على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة- قد أحصى بعض المؤلّفين رواياته، فبلغت أكثر من مئتين وسبعين روايةً مأخوذةً من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة، بما في ذلك البخاريّ ومسلمٍ والترمذيّ وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين. ويُلاحَظ هنا، أنّ البخاريّ الذي نقل هذا الحديث، كان معاصرًا للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكريّ، وفي ذلك مغزىً كبيرٌ؛ لأنّه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سُجِّل عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قبل أن يتحقّق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمّة الاثني عشر فعلًا. وهذا يعني أنّه لا يوجد أيّ مجالٍ للشكّ في أن يكون نقل الحديث متأثّرًا بالواقع الإماميّ الاثني عشريّ، وانعكاسًا له؛ لأنّ الأحاديث المزيّفة، التي تُنسَب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)،

 

61

 


42

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

وهي انعكاساتٌ أو تبريراتٌ لواقعٍ متأخّرٍ زمنيًّا، لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكّل انعكاسًا له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادّيّ على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخيّ للأئمّة الاثني عشر، وضُبِطَ في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإماميّ الاثني عشريّ، أمكننا أن نتأكّد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاسًا لواقعٍ، وإنّما هو تعبيرٌ عن حقيقةٍ ربّانيّةٍ نطق بها من لا ينطق عن هوىً، فقال: «إنّ الخلفاء بعدياثني عشر».

وجاء الواقع الإماميّ الاثني عشريّ، ابتداءً من الإمام عليٍّ وانتهاءً بالمهديّ، ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبويّ الشريف.

وأمّا الدليل العلميّ، فهو يتكوّن من تجربةٍ عاشتها أمّةٌ من الناس فترةً امتدّت سبعين سنةً تقريبًا، وهي فترة الغيبة الصغرى.

ولتوضيح ذلك، نمهّد بإعطاء فكرةٍ موجزةٍ عن الغيبة الصغرى.

إنّ الغيبة الصغرى تعبّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، فقد قُدِّرَ لهذا الإمام، منذ تسلّمه للإمامة، أن يستتر عن المسرح العامّ، ويظلّ بعيدًا باسمه عن الأحداث، وإن كان قريبًا منها بقلبه وعقله. وقد لوحِظَ أنّ هذه الغيبة، إذا جاءت مفاجئةً، حقّقت صدمةً كبيرةً للقواعد الشعبيّة للإمامة في الأمّة الإسلاميّة؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادةً على الاتّصال بالإمام في كلّ عصرٍ،

 

62

 


43

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

والتفاعل معه، والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأةً، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحيّة والفكريّة، سبّبت هذه الغيبةُ المفاجئةُ الإحساسَ بفراغٍ دفعيٍّ هائلٍ قد يعصف بالكيان كلّه ويشتّت شمله، فكان لا بدّ من تمهيدٍ لهذه الغيبة؛ لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتُكيِّف نفسها شيئًا فشيئًا على أساسها. وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى، التي اختفى فيها الإمام المهديّ عن المسرح العامّ، غير أنّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته، عن طريق وكلائه ونوّابه والثقاة من أصحابه، الذين يشكّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه الإماميّ.

وقد أشغل مركز النيابة عن الإمام، في هذه الفترة، أربعةٌ ممّن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها، وهم كما يلي:

1 ـ عثمان بن سعيدٍ العمريّ.

2 ـ محمّد بن عثمان بن سعيدٍ العمريّ.

3 ـ أبو القاسم الحسين بن روحٍ.

4 ـ أبو الحسن عليّ بن محمّدٍ السمريّ.

وقد مارس هؤلاء الأربعة مهامّ النيابة بالترتيب المذكور. وكلّما مات أحدُهم، خلفه الآخر الذي يليه، بتعيينٍ من الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).

وكان النائب يتّصل بالشيعة، ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض

 

 

63

 


44

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته، شفهيّةً أحيانًا، وتحريريّةً في كثيرٍ من الأحيان. وقد وجدت الجماهير، التي فقدت رؤية إمامها، العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتّصالات غير المباشرة، ولاحظت أنّ التوقيعات والرسائل كانت تُرَدّ، من الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، بخطٍّ واحدٍ وسليقةٍ واحدةٍ طيلة نيابة النوّاب الأربعة، التي استمرّت حوالي سبعين عامًا. وكان السمريّ هو آخر النوّاب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى، التي تتميّز بنوّابٍ معيّنين، وابتداء الغيبة الكبرى، التي لا يوجد فيها أشخاصٌ معيّنون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة. وقد عبّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها، وانتهاء مهمّتها؛ لأنّها حصّنت الشيعة -بهذه العمليّة التدريجيّة- عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبّل فكرة النيابة العامّة عن الإمام. وبهذا، تحوّلت النيابة من أفرادٍ منصوصين، إلى خطٍّ عامٍّ، وهو خطّ المجتهِد العادل البصير بأمور الدنيا والدين، تبعًا لتحوّل الغيبة الصغرى إلى غيبةٍ كبرى.

والآن، بإمكانك أن تقدّر الموقف، في ضوء ما تقدّم؛ لكي تدرك -بوضوحٍ- أنّ المهديّ حقيقةٌ عاشتها أمّةٌ من الناس، وعبّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عامًا، من خلال تعاملهم مع الآخرين،

 

64


45

المبحث الثالث: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟

ولم يلحظ عليهم أحدٌ -هذه المدّة كلّها- تلاعبًا في الكلام أو تحايلًا في التصرّف أو تهافتًا في النقل.

فهل تتصوّر -بربّك- أنّ بإمكان أكذوبةٍ أن تعيش سبعين عامًا، ويمارسها أربعةٌ على سبيل الترتيب، كلّهم يتّفقون عليها، ويظلّون يتعاملون على أساسها، وكأنّها قضيّةٌ يعيشونها بأنفسهم، ويرونها بأعينهم، دون أن يبدر منهم أيّ شيءٍ يثير الشكّ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقةٌ خاصّةٌ متميّزةٌ تتيح لهم نحوًا من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعيّةٍ ثقة الجميع وإيمانهم بواقعيّة القضيّة التي يدّعون أنّهم يحسّونها ويعيشون معها؟!

لقد قيل قديمًا: إنّ حبل الكذب قصيرٌ. ومنطق الحياة يُثبِت، أيضًا، أنّه من المستحيل -عمليًّا بحساب الاحتمالات- أن تعيش أكذوبةٌ بهذا الشكل، ولهذه المدّة كلّها، وضمن تلك العلاقات كلّها والأخذ والعطاء كلّه، ثم تكسب ثقة جميع من حولها.

وهكذا، نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تُعتَبر بمثابة تجربةٍ علميّةٍ، لإثبات ما لها من واقعٍ موضوعيٍّ، والتسليم بالإمام القائد، بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العامّ عن الغيبة الكبرى، التي استتر بموجبها عن المسرح، ولم يكشف نفسه لأحد.

 

 

65


46

المبحث الخامس: لماذا لم يظهر القائد إذًا؟

لماذا لم يظهر القائد إذًا، طيلة هذه المدّة؟ وإذا كان قد أَعَدَّ نفسه للعمل الاجتماعيّ، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى أو في أعقابها، بدلًا عن تحويلها إلى غيبةٍ كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعيّ والتغييريّ، وقتئذٍ، أبسط وأيسر، وكانت صِلتُه الفعليّة بالناس، من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى، تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بدايةً قويّةً، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوّة التي بلغتها الإنسانيّة بعد ذلك، من خلال التطوّر العلميّ والصناعيّ؟

 

الظروف الموضوعيّة، وأثرها في عمليّات التغيير الاجتماعيّ

والجواب، إنّ كلّ عمليّة تغييرٍ اجتماعيٍّ يرتبط نجاحها بشروطٍ وظروفٍ موضوعيّةٍ لا يتأتّى لها أن تُحقِّق هدفها، إلّا عندما تتوفّر تلك الشروط والظروف.

 

 

69


47

المبحث الخامس: لماذا لم يظهر القائد إذًا؟

وتتميّز عمليّات التغيير الاجتماعيّ، التي تفجّرها السماء على الأرض، بأنّها لا ترتبط، في جانبها الرساليّ، بالظروف الموضوعيّة؛ لأنّ الرسالة التي تعتمدها عمليّة التغيير هنا، ربانيّةٌ ومن صنع السماء، لا من صنع الظروف الموضوعيّة، ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف.

ومن أجل ذلك، انتظرت السماءُ مرور خمسة قرونٍ من الجاهليّة، حتّى أنزلت آخر رسالاتها، على يد النبيّ محمّدٍ (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعيّة للتنفيذ، كان يفرض تأخّرها، على الرغم من حاجة العالَم إليها منذ فترةٍ طويلةٍ قبل ذلك.

والظروف الموضوعيّة، التي لها أثرٌ في الجانب التنفيذيّ من عمليّة التغيير، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجوّ العامّ للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلّبها حركة التغيير، من خلال منعطفاتها التفصيليّة.

فبالنسبة إلى عمليّة التغيير التي قادها -مثلًا- لينين في روسيا بنجاحٍ، كانت ترتبط بعاملٍ من قبيل قيام الحرب العالَميّة الأولى، وتَضَعْضُعِ القيصريّة، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعمليّة التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئيّةٍ ومحدودةٍ، من قبيل سلامة لينين -مثلًا- في سفره الذي تسلّل فيه إلى داخل روسيا، وقاد الثورة؛ إذ لو كان قد اتّفق له أيُّ حادثٍ يعيقه، لكان من

 

70

 


48

المبحث الخامس: لماذا لم يظهر القائد إذًا؟

المحتمل أن تفقد الثورةُ، بذلك، قدرتَها على الظهور السريع على المسرح.

وقد جرت سنّة الله -تعالى- التي لا تجد لها تحويلًا، في عمليّات التغيير الربّانيّ، على التقيّد، من الناحية التنفيذيّة، بالظروف الموضوعيّة، التي تحقّق المناخ المناسب والجوّ العامّ لإنجاح عمليّة التغيير. ومن هنا، لم يأتِ الإسلام إلّا بعد فترةٍ من الرُسل، وإفراغٍ مريرٍ استمرّ قرونًا من الزمن.

فعلى الرغم من قدرة الله -سبحانه وتعالى- على تذليل العقبات والصعاب كلّها في وجه الرسالة الربّانيّة، وخلق المناخ المناسب لها خلقًا بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب؛ لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان، يفرض على العمل التغييري الربّانيّ أن يكون طبيعيًّا وموضوعيًّا من هذه الناحية. وهذا لا يمنع من تدخّل الله -سبحانه وتعالى-، أحيانًا، فيما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تكوِّن المناخ المناسب، وإنّما قد يتطلّبها، أحيانًا، التحرّك ضمن ذلك المناخ المناسب. ومن ذلك، الإمداداتُ والعناياتُ الغيبيّةُ التي يمنحها الله -تعالى- لأوليائه في لحظاتٍ حرجةٍ، فيحمي بها الرسالة؛ وإذا بنار نمرودٍ تصبح بَردًا وسلامًا على إبراهيم، وإذا بيد اليهوديّ الغادِر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبيّ (صلى الله عليه وآله) تُشَلّ وتفقد قدرتها على الحركة، وإذا بعاصفةٍ قويّةٍ تجتاح مخيّمات 

 

 

71


49

المبحث الخامس: لماذا لم يظهر القائد إذًا؟

الكفّار والمشركين، الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق، وتبعث في نفوسهم الرعب. إلّا إنّ هذا كلّه لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظاتٍ حاسمةٍ، بعد أن كان الجوّ المناسب والمناخ الملائم لعمليّة التغيير، على العموم، قد تكوّن بالصورة الطبيعيّة، ووفقًا للظروف الموضوعيّة.

موقف الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) من الظروف الموضوعيّة

وعلى هذا الضوء، ندرس موقف الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، لنجد أنّ عمليّة التغيير، التي أُعِدَّ لها، ترتبط من الناحية التنفيذيّة -كأيّ عمليّةِ تغييرٍ اجتماعيٍّ أخرى- بظروفٍ موضوعيّةٍ تساهم في توفير المناخ الملائم لها. ومن هنا، كان من الطبيعيّ أن تُوَقَّت وفقًا لذلك.

ومن المعلوم أنّ المهديّ لم يكن قد أعدّ نفسه لعملٍ اجتماعيٍّ محدودٍ، ولا لعمليّةِ تغييرٍ تقتصر على هذا الجزء من العالَم أو ذاك؛ لأنّ رسالته، التي ادُّخِر لها من قِبَلِ الله -سبحانه وتعالى-، هي تغييرُ العالَم تغييرًا شاملًا، وإخراج البشريّة، كلّ البشريّة، من ظلمات الجور إلى نور العدل. وعمليّة التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرّد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلّا لتمّت شروطُها في عصر النبوّة بالذات، وإنّما تتطلّب مناخًا عالَميًّا مناسِبًا، وجوًّا عامًّا مساعِدًا، يحقّق الظروف الموضوعيّة المطلوبة لعمليّة التغيير العالَميّة.

 

 

72

 


50

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

فمن الناحية البشريّة، يُعتبَر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملًا أساسيًّا في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكوّن ويترسّخ من خلال التجارب الحضاريّة المتنوّعة، التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلًا بسلبيّاتِ ما بنى، مُدرِكًا حاجته إلى العون، متلفّتًا بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.

ومن الناحية المادّيّة، يمكن أن تكون شروط الحياة المادّيّة الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة، في عصرٍ كعصر الغيبة الصغرى، على إنجاز الرسالة على صعيد العالَم كلّه، وذلك بما تحقّقه من تقريبِ المسافات، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهازٌ مركزيٌّ لممارسة توعيةٍ لشعوب العالَم، وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.

وأمّا ما أُشيرَ إليه في السؤال، من تنامي القوى والإرادة العسكريّة التي يواجهها القائد في اليوم الموعود كلّما أجَّل ظهوره، فهذا صحيحٌ. ولكن، ماذا ينفع نموّ الشكل المادّيّ للقوّة، مع الهزيمة النفسيّة من الداخل، وانهيار البناء الروحيّ للإنسان الذي يملك تلك القوى والأدوات كلّها؟ وكم من مرّةٍ، في التاريخ، انهار بناءٌ حضاريٌّ شامخٌ بأوّل لمسةٍ غازِيَةٍ؛ لأنّه كان منهارًا قبل ذلك، وفاقدًا الثقةَ بوجوده، والقناعةَ بكيانه، والاطمئنانَ إلى واقعه؟

 

 

73


51

المبحث الخامس: لماذا لم يظهر القائد إذًا؟

ونأتي إلى سؤالٍ آخر في تسلسل الأسئلة المتقدّمة، وهو السؤال الذي يقول: هل للفرد، مهما كان عظيمًا، القدرةُ على إنجاز هذا الدور العظيم؟ وهل الفرد العظيم إلّا ذلك الإنسان الذي تُرشّحه الظروف ليكون واجهةً لها في تحقيق حركتها؟

والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظرٍ معيّنةٍ للتاريخ، تفسّره على أساس أنّ الإنسان عاملٌ ثانويٌّ فيه، والقوى الموضوعيّة المحيطة به هي العامل الأساسيّ. وفي إطار ذلك، لن يكون الفرد، في أفضل الأحوال، إلّا التعبير الذكيّ عن اتّجاه هذا العامل الأساسيّ.

ونحن قد أوضحنا في مواضع أخرى من كتبنا المطبوعة، أنّ التاريخ يحتوي على قطبين؛ أحدهما الإنسان، والآخر القوى المادّيّة المحيطة به.

وكما تؤثِّر القوى الماديّة وظروفُ الإنتاج والطبيعةُ في الإنسان، يؤثّر الإنسان أيضًا فيما حوله من قوىً وظروفٍ، ولا يوجد مبرّرٌ

 

77


52

المبحث السادس: هل للفرد هذا الدور كلّه؟

لافتراض أنّ الحركة تبتدئ من المادّة وتنتهي بالإنسان، إلّا بقدر ما يوجد مبرّرٌ لافتراض العكس؛ فالإنسان والمادّة يتفاعلان على مرّ الزمن، وفي هذا الإطار، بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببّغاءٍ في تيّار التاريخ، وبخاصّةٍ حين نُدخِل في الحساب عاملَ الصلة بين هذا الفرد والسماء؛ فإنّ هذه الصلة تدخل، حينئذٍ، كقوّةٍ موجِّهةٍ لحركة التاريخ. وهذا ما تحقّق في تاريخ النبوّات، وفي تاريخ النبوّة الخاتمة بوجهٍ خاصٍّ، فإنّ النبيّ محمّدًا (صلى الله عليه وآله)، بحكم صلته الرساليّة بالسماء، تسلّم بنفسه زمام الحركة التاريخيّة، وأنشأ مدًّا حضاريًّا لم يكن بإمكان الظروف الموضوعيّة، التي كانت تحيط به، أن تتمخّض عنه بحالٍ من الأحوال، كما أوضحنا ذلك في المقدّمة الثانية للفتاوى الواضحة.

وما أمكن أن يقع على يد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، يمكن أن يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته، الذي بَشَّر به ونَوَّه عن دوره العظيم.

 

78

 


53

المبحث السادس: هل للفرد هذا الدور كلّه؟

ونصل في النهاية إلى السؤال الأخير من الأسئلة التي عرضناها، وهو السؤال عن الطريقة التي يمكن أن نتصوّر من خلالها ما سيتمّ على يد ذلك الفرد، من انتصارٍ حاسمٍ للعدل، وقضاءٍ على كياناتِ الظلم المواجهةِ له؟

والجواب المحدّد على هذا السؤال، يرتبط بمعرفة الوقت والمرحلة التي يُقَدَّر للإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) أن يظهر فيها على المسرح، وإمكانِ افتراض ما تتميّز به تلك المرحلة من خصائص وملابساتٍ؛ لكي تُرسَم في ضوء ذلك الصورةُ التي قد تتّخذها عمليّة التغيير، والمسار الذي قد تتحرّك ضمنه. وما دمنا نجهل المرحلة، ولا نعرف شيئًا عن ملابساتها وظروفها، فلا يمكن التنبّؤ العلميّ بما سيقع في اليوم الموعود، وإن أمكنت الافتراضات والتصوّرات، التي تقوم في الغالب على أساسٍ ذهنيٍّ، لا على أُسُسٍ واقعيّةٍ عينيّةٍ.

 

81


54

المبحث السابع: ما هي طريقة التغيير في اليوم الموعود؟

وهناك افتراضٌ أساسيُّ واحدٌ بالإمكان قبوله، على ضوء الأحاديث التي تحدّثَت عنه، والتجارب التي لوحظت لعمليّات التغيير الكبرى في التاريخ، وهو افتراض ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) في أعقاب فراغٍ كبيرٍ يحدث نتيجة نكسةٍ وأزمةٍ حضاريّةٍ خانقةٍ.

وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتدّ، وهذه النكسةُ تهيّئ الجوّ النفسيّ لقبولها. وليست هذه النكسةُ مجرَّد حادثةٍ تقع صدفةً في تاريخ الحضارة الإنسانيّة، وإنّما هي نتيجةٌ طبيعيّةٌ لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله -سبحانه وتعالى-، التي لا تجد لها في نهاية المطاف حلًّا حاسمًا، فتشتغل النار التي لا تُبقي ولا تذر، ويبرز النور في تلك اللحظة؛ لِيُطفِئ النار ويقيم على الأرض عدل السماء.

والحمد لله ربّ العالَمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

 

82


55

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

الشيعة وعقيدة المهدويّة

إنّ أصل المهدويّة هو محلّ اتّفاق المسلمين جميعًا. وفي عقائد الأديان الأخرى، يوجد أيضًا انتظارُ المنجي في نهاية الزمان. فقد فهموا هذا المطلب أيضًا بنحوٍ صحيحٍ، في بُعدٍ من أبعاد القضيّة، ولكن في البُعد الأساس المتعلّق بتحديد ومعرفة الشخص المُنجي، ابتُلُوا بنقص المعرفة. والشيعة يعرفون المُنجيَ بالاسم والعلامة والخصائص وتاريخ الولادة، من خلال الأخبار المسلّمة والقطعيّة عندهم.

 

(20/09/2005)

إنّ خصوصيّة اعتقادنا، نحن الشّيعة، هي أنّنا قد بدّلنا هذه الحقيقة في مذهب التشيّع، من حالةِ الأُمنيّة والأمر الذهنيّ المحض، إلى حالةٍ واقعيّةٍ موجودةٍ. الحقيقة هي أنّ الشّيعة، عندما ينتظرون المهديّ الموعود، فإنّهم ينتظرون اليد المُنجية تلك، ولا يغرقون في عالَم العقليّات، بل يبحثون عن الواقعيّة، وهي موجودةٌ. وحجّة الله حيٌّ بين النّاس، وموجودٌ، ويعيش

 

87


56

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

فيما بينهم، ويرى الناس، وهو معهم، ويشعر بآلامهم وأسقامهم، وأصحاب السعادة والاستعداد يزورونه في بعض الأحيان بصورةٍ خفيّةٍ. إنّه موجودٌ. هو إنسانٌ واقعيٌّ مشخّصٌ باسمٍ معيّنٍ، له أبٌ وأمٌّ محدّدان، وهو بين الناس، ويعيش معهم. هذه هي خصوصيّة عقيدتنا نحن الشّيعة.

أولئك الذين لا يقبلون هذه العقيدة من المذاهب الأخرى، لم يتمكّنوا، في أيّ وقتٍ، من إقامة أيّ دليلٍ يقبل به العقل، لردّ هذه الفكرة وهذه الحقيقة.

فالأدلّة الواضحة والراسخة جميعها، التي يُصدّقها الكثير من أهل السنّة أيضًا، تحكي بصورةٍ قاطعةٍ ويقينيّةٍ عن وجود هذا الإنسان العظيم؛ فهو حجّة الله، وهو الحقيقة الواضحة والساطعة، بتلك الخصائص التي نعرفها -أنا وأنتم-، وأنتم تشاهدون هذه الأمور في العديد من المصادر غير الشيعيّة.

فتاريخ ولادة الاِبن المبارك والمطهّر للإمام الحسن العسكريّ (عجل الله تعالى فرجه) معروفٌ، وكذلك والداه وأصحابه ومعجزاته، وقد منحه الله عمرًا طويلًا، وما زال. وهو تجسيدٌ لتلك الأمنيّة الكبرى، لأممِ العالَم جميعًا، وقبائله وأديانه وأعراقه كلّها عبر العصور. هذه هي خصوصيّة مذهب الشيعة بشأن هذه القضيّة المهمّة.

(17/08/2008)

 

88


57

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

نكاتٌ حول الاعتقاد بالمهدويّة

يوجد نكاتٌ عدّةٌ حول الاعتقاد بالمهدويّة، أُشير إليها بالإجمال:

الأولى، هي أنّ الوجود المقدّس لحضرة بقيّة الله -أرواحنا فداه-، هو عبارةٌ عن استمرار النبوّات والدعوات الإلهيّة، منذ بداية التّاريخ، وإلى يومنا هذا؛ أي كما تقرؤون في دعاء النّدبة مِن «فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ»[1]، الذي هو آدم، وإلى «أَنِ انْتَهَيْتَ بِالأَمْر»؛ أي الوصول إلى خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، ومن بعدها قضيّة الوصيّة وأهل بيت هذا النبيّ العظيم، إلى أن يصل الأمر إلى إمام الزمان؛ فالجميع عبارةٌ عن سلسلةٍ متّصلةٍ ومرتبطةٍ ببعضها في تاريخ البشريّة. وهذا بمعنى أنّ تلك الحركة العظيمة للنبوّات، وتلك الدعوات الإلهيّة بواسطة الرُسُل، لم تتوقّف في أيّ مقطعٍ من الزمان. فالبشريّة تحتاج إلى الأنبياء والدعوات الإلهيّة والدُعاة الإلهيّين، وهذا الاحتياج باقٍ إلى يومنا هذا، وكلّما مرّ الزمان، فإنّ البشر يُصبحون أقربَ إلى تعاليم الأنبياء.

لقد أدرك المجتمع البشريّ اليوم، من خلال التقدّم الفكريّ والمدنيّة والمعرفة، الكثيرَ من تعاليم الأنبياء -والتي لم تكن قابلةً للإدراك من قِبَلِ البشر قِبَلَ عشرات القرون من هذا- فقضيّة العدالة هذه، وقضيّة الحريّة، وكرامة الإنسان، وهذه الألفاظ الرائجة في

 


[1]  المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج99، ص105.

 

89


58

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

العالَم اليوم، هي كلماتُ الأنبياء. في ذلك الزمن، لم يُدرك عامّة الناس والرأي العامّ هذه المفاهيم. وبعد مجيء الأنبياء وانتشار دعوتهم، غُرِسَت هذه الأفكار في أذهان الناس وفي فطرتهم وفي قلوبهم، جيلًا بعد جيلٍ. فالدُعاة الإلهيّون، لم تنقطع سلالتهم اليوم، والوجود المقدّس لبقيّة الله الأعظم -أرواحنا فداه- هو استمرارُ سلالة الدُعاة الإلهيّين، حيث تقرؤون في زيارة آل ياسين: «السّلامُ عليكَ يا داعِيَ اللهِ ورَبّانيَّ آياتِهِ»[1]؛ أي إنّكم اليوم ترون تجسيدًا لدعوة إبراهيم، ودعوة موسى، ودعوة عيسى، ودعوة الأنبياء والمصلحين الإلهيّين جميعهم، ودعوة النبيّ الخاتم، في وجود حضرة بقيّة الله. فهذا الإنسان العظيم هو وارثُهم جميعًا، وبيده دعوتهم ورايتهم جميعًا، وهو يدعو البشريّة، ويعرض عليها تلك المعارف التي جاء بها الأنبياء عبر الزمان الممتدّ. هذه هي نقطةٌ مهمّةٌ.

 

المعنى الحقيقيّ لانتظار الفرج

النقطة الثانية في باب المهدويّة، هي انتظار الفرج. فانتظار الفرج مفهومٌ واسعٌ جدًّا. وأحد أنواعه هو انتظار الفرج النهائيّ؛ أي إنّ الناس، عندما يرَون طواغيتِ العالَم مشغولين بالنهب والسلب والإفساد والاعتداء على حقوق الناس، لا ينبغي أن يتخيّلوا أنّ مصير


 


[1] الطبرسي، أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، تعليق السيد محمد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386ه - 1966م، لا.ط، ج2، ص493.

 

90


59

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

العالَم هو هذا. لا ينبغي أن يُتَصَوَّر أنّه، في نهاية المطاف، لا بدّ ولا مناص من القبول بهذا الوضع والإذعان له، بل ينبغي أن يُعْلَم أنّ هذا الوضع هو وضعٌ عابرٌ -«للباطلِ جولةٌ»[1]- وأمّا ما هو مرتبطٌ بهذا العالَم وطبيعته، فهو عبارةٌ عن استقرار حكومة العدل، وهو سوف يأتي. إنّ انتظار الفرج والفتح في نهاية العصر الذي نحن فيه، حيث تُعاني البشريّة من الظلم والعذابات، هو مصداقٌ لانتظار الفرج. ولكن، لانتظار الفرج مصاديق أخرى أيضًا.

فعندما يُقال لنا: انتظار الفرج، فلا يعني انتظار الفرج النهائيّ، بل يعني أنّ كلَّ طريقٍ مسدودٍ قابلٌ للفتح. الفرج يعني هذا، الفرج يعني الشقّ والفتح. فالمسلم يتعلّم، من خلال درس انتظار الفرج، أنّه لا يوجد طريقٌ مسدودٌ في حياة البشر ممّا لا يمكن أن يُفتَح، وأنّه لا يجب عليه أن ييأس ويُحبَط ويجلس ساكنًا ويقول: لا يمكن أن نفعل شيئًا! كلّا، فعندما يظهر، في نهايةِ مطافِ حياةِ البشر، ومقابل هذه الحركات الظالمة والجائرة كلّها، عندما تظهر شمس الفرج، فهذا يعني أنّه في هذه العقبات والسدود كلّها الموجودة في الحياة الآن، هناك فرجٌ متوقَّعٌ ومحلّ انتظارٍ. هذا هو درس الأمل للبشريّة كلّها. وهذا هو درس الانتظار الواقعيّ للناس جميعًا.

 

 


[1] الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكَلِم، تحقيق وتصحيح مصطفى درايتي، ‏ مكتب الإعلام الإسلامي، إيران - قم، 1407ه‏، ط1، ص 71.

 

91


60

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

لهذا، عُدّ انتظار الفرج من أفضل الأعمال، ويُعلَم من ذلك أنّ الانتظار هو عملٌ، لا بطالةٌ. فلا ينبغي الاشتباه والتصوّر أنّ الانتظار يعني أن نضع يدًا فوق يدٍ ونبقى منتظرين حتّى يحدث أمرٌ ما. الانتظار عملٌ وتهيُّؤٌ وباعثٌ على الاندفاع والحماس في القلب والباطن، وهو نشاطٌ وتحرّكٌ وتجدّدٌ في المجالات كلّها. وهذا هو -في الواقع- تفسير هذه الآيات القرآنيّة الكريمة: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّة وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ﴾[1] أو ﴿إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾[2]؛ أي إنّه لا ينبغي أن تيأس الشعوب والأُمم من الفرج في أيّ وقتٍ من الأوقات.

لهذا، ينبغي انتظار الفرج النهائيّ، مثلما ينبغي انتظار الفرج في مراحل الحياة الفرديّة والاجتماعيّة جميعها. لا تسمحوا لليأس أن يُسيطر على قلوبكم، فانتظروا الفرج، واعلموا أنّ هذا الفرج سيتحقّق، وهو مشروطٌ في أن يكون انتظاركم انتظارًا واقعيًّا، وأن يكون فيه العمل والسعي والاندفاع والتحرّك.

 

(20/09/2005)

 

إنّنا اليوم ننتظر الفرج؛ أي إنّنا ننتظر مجيء يدٍ مقتدرةٍ تنشر العدل، وهي هزيمةُ الظلم والجور الذي سيطر على البشريّة كلّها


 


[1]  سورة القصص، الآية 5.

[2]  سورة الأعراف، الآية 128.

 

92


61

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

تقريبًا، فيتبدّل هذا الجوّ من الظلم والجور، وينبعث نسيم العدل في حياة البشر؛ لكي يشعر الناس بالعدالة. إنّ هذا هو حاجة أيّ إنسانٍ واعٍ بشكلٍ دائمٍ، الإنسان الذي لم يجعل رأسه في حجره، ولم يستغرق في حياته الخاصّة. الإنسان الذي ينظر إلى الحياة العامّة للبشر بنظرةٍ كلّيّةٍ، فإنّه من الطبيعيّ أن يكون في حالة انتظار. هذا هو معنى الانتظار. فالانتظار يعني عدم الاقتناع والقبول بالوضع الموجود لحياة البشر، وهو السعي من أجل الوصول إلى الوضع المطلوب. ومن المسلَّم به، أنّ هذا الوضع المطلوب سوف يتحقّق على يد وليّ الله المقتدرة، الحجّة بن الحسن المهديّ، صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه).

يجب أن نعدّ أنفسنا كجنودٍ مستعدّين لتلك الظروف والشرائط، ونجاهد في هذا المجال. إنّ انتظار الفرج لا يعني أن يجلس الإنسان ولا يفعل أيّ شيء، ولا ينهض لأيّ إصلاحٍ، بل يُمنّي نفسه بأنّه منتظرٌ لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، فهذا ليس انتظارًا.

ما هو الانتظار؟ الانتظار يعني أنّه لا بدّ من مجيء يدٍ قادرةٍ مقتدرةٍ ملكوتيّةٍ إلهيّةٍ، وتستعين بهؤلاء الناس؛ من أجل القضاء على سيطرة الظلم، ومن أجل غلبة الحقّ، وحاكميّة العدل في حياة البشريّة، ورفع راية التوحيد، تجعل البشر عبادًا حقيقيّين لله. يجب الإعداد لهذا الأمر. فكلّ إقدامٍ على طريق استقرار العدالة يُمثّل خطوةً نحو ذلك الهدف الأسمى. الانتظار يعني هذه الأمور. الانتظار

 

93

 


62

المبحث الأول: غاية حركةِ إنسانٍ بعمرِ 250 سنةً

 

حركةٌ وليس سكونًا. ليس الانتظار إهمالًا وقعودًا إلى أن تصلح الأمور بنفسها. الانتظار حركةٌ واستعدادٌ. هذا هو انتظار الفرج.

 

(17/08/2008)

 

94


63

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

المقصد والهدف النهائيّ، وسعوا بجهدهم كلّه من أجل القيام بهذا العمل. وعندما كانوا يصلون إلى آخر حياتهم، كان هناك من يأتي من بعدهم ليضع هذا الحمل على عاتقه ويتقدّم به مسافةً أخرى، مقترِبًا بذلك من ذلك الهدف. ووليّ العصر(عجل الله تعالى فرجه) هو وارث الأنبياء الإلهيّين جميعًا؛ فعندما يأتي، ستكون الخطوة الأخيرة على طريق إيجاد ذلك المجتمع الإلهيّ.

أتحدّث قليلًا حول صفات ذلك المجتمع. بالطبع، لو أنّكم دقّقتم في الكتب الإسلاميّة وفي المصادر الإسلاميّة الأساس، للاحظتم خصائص ذلك المجتمع جميعها. فدعاء الندبة هذا، الذي تُوفّقون بإذن الله لقراءته أيّام الجمعة، يذكر خصائص ذلك المجتمع. فعندما يقول: "أَيْنَ مُعِزُّ الأَولِيَاءِ ومُذِلُّ الأَعْدَاءِ؟" -مثلًا- فذلك المجتمع هو مجتمعٌ يكون فيه أولياء الله أعزّاء، وأعداء الله أذلّاء؛ أي إنّ القيم والمعايير الحاكمة في ذلك المجتمع تكون هكذا. «أَيْنَ المُعَدُّ لإقامةِ الحدودِ»[1]، ففي هذا المجتمع تُطبّق الحدود الإلهيّة، وتُراعى الحدود كلّها التي عيّنها الله -تعالى- والإسلام في مجتمع إمام الزمان. فعندما يظهر إمام الزمان، يصنع مجتمعًا له -باختصارٍ- مثل هذه الخصوصيّة. دقّقوا حولها في الآيات وفي الأدعية عندما تقرؤونها، فتتفتّح أذهانكم في هذا المجال وتتّسع، فمجرّد قراءة دعاء الندبة ليس كافيًا، فالمطلوب هو الفهم وأخذ الدّروس.


 


[1] العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج99، ص 107.

 

97


64

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

المقصد والهدف النهائيّ، وسعوا بجهدهم كلّه من أجل القيام بهذا العمل. وعندما كانوا يصلون إلى آخر حياتهم، كان هناك من يأتي من بعدهم ليضع هذا الحمل على عاتقه ويتقدّم به مسافةً أخرى، مقترِبًا بذلك من ذلك الهدف. ووليّ العصر(عجل الله تعالى فرجه) هو وارث الأنبياء الإلهيّين جميعًا؛ فعندما يأتي، ستكون الخطوة الأخيرة على طريق إيجاد ذلك المجتمع الإلهيّ.

أتحدّث قليلًا حول صفات ذلك المجتمع. بالطبع، لو أنّكم دقّقتم في الكتب الإسلاميّة وفي المصادر الإسلاميّة الأساس، للاحظتم خصائص ذلك المجتمع جميعها. فدعاء الندبة هذا، الذي تُوفّقون بإذن الله لقراءته أيّام الجمعة، يذكر خصائص ذلك المجتمع. فعندما يقول: "أَيْنَ مُعِزُّ الأَولِيَاءِ ومُذِلُّ الأَعْدَاءِ؟" -مثلًا- فذلك المجتمع هو مجتمعٌ يكون فيه أولياء الله أعزّاء، وأعداء الله أذلّاء؛ أي إنّ القيم والمعايير الحاكمة في ذلك المجتمع تكون هكذا. «أَيْنَ المُعَدُّ لإقامةِ الحدودِ»[1]، ففي هذا المجتمع تُطبّق الحدود الإلهيّة، وتُراعى الحدود كلّها التي عيّنها الله -تعالى- والإسلام في مجتمع إمام الزمان. فعندما يظهر إمام الزمان، يصنع مجتمعًا له -باختصارٍ- مثل هذه الخصوصيّة. دقّقوا حولها في الآيات وفي الأدعية عندما تقرؤونها، فتتفتّح أذهانكم في هذا المجال وتتّسع، فمجرّد قراءة دعاء الندبة ليس كافيًا، فالمطلوب هو الفهم وأخذ الدّروس.


 


[1] العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج99، ص 107.

 

 

98


65

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

أُسس المجتمع المهدويّ

إنّ إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) يبني مجتمعه على هذه الأسس:

أوّلًا، على إزالة وقمع وقلع جذور الظلم والطغيان. فلا ينبغي أن يكون في هذا المجتمع، الذي يكون في زمان وليّ العصر(عجل الله تعالى فرجه)، أيّ ظلمٍ وجورٍ، لا أنّ الأمر يكون في إيران على هذه الشاكلة فحسب، ولا حتّى في المجتمعات التي يقطنها المسلمون، بل في العالَم كلّه. فلن يكون أيّ ظلمٍ اقتصاديٍّ أو سياسيٍّ أو ثقافيٍّ أو أيّ نوعٍ آخر في ذلك المجتمع. فيجب اقتلاع الاختلافات الطبقيّة كلّها، وأنواع التمييز وعدم المساواة والتسلّط والهيمنة كلّها. هذه هي الخصوصيّة الأولى.

ثانيًا، إنّ من خصائص المجتمع المثاليّ، الذي يصنعه إمام الزمان(عجل الله تعالى فرجه)، هو الارتقاء بمستوى الفكر البشريّ، سواءٌ أكان على المستوى العلميّ الإنسانيّ أو المعارف الإسلاميّة. ففي زمن وليّ العصر، لن تجدوا، في العالَم كلّه، أيَّ أثرٍ للجهل والأمّيّة والفقر الفكريّ والثقافيّ. هناك، يتمكّن الناس من معرفة الدين معرفةً صحيحةً، وقد كان هذا -كما تعلمون جميعًا- من الأهداف الكبرى للأنبياء، الذي أشار إليه أمير المؤمنين(عليه السلام)، في خطبة نهج البلاغة الشريفة، «... ويثيروا لهم دفائن العقول...»[1]. لقد جاء في رواياتنا أنّه عندما يظهر وليّ العصر، فإنّ المرأة تجلس في بيتها وتفتح القرآن

 


[1] نهج البلاغة، ص43.

 

99


66

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

وتستخرج منه حقائق الدين وتفهمها. فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أنّ مستوى الثقافة الإسلاميّة والدينيّة يرتقي إلى درجة أنّ الأفراد جميعًا، وأبناء المجتمع كلّهم، والنساء اللواتي لا يشاركن في ميدان الاجتماع -على سبيل الفرض- ويبقين في بيوتهنّ، فإنّهنّ يتمكّنَّ من أن يصبحن فقيهاتٍ وعارفاتٍ في الدين، فيتمكّنَّ من فتح القرآن وفهم حقائق الدين بأنفسهنّ. انظروا إلى مجتمعٍ يكون فيه الجميع -نساءً ورجالًا- وعلى المستويات كافّةً، قادرين على فهم الدين والاستنباط من الكتاب الإلهيّ، فكم سيكون هذا المجتمع نورانيًّا! ولن يبقى فيه أيُّ نقطة ظلامٍ وظلمانيّةٍ. فهذه الاختلافات كلّها في وجهات النظر والتحليل، لن يبقى لها أيّ أثرٍ في ذلك المجتمع.

ثالثًا، خصوصيّة ثالثة لمجتمع إمام الزمان -المجتمع المهدويّ- هو أنّه في ذلك العصر ستكون القوى الطبيعيّة جميعها والطاقات البشريّة كلّها في حالة انبعاثٍ، فلا يبقى أيّ شيءٍ في باطن الأرض ولا يستفيد منه البشر. فهذه الإمكانات الطبيعيّة المعطّلة كلّها، وهذه الأراضي كلّها التي يمكن أن تُغذّي الإنسان، وهذه الطاقات والقوى كلّها التي لم تُكشَف بعد، كتلك الطاقات التي بقيت عبر قرون التاريخ؛ مثلًا، القدرة النوويّة والطاقة الكهربائيّة كانت -وعبر قرونِ عمرِ هذا العالَم- في باطن الطبيعة ولم يكن البشر يعرفونها، ثمّ بعد ذلك قاموا باستخراجها بالتدريج. فالطاقات والإمكانات

 

100

 


67

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

اللامتناهية الموجودة كلّها في باطن الطبيعة، هي من هذا القبيل، وسوف تُستَخرَج في عصر إمام الزمان.

جملةٌ أخرى وخصوصيّةٌ أخرى، هي أنّ المحور في عصر إمام الزمان هو محور الفضيلة والأخلاق. فكلّ من كان صاحب فضيلةٍ أخلاقيّةٍ أكثر، سيكون مقدَّمًا وسبّاقًا.

 

(27/06/1980)

 

ورد في الرواية: «القائمُ منّا منصورٌ بالرُّعْبِ، مؤيَّدٌ بالنّصر، تُطوَى له الأرضُ، وتظهر له الكنوزُ، يبلغ سلطانُه المشرقَ والمغربَ»[1]، ممّا يعني أنّ الحكومات الظالمة والأجهزة الجائرة كلّها ستكون مرعوبةً منه. في ذلك الزمن، سيكون هناك حالةٌ، في زمان وليّ العصر -أرواحنا فداه- من الشموليّة والعموميّة، بحيث يمكن أن تُحَقَّق الحكومة العالَميّة. «مؤيَّدٌ بالنصر»، فنصر الله يؤيّده. و«تُطوى له الأرض»؛ أي إنّها ستكون بيده وفي قبضة قدرته. وتظهر تلك الكنوز وتبلغ سلطته مشرق العالَم ومغربه.

وبعد جملٍ عدّةٍ يقول: «فلا يبقى خرابٌ إلّا قد عمر»[2]؛ أي إنّ هذه السلطة سوف تُنفَق في عمارة الأرض، لا في السيطرة على


 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق وتصحيح علي أكبر غفّاري، نشر الإسلاميّة، طهران، 1395هـ، ط2، ج 1، ص 331.

[2] المصدر نفسه.

 

101


68

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

ثروات البشر وفي استضعافهم. وفي نقاط العالَم كلّها، لن يبقى أيّ نقطةٍ من الخراب إلّا وستُعمّر، سواءٌ أكانت خراباتٍ حصلت على أيدي البشر، أو بسبب جهلهم. هناك روايةٌ أخرى عن الإمام الباقر(عليه السلام) يقول فيها: «حتّى إذا قام القائمُ، جاءت المزايلةُ، وأتى الرجلُ إلى كيسِ أخيه، فيأخذُ حاجتَه، فلا يمنعُه»[1]، وهي إشارةٌ إلى أخلاق المساواة بين البشر، وإلى الإيثار. وتُبشّر هذه الرواية بنجاة البشر من تسلّط البخل والحرص، الذي كان أكبر سببٍ لشقاء البشريّة. وهذا، في الحقيقة، علامةٌ على ذلك النظام الإسلاميّ السالم أخلاقيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا في ذلك الزمان. فلا يوجد أيّ قهرٍ وإجبارٍ في البَين، بل إنّ البشر أنفسهم ينجون من البخل الإنسانيّ والحرص البشريّ، وستتحقّق مثل هذه الجنّة الإنسانيّة. يوجد في روايةٍ أخرى أيضًا: «إذا قامَ قائمُنا، اضمحلّت القطائعُ، فلا قطائعَ»[2]، فتلك القطائع التي تمنحها الحكومات المستكبرة في العالَم لأتباعها وحلفائها، وذلك الكرم الحاتميّ الذي يحصل من جيوب الشعوب، سوف يتوقّف تمامًا في العالَم. وقد كانت القطائع في الماضي بشكلٍ، وهي اليوم بشكلٍ آخر. كانت في الماضي بحيث إنّ الخليفة أو السلطان يمنح أرضًا أو صحراء أو قريةً أو مدينةً أو حتّى ولايةً لشخصٍ ما، فيقول له: اذهبْ هناك، وافعل ما يحلو لك

 


[1] الحرّ العامليّ، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة أهل البيت (عليهم السلام)، قم، 1409هـ، ط1، ج 5، ص 121.

[2]  المصدر نفسه، ج 17، ص 222.

 

102


69

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

فيها، خذ من أهلها الجبايات والخراج، واستعمل مزارعها، واستفد منها، وكلّ فائدةٍ مادّيّة هي لك، وكان عليه طبعًا أن يعطي السلطان حظَّه. واليوم، هي بصورة الاحتكارات النفطيّة والتجاريّة والصناعيّة والفنّيّة المختلفة. وهذه الصناعات الكبرى، وهذه الاحتكارات، التي جعلت الشعوب مسكينةً، كلّها -في الواقع- في حكم القطائع التي أُشير إليها، وفيها كانت تُمارَس أنواع الرشاوة والمحاباة كلّها. إنّ هذا البساط الذي يقتل البشر ويقضي على الفضيلة، سوف يُطوَى، وسوف تُوضَع أسباب الاستفادة والنفع بيد الناس جميعًا.

وفي روايةٍ أخرى ناظرةٍ إلى الوضع الاقتصاديّ، يقول: «ويُسوِّي بين النّاسِ، حتّى لا ترى محتاجًا إلى الزكاة»[1] ما يعني أنّه لن يبقى هناك أيّ فقيرٍ يحتاج إلى زكاة أموالكم. وبالطبع، سيكون لهذه الزكاة مصرفها في الأمور العامّة، لا للفقراء؛ لأنّه لن يبقى هناك أيّ فقيرٍ. ومثل هذه الروايات، ترسم الجنّة الإسلاميّة والعالَم الواقعيّ. وليس هذا الأمر مشابهًا لتلك المدن الفاضلة التي صنعها بعضُهم في خيالاتهم وأوهامهم. كلّا، إنّ تلك الشعارات الإسلاميّة كلّها، هي جميعًا قابلةٌ للتطبيق، ونحن في الجمهوريّة الإسلاميّة، نشعر أنّ هناك قدرةً وقلبًا وفكرًا متّصلًا بالوحي والتأييد الإلهيّ، ومعصومًا يُمكنه -يقينًا- أن يُحقّق مثل هذا الوضع، وسوف تُقبِل البشريّة على ذلك حتمًا. هذه هي حالة ذلك العالَم.

 

(10/04/1987)


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 52، ص 390.

 

103


70

المبحث الثاني: خصائص المجتمع المهدويّ

هنا، إذا رجعتم إلى الآيات والروايات -وبالتأكيد، إنّ المحقّقين والمتتبّعين قد فعلوا ذلك- فسوف تجدون خصوصيّاتٍ أخرى. المجتمع الذي لا يوجد فيه أيّة علامةٍ للظلم والطغيان والعدوان، المجتمع الذي تصل فيه المعرفة الدينيّة والمعرفة العلميّة للبشر إلى حدّها الأعلى، المجتمع الذي تبرز فيه هذه البركات والنِعَم والفضائل والجماليّات كلّها، وتكون في يد الإنسان، وفي النهاية، المجتمع الذي تكون فيه التقوى والفضيلة والإيثار والأخوّة والعطف والانسجام أصلًا ومحورًا، فانظروا إلى مثل هذا المجتمع، فهو ذاك المجتمع الذي سيحقّقه مهديُّنا الموعود، وإمام زماننا، ومحبوبنا التاريخيّ القديم، والذي يعيش الآن تحت هذه السماء، وعلى هذه الأرض، وبين الناس. هذا هو اعتقادنا بإمام الزمان.

 

تكليفنا تجاه صاحب الزمان

حسنٌ، ماذا نفعل بعد هذا؟ فبعد هذا، تكليفنا واضح.

 

أوّلًا، يجب أن نعلم أنّ ظهور وليّ العصر(عجل الله تعالى فرجه)، مثلما إنّه بثورتنا هذه

 

107

 

 

 


71

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

أصبح أقرب خطوةً، فبهذه الثورة أيضًا يمكن أن يقترب أكثر؛ أي إنّ هذا الشّعب نفسه الذي قام بهذه الثورة، وقرّب نفسه خطوةً إضافيّةً إلى إمامِ زمانه، يمكنه أيضًا أن يتقدّم خطوةً ثمّ خطوةً ثمّ خطوةً نحو إمام زمانه. فكيف (ذلك)؟ أوّلًا، كلّما استطعتم أن توسّعوا من دائرة هذا المقدار من الإسلام الذي لدينا، نحن وأنتم، في إيران -لا نبالغ، الإسلام الكامل ليس متحقّقًا، ولكن قسمٌ من الإسلام قد طبّقه هذا الشعب في إيران- فهذا المقدار من الإسلام ،كلّما استطعتم أن تنشروه في الآفاق الأخرى للعالَم، وفي البلاد الأخرى، وفي المناطق المظلمة، فإنّه بالمقدار نفسه سيساعد ويقرّب من ظهور وليّ الأمر وحجّة العصر.

ثانيًا، إنّ الاقتراب من إمام الزمان ليس بمعنى الاقتراب المكانيّ، ولا بمعنى الاقتراب الزمانيّ. فأنتم الذين تريدون أن تقتربوا من ظهور إمام الزمان، فإنّ الاقتراب من إمام الزمان ليس له تاريخٌ محدّدٌ، كأن يُقال -مثلًا- بعد مئة سنةٍ أو خمسين سنةً، حتّى نقول: إنّنا عبرنا سنةً أو سنتين أو ثلاث سنواتٍ من هذه الخمسين أو المئة سنةٍ، فيبقى عندئذٍ هذا المقدار من السنوات. كلّا، وليس أيضًا بلحاظ المكان، حتّى نقول: إنّنا تحرّكنا من هنا باتّجاه الشرق أو غرب العالَم مثلًا، أو نحو الشمال أو الجنوب، لنرى أين هو وليّ العصر، لنصل إليه. كلّا، إنّ اقترابنا من إمام الزمان هو اقترابٌ معنويٌّ؛ أي إنّكم في كلّ زمانٍ، إذا استطعتم أن تزيدوا من حجم المجتمع الإسلاميّ -كمًّا

 

108

 


72

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

ونوعًا- إلى خمس سنواتٍ أو عشر سنواتٍ أخرى، أو حتّى مئة سنةٍ أخرى، فإنّ إمام الزمان(عجل الله تعالى فرجه) سيظهر.

لو استطعتم أن تُحقّقوا في أنفسكم، وفي غيركم، في داخل مجتمعكم -هذا المجتمع الثوريّ- التقوى والفضيلةَ والأخلاقَ والتديّنَ والزهدَ والقربَ المعنويّ من الله، وجعلتم قاعدةَ ظهور وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه) أكثر رسوخًا وإحكامًا، وكلّما استطعتم أن تزيدوا، باللحاظ الكمّيّ والمقدار، عددَ المسلمين المؤمنين والمخلصين، فإنّكم تكونون هنا أيضًا أقرب إلى إمام الزّمان، وإلى زمن ظهور وليّ العصر. فنحن نستطيع أن نُقرّب مجتمعنا وزماننا وتاريخنا، خطوةً بخطوةٍ، نحو تاريخ ظهور وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه). هذا واحدٌ.

 

التوجّه نحو نشر الفكر الإسلاميّ

النقطة الثانية هي أنّه لدينا في ثورتنا اليوم طرقٌ ومناهج، فإلى أيّ جهةٍ ينبغي أن تتحرّك هذه المناهج؟ فهذه النقطة جديرةٌ جدًّا بالتأمّل. فافرضوا أنّ لدينا طالبًا مجدًّا يريد أن يصبح أستاذًا -مثلًا- في علم الرياضيّات. فكيف ينبغي أن نؤمّن مقدّمات هذا الأمر؟ فينبغي أن نوجّه دراساته باتّجاه الرياضيات. فلا معنى أن نُعطيه دروسًا في الفقه مثلًا، إذا كُنّا نُريده أن يُصبح عالِمًا رياضيًّا، أو أنّ من يريد أن يُصبح فقيهًا، نُعطيه دروس الأحياء مثلًا! فينبغي أن تكون المقدّمات

 

109


73

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

متناسبةً مع النتيجة والغاية. الغاية هي المجتمع المثاليّ المهدويّ، بتلك الخصائص التي ذكرتها. فيجب علينا إذًا، أن نؤمّن المقدّمات بما يتناسب. يجب علينا أن نُبعد أنفسنا عن الظلم، ونتحرّك بحزمٍ ضدّه، أيّ ظلمٍ كان، ومن أيّ شخصٍ. يجب علينا أن نجعل توجّهاتنا نحو إقامة الحدود الإسلاميّة، وفي مجتمعنا، لا نُعطي أيّ مجالٍ لنشر الأفكار المخالفة للإسلام. نحن لا نقول: إنّه علينا بالقهر والغلبة؛ لأنّنا نعلم أنّه لا يُمكن مواجهة الفكر إلّا عن طريق الفكر، لكنّنا نقول: إنّه علينا بالطرق الصحيحة والمنطقيّة والمعقولة، أن ننشر الفكر الإسلاميّ.

يجب أن تُصبح قوانيننا كلّها ومقرّرات بلدنا وإداراتنا ومؤسّساتنا التنفيذيّة والكلّ، إسلاميًّا بلحاظ الظاهر والمحتوى، وأن نقترب نحو أسلمتها يومًا بعد يومٍ. هذه هي الجهة التي تمنحنا وتمنح حركتنا معنى انتظار وليّ العصر. أنتم تقرؤون في دعاء الندبة، أنّ إمام الزمان يقاتل الفسوق والعدوان والطغيان والنفاق، ويزيل ذلك كلّه، ويقضي عليه. وعلينا، اليوم، أن نتحرّك في مجتمعنا بهذا الاتّجاه ونتقدّم. هذا هو الشيء الذي يُقرّبنا إلى إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) من الناحية المعنويّة، ويُقرّب مجتمعنا نحو مجتمع وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه)، ذلك المجتمع المهدويّ العلويّ التوحيديّ، ويزيده قربًا.

 

(27/06/1980)

 

110


74

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

وهناك أثرٌ آخر ونتيجةٌ مختلفةٌ لمستقبل هذا العالَم، حيث يزول اليأس والإحباط من قلوب الشعوب، ونعلم حينها أنّ جهادنا مؤثّرٌ ومنتجٌ. أحيانًا، هناك أفرادٌ، ممّن ليس لديهم اطّلاعٌ على هذا البعد من الفكر الإسلاميّ، يُصابون بالحيرة واليأس أمام هذه الحسابات والمعادلات المادّيّة الكبرى في العالَم، ويتساءلون فيما بينهم، كيف يُمكن لشعبٍ يريد أن يثور، أن يقاوم مثلَ هذه القوى العظمى والتكنولوجيا المتطوّرة والأسلحة المدمّرة، ومثل هذه القنابل النوويّة الموجودة في العالَم؟ يشعرون أنّ الصمود، مقابل ضغط قوى الظلم والاستكبار، أمرٌ غير ممكنٍ. لكنّ الاعتقاد بالمهديّ، والإيمان بتحقّق عصر الحكومة الإسلاميّة والإلهيّة على يد ابن النبيّ وإمام الزّمان، يُحقّق هذا الأملَ في الإنسان، ويقول له: كلّا، سنُجاهد؛ لأنّ العاقبة لنا، ولأنّ عاقبة أمرنا هي أنّ هذا العالَم يجب أن يخضع ويُسلّم، وسوف يحصل هذا الأمر. وذلك لأنّ مسير التاريخ يتّجه نحو ما قمنا اليوم بوضع أُسُسِه، وقد حقّقنا نموذجًا عنه، ولو كان ناقصًا[1]. ومثل هذا الأمل، لو وُجِد في قلوب الشعوب المناضلة -وخاصّةً الشعوب الإسلاميّة- فسوف يمنحها حالةً من النشاط المستمرّ، بحيث لا يُمكن لأيّ عاملٍ أن يُخرجَها من ميدان الجهاد والنضال، أو أن يُصيبها بالهزيمة الداخليّة.

 


[1] يقصد الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران (المترجم).

 

111


75

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

تُمْلَأ الأرض عدلًا كما مُلئت ظلمًا

ويوجد نقطةٌ أخرى، وهي أنّ الإعلام والأفكار المغلوطة قد انغرست في أذهان الناس، وعبر هذه السنين المتمادية كلّها، إلى تلك الدرجة، حيث اعتقدوا أنّ أيّ تحرّكٍ إصلاحيٍّ لن يكون مفيدًا ومثمرًا قبل قيام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، ويستدلّون بأنّ الدنيا يجب أن تُملأ ظلمًا وجورًا حتّى يأتي الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، وما لم تمتلئ بالظلم والجور، فإنّه لن يظهر. كانوا يقولون: إنّ الإمام يظهر بعد أن تصبح هذه الدنيا مليئةً بالظلم والجور. والنقطة الموجودة هنا، هي أنّ في جميع الروايات التي وردت بشأن الإمام المهديّ، فإنّ الجملة هي هكذا: «يَمْلَأُ اللهُ بِهِ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا»[1]. أنا العبد، لم أُشاهد موضعًا واحدًا -ولا أظنّ أنّه يوجد- «بعدما مُلِئَت ظُلمًا وجَورًا». فبالالتفات إلى هذه النقطة، رجعت إلى الروايات العديدة في الأبواب المختلفة، ولم أجد في أيّ مكانٍ جملةَ، «بعدما مُلئت ظلمًا وجورًا»، ففي الأماكن كلّها يوجد "كما مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا"؛ أي إنّ امتلاء الدنيا بالعدل والقسط، بواسطة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، لا يكون مباشرةً بعد أن تُملأ بالظلم والجور. كلّا، بل إنّه، كما حصل طوال التاريخ، وليس في موضعٍ واحدٍ أو زمانٍ

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج 1، ص 341.

 

112


76

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

واحدٍ، بل في أزمنةٍ مختلفةٍ، كانت الدنيا تُملأ بالظلم والجور، سواءٌ أكان في عهد الفراعنة، أو في عصور الحكومات الطاغوتيّة، أو في أيّام السلطات الظالمة التي جعلت هذه الدنيا كلّها ترزح تحت وطأة ظلمها، وفي ظلّ السحب السوداء للجَور والعدوان، بحيث إنّه لم نرَ فيها أيّ علامةٍ على العدالة والحرّيّة. فكما أنّ الدنيا عاشت مثل هذا اليوم، فإنّها سترى يومًا يمتلئ العالَم كلّه في آفاقه كافّة بنور العدل، ولا يكون فيه أيّ مكانٍ لا يمتلئ بالقسط. وهناك، لن يكون أيّ مكانٍ يحكمه الظلم، أو يكون فيه البشر تحت وطأة الظلم وجَور الحكومات وتسلّط المقتدرين وآلام التمييز العنصريّ؛ أي إنّ هذا الوضع الذي يُهيمن على العالَم اليوم، وقد كان يعمّ هذه الدنيا في يومٍ من الأيّام، سوف يتبدّل إلى عموميّة العدل.

 

 

(10/04/1987)

 

طريق الفرج حاكميّة الإسلام

ليس إنّه، بوجود الحكومة الإسلاميّة، لن تتأخّر عاقبة الموعود فحسب، بل هو سيسرّع من ذلك، وهذا هو معنى الانتظار. انتظار الفرج يعني انتظار حاكميّة القرآن والإسلام. فأنتم لم تقنعوا بما هو موجودٌ الآن في العالَم، حتّى بهذا التقدّم الذي حقّقتموه عبر الثورة الإسلاميّة، تريدون أن تقتربوا أكثر إلى حاكميّة القرآن

 

113

 


77

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

والإسلام. هذا هو انتظار الفرج. انتظار الفرج يعني انتظار فرج أمر البشريّة.

واليوم، فإنّ حال البشريّة قد وصل إلى المضائق الشديدة والعقد الصعبة. فاليوم، إنّ الثقافة المادّيّة تُفرَض على البشر بالقوّة، وهذه معضلة. إنّ من يُعذّب البشر اليوم، على مستوى العالَم، هو التمييز، فهذه عقدةٌ كبرى. واليوم، قد أوصلوا حال ذهنيّة الناس الخاطئة إلى حيث تضيع صرخات طلب العدالة من قِبَل شعبٍ ثائرٍ، وسط عربدة المتسلّطين والمهيمنين وسِكرهم، وهذه عقدةٌ أخرى أيضًا. واليوم، يُعاني مستضعفو أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، وملايين الناس الجائعين في آسيا وآسيا القصوى، وملايينٌ من ذوي البشرة الملوّنة، من ظلم التمييز العنصريّ، وقد تطلّعت عيونُهم بأملٍ نحو منُجٍ ومُنقذٍ، ولا تسمح القوى الكبرى لهذا النداء المنجي بأن يصل إلى أسماعهم، هذه معضلةٌ. فالفرج يعني فتح هذه المضائق، وحلّ هذه المعضلات، وفكّ هذه العُقد. فوسّعوا من رؤيتكم، ولا نحدّ أنفسنا في بيوتنا وحياتنا اليوميّة، فالعالَم كلّه يطلب الفرج، ولكن لا يدري ما هو الطريق.

وأنتم، أيّها الشعب الثوريّ المسلم، يجب أن تقتربوا، بحركتكم المنظّمة في مواصلة الثورة الإسلاميّة، إلى الفرج العالَميّ للبشريّة، وأن تُقرّبوا أنفسكم من ظهورِ المهديّ الموعود والثورةِ الإسلاميّة النهائيّة للبشريّة، التي ستشمل العالَم كلّه، وتحلّ هذه العقد كلّها، خطوةً خطوةً، وأن تقرّبوا البشريّة بذلك أيضًا، فهذا هو انتظار الفرج.

 

 

114


78

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

وإنّ لطف الربّ المتعال، ودعاء وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه) المستجاب، سيكون دعامتَنا في هذا الطريق، ويجب علينا أن نتعرّف على هذا الإمام أكثر، ونكون أكثر ذكرًا له. فلا ينبغي أن ننسى إمام الزمان. فاحفظوا ذكر وليّ الله الأعظم في قلوبكم، واقرؤوا «اللهمّ إنّا نرغبُ إليكُ في دولةٍ كريمةٍ»[1] من أعماق قلوبكم، وبالضراعة الكاملة. فلْتَكنْ أرواحُكم في انتظار المهديّ، وكذلك قواكم الجسمانيّة، فلتتحرّك في هذا الطريق. وإنّ كلّ خطوةٍ تخطونها على طريق تثبيت هذه الثورة الإسلاميّة، ستكون خطوةً إضافيّةً نحو ظهور المهديّ.

(19/06/1981)

 

تقوية العلاقة الروحيّة بإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)

لقد تحرّك أئمّتُنا جميعًا في هذا الخطّ، من أجل أن تسيطر الحاكميّة الإلهيّة وحاكميّة القانون الإلهيّ على المجتمعات. لقد بُذِلَت الكثير من الجهود والجهاد والآلام والمحن والسجون والنفي والاستشهاد المليء بالثمار والعطاء. واليوم، أنتم وجدتم هذه الفرصة، مثلما إنّ بني إسرائيل، وبعد قرونٍ، قد وجدوا هذه الفرصة في زمان سليمان النبيّ وداوود عليهما السلام.

 

(08/05/1981)


115


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، دعاء الافتتاح، ج 3، ص 424.


79

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

إنّ الطريق الذي سلكتموه، يا أبناء شعب إيران العزيز، استمرّوا عليه، وتحرّكوا، وأكملوا هذا الطريق، وهو الطريق الذي -لحسن الحظّ- نشاهد اليوم الشعوب المسلمة، في أرجاء العالَم الإسلاميّ المختلفة، تتحرّك نحوه بالتدريج، وشيئًا فشيئًا. يقول الله -تعالى-: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[1]، فلو أنّنا جعلنا هذه التقوى منهاج عملنا، فمِنَ المسلَّم أنّ عاقبة الأمر ستكون من نصيب الأمّة الإسلاميّة، وإنّ هذا المستقبل لن يكون بعيدًا، إن شاء الله.

 

(21/02/2011)

 

أذكر جملةً واحدةً في الختام، فيما يتعلّق بضرورة الارتباط العاطفيّ والمعنويّ والروحيّ بإمامنا العظيم، وليّ الله المعصوم، بالنسبة لكلّ واحدٍ منّا. القضيّة لا ينبغي أن تجعلوها محدودةً في إطار التحليل الفكريّ والاستنارة الفكريّة. فذاك المعصوم، الذي هو صفيّ الله، يعيش اليوم بيننا، نحن البشر، في مكانٍ ما من هذا العالَم، ونحن لا نعلمه. إنّه موجودٌ، ويدعو، ويقرأ القرآن، ويبيّن المواقف الإلهيّة. إنّه يركع ويسجد ويعبد ويدعو ويظهر في المجامع ويساعد البشر. فله وجودٌ خارجيٌّ ووجودٌ عينيٌّ، غاية الأمر أنّنا، نحن، لا نعرفه. إنّ هذا الإنسان الذي اصطفاه الله، موجودٌ اليوم، ويجب أن


 


[1] سورة الأعراف، الآية 128.

 

116


80

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

نقوّي علاقتنا به من الناحية الشخصيّة والقلبيّة والروحيّة، بالإضافة إلى الجانب الاجتماعيّ والسياسيّ، والذي -بحمد الله- صار نظامُنا متوجّهًا نحو ما يريده هذا الإنسان العظيم، إن شاء الله. فلْيجعلْ كلُّ واحدٍ من أبناء مجتمعنا، توسّلَه بوليّ العصر، وارتباطَه به، ومناجاتَه معه، وسلامَه عليه، وتوجُّهَه إليه، تكليفًا وفريضةً، وليدعُ له كما لدينا في الروايات، وهو الدعاء المعروف «اللهمّ، كُنْ لوليِّك»[1]، الذي يُعدّ من الأدعية الكثيرة الموجودة. ويوجد زياراتٌ في الكتب، هي جميعًا، بالإضافة إلى وجود البُعد الفكريّ والوعي والمعرفة فيها، يوجد فيها، أيضًا، بعدٌ روحيٌّ وقلبيٌّ وعاطفيٌّ وشعوريٌّ، وهو ما نحتاج إليه أيضًا. إنّ أطفالنا وشبابنا ومجاهدينا في الجبهة، يحصلون على الروحيّة والمعنويّات، بالتوجّه والتوسّل بإمام الزمان، ويفرحون، ويتفاءلون. وببكاءِ الشوق ودموعِه المنهمرة، يُقرّبون قلوبَهم إليه، وهم بذلك يعطفون نظرَ الحقِّ وعنايتَه إليهم، مثلما إنّ ذلك يتحقّق مع الإمام، ويجب أن يكون موجودًا.

 

(10/04/1987)

 

يا إمام الزّمان، أيّها المهديّ الموعود المحبوب عند هذا الشعب، يا سلالة الأنبياء الأطهار، ويا وارث الثورات التوحيديّة والعالميّة كلّها، إنّ شعبنا هذا قد انبعث بذكرك واسمك، واختبر لطفَك في


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 4، ص 162.

 

117


81

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

حياته وفي وجوده. أيّها العبد الصالح لله، إنّنا اليوم بحاجةٍ إلى دعائك الذي ينبعث من قلبك الإلهيّ والربّانيّ الطاهر، ومن روحِك القدسيّة، من أجل انتصار هذا الشعب وهذه الثورة، ونحتاج إلى يد القدرة الإلهيّة التي جُعِلَت فيك، لتساعدَ هذا الشعب وطريقَه. «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنِ أَرَى الخَلْقَ وَلَا تُرَى!»[1] ، يا إمام الزّمان، إنّه لصعبٌ جدًّا علينا أن نرى أعداء الله في هذا العالَم، وفي هذه الطبيعة المترامية، التي هي لعباد الله الصّالحين، ونتلمّس آثار وجود أعداء الله، ولكن لا نراك أنت، ولا نُدرك فيض حضورك!

اللهمّ، بمحمّدٍ وآل محمّدٍ، نُقسِمُ عليك أن تُلَيِّنَ قلوبَنا بذكر إمام الزّمان دائمًا!

اللهمّ، نوّر أعيننا بجمال وليّ العصر!

اللهمّ، اجعل هؤلاء الذين يجاهدون في سبيلك، جنودَ إمام الزمان والمضحّين بين يديه!

 

(27/06/1980)

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، من دعاء الندبة، ج 99، ص 108.

 

118


82

المبحث الثالث: مسؤوليّتنا في عصر غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)

حياته وفي وجوده. أيّها العبد الصالح لله، إنّنا اليوم بحاجةٍ إلى دعائك الذي ينبعث من قلبك الإلهيّ والربّانيّ الطاهر، ومن روحِك القدسيّة، من أجل انتصار هذا الشعب وهذه الثورة، ونحتاج إلى يد القدرة الإلهيّة التي جُعِلَت فيك، لتساعدَ هذا الشعب وطريقَه. «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنِ أَرَى الخَلْقَ وَلَا تُرَى!»[1] ، يا إمام الزّمان، إنّه لصعبٌ جدًّا علينا أن نرى أعداء الله في هذا العالَم، وفي هذه الطبيعة المترامية، التي هي لعباد الله الصّالحين، ونتلمّس آثار وجود أعداء الله، ولكن لا نراك أنت، ولا نُدرك فيض حضورك!

اللهمّ، بمحمّدٍ وآل محمّدٍ، نُقسِمُ عليك أن تُلَيِّنَ قلوبَنا بذكر إمام الزّمان دائمًا!

اللهمّ، نوّر أعيننا بجمال وليّ العصر!

اللهمّ، اجعل هؤلاء الذين يجاهدون في سبيلك، جنودَ إمام الزمان والمضحّين بين يديه!

 

(27/06/1980)

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، من دعاء الندبة، ج 99، ص 108.

 

118


83
الإمام المهديّ وبناء المجتمع الإلهيّ