النهضة الحسينية

النهضة الحسينية


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله الطاهرين.

إنّ النهضة الحسينيّة واقعة فريدة في التاريخ، ومدرسة خالدة على مرّ الأزمان. إنّها مشكاةٌ مقدَّسةٌ أنارت حقيقة الإسلام، فأخرجته إلى نور الله، بعد أن أعادوه إلى ظلمات الجاهليّة.

لقد كانت تلك النهضة المقدّسة انعطافة كبيرة في تاريخ الإسلام، أعادته إلى أصالته المحمّديّة، وحفظته من الانحراف والضياع.

هي نهضة فريدة بقائدها الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، الذي يشكِّل في نظر الأمّة الإسلاميّة «أعظم الخلف ممّن مضى»[1]، والبقيّة الباقية من أهل بيت النبوَّة، وبقيّة آية التطهير وآية المودّة وآية المباهلة، حتّى عند أعدائه من بني أميّة[2]، وكان الصحابة والتابعون

 

 


[1] البلاذريّ، أحمد بن يحيى بن جابر، أنساب الأشراف، تحقيق الدكتور محمّد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، مصر، 1959م، لا.ط، ج3، ص152.

[2] انظر: الطبريّ، محمّد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبريّ)، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء الأجلّاء، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط4، ج4، ص352.

 

7


1

المقدّمة

يطلقون عليه لقب «سيّد أهل الحجاز»[1]، و«سيّد العرب»[2]، والسيّد الكبير الذي ليس على وجه الأرض يومئذٍ سيّد يساميه ولا يساويه[3].

وهي فريدة بأهل بيته وأصحابه الخُلَّص، الذين نصروه ولم يتركوه، على الرغم من صعوبة الموقف، وقلّة عددهم وكثرة عدوّهم، وبذلوا دونه أرواحهم، حتّى قال فيهم: «فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي؛ فجزاكم الله عنِّي خيراً!»[4].

وفريدة -أيضاً- بالعدوّ، الذي اتّصف بوحشيّة وجرأة على أعظم محارم الله، وحشيّة تكاد لا يكون لها مثيل.

يتناول الشهيد مطهّري، وهو الفقيه والأستاذ والمفكّر والفيلسوف، الأبعاد العظمى للنهضة الحسينيّة بالبحث والدراسة في كتابه «الملحمة الحسينيّة»، كاشفاً عن مضامينها السامية ومعانيها الخالدة، مسلِّطاً الضوء على دافعها وأهدافها، كاشفاً زيف ما لحِق بها من تشويه ليحفظ جوهرها وأصالتها.

 


[1] المصدر نفسه، ج4، ص288.

[2] أحمد بن أعثم الكوفيّ، الفتوح، تحقيق علي شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1411، ط1، ج5، ص23.

[3] ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1408ه - 1988م، ط1، ج8، ص162.

[4] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1993م، ط2، ج2، ص91.

 

8


2

المقدّمة

وكتاب «الملحمة الحسينيَّة»، للشَّيخ الشّهيد مرتضى مطهّري، يتكوَّن من ثلاثة أجزاء، ويضمّ أهمّ الأفكار والتحليلات الّتي صاغها الأستاذ مطهّري حول النهضة الحسينيّة، وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات الّتي ألقاها في مناسبات عديدة، وقد تمّت طباعة الكتاب في إيران 14 مرّة، من قِبل مؤسَّسة «انتشارات»، والدَّار الإسلاميَّة في بيروت.

في الجزء الأوّل من الكتاب، يتحدّث مطهّري عن التحريف في سرد واقعة كربلاء، محذِّراً من جملة الانحرافات الّتي أُدخلت عليها؛ لما لذلك من أثر سلبيّ في الأمّة، لجهة الارتباط الأصيل بهذه القضيّة ومعانيها.

ويدعو الشهيد مطهّري إلى تصحيح النظرة في التعاطي مع المجالس الحسينيّة، وجعلها مناسبة لبناء الذات والوعي، وتأصيل الشخصيَّة، عبر استلهام ما تحمل من عِبر ومواعظ تخاطب العقل والشعور.

وفي الجزء الثّاني من الكتاب عرضٌ لقضيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في النّهضة الحسينيّة، والشعارات الأساسيّة الّتي قامت من أجلها، وأهميّتها في تحريك الواقع واستنفاره.

أمّا في الجزء الثالث، فيتناول السيرة الحسينيّة من الناحية التاريخيّة، ويعتبر أنَّها من أهمّ الحوادث الموثَّقة سنداً، على الرغم من مرور 14 قرناً عليها، ويستغرب بالتالي عدم تعامل بعضهم معها

 

9


3

المقدّمة

بالشّكل العلميّ والموضوعيّ، على الرغم من وثاقة نقلها.

ونحن في مركز المعارف للتأليف والتحقيق، اخترنا مطالب هذا الكتاب من هذه الأجزاء الثلاثة القيِّمة، تحت عنوان «النهضة الحسينيّة».

كتاب غنيّ بمباحثه، وجريء بطروحاته، خصوصاً أنّه صادر عن مفكّر وباحث إسلاميّ مميّز. وقد حاول سلوك طريق النقد البنّاء في تصويب الكثير من المغالطات والتحريفات التي أصابت السيرة الحسينيّة المباركة، وتبيين روح النهضة وحقيقتها.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

10


4

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ كلّ الذين قدّموا الخدمات للبشريّة لهم حقٌّ عليها، سواء أكانوا من أهل الصناعة، أم الفنّ، أم الاكتشاف والاختراع، أم الحكمة والفلسفة، أم الأدب والأخلاق، أم أيّ شيء آخر، لكنّهم جميعاً لا يصلون إلى مستوى شهداء طريق الحقّ. ولهذا أيضاً ترى أنّ ردّ فعل البشريّة، وتعاطفها مع أولئك الشهداء، أكثر من تعاطفها مع أيّ جهةٍ أخرى، ذلك أنّ العدل والحرّيّة بالنسبة إلى محيط المجتمع البشريّ، والروح الإنسانيّة، بمثابة الهواء المطلوب للرئتين، والذي لا يمكن للحياة أن تستمرّ من دونه.

قيل: «المُلك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم».

إنّ المجتمع مَدِينٌ للعالِم بعلمه، وللمكتشِف باكتشافاته، وللمعلِّم أو المربّي بتوجيهاته الأخلاقيّة، وللحكيم بحكمته،

 

11


5

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

وللفيلسوف بفلسفته؛ وهؤلاء كلّهم مدينون للشهداء بأعمالهم، بينما لا يدين الشهداء لأحد من الناس.

فالشهداء هم الذين كانوا السبب في خلق أجواء الحرّيّة للآخرين، حتّى يتمكّنوا من إظهار نبوغهم، وإبراز تفوّقهم.

والشهداء في الحقيقة هم الشمعة التي تحترق من أجل إضاءة محفل البشريّة[1]. قال الله -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرسَلنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا﴾[2].

نعم، فلولا وجود الظلمات التي سبّبها انتفاء الوعي الكافي، والنموّ اللّازم لدى البشر، لما كان المُحيط بحاجةٍ إلى «سراج»، والسراج هُنا هو البعثة النبويّة التي جاءت لتُنهي عصر الظلمات.

ومرةً أخرى كانت الظلمات قد أحاطت بمجتمع الولايات الإسلاميّة، وذلك بعد تسنّم يزيد الخلافة، وهناك كتب يزيد إلى والي المدينة يقول: «خُذ حسيناً... بالبيعة أخذاً شديداً»[3].

ومعلوم هنا، أنّ يزيدَ لم يكن يرضى بغير البيعة، ومعنى هذا أنّ الحسين (عليه السلام) كان أمام خيارات ثلاثة: إمّا أن يبايع يزيد، ويستسلم له، ويُسلّم لشروطه، أو كما عَرض عليه بعضُهم: أن يرفض البيعة،

 

 


[1] في حديث الشهيد والشهادة قلنا: إنّ كلّ استشهاد يصحبه نورانيّة. وشبّهنا ذلك بالأعمال الفرديّة الخيّرة التي عادةً ما تجلب لصاحبها المُضحّي الصفاء والنورانيّة لقلبه. وعلى قاعدة هذه النظرة المميّزة يمكننا الانطلاق في بحث موسّع ومفيد للغاية.

[2] سورة الأحزاب، الآيتان 45 - 46.

[3] أبو مخنف الأزديّ، مقتل الحسين (عليه السلام)، تعليق حسين الغفاري، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص3.

 

12


6

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

وينزوّي أو يبتعد عن واجهة الأحداث، إذا ما تطلّب الأمر ذلك -وهو الأمر الذي كان لا بدّ منه-، وبالتالي اللّجوء إلى أحد الأودية، أو إحدى الهضاب، والتصرّف كالمتمرّدين، أو العُصاة الذين عادةً ما يُعبِّرون بأعمالهم عن خليط من أحاسيس الخوف الممزوج بالشجاعة، أو أن يختار ثالثاً هو الاستقامة والصمود حتّى الاستشهاد.

والخيار الأوّل، هو ما كان يُشير عليه به أنصار الأُمويّين، أمثال مروان بن الحكم.

والخيار الثاني، هو ما كان يقترح عليه القيام به كلّ من ابن الحنفيّة وابن عبّاس (حيث إنّ اقتراحهما كان يعني بالنتيجة هذا الأمر تحديداً).

وأمّا الخيار الثالث، فهو ما قام به الحسين بنفسه وطبّقه. وكان الخيار الأوّل يتلخّص في الواقع بأنْ يبيع الحسين (عليه السلام) دينَه، وآخرته، مقابل دنيا يزيد، وأن يترك المسلمين وشأنهم، ويتصالح مع يزيد ويُهادِنَهُ ويُبايعه؛ أملاً في الحفاظ على نفسه وحياته.

وهذا ما كانت تأباه روح الحسين الرفيعة الطاهرة، حيث قال: «يأبى الله ذلك لنا ورسولُهُ والمؤمنون، وحُجورٌ طابت وطَهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة»[1].

 

 


[1] راجع: ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي‏، إيران - قم، 1404ه‏، ودار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1378ه - 1959م، ط1، ج3، ص 250.

 

13


7

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

بينما كان الخيار الثاني يتلخّص في اتّخاذ موقف سلبيّ من البيعة، الأمر الذي كان يتنافى وشخصيّة الحسين، التي كانت تحمل في روحها وطيّات قلبها تكليفاً إيجابيّاً في مثل هذه الحالات، عملاً بقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «أيّها الناس، من رأى سُلطاناً جائراً مُستحلّاً لِحُرم الله...»[1] ، ناهيك عن عدم انسجام روح الحسين الرفيعة العالية مع روح الفرار في الهضاب والأودية!

ولذلك، تراهُ لم يكن مُستعدّاً، حتّى وهو في الطريق من المدينة إلى مكّة، لأنْ يختار الطرق الفرعيّة في المسير، حيث إنّه أجاب على اقتراح بعض رفاق دربه، القاضي بالانحراف عن الجادّة الرئيسة قائلاً: «لا والله، لا أُفارِقُهُ حتّى يقضيَ الله ما هو قاضٍ»[2].

وهو نفسه القائل: «لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد»[3].

ثمّ إنّه (عليه السلام) ابن ذلك القائد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي يقول: «والله، لو تظاهرت العربُ على قتالي، لما ولّيتُ عنها، ولو أمكنتِ الفُرص من رقابها، لسارعتُ إليها»[4].

 

 


[1] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج44، ص382.

[2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1993م، ط2، ج2، ص35.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص7.

[4] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص418.

 

 

14


8

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

ولذلك تراه (عليه السلام) اختار الطريق الثالث؛ طريق الحرّيّة والشهادة المعروف.

 

قيمة الشهيد والشهادة في المجتمع

لقد قلنا: إنّ كلّ شهادة تُسبّب حالة نورانيّة في المجتمع، وشبّهنا ذلك الأمر بالحالة النورانيّة التي تحصل في قلب الأفراد من خلال بعض أعمال الخير، أو أعمال التضحية والإيثار التي يقومون بها.

وإنّ القلب الذي يدخل إليه الصفاء، وتحصل له عمليّة الجلاء، ومن ثمّ الهداية، فإنّ الظلمات ستزول عنه، والطريق سيتّضح أمامهُ، ويصبح جليّاً.

وهذا موضوع جوهريّ، رفيع المستوى في باب أبحاث قيمة الشهيد والشهادة، ولا سيّما من زاوية دراسة آثار النهضة الحسينيّة في عالم الإسلام.

وإنّ الإمام (عليه السلام) حتّى لو كان قد تحرّك أساساً بهدف الشهادة، فإنّ حركته تلك كانت في إطار منطق صحيح.

والعبارة المرويّة بهذا الخصوص: «شاء الله أن يراني قتيلاً»[1]، إذا ما ثبت إسنادها الصحيح، فإنّها عبارة سليمة وصحيحة المعنى والمرام.

 

 


[1] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 364 ، وفيه: «فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا».

 

15


9

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

بين منطق المصلحة ومنطق الحقيقة

إنّ المنطق المصلحيّ والنفعيّ شيء، ومنطق الحقّ والإصلاح شيء آخر[1].

إنّ عقلاء القوم الذين أرادوا منع الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) من التحرّك والقيام، إنّما كانت تتمحور نصائحهم حول محور المصلحة الشخصيّة للإمام الحسين (عليه السلام)، وضرورة الحفاظ على الحياة الدنيويّة، وسلامة البدن، وحفظ الأهل والأولاد.

ويُقال إنّ أكثر الأقوال شموليّةً وتوضيحاً لهذا المنطق، هو قول ابن عبّاس وحديثه، وإذا كان لا بدّ من التعجُّب والاستغراب، فإنّه يجب أن تتعجّب من قول ابن عبّاس.

إنّ الشيء الوحيد الذي يُفتقد في منطق ابن عبّاس هو الفكر الإسلاميّ، ومنطق الإيثار والتضحية، بينما نرى أنّ الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن نراه مُطلقاً في منطق الحسين (عليه السلام)، هو منطق المنفعة والمصلحة الذاتيّة[2].

 

 


[1] فعليّ (عليه السلام) يقول حول أرض كربلاء: «مُناخُ ركاب، ومَصارعُ عُشّاق» (الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1364ش، ط3، ج6، ص73)، ويقول كذلك حول تربتها: «واهاً لكِ أيّتها التربة! لَيُحْشَرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب» (المنقري، نصر ابن مزاحم، وقعة صفين، تحقيق وشرح عبد السلام محمّد هارون، المؤسّسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع - القاهرة، 1382ه، ط2، ص140).

[2] يقول هربرت سبنسر: «إنّ طموح الأخيار والصالحين هو في مشاركتهم في تربية الإنسان؛ أيْ أن يصبحوا مُصلحين». ويقول نبيّنا الكريم (صلى الله عليه وآله): «بُعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق» (الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، 1392ه - 1972م، ط6، ص8). ويقول -تعالى- عنه (صلى الله عليه وآله): ﴿عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم﴾ (سورة التوبة، الآية 128).

 

16


10

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

إنّ منطق الحسين (عليه السلام) هو ذلك المنطق الذي يقول: «خُطّ الموت على وُلد آدم...»[1].

وهو المنطق الذي أجاب به على الحُرّ قائلاً: «أفبالموت تخوّفني؟...»[2].

وهو نفسه المنطق الذي جاء في بعض أشعاره: «سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى...»[3].

 

الهدف المقدَّس وحسّ السموّ والقداسة

إنّ كلمات الشهيد والشهادة من الكلمات الرائجة، التي لا تُستخدم في الواقع إلّا بحقّ بعض الأفراد، فليس كلّ قتيل أو ميّت بشهيد!

فثمّة مئات القتلى، وآلاف الموتى، يسقطون يوميّاً في مجتمعاتنا، لكنّنا لا نُطلق عليهم صفة الشهيد.

إنّ كلمة الشهيد تحيط بها هالة من القدسيّة، والتعالي والسموّ، وإنّما تُطلق كلمة الشهيد على ذلك الفرد الذي ضحّى بحياته في سبيل هدف مُقدّس، أو مات وهو سائر على طريق المسيرة المُقدّسة.

 

 


[1] الحلوانيّ، حسين بن محمّد بن حسن بن نصر، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهديّ (عليه السلام)، إيران - قم، 1408، ط1، ص86.

[2] الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، مصدر سابق، ج2، ص81.

[3] ابن قولويه، أبو القاسم جعفر بن محمّد القمّيّ، كامل الزيارات، تحقيق الشيخ جواد القيوميّ، مؤسّسة نشر الفقاهة، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص194.

 

17


11

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

والشهيد إنّما تمتاز حركته بثلاث ميزات:

فهو أوّلاً: يُقتل في سبيل تحقيق هدف مُقدّس.

ثانياً: يكسب حالة الخلود.

ثالثاً: ما ذكرناه آنفاً مِن أنّه يخلق جوّاً من الصفا، والطُهر في المجتمع المُحيط به.

ولا بدّ للهدف من أنْ يكون مُقدّساً، ولا يكفي أن يكون عظيماً، فقد يكون عظيماً ومهمّاً للغاية، لكنّه ليس مُقدّساً، والذي يموت من أجل الأهداف الكبرى، أو يُقتل في سبيلها، ولا سيّما إنْ كانت تلك الأهداف غير سامية، فإنّه لن ينال حالة القُدسيّة والاحترام والتقديس في عيون البشر[1].

إنّه في الواقع يكون قد وَسَّع بذلك العمل الكبير من دائرة حُبّ الذّات، والدائرة النفعيّة لديه.

ومثل هذا الشخص لو تمكّن من تسخير الكواكب السماويّة كلّها،

 


[1] إنّ الشهيد هو من يعطي لدمه قيمة أبديّة وخالدة. فمن يضع ماله في خدمة أعمال الخير، إنّما يُعطي لماله قيمة أبديّة، وكذلك من يضع فكره وآثاره العلميّة، فإنّه يُعطي لفكره مفهوم الخلود. ومثله من يضع صناعته وفنّه، فهو يُعطي لفنّه الأثر الخالد. وكذلك من يُربّي ابنه أو يُربّي الآخرين، فإنّه يُعطي الخلود لأعماله، بينما الشهيد يُعطي لدمه قيمة الأبديّة والخلود. وهذا هو الفرق بين الشهيد وغيره: فالشهيد هو ذلك المُضحّي بكلّ ما يملك عن عشق ووفاء للمبدأ الساميّ، بينما العالم، أو المنفق، أو المعلم، أو الفنّان، فإنّ كلّ واحد منهم يُضحّي بقسم ممّا يملك، ويُعطي لذلك القسم تلك الأبديّة وذلك الخلود. وقد قلنا سابقاً إنّ الفيلسوف مدين لأيّ كان، وإنّ دم الشهيد لا يسقط على الأرض، بل يصبح مضاعفاً، ويتمّ تزريقه للآخرين في عروقهم، ويظلّ جارياً إلى الأبد فيهم؛ وهذا هو معنى خلود دم الشهيد؛ وهذا هو معنى الحماسة الأبديّة للشهيد. ولهذا نرى أنّ الأولياء والصالحين كانوا يأملون الشهادة على الدوامّ، وأنّ الإسلام بحاجة إلى الشهيد في كلّ عصر وزمان.

 

18


12

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

فإنّه لن يتمكّن من كسب حالة القداسة لأعماله، فالعمل يكون مُقدّساً فقط عندما يخرج من محيط دائرة حُبّ الذّات، والمنفعة الشخصيّة[1]، ويكون الهدف فقط التكليف والوظيفة، ولا سيّما التكاليف المطلوبة من البشر تجاه النوع البشريّ، والمجتمع الإنسانيّ.

وعندما يُقال إنّ «المقتول دون عياله وماله شهيد»، فإنّه في الواقع كذلك، بسبب قيامه بالواجب والتكليف اللذين أملاهما عليه وجدانه وكرامته وشرفه ودينه، وليس عندما يكون الدافع هو المنفعة الماديّة.

فما بالك أن يكون المقتول قد قُتل دون العدل والحرّيّة، ودون التوحيد والإيمان، فإنّه بلا شكّ أكثر قدسيّةً، وأعلى مرتبةً، وأرفع درجةً بالتأكيد.

إنّ حسّ التعالي والسموّ والتقديس، حسٌّ أصيل لدى البشر، وهو نابع من صميم روح البشر، فهناك حسُّ البحث عن الحقيقة وتقديسها (العلم)، وهناك حسّ البحث عن الخير وتقديسه (الأخلاق)، وهناك حسّ البحث عن الجمال وتقديسه؛ وهذا هو أحد الأسرار والألغاز المحيطة بوجود البشر.

 

 


[1] وهنا لا بدّ من التحقيق في موضوع المعيار والملاك الأساسيّ المطروح للقدسيّة، ولماذا حُبُّ الذات والأنانيّة عملان دنيئان، بينما العمل الذي فيه خدمة الغير والقيام بالواجب والمسؤوليّة، أو رضا الله، يكون عملاً مُقدّساً. فهل المعيار هو في المادّيّة والتجرّد؟ أو أنّ المعيار هو في الوجود والعدم؟ أو في الحركة والتوفيق؟ أو أنّ المعيار يكمن في التناسق مع أهداف العالم، والحركة التكامليّة الكونيّة؟ أو أنّ القداسة، كما ورد في الشرح داخل المتن، هي في الأبديّة، والخلود، والنجاة من الموت؟

 

19


13

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

فالإنسان -على العموم- تراه ينظر نظرةً مُقدّسة تجاه الأمور، والأشياء غير الحسّيّة، وهو يُعظّم كلّ ما هو معنويّ لا تطاله الحواس.

صحيح أنّ كلّ ميل إنّما هو تعبير عن حاجة عينيّة، لكنّ هذه الحاجات العينيّة ليس مبدؤها الأجهزة البدنيّة للإنسان، بل هي تلك الدرجة المستقلّة لروح الإنسان.

إنّ مبدأ سلسلة المقدّسات عند البشر تكمن في الذات الأحديّة، الذات المقدّسة، الله القدّوس المنزّه من كلّ نقص على الإطلاق، ﴿ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلمَلِكُ ٱلقُدُّوسُ﴾[1].

ولهذا ترى أنّ أكثر أعمال البشر قدسيّةً هي الكفاح ضدّ الشرك وعبادةِ الأوثان.

 

الثورات المُقدَّسة

إنّ الثورات والحركات المقدّسة، قد بدأها في الحقيقة الأنبياء والعظام، وقد ورد ذكر تلك الثورات، والحركات المقدّسة، وجهاد الأنبياء المقدّس، باختصار في سورة الشعراء، حيث يذكر القرآن الكريم قصص موسى وإبراهيم ونوح وهود ولوط وصالح وشُعيب وخاتم الأنبياء، بأنّهم إنّما قاموا في سبيل مكافحة عبادة الأصنام، والنضال ضدّ الظلم، والاستبداد، والجهل، والتعصّب، والتقليد، والإسراف، والتبذير، والإفساد في الأرض، والفحشاء، والامتيازات

 

 


[1] سورة الحشر، الآية 23.

 

20


14

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

الاجتماعيّة الوهميّة؛ وهذه هي خلاصة مقدّسات الجنس البشريّ.

وقد سلك الإمام الحسين (عليه السلام) الطريق نفسه الذي سلكه الأنبياء، لكنّه بالطبع واجه ظروفاً مغايرة للتي واجهتها الأنبياء (عليهم السلام).

والاعتراض الذي يوجَّه إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، بسبب إصراره على التضحية، وعدم الاستسلام، من أجل حفظ النفس، هو نفسه يمكن أن يوجَّه إلى الأنبياء والأولياء كافّة (عليهم السلام).

وأساس الدين في الواقع هو الإيثار والتضحية، فمنطق الدين هو منطق الإيثار، يقول -تعالى-: ﴿وَيُؤثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٞ﴾[1]، ﴿وَيُطعِمُونَ ٱلطَّعَامَ على حُبِّهِۦ مِسكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا﴾[2]، ويقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «من أصبح لا يهتمّ بأمر المسلمين، فليس من المسلمين»[3].

إنّ تعلُّق الجنس البشريّ بالنفس والحياة، وكذلك التعلُّق بالآباء والأبناء والأمّهات والزوجات، أو بالمال والملك والشغل والحرفة والبيت، إنّما هو أمرٌ طبيعيّ، وهو ما يظهر في كلّ فردٍ من أفراد المجتمع.

بل إنّ كثيراً من هذه التعلّقات هي جزء من طبيعة الحيوان أيضاً، وقد جاء الدين لينقل الإنسان من حالة إلى حالة أرقى، بحيث يجعله يعشق أموراً أكثر عُلوّاً ورفعةً، وليتعلّم درساً قيّماً من دروس العزّة والجلال.

 

 


[1] سورة الحشر، الآية 9.

[2] سورة الإنسان، الآية 8.

[3] ابن الأشعث، محمد بن محمد، الجعفريات (الأشعثيات)، مكتبة النينوى الحديثة، إيران - طهران‏، لا.ت، ط1، ص88.

 

21


15

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

يقول -تعالى-: ﴿قُل إِن كَانَ ءَابَآؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَٰنُكُم وَأَزوَٰجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَٰلٌ ٱقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرضَونَهَآ أَحَبَّ إِلَيكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأتِيَ ٱللَّهُ بِأَمرِهِۦ وَٱللَّهُ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلفَٰسِقِينَ﴾[1].

وجود الإدراك المتين في النهضة الحسينيّة

يمكننا أن نُميّز بعض الأشياء التي يمكن اعتبارها السبب أو الميزان الذي يُبيّن كون هذه النهضة أو تلك من النهضات المقدّسة والرفيعة، أو لا، والتي إنْ وُجدت جَعلت الروحانيّة تسود على الأفكار والعقول الإنسانيّة.

وهذه الأشياء، بالدرجة الأولى، عبارة عن طهارة الهدف والغاية ونقائهما وقدسيّتهما، وعدم اختلاط أهداف النهضة بأيّ هدف من الأهداف الشخصيّة، أو المنفعة المادّيّة، والمطامع الذاتيّة، أو حبّ الجاه والشهوة والأنانيّة والمحوريّة الذاتيّة أو أنواع التعصّب القوميّ أو الحميّة الوطنيّة، بل أن تبقى الغاية هي رضا الله، والعمل بأوامره -سبحانه وتعالى-، وتحقيق العدل والتوحيد، والقيام بالقسط والحرّيّة، وحماية المظلوم، والدفاع عن الضعيف، ﴿إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي ٱلأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعٗا يَستَضعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنهُم﴾[2].


 


[1] سورة التوبة، الآية 24.

[2] سورة القصص، الآية 4.

 

22


16

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

نعم، عندما تكون النهضة بسبب الارتعاش والحرقة التي تحصل في الوجدان والضمير الإنسانيّ، وعندما يكون القيام من أجل الإنسانيّة، والمجتمع البشريّ وأصوله ومبادئه المقدّسة؛ وبعبارة أخرى: عندما تكون النهضة ذات صفة أصوليّة، وليست فرديّة[1]، وهي الأصول السامية للإنسانيّة، والتي تُشكّل في الواقع قوام الحياة الإنسانيّة وروحها. نعم، من أجل روح الحياة، التي هي أرفع وأسمى من وسائل الحياة.

فافتقار الإنسان إلى الوسائل لا يسلب منه أصل الحياة، لكنّ غياب المقدَّسات، كالعدالة والحقّ والحرّيّة، من قاموس البشريّة، ومَحوها، يكونان بمثابة سحب الهواء من الفضاء.

وثمّة فرق بين أن يكون الفضاء مفتقراً إلى القنديل أو الفراش أو وسائل الصوت والصورة، أو أن يكون مفتقراً إلى الهواء نفسه.

العامل الثاني من عوامل تقديس أيّ نهضة وسموّها وتعاليها، كونها تأتي في ظلّ سيطرة الظلمات المتراكمة، وبعد شيوع موجة اليأس المطلق، وفي ظروف تعيشها البشريّة لا تكون فيها نجمة واحدة مُضيئة في السماوات، وإذا بالنهضة تأتي كشرارةٍ، وكبرقٍ لامع، وشعلةٍ حقّانيّة، تُضيء الطريق للآدميّين.

 

 


[1] بعبارة أخرى: عندما يتمّ التضحية بالمصلحة الذاتيّة، والمنفعة الشخصيّة، من أجل المصالح العامّة للمجتمع، والتضحية بكلّ شيء من أجل الحقّ والعدالة، عندها فقط يتحوّل الأفراد، وتتحوّل ثورتهم إلى تبلور وتجسيد للحقّ والعدالة، وهكذا يصبحون مُقدّسين مثل الحقّ والعدالة.

 

23


17

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

وبالتالي ستُمثِّل حركة في وسط السكون، ونداءً مُلحّاً وسط السكوت المميت، والظلام القاتل، كالبرق في وسط الظلام، والقليل مقابل الكثير، ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةٗ كَثِيرَةَ بِإِذنِ ٱللَّهِ﴾[1].

ولهذا، ترى مثل هذه النهضة لا تجد صدىً عند العقلاء من المُحبّين لذواتهم، وهي تظلّ على الرغم من ذلك أشبه بالسحابة التي تُمطر على العطشان في الصحراء، ومثل المحبوب الذي يصل إلى المحبّ من دون موعدٍ مُسبَق.

وبريدٌ يأتي بوصل حبيبٍ
                        وحبيبٌ يأتي بلا ميعاد

العامل الثالث من عوامل تقديس الثورات والحركات، هو كون قيادة الحركة تحمل إدراكاً متيناً، وبصيرةً نافذة ثاقبة، قادرةً على رؤية ما سيأتي من أحداثٍ خلفها، فهي -إذاً- ترى ما لا يراه الآخرون خلف الستار.

وهذا ما يتمّ استنباطه من قراءة الآيات القرآنيّة المتعلّقة بنهضة الأنبياء (عليهم السلام)، كآية: ﴿مَن أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾[2]، وآية: ﴿وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا﴾[3]، وآية: ﴿يَستَضعِفُ طَآئِفَةٗ﴾[4]، حيث يتّضح منها جميعاً

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 249.

[2] سورة آل عمران، الآية 52.

[3] سورة الأحزاب، الآية 46.

[4] سورة القصص، الآية 4.

 

24


18

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

أنّ قيادتها تحمل –حقّاً- بصيرةً وإحساساً قويّاً نافذاً، وترى ما لا يراه الآخرون.

وكذلك في قوله -تعالى-: ﴿وَلَقَد ءَاتَينَآ إِبرَٰهِيمَ رُشدَهُۥ﴾[1]، وآية: ﴿نَّحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ نَبَأَهُم بِٱلحَقِّ إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِم وَزِدنَٰهُم هُدٗى﴾[2].

فكلمة «رُشد» لم تُستخدم بمعنى النموّ، بل بمعنى العاقل والبالغ والرشيد. وكذلك معنى «الهُدى».

وهنا، لا بدّ لنا من الاعتراف أيضاً، بأنّ نهضة السيّد (جمال الدين) هي الأخرى نهضة مُقدّسة، من حيث إنّها كانت ثاقبة وضروريّة، في زمن لم يكن يرى أهل عصرها ذلك. وهو ما يمكن ملاحظته من رسائل (السيّد جمال) التي بعثها إلى العلماء في زمانه.

بالطبع، يوجد عوامل أخرى لتقديس النهضة، مثل كونها تحصل في ظلّ عدم توازن القوى بين طرفي الصراع، وفقد التجهيزات المادّيّة الظاهريّة للقائمين عليها، فموسى (عليه السلام) وإبراهيم (عليه السلام) ومحمّد (صلى الله عليه وآله) كانوا وحدهم عندما شرعوا بالنهضة، ولم يكونوا يملكون شيئاً من تلك التجيهزات، وكذلك كانت حال الإمام الحسين (عليه السلام).

والآن، ماذا كان يرى الإمام الحسين (عليه السلام) من خلف الستار؟ وكيف كان إدراكه قويّاً لخفايا الفكر الأمويّ المناهض للإسلام؟

 

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 51.

[2] سورة الكهف، الآية 13.

 

25


19

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

نعم، فالنهضة الحسينيّة كشفت أنّ الحسين (عليه السلام) كان يرى ما لم يكن يراه البسطاء من الناس، فأبو سفيان قد قال بوضوح في بيت عثمان:

«يا بني أُميّة، تلقّفوها تلقُّف الكرة. أما والذي يحلِفُ به أبو سفيان، لا جنّة ولا نار، وما زلتُ أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثةً»[1].

ثمّ قام بنو أُميّة بتحويل ذلك الكلام إلى ممارسة فعليّة، عندما سلّموا الخلافة إلى يزيد، وطالبوا أهل العقد والحلّ، وفي مقدّمتهم الإمام الحسين (عليه السلام)، بمبايعة الخليفة الجديد، ممّا كان يعني الترجمة العمليّة للفكر السفيانيّ الخطير، وهو الفكر الحزبيّ الأمويّ الأساسيّ.

ولكن على الرغم من ذلك كلّه، فإنّ جمهور العامّة، الذي كان يحمل الأمور على الظاهر، والذي كانت تخدعه المظاهر والظواهر من السيرة، لم يُدرك -مع الأسف- أخطارَ مثلِ هذه التحرّكات التي أشار إليها الإمام الحسين (عليه السلام) آنذاك عندما قال: «وعلى الإسلام السلام، إذْ قد بُليت الأُمة براعٍ مثل يزيد»[2].

والإمام الحسين (عليه السلام) كان يُدرك جيّداً أنّ صعود يزيد إلى

 

 


[1] راجع: الشيخ الأميني، الغدير، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، 1397ه - 1977م، ط4، ج8، ص278.

[2] ابن نما الحلي، مثير الأحزان، المطبعة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1369 - 1950م، لا.ط، ص15.

 

26


20

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

الخلافة يعني تحقّق مبدأ أبي سفيان القائل: «ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثةً»، وأنّ السكوت عليها قد يحمل معه أخطار تحوُّل هذه الفكرة إلى تقليد دائم، وربّما يصحب ذلك -أيضاً- تزوير في الحديث لصالح الأفكار التي تُنادي بصيرورة الخلافة وراثيّة في بني أميّة.

إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يُقتل بأيدي اليهود أو النصارى أو المجوس أو مشركي العرب، ولا حتّى على يد أهل الردّة منهم، بل إنّه قُتل بأيدي المسلمين، بل وحتّى على يد أصحاب أبيه، ولم يكن القتلة من أهل الشام، بل كانوا من أهل الكوفة!

بالطبع، فقد كان الكوفيّون مرعوبين، وكانت العامّة منهم تتّبع وجهاء القوم، والقيادات منهم كانت مشبعة بالرشوة.

«أمّا أشراف الناس فقد أُعظمت رشوتُهُم، ومُلئت غرائزهم»[1].

نعم، فماذا يُنتظر من رؤساء قوم امتلأت جيوبهم بالأموال والرُشى التي تتقاطر عليهم من كلّ جانب، ولا سيّما إن كانت أحاسيس العامّة ومداركهم ضعيفة، ومُصابة بمرض النسيان!

لقد قلنا إنّ أحد الأسباب، أو العامل الأهمّ، والعلّة الأكثر أهمّيّة في شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)، أو التفاف العامّة حول الأُمويّين، يكمن -في الواقع- في جهل الناس.

 

 


[1] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط4، ج4، ص306.

 

27


21

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

ومن جهةٍ أخرى، فإنّنا نعرف -أيضاً- أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يكافح ضدّ شخص يزيد، فالحسين (عليه السلام) أكبرُ من أن يكون هدفه شخصاً أو فرداً بعينه، فهدفه كان في الحقيقة كلّيّاً، وشاملاً، وأساسيّاً.

فهو (عليه السلام) كان يهدف من وراء نهضته مقاومةَ الظلم، والكفاحَ ضدّ الجهل، وهو ما جاء في الزيارة العامّة التي نقرؤها بمناسبة ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، تلك الزيارة التي تُعلِّمُنا وتلقِّننا بأنّ الهدف لتلك النهضة وذلك الكفاح، إنّما كان في الواقع للقضاء على الجهل والانحراف، وهو ما جاء ذكره في زيارة الأربعين في قولنا: «وَبَذَلَ مُهجته فيكَ، ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»[1].

وهنا، لا بدّ من التوضيح أنّ المقصود من الجهل ليس عدم معرفة الناس بالقراءة أو الكتابة، وأنّ كون الناس أميّيّن ليس هو الذي جعلهم يرتكبون مثل ذلك العمل. وأنّهم لو كانوا أهل درس وأهل قراءة وكتابة وتحصيل، لَما ارتكبوا مثل ما ارتكبوه بحقّ الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لا أبداً، ليس كذلك!

فالجهل في المصطلح الدينيّ، إنّما يتمّ استخدامه مقابل العقل والإدراك، والمقصود به المنبّه العقليّ، الذي لا بدّ من وجوده بين الناس، وبعبارة أخرى: القدرة على تحليل الأمور والأحداث وتفسيرها،

 

 


[1] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، مؤسسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص788.

 

28


22

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

وتطبيق الكلّيّات على الجزئيّات، وهذا ما ليس له علاقة كثيراً بالأُمّيّة، أو عدمها.

فالمطلوب هنا وجودُ العلم، وحفظ الكلّيّات والأصول العامّة وتسجيلها، وحيازة العقل بمثابة قوّة التحليل والتفسير والإدراك المتين.

أي إنّ الإمام الحسين (عليه السلام)، قد استُشهد ضحيّة نسيان الناس. فلو أنّ الناس قد فكّرت جيّداً في تاريخ الأعوام الخمسين أو الستّين التي مرّت عليها، وملكت قوّة إدراك وتنبّه واستنتاج للأحداث التي مرّت عليها، وأخذت العبرة من ذلك كلّه، والعمل بما عبّر عنه سيّد الشهداء (عليه السلام) في قوله: «ارجعوا إلى عُقُولكم»، واستذكار جرائم أبي سفيان ومعاوية وزياد ابن أبيه في الكوفة، وعدم نسيان حقيقة بني أميّة أساساً، وعدم انخداعهم بالظاهر الذي كان يبدو فيه معاوية، والذي كان يُريد من ورائه خداع الناس، برفعه راية الدين والتديُّن، في محاولةٍ منه لإخفاء المصالح الشخصيّة التي كان يعمل لها. ولو أنّ العامّة كانت تُفكّر بعمق، وتحسُب بدقةٍ، مقدار النفع الذي كان يدرُّ عليها في الدنيا والآخرة من وراء تبعيّتها للحسين، في مقابل تبعيّتها ولهاثها وراء يزيد، ومعاوية، وعبيد الله، لما كانت وقعت مثل تلك الجريمة بحقّ آل البيت أبداً.

إذاً، فالسبب الرئيس وراء تصرُّف أناس معتقدين نسبيّاً بالإسلام، بتلك الصورة، مع آل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، في الوقت الذي كانوا فيه هم

 

29


23

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

أنفسهم مستعدّين لقتال الكفّار، قربةً إلى الله، إنّما يكمن فقط في نسيان أولئك العامّة وسذاجتهم وسهولة خداعهم؛ وبكلمة: عدم قدرتهم على النظر إلى ما وراء الستار، وكشف حُجب النفاق. فهم كانوا يرون ظواهر الشعائر الإسلاميّة يُعمل بها، ولكنّهم لم يكونوا يرون ضياع الأصول والمعاني.

بالطبع، يوجد عوامل أخرى ساهمت في حصول الواقعة المأساة تلك، وهي الرعب والخوف والتبعيّة التي كانت تُحيط بجمهور العامّة، من جهة فساد أخلاق الرؤساء، وشيوع الرشوة والطمع والطاعة العمياء في صفوف المجتمع، عملاً بالعادات الجاهليّة العربيّة، حيث كان الصغار في القبيلة يتّبعون رؤساء القبائل.

إنّ واقعة الطفّ واقعة إسلاميّة مئة بالمئة. فالإمام الحسين (عليه السلام) -كما يقول ذلك الرجل المعاند- قد قُتل بسيف جدّه، ولكنّ السبب يكمن في جهل الناس، وتمسّكهم بالظواهر، وانخداعهم بالمظاهر العامّة التي تُبرز وجود الشعائر الدينيّة.

مضافاً إلى ذلك، فإنّ أحد عوامل وقوع تلك الفاجعة، هو كون القائمين والمُنفّذين لها، كانوا بالصدفة من أصحاب الجريمة، وحاملي مواصفات الجُناة الفطريّين، كما جاء وصفهم على لسان العقّاد بقول: «المُسخاء المشوَّهين، أولئك الذين تمتلىء صدورهم بالحقد على أبناء آدم، ولا سيّما مَن كان منهم على سواء الخُلق،

 

30

 

 


24

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

وحُسن الأُحدوثة، فإذا بهم يُفرِغون حِقدهُم لِعدائه، وإنْ لم ينتفعوا بأجرٍ أو غنيمةٍ...».

 

الخلاصة في بحث العوامل المؤثّرة في شهادة الإمام الحسين (عليه السلام)

إنّنا نستطيع في الواقع بحث الموضوع من الناحية التاريخيّة، وعنونته على الشكل التالي، فنقول: ما هي العناصر، وما هي الأشياء التي ساهمت في استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)؟ ثمّ نقول: ما هي العناصر، وما هي الأشياء التي وقفت إلى جانبه أو ناصرته؟

فأمّا من زاوية الحديث عن العناصر التي ساهمت في استشهاد الحسين، فهي عناصر معروفة. وتبقى الإشارة -باختصار شديد- إلى الأشياء التي كانت الباعث وراء قيام تلك العناصر بذلك الدور الإجراميّ. وباختصار يمكن الإشارة أوّلاً إلى:

- طمع المُلك -ملك الريّ-، والحصول على المال والثروة، كما يقول «خولي»: «جئتُك غنى الدهر».

أو من خلال رشوة الرؤساء: «أمّا أشراف الناس فقد أُعظمت رشوتُهُم، ومُلئت غرائزهم»[1].

 

 


[1] الطبريّ، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مصدر سابق، ج4، ص306.

 

 

31


25

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

- إلى جانب عاملي الجبن والرعب، اللذين كانا قد أصابا عامّة الناس، مضافاً إلى الميل الباطنيّ الذي كان يُحرّك ابن زيّاد، وإلى جانب الخبث الذاتيّ الذي كان في طبع أمثال الشمر، والغرور والانحلال الأخلاقيّ والخفّة والتعاسة التي كانت مهيمنة على شخص يزيد.

وما فوق ذلك كلّه، نسيانُ الناس لتاريخهم الماضي، وتجربة الأعوام الستّين التي خاضوها بألوانها كلّها، وأنّهم كانوا من المسلمين الذين خاضوا تلك التجارب الغنيّة كلّها، لكنّهم على الرغم من ذلك خُدعوا، وضُلّلوا بالمظاهر الخدّاعة للخليفة الأرعن الجديد.

تلك العوامل مجتمعة كانت -في الحقيقة- هي الخلفيّة وراء واقعة الطفّ، واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام).

وأمّا ماذا كانت عناوين الأشياء التي وقفت إلى جانب الحسين في المواجهة، فإنّنا يمكن الإشارة إليها باختصار، بأنّها عبارة عن الإيمان، وأخذ العبرة من التاريخ، وتجربة الأعوام الستّين منذ صدر الإسلام حتّى زمان حدوث الواقعة، وهي العناوين التي نجد لها صدى في كلمات زهير بن القين، مضافاً إلى حسّ الفتوّة والرجولة والشجاعة والإيمان بالغيب، وأمثال ذلك من المبادىء التي ناصرت الإمام في معركة المواجهة.

 

32


26

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر المُصلحين العِظام

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله وحبيبه وصفيّه سيّدنا ونبيّنا ومولانا أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَٰقَومِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيكُم مَّقَامِي وَتَذكِيرِي بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلتُ فَأَجمِعُوٓاْ أَمرَكُم وَشُرَكَآءَكُم ثُمَّ لَا يَكُن أَمرُكُم عَلَيكُم غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ﴾[1].

إنّ موضوع بحثنا هو الملحمة الحسينيّة أو (الحماسة الحسينيّة). ولا بدّ لي أوّلاً من توضيح كلمة الحماسة التي تُستخدم كثيراً في اللّغة الفارسيّة.

إنّ كلمة الحماسة تعني: الشدّة والصلابة، وفي أحيان أخرى يمكن

 

 


[1] سورة يونس، الآية 71.

 

33


27

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

استخدامها بمعنى الشجاعة والحميّة. إنّ أهل الأدب، والمتخصّصين في شؤون الشعر، يُقسِّمون أنواع المنظومات الشعريّة، من حيث المحتوى والجوهر والهدف، إلى أقسام مختلفة: فهناك المنظومة الغنائيّة أو الغزليّة، وهناك المنظومة الحماسيّة، كما هناك المنظومة الرثائيّة، مضافاً إلى شعر الحكمة والمديح وغير ذلك من أنواع الشعر المختلفة. فدواوين سعدي وحافظ وشمس تبريزي –مثلاً- يمكن عدُّها من القسم الغزليّ أو الغنائيّ للشعر. صحيح أنّ الهدف الكامن وراء هذه الأشعار هو العرفان، إلّا أنّها على الأقلّ ظاهريّاً تُعطي طابعاً غزليّاً في أسلوبها ونسيجها الشعريّ من حيث إنّها تتحدّث عن التشبيب، واللّغة المستخدَمة فيها هي لغة العُشّاق، والحديث فيها لا يتمّ إلّا عن جمال المحبوب، أو عدم اكتراثه بالحبيب، وألم الفراق، وطول ليله، وقصر أيّام الوصال، إلى ما هنالك من تعابير غزليّة يزخر بها الشعر الفارسيّ عموماً...

أمّا الشعر الرثائيّ، الذي غالباً ما يُنْظَمُ بشأن الأئمّة والشخصيّات الدينيّة والإصلاحيّة البارزة في مختلف المجتمعات، تلك الشخصيّات التي تكون منشأً للخير والبركة؛ فهو نوع آخر من الشعر.

بعد انقراض البرامكة، خرج مِن بينهم عددٌ لا بأس به من الشعراء الذين عملوا معهم في السلطة، وصاروا يرثونهم بعد ذلك بشعر رثائيّ خاصّ. الشاعر الإيرانيّ الشهير «حافظ» هو الآخر تراه يرثي ابنه بمرثيّة متميّزة...

 

34

 


28

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

إنّ شعر الرثاء كثير كذلك، وأمّا شعر المديح والتمجيد فإنّه كثير جدّاً، ولا سيّما شعر التملّق والمراءاة!

لكنّ الشعر الحماسيّ شعر من نوع آخر، وهو الشعر الذي عادةً ما يتطلّب موسيقى ولحناً خاصّاً. إنّ الشعر الحماسيّ هو ذلك الشعر الذي تفوح منه رائحة الغيرة والشجاعة والحميّة والرجولة. إنّه الشعر الذي يحرّك الروح ويهيّجها ويثيرها.

إنّ هذا التقسيم لا يختصّ بالشعر فقط؛ إنّه تقسيم أدبيّ عامّ ينطبق على النثر أيضاً، فهناك النثر الحماسيّ، والنثر الغزليّ، ونثر المديح ونثر الرثاء، إلى غير ذلك من أنواع النثر.

في حرب صفِّين، وعندما كانت المواجهة لا تزال في أوّلها بين جيشِ عليّ (عليه السلام) وجيش معاوية، فإنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن يريد أنْ يكون البادىء بالحرب، وكان يبذل قصارى جهده ليحلّ المشاكل القائمة بين الطرفين بقدر المستطاع بالحسنى، على أمل أن يعود بمعاوية وأصحابه إلى رشدهم، ويصدّهم عن غيّهم؛ لكنّه (عليه السلام) فوجىء بجيش معاوية وقد بادر إلى قطع الطريق على جيشه، وحاصر شريعة الماء، ممّا دفع به إلى تكثيف الجهود الرامية إلى حلّ الإشكالات القائمة عن طريق المفاوضات، ولمّا يئس من إمكانيّة قَبول الطرف الآخر، فإنّه صار على مفترق طرق بين أنْ يموت جيشه من العطش وبين أنْ يواجه الحرب التي فرضها عليه العدوّ بحربٍ أشدّ منها، وعندها توجّه إلى أصحابه

 

35


29

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

يستثيرهم ويُشعل هممهم.

وكما جاء في (نهج البلاغة)، فإنّ عليّاً (عليه السلام) –هنا- تراه يقف أمام الجمع من أنصاره، حانقاً، شديد التأثُّر، ويوجّه إليهم خطبة حماسيّة، يقول فيها:

«... قد استطعموكم القتال... فأقِرّوا على مذلَّةٍ وتأخير محلَّةٍ، أو روُّوا السيوف من الدماء تروَوا من الماء!... فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين»[1].

لقد استطاع عليّ (عليه السلام)، من خلال خطبة الحماسة هذه، أن يُهيّج المشاعر في جنده، ويُعبّئهم تعبئةً نفسيّةً، كان نتيجتها طرد العدوّ من شريعة الماء في فترة لم تتجاوز الساعتين، والسيطرة على الفرات، لكنّ عليّاً (عليه السلام) أمر جنوده أن يتركوا المجال المفتوح لجند معاوية، للوصول إلى الماء لأخذ ما يحتاجون إليه يوميّاً. ولمّا اعترض جنده عليه، وطالبوه بقطع المياه عن العدوّ كما قطعوها عنهم عندما كانوا مُسيطرين عليها، أجابهم عليّ (عليه السلام) بأنّ الماء حقٌّ طبيعيّ من حقوق الأحياء كلّها، وقطع الماء عن الآخرين عمل غير إنسانيّ، ولا نقوم به.

وبناءً عليه، يتبيّن أنّه من الممكن للحديث أن يكون حديثاً حماسيّاً. والحديث الحماسيّ يعني الحديث الذي تفوح منه رائحة


 


[1] السيّد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص89.

 

36


30

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

الغيرة والشجاعة والرجولة؛ حديث مُشبع بالصمود والمقاومة. وعندما يكون الشعر أو النثر مطبوعاً بهذه الخصوصيّات، عندها يُسمَّى بالأدب الحماسيّ.

المذكّرات والحوادث التاريخيّة، والقصص والحكايات أيضاً، يمكن تقسيمها بهذا الشكل، فهناك الحوادث الغزليّة، وهناك الوقائع التي يأخذ منها الإنسان العبر والدروس، وهناك الحوادث الرثائيّة الحماسيّة وغير ذلك. فالرواية الغزليّة المطلقة –مثلاً- تراها تفوح برائحة الغناء والغزل والعشق. انظروا إلى المجلّات المنتشرة في بلادنا، سترونها جميعاً لا تكتب ولا تنقل لكم سوى القصص والروايات الغزليّة. لا فرق إن كانت تعبّر عن الواقعيّة أو الخياليّة أو عن خليط من الواقع والخيال، ولا أدري ما الفائدة من وراء هذا الأدب الغنائيّ والغزليّ كلّه[1].

القصص الرثائيّة -أيضاً- كثيرة هي الأخرى، وهي المعروفة في هذه الأيّام (بالتراجيديا). فلو طالعت صفحات الجرائد اليوميّة، ستجد أغلب ما يُنشر فيها هو من هذا النوع المذكور.

وهنا قصص المواعظ والحكم أيضاً، وهي قصص ترمي إلى أخذ العبر والدروس من التاريخ والماضي، والقصص الحقّ (داستنا راستان)[2] -مثلاً- يمكن عدُّها من هذا النوع من القصص. الشخصيّات

 

 


[1] الشهيد هنا يُشير إلى مجلّات العهد البائد.

[2] كتاب في مجلّدين، تأليف الشيخ مطهّري نفسه.

 

37


31

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

الاجتماعيّة والتاريخيّة –أيضاً- يمكن تقسيمها بهذا الشكل، فهناك من الشخصيّات من يمكن نَعْتُها بالشخصيّات الحماسيّة، وهي الشخصيّات التي يملأ روحها الحماس، فيما ترى بعضاً منها يملأ روحها الغزل والغناء، وأخرى ترى روحها أساساً روح عزاء ورثاء، وهي تئنّ وتنوح على الدوامّ، وهناك من ترى شكل روحه وكأنّها خُلقت لتكون موعظة وعبرة للآخرين.

الآن، وبعد أن أدركنا معنى الحماسة بالإجمال، نستطيع البحث حول معنى الحماسة الحسينيّة.

فهل يمكن اعتبار واقعة الحسين بن عليّ (عليهما السلام)واقعة حماسيّة؟ وهل يمكننا تسمية الحسين بن عليّ (عليه السلام) بالشخصيّة الحماسيّة أم لا؟ لا بدّ لنا من معرفة شخصيّة الحسين بن عليّ (عليه السلام)، تلك الشخصيّة الإنسانيّة الكبرى بالنسبة إلينا. فهذا الرجل الذي نصرف تلك الأموال كلّها من أجله، ونبذل تلك الجهود والأوقات كلّها في سبيله، ونعطّل تلك الأيّام كلّها سنويّاً باسمه، لا بدّ لنا من معرفة سماته وخصوصيّاته المميِّزة لشخصيّته. ومن جملة ما يجب معرفته هو شخصيّته، وهل هي حماسيّة بالفعل. ثمّ معرفة ما إذا كانت واقعة الحسين بن عليّ (عليه السلام) وسيرته تُثيران فينا الشعور بالحماس أو الشعور بالتراجيديا والمصيبة والرثاء والضياع.

وهنا أرى من الواجب عليّ أنْ أقدّم توضيحاً:

إنّ الشخصيات الحماسيّة والملحميّة التي ترد في الغالب في

 

38

 

 


32

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

المنظومات الأدبيّة الحماسيّة، تراها في الواقع ذات طابع عنصريّ وقوميّ، سواء أكانت من الشخصيّات الخياليّة، مثل رستم وإسنفنديار، أم شخصيّات واقعيّة، مثل جلال الدين خوارزمشاه، الواردة أسماؤهم في التاريخ الإيرانيّ. ولمّا كانت تلك الشخصيّات الأسطوريّة تأخذ شكل البطل التابع لتلك القوميّة أو ذلك الشعب -لا فرق إن كانت شخصيّة البطل واقعيّة أو خياليّة-، فإنّها تلعب دور المحرّك لجماهير تلك القوميّة. وحسُّ تقديس البطل، والتعلّق ببطولاته، جزء لا يتجزّأ من طبيعة البشر، ولا سيّما إذا كان البطل يرتبط بشكل أو بآخر بتلك المجموعة التي تريد أن تفتخر به.

خذ مثلاً أبطال المصارعة الذين يفوزون في المباريات، فإنّ الجمهور يُبدي لهم فعلاً إحساسات فائقة، أو أولئك الأبطال الذين يرفعون الأثقال ويتجاوزون الرقم القياسيّ العالميّ، فإنّ جمهور المحبّين يصنع لهم تيجاناً من الزهور، أو أولئك الأبطال من رجال المصارعة والملاكمة الذين يصرعون منافسيهم بضربة فنيّة رائعة، ترى أنّ الجمهور المتعلّق بهم يتألّق حماساً وزهواً بانتصاراتهم؛ إنّ هذا لم يكن ليحصل لولا أنّ حسّ تقديس البطل وحبّ البطولة جزء من طبيعة البشر، وبالتالي فإنّ كلّ قوم يُشجّعون أبطالهم الخاصّين بهم. ففي المباريات الدوليّة مثلاً، ترى أنّ أفراد كلّ قوم، سواء الحاضرون منهم للمباريات، أم الذين يتابعونها على أجهزة (الراديو)، يشدّهم الحماس لتشجيع البطل القوميّ الذي سيأتي

 

39


33

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

لوطنه بالفوز والنجاح. ونحن بدورنا هنا عندما نسمع بأساطير رستم وأفراسياب مثلاً، ترانا نقف في إحساساتنا إلى جانب رستم؛ لأنّه من بلاد إيران، بينما لا نتمنّى الغلبة لأفراسياب باعتباره من بلاد ما وراء النهر، وبالتالي فهو من غير القوميّة الإيرانيّة. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ صانع الأسطورة قد حاك تفاصيلها بشكل يتلاءم مع ذوقنا ورغبتنا؛ أي أنْ تكون الغلبة باستمرار من نصيب الطرف الإيرانيّ، والهزيمة تلحق دوماً بالطرف الآخر. إنّ مثل هذه الملاحم عبارة عن ملاحم قوميّة، وهي ملاحم تخصّ قوماً أو عرقاً معيّنين، ولها علاقة ببلاد وتربة معينتين.

بينما ملحمة الحسين (عليه السلام) ملحمة من نوع آخر. صحيح أنّ شخصيّة الحسين شخصيّة ملحميّة وحماسيّة، لكنّها ليست كشخصيّة جلال الدين خوارزمشاه، وهي ليست شخصيّة مثل شخصيّة رستم الأسطوريّة أيضاً. إنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) شخصيّة ملحميّة بالفعل، لكنّها ملحمة الإنسانيّة، ملحمة البشريّة وليس ملحمة قوميّة. إنّ حديث الحسين (عليه السلام) وعمله وواقعه وروحه وكلّ شيء فيه عبارة عن غليان وحركة ودرس وعبرة وتدفّق للقوّة، ولكن أيّ تدفّق للقوّة؛ وأيّ نوع من الدروس والعبر؟ ألأنّه ينتسب إلى قوميّة معيّنة مثلاً؟! ألأنّه شرقيّ مثلاً؟ أو لأنه عربيّ أو غير عربيّ؟ أو كما يقول بعض الإيرانيّين بأنّ زوجته إيرانيّة؟!

إنّ ملحمة الحسين (عليه السلام) لا يمكن لها أن تكون من هذا النوع

 

40

 


34

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

من الملاحم؛ لأنّه شخصيّة مختلفة تماماً، وسبب جهلنا له يكمن في هذه النقطة تماماً؛ لأنّ ملحمته فوق الملاحم، لذلك لا ترى إلّا القليل ممّن يقدر على معرفته.

إنّك لن تجد في العالم كلّه شخصيّة ملحميّة مثل شخصيّة الحسين بن عليّ (عليه السلام)، إنْ من زاوية سموّ جوانبها الحماسيّة، أو من زاوية علوّها وارتفاعها؛ أي من زاوية جوانبها الإنسانيّة، وليس الجانب القوميّ أو الوطنيّ. إنّ الحسين (عليه السلام) نشيد الإنسانيّة؛ ولهذا فهو ليس له نظير. وأقولها بكلّ جرأة: نعم، ليس له نظير ولا ندّ.

إنّك لن تجد ملحمة حماسيّة مثل ملحمة الحسين بن عليّ (عليه السلام)، سواء على صعيد درجة القوّة والطاقة الكامنة، أم من جهة العلوّ والسموّ الإنسانيَّين. ومع الأسف، يجب القول إنّنا لم نعرف بعدُ هذه الملحمة.

إنّ واقعة عاشوراء ومعركة كربلاء لها وجهان، وجه أبيض ونورانيّ، والآخر مظلم قاتم السواد، الصفحتان إمّا لا نظير لهما أو نادرتان جدّاً. أمّا الصفحة السوداء والمظلمة فإنّها كذلك؛ لأنّها عبارة عن جريمة نادرة، أو لا نظير لها أبداً.

لقد فكّرتُ مرّة في درجة الجريمة المرتكَبة في عاشوراء وحجمها، فرأيت أنّ واحداً وعشرين نوعاً من أنواع الرذالة واللؤم قد ارتُكب كحدٍّ أدنى في هذه الواقعة، ولا أعتقد أنّ هناك واقعة أخرى في الدنيا يمكن لها أن توازي مثل هذه الواقعة في حجم تنوّعها. بالطبع

 

41


35

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

يوجد في تاريخنا الحروبُ الصليبيّة التي لم يترك فيها الأوروبيّون مجالاً للتعجّب عندما يُنظر إلى سواها من حوادث التاريخ الإجراميّ. وإذا كنتُ قد تردّدت في الادّعاء بعدم وجود شبيه لحادثة كربلاء من ناحية حجم الجريمة، فالسبب إنّما يعود إلى حجم الجريمة التي ارتكبها الغربيّون في المعارك الصليبيّة، وكذلك الجرائم التي ارتكبها هؤلاء الأوروبيّون أنفسهم في الأندلس الإسلاميّة، وهي عجيبة للغاية. وفي هذا المجال أدعوكم إلى الرجوع إلى كتاب «تاريخ الأندلس» للمرحوم آيتي، المطبوع من قِبل جامعة طهران، وهو كتاب تحقيقيّ نفيس.

يقول المؤلف في هذا الكتاب: «إنّ الأوروبيّين كانوا قد سمحوا لمئة ألف من الرجال والنساء والأطفال أن يخرجوا من منازلهم، ويتوجّهوا حيث يشاؤون، ولكنّهم ما إن تحرّكوا بشكل جماعيّ حتّى نقض الأوروبيّون العهد، وربّما كانت الخطّة خدعة مدبَّرة من الأساس للإيقاع بهم. على أيّ حال، فإنّه ما إن تحرّكت الجموع حتّى صدرت الأوامر بارتكاب المجزرة وقطع رؤوس الجميع بعد تقتيلهم شرّ قتلة».

إنّ الشرق لن يصل في حجم جرائمه إلى الغرب. إنّك لو طالعت تاريخ الشرق كلّه، بما فيه التاريخ الأمويّ، فإنّك سوف لن تعثر على هذين النوعين من الجرائم، وهي حرق البشر وهم أحياء، وممارسة القتل الجماعيّ للنساء، لكنّك ترى مثل هذا النوع من الجرائم في

 

42

 

 


36

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

تاريخ الغرب يتكرّر باستمرار. إنّ قتل النساء أمر شائع في تاريخ الغرب. لا تصدّقوا أنّ الغربيّين يملكون روحاً إنسانيّة في داخلهم. إنّ ما جرى في فيّتنام يُشكّل امتداداً لروح الحروب الصليبيّة ومعارك الأندلس. إنّ قتل مئات الألوف من الناس وهم أحياء من خلال رميهم في أفران الغاز، حتّى وإن كانوا مجرمين، أمرٌ لا يفعله الإنسان الشرقيّ، ولا يمكن لمثل هذه الجريمة أن تحصل على يد الشرقيّين. إنّ هذا العمل لا يحصل إلّا على يد غربيّي القرن العشرين فقط.

إنّ جريمة ترك عشرات الألوف من الأسرى يموتون في صحراء سيناء من الجوع والعطش، خوفاً من تبعات أسرهم، عملٌ لا يصدر إلّا عن الغرب والغربيّين. إنّ الشرقيّ لا يرتكب مثل هذه الجريمة. إنّ اليهوديّ الفلسطينيّ أشرف من اليهوديّ الغربيّ بمئة مرّة. لو كانت المعركة تدور مع يهود فلسطين المحلّيّين لما ارتُكبت مثل هذه الجرائم، وهي من صنع اليهوديّ الغربيّ. على كلّ حال، فإنّني لا أستطيع القول إنّ جريمة مثل جريمة كربلاء لم تقع ولن يقع مثلها في العالم، لكنّني أستطيع القول إنّها لا مثيل لها في العالم الشرقيّ.

من هذه الزاوية يمكننا القول: إنّ واقعة كربلاء تمثّل مأساة كاملة، ومصيبة عظمى، وملحمة رثائيّة. وعندما نتفحّص في هذا الوجه منها، نرى قتل الأبرياء والشباب والأطفال الرُضّع، وسحق جثث الموتى بحوافر الخيل، ومنع المياه عن الإنسان، ومعاقبة

 

43


37

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

النساء والأطفال بجريمة آبائهم وأزواجهم، وتعذيب الأسرى من خلال إجبارهم على ركوب الجمال وهي خالية من سروجها... فمَن هو بطل الواقعة من وجهة النظر هذه؟

إنّه لأمرٌ واضح هنا بأنّ البطل من هذه الزاوية الجنائيّة ليس ذلك الذي يتحمّل الضربات، فهو لا شكّ المظلوم في هذا الجانب. إنّ بطل الواقعة من هذه الزاوية هو يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وخوليّ، وآخرون، ولذلك فإنّنا عندما نطالع الصفحة السوداء من هذا التاريخ، سنرى صورة الجريمة والرثاء فقط لعالم البشريّة. فلو أردنا قول الشعر هنا، ماذا علينا أن نقول؟ علينا أن نقرأ المنظومات الرثائيّة، ولا نجد شيئاً نقوله سوى الرثاء.

ولكن هل إنّ تاريخ عاشوراء هو هذه الصفحة فقط؟

هل إنّ عاشوراء عبارة عن رثاء فقط؟ هل هي مصيبة وليست شيئاً آخر؟

إنّ خطأنا هنا بالذات، حيث إنّ هذه الواقعة لها صفحة أخرى بطلُها هذه المرة ليس ابن معاوية وليس ابن زياد وليس ابن سعد ولا الشمر، بطلها هنا هو الحسين (عليه السلام). وفي هذه الصفحة ليس للجريمة مكان، ولا مكان للمأساة أيضاً، إنّها صفحة الحماس والملاحم والفخر والنورانيّة وتجلّي الحقيقة والإنسانيّة وتقديس الحقّ. وعندما نقرأ هذه الصفحة نستطيع القول: إنّ من حقّ البشريّة أن تطير من الفرح، لكنّنا عندما نطالع تلك الصفحة المظلمة، نرى أنّ البشريّة

 

 

44


38

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

قد نكَست رأسها خجلة مفضوحة، وهي ترى نفسها مصداقاً للآية الشريفة: ﴿قَالُوٓاْ أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾[1].

من الطبيعيّ أنّه ليس الملك جبرائيل الذي سأل الله -سبحانه وتعالى- هذا السؤال عندما سمع ربّه يقول: ﴿إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلأَرضِ خَلِيفَةٗ﴾[2]، بل إنّهم أولئك القِسْم من الملائكة الذين كانوا لا يرون إلّا ذلك الوجه المظلم للبشريّة عندما غاب عن أنظارهم ذلك الوجه الآخر المشرق، لكنّ الله -سبحانه وتعالى- يردّ عليهم قائلاً: ﴿إِنِّيٓ أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ﴾[3].

إنّ تلك الصفحة التي اعترض عليها الملائكة يكون فيها البشر مُنكّسي الرؤوس، بينما تلك الصفحة الأخرى يكونون فيها رافعي الرؤوس فخراً، فلماذا ترانا لا نطالع ولا نتحدّث عن واقعة كربلاء إلّا من زاوية صفحتها السوداء المظلمة فقط؟ ولماذا لا نتحدّث إلّا عن جرائم كربلاء فقط؟ ولماذا لا نُطالع شخصيّة الحسين بن عليّ إلّا من زاوية كونه مُعتدىً عليه؟ ولماذا لا نرفع من الشعارات باسم الحسين إلّا تلك المأخوذة من صفحة عاشوراء المظلمة؟ لماذا ترانا نُقلّل من أهمّيّة تلك الصفحة النورانيّة من واقعة كربلاء، في الوقت


 


[1] سورة البقرة، الآية 30.

[2] سورة البقرة، الآية 30.

[3] سورة البقرة، الآية 30.

 

45


39

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

الذي نعلم فيه أنّ الجانب الحماسيّ لهذه الواقعة يُعادل مئة مرة الجانب الجنائيّ والمأساويّ فيها، وأنّ الوجه النورانيّ لهذه الواقعة يفوق بكثير وجهها المظلم.

لذلك، يجب علينا أنْ نعترف بأننا في عداد الجناة المساهمين في جريمة واقعة كربلاء، حيث إنّنا لا نقرأ إلّا صفحة واحدة، ولا نرى إلّا وجهاً واحداً من وجوه الواقعة، وبالتالي فإنّنا مساهمون في عمليّة التحريف، وكلُّ مَن يساهم في حرف معركة كربلاء عن أهدافها الحقيقيّة يمكن اعتباره من الجُناة بحقّ الإمام الحسين (عليه السلام).

لقد قُتِل الحسين (عليه السلام) في يوم واحد، وفي ذلك اليوم أيضاً فصَلوا رأسه عن جسده، لكنّه ليس جسماً فقط، وليس مثلي ومثلك؛ إنّه مدرسة تحيا وتكبر بعد موتها.

لقد تصوَّرت أجهزة السلطة الأمويّة أنّها بقتلها الحسينَ (عليه السلام) قد أجهزت عليه، وأنهت وجوده وتأثيره، لكنّها أدركت فيما بعدُ أنّ الحسين (عليه السلام) ميْتاً ينافسها أكثر ممّا هو حيٌّ، فقد أصبحت تربة الحسين كعبة العاشقين، وقد قالت زينب (عليها السلام) ليزيد هذا الكلام نفسه: «فكِدْ كيدَكَ، واسعَ سعيك، وناصب جهدك. فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميتُ وحينا»[1].

إنّ شعراء الرثاء في ذلك الزمان ليسوا مثل شعراء الرثاء في هذا

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص135.

 

46


40

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

العصر. فـ«الكُميت» كان شاعر رثاء، و«دعبل الخزاعيّ» –أيضاً- كان شاعر رثاء. فدعبل الخزاعيّ مثلاً، هو صاحب القصيدة المعروفة ظلّ يحمل خشبة إعدامه خمسين عاماً على كتفه، وكان عندما يَنظُم مرثيّته تهتزّ عروش الخلفاء الأمويّين والعباسيّين لسماعهم لها، بينما شعراء عصرنا الحاضر يعتبرون أنّ القدر الحاقد والدهر الأعمى هما المسؤولان عن شهادة الحسين (عليه السلام)، في حين أن الكُميت كان يُزلزل الدنيا بقصيدته وهو يرثي الحسين (عليه السلام) فيها.

إنّ اسم الحسين (عليه السلام) وتاريخه ومرثيّته كانت أسلحة تعبويّة آنذاك. حتّى قبره الشريف كان -في حدّ ذاته- يُشكّل مشكلة قائمة بذاتها. لذلك، تراهم قرّروا هدمه ومحو آثاره، وتسوية الأرض التي دُفن عليها، ثمّ رشّوا الماء الكثير هناك حتّى لا يعرف أحد البقعة التي دُفن فيها، ولكن ماذا حصل؟ لقد ازداد توجّه الناس والتفاتهم نحو زيارة قبره (عليه السلام).

يُحكى أنّ المتوكّل كان يبحث يوماً عن جارية للغناء والرقص في قصره، وأنّه بحث في كلّ مكان عنها فلم يجدها، ولمّا ألحّ في السؤال عنها، قالوا له يبدو أنها في سفر، ولمّا عادت من السفر، استدعاها وسألها أين كانت، فقالت له: إنّها كانت في زيارة مكّة المكرَّمة، فقال لها إنَّ الوقت ليس وقت الزيارة إلى مكّة، وأضاف: فنحن الآن لسنا في ذي الحجّة حتّى تقولين إنّك كنت في الحجّ، ولا في شهر رجب حتّى تقولين إنّك ذهبت إلى العمرة! وبعد إلحاح

 

47

 

 


41

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

شديد، اكتشف أنّها كانت في زيارة قبر الحسين بن عليّ (عليه السلام)، فاشتعل غضباً، وأدرك أنّه ليس بالإمكان محو ذكر الحسين (عليه السلام).

من جهة أخرى، فأنا لا أعرف من هو المجرم أو المجرمون الجُناة الذين ارتكبوا هذه الجريمة بحقّ الحسين بن عليّ (عليه السلام)، عندما حرّفوا هدف نهضة الحسين بقولهم إنّ الحسين قد عرَّض نفسه إلى القتل؛ ليحمل على كتفيه ذنوب أمّته، وهو القول الشائع بين المسيحيّين عن المسيح (عليه السلام)! فهل أرادوا لأنفسهم من وراء ذلك أن يرتكبوا ما استطاعوا من المحرّمات من دون خوف أو وجل؟ وهل كان المذنبون قلائل حتّى يزيد عددهم بهذا التحريف؟! ولذلك ترى أنّ الوجه الذي يسود معركة عاشوراء بعد هذا الانحراف هو ذلك الوجه المظلم والأسود للمعركة، وصرنا لا نسمع إلّا الرثاء والمصيبة حول عاشوراء. وأنا لا أقول بعدم ضرورة رؤية ذلك الوجه المظلم وقراءته، لكنّني أرى أنّ هذا الرثاء الحسينيّ لا بدّ وأن يأتي ممزوجاً بالحماس. فعندما يقال إنّ رثاء الحسين بن عليّ (عليه السلام) يجب أن يُخلَّد، فإنّ ذلك حقيقةٌ نطق بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأوصى بها أئمّتنا (عليهم السلام).

إنّ هذا الرثاء وهذه المصيبة يجب ألّا ينسيا، وهذه الذكرى يجب أن تظلّ خالدة، ولا بدّ لنا من إبكاء الناس عليها باستمرار، ولكن في رثاء البطل.

إذاً، لا بدّ لنا أوّلاً من تثبيت شخصيّة الحسين (عليه السلام) البطلة في

 

48


42

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

أذهاننا، ومن ثمّ نجلس لنرثيه في ذكراه، نرثيه بطلاً، وإلّا فإنّ رثاء رجل مسكين مستكين مظلوم لا حيلة له ولا يد فيما جرى ويجري في التاريخ؛ أمرّ لا يحتاج إلى بكاء، ولا معنى لبكاء الأمّة عليه.

ابكوا البطل، وأقيموا مجالس الرثاء والعزاء للبطل حتّى تولّدوا إحساساً بالبطولة والشجاعة في أنفسكم، واجلسوا في رثاء البطل، عسى أن تنعكس ظلال روح البطل على أرواحكم، وتزداد غيرتكم تجاه الحقّ والحقيقة، وتنذروا أنفسكم للعدالة، وتصبحوا من المقاتِلين ضدّ الظلم والظالمين، وتصبحوا أحراراً، وتُقدِّروا معنى الحرّيّة. اجلسوا في رثاء البطل حتّى تعرفوا معنى عزّة النفس ومعنى الشرف والإنسانيّة، حتّى تعرفوا ما معنى الكرامة.

نحن إذا ما قرأنا وطالعنا الوجه النورانيّ للتاريخ الحسينيّ، فإنّنا عند ذلك نتمكّن من الاستفادة من الوجه الرثائيّ للواقعة، وإلّا فإنّ الوجه الرثائيّ وحده لا فائدة تُذكر منه، فهل تتصوّرون أنّ الحسين ابن عليّ (عليه السلام) جالس بانتظار من يأتي ليشفق عليه! أو -والعياذ بالله- أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) -وهي التي تسكن إلى جوار رحمة ربّها- تنتظر من يأتيها من أمثالنا، نحن صغارَ البشر؛ ليواسيها وُيخفّف من معاناتها بعزاء الحسين (عليه السلام) بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمئة عام على تلك الفاجعة!

قبل سنوات عدّة مضت، قرأتُ كتاباً حاول مؤلّفه مقارنة شخصيّة الحسين بن عليّ (عليه السلام) وعيسى المسيح (عليه السلام)، وهو يرى أنّ عمل

 

49


43

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

المسيحيّين أفضل من عمل المسلمين (الشيعة)، ذلك أنّ المسيحيّين يحتفلون بذكرى شهادة عيسى المسيح ويفرحون لحلولها، بينما يستقبل المسلمون شهادة الحسين بن عليّ (عليه السلام) بالرثاء والبكاء، كما أنّه يُرجّح عمل المسيحيّين كثيراً على عمل المسلمين من حيث إنّ المسيحيّين يرون في شهادة عيسى المسيح رمزاً للتوفيق والنجاح وليس للفشل والانكسار؛ ولذلك تراهم يفرحون ويحتفلون بهذا النجاح، في حين أنّ المسلمين يرون في الشهادة رمزاً للانكسار والفشل؛ ولذلك تراهم يبكون على هذا الفشل الذي أصابهم. فسعداً لأمّة ترى الشهادة رمزاً للموفّقية والنجاح، وتعساً لأمّةٍ ترى الشهادة ذلّاً وانكساراً وأمراً يحتاج إلى الرثاء والبكاء.

 

والجواب على ذلك:

أوّلاً: إنّ عالم المسيحيّة هذا إنّما يحتفل بهذه الشهادة انطلاقاً من العقيدة الخرافية التي تقول إنّ عيسى قد قُتل حتّى يُكفِّر عن ذنوب الأمّة، ولمّا رأت أنّها قد خفَّت أثقالها بناءً على ذلك، فإنّها ترى ضرورة الاحتفال بنجاتها وخلاصها وتحرّرها من محاسبة الضمير وتأنيب الذات؛ وهذه خرافة خرقاء!

وثانياً: إنّ هذا هو الفرق بين الإسلام والمسيحيّة المحرَّفة، حيث إنّ الإسلام دين اجتماعيّ، بينما المسيحيّة دين لا يتعدّى الشأنَ الأخلاقيّ.

من جهة أخرى، فإنّه يمكن النظر إلى الحوادث مرّةً من الزاوية

 

50


44

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

الفرديّة، وأخرى من الزاوية الاجتماعيّة. فمِن وجهة النظر الإسلاميّة، نعتبر شهادة الحسين بن عليّ نوعاً من النجاح على الصعيد الفرديّ. فهل كانت الشهادة لشخص الحسين بن عليّ (عليه السلام) تعبيراً عن الفشل وعدم الموفّقية والنجاح؟ إنّ كلّ مسلم يقول إنّها رمز للنجاح، والحسين نفسه يراها كذلك منذ اليوم الأوّل، عندما استقبلها قائلاً: «خُطَّ الموت على وُلدِ آدمَ مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياقَ يعقوب إلى يوسف»[1].

ومن جهة نظر كلّ إنسان، ومن وجهة نظر الشهيد نفسه، نعتبر الشهادة رمزاً للموفّقيّة، ولا يحتاج الأمر إلى شهادة المسيحيّة في ذلك. فقبل 1350 عاماً مضى، رآها أسلافنا وقادة ديننا كذلك أيضاً. ها هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نفسه يقول، وهو يستقبل الموت: «والله، ما فَجَأَني من الموت واردٌ كرهتُهُ، أو طالعٌ أنكرتُهُ، وما كنتُ إلّا كقارب وردٍ وطالب وجدٍ...»[2].

كان هذا من زاوية وجهة النظر الشخصيّة والفرديّة للحدث، لكنّ الإسلام له جانبه وبعده الآخر في رؤيته للحدث، فالقضايا والأحداث المختلفة لا يراها الإسلام في سياق التحليل الفرديّ والشخصيّ فقط، بل إنّه يضعها أيضاً في سياق المطالعة الاجتماعيّة. إنّ واقعة عاشوراء من الناحية الاجتماعيّة ومن زاوية العمل الجنائيّ الذي تمّ


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص366.

[2] السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص378.

 

51


45

المحاضرة الثانية: وجهان لواقعة كربلاء

ارتكابه، تُعتبر مَظهَراً من مظاهر الانحطاط في المجتمع الإسلاميّ؛ ولذلك، ينبغي التذكير بها دائماً لكلّ أفراد الأمّة، حتّى لا يتمّ تَكرار مثل هذه الجرائم. إنّها تشبه «الحسرة» و«الأنّة» التي تطلقها الأمّة باستمرار حتّى تقول: أحقّاً -نحن المسلمين- قد ارتكبنا مثل هذا الحادث؟! ألا لعنة الله على من ارتكب مثل هذه الجريمة، وإنّه غير مسموح لنا تكرار مثلها بعد الآن! ثمّ مضافاً إلى ذلك، فإنّ مثل هذه المجالس التي نقيمها، نحن بحاجة إليها من أجل صقل الأحاسيس الإسلاميّة والإنسانيّة لدى شعوبنا، ولكن بالطبع بشرط أن ندرك ما نقوم به. واليوم نحن بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى تصحيح شؤوننا الدينيّة، وإجراء الإصلاحات اللازمة عليها. ومن الطبيعيّ أن المقصود في الإصلاح هو منهج تفكيرنا وطريقة تعاملنا وتعاطينا مع الشؤون الدينيّة، وليس الدين نفسه، فأخطاؤنا لا يمكن حسابها على الدين...[1].

 

 


[1] نأسف هنا لأنّ تتمة حديث الشهيد لم ترد في شريط التسجيل.

 

52


46

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله وحبيبه وصفيّه، سيّدنا ونبيّنا ومولانا أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱستَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم﴾[1].

كثيراً ما يتردّد على لساننا القول إنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) قد أحيا بتضحياته رسالة الإسلام من جديد، وسقى شجرته بدمائه الزكيّة الطاهرة. ونقرأ في زيارته كذلك: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرْت بالمعروف، ونهيت على المنكر، وجاهدت في الله حقّ جهاده»[2].

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 24.

[2] القمي، الشيخ عباس، مفاتيح الجنان، تعريب السيد محمد رضا النوري النجفي، مكتبة العزيزي، إيران - قم، 1385ش - 2006م، ط3، ص653-654، الزيارة الخاصّة بالحسين في أيّام عيد الفطر والأضحى.

 

53


47

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

ولا بدّ لنا من أن نتساءل هنا عن العلاقة الموجودة بين شهادة الحسين بن عليّ (عليه السلام) وبين استنهاض قوّة الإسلام، وإحياء أصول الدين وفروعه؛ ذلك أنّ مجرّد سيل الدم وحدَه لا يمكن أن يكون منشأ لمثل هذه الأمور. فما هي العلاقة –حقّاً- بين نهضة الحسين وقيامه وشهادته، وبين هذه الآثار التي نتحدّث عنها وندّعي حصولها، وهو ما يبرهنه التاريخ بالفعل؟ إنّ إدراك هذا الموضوع لا يتمّ لنا إلّا بوضع المبحثَين الماضيين على مدّ نظرنا تماماً.

فلو كانت شهادة الحسين بن عليّ (عليه السلام) مجرّد حادثة حزن أو محض مصيبة، أو ليست أكثر من عمليّة إهراق لدم بريء من الأبرياء، وبتعبير آخر ليست سوى عمليّة هدرٍ لدم شخصيّة من الشخصيّات الاجتماعيّة، وإن كانت بارزة جدّاً؛ فإنّه لا يمكن لها أن تُعطي تلك الآثار كلّها.

إنّ شهادة الحسين بن عليّ (عليه السلام) لم يكن بمقدورها توليد تلك الآثار كلّها لولا كونها -وكما عبَّرنا عنها سابقاً- قد شكَّلت تعبيراً للنهضة أو ملحمة إسلاميّة وإلهيّة كبرى. إنها لم تكن أبداً عبارة عن قصّة وواقعة كارثيّة، ولا محض عمليّة جريمة أو ظلم ارتكبه عدد من الظلمة والجناة، بل إنّها بطولة عظيمة، وعظيمة جدّاً، رسم معالمها ذلك الطرف الذي ارتُكبت بحقّه الجرائم.

إنّ شهادة الحسين بن عليّ نفخت روحاً جديدة في الإسلام. وكما قلنا فإنّ الأثر الناتج عن أيّ خطبة أو واقعة أو شخصيّة حماسيّة، نراه في الواقع في موج الحركة الذي ينبعث في الروح وفي الحميّة

 

54


48

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

والغيرة التي تتولّد معها، والشجاعة والصلابة المترتّبة على ذلك. إنّها تعبير عن حركة الدماء وغليانها في الأبدان، وخروج الأجسام من حالة الكسل والخمول إلى عالم النشاط والفعاليّة وخفّة الحركة. فهناك عمليّات سيل للدماء كثيرة تحدث هنا وهناك، لكنها لمّا كانت لا تحمل معها إلّا بُعد النزيف الدمويّ، فإنّ أثرها يقتصر على إيجاد الرُّعب والهول في نفوس الناس، وإضفاء مزيد من الوحشة عليهم، وخنق للأنفاس في الصدور، وسلب للقوّة الشعبيّة.

في حين أنّ هناك عمليّات استشهاد في الدنيا تخلق معها وتولّد رونقاً من الضياء والصفاء للمجتمع. وكما نرى بوضوح على المستوى الفرديّ كيف أنّ بعض الأعمال تُكدِّرُ قلب الإنسان، في الوقت الذي تُضيء بعض الأعمال الأخرى قلبه وتصقل روحه، وتدخل إليها الصفاء. وهذا ما ينطبق تماماً على المجتمع، فبعض الظواهر الاجتماعيّة تُسبّب الكدورة للروح الاجتماعيّة، كما توجد الرعب والخوف في الناس، وتخلق حالة من الإحساس بالأسر والعبودية، لكنّ بعضها يمنح الصفاء والنورانيّة والإشراق للمجتمع، كما تُزيل الخوف من صفوفه، وتطرد كلّ إحساس بالأسر والعبودية لديه، ثمّ تشحن النفوس بالجرأة والشهامة.

وهذا ما حصل فعلاً بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث انبعث الإسلام برونق جديد. وهذا الأثر النورانيّ إنّما برز في المجتمع من خلال حركة المقاومة والصمود الحسينيّة التي أحيت

 

55


49

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

روح المسلمين، وأزالت عنهم حسّ العبوديّة والأَسر التي كانت سائدة منذ أواخر عصر عثمان، أثناء دورة حكم معاوية، وكسرت حاجز الخوف المتزايد لديهم. بعبارة أخرى، أعادت صياغة الشخصيّة للمجتمع الإسلاميّ.

لقد وضع الحسين يده على الجُرح – كما يقول المثل – أي إنّه بعمله هذا حرّك حسّ الشخصيّة في المجتمع، وهذه المسألة مهمّة للغاية، إذ ليس ثمّة رأسمال أثمن وأغلى من هذا الرأسمال لأيّ مجتمعٍ كان؛ أنْ يحسّ المجتمع بوجود شخصيّة خاصّة به، وأنْ يتولّد عنده إحساس بالعزّة والكرامة وامتلاك قيم مثاليّة تخصّه دون غيره من المجتمعات الأخرى، بحيث يصبح مكتفياً ذاتيّاً، وعندما يصل مجتمع ما في سُلّم التطوّر إلى مثل هذه الحالة؛ أي أنْ تصبح لديه فلسفة مستقلّة في الحياة، يستطيع المباهاة بها، والفخر بحياته المستقلّة القائمة على تلك الفلسفة؛ عندها يمكن القول إنّ هذا المجتمع استطاع الحفاظ على حماسه وملحميّته، ذلك أنّه استطاع أن يحافظ على فلسفته المستقلّة الخاصّة النابعة من كيانه ووجوده، وأنْ يؤمن بها، ويعتقد بأنّها هي الأفضل والأرقى والأحسن، وأنّ من حقّه التباهي بها بين الأمم.

تعساً للمجتمع الذي يفقد مثل هذا الإحساس؛ لأنّه سيصبح بلا شكّ مجتمعاً مريضاً. وبالطبع، فإنّ هذا الإحساس المقصود هنا غير ذلك الحسّ المنحرف الذي يتمثّل بالغرور، والأنانيّة، وحبّ الذات،

 

56


50

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

وشهوة التسلّط والطغيان.

إنّ المجتمعات التي تفقد مثل هذه الأخلاق القائمة على حسّ امتلاك الفلسفة المستقلّة الخاصّة بها، وضرورة الاعتماد عليها، أو ترفض الإيمان بوجود فلسفة مستقلّة خاصّة بها، فإنّها سرعان ما تفقد كلّ شيء، في حين يبقى باستطاعة المجتمعات التي تُحافظ على مثل هذه العقيدة، حتّى وإن سلبوا منها كلّ شيء، أن تصمد وتقف على أقدامها. وبعبارة أخرى، يمكن القول إنّ القوّة الوحيدة التي تمنع ذوبان أيّ أمّة في أمّة أخرى أو أيّ فرد في فرد آخر هي القوّة النابعة من هذا الخُلُق العظيم؛ خُلُق امتلاك الشخصيّة المستقلّة.

من المعروف أنّ الألمان قد اعترفوا بخسارة كلّ شيء في الحرب الكونيّة الثانية ما عدا شيء واحد هو شخصيّتهم المستقلّة. ولمّا كُنّا، كما يقول الألمان، لم نفقد هذه الشخصيّة، فإنّنا استطعنا الحصول على كلّ شيء مرّة أخرى، وقد صدقوا بالفعل. ولكن لو حدث أنّ أمّة ما ظلّت تملك كلّ شيء وخسرت شخصيّتها، فإنّها لن تستطيع الحفاظ على أيّ شيء ممّا تملك، وسيكون مصيرها الذوبان في الأمم الأخرى، شاءت ذلك أو أبت.

تعساً لحالة الاستلاب هذه، وهي الحالة التي تسود مجتمعنا اليوم بكلّ أسف.

لقد قرأتُ لإقبال اللاهوريّ –الشاعر والفيلسوف الباكستانيّ العظيم– قولَه إنّ موسوليني قال: «على الإنسان امتلاك الحديد حتّى

 

57

 


51

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

يمتلك الرغيف»؛ أي إنّك لو أردت امتلاك الرغيف فلا بدّ لك من امتلاك القوّة. لكن إقبال يقول مقابل ذلك: هذا الكلام ليس صحيحاً، فأنت لو أردت امتلاك الرغيف عليك أن تكون كالحديد؛ أي أنْ تملك شخصيّة صلبة كالحديد. إنّه يقول بضرورة امتلاك الشخصيّة، وعندها لا حاجة إلى التوسّل بالزور والقوّة، ولا حاجة إلى الاستغاثة بالسلاح. وبذلك تسقط فلسفة موسوليني التي تريد للإنسان أنْ يتوسّل بالسلاح من أجل امتلاك الرغيف. وفي مقابل ذلك تسود فلسفتنا التي تُفيد: تحصل على ما شئت عندما تكون كالحديد، كالفولاذ، وتمتلك الشخصيّة الصلبة، وحسّ العزّة والفخر. إنّ الأمّة التي تفقد الإيمان بفلسفتها الخاصّة المستقلّة للحياة، وتصبح مرعوبة من قبل أمّة أخرى، تصبح تابعة لتلك الأمّة في تفكيرها كلّه، وتتصور أنّ الآخرين هم الذين يفكّرون بدلاً عنها، وأنّها في الأساس غير قادرة على الحكم والبتّ في قضايا الحياة من دون الآخرين.

وعند ذلك يصبح كلّ أمر عندها مقبولاً، ما دام قد أصبح «موضة العصر»، أو ظاهرة القرن المعاصرة، أو أنّها الفكرة المقبولة في المجتمع الأمريكيّ أو المجتمع الأوروبيّ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ المنطق لم يَعُد له دور في حياة هذه الأمّة.

قبل نحو سنتين، قرأتُ لأحد المجدِّدين الإيرانيّين كتاباً يذكر فيه أنّه عندما كان يعيش في (لندن) حصلت حادثة لطيفة ولافتة، مفادها أنّ بنت سفير بريطانيا السابق في موسكو -وهو بلا شكّ من

 

58

 

 


52

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

الشخصيّات الكبيرة والمرموقة في المجتمع البريطانيّ- عشقت رجلاً أسودَ ثمّ تزوّجته، الأمر الذي أثار ضجّةً كبرى في لندن، فكيف يمكن تصوّر زواج بنت بيضاء من رجل أسود، وبنت إحدى الشخصيّات البريطانيّة المرموقة، حتّى تحوّل الأمر إلى حديث دائم للصحف اليوميّة، ولكن إحدى الصحف كتبت: «ولماذا هذا العجب كلّه وهذه الضجّة كلّها؟! فالعالم يتّجه نحو المساواة، والمجتمعات اليومَ تؤمن بفكرة المساواة والإخاء بين الألوان، وترفض التمييز العنصريّ، مضافاً إلى أنّ ديناً كبيراً من أديان العالم كالإسلام، كان قد رفض التمييز بين البشر على أساس الألوان قبل أربعة عشر قرناً مضت!».

ويضيف الكاتب الإيرانيّ أنّه صادف في تلك الأيّام أنْ حضر أحدَ المجالس التي كان يشترك فيها عدد من الإنكليز إلى جانب عدد من الشباب الإيرانيّ المقيم في لندن، ولمّا تطرّق الحاضرون إلى هذه القصّة، وكيف أنّ إحدى الصحف البريطانيّة كتبت عن الإسلام ورأيه في المساواة بين الأسود والأبيض قبل أربعة عشر قرناً، قام أحد الإنكليز من الحاضرين في المجلس وقال: نعم، فدِينٌ وسخٌ كالإسلام لا بدّ له من أن يحمي الوسخين (المقصود السود).

ويضيف الكاتب الإيرانيّ هنا، إنّ اثنين من الشباب الإيرانيّ الحاضر شعرا بخيبة أمل كبيرة، وصارا يندبان حظّهما، ويتساءلان عن سبب انتمائهما إلى مثل هذا الدين الذي يُسبّب لهما إحساساً

 

 

59

 


53

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

بالانكسار والذلّ! ثمّ صارا ينقلان هذه الصورة البائسة من مجلس إلى مجلس، ويصرّحان بأنّ الدين الإسلاميّ دين الأوساخ؛ لأنّه يحمي الأوساخ، ويتساءلان كيف أنّ الإسلام لم يستطع إدراك الفرق الموجود بين الرجل الأبيض والرجل الأسود!

إنّ هذا يُسمّى استلاب الشخصيّة، فهؤلاء لم يكن لهم أنْ يفكّروا كذلك، ولا أن يذوبوا في المحيط الذي يدور حولهم، فلو كان عندهم ذرّة من الاستقلال الفكريّ لكانوا ردّوا على صاحب هذا الرأي ردّاً مُحكَماً، وأثبتوا له تفاهة حديثه، وتخلُّف عقليّته؛ لأنّه ما معنى أن يكون للّون والبشرة أيّ دور في التمايز في فضائل البشر! وأنْ يصبح مثل هذين الشابّين مخذولين ومكسورين! إنّه مرض استلاب الشخصيّة فقط؛ لأنّ هذه الحالة هي التي تخلق فكرة القول إنّ ما يقوله الإفرنج لا بدّ من أن يكون صحيحاً!

انظروا إلى نهرو، ذلك الرجل السياسيّ الكبير، والشخصيّة العالميّة البارزة، تَروه أنّه كان يتجوّل في أنحاء العالم كلّه بلباسه الهنديّ، ولا يمكن لطول اللباس أو قصره أو لون البشرة أن تؤثّر في شخصيّة الإنسان، لكنّ ذلك العالم الذي يضع عمامته على رأسه، أو عندما يلبس نهرو لباسه الأبيض الطويل، وبزّته الخاصّة بتقاليد شعبه، ويتجوّل بها في كلّ مكان، إنّما يريد القول لكلّ العالم إنّه هنديّ، ويجب أن يبقى كذلك، وإنّه لا تعصّب لديه أمام العلوم والصناعة من أيّ بلد جاءت، وإنّه لا تعصّب لديه أمام العقائد

 

60

 

 


54

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

الفلسفيّة والدينيّة الكبرى، وإنّه لا بدّ لكلّ واحد منّا من التمسّك بشعائره وتقاليده الوطنيّة المحلّيّة.

فلماذا يجب علينا أن نحمل ونلوّح بشعارات أمّة أخرى وشعائرها؟ ويصبح الواحد منّا يربط حزامين بدل حزام واحد؛ لأنّ الغربيّ قرّر استخدام الحزام في لباسه مثلاً، على الرغم من أنّ العربيّ يستخدم ذلك ضمن سياق التزامه بتقاليده الخاصّة به.

كلّ يوم يخرجون علينا بمشروع جديد وحكاية جديدة، وبين فترة وأخرى تراهم يعودون ويطرحون من جديد مسألة تغيير الخطّ، وأنّه لا بدّ من تبديل أحرفنا الوطنيّة إلى أحرف لاتينيّة[1] دون أن يُفكّروا في ما سيحلّ بثقافتنا ومدنيّتنا وشخصيّتنا ومعارفنا ومشاعرنا الوطنيّة والشعبيّة من ويلات بسبب هذا التحوّل والتغيير.

إنّ لدى شعبنا آثاراً نفيسة لا نظير لها في الدنيا، وهل يملك العالم كلّه أثراً أدبيّاً نفيساً مثل مثنويّات المولويّ؟ أو يملك العالم كتاباً مثل كتاب سعدي؟ إنّها كتب قيلت وكتبت في قالب هذه الخطوط والأحرف الوطنيّة. فلو حصل أنْ غيّرنا هذا الخطّ الذي تتقارب (صاده) مع (سينه) و(ثائه) أو تتقارب أصوات حروف (الزاي) و(الضاد) و(الظاء) فيه، ونسخناه من الاستعمال، وغيّرنا هذا

 

 


[1] يشير الشهيد هنا إلى محاولات السلطة في العهد الشاهنشاهيّ البائد لتغيير الخط الفارسيّ المستخدَم في إيران إلى خط لاتينيّ ضمن إطار السياسة الاستعماريّة العامة المتَبعة للقضاء على الثقافة الوطنيّة والدينيّة للمجتمع الإسلاميّ في إيران.

 

61


55

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

القالب اللّغويّ، فهل يمكن لنا بعد مئة عام قراءة كتاب المثنويّ؟! لا أعرف كيف نسمح لأنفسنا بمثل هذا التفكير؟!

ماذا أعطى نبيّ الإسلام للعرب؟ وماذا يملك إنسان فقير ويتيم كمحمّد وقف أفراد قبيلته كافّة ضدّه حتّى يُعطيه لأمّة العرب؟ لكنّه مع ذلك نقلهم من عالم الحضيض إلى أوج العزّة والكرامة الإنسانيّة. فكيف حصل ذلك؟

لقد منحهم الإيمان الذي أوجد في داخلهم الكيانيّة والشخصيّة. وفجأةً تحوّل ذلك العربيّ الآكل للجراد، والشارب لحليب الجمال، والغارق في حروب القبائل الجاهليّة، والعاجز عن تأمين الحياة والعزّة لابنته، التي كان يدفنها خشية إملاق وهي حيّةً؛ تحوّل بفضل هذا الإحساس الجديد بالكيانيّة والشخصيّة إلى إنسان يُفكّر في ضرورة خلاص العالم من حسّ العبوديّة والأسر والانقياد لغير وجه الله. ثمّ لا يهمّه بعد ذلك –أيضاً- الاعتراف بماضيه التعيس، بل ويفتخر في القول إنّ ماضيه لم يكن سوى ماضٍ سيّئ وحقير، وإنّه لم يكن يمتلك يوماً مفاخر وطنية تُذكر، في حين أنّه أصبح، بعد الدعوة الإسلاميّة، صاحب فكر سامٍ يتباهى به على غيره من الأمم، وهذا يُقال له حسّ الكيانيّة والشخصيّة.

أروني كلمة تُشعل الحماس في روح الإنسان، وتصنع شخصيّة لبني البشر أكثر من كلمة «لا إله إلّا الله»؟

إنّه لا مطاع ولا معبود سوى الله، فأين الأجرام الفلكيّة والحيوانات

 

62


56

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

والصخور والأشجار من ركوع البشر وسجودهم! إنّني لا أركع لأيّ شيء مهما كان، وأيّاً كان. إنّني لا أركع لسوى الله الواحد القهّار، ولا أقف إلّا إلى جانب العدالة والحقّ والإحسان والفضيلة؛ ولهذا يُقال إنَّ الإنسان صاحب شخصيّة وكيان.

لقد دأب الأمويّون بشكل حثيث على إماتة الشخصيّة الإسلاميّة في صفوف المسلمين، والكوفة كانت آنذاك مركزاً لجيش الإسلام، ولو لم يذهب الإمام الحسين إليها لتوجّه إليه اللّوم من مؤرّخي العالَم كافّة، ولقالوا له: كيف تترك الكوفة ولا تُلبّي دعوتها وهي التي بايعت ممثّلك من خلال التفاف ثمانية عشر ألفاً من أهلها واثني عشر ألفاً من الرسائل والكتب التي وصلت إليك؟ وهل كان ثمّة مكان للنهضة أفضل وأرقى من العراق؟

والكوفة أساساً أَمر ببنائها عمرُ بن الخطّاب بعد الحروب التي خاضها المسلمون في صدر الإسلام، وقد أشرف على بنائها جيش الإسلام نفسه. ثمّ إنّه لم يكن هناك شعب أشجع وأقوى وأشدّ صلابةً على القتال من أهل الكوفة وأهل العراق.

ولكن هؤلاء أنفسهم، وهم الذين خرج من بينهم ثمانية عشر ألفاً من المناصرين للحسين (عليه السلام)، ومن بينهم كانت الاثنتا عشرة ألف كتاب؛ تراهم يفرّون من المعركة بعد قدوم ابن زياد إليها. فلماذا يحصل مثل ذلك؟ لأنّ زياداً ابنَ أبيه كان قد حكم الكوفة سنواتٍ طويلة، لم يترك خلالها جريمةً إلّا ارتكبها، من قلع العيون،

 

63


57

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

إلى قطع الأيدي والأرجل، إلى بقر البطون، إلى التعذيب والقتل في السجون، حتّى فقدت الكوفة شخصيّتها تماماً.

ولذلك، نراهم ما إن سمعوا بقدوم ابن زياد حتّى صارت المرأة تسحب يد زوجها، والأمّ تسحب يد ابنها، والأخت يد أخيها، والأب يد ابنه، ويُخرجونهم بالقوّة من بيعة مسلم.

ولا ريب في أنّ أهل الكوفة كانوا من شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنّ الذين قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) هم شيعته؛ ولهذا كتب المؤرّخون عن أهل الكوفة يقولون: «قلوبهم معه وسيوفُهُم عليه»[1]؛ ذلك أنّ الأمويّين كانوا قد سحقوا الشخصيّة الإسلاميّة في نفوس أهل الكوفة، ولم يَعُد فيها من يملك تلك الأحاسيس الإسلاميّة الوهّاجة.

لكنّ الكوفة هذه، هي نفسها قامت وانتفضت بعد مرور سنوات على استشهاد الحسين، وخرج منها خمسة آلاف نفر من التوّابين، ذهبوا لزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، وأقاموا مجلس العزاء هناك، وبكوا عليه، ثمّ عقدوا العهد مع الله، بعد طلب التوبة والغفران لتقصيرهم، بأنّهم لن يستقرّوا ما لم ينتقموا لدم الحسين بن عليّ (عليه السلام) أو الموت دون ذلك، وقد فعلوا ذلك بالفعل، وقتلوا قَتَلَةَ الحسين والذين شاركوا في قتله في واقعة كربلاء.


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص364.

 

 

64


58

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

وهذه النهضة كانت في الواقع قد بدأت معالمها تظهر منذ عصر يوم العاشر من محرّم نفسه، أو يوم الثاني عشر من محرّم بالتحديد، فمن كان وراء مثل هذه النهضة؟ إنّه الحسين بن عليّ (عليه السلام).

إنّ منح الشخصيّة لأيّ أمّة يتمثّل في منحها العشق والمحبّة والمُثل العليا، وإذا ما كان عندها مثل هذه المُثل والقيم الأخلاقيّة العالية، لكنّها مغطّاة بالغبار، فإنّ العملية ستكون بإزالة الغبار عنها وإحيائها من جديد.

فعندما كان الحسين بن عليّ يتعرّض لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أقواله وخطبه، كان يقول: «وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد»[1]، أو «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي»[2].

لقد خرج فيهم الحسين بن عليّ (عليه السلام) بعد عشرين عاماً أو ثلاثين وقد تكدَّس الغبار فوق شخصيّتهم ومُثُلهم؛ ليطلب الإصلاح في أمّة الإسلام، ويمنحها العشق والمثل العليا من جديد، وهذا هو الركن الأوّل في إحياء الحماس والإحساس بالكيان المستقلّ لأيّ أمّة، فالأمّة التي تملك شخصيّتها هي تلك الأمّة التي تملك حسّ الاكتفاء الذاتيّ وعدم الحاجة إلى الخارج.

 

 


[1] ابن نما الحلي، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص15.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.

 

65


59

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

هذه دروس قيّمة يجب استخلاصها من قيام الحسين بن عليّ ونهضته. لقد أعطى الحسين الأمّةَ درساً في حسّ الاكتفاء وعدم الحاجة إلى الغير؛ إذ في اليوم الذي قرّر فيه الخروج من مكة، لم يضع أيّ شرط لنهضته، بل قال: «خُطّ الموتُ على وُلد آدم»[1]، إلى أن قال: «فمن كان فينا باذلاً مُهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا؛ فإنّني راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله -تعالى-»[2].

ليس ثمّة قولٌ فوق هذا القول يُعطي معنى الاستغناء والاكتفاء الذاتيّ في الدنيا كلها!

ثمّ انظروا إلى حديثه لأصحابه ليلةَ العاشر من محرّم، وذلك بعد أن جمع أصحابه وأهل بيته، وشكر الله وأثنى عليهم جميعاً، وقال لهم: «... أمّا بعدُ، فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنتُ لكم جميعاً، فانطلِقوا في حلٍّ، ليس عليكم منّي ذمام...»[3]. القول المعروف.

إنّ الحسين (عليه السلام) في خطبته هذه لم يقل لهم إنّني غريب، فلا تتركوني وحدي، أنا المسكين المستكين، بل إنّه أراد لهم

 

 


[1] المصدر نفسه، ج44، ص366.

[2] المصدر نفسه، ص 367.

[3] الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، مصدر سابق، ج2، ص91.

 

66


60

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

بخطبته هذه أن يفهموا معنى الاستغناء والاكتفاء الذاتيّ للإنسان المسلم، لكنّه بالطبع لم يرفع عنهم الواجب والتكليف الإلهيّ، ولذلك فإنّه لو رأى، بعد إتمام الحجّة عليهم، عدمَ وجود رغبة منهم للبقاء معه، لكان قد أبعدهم عن ساحة المعركة فوراً، ذلك أنّه لا يُريد لهم الاكتواء بنار العذاب الربّانيّ، ولأنّه لو طلب منهم المدد والعون بعد ذلك ولم يتحرّكوا لإعانته، لابتلاهم الله بعذاب نار جهنّم.

إنّ درس الاستغناء والاكتفاء الذاتيّ هذا ليس درساً بسيطاً، فهذا الدرس هو الذي أوجد روح الاستغناء والاكتفاء الذاتيّ لاحقاً، والذي تبلور في الثورات والنهضات الحسينيّة المتتالية.

إنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) أعطى بنهضته درساً في الغيرة والحميّة للناس. لقد أعطاهم درساً في الصبر والتحمّل، درساً في احتمال المصاعب وركوب الشدائد. ولقد كانت هذه دروساً بالغة الأهمّيّة بالنسبة إلى المسلمين. فإذاً، عندما يُقال ماذا عمل الحسين (عليه السلام)، وكيف استطاع إحياء الإسلام بدمه؟ يكون جواب ذلك أنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) قد نفخ روحاً جديدةً في النفوس، وحرّك دماء المسلمين، وجعلها تغلي في العروق، وأثار الغيرة، ومنح العشق والقيم المثاليّة للناس. لقد أوجد فيهم حُسن الاستغناء والاكتفاء الذاتيّ، لقد أعطاهم درساً بليغاً في المقاومة والصمود وتحمّل الشدائد والصبر على الصعاب، وأسقط عنهم حاجز الخوف

 

67


61

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

والرعب، وخلق منهم بطولات وشجاعة بعد أن كانوا غارقين في جبنهم حتّى النخاع.

ثمّة قصّة معروفة في التاريخ الإيرانيّ. يقال: إنّ نادر شاه [أحد ملوك السلسلة الإيرانيّة القاجاريّة] لاحظ في إحدى المعارك جنديّاً من جنوده وقد أبدى شجاعة فائقة، فتعجّب كثيراً واستدعاه يوماً، وقال له: أين كنت وأين كانت شجاعتك وبطولتك يوم أغار الأفغان على أصفهان وسلبوها ونهبوها؟ فقال له الجنديّ: كنتُ في أصفهان. قال: كنتَ في أصفهان ودخلها الأفغان وقتلوا من قتلوا وارتكبوا تلك الجرائم كلّها؟ قال بلى! فقال له: وأين كانت شجاعتك آنذاك؟ قال: لم يكن نادر في الوجود آنذاك. فما أملكه اليوم من الشجاعة هو ما اكتسبتُه من روحيّة نادر شاه، فإنّي عندما أراك تتحرّك الغيرةُ فيّ، فأصبح شجاعاً وباسلاً.

لذلك، فإننّي عندما أؤكّد على أنّ المطلوب دراسة الملحمة الحسينيّة، وواقعة كربلاء، ونهضة عاشوراء، من هذه الزاوية الحماسيّة أكثر من أيّ زاوية أخرى، فإنّ مقصودي في ذلك هو الاستفادة من هذه الدروس العظيمة التي يمكن لها أنْ تعطينا إيّاها. إنّني لستُ مُخالفاً للرثاء وقراءة التعزية، لكنّني أقول: علينا أن نُرثي الحسين، ونقرأ التعازي بشكل نستطيع معه أيضاً تحريك حسّ البطولة والشجاعة الحسينيّة، وإحياء روح الحماس الحسينيّ في صفوف الأمّة.

 

68


62

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

إنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) امتيازٌ اجتماعيّ كبير، وشعار دائم كان يرفعه كلّ من أراد القيام ضدّ الظلم، إذ كان شعاره: «يا لثارات الحسين»[1]. واليوم كذلك هو شعارنا وموضوعنا الكبير، من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى إقامة الصلاة، وإحياء الإسلام، وتجديد حياة العواطف والأحاسيس الإسلاميّة والمثل العُليا في وجودنا. وهنا لا بدّ لي من الاقتراب إلى نهاية الموضوع، على الرغم من أنّ الحديث ذو شجون، لكنّني أعود مرّة أخرى إلى الآية الكريمة التي قرأتها عليكم أوّل الحديث. بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱستَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم﴾[2].

نعم، فحياة كلّ أمّةٍ ليس بثرواتها الكثيرة، ولا حتّى بعلومها، فالعلم وحده ليس كافياً لإحياء الأمم، بل إنّ حياة الأمّة تتمثّل في إحساس تلك الأمّة بشخصيتها وكيانيّتها، فما أكثر الأمم المتعلّمة التي لا تملك شخصيتها، وما أكثر الأمم الجاهلة ولكنّها متمسّكة بشخصيّتها. فإذا كان الجزائريّون قد استطاعوا تركيع الاستعمار الفرنسيّ، بعد مضيّ مئة وخمسين عاماً من النضال، وتمكّنوا من نيل استقلالهم أيضاً، فإنّ ذلك يعود إلى كونهم يمتلكون حسّ الحماس،

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، تصحيح الشيخ حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404ه - 1984م، لا.ط، ج1، ص268.

[2] سورة الأنفال، الآية 24.

 

69


63

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

وحسّ امتلاك الأخلاق، والمُثل العالية.

وإذا كانت ثمّة أمّة أخرى[1] تناضل وتكافح ضدّ أقوى أمم العالم وأغناها، فهل سألنا أنفسنا بماذا تقاتل تلك الأمّة؟ أتقاتل بأعدادها أم بثرواتها؟ أبداً، فتلك الأمّة إنّما تقاتل بشخصيّتها وأخلاقها، وهي تقول للمعتدي: إنّني لا أقبل بسيادتك أبداً، وأنا إمّا أن أعيش واقفةً على قدميّ من دون أنْ يحكمني أحد أو يتسلّط عليّ، أو أن أفنى من الوجود.

إنّ الذي أخذ هذا الدرس وتعلّمه من الملحمة الحسينيّة أكثر من غيره، وانعكست ظلال المدرسة الحسينيّة على روحه المقدَّسة أكثر من أيّ إنسان آخر، هي أخته الجليلة زينب (عليها السلام). إنّه موضوع عجيب بالفعل، فزينب، وعلى الرغم من تلك العظمة كلّها التي كانت تملكها، والمتأتّية من تربية أبيها عليّ (عليه السلام) وأمّها فاطمة الزهراء (عليها السلام). وزينب هذه بعد كربلاء هي غيرها ما قبل كربلاء؛ أي إنّ زينب ما بعد كربلاء قد ازدادت عظمتها، وتضاعف حجم شخصيّتها عمّا كانت عليه قبل كربلاء، صارت زينب أخرى، ليس لأحد دونها أدنى شخصيّة تُذكر. يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): إنّنا كنا اثني عشر نفراً، رُبطنا جميعاً بسلسلة واحدة، ينتهي أحد طرفيها بساعدِيْ والطرف الآخر بساعد عمّتي زينب.

 

 


[1] المقصود هنا شعب الفيّيتنام.

 

70


64

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

يقولون إنّ تاريخ ورود الأسرى إلى الشام صادف في اليوم الثاني من صفر. وعليه، فإنّه يكون قد انقضى اثنان وعشرون يوماً من الأسر على زينب (عليها السلام)، اثنان وعشرون يوماً من المعاناة والعذاب المستمرّ، وهي في هذه الحالة يُدخلونها مجلسَ يزيد بن معاوية، وهو في قصره الأخضر؛ أي القصر الذي بناه معاوية عندما كان والياً على الشام، ذلك البلاط الفخم الذي يقال إنّ كلّ من كان يراه ويرى خدمه وحشمه وتلك الفخامة والعظمة كلّها المحيطة به، كان يفقد قدرته على التوازن.

وكما ينقل بعض الرواة، فإنّ على القادم إلى مجلس يزيد أن يمرّ عبر سبع قاعات حتّى يصل إلى القاعة الضخمة الأخيرة حيث يجلس يزيد على تخته المزيّن والمرصّع بالجواهر، وهو مُحاطٌ بالأعيان والأشراف والسفراء المُعظَّمين للدول الأجنبيّة الذين يجلسون على مقاعدهم الذهبيّة أو الفضيّة. نعم، فقد أدخلوا الأسرى في مثل هذه الظروف، ومعهم زينب الأسيرة، التي شاهدت تلك الفظائع كلّها في عاشوراء، وعانت تلك المعاناة كلّها طوال مدّة الأسر المذكورة، وإذا بزينب، وهي في تلك الحال، تموج روحها بشكل يُثير موجةً رهيبة في جمع الحاضرين، يصبح معها يزيد الذي كان يتبجّح بفصاحته وبلاغته أخرسَ وعاجزاً عن مواجهة زينب (عليها السلام).

ففي الوقت الذي يبدأ فيه يزيد بترديد أبيات الشعر الشهيرة لابن الزبعريّ، ويفخر لنفسه بالإنجازات التي حقّقها سُلطانه، تردُّ

 

71


65

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

عليه زينب(عليها السلام) مُنادية: «أظننتَ يا يزيد حيث أخَذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساقُ كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامةً، وأنّ ذلك لِعِظَمِ خطرك عنده، فشمختَ بأنفك»[1]! نعم، فهي تُريد أن تقول له: والله، إنك أمامي صغيرٌ جدّاً وحقير ودنيء، ولا أرى فيك ذرّةً من الشخصيّة والكيانيّة الإنسانيّة. فانظروا إلى هذه المجموعة من الأسرى من آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهم عملياً قد فقدوا كلّ شيء يملكونه، ما عدا الإيمان والشخصيّة الروحيّة والمعنويّة. ألا تتوقّعون –إذاً- لشخصيّة مثل شخصيّة زينب أن ترسم ملامح ملحمة حسينيّة جديدة، وتُحدِث انقلاباً وثورة حقيقيّة في الشام؟ وهذا ما حصل بالفعل.

لقد أُجبر يزيد في الآن أن يُغيّر أسلوبه في معاملة الأسرى، فأمر بإرسالهم إلى المدينة بشكل محترَم، كما اضطُرَّ كذلك إلى الإعلان عن تبرّئه من قتلة الحسين (عليه السلام)، وألقى باللائمة على ابن زياد، وقال: ألا لعنةُ الله على ابن زياد، فإنّي لم آمره بهذا، وإنّه هو ابن زياد قد فعلها من عنده! فمن كان وراء تلعثم يزيد وارتباكه؟ إنّها العقيلة زينب (عليها السلام).

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص133.

 

72


66

المحاضرة الثالثة: النهضة الحسينيّة وتبلور الشخصيّة المستقلّة للمجتمع الإسلاميّ

وهي التي أنهت خطبتها في ذلك المجلس قائلةً: «يا يزيد، كِد كيدَك، واسع سعيكَ، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميتُ وحينا»[1]. فها هي زينب تُنادي مَنْ يخافه الناس، ويرتعبون منه، ويُنادونه بأمير المؤمنين بكلّ احتقار –يا يزيد– اعمل ما شئت، ولكن كن على ثقةٍ بأنّ ذكرنا غير قابل للفناء، بل إنّما أنت الفاني والمنهزم على الدوام.

 

لقد كانت خطبة العقيلة زينب كافيةً لأن تُخرس يزيد وتُسكته تماماً، فاشتعل غضباً، وزاد غيظ ذلك الشقيّ اللعين، وسيطر على وجوده كلّه، ولكنّه لمّا كان عاجزاً عن ردّ الحُجّة بالحجّة، ومواجهة التحدّي بمثله، اضطُرَّ إلى أن يُظهر حقده ودناءته بطريقة أراد من ورائها إحراقَ قلب زينب وإسكاتها، وقلبَ الموقف ضدّها، من خلال عمل يفتقد إلى الرجولة والإباء، عندما أشار بعصاه الخيزران إلى شفاه أبي عبد الله الشريفة الطاهرة، وأسنانه.

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص135.

 

73


67

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

 

بسم الله الرحمن الرحيم[1]

 

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله، ورسوله وحبيبه وصفيّه، سيّدنا ونبيّنا ومولانا، أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشتَرَىٰ مِنَ ٱلمُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّورَىٰةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلقُرءَانِ وَمَن أَوفَىٰ بِعَهدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ فَٱستَبشِرُواْ بِبَيعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعتُم بِهِۦ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِيمُ ١١١ ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلعَٰبِدُونَ ٱلحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلأٓمِرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَٱلحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلمُؤمِنِينَ﴾[2].

 

 


[1] ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ 6 محرم من العام 1390هـ.

[2] سورة التوبة، الآيتان 111 – 112.

 

75


68

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

إنّ بحثنا يتناول عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في النهضة الحسينيّة. ولا بدّ منذ البداية من السؤال عمّا إذا كان هذا العامل مؤثراً في النهضة الحسينيّة أصلاً أم لا.

وبعبارة أخرى، ينبغي التساؤل أوّلاً عمّا إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العوامل التي دفعت بالحسين بن عليّ (عليه السلام) إلى القيام والثورة أم لا.

ومن ثمّ ثانياً عن مدى تأثير مثل هذا العامل.

الكلّ يعرف أنّ فلسفة إقامة العزاء، وإحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام)، التي يوصينا الأئمّة الأطهار بالمداومة عليها عاماً بعد عام، إنّما هي فلسفة تربويّة، يُقصد منها التعلُّم وإدراك المعارف، من ذلك الدرس التاريخيّ الكبير جدّاً.

وحتّى يستطيع الإنسان الاستفادة من أيّ درس، لا بدّ له أوّلاً من فهم ذلك الدرس جيّداً واستيعابه تماماً.

في هذه الليلة، سأتحدّث إليكم عن مجموع العوامل المؤثّرة في النهضة الحسينيّة بشكل مجمل، ثمّ أُعرِّج بكم للحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتباره العامل الأساس لهذه النهضة. وسأتناول هذا الموضوع بالتفصيل، والشرح المُسهَب والموسَّع إن شاء الله.

ثمّة عوامل متعدّدة لعبت دوراً في وقوع النهضة الحسينيّة، وهذا الأمر -في حدّ ذاته- ساعد في تشابك التفسيرات، وتداخل

 

76


69

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

التحليلات المتنوّعة لهذه الحادثة التاريخيّة التي أُريد من خلالها الوصول إلى كُنه واقعيّتها العميقة والبليغة، على الرغم من عدم اتّساع الرقعة التاريخيّة والزمانيّة لوقائع الحدث.

وإنّ أحد الأسباب في اختلاف التفسيرات التي وردت بشأن هذه الواقعة واستغلالها بشكل سيّئ أحياناً، هو تعقيدات هذه الواقعة العظيمة، وذلك من زاوية العناصر المؤثّرة في صناعة الحديث والرواية الحسينيّة.

ففي هذه الواقعة، تواجهنا قضايا عدّة:

فمرّةً هناك قضيّة أخْذ البيعة ليزيد، وامتناع الإمام (عليه السلام) عن هذه البيعة.

وهناك قضيّة دعوة أهل الكوفة الإمامَ، وقبول الإمام هذه الدعوةَ.

وفي مكان آخر من الحدث، نرى أنّ حديث الإمام لا يتناول بأيّ شكل من الأشكال قضيّة البيعة، وامتناعه (عليه السلام) من المبايعة، كما أنّه لا يتطرّق مطلقاً إلى مبايعة أهل الكوفة له، بل إنّ حديثه يتطرّق بالعموم إلى الأوضاع الحكوميّة الفاسدة، وبالتالي فإنّه يوجّه النقد اللازم لوضع حكومة العصر، وكيف أنّها تحاول تغيير ماهيّة الإسلام، ويُبيّن مدى تحوّل الحرام إلى حلال، والحلال إلى حرام، وأخيراً تذكير الناس بواجبهم الإسلاميّ في مواجهة مثل تلك الأوضاع، وضرورة عدم الرضوخ لها أو السكوت عنها.

وهنا نرى أنّ الإمام لا يتطرّق إلى موضوع البيعة، ولا إلى موضوع

 

77


70

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

دعوة أهل الكوفة، وكأنه ليس ثمّة مسألة باسم البيعة ليزيد، ولا قضيّة باسم دعوة أهل الكوفة له.

فأين يكمن السبب –إذاً- في حصول النهضة؟ هل المسألة هي مسألة البيعة؟ أو أنّ القضية هي قضية الدعوة التي تلقّاها من أهل الكوفة؟ أو أنّها، لا هذه ولا تلك، بل هي مسألة المعارَضة والنقد، أم شيوع المنكَرات وضرورة محاربتها؟

فأيّ قضيّة من تلك القضايا كانت الباعث الحقيقيّ؟ وكيف نُبرّر هذه الحالة، وما هو تفسيرنا لها؟ ثم ما هو الفرق الواضح والبيّن الذي يمكن عرضه بين عصر الإمام؛ أيْ عصر حكومة يزيد، مع العصور التي قبلها، ولا سيّما مع عصر معاوية الذي صالحه الإمام الحسن (عليه السلام)، في حين أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن لديه أيّ نيّة للصلح مع يزيد، كما أنّه لم يكن يجيز لنفسه مثل هذا الصلح؟

والحقيقة أنّ هذه العوامل كلّها مجتمعة كانت مؤثّرة؛ أي إنّ هذه العوامل كانت موجودة بأجمعها، وإنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد أبدى ردود فعله المناسبة تجاه كلّ عامل من هذه العوامل. فجزء من تحرّكه استند في الواقع إلى موقف الامتناع من البيعة ليزيد، في حين أنّ بعض قراراته قامت على أساس دعوة أهل الكوفة له، بينما كان بعضُها يقوم على أساس محاربة الفساد والمنكر الذي كان شائعاً على كلّ حال في ذلك الزمان.

هذه العوامل كلّها كانت مؤثّرة في واقعة كربلاء، تلك الواقعة

 

78

 


71

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

التي هي عبارة عن مجموعة ردود الفعل والقرارات التي تمّ اتخاذها من قبل الوجود القدسيّ العظيم لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام).

في البداية، سنبحث موضوع البيعة، ومدى تأثيرها في الواقعة، وردّ الفعل المعاكس الذي أظهره الإمام مقابل مطالبتهم إيّاه بمبايعة يزيد، والتكليف الذي كان يحمله الإمام مقابل هذه البيعة.

كلّنا يعرف كيف وصل معاوية بن أبي سفيان إلى رأس الهرم في السلطة، وتربّع على كرسيّ الخلافة. فبَعد أن أظهر أصحابُ الإمام الحسن (عليه السلام) ضعفاً شديداً، اضطُرَّ الإمام إلى التوقيع على معاهدة مؤقَّتة مع معاوية، لم يُعتَرَف فيها له بمشروعيّة الخلافة أو الحكم، وإنّما على أساس تخلّيه (عليه السلام) عن الحكم له مؤقّتاً، مقابل تعهّد معاوية بإفساح المجال للمسلمين بانتخاب الحاكم الذي يرغبون في انتخابه خليفة للمسلمين.

وبعبارة أخرى، إفساح المجال للمسلمين بانتخاب من يرونه صالحاً وكفؤاً للخلافة، ممّن عيّنهم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) للولاية من بعده.

وكلّنا يعرف -أيضاً- أنّه حتّى عهد معاوية كانت مسألة الخلافة والحكم خارجة عن نطاق الوراثة تماماً، ورأي المسلمين بشأنها ينقسم إلى قسمين:

قسم يرى أنّ الخلافة من حقّ ذلك الشخص الذي عيّنه النبيّ بأمر من الله -سبحانه وتعالى- للخلافة.

وقسم يقول بحقّ الناس في انتخاب الخليفة المناسب.

 

79


72

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

ولكن على كلّ حال، لم يكن مطروحاً بعدُ أنّ من حقّ الخليفة الحاكم تعيين الخليفة الذي يليه، وبالتالي فرضه على الناس وليّاً للعهد من بعده، وأنّ هذا الأخير يُعيّن الذي يليه، وهكذا دواليك... وبالتالي خروج مسألة الخلافة من دائرة البحث فيما إذا كان الأمر يعود إلى نصّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو حقّ المسلمين في انتخاب الحاكم المناسب.

إنّ أحد بنود اتفاقيّة الصلح، التي عقدها الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية، والتي لم يعمل بها معاوية، بل نقضها صراحةً (تماماً كما عمل مع بقيّة البنود)، كان ينصّ على عدم وجود أيّ حقّ لمعاوية في تعيين مصير المسلمين من بعده، ولذلك تراه يتآمر في قتل الحسن، عن طريق تسميمه، حتّى لا يبقى أثر أو شاهد على هذه الاتفاقيّة، أو بالأحرى يتمّ القضاء على المُدعي في هذا النزاع.

فالحسن (عليه السلام) كان يُريد القول من خلال اتّفاقيّة الصلح: إنّ معاوية شرّ أصاب المسلمين، وها نحن قد تجرّعناه، ولكن الأمر بعده لا بدّ من أن يعود بِيَدِ المسلمين، وفي الأحوال كلّها ليس بيد معاوية.

لكنّ معاوية، وكما يؤكّد المؤرخون، كان يسعى منذ اليوم الأوّل، لجعل الخلافة نوعاً من أنواع السلطنة، ومن ثمّ ضمان ذلك في عائلته وقومه، فلا تخرج أبداً من عشيرته.

لكنّه كان يعرف قبل غيره أنّ هذا الأمر لم يكن بالأمر الهيّن، ولا

 

80


73

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

توجد له الأرضيّة المساعدة؛ ولذلك تراه كان يُفكّر كثيراً حول هذا الموضوع، ويتشاور مع أصحابه، وأعوانه خاصة، لكنّه لم يكن يتجرّأ في الإعلان عن نواياه الحقيقيّة تلك، إذ إنّه لم يكن يتصوّر أن يكون مشروعة مشروعاً عمليّاً.

المؤرّخون يكتبون في هذا المجال، أنّ الذي شجّع معاوية، وأدخل الاطمئنان إلى قلبه بإمكانيّة تحقيق مثل هذا الحلم، هو (المُغيرة بن شعبة) الذي كان بدوره يبحث عن تأمين ولاية الكوفة لنفسه، ولا سيّما أنّه كان والياً على الكوفة في الماضي، غير أنّ معاوية كان قد أصدر لتوّه أمراً بعزله عنها، ممّا أزعج المغيرة كثيراً.

والمغيرة هذا معروف عنه أنه من شياطين القوم ومُخطّطيهم ودُهاتهم.

فهو، ومن أجل العودة مجدّداً إلى كُرسيّ الولاية، فقد ذهب إلى الشام، والتقى بيزيد بن معاوية، وقال له:

لا أدري ماذا ينتظر معاوية، ولماذا يتماهل بشأن ولاية العهد؟

فقال له يزيد: إنّ أبي يتصوّر بأنّ هذا الأمر ليس عمليّاً.

فقال: بلى، إنّه عمليّ، فممّن تخافون؟ وأين تتصوّرون أنّ الناس سوف لن تتجاوب معكم؟

فالناس في الشام مطيعةٌ لأمر معاوية وتعليماته، أمّا المدينة، فأنا أنصحكم بإرسال فلان إليها، وهو قادر على تنفيذ هذه المهمّة لكم. يبقى المكان الأخطر والأهمّ من كلّ مكان آخر، وهو العراق

 

81


74

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

(الكوفة)، وهذه المهمّة اتركوها لي، فأنا كفيل بها.

ويذهب يزيد إلى معاوية، ويُخبره بما يقوله المُغيرة بهذا الخصوص، فيطلب معاويةُ المغيرةَ ليتحدّث إليه.

ومن خلال المنطق القويّ الذي يحمله المغيرة، واللّسان الحلو، يستطيع إقناع معاوية بأنّ الأرضية مُهيَّأة لطرح فكرة ولاية العهد، وأنّ المشكل الوحيد الذي سيواجه هذا الطرح هو موقف أهل الكوفة، الذي هو بدوره على استعداد لحلّه ومواجهة صعابه.

وهنا يُقرّر معاوية تولية المُغيرة على الكوفة مرّة أخرى. (هذا كلّه يحدث بالطبع بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، والذي يُصادف في السنين الأخيرة من عهد معاوية)، والحكاية متشعّبة كثيراً.

ولكن يمكن تلخيص ما جرى كما يلي:

فأهل الكوفة والمدينة لم يقبلوا بالفكرة، وأُجبر معاوية على الذهاب بنفسه إلى المدينة. وهناك دعاه وجهاء المدينة؛ أي أولئك النفر الذين يحترمهم الناس فيها، ويُجلّون شخصيّاتهم، وهم الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر؛ وطلب إليهم بلسان معسول الموافقةَ على فكرة حكومة يزيد، من خلال طرح فكرة المصلحة الإسلاميّة العامّة التي تتطلّب مبايعة يزيد للحكم والخلافة ظاهراً، على أنْ يكون الحكم الحقيقيّ والفعليّ بيد هؤلاء الوجهاء الثلاثة، وذلك من أجل المحافظة على وحدة

 

82


75

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

المجتمع، ودفع الاختلاف بين الناس، لكنّه فشل في إقناعهم بفكرة مبايعة يزيد، وبالتالي فإنّ الأمور لم تَسِرْ على الشكل الذي أراد له معاوية أن يتمّ، حتّى بعد استخدامه أسلوب الخداع والمكر والاحتيال، وذلك من خلال محاولة إعطاء الانطباع للناس في مسجد المدينة بقبول هؤلاء الثلاثة بفكرة البيعة ليزيد، الأمر الذي لم يتمّ تحقيقه والوصول إليه.

إنّ معاوية كان قلقاً جدّاً بشأن مستقبل ابنه يزيد، وقد قدّم له بعض النصائح في أيّام عمره الأخيرة، عندما قال له:

تصرّف هكذا مع عبد الله ابن الزبير لأخذ البيعة منه، وتصرّف هكذا مع عبد الله بن عمر للغرض نفسه، ولكن إيّاك أنْ تتصرّف بخشونة وعنف مع الحسين بن عليّ (عليه السلام)! بل ونصحه باستخدام الرفق واللّين معه تماماً، وأضاف:

إنّه ابن النبيّ، وإنّ له مكانة عظيمة عند المسلمين، فإيّاك واستخدام الخشونة معه.

إنّ معاوية كان يعي جيّداً ويعرف تماماً أنّ معاملة يزيد للإمام الحسين بخشونة، وتلطيخ يديه بدم الحسين، كان يعني سلب الخلافة من يزيد، وضياعها بسرعة، وخروج الخلافة من عشيرة آل سفيان نهائيّاً.

لقد كان معاوية داهية، وكانت تنبّؤاته مثل تنبّؤات السياسيين الآخرين كلّها، غالباً ما تصدُق على الواقع؛ أي إنّه كان رجلاً يستوعب

 

83


76

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

حركة الأمور جيّداً، وقادراً على قراءة المستقبل بشكل جيّد.

على العكس تماماً عمّا كان عليه ابنه يزيد، فهو شابّ مغرور، ورجل إمارة مُدلَّل، قضى أيّام شبابه في حياة البذخ والقصور، ولم يخرج من دائرة اللّهو واللّعب والأنس، ولم تكن لديه حاسّة الإدراك والوعي السياسيّ، وقد تسلّطت عليه وغلبته آفات الغرور؛ غرور الشباب والسلطة والثروة والشهوة.

كما ارتكب عملاً أضرّ آلَ أبي سفيان بالدرجة الأولى، حيث كانت فيه عائلة أبي سفيان الخاسرَ الأكبر.

فهم لم تكن لديهم أهداف معنويّة في الحياة، وكلّ ما كانوا يهدفون إليه هو الوصول إلى السلطة، والتربّع على عرش السلطنة؛ وهذا ما خسروه بالفعل نتيجة أعمال يزيد.

صحيح أنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) قد قُتل، لكنّه حقّق أهدافه المعنويّة، وأدرك غاياته العرفانيّة. في المقابل، فإنّ آل أبي سفيان لم يُحقّقوا أيّاً من أهدافهم، بأيّ شكل من الأشكال.

بعد أن توفّي معاوية (في الخامس عشر من شهر رجب من العام ستّين للهجرة)، أرسل ابنه يزيدُ رسالة إلى حاكم المدينة، الذي كان من بني أميّة، يُخبره فيها بموت معاوية، ويطلب منه أخذ البيعة له من الناس.

لقد كان يعرف تماماً أنّ المدينة مركز الدولة الإسلاميّة، وأنّ الناس جميعاً يَشخَصون بأبصارهم إلى المركز؛ ولذا تراه يبعث إليه

 

84

 


77

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

برسالة أخرى معها يطلب إليه فيها استدعاء الحسين بن عليّ، وأخذ البيعة منه، وأن يبعث إليه برأس الحسين في حالة رفضه البيعة.

وبناءً عليه، فإنّ إحدى القضايا التي كانت تواجه الإمام الحسين، هي طلب البيعة ليزيد بن معاوية بتلك الصورة التي مرّ ذكرها، والتي، علاوة على المفاسد الأخرى كلّها، تبرز فيها مفسدتَان خاصّتَان هنا، لم تكونا موجودتين حتّى مع معاوية:

إحداها هي أنّ البيعة مع يزيد كانت تعني إضفاء المشروعيّة على الخلافة الوراثيّة من قبل الإمام الحسين؛ أي إنّ موضوع الخلافة لم يَعُد موضوع الموافقة على فرد معيّن، بقدر ما كانت تعني الموافقة على مبدأ الخلافة الوراثيّة.

والمفسدة الثانية كانت تتعلّق بشخص يزيد بالذات، الذي كان وضعه يختلف عن وضع الأزمنة والعصور الأخرى كلّها، فهو لم يكن رجلاً فاسقاً وفاجراً فحسب، بل كان يتظاهر بالفسق، ويجهر بفساده وفجوره، ويفتقد مع ذلك إلى الكفاءة واللياقة السياسيّة تماماً.

إنّ معاوية، وكثيراً من خلفاء بني العبّاس، كانوا من الفسقة والفجّار، لكنّهم كانوا يُدركون تماماً أنّهم إذا ما أرادوا لسُلطتهم وملكهم الدوام، فإنّ عليهم مراعاة المصالح الإسلاميّة العامّة إلى حدّ كبير، إلى جانب الحفاظ على الشؤون الإسلاميّة.

لقد كانوا يُدركون جيّداً أنّ عدم وجود الإسلام يعني عدم وجودهم أيضاً.

 

85


78

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

لقد كانوا يعرفون أنّ مئات ملايين البشر من أبناء القوميات المختلفة في آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهم الذين انضوَوا تحت علم وحكومة واحدة مركزها الشام أو بغداد، إنّما يخضعون لسلطة هذه الحكومة المركزيّة؛ لأنّها حكومة الإسلام، ولأنّها تحكم باسم القرآن، ولأنّ خليفتها هو الخليفة الإسلاميّ، وفي غير ذلك فإنّهم لو اكتشفوا أنّ الخليفة مناهض للإسلام، فإنّ أوّل عمل سيقومون به هو إعلان استقلالهم عن المركز.

فما الذي كان يُجبر أهل خراسان مثلاً، أو الشام وسورية، وقسماً من أبناء إفريقيا؛ على أن يُقدّموا الطاعة لحاكم بغداد أو حاكم الشام؟

ولذلك، فإنّ الخلفاء العقلاء، ومن يملكون الحسّ والإدراك السياسيّ، كانوا يُدركون أنّ المفروض بهم مراعاة مصالح الإسلام إلى حدّ كبير، لكنّ يزيد بن معاوية لم يكن لديه هذا الشعور؛ لأنّه كان رجلاً متهتّكاً.

لقد كان يُسَرُّ من حالة عدم احترامه للناس والإسلام، وكسره للحدود الإسلاميّة.

كما أنّ أمّه كانت من أهل البادية، وقد نشأ هو أيضاً في البادية؛ ولذلك تراه يحمل عادات أهل البادية وأخلاقهم، حيث كان يحبّ القردة والكلاب، ويأنس بمعاشرتهم.

 

86


79

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

وفي هذا الخصوص، ينقل المسعوديّ في (مروج الذهب) أنّه –أي يزيد– كان يُلبس القرد الألبسة الحريريّة الفاخرة والجميلة، ويُجلسه كثيراً إلى جانبه أكثر ممّا يُجلس رجال الدولة والجيش! حتّى قال الإمام الحسين (عليه السلام) عنه: «وعلى الإسلام السلام إذْ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد»[1].

فثمّة فرق بينه وبين الحكّام الآخرين فهذا الشخص وجوده –بذاته- كان يُمثّل حرباً على الإسلام.

ومثل هذا الشخص يُراد من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يُبايعه! فمن الطبيعيّ أنْ يمتنع الإمام عن البيعة ويقول: «مثلي لا يبايع مثله»[2]. وأهل الحُكم من طرفهم أصرّوا على طلب البيعة.

وهذه الحالة كانت تُمثّل عاملاً من عوامل النهضة الحسينيّة؛ ولهذا فإنّ الحُكمَ كان مُصرّاً على ضرورة حصول المبايعة من قبل الحسين (عليه السلام) بالذات. (وعندما يرفض رجل مثل الحسين أن يبايع فهذا يعني أنه قد قرّر الوقوف في وجه الحكم والسلطان، وصار بالتالي من رجال المعارضة).

وعليه، فإنّهم لم يكونوا على استعداد أن يروا الحسين يسيرُ حُرّاً بين الناس، وهو لم يُبايع الحاكم الجديد؛ لأنّ عدم البيعة هذه كانت تُشكّل خطراً على نظام الحكم العتيد.

 

 


[1] ابن نما الحلي، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص15.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص325.

 

87


80

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

وقد شخّصوا الموقف تشخيصاً سليماً؛ لأنّ الأمر كان يعني هذا، بل وأكثر من هذا: فعدم مبايعة الإمام كانت لا تعني المخالفة والاعتراض على الحكم فحسب، بل تعني أنّ طاعة يزيد ليست واجبة على الناس، وإنّما الواجب يستدعي الاعتراض على الحكم الجديد.

لقد كانوا يُصرّون على البيعة، وهو كان يُصرّ على عدم البيعة.

والآن ماذا كان مطلوباً حقاً من الإمام (عليه السلام) في مقابل هذا الإصرار والإلحاح على البيعة؟

الحقيقة أنّه لم يكن أمامه أيّ تكليف آخر غير تكليف رفض البيعة.

إذاً، هل تبايع؟ كلّا.

إنْ لم تبايع سَتُقْتَل!

مستعدٌ للموت، ولن أرضخ للبيعة مهما كلّف الأمر.

كان هذا هو ردّ الفعل الطبيعيّ الوحيد المتوقَّع من الإمام الحسين (عليه السلام).

حاكم المدينة، وهو أحد أفراد بني أميّة، طلب أن يأتوا إليه بالإمام (طبعاً لا بدّ من القول إنّ أغلب أفراد بني أميّة من العناصر الفاسدة، لكنّ هذا الرجل كان يختلف بعض الشيء عن الآخرين). وفي تلك الأثناء كان الإمام في مسجد النبيّ في المدينة، وكان إلى جانبه عبد الله بن الزبير.

 

88


81

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

جاء رسول الحاكم إلى المسجد، وأبلغ الاثنين استدعاء الحاكم لهما، ثمّ عاد من حيث أتى ليُبلِّغ سيّده أنّهما في الطريق إليه.

وفيما هما جالسان يُفكّران في سبب الاستدعاء، سأل عبد الله بن الزبير الإمامَ قائلاً:

وماذا تظنّ أن يكون سبب استدعاء الحاكم لنا في هذا الظرف؟

فيجيبه الإمام: «أظنُّ أنّ طاغِيَتَهم قد هلك...»[1]، وأنّه يطلب منا مبايعة الحاكم الجديد.

فردّ عبد الله بن الزبير: إنّ حدسك في محلّه، وأنا أظنّ كذلك، فماذا أنت فاعل؟

فقال الإمام: سأذهب إليه، وماذا تفعل أنت؟

سأرى...

خرج عبد الله بن الزبير مع ظلام تلك الليلة، وفرّ إلى مكّة، هرَباً من لقاء حاكم المدينة، وتحصّن هناك بالحرم المكّيّ.

أمّا الإمام (عليه السلام) فقد ذهب إلى الحاكم، مصطحِباً معه عدداً من شباب بني هاشم، وقال لهم: انتظروني هنا في الخارج، فإذا سمعتم صوتي قد علا، ادخلوا علينا، وفي غير ذلك لا تدخلوا علينا.

مروان بن الحكم، حاكم المدينة السابق، وهو من الأمويّين

 

 


[1] ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم محمد الشيباني، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1386ه - 1966م، لا.ط، ج4، ص15.

 

89


82

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

المشهورين بالفساد، كان حاضراً في المجلس أيضاً[1]، حاكم المدينة استقبل الإمام بقراءة الرسالة العلنيّة التي وصلته من يزيد، بشأن خبر موت معاوية.

ولمّا أنهى الرسالة، قال له الإمام: وماذا تريد منّي؟

فردّ عليه الحاكم بلغة لطيفة، في محاولة منه لكسب ودّ الإمام، بأنّ الناس قد بايعت يزيدَ الحاكمَ الجديد، وأنّ رأي معاوية كان كذلك أيضاً، والمصلحة الإسلاميّة تستدعي مبايعة الجميع... ولذا، أرجو أن تبايع أنت بدورك فتكون المصلحة الإسلاميّة قد تحقّقت بعملك هذا.

ثمّ أخبره أنّ أوامر الإمام ستكون مطاعة إن شاء الله، وأنّ النقائص كلّها سيتمّ رفعها، وأنّ الأمور ستسير على ما يرام إن شاء الله.

فقال له الإمام: ولماذا أنتم تريدون البيعة منّي؟ هل تريدونها من أجل الناس؟ فأنتم لا تريدونها من أجل الله قطعاً! كما أنّ الموقف الشرعيّ لا يهمّكم أيضاً، فأنتم لا يهمّكم شرعيّة الخلافة أو عدم شرعيّتها حتّى تريدوا مبايعتي –مثلاً- كي تصبح شرعيّة، إنّكم تريدون البيعة منّي حتّى تواجهوا الناس بهذه الحقيقة، وتجبروهم على المبايعة، أليس كذلك؟

فقال له حاكم المدينة: نعم، إنّه كذلك.

 

 


[1] لقد حكم هذا الرجل المدينة مدّة طويلة، وقد عمّر فيها كثيراً. توجد عين ماءٍ لا زالت تجري مياهها حتّى اليوم، وهي من أعمال مروان بن الحكم في المدينة.

 

90


83

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

فقال الإمام: إذاً، لا فائدة من بيعتي لكم في هذه الحجرة المغلقة، حيث لا أحد يشهد المبايعة سوى نحن الثلاثة.

فردّ الحاكم عندها مقتنعاً بقول الإمام، وموافقاً على تأجيلها إلى وقت آخر.

وهنا نهض الإمام مستئذناً بالخروج، فوافق الحاكم، لكنّ مروان بن الحكم انتبه لحركة الإمام، فخاطب حاكم المدينة على الفور، محذِّراً إيّاه من عاقبة خروج الحسين دون مبايعة، وقال له: إنّ خروجه من هنا دون مبايعة يعني أنّه سوف لن يبايع، ولذا ينبغي لك تنفيذ تعليمات الخليفة.

فأخذ الإمامُ مروانَ بن الحكم من رقبته، ورفعه إلى الأعلى، ثمّ شدّه بقوّة نحو الأرض، وقال له: إنّك أصغر من هذا!

وخرج الإمام من عند الحاكم دون أن يبايع الخليفة الجديد، وبقي ثلاثة أيّام في المدينة، كان يذهب خلالها كلّ ليلة إلى زيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويجلس عند رأس مدفنه الشريف، ويدعو ربّه قائلاً: رَبِّ افتح لي طريقاً يكون فيه رضاك.

في الليلة الثالثة، وبينما كان الإمام عند مدفن رأس الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأثناء اشتغاله بالدعاء والتهجّد والبكاء، وإذا به يستسلم إلى النوم، فيرى النبيّ الأكرم في عالَم الرؤيا، ويكون هذا الحُلم بالنسبة إليه بمثابة الوحي والإلهام الربّانيّ القادم إليه عبر جدّه.

 

91

 


84

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

ولمّا طلع فجر اليوم التالي، غادر (عليه السلام) المدينةَ متوجّهاً نحو مكّة، سالكاً الطريق الرئيسة، وليس الطريق الثانويّة.

فجاء بعض أصحابه يعاتبونه على سلوكه هذه الطريق، قائلين له:

يابن رسول الله! لو تنكّبتَ الطريق الأعظم لكان أفضل لك، مثلاً، فقد يواجهك الحاكم بجنده، أو رجال أمنه في الطريق، فيُجبروك على الرجوع، ويسبّبوا لك المصاعب، وقد تحصل بعض المواجهات! (ولكنَّ الروح الشُّجاعة والقوية والمقتدِرة لا تقبل الرضوخ لمثل تلك التعليلات أبداً).

فيقول لهم (عليه السلام): إنّني لا أُريد أن أظهر بمظهر المتمرِّد والفارّ، ولذلك فإنّني أسلك الطريق العامّ، وليكن ما يريده الله ويشاؤه، فرضانا من رضا الله.

على كلّ حال، يمكن القول إنّ القضية الأولى والعامل الأوّل في الواقعة الحسينيّة، وهو العامل الذي لا تردُّد في صحّة سنده التاريخيّ؛ هو عامل البيعة، تلك البيعة التي طُلبت من الإمام الحسين (عليه السلام) من قِبل يزيد، وهو ما جاء في النص التاريخيّ المؤكَّد، حيث جاء في رسالة يزيد الخاصّة إلى حاكم المدينة: خُذ حسيناً... بالبيعة أخذاً شديداً[1].


 


[1] أبو مخنف الأزديّ، مقتل الحسين(عليه السلام)، مصدر سابق، ص3.

 

92


85

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

لكنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد وقف بشدّة –أيضاً- في وجه هذه المطالب، فهو لم يكن على استعداد للمبايعة بأيّ شكل مع يزيد، وجوابُه كان سلبيّاً، منذ اللحظة الأولى وحتى الأيّام الأخيرة من عمره الشريفة، حيث جاء إليه عمر بن سعد محاولاً مفاوضته بشأن الصلح مع يزيد، ذلك الصلح الذي كان يعني البيعة دون أيّ مواربة.

لكنّ الإمام لم يكن على استعداد أبداً كما أسلفنا. وكما جاء في خطبته يوم العاشر من محرّم، يبدو واضحاً تماماً بأنّه (عليه السلام) ظلّ مستقيماً وثابتاً في موقفه الذي أعلنه في اليوم الأوّل عند حاكم المدينة.

فكلامه في هذا المجال صريح للغاية، حيث يقول يوم عاشوراء:

«والله، لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل، ولا أقرُّ إقرار العبيد»[1]؛ أي إنّني لن أبايع، أو أمدّ يدي لمبايعة يزيد، تحت الظروف كلّها، مهما ساءت، حتّى وإن كانت الظروف المرافقة لقتلي وقتل أحبّتي وأصحابي وأعواني، وأسر أهلي وعشيرتي.

ومتى برز مثل هذا العامل إلى الوجود؟ منذ القِسْم الأخير من عهد معاوية، إلّا أنّ اشتداده وفوريّته لم تبرزا إلّا بعد موت معاوية وصعود يزيد إلى سدّة الخلافة.


 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص7.

 

93


86

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

أمّا العامل الثاني: فهو عامل الدعوة، وربما تكونون قد قرأتم في بعض الكتب عن هذا الموضوع، وقد جاء فيها: ومع دخول العام الستين للهجرة، فقد مات معاوية. ثم كتب أهل الكوفة إلى الإمام الحسين يدعونه إلى قبول منصب الخلافة الذي اختاروه له، وأنّ الإمام الحسين توجّه بالفعل إلى الكوفة، إلّا أنّ عدم الوفاء، والغدر الذي أبداه أهلها تجاه إمامهم، وعدم معاونتهم له في المهمّة، هذه الأمور أدّت إلى مقتله!

فعندما يقرأ الإنسان مثل هذا التاريخ، يُخيَّل إليه أنّ الإمام الحسين ليس سوى رجل هادىء كان جالساً في بيته بدَعةٍ واطمئنان، ولا دخل له بشأن أحدٍ من الناس، ولا يُفكّر في أيّ موضوع كان، وأنّ الشيء الوحيد الذي حرّكه عن تلك الدَّعَة وذلك الاسترخاء هو دعوة الكوفة له!

في حين أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان قد بدأ حركته منذ أواخر شهر رجب، وذلك في أوائل حكومة يزيد، عندما خرج من المدينة قاصداً مكّة، حيث الحرمُ الإلهيّ الآمن الذي يوفّر الأمن والفضل، مضافاً إلى الاحترام الكبير الذي يُبديه المسلمون تجاه ذلك المكان المقدَّس، الأمر الذي يُجبر أجهزة السلطة على احترام ذلك المكان (وهي الأيّام الأولى التي أعقبت موت معاوية، الخبر الذي ربّما لم يكن قد وصلت أصداؤه بعدُ إلى الكوفة).

واختيار الإمام لمكّة –إذاً- لم يكن بسبب موقعيّتها الأمنيّة

 

94


87

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

فحسب، بل بسبب مركزها الاجتماعيّ والسياسيّ، حيث صادف ذلك كلّه مع اقتراب مواسم العمرة والحجّ.

في شهرَي رجب وشعبان، حيث أيّام العمرة، يتقاطر الناس من الأطراف والأكناف إلى مكّة، فيصبح بالإمكان إرشاد الناس ووعظهم بنحو أفضل من سائر فصول العام.

ثمّ بعد ذلك يأتي موسم الحجّ، الفرصة مؤاتية أكثر من ذي قبل للتبليغ والدعاية.

بعد مرور نحو شهرين على مغادرته للمدينة، وصلت رسائل أهل الكوفة إليه. فرسائل أهل الكوفة وكتبهم لم تصل إلى المدينة، والحسين (عليه السلام) في مقابل ذلك انطلق في حركته الجهاديّة العامّة من المدينة.

إذاً، رسائل أهل الكوفة وصلت إلى الإمام وهو في مكّة؛ أي بعد أن كان قد اتّخذ من قبلُ قرارَه بالامتناع عن مبايعة يزيد، وهو القرار الذي كان قد وَضع الإمامَ في المواجهة والحظر.

والإمام نفسه كان يعرف، كما يعرف الجميع، أنّ السلطة لم تكن على استعداد للتسامح معه بشأن البيعة؛ وفي المقابل، فإنه هو كذلك لم يكن على استعداد للتراجع عن موقفه الرافض للبيعة، ومعنى ذلك أنّ دعوة أهل الكوفة إلى الإمام ليست العامل الأساس في نهضة الإمام، بل كانت عاملاً ثانويّاً، وأكثر ما يمكن القول فيها إنّ مثل هذه الدعوة قد أعطت للإمام، وهيّأت له، من ناحية حكم

 

95

 

 


88

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

التاريخ والشعب في المستقبل، ظروفاً مناسبة للاستمرار في النهضة.

لقد كانت الكوفة آنذاك ولاية كبيرة من ولايات الدولة الإسلاميّة، ومركزَ الجيش الإسلاميّ[1]. وهذه المدينة التي أسّسها عمر بن الخطّاب ما هي في الواقع إلّا مدينة عسكريّة، كان لها تأثير كبير للغاية في مصير البلاد الإسلاميّة آنذاك. ولو ظلّ أهل الكوفة على عهدهم مع الإمام، لكان احتمال نجاح نهضته الفوريّ كبيراً جدّاً.

إنّ الكوفة آنذاك لم تكن تُقارَن بالمدينة أو مكّة، لا بل وحتّى بخراسان، وإنّ منافِستها الوحيدة هي الشام، وإنّ الحدّ الأكثر لتأثير عامل دعوة أهل الكوفة في النهضة الحسينيّة، تمثّل في شكل النهضة وهيَئتها العامّة؛ أي أن ينتقل مركز النهضة إليها بدلاً من أن يبقى في مكّة، ولكن لا بدّ من القول إنّ مكة كانت موقعاً خطراً، ولم يكن بالإمكان تحويلها إلى مركز التحرّك الحسينيّ. نعم، فقد رفض (عليه السلام) اقتراحَ ابن عبّاس بالذهاب إلى اليمن، والاحتماء بجبالها، كما ترك مدينة جدّه وراءه، وتوجّه إلى الكوفة؛ هذا كلّه يعني أنّ دعوة أهل الكوفة لعبت دور العامل الفرعيّ في التحرّك الحسينيّ، بحيث ينتقل التحرّك إلى العراق، ولم تكن الدعوة عاملاً أساسيّاً في حصول التحرّك والنهضة.

عندما يصل الإمام إلى حدود الكوفة، يصطدم بجيش الحرّ بن

 

 


[1] كان هناك مركزان للقوّة في الدولة الإسلاميّة آنذاك هما: الكوفة والشام.

 

96


89

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

يزيد الرياحيّ، فيقول لأهل الكوفة: إنّكم دعوتموني، فإنْ تراجعتم عن دعوتكم عدتُ من حيث أتيت.

ولم يكن معنى هذا أنّ الإمام كان يقصد بذلك تخلّيه عن التحرّك، والقَبول بمبايعة يزيد، والتخلّي عن كلّ ما قاله في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشيوعِ الفساد، والواجبِ المُلقى على عاتق المسلمين في مثل تلك الظروف، وبالتالي الجلوس في البيت، والسكوت عن كلّ تلك المنكرات.

أبداً، فالإمام كان رأيه واضحاً، فالحكومة غير صالحة، والواجب يتطلّب مناهضتها. ولمّا كان أهل الكوفة قد دعَوه لينتقل في التحرّك إلى الكوفة، فلا بدّ له من الذهاب إليها. فأهل الكوفة قالوا: النُصرة للإمام الحسين (عليه السلام)، وإنّا مستعدّون لدعمه ومساعدته في تحرّكه المناهِض لبيعة يزيد، والمطالِب بالعمل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أي دعوة إلى نصرة معارضته ونهضته وثورته.

ولذا، فإنّ الإمام جاء إلى من أعلنوا النصرة، ووعدوه بها، فإنْ هم تراجَعوا عنها، فإنّه سيعود إلى مركزه الأصليّ؛ أي إلى المدينة والحجاز أو مكة، وليفعل الله ما يشاء بمستقبل النهضة.

فعلى أيّ حال، ليس ثمّة أيّ مجال للبيعة مع يزيد، حتّى وإن أدّى ذلك إلى القتل.

وعليه، يمكن القول إنّ الحدّ الأكثر لتأثير هذا العامل؛ أي دعوة أهل الكوفة، هو سحبهم للإمام من مكّة نحو الكوفة.

 

97


90

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

بالطبع، لا أريد القول هنا: إنه لو حصل فعلاً أنّ أهل الكوفة لم يدعوا الإمام إليهم، لكان الإمام قد بقي حتماً في المدينة أو مكّة. أبداً، فالتاريخ يبيّن لنا أنّ كلا هاتين المنطقتين كانتا موضع إشكال وخطر على الإمام؛ فمكّة مثلاً لم يكن وضعها في الظاهر يساعد على بقاء الإمام فيها، وبالتالي لم يكن وضعها أفضل من وضع الكوفة، والشواهد التاريخيّة تثبت أنّه فيما لو بقي الإمام فيها فإنّ خطّة أهل الحكم كانت تقضي بالقضاء على الإمام في حالة إصراره على عدم البيعة.

والمسألة لا تقتصر على نقل «الطُريحيّ» وحده، بل إنّ الآخرين ينقلون مثل هذا النقل أيضاً، ويقولون إنّ الإمام نفسه قد انتبه إلى أنّ بقاءه في مكة في أيّام الحجّ كان يعني وقوعه فريسة المخطَّط الأمويّ الذي كان يُخطِّط لقتله وهو في حالة الإحرام، أثناء أدائه مناسك الحجّ، وإنّ هذا كان يعني أنّ زبانية بني أميّة كانوا سيهددون دمه، ويهتكون بذلك حرمة بيت الله الحرام في الكعبة؛ وبذلك يكون هُتك الحجّ والإسلام، وسيكون الهتك مزدوجاً، حيث:

أوّلاً: كان سيُقتل ابن النبيّ، وهو في حالة العبادة في حرم الله الآمن.

ثانياً: سيذهب دمه (عليه السلام) هدراً.

ثمّ يشيعون بعد ذلك بأنّ خلافاً ما قد وقع بين الإمام وأحد أفراد المجتمع! وهذا الرجل بدوره قد قتل الإمام، وأخفى نفسه عن وجه العدالة، وبالتالي يكون دم الإمام قد ذهب هدراً.

 

98


91

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

ويشير الإمام الحسين (عليه السلام) نفسُه في أقواله إلى مثل هذه الظروف، وذلك عندما يسأله أحدهم، وهو في الطريق إلى العراق، خارجاً من مكّة، عن السبب في مثل هذا الخروج. ذلك السؤال الذي كان يتضمّن التعجّب لترك الإمام المدينة، حيث قبرُ جدّه النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومكّة البيت الحرام الآمن، وتعريض نفسه للخطر بالتوجّه إلى العراق.

لكنّ الإمام يوضّح للسائل جيّداً، قائلاً له: إنّهم؛ أي جلاوزة السلطة، يبحثون عنّي، حتّى وإن اختفيتُ في ثقب حيوان، ولن يهدأ لهم بال قبل أن يروا دمي ينزف أمامهم. ويضيف: إنّ خلافه مع هؤلاء خلاف لا يقبل المهادنة والحلول الوسط، وإنّهم يريدون منه ما لا يستطيع الرضوخ لمثله، وهو يُريد ما لن يقبلوه منه أبداً.

العامل الثالث للنهضة الحسينيّة هو عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بدوره يَبرز في نصّ كلام الإمام، وفي هذا الشأن يذكر لنا التاريخ بأنّ محمّداً ابن الحنفيّة، وهو شقيق الإمام الحسين (عليه السلام)، كان في تلك الأيّام قد أصيب بشلل في يديه، وأنّه أصبح غير قادر على الجهاد، ولذا فإنّ الحسين (عليه السلام) يتركه وراءه، ويكتب له كتاباً يوصيه قائلاً: «هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة»[1].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.

 

99


92

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

وهنا نرى الإمام يُقسم بوحدانيّة الله، ورسالة النبيّ (ذلك أنّ الإمام يعرف أنّ بعضهم سيُشيع حوله أنّه قد خرج من دين جدّه)، ويمضي في حديثه حتّى يصل إلى الحديث عن السبب الكامن وراء نهضته، فيقول:

«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجتُ لِطَلب الإصلاح في أمّةِ جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب»[1].

حيث تَرون أنّ المسألة ليست مسألة دعوة أهل الكوفة، بل وليست الامتناع عن البيعة، يعني أنّ الأمر كان يتعدّى طلب البيعة منه، وامتناعه (عليه السلام) عن المبايعة، ومعنى ذلك أنّهم حتّى لو لم يطلبوا منه البيعة لم يكن ليهدأ أو يسكت على ما كان يجري. وليعرف العالم: «ما خرجتُ أشراً ولا بطراً».

فالحسين بن عليّ لم يكن يطلب الجاه، ولا السلطان أو الثروة، ولم يكن كذلك رجلاً مُفسداً، أو مُخلّاً بالأمن والنظام أو ظالماً، بل إنّه ذلك الإنسان المُصلح الذي يُريد الإصلاح في أمّة جدّه.

«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيَّ قد رَكَز بين اثنتين: بين السِّلَّة، والذِّلّة، وهيهاتَ منّا الذِّلَّة! يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطَهُرتْ»[2].


 


[1] المصدر نفسه، ج44، ص329-330.

[2] راجع: ابن نما الحلي، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص40.

 

100


93

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

إنّ هذه الروح ظلّت تتجلّى في وجود الحسين بن عليّ، وشخصيّته المقدَّسة، منذ اليوم الأوّل حتّى اللحظات الأخيرة من عمره، ولم يكن بالإمكان أن تُفارق الإمام أو تنفصل عنه.

ففي اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة، كان أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، وهو في تلك الحفرة القاتلة، حيث قد فقد القدرة على الحركة، والقدرة على محاربة العدوّ، والقدرة على الوقوف على رجليه؛ يتجلّى عزةً، ويمتلىء حديثه غيرةً، ويتعاظم وجوده ويتألّق كبرياءً وجلالاً، لقد كان الجُند يُريدون فصل رأسه عن بدنه، لكنّ الشجاعة والهيبة اللتين خبروهما تماماً تمنعانهم من ذلك.

كان بعضهم يقول: عسى أن لا يكون الحسين قد ابتدع حيلةً حربيّة جديدة، حتّى يستطيع الإغارة على كلّ من يحمل عليه، ويُنهي مقاومته أمامه، فيبدؤون بالتخطيط لعمل دنيء وجبان يتلخّص بالهجوم على خيامه، زاعمين أنّه لن يتمكّن من الدفاع عن حرمه، وفعلاً يُهاجم الجند خيام حرم الإمام، فيرتفع صوت أحدهم في هذه الأثناء صارخاً:

وهل أنت حيٌّ يا حسين؟! إنّهم هاجموا مخيّم حرمك!

وهنا ينهض الإمام بقوّةٍ، ولكن بصعوبة، على ركبتيه، ثمّ يسند قسمه العلويّ على حربته، ويُنادي عالياً:

«ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا

 

101


94

المحاضرة الرابعة: العوامل المؤثِّرة في النهضة الحسينيّة

تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم»[1].

 

فيردُّ عليه أحدهم: ما تقول يابن فاطمة؟

 

فيرُدُّ عليه الإمام قائلاً: «إنّي أقول أقاتلكم، وتقاتلونني، والنساء ليس عليهِنّ جُناح»[2].

 

نعم، فهذا بدن الحسين أمامكم، مزِّقوه ما استطعتم بالسيوف والحراب، لكنّ روح الحسين الحيّة لا تقبل أن يقترب أحدكم من خيام حرمه...

 


[1] ابن طاووس، السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحسيني، اللهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص71.

[2] المصدر نفسه.

 

102


95

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

 

بسم الله الرحمن الرحيم[1]

 

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله، ورسوله وحبيبه وصفيّه، سيّدنا ونبيّنا ومولانا، أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشتَرَىٰ مِنَ ٱلمُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّورَىٰةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلقُرءَانِ وَمَن أَوفَىٰ بِعَهدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ فَٱستَبشِرُواْ بِبَيعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعتُم بِهِۦ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِيمُ ١١١ ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلعَٰبِدُونَ ٱلحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلأٓمِرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَٱلحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلمُؤمِنِينَ﴾[2].

 


[1] ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ 6 محرم من العام 1390هـ.

[2] سورة التوبة، الآيتان 111 – 112.

 

103


96

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

ثمّة ثلاثة عناصر أساسيّة تُشكّل الهيئة العامّة لبناء النهضة الحسينيّة المقدَّسة؛ أي إنّه يمكن القول إنّ عوامل ثلاثة بشكل عامّ هي التي أثّرت وطبعت الهيكل العامّ لتلك الواقعة الكبرى.

أوّلها طلب يزيد بن معاوية من عمّاله، بعد موت أبيه فوراً؛ فرضَ البيعة الإلزاميّة على الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وامتناع الإمام في المقابل عن تلبية مثل هذا الطلب.

فقد كانت السلطة مُصرّة على طرح مطلبها القاضي بأخذ البيعة مهما كلّف الثمن، وغير مستعدّة للتراجع عن مطلبها تحت الظروف كلّها، بينما في المقابل كان الإمام يُعارض بشدّة الرضوخَ لمثل هذه البيعة، وغير مستعدّ للاستسلام تحت الظروف كلّها، ومن هنا كان ابتداء التضادّ والنضال الشديدَين بين الطرفين.

العامل الثاني المؤثّر في هذه النهضة، والذي ينبغي وضعه في الدرجة الثانية، بل وحتّى في الدرجة الثالثة من الأهمّيّة، هو: دعوة أهل الكوفة الإمامَ إلى القدوم إليهم، ولكن متى؟ بعد أنْ يصبح في موقع المُطالَب بتقديم البيعة ليزيد، وامتناعه عن الرضوخ، الأمر الذي يؤدّي به، كما هو معروف، إلى الهجرة إلى مكّة، والإقامة فيها نحو شهرين، ومن ثمّ وصول أخبار تحرّكاته هذه إلى أهل الكوفة.

وهنا يتداعى أهل الكوفة إلى الاجتماع، ويتّخذون قرارهم المعروف بدعوة الإمام إلى التوجّه نحوهم.

 

104


97

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

وهذا عكس ما نسمع به في الغالب، أو نقرأه في كتبنا بشكل خاصّ.

فدعوة أهل الكوفة ليست هي السبب في تكوّن النهضة، بل إنّ نهضة الإمام هي التي أوجدت أو سبّبت أن يقدّم أهل الكوفة دعوتهم إلى الإمام، فلم تأتِ حركة الإمام بعد وصول دعوة أهل الكوفة إليه، بل إنّ الواقع يقول إنّه، وبعدما شرع الإمام في تحرّكه، وأظهر معارضته، سمع أهل الكوفة بقيام الإمام وتحرّكه. ولمّا كانت الظروف عندهم مُهيّأة نسبيّاً، تداعى أهل البلد للاجتماع، وقرّروا الكتابة للإمام ودعوتَه.

العامل الثالث هو عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا العامل يذكره الإمام بنفسه مُكرّراً، وبصراحة تامّة، دون أن يأتي على ذلك مسألة البيعة، ولا على دعوة أهل الكوفة، وذلك بمثابة مبدأ مستقبل وعامل أساسيّ يمكن الاستناد إليه.

إنّ هذه العوامل الثلاثة ليست متساوية من ناحية قيمتها ودرجة أهمّيّتها، وإنّ كلّ واحد منها يُعطي أهمّيّة لنهضة الإمام بدرجة معيَّنة.

فعامل دعوة أهل الكوفة مثلاً لا يُشكّل إلّا عاملاً ثانويّاً ذا قيمة بسيطة جدّاً، وعاديّة للغاية، (المقصود بالتأثير العاديّ والبسيط في مقابل أعمال الإمام، وليس مقابل أعمالنا)، ذلك أنّه بموجب هذا العامل، فإنّ من أعلن استعداده لنصرة الإمام، من أمّة الإسلام آنذاك،

 

105


98

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

لم يكونوا يشكّلون سوى ولاية واحدة.

وحسب القاعدة المنطقيّة، فإنّ احتمال تحقّق الانتصار لم يكن يتجاوز في حدّه الأعلى أكثر من 05%، ولم يكن أحدٌ يحتمل نسبةً أكثر من تلك النسبة.

فبعد دعوة أهل الكوفة الإمامَ إلى القدوم إليهم، ولنفرض أنّهم كانوا على اتّفاق تامّ فيما بينهم، وأنّهم كانوا سيظلّون على عهدهم له بالنصرة، ولم يخونوا، ولم ينكثوا عهودهم معه، فهل كان بإمكان أحدٍ القول إنّ انتصار الإمام أمرٌ محقَّق ومؤكَّد مئة بالمئة؟ طبعاً لا، فالأمّة كلّ الأمّة لم تكن محصورة بأهل الكوفة. يكفي أن نأخذ أهل الشام بعين الاعتبار، وهم الذين يقفون مع آل أبي سفيان بالتأكيد حتّى تتدنّى نسبة نجاح النهضة إلى النصف.

ولذلك، نرى أنّ أهل الشام هؤلاء قد وقفوا في عهد خلافة أمير المؤمنين موقف المحارب والمعاديّ لأهل الكوفة، وواجهوهم في صفّين، واستطاعوا مقاتلتهم ثمانية عشر شهراً استبسلوا خلالها، وقدّموا من القتلى الكثير من أجل ذلك الموقف.

ولكن في الأحوال كلّها، فإنّ احتمال النجاح كان يُشكّل 04% أو 03%. أنْ يُعبِّر الناس عن استعدادهم لتقديم العون والنصرة، ويستجيب الإمام لتلك الدعوة؛ أمرٌ يمكن اعتباره حدّاً منيعاً من حدود القيمة، وهو الحدّ العاديّ؛ أي إنّ كثيراً من الناس العاديّين يقفون مثل هذا الموقف عندما تواجههم مثل تلك الظروف.

 

106


99

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

لكن عاملاً مثل عامل البيعة من الإمام، وامتناع الإمام في المقابل، وهو العامل الذي برز إلى الوجود منذ الأيّام الأولى؛ يمنح النهضة الحسينيّة قيمةً أكبر من عامل دعوة أهل الكوفة، وذلك من حيث إنّها الأيّام الأولى، وفي الوقت الذي لم يكن قد أُعلن عن موقف النصرة والمساعدة، ولم يكن ثمّة دعوة، والتزام بالعهود والمواثيق.

فالوقت كان وقت تسلّط حكومة متجبّرة وقمعيّة وظالمة؛ حكومة تمادت في ظلمها وقسوتها، ووصل قمعها إلى حدّه الأعلى في عهد معاوية، ولا سيّما العقد الأخير من حكومته وسلطانه...

نعم، فمعاوية كان قد أوصل الأمور إلى الحدّ الذي صارت فيه المدينة الطيّبة، ومكّة المكرّمة، تلعن عليّاً بن أبي طالب على منابرها يومَ الجمعة، وتعتبر ذلك عملاً عباديّاً، وتفتخر به على رؤوس الأشهاد، ولكن من كان يعترض كان يُعرِّض حياته للخطر، بل إنّ رأسه كان يَطير قبل أن يتحسّس ردّ الفعل على معارضته...

فعندما كانوا يُريدون الحديث عن عليّ بن أبي طالب، كانوا يأتون على ذكره بالإشارة والواسطة، بل إنّ الأمر كان قد وصل إلى حدّ أنّه مَن كان يُريد نقل رواية، أو حديث ما، أو له صلة ما بعليّ، أو أنْ يكون قد تخلّله ذكرُ فضيلة لعليّ، وإن كانت أقلّ ما يكون، فإنّ المحدِّثين والرواة كانوا يقبعون في صناديق خاصّة، عبارة عن خلوات منعزلة تماماً، وبعد ذلك يبدؤون بتحليف بعضهم بعضاً، ويقسمون جميعاً على عدم نقل هذه الرواية في أيّ مكان آخر،

 

107


100

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

قبل أن يتأكّدوا من أنّ الطرف المقابل من الثقاة، وغير المُفشين لأسرارهم، وأن يكون من صنف الرواة.

في مثل تلك الظروف الصعبة، يصبح وليّ عهد هذا الرجل هو الخليفة، وأيّ خليفة! شابٌ متهوّر، أكثر غروراً من أبيه، وأكثر منه سفكاً للدماء، وجاهل بألف باء السياسة، ولا يملك حتّى الحسّ السياسيّ العاديّ، أو أصول الدبلوماسيّة المعهودة.

وفي مواجهة مثل هذه الحالة، يصبح قول «لا» عملاً استثنائيّاً، (فالمطلوب المبايعة بأيّ صورة كانت! ولكن في المقابل يأتي الردّ: لن أبايع حتّى ولو قطعتم وجودي إرباً. فنحن هنا نرى الإمام وقد وقف وحده؛ أي بشخصه وذاته فقط، أمام المطالب غير المشروعة لتلك القوّة الجبّارة القمعيّة جدّاً قبل أن يَرد إليه حتّى ذكر الأنصار أو الأعوان، واحتمال نجاحه لم يكن يتجاوز العشرة في المئة. ومع ذلك كلّه تراه ليس مستعداً للتنازل عن رأيه وعقيدته، والتظاهر بعكس ما يؤمن به، ذلك أنّ التاريخ لن يسجّل أنّ الحسين قد بايع تحت الضغط والإجبار.

نعم، فهؤلاء الذين يأخذون البيعة بالإجبار، يصنعون التاريخ -أيضاً- بقوّة المال، وهو ما قاموا به بالفعل.

فمعاوية وحاشيته كانوا قد استثمروا في الواقع قسماً من بيت مال المسلمين في شراء ذمم الوعّاظ ورجال الدين، فكانوا يشترون الرواة الفاسدين الذين لا إيمان ولا عقيدة لهم، بقوّة المال؛ ليزوّروا

 

 

108


101

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

أحاديث النبيّ، ويُغيّروا الأسماء الواردة فيها أحياناً، أو يضعوا أحاديث في مدح أعداء عليّ.

فالتاريخ يؤكّد مثلاً أنّ سمرة بن جندب قد أخذ ثمانية آلاف مثقال من الذهب، مقابل وضع حديث ضدّ عليّ بن أبي طالب.

وعليه، فإنّ تغيير التاريخ ومسخه، لم يكن عملاً شاقّاً وصعباً بالنسبة إلى أمثال هؤلاء، وإن كان قسم من التاريخ قد بقي نقيّاً دون شوائب، فإنّ هذا يعود إلى الأعمال والحركات المشابهة للنهضة الحسينيّة، وإلّا فإنّ سكوت الحسين (عليه السلام) كان يعني تغيير التاريخ أيضاً، وقلب صورته تماماً.

ولذلك، يمكن القول إنّ هذا العامل يُعطي قيمة أرفع ودرجة أعلى لنهضة أبي عبد الله (عليه السلام) من درجة عامل دعوة أهل الكوفة للإمام.

أمّا العامل الثالث: فهو عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو العامل الذي يستند إليه أبو عبد الله الحسين بصراحة، قولاً وعملاً، فتراه (عليه السلام) يبني أساس نهضته وقيامه على أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله)، والأهداف المعلنة لنهضته، والتي يذكر فيها مراراً بالنصّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون أن يأتي على ذكر البيعة، أو دعوة أهل الكوفة وكتابتهم الكتب إليه.

إنّ هذا العامل في الواقع يمنح النهضة الحسينيّة قيمةً أعلى بكثير ممّا يمنحه إيّاها العاملان الآخران. فاستناداً إلى هذا العامل،

 

109


102

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

استطاعت هذه النهضة أن تكون جديرة بالخلود والحياة، وأن تكون الثورة المُعلِّمة.

بالطبع، فإنّ العوامل كلّها كانت تحمل في طيّاتها الدروس والعبر، لكن هذا العامل كان له الأثر التعليميّ الأكبر؛ لأنّه لم يكن يستند إلى الدعوة، أو الكتب والرسائل، ولا إلى طلب البيعة؛ أي إنّه حتّى وإن لم يُكتب إلى الإمام، فإنّ الحسين بن عليّ (عليه السلام) كان سيقوم استناداً إلى قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّه لو لم تُطلب منه البيعة، فلم يكن بقادرٍ على السكوت. فالأمر مختلف، ولا يمكن تحمّل السكوت عنه.

فعلى أساس العامل الأوّل، فإنّه نظراً إلى دعوة أهل الكوفة، وأرضيّة الانتصار التي تكّونت نتيجة ذلك بنسبة 50% أو أقل، فإنّ الإمام يبدأ بالتحرّك؛ أي إنّه فيما لو افترضنا أنّ هذا العامل هو العامل الوحيد الذي كان سبباً في انطلاقة النهضة الحسينيّة وتبلورها، فإنّ ذلك يعني أنه في حال عدم حصول مثل هذه الدعوة، فإنّ الحسين (عليه السلام) لم يكن في وارد التحرّك.

وأمّا على أساس العامل الثاني، فإنه نظراً إلى أنّ السلطة طالبت الإمام بالبيعة، فواجهها الإمام برفض البيعة والتحرّك؛ أي إنّه لو كان سبب التحرّك هذا وحده، فإنه يمكن القول إنَّ عدم مطالبة حكومة ذلك العصر بالبيعة من الحسين (عليه السلام)، فإنّ ذلك كان يعني أنّ الإمام لم يكن في وارد الاصطدام بتلك الحكومة، وبالتالي فإنّ

 

110


103

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

النظر إلى حركة الإمام من زاوية هذا العامل وحده، كان يكفي عدم مطالبة الإمام بالبيعة، حتّى ينتفي التحرّك الحسينيّ، ويهدأ بال الحسين (عليه السلام)، ولا يحصل كلّ ما حصل في التاريخ بتاتاً.

في مقابل ذلك، فإنّ الحسين (عليه السلام)، من زاوية العامل الثالث، رجل متمرّد وناقد، رجل معارضة، بل رجل ثورة وقيام، وهو رجل إيجابيّ فاعل في الأحداث.

وهل ثمّة حاجة إلى سبب آخر بعد هذا السبب! فالفساد قد عمّ في البلاد، وحلال الله صار حراماً، وحرامه حلالاً، وبيت مال المسلمين صار بأيدٍ غير أمينة، والثروات والأموال تُصرفُ في غير رضا الله وسبيله.

وها هو الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) يقول: «من رأى سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يُغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يُدخله مدخله» [1].

وعليه فالحسين هنا يستند إلى جدّه النبيّ في تحرّكه المناهض ليزيد، وقول جدّه واضح لا لبس فيه، فكلّ من يعلم ويفهم ويشعر ويُدرك، عليه أن يقول وينهض ضدّ حكم الطاغية آنذاك، وإلّا فإنّ مصيره سيكون مشتركاً مع مصير مجتمع المذنبين.

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص382.

 

111


104

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

وهذا الحديث النبويّ ليس الوحيد في هذا المجال، فثمّة أحاديث كثيرة يمكن الاستناد إليها في هذا المجال.

فقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الرضا (عليه السلام)، عن جدّه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إذا أمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليأذنوا بوقاعٍ من الله»[1].

وأيّ عذابٍ ينتظر مثل هؤلاء الناس الذين يتركون هذا الواجب الإلهيّ؟ هل سيأتيهم حجرٌ من السماء؟ لا، إنّه العذاب الإلهيّ الذي يشرحه الحقّ -تعالى- في الآية الكريمة: ﴿قُل هُوَ ٱلقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابٗا مِّن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعٗا وَيُذِيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ﴾[2].

وكما جاء في تفسير أهل البيت لهذه الآية الكريمة، فإنّ عذاب «من فوقكم» يقصد فيه الحق -تعالى- العذابَ المتأتّي من الحكّام والمتسلّطين، أو الطبقات الفوقيّة للمجتمع.

وأمّا عذاب «تحت أرجلكم»، فالمقصود يصبح ذلك العذاب المتأتّي من الطبقات الدونيّة في المجتمع. والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول هنا: إنّه إذا ما ترك الناس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلينتظروا -إذاً- العذاب الإلهيّ.

 

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج5، ص59.

[2] سورة الأنعام، الآية 65.

 

112


105

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

وثمّة حديث آخر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ينقله علماء الشيعة في كتبهم المعتبَرة، مثل (أصول الكافي)، كما يذكره أهل السنّة في كتب حديثهم، حيث يمكن قراءته في سند الغزاليّ في (إحياء العلوم). يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«لَتَأمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهُنَّ عن المنكر، أو يُسلّطَنّ الله عليكم شِرارَكم، فيدعوا خيارُكم فلا يستجاب لَهُم»[1].

التفسير المعروف والمتداول للحديث السالف الذكر يُفيد: أنّه، وبعد تسلُّط أشراركم على مقاليد الأمور في المجتمع، فإنّ خياركم، ومهما تضرّعوا إلى الله، ودعوه لإنزال الرحمة على العباد، فإنّ دعاءهم ذلك لن يُستجاب له؛ أي إنّ المجتمع الذي يترك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ الله -سبحانه وتعالى- سيسلب منه رحمته، ومعنى ذلك أنهم مهما دعوا الله ليستجيب لهم دعاءهم، فإنّه لن يفعل ذلك بسبب ذلك الذنب الذي اقترفوه، بترك شرارهم يتسلّطون عليهم.

لكنّ الغزّاليّ يرى غير ما يراه أغلب المفسّرين، إذ يقول في تفسيره اللّطيف لهذه الرواية (على الرغم من أنّ الغزاليّ رجل صوفيّ، لا يبرز اسمه في بحوث المسائل الاجتماعيّة) ما مضمونه:

إنّ معنى الحديث المذكور: «فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لَهُم» 

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص56.

 

113


106

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

ليس أنّهم كلّما يدعون الله فإنّه لا يستجيب لهم، بل إنّ معنى الرواية الشريفة هنا يُفيد: أنّه عندما يترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّهم سيصبحون مُنحطّين ومرعوبين وأذلّاء وخنوعين، إلى درجة أنّهم عندما يذهبون ليستجدوا الرحمة، أو المطالب من الظَلَمة، بالوقوف على أعتابهم، فإنّ هؤلاء الظلمة سوف لن يُعيروهم أيّ اهتمام؛ أي إنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّكم إذا ما أردتم العزّة واحترام غيركم لكم، فعليكم عدم ترك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

فغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من بين صفوفكم، أمرٌ ملازمٌ لضعفكم وانحطاطكم وذُلّكم، ومن ثمّ فإنّ العدوّ سوف لن يحسب لكم أيّ حساب، وسيعاملكم معاملة الرقيق والعبيد، ولن يُلبّي لكم أيّ مطلب مهما التمستموه.

وهذا تفسير لطيف للغاية، وهو ينسجم ويتناسق مع المبادىء المؤكَّدة في الإسلام، وأبو عبد الله الحسين (عليه السلام) إنّما يستند إلى مثل هذه الأصول والمبادىء عندما يُبيّن للأمّة مبادىء تحرّكه ويشرحها.

ولذا، نرى أنّ مضمون خطاباته تُصرّح بأنّه (عليه السلام) كان سيتحرّك ضدّ السلطان الغاشم، حتّى ولو لم يدعُه أهل الكوفة إليهم، أو لو لم تُطالبه السلطات بمبايعة يزيد؛ لأنّ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الذي يمنع سكوته وقبوله بالظلم والفساد.

 

 

114


107

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

المطلوب أن نتوسّع في البحث حول هذا المبدأ، ونحن بحاجة في الأساس إلى معرفة هذا المبدأ جيّداً، وهو المبدأ الذي يؤكّد عليه نبيّ الإسلام هذا التأكيد كلّه.

وهذا الأصل والمبدأ الإسلاميّ يرد ذكره في القرآن الكريم كثيراً، حتّى إنّنا نستطيع إدراك أهمّيّة هذا المبدأ من دون العودة إلى موارد ذكره في الأحاديث النبويّة، أو أحاديث الأئمّة الأطهار، مضافاً إلى كتب الفقه الإسلاميّ على امتداد تاريخ الإسلام، حيث خُصّص البحث حوله في باب فقهيّ مستقلّ، أُطلق عليه بابُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[1].

نعم، فالاستناد إلى القرآن الكريم وحده يكفينا لفهم مدى تأكيد الإسلام على هذا المبدأ الإلهيّ العظيم، وكيف أنّ الله -سبحانه وتعالى- يورد في كتابه الكريم، في أماكن عدّة، حديثَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر أنّ سبب تعاسة الأمم السابقة وفشلها يعود في الواقع إلى تركهم هذه الفريضة، كما ورد في قوله -تعالى-: ﴿فَلَولَا كَانَ مِنَ ٱلقُرُونِ مِن قَبلِكُم أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنهَونَ عَنِ ٱلفَسَادِ﴾[2]، وفي قوله -تعالى-: ﴿كَانُواْ لَا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَرٖ


 


[1] أي إنّه كما يوجد لدينا كتاب الزكاة، وكتاب الصيام، وكتاب الحجّ، وكتاب الجهاد، في باب العبادات، وكتاب البيع، وكتاب الإجارة، في المعاملات. أو كتاب الطلاق، وكتاب الإرث، وكتاب الديّات، وكتاب الحدود والقصاص... فإن لدينا أيضاً كتاباً في الفقه يسمى بكتاب (أي باب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[2] سورة هود، الآية 116.

 

115


108

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَفعَلُونَ﴾[1]. أو كما ورد في قوله -تعالى-، وهو يخاطب المسلمين: ﴿وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٞ يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ﴾[2]؛ أي إنّ المطلوب من المسلمين قيام «أمّة» منهم؛ أي جماعة منهم، تكون مهمّتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [هذا في حال تفسير (مِن) بـ (مِن) التبعيضيّة].

وأمّا في غير ذلك، فيصبح من واجب الجميع القيام بهذه المهمّة.

وعلى كلا التفسيرين، فإنّ المعنى الأساسيّ واحد، ولا تناقض بينهما، إذ إنّ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجبٌ ووظيفة عموميّة للمسلمين، كما أنّه واجب فئة خاصّة من الناس، تتميّز عن العامّة في سرعة إدراكها أو التزامها بمبادىء الإسلام وتعاليمه، أكثر من غيرها مثلاً.

إنّه لينبغي أنْ تخرج من بينكم مثل هذه الجماعة، أو أن تكونوا أنتم جميعاً أمّةً واجبها الدعوة إلى الخير –الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر–. ومثل هذه الأمّة الداعية إلى الخير، والآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، يمكن لها –فقط- أن تكون نهايتها وعاقبتها الحياةَ السعيدة، وصلاح دنياها وآخرتها، وفلاح أعمالها.

 


[1] سورة المائدة، الآية 79.

[2] سورة آل عمران، الآية 104.

 

116


109

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

في سورة (آل عمران) تتكرّر الآيات الخاصّة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيراً، والآية التي أوردناها سالفاً تأتي بعد هذه الآية الكريمة: ﴿وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾[1]. والآية هنا واضحة في دعوتها الناس إلى الوحدة والاتحاد، والابتعاد عن الفرقة والتفرّق، فهي تدعو المسلمين إلى حلّ الاختلافات الحاصلة فيما بينهم، ومنع توسيع الشقّة بين صفوفهم.

نعم، فمن هو المستفيد حقّاً من اتّساع شقّة الخلاف الحاصلة يوماً بعد يوم بين المسلمين؟ وهل ثمّة أحد يستفيد من هذا الخلاف غير عدوّ الإسلام؟ وماذا يريد منّا العدوّ؟

ألا يريدنا أنْ نتصارع، ونحارب بعضنا، ويسبّ بعضنا بعضاً تحت يافطات مذهبيّة وفئويّة مختلفة؟!

وها هو القرآن الكريم يدعونا في المقابل إلى الابتعاد عن التفرقة، ثم يقول: ﴿وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٞ يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ﴾[2]، وكأنّه يُريد بـ«الخير» هنا معنى الاتّحاد؛ أيْ أن تكون بينكم أمّة تدعو المسلمين دائماً إلى الوحدة والاتّحاد، وأن تحارب الفرقة والتفرّق المنتشر بين المسلمين.

ثم يقول -سبحانه وتعالى- عقب هذه الآية في آية أخرى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱختَلَفُواْ﴾[3].

 

 


[1] سورة آل عمران، الآية 103.

[2] سورة آل عمران، الآية 104.

[3] سورة آل عمران، الآية 105.

 

117


110

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

وأقول هنا: أليس عجيباً أن تتوسّط آية: ﴿وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٞ يَدعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ﴾[1] آيتين من آيات الدعوة إلى الوحدة، والابتعاد عن الفرقة والخلاف؟!

نعم، فهذا التناغم والتناسق في الآيات الكريمة يأتي وكأنّه يُراد من ورائه القول إنّ الخير كلَّ الخير، بل وأمّ الخير، في أعمال المسلمين، إنّما يكمن في حسن التفاهم والوحدة والاتّفاق، وهو مبدأ كلّ الخير. بينما يبدو أنّ المنكر كلَّ المنكر، بل وأعظم المنكرات والمساوىء جميعاً، هو الاختلاف والتفرقة تحت أيّ عنوان، أو أيّ اسم حصل ذلك الاختلاف، أو وقعت تلك التفرقة.

ثمّة آية قرآنيّة أخرى، يقول فيها -تعالى-: ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ﴾؛ أي يا أيّها المسلمون، ليس ثمّة أمّة، ولا ملّة، ظهرت على سطح هذه البسيطة، أفضل منكم. فلماذا؟ وما هي خصوصيّة تلك الأمّة؟ ﴿تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ﴾[2].

ومن هنا، لا بدّ لنا من أن نستنتج المفهوم النقيض لهذا المفهوم المطروح، كما يقول المنطقيّون؛ أي: نحن لسنا بأمّة الإسلام، ولسنا بأفضل الأمم للبشريّة؛ لأننا لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر، وبالتالي فإنّنا لا نستطيع ادّعاء الرفعة والعزّة والشرف، ولا يمكننا أن نتباهى بما عندنا، فإسلامنا ليس ذلك الإسلام الواقعيّ.

 


[1] سورة آل عمران، الآية 104.

[2] سورة آل عمران، الآية 110.

 

118


111

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

الحقيقة أنّنا إذا ما أردنا البحث حول موضوع أهمّيّة هذا المبدأ الإسلاميّ وعظمته، من وجهة نظر القرآن والسنّة والحديث، وما ورد عن هذا الموضوع، فإنّ لدينا كثيراً من الروايات الواردة بهذا الخصوص، التي تبرز مدى اهتمام الإسلام بهذا الموضوع.

ومن الطبيعيّ أن يُطرح التساؤل التاريخيّ، ويتمّ التحقيق حول سبب تراجع مثل هذا الموضوع العظيم والمهم، عن واجهة التاريخ الإسلاميّ، وكيف أنه لم ينل أهمّيّته اللازمة من قِبل المسلمين، ولم يُعَرْ له أيّ اهتمام، حتّى صار موضوعاً مهمَلاً في مجتمعاتنا الراهنة.

وينبغي هنا أن نكون منصفين، ونعترف بأنّ أهل السنّة بحثوا وحقّقوا من وجهة النظر العلمية حول هذا الموضوع أكثر ممّا بذل الشيعة في هذا المجال. فإذا ما وضعنا كتب الشيعة الفقهيّة، بدءاً من الكتب الواردة في أبواب «كتاب الصلاة» إلى الكتب التي تتحدّث عن «الديّات» وغيرها، مقابل كتب فقه أهل السنّة في هذا المجال، فإنّنا نستطيع القول، دون أدنى ريب، إنّ فقه الشيعة أكثر تفصيلاً وأكثر دقّةً وأمتنُ وأعمقُ وأقوى استدلالاً، من فقه أهل السنّة في الأبواب كلّها.

وهذا ما أستطيع إثباته بالأدلّة الراسخة، لكنّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظلّ في كتبنا الفقهيّة، ومع الأسف الشديد، باباً صغيراً أمام سائر الأبواب الأخرى.

بالطبع، لا بدّ من القول إنّ هذا الباب من الزاوية العمليّة قد

 

 

119

 

 


112

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

أصبح أيضاً باباً صغيراً بين أهل السنّة المعتزلة، وهم فرقة من فرق المتكلّمين السنّة، يعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً من أصول الدين، وليس فرعاً من فروعه.

فالشيعة تقول إنّ أصول الدين خمسة، وفروع الدين عشرة، حيث يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب فروع الدين العشرة.

بينما المعتزلة، كما ذكرنا، يوردون أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضمن المبادىء الخمسة للأصول الدينيّة، لكنّهم، ومع مرّ الأيّام، بدؤوا يحيدون عن هذا المنحى التاريخيّ في كتاباتهم وبحوثهم، حتّى صار هذا الباب عندهم باباً ثانويّاً من الزاوية العمليّة.

والمؤرّخون الاجتماعيّون يذكرون، في هذا الصدد، سبباً سياسيّاً لهذا الانكفاء، حيث كان البحث في هذا المجال يعني مواجهة السلطات السياسيّة الحاكمة في كلّ عهد. ولمّا كان الأمر بالمعروف يُقابَل بالمضايقة لهذه الفرقة، من قبل حُكّام كلّ زمان، فقد مال أصحاب البحث من شيوخ المعتزلة، وبقوّة، إلى الابتعاد عن ذكره في كتبهم، أو المرور عليه مرور الكرام، على الرغم من كونه يمثّل أصلاً من أصول دينهم الخمسة.

والحقُّ يُقال هنا أيضاً: إنّ هذا الباب قد أُهمل إهمالاً كبيراً في كتبنا وبحوثنا الدينيّة، نحن الشيعة. كذلك، حتّى إنّك يندر أن ترى

 

 

120

 


113

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

بحثاً مكتوباً في القرون الأخيرة في رسائل المجتهدين العمليّة يتناول هذا الباب الدينيّ الكبير.

وإلى الحدّ الذي أعرفه أنا، فإنّ آخر كتاب من كتب الرسائل العمليّة، التي كُتبت في هذا الموضوع، هو كتاب «الجامع العباسيّ» للشيخ البهائيّ، والذي يعودُ تاريخه إلى ثلاثة قرون ونصف القرن تقريباً[1]، بل إنّه صار يُحذف من كتب الرسائل العمليّة بعد ذلك تماماً.

في حين أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل الصلاة والصيام، وليس مسألة تشبه مسألة الإماء والعبيد والرقّ، حتّى نقول إنّها مسألة تاريخيّة قديمة، تنتفي ضرورة البحث حولها بانتفاء وجود الأمر في هذا الزمان، وهو أمر صحيح.

ففي الزمن الذي يوجد فيه الرقّ والعبيد، يكون البحث حول الأحكام الواردة في الإسلام لصالح العبيد أمراً مفيداً، بينما في ظلّ عدم وجود الرقّ، فإنّ البحث في مسائله يصبح عبثاً، وغير مفيد أبداً.

لكنّ موضوعاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس موضوعاً يمكن للمرء أن ينفيه أو يغيّبه عن ساحة المجتمعات؛ إنّه موضوع حاضر وحيّ على الدوامّ، وعلى رأس الموضوعات الاجتماعيّة، في

 


[1] طبعاً لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الشهيد إنّما قد ألقى هذه المحاضرات كما هو معلوم قبل بروز أبحاث الإمام الخمينيّ (قدس سره) وكتاباته، في هذا المجال «المترجم».

 

121


114

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

كلّ عصر وزمان، ولا بدّ من طرحه على الدوامّ، حتّى نتذكّر أهمّيّته، ولا ننساه أبداً.

بعض المستشرقين الأوروبيّين ينسبون إلى الإسلام (بالأحرى يتّهمون الإسلام) -وهو الأمر الذي يكرّرونه ويؤكّدونه في الكثير من كتاباتهم- بأنّه دين القضاء والقدر؛ أي إنّه دين لا يعطي للإنسان أيّ دور مسؤول، أو دور فعّال ونشط، وأنّه يُعلّم البشر على توكيل الله -تعالى- للقيام بواجباتهم الإنسانيّة بدلاً عنهم، وما على الإنسان إلّا أن يبقى منتظراً نتائج ممارسة الربّ لتلك الوظائف وثمرتها.

كما أنّهم يدّعون أنّ الإسلام لا يمنح البشر حرّيّة الاختيار مطلقاً، بل إنّ الأمر محصور كليّاً بإرادة الله ومشيئته وحده، ولا دخل للإنسان بأيّ أمر من أمور الحياة الدنيويّة، وبالتالي فليس للإنسان أيّ مسؤوليّة مُلقاة على عاتقه.

وهذا افتراء محض! فالقرآن الكريم يُدين اليهود ويحاكمهم، نتيجة لحملهم أفكاراً من هذا القبيل، وعدم تحمّلهم المسؤوليّة إلى جانب النبيّ موسى (عليه السلام)، حيث يقول -تعالى-: ﴿يَٰقَومِ ٱدخُلُواْ ٱلأَرضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُم﴾[1]، لكنّهم كانوا يردّون على موسى: ﴿فَٱذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ﴾[2]. نعم، اذهب أوّلاً، وأخرج العدوّ من أرضنا، ثمّ ندخل معك إلى ميدان المعركة!

 

 


[1] سورة المائدة، الآية 21.

[2] سورة المائدة، الآية 24.

 

122


115

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

المعروف أنّه في معركة بدر، عندما جاء النبيّ، واستشار أصحابه في المطلوب عملُه، في تلك الظروف، وذلك بعد أن فرّت القافلة، قافلة العدوّ، فهل يُريد المسلمون ملاحقتهم أم العودة إلى المدينة؟ ردّ عليه أصحابه، وكلٌّ أشار عليه برأي من الآراء، حيث قيل يومها إنّ أبا ذرّ الغفاريّ، أو المقداد الكنديّ، وهما من صحابته الأجلّاء، قال: يا رسول الله! إنّنا لسنا مثل بني إسرائيل حتّى نقول: ﴿فَٱذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ﴾، بل إنّنا نقول لك: الأمر أمرك، ونحن على استعداد لتطبيق أوامرك، والعمل بها في الظروف كلّها، ولو طلبتَ منّا رمي أنفسنا في البحر لفعلنا، ولو طلبتَ منّا رمي أنفسنا في النار فنحن حتماً فاعلون أيضاً.

ثمّ مضافاً إلى ذلك، فها هو القرآن الكريم نفسه يتكلّم بوضوح على موضوع حرّيّة الإنسان، والمسؤوليّة والالتزام الشخصيّ المطلوبَين منه، حيث ورد في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّا هَدَينَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[1] أو ﴿وَهَدَينَٰهُ ٱلنَّجدَينِ﴾[2]، أو في قوله -تعالى-: ﴿وَمَن أَرَادَ ٱلأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَّشكُورٗا﴾[3].


 


[1] سورة الإنسان، الآية 3.

[2] سورة البلد، الآية 10.

[3] سورة الإسراء، الآية 19.

 

123


116

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

ثمّ إنّ ثمّة عبارات كثيرة، يتكرّر ذكرها في القرآن الكريم، كقوله -تعالى-: ﴿فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم﴾[1]. ثمّ إنّ القرآن الكريم يؤكّد مراراً على حقيقة تنزُّه الله -سبحانه وتعالى- عن المفاسد والشرور، ولا يقبل إلّا بتحميلها للإنسان ذاته: ﴿وَمَا ظَلَمنَٰهُم وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ﴾[2].

ثمّ إنّ ثمّة جانباً آخر للرؤية الإسلاميّة للفرد، تضع ديننا في الواقع في مقابل ادّعاء هؤلاء المفترين والكاذبين، ألا وهو ذلك الجانب الذي أصبح في صُلب القانون الدينيّ لأمّتنا الإسلاميّة، بينما لم يدخل إلى هيكليّة القانون الدينيّ لأيّ أمّة من الأمم الأخرى (ولا أريد القول هنا -بالطبع- إنّ السلف من الأنبياء لم يكن لديهم هذا التصوّر عن الإنسان الفرد).

ولكن، على كلّ حال، لم يتبلور هذا الأمر إلّا في ديننا الإسلاميّ، حيث نرى أنّ الفرد في الشريعة المحمّديّة ليس مسؤولاً أمام الله فقط، بل إنّه مسؤول –أيضاً- أمام المجتمع، ويحمل بذاته وشخصه تعهّداً والتزاماً خاصّاً تجاه شعبه وأمّته؛ وهذا هو مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أي إنّك أيّها الإنسان لست مسؤولاً، من الناحية الشخصيّة والفرديّة، تجاه الله فقط، بل إنّك مسؤول أيضاً بالدرجة نفسها أمام المجتمع، فهل يمكن اعتبار مثل هذا الدين

 

 


[1] سورة الشورى، الآية 30.

[2] سورة النحل، الآية 118.

 

124


117

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

بَعْدَ هذا دينَ قضاء وقدر! وبالطبع، القضاء والقدر بالمفهوم الذي يطرحه هؤلاء المستشرقون، والذي يعني عندهم إرجاع الحركات والسكنات كافّة إلى الله -تعالى- فقط، وإخراج البشر نهائيّاً من دائرة الالتزام والمسؤوليّة الاجتماعيّة؛ هو قضاء وقدر لا بدّ وأن يُفيد سلب حرّيّة الرأي والاختيار والمسؤوليّة من الإنسان.

نعم، فالقرآن الكريم لا يقبل بمثل هذا النوع من القضاء والقدر، وهل هناك جملة أوضح من هذه الجملة التي تكرّر ذكرها في القرآن الكريم مرّتين في سياق لفظيّ، ومفهوم معنويّ متقارب، وذلك في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾[1].

إنّ هذه الآية الكريمة في الواقع تصبُّ ماءً صافياً ونقيّاً على رؤوس كلّ أولئك المنتظرين من الله -عزّ وجلّ- أن يُغيّر لهم الأمور والأحوال من طريق ما، فهي تقول لهم بوضوح: إنّ انتظاركم هذا سقيم، فإنّ هنا جزماً وتأكيداً على أنّ الأوضاع لن تتغيّر أبداً لقوم ما حتّى يقوموا هم بتغيير ما بأنفسهم من مواصفات: أخلاقهم، وروحيّتهم، وملكاتهم، وتوجّهاتهم، ووجهة سيرهم، ونيّاتهم، وبالتالي أنفسهم.

فهل ثمّة تعبير عن المسؤوليّة والالتزام أكثر صراحة من هذا

 


[1] سورة الرعد، الآية 11.

 

125


118

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

التعبير القرآنيّ؟ وأيّ مسؤوليّة؟ إنّها مسؤوليّة تجاه المجتمع، فالمخاطَب هنا هو المجتمع.

وفي آية شريفة أخرى، يخاطب فيها -عزّ وجلّ- الناس عامّة، ويُذكّرهم بسيرة إحدى الأمم الفاسدة من السلف، بقوله -تعالى-: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَىٰ قَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾[1]. و«ما كان الله»، أو «لم يكُ» هنا، إنّما تُفيد: أنّ ربوبيّة وألوهيّة الله -سبحانه وتعالى-، تأبى أن تكون الأمور، أو تسير الأمور بغير هذا القانون؛ أي إنّها السنّة الإلهيّة القاضية بأنْ لا يكون الأمر الربانيّ إلّا كذلك (فالإنسان عندما يقول مثلاً: أنا لم أكن، أو أنا لستُ كذلك، فإنّما يقصد أنّه ذلك الشخص الذي لا بدّ وأن يُلازم شخصيّته في الماضي، كما في الحاضر والمستقبل، مثل تلك المواصفات).

يوجد آية أخرى، ورد ذكرها في القرآن الكريم، أذكرها هنا في سياق التوسّع في شرح: ﴿لَم يَكُ مُغَيِّرٗا﴾. يقول -تعالى-: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبعَثَ رَسُولٗا﴾[2]؛ أي إنّ الله لا يُعذّب أبداً أمّةً من الأمم ما لم يُلقِ بحجّتهِ عليها أوّلاً؛ أي إنّ ربوبيّته تأبى غير ذلك التعامل؛ أي إنّما نُعذّب تلك الأمّة التي تفهم وتُدرك ما عُرض عليها، ثمّ تُحجِمُ في نفس الوقت عن العمل بتعاليم تلك الرسالة.

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 53.

[2] سورة الإسراء، الآية 15.

 

126


119

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾؛ أي إنّ ربوبيّتنا لا تقبل بمثل هذا العمل، بل تأمرنا بغير ذلك. فهل ثمّة وثيقةٌ وسندٌ أكثر وضوحاً وصراحة، بعد هذه الآيات الكريمة، نستدلُّ من خلالها على أنّ «توقّعنا» و«انتظارنا»، بل قل «تواكلنا» في مسألة التغيير ليس في محلّه؟ إنّه النصّ القرآنيّ الذي لا يمكن ردُّه أو دحضهُ.

محمّد إقبال اللاهوريّ يستنبط من هذه الآية الكريمة استنباطاً لغويّاً يؤكّد ما ذهبنا إليه في تفسير هذه الآية الكريمة، فيقول[1]:

إنّ الله -سبحانه- لم يستخدم تعبير ﴿حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾، بل قال: ﴿حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾، فالضمير هنا في ﴿يُغَيِّرُواْ ﴾ عائدٌ إلى الناس أنفسهم؛ أي إنّه لم يَقُل حتّى يُغيِّر الله -سبحانه وتعالى- ما بأنفس الناس من أخلاق وروحيّةٍ وخصوصيّات، بل يقول: حتّى يُغيِّروا هُم؛ أي يُبادروا هم، مستقلّين استقلالاً فكريّاً قائماً بذاته.

وهنا نستنتج أنّه لا يمكن لأيّ أمّة أن تُغيِّر أحوال أمّة أخرى وأوضاعها بالجبر والإكراه، مهما بذلت من محاولات، ما دامت الأمّة الأخرى لم تُقرِّر بنفسها التغيير، ولم تأخذ زمام المبادرة في الاتجاه المطلوب، ولم تستند إلى قاعدة الاستقلال الفكريّ الذي هو وحده القادر على تحسين أحوالها وتقدّمها نحو الأفضل.

 

 


[1] راجع كتاب: معرفة إقبال، تأليف سيد غلام رضا سعيدي.

 

127


120

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

أيّها الناس! لا تنتظروا أن يأتيكم الآخرون من الخارج حتّى يُصلحوا ما فسد من أحوالكم! فالأمّة التي ترغب في أن يكون قرارها بيد المستشارين الأجانب، لن تصلح أحوالها يوماً، ولن تصبح أمّة آدميّة إلى الأبد؛ هذا لا ينطبق مع مضمون الآية السالفة الذكر.

وعندما تقرِّر هي بالذات الاعتماد على نفسها، وعلى قدراتها الخاصّة، وتبدأ بالتخطيط، والتدبير لمستقبلها، وتصبح أمّةً تُمسك قرارها بيدها، عند ذلك فقط يمكن لها أن تتوقّع تدفّق الرحمة الإلهيّة عليها، وتنتظر التأييد الربّانيّ لها، وبذلك يتحقّق الوعد الربّانيّ لها، والذي يُطلق عليه القرآن الفيضَ الإلهيّ، والعون الربّانيّ، والنصرة الربانيّة.

فلو كان الانتظار الفارغ، والتوكّل على الله، واعتماد نزول الرحمة الإلهيّة وحدها؛ أمراً صحيحاً، لكان الحسين بن عليّ (عليه السلام) أكثر الناس استحقاقاً لمثل هذه الرحمة له ولأمّته.

لكنّه لم يعمل، لماذا؟ لأنّه أراد أن يكون مثالاً لتطبيق الآية الكريمة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾؛ أي إنّه أراد أن يأخذ زمام المبادرة بيده، ويبدأ بتغيير أوضاع المجتمع، وهو ما عبّر عنه (عليه السلام) عندما استعان بحديث جدّه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، إذا قال:

«... فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله»[1].

 

 


[1] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص 382.

 

128


121

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

ولكن ما هو نوع التغيير؟ وما هي القرارات المطلوب اعتمادها؟ فالأعمال العادية البسيطة نعرفها جميعاً، ونستطيع تنفيذها، وإصلاحُ أمورنا في المستوى البسيط عملٌ سهل يقدر عليه الجميع، فالإسلام أوصى مثلاً بزيارة الحاجّ لدى عودته من مكّة، وهو ما يقوم به أغلبنا، حيث نزور الحجّاج العائدين من موسم الحجّ، ونُجالسهم قليلاً، ونأكل الحلويات معهم، ثمّ نتركهم عائدين إلى بيوتنا، والإسلام قد أوصانا بالمشاركة في تشييع جنازة الميّت، والمشاركة في مأتم الوفاة، وهذه كلّها من الأعمال السهلة في الإسلام، وهي أعمال بسيطة يقدر عليها كلّ إنسان. والمسلم لا يقوم بهذه الأعمال فقط، إذ يأتي يومٌ على الإنسان المسلم لا بدّ له من أن يقف موقف الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وينهض ويتحرّك ويثور، ويهزّ ليس فقط أوضاع المجتمع الإسلاميّ في ذلك العصر، بل إنّ شعاع تأثيره يصل إلى خمس سنوات بعد وقوع الحادثة، وبعد عشر سنوات تراه يظهر بشكل آخر، ثمّ بعد ثلاثين سنة بشكل مختلف، ثمّ بعد ستّين عاماً، وهكذا بعد مئة عام وخمسمئة عام، بأشكال أخرى، بل وبعد مُضيّ ألف عام، ترى ذلك التحرّك يصبح المُلهِم والمُعلّم لسائر الحركات والثورات الإنسانيّة.

وهذا النوع من التحرّك يُقال له تحرّك من النوع الذي تقول عنه الآية الكريمة: ﴿حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم﴾.

 

129


122

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

نحن جميعاً نحبّ أولادنا! فهل كان الحسين بن عليّ (عليه السلام) لا يُحبّ أولاده! بالتأكيد كان يُحبّهم أكثر منّا.

إبراهيم الخليل أيضاً لم يكن أقلّ حُبّاً لابنه إسماعيل من حُبّنا لأولادنا، فهو كان يُحبّه أكثر من حُبّنا نحن لأولادنا؛ لأنّه أكثر إنسانيّة منّا، وهذه العواطف عواطف إنسانيّة. ولمّا كان (عليه السلام) أكثر إنسانيّة منّا، فإنّه بالتأكيد كان يحملُ من العواطف الإنسانيّة بدرجة أكثر وأرفع منّا.

وهكذا الحسين بن عليّ (عليه السلام)، فإنّه كان يُحبّ أولاده أكثر من حُبّنا نحن لأولادنا، ولكنّه في الوقت نفسه كان يُحبّ الله أكثر من أيّ أحدٍ آخر، وأكثر من أيّ شيء في الدنيا، وبالتالي فإنّه لم يكن ليحسب حساب أيّ أحد أو شيء مقابل الحقّ -تعالى-.

يذكر الرواة أنّ أبا عبد الله الحسين (عليه السلام)، عندما كان متوجّهاً بقافلةٍ نحو كربلاء، كان أفراد عائلته جميعهم معه! إنّه لأمر يصعب علينا تصوّره بالفعل. فالواحد منّا إذا ما كان في رحلةٍ عاديّة، وكان يرافقه فيها طفل من أطفاله، فإنّه يحسّ بشكل طبيعيّ بوجود مسؤوليّة معيَّنة تجاه ذلك الطفل، وبالتالي فإنّه سيكون قلِقاً ومشغول البال باستمرار على ذلك الطفل.

إلّا أنّ الحسين (عليه السلام)، وكما يذكر الرواة، سلّم أمره لله مطمئّناً هادئاً، وغطّ في نوم عميق، وهو فوق الفرس، حتّى إنّه وضع رأسه فوق سرج الفرس، لكنّه لم يستمرّ طويلاً، وما كان منه إلّا أن أفاق ورفع رأسه قائلاً:

 

 

130


123

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

«إنّا لله وإنّا إليه راجعون»[1].

وما أن قال كلمته هذه؛ أي استرجع كما يقول أهل اللّغة، وإذا بجماعته ينظر بعضهم إلى بعضٍ، وهم يتساءلون: وماذا يقصد (عليه السلام) بهذه الجملة؟ وهل من نبأ جديد؟

ويتقدّم إليه ولده الغالي، ذلك الابن الذي يحبّه كثيراً، والذي يحمل مضافاً إلى ما يحمله كلّ ولدٍ من مواصفات تُحبِّب الولد لأبيه؛ يحمل خصوصيّةً كانت تزيد من محبّة أبي عبد الله (عليه السلام) له، ألا وهي خصوصيّة كونه أشبه ما يكون بجدّه النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) (تصوّروا حجم المعاناة والابتلاء الذي يتعرّض له الإنسان عندما يصبح مثل هذا الولد في موقع الخطر!).

نعم، يتقدّم إليه عليٌّ الأكبر، ويقول له: «يا أبتا! لمَ استرجعتَ»؛ أي لماذا قلتَ إنّا لله وإنّا إليه راجعون؟

 

 


[1] فعندما يقول إبراهيم لابنه إسماعيل (عليه السلام): يا بُنيّ! إنني أرى في عالم الرؤيا ما يشبه الوحي، بأنّ الله يأمرني أن أذبحك قُرباناً في سبيل الحقّ (وإبراهيم (عليه السلام) في هذه المرحلة لا يعرف فلسفة هذا الأمر، لكنّه متيقّن من أنّه أمر الله -تعالى- إليه)، ماذا تتصوّر ردّ الابن؟ فهل قال له مثلاً: يا أبت، إنّه لحلم، ورؤية الشخص ميّتاً في المنام يُفيد طول العمر، وإن شاء الله يكون عمري طويلاً؟ لا، إنّه قال له: ﴿يَٰٓأَبَتِ ٱفعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [سورة الصافات، الآية 102]. لكنّ الله -سبحانه وتعالى- يتدخّل عندما يُقرّر إبراهيم ذبح ابنه بالفعل، فيوحي إليه: ﴿فَلَمَّآ أَسلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلجَبِينِ ١٠٣ وَنَٰدَينَٰهُ أَن يَٰٓإِبرَٰهِيمُ ١٠٤ قَد صَدَّقتَ ٱلرُّءيَآ﴾ [سورة الصافات، الآيات 103 - 105]. نعم، فالهدف من الوحي والخطاب الربّانيّ هو: امتحان قوّة إيمان الأب والابن. ولمّا كانا قد أثبتا أنّهما من المطيعين لربّهما، فالأب أبدى استعداده للتضحية بابنه، والابن وافق على أن يكون الضحيّة؛ لذلك أمر الله -تعالى- إبراهيمَ بأن لا يذبح ابنه، وهكذا كان.

 

131


124

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

قال: سمعتُ نداءً من السماء يهتف فيّ قائلاً: «القوم يسيرون، والموتُ يسير بركابهم».

والذي فهمته من الهاتف الربّانيّ أنّ مصيرنا الموت، فنحن نسيرُ باتجاه الموت الحتميّ.

[في هذه الأثناء يردُّ عليٌّ الأكبر] تماماً كما قال إسماعيل (عليه السلام) لأبيه إبراهيم (عليه السلام).

نعم، هكذا أجاب عليٌّ الأكبر أباه أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) قائلاً: أولسنا على الحقّ؟

قال: بلى.

قال: فعندما يكون الأمر كذلك، فإنّنا ماضون إلى المصير الذي كتبه الله لنا، لا فرق إن كان مصيرنا الموت أم الحياة، فالمهمّ أن نكون ماضين على الصراط، وفي جادّة الحقّ.

فما كان من أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) إلّا أن سُرّ كثيراً، وأقبل عليه بوَجد؛ ولذلك تراه يردُّ على ابنه بعد ذلك، ردَّ الشاكر لله الذي لا يملك لابنه دُعاءً أفضل من ذلك الدعاء، إذ قال له: «جزاك الله عنّي خير الجزاء»[1].

فكم يتمنّى الأب أن تأتي الفرصة المناسبة حتّى يخدم مثل هذا الابن؟ ولكن لاحظوا دقّة الموقف، وحسّاسيّته الشديدة، ومدى

 

 


[1] راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، مصدر سابق، ج2، ص82.

 

 

132


125

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

عظمة المصاب، عندما يأتي بعد ظهر يوم العاشر من محرّم، ويقف هذا الشابّ نفسه أمام هذا الأب بالذّات، ثمّ يتقدّم إلى الميدان ويُبارز الأعداء، ويُبدي من الشهامة والشجاعة المنقطعة النظير، ويضرب من يضرب، ويقتل من يقتل، وهو على هذه الحال، جافّ الشفتين، ولسانه أشبه ما يكون بالخشب من شدّة العطش، وفي لحظة استراحة واستعادة أنفاس، يعود إلى أبيه ليلتقط بعض أنفاسه، ويطلب منه رشفة ماءٍ، (ولا أدري هنا هل تذكّر جملة أبيه التي قالها له، وهم في الطريق إلى كربلاء مع سائر الأصحاب).

على كلّ حال، الولد يتمنّى رشفة ماءٍ من أبيه في تلك الظروف الشديدة القساوة، قائلاً له: «يا أبتِ! العطشُ قد قتلني، وثقل الحديد أجهَدَني، فهل إلى شربة من الماء سبيل؟».

ولكن الحسين بن عليّ (عليه السلام) لم يكن أمامه أن يُجيب ولدَه الطاهر الرشيد عليّاً الأكبر (عليه السلام)، وهو في تلك الظروف الصعبة، والمعاناة العميقة، بسوى بضع كلمات: «... بُني، ارجع إلى قتال عدوّك، فإنّي أرجو أنّك لا تُمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً!»[1].

 

 


[1] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص43.

 

133


126

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

بسم الله الرحمن الرحيم[1]

 

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله وحبيبه وصفيّه، سيّدنا ونبيّنا ومولانا أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلعَٰبِدُونَ ٱلحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلأٓمِرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَٱلحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلمُؤمِنِينَ﴾[2].

إنّ شكل النهضة الحسينيّة مرهون في الواقع لثلاثة عوامل، هي:

امتناع الإمام (عليه السلام) عن المبايعة، وقبوله دعوةَ أهل الكوفة، والعامل الثالث الذي يظهر تأثيره بشكل مستقلّ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 


[1] ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ 8 محرم 1390هـ. قمري.

[2] سورة التوبة، الآية 112.

 

135


127

المحاضرة الخامسة: قيمة كلّ عامل من العوامل

كما وقد اتّضح لنا -أيضاً- أنّ كلّاً من هذه العوامل الثلاثة كان في -حدّ ذاته- قد حمل معه وظائف ومسؤوليّات خاصّة للإمام (عليه السلام)، فضلاً عن إيجاده ردودَ الفعل المتناسبة مع كلّ عامل.

ثمّ إنّنا بيّنّا -أيضاً- أن تأثير كلّ عامل من العوامل على النهضة الحسينيّة، يختلف من واحدٍ إلى آخر، وبالتالي فهي ليست متساوية في تأثيرها على النهضة.

فلو أخذنا بعين الاعتبار عامل دعوة الكوفيّين فقط، لرأينا أنّ قيمة تأثيره محدودة بحدود معيَّنة، بينما لو نظرنا إلى عامل امتناع الإمام عن المبايعة، لرأينا أنّ قيمته أكبر وأعظم على النهضة من العامل الأوّل.

وإذا ما أخذنا عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنظر الاعتبار، لوجدنا أنّ تأثيره أكبر بعشرات المرّات وأهمّ من العاملَين الأوّلين؛ ذلك أنّ عامل دعوة أهل الكوفة كان يحمل معه احتمال تحقيق نصر حسينيّ بنسبة 50% أو أقلّ بقليل، في حين أنّ عامل الامتناع عن المبايعة لم يكن يحمل معه أيّ احتمال من هذا النوع.

فهنا، كانت المواجهة من نوع المقاومة الخطرة مئة بالمئة. وعلى الجانب الآخر، فإنّ عامل العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحمل في طيّاته أيضاً تفاوتاً عظيماً وفرقاً كبيراً مع عامل المبايعة.

ففي عامل المبايعة يكون الطلب وتكون المطالبة من قبل العدوّ؛ أي أن يتقدّم العدوّ بطلب غير مشروع وغير مقبول، فيواجهه

 

136


128

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الإمام مقابل ذلك بالردّ، وبالتالي برفض الطلب والامتناع عن النزول عند رغبة المطالب.

وإذا ما أردنا أن نأخذ هذا العامل وحده بعين الاعتبار، لكان يمكن لنا القول:

لو أنّهم لم يطالبوا الإمام بمثل تلك البيعة، لما كان الإمام قد وقف في وجههم، ولأنّهم طلبوا منه مثل ذلك الموقف، فإنّ الإمام كان مضطرّاً إلى أن يرفض شخصيّاً ذلك الطلب، وبالتالي وقف في مواجهتهم. (وفي العامل الأوّل كانت الدعوة -دعوة أهل الكوفة- هي التي دفعت بالإمام إلى المواجهة).

وأمّا إذا ما أخذنا بالعامل الثالث، وهو عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبرناه هو العامل الأساسيّ، فإنّه عند ذلك لن تكون الدعوة هي التي تدفع بالإمام إلى المواجهة ولا المبايعة، بل إنّ الإمام هو الذي يُقرّر المواجهة، وفي الحقيقة فساد الأوضاع وشيوع الشرور والمنكرات، وبتعبير الإمام نفسه، تحوّل الحلال إلى حرام، والحرام إلى حلال، وبالتالي رؤية الوضع الفاسد والمنكر للمجتمع، الأمر الذي يضع الإمام أمام منعطف المواجهة، ويوجب عليه القيام والنهضة.

وعلى هذا الأساس، فإنّ قيمة قيام الإمام، استناداً إلى هذا العامل، تتضاعف كثيراً، ويأخذ الدرس الحسينيّ، انطلاقاً من هذا الحساب، شكلاً آخر، ووضعيّة مختلفة.

 

137


129

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والسبب الأساسيّ، والعامل الرئيس، الذي يُعطي لهذه النهضة جدارتها وأهليّتها لتبقى دائماً مُشعّةً ومشرقة على جبهة التاريخ، وخالدة أبداً، ودرساً أزليّاً، وثورةً لا نظير لها في العالم، هو هذا السبب وهذا العامل؛ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بالطبع، مضافاً إلى بعض الخصوصيّات التي سأتعرّض لها -أيضاً- في السياق.

إنّ هذا العامل يرفع كثيراً من أهمّيّة النهضة الحسينيّة وقيمتها؛ ولهذا السبب، فإنّ الواجب يتطلّب منّا أن نتعرّف أكثر فأكثر على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام.

وما هو هذا المبدأ الذي يحمل هذه الأصالة كلّها، والقدرة الكامنة، والذي يحمل تلك الأهمّيّة كلّها في الإسلام، حتّى يدفع بشخص مثل الحسين بن عليّ (عليه السلام) للتضحية بنفسه على طريق ذلك المبدأ، وتسيل دماؤه ودماء أحبّائه وأصحابه، من أجل انتصار ذلك المبدأ، بل حتّى إنّه يذهب إلى حدّ تقبّل حدوث مثل تلك الواقعة الحسينيّة التي لا مثيل لها في التاريخ.

ولهذا، فإنّنا، وبعد مُضيّ نحو ألفٍ ومئتي عام، ترانا نقف بين يدي الإمام، ونقرأ الدعاء الخاصّ:

«أشهد أنّك قد أقمتَ الصلاة، وآتيتَ الزكاة، وأمرتَ بالمعروف، ونهيتَ عن المنكر، وجاهدتَ في الله حقّ جهاده، حتّى أتاك اليقين»[1].

 


[1] راجع: الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد، مصدر سابق، ص720-721، مع اختلاف في العبارة.

 

 

138


130

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ودعونا الآن نفكّر جيّداً في مفهوم هذه الشهادة، وفي هذا الدُّعاء:

فنحن نقول في هذا الدعاء: إنّك -أي الإمام الحسين- قد أقمتَ الصلاة، وآتيت الزكاة، وأدّيت واجب الإنفاق بمراتبه ودرجاته كلّها[1]، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر؛ أي إنّك هنا إنّما قمتَ وجاهدتَ بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاهدتَ في الله حقّ جهاده؛ أي إنّك سعيتَ كلّ سعيك الممكن في قدرة الإنسان والفرد، وبذلتَ ما في وسع الإنسان أن يبذله في طريق الحقّ.

والجدير بالملاحَظة هنا، هو أنّنا في (زيارة وارث) نقول: «إنّنا نشهد»، فلمصلحة من يا تُرى نشهد نحن هنا؟ فالمفروض أنّ الشاهد إنّما يذهب إلى المحكمة ليشهد أمام القاضي على صحّة ادّعاءٍ ما، أو البرهنة على أحقّيّته مثلاً، كأن نقول: سيّدي القاضي! إنّني أشهد

 


[1] إذ إنّ أمر الزكاة لا ينحصر بدفع المال فقط، فالثروة لها زكاتها، كما أنّ الكلام له زكاته، والفكر والدماغ لهما زكاتهما، وجسم الإنسان بشكل عامّ له زكاته، فالأطراف لها زكاتها، والأذن لها زكاتها؛ أي إنّ أيّ نعمة يمنحها الله لعباده، ويقوم العبد باستعمالها لخدمة سائر المخلوقات، فإنّه يكون بذلك قد زكّى تلك النعمة. فنحن نقرأ في القرآن: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِٱلغَيبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقنَٰهُم يُنفِقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 3]، وتفسير ذلك كما جاء على لسان الأئمّة (عليه السلام) عندما سُئلوا عن معنى «ممّا رزقناهم» هنا، قال (عليه السلام): أي ممّا علّمناهم يُعلّمون. وواضح هنا أنّ الأمر لا يخصّ المال والثروة فقط؛ إذ إنّ أحد مصاديق الإنفاق هو أنّه عندما ينطبق على الفرد مصداق العالم، وبالتالي فإنّه يَعْلَم ما لا يعلمه الآخرون، وإنّه يحمل من العلم المفيد للبشر بين أنسجة دماغه، فإنّه يصبح من الواجب على ذلك الفرد أن يقوم بالإنفاق والزكاة من ذلك العلم في سبيل الله، وعلى طريق خدمة المحتاجين من هذا العلم؛ وهذا بدوره زكاة وإنفاق مُعتبران.

 

139


131

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ودعونا الآن نفكّر جيّداً في مفهوم هذه الشهادة، وفي هذا الدُّعاء:

فنحن نقول في هذا الدعاء: إنّك -أي الإمام الحسين- قد أقمتَ الصلاة، وآتيت الزكاة، وأدّيت واجب الإنفاق بمراتبه ودرجاته كلّها[1]، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر؛ أي إنّك هنا إنّما قمتَ وجاهدتَ بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاهدتَ في الله حقّ جهاده؛ أي إنّك سعيتَ كلّ سعيك الممكن في قدرة الإنسان والفرد، وبذلتَ ما في وسع الإنسان أن يبذله في طريق الحقّ.

والجدير بالملاحَظة هنا، هو أنّنا في (زيارة وارث) نقول: «إنّنا نشهد»، فلمصلحة من يا تُرى نشهد نحن هنا؟ فالمفروض أنّ الشاهد إنّما يذهب إلى المحكمة ليشهد أمام القاضي على صحّة ادّعاءٍ ما، أو البرهنة على أحقّيّته مثلاً، كأن نقول: سيّدي القاضي! إنّني أشهد

 


[1] إذ إنّ أمر الزكاة لا ينحصر بدفع المال فقط، فالثروة لها زكاتها، كما أنّ الكلام له زكاته، والفكر والدماغ لهما زكاتهما، وجسم الإنسان بشكل عامّ له زكاته، فالأطراف لها زكاتها، والأذن لها زكاتها؛ أي إنّ أيّ نعمة يمنحها الله لعباده، ويقوم العبد باستعمالها لخدمة سائر المخلوقات، فإنّه يكون بذلك قد زكّى تلك النعمة. فنحن نقرأ في القرآن: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِٱلغَيبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقنَٰهُم يُنفِقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 3]، وتفسير ذلك كما جاء على لسان الأئمّة (عليه السلام) عندما سُئلوا عن معنى «ممّا رزقناهم» هنا، قال (عليه السلام): أي ممّا علّمناهم يُعلّمون. وواضح هنا أنّ الأمر لا يخصّ المال والثروة فقط؛ إذ إنّ أحد مصاديق الإنفاق هو أنّه عندما ينطبق على الفرد مصداق العالم، وبالتالي فإنّه يَعْلَم ما لا يعلمه الآخرون، وإنّه يحمل من العلم المفيد للبشر بين أنسجة دماغه، فإنّه يصبح من الواجب على ذلك الفرد أن يقوم بالإنفاق والزكاة من ذلك العلم في سبيل الله، وعلى طريق خدمة المحتاجين من هذا العلم؛ وهذا بدوره زكاة وإنفاق مُعتبران.

 

 

139


132

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بأنّ فلاناً من الناس يوجد في رقبته دين لفلان، وهذا هو الحاصل في (زيارة وارث).

وهل تعلمون عند مَن نشهد؟ ترى هل هي الشهادة بين يدي الله، وأمام المحكمة الإلهيّة؟ ولمصلحة من؟ هل هي لمصلحة الإمام الحسين؟

إنّ علماء المعاني والبيان يوردون في هذا الصدد ملاحظة جميلة وحكيمة للغاية هي:

إنّ الإنسان يقوم أحياناً بأداء شهادة ما أمام مقام معيّن، ليس بهدف إفهام الطرف المقابل بمضمون تلك الشهادة، وإنّما بهدف إفهام الطرف المعنيّ بأنّه – أي الشاهد – إنّما يُدرك ذلك المضمون ويفهمه، وهذا أمر منتشر أيضاً. فأنت أحياناً تؤدّي الشهادة لصالح قضيّة ما، أمام شخص معيَّن من الناس، ليس بهدف إفهام ذلك الشخص بذلك الموضوع، فأنت تعرف أنّه يعرف، لكنك إنّما تُريد من وراء شهادتك تلك إفهامه والإقرار أمامَهُ بأنّك تعرف وتفهم وتعلم.

وهنا يأخذ معنى الشهادة معنى الإقرار والاعتراف، فتقول: (أشهد)؛ أي إنّني مثلي مثل كلّ إنسان عاقل، أعترف وأُقرُّ يا أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) بأن نهضتك هي نهضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أي إنّني أُدرك جيّداً بأنّك لم تقُم فقط بسبب دعوة أهل الكوفة، بل إنّك قمت قبل أن يدعوك أهل الكوفة إليهم، فأنت نهضت،

 

 

140


133

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقمت أوّلاً، ثم قام أهل الكوفة بتوجيه الدعوة إليك.

كما أنّني أشهد أيضاً بأنّك لم تقم فقط بسبب رفضك مبايعة يزيد، فنهضتك تشمل بنداً آخر أيضاً، وبقيامك إنّما أردتَ تنفيذ مبدأ آخر من مبادىء الإسلام، ألا وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فيما سبق بيّنتُ لكم أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرفعُ من مقام النهضة الحسينيّة وقيمتها، درجات عالية جدّاً، مضافاً إلى ميزةٍ معيّنة، بل ومميّزات أخرى.

والميزة التي أُحبّ التعرّض لها هي أنّ ثورات الأنبياء، وأولياء الله، والمؤمنين بشكل عامّ، تمتاز عن سائر الثورات الأخرى التي تحصل على يد القادة، أو غير القادة من الناس العاديّين؛ بمواصفات معيَّنة، فما هي هذه المواصفات؟

نقول: إنّ فعل البشر له وجهان أو جانبان: جانب جسميّ، وجانب روحيّ، فقد نقوم، أنا وأنت، بتنفيذ العمل نفسه، وبشكل واحد، ولكن من أي جهةٍ بشكل واحد؟ من جهة هيكل العمل الظاهريّ أو صورته، كأن يقوم كلانا بتأدية فريضة الصلاة، أو أن يُساهم كلانا في دفع الأموال، من أجل عمل خير معيَّن، فيدفع كلُّ واحد منّا المبلغ نفسه الذي يدفعه الآخر.

وأصلّي أنا أربع ركعات، وأنت كذلك أربع ركعات، وبالتالي فإنّ هذه الأعمال التي مارستُها أنا لا تختلف عن أعمالك أنت، لكنّ

 

141

 


134

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الفرق يكمن في كونك مثلاً تمتلك من خلوص النِّيَّة، ومن الخضوع والخشوع، ما لا أملكه أنا بدوري، وتكون أنت بالتالي حاملاً لعشقٍ ومحبّةٍ وإخلاصٍ وهيجانٍ روحيّ عالٍ ينفعك، بينما أفتقد أنا بدوري لمثل هذه المواصفات؛ وعليه، تكون قيمة أعمالك أرفع وأفضل من أعمالي بألف مرّةٍ.

هناك العديد ممّن جاهدوا في سبيل الله، ولكن لماذا تصبح: «ضربة عليّ يومَ الخندق أفضل من عبادة الثقلين»[1]؟ فهل ضربة عليٍّ لها هذه القيمة الرفيعة حقّاً؟ ولماذا؟ ذلك أنّ عليّاً (عليه السلام)، وكما جاء في تعبير العُرفاء، قد ذهب إلى درجة الفاني في الله؛ أي إنّه لم يبقَ في وجوده من الأنانيّة أو الذاتيّة شيء بتاتاً.

ففي الوقت الذي يبصق العدوّ في وجهه، في حين يأبى هو رغم ذلك قطعَ رأس العدوّ في تلك اللحظة، حتّى لا يختلط في عمله الانفعال الذاتيّ الذي قد ينبع من غضبه على فعلة العدوّ، مع عمله الجهاديّ الأساس، وهو بهذا يُريد أن يغني نفسه، ولا يبقى في روحه سوى الله. وهذا الأمر لا تجدونه إلّا في منهج الأولياء والأنبياء وعقيدتهم، إذ لا وجود لمثل هذه التصرّفات في غير مدرسة الأنبياء بتاتاً.

 


[1] الحافظ رجب البرسي، مشارق أنوار اليقين، تحقيق السيد علي عاشور، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1419 - 1999م، ط1، ص312.

 

142


135

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

في الآية الكريمة التي تلوناها عليكم في بداية الجلسة، جاءت في قوله -تعالى-: ﴿ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلعَٰبِدُونَ ٱلحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلأٓمِرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ ﴾[1]. صفة التائبين في مقدّمة المواصفات التي ذكرتها الآية.

وكما يقول العرفاء، فإنّ أوّل منزلة من منازل السلوك، أو أوّل مرتبة، هي التوبة.

فالتوبة تعني العودة، والذي ينحرف عن الطريق، ويميل عن الصراط، تراه يعود فجأة إلى طريق الحقّ؛ أي إنّه يعود ويتّجه مجدَّداً نحو الله.

نعم، التائبون العابدون؛ أي إنّ الابتداء بالتوبة، والانطلاق منها، هو الذي يجعلهم يصبحون من العابدين، وبالتالي يعبدون الله، ولا يعبدون سواه، ويصبح الله -سبحانه وتعالى- هو الحاكم فوق وجودهم، ولا حاكم سواه.

وهكذا، فإنّهم لا يقبلون بغير أمر الله، ويرفضون أوامر غيره، ويُطيعونه وحده، لا يشركون به شيئاً، ولا يُطيعون غيره.

الحامِدون: أي المُمجِّدون اسمَ الحقّ -تعالى-، ولا يُمجِّدون غيره.

إنّهم لا يعرفون أحداً يستحقّ التمجيد والمدح والابتهال غير الله.

إنهم لا يمجِّدون، ولا يبتهلون لغير الله -سبحانه وتعالى-.

 

 


[1] سورة التوبة، الآية 112.

 

 

143


136

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

السَّائحون: أي السوَّاح. وقد ورد بهذا الخصوص تفاسير عدّة مختلفة، منها ما قال بمفهوم السياحة المعنويّة، وهي تلك السياحة التي تظهر في عمل الصوم، لكنّ كثيراً من المحقّقين لا يقبلون بهذا التفسير، ومنهم العلّامة الطباطبائيّ في ميزانه.

والتفسير المحتمَل هنا هو أن يكون المقصود: السائحون في الأرض، حيث إنّ القرآن يدعو العباد إلى السير في الأرض.

ولكن ما معنى السير في الأرض؟

إنه يعني قراءة سير الزمان، والبحث والدراسة في العِبَر والقصص التي تحصل في بقاع الأرض المختلفة، وليس سياحة اللاهدف وقتل الوقت.

فالإسلام يُقدّر عمر الإنسان كثيراً، ولا يقبل أن تمضي السنون على العباد وهم مشغولون فقط في السفر والاستطلاع.

نعم، إنّ الإسلام لَيُشَجِّع تلك السياحة التي تترافق مع التدبّر، والتفكر، واستخلاص العبر، وأخذ الدروس، والله -سبحانه- يوصينا بمثل هذه السياحة فيقول: ﴿قُل سِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ﴾[1]، وهذا درس وفكر لنا.

وعليه فالسَّائحون: هم أولئك النوع من البشر، الذين يُمعنون في مطالعة التاريخ، هم أولئك الممعنون في مطالعة أوضاع المجتمع

 

 


[1] سورة الأنعام، الآية 11.

 

 

144


137

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

البشريّ، هم أولئك الممعنون في مطالعة قوانين الخلق والإنشاء، هم أولئك الأفراد الذين تزخر أذهانهم وأدمغتهم بالأفكار والنظرات الفكرية المُشرقة.

ثمّ يذكر القرآن الكريم مظهرَين آخرَين من مظاهر العبادة في قوله: ﴿ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ﴾[1]، «سبحان ربّي العظيم وبحمده» في ركوعهم، و«سبحان ربّي الأعلى وبحمده» في سجودهم، إنّهم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر.

وعندما يحمل أولئك البشر مثل هذه المواصفات، والامتيازات، ومثل هذا الرأسمال المعنوي، ومثل هذه الروح، والأفكار، عندها يمكن القول إنّهم يملكون صلاحيّة حمل راية الإصلاح الاجتماعيّ؛ أي راية الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر أو المصلحين.

وإلا كيف يمكن للفاسد وغير الصالح، أن يكون مُصلحاً؟!

نعم، فأولئك الذين أصلحوا أنفسهم أوّلاً، وأدّبوها، وربّوها تربية صالحة، يمكنهم فقط أن يكونوا مصلحين.

وفي هذا الصدد، يقول عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):

«مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ. وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»[2].

 


[1] سورة التوبة، الآية 112.

[2] السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص480، من كلمات الإمام علي (عليه السلام) القصار رقم 73.

 

145


138

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أي إنّ على الإنسان أن يبدأ بنفسه أوّلاً، ويتغلّب على تلك النفس الأمّارة بالسوء.

فالإنسان الذي يحمل موجوداً غير مُربًّى في داخله، عليه أن يُربّيه ويؤدّبه أوّلاً، فيعظ نفسه ويلومها ويحاسبها، وبعد أن ينتهي من إصلاح نفسه وتهذيبها، وعندما يصبح في عداد الصالحين، يمكنه الادّعاء بإمكانيّة حمله لمهمّة الدليل والهادي للناس والواعظ والمُعلّم والمُربّي والمؤدّب والمُصلح الاجتماعيّ.

نعم، فالإمام يقول بوضوح إنّ المُعلّم لنفسه أحقُّ بالإجلال من مُعلّم الناس ومؤدّبها؛ لأنّها المهمّة الأصعب والأهمّ.

وفي خطبة أخرى للإمام عليّ (عليه السلام) نقرأ: «فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ»[1].

فما أروعهُ من قول! إنّه لينبغي وضعهُ في لوح القلب.

نعم، فما أوسع ميدان الحديث عن الحقّ، والخطابة حول مبادىء الحقّ، ولكن ما أن تأتي ساعة العمل والتطبيق، حتّى يضيق الميدان ويصعب الموقف حتّى النهاية، وتضيق المسافة المتوافرة للمناورة عند العمل بالحقّ، حتّى لَيصعبَ على الإنسان المُضيّ، ولو بخطوة عمليّة واحدة، في هذا المجال.

ومن هنا، فإنّ القرآن الكريم تراه بعد أن يؤكّد على مواصفاتهم،

 


[1] المصدر نفسه، ص332-333، الخطبة 216.

 

146


139

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وأنّهم: التَّائِبُونَ، الْعَابِدُونَ، الْحَامِدُونَ، السَّائِحُونَ، الرَّاكِعُونَ، السَّاجِدونَ، ومن ثمّ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَر، وندرك أنّهم هم الطليعة في عمل الخير وإشاعته، والسبّاقون في طريق الكفاح ضدّ مظاهر الشرّ والفساد، وهم فقط من يملكون صلاحيّة حمل مثل هذا الشرف؛ تراه يقول أخيراً: ﴿وَبَشِّرِ ٱلمُؤمِنِينَ﴾.

ومَن هم أولئك المؤمنون الذين يستأهلون تلك البشارة؛ إنّهم أولئك التائبون العابدون... إلخ.

ولكن، إذا كانوا يمتلكون تلك المواصفات كلّها، ولم يكونوا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإنّهم لن يُفلحوا في أعمالهم. وكذلك إذا كانوا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولكنّهم كانوا أنفسهم من الملَّوثين وغير التائبين... فإنّهم -أيضاً- سوف لن يوفَّقوا في أعمالهم.

عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «لَعَنَ اللَّهُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ، وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ»[1].

وهذا يعني بالدقّة أنّ أولئك الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لكنّهم ليسوا من التائبين والعابدين والحامدين والسائحين والراكعين والساجدين؛ فإنّ لعنة الله عليهم لا بدّ نازلة، لا محالة،

 

 


[1] المصدر نفسه، ص188، الخطبة رقم 129.

 

147


140

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فهم لم يطووا المرحلة التمهيديّة المذكورة في الآية الشريفة السالفة الذكر.

يقول العرفاء في هذا المجال: إنّ «السالكين» يمرّون في الواقع بأربع مراحل في سيرهم العرفانيّ.

1. سير من الخلق إلى الحقّ.

2. سير بالحقّ في الحقّ.

3. سير من الحقّ إلى الخلق.

4. سير بالحقّ في الخلق.

إنّهم في الحقيقة يُريدون القول: إنّ الفرد الجدير بهداية الآخرين، والكفوء لأن يكون دليلهم، هو ذلك الفرد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والذي سما إلى تلك المرتبة الراقية من مراتب الحقّ، ثمّ أصبح مُكلَّفاً برفع الناس إلى حيث استقرّ به المطاف.

من خلال ما تقدّم، يتّضح لنا أنّ النهضة الحسينيّة قد استقت قيمتها وأهمّيّتها الأساسيّة من بُعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وعليه، فإنّنا يجب أن نتعمّق في فهم وإدراك هذا المبدأ الذي هو من الأهمّيّة بمكان، ويستأهل أن يُستشهَد في سبيله مثل الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وخليقٌ بنا أن نسير على هذا المثل الحسينيّ العظيم.

 

 

148

 


141

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو المبدأ الوحيد الذي يضمن بقاء الإسلام؛ وبعبارة أُخرى: هو «العلّة المُبقيَة»، كما يصطلح عليه الفقهاء.

بل يمكن القول إنّه لا وجود للإسلام من دون هذا المبدأ.

إنّه المبدأ الذي على أساسه تتمّ مراقبة وضع المسلمين وحالتهم بشكل دائم. وهل يمكن لأيّ معمل أو مصنع، البقاء سالماً دون مراقبة وصيانة دائمتين من قبل المهندسين الاختصاصيّين!

بل هل يمكن لأي مؤسّسة أن تستمرّ في عملها دون ممارسة الرقابة عليها، ومتابعة شؤونها العامّة من قبل الأطراف المعنيّة؟ أبداً. وكذلك هو شأن المجتمعات البشريّة.

والمجتمع الإسلاميّ أيضاً، لا بدّ من أن يكون كذلك، بل إنّ درجة الاهتمام لا بدّ من أن تكون أكثر دقّة من غيرها من المجتمعات، وهل رأيتم إنساناً ليس بحاجة إلى طبيب!

فإمّا أن يكون الإنسان هو طبيب نفسه، أو أن يكون أحدٌ قد تفرّغ لمعالجته، وناهيك عن أنّ المعالجة لها حقوقها الاختصاصيّة.

فهذا طبيب للعيون، وآخر للحلق، والأذن، وذلك متخصّص في الأمراض النفسيّة والأعصاب، إلى غير ذلك من فروع الطبّ البشريّ.

فها هو الإنسان -إذاً- يضع بدنه تحت المراقبة الدائمة حتّى يصون الوضع العامّ لجهاز البدن، ويطمئنَّ عليه.

 

 

149


142

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فهل يمكن القول بعد ذلك إنّ المجتمع البشريّ لا يحتاج إلى رقابة ومتابعة؟!

وهل يمكن تصوّر مثل هذا الأمر؟! أبداً، بالتأكيد كلّا.

لقد قُتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) على طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أي على طريق المبدأ الأكثر أهمّيّة، لضمان بقاء المجتمع الإسلاميّ؛ ذلك المبدأ الذي لو لم يكن، لتلاشى المجتمع الإسلاميّ وتفكّك، وتفرّقت الأمّة، وتقطّعت أوصالها، وانهار بنيانها، وتناثرت قطعاً قطعاً.

نعم، فهذا المبدأ يحمل هذه القيمة والأهمّيّة كلّها، والآيات القرآنيّة الواردة بهذا الصدد كثيرة للغاية.

ففي موارد عدّة نرى أنّ القرآن الكريم يُذكّرنا بمصير عدد من المجتمعات التي انقرضت وتلاشت وهلكت؛ بسبب عدم توافر قوّة الإصلاح فيها، وافتقارها إلى قوّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

نعم، فتلك الروح الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، وذلك الحسّ، كان قد مات عندهم، فماتت مجتمعاتهم واندثرت.

والآن، دعونا نرى ما هي شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف نستطيع أنْ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، بل دعونا قبل ذلك نسأل: ما هو المعروف؟ وما هو المنكر؟ وما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

 

 

150

 


143

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لمّا كان الإسلام لم يُرِدْ لموضوعٍ مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنْ ينحصر ويتحدّد بموضوعات مثل العبادات والمعاملات والأخلاقيّات والعلاقات العائليّة... وغير ذلك، فإنّه استخدم مصطلحاً عامّاً شاملاً -هو المعروف-؛ أي كلّ عملٍ تُشمّ منه رائحة الخير والإحسان.

فالأمر بالمعروف ضروريّ، وفي مقابل ذلك: النهي عن المنكر؛ فلم يقل الشرك، أو الفسوق، أو الغيبة، أو النميمة، أو الكذب، أو التفرقة، أو الربا، أو الرياء، بل لخّص ذلك في كلمة: «المنكر»؛ أي كلّ ما هو قبيح ودنيء وحقير.

إنّ «الأمر» هو التكليف والواجب، وأمّا «النهي» فهو المنع والردع، ولكن ما هو هذا الأمر والتكليف؟ فهل المقصود منه هو التكليف اللفظيّ؟ أي أنْ لا يتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدود اللّفظ، ولا يتعدّى عملُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دورَ اللسان؟

كلّا، فهناك مراحل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تبدأ بالضمير والقلب، ومن ثمّ باللسان، وأخيراً باليد؛ أي بالتطبيق العمليّ.

وهذا يعني أنّك يجب أن تعيش بوجودك كلّه وأنت آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر. فعندما يُسأل الإمام عليّ (عليه السلام) عن معنى نعت القرآن الكريم بعضَ الأحياء بأنّهم أموات -مَيِّتُ الأحياء-!

 

 

151

 

 


144

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فإنّه يقول (عليه السلام) ما مضمونه[1]: إنّ الناس ينقسمون إلى فئات وطبقات مختلفة؛ منهم من إذا رأى المنكر تراه قد تحرّك ضميره فوراً، واشتعلت جوارحه؛ تأثُّراً بما رأى، وبدأ بالنطق بلسانه ناهياً، ومنتقداً للذي رآه، ومُنطلقاً في أداء وظيفة الإرشاد، بل ولا يقنع بذلك أو يكتفي به، وإنّما يستمرّ في المحاولة حتّى يدخل مرحلة العمل؛ أي شكل من أشكال العمل باللطف، أو بالخشونة، بالضرب أو بالتعرّض للضرب. ليس مهمّاً إلى أين تصل نهايات الأمور، فالمهم أنْ يستخدم الوسيلة العمليّة الممكنة للنضال والكفاح ضدّ المنكر.

وهذا الإنسان -كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام)- هو الحيّ بمعاني الحياة كلَّها.

أمّا بعضهم، فإنه عندما يرى المنكر، فإنّ قلبه يتحرّق تأثيراً ممّا يرى، ولذلك تراهُ يصيح ويُنادي ويستغيث وينصح، ويعظ من يراه أهلاً للموعظة، ولكنّه لا يتجاوز هذه المرحلة إلى العمل، فهذه حدودُه، وكفى.

 

 


[1] السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص542، من كلمات الإمام علي (عليه السلام) رقم 374. وفيه: «فَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ لِلْمُنْكَرِ بِيَدِه ولِسَانِه وقَلْبِه، فَذَلِكَ الْمُسْتَكْمِلُ لِخِصَالِ الْخَيْرِ، ومِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِلِسَانِه وقَلْبِه والتَّارِكُ بِيَدِه، فَذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، ومُضَيِّعٌ خَصْلَةً، ومِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِقَلْبِه والتَّارِكُ بِيَدِه ولِسَانِه، فَذَلِكَ الَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ، وتَمَسَّكَ بِوَاحِدَةٍ، ومِنْهُمْ تَارِكٌ لإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِه وقَلْبِه ويَدِه، فَذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ، ومَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا والْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه، عِنْدَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ، وأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ».

 

152


145

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والإمام (عليه السلام) يقول عن هذا النوع: إنّهم أحياء أيضاً، ويتمتّعون ببعض خصال الحياة، لكنّهم يفتقدون إحدى خصالها.

أمّا الصنف الثالث: فإنّك تراه يتحرّق، ويشتعل غضباً وتنفُّراً من رؤيته للمنكر، لكنّه لا يُحرّك ساكناً مقابل ذلك، بل يكتم تأثيره في داخله، فهو يقرأ الجريدة -مثلاً- وهي تكتب عن أيّام عاشوراء، وتصفها بأنّها من أيّام الأعياد، أو أنّه ينبغي للناس أنْ تستثمر هذه الأعياد، وتستغلّ أيّام العُطلة هذه، وتنطلق في السفر والترفيه! إلى ما هنالك من وسائل الدعاية والترويج المضادّة لفكر الإمام الحسين (عليه السلام) ومنهجه وذكراه الخالدة.

فالراديو والتلفاز وأجهزة إعلام البلاد كلّها مُعبَّأة لتحريض الناس بالاتّجاه المُعاكس للأعراف والتقاليد الإسلاميّة الخاصّة بهذه الذكرى.

ومع ذلك ترى تلك الفئة من الناس لا تُحرّك ساكناً، ولا تعترض على ما يجري بأيّ شكل من الأشكال، ولا تتساءل حتّى لماذا ينشط هؤلاء ضدّ الإمام الحسين (عليه السلام)! ومن هم هؤلاء المُحرِّضون ضد الإسلام! ولماذا لا يكتب أحد، ويردّ عليهم بأنّ للعيد مناسباته وأيّامه المعروفة[1].

ومن ثمّ، فإننا نُنادي على الدوام بأنّ قضيّة الحسين بن عليّ (عليه السلام) قد عُجنت واختلطت بأرواحنا، ونحن جميعاً مدينون لهذا الدين ولهذه

 

 


[1] لا بدّ من التذكير هنا بأنّ هذه المحاضرة إنّما أُلقيت في زمن العهد البائد.

 

153


146

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المدرسة. فهذا البلدُ بلدُ الحسين بن عليّ (عليه السلام)، والبلاد هي بلاد التشيّع والإسلام، والحسين بن عليّ شعارُ هذا الشعب وشعارُ هذه البلاد، فكيف نسمح لأنفسنا أن نرى ونسمع هذه الإهانات كلّها الموجَّهة ضدّ الحسين بن عليّ (عليه السلام)، والدعوة إلى تحويلها إلى أيّام فرح ونُزهةٍ، واغتنامها فرصة من فرص السفر والترفيه، ثمّ نسكت على ذلك كلّه! وهذه الفئة الثالثة التي نتحدّث بصددها الآن ليست حاضرة حتّى تُنبِّه رفاقها وأهلها الأقربين إلى ضرورة احترام شعائر الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام)، والتحمّل ثلاثة أيّام فقط من دون الإساءة لهذه الشعائر.

حتّى هذا القدر القليل من المحافظة على التراث والتقاليد والعُرف الحسينيّ، لا يصدر عن هذه الفئة. وأقولها صراحةً:

نحن لم نَصُن الحسين، ولم نحافظ عليه!

إنّ الحسين صاننا، وحافظ علينا حتّى الآن. وكما يقول الفيلسوف الكبير محمّد إقبال اللاهوريّ: «لم يحصل أبداً أنّ المسلمين قد صانوا الإسلام، بل إنّ الإسلام دوماً هو الذي يصون المسلمين».

فكلّما هدّد البلادَ خطرٌ عظيم، تراهم يتمسّكون بأذيال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) و(نهج البلاغة)، ويروحون يبحثون عن خيمة الحسين بن عليّ (عليه السلام)، ويبحثون عن ذكراه. والله، إنّه لينطبق علينا قوله -تعالى-: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلفُلكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُم إِلَى ٱلبَرِّ إِذَا هُم يُشرِكُونَ﴾[1].

 


[1] سورة العنكبوت، الآية 65.

 

154


147

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهذه هي الحال في بلادنا اليوم! لقد رأيناهم كيف كانوا يردّدون اسم الحسين بن عليّ (عليه السلام)، واسم الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)! لقد كان ذلك قبل خمسة وعشرين عاماً، عندما كانوا لا يعرفون اسم الحسين ولا الإمام عليّ.

وما أن استنفَدوا أغراضهم من هذه القضيّة، حتّى استفاق العالَم على ذكر بابك خُرَّم والمقفَّع ومازيار وبقيّة الأسماء الفارسيّة المعروفة. فعندما يُهدِّد هذه الأمّةَ الأخطارُ الجدّيّة، فإنّ بابك خُرَّم يذهب إلى الجحيم، ولا نراه في الواجهة!

إنّهم لا يعرفون الخجل حقّاً! كيف يتجرّؤون هكذا على محاربة الحسين بن عليّ (عليه السلام)، ويصنعون الأبطال مقابله! تراه، مع الأسف، بدلاً من افتخاره بتسمية ابنه بأسماء إسلاميّة، كالحسين وغيرها، يُسمّيهم بابك ومازيار وجمشيد وخورشيد، خجَلاً من الأسماء الإسلاميّة!

والله، إنّ هذه التحرّكات والتصرّفات كلّها ما هي إلّا حرب ضدّ الإسلام، وإماتة الإسلام. ولهذا، فإنّ علينا جميعاً أن نحيي شعائر الدين؛ وإحدى الشعائر هي الأسماء، فما معنى أنْ يُقال إنّ الاسم الفلانيّ أصبح قديماً، ولم يَعُد عصريّاً، أو لا يُناسب الموضة! فهل ثمّة اسمٌ جديد واسمٌ قديم؟! ولأنّ اسم الخادمة الفلانيّة فاطمة، يصبح اسم فاطمة يوحي بانتماء الشخص إلى صنف الخدم! إنه لأمرٌ عجيب حقّاً! إذاً، ينبغي أن لا نُسمّي بناتنا بعد الآن باسم فاطمة!

 

 

155

 


148

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

هنا بالذات أحد موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

نعم، فإحدى درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أيُّها الناس، أنْ تُسمّوا أبناءكم بالأسماء الإسلاميّة، (فهذا الأمر بالمعروف). ومن جهة أخرى، عليكم أن تحاربوا الأسماء غير الإسلاميّة، (وهذا نهي عن المنكر). وانتخِبوا أسماءَ إسلاميّةً لمؤسّساتكم، وبذلك تُحيوا الأسماء الإسلاميّة، وتُحيوا لسان الإسلام ولغتَه.

إنّ اللّغة العربيّة ليست لغة قوم أو شعب مُعيَّن؛ إنّها لغة الإسلام. نعم، فاللّغة العربيّة ليست لغة العرب؛ إنّها لغة الإسلام. فلو لم يكن القرآن، لما كان هذا اللّسان موجوداً اليوم!

وإنّ من أهمّ واجباتنا اليوم هو الدفاع عن هذه اللغة وصيانتها.

إنّ كلّ ثقافة وحضارة، يُراد لها أن تبقى حيّة، لا بدّ من إحياء لغتها، فإذا ماتت لغتها ماتت تلك الحضارة.

إنّ هذه الحرب العلنيّة التي تشهدونها اليوم ضدّ اللّغة العربيّة، ينبغي أن تكون ناقوساً لإعلان الخطر عليكم، ولا بدّ من أن تفهموا ذلك جيّداً وتُدركوه، وتتيقّظوا لما يُحاك من مؤامرة خفيّة من وراء ذلك.

فوالله، إنها الحرب ضدّ الإسلام. فلا أحد يحارب الحروف الأبجديّة للّغة! قسماً بالله، إنّ علينا واجباً أمام اللّغة العربيّة، وما ينبغي أن نقوم به هو حفظ هذه اللّغة وصيانتها. ومَنْ يستطيع الوقوف ضدكم؟ شكّلوا معاهد تدريس اللّغة العربيّة في كلّ مكان، واشرعوا في تعليم أبنائكم وأنفسكم وأزواجكم.

 

156


149

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وصدّقوني، إذا ما تعلّمتم هذه اللّغة، فإنّكم ليس فقط لن تخسروا شيئاً، بل إنّكم ستستفيدون أيضاً؛ لأنّكم كسبتم تعلُّم لغة حيّة من لغات الدنيا.

فها هي اللّغة الإنكليزيّة قد غزت بلادنا، ونفذت في داخل بيوتنا في الأعماق، والدعاية تفرضها علينا فرضاً، لماذا؟ هل هذه الدعاية كلّها من أجل سواد عيوننا؟ أبداً.

إنهم يروّجون لهذه اللّغة الإنكليزيّة حتّى يفرضوا عاداتهم وتقاليدهم علينا، ويوجّهوا ثقافتنا وتربيتنا نحو أفكارهم ومدنيّتهم. إنّهم يريدون من وراء ذلك فرض روحهم وروحيّتهم علينا، حتّى يذيبوا شخصيّتنا وروحنا وإرادتنا.

كم كُنّا نحن المسلمين غافلين، وما نزال. ليس الإيرانيّون وحدهم مصابين بهذا المرض، بل أينما يضع الإنسان قدمه في عالم الإسلام، سيرى كيف أنّ المسلمين قد ظلّوا نياماً ولمدّة قرون، لكن، والحمد لله، فقد بدأت تظهر بوادر اليقظة بين صفوف المسلمين...

إنه لأمرٌ يدعو إلى الأسف الشديد، أن يرى الإنسان المسلمين القادمين من بلدان مختلفة يجتمعون في مكّة أو المدينة، وتكون لغة التفاهم فيما بينهم اللّغة الإنكليزيّة!

إنّه مخطَّط عملوا من أجله، وما زالوا، منذ أكثر من أربعمئة عام، ولكن أَمَا آن الأوان لنا أن نستيقظ ونواجه هذه المخطّطات؟! قال

 

157


150

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 -تعالى-: ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ﴾[1].

إنّ هذا الواجب الكبير -الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- له ركنان، أو شرطان أساسيّان:

أوّلهما النموّ المعرفيّ، وامتلاك البصيرة بالأشياء. فأنا عندما أقول لكم الآن بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّكم حتماً ستخرجون من هنا وأنتم تقولون دعونا ننطلق حالاً ونبدأ ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكنّني قبل ذلك أسألكم:

هل نحن نعرف حقّاً ما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وكيف يجب أن نُمارس هذه الوظيفة؟ ولا سيّما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالنسبة إلينا كان حتّى الآن، لا يتعدّى الأمور الحياتيّة البسيطة، التي تتلخّص بمتابعة المظاهر السلوكيّة للناس، من لباسٍ وهندامٍ وهيئة عامّة!

فنحن لم نتعرّف على كُنه المعروف الحقيقيّ بَعْدُ، ولا كنه المنكر الحقيقيّ!

وربما كنّا في بعض الأحيان نأخذ المعروف مكان المنكر أو العكس. والأفضل لنا نحن الجهلاء أن لا نقوم بمهمّة الأمر بالمعروف

 


[1] سورة آل عمران، الآية 110.

 

158


151

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والنهي عن المنكر، إذ ربّما زُرع المنكر وانتشر بسبب هذا النوع من ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

نعم، فالمرء على العموم بحاجة إلى المعرفة والبصيرة والخبرة والاطّلاع والعلم بالشيء، وشيء من علم النفس وعلم الاجتماع، قبل أن يُمارس مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أي إنّ عليه أن يُشخّص المعروف أوّلاً، ويُحدّد موقعه، ثم يُشخّص المنكر، ويكشف عن جذوره ومنابع نموّه.

ولذلك، ترى أنّ أئمّة الدين قالوا في هذا الشأن:

الأفضل أن لا يقوم الجاهل بمهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟ «لأنّ ما يُفسده أكثر ممّا يُصلحه»[1].

ذلك أنّ الجاهل ربما جاءت نتيجةُ عمله مُغايرةً لما أراده من إصلاح، كأن يُسيء إلى شخصٍ أراد من خلال ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإحسانَ له، والأمثلة على ذلك كثيرة جدّاً.

وهنا ربّما تقولون: إذاً، فقد سقط عنّا نحن الجُهّال واجبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! لكنّ القرآن يردّ على هذه المقولة بقوله -تعالى-: ﴿لِّيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحيَىٰ مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ﴾[2]، ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلـَى حُجَّةُ بَعدَ ٱلرُّسُلِ﴾[3].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص44 (باب العمل بدون العلم). وفيه: «كان ما يفسد أكثر مما يصلح».

[2] سورة الأنفال، الآية 42.

[3] سورة النساء، الآية 165.

 

159


152

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وفي سؤال أحدهم لأحد الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، عن كيفيّة محاسبة الجاهل من الناس يومَ القيامة؟ يقول (عليه السلام) ما مضمونه:

يأتون في ذلك اليوم المشهود بعالمٍ، ويسألونه عن سبب تخلُّفه عن ممارسة الواجب، ولا يكون عنده جواب، فينال جزاءه المعلوم، ويكون مصيرهُ العار والذلّ.

ومن ثمّ يأتون بآخر ويسألونه عن سبب تخلُّفه، فيقول: لم أكن أعلم! فيقولون له: «هلّا تعلّمت»[1]؛ إذ إنّ عدم المعرفة والفهم ليسا عُذراً مشروعاً، وإلّا فما هو الهدف من وراء خلق الله -سبحانه وتعالى- للعقل؟!

نعم، فالله -تعالى- إنّما خَلق العقل، ووهب لنا هذه النعمة، حتّى نُفكّر ونتفحّص ونُحقّق ونُدقّق في الأمور، صغيرها وكبيرها.

نعم، ليس علينا أن نكتفي بفهم أوضاع زماننا فقط، بل إنّ علينا أن نفهم ونُدرك ما يُخبّئهُ لنا المستقبل.

فأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) يقول: «وَلَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حتّى تَحُلَّ بِنَا»[2].


 


[1] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص10، وفيه: «إنّ الله -تعالى- يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة».

[2] السيد الرضي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، مصدر سابق، ص74، الخطبة رقم 32.

 

161


153

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولكن قبل ذلك أقول: إنّ حال العلاقات في ذلك الزمان ليست كما هي اليوم. فالأحداث التي كانت تحصل في الشام، لم يكن يسمع عنها أهل الكوفة، أو أهل المدينة، إلّا بعد مُضيّ فترة طويلة، وأحياناً لم يكونوا ليسمعوا بها على الإطلاق.

وأفضل دليل على ذلك قصّة أهل المدينة مع يزيد، فالحسين بن عليّ (عليه السلام) يقوم في المدينة، ويناهض تنصيب يزيد للخلافة، ويرفض مبايعته، ويتّجه نحو مكّة، ومن ثمّ يتابع مسلسل الأحداث المعروفة، فيستشهد الحسين (عليه السلام)، وإذا بأهل المدينة يستفيقون فجأة من غفلتهم، ويفركون عيونهم، ويتساءلون عن سبب استشهاد الحسين، ويُقرّرون التوجّه نحو الشام لمعرفة حقائق الأمور.

وهكذا يُقرّرون إرسال وفد من سبعة أو ثمانية أشخاص إلى الشام، ويتوجّه الوفد بالفعل إلى الشام، ويُقيم مدّةً فيها، ويُحقّق في أوضاعها، ويلتقي الخليفة الجديد. وبعد أن يطّلع تماماً على أحوال البلاد هناك، يعود إلى المدينة، فيسأله أهلها عن سرّ الأحداث الحاصلة، فيجيبونهم قائلين: لا تسألوا كثيراً، فنحن كنّا نخاف أن تمطر علينا السماء حجارةً، ونحن مُقيمون في الشام، فيُقضى علينا؛ لشدّة سوء الأحوال المحيطة بالخليفة وأعوانه، والغضب الإلهيّ المتوقَّع؛ [أي إنّهم قد أدركوا لتوِّهِم ما كان قد نبّه إليه وحذّر منه

 

162


154

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الحسين (عليه السلام) في بداية نهضته عندما قال: «وعلى الإسلام السلامُ إذ قد بُليَتْ الأمّة براعٍ مثل يزيد»[1].

نعم، حينَها فقط أدركوا ما كان يُحذّر منه الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وعندما يسألهم أهل المدينة: وكيف ذلك؟ يقولون:

يكفي أن نقول لكم إننا عائدون من عند شارب للخمر علناً، ولاعبٍ بالكلاب والقردة، وفاسق لا يعرف الحلال والحرام، وبتعبيرهم: وزانٍ بأهله ومحارمه.

وهذا اكتشاف متأخّر للحقيقة التي قال بها أبو عبد الله (عليه السلام) منذ اليوم الأوّل لتنصيب يزيد.

أمر آخر تنبّأ به (عليه السلام)، يومَ العاشر من محرّم، عندما قال: إنّهم سيقتلونني، ولكنّهم بعد مقتلي سوف لن يتمكّنوا من الاستمرار في الحكم.

وفعلاً، لم يتمكّن آل أبي سفيان من الحكم بعد مقتل أبي عبد الله، وليس فقط آل أبي سفيان، بل إنّ آل أميّة –أيضاً- لم يتمكّنوا من المحافظة على السلطة طويلاً؛ إذ أخذها منهم بنو العبّاس، وحكموا هم الآخرون على القاعدة نفسها خمسمئة سنة.

وهكذا يمكن القول: إنّ حكومة بني أميّة قد ظلّت تعاني من التزلزل والاهتزاز طوال فترة تسلّطها بعد حادثة كربلاء. وهل ثمّة

 

 


[1] ابن نما الحلي، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص15.

 

163


155

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أثر أعمق وأوضح لهذه الحادثة التاريخيّة من بروز المعارضة داخلَ بني أميّة نفسها، الأمر الذي يُبيّن لنا القوّة المعنويَة العالية لحادثة كربلاء.

فهذا شقيق ابن زياد الشقيّ، عثمان بن زياد، يقول لأخيه: أخي! إنني كُنت أُفضّلُ أن نُبتلى جميعاً بالفقر والذلّ والهوان والفاجعة، على أن يُسجِّل التاريخ ارتكاب مثل هذه الجريمة في سجلّ عائلتنا.

وأمّهُ مرجانة المعروفة بالزانية، بعد أن قام ابنها بارتكاب ذلك العمل البشع، تقول له:

بُنيّ! لقد قمت بما قمت به، ولكن اعلم أنّك بعدها لن تشمّ رائحة الجنّة.

مروان بن الحكم، ذلك الشقيّ الأبديّ، له شقيق باسم يحيى بن الحكم، وقد كان حاضراً في مجلس يزيد، تراه يقوم مُعترضاً في ذلك المجلس، وهو يقول: سبحان الله! وهل يكون الاحترام والتقدير لبنات سُميّة (أي أولاد أمّ زياد)، وتأتي مخاطباً يزيدَ بآل النبيّ، وهم على هذه الحالة المُزرية في هذا المجلس؟! نعم، إنّه النداء الحسينيّ الذي ينطلق مُجدَّداً من أعماق بيوت بني أميّة نفسها.

وأمّا قصّة هند زوجة يزيد، فإنّ الجميع قد سمع بها، إذ خرجت معترضةً من داخل بيت يزيد، الأمر الذي أجبر يزيد على التراجع، وإنكار مسؤوليّته عن الجريمة، وادّعائه عدمَ رضاه عمّا حصل، وإلقاء المسؤوليّة في ذلك على عاتق ابن زياد وحده.

 

164


156

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهكذا توالت بعد ذلك الحوادث التي تنبّأ بها الإمام الحسين (عليه السلام) لبني أميّة، فيزيد يموت قبل أن يُنهي ثلاث سنوات من تسلّطه على العرش، عاشها في ظلّ أزمات متلاحقة، ويخلفه ابنه معاوية الذي كان يأمل من خلال تأسيسه الحكم الأمويّ أن تدوم لهما؛ أي ليزيد وابنه معاوية، الخلافة طويلاً. يأتي هذا الرجل معاوية بن يزيد، وبعد مرور أربعين يوماً على تسلُّمه عرش الخلافة، فيصعد المنبر ويُنادي بالناس:

أيّها الناس، إنّ جدّي معاوية قد حارب عليّاً بن أبي طالب، وقد كان الحقّ إلى جانب عليّ، وليس إلى جانب جدّي، كما أنّ أبي يزيد قد حارب الحسين بن عليّ، وقد كان الحقّ إلى جانب الحسين، وليس إلى جانب أبي، وأنا بريءٌ من مثل هذا الأب، وأنا بدوري اليومَ لا أرى في نفسي صلاحية الخلافة. وحتّى لا أرتكب من الخيانات التي ارتكبها كلٌّ من جدّي وأبي، أُعلن استقالتي، واعتزالي الحكم.

نعم، فقد ترك الخلافة وشأنَها بالفعل، ذلك كلّه حصل بقوّة الحسين بن عليّ (عليه السلام)، بقوّة الحقيقة التي أثّرت في الصديق والعدوّ.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): «رَحِم الله عمّي العبّاس، لقد آثَرَ وأبلى بلاءً حسناً»[1]. لقد كان (عليه السلام) بمنتهى المروءة، وقد قدّم

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص548، وفيه: «رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه».

 

165


157

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

كلّ شيء على طَبَقٍ من الإخلاص التامّ في النيّة، وكان مثالاً في التضحية والفداء! ونحن مع ذلك لا نرى إلّا الجانب المادّيّ من حركة العبّاس (عليه السلام)، ولا نلاحظ روح عمله الكبير حتّى نُدرك مدى الأهمّيّة البالغة التي تُميّز فعل العبّاس وحركته.

في ليلة العاشر من محرَّم، وبينما كان العباس في خدمة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وإذ بأحد رؤوس الفتنة من الأعداء، يُنادي بأعلى صوته، بأنّه قد جاء بالأمان للعبّاس وإخوته من طرف ابن زياد.

أمّا العبّاس الذي سمع صوت المُنادي، فإنّه ظلّ جامداً لا يتحرّك، وهو ينظر إلى الحسين بن عليّ بكلّ خشوع واحترام، ولا يبالي بقول ذلك المُنادي، وكأنّ شيئاً لم يكن، إلى أن طلب منه الإمام أن يردّ عليه، وإن كان فاسقاً.

فيخرج العبّاس ليرى أنّ المنادي هو شمر بن ذي الجوشن، الذي تربطه بالعبّاس رابطة قرابة بعيدة عن طريق الأمّ، وقد تصوّر أنّه قادم من الكوفة، وقد حمل خبراً وبشارة إلى العبّاس وإخوته بفضل هذا الأمان، لكنّ العبّاس ردّه بكلّ عنف، وبكلّ مروءة، وهو يقول له:

لعنك الله، ولعن من أرسلك بهذا الأمان. وماذا تعرف عنّي؟ وماذا تتصوّرني؟ وهل تخيّلت أنّني، ومن أجل سلامتي، سأتخلّى عن إمامي وأخي الحسين بن عليّ (عليه السلام) وألتحق بك؟ إنّني قد كبرتُ في حُضنٍ يأبى ذلك منّي، والثديُ الذي أرضعني ينتفض من مثل هذا التصرّف الخائن.

 

166


158

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

نعم، فأمّه هي أمّ البنين، زوجة عليّ (عليه السلام)، التي وَلدت له أربعة أولاد، وهي التي يكتب المؤرّخون عن زواجها أنّ عليّاً قد طلب من أخيه عقيل أن يبحث له عن امرأةٍ «ولدتها الفحولة؛ لِتَلِد لي ولَداً شجاعاً»[1].

وبالطبع، فإنّ متون التاريخ لا يوجد فيها سندٌ يبيّن الأهداف التي كانت تراود عليّاً من تحقيق مثل هذه الأمنيّة، إلّا أنّ العارفين بنظرة عليّ الثاقبة، وقراءته للمستقبل، يعترفون ويؤمنون بأنّ عليّاً كان يقرأ صفحات المستقبل، والدور المطلوب من مثل هؤلاء الأولاد فيما بعد.

على أيّ حال، فقد اختار عقيل أمّ البنين زوجةً لعليّ، وهي التي أنجبت أربعة شجعان من الأولاد، أكبرهم وأرشدهم أبو الفضل العبّاس. وهؤلاء الأربعة جميعاً تحرّكوا في ركاب أبي عبد الله الحسين، واستُشهدوا معه في كربلاء.

فعندما يصل دور بني هاشم في المعركة، يتقدّم أبو الفضل العبّاس، ويقول لإخوته إنّه يتمنّى لو أنّهم يتقدّمون قبله إلى الميدان؛ لأنّه أراد أن يُدرك أجر شهادة الأخ.

وبالفعل، فقد لبّى إخوته النداء، واستُشهدوا ثلاثتهم، ثمّ جاء دور أبي الفضل، ولَحِق بهم.

هذه المرأة الجليلة (أمّ البنين) التي كانت ما تزال على قيد الحياة، ولكنها لم تكن حاضرة في واقعة كربلاء، استُشهد لها أربعة

 

 


[1] راجع: السماوي، الشيخ محمد، أبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، تحقيق الشيخ محمد جعفر الطبسي، مركز الدراسات الإسلامية لممثلية الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية، إيران، 1419ه - 1377ش، ط1، ص56.

 

167


159

المحاضرة السادسة: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أولاد، وعندما وصل نبأ استشهادهم لها، وهي في المدينة، يُقال إنها صارت تُقيم لهم المآتم، وتجلس في الدروب، أحياناً على الطريق المؤدّي إلى العراق، وأخرى في البقيع، وتندبهم وتبكيهم بُكاءً تتفطّر له الأكباد، وترثيهم بأبيات من الشعر فيها منتهى الحزن والتأثّر، حتّى إنّه ليُقال إنّ مروان بن الحكم، وهو حاكم المدينة آنذاك، ومع كلّ العداء والقساوة التي كان يحملها في قلبه ضدّ آل البيت، كان يتوقّف أحياناً، ويبكي لرثاء أمّ البنين لأولادها. تقول أمّ البنين في إحدى مرثيّاتها المعروفة:

لا تَدْعُوَنّي وَيْكِ أُمَّ البنين                   تُذكِّريني بليوثِ العرين

كانَ لي بَنُونَ أُدعى بهم                    واليومَ أصبحتُ ولا مِنْ بَنين

 

وفي أخرى لها، وهي ترثي أبا الفضل العبّاس (عليه السلام)، تقول:

يا من رأى العبّاسَ كرّ على جماهير النقد                  ووراءَه أبناءُ حيدرَ كُلُّ ليثٍ ذي لَبد

أُنبئتُ أنّ ابني أُصيبَ برأسه مقطوع يد                  وَيْلي على شِبْلي أمالَ بِرَأسهِ ضربُ العَمَد

                                         لو كان سيفُك في يدَيك لَمَا دنا منك أحد

 

الله أكبر لفجاعة المأساة، والله أكبر لتلك المُروءة، ولتلك الأمّ التي ولدتها الفحولة.

 

168


160
النهضة الحسينية