وفاء واباء

دروس من عاشوراء


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2018-01

النسخة:


الكاتب

دار المعارف الإسلامية الثقافية


مقدمة

مقدمة

في خضم تحديات الحياة، والابتلاءات الفردية والمجتمعية، ينبغي لنا كأفراد ومجتمعات، تحصيل براءة الذمة الشرعية، لما يترتب عليها في الآخرة من ثواب وعقاب، وتسببه من نتائج سنها الله تعالى علينا في الدنيا. ولا يمكن تيقن حصول براءة الذمة هذه سوى باتباعنا للتكليف الشرعي.

فما هو فهمنا الحقيقي للتكليف الشرعي؟ وكيف نستدل عليه؟ ما علاقة التزامنا بالتكليف وبراءة الذمة، وما الآثار المترتبة على التخلف عنه، وما هي بركات التزامه؟ وما هي سنن الله في حق خلقه الذين تخلفوا أو التزموا. وأي دروس وعبر ذخرت بها عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام)، وعموم التاريخ الإسلامي في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد رحيله (صلى الله عليه وآله).

 

17


1

مقدمة

ما هو واجبنا تجاه هذا التكليف؟ وأي عبر يمكن أن نستقي من عاشوراء وما سبقها وما تلاها، وكيف جسد عمل المقاومة الإسلامية في لبنان، وسيرة جمهورها مصداقاً باهراً في هذا المجال. وأي تحديات تنتظر هذا الجمهور في قادم الأيام.

يسرّ دار المودة ودار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، أن يضعا بين يديكم، الكتاب الخامس من سلسلة محاضرات سماحة السيد حسن نصر الله، والتي ألقاها سماحته في مجالس عاشوراء في العام 1439 هـ، وتعرض خلالها لكل هذه الأسئلة، بياناً وشرحاً واستدلالاً، وقد عمل دار المودة على صياغة هذه المحاضرات في كتاب «وفاء وإباء»، سعياً لمزيد من الاستفادة والنهل من مدرسة عاشوراء.

 

الناشر

 

18


2

الفصل الأول

إنّ الانطلاق من الأحداث والوقائع التاريخيّة، والبناء عليها، والإضاءة على بعض المفاهيم والأفكار التي برزت فيها، واستخلاص العِبَر منها، أمرٌ له تأثيره على حياتنا، وحركتنا، وموقفنا، وسلوكنا، وحاضرنا ومستقبلنا. فالموضوعات التي أحببتُ أن أطرحها هذا العام لا تنحصر فائدتها بالعلم بها بمعزل عن انعكاسها على حياتنا أو عدمه، بل هي ذات بُعد عمليّ وواقعيّ، يمكن البناء عليها في حياتنا.

 

وما أرمي إلى الوصول إليه من دروس وعِبَر سوف ينجلي شيئاً فشيئاً؛ إذ سأعرض الأحداث أوّلاً، وأضمّ بعضها إلى بعض ثانياً، لأستخلص منها ما يفيدنا وينفعنا.

رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقطة البداية

 

لا تنجلي حقيقة الموقف والتكليف الذي اتّخذه 

 

21


3

الفصل الأول

الإمام الحسين (عليه السلام) بالمواجهة المباشرة ضدّ يزيد والسلطة الأمويّة دون مراعاة الأحداث التي جرت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والنظر إلى موقفه (صلى الله عليه وآله) إزاءها؛ إذ الإمام الحسين (عليه السلام) يمثّل النهج نفسه الذي أسّسه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسار عليه. لذا، ستكون الأحداث التي عاصرها (صلى الله عليه وآله) في مكّة والمدينة هي المنطلق، لنرى كيف تعامل معها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأيَّ تكليفٍ اتخذه تجاهها.

وُلد رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) في مكّة المكرّمة، وعاش أغلب حياته فيها، إلّا أنّه (صلى الله عليه وآله) قضى السنوات العشرة الأخيرة من عمره الشريف في المدينة المنورة. حتّى إنّه (صلى الله عليه وآله) بعدما فتح مكّة[1]، وأصبحت تابعةً للإسلام والحكومة الإسلاميّة،

 

 


[1] كان فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة.

 

22


4

الفصل الأول

التي أسّسها (صلى الله عليه وآله)، لم يبقَ (صلى الله عليه وآله) فيها، وإنّما عاد إلى المدينة، على الرغم من أنّ هواه وقلبه وصباه وشبابه كانت كلّها في مكّة، مضافاً إلى وجود بيت الله الحرام فيها، ومع ذلك كلّه فضّل (صلى الله عليه وآله) العودة إلى المدينة، وقضى بقيّة عمره الشريف فيها، وتوفِّي ودُفِن فيها.

 

محمّد: نبيّ لكلّ الناس

لقد بعث الله سبحانه وتعالى محمداً (صلى الله عليه وآله) رسولاً إلى البشريّة جمعاء، بَدءاً من أهل مكّة (أمّ القرى) وما حولها، إلّا أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يُبعث لمكّة وما حولها فقط. نعم، من الطبيعي أن تبدأ الدعوة والتبليغ من منطقة جغرافيّة معيّنة، بمعنى أنّ المهمّة التي كان يحملها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت تقتضي أن يبدأ بالتبليغ ويبني النواة الأولى، فمن الطبيعي أن تكون البداية من جغرافيا محدّدة.

 

23


5

الفصل الأول

لقد كانت مكّة، باعتبارها أمَّ القرى، مركزَ شبه الجزيرة العربيّة، ولها مكانتها الدينيّة والسياسيّة والتجاريّة والاقتصاديّة والمعنويّة... ومن هناك، حُمِّل النبيّ (صلى الله عليه وآله) مسؤوليّة تبليغ الرسالة الإلهيّة الخاتمة؛ فلا رسالةَ بعد

رسالة الإسلام، ولا نبيّ بعد نبيّ الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولا كتابَ إلهيَّ بعد القرآن الكريم. هذا القرآن الذي يصدّق ما بين يدَيه من الكتب السماويّة ويهيمن ويحكم عليها، وهذا النبيّ هو النبيّ الخاتَم لكلّ الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، وهذه الرسالة الإلهيّة هي الرسالة الإلهيّة الخاتمة. ولذلك، لم تكن هذه الرسالة لأهل مكّة فقط، أو لأهل شبه الجزيرة العربيّة فقط، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نبيّاً للبشريّة كلّها، وللزمان كلّه، منذ أنْ بعَثَه الله إلى قيام الساعة.

وبناءً عليه، أُلقيَت على عاتق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسؤوليّة خاصّةٌ، وتكليفٌ خاصٌّ بتحمُّل الرسالة؛ بعقيدتها، وقيمها، ومفاهيمها، 

 

24


6

الفصل الأول

وأحكامها الشرعيّة، وتعاليمها، وأخلاقها، وبكلّ ما فيها، وتبليغها إلى الناس، وتثبيت أُسُسها، وأصولها، ومبانيها، وقواعدها لتستمرّ بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّ هذه الرسالة هي رسالةٌ للبشريّة جمعاء إلى قيام الساعة.

كمالٌ على قدر المسؤوليّة

لا شكّ في أنّ هذه المسؤوليّة العظيمة، والمهمّة الجليلة، المُلقاة على عاتق النبيّ (صلى الله عليه وآله)- وهي أمانةٌ تنوء بها الجبال، والسماوات، والأرض- تستوجب أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) صاحب مواصفات شخصيّة، وقدرات عقليّة، وروحيّة، وعاطفيّة ونفسيّة، تُمكّنه وتؤهّله للقيام بهذه المهمّة؛ إذ إنّ الله سبحانه وتعالى لا يكلّف نفساً إلّا وسعها، فمسؤوليّة بهذه العظمة تتطلّب مواصفات بقدرها. إذاً، فقد كانت كلّ المواصفات موجودة في هذا النبيّ، فكان إنساناً كاملاً بحقّ.

 

25


7

الفصل الأول

وكان لدى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أعلى مستوى من الإيمان، واليقين، والعلم، والمعرفة، والوعي، والشجاعة، والصبر، والقدرة على التحمّل، والاستعداد للتضحية، والثبات، والحزم، والعزم، وفي الوقت نفسه حُسنُ الخُلُق، ولين الجانب... وغير ذلك من الصفات التي اختصرها الله سبحانه وتعالى بقوله لنبيه (صلى الله عليه وآله): ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ﴾[1].

مسؤوليّة تبليغ الرسالة

كان التكليف المُلقى على عاتق النبيّ (صلى الله عليه وآله)، والذي يبدأ من تبليغ الرسالة، ولا ينتهي إلّا بتحقيق أهدافها كافّة، يتطلّب التدرّج، ومراعاة مجموعة من الضوابط والأصول حتّى يصل إلى الهدف أو الأهداف الكبرى؛ إذ إنَّ التدرّج والمرحليّة سُنَّة إلهيّة طبيعيّة في كل شيء، وهي أصل ثابت، فضلاً عن أنّه لا يوجد في الإسلام

 


[1] سورة القلم، الآية 4.

 

26


8

الفصل الأول

قاعدة مطلقة اسمها «الغاية تبرّر الوسيلة»، بل توجد مجموعة ضوابط وأصول، أو مجموعة ظروف ترتبط بالزمان والمكان، والبشر والصديق والعدوّ، والقدرات والإمكانات، والفرص والتهديدات... هذه الأمور كلّها تؤخذ بالاعتبار عندما يُحدَّد التكليف الإلهيّ أو المسؤوليّة والوظيفة الشرعيّة.

وبناءً عليه، بدأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) الدعوة تدريجيّاً، على مرحلتين:

المرحلة الأولى: الدعوة الفرديّة

اقتصرت الدعوة في البداية على الأفراد، فكان

النبيّ (صلى الله عليه وآله) يتحدّث مع كلّ فرد على حدة، ويعرض عليه دينه، فتحدّث (صلى الله عليه وآله) مع السيّدة خديجة (عليها السلام) فآمنت به، ومع الإمام عليّ (عليه السلام) فآمن به، وكذلك الأمر مع غيرهما؛ 

 

27


9

الفصل الأول

فأفرزت هذه المرحلة مجموعة أفراد مؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبنبوّته، وبدعوته وبإسلامه.

 

المرحلة الثانية: وأنذر عشيرتك الأقربين

المرحلة الثانية في التدرّج، ﴿وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ ٱلأَقرَبِينَ﴾[1]. والمراد بعشيرته الأقربين هم بنو هاشم. وكان بنو هاشم عائلة كبيرة ومحترمة ومقتدرة في قريش وفي مكّة، ولهم وجاهةٌ كبيرة ومكانةٌ معنويّة مرموقة، وفيهم أغنياء وأقوياء ووجهاء تخضع لهم مكّة، وتحتكم إليهم، كأبي طالب (عليه السلام) والد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان فيها رجالٌ شجعان مثل حمزة بن عبد المطلب، وفيها أيضاً من أمثال أبي لهب.

 

 


[1] سورة الشعراء، الآية 214.

 

28


10

الفصل الأول

الدعوة العلنيّة

بعد دعوة الأقربين، بدأت الدعوة بالانتشار، وأصبحت علنيّة، فنجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقف ويخطب في الناس ويتحدّث معهم، ويجهر بدعوته أمامهم، ويلتقي القبائل والوفود التي كانت تأتي إلى مكّة للحج أو للتجارة، ويبادر إلى الحديث معهم، ويدعوهم إلى الإسلام، ويبيّن لهم رسالته.

وقد حدث هذا بعد نحو 3 سنوات من بداية الدعوة، لا بعد أسبوع أو أسبوعين، أو شهر وشهرين؛ ما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) انتقل إلى المرحلة العلنيّة الواسعة بالتدريج.

 

سلميّة التحرُّك

لقد كان السلوك العامّ للنبي (صلى الله عليه وآله) والذين آمنوا معه، في المرحلة المكّيّة كلّها، يتّسم بالسلميّة، منتهجاً أسلوب الدعوة بالحوار، 

 

29


11

الفصل الأول

والنقاش، والمحاججة، والجدال بالتي هي أحسن، فنراه يبيّن، ويوضّح، ويطرح المنطق، والاستدلال، بالوسائل المتاحة له في ذلك الزمان، من خلال الاتصال المباشر بالناس، أو من خلال بعض الصحابة الذين كان يبعثهم (صلى الله عليه وآله) إلى الناس، فيتحدّثون إليهم، ويتناقشون معهم.

مواجهة الدعوة بالعنف

واجهت قريش الحركة النبويّة السلميّة في مكّة بالشتائم، والإهانات، والعنف، وصولاً إلى القمع، والتعذيب والتشريد والقتل، بل ومصادرة الأموال، ثمّ تهجير المسلمين إلى الحبشة، وبعدها محاصرة بني هاشم في شِعاب مكّة لسنوات، ومنع وصول الطعام والشراب إليهم، وقطع العلاقات التجارية معهم -تماماً كما تفعل أمريكا الآن- ومنع الزواج منهم ولهم، ومنع العلاقات الاجتماعيّة، حتّى التواصل والزيارات واللقاءات. لقد كانت مقاطعة كاملة!

 

30


12

الفصل الأول

لقد كانت هذه المقاطعة متوقَّعة؛ لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يسعى إلى إحداث تغيير شامل، على الصعيد العقائديّ، والأخلاقيّ، والاجتماعيّ، وفي التقاليد والعادات، والمعايير والسلطة السياسيّة، وكذلك في الأحكام والقوانين التي تحكم حياة الناس. لذلك، كان من الطبيعي أن يجد صدّاً عنيفاً من الإقطاع الدينيّ الذي كان يعيش على تجارة الأصنام، ومن الإقطاع السياسيّ الذي كان يعيش أيضاً على الزعامة الوراثيّة والقبليّة والعشائريّة، ومن بيئة ثقافية كان يناسبها ما كان قائماً من قيم وعادات وتقاليد.

لقد جاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليقول لهم: إنّ هذه الأصنام- التي كانوا يعبدونها منذ مئات السنين- لا قيمة لها، لا تضرّ، لا تنفع، لا تحيي، ولا تميت، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها. تلك الأصنام، أنتم مَن صنعها، وأنتم مَن أوجدها، وأنتم 

 

31


13

الفصل الأول

سمّيتموها (هُبل، لات، عزّى... إلخ)، وأن لا قيمة لها، فاعبدوا الله الواحد الأحد. وهذا الأمر لم يكن سهلاً، على الرغم من استناد دعوة التوحيد النبويّة إلى منطقٍ قويّ جدّاً. لذا، قلنا إنّ مهمّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسؤوليّة التي حملها كانت عظيمة جدّاً.

فهذا نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام)، عندما ذهب وحطّم الأصنام، جاءه قومُه بعد أن وجدوا كلّ أصنامهم محطّمة، والفأس التي حُطّمت بها الأصنام معلّقة في عنق الصنم الأكبر، فسألوه: من فعل ذلك؟ فقال لهم: اسألوا كبير أصنامكم هذا، الذي تزعمون أنّه إلهكم، فليخبركم مَن قام بتحطيمها. عندها، نظر بعضهم إلى بعض مبهوتين لا يحيرون جواباً، ولا يملكون أساساً منطقيّاً يرجعون إليه؛ فهذا الصنم لا يتكلّم، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه أو عن الأصنام التي حوله.

 

32


14

الفصل الأول

إذاً، كانت دعوة التوحيد النبويّة تمتلك منطقاً قويّاً، ولكنّها كانت تُواجَه بالعصبيّة والتعصّب للأصنام والآلهة التي كانوا يعتقدون ويؤمنون بها.

كذلك، واجه النبيّ (صلى الله عليه وآله) الأمر نفسه من قريش عندما أقدم على طرح ومعالجة قضايا لها علاقة بمسألة وأد البنات، أو مكانة المرأة والنظرة إليها في المجتمع العربيّ الجاهلي، أو نظام العبوديّة والنظرة إلى الفقراء والمستضعفين والمحرومين، أو الاقتصاد القائم على أساس ربويّ، وأمثال ذلك.

 

33


15

الفصل الأول

مع هذا كلّه، بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) رافعاً شعار الدعوة السلميّة، ولم يحمل السلاح في المرحلة المكّيّة، التي امتدّت إلى 13 سنة، مع العلم أنّ قريشاً وأهل مكّة هم مَن بدأوه بالمواجهة المسلّحة، فآذوه، وحاصروه، وقتلوا مِن أصحابه والمؤمنين بنبوّته ورسالته (صلى الله عليه وآله)، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان ملتزماً بتكليفه في عدم اللّجوء إلى المواجهة المسلّحة. وهذه مسألة غاية في الأهمّيّة ولها مدخليّة في النتيجة التي نريد الوصول إليها.

البقاء مهما أمكن

كان وراء تكليف النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالبقاء في مكّة حكمة إلهيّة ولم يكن عبثيّاً؛ لذا، بقي النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مكّة ما أمكنه البقاء فيها؛ إذ عندما قتلوا أصحابه كان تكليفه أن يبقى، وعندما هجّروا أصحابه كان تكليفه أن يبقى، وعندما حاصروه في الشِّعب، وعرّضوه ومن معه للجوع والعطش والحصار، كان تكليفه 

 

34


16

الفصل الأول

أن يبقى حتّى آخر لحظة ممكنة، إلى أن وصل الأمر بهم إلى تواطئهم وتآمرهم على قتله (صلى الله عليه وآله) وحيث لم يكن المطلوب منه (صلى الله عليه وآله) أن يستشهد في ذلك اليوم، بل كان عليه أن يكمل الرسالة والمسؤوليّة؛ فقد أمره الله سبحانه وتعالى بالخروج إلى المدينة، والتي كان قد أسلم بعض أهلها وأسّسوا فيها «بيئة حاضنة» للإسلام ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فخرج (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، وانتهت بذلك المرحلة المكيّة.

وبذلك أدّى النبي (صلى الله عليه وآله) تكليفه الإلهيّ بالبقاء في مكّة المكرّمة، والصبر على الأذى في جنب الله، حيال مضايقات قريش الاستفزازيّة والقاسية.

 

النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المدينة

في بداية المرحلة المدنيّة، لم يذهب (صلى الله عليه وآله) إلى المواجهة المسلّحة؛ إذ لم يكن مكلَّفاً بذلك 

 

35


17

الفصل الأول

بعد، بل بدأ فور وصوله إلى المدينة ببناء المسجد، والتحدّث إلى الناس، وتنظيم العلاقات، وحلّ الخلافات القائمة بين الأوس والخزرج، وتنظيم العلاقة مع اليهود الموجودين في المدينة. لكن في الوقت نفسه، لم تترك قريش النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المدينة، بل أكملت حربها عليه، ومنعته من إرسال أيّ مبعوث إلى أيّ قبيلة من القبائل؛ حيث اعتُقِل الكثير من مبعوثي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو حفظة القرآن الكريم الذين كان يرسلهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى العشائر والقبائل، وقضَوا شهداء.

وبعد أن حاصرت قريش النبيَّ (صلى الله عليه وآله) حصاراً تامّاً، وحاربته في كلّ مكان، لم تعد الحركة باتجاه القبائل والعشائر والمناطق الأخرى في شبه الجزيرة العربية أمراً سهلاً؛ كما أنّ قريشاً استكملت تصفيتها لأصحابه (صلى الله عليه وآله) ولأهل بيته الذين بقَوا في مكّة، وطردتهم، وصادرت أموالهم.

 

36


18

الفصل الأول

إذاً، استُكملت الحرب إلى النهاية في مكّة، وكان في شبه الجزيرة العربيّة حصارٌ وحربٌ شعواء، إعلاميّاً، وسياسيّاً، واجتماعيّاً، وثقافيّاً وأمنيّاً... إلى أن أصبحت الأوضاع لا مفرّ معها من المواجهة المسلّحة، فنزل قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصرِهِم لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيرِ حَقٍّ...﴾[1].

 

بدر: أُولى المعارك

ذهب النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المواجهة المسلّحة، فكانت معركة بدر المعركة الأولى، تبعتها معركة أُحُد وغيرها...، ومن ثمّ وصلت الأمور إلى صلح الحديبيّة، الذي فرضته مصلحة الحفاظ على الإسلام، والذي أسّس لمرحلة جديدة.

 


[1]  سورة الحجّ، الآيتان: 39-40.

 

37


19

الفصل الأول

القتال وسيلة لا هدف

ينبغي أن نلتفت كثيراً إلى أنّ القتال ليس هدفاً، بل وسيلة وخيار وطريق لتحقيق الهدف والوصول إلى مكان محدّد، وغاية محدّدة، ولا يجوز أن تتحوّل الوسائل إلى أهداف في حدّ ذاتها.

لقد ذهب النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى خيار المواجهة المسلّحة؛ لأنّ أعداء الإسلام منعوا صوته من الوصول إلى كلّ الناس. أمّا صلح الحديبيّة، فقد سمح لصوته (صلى الله عليه وآله) بالوصول إلى كلّ الناس، والحصول على مجموعة امتيازات؛ إذ فُتحت الأبواب أمام الدعوة الإسلاميّة

 

38


20

الفصل الأول

النبويّة، وأمام التواصل وكسر الحصار... فوافق النبيّ (صلى الله عليه وآله) على عقده، غير أنّ بعضَ من كان معه لم يوافق ولم يستوعب الموقف، حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى التشكيك في نبوّته (صلى الله عليه وآله)، وهل هو نبيّ أم قائد سياسيّ كبقيّة القادة السياسيّين.

 

نصر الله والفتح

بعد سنوات قليلة، ارتكبت قريش خطيئة بنقضها الصلح، فنتج عن ذلك فتح مكّة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً. وحينما اقتربت حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من نهايتها، أكمل الله سبحانه وتعالى هذا الدين، وأتمّ هذه النعمة؛ بما أمر نبيّه بتبليغه يوم الغدير. وبعد ذلك، توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله)وخرج من هذه الدنيا، وقد بلَّغ الرسالة الخالدة، وثبَّت قواعدها وأصولها ومبانيها، ووضع كلّ الضمانات لبقاء هذا الدين إلى قيام الساعة. وانتصر بذلك المشروع النبويّ بعد أن أدَّى (صلى الله عليه وآله) تكليفه كاملاً.

 

39


21

الفصل الأول

النبويّة، وأمام التواصل وكسر الحصار... فوافق النبيّ (صلى الله عليه وآله) على عقده، غير أنّ بعضَ من كان معه لم يوافق ولم يستوعب الموقف، حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى التشكيك في نبوّته (صلى الله عليه وآله)، وهل هو نبيّ أم قائد سياسيّ كبقيّة القادة السياسيّين.

 

نصر الله والفتح

بعد سنوات قليلة، ارتكبت قريش خطيئة بنقضها الصلح، فنتج عن ذلك فتح مكّة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً. وحينما اقتربت حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من نهايتها، أكمل الله سبحانه وتعالى هذا الدين، وأتمّ هذه النعمة؛ بما أمر نبيّه بتبليغه يوم الغدير. وبعد ذلك، توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله)وخرج من هذه الدنيا، وقد بلَّغ الرسالة الخالدة، وثبَّت قواعدها وأصولها ومبانيها، ووضع كلّ الضمانات لبقاء هذا الدين إلى قيام الساعة. وانتصر بذلك المشروع النبويّ بعد أن أدَّى (صلى الله عليه وآله) تكليفه كاملاً.

 

39


22

الفصل الأول

التكليف مدارُ العمل

تارةً، ننسب التكليف إلى الهدف، أو الضوابط، أو الظروف، مع امتلاكنا المواصفات الشخصيّة لأداء هذا التكليف، وتارةً ننسب الموقف الذي نقوم به ونتّخذه إلى نفس المواصفات الشخصيّة للمكلّف.

مثلاً، في المرحلة المدنيّة، نجد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان حازماً، وشجاعاً وبطلاً ومقداماً، حتّى إنّ الإمام علي (عليه السلام) كان يقول: «إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله (صلى الله عليه وآله)»[1] ؛ ما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) في كل المعارك كان أشجع خلق الله على الإطلاق. وهنا نسأل: هل كان النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) شجاعاً في المرحلة المدنية، ولم يكن شجاعاً في المرحلة المكيّة، والعياذ بالله؟ أو هل كان النبيّ محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) أبيَّ الضَّيم في المرحلة المدنيّة، يرفض الذلّ والهوان والشتائم والإهانات

 


[1] الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، السيّد جعفر مرتضى، ج 14، ص 165.

 

40


23

الفصل الأول

والظلم والطغيان والاستبداد، أمّا في مكّة فلم يكن أبيَّ الضَّيم وثائراً؟ هل كان محمّدٌ (صلى الله عليه وآله) في المدينة عاشقاً للقاء الله، راغباً في الشهادة، مُقبلاً عليها، ولم يكن كذلك في مكّة، والعياذ بالله؟ إذاً، لا علاقة للمواصفات الشخصيّة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في هذه المسألة، بل تصرّفاته وأفعاله (صلى الله عليه وآله) تدور مدار التكليف وتحقيق المطلوب منه (صلى الله عليه وآله).

ولو فرضنا- مثلاً- أنّ التكليف الإلهي للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، بعد أن ألقيت عليه المسؤوليّة في غار حِراء، كان: أن يا محمّد، اذهب إلى المسجد الحرام، والتقِ أهل مكّة، وسوف تجتمع عليك قريش بكلّ عشائرها وقبائلها، فقف وادعُهم مباشرةً إلى عبادة الإله الواحد الأحد، واتّخذ موقفاً حاسماً من «هُبل واللّات والعزّى»، ومن عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، حتّى ولو ذبحوك وقطّعوك، لو كان تكليفه ذلك، لما تردّد (صلى الله عليه وآله) في تنفيذه لحظةً واحدة، ولفعل ما أُمر به. وهل يناقش أحدٌ في ذلك؟

 

41


24

الفصل الأول

لقد كان (صلى الله عليه وآله) يملك أعلى مستوى من الالتزام، والعبوديّة، والطاعة، والشجاعة، وإباء الضَّيم، والحرص، والحكمة والمسؤوليّة، وعشق الشهادة، وحبّ لقاء الله سبحانه وتعالى.

النبيّ هو النبيّ

خلصنا إلى أنّ الأدوار والأعمال والمسؤوليّات ليست مرتبطة بالمواصفات الشخصيّة للنبيّ (صلى الله عليه وآله)؛ فلا يصحّ أن نقول إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن شجاعاً في مكّة فصار شجاعاً في المدينة، ولم يكن أبيّاً للضَّيم فصار أبيّاً للضَّيم، ولم يكن يرفض الذلّ والإهانة والشتم من أجل الإسلام، ومن أجل الدعوة، فأصبح بعد ذلك يرفضها. كلّا، النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مكّة هو ذاته النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المدينة، لكنّ اختلاف تكليفه الإلهيّ الشرعيّ أفرز اختلافاً في المواقف والأدوار والمسؤوليّات.

 

42


25

الفصل الأول

التكليف: الأصل الحاكم

نستخلص ممّا تقدّم نتيجتين:

- الأولى: إنّ الأصل الحاكم في عمل الأنبياء (عليهم السلام) وعمل الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وأولياء الله تعالى، والذي يجب أيضاً أن يكون حاكماً على عمل الناس وحياتهم، هو أداء التكليف الإلهيّ، وليس الميول.

- الثانية: لا وجودَ لتكليف محدّد بشكل «مطلق»، بحيث يكون هو المُتعيّن مهما اختلفت الظروف والحالات؛ فمواجهة الظلم- مثلاً- ليست تكليفاً بالمطلق، في كلّ زمان وفي كلّ مكان، بمعزل عن الظروف، وبمعزل عن الإمكانات، وبمعزل عن الهدف، وكذلك لا وجود لشيء اسمه «القيام بالسيف» في كلّ حال وفي كلّ ظرف. هذا التكليف «المطلق» ليس موجوداً، والسير في هذا الطريق أمر غير صحيح، وإلّا لو كان الأمر كذلك لقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالسيف في مكّة. وفي 

 

43


26

الفصل الأول

المقابل أيضاً، لا وجودَ لشيء اسمه «الصبر مطلقاً»؛ إذ لا إفراط ولا تفريط؛ فلا وجود لشيء اسمه الصبر على الإهانة، والتخوين، والاتّهام، والظلم، والفساد؛ بدليل أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يفعل ذلك في المدينة؛ فبعض الذين مارسوا مستوىً من الشتائم تلقَّوا ما يستحقّونه؛ لأنّ الوضع في المدينة مختلف عمّا كان في مكّة، وما تحمّله النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مكّة لم يعد تكليفَه في المدينة. فالظروف والإمكانات وخدمة الهدف في المدينة اختلفت عمّا كانت عليه في مكّة، ليس لتبدّلٍ أو اختلافٍ في شخصيّته (صلى الله عليه وآله)، بل لأنّ التكليف في المدينة اختلف عن التكليف في مكّة.

إذاً، لا يوجد تكليف واحد في مختلف الظروف والأحوال في هذا النوع من القضايا.

 

44

44


27

الفصل الأول

ظروف إمامة الإمام الحسين (عليه السلام)

بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام)، آلت مقاليد الإمامة إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، فأصبح هو الإمام، والمسؤول، والقائد، وبالتالي هو الذي يحدّد المسار والموقف...إلخ.

إنّ معرفة الظروف التي تعيشها الأمّة، تضيء لنا على صوابيّة التكليف الذي انتهجه الإمام الحسين (عليه السلام). من هنا، كان من اللازم أن نطل ولو باختصار على أبرز معالم الوضع القائم أثناء تولّي الإمام الحسين (عليه السلام) الإمامة الفعليّة.

لقد كان الحاكم- آنذاك- هو معاوية بن أبي سفيان، الذي حصل على السلطة بالغلبة، وبالقوّة، وبالعنف، وبالإرهاب،

والذي في عهده فُرض الصلح على الإمام الحسن (عليه السلام). طبعاً، لقد ساعدت الظروف 

 

45


28

الفصل الأول

على فرض صلح كهذا، واقتضت مصلحة الأمّة والإسلام ذلك، وبموجبه سلّم الإمام الحسن (عليه السلام) السلطة لمعاوية. وهنا، من الضروري الالتفات إلى أنّه (عليه السلام) قد سلّم السلطة السياسيّة (الأموال، والجيوش، والولاة، والأوامر...) وليس الإمامة، أو الخلافة، أو الولاية الإلهيّة، فهذه لا يمكن أن يتنازل عنها لأحد.

لقد حكم معاوية قرابة العشرين سنة، منها عشر قبل إمامة الإمام الحسين (عليه السلام)، وعشر بعد إمامته. وكان يحكم الواقع سلطة مركزية شديدة، يهيمن فيها بنو أمية على كلّ شيء؛ فالولاة في كل المناطق من بني أمية، بل من شبّان بني أمية، ومن صبيتهم، ولم تكن لديهم تجارب وحكمة، وقد تعاملوا مع الأمّة على أنّها بستان لهم؛ يجلسون أينما يحلو لهم، ويقطعون الشجرة التي يريدون، ويأكلون الفاكهة التي تعجبهم، ويصادرون ما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون... وهذا معروف وموجود في كتب التاريخ، وذلك كله كان تحت نظر الإمام الحسين (عليه السلام).

 

46


29

الفصل الأول

واقع الأمّة المرير

خلال السنوات العشرة التي حكم فيها الإمام الحسن (عليه السلام)؛ أي بعد أربعين سنة من وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، لم يكن أهلُ البيت أو الصحابة من المهاجرين والأنصار هم مَن يحكم الأمّة، بل كان يحكمها الطلقاء وأبناء الطلقاء، الذين وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مكّة عندما فتحها، وقال لهم:«اذهبوا، فأنتم الطلقاء»[1]، وكان يستطيع أن يحاكمهم وأن يحوّلهم إلى القضاء الشرعيّ، وأن يحاسبهم على كلّ حروبهم ضده وضدّ الإسلام، وهؤلاء هم الذين قاتلوه (صلى الله عليه وآله) وأصحابه حتّى آخر نفس.

نعم، لقد دارت الدنيا سريعاً، فإذا بالطلقاء وأبناء الطلقاء يحكمون الأمّة، وينهبون مالها، ويهتكون

 


[1] تاريخ الطبري، الطبري، ج 2، ص 337.

 

47


30

الفصل الأول

أعراضها، وينشرون فيها الفساد. هذا كلّه كان مقدّمات لقيام الإمام الحسين (عليه السلام).

 

الإمام الحسين (عليه السلام) والحفاظ على الصلح

تجدر الإشارة إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) في معظم مدّة إمامته، والتي هي عشر سنوات- لقد قضى (عليه السلام) عشر سنوات تحت حكم معاوية، وأشهراً قليلة تحت حكم يزيد- لم يقم بمواجهة مسلّحة، ولا بثورة علنيّة، ولا بتمرّد، بل استخدم وسائل أخرى تجنّب فيها المواجهة المكشوفة. طبعاً، هذا لا يعني أنّه لم يفعل شيئاً، بل تكليفه المرتبط بالهدف والأصول والضوابط والظروف، كان يملي عليه تجهيز المقدّمات، وتجنّب المواجهة العلنيّة طالما أنّ معاوية على رأس السلطة.

 

وبناءً عليه، كان الإمام (عليه السلام) حريصاً جدّاً- ولو شكلياً- على أن يحافظ على الصلح مع 

 

48


31

الفصل الأول

معاوية، وألّا يقال إنّه (عليه السلام) ذهب إلى مواجهة علنيّة معه ناقضاً الصلح، مع العلم أن معاوية لم يُبقِ من هذا الصلح شيئاً منذ اليوم الأول.

 

معاوية ينقض الصلح منذ اليوم الأول

وعندما دخل معاوية الكوفة، وبحضور الإمامين الحسن

والحسين (عليهما السلام)، وكثير من وجوه من بقي من المهاجرين والأنصار والصحابة وكبار القوم في ذلك الزمن، وقف وقال لأهل الكوفة: «إنّي، والله، ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا. إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون...»[1].

وعليه، إنّنا نجد مشروع الإسلام عند الإمام الحسن (عليه السلام)، فيما نجد لدى معاوية

 


[1] الإرشاد، المفيد، ج 2، ص 14.

 

49


32

الفصل الأول

مشروع سلطة، وسلطة مطلقة. لذا، أعلن معاوية نقضه للصلح من اليوم الأول، قائلاً: «... ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمَيّ هاتَين لا أفي به»[1].

 

مبدأ عدم نقض الصلح

أمّا الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقد كانا حريصَين على أنّ هذا الصلح لا يُنقض عند أهل البيت  (عليهم السلام)؛

لأنّه لم يكن موقفاً أخلاقيّاً فقط، بل كان موقفاً يُستدلّ به حتّى على الصعيد الشرعيّ.

لقد شخّص الإمام الحسن (عليه السلام) أنّه في ظلّ حكومة على رأسها معاوية بن أبي سفيان لا يمكن القيام بأيّ مواجهة علنيّة معه؛ لأنّه نتيجة طريقته ودهائه، وسيطرته وإمكاناته، واتّساع نفوذه في الأمّة، يستطيع أن يحاصر هذه المواجهة

 


[1] انظر: مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج الأصفهاني، ص 45.

 

50


33

الفصل الأول

ويستوعبها ويجهضها ويضرب أهدافها. وبالتالي، ما قد تحقّقه المواجهة المكشوفة -التي يمكن أن تؤدّيَ إلى الشهادة- سيضيع في وسط الصحراء؛ فكان رأيه (عليه السلام) الانتظار إلى مرحلة ما بعد معاوية لاتّخاذ الموقف المناسب.

وكذا الإمام الحسين (عليه السلام)، لأسباب هي التي رتّبت التكليف، لم يدخل في مواجهة علنيّة في زمن معاوية، لكنّه- طبعاً- لم يجلس دون حراك، فقد كانت أمامه (عليه السلام) خيارات عدّة متاحة وممكنة، منها:

1 - التواصل مع الكثير من الحواضر في مكّة، وفي الكوفة، وفي البصرة، وفي اليمن، وفي أماكن 

 

51


34

الفصل الأول

أخرى، حتّى في الشام، وكل هذا مُدوَّن في كتب التاريخ.

2 - الانتقاد العلني لأداء السلطة ولنقض معاوية لشروط الصلح.

3 - العمل على تهيئة الأرض، وتهيئة المقدِّمات.

لذا، عندما كانت تصل الرسائل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) من مختلف المناطق، يبايعه فيها الناس ويدعونه (عليه السلام) إلى القيام والثورة والمواجهة ضدّ السلطة الحاكمة، كان يجيبهم (عليه السلام) بأنْ تمهّلوا واصبروا، ما دام معاوية على قيد الحياة.

 

تحرُّك الإمام الحسين (عليه السلام)

إنّ من أشدّ المحن التي واجهها الإمام الحسين (عليه السلام) في زمن معاوية، هو الضغط الذي مارسه معاوية لفرض البيعة ليزيد 

 

52


35

الفصل الأول

في حياته. فقد عمل معاوية لأجل هذا الأمر، وهذا كان مخالفاً للصلح. فقد كانت شروط الصلح تقضي بانتقال السلطة بعد موت معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، فإذا لم يكن الحسن موجوداً- وقد استُشِهدَ الإمام الحسن (عليه السلام)- فتنتقل إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي كان على قيد الحياة. ولكن، ورغم ذلك، كان معاوية يريد أخذ البيعة من الأمّة ليزيد، بالمال، أو الترغيب، أو الترهيب، أو التهديد، أو القهر والضغط، أو الإحراج الشخصيّ، أو الإهانات، أو الجلب... إلّا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان صلباً وشديداً تجاه هذا الأمر، على عكس أمورٍ أخرى لم يكن يواجهها بالصلابة نفسها؛ إذ إنّ الأمور- والحال هذه- قد اختلفت؛ فما يريده معاوية فيه مخالفةٌ واضحة للصلح، وفيه استمرار للواقع الراهن إذا ما بايع الإمام الحسين (عليه السلام) يزيدَ في حياة معاوية، وأعطاه الشرعيّة.

 

عندما مات معاوية اختلف تكليف الإمام الحسين (عليه السلام)، وذلك تبعاً لاختلاف 

 

53


36

الفصل الأول

الظرف، واختلاف الحاكم، واختلاف التهديدات والفرص. نعم، الوضع الجديد أصبح مختلفاً، وإن كان استمراراً للمشروع نفسه، لكن بأساليب مختلفة عند السلطة، وبالتالي عند الإمام (عليه السلام). عندها، ذهب (عليه السلام) إلى خيار المواجهة منذ اللحظة الأولى.

الإمام (عليه السلام) يرفض مبايعة يزيد

بعد موت معاوية، أعلم والي المدينة الإمام الحسين (عليه السلام) أن معاوية قد مات، وطلب منه بيعة يزيد، ولكن الإمام (عليه السلام) رفض بيعة يزيد في اللحظة نفسها. وهنا بدأت مرحلة «الحركة الحسينيّة»، التي تتضمن حركتين:

- الحركة الأولى: تبدأ برفض الإمام الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد عند والي المدينة في تلك الليلة، وتنتهي بشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم العاشر من محرّم. وهذه المرحلة كان قائدها الإمام الحسين (عليه السلام).

 

54


37

الفصل الأول

- الحركة الثانية: تبدأ من أسر الإمام زين العابدين (عليه السلام) وسبي النساء من بعد العاشر من محرّم إلى حين عودتهم إلى المدينة. وهذه المرحلة قادها الإمام زين العابدين والسيّدة زينب (عليهما السلام).

 

ونخلص ممّا تقدّم إلى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان قد ذهب إلى المواجهة المباشرة، والدمويّة، حتّى لو أدّت إلى الشهادة؛ إذ قد صار الموقف مختلفاً.

 

انتصار الثورة

لم يكن النصر العسكريّ والمباشر مقدّراً للحركة الحسينيّة، سواء في زمن معاوية أو في زمن يزيد؛ بسبب الظروف وقلّة الأنصار وتخاذل الأمّة... وهذا لا يعني أنّه كان للإمام أنصار في زمن يزيد لم يكونوا في زمن معاوية، كلّا، فالأمر ليس كذلك، بل ما حصل أنّ الخيار اختلف.

 

55


38

الفصل الأول

إنّ الحركة الحسينيّة التي قامت لتواجه المشروع بكامله، ولكن بعنوان يزيد، استطاعت أن تنتصر. نعم، استطاعت أن تنتصر. والدليل على انتصارها هو الحضور الكبير في المجالس الحسينيّة بعد 1400 سنة، وبقاء الإسلام المحمّدي الأصيل. والدليل على انتصارها أيضاً هو كلمة الإمام زين العابدين (عليه السلام) لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله لمّا سأله حين رجوعه إلى المدينة: مَن الغالب؟

فقال الإمام السجّاد (عليه السلام): «إذا دخل وقت الصلاة فأذِّن وأقِم تعرف الغالب»[1]. وهذا يعني أنّ بقاء الأذان كما هو وعدم تغييره وتبديله دليل على انتصار الإمام الحسين (عليه السلام) وغلبته؛ لأنّ يزيد كان يستهدف القضاء على هذا الدين، وعدم بقاء أي ذكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

 


[1]  مقتل الحسين (عليه السلام)، المقرّم، ص 72.

 

56


39

الفصل الأول

التزامٌ فانتصار

تحصّل ممّا تقدّم ذكره، أنّ التزام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالتكليف منذ اللّحظة الأولى لتحمُّله المسؤوليّة إلى حين وفاته ومغادرته الدنيا كان التزاماً دقيقاً؛ لأنّه كان (صلى الله عليه وآله) عبد الله المتعبّد المطيع الفاني. هذا الالتزام الدقيق بالتكليف أدّى إلى انتصار المشروع النبوي، وكذا الالتزام الدقيق بالتكليف عند الإمام الحسين (عليه السلام) أدّى إلى تجديد الحياة وإلى تحصين المشروع النبويّ وصيانته، وهذا أحد معاني «حسينٌ مني وأنا من حسين (عليه السلام)»[1].

 

لولا الصبر

كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المرحلة المكيّة يملك صبراً شديداً، خاصّةً أنّ معاناة المرحلة

 


[1] مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل، ج 4، ص 172.

 

57


40

الفصل الأول

المكيّة شديدة؛ لأنّ تكليفه (صلى الله عليه وآله) في مكّة كان أن يصبر وأن يتحمّل. ومن السهل على الفرد أن يذهب للقتال؛ ففي القتال يفرغ المرء كلّ الغضب الكامن داخله، بينما من الصعب عليه الصبر.

 

تصوّروا ما هي النتيجة لو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أخذته الحماسة- والعياذ بالله- في مكّة ولم يتحمّل الإهانات، ولم يصبر على الأذى!

 

لسنا مكلّفين بالردّ على كلّ إهانة

يأتي بعض الغيارى والحريصين على المقاومة، ويبدون سخطهم إزاء ما نتعرّض له من أذى وشتائم، وكأنّهم يطالبوننا بالردّ على كل أذيّة وتهمة. ولكن، نحن- اليوم- لو أردنا أن نردّ على الفايسبوك وعلى وسائل الإعلام على كل أذيّة أو شتيمة، أو إهانة نتعرّض لها، عندها سيبقى السيف على أكتافنا، ونجوب به الكرة الأرضيّة، فهل هذا هو تكليفنا؟ بالطبع لا.

 

58


41

الفصل الأول

الحسن والحسين (عليهما السلام) وأداء التكليف

بالعودة إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، نسأل: هل كان الإمام الحسين (عليه السلام) في زمن يزيد شجاعاً ولم يكن- والعياذ بالله- شجاعاً في زمن معاوية؟ هل صار (عليه السلام) أبيّاً للضيم في زمن يزيد، ولم يكن أبيّاً للضيم في زمن معاوية؟ هل كان من الناحية الذاتيّة يرفض الذلّ في زمن يزيد، ولم يكن كذلك في زمن معاوية؟

والجواب: كلّا، فالإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام الحسين (عليه السلام): بشجاعته، بعظمته، بإبائه للضيم، برفضه الظلم والذلّ والهوان... الإمام الحسين (عليه السلام) لا يتّبع انفعالاته، ولا حتّى إمكانيّاته الشخصيّة ولا غير ذلك، وإنما يتّبع تكليفه ومسؤوليّته الشرعيّة.

 

59


42

الفصل الأول

مظلوميّة الإمام الحسن (عليه السلام)

والأمر نفسه ينطبق على الإمام الحسن (عليه السلام). لقد وُجِّهت إهانة تاريخية للإمام الحسن (عليه السلام)، لم تقتصر على الذين لا يؤمنون بإمامته، بل شملت حتّى بعض من آمن بإمامته، بل ممن كان مِن خيرة الخواصّ؛ إذ قال له أحدُهم بعد الصلح: «السلام عليك يا مذلّ المؤمنين»[1]!

هل يُعقل أن يصدر هذا الموقف على لسان مَن هم مِن خيرة الخواصّ، وأن يقولوا للإمام الحسن المعصوم (عليه السلام): «السلام عليك يا مذلّ المؤمنين»؟ لقد صدر عنهم هذا الموقف؛ لأنّهم لم يستوعبوا الظرف.

 

ومن هنا، وللسبب نفسه، انطلقت بعض التحليلات المسيئة للإمام الحسن (عليه السلام)؛ لتبرير

 


[1] مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج الأصفهاني، ص 44.

 

60


43

الفصل الأول

ذهابه (عليه السلام) إلى الصلح، فكان أن لجأ أصحاب هذه التبريرات إلى الميزات الشخصيّة غير الصحيحة، فقالوا إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان يحبُّ الدِّعة، ويحب الطمأنينة، ويميل إلى السلام، ويكره سفك الدماء... لذلك، فهو ذهب إلى الصلح. وهذا ظلم للإمام الحسن (عليه السلام)، لا بل أكبر ظلم وأكبر إهانة للإمام الحسن (عليه السلام). ومن واجبنا في أيّام كربلاء أن ندافع عن إمامنا (عليه السلام)، وأن نبيّن الظروف الموضوعيّة التي دفعته إلى الصلح؛ لما في ذلك من مصلحة للإسلام والمسلمين.

نعم، لقد كان تكليف الإمام الحسن (عليه السلام) أن يمضي بالصلح، وكذلك، لو افترضنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان هو الإمام سنة 40 للهجرة بعد شهادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لصالَح الإمام الحسين (عليه السلام) معاوية في تلك الظروف والمعطيات، والتحدّيات، والفرص والتهديدات. ولو كان الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام)، 

 

 

61


44

الفصل الأول

الإمام الزكي، المجتبى، هو الإمام في أواخر سنة 60 للهجرة وبداية سنة 61 للهجرة، وطُلب منه أن يبايع يزيد، لفعل ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام).

هي الشجاعة نفسها، العظمة نفسها، الإباء نفسه، الاستعداد للتضحية نفسه، هو العشق للشهادة نفسه. هما سيدا شباب أهل الجنة، ريحانتا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هما شخصان يمتلكان المؤهّلات نفسها، والمواصفات نفسها، والاستعدادات نفسها. ولذلك، لا يجوز أن يُقال إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن أبيَّ الضَّيم، أو إنّ الإمام

الحسين (عليه السلام) قاتلَ لأنّه كان أبيّ الضَّيم. هذا خطأ، وهذه إهانة وإساءة، وهو أمرٌ غير صحيح، بل ظالم وبعيد عن الإنصاف.

وكذلك هو الأمر، عندما نتحدّث عن الأئمة (عليهم السلام) بعد الإمام الحسين (عليه السلام).

 

62


45

الفصل الأول

كلٌّ له تكليفه

من المهمّ جدّاً البحث في مسألة التكليف وتحديده. وعلى الرغم من أنّ الأهداف والضوابط والأصول ثابتة، لكنّ التكليف يختلف من جيلٍ إلى جيل، باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأجيال، والظروف، والفرص، والتحدّيات، والتهديدات... كلّها أمور متغيّرة. لذا، قد يختلف تكليف شخصٍ ما عن تكليف شخص آخر، حتّى ولو في زمنٍ واحد.

على سبيل المثال، تكليفي الآن أن أكون مسؤولاً في حزب الله وأن أحمل الراية وأقاتل، بينما ثمّة مَن تكليفه أن يكونَ في الحوزة، وأن يقضي شبابه وعمره في الدرس والتدريس والتعلّم والتأليف، والقيام بالتحقيقات، ويمكن

أن يصبح في مراحل متقدّمة مرجع تقليد وقد لا يصبح كذلك، لكن هذا تكليفه هو، وذاك تكليفي أنا. 

 

63


46

الفصل الأول

فلا هو قاعد عن الجهاد ولا أنا هاربٌ من الحوزة، لكنّي أعمل بتكليفي، وهو يعمل بتكليفه.

يمكن أن يختلف التكليف من شخص إلى آخر، ومن بلد إلى بلد، فقد يكون التكليف في بلدٍ ما الهدوء، والسكون، وعدم الدخول في مواجهة، وتمرير الوقت، والصبر والتحمّل... وفي بلد آخر، المطلوب هو الوقوف والمواجهة والتحدّي... كلٌّ له طريقته، وله ضوابطه. ولذا، من غير الصحيح أن نَصف مَن كان تكليفه الهدوء والصبر بأنّه جبان ولا يقوم بشيء، وأنّ من كان مطلوباً منه المواجهة هو شجاع ومقاوم.

المقاوم والشجاع والمتديّن والمجاهد الحقيقي هو الذي يؤدّي تكليفه الشرعيّ والإلهيّ، فإن كان تكليفه الصبر، فالصابر المنتظر هو المجاهد المقاوم، وإن كان تكليفه القتال، فالمقاتل في ميادين القتال هو المجاهد والمقاوم. هذا هو الفهم الصحيح للمسألة.

 

64


47

الفصل الأول

عندما نتكلّم عن الإمام الحسين (عليه السلام) ونمدحه، علينا الالتفات إلى عدم الإساءة إلى الأنبياء (عليهم السلام) والأئمة (عليهم السلام) والعظماء (رض). مثلاً إنّ قولنا إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان أبيّ الضّيم، ولم يكن يتحمّل بيعة ظالم أو السكوت على ظالم، لا يعني ذلك أنّه لو سكت نبيٌّ من الأنبياء (عليهم السلام) على ظالم، فإنّه لم يكن أبيّ الضَّيم، لا بل كان تكليفه أن يسكت عن هذا الظالم؛ نتيجة الظروف والمعطيات والمسؤوليات.

تكليف يحمي الإسلام

الصحيح أن نقول إنّ الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي كان أبيّ الضَّيم، ورافضاً للظلم، وشجاعاً وعاشقاً للشهادة، كان تكليفه في زمن يزيد بن معاوية الذهاب إلى المواجهة، ولو أدّت إلى أن يُقتل هو وأهل بيته وأصحابه وبنوه وبنو عمومته 

 

65


48

الفصل الأول

وتُسبى نساؤه، وقد قام (عليه السلام) بتكليفه. ولذلك، كلّ مَن ناقش الإمام الحسين (عليه السلام) وتحدّث إليه في حقيقة موقف أهل الكوفة، وأنّهم ربّما يبدّلون رأيهم، لم يكونوا قادرين على فهم موقفه واستيعابه، وكان (عليه السلام) يقول لهم: ننظر وتنظرون، ولم يجادلهم، وبيّن لهم بوضوح أنّ ما يملي عليه موقفه هو تكليفه الشرعيّ والإلهيّ. فكان الإمام (عليه السلام) يرى أنّ الذي يحمي الإسلام ويصونه، ويدفع المخاطر عن الأمّة هو هذا الخيار، وهذا السلوك، وهذا الطريق. ولذلك، كان (عليه السلام) يعتبر أنّ ما قام به هو ما اختاره الله له، ما رضي الله له، «رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه»، وإذا اختار الله لنا هذا التكليف، الذي فيه امتحان شديد، وصبر شديد، ومواجهة قاسية جدّاً، وآلام وتضحيات، فإنّه يوفّينا أجور الصابرين.

 

66


49

الفصل الأول

مدرستنا أداء التكليف

هذه هي المدرسة، وهذا هو الدرس الكبير: أن نؤدّي تكليفنا في كلّ صغيرة وكبيرة، مع العلم أنّنا لسنا هواة حرب، ولا هواة قتال، والناس عموماً بطبيعتهم ليسوا هواة قتال، والله سبحانه وتعالى يبيّن أنّ الناس بمن فيهم المؤمنون يكرهون القتال، حيث يقول: ﴿كُتِبَ عَلَيكُمُ ٱلقِتَالُ وَهُوَ كُرهٞ لَّكُم وَعَسَىٰ أَن تَكرَهُواْ شَي‍ٔٗا وَهُوَ خَيرٞ لَّكُم﴾[1].

ومع ذلك، نحن لا نتّبع ما نهواه، وما نرغب فيه، ولا نتّبع ميولنا الشخصيّة؛ إذ كثير منّا- نحن الذين في خط المقاومة وفي ساحات الجهاد- لديه رغبات وتوجّهات مختلفة، فأنا- مثلاً- أرغب في البقاء في الحوزة العلميّة، أختار فيها غرفتين، بعيداً عن كل هذه التهديدات، أدرس وأُدرِّس وأكتب وأؤلّف إلى آخر عمري، ولكن ما نحن فيه الآن غير متعلّق بميولنا أو رغباتنا الشخصيّة.

 


[1]  سورة البقرة، الآية 216.

 

67


50

الفصل الأول

يجب علينا أن نكون أهل التكليف الإلهيّ. فإذا كان تكليفنا القتال نقاتل، ولو وقفت كلّ الدنيا في وجهنا، ليس فقط جورج بوش، وترامب، و«إسرائيل» والصهاينة وبعض العرب. نحن لا نخاف أحداً، وننظر إلى الأمام، ونقول: كل ما هو أمامنا لا يخيفنا، ولا يقلقنا، ولا يرعبنا. وإذا كان المطلوب منّا في مكانٍ ما التسامح فتكليفنا أن نتسامح، وإذا كان المطلوب منّا أن نسكت فتكليفنا أن نسكت، وكذا لو كان تكليفنا الهدوء والتروي أو تحمّل بعض الظلم، فإنّنا سنلتزم تكليفنا.

أداء التكليف: الفوز العظيم

نقول في ختام هذا الفصل أنَّ على كلّ واحدٍ منّا أن يبحث عن تكليفه الشرعيّ، وحسبه فوزاً في هذه الدنيا أن يخرج منها وقد أدّى تكليفه الإلهيّ الشرعيّ في كلّ صغيرة وكبيرة. هذا هو الفوز العظيم، وهذا هو النصر الذي ليس كمثله نصر. وفّقنا الله وإيّاكم لذلك.

 

68


51

الفصل الثاني

سنتناول في هذا الفصل الهجرة النبويّة إلى المدينة المنورة، وربطها بما جرى في كربلاء مع الإمام الحسين (عليه السلام) ومن ثمّ الخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها.

 

هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة

حينما قرّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يغادر مكّة المكرّمة، باحثاً عن مكان جديد لدعوته، توجّه إلى الطائف- المدينة القريبة من مكّة في بلاد الحجاز- وعرض على أهلها أن يهاجر إليها، إلّا أنّ أهلها لم يلبّوا دعوته، بل كان سلوكهم معه (صلى الله عليه وآله) سلبيّاً وقاسياً وسيّئاً جدّاً. والقصّة في ذلك معروفة وموجودة في كتب التاريخ.

بعد ذلك، عرض النبي (صلى الله عليه وآله) على جماعة من أهل المدينة أن يهاجر إليها لتكون هي الموئل الجديد لدعوته، فاستجاب أهلها له، وآمنوا به، وذلّلوا له الأسباب،

 

72


52

الفصل الثاني

فتشكّلت فيها بيئة حاضنة له ولمن معه، وأصبحت مستعدّة لأنْ تكون قاعدة الانطلاق الكبرى.

كان لهذا الولاء من أهل المدينة تجاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتصارهم له (صلى الله عليه وآله) نتائج وبركات كبيرة وعظيمة جدّاً. وقد بدأ عنوان «الأنصار» من المدينة؛ لما قدّمته هذه المدينة من التزام وولاء لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانتصار لقضيته، وتحملها للمسؤوليّة وقبولها للتحدّي. ولا نتحدّث هنا عن النتائج الأخرويّة وما أعدّ الله سبحانه وتعالى لمن آمن وهاجر وجاهد ونصر وآوى، بل عن النتائج الدنيويّة لهذه المواقف.

 

المدينة قبل الهجرة

إنّ النظرة الإجمالية إلى الوضع القائم في المدينة قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إليها وبعدها كفيلة بإظهار مدى النعم والبركات الكبيرة التي 

 

73


53

الفصل الثاني

جناها أهل المدينة بانتصارهم للنبي (صلى الله عليه وآله) ولقضيّته.

قبل اتخاذ النبي (صلى الله عليه وآله) خيار الهجرة إليها، كانت هذه المدينة تُعرف باسم «يثرب»، وكانت مدينة صغيرة في وسط الصحراء، ولم تكن على الإطلاق مركز الاهتمام ومحوره لا في بلاد الحجاز ولا في شبه الجزيرة العربيّة في ذلك الوقت، بل كانت مكّة المكرّمة هي المركز والمحور؛ لوجود الكعبة فيها، والمسجد الحرام، ومناسك الحجّ ولو بصيغته الجاهلية المحرّفة، ولكونها مركزاً تجارياًّ، تقصدها قوافل العرب في الشتاء والصيف، وكانت تتمتّع بالقوّة العسكريّة، وتمتلك الزعامة السياسيّة، وكانت تسكنها أقوى القبائل العربية (قريش).

كما أنّ هذه المدينة الصغيرة- يثرب- كانت تعاني من أزمات حادّة، وصراعات داخليّة، كانت تطيح في بعض الأحيان باستقرارها الأمنيّ؛ نتيجة الصراعات القائمة آنذاك، والثارات المتوارثة بين 

 

74


54

الفصل الثاني

قبيلتي الأوس والخزرج. وكان من جملة مشاكل المدينة أيضاً، أن اليهود، أو بعض قبائل بني إسرائيل، كانوا قد سكنوا المدينة منذ سنوات طويلة، بل منذ مئات السنين، بناءً على ما يعرفونه من كتبهم من أنّ في هذه المدينة سيظهر نبيُّ آخر الزمان.

وكان لديهم استعلاء فكريّ وثقافيّ على العرب؛ لكونهم أهل كتاب ومن بني إسرائيل، كما كان لديهم السطوة المالية والاقتصادية؛ نتيجة الأموال الطائلة التي كانت لديهم من جهة، وإقراضهم الناس بالربا والفوائد من جهة أخرى.

 

البركات الدنيويّة على المدينة

إذاً، لم تكن المدينة في حال حسنٍ، لا من حيث الموقع، ولا من حيث الأهمية، ولا من حيث أوضاعها الداخلية، والأمنية، والسياسيّة، والاقتصادية، بل كانت بلدة تعيش الكثير من 

 

75


55

الفصل الثاني

الإشكاليات في ذلك المجتمع، لكنّها حينما آمنت بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ونصرتْه وآوتْه واحتضنتْه واحتضنت المهاجرين معه، ووقفت إلى جانبه، وكانت مستعدّة للتضحية إلى جانبه، أُنزلت عليها وعلى أهلها بركات دنيويّة عظيمة جدّاً. فقد أصبحت يثرب مدينةَ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ومحور الاهتمام في شبه الجزيرة العربية، بل عاصمة الدولة الإسلاميّة الفتيّة في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولعشرات السنين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأصبحت أيضاً محور الاهتمام الثقافيّ، والفكريّ، والدينيّ، والسياسيّ، والعسكريّ، والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وأصبحت محطّ رحال الآتين من أطراف شبه الجزيرة العربيّة وأنحائها، ومركزاً للعلم، والثقافة، والإشعاع الإسلاميّ والدينيّ والقرآنيّ، ومركز الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، وثبّت فيها النبيّ (صلى الله عليه وآله) السلام الداخليّ بين الأوس والخزرج والمهاجرين، وانتهت الهيمنة الفكريّة لليهود، 

 

76


56

الفصل الثاني

وكذلك انتهت بمرور الوقت هيمنتهم الماليّة والاقتصاديّة، وأصبحت المدينة مركز الانطلاق والتحوُّل على مستوى شبه الجزيرة العربيّة والمنطقة، بل العالم كلّه. وبالإضافة إلى ذلك، حظيت المدينة باحترام كبير بين الناس، وقد شرّفها النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد فتح مكّة، حيث عاد (صلى الله عليه وآله) ليعيش فيها ما تبقّى من حياته، وبذلك بقيت للمدينة قيمتها المعنويّة الخالدة إلى يوم القيامة؛ بسبب مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبره الشريف.

وربطاً بما تناولناه في الفصل الأوّل، كانت هذه الآثار والنتائج الدنيويّة التي أُنزلت على المدينة وأهلها نتيجة طبيعيّة لالتزام أهل المدينة بتكليفهم الإلهيّ الشرعيّ، وقيامهم بمسؤوليتهم الشرعيّة، والتي لم تقتصر على إيمانهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) بقلوبهم وعقولهم، بل بنصرته وحمايته وتأييده والقتال بين يديه.

 

77


57

الفصل الثاني

المدينة بعد 50 سنة

هكذا كانت حال المدينة في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما بعده، ولكن إذا ما قلّبنا صفحات التاريخ إلى سنة 60 للهجرة؛ أي بعد 50 سنة على وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، سنجد أنفسنا أمام مشهد مختلف تماماً. ففي العام 60 للهجرة، يُبلَّغ الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل المدينة بموت معاوية، ويُطلب منهم مبايعة يزيد. وهنا تبدأ معالم الحركة الحسينيّة بالظهور. فقد كان موقف الإمام الحسين (عليه السلام) واضحاً في رفض البيعة ليزيد؛ لأنّ «يزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، مُعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[1].

إنَّ حقيقة يزيد والصفات التي نعته بها الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن خافية على أهل المدينة. فأهل المدينة، كما الإمام الحسين (عليه

 

78

 


[1]  الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 14.

 

78


58

الفصل الثاني

السلام)، يعلمون مَن هو يزيد، فلم يشتبه عليهم الأمر، ولم يكن لديهم خطأ في الفهم، أو في المعلومات، أو في تشخيص الموضوع؛ فما كان يقوله الإمام الحسين (عليه السلام) عن يزيد كان يعرفه خواصّ أهل المدينة من نُخب وعلماء ومهاجرين وأنصار، وسياسيّين ومثقّفين. كانوا جميعاً يعرفون مَن هو يزيد بن معاوية، بل كان يزيد مشهوراً- في الحدّ الأدنى- في الحواضر الإسلاميّة، فلم تكن شخصيّته مجهولة أبداً؛ كي يقال- مثلاً- إنّ أحداً ما قد اشتبه عليه الأمر، فقد كان الخواصّ جميعاً، والعوامّ أيضاً، يعلمون مَن هو يزيد.

وقد حثّ سعيُ معاوية لأخذ البيعة ليزيد في حياته الناس على التساؤل حول يزيد المطلوب مبايعته، ليصبح خليفة للمسلمين -خاصّة في آخر سنتين من حياته، حيث اشتغل بشكل حثيث لتكريس ذلك-، فأصبح إثر ذلك مشهوراً، تتناقل أخباره الناس.

 

79


59

الفصل الثاني

تكليف الإمام وخذلان المدينة

لقد شخّص الإمام الحسين (عليه السلام) تكليفه، القاضي بعدم تقديم البيعة ليزيد، وأنّ عليه مواجهة الوضع الجديد أيّاً تكن الأثمان والتضحيات.

بعد ذلك، خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة وسط تخاذل أهلها، في الوقت الذي كان يحتاج (عليه السلام) إلى نصرتهم ومساعدتهم. نعم، خرج دونما أن يأتي أحد ويطلب من الإمام الحسين (عليه السلام) البقاء في المدينة، أو أن يقول له أهل المدينة: كيف ستخرج يا ابن رسول الله، وهذه مدينة جدِّك، ومدينة الإسلام والأنصار، وهذه المدينة التي انطلق منها المسلمون لصناعة الأمجاد؟ فلتبقَ هنا ونحن معك ننصرك، ونعينك، وندافع ونحامي عنك، ولتكن المدينة هي قاعدة ثورتك وقيامك لتغيير هذا الواقع المأساوي في الأمّة، نظراً إلى المكانة والاحترام الكبيرين اللذَين كانت تحظى بهما المدينة في وسط الأمة 

 

 

80


60

الفصل الثاني

حقيقيّة، وتؤمّن فرصة تاريخية عظيمة للتغيير في ذلك الوقت، لكنّها لم تحرّك ساكناً، وتركت الإمام (عليه السلام)، فخرج منها قاصداً مكّة المكرّمة.

 

أيضاً مكّة تخذل الإمام

وصل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مكّة المكرّمة قبل أربعة أشهر تقريباً من موسم الحج، فالتقى بالناس، وبالوفود التي جاءت من الخارج، وفيهم الوجهاء وكبار القوم وبقيّة المهاجرين والأنصار.

وكما المدينة، لم تنصر مكّة الإمام (عليه السلام)، ولم تقل له، عندما رأته يريد الخروج منها إلى الكوفة: ابقَ يا ابن رسول الله، بل على العكس، كانت المبادرة الوحيدة التي قدّمتها هي الطلب إليه أن لا يفعل شيئاً[1]، مقابل أن تطلب له الأمان من والي مكّة. وهذا العرض الذي قدّمته مكّة هو- في

 


[1] أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج1، ص 594.

 

81


61

الفصل الثاني

حقيقته وجوهره- دعوة إلى استسلام الإمام (عليه السلام)، ولم يكن عرضاً لأن تنصره (عليه السلام).

 

الكوفة ليست أفضل حالاً

بعد خذلان أهل مكّة المكرّمة الإمامَ الحسين (عليه السلام)، توجّه (عليه السلام) إلى الكوفة، التي أرسلت له بكتبها، ولكنها- في نهاية المطاف أيضاً- تركته وخذلته. طبعاً، وللإنصاف التاريخي، فقد اعتقل عبيد الله بن زياد الكثير ممّن أرسل الكتب للإمام الحسين (عليه السلام)، وبايعوه ودعوه إلى الكوفة، بل عمد إلى قتل الكثيرين منهم، وزجّ بالآلاف في السجون، وقد خرج الكثير منهم من الكوفة؛ بسبب الظروف القاسية والصعبة، لكن من بقي منهم وبقية أهل الكوفة خذلوا الإمام (عليه السلام) وتركوه يحاصر في كربلاء حتّى آل به الأمر إلى الشهادة.

 

82


62

الفصل الثاني

النتائج الدنيويّة لخذلان الإمام الحسين (عليه السلام)

في حين كان لإيمان أهل المدينة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتصارهم له، بركات دنيويّة عظيمة، كان لخذلان أهل المدينة ومكّة والكوفة- وهي الحواضر الإسلاميّة الأهمّ، فيما كانت دمشق قد أصبحت عاصمة الدولة الأمويّة في

حينه- تبعات ومصائب حلّت بتلك المدن؛ إذ المشهد هنا مختلف تماماً.

وفي عرضنا لما حلّ بتلك المدن، سوف نتناول الحدث التاريخيّ، من حيث كونه من مسلّمات التاريخ القطعيّة، من دون الاعتماد على رواية فلان أو أحاديث بعض الناس، بل بالاعتماد على المسلّمات التاريخية القطعيّة عند الشيعة والسنّة؛ إذ كلّ كتب التاريخ- والتي كتب أغلبها علماء أهل السنّة- تتعرّض لهذه الحوادث والقصص ويتخذون موقفاً منها أيضاً.

 

83


63

الفصل الثاني

١- حملة يزيد على المدينة

في أواخر سنة 63 للهجرة؛ أي بعد عامين فقط على استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، حدث إشكال في المدينة، فأَخرَج أهلها أو احتجزوا- على إثر هذا الإشكال- الوالي المعيّن من قبل يزيد، وجماعة بني أميّة الموجودين في المدينة المنورة، وبينهم مروان بن الحكم، الذي أصبح- لاحقاً- خليفةً أموياًّ، حيث تم عزلهم في مكان معيّن. فأرسل هؤلاء كتاباً إلى يزيد، في دمشق، وأخبروه بما جرى معهم وعليهم، فجهّز يزيد جيشاً كبيراً للهجوم على المدينة.

وذُكر في أغلب كتب التاريخ أنّ سبب الإشكال المذكور هو حصول خلاف بين بعض أهل المدينة ووجهائها من جهة، ووالي يزيد من جهة أخرى، على أمور مالية، لها علاقة بالضرائب والجباية والأموال. وحينما أصرّ والي المدينة على أخذ هذه الأموال منهم، اعتبروا تدبيره مجحفاً بحقهم، فوقع 

 

84


64

الفصل الثاني

الخلاف وقامت قيامة أهل المدينة، فعزلوه، وحبسوه. وهذا نقل تاريخيّ[1].

وثمّة نقلٌ تاريخي آخر، مفاده: أنّ وفداً من أهل المدينة ذهبوا إلى دمشق، قاصدين لقاء يزيد بن معاوية الذي تربطهم به أيضاً بعض الأعمال. وعندما دخلوا إليه أكرم وفادتهم وأعطاهم الأموال والهدايا الطائلة، ولكنّهم اكتشفوا- بحسب النقل التاريخيّ نفسه- أنّ يزيد يرتكب المحرّمات، ويعلن الفسق والفجور، فعادوا إلى المدينة غاضبين، وأخبروا أهلها بحقيقته، فقام أهل المدينة وثاروا على والي يزيد؛ ما أدّى إلى هذه الحادثة[2].

طبعاً، تحديد السبب الأساس يحتاج إلى تحقيق تاريخيّ، ليس هذا مقامه، ولكنّ الأرجح هو التفسير الأول؛ إذ إنّه من المستبعد أنّ أهل المدينة

 


[1] تاريخ اليعقوبي، اليعقوبيّ، ج2، ص250.

[2]  أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري) ج5، ص319.

 

85


65

الفصل الثاني

لم يكونوا على معرفة بيزيد حتّى سنة 63 للهجرة، فهم قد اكتشفوا حقيقته قبل ذلك بكثير، كما أسلفنا.

ثمّ إنّ الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي هو- عند أهل المدينة- أصدق من الوفد الذي ذهب إلى دمشق، كان قد أخبرهم سنة 60 للهجرة أن يزيد يملك هذه المواصفات؛ من المجاهرة بالفسق والفجور والفحشاء... فلم يكن ذلك أمراً مخفيّاً عنهم واكتشفوه، بل كان أمراً مشهوراً في الأمة، ومعروفاً لديها[1]. وعلى فرض عدم علمهم بحقيقة يزيد في العام 60 للهجرة، ألم يكن قتله

للإمام الحسين (عليه السلام) وأولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحفاده، وسبي حريم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كافياً لمعرفة حقيقة يزيد؟ وألم تكن عودة السيدة زينب والإمام زين العابدين (عليهما السلام) إلى المدينة وإخبارهما أهلها بما جرى عليهم من جيش يزيد

 


[1] الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج5، ص141.

 

86


66

الفصل الثاني

سنة 60 للهجرة كافيين أيضاً لمعرفة حقيقة يزيد الفاسق الفاجر القاتل للنفس المحترمة، المعلن بالفسق والفجور، حتّى يحتاج الأمر إلى ذهاب وفد في العام 63 للهجرة لاكتشاف هذه الحقيقة؟ فعلى الأقوى، أنّ السبب الحقيقيّ لهذه الحملة هو الخلاف الماليّ. ولذلك، لم نجد في هذه المعركة شعارات سياسيّة أو دينيّة أو إيمانيّة أو أيّ شعار من شعارات الثأر لما جرى في كربلاء.

وبالعودة إلى الحدث، فقد قامت المدينة على يزيد، وثارت عليه وعلى واليه، فأرسل يزيد بطلب عبيد الله بن زياد، وأمَره بتشكيل جيش والذهاب به إلى المدينة لتأديب أهلها، والسير بعد ذلك نحو مكّة- إذ كان عبد الله بن الزبير حينها قد استولى على مكّة، وأعلن العصيان أيضاً على يزيد بن معاوية- وهنا لا بدّ من ملاحظة جواب عبيد الله بن زياد؛ فقد جاء في تاريخ الطبريّ، الجزء الرابع: «كتب يزيد إلى ابن مرجانة [أي عبيد الله بن زياد] أنِ اغزُ ابن الزبير [أي إذا أراد أن يذهب لابن الزبير عليه أن يمرّ بالمدينة أوّلاً]، فقال عبيد الله بن زياد: لا 

 

87


67

الفصل الثاني

أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله وأغزو البيت»[1]. وهنا، من المثير للدهشة أن ابن زياد لم يعد قادراً على أن يتحمّل ارتكاب جريمة ثانية تُضاف إلى تلك الجريمة التاريخيّة الاستثنائيّة التي حدثت في كربلاء.

وبحسب ما تذكر كتب التاريخ، فقد اختار يزيد شخصاً اسمه مسلم بن عُقْبة- وكان طبعاً قد أصبح كبيراً في السنّ- وهو رجل مقاتل ومن قادة الحروب، وأعطاه الجيش المؤلف من اثني عشر ألف فارس، وأمره أن يذهب أولاً إلى المدينة، وقد خطب يزيد في الجيش؛ ما يعني أننا إزاء قرار علنيّ من يزيد، وأنّ الموضوع لا علاقة له بقرارٍ اتخذه مسلم بن عُقبة، وقال لهم: إذا انتصرتم في المدينة، فالمدينة مباحة لكم ثلاثة أيّام[2].

هذه مدينة مَن التي استُبيحت؟! إنّها مدينة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، مدينة الهجرة، إنّها

 


[1] تاريخ الطبريّ، محمّد بن جرير الطبريّ، ج 4، ص 371.

[2] حياة الحيوان الكبرى، كمال الدين الدميري (ت 808 هـ)، ج 1، ص 93.

 

88


68

الفصل الثاني

ثاني الحرمين الشريفين، المدينة التي آوت ونصرت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولها فضل على المسلمين وعلى الأمة الإسلاميّة إلى قيام الساعة، تُعاقَب؛ لأنّ بعض الناس اختلفوا مع والي يزيد لأيّ سبب من الأسباب، بل وتُباح وتُستباح ثلاثة أيّام.

 

٢- المدينة تُستباح على يد ابن عقبة

سار مسلم بن عقبة إلى المدينة، ووصل إليها في أواخر ذي الحجّة سنة 63 للهجرة، على اختلاف في التاريخ بين يوم 27 أو يوم 28 ذي الحجّة؛ لأن بعض المؤرّخين ذكر أنّه وصلها ليومين بقيا من ذي الحجّة، وغيرهم ذكروا أنّه وصلها لثلاثة أيّام بقين من ذي الحجّة، وفئة ثالثة ذكرت أنّه وصلها لثلاث ليال بقين من ذي الحجّة[1].

بعد أن وصل مسلم بن عقبة المدينةَ حاصرها، ثمّ ما لبث أن وجد ثغرة- نتيجة خيانة داخليّة- أدّت

 


[1] الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج5، ص39.

 

89


69

الفصل الثاني

إلى انهيار الجبهة المقابلة في مدينة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فدخلها وسيطر عليها.

ولكن ماذا فعل مسلم بن عقبة بالمدينة؟ وما كان مصيرها بعد سنتين ونصف- فقط- من تخلّيها عن الحسين (عليه السلام)؟

لقد أباح مسلم بن عقبة المدينة لجيشه البالغ 12 ألف فارس ثلاثةَ أيّام، بناءً على قرار يزيد. وهنا تحضرنا صورة المدينة سنة 63 للهجرة، بحجمها الصغير آنذاك، في ظل وجود 12 ألف فارس في الطرقات، لهم أن يقتلوا من يشاؤون، وينهبوا أموال أهل المدينة المباحة لهم، ويغتصبوا النساء، سواء المتزوجة منهنّ، أم العزباء، أم الأرملة، ويعتدوا على الأعراض. كما أنّهم دخلوا مسجد

النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بخيولهم وبغالهم ودوابّهم، ودنّسوا المسجد وأهانوه، وهتكوا حرمته وأهانوا قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهذا 

 

90


70

الفصل الثاني

كلّه موجود في كتب التاريخ على اختلاف أصحابها.

بعد هذه الحادثة الأليمة، جمع مسلم بن عقبة مَن بقي على قيد الحياة من رجالها، ووجوهها، ونُخبها، وخواصّها وعوامّها، ودعاهم إليه- وهذه المسألة مهمّة جدّاً، وعلى الناس أن يعرفوها ويعوها جيّداً؛ لأنّها ليست مجرّد مسألة تاريخيّة وانتهت، بل هي تاريخ يتكرّر- وقال لهم: عليكم أن تبايعوا يزيد بن معاوية من جديد، فأتى شخص إليه وقال له: حسناً أبايعك ليزيد على كتاب الله وسنّة رسوله، فلم يقبل منه، فقتله وقطع رأسه، وأتى آخر فقال له: أبايعك على سنّة الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين، فلم يقبل منه أيضاً، وقطع رأسه- وهذه الحوادث مدوّنة في كتب التاريخ بشكل دقيق- وعليه، فقد كان مسلم بن عقبة يطلب من الناس أن يبايعوا يزيد على أنّهم عبيد له، وأنّه يملكهم، ويملك أولادهم ونساءهم وأموالهم... وكلّ مَن يرفض أن يبايع يقطع رأسه. وقد ورد في الكتب التاريخيّة

 

91


71

الفصل الثاني

مشاهد للجثث والرؤوس المقطوعة والدماء التي تسيل في الطرقات[1].

وتورد كتب التاريخ أنّ حصيلة هذه المجزرة كانت 10 آلاف قتيل من عامّة الناس خلال 3 أيّام. لذا، لا نستغرب عندما نعلم أنّ «داعش» قامت بعملية «سبايكر» في العراق[2]، وأنّها ذبحت نحو 1700 شابّ، فإنّ مسلم بن عقبة ذبح 10 آلاف رجل وامرأة من المهاجرين وبنات المهاجرين والأنصار والمسلمين وأولادهم في ثلاثة أيّام. لماذا؟ لأنّ بعضهم رفض أن يبايع يزيدَ على أنّه عبد له. والمعروف أنّ أهل المدينة وسكانها كانوا

 


[1] تاريخ خليفة بن خياط العصفريّ (ت 240هـ)، ص183.

[2] وهي مجزرة جرت بعد أسر طلّاب القوة الجويّة في قاعدة سبايكر الجويّة من العراقيّين في يوم 12 حزيران/يونيو 2014م، وذلك بعد سيطرة تنظيم «داعش» على مدينة تكريت في العراق وبعد يوم واحد من سيطرتهم على مدينة الموصل حيث أسروا (2000-2200) طالب في القوة الجويّة العراقيّة وقادوهم إلى القصور الرئاسيّة في تكريت، وقاموا بقتلهم هناك، وفي مناطق أخرى رمياً بالرصاص، ودفنوا بعضاً منهم، وهم أحياء. وقد نجح بعض الطلاب العراقيين في الهروب من المجزرة.

 

92


72

الفصل الثاني

من بقيّة المهاجرين والأنصار آنذاك، بل إنّ بعض المهاجرين والأنصار كان لا يزال على قيد الحياة.

إذاً، حصيلة هذه المجزرة: عشرة آلاف شهيد من عامة الناس، سبعمائة شهيد من الخواص والعلماء والزعماء وكبار الوجهاء. كما أنّ ألف امرأة من أهل المدينة ولَدَت من غير زوج بعد تسعة أشهر، هذا لا يعني أن اللّاتي اغتصبن كنّ ألفاً فقط، بل فقط اللّاتي حملن وولدنَ منهنّ كنّ ألفاً.

بعد هذه المجزرة، أنهى مسلم بن عقبة مهمّته، وأخذ البيعة، ونصب والياً من قبل يزيد بن معاوية، وسار بجيشه إلى مكّة.

 

٣- مسلم يسير إلى مكّة

بعد المدينة، سار مسلم بن عقبة إلى مكّة. ولأنّه كان مريضاً وكبيراً في السنّ، توفّي في الطريق.

 

93


73

الفصل الثاني

ومن اللّافت في هذا المقام أنّ نشير إلى أنّ مسلم بن عقبة كان يعتقد أنّه يتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى بما ألحق بالمدينة وأهلها.

ولنا هنا أن نتصور هذا الفهم وهذه العقلية بأن يتقرّب رجل إلى الله بما فعله بمسجد النبيّ وبحرمه (صلى الله عليه وآله) وبالمهاجرين والأنصار والصحابة وأبنائهم وبناتهم. طبعاً، من باب المفارقة أيضاً أن يزيد كان قد أوصى مسلم بن عقبة بألّا يلحق الأذى بعلي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)ومن معه ومن يتشفّع له؛ لأن الإمام اعتزل هذه المعركة، وأحد أسباب الاعتزال هو التحليل الذي تناولناه في مقدّمة هذا الفصل عن أسباب الإشكال بين المدينة ويزيد.

 

٤- الحصين بن نُمير يكمل المهمّة

بعد موت مسلم بن عقبة، تولّى قيادة الجيش- بناءً على توجيهات سابقة من يزيد- الحصينُ بن نمير، الذي كان أحد قادة جيش عبيد الله بن زياد وعمر 

 

94


74

الفصل الثاني

بن سعد في كربلاء؛ أي كان شريكاً في قتل الحسين (عليه السلام).

ذهب الحصين بن نمير إلى مكّة المكرمة (حرم الله وحرم رسوله، وكعبة المسلمين وقبلتهم)، فحاصرها أشهراً عدّة، وقصفها بالمنجنيق، وأحرق الكعبة وهدمها، وقصف بيوت أهل مكّة، فقتل رجالهم ونساءهم. لكن مكّة بقيت صامدة ولم تنهزم رغم ذلك.

وفي خضمّ تلك الأحداث؛ أي في النصف الأول من سنة 64 للهجرة، مات يزيد بن معاوية، فنشبت خلافات في الشام، فانسحب على إثرها جيش الحُصَين بن نُمَير[1].

 

٥- مكّة تحت الحصار مجدّداً

بعد سنوات قليلة من موت يزيد، وبعد أن آل الحكم والسلطة إلى عبد الملك بن مروان، أرسل جيشاً

 


[1] الأخبار الطوال، ابن قتيبة الدينوري، ص268.

 

95


75

الفصل الثاني

إلى مكّة المكرّمة بقيادة الحجّاج بن يوسف الثقفي. ويكفي اسم الحجّاج للدلالة على حجم الجريمة التي اقترفها؛ إذ قام بمحاصرة مكّة، وحرقها بالنار، وضرب كعبتها بالمنجنيق، وقتل أهلها، إلى أن استولى عليها بعد قتل عبد الله بن الزبير، وأعلن السلطة الأمويّة عليها.

 

 

96


76

الفصل الثاني

٦- الكوفة تذوق المرارة نفسها

أمّا مصير الكوفة وما حلّ بأهلها فلم يكن أحسن حالاً من غيرها، بعد ما فعله عبيد الله بن زياد بأهلها في السنوات التي بقي فيها، وما جرى على قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) فيها على يد المختار الثقفي الذي ثأر لدماء أهل البيت (عليهم السلام). كما يكفي الكوفةَ أن الحجّاج بن يوسف الثقفي حكمها في زمن عبد الملك بن مروان سنواتٍ طويلة. والظُلم الذي مارسه الحجّاج بن يوسف الثقفي كان عظيماً، بحيث يتعجّب الإنسان كيف كان يقتل، ولأي سبب يقتل، وكيف كان يصادر الأموال، ويزجّ الناس في السجون، وكيف كانت أحوال السجون، حيث ورد في كتب التاريخ أنّه حينما مات الحجّاج، دخل الناس إلى سجونه، فوجدوا عشرات الآلاف من الرجال والنساء عراة، في سجون لا سقف لها، لا تقيهم حرّ الشمس ولا برد الشتاء. إنّ مظالم الحجّاج بن يوسف الثقفي ممّا يندى له جبين الإنسانيّة.

 

97


77

الفصل الثاني

ماذا لو نصروا الحسين (عليه السلام)؟

إذاً، بعد هذا العرض للنتائج الدنيويّة لخذلان الإمام الحسين (عليه السلام)، لنا أن نسأل: لو أنّ أهل المدينة نصروا الحسين (عليه السلام) كما نصروا جدّ، ولو أنّ أهل مكّة نصروا الحسين (عليه السلام)- ولا نستطيع القول: «كما نصروا جده»؛ لأنّ أغلبهم قد دخلوا في الإسلام رغماً عن إرادتهم- ولو أنّ أهل الكوفة وَفَوا ببيعتهم للحسين (عليه السلام)، وكان موقفهم مختلفاً، كيف سيكون واقع الأمّة: الحجاز، والعراق، واليمن، والشام، وخراسان وسائر البلاد الإسلاميّة؟ كيف كان سيكون واقعها؟ ألم يكن ممكناً حينئذٍ للحسين (عليه السلام) أن يغيّر هذا الواقع السيّئ؟ لقد كان النصر في متناول الحسين (عليه السلام)، لو وقفوا معه، ونصروه؛ إذ لم يكن يزيد شخصيّة مقبولة في الأمّة، بل كان مفروضاً عليها بقوة السيف، والإرهاب، والترغيب، والترهيب. لقد كان لدى الأمّة استعدادٌ كبيرٌ جدّاً، كان يمكن له أن 

 

98


78

الفصل الثاني

ينمو ويكبر لو توفرت له قاعدة الانطلاق، ولبقيت المدينة في عزّها ولما قُتل عشرة آلاف شخص من أهلها وسبعمائة من خواصّها، ولما اغتصبت نساء المسلمين في المدينة، ولما أُحرقت الكعبة وهُدّمت، ولما جرى على أهل الكوفة ما جرى من مظالم تاريخيّة، ولما حصل ما حصل بعد ذلك.

ثمّ إنّ آثار خذلان هذه الحواضر الإسلاميّة لنصرة الحقّ لم تقتصر على ما جرى سنة 60 أو 61 للهجرة وما تلاها، بل أسّس ذلك لكل ما جرى من مظالم بني أميّة في ذلك الزمان، بل ولكل ما جرى في التاريخ الإسلاميّ.

نعم، كان يمكن لحياة المسلمين أن تتبدّل، وأن تتغيّر دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً وأمنيّاً واجتماعيّاً، ويتحسّن موقعهم، وينعموا بالسلام الداخليّ، وأن تبرز قوّتهم على صعيد العالم، لو مُكِّن الإمام الحسين (عليه السلام) من أن يصلح في أمّة جدّ، وأن يقيم دولة جدّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، لكن ذلك لم يحصل.

 

99


79

الفصل الثاني

وضوح الرؤية

من خلال هذا العرض المتقدِّم، أصبح من الواضح لنا- بمعزل عن الحساب الأخرويّ وما يتعلّق به من ثواب وعقاب-

أنّ ثمّة آثاراً دنيويّة ناجمة عن مواقفنا وسلوكنا تجاه الأحداث التي نعيشها، سواء عندما ننصر الحقّ ونؤدّي تكليفنا وواجبنا، أو عندما نتخلّف ونتخلّى عن الحقّ ولا نقوم بتكليفنا وواجبنا. وهنا، علينا الالتفات إلى أنّ هذه النتائج سوف تؤثّر على حياتنا وحياة عائلاتنا وشعوبنا وأمّتنا، وعلى مقدّساتنا.

 

مائة عام على «وعد بلفور»

أمّا في واقعنا المعاصر، فيشكّل وعد بلفور وما تلاه من أحداث ومواقف إزاءه وإزاء ما نتج عنه، تجسيداً عمليّاً لمسألة القيام بالتكليف من عدمه. ففي بدايات القرن الماضي، بعد الحرب العالمية 

 

100


80

الفصل الثاني

الأولى، جاء الإنكليز وسيطروا على فلسطين، وقسّموا المنطقة مع الفرنسيّين، واتخذوا قراراً بأن يعطوا فلسطين لليهود ويجعلوها وطناً قوميّاً لهم[1]، فقدّموا وعداً لليهود بأن يعطوهم فلسطين ليقيموا عليها دولتهم القوميّة.

وعلى مرأى ومسمع من العرب والمسلمين، بدأ جلب اليهود من كل أنحاء العالم إلى فلسطين، وبدأ تشكيل المنظّمات والعصابات والسيطرة على القرى، واحتلال المزارع... وكل ذلك كان أمام نظر العالمَين العربيّ والإسلاميّ، بل كان العالم العربيّ آنذاك غارقاً في أمر آخر تماماً؛ فالعرب كانوا قد فرغوا للتوّ من معركتهم مع الدولة العثمانية، وكانوا يريدون إقامة وطن عربي، فخدعهم الإنكليز والفرنسيّون، وخدعوا زعماءهم في ذاك الوقت، واعدين بمنحهم دولة عربيّة.

 


[1]  تعرّض سماحته لهذه المسألة لكون الخطاب متزامناً مع مرور مائة عام على وعد بلفور، ولبيان مثال معاصر لمسألة الالتزام بالواجب والتكليف أو التخلف عنه.

 

101


81

الفصل الثاني

في تلك المرحلة، انطلت حيلة الإنكليز على كبار السياسيّين العرب، مثل الشريف حسين في مكّة، وكبار السياسيّين في العالمَين العربيّ والإسلاميّ؛ ولذلك ذهب البعض من هؤلاء، بشكل أو بآخر، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وقاتل في الجبهة المقابلة، ومكّنوا الإنكليز من السيطرة على بلادنا.

 

102


82

الفصل الثاني

المرجعيّة الرشيدة

هذا، في الوقت الذي يسجّل التاريخ موقفاً تاريخيّاً واعياً عظيماً وكبيراً للمرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف وفي كربلاء المقدّسة، التي أمرت بقتال المحتلّ البريطانيّ- وهنا نتحدّث عن التكليف الشرعيّ والتكليف الإلهي-، وطالبت بالقتال إلى جانب الدولة العثمانيّة، التي ظلمت، واضطهدت، ونكّلت بهؤلاء في العراق، ومع ذلك كانت هذه المرجعيّة واعية ومدركة لمخاطر الاحتلال وسيطرة المشروع الاستعماري الكبير، فكان لا بدّ من مواجهته. لكن الأمّة- وقتها- كانت غافلة عن ذلك، وكان الناس في العالمَين العربي والإسلاميّ غافلين أيضاً. وكذلك في لبنان؛ إذ كانت هناك غدّة سرطانيّة، ووحش يتأسّس في جوارهم في فلسطين، واللبنانيون منقسمون، بعضهم يريد أن يبقى لبنان مع الوطن القومي العربي، وآخرون يريدونه وطناً مستقلاًّ، و«إسرائيل» الوحش تنشأ في جوارنا، وعلى حدودنا.

 

103


83

الفصل الثاني

العرب وصمتُهم المشؤوم

في هذه الظروف، أدّت فئة قليلة مسؤوليّتها، أما معظم الأمّة فلم يتحمل المسؤوليّة، فكانت النتيجة قيام «دولة إسرائيل».

إنّ شعوب منطقتنا -الشعب الفلسطيني أوّلاً، ويليه الشعب اللبناني، ثمّ شعوب المنطقة - ما زالت تعاني من طغيان «إسرائيل»، واستبدادها وفسادها وإفسادها، واستعلائها، وهي التي تهدد كل يوم بشنّ الحروب وارتكاب المجازر والتدمير، حتّى وصلت الأمور إلى أن «إسرائيل» باتت - تحت أعين العرب والمسلمين- تملك أسلحة نوويّة.

ومن المؤسف أنّنا لا نسمع في خطابات بعض «العربان» في الأمم المتحدة أي إشارة شجب أو إدانة في مسألة تملّك «إسرائيل» أسلحة نوويّة، بل على العكس نسمعهم يطالبون بإلزام إيران بتنفيذ الاتفاق النوويّ، ولا يعلمون - لانشغالهم بفسادهم وفجورهم - أنّ

 

104


84

الفصل الثاني

الوكالة الدولية للطاقة النووية والدول التي اجتمعت، قد شهِدت وسلّمت بأنّ إيران ملتزمة بدقّة بالاتفاق النوويّ. إذاً، أصبح لدى «إسرائيل» سلاح نوويّ- والحصول على هذا السلاح لا يتيسّر بمدّة وجيزة-، وهي تزداد قوّة يوماً بعد يوم منذ نشوئها، والعرب والمسلمون ينظرون إلى ذلك.

 

اجتياح 1982 وانقلاب المشهد

كان احتلال 1978م، وبعده اجتياح لبنان عام 1982م، فكانت بداية انقلاب المشهد.

ففي العام 1982م قامت في لبنان، هذا البلد الضعيف والممزّق وقتها، حركات مقاوِمة عدّة- ونحن نعترف بكلّ هذه الحركات والأحزاب والجماعات والتنظيمات، وكذلك نعترف بفضلها- إلى أن أصبح حزب الله - في نهاية المطاف- القوّة الأساسيّة في حركة المقاومة في لبنان.

 

105


85

الفصل الثاني

هذه المقاومة كانت ولا تزال تجسيداً للتكليف الإلهي الشرعيّ، الذي يحقّق المصلحة، سواء على مستوى المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة أو المصلحة العربية أو مصلحة المنطقة والأمّة.

نعم، قامت هذه المقاومة وواجهت التحديات، وبعد سنوات من الجهاد وتقديم الشهداء والتضحيات، طردت «العدوّ الإسرائيليّ» من لبنان، وأسقطت مشروعه فيه، بل أسقطت مشروع «إسرائيل» الكبرى في المنطقة.

ماذا لو لم نقم بتكليفنا؟

علينا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: ماذا لو أنّ هؤلاء المقاومين لم يقوموا بتكليفهم؟ ماذا كان مصير لبنان ونحن الآن في العام 2017؟

من الواضع أنّه لو لم تقم المقاومة بتكليفها، لكان لبنان الآن تحت سيطرة «إسرائيل»، ولكانت مستعمرات «إسرائيل» قائمة فيه اليوم، ولكان 

 

106


86

الفصل الثاني

النفط والغاز- اللذان لم يستخرجهما اللبنانيون حتّى الآن- قد سُرقا، ولكان جزء كبير من الشعب اللبناني يعيش في مخيمات اللاجئين،

خارج لبنان أو داخله، ولكانت السجون «الإسرائيليّة» في لبنان تعجّ بآلاف الشباب اللبنانيّين، ولكان الشعب يعيش في ذلّ وهوان في ظلّ الاحتلال... هذا ما كان سيحصل- على الصعيد الدنيويّ- لو تخلّف هؤلاء المقاومون عن تكليفهم وعن نصرة الحقّ.

قُم ولو كنتَ وحدك

كان لسان الحقّ ينطق بوجوب مقاومة الاحتلال وعدم جواز السكوت عنه، بل وعدم انتظار أحد في العالم ليقاتل إلى جانبنا. هذا الحق الذي كان يدعو إليه الإمام الخميني قدس سره بقوله: «عليكم أن تبدؤوا من الصفر، والنصر معقودٌ في نواصيكم». فقام الناس ونصروا هذا الحقّ، فكانت المقاومة 

 

107

 

 


87

الفصل الثاني

وكان الانتصار. ولولا ذلك لكانت «إسرائيل» اليوم ما زالت تحتلّ بلدنا وأرضنا.

 

البصيرة سبيل النجاة

إنّ ما شهدناه من أحداث خلال هذه السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ العام 2011 إلى الآن، كان فتنة طخياء، صمّاء، عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه.

هذه الأحداث التي تجري حولنا تحتاج إلى بصيرة ووضوح في الرؤية، ووعي تاريخي، وقراءة دقيقة للأحداث، وإلّا من الممكن أن يلتبس الموقف على كثير من الناس. ولمَا كنّا أصحاب بصيرة ووعي لم نشتبه في اتخاذ الموقف المناسب. ولذا، كان تشخيصنا منذ البداية أنّ منطقتنا أمام هجمة تكفيريّة يمثّلها تنظيم القاعدة وجبهة النصرة، وما كان يسمّى الدولة الإسلاميّة في العراق والشام «داعش»، التي أعلنت الخلافة فيما بعد.

 

108


88

الفصل الثاني

وبناءً عليه، جيء بمئات آلاف المقاتلين التكفيريّين العقائديّين من شتّى أنحاء العالم- إلى سوريا أوّلاً، وبعدها إلى العراق- من أوروبا وفرنسا وأميركا وأفريقيا، وقدِّمت تسهيلات هائلة لهم، جيء بهم ليَقتلوا أو يُقتَلوا في هذين البلدين، بعد أن لم يعد بمقدورهم العودة إلى بلادهم بعد تجريدهم من جوازات سفرهم وحرقها.

 

هنا، ربّما التبس الأمر على بعض هؤلاء التكفيريّين- وليس كما في قصة يزيد في المدينة-، ولكن الحقيقة بدأت بالوضوح والظهور شيئاً فشيئاً. وها هي تصريحات الرئيس الأميركيّ الحالي دونالد ترامب، والذي بقي على مدى عام، وطيلة حملته الانتخابيّة يقول ويصرّح بأنّ «داعش» صنيعة الولايات المتحدة الأميركيّة. ونحن جميعاً نعرف أنّ «تنظيم القاعدة» كذلك قد صنعته الولايات المتحدة الأميركيّة، وأنّها دعمت هذه الجماعات بالمال والسلاح وأوعزت إلى كل 

 

109


89

الفصل الثاني

حلفائها في المنطقة بأن يقدّموا الدعم المالي والتسليحي، مضافاً إلى التسهيلات والغطاء السياسيّ والإعلاميّ والدينيّ والطائفيّ والتحريضيّ، وكلّ ما تحتاج إليه تلك الجماعات.

وهنا نسأل: لو لم يبادر الناس- وبعيداً عن الخوض في التسميات- إلى الوقوف والقتال في وجه هذه الهجمة الإرهابيّة التكفيريّة، أين كان مصير المنطقة اليوم؟ وأين كان مصير سوريا، ومصير العراق، ومصير إيران، حتّى دول الخليج التي دعمت تلك الجماعات، بل ومصير كل المنطقة؟

 

هؤلاء دعموا التكفيريّين

ونسأل كذلك: من الذي كان يقف بقوة إلى جانب هذه الجماعات الإرهابيّة التكفيريّة؟

لقد وقفت أميركا و«إسرائيل» بلا تردد، وبشكل علنيّ، إلى جانب هذه الجماعات، منذ الأيّام الأولى للأحداث في سوريا. ولمّا كانت لدينا بصيرة، 

 

110


90

الفصل الثاني

ووضوح، ووعي، كان تكليفنا واضحاً ومبنيّاً على أساس رؤية واضحة.

إنّ تحديد التكليف- وتشخيصه والالتزام به- لا يأتي إلّا بعد قراءة الأحداث ومقارنة المصالح والمفاسد وإجراء ضوابط وآليّات عدّة، ولم ينشأ كيفما كان. وعليه، بعد أن يُحدَّد التكليف يكون من الواجب الوفاء به، سواء سمّيناه تكليفاً وطنيّاً أو واجباً شرعيّاً أو إنسانيّاً أو أخلاقيّاً. والواجب اليوم هو الوقوف في وجه هذه الهجمة الإرهابيّة التكفيريّة التي تريد أن تدمّر المنطقة، وتسلّمها لأميركا و«إسرائيل»، لتتمكّن هذه الأخيرة من فعل ما تريد.

 

نتيجة العمل بالتكليف

وكما في سوريا، أيضاً في العراق، عندما جاءت «داعش»، انطلقت من بعض الأراضي العراقيّة، ومن داخل الأراضي السوريّة من محافظة دير الزور، ومن الرقّة والحسكة، وأدخلت جيوشها 

 

111


91

الفصل الثاني

ودباباتها وآليّاتها، وسيطرت على عدد كبير من المحافظات العراقيّة. في تلك اللحظة، التي اتسمت بالانهيار النفسيّ والمعنويّ والسياسيّ، وفي تلك اللّحظة من الحَيرة والضياع والارتباك في الخيارات، كان موقف المرجعيّة الدينيّة المتمثلّة بسماحة آية الله العظمى السيّد السيستانيّ} واضحاً، وكان التكليف: واجبكم أن تجاهدوا وأن تدافعوا، وأن تقاتلوا، وأن تصمدوا، وأن تبقوا في هذه الأرض.

هذه الفتوى كانت خطوة تاريخيّة عظيمة جدّاً. ولكن لو تخلّف الشعب العراقيّ عنها ولم يصغِ لحفيد الحسين (عليه السلام)، لما كانت كافية. وعليه، لو لم يقبل العراقيّون تلك الفتوى ولم يعملوا بها، لكانت «داعش»

 

112


92

الفصل الثاني

أكملت توسُّعها إلى كربلاء والنجف وبغداد والبصرة، والكويت والسعودية.

 

بعد الالتزام بهذه الفتوى، نرى أنّ إنجاز العراق اليوم، والذي أصبح على مشارف الانتهاء من المعركة مع «داعش»، جاء ببركة نصرة الحقّ، والالتزام بالحقّ، وحمل رايته والقتال بين يديه، وتقديم التضحيات في هذه المعركة. بينما لو تخلّفوا لما كانت النتيجة كذلك.

 

الاستنتاج: لو لم ننصر الحقّ

إنّ من يقرأ التاريخ منذ 1400 سنة وما قبلها وما بعدها، ويطالع الأحداث المعاصرة اليوم، يصل إلى نتيجة واحدة، وهي أنّ الالتزام بالتكليف الإلهيّ بأبعاده المختلفة- الشخصيّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة أو العامّة- يعود بالخير على الملتزمين به، وأن للتخلّف عن أدائه سلبياتٍ ومخاطرَ ومفاسدَ في الدنيا، وعذاباً شديداً في الآخرة. إنّ الذين خافوا على أولادهم في المدينة المنورة ذبحهم يزيد، 

 

 

113


93

الفصل الثاني

والذين بخلوا بأولادهم على الإمام الحسين (عليه السلام) وأولاد الحسين (عليه السلام) ذُبِح أولادهم أيضاً، والذين بخلوا على الحسين (عليه السلام) بأعراضهم لكي لا تُسبى اغتُصبت نساؤهم، والذين بخلوا على الحسين (عليه السلام) ببعض مالهم سُلبت كلّ أموالهم، والذين بخلوا ببعض أيّام حياةٍ آمنة وتخلّفوا عن الإمام الحسين (عليه السلام) تحولت حياتهم كلُّها إلى جحيم. هذه معادلة التاريخ.

وبناءً على ذلك، على الناس أن يكونوا دائماً على بصيرة ووعي ومتابعة وفهم للأحداث، وألّا يتخلّفوا عن نصرة الحقّ خوفاً أو طمعاً. فاليوم، لو لم يرسل الناس أولادهم للقتال من لبنان، وسوريا، والعراق، وإيران ومن أماكن أخرى أيضاً، وبخلوا بهم، لذُبح الجميع، ولو بخلوا بأموالهم لنُهب كلّ مالهم، ولو لم يتحمّلوا ويصبروا لسُبيت الأعراض!

 

114


94

الفصل الثاني

إنّ ما حدث في المدينة المنورة سنة 63 للهجرة، كان من الممكن أن يحدث ما هو أسوأ منه في العراق؛ إذ توجد تسجيلات لقادة هؤلاء المجرمين، يصرّحون فيها بأنّهم- بعد سوريا- سيمضون إلى العراق، وأنّ أولويتهم الوصول إلى النجف الأشرف؛ لتدمير الصنم الأكبر للرافضة!

أما اليوم، فبفضل هذا الالتزام، وهذا الولاء، وهذا الوفاء، وهذا الإباء، وهذه التضحيات وهذه الدماء، بقي الإسلام، وبقيت العتبات المقدسة والمراقد الشريفة، والحوزات العلمية، والجامعات والمدارس والمجتمعات، وبقي التنوُّع في مجتمعاتنا بين المسلمين والمسيحيين والسنة والشيعة وأتباع الطوائف والديانات المختلفة. وذلك كلّه بفضل الالتزام بهذا التكليف، بينما لو تخلّفنا لكان المشهد مختلفاً. والأمر نفسه يجري في قابل الأيّام إزاء ما يُحضَّر للمنطقة أميركيّاً و«إسرائيليّاً».

 

 

115


95

الفصل الثالث

نتعلّم من مدرسة كربلاء، من الحسين (عليه السلام) وأنصار الحسين (عليه السلام)، الرجال والنساء، الكبار والصغار، دروساً عدّة، سنتناول في هذا الفصل بعضاً منها، وهي:

تحمل المسؤوليّة.
اتخاذ القرار الصحيح.
الثبات على الموقف
الاستعداد للتضحية
الصبر
الصدق والوضوح

 

الدرس الأول: تحمُّل المسؤوليّة

من الدروس التي نتعلّمها من الإمام الحسين (عليه السلام) وممّن بقي معه «تحمّل المسؤوليّة».

لو عدنا إلى التاريخ، إلى سنة 60 للهجرة، بعد موت

 

119

 

 


96

الفصل الثالث

معاوية، والطلب من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يبايع، فإنّ كلّ ما كان مطلوباً منه (عليه السلام) آنذاك أن يقول جملةً واحدة: أبايع يزيد أميراً للمؤمنين على كتاب الله وسنّة رسوله. وبهذه الكلمات يؤدّي الإمام الحسين (عليه السلام) ما كان مطلوباً منه، ويجنّب نفسه وأهل بيته وأصحابه الذهاب إلى مواجهة يزيد وجيشه، والدخول في هذا التحدي والصراع، وما حمله من تبعات وأعباء، وكان بإمكانه وقتها أيضاً أن يبقى في المدينة المنورة، ويعيش حياته الطبيعية هو وإخوته وأخواته وأبناؤه وأبناؤهم وكل من كان معهم، ويحافظ أيضاً على مكانته الاجتماعيّة والعلميّة، فهو ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله). وبطبيعة الحال، فإنّ السلطة الأمويّة آنذاك إذا لم ترَ في وجود الإمام الحسين (عليه السلام) تهديداً، كان من الممكن أن تحفظ له هذه المكانة الاجتماعيّة أو أن تتجاهلها وتتناساها وتتغاضى عنها في الحدّ 

 

 

120


97

الفصل الثالث

الأدنى، وكان بإمكانه أن يعيش بقيّة حياته بأمنٍ ورخاءٍ وسلام، بل كان بإمكانه (عليه السلام) أن يجد لنفسه الحجج لتفادي هذه المواجهة والتخلّف عن أداء التكليف، وأنّه ليس معه (عليه السلام) سوى مجموعة صغيرة من الأنصار، وأنّ الأمّة متخلّفة عن أداء التكليف، وراضية بالذلّ والهوان والظلم، وبالنتائج التي وصلت إليها، فلا يمكنه - والحال هذه - أن يحقّق مبتغاه، خاصّةً أنّ مَن كان معه (عليه السلام) مِن النُّخب، ضغطوا عليه ليثنوه عن قراره، ولم يكونوا يستوعبون موقفه[1]!

لكن الإمام (عليه السلام)، عندما وجد أنّ الإسلام والأمّة الإسلاميّة في خطر، وأنّ ما بناه جدُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتضحيات أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار من الجيل

 


[1]  الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 24.

 

121


98

الفصل الثالث

الأول، كلّه في معرض الخطر، وقف ليتحمّل المسؤوليّة.

وحتّى بعد أن خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من المدينة إلى مكّة، فقد عُرض عليه الأمان، وأنّ بإمكانه (عليه السلام)- وهو في مكّة - أن يتدارك الموقف القديم الذي اتّخذه في المدينة، وأن يتفاهم مع السلطة من جديد، وأن يتهرّب مجدّداً من المسؤوليّة، خاصّةً أن أهل مكّة ووجهاءها لم يستجيبوا له (عليه السلام)، حيث لم يصله (عليه السلام) سوى رسائل أهل الكوفة، التي كان التشكيك فيها وفي نوايا أهلها هائلاً[1]، لكنّه (عليه السلام) رغم ذلك كلّه، تحمَّل المسؤوليّة.

 

تحمُّل المسؤوليّة في مجتمعنا

إذا أردنا أن نعتبر ممّا جرى في كربلاء وما تلاها من أحداث، ونستفيد منها اليوم في مجتمعنا

 


[1] الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 24.

 

122


99

الفصل الثالث

الحالي، نجد أنّ صنفاً من الناس غير جاهز لتحمُّل المسؤوليّة، وليس مستعدّاً لذلك؛ فهو يبرّر موقفه بكلمات من قبيل: «يكفيني بيتي، وعائلتي، وأولادي، وراتبي، وعملي، وبعدها أمني الذاتيّ، وأمني الشخصيّ... وإنّ ما يحدث في البلد لا يعنيني».

ولذلك، نجد بعض الناس لا يتابعون الأحداث أصلاً، ولا يواكبون التطوُّرات، ولا يتدخّلون ولا يتّخذون موقفاً، لا بل ويلتزمون السلبيّة أو الحياد، ويطلقون مصطلح «النأي بالنفس» على كل ما يجري في البلد أو في المنطقة؛ وهذا خطأ؛ لأنّه:

أوّلاً: ثمة مسؤوليّة شرعيّة تقع علينا جميعاً، وعلى الناس أن يتحمّلوها. فتحمُّل المسؤوليّة في الأمور العامّة، وخصوصاً المصيريّة والوجوديّة منها، يتوقف عليه مصير الشعب، أو الوطن، أو الأمة أو مصير شعوب المنطقة، فلا يجوز التخلّي عن المسؤوليّة، والنأي بالنفس، والوقوف على الحياد.

 

123


100

الفصل الثالث

ثانياً: وهذه المسؤوليّة الشرعيّة تترتّب عليها مسؤوليّة أخرويّة أيضاً؛ فالله سبحانه وتعالى سيسأل هؤلاء القاعدين والمتخاذلين، الذين لا يتابعون ولا يتحمّلون المسؤوليّة، يوم القيامة عن مواقفهم التي اتخذوها في الدنيا.

ثالثاً: وكذلك توجد تبعات دنيويّة؛ إذ لا يمكن لأحدنا أن يفصل معيشته ورزقه وراتبه عمّا يجري في البلد من أوضاع اقتصادية واجتماعيّة، ولا يستطيع أن يقول إنّ أمنه الشخصيّ منفصل عمّا يجري حوله. هذا الكلام غير صحيح؛ فحينما نتحدّث عن الوضع الأمنيّ فإنّ كل الناس معنيّة وتتأثر بالوضع الأمنيّ، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى الوضعَين السياسيّ والاقتصاديّ؛ وكذلك حينما نتحدّث عن «إسرائيل» وطموحاتها ومشروعها وعدوانها، أو حينما نتحدّث عن الهجمة التكفيريّة، فإنّ ذلك يعني جميع الناس، وليس لأحد أن يدسّ رأسه في التراب، ويتنصّل من المسؤوليّة، وكأنّ الموضوع لا يعنيه، لا بل هذا الموضوع يهمُّك، 

 

124


101

الفصل الثالث

ويؤثّر عليك، وسيدخل بيتك، ويدمّر حياتك، وأمنك، وعيشك، واقتصادك وسلامة أهلك.

فالناس، إذاً، معنيُّون بأن يتحمّلوا المسؤوليّة في البعد الدنيويّ بمعزلٍ عن البعد الأخرويّ، وإن لم يتحمّلوا المسؤوليّة، فإنّ سنّة الله سبحانه وتعالى سوف تجري في حقّهم؛ فعندما يتخلّى الناس عن المسؤوليّة وعن نصرة الحقّ، سيجري عليهم ما جرى على المدينة ومكّة والكوفة، وما جرى على أهلها، بعدما تخلّوا عن الإمام الحسين (عليه السلام). وهذه السنّة الإلهية جارية في حياة الناس إلى قيام الساعة.

الكوفة وخيارها الخاطئ

مثلاً عندما نطالع في كتب التاريخ أو نسمع في مجالس العزاء أنّ أهل الكوفة قد تخلَّوا عن مسلم بن عقيل وأسلموه إلى قدَره، نسأل أنفسنا عن السبب الذي دعا الناس إلى ذلك.

 

 

125


102

الفصل الثالث

والجواب نجده في كتب التاريخ أيضاً، فقد جاء فيها أنّ الزوجة أو الأمّ- وقتها- كانت تأتي إلى زوجها أو ابنها، وتقول له: «ما لنا والدخول بين السلاطين»[1]! والترجمة المعاصرة لهذه العبارة هي: «لا علاقة لنا بالسياسة». لكن حينما تُرك مسلم بن عقيل وحيداً، وغلب عبيد الله بن زياد، عانت الكوفة عشرات السنين من خيارها الخاطئ الناجم عن مقولة: «ما لنا وللدخول بين السلاطين».

 

اليوم، مسؤوليّتنا أكبر

في هذه المرحلة بالتحديد، المسؤوليّة علينا أكبر؛ إذ

ثمّة نوعان من الأحداث المهمّة: النوع الأول، هو الذي يترك تأثيره علينا مدّة أشهر أو سنة أو سنتين،

 


[1] حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، باقر شريف القرشيّ، ج 2، ص 385 نقلاً عن: الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء والخلفاء والملوك، أحمد بن الحسن الحرّ العامليّ، ج 1، ص 108.

 

126


103

الفصل الثالث

ثمّ تطرأ تطوّرات وأحداث تبدّل وتغيّر مجريات الأمور. وهناك نوع آخر من الأحداث المهمّة والمصيريّة، وهي التي ترسم مصير شعب أو دولة أو منطقة أو أمّة لعشرات أو لمئات السنين، كالحرب العالميّة الأولى، واتفاقيّة «سايكس- بيكو» التي حصلت في العام 1920م، التي قسّمت المنطقة إلى كيانات ونتج عنها الدول الحاليّة. فالمنطقة عاشت حتّى الآن 100 عام نتيجة ذلك الحدث المصيريّ والمواقف التي اتخذت آنذاك، ولا أحد يعلم إلى متى ستستمرّ تبعات تلك الأحداث.

وكذلك حصلت أحداث عام 1948م، التي نتج عنها قيام «دولة إسرائيل»، فقد مرّ إلى الآن 70 سنة، وما زالت تلك الأحداث تلقي بظلالها على المنطقة وشعوبها وعلى العالم بأسره. وكذلك الأمر بالنسبة إلى السنوات القليلة الماضية، وما يجري الآن، وما سيجري خلال السنوات القليلة المقبلة، فهي من الأحداث التي سترسم مصير

 

127


104

الفصل الثالث

المنطقة لعشرات السنين، بل ربّما لأكثر من 100 سنة، وبالتالي تضعنا هذه الأحداث أمام مسؤوليّة مضاعفة؛ ما يعني أنَّ على الجميع أن يتابعوا ويواكبوا ويهتمّوا ويتحمّلوا المسؤوليّة.

 

الدرس الثاني: اتخاذ الموقف الصحيح

بعد تحمُّل المسؤوليّة، تأتي مرحلة اتخاذ الموقف. وفي هذه المرحلة لا بدّ من اتخاذ الموقف الصحيح والمناسب، وهذا ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام).

إنّ آليّات اتخاذ الموقف الصحيح والمناسب والواقعي والحقيقي عند الإمام الحسين (عليه السلام) مختلفة عمّا هو لدينا. فالإمام (عليه السلام) هو ابن بيت الوحي، وحفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولديه وصاياه (صلى الله عليه وآله)، ويعرف تكليفه معرفةً حقيقيّةً وواقعيّة.

 

128


105

الفصل الثالث

ما نتعلّمه من الإمام الحسين (عليه السلام) أنّنا حينما نريد أن نتّخذ الموقف في أي مسؤوليّة أو حدث، علينا أنْ لا نتّخذه على أساس ما يرضي الناس، أو ما يسكت الأعداء عنّا، أو ما يقنع أصدقاءنا، أو ما يجلب لنا تصفيق الآخرين؛ إذ هذه المعايير لا تسمح لنا باتخاذ القرار الصحيح والصائب.

الأصل براءة الذمة

إنّ الموقف الصحيح والسليم والحكيم هو الذي نتّخذه ونحن نعلم براءة الذمّة يوم القيامة عندما نُسأل عمّا فعلنا في الدنيا. وأيضاً الموقف الصحيح هو ما يحقّق المصالح الحقيقيّة للناس، وهذا لا يتناقض مع المعيار الأول؛ لأنَّنا نعلم أنّ رضا الله سبحانه وتعالى هو في الموقف الذي يحقّق خير الناس وصلاحهم في الدنيا والآخرة.

إذاً، فالمعيار الذي يجب أن يراعى في الموقف الصحيح والسليم الذي نتخذه هو رضا الله سبحانه 

 

129


106

الفصل الثالث

وتعالى، وعلى ضوء هذا الموقف، قد يشتمنا الناس في المرحلة الأولى، أو قد يعادينا الكثير منهم ويتّهموننا، بل وقد يسيئون إلينا.

ومع ذلك، فالمعيار ليس قبول الناس لموقفنا أو اتهامهم لنا، سواء كان الموقف حرباً أو صلحاً أو سلماً أو سكوتاً أو صراخاً أو قبضات مرفوعة أو أيدي ممدودة...، بل المعيار هو رضا الله تعالى.

 

رضا الله رضانا أهل البيت

وعليه، عندما تحدّث الإمام الحسين (عليه السلام) عن المصير الذي يراه لنفسه، قائلاً: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات ما بين النواويس وكربلا (...) رضا الله رضانا أهل البيت»[1]، فهذا معناه أنّ أهل البيت (عليهم

 


[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 44، ص 367.

 

130


107

الفصل الثالث

السلام) يرضون ويسيرون ويختارون ويسلكون الطريق الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.

ماذا لو تأخّر قيام المقاومة؟

إنّ ما يؤكّد ضرورة اتخاذ الموقف المناسب، أنّه على مدى التاريخ، وحتّى التاريخ المعاصر، لا شيء يحظى بالإجماع، لا الإجماع الوطنيّ ولا إجماع الأمّة، إلّا ما شذّ وندر؛ وبالتالي يكون اتخاذ القرار أو الموقف المناسب

والصحيح قبل فوات الأوان، وضياع الفرصة، وتمكُّن المشروع الآخر، أمراً ضروريّاً ومصيريّاً. فعلى سبيل المثال، لو أنّ المقاومة لم تقم في العام 1982م وتأخّرت عشر سنوات، لكانت «إسرائيل» قد بنت المستعمرات، وأنشأت أجهزة أمنيّة، وهجّرت وشرّدت، وغيّرت المعادلات، والديموغرافيا في لبنان. وعليه، مَن الذي يستطيع ضمان تحرير الأرض اللبنانيّة لو أنّ المقاومة قد 

 

131


108

الفصل الثالث

انطلقت بعد 10 سنوات من الاحتلال؟ وهنا، تبرز أهمّيّة اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.

 

وجود الأعداء وصوابيّة الخيار

وعند اتخاذ الموقف الذي حدّدنا معاييره، من الطبيعي أن يهاجمك العدوّ، بل حتّى بعض الأصدقاء لن يتحمّلوا هذا الموقف، وقد لا يستوعبونه، كما حصل مع خيرة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وأخيه محمد ابن الحنفيّة، الذين قدّموا له (عليه السلام) النصائح المختلفة التي تصبّ في خانة تغيير الخيار الذي اتخذه (عليه السلام).

فتحصّل ممّا تقدّم، أنّ اتخاذ الموقف الصحيح وتحديد التكليف الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، يتطلّبان البصيرة، واليقين، واعتماد الآليات الصحيحة.

 

132


109

الفصل الثالث

الدرس الثالث: الثبات على الموقف

نتعلّم من الإمام الحسين (عليه السلام) الثبات على الموقف؛ فأن تكون حسينيّاً يعني أنْ تتحمّل المسؤوليّة، وأنْ تتّخذ الموقف الصحيح والمناسب في الوقت المناسب، وأن تثبت على الموقف، في القضايا الحاسمة والمصيريّة، كما فعل الإمام الحسين (عليه السلام).

منذ أنْ بدأ حركته المباركة، عرّف الإمام الحسين (عليه السلام) بيزيد، وبيّن صفاته وخصاله، وأنّه (عليه السلام) لا يمكن أنْ يبايعه[1]. وهذا الموقف لم يتغيّر من المدينة إلى مكّة، ولا في الطريق من مكّة إلى الكوفة، ولا حينما قطعوا عليه الطريق وحوّلوه إلى كربلاء. فقد واجه (عليه السلام)التطورات

كلّها، ولم يغيّر موقفه؛ لأنّه كان موقفاً استراتيجيّاً- بحسب التعبير الدارج- وموقفاً مفصليّاً، مبنيّاً على

 


[1] اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص 17.

 

133


110

الفصل الثالث

ثوابت، وعلى تشخيص صحيح وواضح للأخطار والتهديدات؛ وبالتالي، فهو موقف ثابت لا يتزعزع، ولا تغيّره ضغوط الأصدقاء.

لقد تعرّض الإمام الحسين (عليه السلام) لضغوط كثيرة حتّى من قِبل أصدقائه، تحت عنوان الحرص عليه (عليه السلام)؛ فتارةً نبّه هؤلاء الإمامَ الحسين (عليه السلام) من أهل الكوفة مذكّرينه بخذلانهم لأبيه وأخيه[1]، وتارةً أخرى نصحوه بالتريُّث بضع سنوات قبل النهوض، أو التوجُّه إلى اليمن بدلاً من الكوفة[2]. ولم يقتصر الأمر على ضعوط الأصدقاء، فقد كان مروان بن الحكم يصرّ على والي المدينة بأن يقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وألّا يسمح له بالخروج. وفي مكّة، أرسل يزيد بن معاوية مجموعة من القتلة المأجورين، وأمرهم بقتل الإمام الحسين (عليه السلام)ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة، بل وامتدّ التهديد على

 


[1]  الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج5، ص23.

[2] لواعج الأشجان، السيّد محسن الأمين، ص 29.

 

134


111

الفصل الثالث

طول الطريق وصولاً إلى كربلاء. وفي الليلة الأخيرة أيضاً، كان بإمكان الإمام الحسين (عليه السلام) أنْ يبدّل موقفه، معلِّلاً تبديله هذا بأنّ الناس تركوه وخذلوه، وأنّ أهل الكوفة، وبعض الذين أرسلوا له الكتب، موجودون في جيش عمر بن سعد، وبذلك فقد برِئت الذمّة، فليأتِ عبيد الله بن زياد أو فليأخذوه إليه؛ ليبايع وتنتهي هذه القصّة، ولكن الإمام الحسين (عليه السلام) أطلق موقفه من اللحظة الأولى: «مثلي لا يبايع مثله»، وبقي ثابتاً على موقفه إلى حين استشهاده (عليه السلام).

 

نثبت كما ثبت الحسين (عليه السلام)

تواجهنا في هذه المرحلة التي نمرّ بها أحداث مصيريّة وحسّاسة، لا تقبل تدوير الزوايا، وتتطلّب منّا الثبات على الموقف، أيّاً تكن التحوُّلات والتهديدات والمخاطر؛ كالمشروع الصهيونيّ على سبيل المثال، أو وجود الكيان الإسرائيليّ وسلطته واستعلائه وأطماعه في المنطقة، أو 

 

135


112

الفصل الثالث

على الصعد كافّة، أو الوضع الأميركيّ الجديد الذي تُحضَّر له المنطقة.

 

الدرس الرابع: الاستعداد للتضحية

أن تكون حسينيّاً يعني أن تكون مستعدّاً للتضحية من أجل الموقف الذي اتخذته. ومعنى الاستعداد للتضحية هو أن تكون قادراً على المضيّ بالموقف الذي تتّخذه، وجاهزاً للتضحية من أجله.

لقد أطلق الإمام الحسين (عليه السلام) كلمته في ما يخصّ مبايعة يزيد وهو في المدينة المنورة: «ومثلي لا يبايع مثله». هذه الكلمة لم تكن مجرّد موقٍف انفعاليّ ولا عاطفيّ ولا حماسيّ، بل عبّرت عن موقفٍ مدروسٍ بشكل جيّد من قِبله (عليه السلام)، وهو الذي أمضى عشرين عاماً في زمن معاوية منتظراً هذه الّلحظة، ليتّخذ هذا الموقف، وهو يعلم تبعاته، وكان مستعدّاً للتضحية من أجل تثبيته.

 

الحركة الحسينيّة: تضحية بلا حدود

 

136


113

الفصل الثالث

يتفاوت مستوى الاستعداد للتضحية بين الناس،

فبعضهم قد يكون مستعدّاً للتضحية في حدود معيّنة فقط، وآخرون في حدود أوسع. أمّا حينما نقارب الاستعداد للتضحية في الحركة الحسينيّة، فإنّنا نكون أمام استعدادٍ لا حدود له. وتتجسّد بعض معالم هذا الاستعداد في أنّ الكثيرين قد يتبنّون قضيّةً ما، ويقدّمون لها الوقت، من أعمارهم وشبابهم، ويبذلون في سبيلها مالهم، لكنّهم حينما تتطلّب تلك القضية التضحية بأعزّائهم من أهلهم وإخوتهم وأبنائهم، يختلف موقفهم، ويدفعهم ذلك إلى التراجع، أو قد يقدّمون التضحيات دون أن يعرّضوا أنفسهم لخطر التهجير أو الحياة الصعبة أو الشهادة.

إذاً، مستوى التضحية والاستعداد لها متفاوت عند الناس. أمّا عند أتباع مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام) فلا بدّ من أن يكون الاستعداد للتضحية بلا حدود؛ لأنَّ ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء كان كذلك. فالإمام 

 

137


114

الفصل الثالث

الحسين (عليه السلام) قد أحضر معه إلى كربلاء كلّ ما عنده. فقد أحضر (عليه السلام) أولاده، وبناته، ونساءه، وأخواته، وإخوته، وأبناء إخوته، وأبناء عمومته، وأصحابه الأوفياء. جاء بهم جميعاً إلى كربلاء، وقدّمهم جميعاً- باستثناء الصغار منهم- قرباناً على هذا الطريق. وقد مُنع الإمام زين العابدين (عليه السلام) من القتال من أجل استمرار المسيرة والمسؤوليّة وإنجاح المشروع؛ إذ الهدف هو النصر وليس القتل، لكنّ النصر تارةً يكون بغلبة السيف، وتارةً أخرى بغلبة الدم، ونجاح المشروع الجهاديّ الحسينيّ كان يتطلّب بقاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) على قيد الحياة، وكان يتطلّب أيضاً وجود السيّدة زينب (عليها السلام)؛ ولذلك جاء بها (عليها السلام)، وحافظ على الإمام زين العابدين (عليه السلام). ولو كان نجاح المشروع الحسينيّ يتطلّب اسشهاد الإمام زين العابدين (عليه السلام) لما بخل الإمام الحسين (عليه السلام) بتقديم هذا الدم الزكيّ أيضاً.

 

138


115

الفصل الثالث

لم يبخل إمامنا الحسين (عليه السلام) بشيء؛ لقد قُتل أهل بيته وأصحابه، ونُهب كلّ ماله، وسُبيت نساؤه، وأُصيب جسده الشريف بعشرات الجراحات، وقُتل واحتُزّ رأسه، وجادت نفسه الزكيّة ولم يبقَ عنده شيءٌ ليضحّي به.

الدرس الخامس: الصبر

إنّ من مستلزمات اتخاذ موقفٍ بحجم الموقف الحسينيّ- إلى جانب الثبات والاستعداد للتضحية- الصبر. والصبر على اتخاذ الموقف الصحيح أحد مقوّمات نجاحه، فقد يتّخذ المرء موقفاً صحيحاً، لكنّه لا يقدر على تحمّل تبعات هذا الموقف، ومخاطره وصعوباته، وضغوطاته، والتهديدات المترتبة عليه، ولا يمتلك الصبر على ما قدّم من تضحيات، فيضعف ويتوقّف، أو يتخلّى عن موقفه. لذا، فإنّ أهمّ درس قدمه لنا الإمام الحسين والسيدة زينب (عليهما السلام) في كربلاء هو درس الصبر.

 

139


116

الفصل الثالث

دروس الصبر لديكم

إنّنا في لبنان والمنطقة قد استطعنا فهم بعض جوانب الصبر عند الإمام الحسين والسيّدة زينب والإمام زين العابدين (عليهم السلام)، وكلّ من كان معهم بعد الشهادة.

قبل سنوات قليلة، كانت أخواتنا الكريمات العزيزات، ممّن كنّ يحضرن مجالس العزاء، يبكينَ على الإمام الحسين (عليه السلام)، ويبكين لآلام السيّدة زينب  (عليها السلام) ولِما جرى في كربلاء. لقد كان هذا الحزن والبكاء والألم نابعاً من تخيُّل المشهد الحسينيّ واستشعار تلك الأحداث الدامية التي جرت في كربلاء. لكن بعد أن تقدّم الواحدة منهنّ ابنها شهيداً، يختلف حضورها في مجالس العزاء، ويختلف فهمها للألم والحزن، وبالتالي صبرها، عن غيرها ممّن لم تقدّم فلذة كبدها بعد. وكذلك الزوجة التي يُستشهد زوجها، أو البنت التي 

 

140


117

الفصل الثالث

يُستشهد أبوها. فمشاعر سكينة لا تعرفها إلّا من فقدت أباها شهيداً، ومشاعر أم كلثوم لا تعرفها إلّا من فقدت أخاها شهيداً، ولا تعرف مشاعر الرباب أو غيرها من زوجات الإمام الحسين (عليه السلام) إلّا من فقدت زوجها شهيداً، وكذا مشاعر الأم في كربلاء لا تعرفها إلّا من فقدت ولدها شهيداً... وتجتمع هذه المشاعر كلّها في قلبِ السيّدة زينب (عليها السلام)؛ لأنّها فقدت أخاها الحسين (عليه السلام)، وإخوتها، وأبناءها، وأبناء إخوتها وأبناء عمومتها.

نعم، لقد اختلف فهم عوائل شهدائنا للألم والحزن ولما جرى في كربلاء، وصبرهم اختلف كذلك، بل أصبح صبراً حسينيّاً زينبيّاً. هذا الصبر لم يختبره سوى عوائل الشهداء؛ إذ يمكن بسهولة أن يفترض أحدنا مشاعر السيّدة زينب (عليها السلام)، وهي تجلس عند جسد أخيها الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وتقول: «اللّهمّ تقبّل منّا هذا 

 

141


118

الفصل الثالث

القربان»[1]، لكنّ استحضار هذه المشاعر الحقيقيّة، أو جزءٍ منها، لا يعرفه سوى عوائل الشهداء؛ كالأمّ التي يُستشهد ابنها، أو الأخت التي يُستشهد أخوها، فإنّ هؤلاء حقيقةً اختبروا شيئاً من هذه المشاعر، حيث ينبغي الأخذ بالاعتبار مستوى الحبّ والعلاقة العاطفيّة والأخويّة التي كانت قائمة بين الإمام الحسين (عليه السلام) والسيّدة زينب (عليها السلام)، أو بين المولى أبي الفضل العبّاس والسيّدة زينب (عليها السلام)، أو بين هؤلاء الآباء والأبناء والبنات والزوجات والأخوات، وهو مستوى يختلف عن مستوى علاقاتنا العاطفيّة فيما بيننا. ولذلك،

 


[1] عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال، الشيخ عبد الله البحرانيّ، ج 11، ص 958‏.

 

142


119

الفصل الثالث

يوجد لدى السيّدة زينب (عليها السلام) مستوى أعلى من الألم، يترتّب عليه مستوى أعلى من الحزن، ويستلزم مستوى أعلى من الصبر.

جرحانا اختبروا الصبر

وكذلك الحال بالنسبة للجرحى. إنّ الحديث عن ألم الجراح لأي شخص كان، يمكن أن يعطينا صورة افتراضيّة خيالية عن طبيعة الألم، ولكن من قُطعت يده، أو رجله، أو فَقد عينه، أو من أصيب في نواحٍ عديدة من جسده -وهذا حال جرحانا الآن - فإن هؤلاء يعرفون معنى الجراح، ويعرفون مثلاً ماذا يعني أن يصاب الإمام الحسين (عليه السلام) بعدد كبير من الجراحات في جسده، وماذا يعني أن تُقطع يمين العبّاس فيمضي، ثمّ تقطع يساره فيمضي، ثمّ يُصاب في عينه فيمضي وهكذا. هؤلاء الجرحى يعرفون ذلك الألم وتبعاته، وما يستلزمه من صبر.

 

143


120

الفصل الثالث

مجاهدون صابرون

وكذلك اختبر مجاهدونا الصبر، وتحمّلوا الشدائد

والصعوبات؛ إذ قد يفرض عليهم التكليف أحياناً أن يقاتلوا في الصحراء وأن يصبروا على العطش والجوع، أو أن يتعرّضوا للحصار في أكثر من نقطة، وفي أكثر من جبهة. وقد صبر هؤلاء المجاهدون في تلك المواطن، وأيُّ صبرٍ هذا عندما يكون الإنسان في الصحراء أو محاصراً! صبرٌ لا يبدِّل الإنسان معه موقفه؛ لأنّه يعرف ثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، ويعلم عاقبة ذلك الصبر.

أن تكون حسينيّاً يعني أن تكون صابراً، وأن تكوني زينبيّة يعني أن تكوني صابرة؛ الصبر على الألم، والجراح، وفقد الأحبّة، وتحمُّل المخاطر والقلق والتضحيات بلا حدود.

 

144


121

الفصل الثالث

الدرس السادس: الصدق والوضوح

يقدّم لنا الإمام الحسين (عليه السلام) درساً آخر في كربلاء، وهو درس «الصدق والوضوح» من قبل القيادة، و«الرأفة والرحمة» من قِبلها، وبرز في مقابل ذلك «الصدق والوفاء» عند الأصحاب. فعلى سبيل المثال، حينما تقارب المؤسّسات التسلسل الهرميّ الإداريّ- على اختلاف طبيعة العلاقة الماليّة والإداريّة والوظيفيّة التي تربط العاملين فيها- فإنّها لا تأخذ بالاعتبار الاحترام والثقة والحبّ بين المدير والموظّفين، بل تعتمد آليّات العمل التي تفرض وجود مدير أو قائد أو رئيس.

ونجد ذلك أيضاً في التسلسل الهرميّ للجيوش؛ إذ تقسّم كذلك بشكلٍ هرميٍّ معيّن، يضمّ تشكيلات ثابتة، وكلّ من يدخل في هذا السلك العسكريّ محكوم- في نهاية المطاف- بتلك السلسلة الهرميّة، وعليه الالتزام بالضوابط المدرجة بينه وبين قائده، 

 

145


122

الفصل الثالث

ويُسأل فيما لو خالفها، وتُطبَّق عليه العقوبة دون أدنى مراعاة للثقة أو المحبّة أو العلاقة الإنسانيّة والعاطفيّة والوجدانيّة بينهما.

أمّا في الحركة الحسينيّة، وفي أيّ حركةٍ تريد أن تسمّي نفسها حركةً حسينيّة، فيجب أن تقوم العلاقة بين طرفيها (المدير والعامل) على الأسس الحسينيّة نفسها، والتي منها:

١ - عدم تقديم الوعود

لم تكن علاقة الإمام الحسين (عليه السلام) بالناس مبنيّة،

ومن اللحظة الأولى لحركته، على وعود أطلقها، أو مناصب سيعطيها لهم مقابل قيامهم بالثورة على يزيد؛ فلم يعدهم (عليه السلام) بالولايات أو الأموال والوزارات، وغيرها من المناصب، ولا قدّم الوعود بتقديم المناصرين له على غيرهم في أيٍّ من تلك الأمور؛ إذ قد يلجأ بعض القادة إلى 

 

146


123

الفصل الثالث

خداع الناس، والكذب عليهم، وقد يطلقون الشعارات الكاذبة والخادعة، لاستمالتهم إليهم، فيصوّرون لهم السراب ماءً، حتّى إذا انضمّ الناس إليهم، وساروا معهم، يتفاجأون ويصدَمون؛ وهذا ما يؤدّي- أحياناً- إلى انهيارات خطيرة وسريعة.

وفي المقابل، لم يتوعّد (عليه السلام) المتخلّفين عن حركته بأن يعاقبهم على موقفهم. ومن المعروف أن بعض الأحزاب والحركات السياسيّة، وحتى الثورات طوال التاريخ، تعتمد هذا الأسلوب كأحد عناصر الترغيب والترهيب.

درس في المستويات كافّة

إنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) يشكّل درساً لنا على المستويات كافّة. فمهما كانت المسؤوليّة الملقاة على كلّ أخ أو أخت، سواء في العمل أو في إدارة أي جماعة أو مجموعة صغُرت أو كبُرت، وسواء كان عملاً ثقافيّاً، تنموياً، 

 

 

147


124

الفصل الثالث

اجتماعيّاً، مالياً، اقتصادياً، سياسياً أو عسكرياً... لا بدّ من وجود هذا الوضوح في الرؤية بين الأفراد.

 

الإمام الحسين (عليه السلام) قائدٌ لا يَخدع

نعم، لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) واضحاً مع كلّ مَن اتّبعه، ومشى خلفه- وهذا ما نسمّيه الصدق والوضوح والشفافيّة- إلى أن وصل إلى مكّة. حتّى إنّ بعض المؤرخين قد ذكروا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) حينما خرج من مكّة كان معه القليل من الناس. وهنا، كان يمكن للإمام الحسين (عليه السلام) أن يستغلّ الموقف سياسيّاً- بمنطق الدهاء السياسيّ- بأن يقف مودّعاً في مكّة، محاولاً استقطاب أكبر عدد ممكن من الناس للذهاب معه إلى الكوفة، ولكنّه، بدلاً من ذلك، خطب- أثناء خروجه من مكّة- خطبته المعروفة، والتي يقول فيها: 

 

148


125

الفصل الثالث

«خُطّ الموت على وُلد آدم». فلم يستخدم (عليه السلام) منطق السياسة والسياسيّين الدهاة، بل كان (عليه السلام) ذلك القائد الصادق، الذي لا يخدع ولا يكذب، ولا يغيّر الحقائق، ويقول لهم ما يراه؛ ولذلك قال في خطبته تلك: «خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيِّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا»[1]. ها هو الإمام الحسين (عليه السلام) يقول للناس إنّه ذاهب إلى الشهادة، حيث لا وزارات ولا نيابة ولا رئاسة بلدية ولا مديرين عامّين ولا أموال ولا أمن ولا رخاء، بل حصار وجوع وعطش وقتال وشهادة، فمن شاء فليكمل المسير معه.

 

وعلى الرغم من ذلك، كان لدى بعض مَن كان مع الإمام الحسين (عليه السلام) تحليل مختلف؛ إذ

 


[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج ‏44، ص 366.

 

149


126

الفصل الثالث

المبايعين لمسلم- بعض التقديرات تفيد أنّ عدد الرسائل قد وصل إلى 16 ألفاً، ولا نعلم مدى دقّة هذا العدد، كما وصلت الأنباء إلى أنّ عدد المبايعين لمسلم بن عقيل في الكوفة هو 30 ألف مبايع- يعني- بناءً على المعطيات والتحليل السياسيّ- أنّ الأمور ستُحسم لصالح معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)؛ إلى أن جاءت الأخبار باستشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (رضوان الله عليهما)، وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) في منتصف الطريق.

 

إطلاع الناس على حقيقة ما يجري

تذكر كتب التاريخ حادثة مهمّة تضيء لنا على صدق الإمام الحسين (عليه السلام) في قيادته للثورة. ومفاد هذه الحادثة أنّه حينما وصل خبر شهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة- وهو خبر قاسٍ وسيّئ جدّاً، ويغيّر مصير المعركة برمّتها- كان الإمام الحسين (عليه السلام) جالساً مع أهل بيته وبعض أصحابه. طلب ناقل الخبر من الإمام 

 

150


127

الفصل الثالث

الحسين (عليه السلام) أن يحدّثه على انفراد، وكان الإمام (عليه السلام) يعلم مضمون الخبر، لكنّه طلب من ناقله أن يبوح به أمامهم، فهم يجب أن يعلموا كلّ شيء. فأُخبر الجميع باستشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وأنّ عبيد الله بن زياد قد سيطر على الكوفة، ولم يعد للإمام الحسين (عليه السلام) أنصار فيها، وأنّ عليه الرجوع.

 

بعد ذلك الخبر، دار النقاش بين أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) الحاضرين معه، فارتأى بعضهم الرجوع من حيث جاؤوا وعدم المضيّ إلى الكوفة، بينما خالفهم الآخرون[1]، أمّا خيار الإمام الحسين (عليه السلام) فقد كان محسوماً، ومع ذلك لم يمنع الإمام (عليه السلام) الموجودين من التعبير عن آرائهم، ولم يقم بأي خطوة قبل أن يخبر قافلته التي تنتظر في الخارج، بحقيقة ما جرى، حيث خرج (عليه السلام) إلى الناس وأخبرهم

 


[1] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 92.

 

151


128

الفصل الثالث

باستشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وهذا ما تؤكّده كتب التاريخ.

 

٢- الرأفة

بعد أن نشر الإمام الحسين (عليه السلام) خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة[1]، كلّ مَن التحق بالإمام الحسين (عليه السلام) على قاعدة «أقبل يا ابن بنت رسول الله، فإن لك في الكوفة جنداً مجنّدة»، وأنّ العاصمة والمدينة جاهزة، وعشرات آلاف المقاتلين جاهزون، أُسقط في أيديهم. ومع ذلك، لم يلجأ الإمام (عليه السلام) إلى إحراجهم، رأفةً بهم ورحمةً لهم، فلم يخفِ (عليه السلام) عنهم حقيقة ما هم ذاهبون إليه، وأنَّ المسألة في الكوفة تغيّرت مائة في المائة، فقال لهم (عليه السلام): «قد ترون ما يأتينا وما أرى القوم إلّا سيخذلوننا، فمن أحبّ أن يرجع فليرجع»[2]. فالإمام (عليه السلام) بقوله هذا يريد

 


[1]  الإرشاد، الشيخ المفيد، ج ‏2، ص 74.

[2] تاريخ الإسلام، الذهبيّ، ج 5، ص 11.

 

152


129

الفصل الثالث

أن يوضّح حقيقة الموقف لأصحابه وما سينتظرهم، وكأنّه يقول لهم: إذا كان لأحدكم احتمال أن يتبدّل موقف أهل الكوفة إذا ذهبتُ أنا إليهم شخصيّاً، فأنا لا أرى ذلك. فمن أحبّ أن يرجع فليرجع.

بعد أن بيّن الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه حقيقة ما هم ذاهبون إليه، «انصرف عنه الذين ساروا إليه في طريقه، وبقي أصحابه الذين خرجوا معه من مكّة، ونفرٌ قليل من صحبة الطريق، فكانت خيلهم اثنين وثلاثين فرساً»[1].

نعم، هؤلاء هم الذين بقَوا مع الإمام الحسين (عليه السلام) وساروا معه إلى كربلاء، وإن كان قد التحق به (عليه السلام) في الطريق بعض الأنصار بعد هذه الحادثة، لكن هذا هو العدد الإجمالي الذي بقي معه.

 


[1] تاريخ الإسلام، الذهبيّ، ج 5، ص 11.

 

153


130

الفصل الثالث

إذاً، حينما نتحدّث عن القائد الإلهيّ، أو القيادة الصادقة، فإنّنا نتحدّث عن هذا المستوى من الرحمة والرأفة.

 

الإمام الحسين (عليه السلام) يُعفي أصحابه

وممّا يدلّ أيضاً على الوضوح الشديد من قِبَل الإمام (عليه السلام) تجاه أصحابه، ما جرى ليلة العاشر من محرم، حين تكلم (عليه السلام) مع أصحابه بصراحة تامّة، وأخبرهم أنّه سيُقتل غداً، وأنّهم جميعاً سيُقتلون إذا بقَوا معه. وبهذا، يبيّن الإمام (عليه السلام) لأصحابه أنّ من كان منهم ينتظر أن يأتي مَن ينصرهم مِن الكوفة، فهذا أمرٌ لن يحدث- بحسب المعطيات الحسّيّة، وبعيداً عن العامل المعنويّ والغيبيّ المتمثل بقدرة الله على قلب الأمور رأساً على عقب في اللحظة الأخيرة- أو أنّ من كان يراهن على متغيرٍ آتٍ من الكوفة أو ممّن أرسلهم الإمام إلى البصرة، أو أن يُحدث خطاب الإمام تحوُّلاً في جيش عمر بن سعد، فهذا ما لن يحدث أبداً. لقد كان كلام الإمام (عليه 

 

154


131

الفصل الثالث

السلام) معهم واضحاً، «بإمكانكم الذهاب». وهنا يبرز الوضوح والشفافية لدى الإمام الحسين (عليه السلام)؛ إذ إنّه (عليه السلام) لم يعطهم أيّ احتمال مخادع، بل كان واضحاً معهم حول المعركة التي تنتظرهم في اليوم التالي، وكان رؤوفاً بهم رحيماً معهم حينما طلب منهم بعد ذلك الرحيل والعودة؛ لأنّ جيش عمر بن سعد يريده بشخصه، ولن يلاحقهم إذا ما تخلَّوا عنه.

وقد ذكرت هذه الحادثة في كتب التاريخ بصيغ مختلفة:

1 - «بعد الحمد والثناء، أمّا بعد فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوفى من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً (شكرهم، وامتن لهم على لطفهم ونصرتهم وبقائهم، ومدحهم على ما قدّموه)، ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً (غداً الموضوع يُحسم وينتهي الأمر)، ألا وإني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام) أنتم 

 

155


132

الفصل الثالث

مبرَؤو الذمّة(، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً»[1].

2 - وفي نص آخر، بعد أن مدح أصحابه قال (عليه السلام) لهم: «فهذا الليل قد أقبل، فقوموا واتخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم»[2]؛ أي اذهبوا أنتم في أمان حتّى أنهم لن يطلبوا منكم شيئاً بل سيتركونكم.

3 - وفي نص ثالث، قال (عليه السلام) لهم: «وقد نزل بي ما قد ترَون، وأنتم في حلٍّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة [يعني أنّه أحلهم من بيعته]، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وتفرّقوا في سواده، فإنّ القوم إنّما

 


[1] مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزديّ، ص 107.

[2]  الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 95.

 

156


133

الفصل الثالث

يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري»[1].

 

وبعد أن أعفى الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه من البقاء معه، ناقشوه في الأمر، وطلبوا البقاء معه (عليه السلام)، فقال لهم (عليه السلام): «إنّكم تُقتلون غداً، كذلك لا يفلت منكم رجل، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلكم»[2]. هذا هو درس الوضوح والرأفة.

 


[1] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 220.

[2] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج‏ 45، ص 89.

 

157


134

الفصل الثالث

لا نعِد بما لا نقدر عليه

إنّ تطبيق درس الوضوح والشفافية، ودرس الرأفة والرحمة، يجب أن ينعكس في ما نقوم به تجاه الناس في المستويات كافّة، ولو لم تكن نتيجته لصالحنا في بعض الأحيان. ومثال على ذلك، أذكر أنّه في إحدى دورتَي الانتخابات عام 1992 أو 1996، حصل اختلاف في الرأي بيني وبين الإخوة حول تقديم وعود للناس لا نقدر على تنفيذها، وكان الخيار أن نتعلّم من أئمتنا (عليهم السلام). حينها اجتهدت، وأحببت مخاطبة الناس بكلّ وضوح، وكنت في ذلك الوقت أعلم أنّنا لا نستطيع حفر الآبار، ولا تأمين المياه من الدولة؛ لوجود موانع خارجة عن إرادتنا، ولا قدرة لنا على تأمين محوّل كهرباء... وغير ذلك من الخدمات، فقلت للناس في مهرجان خطابي في الضاحية: من كان يريد أن ينتخبنا كي نأتي له بالكهرباء، فلا ينتخبنا، ومن كان يريد أن ينتخبنا كي نحفر له بئر 

 

158


135

الفصل الثالث

له ابنه في الدولة اللبنانية، فلا ينتخبنا. نحن نشارك في الانتخابات لنكون صوتاً للمقاومة في المجلس النيابي، وهناك صعوبات لن تمكّننا من أن نقدم لكم أيّ خدمة- هذا كان في حينه، أما اليوم فالوضع قد تغيّر- فقال لي بعض الأصدقاء حينها: هل تقوم بدعاية انتخابيّة لنفوز في الانتخابات أو لنخسر؟

والجواب: نحن نريد أن نربح ولكن بالصدق، وأن لا نعد الناس بما نعلم أنّنا لا نستطيع أن نحقّقه لهم.

هذا هو درس الشفافية والوضوح، وهذا الدرس يجب أن يكون حاضراً عند كل المسؤولين في المستويات كافّة، وأن يترافق مع الرحمة والرأفة، وألّا نحمّل الناس ما لا يطيقون، ولا نلزم الناس ونضغط عليهم، بل نبيّن موقفنا ورؤيتنا ووجهة نظرنا وتشخصينا للمخاطر والتهديدات، ونطلب من الناس التجاوب، كلٌّ بقدر طاقته.

إن كلمة الوفاء- في عالمنا اليوم- باتت كلمة غريبة جدّاً، لا نسمعها إلّا نادراً، بل- مع الأسف- إذا عمل 

 

 

159


136

الفصل الثالث

أحدٌ ما بوفاء وصدق ينعَت بأنّه شخص بسيط ومغفّل، لا يفهم بالسياسة. وسبب ذلك هو الانحطاط الفكري والثقافي الذي وصل إليه الكثير من الناس. ولكن علينا ألّا نتأثّر بذلك، ونثبت على وفائنا وصدقنا؛ لأنّ «الوفاء» من صلب الديانات السماويّة، ودعوة الأنبياء، والإسلام المحمدي الأصيل.

 

أوفياء للإمام الحسين (عليه السلام)

نعم، لقد كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) أوفياء له، ولم يخدعوه، فهم قد حسموا موقفهم من البداية وبقَوا معه إلى آخر لحظة. لذلك، حينما خطب الإمام (عليه السلام) فيهم عند خروجه من مكّة، لم يتزلزلوا، ولم يتزلزلوا في منتصف الطريق عندما علموا أن مسلماً قد استشهد، ولا حينما وصلوا إلى كربلاء، ولا في ليلة العاشر، واتخذوا مواقفهم المعروفة، والتي تحمل إلى جانب الوفاء، أعلى مستويات الوعي 

 

160


137

الفصل الثالث

والبصيرة؛ إذ لم يكن بقاء هؤلاء الأصحاب مع الإمام الحسين (عليه السلام) مسألة تكليف شرعيّ أو إلهيّ كما ذكرنا في ما سبق؛ لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد أحلّهم من التكليف حينما قال لهم: «أنتم في حلّ من بيعتي، وليس لي في ذمتكم شيء»، بل وشكرهم وكاد أن يتوسل إليهم أن يذهبوا ويتركوه وحيداً. فما الذي أبقى هؤلاء يا تُرى بعد أن سقط تكليفهم بالبقاء مع الإمام الحسين (عليه السلام)؟ إنّه الحبّ، والعشق، والولاء، وصدق العلاقة، والوعي، والفهم، والبصيرة، هذا دنيويّاً.

أمّا على صعيد الحسابات الأخرويّة، فقد وجدوا أنفسهم أمام فرصة تاريخيّة ذهبيّة، إنّها فرصة الإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ إذ من أعظم نعم الله على عبد من عبيده أن يقاتل بين يدي ولي الله (عليه السلام) وتحت قيادته. إنّهم كانوا يعرفون هذه النعم الإلهيّة ويقدّرونها ويشكرون الله عليها، ولذلك قالوا للإمام الحسين (عليه السلام) بعد طلب 

 

161


138

الفصل الثالث

الرحيل منهم: «أنبقى بعدك؟ لا طيَّب الله العيش بعدك يا حسين».

 

التسابق للقتال بين يدي ولي الله

لقد شهدت واقعة كربلاء ما هو أعظم من الوفاء، ألا وهو التسابق إلى نصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، والقتال بين يديه. في العادة يتنافس الناس على السلطة، والزعامة، والمناصب، والمال والشهوات...إلخ. أمّا هؤلاء الأنصار فقد تنافسوا فيما بينهم على الشهادة بين يدي سيّد الشهداء (عليه السلام)، فكلٌّ يريد أن يكون أوّل من يفديه (عليه السلام) بنفسه وينال شرف أن يكون أوّل شهيد ارتقى بين يديه (عليه السلام). وكذلك ظهر التنافس أيضاً- كما في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله)- بين أهل البيت والأصحاب. فقد كان مع الإمام الحسين (عليه السلام) من أهل بيته: إخوته، وأبناء إخوته، وأبناء عمّه عقيل وعمّه جعفر، وكان معه من الأصحاب: حبيب بن مظاهر، مسلم بن عوسجة، زهير بن القين وفلان وفلان. تنافس 

 

162


139

الفصل الثالث

الأصحاب فيما بينهم، وأهل البيت فيما بينهم، حتّى وصل الأمر بالإمام الحسين (عليه السلام) إلى أن يقول لهم: «صبراً على الموت يا بني عمومتي».

 

وساطة في الشهادة

بعد معركة جرود عرسال «وإن عدتم عدنا»، حدثني بعض الإخوة عن وجود وساطات في حزب الله يجب معالجتها، فطلبت منه أن يعطيني مثالاً على ذلك، فقال لي إنّ بعض الآباء يجرون وساطات لإرسال أبنائهم إلى الجبهة، أو أنّ أحد الإخوة اصطحب ابنه معه إلى الجبهة، وهذا يخالف الضوابط، فقلت له: بارك الله في الوساطات التي يسعى فيها الأب لإرسال ابنه إلى الجبهة! فهذه الوساطات ليست سوى للتضحية والشهادة. إنّي أسمّي هذه الوساطات تسابقاً نحو الشهادة ولقاء الله سبحانه. وهذه الروحية مطلوبة، وهي من الدروس المهمة التي نستلهمها من عاشوراء.

 

163


140

الفصل الثالث

لتكون حسينيّاً، ولتكوني زينبيّة

من أراد أن يكون حسينيّاً، أو من أرادت أن تكون زينبيّةً، عليهما تحمل المسؤوليّة، واتخاذ الموقف الصحيح، في الوقت الصحيح، والثبات على الموقف، والاستعداد للتضحية، والصدق والوضوح والشفافيّة، والوفاء والتنافس في الخيرات، والسباق إلى الجبهات، والحضور في الخطوط الأماميّة، والعطاء والتحدّي. وهذه بعضٌ من صفات الإمام الحسين (عليه السلام) والحسينيّين، وبعضٌ من صفات زينب (عليها السلام) والزينبيّات.

 

164


141

الفصل الرابع

في هذا الفصل، سنكمل الحديث عن بعض القيم التي نستقيها من كربلاء، وهي كالآتي:

١- الشجاعة

حينما نتحدّث عن مجموعة من القيم التي تجسدت في كربلاء، فإنّنا لا بد من أن نبدأ بقيمة «الشجاعة». والحديث عن الشجاعة يبدأ من الموقف الأول للإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة؛ برفضه (عليه السلام) البيعة ليزيد أيّاً يكن الثمن.

هذا الموقف الذي اتخذه سيّد الشهداء (عليه السلام) لا يمكن لجبانٍ أو لخائفٍ أنْ يتّخذه، حتّى ولو كان مؤمناً بما يفعل، وإنّما مَن يتّخذ ذلك الموقف هو المؤمن الشجاع. لقد أطلق الإمام الحسين (عليه السلام) موقفه ذاك، ومضى في طريقه إلى مكّة ومنها إلى كربلاء.

 

168


142

الفصل الرابع

أبطالٌ شجعان

في يوم العاشر من محرم، وفي صحراء كربلاء، كان عدد جيش الإمام الحسين (عليه السلام) يبلغ 72 [1]. وهذا العدد لا يسمّى جيشاً إلّا مع شيء من التسامح؛ إذ كان معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) يضمّ بعض أهل بيته وعدداً من أنصاره، ومعهم عدد من النساء، وكانوا مكشوفين ومحاصرين. أمّا الجيش الذي يحاصرهم فقد كان عدده- على أقل تقدير- خمسة آلاف مقاتل. وقد ذهب بعضٌ للحديث عن أرقام وصلت إلى 100 ألف مقاتل، لكن الرقم المنطقيّ الذي يتناسب وينسجم مع حجم مدينة الكوفة، وحجم المعركة والتحدّي، يتردّد بين 25 و30 ألفاً[2]. ضمّ هذا الجيش آلاف الفرسان المجهّزين بأحدث الأسلحة المتاحة آنذاك؛ إذ كان الفرس- وقتها- بمثابة الآليّة العسكريّة، مضافاً إلى امتلاكهم الرماح التي تُرمى

 


[1]  إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسيّ، ص 241.

[2]  مثير الأحزان، ابن نما الحلّيّ، ص 54.

 

169


143

الفصل الرابع

عن بُعد، والسهام، والحجارة. هؤلاء كلّهم كانوا مقابل 72 شخصاً، بينهم 32 فارساً، ومعهم بعض النبال والسيوف والرماح.

ومع أنّ نتيجة معركة كهذه محسومة سلفاً، وأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد أخبر أصحابه ليلة العاشر أنّه سيُقتل غداً، وأنّهم مقتولون لا محالة أيضاً، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الإنسان بطبيعته البشريّة في ظروف من هذا النوع ترتعد فرائصه، ويضطرب قلبه، ويخاف ويضعف، لكنّ أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا شجعاناً، بل كانوا في أعلى مستويات الشجاعة؛ إذ في كربلاء قد وصلت كل القيم إلى أعلى مراتبها، فالتضحية والكرم، والإخلاص، والتوكل، والرضا، والشجاعة كانت جميعها في أعلى المستويات.

وعليه، وقف هؤلاء الـ72 شخصاً مقابل عشرات الآلاف، وثبتوا ولم ينهاروا ولم يهربوا، بل قاتلوا قتال الأبطال الشجعان، أصحاب القلوب المطمئنّة، 

 

 

170


144

الفصل الرابع

والأعصاب القويّة، وكانوا في أعلى مستويات الشجاعة.

 

شجعان مبارزون

دامت معركة كربلاء بضع ساعات ليس أكثر. وهذا ما يُستفاد من كتب التاريخ، والتحليل المنطقيّ لمجريات المعركة.

بدأت المعركة بالمبارزة الفرديّة، فكان- كما كان يحصل في المعارك آنذاك- يبرز الرجل ويرتجز ويطلب مَن يبارزه من الأعداء، لكن حينما رأى العدوّ أنّ المبارزة الفرديّة تُظهر تفوّقاً نوعيّاً لدى أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، وستنتج عنها آثار معنويّة سيّئة جدّاً على جيشه، مع تعاظم خسائره، أعطى عمر بن سعد قراراً بالقيام بهجوم شامل. وقد كان مقدراً لهذا الهجوم أن يأتي على أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) بأجمعهم، ولكنه لم يستطع ذلك رغم سقوط أغلب أصحاب الإمام (عليه السلام) شهداء. لذا، أوقف عمر بن 

 

171


145

الفصل الرابع

سعد الهجوم، لتعود المواجهة كما بدأت بالمبارزة الفرديّة، التي انتهت بخروج حبيب بن مظاهر، ووصول الدور لأهل البيت (عليهم السلام): علي الأكبر، والقاسم، إلى أن انتهى الأمر إلى العبّاس والإمام الحسين (عليهما السلام).

 

شجاعة قلَّ نظيرها

أيُّ نوعٍ من الشجاعة والصلابة كان لدى هؤلاء المقاتلين؟! فحينما نتحدّث عن العبّاس (عليه السلام)، نجد أنّه وقف مقابل 10 آلاف فارس، وحمل السيف والراية وتوجّه لخوض معركة بهذا الحجم للوصول إلى الماء. ولو لم يكن العبّاس (عليه السلام) شجاعاً لما وقف موقفه ذاك، مهما امتلك من إيمان ورضا وتسليم. وكذلك عند الحديث عن الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّ لنا أن نتصور شخصاً قُتل إخوته وأولاده وأصحابه، ولم يبق معه أحد، وهو الذي خذله أهل الكوفة، وتركوه، وحاصروه، ثمّ يقف وبكلّ صلابة، لا يسلّم نفسه للسيوف، بل يقاتل- رجل مقابل 10 

 

172


146

الفصل الرابع

آلاف- ويواجه، ويقتحم، ويدافع ويُغير. أين لنا أن نجد شجاعة بهذا النوع في الدنيا، أو في التاريخ؟

 

ما رأيتُ إلّا جميلاً

لقد كانت الشجاعة صفة ثابتة لجميع من كان مع الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء: مَن استشهد قبل الإمام الحسين (عليه السلام)، أو مَن بقي بعد شهادته (عليه السلام). فالسيدة زينب (عليها السلام)، التي وقفت مسبيّة في قصر ابن زياد في الكوفة، تاركةً خلفها أجساد أحبّائها، فيما رؤوسهم موضوعة أمام عينيها، تقف وتجيب بذاك الجواب الذي يحفظه اليوم عوائلُ شهدائنا، وخاصّةً الأمّهات والأخوات والزوجات، حينما سألها ابن زياد- المدجّج بالسلاح والحرّاس والمقاتلين الأشدّاء، وبعد كل ما لقِيتْه من أهل الكوفة-: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فأجابته (عليها السلام): «ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينكم وبينهم فتحاج 

 

173


147

الفصل الرابع

وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة»[1].

 

هل ثمّة امرأة في الكون، حالها كحال السيّدة زينب (عليها السلام)، تقف بين يدي طاغيةٍ مستبدٍّ سفّاكٍّ سفّاحٍ، وتجرؤ على قول هذا الكلام؟ هذه هي زينب (عليها السلام)، التي في لحظةٍ لخّصت في جملةٍ واحدةٍ كلّ هذا الفهم، والوعي، والمعرفة، والعلم، والعرفان، والرضا، والتسليم، والجرأة، والشجاعة، والثبات، والقوة، والصلابة... إلخ.

 

إنّي لأستصغر قدرك

من المواقف التي تشهد على شجاعة سيّدتنا (عليها السلام) وبطولتها، تلك الخطبة الشهيرة التي ألقتها (عليها السلام) في قصر يزيد، فقد بدر منها (عليها السلام) بعد رحلة السبي الطويلة- حيث ينكسر الإنسان لأدنى إهانة أو إساءة، أو نتيجة تهجيره أو تعرُّض ممتلكاته أو محيطه

 


[1]  اللهوف على قتلى الطفوف، السيّد ابن طاووس، ص 161.

 

174


148

الفصل الرابع

للقصف والضياع- كلّ تلك المواقف والكلمات التي خاطبت بها يزيد، ذلك الخليفة الذي يجلس في قلب الشام، ويحيط به كلّ وزرائه وزبانيته وجماعته، ورأس الإمام الحسين (عليه السلام) موضوع أمامه، تقف زينب (عليها السلام) وتخطب إلى أن تقول: «أمن العدل يا ابن الطلقاء- تذكّره بحقيقته السياسيّة والفكريّة- تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ...»[1]. هذه الكلمات لا تصدر إلّا عن إنسان يمتلك الشجاعة وقوّة القلب بمستوى السيّدة زينب (عليها السلام)، وهي التي تعرف أنّ يزيد هو مَن أمر عبيد الله بن زياد. وتقول (عليها السلام) في مقطع آخر: «فوالله، ما فريت إلّا جلدك، ولا حززت إلّا لحمك، ولتردنّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دم ذريّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته»[2]. وتقول (عليها السلام) أيضاً: «ولئن جرّت عليّ الدواهي

 

 


[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 45، ص 134.

[2] لواعج الأشجان، السيّد محسن الأمين، ص 229.

 

175


149

الفصل الرابع

مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك»[1].

 

إنّها جبل الصبر، حيث لا محلّ للوهم، أو الخوف، أو التردُّد، حيث تختُم (عليها السلام) خطبتها بالشجاعة نفسها، وبالوعي نفسه، وبالمعرفة والفهم والعرفان، قائلة: «فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد؟»[2].

 

القتل لنا عادة

كما الإمام الحسين والسيّدة زينب (عليهما السلام)، كذلك كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) في أعلى مستويات الشجاعة، وإنْ لم يكن تكليفه أن يقاتل في كربلاء ولا أن يستشهد في الصحراء، بل

 


[1] اللهوف على قتلى الطفوف، السيّد ابن طاووس، ص 161.

[2]  بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 45، ص 135.

 

176


150

الفصل الرابع

كان تكليفه إنجاح مشروع الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنّ من شروط نجاح هذا المشروع هو بقاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) على قيد الحياة، وإلّا فإنّه (عليه السلام) لا يقلّ شجاعة عنهما (عليهما السلام). ولقد تجلّت شجاعة الإمام زين العابدين (عليه السلام) بوضوح بجوابه (عليه السلام) لابن زياد حينما هدّده بالقتل قائلاً له: «أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة؟»[1].

 

أنا ابن مكّة ومنى

وتظهر شجاعته (عليه السلام) أيضاً حينما طلب (عليه السلام) من يزيد الكلام في مسجد الشام، عندما اجتمع الناس للصلاة بحضور يزيد، عندئذٍ اختلف القوم في السماح له (عليه السلام) بالتحدُّث من عدمه، فرأى بعضهم أنّه شابّ- وكان (عليه السلام) في الخامسة والعشرين

 


[1] في مجلس ابن زياد يقول (عليه السلام): «وكرامتنا الشهادة». ويقول في محضر الأصحاب الذين جاؤوا لتعزيته: «وكرامتنا من الله الشهادة».

 

177


151

الفصل الرابع

من عمره على أعلى تقدير- مكسور القلب، والده مقتول، وعائلته مسبيّة، فما الضَير في أن يتكلم؟ وأيُّ كلام يُتوقَّع أن يصدر عن شخص يعيش هذه المحنة؟ فأذنوا له. عندها صعد الإمام (عليه السلام) المنبر وخطب: «أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا...»[1]. يريد الإمام (عليه السلام) بذلك أن يعرِّف الناس أنّه ابن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وابن خديجة الكبرى (عليها السلام)، وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وابن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وابن الإمام الحسين (عليه السلام)... عندها ضجّ المسجد، ومعه دمشق، حيث لم يتحمّل الناس ذلك الأمر، فيزيد وبنو أميّة كانوا قد قالوا للناس إنّ هؤلاء سبايا وخوارج، ولم يقولوا إنّهم أولاد النبيّ وبناته وأحفاده (صلى الله عليه وآله). بعدما بدأ الإمام (عليه السلام) بفضح يزيد وأعوانه. كان عليهم إسكاته، فطلبوا من المؤذن أن يرفع الأذان، فرفعه: الله أكبر، الله أكبر... وعندما

 


[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 45، ص 138.

 

178


152

الفصل الرابع

وصل إلى «أشهد أنّ محمّداً رسول الله»، قال الإمام (عليه السلام) ليزيد: «محمدٌ هذا جدّي أم جدُّك؟ فإن قلت: جدُّك، فقد كذبت[1]، وإن قلت إنّه جدّي، فلِمَ قتلت عترته؟»[2]. إنّها- حقيقةً- من أعلى مستويات الشجاعة، خاصةً في ذلك المكان والزمان والظروف.

 

بالتربية تحصل الشجاعة

فأن تكون حسينيّاً يعني أن تكون شجاعاً كما كان الإمام الحسين (عليه السلام) شجاعاً، وأن تكوني زينبيةً يعني أن تكوني شجاعة كما كانت السيّدة زينب (عليها السلام) شجاعة.


 


[1] أغلب النصوص ينقل: «فقد كذبت»، وبعضها ينقل: «فقد كذبت وكفرت».

[2]  الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 133.

 

 

179


153

الفصل الرابع

والشجاعة لا تأتي بالوراثة فقط، بل تأتي كذلك بالتربية، تماماً كمَن يريد تعلُّم قيادة السيارة على سبيل المثال، فإنّه حينما يجلس وراء المقود للمرّة الأولى، يخاف ويرتجف، ويخشى من حصول حادث أو اصطدام، لكن مع الممارسة تصبح قيادة السيارة أمراً سهلاً وبسيطاً بالنسبة لديه. كذلك الأمر حينما يريد أحدنا ركوب الفرس، فإنّه في البداية يتهيّب الموقف، ويخاف الوقوع، فيتدرّب ويتمرّن، فيصبح الأمر سهلاً عليه. وكذلك أيضاً حينما تُستخدم الذخيرة الحيّة أثناء تدريب الشباب على القتال، وتُطلق النيران بين أقدامهم وفوق رؤوسهم، وفي المناورات العسكريّة، مع ما يتخلّل تلك المناورات من قصف وتفجير؛ وهذا كلّه يؤثّر في تقوية جانب الشجاعة والتقليل من حواجز الخوف.

 

180


154

الفصل الرابع

الولد. ولا شكّ في أنّ كربلاء محطّة نتعلّم منها، إلى جانب كلّ الدروس التي نتعلّمها منها، درس «الشجاعة». فهي مدرسة نربّي فيها جيلاً شجاعاً من الأبناء والبنات، الكبار والصغار. فعلى الرغم من الشجاعة العالية التي يتحلّى بها جيلُ اليوم، لكنّ ظروف التربية- خصوصاً مع النظر إلى المدى البعيد- يغلب عليها طابع المدنيّة، حتّى القرى أصبحت كالمدن، وتقلّصت المساحات التي يمكن للأطفال اللعب فيها وممارسة النشاط البدنيّ؛ إذ إنّ الطبيعة وصعوبتها تجعلان الإنسان صلباً قويّاً شجاعاً.

نعم، بإمكان الأمهات والآباء تربية أولادهم ليصيروا شجعاناً، حتّى لو اعتبروا أنّ الشجاعة مسألة وراثيّة، فهم قادرون من خلال التربية أن يجعلوا من ابنهم فتىً شجاعاً ومن ابنتهم فتاةً شجاعة. ففي هذا العالم، وعلى طول التاريخ، وفي أيّامنا خاصّة، لا مكان للجبناء، ولا حياة للجبناء، ولا كرامة ولا عزّة ولا شرف للجبناء، فالأقوياء يَسحقون كلّ من كان ضعيفاً، ولذلك من شروط 

 

 

181


155

الفصل الرابع

الحياة العزيزة والكريمة والقوية أن يكون الناس شجعاناً، وأن يتّصف المسؤولون والقادة والرجال والنساء والآباء والأمّهات والصغار والكبار بهذه الصفة. وهذه مسؤوليّة علينا جميعاً، ويبنغي إدخالها في برامجنا التربويّة.

 

٢ - التعاطي الإنسانيّ

إنّ الاتصاف بالشجاعة لا بدّ من أن يترافق مع مجموعة من الضوابط والمسؤوليّات. فنحن عندما نريد تربية إنسان شجاع، علينا تربية إنسان نبيل، وكريم، وخلوق، وليّن الجانب؛ إذ الشجاعة والعناد والصلابة وحدها، قد تدفع الإنسان إلى الاعتداء على الناس بدلاً من حمايتهم والدفاع عنهم، وقد تدفعه إلى سلب الناس أموالهم بالقوّة وتحت التهديد، وإلى سرقة البنوك، وإلى الأخذ بالثأر... بدلاً من أن نرى هذه الشجاعة في الجبهات ومحاور القتال...

 

182


156

الفصل الرابع

الحياة العزيزة والكريمة والقوية أن يكون الناس شجعاناً، وأن يتّصف المسؤولون والقادة والرجال والنساء والآباء والأمّهات والصغار والكبار بهذه الصفة. وهذه مسؤوليّة علينا جميعاً، ويبنغي إدخالها في برامجنا التربويّة.

 

٢ - التعاطي الإنسانيّ

إنّ الاتصاف بالشجاعة لا بدّ من أن يترافق مع مجموعة من الضوابط والمسؤوليّات. فنحن عندما نريد تربية إنسان شجاع، علينا تربية إنسان نبيل، وكريم، وخلوق، وليّن الجانب؛ إذ الشجاعة والعناد والصلابة وحدها، قد تدفع الإنسان إلى الاعتداء على الناس بدلاً من حمايتهم والدفاع عنهم، وقد تدفعه إلى سلب الناس أموالهم بالقوّة وتحت التهديد، وإلى سرقة البنوك، وإلى الأخذ بالثأر... بدلاً من أن نرى هذه الشجاعة في الجبهات ومحاور القتال...

 

182


157

الفصل الرابع

ولنلتفت جميعاً إلى أنّ الموقف الذي علينا أن نُظهر شجاعتنا فيه هو ذلك الموقف الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى؛ فإننّا تعلّمنا وما زلنا نتعلّم النبل والشرف من نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، وديننا، وقرآننا، وأئمّتنا (عليهم السلام).

 

هذا خُلُق الحسين (عليه السلام)

في طريقه إلى كربلاء، طلب الإمام الحسين (عليه السلام) ممّن كان معه التزوُّد بالماء قدر المستطاع- مع ملاحظة أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يطلب مثل ذلك في المنازل السابقة التي مرّ بها-، فامتثل الجميع طلبه (عليه السلام)، وقاموا بالتزوُّد بالماء. ولمّا وصل (عليه السلام) إلى مكانٍ قريب من كربلاء، ظهر له جيش الحرّ، ومنعوه من المسير إلى الكوفة، وجعجعوا به إلى كربلاء[1].

 


[1]  انظر: الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 4، ص 51.

 

183


158

الفصل الرابع

بقي النقاش بين الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، وبين الحرّ وجيشه أيّاماً، فلم يبقَ مع الحرّ ماء، وعطشَ هو وجيشه ودوابُّهم (خيولهم وبغالهم)، فطلب الإمام الحسين (عليه السلام) من أصحابه أن يسقوه وجيشه الماء- وهو العدوّ الذي أتى ليقطع على الإمام (عليه السلام) الطريق، ويجعجع به إلى صحراء قاحلة، مانعاً عنه الماء-، وأن يرشفوا خيولهم كذلك؛ بأن يضعوا القليل من الماء على أفواهها؛ إذ لم يكن لديهم ما يكفي من الماء لسقاية الخيل.

وثمّة موقف آخر يقابل هذا الموقف، ففي كربلاء لم يطلب الإمام (عليه السلام) الماء لنفسه، بل طلبه للنساء والأطفال العطاشى بعد أنْ طلبوه منه، فقوبل طلبه (عليه السلام) بالرفض، ولم يُقدَّم لهم قطرة ماء واحدة[1]. وهذا يظهر أخلاق الإمام

 


[1] تاريخ الطبري، الطبري، ج 4، ص 312.

 

184


159

الفصل الرابع

الحسين (عليه السلام) وأخلاق عبيد الله بن زياد ويزيد.

 

الإمام علي (عليه السلام) يسقي معاوية وجيشه

في معركة صفّين، كان جيش معاوية قد سبق جيش الإمام علي (عليه السلام) إلى أرض المعركة، وسيطر على منابع الماء. وحينما وصل جيش الإمام علي (عليه السلام) إلى صفّين، لم يكن معهم ماء، وكانوا عطاشى، فأرسل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يفاوض معاوية على أنْ يبقى الماء مناصفةً بين الجيشَين، فلم يقبل معاوية بذلك؛ لأنّ دهاءه كان يفرض عليه ذلك؛ فهو كان يظنّ أنّه بعمله المسيّس هذا، وبابتعاده عن القيم والأخلاق، سوف يربح المعركة. وبعد أن وقع قتالٌ شديدٌ بين الطرفين، كشف جيش الإمام عليّ (عليه السلام) جيش معاوية عن الماء، وأصبحت منابع الماء عند الإمام عليّ (عليه السلام)، فأرسل معاوية يفاوض الإمام عليّاً أن يسقيهم الماء، فسقاهم الإمام (عليه السلام).

 

185


160

الفصل الرابع

التزامنا يفرض ذلك

وهذا هو الفرق بين مَن يلتزم بالدين وبقيمه، وبالقرآن، وبالنبي (صلى الله عليه وآله) وبين من لا يلتزم بذلك، بل يكون مجرّد جهة سياسيّة محضة ليس لها أيّ خلفية فكرية أو ثقافية أو أخلاقيّة أو دينيّة. ففي الأخلاق السياسيّة السائدة اليوم قد يصبح الإمام (عليه السلام) مخطئاً؛ لأنّه لم يكن مثل معاوية، وأنّ «الشطارة» أن تكون مثل معاوية، وأن تدع أعداءك يموتون عطشاً، لتتمكّن من التغلب عليهم! هذه هي أخلاق اليوم.

 

أمّا نحن، فإنّنا ننتمي إلى مدرسة تجسّد «القيم الأخلاقيّة»، ونلتزم بها، وندعو الآخرين إلى الالتزام بها. وعليه، يجب أن تكون تلك القيم ماثلة أمامنا في أفعالنا وتصرُّفاتنا وثقافتنا وفهمنا وسلوكنا، ومعبِّرة عن انتمائنا إلى مدرسة محمد وأهل بيته (عليهم السلام) وقِيَمها من جانب، مقابل 

 

186


161

الفصل الرابع

مدرسة بني أميّة وقيمها من جانب آخر؛ فلنختر أيَّ المدرستين نريد، وأيَّ تصرُّف ننهج: تصرُّف معاوية ويزيد، أم تصرُّف عليّ والحسين (عليهما السلام).

 

النبي (صلى الله عليه وآله) مرآة الإسلام

حينما نقول إنّنا ننتمي إلى نبيّ الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله)، ونؤمن بأهل بيته (عليهم السلام)، ونسير في خطّهم وطريقهم، يجب أن يكون للقيم الأخلاقيّة وللتعاطي الأخلاقيّ وللسلوك الأخلاقيّ مكانها الطبيعيّ لدينا. فقد يعترض علينا بعض الناس بأنّ ما نقوم به في السياسة يسمّى «طيبة قلب»، و«بساطة»، وقد تكون عبارات بعضهم أكثر قسوةً من ذلك. ولكن ما يعنينا نحن هو مسيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، الذين نسير على طريقهم وعلى دربهم ونتعلّم منهم، نتلّعم منهم أنّ الالتزام بالأخلاق والأحكام والقوانين يجب أن يكون حاضراً حتّى في الحروب. انظروا كيف كان يتعامل 

 

187


162

الفصل الرابع

النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع الأسرى والجرحى، والمهزومين الهاربين، في كلّ معاركه- من بدر إلى آخر معركة، وبينها فتح مكّة-، فإنّه (صلى الله عليه وآله) لم يقتل جريحاً أو يعدم أسيراً، ولم يحرق بيتاً، ولم يقطع شجرة لهم.

هذا النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو الحجّة على كل المسلمين، فمَن يمثّل الإسلام هو النبيّ (صلى الله عليه وآله) وليس «داعش»، وليست الوهابية، ولا جبهة النصرة، بل الإسلام هو الإسلام الذي مارسه النبيّ والصحابة والمهاجرون والأنصار وأهل البيت (عليهم السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله). إذاً، هذه القيم علينا أن نتعلّمها وندرسها ونراجعها ونطبّقها.

 

٣ - الإيثار

الإيثار من القيم الأخلاقيّة الإنسانيّة العظيمة، التي جاءت

 

188


163

الفصل الرابع

الأديان لتؤكّد عليها. والإيثار هو أن يقدِّم الإنسان غيره على نفسه، وهو مغاير للمشاركة؛ فالمشاركة كما لو كنت أمتلك كتابَين، وأرسلت نسخة منهما لغيري، واحتفظت بنسخة لنفسي، وهذا أمرٌ حسن ومطلوب، بينما الإيثار هو أن أجد شخصَين يحتاجان إلى الكتابين، فأرسل لهما الكتابَين وأحرم نفسي، مع حاجتي أيضاً إلى نسخة من هذين الكتابَين. هذا هو الإيثار. والإيثار أيضاً من قبيل أن يحصل الإنسان على طعام لذيذ فيقسمه بين جيرانه وأصدقائه.

إيثار أهل المدينة

بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنوّرة، مارس أهلها الإيثار حينما حلّ المهاجرون في ديارهم. ولذلك، امتدحهم الله سبحانه وتعالى في القرآن بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَٰنَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ 

 

189


164

الفصل الرابع

إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةٗ مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٞ﴾[1].

 

والأنصار لم يتعاملوا- فقط- كما يُتعامل مع المهجّرين والنازحين من بيوتهم في الحرب؛ من استقبالهم في بيوتهم ومشاركتهم أملاكهم وطعامهم وشربهم، بل بعضهم كان له إيثار أكبر؛ إذ خرجوا من بيوتهم، وأعطوها للمهاجرين، ولم يقتصروا على مشاركتهم ومواساتهم، بل قدّموا كلّ ما يملكون، وعادوا ليبدأوا تأسيس حياتهم من البداية.

 

إيثار رسول الله (صلى الله عليه وآله)

الإيثار من أعظم القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة التي تحلّى بها أنبياء الله عزّ وجلّ، والأئمة والأولياء وأتباعهم (عليهم السلام)، وأوصى بها الإسلام والقرآن والأحاديث الشريفة. فقد ورد في بعض الأحاديث أنّه أفضل العبادة وأفضل السيادة وأعظم الكرامة. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه

 


[1] الخصاصة: الفقر والحاجة، سورة الحشر، الآية 9.

 

190


165

الفصل الرابع

وآله) في المدينة يقبل الهدية، ولكنّه لم يكن يرسلها إلى منزله، بل يرسلها إلى بعض أصحابه أو إلى بعض الفقراء والأيتام، فهو قَبِلَ الهدية، ولكن آثر بها الناس على نفسه.

 

إيثار أهل البيت (عليهم السلام)

يُخلِّد الله سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم، صورةً من صور الإيثار في سورة «هل أتى» أو «الإنسان». هذه السورة تُعظِّم وتُجلّ هؤلاء المؤثرين على أنفسهم. ومن المُجمع عليه لدى المفسّرين أنّ هذه السورة قد نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)،﴿وَيُطعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطعِمُكُم لِوَجهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُم جَزَاءٗ وَلَا شُكُورًا﴾[1]. والقصّة هنا لم تكن فقط قصّة إطعام، بل كانت أعلى مستوى من مستويات الإيثار، فقد أعطَوا كل ما كان جاهزاً من طعامهم لليتيم

 


[1] سورة الإنسان، الآيتان 8-9.

 

82


166

الفصل الرابع

والأسير والمسكين وبقي لديهم الماء، ولو لم يكن لديه الماء لأعطوه الماء أيضاً، وحين نقول كل ما كان لديهم، أي بعض أقراص الشعير. وقد أعطوه إفطارهم في اليوم الأول، وأعطوه إفطارهم في اليوم الثاني، وأعطوه إفطارهم في اليوم الثالث، عائلة بكاملها زوج وزوجة وشابان صغيران صاموا ثلاثة أيّام مفطرين على الماء. فالقصّة ليست قصّة قرص وماء وطعام؛ بل هي تُبرز هذه المشاعر الإنسانيّة، والأخلاق، والقيم، والجود، والكرم. ولذلك، استحقوا هذه السورة وما وعدهم الله سبحانه وتعالى فيها على هذا الإيثار العظيم.

 

إيثار على طريق كربلاء

يتجلّى الإيثار بأبهى صوره في أحداث واقعة كربلاء كلّها، وليس فقط إيثار المولى أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، وإن كان له (عليه السلام) موقف مميّز في الإيثار.

 

192


167

الفصل الرابع

ونحن في زماننا أيضاً لدينا مجاهدون، وشهداء، وعوائل شهداء، وجرحى، ومضحّون، كلّهم من أهل الإيثار. لماذا؟ لأنّ هؤلاء المجاهدين قد تركوا بيوتهم وزوجاتهم وأطفالهم وعائلاتهم وأصدقاءهم، وذهبوا إلى الحدود أو إلى الصحراء أو إلى الجبال أو التلال، ليقاتلوا ويُعرّضوا أنفسهم لخطر الموت، من أجل أن يأمن الناس، وأن يُبعد الخطر عنهم، وأن يشعروا براحة البال، وأن يذهبوا إلى أعمالهم، ويحصلوا على رزقهم، ويعيشوا بهناء. هذا من أسمى أنواع الإيثار، سواءٌ ختم لهؤلاء المجاهدين بالشهادة أو أصيبوا بالجراح أو عادوا سالمين معافين.

 

أُقدِّمه ولو كان وحيداً

تبرز فضيلة الإيثار لدى الكثير من الأهل في مجتمعنا المقاوم، وذلك حينما تُقدم الأمّ والأب على إرسال ولدهما الوحيد إلى الجبهة، فلقد وصلنا الكثير من الرسائل التي تكتبها الأمّ والأب ويوقّعانها معاً، ويتوسّلان السماح بإرسال ولدهما 

 

193


168

الفصل الرابع

الوحيد إلى الجبهة. فأنْ تؤثر الأمّ والأب أولاد الناس على ولدهما، وحياة أولاد الناس على حياة ولدهما، وهناءة أولاد الناس على هناءة ولدهما، ويرسلاه إلى الجبهة، لهو بحقّ من أبرز مصاديق الإيثار.

وفي السنوات الأخيرة، لدينا عشرات الشهداء، كانوا أولاداً وحيدين، ذهبوا إلى الجبهة برضا أهلهم (الأمّ والأب)، وبتوقيع خطّي منهما. وكذلك لدينا الكثير من

الجرحى ممّن أصيب بالجراح أكثر من مرّة، وكان يعود بعد كلّ مرّة إلى الجبهة، وهو يؤثر أن تعيش الناس حياتها الطبيعيّة بينما هو يعيش آلامه ومعاناته وصعوباته هو وعائلته. هذا هو الإيثار.

 

الإيثار: درسُ العبّاس (عليه السلام)

هذا درس العبّاس (عليه السلام) الذي علينا أن نتعلّمه جميعاً، ولا نكتفي بوجوده ضمن مجموعة 

 

194


169

الفصل الرابع

محدّدة من الناس. فالإيثار قيمة إنسانيّة وأخلاقيّة ودينيّة يجب أن تنتشر في المجتمع. والإيثار يعني أن يتخلّص الإنسان من الأنانيّة، التي تدعو صاحبها إلى أن يحتكر ويطوّع كل شيء لسعادته، وراحته، وعائلته وأولاده، أمّا راحة الناس وأمنهم وعيالهم فلا علاقة له بهم إن ماتوا أو عاشوا، إن أكلوا أو شربوا أو جاعوا، إن أمنوا أو خافوا، ولا يهمّه أن يموتوا أو يُقتلوا! وهذا النموذج موجودٌ مع الأسف.

حينما طُلب من العبّاس الإتيان بالماء للأطفال والنساء يوم العاشر، ووصل إلى المشرعة بعد أن تكبّد

عناء ذلك، وقف على حافّة النهر، وقد كان قلبه عطشاناً كباقي العطاشى في معسكر الإمام الحسين (عليه السلام). ماذا فعل أبو الفضل العباس (عليه السلام)؟ فقد روي أنّه (عليه السلام) مدّ يده ليشرب، فأحسّ ببرودة الماء، فذكر عطش أخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، فرمى 

 

 

195


170

الفصل الرابع

الماء من يده ولم يشرب منه قطرةً واحدة، وأخذ يملأ القربة بالماء ليعود بها إلى الأطفال والنساء، وهو يقول:

«يا نفس من بعد الحسين هُوني

وبعده لا كنتِ أن تكوني

[وكأن العبّاس يخاطب نفسه: ما قيمة حياتي وبقائي بعد الإمام الحسين (عليه السلام)؟]

هذا حسينٌ وارد المنونِ

وتشربين بارد المعينِ[1]

والله ما هذا فِعالُ ديني

ولا فِعالُ صادق اليقينِ»[2]

هذا الإيثار كان نابعاً من نفس العبّاس العارفة والإنسانيّة والعاشقة، والمُحبّة والمواسية. فهو (عليه السلام) كان بإمكانه أن يشرب الماء بعد

 


[1] مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزديّ، ص 179.

[2] ينابيع المودّة لذوي القربى، القندوزيّ، ج 3، ص 67.

 

196


171

الفصل الرابع

أن ملأ القربة، وأن يقاتل بشكل أفضل، لكنّه لم يفعل ذلك، تماماً كشعور الأمّ - وإن كان شعور العباس (عليه السلام) أعلى بكثير- التي قد تجوع أو تعطش، ولكنّها لا تأكل لاعتقادها أنّ ابنها لم يتمكّن من الأكل أو الشرب ليومين أو ثلاثة، فإنّها لا تأكل تحت أي ظرفٍ كان، مواساةً له، ولا تطاوعها نفسها أن تفعل عكس ذلك. وهنا تدخل العاطفة والحبّ والإحساس بأنّها وولدها شخصٌ واحد.

وهكذا، أعطى العبّاس (عليه السلام) هذا الدرس العظيم في الإيثار، وآثر أخاه الإمام الحسين (عليه السلام) على نفسه، في وقتٍ كان يمكن للعبّاس (عليه السلام) أن يشرب الماء بسرعة، لكنّه رمى الماء، وملأ القربة بسرعة؛ ليعود إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، مدّخراً هذه اللحظة البسيطة والسريعة جدّاً - والتي تبدو في مجالس العزاء أنّها وقت طويل أمضاه العبّاس (عليه السلام) أمام النهر - وقدّم في هذه 

 

197


172

الفصل الرابع

والذي نحتاج إليه على المستوى الشخصيّ، والعائليّ، وفي طريقة تربيتنا أولادِنا.

 

التربية على الإيثار

لا يجوز أن نربّي أولادنا على حبّ تملُّك الأشياء، بل يبنغي أن نربيهم ونربّي أنفسنا على الكرم، والتصدّق، وبذل ما في أيدينا للآخرين. ولذلك، ورد في بعض الروايات أنّه إذا أردت دفع الصدقة أعطها لولدك كي يضعها هو في صندوق الصدقة، أو كي يعطيها هو للجهة التي تحتاج إليها، وفي هذا تربية للولد على البذل والعطاء والجود والكرم.

 

الأنانيّة مرضٌ مستشرٍ

يعاني بلدنا اليوم من مشكلة الأنانيّة، حيث تشتدّ معها العصبيّة الشخصيّة، والعائليّة، والعشائريّة، والطائفيّة. ويعود سبب هذه الظاهرة في لبنان وفي كثير من مناطق العالم، في الدرجة الأولى، إلى 

 

198


173

الفصل الرابع

مشكلة أخلاقيّة قبل أن تكون مشكلة سياسيّة، وإلّا إذا كنّا نمتلك روحاً أخلاقيّة ومعنويّة نبويّة، كما أرادها الأنبياء (عليهم السلام)، فبإمكاننا أن نعيش حتّى مع الذين نختلف معهم في العقيدة والفكر والسياسة والعادات والتقاليد والمصالح، وأن نحيا حياة إنسانيّة مناسبة.

 

إيثارٌ في سبيل الصلاة

في كربلاء، كانت المعركة طاحنة- ومن الجدير الالتفات إلى أنّ معارك اليوم أسهل من معارك ذاك الوقت؛ لوجود خطوط مختلفة وغرف عمليّات- وفي ظلّ الرماح والسيوف والسهام والحجارة، وحينما حان وقت الصلاة، فانتبه أبو ثمامة الصائدي- وهو أحد أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)- إلى حلول وقت صلاة الظهر، فقال للإمام (عليه السلام): «يا أبا عبد الله، نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك [وهذا يؤشر كم أنّ المعركة أخذت تزداد صعوبة]، ولا 

 

199


174

الفصل الرابع

والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك إن شاء الله، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها»، فرفع الإمام الحسين (عليه السلام) رأسه- كما يُروى- ثمّ قال: «ذكرتَ الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين. نعم هذا أوّل وقتها»، ثمّ قال: «سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي»[1]. وفي هذا الموقف عبرة لنا جميعاً:

العبرة الأولى: الصلاة في أول الوقت

تنقل لنا تلك الحادثة أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد صلّى في أول الوقت، ولم يبرّر لنفسه- تحت وطأة المعركة القاسية- تأخير الصلاة، بل طلب من أصحابه إخبار الأعداء بأن يكفّوا قليلاً حتّى يتمكن ومَن معه من أداء الصلاة في أوّل الوقت. وقد كان (عليه السلام) شديد الحرص في آخر ساعات حياته الشريفة، وهو في قلب المعركة القاسية والعنيفة، على أن يصلّي صلاة الظهر في

 


[1]  مقتل الحسين (عليه السلام)، أبو مخنف الأزديّ، ص 142.

 

200


175

الفصل الرابع

أول الوقت. وهذا الموقف معيارٌ لنا، بحيث نجعله مقياساً لصلاتنا التي نؤدّيها، فهل نؤخّر الصلاة حتّى انتهاء الفيلم، أو المباراة، أو الحديث مع فلان أو فلان، أو بحجّة وجود اجتماع أو ما شاكل ذلك؟ وتأخير الصلاة لأيّ أمرٍ من الأمور السابقة وما شاكلها يكشف عن تساهل في الصلاة، وهذا أمر خطير لا ينبغي تجاهله، ولا التجاوز عنه. ففي كربلاء نتعلّم من الإمام الحسين (عليه السلام) كيف نحرص على الصلاة في أول الوقت حتّى لو اشتدّت المعركة من حولنا.

 

العبرة الثانية: صلاة الجماعة

العبرة الثانية التي نستفيدها من تلك الحادثة- وهي متيسّرة لكم أكثر منّي- هي أن الإمام الحسين (عليه السلام) أدّى الصلاة جماعةً، كما ورد في بعض الروايات التي تذكر أنّه (عليه السلام) قد صلّى بأصحابه صلاة الخوف- وقد كان حكمه (عليه السلام) أن يصلّي ركعتين على كلّ حال، فصلّى صلاة الخوف- وكيفيتها أن يصلّي إمام الجماعة 

 

201


176

الفصل الرابع

ركعتين، فتلتحق به مجموعة في الركعة الأولى، وعندما يريد القيام للثانية يتباطأ إمام الجماعة، فيتمّ المصلّون الركعة الثانية ويقومون، ويأخذون سلاحهم ويقفون للحراسة، ثمّ تأتي المجموعة الثانية التي كانت تحرس فتلتحق بالإمام في الركعة الثانية. وعليه، حينما يُنهي الإمام صلاته، يكون المصلّون القائمون خلفه قد أنهوا الركعة الأولى، فيُكملون صلاتهم. وهذه الحادثة تظُهر مدى الحرص على أنْ يلتحق كلّ المقاتلين في كربلاء بصلاة الجماعة.

مع الأسف، في بعض الأحيان قد لا يبعد المسجد عنّا سوى أمتار قليلة، سواء في العمل أو البيت أو المدرسة، وتُقام في المسجد صلاة الجماعة، وكذلك الأمر في المدرسة أو مكان العمل، فإذا لم يتوفر علماء الدين، يمكن أن يتقدّم أيّ أخٍ متديّن للأمام ويؤمّ المصلّين.

إنّ الصلاة عمود الدين؛ لأنّها تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر؛ ولأنّها إن قُبلت قُبل 

 

202


177

الفصل الرابع

ما سواها وإن رُدَّت رُدَّ ما سواها، وهي معراج المؤمن، وقربان كل تقي.

فالإمام الحسين (عليه السلام) يعلّمنا في كربلاء، درس الصلاة أيضاً، ليقول لنا إنَّنا نجاهد من أجل إقامتها. وهذا ما حصل أيضاً في معركة صفّين، في ليلة تُسمّى «ليلة الهرير»، وقد جرت العادة أن يجري القتال في الليل ويكون النهار للراحة، أو العكس، لكن في ذلك الحين كان القتال شديداً إلى حدّ أنّه استمرّ يومين أو ثلاثة أيّام، وفي قلب المعركة، وفي حين كانت الرؤوس والأيدي والأرجل تتطاير، وإذ بالمقاتلين يفقدون أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإذ به (عليه السلام) يصلّي، ولعله لم يكن من إمكانيّة لصلاة الجماعة في تلك الظروف، فلحق به أحد المقاتلين ليخبره بخطورة الوضع، وأن لا مجال لإقامة 

 

203


178

الفصل الخامس

من جملة ما شاهدناه في كربلاء- وهو في حدّ ذاته يشكّل قيمة إنسانيّة وأخلاقيّة عالية- العلاقة المميّزة بين الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه ومَن كان معه. وهذه العلاقة تفسّر لنا الكثير من سلوكيّات الإمام الحسين (عليه السلام) تجاه هؤلاء الرجال والنساء، وتفسّر لنا أيضاً سلوكيّاتهم مع قائدهم الإمام الحسين (عليه السلام).

 

ونقصد بذلك العلاقة العاطفيّة العميقة والقويّة، والحبّ والعشق الشديدَين، واللّهفة الكبيرة بينهما. وهذا يقودنا للحديث عن العلاقة المطلوبة بين المسؤول وبين مَن يتحمّل مسؤوليّتهم في هذه الحياة.

 

مسؤوليّة نظم الأمر

الحديث عن طبيعة العلاقة التي يريدها الله سبحانه وتعالى بين المسؤول والذين يتولّى أمرهم مسألة مهمّة،

 

208


179

الفصل الخامس

سواء أكان المسؤول نبيّاً من أنبياء الله (عليهم السلام)، أو وليّاً من أولياء الله، أو إماماً، أو خليفةً، أو قائداً، أو حاكماً، أو رئيساً، أو وزيراً، أو مديراً... إلى أن نصل إلى المستويات المتدنّية إداريّاً وتنظيميّاً، والتي تتضمّن مسؤوليّة إدارة شؤون الناس أو مجموعة منهم، وقيادتهم. فالمسؤول يتحمّل مسؤوليّة أموالهم إذا كان العمل تجاريّاً، أو مسؤوليّة معرفتهم وعلمهم إذا كان العمل تعليميّاً، أو مسؤوليّة أخلاقهم إذا كان العمل تربويّاً، أو مسؤوليّة دمائهم إذا كان العمل عسكريّاً أو أمنيّاً...إلخ.

 

والسؤال المهمّ هو ما طبيعة العلاقة المطلوبة بين هذين؟

والجواب: دعا الإسلام إلى نظم الأمر. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - في وصيّته لولدَيه الإمامَين الحسن والحسين (عليهما السلام) - 

 

209


180

الفصل الخامس

قال: «أوصيكما... بتقوى الله ونظم أمركم»[1]. والله سبحانه قد خلق الكون على أساس نظامٍ حكيمٍ بالغ الدقّة، وإلّا لو لم يكن كذلك لما أمكن الوصول إلى كلّ هذا التطور العلميّ، وما كان ليستمرّ أيضاً لو لم يكن كذلك. إذاً، في القيادة والإدارة أيضاً يريد الله سبحانه وتعالى طاعةً ومسؤوليّةً وانضباطاً. لكن ما الذي يريده في العلاقة بين الطرفين؟

 

في العلاقة بين المدير والعاملين

توجد أنواع من العلاقة والإطاعة بين المدير والعاملين المسؤول عنهم، هي:

الإطاعة خوفاً

يطيع بعض الناس مديرهم، ويلتزمون بالقانون والنظام، وينضبطون، ويقومون بالوظائف الموكلة إليهم من موقع الخوف والخشية؛ لأنّهم قد يعتقدون بأنّه صارم وشديد، أو خوفاً من

 


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج 3، ص 76.

 

210


181

الفصل الخامس

الإجراءات العقابية؛ كأن يطردهم من وظيفتهم، أو أن يقتطع من رواتبهم، أو يقلِّل من امتيازاتهم؛ فيلتزمون ويطيعون ويؤدّون وظائفهم.

 

الإطاعة طمعاً

ويوجد نوعٌ آخر من العلاقة مبنيٌّ على الطمع؛ بمعنى أنّ هذا المدير يشجّع العاملين، فيرى الإنجازات ويهتمّ بها. فإذا قام العاملون بوظائفهم، وكانوا مطيعين، وأنجزوا، وأبدعوا، فإنّ المدير سيمنحهم الترقية وسيرفع رتبتهم، وسيزيد راتبهم، وسيوسع امتيازاتهم، وسيزيد من احترامهم...إلخ. لذا، فإنّهم يطيعونه طمعاً.

 

الإطاعة حبّاً

ثمّة نوعٌ ثالثٌ من العلاقة يتجاوز علاقة الخوف أو الطمع، وهو الإطاعة حبّاً؛ نتيجة مميّزات الشخص المسؤول، كأخلاقه، وتواضعه، ورحمته، ورأفته، ومحبّته، ولين جانبه، وطيب قلبه، واهتمامه 

 

211


182

الفصل الخامس

بهؤلاء العاملين، فيتسامح معهم حيث يمكن التسامح بما لا يخالف النظام والقانون أو يناقض المصلحة العامة؛ فيحبّونه، وتربطهم به علاقة احترام ومودّة شديدة. ولذلك، تراهم لا يهتمّون كثيراً بالإجراءات التي يقوم بها في حقهم، أو الامتيازات التي يمنحهم إيّاها، بل يهمّهم أكثر أن يكون سعيداً بهم، وأن لا يغضب أو يحزن منهم؛ فتكون علاقتهم علاقة جيّدة، طيّبة ومحترمة...

ولا يمنع أن تقوم العلاقة في مستوى من المستويات على الأنواع الثلاثة: الخوف والطمع والحبّ، كعلاقة كثيرٍ من الناس بالله، لكن لا شكّ في أنّ أرقى مستوى من العلاقة هو علاقة الحبّ والمودّة والاحترام.

 

212


183

الفصل الخامس

في العلاقة بالله

يريد الله سبحانه وتعالى للعلاقة بينه وبين عباده أن تكون مبنيّة على قاعدة ﴿يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُۥ﴾[1]. ولذلك هو يحبّ التوابين، ويحب المتقين... وفي المقابل يريد سبحانه من عباده أن يحبّوه، وأن تكون علاقتهم به قائمة على أساس الحبّ وليس الطمع أو الخوف. إنّ علاقة بعض الناس بالله قائمة على الخوف من جهنّم، ولولا

ذلك لما أطاعوه، كما أنّ علاقة بعضهم قائمة على الطمع بالجنّة، فلو لم توجد الجنّة لما أطاعوه، فيما علاقة غيرهم قائمة على الحبّ؛ لأنّهم يعرفونه، ويعرفون نعمه وكرمه وجوده وفضله عليهم في كلّ شيء، ويعرفون عظمته وحكمته ورأفته وجبروته وقدرته وقوّته وعلمه وغناه وكماله وجماله...إلخ؛ فلذلك هم يحبوّنه.

 

 


[1] سورة المائدة، الآية 54.

 

213


184

الفصل الخامس

علاقة الحبّ نظريّة راقية

وفي العودة إلى المسؤوليّة، يريد الله للعلاقة القائمة بين المسؤول أو القائد أو الإمام، أو الخليفة، أو الحاكم، أو الرئيس، أو الوزير، أو المدير وبين الأشخاص الذين يتحمّل مسؤوليّتهم أن تكون أيضاً علاقة حبّ وتقدير من الطرفين. وهذا أمرٌ أساسيّ. ومع الأسف لا توجد في عالم الإدارة اليوم نظريّة إداريّة متطوّرة تعتبر العلاقة العاطفيّة العميقة والقويّة بين المدير والعاملين شرطاً من شروط النجاح والإبداع والإنجاز الكبير؛ لأنّ هذه العلاقة هي التي تأتي بالإيثار والفداء، وتأتي بمستوى من التضحيات، وتأتي بعملٍ وتعبٍ بلا كللٍ أو مللٍ، وتأتي بما لا تأتي به الإدارة المبنيّة على الروابط الماليّة والإداريّة والوظيفيّة.

 

ما ينبغي في المسؤول

ثمّة صفات عدّة ينبغي أن تكون موجودة في كلّ مسؤول، نذكرها بشكل إجماليّ:

 

214


185

الفصل الخامس

وأشعِر قلبك الرحمة للرعيّة

يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله: ﴿ فَبِمَا رَحمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَ﴾[1]. فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) معروفاً بحبّه للمؤمنين، وبحبّه للناس ولخَلق الله عموماً، وكان يجهد في هدايتهم وإنقاذهم وإخراجهم من الضلالة والجهالة، حتّى إنّه (صلى الله عليه وآله) أجهد نفسه إلى حدّ أنّ الله سبحانه وتعالى خاطبه بأنْ «خفّف عن نفسك»؛ إذ ليس مطلوباً منه (صلى الله عليه وآله) أن تذهب نفسُه حسراتٍ وحزناً عليهم[2]، وعلى ضلالتهم، وعلى جهالتهم، وعلى غوايتهم، وعلى جحودهم. وهذا الشعور لدى النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان منبعه العاطفة الصادقة، والحبّ الإنسانيّ الفطريّ الطبيعيّ. هكذا

 


[1] سورة آل عمران، الآية 159.

[2] إشارةً إلى قوله تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ﴾ ( سورة فاطر، الآية 8).

 

215


186

الفصل الخامس

كان نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، وهذه هي توجيهات الأنبياء السابقين (عليهم السلام)، وتوجيهات قرآننا، وتوجيهات أئمتنا (عليهم السلام).

وممّا أوصى به الإمام علي (عليه السلام)- وهو مدرسة في القيادة والإدارة وتحمّل المسؤوليّة- في عهده لمالك الأشتر حينما ولّاه مصر:

1 - «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ»[1]. فالقائد أو المسؤول- مهما كان توصيفه (قائد كتيبة، قائد فصيل، قائد لواء، قائد فرقة، قائد فيلق أو مدير أو غير ذلك)- يجب أن يتحلّى بالرحمة تجاه المسؤول عنهم، فهم ليسوا أناساً يحقّ له استغلالهم

وتسخيرهم، بل هم أُناس قُدِّر له أن يكون مسؤولاً عنهم للقيام بمهمّة أو وظيفة، ولتحقيق هدفٍ ما، ولإنجاز أعمال معيّنة، فلا يمكن أن تكون العلاقة بهم علاقة ماديّة خالية من الشعور والرحمة والود،

 

 


[1]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام)، ج 3، ص 83.

 

216


187

الفصل الخامس

كالعلاقة بالآلات، مثل الحاسوب، أو التلفزيون، أو الهاتف. كما أنّ قوله (عليه السلام): «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ» يشمل كلّ الرعية، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، وسواء انتموا إلى طائفتك أو مذهبك أو حزبك أو تيارك السياسيّ أم لم ينتموا إلى ذلك. فطالما أنّك مسؤول، عليك أن تشعر قلبك الرحمة للرعيّة.

2 - «وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ». فالمسؤول يجب أن يكون ذا قلبٍ محبّ، بل ويسعى لأن يُوجد هذا الحبّ.

3 - «وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ». فعلى المسؤول أن يتعامل بلطف مع المسؤول عنهم، لا أن يكون كالسبع الضاري الذي يتربّص بهم ليعاقبهم عند أي خطأ أو زللٍ قد يصدر عنهم.

 

217


188

الفصل الخامس

4 - «فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ». هذه التوجيهات من الإمام علي (عليه السلام) أوسع من الدائرة الدينية أو الطائفية أو المذهبية. فعلى المسؤول أن يكون كذلك مع المسؤول عنهم بمعزلٍ عن دينهم أو انتمائهم، كما ذكرنا.

 

هذا هو نوع العلاقة المطلوبة من القائد والمسؤول. كما أنّ هذه الرحمة والرأفة واللطف والحبّ تستلزم تواضع المسؤول للمسؤول عنهم، والقرب منهم، والتشاور معهم، حتّى لو كان المسؤول ذا فكر وقّاد. فالله سبحانه يخاطب النبيّ (صلى الله عليه وآله)- الذي علمه من الله سبحانه وتعالى، وعلمه يصيب الواقع- موصياً إيّاه في ما يخصّ العلاقة بينه (صلى الله عليه وآله) وبين المسلمين في بعض الأمور: ﴿وَشَاوِرهُم فِي ٱلأَمرِ﴾[1]؛ إذ عندما يشاور المسؤولُ المسؤولَ عنهم، ويتواضع

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 159.

 

218


189

الفصل الخامس

لهم، ويكون قريباً منهم، ويسمع لهم، ويتحدّث معهم، سوف تكون النتائج مختلفة تماماً.

 

مسؤوليّة الأفراد

على الأفراد أن يُبادلوا قادتهم ومسؤوليهم الشعور نفسه، بأن تكون علاقتهم بهم مبنيّة على العطف والحبّ والودّ. ولذلك أُمرنا بأن نحبّ أنبياء الله سبحانه وتعالى. وهذا الأمر الإلهيّ أمرٌ إرشاديٌّ إلى ما تقتضيه الفطرة الإنسانيّة؛ أي أنّ الإنسان بفطرته وطبيعته يحبّ المُنعم عليه، حتى لو لم يوجد أمرٌ إلهيّ بحبّ المُنعم. فالرسل والأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) هم نعمة الله الكبرى علينا؛ لأنّ بهم كانت هدايتنا، وبهم كانت نجاتنا، وسيرنا على الصراط المستقيم، وإخراجنا من الظلمات إلى النور. فالمطلوب منّا أن نحبّهم، وأن تقوم هذه العلاقة بيننا وبينهم.

 

219


190

الفصل الخامس

محبّتنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)

نحن نحبّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أعماق قلوبنا؛ لأنّ حبّه (صلى الله عليه وآله) متفرّع عن حبّ الله سبحانه، الذي هو شرطٌ أساس في تحقّق الإيمان وتقوّمه. وهذا الحبّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون أشدّ من حبّنا لأيّ موجود آخر في

هذا الوجود، سواء كان هو الأب، أو الأمّ، أو الأخ، أو الزوجة، أو الأولاد، أو الناس من حولك، أو الدنيا وما فيها. هذا شرط الإيمان الحقيقيّ، والإيمان بمرتبته العالية. مع العلم أنّ الدين الإسلاميّ قد طلب من الفرد أن يحبّ أهله، وأرحامه، وأقاربه، وزوجته، وأولاده، وجيرانه، والناس من حوله.

وهذا الحبّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يأتِ بالوراثة عبر الأجداد والآباء، بل منشؤه معرفتنا بفضل رسول الله (صلى الله عليه 

 

220


191

الفصل الخامس

وآله) على البشريّة، وما قدّمه لها، وما تحمّله من أجلها. فهو (صلى الله عليه وآله) عندما حمل على عاتقه تأدية الرسالة وعبء هذه المسؤوليّة، لم يكن يؤدّيها كوظيفة واجبة، أو كتكليف إلهيّ معيّن، بل كان يؤدّي هذه المسؤوليّة من موقع العشق والحبّ واللهفة على الناس جميعاً، من أجل هدايتهم وإنقاذهم، وتحمّل (صلى الله عليه وآله) في سبيل ذلك من الأذى والشدائد والتضحيات والآلام والأحزان والتهديدات والصعوبات ما لا يُطاق، حتّى قال (صلى الله عليه وآله): «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت»[1].

 

الحمد لله على ما هدانا

ومن منطلق شكر الله على نعمه، وحمده سبحانه على هدايتنا وولايتنا، يقول المسلمون في السعي بين الصفا والمروة: «الحمد لله على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا»[2]. لقد هدانا الله

 


[1] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 42.

[2] منتهى المطلب، العلّامة الحلّيّ، ج 10، ص 402.

 

221


192

الفصل الخامس

بمحمّد (صلى الله عليه وآله)، وأولانا الله بمحمّد (صلى الله عليه وآله)، وأخرجنا من الظلمات إلى النور بمحمّد (صلى الله عليه وآله)، وأنقذنا من الضلالة والجهالة بمحمّد (صلى الله عليه وآله). هذا هو منشأ محبّتنا لنبيّنا (صلى الله عليه وآله).

 

وكذلك نشعر بالمودّة والمحبة تجاه أنبياء الله السابقين، كلّ أنبياء الله، وفي مقدّمتهم أولئك الذين كانوا أشدّ عزماً وأكثر تحمّلاً وتضحيةً؛ كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام).

 

المودّة في القربى

لقد أمرنا النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن نحبّ عترته وأهل بيته، وجعل الله تعالى تلك المودّة أجراً لرسالة محمّد (صلى الله عليه وآله): ﴿قُل لَّا أَس‍َٔلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلَّا ٱلمَوَدَّةَ فِي ٱلقُربَىٰ﴾[1].

 

 


[1] سورة الشورى، الآية 23.

 

222


193

الفصل الخامس

ومن المعروف أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحبّ الإمام الحسين (عليه السلام) حبّاً كبيراً وعظيماً جدّاً، وكذلك كان (صلى الله عليه وآله) يحبّ أخاه الإمام الحسن (عليه السلام)، لكنّنا سنتحدّث عن الإمام الحسين (عليه السلام). وفي هذا المجال توجد رواية مشهورة في كتب الشيعة والسنّة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في بيان محبّته للإمام الحسين (عليه السلام): «حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً»[1].

وليس قوله (صلى الله عليه وآله): «أحبّ الله من أحبّ حسيناً» له علاقة بمودّة الإمام الحسين (عليه السلام) ومحبّته فقط، بل الرواية كلّها ترتبط بمودّته (عليه السلام) ومحبّته؛ إذ معنى قوله (صلى الله عليه وآله): «حسينٌ منّي» أنّه (عليه السلام) جزءٌ وقطعةٌ وبَضعةٌ

 


[1] مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج4، ص 172.

 

223


194

الفصل الخامس

منه (صلى الله عليه وآله). ولذلك، مَن أحبّه يجب أن يحبّ الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّه منه.

وأمّا قوله (صلى الله عليه وآله): «وأنا من حسين»، فهو تعبيرٌ أرقى وأعظم من سابقه؛ إذ يبيّن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّ استمرار نهجه، ورسالته، ودعوته، وجهاده، ونضاله، وكل ما بذله لأجل هذا الدين، كان ببركة الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته. فمَن يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجب أن يحبّ الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّ بقاء دين رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان بفضل تضحياته (عليه السلام).

ثم ّيقول (صلى الله عليه وآله): «أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً».

وهنا يوجد احتمالان في المعنى:

 

224


195

الفصل الخامس

الأول: أن تكون هذه الجملة خبريّة؛ أي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يخبرنا أنّ الله سبحانه يحبّ مَن أحبّ حسيناً.

الثاني: أن تكون هذه الجملة إنشائيّة؛ أي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدعو ويطلب من الله تعالى أن يحبَّ من أحبَّ حسيناً. ودعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) مستجاب.

والروايات التي تدعو إلى محبّة أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) في كتب السنّة والشيعة كثيرة، منها أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقول لأصحابه: «أَحِبُّوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبّوني لحبّ الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي»[1].

إذاً، نحن نحبُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحبّنا لله سبحانه؛ ولمكانته ومقامه (صلى الله

 


[1] تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ج 4، ص 381. وجاء في سنن الترمذي ما هو قريبٌ منه: «أحبّوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبّوني بحبّ الله، وأحبّوا أهل بيتي بحبّي» (سنن الترمذي، الترمذي، ج 5، ص 329).

 

225


196

الفصل الخامس

عليه وآله) عند الله سبحانه وتعالى. وهو (صلى الله عليه وآله) يأمرنا بأن نحبّ الإمام الحسين (عليه السلام). إذاً، هذا هو مبدأ محبّتنا للإمام الحسين (عليه السلام).

 

لماذا نحبّ الحسين؟

بالتأكيد نحن نحبّ الإمام الحسين (عليه السلام) التزاماً بوصيّة نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، كما ذكرنا سابقاً، وكذلك نحبّه (عليه السلام) لمقامه عند الله سبحانه وتعالى؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله)- وهذا يُجمِع عليه المسلمون، ولا أعتقد أنّ أحداً من المسلمين ينكره-: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة»؛ أي مقامهما عند الله سبحانه وتعالى مقامٌ عظيم ورفيع وعالٍ جدّاً.

 

ونحن نحبّه (عليه السلام) لأنّه وليّ عظيم من أولياء الله عزّ وجل، ولمكانته عند الله، وحبّ الله 

 

226


197

الفصل الخامس

له، وأيضاً لحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) له.

 

ونحن نحبّه (عليه السلام) أيضاً لمميّزاته الشخصيّة. فحين نعلم ما لديه (عليه السلام) من علم، ومعرفة، وتقوى، وورع، وشهامة، وغيرة، وإيثار، وصدق، وإخلاص، ونزاهة، وطهر، ونقاء، وعبادة، وتضحية، ووفاء، وإباء... إلخ، بل وكلّ ما في شخصيّته (عليه السلام)، حين نعلم ذلك لا محالة أنّنا سنحبّه (عليه السلام).

 

ونحن نحبّه (عليه السلام) كذلك؛ لأنّنا نعرف أنّه إنسانٌ قد ضحّى كما ضحّى جدُّه (صلى الله عليه وآله) الذي قال: «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت»[1]. والإمام الحسين (عليه السلام) قد ثار من أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[2]، ومن أجل مواجهة الخطر

 

 


[1] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 42.

[2] في وصيّته لأخيه محمّد ابن الحنفيّة، يوضّح الإمام الحسين (عليه السلام) سبب خروجه بقوله (عليه السلام): «... وأنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...» (بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 44، ص 330).

 

227


198

الفصل الخامس

الشديد الذي كان سيعصف بالإسلام؛ يقول (عليه السلام): «وعلى الإسلام السلام، إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد»[1]. فالإمام الحسين (عليه السلام) أقدم على هذه التضحية العظيمة ليبقى الإسلام وينقذ الأمّة، ويهدينا، ويحفظنا، ويصون دنيانا وآخرتنا، ويحفظ كرامتنا وعزّتنا، وبطبيعة الحال أنّنا سنحبّه ونعشقه، ونحن كذلك.

 

إذاً، نحن عندما نحبّ، لا نحب بالتقليد والوراثة، بل نحبّ من موقع المعرفة.

 

الولاية هي الحبّ والقرب

عندما يقول سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: ﴿إِلَّا ٱلمَوَدَّةَ فِي ٱلقُربَىٰ﴾[2]، فليس المقصود هنا الحبّ العاطفيّ العابر، بل المودّة تعني الحبّ الصادق والعميق؛ حيث إنّنا نجد في المصطلحات القرآنيّة،

 


[1] مثير الأحزان، ابن نما الحلّيّ، ص 15.

[2] سورة الشورى، الآية 23.

 

228


199

الفصل الخامس

عندما يتحدّث الله عز وجلّ عن العلاقة بين المؤمنين، فإنّه يُعبِّر عنها بالولاية: 

﴿بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٖ﴾[1]، وعندما يتحدّث عن الحاكم يقول: هو ﴿وَلِيُّكُمُ﴾[2]، وعندما يتحدّث عمّن هو قريبٌ منه تعالى يقول: ﴿وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ﴾[3].

 

وكلمة الولاية في الأصل لا تعني الحكومة من الأعلى (الهرميّة)، كما يتبادر منها إلى الذهن الآن، بقدر ما تعني الحبّ، والقرب، والنصرة. هذه كلُّها من معاني الولاية. فإنّ الله سبحانه وتعالى استخدم هذا اللّفظ للتعبير عن تلك المعاني.

 

 


[1]  سورة الأنفال، الآية 72.

[2] سورة المائدة، الآية 55.

[3] الآية نفسها.

 

229


200

الفصل الخامس

لوازم الحبّ والمودّة

للحبّ والمودّة لوازم نشعر بها ونتلمّسها جميعاً. وهذه اللّوازم لوازم فطريّة وطبيعيّة في الإنسان بغضّ النظر عن الأحكام الشرعيّة الداعية إلى المحبّة والمودّة. ولتقريب الفكرة يمكن التمثيل بالزوج وزوجته، أو الحبيب وحبيبته، أو الأمّ وولدها، مع الأخذ بالاعتبار أنّ محبّتنا للإمام الحسين (عليه السلام) يجب أن تكون في مرتبةٍ أرقى وأعلى.

1 - من لوازم الحبّ أنْ تشعر بالعاطفة تجاه من تحبّ بقدر العاطفة القلبيّة والروحيّة من الداخل، بأن تحبّه من حشاشة قلبك، ولكن كلّما ازددت حبّاً كلّما شعرت بازدياد هذه العاطفة وقوّتها تجاه الشخص الذي تحبّه.

2 - ومن لوازم الحبّ أنْ يأنس الإنسان بحبيبه. فإذا كان الشخص يحبّ فلا يملّ من حبيبه مهما جلس 

 

230


201

الفصل الخامس

معه، بل يشعر بأنّ الساعات تمرّ بسرعة وكأنّها دقائق.

3 - ومن لوازم الحبّ أنْ يشتاق الإنسان إلى حبيبه عندما يغيب عنه أيّاماً عدّة. فعندما يغيب الأولاد عن أمّهاتهم- مثلاً- أيّاماً عدّة، سواء أكانوا في العمل، أم في السفر، أم في جبهات القتال، يقلن: «قلوبنا تلتهب». هذا هو الحبّ.

بل من لوازم الحبّ أنْ يبقى الإنسان في حالة شوق إلى مَن يحبّ، كما كان بعض أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله)، رضوان الله تعالى عليهم، الذين كانوا يغيبون ساعاتٍ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ يأتون إليه بعدها، فيسألهم عمّا يريدون، فيجيبونه بأنّهم لا يطلبون شيئاً سوى النظر إليه (صلى الله عليه وآله)، وأنّهم لا يطيقون فراقه أو البعد عنه، وحين يبتعدون عنه ولو ساعات يشتاقون إليه وإلى رؤيته.

 

 

231


202

الفصل الخامس

5 - ومن لوازم الحبّ أنْ لا يُغضب الإنسان حبيبه، ولا يؤذيه، وأن ينتبه إلى ما يقول له، وإلى ما يسمع عنه، وأن لا يصدر عنه شيء يؤذي حبيبه.

6 - ومن لوازم الحبّ أن يتّبع الإنسان حبيبه، وأن يُطيعه.

7 - ومن لوازم الحبّ أن يحبّ الإنسان ما يحبّ حبيبه، وأن يكره ما يكرهه. فإذا كنتُ أحبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فعَلَيَّ أنّ أحبّ من يحبّه النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأن أكره ما يكرهه (صلى الله عليه وآله).

8 - ومن لوازم الحبّ، أن يحبّ الإنسان من ينتسب إلى حبيبه، أو من ينتمي إليه. فإذا أحبّ شابٌّ فتاةً، فسوف يحبُّ أخاها، وأباها، وأمّها، والبيت الذي تسكنه، والبناية التي تسكنها، والحي الذي تسير فيه. وكلّ مَن مرّ بهذه التجربة يعلم ذلك.

 

232


203

الفصل الخامس

9 - ومن لوازم الحبّ، أن لا تقبل الإساءة لمن تحبّ. ولذلك، إذا أُسيء لمَن تُحبّ، تغضب، وتدافع عنه في غيبته، وفي حضوره، ومن الممكن أن يكون هو في موقفٍ لا يدافع فيه عن نفسه، لكنّك أنت لن تتحمّل هذا الموقف، وستدافع عنه، انطلاقاً من مبدأ الحبّ هذا.

10 - ومن لوازم الحبّ العميق والشديد أن تصل إلى مرحلة من مراحل الإيثار؛ أي أن تفتديه بنفسك، وأن تقول له كما كان يقول أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) له (صلى الله عليه وآله)، وأصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) للإمام الحسين (عليه السلام): «فداك أبي، وأمّي، ونفسي، وأهلي، ومالي».

 

233


204

الفصل الخامس

والسؤال الذي يُطرح هنا: هل هذا كلّه يأتي من التنظيم، والإدارة، ومن القوانين والثقافة المادّيّة؟ لا، بل يأتي من العشق، والحبّ، والمودّة. ولذلك- كما سبق أن ذكرنا- إنّ الذي أبقى أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) معه في ليلة العاشر من محرّم هو ذاك العشق وتلك المحبّة؛ إذ كان بإمكانهم أن يُخلوا ساحة المعركة؛ متذرّعين بطلب الإمام الحسين (عليه السلام) منهم الذهاب، قائلاً لهم: «أنتم في حلٍّ من بيعتي»[1]، ولكنّهم رفضوا ذلك، لماذا؟ لوجود تلك المودّة، وذاك العشق

 

 


[1]  إشارةً إلى قوله (عليه السلام) لأصحابه: «أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ أنه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألَا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً. فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. (الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 91)؛ وجاء في (تهذيب الكمال) للمزّي: «قيل لمحمّد بن بشير الحضرمي: قد أُسر ابنك بثغر الريّ. قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أُحب أن يؤسَر ولا أن أبقى بعده. فسمع الحسين قوله، فقال له: رحمك الله، أنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك. قال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك». (تهذيب الكمال، المزّي، ج 6، ص 407).

 

234


205

الفصل الخامس

والحبّ والانجذاب الشديد نحوه (عليه السلام)؛ بحيث صار الواحد منهم لا يطيق العيش  بعد الإمام الحسين (عليه السلام)، وكأنّه يقول: لا طيَّبَ الله العيش بعدك يا حسين.

11 - ومن لوازم الحبّ- أيضاً- أن تفرح لفرح مَن تحبّ، وأن تحزن لحزنه. فالأمّ- مثلاً- تفرح عندما ترى أولادها فرحين بنجاحهم في الدراسة، وتحزن إذا كانوا حُزَناء؛ لأنّها تعتبر أولادها جزءاً منها، مثلما كان الإمام الحسين (عليه السلام) جزءاً من النبيّ (صلى الله عليه وآله).

ومن هذا المنطلق، يفرح النبيّ (عليه السلام) أو الإمام (عليه السلام) لفرح الناس، ويحزن لحزنهم. وعلى الناس في المقابل أن يقابلوا تلك المشاعر بالمشاعر نفسها، فيفرحون لفرح النبيّ (عليه السلام) أو الإمام (عليه السلام)، ويحزنون لحزنه. وعندما يتألّم يشعرون بألمه؛ فمصيبته مصيبتهم، وحزنه حزنهم، وألمه ألمهم، وفرحه فرحهم. وهذا من لوازم الحبّ. ولذلك؛ نحن 

 

 

235


206

الفصل الخامس

نلجأ إلى البكاء للتعبير عن مظاهر الحبّ. فعندما تفرح لفرحه يستبشر وجهك، واحتمال أن تصفّق، أو أن توزّع الحلوى، ومن الممكن أن تعمل أيّ شيء.

 

إطلاق النار تعبيرٌ سيِّئ

التعبير عن الفرح أو الحزن لا بدّ من أن يكون لائقاً وغير محرّم؛ إذ- مع الأسف- يعبّر بعض الناس عن فرحهم بما لا يجوز لهم فعله؛ كإطلاق النار في الهواء. ومصيبتنا في هذه الأيّام أنّه إذا رسب أحد الأبناء يتمّ إطلاق النار، وإذا نجح يُفعل الأمر نفسه!

 

نحزنُ لحزن مَن نحبّه

إذا ألمّت بالإنسان مصيبة، كما لو توفّى اللهُ أحد أولاده أو حفيده، فإنّه يحزن ويبكي؛ لأنّ المتوفّى جزءٌ منه. وكذا لو توفّى الله والدَ صديقٍ لك تحبّه كثيراً، فصديقك يتألّم ويحزن، وأنت تحزن له؛ لأنّه 

 

236


207

الفصل الخامس

حبيبك، رفيقك، صديقك وتوجد علاقة مودّة بينك وبينه.

 

البكاء أمرٌ فطريّ

البكاء على فراق مَن نُحبّ أمرٌ فطريٌّ وطبيعيٌّ. وعليه، إنّ مَن يأتي إلى الناس ويقول لهم: إذا مات لكم قريبٌ أو عزيزٌ أو حبيبٌ أو صديقٌ، فلا يجوز أن تبكوا، ولماذا تبكون؟ هذا اعتراض على المشيئة الإلهيّة والقضاء الإلهيّ! فإنّه يقوم بعمل غير صحيح وغير مقبول.

 

فهذا نبيُّنا (صلى الله عليه وآله)- الذي هو قدوتنا وأسوتنا ومبلّغُ الشريعة الإلهية، ولا أحد يستطيع أن يكون مسلماً أو متشرّعاً أكثر منه (صلى الله عليه وآله)- عندما توفّي ولدُه إبراهيم، وجاءه مَن أخبره بوفاته، وكان وقتها طفلاً صغيراً، دمعت عيناه وبكى، وقال: «إنّ العين تدمع، والقلب 

 

237


208

الفصل الخامس

يحزن، ولا نقول إلّا ما يُريضي ربّنا، وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون»[1]. وفي نصٍّ آخر: «يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يُسخط الربّ، وإنّا على إبراهيم لمحزونون»[2].

 

حزنُ النبيّ (صلى الله عليه وآله)

لقد كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يحزن ويبكي ويذرف الدموع لوفاة أو استشهاد بعض أصحابه (صلى الله عليه وآله). وهذا أمرٌ فطريّ ومنسجم مع الطبيعة البشريّة. وقد نقل لنا التاريخ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد مشى

في جنازة بعض أصحابه حافيَ القدمين، حاسرَ الرأس. كما بكى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعض شهداء بدر وأُحُد. وكذلك بكى (صلى الله عليه وآله) عندما جاءه خبر معركة مُؤتة- وهي معركة كانت قد شهِدت بطولات عظيمة جدّاً- واستشهاد

 


[1] مغني المحتاج، محمد بن أحمد الشربيني، ج 1، ص 356.

[2] مجمع الزوائد، الهيثميّ، ج 3، ص 18.

 

238


209

الفصل الخامس

قادتها: جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة. عندما جاءه (صلى الله عليه وآله) ذلك الخبر المؤلم، وباعتبار العلاقة الخاصّة التي كانت بين النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبين جعفر، وبينه (صلى الله عليه وآله) وبين زيد بن حارثة، بكاهما بكاءً شديداً، بل كان (صلى الله عليه وآله) يبكيهما كلّما ذُكرا أمامه.

 

نعم لبكاء عوائل الشهداء

إذاً، حتّى النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يعبِّر عن حزنه لفراق مَن يحبّ بالبكاء، وهذا أمرٌ طبيعيّ، وينسجم مع الفطرة الإنسانيّة كما أشرنا، ولكن ما هو غير طبيعيّ ويصطدم مع الفطرة الإنسانيّة، أن يُعمل على إيجاد نوعٍ من المزاج، أو المناخ، أو الثقافة، للضغط على عوائل الشهداء كي لا يبكوا، وهذا خطأ، بل عليهم أن يبكوا، ومن الطبيعي أن يبكوا، دعوهم يبكون ولا يضغط عليهم أحد.

 

239


210

الفصل الخامس

ثمّ إنّ البكاء لا يتنافى على الإطلاق مع التسليم لمشيئة الله، بل يجتمع مع التسليم. فعوائل شهدائنا راضون بمشيئة الله، وبما قسمه الله سبحانه وتعالى لهم، فلا يقولون ما يُسخط الربّ، بل يسلِّمون ويرضون ويفتخرون بشهدائهم ويبكونهم. فما المشكلة في ذلك؟

بل على العكس، يذكر التاريخ أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد بكى في كربلاء، بكى لفقده ابنه، وأخاه، وابن أخيه، وأهل بيته، وأصحابه، بكى للشهداء بين يديه. وهذا أمر طبيعيّ؛ لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) إنسان كسائر الناس، وهو لا يتنافى مع الصلابة والقوّة، والعزم، والثبات. هذا، فضلاً عن أنّ نفس الإمام الحسين (عليه السلام) قد سَمَت ووصلت إلى تلك المرتبة العظيمة من القيم والمشاعر والعواطف الإنسانيّة، فإنّها تتأثّر بشكل أقوى لما أصاب أهل بيته وأصحابه.

 

240


211

الفصل الخامس

والآن، في مسيرتنا، في الوقت الذي تبكي فيه عوائل شهدائنا شهداءها وأعزّاءها- وبعض هذه العوائل قد قدّم شهيدَين- تجد الأمّ أو الأبّ مستعدّين لبذل بقيّة

أفراد الأسرة، ولسان حالهما: ما زال لديّ شابّان أو ثلاثة، هم فداءٌ للمقاومة. فهذا البكاء لا يتنافى مع هذا الفهم. فعندما نبكي ونقول: الحمد لله على ما ابتلانا، والحمد لله الذي تفقّدنا بشهيدنا، والحمد لله الذي أعزّنا بشهيدنا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون... نكون شاكرين لله سبحانه، ومسلّمين لمشيئته عزّ وجلّ.

 

نبكي الحسين (عليه السلام) أبد الدهر

إنّ الإنسان يبكي بطبيعته، يبكي ليس بسبب فَقد عزيز فقط، بل حتّى عند حدوث كوارث طبيعيّة، بل وبعضهم يبكي في ملعب كرة القدم عند خسارة فريقه، ولا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء؛ لأنّه يحبّ النادي الذي يشجّعه حبّاً جمّاً.

 

241

 

 


212

الفصل الخامس

وعندما نأتي إلى مسألة البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّنا نجد أمراً مميّزاً وخاصّاً، وهو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)- بإجماع المسلمين- كان يخبر عن الله عزّ وجلّ عن كثير من الأحداث التي ستحصل في المستقبل. ومن جملة ما أخبر به (صلى الله عليه وآله) أنّ حفيده الإمام الحسين (عليه السلام) سيُقتل، في الوقت الذي كان فيه الإمام الحسين (عليه السلام) ما زال صبيّاً صغيراً وهو بين يدَيْ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي حجره. وعندما يُخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن ذلك، تدمع عيناه ويبكي الإمامَ الحسين (عليه السلام) حبّاً وعشقاً وعاطفةً.

وثمّة أمرٌ لافت في ما أخبر به النبيّ (صلى الله عليه وآله) في ما يخصّ البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو ما يمكن عدُّه إحدى معجزات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكراماته، وأنا أريد أن أستشهد به في هذا المقام.

 

242


213

الفصل الخامس

ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «نظر النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الحسين بن علي (عليهما السلام) وهو مقبل، فأجلسه في حجره، وقال: إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، ثمّ قال [الصادق] (عليه السلام): بأبي قتيل كلّ عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمنٌ إلّا بكى»[1].

 

والشاهد اللّافت هنا في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه كيف يمكن لإنسان بهذه الثقة واليقين أن يخبر عن أنّ هذا الصبيّ الصغير الذي يُجلسه في حجره، سيُقتل؟ وقد قُتل (عليه السلام). وفي رواية أخرى يحدّد (صلى الله عليه وآله) المكان الذي سيُقتل فيه حفيده الإمام الحسين (عليه السلام). هذا أوّلاً.

 


[1] مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج 10، ص 318.

 

243


214

الفصل الخامس

وثانياً، وهو أمرٌ أعمق وأقوى، وهو كلامٌ لا يصدر إلّا عن نبيّ؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يخبر عنه نتيجة تحليله للأوضاع والظروف. هذا الأمر هو أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أخبر- وهو في مكّة قبل 1400 عام، وفي وسط الصحراء- عن أمرٍ سيبقى إلى يوم القيامة، وهو أنّ حفيده الإمام الحسين (عليه السلام) الذي سيُقتل، سوف يبقى إلى الأبد في قلوب المؤمنين، وسوف تبقى له في قلوبهم حرارةٌ، ولهفةٌ، وألمٌ، وحزنٌ. انظر إلى كلمته (صلى الله عليه وآله): «حرارة في قلوب المؤمنين»، إنّها تأتي بالدموع والآهات والأحزان.

ولذلك نحن اليوم، وقد مضى على حادثة كربلاء 1378 سنة تقريباً، ما زلنا وما زالت الأجيال تبكي الإمام الحسين (عليه السلام) كأنّه قُتل بالأمس. يزداد بكاؤنا عمقاً،

ومعنىً، ودفئاً، وحرارةً، ونشعر بكل ذلك في قلوبنا، نتيجة التجربة والتقدُّم في العمر.

 

244


215

الفصل الخامس

بكاءٌ له خصوصيّتُه

اليوم، قد ارتقى لنا شهداء، ستُشيَّع جنائزهم غداً أو بعد غد. وبالتأكيد، عندما تبكي عوائل هؤلاء الشهداء الإمامَ الحسين (عليه السلام) في يوم العاشر ستكون مشاعرها مختلفة، وسيكون بكاؤهم مختلفاً، ستكون لهم مشاعر معرفة، وبكاء معرفة، وسيكون صبرهم مختلفاً أيضاً.

اليوم، عندما يؤتى بشهيد وقد حُزَّ رأسه، وتراه أمُّه أو أبوه، من المؤكّد أنّ مشاعرهم تجاه الشهداء الذين قُطّعت رؤوسهم في كربلاء ستكون مختلفة.

إذاً، الفهم الذي لدى الناس عن واقعة كربلاء وما جرى فيها ازداد عمقاً وتجذُّراً، وكذلك الحضور والتفاعل مع تلك الواقعة والبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) يزداد عاماً بعد عام. انظروا إلى هذا المشهد، في هذه الأيّام والليالي العشرة، خصوصاً في ليلة العاشر ويومه، من

 

245


216

الفصل الخامس

الصباح نجد الناس من قارات العالم كلّها، من المدن، والقرى، والبلدات، وأستطيع أن أجزم وأقول- من دون أي مبالغة- إنّ في هذا الزمن- ونتيجة الظروف والحريّات والأوضاع الأمنيّة المختلفة، والقدرة على التعبير عن الرأي- يجتمع مئات الملايين في يوم العاشر منذ الصباح، ويبكون بكاءً شديداً ومؤلماً وحزيناً على رجلٍ قد قُتل قبل 1378 سنة، هو وأصحابه، وسُبيت نساؤه.

إنّه- بحقّ- مظهر مدهش ومحيّر. فالجميع يرتدي السواد، وهم بحالة حزنٍ شديد، كأنّهم قد فقدوا أحد أقاربهم، يبكون بحرقة، بل أشدّ أحياناً. ويُذهَل أيّ إنسان غريب عن هذا الجوّ وعن هذه الثقافة، عندما يُقال له إنّ هؤلاء يبكون رجلاً اسمه الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، حفيد نبيِّهم محمّدٍ (صلى الله عليه وآله)، الذي قُتل غريباً عطشاناً وحيداً في يوم العاشر في مثل هذا اليوم، وقُتل أصحابه وأولاده، وسُبيت نساؤه، وقُطعت رؤوسهم، وعُلّقت على رؤوس الرماح. هؤلاء يبكون هذا الرجل الذي استُشهد قبل 1378 سنة!

 

246

 


217

الفصل الخامس

البكاء تعبيراً عن المودّة

إذاً، من أين كلّ هذا البكاء، وحرقة القلب هذه، وهذه اللّهفة الصادقة؟ أنحن نتصنّع هذا البكاء؟ عندما يبكي الناس ساعةً أو ساعتين، أهم يتصنَّعون ويمثّلون؟ لا، بل هذا الحزن حزنٌ حقيقيّ، وهذا البكاء بكاءٌ حقيقيّ، إنّه إحساسٌ حقيقيّ بالثكل، إنّه إحساس يأتي من المودّة: ﴿قُل لَّا أَس‍َٔلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلَّا ٱلمَوَدَّةَ فِي ٱلقُربَىٰ﴾[1]. إنّه تعبيرٌ عن هذه المودّة، وهذا الحبّ، وهذا العشق لرسول الله ولآله وللإمام الحسين (عليهم السلام).

 

أربعون الإمام الحسين (عليه السلام) مَظهرُ العشق

هذه المودّة والعشق والحبّ تظهر في ذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث يقصد الملايين من الناس من كلّ أنحاء العالم المدنَ العراقيّة: بغداد، أو البصرة، أو النجف، أو الحلّة،

 

 


[1] سورة الشورى، الآية 23.

 

247


218

الفصل الخامس

أو المدن القريبة من كربلاء، ليسيروا على أقدامهم إلى كربلاء. بعضهم يأتي من البصرة التي تبعد نحو 300 كلم عن كربلاء. هذا المشهد الذي يجسّده الشعب العراقيّ وغير الشعب العراقيّ، يتمثّل في القوافل التي تسير يوماً أو يومين أو ثلاثة أيّام أو حتّى أسبوعاً على الأقدام، متّجهة نحو معشوقها الحسين (عليه السلام).

أمّا ما الذي يدفع هؤلاء الملايين إلى الذهاب سيراً إلى كربلاء، فقد يقال إنّها الحماسة، ولكن من المعلوم أنّ الحماسة قد تدوم يوماً أو اثنين وتنتهي. وإذا قيل الدافع هو الرغبة في الثواب الأخرويّ، فلماذا لا توجد هذه الرغبة في الكثير من الأمور المتضمّنة للثواب الأخرويّ؟ إذاً، ما الذي أخذهم إلى كربلاء؟ الذي أخذهم إلى كربلاء هو هذا العشق، وهذا الحبّ، وهذا التقدير، وهذه اللّهفة، وهذه العلاقة العاطفيّة الخاصّة، وهذه المعرفة بعظمة هذا الرجل وقيمته ومقامه وتضحياته من 

 

248


219

الفصل الخامس

أجل الإسلام، ومن أجل الأمّة، وحبّاً برسول الله (صلى الله عليه وآله).

عندما يذهب الناس إلى كربلاء، يذهبون إلى قطعةٍ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى جزءٍ منه (صلى الله عليه وآله)، والذي استمرّ دينُه وأمّتُه بفضل هذا الرجل، حفيده الإمام الحسين (عليه السلام).

إذاً، من لوازم هذا الحبّ والعشق، أن يذهب المحبّ مشياً إلى حبيبه، فيتحمّل كلّ المشقّات، صيفاً وشمساً وحرّاً، وشتاءً ومطراً وبرداً قارساً. ومن لوازمه أيضاً، التنظيم الذي نشهده في تلك المسيرات من قبل الناس، وخدمة بعضهم بعضاً، وتلك الموائد والضيافة التي توضع على محبّتهم (عليهم السلام)، وذلك التواضع في الخدمة... وعلى الرغم من الأخطار والعمليّات الانتحاريّة لا تزال الأعداد في ازدياد. هذه معجزة رسول الله (صلى الله عليه وآله)!

 

249


220

الفصل الخامس

هذه الحرارة في قلوب المؤمنين التي لا تبرد أبداً، والتي تنطلق من المعرفة، هي التي تأخذ الناس مشياً إلى كربلاء، وهي التي تجعل الناس يبكون هذا البكاء، ويئنّون هذا الأنين، ويحزنون هذا الحزن، بعد 1378 سنة.

 

ابكوا على الإمام الحسين (عليه السلام)

إذاً، من اللّوازم الطبيعيّة للحبّ هو البكاء. ونحن نعبّر ببكائنا عن محبّتنا ومودّتنا للإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام). وأقول لكلّ مَن يناقش في أمر البكاء وسببه: نحن نبكي أمام العالم كلِّه، وسوف نبكي إلى قيام الساعة، وأجيالنا الآتية ستبقى كذلك. وأنا أدعو الجميع وأقول لهم: ابكوا على الإمام الحسين (عليه السلام). إنّ واقعة كربلاء بقيت حيّة إلى اليوم بهذا البكاء، وهذه العاطفة، وهذه الإحياءات، وهذا الذكر المتواصل.

 

250


221

الفصل الخامس

نعم، نحن نفخر أمام العالم ببكائنا على هذا الرجل الذي استُشهد من أجل أمّته ودينه وأمّة جدّه قبل 1378 سنة. نفخر بهذا البكاء وهذه الدموع، نفخر بمظاهر الحزن هذه. ففي بكائنا نعبّر عن وفائنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحفيده (عليه السلام). في بكائنا هذا نعبّر عن حبّنا ومودّتنا لرسول الله وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وللحسين (عليه السلام). في بكائنا نجدّد بيعتنا للحسين (عليه السلام) أن نسير على دربه، ونسلك طريقه، ونضحّي كما ضحّى، ونصل إلى ما وصل إليه. كما أنّنا نفخر بالشهادة؛ لأنّنا ببكائنا نُخلِّد هذه القضية وهذه الذكرى التي حاول بعد ذلك بنو أمية وبنو العبّاس وكثيرٌ من طواغيت العالم أن يُميتوها ويمنعوها ويدفنوها، وأن تصبح ذكرى عابرة في التاريخ؛ إذ إنّ مَن

كان يذهب إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في زمن المتوكّل العباسيّ مثلاً، تُقطع يده ورجله، ويُقطع لسانه، ويُقتل. لقد دمّروا مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، وحفروا قبره (عليه 

 

 

251


222

الفصل الخامس

السلام)، وحاولوا أن يدمروه بالطرق كافّة، حتّى ينسى الناس رجلاً اسمه الإمام الحسين (عليه السلام)، ولكنّهم فشلوا. واليوم، هذه هي الحجّة الإلهيّة في كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله). إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا الزمن، وفي هذا العصر، أقوى حضوراً من أي زمن مضى، ولكن كيف بقي كلّ هذا الحبّ؟ بقي بالعاطفة، والمودّة، والدموع، مضافاً إلى البركات الأخرويّة والدنيويّة لهذا البكاء والتعبير عن المودّة، والتي يجب أن نستفيد منها في هذه الأيّام والليالي.

 

كأنّ الذي أصابك أصابني

في ليلة العاشر، ليلة المصيبة، أشعِر نفسك أنّ ما سيصيب حبيبَك الحسين (عليه السلام) سوف يصيبك، وأنّ ما سيصيب أصحابه- الذين هم أحبّاؤك- العطشى

 

252


223

الفصل الخامس

والمحاصرين، والذين بلغ عددهم 72 رجلاً، وعدداً قليلاً من النساء، يحاصرهم ثلاثون ألفاً، وأنّهم سيواجهون خطر الموت بعد قليل، وسوف يقاتلون وتُقطّع أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم، وتُعلَّق رؤوسهم على الرماح، وستجول عليهم الخيول بحوافرها، وستبقى أجسادهم على وجه الصحراء أيّاماً تحت حرّ الشمس، وسوف يؤخذ منهم سبايا وأسرى، وسوف يتلهّفون ويبكون؛ سوف يصيبك. ولذلك، نبكيهم من هذا الموقع: موقع المعرفة، والحبّ، والعاطفة.

 

 

253


224
وفاء واباء