الجهاد الأكبر

الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره)


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2020-10

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

قال -تعالى-: ﴿وَنَفسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا ٨ قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَد خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[1].

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «واللّه اللّه في الجهاد للأنفس؛ فهي أعدى العدوّ لكم»[2].

قال الإمام الخميني (قدس سره): «هدف الإسلام هو تربيتنا»[3].

أخي العزيز، بين يديك كتاب صغير الحجم، حوى بين دفّتيه كبرى التعاليم الإلهيّة، وأُسُس الإسلام في جهاد النفس البشريّة، تصدر عن عارفٍ خبير، وعاشقٍ قضى حياته في السير إلى اللّه -سبحانه وتعالى-، وأفنى ذاته في عشقه -عزّ وجلّ-.

 

 


[1] سورة الشمس، الآيات 7 - 10.

[2] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1383هـ - 1963م، لا.ط، ج2، ص352.

[3] الكوثر، مجموعة من خطابات الإمام الخمينيّ{، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ، إيران - طهران، 1996م، ط1، ج2، ص 257، خطاب رقم 48.

 

7


1

المقدّمة

يشتمل كتاب «الجهاد الأكبر» على دروسٍ ومحاضراتٍ ألقاها الإمام الخميني (قدس سره) على طلبته ومريديه في النجف الأشرف أيّام إبعاده إليها وسكنه فيها، يخاطب فيها الحوزات العلميّة وطلبة العلم، وتتمحور حول ضرورة تهذيب النفس وأهمّيّته.

يؤكّد الإمام (قدس سره) في هذه المحاضرات على علماء الدين بأن يهتمّوا بتهذيب النفس وتذكيتها، ويدعوهم إلى اكتساب الفضائل ومكارم الأخلاق والصفات الإنسانيّة السامية.

وإنّنا في جمعيّة مراكز الإمام الخمينيّ الثقافيّة وبالتعاون مع مركز المعارف للتأليف والتحقيق، نعيد طباعة هذا الأثر النفيس الذي اعتنت مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) بترجمته ونشره، نظرًا لعظيم فائدته وكبير أثره في النفوس، وتخليدًا لذكرى الإمام العارف العظيم وروحه السامية النقيّة، ونضعه بين أيدي محبّيه ومريده من العاشقين السائرين في مدارج العشق والكمال إلى اللّه، ليكون عونًا لهم في تهذيب نفوسهم وتصحيح مسارهم.

 

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

وجمعيّة مراكز الإمام الخمينيّ الثقافيّة

 

8

 

 


2

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

الإنسان كائنٌ من أكثر المخلوقات حِيرةً وتعقيدًا، كائنٌ امتاز عن بقيّة الكائنات الحيّة بفطرته وشخصيّته المعنويّة، فضلًا عن الغرائز الطبيعيّة والحيوانيّة والأحاسيس والمشاعر. إنّه كائنٌ مفكِّرٌ وذو إرادة، يسخّر عقله وجهده للبحث عن حلولٍ للمعضلات التي تعترض طريقه؛ من أجل حياة أفضل. وبموازاة بحثه وسعيه في هذا الطريق، يشيد تاريخه، ويثري معارفه التي ورثها عمّن سبقوه، ويمهّد الطريق للأجيال القادمة لاكتشاف المجهولات، وتسخير الطبيعة بنحو أفضل وأوسع.

وفي ظلّ سعي الإنسان لتحقيق ميوله ورغباته، وكفاحه المرير للسيطرة على الطبيعة، كثيرًا ما يتمّ -للأسف- إهمالُ حقيقة قيّمة للغاية، ألا وهي جوهر الشخصيّة الإنسانيّة -وبتعبيرٍ آخر، ذات

 

9


3

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

الإنسان- وتجاهُلُ تزكيتها وتهذيبها، الإنسان الذي نعته بارئ الوجود بأشرف المخلوقات. وقد ورد عن مفسِّري الوحي الحقيقيِّين، في معرفة الإنسان ذاته، قولُهم: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»[1].

أجل، إنّ تجاهُل الأبعاد غير المتناهية لروح الإنسان، وإهمال مواهبه وقدراته في طيّ مسير الكمالات والفضائل الأخلاقيّة، مِن الأمراض التي ابتُلِيَت بها معظمُ المجتمعات البشريّة. وقد ضاعفَت سيادةُ التكنولوجيا والحياة الآليّة، وسيطرةُ المادّيّين وعبدة الدنيا على حيّز كبير من هذا العالم من جهة، وعَجْزُ المذاهب والمدارس الفكريّة عن تقديم نهج واضح وتفسير مُطَمْئِن عن حقيقة الإنسان وغايته من جهة أخری؛ ضاعفَت من مسيرة التقهقر هذه، والابتعاد عن الذات، والاغتراب عنها.

وفي هذا الشأن، كان الأنبياء ودعاة التوحيد وحماة حريم المبادئ والقيم، وحدهم الذين جعلوا من تربية الإنسان هدفًا لجهادهم الطويل المتواصل، وأخذوا بناصية المجتمع الإنسانيّ، بما ينسجم مع نور العقل ونداء الفطرة، على طريق الكمالات والقيم المتعالية. وإنّ ما خلّده تاريخ الإنسان من مفاخر وقيم سامية وحضارات حقيقيّة، هو، في الحقيقة، كان ثمرةً من ثمار هذه المجاهدات والتضحيات.

 

 


[1]  الإمام الصادق، جعفر بن محمّد (عليهما السلام) (منسوب)، مصباح الشريعة‏، مؤسّسة الأعلميّ، لبنان - بيروت، 1400هـ‏، ط1، ص13.

 

10


4

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

ولم تكن الثورة الإسلاميّة التي فجّرها رجلٌ من رجالات الله في عصرنا الحاضر، أمام حيرة ودهشة أنظار العالم، لم تكن مجرّد حركة سياسيّة أو انتفاضة شعبيّة انطلقت لإسقاط نظامٍ متجبِّرٍ ظالم، بل مثّلَت قبل ذلك انبعاثًا ثقافيًّا وأخلاقيًّا، دعا الإنسان المعاصر المحبَط للعثور على فطرته الإلهيّة.

يقول مؤسِّس الجمهوريّة الإسلاميّة في وصيّته الخالدة، عن ماهيّة الثورة العظيمة التي فجّرها:

«إنّ تحمُّل الأتعاب والمشاقّ والتضحيات والفداء والحرمان، يتناسب مع مقدار عظمة الهدف وقيمته وعلوّ مرتبته. وإنّ الذي نهضتم أنتم، أيّها الشعب النبيل المجاهد، من أجله، هو أعلى وأسمى وأثمن هدف ومقصد طُرِحَ ويُطرَح منذ بدء العالم في الأزل، وحتّى نهاية العالم إلى الأبد. إنّه المدرسة الإلهيّة بمعناها الواسع، وعقيدة التوحيد بأبعادها السامية. إنّه أساسُ الخلق، وغايته في كلّ آفاق الوجود، وفي مراتب ودرجات الغيب والشهود. وهذا الهدف مُتَجَلٍّ في المدرسة المحمّديّة -على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام- بكلّ المعاني والدرجات والأبعاد. وإنّ كلّ مساعي الأنبياء العظام والأولياء الكرام (عليهم السلام)انصبَّت على تحقيق هذا الهدف؛ وبدونه، لا يتيسّر السبيل إلى الكمال المطلق، ولا إلى الجلال والجمال اللامتناهيَين. إنّه هو الذي يجعل «الأرضيّين» أشرف من «الملكوتيّين»، وما يناله

 

11

 

 


5

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

الأرضيّون من الاتّجاه نحوه، لا تناله الموجوداتُ الأخرى في كلّ أرجاء الخليقة، ما خفي منها وما ظهر».

في منطق الإمام الخمينيّ، لا يُعَدُّ النضال وممارسة السياسة وتسلُّم مقاليد الحكم هدفًا بذاته، بل أن تخرج من ساحة الصراع منتصرًا. وقد قال -عزّ مِن قائل-: ﴿قَد أَفلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَد خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[1]. فالهدفُ تربيةُ الإنسان، وهدايته في مسيرته من عالم التراب إلى عالم الملكوت الأعلی. الهدف يتمثّل في تشكيل المجتمع، وإعداد بيئة لا يُعبَد فيها غير الله -تعالى-، فتُزيل أنوارُ العبوديّة والإخلاص والإيمان بالغيب، ظلمةَ الأهواء النفسانيّة والشهوات الدنيويّة، وتضيء أنظار البشريّة بنور جمال الحقّ في عالم الوجود، وتعيد حاكميّة التوحيد وأبعاده المتعالية في مختلف العلاقات والنشاطات الإنسانيّة. ومثل هذا لا يتيسّر إلّا بتزكية النفس، الشيء الذي يجهله حكّام الشرق والغرب، ويتعطّش إليه عالم اليوم المنهك.

إنّ عظمة إنجاز الإمام الخمينيّ، وسرّ سحر تأثير كلامه وأفكاره في نفوس أتباعه، يكمنان في هذه الحقيقة. إنّه لمن العبث أن يحاول بعضهم، من خلال تحليلاتهم المادّيّة، البحث عن العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة، للتعرُّف على السرّ الكامن وراء شعار «انتصار الدم على السيف»، ونجاح أنصار الإمام في إلحاق الهزيمة، بأيدٍ عزلاء، بواحد

 


[1] سورة الشمس، الآيتان 9-10.

 

12


6

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

من أكثر الأنظمة العميلة لأميركا تسلُّحًا وتكديسًا للسلاح. كذلك يعجز عن إدراك ماهيّة الثورة الإسلاميّة، أولئك الذين لم يطّلعوا، ولم يتعرّفوا على نجاحات الإمام في تجربة أساليب الجهاد مع النفس، ومضمار «الجهاد الأكبر» الشاقّ والمضني.

«الجهاد الأكبر أو جهاد النفس» عنوان هذا الأثر القيِّم لعارفٍ أمضى عمرًا في السير والسلوك والعبادة وخوض غمار هذا المسير المحفوف بالمخاطر. فالإمام الخمينيّ الراحل، ومِن قبل أن يرفع لواء النضال السياسيّ علنًا، وكذلك خلال مراحل نضاله، وفي ذروة جهاده، كان يوجِّهُ أنظارَ أتباعه، من خلال أمثال هذه الأبحاث، إلى أنّ نهجه ودربه يختلف عمّا اعتادت عليه الحركات السياسيّة والساسة المحترفون، وأنّ النضال السياسيّ والاقتصاديّ والعسكريّ لن يُكَلَّلَ بالنصر الحقيقيّ بمعزل عن الجهاد الأكبر أو جهاد النفس.

وموضوعات الكتاب هي، في الحقيقة، تقريراتٌ[1] لدروسٍ ألقاها سماحة الإمام الخمينيّ في مدينة النجف الأشرف بالعراق، على طلبة العلوم الدينيّة، قام محبُّو الإمام بتدوينها وطبعها ونشرها مرارًا قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، داخل إيران وخارجها.

 


[1] يُذكَر أنّ بحوث كتاب «الجهاد الأكبر» مُستقاة من إرشادات سماحة الإمام الخمينيّ وتوجيهاته، كانت قد صدرت عن سماحته في فترات مختلفة أثناء وجوده في النجف الأشرف بالعراق، وقام بتدوينها سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد حميد روحاني.

 

13


7

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

إنّ التحذيرات الواعية، والإرشادات الأخلاقيّة القيّمة، التي كانت تصدر عن سماحة الإمام الخمينيّ في تلك الأيام العصيبة، كانت تؤجِّج جذوة الإيمان والدوافع الربّانيّة في نفوس طلبة العلوم الدينيّة والجامعيّين المتديّنين، وتعمل على بلورة معالم النهضة، وافتراقها عن مسيرة أولئك الذين لم يكونوا يدركون معنى تزكية النفس، ومن ثمّ بثّ بذور الإيمان والصدق والإخلاص في قلوب الباحثين عن الحقيقة. وقد أثمرت في النهاية، بفضل العناية الإلهيّة، وشاهد العالم بأسره صورًا من بطولاتها وملاحمها عام 1978م، وخلال الحرب العراقيّة التي فُرِضَت على الجمهوريّة الإسلاميّة، وكيف كانت حشود الشباب المؤمن تتدفّق على جبهات القتال، دفاعًا عن الإسلام والثورة، وأملًا بالفوز بالشهادة. وفي هذا المجال، حفلَت جبهاتُ القتال بمواقف وصور خالدة لا يذكر التاريخ نظيرًا لها.

 

مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)

 

14

 

 


8

مقدّمة مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ

بسم الله الرحمن الرحيم

ها قد انقضت سنةٌ أخرى من أعمارنا. أنتم الشباب تسيرون نحو الهرم والشيخوخة، ونحن الشيوخ نقترب من الموت. فأنتم على علم بمدى التقدُّم العلميّ الذي أحرزتموه، وحجم المعارف التي اكتسبتموها في هذا العام الدراسيّ. ولكن، ما الذي فعلتموه بالنسبة لتهذيب الأخلاق وتزكية النفس وتحصيل الآداب الشرعيّة والمعارف الإلهيّة؟ أيّة خطوة إيجابيّة خطوتم؟ وهل كان لديكم برنامجٌ لذلك؟ للأسف، لا بدّ لي من القول بأنّكم لم تنجزوا عملًا يستحقّ الذكر، ولم تقطعوا شوطًا يُذكَر على طريق إصلاح نفوسكم وتهذيبها.

 

15

 


9

الحوزات العلميّة

الحوزات العلميّة

إنّ الحوزات العلميّة بحاجة إلى تعليم المسائل الأخلاقيّة والعلوم المعنويّة وتعلُّمِها، جنبًا إلى جنب مع تدريس الموضوعات العلميّة. فالإرشادات الأخلاقيّة وتربية القوى الروحيّة والإيمانيّة ومجالس الوعظ والإرشاد أمرٌ ضروريّ.

ينبغي أن تكون البرامج الأخلاقيّة والتربويّة، ودروس التربية والتهذيب، وتعليم المعارف الإلهيّة التي مثّلَت الهدف الأساس من بعثة الأنبياء (عليهم السلام)، رائجةً وشائعةً في الحوزات العلميّة.

ولكن ما يُؤسَف له، أنّ هذا النوع من البحوث المهمّة والضروريّة، قلّما يتمّ الاهتمام بها في المراكز العلميّة. فالعلوم المعنويّة والأخلاقيّة بدأت تتضاءل، وبات يُخشى أن لا تتمكّن الحوزات العلميّة، في المستقبل، من تربية علماء أخلاق ومربِّين مهذّبين ومتّقين ورجال ربّانيّين، إذ لم يُبقِ البحثُ والتحقيقُ في المسائل المقدّماتيّة مجالًا للاهتمام بالمسائل الأصليّة والأساسيّة التي ركّز عليها القرآن الكريم، واهتمّ بها الرسولُ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسائرُ الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).

من المفيد أن يهتمّ الفقهاء العظام والمدرِّسون الأعلام، ممّن هم محطّ اهتمام الجامعة -الحوزة- العلميّة، بتربية الأفراد وتهذيبهم،

 

16

 

 


10

الحوزات العلميّة

خلال تدريسهم وأبحاثهم، وأن يركّزوا أكثر على القضايا المعنويّة والأخلاقيّة. كما ينبغي لطلبة العلوم الدينيّة أن لا يتوانوا في سبيل اكتساب الملَكات الفاضلة وتهذيب النفس، وأن يهتمّوا بالواجبات المهمّة والمسؤوليّات الخطيرة الملقاة على عاتقهم.

 

17


11

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

أنتم الذين تدرسون اليوم في هذه المراكز العلميّة، وتتطلّعون لأنْ تتسلّموا، في الغد، زمام قيادة المجتمع وهدايته، لا تتصوّروا أنّ كلّ واجبكم أن تحفظوا حفنةً من المصطلحات، بل تقع على عاتقكم مسؤوليّات أخرى أيضًا. ينبغي لكم أن تبنوا أنفسَكم وتربّوها في هذه الحوزات، بحيث إذا ما ذهبتم إلى مدينة أو قرية، وُفِّقتم إلى هداية أهاليها وتهذيبهم. يؤمَل منكم، عند مغادرتكم الحوزات العلميّة، أن تكونوا قد هذّبتم أنفسَكم وبنيتموها، بنحوٍ تتمكّنون من بناء الإنسان وتربيته وفقًا لأحكام الإسلام وتعاليمه وقيمه الأخلاقيّة. ولكن، إذا ما عجزتم -لا سمح الله- عن إصلاح أنفسكم خلال مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمالات المعنويّة والأخلاقيّة، فإنّكم أينما ذهبتم، ستُضلِّون الناس -والعياذ بالله- وتُسيئون إلى الإسلام، وإلى علماء الدين.

تقع على عاتقكم مسؤوليّةٌ ثقيلة وجسيمة. فإذا لم تعملوا بمسؤوليّاتكم في الحوزات العلميّة، ولم تفكّروا بتهذيب أنفسكم، واقتصر همُّكم على تعلُّم عددٍ من المصطلحات، وبعض المسائل الفقهيّة والأصوليّة، فإنّكم ستكونون في المستقبل عناصر مضرّة -لا سمح الله- للإسلام والمجتمع الإسلاميّ، ومن الممكن أن تتسبّبوا -والعياذ بالله- في إضلال الناس وانحرافهم. فإذا ما انحرف إنسانٌ وضلّ بسبب سلوككم وسوء عملكم، فإنّكم ترتكبون بذلك أعظم

 

18


12

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

الكبائر، ومن الصعب أن تُقبَل توبتُكم. كما لو أنّ شخصًا اهتدى بكم، فإنّ ذلك خيرٌ لكم ممّا طلعَت عليه الشمسُ، كما ورد في الحديث الشريف[1].

إنّ مسؤوليّتكم جسيمة للغاية، وواجباتكم غير واجباتِ عامّةِ الناس. فكم من الأمور مباحةٌ لعامّةِ الناس، إلّا أنّها لا تجوز لكم، وربّما تكون محرّمةً عليكم! فالناس لا تتوقّع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم -لا سمح الله- الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنّها ستُعطي صورةً سيّئةً عن الإسلام وفئة علماء الدين؛ وهنا يكمن الداء. فإذا شاهد الناسُ عملًا أو سلوكًا من أحدكم خلافًا لِما يُتَوَقَّع منكم، فإنّهم سينحرفون عن الدين، ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص. ولَيْتَهُم ابتعدوا عن هذا الشخص، وأساؤوا الظنَّ به فحسب.

إذا ما رأى الناس تصرُّفًا منحرفًا، أو سلوكًا لا يليق من أحد المعمَّمين، فإنّهم لا ينظرون إلى ذلك بأنّه من الممكن أن يوجد بين المعمّمين أشخاصٌ غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسَبة والموظّفين أفرادٌ منحرفون وفاسدون. لذا، فإذا ما ارتكب بقّالٌ مخالَفة، فإنّهم

 


[1] قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لَمَّا وَجَّهَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: يَا عَلِيُّ، لَا تُقَاتِلْ أَحَدًا حتّى تَدْعُوَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَأيْمُ اللَّهِ، لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا، خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ، وَلَكَ وَلَاؤُهُ». الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج5، ص36.

 

19


13

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

يقولون: إنّ البقّال الفلانيّ منحرف، ولو ارتكب عطّارٌ عملًا قبيحًا، فإنّهم يقولون: إنّ العطار الفلانيّ شخصٌ منحرف، ولكن إذا ما قام أحدُ المعمّمين بعمل لا يليق، فإنّهم لا يقولون: إنّ المعمم الفلانيّ منحرف، بل يقولون: إنّ المعمّمين سيّئون!

إنّ واجبات علماء الدين جسيمة للغاية، وإنّ مسؤوليّاتهم أعظم من مسؤوليّات سائر الناس. فإذا ما رجعنا إلى أصول الكافي[1] وكتاب الوسائل[2]، وتصفّحنا الأبواب المتعلِّقة بواجبات علماء الدين، فسوف نُواجَه بواجباتٍ عظيمة ومسؤوليّات خطيرة ذُكِرَت لأهل العلم. ففي الحديث: عن جميل بن دراج، قال: سمعتُ أبا عبد الله [الصادق] (عليه السلام) يقول: «إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ هَهُنَا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلى حَلْقِهِ- لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ تَوْبَةٌ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّمَا ٱلتَّوبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ﴾[3]»[4]. وجاء في حديثٍ آخر: عن حفص بن قياس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يَا حَفْصُ، يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْبًا، قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ»[5]؛ لأنّ معصية العالِم تُسيء كثيرًا إلى

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، «كتاب فضل العلم»، أبواب: صفة العلماء، بذل العلم، النهي عن القول بغير علم، استعمال العلم، المستأكل بعلمه والمباهي به، لزوم الحجّة على العالِم، و«باب النوادر».

[2] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق وتصحيح وتذييل الشيخ عبد الرحيم الربّانيّ الشيرازيّ، دار إحياء التراث العربيّ، لبنان - بيروت، 1403 - 1983م، ط5، ج18، ص9 - 17، وص 98 - 129، «كتاب القضاء»، «أبواب صفات القاضي»، باب 4، 11، 12.

[3] سورة النساء، الآية 17.

[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص47.

[5] المصدر نفسه.

 

20


14

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

الإسلام والمجتمع الإسلاميّ. فإذا ارتكب العامّيّ والجاهل معصية، فإنّه يُسيء إلى نفسه فحسب، ويضرّها، ولكن إذا ما انحرف العالِم وارتكب عملًا قبيحًا، فإنّه سيحرف عالَمًا، وسيُسيء إلى الإسلام وعلماء الدين[1]، وإنّ ما ورد في الحديث من أنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالِم التارِك لعلمه[2]، هو لأنّه يوجد فرق كبير في الدنيا بين العالِم والجاهل بالنسبة لنفعهم وضررهم للإسلام والمجتمع الإسلاميّ.

فإذا ما انحرف العالِم، فمِن الممكن أن يُضِلّ أمّةً بأسرها، ويجرّها إلى الهاوية. وإذا كان العالِم مهذَّبًا يراعي الأخلاق والآداب الإسلاميّة، فإنّه يعمل على هداية المجتمع وتهذيبه.

فقد كنتُ أرى في بعض المدن التي كنت أذهب إليها في فصل الصيف، أهالي تلك المدن ملتزمين بآداب الشرع إلى حدّ كبير؛ والسبب في ذلك، كما اتّضح لي، هو أنّه كان لديهم عالِمٌ صالحٌ ومتّقٍ. فإذا كان العالِم الورِع والصالح يعيش في مجتمع أو مدينة أو إقليم ما، فإنّ

 

 


[1] قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، إِذَا صَلَحَا، صَلَحَتْ أُمَّتِي؛ وَإِذَا فَسَدَا، فَسَدَتْ أُمَّتِي. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ هُمَا؟ قَالَ: الْفُقَهَاءُ وَالْأُمَرَاءُ». الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص37. وكذلك انظر: الحرّاني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363ش، ط2، ص50.

[2] عن سليم بن قيس الهلاليّ، قال: سمعتُ أمير المؤمنين (عليه السلام) يُحدّث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال في كلامٍ له: «الْعُلَمَاءُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ، فَهَذَا نَاجٍ؛ وَعَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ، فَهَذَا هَالِكٌ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَتَأَذَّوْنَ مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص44.

 

21


15

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

وجوده يبعث على تهذيب أهالي تلك المدينة وهدايتهم، وإن لم يكن يمارس الوعظ والإرشاد لفظًا[1].

لقد رأينا أشخاصًا كان وجودُهم يبعث على الموعظة والعبرة. إنّ مجرّد النظر إليهم كان يبعث على الاتّعاظ والاعتبار. وأنا أعلم الآن، إجمالًا، أنّ مناطق طهران تختلف عن بعضها. فالمنطقة التي يقطنها عالِمٌ ورعٌ ومتّقٍ، يكون أهاليها مؤمنين صالحين. وفي محلّة أخری، حيث أصبح أحد المنحرفين الفاسدين معمّمًا، وأصبح إمامًا للجماعة، وفتح دكّانًا له، تراه يخدع الناس ويلوّثهم ويحرفهم.

إنّ هذا التلوّث هو الذي يتأذّى من رائحة تعفُّنِه أهلُ جهنّم. إنّ هذا التعفُّن والأعمال السيّئة التي يجترحها عالِم السوء، والعالِم غير العامل، والعالِم المنحرف في هذه الدنيا، هي التي تتحوّل إلى روائح كريهة تؤذي مشامّ أهل جهنّم في الآخرة، دون أن يُضَافَ إليها شيءٌ في تلك الدنيا. فالذي يحدُث في عالَم الآخرة، الشيءُ ذاتُه الذي كان في هذه الدنيا؛ فلا يُضافُ شيءٌ إلى أعمالنا، وإنّما تتحقّقُ ذاتُها.

فإذا ما اتّصف العالِم بالإفساد والخبث، فإنّه سيجرّ المجتمع إلى الانحطاط والتعفُّن، غاية الأمر أنّ حاسّة الشمّ في هذه الدنيا لا تشمّ رائحة تعفُّنه، ولكن في الآخرة تُشَمّ. بَيْدَ أنّ الشخص العامّيّ ليس

 

 


[1] ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الِاجْتِهَادَ وَالصِّدْقَ وَالْوَرَعَ». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص105.

 

22


16

نصيحة إلى طلبة العلوم الدينيّة

باستطاعته أن يُوجِدَ مثل هذا الفساد والتلوُّث في المجتمع الإسلاميّ. الشخص العامّيّ لن يسمح لنفسه أبدًا أن يدّعي الإمامة والمهدويّة والنبوّة والألوهيّة. العالِم الفاسد هو الذي يجرّ العالَم إلى الفساد: إذا فسد العالِم، فسد العالَم.

 

 

23

 


17

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

إنّ غالبيّة الذين تظاهروا بالتديُّن وتسبّبوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم. فبعضُ هؤلاء درسوا في المراكز العلميّة الدينيّة، ومارسوا الرياضات النفسيّة[1]، حتّى إنّ مؤسِّس إحدى الفرق الضالّة قد دَرَسَ في حوزاتنا العلميّة هذه، ولكن نظرًا لأنّ دراسته لم تكن مقترنةً بتهذيب النفس وتزكيتها، لم يخطُ على الصراط المستقيم، ولم يتمكّن من إبعاد نفسه عن الرذائل، فكانت عاقبتُه تلك الفضائح كلّها. فإذا لم يتخلّص الإنسانُ من الخبائث، فإنّ دراسته وتعلّمه لا يجديانه نفعًا، بل يلحقان به أضرارًا أيضًا.

فالعلم عندما يكون في أرضيّة غير صالحة، سوف ينبت نبتًا خبيثًا، ويصبح شجرةً خبيثةً. وكلّما تكدّسَت هذه المفاهيم في القلب المظلم غير المهذَّب، ازدادت الحجُبُ أكثر فأكثر؛ ذلك أنّ العلم في النفس التي لم تتهذَّب يكونُ حجابًا مظلِمًا: «العلمُ هُوَ الحِجَابُ الأكبرُ». ومن هنا، كان شرّ العالِم الفاسد، بالنسبة للإسلام، أخطر وأعظم من كلّ الشرور.

العلم نور، إلّا أنّه في القلبِ المظلِم والقلبِ الفاسد، يجعل الظلمةَ أكثرَ عتمةً. كما أنّ العلم يقرّب الإنسانَ من الله -تعالى-، إلّا أنّه في النفسِ الطالبةِ للدنيا يبعثُ على الابتعاد أكثر عن محضر ذي

 

 


[1] من أمثال محمّد بن عبد الوهّاب مؤسِّس (الحركة الوهّابيّة)، والشيخ أحمد الإحسائيّ والسيّد كاظم الرشتيّ (مؤسِّسِي الفرقة الشيخيّة)، وأحمد كسروي وغلام أحمد (مؤسِّس القاديانيّة).

 

 

24


18

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

الجلال. وعِلم التوحيد أيضًا، إذا لم يكن خالصًا للّه، فإنّه يتحوّل إلى حجب ظلامٍ؛ لأنّه انشغالٌ بما سوى اللّه. ولو أنّ شخصًا حفظ القرآن بالقراءات الأربع عشرة، لغير وجه الله -تعالى-، وتلاها، فإنّه لن يجنيَ سوى الحجاب والابتعاد عن الحقّ -تعالى-.

فلو درستم وتحمّلتم الصعاب في هذا السبيل، فقد تصبحون علماء، ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ثمّة فرقًا كبيرًا بين «العالِم» و«المهذَّب».

كان أستاذُنا المرحوم الشيخ الحائريّ[1] (رحمه الله) يقول: «يقولون: من السهل أن تصبح معمَّمًا (رجل دين)، ولكن كم هو صعبٌ أن تكون إنسانًا!». إلّا أنّ هذا القول غير صحيح، إذ ينبغي القول: من الصعب أن تصبح عالِمًا، ومن المستحيل أنّ تكون إنسانًا!

إنّ اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانيّة والمعايير الآدميّة، أصعب وأشقّ بكثير من التكاليف الملقاة على عاتقنا. فلا تتصوّروا أنّكم، بانشغالكم الآن بطلب العلوم الشرعيّة ودراسة الفقه الذي هو أشرف العلوم، قد ارتحتم وعملتم بواجبكم وتكليفكم. فإذا لم يتوافر الإخلاص وقصد القربة، فإنّ هذه العلوم لا تنفع شيئًا.

 

 


[1] آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائريّ اليزديّ (1276 - 1355 هـ)، أحد الفقهاء العظام ومراجع التقليد الشيعة في القرن الرابع عشر الهجريّ. حضر في مدينتَي النجف وسامرّاء دروسَ أساتذةٍ كبار، أمثال الميرزا الشيرازيّ الكبير، والميرزا محمّد تقي الشيرازيّ، والآخوند الخراسانيّ، والسيّد كاظم اليزديّ، والسيّد محمّد الإصفهانيّ الفشاركيّ. انتقل عام 1340هـ إلى مدينة قمّ للإقامة فيها وتأسيس حوزتها العلميّة. من مصنّفاته: درر الفوائد في الأصول، والصلاة والنكاح والرضاع والمواريث في الفقه.

 

 

25


19

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

إذا كان تحصيلكم العلميّ لغير الله -والعياذ بالله- وبدافع الأهواء النفسيّة والاستحواذ على المراكز الاجتماعيّة والوجاهة الدنيويّة، فإنّكم لن تجنوا غير الوزر والويل والوبال. إنّ هذه المصطلحات، إن لم تكن لوجه الله -تعالى-، فستكون وزرًا ووبالًا. إنّ هذه المصطلحات، مهما كثرَت وعظمَت، إذا لم تكن مقرونةً بالتهذيب والتقوی، فإنّها سوف تنتهي بضرر حياة المسلمين وآخرتهم.

إنّ مجرّد تعلُّم هذه المصطلحات لا يجدي نفعًا. كما أنّ علم التوحيد، إذا لم يقترن بصفاء النفس، سيكون وبالًا. فما أكثر الأشخاص الذين كانوا علماء في علم التوحيد، ولكنّهم كانوا سببًا في انحراف جموع غفيرة من الناس! فكم من الأشخاص كانوا يتقنون هذه الدروس التي تدرسونها بنحوٍ أفضل منكم، ولكن نظرًا لأنّهم كانوا منحرفين ولم يصلحوا أنفسهم ويهذّبوها، فإنّهم عندما نزلوا إلى المجتمع، أضلّوا الناس، وأفسدوا كثيرين.

فإذا تجرّدَت هذه المصطلحات الجافّة من التقوى وتهذيب النفس، فإنّها كلّما تكدَّسَت في الذهن أكثر، تعاظمَ التكبُّر والغرور في دائرة النفس أكثر فأكثر. وإنّ عالِم السوء، الذي سيطر عليه الغرور والتكبُّر، لن يتمكّنَ من إصلاح نفسه والمجتمع، ولن يجلب غير الضرر للإسلام والمسلمين، وسوف يصبح، بعد سنين من طلب العلم وإنفاق الحقوق الشرعيّة والتمتُّع بالحقوق والمزايا الإسلاميّة، عقبةً في طريق تقدُّم

 

 

26

 


20

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

الإسلام والمسلمين، ووسيلةً في تضليل الشعوب وانحرافها، وتُصبحُ ثمرةُ هذه الدروس والبحوث كلّها والانشغال في الحوزات، أن يَحُولَ دون نشر الإسلام واطّلاعِ العالَم على حقائق القرآن، بل قد يصبح وجودُه حائلًا دون تعرُّف المجتمع على حقيقة الإسلام وواقع علماء الدين.

أنا لا أقول: لا تدرسوا، لا تكسبوا العلم، بل ينبغي أن تلتفتوا إلى أنّكم إذا أردتم أن تكونوا أبناءً مفيدين وفاعلين للإسلام والمجتمع، وأن تتولّوا قيادة الأمّة وتوعيتها بالإسلام، وإذا أردتم أن تدافعوا عن حمى الإسلام وتذودوا عن حياضه، ينبغي لكم أن تعزِّزوا قواعد الفقاهة، وأن تصبحوا من أصحاب الرأي فيها. فإذا لم تدرسوا، فإنّه يحرم عليكم البقاء في المدرسة، ولا يمكنكم الاستفادة من الحقوق الشرعيّة المخصَّصة لدارسي العلوم الإسلاميّة. طبعًا، إنّ كسبَ العلم واجبٌ، ولكن مثلما تجِدُّون وتجهتدون في المسائل الفقهيّة والأصوليّة، يجب أن تسعَوا في طريق إصلاح أنفسكم أيضًا. فأيّ خطوة تخطونها على طريق كسب العلم، ينبغي أن تقابلَها خطوةٌ أخرى على طريق استئصال الأهواء النفسيّة الخبيثة، وتنمية القوى الروحيّة، واكتساب مكارم الأخلاق، وتحصيل التقوی.

إنّ تحصيل هذه العلوم هو، في الواقع، مقدّمةٌ لتهذيب النفس واكتساب الفضائل والآداب والمعارف الإلهيّة. وحاذروا أن تبقَوا إلى آخر العمر تراوحون في هذه المقدّمة، دون أن تحقِّقوا النتيجة المرجوّة!

 

27


21

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

إنّكم تبغون من وراء كسب هذه العلوم هدفًا ساميًا ومقدّسًا، يتمثّل في معرفة الله -تعالى- وتهذيب النفس وتزكيتها. ولا بدّ لكم من التفكير بثمرة عملكم ونتيجة جهدكم. وابذلوا كلّ ما بوسعكم لتحقيق هدفكم الأصليّ والأساس.

فأنتم عندما تنتسبون إلى الحوزات العلميّة، ينبغي لكم أن تفكّروا في إصلاح أنفسكم قبل كلّ شيء. وما دمتم في الحوزة، فيجب أن تكونوا بصدد تهذيب أنفسكم وإصلاحها؛ لكي يتسنّى -إذا ما تركتم الحوزة وأخذتم على عاتقكم هداية أبناء مدينة أو محلّة ما- للناس أن يستفيدوا من الفضائل الأخلاقيّة التي تتحلَّون بها، ويتّعظوا ويُصلحوا أنفسَهم بالتأسّي بها.

حاوِلوا أن تُصلِحوا أنفسَكم وتهذِّبوها قبل النزول إلى المجتمع. فإذا لم تهتمّوا الآن -حيث تمتلكون متَّسعًا من الوقت والطاقة- بتهذيب أنفسكم، فسوف لا تقدرون على إصلاح أنفسكم عندما يلتفّ الناس حولكم، وتصبح مسؤوليّاتكم جسيمة.

فثمّة أشياء كثيرة يُبتلى بها الإنسان، وتحول دون التهذيب واكتساب العلم. وإنّ أحدَ هذه الموانع، لبعض الناس، هي هذه اللحية والعمامة. فإذا كبُرَت عمامةُ أحدكم، وطالت لحيته، يصعبُ عليه، إذا لم يكن قد هذّب نفسه، أن يواصل تحصيل العلوم الدينيّة ويكون مفيدًا، ويكون من الصعب عليه كبح جماح النفس الأمّارة، وحضور

 

28

 


22

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

دروس أحد. فالشيخ الطوسيّ [1](رحمه الله) كان يذهب إلى الدرس كتلميذ، وهو في سنّ الثانية والخمسين، في حين كان قد صنَّفَ بعضَ مؤلّفاته ما بين سنّ العشرين والثلاثين. ويبدو أنّه صنّف كتاب «التهذيب» في هذا السنّ[2]. وفي سنّ الثانية والخمسين، كان يحضر دروس السيّد المرتضی [3] (رحمه الله)، وهذا ما أهّله لأنْ يصل إلى ما وصل إليه.

فلا قدّر الله أن تصبحَ لحية طالب العلوم الدينيّة بيضاء بعض الشيء، وتكبر عمامته، قبل أن يتمكّن من اكتساب الملكات الخُلُقيّة الفاضلة، وتنمية قواه الروحيّة؛ لأنّه، والحال هذه، سوف يبقى محرومًا من الاستفادات العلميّة والمعنويّة وجميع البركات.

اغتنموا الفرصة، وجِدّوا واجتهدوا قبل المشيب، فإذا لم تحظَوا باهتمام الناس وتوجُّهِهم، فقد تتوافر لكم الفرصة لأنْ تفعلوا شيئًا لأنفسكم. فلا قدّر الله -تعالى- أن يهتمَّ المجتمعُ بشخص ما، قبل

 

 


[1] أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (385 - 460هـ)، ويُلَقَّب بشيخ الطائفة، من فحول علماء الإماميّة. كان رئيس فقهاء عصره ومتكلِّميه، وكان بارعًا في الأدب وعلم الرجال والتفسير والحديث أيضًا. ومن أساتذته، الشيخ المفيد، والسيّد المرتضی، وابن غضائري، وابن عبدون. والشيخ هو صاحب كتابَي الاستبصار والتهذيب في الحديث، اللذَين يُعَدَّان من كتب الإماميّة الأربعة. وكان الشيخ الطوسيّ قد جعل من النجف الأشرف مركزًا علميًّا للشيعة.

[2] بدأ الشيخ الطوسيّ بتأليف كتاب التهذيب -الذي هو شرح لكتاب المقنعة للشيخ المفيد- في حياة أستاذه (الشيخ المفيد، المتوفّي عام 413هـ)، وكان له من العمر، وقتئذٍ، نحو 26 عامًا. راجع مقدّمة تفسير التبيان بقلم الشيخ آقا بزرک الطهرانيّ.

[3]عليّ بن الحسين بن موسى، المعروف بالسيّد المرتضى أو علم الهدى (355 - 436هـ). من عظام علماء الإسلام والشيعة. حضر درسَه العديدُ من كبار علماء الإماميّة، بما فيهم الشيخ الطوسيّ. من تصانيفه: الأمالي، والذريعة إلى أصول الشريعة، والناصريّات، والانتصار، والشافي.

 

29


23

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

أن يتمكّن ذلك الشخصُ من تربية نفسه، ويصبح ذا نفوذ ومنزلة بين الناس؛ فعندها سوف يضيِّع نفسه ويخسرها. فابنوا أنفسكم، وأصلحوها قبل أن يفلت الزمام من أيديكم. تحلّوا بالأخلاق الفاضلة، وتخلّصوا من الأخلاق الذميمة. وليكن الإخلاصُ رائدكم في درسكم وبحثكم؛ لكي يقرّبَكم من الله -تعالى-. فإذا لم تتوافر النيّة الخالصة في الأعمال، فسوف يبتعد الإنسان عن عرش الربوبيّة.

حاذِروا أن تكونوا بنحوٍ إذا ما فُتِحَت صحيفةُ أعمالكم بعد سبعين سنة من العمر، يُرى فيها -والعياذ بالله- أنّكم أضحيتم سبعين سنةً بعيدين عن الله -عزّ وجلّ-!

لا شكّ أنّكم سمعتم حكاية ذلك «الحجر» الذي أُلقِيَ في جهنّم، وسُمِعَ صداه بعد سبعين سنة. وقد نُقِلَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: إنّه رجلٌ هَرِم كان في السبعين من عمره، وخلال هذه السبعين عامًا، كان يسير نحو جهنّم[1]. فحاذروا أن تكون عاقبةُ أحدكم أن يقضي خمسين عامًا، أو أكثر أو أقّل، في الحوزات العلميّة، مع كدّ اليمين وعرق الجبين، ولا يجني غيرَ جهنّم! يجب أن تتّعظوا! عليكم أن تضعوا برنامجًا لتهذيب نفوسكم وإصلاح الفاسد من أخلاقكم. وليتّخِذْ كلُّ واحدٍ منكم مدرِّسًا للأخلاق، وشَكِّلوا مجالس الوعظ والنصح والإرشاد.

 

 


[1] الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، الكلمات المكنونة، مؤسّسة التاريخ العربيّ، لبنان - بيروت، 1426هـ - 2005م، ط1، ص205.

 

30


24

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

فالإنسان، وحده، يعجز عن تهذيب نفسه. فإذا ما بقيت الحوزات العلميّة هكذا خاليةً من مُدَرِّسِي الأخلاق ومجالس الوعظ والإرشاد، فستكون محكومةً بالفناء.

فكما يحتاج علم الفقه والأصول إلى أستاذ ودرس وبحث، وكلُّ علم وصناعة في الدنيا لا بدّ لها من أستاذ ومدرِّس -والشخص المغرور والعنيد الذي لا يتّخذ لنفسه مرشدًا وموجِّهًا، لا يصبح فقيهًا وعالِمًا- فكذلك العلوم المعنويّة والأخلاقيّة، التي هي هدف بعثة الأنبياء ومن ألطف العلوم وأدقّها، بحاجة إلى تعليمٍ وتعلُّمٍ. إنّ بناء الإنسان لا يتحقّق بدون معلِّم. لقد سمعتُ مرارًا أنّ الشيخ الأنصاريّ[1] (رحمه الله) -وهو أستاذ الفقه والأصول- كان يحضر درس الأخلاق والمعنويّات لدى سيّدٍ جليلٍ[2]. لقد بُعِثَ أنبياء الله

 

 


[1] الشيخ مرتضى الأنصاريّ (1214 - 1281هـ)، الملقَّب بـ«خاتم الفقهاء والمجتهدين»، وهو من أحفاد الصحابيّ جابر بن عبد الله الأنصاريّ. كان من نوابغ علم الأصول، وقد أَوجدَ تحوّلًا كبيرًا في هذا العلم. ومن أساتذته: الشيخ موسى كاشف الغطاء، والشيخ عليّ كاشف الغطاء، والملّا أحمد النراقيّ، والسيّد محمّد مجاهد. ربّى الشيخ الأنصاري فقهاء كبارًا، منهم: الآخوند الخراسانيّ، والميرزا الشيرازيّ، والميرزا محمّد حسن آشتياني. من تصانيفه: فرائد الأصول (المعروف بالرسائل)، والمكاسب، وهو من الكتب الحوزوية الشهيرة.

[2] هو السيّد عليّ بن السيّد محمّد (المتوفّي عام 1283هـ) من كبار زهّاد وعرفاء عصره. وقد أجازه كلٌّ من الشيخ الأنصاريّ والسيّد حسين إمام جمعة شوشتر. اشتغل فترةً في القضاء والإفتاء في مدينة شوشتر، ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف ليحضر دروس الشيخ الأنصاريّ في الفقه. وكان الشيخ، بدوره، يحضر دروس السيّد في الأخلاق. وكان السيّد وصيّ الشيخ الأنصاريّ. وبعد وفاة الشيخ، حلّ محلَّه في التدريس. كذلك كان المرحوم السيّد عليّ أستاذَ ومربّي الآخوند ملّا حسين قلي الهمدانيّ، الذي كان لديه تلامذة كثيرون، وكان يتولّى إرشادهم. وإنّ أساتذة كبارًا، نظير الميرزا جواد ملكي التبريزيّ، والسيّد أحمد الكربلائيّ، والشيخ محمّد البهاريّ، والسيّد عليّ قاضي التبريزيّ، والعلاّمة الطباطبائيّ، هم من خرّيجي مدرسته.

 

 

31


25

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

لبناء الإنسان وتربيته، وإبعاده عن القبائح والخبائث والنقائص والرذائل، وترغيبه بالفضائل والآداب الحسنة: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»[1].

إنّ علمًا اهتمَّ به الله -تعالى- هذا الاهتمام كلّه، وبعث من أجله الأنبياء، أصبح الآن مهملًا في حوزاتنا، ولا نجد أحدًا يهتمّ به الاهتمام الذي يستحقّه. وقد وصل الأمر، بسبب ضعف العلوم المعنويّة والمعارف في الحوزات، إلى أن تَنفُذَ الأمورُ المادّيّة والدنيويّة إلى أوساط علماء الدين، وأبعدَت الكثيرين عن الأجواء المعنويّة والروحيّة، بدرجةٍ باتوا يجهلون ماذا يعني عالِم الدين أصلًا، وما هو واجبه، وما هي المهامّ التي ينبغي له الاضطلاع بها.

فبعضٌ ليس لهم غير تعلّم بضع كلمات، ثمّ الرجوع إلى مناطقهم، أو أيّ مكان آخر، للحصول على الجاه والمنصب والمقام والتملّق للآخرين، مثلما كان أحدُهم يقول: دعني أدرس «اللمعة»، وحينها سوف أفهم كيف أتصرّف مع مختار القرية.

يجب أن لا يكون الأمر بنحوٍ تتلخّص نظرتُكم وغايتُكم من الدراسة، منذ البداية، في الحصول على المنصب الفلانيّ، وكسب المقام الكذائيّ، أو أن تُصبحوا رؤساء المدينة الفلانيّة، أو شيوخ القرية الفلانيّة. فمن

 

 


[1] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392هـ - 1972م، ط6، ص8.

 

32


26

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

الممكن أن تحقِّقوا هذه الأهواء النفسيّة والأماني الشيطانيّة، ولكن لن تكسبوا لأنفسكم ولأمّتكم ولمجتمعكم الإسلاميّ غير التعاسة والشقاء. فمعاوية ترأَّس وتأمّر لمدّة طويلة، إلّا أنّه ما جنى لنفسه سوى اللعن والذمّ وعذاب الآخرة.

لا بدّ لكم من تهذيب أنفسكم، حتّى إذا ما أصبح أحدُكم رئيسَ قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضًا. حاوِلوا أن تخطوا على طريق إصلاح المجتمع وبنائه. ليكن هدفكم خدمة الإسلام والمسلمين. فإذا خَطَوْتم من أجل الله -تعالى-، فإنّ الله مقلِّب القلوب، يجعل القلوب تهفو إليكم: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحمَٰنُ وُدّٗا﴾[1].

فإذا ما جاهدتم في سبيل الله، وضحّيتم من أجله -تعالى-، فإنّه -سبحانه- لن يتركَكم دون أجر وثواب. وإن لم يكن ذلك في هذه الدنيا، فستحصلون عليه في الآخرة. وإذا لم تنالوا أجركم وثوابكم في هذه الدنيا، فذلك أفضل لكم؛ لأنّ الدنيا لا تعني شيئًا، ولا قيمة لها. فكلّ هذا الصخب والضجيج وهذه الاعتبارات سوف تنتهي خلال أيّام معدودات، وتمرّ من أمام عين الإنسان كالحلم؛ بَيْدَ أنّ الأجرَ الأخرويَّ خالدٌ ليس له نهايةٌ أو حدٌّ.

 

 


[1] سورة مريم، الآية 96.

 

33


27

تحذير الحوزات

تحذير الحوزات

من الممكن أن تحاول بعضُ الأيادي الخبيثة، من خلال بثّ السموم ودعايات السوء، التقليلَ من أهمّيّة البرامج التربويّة والأخلاقيّة، وتصوير ارتقاء المنبر للوعظ والإرشاد على أنّه يتنافى مع المكانة العلميّة، وتحاول، من خلال نسبتها صفة «المنبريّة» للشخصيّات العلميّة المرموقة التي تمارس دورها في إصلاح الحوزات وتنظيمها، أن تَحُولَ دون تأدية واجبها. فقد تجد اليوم، في بعض الحوزات، مَن يعتبر ارتقاءَ المنبر عملًا مشينًا، غافلين عن أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان منبريًّا، وكان يَعِظُ الناسَ ويرشدَهم من على المنابر،كان يوعيهم ويرشدهم ويوجّههم، كما أنّ سائر الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يفعلون ذلك أيضًا.

لعلّ عناصر خفيّة تُشيع هذه الأفكار الخبيثة في حوزاتنا؛ لكي تجرّدَها من المعنويّات والأخلاقيّات، فتُمسي حوزاتنا وَضِيعَةً ومنحطّةً، ينتشر فيها النفاق، وتسيطر على أفرادها الأنانيّة، وتتّسع رقعة الاختلاف، وينشغل أفرادُها بمحاربة بعضهم بعضًا، وينقسمون أحزابًا وشيعًا، يكذِّبُ كلٌّ منهم الآخر، ويوجّه إليه التهم والإهانات، ويُسَقِّط بعضهم بعضًا؛ لكي يتمكّن الأجانب وأعداء الإسلام من التطاول على الحوزات، ويسدِّدوا ضربةً قاصمةً لها، والقضاء عليها.

فالأعداء والسيّئون يعلمون أنّ الحوزات تتمتّع بدعمِ تأييدِ الشعوب.

 

34


28

تحذير الحوزات

وما دام هذا الدعم والتأييد قائمَين، فمن غير الممكن سحق الحوزات والقضاء عليها أبدًا. ولكن، عندما يفقد رجال الحوزات وطلّابها المباني الأخلاقيّة والآداب الإسلاميّة، ويصبح شغلُهم الشاغلُ تسقيط بعضهم بعضًا، ويتحوّلون إلى جماعات متنافرة ومتناحرة لا تتورّع عن الأعمال اللاأخلاقيّة والقبيحة، فمن الطبيعيّ أن تسوء نظرةُ الأمّة الإسلاميّة إلى الحوزات الدينيّة وعلماء الدين، وتسحب دعمها وتأييدها لها؛ وفي النهاية، يُفتَح الطريق أمام الأعداء لتحكيم سلطتهم وتسديد ضرباتهم. وإذا ما كنتم ترون الحكومات تخشى علماء الدين والمراجع ويحسبون لهم حسابًا، فهو لأنّهم يتمتّعون بدعم الشعوب وتأييدها. وفي الحقيقة، إنّ الحكومات تخشى الشعوب؛ ولهذا، فهي تحتمل إذا ما أهانت وتجاسرت وتعرّضَت إلى أحد علماء الدين، أنّ ذلك سوف يثير سخط الأمّة، ويفجّر غضبها ضدّها. ولكن، إذا ما كان علماءُ الدين مختلفين فيما بينهم، ويسيء بعضُهم لبعض، ولم يكونوا متأدِّبين بآداب الإسلام، فإنّهم سيفقدون اعتبارَهم، ويخسرون ثقة الأمّة بهم[1].

إنّ الأمّة تتوقّع منكم أنّ تكونوا متأدِّبين بآداب الإسلام، أن تكونوا حزب الله، تنبذوا بهارج الدنيا وزخارفها، ولا تهتمّوا بها، وأن لاتألوا جهدًا في سبيل تحقق الأهداف الإسلاميّة وخدمة الأمّة الإسلاميّة.

 

 


[1] ورد عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: «لو إنّ حَمَلة العلم حملوهُ بحقه، لأحبّهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه، ولكنّهم حملوه لطلب الدنيا، فَمقَتَهُم الله، وهانُوا على الناس». الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص201.

 

35


29

تحذير الحوزات

تتوقّع منكم أن تخطوا على طريق الله -تعالى-، وأن لا يكون توجّهُكم إلّا لله، وطلبًا لمرضاته.

ولكن، إذا رأَت الأمّة منكم خلاف ذلك، وكان كلُّ همّكم الدنيا والمصالح الشخصيّة، كما هو حال الآخرين، بدلًا من التوجُّه إلى ما وراء الطبيعة، ورآكم الناس تتنازعون وتتخاصمون على حطام الدنيا، وجعلتم من الإسلام والقرآن ألعوبةً بأيديكم -والعياذ بالله-، واتّخذتم الدين دكّانًا ومتجرًا للوصول إلى مطامعكم وأغراضكم الدنيويّة الدنيئة؛ إذا ما رأَت الأمّةُ ذلك منكم، فسوف تبتعد عنكم، وتسيء الظنّ بكم، وستكونون أنتم المسؤولين عن ذلك كلّه.

فإذا كان بعض المعمَّمين العالة على الحوزات يتكالبون فيما بينهم بدوافع شخصيّة ومنافع دنيويّة، ويهتك بعضُهم حرمةَ بعضهم الآخر، ويفسّق هذا منهم ذلك، ويثيرون ضجّةً وجدلًا تافهًا، ويتنافسون على بعض الأمور الحقيرة، فإنّهم بذلك يخونون الإسلام والقرآن، ويخونون الأمانة الإلهيّة. فالله -تبارك وتعالى- وضع الدين الإسلاميّ المقدّس بمثابة أمانة بين أيدينا. فالقرآن الكريم أمانة الله الكبری، والعلماء هم المؤتَمَنون عليها، وإنّ واجبهم الحفاظ على هذه الأمانة الكبرى وعدم خيانتها. وما التشتُّت والاختلاف واللغط والضجيح الذي لا طائل من ورائه، إلّا خيانة للإسلام ولنبيّه الأعظم (صلى الله عليه وآله).

أنا لا أدري لِمَ هذه الاختلافات والتحزُّبات؟ فإنْ كانت من أجل

 

36

 

 


30

تحذير الحوزات

الدنيا، فأنتم لا تملكون شيئًا في الدنيا، وإن كنتم تتمتّعون باللذائذ والمنافع الدنيويّة، فإنّ ذلك لا يستحقّ الاختلاف. ألستم روحانيّين؟ أم إنّكم لم ترثوا من الروحانيّة غير العمامة والعباءة؟!

إنّ عالِم الدين الذي يؤمن بما وراء الطبيعة، عالِم الدين الذي يتحلّى بتعاليم الإسلام الحيّة وأحكامه البنّاءة، عالِم الدين الذي يعتبر نفسه من شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؛ إنّ عالِم الدين هذا من غير الممكن أن يهتمّ بشهوات الدنيا، ناهيك أن يثير الخلاف بسببها.

أنتم، الذين تُدعون أتباع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، تمعّنوا -على الأقلّ- في حياة هذا الرجل العظيم، لترَوا هل تقتدون حقًّا بسيرته وسلوكه؟ هل تعلمون شيئًا عن زهده وتقواه وحياته البسيطة والمتواضعة؟ وهل تلتزمون بشيءٍ من ذلك في حياتكم؟ هل تعون شيئًا من جهاد هذا القائد العظيم ضدّ الظلم والاستبداد والتفاوت الطبقيّ، ودفاعه الحازم عن المظلومين والمعذَّبين، ومن تصوّراته وفهمه عن طبقات المجتمع المحرومة والمستضعفة؟ وهل تعملون بذلك؟ هل معنى «الشيعة» هو مجرَّد التحلّي بالزيّ الظاهريّ للإسلام؟[1]

 

 


[1] راجع: صفات الشيعة تأليف الشيخ الصدوق. كذلك راجع: المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج65، ص83-95 وص149-196. ويراجع أيضًا: شرح الأربعين حديثًا للإمام الخمينيّ {، الحديث 29.

 

37


31

تحذير الحوزات

بناءً على ذلك، فما هو الفرق بينكم وبين سائر المسلمين؟ وبماذا تمتازون عنهم؟ إنّ أولئك الذين يؤجّجون النيران في أنحاء من العالَم، ويمهّدون الطريق لارتكاب المجارز، إنّما يتسابقون للسيطرة على الشعوب، ونهب ثرواتها، ومصادرة خيراتها، وإبقاء الدول الضعيفة والمختلفة تحت أسرها وسلطتها؛ ولذلك يفجّرون، كلّ يوم، باسم الحريّة والبناء والإعمار والدفاع عن استقلال البلدان وأراضيها، وبذرائع خادعة أخری، حربًا في كلّ منطقة من العالَم، ويُلقون ملايين الأطنان من القنابل الحارقة على رؤوس أبناء الشعوب المستضعفة.

إنّ مثل هذه الصراعات والنزاعات تبدو مبرَّرة طِبقًا لمنطق أهل الدنيا، مع تلك العقول الملوَّثة. أمّا نزاعاتكم، فإنّها تفتقد للتبرير، حتّى بمنطق هؤلاء. فإذا سُئِلوا: لماذا تتنازعون؟ سيقولون: إنّنا نسعى للاستيلاء على البلد الفلانيّ، ولا بدّ من فرض سيطرتنا على ثروات البلد العلّانيّ وموارده. ولكن، إذا سُئِلتُم: لِمَ تتنازعون؟ ومن أجل أيّ شيء؟ ماذا ستجيبون؟ فما الذي تملكون من الدنيا ويستحقّ التنازع من أجله؟ إنّ مُرَتَّب أحدكم الشهريّ، الذي يأخذه من المراجع، أقلّ ممّا ينفقه الآخرون على سجائرهم في الشهر الواحد. لقد قرأتُ في إحدى الصحف عن الميزانيّة التي يدفعها «الفاتيكان» لقسّيسٍ في واشنطن، فعندما حسبتُ ذلك، وجدتُ أنّه أكثر من جميع الأموال التي تمتلكها الحوزات العلميّة لدى الشيعة! فهل من المعقول، مع

 

 

38

 


32

تحذير الحوزات

هذه الحال التي عليها حياتكم من بساطة وزهد، أن تختلفوا فيما بينكم، وتتكالبوا على الدنيا، ويُعادي أحدُكم الآخر؟!

إنّ جذور الاختلافات كلّها، التي تفتقد إلى الهدف المحدّد والمقدّس، تعود إلى حبّ الدنيا. وإذا ما وُجِدَت الاختلافات في أوساطكم، فهو لأنّكم لم تُخرِجوا حبَّ الدنيا من قلوبكم. ونظرًا إلى أنّ المنافع الدنيويّة محدودة، فإنّ كلّ واحد يتنافس مع الآخر للاستحواذ عليها. أنتَ تريد المقام الفلانيّ، وغيرك أيضًا يكافح من أجله، فمن الطبيعيّ أن يقود ذلك إلى التحاسد والاختلاف.

بَيْدَ أنّ رجالَ الله، الذين أخرجوا حبَّ الدنيا من قلوبهم، وليس لهم هدفٌ غير رضا الله -تعالى-، لن يُبْتَلَوا بأمثال هذه المفاسد والمصائب. فلو اجتمع اليوم أنبياء الله في مدينة واحدة، لَمَا وقع بينهم أيّ اختلافٍ مطلقًا؛ لأنّ هدفَ الجميع واحدٌ، والقلوب جميعها متوجِّهةٌ نحو الله -تعالى-، وخاليةٌ من حبّ الدنيا.

فإذا بقيَت أعمالكم وأفعالكم وأوضاع معيشتكم وسلوككم، بالصورة التي هي عليها الآن، فاحذروا أن تغادروا هذه الدنيا وأنتم لستم من شيعة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)! احذروا أن لا تُوَفَّقوا للتوبة النصوح، وأن تُحرَموا من شفاعته (عليه السلام)! فكِّروا، قبل فوات الأوان، بطريقة تنجيكم! كُفُّوا عن هذه الاختلافات المبتذلة والمفضوحة، أقلِعوا عن هذه التحزُّبات والمحوريّات الخاطئة. هل أنتم أهل ملَّتَين؟

 

 

39

 

 


33

تحذير الحوزات

هل في ملّتكم ومذهبكم شُعَبٌ وطُرُقٌ متعدِّدة؟ لماذا لا تفيقون؟ لماذا لا يوجد بينكم صفاءٌ وأخوّةٌ ومحبّةٌ؟ لماذا؟!

إنّ هذه الاختلافات خطيرةٌ، وتترتّب عليها مفاسد لا تُعَوَّض. إنّها تُسيء إلى الحوزات العلميّة وتدمّرها، كما أنّها تُفقِدُكم مكانتَكم الاجتماعيّة، وتُحقِّركم في عيون المجتمع. إنّ هذه التحزُّبات والفئويّات لا تنتهي بضرركم فحسب، ولا تُسيء إلى سمعتكم وحدكم، بل تُسيء إلى سمعة المجتمع وكيانه، تُسيء إلى الأمّة، إلى الإسلام. إنّ المفاسد التي تترتّب على اختلافاتكم، ذنوبٌ لا تقبل العفو والغفران، وهي عند الله -تبارك وتعالى- أعظم من كثيرٍ من المعاصي؛ لأنّها تُفسد المجتمعات، وتفتح الباب واسعًا أمام تسلُّط الأعداء وبَسْطِ نفوذهم.

فليس مستبعَدًا أن تعمل أيادٍ خفيّة على إيجاد الفرقة والاختلاف؛ لتداعي أركان الحوزات العلميّة، وزرع النفاق والشقاق، وتسميم الأفكار والأذهان، حتّى يصبح التكليف الشرعيّ مشوبًا بالنزاعات، مثقلًا بالاختلافات؛ وبذلك يُوجِدُون الفساد في الحوزات، وبهذه الوسيلة، يتمّ تسقيط الأشخاص الذين يُعلِّق الإسلام عليهم الآمال؛ لكي لا يكون بمقدورهم خدمة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ في المستقبل.

يجب أنّ تكونوا واعين يقظين. لا تجعلوا أنفسكم ألعوبةً بِيَد

 

40

 

 


34

تحذير الحوزات

الشيطان؛ كأن يقول أحدكم: إنّ تكليفي الشرعيّ يقتضي كذا، ويقول الآخر: إنّ تكليفي الشرعيّ عكس ذلك. ففي بعض الأحيان، يتولّى الشيطان نسج التكاليف الشرعيّة للإنسان، ويُملي عليه واجباتٍ معيّنة. وفي أحيان أخری، تدفع الأهواءُ النفسيّة الإنسانَ إلى أداء بعض الأعمال على أنّها واجبٌ شرعيّ. فليس من الواجب الشرعيّ أن يُهينَ مسلمٌ مسلمًا. ليس من الواجب الشرعيّ أنّ يُسيء المسلمُ إلى أخيه في الدين. إنّه حبّ الدنيا وحبّ النفس. إنّ الإيحاءات الشيطانيّة هي التي تُوصل الإنسانَ إلى هذا اليوم الأسود. إنّ هذا التخاصمَ تخاصمُ أهل النار: ﴿إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهلِ ٱلنَّارِ﴾[1]. ففي جهنّم، مكانٌ للخصومات والنزاعات. أهل جهنّم يتنازعون ويتخاصمون ويتكالبون فيما بينهم. فإذا ما تنازعتم على الدنيا، فاعلموا أنّكم تُعِدُّون جهنّم لأنفسكم، وتَسيرون نحوها.

الأمور الأخرويّة لا صراع عليها، ولا اختلاف فيها. فأهل الآخرة يعيشون مع بعضهم في سلام وصفاء، قلوبُهم مفعمةٌ بحبّ الله وعباده؛ ذلك أنّ حبَّ الله -تعالى- يقودُ إلى حبّ الذين يؤمنون بالله. وإنّ محبّةَ عباد الله هي ظلال محبّة الله -تعالى-.

فلا تؤجِّجوا النار بأيديكم. لا تُضرموا نار جهنّم. إنّ نيران جهنّم تتأجّج بوحيٍ من أعمال الإنسان وأفعاله القبيحة. قال (عليه السلام):

 

 


[1] سورة ص، الآية 64.

 

41


35

تحذير الحوزات

«جُزْنَاهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ»[1]. فإذا لم يفعل الإنسان ما يحرِّك نارَ جهنّم ويؤجّجها، فإنّ جهنّم خامدة. إنّ باطنَ هذه الدنيا جهنّم، وإنّ الإقبال على الدنيا إقبالٌ على جهنّم، ولعبٌ بنارها. ولا يدرك الإنسان هذه الحقيقة إلّا حين ينتقل إلى الدار الآخرة عاريًا، وتسقط الحجب، حينها يدرك أنّ ﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيكُم﴾[2]،
﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗا﴾[3]. فكلّ ما يصدر عن الإنسان في هذه الدنيا، يجده أمامه في العالَم الآخر، يتجسّم له، قال -تعالى-: ﴿فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ﴾[4].

إنّ أعمال الإنسان وأفعاله وأقواله كلّها تُعرَض عليه هناك، وكأنّ حياتنا يتمّ تصويرها في فيلمٍ سوف يُعرَض في العالَم الآخر، وليس بوسع أحد إنكاره. سوف تُعرَض علينا جميعُ أعمالنا وحركاتنا وسكناتنا، إضافة إلى شهادة الأعضاء والجوارح: ﴿قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيءٖ﴾[5].

أمام الله -تعالى-، حيث جعل كلّ شيء ناطقًا، لا يمكن التنصُّل من أعمالنا القبيحة وإنكارها. فكِّروا قليلًا، وكونوا بعيدي النظر. زِنُوا

 

 


[1] إشارة إلى الحديث: ولهذا لَمَّا سُئِلَ بعضُ أئمّتنا عن عموم الآية المذكورة (الآية 71 من سورة مريم)، قال: «جُزْنَاهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ». الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، علم اليقين في أصول الدين، منشورات بيدار، إيران - قم، 1377ش - 1418ق، ط1، ج2، ص1184.

[2] سورة آل عمران، الآية 182.

[3] سورة الكهف، الآية 49.

[4] سورة الزلزلة، الآيتان 7-8.

[5] سورة فصّلت، الآية 21.

 

42


36

تحذير الحوزات

عواقب الأمور. تذكّروا العقبات الخطيرة التي ستواجهونها. تذكّروا عذاب القبر وعالَم البرزخ والشدائد والأهوال التي تعقبه، ولا تغفلوا عنها. آمِنوا، على الأقلّ، بجهنّم. فإذا آمن الإنسان حقًّا بهذه العقبات الخطيرة، فسوف يتخلّى عن سلوكه المشين. فلو كنتم تؤمنون بهذه الأمور، ومتيقّنين منها، لَما تركتم حياتكم حرّةً طليقة، تفعلون ما يحلو لكم، ولَصنتُم أقلامكم وألسنتكم وخطواتكم، ولسعيتم لإصلاح أنفسكم وتهذيبها.

 

 

43


37

العناية الإلهيّة

العناية الإلهيّة

من عناية الله -تعالى- بعباده، أن وهبهم العقل، ومنحهم القدرة على تهذيب نفوسهم وتزكيتها، وبعث الأنبياء والأوصياء ليعملوا على هدايتهم وإصلاحهم؛ لئلّا يبتلوا بعذاب جهنّم الأليم. وإن لم تكن هذه الوسائل نافعةً في تنبيه الإنسان وتهذيبه، فالله -عزّ وجلّ- الرحمن ينبِّهُ بوسائل وطرق أخری: عن طريق مختلف الابتلاءات والمصائب والفقر والمرض، كالطبيب الحاذق، والممرِّض الماهر الرؤوف، الذي يحاول معالجة هذا الإنسان من الأمراض الروحيّة الخطيرة.

إذا كان العبدُ محلَّ عناية الله -تعالى-، فإنّه يُبتَلى بصنوف الابتلاءات، حتّى يلتفت إلى خالقه -تعالى-، ويهذّب نفسه. هذا هو الطريق، ولا يوجد طريق آخر. ولكن ينبغي للإنسان أن يطوي هذا الطريق بنفسه؛ لكي يحصل على النتيجة. وإن لم يحصل على النتيجة المرجوّة عن هذا الطريق أيضًا، ولم يُشفَ الإنسان المريض، وكان مستحقًّا لنعمة الجنّة، فإنّ الله -تعالى- يشدّد عليه في حال النزع؛ لعلّه يتذكّر ويتنبّه. وإذا لم يؤثّر فيه ذلك أيضًا، تأتي موقظات القبر وعالَم البرزخ والعقبات التي تتبعه؛ لكي تطهّره وتزكّيه وتَحُول دون دخوله جهنّم.

هذه المراحل الإيقاظيّة كلّها عناياتٌ إلهيّة تستهدف إبعادَ الإنسان عن جهنّم، وإنقاذه منها. فكيف بالإنسان إذا لم تنفع معه هذه

 

44

 

 


38

العناية الإلهيّة

الموقظات والمنبِّهات كلّها، وماذا ستكون عاقبته؟ فلا مفرّ من آخر الدواء، وهو الكيّ. فكم من إنسانٍ لم يهتدِ، ولم ينصلح، ولم تنفع معه هذه المعالجات، فلا توجد وسيلة أخری، غير النار، لكي يُصلِحَ اللهُ الكريم الرحيم عبدَه، كالذهب الذي يُعَرَّض للنار لتنقيته وتحويله إلى معدن خالص.

فقد ورد في تفسير الآية الكريمة ﴿لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحقَابٗا﴾[1]، أنّ هذه «الحقب» هي لأهل الهداية والذين يكون أصل إيمانهم محفوظًا[2]. إنّها تنطبق علينا، أنا وأنت. وما طول الحقبة؟ الله أعلم، لعلّها آلاف السنين. المهمّ أن نعمل لئلّا يصل الأمر بنا إلى مرحلةٍ لم تعد تنفع فيها هذه المعالجة، فنكون بحاجة إلى آخر الدواء؛ من أجل استحقاق النعيم المقيم واللياقة به. ويكون من اللازم -لا سمح الله- أن يلبث الإنسان مدّةً في جهنّم، وأن يحترق بنارها؛ لكي يتطهّر من الرذائل الأخلاقيّة والتلوّثات الروحيّة والصفات الشيطانيّة الخبيثة، ويصبح لائقًا ومستعدًّا للتنعُّم بـ﴿جَنَّٰتٖ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ﴾. علمًا أنّ هذا يتعلّق بتلك الفئة من العباد، الذين لم تتّسع دائرة معصيتهم، ولم تبلغ الدرجة التي يستحقّون فيها الطرد من رحمة الله، والحرمان [3]

 

 


[1] سورة النبأ، الآية 23.

[2] الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصائيّين، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415هـ.ق - 1995م، ط1، ج10، ص244: وروى العياشيّ بأسناده عن حمران قال: «سألتُ أبا جعفرٍ (عليه السلام) عن هذه الآية، فقال: هَذِهِ فِي الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ».

[3] سورة المجادلة، الآية 22.

 

 

45


39

العناية الإلهيّة

من مغفرته ولطفه، بل لا يزالون يمتلكون بعض الاستحقاق الذاتيّ لدخول الجنّة. فلا قدّر الله أن يُلفَظ الإنسانُ من باب رحمته نتيجة كثرة المعاصي، ويُحرَم من الرحمة الإلهيّة، فلا سبيل أمامه حينئذٍ غير الخلود في نار جهنّم.

احذروا أن تُحرَموا -لا سمح الله- من الرحمة والعناية الإلهيّة، فيحلَّ عليكم غضب الله، ويحيط بكم عذابه! احذروا من أن تكون أعمالكم وأفعالكم بنحوٍ تسلبكم توفيقات الله -تعالى-، ولن يكون أمامكم سبيلٌ غير الخلود في النار! إنّ أحدكم الآن لا يستطيع أن يقبض على حصى محمّاة لمدّة دقيقة واحدة، فاتّقوا نار جهنّم! أَبعِدوا هذه النيران عن الحوزات العلميّة، وعن مجتمع علماء الدين. طهِّروا قلوبَكم من هذه الاختلافات، وهذا النفاق. حسِّنوا سلوككم مع عباد الله -تعالى-، وانظروا إليهم بعطف وحنان. ليكن لكم موقفٌ حازمٌ من العصاة لعصيانهم؛ مُرُوهُم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، وأكرموا عباد الله الصالحين والطيّبين؛ فاحترِموا العالِم منهم لعلمه، واحترموا من هو في سبيل الهداية لأعماله الصالحة. ليكن سلوككم مثاليًّا. تودّدوا إلى الناس، وحادثوهم، وآخوهم. هذِّبوا أنفسكم، وتحلّوا بالصدق والإخلاص. أنتم الذين تريدون هداية المجتمع وإرشاده؛ فالذي لا يستطيع إصلاح نفسه، كيف يتسنّى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟ ها هو

 

 

46


40

العناية الإلهيّة

شهر شعبان شارف على الانتهاء؛ فاسعَوا في هذه الأيّام المعدودة، لعلّ الله -تعالى- يوفّقكم للتوبة وإصلاح النفس، ولتستقبلوا شهر رمضان بنفوس صالحة وقلوب سليمة.

 

 

47


41

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

هل ناجيتم الله -تعالى- في شهر شعبان هذا بـ«المناجاة الشعبانيّة»[1]، التي نَصَّت الأحاديث الشريفة على قراءتها في كلّ يوم من هذا الشهر؟ وهل انتفعتم من معانيها الإيمانيّة السامية، والإحاطة بمضامينها حول مقام الربوبيّة؟ فقد ذكرَت الأحاديث الواردة بهذا الشأن أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبناءه وجميع الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، كانوا يناجون الله -تعالى- بها[2]. وقلّما نجد دعاءً ومناجاةً نَصَّت الأحاديث الواردة بشأنها أنّ الأئمّة جميعهم كانوا يقرؤونها ويناجون الله -تعالى- بها. إنّ هذه المناجاة هي، في الحقيقة، مقدّمةٌ تُعِدُّ الإنسانَ وتُهَيِّئه للقيام بأعمال شهر رمضان المبارك. ولعلّه لهذا السبب، تمّ تذكير الإنسان الواعي للالتفات إلى دوافع الصيام، وجني فوائده العظيمة.

لقد كان الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) يوضّحون كثيرًا من المسائل عن طريق الأدعية. فهناك فرق كبير بين أسلوب الأدعية والأساليب الأخرى التي كان يستعين بها هؤلاء العظام في بيان الأحكام؛ إذ غالبًا ما كانوا يوضّحون المسائل المعنويّة ومسائل ما وراء الطبيعة والمسائل الإلهيّة وتلك التي

 

 


[1]  ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يُعمَل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيوميّ الإصفهانيّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1414هـ ، ط1، ج3، ص295. العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج91، ص96-99.

[2] السيّد ابن طاووس، الإقبال، مصدر سابق، ج3، ص295.

 

48


42

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

ترتبط بمعرفة الله -سبحانه-، يوضحونها بلغة الدعاء. بَيْدَ أنّنا نحن نقرأ هذه الأدعية، ونمرّ عليها مرور الكرام، دون أن نلتفت إلى معانيها، مع الأسف. بل لا نعي أساسًا ماذا كان الأئمّة (عليهم السلام) يريدون منها.

فنحن نقرأ في هذه المناجاة: «إِلَهِي، هَبْ لِي كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِلَيْكَ، وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ، حَتَّى تَخِرَقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ، فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصِيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِك‏»[1].

إنّ جملة «إِلَهِي! هَبْ لِي كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِلَيْكَ»، ربّما تريد أن توضح هذا المعنی، وهو أنّ الرجال الربّانيّين الواعين ينبغي لهم أن يُعِدّوا أنفسهم ويهيّئوها قبل حلول شهر رمضان، لصومٍ هو، في الحقيقة، انقطاعٌ عن الدنيا، واجتنابُ لذائذها، «وهذا الاجتناب، في صورته الكاملة، هو هذا الانقطاع إلى الله».

إنّ كمال الانقطاع لا يتحقّق بهذه البساطة. إنّه بحاجة إلى ترويضٍ غيِر اعتياديٍّ للنفس، ويحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة؛ لكي يمكن الانقطاع، بكلّ القوی، عن كلّ ما سوى الله -سبحانه وتعالى-، وأن لا يكون هناك توجُّهٌ لغير الله -تعالى-. فجميع الصفات الإيمانيّة الجليلة، وكلّ مستويات التقوى كامنة في الانقطاع إلى الله -سبحانه وتعالى-، ومَن يتمكّن من الوصول إلى هذه المرحلة، فقد بلغ غاية

 

 


[1] السيّد ابن طاووس، الإقبال، مصدر سابق، ج3، ص299.

 

 

49


43

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

السعادة. ولكن، من المستحيل أن يستطيع الإنسان بلوغ هذه الذری، ما دام في قلبه مثقال ذرّة من حبّ الدنيا. والذي يريد أن يقوم بأعمال شهر رمضان بالصورة المطلوبة، عليه أن يحقِّق في نفسه هذا الانقطاع إلى الله، وإلّا لن يستطيع مراعاة آداب الضيافة، ولن يتسنّى له إدراك عظمة المضيف؛ لن يمكنَه أن يدرك هو في رحاب مَنْ، وعلى مائدة مَنْ؟

طبقًا لقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) -حسبما ورد في الخطبة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله)- فإنّ عباد الله كافّة قد تمّت دعوتُهم، في شهر رمضان المبارك، إلى ضيافة الله -تعالى-، وإنّ مضيفهم هو الله -تبارك وتعالى-: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ... هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ»[1].

فما عليكم في هذه الأيام القلائل التي تفصلنا عن شهر المبارك، إلّا أن تفكّروا في إصلاح أنفسكم، والتوجُّه إلى بارئكم. استغفروا الله من أفعالكم وأقوالكم التي لا تليق. وإذا كنتم قد ارتكبتم -لا سمح الله- ذنبًا، فتوبوا إلى الله قبل الدخول في شهر رمضان المبارك. عَوِّدوا ألسنتكم على ذكر الله ومناجاته. إيّاكم أن تصدر منكم غيبةً أو تهمةً أو نميمةً أو أيَّ ذنبٍ في هذا الشهر، وأن تدنِّسوا أنفسكم بالمعاصي، وتُسيؤوا آداب الضيافة وأنتم ضيوف الله -سبحانه-.

 

 


[1]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط1، ص154.

 

50


44

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

لقد دُعِيتم، في هذا الشهر الفضيل، إلى ضيافة الحقّ -تعالى-: «دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ»، فهيّئوا أنفسَكم لهذه الضيافة العظيمة. تحلّوا -على الأقلّ- بالآداب الصوريّة والظاهريّة للصيام. «فالآداب الحقيقيّة موضوعٌ آخر، حيث هي بحاجة إلى جُهدٍ وجدٍّ وتعبٍ». فالصوم لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب فحسب، بل ينبغي اجتناب المعاصي أيضًا. إنّ هذا من الآداب الأوّليّة للصوم بالنسبة للمبتدئين. «أمّا آداب الصيام بالنسبة لرجال الله الذين يتطلَّعون لبلوغ معدن العظمة، فهي شيءٌ آخر». فاعملوا -على الأقلّ- بالآداب الأوّليّة للصيام. فكما تمسكون البطن عن الطعام والشراب، فأمسِكوا عيونكم وأسماعكم وألسنتكم عن المعاصي. عاهِدوا أنفسكم، من الآن، أن تكفّوا اللسان عن الغيبة والتهمة والكذب والإساءة. وأخرِجوا من قلوبكم الحسد والحقد وسائر الصفات الشيطانيّة القبيحة. حاوِلوا، قدر المستطاع، أن تحقِّقوا معنى الانقطاع إلى الله -تعالى-، وأن تؤدّوا أعمالكم بعيدةً عن الرياء، وخالصةً لوجه الله -تعالى-، وانقطِعوا عن شياطين الإنس والجنّ.

لكن يبدو أنّنا لسنا أهلًا لتحقيق هذه الدرجة من الإيمان، وكَسْبِ هذه السعادة الكبری. فحاولوا -على الأقلّ- أن لا يكون صومُكم مقرونًا باقتراف الذنوب. وفيما عدا ذلك، وعلى فرض أنّ صيامكم كان صحيحًا من الناحية الشرعيّة، فإنّه لن يُقبل، ولا يُرفَع إلى الله؛

 

51

 

 


45

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

لأنّ ارتفاع الأعمال إلى الله وقبولها لديه -جلّ وعلا- يختلف كثيرًا عن صحّتها الشرعيّة.

فإذا انقضى شهر رمضان المبارك، ولم يطرأ على أعمالكم وسلوككم أيّ تغيير، ولم يختلف نهجكم وفعلكم عمّا كان عليه قبل شهر الصيام، فاعلموا أنّ الصوم الذي طُلِب منكم لم يتحقَّق، وأنّ ما أدّيتموه لم يكن أكثر من صوم الحيوانات.

لقد دُعِيتُم في هذا الشهر الشريف إلى ضيافة الله -تبارك وتعالى-؛ فإذا لم تتحقّق معرفتكم بالله، أو لم يُضَف لها، فاعلموا أنّكم لم تلبّوا دعوة الله كما ينبغي، ولم تؤدّوا حقَّ الضيافة.

يجب أن تعلموا أنّه إذا لم تتمكّنوا في هذا الشهر المبارك -الذي هو شهر الله، وتُفتح فيه أبواب الرحمة الإلهيّة لعباده، وإنّ الشياطين والمردة -كما تفيد الأحاديث[1]- يُرسَفون في الأغلال والقيود- إذا لم تتمكّنوا من إصلاح نفوسكم وتهذيبها ومراقبة النفس الأمّارة والتحكُّم بها، وإذا لم تتمكّنوا من سحق الأهواء النفسيّة وقطع علائقكم المادّيّة بالدنيا، فإنّ من الصعب أن تقدروا على ذلك بعد انتهاء شهر الصيام.

 

 


[1] عن جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يُقْبِلُ بوجهه إلى الناس، فيقول: مَعْشِر النَّاس! إِذَا طَلَعَ هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَان، غُلَّتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَأَبْوَابُ الجِنَانِ وَأَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَاسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص67.

 

52


46

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

فاغتنموا الفرصة، وهُبُّوا قبل انقضاء هذا الفيض الأعظم، لإصلاح أموركم وتزكية النفوس وتطهيرها، وهيِّئُوا أنفسكم لأداء واجبات شهر الصيام. ولا تكونوا كمن عبّأه الشيطان -مثلما تُعَبَّأ الساعة- وشحنه قبل حلول شهر رمضان لأنْ يقوم بشكلٍ تلقائيٍّ في هذا الشهر -حيث يُرسَف الشياطين في الأغلال- بارتكاب المعاصي، والانشغال بالأعمال المنافية لتعاليم الإسلام.

إنّ الإنسان المرتكِب للذنوب والمعاصي ينغمس في الظلمة والجهل نتيجةً لبُعده عن الحقّ وكثرة الذنوب والمعاصي، إلى درجةٍ لم يعد معها بحاجة إلى وسوسة الشيطان، بل ينطبع سلوكُه وينصبغُ بصبغة الشيطان؛ لأنّ ﴿صِبغَةَ ٱللَّهِ﴾[1] مقابل صبغه الشيطان، والذي يُساير هوى النفس ويتّبع الشيطان يكتسب صبغته بالتدريج.

عاهِدوا أنفسكم -على الأقلّ في هذا الشهر- بمراقبة سلوككم، وتجنُّب الأفعال والأقوال التي لا تُرضي الله -تبارك وتعالى-. الآن، وفي هذا المجلس، عاهِدوا الله -تعالى- بأن تتجنَّبوا، في شهر رمضان المبارك، الغيبةَ والتهمةَ والإساءةَ للآخرين، وأن تتحكّموا بألسنتكم وعيونكم وأيديكم وأسماعكم وبقيّة الأعضاء والجوارح. وراقبوا أقوالَكم وأفعالَكم؛ عسى أنّ يكون ذلك سببًا في استحقاقكم عناية الله -تعالى- ورحمته وتوفيقه، وتكونوا، بعد انقضاء شهر الصيام وتحرُّر

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 138.

 

 

53


47

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

الشياطين من الأغلال، قد هذَّبتُم أنفسكم، وأصبحتم من الصالحي،ن ولم يعد بمقدور الشيطان إغواءكم وخداعكم.

أعود وأكرِّر: «اتّخِذوا قراركم، وعاهِدوا أنفسَكم بمراقبة جوارحكم في هذه الثلاثين يومًا من شهر رمضان المبارك. وكونوا حذرين دائمًا، وملتفِتين إلى الحكم الشرعيّ لهذا العمل الذي تنوون الإقدام عليه، والقول الذي تريدون أن تنطقوا به، والموضوع الذي تستمعون إليه».

هذه آداب الصوم الأوّليّة، فتمسّكوا بهذه الآداب الظاهريّة على الأقلّ. فإذا رأيتم شخصًا يريد أن يغتاب، حاوِلوا أن تردعوه، وقولوا له: لقد تعهّدنا أن نجتنب المحرّمات في هذا الشهر. وإذا لم تستطيعوا منعه من الاغتياب، اتركوا المجلس، فلا تجلسوا وتستمعوا إليه؛ إذ يجب أن يَأمَنَ المسلمون جانبكم. ومَن لا يأمن المسلمون يده ولسانه وعينه، فهو في الحقيقة ليس بمسلم[1]؛ إنّما هو مسلمٌ في الظاهر والاسم، وينطق بـ«لا إله إلّا الله» فحسب.

فإذا أردتم -لا سمح الله- إهانة أحد من المسلمين واغتيابه والمساس بكرامته، فاعلموا أنّكم في محضر الربوبيّة، وفي ضيافة الله -تبارك وتعالى-، وأنّكم بمحضره تسيئون الأدب مع عباده. وإنّ إهانة عباد الله هي بمثابة إهانة الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء عباد الله،

 

 


[1] عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أَلَا أُنَبِئُكُمْ بِالمُؤْمِنِ؟ مَن ائْتَمَنَهُ المُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالمُسْلِمِ؟ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص235.

 

 

54


48

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

ولا سيّما إذا كانوا من أهل العلم والتقوى، وعلى الصراط المستقيم. فأحيانًا، ترون أنّ الإنسان، ونتيجةً لهذه الأفعال، يصل إلى مرحلةٍ تكون عاقبتُه عند الموت بأن يكذّب اللهَ -تعالى- وينكر آياته: ﴿ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَستَهزِءُونَ﴾[1].

وإنّ مثل هذه النتيجة السيّئة المدمِّرة، لا تحصل دفعة واحدة، بل بالتدريج. فاليوم نظرة غير سليمة، وغدًا كلمة غيبة، وفي يوم آخر إهانة مسلم، و... هكذا، شيئًا فشيئًا، تتكدّس هذه المعاصي في القلب، فيسودّ. وإنّ القلب الأسود المظلم يمنع الإنسان من معرفة الله -تعالى-، حتّى يصل إلى مرحلةٍ يُنكر الحقائق الإيمانيّة، ويُكذّب بآيات الله -تعالى-.

إنّ أعمال الإنسان -طبقًا لبعض الآيات، واستنادًا إلى تفسير بعض الأحاديث- تُعرَض على رسول الله(صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)[2] ، وتمرّ من أمام أنظارهم المباركة. فعندما ينظر الرسول(صلى الله عليه وآله) إلى أعمالكم، ويراها مليئةً بالأخطاء والذنوب، فكم سيتأثّر ويتألّم؟ فلا تكونوا

 

 


[1] سورة الروم، الآية 10.

[2] كما تشير إلى ذلك الآية 105 من سورة التوبة: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾. وينقل أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، أَعْمَالُ الْعِبَادِ كُلَّ صَبَاحٍ؛ أَبْرَارُهَا وَفُجَّارُهَا، فَاحْذَرُوهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ﴾». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص219. كذلك انظر: البحرانيّ، السيّد هاشم الحسينيّ، البرهان في تفسير القرآن، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج2، ص838.

 

55


49

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

ممّن يؤلم رسولَ الله ويثير تأثّرَه. لا تكونوا ممّن يثير الحزن والألم في قلب رسول الله.

فعندما يرى(صلى الله عليه وآله) صفحات أعمالكم زاخرةً بالغيبة والتهمة والإساءة إلى المسلمين، ويرى كلَّ توجّهاتكم وهمومكم منحسرةً في الدنيا والمادّيّات، ويشاهد قلوبكم طافحةً بالبغضاء والحسد والحقد وإساءة الظنّ بعضكم ببعض، عندما يرى رسول الله هذا كلّه، من الممكن أن يستحي أمام الله -تبارك وتعالى- وملائكته؛ لأنّ أمّتَه وأتباعَه لم يشكروا نِعَمَ الله -تعالى-، وخانوا، بكلّ وقاحة وجرأة، أماناتِ الله -تبارك وتعالى-. فالشخص الذي يرتبط بك -ولو كان خادمك- يُخجلُك إذا ما ارتكب عملًا مشينًا، وأنتم مرتبطون برسول الله(صلى الله عليه وآله). إنّكم بمجرّد دخولكم الحوزات العلميّة، تكونون قد ربطتم أنفسَكم بفقه الإسلام، وبالرسول الأكرم، والقرآن الكريم. فإذا ما ارتكبتم عملًا قبيحًا، فسوف يمسّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويسيء إليه. ومن الممكن أن يلعنكم، لا سمح الله. فلا تسمحوا لأنفسكم أن تُحزِنوا قلبَ رسول الله وقلوب الأئمّة الأطهار، وتكونوا سببًا في آلامهم.

إنّ قلبَ الإنسان كالمرآة، صافٍ ومضيء، ولكنّه يتكدّر نتيجة تكالبه على الدنيا وكثرة المعاصي. فإذا استطاع الإنسان أن يؤدّي -على الأقلّ- الصومَ بنيّة خالصة منزّهة من الرياء، «ولا أقول: إنّ العبادات الأخرى لا ينبغي توافر الإخلاص فيها، بل إنّ الصِدق والنيّة الخالصة شرطٌ

 

56


50

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

في جميع العبادات»، وإذا تمكّن أن يبقى طيلة هذا الشهر المبارك مُعرِضًا عن الشهوات، مُجتَنِبًا اللذائذ، منقطِعًا عمّا سوى الله -تعالى-، وقام بعبادة الصوم كما ينبغي، فقد تشمله عناية الله، فيزول عن مرآة قلبه ما علق بها من الغبش، وما اعتراها من الكدر، وما خيّم عليها من ظلام الذنوب، ويكون ذلك سببًا في أن يُعرِضَ الإنسانُ كلّيًّا عن الدنيا المحرّمة ولذائذها، وحينها، يرغب في ورود «ليلة القدر»، يكون قد أصبح أهلًا لأنْ ينال الأنوار التي تتحقّق في تلك الليلة للأولياء والخُلَّص من المؤمنين.

وإنّ الذي يجزي مثل هذا الصوم، هو الله -تبارك وتعالى-، كما قال عنه -جلّ وعلا-: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[1]. فليس بمقدور شيءٍ آخر أنّ يكون ثمنًا لمثل هذا الصوم؛ حتّى جنّات النعيم لا تعني شيئًا أمام صومه، ولا يمكن أن تكون ثمنًا له.

أمّا إذا أراد الإنسان أن يكون صيامه حبسَ الفم عن الطعام، وإطلاقَه في اغتياب الناس، وفي قضاء ليالي شهر رمضان المبارك -حيث تكون المجالس الليليّة عامرة، وتتوافر فرصة أكبر لتمضية الوقت إلى الأسحار- في اغتياب المسلمين، وتوجيه التهم والإهانة

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج2، ص75. ورواه الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص63: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي عَلَيْهِ».

 

57


51

لمحات عن المناجاة الشعبانيّة

لهم، فإنّه لن يجني من صومه شيئًا، بل يكون بهذا الصوم قد أساء آداب الضيافة، وأضاع حقَّ وليّ نعمته، الذي خلق له كلَّ وسائل الحياة والراحة، ووفّر له أسباب التكامل، حيث أرسل الأنبياء لهدايته، وأنزل الكتب السماويّة، ومنح الإنسان القدرة للوصول إلى معدن العظمة والنور الأبهج، وأعطاه العقل والإدراك، وكرّمَه بأنواع الكرامات.

وها هو قد عاد إلى ضيافته، والجلوس إلى مائدة نعمته، وحمده وثنائه بكلّ ما تقدر على أدائه الأيدي والألسن. فهل يصحّ أن يتمرّد العباد، الذين نهلوا من نعمته واستفادوا من وسائل وأسباب الراحة التي وضعها تحت تصرُّفهم، يتمرّدوا على مولاهم ومضيفهم، وينهضوا لمعارضته، ويطغوا؟ لقد هيّأ لهم اللهُ -تبارك وتعالى- كلّ الأسباب، فهل يصح أن يُسخِّروها لمعصيته، وخلافًا لمرضاته؟

أليس هذا كفرانًا للنعمة؛ بأن يجلس الإنسان إلى مائدة مولاه، ثمّ يتجرّأ عليه بأفعاله القبيحة وتصرّفاته المشينة، ويسيء أدبه مع مضيفه ووليّ نعمته، ويرتكب أعمالًا قبيحة لدى مضيفه؟

ينبغي للضيف -على الأقلّ- أن يكون عارفًا بالمضيف، مدركًا لمقامه؛ ومن خلال اطّلاعه على عادات وتقاليد المجلس، يحرص على أن لا يَصدُرَ عنه ما ينافي الأخلاق ويسيء إليه. فلا بدّ لضيف الله -سبحانه- أن يكون عارفًا بمقامه العظيم ذي العزّة والجلال، المقام الذي كان الأنبياء

 

 

58

 

 


52

أهمّيّة تهذيب النفس وتزكيتها

العظام والأئمّة الكرام يسعَون دومًا للاستزادة من معرفته، والإحاطة به إحاطه كاملة، وكانوا يتمنّون أن يصلوا إلى معدن العظمة هذا: «وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ، حَتَّى تَخِرَقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ، فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ»[1]. وإنّ ضيافة الله هي «مَعْدِن العَظَمَة» هذا. وقد دعا الله -سبحانه- عبادَه، واستضافهم، ليُمكِّنهم من بلوغ معدن النور والعظمة. ولكن، إذا لم يكن العبد لائقًا، فلن يتمكّن من بلوغ مثل هذا المقام السامي والعظيم.

لقد دعا الله -تبارك وتعالى- العبادَ لكلّ الخيرات والمبرّات، والكثير من اللذائذ الروحيّة والمعنويّة. ولكن، إذا لم يكن العباد أهلًا للحضور في مثل هذه المقامات السامية، فلن يتمكّنوا من بلوغ ذلك؛ فكيف يمكن الحضور في حضرة الحقّ -تعالى-، والدخول في ضيافة ربّ الأرباب، الذي هو «مَعْدِن العَظَمَة»، مع كلّ هذه التلوّثاث الروحيّة، والرذائل الأخلاقيّة، والمعاصي القلبيّة والظاهريّة؟

إنّ الأمر بحاجة إلى لياقة واستحقاق، ولا يمكن إدراك هذه المعاني بوجوهٍ مسودّةٍ، وقلوبٍ ملوّثةٍ بالمعاصي وملطّخةٍ بالآثام. فلا بدّ من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه الغشاوة -الظلمة والمضيئة- التي كست القلوب، ومنعتها من الوصول إلى الله، حتّى يُمكن الدخول في المجلس الإلهيّ النورانيّ ذي العظمة.

 


[1] السيّد ابن طاووس، الإقبال، مصدر سابق، ج3، ص295.

 

59


53

حُجُبُ النور والظلام

حُجُبُ النور والظلام

إنّ التوجُّه إلى غير الله -تعالى- يحجُبُ الإنسانَ بحُجُبٍ «ظلمانيّة»، وحُجُبٍ «نورانيّة». فالأمور الدنيويّة بأجمعها، إذا ما تسبَّبَت في انشداد الإنسان إلى الدنيا، وغَفْلتِه عن الله -تبارك وتعالى-، فإنّها تبعث على الحُجُب «الظلمانيّة». وعندما تكون الدنيا وسيلةَ التوجُّه إلى الله -تعالى- والوصول إلى دار الآخرة، التي هي «دار التشريف»، فتتبدّل حُجُبَ النور بحُجُب الظلام هذه. وإنّ «كَمَالَ الاِنْقِطَاعِ» هو تبدُّدُ كلِّ الحجب -النورانيّة منها، والمظلمة-؛ لكي يمكن الورود إلى الضيافة الإلهيّة، التي هي «مَعْدِنُ العَظَمَةِ». لذا، نرى أنّه، في هذه «المناجاة»، يطلبون من الله -تعالى- البصيرةَ والنورَ القلبيّ، حتّى يتسنّى لهم خرق حُجب النور، وبلوغ معدن العظمة: «حَتَّى تَخِرَقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ، فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ».

ولكنّ الإنسان الذي لم يبدِّد بَعْدُ حجب الظلام، الإنسان الذي ما تزال كلّ توجّهاته إلى عالَم الطبيعة، ومنحرفًا عن الله -والعياذ بالله- ويجهل أساسًا عمّا وراء الطبيعة والعالَم الروحيّ، وهو منكوسٌ إلى الطبيعة، ولن يفكّر -في أيّ وقت- بتهذيب نفسه والاستفادة من القوى الروحيّة والمعنويّة الذاتيّة لإزالة ما ران على قلبه من ظلمة الذنوب، إنّ إنسانًا هذا شأنه، هو في الحقيقة في أسفل سافلين، الذي هو أدنى حُجب الظلام، وأشدّها: ﴿ثُمَّ رَدَدنَٰهُ أَسفَلَ سَٰفِلِينَ﴾[1]، في حين

 

 


[1] سورة التين، الآية 5.

 

60


54

حُجُبُ النور والظلام

أنّ الله -سبحانه- خلق الإنسان في أسمى مرتبة ومقام: ﴿لَقَد خَلَقنَا ٱلإِنسَٰنَ فِيٓ أَحسَنِ تَقوِيمٖ﴾[1].

إنّ الإنسان الذي يتّبع هوى نفسه، ولا يهتمّ، منذ أن عرف نفسه، بغير عالَم الطبيعة المظلم، ولا يفكّر مطلقًا في أنّه من الممكن أن يكون بعد هذا العالَم الملوَّث ثمّة مكان ضيّق ومنزل آخر؛ ولهذا تراه غارقًا في حجب الظلمة؛ إنّ مثل هذا الإنسان هو مصداق لقوله -تعالى-: ﴿أَخلَدَ إِلَى ٱلأَرضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ﴾[2]. فقد ابتعد عن الله -تعالى-؛ لأنّ قلبه ملوّث بالذنوب، وتغلّف بحجب الظلام، ولأنّ روحه ضمرَت نتيجة كثرة المعاصي؛ ذلك أنّ عبادة الأهواء وحبّ الدنيا والجاه يُعميان العقل والعين، ويحولان دون رؤية الحقيقة، فلا يعود بمقدوره التخلُّص من حجب الظلام، ناهيك عن التخلُّص من حجب النور، وتحقُّق مرتبة الانقطاع إلى الله -سبحانه-.

أجل، فمثل هذا، إذا كان يؤمن بشيء، فإنّ غاية إيمانه لا تتعدّى عدم إنكاره لمقام أولياء الله، ولا يصف عوالم البرزخ والصراط والمعاد والقيامة والحساب والكتاب والجنّة والنار بالخرافة. فالإنسان يبدأ بالتنكُّر لهذه الحقائق بالتدريج؛ نتيجةً لكثرة ارتكابه المعاصي، وتعلُّقه الشديد بالدنيا. إنّه يُنكر مكانة الأولياء ومقامهم، مع أنّ ذلك أمرٌ جليٌّ لا يتعدّى عدّة عبارات وردت في الدعاء والمناجاة.

 

 


[1] سورة التين، الآية 4.

[2] سورة الأعراف، الآية 176.

 

61


55

مرحلة العلم والإيمان

مرحلة العلم والإيمان

تارةً نرى الإنسان يعلم بهذه الحقائق، ولكنّه لا يؤمن بها. إنّ مَن يتولّى غسل الميّت لا يخاف منه؛ لأنّه متيقّن أنّه غير قادر على إيذائه. فهو عندما كان على قيد الحياة، وكانت الروح تدبّ في بدنه، كان عاجزًا عن الإيذاء، فكيف به الآن وقد أصبح جثّة هامدة لا حراك فيها؟ أمّا أولئك الذين يخافون من الموتی، فهو لأنّهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة، وإنّما على علمٍ بها فحسب.

إنّهم عالِمون بالله ويوم الحساب، ولكنّهم غير متيقّنين. فالقلب لا علم له بما أدركه العقل. إنّهم يعلمون بأنّ الدليل يقودهم إلى الإيمان بالله والمعاد ويوم القيامة. ولكنّ هذا البرهان العقليّ نفسه، من الممكن أن يكون حجابًا على قلوبهم، يمنع نور الإيمان من أن يسطع عليها، ولا ينقذهم من ذلك إلّا الله -سبحانه-: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾[1]. فالذي وليُّه الله، ويخرجه من الظلمات، لا يرتكب الذنوب، لا يغتاب، ولا يتّهم، ولا يحقد على أخيه المؤمن أو يحسده، ويشعر بالنور يملأ قلبه، فلا يعود يُقيم وزنًا للدنيا وما فيها، ويصبح كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «واللهِ، لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أن أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ، مَا فَعَلْتُه»[2].

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 257.

[2]  الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص247.

 

62


56

مرحلة العلم والإيمان

إلّا أنّ بعضكم يدوس على كلّ شيء، ويغتاب عظماء الإسلام. فإذا كان الآخرون يغتابون بقّالَ المحلّة، ويتحدّثون ضدّه، فإنّ هؤلاء ينسبون التهم لعلماء الإسلام، ويهينونهم، ويتطاولون عليهم؛ لأنّ الإيمان لم يترسّخ في النفوس، ولم يؤمنوا بجزاء أعمالهم وأفعالهم.

«فالعصمة» ليست غير الإيمان الكامل. إنّ عصمة الأنبياء والأولياء لا تعني أنّ جبرائيل، مثلًا، يأخذ بأيديهم ويرشدهم إلى ما ينبغي فعله -وبطبيعة الحال، لو أنّ جبرائيل أخذ بيد شمر بن ذي الجوشن على هذا النحو، لَما ارتكب محرَّمًا أبدًا-، بل العصمة وليدة الإيمان؛ فإذا آمن الإنسان بالله -تعالى-، ورآه بعين القلب، كما يرى الشمس بناظريه، فمن غير الممكن أن يرتكب ذنبًا أو معصية. فإذا كنتَ على مرأى ومسمع من رجل قويّ مسلّح، فإنّك تجتنب القيام بما يسوؤه. وهكذا الإنسان الذي يعتقد ويتيقّن من أنّه على مرأى ومسمع من الله -تبارك وتعالى-، وأنّه حاضرٌ بين يديه -سبحانه- دائمًا، فإنّه لن يتجرّأ على ارتكاب مالا يرضاه الله -تعالى-.

فالمعصومون (عليهم السلام)، وبعد أن خُلِقُوا من طينة طاهرة، ونتيجة للرياضات واكتساب الملَكات الخُلُقيّة الفاضلة، أصبحوا يرون أنفسهم دائمًا في محضر الله -سبحانه-، الذي يعلم ويحيط بكلّ شيء، ويؤمنون بمعنى «لا إله إلّا الله»، وعلى يقين من أنّ كلّ شيء زائل إلّا الله، وليس بمقدور أحد التأثير على مصائرهم: ﴿كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ

 

 

63

 

 


57

مرحلة العلم والإيمان

إِلَّا وَجهَهُۥۚ﴾[1]. فإذا ما تيقّن الإنسان، وآمن بأنّ كلّ العوالم الظاهرة والباطنة هي في محضر الله -تعالى-، وأنّه -سبحانه- حاضرٌ وناظرٌ في كلّ مكان، يستحيل أن يصدر منه ذنب أو معصية.

إنّ الإنسان ليمتنع عن ارتكاب ذنب على مرأى من طفل مميِّز. إنّه يمتنع عن كشف عورته أمامه، فكيف يا تُرى يكشف عوراته بحضور الله -تعالى- دون أيّ حياء أو خجل؟ والسبب في ذلك هو إيمانه بوجود الطفل، ولكن رغم علمه بحضور الله -تعالى-، إلّا أنّه لا يؤمن به، بل إنّ قلبه أصبح مظلمًا نتيجة لكثرة المعاصي؛ ولذلك لا يستطيع أن يقبل هذا النوع من الحقائق أصلًا، بل ربّما لا يحتمل حتّى صحّة وجودها وحقيقته أيضًا. إنّ الإنسان، لو كان يحتمل -ولا أقول يتيقّن- صحّة هذه الإخبارات التي وردت في القرآن الكريم، وصحّة هذا الوعد والوعيد، لأعاد النظر في سلوكه وأفعاله، ولَما ترك العنان لنفسه يفعل ما يشاء دونما حياء أو خجل.

إنّكم إذا احتملتم، مجرّد احتمال، أنّ في الطريق الذي ستقطعونه حيوانًا مفترسًا من الممكن أن يُلحِق بكم أذی، أو قاطع طريق يمكن أن يتعرّض لكم، فإنّكم -لا شكّ- سوف تتوقّفون عن المسير، وتتدارسون الموقف، وتتأكّدون من مدى صحّة ذلك. فهل من الممكن أن يحتمل الإنسانُ وجودَ جهنّم والخلود في النار، ومع ذلك يُقدم على

 

 


[1] سورة القصص، الآية 88.

 

64


58

مرحلة العلم والإيمان

ارتكاب المعاصي؟ هل يمكن القول: إنّ شخصًا يعتبر الله -سبحانه- حاضرًا وناظرًا، ويرى نفسه في محضر الربوبيّة، ويحتمل أنّ ثمّة جزاء لأفعاله وأقواله، وأنّ كلّ كلمة ينطق بها في هذه الدنيا، وكلّ خطوة يخطوها، وكلّ عمل يرتكبه، تُكتَب وتُحفَظ، ذلك أنّ ملائكة الله «رقيب» و«عتيد»، حيث يقول -عزّ مِن قائل-: ﴿مَّا يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ﴾[1]، يراقبونه ويكتبون كلّ أعماله وأقواله. فهل من الممكن أن يعتقد إنسانٌ بهذا كلّه، أو يحتمله، ولا يتورّع عن معصية الله -تبارك وتعالى-؟!

إنّ الطامّة الكبرى هي أنّهم لا يحتملون حتّى وقوع هذه الحقائق. إذ إنّ ما يُستَفاد من سلوك بعض الناس وطريقتهم في الحياة، أنّهم حتّى لا يحتملون وجود عالَم ما وراء الطبيعة؛ لأنّ مجرّد احتمال ذلك كافٍ في ردع الإنسان عن ارتكاب كثيرٍ من الأمور الشائنة.

 

 


[1] سورة ق، الآية 18.

 

65


59

مرحلة العلم والإيمان

الخطوة الأولى في التهذيب

حتّى متى تريدون أن تظلموا، تَغُطّون في نوم الغفلة، ومنغمسين في الفساد والضياع؟ اتّقوا الله! اخشوا عاقبة الأمور! أفيقوا من غفلتكم! إنّكم لم تفيقوا بعد، ولم تخطوا الخطوة الأولی. إنّ «اليقظة» تمثّل الخطوة الأولى في السلوك. ولكنّكم مازلتم تَغُطّون في نوم عميق. فلو لم تكن الأفئدة ملوّثةً بنوم الغفلة، والقلوب اسودَّت وصدئت نتيجةً للذنوب، لَما كنتم هكذا غير مبالين، وغير مهتمّين، تواصلون الأعمال والأقوال المشينة. فلو فكّرتم قليلًا بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء، لأوليتم اهتمامًا أكبر للمسؤوليّات الجسام الملقاة على عواتقكم.

إنّ وراءكم حسابًا. كما إنّ أمامكم معادًا وقيامة، فلستُم كسائرِ الكائناتِ التي لا معادَ لها، ولا حساب عليها، فلماذا لا تتّعظون؟ لماذا لا تفيقون وتتيقّظون؟ لماذا تخوضون، مطمئنّين، في الاغتياب والإساءة إلى إخوتكم المسلمين، أو تستمعون إلى ذلك؟ هل تعلمون أنّ هذه الألسن، التي تمتدّ لاستغابة الآخرين، سوف تُدَاس بأرجل الآخرين يوم القيامة؟ هل تعلمون أنّ الغيبة إدام كلاب النار[1]. هل فكّرتم أصلًا في العواقب الوخيمة السيّئة لهذه الاختلافات والعداوات والحسد وإساءة الظنّ والأنانيّة والغرور والتكبّر؟ هل تعلمون أنّه من

 

 


[1] جاء في موعظة أمير المؤمنين (عليه السلام) لنوف البكالي: «اِجْتَنِب الغيْبَةَ، فَإِنَّهَا إِدَامُ كِلَاب النَّارِ». الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص278.

 

66


60

الخطوة الأولى في التهذيب

الممكن أن تكون جهنّم عاقبة هذه الأفعال الدنيئة المحرَّمة، وتقود إلى الخلود في نار جهنّم؟

لا قدّر الله أن يُبتَلى الإنسانُ بأمراضٍ لا تبدو آلامُها. إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأنْ يفكّر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفی. بَيْدَ أنّ المرض الذي لا يرافقه الألم، ولا يشعر الإنسانُ بتبعاته، مرضٌ خطر؛ لأنّه عندما يتنبّه الإنسان إليه، يكون قد فات الأوان، واستحال العلاج.

والأمراض النفسيّة هي من هذا النوع. فلو كانت مصحوبةً بالألم المباشر، لحرّكت المصاب ودفعته إلى معالجتها. ولكن ماذا نفعل؟ ماذا نفعل ما دامت هذه الأمراض لا يُحَسُّ بآلامها رغم خطورتها؟

إنّ مرض الغرور والأنانيّة من الأمراض التي لا تظهر آلامُها. المعاصي الأخرى تُفسِد القلبَ والروح دونما ألم. إنّ هذه الأمراض ليست فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتّسم بظاهرٍ يبعث على التلذُّذ. إذ إنّ مجالس الغيبة والنميمة قد تكون محبَّبة، فالإنسان يشعر، مع حبّ النفس وحبّ الدنيا -اللذَين هما مصدر جميع الذنوب-[1] بلذّةٍ ونشوةٍ.

 

 


[1]  عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ حُبُّ الدُّنْيَا». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص315. انظر أيضًا: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص7 و127.

 

67


61

الخطوة الأولى في التهذيب

إنّ المبتلى بالاستسقاء يقضي عليه الماء، إلّا أنّه يتلذّذ به إلى آخر نفس من أنفاسه. ولا شكّ في أنّ الإنسانَ إذا ما تلذَّذ بمرضٍ لا يصاحبه ألمٌ، لن يذهب لمعالجته، ولا يعبأ بكلّ مَن يحذّره من خطورة هذا المرض.

فإذا ما ابتُلِيَ الإنسانُ بحبّ الدنيا واتّباع الهوی، واستحوذ حبُّ الدنيا على قلبه، فإنّه يتألّم من كلّ شيء، عدا الأمور الدنيويّة، ويعادي -والعياذ بالله- اللهَ وعبادَ الله والأنبياءَ والأولياءَ وملائكةَ الله، ويحسّ بالحقد والبغضاء. وحينما يأتي أجلُه، وتأتي ملائكةُ الله لتتوفّاه، يشعر بالاستياء الشديد، وينفر منهم؛ لأنّهم يريدون أن يُبعِدوهُ عن محبوبته -الدنيا والأمور الدنيويّة-؛ ولذلك يبغضهم وينفر منهم، وربّما يخرج من هذه الدنيا وهو عدوٌّ لله -تعالى-!

حدَّثَ أحدُ الأكابر من أهالي قزوين (رحمه الله)، فقال: إنّه كان جالسًا عند رأس شخصٍ يحتضر، فسمعه يقول: إنّ الظلمَ الذي ظلمَني إيّاه اللهُ -تعالى-، لم يظلمْني مثلَه أحدٌ! لقد بذلتُ مهجتي في تربية أولادي، وها هو يريد أن يُبعِدَني عنهم، فهل هناك ظلمٌ أشدُّ من هذا وأعظم؟!

فإذا لم يُهذب الإنسانُ نفسَه، ولم يُعرض عن الدنيا، ويُخرج حبَّها من قلبه، فيُخشَى عليه أن يترك الدنيا وقلبُه مملوءٌ بالحقد على الله وأوليائه، وأن يواجِهَ مثل هذا المصير المشؤوم.

 

68

 

 


62

الخطوة الأولى في التهذيب

هل حقًّا إنّ هذا الإنسان الصلف هو أشرف المخلوقات، أم هو في الحقيقة أشرّ المخلوقات؟ ﴿وَٱلعَصرِ ١ إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ لَفِي خُسرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَواْ بِٱلحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ﴾[1].

إنّ المستثنَى في هذه السورة هم «المؤمنون» الذين «عملوا الصالحات» فحسب. و«العمل الصالح» هو الذي ينسجم مع الروح. ولكنّ كثيرًا من أعمال الإنسان -كما ترون- تنسجم مع الجسم، دون أن يوجد من التواصي المذكور في السورة المباركة عينٌ أو أثرٌ.

فإذا كان الأساس أن يسيطر عليكم حبُّ الدنيا وحبُّ النفس، ويَحُول دون درككم للحقائق والواقعيّات، ودون أن يكون عملكم خالصًا لوجه الله -تعالى-، ويمنعكم عن التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، وسدّ طريق الهداية أمامكم؛ فإذا كان هذا الأساس، فستبوؤون بالخسران المبين، وتكونون ممّن خسر الدنيا والآخرة؛ لأنّكم قد أضعتم شبابكم، وحُرِمتُم من نِعَمِ الجنّة ونعيم الآخرة، وأضعتم دنياكم وآخرتكم. فالآخرون إذا ما أُغلِقَت طريق الجنّة أمامهم، وسُدَّت في وجوههم أبوابُ رحمة الله، واستحقّوا الخلود في النار، فإنّهم قد حظوا -على الأقلّ- بالدنيا، وتمتّعوا بلذائذها. أمّا أنتم...

احذروا أن يستفحل -لا سمح الله- حبُّ الدنيا وحبُّ النفس، شيئًا فشيئًا، في نفوسكم، ويصل بكم الأمر إلى أن يتمكّن الشيطان

 

 

69

 

[1] سورة العصر، الآيات 1 - 3.


63

الخطوة الأولى في التهذيب

من سلب إيمانكم؛ إذ يُقَال: إنّ كلَّ جهود الشيطان تتكرّس لسرقة الإيمان وسلبه[1].

إنّ كلَّ جهود إبليس ومساعيه مكرّسةٌ لاختطاف إيمان الإنسان. فلم يُقدِّم لكم أحدٌ تعهُّدًا أومستندًا ببقاء إيمانكم. فما أدراكم؟ لعلّه إيمان مستودع[2] يتمكّن الشيطان في النهاية من سلبه منكم، فتخرجون من الدنيا بعداوة الله وأوليائه. عمرٌ قضيتموه تتنعّمون بالنعم الإلهيّة، وتجلسون على مائدة الإمام صاحب الزمان|، وفي النهاية، تفارقون الحياة عديمي الإيمان -والعياذ بالله-، وتعادون وليّ نعمتكم.

وعليه، فإذا كانت لديكم علاقة بالدنيا، ومحبّة لها، فحاوِلوا، بكلّ جهدكم، أن تقطعوا هذه العلائق. إنّ هذه الدنيا، مع كلّ زخارفها وبهارجها، أحقر من أن تستحقّ المحبّة، فكيف إذا ما كان الإنسان محرومًا حتّى من هذه المظاهر؟ فماذا تملكون أنتم من الدنيا حتّى


 


[1] ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾، سورة الأعراف، الآية 16. وقد ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم في ذيل الآية 17 من سورة الأعراف: «إذا ما سلك الأفراد طريق الهداية، فإنّ الشيطان يسعى لحرفهم عن طريق الدين». تفسير عليّ بن إبراهيم. ج1، ص224. انظر أيضًا تفسير البرهان، ج2، ص5.

[2] نقل محمّد بن الفضيل عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) قوله: «مَا كَانَ فِي الإِيمَانِ المُسْتَقِرِّ، فَمُسْتَقِرٌّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ [أَوْ أَبَدًا]؛ وَمَا كَانَ مُسْتَوْدَعًا، سَلَبَهُ اللهُ قَبْلَ المَمَاتِ». العياشيّ، محمّد بن مسعود بن عيّاش السلميّ السمرقنديّ، تفسير العياشيّ، تحقيق الحاجّ السيّد هاشم الرسوليّ المحلّاتيّ، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، إيران - طهران، 1422هـ‏، ط1، ج1، ص372. كما ورد في نهج البلاغة أيضًا قوله (عليه السلام): «فَمِنَ الإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا فِي الْقُلُوبِ، ومِنْه مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ». السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص279.

 

 

70


64

الخطوة الأولى في التهذيب

تنشدّ قلوبُكم إليها؟ فهل لديكم غير المسجد والمحراب والمدرسة؟ فهل من الصحيح أن تتنافسوا على المسجد والمحراب، وتُثيروا النزاعات، وتُفسِدوا المجتمع؟ وإذا افترضنا أنّ لكم من الدنيا ما للمرفَّهين والمترفين، فإنّكم ستقضون -لا سمح الله- عمرَكم باللذائذ، ثمّ ترون، عند انتهاء العمر، أنّ ذلك كلّه ليس أكثر من حلم جميل سرعان ما انقضی، بَيْدَ أنّ تبعاته ومسؤوليّاته سوف تبقى تلاحقكم، وتأخذ بخناقكم دومًا. فما قيمة هذه الحياةِ السريعةِ الفناءِ الحلوةِ الظاهرِ -هذا إذا انقضَت دونما غصص- في مقابل العذاب الدائم؟

إنّ عذاب «أهل الدنيا» يكون أحيانًا غير متناه، هذا فضلًا عن أنّ أهلَ الدنيا يتصوّرون أنّهم قد ملكوا الدنيا واستمتعوا بجميع مزاياها ومنافعها، إلّا أنّهم مُخطِئون وغافلون. إنّ كلَّ واحدٍ ينظر إلى الدنيا من نافذةِ محيطِه وبيئتِه، ويتصوّر أنّ الدنيا هي كما يرى. بَيْدَ أنّ هذا العالم أوسع من أن يستطيع الإنسان أن يتصوّره، ويتمكّنَ من اكتشافه وسبر أغواره. وقد ورد في الحديث الشريف عن هذه الدنيا، بأن الله -تبارك وتعالى- «مَا نَظَرَ إِلَيْهَا نَظْرَةَ رَحْمَةٍ»[1].

وعليه، ينبغي لنا أن نتعرّف على حقيقة ذلك العالَم الذي نظر إليه اللهُ -تعالى- «نظرَةَ رحمةٍ». ما هو «مَعْدِن العَظَمَة» الذي دُعِيَ

 

 


[1]  ونصّ الحديث: «فَمَا لَهَا عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْرٌ وَلَا وَزْنٌ، وَلَا خَلَقَ فِيمَا بَلَغنَا خَلْقًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلَا نَظَرَ إِلَيْهَا مُذْ خَلَقَهَا». العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص110.

 

71


65

الخطوة الأولى في التهذيب

إليه الإنسان؟ وما هي حقيقته؟ إنّ الإنسان أصغر من أن يدرك حقيقة «مَعْدِن العَظَمَة».

إنّكم إذا أخلصتم نواياكم، وأصلحتم أعمالَكم، وأخرجتم من قلوبكم حبَّ النفس وحبَّ الجاه، فإنّ الدرجات الرفيعة والمقامات العالية قد أُعِدَّت لكم، وهي في انتظاركم. إنّ الدنيا وما فيها، بكلّ بهارجها وزخارفها، لا تساوي ذرّةً من المقام الذي أُعِدَّ لعباد الله الصالحين. فجدُّوا واجتهدوا لبلوغ هذه المقامات السامية. وإذا استطعتم، فابنوا أنفسكم، واسموا بها إلى درجةٍ لا تعبؤوا حتّى بهذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة.

لا تعبدوا الله -تعالى- من أجل نيل هذه الأمور، بل اعبدوه؛ لأنّه أهل للعبادة[1]. اسجدوا لله، وعفِّروا جباهكم بالتراب، حينها تخترقون «حُجُبَ النُّورِ»، وتصلون إلى «مَعْدِنِ العَظَمَةِ». فهل بمقدوركم أن تحقِّقوا هذه المكانة والمنزلة من خلال أعمالكم هذه، وهذا الطريق الذي تسلكونه؟ هل تتصوّرون أنّ النجاة من عقاب الله -تعالى-، واجتياز العقبات المهولة، والتخلُّص من نار جهنّم، يتحقّق بهذه السهولة؟ هل تتصوّرون أنّ بكاء الأئمّة الأطهار، ونحيب

 

 


[1] رُوِيَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «إِنَّ الْعِبَادَةَ ثَلَاثَةٌ: قَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَوْفاً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ؛ وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالى‏- طَلَبَ الثَّوَابِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأُجَرَاءِ؛ وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حُبًّا لَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَة». الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص84.

 

72


66

الخطوة الأولى في التهذيب

الإمام السجّاد (عليه السلام) هو من أجل تعليمنا؟ إنّهم، رغم منزلتهم العظيمة السامية، ومقامهم الذي لا يُضَاهى، كانوا يبكون من خشية الله -تعالى-؛ لأنّهم يعلمون مدى خطورة الطريق الذي سيجتازونه. كانوا مطّلعين على المشاكل والصعوبات التي تعترض اجتيازَ الصراط؛ الصراط الذي يمثّل أحد طرفيه الدنيا، وطرفه الآخر الآخرة. كانوا مطّلِعين على عوالم القبر والبرزخ والقيامة، وعقباتها الكأداء؛ لذلك لم يكن يقرّ لهم قرار، وكانوا دائمًا يلجؤون إلى الله، ويدعونه للنجاة من هول يوم القيامة.

فماذا أعددتم أنتم لهذه العقبات الكأداء، والعقوبات التي لا تُطاق؟ وأيّ طريقِ نجاةٍ اخترتم؟ متى تريدون أن تهتمّوا بأنفسكم، وتعملوا على تهذيبها وإصلاحها؟ إنّكم الآن في ريعان الشباب، قادرين على التحكُّم بقواكم، ولم يدبّ الضعف بعد إلى أبدانكم؛ فإذا لم تفكِّروا الآن بتزكية أنفسكم وبناء ذواتكم، فكيف ستتمكّنون من ذلك غدًا، حين يتغلّب الضعفُ عليكم، ويسيطر الوهن، وتفقدون العزم، وتضمحلّ فيكم الإرادة، فيكون ثقل الذنوب قد زاد من ظلمة القلب؛ عندها، كيف يتسنّى لكم بناء أنفسكم وتهذيبها؟

إنّ كلّ نَفَسٍ تتنفّسونه، وكلّ خطوة تخطونها، وكلّ لحظة تنصرم من أعماركم، يزيد من صعوبة إصلاحكم أنفسكم، وربّما زاد أيضًا في ظلمة القلب والتباهي والغرور. فكلّما يتقدّم العمر بالإنسان،

 

 

73

 

 


67

الخطوة الأولى في التهذيب

تزداد هذه الأمور، التي تتعارض مع سعادة الإنسان، وتَضعُف القدرةُ على الإصلاح. فإذا بلغتم مرحلة الشيخوخة، فمِن الصعب أن تُوَفَّقوا لاكتساب الفضيلة والتقوی. ليس بمقدوركم أن تتوبوا؛ لأنّ التوبة لا تتحقّق بمجرّد لفظة «أتوب إلى الله»، بل تتوقَّف على الندم والعزم على ترك الذنوب[1]. وإنّ الندم والعزم على ترك الذنوب لن يحصلا للذِين أمضوا عمرًا في الغيبة والكذب، وابيضَّت لحاهم على المعصية والذنوب. فمثل هؤلاء يظلّون أسارى ذنوبهم إلى آخر أعمارهم.

فليتحرّك الشبابُ قبل أن يُداهمهم المشيب. لقد بلغنا هذه المرحلة، ونحن أعلم بمعاناتها ومصائبها. إنّكم، مادمتم في مرحلة الشباب، تستطيعون أن تفعلوا كلّ شيء. فما دمتم تملكون عزيمة الشباب، وإرادة الشباب، باستطاعتكم أن تتخلّصوا من أهواء النفس ورغباتها الحيوانيّة. ولكن، إذا لم تبادروا إلى ذلك، ولم تفكّروا بإصلاح أنفسكم وبنائها، فسوف يكون ذلك ضربًا من المحال عندما تبلغون مرحلة الهرم. فكِّروا بأنفسكم مادمتم شبابًا، ولا تنتظروا إلى أنّ تُصبِحوا شيبةً ضعافًا عاجزين.

 

 


[1] عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّ الاِسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ العِلّيّينَ، وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَی، وَالثَّانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَوْدِ إِلَيْهِ أَبَدًا». السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ(عليه السلام))، مصدر سابق، ص550. وللمزيد من الاطّلاع حول التوبة، انظر شرح الأربعين حديثًا للإمام الخمينيّ، الحديث 17.

 

74


68

الخطوة الأولى في التهذيب

إنّ قلبَ الشباب قلبٌ رقيقٌ وملكوتيٌّ، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن كلّما كبر الإنسان، استحكمَت في قلبه جذورُ المعصية، إلى أن يصبح استئصالُها من القلب أمرًا مستحيلًا. كما ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ. فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً، خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛ فَإِنْ تَابَ، ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ؛ وَإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ، زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ، حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ؛ فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ، لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً»[1].

إنّ إنسانًا من هذا النوع قد لا يمرّ عليه يومٌ أو ليلةٌ دون أن يَعصيَ الله -تعالى-، وحينها يكون من الصعب أن يرجع قلبه في سنّ الشيخوخة إلى حالته الأولی. فإذا لم تُصلِحوا أنفسَكم -لا سمح الله، وخرجتم من الدنيا بقلوب سوداء، وعيون وآذان وألسنة ملوّثة بالذنوب، فكيف ستقابلون الله -تعالى-؟ كيف ستردُّون هذه الأمانات الإلهيّة، التي استودعكم الله إيّاها بمنتهى الطهارة والبراءة، مدنّسةً بالقذارة والرذالة؟!

هذه العين وهذه الأذن، اللتان هما تحت تصرّفكم، وهذه اليد وهذا اللسان، اللذان تحت سلطتكم، وهذه الأعضاء والجوارح التي تعيشون معها، كلهُّا أمانات الله -سبحانه وتعالى-، وقد منحكم إيّاها في غاية السلامة والطهارة. فإذا ابتُلِيَت بالمعاصي، فسوف تتلوّث؛

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص273.

 

75


69

الخطوة الأولى في التهذيب

وإذا تلوّثَت -لا سمح الله- بالمحرّمات، فسوف تجد طريقها إلى الرذالة. وآنذاك، عندما تريدون إعادة هذه الأمانة، فقد تُسأَلون: أهكذا تُحفَظ الأمانة؟ هكذا كان القلبُ عندما أُعطِيَ لكم؟ العين التي استودعناكم إيّاها، هكذا كانت؟ وسائر الأعضاء والجوراح التي جعلناها تحت تصرُّفكم، هل كانت هكذا ملوّثةً وقذرةً؟

بماذا ستجيبون عن هذه الأسئلة؟ كيف ستواجهون اللهَ الذي خنتم أماناته إلى هذا الحدّ من الخيانة؟ إنّكم الآن شبابٌ، وقد قرّرتم أن تُفنُوا شبابكم في هذا الطريق، الذي لن ينفعكم دنيويًّا بما يستحقّ الذكر. فإذا أمضيتم أوقاتكم الثمينة هذه، وقضيتم ربيع شبابكم في طريق الله، ومن أجل هدفٍ مقدّسٍ، فإنّكم ليس فقط لم تخسروا شيئًا، بل تربحون الدنيا والآخرة.

ولكن، إذا ما استمرَّت أوضاعكم على هذا المنوال الذي عليه الآن، فإنّكم تُتلِفُون شبابكم، وتهدرون خيرة سنوات عمركم، وستكونون مسؤولين أعظمَ مسؤوليّةٍ عند الله -تعالى- في العالَم الآخر. علمًا أنّ جزاء أعمالكم الفاسدة والمفسدة هذه لا ينحصر بالعالَم الآخر، بل إنّكم سترون أنفسكم في هذه الدنيا، وقد أحاط بكم البلاءُ من كلّ جانب، وسُدَّت عليكم الآفاق، وضُيِّقَ الخناق.

 

 

76

 

 


70

تحذير آخر

تحذير آخر

إنّ مستقبلكم مظلم. يحيط كمُّ أعداءٍ كثيرين من كلّ صوب، وقد وضعوا الخطط الجهنّميّة الفتّاكة للقضاء عليكم وعلى الحوزات العلميّة. لقد وضعَت الأيادي الاستعماريّة خططًا خطيرةً للإطاحة بكم، خططًا جهنّميّة تستهدف الإسلام والمسلمين. إنّهم، وتحت سِتار الإسلام، وضعوا لكم خططًا خطيرة، وإنّكم لن تستطيعوا أن تتخلّصوا من خططهم الشيطانيّة إلّا في ظلّ بناء الذات والتهذيب والنظم والترتيب السليم. فبهذا وحده تستطيعون أن تُحبِطوا محاولاتهم المجرمة هذه.

إنّني أقضي الآن آخرَ أيّام حياتي، وسأفارقكم عاجلًا أو آجلًا، ولكنّي أتوقّع لكم مستقبلًا مظلمًا، وأيّامًا سوداء! فإذا لم تُصلِحوا أنفسَكم، وتتجهّزوا، وتجعلوا النظم والانضباط حاكمًا على دراستكم وحياتكم، فإنّكم محكومون بالفناء والخسران -لا سمح الله-.

ففكِّروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداءُ على جميع شؤونكم الدينيّة والعلميّة. فكِّروا، وانتبهوا، وتحرّكوا! ففي المرحلة الأولی، اهتمّوا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم. خُذوا بوسائل العص، نظِّموا أموركم، وابسطوا النظام والانضباط على كلّ شؤون الحوزات العلميّة. لا تدعوا الآخرين يحاولون تنظيم هذه الحوزات، لا تسمحوا للأعداء أن يتسلّطوا عليها زاعِمين أنّ العلماء ليسوا أهلًا لشيء، ولا يقدرون أن يفعلوا شيئًا، إنّما هم مجموعة

 

 

 

77


71

تحذير آخر

عاطلين عن العمل. إنّهم، بهذه الذرائع، يريدون إفساد هذه الحوزات، بذريعة إصلاحها وتنظيمها، ويريدون أن يتسلّطوا عليكم، فلا تدعوا لهم عذرًا. فإذا نظّمتُم أمورَكم، وهذّبتُم أنفسَكم، وضبطتُم كلَّ أوضاعكم، فلن يطمع الآخرون بكم، ولن يعود بمقدورهم النفوذُ إلى حوزاتنا العلميّة ومؤسّساتنا العلمائيّة.

هذِّبوا أنفسَكم، وتجهّزوا واستعدّوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يمكن أن تعترضكم. حَصِّنوا الحوزات العلميّة، واجعلوها قادرةً على التصدّي للمشاكل التي ستواجهها. إنّ أيّامًا سوداء بانتظاركم! ويبدو أنّ أيّامًا عِجافًا ستواجهكم. إنّ عملاء الاستعمار يتطلّعون للقضاء على الإسلام، ومَحْوِ كلِّ أثرٍ له. ولا بدّ لكم من الوقوف في وجه ذلك وقفةً شجاعة، ولن يتسنّى لكم ذلك مع وجود حبّ النفس والجاه والغرور والتكبُّر.

إنّ عالِم السوء، العالِم الغارِق في حبّ الدنيا، العالِم الذي لا يفكّر بغير البقاء في مركزه والحفاظ على زعامته؛ إنّ مثل هذا العالِم لا يستطيع مجاهدة أعداء الإسلام، وإنّ ضررَه أكثر من غيره. فلتكن خطواتكم ربّانيّة. أَخرِجُوا حبَّ الدنيا من قلوبكم، وآنذاك، يمكنكم أن تُجاهِدوا. فليحاول كلُّ واحد منكم أن يلقِّن نفسَه، من الآن، أنّه يتطلّع لأنْ يكون جنديًّا يضحّي من أجل الإسلام، يتطلّع للتضحية من أجل الإسلام. لا تتشبّثوا بالذرائع، وتخلُقُوا لأنفسكم الأعذار بأنّ المرحلة لا تقتضي ذلك. جدّوا واجتهدوا؛ لتكونوا في المستقبل نافِعين

 

 

78

 


72

تحذير آخر

للإسلام، وباختصار، أن يكون كلُّ واحدٍ منكم إنسانًا.

إنّ عملاء الاستعمار يخشون الإنسان. المستعمرون الذين لا يفكِّرون بغير نهب ثرواتنا، ولا يسمحون أن يتربّى في جامعاتنا «إنسانٌ»؛ لأنّهم يخشون الإنسان. فإذا ما وُجِدَ «إنسانٌ» في دولةٍ ما، فإنّه سوف يهدّد مصالحَهم.

إنّكم تتحمّلون مسؤوليّةَ بناءِ أنفسِكم، ليصبح كلُّ واحدٍ منكم إنسانًا سويًّا ومتكاملًا، يقف في وجه مخطّطات أعداء الإسلام المشؤومة. فإذا لم تنظِّموا أنفسَكم، وتُعِدُّوا العدَّةَ للتصدّي للضربات التي تُكَال كلّ يوم للإسلام، فسوف تقضون على أنفسكم، وكذلك على أحكام الإسلام، وستكونون مسؤولين عن ذلك كلّه.

أنتم أيّها العلماء! وأنتم أيّها الطلّاب! يا طلبة العلوم الدينيّة! ويا أيّها المسلمون! كلُّكم مسؤولون. مسؤوليّتكم، أيّها العلماء وطلبة العلوم الدينيّة، تأتي في الدرجة الأولی، ثمّ مسؤوليّة بقيّة المسلمين. «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[1].

أنتم أيّها الشباب! ينبغي لكم أن تقوّوا من إرادتكم؛ لكي يتسنّى لكم مجابهة كلّ أنواع الظلم والاستبداد، ولا سبيل غير ذلك. إنّ كرامتكم، وكيان الإسلام، وكرامة الدول الإسلاميّة منوطة بمدى

 

 


[1]  الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، تقديم السيّد شهاب الدين النجفيّ المرعشيّ، تحقيق الحاجّ آقا مجتبى العراقيّ، لا.ن، لا.م، 1403هـ - 1983م، ط1، ج1، ص129.

 

79


73

تحذير آخر

استعدادكم للتضحية والبذل والعطاء.

نسأل الله -تعالى- أن يحفظ الإسلام والمسلمين والدول الإسلاميّة من شرّ الأعداء، وأن يحمي الإسلام والحوزات العلميّة الإسلاميّة من المستعمرين والخونة، وأن يوفِّق علماء الإسلام والمراجع العظام للدفاع عن أحكام الشريعة المقدَّسة، ونشر تعاليم القرآن المجيد، وأن يوفِّق العلماء وطلّاب العلوم الدينيّة للتنبُّهِ للأخطار المحدقة بهم، ووعي مسؤوليّاتهم الجسيمة في عصرنا الحاضر.

كما نسأله -تعالى- أن يحفظ الحوزات العلميّة الإسلاميّة والمؤسّسات العلمائيّة، ويصونها من أيدي أعداء الإسلام وعملاء الاستعمار ونفوذهم، وأن يوفِّق الجيل الشابّ، من طلبة العلوم الدينيّة والجامعيّين وعامّة المسلمين، لبناء أنفسهم، وتهذيبها، وتزكيتها. كذلك يوفِّق الأمّة الإسلاميّة للتحرّر من نوم الغفلة، واجتناب الخمول والتحجُّر والكسل؛ لكي تعود إلى ذاتها، من خلال استلهام تعاليم القرآن النورانيّة والثوريّة، وينهضوا ويقطعوا أيادي الاستعمار وأعداء الإسلام الألدّاء عن البلدان الإسلاميّة، بوحيٍ من الاتّحاد والوحدة، ويحقِّقوا الحرّيّة والاستقلال والمجد والعظمة الضائعة.

﴿رَبَّنَآ أَفرِغ عَلَينَا صَبرٗا وَثَبِّت أَقدَامَنَا وَٱنصُرنَا عَلَى ٱلقَومِ ٱلكَٰفِرِينَ﴾[1]، ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّل دُعَآءِ﴾[2].

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 250.

[2] سورة إبراهيم، الآية 40.

 

80


74
الجهاد الأكبر