نصوص عاشورائية

السَّلامُ عَلى الحُسَيْنِ وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ وَعَلى أَوْلادِ الحُسَيْنِ وَعَلى أَصْحابِ الحُسَيْنِ.


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2019-10

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدِّمة

المقدِّمة

إلى كربلاءَ، عندَ الطفوفِ، محطِّ الرحالْ... وقبلةِ الأنظارْ

هناكَ تشتعلُ الرمالْ... وتسطعُ الشمسْ

فلا ظلالَ ولا ماءْ

وثلّةٌ تهوى الردى... مِنْ أجلِ سبطِ الرسولِ

غريبِ الديارْ!

وناكثونَ للعهدِ أتَوا... منْ جهاتٍ وقفارٍ وأمصارْ

سلّوا سيوفَ الغدرِ حقدًا... وانتصارًا لجدودٍ ولثارْ

والسبطُ طودٌ شامخٌ... ما بينَ أقزامٍ صغارْ

يجهرُ الصوتَ نذيرًا... ويخوضُ في الحربِ الغمارْ

ثُلِمَتْ سيوفُهُمْ... للبغيِ سُلَّتْ

وكان للدّمِ على السيفِ انتصارْ!

 

9


1

المقدِّمة

يسرُّ جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة أن تضعَ بين أيدي مَنْ نذروا أنفسَهم ليكونوا في خدمة المنبر الحسينيّ، هذا الزادَ الأدبيَّ المعطّر بنجيع الشهداء؛ كي يكون عونًا لهم في تقديم الليالي العاشورائيّة المباركة والتعريف بالمبلِّغين والخطباءِ الحسينيّين، شاكرين الشاعرة الأستاذة أمل طنانة على هذا الجهد المفعم بالحبّ والولاء لمسيرة العشق الحسينيّ.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

10


2

الليلة الأولى

الليلة الأولى

﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰل مُّبِينٍ﴾[1].

عنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام)، عنْ آبائِهِ(عليهم السلام): «قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): إذا التبسَتْ عليكُمُ الفتنُ كَقطعِ الليلِ المظلمِ، فعليكُمْ بالقرآنِ؛ فإنَّهُ شافعٌ مشفَّعٌ»[2].


 


[1] سورة آل عمران، الآية 164.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 2، ص 599.

 

11


3

الليلة الأولى

تعريف المحاضر

يُشرقُ ليلُ كربلاءَ المطرّزُ بالشّوقِ، على أفقِ انتظارِنا...

وتعودُ ليالي الدّمعِ العاشقِ، تنثرُ آهاتِها في الأرجاءِ.

من كلِّ فجٍّ عميقٍ، تتقاطرُ القلوبُ مُسافِرَةً بِدَمْعِها، لِتَحُطَّ عَلى شاطئِ الفَجيعةِ.

إنّهُ موسمُ الحزنِ التّليدِ، يزهرُ في الرّوحِ حنينًا، علَّها تكونُ معهم، على تلكَ الرّمالِ، متسربلةً بألوانِ الفداءِ الأحمرِ.

يا حسينُ... يا شهيد...

يا نداءَ الحياةِ في صحارى أشواقِ المعذّبينَ.

أصغِ إلى لهيبِ الحزانى الرّاحلينَ إليكَ، يلثِمونَ جرحَكَ الأخضرَ، فيَشتعلُ في قفرِ أحلامِهِمُ العشبُ والعبيرُ.

لقد غربلوا أمنيّاتِهِمْ في غربالِ الهيامِ، فلمْ يبقَ منها سوى أمنيّةٍ واحدةٍ، تهتفُ بها حناجرُهُمُ الظّمأى ليلَ نهارَ:

 

12

 

 


4

الليلة الأولى

يا ليتنا كنّا معكمْ، فنفوزَ فوزًا عظيمًا!

إنَّ معنى الفوزِ يا قرَّةَ العيونِ، لا يعدو لحظةَ وصالٍ، تتمرّغُ فيها أرواحُ الظّمأى على ترابِ الجوى، دونَ ماءٍ...

رضاكَ يا نهرَ الرّضا ماؤُها، وسقاؤُها، ونعيمُها.

عشرُ ليالٍ منَ الوصالِ، كنْ فيها الدّمعةَ المضيئةَ بالسّكينةِ، كنْ فيها الشّراعَ، فقد طالَ عَلى العطاشى المسيرُ... وأنتَ الغديرُ...

تعريف الخطيب الحسينيّ

للهِ درُّ الحبِّ إذا كانَ فريضةً على قلبٍ واعٍ، لا عبثَ هوىً تائهٍ بينَ سرابٍ بِقيعَةٍ، وزَبَدٍ على موجِ خيالٍ.

للهِ درُّ الحبِّ إذا اهتدى إلى كمالِ الحبيبِ، فلمْ ينصرِفْ نحوَ مهالِكِ العيبِ والنّقصِ والانتقاصِ.

يا قلوبَ العاشقينَ، لا تضيعي في البحثِ عن معشوقٍ بعيدٍ صعبَ المنالِ...

 

13

 


5

الليلة الأولى

إنَّ معشوقَكِ الأكملَ حاضرٌ في المحرابِ، وَصْلُهُ دمعةُ ابتهالٍ تومضُ في الرّوحِ، فترتقي بساطَ أحلامِها، ليعرِفَ القلبُ نشوةَ التّلاقي الأثيرَةَ، ويرى في ضياءِ البصيرَةِ وجوهًا، لو سألتِ اللهَ أنْ يدُكَّ الجبالَ لباتَتْ كالعِهْنِ المنفوشِ!

في هذِهِ اللّيلَةِ، يرسلُ القدرُ هُدْهُدَهُ بِالنّبأِ اليقينِ...

في هذهِ الليلةِ تتهيّأُ الجراحُ لوجَعِها، ويحفرُ الدّمُ مجراهُ على الرّمالِ...

هذهِ اللّيلَةَ تبطئُ السّاعةُ ثوانيها، ويتسربلُ الوقتُ بأوشحةِ النّحيبِ...

فهنيئًا لروحٍ وعَتْ معاني دموعِها، وفهمَتْ كُنْهَ أحزانِها، وسلّمَتْ للغدِ غضَبَها الدّفينَ.

وهنيئًا لقلوبٍ جدّدَتْ أحزانَها، عامًا بعدَ عامٍ، ووقفَتْ في فناءِ الحسينِ، تتجرّعُ المرارَةَ، زادًا، يرحلُ بها إلى نعيمِ العلاءِ...

 

14


6

الليلة الثانية

الليلة الثانية

 

﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾[1].

 

عنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «مَنِ اسْتَمَعَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللَّه -عَزَّ وجَلَّ- مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، كَتَبَ اللَّه لَه حَسَنَةً، ومَحَا عَنْه سَيِّئَةً، ورَفَعَ لَه دَرَجَةً»[2].

 

 


[1] سورة الأعراف، الآية 204.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 2، ص 612.

 

15


7

الليلة الثانية

تعريف المحاضر

إنّهُ موعدُ الوصالِ السّماويِّ...

وجهةُ القلبِ إلى حيثُ يدلقُ العرشُ بهاءَهُ، ويشعلُ أقداسَ ضيائهِ.

لقدْ ملّتِ الرّوحُ عتمةَ التّائهينَ، وكسرتِ الزَّرَدَ الملوّثَ بالشّهواتِ.

يا وُجهةَ قلبِ الحسينِ، وبوصلةَ العاشقينَ، خُذينا إلى حيث حفرَتْ خطاهُ على الأرضِ سبيلَ السّماءِ.

في أعماقِ الرّوحِ اشتياقٌ، ما برحَتْ تشكو لهيبَهُ...

مئاتُ السّنينِ عبرتْ، وكلّ عامٍ يعبرُ يُلقي في أتونِ الشّوقِ جُذوةً، تزيدُ اللّوعةَ التياعًا.

يا سيّدَ وجْدِ الواجدينَ، أستحلفُكَ بالشّوقِ أن تُخبِرَني عنْ حالِ الدّروبِ الّتي لثمَتْ خُطاكَ!

عَنْ حالِ التّرابِ اللّاهثِ خلفَ عبيقِ أذيالِ ثوبِكَ...

عن تأوّهاتِ الرّيحِ، تلثمُ نعليكَ، تسلّمُ عليكَ...

 

 

16


8

الليلة الثانية

تجمعُ باقاتِ عطرِكَ، وتشعلُ بها شَغَفَ الهواءِ...

عن تلكَ المدينةِ الّتي نوّرَها جدُّكَ...

أخبرني كيفَ حالُها تودّعُ الضّوءَ، وتستقبلُ دهورَ الحلكةِ والظّلامِ...

سيّدي، اقبلْنا في هذهِ الليلةِ نزلاءَ...

وللضّيفِ قرىً، فاجعَلْ قرانا دمعةَ حبٍّ نتزوّدُ بها في هذِهِ العشيّةِ.

تعريف الخطيب الحسينيّ

وللمدينةِ روحٌ، وبصيرةٌ تُبصرُ ما لا يُبصرونَ...

هل سمعتُمْ عن مدينةٍ بكَتْ؟ سالَتْ دموعُها مطرًا على خدودِ اللّيلِ...

لمْ يسمَعْ نحيبَها النّيامُ، فقَدْ تغمّدتْهُمُ الأحلامُ بأضغاثِها حتّى غرِقوا وتاهوا، ونأتْ بهِمُ الأمنيّاتُ...

ثُلّةٌ ممّن سمعوا ورأَوا ووعَوا، ملؤوا حقائبَهُمْ بالوجدِ،

 

17


9

الليلة الثانية

وعيونَهُمْ بالدّمعِ، وشحذوا آلامَهُمْ، ومضَوا معهُ!

مَنْ رأى موكبَ الشّموسِ يغادرُ الصّباحَ؟

مَنْ سمعَ وقعَ خيولِ تَمضي باتّئادٍ على رملِ اليقينِ؟

من استنشقَ عبيرَ الكبرياءِ، يمخرُ عبابَ الرّيحِ؟

هلْ كانوا يعلمونَ أنَّ الزّمنَ سيُجدّدُ ذلِكَ الرّحيلَ عامًا بعدَ عامٍ، ودمعةً تلوَ دمعةٍ؟

هلْ كانوا يعلمونَ أنّ التّاريخَ سينفضُ كلَّ ذكرياتِهِ، ويتشبّثُ بذلِكَ الرَّحيلِ، حتّى لا يبقى منهُ شيءٌ سواهُ؟

يا صوتَهُمْ على تلكَ الدّروبِ...

أغمِدْ آهاتِكَ في قلبي، فلا قيمةَ لنبضٍ لا تحتويهِ غُربتُكَ واغترابُكَ...

لا قيمةَ لقلبٍ، لمْ يرتشِفْ من قيمِ العِنادِ، طعمَ الرّفضِ الأصيلِ...

 

18

 

 


10

الليلة الثالثة

الليلة الثالثة

﴿الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ١ إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٢ نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ﴾[1].

عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدى هدى محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)...»[2].

 

 


[1] سورة يوسف، الآيات 3-1.

[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص 337.

 

19


11

الليلة الثالثة

تعريف المحاضر

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾[1].

يقولُ الإمامُ الخمينيُّ {: «المرأةُ كالقرآنِ؛ كلاهما أُوكِلَ إليهِ صناعةُ الرجالِ الشجعان».

وللمرأةِ كمالُها، ورُبَّ امرأةٍ جسّدتِ الكمالَ، كما تُجسِّدُ الشّمسُ الصّباحَ...

وما أكملَ بيتَ النّبوّةِ بيتًا، يُبنى فيهِ الإنسانُ الكاملُ، وتشمخُ فيهِ الأنثى شموخَ الإبداعِ الإلهيِّ في أرقى تجلّياته!

هناكَ وُلدتِ العقيلَةُ، تحوطُها السّمواتُ والأرضُ بمشكاةٍ من سناءٍ.

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

 

20


12

الليلة الثالثة

كيفَ لا؟! وَجدُّها محمّدٌ، وأبوها عليٌّ، وأمُّها فاطمةُ، وشقيقاها الحسنانِ، عليهم صلواتُ الله وسلامُهُ جميعًا، فما الّذي يمكنُ أن ينبجسَ مِن ينبوعِ النّورِ غيرَ النّورِ؟

من هناكَ درجَتْ سيّدةُ الصّبرِ الإنسانيِّ على مدارجِ البلاءِ، فكانَتْ كلّما اتّقدَ الحزنُ في أعماقِها أكثرَ، انفرَجَتْ جفونُها عَلى جمالٍ أبهى، لتقولَ بملءِ الرّوحِ:

ما رأيْتُ إلاّ جميلًا...

فأيُّ درسٍ أرادَ بهِ اللهُ لنساءِ الكونِ أن تستلهِمَ منهُ العبرَ، وتستقي من فصولِهِ الإرادَةَ والقوّةَ والصّبرِ؟!

تعريف الخطيب الحسينيّ

غابَتِ الرّوحُ حينَ غابَ الحبيبُ...

وقبلَ أن تغوصَ الأطيافُ في أفقِ الظّلامِ، ثمّةَ يدٌ نحيلَةٌ لمَعَتْ، تلوّحُ بالدّعاءِ...

 

 

21


13

الليلة الثالثة

إنَّ الجسدَ النّحيلَ الْعَليلَ لم يقوَ على مشقّةِ الدّروبِ، فآثرَ مشقّةَ الانتظارِ...

وفي البالِ وعدٌ لا يفتأُ يغزِلُ الشّوقَ أَملًا، ومثلُ الحسينِ لا يخلفُ الوعودَ...

مُذْ أغلقَ خلفَهُ بابَ الدُّنيا، توقّدَتْ في ذلِكَ القلبِ بَذرَةُ الاشتياقِ...

روحُها تهروِلُ خَلفَ الموكِبِ المهيبِ، تقولُ في صمتٍ:

«أبي وديعَتُكِ يا أُمَّ المصائب، فهل تكفي ذراعاكِ لضمِّهِ، حينَ تُحيطُ بهِ الذّئابُ؟!».

مرَّ الوقتُ محمّلًا بالخطوبِ، وفاطمةُ العليلَةُ، جُرحٌ مُتّكئٌ على صخرَةِ الرّجاءِ...

أخبِرني: ماذا تَرى -أيُها الهِلالُ- من عليائِكَ؟

قلبي ينبئُني بأنَّ الخطبَ جليلٌ، فقدْ فرغَ من كلِّ صورَةٍ وصوتٍ، ولم يبقَ فيهِ سوى اسمِ الحسينِ، تردّدُهُ خفقاتُهُ المذعورَةُ المترنّحةُ بينَ الأملِ والرّجاءِ...

 

 

22


14

الليلة الثالثة

ويضيقُ الكلامُ، ويضيقُ الشّعورُ...

وإذا ضاقَ الشّعورُ أحيطتِ الرّوحُ بسورٍ لا تُبعِدُ جدرانَهُ إلاّ الدموعُ...

فلنترُكْ لفاطمةَ العليلةِ هذهِ اللّيلَةَ الدّاجيةَ، علّها تحطّمُ جدرانَ أرواحِنا بحرقةِ الأشواقِ...

 

23

 

 


15

الليلة الرابعة

الليلة الرابعة

﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡض ظَهِيرا﴾[1].

عنِ الإمامِ الرضا (عليه السلام): «هوَ حبلُ اللهِ المتينُ، وعروتُهُ الوثقى، وطريقتُهُ المُثلى، المؤدِّي إلى الجنَّةِ، والمُنْجي منَ النارِ، لا يَخْلَقُ[2] على الأزمنةِ، ولا يَغِثُّ[3] على الألسنةِ؛ لأنَّهُ لمْ يُجعلْ لزمانٍ دونَ زمانٍ، بلْ جُعلَ دليلَ البرهانِ، والحجَّةَ على كلِّ إنسانٍ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»[4].

 

 


[1] سورة الإسراء، الآية 88.

[2] لا يبلى كما يبلى الثوب.

[3] لا يفسد.

[4] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج 2، ص 130.

 

24


16

الليلة الرابعة

تعريف المحاضر

مُسافِرٌ أنتَ... منَ وجعِ قلبي الوامقِ، إلى حُرقةِ روحِ المُدْنَفِ الكسيرِ...

فأيُّ غيابٍ هذا؟ وأيُّ إيابٍ؟

تسترِقُ المسافاتُ نِظرةً إلى دموعِ والِهيكَ، من ثقبِ بابِ الفجيعَةِ!

إنَّ حرَّ الجفونِ ولهيبَ الصّدورِ لا يفي بمقدارِ الحبيبِ...

لذا، ستظلُّ تصبُّ في الأتونِ مزيدًا من الجمرِ والحنينِ، على مرِّ الزّمانِ...

فأيُّ زادٍ يتأبّطُهُ الرّاحلونَ إليكَ خيرٌ من قلبٍ مُثقلٍ بالأحزانِ، ودمعةٍ حمراءَ غافلتْها ذرّةٌ من رمالِ كربلاءَ، واختبأتْ في آماقِها، وصلاةٍ تسألُ الرّوحُ فيها اللهَ، أن يضيفَ اسمَها إلى سجلِّ وامِقيكَ؟!

هكذا يمكنُ للعاشقِ أن يستدلَّ على طريقِ السّماءِ...

وأعجبُ ما فيهِ، أنّهُ كوّةٌ من حُزنٍ، ولحظاتٌ تتمرّغُ

 

25


17

الليلة الرابعة

فيها الرّوحُ على ضفافِ الأسى...

لحظاتٌ تُفلِتُ فيها النّفسُ حبالَ الصّبرِ، وتطلقُ العنانَ لحشرجاتِ القلبِ المنكسرِ على صخرةِ الرّحيلِ...

هَلْ أُلاقيكَ هناكَ يا سيّدَ دموعي؟ هَلْ يهبُني اللهُ برهةً أحتضِنُ فيها جرحَكَ، وأسلّمُ لكَ طاعةَ القلبِ والعقلِ والرّوحِ فأستضيءَ؟

تعريف الخطيب الحسينيّ

أيُّها السّائرُ إلى اللهِ، حسبُكَ أنَّكَ مُصطفاهُ!

إلى كربلاءَ الدَّمِ تسيرُ، تسابقُ الجراحَ، فتسبقُها!

وتثبّتُ جذورَ عارفيكَ، في أعماقِ اليقينِ أكثرَ فأكثرَ...

ما زالوا يحثّونَ الوجدَ إليكَ مُشاةً حفاةً، يركضونَ ركضَ الهائمينَ... يجدّدونَ دربَ آلامِكَ ويسألونَ اللهَ الرّضا: هوّنَ ما نزَلَ بي أنّهُ بِعَيْنِ اللهِ!

فأيُّ روحٍ تلكَ الّتي أبصرْتَ بها ما لم يبصِروهُ؟

 

 

26

 


18

الليلة الرابعة

لقدْ كنتَ النّورَ في بيتِ سيّدِ الأنبياءِ، حملَتْهُ إلى الحياةِ كفّاهُ، وأذّنتْ في أذنيهِ شفتاهُ... وقالَ للنّاسِ: «إنّ بكاءَ الحسينِ يؤذيني، فلا تُبكوهُ!».

وكانَ أنْ ناديتَهُ: «يا أبتاه!»، وكانَ أنْ ناداكَ: «يا ولدي!»، وقالَ: «إنّكَ سيّدُ شبابِ أهلِ الجنّةِ...».

وستبقى تسألُ كربلاءُ: لماذا حزّوا وريدَكَ، يا بضعةَ الأنبياءِ؟

في هذِهِ العشيّةِ، تشخصُ إليكَ العيونُ، ترحلُ إليكَ القلوبُ.

أيّها الإمامُ، قمْتَ أو قعَدْتَ... غِبْتَ أو حضرْتَ... عشتَ أو ذُبِحْتَ...

إليكَ تيمّمُ الأرواحُ شطرَ أمنيّاتِها، علَّها تفوزُ بدمعةِ وصالٍ فتهنأَ...

 

 

27

 

 


19

الليلة الرابعة

أيّها الصّبُّ المولّهُ الباكي في محرابِ الوصالِ، الشّامخُ الباسِقُ الواثقُ في ميدانِ النّزالِ...

ما لفحتِ العتمةُ عيونَ عارفيكَ، إلاّ واستجاروا بالصّلاةِ عليكَ...

إنَّ مطرَ حروفِ اسمِكَ عوذَةُ العائذينَ، وملاذُ المحتاجينَ، فارفِقْ بهذي القلوبِ، وارفَعْ مقامَها بحفنةِ ضوءٍ تَلمَسُ أهدابَ العيونِ...

يا رفيقَ أحزانِ العارفينَ... وأنيسَ الخائفينَ...

ما أحوجَنا إليكَ!

تعريف الخطيب الحسينيّ

كثيرونَ عرفوكَ...

وكثيرونَ حاولوا الوصولَ إليكَ، فلم يصلوا...

باغتتْهُمُ الحياةُ بدروبٍ مقفراتٍ، أوصدَتِ المسافاتِ عنِ خطاهُمْ قبلَ الوصولِ...

 

 

30


22

الليلة الخامسة

الليلة الخامسة

﴿وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرا وَنَذِيرا ١٠٥ وَقُرۡءَانا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡث وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلا﴾[1].

عنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِيه مَنَارُ الْهُدَى ومَصَابِيحُ الدُّجَى، فَلْيَجْلُ جَالٍ بَصَرَه، ويَفْتَحْ لِلضِّيَاءِ نَظَرَه؛ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ، كَمَا يَمْشِي الْمُسْتَنِيرُ فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ»[2].

 

 


[1] سورة الإسراء، الآيات 106-105.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص600.

 

28


23

الليلة الخامسة

تعريف المحاضر

ما أَحوجَنا إليكَ!

تُطلِقُ ثباتَكَ في صحراءِ الخانعينَ، فيشتعلُ العشبُ عزّةً وكبرياءَ...

فيالَحُزنِ عارفيكَ من معولٍ يتقنُ تحطيمَ القيودِ، ويفتحُ مصاريعَ العتمةِ على قناديلِ البأسِ والكرامةِ!

هكذا زرعْتَ العبرَةَ في ميادينِ المنتصرينَ، هكذا علّمْتَ رجالَنا أنَّ الرّصاصَةَ قلبٌ يعشقُ، وعقلٌ يفكّرُ، ويدٌ تميزُ الصّديقَ مِنَ العدوِّ...

هكذا علّمْتَ أبناءَكَ، أبجديّةَ السّلاحِ، والبسمةَ معَ الجراحِ...

هكذا علّمتَهم، كيفَ تتفاعلُ الدّمعَةُ معَ اليقينِ، فتنبضُ في الأوردةِ شموخًا لا يعرفُ الانحناءَ...

 

29


24

الليلة الخامسة

أيّها الصّبُّ المولّهُ الباكي في محرابِ الوصالِ، الشّامخُ الباسِقُ الواثقُ في ميدانِ النّزالِ...

ما لفحتِ العتمةُ عيونَ عارفيكَ، إلاّ واستجاروا بالصّلاةِ عليكَ...

إنَّ مطرَ حروفِ اسمِكَ عوذَةُ العائذينَ، وملاذُ المحتاجينَ، فارفِقْ بهذي القلوبِ، وارفَعْ مقامَها بحفنةِ ضوءٍ تَلمَسُ أهدابَ العيونِ...

يا رفيقَ أحزانِ العارفينَ... وأنيسَ الخائفينَ...

ما أحوجَنا إليكَ!

تعريف الخطيب الحسينيّ

كثيرونَ عرفوكَ...

وكثيرونَ حاولوا الوصولَ إليكَ، فلم يصلوا...

باغتتْهُمُ الحياةُ بدروبٍ مقفراتٍ، أوصدَتِ المسافاتِ عنِ خطاهُمْ قبلَ الوصولِ...

 

30


25

الليلة الخامسة

وكثيرونَ وصلوا... مخضّبينَ بألوانِ العشقِ...

وهؤلاءِ... لهُمْ في السبيلِ دليلٌ، وخليلٌ...

حَزَمَ عِشْقَهُ، ومضى ذاتَ اشتياقٍ...

كانَ في جعبتِهِ من الزّادِ الكثيرُ... وكانَ في قلبهِ حلمٌ أثير...

لذا، حينَ أبحرَ إليكَ، تركَ للشّراعِ المتيّمِ أن يختارَ الطّريقَ، فخلعَ عقلَهُ وامتطى جنونَهُ... ومضى إلى حيثُ يكونُ معنى الوفاءِ الأصيلِ...

إنّها حكايةُ مكاتيبَ تاهَ أصحابُها عنْ معاني الفداءِ...

وحكايةُ رسالةٍ وصلَتْ قبلَ الأوانِ...

وتائهٍ، لمْ يجِدْ في اللّيلِ من يدلُّهُ عَلى الطّريقِ،

فباتَ دليلًا، يستهدي بمصباحِهِ التّائهونَ!

يا ليلةَ مُسلمٍ اشهدي، أنّ هذِهِ القلوبَ الحرّى، لن تُفرّطَ في قطراتِ دمهِ الصّادقاتِ!

 

31


26

الليلة الخامسة

هذهِ القلوبُ زَمَنٌ جديدٌ، لرسائلَ نكتُبُها بحبرِ الدّماءِ، ونُقسمُ أن نكونَ على العهدِ والوعدِ...

وعلى وقعِ جراحِهِ، سنظلُّ ننادي ملءَ الزمانِ: يا حسينُ! يا حسين...

 

32


27

الليلة السادسة

الليلة السادسة

﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِين﴾[1].

عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «إنَّ هذهِ القلوبَ تصدأُ كما يصدأُ الحديدُ»، قيلَ: فما جلاؤهَا؟ قالَ: «ذكرُ اللهِ، وتلاوةُ القرآنِ»[2].

 

 


[1] سورة الشعراء، الآيات -192 195.

[2] قطب الدين الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، ص 237.

 

33


28

الليلة السادسة

تعريف المحاضر

هذا المساءَ، أتكّئُ بحزني على شبّاكِ ذكراكَ، أرمقُ طيفَكَ البعيدَ...

أسألُهُ أنْ يدنوَ منّي، يلمَسَ جرْحي...

هذا المساءَ، أبحثُ عنْ شعاعٍ انفلَتَ من خيوطِ عباءتِكَ المقدّسةِ، كي يضيءَ أجفاني...

حتّى النّومَ، لا أشتاقُهُ إنْ لم تكنْ ساكنًا في أحلامي...

أيّها المتجذّرُ في قلوبِ المستضعفينَ كالأملِ، أهوى أن أقاسمَكَ الدّمعَ في هذهِ العشيّةِ، أن أردّدَ معكَ بروحي:

«فلئن أخّرَتْني الدّهورُ، وعاقَني عنْ نصرِكَ المقدورُ، ولم أكنْ لمَنْ حارَبَكَ مُحاربًا، ولمَنْ نصبَ لكَ العداوةَ مُناصبًا، فلأَندُبَنَّكَ صَباحًا ومساءً، ولأبكينَّ عليكَ بدلَ الدّموعِ دمًا...».

أنا يا سيّدي من بينِ الحالمينَ بنظرَةٍ، توقدُ بينَ أضلاعِهِمْ معاني السّلامِ...

 

 

34

 

 


29

الليلة الخامسة

لقدْ طالَتْ أحقابُ الحزنِ، وأوغلَتْ في أعمارِنا، جيلًا بعدَ جيلٍ، وَموتًا بعدَ موتٍ، وما لَنا في مقارَعَةِ الزّمانِ إلاّ كربلاءُ!

نتسربَلُ بوشاحِها الحزينِ، علّنا نُبصرُ بهاءَكَ من بعيدٍ، فنرفعَ خلفَكَ راياتِ الثّأرِ العظيم!

تعريف الخطيب الحسينيّ

فتيةٌ عشقوا، فزادهُمُ اللهُ عشقًا...

وآمنوا، فزادهُمُ اللهُ هدىً، وقاتلوا، فزادهُمُ اللهُ فوزًا!

أنِسوا بالموتِ، كما يأنسُ الطّفلُ بلبن أُمّهِ، واشتهوا الفداءَ، فذاقوهُ أشهى من العسلِ!

هكذا يكافئُ اللهُ العارفينَ... هكذا يُجزي صنيعَ المضحّينَ!

ولقدْ رأوا الحسينَ، فرأوا في حُسنِ صورتِهِ الجمالَ...

وعرفوهُ، فأيقنوا أنّه تجلّياتُ الكمالِ...

 

35


30

الليلة السادسة

ومضوا خلفَهُ، لا يهابونَ الموتَ، إن وقعَ عليهِمْ أو وقعوا عليهِ، إن هوَ إلاّ الصّلاةُ وَالوصالُ!

فلماذا لا يَسقيهِمْ من يدِ جدّهِ الأوفى، شُربةً لا ظمأَ بعدَها؟ ولماذا لا يعدِهُمْ بأن يكونوا حولهُ هناكَ، كما كانوا معهُ هُنا؟

هؤلاءِ همُ المعلّمونَ، الّذينَ أيقظوا في محاجرِ الزّمانِ معنى الرّجولةِ، وأفهموا التّاريخَ مبدأَ البطولة...

هؤلاءِ الّذينَ بثّوا في الأرضِ همَمًا، تنتظرُ يومَ النّداءِ لتلبّي: لبّيكَ يابنَ رسولِ اللهِ!

يا أصحابَهُ، يا عشّاقَ الشّهادَةِ...

يومَ سلّمتُمْ إلى الحسينِ القيادة، بذلتُمْ أسمى العبادة...

فبوركَ الموتُ الّذي يبعثُ في العزِّ الولادة...

 

36


31

الليلة السابعة

الليلة السابعة

﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[1].

عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «عليكَ بقراءةِ القرآنِ؛ فإنَّ قراءَتَهُ كفَّارةٌ للذنوبِ، وسَتْرٌ في النارِ، وأمانٌ منَ العذابِ»[2].

 


[1] سورة ص، الآية 29.

[2]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج ‏89 ، ص 17.

 

37


32

الليلة السابعة

تعريف المحاضر

يا وجهَهُ المعتّقَ في قلوبِ العاشقينَ، يا كُحلَ عينيهِ...

ما أقربَ أجفانَهُ المثقلةَ بالبهاءِ إليكَ! أيّها الزّمانُ المجدولُ بالحزنِ، لقدْ كبرَ العبّاسُ، ورأى بقلبِهِ ما لم تُبصِرْهُ عينانِ!

هذا الضّياءُ، لا يكفيهِ قلبٌ بهذا الحجمِ، يحتاجُ إلى روحٍ تتقنُ السّيرَ على الشّوكِ، فتشتعلُ حدائقُها عنبًا!

وقدْ آنَ الأوانُ، إنّهُ الِامتحانُ الأخيرُ!

معَ الحسينِ سَيكونُ أو لا يكونُ، معَ الحسينِ يزرَعُ الجسدَ، معَ الحسينِ يقطِفُ الشّهادةَ.

إنّهُ طريقُ السّماءِ الوحيدُ، حيثُ لا نزولَ!

نهرُ الماءِ لَمْ يعُدْ قادرًا على ريِّ روحِهِ، وعيناهُ لا تُبصرانِ إلاّ الحسينَ، مُستندًا على آلامِهِ، مُدجّجًا

 

 

38

 

 


33

الليلة السابعة

بخِذْلانِ الصّديقِ وشماتةِ العدوِّ!

أيّها العبّاسُ، لا تحدّقْ بروحِكَ! لا تكسِرْ ظهرَ الحسينِ!

هذِهِ الليلةَ، لم يسمعِ العبّاسُ صوتًا غيرَ صوتِ العشقِ، لمْ يلمحْ سوى تينِكَ العينينِ العائمتينِ على وجعِ السّماءِ.

ساعاتٌ، ويغربُ قمرُ العشيرَةِ، ساعاتٌ وينالُ من جسدِهِ الخاسرونَ!

ساعاتٌ ويشربُ من يدِ الجدِّ العظيمِ، وينالُ الوصالَ...

تعريف الخطيب الحسينيّ

يا أيّتها النّفسُ المطمئنّةُ، أخبرينا، كيفَ يكونُ الفناءُ في الحسينِ؟!

كيفَ استعذَبْتِ الحرابَ، وتلذّذْتِ بالسّهامِ،

 

39


34

الليلة السابعة

وثمِلْتِ بِالظّمأِ؟

كيفَ عشتِ لحظاتِ الوصالِ الأخيرَةِ، وألقيتِ على الرّمالِ كفّينِ خضيبتينِ، وعينًا، وأطلقْتِ روحَكِ تتبيّنُ الطّريقَ؟!

كيفَ تهدّجَتِ الحروفُ، وهي تُناديهِ: أخي يا حسين! قبلَ أن تنطبقَ الشّفاهُ على لحظاتِ الفداءِ العظيمِ؟!

كانَ البابُ مفتوحًا على الأمانِ الّذي ما رأيْتَهُ إلاّ خطرًا، وَهَدَرَ يقينُكَ:

«كيفَ تُؤمِنُنا، وابنُ بنتِ رسولِ اللهِ لا أمانَ لهُ؟!»...

وكانَ الفراتُ يجري تحتَ قدميكَ بالماءِ، فما رأيتَهُ إلاّ إيغالًا في الظمأِ:

فكيفَ تشربُ بارِدَ المعينِ، وابنُ بنتِ رسولِ اللهِ لا ماءَ يُسقاهُ؟!

 

40

 


35

الليلة السابعة

الآنَ أيقنّا، لِماذا كانَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (عليه السلام)يبحثُ عن أمٍّ للعبّاسِ!

يبحثُ عن سيّدةٍ ترى في الثّكلِ على حبِّ الحسينِ وصالًا واتّصالًا، وفداءً ووفاءً، وفخرًا، وتسليمَ أمانةٍ!

رضي اللهُ عليكَ يابنَ المرتضى! لقدْ بيّضْتَ وجهَ أُمِّكَ عندَ فاطمةَ الزّهراءِ!

فهلْ للموتِ مذاقٌ أشهى مِنْ هذا المذاقِ؟َ

 

 

41


36

الليلة السابعة

الليلة الثامنة

﴿فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَم لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَان كَرِيم ٧٧ فِي كِتَٰب مَّكۡنُون ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنزِيل مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[1].

عنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «اللهمَّ اشرحْ بالقرآنِ صدري، واستعملْ بالقرآنِ بدني، ونوِّرْ بالقرآنِ بصري، وأَطْلِقْ بالقرآنِ لساني، وأعنِّي عليهِ ما أبقيتَني؛ فإنَّهُ لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بكَ»[2].

 

 


[1] سورة الواقعة، الآيات 80-75.

[2] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، ج‏1، ص 323.

 

 

42


37

الليلة الثامنة

تعريف المحاضر

للعمرِ محطّاتٌ، تغترِبُ فيها النّفسُ عنْ عالَمِها، تتأمّلُ الطّريقَ، تَمُدُّ عينيْها لتُبْصِرَ! فتمتدُّ على أفقِ أحلامِها السّماءُ...

تتدلّى عناقيدُها، قابَ قوسينِ أو أدنى...

ثمّةَ آمالٌ، تتراءى قطوفًا دانياتٍ! وآمالٌ، تُطلُّ من أحداقِ المُحال!

فازَ مَنْ جمَعَ الزّادَ لِوَحْشَةِ الطّريقِ، فازَ من تهيَّأَ لِبُعْدِ المَسيرِ...

وفي الحياةِ قلوبٌ أبصَرَتْ، وعقولٌ وَعَتْ، ولمْ تنتَظِرِ المشيبَ...

فكلُّ ثوانيها جهادٌ، وكلُّ أيّامِها حصادٌ...

قلوبٌ لم تُغْرِها البيضاءُ ولا الصّفراءُ... دليلُها دمعةُ عاشقٍ، سلّمَ قلبَهُ لقناديلِ الرّوحِ في حلكةِ اللّيلِ...

عاشقٍ بحثَ عن معشوقِهِ في صدرِهِ، فأغمضَ عينيهِ حتّى رآهُ!

 

43


38

الليلة الثامنة

ولقدْ كانتْ كربلاءُ مرتعًا لورودٍ نضرَةٍ، ثارَتْ على الحياةِ معَ الظّالمينَ، وما رأَتْها إلاّ برَمًا، فأنِسَتْ بالشّهادةِ، وكانَتْ للحقِّ ولادة!

إنّها مدرسَةُ الرّجولةِ، وجامعةُ البطولةِ...

ما زالَتْ تفتحُ مصاريعَها لأهلِ المقامِ، عامًا بعدَ عامٍ،

تُخرِّجُ ليوثَ الميادينِ، وتملأُ من دمِ العاشقينَ مدادَ الكرامِ الكاتبينَ!

وتقول: خُذْ يا ربُّ! حتّى ترضى!

فألفُ سلامٍ على منْ عرفَ اليقينَ في الأوّلينَ والآخرينَ.

تعريف الخطيب الحسينيّ

ناداهُ العمرُ إلى ربيعِهِ، فلَمْ يرَهُ سوى موسمِ فداءٍ...

ويسألُ: ألسْنا على الحقِّ؟!

هُنا، ينبُتُ الرّبيعُ، حولَ هذهِ الدّوحَةِ يرفرِفُ القلبُ، غيرَ مُبالٍ، أَوَقَعَ عَلى الموتِ، أم وقعَ الموتُ عليهِ!

 

44


39

الليلة الثامنة

ويمضي عليٌّ الأكبرُ بعشقِهِ... عشقِ غلامٍ هاشميٍّ علوي!

فيا أيُّها المشتاقونَ إلى وجهِ رسولِ اللهِ محمّدٍ(صلى الله عليه وآله)... هذا هوَ أشبهُ النّاسِ بهِ خَلْقًا وخُلُقًا!

تأمّلوهُ يضربُ يدَهُ على صدرِهِ، ويقولُ:

أنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ علي

نحنُ وبيتِ اللهِ أولى بالنّبي

خرَجَ العاشقُ المفتونُ، لا يلوي على خوفٍ. لقدْ حانَ موعِدُ صلاتِهِ، والميدانُ محرابُهُ، وقبلتُهُ!

وُضُوؤُهُ مشكاةُ ضوءٍ، تدلُقُ جدوَلَها بينَ كفّيهِ، يغسلُ وجهَهُ، يمسحُ على رأسِهِ!

بعدَ قليلٍ سينهشُ الموتُ أوصالَهُ، وهكذا، سيلقى جدَّهُ مُخضَّبًا بالدّماءِ!

فهلْ لربيعِ حياتِهِ أبهى منْ ذاكَ اللّقاءِ؟!

 

45


40

الليلة التاسعة

الليلة التاسعة

﴿لَوۡ أَنزَلۡنَا هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ عَلَىٰ جَبَل لَّرَأَيۡتَهُۥ خَٰشِعا مُّتَصَدِّعا مِّنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].

عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «الْقُرْآنُ هُدًى مِنَ الضَّلَالِ، وتِبْيَانٌ مِنَ الْعَمَى، واسْتِقَالَةٌ مِنَ الْعَثْرَةِ، ونُورٌ مِنَ الظُّلْمَةِ، وضِيَاءٌ مِنَ الأَحْدَاثِ، وعِصْمَةٌ مِنَ الْهَلَكَةِ، ورُشْدٌ مِنَ الْغَوَايَةِ، وبَيَانٌ مِنَ الْفِتَنِ، وبَلَاغٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الآخِرَةِ، وفِيه كَمَالُ دِينِكُمْ، ومَا عَدَلَ أَحَدٌ عَنِ الْقُرْآنِ إِلَّا إِلَى النَّارِ»[2].

 

 


[1] سورة الحشر، الآية 21.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص600.

 

46


41

الليلة الثامنة

تعريف المحاضر

وماذا يَكونُ البيتُ إلاّ مصنعًا للرّجالِ؟

ففي البيوتِ تُغرَسُ البذارُ وتُروى، وفيها تَنْمو وتَعْلو، وتستقيمُ.

وفي البيوتِ يَفْسَدُ الزّرْعُ أو يَصْلُحُ، وفيها يكونُ جهادُ المرأةِ الأمِّ، وَالمرأةِ الّتي تغذّي صغيرَها بلبَنِ المروءَةِ والتّضحيةِ والفداءِ، وتعرّفُهُ على قيَمِ دينِهِ العظيمِ.

ومِنْ هؤلاءِ النّساءِ رملَةُ، زوجُ الإمامِ الحسنِ (عليه السلام)!

سيّدةٌ، أمرَتِ ابْنَها أن يجودَ بروحِهِ لنُصرَةِ الحقِّ في كربلاءَ... ولطالَما رأَتْ في موقفِ الفداءِ هذا خيرَ ما ادّخَرَتْهُ لأمّةٍ أرادَ إمامُها أن يأمُرَ فيها بالمعروفِ وينهى عن المنكرَ ولم يسكُتْ على ذلٍّ.

إنَّ مصيرَ الأمّةِ، قدْ وجّهَتْ سيرَهُ تضحيَةُ إنسانٍ، والتّضحيةُ لا تنبُعُ من قفرٍ وبوارٍ، بلْ من فِكرٍ خصبٍ، وتربيةٍ استنَدَتْ على تهذيبِ الشّهواتِ، وإرادَةٍ حاكمةٍ

 

 

47


42

الليلة التاسعة

للغرائزِ، مُنظّمةٍ للنّشاطِ الإنسانيّ بينَ دينِهِ ودُنياهُ.

وقدَرُ المرأةِ في حياتِنا، أن تربّيَ الشّهداءَ، وما أقدَسَها من تربيةٍ!

تعريف الخطيب الحسينيّ

يا نجلَ الزّكيِّ الغريبَ!

لَمْ تَبْلُغْ غرسَتُكَ موسِمَ تفتُّقِ الزّهرِ بعدُ، فموعِدُ الرّبيعِ في أوّلِهِ، في تلكَ الخيمَةِ أُمُّكَ، وقدْ ألبسَتْكَ لامَةَ الْحُبِّ، لتخوضَ أبهى صولاتِ الوجودِ، وتُبيّضَ وجهَها عندَ اللهِ...

بفخرٍ ورضًا، تتأمّلُ صغيرَها يقفزُ من مهدِ حنانِها، إلى ساحاتِ الوغى قمرًا، لن يعرِفَ الأفولَ...

ذلِكَ السّيفُ الثّقيلُ، سيجعَلُهُ العشقُ ريشَةً، وسيجعلُ الطّفلَ شبلًا يردّدُ بلغةِ الواثقِ:

إن تُنكِروني فأنا شبلُ الحسنِ!

يا عظيمَ الرّجولةِ، أينَ لينُ الطّفولةِ؟

 

48


43

الليلة التاسعة

أهكذا يصنعُ الوفاءُ بأهلِهِ؟ أهكذا يريدُ قلبُكَ الوامِقُ أنْ تكونَ؟

قلوبُ الشّاخصينَ إليكَ، تُصغي إلى ما اخشوشنَ من صوتِكَ، وأنتَ تصولُ وتجولُ حتّى تعصفَ الرّيحُ بنعلِكَ، وينقضَّ الموتُ، فتذرِفَ آخرَ حروفِكَ دمًا: يا عمّاهُ!

ويعزُّ على عمِّكَ أن تدعُوَهُ فلا يُجيبَ! أو يُجيبَكَ فلا ينفعَكَ!

ويعزُّ علينا، يا شبلَ الحسنِ الزّكيِّ، أن يفرُقَ بينَنا زمانٌ طَويلٌ، ألا ليتَنا كنّا معكُمْ، فنفوزَ فوزًا عظيمًا!

 

49

 

 


44

الليلة العاشرة

الليلة العاشرة

﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡر لِّلۡعَٰلَمِينَ ٢٧ لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ ٢٨ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[1].

عنْ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «منِ استمعَ إلى آيةٍ منْ كتابِ اللهِ كُتبَتْ لهُ حسنةٌ مضاعفةٌ، ومنْ تلا آيةً منْ كتابِ اللهِ كانَتْ له نورًا يومَ القيامةِ»[2].

 


[1] سورة التكوير، الآيات 29-27.

[2] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج1، ص 518.

 

50


45

الليلة العاشرة

تعريف المحاضر

مَنْ علَّمَ اللَّيْلَ الطّويلَ الوفاءَ؟ مَنْ أخبَرَهُ أَنّ العاشقينَ يحتاجونَ إلى وشاحِهِ، كيْ يُطلِقوا آهاتِهِمُ المضرّجَةَ بالشّوقِ، ويلطِموا الصّدورَ؟

هَلْ تسمعونَ دويَّ طنينِ صلاةِ المتهجّدينَ؟

هَلْ ترَوْنَ الأرضَ تُقدّسُ تُرابَها بجِباهِ الهائمينَ؟

أتسمعونَ السّماءَ تُسرِجُ نَجْماتِها على خفقِ قلوبِ الوالهينَ؟

آهٍ يا حسينُ!

وماذا ينفعُ العمرُ إنْ لمْ أعشْ يومًا مُكبّلًا بِحُبِّكَ، مُصَفّدًا بكربَلائِكَ، مُخضّبًا بلونِ عاشورائِكَ؟

ماذا يَنْفَعُ الْعُمْرُ إِنْ لَمْ أُناجِ سيّدي ومولاي:

يا صاحبَ الزّمانِ! كُنْ معَنا في هذِهِ العشيّةِ، قلوبُنا الْمنفطرَةُ لا يلمُّ مزقَها إلاّ النّحيبُ!

هناكَ، على ثرى كربلاءَ، سالَ دمُ الحبيبِ...

 

51


46

الليلة العاشرة

هناكَ على ثرى كربلاءَ، نادى، ولا مِنْ مُجيبْ...

ما أحوَجَنا إلى دربٍ لَمْ نَسْلُكْها بَعْدُ إليهِ!

ما أحوَجَنا إلى دموعٍ لم نذرِفْها بَعْدُ عليهِ!

سيّدي يا صاحبَ الزّمانِ، كُنْ مَعنا في هذِهِ العشيّةِ...

نبكِ على الحسينِ معًا... بدلَ الدّموعِ دمًا...

يا سيّدي يا صاحبَ الزّمانِ!

تعريف الخطيب الحسينيّ

كإبريقِ فضّةٍ، يلتمِعُ نحرُ الطّفولَةِ!

والسّهمُ المنطلِقُ من نوايا الحاقدينَ، يغرِزُ نابَ الغدرِ في نحرِ الرّجولة!

ويبكي!

من رأى سهمًا يبكي؟ هذِهِ ليلَةُ السّهامِ، ترتمي على الضّفافِ ظمأى ولا تشربُ، تتأوّهُ على امتدادِ العمرِ... مُخضّبةً بالدّماءِ...

 

52


47

الليلة العاشرة

كسيرَةً حسيرةً أسيرةً!

ترتمي على وجعِها، متأوّهةً، متوغّلةً في الحزنِ، باحثةً عمّنْ يُعيدُها إلى نسغِ الأرضِ تُرابًا، ألا ليتَها كانَـتْ ترابًا!

من يعتذِرُ من ذلِكَ النّحرِ؟ من يلثمُ ذاكَ الجرحَ، وتلكَ الأوصالَ؟!

فكيفَ تكونُ قلوبُ المُوالينَ العاشقينَ؟

قلوبٌ عرفَتِ الحسينَ حينَ كانَ أصحابُها أجنّةً في ظُلماتِ التّكوينِ!

وعرَفَتِ الحزنَ، والدّمعَ والولاءَ...

قلوبٌ سَكَبَتِ الدّماءَ في العروقِ، على وقعِ نداءِ: يا حسينُ!

وذابَتْ كُلَّما ذُكِرَ الحسينُ!

وما زالَتْ:

كلّما اغترَبَتْ تتوكّأُ على أُنْسِ اسْمِ الحسينِ...

كلّما مرضَتْ، شرِبَتْ دواءَها منِ اسْمِ الحسينِ...

كلّما ضلّتْ، اغْتَرَفَتْ ضياءَها من نورِ اسْمِ الحسينِ...

 

53


48

الليلة العاشرة

كُلَّما ظُلِمَتْ، نَهَلَتْ عزاءَها مِنْ طيبِ اسْمِ الحسينِ...

هذِهِ ليلَةُ القلوبِ الكسيرَةِ، تُنادي لكُلِّ أنواعِ الهمومِ:

يا حسينُ! يا حسينُ! يا حسينُ...

 

 

54


49
نصوص عاشورائية