دراسات عقائدية

النبوة والإمامة والمعاد في فكر الشهيد مطهّري قدس سره


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-10

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدَّمة

المقدَّمة

 

الحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّى اللَّه على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وبعد...

 

ما معنى أن يكون للعقيدة كتاب؟

 

عزيزي الطالب،

وأنت تفتح هذا الكتاب نتمنّى أن تقرأ هذه المقدّمة عسى أن تساعدك على تحديد موضعك على خارطة مسيرتك العلميّة، فإنّ أكثر ما يحتاجه طالب العلم هو أن يدرك أهمِّيَّة المعارف التي يتعلّمها ومدى تأثيرها في مصيره وبناء ذاته. ولأجل ذلك، طرحنا سؤالًا قد يبدو أنّه غير وارد في الأذهان، لكنّ التأمّل فيه قليلًا يبيّن أنّه يتناول قضيّة تشغل بال كلِّ طالب علم.

 

إنّ من أكبر العوائق أمام طرح القضايا العقائديّة عدم شعور البعض بضرورة دراستها. فهي عندهم محسومة وقد سبقوها بالإيمان. فلماذا ينبغي أن يدرسوا أمورًا بديهيّة مسلّمة؟!

 

يجيب البعض القليل عن هذا السّؤال بأنّ هذه الدّراسة تساعدهم على الجدال والخصومة وإقناع الآخرين، ويرون فيها فائدة كبرى في النّقاشات التي تدور هنا وهناك وخصوصًا على صفحات الإنترنت.

 

16


1

المقدَّمة

ويرى البعض الآخر أنّها تزيد الأمور تعقيدًا لأنّها تُعمّق الإشكالات أكثر ممّا تحلّها. بينما ينفر آخرون من جفاف الطّرح وخلوّه من الروحانيّة.

 

وعندما لا يشعر طالب العلم بأهمِّيَّة ما يدرس فإنّ قسمًا كبيرًا من التّركيز المطلوب في عمليّة التّحليل والاستيعاب يتبخّر، ويتبخّر معه قسمٌ كبير من الفائدة المرجوّة.

 

لهذا، كان هذا الكتاب من أجل توضيح أهمِّيَّة بناء الرؤية الكونيّة على الأسس العقليّة والتّحليليّة واسترشاداً بما نطق به القرآن الكريم، والسنّة الشريفة للمعصومين عليهم السلام، مدركين ضرورة التّعامل مع القضايا العقائديّة بمسؤوليّة، لما لها من تأثير في الإيمان واليقين اللذَيْن هما أساس كلّ خير وأصل كلّ كمال.

 

ومن المتوقّع أن تكشف دراسة هذا الكتاب عن وجود نواقص فادحة في البنية العقائديّة عند كثير منّا، عندما نتعرّف إلى الطّريق الصّحيح للاستدلال، وكيف أنّ بعضنا كان يعتمد على التّسامح والتّساهل بشأن أخطر المسائل في حياتنا.

 

إنّ أهمّ ما نواجِه به الفتن والامتحانات التي تشمل إيماننا هو أن نثبّت هذا الإيمان على أسس راسخة، وهذه الأسس هي البرهان المنطقيّ المحكَم.

 

لقد سعى هذا الكتاب لتقديم أهمّ قضايا العقيدة التي تمثّل لبّ الإيمان بأسلوبٍ استدلاليّ يساعدنا -كطلّاب علم- على اكتساب مهارته، وهذه هي إحدى أهمّ مميّزات الكتاب.

 

الميزة الأخرى تكمن في سعة دائرة المسائل المطروحة. فقد احتوى على عددٍ كبيرٍ من المسائل التي ترتبط بأصول الدّين التي يصعب احتواؤها في كتبٍ أخرى بهذا الحجم. وسوف يكتشف القرّاء الأعزّاء هذا الغنى عند المقارنة بالعديد من الكتب التّعليميّة.

 

وثَمَّ ميزة ثالثة تظهر في الكتاب هي سلاسة الطّرح وابتعاده عن التّعقيد

 

17


2

المقدَّمة

أو التّشعيب. فهو يعرض المسائل وينتقل مباشرةً إلى الاستدلال، أي يعبر من التصوّر إلى التّصديق، ويتجنّب الخوض في الزّوائد والهوامش والاستطرادات لكي يساعدنا على التّركيز قدر الإمكان، وعندما يستعرض الشّواهد، فذلك من باب تثبيت التصوّر عندما يكتنفه شيء من الغموض، أو من باب تعميق الاستدلال عندما يكون صعبًا أو جديدًا.

 

أمّا الميزة اللافتة في هذا الطّرح فهي ما يرتبط بالعمق الفكريّ، حيث يمكن القول بأنّه مثّل مرحلة عالية من مراحل دراسة العقيدة تتخطّى الكثير ممّا كُتب في هذا المجال. وقد يراه البعض آخر مرحلةٍ في التدريس، حيث يمكن للطالب بعدها أن يعتمد على نفسه في فهم الكتب العقائديّة.

 

وبالطّبع، ما كان هذا العمق متيسّرًا لولا الشّهيد العلّامة مرتضى المطهّري الذي أخذ على عاتقه أن ينقل المطالب العقائديّة العميقة إلى الأذهان المبتدئة والمتوسّطة. فقد لاحظ شهيدنا السّعيد ظاهرة تناول القضايا العميقة من قِبل من لا حظّ له بالمعرفة والاطّلاع على الأبحاث المستفيضة لعلمائنا الكبار، وهي ظاهرة انتشرت في زمان الشّهيد لأسباب عدّة، لهذا نهض العلّامة بهذا العبء وتحمّل مسؤوليّة الدّفاع عن قضايا العقيدة بتسييلها لا الهروب. وممّا يذكره في هذا المجال: "ظهر في المجتمع الإسلاميّ، في عصر النصّ، أفرادٌ طرحوا بشأن الألوهيّة أفكارًا، دون أن يتوفّروا على الصّلاحيّة العلميّة، ودون أن يأخذوا تعاليم القرآن بنظر الاعتبار، فجاءت أفكارهم مخالفة للمقاييس العقليّة والعلميّة ومخالفة للقرآن أيضًا. وإنّ مفهوم استقلاليّة العقل والفكر لا يعني أنّ لكلّ فرد الحقّ في سبر غور هذه المسائل والتعمّق فيها، دون أن يتوفّر على المقاييس الصّحيحة والمدروسة والمعتمِدة على البديهيّات الأوّليّة، ودون أن يتوفّر على قدرة الاستفادة والاستنباط منها، ودون أن يطوي المقدّمات الضروريّة. وإذا فرضنا أنّ جميع أفراد البشر أرادوا تحصيل المقاييس العلميّة والبحث في هذا

 

18

 


3

المقدَّمة

الموضوع، وفق الأصول السّليمة، فهم لا يتوفّرون جميعًا على استعداد وإمكانيّة هذا البحث..."[1].

 

إنّ حرص الشّهيد على تقديم القضايا العقائديّة العميقة بأسلوبٍ سهلٍ يقترب من أذهان الشّباب اعتُبرَ من المميّزات الأساسيّة لفكره. وبهذه الطّريقة مثّل هذا الفكر نقلة نوعيّة على صعيد طرح الدّين، ليصبح في مدّة وجيزة أكثر ثراءً وتقدّمًا وشموليّةً من الأطروحات الأخرى التي كانت تتغنّى في ذلك الزّمان باحتكارها لساحة الفكر والأيديولوجيّات.

 

والجانب الآخر الذي يبرز في هذا الفكر الأصيل هو مدى انفتاحه على الفكر الآخر ورحابة استيعابه، واكتشاف العناصر الإيجابيّة فيه، وتمييزها من العناصر السّلبيّة أو الخاطئة. وإنّما جرى ذلك بسبب قوّة الاعتقاد وعمقه. ويعلّمنا الشّهيد المطهّري درسًا مهمًّا في التّحاور مع المخالفين. وما أحوجَ المسلمين اليوم إلى هذا الأسلوب في زمن التّكفير وعصر السّدود الفكريّة.

 

ولا شكّ أنّ الأبحاث العقائديّة هي العنصر المحوريّ في بناء الإيمان. ولا شكّ أيضًا في أنّ الخير كلّه يبدأ من الإيمان. أجل، إنّ الإيمان لا يحصل بمجرّد امتلاك الاعتقاد السّليم، بل إنّه عمليّة تفاعليّة تجري في القلب من خلال قدرة المفكّر على اكتشاف تجلّيات العقائد الحقّة في واقعه الاجتماعيّ وفي تجاربِه الحياتيّة وفي العالم الكيانيّ الكبير. كما أنّ هذا الكشف يحتاج إلى تطبيقٍ وممارسة عبر الأيّام، ليتحوّل إلى إيمانٍ راسخٍ في القلب وعمل بالأركان.

 

هذا الكتاب "دراسات عقائديّة" هو الجزء الثاني من الدراسات العقائديّة في فكر الشهيد مرتضى مطهّري، حيث قدّمنا في الجزء الأوّل مبحثي التوحيد


 


[1] الطباطبائي، السيد محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، تقديم وتعليق مرتضى مطهّري، ترجمة عمار أبو رغيف، المؤسّسة العراقيّة للنشر، لا.ت، لا.ط، المقالة الرابعة عشرة، ص712.

 

19


4

المقدَّمة

والعدل، وخصّصنا الجزء الثاني بمباحث النبوّة والإمامة والمعاد، لنكمل بذلك دورة عقائديّة عميقةً وأصيلة.

 

ونودّ في ختام هذه المقدّمة الإشارة إلى عدّة ملاحظات ينبغي للأستاذ والطالب الالتفات إليها:

1- كما هو واضح من عنوان الكتاب، فإنّه مستقى ممّا طرحه العلّامة الشهيد رحمه الله سواء عن طريق الكتابة المباشرة أو عن طريق المحاضرات التي ألقاها، وهي التي استوعبت كثيرًا من العلوم الإسلاميّة والأصول العقائديّة.

 

2- ممّا تقدّم، يتَّضح الوجه في الطابع الإلقائيّ للعديد من المطالب المطروحة فيه، والذي سيلمسه القارئ بشكل واضح، مع أنّنا عملنا على التصرّف ببعض صياغاته -مع السعي الدؤوب للمحافظة قدر الإمكان على أسلوب الشهيد - ليتناسب مع طابع المتن التدريسيّ أكثر من كونه تقريرًا حرفيًّا لكلام العلّامة الشهيد.

 

3- وممّا تقدّم أيضًا، سيتَّضح الوجه في ما سيجده القارئ الكريم من الكبر النسبيّ لبعض دروس الكتاب، مع الإشارة إلى ما سعينا إليه من توحيد حجم الدروس، لكنّ وحدة بعض الأفكار والترابط الشديد بين موضوعات بعض العناوين المطروحة، حالا دون تحقيق هذا الهدف.

 

4- لقد طُبع ما طرحه شهيدنا الكبير على صعيد الأبحاث الاعتقاديّة في عدّة كتب سواء في حياته أو بعد شهادته المباركة، وما طرحناه في هذا الكتاب لا يمثّل كلّ ما استوعبته تلك الكتب وإلّا لزاد حجم الكتاب كثيرًا، بل لاحتجنا إلى عدّة مجلَّدات لتحقيق ذلك. ومن هنا، فإنّنا ننصح الراغبين في التوسّع في المباحث المطروحة فيه إلى مراجعة كتب الشهيد الأصليّة، مع التنويه بضرورة رجوع أستاذ المادّة إليها.

 

20

 


5

المقدَّمة

رحم اللَّه شهيدنا الكبير، وهو الذي اعتبره أستاذه الإمام الخمينيّ رحمه الله ثمرة عمره المبارك، ودعا الجميع - لا سيّما الشباب الجامعيين - للاستفادة من جميع آثاره العلميّة، وهو ما لم يقله في حقّ أحدٍ غيره.

 

نسأل اللَّه تعالى أن ينفع بهذا الكتاب المتعلّمين والباحثين، وأن يجعله ذخرًا لنا يوم نلقاه، وأن يمنّ على أمّتنا الإسلاميّة - لا سيّما المجاهدين في سبيل اللَّه - بالتوفيق والنصر والسداد.

 

                                                                          والحمد للَّه ربِّ العالمين

                                                                    مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

 

21


6

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

الدرس الأوّل

مباحث النبوّة العامّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى مفهوم النبوّة والمسائل الأساس المرتبطة به، كالوحي والإعجاز.

2. يفسّر الحاجة إلى الدين والنبوّة وضرورتهما للمجتمع البشريّ دنيا وآخرة.

3. يبيّن أنّ حاجة الإنسان إلى هدي النبوّة دائم.

 

24


7

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

النبوّة من أصول الدين

يتمحور البحث حول النبوّة التي هي الأصل الثاني من أصول الدين الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد، أو هي الأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق الرؤية الشيعيّة: التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد. وأيّاً يكن، فلا شكّ في أنّ النبوّة أصلٌ من أصول الدين[1].

 

مفهوم النبوّة العامّ

يتمثّل مفهوم النبوّة بمعناه العامّ السائد في أذهان عموم الناس، بوجود أفراد من البشر يكونون واسطة بين اللَّه وبين سائر أفراد البشريّة، بحيث يتلقّى هؤلاء الأشخاص الأوامر من اللَّه ويُبلّغونها للنّاس. والنبوّة بهذا المعنى محلّ وفاق، لا لبس فيه ولا يحتاج إلى تفسير[2].

 

و"النبيّ" و"الرّسول" مصطلحان استخدمهما القرآن. وكلمة "النبيّ" مشتقّة من مادّة "نبأ" بمعنى خبر، ولكنّها لا تُطلق على كلّ خبر، بل تختصّ بالخبر المهمّ والعظيم والصّادق الذي ينطوي على أهمِّيَّة خاصّة، فـالنبيّ هو المُخبِر عن اللَّه


 


[1] مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة أصول الدين -النبوّة، ترجمة: جواد علي كسّار، دار الحوراء- مؤسّسة أمّ القرى، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص45. 

[2] المصدر نفسه، ص46.

 

26


8

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

-تعالى-. وأمّا كلمتا "رسول" و"مرسَل" فهما من مادّة الإرسال التي تعني في اللغة العربية التحرّر، ويُقابله التقيّد، وبذلك يكون المرسَل في مقابل المقيَّد. وتُستخدم كلمة الإرسال في الغالب بمعنى البعث، فلو أرسل الملك أو الأمير شخصاً من عنده إلى الآخرين قيل: إنّه أرسله وللمبعوث مرسَل. فالرسول بمعنى المبعوث وأمّا النبيّ فهو المخبِر[1].

 

هذا، والبحث في النبوّة يتضمّن مسائل عدّة:

منها، ما يتعلّق بحاجة البشريّة إلى النبوّة، فما هي الضرورة الداعية إلى تلقّي بعض البشر الأوامر من السّماء؟ وما هو مَنشَؤها؟ هل الإنسانيّة بحاجة إلى مثل هذا العمل؟ وهل من الضروريّ أن يتمّ ذلك بواسطة أفراد من البشر يقومون بإبلاغ تلك التعاليم للناس، أم توجد سُبلٌ أخرى بديلة؟

 

وما هو منشأ هذه الضّرورة؟ هل هو اختلال الحياة الاجتماعيّة للبشر إذا لم تُهيمن عليها أحكام السّماء، وبالتالي انعدام النّظام بغياب التّعاليم الإلهيّة، أم إنّ الحاجة إلى النبوّة لا تقتصر على الحياة الدّنيا، بل تتعلّق بحياة أخرى وراء الحياة الدّنيا، مع وجود ارتباط بين الحياتين، بحيث إنّ سعادة الإنسان في تلك النشأة ترتبط بنمط الحياة التي يعيشها في هذه النشأة، وبنوع المعتقدات والأخلاق والأعمال التي تصدر عنه، أم إنّ الحاجة إلى النبوّة تُمليها الحيثيّتان معاً، أي إنّ الإنسانيّة تحتاج إلى الاقتداء بتعاليم السّماء والالتزام بأحكام اللَّه لكي تضمن سعادة حياتها الاجتماعيّة في هذه النّشأة، كما تضمن سعادتها في النّشأة الآخرة لوجود ارتباطٍ بين النشأتين، بحيث إذا لم تتّسم الحياة الاجتماعيّة في هذه الدّنيا بالصّلاح فستفسد الحياة في تلك النّشأة أو بالعكس؟

 

ومن تلك المسائل البحث الذي يُعنى بكيفيّة تلقّي الأنبياء لأحكام اللَّه، فقد صرّح الأنبياء بأنّ ما يوحى إليهم إنّما يوحى به من عند اللَّه، وأنّهم يأخذون


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص48.

 

27


9

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

التّعاليم والأحكام من اللَّه. والبحث عن كيفيّة حصول ذلك يندرج تحت عنوان "الوحي". وفي السياق يُذكر الملائكة - ولا سيّما جبرائيل - كواسطة للوحي.

 

ومن تلك المسائل أيضاً: البحث حول المعجزات التي تُعدّ آية الأنبياء ودليل نبوّتهم، فما هي المعجزة؟ وما هي ماهيّتها وكيفيّتها؟ وهل هناك وجود للمعجزة؟ هل هي ممكنة؟ وما هي علاقة المعجزة بالعقل والعلم؟

 

هذه المسائل الثلاث هي المسائل الأساس المطروحة في باب النبوّة العامّة. هذا، مضافاً إلى مسائل أخرى تتعلّق ببحث النبوّة، ولكنّها لا ترقى في أهمِّيَّتها إلى مستوى هذه المسائل الأساس[1].

 

ويتفرّع من مبحث النبوّة العامّة البحث حول نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم انطلاقاً من معجزته الخالدة: القرآن الكريم، ثمّ يصل البحث إلى الخاتميّة التي تُعدّ مَعْلَماً واضحاً في دين الإسلام وعقائد المسلمين، وهو ما يعرف بمباحث النبوّة الخاصّة.

 

ضرورة النبوّة والحاجة إلى الدين

يتمحور البحث في ضرورة النبوّة حول مسائل ثلاث:

- هل تحتاج البشريّة إلى النبوّة؟

- هل تعيش البشريّة فعلاً مثل هذه الحاجة؟

- هل لا بدّ من أن يتوافر للبشرية ما تحتاج إليه كُلُّه[2]؟

 

هل تحتاج البشريّة إلى النبوّة؟

لا شكّ في أنّ الأنبياء قد بُعثوا لهداية البشريّة إلى الصراط المستقيم ولأجل


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص45 - 46.

[2] سيأتي في الدروس اللاحقة الإجابة عن هذا السؤال (الإعداد).

 

28


10

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

صلاحهم ونجاتهم، وإنّما الكلام في الغاية النّهائيّة التي ينتهي إليها هذا الصّراط المستقيم، وفي أيّ شيء تكمن سعادة البشر. وعلى هذا الأساس، يدور البحث في مسألة النبوّة حول: هل البشريّة بحاجة إلى النبوّة؟ وما هو وجه الحاجة إلى الدين؟

 

إنّ ما يعكس وجه الحاجة إلى الدين، وعلّة احتياج الإنسانيّة إلى النبوّة، يعودان إلى أمرين اثنين، هما: الحياة الآخرة، والحياة الاجتماعيّة والفرديّة.

 

1- الحاجة على مستوى الآخرة:

تتحدّد أهمِّيَّة الإيمان بالآخرة بالنظر إلى دوره في تحديد مصير الإنسان، وهدايته إلى سعادته، وتحذيره من أسباب شقائه. وفي هذا الإطار تُطرح مسألة الحاجة إلى النبوّة من زاوية عجز العقل الإنسانيّ عن معرفة الغيب واحتياجه إلى ما يكمّله ويتمّمه.

 

وقد تحدّث القرآن عن الأنبياء بما هم هُداة، ودلّ بذلك على وجود ساحةٍ يمارس فيها الأنبياء دورهم في الهداية وراء ساحة هداية العقل وفوق مستواه، وهي ساحة الآخرة والنشأة الدائمة الباقية. وليس لأحد أن يدّعي قدرة العقل على هداية البشر إلى وجود نشأة أخرى غير هذه النشأة، فضلاً عن تحديد ما هو المفيد فيها وما هو المضرّ، وإنّما يمكن التعويل على العلم والعقل في حدود كيفيّة تدبير حياة الإنسان الدنيويّة، وإلى حدٍّ ما في مسألة التوحيد والهداية إلى المبدأ. أمّا المعاد فالعقل لا يسعه إلا أن يكون مؤيّداً لما أشار إليه الأنبياء من علائم على تلك النشأة[1].

 

وعليه، فإذا أخذنا بمسألة الآخرة التي أخبر الأنبياء عن أصل وجودها وأوضحوا فيها نهج السعادة ونهج الشّقاء، فسوف يتبيّن لنا حينئذٍ أنّ الحاجة إلى الأنبياء

 

 


[1] من المؤكّد أنّ الشهيد مطهّري لا ينفي قدرة العقل على إثبات النشأة الآخرة، وإنّما كلامه في تحديد طبيعة تلك النشأة وتفاصيلها (الإعداد).

 

29


11

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

على مستوى المصير الإنسانيّ هي ضرورة لازمة، ذلك أنّ الاستناد إلى ما لدى البشر من تجارب علميّة ومعارف عقليّة بحتة لا يكفي للتوصّل إلى الإيمان بذات الآخرة، وإلى الإيمان بأنّ حياة الإنسان لا تنتهي بالموت، بل ثمّة حياةٌ أخرى ونحوٌ آخر من الرّزق والسّعادة والشّقاء، فضلاً عن البحث عن مسألة الغيب وتحديد الأمور النّافعة والضارّة في البرزخ والقيامة. يقول الله (سبحانه): ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[1].

 

وعلى الرغم من جميع التقدّم الذي أحرزته العلوم التجريبيّة، ما يزال عالم ما بعد الموت مجهولاً للبشر، ولا يُمكن لهذه العلوم أن تبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحوٍ قاطع[2].

 

2- الحاجة على مستوى الحياة الاجتماعيّة:

أمّا المسألة الجديرة بالبحث، هنا، فهي مسألة الحياة الاجتماعيّة، وهل نحتاج فيها إلى الأنبياء أم لا؟

 

من المعلوم أنّ الإنسان اجتماعيّ بالطبع[3]، ولا تستقيم حياته إلّا في إطارٍ من التّرابط والتّعاون. وبذلك فهو يختلف عن سائر الكائنات التي تُمارس حياتها الاجتماعيّة بدافع الغريزة وتندفع نحوها تلقائيّاً من دون تعليم وتربية. فلو تأمّلنا في نظام حياة النّحل، لوجدنا أنّ كلّ صنف من أصنافه يعرف وظيفته غريزيّاً، فالعاملة تُمارس وظيفتها في إطار موقعها وحسب، والملكة تُمارس دورها انطلاقاً من هذه المسؤوليّة والموقع، بل تختلف أصناف النحل في ما بينها حتى في الأبنية التي تستقرّ فيها. أمّا الإنسان فهو على العكس من ذلك، فمع أنّه مضطرّ لأن يعيش في كنف الجماعة، فإنّه ينتخب أعماله بإرادته، ويختار ما يرتئيه


 


[1] سورة آل عمران، الآيتان 169 - 170.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص49 - 50.

[3] سواء بالطبع الأوّلي أو الثانويّ (الإعداد).

 

30


12

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

بفكره، وفي وسعه أن يتخلّف عن وظيفته بمقتضى كونه مختاراً وحرّاً. ولذلك فهو ينصرف إلى مصلحته الخاصّة بمقتضى ما جُبل عليه من طلب النّفع للنفس. وقد لا يُشخّص مصلحة المجتمع على نحو مناسب، وحتى لو أدركها فقد لا يراعيها. ولذا، احتاج الإنسان من هاتين الحيثيّتين إلى نحوٍ من الهداية والتّوجيه اللذين يسوقانه نحو مصالحه الاجتماعيّة، وإلى قوّة الإيمان التي تهيمن على وجوده وتدفعه باتّجاه المصالح الاجتماعيّة.

 

وقد بُعث الأنبياء بالمهمّتين معاً، فهم يُرشدون الإنسان إلى مصالحه الاجتماعيّة، وفي الوقت ذاته يدفعون إلى تمكين قوّة الإيمان من الهيمنة على وجوده، بحيث يستطيع بحكم هذه القوّة أو القدرة أن يندفع وراء جميع ما يُشخَّص على أنّه مصلحة اجتماعيّة.

 

وبناءً عليه، فلولا وجود هذه السّلطة للدّين والأنبياء في الماضي والحاضر، لكانت البشريّة قد دمّرت نفسها بنفسها وانقرضت عن وجه الأرض، ذلك أنّ الحضارة البشريّة مدينة في بقائها للأنبياء وما بذلوه من جهود في هداية البشريّة، ولولا الإرث التربويّ والإنسانيّ الذي تملكه البشريّة اليوم والذي يعود إلى الأنبياء وإلى تأثير الكتب السماويّة، لاضمحلّت الروح الإنسانيّة، ولتحوّل البشر إلى موجودات وحشيّة لا حظّ لها من الحياة الاجتماعيّة.

 

والعدالة، بحسب القرآن الكريم، هي من ضرورات الحياة البشريّة، ووجود الأنبياء ضروريٌّ ولازمٌ لبسط العدالة. ومن هنا، لا يكتفي القرآن الكريم بالحديث عن عالم الآخرة، بل يعتبر أنّ من ضمن أهداف الأنبياء تنظيم الحياة الدنيا أيضاً. وفي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[1], دلالةٌ واضحة على أصالة العدالة الاجتماعيّة وضرورة تحقّقها.


 


[1] سورة الحديد، الآية 25.

 

31


13

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

إذ تشير الآية إلى حاجة البشر إلى العدل في سياق الضرورة، فلو لم يكن الأنبياء لما كانت ثمّة عدالة، ولو لم تكن البشريّة بحاجة إلى العدل لكان فعل اللَّه - في بعث الرسل - لغواً[1].

 

هل تعيش البشريّة فعلاً مثل هذه الحاجة؟

قد يُعترض بأنه لا يصحّ أن نفترض أنّ الإنسان ينطلق وراء مصالحه الشخصيّة على حساب مصالحه الاجتماعيّة، لأنه كما هو مزوَّد بغريزة حبّ الحياة وإرادة العيش، فهو مزوَّدٌ أيضاً بالعقل الذي يصحّح له مساره ويَحول دون انحرافه عن السلوك القويم، وبهذا يستغني الإنسان عن النبوّة ونحوها من العوامل الإضافيّة الناشطة في مجال الهداية والتحذير. وعليه، كيف يمكن أن نثبت احتياج البشريّة إلى النبوّة والأنبياء، وإلى الدين الذي يأتي به هؤلاء من عند اللَّه، والحال أنّ البشريّة لا تتحسّس مثل هذه الحاجة في واقع حياتها؟[2] فما لم يتَّضح وجه الحاجة، فلا يمكن أساساً إثبات أنّ البشريّة كانت وما تزال بحاجة إلى الأنبياء.

 

والجواب: في ظلّ تقدّم البشريّة اليوم فإنّ أحداً لا يتساءل عن وجود حاجة إلى القانون والإيمان به أو عدم وجودها، وإنّما يتمثّل السؤال تحديداً في إمكانيّة إيجاد هذا القانون وهذا الإيمان عن طريق آخر غير طريق النبوّة.

 

في الواقع، يمكن القول إنّ البشريّة، وعلى امتداد العصور، لم تتمكّن من إيجاد القانون الصحيح المحقّق للأهداف والمحفوف بالالتزام الحقيقيّ، دون الاستعانة بالأنبياء[3]. ولا يعدّ ذلك إنكاراً للعقل ولا لدوره عند الإنسان، ولكنّنا نشاهد بالحسّ والوجدان أنَّ كثيراً من البشر قد انساقوا وراء غرائزهم، وأهملوا تعليمات عقولهم وإرشاداتها. ومن ثَمّ يبقى الإنسان بحاجةٍ إلى مَنْ يهديه إلى


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص50.

[2] المصدر نفسه، ص84.

[3] المصدر نفسه، ص89.

 

32


14

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

مصالحه الاجتماعيّة التي هي في مهبّ الضياع في ما لو تركها سعياً وراء منافعه الفرديّة الضيّقة، ذلك أنّ مقولة الحاجة الآنفة تبتني على جملة أمورٍ تقدّمت الإشارة إليها، وهي:

1- أنّ الإنسان موجودٌ حرٌّ مختار، ويجب أن يعيش حياته بإرادته، وأن يمارس فعله وفق اختياره.

 

2- أنّ الإنسان اجتماعيّ بالطبع، وفي بنية وجوده ما يملي عليه أن يعيش حياة اجتماعيّة بالتعاون مع الآخرين، سواء أكان ذلك بسبب الاستعدادات الجسميّة لديه، أم بسبب الاستعدادات الروحيّة والمعنويّة.

 

3- أنّ الإنسان لا يستطيع أن يدير حياته الاجتماعيّة بالاقتصار على حالته الطبيعيّة والغريزيّة، والتي تملي عليه أن يندفع نحو منفعته الشخصيّة ويقدّمها على المصلحة الاجتماعيّة.

 

ونتيجة هذه المقدمات هي أنّ الإنسان والمجتمع الإنسانيّ يحتاج إلى قوّة مهيمنة عليه، تحمله على احترام القوانين التي تحفظ حياته الاجتماعيّة، وهي قوّة الإيمان التي تجعله يلتزم القوانين الاجتماعيّة في ظلّ الرقابة الإلهيّة.

 

وعليه، لا يمكن تدبير الحياة البشريّة إلّا في ظلّ الالتزام الحقيقيّ بالقيم الأخلاقيّة، ولكن لا على أساس حسابات المصلحة، وإنّما لإيمان الإنسان بتلك القيم نفسها، فهو يلتزم بالصدق في تعامله مع الآخرين، لا لأنّه لو كذب فإنّ الآخرين سيكذبون عليه، وسيلحقه جرّاء ذلك ضررٌ أكبر، وإنّما بدافع الإيمان بالصدق نفسه بما هو قيمة ذاتيّة.

 

لقد كان بقاء الحياة البشريّة في الماضي مديناً للأصول التي تُعتبر من ضروريّات الحياة الاجتماعيّة، والمتمثّلة باحترام القوانين والصدق والاستقامة. كما أنّ استمرارها مرتبطٌ، إلى حدٍّ كبير، بالإيمان بقيم الأخلاق والعدالة، وبالاحترام الذي تكنّه الإنسانيّة لأصول حياتها الاجتماعيّة.

 

33

 


15

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

وبدون هذين: الإيمان والاحترام، فإنّ مراعاة الأصول الأخلاقيّة والقانونيّة سوف تنكفئ إلى حدود المنفعة الشخصيّة لكلّ إنسان، بأن يلتزم بالصدق إذا ما لمس تبعات الكذب السلبيّة عليه شخصيّاً، وسوف لن يعير اهتماماً للالتزام بالقانون واحترام تلك الأصول لمجرّد التبعات السلبيّة التي تمسّ المجتمع. وكذلك سوف يتحدّد الأمر وفق حدود القوّة التي تُفْرَضُ عليه، تماماً كما يتعامل أفراد العصابة في ما بينهم بمنتهى الصدق والأمانة، تحت وطأة الشعور بالضغط وخوف الانقراض عند وجود عدوٍّ أقوى منهم.

 

إنّ البشريّة بحاجة إلى الحياة الاجتماعيّة، وبحاجة إلى قانونٍ تؤمن به، وهي إلى ذلك بحاجة إلى الإيمان نفسه. وعلى هذا، فلا يمكن إنكار أصل الاحتياج وادّعاء عدم وجود مثل هذه الحاجة[1].

 

الحاجة إلى هدي النبوّة دائمٌ

ومن هنا، يمكن طرح مسألة الحاجة إلى النبوّة، ولكن لا من جهة قصور العقل، وإنّما من جهة أنّ الاكتفاء بالعقل إنّما يكون صحيحاً في ما لو كان الإنسان عقلاً محضاً، ولكن ما دام العقل الإنسانيّ مقترناً بالعواطف والأحاسيس التي قد تخرج عن السيطرة والضبط، فسيحتاج إلى دور النبيّ بالضرورة لكي ينهض بعمليّة التوازن.

 

والإنسان يحتاج إلى قوّة الإيمان، وما لم يكن هناك إيمان بأصول معيّنة، فلن يكون للعقل حينئذٍ قوّةٌ تنفيذيّة، بل سيؤيّد خصلة النفعيّة، ذلك أنّ منطق العقل يملي على الإنسان أن يتبع ما يشخّص أنّه مصلحته، ويهدي الإنسان عمليّاً باتّجاه منفعته، ويوجّهه صوب مصلحته على الدوام. وما لم يكن لدى الإنسان إيمانٌ بأصول معيّنة، فإنّ عقله لن يحكم إلّا بالمصالح الشخصيّة.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص89 - 92.

 

34


16

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

إنّ عقول النفعيين ليست بأقلّ من عقول الآخرين، وهم يرون أنّ مصالحهم تكمن في منافعهم الفرديّة بسبب عدم إيمانهم بما وراء تلك المنافع. ولو توافر لهم إيمان بمصلحة أرفع وأسمى - بحيث تغدو المصالح الفرديّة صغيرة بإزائها - فعندئذ سوف يتبعون ما شخّصه العقل. وعليه، فالأمر يرتبط بقوّتين هما: قوّة الإيمان وقوّة العقل[1].

 

وبذلك يتَّضح أنّ الأنبياء عليهم السلام لم يُبعَثوا من أجل تعطيل العقل الإنسانيّ ودفعه إلى الرّكود وليكونوا بديلاً من العقل، بل على العكس تماماً: لقد بُعثوا لتحريك العقول وتحريرها، والقرآن يؤكّد على مسألة "لعلّهم يعقلون" و"لعلكم تتفكّرون"، وقد دعا إلى رفض التقليد ورفض حجّة: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[2]. إذاً، فقد بُنِيَ القرآنُ على أساس إحياء العقل وإيقاظه، وتحطيم الأغلال التي تُحيط بالعقل وتأسره، بل إنّ مواجهة حسّ التّقليد السّائد بين النّاس هي من العناصر المشتركة بين الأنبياء جميعاً. ولولا بعث الأنبياء وتوجيههم، لبقي العقل ماكثاً في مرحلة الطّفولة، ولَما بلغت البشريّة ما بلغته حاليّاً.

 

لقد تآزر الأنبياء على تحطيم الأغلال التي تقيّد العقل البشريّ بعد أن كان الإنسان يعظّم صنائع يده، ويعبد النّار والأرض والحجارة، فنهوه عن عبادة ما سوى اللَّه، ومنحوه شخصيّته الخاصّة بين المخلوقات: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[3]. لقد هدفوا من وراء ذلك إلى تحرير الإنسان من القيود والأغلال، وإلى تنبيهه على أنّ كلّ شيء وُجد لأجله، حتّى الشّمس والقمر والنجوم مسخّرات له، نظراً إلى أشرفيّته على سائر المخلوقات.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص105 - 106.

[2] سورة الزخرف، الآية 22.

[3] سورة الإسراء، الآية 70.

 

35


17

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

يقول الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بشأن فلسفة بعث الأنبياء عليهم السلام: "فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه"[1]، فالأنبياء جاؤوا ليحرّكوا الإنسان في خطّ فطرته وطبيعته، ويرفعوا الموانع من طريق الفطرة: "ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه،... ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ"[2]، فالإنسان يمشي على الأرض وهو لا يدري ما تحت قدميه من دفائن وكنوز، و"الإثارة" هي رفع التراب عن تلك الكنوز. وكذلك فمهمّة الأنبياء عليهم السلام هي رفع ما تراكم على كنوز العقول، حيث لم تأتِ هذه القوّة الإضافيّة لتكون عوناً للعقل فحسب، بل أكثر من ذلك: جاءت لمنع تعطيل العقل وإهماله!

 

وعليه، فلو نظرنا إلى البنية الإنسانيّة، لرأيناها بحاجة إلى الإرشاد والهداية، كما أنّ الإنسان بحاجة أيضاً إلى تكييف غريزته في البحث عن المنفعة الشخصيّة وتليينها، أو إسباغ ضربٍ من التعالي عليها، بحيث ينتبه إلى مسائل أرفع يستطيع أن يُنظّم مصالحه الاجتماعيّة من خلالها[3].


 


[1] الشريف الرضيّ، محمد بن الحسن، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ.ق - 1967م، ط1، الخطبة1، ص43.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص71 - 73.

 

36


18

الدرس الأوّل: مباحث النبوّة العامّة

المفاهيم الرئيسة

•        يتمثّل مفهوم النبوّة، بمعناه العامّ السائد في أذهان عموم الناس، بوجود أفراد من البشر يكونون واسطة بين الله وبين سائر أفراد البشريّة.

 

•        ينطوي البحث في النبوّة على مسائل عدّة:

1. ما يتعلّق بحاجة البشريّة إلى النبوّة.

2. البحث الذي يُعنى بكيفيّة تلقّي الأنبياء لأحكام الله.

3. البحث حول المعجزات التي تُعدّ آية الأنبياء ودليل نبوّتهم.

 

•        لا شكّ في أنّ الأنبياء قد بُعثوا لهداية البشريّة إلى الصراط المستقيم، ولأجل صلاحهم ونجاتهم، وإنّما الكلام في الغاية النّهائيّة التي ينتهي إليها هذا الصّراط المستقيم.

 

•        إنّ أهمِّيَّة الإيمان بالآخرة تتحدّد بالنظر إلى دوره في تحديد مصير الإنسان، وهدايته إلى سعادته، وتحذيره من أسباب شقائه.

 

•        إنّ البشريّة بحاجة إلى الحياة الاجتماعيّة، وبحاجة إلى قانونٍ تؤمن به، وهي إلى ذلك بحاجة إلى الإيمان نفسه. وعلى هذا، فلا يمكن إنكار أصل الاحتياج.

 

•        يمكن طرح مسألة الحاجة إلى النبوّة ولكن لا من جهة قصور العقل، وإنّما من جهة أنّ الاكتفاء بالعقل إنّما يكون صحيحاً في ما لو كان الإنسان عقلاً محضاً.

 

•        لم يُبعَث الأنبياء عليهم السلاممن أجل تعطيل العقل الإنسانيّ ودفعه إلى الرّكود، ولا ليكونوا بديلاً من العقل، بل على العكس تماماً: لقد بُعثوا لتحريك العقول وتحريرها.

 

37


19

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

الدرس الثاني

ضرورة النبوّة

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى المنهجين الكلاميّ والفلسفيّ في بيان ضرورة النبوّة.

2. يبيّن رأي الحكماء في ضرورة النبوّة.

3. يلخّص الأصول القرآنيّة لاستدلال حكماء الإسلام على ضرورة النبوّة.

 

38


20

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

الله تقتضي أن لا يصدر عنه فعلٌ إلّا طبق المصلحة، فما هو حسن يجب عليه فعله بمقتضى حكمته، وإلّا أضرّ ذلك بحكمته، وما هو قبيحٌ ينبغي أن لا يفعله، وإلّا كان ذلك طعناً في حكمته، وما دام إرسال الأنبياء مفيداً ونافعاً وفيه مصلحة فهو حسن ويجب على الله - تعالى- فعله[1]. وإدراك العقل لوجوب الفعل لا يعني التحكّم بالله، بل إدراكه هو اكتشافٌ للوجه في أفعاله لا أكثر.

 

2- المنهج الفلسفيّ في إثبات النبوّة:

يعتمد الفلاسفة على مفهوم الحاجة الذي يُعدّ قانوناً طبيعيّاً. وفحوى هذا المفهوم هو أنّ كلّ معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم إمكانه أو عدم توفّر جميع شرائط وجوده، وأنّ كلّ ما له إمكان وقابليّة الوجود وكانت جميع شرائط وجوده متوافرة فإنّه لا بدّ أن يفيض الله عليه الوجود.

 

ويُطبّق هذا المنهج على مسألة النبوّة ضمن مقدّمتين:

1- إنّ النبوّة ممكنةٌ، بمعنى إمكان اتّصال الإنسان بالعالم الآخر، حيث يُلقَى إليه من هناك الإلهام والوحي، على ما سيتَّضح في مباحث الوحي.

 

2- إنّ البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة، والنبوّة ضربٌ من الخير والسعادة والكمال، ويؤدّي عدم وجودها إلى ظهور فراغٍ وجوديٍّ لدى البشر يُفضي إلى اضطراب عامّ في الحياة الإنسانيّة، ومنعٍ عن الوصول إلى كمالهم اللائق بهم.

 

ومن هاتين المقدّمتين نصل إلى ضرورة وجود النبوّة في نظام العالم.

 

وهذا المنهج لا يتحدّث عن تكليف الله، وأنّه ينبغي أن يفعل ما هو مكلّفٌ به كما نجده في المنهج السابق، بل يؤمن فلاسفة الإسلام بأنّ الله فاعلٌ تامٌّ، ولا يمكن أن يمتنع الفيض من ناحيته، فلا مجال للبخل في ذاته كي يمنع الفيض.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص85 - 86.

 

41


21

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

ولذلك، فإذا ما كان لشيءٍ في نظام الوجود إمكان الوجود، وكان هناك حاجة إليه، فسيُفاض عليه الوجود من قِبَل الله.

 

وهذا برهان لمّيّ، كونه ينطلق من الله وصفاته إلى ضرورة وجود النبوّة، أي من العلّة إلى المعلول[1].

 

ويمكن مقاربة بيان الحكماء وفق التساؤل الآتي: هل يمكن الاستدلال بالله على شيءٍ آخر؟ فإذا كان وجود الله معلوماً لنا، وأردنا أن نستدلّ به على وجود أمرٍ مجهولٌ وجودُه لنا، فهل يمكن أن نقول: ما دام الله موجوداً فلا بدّ من أن يكون ذلك الشيء موجوداً بالضرورة، بحيث يكون وجوده ضرورة ناشئة من وجود الله؟

 

إنّ العقل ليس بإمكانه التحديد الدقيق لكلّ ما ينبغي وجوده، إلّا أنّه يمكنه الاستدلال على النظام الكلّيّ للوجود، وذلك عن طريق معرفة الله، وأنّه ما دام الله موجوداً فلا سبيل للخلل إلى الوجود، ومعنى ذلك أنّه إذا كان لموجودٍ معيّن إمكان النموّ والكمال في نفسه، بحيث كانت القابليّة فيه تامّة، ولم يكن ثمّة موانع تحول دون ذلك، فسيُفاض عليه ذلك الكمال من قِبَلِ الله. وهذه الإفاضة ضرورة يقتضيها نظام الخلقة، لا أنّها وجوب يمليه التكليف، وأنّه إذا لم يقم به فقد أخلّ بالتكليف.

 

إنّ مشروع الخلقة مشروعٌ متكامل، وله نظام متّسق ومنسجم يحتلّ فيه كلّ شيء مكانه، ومن ثمّ فلا معنى لتعيين لائحة تكاليف ونظام واجبات على الله وأمثال ذلك، وإنّما تتحرّك الخلقة في إطار نظام محدّد لا يتخلّف ولا يمكن تغييره. وإذا ما كان ثمّة حاجة في نظام الخلقة، وكان ثمّة استعدادٌ وإمكانٌ لتلقّيها (إذ قد تكون هناك حاجة ولكن لا إمكان لتلقّيها) فستُفاض، لأنّ فيض الله مطلَق[2].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص87 - 88.

[2] المصدر نفسه، ص122 - 123.

 

42


22

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

الأصول القرآنيّة لبيان حكماء الإسلام[1]

في القرآن الكريم آياتٌ تؤيّد هذا الأصل، منها على سبيل المثال قوله تعالى في معرض انتقاد منكري النبوّة والوحي: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾[2]، وقوله بعد ذلك ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى﴾. وهنا نوعان من الاستدلال:

الأوّل: أنّ مَن عرف الله حقّ قدره لا يمكنه أن ينكر أنّ الله قد أنزل الوحي على الأنبياء عليهم السلام. وبهذا تستدلّ الآية بالدليل اللمّيّ في ردّها على منكر النبوّة بأنّه لو عرف الله حقّ قدره لما أنكر النبوّة. وهو استدلال بالله على وجود النبوّة والوحي.

 

الثاني: هو الاستدلال بالأمر الموجود. وهذا دليل إنّي عن طريق الأثر الموجود في الخارج، والمتمثّل بالكتب السماويّة الشاهد والدالّ على النبوّة.

 

وحصيلة كلا الاستدلالين أنّ المنكِرَ لا عرفَ الله، ولا عرفَ الأثر الموجود المتمثّل بالكتب السماويّة وفي الآية: ﴿قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً﴾[3] دليل على أنّه لو كان في الأرض ملائكة لبعثنا لهم عندئذ رسولاً من سنخ الملائكة. وهذا يُشعر بأنّكم ما دمتم بشراً فإنّ الله يبعث لكم هادياً من البشر.

 

ومعنى ذلك أننا لا نهمل في الهداية البشر ولا الملائكة.

 

وفي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[4] بيّن القرآن بصيغة العلّة الغائيّة أنّ إرسال الأنبياء هو


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص123 - 126.

[2] سورة الأنعام، الآية 91.

[3] سورة الإسراء، الآية 95.

[4] سورة الحديد، الآية 25.

 

43


23

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

لأجل بسط العدل، انطلاقاً من أصلٍ ثابتٍ فحواه أنّه لو لم يوجد الأنبياء لما وُجدت العدالة بين البشر. ومن البديهيّ أنّ المسألة لا تقوم على أساس الجبر، بل على أساس وجود وسيلة إلهيّة بين البشر، بحيث تتحقّق العدالة بالتفافهم حولها.

 

ولو لم تكن ثمّة حاجة إلى هذا القانون الذي يوحي به الله، أو كان بمقدور البشريّة أن تؤمّن حاجتها تلك من طريق آخر، لما كان المنطق القرآنيّ تامّاً، ولما كان معنى للقول: ما دامت البشريّة بحاجة إلى القانون والعدالة فقد بعث الله الأنبياء.

 

ومثال من بحث التوحيد

ثمّ إنّ القرآن الكريم يميّز - في استدلاله على الله عن طريق المخلوقات - بين أصل النظم وأصل الهداية، ومضافاً إلى وجود النظم الدقيق في الأشياء، فهو يفصح عن وجود قوّة هداية فيها.

 

إنّ ضروب الهداية الموجودة في الأشياء، وعلى الأخصّ الكائنات الحيّة، لا يكفي فيها ما تنطوي عليه من نظم داخليّ وآليّ لتحقّق مثل هذه الهداية. والقرآن يصرّح بأنّ الله تعالى لم يخلق شيئاً عارياً من الهداية: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[1].

 

والعطف بـ "ثُمّ" يفيد أنّ كلّ شيء قد زُوّد بما يحتاج إليه ممّا هو لازم له، ثمّ هُدي.

 

فبنصّ القرآن أنّ أيّ موجودٍ لا يُهمَل في أيّ مرتبة يحتاج فيها إلى الهداية. وكذلك في قوله – تعالى -: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾[2] ذُكرت الخلقة وتسوية بنية الشيء وتكميلها وتعديلها بشكل منفصل، ثمّ ذُكرت الهداية بشكلٍ منفصلٍ أيضاً.

 


[1] سورة طه، الآية 50.

[2] سورة الطارق، الآيتان 2 - 3.

 

44


24

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

وإلى أصل الغائيّة يشير قوله - تعالى -: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾[1]، فلكلّ شيءٍ في الوجود غايةٌ تجرّه من الأمام، لا أنّ الأشياء تُقَاد من الخلف فحسب، وهو ما تضطلع به العلل المادّيّة، بل تُجَرُّ من الأمام أيضاً، لأنّ لها قوّة جذب من الأمام تطوي من خلالها الطريق صوب كمالها المرتقب.

 

وخلافاً لما يعتقده داروين وكثيرٌ من المعاصرين، فإنّ مجموع الشروط المادّيّة لا يكفي لكي يبلغ الكائن الحيّ النقطة التي ينبغي له أن يصل إليها، وإنّما هدايته وتوجيهه يتمّان من قِبَلِ مجموع هذه العلل والشروط معاً.

 

في ضوء هذا الأصل العامّ للهداية الذي يطرحه القرآن، نستنتج أنه إذا ما كنّا نحن البشر بحاجة إلى هداية، وكان إمكان هذه الهداية ثابتاً، وإذا ما ثبتت الحاجة إلى النبوّة وثبت إمكانها (بحيث يكون بإمكان البشر تلقّي الوحي من الله) فلن يكون ثمة أيّ قصورٍ أو منعٍ أو بخلٍ من الله، بل إنّ هذا الشيء سيوجد حتماً، وهذا هو نمط الاستدلال على النبوّة العامّة[2].


 


[1] سورة البقرة، الآية 148.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص122 - 129.

 

45


25

الدرس الثاني: ضرورة النبوّة

المفاهيم الرئيسة

•        يمكن إثبات أنّ ضرورة وجود النبوّة مترتّبة على الحاجة إليها، من خلال منهجين: المنهج الكلاميّ، والمنهج الفلسفِيّ.

 

•        يؤمن قسم من المتكلّمين بأنّ حكمة الله تقتضي أن لا يصدر عنه فعلٌ إلّا طبق المصلحة.

 

•        يعتمد الفلاسفة على أنّ كلّ معدوم في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم الإمكان وعدم قابليّته للوجود، وأنّ جميع ما له إمكان وتوافرت جميع شرائط وجوده فلا بدّ أن يوجَد.

 

•        بيّن القرآن بصيغة العلّة الغائيّة أنّ إرسال الأنبياء هو لأجل بسط العدل، انطلاقاً من أصل ثابت فحواه أنّه لولا وجود الأنبياء لما وُجدت العدالة بين البشر.

 

•        يميّز القرآن الكريم - في استدلاله على الله عن طريق المخلوقات - بين أصل النظم وأصل الهداية، ومضافاً إلى وجود النظم الدقيق في الأشياء فهو يفصح عن وجود قوّة هداية فيها.

 

•        إنّ للأفراد الذين يختارهم الله -تعالى- للنبوّة خاصّيّة تُميّزهم من غيرهم، ولا يقع اختيارهم بشكلٍ عشوائيّ، كما يحصل في القرعة حيث يخرج سهم أحدهم دون ضابطة، فالاختيار لا يتمّ جُزافاً، بل للاستعداد الخاصّ دخلٌ فيه.

 

 

46


26

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

الدرس الثالث

مفهوم الوحي وخصائصه

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يبيّن الأصل اللغويّ لكلمة الوحي.

2. يوضّح المعنى الاصطلاحيّ للوحي حسب القرآن الكريم.

3. يذكر الخصائص الأساس للوحي النبويّ.

 

48


27

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

تمهيد

تدور المسألة الثانية من مسائل النبوّة العامّة حول دعوى الأنبياء وجود ارتباط بينهم وبين الله تبارك وتعالى، وحول كيفيّة تلقّيهم الأحكام والتّعاليم من الله، وهذه هي مسألة الوحي. فما هو هذا الارتباط الذي يدّعيه الأنبياء؟ وكيف يمكن تفسيره؟

 

وإذا آمنّا بوجود مثل هذا الارتباط الغامض لفئة خاصّةٍ من البشر، فكيف سنبحث فيه ونحن نفتقر إليه ولا نعرفه؟ إنّ تفسير حالةٍ كهذه سيعبّر جزماً عن مشكلة استثنائيّة. وفي حال كان تفسير الوحي ممكناً، ينبغي لنا أن نبيّن كيف صار ذلك ممكناً، هل هناك نموذجٌ مشابهٌ لتلك الحالة، ولو بدرجة ضعيفة، تتيح لنا القول إنّ الدرجة الأقوى لهذا النموذج هي الموجودة عند الأنبياء[1]؟

 

سنبحث حول مسألة الوحي في هذا الدرس وعدّة دروس تليه، شارعين أولاً في تفسير الوحي في اللغة والاصطلاح، ومبيّنين خصائص الوحي النبوي[2].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص83.

[2] الإعداد.

 

50


28

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

الوحي في اللغة والقرآن الكريم

1- الوحي في اللغة:

قد يتوصّل أرباب العلوم إلى معنى جديد في مجال اختصاصهم، ولا يكون له استخدام لدى العرف العامّ، فيعمدون حينئذ إلى أن يستمدّوا من اللغة العرفيّة لفظاً يقاربه في المعنى ولو بمعونة القرائن والمشابهات الموجودة، ثمّ يقومون بتعميم هذا اللفظ وإشاعته حتّى يكتسب الدلالة على المعنى الجديد. ومثل هذا الأمر يحدث في ما يرتبط بالمحتوى الدينيّ، حيث قد يطرح النصُّ الدينيّ مفهوماً لا يوجد له لفظ خاصّ بحسب الاستعمال العرفيّ العامّ، فيعمدون حينئذٍ إلى انتخاب أقرب الألفاظ المتداولة بلحاظ ذلك المفهوم، ليدلّ عليه، ما يعني أنّ المناسبات اللغويّة قد لا تصلح للكشف عن ذلك المفهوم بدقّة ما لم يتمّ تتبُّع موارد استعماله في حقله الخاصّ.

 

بخصوص كلمة الوحي، نجد أنّها تعني في اللغة الإلقاء الخفيّ، السرّيّ، الغامض[1]، كما لو تحدّث شخصٌ إلى آخر خفية، وناجاه سرّاً، لئلّا يطّلع عليه الآخرون. وكلّ ما يتّسم بالغموض والخفاء على الآخرين، كالإيماء والإشارة، يُسمّى بحسب العرف وحياً.

 

وحيث إنّ حقيقة الوحي النبويّ ليست من موارد الاستعمال العرفيّ العامّ، وما هو موجود في اللغة هو معنى قريب من هذه الحقيقة، لذلك ينبغي ملاحظة الوحي من خلال تتبّع موارد استعماله في القرآن[2]، ذلك أنّ المعنى اللغويّ والعرفيّ يحمل في طيّاته عادةً مفهوماً أعمّ وأوسع من المعنى المصطلح الذي استعمله الأنبياء عليهم السلام. وعلى الرغم من كونه قريباً من المعنى اللغويّ من حيث

 

 


[1] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي؛ الدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسّسة دار الهجرة، إيران - قم المشرّفة، 1409هـ.ق، ط2، ج3، ص321؛ الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، لبنان - بيروت، 1407هـ.ق - 1987م، ط4، ج6، ص2520.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص 133- 134.

 

51


29

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

المفهوم، فإنّه يختزن معانيَ وحقائق أخرى، والهدف هو البحث عن المعنى المصطلح محاولين رسم صورة عنه، لنرى دائرته، وخصائصه، وتفسيره.

 

2- الوحي في القرآن الكريم:

مع مراجعة موارد استعمال لفظ الوحي في القرآن، نجد أنّه لم يُستخدَم بالمعنى الذي يختصّ بالأنبياء في باب النبوّة فحسب، بل استُعمل الوحي في كثيرٍ من الموارد بمعناه اللغويّ[1].

 

وما يُستفاد من القرآن هو أنّ الوحي حقيقةٌ وتعبيرٌ عن ضربٍ من الهداية الموجودة في جميع الأشياء، يقول – تعالى -: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾[2]. وهذه الهداية هي ضربٌ من النور المعنويّ الذي يُصاحب جميع الموجودات ويهديها في مسيرها. وللوحي بهذا المعنى العامّ درجاتٌ ومراتب، فالهداية الموجودة في النباتات ليست بدرجة تلك الموجودة في الحيوانات، وما هو موجودٌ عند الحيوان يختلف عمّا هو موجود عند الإنسان. فيتَّضح أنّ الوحي هو حقيقة واقعيّة موجودة في جميع الأشياء بنسبةٍ أو بأخرى. ويمكن تشبيه الأمر بدرجات النور التي تختلف بين النور الضعيف والقويّ والأقوى. وأعلى درجة من درجات الوحي والهداية والإرشاد هي تلك التي يتلقّاها النبيّ من عالم الغيب.

 

وحي النبوّة

إنّ الصيغة التي يمكن أن نتعرّف من خلالها إلى وحي النبوّة، لا يمكن استكشافها من خلال التجربة العلميّة، أو الاستدلال العقليّ، وإنّما ينبغي الاطّلاع عليها عن طريق أقوال أولياء الوحي أنفسهم، ومن ثَمّ إخضاع هذه الأقوال للتفسير العلميّ[3].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص134.

[2] سورة فصّلت، الآية 12.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص138.

 

52


30

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

ومن جانبٍ آخر، فقد أعطى القرآن للوحي معنًى عامّاً يشمل بعض حالات الوحي التي تدخل في مجال خبرتنا، ويمكن لنا بمعونة هذه الحالات أن نقارب حقيقة وحي النبوّة ولو بقدرٍ ما. ولا يلزم لأجل الإيمان بالوحي أن نحيط بحقيقته، فالوحي من مختصّات الأنبياء، ولا سبيل لنا إلى بلوغ كنهه بنحو قطعيّ[1].

 

وبناءً على هذين الأمرين، وبملاحظة ما ورد في الحديث النبويّ من أنّ: "الرؤيا الصادقة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوّة"[2]، يُفهَم أنّ الوحي لا يختلف في ماهيّته عن بقيّة الإلهامات التي تنتاب البشر، وإنّما يختلف عنها من حيث الدرجة والرتبة. ويُستفاد من هذا الحديث أنّ الرؤيا الصادقة هي بمنزلة النور الضعيف، في حين أنّ وحي النبوّة هو بمنزلة النور القويّ الذي يفوق ذلك النور الضعيف سبعين مرة[3].

 

خصائص وحي النبوّة

ينبغي تقصّي خصائص هذه الدرجة القويّة من الوحي الموجودة لدى الأنبياء، وفقاً لما أفاده الأنبياء أنفسهم. وفي ضوء هذه المزايا والخصائص يمكن لنا مقاربة الفرضيّة التي قد تفسّر الوحي من الناحية العلميّة والفلسفيّة[4]. ويمكن تلخيص هذه الخصائص بما يأتي:

1- الجنبة الداخليّة للوحي:

يتلقّى الأنبياءُ الوحيَ عن طريق الباطن، وليس كما نتلقّى نحن المحسوسات عن طريق الحواسّ الظاهرة. قال -تعالى-: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى

 

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص142.

[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم المشرّفة، 1414هـ.ق، ط2، ج2، ص585. هناك بعض الرؤى التي لا يُمكن تعليلها جزماً في ضوء ما يتّصل بالحالات البدنيّة الطبيعيّة أو السوابق الذهنيّة، وهذا ما نُطلق عليه: "الرؤيا الصادقة"، أمّا غير ذلك فهو ما يُطلق القرآن عليه "أضغاث أحلام".

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص148.

[4] المصدر نفسه.

 

53


31

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

قَلْبِكَ﴾[1]. ويَظهَر من بعض حالات الوحي أنّ حواسّ النبيّ كانت تتعطّل أثناء تنزّله عليه وكان يصاب بغشية. ويمكن تشبيه الأمر بالرؤيا الصادقة، حيث تكون العين مغلقة والإنسان لا يسمع. ومن المُسلَّم به أنّ التلاقي بين روح الإنسان وذاك الذي يُطلِعه على الغيب لم يكن يحصل عن طريق الحواسّ، بل عن طريقٍ خفيٍّ وباطنيّ، كما أنّ جميع الغرائز وضروب الوحي ذات جنبة داخليّة، ففي باطن النباتات قوّةٌ توجّهها، وفي أعماق الحيوانات غريزةٌ تقودها. وهذه السمة الداخليّة للوحي هي عنصرٌ مشترك بين جميع هذه الحالات[2].

 

2- وجود المعلّم:

ما هو ثابت بشأن وحي الأنبياء أنّه لا يكون منبثقاً من ذات النبيّ، وإنّما يتلقّاه من خلال معلّمٍ ليس من البشر ولا من عالم الطبيعة، كما لم يتمخّض عن طريق التجربة: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾[3].

 

يؤكّد القرآن على هذه القضيّة بقوله: ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ﴾[4], ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾[5]، ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾[6]. وسواء أكان المقصود بـ"شَدِيدُ الْقُوَى" الله أم جبرائيل أم غيرهما، فإنّ الوحي لا يخرج عن إطار التعليم.

 

ويترتّب على ذلك أنّ الوحي النبويّ ليس من قبيل الغرائز الموجودة في الحيوانات حيث لا تعليم، وليس من قبيل الإلهامات التي تحصل لبعض البشر، كما هو الحاصل مع بعض العلماء، الذين يدّعون أنّهم أُلهِموا فرضيّةً على حين غرّة من دون أن يكون هناك تعليم وتعلّم، فقد يحسّ بعضهم بالحركة والانبعاث، بيدَ


 


[1]  سورة الشعراء، الآيتان 193 - 194.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص148.

[3] سورة النجم، الآية 5.

[4] سورة هود، الآية 49.

[5] سورة النساء، الآية 113.

[6] سورة النجم، الآية 5.

 

54


32

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

أنّه لا يعرف مصدر هذا الإلهام، أو أنّه يشعر بطروّ شيءٍ في ذهنه دون أن يحسّ باتّصاله بمبدإٍ معيّن. أمّا في حالة الوحي، فإنّ الأنبياء يحسّون بوجود المعلّم، وقد صرّحوا بوجود معلّم وتعليم في حالة الوحي النبويّ[1].

 

3- استشعار مصدر الوحي:

ويترتّب على الخصوصيّتين السابقتين أنّ النبيّ يشعر أثناء تلقّي الوحي بأنّه يتلقّى من مصدرٍ آخر. فكما نشعر نحن ونحسّ بالمعلّم عندما نجلس إليه، وندرك أنّنا أمام إنسانٍ هو من موجودات عالم الطبيعة نصغي إليه ونتعلّم منه، كذلك النبيّ، مع فارق أنّ معلّمه ليس من عالم الطبيعة، بل من عالم آخر.

 

إنّ حالة الاستشعار هذه من ثوابت الوحي، ففي اللحظة التي يتلقّى فيها النبيّ ما يُلقى إليه، يتنبّه إلى أنّه يستمدّ من مصدرٍ علويٍّ خارجٍ عن نفسه. وفي القرآن نفسه إشارة إلى أنّ النبيّ الأكرم كان يبادر إلى تكرار ما يتلقّاه من الوحي خشية أن ينسى ما يوحى إليه به، قال - تعالى -: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾[2]، وقد ضمن -تعالى- له عدم نسيان الوحي بقوله: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾[3],[4].

 

4- إدراك واسطة الوحي:

ما نفهمه من كلام الأنبياء أنفسهم أنّ أكثر الوحي كان لا يحصل لهم من الله مباشرة وإنّما كان يتم بواسطة موجود آخر اسمه "الروح الْأَمِين" أو "روح القدس" أو "جبرائيل"، على اختلاف العبائر. وقد كانوا يشعرون بهذه الواسطة والوسيلة.

 

نعم قد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حالات كان يتلقّى فيها الوحي من الله مباشرة[5].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص150 - 151.

[2] سورة طه، الآية 114.

[3] سورة الأعلى، الآية 6.

[4] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص151 - 152.

[5] المصدر نفسه، ص140 - 141، 152 - 153.

 

55


33

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

إلى هنا، تُعتبر خصائص الوحي الآنفة الذكر من الأمور الثابتة، كونها جاءت على لسان أولي الوحي أنفسهم. وفي ضوء ذلك يمكن النظر في طبيعة الفرضيّة التي تفسّر الوحي من الناحية العلميّة إلى حدٍّ ما. وأمّا الاطّلاع على حقيقة الوحي بتمامها فليس في وسع أحد ذلك، نظراً إلى اختصاص تجربة الوحي بالأنبياء[1]. بل ليس من الضروريّ أن نقدّم تفسيراً نهائيّاً عن حقيقة الوحي بحيث يتوقّف ذلك على استبعاد سائر التفسيرات الأخرى من مجال البحث بنحوٍ قاطعٍ ونهائيّ. وإنّما الواجب هو الإيمان بأصل الوحي، والإيمان به لا يتوقّف على الإحاطة التفصيليّة بحقيقته[2].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص153.

[2] المصدر نفسه، ص142.

 

56


34

الدرس الثالث: مفهوم الوحي وخصائصه

المفاهيم الرئيسة

•        كلمة الوحي تعني في اللغة الإلقاء الخفيّ، السرّيّ، الغامض. كما لو تحدّث شخصٌ إلى آخر خفية وناجاه سرّاً لئلّا يطّلع عليه الآخرون. وكلّ ما يتّسم بالغموض والخفاء على الآخرين، كالإيماء والإشارة، يُسمّى بحسب العرف، وحياً.

 

•        بمراجعة موارد استعمال لفظ الوحي في القرآن، نجد أنّه لم يُستخدم بالمعنى الذي يختصّ بالأنبياء في باب النبوّة، بل استُخدم في معاني كثيرٍ من الأشياء.

 

•        إنّ الصيغة التي يمكن أن نتعرّف من خلالها إلى وحي النبوّة، لا يمكن استكشافها من خلال التجربة العلميّة، أو الاستدلال العقليّ، وإنّما ينبغي الاطّلاع عليها عن طريق أقوال أولياء الوحي أنفسهم، ومن ثمّ إخضاع هذه الأقوال للتفسير العلميّ.

 

•        لقد أعطى القرآن للوحي معنى عامّاً يشمل بعض حالات الوحي التي تدخل في مجال خبرتنا. ويمكن لنا، بمعونة هذه الحالات، أن نقارب حقيقة وحي النبوّة ولو بقدرٍ ما.

 

•        في حالة الوحي، فإنّ الأنبياء يحسّون بوجود المعلّم، وقد صرّحوا بوجود معلّم وتعليم في عمليّة الوحي النبويّ.

•        يُدرك الأنبياء موجوداً آخر غير الله، وهو الملَك الذي يُعدّ واسطة الوحي.

 

57

 

 


35

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

الدرس الرابع

ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعدّد التصوّرات الثلاثة لماهيّة الوحي.

2. يشرح نظريّة حكماء الإسلام المتعلّقة بماهيّة الوحي.

3. يبيّن الشواهد القرآنيّة لنظريّة حكماء الإسلام.

 

58


36

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

تمهيد

بعد أن تعرّفنا إلى معنى الوحي لغةً واصطلاحًا، وبيّنّا خصائص الوحي النبويّ، نريد الآن أن نلج هذا البحث أكثر في سعيٍ منّا لمقاربة ماهيّة الوحيِ وحقيقتِه، فما هي حقيقة الوحي[1]؟

 

حقيقة الوحي

ذكروا في هذا المجال أنّ أحداً ليس في وسعه أن يدّعي الإحاطة بحقيقة الوحي وكنهه إلّا أن يكونوا هم الأنبياء أنفسهم. والسبب في ذلك هو أنّ هذا النحو من العلاقة والارتباط ليس من نمط العلاقات المعهودة بين أفراد البشر، أو بينهم وبين سائر المخلوقات الأخرى. ولهذا لم يدّعِ أحد أنّه يستطيع شرح ماهيّة الوحي وكنهه. ومع ذلك، يمكن البحث في مسألة كيفيّة الوحي إلى حدٍّ ما، لا أقلّ بنفي بعض الأمور عن مجال الوحي، والبحث في أمورٍ أخرى بمعونة القرائن التي ذكرها الأنبياء[2].


 


[1] الإعداد.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص54.

 

60


37

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

النظريّات في وحي الأنبياء

بشكل عامّ، توجد ثلاثة تصورات في هذا المجال:

1- التصوّر العامّيّ:

ما إن يُذكَر الوحي حتّى يتبادر إلى الأذهان العامّيّة أنّ الله موجودٌ في أعالي السماء، كما لو أنّه في مكانٍ بعيدٍ عن الأرض، وإذا ما أراد أن يوصل تعاليمه إلى النبيّ فإنّه يرسل إليه مخلوقاً مجنّحًا يمكنه أن يطوي هذه المسافة الشّاسعة، ولا بدّ من أن يتمتّع هذا الوسيط بعقلٍ وإدراكٍ يتمكّن بهما من إيصال الأمر الصادر عن الله إلى النبيّ. وفق هذه النّظرة، ينبغي لهذا الموجود أن يكون ذا بُعد إنسانيّ لكي يكون بمقدوره أن يحمل أمر الله إلى النبيّ، أي أن يقوم بنقل الكلام والحديث. ومن جهةٍ ثانية، يُتصوّر أن يكون له أجنحةٌ ليستطيع أن يُحلّق بها بين السّماء والأرض، وهذا الموجود يطلقون عليه اسم "المَلَك".

 

والنبيّ إنّما يتلقّى كلام الله - بنظر هؤلاء - من الطّريق ذاته الذي يتلقّى منه كلامنا، مع فارقِ أنّ النبيّ يسمع كلامنا وينظر إلينا بلا واسطة، أمّا كلام الله، فيسمعه ويتلقّاه بواسطة مخلوقٍ مجنّح، يأتي به من مكانٍ بعيد[1]!

 

2- نظريّة التنويريّين:

ينظر بعضهم إلى مسألة الوحي، ونزول الملائكة، والتشريع السماويّ، وكلّ ما يتّصل بذلك، على أنّها مجرّد تعبيرات مجازيّة يُستعان بها في التخاطب مع عوامّ الناس. ويقوم هذا المنطق على أساس أنّ النبيّ نابغة اجتماعيّ، بيدَ أنّه نابغة محبٌّ للخير، يتأمّل في أوضاع مجتمعه، ويرصد ما يُحيط بالنّاس من آلام وضروبِ فساد، ويسعى إلى تغيير أوضاعهم بأن يرسم لهم طريقاً صحيحاً وجديداً ويبيّنه لهم.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص54 - 56.

 

61


38

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

وحول معنى الوحي، يرى هؤلاء أنّ روح القدس ليس إلّا الرّوح الباطنيّة لهذا النابغة، وهي التي تسبغ عليه الإلهام، فيأخذ الإلهام من باطنه وليس من موضعٍ آخر. ولمّا كانت هذه الأفكار تنبعث من أعماق روحه ثمّ تنطلق إلى سطحها، فقد نظنّ أنّ الروح الأمين قد جاء بها. ولمّا كان الله هو مصدر جميع الأفعال، ولا شيء يكون إلّا بمشيئته، فيصحّ أن يُقال حينئذٍ إنّ الله هو الذي بعث هذا النّابغة.

 

إنّ معنى الوحي - بحسب هذه النظريّة - هو الانبثاق من عمق روح النبيّ إلى ظاهر فكره، بينما يمثّل الملائكة - بحسب منطق هؤلاء - القوى الموجودة في الطّبيعة. ولمّا كان الله يستخدم هذه القوى، فستكون الملائكة تحت اختياره. ولمّا كانت القوانين التي وضعها النابغة هي قوانين صحيحة وصالحة ومفيدة لسعادة المجتمع، فهي إذاً دينٌ من قِبل الله، ونحنُ لا ننشد أكثر من ذلك.

 

خلاصة الأمر أنّ هذه النظريّة تقوم بتأويل كلّ ما جاء تقريباً بشأن علاقة النبيّ بالله. ويمكن ردّ مسائل الوحي، ونزول الملائكة، وغير ذلك، إلى الأمور العاديّة الجارية بين أفراد البشر. غاية الأمر أنّ هذه الشؤون تتركّز في أيدي النوابغ والاستثنائيّين من البشر.

 

هذا التفسير يقع في النقطة المقابلة للنظريّة العامّيّة، وهو وإن كان لا يتوخّى إنكار النبوّة، إلّا أنه يرفض الإذعان بوجود حقيقةٍ ما وراء عقل الإنسان وروحه، وينكر الإيمان بأيّ بُعدٍ غير عاديّ[1].

 

3- نظريّة الاتّصال بالعالم الآخر:

ثمّة نظريّة ثالثة في هذا السّياق تنطلق من قناعةٍ فحواها أنّ لجميع أفراد البشر إدراكاً وحسّاً باطنيّاً مضافاً إلى العقل والحسّ العاديّين. وهذا الحسّ أو الشّعور الباطنيّ يختلف بين شخصٍ وآخر، فيكون قويّاً عند بعض الأشخاص،


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص56.

 

62


39

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

ويمكن أن يبلغ من القوّة بحيث يتّصل صاحبه اتّصالاً واقعيّاً بالعالم الآخر، وتنفتح له أبواب ذلك العالم بصورةٍ واقعيّة. ولا تقتصر هذه المسألة على فعاليّة الشّخص الوجوديّة، ولا على نبوغه الشّخصي، بل على امتلاكه الاستعداد للاتّصال بالعالم الذي هو خارج ذاته.

 

ويمكن التمثيل لهذا التصوّر بشخصين يتساويان في النبوغ الفرديّ، ولكنّ لأحدهما اتّصالاً ببلدٍ خارجيّ عن طريق الهاتف أو السّفر أو البريد، بحيث يطّلع على أخبارٍ خاصّة لا يعرفها صاحبه الذي يُساويه في النبوغ الفرديّ. وبهذا فما يختصّ به الأوّل هو الوسيلة والحسّ والاتّصال الذي يملكه مع الخارج[1].

 

وهذه النظريّة يتبنّاها حكماء الإسلام. وتقوم - كما أسلفنا - على أنّ لدى كلّ إنسان، وبدرجات مختلفة، استعداداً روحيّاً باطنيّاً للاطّلاع على عالمٍ وراء عالمنا، يكون مهيمناً ومسيطراً عليه، وأدنى درجات تلك الحالة هي ما يظهر في بعض الرؤى والأحلام، بينما أقوى درجاتها هي تلك الحالة الموجودة عند الأنبياء. وقد نصّت الروايات على أنّ الرؤيا الصادقة هي جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوّة. كذلك تُعدّ الإلهامات التي تحصل لبعض الناس ضرباً من ضروب الاتّصال بذلك العالم، ولكنّه في مرتبة متدنّية منه، حيث لا يشعر المُلهَم بعلّة الإلهام ولا بمصدره، كما ربّما قد يختلط بغيره.

 

تنتهي هذه النظريّة إذاً إلى أنّ الوحي هو عبارة عن حسٍّ وشعورٍ واستعدادٍ خاصّ، وهو نافذة تنفتح على الإنسان من عالمٍ آخر ترفده بالعلوم والحقائق. هو حالةٌ من الاتّصال الباطنيّ بعالَم الغيب، وهو لا يختلف أساساً عن بقيّة الرؤى والإلهامات التي تطرأ على البشر، من حيث الحقيقة والماهيّة، وإنّما يختلف من حيث الدرجة والمرتبة. وهو لا يختصّ بالأنبياء.

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص58.

 

63


40

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

فعلى سبيل المثال، لم يذكر اللهُ -تعالى- والدة عيسى ولا والدة موسى عليهما السلام في عداد الأنبياء، بيدَ أنّهما كانتا على اتّصالٍ وارتباطٍ وثيقٍ بالعالم الآخر، كما كانت الملائكة تظهر للسيّدة مريم عليها السلام وتتحدّث إليها: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[1].

 

وإمكان أن يكون غير النبيّ محدَّثاً، يكاد يكون من الأمور القطعيّة والثابتة في الإسلام.

 

ومن الثابت أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان يتلقّى مقداراً من الحقائق من عالم الغيب بدون واسطة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول في نهج البلاغة: "ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي...، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ، وأَشُمُّ رِيحَ النبوّة، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه"[2].

 

وقد ذكر حالته هذه للنبيّ فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ"[3]. وهذا الصّوت ليس من السّنخ العاديّ بحيث لو كان هناك غيره لسمعه.

 

لقد آمن قدماء الفلاسفة بوجود القدرة الروحيّة والاستعداد الباطنيّ في النفس الإنسانيّة كما يظهر من كلماتهم واستدلالاتهم. كما نجد من بين كبار علماء النفس التجريبيّ مَن توصّل إلى أنّ لدى الإنسان حسّاً باطنيّاً يستطيع من خلاله أن يتواصل مع أرواح وأماكن أخرى، وكأنّ ثمّة آباراً محفورة في الباطن متّصلة في ما بينها، وإنْ بدت في ظاهرها منفصلة ومستقلّة بعضها عن بعض، ولذا يعتقد "ويليام جيمس"[4] بوجود طريقٍ باطنيٍّ يمكّن الروح من الاتّصال بعالم الأرواح الأخرى.


 


[1] سورة آل عمران، الآيتان 42 - 43.

[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 192، ص300 - 301.

[3] المصدر نفسه.

[4] ويليام جيمس (William James (11 يناير 1842م- 26 أغسطس 1910م، فيلسوف وعالم نفس أمريكي، وأول معلّم يقدم دورة في علم النفس في الولايات المتحدة. يعتبر جيمس مفكّراً رائداً في أواخر القرن التاسع عشر، وأحد الفلاسفة نفوذاً في الولايات المتحدة، ومؤسّس علم النفس الأمريكي. من أشهر مؤلّفاته "مبادىء علم النفس" و"مقالات في التجربة الراديكاليّة"، وهي نصوص هامّة في الفلسفة، و"أصناف الخبرة الدينيّة"، وهو تحقيق في أشكال مختلفة من التجربة الدينيّة.

 

64


41

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

تنطلق نظريّة الحكماء من الإيمان بوجود عالمين واقعيّين، هما:

1- عالم الطبيعة، والذي هو عالم المادّة والجسميّة والحركة والتغيُّر والتبدّل.

 

2- عالم ما وراء الطبيعة، ولهذا العالم قهرٌ وسيطرة وفوقيّة واقعيّة على عالم الطبيعة، بحيث لا يُعدّ عالم الطبيعة أكثر من رشحٍ وظلٍّ له، وكلّ ما هو موجود في هذا العالم إنّما يُنزّل من ذلك العالم وهو معلولٌ له: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾[1].

 

ومن جانبٍ آخر، تقوم هذه النظريّة على الإيمان بأنّ وجود الإنسان لا يقتصر على هذا البدن المادّيّ وحده، بل له روح أيضاً، وهو من جهة استعداداته الروحيّة ذو وجهين:

1- وجه إلى الطّبيعة، ومن هذا الوجه يتلقّى الإنسان العلوم عن طريق الحواسّ التي هي بالأساس وسيلة ارتباطنا بالطّبيعة، وما يأخذه الإنسان بالحواسّ يستجمعه في خزانة الخيال وفي الذاكرة، ثمّ يدفع به إلى مرحلة أرفع، حيث يُسبغ عليه الكلّيّة والتّجريد والتّعميم.

 

2- ووجه تتسانخ فيه الرّوح مع عالم ما بعد الطّبيعة، فمع كلّ ترقٍّ يُحرزه الإنسان من هذا الوجه، يُمكنه أن يتواصل أكثر مع ذلك العالم ما بعد الطبيعيّ[2].

 

ارتقاء النفس ونزول الوحي

عادةً ما يُشبّهون روح الإنسان (ويعنون به روح العارف، حيث إنّ ما يقوله هو الحقّ حسب نظره) بنايٍ له فتحتان، والإنسان إنّما يعرف فتحةً واحدةً فقط، فعندما تنظر إلى النّاي لا تنظر إلّا إلى الفتحة التي تبعث الألحان والنّغمات،


 


[1] سورة الحجر، الآية 21.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص58 - 65، ص153.

 

65


42

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

فتظنّ أن هذا الفعل من عمل هذه الفتحة التي تنظر إليها وحسب، ولا تدري بأنّ للنّاي فتحةً أخرى مخفيّة بين شفتي العازف، وأنت لا تراها لأنّها مخفيّة بين شفتيه.

 

وعندما تريد نفس الإنسان وروحه أن تطلّ على عالم الغيب، فإنّها ترتقي من مرتبة الطبيعة نحو الأعلى إلى أن تصل إلى عالَم ما وراء الطبيعة، على أنّها تكتسب في كلّ مرتبة تصل إليها شكلاً ووضعاً خاصّاً يتناسب مع طبيعة المرتبة. وفي الجهة المقابلة فإنّ الحقائق التي تتنزّل من عالم ما وراء الطبيعة تتّخذ الأشكال المناسبة للعوالم التي تتنزّل إليها.

 

والذي يحصل في باب الوحي هو أنّ روح النبيّ ترتقي وتتّصل بحقائق ذلك العالم، ولا نستطيع أن نوضّح كيفيّة ذلك الاتّصال. وهذا الارتقاء يتلوه نزول، وهذا النزول هو ما يرتبط بنا ونلمسه من الوحي.

 

ولكن، كما أنّك تلتقط من الطّبيعة صورة حسّيّة معيّنة، ثمّ ترتقي درجاتها في روحك بعدئذ، فترتفع حتى تكتسب حالة العقلانيّة والكليّة، فكذلك روح النبيّ، تأخذ، بما تملكه من استعداد خاصّ، الحقائق وهي في عالم معقوليّتها وكلّيّتها، وعندما تهبط إلى مشاعر النبيّ فإنّها تلبس لباس المحسوسيّة، بحسب اصطلاحهم.

 

والشّيء نفسه الذي يلمسه واقعيّةً مجرّدة بقوّة باطنيّة، يراه عياناً واقعيّةً مجسّدة في أمرٍ محسوس، فيرى النبيّ جبرائيلَ عياناً وعلى حقيقته وبشكلٍ واقعيّ، ولكن مع أنّه يراه عياناً فإنّه قد تنزّل من ذلك العالم ليأتي إلى هذا العالم.

 

ثمّ إنّ الحقائق المدرَكة تتناسب مع ظرف وجودها ووعائه. فكما أنَّ الأمر الخارجيّ في الطبيعة له نحوٌ من الوجود المادّيّ والجسميّ، ثمّ عندما يُدرَك بحواسّ الإنسان يتّخذ شكلاً آخر (الصورة الحسّيّة) يتناسب مع الإدراك الحسّيّ، فإذا انتقل إلى عالم الخيال اتّخذ وضعاً جديداً، قبل أن يقوم العقل في مرتبته

 

66


43

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

بتجريده وتعميمه بما يتناسب ومرتبة العقل، كذلك الموجود في عالم ما وراء الطبيعة والمادّة، إذا ما تنزّل إلى مرتبة الحسّ والمادّة، فإنّه لا بدّ من أن يتّخذ الشكل المناسب لهذا العالم، فيظهر بصورة أمرٍ حسّيّ مُبصَر أو مسموع، ويراها النبيّ واقعاً مجسّداً في أمرٍ محسوس، وهذا ما يعبّر عنه بـ"نزول الوحي".

 

والنزول هنا هو نزولٌ واقعيّ، لأنّ ما يأتي من حقائق في عمليّة الوحي إنّما يأتي من عالمٍ له فوقيّة حقيقيّة وهيمنة واقعيّة على عالمنا، ولذا صحّ أن نعبّر عنه بأنّه نزول، غايته أنّه نزول معنويّ وليس نزولاً مكانيّاً، كالفوقيّة المعنويّة التي يذكرها القرآن لله -عزّ وجلّ-: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[1]، وليس الوحي وحده هو الذي عُبّر عنه بأنّه ينزل من ذلك العالم، بل كلّ ما في الدنيا على هذا المنوال، وذلك قوله -تعالى-: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾[2],[3].

 


[1] سورة الأنعام، الآية 18.

[2] سورة الحجر، الآية 21.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص153 - 161.

 

67


44

الدرس الرابع: ماهيّةُ الوحيِ وحقيقتُه

المفاهيم الرئيسة

- ثَمَّة ثلاثة تصورات في ماهيّة الوحي:

1. التصوُّر العامّيّ: وهو أنّ الله -سبحانه- إذا ما أراد أن يوصل تعاليمه إلى النبيّ فإنّه يرسل إليه مخلوقاً مجنّحاً يمكنه أن يطوي هذه المسافة الشّاسعة.

 

2. نظريّة التنويريّين: هي أنّ الوحي هو الانبثاق من عمق روح النبيّ إلى ظاهر فكره، بينما يمثّل الملائكة -حسب منطق هؤلاء- القوى الموجودة في الطّبيعة.

 

3. نظريّة حكماء الإسلام: تقوم نظريّة حكماء الإسلام في ماهيّة الوحي على أنّ لدى كلّ إنسان، وبدرجات مختلفة، استعداداً روحيّاً باطنيّاً للاطّلاع على عالمٍ هو وراء عالمنا.

 

•        الوحي هو حالةٌ من الاتصال الباطنيّ بعالم الغيب، وهو لا يختلف أساساً عن بقيَّة الرؤى والإلهامات من حيث الحقيقة والماهيّة، وإنّما يختلف عنها من حيث الدرجة والمرتبة.

 

•        إنّ الحقائق المدرَكة تتناسب مع ظرف وجودها ووعائه، فكما أنّ الأمر الخارجيّ في الطبيعة له نحوٌ من الوجود الماديّ والجسميّ، كذلك الموجود في عالم ما وراء الطبيعة والمادّة، فإنّه لا بدّ من أن يتّخذ الشكل المناسب لهذا العالم.

 

68

 


45

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

الدرس الخامس

المعجزة والنظريّات حولها (1)

مفهوم المعجزة - النظريّة التأويليّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى المفهوم اللغويّ والاصطلاحيّ للمعجزة.

2. يُحدّد حقيقة المعجزة من خلال القرآن الكريم.

3. يشرح النظريّة التأويليّة في تفسير المعجزة والردّ عليها.

 

70


46

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

تمهيد

من ثوابت الأديان أنّ الوحي قد نزل على الأنبياء. وقد تقدّم البحث في إمكانيّة الوحي، وأنّ ما ادّعاه الأنبياء من وحيٍ هو من سنخ تلك الموارد التي نُسب فيها الوحي إلى النحل وإلى أمّ موسى، بل وحتى إلى بعض الجمادات. غاية الأمر أنّ الوحي في الأنبياء يكون بدرجةٍ أقوى وأشدّ. وكذلك خصائص الوحي هي في ذاتها ممكنة ولا دليل على خلافها، بل إنّ وقوع الوحي، ولو بدرجة أدنى، يدلّ على ذلك. وبهذا المقدار يثبت إمكان وجود أصل الوحي بين البشر. أمّا البحث الإثباتيّ ومن هم الموحى إليهم، فهي قضيّة تحتاج إلى الآيات والبيّنات التي يأتي بها كلّ نبيّ على حدة، وهو ما يُطلَق عليه "بحث المعجزة".

 

ثمّ إنّ الأدلّة التي تدلّ على أصل النبوّة وضرورتها في الحياة البشريّة، لا تصلح لإثبات النبوّة الخاصّة، كنبوّة موسى وعيسى وإبراهيم ومحمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. من هنا، كان من الضروريّ أن نتناول المعجزة بتفصيل أكثر، فنبحث عن مفهوم المعجزة وإمكانها ووظيفتها من الناحية العامّة، ثمّ نبحث عن معجزة كلّ نبيٍّ بالخصوص، كالإعجاز القرآنيّ الخاصّ بنبوّة النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، والذي هو بحث عن معجزته على وجه الخصوص[1].


 


[1] الإعداد.

 

 

72


47

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

مسائل البحث في المعجزة

والبحث في المعجزة من الناحية العامّة يتعرّض لمسائلَ من قبيل:

1- تعريف المعجزة والآراء التي ذُكرت في تفسيرها.

2- إمكان المعجزة ووقوعها وما إذا ذُكِرت في القرآن الكريم صراحة.

3- وظيفة المعجزة وكيفيّة دلالتها على النبوّة.

4- الإشكالات التي تُثار حيال المعجزة.

 

هل تأتي المعجزة صدفة؟

يغلب على كتب المادّيّين تعريف المعجزة بنحوٍ يُفهم منه أنّها عبارة عن وقوع حادثة ما في العالم ولكن من دون سبب وعلّة، بحيث يترادف معنى المعجزة عندهم مع معنى الصدفة.

 

من الواضح أنّ الصدفة أمرٌ محال، وأنّ الإقرار بالصدفة من قِبَلِ الإلهيّين سوف يُلحِق الضرر بالاستدلال على وجود الله، والذي يستند - في ما يستند إليه - إلى الاعتقاد بأنّ الأشياء في عالم الطبيعة حادثة، وأنّ الله هو محدث الأشياء وعلّتها.

 

ومن جانبٍ آخر، سوف تفقد المعجزة وظيفتها في إثبات نبوّة أيّ نبيٍّ فيما لو استند خرق العادة إلى الصدفة، فإذا حصلت المعجزة من دون سببٍ وعلّة، فسوف تفتقد إلى المناسبة التي تجعل منها دليلاً على نبوّة مدّعي النبوّة.

 

ولذلك، كان تفسير المعجزة بما يرادف معنى الصدفة أمراً مخالفاً لمنطق الأديان[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص171 - 172.

 

 

73


48

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

تعريف المعجزة

1- المعجزة في اللغة:

ما يتحصّل من المعاجم اللغويّة في تفسير المعجزة أنّها ما يُعجز البشر أن يأتوا بمثله، أو فقل ما يقصر الآخرون عن الإتيان بمثله ولا يقدرون عليه[1]، ومن الملاحَظ أنّ هذا اللفظ (المعجزة) لم يرِدْ أصلاً في القرآن، وإنّما هو مصطلح استخدمه المتكلّمون، وعبّر عنه القرآن بـ"الآية"، أي العلامة التي تكون دليلاً على صدق دعوى النبيّ، فالنبيّ يدّعي الاتّصال بعالم الغيب، والمعجزة هي الدليل على صدقه في تلك الدعوى. وإنّما عبّر المتكلّمون عن الآية بالمعجزة، لأنّ من لوازم كون الشيء آيةً أن يعجز بقيّة الناس عن الإتيان بمثله، فقد تحدّى الأنبياء عليهم السلام أممهم أن يأتوا بمثل ما أتوا به وأبرزوا عجز أقوامهم عن مجاراتهم في ذلك.

 

ولكنّ العجز عن المجاراة في الأفعال لا يختصّ بالإعجاز النبويّ، بل ثمّة في كلّ اختصاصٍ علميٍّ أو أدبيٍّ أو صناعيّ مَن يُحرز قصب السبق في التفوّق على الآخرين في ذلك الاختصاص بحيث يعجزون عن مجاراته فيه، ومع ذلك لا يُعدّ عمله هذا معجزاً في الاصطلاح الكلاميّ، وإنْ كان معجزاً بالمعنى اللغويّ[2]. فما هو المعجز في الاصطلاح الكلاميّ؟

 

2- المعجزة في الاصطلاح:

الأمر المعجِز في الاصطلاح الكلاميّ هو ذلك الفعل الذي يتضمّن بُعداً غيبيّاً بحيث يكون خارجاً عن قدرة البشر، وهو ليس من قبيل الأعمال البشريّة التي يعجز بعضهم عن بلوغ بعض درجاتها الفائقة. وثَمَّ فرقٌ كبيرٌ بين أن نعدّ المُعجِز من سنخ العمل البشريّ بيدَ أنّه يتّصف بكونه عملاً


 


[1] الفراهيدي، العين، مصدر سابق، ج1، ص215.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص172 - 173.

 

74


49

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

من الدّرجة الأولى، وبين أن يكون المُعجِز خارجاً عن سنخ العمل البشريّ وفوق حدود القدرة الإنسانيّة[1].

 

وعلى سبيل المثال، فقد تعرّض القرآن لقضيّة شقّ البحر للنبيّ موسى بإشارة من عصاه، وإلى وقوف مياه البحر كالجدار ومروره هو وقومه، واتّباع فرعون له في البحر ثمّ غرق جيشه بأكمله. ومثل هذا الفعل لا يُمكن نسبته إلى تفوّقٍ بشريّ من الدّرجة الأولى بحيث يُقال إنّ بمقدور الجميع أن يأتوا بمثله، وهذه أعلى مرتبة من مراتبه[2].

 

وفي ضوء ما مرَّ، يتَّضح أنّ المعجزة: "هي فعلٌ وأثرٌ يأتي به النبيّ للتحدّي، أي لإثبات مدّعاه، ليكون علامةً على وجود قدرةٍ ماورائيّة في إيجاده، تفوق حدود الطاقة الإنسانيّة بشكل عام"[3].

 

المعجزة في القرآن الكريم

ذكرنا سابقًا أنّ القرآن الكريم تحدّث عن المعجزة بلفظ الآية التي تكون دليلاً على صدق دعوة النبيّ اتصّاله بعالمٍ وراء هذا العالم، ومن ذلك العالم يستمدّ العلم والمعرفة اللذَيْن يحتجّ بهما على من أُرسل لهم.

 

وقد صرّح القرآن بوجود مجموعةٍ من الآيات والبيّنات التي واكبت عمليّة بعث الأنبياء، ففيه ذكرٌ لعواصف عاتية وضروب مدهشة من الهلاك الذي حلّ بالأمم إثر الدعاء، وكذلك فيه ذكرٌ لقصّة ناقة صالح التي عبّر عنها القرآن بالآية نظراً لأبعادها غير العاديّة ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ﴾[4]. وكذلك ورد ذكر معجزات النبيّ موسى عليه السلام من تحوّل العصا

 

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص174 - 175.

[2] المصدر نفسه، ص175 - 176.

[3] المصدر نفسه، ص172.

[4] سورة الأعراف، الآية 73.

 

75


50

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

إلى ثعبان، واليد البيضاء، وانفلاق البحر، والآيات التسع ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾[1]. وكذلك معاجز النبيّ عيسى عليه السلام، كأن يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ونحو ذلك ممّا لا يمكن تأويله بأيّ وجهٍ من الوجوه بذريعة أنّه كناية عن أمرٍ عاديٍّ مألوف[2].

 

وعليه، فإنّ ثمّة مجموعة من الآيات الصريحة التي تدلّ على المعجزة والتي لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها، بل إنّ مسألة المعجزة وخرق العادة تُعدّ من المتواترات، فكلّ نبيٍّ ظهر وادّعى الرسالة كان مُدّعياً للمعجزة أيضاً، ولم يكن بوسعه أن يسكت عنها[3].

 

النظريّات المفسّرة للمعجزة

لقد تعرّض المسلمون لمحاولة تفسير المعجزة وتعليلها بما يتناسب مع إيمانهم بها، وقدّموا في سبيل ذلك نظريّات عدّة، من قبيل النظريّة التأويليّة، والنظريّة التعاقديّة، ونظريّة الحكماء المسلمين. وعموماً، هناك ثلاث نظريّات أو أنماط تفسير بشأن المعجزة[4]، وهي:

النظريّة التأويليّة

أ-مفهوم النظرية التأويليّة:

يحاول بعضهم تأويل المعجزة بما يؤدّي إلى نفيها، من قبيل التفسير التنويريّ الذي تبنّاه بعضهم في العصر الأخير، وابتغوا من خلاله تأويل الأمور غير العاديّة التي ذكرها القرآن، بصيغةٍ تكتسب حالة عاديّة[5].


 


[1] سورة الإسراء، الآية 101.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص176 - 177.

[3] المصدر نفسه، ص163.

[4] المصدر نفسه، ص178.

[5] المصدر نفسه، ص178 - 180. ويعتبر أحمد خان الهندي (1817 - 1898م) من روّاد هذا الاتجاه.

 

76


51

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

وهذه النظريّة تعتبر المعجزات ضرباً من الخرافات التي أُلصقت بالإسلام في ما بعد، وتحاول أن تُسبِغ على ما حصل لموسى عليه السلام من عبور البحر، وتحوّل عصاه إلى أفعى، صبغةً عاديّةً مألوفة، إذ تستخدم تأويلاتٍ وتفسيراتٍ بعيدة جدّاً. ومن الواضح أنّ هذا التوجيه مساوق لإنكار ما ذكره النبيّ في هذا المجال، فإذا ما آمن الإنسان بما في القرآن، فلا يسعه أن يُقنِع نفسه بمثل هذه التوجيهات، والتي تؤدّي لا محالة إلى إنكار المعجزة.

 

وقد استند هؤلاء إلى دليلين من القرآن نفسه لتأييد وجهة نظرهم:

الدليل الأوّل: وجود مجموعةٍ من الآيات التي تشير إلى عدم استجابة النبيّ لِطلبِ خرق العادة، مصرّحاً بأنّه بشرٌ لا غير، مثله مثل سائر الناس، كقوله -تعالى-: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾[1].

 

وكقوله - عزّ وجلّ -: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً  * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾[2].

 

الدليل الثاني: وجود مجموعةٍ من الآيات القرآنيّة التي تشير إلى نظام الخلقة والتكوين بعنوان "السّنن الإلهيّة"، بل وتصرّح هذه الآيات بأنّ السّنن الإلهيّة لا تتغيّر، كقوله -تعالى-: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[3]، وقوله: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾[4].

 

وكلمة "لن" تفيد النفي مؤبّداً،


 


[1] سورة الكهف، الآية 110.

[2] سورة الإسراء، الآيات 90 - 93.

[3] سورة الأحزاب، الآية 62.

[4] سورة فاطر، الآية 43.

 

77


52

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

والمعجزة بمعنى خرق العادة هي تبديلٌ للسنّة الإلهيّة، ولذلك فهي منفيّةٌ بصريح الآيات[1].

 

ب-الرّدّ على النظريّة التأويليّة:

ينبغي التأمّل في الآيات التي يصرّح الأنبياء فيها أمام الناس بأنّهم بشرٌ مثلهم، هل هي تُظهِر عجز الأنبياء عن الإتيان بالمعاجز التي يطلبها الناس، كما يدّعي أصحاب نظريّة التأويل؟ وإذا لم يكن ثمّة تناقضٌ بين هذه الآيات وآيات المعجزات، فكيف يتسنّى الجمع بينهما؟

 

تقدّم أنّ من آيات هذا القسم التي يردّدها أغلب من يُنكِر المعجزة: الآية التي تقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾[2]، وهي تُصرّح بأنّ النبيّ بشرٌ مثل الناس، له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا فرق بينه وبينهم إلّا الوحي.

 

وهناك آيةٌ أخرى أكثر تفصيلاً، حيث جاء في سورة بني إسرائيل (الإسراء) بشأن النبيّ الأكرم وقريش قوله: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا  * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً  * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾[3].

 

لقد طلب القرشيّون من النبيّ ستّ معجزات، فكان جوابه: "ما أنا إلّا بشر رسول". ومنكرو المعجزة يتمسّكون بجواب النبيّ في هذه الآية لإنكار المعجزة.

 

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص178 - 180. ويعتبر أحمد خان الهندي (1817 - 1898) من روّاد هذا الاتجاه.

[2] سورة الكهف، الآية 110.

[3] سورة الإسراء، الآيات 90 - 93.

 

78


53

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

ويرِدُ على هذا الاستدلال أنّ هذه الآيات يمكن تفسيرها بما لا يتنافى مع المعجزات، وقد ذكروا ثلاث بيانات لتوضيح ذلك:

البيان الأوّل: إنّ الاستجابة لطلب المعجزة إنّما تكون للطلب الذي تكمن خلفه دوافع إيمانيّة. وهذه الطلبات التي تقدّم بها هؤلاء لا تكمن وراءها دوافع إيمانيّة، فلم تكن بحيث لو استجاب النبيّ لهم لآمنوا به. كيف، وقد رأى هؤلاء المعجزات الكافية من النبيّ؟ ولو كان لديهم الاستعداد للإيمان لما ابتكروا هذا النوع من المطالب العجيبة. ونحن عندما نتأمّل في ما طلبه هؤلاء منه نجده يتوزّع بين ثلاثة أشياء:

1- طلب المحال، من قبيل إحضار الله والملائكة.

 

2- طلب ما لا معنى له، فقد طلبوا منه أن يرتقي إلى السماء ويأتي بخطاب من قِبَلِ الله، مع أنّ مَن يقدر على ذلك يقدر على إيجاد الخطاب بنفسه خُفيةً عنهم، وهذا يحكي عن حمق الطالب.

 

3- طلب المصلحة والمقايضة، كطلبهم تفجير ينبوعٍ من الأرض، وما ينشدونه من رشوةٍ ومالٍ مقابل أن يؤمنوا له لا به، حيث قالوا: "لن نؤمن لك"، ولم يقولوا: "لن نؤمن بك". وبإزاء منطق المقايضة هذا، جاء الجواب: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾. لقد جئتكم بالإيمان بالله ربّي، ولست بصدد القيام بمقايضةٍ للحصول على نفعٍ خاصٍّ بي. وبذلك يتَّضح أنّ جوابه لا ينفي عن النبيّ الفعلَ الخارق للعادة، بل معناه أنّ النبيّ ليس بصدد التعامل النفعيّ والمقايضة الشخصيّة مع أحد، ذلك أنّه: ﴿هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾.

 

البيان الثاني: إنّ النبيّ لم يكن لديه مصنعٌ لإنتاج المعجزات، وإنّما المعجزة آية الخالق، والأنبياء لا يأتون بفعلٍ يخالف السنّة الإلهيّة المألوفة إلّا إذا كان

 

79


54

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

ثمّة ضرورةٌ تستوجب ذلك، بحيث إذا لم يفعلوا ضلّ الناس، وعندها يأتون بهذه الأفعال بحكم ضرورتها.

 

البيان الثالث: إنّ المطلب الذي جاء به النبيّ كان واضحاً، وإذا كان واضحاً فلا حاجة بعدُ إلى معجزةٍ حتّى يستجيب لطلبهم.

 

وعلى جميع هذه التقادير، فإنّ تفسير الآيات لا يتنافى مع وقوع المعجزات[1].

 

أمّا الدليل الثاني لأصحاب هذه النظريّة، فقد أورَدَ بعضهم عليه بأنَّ الذي لا يتغيّر - بحَسَب منطق القرآن - هو قانون الثواب والعقاب، وأمّا قانون الخِلقة ونظام التكوين فلا دليل في القرآن على أنّه لا يتغيَّر، فالسنن في القرآن تختصّ بالمسائل التي ترتبط بتكليف العباد، وسنّة الله في إنزال العقوبة بالمسيء وإثابة المحسِن لن تتغيَّر أبداً. ويؤكِّد هذا الأمر السياق القرآنيّ للآيات التي تحدَّثت عن عدم تغيّر السنن الإلهيّة[2].

 

إلا أنّ هذا الإيراد قابل للمناقشة، كما إنّ الاستدلال بآيات السنن على امتناع المعجزة غير تامّ، وسيأتي توضيح الأمر في المراد من آيات السنن في سياق البحث عن النظريّات الأخرى في المقام، وبه يتَّضح فساد هذه النظريّة.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص193 - 196.

[2] المصدر نفسه، ص187.

 

80


55

الدرس الخامس: المعجزة والنظريّات حولها (1)

المفاهيم الرئيسة

•        إنّ الأدلّة التي تدلّ على أصل النبوّة وضرورتها في الحياة البشريّة، لا تصلح لإثبات النبوّة الخاصّة، كنبوّة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

•        الأمر المعجِز، في الاصطلاح الكلاميّ، هو ذلك الفعل الذي يتضمّن بُعداً غيبيّاً بحيث يكون خارجاً عن قدرة البشر.

 

•        لقد صرّح القرآن بوجود مجموعةٍ من الآيات والبيّنات التي واكبت عمليّة بعث الأنبياء، وقد عبّر المتكلّمون عن هذه العلامات والقرائن بالمعجزة.

 

•        النبوّة، في القرآن الكريم، قرينة المعجزة، فليس من نبيٍّ دعا النّاس إلى قبول دعوته والإيمان بها إلّا وقد تواءمت دعوته مع ضربٍ من المعجزة، أو مع آية وبيّنة، بحسب تعبير القرآن.

 

•        حاول بعضهم تأويل المعجزة بما يؤدّي إلى نفيها، من قبيل التفسير التنويريّ الذي تبنّاه بعضهم في العصر الأخير.

 

•        تحاول النظريّة التأويليّة أن تُسبِغ على المعجزات صبغةً عاديّةً مألوفة، وتستخدم تأويلاتٍ وتفسيراتٍ بعيدة جدّاً، مستدلّة على ذلك ببعض الآيات القرآنيّة.

 

•        لا تدلّ الآيات القرآنيّة المذكورة على ما ادّعاه أصحاب الاتّجاه التنويريّ، وإنّما تتلاءم تمام التلاؤم مع التفسير المشهور للمعجزة.

 

81

 


56

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

الدرس السادس:

المعجزة والنظريّات حولها (2)

النظريّة الوضعيّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح النظريّة الوضعيّة في تفسير المعجزة.

2- يذكر الإشكالات الأساس التي ترد على النظريّة الوضعيّة.

3- يستدل على بطلان النظريّة الوضعيّة.

 

 

82

 


57

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

تمهيد

تقدّم، في الدرس السابق، الحديث عن النظريّة التأويليّة في تفسير المعجزة ونقدها، ونتعرّض في هذا الدرس لبيان نظريّة الأشاعرة، في هذا الموضوع، والتي سنصطلح عليها بالنظريّة الوضعيّة مع نقدها.

 

النظريّة الوضعيّة

تقف هذه النظريّة التي تعود إلى متكلّمي الأشاعرة، في مقابل نظريّة التأويل، ويفسّر أصحابها القانون الطبيعيّ بأنّه "مشيئة الله"، وإذا أراد الله أن يُجري الأمر على نَسَقٍ آخر من خلال الإتيان بالمعجزة، فهذه أيضاً "مشيئته". إنّ جميع ما يقع في العالم هو آية لله -تعالى-، إلَّا أنّ بعضها يشير إلى قدرة الخالق فحسب، بينما بعضها الآخر يشير مضافاً إلى ما تقدّم، إلى صدق الآتي بها في ادّعائه النبوّة. وهذا النوع من الآية هو ما يعبّر عنه بالمعجزة.

 

وعليه، فالمعجزة آيةٌ من الله تَظهَر على يد النبيّ صاحب المعجزة، فإذا ما أحيا النبيّ ميتاً، فهذا الإحياء ليس فعل النبيّ، بل هو فعل الله المباشر، ليُثبت للنّاس أنّ هذا النبيّ على حقّ، ذلك لأن جميع ما في الوجود هو آيات الله.

 

لقد اقتضت مشيئة الله أن يكون نظام الوجود بهذا الشكل الذي هو فيه.

 

84

 


58

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

وهذه الظّواهر جميعاً تتحرّك في إطار قوانين وضعها الله لهذا العالم. وفي ضوء ذلك، ليس بمقدورنا أن نفعل شيئاً خلافاً للقانون الذي وضعه الله.

 

إنّ التّحليق في الأعالي دون وسيلة هو أمرٌ يتعارض مع القانون الإلهيّ، ولكنّ الأمر ليس كذلك بالنّسبة إلى الله الذي وضع القانون بنفسه، حيث اكتسب القانون صبغته القانونيّة بمشيئته وإرادته، فالله هو الذي أراد أن يكون الأمر كذلك، وفي اللحظة التي لا يُريد لا يكون الأمر كذلك.

 

وبناءً على ما تقدّم، لا يبقى هناك كلام في المعجزة حتى نتوافر على بحثه، ولا معنى للتساؤل أنّ المعجزة أمرٌ محال أم لا، إنّ الله -تعالى- هو الذي وضع القوانين الجارية في هذا العالم ومتى شاء فإنه يرفعها.

 

لتقريب الفكرة إلى الذهن: هناك فرقٌ بين القوانين العقليّة التي تجري في الرياضيّات والفلسفة وبين القوانين العلميّة، فالقوانين العقليّة يكشف الذهن عن ضرورتها وحتميّتها، وأنّ المعلول لا بدّ من أن يتأتّى عن طريق العلّة بالضرورة. أمّا في القوانين العلميّة والطبيعيّة، من قبيل أنّ المعادن تتمدّد على إثر الحرارة، فلا يمكن للذهن أن يكشف عن حتميّتها وضرورتها. والعلوم لا تشير إلى وجود سنّة في العالم مفادها أن كلّ حادثة لا بدّ من أن تقع عقب حادثة أخرى وفق نظامٍ معيّن، بل إنّ مفاد منطق العلوم يشير إلى أنّ العالم يجري بهذه الكيفيّة، ولا يشير إلى أكثر من توالي القضايا.

 

إذاً، فالقوانين العلميّة هي قوانين نسبيّة، والعلم عاجزٌ عن إثبات حتميّتها واضطرادها. وبتعبيرٍ آخر: هي من قبيل القوانين البشريّة الوضعيّة. ومعنى الوضعيّة هنا هو أنّ الله قد حدّد مواصفاتٍ معيّنة للأشياء، فأراد للنّار - مثلاً - أن تكون بهذه الخاصّيّة، وأراد للحرارة والجسم أن يكونا بتلك الخاصّيّة. وإنّما صارت الحياة بهذه الخصائص لأنّ الله هو الذي وضع ذلك، وما دام الأمر كذلك فلا يمكننا التخلّف عن ذلك القانون، لأنّ في ذلك مصادمةً مع المشيئة الإلهيّة.

 

ولكنّ الأمر

 

85

 


59

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

ليس كذلك بالنسبة إلى الله الذي لا يستحيل عليه ذلك، فإذا شاء فإنّه يُغيّر قانونه، لأنّ يديه ليستا مغلولتين، ومنطق "يد الله مغلولة" إنّما هو منطق اليهود[1].

 

وعليه، فإذا آمنّا بوجود الله حقّاً، فعندئذٍ سنقول إنّ النبيّ الذي يدّعي الوحي قد أتى بفعلٍ هو على خلاف السنّة المألوفة في العالم، والله إنّما فعل هذا خلافاً للسنّة المألوفة لكي يكون هذا الفعل علامةً على أنّ مدّعي النبوّة مبعوثٌ من عنده، ولأجل ذلك، فهو سبحانه يقوم فجأةً بتغيير تلك السنّة وذلك القانون ويُخرجه عن نطاقه المألوف.

 

من الواضح أنّ هذا المنطق يُفضي إلى رفض قانون العلّيّة من الأساس، فضلاً عن الإذعان بالضرورة القائمة بين العلّة والمعلول، أي القول بأنّ العلّة الخاصّة لا توجد إلّا معلولاً خاصّاً، وأنّ المعلول الخاصّ يوجد فقط من علّة خاصّة لا غير.

 

ويفضي إلى القول بأنّ وقائع العالم ليست سوى مجموعة من المسارات الثّابتة والمتّسقة التي لا تتّسم بالضّرورة من وجهة نظر العلم، فيمكن للعلّة أن تصير معلولاً، كما يمكن للمعلول أن يصير علّة، أو أن تُصبح علّة الشيء علّةً لشيء آخر.

 

وعلى أساس هذا المنطق، يرى الأشاعرة أنّ الإنسان الذي يؤمن بوجود الله، وأنّ الله قادر متعال، فعّال لما يشاء، وأنّه على كلّ شيءٍ قدير، يرون أنّ مثل هذا الإنسان يجب عليه أن يُذعن للقول بعدم وجود قانون جزميّ في العالم، لأنّنا إذا ما قُلنا بوجود القانون الجزميّ فقد حدّدنا قدرة الله وإرادته، وقُلنا إنّ الله مضطرّ لأن يتّبع هذا القانون أيضاً.

 

وبحسب رأي أصحاب هذا المنطق، فالقوانين الطبيعيّة هي قوانين وضعيّة بشكلٍ كامل. لا يسعنا أن ننقض تلك القوانين، ونحن مُجبَرُون على اتّباعها. أمّا

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص181 - 187.

 

86


60

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

بشأن واضعها -الذي هو الله- فالأمر يختلف، إذ هو الذي وضعها بهذا الشكل، وهو الذي ينقضها[1]، ومن هنا فإنّ معجزات الأنبياء هي أحد الموارد الاستثنائيّة في قانون الطّبيعة، وموارد الاستثناء في قانون الطّبيعة كثيرة[2].

 

خلاصة القول

إنّ نمط التفكير الفلسفيّ هو الذي يعقّد مسألة تفسير المعجزة وتعليلها، فحينما نقول بوجود رابطة ضروريّة بين الأشياء، ثمّ نقول إنّ المعجزة جاءت على غير مجراها الطبيعيّ، فمعنى ذلك أنّ المعلول يوجَد ولكن من غير طريق علّته.

 

ولذلك، فإنّ إشكاليّة المعجزة تتأتّى عن طريق الفلسفة لا عن طريق العلم، فأقلّ ما يُقال عن العلم إنّه يلتزم جانب الصمت حيال المعجزة، لا أنّه يدّعي استحالتها. أمّا الفلسفة فهي تقرّر القضايا بصيغةٍ يُفهَم منها أنّ المعجزة ونقض القانون الطبيعيّ أمران محالان[3].

 

أمّا بناءً على نظريّة الأشاعرة، فلا وجود لقانون ثابت في عالم الطبيعة لا يقبل التغيير، وإنّما يرتبط الأمر بالمشيئة الإلهيّة، وإذا كان الأمر كذلك فلن تكون ثمّة حاجة إلى أن نسعى وراء معرفة سرّ المعجزات، إذ لن يكون هناك سرّ، بل هي مشيئة الله[4].

 

الردّ على النظريّة الوضعيّة

تدّعي هذه النظريّة - كما تقدّم - أنّ القوانين الطبيعيّة قوانين وضعيّة، وأنّ الله وضع هذه القوانين بهذه الكيفيّة، أو أنّ العادة الإلهيّة قد جرت على أن يُخلَق هذا الأثر عقب هذا المؤثِّر، دون أن يكون هذا الأثر أثراً له حقيقة، وإنّما يُتوهَّم


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص209.

[2] المصدر نفسه، ص207 - 211.

[3] المصدر نفسه، ص213.

[4] المصدر نفسه، ص183.

 

87


61

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

أنّ هذا أثرٌ وذاك مؤثِّر، ففي اللوحة التّمثيليّة التي نراها على مشهد الوجود، نحن - في الواقع - من أطلق على شيءٍ عنوان المؤثِّر، وعلى الآخر عنوان الأثر، من دون أن يكون الأمر في واقعه كذلك، وإنّما ذاك الذي يكمن وراء الحجاب هو الذي أوجد المؤثِّر أوّلاً وأوجد الأثر تالياً لذلك المؤثِّر، ثمّ ظننّا أنّ ثمّة رابطةً بين هذا المؤثِّر وذاك الأثر.

 

هذا، وقد يسوِّغ بعضهم هذا المنطق بأنّ الله -سبحانه- أوجد هذا الوضع بهذا النّظم والترتيب لأنّ المصلحة تستوجب ذلك، وإلا لأفضى ذلك إلى الهرج والمرج ولاختلّ كلّ شيء، ومن ثَمَّ فإنّ المصلحة توجب أن يكون وضع العالم على هذه الشاكلة. وفي ضوء ذلك، فإذا ما استوجبت المصلحة خلاف ذلك في موضعٍ استثنائيّ فإنّ الوضع يتغيّر مباشرةً.

 

بيدَ أن هذا النّمط من التفكير يفضي إلى أن تفقد المصلحة مفهومها، إذ عندما يُقال إن الله قد فعل فعلاً ما من أجل مصلحةٍ معيّنة، فهذا يعني أنّ الأثر المقصود من هذا الفعل سوف يترتّب عليه لا محالة، وأنّ هناك رابطةً ذاتيّةً بين الفعل وأثره[1].

 

ينبغي أن تكون ثمّة علاقةٌ بين الوسيلة والنّتيجة كي يُمكننا القول إنّ هذا الفعل أُنجِز لأجل تلك النتيجة. أمّا إذا لم تكن ثمّة أيّ رابطة ذاتيّة بين الأشياء، من الأساس، فلا معنى للمصلحة في العالم. ولذلك، فعندما نقول: "إنّ الله حكيم"، فمعناه أنّه يفعل الفعل على طبق المصلحة، وأنّ ثمّة هدفاً من العمل، وهذا الهدف يُنجِزُه من خلال وسيلته المحدّدة[2].

 

أمّا إذا اعتقدنا بعدم وجود قانون، وأنّ الأمر وضعيّ، وأنّ الأثر لا يرتبط في وجوده بالمؤثِّر، وأنّنا نحن الذين تواضعنا على أن يكون هذا الشيء هدفاً وذاك


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص213 - 214.

[2] المصدر نفسه، ص215.

 

88


62

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

وسيلة، إذا كان الأمر كذلك، فلا معنى لأن نقول إنّ الله قد وضع الأمور بهذه الكيفيّة لحكمةٍ، إذ لا معنى للحكمة حينئذٍ.

 

أجل، قد يكون ثمّة معنى للحكمة إذا ما آمنّا بوجود رابطة بين العلل والمعلولات، والأسباب والمسبّبات. وكذلك إنّما تكون المصلحة في ما إذا انعقدت العلاقة بين الأشياء. وإلّا فلا معنى للزوم الهرج والمرج إذا كنّا لا نبلُغ النتائج عن طريق الوسائل، بل كنّا نصل إلى أيّ نتيجةٍ نبتغيها من أيّ وسيلة شئنا[1].

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص209.

 

89


63

الدرس السادس: المعجزة والنظريّات حولها (2)

المفاهيم الرئيسة

•        تقع النظريّة الوضعيّة، التي تعود إلى متكلّمي الأشاعرة، في مقابل نظريّة التأويل، ويفسّر أصحابها القانون الطبيعيّ بأنّه "مشيئة الله"، وإذا أراد الله أن يُجريَ الأمر على نسقٍ آخر من خلال الإتيان بالمعجزة، فهذه أيضاً "مشيئته".

 

•        المعجزة آيةٌ من الله تَظهَر على يد النبيّ صاحب المعجزة لإثبات نبوّته، فإذا ما أحيا النبيّ ميتاً، فهذا الإحياء ليس فعل النبيّ، بل هو فعل الله المباشر.

 

•        لقد اقتضت مشيئة الله أن يكون نظام الوجود بهذا الشكل الذي هو فيه، وهذه الظّواهر جميعاً تتحرّك في إطار قوانين وضعها الله لهذا العالم.

 

•        يمكن تقريب نظريّة الأشاعرة من خلال ملاحظة الفرق بين القوانين العقليّة والقوانين العلميّة، فالقوانين العقليّة يكشف الذهن عن ضرورتها وحتميّتها. أمّا القوانين العلميّة والطبيعيّة، من قبيل أنّ المعادن تتمدّد على إثر الحرارة، فلا يمكن للذهن أن يكشف عن حتميّتها.

 

•        إنّ نمط التفكير الفلسفيّ هو الذي يُعقّد مسألة تفسير المعجزة وتعليلها، فحينما نقول بوجود رابطة ضروريّة بين الأشياء، ثمّ نقول إنّ المعجزة جاءت على غير مجراها الطبيعيّ، فمعنى ذلك أنّ المعلول يوجَد ولكن من غير طريق علّته.

 

 

90


64

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

الدرس السابع:

المعجزة والنظريّات حولها (3)

نظريّة الحكماء المسلمين

 

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح نظريّة الحكماء المسلمين في تفسير المعجزة.

2- يفسّر العلاقة بين المعجزة وقوانين الطبيعة.

3- يتعرّف إلى شبهة المحدوديّة وكيفيّة الردّ عليها.

 

92

 


65

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

تمهيد

اعتمد الفلاسفة والحكماء المسلمون على مجموعةٍ من القواعد العقليّة لتفسير ظاهرة المعجزة. وقد تمكّنوا بفعل الدقّة والتّحليل المنطقيّ من أن يشرحوا العلاقة بين الفعل الإلهيّ والفعل الإنسانيّ. ولم تعد القضيّة محصورةً في إطار الأفعال العظيمة، ذلك أنّ كلّ فعلٍ يقوم به الإنسان، سواءٌ أكان عاديّاً أم خارقاً، لا يُمكنه أن يخرج عن القانون العامّ للوجود في ظلّ الحكمة الإلهيّة المطلقة.

 

نظريّة الحكماء المسلمين

لقد خلق الله -تعالى- جميع عوالم الوجود بناسوتها وملكوتها وما فوق ذلك، وجعل العلاقة بين مراتبها وأجزائها ضمن ما نُسمّيه بالأسباب والقوانين التي يُمكن كشفها والتعرّف إليها بمعزلٍ عن مستوى القدرة المطلوبة لهذا الكشف.

 

ويؤمن الحكماء بأنّ المعجزة هي من الأفعال التي تندرج ضمن القوانين التي تبقى مجهولةً بالنّسبة إلى النّاس، لكنّ أصحاب الوحي من الأنبياء يقدرون على اكتشافها واستعمالها. ومعنى ذلك أنّهم يتمتّعون بنوعين من القدرة: القدرة على الكشف، والقدرة على التّسخير والاستعمال.

 

ولا شكّ في أنّ استخدام الأنبياء للمعاجز يأتي في سياق دورهم الأساس في

 

94

 


66

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

هداية المجتمعات البشريّة. ولهذا فلن يكون استعمالهم لهذه القدرات إلّا بما يخدم المهمّة والهدف الذي بُعثوا من أجله، بل إنّ عديداً من أسرار المعجزات لا يمكن فهمه إلّا في ضوء هذه القضيّة بالذّات.

 

ويعتقد الحكماء المسلمون بأنّ القانون الواقعيّ للعالم لا يتغيّر، وإنّما الذي يقبل التغيير هو الاستنباطات والأفهام البشريّة.

 

إنّ إثبات عدم تغيّر القانون الواقعيّ للعالم إنّما يقع على عهدة الفلسفة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك بالطريق العلميّ. وحيث إنّ الدليل الفلسفيّ يدلّ قطعاً على أنّ القوانين الواقعيّة للوجود لا تتغيّر، فسنصل عندئذٍ إلى تعليل وقوع المعجزة وتفسيره بنحوٍ لا يستلزم تغيّر القانون، وسنكتشف أنّ المعجزة هي عبارة عن هيمنة قانونٍ على قانونٍ، وهي ليست إبطالاً لقانون[1].

 

بناءً على نظريّة الفلاسفة هذه، لا يمكن للقوانين الطبيعيّة أن تكون من قبيل القوانين البشريّة التعاقديّة والوضعيّة. ففي الوقت الذي يكون للمعجزة فيه دلالةٌ على أنّها "آية إلهّية"، وأنّها أمرٌ غير عاديّ خارجٌ عن حدود الطّاقة البشريّة، نجد أنّها ترتبط بالقوانين التي تتحرّك في العالم، والتي هي سلسلةٌ من القوانين القطعيّة والضروريّة. وحينئذٍ يكون من المنطقيّ البحث عن سرّ المعجزات، وبيان كيفيّة عدم تعارض المعجزة مع جزميّة القوانين الطبيعيّة. وهذا على عكس أصحاب النظريّة التأويليّة، الذين لا يؤمنون بالأساس بوقوع المعجزة حتّى يسعوا وراء الكشف عن سرّها، وكذلك أصحاب النظريّة الوضعيّة الذين لا يؤمنون بوجود سرٍّ للمعجزة أساساً، وإنّما يفسّرونها على أنّها أمر تعاقديّ، والأمر التعاقديّ لا يحتاج إلى سرّ[2].

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص199 - 200.

[2] المصدر نفسه، ص188.

 

95


67

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

المعجزة ومبدأ العلّيّة

لا يُمكن إنكار قانون العلّيّة العامّ بناءً على ما صرّح القرآن الكريم به، فقد أقرّ القرآن بأنّ حقائق العالم قائمةٌ على أساس قانون العلّية العامّ، وهو إذ يذكر الآيات الكونيّة فإنّما يعرضها في سياقٍ من التعليل، كأن يقول إنّ الله بعث المطر لكي تُنبت لكم الأرض نباتاً، وهو إذ يبيّن حكمة المولى -تعالى- فإنّما يبيّنها من خلال منطق الأسباب والوسائل، فيقول إنّه -سبحانه- قد خلق الشمس والقمر والنجوم والرياح والأمطار لما تحظى به هذه الأسباب من تأثيرٍ وآثارٍ وخصائص، حيث سخّرها بما تحمل من خواصّ، لحاجة الإنسان إليها.

 

إنّ لكلّ شيءٍ في الطّبيعة قانوناً لا يتخلّف عنه، بيدَ أنّ ثمّة فرقاً بين العلّة التي نألفها عن طريق العادة وبين العلّة الواقعيّة، إذ إنّ العلّة التي عدّها العلم البشريّ علّة قد لا تكون هي العلّة الواقعيّة، بل غطاءً على العلّة الواقعيّة، والعلوم الإنسانيّة تسير في طريق التكامل، وكلّما تقدّمت العلوم يكتشف الإنسان أنّ ما كان يحسبه علّة ليس بعلّة وأنّ العلة شيءٌ آخر.

 

للعلّامة الطباطبائيّ بحثٌ حول المعجزة طرحه في تفسير الميزان، وهو يؤكّد فيه على أنّ القرآن الكريم قد آمن بمبدأ العلّيّة العامّ، وقد استدلّ على ذلك بما ورد في القرآن الكريم من آيات بشأن القدَر، كقوله -تعالى-: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾، فهذا القَدْرُ ليس كمّيّاً بحيث يكون له الحجم الكذائيّ مثلاً، وإنّما يعني أنّه وضع كلّ شيء في نطاق مرتبةٍ من الوجود. وبالتالي فأَنْ يكون لكلّ شيءٍ في هذا الوجود قدرٌ، إنّما يعني أنّ له مقاماً معلوماً في هذا العالم لا يتخلّف عنه، فله علّته الخاصّة به، وله زمانه ومكانه.

 

يقول -تعالى-: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾، فلا مانع لأمر الله ولا رادع، ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[1].


 


[1] سورة الطلاق، الآية 3.

 

96


68

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

وفي الوقت نفسه الذي يفعل الله فيه ما يشاء، فإنّه لا يفعل شيئاً خارج قدر ذلك الشيء، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾[1]، أي لا نوجد ما نوجد إلّا بقدر محدّد.

 

ومن هنا، فلا وجود لمعجزةٍ خارجةٍ عن نطاق القانون الطبيعيّ الواقعيّ (وليس القانون الذي يعرفه البشر، وإلّا فالقانون الذي يعرفه الإنسان قد يكون هو نفسه قانون الطبيعة وقد لا يكون)، ولكنّ التوسّل بذلك القانون، أي كشفه والهيمنة عليه والاستفادة منه، يقترن بنوعٍ من القدرة الغيبيّة الماورائيّة، إذ ثمّة فرقٌ بين نقض قانونٍ ما، وبين هيمنة قانونٍ على قانون.

 

وعادةً ما يُذكر لهذه الحالة مثال، فحواه أنّ للبدن قوانين معيّنة من جهة التّركيبات والأجهزة، وعندما يريد الطّبيب أن يستفيد من القوانين البدنيّة والمادّيّة فلا مفرّ له من الاستفادة من هذه القوانين. وفي الوقت نفسه هناك مجموعةٌ أخرى من القوانين الروحيّة والنفسيّة في الإنسان يُمكن أن تؤثّر في البدن، بحيث يُمكن لمريضٍ، على سبيل المثال، أن يلمس في روحه نشاطاً آخر بفعل التّلقين الإيجابيّ الذي يتلقّاه، فتترك حالة النّشاط والحيويّة الروحيّة هذه أثرها في بدنه. وبالعكس فحالة اليأس الرّوحيّ قد تُفضي إلى بطء تعافي الجسد، فتبطل الأثر الإيجابيّ الذي ينبغي لدواءٍ معيّن أن يتركه في البدن، وقد تقتله أحياناً.

 

ولكنّ وجود العلاج الروحيّ لا يعني أنّ القوانين الطبّيّة ضربٌ من الكذب، فالقانون الطبّيّ يكون صحيحاً بحسب أوضاع البدن، والاستفادة من العامل النّفسيّ في معالجة مرض بدنيّ هي استفادة من عاملٍ آخر متمثّل بالعامل الروحيّ، وذلك من جهة أنّ للقوى الروحيّة ضرباً من الهيمنة والحكومة، ونحواً من التسلّط على القوى البدنيّة، بحيث تجعل القوى البدنيّة في خدمتها.


 


[1] سورة الحجر، الآية 21.

 

97


69

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

هذا خلاصة البحث الذي قدّمه العلّامة الطّباطبائيّ، حيث ادّعى أنّ انصراف الإنسان عن الخارج مؤقّتاً يستوجب ظهور حالةٍ نفسيّة مؤقّتة، في حين أنّ الانصراف الدّائم والإراديّ، الذي يتحرّك فيه الإنسان وفق برنامج محدّد، يُفضي إلى ظهور حالات دائمة في الإنسان. وقد عدَّ سرّ القضيّة في نشوء العمل والإرادة وظهورهما في وجود الإنسان.

 

والقوانين العلميّة التي نعرفها عن هذا العالم هي من قبيل القوانين التي يعرفها الطّبيب عن البدن، وهي قوانين واقعيّة وليست اعتبارات، وكما يوجد في هذا العالم قوانين لم نصل إليها ولم نعرفها بعد، كذلك فإنّنا نجهل كثيراً من تأثير عالم الرّوح في البدن، وقد يكون العالم بتمامه كالإنسان، فيه قوانينُ لبدنه وأخرى لا يُمكننا أن نطّلع عليها من خلال العلوم التجريبيّة.

 

إنّ الشخص الذي يقوم بالمعجزة يكون على صلةٍ بالرّوح الكلّيّة للعالم (أي للوجود)، بحيث يستطيع، عن طريق ذلك الاتّصال بالرّوح الكلّيّة، أن يتصرّف بقوانين هذا العالم، وتصرّفه هذا لا يعني أنّه نقضٌ للقانون، بل يعني الهيمنة عليه، فعندما يصير القانون رهن سلطته وتحت تصرّفه، فإنّه يتصرّف به على خلاف مساره العاديّ، ولكن ليس بخلاف القانون نفسه.

 

المعجزة هي أمرٌ ما فوق بشريّ وبشريّ في آنٍ واحد، فدرجتها ما فوق البشريّة هي تلك التي نُطلق عليها أسماء: المعجزة، الكرامة، وخرق العادة، وهي تلك الدرجة التي نقلها القرآن الكريم عن الأنبياء، التي ليست موجودةً عند الآخرين، أو لا نستطيع إثبات وجودها على أقلّ تقدير.

 

ومع ذلك، فهذا الفعل هو أيضاً من سنخ بعض الأمور البشريّة التي يُمكن أن توجد في جميع الأفراد بنسبةٍ أو بأخرى، ولكن بدرجاتٍ ضعيفةٍ جدّاً[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص220.

 

98


70

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

شبهة المحدوديّة والردّ عليها

إنّ ما يُقال من أنّنا إذا أذعنّا بأنّ لهذا العالم قانوناً قطعيّاً، فيلزم أن نعدّ قدرة الله وإرادته محدودتين، هو أيضاً كلامٌ خاطئ، فقد يحصل في بعض الأحيان أن يمتنع المرء عن فعل معيّن، وذلك تبعاً لمحدوديّة قدرته، وهذا ما يحول بينه وبين ذلك الفعل، كأن يرغب في أن يكون عالِماً من الطّراز الأوّل، بيدَ أنّ قدرته وإرادته لا تسمحان بذلك، فينصرف عن هذا الفعل بسبب محدوديّة قدرته. وقد يحصل في موضعٍ آخر أن يكون بمقدورك الإتيان بفعلٍ معيّنٍ، بيدَ أنّك ترتدع عنه لكمالٍ روحيّ تحظى به، بحيث تمتنع عنه بدافع هذا الكمال، فالإنسان العادل مثلاً الذي يتمتّع بملكة التقوى يمتنع بفعل تقواه عن الفعل المشين. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ قدرته على اجتراح هذا الفعل تكون محدودة، ولا يعني كذلك أنّ ثمّة مانعاً خارجيّاً يعوقه عن اجتراحه، وإنّما يعود السّبب إلى السموّ الذي بلغته روحه، فبموجب هذا السّموّ الرّوحيّ لا يصدر ذلك الفعل عنه.

 

وعلى المنوال ذاته لا نُقدِم في حياتنا كلّها، ولو مرّةً واحدةً، على رمي أنفسنا في النار أو في البئر، ولا يعني ذلك أنّ قدرتنا على القيام بهذا العمل محدودة، وإنّما هي روحنا التي بلغت درجةً من السموّ، وعلمنا الذي صار بدرجةٍ من الوضوح، بحيث يمنعاننا عن فعل ذلك.

 

إنّ نظام الوجود -كما هو عليه- هو النّظام الأحسن والأجمل، وإنّ علوّ ذات الخالق هو الذي يوجب وجود مثل هذا النظام. وحين لا يوجد غير هذا النّظام الفعليّ، فإنّ ذلك لا يعني أنّ قدرة الله محدودة، وإنّما يعني أنّ علوّ ذات الخالق هو الذي يوجب أن يجري نظام الخلقة والوجود على النحو الموجود بالفعل.

 

فالله لا يظلم ولن يظلم، وسنّته العدالة، دون أن يكون ثمّة ما يحدّ من فعله، بل ما تقتضيه ذاته العلويّة وما تستوجبه هو العدل لا غير، ولا تستوجب إرادته أمراً آخر حتى يُقال إنّ ثمّة ما يحدّها، فالكلام هنا لا يدور حول المانع، بل حول مقتضى ذاته[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص216 - 219.

 

99


71

الدرس السابع: المعجزة والنظريّات حولها (3)

المفاهيم الرئيسة

•        اعتمد الفلاسفة والحكماء المسلمون على مجموعةٍ من القواعد العقليّة لتفسير ظاهرة المُعجِزة. وقد تمكّنوا بفعل الدقّة والتّحليل المنطقيّ من أن يشرحوا العلاقة بين الفعل الإلهيّ والفعل الإنسانيّ.

 

•        يؤمن الحكماء بأنّ المعجزة هي من الأفعال التي تندرج ضمن القوانين التي تبقى مجهولة بالنّسبة إلى النّاس، لكنّ أصحاب الوحي من الأنبياء يقدرون على اكتشافها واستعمالها.

 

•        إنّ إثبات عدم تغيّر القانون الواقعيّ للعالم هو على عهدة الفلسفة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك بالطريق العلميّ.

 

•        إنّ لكلّ شيءٍ في الطّبيعة قانوناً لا يتخلّف عنه، بيدَ أنّ ثمّة فرقاً بين العلّة التي نألفها عن طريق العادة وبين العلّة الواقعيّة.

 

•        المعجزة هي أمرٌ ما فوق بشريّ وبشريّ في آنٍ واحد.

 

•        إنّ نظام الوجود - كما هو عليه - هو النّظام الأحسن والأجمل، وإنّ علوّ ذات الخالق هو الذي يوجب وجود مثل هذا النظام لا محدوديّة قدرته.

 

100

 


72

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

الدرس الثامن:

الإعجاز القرآنيّ (1)

الإعجاز اللفظيّ

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يبيّن وجوه الإعجاز القرآنيّ.

2. يقرأ الإعجاز القرآنيّ في الجانب اللفظيّ.

3. يتعرّف إلى أثر جاذبيّة القرآن على مسار الدعوة.

 

102


73

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

تمهيد

انصبّت الدروس السابقة حول النبوّة العامّة، حيث دار البحث حول كلّ ما له صلة بالنبوّة بشكل عامّ، كضرورة النبوّة، ومسألة نزول الوحي، وأنّ على كلّ نبيٍّ أن يأتي بمعجزة. والبحث في النبوّة العامّة هو مقدّمةٌ للبحث حول النبوّة الخاصّة، كالبحث عن نبوّة نبيّنا الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وطبيعة الدلائل والآيات التي تدلّ على نبوّته، حيث إنّ دعوى تلقّي الوحي من الغيب تتطلّب الدليل الذي يدلّ على وقوع الوحي فعلاً. وهذا الدليل هو الذي عبّر عنه القرآن بالآية ثمّ جرى التعبير عنه في لغة المتكلّمين بالمعجزة.

 

وبخصوص المعجزات التي جاء بها النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله إثباتاً لنبوّته، فإنّ أعظم آية وأكبر دليل استند إليه صلى الله عليه وآله وسلم بنصّ القرآن، هو القرآن نفسه.

 

مزايا القرآن الكريم

يتميّز القرآن بما هو معجزة من سائر المعجزات الأخرى من وجهين:

1- طبيعة الكلام:

إنّ الأفعال التي تصدر عن فاعلٍ عاقل تكشف عن خصاله إلى حدٍّ كبير، كما في البناء -مثلاً- الذي يُشير إلى مهارة المهندس في فنّه. لكنّ أكثر ما يكشف عن

 

104

 

 


74

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

مزايا الفاعل العاقل هو الكلام، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَه فِي كِتَابِه"[1]. من هنا تأتي أهمِّيَّة القرآن باعتباره كلام الله، فهو يحكي عن مضمونٍ خاصٍّ وروحٍ خاصّة، بنحوٍ يفوق في الدلالة أيّ أمرٍ آخر.

 

2- قابليّة البقاء:

إنّ المعجزات التي ذُكرت لسائر الأنبياء، كإحياء الموتى، لا تعدو أن تكون وقائع حدثت في زمنٍ ما وشاهدها عددٌ محدودٌ من النّاس، دون أن يطّلع عليها الآخرون إلّا بالنقل، وشتّان ما بين النقلُ والمعاينة. أمّا القرآن فهو من سنخ الكلام، والسرّ وراء اختياره معجزةً أصليّةً لخاتم النبيّين يعود إلى أنّ هذا الدّين هو الدّين الخاتم الذي ينبغي له أن يبقى خالداً إلى الأبد، والشّيء الوحيد الذي يُمكن أن يبقى خالداً لا يُمسّ بطوارق الحدثان هو الكلام[2].

 

تصريح القرآن بالإعجاز

لا كلام في أنّ القرآن يُعِدّ نفسه معجزاً، وأنّه كلامٌ لا نظير له، ليس بمقدور البشر الإتيان بمثله حتى لو اجتمعوا على ذلك، بل حتى لو تظاهرت معهم الجنّ. وقد طرح القرآن مسألة إعجازه منذ بدء نزوله في مكّة على نحو التحدّي بالاصطلاح الكلاميّ، حيث اقترن نزوله بدعوى فحواها أنّ هذا الكلام فوق كلام البشر، وأن ليس بمقدور أحدٍ من البشر أن يأتي بمثله. وهذا التحدّي لم يكن مختصّاً بالفئة المخاطبة عشيّة نزوله فحسب، بل شمل الناس في جميع العصور: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[3].


 


[1]  الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 147، ص204.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص325 - 326.

[3] سورة الإسراء، الآية 88.

 

105


75

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

ثمّ إنّ الإعجاز كما طُرح في القرآن لا يختصّ بمجموع القرآن بتمامه، بل إنّ بعض القرآن معجزٌ أيضاً، وقد وصل القرآن في تحدّيه للبشر إلى أن يتحدّاهم بالإتيان بعشر سورٍ مثله، فقال: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[1]، ثمّ تنزّل في موردٍ آخر ليقول: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾[2]، الأمر الذي يعني أنّ السورة الواحدة منه هي معجزة أيضاً.

 

وإذا كان الإعجاز وليد التحدّي الذي طرحه القرآن نفسه، فبأيّ شيء يكون إعجاز القرآن؟ هل هو إعجاز ببعدٍ معيّن أم بأبعاد متعدّدة؟ لا نجد في القرآن تصريحاً عن بعدٍ معيّن من أبعاد الإعجاز على وجه الخصوص، بل يشير في آيات متفرّقة إلى كلّ بعدٍ بعينه على أنّه إعجاز[3].

 

وجهان من وجوه الإعجاز

من الثابت أنّ إعجاز القرآن، والعلامات التي تدلّ على أنّ هذا الكتاب نازلٌ من أفقٍ يفوق أفق الإنسان العادي، ولا سيّما في مثل البيئة التي عاش فيها نبيُّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إنّما تتحرّك في بعدين:

الأوّل: البعد اللفظيّ، وهو البعد الجماليّ والفنيّ.

الثاني: البعد المعنويّ، وهو البعد العلميّ والفكريّ.

 

ويشير النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في وصفه القرآن بأنّه: "وإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُه أَنِيقٌ وبَاطِنُه عَمِيقٌ"[4]، إلى أنّ للقرآن بعداً جماليّاً أدبيّاً هو ما اصطلح عليه علماء المسلمين بالفصاحة والبلاغة. لقد جاءت اهتمامات علماء المسلمين وما بذلوه في الصرف والنحو والبيان والبديع وما ابتكروه من علوم على هذا الصعيد نتيجةً


 


[1] سورة هود، الآية 13.

[2] سورة البقرة، الآية 23.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص326 - 327.

[4] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص61.

 

106


76

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

لهذا الجمال القرآنيّ. ويرتبط البعد الجماليّ والفنيّ باللفظ القرآنيّ وعباراته، ولكن ليس باللفظ المنفكّ عن المعنى، فاللفظ الذي لا معنى له لا يمكن أن يكون جميلاً، وإنّما الجميل هو اللفظ من حيث كونه محتوًى لمعنًى معيّن، وهو ما يعبّر عنه علماء الأدب بالفصاحة والبلاغة.

 

ومع ما يحظى به القرآن من جمال، فهو يعتمد أيضاً على عقل الإنسان وفكره وروحه، ويتطرّق إلى المسائل التي يُذعِن لها العقل. القرآن كتاب هداية، أمّا الشّعر فجميلٌ وحسب، لكنّه لا يوجِّه إلى طريقٍ معيَّن، فلا يستطيع المرء أن يُرشد غيره إلى حقيقةٍ ما بتعابير شعريّة تضجّ بالخيال. ومع أنّ جميع آيات القرآن جاءت للتّعليم ولبيان الحقيقة، إلّا أنّها -مع ذلك- مقرونةٌ بالجمال.

 

وعليه، فإذا أردنا أن نبحث في إعجاز القرآن ينبغي أن ندرس ذلك في إطار مقولتين: مقولة الجمال، ومقولة الجانب العلميّ والفكريّ. ومقولة الجمال متوائمة مع اللفظ والمعنى، ونطلق عليها: "الجانب اللفظيّ"، أمّا المقولة العلميّة فهي ترتبط بالمعنى ونطلق عليها: "الجانب المعنويّ والعلميّ والفكريّ"[1].

 

الإعجاز في الجانب اللفظيّ

1- الفصاحة والبلاغة:

من وجوه الإعجاز القرآنيّ التي حظيت بالاهتمام منذ وقت مبكر ونالت عناية فائقة: الوجه اللفظيّ والظاهريّ للقرآن الكريم، والذي يُعبَّر عنه بـ"الفصاحة والبلاغة". والمقصود من الفصاحة والبلاغة هو وضوح البيان وعذوبته وجماله وجاذبيّته.

 

إنّ لكلّ إنسانٍ إلماماً بالفصاحة والبلاغة، بحيث يلمس من نفسه انجذاباً يلابسه من دون أن يتوقّف ذلك على إحاطته بمفهوم الفصاحة


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص354 - 355.

 

107


77

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

والبلاغة، ذلك أنّ الفصاحة ضربٌ من الجمال في الكلام، فإذا ما سمع الإنسان كلاماً جميلاً فإنّه ينجذب تلقائيّاً إليه، بل لا يمكن تعريف الجمال وتحديده، فهو ممّا يُدرَك ولا يوصَف.

 

والجمال والفصاحة يرتبطان بالقلب والمشاعر قبل أن يرتبطا بالعلم والعقل والفكر، ويدوران مدار القلب، ولذلك لا يمكن تقييم الأشعار الفائقة الجمال بصحّة محتواها، بل يدور معيار التقييم على أسلوب البيان، فقد يكون الشعر كاذباً من حيث المحتوى، وهو مع ذلك فصيح وبليغ، حتى قيل "إنّ أعذب الشعر أكذبه"، وذلك من جهة المبالغة فيه.

 

هذا العنصر أجنبيٌّ عن إعجاز القرآن، فالقرآن، على جماله اللامتناهي، بعيدٌ كلّ البعد عن صيغة الشعر والكذب والمبالغة تماماً، وهو يحترز من كلّ تعبير شعريٍّ ينطوي على رشحةٍ من الكذب، ومع ذلك فهو يمتلك جاذبيّةً بإعجازه من جهة الجمال.

 

أمّا بشأن التّشبيه في القرآن، فأصل الكلام في التشبيه أنّ أغلبه جميل، وعلّة الجمال تعود إلى أنّه عندما يُشبّه أمرٌ بآخر، يُقرَن بينهما فيثير ذلك الإعجاب. ومع ذلك فإنّ التشبيه في القرآن قليل جدّاً، لكنّه على كلّ حال جميلٌ واستثنائيّ.

 

من الثابت إذاً أنّ أحد وجوه الإعجاز القرآنيّ هو ما يتمثّل بعذوبة ألفاظه وجمالها، بيد أنّ هذا الجمال غير منفصل عن الجمال المعنويّ للقرآن.

 

إنّ الفصاحة من مقولة الجمال، والجمال يدور مدار العواطف، فعواطف البشر وأحاسيسهم ليست نوعاً واحداً، وإنّما للإنسان أنواعٌ من الأحاسيس، بحيث يتطابق كلّ لونٍ من ألوان الجمال مع نوعٍ من أحاسيس الإنسان يتوافق معها. فما ينبغي معرفته هو طبيعة الحسّ الإنسانيّ الذي يلتذّ بجمال فصاحة القرآن، ومع أيّ الأحاسيس الإنسانيّة يتعاطى القرآن. إنّ القرآن يتعاطى مع الإحساس المعنويّ للإنسان، أي مع تلك الأحاسيس التي تحرّك الإنسان وتدفعه صوب العالم العلويّ[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص329 - 341.

 

108


78

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

2- صيغة البيان القرآنيّ:

لكلّ كاتبٍ طرازه الخاصّ به في التعبير، وكذلك القرآن له صيغةٌ خاصّةٌ به في البيان. ولو أننا تأمّلنا في كلام القرآن وقارنّاه بغيره، لوجدنا بوضوح أنّ للقرآن طريقته الخاصّة في الأداء، وأسلوبه الذي يُميّزه، فمع أنّ أحداً لا يرتاب في بلاغة نهج البلاغة، إلّا أنه لو دُسّت آيةٌ بين ثنايا حديثه، لرأيناها تشعّ كما تشعّ الشمس بين النجوم والكواكب، وما ذلك إلّا لأنّ صيغة الأداء القرآنيّ لا مثيل لها، لا سابقاً ولا لاحقاً. وعندما يريد الإنسان الإتيان بمثل كلام القرآن يجد نفسه عاجزاً، وكلّما تأمّل ليرى الجهة التي تحول دون الإتيان بمثله، يرى نفسه عاجزاً عن وصفها أيضاً.

 

وقد يمكن لبعضهم أن يمزج في نهج البلاغة خطبةً لبليغ آخر أو على الأقلّ مقاطع منها، فيحار الإنسان في ما إذا كانت هذه المقاطع للإمام أمير المؤمنين عليه السلام أم لا. أمّا في القرآن فلا، إذ لم يتأتَّ لأحدٍ بعد نزوله أن يضيف إليه سطراً يكون بمستوى وضعه الخاصّ وأسلوبه المتميّز الذي لا يوصف. وكذلك الحال بشأن الكلام النبويّ، فعلى الرغم من الفصاحة والبلاغة اللتين يتمتّع بهما كلام النبيّ، فإنّه يفترق عن كلام القرآن بحيث يُعبِّر عن صيغةٍ وأسلوبٍ مختلفٍ تماماً. إنّها حركيّة مذهلة ينطوي عليها الأسلوب القرآنيّ، بحيث لا نرى سابقةً له، كما أنّه يمضي بعد ذلك عصيّاً على التقليد[1].

 

كنموذجِ لما تقدّم، نلاحظ الخطبة التالية لأمير المؤمنين عليه السلام التي يتحدّث فيها عن الحياة الدنيا وما يليها من موت فقيامة، يقول عليه السلام: "دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ - لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا ولَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا...، الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ والأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ - وإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ - تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وتُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا - واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّه أَنَّكُمْ ومَا أَنْتُمْ فِيه مِنْ هَذِه الدُّنْيَا - عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ...، أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً ورِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً – وأَجْسَادُهُمْ


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص356 - 357.

 

109


79

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

 بَالِيَةً ودِيَارُهُمْ خَالِيَةً وآثَارُهُمْ عَافِيَةً - فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ والنَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ - الصُّخُورَ والأَحْجَارَ الْمُسَنَّدَةَ والْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ...، بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وأَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ - لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالأَوْطَانِ ولَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ - عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ ودُنُوِّ الدَّارِ - وكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وقَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِه الْبِلَى - وأَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ والثَّرَى - وكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْه - وارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ - فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الأُمُورُ - وبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾"[1]،[2].

 

إنّ التفاوت بين ألفاظ كلام الإمام عليه السلام وألفاظ القرآن واضح بيّن، في الأسلوب ونحو الدلالة وهو ممّا يمكن لكل مشتغل بالفصاحة والبلاغة أن يلحظه[3].

 

إنّ الطريقة التي اعتمدها المشركون في تكذيب القرآن ونعته بالسحر تشير إلى ضربٍ من التصديق الضمنيّ بجاذبيّته الاستثنائيّة، ولو أنّهم اقتصروا على استنكار القرآن ورفضه لكان شيئاً آخر. أمّا فعلهم فيكشف عن أنّهم أقرّوا بأنّ له بعداً غير عاديّ وتأثيراً استثنائيّاً، غاية الأمر أنهم عَزَوه إلى السحر، وقالوا إنّ فيه طِلَّسْماً هو الذي يُضفِي عليه قوّة الجذب. ويتحدّث القرآن نفسه عن أحدهم، وهو الوليد بن المغيرة المخزوميّ، الذي يُعَدّ من زعماء قريش ووجهائها، وهم يُقرّون له بخبرته في فصاحة الكلام وبلاغته، بعد أن استمع الوليد إلى القرآن، عبّر القرآن عمّا بدر منه بالصيغة الآتية: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾[4],[5].


 


[1] سورة يونس، الآية 30.

[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص348.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص335 - 337.

[4] سورة المدثر، الآيات 18 - 22.

[5] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص346 - 347.

 

110


80

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

3- ميزة التلاوة والنغم:

ثمّة مسألة أخرى ترتبط بالأسلوب القرآنيّ، تتمثّل بقابلية القرآن لاكتساب النّغم. والنصّ الذي له قابليّة اللحن هو النصّ الذي يمتلك قابليّة أن يؤدَّى مع اللحن ببيانٍ أفضل ممّا يؤدَّى بشكلٍ عاديّ. وقد أشاروا إلى أن الشّعر وحده هو الذي له قابليّة اكتساب النغم. والقرآن ليس شعراً، فلا وزن له ولا قافية ولا يشبه الشعر في ما يقوم عليه من خيال، وهو يفتقد التشبيهات والخيالات الشعريّة. ومع ذلك فإنّ القرآن هو النصّ النثريّ الوحيد الذي له قابليّة اللحن والنغم.

 

وحتى الخطب النبويّة وخطب نهج البلاغة تأبى اللحن ولا تمتلك هذه القابليّة.

 

وقد بُذلت العناية عمليّاً بتلاوة القرآن بالصوت الحسن منذ صدر الإسلام، لِما في القرآن من استعداد للظهور بشكل أفضل في حال أدائه باللحن ومع النغم. ولذلك جاء في أخبارٍ كثيرة أن "تغنّوا بالقرآن"[1]. وكان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إليه بعض الصحابة ويأمرهم بالتلاوة في بعض الأوقات، فكانوا يقرأون والنبيّ ينصت، وتفيض عيناه الشريفتان بالدموع. وفي الروايات أنّ الإمامين السجّاد والباقر عليهما السلام كانا يقرآن القرآن بصوتٍ عذبٍ جميلٍ بحيث كان الناس في الخارج يجتمعون ويُصغون لعذوبة الصوت وجمال نغمته[2].

 

إنّ للتلاوة أهمِّيَّة كبرى تجعلها مطلوبةً لذاتها، وما ذلك إلّا للأثر الموجود في التلاوة بشكلٍ خاصّ. هذا الأثر يرتبط هو الآخر بأسلوب القرآن وجماليّته، حيث إنّ البعد الخفيّ الإعجازيّ فيه يتمثّل ببعده الجماليّ وبالاتّساق الاستثنائيّ الذي ينطوي عليه، والحركيّة الفائقة التي بمقدور هذا الكلام أن يوجدها في روح المستمع، ولذلك تُستحَبّ تلاوة القرآن كثيراً[3].


 


[1] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، إشراف وتخريج: شعيب الأرناؤوط، تحقيق: حسين الأسد، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1413هـ.ق - 1993م، ط9، ج11، ص506.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص359 - 362.

[3] المصدر نفسه، ص365.

 

111


81

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

وقد تنبّه بعض أهل الفكر إلى وجود تناسبٍ بين الموضوعات المختلفة والأنغام المتنوّعة في القرآن، بحيث تقبل كلّ مجموعةٍ من الآيات نغماً خاصّاً يتّسق مع معانيها، ففي حالة التذكّر والموعظة تكون الآيات في غاية السلاسة والانسياب بحيث يشعر الإنسان بأنّ عليه أن يلقّنها لقلبه بهدوءٍ وتأنّ، كقوله - تعالى -: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[1].

 

وأمّا آيات العذاب والإنذار والتخويف فهي مؤلّفةٌ من سجعٍ قصيرٍ وجُملٍ قصيرة مترادفة يتلو بعضها بعضاً، واللحن الذي تُقرَأ به لحنٌ ضاغط عنيف، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾[2].

 

إنّ العذوبة والحلاوة التي ينطوي عليها القرآن، بحيث لا ينقص منها شيء مهما كرّرته، هي من وجوه إعجاز القرآن الكريم، والقرآن وحده يحظى بهذه الحلاوة، بحيث كلّما قرأت فيه لا ينقص شيءٌ من حلاوته وعذوبته. وهذا يحكي عن نوعٍ من التناسب الخفيّ جدّاً بين روح الإنسان وفطرته من جهة، وهذا الكلام الذي هو كلام الله - تعالى - من جهةٍ أخرى، وما دام الإنسان يستمع حقّاً إلى كلام خالقه وإلى نداء الغيب وما وراء الطبيعة، فهو لا يَملّه مهما سمعه[3].

 

أثر جاذبيّة القرآن في مسار الدعوة

من الوجهة التاريخيّة والاجتماعيّة، فقد كان للبعد الجماليّ للقرآن تأثير استثنائي في اتّساع رقعة الإسلام وانتشار القرآن نفسه ونفوذه إلى المجتمعات الإسلاميّة، فالقرآن هو الكتاب السماويّ الوحيد الذي تقدّم أشواطاً إلى الأمام بالاعتماد على قدراته الذاتيّة، لا أنّ الشعوب آمنت بهذا الدين لسببٍ ما، ثمّ انقادت بعد ذلك إلى القرآن بسبب أنّ هذا الكتاب كتابه.


 


[1] سورة المائدة، الآية 16.

[2] سورة الطور، الآيات 1 - 8.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص359 - 368.

 

112


82

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

ويشير التاريخ إلى أنّ القرآن نهض، بالنسبة إلى النبيّ، بالمهمّة ذاتها التي نهضت بها العصا، بالنسبة إلى موسى، فقد كان الناس ينجذبون إلى الإسلام ببركة آيات القرآن التي يقرؤها النبيّ، ما حدا بكفّار قريش إلى اتّهامه بأنّه ساحر، وأنّ في كلامه لوناً من السحر يجعل الناس تنجذب إليه.

 

إنّ الوسيلة التي كانت لنبيّنا في جذب الناس إلى دعوته ومواجهة المناوئين هي القرآن فقط. وإذا ما تفحّص المرء بدقّةٍ تاريخ بقيّة الأنبياء وأقوامهم، فسيجد أنّ ثمّة عللاً مختلفة جدّاً لميل أممهم إليهم. أمّا حين نتفحّص ما حصل في الإسلام فلا نجد غير القرآن أداةً ووسيلة.

 

يجب على المسلم الذي يريد أن يستفيد من مزايا الإسلام أن يتعرّف إلى القرآن. وإذا ما أراد أن يتعرّف إلى القرآن، ينبغي له أن يتعلّم لغة القرآن. وكلّما توغّل في تحصيل الكتب المصنّفة في إعجاز القرآن قديماً وحديثاً، ثمّ أطلّ على القرآن وهو ملمٌّ بجوانبه الإعجازيّة، فسيكون بمقدوره أن يُدرِك إعجاز القرآن بشكلٍ يفوق غيره بكثير[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص356.

 

113


83

الدرس الثامن: الإعجاز القرآنيّ (1)

المفاهيم الرئيسة

•        لا كلام في أنّ القرآن يعدّ نفسه معجزاً، وأنّه كلامٌ لا نظير له، ليس بمقدور البشر الإتيان بمثله حتّى لو اجتمعوا على ذلك، بل حتّى لو تظاهرت معهم الجنّ.

 

•        الإعجاز، كما طُرح في القرآن، لا يختصّ بمجموع القرآن بتمامه، بل إنّ بعض القرآن معجزٌ أيضاً.

 

•        من الثابت أنّ إعجاز القرآن، والعلامات التي تدلّ على أنّ هذا الكتاب نازلٌ من أفق أعلى من أفق الإنسان العاديّ، ولا سيّما في مثل البيئة التي عاش فيها نبيّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إنّما تتحرّك في بعدين:

•        الأوّل: البعد اللفظيّ، وهو البعد الجماليّ والفنّيّ.

•        الثاني: البعد المعنويّ، وهو البعد العلميّ والفكريّ.

 

•        يرتبط البعد الجماليّ والفنّيّ باللفظ القرآنيّ وعباراته، ولكن لا باللفظ المنفكّ عن المعنى، فاللفظ الذي لا معنى له لا يمكن أن يكون جميلاً، فالجميل هو اللفظ من حيث هو محتوى لمعنًى معيّن.

 

•        إنّ للقرآن، من وجهة الجمال اللفظيّ الذي يُعبَّر عنه بالفصاحة والبلاغة، حالةً عصيّةً على المحاكاة والتقليد، لا يمكن إنكارها.

 

•        إنّ العذوبة والحلاوة التي ينطوي عليها القرآن، بحيث لا ينقص منها شيء مهما كرّرته، هي من وجوه إعجاز القرآن الكريم.

 

114

 

 


84

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

الدرس التاسع

الإعجاز القرآنيّ (2)

الإعجاز في الجانب المعنويّ

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح الإعجاز الفكريّ والعلميّ للقرآن الكريم.

2. يبيّن بعض محتويات القرآن الكريم.

3. يلخّص الأسباب الرئيسة في انحراف الذهن البشريّ.

 

116

 


85

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

تمهيد

يرتبط البحث في إعجاز القرآن الكريم - بالإضافة إلى ما تقدّم من إعجازه البلاغيّ والجماليّ - بمحتوياته الفكريّة والأبعاد العلميّة بالمعنى الأشمل. وقد أطلق القرآن على الإعجاز مطلقاً وصف الآية بمعنى العلامة التي تدلّ على أنّه صادرٌ عن أفق هو أعلى من الأفق الفكريّ للإنسان[1].

 

وقد انبرى بعض علماء المسلمين إلى البحث حول جهات التّحدّي في محتويات القرآن، من دون أن يلتفت إلى ما فيه من فصاحة وبلاغة، فيما انجذب بعض علماء المسلمين إلى فصاحة القرآن وبلاغته من دون أن يولي محتوياته عناية كافية. لكنّ الصحيح أنّه لا ينبغي إغفال أيّ بُعدٍ من الأبعاد، فالقرآن معجزةٌ بمحتوياته، وبلفظه وبجمال شكله معاً.

 

هذا، والإعجاز البلاغيّ يتطلّب الإلمام باللغة العربية لإدراك جماليّات القرآن. أمّا الإعجاز المعنويّ فهو أكثر قابليّة للبحث على مستوى الإدراك العامّ، وإن كانت الأبعاد الجماليّة والفكريّة أو الجهات اللفظيّة والمعنويّة في القرآن غير منفصلة بعضها عن بعض، ذلك أنّ تلك المعاني قد جاءت في مثل هذا الإطار الجميل، وهذا ما يجعل موضوع الاعجاز في أبعاده المختلفة على درجةٍ عاليةٍ من الدقّة[2].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص399.

[2] المصدر نفسه، ص378.

 

118


86

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

نظرة إجماليّة في محتويات القرآن

يتنوّع الجانب المعنويّ في القرآن إلى أقسامٍ متعدّدة بحسب تنوّع محتوياته وموضوعاته. وإذا ما كان ينطوي في قسمٍ منه على معانٍ رفيعة وسامية طرحها القرآن لأوّل مرّة، بحيث لم تكن لها سابقة في تاريخ الفكر الإنسانيّ، فسيكون ذلك علامة على أنّ هذا الكتاب قد أطلّ على البشر من أفقٍ أعلى.

 

ومن المعروف أنّ ثمّة ترابطاً تسلسليّاً للأفكار، بحيث إنّها تتحرّك في مسارٍ يُفضِي إلى نتيجةٍ معيّنة لم تكن معلومةً سابقاً، ويمكن لنابغةٍ ما أن ينبثق فكره من تلك الحلقة المفقودة بسبب ملاحظة المسار الترابطيّ للأفكار.

 

أمّا إذا ما نظرنا إلى القرآن، فسنجد أنّه ابتدأ من نقطة الصفر، وأنّ الإتيان بسورة من مثل هذا النبيّ لهو أمر مدهش، إذ إنّ ما جاء به لم يكن ذا صلةٍ بالبيئة العلميّة والفكريّة، بحيث يُفضي تتابع مسير حلقاته إلى الإتيان بهذا الإبداع، فقد كانت البيئة غايةً في الانحطاط، لا تشي حتّى برائحةٍ لهذا الفكر. والذي يعيش مثل هذه البيئة يفتقر حتّى إلى تلك الهوامش الثقافيّة الضعيفة لذلك المحيط، كالإلمام بالقراءة والكتابة. وعندما تكون البيئة بهذا الشكل، ويفتقر الشخص إلى أدنى حظوظ المعرفة حتّى على مستوى المعرفة البسيطة بالقراءة والكتابة، ثمّ يأتي بمثل هذا القرآن، فلا خيار أمامنا سوى أن نذعن بأنّ هذا الكتاب قد انبثق من أفقٍ أعلى من أفق شخصية النبيّ[1].

 

وفي ما يلي إطلالة إجماليّة على الموضوعات العلميّة والفكريّة التي تناولها واشتمل عليها القرآن الكريم وكانت آيةً ومعجزة في الجانب المعنويّ والمضمونيّ:

1- في التوحيد والإلهيّات:

تناول القرآن موضوع التوحيد وتطرّق إلى الأمور المتّصلة بالله وبما وراء


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص382.

 

119


87

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

الطبيعة، وجاء بيان القرآن حول التوحيد فوق عصره بل وفوق ما كان سائدًا ومألوفًا في العالم برمّته حتى اليونان والروم وهما ممّن كان لهم قدم سبقٍ على هذا الصعيد بالقياس إلى الأمم الأخرى، بل وتقدّم على الأزمنة اللاحقة حتّى يومنا هذا، وبذلك كان معجزاً، ولا سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّه صدر عن رجلٍ عربيٍّ أُمّيّ[1]. وسيأتي تفصيل البحث في مسألة الإعجاز على هذا الصعيد.

 

2- في الأخلاق والتربية والهداية:

لم تكن هناك إمكانيّة لكي يصل أهل ذلك العصر، في مستوى الفكر الشخصيّ والفرديّ، إلى المستوى الفكريّ الذي طرحه القرآن الكريم على صعيد المعاني الأخلاقيّة والتربويّة وما يرتبط بهداية البشر بشكل عامّ، بل حتّى إذا ما قارنّا بينها وبين ما طرحه المفكّرون بعد ذلك، سنجد أنّهم لم يرتقوا إلى هذا المستوى، وهذا جانب من جوانب الإعجاز في القرآن[2].

 

3- في الضوابط والقوانين:

لقد سنّ القرآن الكريم مجموعةً من الضوابط والقوانين، سواء في باب العبادات أم في المسائل الاجتماعيّة التي يُطلَق عليها في الاصطلاح الفقهيّ "باب المعاملات". وقد وضع القرآن قوانين في مجال الحقوق الاجتماعيّة، وفي نطاق الأسرة. وأمام هذا كلّه، ما هي الدرجة من الاستنارة والوضوح التي يجدر أن يكون عليها رجلٌ أُمّيّ لم يدرس شيئاً، لكي يأتي بتلك المطالب التي وصلت في الوضوح إلى ما لا يمكن أن يصل إليه أيّ عالمٍ أمضى سنوات يتعلّم في المدارس والجامعات؟![3]


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص349 - 350.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه، ص350 - 351.

 

120


88

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

4- في الطبيعيّات:

القرآن كتاب هداية للبشر، ولكنّه في سياق بيانه لهذه الهداية يشير أحياناً إلى مسائل طبيعيّة. وتلك الإشارات لم تكن تحمل شيئاً من مواريث عصر النصّ، بل لم يكن فيها ما يُشعر بأنّها كانت من معطيات العصور اللاحقة، وإنّما أيّدها العلم البشريّ بعد أن دخل في أشواط من الرقيّ والتقدّم.

 

لقد ذكر القرآن مسائل في مجال الطبيعة والطبيعيّات، منها ما يتعلّق بالرياح، والأمطار، والأرض، والسماء والحيوانات. وما جاء به القرآن في هذا المجال يتطابق مع ما اكتشفه العلم الحديث تدريجيّاً.

 

يذكر الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة أنّ الفضاء كان بأجمعه دخاناً قبل خلق السماء والأرض، وهو مفاد قول الله -تعالى-: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[1]، إنّه يتحدّث عن حصول تحوّل وتبدّل في مادّة السماوات والأرض وعناصرهما، مع أنّ هذا المفهوم لم يكن منسجمًا مع معلومات البشر في ذلك العصر، حيث كانوا يعتبرون أنّ الأفلاك والسماوات هي موجودات ذات عنصرٍ واحد يختلف عن عنصر الأرض، ولا مجال لنفوذ أيّ تغييرٍ فيها، فهي موجودة دائماً وستبقى دائماً، وبذلك لم يكن ثَمّ مجال لطروء التغيّرات والتبدّلات، بحسب المنطق العلميّ القديم.

 

إنّ المحتوى القرآنيّ، من جهة المسائل الطبيعيّة، يكشف عن إعجازات القرآن بشكل مستجدٍّ ودائم، وهذا المعنى ورد أيضاً في كلام النبيّ والأئمّة عليهم السلام في ما يذكرونه حول أنّ القرآن جديدٌ على الدوام لا يبلى، وفيه قابليّة الكشف باستمرار، لأنه لا يختصّ بزمانٍ دون آخر[2].


 


[1] سورة فصّلت، الآية 11.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص352 - 354.

 

121


89

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

5- في الجانب التاريخيّ:

لقد قصّ القرآن أحوال الأمم السابقة، وخاطب النبيّ مصرّحاً بأنّه لم يكن له ولا لقومه درايةٌ بتلك القصص قبل ذلك: ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ﴾[1]. تلك القصص والإشارات التاريخيّة التي أخبر عنها القرآن هي محلّ قبولٍ وإيمانٍ عند الناس بمقتضى أنّ القرآن أتى على ذكرها، وإن لم يكن ثمّة ما يدلّ عليها من وجهة الإثبات التاريخيّ، ثمّ جاءت البحوث والاكتشافات الجديدة تؤيّد ما ذكره القرآن. وإذا ما استطعنا الإضاءة على هذا الجانب فسيكون دليلاً إضافيّاً على إعجاز القرآن[2].

 

6- الإعجاز المنطقيّ في القرآن الكريم:

ومن بين الجوانب الإعجازيّة للقرآن ما يتعلّق منها بالمنطق، وتحديداً منطق المادّة الذي يتكفّل بإراءة أسباب انزلاق الفكر الإنسانيّ إلى الخطأ. وسنبسط الكلام بعض الشيء حول هذا الجانب:

هناك كثيرٌ من الأشياء التي تدفع بالإنسان إلى الوقوع في الخطأ، فالطبيعة البشريّة تصنع لنفسها أصناماً أشار إليها بعض فلاسفة الغرب بالأصنام الشخصيّة والأصنام الاجتماعيّة ونحو ذلك. هذه الأصنام هي المسؤولة عن أخطاء الفكر، وهي تنشأ غالباً من السرعة في الفصل بالأمر، والعجلة في البتّ بالحكم، فبمجرّد انقداح الفكرة في ذهن أحدهم نجده يعتبر ذلك كافياً للأخذ بها والتأسيس عليها، بينما ينبغي عدم الإيمان بالفكرة إلّا بعد استيضاحها إلى درجةٍ لا يتخلّلها أدنى شكّ، بحيث ينسدّ معه باب الاحتمال المخالف.

 

من جانبٍ آخر، نجد أنّ للأهواء النفسيّة تأثيراً في الفكر والعقيدة، وبعض الأفكار تكون ناشئةً من الهوى النفسيّ لا من لغة الفكر والعقل، كما أنّ بعض

 


[1] سورة هود، الآية 49.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص400.

 

122


90

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

المعتقدات ينشأ من تأثير العظماء والأسلاف، ولو أشيح بالنفس عن آثار العظمة لما كان لها يقين بذلك.

 

هذا حصيلة ما أشار إليه بعض فلاسفة أوروبا في هذا الشأن. بينما نجد القرآن، ومنذ أربعة عشر قرناً مضت، يطرح قضيّة المنطق السليم وآفاته في عددٍ من الآيات الكريمة بطريقة مبتكرة وغير مسبوقة، فقد تناول أسباب انحراف الذّهن البشريّ على النحو الآتي[1]:

1- اتّباع الظنّ:

أشار القرآن في عددٍ من الآيات الكريمة، ومنذ أربعة عشر قرناً، إلى خطورة اتّباع الظنّ وضرورة اجتنابه، ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾[2]، ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾[3]. فمنطق هؤلاء هو منطق الظنّ، لا العلم واليقين. والسبب في خطأ أكثر النّاس يعود إلى اتّباعهم الظنّ: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾، وعلّة هذا الانحراف هي: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾[4].

 

فالإنسان حين يظنّ، غالباً ما يظهر ظنّه في صورة اليقين والقطع، والآية تحيل خطأ أكثر الناس على عدم اتّباعهم العلم. وما يريد القرآن التأكيد عليه أنّ هذا الخطأ لم ينشأ من الفكر البشريّ، بل هو يتّصل بإرادة الإنسان واختياره، حيث يؤمن بشيءٍ ثمّ يظهره بصيغة الأمر القطعيّ[5].

 

2- تقليد الماضين:

لقد حذّر القرآن من اتّباع الماضين وبيّن أنّه يجرّ إلى الخطأ، وقد أنكر الأنبياء

 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص383 - 388.

[2] سورة الإسراء، الآية 36.

[3] سورة الجاثية، الآية 24.

[4] سورة الأنعام، الآية 116.

[5] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص388 - 391.

 

123


91

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

جميعاً تقليد الماضين. وعندما نُقلّب القصص النبويّة نجد أنّ كلّ نبيّ كان قد ابتُلي بمشكلات معيّنة في بيئته. ولكن، إلى جانب ذلك، كان ثمّة عناصر مشتركة عُني بها الأنبياء بأجمعهم، فمضافاً إلى المبدأ والمعاد، كان ثمّة مسألة التقليد التي كانت بلاءً عامّاً، فإنّ من الأمور التي تجرّ الإنسان إلى الخطأ حقّاً: ميله إلى الاعتقاد بأنّ كلّ ما جاء به أسلافه كان صحيحاً.

 

وعلى أرضيّة هذا الميل يؤمن الإنسان بما جاء عن الماضين، ويبدأ باصطناع الأدلّة عليه، مع أنّ الأدلّة المصطنعة لا تُفضي إلى العلم. وإذا ما حطّم الإنسان قيد الانصياع إلى الماضين، ووثِق بعقله الفطريّ الذي وهبه الله إيّاه، وتخلّى عن الأهواء والأمراض، فعندئذٍ سيتمكّن من إدراك ما إذا كان ما قاله الماضون صحيحاً أم لا[1].

 

3- التسرّع في الحكم:

من الأمور الأخرى التي ذكرها القرآن منشأً لأخطاء الذهن: ما يُطلق عليه "سرعة البتّ"، وقد فاق القرآن سواه في التركيز على هذه المسألة. فإنّ الإنسان قد يصل إلى رأيٍ وهو لا يملك سعة الصدر الكافية للتثبّت منه، بل تلحّ عليه نفسه أن يُبادر إلى إعلان رأيه وتجاوز المسألة. وهذا ما يُقال له: "سرعة البتّ بالأمور".

 

يلفت القرآن نظر الإنسان إلى هذه الحالة، وينهاه عن أن يُبدي رأياً في ما لا تتوافر حوله الأدلّة الكافية، ويؤكّد على ذلك دوماً، يقول -تعالى-: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[2],[3].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص391 - 392.

[2] سورة الإسراء، الآية 85.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص392 - 393.

 

124


92

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

4- هوى النفس:

ومن جملة الأمور التي أشار القرآن الكريم إليها وتكون منشأ للخطأ الذهنيّ (اتّباع هوى النفس)، كما نجده في قوله -تعالى- في سورة النجم: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾[1]، وهو الذي عبّر البعض عنه بـ"الصنم الشخصيّ"، فمتّبعو الهوى يستبدلون بالعلم الظنّ، ويقولون ما يحلو لأنفسهم أن يقولوه، وما يقولونه لا ينسجم مع لغة العقل والفكر، ولا لغة الدليل، بل هو لغة الهوى[2].

 

5- اتّباع الكُبراء:

لقد أشار القرآن صراحةً إلى اتّباع الكبراء كسببٍ للخطأ الذهنيّ، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾[3]، وهي التي أشار إليها بعض الفلاسفة باسم "الأصنام الشكليّة"، كأن يريد الإنسان أن يُفكّر بمسألة معيّنة، وإذ بشخص عظيم كأرسطو مثلاً يتراءى أمامه، فتميل نفسه إلى أنّ أمثال هؤلاء العظماء لا يُمكن أن يكونوا قد أخطأوا، ويسلّم بما نطقوا به.

 

لقد احتوى القرآن، في آياتٍ متعدّدة، على الحديث عن سُبل الضّلال والخطأ، وعندئذٍ ألا يُعدّ ذلك إعجازاً منطقيّاً وهو يصدر عن رجلٍ أمّيّ؟ لا يُمكن تعليل هذا العطاء المنطقيّ إلّا أن يكون صاحبه قد استلهمه من أفقٍ آخر[4].


 


[1] سورة النجم، الآية 23.

[2] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص393 - 394.

[3] سورة الأحزاب، الآية 67.

[4] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص395 - 396.

 

125


93

الدرس التاسع: الإعجاز القرآنيّ (2)

المفاهيم الرئيسة

•        مضافاً إلى الإعجاز البلاغيّ والجماليّ، يرتبط البحث، في إعجاز القرآن أيضاً بمحتوياته الفكريّة والأبعاد العلميّة بالمعنى الأشمل.

 

•        إنّ ما بلغته الإنسانيّة، اليوم حيال القرآن، لا يصل إلى عمق القرآن، بل يظلّ المضمون القرآنيّ مفتوحاً أمام الأجيال.

 

•        إنّ المحتوى القرآنيّ من جهة المسائل الطبيعيّة، يكشف عن إعجازات القرآن بشكلٍ مستجدٍّ ودائم. وقد ورد هذا المعنى في كلام النبيّ والأئمّة في ما يذكرونه حول أنّ القرآن جديدٌ على الدوام لا يبلى.

 

•        يتنوّع الجانب المعنويّ في القرآن إلى أقسامٍ متعدّدة، بحسب تنوّع محتوياته ومواضيعه.

 

•        القصص والإشارات التاريخيّة التي أخبر عنها القرآن كانت محلّ قبولٍ عند الناس بمقتضى أنّ القرآن أتى على ذكرها، وإن لم يكن ثمّة ما يدلّ عليها من وجهة الإثبات التاريخيّ، ثمّ جاءت البحوث والاكتشافات الجديدة تؤيّد ما ذكره القرآن.

 

•        من الجوانب الإعجازيّة في القرآن الكريم ما يرتبط منها بالمنطق حيث تحدّث عن أسباب الانحراف الذهنيّ من اتّباع للظن، وتقليد للماضين، وتسرّع في الحكم، واتباع للهوى والكبراء.

 

126

 


94

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

الدرس العاشر

الإعجاز القرآنيّ (3)

التّوحيد والأمور المتّصلة بالله وبما وراء الطّبيعة

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى إعجاز القرآن في التوحيد والمعارف الإلهيّة.

2. يبيّن له الجمال الوصفيّ في القرآن الكريم.

3. يشرح بيان القرآن لأقوم السبُل المنطقيّة لمعرفة الله -تعالى-.

 

 

128


95

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

تمهيد

يدور الحديث - هنا - حول إعجاز القرآن من زاوية المعارف الإلهيّة, أي من الجوانب التي ترتبط بالله، إذ يحتوي القرآن، وبشكل رفيع، على بيان المسائل التي ترتبط بالله أو بما وراء الطبيعة، بحسب اصطلاح الفلاسفة، بحيث لم يكن ليصدر جزماً عن إنسانٍ عاديّ، على الأخصّ بلحاظ المحيط والوضع الشخصيّ الذي كان عليه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وحتّى لو افترضنا أنّ النبيّ عاش في أكثر نقاط العالم تمدّناً في ذلك العصر، وأنّه كان قد طوى المراحل الثقافيّة لعصره مثل الآخرين، فمع ذلك سيبقى ما تحدّث به القرآن عن الله وعمّا وراء الطبيعة يحظى بحالة استثنائية[1].

 

لقد تناول القرآن التوحيد، على سبيل المثال، والأمور المتصلة بالله - تعالى -، وعندما نقارن مقاربته لهذه المواضيع بما أنجزه الآخرون على هذا الصعيد، سنجد بوناً شاسعاً بينهما.

 

إنّ بيان القرآن في التوحيد والأمور المتّصلة بالله وبما وراء الطبيعة، لا يفوق بيئته الثقافيّة فحسب، بل هو سابقٌ على عصره أيضاً، ومتقدّمٌ على الأزمنة اللاحقة إلى يومنا هذا، وهذا جانبٌ من وجوه الإعجاز فيه، ولا سيّما -مع الأخذ بعين الاعتبار- أنّه صدر عن رجلٍ عربيٍّ أمّيّ[2].


 


[1]  الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص427.

[2] المصدر نفسه، ص350.

 

130


96

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

إعجاز القرآن في التّوحيد والمعارف الإلهيّة

نلاحظ أنّ ما انطوى عليه القرآن في هذا المضمار يتجاوز طاقة الفكر البشريّ، فليس بمقدور أيّ إنسانٍ أن يأتي بما جاء به القرآن في هذا الباب.

 

إنّ معارف القرآن في التوحيد والإلهيّات، تبقى متميّزةً بشكل استثنائيّ، بالمقارنة مع ما احتوته الكتب السماويّة الموجودة آنذاك، كالتوراة والإنجيل، أو الأفكار العلميّة والفلسفيّة التي كانت سائدةً في ذلك الزمان.

 

وتتمثّل حقيقة التوحيد، بالأساس، في أنّ على الإنسان أن يُقرّ في أيّ مرحلة يبلغها من معرفة الله، بأنّ ما وصل إليه وما يصف به الله هو حدّ علمه ومعرفته، وأنّ الله أرفع شأناً وأجلّ من حدود هذا الوصف. ومع ذلك، تبقى هناك فروقات كبيرة في وصف الله، فبعض الأفراد ربّما يتصوّر الله مثل هالةٍ من نور تستقرّ في أعالي السماوات، وأكثر التصوّرات حول الله هي تصوّرات جسميّة، سواء في الكتب السماويّة المحرّفة التي سبقت القرآن أم في غيرها، كالزرادشتيّة ونحوها. أمّا تصوّر الإله في أعلى مراتب التجرّد والتنزّه فهو ممّا يختصّ بالقرآن وحده[1]. ونشير في ما يلي إلى بعض الأبعاد التي تمثّل هذا النحو من الإعجاز في القرآن الكريم:

تنزيه الله في القرآن

يُذكّر القرآن بضرورة التّنزيه، فالله أسمى من هذا الذي نتصوّره وأرفع من هذه الأوصاف التي يرسمها فكرنا, وهذا ما تنهض به الآيات التّنزيهيّة، من قبيل قوله -تعالى-: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾[2]. فأينما استُخدمت كلمة "سبحان" في القرآن فهي للتّنزيه...، وكذلك صيغة "تعالى"


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص401 - 403.

[2] سورة الصافات، الآية 180.

 

131


97

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

في قوله: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾[1]، وصيغة "قدّوس" في قوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾[2]، وكذلك قوله -تعالى-: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ﴾[3]، وقوله - تعالى -: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾[4] ونحوها من آياتٍ تفيد أنّ ذروة القدسيّة والتنزيه هي تلك الموجودة في ذات الله، بحيث لا يليق أن يُنسب إليه أدنى شائبةٍ من نقص. وما يسعى إليه القرآن في هذا المضمار، هو أن يُسجّل بأنّ الله أسمى وأرفع من تلك الأفكار والتصوّرات الموجودة حوله، بل هو أرفع وأنزه حتى من حدّ التوصيف. وفي الحديث النبويّ: "لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"[5]. ذلك أنّ الذّوات جميعاً قاصرة عن الثّناء على الله، وذاته (سبحانه) هي الوحيدة التي لها القدرة على الثّناء عليه كما هو أهله.

 

وفي حديثٍ آخر: "كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوقٌ مصنوعٌ مثلكم مردود إليكم"[6]. وما تدلّ عليه هذه النّصوص هو أنّ الفهم البشريّ قاصرٌ عن إدراك الله بكنهه.

 

يقول - تعالى -: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[7]. وقوله – تعالى -: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ معناه أنّ الله أكبر من أن يوصف، لا أنّه أكبر من بقيّة الأشياء، فالأشياء أخسّ من أن تُقاس بالله ويقال إنّ الله أكبر منها.

 

وقد ذهب المسيحيّون إلى أنّ المسيح ابن الله، وذهب المشركون إلى أنّ


 


[1] سورة طه، الآية 114.

[2] سورة الحشر، الآية 23.

[3] سورة البقرة، الآية 255.

[4] سورة الأنعام، الآية 103.

[5] المجلسي، العلّامة محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ.ق، 1983م، ط2، ج68، ص23.

[6] المصدر نفسه، ج115، ص34.

[7] سورة الإسراء، الآية 111.

 

132


98

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

الملائكة بنات الله. ومنطق القرآن في المقابل هو: ﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾[1]، فكلّ شيءٍ في السماوات والأرض هو له، لا أنّه له ولدٌ - سبحانه - بل كلّ شيءٍ خاضعٌ له. وهو – سبحانه - بديع السماوات والأرض، والإبداع إيجاد الشيء من دون محاكاة نموذجٍ سابق وتقليده، فهو بديع السماوات والأرض بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو الذي: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[2]، فوجود أيّ شيءٍ يرتبط بإرادته وحسب، وبمجرّد أن يريد شيئاً يتحقّق ذلك الشيء.

 

هذه الجوانب من البعد التنزيهيّ في القرآن لا نقع على مثيلٍ لها في غيره من الكتب العلميّة والفلسفيّة أو الكتب السماويّة السابقة والمحرّفة[3].

 

صفات العظمة والجلال في القرآن

لم يقتصر القرآن في ما ذكره عن الله، على الأبعاد السلبيّة المتمثّلة بالتنزيه وحسب، بل تعرّض أيضاً للأبعاد الثبوتيّة وصفات العظمة.

 

من الآيات التي نستفيد منها على هذا الصعيد، قوله - تعالى - في مطلع سورة الحديد: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[4] فالأوّل مطلقًا هو، كما أنّ الآخر مطلقًا هو – سبحانه - ومع أنّ (الأوّل) هو دائماً غير (الأخِر) في الأمور الزمانيّة التدريجيّة، نظراً لمحدوديَّتها، و(الظاهر) غير (الباطن) في الأمور الممكنة، إلا أنّه -سبحانه- ونظراً لعدم محدوديّته وإمكانه فقد وصف نفسه في كتابه أنّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن.

 

والله - تعالى - لم يوصَف في أيّ موضعٍ من القرآن على الإطلاق، بصورة موجودٍ محدّدٍ ومنفصلٍ وخارجٍ عن الأشياء. إنّ هذا المقدار من الفكر لم يكن له أيّ أثر

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 116.

[2] سورة آل عمران، الآية 47.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص404 - 409.

[4] سورة الحديد، الآية 3.

 

133


99

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

قطُّ في أيّ من الكتب السماويّة المحرّفة، وأيٍّ من المدارس الفلسفيّة في العالم. ولكنه صدر عن إنسانٍ أمّيٍّ، فهل يمكن أن يكون من بنات فكره المحض؟

 

عندما حوّل النبيّ قِبلته من بيت المقدس إلى الكعبة بتوجيهٍ من جبرائيل، اعترض اليهود عليه، فأجابهم بقوله: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾[1]، كناية عن جميع الأماكن، فالوجود كلّه له: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾[2]. هذه الفكرة السامية طُرحت منذ أربعة عشر قرناً وهي أنّ الله -مع عين كونه غير موجودٍ في أيّ مكان خاص- فهو موجود في كلّ مكان، ذلك أنّ انحصار وجوده في مكانٍ ما يعني محدوديّته، والحال أنّه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾[3], ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾[4]، و﴿أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[5]، وكذلك: ﴿لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾[6] وتقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر، فله - سبحانه - حصرًا وبالأصالة، كلّ جمال وحسن وكمال.

 

ومن أوصاف الله في القرآن أنه: ﴿الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾[7]، فالحقّ الواقعيّ هو، وما يملكه أيّ شيء من حقيقة فهو منه، وكذلك صفة الحياة: ﴿هُوَ الْحَيُّ﴾[8].

 

وكذلك الحال في العلم والقدرة، فهما له حصراً: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[9] والقوّة المطلقة له: ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً﴾[10], والملك كذلك والحمد: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾[11]، وهو الغنيّ مطلقاً: ﴿هُوَ الْغَنِيُّ﴾[12].


 


[1] سورة البقرة، الآية 115.

[2] السورة والآية نفسها.

[3] سورة الحديد، الآية 4.

[4] سورة ق، الآية 16.

[5] سورة الأنفال، الآية 24.

[6] سورة طه، الآية 8.

[7] سورة النور، الآية 25.

[8] سورة البقرة، الآية 255.

[9] سورة الروم، الآية 54.

[10] سورة البقرة، الآية 165.

[11] سورة التغابن، الآية 1.

[12] سورة يونس، الآية 68.

 

134


100

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

إنّ الطريق الذي اختصّ القرآن بالتركيز عليه أكثر من غيره، هو ما تمثّل بدفع الإنسان صوب الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة، حيث إنّ التأمّل في أيّ مخلوقٍ والنظر إليه هو تأمّل -بنظر القرآن- بمرآةٍ يُمكن أن يُعرف الله من خلالها.

 

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[1]، كما أنّ ما يتعلّمه الإنسان توحيديّاً من الآيات الأنفسيّة يختلف عمّا يتعلّمه من الآيات الآفاقيّة في الموضوع نفسه.

 

لم تُدرِك البشريّة الطبيعة والآفاق والأنفس حتّى الآن كما ينبغي، والله يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[2]. فمضافاً إلى المعرفة الآفاقية والأنفسيّة الدالّتين على الله - تعالى -، تتحدّث الآية الكريمة عن معرفةٍ أخرى أرقى من المعرفتين السابقتين، إنّها معرفة الله بالله ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أفلا تكفي ذات الله -تعالى- بالأساس لإراءة ذاته، كي تكون ثمّة حاجة لمعرفته من خلال إراءة الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة؟ أفلا يكفي لمعرفته أن تكون ذاته محيطةً بكلّ شيء وحاضرةً في الجميع؟ ثمّ يقول: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾[3].

 

لو تأمّل الإنسان في الوجود نفسه، وفي حقيقة الوجود، لرأى أنْ لا مجال فيه للعدم ولا للمحدوديّة، بحيث يكون موجوداً في مكانٍ ما وغير موجود في غيره، وحاضراً في زمانٍ ما دون غيره، لأنّ هذه الصفات هي صفات الموجود المقهور، أمّا ذات الوجود الذي لا يُقهر فلا يكون له حدٌّ ولا نهاية، ولو تأمّلنا في الوجود فإنّ أوّل ما سنراه هو الله.


 


[1] سورة فصلت، الآية 53.

[2] السورة والآية نفسها.

[3] السورة نفسها، الآية 54.

 

135


101

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

إنّ هذا المنطق الذي يصف الله بمثل هذه العظمة والجلال، بحيث يكون مالئاً للأمكنة والأزمنة جميعاً، فلا يغيب عن زمان ولا يخلو منه مكان ولا شيء، وهو الظاهر والباطن والأوّل والآخر، وله الأسماء الحسنى... هذا المنطق الذي يصف الله بهذه الكيفيّة التي تُعدّ أعلى حدّ، كيف يمكن أن يرتقي إليه إنسان في وصف الله، وكيف يمكن أن يكون قد صدر عن إنسانٍ أمّيّ؟

 

لا مناص من أن تكون تلك المعاني والأوصاف قد نزلت من مكانٍ آخر، وجاءت من أفقٍ آخر، وقد جرت على لسان النبيّ المقدّس صلى الله عليه وآله وسلم، وإلّا فكيف يمكن لإنسانٍ أن يصف الله بمثل ما وصفه القرآن انطلاقاً من فكره المحض[1]؟!

 

القرآن والجمال الوصفيّ الفائق

إلى جانب الأنبياء، كان هناك فلاسفة في دائرة الإيمان بالله وبنحوٍ دائم. وعندما نُيمّم وجوهنا صوب الفلاسفة الإلهيّين، فإنّنا نجد أنّ هؤلاء يتحدّثون عن الله أيضاً، ويثبتون وجود الله بما لديهم من الأدلّة، بيدَ أنّ الإله الذي يعكسه لنا هؤلاء هو موجودٌ جافٌّ بلا روح. وعندما يتحدّثون عن الله تراهم يذكرونه بعنوان علّة العلل مثلاً. مثل هذا الاكتشاف ليس له وقع جاذب في روح الإنسان، وهو لا يستطيع أن يستقطب إليه روح البشر ولا أن يوجد فيهم توقاً واندفاعاً.

 

أمّا الله الذي تحدّث عنه الأنبياء عامّة[2]، والإله الذي عرضه القرآن للبشر، فهو إلهٌ جميل جدير بأن يكون محبوباً للبشر، مطلوباً من قِبلهم، بل هو الموجود الوحيد الذي يستحقّ أن يكون محبوب الإنسان، وهو ما يتوق إليه البشر بتمام المعنى.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص409 - 417.

[2] عندما نذكر الأنبياء عامة، فعلينا أن نشير إلى أنّنا نتحدّث عن الأنبياء كما عرضهم القرآن الكريم لا كما عرضتهم الكتب السماويّة (المحرّفة) الأخرى، فإنّها تنسب إليهم ما لا يمكن الإذعان له.

 

 

136


102

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

إنّ القرآن - منطق الأنبياء - يُعرّف الله بأسلوب يولّد في داخل الإنسان شعلةً يعيش معها الاتّقاد ويلتهب حبّاً ينبض بالحركة صوب الله، ويدفع به إلى إحياء الليالي والشّوق في النّهار، فيظمأ ويجوع ويُعاني في سبيل الله: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾[1].

 

إنّ بين منطقيِ الفلاسفة والقرآن بوناً شاسعاً يمتدّ من الأرض إلى السّماء، ذلك أنّ منطق "علّة العلل" يضع الله خلف الخِلقة، حيث يشير إلى أنّ وراء نظام الخلقة في حركتها هذه، علّةً نهائيّةً هي التي أوجدت هذا الجهاز الوجوديّ.

 

أمّا القرآن فهو يقول: صحيحٌ أنّ وراءك - أيّها الإنسان - قدرة أوجدتك وأوجدت عالم الوجود كلّه، لكنّ الأهمّ من ذلك أنّك حين تتحرّك إلى الأمام، فإنّك تتحرّك نحو الله، فأنت منبثقٌ منه وراجعٌ إليه، والأسمى من ذلك كلّه ما يؤكّده القرآن خاصّة من أنّ كلّ شيء صائرٌ إليه: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[2].

 

إنّ هذا المنطق الذي يتحدّث عن الله بهذا الأسلوب الجذّاب هو ممّا يختصّ به القرآن[3].

 

علاقة الإنسان بالله في القرآن

ثمّة بُعد آخر في هذا الباب يتمثّل بالجمال الفائق الذي اتّسم به القرآن في وصف علاقة الإنسان بالله.

 

يُعرّف القرآن الإنسانَ بوصفه كائناً يتوق إلى الحقيقة وينشد الكمال، بحيث لا يهدأ مهما كانت المرتبة التي بلغها إلّا أن يصل إلى الله: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ﴾، فبعد أن يُسجّل النصّ القرآنيّ أنّ قلوب أولئك تطمئنّ بذكر

 


[1] سورة الصف، الآية 11.

[2] سورة آل عمران، الآية 83.

[3] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص428 - 433.

 

137


103

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

الله، يعود ليُضيف مباشرة: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[1]. إنّ تقديم "بِذِكْرِ اللّهِ" على "تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" مع أنّه ينبغي أن يكون مؤخّراً، إنّما يُفيد الحصر، أي بذكر الله وحده تطمئنّ القلوب، والإنسان يبقى قلقاً مضطرباً مهما كان المبتغى الذي وصل إليه.

 

ومن الآيات الأُخر بشأن علاقة الإنسان بالله قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾[2]. تأمّلوا كم هي وثيقةٌ العلاقة بين الله وعبده، فهما موجودان يرضى أحدهما عن الآخر ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[3].

 

وعندما نتأمّل هذه الصورة يبدو لنا أنّ ما يعكسه القرآن بشأن بيان العلاقة بين الإنسان وبين الله هو بيانٌ يتّسم بالإعجاز، إذ إنّه بيانٌ لا يُضارَع ولا يُنافَس ولا سابقة له.

 

من الأمور التي تطرحها العلوم النفسيّة المعاصرة ويؤمن بها عدد كبير من علماء النفس أنّ أحد أبعاد الرّوح الإنسانيّة هو ما تتّسم به من الميل إلى الله والشعور بحسّ التقديس، ففي غريزة الإنسان حسٌّ متعال يصبو به للخضوع بإزاء مقامٍ رفيع ليقوم بعبادته، وهذا الجانب كان القرآن قد تحدّث عنه بغاية الصراحة بقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[4]. فالفطرة تعني الخلقة، حيث يُطلَق على عمليّة الخلق المبدعة غير المسبوقة بمثال وصفُ "الفطرة"، والله فاطر السماوات والأرض، لأنّه أبدع الخِلقة من دون مثال سابق. إنّ الآية تشير إلى أنّ الحسّ الدينيّ هو شيءٌ موجودٌ في طبيعة الإنسان وبنيته الوجوديّة.


 


[1] سورة الرعد، الآية 28.

[2] سورة الفجر، الآيتان 27 - 28.

[3] سورة البينة، الآية 8.

[4] سورة الروم، الآية 30.

 

138


104

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

من أين يأتي النبيّ بهذا وينطق به؟ لا مناص من أن نذعن بأنّ هذه اللغة هي لغة ربّ الوجود، وهي منبثقة من قلب الوجود. هذه لغة موجود هو الذي خلق الإنسان وهو العليم به[1].

 

أقوم السبُل المنطقيّة لمعرفة الله

أمّا البُعد الآخر فهو المنهج العقليّ في معرفة الله، حيث نجد أنّ القرآن حين يُعرّف الله للإنسان، يستخدم أقوم الصّيغ المنطقيّة معقوليّة.

 

عندما نلاحظ المسيحيّة مثلاً، سواء القديمة أم المعاصرة، فإنّنا نجد الفصل بين الإيمان والعقل، كما في إيمانهم بالتثليث مثلاً، في حين أنّ القرآن لا يفصل بين الإيمان والعقل البشريّ، وإنّما يعتني كلّ العناية بآيات الخلقة، ويحثّ البشر على الدوام ويدعوهم إلى التأمّل في آثار الخلقة والتفكير فيها أكثر، فحيثما ازداد التفكير والتأمّل أدرك الإنسان الله على نحو أفضل، ومن هنا فقد عدَّ القرآنُ العلمَ جسراً للإيمان. يقول - تعالى - في سورة البقرة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[2]. تعكس هذه الآية أقدم الصيغ المنطقيّة لمعرفة الله، وهي تُشير إلى أنّ القرآن لا يمرّ على هذه الظواهر ولا يراها أموراً عاديّة، وما حثُّه على التأمّل في الخلقة وأساسيّاتها إلّا من أجل هداية الإنسان إلى اكتشاف دليل التّوحيد بواسطة عمليّة التفكير والتأمّل.


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص436 - 439.

[2] سورة البقرة، الآية 164.

 

139


105

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

وإذا ما اتّجهنا صوب أيّ مبدأ من المبادئ التّوحيديّة في العالم، فسنعثر، جزماً، إلى جانب الأفكار الجيّدة، على أفكار أخرى مستبعدة أو ناقصة على أقلّ تقدير، بحيث ينبغي استكمالها من خلال الاستعانة بمصادر أخرى. لكنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يُعدّ كلّ ما جاء به في مجال الإلهيّات صحيحاً، بحيث لم يأتِ أحدٌ بما يعلو على ما جاء به في هذا المجال، وهنا يكمن الإعجاز.

 

نحن نقف أمام كتابٍ كان قد عَرَض قبل ألف وأربعمئة سنة كثيراً من المسائل في الإلهيّات، بحيث تُعدّ كلّ مسألةٍ صحيحةً في مجالها، لم ينَلْها شيءٌ من الاعتراض ولم يعترِها نقص، بل صارت مصدراً يَستوحي منه الآخرون. وهذا بنفسه يُعدّ دليلاً على أنّ هذا الكتاب استُمدّ من مبدإٍ أعلى، وهو منبثقٌ من مصدر غير الفكر الشخصيّ، بل إنّ صاحبه لم يأتِ بالذي فيه من عنده بحيث يكون ما ذكره من بنات أفكاره، وإنّما نزل عليه من أفقٍ أعلى وجرى على لسانه، ولم يكن لسانه غير وسيلةٍ لبيان رفيع، بل ليس وجوده وقلبه وروحه إلّا وسيلةً وحسب تهدي الناس إلى الله -تعالى-[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، النبوّة، مصدر سابق، ص440 - 443.

 

140


106

الدرس العاشر: الإعجاز القرآنيّ (3)

المفاهيم الرئيسة

•        يحتوي القرآن وبشكل رفيع، على بيان المسائل التي ترتبط بالله أو بما وراء الطبيعة بحسب اصطلاح الفلاسفة.

 

•        إنّ بيان القرآن في التوحيد والأمور المتّصلة بالله وبما وراء الطبيعة لا يفوق بيئته الثقافيّة فحسب، بل هو سابق على عصره، ومتقدّم على الأزمنة اللاحقة إلى يومنا هذا ويتجاوز الفكر البشريّ.

 

•        إنّ معارف القرآن في التوحيد والإلهيّات تبقى متميّزة بشكلٍ استثنائيّ مقارنةً بما احتوته الكتب السماويّة الموجودة آنذاك، كالتوراة والإنجيل، أو الأفكار العلميّة والفلسفيّة التي كانت سائدةً في ذلك الزمان.

 

•        لقد وصف القرآن الله بأفضل صورة وأزكاها من حيث التسبيح والتنزيه، فكلّ ما لا يليق بساحته نزّهه القرآن عنه بشكل يبعث على الدهشة.

 

•        القرآن حين يُعرّف الله للإنسان، يستخدم أقوم الصّيغ المنطقيّة معقوليّة.

 

•        إنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يُعدّ كلّ ما جاء به في مجال الإلهيّات صحيحاً، بحيث لم يأتِ أحد بما يعلو على ما جاء به في هذا المجال، وهنا يكمن الإعجاز.

 

141

 


107

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

الدرس الحادي عشر

ختم النبوّة (1)

ختم النبوّة ومسوِّغاتُها

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يكتب معنى ختم النبوّة والتساؤلات حولها.

2. يعدّد الردود لبعض التساؤلات حول الخاتميّة.

3. يتعرّف إلى الأسس التي يقوم عليها ختم النبوّة في الإسلام.

 

142


108

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

تمهيد

كان ظهور الدّين الإسلاميّ متزامناً مع إعلان خلوده، ومع إغلاق باب النبوّة. وكان المسلمون يعتبرون ختم النبوّة أمراً واقعاً، فلم يكن ليخطر ببالهم أن يسألوا عن مجيء نبيٍّ بعد النبيّ محمّدصلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إنّ القرآن الكريم كان قد أعلن بصراحةٍ عن ختم النبوّة، وكان النبيّ قد كرّر هذا الكلام على مسامع المسلمين، فقد بات الاعتقاد بظهور نبيٍّ آخر مخالفاً للإيمان بالإسلام عند المسلمين، وكذلك هو الحال في إنكار وحدانيّة الله وإنكار يوم القيامة[1].

 

معنى الخاتميّة

كلمة خاتم تعني الشّيء الذي يُنهون به شيئاً ما، فالختم الذي تختم به الرسالة بعد غلقها يُسمّى "خاتماً". ولأنّهم يكتبون أسماءهم أو شعاراتهم على ظهر الخاتم، ويختمون بها الرّسائل، فقد سمّوا الخاتم بهذا الاسم. وفي القرآن، يعطي الختم مفهوماً عن الانتهاء أو الإغلاق، فقد ورد في سورة الأحزاب[2]، قوله – تعالى -: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ


 


[1]  مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، ختم النبوّة، ترجمة: عبد الكريم محمود، دار المحجة البيضاء، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ص5.

[2] سورة الأحزاب، الآية 40.

 

144


109

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾[1]، وفي سورة يس: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[2],[3].

 

تسّاؤلات حول مسألة ختم النبوّة

تواجهنا فكرة ختم النبوّة بالتّساؤلات الآتية: هل ختم النبوّة وعدم ظهور نبيٍّ آخر بعد خاتم النبيّين يعني تضاؤل الاستعدادات المعنويّة للبشريّة وهبوطها من النّاحية الروحيّة؟ وهل الدنيا قد عجزت عن إنجاب أبناء ذوي صفات ملكوتيّة قادرين على الاتّصال بالغيب والملكوت؟ وهل إعلان ختم النبوّة يعني إعلان عقم الطّبيعة تجاه أبناء كهؤلاء؟ ولمّا كانت النبوّة هي تلبية لحاجة البشريّة إلى الرّسالة الإلهيّة، فقد جُدّدت هذه الرّسالة في الماضي وفقاً لمقتضيات المراحل والأزمنة، وكان تعاقب ظهور الأنبياء والتّجديد المستمرّ للشّرائع والنّسخ العديدة للكتب السماويّة، كلّ ذلك بسبب تغيّر حاجات البشر مرحلةً بعد أخرى، فكانوا في كلّ مرحلة بحاجة إلى رسالة جديدة ورسولٍ جديد، ومع هذا كلّه، كيف يُمكن الافتراض أنّه بإعلان ختم النبوّة تُقطع هذه العلاقة تماماً ويُدمّر الجسر الذي يربط عالم البشريّة بعالم الغيب، ما يعني أنّه بعد ذلك لن تصل أيّة رسالة إلى البشر وسيُتركون سدًى؟

 

مضافاً إلى جميع ما تقدّم، فقد ظهر في الفترة التي تفصل بين الأنبياء أصحاب الشّرائع، أمثال نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، مجموعةٌ من الأنبياء الآخرين ممّن كانوا يرجعون في التبليغ إلى الشّريعة السّابقة عليهم، حيث جاء آلاف الأنبياء

 

 


[1] كان "التبنّي" من عادات العرب وبعض الشعوب الأخرى، وقد نسخ الإسلام هذه العادة التي كان الولد المتبنّى يُعامل -بموجبها- في الإرث والعلاقات العائلية كالابن الحقيقي، وقد كان لرسول الله غلامٌ اسمه "زيد بن حارثة" كانوا يعدّونه ابناً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتبنّي، وكانوا يتوقّعون -كالعادة- أن يتصرّف النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع ولده المتبنّى كالولد الحقيقي كما كانوا يفعلون هم، لكنّ هذه الآية تقول: لا تنادوا محمداً أبا أحدٍ من رجالكم -زيد بن حارثة أو غيره- بل اعتبروه فقط رسول الله وخاتم النبيّين.

[2] سورة يس، الآية 65.

[3] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص8 - 9.

 

145


110

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

بعد نوح مبلّغين ومروّجين لشريعته، وكذلك بعد إبراهيم وغيره، فلو قبلنا فرضاً انقطاع النبوّة التشريعيّة وقُلنا إنّ الشّرائع قد خُتمت بالشّريعة الإسلاميّة، فلماذا انقطعت النبوّات التبليغيّة بعد الإسلام؟ ولماذا ظهر جميع هؤلاء الأنبياء بعد كلّ شريعة مبلّغين ومروّجين لها ومحافظين عليها، ولم يَظهر بعد الإسلام ولو نبيٌّ واحد من هذا القبيل؟[1].

 

الردّ على التساؤلات

لقد أعطى الإسلام الجواب عن هذه التساؤلات، حيث طرح فكرة ختم النبوّة وجسّدها بشكلٍ لم يقضِ فقط على أيّ إيهام وتردّد بشأنها، بل أخرجها على شكل فلسفة عظيمة.

 

فليست فكرة ختم النبوّة - من وجهة نظر الإسلام - دليلاً على انحطاط البشريّة وتضاؤل استعداداتها وعقم الدنيا، ولا هي تدلّ على استغناء البشر عن الرسالة الإلهيّة، ولا هي غير متوافقة مع تلبية حاجات البشر المتغيّرة في مختلف المراحل والأزمنة، وإنّما لها سببٌ آخر وفلسفة أخرى. ويجب قبل كلّ شيء أن نتعرّف إلى حقيقة ختم النبوّة كما رسمها الإسلام، وندرسها ثمّ نحصل على الأجوبة عن تساؤلاتنا[2].

 

الأسس التي يقوم عليها ختم النبوّة في الإسلام

إنّ من أسباب تجديد الرّسالة وظهور الأنبياء الجدد: التبديلات والتحريفات التي كانت تحدث لتعليمات الأنبياء وكتبهم المقدّسة، ولهذا كانت تلك الكتب والتعاليم تفقد صلاحيّتها في هداية الناس، فكان الأنبياء يُحيون السّنن المنسيّة ويصلحون التعاليم المحرّفة عند من سبقهم.


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص6 - 7.

[2] المصدر نفسه، ص8.

 

146


111

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

وحتّى الأنبياء أصحاب القوانين والشّرائع كانوا أيضاً يؤيّدون أكثر مقرّرات الأنبياء السابقين لهم، ولم يكن تتابع ظهور الأنبياء نتيجةً لتكامل الظروف الحياتيّة للبشر وحاجتهم إلى الرسالة الجديدة والموجّه الجديد فحسب، بل كان غالباً نتيجةً لفناء الكتب والتعاليم السماويّة وتبديلها.

 

ومع وجود الخطّة الشاملة المصونة من التحريف، سوف ينتفي السّبب الرّئيس لتجديد الرسالة وظهور نبيٍّ جديد.

 

قال الله – تعالى -: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[1]. في هذه الآية جاء الحديث حاسماً بشكلٍ يقلّ نظيره، عن بقاء القرآن محفوظاً من التّحريف والتغيير والفناء.

 

لقد كان البشر قبل بضعة آلافٍ من السّنين عاجزين عن حفظ ميراثهم العلميّ والدّينيّ، ولا يمكننا انتظار شيء غير هذا منهم، فعندما يبلغ البشر مرحلة من التّكامل تُمكّنهم من الحفاظ على ميراثهم الدّينيّ سالماً، فعند ذلك ينتفي السبب الرئيس لتجديد الرسالة وظهور النبيّ الجديد، فيتوافر الشرط اللازم (وليس الشرط الكافي) لبقاء الدين خالداً.

 

والآية المتقدّمة تُشير إلى انتفاء أهمّ سبب لتجديد النبوّة والرسالة منذ نزول القرآن، وهي في الحقيقة تُعلن عن تحقّق أحد أركان ختم النبوّة. القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من بين الكتب السماويّة في العالم، الذي بقي سالماً وصحيحاً بالتمام والكمال، وبما أنّ الوسيلة الإلهيّة لبقاء كتاب المسلمين السّماويّ محفوظاً هي نموّ البشر وقابليّتهم في هذه المرحلة، فهذا يدلّ على نوعٍ من البلوغ الاجتماعيّ لإنسان هذا العصر. والحقيقة أنّ من أركان الخاتميّة: البلوغ الاجتماعيّ للبشر إلى درجةٍ تُمكّنهم من أن


 


[1] سورة الحجر، الآية 9.

 

147


112

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

يحافظوا على ميراثهم العلميّ والدينيّ[1]، وأن يُبادروا بأنفسهم إلى نشره وتبليغه وتعليمه وتفسيره[2].

 

حقيقة الدّين بلغت غايتها مع رسول الإسلام

نجد في القرآن كلّه إصراراً عجيباً على أنّ الدّين، منذ ابتداء العالم وحتى نهايته، واحدٌ لا أكثر، وأنّ جميع الأنبياء قد دعوا البشر إلى دينٍ واحد، حيث جاء في الآية 31 من سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾[3].

 

والقرآن يُسمّي هذا الدّين الذي دعا الأنبياءُ النّاسَ إليه "الإسلام"، والمقصود هو أنّ الدّين ذو ماهيّة وحقيقة واحدة، وأفضل عنوان معرّف لها هو كلمة "الإسلام".

 

وبطبيعة الحال، ثمّة اختلافٌ بين الأنبياء في أجزاء من القوانين والشرائع. وبينما يعتبر القرآن الدّين واحداً فإنّه في الوقت نفسه يتقبّل اختلاف الشرائع والقوانين في بعض المسائل، حيث يقول في الآية (84) من سورة المائدة: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[4].

 

 


[1] تذهب نظريّة الفيلسوف إقبال اللاهوري إلى تقسيم تاريخ البشريّة إلى مرحلتين: مرحلة الطفولة ومرحلة الرشد الاجتماعي... وقد جاء الإسلام في مرحلة مفصلية... وهذه النظريّة تنتهي إلى ادّعاء نضج العقل والعلم البشريين، ما يعني وجود مقوّمات حفظ الشريعة بالاستناد إلى دور العلماء وبوصفهم ورثة الأنبياء، والحفظ إمّا واقعي، وهو مرتبط بدور الأئمّة عليهم السلام بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيأتي في مباحث الإمامة، وإما ظاهري بالاستناد إلى العقل والعلم وجهود العلماء في تفسير القرآن وتبيين الشريعة.

[2] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص10 - 11.

[3] سورة الشورى، الآية 13.

[4] سورة المائدة، الآية 48.

 

148


113

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

ولكن من حيث إنّ المبادئ الفكريّة والعلميّة التي دعا الأنبياء إليها كانت واحدة، وجميعها يدعو النّاس إلى طريقٍ واحدٍ وهدفٍ واحد، لم يكن لاختلاف الشّرائع والقوانين جزئيّاً تأثيرٌ على جوهر الطّريق وماهيّته، والذي سُمّي في منطق القرآن بـ "الإسلام".

 

واختلاف تعليمات الأنبياء في ما بينها يكون على نوعين:

1- الاختلاف بين دروس الصفوف العليا والدّنيا:

نحن نعلم أنّ التلميذ، في الصّفوف العليا، لا يواجه مسائل لم يواجهها من قبل فحسب، بل إنّ تصوّره حول المسائل التي تعلّمها سابقاً وجسّدها بشكلٍ معيّن في ذهنه الطفوليّ، يتطوّر ويتعمّق شيئاً فشيئاً، وتعليمات الأنبياء هي أيضاً على هذه الشّاكلة.

 

على سبيل المثال، يُمثّل التّوحيد المبدأ والحجر الأساس لبناءٍ كان الأنبياء يعملون على إقامته. ولكنّ التّوحيد هو نفسه ذو درجات ومراتب، فما يفهمه الإنسان العاديّ في ذهنه حول الإله الواحد هو غير ما يتجلّى في قلب العارف، وحتّى العرفاء لا يستوون في درجاتهم. وقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إنّ الله -عزّ وجلّ- عَلِمَ أنّه يكون في آخر الزمان أقوامٌ متعمّقون فأنزل الله -تعالى- قل هو الله أحد والآيات من سورة الحديد إلى قوله: ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[1]"[2].

 

2- الاختلاف في تنفيذ مبدأ واحدٍ في ظروف وأوضاع مختلفة:

فالشّكل التنفيذيّ لمبدأ عامّ يختلف في الظّروف المختلفة، وأكثر الاختلافات بين الأنبياء هي في شكل التنفيذ وليس في روح القانون[3].

 

 


[1] سورة الحديد، الآية 6. 

[2] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363هـ.ش، ط5، ج1، ص91.

[3] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص12 - 15.

 

149


114

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

فطريّة الدّين وحدة المسير ووحدة الهدف

يصرّح القرآن بأنّ الدين من مقتضيات الفطرة ونداء الطبيعة الروحيّة للبشر: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1].

 

لكن، كم نوعاً من الفطرة والطّبيعة يُمكن أن يمتلك البشر؟ إنّ موضوع وحدانيّة الدين من بداية العالم وحتّى نهايته وتبعيّته لفطرة البشر وطبيعتهم، التي هي أيضاً لا يُمكن أن تزيد عن واحدة، تحمل في داخلها سرّاً كبيراً وفلسفة عظيمة، وتُعطينا تصوّراً خاصّاً حول التّكامل. جميعنا يعرف حكمة التّكامل، فالحديث عن التّكامل حديثٌ دائمٌ في كلّ حين، تكامل العالم وتكامل الأحياء وتكامل الإنسان والجميع.

 

ما هو هذا "التّكامل" وكيف يحدث؟ هل هو مجموعة من الأسباب التي تحصل صدفةً فتؤدّي إلى التكامل، أم إنّ في طبيعة ذلك الشّيء الذي يتكامل ميلاً وانجذاباً نحو التكامل، حيث اختار طريقاً كان قد عيّنه سلفاً؟ وهل الحركة التكامليّة تسير على خطٍّ معيّن ومشخّص نحو هدفٍ معروف، أم إنّ هذه الحركة تتأثّر بالأسباب التصادفيّة فتسير كلّ مرة على خطّ معيّن وتُغيّر اتّجاهها باستمرار، ولا تملك أيّ هدف ومقصد؟

 

إنّ مسيرة تكامل الكون والإنسان والمجتمع في نظر القرآن هي مسيرة موجّهة وهادفة، وهي تسير على خطٍّ يُسمّى "الصّراط المستقيم"، وهي معلومة المبدأ والمسير والمنتهى. فالإنسان والمجتمع متغيّران ومتكاملان، ولكنّ الطّريق وخطّ المسير واحد ومستقيم ومعروف: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[2]. وتكامل


 


[1] سورة الروم، الآية 30.

[2] سورة الأنعام، الآية 153.

 

150


115

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

الإنسان لا يتّخذ شكلاً يتأثّر في كلّ زمان بمجموعةٍ من الأسباب، صناعيّة كانت أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة، فيتحرّك في طريق معيّن ويُغيّر مسيره واتّجاهه دائماً.

 

إنّ إصرار القرآن الشّديد على أنّ الدين واحد واعترافه بطريق واحد فقط، ونظرته إلى اختلاف الشرائع والقوانين على أنّه متعلّق بالخطوط الفرعيّة، تستند جميعاً إلى هذا المبدأ الفلسفيّ. والبشر في مسيرهم التّكامليّ كالقافلة التي تتحرّك في طريقٍ معيّن نحو مقصدٍ معلوم ولكنّها لا تعرف الطّريق فتُصادف في كلّ فترة شخصاً يعرف الطّريق، وبعد أن تستدلّ منه عليه تطوي من الطّريق عشرات الكيلومترات حتّى تصل إلى مكانٍ تحتاج فيه مجدّداً إلى دليلٍ جديد، وبعد أن تأخذ توجيهاتٍ منه، يُضاءُ أمامها أفقٌ جديد فتطوي عشراتٍ أخرى من الكيلومترات بما أخذته من توجيهات، وهكذا حتى تُخلَق لديها تدريجيّاً قابليّة أكبر للتّعلم، فتصل إلى شخصٍ تأخذ منه "الخارطة الشاملة" فتستغني دوماً بتلك الخارطة عن دليلٍ جديد.

 

وحيث إنّ القرآن قد وضّح الطريق الأقوم للبشريّة، وأنّ دعوات جميع الأنبياء ترشد إلى هدفٍ واحدٍ وطريقٍ واحدٍ على الرغم من الاختلاف في التّوجيه وإعطاء المعالم حسب وضعهم وموقعهم الزّمانيّ والمكانيّ، فقد عبّد طريق ختم النبوّة وأوضح ركناً آخر من أركانه، لأنّ ختم النبوّة معقولٌ وقابل للتصوّر حين يكون خطّ سير هذا الإنسان المتغيّر المتكامل مستقيماً وقابلاً للتّشخيص. أمّا إذا كان كالإنسان نفسه مضطرباً يعيش كلّ لحظة في نقطة معيّنة، بحيث يكون دائماً قابلاً للتغيير والتّبديل ولا تُعرف نهايته ولا مقصده ومسيره، ويسير في كلّ فترةٍ على طريقٍ مختلف، فمن البديهيّ أن لا يكون ختم النبوّة، باعتباره تسلّم خطّة وخارطة شاملتين ودائمتين، معقولاً وقابلاً للتصوّر...

 

إنّ الرابطة الموجودة بين النبوّات واتّصالها بعضها ببعض، يدلّان على أنّ النبوّة تسير سيراً تدريجيّاً نحو التّكامل، وأنّ آخر حلقة من حلقات النبوّة تُمثّل أعلى

 

151


116

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

قمّة فيها. يقول العرفاء المسلمون: "الخاتم من خَتَمَ المراتب بأسرها"، أي إنّ النبيّ الخاتم هو الذي اجتاز جميع المراحل، ولم يُبقِ وحيُه طريقاً إلّا سلكه، ولا بقعة إلّا وكشفها... فمكاشفة الرّسالة المحمّديّة أكمل مكاشفة يُمكن أن يقوم بها إنسان، وهي آخر مراحلها، ومن البديهيّ أنّ أيّة مكاشفة أخرى بعد تلك المكاشفة، لن تتضمّن جديداً، وستكون كطيّ طريقٍ تمّ السير فيه من قبل، ولن تحتوي على كلامٍ جديد وموضوعٍ جديد، فآخر الكلام هو الذي ورد في تلك المكاشفة: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[1],[2].

 

هل انسدّت أبواب السّماء بختم النبوّة؟

أوّل سؤال ينتج من فكرة ختم النبوّة يتعلّق بعلاقة الإنسان بعالم الغيب، إذ كيف يُمكن للإنسان الأوّل مع بدويّته وبساطته أن يتّصل بعالم الغيب عن طريق الوحي والإلهام، فتُفتح بوجهه أبواب السّماء، في حين حُرم الإنسان المتقدّم المتكامل الحديث من هذه الموهبة وأُغلقت بوجهه تلك الأبواب؟ هل هبطت استعدادات البشر المعنويّة والروحيّة حقّاً؟ وهل أُصيبت البشريّة بالانحطاط من هذه الناحية؟

 

والجواب: منشأ هذه الشبهة هو الظنّ بأنّ الاتّصال بعالم الغيب يقتصر على الأنبياء، وأنّه مع انقطاع النبوّة تنقطع العلاقة المعنويّة الروحيّة بين عالم الغيب وعالم الإنسانيّة. ولكنّ هذا الظنّ لا أساس له مطلقاً، ففي القرآن الكريم لا يقتصر الاتصال بالغيب على مقام النبوّة، كما أنّ دليل النبوّة لا يقتصر على خرق العادة، وإنّما يذكر القرآن الكريم أشخاصاً كانوا يحيون حياة معنويّة عالية، فكانوا يُكلّمون الملائكة وتصدر عنهم أمورٌ خارقة دون أن يكونوا أنبياء.

 ونموذج ذلك مريم بنت عمران، التي نقل عنها القرآن أموراً مدهشة، وكذلك أمّ موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ

 


[1] سورة الأنعام، الآية 115.

[2] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص16 - 30.

 

152


117

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[1]. لم تكن أمّ عيسى نبيّةً كما لم تكن أمّ موسى كذلك، والقرآن يذكر أنّ باب الإشراق والإلهام مفتوحٌ أمام كلّ من يُطهّر باطنه، حيث يقول: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[2].

 

وبلحاظ معتقد الشيعة بإمامة الأئمّة الأطهار عليهم السلام وولايتهم الباطنيّة دون اعتبارهم أنبياء، فإنّ القضيّة تُحلّ بصورة كاملة، فانقطاع النبوّة لا يعني إذاً انقطاع المهمّة الإلهيّة للإرشاد والهداية، ولا انقطاع الفيض المعنويّ تجاه السّائرين والسّالكين إلى الله. وإنّه لخطأٌ كبير أن نظنّ أنّ الإسلام قد أنكر الحياة المعنويّة بإعلانه ختم النبوّة[3].

 

 


[1] سورة القصص، الآية 7.

[2] سورة الأنفال، الآية 29.

[3] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص32 - 35.

 

153


118

الدرس الحادي عشر: ختم النبوّة (1)

المفاهيم الرئيسة

•        كلمة خاتم تعني الشّيء الذي يُنهون به شيئاً ما، فالختم الذي تُختَم به الرسالة بعد غلقها يُسمّى خاتماً.

 

•        لقد طَرَح الإسلام فكرة ختم النبوّة وجسّدها بشكلٍ لم يقضِ فقط على أيّ إيهام وتردّد بشأنها، بل أخرجها على شكل فلسفة عظيمة أيضاً.

 

•        لقد ظهر في الفترة التي تفصل بين الأنبياء أصحاب الشّرائع، أمثال نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، مجموعةٌ من الأنبياء الآخرين ممّن كانوا يرجعون في التبليغ إلى الشّريعة السّابقة عليهم، حيث جاء آلاف الأنبياء بعد نوح مبلّغين ومروّجين لشريعته.

 

•        يصرّح القرآن بأنّ الدين من مقتضيات الفطرة ونداء الطبيعة الروحيّة للبشر: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1].

 

•        إنّ إصرار القرآن الشّديد على أنّ الدين واحد، واعترافه بطريق واحد فقط، ونظرته إلى اختلاف الشرائع والقوانين على أنّه متعلّق بالخطوط الفرعيّة، تستند جميعاً إلى هذا المبدأ الفلسفيّ.

 

•        انقطاع النبوّة لا يعني، عند الشيعة الإماميّة، انقطاع المهمّة الإلهيّة للإرشاد والهداية، ولا انقطاع الفيض المعنويّ تجاه السّائرين والسّالكين إلى الله. وإنّه لخطأ كبير أن نظنّ أنّ الإسلام قد أنكر الحياة المعنويّة بإعلانه ختم النبوّة.


 


[1] سورة الروم، الآية 30.

 

154


119

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

الدرس الثاني عشر

ختم النبوّة (2)

الدين الخالد

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح إشكال تعارض الخلود مع قانون التغيّر والتحوّل، والجواب عنه.

2. يبيّن إشكال تعارض الخلود مع مقتضيات الزمان.

3. يتعرّف إلى مسائل: الجبر التاريخيّ، تغيّر الحاجات ووجوب مراعاة مقتضيات الزمان.

 

156

 


120

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

تمهيد

لقد أعلن الدّين الإسلاميّ عن خلوده مع إعلان ختم النبوّة: "حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة"[1]. وقد برز في العصر الحديث تيّارات فكريّة تدّعي إمكانيّة المجيء بدينٍ جديد، وطرحت هذه التيّارات أفكاراً وشبهات بادّعاء أنّها أدلّة تدحض خلود الدين الإسلاميّ وبقاءه منهاجاً صالحاً لجميع العصور والأزمنة إلى يوم الدين، وفي ما يلي نتعرّف إلى أهمّ هذه الإشكالات والردّ عليها[2].

 

إشكالات منكري خلود الإسلام

الإشكال الأوّل: تعارض الخلود مع قانون التغيّر والتّحوّل

هل من الممكن أن يبقى شيءٌ ما خالداً؟ إنّ تغيّر كلّ شيء في العالم يتنافى مع الخلود، كما إنّ أرسخ مبادئ هذا العالم هو مبدأ التّغيّر والتّحوّل، والشيء الوحيد الذي يبقى خالداً هو أنّه لا شيء يبقى خالداً. ثمّ إنّ منكري الخلود يُضفون على أحاديثهم أحياناً لوناً فلسفيّاً، فيأتون بقانون التغيّر والتحوّل، الذي هو قانون الطبيعة العامّ، دليلاً على ما يقولون.


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص18.

[2] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص46.

 

158


121

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

الجواب عن الإشكال:

إذا نظرنا إلى المسألة من هذه الناحية فقط لوجدنا الجواب عن هذا الإشكال يقول بوضوح: إنّ ما يتغيّر ويتحوّل دائماً هو المادّة والتّركيبات المادّيّة للعالم، أمّا القوانين والأنظمة - سواءٌ الأنظمة الطبيعيّة أم الأنظمة الاجتماعيّة المستندة إلى النواميس الطبيعيّة - فلا يشملها هذا القانون، فالنجوم والمنظومات الشمسيّة تظهر وبعد فترة تفنى وتزول، ويبقى قانون الجاذبيّة قائماً، وتولد النباتات والحيوانات وتموت ولا تزال قوانين علم الأحياء حيّةً وباقية.

 

وكذلك هو حال الناس وقانون حياتهم، فهم يموتون. وكذلك شخص النبيّ يموت ويبقى قانونه السماويّ حيّاً. وفي الطبيعة، فالظواهر هي التي تتغيّر وليس القانون، والإسلام قانونٌ وليس ظاهرة، وهو محكومٌ عليه بالموت لو لم يكن متناسقاً مع قوانين الطبيعة. أمّا لو كان يستقي من الفطرة ومن طبيعة الإنسان والمجتمع، وكان يتناسق مع الطبيعة وقوانيها، فلن يصيبه الموت والاندثار[1].

 

الإشكال الثاني: تعارض الخلود مع مقتضيات الزمان

يورد منكرو الخلود أحياناً إشكالاً من الناحية الاجتماعيّة فيقولون: إنّ القوانين الاجتماعيّة هي عبارةٌ عن مجموعة من القوانين المتّفق عليها التي توضع على أساس الحاجات الاجتماعيّة وتتغيّر بشكل يوازي توسّع عوامل الحضارة وتكاملها، فحاجات كلّ عصرٍ تختلف قهراً عن حاجات العصر الآخر، حيث إنّ حاجات البشر في عصر الصّاروخ والطائرة والكهرباء والتلفزيون قد اختلفت تماماً عن حاجات عصر الحصان والبعير، وهذا الاختلاف القهريّ يستلزم تغيّراً في القوانين الاجتماعيّة، فلا يُمكن لقوانين حياة البشر في عصر الطائرة والصاروخ. أن تكون نفسها قوانين عصر الحصان والحمار والبعير.

 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص46 - 47.

 

159


122

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

لا شكّ في أنّ أهمّ مسألة تواجه الأديان والإسلام بشكلٍ خاصّ في هذا العصر، هي هذه المسألة، فالجيل الجديد لا يُفكّر إلّا بالتطوّر والتغيير والتّجديد وتفهّم مقتضيات الزّمان، والحال أنّ الدين والتجديد ظاهرتان متناقضتان في نظر متطرّفي هذا الجيل، حيث يقولون إنّ صفة التّجديد هي التحرّك وترك الماضي، وصفة الدّين هي الجمود والسّكون والاهتمام بالماضي، والمحافظة على الوضع كما هو، ويجب على الإسلام أكثر -من أيّ دين آخر- أن يتعاطف مع هذه المجموعة، لأنّه من جهة يدّعي الخلود الذي هو ثقيل على أسماع هؤلاء، ومن جهة أخرى فهو يتدخّل في جميع شؤون الحياة، ابتداءً من علاقة الفرد بالله، وصولاً إلى العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد، والعلاقات الأسريّة، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة الإنسان بالكون[1].

 

وللجواب عن الإشكال:

للجواب عن هذا الاشكال لا بدّ من التعرّض يسيراً لمسألة "الجبر التاريخيّ" و"تغيّر الحاجات" و"وجوب مراعاة مقتضيات الزمان":

أوّلاً: الجبر التاريخيّ:

الجبر يعني الحتميّة وهو بالاصطلاح الفلسفيّ يساوي الوجوب والضرورة، وبالاصطلاح الفقهيّ يعني الإكراه. وأمّا التاريخ فهو مجموعة الحوادث التي تشكّل سيرة البشر. والقول بالجبر التاريخيّ يعني أنّ هناك حتميّة تحكم مسيرة النّاس ولا يمكن اجتنابها.

 

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجدُ أنّه يؤيّد وجود عوامل اجتماعيّة وسلوكيّة ذات أثرٍ قطعيّ وهي التي يطلق عليها اسم السنّة.


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص47 - 50.

 

160


123

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

وهذه العوامل تختلف في ما بينها، فبعضها ثابت ومستقرّ، فيكون تأثيرها ثابتًا ومستقرًّا، كالعامل العائليّ والجنسيّ الذي يدفع الإنسان دومًا نحو تكوين الأُسرة وإنجاب الأولاد، والعامل الدينيّ الذي يوجِد لدى الإنسان دومًا ميلًا إلى العبادة، وقد قام هذا العامل بدوره في جميع مراحل حياة البشريّة، إذ لم يُسمَع بنسيان الإنسان للدين.

 

وبعضها غير ثابت كعامل الإنتاج الاقتصادي وإنتاج الثروة، فإنه يتبدّل ليحلّ مكانه عامل آخر.

 

ومن الخطأ الكبير حصر مسيرة الإنسان في بُعد واحد واعتبارها مقهورة لعامل واحد متغيّر[1].

 

ثانياً: تغيّر الحاجات:

هل صحيح أنّ جميع حاجات البشر متغيّرة، وأنّه بتغيّرها يلزم تغيّر القوانين والمقرّرات المتعلّقة بها؟

 

الجواب: ليست الحاجات كلُّها متغيّرة، ولا ملازَمة بين تغيّر الحاجات وتغيّر القوانين وقواعد الحياة الأساسيّة.

 

ولتوضيح الأمر الأوّل نقول: إنّ الحاجات على نوعين: أوّليّة وثانويّة.

 

أمّا الحاجات الأوّليّة فهي التي تنبع من عمق التركيب الجسمانيّ والروحيّ للإنسان، ومن طبيعة حياته الاجتماعيّة. وما دام الإنسان إنسانًا، وما دام كائنًا اجتماعيًّا فإنّ هذه الحاجات موجودة ومستمرّة. أمّا الحاجات الجسمانيّة فمن قبيل الحاجة إلى الغذاء والمسكن والزوج وغيرها. وأمّا الحاجات الروحيّة فمن قبيل العلم، والجمال، والعبادة والاحترام. وأمّا الحاجات الاجتماعيّة فمن قبيل المعاشرة، والتعاون، والحرّية، والعدالة والمساواة.


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص50 - 54.

 

161


124

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

وأمّا الحاجات الثانويّة فهي التي تنشأ من الحاجات الأوّليّة، كالحاجة إلى أنواع الآلات ووسائل الحياة، وهي التي تختلف من عصر إلى آخر.

 

الحاجات الأوّليّة تحرّك الناس نحو توسعة الحياة وتطويرها، وأمّا الحاجات الثانويّة فهي التي تنشأ من توسعة الحياة وتطوُّرها.

 

والتغيير في الحاجات، والحداثةُ والقدم، إنّما هي في الحاجات الثانويّة، أمّا الحاجات الأوّليّة فلا تبتلى بالقدم ولا تزول، بل هي حيّة وغضّة دائمًا. طبعًا بعض الحاجات الثانويّة هي من هذا القبيل أيضًا، كالحاجة إلى القانون الناشئ من الحاجة إلى الاجتماع.

 

وأمّا بالنسبة إلى الأمر الثاني فصحيح أنّ توسّع عوامل الحضارة يولّد حاجات جديدة، وأحيانًا يستوجب مجموعة من القرارات والقوانين الفرعيّة. فمثلًا اختراع وسائل النقل الحديثة يستوجب وضع سلسلة من القرارات المرتبطة بوسائل النقل داخل البلاد وبين الدول، لم يكن من حاجة إليها في السابق لعدم وجود تلك الوسائل، إلّا أنّه لا يغيّر شيئًا من القوانين الحقوقيّة والجزائيّة المرتبطة بالبيع والشراء والغصب والإرث والزواج وأمثالها ما دامت مبتنية على العدالة والحقوق الفطريّة الحقيقيّة، فضلًا عن القوانين المرتبطة بعلاقة الإنسان بالله أو بالطبيعة.

 

إنّ تغيّر أسباب الحياة وأدواتها لا يغيّر شيئاً من مفاهيم مثل الحقّ والعدل والأخلاق، وإن كان من تغيّر فإنّما هو في شكلها التنفيذيّ لا في حقيقتها وماهيّتها.

 

وعندما تكون وجهة القانون في تثبيت شكل الحياة وظاهرها بدلاً من التركيز على خطّ المسير وتعيينه، حينها سيقع التناقض بينه وبين الحاجات المتجدّدة في الحياة، وستحكم عليه الحياة حينها بضرورة التغيير، أي سيكون محكوماً لسنّة التغيير. بينما إذا كان التركيز في القانون على القواعد الأساسيّة للحياة النابعة من الفطرة والمنسجمة معها فإنّ القانون سيكون أكثر قدرةً على البقاء والاستمرار[1].

 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص54 - 58.

 

162


125

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

ثالثاً: مقتضيات الزمان:

يقصد بمقتضيات الزمان ما تقتضيه البيئة والمجتمع من حاجات تدعو الإنسان لتلبيتها بالوسائل الممكنة، ومن الملاحظ أنّه مع تطوّر الوسائل تنشأ حاجات جديدة تدعو الإنسان هي الأخرى لتثبيتها ولو بوسائل جديدة.

 

وينبغي الانتباه ههنا إلى أنّ الظواهر الجديدة التي تنشأ مع تطوّر الحياة والتي تدعو الإنسان لتلبيتها ليست بالضرورة من نوع الأفكار الأفضل والمؤمّنة لحياة أكثر سعادة. إنّ من واجب الإنسان السعي دائمًا لمراقبة تلك الأفكار وإصلاحها، فهي صنيعة الإنسان وليست حاكمة عليه.

 

وكما أنّ الإنسان قد يخطو نحو مصلحته الحقيقيّة، إلّا أنّه أحيانًا يتّبع الهوى ويكون أسير الشهوة، وبالتالي كما أنّ الحياة قد تتقدّم وتتكامل، ولكنّها أيضًا قد تنحرف وتهوي.

 

وبالتالي ينبغي أن لا نكون أسرى شعار "مقتضيات الزمان" فنغيّر قوانيننا وأحكامنا كلّما واجهنا هذا الشعار[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص59 - 62.

 

163


126

الدرس الثاني عشر: ختم النبوّة (2)

المفاهيم الرئيسة

•        برزت في العصر الحديث تيّارات فكريّة طرحت شبهات بادّعاء أنّها تدحض خلود الدين الإسلاميّ وبقاءه منهاجاً صالحاً لجميع العصور والأزمنة إلى يوم الدين.

 

•        من تلك الشبهات أنّ الخلود يتعارض مع قانون التغيّر والتّحوّل وأنّه يتعارض مع مقتضيات الزمان.

 

•        الجواب عن الشبهة الأولى أنّ الإسلام قانونٌ وليس ظاهرة، وما دام يستقي من الفطرة ومن طبيعة الإنسان والمجتمع، ويتناسق مع الطبيعة وقوانيها، فلن يصيبه الموت والاندثار.

 

•        القول بالجبر التاريخيّ يعني أنّ هناك حتميّة تحكم مسيرة النّاس ولا يمكن اجتنابها.

 

•        ليست الحاجات كلُّها متغيّرة، ولا ملازَمة بين تغيّر الحاجات وتغيّر القوانين وقواعد الحياة الأساسيّة.

 

•        لا ينبغي أن نكون أسرى شعار "مقتضيات الزمان" فنغيّر قوانيننا وأحكامنا كلّما واجهنا هذا الشعار.

 

164

 


127

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

الدرس الثالث عشر:

ختم النبوّة (3)

الدين الخالد

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى أسباب وعوامل خاتميّة الإسلام وخلوده.

2. يذكر شموليّة الإسلام وقبوله العقل ووجود قوانين ثابتة ومتغيّرة فيه.

3. يبيّن أنّ وجود الحكومة في الإسلام شرط لازم لمواكبة مقتضيات الزمان.

 

166

 


128

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

الجواب الدقيق عن الإشكال المتقدّم

مع الالتفات إلى ما تقدّم، من الواضح أنّ القانون الذي يدّعي الخلود لنفسه وقدرته على حلّ جميع مشاكل الحياة القائمة منها والمستجدّة، لا بدّ أن يتمتّع بخاصّيَّتين:

الأولى: أن يكون منسجمًا تمام الانسجام مع الفطرة الإنسانيّة وطبيعة الكون والحياة الاجتماعيّة.

 

الثانية: أن يمتلك حركيّة تستوعب المتغيّرات ولا يجمد عند صورة خاصّة من صور التعامل الاجتماعيّ[1].

 

ولنرَ الآن كيف امتلك الإسلام هاتين الخاصّيَّتين:

أسباب وعوامل خاتميّة الإسلام وخلوده

1- قبول العقل وإدخاله في مجال الدّين:

لم يكن لأيّ دين هذه العلاقة القويّة بالعقل، ولم يوله هذا الاهتمام الذي أولاه إيّاه الإسلام، فقد جعل العقلَ واحداً من مصادر أحكامه، حيث أدرجه فقهاء الإسلام في مصادر الأحكام الأربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، نظراً إلى


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص62 - 63.

 

168


129

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

الارتباط الوثيق بين العقل والشّرع بحسب قاعدة الملازمة: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، وكلّ ما حكم به الشّرع حكم به العقل".

 

والعقل، في الفقه الإسلاميّ، يُمكنه أن يكون مكتشفاً للقانون، وأن يُقيّد قانوناً ويُحدّده أو يُعمّمه، ويُمكنه أيضاً أن يكون عاملاً مساعداً جيّداً في الاستنباط من سائر المصادر والوثائق[1].

 

2- الشّموليّة:

إنّ التوجّه الأحاديّ في قانونٍ ما أو مدرسةٍ معيّنةٍ، يحمل معه عوامل زوال هذا القانون أو المدرسة، فالعوامل المؤثّرة والمتحكّمة بحياة الإنسان كثيرة، وغضّ الطرف عن أيٍّ منها هو بنفسه يؤدّي إلى عدم التّوازن. وأهمّ ركن من أركان الخلود: الاهتمام بجميع الجوانب المادّيّة والروحيّة والفرديّة والاجتماعيّة، والذين يعرفون الإسلام يعترفون بشمول التعاليم الإسلاميّة وتعدّد أبعادها، وهي المعبّر عنها في القرآن بالوسطيّة[2].

 

3- عدم قدسيّة الوسائل المادّيّة:

لم يتوجّه الإسلام أبداً إلى شكل الحياة وصورتها وظاهرها[3]، فالتعاليم الإسلاميّة تتوجّه جميعاً نحو الرّوح والمعنى، وهي طريق يوصل البشر إلى تلك الأهداف والمعاني. وقد جعل الإسلام الأهداف والمعاني وتقديم طريقة الوصول إلى تلك الأهداف والمعاني ضمن حدوده، وترك البشر أحراراً في غير ذلك، وبهذا فقد منع أيّ تصادم مع تقدّم الحضارة والثقافة.


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص63 - 64.

[2] المصدر نفسه، ص64 - 65.

[3] بمعنى أنّه لم يضع إطاراً شكليّاً نهائيّاً للبشر؛ وإنّما تركهم أحراراً في ما يختارونه من أشكال الحياة التي تتنوّع بتنوّع الأذواق والرغبات، وذلك ضمن الضوابط الشرعيّة العامّة بحيث أراد الإسلام إصلاح مظاهر الحياة المختلفة انطلاقاً من إصلاح جوهر الإنسان وروحه.

 

169


130

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

ولا يُمكن في الإسلام العثور على أيّ وسيلة مادّية وظاهريّة تتّخذ طابع القدسيّة بشكلٍ يجعل المسلم يشعر أنّ من واجبه الحفاظ على ذلك الشّكل والمظهر، ولهذا فإنّ تلافي التصادم مع مظاهر التقدّم العلميّ والحضاريّ هو من الأمور التي سهّلت عمليّة مواكبة هذا الدين لمقتضيات الزمان، وبذلك أزال العقبات والموانع من طريق بقاء هذا الدين وديمومته[1].

 

4- وجود قوانين ثابتة وأخرى متغيّرة:

أمّا السبب الآخر لخاتميّة هذا الدّين وخلوده، فهو أنّه وضع قوانين ثابتة وغير قابلة للتغيير من أجل تلبية الاحتياجات الثابتة والدائمة عند البشر.

 

إنّ جزءاً من حاجات البشر -سواء في الأمور الفرديّة أم الاجتماعيّة- ثابتٌ في جميع الأزمنة، فالنظام الذي يجب على الإنسان أن يضعه لغرائزه يُسمّى "الأخلاق"، والنّظام الذي يجب أن يضعه لمجتمعه يُدعى "العدالة"، والعلاقة التي يجب أن تربطه بخالقه وتُجدّد إيمانه وتكامله تُسمّى "العبادة"، وهي جميعاً من هذا القبيل وثابتة.

 

على أنّ ثمّة جزءاً آخر من حاجات البشر يتّسم بالتغيّر ويوجب من الناحية القانونيّة وضعاً متغيّراً، وقد خصّص الإسلام لهذه الحاجات المتغيّرة وضعاً متغيّرا،ً حيث ربط هذه الأوضاع المتغيّرة بالمبادئ الثابتة وغير القابلة للتغيير، والتي تنتج في كلّ وضعٍ جديد ومتغيّر قانوناً فرعيّاً ومناسباً خاصّاً بذلك الوضع.

 

ونكتفي هنا بذكر مثالين:

المثال الأوّل: يوجد في الإسلام مبدأٌ اجتماعيّ ينصّ على الآتي: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾[2]، أي أعدّوا

 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص65.

[2] سورة الأنفال، الآية 65.

 

170


131

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

القوّة وكونوا أقوياء أمام العدوّ حتى آخر حدّ ممكن. وهذا المبدأ يُعلّمنا إيّاه "الكتاب"، أي القرآن. ومن جهة أخرى وردت في السنّة مجموعةٌ من التعاليم التي تُعرف في الفقه باسم "السّبق والرّماية"[1]، وقد كان سباق الخيل والرماية في ذلك العصر من الفنون العسكرية، ومن أفضل الوسائل لإعداد القوّة والشدّة أمام العدوّ، ولكنّ أساس قانون "السّبق والرماية" هو مبدأ: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[2], بمعنى أنّ الأصالة في الإسلام ليست للسّهام والسّيوف والرّماح والخيول، التي هي أيضاً ليست من الأهداف الإسلاميّة، بل الأصالة في أنّ الواجب على المسلمين في كلّ عصرٍ وزمان أن يكونوا أمام أعدائهم أقوياء، من حيث القّوة العسكرية والدّفاعية، إلى أقصى حدٍّ ممكن.

 

والواقع أنّ وجوب المهارة في الرماية وسباق الخيل بمنزلة ثوبٍ أُلبِس به وجوب الشدّة أمام العدوّ. وبعبارةٍ أخرى: تعتبر المهارة في الرماية المظهر العمليّ للقوّة في ذلك العصر والزمان، فوجوب الشّجاعة أمام العدوّ قانونٌ ثابتٌ ينبع من حاجةٍ ثابتةٍ ودائمة، أمّا وجوب المهارة في الرماية وسباق الخيل فهو مظهر حاجة مؤقّتة، وهو يتغيّر بتغيّر مقتضيات الزمان واتّساع العوامل الثقافيّة والفنّيّة، فتحلّ محلّه أمورٌ أخرى، من قبيل وجوب المهارة في استعمال أسلحة هذا اليوم.

 

المثال الآخر: قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمة"[3]. وقد ذكر العلماء المسلمون أنّ وجوب تحصيل العلم ثابت في حالين: أحدهما حين يكون اكتساب الإيمان تابعاً للعلم، والآخر حين تكون تأدية واجب معيّن متوقّفة عليه.


 


[1] لقد وردت روايات تقول ما مضمونه: "علّموا أولادكم السباحة والرّماية"، راجع: الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص47. 

[2] سورة الأنفال، الآية 60.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص30.

 

171


132

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

ومن هنا فقد أصبح تحصيل العلوم من حيث الوجوب وعدم الوجوب مختلفاً بحسب مقتضيات الزمان، ففي بعض الأزمنة لا حاجةَ تُذكر إلى تحصيل العلم لتأدية بعض التكاليف الإسلاميّة، بما في ذلك التكاليف الاجتماعيّة، كالتجارة والصناعة والسياسة وغيرها، وإنّما تكون التجارب العاديّة كافيةً لهذا الغرض، ولكن في أزمنة أخرى، كزماننا، فإنّ تأدية هذه الواجبات أصبحت معقّدة وصعبة إلى درجةٍ تستوجب صرف سنين من الدراسة والتخصّص حتّى يُمكن تأديتها، ولهذا فإنّ تحصيل العلوم السياسيّة والاقتصاديّة والفنّيّة وغيرها، ممّا لم يكن واجباً في عصرٍ ما، يُصبح واجباً في عصرٍ آخر، لأنّ تنفيذ مبدأ وجوب حفظ كرامة المجتمع الإسلاميّ وعزّته واستقلاله، والذي هو مبدأٌ ثابت ودائم، لا يحصل في ظروف هذا الزّمان إلّا بتحصيل العلم وإكماله، فإنجاز هذا التكليف في الظروف والأزمنة المختلفة لا يتمّ بصورةٍ واحدة[1].

 

5- قاعدة الأهمّ والمهمّ:

من الأمور الأخرى التي تدلّ على تناسق التعاليم الإسلاميّة مع الطبيعة والفطرة، وهو ما يضفي عليها طابع الخلود: تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيّة، ومن المعلوم أنّ هذه المصالح والمفاسد ليست على درجةٍ واحدة. وقد أدّى هذا الأمر إلى فتح بابٍ خاصٍّ في الفقه الإسلاميّ باسم باب "التزاحم" أو "الأهمّ والمهمّ" ليسهّل عمل الفقهاء والخبراء المسلمين في المواضع المتضاربة واجتماع المصالح والمفاسد المختلفة. وقد أجاز الإسلام لعلماء الأمّة في هذه المواضع أن يقيسوا درجة أهمِّيَّة المصالح، مسترشدين بتوجيهات الإسلام الخاصّة، كما روي عن بعضهم: "إذا اجتمعت حرمتان طُرحت الصّغرى للكبرى"[2]. وأن


 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص66 - 69.

[2] ابن الأثير، مجد الدين المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي؛ محمود محمد الطناحي، مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم المشرّفة، 1364هـ.ش، ط4، ج1، ص374.

 

172


133

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

يُرجّحوا المصالح الأهمّ على المصالح الأقلّ أهمِّيَّة عند التزاحم بينها، فيخرجوا بذلك من الطّريق المسدود.

 

مثال: يُعتبر تشريح الميْت، الذي أصبح ضروريّاً في عصرنا مع تقدّم العلم، واحداً من مصاديق باب "التزاحم"، وكما نعلم، فقد أوجب الإسلام احترام جسد المسلم والإسراع في مراسم تجهيز الميْت، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ جزءاً من الأبحاث والدراسات الطبّيّة في عصرنا تتوقّف على التشريح، وبالتالي فنحن هنا أمام مصلحتين متزاحمتين، ومن البديهيّ أنّ مصلحة الأبحاث والدراسات الطبّيّة مرجّحةٌ على مصلحة الإسراع في تجهيز الميْت واحترام جنازته، ولذلك ففي حال انحصار الأمر بالميْت المسلم، فإنّ الحظر سيرتفع عن تشريح جثّته بحكم قاعدة "الأهمّ والمهمّ". ولهذه القاعدة أمثلة أخرى كثيرة أيضاً[1].

 

6- القواعد الحاكمة:

الشّيء الآخر الذي يمنح المقرّرات الإسلاميّة صفة المرونة والحركيّة والتّطابق، ويمنحها الخلود، هو وجود مجموعةٍ من القواعد الضابطة التي تكمن في نصّ المقرّرات الإسلاميّة، والتي أسماها الفقهاء "القواعد الحاكمة"، أي القواعد التي تكون حاكمةً على جميع الأحكام والمقرّرات الإسلاميّة ومهيمنةً عليها، وهذه القواعد نظير المفتّشين العامّين تُراقب الأحكام والمقرّرات وتضبطها، وقاعدتا "الحرج" و"لا ضرر" هما من هذا النوع، والإسلام في الحقيقة قد أعطى لهذه القواعد حقّ "الفيتو"[2].

 

7- صلاحيّات الحكومة الإسلاميّة:

الخاصّية الأخرى هي منح الإسلام صلاحيّاتٍ للحكومة الإسلاميّة والمجتمع الإسلاميّ. وهذه الصلاحيّات ترتبط بالدرجة الأولى بحكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وانتقلت

 


[1] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص69 - 71.

[2] المصدر نفسه، ص71 - 72.

 

173


134

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

منه إلى حكومة الإمام عليه السلام، ومنه تُمنح إلى أيّ حكومةٍ شرعيّة أخرى. يقول القرآن الكريم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[1].

 

ثمّ إنّ مجال هذه الصلاحيّات واسع، حيث تستطيع الحكومة الإسلاميّة في الظروف والحاجات المستجدّة، وبالاستناد إلى المبادئ والأسس الإسلاميّة، أن تضع مجموعةً من المقرّرات التي كانت منتفيةً موضوعيّاً[2] في الماضي.

 

وتُعتبر صلاحيّات السّلطة الإسلاميّة الحاكمة شرطاً لازماً لحسن تنفيذ القوانين السماويّة ومواكبة مقتضيات الزمان، ولحسن تنظيم البرامج الخاصّة بكلّ مرحلة، ولهذه الصلاحيّات حدودٌ وشروطٌ لا يتّسع المجال لذكرها[3].


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 6.

[2] النائيني، الميرزا محمد حسين، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، تعريب: عبد المحسن آل نجف، تحقيق: عبد الكريم آل نجف، تقديم: الشيماء العقالي، دار الكتاب المصري، مصر - القاهرة، دار الكتاب اللبناني، لبنان - بيروت، 2012م، لا.ط، ص99 - 102؛ العلّامة الطباطبائي، محمد حسين، الولاية والزعامة في كتاب "المرجعية والعلماء" لا.ت، ط2، ص82 - 84.

[3] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص72 - 73.

 

174


135

الدرس الثالث عشر: ختم النبوّة (3)

المفاهيم الرئيسة

•        إنّ الإسلام في وضعه لقوانينه ومقرّراته قد أعلن رسميّاً عن احترامه للفطرة واتّباعه للقوانين الفطريّة، وهذه الناحية هي التي أعطت لقوانين الإسلام إمكانيّة الخلود.

 

•        لم يكن لدى أيّ دين هذه العلاقة القويّة بالعقل، ولم يوله هذا الاهتمام الذي أولاه إيّاه الإسلام، فقد جعل العقل واحداً من مصادر أحكامه، حيث أدرجه فقهاء الإسلام في مصادر الأحكام الأربعة.

 

•        أهمّ ركن من أركان الخلود: الاهتمام بجميع الجوانب المادّيّة والروحيّة والفرديّة والاجتماعيّة، والذين يعرفون الإسلام يعترفون بشمول التعاليم الإسلاميّة وتعدّد أبعادها.

 

•        لم يتوجّه الإسلام أبداً إلى شكل الحياة وصورتها وظاهرها المادّيّ، فالتعاليم الإسلاميّة تتوجّه جميعاً نحو الرّوح والمعنى.

 

•        من أسباب خاتميّة هذا الدّين وخلوده: أنّه وضع قوانين ثابتة وغير قابلة للتغيير من أجل تلبية الاحتياجات الثابتة والدائمة عند البشر.

 

175

 


136

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

الدرس الرابع عشر

ختم النبوّة (4)

دور العلماء بعد ختم النبوّة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح كيفيّة حلول العلم والعقل محلّ الوحي التبليغيّ.

2. يتذكّر أهمّ الأدوار التي يقوم بها علماء الدين في تبليغ الرسالة.

3. يبيّن عظمة المصادر الإسلاميّة من حيث الكمّ والنوع.

 

176

 


137

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

تمهيد

إنّ الوظائف الملقاة على عاتق الأنبياء على قسمين: الأوّل، أنّهم كانوا يأتون من الله بقانونٍ وبرنامجٍ عمليّ للبشريّة، والثّاني أنّهم كانوا يدعون الناس إلى الله ويبلّغونهم البرامج الإلهيّة لعصرهم وزمانهم ويدعونهم إلى تطبيقها. كما أنّ ثمّة نوعين من النبوّة[1]: النبوّة التشريعيّة، والنبوّة التبليغيّة.

 

أمّا الأنبياء التشريعيّون الذين كان عددهم قليلاً جدّاً، فقد كانوا أصحاب قوانين وشرائع، في الوقت الذي كان الأنبياء التبليغيّون يُعلّمون الناس ويُبلّغونهم ويُرشدونهم إلى تعاليم الأنبياء وأصحاب الشرائع، والإسلام إذ أعلن ختم النبوّة لم يختم النبوّة التشريعيّة فحسب، بل ختم النبوّة التبليغيّة أيضاً.

 

ولكن إذا كان الإسلام قد ختم النبوّة التبليغيّة فإنّ الإشكال الذي يرد هو: لماذا بقيت أمّة محمّد وأمّة الإسلام محرومةً من توجيه أنبياء كهؤلاء وإرشادهم؟ ولو قبلنا فرضاً أنّ الإسلام قد ختم النبوّة التشريعيّة، لكماله، وتمامه، وكلّيّته، وشموله، فبأيّة معادلة وبأيّة فلسفة يُمكن تسويغ انتهاء النبوّة التبليغيّة؟[2].

 


[1] النبوّة التشريعية أو ما يعرف بالرسالة، وصاحبها يدعى الرسول الذي يحمل شريعة جديدة، تمييزاً من النبيّ الذي لا يحمل شريعةً خاصة به، بل يكون تابعاً للرسول في شريعته.

[2] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص37.

 

178


138

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

حلول العقل والعلم محلّ الوحي التبليغيّ

الحقيقة أنّ الواجب الأساس الملقى على عاتق النبوّة هو الهداية، والوحي هو الواجب الأوّل، أمّا التبليغ والتعليم والدعوة فهي واجبات نصفها بشريّ ونصفها الآخر إلهيّ.

 

الوحي والنبوّة يعنيان الاتّصال الخفيّ بجذر الوجود وأصله، ثمّ تسلّم مهمّة إرشاد الخلق، وهي مظهرٌ من مظاهر "الهداية" الحاكمة على جميع أنحاء الوجود. ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[1].

 

والموجودات بارتقائها سلّم الوجود تستفيد من الهداية بدرجةٍ تتناسب مع درجة الكمال التي تبلغها، أي إنّ خصوصيّة الهداية وشكلها يختلفان وفقاً لمراحل الوجود المختلفة، وكلّما كانت الموجودات مجهّزةً بالأدوات الطبيعيّة والقوّة الحسّيّة وقوى الخيال والتوهّم والعقل أكثر، كلّما ارتقت سلّم الوجود وقلّت هدايتها الغريزيّة.

 

الوحي أعلى مظاهر الهداية وأرقى مراتبها، وله دلالاتٌ تستعصي على الحسّ والخيال والعقل والعلم والفلسفة، ولكنّ الوحي الذي يملك هذه الخاصّيّة هو الوحي التشريعيّ وليس التبليغيّ. وحاجة البشر إلى الوحي التبليغيّ باقيةٌ ما دام لم يبلغ فيه العقل والعلم والتمدّن درجةً يستطيع البشر معها أن يتعهّدوا بأنفسهم الدعوة والتعليم والتبليغ والاجتهاد في أمر دينهم، فظهور العلم والعقل -وبعبارة أخرى: نضج الإنسانيّة وبلوغها- يختمان بذاتيهما الوحي التبليغيّ، فيحلّ العلماء محلّ هؤلاء الأنبياء[2].


 


[1] سورة طه، الآية 50.

[2] ومع اشتراط العصمة في الوحي التبليغيّ فلا يحلّ محلّ المعصوم غير المعصوم، ولذا فالإمام المعصوم يحلّ محلّ النبيّ في تبليغ الشريعة الواقعيّة كما في حفظها.

 

179


139

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

ونحن نجد أنّ القرآن يتحدّث في أوّل آية نزلت عن القراءة والكتابة والقلم والعلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[1].

 

حيث تُعلن هذه الآيات أنّ عصر القرآن هو عصر القراءة والكتابة والتعليم والعلم والعقل، وهي تفهمنا بصورةٍ تلميحيّة أنّ واجب التعليم والتبليغ وحفظ الآيات السماويّة قد انتقل في عصر القرآن إلى العلماء، فهم من هذه الناحية خلفاء الأنبياء، وهذه الآيات تُمثّل إعلاناً عن بلوغ البشريّة واستقلالها من هذه الناحية. والقرآن يدعو البشر في جميع آياته إلى التعقّل والاستدلال ومشاهدة الطبيعة بشكل عينيّ وتجريبيّ، كما يدعوهم إلى مطالعة التاريخ والتفقّه والفهم العميق، وهذه جميعاً دلائل ختم النبوّة وحلول العقل والعلم محلّ الوحي التبليغيّ.

 

ولا نجد أيّ كتابٍ من الكتب السماويّة قد أحيط بهذا الاهتمام الذي أحيط به القرآن، فما إن نزل القرآن حتّى توافر له الآلاف من الحفّاظ، ولم يمضِ نصف قرنٍ حتّى دُوّن لأجل القرآن علم النّحو والصّرف وجُمعت مفردات اللغة العربيّة، وابتُكر علم المعاني والبيان والبديع، وظهرت آلاف التفاسير والمفسّرين ومجالات التفسير، وأخذوا يُدقّقون في كلمات القرآن ويتفحّصونها واحدةً بعد أخرى، وغالباً ما كانت هذه الأعمال تَصدُر عن أُناسٍ ليسوا من أهل اللغة العربيّة. لقد كانت الرّغبة والتعلّق بالقرآن هي السّبب الوحيد في إيجاد مثل هذا الحرص والاهتمام، فلماذا لم تصدر مثل هذه الأعمال تجاه التوراة والإنجيل والأوستا[2]؟ أليس هذا بنفسه دليلاً على نموّ البشريّة وبلوغها وقابليّتها لحفظ كتابها السماويّ وتعليمه وتبليغه؟ أليس هذا في ذاته دليلاً على حلول المعرفة محلّ النبوّة التبليغيّة؟


 


[1] سورة العلق، الآيات 1 - 5.

[2] الأوستا أو الأوفستا كتاب الديانة الزرادشتية.

 

180


140

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

لقد كان البشر في المراحل السّابقة كطفلٍ في المدرسة يُعطونه كتاباً ليقرأه فيُمزّقه بعد أيّام، لكنّ البشر في المرحلة الإسلاميّة باتوا كعالمٍ كبير السنّ يحفظ كتبه بدقّة متناهية، حتى إنّه يُراجعها بشكل متكرّر...

 

إنّ بزوغ العلم وظهوره، وبلوغ البشر حدّاً يجعلهم قادرين وحدهم على حفظ دينهم السماويّ والدعوة إليه وتبليغه، هو ما أدّى إلى ختم النبوّة التبليغيّة طوعاً أو كرهاً، ولهذا السبب جعل النبيّ الأكرم علماءَ هذه الأمّة كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم.

 

لإقبال اللاهوري كلام جميل يقول فيه: "لقد وفّق نبيّ الإسلام بين العالم القديم والعالم الجديد، فعندما يكون الحديث عن مصدر إلهامه فهو يتعلّق بالعالم القديم، وعندما يكون الأمر مختصّاً بروح إلهامه فهو يخصّ العالم الجديد، فالحياة فيه تكتشف مصادر أخرى للمعرفة جديرة بخطّ مسيره الجديد، وظهور الإسلام وولادته تُعتبر ولادةً للعقل البرهانيّ الاستقرائيّ، والرسالة بلغت حدّ الكمال بظهور الإسلام نتيجة اكتشاف ضرورة انتهائها، ما يستلزم في نفسه الإدراك الذكيّ لحقيقةٍ تنصّ على الحياة لا يُمكنها أن تستمرّ دائماً على شكل مرحلة الطّفولة المحفوفة بالوصاية من الخارج..."[1].

 

يبيّن الكلام السابق أنّ البلوغ العقليّ والعلميّ عند البشر، وظهور مرحلة مكّنتهم من تلقّي الحقائق الكلّيّة للمعارف والقوانين الإلهيّة، ومن حفظ الميراث الدينيّ ومقاومة أنواع التحريف والبدع، والدّعوة إلى الدّين وتبليغه ونشره، يُمثّل الأرضيّة المناسبة لانتهاء الرسالة. فالقسم الأعظم من الواجبات التي كان الوحي يؤدّيها مضطرّاً في المرحلة الأولى من البشريّة، تؤدّيه القوّة العلميّة والعقليّة في مرحلة الرّشد والبلوغ العقليّ والعلميّ، فيُصبح العلماء ورثة الأنبياء[2]،[3].


 


[1] اللاهوري، محمد إقبال، إحياء الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: أحمد أرام، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص125.

[2] ينبغي ألا نغفل عن اعتقادنا بأن الاتصال بعالم الغيب وتحقق الإلهام الإلهيّ لبعض العباد لم ينقطع بختم النبوّة، وإنّما هو حاصل لا سيّما للأئمة المعصومين عليهم السلام كما سيأتي في مبحث الإمامة. (الإعداد)

[3] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص38 - 45.

 

181


141

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

دور العلماء بعد ختم النبوّة التبليغيّة

مع أنّ الإسلام -وخلافاً للأعراف الدينيّة الشائعة- لم يُعطِ للعلماء أيّ امتيازٍ يؤدّي إلى نوعٍ من التفوّق الطبقيّ، فقد أوكل إليهم أعظم الأدوار الدينيّة، فلم يكن للعلماء في أيّ دين ما لهم في الإسلام من دورٍ أصيل ومؤثّر، وهذا ينشأ من صفة الخاتميّة التي تخصّ هذا الدين:

1- الدعوة والتبليغ:

أوّل "منصب" في مرحلة الخاتميّة ينتقل من الأنبياء إلى العلماء هو منصب الدعوة والتبليغ والإرشاد، فجماهير البشر تحتاج في جميع المراحل إلى الدعوة والإرشاد، وقد أوكل القرآن هذا الواجب بصراحةٍ كاملةٍ إلى مجموعة من الأمّة نفسها: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[1],[2].

 

2- مقاومة التحريف والبدع:

لقد كانت الأسباب التي تؤدّي إلى التّحريف والبدعة موجودةً في كلّ وقت وستظلّ موجودة، ومن واجب العلماء أيضاً مقاومة أنواع التحريف والبدع، كما يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله"[3].

 

إنّ ما يجعل هذه المقاومة ممكنة ويُسهّل عملها هو بقاء المقياس الأصيل - أي القرآن - محفوظاً، وقد أكّد الرّسول الأكرم بشكلٍ خاصّ على الاستفادة من القرآن للحكم على ما يُنقل عن لسانه بالصحّة أو بالسقم، وعلى العلماء حفظ النصوص الأصليّة من تلاعب الأحداث[4].


 


[1] سورة آل عمران، الآية 104.

[2] الإعداد.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص54.

[4] الإعداد.

 

182


142

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

3- الاجتهاد:

الاجتهاد هو أهمّ واجبات علماء الأمّة ومسؤوليّاتهم، فالاجتهاد يعني السّعي عن علم وبطريقة صحيحة لإدراك أحكام الإسلام بالاستفادة من المصادر: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. على أنّ الاجتهاد أو التفقّه في مرحلة الخاتميّة هو واجبٌ حسّاس جدّاً، لكونه من شروط بقاء الإسلام خالداً، وقد أسموه -بحقّ- "الطّاقة المحرّكة للإسلام"، ويطرح ابن سينا -الفيلسوف الإسلاميّ الكبير- هذه المسألة بنظرة واضحة ويقول: "ويجب أنّ يفوَّض كثيرٌ من الأحوال -خصوصاً في المعاملات- إلى الاجتهاد، فإنَّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط"[1].

 

لقد ظهرت في القرون الأخيرة بين الشّباب، وعند من يُسمّى بالطبقة المثقّفة المسلمة - مع كلّ أسف- ميولٌ نحو التغرّب ونبذ الأصالة الشرقيّة والإسلاميّة، والاستسلام والتقليد الأعمى لكلّ نظريّة أو مذهب غربيّ، ولسوء الحظّ إنّ هذه الميول تتفاقم شيئاً فشيئاً.

 

ويكمن أصل هذه الضلالة في ما تحمله هذه المجموعة من تصوّرٍ خاطئ حول المبادئ الإسلاميّة. وقد ساعد ركود الاجتهاد -في العالم السنّيّ- على مرّ القرون على انتشار هذه التصوّرات الخاطئة، وممّا لا ينبغي كتمانه أنّ الجمود والركود الفكريَّين اللذين حكما العالم الإسلاميّ خلال القرون الأخيرة، وبخاصّةٍ انكماش الفقه الإسلاميّ عن الحركة، وظهور روح الميل والنظر إلى الماضي، والامتناع عن مواجهة روح العصر، تُعدّ من أسباب هذه الهزيمة. واليوم فإنّ العالم الإسلاميّ بحاجة -أكثر من أيّ وقت- إلى نهضةٍ تشريعيّة تخرج بنظرةٍ جديدة وواسعة وشاملة من أعماق التعاليم الإسلاميّة، لأجل أن نفكّ حبال الاستعمار الفكريّ الغربيّ عن عقول المسلمين وأرجلهم[2].

 


[1] ابن سينا، الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله، الشفاء - الإلهيّات، راجعه وقدم له: الدكتور ابراهيم مدكور، تحقيق: الأب قنواتي؛ سعيد زايد، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1404هـ.ق، لا.ط، ج2، ص454.

[2] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص76.

 

183


143

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

المخزون اللامتناهي للمصادر الإسلاميّة

إنّ ممّا يلفت الانتباه في تاريخ العلوم والفلسفة الإسلاميّة: المخزون اللامتناهي للمصادر الإسلاميّة -وبخاصّة القرآن الكريم- للبحث والاكتشاف والاستنباط. ولا يختصّ هذا الأمر بالمسائل الفقهيّة والحقوقيّة، فكلّ كتابٍ بشريّ، ومهما كان عظيماً، له استعدادٌ محدودٌ وقابل للانتهاء من أجل البحث والمطالعة، ويكفي عمل عدّة أشخاص متخصّصين لتوضيح جميع جوانبه. لكنّ القرآن أظهر خلال أربعة عشر قرناً، ومع العمل المستمرّ عليه من قِبَل مئات المتخصّصين، أنّ له استعداداً لا حدّ له من حيث البحث والاجتهاد. والقرآن من هذه النّاحية كالطبيعة التي كلّما توسّعت الرؤى وتعمّقت وازدادت الأبحاث والدراسات فإنّها تأتي بسرٍّ جديد. على أنّ هذه الحقيقة تتّضح مع الدراسة الدقيقة للمسائل المتعلّقة بالمبدأ والمعاد والحقوق والفقه والأخلاق والقصص التاريخيّة والطبيعيّات التي وردت في القرآن، ومقارنة ذلك بالآراء التي ظهرت خلال أربعة عشر قرناً وأصبحت قديمة اليوم. وكلّما تقدّمت الآراء أكثر وتوسّعت وتعمّقت وجدت نفسها أكثر تجانساً مع القرآن.

 

إنّ أكبر أعداء القرآن هو الجمود والتوقّف عند الرؤية الخاصّة في زمانٍ معيّن ومرحلة خاصّة. وقد كان قائد الإسلام العظيم، منذ البداية، يؤكّد على أنّ القرآن الكريم -وحتّى كلمات الرسول الأكرم نفسه- ذو قابلية لامتناهية للبحث والتحقيق، وأنّ الرؤى لا ينبغي أن تُحدّ. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُبيّن ذلك لأصحابه، وقد أشار الرسول الأكرم مراراً في كلماته إلى وجوب عدم حدّ القرآن بالرؤية الخاصّة بعصرٍ وزمانٍ محدّدين، حيث قال: "ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم، لا تُحصَى عجائبه، ولا تَبْلى غرائبه"[1]. وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام: ما بال القرآن لا يزيد بالنشر والدراسة إلّا غضاضة؟ قال عليه السلام: "لأنّه لم ينزل لزمانٍ


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص599.

 

184


144

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

دون زمان، ولا لناس دون ناس، ولذلك فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ ناس غضّ"[1]. وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "نصر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها، فرُبّ حامل فقه غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"[2].

 

وبالفعل فقد أظهر التاريخ أنّ الذين جاؤوا في العصور اللاحقة أبرزوا فهماً أعمق ونظرة أوسع في إدراك معاني أقوال الرسول ومفاهيمها[3].

 


[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، عيون أخبار الرضا  عليه السلام، تحقيق: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي، لبنان - بيروت، 1984م، لا.ط، ج2، ص93.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص403.

[3] الشهيد مطهّري، ختم النبوّة، مصدر سابق، ص80.

 

185


145

الدرس الرابع عشر: ختم النبوّة (4)

المفاهيم الرئيسة

•        الوظائف الموكلة إلى الأنبياء على قسمين:

الأوّل: أنّهم كانوا يأتون من الله بقانونٍ وبرنامجٍ عمليّ للبشريّة.

 

الثّاني: أنّهم كانوا يدعون الناس إلى الله وإلى تطبيق البرامج الإلهيّة لعصرهم وزمانهم ويُبلّغونهم إيّاها.

 

•        الواجب الأساس للنبوّة هو الهداية، والوحي هو الواجب الأوّل، أمّا التبليغ والتعليم والدعوة فهي واجبات نصفها بشريّ ونصفها الآخر إلهيّ.

 

•        الوحي والنبوّة يعنيان الاتّصال الخفيّ بجذر الوجود وأصله، ثمّ تسلّم مهمّة إرشاد الخلق، وهي مظهر من مظاهر "الهداية" الحاكمة على جميع أنحاء الوجود.

 

•        لم يُعطِ الإسلام للعلماء -وخلافاً للأعراف الدينيّة الشائعة- أيّ امتيازٍ يؤدّي إلى نوعٍ من التفوّق الطبقيّ.

•        إنّ الأسباب التي تؤدّي إلى التّحريف والبدعة كانت موجودة في كلّ وقت، وستظلّ موجودة، ومن واجب العلماء مقاومة أنواع التحريف والبدع.

 

•        الاجتهاد هو أهمّ واجبات علماء الأمّة ومسؤوليّاتهم، والاجتهاد يعني السّعي عن علمٍ وبطريقة صحيحة، لإدراك أحكام الإسلام بالاستفادة من المصادر: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

 

•        من أعجب المواضيع في تاريخ العلوم والفلسفة الإسلاميّة: المخزون اللامتناهي للمصادر الإسلاميّة -وبخاصّةٍ القرآن الكريم- للتحقيق والاكتشاف والاستنباط.

 

186

 


146

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

الدرس الخامس عشر

أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

طرح الإمامة بين الإفراط والتّفريط

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يفسّر مسألة الإمامة وموقعها في البناء العقائديّ للإنسان.

 

2. يعدّد الانتقادان الأساسان حول جدوى طرح مسألة الإمامة:

- إبراز سلبيّات الدين وزلزلة أصوله.

- تهديد الوحدة الإسلاميّة.

 

3. يشرح الرّد على الانتقادين الأوّل والثاني.

 

 

189

 


147

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

يُمكن أن يُثير استئناف البحث حول الإمامة انتقادات في أذهان بعض القرّاء، لذلك رأينا أن نطرحها ثم نُبيّن وجهة نظرنا فيها. والانتقادات الأساس في هذا المجال تنتهي إلى انتقادين هما[1]:

الانتقاد الأوّل: إبراز السلبيّات وزلزلة الأصول

يقول أصحاب هذا الاعتراض: تسعى كلّ أُمّة دائمًا إلى إبراز النّقاط الإيجابيّة من تاريخها، وإنّ الحوادث المشرِّفة في تاريخ أيّ دين أو اتّجاه تُعدُّ علامةً على أصالة ذلك الدّين أو الاتّجاه وحقّانيّته، كما أنّها تزيد في جاذبيّته والرّغبة فيه. أمّا الحوادث السلبيّة المؤسفة في التاريخ فتكون باعثًا على الشكّ في أصالة ذلك الدّين أو الاتّجاه، وتُمسي علامة ضعف في طاقاته المبدعة.

 

إنّ البحث في الخلافة والإمامة والحوادث المؤلمة، التي أطلّت برأسها في صدر الإسلام، وكثرة ترديدها، ولا سيّما في عصرنا الحاضر، يُفضي إلى انخفاض إيمان الجيل الجديد وهبوط حماسته للإسلام، خصوصًا مع ما يعيشه هذا الجيل من أزمة روحيّة على المستوى الدّينيّ.


 


[1] مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسة أصول الدين - الإمامة، ترجمة: جواد كسّار، دار الحوراء - مؤسّسة أم القرى، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص23.

 

191


148

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

ويضيف المعترض: ربّما كانت هناك آثار إيجابيّة لهذه البحوث في السّابق، من خلال تحويلها للتوجّهات والميول من جهة إسلاميّة صوب جهةٍ أُخرى، أمّا تأكيدها الآن فقد يقود إلى تزلزل الأصول وضعف الجذور.

 

لماذا يسعى الآخرون دائمًا إلى كتمان المقاطع السّيّئة من تأريخهم، فيما نكون نحن المسلمين على العكس منهم جميعًا، إذ نسعى لإعادتها وتكرارها، وتضخيمها أحيانًا، بحيث تبدو أكبر ممّا كانت عليه فعلًا[1]؟!

 

جواب الانتقاد الأوّل:

في الحقيقة، لا يسعنا أن نوافق على وجهة النّظر أعلاه، وذلك لأنّنا نعتقد أنّ نقد التّاريخ لو اقتصر على إظهار الحوادث السّلبيّة وعكسها، فإنّ العمليّة ستجيء بمثل النّتائج المشار إليها أعلاه. ولكن علينا أن ننتبه من الجهة الثّانية، إلى أنّ نقد التّاريخ لا يعني الاكتفاء بترسيم الحوادث الإيجابيّة المشرقة والاقتناع بها، وستر الحوادث السلبيّة. فلا يصحّ تسمية مثل هذه العمليّة نقدًا تاريخيًّا، بل هي تحريفٌ للتّاريخ.

 

وَلْنُلْقِ نظرة على التّاريخ، فأيّ تاريخٍ منزّه عن السيّئات ومبرَّأ من الحوادث السلبيّة؟ إنّ تاريخ أيّ أُمّة من الأمم، بل وتاريخ البشريّة كلّها، عبارة عن مجموعة من السلبيّات والإيجابيّات، ولا يُمكن أن يكون غير ذلك.

 

إنّ الله لم يخلق أيّ قوم أو أمّة أو شعب على سيرة الملائكة منزّهًا عن الذّنوب. والتّفاوت بين تاريخ الأمم والأقوام والأديان والمذاهب، من ناحية الإيجابيّات والسلبيّات، ليس في أنّ تاريخ أحدها كلّه إيجابيّات وتاريخ الأخرى كلّه سلبيّات، كلّا، بل هو في نسبة هذه الإيجابيّات والسلبيّات.


 


[1] الشهيد مطهّري، مصدر سابق، ص23 - 24.

 

192


149

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

لقد بيّن القرآن الكريم بصورةٍ لطيفة حقيقة كيف أنّ طبيعة البشر تنطوي على مجموعة من السلبيّات والإيجابيّات، وخلاصتها أنّ الملائكة تساءلت بدهشة عن الحكمة من وراء استخلاف الإنسان في الأرض - عندما أخبرها الله بذلك - لأنّها لم تكن تعرف سوى الجهة المظلمة من هذا الموجود، ولكنّ الله أخبرها (بعد ذلك) أنّه الأعلم بهذا الموجود وما ينطوي عليه من خصال إيجابيّة وجمال تجهلها الملائكة[1].

 

وإذا أردنا أن نحتكم إلى منطق النسبة، فإنّ ما ينطوي عليه تاريخ الإسلام من وفور تجلّيات الجمال والخصال الإنسانيّة والإيمانيّة، لا نظير له. فهذا التّاريخ مليءٌ بالحماسة، مثقلٌ بالجمال والمشاهد المتلألئة، ويفيض بالتجلّيات الإنسانيّة.

 

لذا، فإنّ وجود مساحات مظلمة فيه لا يُقلّل ممّا يزهو به من جمالٍ وجلال وعظمة. ولا يسع أيّ أُمّة أن تدّعي أنّ حسنات تاريخها أكثر من حسنات تاريخ الإسلام، ولا أنّ سيّئات التاريخ الإسلاميّ أكثر من سيّئات تاريخها.

 

لقد وقف رجلٌ يهوديّ مع الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وهو يحاول الانتقاص من المسلمين لما جرى بينهم في صدر الإسلام من حوادث مؤسفة حول الخلافة، فقال للإمام: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه!

 

وما أجمل ما أجاب به الإمام عليٌّ عليه السلام، وهو يقول: "إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْه لَا فِيه، ولَكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾[2]"[3].

 

أي إنّ اختلافنا انطلق من أرضيّة إيماننا بالتّوحيد والنبوّة، ولقد اكتسب اختلافنا الصّيغة الآتية: هل يقوم حكم الإسلام والقرآن على وجوب أن يكون


 


[1] قال -تعالى-:  ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 30).

[2] سورة الأعراف، الآية 138.

[3] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحديث 317، ص531.

 

193


150

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شخصًا معيّنًا نُصّ عليه من قبل الله -تعالى-، أم يكون شخصًا تنتخبه الأُمّة وتختاره خليفة لها؟ أمّا أنتم أيّها اليهود، فقد أردتم شيئًا في حياة نبيّكم يختلف عمّا عليه دينكم وتعليمات نبيّكم من الجذور.

 

علاوة على ما مرّ، لو افترضنا أنّ التّغاضي عن سلبيّات التّاريخ يصحّ في المواطن العاديّة، فكيف يصحّ ذلك في قضيّة هي من صميم الإسلام، بل هي أُسّ الإسلام وأهمّ قضيّة فيه، حيث إنّها تتّصل بمسألة القيادة ويتوقّف عليها مصير المجتمع الإسلاميّ؟

 

لا ريب أنّ غضّ الطّرف عن قضيّة مثل هذه، هو في حكم غضّ الطّرف عن سعادة المسلمين[1].

 

الانتقاد الثاني: تهديد الوحدة الإسلاميّة

أمّا الانتقاد الثّاني فهو: ما هو مصير قضيّة الوحدة الإسلاميّة عند طرح هذه المسائل وبحثها؟ إنّ ما نزل بالمسلمين وسلَب منهم شوكتهم وجعلهم تابعين للأُمم غير الإسلاميّة، كان بسبب هذه الاختلافات المذهبيّة بالذّات بين فرقة وأُخرى.

 

وإذا جئنا إلى الاستعمار بشكليه القديم والحديث، نجد أنّ إشعال هذه الأحقاد القديمة كانت أفضل آلة بيده. وقد دأبت أدوات الاستعمار في جميع البلدان الإسلاميّة، بدون استثناء، على ممارسة الفرقة بين المسلمين باسم الدين وبذريعة الحرقة على الإسلام والحرص عليه. فهلّا كفانا ما ألمّ بنا وما تجرّعناه إلى الآن، أم ترانا نستمرّ على هذا النهج؟ أوَلا يُساهم طرح أمثال هذه البحوث في مساعدة الأهداف الاستعماريّة[2]؟


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص24 - 27.

[2] المصدر نفسه، ص27.

 

194


151

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

جواب الانتقاد الثاني:

إنّ أشدّ ما يحتاج إليه المسلمون في الوقت الحاضر هو الوحدة والانسجام، كما أنّ هذه الاختلافات القديمة بين المسلمين هي المعضل الأساس في العالم الإسلاميّ -فالعدوّ يستفيد من هذه الأوضاع دائمًا- ولكن يبدو أنّ مفهوم "الوحدة الإسلاميّة" قد التبس على المعترض.

 

إنّ مفهوم "الوحدة الإسلاميّة" الذي طُرح بين العلماء والفضلاء والمثقّفين الإسلاميّين، في القرنين الأخيرين، لا يعني أنّ على المذاهب الإسلاميّة أن تتخلّى عن أصولها الاعتقاديّة وغير الاعتقاديّة في هذا السبيل، بحيث يؤول الحال إلى أخذ مشتركات الجميع وإهمال مختصّاتهم، فمثل هذا المسعى ليس منطقيًّا ولا علميًّا.

 

كيف يمكن أن يُطلب من أتباع مذهبٍ من المذاهب التخلّي عن هذا الأصل الاعتقاديّ أو العمليّ الذي هو بنظرهم جزء من صميم الإسلام، في سبيل وحدة الإسلام والمسلمين؟ إنّ طلب مثل هذا الأمر هو بمثابة الطّلب منهم من أن يغضّوا الطّرف عن جزءٍ من الإسلام باسم الإسلام!

 

إنّ لعملية ربط الناس بأصلٍ مذهبيّ معيّن أو إضعافه في نفوسهم، سُبلاً أخرى، وأكثرها طبيعيّة هما المنطق والبرهان. فلا يُمكن، بمحض الرّجاء والتّمنّي وباسم المصلحة، ترسيخ الإيمان بأصلٍ عقائديّ في النّاس أو استئصاله منهم.

 

إنّنا كشيعة نفتخر باتّباعنا أهل البيت عليهم السلام، ولسنا مستعدّين أن نساوم على أصغر الأشياء، حتّى ولو كان حكمًا بسيطًا مستحبًّا أو مكروهًا، فلا نقبل من أحد أن ينتظر منّا أن نتنازل، كما لا نتوقّع من الآخرين أن يُفرّطوا بأصلٍ من أصولهم باسم المصلحة ولأجل الوحدة الإسلاميّة.

 

ما نتوقّعه ونتمنّاه في هذا المجال، هو أن تتهيّأ بيئة صالحة للتفاهم المشترك لكي نعرض ما لدينا من أصول وفروع، تضمّ ما نحمله من فقه وحديث وكلام

 

195


152

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

وفلسفة وتفسير وأدبيّات، بحيث تسمح لنا تلك البيئة أن نعرض بضاعتنا بعنوان كونها أفضل بضاعة، حتّى لا يبقى الشّيعة في العزلة أكثر، وتنفتح أمامهم المواقع المهمّة في العالم الإسلاميّ، ثمّ لا تبقى الأبواب مغلقة أمام المعارف الإسلاميّة الشيعيّة النّفيسة.

 

إنّ العمل بمبدأ أخذ العناصر المشتركة لكلّ مذهب وإهمال مختصّاته يُعبّر عن نوع من خرق للإجماع المركّب، وحاصل هذا الأمر هو قطعًا غير الإسلام الواقعيّ، لأنّ مختصّات أيّ مذهب هي في نهاية المطاف جزء من مجموع الإسلام، ولا وجود لإسلام مجرّد من جميع هذه المشخّصات والمميّزات والمختصّات.

 

وبغضّ النظر عن ذلك كلّه، فإنّ روّاد الوحدة الإسلاميّة لا يُفكّرون بمثل هذه الطريقة، ويشهد على ذلك من الشيعة: آية الله العظمى السيد البروجردي (قدّس سرّه)، ومِن السنّة: العلّامة الشيخ عبد المجيد سليم والعلّامة الشيخ محمود شلتوت. فهؤلاء الكبار يرون أنّ المذاهب الإسلاميّة، مع ما يوجد من اختلافات فيما بينها في الكلام والفقه وغيرهما، بمقدورها أن تمدّ يد الأخوّة إلى بعضها البعض، وأن تُشكّل جبهة واحدة في مقابل أعداء الإسلام الشّرسين، على خلفيّة ما بينها من عناصر مشتركة تفوق عناصر الاختلاف. هذه هي نظريّتهم حول الوحدة، ولم يكن هؤلاء الكبار مطلقًا بصدد طرح مفهوم وحدة المذاهب تحت عنوان الوحدة الإسلاميّة، ذلك أنّ هذه الأطروحة ليست عمليّة أبداً.

 

هناك فرق في الاصطلاح العرفيّ المتداول ما بين مفهوم الحزب الواحد والجبهة الواحدة. فالوحدة الحزبيّة تستوجب أن يكون هناك نسقٌ واحدٌ بين جميع الأفراد على مستوى الفكر والأيديولوجيا والمنهج والأسلوب وجميع ما يدخل في الخصوصيّة الفكريّة، باستثناء المسائل الشخصيّة. أمّا الوحدة على مستوى الجبهة فمعناها أن تلتقي الأحزاب والجماعات المختلفة على خلفيّة ما

 

196

 


153

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

بينها من مشتركات في صفٍّ جبهويّ واحد إزاء العدوّ المشترك، مع ما بينها من اختلاف في الأيديولوجيا والمسلك، وفي الطريقة والمنهج.

 

والشيء البديهيّ هو أن لا منافاة بين تشكيل صفٍّ واحدٍ مقابل العدوّ، وبين الإصرار على الدّفاع عن المسلك الذاتيّ وانتقاد مسالك الإخوة الآخرين ودعوتهم إلى المسلك الذاتيّ.

 

وهذا ما كان يفكر به المرحوم آية الله العظمى البروجردي، وهو إيجاد الأرضيّة المناسبة لبثّ معارف أهل البيت عليهم السلام ونشرها بين الإخوة المسلمين، وكان يعتقد أنّ هذا العمل لا يكون إلّا بإيجاد أرضيّة التفاهم المشترك. والنجاح الذي أحرزه رحمه الله في طبع بعض كتب الفقه الشيعيّ في مصر من قِبَل المصريّين أنفسهم، إنّما كان على أثر هذا التفاهم، وكان ذلك أهمّ نجاح حقّقه علماء الشّيعة.

 

وعلى كلّ حال، إنّ تأييد أُطروحة "الوحدة الإسلاميّة" لا يستوجب التّقصير في إعلان الحقائق، والذي يجب تجنّبه هو إثارة عواطف الطّرف المخالف وعصبيّته وضغائنه. أمّا البحث العلميّ فإنّه يعتمد العقل والمنطق، ولا شأن له بالعواطف والأحاسيس.

 

ومن حسن الحظّ، أنّ عصرنا الرّاهن شهد بروز كثير من الباحثين المحقّقين في الوسط الشّيعيّ، يلتزمون هذا المنهج ويتّبعونه، وعلى رأسهم جميعًا العلّامة الجليل آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين العامليّ، والعلّامة الكبير آية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، والعلّامة الجليل آية الله الشيخ عبد الحسين الأمينيّ مؤلّف كتاب "الغدير" الشّريف[1].

 


[1] الشيخ مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص27 - 31.

 

197


154

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

سيرة الإمام عليّ عليه السلام نموذج عملي لتطبيقات الوحدة

إنّ السيرة المهمَلَة المنسيّة لإمام المتّقين عليّ عليه السلام على مستوى القول والعمل، كما يحكيها تاريخ حياة الإمام، هي أفضل درس يُستفاد منه في هذا المضمار.

 

لم يمتنع الإمام عليّ عليه السلام عن إظهار حقّه والمطالبة به... بل كان يُظهر ذلك بمنتهى الصّراحة، من دون أن تكون رغبته بالوحدة الإسلاميّة مانعًا من ذلك، وتشهد الكثير من خطب نهج البلاغة على صحّة هذا المدّعى.

 

وفي الوقت ذاته لم يكن بثّ هذه التظلّمات وإظهارها، ليستوجب أن يخرج الإمام عليه السلام عن صفّ جماعة المسلمين في مقابل أعداء الخارج. فقد كان الإمام يشترك في الجمعة والجماعة، ويأخذ سهمه من الغنائم الحربيّة في ذلك الوقت، كما لم يتوانَ عن إرشاد الخلفاء، وكان يبذل النّصيحة لمن يستشيره.

 

وحصل في حرب المسلمين للفرس، أن رغب الخليفة (عمر بن الخطاب) أن يشخَص لقتالهم بنفسه، فلمّا استشار الإمام بذلك نهاه عنه، وذكر له أنّ الجيش إذا انهزم فإنّ العدوّ سيظنّ أنّ المدد سيصل إليه من المدينة، أمّا لو خرجت إليهم بشخصك لقالوا: "هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبِهم عليك، وطمعهم فيك"[1].

 

لقد كان للإمام عليّ عليه السلام هذا النهج في العمل، فهو من جهة لم يكن يقبل تحمّل أيّ مسؤوليّة تُناط بشخصه يُكلَّف بها من قِبَل الخلفاء، لا على مستوى


 


[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 146، وقد استبدلنا الشرح بالنص، وموضع الحاجة من الشاهد قول الإمام أمير المؤمنين عندما استشاره عمر: ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخَرَز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً...، فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب. إلى أن قال عليه السلام: "إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبِهم عليك، وطمعهم فيك" (المترجم).

 

198


155

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

قيادة الجيش ولا تولّي الولايات ولا أن يكون أميراً على الحجيج ولا ما يُشبه ذلك، لأنّ قبوله هذه المناصب يعني أنّه صرف النظر عن حقّه الثابت له. وبعبارةٍ أخرى، كان هذا القبول، لو حصل، يتجاوز مستوى الانسجام والتّعاون العامّ وحفظ الوحدة الإسلاميّة. ولكن في الوقت الذي كان الإمام يرفض تسنّم المناصب شخصيًّا، لم يكن يمنع المقرَّبين إليه وأقرباءه وأنصاره قبولها، لأنّ قبول هؤلاء لا يُنظر إليه على أنّه إمضاء للخلافة القائمة بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل يُدرج في سياق التّعاون والانسجام[1].

 

لقد كانت سيرة الإمام عليّ عليه السلام في هذا المجال دقيقة جدّاً، وهي علامة على تفانيه في سبيل الأهداف الإسلاميّة. فقد كان يصل ما يقطعه الآخرون ويصلح ما يفتقونه. ولقد انتهز أبو سفيان الفرصة، وأراد أن يستغلّ رفض الإمام ويُحقّق ثأره من النبيّصلى الله عليه وآله وسلم عن طريق وصيّ النبيّ، متظاهرًا باحترام وصيّة النبيّ، بيدَ أنّ قلب عليّ عليه السلام كان أبصر من أن يُخدع بالخطّ السُّفيانيّ، فدفع في صدره ونحّاه عنه مطروداً[2].

 

إنّ أمثال أبي سفيان، وحُيَيّ بن أخطب[3] موجودان في كلّ عصرٍ وزمان، وها هي أصابع أمثال حُيَيّ بن أخطب تظهر في عصرنا في كثير من التيّارات، فيجب على المسلمين -والشيعة على الأخصّ ومَن يتولَّى عليّاً عليه السلام- أن يضعوا سيرة


 


[1] راجع: ابن أبي الحديد، عبد الحمد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران - قم المشرّفة، 1404هـ.ق، دار إحياء الكتب العربية، لا.م، 1959م، لا.ط، ج17، ص152، شرح لقوله عليه السلام: "فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام".

[2] وذلك حين عرض أبو سفيان مبايعة الإمام عليه السلام، حيث ينقل الشريف الرضيّ خطبةً له عليه السلام لمّا قُبِض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة، يقول فيها: "أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ، وضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ، أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ، هَذَا مَاءٌ آجِنٌ ولُقْمَةٌ يَغَصبِهَا آكِلُهَا، ومُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا، كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِه...". الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة5، ص52. (الإعداد).

[3] حُيَيْ بن أَخْطَب من رؤوس اليهود في المدينة وسيد بني النضير، دخل هو وأخوه أبو ياسر بن أخطب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة، فلما خرجا قيل لِحُيَيّ: أهو نبي؟ فقال: هو هو، فقيل: ما له عندك؟ قال: "العداوة إلى الموت"، وهو الذي نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب. (الإعداد).

 

199


156

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

الإمام وسنّته نصب أعينهم، ولا يُخدعوا بما يُبيّنه أمثال أبي سفيان وحُيَيّ بن أخطب[1].

 

هذه كانت انتقادات المعارضين لطرح مثل هذه المسائل، وهذا هو ردّنا ووجهة نظرنا فيها[2].

 


[1] لقد ذكر الإمام أمير المؤمنين بنفسه أكثر من مرّة ما تحمّله في سبيل الحفاظ على وحدة المسلمين والحيلولة دون فرقتهم، من ذلك قوله: "قد جرت أمور صبرنا فيها، وفي أعيننا القذى، تسليماً لأمر الله -تعالى- فيما امتحنا به رجاء الثواب على ذلك، وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرّق المسلمون وتُسفك دماؤهم". وفي خطاب آخر، قال: "وأيمُ الله لولا مخافتي الفرقة بين المسلمين، وأن يعود أكثرهم إلى الكفر وَيَعْورَ الدين، لكنّا قد غيّرنا ذلك ما استطعناه". المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق: مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، دار المفيد، لبنان - بيروت، 1993م، ط1، ج1، ص246 - 249 (المترجم).

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص31 - 33.

 

200


157

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

المفاهيم الرئيسة

•        إنّ الاقتصار في نقد التّاريخ على إبراز الحوادث الإيجابيّة دون السّلبيّة يُعدّ تحريفًا للتاريخ، ثم إنّ وجود السلبيّات في تاريخ الأمم هو أمرٌ طبيعيّ وناشئ من طبيعة البشر التي تنطوي على الإيجابيّات والسلبيّات، فلا يوجد أمّة يخلو تاريخها من السلبيّات بالمطلق.

 

•        إنّ التّغاضي عن قضيّة بمستوى قضيّة الإمامة التي لها اتصال بالقيادة ومصير المجتمع الإسلاميّ يُعدّ تغاضياً عمّا يضمن سعادة المسلمين، وإغفال ما وقع من ظلم يُعدّ معونة للظّالم.

 

•        يرى البعض أنّ في طرح قضيّة الإمامة ضرباً للوحدة الإسلاميّة، وأنّ مثل هذه الخلافات هي التي أدّت إلى نزول ما نزل بالمسلمين وسلب شوكتهم وجعلهم تابعين للأُمم غير الإسلاميّة.

 

•        "الوحدة الإسلاميّة" لا تعني أن تتخلّى المذاهب الإسلاميّة عن أصولها الاعتقاديّة وغير الاعتقاديّة في هذا السبيل، ولا تستوجب التّقصير في إعلان الحقائق، بل ما ينبغي تجنّبه هو إثارة عواطف الطّرف المخالف وعصبيّته وضغائنه.

 

•        الوحدة الإسلاميّة بنظر روّاد الفكر الإسلاميّ تعني أنّ المذاهب الإسلاميّة بمقدورها أن تُشكّل جبهة واحدة في مقابل أعداء الإسلام الشّرسين، على خلفيّة ما بينها من عناصر مشتركة تفوق عناصر الاختلاف.

 

•        لا منافاة بين تشكيل صفٍّ واحدٍ مقابل العدوّ، وبين الإصرار على الدّفاع عن المسلك الذاتيّ وانتقاد مسالك الإخوة الآخرين ودعوتهم إلى المسلك الذاتيّ، بل المطلوب هو إيجاد بيئة صالحة للتّفاهم المشترك وعرض الأفكار.

 

 

201

 


158

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

الدّرس السادس عشر

معاني الإمامة ومراتبها (1)

القيادة السياسيّة

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يُميّز بين مفهوم الإمامة عند الشيعة ومفهومها لدى المذاهب الإسلاميّة الأخرى.

 

2. يبيّن مسؤوليات الإمامة وكونها استمراراً لخطّ النبوّة.

 

3. يشرح الإشكالات الناجمة عن جعل موقع الإمامة مساوياً للحكومة.

 

 

203


159

الدرس الخامس عشر: أهمِّيَّة قضيّة الإمامة

اختلاف المذاهب الإسلاميّة في فهم الإمامة

تتسنّم مسألة الإمامة أهمِّيَّة استثنائيّة في أوساط الشّيعة، لا يوازيه اهتمام فرق المسلمين الأخرى بها. والسرّ في هذا التّفاوت يعود إلى اختلاف مفهوم الإمامة عند الشّيعة عمّا هو عليه لدى بقيّة الفرق الإسلاميّة.

 

ولا شكّ أنّ هناك جهات اشتراك في المسألة، لكن يوجد إلى جوارها جهات اختصاص في معتقدات الشّيعة حول الإمامة تسبغ عليها أهمِّيَّة غير عاديّة بالنسبة إليهم.

 

عندما يريد الشّيعة أن يعدّدوا أصول الدين انطلاقًا من رؤيتهم المذهبيّة، يقولون إنّها: التّوحيد والنبوّة والعدل والإمامة والمعاد. أي إنّهم يُدخِلون الإمامة في نطاق أصول الدين.

 

ومن جهتهم يذهب أهل السنّة للقول بشكل من أشكال الإمامة، وهم في الأساس لا ينكرون الإمامة في ضرب من ضروبها، بيد أنّ الشكل الذي يؤمنون به لا يرفعها إلى مستوى أصول الدّين، بل يجعلها جزءًا من الفروع.

 

نخلص في المحصّلة إلى وجود اختلاف في مسألة الإمامة. فهناك بعض من المسلمين يقولون بنوع من الإمامة، والشيعة يعتقدون بنوعٍ آخر. والسّؤال الذي ينطلق عندئذ: كيف رفعت الشيعة الإمامة إلى مستوى أصلٍ من أصول الدين، في

 

 

205


160

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

حين أنّ الآخرين من المسلمين اعتبروها من الفروع؟

 

تعود العلّة في ذلك إلى ما تقدّم معنا من أنّ مفهوم الإمامة عند الشيعة يختلف عمّا هو عليه عند غيرهم من المسلمين[1].

 

معنى الإمام

لا تنطوي كلمة الإمام في حدِّ ذاتها على مفهومٍ مقدّس. فالإمام هو المؤتمّ به، أي المقتدى والمتّبَع، وهو الشخص الذي يتقدّم على جماعة تتّبعه، سواء أكان عادلًا ينهج صراطًا سويًّا، أم ضالًّا يهوي نحو الباطل[2].

 

وقد استخدم القرآن الكريم كلمة الإمام، في كلا الموردين، ففي مكان قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[3]، وقال في مكان آخر: ﴿أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾[4]، كما استخدم كلمة مشابهة لكلمة (الإمام) فيما يخصّ فرعون، عندما قال: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[5].

 

فالإمام إذًا هو المقتدى، ولا شأن لنا بالإمام الضالّ في هذا البحث، بل ما يعنينا هو مفهوم الإمام نفسه.

 

ترِد الإمامة في عدّة مفاهيم، يؤمن أهل السنّة ببعضها -وإن اختلفوا معنا بالكيفيّة وفي شخص الإمام- وينكرون بعضها من الأصل، لا أنّهم يعتقدون معنا بجميع تلك المفاهيم ثمّ يختلفون معنا في شخص الإمام.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص37 - 38.

[2] "الإمام: المؤتمّ به إنساناً؛ كأن يُقتدى بقوله أو فعله، أو كتاباً أو غير ذلك، مُحِقّاً كان أو مبطلاً، وجمعه أئمة". الأصفهاني، الراغب الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، لا.م، 1404هـ.ق، ط2، ص20، الجوهري، الصحاح، مصدر سابق، ج5، ص1865. "الإمام: الذي يُقتدى به، وجمعه أئمة". وفي لسان العرب: "يقال إمام القوم، معناه هو المتقدّم لهم، ويكون الإمام رئيساً؛ كقولك: إمام المسلمين". ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، إيران - قم المشرّفة، 1405هـ.ق، لا.ط، ج12، ص26 (المترجم).

[3] سورة الأنبياء، الآية 73.

[4] سورة القصص، الآية 41.

[5] سورة هود، الآية 98.

 

206


161

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

فالإمامة التي يشتركون بالإيمان بها معنا ويختلفون فيها بالكيفيّة والشّكل وشخص الإمام، هي التي تبرز بمعنى رئاسة المجتمع، وقد ذُكرت في كتب قدماء المتكلّمين بمثل هذا التّعبير، أو عُبِّر عنها بنظائر قريبة إليه. فنصير الدّين الطّوسي مثلاً يُعرِّف الإمامة في "التّجريد" بأنّها: "رياسة عامّة"[1].

 

ولتوضيح هذه المسألة جيّداً تبدو الحاجة ماسّةً لذكر الموضوع الآتي:

الإمامة استمرار لخطّ النبوّة في المسؤوليّات

لقد كانت للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام، وانطلاقاً من الخصوصيّة التي يتحلّى بها وبمقتضى القرآن وبحكم سيرته، شؤون متعدّدة، أي كانت له عدّة أعمال، وهو ينهض بعدد من المواقع والمسؤوليّات في وقتٍ واحد[2]:

1- تبيان الأحكام الإلهيّة:

أوّل موقع من عناوين مسؤوليته صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان نبيًّا مكرّمًا من قِبَل الله، وقد نهض عمليًّا بهذه المسؤوليّة وتصدّى لها. فمعنى كونه نبيًّا أنّه كان مبيّنًا للأحكام الإلهيّة وتعاليم السماء. يقول القرآن: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[3]، مفاد الآية أنّ ما كان يُبيّنه النبيّ من أحكام ويُبلّغه من تعاليم، فقد جاء به من عند الله. أي إنّ النبيّ لا يملك في هذا الموقع إلّا أن يكون مبيّناً لما أُوحي إليه[4].

2- القضاء:

هناك منصبٌ آخر تصدّى له النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو منصب القضاء. فقد كان قاضيًا بين المسلمين.

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص38 - 39.

[2] المصدر نفسه.

[3] سورة الحشر، الآية 7.

[4] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص40.

 

207


162

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

والقضاء ليس منصباً عاديّاً من وجهة نظر الإسلام بحيث يكون بمقدور أيّ إنسان أن يتصدّى له ويفصل بين المتخاصمين. إنّما القضاء في الرّؤية الإسلاميّة هو شأنٌ إلهيّ، لأنّه حكم بالعدل، والقاضي هو الذي يفصل ويقضي في الخصومات والاختلافات بالعدل.

 

وهذا المنصب فُوِّض إلى النبيّ بنصّ القرآن الكريم: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾[1]. وقد مارسه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل[2].

 

3- الرّئاسة العامّة:

ثمَّ منصب ثالث كان للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فعلًا، وقد فُوِّض إليه بنصّ القرآن أيضاً، وجرت عليه سيرته العمليّة، هو موقع الرّئاسة العامّة.

 

لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رئيساً وقائداً لمجتمع المسلمين، وبتعبيرٍ آخر: سائسهم. وقد ذكروا أنّ قوله -تعالى-: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[3] ناظرٌ إلى هذه الجهة في مسؤوليّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وعندما نتحدّث عن ثلاثة شؤون للنبيّ، فلا نعني الجانب الشكليّ -بمعنى سوق المناصب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من دون أساس -بل إنّ ما وصل عن النبيّ- شخصيةً وممارسة- يُشير ضرورة إلى ثلاثة ضروب من المسؤوليّة.

فمن الجهة الأولى يكون كلام النبيّ وحيًا إلهيًّا فحسب. وفي هذه الحال لا يكون للنبيّ أيّ اختيارٍ من نفسه قطّ، إنّما عليه أن يُبلِّغ ما أُمر به من قِبَل الله، ويكون (النبيّ) واسطة للإبلاغ فقط، ومثاله ما أُمر به من تعاليم الدين في كيفيّة إقامة الصّلاة والصوم وغيرهما من الأحكام.


 


[1] سورة النساء، الآية 65. 

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص40 - 41.

[3] سورة النساء، الآية 59.

 

208


163

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

أمّا ما يقضي به بين الناس، فلا يُمكن أن يكون وحياً. عندما يقع الاختلاف مثلاً بين اثنين، يُبادر النبيّ للحكم بينهما وفق الموازين الإسلاميّة، فيقضي لأحدهما بالحقّ. وفي هذه الحال لا يهبط جبرائيل إلى النبيّ ليوحي بأنّ الحقّ لهذا الطرف أو ذاك. نعم، يُستثنى من ذلك الحالات التي يتدخّل فيها الوحي لخصوصيّة فيها. وإنَّ من السيرة العمليّة المعلومة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ قضاءه كان يتمّ على أساس الظاهر، تماماً كما يقضي الآخرون، بفارق أنّ ما يقضي به النبيّ يأتي على أحسن وأفضل شكل[1].

 

أمّا على مستوى الوظيفة الثالثة، فإنّ النبيّ يُمارس عمله انطلاقًا من كونه قائدًا للمجتمع. فإذا أمر بشيء من هذا الموقع، كان (هذا الأمر النبويّ) غير الوحي الذي يُبلِّغه عن الله. وقد منحه الله -سبحانه- هذا الموقع في القيادة وأوكل إليه هذا الحقّ.

 

وقد دأب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ممارسة صلاحيّات هذا الموقع بحكم كونه قائداً، ولهذا كان يشاور أصحابه أحيانًا، كما حصل في غزوة بدر وأُحد ومواطن أُخرى كثيرة، حيث نرى أنّ النبيّ الأكرم كان يشاور أصحابه. ولكن لا يمكن التشاور في حكم الله. فهل نجد النبيّ يشاور أصحابه، ولو مرّة، في حكم صلاة المغرب مثلاً؟ بل أكثر من ذلك حيث نجده إذا حدّثه أصحابه عن مسائل تبرز في خط التبليغ عن الله يُجيب أنّ الأمر ليس إليه، بل هو من عند الله. ولا يُمكن أن يكون غير ذلك.

 

نخلص ممّا مرَّ إلى أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذا أَمر في دائرة -قيادة المجتمع- بشيء، فإنّ ذلك يدخل في نطاق الصّلاحيّات التي منحه الله إيّاها. وإذا رأينا أنّ الوحي تدخّل في قضيّة تنفيذيّة وإداريّة تقع في صلاحيّات القيادة فإنّ لهذا التدخّل طابعًا


 


[1] ما ذُكِر في المتن لا يستلزم عدم عصمة النبيّ أو جهله بالواقع، وإنّ غاية ما يريد الشهيد بيانه أنّ النبيّ في مواقف كهذه يحكم على أساس الظاهر من دون أن يكون هناك وحيٌ خاصبها. (الإعداد).

 

209


164

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

استثنائيًّا لا يكتسب عنوان القاعدة العامّة، بحيث يعني أنّ جميع ما ينهض به النبيّ في ممارسة تفاصيل عمله التّنفيذيّ ومسؤوليّته الإداريّة كرئيس للمجتمع وقائد له، يصدر عن الوحي، وأنّ الوحي هو الذي أمره بفعل هذا وترك ذاك، وبالشكل الذي ينتهي إلى أن يكون النبيّ في هذه الدائرة أيضاً مبلِّغاً للوحي لا غير.

 

يتبيّن ممّا تقدّم أنّ للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الشّؤون والمواقع والعناوين المتعدِّدة جميعًا، وفي وقتٍ واحد[1].

 

الإمامة بمعنى قيادة المجتمع[2]

إنّ أحد المواقع التي تركها النبيّ شاغرة بعد مغادرته الدنيا، هو قيادة المجتمع. فالمجتمع يحتاج إلى قائد، ولا يشكّ أحد في ضرورة هذه الحاجة.

 

والسؤال: مَن هو قائد المجتمع بعد النبيّ؟

 

يتّفق المسلمون على ضرورة وجود قيادة عليا للمجتمع، وذهب الشيعة إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عيَّن بنفسه القائد من بعده، وأعلن أنّ زمام أمور المسلمين يجب أن يكون بيد عليّ عليه السلام في حين ذهب الآخرون من المسلمين إلى رفض هذه الصيغة، أو على الأقلّ لم يقبلوا بالشكل الذي تُؤمن به الشيعة في قضيّة الخلافة، وذهبوا إلى القول بأنّ النبيّ لم يُعيِّن من بعده شخصًا محدّدًا، وإنّما كان على المسلمين وظيفة انتخاب القائد الذي يخلف النبيّ.

 

يتَّضح من هذا السياق أنّ بعض المسلمين يقبلون أصل الإمامة أيضًا بهذا المعنى أي القيادة ويعتقدون بضرورة أن يكون للمسلمين إمام، في حين تختلف الشيعة معهم، وتعتقد بالإمامة بصيغة التعيين، وهي تؤمن بأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عيّن الإمام من بعده بوحي أوحاه الله إليه.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص41 - 42.

[2] المصدر نفسه، ص43 - 45.

 

210


165

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

لو اقتصرت الإمامة على هذه الحدود، أي لو لم يتجاوز منطوق المسألة دائرة القيادة السياسيّة للمسلمين بعد النبيّ، لاعتبرناها - نحن الشيعةَ منذ البداية - جزءًا من الفروع ولما رفعناها إلى مستوى أصول الدين، ولقلنا إنّها مسألة فرعيّة كالصلاة مثلًا. بيدَ أنّ الشيعة التي تعتقد بالإمامة لا تكتفي بهذا الحدّ، من أنّ عليًّا عليه السلام هو أحد أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه أفضل وأعلم وأتقى وأجدر من غيره من الصحابة، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد عيّنه للخلافة من بعده، كلّا، لا تقف الشيعة عند هذا الحدّ، بل تتجاوزهُ إلى تخوم مسألتين أُخريين. إحدى هاتين المسألتين هي الإمامة بمعنى المرجعيّة الدينيّة. وأنّ الإمام عليه السلام هو وارث علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وراثة تامّة لا نقص فيها[1].

 

اختزال الإمامة بالحكومة

ينبثق من قصر الإمامة بمعنى الحكومة والقيادة، عدّة تساؤلات، منها:

هل إنّ الحكومة تنصيصيّة أو انتخابيّة؟

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإسلام من الحكومة؟ فهل هي تنصيصيّة أم انتخابيّة؟ بمعنى: هل الحاكم الحاليّ ينصّ على الذي يليه ويُعيّنه للناس، من دون أن يكون للأمّة شأن التدخّل في أمر الحكومة؟ فالنبيّ يُعيّن شخصًا حاكمًا للأمّة من بعده، والذي يُعيّنه النبيّ ينصّ على الذي يليه، وهكذا يمضي الحال إلى قيام السّاعة، بحيث تكون الحكومة تعيينيّة ــ تنصيصيّة أبدًا؟

 

إذا كان الأمر كذلك، فهذه "القاعدة" لا تختصّ ضرورةً بالأئمّة الاثني عشر وحدهم، والحال أنّ عدد الأئمّة في المعتقد الشّيعيّ هو اثنا عشر إمامًا لا يقبل الزيادة أو النقصان، في حين تحكي هذه الرّؤية[2] عن وجود قانون عامّ يضبط حركة الحكم في الإسلام، يجب على النبيّ بمقتضاه أن يُعيّن للأمّة الحاكم الذي


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص43 - 45.

[2] وهي التي تختزل الإمامة بمعنى الحكومة والقيادة. (الإعداد).

 

211


166

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

يليه، والحاكم الذي ينصّ عليه النبيّ يُعيِّن الذي يليه، ليستمرّ الأمر على هذا المنوال حتّى قيام السّاعة.

 

في ضوء هذه الرّؤية تبقى قضيّة قواعد الحكم في الإسلام خاضعة لضابطة هذا القانون العامّ، حتى لو اكتسح الإسلام العالم، كما حصل ذلك فعلاً حين سيطر الإسلام على نصف العالم وانضوى تحت لوائه ما يُناهز السبعمائة مليون مسلم[1]. فإذا أُريد الالتزام بالأحكام الإسلاميّة وتطبيقها من خلال حكومة واحدة أو حكومات متعدّدة، فلا مناص من الالتزام بفحوى ذلك القانون العامّ.

 

وحينما نقول إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عيَّن عليًّا عليه السلام من بعده، فإنّ ذلك ينطلق في حقيقته من هذا الأصل أو القانون العامّ الذي يُفيد بأنّ الحكومة يجب أن تكون بالتّعيين والتّنصيص. بل في ضوء هذا القانون لم يكن ثمَّة ضرورة ليكون تعيين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا عليه السلام من قِبَل السّماء عن طريق الوحي، بل كان بمقدوره أن يُعيّنه من بعده بنظره وبما يراه صوابًا، وكذلك يفعل الأئمّة عليهم السلام من بعده، فيُعيّن كلّ واحد منهم الذي يليه بما يراه هو صلاحًا.

 

في ظلّ هذا المنطق، تنزل قضيّة تعيين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام خليفة من بعده، إلى مستوًى إداريّ من قبيل ما يقوم به من تعيين والٍ على مكّة، أو انتخاب أمير على الحجّاج. فكما لا يذهب أحد إلى القول إنّ ما فعله النبيّ من تعيين أحدهم واليًا على مكّة حاكمًا عليها، أو ما قام به مثلًا من إرسال معاذ بن جبل مبلِّغًا للإسلام في اليمن، كان من قِبَل الوحي وعلى أثر توجيهه، كذلك يجب أن يُقال إنّ ما قام به من تعيين عليٍّ خليفةً من بعده هو من تدبيره الخاصّ، انطلاقًا من كون النبيّ حاكمًا مخوَّلًا من قِبَل الله لقيادة الأمّة وإدارة شؤون المجتمع، فله أن يتصرّف بتدبيره الخاصّ فيما لا يبلّغه فيه وحي، كما جرت عليه سيرته في وقائع من نظير بعث معاذ إلى اليمن أو تعيين حاكم لمكّة.


 


[1] يتطابق هذا الرقم مع عدد نفوس المسلمين إبّان إلقاء المؤلّف لهذه المحاضرات.

 

212


167

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

نعود للقول: إنّ الإمامة إذا اختُزلت بهذا الشكل، فلا ضرورة أصلًا لتدخّل الوحي. وأكثر ما يُمكن للوحي أن يتدخّل فيه هو أن يُبلِّغ النبيّ بأنّ من وظيفته أن ينتخب من يراه مناسبًا فيُعيِّنه خليفةً من بعده، من دون أن ينصّ الوحي على أحد، فيختار النبيّ بحسب ما يراه صلاحًا، ثمّ يختار الذي انتخبه النبيّ، الذي يليه، وهكذا إلى يوم القيامة.

 

حين تطرح الإمامة بمثل هذا التّصوّر السّاذج، وتختزل بالحكم وحده، عندئذ ستتحلّى نظريّة أهل السنّة بهذا الشأن - من أنّه ليس من حقّ الحاكم تعيين الذي يليه، بل يجب على الأمّة أن تنهض بذلك وأنّه حقّها، وينبغي لأهل الحلّ والعقد المبادرة إليه، كما يجب أن يتمّ انتخاب الحاكم وفق أُصول ديموقراطيّة- بجاذبيّة أكبر من نظريّة الشّيعة وما يعتقدون به.

 

بيدَ أنّ المسألة ليست بهذه البساطة، ذلك أنّ ما نستفيده من مجموع ما لدى الشيعة أنّ النصّ على خلافة الإمام عليّ وسائر الأئمّة عليهم السلام هو فرع لمسألة أخرى، تُعدُّ هي القضيّة الأكثر أهمِّيَّة من المسألة الأولى[1].

 

ما هو مآل الحكومة بعد الأئمّة الاثني عشر؟

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو أنّ الأئمّة عليهم السلام هم اثنا عشر إمامًا، فما هو يا ترى مآل الحكم الإسلاميّ بعدهم؟ فلو فرضنا أنّ الأمور سارت بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما وصّى، فآل الحكم من بعده إلى الإمام عليّ عليه السلام ثمّ إلى الإمام الحسن عليه السلام، فالإمام الحسين عليه السلام وهكذا إلى أن وصل إلى الإمام الحجّة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص63 - 66.

 

213


168

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

ثمّ لو افترضنا أنّ الإمام المهديّ، لم يواجه ما يضطرّه إلى الغيبة -كما هي عليه فلسفة الإمام المهديّ والغيبة عندنا نحن الشّيعة- بل استلم الحكم بعد أبيه، ومضى في ممارسته مدّة قصيرة من الزّمن كما حصل لآبائه ثمّ غادر هذه الدنيا، فإلام ستصير إليه مسألة الحكم بعدئذٍ؟ هل يزداد عدد الأئمّة على الاثني عشر؟ من الواضح أنّ الجواب هو بالنفي. إذًا، لا بدّ أن تطلّ على دنيا المجتمع مسألة أُخرى تتمثّل بمسألة الحكم في صيغته العاديّة، أي في الوضع الذي نعيشه هذه الأيام حيث ينتخب الشعب بنحوٍ وآخر الحاكم ويستمرّ الأمر على هذا المنوال[1].

 

من هو الشخص الذي ينبغي أن يتسنّم الحكم وما هي مواصفاته؟[2]

ومن تلك الأسئلة: مَن هو الشخص الذي يجب أن يتسنّم الحكم؟ وهل يجب لهذا الحاكم أن يكون أفضل من الجميع أم يكفي فيه أن يكون أفضل نسبيًّا، لا أفضل من الوجهة الواقعيّة؟

 

أي أن يكون أفضل من الآخرين في إدارة الأمور، وأكفأ في السياسة، وإن كان أدنى منهم كثيرًا في بقيّة الجوانب، فيكفي أن يكون مديرًا كُفْءًا ولا يكون خائنًا.

 

وهل إنّ هذا الحاكم لا بدّ أن يكون معصومًا أم لا، وما هي الضّرورة لعصمته؟ هل يلتزم بأداء صلاة الليل، وما هي الضرورة لذلك؟ هل له دراية بالفقه وأحكام الشريعة وما هي ضرورة ذلك؟ إذ بمقدوره في هذه المسائل أن يرجع إلى الآخرين، حيث تكفي الأفضليّة النسبيّة.

 

هذه الصّيغة التي تكتسبها الإمامة من خلال حدود هذه الأسئلة، ترتهن أساسًا إلى المنطق الذي يضعها في مستوى الحكومة وحسب كشأنٍ هامشيّ صغير[3]. وهذا خطأٌ كبير وقع فيه أحيانًا بعض القدماء من المتكلّمين.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص66 - 67.

[2] المصدر نفسه، ص68.

[3] بالقياس إلى حقيقة الإمامة. (الإعداد).

 

214


169

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

واليوم كثيرًا ما يُكرَّر هذا الخطأ، فما إن تُذكر الإمامة حتى تتّجه الأذهان إلى الحكم كمرادفٍ لها، مع أنّ الحكومة من الفروع، وهي لا تعدو أن تكون شأنًا صغيرًا جدًّا من شؤون الإمامة. إنّ ما ينبغي الحذر منه هو الخلط بين هاتين القضيّتين، بين الإمامة والحكومة[1].


 


[1] الشهيد مطهّري, الإمامة, مصدر سابق, ص68.

 

215


170

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

المفاهيم الرئيسة

• ثَمَّة اختلاف بين المسلمين في مسألة الإمامة. يرفع الشّيعة مسألة الإمامة إلى مستوى أصول الديّن، بينما تعتبرها الفئات الأخرى من الفروع، والسبّب يعود إلى اختلافهم في فهم الإمامة.

 

• تشترك جميع المذاهب الإسلاميّة في الإيمان بالإمامة بمعنى رئاسة المجتمع.

 

• مسؤوليّات الإمام هي نفسها مسؤوليّات النبيّ، وهي عبارة عن تبيان الأحكام الإلهيّة التي جاء بها من عند الله والقضاء في الخصومات بين النّاس، وهو منصبٌ إلهيّ لأنّه حكمٌ بالعدل. وقيادة مجتمع المسلمين.

 

• يتّفق المسلمون على أصل ضرورة وجود قائد للمجتمع، ولكن يختلفون في مسألة انتخاب الإمام، يرى الشّيعة أنّه ينبغي أن يُعيّن من قِبَل النبيّ، بينما يرى الآخرون بأنّ انتخابه هو وظيفة المسلمين، وهذا الاختلاف راجع إلى فهم كلّ فريق لمعنى الإمامة.

 

• إنّ اختزال الإمامة بالحكومة يؤدّي إلى طرح عدّة تساؤلات منها: هل إنّ الحكم تنصيصيّ أم انتخابيّ؟ وما هو مآل الحكومة بعد الأئمّة الاثني عشر؟ ومن هو الشخص الذي ينبغي أن يتسلّم الحكم؟ وما هي مواصفاته؟ وكلّ هذه الأسئلة تنبثق من البداية الخاطئة في تناول الإمامة وجعلها مساوية للحكومة.

 

216

 


171

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

الدّرس السابع عشر

معاني الإمامة ومراتبها (2)

المرجعيّة الدينيّة المعصومة

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح الاختلاف بين المسلمين حول خلافة النبيّ في بيان أحكام الدين.

 

2. يعدّد أسباب لجوء البعض إلى استخدام القياس في فهم الدين.

 

3. يُحدّد موقف الإماميّة من مسألة القياس.

 

217


172

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

الإمامة بمعنى المرجعيّة الدينيّة

ذكرنا أنّ النبيّ كان مبلّغًا للوحي، وكان النّاس يرجعون إليه في سؤاله عن تفاصيل الإسلام وعمّا لم يظهر لهم في القرآن، والسّؤال هنا: هل يساوي ما جاء في القرآن وما بلّغه النبيّ لعموم النّاس جميع ما كان الإسلام يريد بيانه من أحكام وأوامر ومعارف؟ أم أنّ الزّمان لم يسمح بالضّرورة، أن يكون ما بلّغه النبيّ لعامّة النّاس مساويًا لجميع أحكام الإسلام؟

لقد كان الإمام عليّ عليه السلام وصيّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد علّمه الإسلام كمًّا وكيفًا، ولقّنه ما هو موجود وما ينبغي أن يكون، وربّاه في كنف تعاليمه، بحيث تحوّل إلى عالمٍ استثنائيّ يتميّز على جميع أصحابه، بل غدا مثله صلى الله عليه وآله وسلم لا يُخطئ في قول ولا يشتبه في كلام، وما من شيء لله إلّا وهو يعرفه.

 

ثمّ عرّفه صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة، وأمر النّاس بالرّجوع في مسائل دينهم من بعده إلى وصيّه وأوصيائه.

 

والإمامة، وفق هذا المعنى، هي في الواقع نوع من التّخصّص في الإسلام والبصيرة فيه (المعرفة الكاملة لأحكام الشريعة وأسرارها). بيد أنّه تخصّصٌ أرفع بكثير من تخصّص المجتهد. هو تخصّص من لدن الله. والأئمّة من هذا المنطلق هم أشخاص متخصّصون في الإسلام، بيدَ أنّ تخصّصهم ومعرفتهم بالإسلام لم يكونا

 

219

 


173

الدّرس السادس عشر: معاني الإمامة ومراتبها (1)

انطلاقًا من عقلهم واعتمادًا على فكرهم، لأنّ معرفةً مثل هذه واختصاصًا من هذا القبيل يُداخلهما الخطأ بالضّرورة، بل إنّ الأئمّة أخذوا علوم الإسلام من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بطريقٍ غيبيّ نجهله.

 

لقد تحوّلت المعرفة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام ومنه بلغت الأئمّة من بعده. وفي جميع أدوار الأئمّة، كان هناك علمٌ إسلاميّ معصوم لا يُخطئ، يتحوّل من إمام إلى الذي يليه.

 

أمّا أهل السنّة فلا يقولون بمثل هذا المقام لأيّ شخص. فهم لا يقولون بوجود الإمام ولا بالإمامة بهذا المعنى أصلًا، وهم ليس فقط لا يقولون بالإمامة للإمام عليٍّ عليه السلام ويصرفونها إلى أبي بكر. بل هم لا يقرّون بهذه المرتبة لا لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان، ولا لأيّ واحدٍ من الصّحابة بشكلٍ عامّ. لذلك تراهم ينقلون في كتبهم الكثير من الأخطاء في المسائل الدينيّة عن الصحابة، في حين تعتقد الشّيعة بعصمة أئمّتهم عن الخطأ، ومن المحال عندهم أن يُقرّوا للإمام بخطأ.

 

من بين ما يذكره إخوتنا من أهل السنة في كتبهم أنّ أبا بكرٍ قال: "إنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني"[1]. وأنَّ عُمَرَ قال في مواطن كثيرة: "لولا عليّ لهلك عمر"[2]. فقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يُصحِّح أخطاءه، وكان عمر يقرّ بها. إذًا من الواضح أنَّ أهل السنّة لا يعتقدون بهذه المرتبة من الإمامة لأيّ شخصٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[3].


 


[1] الهيثمي المكي، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، مصر - القاهرة، 1385هـ.ق - 1965م، ط2، ص12. وراجع: الدينوري، ابن قتيبة عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة، تحقيق: طه محمد الزيني، مؤسّسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج1، ص22.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص424.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص45 - 49.

 

220


174

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

هل تسنّى للنّبيّ تبليغ جميع أحكام الله إلى النّاس؟

تعود ماهيّة البحث في هذا الموضوع إلى المعنى الذي يجزم بأنّ الوحي كان للنّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وحده.

ونحن لا نقول بأنّ الأئمّة عليهم السلام يوحى إليهم، إذ لم يقم أحد بإيصال الإسلام إلى البشر سوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكلّ ما كان يجب أن يُعرف من الإسلام، أخبر به الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وليست القضيّة أنّ جزءًا من تعاليم الإسلام لم يُبلَّغ به النبيّ، إنّما السؤال: هل بقي شيءٌ من أحكام الإسلام لم يُبلِّغه النبيّ عامّة النّاس؟

يعتقد أهل السنّة أنّ أحكام الإسلام، هي فقط تلك التي بلَّغها النبيّ لأصحابه، والذي حصل بعد ذلك هو بروز العجز في المسائل التي ظهرت ولم يُروَ فيها شيء عن الصّحابة. فمن هذا الموقع بالذّات أطلّت مسألة القياس وما ذهب إليه بعضهم من استكمال تلك الفراغات وملئها بقانون القياس، حتى قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك: "أَمْ أَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَه دِيناً نَاقِصاً، فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِه"[1].

 

أمّا ما تعتقد به الشيعة وتقول به، فهو أنّ الله لم يُنزل دينًا ناقصًا إلى نبيّه، وبدوره لم ينقص النبيّ شيئاً ممّا تبلّغه من السّماء، في بيانه للنّاس، بل بلَّغه كاملاً، ولكن الصيغة الكاملة للأحكام التي بلَّغها النبيّ لم تكن تساوي ما كان قاله لعامَّة الناس، بل إنَّه خصَّ تلميذه الخاصّ (عليّ بن أبي طالب) بالصيغة الكاملة لأحكام الإسلام، وقد أمره أن يبيّنها للناس[2].

 

من هذا الموقع تُطلّ مسألة العصمة، إذ تذهب الشّيعة للقول: ما دام لا يمكن أن ينفذ الخطأ إلى قول النبيّ عمدًا أو سهوًا، ولا يجوز عليه الاشتباه، فكذلك الحال بالنسبة إلى تلميذه الخاصّ، إذ لا يُمكن له أن يُخطئ أو يشتبه. وكما أنّ النبيّ

 

 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 18، ص61.

[2] ثمَّ كثيرٌ من الأحكام لم تظهر موضوعاتها في عصر النبيّ أصلاً، وإنّما جرى السؤال عنها فيما بعد.

 

221


175

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

مسدّد بشكل من الأشكال بالتسديد الإلهيّ، كذلك يكون تلميذه الخاصّ، مسدّدًا بالتّسديد الإلهيّ أيضًا. هذه مرتبة أُخرى من الإمامة[1].

 

عودٌ على بدء

يُمكن أن تُصاغ المسألة الأساس في الإمامة -بالمعنى المطروح في هذا الدرس- من خلال محتوى السّؤال الآتي: هل يُمكن أن تتمركز مهمّة بيان تعاليم السّماء -في الدائرة التي لا يطالها الاجتهاد والرأي الشّخصيّ- بشخصٍ واحدٍ بعد وفاة النبيّ، بحيث تعود الأمّة إلى سؤاله في المسائل الدينيّة كما تعود إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تعلم أنّ ما يُجيب به هو الحق والحقيقة التي لا يُداخلها شيء من الرأي والفكر الشّخصيّ؟

 

نحنُ لا نقول بشأن النبيّ أنّه أخطأ في هذا الجواب، أو أنّه قد تصرّف في ذلك الموطن تبعًا لهواه النّفسيّ متعمّدًا، لأنّ مثل هذا الكلام والتصوّر مخالف لقبولنا بالنبوّة. فلو ثبت لنا بالدّلائل القطعيّة كلامٌ نَطَقَ به النبيّ، فلا نقول أبدًا إنّ هذا كلام صدر عنه في حال خطأ وغفلة.

 

فهذا الكلام قد يصحّ بشأن مرجع التقليد، إذ قد نقول إنّه ربّما أخطأ في جواب هذا السؤال أو أصابته الغفلة، كما أنّ احتمال الخطأ والغفلة والوقوع تحت سلطة بعض التأثيرات يصحّ إزاء الجميع، بيدَ أنّه لا يصحّ أبداً بشأن النبيّ، تماماً كما لا يصحّ أن نقول بصدد آية من القرآن إنّ الوحي أخطأ بشأنها أو داخله الظّلم والأهواء النفسيّة.

 

فهل يوجد بعد النبيّ شخص يعكس في موقعه ووجوده مرجعيّة أحكام الدّين، تمامًا كما كان النبيّ مرجعًا ومبيِّنًا ومفسّرًا؟ هل ثمّة وجود لإنسان كامل بمثل هذه المواصفات؟


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص49 - 50.

 

222


176

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

يعتقد الشيعة أنّ مثل هذا الشّخص موجود، ولكن بفارق أنّ ما يقوله النبيّ في هذا المجال ينطق به عن لسان الوحي مباشرة، في حين أنّ ما يصدر عن الأئمّة عليهم السلام يستند إلى النبيّ لا إلى الوحي مباشرة. ولا يُفسَّر ما تَلَقَّوْهُ عن النبيّ بالقول إنّه صلى الله عليه وآله وسلم علّمهم إيّاه، بل يُفسَّر على أساس ما نذكره من قول عليّ عليه السلام: "علَّمني رسول الله ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألفُ باب"[1].

 

نحن لا نستطيع أن نُفسِّر ذلك تمامًا، كما لا نستطيع أن نُفسِّر الوحي وكيف كان النبيّ يتلقّى العلم من الله. وليس بمقدورنا أن نُفسِّر طبيعة الارتباط المعنويّ الذي كان بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام حتى علّمه الحقائق كما هي وبتمامها، ولم يُعلِّم أحداً سواه.

 

يتحدّث الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة، عن رفقته النبيّ بحراء حين كان فتىً، وكيف سمع رنّة الشّيطان حين نزل الوحي على رسول الله، فقال: "يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ"[2].

 

لو كان أحدٌ إلى جوار عليّ عليه السلام لما سمع ما سمعه، لأنّ ما سمعه لم يكن من نوع الأصوات التي تنتشر أمواجه في الفضاء، فيسمعه كلّ ذي أُذن، بل إنّ الواقعة تُنبئ عن سمعٍ آخر ورؤيةٍ أُخرى[3].


 


[1] عن عبد الله بن مسعود، قال: "استدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً فخلا به، فلمّا خرج إلينا سألناه ما الذي عهد إليك؟ فقال: "علّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب"، الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص34، ويمكن القول إنَّ بعض علوم الأئمة عليهم السلام يتلقوّنه عن طريقٍ خاصّ يعبَّر عنه بالإلهام تمييزاً له من وحي النبوّة، وهو ما تشير إليه العديد من الروايات، وسيتحدّث عنه الشهيد مطهّري في ما سيأتي من أبحاث (الإعداد).

[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 192، ص301. ونحن نجد نظير هذه الكلمات في مواطن أُخرى كثيرة.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص69 - 70.

 

223


177

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

عصمة الأئمّة عليهم السلام على صعيد المرجعيّة الدينيّة

يعتقد الشيعة الإماميّة أنّ الأئمّة عليهم السلام كالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معصومون عن الخطأ والزلل والذنب، ولهذا يُعبِّر الإمام في شخصه ووجوده عن مرجعيّة يقينيّة قاطعة، بحيث إذا ما سمعناه ينطق بجملة، لن نحتمل فيها الخطأ، ولا الانحراف الذي يصدر عن عمد أو سهو أو غفلة أو نسيان، وهذا ما يُعبِّر عن العصمة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"[1]،[2].

 

إنَّ هذا الحديث لا يقبل الإنكار، ولم تختصّ الشيعة بروايته بل نقلَه أهل السنّة ورووه في كتبهم أكثر من الشيعة، ولم يذكره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في موطنٍ واحدٍ فحسب بل ذكره في مواطن عديدة. وهذا الحديث يتضمَّن بيان عصمة أهل البيت عليهم السلام لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحثُّ الأمّة من خلاله أن تتلقّى دينها من هذين المصدرين: الكتاب والعترة.

 

وكما أنّ القرآن معصوم، كذلك يكون المصدر الآخر معصوماً، ومن المحال أن يدعو النبيّ إلى أخذ الدين من مرجعٍ بمثل هذا الحسم والبيان ثمّ يتخلّل الخطأ بعض كلام ذلك المرجع.

 

عند هذه النّقطة بالذّات تفترق فرضيّة الشّيعة عن فرضيّة أهل السنّة في بيان الدّين وأخذه، بشكلٍ أساس. ففرضيّة أهل السنّة تذهب للقول إنّه كما انقطع الوحي بوفاة النبيّ، فقد انقطع أيضًا البيان الواقعيّ للدّين، أي البيان المعصوم عن الخطأ المنزّه عن الاشتباه، وليس ثمَّة شيء وراء ما استنبطناه من القرآن والأحاديث التي وصلت إلينا عن النبيّ[3].


 


[1] النيسابوري، مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح، (صحيح مسلم)، دار الفكر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج7، ص122.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص71 - 72.

[3] المصدر نفسه، ص71 - 75.

 

224


178

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

لماذا لم يتمكّن النبيّ من بيان جميع الأحكام؟

عندما نطلّ على الواقع نجد أنّ الأحكام التي بيّنها القرآن، هي أحكام مختصرة جدًّا ومجملة. فالقرآن معظمه كلّيّات. ومع عظيم تأكيده على الصلاة مثلًا نجد أنّه لم يتجاوز بشأنها أكثر من قوله: أقيموا الصلاة، مكتفياً بذكر السجود والركوع، من دون أن يتوافر على ذكر كيفيّة إقامتها. وكذا الحال بالنسبة إلى فريضة الحجّ، فمع ما تنطوي عليه شعيرة الحجّ من أحكامٍ عملَ بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لم نجد القرآن يُبيّن الكثير منها.

 

وسنّة النبيّ أيضًا جاءت عمليًّا بهذه الصّيغة العامّة المجملة في معظمها. فكم يا ترى كانت الفرصة التي توافرت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستطيع أن يُبيِّن فيها الحلال والحرام؟ ففي السّنوات الثّلاث عشرة التي أمضاها في مكّة، ربّما لم يكن يتجاوز عدد المسلمين أربعمائة مسلم على الأكثر، وذلك في ظلّ أجواء الضّغط والحصار التي كانت مفروضة هناك. وفي مثل هذه الأجواء لم يكن يُتاح للمسلمين اللقاء بالنبيّ إلّا خُفيةً، بالإضافة إلى توجّه سبعين عائلة منهم - هم نصف عدد المسلمين وربما أكثر - للهجرة إلى الحبشة.

 

هذا هو واقع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة وما يُتيحه هذا الواقع من فرص. أمّا في المدينة، فالفرصة وإن كانت متاحة على نحوٍ أفضل، إلّا أنّ مشكلات النبيّ كانت كثيرة أيضَاً.

 

وإذا أردنا أن نغضّ النّظر عن الواقع الكائن في مكّة والمدينة، ونفترض أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلك في هذه السّنوات الثّلاث والعشرين من البعثة، نهج المعلّم الذي لا شأن له إلّا تعليم الناس، فمع ذلك لم يكن هذا الوقت وافيًا كي يُبيِّن النبيّ للناس جميع ما ينطوي عليه الإسلام، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أنَّ للإسلام رأياً في جميع شؤون حياة البشر؟![1]

 

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص76 - 77.

 

225


179

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

اللجوء إلى القياس

لقد أفضى المنطق الذي آمن به أهل السنّة إلى أن تبدو لهم النّواقص واضحة عمليًّا في أحكام الإسلام. فعندما تطلّ عليهم مسألة ولا يلتمسون لها في القرآن حكمًا شرعيًّا، يرجعون إلى السنّة - بالقدر الذي نقلوه منها ومع الالتفات إلى سياسة منع تدوين الحديث التي مارسها الخليفة الثاني[1] فلا يعثرون فيها على حكمٍ شرعي أيضًا.

 

وعندئذٍ، هل يصحّ ترك المسألة بلا حكم؟ وإذا كان الجواب بـ (لا)، فماذا يجب أن يُفعل؟ أجابوا: القياس. والقياس يعني الاعتماد على مواطن التشابه بين ما له حكم في القرآن أو السنّة، وما ليس له فيهما حكم. فإذا تشابه الموردان قيس ما ليس له حكم على ما له حكم، وعُرِفَ حكمه على هذا الأساس.

 

على سبيل المثال، يُظنُّ في حكم جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه صدر عنه بهذا المناط والعلّة والملاك، فكلّما قُدِّر وجود المناط أو العلّة والملاك في مورد آخر، حُكِمَ عليه بالحكم نفسه، على أساس ذلك الظنّ.

 

لم تقتصر مواطن الفراغ على قضيّة أو اثنتين. فالعالم الإسلاميّ كان يتوسّع، خصوصًا في زمن العبّاسيّين، فقد فُتحت الكثير من البلدان، وازدادت الاحتياجات التي أخذت تستتبع مسائل جديدة. وعندما نظر أصحاب هذا الاتّجاه إلى القرآن والسنّة، لم يجدوا فيهما جوابًا عن مسائلهم، لذلك بادروا إلى ممارسة القياس. ومع ذاك فقد انقسموا إلى فريقين رئيسيّين، أحدهما أنكر القياس كما هو عليه أحمد بن حنبل ومالك بن أنس الذي قيل عنه إنّه لم يُمارس القياس في جميع سني عمره إلّا في مسألتين. أمّا الفريق الثاني فقد فتح الباب أمام القياس على مصراعيه، وقد ذهب في ممارسته إلى عنان السماء، كما حصل مع أبي حنيفة، ذلك أنّه لم يكن يعتقد أنّ ما بين الناس من سنن قد صدر عن النبيّ فعلًا، ولم


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص75.

 

226


180

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

يكن يثق بها، حتى قيل إنّه لم يثبت لديه أكثر من (51) حديثًا ممّا روي عن النبيّ، والبقيّة لم تثبت. بإزاء واقعٍ كهذا، فقد كان يستكمل بقيّة الأحكام بممارسة القياس. أمّا الشافعي فقد عبّر عن موقع وسط بين الفريقين، إذ كان يعتمد على الحديث في بعض الموارد، وعلى القياس في موارد أُخرى.

 

لقد كان أبو حنيفة يُمارس القياس بكثرة ويُطلق لخياله العنان في هذا المضمار، حتى بلغ الأمر أن كتب بعضهم: إنّ أبا حنيفة ذهب إلى الحلّاق يوماً، حيث كان الشيب في أوّل أوانه، ولم يزدد في رأسه بعد، فطلب من الحلّاق أن يستأصل الشعرات البيض لكي لا تزداد. فذكر له الحلّاق أنّ الشعر الأبيض يزداد باستئصاله كثرة ونموّاً. فطلب منه أبو حنيفة أن يستأصل الشعر الأسود، وقد صدر موقفه هذا عن قياس فحواه: إذا كان الشعر الأبيض يزداد وينمو بالاستئصال، إذاً من شأن الشعر الأسود أن يزداد ويكثر نموّه بالاستئصال أيضًا، في حين أنّ قاعدة نموّ الشعر وازدياده بالاستئصال تنطبق على الشعر الأبيض فحسب، ولا تجري على الشعر الأسود[1].

 

موقف الشّيعة من القياس

هذا ما نجده عند الآخرين، ولكن عندما نرجع إلى روايات أهل البيت عليهم السلام، فإننا نلمس أنّها تضرب جذور هذا التّفكير ومرتكزاته ببيان خطأ التّفكير الذي يذهب إلى عدم كفاية الكتاب والسنّة. ذلك أنّ اللجوء إلى القياس إنّما نشأ من تصوّر عدم كفاية الكتاب والسنّة في بيان الأحكام الشرعيّة، ومع القول بعدم كفايتهما يُصار إلى ممارسة القياس[2].

 

في حين أنّ ما وصل عن النبيّ من السنّة بصيغة مباشرة، أو بصيغة غير مباشرة من خلال أوصيائه، تُغني مراجعة كلّياته عن اللجوء إلى القياس.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص77 - 79.

[2] سيأتي الحديث مرّة أخرى حول هذه المسألة في الدرس التاسع عشر حين الاستدلال على ضرورة الإمامة.

 

227


181

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

هذه هي روح الإمامة من وجهة نظر الدين. وليس الإسلام مسلكاً وحسب، ليقول مُبتكر هذا المسلك (الاتجاه) بعد ظهور أيديولوجيّته، إنّ هذا الاتّجاه بحاجة إلى حكومة، فما هو الموقف من الحكم؟ كلّا، بل يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار أنّ الإسلام دين، وهو بعد ذلك دينٌ أبديّ وشامل[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص79 - 80.

 

228


182

الدّرس السابع عشر: معاني الإمامة ومراتبها (2)

المفاهيم الرئيسة

• يختلف المسلمون فيما بينهم بالنّسبة إلى تبليغ النبيّ لأحكام الله، فهناك فئة تؤمن بأنّ أحكام الإسلام هي فقط تلك التي بلّغها النبيّ لأصحابه، وبناءً عليه لجؤوا إلى وسائل أخرى لحلّ القضايا المستجدّة، فيما يؤمن الشّيعة بأنّ الله لم ينزّل إلى نبيّه دينًا ناقصًا، وأنّ النبيّ وإن لم يكن قد بلّغ ما أُنزل إليه من أحكام إلى جميع النّاس، لكنّه بلّغها لأمير المؤمنين عليه السلام الذي بلّغها بدوره إلى الأئمّة الذين جاؤوا من بعده.

 

• يؤمن الشّيعة بأنّ للأئمّة عليهم السلام المرجعيّة الدينيّة بعد النبيّ، فهم أشخاص متخصّصون في الإسلام، بيدَ أنّ تخصّصهم ومعرفتهم لم تكن انطلاقًا من عقلهم واعتمادًا على فكرهم، بل إنّ الأئمّة أخذوا علوم الإسلام من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بطريقٍ غيبيّ نجهله.

 

• ومن المنطلق المتقدّم يؤمن الشيعة بعصمة الأئمّة عليهم السلام، في حين لا يؤمن بقيّة المسلمين بمثل هذه المرتبة من الإمامة والعصمة لأيّ من الصّحابة، وهم يعتبرون أنّه كما انقطع الوحي بوفاة النبيّ فكذلك هو الأمر بالنسبة إلى بيان الدّين الواقعيّ.

 

• يؤكّد حديث الثّقلين على صحّة النظريّة التي يؤمن بها الشّيعة.

 

- سبب لجوء بعض الجماعات الإسلاميّة إلى القياس:

1- الحاجة إلى تبيان الأحكام المذكورة في القرآن الكريم وقِصر الفرصة التي أُتيحت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتبيانها، وسياسة منع التدوين التي اتبعها الخليفة الثاني بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- عدم الإيمان بوجود مرجعيّة دينيّة معصومة تُبيّن الأحكام بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

229

 


183

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

الدّرس الثامن عشر

معاني الإمامة ومراتبها (3)

الولاية الإلهيّة

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى معنى الولاية الإلهيّة.

 

2. يعدّد الأقوال المختلفة في ثبوت الولاية الإلهيّة للإمام.

 

3. يُناقش منشأ رفض البعض للولاية الإلهيّة.

 

231


184

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

الإمامة بمعنى الولاية الإلهيّة

للإمامة درجة ومرتبة ثالثة، هي ذروة مفهوم الإمامة. وكتب الشّيعة مليئة بهذا المفهوم للإمامة، الذي يُعدّ وجهًا مشتركًا بين التشيّع والتصوّف.

 

والمفهوم الذي نعنيه في هذا المجال يتمثّل بمسألة الإنسان الكامل، أو بتعبيرٍ آخر "حجّة العصر".

 

المسألة التي تعكسها هذه المرتبة من الإمامة عُرِضَ لها في أوساط العرفاء بصورة مكثّفة، كما عرفها التشيّع منذ صدر الإسلام. وقد سأل هنري كوربان العلّامة الطّباطبائي في حوارٍ له معه، في ما إذا كان الشّيعة قد أخذوا هذا المفهوم عن المتصوِّفة، أم أنّ المتصوّفة أخذته عن الشّيعة؟ وعندئذٍ ذكر له العلّامة الطباطبائي أنّ المتصوِّفة هم الذين أخذوا عن الشّيعة، لأنّه كان متداولًا في أوساط الشّيعة في وقتٍ لم يكن قد تبلور فيه التّصوّف بعد، ولم تكن قد شاعت في أوساطه مثل هذه المسائل، ثمّ نفَذَ بعد ذلك وبرز في أوساطهم.

 

ولقد ارتكز منحى العرفاء والمتصوِّفة على مسألة الإنسان الكامل كثيرًا. فمولوي يقول: "إنّ لكلِّ عصر وليًّا قائمًا"، وإنّ في كلّ عهد إنسانًا كاملًا، يكون حاملاً للمعنويّة الإنسانيّة العامّة، ولا يخلو زمان أبدًا من الوليّ الكامل الذي يُعبَّر عنه أحيانًا بالقطب.

 

233

 


185

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

يعتقد هؤلاء أنّ للوليّ الكامل الذي ينطوي على صفات الإنسانيّة ومقاماتها بشكلٍ تامّ وكامل، مقاماتٍ بعيدة كلّ البعد عن أذهاننا. من بين المقامات التي تُذكر له، تسلّطه على الضمائر، أي القلوب، انطلاقًا من كونه روحًا كلّيّة يُحيط بجميع الأرواح.

 

ومسألة الولاية تُطرح عادةً في الاعتقاد الشّيعيّ بهذا المعنى نفسه، ولكن على نحوٍ مكثّف جدًّا. فهي تُطرح بمعنى أن يكون الوليّ حجّة الزّمان، بحيث لا يكون ثمّة زمان خالٍ من الحجّة أبدًا "ولولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها"[1]. ومؤدّاه أنّ الأرض لم تخلُ ولن تخلو من الإنسان الكامل أبدًا. ويعتقد الشّيعة أنّ هذا الإنسان الكامل ينطوي على مقامات ودرجات كثيرة. ونحن في أغلب التّحيّات والزّيارات التي نقرأها، نقرّ بمثل هذه الولاية ونعترف بهذه الإمامة، أي إنّنا نعتقد أنّ للإمام مثل هذه الرّوح الكلّيّة.

 

نقول في الزيارة التي نقرأها جميعًا باستمرار، وهي جزء من أُصول التشيّع: "أشهد أنّك تشهد مقامي وتسمع كلامي وتردّ سلامي"[2]. نحن نُخاطبه بهذا الكلام وهو ميّت، ولا فرق بالنسبة إلينا في تحلّيه بهذا المقام بين حياته ومماته. وهذا لا يعني أنّه لم يكن كذلك في حياته، وأنّها من مختصّاته بعد مماته.

 

أمّا أهل السنّة - من غير الوهّابيّين - فلا يعتقدون بمثل هذا المقام إلّا للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقط، ولا يقولون بمثل هذا العلوّ والإحاطة الروحيّة في الدّنيا، إلّا للنبيّ وحده.


 


[1] هذا التعبير ورد مع اختلاف يسير جداً في العديد من النصوص عن أهل البيت عليهم السلام أقربها كما وجدناه هو ما رواه الطبري في دلائل الإمامة: "عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سمعته يقول: "لو بقيت الأرض يوماً واحداً بلا إمام منا لساخت الأرض بأهلها، ولعذبهم الله بأشدّ عذابه، وذلك أنّ الله جعلنا حجّة في أرضه وأماناً في الأرض لأهل الأرض..."، راجع: الطبري، محمد بن جرير، دلائل الامامة، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قم المشرّفة، 1413هـ.ق، ط1، ص436 (الإعداد).

[2] المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج97، ص295.

 

234


186

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

يتَّضح ممّا مرَّ أنّ الإمامة على ثلاث درجات، إذا لم نفكّك فيما بينها، سنقع في إشكالات أثناء ممارسة الاستدلال في مجال الإمامة[1].

 

التفاوت بين الشّيعة في الإيمان بالمراتب الثّلاث للإمامة

يترتّب على ما تقدّم أنّ للتشيع مراتب ثلاثاً:

المرتبة الأولى: وهي حيث ينحصر الاعتقاد بالإمامة -كما لعلنا نجده عند النادر من الشّيعة بالمعنى الأعمّ- بمعنى كونها قيادة اجتماعيّة فقط، هؤلاء يقولون إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عيّن عليّاً عليه السلام قائداً من بعده، وأنّ أبا بكر وعمر وعثمان تصدّوا لهذا الموقع من تلقاء أنفسهم. أمّا في المرتبتين الأُخريين، فهم إمّا ألّا يعتقدوا بهما أو يسكتوا عنهما.

 

المرتبة الثانية: وهي حيث يصل الاعتقاد بالإمامة إلى المرتبة الثانية - أي المرجعيّة الدينيّة المعصومة - من دون أن يصل إلى المرتبة الثالثة. وممّا يُقال بهذا الشأن إنّ المرحوم السيّد محمّد باقر درچـئي أُستاذ السيّد البروجردي في أصفهان، كان ينكر المرتبة الثالثة، فقد كان يعتقد بالإمامة إلى مرتبتها الثانية ولم يتجاوزها إلى ما بعدها.

 

المرتبة الثالثة: وهي ما عليه أكثريّة الشيعة وعلماؤهم حيث يعتقدون بالمرتبة الثالثة للإمامة أيضًا -وهي الولاية الإلهيّة- أي يجمعون بين المراتب الثلاث للإمامة[2].

 

الولاية الإلهيّة

إنَّ الاعتقاد بالولاية الإلهيّة قد لا يُعَدُّ من أركان التشيّع، ولكن يمكن توضيحُه من خلال الأسئلة الآتية: هل يقتصر مقام النبيّ الأكرم على تلقّي الأحكام الإلهيّة


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص50-53.

[2] المصدر نفسه، ص53.

 

235


187

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

وأصول الإسلام وفروعه من خلال الوحي؟ وهل يقتصر علمه على معرفة الإسلام الواقعيّ فقط، فلا يكون من شأنه معرفة شيءٍ وراءه من جانب الله؟ وهل كان معصوماً عن الخطأ في جانب العمل فقط؟

 

وبشأن الأئمة عليهم السلام، هل اقتصر مقامهم على تلقّي الإسلام بواسطة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - بحيث إنّه لا يوحى إليهم - بالنحو الذي يكون علمهم بكلّيّات الإسلام وجزئيّاته وفروعه كعلم النبيّ لا يداخله شيء من الخطأ؟ وأنّهم في مقام التقوى والعمل معصومون من الخطأ أيضاً؟

 

أم أنّ هناك علوماً أخرى عندهم؟ وعلى فرضها فما هي هذه العلوم؟

 

هل صحيحٌ أنّ الأعمال تُعرَض على النبيّ، وأنّ أعمال الناس في زمان كلّ إمام تُعرَض عليه، بحيث إنّ الإمام المهديّ عليه السلام ليس مطَّلعاً على أعمال الشيعة فحسب بل هو مطّلعٌ على أعمال الناس جميعاً؟

 

في أفق هذه الولاية لا فرق بين كون الإمام حيّاً أو ميْتاً، ولذلك حين تزور مشاهد المعصومين عليهم السلام تقول لكلّ واحدٍ منهم: السلام عليك. لا فرق بين سلامك عليهم وسلامك على أيّ إنسانٍ حيٍّ تخاطبه.

 

هذه هي الولاية المعنويّة، وهي تمثّل نقطة التقاء كما أسلفنا بين العرفان والتشيّع[1].

 

توضيح في معنى الولاية الإلهيّة التكوينيّة

تُعدّ ولاية التصرّف، أو الولاء المعنويّ، أعلى ضروب الولاية. ذلك أنّها ضرب من التسلّط والاقتداء التكوينيّين. فما معنى ولاية التصرّف وما هو المقصود منها؟

 

ترتبط نظريّة الولاية المعنويّة من جهة بالإمكانات الموجودة بالفعل والقوّة في هذا الكائن الذي ظهر على وجه الأرض باسم الإنسان، وهي ترتبط من جهة

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص82 - 84.

 

236


188

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

أخرى بالعلاقة بين هذا الكائن والله. إنّ المقصود بالولاية المعنويّة التكوينيّة هو أن يقترب الإنسان بسيره على صراط العبوديّة من الله، فيكون على أثر ذلك - في مراتبه العليا طبعاً - قد تركّزت فيه المعنويّة الإنسانيّة (التي هي بذاتها حقيقة من الحقائق)، وهو بنيله لتلك الدّرجة من المعنويّة، وهي رأس المعنويّات، يُصبح مسلّطًا على الضّمائر، وشاهدًا على الأعمال، وحجّة على زمانه، وهذا معنى أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.

 

وهذه الولاية، هي من شؤون ذلك العبد الذي تنزّه كليًّا من أهواء نفسه، أمّا الإنسان الذي ما يزال تحت سيطرة رغباته وأهوائه وميوله العشوائيّة فهو محرومٌ من أمثال هذه الكرامات. إنَّ الإنسان الذي طهُر إلى ذلك الحدّ، لا تنبعث إرادته أبدًا من النّزعات والغرائز التي تنبعث منها إرادتنا، بل تتحرّك إرادته باطنيًّا وبإشارة غيبيّة، أمّا كيف يكون ذلك؟ فلا علم لنا به[1].

 

منشأ إنكار الولاية الإلهيّة

نعترف بأنّ قبول مفهوم الولاية بهذا المعنى ليس من السّهولة بمكان، وكذلك التصديق به، لا سيّما وأنّ طبقة المتنوّرين لا يُعجبها الخوض في أمثال هذه المسائل، فهم يعرفون صعوبة الموضوع وينكرونه بقولهم: بالنظر إلى كثرة المسائل الضروريّة المطروحة أمام المسلمين في الوقت الحاضر، فليس هناك ما يدعو إلى تناول موضوع ما إذا كان للنبيّ والإمام ولاية تكوينيّة أم لا.

 

ويطرح آخرون إنكارهم واعتراضهم بشكلٍ آخر يصطبغ بالصّبغة الدينيّة، فيقولون: إنّ هذا غلوّ، ويعني القول بمقام فوق بشريّ ونصف إلهيّ للبشر، ونسبة عمل الله إلى غير الله، وعليه فإنّه شرك ويتنافى مع أوّل أصول الإسلام وهو التّوحيد.


 


[1] مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، الولاء والولاية، ترجمة: جعفر الخليلي، مؤسّسة البعثة، إيران - قم المشرّفة، 1994م، ط5، ص53 - 54؛ ص58 - 59.

 

237


189

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

والحقيقة هي أنّنا لا نستطيع من تلقاء أنفسنا أن نتقبّل أمراً أو أن نردّه، وإنّ كون قضيّة من القضايا شركًا أو توحيدًا لا يتأكّد أو ينتفي برغبتنا، بحيث إنّنا يُمكن أن نقول إنّ هذه النظريّة شرك وتلك توحيد بحسب ميولنا. هنالك مقاييس دقيقة قرآنيّة وبرهانيّة لذلك.

 

إنّ في المعارف الإسلاميّة من المسائل المتعلّقة بالشرك والتوحيد ما يبلغ بها أوج العظمة التي تفوق تصوّر الإنسان العاديّ، كما أنّ معيار ضرورة بعض المسائل لا ينحصر في كون بعض المسائل تُطرح في زمانٍ ما أكثر ويحسّ الناس بالحاجة إليها أكثر. إنّ من الخطأ التصوّر بأنّ الإحساس بالحاجة يكون دائمًا مطابقًا للحاجة فعلاً.

 

إنّ مقدار توكيد القرآن على موضوع ما ضمن عرضه المسائل يُعتبر بحدّ ذاته معيارًا ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في كلّ زمان، ومسألة الولاية التكوينيّة من المسائل المتعلّقة بالإنسان ومواهبه التي أولاها القرآن أهمِّيَّة كبرى[1].

 

معنى التقرّب من الله وارتباطه بالولاية الإلهيّة

أهمّ مسألة ينبغي أن تعرض هنا هي مسألة "التقرّب من الله". من المعلوم في الإسلام، بل وفي كلّ دينٍ سماويّ، أنّ روح التّشريع هو قصد التقرّب إلى الله، وأنّ النتيجة النهائيّة المتوقّعة من كلّ عمل هي التقرّب إلى الله أيضاً. فما معنى التقرّب إلى الله[2]؟

 

أهو قربٌ حقيقيّ أم هو قربٌ مجازيّ؟ أحقٌّ أنّ العباد بالطّاعة والعبادة والسّلوك والإخلاص يرتفعون نحو الله، ويتقرّبون منه، وتقلّ الفاصلة بينهما، بحيث تتضاءل حتّى تنعدم ويحصل ما يُعبّر عنه القرآن بتعبير "لقاء الربّ" أم أنّ هذه كلّها تعبيرات مجازيّة ولا تعني الاقتراب من الله، وأن ليس هناك قرب أو بعد من الله،


 


[1] الشهيد مطهّري، الولاء والولاية، مصدر سابق، ص53 - 54؛ ص59 - 62.

[2] المصدر نفسه، ص62.

 

238


190

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

وأنّ القرب من الله لا يختلف شيئاً عن القرب من شخصيّة اجتماعيّة، أي إنّ الله يرضى عن عبد فتزداد عنايته به ويكثر لطفه عليه[1]؟

 

يُستنتج من أقوال منكري القرب الحقيقيّ من الله، أنّ طاعة الله وعبادته لا تغيّر علاقة الله بالعبد ولا تُغيّر علاقة العبد بالله، فمن حيث القرب الحقيقيّ يتساوى أوّل شخص في العالم، أيّ النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وأشقى الناس من أمثال فرعون وأبي جهل.

 

الحقيقة هي أنّ هذا الخطأ ناشئ من نوع من التفكير الماديّ بالنسبة إلى الإنسان وإلى الله، وعلى الأخصّ بالنسبة إلى الإنسان. فإنّ من يرى الإنسان وروحه مجرّد كميّة من الماء والطين، ولا يريد أن يعترف بقول الله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾[2] أو أنّه يحمله على محمل المجاز، لا يسعه إلّا أن يُنكر القرب الحقيقيّ. ولكن، ما الذي يدعونا إلى أن نفترض الإنسان حقيرًا وترابيًّا إلى هذا الحدّ، بحيث نضطرّ إلى تأويل كلّ شيء ونوجّهه تلك الوجهة؟

 

إنّ الله كمال مطلق وغير محدود، وحقيقة الوجود تساوي الكمال، وكلّ كمال يرجع إلى حقيقة الوجود التي هي حقيقة أصيلة مثل العلم، والقوّة، والحياة، والإرادة، والرحمة، والخير، وغيرها.

 

إنّ الكائنات في أصل خلقتها، كلّما كانت أكمل في وجودها، أي كلّما كانت أقوى وأشدّ في وجودها، كانت أقرب إلى ذات الله التي هي الكمال المحض، ومن الطبيعيّ أنّ الملائكة أقرب إلى الله من الجمادات والنباتات، ولهذا السبب نفسه يكون بعض الملائكة أقرب إلى الله من بعضهم الآخر، فبعضهم يأمر وبعضهم يطيع، وهذا الاختلاف في المراتب قرباً وبعداً، يتعلّق، في الواقع، بأصل الخلق.

 

 


[1] الشهيد مطهّري، الولاء والولاية، مصدر سابق، ص64.

[2] سورة الحجر، الآية 29.

 

239


191

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

هذا، وإنّ الكائنات، وعلى الأخصّ الإنسان، مشمولون بقوله -تعالى-: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[1]. وعلى الإنسان، بحكم مرتبة وجوده، أن يُحقّق هذه العودة في صورة الطاعة والعمل الاختياريّ والقيام بالواجب اختياريّاً. إنّ الإنسان باجتيازه طريق طاعة الله، إنّما يطوي في الواقع درجات الاقتراب من الله، أي إنّه يطوي المراتب من مرتبة الحيوانيّة إلى مرتبة ما فوق الملائكيّة. إنّ هذا الارتقاء والصعود ليس أمراً تشريفيّاً أو إداريّاً متّفقاً عليه، كأن يكون ارتقاء من درجة بسيطة إلى درجة وزير، أو من مجرّد عضو في حزب إلى مركز قيادة الحزب، وإنّما هو ارتقاء في سلّم الوجود، وازدياد في الشدّة والقوّة والكمال، أي إنّه ازدياد واستكمال في العلم والقوّة والحياة والإرادة والمشيئة واتّساع دائرة النفوذ والتصرّف. إنّ التقرّب إلى الله يعني - في الحقيقة - اجتياز مراحل الوجود والاقتراب من قلب الوجود اللامتناهي. وعليه، فإنّه من المستحيل أن لا يصل الإنسان بعد الطاعة والعبوديّة واجتياز صراط العبوديّة إلى مقام الملائكة أو إلى أبعد من ذلك المقام، أو أن يكون في الأقلّ متمتّعًا بالكمالات الملائكيّة، إنّ القرآن يؤكّد مقام الإنسان بقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾[2] حقّاً ينبغي القول بأن من ينكر مقام الإنسان فهو إبليس[3]!

 

حدود ولاية التصرّف أو الولاية التكوينيّة

لا نستطيع أن نُعيّن تعييناً دقيقاً حدود ولاية التصرّف أو الولاية التكوينيّة، لإنسان كامل أو قريب من الكمال، ولكنّ مجموع القرائن القرآنيّة والعلميّة الذي بين أيدينا يؤيّد إمكان وصول الإنسان إلى مرتبة تتحكّم فيها إرادته في العالم. ولكن إلى أيّ حدّ؟ هل لذلك حدّ، أم لا حدّ له؟ إنّ الجواب عن ذلك خارج عن نطاق بحثنا وطاقتنا[4].


 


[1] سورة البقرة، الآية 156.

[2] السورة نفسها، الآية 34.

[3] الشهيد مطهّري، الولاء والولاية، مصدر سابق، ص65 - 68.

[4] المصدر نفسه، ص58.

 

240


192

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

المفاهيم الرئيسة

•        ثَمَّ مرتبة ثالثة للإمام هي الولاية المعنويّة الإلهيّة، وهي مرتبة يؤمن بها كلٌّ من الشّيعة والعرفاء، والمقصود بها وجود الإنسان الكامل، أو "حجّة العصر".

 

•        يعتقد بعض المسلمين من أهل السنّة -غير الوهّابيّين- بهذا المقام للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقط، ولا يقولون بمثل هذا العلوّ والإحاطة الروحيّة في الدّنيا، إلّا للنبيّ وحده.

 

•        تُعدّ ولاية التصرّف أعلى درجات الولاية، وهي ترتبط بالإمكانات والكمالات الكامنة في الإنسان، ومن جهة أخرى بعلاقة الإنسان بالله -تعالى-. فإذا سار الإنسان في مدارج العبوديّة وثبتت فيه المعنويّة الإنسانيّة بأرقى درجاتها أصبح مسلّطًا على الضمائر وشاهدًا على الأعمال وحجّة على زمانه.

•        يعود منشأ إنكار البعض للولاية المعنويّة الإلهيّة إلى اعتبار أنّه لا داعي من طرحها الآن مع كثرة المسائل الضروريّة المطروحة أمام المسلمين اليوم، وأنكر البعض المسألة من باب أنّها غلّو ونسبة مقام فوق بشريّ إلى البشر، واعتبروه أنّه نوعٌ من الشرك.

 

•        يردّ على منكري الولاية التكوينيّة الإلهيّة أنّ تحديد كون قضيّة ما شركاً أم توحيداً لا ينبغي أن يخضع للميول الشخصيّة، فلا بدّ من اعتماد المقاييس القرآنيّة والبرهانيّة لإثبات ذلك.

 

•        إنّ التقرّب من الله يعني اجتياز مراحل الوجود والاقتراب من قلب الوجود اللامتناهي، والازدياد في العلم والحياة والقوّة واتّساع دائرة النفوذ والتصرّف، والذين أنكروا هذا الأمر يعود إنكارهم إلى حصر حقيقة الإنسان ببعده الماديّ.

 

241

 


193

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

الدرس التاسع عشر

الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يستدل على ضرورة الإمامة من خلال دليل اللطف الإلهيّ.

2. يشرح وجوب الإمامة من خلال الحاجة إلى بيان أحكام الدين وتبليغها.

3. يبيّن ضرورة عصمة الإمام ووجوب تعيينه بالنصّ.

 

243

 


194

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

تمهيد

لكي تتّضح ماهيّة بحث الإمامة على نحو أفضل، سوف نستعرض ما كتبه الخواجة نصير الدّين الطّوسيّ في هذا المجال، مع بيان بعض التّوضيحات كلّما كان ذلك ضروريًّا.

 

لقد صنّف الخواجة كتابًا معروفًا باسم "التّجريد"، فيه قسمٌ يبحث في فنّ المنطق، ويُقال له "منطق التّجريد"، والقسم الآخر في فنّ الكلام، وهو يتناول مسائل التّوحيد، والنبوّة، والإمامة، والمعاد، وقضايا أُخرى. والذي يطغى على باب التّوحيد أكثر هو الجانب الفلسفيّ، حيث تناول الخواجة البحث على أساس منهج الفلاسفة. وقد قام العلّامة الحلّيّ بشرح قسمي الكتاب أيضاً[1].

 

دليل اللطف

أوّل ما يُفتتح به الحديث عن الإمامة هو تعريفها. ولا يبدو أنّ فيه اختلافًا حيث يُقال في التّعريف: الإمامة هي رياسة عامّة في أمور الدّين والدُّنيا.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص91.

 

245

 


195

الدّرس الثامن عشر: معاني الإمامة ومراتبها (3)

وقد استخدم الطّوسيّ مصطلحًا كلاميًّا، فقال: "الإمامُ لطفٌ"[1]. والمقصود أنّ الإمامة نظير النبوّة، خارجة عن حدِّ اختيار البشر واستطاعتهم، متّصلة بطرفٍ آخر يجب أن تصدر عنه. فإذا كانت النبوّة يجب أن تأتي من خلال الوحي وهي تعيين من السماء، فالإمامة مثلها لا تكون إلّا بتعيين من النبيّ عن الله، والفرق بينهما أنّ النبوّة تصدر مباشرة عن الله، ويكون ارتباط النبيّ بالله مباشراً، أمّا الإمام فيُعيّنه النبيّ عن الله.

 

ينطلق النهج الاستدلاليّ لعلماء الشيعة في شرحهم لكلام الخواجة الطوسيّ من مقولة هي:

أوّلًا: إنّ الإسلام دين عامّ يشمل جميع شؤون الحياة البشريّة، وواقع هذا الدّين يحكي هذه الخاصّيّة فيه ويُدلّل عليها، إذ له في جميع المسائل موقف، وهو يتدخّل بالأمور كافّة.

 

ثانيًا: يقف الشّيعة عند تاريخ حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ليتساءلوا: هل دلّت حياته المجيدة على أنّ الفرصة توافرت لكي يُعلِّم الناس الإسلام كاملاً بكلّ ما ينطوي عليه من سعة وشمول؟

 

عندما نعود إلى التاريخ، نجد أنّ مثل هذه الفرصة لم تتوافر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال السنوات الثلاث والعشرين من سني البعثة.

 

بديهيّ أنّ النبيّ اغتنم كلّ الفرص المتاحة، وعلّم المسلمين كثيراً من أحكام الدين، بيدَ أنّ تاريخ حياته في مكّة والمدينة، وما أصابه من مشكلات وابتُلي به من شواغل كثيرة، حال دون أن تكفي هذه المدّة لتعليم جميع الأحكام لجميع المسلمين.

 

ثالثًا: يصل الاستدلال إلى استحالة أن يكون مثل هذا الدين قد تُرك بيانه ناقصاً. لذلك كان لا بدَّ أن يكون بين الصّحابة شخص واحد، أو مجموعة تلقّت الإسلام


 


[1] ونص عبارة الخواجة: "الإمام لطفٌ فيجب نصبه على الله -تعالى- تحصيلاً للغرض"، راجع: الحلي، العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهر، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تحقيق: آية الله حسن زاده الآملي، مؤسّسة نشر الإسلاميّ، إيران - قم المشرّفة،1417هـ.ق، ط7، ص490.

 

246


196

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كاملاً واستوعبته بتمامه، بحيث يكون هذا التلميذ أو المجموعة جاهزين لتوضيح الإسلام وبيانه بعد النبيّ مباشرة، نظير ما كان يقوم به النبيّ، مع فارق أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينطق عن الوحي مباشرة، في حين ينهض من يخلف النبيّ بمهمّته هذه، بواسطة ما تعلّمه عن النبيّ وتلقّاه منه[1].

 

رابعًا: لم يدّعِ غير الشيعة من المسلمين وجود هذا الشخص (الإمام المعصوم  عليه السلام) ولم يرجعوا إليه، فقد تعامل هؤلاء مع الإسلام كدين ناقص، شاءوا ذلك أم أبوْا، ما أفضى في النهاية إلى اصطناع بعضهم للقياس -كما تقدّم- بسبب ظهور مسائل تحتاج إلى أجوبة وأحكام، وقد رأوا حين نظروا إلى هذه المسائل أنّ شيئاً لم يصل إليهم فيها عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن أمامهم من حلّ سوى قياس موضوع بموضوع آخر، معتمدين على التشابه الظنّيّ في استنباط أحكام هذه المسائل. وهذا ما يرفضه الشيعة الإماميّة، استناداً إلى نصوص الأئمّة  عليهم السلام في ذمّ هذا الواقع وإدانته.

 

لقد أكّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام تأكيدًا كبيرًا على أنّ المسألة لا تكمن في كون الدّين ناقصًا، حتى يتطلّب استكمال هذا النقص وسدّ الفراغ الاعتماد على رأينا وما يفضي إليه ظنّنا. وفي كتاب "الكافي" مثلاً باب مضمونه أنّه ما من شيء - من الحلال والحرام - إلّا وقد جاء فيه كتاب وسنّة، أو في كلّياته على أقلّ تقدير[2]. فكليّات المسائل جاءت مدرجة في الكتاب والسنّة، وما يجب هو الكشف عن المصداق وحسب.

 

والاجتهاد في الرّؤية الشّيعيّة، لا يعني أكثر من هذا، إذ هو يعني كفاية كليّات الإسلام وأُصوله العامّة، وما على المجتهد إلّا أن يُطبِّق هذه الأصول الكلّيّة على الجزئيّات ليصل إلى الأحكام.


 


[1]  قد تقدّم عند الحديث عن مراتب الإمامة أنّ للإمام المعصوم اتّصالاً بالله - تعالى - سوى الوحي وهو المعبَّر عنه بالإلهام في درجاته العليا التي لا تتوافر لغير المعصوم (الإعداد).

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص59.

 

247


197

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

أمّا القياس فهو شيءٌ آخر، إذ لا يعتقد من يقيس حتّى بكفاية هذه الأصول الكلّيّة العامّة، لذلك يؤمن بوجوب الجري وراء المتشابهات والاعتماد على الظنّ والحدس لاستنباط الأحكام على نحوٍ تخمينيّ[1].

 

النّتيجة

نتبيَّن ممّا مرَّ أنّ منطق علماء الشّيعة يقوم على ما يأتي: إنّنا نحن وكلّ المسلمين من جميع المذاهب نتّفق على أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم تتسنّ له خلال سنوات البعثة الثلاث والعشرين، فرصة بيان جميع أحكام الإسلام إلى الناس، ولو بصورة كلّيّات.

 

ثم نفترق بعد ذلك. إذ يقوم منطق الآخرين على أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ترك الأمّة هكذا ومضى. أمّا نحن فنعتقد أنّ الدليل الذي أفضى إلى أن يُبعث النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم قاد بنفسه إلى أن يُعيِّن أشخاصاً بعينهم، لهم جنبة قدسيّة، يخلفونه من بعده.

 

لقد نهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم أوّل هؤلاء الخلفاء - وهو الإمام عليّ عليه السلام - جميع حقائق الإسلام، وبيَّنها له بتمامها، لكي يتصدّى لجميع ما يعرض من أسئلة. وكان الإمام عليّ عليه السلام يطلب من الأمّة دائماً أن يسألوه عمّا بدا لهم ليُجيبهم[2]،[3].


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص94-97.

[2] دأب الإمام عليّ في خطبه على أن يحثّ الأمّة على سؤاله، حتى قال: "أيّها الناس إنّي ابن عمّ نبيّكم وأولاكم بالله ورسوله، فاسألوني ثم اسألوني"، الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص229. وفي خطبة أخرى، قال: "سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني عن فئةٍ تضلُّ مئة وتهدي مئة إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة". فما كان من أحدهم، إلّا أن نهض فقال: "أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟". راجع: المصدر نفسه، ج1، ص330.

لقد نقلت معظم المصادر التاريخيّة وبأسانيد صحيحة ومتعدّدة أنّ الإمام أمير المؤمنين كان يحثّ الأمّة على سؤاله ويدعوها لذلك. راجع: الأميني، الشيخ عبد الحسين أحمد، الغدير، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، 1977هـ.ق، ط4، ج6، ص193 - 194؛ ج7، ص107 - 108. وأجمل من ذلك كلّه، ما ذكره أحمد بن حنبل: "لم يكن أحد من أصحاب النبيّ يقول سلوني إلّا علي بن أبي طالب"، راجع: المحب الطبري، أبو جعفر أحمد، الرياض النضرة في مناقب العشرة، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص118؛ القندوزي، الشيخ سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة لذوي القربى، تحقيق: السيد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران - قم المشرّفة، 1416هـ.ق، ط1، ج1، ص224.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص98.

 

248


198

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

مثال على ضرورة الإمامة

لنبيّن هذه الفكرة ببيان معاصر: يقوم منطق علماء الشّيعة على أنّ من ينكر وجود إمام بهذه المواصفات، إنّما يستخفّ، في الواقع، بالإسلام ويستهين به. ذلك أنّ منطق الأشياء يحكي بداهةً وجوب أن يُرافق الجهاز الفنّيّ، متخصّص خبير به، حين يبعث به إلى مكانٍ ما. فعندما يُصدِّر بلد كأميركا أو الإتّحاد السّوفياتي[1] أجهزة متطوّرة من قبيل طائرة الفانتوم أو الميغ، إلى بلد لم يعهد أهله هذه الأجهزة من قبل، ولا معرفة لهم بها، تراه يبعث خبيرًا مختصًّا مع الطّائرة. ولا شك أنّ الحال يختلف مع تصدير حاجة بسيطة كالقماش مثلاً، حيث لا تكون بحاجة إلى مرافقة خبير. والسّؤال الآن: كيف نقيّم الإسلام الذي جاء إلى النّاس من عند الله، وكيف ننظر إليه؟ هل ننظر إليه على مثال نظرتنا إلى سلعة بسيطة كالقماش، وهي لا تحتاج إلى خبير فنّيّ يرافقها حين تُصَدَّر من بلدٍ إلى بلد؟ أم نتعاطى معه كما نتعاطى مع جهازٍ فنّيّ معقّد يحتاج أثناء التصدير إلى خبير يُرافقه مدّة يتعلّم الناس خلالها استخدامه ويعتادون عليه؟

 

الإمام في حقيقته هو تعبير عن مرجع متخصّصٍ في أُمور الدين، وهو خبير حقيقيّ به بحيث لا يداخل معرفته الخطأ ولا يُلابسها الاشتباه.

 

لقد جاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام إلى الناس. وهذا الدين بحاجة إلى وجود مرجعٍ إلهيّ، يُعرِّفه للناس ويُبيّنه لهم على وجهٍ تامّ، لمدّة معيّنة على الأقلّ. وبدوره عيَّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة مثل هذا المرجع المتخصّص.

 

يعبِّر علماء الشيعة عن هذه الحاجة الواجبة، بـ(اللطف). ويعنون به اللطف الإلهيّ، والذي يقصد منه أن يكون متعلّق اللطف (الإمامة) نافعاً في هداية البشر[2].


 


[1] تاريخ هذا النص عندما كان هناك ما يسمى بالإتحاد السوفياتي والذي حصل فيه انفصالات لدوله، وأهم تلك الدول هي روسيا وبلا روسيا وجورجيا...

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص99 - 100.

 

249


199

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

العصمة في العقل والفكر

عند هذه النقطة بالذّات تنبثق مسألة العصمة. فالإمام في هذا الموقع، يكون حافظًا للشّريعة، قيّمًا عليها، وهو مرجع الأمّة في معرفة الإسلام، وعلى هذا الأساس يجب أن يكون معصومًا مثل عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ليس هناك من يُثير الشّبهة ضدّ عصمة النبيّ، وهي أمرٌ واضحٌ جدًّا، لأنّ من يبعثه الله هاديًا للنّاس، في حال كونهم بحاجة للهداية الإلهيّة، لا يجوز عليه الخطأ أو المعصية.

 

والخطأ على ضربين، أحدهما: أن تصدر المعصية عن علمٍ وعمد، كأنْ يأمر الله النبيّ بشيء، فيرى النبيّ أنّ مصلحته تقتضي شيئًا آخر، فيُبلِّغ أمر الله على نحوٍ آخر، مخالف لصورته الأصلية. ومن الواضح أنّ هذا مخالفٌ للنبوّة.

 

وثانيهما: أن تصدر المعصية عن سهوٍ ونسيان. وهذا مآله إلى كونه ناقضاً للغرض من إرسال الأنبياء[1].

 

وإذا قلنا، في تعريف الإمامة، إنّها متمّم للنبوّة في مجال بيان الدين، فذلك يعني أنّها واجبة لأداء وظيفة النبيّ في بيانه لأحكام الدين. عندئذٍ ما كان دليلاً على وجوب عصمة النبيّ من الخطأ والذنب، يعود ليكون بذاته دليلاً على وجوب عصمة الإمام.

 

وإذا اعترض بعضٌ بعدم حاجة الإمام للعصمة، لوجود شخص آخر يُسدِّد له خطأه إذا أخطأ، فإنّا ننقل الكلام إلى هذا الشخص الآخر، الذي يحتاج بدوره إلى من يُسدّده، وهكذا إلى أن ننتهي (ببطلان التسلسل) إلى وجوب وجود شخص يكون -لعصمته- حافظاً للشرع.

 

 


[1] الإعداد.

 

250


200

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

ثم لو افترضنا إمكان صدور الخطأ أو وقوع الذنب منه، لوجب الإنكار عليه من قِبَل الآخرين، وذلك يُضادّ ما أُمروا به من طاعته. وهذان الاثنان لا يجتمعان[1]،[2].

 

وجوب التعيين بالنص

من مسألة العصمة ينقاد الاستدلال إلى التنصيص، حيث يجري التسلسل الكلاميّ للقضيّة -الذي يبدأ من الله- على المنوال الآتي:

الإمامة لطفٌ من قِبَل الله، واللطف واجب. وما دام هذا اللطف غير ممكن من دون العصمة، فيجب أن يكون الإمام معصومًا. وللسّبب ذاته يجب أن يكون منصوصًا عليه، لأنّ العصمة كموضوع لا تُشخَّص من قِبَل الناس[3].

 

فكما لا يُناط أمر تشخيص النبيّ ومعرفته، بالناس، بل بالله الذي يُعيِّن النبيّ، ويُعرِّفه من خلال الدلائل والآثار والمعجزات، فكذلك، لا شأن للناس بتشخيص الإمام ونصبه، بل يجب أن يُعيَّن من قِبَل الله أيضًا، مع فارق بينه وبين النبيّ، أنَّ النبيّ يجب أن يصير معروفًا للنّاس عن طريق الآثار والمعجزات، ولا شأن لبشر آخر في النبوّة، بعكس الإمامة التي تُعرَّف من خلال بشر، هو النبيّ.

 

عند هذه النقطة ينطلق الدليل نحو التنصيص، أي يجب أن تكون الإمامة - بالمعنى المطروح - بنصّ من النبيّ، لا بالتعيين من قبل الناس.

 

يتبيّن لنا، ممّا مرَّ، أنَّ الدليل انطلق من اللطف إلى العصمة، وعبر من العصمة إلى التنصيص.


 


[1] وبنص نصير الدين الطوسي: "وامتناع التسلسل يوجب عصمته، لأنّه حافظ للشرع، ولوجوب الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضادّ أمر الطاعة، ويفوّت الغرض من نصبه، ولانحطاط درجته عن أقلّ العوام..." (المترجم).

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص101 - 103.

[3] عبّر نصير الدين الطوسي عن هذا الجانب في الإمامة بكلمات، حيث قال على طريقته في الاختصار: "والعصمة تقتضي النص وسيرته عليه السلام". ثمّ جاء الدور للعلّامة الذي أوضح ذلك بوجهين. فراجع: العلّامة الحلي، كشف المراد، مصدر سابق، ص366 - 367 (المترجم).

 

251


201

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

وعندما يصل هذا الأسلوب من الاستدلال عند هذه النقطة، يجب أن يصعد إلى المرتبة الرابعة من بناء الدليل المنصبّ في صيغة هذا التساؤل: حسنٌ، سلّمنا بصحّة ما ذُكر، ولكن ما شأن ذلك بعليّ عليه السلام؟ يُجيب الخواجة نصير الدين: هما مختصّان بعليّ. أي إنَّ العصمة والنصّ مختصّان بعليّ عليه السلام.

 

المقصود من هذه الجهة في الدليل أن لا أحد يختلف في أن لا نصَّ على غير عليّ عليه السلام. ومن ثمَّ فإنّ القضيّة لا تتحرّك بين رأي يذهب الآخرون بمقتضاه إلى أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نصّ على شخص آخر، وبين قولنا في أنّ النصّ اختُصّ بالإمام عليّ عليه السلام. كلّا، وإنّما تدور القضيّة بين فكّي هذا السؤال: هل نصب النبيّ أحداً وعيّنه أم لم يفعل ذلك قطّ؟ في حال القول بالتعيين، لن نجد مصداقه إلّا في عليّ عليه السلام[1].

 

ومعنى ذلك، أنّنا إن قلنا بوجوب النصّ، وأنّ النبيّ نصَّ على شخص، فلا يمكن أن يكون المنصوص عليه سوى عليّ عليه السلام لأنَّ أحداً لم يدَّعِ النصّ، بل أنكروه، بل لم يدَّعِ ذلك حتى الخلفاء بشأن أنفسهم، فكيف بالآخرين؟ كما لم يدَّعِ أحدٌ من أتباعهم النصّ عليهم، وهكذا يثبت المطلوب.

 

وبشأن العصمة يتكرّر الاستدلال بحذافيره، ذلك أنّ أحدًا من الخلفاء لم يدَّعِ العصمة لنفسه، بل اعترفوا بأخطائهم صراحة، كما لم يذهب أحد من أهل السنّة للقول بعصمتهم، لأنَّ الإمامة تعني، بنظر أولئك، الحكومة وحسب. وفي دائرة الحكم لا معنى للقول بعصمة الحاكم وعدم خطئه، بل هو يُخطئ كثيرًا ويرتكب الذّنب أيضًا، ولكنّه يكون في حدود إنسان عادل، له أهليّة الإمامة في الصّلاة. وقد

 

 


[1] مرّة أُخرى نرجع إلى العلّامة الحلّي مُجلِياً نص الطوسيّ: العصمة والنص مختصّان بعليٍّ عليه السلام إذ الأمّة بين قائلين: أحدهما لم يشترط العصمة والنصّ. والثاني المشترطون. وقد بيّنا بطلان قول الفريق الأوّل فانحصر الحقّ في قول الفريق الثاني. ثم يعود للقول: وكل من اشترطهما -العصمة والنص- قال إنّ الإمام هو عليٌّ عليه السلام. وتوضيح الجملة الأخيرة أنّ عليّاً هو المعصوم بإجماع من يقول بوجوب النص. وهو الذي قصده النص دون غيره، راجع: العلّامة الحلي، كشف المراد، مصدر سابق، ص367 (بتصرف ببعض الكلمات)؛ مقلد، الدكتور علي، نظام الحكم في الإسلام أو النبوّة والإمامة عند نصير الدين الطوسي، دار الأضواء، لبنان - بيروت، 1406هـ.ق، لا.ط، ص390.

 

252


202

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

نقلوا عن الخليفة الأوّل قوله: "وإن اعوجَجْتُ فقوِّموني"[1]، أمّا عمر بن الخطّاب فقد صدر عنه قوله في مواطن كثيرة - ادّعى من استقصاها أنّها بلغت سبعين موطنًا، ولا كلام في كثرتها وفي اتّفاق الشّيعة والسنّة بشأنها-: "لولا عليّ لهلك عمر"[2]. إذ كان يُخطئ أحيانًا في حكمه، فيأتي أمير المؤمنين عليه السلام ويُصحِّح له، وكان يقبل منه.

 

يتَّضح ممّا مرَّ أنّه: لا الخلفاء يدَّعون العصمة لأنفسهم، ولا الآخرون يدَّعونها لهم.

 

عندما يُنظر إلى الإمامة في مثل هذا المقام الرفيع، وحين تنطلق من مستوى اللطف والعصمة والتنصيص، فلن يدَّعي أحد أنَّ هناك غير عليّ عليه السلام كان في هذا المرقى.

 

اكتسب البحث في الإمامة حتى الآن، الشكل الكلاميّ، الذي يبدأ من الأعلى، فيُستدلّ على وجوب الإمامة، بنفس ما استُدِلَّ به على وجوب النبوّة انطلاقًا من كونها لطفًا، واللطف واجب، فالإمامة واجبة أيضًا، إلى آخر ما تقدّم.

 

إنّ فكرة الإمامة قابلة لأن تختم عند هذا الحدّ. ولكن فَلْنَلِجْ خضمّ البحث أكثر من ذلك، لِنَرَ ما إذا كان ما تمّ عمليًّا في الواقع الخارجيّ، يتطابق مع نتيجة البحث الكلاميّ النظريّ، وهل نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على عليّ عليه السلام أم لم ينصّ؟ هذا اللون من البحث هو الذي يدعنا ندخل الجانب النّصيّ في المسألة[3].

 

ولكن قبل التعرّض للنصوص الدالّة على الإمامة، وبناءً على المنهجيّة التي اعتمدت في طرحنا للإمامة، نفصّل الكلام حول عصمة الإمام، وهو ما سنتعرّض له في الدرس التالي[4].

 


[1] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص8 (المترجم).

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص424.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص103 - 107.

[4] قدّمنا البحث عن العصمة وإنْ تعرّض له الشهيد مطهّري جواباً عن سؤالٍ طرحه أحد الحاضرين لمحاضراته في الإمامة في ختام بحثه حول الآيات المرتبطة بالإمامة (الإعداد).

 

253


203

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

المفاهيم الرئيسة

- الإمامة رياسة عامّة في أمور الدّين والدُّنيا. وهي نظير النبوّة، خارجة عن حدِّ اختيار البشر واستطاعتهم، والفرق بينهما أنّ النبوّة تصدر مباشرة عن الله، ويكون ارتباط النبيّ بالله مباشرًا، أمّا الإمام فيُعيّنه النبيّ عن الله.

 

- إنّ كون الإمامة لطفاً أمر لا يُعارضه أيّ عاقل، فلا يوجد عاقل لا يقول بأفضليّة المعصوم والعارف والذي يتمتّع بكلّ مواصفات الكمال للحكم.

 

- يُستدلّ على وجوب الإمامة المعصومة والعالمة بالدين من خلال عموميّة الدين الإسلاميّ وشموليّته وقِصر عمر بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبالتّالي عدم إتاحة الفرصة لتعليم الناس الإسلام كاملاً بكلّ ما ينطوي عليه من سعة وشمول، لكن يستحيل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ترك بيان أحكام الدين بشكل ناقص، لذا، عيَّن صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّاً عليه السلام خليفة من بعده، بعد أن علّمه جميع حقائق الإسلام، كي يتصدّى لبيانها ونشرها.

 

- إذا قُلنا في تعريف الإمامة إنّها متمّم للنبوّة في مجال بيان الدين، فذلك يعني أنّها واجبة لأداء وظيفة النبيّ في بيانه لأحكام الدين بعد رحيله. عندئذٍ ما كان دليلاً على وجوب عصمة النبيّ من الخطأ والذنب، يعود ليكون بذاته دليلاً على وجوب عصمة الإمام.

 

- كما أنّه لا يُناط أمر تشخيص النبيّ بالنّاس، بل هو شأن إلهيّ، كذلك الأمر بالنسبة إلى النصّ على الإمام، لا تقدر النّاس على تشخيصه، بل يجب أن يُعيّن من قِبَل الله.

 

- لا أحد يختلف في أنْ لا نصّ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على غير أمير المؤمنين عليه السلام.

 

 

254

 


204

الدرس التاسع عشر: الاستدلال العقليّ على قضيّة الإمامة

الدرس العشرون

عصمة الإمام

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى معنى العصمة ومنشئها.

 

2. يبيّن ضرورة عصمة الإمام.

 

3. يشرح مراتب العصمة وضرورتها.

 

255


205

الدرس العشرون: عصمة الإمام

تمهيد

تُعدّ العصمة من المباحث الأساس لقضيّة الإمامة، لأنّ ولاية الإمام واتبّاعه في كلّ ما يأمر وينهى، بل وفي سيرته العامّة ونهجه، شرطٌ أساس لتحقّق الفائدة من وجود الإمام. فما لم يؤمن الناس بدور الإمام في حياتهم لن تصل الإمامة إلى أهدافها المنشودة، ولن يُقبل الناس على الإمام مستفيدين من علمه وهدايته ووجوده وحركته.

 

إنّ الإمامة شأنٌ إلهيّ تُمثّل طريقة تربية الله - تعالى - لعباده وأسلوب هدايته للمجتمعات الإنسانيّة. ولا شكّ في أنّ فعل الله وتدبيره لا يتّصفان بالعبث، لأنّهما مشتقّان من الحكمة المطلقة. وعليه لا يُمكن الاستغناء عن الإمام في عملية إصلاح الحياة وهداية المجتمعات. وبعبارةٍ أخرى، إنّ ترك التمسّك بالإمام لا يؤدّي سوى إلى الضلال المبين.

 

ولكي يتحقّق الهدف ويؤدّى الدور، ينبغي أن تحصل الطاعة المطلقة للإمام والتبعيّة الكاملة له. ومثل هذا لا يكون إلّا إذا كان معصومًا في دوره هذا، وكنّا نعتقد بعصمته كذلك[1].


 


[1] الإعداد.

 

257


206

الدرس العشرون: عصمة الإمام

ما هي العصمة ومن أين تنشأ؟

لقائل أن يسأل: ما هو مفهوم العصمة وما هو مَنشَؤُها؟

هل هو وليد منطقنا، نحن الشيعة، بحيث صنعناه بأنفسنا، أم أنّ له مباني عقليّة، وقد قمنا نحن بتطويرها وتشذيبها؟ وهل تُطلق كلمة المعصوم على الإنسان الذي لا يُذنب فحسب، أم على الذي لا يرتكب الذنوب ولا يشتبه أيضاً؟[1]

 

وفي الجواب نقول بشأن العصمة ومعناها: قد يُفكّر الإنسان، للوهلة الأُولى، بأنّها تعني أنّ الله اختصّ بمراقبة مجموعة معيّنة من أفراد البشر، بحيث ما إنْ يهمّ أحدهم باجتراح المعصية، حتى ترى الله يمنعه عن ذلك فورًا.

 

الشيء المؤكّد أنّ العصمة ليست كذلك، وإذا كانت كذلك فهي لا تعدّ كمالًا لأحد. فلو افترضنا أنّ أحدهم يُراقب طفلًا معيّنًا ويمنعه باستمرار عمّا لا ينبغي له فعله، فإنّ هذه الحالة لا تُسجَّل ضمن كمالات ذلك الطفل.

 

ثمَّة واقع آخر للعصمة يُمكن استنباطه من القرآن، وبالذّات من قصّة يوسف الصدّيق عندما وقع في مأزق تلك المرأة، حيث يُشير القرآن إلى أنّها قصدته ومالت إليه: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾[2], والذي تدلّ عليه هذه الآية أنّ يوسف هو إنسان كبقيّة البشر، وشاب يتمتّع بالغريزة. فقد مالت تلك المرأة إليه، بيد أنّه لم يصبُ إليها، وذلك لأنّه كان يحمل إيمانًا هو على حدّ الإيمان الكامل، الإيمان الشّهوديّ الذي يُجسِّد أمامه مساوئ هذا العمل ومضارّه، وهذا الإيمان الذي وهبه الله ليوسف هو الذي منعه وحماه من الانجرار إلى ذلك الفعل.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص195.

[2] سورة يوسف، الآية 24.

 

258


207

الدرس العشرون: عصمة الإمام

إنّ لكلّ واحدٍ منّا عصمة تمنعه عن بعض المزالق والذنوب، لا تتأتّى من قوّة خارجيّة رادعة تأخذنا قسرًا، بل تنبع من الإيمان الكامل الذي نتحلّى به إزاء أخطار تلك الذنوب والمزالق.

 

على سبيل المثال: أنا لا أرمي بنفسي من على سطح مبنى من أربع طبقات، كما لا أقذف بها في أتون النار. ذلك لأنّ هذا ذنب، لا أرتكبه إطلاقًا، ولأنّي متيقّن من الأضرار التي تعود عليَّ، وهي مجسَّدة أمامي.

 

نحن لا يسعنا أن نقترف مثل هذا الذنب كالقفز من شاهق، أو إلقاء النفس في النار، إلّا إذا أردنا أن نتغاضى عن الخطر المترتّب عليه. ولكنّ الطفل قد يمد يده إلى النار، لماذا؟ لأنّ خطر هذا الذنب لا يتجسّد أمامه بمثل ما يتجسّد أمامنا.

 

وإذا أردنا أن ننتقل إلى واقع إنسانٍ عادلٍ، نجد أنّ ملكة التّقوى التي يتحلّى بها تمنعه من اقتراف كثير من الذنوب، وهذه الملكة تمنح هذا الإنسان عصمة على قدرها، أي هو معصوم على قدر ملكته.

 

نستنتج ممّا مرّ أنّ للعصمة من الذّنوب ارتباطًا بدرجة إيمان الإنسان بحقيقة ذلك الذنب وخطره. أمّا بالنسبة إلينا، فنحن قبلنا ما حدّدته الشريعة من الذنوب، تعبّدًا بكونها خطايا وذنوبًا، أي نحن لا نشرب الخمر لأنّ الإسلام نهى عن ذلك، ولا نلعب القمار لأنّ الشريعة نهت عنه. وامتناعنا عن اقتراف هذه الممارسات يقترن بدرجة وبأُخرى بوعينا لمساوئها، بيدَ أنّ درجة هذا الوعي لا تتجسّد أمامنا كما يتجسَّد الخطر المترتّب على إلقاء أنفسنا في النار. وإلّا لو آمنّا بخطر هذه الذنوب على قدر إيماننا بالخطر المترتّب على إلقاء أنفسنا بالنار، لأصبحنا معصومين من هذه الذنوب.

 

العصمة من الذنوب إذًا هي منتهى الإيمان وكماله. والإنسان الذي يقول: "لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقيناً"[1] هو معصوم من الذنوب جزمًا. ذلك أنّ


 


[1] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1956م، لا.ط، ج1، ص317.

 

259


208

الدرس العشرون: عصمة الإمام

المخاطر تتجسّد لمثله من وراء الحجب. فهو على سبيل المثال، يحسّ بأنّ الإساءة بالبذاءة إلى الآخرين، تساوي في واقعها أن يسلّط الإنسان عقربًا على نفسه، لذلك يمتنع عن مثل هذه الممارسة.

 

والذي لا شكّ فيه أنّ القرآن أشار أيضًا إلى ضروب من الإيمان بهذا المستوى. وبناءً على ما مرَّ، يتَّضح أنّ العصمة على مراتب ودرجات، فالمعصومون مبرَّؤون ممّا يعدّ ذنوبًا بالنسبة إلينا، حيث نجترحها أحيانًا ونجتنبها أحيانًا أُخرى، وهم معصومون منها لا يجترحونها أبدًا.

 

وما نعدّه ذنبًا بالنسبة إلينا هم معصومون منه، ولكن ما يُعدُّ ذنوبًا بالنسبة إليهم، هو حسنة بالنسبة إلينا، لأنّنا لم نبلغ تلك المرتبة: "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين"[1].

 

على سبيل المثال: لو افترضنا أنّ طالبًا في الصفّ الخامس انبرى لحلّ مسألة من المسائل التي تُطرح في الصفّ السادس، فتلك فضيلة له يستحقّ عليها الجائزة، ولكن لو بادر إلى حلّ هذه المسألة طالب في الصفّ التّاسع فلا تُعدّ محمدة له، بل ليس لعمله هذا أيّة قيمة.

 

وهذا ما يُفسِّر القرآن في نسبته المعصية إلى الأنبياء، كما في قوله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾[2], أو في خطابه للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[3]. فإنّ أمثال هذه الآيات تدلّ على أنّ العصمة أمرٌ نسبيّ، فهو (المعصوم) في درجته، ونحن في درجتنا.

 

نتبيّن إذًا أنّ ماهيّة العصمة من الذنب تعود إلى درجة الإيمان وكماله. فللإنسان في كلّ درجة من الإيمان، عصمة تتناسب مع هذا الإيمان، وبحسب ما

 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج25، ص205.

[2] سورة طه، الآية 121.

[3] سورة الفتح، الآية 2.

 

260


209

الدرس العشرون: عصمة الإمام

وصل إليه من برهان ﴿لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾[1]. وبه يتَّضح خطأ التصوّر الذي يذهب إلى أنّ المعصوم شخص مثلنا، يهمّ نحو المعصية دائمًا، ولكن غاية ما هناك، أنّ (مَلكاً) مأمورًا من قِبَل الله يمنعه ويأخذ بيده دونها.

 

إذا كان الأمر كذلك، فلا فرق إذاً بين أحدنا وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، لأنّ كلينا يهمّ بالمعصية ويميل إليها، ولكن غاية ما هناك أنّ له ملكًا وُكّل به يمنعه، في حين لم يوكّل بمنعي أنا!

 

إذا كان الامتناع عن الذنب يتمّ برادعٍ خارجيّ يوكّل بالإنسان ويمنعه عنه، فلا فضيلة في ذلك، إذ المسألة تُشبه حينئذٍ أن يقوم شخص بالسّرقة بينما أمتنع عنها أنا، لأنّ معي دائمًا شرطيًّا يُتابعني. ففي هذه الحال أنا سارق مثله ولكن مع فارق أنّه لا يحول بينه وبين السرقة شيء، بينما يحول بيني وبينها وجود الشرطيّ[2].

 

مراتب العصمة

المسألة الأساس في العصمة، هي العصمة من الذنوب. أمّا العصمة عن الخطأ فهي مسألة أُخرى، لها هي الأُخرى وجهان:

الأوّل: هو العصمة عن الخطأ في التبليغ، والخطأ هنا أن نقول إنّ النبيّ بيَّن لنا الأحكام، ولكن نحتمل خطأه، إذ ربّما يكون الله قد أوحى له الحكم بصيغة، ثم بيّنه لنا بصيغة أُخرى، وذلك تمامًا كما يحصل بالنسبة إلينا من الخطأ في هذا المجال، إذ قد يُقال لنا بلِّغوا هذه الرسالة مثلًا، فنأتي ونُبلِّغها بصيغةٍ أُخرى. وعندئذٍ لا تكون لنا ثقة بكلام النبيّ من باب احتمال أن يكون قد أخطأ في التبليغ. وهذا ما لا وجود له قطعاً[3].


 


[1] سورة يوسف، الآية 24.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص198 - 203.

[3] المصدر نفسه، ص203. صحيح أن الكلام في عصمة الإمام، ولكن حيث إنّ جوهر البحث يعمّ النبيّ أيضاً فلا يرد أيّ إشكال على التمثيل المذكور (الإعداد).

 

261


210

الدرس العشرون: عصمة الإمام

الثاني: هو العصمة عن الخطأ في العمل والتدبير، بحيث يكون أمام الشّخص عدّة خيارات فيختار الأقلّ ضررًا والأكثر فائدة. فإذا لم يفعل ذلك وُصف فعله بالخطأ لا الذّنب والمعصية، لأنّه بذلك لن يصل إلى المطلوب ولن يُحقّق الغاية المنشودة من النجاح والفلاح. وهذا الوجه ثابت للمعصوم أيضاً[1].

 

عصمة الإمام في حديث الثقلين

ممّا ترويه الشّيعة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"[2] أوّل سؤال يُطالعنا في هذا المجال: هل صدر هذا الحديث عن النبيّ أم لا؟

 

لا يقبل هذا الحديث الإنكار، إذ لم تختصّ الشّيعة بروايته، بل نقله أهل السنّة ورووه في كتبهم أكثر من الشّيعة... وقد طلب السيّد البروجردي رحمه الله من الشيخ قوام وشنوئي -الذي كان من الطّلبة الفضلاء المعروفين بالتّقصّي والتتبّع الوثيق للمصادر- أن يتتبّع موارد ذكر الحديث في كتب أهل السنّة... وقد جاءت حصيلة تقصّيه أنّه رصدَ من كتبهم مئتي كتاب ذكرت الحديث بصيغة: "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي". لقد صدر الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصّيغة في مواطن متعدّدة. بيدَ أنّ ذلك لا يعني أنّه لم يقل، ولا مرّة واحدة: "إنّي تركتُ فيكم الثّقلين كتاب الله وسنّتي". فلا تنافي بين الكتاب والسنّة، والكتاب والعترة، لأنّ العترة هي في موقع البيان الواقعيّ للسنّة.

 

من جهةٍ ثانية، إذا كان النبيّ قد نطق بالحديث في موطنٍ واحد لم تتأكّد قطعيّته بصيغة: "وسنّتي"، فقد نطق بالصيغة الأولى "كتاب الله وعترتي" في مواطن متعدّدة. وإذا كان الحديث قد نُقل بصيغته الثانية (وسنّتي) في كتاب واحد، فإنّ مئتي كتاب نقلت الحديث بصيغته الأصليّة الأولى (وعترتي).

 


[1] لم يذكر الشهيد مطهّري الوجه الثاني مع قوله بوجود وجهين للعصمة عن الخطأ، وقد بادرنا إلى ذكره تصوّرًا منا أنّ هذا ما يقصده (الإعداد).

[2] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج3، ص14؛ 17؛ 26؛ 59.

 

262


211

الدرس العشرون: عصمة الإمام

إنّ حديث (كتاب الله وعترتي) يتضمّن -مضافًا لبيانه المرجعيّة الدينيّة للكتاب والعترة- بيان عصمة أهل البيت عليهم السلام في مختلف مراتبها، لأنّ النبيّ يحثّ الأمّة فيه على أن تتلقّى دينها من هذين المصدرين: الكتاب والعترة. وكما أنّ القرآن معصوم، فكذلك يكون المصدر الثاني معصومًا أيضًا، لأنّ من المحال أن يدعو النبيّ إلى أخذ الدين من مرجع، بمثل هذا الجزم والحسم، ثم يتخلّل الخطأ بعض كلام ذلك المرجع[1].

 

إشكال وجواب

وحاصل الإشكال كما ذكره بعضهم[2] أنّنا لو قلنا إنّ المعصوم هو الإنسان الذي لا يقع في الخطأ أيضًا، فإنّنا نجد حين ننظر إلى الأئمّة الاثني عشر، أنّ بينهم اثنين أمسكا بزمام الخلافة، وهما الإمام عليّ عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام، وقد وقع هذان الإمامان في اشتباهات أثناء تسنّمهما أمر الخلافة وممارستهما إدارة البلاد، وليس ثمّة ما يبعث على التردّد في وقوع هذه الاشتباهات من زاوية المنطق التاريخيّ.

 

على سبيل المثال نجد أنّ الإمام الحسن عليه السلام نصّب عبيد الله بن عبّاس قائدًا للجيش الذي يُحارب معاوية، بل نجد أنّ أمير المؤمنين نفسه عيّن عبد الله بن عبّاس حاكمًا على البصرة. ويضيف هؤلاء أنّ أمير المؤمنين لو كان يعلم أنّ هذا الشخص يجترح مثل تلك الفضيحة السيّئة التي صدرت عنه وهي سرقة أموال بيت المال في البصرة[3]  لما كان عيّنه جزمًا في مثل ذاك الموقع. والشّيء المؤكّد أنّه كان يعتقد حين عيّنه، أنّه أفضل شخص لهذا الموقع. إنّ هذه الاشتباهات لا تنسجم مع تعريف العصمة[4].


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص72 - 75.

[2] صاحب الإشكال هو المهندس مهدي بازركان.

[3] في أصل ثبوت هذه التهمة لعبد الله بن عباس خلاف وكلام (الإعداد).

[4] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص195 - 196.

 

263


212

الدرس العشرون: عصمة الإمام

والجواب: إنّ في مثل الأحكام التي ذُكرت في الإشكال المتقدّم، ظلماً وإجحافاً في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام وولده الإمام الحسن عليه السلام. نعم ليس هناك ما يمنع الإنسان من إطلاق الأحكام الظنّيّة على أمثال هذه المسائل التاريخيّة. فيحكم مثلًا على ممارسة شخص عاش قبل خمسمائة عام بقوله: أظنّ أنّه لو فعل هذا العمل مكان ذاك لكان أفضل، ولكن ليس من الصحيح في هذه الموارد إطلاق الأحكام القطعيّة، ولو كانت بحقّ غير الأئمّةعليهم السلام.

 

لقد عاش أمير المؤمنين عليه السلام الوقائع بنفسه، وهو يعرف عبد الله بن عباس أفضل من أيّ شخصٍ آخر، وكذلك الحال في معرفته لبقيّة أصحابه. ومع ذلك نقول: لو أنّ الإمام اختار غير عبد الله بن عباس، لأنجز المهمّة بصيغة أفضل، ولكنّه مع ذلك لم ينتخبه!.

 

إنّ هذا المنحى يعكس عجلة غير مقبولة في إصدار الأحكام على أمثال هذه المسائل.

 

مضافًا إلى ما تقدّم، ينبغي ألّا ننسى أنّه كان للإمام عليّ عليه السلام سياسة ونهج خاصّ لم يرد هو، ولا كان ينبغي له أن يتخلّف عنها قيد أُنملة، ولم يكن له في هذه السياسة والنهج من يرافقه ويسير معه فيها، بل كان وحيدًا منفردًا، وكان يشير باستمرار إلى وحدته وأنّه يفتقد العدد الكافي من الأصحاب المؤهّلين.

 

إنّ القدر الذي نعرفه أنّه عليه السلام عندما لجأ إليه القوم بعد مقتل عثمان يلتمسون مبايعته، تراجع وقال: "دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي، فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً، لَه وُجُوه وأَلْوَانٌ... وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ"[1].


 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 92، ص136.

 

264


213

الدرس العشرون: عصمة الإمام

يريد أن يقول: إنّ الأوضاع قد أضحت صعبة جدًّا إلى الدرجة التي لا يمكن معها فعل شيء وليس معي أحد. لقد فقدت المؤهّلين، ولم يعد لديّ من أستعين بهم على إصلاح أوضاع المجتمع.

 

ثم يقول بعد ذلك: "لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ..."[1]، فالحجّة تمّت عليّ، ولم يعد لي عذر أمام الله -تعالى-، لذا سأقبل حتى لا يلومني التاريخ ويقول: إنّها كانت فرصة حسنة وأضعتها.

 

كيف صار الإمام عليّ عليه السلام الذي كان يعتبر نفسه أحقّ بالخلافة يتراجع بعد أن هرعوا إليه للخلافة إثر مقتل عثمان ويقول لهم: "أنا لكم وزير خير منّي أمير"[2]؟

 

نتلمّس من هذا السياق أنّ الإمام لم يكن له أفراد مؤهّلون. أمّا لماذا؟ وما هي العلل التي صيّرت الأمر لذلك؟ فذاك بحثٌ آخر[3].


 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة الشقشقية، ص136

[2] البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، أنساب الأشراف، تحقيق الدكتور محمد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، مصر، 1959م، لا.ط، ج2، ص209.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص203 - 206.

 

265


214

الدرس العشرون: عصمة الإمام

المفاهيم الرئيسة

•        ما لم يؤمن الناس بدور الإمام في حياتهم لن تصل الإمامة إلى أهدافها المنشودة، ولكي يتحقّق الهدف ويؤدّى الدور، ينبغي أن تحصل الطاعة المطلقة للإمام والتبعيّة الكاملة له. ومثل هذا لا يكون إلّا إذا كان معصومًا في دوره هذا، وكنّا نعتقد بعصمته كذلك.

 

•        إنّ العصمة لا تتأتّى من قوّة خارجيّة، بل هي قوّة تنبع من إيمان المرء بخطورة الذّنوب ونتيجة هذا الإيمان فإنّه يمتنع عن الوقوع فيها، وبناءً عليه تكون درجة العصمة تبعًا لدرجة الإيمان، ويتفاوت الناس في درجات العصمة، "حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين".

 

- مراتب العصمة:

1. العصمة من الذنوب.

2. العصمة من الوقوع في الخطأ بالتبليغ.

3. العصمة من الوقوع في الخطأ بالعمل والتدبير.

 

•        إنّ لحديث الثقلين دلالة واضحة على عصمة أهل البيت عليهم السلام، فكما أنّ القرآن مصون ومعصوم عن الباطل كذلك هم عليهم السلام.

 

•        يشكل البعض بأنّ سيرة بعض الأئمّة عليهم السلام تُشير إلى وقوعهم في الخطأ أثناء تسنّمهم أمر الخلافة، كتعيين أمير المؤمنين عليه السلام لابن عبّاس الذي اتّضح فيما بعد أنّه لم يكن أهلًا للمنصب وقام بسرقة بيت المال.

 

•        الردّ: إنّ في الإشكال المتقدّم ظلماً وإجحافاً في حقّ الإمام عليه السلام، فالأمر لم يكن أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وجد من هو أكفأ وقام بتعيين ابن عبّاس، بل إنّ الظروف التي عاصرها أفقدته العدد الكافي من الأصحاب المؤهّلين.

 

 

266


215

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

الدرس الواحد والعشرون

الإمامة في القرآن (1)

موقعيّة الإمامة في القرآن الكريم

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح موقعيّة الإمامة في القرآن الكريم.

 

2. يستدل على كون الإمامة إكمالاً للدين وإتمامًا للنعمة.

 

3. يبيّن الفرق بين الإكمال والإتمام.

 

267

 


216

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

تمهيد

يتّفق المسلمون على قداسة القرآن الكريم ومرجعيّته في ما يتعلّق بقضايا الدّين ومعارفه. ويعني هذا الاتّفاق أنّ الاستدلال بالقرآن على أيّة قضيّة يأتي على رأس المسائل الدينيّة، لأنّ القرآن هو كلام الله -تعالى-.

 

ورغم هذا الإجماع لم يبلور المسلمون رؤية واحدة بشأن عمليّة الاستدلال أو الاستنباط من آيات القرآن. وقد أدّى هذا الاختلاف أحيانًا والتّساهل أكثر الأوقات، إلى حرمان المسلمين من بركات هذا الكتاب الإلهيّ في ما يتعلّق ببناء منظومة فكريّة إسلاميّة متينة. وكان من جملة أنواع الحرمان الفكريّ والمعنويّ عدم وصول الكثير من المسلمين إلى فهم قضيّة الإمامة في ضوء القرآن، على الرغم من وجود عشرات الشواهد المباشرة وغير المباشرة على مثل هذه القضيّة المحوريّة.

 

ما سنعرضه في هذا الدرس إلى خمسة دروس تليه، نماذج فريدة للاستدلال بالقرآن الكريم على مسألة الإمامة والتي يمكن التوصّل من خلالها إلى الإطلالة على مزيد من الأبعاد والمعاني المهمّة لهذه القضيّة[1].


 


[1] الإعداد.

 

269


217

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

موقعيّة الإمامة في القرآن

ثمّة آيات عديدة نزلت بشأن واقعة الغدير، منها قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾[1].

 

تنطوي هذه الآية على لغة شديدة، يظهر من شدّتها أنّ مضمونها يعكس بصورة عامّة فحوى الحديث: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة"[2]، وأنّها تقول للنبيّ: إن لم تبلِّغ هذا الأمر الذي أُنزل إليك، فما بلّغت الرسالة قطّ.

وتتّفق كلمة المسلمين على أنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبيّ، وأنّ هذه الآيات هي آخر ما نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان قد انتهى من تبليغ الأحكام التي نزلت عليه طوال 13 عاماً أمضاها في مكّة، وعشر سنوات أمضاها في المدينة، وعندئذٍ يكون ما نزل إليه في عداد آخر تعاليم الإسلام وأوامره.

 

والآن يأتي هذا السؤال: ما هو الأمر الذي نزل على النبيّ في عداد آخر ما نزل إليه، بحيث بلغ من أهمِّيَّته أنّ النبيّ لو توانى عن تبليغه وامتنع عنه، لكأنّه لم يُبلِّغ أيّ شيء ممّا نزل إليه طوال سنوات البعثة؟

 

ليس بوسع الآخرين أن يؤشّروا إلى موضوع يرتبط بأواخر عمر النبيّ، توازي أهمِّيَّته أهمِّيَّة الرسالة نفسها، بحيث إنْ تخلَّف عن تبليغه، يكون وكأنّه ما بلّغ من الرسالة شيئًا.

 

أمّا الشّيعة فبوسعهم القول إنّ هذا الموضوع هو مسألة الإمامة، إذ لولا الإمامة يغدو كلّ شيء وكأنّه لم يكن، أي لا يبقى للإسلام نسيجٌ متماسكٌ، بل يتهاوى ويتمزّق. وهم يستدلّون بروايات أهل السنّة وكلماتهم على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في شأن غدير خمّ.


 


[1] سورة المائدة، الآية 67.

[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم المشرّفة، 1405هـ.ق، لا.ط، ص410.

 

270


218

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

ومن تلك الآيات - النازلة بشأن واقعة الغدير- الآية الثالثة من سورة المائدة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[1] التي تشير إلى واقعة حدثت في ذلك اليوم، هي من الأهمِّيَّة بحيث كانت في عداد ما يكمّل الدين ويتمّ نعمة الله على البشر. فبفعل تلك الواقعة اكتسب الإسلام معناه، وأضحى ديناً كما يريده الله.

 

ويستند الشيعة - في معتقدهم هذا - إلى ما تعكسه لغة الآية الكريمة[2] ولهجتها من كثافة وشدّة في الاستدلال على أهمِّيَّة المسألة، وهم يتساءلون عن الموضوع الذي يرتفع إلى مستوى يكون فيه مكمّلاً لدين الله، متمِّمًا لنعمته، بحيث توازي أهمِّيَّته الإسلام نفسه، حتى يساوق انتفاؤه انتفاء الرسالة ذاتها؟

 

إنّ الشيعة يعتقدون أنّ باستطاعتهم تحديد هذا الموضوع وتسميته، هذا بالإضافة إلى الروايات الموجودة التي تؤكّد أنّ الآية نزلت بشأن هذا الموضوع المعنيّ[3].

 

الاستدلال على القضيّة

يقول -تعالى- في أوّل سورة المائدة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[4].

 

ينطوي النصّ على قسمين، يبدأ كلٌّ منهما بـ"اليوم" وهما معًا جزءا آيةٍ واحدة، وليسا آيتين -ولا جزءا آيتين- والشّيء الثّابت أنّ كلام القسمين يرتبطان بفكرة واحدة لا بفكرتين.


 


[1] سورة المائدة، الآية 3.

[2] أي الآية الثالثة من سورة المائدة.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص57 - 60.

[4] سورة المائدة، الآية 3.

 

271


219

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

سنعرض معنى الآية من خلال القرائن، بعد إشارات نبدؤها بكلمة "يوم" التي دخلت عليها "الـ" العهديّة لتعني أحيانًا "ذلك اليوم" وأحيانًا أخرى "هذا اليوم" وقد استُخدمت في المعنيين معًا.

 

وحين تُستخدم بمعنى "ذلك اليوم" تكون مسبوقة بذكر يومٍ معيّن، تأتي هي للإشارة إليه. ولكن في المعنى الثاني، عندما نقول: "دخل هذا الشّخص اليوم" فالمراد هذا اليوم لا ذاك.

 

تُشير الآية في قوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ إلى يأس الكفّار. والسؤال: بأيِّ معنىً يئس أولئك من دينكم؟ المراد أنّهم يئسوا من التفوّق عليكم ومحق دينكم، ولأنّهم يئسوا من ذلك فقد كفّوا عن مواجهتكم بذاك النّهج الذي كانوا يواجهون به الإسلام من قبل، فلا تخشوهم.

 

والأمر العجيب الذي يردف به النّص، هو قوله: ﴿وَاخْشَوْنِ﴾. ولأنّ الحديث عن الدّين، فالمراد أنّ هذا الدّين لن يُصيبه الضّرر من أولئك بعد الآن، وإذا صادف وحلَّ به الضّرر، فإنّ ذلك يكون بالضّرورة -وبمقتضى السّياق- منّي. فما معنى أن نخاف من عروض الضّرر على الدّين من جانب الله -تعالى-؟ هذا ما سنعرض الإجابة عنه في ما بعد.

 

نقرأ في تتمّة الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾. لقد ذكر النصُّ كلمتين متقاربتين إلى بعضهما جدًّا، هما: الإكمال والإتمام[1].

 

والفرق بين الكلمتين أنّ الإتمام يُطلق حيث يأتي آخر أجزاء الشيء المتتابعة بعضها وراء بعضٍ، فإذا ما انضمّت كلّها حتّى آخر جزء، قيل قد تمّت وإلّا بقي الشيء ناقصاً. وأمّا الإكمال فهو معنى زائد على التمام، فإنّ الشيء قد يكون تامّاً غير ناقص، ولكنّه مع ذلك غير كامل، كمثل إنسان تمَّ هيكله البدنيّ ولم ينقصه

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص130 - 132.

 

272


220

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

شيء إلا أنه لم يصل بعد إلى مرحلة النضج والتكامل.

 

يقول القرآن من جهةٍ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ومن جهةٍ أخرى يقول: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ ثمّ يردف: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾، أي: أضحى الإسلام اليوم، هو الإسلام الذي يريده الله. ومن الواضح ليس المراد أنّ الإسلام هو الإسلام السّابق نفسه، ولكنّ الله غيّر رأيه فيه!

 

إنّما المقصود هو أنّه لمّا كان الإسلام قد تمَّ وبَلَغ حدّ الكمال، فإنّ مثل هذا الإسلام هو الدّين الإلهيّ المرضيّ، وإنّ الدين الذي يريده الله، هو هذا الإسلام التامّ الكامل. هذا هو مفهوم الآية لا أكثر[1].

 

أمّا ما يتعلّق بكلمة (اليوم) فإنّ كلّ ما فيها ينصبّ على هذا السّؤال: أيّ يوم هو المقصود؟ أيّ يوم هذا الذي بلغت أهمِّيَّته هذا المبلغ، حتى يقول القرآن فيه: إنّه اليوم الذي كمُل فيه الدّين وتمّت فيه النّعمة الإلهيّة؟ من المؤكّد أنّ هذا اليوم مهمّ جدًّا، بحيث يجب أن يكون قد احتضن واقعة استثنائيّة عظيمة وقعت فيه.


 


[1] يكتب السيّد الطباطبائي في تفسير الآية: "الإكمال والإتمام متقاربا المعنى. قال الراغب: كمال الشيء حصول ما هو الغرض منه. وقال: تمام الشيء انتهاؤه إلى حدٍّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه. ولك أن تحصل على تشخيص معنى اللّفظين من طريقٍ آخر، وهو أنَّ آثار الأشياء التي لها آثار، على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه - إن كان له أجزاء - بحيث لو فقد شيئاً من أجزائه أو شرائطه لم يترتّب عليه ذلك الأمر؛ كالصوم فإنّه يفسد إذا أُخلَّ بالإمساك في بعض النهار، ويسمّى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام، قال -تعالى-: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾ (سورة البقرة، الآية 187)... وثَمَّ ضرب آخر: الأثر الذي يترتّب على الشيء من غير توقّف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه. ولو وُجد الجميع ترتّب عليه الأثر المطلوب كلُّه منه. قال -تعالى-: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ (سورة البقرة، الآية 196)، فإنّ هذا العدد يترتّب الأثر على بعضه كما يترتّب على كلّه...، وينتج ما تقدم أن قوله: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف والأحكام المشرّعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شيء، وأن النعمة -أيّاً ما كانت- أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصاً غير ذي أثر فتُمِّم وترتّب عليه الأثر المتوقَّع منه". الطباطبائي، العلّامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم المشرّفة، 1417هـ.ق‏، ط5، ج5، ص179 - 180 (المترجم).

 

273


221

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

وهذه الواقعة ليست مرتبطة بالشّيعة وحدهم أو بغيرهم من المسلمين وحدهم.

 

ولكن من عجائب القضيّة أنّه لا يوجد قبل هذا النّصّ وما بعده من الآيات ما له دلالة على ذلك اليوم، بحيث لا يمكن أن يُفهم أيّ شيء حول ذلك اليوم من القرائن اللّفظية للآية ذاتها.

 

فقد تُسبَق آية بذكر واقعة أو قضيّة مهمّة جدًّا، ثم تُردَف بالقول "اليوم" فيأتي إطلاقه بمناسبة ذكر تلك القضيّة. بيدَ أنَّ الحاصل هنا ليس شيئًا من هذا القبيل، إذ سُبِقَ النصُّ بأحكام عاديّة، لها صلة بما يحرم أكله من لحوم الحيوان وما يحلّ.

ففيما الآية تتحدَّث عن حكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وأنّها محرّمة، وإذ بالنصّ يواجهنا فجأة بقوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾. بعد هذا الاستطراد يعود النصّ مرّةً ثانية إلى السّياق الأوّل الذي كانت عليه الآية، فيذكر حكم المضطرّ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

 

إنّ ترتيب النّصّ جاء بصيغة، بحيث إذا رفعنا هذا القسم منها - الذي نتحدّث فيه - نجد أنّ القسم الأوّل يتّصل بالقسم الثاني من دون طروء أدنى خلل على السياق -كما هو عليه الحال في موردين أو ثلاثة أخرى تكرّرت في القرآن-[1]،[2].

 

إذاً، أيّ يوم هو ذلك اليوم؟ هذا ما سيأتي الحديث عنه في الدرس اللاحق.


 


[1] يريد أن يقول إنّ صدر الآية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾ مترابط مع نهايتها، وهما يشكّلان كلاماً تامّاً ووحدة نصّيّة لا تتوقّف في التعبير عن تمام المعنى وإفادة المراد منها على الجزء المعترض المتمثّل بقوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بحيث إذا حذفنا هذا الجزء لا يطرأ على السياق أي اضطراب، ولا يعتور المعنى نقص. ومثل ذلك تكرّر في آيات أخرى ذَكرت محرّمات الطعام من دون الجزء المعترض هذا، كما هو الحال في سور (الأنعام) و(النحل) و(البقرة)، إذ نقرأ في (البقرة) مثلاً: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة البقرة، الآية 173). ومثله في سورتي الأنعام والنحل (المترجم).

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص133 - 135.

 

274


222

الدرس الواحد والعشرون: الإمامة في القرآن (1)

المفاهيم الرئيسة

•        عبّر القرآن الكريم عن الإمامة بأنّها إكمال الدّين وإتمام النّعمة.

 

•        تعني الآية (3) من سورة المائدة أنّه لمّا كان الإسلام قد تمَّ وبَلَغ حدّ الكمال بالإمامة، فإنّ مثل هذا الإسلام هو الدّين الإلهيّ المرضيّ الذي يُريده الله.

 

•        الدليل على أنّ الآية (67) من سورة المائدة جاءت بشأن الإمامة، هو أنّها نزلت في واقعة غدير خمّ، وتشهد على ذلك كتب التّاريخ والحديث ومضمون الآية نفسه.

 

•        بعد أن جاءت الكثير من الآيات تُحذّر المسلمين من الكفّار الذين كانوا يطمعون باستئصال دينهم، جاءت الآية (67) من سورة المائدة لتُحذّر المسلمين أنّهم إذا أضاعوا هذه النّعمة (نعمة الإمامة) فعليهم أن يحذروا الله -تعالى-.

 

•        الفرق بين الإتمام والإكمال أنّ الإتمام يُطلق حيث يأتي آخر أجزاء الشيء المتتابعة بعضها وراء بعضٍ، فإذا ما انضمّت كلّها حتى آخر جزء، قيل قد تمّت. وأمّا الإكمال فهو معنى زائد على التمام، إذ يحكي عن وصول الشيء إلى مرحلة النضج والتكامل.

 

275

 


223

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

الدرس الثاني والعشرون

الإمامة في القرآن (2)

النظريات حول المراد باليوم

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يقرأ النظريّات في المراد من ﴿الْيَوْمَ﴾ في الآية 3 من سورة المائدة.

 

2. يرد على النظريّات في المراد من ﴿الْيَوْمَ﴾.

 

3. يبين صواب نظر الشيعة في تفسير الآية الكريمة.

 

277


224

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

النظريّات حول المراد باليوم

لقد بذل المفسّرون المسلمون جهودهم في معرفة المراد من "اليوم" الذي أشارت إليه الآية الثالثة من سورة المائدة المباركة. وتوجد عدّة نظريّات في البين نعرض لها ثمّ نتعرّض لرأي الشيعة في المقام[1]:

المراد يوم البعثة

ذكر البعض ممّن لا اعتناء لهم بما جاء في شأن نزول الآية الكريمة ووقتها ومناسبتها في التاريخ والسنّة والحديث، بل يكتفون بالنظر إلى المضمون، إلى أنّ الآية ناظرة إلى زمن البعثة، وبالتّالي فإنّ المراد من "اليوم" هو "يوم البعثة"، لا اليوم الذي نزلت فيه الآية الكريمة. أمّا القرينة على ذلك فهي أنّ الآية حين تقول: "اليوم"، ثم تصفه بأنّه اليوم الذي رضي الله فيه الإسلام ديناً للمسلمين، فإنّ مقتضى القاعدة أن يكون المقصود منه هو يوم بعثة النبيّ، وبذلك تكون القرينة هي قوله – تعالى -: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾.

 

والجواب إنّه يُمكن أن يكون هذا صحيحًا لو لم يكن قوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ مسبوقًا بالجمل التي قبلها، لأنّ تلك الجمل قد تحدّثت عن إكمال


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص136.

 

279


225

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

الدين وإتمام النّعمة، والحال أنّ بداية هذه النّعمة كانت مع أوّل أيّام البعثة.

 

وبذلك يصبح قوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ لبيان أنّ الإسلام الذي كمُل الآن وتمّت نعمة الله به على المسلمين، هو ذلك الإسلام المرضيّ. وبذلك يتبيّن عدم صحّة تفسير (اليوم) بيوم البعثة[1].

 

المراد يوم فتح مكّة

من الوجوه التي احتُمِلت من دون أن يكون لأصحابها عليها قرينة، هو أن يكون المراد من اليوم يوم فتح مكّة. فقد ذكروا - وصحيح ما ذكروه - أنّ أحد الأيام العظيمة في تاريخ الإسلام هو يوم فتح مكّة، حيث نزل قوله -تعالى-: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا*    لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[2].

 

لقد كان لمكّة في جزيرة العرب موقعٌ روحيّ مهمّ. فبعد عام الفيل والاندحار العجيب الذي آل إليه مصير المهاجمين من أصحاب الفيل، انطوت جميع قبائل الجزيرة العربيّة على اعتقادٍ عظيمٍ بالكعبة بصفتها معبدًا مهمًّا. لقد استحكم الغرور بقريش إثر هذه الواقعة، حتى تحوّل إلى ضرب من الطّاعة أخذت تُبديه لها قبائل الجزيرة العربيّة، وانتعش سوق مكّة كثيرًا، وأخذت قريش تُملي ما تريد على الآخرين، وانصاع لها الناس بفعل البعد النفسيّ والاعتقاديّ الذي أخذوا يشعرون به نحو الكعبة.

 

منذ ذلك الوقت، وُلد شعورٌ عند الناس باستحالة أن يُسيطر أحدهم على الكعبة ويُهيمن عليها. وحصل أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكّة بدون إراقة دماء، وبدون مشاقّ، وبلا أن يَلحق أحدهم أدنى ضرر. ولعلّ النبيّ أخذ في حسابه هذا الشعور وهو يحرص على فتح مكّة بدون إراقة دماء. فلو قُتل من المسلمين في معركة أُخرى مئة أو أكثر لما قيل شيء، ولكن لو كان أصابهم في فتح مكّة أدنى


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص136 - 138.

[2] سورة الفتح، الآيتان 1 - 2.

 

280


226

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

ضرر، لقال قائل: قد نزل بمحمّد وأصحابه ما نزل بأصحاب الفيل! لقد سلك النبيّ نهجًا في فتح مكّة لم يؤدِّ إلى إراقة قطرة دمٍ واحدة، لا من المسلمين ولا من الكفّار، باستثناء ما كان قد صدر عن خالد ابن الوليد عندما وصل إلى قوم في أطراف مكّة، فقتل جماعة بعد أن قاومه عددٌ منهم. وعندما وصل الخبر إلى النبيّ تبرّأ ممّا كان فعله خالد، وقال: "اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد"[1]. بعد هذه الواقعة أسلمت الجزيرة العربيّة، وجاء أهلُها النبيّ واختاروا الإسلام.

 

وبين أيدينا آية في القرآن تؤيد ما تقدّم، وهي قوله -تعالى-: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾[2].

 

فالمسلمون قبل الفتح كانوا قلّةً، وكانت أعمالهم تصدر عن إيمان كامل، أمّا بعد الفتح فصار الناس يختارون الإسلام تلقائيّاً. لذا فإنّ إيمان ما بعد الفتح، لا يساوي في قيمته إيمان ما قبل الفتح.

 

والجواب: ليس ثمّة شك إذًا في أنّ يوم فتح مكّة، هو يوم نصر عظيم للإسلام، ولكن هل المقصود من اليوم في قوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ هو يوم فتح مكّة؟

 

الصحيح أنّه ليس هناك من دليل يثبت هذا الرأي لا من اللغة ولا من التاريخ.

 


[1]  هذه الواقعة جرت في خروج خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ليدعوهم إلى الإسلام، والنبيّ لا يزال في مكّة -أي لم تقع في مكّة- فلمّا نزل خالد بهم استقبلوه بالسلاح، وكان بنو جذيمة قد قتلوا في الجاهلية الفاكه بن المغيرة -عمّ خالد- ثم وضعوا السلاح بعد كلام بينهم، فأمر بهم خالد فكُتِّفوا، ثم عرضهم على السيف وقتل جماعة منهم. والذي يذكره الطبري وابن هشام أنّ جدالاً وقع بين خالد وعبد الرحمن بن عوف -الذي كان معه- إذ اتّهم عبد الرحمن خالداً أنّه قتل من قتل من بني جذيمة ثأراً لعمّه. لمّا وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد"، وفي رواية أنّه كرّر ذلك ثلاثاً. ثم أرسل النبيّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فدفع إليهم دية القتلى وما أُصيب من أموالهم. راجع: ابن هشام الحميري، عبد الملك بن هشام، تحقيق وضبط وتعليق: محمد عبد الحميد، مكتبة محمد علي حجيج، مصر - القاهرة، 1963م، لا.ط، ج 4، ص70 فما بعد (المترجم).

[2] سورة الحديد، الآية 10.

 

281


227

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

وبالإضافة إلى افتقار هذا الرأي إلى ما يؤيّده من قرينةٍ وشاهد تاريخيّ، نجد أنّ صدر الآية لا يُعين عليه، حيث قوله -تعالى-: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، فعندما يقول أحدهم: (أتممتُ هذه البناية) فمن الثابت أنّ المراد ليس أنّه تركها على النصف. ومن المعلوم أنّه نزلت كثير من الآيات بعد فتح مكّة، منها سورة المائدة بتمامها، وهي سورة طويلة ضمّت كثيراً من الأحكام والتعاليم، فكيف يتّسق القول بأنّ هذا الجزء من السورة له صلة بفتح مكّة الذي تمّ في السنة الثامنة للهجرة، مع أنّ السورة نفسها نزلت في السنة العاشرة للهجرة؟!

 

ولو قلنا إنّ هذه الآية وحدها نزلت في يوم فتح مكّة، فإنّ ذلك ممّا لا يتّسق مع إتمام النعمة أيضاً.

 

وهناك اعتراضٌ آخر يَرِدُ على هذا الاحتمال، ينطلق هذه المرّة من قوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾. فهل كان الحال كذلك في يوم فتح مكّة؟ صحيح أنّ الفتح انطوى على أثرٍ عظيم، ولكن هل يئس الكافرون من الدين في هذا اليوم كلّيّاً؟ بالتأكيد: لا[1].

 

المراد يوم تبليغ سورة براءة

من الأيّام المهمّة الأخرى المحتمل كونه مراد الآية الكريمة، هو يوم قراءة سورة (براءة) من قِبل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في مِنى، سنة (9) هجرية.

 

لقد عاد فتح مكّة بنتائج مدهشة على صعيد تثبيت القدرة العسكريّة، بل وحتّى المعنويّة للإسلام. ولكن مع ذلك، كان النبيّ يعيش مع الكفّار وفقًا لشروط الصّلح، فقد كان الصّلح قائمًا بين الطّرفين، وبمقتضاه كان للمشركين حقّ الطّواف بالكعبة والمكوث في مكّة والاشتراك في الحجّ.

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص138 - 142.

 

282


228

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

وقد حصل في إحدى السّنوات، أن كان الحجّ مشتركًا، إذ حجّ المسلمون وأدّوا مناسكهم وفقًا لتعاليم الإسلام، وحجّ المشركون وقد أدّوا مناسكهم وفقًا لعقيدتهم. وفي السّنة التاسعة للهجرة نزلت سورة براءة (التوبة) حيث ندَبَ النبيّ الإمام أمير المؤمنين لقراءتها في منى على مسمعٍ من الناس، وبمقتضى هذه السّورة لا يحقّ للمشركين بعد عامهم هذا أن يُشاركوا بمراسم الحجّ، فالحجّ أضحى منسكًا خاصًّا بالمسلمين فقط.

 

وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر بادئ الأمر أميرًا على الحجّ في هذه السنة ويختلف المفسّرون فيما إذا كان أبو بكر قد أخذ معه (سورة براءة) منذ البداية، أم أنّه ذهب بصفته أميرًا على الحجّ فحسب من دونها، وأثناء مسيره نزلت سورة (براءة) على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ما يتّفق عليه الشيعة والسنّة جميعًا وعدُّوه من فضائل الإمام أمير المؤمنين، هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بأمير المؤمنين على ناقته الخاصّة (العضباء) ليؤدّي هو تبليغ سورة البراءة، بعد أن نزل عليه الوحي وأخبره: "أن لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك". فأدرك الإمامُ عليه السلام أبا بكرٍ في الطريق.

 

وممّا يُذكر في الواقعة أنّ النبيّ حين بعث بأبي بكر ثم أتبعه عليًّا على ناقته، كان أبو بكر في خيمة (أو في بعض الطريق حسب رواية أُخرى) إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج فزِعًا وهو يظنّه رسول الله، وإذ به عليّ عليه السلام، فعرف أنّ أمرًا مهمًّا قد حدث. عندها سأل الإمام، فأجابه: "إنّه أُنزِل عليه أن لا يُبلِّغها إلّا رجل منك". عند هذه النقطة، اختلف المسلمون، فالسنّة يروون أنّ الإمام عليّاً قرأ (براءة)، ومضى أبو بكر في سفره، ولم ينقص من مهمّته التي أناطها به النبيّ إلّا تبليغ (براءة) (أي بقيت له الإمارة على الحجّ). بيدَ أنّ الشيعة ومعهم كثير من أهل السنّة ذكروا عودة أبي بكر إلى المدينة -حسبما ينقله صاحب تفسير

 

283


229

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

الميزان -[1] حتى إذا ما التقى بالنبيّ سأله: يا رسول الله، أأُنزل فيَّ شيء؟ فقال النبيّ: "لا، ولكنّي أُمِرت أن أُبلِّغها أنا أو رجلٌ منّي"[2].

 

يتبيّن ممّا مرَّ، أنّ يوم تبليغ (براءة) كان يومًا استثنائيًّا في حياة المسلمين. ففيه أُعلن أنّ الحرم يختصّ بالمسلمين وحدهم، ولا يحقّ للمشركين بعد الآن أن يُشاركوا في مراسم الحجّ. وهذا الأذان جعلَ المشركين يفهمون أنّه ليس بمقدورهم أن يظلّوا على شركهم، فالإسلام يتعايش مع أديان كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة، بيدَ أنّه لا يتحمّل الشرك ولا يتعايش معه. وللأهمِّيَّة التي يتحلّى بها هذا اليوم، ذكروا أنّه قد يكون هو المراد من الآية.

 

والجواب: إنّ هذا الاحتمال لا يتّسق مع قوله -تعالى-: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ لأنّ الكثير من الأحكام جاءت بعد هذا اليوم، فقد نزلت براءة في السنة التاسعة للهجرة في حين أنّ اليوم الذي تعنيه الآية التي نحن بصددها، لا بدّ أن يكون من الأيّام الأواخر في حياة النبيّ حيث لم ينزل من السماء بعده حكم جديد[3].


 


[1] راجع: العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج9، ص161 فما بعد. وبودّنا أن نشير إلى أهمِّيَّة الأفكار التي طرحها السيد محمّد حسين الطباطبائي وثراء المناقشات التي أوردها في بحثه الروائي بشأن الواقعة (المترجم).

[2] وفي هذا المعنى تضافرت النقول عليه بما لا يُحصى، ففي (تفسير البرهان) عن "ابن شهر آشوب" أنّه روى الحديث الطبرسي والبلاذري والترمذي والواقدي والشعبي والسدي والثعلبي والواحدي والقرطبي والقشيري والسمعاني وأحمد بن حنبل وابن بطة ومحمد بن إسحاق، وأبو يعلي الموصلي والأعمش وسماك بن حرب، في كتبهم عن عروة بن الزبير وأبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر وابن عبّاس، واللّفظ للأخير: أنّه ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إلى تسع آيات، أنفذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى مكّة لأدائها فنزل جبرئيل وقال: إنّه لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك. فقال النبيّ لأمير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر وخذ (براءة) من يده.

قال: ولمّا رجع أبو بكر إلى النبيّ، جزع وقال: يا رسول الله إنّك أهّلتني لأمر طالت الأعناق فيه، فلمّا توجّهتُ إليه ردَدْتني عنه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الأمين هبط إليّ عن الله -تعالى-: أنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك؛ وعليٌّ منّي ولا يؤدّي عنّي إلّا عليّ". راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص65؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص391.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص142 - 145.

 

284


230

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

رأي الشيعة

للشيعة في هذه المسألة رأي يجتمع في التدليل عليه مضمون الآية الكريمة والشّواهد التاريخيّة، وهو أنّ المراد من اليوم هو يوم الغدير أي يوم تنصيب الإمام عليّ عليه السلام أميرًا للمؤمنين. ومن هنا يقع البحث في قسمين، الأوّل: مضمون الآية، والثاني: الشواهد التاريخيّة:

1- الشواهد التاريخيّة:

أمامنا قضيّة تاريخيّة مفصّلة جداً تثبت أنّ الآية نزلت في غدير خمّ. وقد اضطلع كتاب الغدير (للعلامة الأميني) بإثبات هذه الفكرة.

 

وقد نهض المؤرّخون بإثبات الواقعة، بالإضافة إلى كتب الحديث. فعندما نعود إلى (تاريخ اليعقوبي)[1]، الذي يُعدّ من أقدم الكتب في تاريخ الإسلام العامّ، وأكثرها اعتباراً عند المسلمين، نجده توافر على ذكر قصّة غدير خم[2].

 

والذي تذكره الرواية: أنّ النبيّ حين عودته إلى المدينة من مكّة بعد حجّة الوداع[3]، صار إلى موقع بالقرب من الجحفة[4]، يقال له غدير خم، أوقف فيه القافلة وجمع المسلمين ليخطب بهم، وقد أمر بمنبر فَعُمِلَ له من أحداج الإبل، فعلاه وتحدَّث إليهم، فقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ وَلِيُّكُمْ وَأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ


 


[1] يعدّ تاريخ اليعقوبي من الكتب المتقنة جداً، حيث كُتب أوائل القرن الهجري الثالث، بعد عهد المأمون وفي حدود عهد المتوكّل فيما يبدو، وهذا الكتاب لا يقتصر على كونه مؤلفاً تاريخياً وحديثياً وحسب.

[2] اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص112.

[3] كانت حجّة الوداع في آخر سنة من حياة النبيّ، قبل شهرين من وفاته، وقد وصل النبيّ إلى غدير خم في 18 ذي الحجّة، أي قبل شهرين وعشرة أيّام من وفاته، إذا كانت الوفاة -حسب الشيعة- في 28/ صفر (سنة 10 للهجرة)، أو قبل شهرين وعشرين يوماً منها إذا كانت الوفاة -حسب بعض المسلمين- 12/ ربيع الأوّل.

[4] الجحفة: هي ميقات أهل الشام، فالحاجّ الآتي عن طريق الشام الواقع في الشمال الغربي من مكّة، يصل الجحفة بعد طيّ قليل من الطريق، والجحفة هي ميقات عيّنه النبيّ للوافدين إلى مكّة عن هذا الطريق، وغدير خم منطقة قريبة من الجحفة، وهي بمنزلة مفترق طرق، حيث كان المسلمون يذهبون منها صوب مناطقهم, أهل المدينة إلى المدينة، والآخرون إلى مدنهم (المترجم).

 

285


231

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، ثَلَاثَ مَرَّات"[1]، بعد أن أتمَّ الرسول إبلاغه، نزل قوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾.

 

إذا أردنا أن نبحث القضيّة من الزّاويّة التاريخيّة، فيجب علينا أن نستعرض كتب المسلمين واحدًا واحدًا، خصوصًا كتب المذاهب الإسلاميّة المختلفة التي نقلت الواقعة وذكرتها. وهذه الأمور بُحثت في كتب من أمثال الغدير (والعبقات).

 

وما يستدلّ به الشيعة من زاوية البعد التاريخيّ هو العودة إلى التّاريخ لمعرفة المراد من ﴿الْيَوْمَ﴾ في قوله -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، وعندها نجد أنّ ثمرة العودة إلى التاريخ ليس رواية أو روايتين، ولا حتّى عشر روايات، بل هناك تواتر على أنّ الآية نزلت في يوم غدير خم، بعد أن نصّب النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا  عليه السلام خليفةً له.

 

2- مضمون الآية:

والآن نُريد أن ننظر إلى الآية لنجد هل تنطوي على قرائن تؤيّد ما أثبته التاريخ أم لا؟

 

تنصّ الآية على قوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾، وهذا النصّ نضمّه إلى آيات أُخرى في القرآن تُحذِّر المسلمين وتُخوِّفهم من أنّ الكفّار في كيدٍ دائمٍ لهم ولدينهم، وهم يودُّون أن ترجعوا عن دينكم. وهذا التحذير القرآنيّ شمل أهل الكتاب وغيرهم. يقول -تعالى-: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم﴾[2].


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص295.

[2] سورة البقرة، الآية 109.

 

286


232

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

في ضوء ذلك، نجد أنّ الله من جهة يُحذِّر المسلمين في آيات من القرآن، أنّ الكفّار يطمعون باستئصال دينكم، ثمّ يأتي (جلّ اسمه) في هذه الآية ليذكر يأسهم من الإسلام، فقد انتهى نشاطهم المعادي لدينكم ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾. فإذا ضعف دينكم بعدئذٍ أو استُؤصل، وإذا أصابكم أي شيء، فـ"اخشَونِ". إنّ الآية تتحدّث عن مفهوم عرضه القرآن في آيات كثيرة، وطرحه بصيغة أصل وأساس يشمل النعم التي أنعم بها على عباده. قال -تعالى-: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[1]، وقال -تعالى-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[2]. والمراد أنّ الله لا يزيل نعمه عن الناس، إلّا إذا أرادوا هم ذلك. وهذه الفكرة تعبير عن أصل أساس في القرآن الكريم.

 

وبالتالي كأنّ قوله: ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ يقول: أيّها المسلمون، إذا كان هناك خطرٌ بعد الآن فهو يتمثّل بسوء صنعكم مع نعمة الإسلام، فحين تكفرون بالنعم ولا تستفيدون منها كما ينبغي، حينئذٍ سيجري عليكم قانون: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

إذاً ليس بعد اليوم خطر يهدّد المجتمع الإسلاميّ من الخارج، بل الخطر الذي يتهدّده هو من الداخل[3].


 


[1] سورة الرعد، الآية 11.

[2] سورة الأنفال، الآية 53.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص145 - 149 - 153.

 

287


233

الدرس الثاني والعشرون: الإمامة في القرآن (2)

المفاهيم الرئيسة

- قيل إنّ المقصود (باليوم) في هذه الآية هو يوم البعثة حيث اعتبروا أنّ هذا اليوم هو اليوم الذي رضي الله فيه الإسلام دينًا للنّاس، ولكنّ الحال أنّ هذه كانت بداية النّعمة والآية تتحدّث عن إكمال الدّين وإتمام النّعمة، وهذا لا ينطبق على يوم البعثة.

 

- فسّر البعض (اليوم) بأنّه يوم فتح مكّة: كونه كان يومًا عظيمًا في تاريخ الإسلام، إلّا أنّ الآية نزلت في السّنة العاشرة من الهجرة، ويوم فتح مكّة كان في السنة الثامنة، فضلًا عن أنّه نزل الكثير من الأحكام بعد ذلك اليوم فلا ينطبق عليه توصيف إكمال الدين وإتمام النعمة.

 

- فسَّر آخرون (اليوم) بأنّه يوم تبليغ أمير المؤمنين سورة براءة: الذي كان يُعدّ يومًا استثنائيًّا في حياة المسلمين حيث أعلن أنّ الحرم يختصّ بالمسلمين وحدهم إلّا أنّ هذا الاحتمال لا يتّسق مع قوله: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ حيث نزل الكثير من الأحكام بعد هذا اليوم.

 

- إنّ الشواهد التاريخيّة ومضمون الآية تدلُّ على تفسير الشيعة لليوم بأنّه يوم غدير خم.

 

288

 


234

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

الدّرس الثالث والعشرون

الإمامة في القرآن (3)

الوضع الخاصّ بالآيات التي ترتبط بأهل البيت عليهم السلام

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعدّد نماذج آيات حول أهل البيت وردت في سياق آيات مخالفة لها.

 

2. يبيّن السرّ في مجيء هذه الآيات في السياق المخالف لها.

 

3. يشرح السبب في عدم تصريح القرآن الكريم باسم الإمام عليّ عليه السلام.

 

 

289


235

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

تمهيد

من المسائل التي تبدو غامضةً بعض الشيء أنّ الآيات القرآنيّة الواردة بشأن أهل بيت النبيّ -أو على الأقلّ تلك التي تختصّ من وجهة نظر الشّيعة بعليٍّ أمير المؤمنين - جاءت وهي تنطوي على وضعٍ خاصّ، وهو أنّها في الوقت الذي تشتمل فيه على دلائل وقرائن تؤكّد الفكرة من الآية ذاتها، نجد وكأنّ هناك مسعىً لذكر هذه الفكرة المحوريّة في الآية وسط أفكار أُخرى، أو الإتيان بها في سياق قضيّة أُخرى قد تغطّي على الفكرة الأساسيّة والمحوريّة.

 

والسؤال: ما هو السرّ الذي يكمن وراء هذا المنحى؟

سيتبيّن في سياق الإجابة عن هذا السؤال، الردّ أيضاً على أولئك الذين ما برحوا يتساءلون: إذا كان الله يُريد أن ينصّ على عليّ عليه السلام كخليفةٍ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا لم يُصرّح باسمه مباشرة في القرآن[1]؟


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص170.

 

291


236

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

نماذج آيات وردت وسط آيات مخالفة لها بالسّياق

1- آية التّطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.كمثال للآيات المتقدّمة، لدينا آية باسم آية التطهير، حيث يقول -تعالى-: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[1]. فلو كنّا والآية، سيكون المفاد واضحًا جليًّا جدًّا، إذ تُفيد أنّ الله أراد لكم أهل البيت الطّهارة والتّنزيه.

 

وقوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ دلالة على نوع خاصّ من التّطهير. فالطّهارة التي ذكرها الله لا تنصرف إلى التّطهير العرفيّ أو الطّبيّ بحيث يكون المراد تطهير أجسام أهل البيت من الأمراض والجراثيم.

 

لا نريد القول: إنّ هذه لا تدخل في مصداق التّطهير، ولكنّ المراد جزمًا بالتّطهير الذي توافرت الآية على ذكره، هو في الدّرجة الأولى ما ذكره القرآن نفسه بعنوان كونه رجسًا، فـ "الرّجس" و"الرّجز" في القرآن يشمل كلَّ ما نهى عنه القرآن، وجميع ما أحصاه من أشكال الذّنوب، سواء الذّنوب الاعتقاديّة أو الأخلاقيّة أو العمليّة، فهذه جميعها رجس وقذر. وهذا هو المراد من قولهم إنّ مفاد الآية يدلّ على عصمة أهل البيت عليهم السلام، أي تنزهّهم عن جميع أشكال الرجس والموبقات.

 

إذا أراد أحدنا أن يصرف النظر عن كونه شيعيًّا أو سنّيًّا، ويفترض نفسه مستشرقًا مسيحيًّا جاء من لجّة العالم المسيحيّ، وهو يريد أن يعرف ما جاء به كتاب المسلمين، عندما ينظر إلى هذه الآية (آية التطهير) في القرآن ثم ييمّم وجهه صوب التّاريخ والسّنّة وحديث المسلمين، يجد أنّه يوجد إجماع بين جميع

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 33.

 

292


237

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

المسلمين على أنّ الآية جاءت في وصف أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها نزلت في سياق تلك الواقعة المعروفة التي اجتمع فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع عليٍّ والزهراء والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام.

 

يروي أهل السنّة أنّ الآية حين نزلت سألت أُمّ سلمة - إحدى زوجات النبيّ - رسول الله فيما إذا كانت من جملة أهل البيت أم لا، فأجابها النبيّ: "لا، ولكنّك على خير"[1].

 

إنّ مصادر هذا الحديث لا تقتصر على كتاب أو اثنين، بل هي كثيرة في روايات المسلمين، ولكنّ هذه الآية على وضوحها تأتي في سياق آيات أُخرى، تتحدّث قبلها وبعدها عن نساء النبيّ. فهي مسبوقة بقوله -تعالى-: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء﴾[2].

 

والآية ليست بشأن منح المزايا، بل هي بصدد بيان أنّ الذنب الذي يصدر عن إحدى زوجات النبيّ تستحقّ عليه العقاب مضاعفًا، لأنّ الذّنب منها ذنبان، ذنب اجتراح الخطيئة، وذنب هتك حرمة زوجها النبيّ. وعلى المنوال نفسه يكون ثوابها على ما يصدر من طاعات مضاعفًا.

 

نعود إلى سياق الآيات لنرى أنّ الضمائر في جميعها مؤنّث ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ وهو ما يدلّ على أن المخاطب فيها هُنَّ زوجات النبيّ.

 

بيدَ أنّ الذي يحصل بعد عدّة آيات، هو ظهور الضمير المذكّر في النصّ، حين نصل إلى قوله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ﴾ (لا عنكنّ) الرجس أهل البيت ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ ثم يعود بعد ذلك لصيغة التأنيث مجدّداً. ولمّا كان القرآن لا يفعل أيّ شيء جزافًا، فإنّ ما حصل يتمثّل بما يلي:


 


[1]  السيد المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، الشافي في الامامة، مؤسّسة إسماعيليان، إيران - قم، 1410، ط2، ج3، ص124.

[2] سورة الأحزاب، الآية 32.

 

293


238

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

أوّلاً: لقد تمَّ الحديث هنا عن "أهل البيت" في حين كان السياق قبل ذلك منصرفًا إلى نساء النبيّ ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ﴾. وبذلك تبدّل عنوان الخطاب من "نساء النبيّ" إلى "أهل بيت النبيّ".

 

ثانياً: تغيّر الضمير تبعًا لذلك من التّأنيث إلى التّذكير. ولم يحصل ذلك عبثاً أو اعتباطاً ولم يأتِ على سبيل اللّغو، بل لا بدَّ أن تكون هناك قضيّة أُخرى يُريد أن يتحدّث عنها النصّ، غير تلك التي تضمّنتها الآيات السابقة.

 

لقد تضمّنت الآيات السّابقة واللاحقة لآية التّطهير معاني التكليف والأمر لنساء النبيّ، وقد جاءت محمّلة بروح التّهديد والخوف والرّجاء.

 

ممّا يدلّ على ذلك قوله -تعالى- لهن: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، فالنصّ يأمر نساء النبيّ ويتهدّدهن، ويضعهنّ، ضمنًا، بين حال الخوف والرّجاء، فيرجّيهنّ بالثّواب على فعل الخير، ويخوّفهن بالعقاب من فعل الشرّ.

 

أمّا مفاد آية التطهير فهو غير مفاد الآيات التي سبقتها والتي تلتها، وهي تتجاوز المدح لتتحدّث عن التّنزيه عن الذنوب والمعاصي، والتّطهير من الموبقات. فالمخاطب في آية التّطهير هم أهل البيت، أمّا في الآيات، التي سبقتها وتلتها، فالمخاطب هم نساء النبيّ، والضمير يختلف تبعًا لذلك.

 

وفي الواقع هذا هو سرّ ما جاء في رواياتنا عن أهل البيت عليهم السلام من تأكيدٍ كبيرٍ على أنّ آيات القرآن يمكن أن تتحدّث في بدايتها عن شيء، وفي وسطها عن شيء آخر، وفي آخرها عن شيء (فكرة أو موضوع) ثالث...[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص171 - 175.

 

294


239

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

2-آية الإبلاغ: مثال آخر على ذلك هي آية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾[1].

 

فقد جاءت بطريقة بحيث إذا رفعناها من وسط الآيات الأُخرى، لا يختلّ السياق ولا ينقطع، تماماً كما هو عليه الحال أيضًا مع ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ﴾ فإذا رفعنا هذه أيضاً لا يُصاب السياق فيما قبلها وبعدها بالانقطاع، ولا يختل ارتباط النصّ وتواصله[2].

 

السرّ في المسألة

مع انطواء هذه الآيات السالفة وغيرها على خصوصيّة في المعنى يختلف عن السياق، فإنّها أُدْرِجَتْ كما ذكرنا، في سياق آيات لا شأن لها بها، إذاً لا بدّ أن يكون هناك سرّ وراء هذا العمل. فما هو يا ترى السرّ وراء هذه المسألة؟[3]

 

يُمكن استكشاف السرّ الذي يكمن وراء هذا المنحى، من خلال ما أشارت إليه الآيات القرآنيّة نفسها، كما جاءت إشارة إليه في روايات أئمّتنا عليهم السلام، ومضمونه أنّه ليس هناك من بين أحكام الإسلام وتعاليمه ما هو أقلّ حظّاً في التنفيذ من قضيّة أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ويعود ذلك إلى العصبيّة الراسخة في عمق نفسيّة العرب، وما تقود إليه من استعداد ضئيل جدًّا للتفاعل مع فكرة ولاية أهل البيت وإمامتهم[4].

 

لقد كان إبلاغ الأُمّة بتنصيب عليٍّ عليه السلام خليفةً للنبيّ، هو أمر الله. ومع ذلك، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أنّه إذا فعل ذلك، فإنّ عدّة من ضعفاء الإيمان والمنافقين


 


[1] سورة المائدة، الآية 67.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص175 - 176.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه، ص177.

 

295


240

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

ستنبري لتفسير ذلك على أنّه مزيّة اختصَّ بها النبيّ نفسه[1].

 

وعندما نعود إلى قوله - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ نجده مسبوقاً بقوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾. فقد عرف المسلمون أن لا خطر على الإسلام بعد اليوم من الكافرين، بل الخطر إن وجد فهو على الإسلام من أنفسهم.

 

وفي الآية السابقة تكرّر الأمر نفسه، فقد كان منشأ الخوف من داخل المسلمين أنفسهم، ولم يكن له مصدر من الخارج، يقول - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.

 

هذه الآية تأمر النبيّ - وليس في القرآن آية مثلها في دلالتها - بإبلاغ ما أُنزل إليه، وقد جاءت في سياقٍ يتضمّن تهديده من جهة، وتشجيعه ومواساته من جهةٍ أُخرى. وفحوى التهديد أنّك إن لم تُبلِّغ ما أُنزل إليك، فإنّ جهودك في تبليغ الرسالة تضيع هدرًا، وهي تواسيه بعدم خوف الناس وخشيتهم: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.

 

حين نعود إلى آية: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ فإنّ الشيء الطبيعيّ أنّ النبيّ لا ينبغي أن يخشى الكفّار منذ البداية، ولكنّ الذي يظهر


 


[1] لم يكن هذا حدساً أو مجرّد تحليل، بل هو ما قيل بالفعل، ومثاله صاحب آية: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ (سورة المعارج، الآيتان 1 - 2). وقصّتها أنّ النبيّ بعد أن نادى في الناس واجتمعوا إليه في غدير خمّ، أخذ بيد عليّ وقال: "مًن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"، شاع الخبر وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقةٍ له حتّى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثمّ أتى النبيّ وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمّد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا. ثمّ لم ترضَ بذلك حتّى رفعت بِضَبْعَي ابن عمّك فضّلته علينا وقلت: "مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه" فهذا شيء منك أم مِن الله؟

أجاب النبيّ: والذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله. فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته، وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله حقّاً فأمطِر علينا حجارة من السماء أو آئتنا بعذابٍ أليم. فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره، فقتله، وأنزل الله فيه الآية أعلاه. راجع: الثعلبي، أبو محمّد بن عاشور، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، 2002م، ط1، ج10، ص35 (المترجم).

 

296


241

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

من الآية الثانية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ أنّ النبيّ كان قلقاً يخشى المنافقين، أي إنّ مصدر هذا القلق ومنشأه هو الداخل الإسلاميّ نفسه[1].

 

الشواهد التاريخيّة

عندما نعود إلى مسار الحوادث التاريخيّة ونُطلّ على الواقع من منظور علم اجتماع المسلمين، نجده يحكي هذه المحصّلة وينطق بها وهي: عدم الاستعداد لتقبّل خلافة أمير المؤمنين. لذلك نجد الخليفة الثاني يُصرّح بأنّهم لم يختاروا عليّاً للخلافة "حيطة على الإسلام" كما يقول، لأنّ القوم لا ينقادون إليه ولا يقبلونه[2].

 

لقد كانت هذه الحالة انعكاسًا لواقع يعيشه المجتمع الإسلاميّ، ويُعبّر عنها بأشكال مختلفة. فالقرآن عبَّر عنها بأسلوبه، وعبَّر عنها عمر بن الخطّاب بطريقته، كما عبَّر عنها بعضهم بما ذهبوا إليه من أنّ عليًّا عليه السلام وتَرَهم في كبرائهم، حيث قتل كثيرًا من رؤسائهم في الحروب الإسلاميّة، فضمرت له العرب ذلك بما تنطوي عليه نفسيّتهم من أخذٍ بالثأر، ولم تنسَ من قتل من آبائهم وإخوانهم، ثم انقلبت عليه في طبيعة موقفها الرافض لخلافته، إذ لم تره مناسبًا لها.

 

وقد تمسّك بعض أهل السنّة بهذا الكلام، فهم وإن سلّموا له بمقام الأفضليّة والأرجحيّة على غيره، إلّا أنّهم ذهبوا إلى القول بأنّ له أعداءً كثرًا وهذا ما منع عنه الخلافة.

 

نتبيّن ممّا مرّ أنّ هناك ضربًا من ضروب القلق كان سائدًا منذ زمن النبيّ يخشى حالة التمرّد على إمامة عليّ وأهل البيت وخلافتهم.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص177 - 179.

[2] ليس أدلّ على ما يذكره الشيخ الشهيد من العودة إلى النص التاريخيّ للواقعة، حيث تشير إلى أن حواراً جرى عن الخلافة وحقّ الإمام علي فيها، إذ ذكر ابن عبّاس أن النبيّ أوصى لعليٍّ بها، فردَّ عليه عمر بنص قوله: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرو (أي طرف) من قول، لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام. لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّي علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلّا إمضاء ما ختم". ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج3، ص97 (المترجم).

 

297


242

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

وربّما كان السرّ وراء أُسلوب القرآن في ذكره هذه الآيات في سياق آيات قرآنيّة أخرى، ومن خلال القرائن والدلائل، يتمثّل في أنّ أي إنسانٍ سويٍّ خالٍ من الغرض، يستطيع أن يفهم المراد. ويبدو أنّ القرآن لم يُرِدْ أن يُعبّر عن مراده بصيغة تسمح لأُولئك الذين يبغون التمرّد على القرآن، أن يكتسب تمرُّدهم الصيغة المباشرة في مقابل القرآن والإسلام. هذا التّقدير هو الذي يُعلِّل لنا مجيء آية التطهير وسط تلك الآيات.

 

والشّيء نفسه يُقال بالنسبة إلى آية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، والكلام نفسه ينطبق على آية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾[1].

 

السرّ في عدم تصريح القرآن الكريم باسم الإمام عليّ عليه السلام

هناك آيات أُخرى تُثير الفكر وتدفع الإنسان لكي يفهم أنّ هناك أمرًا ما، وعندما يستعين الإنسان بالمنقولات المتواترة يثبت لديه ذلك الأمر. من هذه الآيات، قوله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[2].

 

تنطوي الآية على تعبير عجيب، ذلك أنّ إعطاء الزّكاة في حال الرّكوع لا يُعبِّر عن ممارسة عامّة تُذكر كأصل كُلّي، وإنّما يفيد السّياق أنّ الآية تشير إلى واقعة معيّنة[3].


 

[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص180 - 182.

[2] سورة المائدة، الآية 55.

[3] قال الفخر الرازي في تفسيره: روى عكرمة عن ابن عباس أنّها في علي. كما روي عن عبد الله بن سلام، قال: لمّا نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أنا رأيت عليّاً تصدّق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولّاه. وروي عن أبي ذر قال: "صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد، فلم يُعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء، فقال: "اللهمّ اشهد أني سألت في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما أعطاني أحد شيئاً، وعليٌّ كان راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم، فرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ إلى قوله ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ فأنزلت: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، فاشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به أزري. قال أبو ذر: فوالله ما أتمَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمة حتى نزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمّد اقرأ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾?". راجع: الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، التفسير الكبير، لا.م، لا.ن، لا.ت، ط3، ج12، ص26 (المترجم).

 

298


243

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

القرآن هنا لم يُصرّح بالواقعة واسم صاحبها خشية التمرّد المشار إليه آنفًا، ذلك أنّ التمرّد في مواجهة التّصريح لو وقع، سيُنظر إليه من قِبَل الصّديق والعدوّ، على أنّه تمرّد ضدّ القرآن، وهو في الوقت نفسه استخدم الكناية وعبَّر عن المراد بصيغة يفهم من خلالها أيّ إنسان لا يشوبه الغرض أنّ وراء الآية أمرًا يُشير إلى قضيّة بعينها.

 

فقوله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ لا يُعبِّر عن وضعٍ عاديٍّ، وإنّما يُشير إلى واقعة استثنائيّة حدثت. والسؤال عندئذٍ: ما هي هذه الواقعة؟ نجد في هذا المجال أنّ كلمة المسلمين اجتمعت على أنّ الآية نزلت بشأن عليّ بن أبي طالب[1]،[2].

 

إشكال

في سياق الحديث عن آية التصدّق بالخاتم قد يشكل بعضهم بأنه كيف لشخصٍ وهو في حال صلاته، أن يلتفت بهذا القدر إلى الآخرين، فينتبه إلى الفقير وهو يدخل الباب، ثم يستعطي ولا يُعطيه أحد شيئاً، فيُخرج الإمام خاتمه من إصبعه ويُعطيه إيّاه، أليس في ذلك انقطاعٌ عن التوجّه إلى الله؟

 

ويضيف هؤلاء: إنّ من البواعث التي تُقلّل قيمة الاستدلال بهذه الآية منطقيّاً، أنّ الزكاة لا تتعلّق بالخاتم، والخاتم -طبقاً لفتاوى فقهاء الشيعة- لا يندرج في عداد الأشياء التي تتعلّق بها الزكاة[3].


 


[1] نقرأ في الدرّ المنثور في ظلال الآية الكريمة: "أخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عمّار بن ياسر، قال: وقف بعليٍّ سائل وهو راكع في صلاة تطوّع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلمه ذلك، فنزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾. فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه، ثم قال: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم والِ مَن والاه وعادِ من عاده". راجع: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص293.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص183 - 184.

[3] المصدر نفسه، ص198 (وقد ذكر الإشكال أحد الحضور).

 

299


244

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

الجواب:

أوّلاً: إنّ عامّة الإنفاق في الخير يقال له (زكاة). أمّا تلك التي تُستخدم اليوم في عرف الفقهاء بحيث أضحت علماً على الزكاة الواجبة، فهي الزكاة الاصطلاحيّة. ولا يصحّ القول إنّه في كلّ مرّة يذكر فيها القرآن الزكاة فإنّ المقصود بها الزكاة الواجبة. الزكاة تعني ما يُطهّر المال، بل الروح والنفس أيضاً، والقرآن يقول للإنفاق الماليّ بشكل عامّ إنّه زكاة المال أو زكاة الروح أو زكاة النفس.

 

وثانيًا: إنّ خشوع الإمام عليّ عليه السلام واستغراقه في صلاته بحيث كان يذهل عن نفسه، حقيقة لا يعتريها شكّ. بيدَ أنّ ذلك لا يعني أنّ جميع حالات أولياء الله بعضها مثل بعض. فقد نُقل عن النبيّ الأكرم نفسه حالتان، إذ كانت تعتريه الجذبة في الصلاة أحياناً، حتى لا يُطيق إتمام الأذان، فيقول: أرِحنا يا بلال. وفي حالٍ أخرى -كما ينقل عنه- كان الحسن والحسين عليهما السلام يعلوانه وهو في حال السجود، فيركبان على عاتقه، فيصبر عليهما بهدوء ويُطيل في السجود حتى ينهض الراكب (الحسن أو الحسين) ولا يسقط. وهكذا نجد أنّ الحالات المعنويّة مختلفة. ثَمَّ فكرة تعليليّة أُخرى لها مرتكز عرفانيّ، إذ يعتقد من يستند إلى المذاق العرفانيّ أنّ الانجذاب إذا صار كاملاً جدّاً، تتمّ فيه حال العودة. أي إنّ الشخص يكون في عين انشغاله بالله، مشغولاً بما يليه أيضاً.

 

بنظر أولئك - العرفاء - إنّ الحالة التي يبدو فيها أمير المؤمنين عليه السلام مستغرقاً في الصلاة حتى يُخرَجَ النصلُ من بدنه من دون أن ينتبه، أقلّ من تلك الحالة التي يتوجّه فيها إلى الفقير وهو في الصلاة، ليس لأنّه غفل عن الله، وتوجّه إلى الفقير، بل لأنّ توجّهه إلى الله بلغ من الكمال درجة أضحى يرى العالم بتمامه[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص206 - 208.

 

300


245

الدّرس الثالث والعشرون: الإمامة في القرآن (3)

المفاهيم الرئيسة

•        إنّ النّظر في الآيات القرآنيّة الواردة في إمامة أهل البيت عليهم السلام يظهر أنّها تنطوي على وضعٍ خاصّ، وهو أنّها وردت وسط آيات وأفكار أُخر لا تنسجم معها بالسّياق كما في آية التطهير، وآية البلاغ.

 

•        كما يرد الإشكال أنّه لماذا لم تُصرّح الآيات التي تناولت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام باسمه بنحوٍ مباشر.

 

•        السرّ في ما تقدّم أنه ليس هناك من بين أحكام الإسلام وتعاليمه ما هو أقلّ حظّاً في التنفيذ من قضيّة أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

 

•        ذلك أنّ العصبيّة الراسخة في عمق نفسيّة العرب، وما تقود إليه من استعداد ضئيل جدًّا للتفاعل مع فكرة ولاية أهل البيت وإمامتهم، أنتجت ضعفاً في الالتزام والتطبيق.

 

•        إنّ الشواهد التاريخيّة تؤكّد على عدم استعداد العرب لتقبّل الولاية، فكان أمير المؤمنين قد وتر الكثير من كبار العرب وقتل رؤساءهم في الحروب، وكانت العرب قد أضمرت له العداء جرّاء ذلك.

 

•        تشير الآية التصدق إلى واقعة تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بالخاتم أثناء الصّلاة، وتُجمع الأحاديث على أنّ الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام، ومرّةً أخرى لم يُصرّح القرآن الكريم بالواقعة واسم صاحبها خشية التمرّد الذي سيُفهم منه أنّه تمرّد ضدّ القرآن الكريم.

 

301

 


246

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

الدرس الرابع والعشرون

الإمامة في القرآن (4)

الإمامة في المفهوم الشّيعيّ

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح الربط بين ابتلاءات إبراهيم  عليه السلام ونيله لمقام الإمامة.

 

2. يستنتج أنّ الإمامة تعني أن يبلغ الإنسان مرتبة الإنسان الكامل.

 

3. يبيّن أنّ القرآن ينفي الإمامة عمّن ظلم أو أشرك.

 

303

 


247

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

الإمامة في المفهوم الشّيعيّ في ضوء الآيات القرآنيّة

تقدّم أنّ الإمامة عند أهل السنّة تعني الحكومة، والإمام هو الحاكم الذي ينتخبه المسلمون، أمّا عند الشيعة فتتخذ الإمامة بعداً آخر. إنّها تأتي تالي تلو النبوّة، بل هي أرفع من بعض درجات النبوّة، ذلك أنّ أولي العزم من الرسل هم الذين جمعوا الإمامة إلى النبوّة، وكثير من الأنبياء لم يكونوا أئمّة، أمّا أولو العزم فقد بلغوا رتبة الإمامة في آخر المطاف. وبهذا الفهم لمسألة الإمامة يتَّضح كون الحكومة شأناً من شؤونها.

 

الآية التي نُريد بحثها هنا، تتّصل بمفهوم الإمامة بالمعنى الذي يعتقد به الشّيعة. حيث يعتقدون أنّها تفيد وجود حقيقة أُخرى باسم الإمامة، وهذه الحقيقة لم توجد بعد رحيل نبيّ الإسلام فحسب، بل هي تعود إلى زمان الأنبياء عليهم السلام، وهي باقية في ذريّة إبراهيم ماكثة فيهم إلى يوم القيامة.

 

والآية هي قوله - تعالى - في سورة البقرة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[1],[2].

 

لقد تحدّث القرآن عن الابتلاءات التي نزلت بإبراهيم، وأشار إلى ثباته في


 


[1] سورة البقرة، الآية 124.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص187 - 188.

 

305


248

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

مواجهة نمرود والخطّ النمروديّ، وكيف أنّه أبدى استعداده ليُحرَق بالنار في الثبات على المواجهة، ثمّ أشار إلى بقية ما وقع له.

 

ابتلاءات إبراهيم عليه السلام

من الابتلاءات العظيمة التي نزلت بـ إبراهيم عليه السلام، أنّه رُزق وهو في شيخوخته من زوجته (هاجر) ولداً. وفي هذا الظرف يأتيه الأمر أن يُغادر الشّام ويذهب تلقاء الحجاز، حيث عليه أن يترك زوجته ووليده وحيدين هناك ثم يغادر الحجاز. لم يكن هذا الأمر يتّسق مع أيّ منطق سوى منطق التسليم المطلق، فقد كان ذلك أمر الله وكان إبراهيم  عليه السلام يحسّ ذلك عن طريق الوحي. يقول - تعالى - في ما حكاه عن إبراهيم  عليه السلام: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾[1]. لقد كان إبراهيم يعرف عن طريق الوحي الإلهيّ مآل الأمر ونهايته، ولكنّه خرج من هذا الاختبار على أحسن ما يكون.

 

المسألة الثانية التي جاءت أمضى من الأُولى، هي الأمر بذبح ولده. فقد جاء الأمر أن يذبح ولده بيده في منطقة منى، التي نحظى فيها الآن بإحياء ذكرى ذلك التسليم المطلق الذي أبداه إبراهيم، بتقديمنا للأضاحي والقرابين.

 

بعد أن تكرّر عليه الأمر في عالم الرّؤيا مرّتين وثلاثاً تحدّث إلى ولده بالقضيّة، فما كان من الابن إلّا أن قال بتسليم ودون نقاش: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[2].

 

يأتي القرآن ليُجسِّد اللوحة على نحوٍ مدهش عجيب، وهو يقول: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾[3] أي حينما أمضيا الأمر، بحيث لم يشكّ إبراهيم أنّه فاعلٌ وأنّه

 

 


[1] سورة إبراهيم، الآية 37.

[2] سورة الصافات، الآية 102.

[3] السورة نفسها، الآية 103.

 

306


249

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

ذابح ولده لا محال، وأيقن إسماعيل أنّه مذبوح. لمّا فعلا ذلك بمنتهى الاطمئنان واليقين جاءهما النداء: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾[1].

 

والمعنى أنّ هدفنا لم يكن ذبح إسماعيل وفصل رأسه عن جسده، ولم يصدر القرآن بأمر ينهى فيه إبراهيم عن الذبح، بل قال: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، أي: بتنفيذك عمليًّا ما هو مطلوبٌ منك انتهى المشهد، لأنّ الهدف لم يكن ذبح إسماعيل، بل ظهور الإسلام والتسليم منك أنت الأب ومن ولدك. وهذا ما كان[2].

 

عهد الإمامة بعد اجتياز البلاء

إنّ النصّ القرآنيّ واضح في أنّ إبراهيم عليه السلام وُهِبَ الذرّية وقد كَبُر سنّه، وكان شيخاً كبيراً. وإن الآية الكريمة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[3]، تشير إلى أنّ الإمامة وُهبت لإبراهيم بعد أن أتمَّ ما نزل به من ابتلاءات. والسؤال: متى كان ذلك، وبأيّ زمانٍ تتّصل الآية؟ هل هي محدّدة بأوائل عمر إبراهيم؟ الشيء المؤكّد أنّها لا شأن لها بفترة ما قبل النبوّة من حياة إبراهيم، لأنّها تتحدّث عن الوحي، وهو شأن من شؤون النبوّة.

 

فهي إذًا تتّصل بمرحلة النبوّة، ولكن هل كان ذلك أوائل عهد إبراهيم بالنبوّة؟

 

الصحيح أنّها ترتبط بأواخر عهد النبوّة بدليلين:

الأوّل: أنّها تتحدّث صراحة عن أنّ ذلك حصل بعد الابتلاءات. وما ابتُلي به إبراهيم  عليه السلام حصل جميعه في عهد نبوّته، وقد نزل به أهمّها وهو في أواخر عمره.


 


[1] سورة الصافات، الآيتان 104 ـ 105.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص188 - 190.

[3] سورة البقرة، الآية 124.

 

307


250

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

الثاني: تذكر الآية في سياقها الذرّيّة في قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ ومن المعلوم أنّ الذريّة جاءته عليه السلام وهو شيخ بنصّ القرآن الكريم.

 

فالآية تقول لإبراهيم: إنّا نريد أن نهبَك آخر عمرك شأنًا آخر، ومنصبًا مستقلًّا غير النبوّة يُعبّر عنه قوله -تعالى-: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾. فالشيء الواضح أنّ إبراهيم كان قبل الهبة الجديدة نبيًّا وكان رسولًا، وقد طوى المراحل جميعًا إلّا واحدة، لم يكن ليبلغها إلّا بعد أن يتمّ جميع الابتلاءات[1]. ألا يشير ذلك كلّه إلى أنّ في منطق القرآن حقيقةً أُخرى اسمها الإمامة؟[2]

 

فما هي الإمامة في منطق القرآن؟

الإمامة في منطق القرآن

الإمامة تعني أن يبلغ الإنسان حدَّ ما يُصطلح عليه -كما تقدّم- بالإنسان الكامل، وهذا الإنسان يتحوّل بتمام وجوده إلى مقتدًى للآخرين. وعندما جُعلت الإمامة لإبراهيم، فكَّر بذريّته فورًا، فجاءه الجواب: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.

 

لقد أطلق هذا النصّ على الإمامة عنوانَ "عهد الله". من هنا ما ذهبنا إليه نحن -الشيعة- من أنّ الإمامة التي نعتقد بها هي أمرٌ يرتبط بالله، حيث نجد القرآن ينسبها إليه سبحانه فيقول "عهدي"، فهي ليست عهداً من عهود الناس.

 

لم يُجِب القرآن عن سؤال إبراهيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ بالنفي المطلق، كما لم يأتِ بالتأييد المطلق، بل فكّك بين فئتين من الذرّية، ولأنّه استبعد الظّالمين منهم من دائرة هذا العهد، فهو يبقى إذاً في غير الظّالمين، وهذه الآية تدلّ على بقاء الإمامة في ذريّة إبراهيم إجمالًا.

 


[1] في الحديث الشريف: "إنّ الله (تبارك و-تعالى-) اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتَّخذه نبيّاً، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنَّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وإنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً. فلما جمع له الأشياء، قال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، قال: فمن عِظمها في عين إبراهيم، قال: ومن ذريتي". الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص175 (المترجم).

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص189 - 191.

 

308


251

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

طبعاً، في القرآن آية أُخرى في هذا المجال، يقول فيها -تعالى-: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[1] وهي حول إبراهيم عليه السلام أيضًا، وفيها دلالة على أنّ الإمامة حقيقة باقية في نسل إبراهيم عليه السلام[2].

 

القرآن ينفي الإمامة عمّن ظلم أو أشرك

في سياق الآية الكريمة المتقدّمة تأتي مسألة الظالمين. فمن هو الظالم؟

 

تُطلق صفة الظّالم، في عرف الناس، على الإنسان الذي يتجاوز على الآخرين ويتعدّى على حقوقهم، وذلك بخلاف القرآن الذي يُعمّم المفهوم ليشمل الذي يتجاوز على نفسه والذي يتجاوز على الآخرين أيضًا. وفي القرآن آيات كثيرة تتناول الظلم الذي ينزل بالنفس.

 

ينقل العلّامة الطباطبائي كلاماً عن أحد أساتذته حول ما سأله إبراهيم عليه السلام لذرّيته، وهو يرى أنّ مآل هذه الذرّية من حيث صلاحها وفسادها ينتهي إلى الفرضيّات الآتية:

الأولى: أن نفترض أنّ هذه الذرّية ظالمة على الدوام من أوّل عمرها إلى آخره.

الثانية: أن نفترض أنّها كانت ظالمة في أوّل عمرها ثم آلت إلى الصلاح آخر العمر.

الثالثة: أن تكون صالحة أوّل عمرها، ثم آلت إلى الظلم بعد ذلك.

الرابعة: أنّها لم تكن ظالمة في أيّ وقت من الأوقات.

 

ثمّ يقول: من المحال أن يطلب إبراهيم عليه السلام الإمامة - وهي بهذا الشأن العظيم، حيث وهبت إليه بعد النبوّة والرسالة- لمن كان ظالمًا من ذريّته من أوّل أمره حتى آخر حياته، كما من المحال أن يسألها لمن كان من ذريّته صالحًا في مبدأ حياته ثم آل إلى الظلم آخر عمره.


 


[1] سورة الزخرف، الآية 28.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص192 - 193.

 

309


252

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

يبقى إذاً أنّ إبراهيم عليه السلام عندما طلب الإمامة لذرّيته، طلبها للصالحين منهم. وهؤلاء على قسمين، الأوّل: من لازَم الصلاح من أوّل حياته وبقي على ذلك حتّى آخر عمره. والثاني: من كان ظالماً في مبدأ حياته ثم آل إلى الصلاح بعد ذلك.

 

ولكن القرآن يقول: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، أي ينفي أن ينال الإمامة من كانت له سابقة ظلم.

 

ولمّا كان القرآن ينفي الإمامة، عمَّن هو صالح الآن، وكان ظالمًا فيما مضى، فالشّيء المؤكّد أن لا يدخل في إطار السّؤال الظالم بالفعل، سواء أكان ظالمًا على طول الخطّ، أو كان صالحًا ثمّ آل إلى الظّلم فعلًا.

 

وبهذا ينفي القرآن الإمامة عن كلّ إنسان كان له سابقة ظلم. وهذا ما يستدلّ به الشيعة من استحالة أن تكون الإمامة فيمن أمضى عهدًا من عمره في الشرك[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص193 - 195.

 

310


253

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

المفاهيم الرئيسة

•        الإمامة عند الشّيعة تأتي تالي تلو النبوّة، بل هي أرفع من بعض درجات النبوّة، فبعض الأنبياء كانوا أئمّة والبعض الآخر لم يكن كذلك.

 

•        إنّ قوله – تعالى -: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، تتحدّث عن الابتلاءات التي نزلت بالنبيّ إبراهيم عليه السلام، وعن الإمامة التي وُهبت لإبراهيم بعد أن اجتاز ما نزل به من ابتلاءات.

 

•        لقد كانت الإمامة التي وهبت لإبراهيم عليه السلام في أواخر عمره بقرينة أنّه عليه السلام سألها لذريّته، والحال أنّه رُزق الذريّة وهو شيخٌ كبير. مضافًا إلى أنّ أهمّ الابتلاءات التي نزلت بإبراهيم عليه السلام كانت في أواخر عمره.

•        الإمامة في منطق القرآن تعني أن يبلغ الإنسان حدَّ ما يُصطلح عليه بالإنسان الكامل، وهذا الإنسان يتحوّل بتمام وجوده إلى مقتدًى للآخرين.

 

•        تُبيّن الآية المتقدّمة أنّ الإمامة شأن إلهيّ فهي عهد الله، وبالتّالي فهي تنفي أن تكون في إنسان كان له سابقة ظلم. والظّالم بحسب منطق القرآن هو من يتجاوز على الآخرين ويتعدّى على حقوقهم أو أمضى عهدًا من عمره في الشّرك.

 

 

311


254

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

الدرس الخامس والعشرون

الإمامة في الحديث (1)

ضرورة الإمامة وصفات الإمام

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يميّز بين النظريّة المادّيّة والنظريّة القرآنيّة حول ماهيّة الإنسان الأوّل.

 

2. يبيّن ضرورة الإمامة من خلال كلام الإمام عليّ والإمام الصادق عليهما السلام.

 

3. يعدّد الصفات والخصال اللازمة في الإمام.

 

313


255

الدرس الرابع والعشرون: الإمامة في القرآن (4)

تمهيد

قد يظنّ البعض أنّ الاستدلال بالحديث على قضيّة الإمامة لا يُمكن أن ينسجم مع المنطق السّليم باعتبار أنّنا نستدلّ بالشيء على نفسه. فإذا قال أحدهم إنّني صادقٌ والدليل على قولي هو أنّني صادق، اعتبرنا كلامه هذا من باب المغالطات. ولكن لا شكّ بأنّ استدلالنا بالأحاديث المرويّة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام على إمامتهم هو ليس من هذا القبيل، فنحن لا نستدلّ على إمامة أيّ إمام من خلال ادّعاء هذا الإمام بأنّه إمام مفترض الطّاعة. بل نستدلّ على هذه القضيّة من خلال النصوص عندما تتضمّن هذه النصوص أدلّة منطقيّة وعقليّة لا علاقة لها بالقائل نفسه، وإن كان بحدّ ذاته معصومًا.

 

نعم إذا ثبت لدينا عصمة شخصٍ ما، ثمّ ادّعى هذا الشّخص بأنّه إمام، فلا ريب عندها بتماميّة الدّليل على إمامته[1].

 

ماهيّة الإنسان الأوّل في النّظرة المادّيّة

هناك تصوّر ينظر إلى الإنسان، كسواه من بقيّة الحيوانات الأُخرى، كموجودٍ أرضيٍّ بالكامل. ويرمي هذا التّصوّر إلى اعتبار الإنسان كائنًا مادّيًا ليس إلّا، مع


 


[1] الإعداد.

 

315


256

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

فارق أنّ هذا الموجود المادّي بلغ في مسار التحوّلات المادّيّة أعلى صيغة من التّكامل يُمكن أن تبلغها المادّة.

 

فالحياة وفق هذا التّصوّر، سواء في النباتات، أو في الحيوانات التي تُعبّر عن رتبة أعلى من التي سبقتها، أو في الإنسان حيث تبلغ أرفع مراتبها، ما هي سوى تجلٍّ للتّكامل الذي صارت إليه المادّة تدريجيًّا عبر مسار تحوّلاتها.

 

النتيجة التي يُفضي إليها هذا التّصوّر، أنّه ليس هناك عنصر آخر غير العناصر المادّيّة يدخل في النّسيج الوجوديّ لهذا الكائن.

 

كما أنّ أيّ مظهر خلّاق وعجيب ينطوي عليه الموجود الإنسانيّ كالنشاط الرّوحيّ والفعاليّات المعنويّة والقوى المبدعة مثلًا، إنّما يصدر عن هذا النّسيج المادّيّ وحده.

 

جرياً وراء هذا المنطق، ينبغي أن يكون الإنسان الأوّل في خطّ الخليقة، هو في أدنى مراتب الإنسانيّة، ثم غدا أكثر تكاملًا كلّما امتدّ به الشّوط وتقدّم إلى الأمام. ولا فرق في هذا المعنى بين أن نأخذ بنظر الاعتبار التصوّر الذي يقول بخلق الإنسان من الأرض مباشرة، وبين التصوّر المعاصر الذي يذهب إليه بعض السّادة، ويُصاغ فرضيّة فحواها أنّ الإنسان الأوّل كائن منتخب من موجودات أدنى منه رتبة، ومتحوّل عن طبقة (سلالة) أوطأ، بحيث ينتهي أصله إلى الأرض، لا أنّه منبثق من الأرض مباشرة[1].

 

ماهيّة الإنسان الأوّل في القرآن الكريم

عندما نعود إلى المعتقدات الإسلاميّة والقرآنيّة، نجد أنّ نظرتنا إلى الإنسان الأوّل تصدر عن رؤية تضعه في مقام أعلى ممّا وصل إليه كثيرون من بعده، بل هو أكثر تكاملًا حتّى من الإنسان المعاصر. ففي اللحظة التي وطئ فيها ذلك

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص212 - 213.

 

316


257

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

فارق أنّ هذا الموجود المادّي بلغ في مسار التحوّلات المادّيّة أعلى صيغة من التّكامل يُمكن أن تبلغها المادّة.

 

فالحياة وفق هذا التّصوّر، سواء في النباتات، أو في الحيوانات التي تُعبّر عن رتبة أعلى من التي سبقتها، أو في الإنسان حيث تبلغ أرفع مراتبها، ما هي سوى تجلٍّ للتّكامل الذي صارت إليه المادّة تدريجيًّا عبر مسار تحوّلاتها.

 

النتيجة التي يُفضي إليها هذا التّصوّر، أنّه ليس هناك عنصر آخر غير العناصر المادّيّة يدخل في النّسيج الوجوديّ لهذا الكائن.

 

كما أنّ أيّ مظهر خلّاق وعجيب ينطوي عليه الموجود الإنسانيّ كالنشاط الرّوحيّ والفعاليّات المعنويّة والقوى المبدعة مثلًا، إنّما يصدر عن هذا النّسيج المادّيّ وحده.

 

جرياً وراء هذا المنطق، ينبغي أن يكون الإنسان الأوّل في خطّ الخليقة، هو في أدنى مراتب الإنسانيّة، ثم غدا أكثر تكاملًا كلّما امتدّ به الشّوط وتقدّم إلى الأمام. ولا فرق في هذا المعنى بين أن نأخذ بنظر الاعتبار التصوّر الذي يقول بخلق الإنسان من الأرض مباشرة، وبين التصوّر المعاصر الذي يذهب إليه بعض السّادة، ويُصاغ فرضيّة فحواها أنّ الإنسان الأوّل كائن منتخب من موجودات أدنى منه رتبة، ومتحوّل عن طبقة (سلالة) أوطأ، بحيث ينتهي أصله إلى الأرض، لا أنّه منبثق من الأرض مباشرة[1].

 

ماهيّة الإنسان الأوّل في القرآن الكريم

عندما نعود إلى المعتقدات الإسلاميّة والقرآنيّة، نجد أنّ نظرتنا إلى الإنسان الأوّل تصدر عن رؤية تضعه في مقام أعلى ممّا وصل إليه كثيرون من بعده، بل هو أكثر تكاملًا حتّى من الإنسان المعاصر. ففي اللحظة التي وطئ فيها ذلك

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص212 - 213.

 

316


258

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

الإنسان عالم الوجود، كان يحمل معه عنوان خلافة الله. وبتعبيرٍ آخر: جاء ذلك الإنسان في مرتبة النبوّة.

 

وفي ضوء المنطق الدّينيّ، تستحقّ هذه النّقطة التأمُّل، لماذا جاء الإنسان الأوّل على الأرض نبيًّا وحجّة لله، في حين أنّ هذا المسار يخضع لقناعة ترى أنّ النبوّة تنبثق كثمرة للخطّ العاديّ في مسير التكامل، إذ يجب أن يوجد الكيان الإنسانيّ بادئ الأمر، ثمّ يقطع شوطه نحو الرّقيّ والكمال بعد مراحل يطويها، وبعدئذٍ يُصار إلى انتخاب أحد أفراده للنبوّة والرسالة؟

 

وموضع التأمّل هو هذا الفارق بين التصوّر الآنف لانبثاق النبوّة والنبيّ، وما عليه المعتقد الإسلاميّ - القرآني من أنّ الإنسان الأوّل جاء إلى الوجود وهو حجّة ونبيّ.

 

القرآن الكريم يضع الإنسان الأوّل ذاك في مقام شامخ جدًّا، وهو يقول فيه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء﴾.

 

لقد ورد بشأن الإنسان الأوّل تعبير: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[1]، وهو يشعر بدخالة عنصر علويّ في التركيب الوجوديّ لهذا الكائن، غير العناصر المادّيّة. أي إنّ بنية هذا الموجود تختصّ بشيء من عند الله، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه من موضع الخلافة المشار إليه في قوله -تعالى-: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.

 

وبهذا تنطوي الرؤية القرآنيّة على معطىً عظيم إزاء الإنسان، بحيث حمل الإنسان الأوّل، الذي وطئت قدماه هذا العالم، عنوان حجّة الله، ونبيّ الله، والموجود الذي له صلة بعالم الغيب وارتباط بالسماء.


 


[1] سورة البقرة، الآيتان 30 - 31.

 

317


259

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

والكلام الصادر عن أئمّتنا حول الإمامة يرتكز على هذا المبدأ في أصالة الإنسان، وذلك في المعنى الذي يدلّ على أنّ الإنسان الأوّل في خطّ الخليقة حمل المواصفات المشار إليها آنفًا، وسيأتي الإنسان الأخير على الخطّ، متحلّيًا بالخصائص ذاتها. وبين الإنسان الأوّل والإنسان الأخير لن يخلو العالم الإنسانيّ أبدًا من كائنٍ بشريّ من هذا الطّراز، يحمل روح: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. هذا في الأساس، هو المحور في قضيّة الإمامة.

 

يتفرّع على الأصل الآنف أن يكون سائر أفراد النّوع الإنسانيّ وكأنّهم في وجودهم فرع لوجود ذلك الإنسان، بحيث إن لم يوجد مثل ذلك الإنسان، فلن يكون متاحًا أبدًا وجود بقيّة أفراد النّوع البشريّ.

 

مثل هذا الإنسان يُعبَّر عنه بـ "حجّة الله"، وهو المعنيُّ بالقول: "اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّه بِحُجَّةٍ"[1] الوارد في نهج البلاغة، وفي كتب كثيرة أُخرى[2].

 

ضرورة الإمامة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام

يقول كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحر، تنفّس الصعداء، ثم قال: "يا كميل بن زياد، إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لك".

 

ثم قسّم له الناس أوّلاً وفق التصنيف الذي عُرف عنه، فقال: "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ..."[3].

 

ما ينبغي الالتفات إليه في هذا الكلام، هو أنّ من يصفه الإمام بالعالم الربّانيّ، هو غير الوصف الذي نُطلقه نحن على أيّ عالم بدواعي المجاملة. فمراد

 


[1]  سورة الحجر، الآية 29.

[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 147، ص497.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص214 - 216.

 

318


260

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

الإمام عليه السلام هو العالم الذي يكون ربّانيّاً حقّاً وخالصاً في انتسابه إلى الله، وهذا الوصف قد لا يصدق سوى على الأنبياء والأئمّة.

 

ثم إنّ صيغة التعبير في الصنف الثاني - حيث أضحى المتعلّم في مقابل ذلك العالم الربّانيّ - تُشعر أنّ المقصود من العالم في الصنف الأوّل، هو الذي لم يتعلّم من بشر.

 

وعليه يكون المتعلّمون في الصنف الثاني، هم تلامذة علماء الصنف الأوّل، والمستفيدين منهم.

 

أمّا الصّنف الثّالث فهم همجٌ رعاع، جاء في وصف الإمام لهم أنّهم: "لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق".

 

ثمّ يبدأ أمير المؤمنين عليه السلام بعد ذلك يشكو أهل الزّمان، وأنّه يحمل علمًا كثيرًا لا يُصيب له حملة: "هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً (وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى صَدْرِه) لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً"[1]، بيدَ أنّه سرعان ما يُشير مستدركًا إلى أنّه أصاب من الرّجال من كان لقِنًا يفهم بسرعة، ولكن لا يُؤمَنُ عليه، لاستعماله آلة الدّين للدّنيا.

 

وإلى جوار هذه الفئة، يُشير الإمام عليه السلام إلى فئةٍ أُخرى، وإن بدت حسنة في انقيادها لحمَلة الحقّ، إلّا أنّها لا بصيرة لها، تنساق وراء التّقليد، فلا تستوعب ما يُلقى إليها، أو أنّها تُخطئ في التلقّي فيُسارع إليها الشكّ[2].

 

يبدو كلام الإمام حتى الآن أنّه يبعث على اليأس تقريبًا من العثور على حمَلة للعلم. ولكنّه يعود في نهاية حديثه إلى كميل بن زياد للاستدراك بالقول: "اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّه بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً


 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 147، ص496.

[2] يقول الإمام عليه السلام في الإشارة إلى هاتين الفئتين: "بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْه، مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، ومُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّه عَلَى عِبَادِه وبِحُجَجِه عَلَى أَوْلِيَائِه، أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَه فِي أَحْنَائِه، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِه لأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، أَلَا لَا ذَا ولَا ذَاكَ". الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 147، ص496 (المترجم).

 

319


261

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّه وبَيِّنَاتُه، وكَمْ ذَا وأَيْنَ أُولَئِكَ أُولَئِكَ واللَّه الأقلّونَ عَدَداً، والأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّه قَدْراً، يَحْفَظُ اللَّه بِهِمْ حُجَجَه وبَيِّنَاتِه حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، ويَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ واسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَه الْمُتْرَفُونَ، وأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْه الْجَاهِلُونَ، وصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الأَعْلَى"[1].

 

ومراد الإمام عليه السلام أنّ حجّة الله لا يمضي عن هذه الدّنيا من دون أن يقول ما عنده وينقله إلى قلوب أشباهه الذين يتحلّون بالصفات الآنفة[2].

 

خصائص الإمام في كلام أمير المؤمنين عليه السلام

وفي وصف هؤلاء الذين يتلقّون من مبدأ ملكوتيّ أعلى، يقول عليه السلام: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة". فالعلم هو الذي هجم عليهم وليس العكس، وهذا المعنى يُشعر أنّ علمهم إفاضيّ، يهبهم البصيرة بمعناها الحقيقيّ، فلا يُداخل هذا العلم شيء من الخطأ والاشتباه، كما لا يُلامسه شيء من النقص.

 

وقوله: "وباشروا روح اليقين" يُفيد أنّ لهم اتّصالاً - بنحو ما - بالعالم الآخر. وما بدا خشناً وعراً على المترفين الذين أنِسوا الترف والملذّات والنعيم، كان سهلاً ليّناً عليهم. وإذا كان من الصعب على الإنسان المأنوس بالدّنيا وملذّاتها أن يخلو إلى الله ساعة، بل هذه الخلوة أصعب من كلّ شيء عليه، فإنّ أولئك يألفون هذه الخلوة ويأنسون بها، حتى كان من صفتهم أنّهم: "أنسوا بما استوحش منه الجاهلون".

 

هم مع الناس بأبدانهم وفي الوقت نفسه تهفو أرواحهم إلى أُفق أرفع، وهي معلّقة بالمحلّ الأعلى. فالناس تتصوّرهم، وهم معهم، أنّهم بشر مثلهم، إلّا أنّهم لم يخبروا باطنَهم: "وصحبوا الدّنيا بأبدانٍ أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى".


 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 147، ص497.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص216 - 218.

 

320


262

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

هذا هو المنطق الذي يعكس روح الإمامة ولبّها، وفي كتاب "الحجّة" من (الكافي)، باب بعنوان: "أنّه لو لم يبقَ في الأرض إلّا رجلان لكان أحدهُما الحجّة"[1]، أي يكون أحدهما إنساناً في مثل هذه الصفات، تماماً كما كان أوّل إنسان وطئت قدماه الأرض.

 

والنقطة الأساس في هذا المجال، أنّ بقيّة مسائل هذا الباب - من قبيل أنّه يجب على الإمام أن يحكم بالعدل بين الناس، أو أن يكون مرجعاً لاختلافاتهم في أُمور الدين- إنّما هي فرع لذلك الأصل وتابعة وقائمة به، وليس العكس، أي لا يُصار إلى وجوب الإمام وضرورة الإمامة، من واقع حاجة الناس إلى حكم الإمام. ومن هنا فإنّ ضرورة الحكم لا تولّد ضرورة الإمام، بل إنّ الإمامة أرفع شأناً وأجلّ مقاماً من هذا الكلام.

 

وفق هذا المنطق، تعود هذه المسائل -كمسألة الحكم وما شابهها - لتُصبح استفادات استتباعيّة تنطلق من مثل تلك الإمامة[2].

 

ضرورة الإمام وخصائصه في كلام الإمام الصّادق عليه السلام

هناك رواية تتّصل بالأنبياء والرسل، صدرت عن الإمام الصادق عليه السلام في جوابه للزنديق[3]، الذي سأله: من أين أثبَتَّ الأنبياء والرسل؟ فأجابه الإمام مرتكزًا على


 


[1] في هذا الباب خمسة أحاديث تتوحّد في المضمون وتتشابه في النص تقريباً؛ منها: "لو لم يبق في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة"؛ "لو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان الإمام أحدهما". وفيه أيضاً: "لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام". وقال: "إنّ آخر من يموت الإمام لئلّا يحتجَّ أحد على الله -عزّ وجلّ-، أنّه تركه بغير حجّة عليه". الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص179 (المترجم).

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص218 - 220.

[3] لم تكن كلمة "الزنديق" آنذاك مظلَّلة بإيحاءات سلبية تنمّ عن الفحش والبذاءة، كما هي في استخدامها اليوم. بل كانت في ذلك العصر عنواناً لمجموعة تُعرف بهذا الوصف، ولم يكن أولئك يستشعرون الفحش أو البذاءة منها، وهي أشبه ما تكون في عصرنا الراهن بـ"المادّيّة". طبيعي أنّ الإنسان الموحّد لا يرضى لنفسه هذا الوصف ولا يرتاح إليه، على عكس الإنسان المادّيّ الذي يفخر بانتسابه إلى المادّيّة. أمّا بشأن كلمة الزنديق فقد قيل فيها الكثير، وعمدة ما ذكروه أنّ الزنادقة كانوا مانويين، ظهروا أوائل القرن الهجري الثاني الذي يُعدّ قرن الإمام الصادق عليه السلام.

لقد بحث كثير من الدارسين الأُوربيين وغيرهم في جذور الزندقة في الإسلام، وكان أهمّ ما انتهوا إليه أنّها تعبير عن الاتجاه المانوي؛ على أنّ دين (ماني) لم يكن من ضروب الأديان المضادّة لله، بل ذهب ماني نفسه إلى حدِّ ادّعاء النبوّة، بيدَ أنّه لم يكن توحيدياً بل كان ثنوياً. لقد كان ماني أكثر ثنوية من زرادشت، حتى رجّح كثيرون أن يكون زرادشت موحِّداً، أو معتقداً على الأقلّ بالتوحيد الذاتي، إذ يبدو أنّه لا يمكن إثبات توحيد الخالقية من كلماته. ولكنه على أي حال، كان يعتقد بمبدأ أزليّ للعالم كلّه. أمّا ماني فقد كان ثنوياً جزماً، وكان يعتبر نفسه نبيّاً عن إله الخير، ولكن الذي حصل أنّ المانويين الذين ظهروا بعده مالوا نحو الاتّجاه الطبيعي والمادي، حتى غدوا لا يعتقدون بشيء من الأساس (المترجم).

 

321


263

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

معنى التّوحيد ومنطلقًا منه: "إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقًا صانعًا متعاليًا عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصّانع حكيمًا متعاليًا لم يجز أن يُشاهده خلقه، ولا يُلامسوه، فيُباشرهم ويُباشروه، ويُحاجّهم ويُحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه، يُعبّرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه"[1].

 

في ضوء هذا النصّ، يجب أن يوجد إنسان له، من جهة، خاصّيّة الاتّصال بالله اتّصالاً يُمكّنه من تلقّي الوحي، ويكون بمقدورنا من جهةٍ ثانية أن نتّصل به ونباشره.

 

ثم يقول الإمام في صفتهم: "حكماء مؤدَّبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق". فهم وإن اشتركوا مع بقيّة الناس في الخلق والتركيب، إلّا أنّهم يجب أن يفترقوا عنهم في قسم من الجهات، إذ هم ينطوون على جنبة علويّة، بحيث يجب أن يتخلّل وجودهم روح علويّة.

 

وفي شطرٍ آخر من كلامه يقول الإمام في صفتهم: "مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة". ثمّ يُشير عليه السلام إلى لزوم وجود هذه الوسائط في كلّ الأزمنة، بقوله: "ثمَّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان" لماذا؟ "لكي لا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته"[2]،[3].

 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص168.

[2] المصدر نفسه.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص220 - 222.

 

322


264

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

المفاهيم الرئيسة

•        الإنسان الأوّل في النظريّة المادّيّة هو إنسان في أدنى مراتب الإنسانيّة وهو موجودٌ أرضيّ بالكامل، وقد بلغ في مسار التحوّلات المادّيّة أعلى صيغة من التّكامل يُمكن أن تبلغها المادّة.

 

•        الإنسان الأوّل في النظريّة القرآنيّة هو حجّة الله ونبيّ الله، والكلام الصّادر عن أئمّتنا حول الإمامة يرتكز على هذا المبدأ في أصالة الإنسان، فبين الإنسان الأوّل والإنسان الأخير لن يخلو العالم الإنسانيّ أبدًا من كائنٍ بشريّ من هذا الطّراز، يحمل روح: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.

 

•        لا يُصار إلى وجوب الإمام وضرورة الإمامة، من واقع حاجة الناس إلى حكم الإمام. فإنّ ضرورة الحكم لا تولّد ضرورة الإمام، بل إنّ الإمامة أرفع شأناً وأجلّ مقاماً.

 

•        يثبت الإمام الصّادق عليه السلام ضرورة الحجّة من خلال قوله: "ثمَّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان، لكي لا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته".

 

•        يذكر الإمام الصّادق عليه السلام صفات هؤلاء الحجج فيقول إنّهم: "حكماء مؤدَّبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق".

 

323

 


265

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

الدرس السادس والعشرون

الإمامة في الحديث (2)

إمامة أمير المؤمنين عليه السلام

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى إمامة أمير المؤمنين من خلال حديث إمرة المؤمنين.

 

2. يُحلّل واقعة يوم الإنذار في دلالتها على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.

 

3. يتعرّف إلى إمامة أمير المؤمنين من خلال حديثي الغدير والمنزلة.

 

325

 


266

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

إمامة أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث

ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبًا أصحابه: "سلِّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين"[1]. وهذا النّصّ يرتبط بواقعة يوم الغدير.

 

معلومٌ أنّ الجملة المشهورة في حديث الغدير: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"[2]، تُروى بشكلٍ منفصل، وأهل السنّة لا يعتقدون من جهتهم بتواتر هذا النصّ عن النبيّ، وأنّه قال: "سلِّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين".

 

لقد سعى علماء الشّيعة بعد ذلك لإثبات تواتر مثل هذه الأحاديث. أمّا في "التّجريد" فقد أرسل الطّوسيّ هذا النصّ إرسال المسلّمات، ولم يتعدَّه إلى ذكر شيءٍ آخر، في حين اعترض الشّارح ملّا عليّ القوشـچي بأنّهم لا يقبلون بتواتر الحديث، بل كلّ ما هناك أنّه خبرٌ واحد، نقله البعض ولم يتّفق على نقله الجميع.

 

لقد بذل مؤلّفو كتب من قبيل موسوعتي العبقات والغدير، جهودهم لإثبات تواتر الحديث. ففي هاتين الموسوعتين -على الأخصّ موسوعة الغدير- تمّ تقصّي رواة الحديث ونقَلَتِه في كلّ طبقة من طبقات المسلمين منذ القرن الأوّل حتّى القرن الرابع عشر، اعتمادًا على مصادر أهل السنّة. فمن الصّحابة ذكروا أنّ رواة الحديث زادوا على السّتّين صحابيًّا، جاؤوا على ذكرهم بأسمائهم، ثمّ انتقلوا إلى


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص292.

[2] حول مصادر حديث الغدير، يراجع: الأميني، الشيخ عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج1، ص11.

 

327


267

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

رواة الحديث من التّابعين الذين سمعوا من الصّحابة، وتختصّ هاتان الطّبقتان بالقرن الهجريّ الأوّل تقريبًا.

 

وقد تمّ تقصّي رواة الحديث وتتبّعهم في القرون التالية طبقة طبقة. والشّيء الحسن الذي فعله صاحب موسوعة الغدير، أنّه استفاد في تقصّيه من البعد الأدبيّ. ففيما اكتفت كتب من قبيل "العبقات" بالتمسّك بنقل الحديث وذكر رواته في كلّ قرن، نجد أنّ "الغدير" لاحظ الجانب الأدبيّ أيضًا، ذلك أنّ الشعر في كلّ عصر يعكس قضايا مجتمعه في ذلك العصر، ويبرز الشعراء ما يكتنف مجتمعهم ويدور في زمانهم.

 

ومنطق الكتاب أنّ واقعة الغدير لو كانت من بناة القرن الرابع الهجري، لما انعكست في الممارسة الشعريّة في القرون الأوّل والثاني والثالث، وحين نجد أنّه في كلّ قرن برز شعراء أنشدوا في الغدير، فكيف يُتاح لنا إنكار هذا الحديث؟

 

وهذا المسلك يُعبِّر عن نهج جيّد في البحث التاريخيّ، إذ كثيرًا ما نستعين بالأدب لإثبات الوجود الخارجي لبعض القضايا في التاريخ. وعندما نلمس أنّ الأُدباء يعكسون بأجمعهم فكرة معيّنة، نعرف أنّ لهذه الفكرة وجودًا وموضوعًا متحقّقًا في الخارج.

 

ومن النّصوص الأخرى الدالّة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "أنت الخليفة بعدي"[1]،[2].

 

واقعة يوم الإنذار

ثمّة واقعة أخرى ترتبط بأوائل البعثة، حين نزل على النبيّ الأكرم قوله -تعالى-: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[3]، حيث لم يكن النبيّ قد أعلن عن دعوته بين الناس عامّة، وكان عليّ عليه السلام ما يزال فتىً يعيش مع النبيّ في بيته.


 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج23، ص125؛ ج26، ص349.

[2] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص108 - 111.

[3] سورة الشعراء، الآية 214.

 

328


268

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

يروي العديد من أهل السير أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليًّا عليه السلام وقال له: "يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لنا صاعاً من طعام، ثمّ اجمع لي بني هاشم وبني عبد المطّلب".

 

أعدَّ عليٌّ غذاء القوم، وكان لحم شاة وعسّاً[1] من اللبن. لمّا أكلوا وشبعوا وأراد النبيّ أن يُحدّثهم بادره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لقدّ ما (لشدّ ما) سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يُكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

أمر النبيّ عليّاً من الغد أن يُعِدَّ الطّعام ثانيّا ويجمع القوم ليُحدِّثهم، ففعل عليّ ما أمره به النبيّ، يقول عليه السلام: "فعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه" حتى إذا ما أكلوا وشبعوا بأجمعهم، تحدَّث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به. إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة، وقد أمرني الله -تعالى- أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟".

 

أحجم القوم عنه جميعاً غير عليّ عليه السلام. فأعاد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحجموا أيضاً ولم يُجِبْه إلّا عليّ. فأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برقبته، ثم قال: "إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم"[2].


 


[1] العُسّ: القدح الكبير، والجمع عساس، وأعساس وعِسَسَة (الإعداد).

[2] لقد ذكر الشهيد رحمه الله الحديث بالمعنى لا بالنصّ، ولمراجعة مصادر الحديث يمكن العودة إلى: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1386هـ.ق - 1966م، لا.ط، ج2، ص62؛ الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403هـ.ق - 1983م، ط4، ج2، ص319؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج3، ص254؛ ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، مصدر سابق، ج5، ص250؛ فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، مصدر سابق، ج12، ص26؛ جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور، مصدر سابق، ج3، ص105-106 (المترجم).

 

329


269

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

حديث الغدير

من النّصوص الأخرى - ذات الدلالة القويّة - التي استدلّ بها الشّيعة على إمامة أمير المؤمنين حديث الغدير، وهم يعتقدون أنّ هذا الحديث بلغ حدًّا لا يُمكن معه احتمال القول بتواطؤ ناقليه على الكذب، إذ لا يُمكن الزّعم مثلًا أنّ أربعين رجلًا من صحابة النبيّ توافقوا على نقل خبرٍ مكذوب واحد، خصوصًا وأنّ بين نقلة حديث الغدير مَن يُعدّ في أعداء الإمام عليّ عليه السلام أو ممّن لا يدخل في صفوف مؤيّديه على أقلّ تقدير.

 

نعم، لو كان جميع نقلة حديث الغدير من طراز سلمان وأبي ذر والمقداد، أي من الشّخصيّات التي تدور في فلك الإمام، لكان يُمكن احتمال توافقهم على مثل هذا النقل وتواطئهم عليه بحكم علاقتهم الوطيدة بعليٍّ عليه السلام. أمّا وإنّ في نَقَلة الخبر من لم يبدُ له صلة وارتباط، ولم يُظهر ميلًا للإمام عليه السلام، فإنّ مثل هذا الاحتمال منتفٍ.

 

ونقطة الاختلاف في المسألة، أنّ أشخاصًا من قبيل الملّا علي القوشـچـى مثلًا يذهبون إلى القول بأنّ حديث الغدير هو خبرٌ واحدٌ لم يبلغ حدّ التّواتر، في حين ترفض الشّيعة ذلك، وتقول بتواتره، وتستدلّ على ذلك بكتبٍ مصنّفة في الموضوع.

 

لقد كانت حجّة الوداع آخر حجّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد دعا صلى الله عليه وآله وسلم الناس للخروج معه إلى مكّة في هذا الحجّ، فاجتمع الكثير منهم، وخطب بهم في مواقع مختلفة، في المسجد الحرام، وعرفات، ومنى، وخارج منى، وفي غدير خم وغيرها من المواطن.

 

ومن بين المواطن التي خطب بها النبيّ، هي خطبته في غدير خم، وقد كانت آخر الخطب وأكثرها شدّة وكثافة. سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الجمعَ: "ألستُ أولى بكم من

 

330

 


270

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

أنفسكم؟ - إشارة إلى قول الله -تعالى-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[1] - قالوا: بلى. قال: مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"[2].

 

من الواضح أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يُعطي لعليّ عليه السلام نفس الأولويّة التي له على النّفوس بحكم قوله -تعالى-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[3].

 

حديث المنزلة

ومن الأحاديث الأخرى التي يُستدلُّ بها ويقال بتواترها[4] هو حديث المنزلة. وممّن عُني بهذا الحديث في مصنّفات الشيعة، علماء من نظير مير حامد حسين في "العبقات" والأميني في "الغدير"، حيث خصّص صاحب العبقات كتابًا كاملًا له.

في هذا الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي"[5]. لقد قال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وهو متوجّه نحو غزوة تبوك. وغزوة تبوك لم يجرِ فيها قتال، وإنّما كانت تجهّزًا واستعدادًا وتحرّكًا من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم انتهى بدون قتال.

 

لقد هدف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم -بتعبير السّياسيّين- إلى أن يظهر قوّته ويُعلن عن استعداده بهذه الطّريقة، بحيث قاد الجيش إلى حدود الرّوم ثمّ رجع إلى المدينة.

 

وفي هذه الغزوة لم يأخذ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا عليه السلام معه، بل تركه ليخلفه في المدينة. وقد فسَّر علماء الشيعة الموقف النبوّي هذا، على أساس علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدم وقوع القتال في هذه الغزوة.


 


[1]  سورة الأحزاب، الآية 6.

[2] الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم المشرّفة، 1403هـ.قـ، لا.ط، ج1، ص311.

[3] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص115 - 116.

[4] كما ذكر الخواجة نصير الدين الطوسي.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص107.

 

331


271

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

لقد ضاق صدر الإمام عليّ عليه السلام ببقائه في المدينة بعد أن أرجف المنافقون وقالوا: ما خلّفه إلّا استثقالاً له، فلمّا لحق بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بمقالة المنافقين، وهو ما يزال في الجرف على أطراف المدينة، قال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أما ترضى أن تكون (أو: أنت) منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي"[1].

ومعنى الحديث أنّ كلّ ما كان لهارون بالنسبة إلى موسى عليهما السلام فهو لعليّ عليه السلام بالنسبة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما عدا النبوّة.

 

وعندما نرجع إلى القرآن لننظر ما لهارون بالنسبة إلى موسى عليه السلام، نجد أن القرآن نقل على لسان الكليم عليه السلام قوله: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي﴾ والوزير يعني المعين في الأصل، والوِزْر يعني الثقل. فمراد موسى عليه السلام أن يتحمّل عنه هارون عليه السلام شيئًا من الثّقل، وقد ظهر فيما بعد تعبير (الوزير) في الاصطلاح المعروف لمعاون الملك.

 

لم يقتصر موسى عليه السلام على هذا الطلب، بل اقترح الوزير فسمّى أخاه، حيثُ قال عليه السلام فيما يُعبِّر عنه بقيّة الذكر الحكيم: ﴿هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾[2].

 

وفي موضع آخر من كتاب الله، نقرأ قول موسى عليه السلام لهارون بعد تلك الواقعة: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾[3].

 

لذلك، عندما يُخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام بقوله: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" فهو يُعبِّر عمّا كان لهارون نسبةً إلى موسى، وجميعه ممّا ذكره القرآن (أي أن يكون وزيره، وشريكه بالأمر، وخليفته في قومه)، باستثناءٍ واحدٍ عبَّر عنه قوله: "إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي".


 


[1]  راجع: البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1401هـ - 1981م، لا.ط، ج4، ص24؛ وقد نص عليه في البخاري في: ج5، ص3: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليّاً، قال: "أتخلّفني في الصبيان والنساء"؟ قال: "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي". وراجع: مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، مصدر سابق، ج4، ص187؛ الهيثمي المكي، الصواعق المحرقة، مصدر سابق، ص121 (المترجم).

[2] سورة طه، الآيات 30 - 34.

[3] سورة الأعراف، الآية 142، تمام الآية: ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.

 

332


272

الدرس الخامس والعشرون: الإمامة في الحديث (1)

ولو لم تكن هذه العبارة: "إلّا أنّه لا نبيّ بعدي" لأمكن القول إنّ مراد النبيّ هو أمر واحد من الأمور المشار إليها، وإنّ المقصود هو التشبيه بأمرٍ بالخصوص. ولكن عندما استثنى النبوّة، فقد أراد جميع الشؤون[1].

 

إشكال

نحنُ نعتقد أنَّ الإمامة هي إمامة للدين والدّنيا، وهذا الموقع هو ممّا يختصّ بالإمام عليّ وفق الأدلّة المذكورة. والسؤال: لماذا تباطأ الإمام عن قبول البيعة عندما طلبوا منه ذلك بعد مقتل عثمان، في حين لم يكن الوقت وقت تباطؤ، بل كان يجب عليه أن يقبل ذلك تلقائيّاً؟

 

الجواب:

يتَّضح الجواب من خلال كلمات الإمام أمير المؤمنين نفسه. فعندما جاؤوا يُبايعونه، قال لهم عليه السلام: "دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوان". فهو يذكر أنّ الأمر ينطوي على وجوه لا على وجهٍ واحد.

 

ثمّ يقول: "إنّ الآفاق قد أغامت والمحجّة قد تنكّرت" والمراد أنّ الطريق الواضح الذي عيّنه النبيّ، بات اليوم مجهولاً غير معروف، والفضاء متلبّد بالغيوم.

 

بعد ذلك ينعطف الإمام ليذكر: إذا أردتُ أن أحكمكم: "ركبتُ بكم ما أعلم" فأنا أعمل بما أعلم لا بما تهوى أنفسكم.

 

يوضّح هذا النصّ أنّ أمير المؤمنين كان يرى بوضوح تامّ أنّ الأوضاع في تلك اللحظة كانت مختلفة تماماً عمّا كانت عليه في عهد النبيّ، والفارق بينهما كالمسافة بين الأرض والسماء. وهذا الذي كان يراه الإمام أمير المؤمنين بوضوح تامّ، كان ثابتاً من الوجهة التاريخيّة، ثبوتاً راسخاً لا يُداخله ريب، فالأوضاع قد تغيّرت بشكل مذهل، وانتهت إلى خراب.


 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص117 - 120.

 

333


273

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

وما قاله الإمام عليه السلام صدر عنه لإتمام الحجّة على القوم، لأنّ البيعة تعني أخذ العهد عليهم بالطاعة والاتّباع.

 

ثمّة واقعة يُجمع على ذكرها الشيعة والسنّة قاطبةً. فبعد أن عيَّن عمر أصحاب الشورى، وكان الإمام عليّ عليه السلام أحدهم، انحاز ثلاثة منهم إلى الثلاثة الآخرين، فعزل الزبير نفسه لصالح عليّ عليه السلام، وطلحة لعثمان، وسعد بن أبي وقاص لعبد الرحمن بن عوف. عندها أعلن عبد الرحمن أنّه لا حاجة له بالأمر، فبقي اثنان: عليّ عليه السلام وعثمان. وأصبح الترجيح بيد عبد الرحمن بن عوف، فمن يختاره هو الخليفة.

 

عرض عبد الرحمن على الإمام أمير المؤمنين في بادئ الأمر مبايعته بشرط العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين. إلّا أنّ الإمام أبدى استعداده لقبول الخلافة على شرط العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فقط. فما كان من عبد الرحمن إلّا وأن عرض على عثمان ما عرضه على أمير المؤمنين، فرضي عثمان بالشرط، وأصبح خليفة على المسلمين.

 

عندما يكون موقف الإمام عليّ عليه السلام أمام الأمة أنّه يرفض الالتزام بسيرة سلفيه، فمن الطبيعيّ أن يذكر لها أنّه إذا أمسك بأزمّة الحكومة فإنّه سيسير بما يعلم، لا بما تشتهيه أنفسهم.

 

وبهذا يتَّضح أنّ كلام الإمام أمير المؤمنين لم يكن معناه رفض الحكومة، بقدر ما كان الهدف منه إتمام الحجّة[1].

 


[1] الشهيد مطهّري، الإمامة، مصدر سابق، ص153 - 156 (صاحب الإشكال هو أحد الحضور).

 

334


274

الدرس السادس والعشرون: الإمامة في الحديث (2)

المفاهيم الرئيسة

•        استدلّ الشيعة بمجموعة من الأحاديث على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.

 

•        من تلك الأحاديث قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين" الذي يرتبط بواقعة الغدير.

 

•        طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة يوم الإنذار مؤازرته على رسالته، على أنْ يكون من يؤازره وصيّه وخليفته من بعده ولم يُجبه لذلك أحد سوى أمير المؤمنين عليه السلام.

 

•        إنّ حديث الغدير بلغ حدًّا لا يُمكن معه احتمال القول بتواطؤ ناقليه على الكذب، خصوصًا وأنّ بين نقلة الحديث مَن يُعدّ في أعداء الإمام عليّ عليه السلام أو ممّن لا يدخل في صفوف مؤيّديه على أقلّ تقدير.

 

•        قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى"، وهو من الأحاديث التي تُثبت أنّ لعليٍ عليه السلام كلّ الشّؤون التي كانت لهارون بالنسبة إلى موسى عليه السلام ما عدا النبوّة.

 

 

335

 


275

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

الدرس السابع والعشرون

الإمام المهديّ عجل الله تعالى

فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى وجود نوعين من انتظار الفرج والتطلّع إلى مستقبلٍ أفضل.

 

2. يشرح حركة التاريخ كما يعرضها القرآن الكريم.

 

3. يحلّل النظريّة الديالكتيكيّة في تفسير أحداث التاريخ وحركته التكامليّة.

 

 

337


276

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

تمهيد

تُجمع الفِرق والمذاهب الإسلاميّة - مع اختلافٍ طفيفٍ بينها - على حتميّة انتصار قوى الحقّ والعدالة والسّلام في صراعها مع قوى الباطل والظّلم والعدوان في نهاية المطاف، وتؤمن بغدٍ يشعّ فيه نور الإسلام على جميع ربوع المعمورة، وتسود فيه القيم الإنسانيّة سيادة تامّة، ويتحقّق ظهور المدينة الفاضلة والمجتمع الأمثل.

 

ويجمع المسلمون أيضًا على أنّ هذه الآمال الإنسانيّة الكبيرة ستتحقّق على يد شخصيّة مقدّسة أطلقت عليها الرّوايات الإسلاميّة اسم "المهديّ".

 

هذه الفكرة تنطوي، قبل كلّ شيء، على نظرة تفاؤليّة تجاه المسير العامّ للنّظام الطّبيعيّ وتجاه مسيرة التّاريخ، وتبعث الأمل في المستقبل، وتزيل كلّ النّظرات التّشاؤميّة بالنّسبة إلى ما تنتظره البشريّة في آخر تطلّعاتها[1].

 

انتظار الفرج

الأمل في تحقّق هذا الهدف الإنسانيّ العالميّ ورد في الرّوايات الإسلاميّة بعبارة "انتظار الفرج" واعتبر الإسلام هذا الانتظار عبادة بل من أفضل العبادات.


 


[1] مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة تراث وآثار الشهيد مرتضى مطهّري - أنسنة الحياة في الإسلام، دار الإرشاد، لبنان - بيروت، 2009م، ط1، ص402.

 

339


277

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

يمكن استنباط مبدأ انتظار الفرج من مفهومٍ قرآنيّ آخر هو "حرمة اليأس من روح الله".

 

وإنّ انتظار الفرج والتطلّع إلى مستقبلٍ أفضل، على نوعين، الأوّل: انتظار مثمر وبنّاء، والثّاني: انتظار هدّام، يؤدّي إلى الوقوع في الأغلال وشلّ الطاقات.

 

هذان النّوعان من الانتظار ينطلقان من انطباعين أو تصوّرين مختلفين عن ظهور المهديّ الموعود. وهذان الانطباعان بدورهما ناشئان من نظريّتين متباينتين للتطوّرات والتغيّرات التاريخيّة[1].

 

النظريّات المفسّرة لأحداث التاريخ

هنا نظريّتان:

النظريّة الأولى: تقول إنّ أحداث التّاريخ هي سلسلة من الصّدف والاتّفاقات، أي إنّها لا تنضبط تحت قاعدة عامّة. هذه المقولة تعني: أنّ المجتمع عبارة عن مجموعة أفراد ذوي طبائع فرديّة شخصيّة. وما يقوم به هؤلاء الأفراد من نشاطات نابعة من دوافعهم الفرديّة الشخصيّة، يؤدّي إلى سلسلة من المصادفات. وهذه المصادفات بدورها تؤدّي إلى التغييرات التاريخيّة.

 

النظريّة الثانية: ترى أنّ للمجتمع وجوده وشخصيّته المستقلّة عن الأفراد، وله مسيرته التي تقتضيها طبيعته وشخصيّته. فشخصيّة المجتمع هي غير شخصيّة الأفراد، والشخصيّة الواقعيّة والحقيقيّة للمجتمع تركيب مكوّن من التّفاعل الثّقافيّ للأفراد كسائر التّراكيب المشهودة في الطّبيعة الحيّة والجامدة.

 

فالمجتمع، بناءً على هذا، له طبيعته وقواعده وضوابطه الخاصّة التي تؤطّر مسيرته، وهذه المسيرة، بكلّ ما فيها من أفعال، وردود أفعال إنّما تقوم على


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص403.

 

340


278

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

أساس قوانين كلّيّة عامّة. فلا يمكن أن يكون للتّاريخ فلسفة، ما لم يكن للمجتمع شخصيّة مستقلّة وطبيعة خاصّة[1].

 

التاريخ كما يعرضه القرآن الكريم

ينبغي أن نوضح المفهوم القرآني للمجتمع وأحداثه وتطوّراته قبل البحث في مسألة الانتظار.

 

ما هي طبيعة النّظرة القرآنيّة للتّاريخ؟ أهي نظرة فرديّة أم اجتماعيّة؟ هل ينطلق القرآن في طرح العبر والدّروس من حياة الأفراد أم من حياة الجماعات؟

 

وإذا كان القرآن يتّجه في سرده للتّاريخ إلى حياة الجماعات لا الأفراد، فهل هذا يعني أنّ القرآن يعتبر المجتمع شخصيّة مستقلّة مدركة، ذات قوّة وشعور مستقلّة عن حياة الأفراد؟

 

وإذا كان جواب السّؤال الأخير إيجابيًّا، فهل نستطيع أن نستنبط من القرآن الكريم السّنن والقوانين التي تحكم المجتمعات؟

 

نستطيع، هنا، أن نُشير بشكلٍ موجز جدًّا، إلى أنّ القرآن ينطلق في قسم من دروسه وعبره على الأقلّ من حياة الأمم والجماعات.

 

﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[2].

 

والقرآن يطرح مرارًا مسألة حياة الأمم وآجالها فيقول مثلًا: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾[3].

 

ويرفض القرآن الكريم بشدّة النّظرة العبثيّة للتّاريخ ويُشدّد على وجود قواعد


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص404 - 405.

[2] سورة البقرة، الآية 134.

[3] سورة الأعراف، الآية 34.

 

341


279

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

ثابتة دائمة لمسيرة الأمم والجماعات فيقول: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾[1].

 

يُشير القرآن إلى مسألة تربويّة هامّة في حقل القوانين التي تحكم التّاريخ حين يؤكّد أنّ البشريّة هي التي ترسم مصيرها بيدها عن طريق ما تقوم به من أعمال صالحة أم طالحة. وهذا يعني أنّ النظريّة القرآنيّة تذهب إلى أنّ قوانين المسيرة البشريّة ما هي إلّا سلسلة من ردود الفعل لما تفعله الأقوام والجماعات، وهي تؤكّد على وجود قوانين ونواميس كونيّة ثابتة لمسيرة التّاريخ، كما تؤكّد، في الوقت ذاته، على دور الإنسان وحرّيّته واختياره[2].

 

تفسير تكامل التّاريخ

علينا أن نُلقي الضّوء على الفرق بين النّظرة القرآنيّة في تفسير تكامل التّاريخ ونظرة بعض المدارس الفكريّة الأخرى، وأن نفهم، من خلال ذلك، دور الإنسان ومسؤوليّته لنستجلي من ذلك كلّه طبيعة "الانتظار الكبير" وكيفيّته[3].

 

النظريّات المفسّرة لحركة التاريخ التكامليّة

يُمكن تفسير تكامل التّاريخ بطريقتين مختلفتين بناءً على تبنّي النظريّة الثّانية في تفسير أحداث التاريخ ونفي الصدفة فيها:

1- الطّريقة الديالكتيكيّة أو الآليّة:

تُفسّر هذه الطّريقة تكامل التّاريخ على أساس الصّراع بين النقائض، بل يُفسّر أصحابها أجزاءَ الطّبيعةِ كلَّها على هذا الأساس. يقوم التّفسير الدّيالكتيكيّ للطّبيعة على الأسس الآتية:


 


[1] سورة فاطر، الآية 43.

[2] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص405 - 406.

[3] المصدر نفسه، ص407.

 

342


280

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

أوّلًا: الطّبيعة في حركة مستمرّة ودائمة، وليس فيها ما هو ساكن وثابت، والفكر أيضًا متغيّر باعتباره جزءاً من الطبيعة.

 

ثانيًا: كلّ جزء من أجزاء الطّبيعة يتأثّر بأجزاء الطّبيعة الأخرى ويؤثّر فيها.

 

ثالثًا: الحركة ناشئة من صراع النّقائض. وصراع النّقائض يأتي عن طريق اتّجاه كلّ ظاهرة نحو ضدّها ونقيضها، وهذه الظّاهرة تحمل نقيضها معها. فكلّ ظاهرة موجودة ومعدومة في آنٍ واحد، لأنّها تحمل عوامل عدمها وفنائها معها. ومع نموّ النّقيض يحتدم الصّراع بين الظّاهرة الأصليّة التي نريد الحفاظ على وضعها ووجودها، وبين نقيضها الذي يريد أن يُبدّلها إلى ضدّها.

 

رابعاّ: الصّراع بين النقائض، داخل الظواهر، يزداد شدّة باستمرار حتى يبلغ ذروته، أي إنّ التغيير الكمّيّ يزداد ليبلغ أقصى حدّ ممكن، وحينئذٍ تحدث طفرة ثوريّة في التغييرات الكمّيّة لتتحوّل إلى تغييرات كيفيّة، وينتهي الصّراع لمصلحة القوى الجديدة، وتندحر القوى القديمة ويتبدّل الشّيء بأجمعه إلى نقيضه.

 

تتلخّص هذه الطريقة، في فهم الطبيعة، في افتراض قضيّة أولى وجعلها أصلًا وهي ما يطلق عليها اسم "الأطروحة" ثم ينقلب هذا الأصل إلى نقيضه وهو "الطّباق" بحكم الصّراع في المحتوى الداخليّ بين المتناقضات، ثمّ يأتلف النقيضان في وحدة وهي "التركيب". وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلًا ونقطة انطلاق جديدة، وهكذا يتكرّر هذا التطوّر الثّلاثيّ وبهذا الشّكل تطوي الطّبيعة مراحل تكاملها.

 

فالطّبيعة ليست هادفة ولا تَنْشُدُ كمالها، بل تتّجه نحو انهدامها، لكن هذا الانهدام يحمل بدوره عنصر انهدامه، وكلّ نقيض يتّجه بدوره نحو نقيضه. ونفي النّفي نوع من التركيب الذي يؤدّي إلى دفع التّاريخ نحو التّكامل بشكل حتميّ وجبريّ.

 

343


281

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

والتّاريخ جزء من الطّبيعة، وهو لذلك يطوي مسيرة الطّبيعة نفسها على الرّغم من أنّ عناصر المسألة التاريخيّة هم أفراد البشر.

 

هذه النظريّة تذهب بعد ذلك إلى أنّ العمل الإنتاجيّ هو أساس حياة البشريّة والعامل المحرّك للتاريخ.

 

فالعمل الاجتماعيّ في أيّ مرحلة من مراحل التّاريخ يخلق نوعًا خاصًّا من العلاقات الاقتصاديّة بين الأفراد وهذه العلاقات الاقتصاديّة تؤدّي إلى انبثاق مجموعة من العلاقات الأخرى كالعلاقات السياسيّة والقضائيّة والعائليّة ونظائرها.

والعمل الإنتاجيّ لا يتوقّف على شكل معيّن، إذ إنّ الإنسان مزوّد بقدرة على تطوير وسائل الإنتاج يؤدّي إلى زيادة الإنتاج وإلى خلق جيل جديد يحمل أفكارًا جديدة متكاملة. أي إنّ هناك تأثيرًا متبادلًا بين الإنسان والآلة، الإنسان يخلق الآلة، والآلة تخلق الإنسان الجديد. ومن جهة أخرى، زيادة الإنتاج تؤدّي إلى إيجاد علاقات اقتصاديّة جديدة، ومن هذه العلاقات الاقتصاديّة الجديدة تنبعث مجموعة أخرى من العلاقات الاجتماعيّة. وهذا هو المقصود من مقولة: الاقتصاد يُشكّل البناء التّحتيّ للمجتمع، وكلّ ما عداه فهو بناء فوقيّ. أي إنّ جميع الأوضاع الاجتماعيّة معلولة للوضع الاقتصاديّ.

 

وفي هذه الحالة تحاول القوى التي ترتبط مصالحها بالوضع الاقتصاديّ القديم أن تُحافظ على هذا الوضع بشكله الموجود، لكنّ الطّبقة الفتيّة المرتبطة بوسائل الإنتاج الجديدة ترى أنّ مصالحها تقتضي تغيّر الأوضاع وإحلال نظام اقتصاديّ جديد، ومن هنا تسعى إلى تغيير المجتمع وتطويره وإلى إيجاد نوع من التّناسق بين المسائل الاجتماعيّة من جهة، ووسائل الإنتاج المتكاملة ومستوى الإنتاج الجديد من جهة أخرى.

 

 

344


282

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

ويستمر الصّراع بين الفريقين: فريق رجعيّ ومرتبط بالماضي، والآخر تقدّميّ يرتبط بالمستقبل.

 

ويشتدّ الصّراع ليبلغ ذروته حيث يحدث الانفجار، ويتبدّل المجتمع في خطوة ثوريّة تبدّلًا يتمثّل بتغيّر النّظام القديم وإحلال النّظام الجديد وانتصار القوى الجديدة وفشل القوى القديمة.

 

وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل التّاريخ، وهذه المرحلة الجديدة تتطوّر أيضًا إلى مرحلة جديدة أخرى بالطّريقة السّابقة نفسها.

 

هذا الاتّجاه الفكريّ لتفسير الطّبيعة والتّاريخ يُسمّى بالاتّجاه الديالكتيكيّ، ولمّا كان هذا الاتّجاه يعتبر القيم والأوضاع الاجتماعيّة كلَّها في جميع مراحل التّاريخ، مرتبطة بوسائل الإنتاج وتابعة لها، نطلق عليه اسم "التفسير الآليّ للتاريخ"[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص407 - 411.

 

345


283

الدرس السابع والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (1)

المفاهيم الرئيسة

•        تُجمع الفِرق والمذاهب الإسلاميّة على حتميّة انتصار قوى الحقّ على الباطل في نهاية المطاف، وتحقّق ظهور المدينة الفاضلة والمجتمع الأمثل على يد شخصيّة مقدّسة اسمها "المهديّ".

 

•        إنّ انتظار الفرج والتطلّع إلى مستقبل أفضل على نوعين، انتظار مثمر، وانتظار هدّام. وهما ينطلقان من تصوّرين مختلفين عن ظهور المهديّ عليه السلام.

 

•        ثَمَّةَ نظريّتان متباينتان في تفسير التطوّرات والتغيّرات التاريخيّة: النظريّة الأولى ترى أنّ أحداث التّاريخ هي سلسلة من الصّدف والاتّفاقات الشخصيّة. النظريّة الثّانية ترى أنّ المجتمع مكوّن من التّفاعل الثّقافيّ للأفراد.

 

•        النظريّة القرآنيّة ترفض بشدّة النّظرة العبثيّة للتّاريخ، وتؤكّد على وجود قوانين ونواميس كونيّة ثابتة لمسيرة التّاريخ، كما تؤكّد في الوقت ذاته على دور الإنسان وحريّته واختياره.

 

•        تعتبر الطّريقة الدّيالكتيكيّة أنّ التاريخ يطوي مسيرته عبر الأضداد، حيث إنّ الحركة تنتج من النّقائض الّتي تتّجه باتّجاه بعضها، ممّا يؤدّي إلى صراعٍ مستمرّ بين مراحل التّاريخ الّتي تحمل كلّ واحدة منها المرحلة التالية في أحشائها. وبعد صراع مستمرّ تترك المرحلة السّابقة مكانها للمرحلة التالية.

 

•        وفقًا لهذه النظريّة، فإنّ تطوّر وسائل الإنتاج يؤدّي إلى تطوّر اجتماعيّ يُحدث ثورة ونقلة نوعيّة في تاريخ المجتمع.

 

346


284

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

الدرس الثامن والعشرون:

الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يفسّر النظريّة الفطريّة في تفسير أحداث التاريخ وحركته التكامليّة.

 

2. يميّز بين الطريقة الآليّة والفطريّة في تفسير الثورات.

 

3. يبيّن نظريَّتَيْ تفسير هويّة الإنسان الواقعيّة.

 

347

 


285

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

النظريّات المفسّرة لحركة التاريخ التكامليّة

تقدّم في الدرس السابق، عرض النظريّة الأولى في تفسير حركة التاريخ التكامليّة، ونعرض الآن للنظريّة الثانية، وهي النظريّة التي تتبناها الأديان الإلهيّة، لا سيّما الإسلام العظيم.

 

النظريّة الإنسانيّة أو الفطريّة

النظريّة الإنسانيّة أو الفطريّة لتفسير التّاريخ تقف في النّقطة المقابلة للتفسير الآليّ. هذه النظريّة تمنح الإنسان والقيم الإنسانيّة أصالة سواء على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع.

 

وهي تنظر إلى الكائن الإنسانيّ - في إطار علم النّفس - على أنّه مكوّن من مجموعة غرائز مادّيّة يشترك فيها مع سائر الحيوانات، ومجموعة من الغرائز السّامية التي تُميّزه من غيره من الحيوانات كالغريزة الدينيّة والغريزة الأخلاقيّة وغريزة البحث عن الحقيقة والغريزة الجماليّة.

 

وفي الإطار الفلسفيّ، تنظر هذه الطّريقة إلى المجتمع "من حيث ارتباط أجزائه وأفراده بأنّه تركيب حقيقيّ"، كما تنظر إلى المجتمع "من حيث خصاله بأنّه مجموعة من الخصال الدّانية والسّامية للأفراد إضافة إلى مجموعة خصال باقية مستمرّة في المجتمع".

 

 

349


286

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

مسيرة التّاريخ - انطلاقًا من هذه النّظرة - متحوّلة متكاملة كالطّبيعة ذاتها، والحركة باتّجاه الكمال ضرورة لا تنفصل عن ذات أجزاء الطّبيعة بما فيها التّاريخ، وتحوّل التّاريخ وتكامله لا يقتصر على الجانب الفنّي والآلي. أي لا يقتصر على الجانب المدنيّ، بل إنّه يعمّ ويشمل جميع الشّؤون المعنويّة والثقافيّة للإنسان، ويتّجه نحو تحرير الإنسان من القيود البيئيّة والاجتماعيّة.

 

والإنسان، بفعل تكامله الشّامل، يتحرّر تدريجيًّا من ارتباطه ببيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة ويتّجه نحو توثيق ارتباطه بالعقيدة والإيمان والأيديولوجيّة، وسيصل في المستقبل إلى الحرّيّة المعنويّة التّامّة المتمثّلة في الارتباط التّام بالعقيدة والإيمان والمدرسة الفكريّة.

 

لقد كان الإنسان في الماضي أسيرًا وعبدًا لقوى الطّبيعة على الرّغم من قلّة تمتّعه بمواهبها. والإنسان في المستقبل سيتحرّر من قيود الطّبيعة وستزداد سيطرته عليها واستثماره لها إلى أقصى حدّ ممكن.

 

هنا، لا ينبغي تفسير التّكامل استناداً إلى آلات الإنتاج، ولا ينبغي اتّخاذ المعلول مكان العلّة. تكامل وسائل الإنتاج هو بدوره معلول اندفاع الإنسان الفطريّ نحو الكمال والتّنويع والاستزادة، وناتج من قوّة الابتكار لدى الأفراد.

 

هذه القوّة وذاك الاندفاع يتّسعان باستمرار جنبًا إلى جنب في جميع جوانب الحياة الإنسانيّة. وهذه الطّريقة ترى أنّ من خصائص الإنسان انطواءه على صراعٍ داخليّ بين الجانب الأرضيّ أو التّرابيّ، والجانب السّماويّ المتعالي. أي بين الغرائز الهابطة ذات الهدف الفرديّ المحدود المؤقّت، والغرائز السّامية التي تتجاوز حدود الفرديّة وتتّسع لجميع البشريّة وتستهدف تحقيق القيم الخلقيّة والدينيّة والعلميّة والعقليّة... لقد أطلق القدماء على هذا الصّراع اسم النّزاع بين العقل والنّفس.

 

 

350


287

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

هذا الصّراع الدّاخليّ، في نفس الإنسان، سينجرّ إلى صراع بين المجموعات البشريّة، ويتّخذ صورة حرب بين الإنسان المتكامل المتحرّر روحيًّا، والإنسان المنحطّ المغلول بقيود حيوانيّة.

 

إنّ هذا الاتّجاه الفكريّ يقبل مبدأ الصّراع الاجتماعيّ ويؤمن بدور هذا الصّراع في تغيير التّاريخ وتكامله. لكنّه يرفض أن يكون هذا الصّراع طبقيًّا دائرًا بين الفئة المرتبطة بوسائل الإنتاج والنّظم الاجتماعيّة القديمة، وبين الفئة المرتبطة بوسائل الإنتاج الجديدة.

 

فالصّراع الذي يؤمن به هذا الاتّجاه الفكريّ ويؤمن بدوره في تطوير التّاريخ هو الصّراع بين الأفراد الملتزمين المؤمنين الهادفين المتحرّرين من قيود الطّبيعة والغرائز الحيوانيّة، والأفراد المنحطّين المتسافلين المقيّدين بأغلال الشّهوات الهابطة[1].

 

الفرق بين الطريقة الآليّة والإنسانيّة في تفسير الثّورات

يُستنتَج ممّا تقدّم، أنّ بين الطّريقتين "الآليّة والإنسانيّة" اختلافاً في تفسير طبيعة الثّورات والنّهضات. فالطّريقة الآليّة ترى أنّ تكامل وسائل الإنتاج يخلق طبقة محرومة تنهض بالثّورات من أجل تأمين احتياجاتها المادّيّة، فتعمد هذه الطّبقة إلى تغيير الأنظمة والقوانين الموجودة وتستبدلُ بها أنظمةً وقوانين جديدة .. وتدّعي أيضًا: أنّ المحتوى الدّاخليّ لأيّ إنسان يعكس مكانته الطّبقيّة، والطّبقة الحاكمة دومًا تسعى إلى حفظ النّظام القائم وصيانته. بينما تقدّم الطّريقة الإنسانيّة أمثلة تاريخيّة للثّورات التي لم تقتصر على الطّبقة المحرومة، بل نهض فيها أفراد نشؤوا في الطّبقات المرفّهة، ووقفوا بوجه النّظام الحاكم بقوّة وبسالة كنهضات إبراهيم وموسى ومحمّد والحسين بن علي عليهم السلام، ولم تكن


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص418 - 420.

 

351


288

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

أهداف الثوّار مادّيّة دومًا، وخير دليل على ذلك ما شهده التّاريخ الإسلاميّ من نهضات في سبيل الله، وفي عصر صدر الإسلام خاصّة.

 

إنّ الثّورات والنّهضات لم تكن دومًا مرافقة لتطوّر وسائل الإنتاج، كالنّهضات التي شهدها الشّرق والغرب خلال القرون الأخيرة من أجل مقارعة الاستبداد والطّغيان.

 

ولم تكن الفوضى الاجتماعيّة دومًا وليدة نقص القوانين الموجودة. بل كانت أحيانًا وليدة عدم تنفيذ القوانين النظريّة المقبولة، فانطلقت الحركات الاجتماعيّة من أجل تطبيق هذه القوانين وتنفيذها عمليًّا، كثورات الشيعة في التّاريخ الإسلاميّ[1].

 

نظريّتان لتفسير الإنسان

إنّ اختلاف الطريقتين السابقتين في تفسير الحركة التكامليّة للتّاريخ ناتج من انبثاقهما من نظريّتين مختلفتين لتفسير الإنسان وهويّته الواقعيّة وملكاته الكامنة.

 

إحدى النّظريّتين ترى الإنسان موجودًا مغلولًا بمصالحه المادّيّة والاقتصاديّة ومسيّرًا في اتّجاهٍ جبريّ يفرضه عليه تطوّر وسائل الإنتاج. وكلّ ما ينطوي عليه الإنسان من مشاعر ورغبات وأحكام وأفكار وقدرة على الانتخاب، إنّما هو انعكاس لظروف بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة.

 

والنظريّة الأخرى ترى الإنسان موجودًا متمتّعًا بخصال إلهيّة ومزوّدًا بفطرة تدفعه لأن يطلب الحقّ وينشده، وقادرًا على التحكّم بنفسه وعلى التحرّر من جبر الطّبيعة والبيئة والغرائز والمصير المحتوم.

 

إنّ القيم الإنسانيّة، بموجب هذه النّظرة، لها أصالتها في الإنسان، والموجود

 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص420 - 421.

 

352


289

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

البشريّ بموجب طبيعته الإنسانيّة، ينشد القيم الإنسانيّة السّامية، وبعبارةٍ أخرى، ينشد الحقّ والحقيقة والعدالة ومكارم الأخلاق، ويستطيع بموجب قواه العقليّة أن يُخطّط لبناء مجتمعه وألّا يستسلم استسلامًا أعمى لظروف البيئة، وأن يُنفّذ مشاريعه الفكريّة انطلاقًا من إرادته وقدرته على الانتخاب.

 

أمّا دور الوحي فهو الموجّه والمساعد للإنسان باعتبار أنّ الوحي هادي البشريّة وحامي القيم الإنسانيّة.

 

إنّ الإنسان يتأثّر، بدون شكّ، بظروف بيئته، لكنّ هذا التّفاعل لا يسير باتّجاهٍ واحدٍ، بل إنّ الإنسان يؤثّر أيضًا في بيئته. والمسألة الأساس، في هذا التّفاعل، هي أنّ تأثير الإنسان في البيئة لا يظهر على شكل ردود فعل جبريّة قهريّة. فالإنسان، باعتباره موجودًا واعيًا حرًّا مريدًا قادرًا على الانتخاب ومجهّزًا بخصائص فطريّة سامية، يُبدي أحيانًا ردود فعل تختلف عمّا يُبديه حيوان مسيّر فاقد للوعي من ردود فعل.

 

الخصلة الرّئيسة التي تُميّز الإنسان من سائر الموجودات هي قوّة سيطرة الإنسان على نفسه والثّورة على انحرافاته. وكلّ النّقاط المضيئة في تاريخ البشريّة نابعة من هذه الخصلة[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص426 - 427.

 

353


290

الدرس الثامن والعشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وتغيير العالم (2)

المفاهيم الرئيسة

•        الطّريقة الإنسانيّة أو الفطريّة لتفسير التّاريخ تمنح الإنسان والقيم الإنسانيّة أصالة سواء على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع.

 

•        إنّ تحوّل التّاريخ وتكامله لا يقتصر على الجانب الفنّيّ والآليّ، أي لا يقتصر على الجانب المدنيّ فحسب، بل إنّه يعمّ ويشمل جميع الشّؤون المعنويّة والثقافيّة للإنسان، ويتّجه نحو تحرير الإنسان من القيود البيئيّة والاجتماعيّة، وتوثيق ارتباطه بالعقيدة والإيمان.

 

•        الصّراع الاجتماعيّ الذي يؤمن به الاتّجاه الفطري وبدوره في تطّور التّاريخ هو الصّراع بين الأفراد الملتزمين المؤمنين الهادفين المتحرّرين من قيود الطّبيعة والغرائز الحيوانيّة، والأفراد المقيّدين بأغلال الشّهوات الهابطة.

 

•        لم تكن الفوضى الاجتماعيّة دومًا وليدة نقص القوانين الموجودة .. بل كانت أحيانًا وليدة عدم تنفيذ القوانين النظريّة المقبولة، فانطلقت الحركات الاجتماعيّة من أجل تطبيق هذه القوانين وتنفيذها عمليًّا.

 

•        ثَمَّةَ نظريتان في معرفة الإنسان، إحداهما ترى الإنسان موجودًا مغلولًا بمصالحه المادّيّة والاقتصاديّة ومسيّرًا في اتّجاهٍ جبريّ يفرضه عليه تطوّر وسائل الإنتاج. والنظريّة الأخرى ترى الإنسان موجودًا متمتّعًا بخصال إلهيّة ومزوّدًا بفطرة تدفعه لأن يطلب الحقّ وينشده، وقادرًا على التحكّم بنفسه وعلى التحرّر من جبر الطّبيعة والبيئة والغرائز والمصير المحتوم.

 

354

 

 


291

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

الدرس التاسع والعشرون

ماهيّة الانتظار

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يبيّن المعنى الحقيقيّ لانتظار الفرج.

 

2. يتعرّف إلى أهم النظريّات بخصوص انتظار الفرج.

 

3. يقرأ دور الانتظار الإيجابيّ للفرج في تفعيل حركة الإنسان الاجتماعيّة.

 

355


292

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

التفسير القرآنيّ لحركة التاريخ

يسرد القرآن وقائع التاريخ البشريّ منذ بدء الخليقة، على أنّه صراع مستمرّ بين قوى الحقّ وقوى الباطل، بين مجموعةٍ من أمثال إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام وأتباعهم المؤمنين، ومجموعة أخرى من أمثال نمرود وفرعون وجبابرة اليهود وأبي سفيان وأمثالهم.

 

وفي خضّم هذا الصراع ينتصر الحقّ حيناً والباطل حينًا آخر.

 

وانتصار أحد الفريقين أو فشله يرتبط طبعًا بمجموعة من العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة.

 

إنّ تأكيد القرآن الكريم على تأثير العوامل الأخلاقيّة في مسيرة التاريخ صيّر من التاريخ مصدر تعليم مثمر ومعطاء. ولو نظرنا إلى التاريخ على أنّه مجموعة صدف واتّفاقات ليس لها علّة وموازين أو ضوابط، لتبدّلت أحداث التاريخ إلى أساطير لا تصلح إلّا للتربية والسمر وتربية الخيال، بدون أن يكون فيها أيّ عطاء تعليميّ.

 

ولو آمنّا بوجود قواعد وموازين للتاريخ بدون أن يكون للإنسان دورٌ فيها، لأضحى العطاء التعليميّ للتاريخ نظريّاً فقط لا عمليّاً. وسوف نتعلّم - في هذه

 

357

 


293

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

الحالة - من التاريخ نظير ما نتعلّمه من حركات الكواكب والمجرّات، فكما أنّ معلوماتنا عن الكواكب والمجرّات لا تساعدنا في تغيير مسيرها، كذلك معلوماتنا عن التاريخ لا تمنحنا أيّ دور في تعيين مسير حركة التاريخ.

 

أمّا حينما نؤمن بضوابط التاريخ وموازينه وقواعده، وبدور إرادة الإنسان في تعيين مسير حركة التاريخ وبالدور الأصيل والحاسم للقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، يصبح التاريخ حينئذٍ ذا عطاءٍ تعليميّ مفيد، والقرآن الكريم ينظر إلى التاريخ من هذه النافذة. وهو يتحدّث مراراً عن الدور الرجعيّ الذي يمثِّله "الملأ" و"المترفون" و"المستكبرون" على مسرح التاريخ، كما يتحدّث عن دور "المستضعفين"، ويؤكّد في الوقت ذاته على أنّ الصراع المستمرّ بين الفريقين منذ فجر التاريخ، ذو هويّة معنويّة إنسانيّة لا ماديّة طبقيّة[1].

 

خصائص المجتمع المثاليّ

مسألة نهضة المهديّ عليه السلام قضيّة اجتماعيّة فلسفيّة كبرى. هذه المسألة لها أركانها وعناصرها المختلفة، بعض هذه الأركان والعناصر فلسفيّ علميّ يُشكّل جزءًا من التّصوّر الإسلاميّ، وبعضها ثقافيّ تربويّ، وبعضها سياسيّ وبعضها اقتصاديّ، وبعضها اجتماعيّ، وبعضها إنسانيّ أو إنسانيّ - طبيعيّ.

 

نكتفي بذكر خلاصة لخصائص هذه البشرى الكبرى للكشف عن ماهيّة "الانتظار الكبير".

 

1- التفاؤل بمستقبل البشريّة: اختلفت الآراء والنظريّات حول مستقبل المسيرة البشريّة، حيث ذهب بعض المفكّرين إلى أنّ الشرّ والفساد والتّعاسة صفات لا تُفارق الحياة البشريّة، وذهبوا إلى أنّ الحياة لا قيمة لها على الإطلاق، وأفضل ما يستطيع أن يقوم به الإنسان هو أن يضع نهاية


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص428 - 429

 

358


294

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

لهذه الحياة. وذهب بعضٌ آخر إلى أنّ الحياة البشريّة بتراء، وقال: إنّ البشريّة تحفر قبرها بيدها بفعل تطوّرها التّكنولوجيّ وتقدّمها في صنع وسائل التّخريب والدّمار، وهي على شفا السّقوط والانهيار. وإذا اكتفينا بالشّواهد الظّاهريّة، فإنّنا لا نستطيع طبعًا أن ننفي هذا الاحتمال.

وأمّا النظريّة الثّالثة فترفض المقولتين السّابقتين، فلا الشرّ ولا الفساد والتّعاسة صفات تلازم البشريّة ولا التطوّر المدنيّ المادّيّ بقادرٍ على إبادة البشريّة، بل إنّ البشريّة تتّجه نحو مستقبلٍ مشرق سعيد تنقلع فيه جذور الظّلم والفساد. هذه النظريّة يُبشّر بها الدّين، ونهضة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ترتبط بهذه البشرى.

2. انتصار الحقّ والتّقوى والسّلام والعدل والحريّة على الظّلم والدّجل والاستكبار والاستعباد.

3. قيام حكومة عالميّة واحدة.

4. عمران الأرض بحيث لا تبقى بقعة خربة غير عامرة.

5. بلوغ البشريّة حدّ النّضج والتّكامل يلتزم فيه الإنسان طريق العقل والعقيدة، ويتحرّر من أغلال الظّروف الطبيعيّة والاجتماعيّة والغرائز الحيوانيّة.

6. استثمار ذخائر الأرض إلى أقصى حدّ ممكن.

7. إحلال العدالة التامّة بين البشر في حقل الثّروة.

8. اقتلاع جذور الفساد كالزّنا والرّبا والخيانة والسّرقة والقتل وشرب الخمر، وخلوّ النّفوس من العقد والأحقاد.

9. زوال شبح الحروب وسيادة السّلام والحبّ والتّعاون والصّفاء.

10. المواءمة بين الإنسان والطّبيعة.

 

 

359


295

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

إلى نقطة الصّفر يحدث الانفجار المرتقب، وتمتدّ يد الغيب لإنقاذ الحقيقة - لا أنصار الحقيقة - إذ لن يبقى للحقيقة أنصار آنذاك.

 

هذا التّصوّر يُدين كلّ إصلاح، لأنّ الإصلاح يُشكّل نقطة مضيئة في ساحة المجتمع العالميّ، ويؤخّر الإمداد الغيبيّ، كما يعتبر هذا التصوّر كلّ ذنب وتمييز وإجحاف مباحًا لأنّ مثل هذه الظّواهر تُمهّد للإصلاح العامّ وتُقرّب موعد الانفجار.

ويميل هذا التصوّر إلى مذهب الذّرائع الذي يذهب إلى أنّ الغاية تُبرّر الوسيلة، فإشاعة الفساد - بناءً على هذا التصوّر - أفضل عامل لتسريع ظهور المهديّ وأحسن شكل لانتظار فرج ظهوره. وأصحاب هذا التصوّر ينظرون إلى الذّنوب نظرة تفاؤل واستبشار ويعتبرونها عاملًا مساعدًا على انطلاق الثّورة المقدّسة الشّاملة.

 

هؤلاء ينظرون إلى المصلحين والمجاهدين والآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر بعين الحقد والعداء. لأنّهم يعملون على تأخير ظهور المهديّ. وأصحاب هذا التصوّر - إن لم يكونوا هم من زمرة العاصين - ينظرون إلى أصحاب المعاصي بعين الارتياح والرّضى، لأنّهم يُمهّدون لظهور القائم المنتظر.

 

إنّ هذا اللون من الفهم لمسألة ظهور المهديّ وهذا النوع من الانتظار للفرج لا يرتبط على الإطلاق بالموازين الإسلاميّة والقرآنيّة، إذ إنّه يؤدّي إلى التعمّد في تعطيل الحدود والأحكام الإسلاميّة، بل إلى نوعٍ من التحلّل وإطلاق العنان للغرائز[1].

 

الانتظار البنّاء

إنّ الآيات الكريمة التي تُشكّل أرضيّة التّفكير حول ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف المنتظر تتّجه إلى جهة معاكسة للنظريّة الأولى في تفسير الظهور. فهي تشير إلى أنّ ظهور المهديّ حلقة من حلقات النّضال بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وأنّ هذا


 


[1] الشهيد مطهّري, أنسنة الحياة في الإسلام, مصدر سابق, ص 431-433.

 

361


296

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

النّضال سيسفر عن انتصار قوى الحقّ. ويتوقّف إسهام الفرد في تحقيق هذا الانتصار على انتمائه العمليّ إلى فريق أهل الحقّ.

 

وهذه الآيات التي تستند إليها الرّوايات في مسألة ظهور المهديّ تُشير إلى أنّ المهديّ تجسيد لآمال المؤمنين العاملين، ومظهر لحتميّة انتصار فريق المؤمنين.

 

قال الله -تعالى-: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾[1].

 

وإنّ ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف الموعود تحقيق لمنّة الله على المستضعفين ووسيلة لاستخلافهم في الأرض ووراثتهم لها، قال – تعالى -: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *  وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون﴾[2].

 

كما أنّ ظهوره تحقيق لما وعد الله به المؤمنين والصّالحين والمتّقين في الكتب السماويّة المقدّسة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[3].

 

هناك حديثٌ معروفٌ في هذا المجال يذكر أنّ المهديّ: "يملأ الله به الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت جوراً وظلمًا"[4]. وهو شاهد على ما ذهبنا إليه في مسألة الظّهور وهو يركّز على مسألة الظّلم ويُشير إلى وجود فئة ظالمة وفئة مظلومة وأنّ المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يظهر لنصرة الفئة المظلومة التي تستحقّ الحماية.

 


[1] سورة النور, الآية 55.

[2] سورة القصص، الآيتان 5 - 6.

[3] سورة الأنبياء، الآية 105.

[4] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص264.

 

362


297

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

ولو كان الحديث يقول إنّ المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: يملأ الله به الأرض إيمانًا وتوحيدًا وصلاحًا بعدما مُلئت كفرًا وشركًا وفسادًا، لكان معنى ذلك أنّ نهضة المهديّ الموعود تستهدف إنقاذ الحقّ المسحوق لا إنقاذ أنصار الحقّ، وإن كان هؤلاء الأنصار أقلّيّة.

 

يروي الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام: "يا منصور، إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد إياس، لا والله لا يأتيكم حتى تميّزوا، والله لا يأتيكم حتى تُمحّصّوا، ولا والله لا يأتيكم حتّى يشقى من شقي ويسعد من سَعد"[1].

 

إنّ هذا الحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كلّ شقيّ وكلّ سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الأشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة.

 

كما أنّ الرّوايات الإسلاميّة تتحدّث عن نخبة من المؤمنين يلتحقون بالإمام فور ظهوره. ومن الطّبيعيّ أنّ هذه النّخبة لا تظهر من دون وجود أرضيّة صالحة لها، بل لا بدّ من وجود هذه الأرضيّة حيث تُربّي هذه النّخبة على الرّغم من انتشار الظّلم والفساد. وهذا يعني أنّ الظّهور لا يقترن بزوال الحقّ والحقيقة.

 

وتتحدّث الرّوايات الإسلاميّة أيضًا عن سلسلة من النّهضات يقوم بها أنصار الحقّ قبل ظهور المهديّ، منها نهضة اليمانيّ. إنّ مثل هذه النّهضات لا يُمكن أن تبتدئ بساكن، ولا تظهر بدون أرضيّة مسبَّقة.

 

وبعض الرّوايات تتحدّث عن قيام دولة لأهل الحقّ تستمرّ حتّى ظهور المهديّ.. حتّى إنّ بعض العلماء أحسنوا الظنّ بدولة بعض السّلالات الحاكمة، فظنّوها أنّها الدّولة التي ستحكم حتّى ظهور المهديّ.

 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص346.

 

363


298

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

إنّ هذا الظنّ - وإن كان ينطلق من بساطة في فهم الوقائع السياسيّة والاجتماعيّة - يدلّ على استنباط هؤلاء العلماء من الروايات والأخبار المتعلّقة بظهور المهديّ، ما يُشير إلى أنّ الظهور لا يقترن بفناء الجناح المناصر للحقّ والعدل والإيمان، بل يقترن بانتصار جناح العدل والتّقوى والصّلاح على جناح الظّلم والتحلّل والفساد.

 

نعم، إنّ المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف تجسيد لأهداف الأنبياء والصّالحين والمجاهدين على طريق الحقّ[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، أنسنة الحياة في الإسلام، مصدر سابق، ص433 - 435.

 

364


299

الدرس التاسع والعشرون: ماهيّة الانتظار

المفاهيم الرئيسة

•        مسألة نهضة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هي قضيّة اجتماعيّة فلسفيّة كبرى، لها أركان وعناصر مختلفة.

 

•        اعتقد بعض المفكّرين أنّ الشرّ والفساد والتّعاسة صفات لا تُفارق الحياة البشريّة وأنّ الحياة لا قيمة لها على الإطلاق. وبعضٌ آخر ذهب إلى أنّ الحياة البشريّة بتراء، تحفر قبرها بيدها بفعل تطوّرها التّكنولوجيّ وتقدّمها في صنع وسائل التّخريب والدّمار.

 

•        ثَمَّ نظريّة ثالثة تقول إنّ البشريّة تتّجه نحو مستقبل مشرق سعيد تنقلع فيه جذور الظلم والفساد، وهذه هي النظريّة التي يُبشّر بها الدّين الإسلاميّ.

 

•        يُمكن تقسيم انتظار الفرج إلى قسمين: انتظار مثمر وانتظار هدّام، وكلاهما ينتجان من نوعين من التصوّر بشأن حركة المجتمعات عبر التاريخ.

 

•        إذا لم يظهر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى الآن فليس لأنّ الذنوب قلّت، بل لأنّ الدنيا لم تصل إلى مرحلة النضج.

 

•        تشير الآيات الكريمة إلى أنّ ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف حلقة من حلقات النّضال بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وأنّ هذا النّضال سيُسفر عن انتصار قوى الحقّ. ويتوقّف إسهام الفرد في تحقيق هذا الانتصار على انتمائه العمليّ إلى فريق أهل الحقّ.

 

•        إنّ ظهور المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف تحقيق لمنّة الله على المستضعفين ووسيلة لاستخلافهم في الأرض ووراثتهم لها. كما أنّه تحقيق لما وعد الله به المؤمنين والصّالحين والمتّقين في الكتب السماويّة.

 

365


300

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

الدرس الثلاثون

أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد.

2. يحلّل سبب جعل المعاد أصلاً من أصول الدين الإسلاميّ.

3. يتعرّف إلى الحدّ الأدنى المطلوب من الاعتقاد بالمعاد.

 

369


301

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

يُعَدّ بحث المعاد أهمَّ مسألة دينيّة وإسلاميّة بعد بحث التوحيد. فقد بُعث الأنبياء لكي يقنعوا الناس بالإيمان بهاتين الحقيقتين، الأولى: الله (أي المبدأ)، والثانية: اليوم الآخر، أو المعاد بحسب اصطلاحنا المتداول.

فالمعاد أمرٌ يجب على كلّ مسلم أن يؤمن به، لكنّه ليس في عداد القضايا التي يكون الإيمان بها ضروريًّا تبعًا لضرورة الإيمان بالنبوّة. فالإيمان بالمعاد لا ينبع بالضرورة من الإيمان بالنبوّة.

نعم، يوجد بعض القضايا التي يكون الإيمان بها من لوازم الإيمان بالنبيّ، أي إذا آمن الإنسان بالنبيّ والإسلام، فإنّه سيؤمن بتلك القضايا بالضرورة.

على سبيل المثال يقال إنّ صوم شهر رمضان من ضروريّات الإسلام، فلو لم يصم الإنسان وتناول الطعام من دون عذر فهو فاسق، أمّا لو أنكر أصل الصوم فهو خارج عن ربقة الإسلام، لماذا؟ لأنّ الإسلام هو إيمان بوحدانيّة الله وبالنبيّ، فلا يمكن لإنسان أن يعتقد بالنبيّ وينكر الصّوم، لأنّه من الضروريّات والواضحات في هذا الدين، ومن ثَمّ لا يسع الإنسان أن يفصل، في ذهنه ومعتقده، بين الإيمان بما جاء عن النبيّ وبين الصيام فيستثنيه من الإيمان.

 

371

 


302

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

أمّا الإيمان بالصوم، على نحوٍ مستقلّ، فليس موضوعًا للاعتقاد، إذ لا يوجد في القرآن خطاب على هذا النحو: الذين آمنوا بالصيام.

وبغضّ النظر عمّا إذا كان المعاد من ضروريّات الإسلام كالصّوم، فقد جاءت في القرآن تعبيرات تنصّ على الإيمان بالقيامة واليوم الآخر. لقد عرض النبيّ المعاد كأمرٍ يتحتّم على النّاس الإيمان به مثل الإيمان بالله، فكما أنّ معرفة الله واجبة بحيث ينبغي لكلّ إنسان أن يُحرزها بدرجة معيّنة من خلال فكره الخاصّ، فكذلك ينبغي أن تتحصّل له المعرفة ذاتها بالمعاد.

وبذلك فإنّ النبيّ لم يأتِ ليقول للنّاس: لأنّني أقول بالمعاد فعليكم أن تقولوا به. إنّ الإيمان بالمعاد ليس على هذا النّحو، بل يقوم النبيّ بدوره في هداية أفكار الناس وتوجيهها لمعرفة المعاد، وعلى أساس هذه المعرفة يحصل لهم الإيمان به[1].

المعاد من أصول الدين

بناءً على ما تقدّم، عدَّ علماء الإسلام المعاد من أصول الدين، في حين لم يدرجوا بقيّة الضروريّات ضمن هذه الأصول. وقد يسأل بعض النّاس: ليس في الشّهادتين اللتين يكون بهما الإنسان مسلمًا غير: "أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله" فلماذا صار المعاد جزءًا من أصول الدين؟

ويستمرّ هؤلاء بمنطقهم قائلين: إنّ الإنسان الذي يؤمن بالنبيّ، يؤمن تبعًا لذلك بكلّ ما يصدر عنه، مع ثبوت صدوره عنه سيّما إذا بلغ الثّبوت حدّ الضّرورة والبداهة. إذًا ينبغي القول إنّ أصول الدّين اثنان لا غير: التّوحيد والنبوّة. أمّا المعاد فهو فرعٌ تابعٌ للنبوّة تمامًا على شاكلة الصلاة، فحيث إنّ النبيّ أخبر بوجوب الصلاة، فنحن نؤمن بوجوبها، وهكذا بالنسبة إلى الصوم والحجّ مع كونها جميعًا من ضروريّات الإسلام.

 


[1] مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة أصول الدين - المعاد، ترجمة: جواد علي كسار، دار الحوراء - مؤسّسة أم القرى، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص31 - 32.

 

372


303

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

ولكنّ هذا الإشكال غير وارد، لأنّ العلّة التي دفعت المسلمين إلى أن يعدّوا المعاد من أصول الدّين هي أنّ الإسلام أراد أمرًا إضافيًّا بشأن المعاد، فهو لم يرد منّا أن نؤمن بأنّ المعاد من ضروريّات الإسلام تبعًا لإيماننا بالنبوّة، بل أراد منّا أن نؤمن به كأمرٍ مستقلّ، ولو لم نؤمن بالنبوّة مثلًا[1].

 

ولهذا، نجد القرآن الكريم يُقيم الدّليل على القيامة، ولكنّه لا يستدلّ على الصّوم، سواء كان منطلق الدليل وأصله قائمًا على أساس التوحيد بحدّ ذاته، أو كان مصدره نظام الخلق والتكوين[2].

 

ولا يعني ذلك نفي الطّابع التعبّديّ عن المعاد مطلقًا، بحيث يتمّ التعامل معه على نحوٍ مستقلّ كما نفعل مع التّوحيد، فإنّ الأنبياء هم الذين طرحوا المعاد، وقد سار العلم والفلسفة وراءهم.

 

بل ما أردنا اللفْتَ إليه هو أنّ القرآن أراد للنّاس أن يقوموا بالبحث والتفكّر حول المعاد. ولهذا وردت كلمة الإيمان في باب المعاد، وكذا في باب الملائكة وهذا علامة على أنّ المراد منّا ممارسة البحث لكيّ نشيّد عقيدتنا على أساس المعرفة الدّالّة على وجود حقيقة باسم المعاد أو الملائكة[3].

 

تأثير الاعتقاد بالمعاد في حياة الإنسان

فيما يرتبط بتأثير الاعتقاد بالمعاد على حياة الإنسان، نجد أنّ قضيّة الحياة بعد الموت تُلقي بثقلها على نظرة الإنسان إلى الحياة الدنيا، بل إلى الحياة ككلّ. فالعنصر الأساس من العناصر العامّة في المعاد، يتمثّل بالصّلة الوثيقة بين الحياتين الدنيا والآخرة، المعبَّر عنها في الحديث النّبويّ الشّريف: "الدّنيا مزرعة


 


[1] طبعًا هذا لا يعني أنّ الإيمان بالمعاد وحده كافٍ من دون الإيمان بالنبوّة، فإنّ الإنسان إن لم يؤمن بالنبوّة لا سيّما نبوّة الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج من الإسلام (الإعداد).

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص32 - 33.

[3] المصدر نفسه، ص54 - 55.

 

373


304

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

الآخرة"[1]. ولا تقتصر الفكرة على هذا الحديث وحده، فثمَّة آلاف الأحاديث التي تدلّ عليها، بل كلّ ما جاء حول المعاد فقد صدر في إطار: "الدّنيا مزرعة الآخرة".

نعم، هناك فرق بين النّظام هنا والنّظام هناك. نظامنا هنا اجتماعيّ، فالأفراد شركاء يؤثّر بعضهم في سعادة البعض الآخر وشقائه. أمّا في الآخرة فلا مصير مشترك، صحيح أنّ أهل السّعادة معًا، وأهل الشقاء معًا، ولكنّ هذا "الاجتماع" هو غير الاشتراك في السّعادة، فلكلّ إنسان وضعه الخاصّ من دون أن يؤثّر في وضع الآخرين.

هذه أمور قطعيّة وثابتة، وقد جاء الأنبياء ليدعوا النّاس إليها. إنّنا نجد أنّ القرآن الكريم - بالدّرجة الأولى - وسائر المصادر الدينيّة، تؤكّد على أنّ تلك الدّار هي دار الجزاء، فعليكم إذًا بمراقبة أعمالكم هنا.

وقد بلغ من تأكيد القرآن أن عبّر عن هذه الحقيقة بصيغة لم يحملها البعضُ على المجاز بل رأى فيها عين الحقيقة، حين ذكر أنّ ما تعملونه في هذه الدّنيا سيُساق بنفسه إلى تلك الدار.

لاحظوا هذا التعبير القرآنيّ أواخر سورة الحشر[2]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾[3]. إنّ هذه الصيغة: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ تماماً كحال الإنسان الموجود في مدينة وقد اختار السكنى في أخرى، إذ يوصي بمراعاة الدقّة التامّة في ما يبعثه لمحلّ سكناه.

ثمّ يقول - سبحانه - مرّة أخرى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[4]. حيث كرّر الأمر بالتّقوى، مع بيان أنّ الله عليمٌ، ومعناه أنّ على المؤمنين أن


 


[1]  العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص225.

[2] ولآيات المعاد تأثير بالغ في الموعظة.

[3] سورة الحشر، الآية 18.

[4] السورة والآية نفسها.

 

374


305

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

يكونوا على دراية كاملة أنّ الله محيط بأعمالهم، فعليهم أن يراقبوا أعمالهم جيدًا، فيلتزموا الحذر ويضعوا الله نصب أعينهم كمراقب وناظر حاذق وخبير: ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

 

ثم يقول بعد ذلك: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[1][2].

 

لقد عرضنا هذه الآية نظرًا لتأكيد القرآن الاستثنائيّ على وجود ارتباط وصلة بين الدّنيا والآخرة، فهذه دار العمل وتلك دار الجزاء. الدّنيا مزرعة وهذا أوان الزّرع، وهناك يوم الحصاد، بل نجد أنّ هذه العلاقة بين الدارين تعكس أساسًا روح تعاليم الأنبياء، فلئن أشادوا النّظام الدّنيويّ على قواعد قويمة، فباعتبار وجود هذه الصّلة بين الدّنيا والآخرة. فما لم يكن النظام الدنيويّ صحيحًا وعادلًا، لا يكون المآل في الآخرة سليمًا، هذه هي الصّلة والرابطة بين الاثنين، لا بمعنى أنَّ بينهما تضادًّا.

 

ومن وجهة نظر القرآن، إنّ السّعادة الواقعيّة للبشر في الدّنيا توأم لسعادتهم الواقعيّة في الآخرة، من دون انفصال. فما يُعدّ دينيًّا ذنبًا ويصير سببًا للشّقاء الأُخرويّ، هو بنفسه الذي يُفسد (دنيويًّا) النّظام الحياتيّ العامّ للبشر[3].

 

الحدّ الأدنى للاعتقاد بالمعاد

هناك حدٌّ أدنى يُمثّل أرضيّة مشتركة يُمكن الانطلاق منها لتكوين تصوّر واضح وعميق حول المعاد.

إنّ المعاد، في حدِّ ذاته، مسألة واقعيّة، ولكن لا يمكن التّعبير عنه بسهولة. يُمكننا من باب المثال أن نُشبّهه بحال الجنين في بطن أمّه، فهو لا ينظر بعينيه


 


[1] سورة الحشر، الآية 19.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص35 - 40.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص57 - 58.

 

375


306

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

 إلى ما يدور حوله، ولا يسمع شيئًا بأُذُنه، ولا يتغذّى بفمه ولا يتنفّس، بل يعيش في الرّحم في إطار نظامٍ خاصّ، ومع ذلك نريد أن نتحدّث إليه عن الحياة ما بعد الولادة. إنّ معلوماته التي يتكيّف من خلالها مع نظامه الحياتيّ الجّنينيّ لا تسمح له بإدراك حقيقة حياة ما بعد الولادة. لذلك فنحن مضطرّون لأن نتحدّث إليه بلغته التي يعرفها.

والأمر يُشبه الاعتقاد بالله. فالجميع يعتقد بالله في أعماق قلوبهم، ويعبدونه بحسب الفطرة والغريزة، ولكن لو قُدّر لإنسان أن يفرغ محتويات هذه الأفكار والمعتقدات في الخارج، لرأى أنّ فيها من الاختلاف ما بين السّماء والأرض، وأنّ لكلٍّ رسمه وتصوّره الخاصّ عن الله -تعالى-.

وأمّا ما يُذكر بشأن ثوابت الحدّ الأدنى لعقيدتنا بالمعاد. فإنّ ما يتحتّم أن نؤمن به يرتبط بما يأتي:

أوّلًا: علينا أن نؤمن بأنّ هناك حياةً أُخرى غير هذه الحياة، لكنّه ليس من الضروريّ أن نعرف ما إذا كان ذلك يتمّ من خلال إعادة المعدوم أم بغيره.

ثانيًا: علينا أن نؤمن بأنّ تلك الحياة خالدة، ولكن ليس من الضروريّ أن نعرف علّة خلودها، ولماذا يكون الموت هنا حتمًا مقضيًّا ومن ضروريّات الخلق، ولا يكون هناك كذلك؟

ثالثًا: علينا أن نفهم أنّ العلاقة بين الدّارين هي من نوع صلة المقدّمة بالنّتيجة، فما نزرعه هنا نحصده هناك، وتلك دار الجزاء.

وهذه العناصر الثّابتة تُفهم من القرآن أيضًا على نحوٍ قطعيّ مُحكم. أمّا الكيفيّة والتفاصيل فهي التي يختلف العلماء فيها[1].


 


[1] الإعداد.

 

376


307

الدرس الثلاثون: أهمِّيَّة الاعتقاد بالمعاد

المفاهيم الرئيسة

•        يُعدّ البحث في المعاد أهمّ مسألة دينية وإسلامية بعد بحث التوحيد.

•        لقد جاء الأنبياء ليقنعوا النّاس، بشكل أساس، بالإيمان بحقيقتين: الأولى: الله (المبدأ)، والثانية: اليوم الآخر(المعاد).

•        الإيمان بالمعاد ليس من سنخ القضايا التي تكون من لوازم الإيمان بالنبوّة، كما هو الحال بالنسبة إلى الصوم أو الصّلاة التي هي من لوازم الإيمان بالنبيّ، بل الإيمان بالمعاد هو قضيّة إيمانيّة مستقلّة عن النبوّة، ولذلك حثّ القرآن الكريم على البحث حول المعاد والتفكّر فيه.

•        إنّ تأثير الإيمان بالمعاد ليس منحصرًا بحياة الإنسان الأخرويّة، بل إنّه يؤثّر في نظرة الإنسان للحياة ككل. فهناك علاقة وثيقة بين الدنيا والآخرة، فكلّ ما يقوم به الإنسان من أعمال في الدّنيا سيكون جزاؤه في الآخرة.

•        لقد أشاد الأنبياء النّظام الدّنيويّ على قواعد قويمة، باعتبار وجود هذه الصّلة بين الدّنيا والآخرة. فما لم يكن النظام الدنيويّ صحيحًا وعادلًا، لا يكون المآل في الآخرة سليمًا.

•        من وجهة نظر القرآن، إنّ السّعادة الواقعيّة للبشر في الدّنيا توأم لسعادتهم الواقعيّة في الآخرة. فما يُعدّ دينيًّا ذنبًا ويصير سببًا للشّقاء الأُخرويّ، هو بنفسه الذي يُفسد (دنيويًّا) النّظام الحياتيّ العامّ للبشر.

•        إنّ الحدّ الأدنى في الاعتقاد بالمعاد، يتمثّل بالإيمان بوجود حياة أخرى غير هذه الحياة. والإيمان بأنّ تلك الحياة خالدة، وبأنّ هناك علاقة بين دار الدّنيا ودار الآخرة، فما نزرعه هنا نحصده هناك.

 

377


308

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

الدرس الواحد والثلاثون

التصوّرات المختلفة

حول المعاد

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى أبرز التصوّرات والنظريّات حول مسألة المعاد.

 

2. يُحدّد موقف العلم الحديث من مسألة المعاد.

 

3. يتعرّف إلى التفسير الصحيح للمعاد.

 

 

379


309

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

تمهيد

لا شكّ بأنّ إثبات أيّة قضيّة عقائديّة أو غير عقائديّة، يتطلّب بدايةً، امتلاك التصوّر الصّحيح حولها، لأنّ التّصديق فرع التصوّر. وفي هذا المجال يحمل الناس تصوّرات عديدة حول المعاد ومعنى الحياة الآخرة، وكلّ تصوّرٍ يساهم في كيفيّة تناول القضيّة ومتابعتها، والأهمّ هو ما يرتبط بدور القضيّة وتأثيرها في حياة الإنسان. ويلاحظ أنّ من أهمّ القضايا المرتبطة بالمعاد هي تلك التي أثارها العلماء والفلاسفة وجرى حولها الكثير من البحث والكلام، وهي قضيّة المعاد الجسمانيّ والرّوحانيّ. فالذي يتتبّع الأقوال في هذا المجال يُدرك ما لهذه القضيّة من تأثير في فهم الإنسان لهويّته وحقيقته، ولذلك كان المتقدّمون من العلماء غالبًا ما يتناولون بحث النّفس والرّوح عند الحديث عن المعاد. بل إنّ معظم التّراث الفكريّ الذي خلّفه الحكماء لنا في باب النّفس ومعرفتها وحقيقتها قد تمركز في بحث المعاد[1].

 

التّصوّرات المختلفة حول المعاد

1- إعادة المعدوم:

يظنّ فريقٌ من النّاس أو المفكّرين أنّ المعاد والقيامة يعني إعادة المعدوم.


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص40 - 41.

 

381


310

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

فهم افترضوا انعدام الأشياء (انعدامًا مطلقًا) ثمّ راحوا يبحثون حول ما إذا كان الشيء معدومًا مطلقًا، فهل يمكن أن يوجد مرّةً أُخرى أم إنّ ذلك من المحالات؟ وهذه من القضايا العالقة بين الفلاسفة والمتكلّمين، فالفلاسفة يرون أنّ الأعيان لا تُعدم حتى يصار لإعادتها، في حين يرى المتكلّمون أنّها تُعدم. ثمّ يذهب المتكلّمون إلى إمكانيّة إعادة المعدوم في حين يرى الفلاسفة استحالة ذلك[1].

 

2- عودة الأرواح إلى الأجساد:

يُفسِّر فريقٌ آخر المعاد بعودة الأرواح إلى الأجساد، فعندما يموت الإنسان تفارق روحُه بدنَه وتصيرُ الرّوح المنفصلة إلى عالمٍ يُقال له البرزخ إلى أن تحلَّ القيامة. وعندما تقوم السّاعة ترجع كلّ روحٍ إلى بدنها[2].

 

3. عودة الأرواح إلى الله:

يدّعي المحدّثون المتشرّعة، كالمرحوم المجلسي، بأنّ لأهل الأديان كافّة إجماعًا على المعاد بمعنى عودة الأرواح إلى الأجساد، بيدَ أنّ بعضهم يرفض المعاد بهذا المعنى ويقول: نعم، يوجد لدينا إجماع ولكن ليس بمعنى عودة الأرواح إلى الأجساد، وإنّما بمعنى العودة إلى الله، ذلك أنّ الرّوح فقط هي التي بمقدورها أن تطوي الدّرجات والمراتب وتكون أقرب إلى النشأة الربوبيّة بحسب درجاتها ومراتبها.

 

ويُطلَق على المعاد بهذا التصوّر"المعاد الروحانيّ"، وهو ما يُعارض ضرورة تعاليم الأنبياء.

 

تجدر الإشارة إلى أنّ المعاد لم يكن مطروحًا أصلًا بين قدماء الفلاسفة اليونانيّين[3]، لذلك يُنقَل عن أرسطو القول بفناء الرّوح، لكنّ بعض الحكماء


 


[1] المصدر نفسه.

[2] إنّ الأنبياء هم الذين طرحوا فكرة المعاد وتلقّفها منهم الفلاسفة.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص42 - 45.

 

382


311

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

الإسلاميّين - أمثال ابن سينا - كان لهم رأيٌ آخر. فابن سينا يعتقد أنّ البرهان العلميّ والعقليّ ينهض ببقاء الأرواح وعودتها إلى الله، إلّا أنّ سعادتها وشقاءها هو من نوع السّعادة والشّقاء المعنويّ والعقلانيّ، فهو يُثبت أنّ روح الإنسان لا تفنى، بل هي باقية في عالمٍ آخر، إمّا معذّبة أو منعّمة.

 

ثمّ يذكر بعد ذلك أنّ النبيّ أخبر بالمعاد الجسمانيّ، ولذا فنحن نؤمن بالمعاد الجسمانيّ أيضًا لإخبار النبيّ الصادق به. وما يريد أن ينتهي إليه، أنّ الدّليل العلميّ والعقليّ يرشداننا إلى المعاد الروحانيّ فقط، أمّا المعاد الجسمانيّ فلا يُمكننا الكشف عنه عن طريق العقل، ولكنّنا نؤمن به لإخبار الصادق به.

 

إنّ هذا المنطق يرشدنا إلى أنّ الذي يبقى هو عقل الإنسان فقط، أي القوّة العاقلة فيه وهي شخصيّة الإنسان الحقيقيّة، في حين تنعدم قواه الأُخرى أيًّا كانت[1].

 

4. عودة الأرواح إلى الله بكيفيّة جسمانيّة:

فريقٌ آخر اختار الجمع بين هاتين النّظريّتين (العودة إلى الله وعودة الأرواح إلى الأجساد) فإذا كان المعاد هو العود إلى الله، لا عودة الأرواح إلى الأجسام[2]، فإنّ لهذا العود كيفيّة جسمانيّة في الوقت عينه.

 

ويعتقد هذا الفريق أنّ قوى الإنسان الحيويّة تتألّف من طبقتين، طبقة جسديّة وأُخرى غير جسديّة. فللإنسان -وفق نظريّة هؤلاء- بدنٌ يُسمّى بالبدن المثاليّ[3]


 


[1] المقصود بالأجسام هي هذه الأجساد التي تهترئ بالتراب.

[2] البدن‏ المثالي‏ المعبّر بالقالب المثالي والبدن النوري أيضاً مجرد عن المادة وأحكامها، وبرزخ بين المجرد المحض وبين المادّي الصرف. راجع: السبزواري، الملا هادي بن مهدي، شرح المنظومة، شرح: الشيخ حسن زاده آملي، تحقيق: مسعود طالبي، نشر ناب، إيران - طهران، 1422هـ.ق، لا.ط، ج5، ص103.

ومما يستدلّ به على وجود هذا البدن صحيحة أبي ولّاد الحنّاط عن أبي عبد الله  عليه السلام: "قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش؟ فقال: "لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ولكن في أبدان كأبدانهم". الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص244.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص45 - 46.

 

383


312

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

أو البدن البرزخيّ هو موجود ومتّحد الآن ببدنه هذا. فإذا مات (الإنسان) صار لبدنه هذا حكم الفضلة والقشر، ولذاك (المثاليّ، البرزخيّ) حكم الجوهر، والبدن الأوّل هو الذي يتحلّل ويتغيّر ويفنى باستمرار، ليظهر بدنٌ آخر بدلًا منه.

 

والفرق بين البدن الماديّ والمثاليّ، أنّ الأوّل ميتٌ بالذات والحياة عارضةٌ عليه، بخلاف الثاني فإنّه حيٌّ بالذات، ومن ثَمَّ فلا معنى لتصوّر الموت بالنسبة إليه[1].

 

5. تجدّد الحياة الدّنيويّة المادّيّة بشكلٍ آخر:

أراد فريقٌ آخر أن يُفسّر المعاد على أنّه شأنٌ مادّيّ وطبيعيّ، مثلما حصل للمجموعة الأولى، ولكن من دون حاجة للقول بعودة الأرواح إلى الأجسام. فالأرواح لا تعود إلى الأجسام، لأنّه ليس هناك أرواح بالأساس، بل تتجدّد الحياة المادّيّة هذه بنفسها بشكل آخر على نحوٍ تدريجيّ[2].

 

المعاد والعلم الحديث

لا خلاف في أنّ الكثير من الإشكالات التي كانت موجودة في السّابق لم يعد لها وجود في الوقت الحاضر، إذ صار طريق المعاد من وجهة نظر العلوم (الحديثة) أكثر استواءً ممّا كان عليه في الماضي.

 

من المسائل المعضلة على العلم القديم في باب المعاد، والتي اضطرّت القدماء إلى اللجوء إلى ضرب من التوّجيه والتّأويل، هو ما يذكره القرآن من انقلابٍ كونيّ في أنظمة الوجود حيث يطال التغيّر الشّمس والنّجوم والأرض والبحار والجبال في يومٍ من الأيّام آت، ويعود الأمر إلى ما عليه في البداية حيث انبثق.


 


[1] المصدر نفسه.

[2] سورة التكوير، الآية 1.

 

384


313

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

هذه الصّورة لم يهضمها العلم القديم، فهو لم يرتضها لا في المنشأ ولا في المآل، لأنّه كان يفترض أنّ نظام الأفلاك كان على هذه الصّورة منذ القدم وسيدوم عليها إلى الأبد.

 

يُشير القرآن إلى تلاشي نور الشّمس وانطفائه: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ وزوال نور النّجوم اللامع: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ﴾[1] وتبدّل البحار إلى بخار: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾[2].

 

أو يُشير مثلًا إلى أنّ الأرض ستُصاب بزلزالٍ يأخذ الإنسان بهول المفاجأة: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾. وهذه الزّلزلة نوعٌ خاصّ يختلف كثيرًا عمّا كانت تواجهه البشريّة على وجه الأرض، من حصول الزّلزلة في زاوية من زوايا العالم والقضاء على بعض البشر.

 

أمست هذه الصّور الآن محتملة جدًّا على أقلّ تقدير. وفي الحدّ الأدنى، ارتفع المانع إزاء صور كونيّة آتية من قبيل: ﴿إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ﴾[3] أو: ﴿إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ﴾[4]. فإذا كان العلم لا يتنبّأ بوقوع يوم كهذا فهو أيضًا لا ينفيه، ومعنى ذلك أنّ هذه المشاهد لم تعد، كحدّ أدنى، معارضة للعلم[5].

 

أين نجد التفسير الصحيح؟

علينا أن ننظر إلى ما جاء في الإسلام بشأن المعاد، بدءًا من حالة الاحتضار حتّى عالم القبر ومساءلاته، ثمّ عالم البرزخ والقيامة، فهل تقوم هذه الحالات

 

 


[1] السورة نفسها، الآية 2.

[2] السورة نفسها، الآية 6.

[3] سورة الانفطار، الآيتان 1 ـ 2.

[4] سورة الانشقاق، الآية 1.

[5] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص49 - 50.

 

385


314

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

والعوالم على أصل مفاده أنّ للإنسان روحاً، وأنّ الموت معناه قبض الرّوح، وأنّ الميْت هو من انقطعت العلاقة بين روحه وبدنه، حيث تصير الروح إلى عالمها والجسد في عالمه، أم أنّ الأمر ليس كذلك؟ هذا ما سيأتي الحديث عنه في الدروس اللاحقة[1].

 

 


[1] الإعداد.

 

386


315

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

المفاهيم الرئيسة

•        افتُرض أنّ المعاد هو إعادة المعدوم، ظَهَرَ اختلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين حول هذه القضيّة، فالفلاسفة يرون أنّ الأعيان لا تُعدم أصلًا وأنَّ ثَمَّةَ استحالة في إعادة المعدوم، في حين يرى المتكلّمون خلاف ذلك.

 

•        إنّ عودة الروح إلى الجسد عند البعض، تعني الاعتقاد بأنّ الرّوح تنفصل عن الجسد بالموت لتصير إلى عالم البرزخ ومن ثمّ تعود إلى الجسد يوم القيامة.

 

•        يعتقد البعض بأنّ المعاد يعني عودة الأرواح إلى الله، لا الأجساد، وهذا يعني الاعتقاد بالمعاد الروحانيّ المطلق، وهذا القول لا ينسجم مع تعاليم الأنبياء التي لم تعتبر أنّ العودة إلى الله هو أمرٌ روحانيّ بالكامل.

 

•        - بعض الحكماء الإسلاميّين كابن سينا كانوا يعتقدون بأنّه يمكن الاستدلال على بقاء الأرواح وعودتها إلى الله بالدّليل العقليّ، ولكن لم يكونوا يعتقدون بوجود دليل عقليّ على عودة الأجساد، ولذلك آمنوا بعودة الأجساد على أساسٍ تعبّدي محض لإخبار النبيّ الصادق به.

 

•        إنّ نظريّة عودة الأرواح إلى الله بكيفيّة جسمانيّة تبتني على الاعتقاد بوجود بدنٍ مثاليّ متحّد بالبدن الحاليّ، وعند الموت يفنى الجسد الحاليّ ويُستبدل به البدنُ المثاليّ.

 

•        البعض لا يعتقد بعودة الأرواح إلى الأجساد لعدم اعتقادهم بوجودها أساسًا، بل يؤمنون بتجدّد هذه الحياة المادّيّة نفسها، ولكن بشكلٍ آخر.

 

•        إنّ العلم الحديث لا يُعارض أحوال المعاد من قبيل ما يحدث من تبدّل في أنظمة الوجود كانفطار السّماوات وانشقاق الأرض وانطفاء نور الشّمس.

 

387


316

الدرس الواحد والثلاثون: التصوّرات المختلفة

الدّرس الثاني والثلاثون

حقيقة الموت في القرآن

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يلخّص حقيقة الموت في التصوّر القرآنيّ.

 

2. يتعرّف إلى أنّ الموت أمرٌ وجوديّ.

 

3. يبيّن وجود حياة برزخيّة بين الدنيا والآخرة.

 

389

 


317

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

فتح أسرار المعاد

لقد بلغت قضيّة المعاد حدًّا من التّعقيد ما دفع كثيرين للقول إنّه ليس أمامنا في هذا الباب سوى التّعبّد والتّسليم. أي إنّ المعاد موضوعٌ مجهولٌ للبشر ولكنّه غير ممتنع، فهم لا يملكون إزاءه غير التعبّد والتّسليم بما جاء به النبيّ، وليس من سبيل إليه إلّا الوحي.

 

ولكنّنا لا نشكّ بأنّ البشر بذلوا جهودًا لإدراك المعاد بواسطة علومهم وعقولهم. وواجبنا هاهنا أن نعرض المعاد عرضًا شاملًا كما بيّنه القرآن قبل أن نسعى وراء الجهود العلميّة والعقليّة والفلسفيّة[1].

 

في هذا المجال يبرز السّؤال الآتي: ما هو الموت؟ هل إنّ الموت يعني الفناء والعدم والانهدام أم إنّه تحوّل وتطوّر وانتقال من نشأةٍ إلى أخرى، ومن عالمٍ إلى آخر؟

 

هذا السّؤال كان دومًا ولا يزال يجول في خاطر البشر، وكلّ إنسان يودّ أن يحصل على الجواب مباشرةً وأن يؤمن ويعتقد بذلك الجواب.


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص61.

 

391


318

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

نحن المسلمين بموجب اعتقادنا وإيماننا بالقرآن الكريم، نأخذ جواب هذا السّؤال من القرآن ونؤمن ونعتقد بما يقوله في هذا المورد[1].

 

تعبير القرآن بشأن الموت

يمكن الإشارة إلى الآيات القرآنيّة العامّة التي تعبّر عن الموت بـ"التوفّي" وهي كثيرة، منها:

•        ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾[2].

•        ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾[3].

•        ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[4].

•        ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾[5].

•        ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾[6].

•        ﴿أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾[7].

•        ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[8].

 

كثيرة هي الآيات التي تعبِّر عن الموت بـ"الوفاة"، ومعنى "توفى" بإجماع اللغة هو استيفاء الشيء وقبضه بتمامه. وقوله -تعالى-: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ


 


[1]  مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة تراث وآثار الشّهيد مطهّري - الحياة الخالدة أو الحياة الأخرى، دار الإرشاد، لبنان - بيروت، 2009م، ط1، ص300.

[2] سورة النحل، الآية 28.

[3] السورة نفسها، الآية 32.

[4] سورة الزمر، الآية 42.

[5] سورة الأنعام، الآية 61.

[6] سورة الأعراف، الآية 37.

[7] سورة يونس، الآية 104.

[8] سورة السجدة، الآيتان 10 - 11.

 

392


319

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

مَوْتِهَا﴾ يعني أنَّ الله يأخذ الأنفس بتمامها وكمالها عندما يحين أجلها.

 

في آية من الآيات المذكورة آنفاً يردف الموت بالنوم، حيث يقول  تعالى -: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾. والذي يتَّضح من الآية أنّ القرآن يتحدّث عن موجود اسمه "النفس"، ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ وتؤجَّل الأُخرى إلى وقتها: ﴿وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾[1].

 

فالقرآن ينظر إلى النوم - حيث يضعف شعور الإنسان ويختفي إلى درجةٍ ما - على أنّه نوع من عزل هذه النفس وضربٌ من انفصالها، في حين تساوي اليقظة عودة تلك النفس.

 

هذه مجموعة من آيات الذكر الحكيم، ينبغي التأمّل فيها، لنرى هل يمكن تفسيرها بنحو يكون لها مفهوم غير الذي يفسِّر الموت على أنَّه إخراج شيء من الإنسان واستيفاؤه؟!

 

الصحيح أنّ هذه الآيات تدلّ، في ظاهرها، على أنّ الموت إخراج النفس من الإنسان واستيفاؤها[2].

 

الموت أمرٌ وجوديّ

يقول -تعالى-: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[3].

 

هذه الآية تُشعر أنّها تتحدّث مع كائن مدرك مفكّر، وإلّا لكان مثلما نقول للسّراج الذي يضمحلّ نوره ويتلاشى وهو في طريقه للانطفاء: عُد. فليس هذا عودًا، بل هو انتهاءٌ ونفاد. علاوة على ذلك، فإنّ القرآن يتعاطى مع الموت، كما


 


[1] سورة الزمر، الآية 42.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص66 - 68.

[3] سورة الفجر، الآيات 27 ـ 30.

 

393


320

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

يتعاطى مع الحياة، كأمرٍ وجوديّ له رسلٌ. وملك معيَّن وملائكة مخصَّصون. ولو كان الموت نهاية الحياة فلا معنى لبعث رسل وملائكة تقوم بالقبض والتوفّي.

 

فالقرآن إذًا يتعاطى مع الموت كمسألة ما فوق فقدان الحياة، أي على أنّه نوعٌ من الحياة وضرب من الانتقال والتنوّر الحياتيّ. فالإماتة تشبه ولادة الطّفل عند خروجه من بطن أُمّه، فهو يستبدل وضعًا بآخر وحياةً بأخرى، لا أنّه يكون في حياةٍ ومن ثَمّ تُسلب منه تمامًا[1].

 

حديث الإنسان مع الملائكة

اتّضح ممّا تقدّم أنّ الموت في منطق القرآن ليس فناءً وانعدامًا، بل هو انتقالٌ من عالمٍ إلى عالم آخر ومن نشأةٍ إلى نشأةٍ أخرى، وهناك تستمرّ حياة الإنسان في صورة ثانية وترتيبٍ آخر.

 

ومن بين الآيات التي يُستفاد منها في هذا المجال قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾[2].

 

تعرض هذه الآية الكريمة للكلام الذي يدور بين الملائكة وجماعة من المتوفّين بعد موتهم يعتبرون أنفسهم من المستضعفين، إذ تسألهم الملائكة فيجيب هؤلاء، فتردّ عليهم الملائكة.

 

والسؤال: علامَ تدلّ هذه الآية؟ ألا تدلّ على أنّ لهؤلاء المستضعفين ضرباً من الحياة[3]؟


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص77 - 78.

[2] سورة النساء، الآية 97.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص70 - 71.

 

394


321

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

مؤمن آل ياسين

من جملة الآيات أيضاً ما يتحدّث عن حال أشخاص مضوا، ولكنّهم يتمتّعون بنوع من الحياة قبل القيامة على ما يخبر به القرآن.

 

أحد هؤلاء، مؤمن آل ياسين الذي ترد قصّته في سورة "يس"، إذ يخبر القرآن عن بعث رسولين -لقرية- [1] عزّزهما الله بثالث، قد آمن بهم رجل نهض بتبليغ رسالتهم.

 

لقد ذكرت سورة "يس" المصير الذي آل إليه هذا الرجل المؤمن، فسمّي بمؤمن آل ياسين مقارنة بمؤمن آل فرعون، وإن لم يذكره بصيغة "مؤمن آل ياسين" بل عبَّر عنه بقوله: ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾.

 

يقول -تعالى- في قصّته: ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾[2] عند هذه اللحظة تنتهي به الحياة من دون أن يذكر القرآن أنَّها تمّت موتاً أو قتلاً، بل التفاسير هي التي تذكر الطريقة التي قُتل بها، ولا شأن لنا حاليًّا بذلك.

 

يقال في خطابه: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ فيردّ -كما يحكي القرآن-: ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾[3].

 

تتحدّث الآية عن هذا الشخص المؤمن وأنّه أُدخل جنّةً من نوع خاصّ[4]، وراح يفكّر وهو في عالمه ذاك بأهل هذه الدّنيا. وكلّ ذلك جرى قبل القيامة[5].

 


[1] لم يذكر القرآن سوى لفظ "قرية" ولكن قالوا إنّها مدينة أنطاكية وهي جزء من بلاد الروم قديماً، وهي اليوم جزء من تركيا أو سوريا، فقد بعث الله الرُسل من فلسطين إلى هذه المدينة.

[2] سورة يس، الآية 20.

[3] السورة نفسها، الآيتان 26 - 27.

[4] ثمّة أكثر من جنّة، منها جنّة البرزخ وغيرها، وكما نستفيد من القرآن وجود الحياة بعد الموت، كذلك نستفيد وجود هذه الجنّات.

[5] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص 71 - 72.

 

395


322

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

الدنيا والبرزخ والقيامة

ينقل القرآن في آيةٍ أُخرى على لسان أهل القيامة (كلّهم أو بعضهم) ولا سيّما على لسان المذنبين، قولهم: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[1].

 

وإذا كان الإنسان يغطّ بعد الموت بسبات طويل وعميق ثمّ يحيا في القيامة فقط، لكان ينبغي لأولئك أن يقولوا: ربّنا أمتّنا مرّةً واحدة وأحييتنا مرّةً واحدة (بدلاً من اثنتين).

 

ثمّ ألا ينطبق مدلول الآية على وجود عوالم ثلاثة: عالم الدّنيا والطبيعة، وعالم البرزخ، وعالم القيامة؟ فعندما يغادر الإنسان هذا العالم إلى البرزخ بالموت، يعدّ ميْتاً في هذه الدّنيا وحيّاً في البرزخ. وعندما ينهض في القيامة فكأنّه - وقد أُحيي فيها - قد مات من البرزخ[2].

 

إشكال الكفّار وجواب القرآن

هناك آية أخرى أيضاً في القرآن الكريم يمكن الاستفادة منها في هذا المجال. نقرأ في سورة "السجدة" حكاية عن الكافرين، قوله -تعالى-: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾[3].

 

إن جلّ استناد الكفّار، في إنكار المعاد، يعود إلى الفناء والانعدام، لا إلى عودة الحياة إلى الجسد الذي تهرّأ تراباً والعظام التي صارت رميماً. هم يقولون أئذا ضللنا في الأرض: أي صرنا فناءً وعدماً فكيف نُخلَق من جديد ونحن عدم؟!


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص71 - 72.

[2] سورة غافر، الآية 11.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص78.

 

396


323

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

والقرآن يردّ عليهم بجواب يبدو غير متسق مع الإشكال ظاهراً. هم يقولون: ﴿  وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾[1]. فيردّ عليهم بقوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[2].

 

هم يقولون: كيف نحيا وقد صرنا إلى الفناء والعدم، أي كيف يُعاد المعدوم -بلغة الاصطلاح- ويردّ عليهم: إنّكم على خطأ فأنتم لم تُعدموا بل أخذكم ملك الموت الموكَّل بكم. ومكمن خطئكم أنّكم ظننتم أن هذا الذي ضاع هو أنتم. ولو فرضنا أنَّ هناك شيئاً ضلّ في الأرض وضاع، فليس أنتم، وإنّما أنتم ذلك الشيء الذي قبضه الملك وأخذه، ومن دون هذا التفسير لا يتسق الجواب مع الإشكال[3].

 


[1] سورة السجدة، الآية 10.

[2] سورة السجدة، الآية 11.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص80-82.

 

397


324

الدّرس الثاني والثلاثون: حقيقة الموت في القرآن

المفاهيم الرئيسة

•        يتعاطى القرآن مع الموت على أنّه أمرٌ وجوديّ له ملائكة مخصّصون يقومون بالقبض والتوفّي.

 

•        يُعبّر القرآن الكريم عن الموت بالتوفّي الذي يعني الاستيفاء، أي الحصول على الشيء بتمامه وكماله.

 

•        الموت ليس فناءً وانعدامًا، بل هو انتقال من نشأة إلى أخرى. فآيات القرآن الكريم تنقل حديث الإنسان مع الملائكة مباشرةً بعد موته. (الآية 79 من سورة النّساء).

 

•        يعتبر القرآن الرّوح حقيقة مستقلّة عن البدن وتبقى بعد فناء البدن. ويُجيب في الآية 11 من سورة السّجدة على الكفّار الذين يستنكرون الرجوع بعد الموت، بأنّ الشخصيّة الحقيقيّة للإنسان باقية وتقع في اختيار الملائكة. وفي آية أخرى (الزمّر، 24) يُعطي مثالًا على الموت بالنّوم الذي هو أيضًا عبارة عن انتقال من نشأة إلى أخرى، ومن ثَمّ الرّجوع إلى هذه النّشأة.

 

398


325

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

الدرس الثالث والثلاثون

مسألة الرّوح (1)

الروح في القرآن الكريم

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح موقع الروح في النصوص الإسلاميّة.

2. يتعرّف إلى الروح الإنسانيّة في نهج البلاغة.

3. يعدّد استعمالات الروح في القرآن الكريم.

 

399

 


326

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

تمهيد

ما وصلنا إليه في بحث المعاد، بل ما يدلّ عليه صريح الآيات أنّ القرآن يتحدّث عن ضرب من الحياة الشخصيّة للبشر في الفاصلة بين الموت والقيامة.

 

وبعبارة أُخرى، يشير إلى أنّ روح الإنسان باقية قبل القيامة. وهذا ما يجرّنا للبحث عن الروح، وبصرف النظر عن الأدلّة العلميّة أو الفلسفيّة على نفي الروح أو إثباتها، نحتاج أن ننظر في المتون الإسلاميّة ذاتها وعلى رأسها القرآن، لنرى كيف تعاطت مع الروح.

 

وفي هذا المجال بين أيدينا آيات نريد أن نبحث فيها. وعندما يتحدّد موقف الإسلام كاملاً، ننتقل بعدئذ إلى النظريّات العلميّة في ما تذهب إليه من نفي الروح أو إثباتها.

 

بيد أنّا قبل أن نلج البحث، من المفيد أن نذكر أنَّ مصادرنا الدينيّة - سوى القرآن الكريم - مثل الروايات ونهج البلاغة وأدعية الصحيفة السجّاديّة، تحفل بذكر وافر للروح باعتبارها حقيقة تنفصل عن بدن الإنسان بالموت وتبقى، بحيث لا نظنّ أنّه يبقى مجال للشكّ فيها.

 

فأحياناً قد تكون هناك عشرة أحاديث أو خمسون حديثاً لها وضع خاصّ،

 

401

 


327

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

وعندئذٍ يمكن أن يُقال إنَّ هذه العقيدة ظهرت بتأثير أفكار الآخرين، ولكن ماذا يكون عليه الحال عندما تتجاوز هذه الأحاديث حدّ التواتر.

 

سنشير في ما يلي لبعض الشواهد من نهج البلاغة بدون أن نزعم أنّنا نقدّم رصداً كاملاً لما يحويه هذا السفر عن الروح، والهدف أن نستجلي رؤية أئمّة الإسلام حيال المسألة[1].

 

الروح في نهج البلاغة

لدينا عدد من الخطب الطويلة في نهج البلاغة تُعرف إحداها باسم الخطبة "الغرّاء". تحفل هذه الخطبة -كسائر الخطب الطويلة- بمواضيع مختلفة كالتوحيد والمواعظ وغيرهما.

 

وفي مواعظ هذه الخطبة يتحدّث الإمام عن الموت ويُذكِّر به مشيراً إلى حال المحتضر والأقارب من حوله نواحب. وقد تعطّلت بعض حواسّه، حيث يقول  عليه السلام: "فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ، وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً، وَفِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً، قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ، وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ، وَعَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ، وَمَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ، وَصَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا، وَالْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا". ثمّ يقارن بين مآل الأجساد والأرواح، فيقول: "وَالْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا، مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا، لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا، وَلَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا"[2].

 

أجل، ففيما تتيّبس العظام في القبر وتصاب بالنخر، تبقى الأرواح رهينة بما كسبت، وقد صارت على يقين من الغيب الذي كانت تُذكَّر به في الدنيا ولم تستيقنه.


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص 155- 156.

[2] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 83، ص111.

 

402


328

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

إنَّ غرضنا من الشاهد هو هاتان الجملتان في قول الإمام  عليه السلام: "صارت الأجساد شَحِبَة بعد بضّتها...، والأرواح مرتهنةً بثقل أعبائها" أفلا ينظر نصّ الإمام إلى مسألة انفصال الجسد عن الروح؟ ففيما يؤول الجسد إلى التهرُّؤ تظلّ روح الإنسان باقية في عالم آخر. وبذلك فإنَّ للجسد وضعه وللروح وضعها الآخر.

 

وفي الخطبة (107) يتحدّث الإمام عن حال المحتضر وهو بين أهله، فيقول: "يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ".

 

يشير النصّ -وربّما ثَمَّ نصوص أُخرى تُؤيّده- إلى أنَّ حاسّة السمع تتعطّل في المحتضر قبل حاسة البصر.

 

ثم يواصل الإمام قائلاً: "ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِه - فَقُبِضَ بَصَرُه كَمَا قُبِضَ سَمْعُه وخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِه - فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِه"[1].

 

ألا نستفيد من هذا النصّ للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "وخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِه" أنَّ الماهيّة الحقيقيّة للموت هي خروج الروح من البدن؟

 

ثَمَّ خطبة مختصرة أُخرى يمرّ فيها الإمام على وصف ملك الموت، ليستدلّ أنّ البشر العاجز عن وصف ملك الموت كيف يطمع بربِّ ملك الموت! يتساءل الإمام بقوله: "هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟".

 

ثمّ يذهب الإمام إلى ما هو أبعد من ذلك حين يشير إلى وفاة الجنين في بطن أُمّه: "بَلْ، كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟" أم لا ضرورة لذلك إذ تجيبه الروح وتنصاع إليه بإذن ربّها؟ "أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا".

 

ثمّ ينعطف عليه السلام للتساؤل: "كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؟"[2].


 


[1] الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 83، ص161.

[2] المصدر نفسه، الخطبة 112، ص167.

 

403


329

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

محلّ الشاهد من الخطبة، قول الإمام عليه السلام: "أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا؟" أفلا يؤكّد النصّ أنَّ الإمام أمير المؤمنين ينظر إلى الموت على أنّه انفصال للروح عن الجسد؟

 

إنَّ لهذه النصوص بأجمعها، دلالةً على الروح، وما نخلص إليه، أنّه لا يمكن الشكُّ بمسألة الروح والزعمُ أنّها ظهرت في ما بعد، بعد أن نضجت الحضارة الإسلاميّة وراجت أفكار الأمم الأُخرى بين المسلمين.

 

لقد ذكر البعض أنّ فكرة الروح قد برزت بين المسلمين بعد أن تغلغلت الفلسفة اليونانيّة في أوساط المسلمين أواخر القرن الهجري الثاني وأكثر في القرن الثالث. وإلّا فإنَّ فكرة وجود الروح وخروجها من البدن بالموت وبقائها، لم يكن لها وجود قبل ذلك!

 

والحال أنّنا رأينا أنَّ للروح وجوداً سابقاً في المتون الإسلاميّة لا يمكن الشكّ فيه.

 

على سبيل المثال أيضًا، ليست صلاة الميت من مخترعات القرن الثاني أو الثالث، بل كان المسلمون شيعة وسُنّة يؤدّونها في صدر الإسلام بواجباتها ومستحبّاتها مئات المرّات وألوفها.

 

وفي هذه الصلاة يدعى للميت قبل آخر تكبيرة، بدعاءٍ أوّله: "اللهمَّ إنَّ هذا المسجّى قدّامنا عبدك وابن عبدك نزل بك وأنت خير منزول به...، اللهمَّ إنّك قبضت روحه إليك، وقد احتاج إلى رحمتك وأنت غنيّ عن عذابه، اللهمَّ إن كانَ محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته"[1].

 

فمنذ صدر الإسلام ونحن نقرأ لكثير من الأموات هذا الدعاء كجزء من الأدعية المستحبّة لصلاة الميت[2].


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص184.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص156 - 161.

 

404


330

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

الروح في القرآن

يقول - تعالى -: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[1].

 

في القرآن آيات تتحدّث عن الروح على أنّه أمر وحقيقة في عَرض الملائكة، بيدَ أنّ هذا الموجود ليس من سنخ الموجودات التي نراها ونحسّ بها كالصخر أو الشجر أو الجبل أو البحر أو النجوم مثلاً، بل هو موجود من نوع الأُمور التي لا نحسّها ولا نلمسها.

 

يقول - تعالى - في سورة عمَّ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾[2]. وظاهر التعبير أنّ الروح ليس من الملائكة لأنّه ذُكر في عرضهم. إنَّ جبرائيل أحد الملائكة، وميكائيل كذلك، وليس ثمّة تناسب في أن يذكر القرآن ملكاً في عرض عموم الملائكة.

 

في آية أُخرى يُذكر الروح أيضاً في عرض الملائكة، حيث يقول – تعالى -: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾[3].

 

وفي آية رابعة يقول -تعالى-: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾[4]، والباء في قوله: "بِالْرُّوحِ" (وفيما إذا كانت باء الاستعانة والاستمداد، أي إنَّ الملائكة تنزل بالاستمداد من الروح، أو إنّها باء الملابسة والمصاحبة، أي إنَّ الملائكة تنزل مع الروح) لا يغيِّر من ادّعائنا بأنَّ القرآن يذكر الملائكة والروح في عرض بعضهما، بل ما في الآية يكفي للدلالة على ما نريد.

 

وفي مواطن أُخرى من القرآن وُصف الروح بكلمة "الأمين" تارة وكلمة "القدس" أُخرى، يقول -تعالى-: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾[5]، وفي آية أُخرى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ﴾[6].

 


[1] سورة الإسراء، الآية 85.

[2] سورة النبأ، الآية 38.

[3] سورة القدر، الآية 4.

[4] سورة النحل، الآية 2.

[5] سورة الشعراء، الآيتان 193 - 194.

[6] سورة النحل، الآية 102.

 

405


331

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

لقد ذهب العديد من المفسّرين إلى أنَّ روح القدس والروح الأمين هما كناية عن جبرائيل بقرينة ما تذكره آيات أُخرى من أنَّ جبرائيل هو الذي نزل بالقرآن على النبيّصلى الله عليه وآله وسلم.

 

أمّا صاحب تفسير الميزان فلا يرى أنَّ جبرائيل هو المقصود بالروح الأمين وروح القدس، بل يذكر أنّ ما يُفهم من آيات القرآن هو الآتي: ثمَّ إلى جوار الملائكة التي تنزل بالوحي حقيقة يطلق عليها القرآن اسم الروح، وحامل الوحي في الواقع هو تلك الروح (وهو نفسه الروح الأمين وروح القدس) وليس جبرائيل، فجبرائيل ليس حامل الوحي.

 

وفي بعض الآيات ذُكِرت الروح توأماً لكلمة الوحي، كما في قوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾[1]. ويذهب البعض بلحاظ هذه الآية الكريمة إلى أنّ الآيات القرآنيّة ذاتها هي واحدة من موارد إطلاق كلمة الروح.

 

بيدَ أنّ العلّامة الطباطبائيّ يذهب إلى أنّه ليس المقصود بالروح هنا آيات القرآن نفسها، بل تلك الحقيقة التي ذُكرت في مواطن أُخرى بعنوان الروح الأمين وروح القدس.

 

وعندما يقول: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ "أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا" فمعناه أن الروح الأمين هو من أمرنا، أي من جنس أمرنا.

 

فالمقصود من الروح هنا - فيما يذهب إليه صاحب تفسير الميزان - ليس آيات القرآن نفسها، بل تلك الحقيقة الحاملة للوحي. والمقصود من "أَوْحَيْنَا" هنا: "نَزَّلْنَا".


 


[1] سورة الشورى، الآية 52، وسيمرّ أن أغلب الآيات التي سنتحدّث عنها تقترن بكلمة: من أمرِ...

 

406


332

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

يوضّح صاحب الميزان رؤيته ببحث فحواه أنّه كما يقال للسيّد المسيح (روح) -كما يعبّر القرآن الكريم- فكذلك يقال لتلك الحقيقة.

 

إنّ من الموارد التي أطلقها القرآن على الروح هو اللقب الذي اكتسبه عيسى ابن مريم: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾[1].

 

كثيرة هي الآيات التي تضمّنت كلمة الروح، منها مثلاً ما ذُكر على سبيل تأييد المؤمنين: ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾[2].

 

ما هو المقصود من الروح هنا؟ هل المقصود منها تلك الحقيقة التي تأتي في عرض الملائكة (بالنحو الذي يكون الروح مؤيّداً للملائكة) أم إنّها حالة معنويّة أُلقيت في قلوب المؤمنين وأطلق عليها القرآن روحاً؟ كأن يرسل الله في قلوبهم إلهاماً وقدرة وقوّة، ويصلهم من عنده - سبحانه - تأييد يُطلَق عليه الروح الإلهيّ؟

 

من المواطن الأُخرى التي استعملت فيها كلمة الروح، هو ما حصل مع السيّدة مريم. فالقرآن يذكر أنّها حملت ولكن ليس من إنسان، وإنّما بعث الله مَلكاً أو حقيقة غير الملائكة فأوجد فيها هذا الاستعداد بطريق خاصّ.

 

يقول -تعالى-: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾[3]، وهو يدلّ على أنّه لم يكن بشراً بل تمثّل لمريم كذلك.

 

ولا يُستبعد أن يكون المقصود من قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ هو الروح الذي ذُكر في آيات أُخرى رديفاً للملائكة، وأنَّ القرآن يريد أن يصرّح أنَّ هذا الروح هو الذي أُرسل لمريم.

 


[1] سورة النساء، الآية 171.

[2] سورة المجادلة، الآية 22.

[3] سورة مريم، الآية 17.

 

407


333

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

من الموارد الأُخرى التي ذكر فيها القرآن لفظ الروح ما جاء عن الإنسان أو البشر بشكل عامّ. فبشأن آدم: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾[1]، والمستفاد من مجموع الآيات أنْ لا اختصاص لذلك بآدم عليه السلام، وظاهر الآية - كما يفيد لفظ (سوّاه) - أنّه - تعالى - بعد أن خلق جسم آدم نفخ فيه من روحه.

 

تبقى هناك آيات أُخرى كثيرة في القرآن استخدمت كلمة الروح، ولكن ما تقدّم يكفي في توضيح كلّيّاتها.

 

يبقى ما ورد في سورة الإسراء من قوله -تعالى-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ قُل، والمسألة التي تُطرح هنا: ما هو المقصود من الروح التي وقع السؤال عنها؟ ثمّ ما هي طبيعة هذا الجواب الذي ذكرته الآية للسؤال؟

 

فهل أرادت الآية أن تُجيب جواباً حقيقيّاً أم إنّ الله أراد أن ينهى عن السؤال عنها، وأنّ الروح ليست أمراً يمكن أن يعرَّف حتّى يكون بمقدوركم الوقوف على ماهيّتها وحقيقتها؟

 

هذا ما سنسعى للإجابة عنه في الدرس التالي.


 


[1] سورة السجدة، الآية 9.

 

408


334

الدرس الثالث والثلاثون: مسألة الرّوح (1)

المفاهيم الرئيسة

•        تحفل مصادرنا الدينيّة بذكر وافر للروح باعتبارها حقيقة تنفصل عن بدن الإنسان بالموت وتبقى.

 

•        لدينا العديد من الخطب الطويلة في نهج البلاغة التي تحفل بمواضيع مختلفة كالتوحيد والمواعظ وذكرٍ للروح.

 

•        - تتحدّث العديد من الآيات القرآنيّة عن موجود تطلق عليه اسم "الروح" في عرض وجود الملائكة.

 

•        - يذهب العديد من المفسّرين إلى تفسير "الروح الأمين" و"روح القدس" بأنّه كناية عن الملَك جبرائيل.

 

•        - يخالف العلّامة الطباطبائي الاتجاه المتقدّم ويرى أنّ الروح الأمين وروح القدس عبارة عن موجود شريف يكون مصاحبًا لملائكة الوحي وهو الحامل حقيقة للوحي.

 

409

 


335

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

الدرس الرابع والثلاثون

مسألة الرّوح (2)

الروح في القرآن الكريم

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى حقيقة الروح في قوله -تعالى-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾.

 

2. يتعرّف إلى أنّ الشيء قد يُعرّف بعلله الداخليّة أو بعلله الخارجيّة.

 

3. يلخّص انقسام العوالم إلى قسمين: عالم الأمر وعالم الخلق.

 

411

 


336

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

تمهيد

كنّا بصدد تحديد المراد من كلمة الروح المذكورة في آيات عديدة من كتاب الله -تعالى-، وقد استعرضنا العديد من تلك الآيات، ووصل بنا البحث إلى قوله -تعالى-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾.

 

فما هي ماهيّة الروح المسؤول عنها؟

وهل يمكن الوصول إلى ما يشفي الغليل على هذا الصعيد[1]؟

 

ما حقيقة الروح؟

اختلف المفسّرون في تحديد ماهيّة الروح المذكورة في الآية السابقة، فقال بعضهم: ما دام الروح قد ذُكِر بعرض الملائكة في آيات أُخرى، فقد استهدف السؤال أن يعرِف هذه الروح التي هي غير الملائكة. وهذا هو مورد السؤال.

 

وذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود من الروح هنا القرآن نفسه.

 

وفريق آخر من المفسّرين قالوا إنّ المقصود من الروح في الآية هو جبرائيل، وهؤلاء هم الذين ساووا بين الروح الأمين وروح القدس وبين جبرائيل. ورأيهم أنّه حيثما ذُكِر الروح في القرآن، وفي كلّ مرّة يأتي ذكره في عرض الملائكة، فإنَّ المقصود به جبرائيل.


 


[1] الإعداد.

 

413


337

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

وثَمَّ فريق من المفسّرين ذكروا أنّ المراد بالروح هنا هو الروح الإنسانيّة ذاتها، التي ذُكِرت في الآيات من قبيل قوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾.

 

فهم يسألون عن المقصود من الروح الإنسانيّة، وقد أجيبوا بأنّها: ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾.

 

أمّا الرأي الآخر - وقد اختاره صاحب الميزان - فقد ذهب إلى أنّ السؤال عن الروح لم يأتِ بمعنًى خاصّ.

 

فالسائلون رأوا القرآن يذكر لفظة الروح كثيراً. فتارة يقول: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾. وتارة: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾[1] وأُخرى: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾[2]. وبإزاء هذا التعدّد والكثرة اللّذين شملا الإنسان في ما شملا، لم يفهموا شيئاً، فأرادوا -بسؤالهم- أن يعرفوا هذه الروح التي يَرِدُ ذكرها منفصلاً ومع الإنسان والأنبياء وبإزاء الملائكة، فجاءهم الجواب: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[3].

 

تفسير العلّامة الطباطبائيّ للروح في كتاب الله  تعالى -

في سبيل توضيح نظر العلّامة الطباطبائيّ في حقيقة الروح المسؤول عنها في كتاب الله -تعالى-، نذكر مقدّمةً نستفيدها من كلماته للوصول إلى الغاية المنشودة.

 

يقول العلّامة الطباطبائيّ إنّ الشيء إمّا أن يعرّف بعلله الداخليّة أو بعلله الخارجيّة.

 

ومعنى ذلك أنّ بمقدورنا أن نعرِّف الشيء إمّا بأجزائه (وهو ما يُقال له العلل الداخليّة) أو نعرِّفه بفاعله أو نتيجته والفائدة المتوخّاة منه (وهو ما يُقال له العلل الخارجيّة).


 


[1] سورة النحل، الآية 2.

[2] سورة المجادلة، الآية 22.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص183 - 185.

 

414


338

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

فلو سألنا أحدٌ: ما هذه السجّادة؟ فتارّة نجيبه بأنّها مجموعة خيوط ملوّنة من القطن أو الصوف نُسجت بهذا الشكل. نجد أنّ هذا الجواب ينطوي على ذكر المادّة والصورة، ومن ثمّ فتعريفنا للسجّادة تمَّ من خلال بيان مادّتها وصورتها، أي من خلال بيان أجزائها.

 

وتارة نجيبه من خلال بيان الغرض والفائدة، فنذكر له أنَّ السجّادة هي ما يُفرَش ويُستفاد منه بالجلوس.

 

وقد نعرّف الشيء بفاعله. فإذا سألنا أحد: ما هذا؟ نجيب: كتاب من آثار العلّامة الطباطبائيّ، من دون أن نذكر شيئاً عن محتوى الكتاب وموضوعه، ومن دون أن نشير إلى الهدف من تأليفه أيضاً، بل اكتفينا بتعريفه من خلال فاعله وحسب.

 

طبيعيّ أنّ موارد الجواب تختلف باختلاف موارد السؤال، بيد أنّهم يذكرون أنّ أيّاً من هذه التعريفات لا يكون تامّاً لوحده، وإنّما التعريف الكامل هو الذي يتوافر على بيان العلل الداخليّة والخارجيّة للشيء متى أمكن ذلك[1].

 

الله وعدم إمكان التعريف

إذا اتَّضَحَ ما تقدّم نقول: إذا كان الشيء بسيطاً لا جزء له، فلا يمكننا تعريفه بأجزائه، كذلك إذا لم تكن له غاية (أي لم يوجد لأجل غاية أُخرى، وكذا إن كانت غايته متّحدة مع فاعله) فلا يمكن تعريفه من خلال أثره وغايته.

 

وإذا كان للشيء فاعل وحسب، فالطريق الوحيد لتعريفه هو تعريفه من خلال فاعله.

 

أمّا إذا لم يكن للشيء فاعل ولا جزء ولا غاية، فلا سبيل لتعريفه. ولهذا السبب لا يمكننا تعريف الله (نعني التعريف الواقعيّ أو الذاتيّ بحسب الاصطلاح).


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص185 - 186.

 

415


339

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

نحن نستطيع أن نعرّف الله من خلال الأثر (والأثر غير الغاية). بيدَ أنّا لا نستطيع تعريفه بالمعنى الذي نعرّف به بقيّة الأشياء. فليس لله جزء ولا فاعل ولا غاية، وإذا لم يكن ثَمَّ وجود للأدوات التي يُفاد منها في التعريف، فلا يمكن الاستفادة منها في تعريف الله -تعالى-[1].

 

تعريف الروح بالله

إنَّ ما يطرحه القرآن بعنوان الروح يُفترض أن لا أجزاء فيها، وعندما سألوا عن الروح لم يعرّفها لهم بأجزائها، إذ لا أجزاء لها حتّى تُعرّف من خلالها. كما أنّها لم تأتِ لغاية معيّنة، أو على الأقلّ لم تأتِ لغاية يمكن للسائل أن يعرفها[2].

 

إذاً، الطريق الوحيد المتبقّي هو أن تُعرَّف بالله، فيُقال: الروح شيء ناشئ من أمر الله[3].

 

الأمر في القرآن

يقول العلّامة الطباطبائيّ: إنَّ كلمة "الأمر" إذا نُسبت إلى الله فهي ناظرة إلى الوجود الدفعيّ للأشياء، بخلاف ما إذا نسبت إلى غيره. فالأمر في القرآن يُنسب إلينا أحياناً، كما في قوله: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[4]. فالأمر هنا إشارة إلى المتصدِّين لشؤوننا. وقد يَنسبُ القرآن "الأمر" إلى أشياء أُخرى.

 

أمّا إذا نُسب "الأمر" إلى الله، وقيل "أمر الله" و"أمره" فإنَّ المقصود وجه الانتساب إلى الله مباشرة من دون دخلٍ لعاملي الزمان والمكان. وبتعبير العلماء إنّها تدلّ على الوجود الدفعيّ للأشياء لا الوجود التدريجيّ، وذلك خلافاً للخلق،


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص186.

[2] حتّى لو جاءت الروح من أجل غاية معيّنة، فهذه الغاية أخفى من الروح ذاتها. فغاية الروح أن ترجع إلى الله، وعندئذ نرى أنَّ السائل لا يعرف معنى العودة إلى الله.

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص187.ؤ

[4] سورة النساء، الآية 59.

 

416


340

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

فعندما يستخدم القرآن كلمة "الخلق" فالمنظور هو الإيجاد التدريجيّ للأشياء، كما هو الحال في خلق الله السماوات والأرض في ستّة أيّام، أيّاً كان المقصود من الأيّام الستّة.

 

وعندما يتحدّث الله عن النطفة في الرحم، وتحوّلها إلى علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظامًا، ثمّ تُكسى العظام وهكذا، فإنَّ القرآن يعبّر عن ذلك بكلمة "الخلق" عناية بالوجود التدريجيّ للشيء، بمعنى أنَّ للشيء ارتباطاً بعلله الزمانيّة والمكانيّة[1].

 

أمّا عندما يعبّر بـ"الأمر" فالمقصود -كما تقدّم- هو الوجود الدفعيّ، يقول -تعالى-: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[2]. و"كُنْ" هنا هي فعل الله، كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "قوله فعله"[3].

 

أو قوله -تعالى-: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾[4], واللمح ظاهراً هو رمش العين، ومعناه أنّه لا محلّ للزمان والتدرّج وما شاكل.

 

وفي مورد بحثنا فقد سُئِل عن الروح، وهي ليست من جنس خلق الله، بل هي من جنس أمر الله، قال -تعالى-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾.

 

وكذلك جاء التعبير بصيغة: ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ في قوله -تعالى-: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾. تعني: من جنس أمر الله[5].

 

الإنسان ووجهاه الخَلقيّ والأمْريّ

لقد جاءت صيغة السؤال في قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ مطلقة. والمراد


 


[1] سورة المؤمنون، الآية 14.

[2] سورة يس، الآية 82.

[3] نقل الشهيد رحمه الله الشاهد من هذه الخطبة بالمعنى، ونص الشاهد هو قوله عليه السلام: "يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَه كُنْ فَيَكُونُ، لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ ولَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وإِنَّمَا كَلَامُه سُبْحَانَه فِعْلٌ مِنْه أَنْشَأَه ومَثَّلَه، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، ولَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً..."، الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 186، ص274.

[4] سورة القمر، الآية 50.

[5] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص187 - 189.

 

417


341

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

معرفة جنس هذه الروح، التي نُفخت في الإنسان أيضاً، وهي حاملة للوحي. فجاء الجواب: إن هذه الروح هي من جنس أمر الله. ولأنَّ الروح التي يُسأل عنها تشمل روح الإنسان أيضاً، فمن الطبيعيّ أن تسري النتيجة ذاتها لروح الإنسان. فللإنسان جنبتان ووِجهتان وُجوديّتان، الوجهة الخلقيّة والوجهة الأمريّة.

 

وقوله - تعالى -: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ تعبير عن الوجهة الخلقيّة للإنسان التي تنطوي على الصفة الزمانيّة والمكانيّة والتدريجيّة.

 

أمّا قوله - تعالى -: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ فهو بيان للجنبة الأمريّة للإنسان. فالإنسان يصل في خلقته التدريجيّة إلى نقطة يُفاض عليه شيء ﴿مِنْ عِندِ اللّهِ﴾.

 

ولكن هذا لا يعني أنّ هناك شيئاً ناجزاً وكاملاً قد استُودع في مكانٍ ما ثمّ جيءَ به، كما كانت عليه نظريّة الفلاسفة قبل أرسطو (مثل أفلاطون وغيره).

 

كما لا ضرورة للاعتقاد أنَّ ثمّة أمراً خُلق دفْعيّاً بالتقارن مع هذه المادّة[1]، بل نستطيع القول إنَّ المادّة نفسها أوجدت بسيرها التكامليّ وجوداً أمريّاً. أي تبدّل الوجود الزمانيّ بوجود غير زمانيّ.

 

وهذا ما ذهب إليه صدر المتألّهين في هذا المجال. ثمّ تحرَّك تجاه الآيات الأُخرى، فذكر أنَّ الآيات في سورة "المؤمنون"[2] تتحدّث عن الجنس فقط دون أي بيان آخر لكيفيّة تكوّن هذا الجنس الذي هو ﴿مِنْ عِندِ اللّهِ﴾.

 

إذاً، إنَّ للإنسان وجهتين وُجوديّتين، كما نستفيد ذلك من القرآن، الوجهة الخَلْقيّة، والوجهة الأمريّة، والوجهة الأمرية هي التي تسمّى بالروح أحياناً.


 


[1] لا تشير الآيات -التي بين أيدينا- إلى هذه المسألة بدرجة وافية.

[2] وهي قوله - تعالى-: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (سورة المؤمنون، الآيات 12 - 14).

 

418


342

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

والروح تُطلَق على غير الإنسان أيضاً، فإذا اعتبرنا حقيقة الوحي روحاً فلا نجانب الصواب، لأنَّ الثابت أنَّ الوحي الإلهيّ حقيقة تَرِدُ الزمان والمكان من أُفقٍ ما فوق الزمان والمكان، ولذلك فهي أيضاً من جنس "أمر الله" وليس وجوداً تدريجيّاً ينبغي أن تظهر بذرته في الطبيعة ويتكامل عبر الزمان والمكان حتّى يصير وحياً. كلّا، وإنّما عندما تتهيّأ الأرضيّة هنا، يهبط الوحي بأمر الله.

 

هذا خلاصة ما يذكره العلّامة الطباطبائيّ رحمه الله[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص189 - 192.

 

419


343

الدرس الرابع والثلاثون: مسألة الرّوح (2)

المفاهيم الرئيسة

•        اختلف المفسّرون في تحديد الروح المسؤول عنها في قوله -تعالى-:

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ فقال بعضهم إنّها القرآن نفسه، وذهب بعضٌ آخر إلى أنّها جبرائيل، وذهب فريق ثالث إلى أنّها الروح الإنسانيّة.

 

•        اختار العلّامة الطباطبائيّ رأياً آخر في تحديد الروح المسؤول عنها، واختار أنّها لم تأتِ في الآية المذكورة بمعنى خاصّ، وإنّما هي جنسٌ لكلّ ما يُطلَق عليه أنّه روح، وأنّ المراد منها ما يكون من عالم الأمر.

 

•        إنّ الشيء قد يُعرّف بعلله الداخليّة، وقد يعرّف بعلله الخارجيّة، ولكن متى لم تكن له أجزاء، ولم تكن له غاية يمكن للسائل أن يعرفها، ينحصر تعريفه حينئذٍ بآثاره أو بمبدئه، ولذا عُرّفت الروح بأنّها من "أمر الله".

 

•        إنّ للإنسان وجهين، أحدهما خلقيّ وهو الذي ينطوي على البعد الزمانيّ والمكانيّ والتدريجيّ في وجوده، والآخر أمريّ وهو الذي ينطوي على البعد الدفعيّ في وجوده، وهو المعبّر عنه بـ"الروح".

 

420

 


344

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

الدرس الخامس والثلاثون:

مسألة الروح (3)

الروح عند الحكماء وبعض النظريّات المعاصرة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف إلى عقيدة حكماء اليونان حول وجود الروح.

 

2. يشرح موقف الحكماء المسلمين في مسألة الروح.

 

3. يبيّن الجذور الفلسفيّة للقول بوجود الروح في الإنسان.

 

421


345

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

هل الروح فكرة يونانيّة؟

إنّ لكثير من كلام اليونانيّين جذراً في المشرق وهو ليس من عندهم، ولا سيّما أفكار فيثاغورس وأفلاطون.

 

ويبدو أنّ الروح في اليونان فكرة أفلاطونيّة وليست فكرة أرسطيّة، لأنّ أرسطو ينكر البقاء. ولمّا كان أصل هذه الأفكار من المشرق -مهد النبوّات- فإنّ النبوّة هي منشأ كثير منها، والأنبياء هم الذين بثّوها.

 

وبذلك حتّى لو افترضنا أنَّ لليونانيّين مثل هذه الأفكار، فلا نستطيع أن ننسبها إلى تخيُّلاتهم الفرديّة تماماً.

 

لقد كان سقراط يؤمن بالروح، وكان نهجه نهجاً نبويّاً، لا شبه له- كما يذكر مؤرّخو الفلسفة- بمنهج الفلاسفة. أمّا الفكر اليونانيّ الذي نفذَ إلى المسلمين بشأن الروح فلم يُقبَل بتمامه لا في اتجاهه الأفلاطونيّ ولا الأرسطيّ.

 

يعتقد أفلاطون أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل، وعندما يكون بدن الجنين مستعدّاً تأتي الروح لتأخذ محلّها في هذا المسكن، ثمّ تعود بعد الموت لمحلّها الأوّل. أمّا أرسطو فلم يكن شديد الإيمان بالروح. فهو يعتقد أنَّ الروح مع ما لها من تفاوت مع سائر قوى العالم، لا توجد في هذه الدنيا إلّا مع البدن.

 

 

423


346

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

هل الروح فكرة يونانيّة؟

إنّ لكثير من كلام اليونانيّين جذراً في المشرق وهو ليس من عندهم، ولا سيّما أفكار فيثاغورس وأفلاطون.

 

ويبدو أنّ الروح في اليونان فكرة أفلاطونيّة وليست فكرة أرسطيّة، لأنّ أرسطو ينكر البقاء. ولمّا كان أصل هذه الأفكار من المشرق -مهد النبوّات- فإنّ النبوّة هي منشأ كثير منها، والأنبياء هم الذين بثّوها.

 

وبذلك حتّى لو افترضنا أنَّ لليونانيّين مثل هذه الأفكار، فلا نستطيع أن ننسبها إلى تخيُّلاتهم الفرديّة تماماً.

 

لقد كان سقراط يؤمن بالروح، وكان نهجه نهجاً نبويّاً، لا شبه له- كما يذكر مؤرّخو الفلسفة- بمنهج الفلاسفة. أمّا الفكر اليونانيّ الذي نفذَ إلى المسلمين بشأن الروح فلم يُقبَل بتمامه لا في اتجاهه الأفلاطونيّ ولا الأرسطيّ.

 

يعتقد أفلاطون أنّ الروح جوهر خالد موجود منذ الأزل، وعندما يكون بدن الجنين مستعدّاً تأتي الروح لتأخذ محلّها في هذا المسكن، ثمّ تعود بعد الموت لمحلّها الأوّل. أمّا أرسطو فلم يكن شديد الإيمان بالروح. فهو يعتقد أنَّ الروح مع ما لها من تفاوت مع سائر قوى العالم، لا توجد في هذه الدنيا إلّا مع البدن.

 

423

 


347

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

فعندما يتكامل البدن توجد الروح من دون أن تكون لها سابقة حياة قبل حدوثها هذا.

 

كما أنّه يعتقد أنّها تفنى بموت البدن، هذا ما يعتقده أرسطو، وإن كان لا يمكن إلقاء هذه القناعة على عهدته تماماً[1].

 

عقيدة الحكماء المسلمين بشأن الروح

التزم حكماء المسلمين رأي أرسطو في ظهور الروح، فذهبوا إلى أنّه ليس للروح سابقة قبليّة بحيث تكون موجودة قبل أن تحلّ بالبدن، بل هي تحدث مع البدن. بيدَ أنّهم أخذوا في دوام وجودها برأي أفلاطون، وقالوا بأنّها خالدة.

 

لقد كان أرسطو يعتبر الروح مادّيّة أيضاً كالبدن. أمّا قدماء الفلاسفة الإسلاميّين فقد كانوا يعتقدون بتجرّد القوّة العاقلة دون غيرها، وكذلك ابن سينا وأمثاله، ولهذا كانوا يقولون بالمعاد الروحانيّ فقط من الوجهة الفلسفيّة. ولكنّ الذي حصل بعد ذلك هو أنْ كَثُر عدد القائلين بتجرّد الروح، وعندما آل الأمر إلى صدر المتألّهين فقد أثبت أنَّ جميع القوى الحيويّة للإنسان لها وجهتان: ماديّة وتجرّديّة، وأنّ جميع القوى المادّيّة للإنسان ترافقها قوى مجرّدة، بحيث إنَّ الإنسان عندما يموت لا ينفصل عنه العقل لوحده، بل العقل، والخيال، والذاكرة، والباصرة والسامعة.

 

لقد كان الملّا صدرا يؤمن بتكامل المادّة، ولا يعتقد بالإثنينيّة والتباين بين المادّيّات والمجرّدات خلافاً لديكارت. وفي ضوء ذلك كان يعتقد أنّ المادّة تتبدّل إلى روح من خلال حركتها صوب التكامل.

 

فهذا الفكر المجرّد الذي في ذهنك الآن، كان في يومٍ من الأيّام حنطة، وكان في يوم آخر خضرة، كما كان في يوم من الأيّام لحماً، ثمّ تبدّل لفكر مجرّد.


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص168 - 169.

 

424


348

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

إنّ المادّة في حركتها الجوهريّة ترتقي نحو الأعلى، وكلّما تحرّكت كذلك، اتجهت نحو التركّز الوجوديّ. وكلّما اتجهت كذلك، سارت تلقاء التجرّد، حتّى تبلغ الوعي والشعور الإراديّ، وهذا الأخير يساوق التجرّد والرقيّ الدائم.

 

وبناءً على هذا، فإنّنا لا نستطيع أن نقول: إنّ نظريّة الفلاسفة المسلمين قد أُخذت من اليونانيّين، فضلاً عن جميع هذه الآثار التي بين أيدينا ممّا تطويه النصوص الإسلاميّة بشأن الروح[1].

 

الجذور الفلسفيّة لفكرة الروح

ما نريد أن نعرفه الآن هو أن نقف - من الوجهة العلميّة والفلسفيّة - على الجذور الفلسفيّة التي تنتهي إلى فرضيّة وجود الروح.

 

طرح القدماء جذرين لفكرة الروح، أحدهما - وهو ما سنتعرّض له في بحثنا - يُطلَق عليه صيغة "المادّة والصورة" [2] وما زال يُطرح إلى يومنا هذا، ولكن ربّما مع فارق في الشكل. ذكروا في هذه الصيغة، أنّ الأجسام والأجرام التي نراها في العالم تشترك مع بعضها بالجسميّة والجرميّة والكثير من العناصر الأُخرى. فالماء والنار والهواء كلّها أجسام وأجرام، ولكن لماذا تختلف بالخواصّ في ما بينها، وما هو منشأ الاختلاف؟

 

عندما صاروا إلى تجزئة المركّبات، انتهوا إلى مجموعة عناصر بسيطة -برأيهم- وبذلك جرّوا البحث لهذه البسائط.

 

ومع أنّ البسائط عند القدماء لا تعدّ اليوم عناصر بسيطة، إلّا أنّ ذلك لم يؤثّر في أصل الطرح الفلسفيّ، الذي يذهب إلى أنّ المركّبات ينبغي أن تنتهي إلى بسائط، وهذا ما يذهب إليه العلم الحديث أيضاً. ولكن غاية ما هناك أنَّ العلم


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص169 - 170.

[2] نتناول الصورة هنا بمفهومها الفلسفي الذي يعني مبدأ الحركة والأثر، وهو ما يختلف شيئاً ما مع اصطلاح علماء الفيزياء.

 

425


349

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

القديم كان يتصوّر بأنّ تلك البسائط هي عبارة عن الماء والتراب والهواء والنار، ثمّ اتّضح بعدئذٍ أنّ الكثير من هذه الأربعة هي عبارة عن مركّبات وأنّ العناصر البسيطة أُمور أُخرى.

 

لقد ذكروا أنَّ المركّبات يمكن أن تعلّل على أساس العناصر - وإن لم يكن هذا التفسير كاملاً - فعندما يركّب بين العناصر، يترك كل واحدٍ منها أثره، لأنّ لكلّ عنصر خاصّيّة منفصلة، ثمّ تأتي حصيلة الخواصّ خاصّيّة متوسّطة في ما بينها يُطلق عليها المزاج.

 

في المنعطف الثاني من تلك الرؤية، تساءلوا عن سرّ الاختلاف بين العناصر. فما دامت جميعها مشتركة بالمادّيّة والجسميّة والجرميّة، وما دام "حكم الأمثال في ما يجوز وفي ما لا يجوز واحد" فينبغي إذاً أن تكون للأُمور المتشابهة خواصّ متشابهة، فلماذا تختلف الخواصّ في ما بينها؟

 

عند هذه النقطة طُرِحت مسألة الصورة. إذ لا يمكن توجيه اختلاف الخواصّ بالمادّة ذاتها.

 

لقد اعتقدوا أنّ الصور مختلفة، وأنّها جوهرٌ متّحدٌ بالمادّة، غير ناشئة منها، وعن طريقها تتنوّع المادّة إلى العناصر المختلفة[1].

 

الصورة في ذوي الحياة

يتَّضح ممّا مرَّ أنَّ أولئك الفلاسفة كانوا يؤمنون بعنصرين -من منظور اللغة الفلسفيّة وليس العلميّة- وأنَّ العالم في تصوّرهم يتألّف من حقيقتين، هما: المادّة والصورة. بيدَ أنّهم لم يكونوا يولون هذه الصور أهمِّيَّة كبيرة في مرتبة الموجودات الفاقدة للحياة، فهي أمر حالّ في المادّة، توجد بوجود المادّة ذاتها، وتفنى بفنائها.


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص193 - 195.

 

426


350

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

ولكن عندما تصل النوبة إلى مرتبة ذوي الحياة، فإنّ الصورة تكتسب معنى آخر، أطلقوا عليها، لعلّة معيّنة، اسم "النفس". وعندما تبلغ المسألة الإنسان نفسه في رتب ذوي الحياة، تكتسب الصورة في الإنسان شكلاً خاصّاً لدلائل خاصّة ذكروها، والصورة الخاصّة في الإنسان لا يمكن تعليلها بالصور السابقة التي افترضت على خطّ الوجود المادّيّ والوجود في رتب ذوات الحياة.

 

من الدلائل المشار إليها هي الاستعدادات والأمنيات التي لا نهاية لها في الإنسان، وقدرته على إدراك الكلّيّات ومسائل أُخرى.

 

وعلى هذا الأساس ذهبوا إلى أنَّ لهذه الصورة -بمعنى مبدأ الأثر- التي في الإنسان اختلافاً عن الصور الموجودة في غيره، بل لا يمكن لها أن تكون حتّى من جنس تلك القوى. فلهذه الصورة جنبة "من عند الله" تزيد على ما هو موجود في الأشياء الأُخرى، وبالتالي فإنَّ لها جنساً آخر يتمثّل بالمسألة المشار إليها في البحوث السابقة بصيغة: "من أمري".

 

ومع هذا الفارق يمكن أن يكون وجود الصور الأخرى وجوداً خَلقيّاً ووجوداً زمانيّاً مكانيّاً، على خلاف الصورة التي في الإنسان، التي لا يمكن لوجودها أن يكون خلقيّاً وزمانيّاً، وإنّما يتحتّم أن يكون وجودها وجوداً آخر.

 

وفي ضوء هذا المعنى، انتهى البحث لنتيجة أُخرى ترتبط ببقاء الإنسان. فما دام الإنسان ينطوي على وجودٍ "أمريّ" (في مقابل الوجود الخَلْقيّ) فوجوده باقٍ إذاً[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص195 - 196.

 

427


351

الدرس الخامس والثلاثون: مسألة الروح (3)

المفاهيم الرئيسة

•        تُعتَبر فكرة الروح عند فلاسفة اليونان أفلاطونيّة لا أرسطيّة، ومَنْشَؤُها هو ما بثّه الأنبياء من تعاليم حول حقيقة الإنسان.

 

•        لقد التزم الحكماء المسلمون موقفًا خاصًّا حول وجود الروح، فآمنوا بها وبتجرّدها، وأنّها موجودة مع البدن وتبقى بعد موته.

 

•        ترجع الجذور الفلسفيّة لوجود الروح إلى اعتقاد الحكماء بتركّب الأجسام في هذا العالم من عنصرين: المادّة والصورة، وهم يرون أنّ اختلاف الأجسام في آثارها مرجعه إلى اختلاف صورها.

 

•        إنّ للصورة في الإنسان -بمعنى مبدأ الأثر- اختلافًا عن الصور في غيره من الكائنات المادّيّة، فإنّها من سنخ عالم الأمر، ولذا كان لوجودها بقاء بعد موت البدن.

 

428

 


352

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

الدرس السادس والثلاثون:

استدلال القرآن على المعاد (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يحللّ أنّ الموت ليس انعداماً وإنّما هو استيفاء للنفس.

 

2. يعدّد أنماط من الاستدلال القرآنيّ على المعاد.

 

3. يذكر نماذج قرآنيّة أثبتت المعاد بالدليل العقليّ.

 

 

430

 


353

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

الموت استيفاء للنفس

ذكرنا أنّ ما يُستفاد من مجموع آيات القرآن أنَّ الموت، بشكل عامّ، هو عمليّة استيفاء سواء للسعداء أو للأشقياء.

 

فالآيات تعبّر عن الموت بـ"التوفي" وهو الاستيفاء وقبض الشيء وأخذه كاملاً، لأنّ الفعل مُشتقّ من مادّة "وفى".

 

في القرآن آيات كثيرة تدلّ على هذا المعنى -كما تقدّم- منها: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[1] أو: ﴿  قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[2]. وكلمة "النفس" الواردة في القرآن تعني الشيء بذاته. فعندما نريد أن نقول: (هذه الخشبة بذاتها) نقول: "هذه الخشبة نفسها"، وحين نقول: "جاءني زيد نفسه"، نعني أنه جاء هو بعينه لا شيء آخر.

 

وعندما يريد القرآن الحديث عن ذلك الشيء الذي يؤخذ من الإنسان بالموت يعبِّر عنه بـ"النفس" لأنّ الذات الواقعيّة للإنسان بنظر القرآن هي نفسه.

 

وقد ذكرنا كذلك أنَّ هناك آيات كثيرة تحدّثت عن وجود الحياة للإنسان بين الموت والقيامة، بعضها تحدّث عن السعداء وبعضها عن الأشقياء.


 


[1] سورة الزمر، الآية 42.

[2] سورة السجدة، الآية 11.

 

432


354

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

مثال ذلك ما تحدّث به القرآن في موطنين، أحدهما أصرح من الآخر، يقول -تعالى- فيه: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾[1]. فالآية تدلّ صراحة على أنّ هؤلاء فرحون بما آتاهم الله الآن، لا بما يريد أن يعطيهم في المستقبل، وهم مستبشرون بمن سيأتي من بعدهم وينال الحظوة ذاتها[2].

 

والآية تشير إلى أن القرآن يذهب إلى وجود حياة بعد الموت مع أن لا أحد يساوره الشكّ في أنّ هذا الجسد قد مات وبلي. حتمًا لا يريد القرآن أن يقول بأنَّ أفواه هؤلاء مفتوحة وهم تحت التراب، فيصبّ فيها الحليب والعسل، بل يقول إنّهم مرزوقون "عند ربّهم".

 

وكذلك حال مؤمن آل ياسين الذي قال بعد قتله أو موته: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾[3],[4].

 

هذا، والذي يُستنبط من آيات القرآن المرتبطة بالآخرة إجمالاً:

أوّلاً: أنّ هناك حياةً ما بين الموت والقيامة.

 

ثانياً: سيحدث عند قيام الساعة انقلاب كونيّ مدهش نعجز عن تصوّره، يشمل جميع ما نعرفه من شمس ونجوم وكواكب وأرض بجميع ما فيها من جبال وبحار[5].

 

ثالثاً: يُفهم من الآيات والروايات أنّه لا يُصار للحساب الكلّيّ التّام قبل القيامة في عالم البرزخ، ولكن يكون للأفراد فيه حظّ من الثواب والعقاب[6].


 


[1] سورة آل عمران، الآيتان 169 - 170.

[2] الآية وإن كانت تخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفي الظاهر إلّا أنّ المعنيّ بالخطاب هو الأمّة، وهذا كثيراً ما يحصل في الخطابات القرآنيّة.

[3] سورة يس، الآيتان 26 - 27.

[4] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص92 - 93.

[5] قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، سورة إبراهيم، الآية 48 (الإعداد).

[6] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص96.

 

433


355

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

استدلال القرآن على القيامة

للقرآن مجموعة استدلالات على القيامة ينبغي بحثها لمعرفة طبيعة المنطق والأساس الذي تقوم عليه. وربّما كانت بعض هذه الاستدلالات لرفع الاستبعاد فقط. فالمنكرون يستبعدون والقرآن ينكر عليهم ذلك. نقرأ على سبيل المثال قوله -تعالى-: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[1].

 

لا تنطوي الآية على أكثر من رفع الاستبعاد والاستناد إلى القدرة الإلهيّة المطلقة، وكأنّها تريد أن تردّ عليهم: لا معنى لعجبكم في مقابل القدرة الإلهيّة الكاملة وبإزاء ما شاهدتموه أوّلاً من النشأة الأُولى.

 

تتقدّم مجموعة أُخرى من الآيات إلى ما هو أبعد من رفع الاستبعاد، فتقول: إنَّ هذا الذي يحصل في القيامة ليس أمراً جديداً، بل هو نفسه نظام الموت والحياة المشهود لكم. هو ليس شيئاً جديداً لم تشهدوا له مثالاً من قبل. فربّما أنكر الإنسان إمكان ما لا يراه، بيدَ أنّه إذا رآه سيقول بوجوده. يقال: إنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه.

 

هذا النمط من الآيات يذكِّر الإنسان على الدوام بالموت والحياة - الذي يشاهده باستمرار - أو بحياة الأرض مجدداً بعد موتها، أو بنشأة الإنسان نفسه وتطوّرات حياته[2].

 

ثمّة مجموعة أُخرى من الآيات، يأخذ نمط الاستدلال فيها شكل الأدلّة الكلاميّة والفلسفيّة. نظير ما نجده من آيات في سور: المؤمنون، الجاثية، الدخان، ص والأنبياء[3]، وهي:


 


[1] سورة يس، الآيتان 78 - 79.

[2] نظير قوله -تعالى-: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سورة فصّلت، الآية 39). (الإعداد).

[3] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص97 - 98.

 

434


356

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

النموذج الأوّل:

يقول – تعالى - في سورة "المؤمنون" بعد آيات البرزخ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[1].

 

تنطوي الآية على الاستفهام الإنكاري وهي تؤاخذ المخاطبين على ظنّهم الباطل.

 

ومفهوم الآية: إن كنتم لا ترجعون إلينا، لكان خلقكم عبثاً، وهل تحسبون أنّا خلقناكم عبثاً؟

 

"فَ-تعالى-" الله و"جَلَّ" عن هذه النسبة ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[2].

 

إنّ جميع الأبعاد واللحاظات في الله تحيل إمكان أن يكون الخلق عبثاً، وأوّلها قدرته اللامتناهية، فقد يقوم الإنسان بعمل عابث بسبب قدرته الناقصة. إذ كثيراً ما يشرع بعمل ثمّ يصير للعبث بسبب العجز، أمّا الله فهو "الملك" صاحب القدرة المطلقة، وهو "الحقّ"، الثابت الذي لا سبيل في ذاته لأي باطل ونقص[3]. فلأنّه حقٌّ كان خلقه حقّاً أيضاً.

 

ثمّ يقول -تعالى-: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ فليس هناك قدرة وإلهٌ آخر - مثلما هي عليه حكاية الخير والشرّ في الفلسفات والأديان الثنويّة - كما ليس ثمّة ربٌّ سواه ليكون مانعًا عن نفوذ إرادته وليس ثمّة ربٌّ سواه: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[4],[5].


 


[1] سورة المؤمنون، الآيتان 115 - 116.

[2] المَلِك من مادّة "مُلك" والمُلك تعني القدرة والسلطان. كلمة "مَلِك" من أسماء الله لجهة أنَّ أزمّة العالم بتمامه ومِقوَد كافّة الأشياء بيد قدرته، ولا تكون الأُمور جميعها إلّا بمشيئته وإرادته.

[3] حقَّ يحقُّ، يثبتُ وهو مرادف للوجود. والحقّ المطلق معناه الوجود المطلق الذي لا سبيل للعدم إلى ذاته.

[4] ليس العرش جسماً أو مكاناً خاصّاً بل هو مقام من مقامات الربوبية، وأنّى يطلق في القرآن فالمراد منه شأنٌ وصفة تكون بموجبها الأشياء جميعاً بيده، متمركزة عنده.

[5] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص98 - 99.

 

435


357

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

النموذج الثاني:

يقول -تعالى- في سورة الدخان: ﴿إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾[1].

 

يستفاد من القرآن أنَّ للناس موتتين بعد هذه الحياة[2]: الأُولى تفضي بالإنسان إلى عالم البرزخ، ثمّ يأتي الانتقال من البرزخ إلى القيامة ليكون بنظر القرآن موتاً وحياةً معاً، إذ يعبِّر عن الانتقال من حياة إلى أُخرى بالموت.

 

وفي الآية مورد البحث لا يقرّ أولئك سوى بالموتة الأُولى، ويقولون: ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[3]. وقولُهم: "فَأْتُوا بِآبَائِنَا" مشعر أنَّ الأنبياء أخبروهم أنَّ آباءهم ليسوا أمواتاً، بل هُم أحياء أيضاً، فاعترضوا بقولهم: "فَأْتُوا بِآبَائِنَا".

 

فردّ عليهم بقوله: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[4].

 

وشاهد الاستدلال على القيامة بنفي العبثيّة في الخلق، الآية التي بعدها: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[5],[6].

 

الفرق بين اللعب والباطل[7]

يتَّضح التفاوت بين اللعب والباطل بملاحظة هذا المثال: إنَّ فعل الطفل الذي نسمّيه لعباً هو لعب وباطلٌ معاً. فهو لعب من حيث أصل العمل (لكونه يرضي


 


[1] سورة الدخان، الآيتان 34 - 35.

[2]  كما تجده في قوله -تعالى-: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (المؤمن: 11). (الإعداد).

[3] السورة نفسها، الآية 36.

[4] السورة نفسها، الآية 37.

[5] سورة الدخان، الآيات 38 - 40.

[6] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص99 - 100.

[7] الباطل يقابل الحقّ، وقد تعرّض الشهيد مطهّري للتمييز بينه وبين اللعب باعتبار اشتمال بعض الآيات المذكورة في النماذج المعروضة في المتن على ذكر مفردة الحقّ كما نجده في الآيات المستقاة من سور المؤمنون والدخان والجاثية، وعلى مفردة الباطل كما نجده في الآيات المستقاة من سورة ص(الإعداد).

 

436


358

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

 القوّة المتخيّلة عند الطفل)[1]، إذ لو تأمّلنا في ما يفعله الطفل كلعب الكرة مثلاً، لا نجد أثراً يترتّب على لعبه هذا (بلحاظ القوّة العاقلة عند الإنسان)[2] بل هو لغو وعبث، بيدَ أنّه ليس للطفل كذلك، لأنّ اللعب بحدّ ذاته جيّد بالنسبة إليه، وهو علامة نموّه الروحيّ والجسميّ.

 

وأمّا الفعل الباطل فهو الفعل الذي ينقطع قبل الوصول إلى غايته، لا الذي يكون بلا هدف وغاية بالمطلق[3].

 

ومن هنا يقال: ليس في العالم أي فعل عبث ولغوٌ بالمطلق. فجميع الأفعال التي نَصِفها بالعبث واللغو في هذه الدنيا، هي عبث ولغو نِسبيّ. وهذه حقيقة.

 

لقد اعتاد بعض الأشخاص أن يعبث بالمسبحة مثلاً، وعندما يسأل عن فائدة ذلك يجيب: لا شيء. وهذا صحيح، ولكن الذي يفعله ليس خالياً من الفائدة تماماً. نعم، لو نظرنا إلى هذا العمل على أساس المنطق وسألنا صاحبه: إنّك إنسان عاقل ومنطقيّ، فهل فكّرت بأثر هذه الممارسة؟ لأجاب بالنفي، فهو إذاً عمل عبثيّ. بيدَ أنَّ هذا الفعل الذي لا يسوَّغ على أساس العقل والمنطق، هو تعبير عن عادة يستشعر الإنسان الراحة بممارستها، فهي ليست عبثاً من جهة تلك القوّة التي تتأمّن راحتها بهذا العمل.

 

والله -تعالى- ينفي عن نفسه اللعب، أي ينفي عدم ترتّب الأثر والغاية والحقيقة لعمله وفعله فليس الخلق كعمل الأطفال لا أثر له سوى اللعب واللهو.

 

وهذا تعبير عن نمطٍ من أنماط الاستدلال المنطقيّ، إذ يذكر القرآن أنّه إن لم تكن هناك قيامة، فإنّ الخلق لغو، والفارق بين الآيات من سورة الدخان والآيتين من سورة المؤمنون أن المتعلّق في الآيات من سورة الدخان هو خلق السماوات

 


[1] الإعداد.

[2] الإعداد.

[3] الإعداد.

 

437


359

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

والأرض وما بينهما، حيث يلزم أن يصير خلقها لعباً ولغواً من دون القيامة. أمّا في الآيتين الأخريين من سورة المؤمنون فالمتعلّق هم بنو آدم، حيث يلزم أن يكون خلق البشر عبثاً، من دون وجود القيامة[1].

 

النموذج الثالث:

وفي سورة "الجاثية" نقرأ قوله -تعالى-: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾[2].

 

إنّ المساواة بين العمل الصالح والسيّئ هو حكم خاطئ، وإنّ ما يتصوّره أولئك من تساوٍ في النتيجة بين المؤمن من جهة، ومن يجترح السيّئات من جهةٍ أخرى، وبين العمل الصالح من جهة والعمل السيّئ من جهةٍ أخرى، معناه أن لا يكون خلق السماوات والأرض بالحقّ بل بالباطل. والحال أنَّ الله خلقهما بالحقّ ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[3]. هنا ذُكرت الغاية من الخلق، حيث تبلغ كلّ نفس ما كسبت، وهي في مصيرها هذا لا تُظلم بالضرورة[4].

 

النموذج الرابع:

أمّا في سورة "ص" فيقول -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ  * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾[5].


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص100 - 101، ولقد قمنا ببعض التصرّف في النص الأصلي لاعتقادنا بوجود مشكلة في ترجمته وليستقيم المطلب (الإعداد).

[2] سورة الجاثية، الآية 21.

[3] السورة نفسها، الآية 22.

[4] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص101 - 102.

[5] سورة ص، الآيات 26 - 28.

 

438


360

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

ويتَّضح كيفيّة الاستدلال بهذه الآيات الكريمة بلحاظ ما تقدّم من توضيحات في النماذج السابقة، فلا نعيد.

 

والنتيجة التي نخلص إليها ممّا تقدّم أنّ القرآن الكريم يُعلِّل خلق الإنسان بحشره، ويُعلِّل إيجاد الكون بأجمعه بوجود القيامة، وما ينبغي التأمّل فيه هو توضيح هذه الملازمة وهذا الاستدلال وهو ما سنسعى لبيانه في الدرس اللاحق[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص102 - 103.

 

439


361

الدرس السادس والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (1)

المفاهيم الرئيسة

•        إنّ كلمة "النفس" الواردة في القرآن الكريم تعني الشيء بذاته، وتوفّي الأنفس يعني أخذ ذات الشيء بتمامه.

 

•        يُستنبط من كتاب الله وجود حياةٍ بين الموت والقيامة، وأنّ القيامة أمر عظيم وتحوّل كونيّ هائل، وأنّ الحساب التامّ لن يكون قبل القيامة.

 

•        ثمّة آيات قرآنيّة أخذ نمط الاستدلال فيها على المعاد نمط الأدلة الكلاميّة والفلسفيّة، وهو ما نجده جليّاً في العديد من الآيات كما في سور: المؤمنون، الجاثية، الدخان، ص وغيرها.

 

•        نجد بعض الآيات الكريمة تحكي عن ملازمة بين عدم البعث وكون الخلق لعباً أو باطلاً أو عبثًا.

 

•        يخلُص القرآن الكريم إلى تعليل خلق الإنسان بحشره، وتعليل وجود الكون جميعه بوجود القيامة.

 

440

 


362

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

الدرس السابع والثلاثون:

استدلال القرآن على المعاد (2)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يشرح بيان المتكلمين للملازمة بين وجود الكون وتحقُّق القيامة.

2. يبيّن بيان الحكماء في توجيه الملازمة المتقدّمة.

3. يشرح بيان الشهيد مطهّري للملازمة المذكورة.

 

442

 

 


363

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

تمهيد

تقدّم معنا أنّ آيات القرآن الكريم تربط بين عدم البعث من جهةٍ وبين عبثيّة الخلق وكونه لعباً ولغواً وباطلاً من جهةٍ أخرى، وتقول بوجود نوعٍ من الملازمة بينهما. وقد طرحنا في ختام الدرس الماضي سؤالاً عن سرّ هذه الملازمة ولمَ عُلِّل وجود الإنسان بل والكون بتحقّق البعث والقيامة.

 

سنحاول في هذا الدرس بيان هذه الملازمة والعلّيّة[1].

 

نظريّة أهل الكلام

للمتكلّمين بيان ذكروه في أغلب كتبهم المتداولة، ينسجم أكثر مع تعليل خلق الإنسان على وجه الخصوص، ولا يكفي لتعليل خلق الكون برمّته. يقولون: للإنسان في هذه الدنيا إرادة واختيار وحرّيّة، وأمامه الأعمال الصالحة والسيّئة معاً، وله أن يقوم بالأولى، وهذا حسن، كما بمقدوره أن يجترح الثانية، وهذا قبيح. والإنسان في هذا يختلف عن الحيوانات والنباتات والجمادات التي لا تعرف الحسن والقبح في الأشياء. ولهذا يقوم بعض الناس بالأعمال الصالحة في هذه الدُّنيا، فيما يقترف فريق آخرُ السيّئات. ولو لم تكن هناك قيامة لذهبت الصالحات والسيّئات هدراً،


 


[1] الإعداد.

 

444


364

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

حيث يُهدر حقّ الصالحين ولا يبلغ المسيئون الجزاء، فيكون خلق الإنسان عبثاً. إذاً لا بدّ من القيامة ليلقى الصالحون ثوابهم والمسيئون جزاءهم، ولكي لا يكون خلق الإنسان لغواً وعبثاً، ولا سيّما أبعاده التي تنطوي على استعداد فعل الصالح أو السيّئ[1].

 

نقد نظريّة المتكلّمين

إنَّ التعبير عن المسألة بمثل هذا البيان، يلزمه النظر إلى الآخرة كتابعٍ للدّنيا. فهؤلاء يقولون: لأنَّ الإنسان مخلوق في الدّنيا وهو يدرك الحسن والقبح، ولأنّ فريقاً يعمل الحسنات وفريقاً آخر يقترف السيّئات، فقد خلق الله القيامة لئلّا تكون الحسنات والسيئات بكفّة واحدة في هذه الدّنيا. أي إنَّ القيامة وُجدت لتلافي النقص في العمل الدّنيويّ للبشر.

إنّ القول بأنَّ القيامة أمر طفيليّ تابع، هو كلام غير صحيح لا يتّسق مع منطق القرآن ذاته، بل لا يتّسق أساساً مع قانون الخلق، لأنّ معناه أنَّ الله خلق تبعاً لهذه الدّنيا عالماً بهذه السعة: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[2]. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[3]. بل إنَّ قسماً من الناس ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إلى لا نهاية[4].

 

معنى هدفيّة الخلق

ينبغي لنا أوّلاً أن نتعمّق في فهم العبث واللعب والباطل عسى أن نستطيع إدراك مفهوم الآية. فلنأخذ بنظر الاعتبار صِرْف خلق موجودٍ ما. أي موجود له استعداد أن يصير مخلوقاً وموجوداً، مثل صخرة ما لها إمكانيّة الوجود، وقد


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص103.

[2] سورة آل عمران، الآية 133.

[3] سورة هود، الآية 108.

[4] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص104.

 

445


365

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

وجدت بحيث يكون وجودها مقصوراً على وقتٍ معيّن، ثمّ تفنى هذه الصخرة، فهل يعدّ خلقها عبثاً أيضاً لو لم تكن هناك قيامة؟

 

فالسؤال: ما هو المقصود من العبث؟ وما المقصود من النقطة التي تقابل العبث؟ وكيف ينبغي أن يكون الخلق كي لا يصير عبثاً؟

 

نرى أنّ هذه الفكرة يمكن أن تُوضّح بطريقين:

1- يقرّر البعض الفكرة على النحو الآتي: إنَّ الخلق الذي ينتهي للبقاء ليس عبثاً، وإنّما العبث هو الخلق الذي يصير مآله للفناء. فلو أنَّ شيئًا خُلق للبقاء، فهو باقٍ ويتلقّى الفيض من الله دوماً، فهذا وجود في مقابل العدم وهو ليس عبثاً. أمّا لو خُلق الشيء ثمّ صار عدماً، دون أن يتلوه موجود آخر تكون بينهما صلة، بحيث يكون الأوّل مخلوقاً لوجود الثاني وديمومته، فهذا هو العبث.

 

عندما يُطبّق هذا التقرير مع الآيات يصير المؤدّى أنَّ الخلق وُجد كي يرجع إلى الله، فالأشياء خُلقت في هذا العالم لتعود إلى الله وتتصل بالأبديّة بدون أن يطرأ عليها الفناء.

 

وما يتحتّم قوله -وفق هذا الدليل- إنَّ الكون بتمامه يسير صوب الأبديّة، ولا يطرأ الفناء على أيّ شيء، وجميع ضروب الفناء نسبيّة، والكلّ بما فيه الإنسان يرجع إلى الله، كما يمكن استنباط ذلك من القرآن الكريم.

 

لقد خُلقت الأشياء في هذا العالم كي تطوي مراحل كمالها، وتدرُّجها في طريق الكمال هو نفسه رجوعها إلى الله، وبقاؤها ببقائه.

 

يتبيِّن في ضوء هذا البيان أنّ ما تريده الآية (115 من سورة "المؤمنون") من نفي العبث عن الخلق هو نفي العدم عنه. فكلُّ ما هو موجود هو حقّ، والوجود كلّه بقاء ودوام.

 

446


366

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

2- في المقابل يذهب فريق آخر إلى أنّه ليس من الضروريّ أن تبقى الموجودات جميعاً ولا يفنى منها شيء مطلقاً، بل ربّما لا يمكن إثبات ذلك من خلال القرآن. وإنّما يقتصر الوجود الذي يبقى ويرجع إلى الله على الإنسان وبعض الحيوانات أيضًا ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾[1]، فهذه زبدة الموجودات وهي التي تعود إلى الله. فمن خلال الترابط بين النظام العامّ لعالم الوجود والتكوين، تنتهي حركات هذا النظام إلى هذه الموجودات (الإنسان وبعض الحيوانات) فهذه غاية الخلق وهي الباقية دوماً.

 

وبه يتَّضح أنّ بقاء الإنسان وأبديّته هي الموجّه لخلقه، والإنسان بذاته يعلّل خلق بقيّة موجودات الكون. وبذلك لم يُخلق شيءٌ عبثاً، لأنَّ لكلٍّ حكمة وفائدة، وآخر الفوائد ونتيجة الآثار هي بقاء الإنسان وخلوده.

 

وليس من الضروريّ أن نقصر أمر البقاء على إنسان هذه الأرض، بل تضمّ الحالة كلّ موجود من الكواكب الأُخرى أيضاً ممّا لها الاستعداد على البقاء الأبديّ.

 

فليس وجود الشمس والقمر والأرض عبثاً إذاً، بل هي بمنزلة المهد لهذا الموجود الذي ينبغي أن يتصل بالأبديّة.

 

هذا نمط من التعليل لا تُستبعد صحّته يعلِّل ما ذهب إليه القرآن من أنّه لولا القيامة لكان الخلق لعباً وعبثاً وباطلاً، فهو عالج الموضوع من خلال الغاية والغائيّة[2].

 

بيان آخر

ثمّة بيان آخر يقترب من صيغة البيان السابق، ولكن ربّما كان من ناحيةٍ أشمل منه وأسهل. ففي هذا البيان لا حاجة لكي نطرح أوّلاً مسألة الأبديّة والعدم، بل


 


[1] سورة التكوير، الآية 5.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص104 - 107.

 

447


367

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

نستند إلى حدٍّ ما إلى الوضع الموجود والمشهود. فلو افترضنا أنّ إنساناً عاقلاً ذا شعور وإدراك مهّدَ بمقدّمات لعمل ينطوي على أهداف محدّدة، ثم نقض تلك المقدّمات قبل أن تثمر، عندئذٍ نطلق على مثل هذه العمليّة وصف العبث وأنّها شبيهة باللعب.

 

سنوضِح الحالة من خلال مثالين:

المثال الأوّل: لنفترض أنّ رجلاً بدأ بحرث قطعة من الأرض وإعدادها للزراعة مع أنّه يعرف أنّه سيقدم بعد شهرين على بناء عمارة في هذه القطعة أو يطرأ عليها تغيير لا يسمح باستغلالها زراعيّاً، ومع ذلك تراه حرث الأرض وأعدّ البذر ثمّ زرعها مع علمه أنَّ هذه البذور لا تعطي حاصلها في دورة حياتها الطبيعيّة قبل ستّة أشهر. وبعد مضي شهرين جاء بمكائن الحفر وبدأ بتخريب ما زرعه لكي يشيّد العمارة مكانها. إنّ مثل هذا العمل يقال له لغو، لأنّ صاحبه يعرف أنّ تغييرات سوف تطرأ على الأرض تسبق إثمار البذار، لذلك كان عليه أن يستثمر الأرض بعمل يعطي أُكُله بمدّة أقلّ تسبق هذه التغييرات.

 

المثال الثاني: المثال الأفضل في هذا المضمار هو حال الجنين. فنحن نعرف أنَّ الجنين وهو في الرحم مزوّد بأعضاء وجوارح من قبيل العين، الأذن، جهاز التنفّس، اليد، الرجل وغيرها، مع أنّه لا يستفيد منها في دنياه داخل الرحم لأنّه يعيش حياةً نباتيّة هناك.

 

تُمضي الأجنّة دورة حياتها الجنينيّة في الرحم لمدّة تسعة أشهر، وبذلك من الحقّ أن يُسأل عن بواعث تزويدها بهذه الجوارح والأعضاء التي لا تتفتّح استعداداتها في ذلك العالم. لنفترض أنَّ دورة حياة هذا الموجود الطبيعيّة اقتصرت على الأشهر التسعة التي يمضيها في حياة نباتيّة داخل الرحم، أي إنّه لن يستخدم رئته في التنفّس حتّى مرّة واحدة، وكذلك بقيّة الجوارح والأعضاء.

 

لو أنَّ دورة الحياة الطبيعيّة لهذا الكائن اقتصرت على هذه المدّة بحيث يموت

 

448


368

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

وينتهي كلّ شيء بعد تسعة أشهر، ألن يكون تزويده بهذه الأعضاء والجوارح عبثاً ولغواً وباطلاً؟

 

والسؤال: ألا يريد القرآن أن يعبِّر عن هذه الحقيقة، في قوله: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ تماماً كما لو حكمنا على نهاية حياة الجنين بانتهاء فترة الحمل، من دون أن يكون ثمّة حساب للأجهزة والأعضاء والجوارح التي زُوِّد بها والتي تصلح لدورة حياة أُخرى، حيث يعدّ الخلق عبثاً بمثل هذا التصوّر؟

 

لو تصوّر الإنسان أنّ وجوده يتلخّص بهذه الحياة، وينتهي بنهايتها، بهذا البدن والأعضاء والجوارح، وينتهي كلّ شيء في مدّة (60 - 70) سنة، فعندئذٍ يكون كمن افتُرِض خلقه عبثاً. ذلك أنّ وجود الإنسان ينطوي على أجهزة واستعدادات لا تتناسب مع هذه الدنيا بل هي تتناسب مع حياة أُخرى بعد هذه الحياة، وتلك هي استعدادات ووسائل الأبديّة والخلود التي جُهِّز بها.

 

إنّ للإنسان في ما وراء هذا البدن الماديّ حقيقة بسيطة، ولأنّ تلك الحقيقة بسيطة غير مركّبة فهي لا تقبل التجزئة. ونحن نعلم أنّ الخطاب في القرآن هو للإنسان، ولو كانت الحياة مقتصرةً على الحياة الدّنيا فقط، لما كان هناك داعٍ لأنْ يخلق الله الإنسان، بل لكان وجود النباتات والأحجار كافياً!

 

لو فكّرنا بالصخور فليس لها حشر، لأنّ كل ما جُهِّزت به يخلق فيها الاستعداد لهذه الدّنيا وحدها وليس أكثر. والنباتات أيضًا ليس لها حشر، لأنّ كلّ ما جُهِّزت به يؤهّلها لهذه الدنيا، وهي غير مستعدّة لما هو أكثر، وقد طوت سيرها التكامليّ وانتهى كلّ شيء.

 

أمّا لو لم تكن للإنسان قيامة، لكان معنى ذلك أنّه ينتهي في الخطوة الأُولى من خطّ الخلق، مع أنّ كماله لم يظهر في هذه الدّنيا. ولازم هذا الفرض، أن تكون

 

449


369

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

الأجهزة التي ينطوي عليها الإنسان عبثاً لا طائل من ورائها. فكما أنّ الحياة الدّنيا هي التعليل لخلق الأعضاء في الجنين، فكذلك الحياة الآخرة تعليل لخلق الإنسان بما هو إنسان.

 

لقد خُلِق في الإنسان "المثال" (وهو ما يصطلح عليه بقوّة الخيال)[1] والعقل، كما خُلقت فيه عواطف سامية رفيعة للتوجّه إلى الله، واستعداد الاتصال بالحقّ -سبحانه-، وهذه الاستعدادات جميعاً هي لمحلٍّ آخر. ولو أُسدل الستار على الإنسان وانتهى كلّ شيء في هذه الدّنيا، لكان لجميع هذه الاستعدادات حكم اللغو والعبث.

 

وهذا الذي نذكره هو أفضل توضيح يبدو لنا بشأن الآية: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ ذات الصلة بالإنسان.

 

إذًا الشيء الثابت الذي لا شكّ فيه بمنطق القرآن أنّ خلق الإنسان عبث لولا القيامة، والآية -كما نظائرها من الآيات- تدخل في إطار معرفة الإنسان، فهي تلفت الإنسان لإنسانيّته، وإلى ما ينطوي عليه من الجواهر والاستعدادات الاستثنائيّة التي هي بمنزلة البذار لأبديّته. ولو قدّر للإنسان أن ينتهي في هذه الدنيا، لما وصلت تلك البذور لمرحلة الإثمار أبداً.

 

في ضوء هذه النظريّة لا تكون القيامة طفيليّةً تابعةً للدّنيا، بل ستكون الدّنيا مقدّمة للآخرة، كما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "الدّنيا مزرعة الآخرة". الدّنيا منزل من المنازل التي تنتهي إلى هناك. فالإنسان خُلق بنحو تكون الدّنيا منزلاً من منازله ومرحلة من مراحله فقط، وهو ينطوي على أجهزة واستعدادات تبلغ من السعة حدّاً، لو أنّه كان للدّنيا وحدها، لما خُلِق على هذا النحو، ولأضحت كلّ تلك الاستعدادات التي جُهِّز بها عبثاً.

 

إنّ أثر هذه الاستعدادات يظهر في العالم الآخر، عالم البرزخ والقيامة. وفي الحقيقة إنَّ الشخصيّة الواقعيّة للإنسان وحقيقته وحقيقة جوارحه، هي تلك التي تبرز في القيامة. فبدنه الذي يُرى في هذه الدُّنيا هو غطاء، وهو يعيش ضرباً من الحياة هي (مقارنة بالحياة في النشأة الأُخرى) كنسبة الحياة النباتيّة للجنين، إلى حياته الدّنيويّة.

 

لكم أن تتأمّلوا لتنظروا هل يمكنكم العثور على توضيح آخر لهذه الآيات أم  لا[2]؟!

 


[1] وقوّة الخيال هذه هي غير قوّة التخيّل.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص107 - 111.

 

450


370

الدرس السابع والثلاثون: استدلال القرآن على المعاد (2)

المفاهيم الرئيسة

•        يرى المتكلّمون في توضيحهم للملازمة بين وجود الكون وتحقُّق القيامة، أنّه لو لم يكن هناك بعث لذهبت الصالحات والسيّئات هدراً، ومعه يكون خلق الإنسان عبثًا.

 

•        يُرَدُّ على البيان السابق أنّه معه تصبح الآخرة تابعة للدنيا، وهو ما لا يتّسق مع منطق القرآن الكريم.

 

•        لا بدّ في سبيل فهم الملازمة جيّداً من إدراك كيف لا يكون وجود الكون عبثاً إن كانت هناك قيامة. هناك طريقان يوضحان هذا الأمر، أحدهما يركّز على عنصر البقاء لموجودات الكون كُلِّها لنفي العبثيّة، والآخر يركّز على عنصر البقاء لزبدة هذا الكون وهو الإنسان.

 

•        للشهيد مطهّري بيان خاصّ لتوضيح الملازمة المذكورة، يركّز فيه على عنصر الغائيّة من وجود الشيء، فلو لم تتحقّق الغاية من وجود الإنسان ووجود استعداد البقاء فيه بوجود نشأةٍ أبديّة لكان وجود الكون والإنسان عبثًا.

 

451


371

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

الدرس الثامن والثلاثون:

إشكالات حول المعاد

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يقرأ الإشكالات حول المعاد وخصائصه.

2. يجيب عن الإشكالات المذكورة.

3. يشرح وجوه الاشتراك والاختلاف بين نشأتي الدنيا والآخرة.

 

453

 


372

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

تمهيد

مع وضوح فكرة البعث والقيامة نتيجة جهود الأنبياء وما نزل في الكتب السماويّة على هذا الصعيد، لا سيّما ما نطق به القرآن الكريم، وفاقَ به كلّ ما سبقه من وحي إلهيّ، وكان مهيمنًا عليه، ومشعلاً ونوراً استضاء به أئمّة الدين ومن تبعهم من العلماء الربّانيّين، فإنّ هذه العقيدة أثارت العديد من التساؤلات حول العديد من تفاصيلها. لا نتحدّث، هنا، عمّا يذكره المشاغبون الذين لا همّ لهم إلّا ذرّ الرماد في العيون، فإنّ كلام هؤلاء يخلو من كلّ منطق يستحقّ الوقوف عنده، وإنّما نتكلم عن أسئلة مشروعة ذكرها باحثون كثير منهم صادقون في طلبهم الإيمان، وإنّما نتيجة لخللٍ في بنيتهم المعرفيّة طرحوا العديد من الأسئلة.

 

لقد أجاب القرآن الكريم، كما تقدّم معنا، عن العديد من أسئلة هؤلاء، وقد جدّ بعضها وهي تستدعي الوقوف عندها للإجابة عنها، ونطرح على هذا الصعيد السؤالين التاليين اللذين يرتبطان بما تقدّم معنا من استدلالٍ قرآنيّ على المعاد[1]:


 


[1] لا يخفى أنّ الشهيد مطهّري طرح معظم هذه الأبحاث العقائديّة ضمن محاضراتٍ له على عدد من أهل الفكر ونخبة الدارسين، وقد طُبعت معظم هذه المحاضرات بعد شهادته (رضوان الله عليه)، وكانت تتضمّن مناقشات قيّمة لعدد من الحضور وكان الشهيد يجيب عنها. وقد ارتأينا أن ننقل بعض أسئلة الحضور في هذا المجال والتي كان منها هذان السؤالان (الإعداد).

 

455


373

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

السؤال الأوّل:

وهو يرتبط بالمثال الذي شُبّه فيه بين الجنين وهذا العالم، ثُمَّ المقارنة التي تمّت بين هذا العالم وعالم البرزخ أو القيامة. فقد ذُكر أنَّ للجنين في تلك النشأة -في رحم أمّه- أعضاء وأجهزة لا يستفيد منها، ممّا يدلّل على وجود نشأة أُخرى خُلِقت لها تتمثّل بهذه الدّنيا. ثمّ ينعطف التمثيل إلى الإنسان في هذه الدّنيا، إذ ذُكِر أنّه ينطوي على أعضاء لا تنفعه في هذا العالم ممّا يدلّل على وجود نشأةٍ أخرى تتفتّح فيها تلك الأعضاء وتبلغ غايتها، والحال أننا نرى أنَّ جميع أعضاء بدننا وأجهزته تعمل في هذه الدّنيا، أي إنّ لها استعمالاً وفلسفة في هذه الدّنيا. وربّما استطعنا أن نستفيد منها للدلالة على وجود الله وما ينطوي عليه الخلق من هدف وتخطيط متقن. والسؤال: كيف يتمّ هذا التشبيه[1]؟

 

السؤال الثاني:

وهو يرتبط بالتناسب ما بين الجزاء والعمل، فقد عرض له البعض، وتوافر كتاب "العدل الإلهيّ" بالإجابة عنه مفصّلاً، بيدَ أنه قد يُقال إن الجواب المذكور ليس مقنعاً.

 

فقد ذُكِر أنَّ الجزاء يكون إمّا لاعتبار الآخرين أو لتشفّي المتضرّر من الأذى الذي نزل به، ولمّا كان لا معنى لهذين الدافعين بالنسبة إلى جهاز التكوين وإلى الله، فإذاً كلاهما لا يصحّان في موردنا، بل لا معنى لما نذهب إليه من وجوب وجود تناسب بين الجزاء الأخرويّ والعمل الدّنيويّ، لأنّ منشأ هذا الكلام خطأ، فذلك الجزاء -أي الأخرويّ- شيء آخر له صلة بالتكوين.

 

وقد ضُرِب مثلٌ لتقريب العلاقة بين العمل في الدنيا والجزاء عليه في الآخرة، بالإنسان الذي نحذّره من الاقتراب من حافّة الوادي، بيدَ أنّه يعاند، ثمّ يسقط


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص130 - 131.

 

456


374

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

ويتهشّم رأسه. فليس لهذا الإنسان أن يعترض متذرّعاً بأنَّ هذا الجزاء والسقوط المروّع في عمق سبعين متراً في الوادي لم يكن يتناسب أبداً مع لحظة عناد صدرت عنه، إذ كان من المناسب مثلاً أن يسقط في عمق مترين فقط!

 

ولكن يمكن القول إنّ هذا المثال غير صحيح، وذلك أنَّ خالق الوادي والمشرّع هما اثنان وليسا واحداً، ولو كان واحداً لصحّ الاعتراض. فالذي أوجد الوادي هو الطبيعة أو الله، أمّا الذي مارس النهي فهو أحد أفراد البشر. أمّا مع كون الخالق والناهي واحداً فيصحّ الاعتراض عليه بعدم المناسبة بين الفعل والجزاء.

 

ففي الجزاء الأُخرويّ الخالق هو الله، والسؤال: وفق أيّ اعتبار ينبغي أن يُعاقَب الذي يقترف الذنوب عدّة سنوات في هذه الدّنيا، عقاباً أبديّاً هناك؟

 

نعم، مسألة الثواب الأبديّ محلولة على أساس كرم الله وجوده، وهي ليست موضعاً للاعتراض، ولكنّ الاعتراض يرد على العقاب الأبديّ[1].

 

الجواب عن السؤال الأوّل:

لقد تمّ التركيز في بيان الاستدلال القرآنيّ على لزوم البعث على مسألة عبثيّة الخلق إن لم يكن هناك معاد وقيامة.

 

ومن حقّ أيٍّ كان أن يعترض على نقص البيان المذكور، إلّا أنّ الاعتراض على نفس الاستدلال غير صحيح. ذلك أنّ الاستدلال المتقدّم بني على أساس الاعتقاد بوجود الروح، فالقرآن لم يقل إنَّ في تكوينكم الجسمانيّ عضواً لا ينفع ليقال في المقابل: إنّ جميع أعضاء بدننا وأجهزته تعمل في هذه الدّنيا، بل قال إنّ في تكوين الإنسان أجهزة وخصوصيّات أُخرى، تشبه الأعضاء والجوارح الجسمانيّة للإنسان في عالم الرحم، من حيث وجودها وعدم حاجة الإنسان إليها في الوقت ذاته. وهذه الأجهزة والخصوصيّات الموجودة الآن ليست من سنخ هذا العالم، بل هي من سنخ عالم البرزخ.

 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص 131 - 132.

 

457


375

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

لقد شُبّهت المسألة بالجنين، وزبدة الكلام المتقدّم وكلام من ابتغى توجيه هذه الآيات: أنّ عنصر البقاء بعد الموت متضمّن في وجود الإنسان الآن. أي إن تكوين الإنسان ينطوي الآن على وجود مثاليّ برزخيّ يرافقه.

 

إنّ المدار في هذا الكلام هو وجود الروح كما أسلفنا. فإذا ثبت الروح، كان هذا الاستدلال صحيحًا، وإذا لم يثبت فهو غير صحيح[1].

 

الجواب عن السؤال الثاني:

إنّ الاعتراض الذي ذُكِرَ في السؤال الثاني يرتبط بالجزاء. ونحسب أنّ المعترض ما زال ضحيّة مفهوم كلمة الجزاء. فإنّ الذي يتبادر من معنى هذه الكلمة في ذهنه، هو الجزاء بمعنى التأديب والتشفّي والتهديد وتوفير الفرصة لاعتبار الآخرين. إلّا أنَّ مفهوم الجزاء الأُخرويّ لا ينطوي على هذه المعاني.

 

يمكن إيضاح المسألة من خلال مثال عن الجزاء التكوينيّ، ذلك أنّ لفظ الجزاء التكوينيّ يتساوى مع لفظ الجزاء الاجتماعيّ شكلاً ويتفارق معه ماهيّةً. فالإنسان يُصاب بالسفلس[2] ونظائره حتّى آخر عمره لعملٍ قبيح ارتكبه لم يتجاوز خمس دقائق. وقد يسري المرض أحياناً في نسله لعدّة أجيال، وهذا يُطلَق عليه أنّه جزاء.

 

لقد ذُكر في كتاب العدل الإلهيّ أنّه لا يجوز الاعتراض بعدم التناسب بين العمل والجزاء، لأنّ مثل هذا الجزاء لم يوضع وضعاً حتّى يُقلَّل، بل هو نتيجة قهريّة وجبريّة لذلك العمل.

 

عندما يسلك أحدنا طريقاً يفضي إلى أفغانستان مثلاً، فلا يمكنه أن يعترض ويطلب من الله أن يسلك الطريق ذاته ولكن لا يصل إلى أفغانستان في الوقت نفسه. إنّ بمقدوره أن يتمنّى بالقول: حبّذا لو لم أكن، ولم يكن العالم، ولكن من المحال أن يكون ويكون العالم موجوداً، ثمّ يسلك ذلك الطريق ولا يصل إلى أفغانستان.


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص140.

[2] مرض جنسيّ معدٍ وخطير.

 

458


376

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

فمن الوهم أن نقول: إننا نسير بهذا الطريق، ولكن لا نصل إلى المقصد الذي ينتهي إليه.

 

لقد ذَكَر المعترض أنّ كلّ شيء في الجزاء الأُخرويّ بيد الله. وهذا شيء طبيعيّ، ولكن هل هذا يعني أنَّ الله يبدِّل الممكن محالاً والمحال ممكناً؟ المحال هو محال بالذات. وفي مسألة الجزاء إذا بقينا نحن ومنطق القرآن، فإنَّ القرآن يذهب إلى أنَّ هذا الجزاء هو عملك ولا شيء آخر. إنّك تستطيع أن تتمنّى على الله، لو أنّك لم تكن حتّى لا يصدر عنك فعل، ومع عدم وجودك لا يكون ثمّة وجود للعمل أساساً، أمّا أن يوجد العمل ولا يكون هو هو، فهذا أمر لا يكون.

 

القرآن يشير إلى أنَّ هذه العقرب التي تلسعك في القيامة، هي نفسها تلك اللسعة التي ارتكبتها في الدنيا وفي تلك الساعة.

 

ليس ثَمَّ شيء يُعدم، إنّ كلّ ما يصير موجوداً، يُعدَم منه وجه ويبقى وجهه الآخر. يُعدم وجوده في هذا العالم، في حين يبقى وجوده في ذاك العالم. إنّنا نتوهّم أنّه عُدِم، في حين أنّه باقٍ.

 

والقرآن في الوقت الذي يستخدم فيه تعبير الجزاء رعاية لفهم البشر، ولما لذلك من أثر تربويّ نظير ما لأنظمة الجزاء الحقوقيّ، نراه يسجّل أيضاً: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾[1].

 

ولكن لأنّ عقولنا لا تفقه معنى رؤية العمل، فنحن نفعل الخير -ونحسب- أنّه عُدم، فنسأل عن معنى رؤيته، ونحمل الآية على رؤية شيء آخر هو الجزاء.

 

كما نقرأ في القرآن أيضاً: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾[2]، وكذلك قوله - تعالى -: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾[3]. وثمّة آيات كثيرة في هذا المجال.

 


[1] سورة الزلزلة، الآيتان 7 - 8.

[2] سورة الكهف، الآية 49.

[3] سورة آل عمران، الآية 30.

 

459


377

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

إذا لم نبتغِ تأويل تعبير: ﴿مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾[1] مَا ولا نتصرّف في القرآن، فإنَّ القرآن ينصّ على أنَّ ما يصل -العبد- في ذلك العالم من خير وشر هو "ما قدّمت يداه" وما أرسله قدّامه سلفاً.

 

في ضوء هذا المبنى لا يبقى ثمّة معنًى للاعتراض. وإنّما يرد الاعتراض على مبنى الأشخاص الذين يحملون الجزاء الأُخرويّ على ضرب من الجزاء الدنيويّ، بحيث يكون الجزاء مفصولاً عن العمل، وهو فقط من توابع القوانين الدّنيويّة.

 

إذا كان الأمر كذلك، فسيكون - الجزاء - من سنخ الأعمال البشريّة، وعندئذٍ يَرِدُ عليه الاعتراض: إذا أراد الله أن يضع جزاءً لأعمالنا فينبغي لهذا الجزاء أن يأتي متناسباً مع العمل.

 

ليس هذا وحده، بل سيتمّ التساؤل عن الفائدة من ذلك الجزاء. فهل يريد الله أن يتشفّى، أم يريد أن يوفّر أسباب العبرة للآخرين، أم أنّه يريد تأديبنا وعقوبتنا؟ الصحيح أنّه لا موضوعيّة في تلك الدار لأيٍّ من هذه الاعتبارات[2].

 

الاشتراك والاختلاف بين الدّنيا والآخرة

في نهاية المطاف نشير إلى جملةٍ ممّا يُستفاد من النصوص القرآنيّة والروائيّة وإلى جملةٍ ممّا خلُصنا إليه حول وجوه الاشتراك والاختلاف بين نشأتي الدنيا والآخرة.

 

أمّا وجوه الاشتراك فهي:

1- كلتا الحياتين حقيقتان واقعيّتان.

2- الإنسان عالم بنفسه وبما يتعلّق به في الحياتين.

3- في كلّ واحدة منهما لذّة وعذاب وسرور وحزن وسعادة وشقاء.


 


[1] سورة النبأ، الآية 40.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص141 - 145.

 

460


378

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

4- الغرائز الإنسانيّة - أعمّ من الغرائز الحيوانيّة أو الغرائز التي تخصّ الإنسان - تسود في كلتا الحياتين.

 

5- الإنسان يعيش فيهما ببدنه وكامل أعضائه وجوارحه.

 

وأمّا وجوه الاختلاف والامتياز فهي:

1- هنا يوجد التناسل والتوالد والطفولة والشباب والشيخوخة ومن ثَمّ الموت، في حين لا يوجد ذلك هناك.

 

2- هنا مكان العمل وهناك مكان الحساب وأخذ النّتيجة. في الدنيا لا بدّ من العمل والزّرع وإيجاد الأرضيّة المناسبة، وهناك مركز حصد البذور المزروعة والانتفاع من الأرضيّات المناسبة في الدّنيا.

 

3- يُمكن للإنسان في الدّنيا أن يُغيّر مصيره بنفسه بتغيير مسير حركته وأسلوب عمله، ولا يُمكن ذلك في الآخرة.

 

4- الحياة هنا تمتزج بالموت، فكلّ حياة تتّحد بالمادّة الفاقدة للحياة، وإضافة إلى ذلك، فالحيّ يخرج من الميّت والميّت من الحيّ، كما أنّ المادّة الفاقدة للحياة تتبدّل في أوضاع وأحوال خاصّة إلى موجود حيّ والكائن الحيّ إلى الميّت، ولكن هناك تسود الحياة المحضة. الأجسام والموادّ كلّها أحياء في ذلك العالم. الأرض والسّماء والحديقة وفواكهها أحياء مثل أعمال الإنسان وآثاره المجسّمة، والنّار أيضًا لها إحساس وشعور.

 

5- الحياة في هذه الدنيا يتحكّم فيها الأجل والمدّة وتؤثّر فيها الأسباب والمسبّبات. وهذا من الواضحات، إذ نلحظ أنّ أيّ شيء يُريد أن يوجد هنا، يتحتّم أن يكون في إطار ظروف معيّنة وزمان محدّد[1]. أمّا في الآخرة فليست الأهداف والمقاصد والرغائب على هذه الحالة. وكما ورد في


 


[1] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص290.

 

461


379

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

الحديث النبوي: "الدنيا مزرعة الآخرة"[1] فإنّ تلك النشأة ليس فيها لا زراعة ولا مدّة، وإنّما الحكومة لسلطة الإرادة. فإذا ما صار الإنسان في ذلك العالم، توافر له ما يريد كما يريد وبموجب إرادته[2].

 

القدر الثابت أنّ الحياة الجسميّة موجودة في ذلك العالم. ولكن هناك كلام حول المادّة وفيما إذا كانت موجودة في ذلك العالم بهذا المعنى[3] (الاستعداد والقوة للصيرورة شيئًا آخر عبر الحركة) أم لا[4].

 

يُمكننا القول إنّ الأنظمة السائدة في هذا العالم الذي يُسمّى الدنيا، تختلف عن الأنظمة التي تسود ذلك العالم الذي أُخبرنا به. وقد عبّروا عن ذلك بصيغة أُخرى حين ذكروا أنّ هذه الدنيا نشأة والآخرة نشأة أُخرى. والمقصود من "النشأتين" هو وجود عالمين ونمطين من الحياة وضربين من النظام[5].

 

6- العلم والإحساس والبصر والسّمع ومدركات الإنسان كلُّها تكون أقوى في الحياة الأخرى، وبعبارةٍ أخرى: ترتفع الحجب في تلك الحياة عن عين الإنسان، كما يقول القرآن: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[6].

 

7- تتميّز الحياة في الدّنيا بالتّعب والسّأم والملل وتُشبه حالة الإنسان حالة من فقد شيئًا ويبحث عن ضالّته، وكلّما رأى شيئًا ظنّ أنّه قد وجدها، فتطيب بها نفسه وبعد فترة يحسّ أنّه لم يجدها فيتعب ويملّ ويفتّش عن شيء آخر. لذا، فإنّ الإنسان في الدّنيا يطلب دائمًا شيئًا ليس عنده ويسأم ممّا


 


[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج17، ص225.

[2] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص291.

[3] في الفلسفة يفرقون بين المادة والجسم، فالمادة هي جنبة القابليات والاستعداد في الأجسام. أما الجسم فهو الجوهر الممتدّ في الأبعاد الثلاثة، الطول، العرض والعمق.

[4] الشهيد مطهّري، المعاد، مصدر سابق، ص292.

[5] المصدر نفسه، ص290.

[6] سورة ق، الآية 22.

 

462


380

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

عنده. أمّا في الآخرة فبحكم أنّه قد وصل إلى مطلوبه الحقيقيّ أي الحياة الأبديّة الخالدة بجوار ربّ العالمين، فإنّه لا يحسّ أبدًا بالتّعب أو الملل أو الاضطراب، والقرآن الكريم يشير إلى هذه النقطة بقوله: ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾[1].


 


[1] الشهيد مطهّري، الحياة الخالدة أو الحياة الأخرى، مصدر سابق، ص315 - 316.

 

463


381

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

المفاهيم الرئيسة

•        أثيرت العديد من التساؤلات حول ما استُدِلّ به على المعاد، منها:

1. ما هي تلك العناصر التي تبقى ضامرة في وجود الإنسان في نشأة الدنيا، وتستدعي وجود نشأة أخرى تصل من خلالها إلى غايتها؟

 

2. كيف يمكن تصوير التناسب بين العمل في الدنيا والجزاء في الآخرة، مع أنّ العمل استغرق في الدنيا مدّةً محدودة، بينما الجزاء في الآخرة قد يكون أبديّاً؟

 

•        أجيبَ عن السؤال الأوّل بأنّ عنصر البقاء متضمَّن في روح الإنسان والتي يكون وجودها من سنخ عالم الأمر.

 

•        وأجيبَ عن السؤال الثاني بأنّ الجزاء الأخرويّ ليس جزاءً اعتباريّاً، وإنّما هو جزاءٌ تكوينيّ تقتضيه أحكام الوجود غير القابلة للتغيير، وهو -أي الجزاء الأخرويّ- العمل نفسه الذي يقوم به الإنسان بوجهه الأخروي، قال -تعالى-: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾.

 

•        بين الدنيا والآخرة وجوه من الاشتراك والاختلاف، من وجوه الاشتراك:

1. كلتا الحياتين حقيقتان واقعيّتان.

2. الإنسان يعيش فيهما ببدنه وكامل أعضائه وجوارحه.

 

ومن وجوه الاختلاف:

1. في الدنيا تناسل وتوالد وطفولة وشباب وشيخوخة ومن ثَمّ الموت في حين لا يوجد ذلك هناك.

2. الدنيا مزرعة الآخرة.

 

 

464

 


382

الدرس الثامن والثلاثون: إشكالات حول المعاد

3. الحياة في الدنيا يتحكّم فيها الأجل والمدّة وتؤثّر فيها الأسباب والمسبّبات. أمّا في الآخرة فالحكومة لسلطة الإرادة. فإذا ما صار الإنسان في ذلك العالم، توافر له ما يريد كما يريد وبموجب إرادته.

 

•        القدر الثابت أنّ هذه الحياة الجسميّة موجودة في ذلك العالم. ولكن هناك كلام حول المادّة وفيما إذا كانت موجودة في ذلك العالم بهذا المعنى، وقد عبّروا عن ذلك بصيغة أُخرى حين ذكروا أنّ هذه الدنيا نشأة والآخرة نشأة أُخرى. والمقصود من "النشأتين" هو وجود عالمين ونمطين من الحياة وضربين من النظام.

 

465

 


383

قائمة المصادر والمراجع

قائمة المصادر والمراجع

 

1. القرآن الكريم.

 

2. ابن أبي الحديد، عبد الحمد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران - قم المشرّفة، 1404ه.ق؛ دار إحياء الكتب العربية، لا.م، 1959م، لا.ط.

 

3. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1386ه.ق - 1966م، لا.ط.

 

4. ابن الأثير، مجد الدين المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي؛ محمود محمد الطناحي، مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم المشرّفة، 1364ه.ش، ط4.

 

5. ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط.

 

6. ابن سينا، الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله، الشفاء - الإلهيّات، راجعه وقدم له: الدكتور ابراهيم مدكور، تحقيق: الأب قنواتي؛ سعيد زايد، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1404ه.ق، لا.ط.

 

7. ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1956م، لا.ط.

 

467

 


384

قائمة المصادر والمراجع

8. ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، إيران - قم المشرّفة، 1405ه.ق، لا.ط.

9. ابن هشام الحميري، عبد الملك بن هشام، تحقيق وضبط وتعليق: محمد عبد الحميد، مكتبة محمد علي حجيج، مصر - القاهرة، 1963م، لا.ط.

10. الأميني، الشيخ عبد الحسين أحمد، الغدير، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، 1977ه.ق، ط4.

11. البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1401ه - 1981م، لا.ط.

12. البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، أنساب الأشراف، تحقيق: الدكتور محمد حميد الله، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، مصر، 1959م، لا.ط.

13. الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، لبنان - بيروت، 1407ه.ق - 1987م، ط4.

14. الحلي، العلّامة الحسن بن يوسف بن المطهر، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تحقيق: آية الله حسن زاده الآملي، مؤسّسة نشر الإسلاميّ، إيران - قم المشرّفة،1417ه.ق، ط7.

15. الدينوري، ابن قتيبة عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة، تحقيق: طه محمد الزيني، مؤسّسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، لا.م، لا.ت، لا.ط.

16. الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، إشراف وتخريج: شعيب الأرناؤوط، تحقيق: حسين الأسد، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1413ه.ق - 1993م، ط9.

17. الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، التفسير الكبير، لا.م، لا.ن، لا.ت، ط3.

18. الرضيّ، الشريف محمد بن الحسن، نهج البلاغة (خطب الإمام علي  عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه.ق - 1967م، ط1.

19. السبزواري، الملا هادي بن مهدي، شرح المنظومة، شرح: الشيخ حسن زاده آملي، تحقيق: مسعود طالبي، نشر ناب، إيران - طهران، 1422ه.ق، لا.ط.

20. السيد المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، الشافي في الامامة، مؤسسة إسماعيليان، إيران - قم، 1410، ط2.

21. السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط.

22. الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، عيون أخبار الرضا  عليه السلام، تحقيق: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي، لبنان - بيروت، 1984م، لا.ط.

23. الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم المشرّفة، 1405هـ.ق، لا.ط.

 

468


385

قائمة المصادر والمراجع

24. الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم المشرّفة، 1414ه.قـ، ط2.

25. الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، إيران - قم المشرّفة، 1403ه.ق، لا.ط.

26. الطباطبائي، السيد محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، تقديم وتعليق مرتضى مطهّري، ترجمة عمار أبو رغيف، المؤسّسة العراقيّة للنشر، لا.ت، لا.ط.

27. الطباطبائي، العلّامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم المشرّفة، 1417ه.ق‏، ط5.

28. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه.ق - 1983م، ط4.

29. الطبري، محمد بن جرير، دلائل الامامة، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قم المشرّفة، 1413ه.ق، ط1.

30. العلّامة الطباطبائي، محمد حسين، الولاية والزعامة في كتاب «المرجعية والعلماء» لا.ت، ط2.

31. الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي؛ الدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسّسة دار الهجرة، إيران - قم المشرّفة، 1409ه.ق، ط2.

32. القندوزي، الشيخ سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة لذوي القربى، تحقيق: السيد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران - قم المشرّفة، 1416ه.ق، ط1.

33. الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ه.ش، ط5.

34. اللاهوري، محمد إقبال، إحياء الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: أحمد أرام، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط.

35. المجلسي، العلّامة محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه.ق، 1983م، ط2.

36. المحب الطبري، أبو جعفر أحمد، الرياض النضرة في مناقب العشرة، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط.

37. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، الولاء والولاية، ترجمة: جعفر الخليلي، مؤسّسة البعثة، إيران - قم المشرّفة، 1994م، ط5.

38. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، ختم النبوّة، ترجمة: عبد الكريم محمود، دار المحجة البيضاء، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط.

39. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسة أصول الدين - الإمامة، ترجمة: جواد كسّار، دار الحوراء - مؤسّسة أم القرى، لا.م، لا.ت، لا.ط.

40. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة أصول الدين - المعاد، ترجمة: جواد علي كسار، دار الحوراء - مؤسّسة أم القرى، لا.م، لا.ت، لا.ط.

41. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة أصول الدين -النبوّة، ترجمة: جواد علي كسّار، دار الحوراء- مؤسّسة أمّ القرى، لا.م، لا.ت، لا.ط.

 

 

469


386

قائمة المصادر والمراجع

42. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة تراث وآثار الشهيد مرتضى مطهّري - أنسنة الحياة في الإسلام، دار الإرشاد، لبنان - بيروت، 2009م، ط1.

43. مطهّري، الشهيد الشيخ مرتضى، سلسلة تراث وآثار الشّهيد مطهّري - الحياة الخالدة أو الحياة الأخرى، دار الإرشاد، لبنان - بيروت، 2009م، ط1.

 

44. المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق: مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، دار المفيد، لبنان - بيروت، 1993م، ط1.

 

45. مقلد، الدكتور علي، نظام الحكم في الإسلام أو النبوّة والإمامة عند نصير الدين الطوسي، دار الأضواء، لبنان - بيروت، 1406ه.ق، لا.ط.

 

46. النائيني، الميرزا محمد حسين، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، تعريب: عبد المحسن آل نجف، تحقيق: عبد الكريم آل نجف، تقديم: الشيماء العقالي، دار الكتاب المصري، مصر - القاهرة، دار الكتاب اللبناني، لبنان - بيروت، 2012م، لا.ط.

47. النيسابوري، مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح، (صحيح مسلم)، دار الفكر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج7.

 

48. الهيثمي المكي، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، مصر - القاهرة، 1385ه.ق - 1965م، ط2.

 

49. اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط.

 

470

 


387
دراسات عقائدية